الأشربة الروحية
خطب الدكتور حبيب أفندي همام في جمعية الاعتدال السورية في الأشربة الروحية فقال: أن في الإدمان عليها والإفراط فيها أضراراً لا يحمل الإغضاء عنها أضراراً يظهر بعضها في القريب العاجل وبعضها في البعيد الآجل وفي أواخر الحياة إذ تتحجر الكبد وتتصلب الشرايين ويلين الدماغ ويحول القلب حؤولاً دهنياً حؤولاً يضعف من قوته ويقلل من نشاطه فينوء بثقل ما تقتضيه مصلحة الجسم ويعجز عن القيام بما يناط به من العمل فيعيش المرء بذلك زماناً ضعيف الجسم واهي القوى لا يقوى على عمل ولا يرتاح إلى حال تلك عاقبة من يد من على استعمال الأشربة الروحية وتلك حال من يفرط في استعمالها تتشابه أعراضها بأعراض الهرم ولذلك يخفى على الناس أمرها فإذا شكا ابن الستين من الضعف قالوا هذا من الستين وإذا أن من ضيق النفس قالوا هذا أيضاً من الستين وإذا اقتضى شهيد المسكر قالوا هذا أيضاً من الستين وما كانت (الستين) لتفعل مثل هذا وإنما استدرجوا إلى هذا الخطأ بما ألفوه من رؤية مثل هذه الأعراض في مثل هذا العقد من الحياة وقد فاتهم أن للأشربة الروحية والتدخين وغيرهما من العادات الذميمة فعلاً في تقصير مدة الآجل وانفصام حبل الحياة.
شاع استعمالها في جميع أنحاء المعمورة وسرى سمها في عروق الكثيرين من أبناء هذا الجيل فكثرت بها الإمراض والأدواء وتفاقم منها البلاء والشقاء حتى قيل أن معظم شقاء الإنسان صادر عنها وهو قول وان لم يصح على إطلاقه فقد يصدق في كثير من الأحوال ولما كان الجهاز الهضمي هو أول ما يصاب منها بالأذى كان من الواجب أن نبدأ فيه أولاً فنقول:
الجهاز الهضمي ويقال له القناة الهضمية أيضاً وهو جهاز لطيف يتم فيه الهضم وينضج فيه الطعام ويراد به الفم والبلعوم والمريء والمعدة والأمعاء وغيرها من الأعضاء التي تشترك في عمل الهضم وتتكافل على إنضاج الطعام. الغشاء المخاطي ولا نزيده تعريفاً امتداد من الجلد ينعطف إلى الداخل فينشئ ما في الجسم من التجاويف التي تتطرق إلى الخارج ويبطن ما فيها من الغدد التي تستطرق إليها وهو غشاء رقيق النسيج لطيف المادة ابن القوام مخملي الملمس تخدشه خطرات النسيم ويدميه لمس الحرير على هذا الغشاء(88/72)
اللطيف تمر الأشربة الروحية وفي هذه الغدد والتجاويف تستقر الكحول ولا يخفى أن الكحول هي المبدأ الفعال في الأشربة الروحية فكل ما يعزى إليها من نفع أو ضرر يرجع إلى ما فيها من طبيعة الإحراق وخاصة التخدير أما ما يراد منها بالإحراق فهو نفس ما يراد بالحامض النتريك والبوتاسا الكاوي. وغيرهما من الكاويات الكيمية التي تحرق ما تتصل إليه من أنسجة الجسم بما فيها من شراهة امتصاص الماء فإذا دخلت القناة الهضمية أحرقت ما تتصل به من حويصلات الغشاء المخاطي فإذا كان الغشاء المخاطي بليداً أثرت فيه تأثيراً حسناً لأنها تذهب بما تبلد من نسيجه وشاخ من حويصلاتها فيظهر من تحتها حويصلات آخر أقوى على العمل واقدر على الإفراز فيشعر المر بالجوع ويستطيب الطعام وربما تناول منه شيئاً حتى إذا زالت بلادة الغشاء المخاطي واستمر استعمالها زمناً طويلاً أثرت فيه تأثيراً سيئاً لأنها تفعل عند ذلك في حويصلات جديدة وغشاء جديد يتآكل على كرور الأيام ويتقرح على مرور الزمن فيحدث من ذلك عسر الهضم وفقد شهوة الطعام.
أما ما يراد منها التخدير فهو أيضاً نفس ما يراد بغيرها من المخدرات كالأفيون والبنج وغيرهما من العقاقير الطبية فإذا مرت بالقناة الهضمية خدرت ما تتصل به من ألياف العصبية ولا سيما الألياف المحيطة بالأوعية الدموية في توزيع الدم وانتشاره في الجسم انتشاراً يضمن لكل عضو حقه من الغذاء فإذا تخدرت بالكحول أو بغيره من أنواع المخدرات اضطراب نظام الجهاز الدموي واختل ناموس توزيع الدم فيجري إلى حيث تخدرت هذه الألياف العصبية ويتجمع فيما تحيط به الأوعية الدموية التي تتمدد جدرانها وتتسع مساحتها فيحتقن فيها الدم احتقاناً يبعث في القناة الهضمية نشاطاً على العمل فيشعر المرء في الجوع ويستمرئ الطعام وربما تناول منه بها ضعف ما يتناوله بدونها إلا أن احتقان مرضي حاصل من تخدير الألياف العصبية ولا يخفى بان التخدير هو نوع من الشلل فإذا تكرر مراراً عديدة حصل على الشلل التام والاحتقان الدائم وذلك يفضي إلى الزكام الحاد والالتهاب المزمن وكلاهما من أسباب عسر الهضم هذا ما يعلل به عما تحدثه الأشربة الروحية في القناة الهضمية من النفع الذي ينقلب إلى ضرر وذلك بما فيه من خاصتي التخدير والإحراق أما ما يعزى إليها من التنبيه اثر استعمال شيء منها مسبب عن احتقان الدم الحاصل من تخدير الألياف العصبية فالإدمان يفضي إلى نتيجة واحدة لان(88/73)
التنبيه المستديم يستنزف القوى وينهك الأعضاء فتعجز عن العمل أو تعمل عن عجز.
وللأشربة الروحية في القناة الهضمية أضرار آخر يرجع بعضها إلى ما تحدثه من تجميد الزلال وبعضها إلى ما تحدثه من إرساب الببسين أما ما تحدثه من تجميد الزلال فواضح مما يشاهد من تصلب المواد الحيوانية إذا حفظت بالكحول فقد تتصلب حتى تصير اشد صلابة من الأديم ومعلوم أن الزلال من أهم أجزاء الطعام وأنواع الغذاء وهو على الحالة الطبيعية لين القوام سهل الهضم لطيف المادة فإذا تجمد بالكحول تصلب مادته وتعسر هضمه وقل غذاؤه وأصبح مما لا تفعل فيه عصارات الهضم ولا تقوى عليه المعد الضعيفة شاهد ما تراه من سهولة هضم البيض البرشت وصعوبة هضم البيض الجامد ثم أن البيسين احد العصارات المعدية وسبب اختمار المواد الآزوتية هو مادة زلالية أيضاً يتجمد به غيره من أنواع الزلال فإذا تجمد بالكحول ورسب في القناة الهضمية تعذر اتصاله بجميع أجزاء الطعام وامتنع امتزاجه بها امتزاجاً يضمن اختمارها ويكفل هضمها ويتضح ذلك بأجلى بيان مما يشاهد في كل يوم من أنواع الاختمار فلا يختمر العجين إلا إذا أذيبت خميرته في الماء وأضيفت بالدقيق ولا يروب الحليب إلا إذا مرت شيء من اللبن ثم أضيف إليه.
وجملة القول أن الاختمار لا يتم إلا بامتزاج ما يراد اختماره بالخمير امتزاجاً تاماً وذلك يقتضي الإذابة والحل وعلى ذلك كان الكحول وغيره مما يجمد الزلال ويرسب البيسين مضراً في عمل الهضم.
فيؤخذ مما تقدم أن الأشربة الروحية تفيد في عمل الهضم ثم تضر به ولذلك يختلف الناس في الكلام عليها اختلافاً عظيماً ويتباينون في الحكم فيها تبايناً جسيماً فمنهم من يقول بنفعها ومنهم من يقول بضررها حتى انك لترى عالماً من علماء منافع الأعضاء يكتب كتاباً في فائدتها وأخر يكتب كتاباً في مضارها وذلك من الغرابة بمكان.
وفي كتاب الوحي ما هو اغرب من ذلك فإنك ترى بعض النبيين ومن أتى بعدهم من الحواريين هذا يصفها علاجاً في تطيب النفس وذاك يصفها دواء في عسر الهضم ثم لا تلبث أن ترى غيرهم من رجال الله هذا يحض على تركها وذاك يحذر من شرها إلى غير ذلك مما هنالك من الأقوال المتضاربة والآراء المتباينة مما يبعث في الناس ميلاً إلى الريبة في العلم والكفر في الدين على أن لا اختلاف في العلم ولا تباين في الدين وإنما الخلاف(88/74)
كل الخلاف في اتجاه مطارح النظر فان من ينظر إلى ما في الماء من نقع الصدى وإرواء ألماً يصفه علاجاً للصادي ودواء للظمآن.
ومن ينظر إلى ما فيه من الخطر من الغرق يحذر من ركوب البحر واقتحام عباب اليم من ذلك ما جاء عن جند من أجناد العصور الخوالي اثر حرب كتب لهم فيها النصر قيل أنهم جلسوا إلى الشراب بعد أن سكروا بخمرة النصر فأتوا على ذكر ما وقع لهم مع الأعداء واسترسلوا في الكلام إلى وصف درع غنموها في جملة ما غنموه من أسلاب العدو فقال بعض إنها سوداء وقال بعض إنها حمراء واشتد بينهم اللجاج حتى أفضى إلى امتشاق السيوف وتسديد الأسنة فاقبل أمير الجند واخمد نار الفتنة ثم أمر فأتي بالدرع فإذا هي من الجانب الواحد اسود ومن الجانب الآخر حمراء فعلم أن كلاً منهم نظر إليها من جهة واحدة ولو نظروا إليها من جانبيها لما اختلفوا فيها ولا اقتتلوا عليها وما اختلاف الناس في الأشربة الروحية إلا من هذا القبيل فان من ينظر إلى ما تحدثه من النفع ومن ينظر إلى ما تحدثه من الضرر يقول بضررها ولو نظر كل منهم إلى ما ينظر إليه الآخر لما تباينوا فيها ولا اختلفوا عليها ومهما اختلف الناس في الكلام على ما تحدثه الأشربة الروحية في القناة الهضمية فهم لا يختلفون على ما تحدثه في الأعضاء الرئيسية من الضرر.
فقد اجمع جمهور المحققين من أطباء وفسيولوجيين أن ما ألمعنا إليه من تحجر الكبد وتصلب الشرايين ولين الدماغ وحؤول القلب وغير ذلك من الأعراض التي تظهر في أواخر الحياة أعراض مرضية تحدث من الأشربة الروحية تحدث من الجرعات الصغيرة كما تحدث من الجرعات الكبيرة.
التنقيبات في الشرقاط
وجه الألمان منذ ربع قرن وجوههم نحو الشرقاط في العراق وما فيها من الآثار الخالدة للتنقيب عنها في باطن الأرض وبعد أن عرفوا ما فيها من الآثار المفيدة استحصلوا رخصة من الحكومة بإجراء الحفريات في تلك الأنحاء فاستخرجوا هناك من الآثار القديمة الخطيرة شيئاً كثيراً. وجاؤوا إلى بغداد بنحو 900 صندوق ملأى بالآثار وقد تبرعت الحكومة بنصف هذه الآثار للمتحف الألماني في برلين.
مسألة اللحم(88/75)
بحث احد أطباء الدانيمرك في اللحم فقال أن الخصائص المغذية والمقوية في اللحم لا تحتاج إلى مناقشة ولكن أسعاره الغالية تجعله صنفاً خاصاً بالمترفين بحيث يتأتى حذفه أو على الأقل تقليل تناوله بدون أن يلحق ضرر بصحة الجسم وان المواد المغذية الضرورية فيما خلا الماء وبعض الأملاح المعدنية هي المواد الزلالية والأدهان والمواد النشاوية والسكرية فالمواد الزلالية ضرورية لإطعام الخلايا البشرية فيجب على كل إنسان أن يتناول منها كمية وفي الإفراط من أخذها خطر ولا سيما في الصيف بسبب الحرارة التي تحدثها في جسمنا متعبة الكليتين وملوثة الدم بسمياتها ويختلف مقدار ما يجب تناوله في اليوم من المواد الزلالية من 120 إلى 60 غراماً ويمكن إنزاله إلى اقل من ذلك ويظهر أن ما يمكن استخراجه من اللحم واللبن والبيض أسهل تحولاً مما يمكن استخراجه من اللوبياء والحمض وغيرهما من الحبوب بسبب ما فيها من القلويات الصعبة التحليل فالادهان والمواد النشوية والسكرية تعطي قوة وحرارة وليس من اختلاف بين سرعة الهضم الأدهان النباتية أو الحيوانية ولكن الأولى ارخص. لا جزم أن لتحضير الطعام شأناً مهماً ومن الخرق في الرأي أن تطبخ البقول في كمية كبرى من الماء ثم تطرح فإن هذا الماء يذيب أملاحاً مغذية فمن الجنون الحرمان منها. إذا حسبنا كمية متساوية في الوزن من اللحم وغيره من المغذيات نجد في اللحم ثلاثين غراماً من المواد الزلالية و34 من اللبن و27 من الأرز و62 من الحبوب و98 من دقيق القمح فالبقول اذاً ارخص واللحم الذي هو اقل سعراً بقيمته الغذائية هو سمك الارنكة وليس مرق اللحم غذاء بل مقبلات يحث العصارة المعدية. أن لمن يعيش من الفلاحين والعملة في الهواء الطلق غذاء معقولاً جداً من البطاطا المعمولة بالدهن ومن الحساء المعمول بالبقول وكذلك من خبزهم الأسمر. أن الأشخاص الملازمين للجلوس الذين تحتاج شهوتهم للطعام تعالج بما يصلحها ويحسن أدوات هضمهم أكثر إذا تناولوا كمية قليلة من اللحم بيد أن الطباخات الماهرات يستطعن أن يجعلن لحساء البقول طعماً كافياً للاستغناء عن هذا المشهي. ولقد ثبت أن من الممكن أن تجود صحة المرء بطعام مقتصر فيه على البطاطا والدهن.
الإسلام والاشتراكية
ألف بالانكليزية به مشير حسن كيداوي من علماء الهند كتاباً في الاشتراكية الإسلامية وقد(88/76)
كتب عليه المسيو مونتيه احد أساتذة جامعة جنيف في سويسرا المعروف بالاطلاع على أحوال الإسلام والمسلمين فصلاً في جريدة جنيف قال فيه أن المؤلف الهندي قد عني بأن لا يبين فقط الصفة الاشتراكية في الإسلام بل بين ما يراه الاشتراكية الإسلامية مميزاً بينها وبين ما نقصده بالاشتراكية معاشر الغربيين. فقد أورد من تاريخ الرسول والخلفاء الراشدين أموراً تبين الخلق الديمقراطي الموجود في الإصلاح الإسلامي وإبان أن بعض هذه الحوادث هي مظهر من المظاهر الاشتراكية فقد كان الرسول ينطق بما يشف عن حب الجمهورية أو عن فكر ديمقراطي وقد علم بهديه جماعته هذا الشعور ولذلك نصب الخليفة الأول بعده بالانتخاب. وما كانت غاية ما وضعه من قوانين الإرث إلا أن يحول دون تأليف الأملاك الواسعة وجمع الثروات الطائلة وكان مجنداً من جماعة من الوطنين المسلمين وقضى بأن يعطى العجزة واليتامى والأيامى من بيت المال ثم جعل عمر بعد ذلك قدراً معيناً من المال يعطى للأولاد الذين يستحقون أن ينفق عليهم إلى حين بلوغهم سن النمو وهذه الحوادث وكثير غيرها مما استشهد به المؤلف الهندي تؤيد القضية التي وضعها ومما قاله: إننا معاشر المسلمين نرى أن معنى الاشتراكية هو التعاون المنظم الدائم المنشق بين الأفراد في شؤون الحياة الصناعية والاقتصادية الإدارية أو السياسية الاشتراكية أو الدينية لأجل أن تضمن للعالم رفاهيته ونجاحه وكلما عم هذا التعاون كان اخوياً وكلما كان إلى التساوي حسن تركيب أجزاء الاشتراكية.
قال العالم السويسري واني لأحب أن اذكر جملة أبين فيها إلى أي درجة كان للإسلام علاقة بالاشتراكية كما نفهم ذلك في أوربا: لا شك أن في الإسلام فكر الجمهورية (الديمقراطية) وان فيه ميلاً إلى المساواة تبدو في صور كثيرة وهذا الفكر وهذا الميل يظهران في الصلات الراسخة بين الكبراء والصغار فان استعمال الضمير المفرد في المخاطب أنت الذي هو أصل من أصول التخاطب في اللغة العربية يساعد ولا شك على وضع المتخاطبين على قدم المساواة ويكفي لذلك أن يدخل المرء في العالم الإسلامي ليتمثل لذهنه أن تمايز الطبقات الظاهر على أتمه عندنا لا اثر له عند المسلمين فمن المألوف العادات عندهم أن يختلف الصغير إلى الكبير باحترام وحشمة ولكن بسهولة ندر مثلها في غير الأندية الإسلامية ويخاطب الكبير الصغير بسذاجة طالما كنا ننظر إلى إنها تمس الإحساس(88/77)
بين الناس. وفكر المساواة الإسلامية ظاهر حق الظهور في الطرق الدينية على الرغم من طبقات الناس الذين يؤلفون تلك الجمعيات وأنا لنذكر أنا كنا في مراكش وكان لنا خادم يذهب يوم المقابلة والذكر ليلتقي بإخوانه وفيهم من هم أرقى منه منزلة في المجتمع.
الإخاء على أتمه بين المسلمين يقومون به بينهم حق القيام والإسلام هو الدين الذي قضى أكثر من غيره على التمييز في الأصول والعناصر وليس هذا الإخاء مقصوراً على المسلمين بعضهم مع الآخر بل قد يتعدى به المسلم إلى غير ابن نحلته واني لأدهش من إطلاق بعض المسلمين علي كثيراً قولهم يا أخانا في الله. وفي الإسلام زيادة على الفكر الجمهوري والمساواة والإخاء ما اسميه فقط الاتصال مع الاشتراكية فقد دهشت كثيراً في مراكش من هذا الأمر ولطالما لاحظت في الشعب المراكشي فكر التعاون والاجتماع متأصلاً للغاية وجميع أعمال الحياة الاجتماعية في مراكش تميل إلى وسائط الاشتراك من مثل جماعة الصناع التي تذكر بما كان لأوربا من مثلها في القرون الوسطى وجمعيات الرماة الكثيرة وجمعيات الإحسان والأخويات الدينية الوفيرة. ومن أهم ما يلفت النظر في هذا الشأن الأسباب التي قام عليه الإسلام في الزكاة فقد فرض محمد على المؤمنين إغاثة الفقير فرضاً عيناً وكان هذا الفرض احد أركان الإسلام الخمسة يؤخذ المال من الغني ليعول الفقير وليس هذا واجباً أو دعوة يراد بها تنبيه العاطفة الدينية بل هو حق مفروض مشروع. الإسلام امة فإذا سألت مسلماً من أي جنسية أو امة أنت يجيبك أني مسلم وقد حدثت قضايا ذات شأن في أوربا ولا سيما في فرنسا ظهر فيها ظهور الشمس عدم الاتفاق في هذا المعنى بين الشرع الإسلامي والقانون الأوربي ولذلك جاء القران بان الإنسانية تؤلف امة.(88/78)
مخطوطات ومطبوعات
محنة الأديب
في المكتبة الظاهرية بدمشق في قسم المجاميع تحت نمرة 9 رسالة الأديب إملاء الشيخ الفاضل أبي علي الحسين بن احمد الاستراباذي قال في مقدمتها بعد البسملة والحمدلة والصلولة هذا كتاب يتضمن مسائل من معاني القران ونخباً من غريب الحديث وشيئاً من اللغة. . . من النحو وطرقاً من الأبنية ونتفاً من الأمثال وشعبة من الاشتقاق وذروا من معاني الشعر وصدراً من العروض وفقراً من التصريف ولمعاً من القوافي سميناه محنة الأديب لأنه يختبر بما فيه مدعو الأدب والمتبذخون (؟) بحفظ الأصول والكتب لتتميز المقدم في العلم من المؤخر ويظهر فضل المبرز فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا الناس بمنازلهم فالدعوى لمن رامها ذلول فالبينة الأعلى (!) وقد قيل
من تجلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان
والرسالة في ثماني عشرة ورقة صغيرة مكتوبة بخط يغلب عليه التحريف وهذا مثال منه: مسألة ضرب غلامك غلام زيد واسم كل واحد من الغلامين عبد الله كيف تخبر عنهما وتضيف كل واحد من الغلامين إلى صاحبه وأنت تخاطب زيداً وتذكر الغلامين الجواب ضرب عبد الله صاحبي عبد الله صاحبك ولا يجوز غير ذلك لان المضاف لا يمكن أن يضاف ولكن يؤتى بما تدل عليه.
مسألة رجلان اسم كل واحد منهما ما شاء الله نحو قولك جاء الزيدان الجواب جاء ما شاء الله وجاؤوا ما شاء الله ورأيت ذوي ما شاء الله وللجميع رأيت ذوي ما شاء الله وكذلك كل ما سمي بجملة نحو تأبط شراً وذرى حباً.
التاريخ الكبير
لأبي القاسم علي بن عساكر طبع على نفقة مطبعة روضة الشام لصاحبها خالد أفندي قارصلي عني بترتيبه وتصحيحه عبد القادر أفندي بدران.
صدر الجزآن الثالث والرابع من هذا التاريخ الذي شرعت بطبعة مطبعة روضة الشام بدمشق منذ أربع سنين وهذان الجزآن يحتويان معاً على زهاء 928 صفحة حذفت من الأصل الأسانيد رقد قدم لها مصححه في كل جزء مقدمة طويلة وأضاف إليها بعض(88/79)
تعليقات. بدأ الجزء الأول بباب الهمزة مع السين وختم بحرف الحاء المهملة. وفي الجزء الثاني بقية من يبتدئ اسمه بحرف الحاء وفي هذين المجلدين تراجم كثير من رجال دمشق والوافدين عليها من أهل الحديث والفقه والأدب والإدارة والقضاء وفيه زهاء ألف ترجمة وفيهم كثير من المشاهير تسقط في تراجمهم على أشياء لا يكاد يعثر عليها فيما طبع من كتب التراجم والسير وفيه مع ذلك حكايات وقصص وأشعار وآداب جميلة مسلية مفيدة فحبذا لو اقتناه كل متأدب خصوصاً أهل سورية عامة والمشتغلون بالحديث والتاريخ خاصة. فنشكر للطابع همته وفي مأمولنا أن يتم الباقي من الكتاب وهو لا يتجاوز فيما يظن أربعة أجزاء أخرى. وسنفرد مقالاً خاصاً لهذا التاريخ المعتبر عند العلماء.
سيرة عمر بن عبد العزيز
تصنيف الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي القرشي المتوفي سنة 597 صححه ووقف على طبعه محب الدين أفندي الخطيب وطبع بنفقته ونفقة عارف أفندي المحايري في مطبعة المؤيد في القاهرة سنة 1331 - هـ ق 1291 هـ. ش.
أجاد صديقنا ناشر هذا الكتاب محب عبد الرحمن أفندي الخطيب في نشر هذا السفر المفيد في سيرة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عيد العزيز رحمه الله فان سيرته الشريفة جديرة بأن يتدارسها جميع أصناف الناس دع الملوك والأمراء ومن كتب لهم أن يتولوا أزمة أمور الجمهور في هذه العصور التي تدعى بعصور النور وقد عني الناشر بتمثيلها أحسن تمثيل ونقل اختلاف النسخ عن المختصر المطبوع في ليبسيك كما عني من قبل بتجويد الكتب والرسائل التي أحياها بالطبع فدلت على ذوقه ولطف بحثه وكنا نود لو كتب جملة في مقدمة هذا السفر أشار فيها إلى النسخ التي اخذ عنها فقد رأيناه يشير في الحواشي إلى نسخة حماة ونسخة مصر ولم يعرفنا بهما. أما الكتاب فقد وقع في 305 صفحات من قطع الربع عجا الفهارس التي ألحقها في آخره بأسماء الأماكن والرجال التي بلغت 24 صفحة فزادت الكتاب رونقاً وقربت علي المتناول سيرة رجل كان قدوة لأرباب الولايات والولايات فحري بمدارسنا أن تدرسها لتنطبع في ذاكرة التلامذة منذ الصغر. وقديماً ألف بعضهم في سيرة هذا الخليفة العادل العاقل كتباً ومنهم بقي ابن مخلد الأندلسي وقال في كشف الظنون أن المؤلف هذه السيرة أبي الفرج ابن الجوزي كتاب سيرة العمر ين ولعله(88/80)
غير هذا الذي طبع فإن المؤلف يقول في مقدمته انه افرد لكل شخص من أعلام كل زمن وأخيار، كتاباً للأعلام بأخباره.
كتاب الانتصار
لواسطة عقد الأمصار
تأليف إبراهيم بن محمد بن ايدمر العلائي الشهير بابن دقماق طبع بالمطبعة الأميرية الكبرى ببولاق مصر سنة 1893 إفرنجية جزان في 263 ص والفهرس 110ص.
هذا الكتاب هو مما نشرته دار الكتب الخديوية بمصر ونظر فيه مديرها الأسبق المسيو فولرس ومؤلفه من أهل القررن الثامن للهجرة جعله عشرة أجزاء لعشرة أمصار والمصر هي المدينة الكبرى الممتازة بخاصية من الخواص كاشتهار البصرة بصناعتها وبغداد برخاوتها والكوفة بفصاحتها والقاهرة بتجارتها. وهذا الجزء أو الجزآن وهما الرابع والخامس من كتابه قد خصهما بالكلام على القاهرة والإسكندرية ولم يظفروا بسائر الأجزاء التي تكلم فيها المؤلف على الأمصار الكبرى والمؤلف وان كان ثقة في الأمهات التي نقل عنها لأنه نقل عن كتب مهمة لم يكد يظفر بمثلها حتى المقريزي صاحب الخطط كما قال الناشر الألماني لكتابه إلا انه مملوء بالأغلاط النحوية والصرفية التي تركها الناشر على علاتها آملاً بذلك أن يحتفظ خطة جديدة في اللغة العربية كأنه كان يريد عفا الله عنه أن يترك لغتنا بدون قواعد يكتب فيها كل إنسان كما يشاء.
أفاض المؤلف في ذكر كور مصر ومدنها وما بني بالوحى منها وما بها من غريب التحف والطرف قال ويقال أن بالديار المصرية ثمانين كورة كل كورة بها تحف وطرف وعجائب وغرائب وقد أورد في كل كورة ما فيها من ذلك. والكتاب أشبه بخطط المقريزي ولكنه مختصر ذكر فيه الدور والقصور والقرى والمزارع والجوامع والكنائس والمدارس والبيوت العامة والمدارس والحمامات وأعمال مصر وما إلى ذلك من آثار العمران. وفهرست أسماء الإعلام الواردة في هذا الكتاب رتبها السيد محمد علي الببلاوي وكيل دار الكتب الخديوية وهو الذي تولى عمل معظم فهارس الكتب التي نشرتها تلك الدار العامرة مثل فهرس تاريخ مصر لابن إياس وغيره. والكتاب بأصله وفرعه من الكتب التي لا تستغني عنها مكتبة باحث في أحوال مصر راغب في الوقوف على تاريخ عمرانها(88/81)
العجيب.
سفن الأسطول الإسلامي
هو كراسة في 32 صفحة طبعت بمصر ذكر فيها مؤلفها عبد الفتاح أفندي عبادة من فضلاء مصر أنواع السفن الحربية الإسلامية ومعداتها وأوصافها وما دخل في ألفاظها من اللغات الإفرنجية وقوانين حروبها البحرية وحركاتها وتاريخها في الإسلام وما نطقت به السن بعض الشعراء المحدثين من مشارقة ومغاربة في وصف الأساطيل والرسالة تنم عن تحقيق وبحث وقد نشرت في مجلة الهلال أولاً وفيها بعض الصور وحبذا لو توسع المؤلف أكثر من ذلك فإن في الكتب العربية المطبوعة في الغرب ما يصح أن يكون من مادته كتاب متوسط الحجم في هذا الموضوع المفيد.
الثورة الايطالية
لإبراهيم أفندي حلمي العمر طبعت بمطبعة الآداب في بغداد سنة 1332 ص32 لمؤلف هذه الرسالة وطنية يمازحها الإخلاص وقلم يؤيده العلم والغيرة وقراء العربية يعرفونه بما نشره من الفصول البديعة عن النهضة العراقية وبعض المعالم العراقية مما دل على خبرة وفضل اجدب وقد بين في هذه الرسالة التي أهداها إلى صديقه مزاحم بك آل الباجه جي تاريخ الانقلاب الايطالي الذي أدى إلى وحدة ايطاليا قال وأظن أن القائلين بقطع الرجاء من نهوض العرب ليعترفون بخطئهم لدى أول نظرة يلقونها إلى تاريخ ايطاليا وما كانت عليه من التضعضع والتشتت ثم ما أصبحت فيه اليوم من القوة والعظمة والصولة بفضل جهاد ايطاليا واتفاق كلمة زعمائها وقادة الرأي فيها فليس إذاً بعيداً على امة كالأمة العربية وهي أكثر استعداداً وأعلى كلمة وارفع صوتاً راشد قوة من الأمة الايطالية أن تصبح بفضل ما نراه من بريق الحركة الوطنية القائمة في جميع البلاد العربية امة لها وسائل الدفاع ما يحفظ لها ممتلكاتها وبقي شعوبها وجامعتها من الاضمحلال والزوال.
وقال في الانقلابات العنصرية إنها لم تعرف في البلاد الشرقية إلا في أوائل القرن العشرين فقد أوجدت التعاليم الأوربية حركة فكرية في عقول المشارقة المفكرين وأصبحت كل امة من الأمم الشرقية تسعى السعي الحثيث فيما يبث تعاليمها وينشر مبادئها بين طبقاتها وأفرادها والأمة التركية النجيبة في مقدمة الأمم الساعية إلى تأسيس جامعة تركية كبرى(88/82)
حتى يرتبط أتراك الأناضول والأستانة باتراك القوقاس وبلاد ما وراء النهر وأصقاع شمالي البحر الأسود وفي الأمة التركية اليوم رجال من أولي الفضل والنبل اخذوا على عاتقهم نشر هذه المبادئ السامية وإنماء الشعور القومي بين الأتراك حتى لا يمضي زمن قليل إلا ويصبح للجامعة التركية منزلة لا تقل شأناً وخطورة عن الجامعات الألمانية والايطالية والانكليز قال ومتى تيسر للعرب زعماء وقادة أمثال زعماء الأمة التركية وقادتها تصبح في مقدمة الأمم الناهضة وفي طليعة الشعوب الطامحة في تأسيس جامعة كبرى على نظام ثابت ودعائم راسخة لا يقوى العدو على نقضها وتقويضها وإذا كان للعرب أمل في نجاح مقاصدهم الجنسية فهو قائم على ما يأتيه رجال العرب في بيروت ومصر وأمريكا من الحكمة والرواية والاعتدال في إدارة دفة هذه الحركة المباركة وإذا اتفقت كلمة الزعماء وإبطال الأمة العربية فقد لا نغالي إذا قلنا أننا لا نحتاج إلى كبير عمل أو كثير تفكير فإن الفكر ينتشر بطبيعته ما دام لا يلقى معارضة من بعض أبنائه الخ.
رسائل وكتب مختلفة
فهرس أمالي القالي - ألف هذا الفهرس اثنان من مستشرقي الانكليز كرنكووبوفن وطبعته مطبعة بريل في ليدن سنة 1913ص 89 وأهالي أبي علي القالي من أهم كتب الأدب طبعت في المطبعة الأميرية في مصر سنة 1324هـ -.
رسالة التوحيد والتثليث - لمؤلف لم يذكر اسمه طبعت بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1332ص56.(88/83)
العدد 89 - بتاريخ: 1 - 6 - 1914(/)
المستشرقون ومؤتمرهم
الاستشراف أو علم المشرقيات هو كما عرفه لاروس علم من العلوم الحديثة ودائرته الحالية واسعة فإذا نظرنا إلى الألفاظ من حيث مفهومها نرى أن التعبير عن اللغات الشرقية لا يتناول غير اللهجات التي يتكلم بها في شرقي أوربا أي في آسيا وفي جزء من افريقية المتصل باسيا ولكن لفظ الاستشراق بطلق اليوم بتجوز على لغات أمريكا وافريقية الجنوبية والبلاد الشمالية وآدابها وأخلاق سكانها فترى اللغة اليونانية الحديثة واللغة الرومانية والروسية تدرس في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريز كما تدرس لغات الشرق أي العربية والفارسية والتركية والصينية واليابانية والهندستانية والعبرانية والسريانية والحبشية والقبطية والامحرية بل أن اللغة المجرية نفسها بالنظر لعلاقتها باللغة التركية والمغولية تدرس هناك كما تدرس اللغات الشرقية.
لم يدخل علم الشرقيات في أسلوب علمي إلا في القرن التاسع عشر. وقد كان اليونان واللاتينيون يدعون اللغات الشرقية التي كانوا يعرفونها (كالفارسية والفينيقية وغيرهما) لغة البربر ولذا يهملون دراستها. وشاعت في القرون الوسطى لغتان فقط من لغات الشرق بين العلماء وهما اللغة العبرية التي كانت تعتبر لغة الإنسانية الأصلية واللغة العربية التي كانت مهمة لكثير البشر الذين يتكلمون بها ولشهرة فلاسفة الإسلام أمثال ابن رشد وابن سينا ولذلك أنشئ في باريز منذ أواسط القرن الثالث عشر للميلاد درس عام لتدريس اللغة العربية.
ثم أن المذهب البرتستانتي توخى البحث عن النص الأصلي للتوراة فحمل أشياعه على درس العبرية والكلدانية والسريانية. وأنشأ بعد ذلك البابا غريغوريوس الثالث عشر واوربانوس الثامن دروساً لتعليم اللهجات الشرقية بالعمل ليستفيد منها المبشرون بالنصرانية وفي سنة 1627 أنشئت مدرسة الإيمان. وطفق المبشرون منذ ذاك العهد يأتون بالآثار النفسية لخدمة الدروس الشرقية. ونشر اليسوعيون في القرن الثامن عشر في العالم الغربي مدينة الصين واليابان ولغتيهما. وأنشأ الوزير كولبر في فرنسا مدرسة الشبان لتعليم اللغات قاصداً بها تخرج تراجمة تستخدمهم حكومتهم في الشرق وانشأوا يدرسون اللغة الفارسية والتركية وانتشرت القصص والحكايات الشرقية أمثال قصة ألف ليلة وليلة والرسائل الفارسية وغيرها ثم أن فتح فرنسا وانكلترا للهند قد دعا إلى اكتشاف اللغة(89/1)
السنسكريتية.
وبعد نحو عشرين سنة تأسست طريقة نحو المقابلة فدخل درس اللغات في طور جديد حسن الأساليب وفي الجزء الأخير من القرن الثامن عشر اكتشفت انكتيل دويرون اللغة الزندية والبهلوية وكان من حملة بونابرت على مصر 1798 - 1799 أن بدأ بها دور السياحات العلمية الكبرى التي اشتهر بها القرن التاسع عشر وجيء إلى أوربا من مدينة رشيد في مصر بالحجر المشهور وكان حل خطه مبدأ درس الآثار المصرية وانحلت لغات دثرت منذ ألوف من السنين كاللغة الأشورية. وشرعت الحكومات تتفق على البعثات العلمية وتؤسس دروساً لتعليم تلك الأبحاث واللغات فترى فرنسا تعلم اللغات الشرقية الحية في مدرسة خاصة لذلك كما أن اللغات الشرقية القديمة دروساً في كوليج دي فرانس مدرسة فرنسا وكذلك في مدرسة الدروس العليا وفي الكليات. ومن أعظم العلماء الذين ساعدوا على الاستشراق في القرن التاسع عشر شامبليون في الآثار المصرية واوبرت ولفورمان وراولنسون وهنكس في الآثار الاشورية وبورنوف وجايمس دار مستتر وموللر ولاسن في الآثار الهندية وسانيسلاس جولين في الآثار الصينية.
وكانت رغبة الأوربيين أولاً في تعليم اللغات الشرقية عن باعث ديني فقد قضى مجمع فينا سنة 1311م المقتبس م7ص695 وكان برئاسة كلمنتس الخامس أن تؤسس في باريز واكسفورد وبولون وسلمنكة دروس عربية وعبرانية وكلدانية لتخريج وعاظ وأهل جدل أشداء لتنصير المسلمين واليهود وأنشأ الفرنسيسكانيون والدومينيكانيون من الرهبنات الكبرى في أديارهم دروساً في هذه اللغات فأصبحت ايطاليا مهد حركة نجحت في المشرقيات واخذوا بنوع خاص يدرسون العبرية للتعمق في فهم أسرار التوراة وتنصير اليهود واللغة العربية لتنصير المسلمين يأخذون العبرية عن اعلم العلماء الربانيين والعربية عن أناس من المسلمين أو من السوريين الموارنة أمثال بني السمعاني ومن مدارس ايطاليا نشأ العلماء الأول في اللغات القبطية والحبشية والامحرية ولكن دراسة اللغة العربية بقيت الحاكمة المتحكمة في شبه جزيرة ايطاليا فكان ينظر إلى تعلمها انه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية كالبندقية وجنوه ونابل وبيترا وظلت اللغة العربية في بلاط ملوك تلك الأصقاع لغة العلم العالي والشعر والأدب.(89/2)
كانت رومية أول مدينة في العالم طبع فيها كتاب عربي عقيب اختراع الطباعة وهو قانون ابن سينا وظلت حركة المشرقيات تختلف ضعفاً وقوة في بلاد الطليان بحسب الحكومات وهم الأفراد والمقصد الأصلي ديني والعلميات بالعرض. وكان لأسرة ميديسيس فضل على الآداب العربية كما لها فضل على الشعر والموسيقى والتصوير والهندسة.
وفي أواسط القرن الثامن عشر لما أخذت أوربا تتحفز لاستعمار الشرق اخذ علماؤها يبحثون في تأليف جمعيات لهذه الغاية فأنشئت جمعية العلوم والفنون في جاوة (1778) والجمعية الآسياوية في البنغال (1784) والجمعية الأسياوية في بومباي (1805) وأنشئت منذ ذاك العهد في أوربا وأمريكا عدة جمعيات للمستشرقين وأقدمها عهداً الجمعية الأسياوية في باريز التي أسست سنة 1822 بمعرفة شيخ المستشرقين من الفرنسيس سلفستردي ساسي وهو أعظم من خدم اللغة العربية من الاوربيين والفرنسيس خاصة وربما كان أعظم مستشرق نبغ ونفع (راجع كتابنا غرائب الغرب ص74) فأنشأت هذه الجمعية المجلة الآسياوية وهي خاصة بلغات الشرق وتاريخه وعلومه وآثاره تصدر مرة كل شهرين فيتألف منها مجلدان كل سنة وقد صدر منها إلى الآن زهاء 180 مجلداً ومن حواها فكأنما حوى أعظم مكتبة في هذه الأبحاث الجليلة.
تخرج في مدرسة اللغات الحية في باريز كثير من مستشرقي الفرنسيس والألمان والطليان والسويسريين وأنشأت معظم عواصم أوربا مدارس على مثالها وان سبقت هولانده فكانت أول من أسس جمعية شرقية في باتافيا كما تقدم سنة 1778 وكانت مطبعة ليدن الشرقية أقدم مطبعة طبعة الأمهات من كتب المشارقة والعرب منهم خاصة وذلك منذ زهاء ثلثمائة سنة.
أنشأ المستشرقون عدة جمعيات في أوربا وأسسوا عدة مطابع شرقية وطبعوا بها ألوفاً من كتب الشرق ولا سيما اللغة العربية فان ما طبع من أمهاتها عندهم هو القسم الهم من كتبنا العلمية والتاريخية والأدبية وما زالت الكتب التي طبعتها مطابع باريز وأكسفورد ولندن وليدن وغوتنغن وليبسيك ورومية ومجريط وغيرها من حواضر العلم والمدنية في أوربا باللغات العربية هي المفخر الذي يحق لمدنية القرن التاسع عشر والعشرين في ديار الغرب أن تباهي به الإعصار والأمصار.(89/3)
وما برحت أسماء دي ساسي ووستنفيلد وفلوغل وريسك وبروكهار وكارليل وكاترمير ودي سلان وغوليوس وشولتنس وارينيوس وهيستما وشيد ودي بومباي ونيبوهر وزوزاريوو كولونبروك وجنستون وستونتن وفين وسيدليو وكوسان وكوسان دي برسفال وجوبرت وروزنمولر وكلايروت وهانجت ويولس وفراهن ومهران وهماكر وفرنيل ودي لاغرانج ودي فرجه ورينوومونك وبرنيه وكمباريل وبرون وموله وكازميرسكي وفريتاغ وكسغارتن وراك وبرنستين وارنلد ووتستشتين وفتزر وفولف وهاربوكو يورغستال وجونيبول وروردا وفايرس وكورتون وتاسولين وجونس وغوتوالد وكولسون وكريستيانوفتش وخانيكوف وكاينكوس وكودرا وموهل وبلن ودي تاسي وسولي وايفلد وديمانج وشرموا وبوتجانوف وبولديراف وسيانكوفسكي وسافليات وغريغورياف وبافسكي ونفروتسكي وبرايزين وسبنرجر وتورنبرغ وخانكوف ودوزي ووريخت - ما برحت أسماء هؤلاء الرجال تذكر بالحمد ويطلب لها أثواب عملها.
هؤلاء بعض أئمة المستشرقين في القرن التاسع عشر من الألمانيين والنمساويين والهولنديين والفرنسيين والايطاليون والروسيين والانكليز والاسبانيين والدانيمركيين والاسوجين والبولونيين والبلجيكيين والأميركيين ولو جئنا نعدد مشاهيرهم في هذا الربع الأول من القرن العشرين لطال بنا المطال ومن مشاهير شيوخهم بروكلمان وولهاوزن وغويدي وغولد صهير وهوار وبراون ومرجليوث وفمبري وهوتسما وباسمه وزترستين وسكيابارللي وناللينو وهوداس ودارانبرغ ونيكلسون وموسل وسيبولدوهور وفيتزوبيكر وهرتمن وديفو وموتلنسكي ولتمان ولامنس ومسنيون وهوغروني وديكوي واماري وكاركماريك وفولرس وشادوير وارنولدور وسكادامس وجيزوبار تولد ومور تمان ولشاتليه وبوفا وكاباتون وكور وهاليفي وماسبر وشيفر ومكدوبل ودوفال ودي منار وبارت ووسينار وليفي وكازانوفا وروزن وشوفين وشافان ودوسو ومونتيه وسبيرو وشيل وماهفي ودلبروك وكولنيون ودي غوبرناتيس وبزنبرجر ودافيدس وهوبت وكررهن وكايتاني ولامبروز ونافيل واولدنبرغ هؤلاء بعض من أشهر واثارهم من علماء المشرقيات واتوا على الخاطر ساعة كتابة هذه العجالة وهناك مئات منهم المشهور وآخر الحامل وما منهم ومن سبقوهم من الإعلام إلا الذي نشر الآثار النافعة بالعربية أو منقولة من العربية أو عن إحدى اللغات(89/4)
الشرقية وفيهم من نشر عشرات من المصنفات كانت بصحبتها وفهارسها مادة الآداب العربية وخدم بها بلاده أولاً وهذه اللغة الشريفة ثانياً ومنهم من ينشر الكتاب لقدماء مؤلفي العرب بنصه ويعلق عليه حواشي باللاتينية لغة العلماء أو يترجمه إلى اللاتينية وينشره بهذه اللغة فقط ومنهم من يعلق عليه أو يترجمه بلغته كالهولندية والألمانية والانكليزية والافرنسية والايطالية والاسبانية والروسية والسويدية ولمستشرقي كل امة كبرى عدة جمعيات مهمة راقية وأقدمها جمعية باريز وتليها جمعيات ألمانيا والاستشراف أرقى ما يكون في بلاد الجرمان الآن والى علماء المشرقيات منهم ومن الهولنديين يعزى الفضل الأكبر في نشر أهم كتب أجدادنا في العلم والتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والدين. والجرمانيون والهولنديون اقدر الأوربيين على النطق بالعربية وبالنظر لاختصاصهم أو أخصائهم جاء منهم أئمة قل نبوغ أمثالهم في الأمم الأخرى ومجلة المستشرقين الألمانية راقية جداً وتتألف منها مكتبة مهمة بحثت كالمجلة الآسياوية الافرنسية في علوم الشرق وآدابه ولغاته ولم تترك شاردة إلا أحصتها ولا مبحثاً إلا محصته وتجيء بعدها مجلة المستشرقين النمساويين ومجلة المستشرقين الانكليز والطليان وغيرهم من أمم الحضارة والولوع بالمشرقيات.
وقد اعتاد المشتغلون بالمشرقيات منذ سنة 1873 أن يعقدوا مؤتمراً لهم يحضره جلة منهم ويكون مقره في إحدى العواصم المشهورة وتنتدب الحكومات من يمثلها في تلك المؤتمرات فتتلى فيها الخطب المفيدة والمحاضرات التي تنم عن فضل بحث ودروس في لغات الشرق وعلومه وتاريخه واجتماعه ويتنافس أئمة هذا الشأن في هذا السبيل المحمود وكانت الحكومة العثمانية والحكومة المصرية تنتدب أناساً يمثلونها في المؤتمرات التي عقدت حتى الآن وكان بعضهم من العلماء والأدباء.
وقد عقد المؤتمر الأول سنة 1873 في باريز والثاني سنة 1876 في لندن والثالث سنة 1877 في بطرسبرج والرابع سنة 1878 في فلورنسة والخامس سنة 1881 في برلين والسادس سنة 1883 في ليدن والسابع سنة 1886 في فينا والثامن سنة 1889 في استوكهولم والتاسع سنة 1892 في لندرا والعاشر سنة 1894 في جنيف والحادي عشر سنة 1897 في باريز والثاني عشر سنة 1899 في رومية والثالث عشر سنة 1902 في(89/5)
هامبورغ والرابع عشر سنة 1912 في اثينة ويعقد السابع عشر سنة 1915 في أكسفورد وسيكون هذا المؤتمر برئاسة رئيس كلية أكسفورد وعهد برئاسة اللجنة المنظمة إلى الأستاذ مكدونل واللجنة العامة مؤلفة من أساتذة اللغات الشرقية أو من مدارس الدروس الشرقية في كليات ابردين وبريستول وكمبردج ودوبلن واديمبراج وغلاسكو وليفربول ولندرا ومنشستر ووسانت اندري وبلاد الغال في بريطانيا العظمى ومن لجان الجمعيات العلمية الانكليزية مثل الجمعية الأفريقية والجمعية التوراتية الأثرية والجمعية البوذية وجمعية آسيا الوسطى والجمعية الصينية وجمعية آثار مصر والجمعية اليابانية وجمعية الأبحاث الفلسطينية والجمعية الفارسية والجمعية الآسياوية الملكية وغيرها وستبدأ مداولات المؤتمر يوم 13 أيلول 1915 وتنتهي في 18 منه وسيكون أبحاثه في علم التعريف الإنسان والآثار وفي علم الآثار الأشورية وفي آثار آسيا الوسطى والشرق الأقصى ومصر وافريقية والهند واللغات والآداب الإسلامية وفي اللغات السامية وفي آسيا الغريبة وإيران وتكون اللغة التي يجوز هذه وجب عليه أن يطلب الترخيص له بذلك من رئيس اللجنة التي هو احد أعضائها أو يريد التكلم فيها وقيمة الاشتراك بالمؤتمر ليرة انكليزية تدفع سلفاً ويفاوض بكل ما يتعلق بشؤون المؤتمر القادم: ومن يشترك بالمؤتمر يأخذ كتاباً بأعمال رجاله ويحق للأعضاء أن يركبوا البواخر والسكك الحديدية وينزلوا في فنادق معينة بأجور متهاودة حقق الله نيات رجال العلم ونفع بهم على اختلاف الغايات واللغات.(89/6)
عبرة الحرين
1
انتدب القائمون على وقف المحسن كارنجي الأميركي جماعة من أهل النظر والإنصاف والعلم من الانكليز والألمان والفرنسيس إلى وضع تقرير في الفظائع التي ارتكبت في حرب البلقان الأخيرة بل في الحربين الأخيرتين فقامت اللجنة المؤلفة لهذا الغرض بما كان الواجب على الدول الممدنة أن تقوم به فكانت خدمتها عظيمة جداً لأبناء الأجيال المقبلة قاموا بذلك وهم على مثل اليقين بأن خدمة الحق المجرد توشك أن تسخط العالم كله.
وقد عهد بتأليف هذه اللجنة إلى المسيو دستور تل دي كونستان من كبار المفكرين في مجلس الشيوخ الفرنسوي فتوخى أن يكون من تقرير هذه اللجنة فائدة اقتصادية كبرى لتلك الحكومات التي تقاتلت وتطاحنت فتكون واسطة للسلام بين الأنام وتسعى الحكومات إلى إصلاح خطئها الظاهر ويحقق المتحاربون آمال الرأي العام الأوربي الذي لا يريد أن يبقي جزء من أوربا معطلاً في حين يستطيع أن يشارك حق المشاركة في الارتقاء العام الذي آخذ مجراه من أوربا في كل مكان وقد طافت هذه اللجنة بلاد البلقان من بلغراد إلى سلانيك فأثينة فالاستانة فصوفيا ومن صربيا إلى يونان إلى مقدونية إلى العثمانية إلى تركيا إلى بلغاريا.
ظهر من مجموع تحقيقات اللجنة أن جميع الحكومات مسؤولة عما أتت من الفظائع أن الجيش الروماني الذي لم يحارب في الحقيقة حرباً تشبه حرب المتخالفين من البلقانيين قد ثبت عليه إتيان المنكرات وجميع المتحاربين خالفوا المبادئ الجوهرية من الحقوق العمومية المتعلقة بالحرب.
وقد نشرت لارفو الافرنسية فصلاً لدستور نل دي كونستان قال فيه: ما قط جاءت العبرة أصرح ولا أفظع مما جاءت هذه المرة فإن الشعوب التي طالما اضطهدت في شبه جزيرة البلقان قد أتت باتحادها بأعمال لم تستطيع أوربا القادرة المنشقة على نفسها أن تتصورها فاستولت في بضعة شهور على كريت وسلانيك واسكوب واشقودرة وادرنة وأوشكت أن تدخل الأستانة وكان ذلك خاتمة المطاف وآخر حل للخلاف.
فلما انحلت رابطتهم قضي عليهم أن يبقوا وضعف قواهم. فإن الحرب الثانية ليست في الواقع حلاً للأشكال بل هي مقدمة لعدة حروب بل حرب كل ساعة وأفظع الحروب بل(89/7)
حرب الدين وحرب الانتقام وحرب العناصر وحرب شعب لأخر وإنسان لإنسان وأخ لأخيه وبه يسلب الجار ملك جاره ويأتي على قوميته فينتزعها وبقي العثمانيون في أوربا على كل حال. ولم تنجح نتيجة من ضحايا أدرنة وكان من أمر مقدونية أن نجحت من كونها مقبرة لتصبح جهنماً ومزقت تراقياً أجزاء وجعلت ألبانيا إمارة فكانت وما زالت أتعسهن حظاً وأكثرهن هدفاً للمطامع البربرية تكمن لالتقامها كل من النمسا وصربيا والجبل الأسود واليونان وايطاليا. والكنائس والبيع تتخاصم بحيث أصبحت اقل حرية مما كانت على العهد العثماني وستكون الأستانة أكثر مما كانت تفاحة الخلاف الأبدي تحت ملاحظة الروس تراقبهم ألمانيا والنمسا وبلغاريا والمجر وصربيا ترقب أحوال مضيق الأستانة والجزر تتخاصم عليها العثمانية بل أسيا مع ايطاليا واليونان وانكلترا بل جميع دول أوربا العظمى وقد فتح البحر المتوسط لخصومات جديدة فأصبح ساحة وغى لم يكنها من قبل فالمستقبل مظلم ولكنه يتجلى بالنور إذا أحبت ذلك أوربا بل الدول العظمى العسكرية فبيدها كما هو أوربا وأمريكا نزاع بين ظالم ومظلوم بل هو نزاع بين سياستين سياسة التسلح وسياسة الارتقاء فتقوي سياسة الارتقاء تارة وتتغلب عليها من الغد سياسة التحريض والبغضاء التي تؤدي إلى حمل السلاح فالحرب.
عناية الشعوب في العالم القديم والجديد بالمنافسة الاقتصادية التي تؤدي إلى غلاء أسعار التسلح قد جعل الأمم تحنق على هذه الطريقة والإفراط في التسلح هو من لوازم ارتقاء الصناعات ولا يربح من هذا السلام المسلح في الحقيقة إلا البلاد الصغرى أو البلاد الجديدة التي ليس عليها ديون وليس لها ميزانيات ضخمة وقد اتضح للدول أن أغناهن أكثرهن تأثراً بالحرب فاخذ كل من انكلترا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها يطلبن السلام وكان العامل الأكبر في حملهن على الرغبة فيه أمور كثيرة واخصها ضرورة المنافسة العامة وسرعة المواصلات وعصيان أرباب التكاليف والخوف من الفوضوية ومما تخبؤه الأيام في بطونها.
أن عدداً عظيماً من الناس ورؤوس أموال طائلة تعمل لصنع السلاح وكل يوم تزايد أدواتها وتتجمع القوى والأموال لتصرف في سبيلها فالأسواق تروج بطلب السلاح والجرائد توقد جذوة الحروب والنقابات المتعهدة بتقديم السلاح تعمل على توسيع كل خرق لتستفيد من(89/8)
ذلك فوائد مادية مهمة. والسياسة الخارجية في التسلح عند امة عظمى أن تستأثر هي قبل كل شيء بطلبية أسلحة والمحور الذي تدور عليه السياسة أن تقوم امة بتقديم بنادق ومدافع ومدرعات وان تصرف أموال القروض في بلاد معينة وقد أصبح الجهاد حروب نفوذ ودسائس والسفراء الذين لم ينظروا إلى ذلك نظر يقظة وانتباه يسقطون من مناصبهم فألمانيا سلمت العثمانية بل سلحت المستعمرات والممالك الصغرى الفقيرة وسعى رجال السياسة إلى حمل أميركا الشمالية والجنوبية واستراليا على التسلح واضطروا كندا - ومستقبلها مناط بإعفائها بحارة كان في وسعها أن تستغني عن إعالتهم قرناً آخر. وكذلك فعلت استراليا وقد حاولت برازيل والأرجنتين والشيلي وسائر جمهوريات أميركا اللاتينية أن تعيش بسلام ولكن شياطين الأنس من التجار ووكلاء معامل الأسلحة أقنعوهن باستصناع مدرعات ضخمة وحملوا برازيل والأرجنتين على الاستغناء على المدرعات القديمة لبيعها من العثمانية واليونانية وستصبح الأستانة دار صناعة كبرى بل مرفأ حربياً جديراً بتاريخها وتضطر أساطيل اليونان ايطاليا إلى أن تزيد أسطولها وتجري على مثال ذلك الممالك الكبرى في أوربا وأمريكا وهكذا تبلغ السفراء تبليغاتهم السرية إلى حكوماتهم مبالغهن بقوى غير دولهم ودولتهم تبلغها للصحف التي توقد جذوة الفتن كلما خمدت بحيث صحت نبوءة الأميركان في قولهم: أن الحرب المستقبلة ستعلنها الصحافة.
وعندئذ يكون اليونان والعثمانيون والصرب والبلغاريون والجبليون والالبانيون مدججين بالأسلحة ولهم من المدافع والدردنوتات التي لا نعرف كيف نستخدمها فيعودون يقتتلون من جديد ويقودون وراءهم حكومات أوربا الذين يكونون مثلهم فدية الصحافة والوطنية في الحقيقة وطنية مال وكسب أو سياسة التسليح.
قلت في خطاب لي في مجلس الشيوخ أن فرنسا أنفقت منذ ثلاث وأربعين سنة زهاء مئة مليار فرنك أي زهاء ملياري فرنك كل سنة على تسليحها ولم تنتج لها فائدة من هذه النفقة الكبرى. هذا معدل السلام المسلح في مملكة واحدة فضع ولا تخف عدة مئات من المليارات صرفت في خلال نصف قرن في مجموع البلاد. تمثل لذهنك عظمة هذه القناطير المقنطرة من الذهب الذي صرفته أوربا فيما لو صرفت نصفه على المدنية أما كانت أوربا بل افريقية واسيا تهذب كلها وتحيا بمواصلاتها ومعارفها وأمنها ولعمري كيف كانت هذه(89/9)
الشعوب البلقانية التعسة لو صحت عزائم ممالك أوربا الكبرى الحامية لها على التخلي عن المنافسة بينهن في تسليحهم وحصروا منافستهن في إنشاء طرق لتلك الشعوب وأعمال صناعية وفنية وسكك حديدية ونهرية ومدارس ومتاحف ومعامل كيماوية ومستشفيات.
ليست الشعوب البلقانية هي المجرمة الحقيقية في سلسلة هذه المصائب والقتل والغرق والحريق والذبح والفظائع بل ولا الحكومات الأوربية بل المجرمون الحقيقيون هم الذين يخدعون الرأي العام ويستفيدون من جهله لينادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور ويحمسوا ويهيجوا ويحملوا بلادهم على بغض البلاد الأخرى بل كل البلاد على التباغض بعضاً لبعض. المجرمون الحقيقيون هم الذين يعلنون كل يوم مدفوعين بعامل المصلحة أو المزاج الحرب التي لامتصاص منها وتنتهي بهم الحال إلى إعلانهم بحجة إنهم يئسوا من التحذير منها. المجرمون الحقيقيون هم الذين يفادون بالمصلحة العامة لأجل منافعهم الشخصية الذين يتبعون لبلادهم سياسة خرقاء سداها المشاكل ولحمتها الانتقام في حين لا ينفع الصغار كما لا ينفع الكبار إلا السلام والوئام وفيهما النجاة والحياة ليس إلا.
هذا ما قراناه في الصحيفة الباريزية وقد رأينا أن نشفعه بما كتبه مجلة لاروس مانسويل في أسباب الحرب البلقانية ونتائجها من سنة 1912 - 1914 قالت: أن الحربين الشرقيين من سنة 1912 - 1913 والأولى بين الدولة العثمانية وممالك البلقان المسيحية المتحالفة والثانية بين هذه الممالك هي افجع الحوادث التي يسطرها تاريخ المسألة الشرقية بعد معاهدة برلين (1787) فوفق شعوب البلقان بعد جهاد أربعة قرون كانوا مظلومين في خلالها إلى أن خطوا هذه الخطوة الواسعة فلم يبقوا للعثمانية إلا الطرف الشرقي من شبه جزيرة البلقان والى توسيع مصورات هذه الممالك المسيحية لتنمية عناصرها وانتشارها. بيد أن غلبة الممالك المسيحية التي تمت بدون معاونة الممالك العظمى وأحياناً على الرغم منها يعدل في مسلك هذه الممالك الكبرى في الشرق فيقضي على أطماعها أراض جديدة منه بدل يؤثر تأثيراً كبيراً في أطماعها الاقتصادية أيضاً وثبت أن الدول الست لم تعد تفلح في حمل شبه جزيرة البلقان على العمل بما تراه الشعوب البلقانية أدركت سر قوتها وغناها فعدل الشعوب البلقانية بأنفسهم سياسة البلقان وتزعزع المبدأ الذي سارت أوربا عليه في دعوى سلامة المملكة العثمانية فصارت أوربا تود أن تكون الأستانة حرة وقسمت الأصقاع(89/10)
الجديدة في الأرض العثمانية إلى مناطق اقتصادية.
أن السبب في الحرب العثمانية التي نشبت في تشرين الأول 1913 شكوى المسيحيين من الإدارة في ابيروس وألبانيا ولا سيما مقدونية فكانوا ذريعة لتدخل الممالك الصغرى التي تطمح منذ زمن إلى ضم الشعوب التي هي من عنصرها إلى بلادهم ولم تستطع أوربا المختلفة المقاصد أن تحول دون هذا التدخل.
ولقد حاولت أوربا أن تقطع شأفة الاضطرابات المقدونية فأخذت حكومتا فينا وبطرسبرج من سنة 1905 إلى 1907 تساعدهما لجنة دولية لتنظيم الإدارة المالية والقضائية في مقدونية ثم أنفقت روسيا وانكلترا غداة مقابلة رفال على توسيع المراقبة الأوربية في هذه البلاد ولكن انتشار القانون الأساسي قد وكل الأمر إلى الباب العالي وكان الانقلاب 24 تموز 1908 من عمل الوطنيين المسلمين ممن كانوا يكرهون المداخلة الأوربية مثل سائر الوزراء السابقين على عهد السلطان عبد الحميد وقد طرح برنامج الإصلاحات المقدونية جانباً فكان (كذا) حظ المسيحيين المستبعدين في شبه جزيرة البلقان في سنة 1910 أتعس مما كان عليه أيام المذابح الأرمنية. وبدت إمارات الضعف في حكومة الأستانة مرات فراحت أوربا تحاول حل المسألة الشرقية وكان من ذلك ضم النمسا لولايتي البوسنة والهرسك (تشرين الأول 1908) وأعلنت بلغاريا استقلالها ونشبت فتنة في الوقت نفسه في اليمن (1910) وظل الاضطراب سائداً في أرمينية وكان من الحرب الايطالية العثمانية (1911 - 1912) خصوصاً دليل على ضعف العسكرية العثمانية على حين اشتداد الأزمة على مسيحي مقدونية فخاف ملوك البلقان من حنق الرأي العام عليهم في بلادهم ونظروا إلى اختلاف أوربا فرأوا في ربيع سنة 1912 أن ساعة التحالف قد حانت. فاتخذت الممالك البلقانية اتحاداً سياسياً عسكرياً عقيب مفاوضات طويلة فعقدت محالفة أولى بين صربيا وبلغاريا سنة 1909 ولم يخف على روسيا ما جرى بينهما فتلقته بالقبول لأنها رأت فيه جواباً مناسباً لتضم النمسا للبوسنة والهرسك. وتمت هذه المحالفة سنة 1912 على أن تكون التخوم بين البلادين صربيا وبلغاريا آخذة من وارنة مجتازة بحيرة أواخر يدا إلى أن تبلغ البحر الادرياتيكي وفي تموز 1912 عقدت محالفة أخرى بين بلغاريا واليونان على أن تترك هذه سلانيك خارج المنطقة التي تريدها ثم عقدت محالفة بين بلغاريا والجبل(89/11)
الأسود يسقط بموجبها الاتفاق الذي كان هذا الجبل عقده والنمسا سنة 1910 ويضمن هذا الاتفاق الجديد للملك نقولا جزءاً من لواء بازار (توفي بازار) ومدة هذه المحالفات إلى خمس وعشرين سنة وقد ترك البحث في مسألة الأستانة احتياطاً وتفادياً من مس أوربا.
وفتحت المشاكل بين العثمانية وممالك البلقان أولاً بأن طلبت حكومة جتنة الجبلية إلى الباب العالي أن تعين حدود المملكتين إذ كان الجبليون من أهل الجبل الأسود في عراك دائم مع القبائل الارناؤدية فتضاممت الأستانة عن هذا الطلب وداهم في أوائل أب رجال الدرك العثمانيين ارض الجبل الأسود على طول تارا وأحدثوا مذابح في مواكوفاز وفليكا وبرانه وغيرها. وحدث مثل ذلك في بوتشانا من مقدونية بين العثمانيين والبلغاريين فزاد في سخط الرأي العام البلغاري فرأت حكومة صوفيا أن تبادر إلى إرسال مذكرة إلى الدول مخافة أن تستحق غضب الحزب الوطني وذلك في منتصف اب قائلة فيها انه بالنظر لحرج الحالة في البلقان فإن أحسن واسطة لمقاومة النزعة الحربية في الشعوب المسيحية في مقدونية وتراقياً أن تمنح الحكومة العثمانية الإصلاحات المطلوبة لذينك القطرين فأجابت الدول داعية حكومة صوفيا إلى التزام السكون وحكومة الأستانة إلى منح الإصلاحات المنشودة. واكتفى الباب العالي بأن يعد المسيحيين بقانون الولايات القديم الذي نشر سنة 1882 ودلت التجارب انه لم يطبق فأخذت الحوادث تتكرر وكانت أنشأت صربيا وبلغاريا منذ أسابيع تعد جيشهما للقتال بحجة القيام بتمرينات عسكرية كبرى فقلقت العثمانية وجمعت 250 ألفاً في ولاياتها الأوربية ولا سيما في أرجاء أدرنة وعلى الحدود الشمالية من تراقيا. وفي اليوم الثامن والعشرين من أيلول دعت بلغاريا الدول لتوقيف التجنيد عند العثمانيين. وفي 30 أيلول زاد تجنيد العثمانيين فقررت بلغاريا وصربيا أن تدعو جميع جيشهما إلى حمل السلاح وفي 3 تشرين الأول دفع وزراء الممالك المتحالفة إلى حكومة الأستانة بلاغاً مشتركاً تطلب فيه منح الاستقلال الإداري لجزيرة كريت ولصربيا القديمة ولمقدونية ولألبانيا وأمهلت الدولة ثلاثة أيام لإعطاء الجواب إذا لم يرسل الجواب بعدها بعمد الحلفاء إلى استعمال السلاح وحاولت الدول العظمى أن تدهل في إصلاح ذات البين بين العثمانية والحلفاء فلم تفلح وكان الباب العالي يستند على ألمانيا ويفاوض من جهة أخرى لندرا وفينا وباريز فيضيع الوقت في المفاوضة وفي 9 تشرين(89/12)
الأول بدأ الجبل الأسود بإعلان الحرب على العثمانية وفي 13 تشرين الأول عاد الحلفاء للبلقانيون فبعثوا بمذكرة إلى الباب العالي يمهلونه ثلاثة أيام ويجعلون مطالبهم في احد عشر بنداً: تقسيم الولايات إلى إيالات تراعى فيها أجناس النازلين فيها وان يكون النواب في مجلس الأمة العثمانية نصفين الأول من المسلمين والآخر من المسيحيين على حد سواء وان يعين لها ولاة مسيحيون بلجيكيون أو سويسريون وان يقبل المسيحيون في جميع الوظائف الإدارية في المملكة العثمانية وتعين لجان للمراقبة يعهد إليها الإشراف على تنفيذ الإصلاحات التي يجب أن تتم في ستة أشهر الخ وفي 17 تشرين الأول بعد أن بعث الباب العالي بمذكرة فيها شيء من الإبهام في توجيه التبعة على من يستحقها أعلنت الحرب بلغاريا وصربيا وفي ذات اليوم قرر مجلس النظار اليوناني أن يعلن الحرب على العثمانية فاجتازت الجنود اليونانية التخوم العثمانية صباح 18 منه وبذلك نشبت الحرب على جميع تخوم المملكة العثمانية.
يكفي إلقاء نظرة قليلة على المصور الطبيعي لبلاد البلقان لتتمثل للقارئ صعوبة الحركات العسكرية على قواد العثمانيين لدى مداهمة كل من بلغاريا وصربيا واليونان للبلاد العثمانية. فإن النجاد من جبل رودوب أو دسبوت طاغ التي تصل إسنادها الأخيرة إلى القرب من البحر بين سرس واورفاني مطوقة واديء ستروما وتفصل ترانية هي مضطرب الجيوش البلغارية العام عن وادي واردار الغني الفسيح وهو الطريق المستقيم لصربيا نحو سلانيك الذي كان الغاية التي تطمح إليها كل من الصرب واليونان. ومثل ذلك يقال في وادي فيستريزا الأوسط ولا سيما الأراضي الواقعة على البحر اليوناني ووادي فويتوزا وابيروس الجنوبية. فالطرق والأودية والسكك الحديدية كلها في التقسيم ألبانيا الشمالية حيث اشقودرة على أربعين كيلو متراً من حدود الجبل الأسود أن البلاد كانت أربع ساحات كبرى للحرب ممكنة ولكن بدون اتصال سهل بينها وبذلك لم يكن العثمانيون على ثقة من مواقع الهجوم عليهم فاضطروا إلى توسيع خطوط الدفاع فإن العثمانية وان استطاعت في الحال أن تجمع 450 ألفاً من المشاة و21 ألفاً من الفرسان و1048 مدفعاً لكنها لم تعمد إلى التزام خطة الدفاع وما كان الأمر بالتجنيد يتناول غير فيالق تراقية ومقدونية وجزءاً من الأناضول واقتضى في الأولى أن يلاحظ إدخال المسيحيين في(89/13)
صفوف المقاتلين في حرب عنصرية دينية وفي الثانية أي في عسكر الأناضول شعر بقلة المواصلات السريعة بين الأستانة واسيا الصغرى وليس في الأناضول سوى خطوط حديدية ضيقة أو ذات خط واحد والجند الاحتياطي الذي أرسل من مرافئ البحر الأسود اقتضى نقله على بواخر إلى الأستانة والى رودوستو (تكفور طاغي) أو سيلوري لتتجه بعد ذلك صوب البلاد التي تحارب فيها ثم أن الحرب الايطالية العثمانية وفتنة اليمن واضطرابات ألبانيا قد اقتضت نقل الجنود من تلك الأصقاع للحرب ومن هنا نشأ تأخير جديد في التجنيد أو تعديل في الحركات العسكرية في بعض الأحوال. ولم يستطيع العثمانيون أن يجمعوا في اليوم الخامس عشر في تراقية سوى 11 فرقة نظامية و8 فرق رديف ثم بعد حين التحق بها 12 فرقة من رديف آسيا الصغرى والظاهر أن الخطة الأولى التي اعتمدها أركان الحرب العثمانية كانت الوقوف في وجه الجيوش البلغارية في تراقية حيث كان معظم قوتها وذلك بحشد الجند الكثير لسد جميع منافذ الدفاع من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي والى الجنوب من وادي واردار فإن الصعوبة الطبيعية في رسم الأرض هناك كانت موافقة للدفاع على ما يظهر. فإن القوى العثمانية بعد أن الفت حامية قوية لموقع أدرنة وحامية تمسك بافواه مضايق الجبل كانت عبارة عن أربعة فيالق في تراقية كل فيلق مؤلف من ثلاث فرق مقسمة بين معسكر أدرنة المنعزل القوي وقلعة قرى كليسا ويرأسه عبد الله باشا (230ألفاً) وكانت قوة العثمانيون في مقدونية مؤلفة من جند تلك الأصقاع أي من الفيالق الخامس والسادس والسابع ومن الفرقة الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين المستقلة (210 آلاف) أمدتها بالتدريج ثلاث عشرة فرقة من الرديف وتجمع الفيلق الخامس في سلانيك والسادس في مناستر والسابع في شمالي وشرقي اسكوب عند نقطة اتصال الخطوط الحديدية نحو نيش وسلانيك وسلمت قيادة حدود الجبل الأسود للفرقة الرابعة والعشرين والفرقتان الثانية والعشرون والثالثة والعشرون أخذتا بأفواه مضايق تساليا والبند وأرجاء قوازانا وأواسط فيستريزا وبانيا. وكانت قلة عددهم بالنسبة لجيوش اليونان مادية.
وفاق الحلفاء البلقانيون الجيش العثماني بسرعة التجنيد وهجومهم فتم تجنيد المشاة والاحتياط في بلغاريا في اليوم الخامس وقلة الخيل آخر تجنيد الفرسان والمدفعين إلى اليوم(89/14)
الحادي عشر. فاجتماع تسع فرق من المشاة البلغار وتسعة الوية وفرقة من الفرسان قد تم من اليوم السابع إلى الرابع عشر وانتهى بتجنيد المهاجمين وكان محورهم الرئيسي متجهاً صوب وادي مارتيزا (وهو ثماني فرق عاملة و5 ألوية من الاحتياطي تحت القيادة العامة للجنرال سافوف يعاونه الجنرال فيتشف رئيس الأركان الحرب البلغاري) وهناك جيش ثانوي بقيادة الجنرال كونتشف رابط في كوستندل ماداً يده للجناح الأيسر من الجيش الصربي. وبعد ذلك يجيء جيش ثالث بقيادة القائد رادكوديمتريف منبعثاً على طول نهر طونجة من يلمبوني إلى قزل اغاطاش. أما الجيش الصربي (نحو 70 ألفاً) فكان بقيادة القائد يوتنيك مجنداً في مثل هذه المدة التي تجند فيها الجيش البلغاري ولكنه اجتمع في اليوم العشرين مبثوثاً من كوستنديل (الفيلق الثاني) إلى رشكا ماراً بأعالي نهر مورافا (الفيلق الأول في جنوبي نيش) وكورشوميلي (الفيلق الثالث) أما الجيش اليوناني نحو 125 ألفاً فلم يبق في شمالي ارتاسوي كتيبة حامية (فرقة واحدة) والفرق الست الأخرى اجتمعت كتلة واحدة في تساليا شمالي لاريسا أمام مضيق الاصونة وكان لي العهد قسطنطين يقودها بنفسه. والأسطول اليوناني الصغير بأمره الريان كوندريوتيس يحارب على الشاطئ على مقربة من سلانيك ويستولي على بعض الجزر في بحر ايجة ولا سيما لمني وبزجه
مر معنا أن الجبل الأسود أعلن الحرب يوم 8 تشرين الأول أي قبل عشرة أيام من انقطاع المفاوضات رسمياً بين الدولة العثمانية والحلفاء البلقانيين. وقد بدأت الوقائع في الحال واجتهد الجبليون بعد أن كشفوا اشقودرة كان جيشهم في الجنوب بقيادة القائد مارتينوفتش قد اخذ على نفسه القيام بذلك سائراً نحو حصن ترابوش أن يبادر إلى مد يديه للصربيين بالقرب من لواء يكي بازار. فقاوم العثمانيون على طول التخوم الجبلية إزاء بودغورتسا 9 تشرين ومن الغد استولوا على حصون روغام ودتشيش وفي الأيام التالية داهم الجبليون بشدة معاقل شبشانيك 11 - 13 تشرين فاستولوا عليها ثم حصون وارنة وهليم واتوا بعسكر إلى الجنوب من طريق وادي درين نحو وسووسان جان دي مودا ومنذ اليوم السادس عشر من تشرين الأول نجح القائد فوكوفيش في حركاته نحو بلاد وغوسينه وفي اليوم الحادي والعشرين بلغ وادي ليم وفي اليوم السادس والعشرين التحق بالجيوش الصربية نحو سيانتزا واحتلت أبيك يوم 13 ولم يلبث الهواء من هذه الجهة أن تبدو(89/15)
صعوباته فانقطعت الحركات الحربية وحصر الجبليون وكدهم في مداهمة أعالي ترابوش التي كان يتقدم فيها القائد مارتينوفيش وفي ذاك التاريخ أخذت الوقائع في تلك الحملة تجري في ساحات أخرى.
ولقد دخلت القوى المهاجمة اليونانية والصربية والبلغارية في آن واحد تقريباً أي في 18 تشرين الأول والنقد من حيث الوجهة العسكرية قليل على الجيشين اليوناني والصربي والعثمانيون لم يضعوا أمامهم سوى كتائب متوسطة بقوتها فقد اجتمع معظم الجيش اليوناني في سهل لاريسا من أعمال تساليا وسار على العثمانيين فرقتين واتجهت الفرقة التي تحت قيادة ولي العهد 18 تشرين الأول مارة بفجاج ملونا على الاصونة فاستولت عليها ووصلت طلائعها يوم 21 منه إلى سرفيا واقتتلت مع فرقة عثمانية فاضطروها إلى التسليم بفضل كثرة عددهم وكثرة مدفعياتهم 22 - 23 تشرين الأول وكانت فرقة الشمال خلال هذه المدة تتقدم على خط مواز على كرفنا جاعلة مناستر غاية قصدها فدخل ولي العهد إلى قوزانه يوم 26 تشرين الأول وضايق فجاج ترميوتاموس في جنوب فريا وافتتح المدينة بعد حرب عوان. ومن هناك اتجه نحو سلانيك في ثلاث فرق من رجاله في حين الفرقتان الثانيتان سائرتين على مناستر من طريق بانيجه وفلورينه. وقد التقت طليعته يوم 5 و6 تشرين الثاني مع العثمانيين على شواطئ الواردار في يكيجه ريثما تنضم إليها المدفعية وتعزز بمعظم الجيش في 7 منه قذفوا بالعثمانيين إلى الشاطئ الشمالي من النهر بعد قتال شديد في الجملة فاجتازه ولي العهد على آثره ليدخل يوم 9 منه إلى سلانيك فسلمت الحامية العثمانية مع القلعة وصحون المرفأ وكانت مؤلفة من 25 ألفاً. وقد فشلت الفرقة اليسرى اليونانية في الغرب فاكتشفت من جناحها لكثرة سير ولي العهد فألقى بها الجيش العثماني من بانيجه إلى قيالر فحملتها خسائر جسيمة مادية ولكن العثمانيين عاد فرسان الصرب فهددوهم من الشمال فلم يستطيعوا مطاردة الجيش اليوناني. وفي 21 منه احتل اليونان فلورينة الجديدة واستولت الفرقة اليونانية التي غادرت ارتا في ابيروس على بروزة ثم اجتاز على شدة الفصل وضعف البلاد عل إعالة الجيش مضايق كوستزادس ومضايق بنتوبيكاديا واحتلت هذه المدينة الأخيرة يوم 15 منه في حين أن كتيبة سيارة تقصد فالونة من طريق وادي سوشيتزا. وكان الأسطول اليوناني قد قام بوظيفته خير قيام بأن اغرق في ميناء سلانيك(89/16)
البارجة العثمانية فتح بلند القديمة القائمة على حراسة الساحل وبإخراجه جنداً إلى جزائر ساموتراس وليمني وبوزجة ونيكاريا ومدللي وصاقز الخ.
قام الصرب في مقدونية بأصعب مما قام به اليونان فكانت القوى العثمانية مجتمعة حول اسكوب فاجتاز الجيش الأول الصربي (75 ألفاً) غداة إعلان الحرب بقيادة ولي العهد التخوم بين ريستوفاتزوز يبقجة ومقدمة الصفوف العثمانية نحو الغرب على طول السكة الحديدية. وفي اليوم نفسه اجتاز الفيلق الثالث (بقيادة زيفكوفيش) مضايق بروبولاز بالقوة أما الفيلق الثاني فقد عضده البلغار فاستولى يوم 2 تشرين الأول والبلغاريون من ورائهم على كراتوفا وكوتشانا. وكانت قومانوه الغاية العامة وهناك نشبت المعركة الفاصلة يوم 23و 24 تشرن الأول فهو هاجم الجيش العثماني المؤلف من ستين ألفاً بقيادة زكي باشا من ثلاث جهات فاضطر إلى أن يتراجع نحو اسكوب ودخل جيش القائد ستيانوفيش من الغد إلى اشتب واحتل ولي العهد اسكوب يوم 26 منه فانهزم الجيش العثماني إلى مناستر. وكانت كتائب صربية ذهبت مدداً للجيش الجبلي بقيادة فوكوفيتش وأخرى نزلت وادي واردار مهددة سلانيك وثالثة (مؤلفة من فرقتين) رجعت إلى كوستنديل لتذهب منها في السكة الحديدية لنجدة الجيش البلغاري بقيادة القائد ايفانونف الذي عهد إليه حصار سلانيك. أما معظم الجيش الصربي فقد ظل متابعاً سيره ظافراً نحو مناستر وبعد قتال شديد دام يومين اضطرت المدينة إلى التسليم (18 تشرين الثاني). وفي 28 منه اجتازت فرقة ألبانيا الشمالية ودخلت دراج على البحر الادرياتيكي. وفي تراقية بين العثمانيين والبلغاريين وقعت الوقعة الكبرى فقد تقدم آنفاً كيف قسمت قوى المتحاربين إجمالاً ففي اليوم الثامن عشر من تشرين الأول سار الجيش الأول إلى فرقتين فسارت الفرقة الأولى على طول نهر طونجة يدوس الفرسان العثمانيين من جهة أدرنة وأخذت الثانية نحو الغرب فاستولت على خاصكوي ومصطفى باشا وفي 20 منه ضربت في جمعة بالأفرقة عثمانية وجاء في 22 منه الجيش البلغاري الثالث لتقوية الجناح الأيسر من الجيش الأول سائراً في مسالك صعبة مبرزاً من الشجاعة شيئاً كثيراً آخذة في سيرة على مضايق الجبال ملقياً بالحامية العثمانية إلى فرق كليسا حيث كان الجيش بقيادة محمود مختار باشا وعزيز باشا فاستولى الذعر على العثمانيين كأنهم في قتال حمي وطيسه فجلوا عن المدينة يوم 24 منه صباحاً(89/17)
وخاف الجيش كله أن يقطع عليه خط الرجعة مع الأستانة فتأخر إلى بابا اسكي ولوله برغوس والى الشاطئ الأيسر من ارجين وقد طورد مطاردة شديدة. ونشبت يوم 27 تشرين الأول على نجاد يكاد حصار ولوله برغوس أول حرب دموية فنجح القائد كريستوف البلغاري في هذه الوقعن بفضل انتظام مدفعيته وذلك في يكار حصار كانت تتجه معظم القوى العثمانية في حين أن الفرق الأخرى من الجيش الأول والثاني قد انضمت إليه لتقوية جناحه الأيمن وإطالة حبل امتداده. وفي 30 تشرين الأول عقيب وقعة جرت من الليل فتح طريق النجاد للبلغار وذلك في وسط المعسكر العثماني وفي 30 منه مساءً اضطر العثمانيون إلى الجلاء عن تلك الأرض بتاتاً منهزمين إلى جورلي ثم إلى خطوط الدفاع في جتلجة الواقعة بين البحر الأسود وبحر مرمرة فحللوا دون كل هجوم عليهم إذ قد عززوا خطوط الدفاع على جهة طولها أربعون كيلو متراً معمولة من حصون وفيها مدفعية قوية (مائتا مدفع من العيار الكبير) وعلى هذه الجهة حاول البلغار التقدم فلم يفلحوا فإن عدة وقائع صعبة حدثت في لازاركوي (771 تشرين الثاني) والمحمودية وغيرهما لم تسمع لمشاة البلغار التي كانت تمزق شملها بالنيران والأمراض أن تقاوم العثمانيين والبحر من ورائهم تحميهم المدرعات العثمانية. وفي 20 تشرين الثاني عقدت هدنة قصيرة بين المتحاربين وفي الأيام التالية ظهر الهواء الأصفر في الأستانة ثم في الجيش العثماني في جتلجة ومنها سرى إلى المعسكر البلغاري وفي 23 منه أعلن كان الحرب البلغاري توقف الحرب وكانت انتهت هذه الحرب الهائلة التي دامت على أمدها شهراً من الزمن باستنزاف قوى الفريقين المتحاربين فحان الوقت المناسب لإصلاح ذات بينهما.(89/18)
الترجمة عند العرب
كنت نشرت مقالة في جريدة المقتبس اقترحت فيها على فضلاء السوريين تأليف جمعية وتجعل هدفها نقل الكتب اللازمة لمدارس من اللغات الإفرنجية إلى اللغة العربية ووعدت أن اشفع ذلك الاقتراح بجملة اذكر فيها نشأة الترجمة في عهد الأمويين والعباسيين واهتمامهم لهذا الأمر الخطير إذ اللغة بالحقيقة لا تنهض وتمد أجنحتها ويأخذ القريب والبعيد بخط منها أن لم تكن لغة العلوم المادية وما كان الناس يقبلون على الألمانية أو الانكليزية أو الافرنسية لو لم تكن لغات العلم.
بدأت الترجمة على عهد الأمويين فهم الذين سنوا تلك السنة فان ماسرجويه البصري الطبيب الشهير الذي كان معاصراً لمروان بن الحكم قد نقل من اللغة السريانية كناشاً من أفضل الكنانيش تأليف القس اهرون بن أعين فلما تولى الخلافة عمر ابن عبد العزيز وجد هذا الكتاب مدفوناً في بطون مكاتب الشام فرأى من الحكمة أن لا يدع ثمرة هذا الكتاب تذهب إدراج الرياح فنشره لينتفع به الناس وليشجعهم على نقل الكتب المفيدة.
كان خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة 85هـ - حفيد معاوية الأكبر محباً للعلم والحكمة وكان فضلاً في نفسه عالي الهمة بعيد النظر راجح العقل ويسمونه حكميم آل مروان قد استقدم في نفسه من مدرسة الإسكندرية راهباً رومياً اسمه مريانوس ورغب إليه أن يعمله صناعة الكيمياء فلما تعلمها أمر بنقلها إلى العربية نقلها له رجل اسمه اصطفان القديم وكان خالد هذا مولعاً بعلم النجوم فانفق الأموال الطائلة وافرغ جهده في سبيل استحضاره لأنه ولعله أمر بترجمة شيء من هذا العلم ولم يصل إلينا خبره كما أمر بترجمة علم الكيمياء وقيل أن خالداً أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كانوا ينزلون مدينة مصر وأمرهم بنقل كثير من الكتب العلمية من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي وهذا أول نقل في الإسلام.
ولا يعلم إذا كان عمرو بع العاص قد أمر بنقل شيء من الكتب العليمة إباء ولايته على مصر لما عرف به من الميل للعلم والعلماء وقد كان في أيامه رجل مسيحي من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي كان في بدء أمره ملاحاً يعبر الناس بسفينته وعلائم الميل إلى العلم بادية على وجهه فإذا ركب معه جماعة من أهل العلم أصغى إلى مذكراتهم ولما اشتد به الشوق ولم يستطيع صبراً على الجهل ترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة(89/19)
فبلغ ما لم يبلغه الناشئون فيه منذ طفولتهم وقد أحسن من العلم فنوناً كثيرة حتى عد من فلاسفة وأطبائه ومناطقه.
فلما سمع به عمر بن العاص قربه إليه واحترامه وأكرمه لعلمه وفضله وجعل له المكانة الرفيعة ووقعت بينهما محبة عظيمة اشتهر أمرها وظهر حالها حتى قال بعض المؤرخين: أن المحبة التي نشأت واستحكمت بينهما ترينا مبلغ ما يسمونه النقل العربي من الأفكار الحرة والرأي العالي ولا يبعد أن يكون عمرو بن العاص قد أمر بترجمة بعض الكتب لان من كانت هذه سيرته من الميل للعلماء وشغفه باكتساب العلم لا بد أن تطمح نفسه لنقل بعض العلوم كالفلسفة والمنطق والطب المفقودة من اللسان العربي ومما تقدم تسقط دعوى من ينسب إحراق مكتبة الإسكندرية لعمرو بن العاص بأمر من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لأنه قول بعيد عن الحقيقة ولو صح أن عمر أمر بحرق تلك المكتبة لكان عمرو بن العاص أبان له وجه خطئه بادله ناهضة ويكفي أن يورد له بعض الأحاديث الصحيحة التي تأمر المسلم باتخاذ الحكمة من اغي وعاء كان وان الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها وان القرى حث على طلب العلم حثاً بليغاً ولم يقيده بعلم معين فقال: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. على أن من يعرف قيمة الشيء ويقدره حق قدره لا يعقل أن يجازف به لا سيما وعمرو يعد تلك المكتبة من النفس خيرات واجلبا قيمة بدليل احترامه وإكرامه ليوحنا النحوي وما أسهل على عمر إقناع ابن الخطاب بترك هذا الأمر المشين بسيرته الطاهرة لما جبل عليه ابن العاص من السياسة والدهاء والمهارة في إقامة الحجة هذا اذ1 فرضنا صدوره من الخليفة الثاني. ولا يظن أن عمرو بن العاص لأمر سياسي قد قرب إليه يوحنا فإن هذا كان بعيداً عن ضوضاء السياسة منعزلاً عن قومه لا يعرف إلا المطالعة والبحث والتأليف.
قال سيديو المؤرخ الشهير: لا يصح أن تنسب حريق مكتبة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب المشهور له بوفور العقل الدى جميع الأمم ولذا لم يذكرها احد من المؤرخين المعاصرين له فلو فرض صدور أمره بإحراقها لما كان إلا لمقدار قليل فإن معظمها احرق في عهد الملك توديوس آه.
ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس ورسخت قدمهم شرعوا بتشييد نهضة علمية فكنت(89/20)
ترى دور الخلفاء مجمع الأدباء والشعراء والعلماء وذلك لرغبة الخلفاء وميلهم للعلم وإجلال أهله وقد بالغوا في أكرام العلماء وقربوهم وجالسوهم وواكلوهم وحادثوهم وعولوا على آرائهم حتى لم يبق ذو علم أو أدب أو قريحة إلا وقصد دار السلام ونال جائزة أو هدية أو راتباً وكم تجود قريحة العالم عند ما يرى نفسه مبجلاً محترماً مقدوراً تعبه حق قدره وأفكاره ترتع في رياض الحرية ليس لأحد عليه سلطة يجاهر بكل ما يعتقده ما دام الدليل حليفه والبرهان مجنه وليس شيء ادعى لقتل الأفكار والمعتقدات من التحكم بها وقد اشتهر بنو العباس بأنهم حماة الرأي ناصروا العلماء حتى المخالفين لهم في المعتقدات وهي مزية عظيمة بها نضجت ثمار العلم وطاب مذاقه والعلم لا ينضج إلا إذا كان تحت عناية أمير تربيته والناس على دين ملوكهم.
أول من اعتنى بالترجمة من العباسيين أبو جعفر المنصور وكان شديد الكلف بعلم النجوم وقد تقرب إليه كثيراً من علماء الفرس إذ كانت لهم معرفة زائدة بهذا العلم وأشهر من تقرب للمنصور توبخت المنجم الفارسي ترجم له كتباً كثيرة وكان يصحبه حيثما توجه وممن خدم المنصور في النجوم إبراهيم الفزاري وابنه محمد وعلي بن عيسى الاسطرلابي المنجم وقد قصد المنصور رجل من الهند سنة 156هـ - قيم في حساب الهند وعرض عليه كتاباً في النجوم مع تعاديل معمولة على مذاهب الهند فأمر المنصور أن ينقل هذا الكتاب إلى العربية وان تؤلف فيه كتاب يتخذه العرب أصلاً في حركات الكواكب فتولى هذا الأمر إبراهيم الفزاري وعمل كتاباً سماه المنجمون السند هند الكبير وظل أهل هذا الزمن يعملون به إلى أيام المأمون. وممن تقرب إلى المنصور جورجس وهو أول من ابتدأ بنقل الكتب الطبية إلى العربية عندما استدعاه المنصور وكان كثير الإحسان إليه ومنهم البطريق كان أيام المنصور قد نقل كتباً كثيرة في الطب من تأليف ابوقراط وجالينوس وكان اهتمام المنصور بنقل الكتب الطبية لا يقل عن اهتمامه بالنجوم فقد بعث بطلب جورجيس بن بختيشوع السرياني الذي كان ماهراً بالطب ذكياً فطناً ذا هيبة ووقار وذلك على اثر علة أصابت المنصور فلما شفي ورجع إلى مزاجه منعه من الرجوع إلى بلده وجعل له مكاناً علياً لما فطر عليه من الصدق والأمانة والتدين وكان جورجيس هذا يعرف اللغة اليونانية فضلاً عن السريانية والفارسية والعربية ونقل كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية وقد مال(89/21)
إليه المنصور ميلاً شديداً حتى جعله طبيب أسرته وممن علت منزلته عند المنصور عبد الله المقفع وكان فاضلاً كاملاً وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية الثلاثة وهي كتاب قاطيغورياس وكتاب باري ارمينياس وكتاب انالوطيقا ترجم كل ذلك بعبارة سهلة وترجم مع ذلك كتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة والخلاصة أن المنصور كانت جل عنايته مصروفه لإيجاد مترجمين توسد إليهم هذه الصناعة الجليلة ولم يأل جهداًُ في هذا السبيل وترجم في خلافته كثير من كتب الهندسة والطب والنجوم. وفي زمن المنصور عرب كتاب بطليموس في الغناء واللحون الثمانية وأيضاً كتاب ارسوا عربه عبد المسيح الحمصي.
ولما انتقلت الخلافة إلى هرون الرشيد قام احسن قيام بالنهضة العلمية وكان من أفاضل الخلفاء وفصائحهم وكرمائهم وقد انتشر العلم في زمانه انتشاراً هائلاً قال درابر في كتابه تنازع العلم والدين: أن الرشيد قد أمر بإضافة مدرسة إلى كل جامع في جميع أرجاء ملكه. وفي أيامه تقاطر إلى بغداد كثير من الأطباء وعلماء السريان والفرس والهند وطفقوا يتعلمون اللغة العربية ليستطيعوا الترجمة ويحكموا أصولها وكان الرشيد مشغوفاً بالعلوم ونقلها إلى لسانه فقد بذل الأموال الطائلة وكافأ كل من يأتيه بكتاب قديم واتفق له في أثناء إغارته على بلاد الروم أن عثر في أنقرة وعمورية وغيرهما على كتب كثيرة حملها إلى بغداد وأمر طبيبه يوحنا بن ماسويه بترجمتها وقد علت منزلة يوحنا عند الرشيد فقر به إليه حتى وضع جميع المدارس تحت مراقبته وكان فاضلاً طبيباً محترماً عند الملوك خدم الرشيد والمأمون والواثق والمتوكل وعدا عن الكتب التي ترجمها فقد كان له تأليف عظيمة منها كتاب البرهان وكتاب الحميات والكناش المعروف بالمشجر. وممن تقرب إلى الرشيد بختيشوع الطبيب وجبريل ولده ونقلوه كتباً متعددة. وممن اشتهر بالنقل الحجاج بن مطر نقل كتاب إقليدس النقلة الأولى ويسمى الهازونية تمييزاً له عن كتاب إقليدس الذي نقل في زمن المأمون ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قره الحراني وكان فيلسوفاً عظيماً بلغ درجة لم يدانه بها احد وله تأليف كثيرة في المنطق والطب والرياضيات وقد قربه المعتضد حتى علت منزلته على الوزراء.
والخلاصة أن الرشيد قد افزع قصارى جهده بنقل الكتب ورفع أعلام العلم وكان يصرف(89/22)
قسماً كبيراً من أوقاته في هذا الشأن حتى أن العلماء والأدباء كانوا لا يفارقونه وإذا اجتمعوا بداره سما إلى مناظرتهم من حيث العلم والتواضع لا من حيث السيادة عليهم وهو بموضعه الجليل من الخلافة وقد بلغ به التواضع أن معاوية الضرير المحدث إذ جلس أمامه إلى طعامه قام الرشيد من موضعه وصب على يده الماء.
على أن الباحث يعلم أن معاوية هذا لم يبلغ درجة من العلم يضارع بها الرشيد وكان جل عمله محصوراً بالحديث فأين هو من الرشيد الذي كان يضرب بكل علم بسهم صائب وإنما حمل الرشيد على التواضع لمعاوية أمر مهم وهو الترغيب فإن الناس إذا رأوا العالم يصل إلى هذا المقام من الاحترام حتى من العظماء وتنهال عليه المبرات المادية والمعنوية يتسارعون إلى طلب علم.
ولما انتقلت الخلافة إلى المأمون نهض لخمة العلم أيما نهضة وأتم ما بدأ به سلفه من الترجمة والتأليف وكان مفطوراً على محبة العلم والعلماء بل لم ير في أولاد الملوك من تعشق العلوم الحمية والفلسفية مثله على حداثة سنة وقام بين العلماء قيام الأسد لمناظرتهم في جميع أنواع العلوم فمن كانت هذه سيرته في حداثة سنة فما بالك به وقد بلغ مبلغ الرجال واستلم زمام الخلافة وكان مع سعة عمله كثير الميل إلى القياس العقلي وطالع أكثر الكتب التي ترجمت إلى عهده وقد بلغ مبلغاً من العلم قل من يدانيه به فنقل عنه انه أولم يوماً وليمة لخاصة العلماء المقربين إليه وقد ظن بعض الحاضرين انه وضع أكثر من ثلثمائة لون وكلما وضع لون نظر المأمون إليه وقال هذا يصلح لكذا وهذا نافع لكذا فمن كان منكم صاحب بلغم ورطوبة فلتجنب هذا ومن كان صاحب صفراء فليأكل من هذا ومن أحب الزيادة في لحمة فليأكل من هذا ومن كان قصده قلة الغذاء فليقتصر على هذا وما زالت تلك الحالة حتى رفعت الموائد فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين أن خضنا في الطب فأنت جالينوس وفي معرفة النجوم فأنت هرمس أو ذكرنا السخاء فأنت فوق حاتم أو في الفقه كنت علياً ابن أبي طالب أو ذكرنا صدق الحديث كنت أبا ذر في صدق لهجته. وكان أحب إليه من الملاهي لعب الشطرنج يمارسه كأبيه لاستنباط الحيل فيه حتى لم يكن في الناس من يفضله فيه وهو القائل في الشطرنج:
أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين ألفين موصوفين بالكرم(89/23)
تذكرا الحرب فاحتالا لها تبهاً ... من غير أن يسعيا فيها بسفك دم
هذا يغير على هذا وذاك على ... هذا يغير وعين الحرب لم تنم
فأنظر إلى الحرب قد جالت بمعركة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم
ويتبين لنا شدة ميل المأمون للعلم وأهله من قوله عن العلماء هم صفوة خليفة الله وأفضل عباده وانفعهم لأنهم ارصدوا حياتهم لتربية مواهبهم الطبيعية وان الذين يعلمون العلم والحكمة للناس هم مصابيح العالم ولولاهم لارتكس الخلق في عماية الجهالة وغياهب البربرية.
أما عناية المأمون بنقل الكتب فهي في أقصى ما يتصوره العقل لا سيما في نقل كتب المنطق والفلسفة وقيل أن المأمون نقل إلى بغداد مائة حمل بعير من الكتب وكانت إحدى شروط معاهدة الصلح بينه وبين الإمبراطور ميشيل الثالث أن يعطيه إحدى مكاتب القسطنطينية التي كان فيها بين الذخائر كتاب بطليموس في الرياضيات السماوية فأمر المأمون بترجمته وسماه المجسطي وقد جعل الترجمة عامة لكل مؤلفات أرسطو في الفلسفة وغيرها وكان يحرض الناس على مطالعة تلك الكتب ويرغبهم في تعلمها وكان مثابراً على حضور أكثر الدروس التي يلقيها المدرسون واقتجى بالمأمون كثير من أهل دولته وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد وتقاطر إليه المترجمون من أنحاء الجزيرة العربية والعراق والشام وفارس وفيهم النساطرة واليعاقبة والصائبة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية والنبطية واللاتينية وغيرها وكثر في بغداد الوراقون وباعة الكتب وتعددت مجالس الأدب والمناظرة وأصبح هم الناس البحث والمطالعة وظلت تلك النهضة مستمرة بعد المأمون حتى نقلت أهم كتب قدماء اليونان إلى العربية.
وقد تقرب جماعة من المأمون واختصوا بالنقل والترجمة منهم الحجاج بن مطر الشهير وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وممن كانت لهم منزلة الرفيعة يعقوب ابن اسحق الكندي فيلسوف العرب خدم المأمون والمعتصم وابنه احمد ينتهي نسبه إلى الأشعث بن قيس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وله مصنفات جليلة ورسائل كثيرة في جميع العلوم منها الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد ورسالة في انه لا تنال(89/24)
الفلسفة إلا بعلم الرياضيات وله كتاب في الحث على تعلم الفلسفة وكتاب في أن أفعال البارئ كلها عدل لا يجوز فيها ورسالة الاحتراس من خدع السوفسطائية ورسالة في نقص مسائل الملحدين وتزييف أقوالهم ورسالة في صحة النبوات وإنها ممكنة عقلاً وممن علت منزلته عند المأمون في الترجمة سهل بن سابور ابنه وأيضاً حنين ابن اسحق العبادي شيخ المترجمين وهو من نصارى الحيرة ولد سنة 194هـ - وكان أبوه صيرفياً وانتقل في حداثة سنه إلى البصرة فتلقى فيها العربية ثم انتقل إلى بغداد ليشتغل بصناعة الطب فلقى في ذلك مشقة لا الأطباء خصوصاً أهل جند يسابور كانوا يكرهون أن يدخل في صناعتهم أبناء التجار وكان أعمر مجالس الطب يومئذ يوحنا بن ماسويه احد بلغاء مارستان جندريسابور فجعل حنين يحضر هذا المجلس ويلازم ماسويه فاتفق له أن سأله مرة مسألة مما كان يقرأه عليه فغضب يوحنا وقال: ما لأهل الحيرة وصناعة الطب فاذهب إلى فلان قرابتك حتى يهب لك خمسين درهماً تشتري بها قفافاً صغاراً بدرهم وزرنيخاً بثلاثة دراهم واشتري بالباقي فلوساً كوفية وفارسية وزرنخ القادسية في تلك القفاف واقعد على الطريق وصح الفلوس الجياد للصدقة والنفقة وبع الفلوس فإنه أعود عليك من هذه الصناعة ثم أمره أن يخرج من داره. فخرج حنين باكياً حزين القلب كئيباً وقد بعثه ذلك على زيادة النشاط للسعي في تعلم الطب بلغته الأصلية فغاب هذا المسكين عن بغداد سنتين ثم عاد وقد تعلم اليونانية وآدابها في الإسكندرية وحفظ أشعار هوميروس فأصبح اعلم أهل زمانه بالسريانية واليونانية والفارسية فضلاً عن العربية وأضحى أطباء بغداد بحاجة إلى لنقل الكتب حتى أن يوحنا بن مأسويه نفسه قد استخدمه لنقل الكتب جالينوس إلى السريانية وبعضها إلى العربية واحتذى فيهما حذو الاسكندريين وترجم أيضاً لجبريل بن يختيشوع كتاب التشريح لجالينوس وكان جبريل يخاطبه بالتبجيل والتعظيم فيقول له: يا معلمنا حنين.
ولما أراد المأمون نقل فلسفة اليونان إلى العربية سأل عمن يستطيع ذلك فأرشدوه إلى حنين لأنه لم يكن ثمة من يضاهيه وهو لا يزال شاباً فوسد المأمون هذا الأمر إلى جماعة من المترجمين وهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلك صاحب بيت الحكمة وغيرهم ورأس عليهم حنيناً المذكور يهذب كل ما يترجمونه وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله إلى العربية مثلاً بمثل فكان من دهاء حنين يكتب الترجمة بحروف غليظة على ورق(89/25)
غليظ واسطر متفرقة وذلك لتعظيم حجم الكتاب وتكثر وزنه وذكر بعضهم أن حنيناً ذهب بإيعاز المأمون بطلب الكتب في بلاد الروم.
كان لحنين ولدان داود واسحق صنف لهما كتباً كثيرة من مؤلفات جالينوس فافلح اسحق وتميز واشتغل بالترجمة مثل أبيه من اليونانية إلى العربية وترجم أيضاً بعض كتب الحكمة مثل كتاب ارسواطاليس وغيره من الحكماء وممن تقرب إلى المأمون جيش من الحسن الأعسم الدمشقي احد تلاميذ حنين والناقلين من اليوناني والسرياني إلى العربي وممن برع بالترجمة واشتهر قسطا بن لوقا البعلبكي وهو من نصارى الشام وكان طيباً حاذقاً وفيلسوفاً نبيلاً رحل إلى بلاد الروم في طلب العلم وكان عالماً بالسريانية واليونانية والعربية ونقل كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية وكان جيد النقل أصلح نقولاً كثيرة وألف رسائل عديدة وتأليف جليلة تزيد على مائة كتاب قال أبو الفرج الملطي لو قلت حقاً لقلت انه أفضل من صنف كتاباً بما احتوى عليه من العلوم والفضائل وما رزق من الاختصار للألفاظ وجمع المعاني وتوفي بارمينيه عند بعض ملوكها ومن المترجمين موسى بن خالد ويعرف بالترجمان نقل كتباً كثيرة من الستة عشر لجالينوس وهو دون حنين ومنهم أبو عثمان الدمشقي كان من النقلة المحيدين ومنهم أبو بشر متّى بن يونس من أهالي دير قنى وممن اشتهر بالنقل من اللغة الهندية منكه الهندي كان مع اسحق بن سليمان لن علي الهاشمي وابن دهن الهندي كان عالماً بالهندية والعربية وانتهت إليه رئاسة مارستان البرامكة.
وممن عانى صناعة الترجمة يوحنا القس وأبو سهل الفضل بن نوبخت وله نقل من الفارسي ومنهم ابن الخمار من السرياني إلى العربي ومن نقله كتاب الآثار العلوية ومقالة في الأخلاق ومنهم ماسرجيس وكان من الأطباء ونقل من السرياني إلى العربي ومنهم هوينان الطبيب النسطوري ترجم كتباً لأرسطو وأفلاطون وهيبوكرات وغاليان.
وممن مارس النقل الحسن بن البهلول الأواني الطبرهاني وأبو البشر متى والتفليسي ومرلاحي ودار يشوع وإبراهيم بن بكس وأيوب بن قاسم الرقي وأبو الريحان البيروني وابن وحشية وسعيد الفيومي وشهدي الكرخي وابن شهدي وابن جلجل وأبو عبد الله الصقلي وحبيب بن بهريز مطران الموصل وممن نقل عن السريانية كثيراً أبو الخير الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار ويحيى بن عدي اليعقوبي ونقل من اليونانية نظيف(89/26)
القس الرومي.
وكان عبد المسيح بن عبد الله الناعمي الحمصي المعروف بابن ناعمة متوسط النقل وهو إلى الجودة وفي درجته زوربا بن ما نحوه (مانجوه) الناعمي الحمصي وكان هلال بن أبي هلال الحمصي صحيح النقل ولفظه مبتذل وكذلك كان فتيون الترجمان يلحن ولا علم له بالعربية وكان أبو النصر بن أيوب قليل النقل لا يعتد بما نقل ويفوقه بسيل المطران وكان إلى الجودة اقرب ومن المتوسطين في نقلهم اسطاث وحيرون بن رابطة وإبراهيم ابن الصلت وثابت الناقل ويوسف الناقل ومنصور بن باناس وعبد يشوع بن بهريز وابراهيم بن بكس.
هؤلاء التراجمة الذين عرفناهم في الإسلام وأكثرهم كانوا يرتزقون من نقلهم ويعملون مدفوعين بتنشيط الملوك والأمراء والحريصين على خدمة العلم إلا يعقوب بن اسحق الكندي فيلسوف العرب واحد أبناء ملوكها فإنه كان ينقل لنفسه ولم يرتزق بما يكتسب.
وعلى الجملة فإن العباسيين عنوا بنقل الكتب وصرفوا الأموال الطائلة في هذا السبيل الشريف وقد شيدوا مدرسة لتربية المترجمين سموها مدرسة الألسن لا يدخلها إلا من أراد أن يختص بالنقل والترجمة وكانت تحت نظارة طبيب نسطوري.
هذا ملخص تاريخ الترجمة في زمن الأمويين والعباسيين ولا سيما المنصور الرشيد والمأمون ولولا اهتمامهم بنقل العلوم لما نهضت اللغة العربية في ذلك الزمن واستجر العمران وأضحت مدنية العرب من أرقى المدنيات يحق لكل عربي أن يفاخر بها ولكن ذكرى السلف لا تجد بنا نفعاً إذا لم نسلك طريقهم وننسج على منوالهم فنرفع أعلام العلم ونتربى على أدب النفس والدرس ولا بأس من ذكر ما قاله المؤرخ الشهير سيديو عن التمدن العربي إذ بذلك نذكر الذين يغمطون من قدر العرب ولا يعترفون لهم بمدنية علمية أخلاقية وهو قول من لم يفقه كلمة واحدة من التاريخ الإسلامي قال: أن التمدن العربي قد تمكنت أصوله في آفاق الدنيا أقوى تمكن ولا تزال إلى الآن نرى آثاره حين نبحث عن أصل مبادئ ما نحن عليه من المعلومات الأوربية فان العرب في غاية القرن الثامن بعد الميلاد فقدوا الحمية الحربية وشغفوا باقتناء المعارف حتى أخذت عما قليل مدائن قرطبة وطليلة والقاهرة وفارس ومراكش والرقة وأصفهان وسمرقند تفاخر بغداد بنيل العلوم(89/27)
والمعارف وقريء ما ترجم للعربية من كتب اليونانية في المدارس الإسلامية وبذل العرب همتهم في الاشتغال بجميع ما ابتكره الإفهام البشرية من المعلومات والفنون وشهروا في غالب البلاد خصوصاً بلاد النصرانية من أوربا بابتكارات تدل على أنهم امتنا في المعارف ولنا شاهد اصدق على علو شأنهم الذي تجهله الإفرنج من أزمان مديدة الأول ما أوثر من تواريخ القرون المتوسطة وأخبار الرحل والإشعار ومعاجم ما اشتهر من الأمكنة والرجال والمجاميع الشاملة لكثر من الفنون الفاخرة والثاني ما كان لديهم من الصناعات الفائقة والاكتشافات المهمة في الفنون وما وسعوا دائرته من علوم الطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء الصحيحة والفلاحة والعلوم التي مارسوها بغاية النشاط في القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر من الميلاد.
وقال أيضاً وقد حفظت العرب مؤلفات اليونان واستعدت لتجديد المعارف في أوربا فكانوا رابطة بين هذين الزمنين وبذا يثبت فضل العرب على الإفرنج الذي حاول بعضهم خفض فضائل العرب الواضحة كالشمس في رابعة النهار ويعلم أن لا موقع لافتخار المتأخرين من أهل أوربا بتصورات أكثرها للعرب وسبق لك ما كان لعلماء المدرسة البغدادية من الحكم النافذ في الغرب والشرق.
وبعد فإن الباحث في نهوض الأمم يرى أن مبدأ الارتقاء لا يكون إلا بنقل الكتب العلمية ولولا اهتمام محمد علي باشا بإرسال البعثات العلمية إلى بلاد الغرب واعتنائه بترجمة كثير من كتب العلم إلى العربية لما رأينا في مصر تلك النهضة التي تنير العالم العربي اجمع ولقد رأينا أن الأمويين والعباسيين لم يستطيعوا تشييد مدينة عظيمة إلا باعتمادهم على نقل الكتب والعلوم التي لم تكن معهودة لديهم كما أن الغربيين لما ضاقت صدورهم من الجهل المخيم على بلادهم وأرادوا أن يكونوا مدينة علمية بدأو أولاً بالترجمة وقد انبرى كثير من رجالهم ونقلوا كثيراً من الكتب العربية إلى لغتهم فإن جيراردي كريمونا كان مؤلفاً ينقل تأليف العرب في فنون الحكمة وقد أتقن العربية فعرب إلى اللاتينية ما يربو على ستين مؤلفاً جليلاً لمشاهير العلماء كالرازي وابن سينا في الرياضيات والهيئة والطب. وممن تصدى للنقل ميشال سكوت الذي انكب في طليطلة على إتقان العربية ولما رسخت ملكته شرع بالترجمة ونقل عدداً وافراً من أكثر العلوم ومنهم روجار باركول الذي كان نسيج(89/28)
وحده في العلوم الفلسفية والطبيعية فإنه افرغ جهده في نشر الدروس الشرقية وعلى الأخص الدروس العربية ثم استجرت تلك النهضة فعمت أكثر أقطار أوربا وتوفر عدد الدارسين للغات الشرقية وحفلت المكاتب بآثار العرب لا سيما خزائن كتب باريس ومجريط وليدن وأكسفورد ولندن ونشرت تأليف عربية لأعظم علماء العرب وأدبائهم وقد أنشأت فرنسا سنة 1795 مدرسة لتعليم اللغات الشرقية الحية ومما زاد الفرنسيس نهوضاً في الآداب الشرقية أن نابليون لما دخل مصر سنة 1798 كان بصحبته كثير من العلماء فانتهزوا تلك الفرصة وتعلموا اللغة العربية من المصريين ولما عادوا إلى فرنسا نشروا تلك اللغة في بلادهم وصار هم كثير من العلماء البحث والتنقيب عن كتب العرب.
والخلاصة فإن شعور الأمة بنقل الكتب العلمية إلى لغتها دليل على نهضة وخير عظيم وان تلك الكتب تنشىء رجالاً عظاماً يحدثون انقلاباً كبيراً في الأفكار. واللغة ميزان الأمة ولا نهضة إلا بنهضة اللغة ولا يكتب لها النهوض أن لم تكن لغة العلوم المادية والمعنوية فأين علماؤنا الذين يغارون على تلك اللغة الشريفة. ويؤلفوا جمعية للنقل والترجمة فعلى العلماء أكثر من غيرهم تنوء التبعة والسلام على العاملين المخلصين.
دمشق:
عبد الفتاح السكري الركابي.(89/29)
فنلندا وعوامل ارتقائها
فنلندا هي دوجيه كبرى من بلاد روسيا في أوربا بين الحدود النروجية من الشمال وفي الشمال الشرقي ولايات بطرسبرج واولونزا واركانجل الروسية وفي غربها بحر البلطيق مساحتها السطحية 377850 كيلو متراً وسكانها 2600000 نسمة جاء في مجلة الحياة الباريزية أن قد كانت السويد (اسوج) مدة ستة قرون ونصف هي الحاكمة المتحكمة في الشعب الفنلاندي والقابضة على زمام تربيته التاريخية ونشر الاسوجيون بين الفنلنديين الدين المسيحي وحملوا إليهم المدنية الأوربية. ولقد اتحدت القبائل الفنلاندية على عهد الاسوجيين وألفوا امة آخذين القوانين والأوضاع الاجتماعية التي كانت للاسوجين الذين كانوا تحضروا قبل ذلك وأنشأوا مملكة ومزجوا ذلك بهم ومن حسن حظ الشعب الفنلاندي أن هذه الأوضاع التي نقلت من الخارج قد قامت كلها على حرية الفلاح وان حكومة الإقطاعات التي كانت قد انتشرت في شمال بلاد أوربا لم يكن لها تأثير في اسوج ذلك لأن الشعب الفنلاندي وان كان غلب على أمره بالسلاح قد توصل إلى أن يقبل نفس الحقوق السياسية التي كان يستمتع بها الاسوجيون ومنذ ذلك العهد سار الشعبان في رحلتهما التاريخية يتقاسمان البؤس والنعماء. ولئن كان المجد في الغالب من حظ الاسوجيين والألم من نصيب الفنلانديين فإن هؤلاء وجدوا في هذه السياسة منافع لهم لم يكونوا لينالوها بهذه الكثرة وفي مثل هذا الوقت القصير لو ظلوا على انفرادهم بيد أن هذا الشعب الفنلاندي الذي ظهر في ميدان التاريخ متأخراً قد بلغ بالتدريج مستوى بقية الشعوب المتمدنة فدب فيه دبيب الاستقلال وهو يرقى في سلم الاجتماع في الوقت الذي تنبه فيه فكر الوطنية وطلب حالة سياسية مستقلة وبذلك تهيأ الوقت للاستقلال عن أسواج إذ كان ذلك نتيجة لازمة للارتقاء الطبيعي الذي حازته فنلندا ولكن هذا الانفصال لم يكن نتيجة منافسة عدائية بل أن الرابطة الأخوية القديمة بين الشعبين قد انحلت فجأة بتقدير العزيز العليم تاركة وراءها تذكارات تظل عزيزة مقدسة عند الشعب الفنلندي.
كان الشعب الروسي أداة هذا الانفصال وبلغ الارتقاء العقلي في الفنلنديين في ذاك العصر إلى مستواه في المدينة الأوربية بحيث لم يلبثوا قليلاً حتى غدوا ولهم المقام المحمود بين أمم الشمال فقد استولت روسيا على فنلندا ثلاث مرات مدة قرن من الزمن وما برح فكر الوطنية في الشعب الفنلاندي يتطلب مستعدون كل ساعة للمفاداة بحياتهم وسعادتهم لإحراز(89/30)
مجد أوطانهم.
وكان نشأ لروسيا الإمبراطور اسكندر الأول نشأة حرة وتخرج بالسويسري قيصر لإرهاب فجاء منه عاقل يحب الحرية حتى إذا تولى قيادة الإمبراطورية الروسية أراد أن يعطي دستوراً حراً لامته ولكنه رآها منحطة لا تنهض به فارتأى أن يجرب هذا القانون في فنلندا التي كانت خاضعة له وأصبحت دوجيه فنلندا الكبرى مثالاً حسناً للإمبراطورية الروسية ثم منحت استقلالها الإداري وتبين للقيصر أن وجود فنلندا حاجزاً حول عاصمة الروس أقوى من وقوف بعض الولايات المحتلة بقوة السلاح.
هذا بالإجمال حال فنلندا السياسي أما حالها الأدبي الذي أدى بها إلى هذا الارتقاء الذي اضطر معه مثل القيصر اسكندر الأول أن يمنحها دستوراً مستقلاً لتكون لامته نموذجاً في الحرية التي نالها مؤخراً مع بعض القيود فقد رأى المفكرون من أبنائها في أوائل القرن الماضي أن يعنوا بتحرير لغتهم لأنهم لا يحبون أن يكونوا سوجيين واللغة الاسوجية كانت مستحكمة فيهم ولاروسين فلم يبقى أمامهم إلا أن يبقوا فنلانديين وهذا يكون بنشر لسانهم فشرعوا في درس المسائل التاريخية والفنلاندية واللسان الفنلاندي والشعر العامي. وكثيراً ما يحدث في حياة الأمم أن تكون الكوارث العظمى هي التي ينتبه بعدها شعورها وتبدأ تتماسك وتجمع قواها وتنشط من عقالها حائرة إلى عالم جديد متبعة طريقاً مهيعاً فقد كانت فنلندا لأول ذاك العهد في حالة من الإبهام والشك حتى إذا نقلت مدرستها الجامعة إلى مدينة هلسنفور عاصمتها الجديدة هبت من أرجائها حياة عقلية لم تكن تعهد وكانت اللغة السويدية هي لغة المدنية في فنلندا وقد كتب شاعر فنلندا بل احد عظماء شعراء أوربا واسمه رونبرغ أشعاره باللغة السويدية لا بالفنلاندية وكان القانون الأساسي الذي منحته فنلندا بفضل الإمبراطور اسكندر الأول قد عاد في عهد الإمبراطور نقولا الأول تتزعزع أركانه فلم ير عقلاء الفنلانديين إلا أن يدعوا مجموع الشعب إلى مستقبل عام وهذا لا يتم إلا إذا أخذت الطبقة الدنيا من الشعب بحظ من المعارف بيد أن هذه المهمة ظهرت متعذرة وذلك لان اللسان القسم الأعظم من الشعب كان عبارة عن لهجة جافة بربرية لا تستطيع أن تؤدي الأفكار الدقيقة وما كان يخطر بالبال أن اللسان الفنلاندي يصبح أداة للمدنية العالمية لولا أن قام احد علمائهم وجمع الأغاني العامية والشعر القصصي وكثر المنشئون والأساتذة بهذه(89/31)
اللغة الفنلندية وأراد بعض ساستهم أن يطرح اللغة الاسوجية بتاتاً وفاته أن جزءاً مهماً من الأمة الفنلاندية يتكلم بالسويدية وله الحق أن يربي أولاده بهذه اللغة فكان من ذلك أن البلاد التي تكون أكثريتها من الاسوجين لا يرخص مجلسها بإعطاء إعانات للمدارس العليا التي تكون لغتها فنلاندية فأخذ الفنلانديون يكتسبون بما يقتضي لذلك من المال وبهذه الطريقة أيضاً أنشى معهد للتمثيل فنلاندي وكثر الشعراء في الشعر الغنائي والأناشيد والقصصيون وكتاب الحقائق وكثر طلاب المدارس الابتدائية بحيث لا تجد اليوم في فنلندا أمياً وحيثما انقلبت من البلاد ترى على شواطئ البحيرات الدارسون ما تلقنوه من الدروس الابتدائية يتعلم فيها الذكور والإناث معاً والجنسان لا ينفصلان احدهما عن الآخر في جميع مدارس فنلندا فيتعلمون في تلك الكليات تعليماً آخر ويحضرون دروساً في التاريخ والآداب الوطنية والحساب والبستنة والاقتصاد.
وهذه المدارس تقوم بإعانات المحسنين من القوم وأحياناً بإنفاق فرد واحد إنها تنشئها جمعيات الشبان الذين يجتمعون فيها لسماع المحاضرات وإنشاد الأغاني والبحث في المسائل الاجتماعية والمران على الأعمال.
وعلى هذه الصورة ينتشر نور للعلم في البلاد حتى أن الفلاح الفنلاندي قد بلغ به من حب التعلم أن اخذ يبتاع كتب العلم الراقي مثل دائرة المعارف الفلانجية التي أخذت تنتشر حديثاً فكان الإقبال عليها عظيماً من جميع الطبقات حتى لقد أباع طابعها منها لأول أيام الظهور أجزائها الأولى نحو عشرين ألف نسخة هذا وهي تكلف مائتي فرنك كلها فكان يبتاعها حتى سكان الأكواخ الذين ليس لهم ما يسد عوزهم من القوت والشراب وترجموا إلى لسانهم أحسن روايات شكسبير وموليير ودانتي وراسين وفلوبر واناتول فرانس وماترلنك وفرلين.
وقد زالت الاختلافات بين العنصرين الاسوجي والفنلندي إلى منافسة سليمة لأنهم رأوا أن إيغار الصدور لا ينير شيئاً وهم يريدون أن يقفوا في سبيل عدوهم لا أن ينشقوا على أنفسهم ويطعموا بهم خصوصهم وجيرانهم فأصبحوا بفضل المدنية الحديثة كلهم امة واحدة لها نزعة سياسية واحدة وان كانوا مختلفين في عنصرهم ولسانهم وكانت آداب ذينك العنصرين متأثرة بالمحيط متشابهة كل التشابه حتى لتجد الاختلاف بيناً بين الآداب الاسوجية المكتوبة في فنلندا والآداب الاسوجية الصادر من اسوج لان آداب كل امة تبعت(89/32)
بيئتها ومحيطها وسياسة بلادها بمعنى أن السويد في الفنلاندي أصبح كالسويسري الألماني والفرنساوي أو الايطالي سويسرا قبل كل شيء لا يريد أن يكون ألمانيا وان كانت لغته ألمانية ولا فرنسوياً وان كان لسانه الافرنسية ولا ايطالياً وان كانت لغته الايطالية وهكذا ترى الاسوجيين والفنلانديين في دوجيه فنلندا متخالفين بعنصريهما ولسانيهما ولكنهما متوافقان بمبداهما السياسي شأن بلجيكا وسويسرا مما يستدل منه بأن في الإمكان إنشاء مملكة قوية بلسانين رئيسين وتاريخين مختلفين.(89/33)
معجم البلدان
تكلمنا في الجزئيين الماضيين ما ساعدنا نفس الكلام على معجم ياقوت واقتبسنا من فرائد فوائده ما اتسع له المقام وما هذا المعجم في الحقيقة إلا منجم واسع فه صنوف المعادن الثمينة يتكلم عن علل البلدان والسكان والإنسان علة فساد الأرض وصلاحها قال في دنيسر بضم أوله بلدة عظيمة مشهورة من نواحي الجزيرة فرب ماردين بينهما فرسخان ولها اسم آخر يقال له فوج حصار رأيتها وأنا صبي وقد صارت قرية ثم رأيتها بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة وصارت مصراً لا نظيراً لها كبراً وكثرة أهل وعظم أسواق وهذا من العجائب الذي لا مثيل لها ويشبهه حال مدينة شيكاغو في غربي الولايات المتحدة الأميركية فإنها كانت منذ خمسين سنة قرية وها هي من أعظم عواصم العالم وأضخمها عمراناً ولكن سنة الشرق غير سنة الغرب إلا ترى إلى ما وراء ياقوت في أصبهان قال أن قد فشا الخراب لعهده وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها لا يأخذهم في ذلك إلى ولا ذمة ومع ذلك فقل أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فأسدها وكذلك الأمر في رسانيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة.
ومثل ذلك ما وراء في اغمات قال: وأهلها فرقتان يقال لأحدهما الموسوية من أصحاب ابن ورصند والغالب عليهم جفاء الطبع وعدم الرقة والفرقة الأخرى مالكية حشوية وبينهما القتال الدائم وكل فرقة تصلي في الجامع منفردة بعد صلاة الأخرى كذا ذكر ابن حوقل التاجر الموصلي في كتابه وكان شاهدها قديماً بعد الثلاثمائة من الهجرة ولا ادري في الدين ثم عبد المؤمن وبنوه ولهم ناموس يلتزمونه وسياسة يقيمونها لا يلبث معها مثل هذه الأخلاط.
وقال في مادة البري: كان أهل المدينة ثلاث طوائف شافعية وهم الأقل وحنفية وهم الأكثر وشيعية وهم السواد الأعظم لان أهل البلد كان نصفهم شيعة وأما أهل الرستاق فليس فيهم إلا شيعة وقليل من الحنفيين ولم يكن فيهم من الشافعية احد فوقعت العصبية بين السنة والشيعة فتظافر عليهم الحنفية والشافعية وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها هذا مع قلة عدد الشافعية إلا أن الله نصرهم عليهم وكان أهل(89/34)
الرستاق وهم حنفية يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون أهل نحلتهم فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى أفنوهم فهذا المحال الخراب التي ترى هي محال الشيعة والحنفية وبقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية وهي اصغر محال الري ولم يبق من الشيعة والحنفية إلا من يخفي مذهبه ووجدت دورهم كلها مبنية تحت الأرض ودروبهم التي يسلك بها إلى دورهم على غاية الظلمة وصعوبة المسلك فعلوا ذلك لكثرة ما يطرقهم من العساكر بالغارات ولولا ذلك لما بقي فيها احد.
ومثل ذلك مدينة ساوة بين الري وهمذان قال وبقربها مدينة يقال لها آوه فساوة سنية شافعية واوه أهلها شيعة أمامية وبينهما نحو فرسخين ولا يزال يقع بينهما عصبية وما زالتا معمورتين إلى سنة 617 فجاءها التتر وخربوها وقتلوا كل من كان فيها ولم يتركوا أحداً البتة وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها بلغني أنهم احرقوها.
وهكذا ذكر بالمناسبة ما أحدثه التعصب الديني في خراب البلدان فقد ذكر في أبي محمد هياج بن محمد الحطيني الزاهد انه استشهد بمكة في وقعة وقعت بين أهل السنة والرافضة فحمله أميرها محمد بن أبي هاشم فضربه ضرباً شديداً على كبر السن ثم حمل إلى منزله فعاش بعد الضرب أياماً ثم مات في سنة 472 قلنا والفتن الدينية لم تكد تخلو منها جهة من جهات بلاد الإسلام بضع سنين فقد ذكر المؤرخون في حوادث سنة خمس وسبعين وأربعمائة انه كانت فيها أيضاً فتنة ببغداد بين الشافعية والحنفية وكل هذه الفتن كانت تسيل فيها الدماء إلى الأباطح وما سببها إلا ضعف العمال وانتفاعهم سراً من الاختلاف بين أهل البلد الواحد فهم يفرحون بكل ما يقع إذ كان ينتج لهم بسط سلطاتهم بإشغال الناس عن النظر في أمورهم وكان استبعاد الملوك للرعايا يختلف باختلاف رقي البلد والقطر فقد روى ياقوت في مادة زغاوة وهم جيل من السودان يعظمون لملكهم ويعبدونه من دون الله تعالى ويتوهمون انه لا يأكل الطعام ولطعامه قومه عليه سراً يدخلونه إلى بيوته لا يعلم من أين يجيئون به فإن اتفق لأحد من الرعية أن يلقى الابل التي عليها زاده قتل لوقته في موضعه وهو يشرب الشراب بحضرة خاصة أصحابة وشرابه يعمل من الذرة مقوى بالعسل وزيه ليس سراويلات من صوف رقيق والاتشاح عليها بالثياب الرفيعة من الصوف الاسماط والخز السومي والديباج الرفيع ويده مطلقة في رعاياه ويسترق من شاء(89/35)
منهم امواله المواشي من الغنم والبقر والجمال والخيل وزرع بلدهم أكثرها الذرة واللوبياء ثم القمح وأكثر رعاياه عراة مؤتزرون بالجلود ومعايشهم من الزرع واقتناء المواشي وديانتهم عبادة ملوكهم يعتقدون أنهم الذين يحيون ويميتون ويمرضون ويصحون.
ومن المسائل التي حققها ياقوت ما قاله في وصف الرقيم الذي جاء ذكره في القران وان فيه أصحاب الكهف أن هذا الكهف بين عمورية ونيقية وبينه وبين طرطوس عشرة أيام أو احد عشر يوماً وكان الواثق قد وجه محمد بن موسى المنجم إلى بلاد الروم (الأناضول) للنظر إلى أصحاب الكهف والرقيم قال فوصلنا إلى بلد الروم فإذا هو جبل صغير قدر أسفله اقل من ألف ذراع وله سرب من وجه الأرض فتدخل السرب فتمر في خسف من الأرض مقدار ثلاثمائة خطوة فيخرجك إلى رواق في الجبل على أساطين منقورة فيه عدة أبيات منها بيت مرتفع القبة مقدار قامة عليها باب حجارة فيه الموتى ورجل موكل بهم يحفظهم معه خصبان وإذا هو يحيدنا عن أن نراهم ونفتشهم ويزعم انه لا يأمن من أن يصيب من التمس ذلك آفة في بدنه يريد التمويه ليدوم كسبه فقلت دعني انظر إليهم وأنت بريء فصعدت بمشقة عظيمة غليظة مع غلام من غلماني فنظرت إليهم وإذا هم في مسوح شعر تتفتت في اليد وإذا أجسادهم مطلية بالصبر والكافور ليحفظها وإذا جلودهم لاصقة بعظامهم غير أني أمررت يدي على صدر احدهم فوجدت خشونة شعره وقوة ثيابه ثم أحضرناه ليتوكل بهم طعاماً وسألنا أن نأكل كل منه فلما أخذناه منه ذقناه وقد أنكرت أنفسنا وتهوعنا وكأن الخبيث أراد قتلنا أو قتل بعضنا ليصبح له ما كان يموه به عند الملك انه فعل بنا هذا الفعل أصحاب الرقيم فقلنا له أنا ظننا أنهم أحياء يشبهون الموتى وليس هؤلاء كذلك فتركناه وانصرفنا.
ومن العجائب التي نقلها في قومسين أي كرمان شاء أن فيها الدكان الذي اجتمع عليه ملوك الأرض منهم فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم عند كسرى أبرويز وهو دكان مربع مائة ذراع في مثلها من حجارة مهندمة مسمرة بمسامير من حديد لا يبين فيها ما بين الحجرين فلا يشك من رآه انه قطعة واحدة.
ومما ذكرناه في كرخ بغداد ولما ابتنى المنصور مدينة بغداد أمر أن تجعل الأسواق في طاقات المدينة إزاء كل باب سوق فلم يزل على ذلك مدة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة(89/36)
الروم رسولاً من عند الملك فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة حتى ينظر إليها ويتأملها ويرى سورها وأبوابها وما حولها من العمارة ويصعده السور حتى يمشي من أوله إلى آخره ويريه قباب الأبواب والطاقات وجميع ذلك ففعل الربيع ما أمره به فلما رجع إلى المنصور قال له: كيف رأيت مدينتي قال: رأيت بناء حسناً ومدينة حصينة إلا أن أعداءك فيها معك قال: من هم قال: رأيت السوقة يوافي الجاسوس من جميع الأطراف فيدخل الجاسوس بعلة التجارة والتجار هم برد الآفاق فيتجسس الأخبار ويعرف ما يريد ويتصرف من غير أن يعلم به احد فسكت المنصور فلما انصرفت البطريق أمر بإخراج السوقة من المدينة وتقدم إلى إبراهيم بن حبيش الكوفي وخراس بن المسيب اليماني بذلك وأمرهما أن بيينا ما بين الصراة ونهر عيسى سوقاً وان يجعلاها صفوفاً ورتب كل صنف في موضعه وقال اجعلا سوق القصابين في آخر الأسواق فإنهم سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع. . .
ولياقوت اقتدار عظيم في وصف أخلاق الشعوب وعاداتهم خصوصاً ما يحققه بنفسه مثل كلامه على أهل مرباط فرضة مدينة ظفار قال: وأهلها عرب وزيهم وفي العرب القديم وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة وتعصب وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة وذلك انه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم ويسامرون الرجال الذين لا حرمة بينهم ويلاعبهم ويجالسهم إلى أن يذهب أكثر الليل فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمته وإذا هي تلاعب آخر وتماشيه فيعرض عنها ويمضي على امرأة غيره فيجالسها كما فعل بزوجته وقد اجتمعت بكيش بجماعة كثيرة منهم رجل عاقل أديب يحفظ شيئاً كثيراً وأنشدني إشعاراً وكتبتها عنه فلما طال الحديث بيني وبينه قلت له: بلغني عنكم شيء أنكرته ولا اعرف صحته فبدرني وقال: لعلك تعني السمر قلت ما أردت غيره فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح وبالله اقسم انه لقبيح ولكن عليه نشأنا وله مذ خلقنا ألفنا ولو استطعنا أن نزيله لا زلناه ولو قدرنا لغيرناه ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين عليه واستمرار العادة به.
ومن ذلك ما ذكره في أمانة أهل قزدار من نواحي الهند: وفي كتاب أبي علي التنوخي حدثني أبو الحسن علي بن لطيف المتكلم على مذهب أبي هاشم قال: كنت مجتازاً بناحية قزدار مما يلي سجستان ومكران وكان يسكنها الخليفة من الخوارج وهي بلدهم ودارهم(89/37)
فانتهيت إلى قربة لهم وأنا عليل فرأيت قراح بطيخ فابتعدت واحدة فأكلتها فحممت في الحال ونمت بقية يومي وليلتي في قراح البطيخ ما عرض لي احد بسوء وكنت قبل ذلك دخلت القرية فرأيت خياطاً شيخاً في مسجد فسلمت إليه رزمة ثيابي وقلت: تحفظها لي فقال: دعها في المحراب فتركتها ومضيت إلى القراح فلما أتيت من الغد عدت إلى المسجد فوجدته مفتوحاً ولم أر الخياط ووجدت الرزمة بشدها في المحراب فقلت: ما اجهل هذا الخياط ترك ثيابي وحدها وخرج ولم اشك في انه حملها بالليل إلى بيته وردها من الغد إلى المسجد فجلست افتحها واخرج شيئاً منها فإذا أنا بالخياط فقلت له: كيف خلفت ثيابي فقال: أفقدت منها شيئاً قلت: لا قال: فما سؤالك قلت: أحببت أن اعلم فقال: تركتها البارحة في موضعها ومضيت إلى بيتي فأقبلت أخاصمه وهو يضحك ثم قال: انتم قد تعودتم أخلاق الأراذل نشأتم في بلاد الكفر التي فيها السرقة والخيانة وهذا لا نعرفه ههنا لو بقيت ثيابك مكانها إلى أن تبلى ما أخذها غيرك ولو مضيت إلى المشرق والمغرب ثم عدت لوجدتها مكانها فانا لا نعرف لصاً ولا فساداً ولا شيئاً مما عندكم ولكن ربما لحقنا في السنين الكثيرة شيء من هذا فنعلم انه من جهة غريب قد اجتاز بنا فنركب وراء فلا يفوتنا فندركه ونقتله أما نتأول عليه بكفره وسعيه في الأرض بالفساد فنقتله أو تقطعه كما نقطع السراق عندنا من المرفق فلا نرى شيئاً من هذا قال: وسألت عن سيرة أهل البلد بعد ذلك فإذا الأمر على ما ذكره فإذا هم لا يغلقون أبوابهم بالليل وليس لأكثرهم أبواب وإنما شيء يرد الوحوش والكلاب.
وذكر في باشغرد قال كان المقتدر بالله قد أرسل احمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى أمير المؤمنين ثم مولى محمد بن سليمان إلى ملك الصقالبة وكان قد اسلم هو وأهل بلاده ليفيض عليهم الخلع ويعلمهم الشرائع الإسلامية فحكى جميع ما شاهده منذ خرج من بغداد إلى أن عاد وكان انفصاله في صفر سنة 309. وهنا روى عبارة ابن فضلان في الباشغراد أو الباشقرد فقال أنهم قوم من الأتراك من اشد الناس انداماً على القتل وهم يحلقون لحاهم وذكر من عاداتهم كل غريب فبعد أن أورد ياقوت كل هذا على علاته قال: أما أنا فأني وجدت بمدينة حلب طائفة كبيرة يقال لهم الباشغردية شقر الشعور والوجود عن بلادهم وحالهم فقال أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة امة من الإفرنج يقال لهم(89/38)
الهنكر (المجر) وتحن مسلمون رعية لملكهم في طرف بلاده نحو ثلاثين قرية كل واحدة تكاد أن تكون بليدة إلا أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سوراً خوفاً من أن نعصي عيسى ونحن في وسط بلاد النصرانية فشمالينا الصقالبة وقبلينا بلاد البابا يعني رومية والبابا رئيس الإفرنج وهو عندهم نائب المسيح كما هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم. قال وفي غريبنا الأندلس وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها قال ولساننا لسان الإفرنج وزينا زيهم ونخدم معهم في الجندية ونغزو معهم كل طائفة لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي الإسلام.
قال ياقوت: فسألته عن سبب إسلامهم فقال سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون انه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد بلغار وسكنوا بيننا وتلطفوا في تعريفنا وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام فهدانا الله والحمد الله فأسلمنا جميعاً ونحن نقدم إلى هذه البلاد ونتفقه فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم: فسألته لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج فقال يحلقها منا المتجندون ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج أما غيرهم فلا. قلت فكم مسافة ما بيننا وبين بلادكم فقال: من ها هنا إلى القسطنطينية نحو شهرين ونصف ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك وأما الاصطخري فقد ذكر في كتابه من باشجرد إلى بلغار خمس وعشرين مرحلة ومن باشجرد إلى البجناك وهم صنف من الأتراك عشرة أيام.
ووصف بلاد برغر قال: قال علي بن الحسين المسعودي مدينة البرغر على ساحل بحر مانطس وهو بحر متصل بخليج القسطنطينية وارى أنهم في الإقليم السابع وهم نوع من الترك والقوافل متصلة منهم إلى بلاد خوارزم وارض خرسان ومن بلاد خوارزم إليهم إلا أن ذلك بين بوادي غيرهم من الترك قال وملك البرغر في وقتنا هذا وهو سنة 332 مسلم اسلم أيام المقتدر بعد العشر والثلمائة لرؤيا رآها وقد كان حج له ولد فورد بغداد وحمل معه المقتدر لواء وسواداً ومالاً ولهم جامع وهذا الملك يغزو القسطنطينية في نحو خمسين ألف فارس فصاعداً ويشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وارض برجان والجلالقة وافرنجة ومنه إلى القسطنطينية نحو شهرين بين عمائر وغمائر والبرغرامة عظيمة شديدة البأس ينقاد إليها من جاورها من الأمم ولا تمتنع القسطنطينة منهم إلا ياسوار وكذلك ما(89/39)
جاورها من البلدان والليل في بلادهم في غاية القصر في الصيف حتى أن احدهم لا يفرغ من طبخه حتى يأتيه الصبح، قلت أنا (ياقوت) هذه الصفة جميعها صفة يلغار وما أظنهما إلا واحداً وأنهما لغتان فيه لسانين وليس فيه ما أنكرته إلا قوله أن البرغر على سواحل بحر مانطس وما أظن بينه وبين ساحل بحر مانطس إلا مسافة بعيدة.
وهكذا ترى ياقوت يذكر عبارة من سلفه في وصف الشعوب والبلدان ثم يشفعها بإخباراته وكثيراً ما ينقل مالا يعتقد صحته كما نقل ما قيل في الصين في اثنتي عشرة صفحة مقدماً عليه قوله: وهذا شيء من أخبار الصين الأقصى ذكرته كما وجدته إلا اضمن صحته فان كان صحيحاً فقد ظفرت بالغرض وان كان كذباً فتعرف ما تقوله الناس فان هذا بلاد شاسعة ما رأينا من مضى إليها فأوغل فيها إنما يقصد التجار أطرافها.
ونقل المؤلف عن الاصطخري في وصف ما وراء النهر قال: ولقد شهدت منزلاً بالصغد قد ضربت الأوتاد على بابه فبلغني أن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة لا يمنع من نزوله طارق وربما ينزل بالليل بيتاً من غير استعداد المائة والمائتان والأكثر بدوابهم فيجدون من علف دوابهم وطعامهم ورقادهم من غير أن يتكلف صاحب المنزل شيء من ذلك لدوام ذلك منه الغالب على أهل ما وراء النهر صرف مفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد ووجوده الخيرات إلا القليل منهم وليس من بلد ولا من منهل ولا مفازة مطروقة ولا قرية أهلة إلا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. قال وبلغني أن بما وراء النهر زيادة على عشرة ألاف رباط في كثير منها إذا نزل الناس اقيم لهم علف دوابهم وطعام أنفسهم إلى أن يرحلوا وأما بأسهم وشوكتهم فليس في الإسلام ناحية اكبر حظاً في الجهاد منهم وذلك أن جميع حدود ما وراء النهر دار حرب فمن حود خوارزم إلى اسبيجاب فهم الترك الغزية ومن اسبيجاب إلى أقصى فرغانة الترك الخزلخية ثم يطوف بحدود ما وراء النهر من الصغدية وبلد الهند من حد ظهر الختل إلى حد الترك في ظهر فرغانة فهم القاهرون لأهل هذه النواحي وستفيض انه ليس للإسلام دار حرب هم اشد شوكة من الترك يمنعونهم من دار الإسلام وجميع ما وراء النهر ثغر يبلغهم نفير العدو ولقد اخبرني من كان مع نصر بن احمد في غزاة اشر وسنة أنهم كانوا يحزرون ثلثمائة ألف رجل انقطعوا عن عسكرة فضلوا أياماً قبل أن يبلغهم نفير العدو ويتهيأ لهم(89/40)
الرجوع وما كان فيهم من غير أهل ما وراء النهر كبير احد يعرفون بأعيانهم. وبلغني أن المعتصم كتب إلى عبد الله ابن طاهر كتاباً يتهدده فيه فأنفذ الكتاب إلى نوح بن أسد فكتب إليه أن بما وراء النهر ثلاثمائة ألف قرية ليس من قرية إلا ويخرج منها كذا فارس وراجل لابنتين على أهلها فقدهم وبلغني أن بالشاش وفرغانة من الاستعداد ما لا يوصف مثله عن ثغر من الثغور حتى أن الرجل الواحد من الرعية عنده ما بين مائة ومائتي دابة وليس بسلطان وهم مع ذلك أحسن الناس طاعة لكبرائهم والطفهم خدمة لعظمائهم حتى دعا ذلك الخلفاء إلى أن استدعوا من ما وراء النهر رجالاً وكانت الأتراك جيوشاً تفضلهم على سائر الأجناس في البأس والجرأة والإقدام وحسن الطاعة فقد الحضرة منهم جماعة صاروا قواداً وحاشية للخلفاء ونقاباً عندهم مثل الفراعنة الأتراك الذين هم شحنة دار الخلافة ثم قوي أمرهم وتوالدوا وتغيرت طاعتهم حتى بلغوا على الخلفاء مثل الافشين وآل أبي الساج وهم من اشروسنة والاخشيند من سمرقند. . قلنا وهذا مبدأ دخول الأتراك في خدمة الخلفاء.
ومثل ذلك ما قاله في وصف خوارزم قال: ذكروا في سبب تسميتها بهذا الاسم أن احد الملوك القدماء غضب على أربعمائة من أهل مملكته وخاصة حاشيته فأمر بنفيهم إلى موضع منقطع عن العمارات بحيث يكون بينهم وبين العمائر مائة فرسخ فلم يجدوا على هذه الصفة إلا موضع مدينة كانت وهي إحدى مدن خوارزم فجاؤوا بهم إلى هذا الموضع وتركوهم وذهبوا فلما كان بعده مرة أخرى جرى ذكرهم على بال الملك فأمر قوماً بكشف خبرهم فجاؤوا فوجدوهم قد بنوا أكواخاً ووجدوهم يصيدون السمك وبه يتقوتون وإذا حولهم حطب كثير فقالوا لهم كيف حالكم فقالوا عندنا هذا اللحم وأشاروا إلى السمك وعندنا هذا الحطب فنحن نشوي هذا بهذا ونتقوت به فرجعوا إلى الملك واخبروه بذلك فسمي ذلك الموضع خوارزم لان اللحمة بلغة الخوارزمية خوار والحطب رزم فصار خوارزم فخفف استشقالاً لتكرير الراء. واقر أولئك الذين نفاهم بذلك المكان واقطعهم إياه وأرسل إليهم أربعمائة جارية تركية وأمدهم بطعام من الحنطة والشعير وأمرهم بالزرع والمقام هناك فلذلك في وجوههم اثر الترك وفي طباعهم أخلاق الترك وفيهم جلد وقوة وأحوجهم إلى مقتضى القضية للصبر على الشفاء فعمروا هناك دوراً وقصوراً وكثروا وتنافسوا في البقاع فبنوا قرى ومدناً وتسامع بهم من يقاربهم من مدن خراسان فجاؤوا وساكنوهم فكثروا وغزوا(89/41)
فصارت ولاية حسنة عامرة.
وكنت قد جئتها في سنة 616 فما رأيت ولاية قط أعمر منها فإنها على ما هي عليه رداءة أرضها وكونها سنجة كثيرة النزور متصلة العمارة متقاربة بالقرى كثيرة البيوت المفردة والقصور في صحاريها قل ما يقطع نظرك في رساتيقها على موضع لا عمارة فيه هذا مع كثرة الشجر بها والغالب عليه شجر التوت والخلاف لاحتياجهم إليه لعمائرهم وطعم دود الابريسم ولا فرق بين المار في رساتيقها كلها والمار في الأسواق وما ظننت أن في الدنيا بقعة سعتها حوارزم وأكثر من أهلها مع أنهم قد مرنوا على ضيق العيش والقناعة بالشيء اليسير وأكثر ضياع خوارزم مدن ذات أسواق وخيرات ودكاكين وفي النادر أن يكون قرية لا سوق فيها مع امن شامل وطمأنينة تامة. .
قال: والشتاء عندهم شديد جداً بحيث إني رأيت جيحون نهرهم وعرضه ميل وهو جامد والقوافل والعجل الموقرة ذاهبة وآتية عليه. وقد قال في وصف جيحون: وقد شاهدته وركبت فيه ورأيته جامداً وكيفية جموده انه إذا اشتد البرد وقوي كلبه جمد أولاً قطعاً ثم تسري تلك القطع على وجه الماء فكلما ماست واحدة الأخرى التصقت بها ولا يزال يعظم حتى يعود جيحون كله قطعة واحدة ولا يزال ذلك الجامد يثخن حتى يصير ثخنه نحو خمسة أشبار وباقي الماء تحته جار فيحفر أهل خوارزم فيه آباراً بالمعاول حتى يخترقوه إلى الماء الجاري ثم يستقوا منه الماء لشربهم ويحملوه في الجرار إلى منازلهم فلا يصل إلى المنزل إلا وقد جمد نصفه في بواطن الجرة فإذا استحكم جمود هذا النهر عبرت عليه قوافل والعجل بالبقر ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق حتى رأيت الغبار يتطاير عليه كما يكون في البوادي ويبقى على ذلك نحو شهرين فإذا انكسرت سورة البرد تقطع قطعاً كما بدأ في أول أمره إلى أن يعود إلى حالته الأولى وتظل السفن في مدة جماده ناشبة فيه لا حيلة لهم في اقتلاعها منه إلى أن يذوب وأكثر الناس يبادرون برفعها إلى البر قبل الجماد.
وبعد فقد علم القارئ من وصف مصنف ياقوت البديع انه خاص ببلاد الشرق والإسلام منه خاصة وما يذكره بالعرض من البلاد القاصية كبلاد الروم فانه يأخذه بتحفظ وقد قال في الروم: وفي أخبار بلاد الروم أسماء عجزت عن تحقيقها وضبطها فليذر الناظر في كتابي هذا ومن كان عنده أهلية ومعرفة وقتل شيئاً منها علماً فقد أذلت له في إصلاحه مأجوراً(89/42)
وقال في زقاق بن واقف: وقد تتغير أسماء الأماكن حسب تغير أهلها.
وقال في مادة عكوتان: وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب (باليمن) وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه.
ومؤلفنا لا تفوته شاردة إلا ويأتي بنموذج منه قوله في نقيرة في كتاب أبي حنيفة إسحاق بن بشر بخط العبدري في مسير خالد بن الوليد رضي الله عنه من عين التمر ووجدوا في كنيسته صبياناً يتعلمون الكتابة في قرية من قرى عين التمر يقال لها النقيرة وكان فيهم حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه. وذكر في ترجمة أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي شيخ الصوفية ببلاد فارس وواحد الطريقة في وقته انه لما توفي بشيراز سنة 371 عن نحو مائة وأربع سنين خرج مع جنازته المسلمون واليهود والنصارى.
وهنا نختم هذا البحث - الذي طال لنا توخينا نقل عبارات ياقوت برمتها لمتانتها وسلاستها ولان فيها من الفصح ما يجدر بطلاب الآداب واللغة أن يقبسوه - بقصة وقعت لفقيه مع خليفة وفيها عبرة العبر في خراب البلدان وعمرانها بل هي السر الأعظم فيهما. قال: كان أبو خالد عبد الرحمن بن زياد بن انعم الأفريقي قاضيها وهو أول مولود ولد في الإسلام بافريقية تكلموا فيه فقدم على أبي جعفر المنصور ببغداد قال: كنت اطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة فأدخلني يوماً منزلاً فقدم إلي طعاماً ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ثم قدم إلي زبيباً ثم قال: يا جارية عندك حلواء قالت: لا قال ولا التمر قالت: ولا التمر فاستلقى ثم قرأ هذه الآية (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستحلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون قال: فلما ولي المنصور الخلافة أرسل إلي فقدمت عليه والربيع قائم على رأسه فاستدناني وقال: يا عبد الرحمن بلغني انك كنت تفد على بني أمية قلت: اجل قال: فكيف رأيت في سلطاني من سلطانهم وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت ألينا قال: فقلت يا أمير المؤمنين رأيت أعمالاً سيئة وظلماً فاشياً والله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور والظلم إلا ورايته في سلطانك وكنت ظننته لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم أتذكر يا أمير المؤمنين يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاماً ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم ثم قدمت زبيباً ثم قلت يا جارية عندك حلواء(89/43)
قالت: لا قلت: ولا تمر قالت: ولا التمر فاستلقيت ثم تلوت (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستحلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون) فقد والله اهلك عدوك واستخلفك في الأرض ما تعمل قال: فنكس رأسه طويلاً ثم رفع رأسه وقال: كيف لي بالرجال قلت أليس عمر ابن عبد العزيز كان يقول أن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فان كان براً أتوه ببرهم وان كان فاجراً أتوه بفجورهم: فاطرق طويلاً فاومأ إلي الربين أن اخرج فخرجت وما عدت إليه.(89/44)
رحلة إلى البصرة وجوارها
1
في اليوم التاسع والعشرين من شهر المحرم لهذه السنة امتطينا ظهر إحدى البواخر العثمانية فأقلعت بنا من بغداد في اليوم الثاني قاصدة البصرة الفيحاء، وهذه الباخرة حسنة جداً توفرت فيها أسباب الراحة للركاب والسياح وهي بنظامها وترتيبها أشبه بنظام البواخر الكبرى التي تخر في انهار الغرب وبحاره. مما جعلنا نطري مدحت باشا وهو في رمسه على ما أتاه من ضروب الإصلاح واحدث من المشاريع العمرانية في هذا القطر ومن جملتها إنشاؤه هذه الشركة التي أحدثت ذلك الانقلاب الاقتصادي والتجاري في مرافق القطر العراقي فقربت المسافة بين بغداد والبصرة بل بين أوربا والعراق. وقد أزيلت بواسطتها كل المشاكل والعوارض التي تقف سداً حائلاً في نمو التجارة الوطنية وانتشارها. وكانت وسائط النقل والمواصلات بين الزوراء والفيحاء في حكم العدم قبل أيام ذلك الوزير وجل ما كان هو السفن الشراعية تقطع المسافة ما بين تينك الحاضرتين في ثلاثين يوماً أو أكثر تبعاً لحالة الجو وهبوب الهواء في حين تقطع السفن التجارية ذلك الطريق وطوله نحو 520 ميلاً في ثلاثة أيام إذا كان الموسم في الربيع والشتاء وخمسة أيام إذا كان صيفاً أو خريفاً دع عنك الراحة التي يجدها المسافر في ذهابه وإيابه هذا عدا ما في ذلك من الأمن على الأرواح والأموال.
جلسنا ومن كان معنا من ركاب الدرجة الأولى فوق سطح الباخرة لتتمتع الأنظار بما كان عن اليمين والشمال من المشاهد الطبيعية التي تأخذ بمجامع القلوب وتسحر الألباب، وكانت باخرتنا تسير الهوينا بالرغم من أن شحنتها نحو 250 طناً وإنها سريعة الجري إذ تقطع في الساعة 12 ميلاً بحرياً. ومنشأ ذلك ضعف جريان دجلة، ولا تدري هل هذا الضعف الذي انحل جسم الأمة وأنهك قواها قد سرى إلى أشجارها وأنهارها حتى كاد يقف دجلة عن السير، أو أن دجلة أحسن بعجز الأمة وحكومة البلاد عن الإصلاح وإعمار الأراضي الطيبة وتوزيع مياهه فيها على ما يتطلبه الفن الحديث فأصابه فتور وكان منه ما كان أو انه غضب فنجل بمائة النمير - ويحق له البخل - على قوم لا يستحقون هذه النعم التي توفرت لهم أو انه ادخر ما عنده إلى الوقت الذي يدب فيه دبيب الحياة في جسم الأمة العربية فتنشط من عقالها إلى شق الأنهار وحفر الجداول وتقسيم مياه دجلة عليها؟؟ لست(89/45)
ادري، وغاية ما في الباب أن دجلة ضعيفة جربته ويعللون لذلك أن وقت الفيض لم يحن بعد لأنه يبتدئ من آذار وينتهي بانتهاء شهر أيار على الحساب الغربي إلا أن هناك مؤثرات أوجبت هذه البطاءة في سير دجلة وهو ذهاب المياه في الاهوار ضياعاً من جون أن تنتفع منها التربة، وقد صادف في طريقنا ظهور جزر كثيرة في وسط دجلة فكان ربان الباخرة وهو من أبناء يعرب المقتدرين يتقي الأخطار بفطنته ودرايته فسار بها على مقتضى الحكمة والخبرة خشية الارتطام بإحدى الجزر والجنوح إلى الشاطئ وهذا العارض الطبيعي قد يسر لنا مشاهدة ما أمامنا من الرياض والغياض والحقول وقد كنا نسمع عن كثب أنين النواعير وخرير المياه وحفيف الأشجار وتغريد الأطيار وصغار الخراف وخوار العجول التي هي اوقع في النفوس من أوتار الموسيقار وألذ على القلوب من ضرب البيانو وغناء ربات الجمال. وكان النسيم عليلاً فيهب علينا من جهة الغرب حاملاً بين برديه أريج الأزهار وروائح الإثمار فأنشدنا قول الشاعر:
إن هذا الربيع شيء عجيب ... يضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء
واصلت الباخرة بنا السير وهي تشق عباب دجلة الجميل فما وقعت أنظارنا إلا على ارض ضاحكة مستبشرة قد كستها الطبيعة حلى خضراء تبهج الناظرين وكنا نرى أشجار النخيل الباسقة ممتدة على ضفتي النهر وبينها القصور الشاهقة والمباني السامقة وكانت تحجبها عنها نور الشمس أحياناً لارتفاعها وذهابها صعداً في الهواء وممرنا بنهر ديالة المشهور في كتب العرب باسم نهر تأمرا ومنبع هذا النهر من غربي اسداباد في ديار العجم عند الدرجة 30 والدقيقة 40 عرضاً شمالياً وطوله 350 متراً ومصبه في ساحل دجلة الأيسر على بعد بضعة فراسخ من بغداد وهو يمر بخرسان العراق وتتفرع منه بضعة انهر كنهر الخالص وبلدوزر وغيرهما، وكان لهذا النهر شأن خطير في حضارة القطر العراقي، ويجري فيه من المياه ما يناهز 300 متر مكعب في الثانية أيام الفيض و50 متراً مكعباً زمن هبوط المياه بيد إنها لا توجد في كل الشهور ويبتدئ موسم فيضه من شهر تشرين الثاني وينتهي في تموز على الحساب الرومي، وموقف هذا النهر يساعد على أسقاء 200 ألف هكتار من أخصب البقاع وأكثرها استعداداً لزراعة قصب السكر والقطن على اختلاف أنواعه.(89/46)
وقد بلغ عرض دجلة في هذا الموضع نحو 380 متراً مكعباً وكمية ما يجري فيه من المياه تبلغ 1200 متر مكعب في الثانية على انه في فصل الربيع يبلغ نحو 4000 متر مكعب ويظل يتناقض حتى يستقر في شهر كانون الأول والثاني على 450 متراً مكعباً في الثانية وإذا دخل شهر شباط ابتدأ الفيض تدريجياً حتى يبلغ منتهاه في شهر آذار وأكثر ما رأيناه في طريقنا من البساتين والحقول والمزارع يسقى بالكرود والآلات الرافعة للمياه تحرك بالبخار أو بالبترول، وفقر الفلاح وغناه منوطان بقربه من المدينة بغداد وبعده عنها فكلما دنا منها كثر ماله وحسنت حاله وازدادت أرباحه لان أكثر نواتج بقاعه من بقول وفاكهة وإثمار تجد في أسواقها تجارة نافقة والأمر بالعكس مع الفلاح الذي بعدت أرضه عن المدينة، وقد سرنا ما رأيناه من نشاط الفلاح البغدادي واجتهاده في تربية النخيل وأعمار الأراضي الغامرة وحرثها والاستفادة من تربتها وآثار ذلك بادية في حقوله وكرومه وظاهرة في جنائنه ورياضه ولو احكم وسائل السقي واقتفى اثر الفلاح الأوربي في الحرث على الأصول الحديثة وعضدته الحكومة بالمحافظة على زراعة وضرعه وكفلت له السلامة من الغرق لكانت البلاد اليوم في ارفع درجات العمران وفي اوج العلاء والتقدم.
وعلى طول زهاء عشر ساعات امتدت على ضفتي دجلة قصور قوراء توفرت فيها أسباب الرفاهية والنعيم قد شيدها أعيان الوزراء وموسروها على الطراز الأوروبي ولم يذخروا واسعاً في إعداد كل أدوات الزينة من الأثاث والرياش الفاخرة مما لا يقل عما في قصور الملوك وعظماء المتمولين في البلاد الأخرى وفيها يقطن الأعيان فصلي الربيع والصيف لقضاء الشهوات والتنعم بلذيذ العيش الذي هو بعرفهم عبارة عن اللهو والقصف والملبس الجميل والمأكل الفاخر وأكثر ما شاهدناه من آثار العمران لأغنياء الإسرائيليين والمسيحيين وما بقي وهو شيء قليل بيد المسلمين. ومع هذا فانك تجد الفرق ظاهراً بين المعيشتين فترى النظام والترتيب وحسن الذوق يغلب على قصور غير المسلمين وبعكسه تجد في دور أغنيائنا على أن ما ينفقه المسلم في سبيل انه وراحته يبلغ أضعاف أضعاف ما ينفقه المسيحي والإسرائيلي، وما ذلك إلا من معرفة هؤلاء طرق الاقتصاد وتفننهم بالإدارة المنزلية وعدم إلمامنا بالمسائل الاقتصادية وإهمالنا أمر العناية والتحقيق في إدارة بيوتنا وتنظيم شؤون اسرنا.(89/47)
وما اقبلنا على طاق كسرى إلا واستقبلنا فلاة مقفرة قاحلة فكنا نمر الساعة والساعتين فلا تقع الأنظار إلا على خرائب طامسة وإطلال دراسة أكل الدهر عليها وشرب ولكن ما فيها من نفيس الآثار كالتلال والروابي التي انبثت فيها التصاوير والرسوم ينطق بلسان فصيح بما كان لهذه المواطن من عظيم الشأن ورفيع المقام في قديم الزمان، ولما لاحت لنا عن كثب بقايا طاق كسرى انوشروان فخر الدولة الساسانية وإطلال إيوانه المشهور سكبت منا العبرات وتصاعدت من أنفاسنا الزفرات إلى السماء حزناً على ما كانت عليه هذه اليدار من الحضارة والعمران فتقلبت عليها الأزمان ونزلها من لا يصلح ولا تصلح له، وأنشدنا قول الشاعر العربي:
امست خلاء وأمسى أهلها ارتحلوا ... اخنى عليها الذي اخنى على لبد
لطاق كسرى هذا شأن خطير في تاريخ العراق القديم وهو من الآثار الجليلة التي تمثل للاعصرة المتأخرة عظمة الفرس وضخامة تمدنهم وعلو كعب دولتهم في الحضارة والمدنية، وقد أفاض المؤرخون من المتقدمين والمحدثين في وصف هذا الإيوان العظيم الذي تصدر فيه كسرى العادل ويعتبر مؤرخو العرب أن له مسيساً بتاريخ عرب المناذرة في الحيرة لا تصالهم بدولة الفرس، وممن كتب عنه ابن الأثير المؤلف المشهور قال في الكامل:. . . وهو - يعني الإيوان - مبني بالآجر وهو على مرتفع من الأرض طوله 150 ذراعاً في عرض مثلها وأمامه ميدان طوله 80 ذراعاً في 25 وقيل سعة الإيوان من ركنه إلى ركنه 90 ذراعاً. . وكان فيه من التماثيل والصور شيء كثير من جملتها صورة كسرى انوشروان وقيصر ملك إنطاكية وهو يحاصرها ويحاربها فلما فتحت المدائن سنة 16 هجرية على يد سعد بن عبادة ترك ما فيه من التماثيل واتخذه مصلى وصلى فيه صلوة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينها وقيل أن المسلمين احرقوه بعد ذلك بقليل
هذا ما قاله ابن الأثير وهو من رجال القرن السابع للهجرة غير أن ما جاء في كلامه ليس إلا وصف الإيوان على عهد الفتح الإسلامي ولم يشر إلى حالته في عصره وجاء ذكر هذا الإيوان عرضاً في مقدمة تاريخ بغداد للخطيب البغداجي قال المدائن لكثرة ما بنى بها الملوك والأكاسرة واثروا فيها من الآثار. . . وتسمى المدينة الشرقية العتيقة وفيها القصر الأبيض القديم. وتتصل به المدينة التي كانت الملوك تنزل بها وفيها الإيوان ويعرف(89/48)
باسانير. . . فالظاهر من كلام الخطيب أن الإيوان كان في المدائن عاصمة دولة الفارسيين وهو الصحيح الثابت ويؤيده ما وجدناه من الأنقاض والخرائب التي تشير إلى وجود المدينة وقد نقب بعض الباحثين في الآثار القديمة فوجد هناك بعض النقوش والكتابات على الآجر المشوي اهتدى بواسطتها إلى حدود المدينة وعثر على بعض أنقاض سورها الذي ورد ذكره في مقدمة تاريخ بغداد للخطيب أيضاً حيث قال: وكان الإسكندر. . . ينزلها يعني المدائن. . . بونى فيها مدينة عظيمة وجعل عليها سوراً أثره باق إلى وقتنا هذا موجود الأثر وهي المدينة التي تسمى الروضة في جانب دجلة الشرقي.
والإيوان في موضع يبعد عن بغداد ست ساعات من طريق البر وعشرات ساعات من جهة النهر بينه وبين ساحل دجلة الأيسر مسافة 15 دقيقة وهو بناء ضخم هائل يبلغ طوله نحو 42 متراً في عرض 25 متراً وارتفاعه يناهز 30 متراً وعرض الباقي من العقد إلى أعلاه وثخنه 8 طاباقات لو متران ونصف وهو قومي الشكل ويبلغ مقدار قوسه 14 متراً وعرض حائط الإيوان الذي عليه طرف العقد زهاء خمسة أمتار وعرض الباب الذي يكون مقابلاً لك إذا وقفت في وجه الإيوان ووجهك إلى الجنوب الغربي متران و20 سنتيمتراً وارتقاء خمسة أمتار وهو معقود مقوس. وفي جانبي الجدار الذي فيه الباب المذكور من أعلاه روزنتان نافذتان إلى الوجه الآخر من الجدار يبلغ ارتفاع كل منهما مترين في عرض متر وارتفاع الجدار المار الذكر يناهز 18 متراً وفي حائط الإيوان الشرقي مما يلي وجهه باب طوله سبعة أمتار ونصف متر وفي عرض متر 87 سنتيمتراً وقد شق عقده إلى أعلى الإيوان ويزعم أهل العراق أن الشق قد حدث وهلة يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم فتطير من ذلك كسرى ورسخ في ذهنه أن انقضاء حكم الفرس وزوال ملكهم قريب الوقوع، وفي شرقي الجدار المذكور جدار آخر قائم قد سقط أعلاه وتداعت بعض أركانه من طرفه الشرقي ولم يبق منه إلا ما يناهز طوله نحو 31 متراً في عرض سبعة أمتار في ارتفاع قرابة 30 متراً وفي وجهه الذي هو تجاه الشمال الشرقي آثار نقوش ومشاك وأعمال هندسية في البناء بديعة الشكل حسنة الوضع وفي أعلاه تجاه الجنوب الغربي اثر عقد يدلنا على انه كان هناك إيوانان هناك إيوان آخر صغير غير هذا الكبير وقد هدم، وطوله من الأرض إلى اثر العقد قرابة 8 أمتار، وفي وسط الجدار المذكور باب معقود(89/49)
طوله 7 أمتار في عرض 4 أمتار و20 سنتيمتراً وفي ارتفاع متر و80 سنتيمتراً وبناء الإيوان بالجص والطاباق.
هذا ما يمكن أن يقال عن الإيوان في هذا العهد وأنت ترى انه لم يبق منه إلا انقاض بالية لولا وجودها لاندرست رسوم هذا الصرح الفخم بيد أن ما بقي منه كاف لإظهار عظمة الفرس القدماء وحسن ذوقهم وطول باعهم في الفنون الهندسية وهذا الصرح الشاهق لا يقل ضخامة وفخامة عما شيده اليونان والرومان في البلاد التي دانت لهم واعضوا أهلها بأسيافهم وبلغت فيها حضارتهم أقصاها ومنتهاها. ولا جرم فالفرس أو لو تمدن زاهر ونسب عريق في الحضارة والمدينة، وقد وقف البحتري الشاعر الشهير على أطلال المدائن ففاه بقصيدة هي أحسن وأعذبها وارقها قال بعد أن عاتب زمانه وشرح حالته:
حضرت رحلي الهموم فوج ... هت إلى ابيض المدائن عنسي
اتسلى عن الحظوظ وآمي ... لمحل من آل ساسان درس
ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسي
وهم خافضون في ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخسي
مغلق بابه على جبل القب ... م ق إلى دارتي خلاط ومكس
حلل لم تكن كإطلال سعدى ... في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني ... لم تطقها مسعاة عنس وعبس
نقل الدهر عهدهن عن الجدة ... م حتى غدون أنضاء لبس
فكأن الجرماز من عدم الأ ... م نس وإخلاله بنية رمس
لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتماً بعد عرس
وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس
فاذا ما رأيت صورة انطا ... م كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وانوشر ... م وان يزجي الصفوف تحت الدرفس
في اخضرار من اللباس على اص ... م فر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين يديه ... في خفوف منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس(89/50)
تصف العين أنهم جد أحياء ... ئهم لهم بينهم إشارة غرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
إلى أن قال:
وكأن الإيوان من عجب الصن ... م عة جوب في جنب ارعن جلس
يتظنى من الكآبة أن يب ... م دو لعيني مصبح وممسي
مزعجاً بالفراق عن انس ألف ... عزاً ومرهقاً بتطليق عرس
عكست حظه الليالي وبات الم - م ... مشتري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجليداً وعليه ... ككل من كلا كل الدهر مرسي
مشخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوي وقدس
لابسات من البياض فما تبصر منها ... م إلا غلائل برش
ليس يدري اصنع انس لجن ... سكنوه ام صنع جن لانس
وكأن اللقاء أول من أمس ... م ووشك الفراق أول أمس
عمرت للسرور دهراً فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي
غير نعي لاهلها عند اهلي ... غرسوا من ذكائها خير غرس
أيدوا ملكنا وشدوا قواه ... بكماة تحت السنور حمس
ولو أردنا أن تثبت كل ما جاء في وصف هذا البناء الشامخ من منظوم ومنثور لضاق بنا المقام واحتجنا إلى مجلد ضخم له تلو.
بغداد=// إبراهيم حلمي العمر.(89/51)
في ديار الغرب
قل سيروا في الأرض
ليس كالسياحة تجدد الحياة وتزيد الاختبار وتعلم وتهذب وتزيد في الاعتبار بحوادث الليل والنهار. وإني لا تمنى لكل من ساعدته الحال أن ينهض ليعتبر ويتعلم ويتسلى فان النفس في قرارها تصدأ كما يصدأ الحديد بالرطوبة فهي تحتاج للنور وللحرارة وإلا فتذبل كالزهرة.
قال وليم هازلت من مفكري الانكليز أن الوقت الذي أمضيناه في السياحة الأجنبية مقطوع من عمرنا مفصول من حياتنا إلى وصله ولا وسيلة إلى إدماجه والمرء خارج وطنه رجل آخر غير الذي كان هنالك حتى أن المسافر ليودع نفسه فيمن يودع ولله در القائل خرجت من موطني ومن نفسي فمن أراد أن ينسى الحزن والشجن فليذهب إلى غير بلده من بلاد الله يجد في عجيب المناظر وغريب الأحوال سلوة وروحاً وتغيب من عينه مذكرات الهموم وباعثات الأسى ولذلك كنت انفق حياتي خارج بلادي لو وجدت من يقرضني حياة أخرى أنفقها في وطني حتى اقضي حقوقه.
كلمات حكمة وخبرة ولذلك ترى أكثر الأمم رقياً أكثرها سياحاً والعكس بالعكس.
والانكليز والأميركان هم في المقدمة ثم يجيء الألمان والفرنسيس وغيرهم من أمم المدينة الحديثة وامتنا العربية يكون محلها في قائمة السياح في الآخر بالطبع لأنها اعتادت سير القهقري وأنا لو أخرجنا المصريين من جملة السائحين في الغرب لا تجد لنا إلا عدداً يضحك بالنسبة لأرباب الرحلات من الأمم. أما العرب السوريون ممن يهاجرون إلى أمريكا فهؤلاء لا يقصدون من رحيلهم إلا الكسب ولا يعرفون على الأغلب كيف يستفيد المرء من سياحته علماً وعملاً.
نتمنى لامتنا أن يسيح منها العلماء والوجهاء والتجار والموظفون وأرباب الصنائع والزراعات الواسعة ممن يمكنهم ولو بعض الشيء تطبيق ما رأوه عند من ارتقوا عنهم مراحل. فهذه الطبقات الغنية هي التي تستفيد بالاحتكاك بغيرها من أهل طبقتها في الغرب إذا أخذت على نفسها البحث والدرس خلال التنقل وترويح النفس.
السياحة لا تكلف اليوم من العناء والمال ما كانت تكلفة منذ مئة سنة فان العارف قد يستطيع(89/52)
أن يطوف أهم عواصم العالم ولا ينفق في يومه أكثر من ليرة مرفهاً رفاهية لا تتيسر له في بلده ولو كان من أغنى أغنيائها لان البلاد في الغرب كلها منظمة ومعظم الفنادق والبيوت سواء في الأخذ بأسباب الراحة. وللعيش فيما خلا العواصم الكبرى سهل للغاية وهو ارخص مما هو في بلادنا فان المصطاف أو المشتي في سويسرا قد يستطيع أن يكون في عائلة ولا ينفق في شهره ثمن الطعام والمنام الجيد أكثر من 150 فرنكاً وهذا قلما تجد له مثيلاً في بلدة أوربية اللهم إلا في المدن الصغرى أو القرى وكل مدينة من مدن سويسرا حرية بأن يتعلم فيها الشرقي سنين لا أياماً ومن رأى مدينة أو ثنتين يكون قد رأى نموذجاً صالحاً من هذه المدينة الفاضلة.
بيد أن من يسيح في الغرب لا يصح له أن يتخلى عن غثيان العواصم الأمهات مقر المدنيات الضخمة كرومية ولندن وباريز وبرلين وفينا وهذه العواصم يكتفي منها للسائح ببضعة أيام والأولى أن ينظر إلى دولاب الحركة في المدن الصغرى إذ يستطيع أن يحيط بها فكرة أما العواصم الكبرى فان أهلها قد ضاعوا فيها ولا تكاد تجد واحداً منهم يعرفها حق معرفتها فباريز مثلاً كلما غبت عنها أشهراً وعدت إليها تجد فيها غرائب جديدة وجواد فخمة لم تكن من قبل وكل شيء فيها يزداد على الزمن فخامة وعظمة فالفرع الواحد فيها إذا أراد درسه السائح الشرقي لا يتيسر له في اقل من بضعة أشهر ولكن النظرة الإجمالية يكفي لها خمسة عشر يوماً ومثلها سائر العواصم وأصعبها على السائح إحاطة لندن مدينة الثمانية ملايين نسمة ونيورك مدينة الخمسة ملايين.
أن مدينة الغرب متشابهة في أكثر الأوضاع فمن رأى نموذجاً منها اكتفى والزيادة على ذلك من النوافل. من زار باريز مثلاً أعظم نموذج في الحضارة الحديثة.
وخير لمن يعرف لغة مملكة في الأكثر أن يذهب إليها. وان كان من يعرف لغة أوربية كبرى مثل الفرنسية أو الانكليزية يستطيع أن يسيح بدون عناء في كل مملكة وبتفاهم مع أهلها ولا سيما أهل الطبقة العليا والتجار والعلماء.
ثلاث لغات أصول هي التي تفرعت منها لغات القارات الثلاث أوربا وأميركا واوستراليا الانكلوسكسونية واللاتينية والسلافية فمن عرف الروسية مثلاً لا يشق عليه السياحة في البلقان واكثر النمسا ومن عرف الانكليزية استطاع السياحة في أميركا الشمالية واوستراليا(89/53)
ومن عرف الافرنسية كانت عليه سياحة ايطاليا واسبانيا والبرتغال والبرازيل والأرجنتين مثلاً من أسهل الأشياء.
أما من لم يكتسب له الأخذ بحظ من هذه اللغات وأراد الاستفادة من الغرب فليس أحسن له من استصحاب ترجمان من بلاده ويكون ممن سبقت له الرحلة إلى ديار الغرب وإذا أريد الاقتصاد فالأولى أن يجتمع كل ثلاثة أو أربعة أشخاص ويرافقهم ترجمان مؤتمن عندهم وعندها تقل النفقة نحو الثلث. ولقد شاهدنا كثيراً من أغنياء مصر ساحوا أوربا وهم لا يعرفون لغة من لغاتها ولكنهم بواسطة التراجمة استطاعوا أن يحسنوا التصرف بيد أن الأولى أن يكون المرء نفسه عارفاً بإحدى لغاتهم وهناك حدث ما شئت أن تحدث عن استفادته وسروره.
وبالجملة فإن الخوف من السياحة توهم ليس في محله فلا المال وقلته ولا عدم الإحاطة بلغة إفرنجية بل أن المحرك الأعظم في السياحة الإرادة ومن صحت عزيمته زعزع الجبال فما بالك بالسياحة وأبناء السابعة والثامنة اليوم يسيحون في أوربا وأميركا بدون أن يخشوا ضرراً والفتيات الجميلات يضربن في البر والبحر ولا من يتعرض لهن بسوء فهل من العجل أن يكون فتيان الغرب وفتياته أرقى منا كعباً وأكثر إقداماً ما دامت لنا في السياحة فوائد لا يقدرها الخامل في بلده والسياحة مدرسة لتعليم الكبار كما أن المدرسة هي المعلمة للصغار فاللهم علم كبارنا وصغارنا علماً نافعاً.
نحن في البلاد الفرنسوية
ليس عجباً أن ترى العثماني والإيراني وغيرهما من سكان أسيا الغربية والساحل الشمالي من افريقية يطربون في البلاد الفرنسوية ويؤثرونها على غيرها من بلاد الغرب في التجارة والتعلم والنزهة فإن معرفة لغة قوم هي مفتاح جميع هذه الأعمال وتعليل صحيح لعامة هذه الأحوال.
انتهت فرنسا قبل غيرها لاستتباع الشرق الأقرب بتعليمه على مناحيها وتلقينه لغتها فكانت منذ زهاء قرنين تبعث البعوث وترسل المعلمين بمدينتها ولغتها فلم يمض زمن طويل وفرنسا إذا ذاك صاحبة الكلمة الأولى في السياسة الغربية قبل انكلترا وألمانيا وروسيا إلا والخاصة في هذه البلاد يعرفون الافرنسية ويأخذون عنها ويؤثرون الفرنسيس على غيرهم(89/54)
لأنهم لم يعرفوا غيرهم خصوصاً وان المرونة التي يجونها عندهم تشبه مرونتهم والفرنسيس عرفوا بلين الجانب وكثرة التفاني بتعليم ما عندهم لغيرهم لأنهم يرون لغتهم أرقى اللغات الأوربية وامتهم في مقدمة الشعوب التي قاتلت لأجل الحرية.
أن ميل الفرنسيين للابتكار في كل شيء دعا إلى نشر أفكارهم وأوضاعهم في بلادنا كتب احدهم مقالة افتتاحية في جريدة الايكودي باري قال: انه مما أثبتته التجارب أن الفرنسوي خلق مخترعاً وقد اتى الفرنسيس أمثال لافوزايه وكوفيه وكلود برنارد وبيشا وباستور من الأعمال العلمية ما استحقوا به أن يكونوا مؤسسين لجميع العلوم الحياتية والكيمياء والتشريح والفسيولوجيا وقمت أهم الاختراعات الغربية في الأربعين سنة الأخيرة على أيدي الفرنسيس فهم الذين اخترعوا سر التلغراف بلا سلك واوجدوا صناعة الاوتوموبيلات وعملوا مدفعاً من عيار 75 وعثروا على الأسباب الرئيسية التي سمحت بالطيران. وهكذا في السياسة فان الفرنسيس أول من اوجدوا في أوربا وحدة وطنية وهي الوحدة الفرنسية وأول من أسسوا وطناً وهو الوطن الفرنسوي وهم كانوا أول الناشرين تحت ستار الحرية والمساواة الأفكار الثورية.
فالفكر الفرنسوي حاد ينتبه بسرعة للصلات المجهولة في الأشياء وهو براق يدرك بدون كبير عناء المؤثرات التي تحدث بين أجزاء عناصر المادة فهو ذو خاصة تخدم حاجته للمعقول وحبه للوضوح. الفرنسوي جريء على مثال لويس الثالث عشر ونابليون والموت الذي كثيراً ما يكون جزء المخترع قلما يفرغه بل يبعث همته ويشحذ بكثير من الضباط أن يتجشموا الأخطار إلى آسيا وافريقية لفتح أراض جديدة واسعة وهذا الذوق هو الذي ساق فيما مضى النورمانديين والبروتونيين إلى سلوك البحار التي لم يسلكها احد ليؤسسوا مدائن في الشواطئ البعيدة.
هذا هو الوجه الحسن وإذا جئنا إلى نقيضه نرى الفرنسوي يخترع ولكنه ما قط عرف الانتفاع ثمرة اختراعه ولا يحقق وينظم ما اخترعه. وخفته العقيمة تحمل إلى غير الانتفاع بتطبيق ما أوجده هو. فهو يفتح المستعمرات بدمه وماله ولكن الألمان والايطاليين أو الاسبانيين هم الذين يستثمرونها. اختراعاته في العلوم لا يقع عليها حصر ولكنه لم يستعملها قط لتحسين أدواته أو حاصلاته فقد أسس مثلاً الكيمياء ولكن الألمان هي التي(89/55)
وجدت في الصناعة الكيماوية مورداً عظيماً من الثروة أي مليار وستمائة ألف مليون من الحاصلات السنوية منها نحو سبعمائة مليون صادرات وأنشأت تسعة ألاف معمل فيها مائتا ألف عامل يدفع إليهم 260 مليون فرنك مشاهرات وأجوراً.
- الفرنسوي يتحرك في الهواء أسرع من الطير. وهو طيار خارق للعادة بجرأة طبيعية فيه تظنها بلادة منه. ولكنه يستطيع أن يجعل للطيارين ولمراكز الطيران نظاماً معقولاً وإذا سقطت في درجات الأشياء الصغرى ترى الفرنسوي على هذه الصورة من الاضطراب وعدم الانتظام وقلة الاهتمام. ويقال في ذلك أن الفرنسوي يكره وهو على هذه الصورة من الحركة أن ي \ نشئ إلى ذروة انتباه طويل متساوق ويشعر بأنه يخنع إذا لم ير نفسه مائلة إلى الأعمال المختلفة التي تحثه وإذا وجب عليه أن يعمل عملاً مجهولاً يحتاج إلى صبر. أما الألماني فهو على العكس من ذلك له قليل جداً من النبوغ في الاختراع والإيجاد بل لا يكاد يذكر له شيء منه ولكنه مختص كل الاختصاص بالانتفاع بما اخترع وتنظيمه.
وما عدا الفلاسفة والموسيقيين في ألمانيا القديمة الذين اخترعوا واوجدوا فان الألماني لا يخترع لا فكرة ثقيل وبطيء ومفكر لم يختلق لهذه الأنوار الفجائية التي توحي بالمجهول ولكنه متى اخترع فهناك حدث ما شئت أن تحدث عن حسن استخدامه له فهو يحب العمل الذي يحتاج لثبات ولا يستعجل لان الضروري عنده أن لا يعمل بسرعة بل أن يعمل بجودة وان يكون على استعداد لحين الحاجة فيكون مجهزاً لساعة العمل ولا يبدأ قط بطيئاً.
جاء الألماني بعد الفرنسوي في الطيران ولكنه أدهش العالم بتنظيمه له فلم يخبط على غير هدى بل رأى بسرعة كل ما ينبغي أن يرى ووفاه حقه. له قليل من المستعمرات ولكنه يسكن مستعمرات غيره فينزلها التجار والصناع الذين يبعث إليها بهم. الألماني لم يخترع التلفون لألمانيا الآن نحو مائتي ألف كيلو متر من الأسلاك التلفونية أي أكثر من فرنسا وعدوا المخابرات التلفونية في بلاده ب - 800 مليون لقاء 190 مليوناً في فرنسا وما من قرية ألمانيا مهما صغرت وهي مرتبطة بتلفون تخابر به وإدارتها في البريد أول إدارة في العالم. وهي تعترف أن ليس بين كيماوييها الكثار واحد مثل لافوزيه وبرتلو ولكن لها معامل تجريبية تعينها الحكومة والمدن والنقابات الصناعية. أن كان الفرنسوي مخترع الأصباغ الصناعية فالألماني بفضل مدارسه ومعامله أتى فيها بالعجائب حتى يكاد يختص(89/56)
بتجارة الأصباغ. وما من بلد يعني بتجديد إدارته على الدوام لتكون كاملة من كل وجه على احدث طرز كما يعني في ألمانيا. وإلقاء أدنى نظرة على محطة من محطات يككهم الحديدة تشهد لهم بذلك الخ.
ثم انتبه الانكليز والأميركان والطليان للأمر ولكن بعد أن رسخ التمدن الفرنساوي في النفوس وكثر أنصاره بطبيعة الحال مع انه ربما كان في أوضاع الأمم الأخرى ما يماثله أو يفوقه. وإذ قبلت مصر والعثمانية وإيران أن تعلم الافرنسية بصفة إجبارية في مدارسها مثل لغة البلاد كان ذلك من اكبر المعونات على بث هذه اللغة البديعة فاتخذناها لغة التخاطب والتكاتب في التجارة والسياسة.
للبلاد المصرية والعثمانية والإيرانية في البلاد الفرنسوية اليوم مئات من الطلبة يدرسون العلوم المنوعة في مدارسها في حين لا تجد سوى عدد محدود من الطالبين في مدارس انكلترا وأميركا وأكثرهم من المصريين والهنود أما في ألمانيا والنمسا وايطاليا وروسيا فان عددهم يعد على الأنامل والإيرانيون أكثر الشرقيين اختلافاًَ إلى مدارس روسيا للجوار والسياسة.
فإذا طربت النفس يود دخولها ارض فرنسا وسويسرا الفرنسوية وبلجيكا الفرنساوية فذلك لأننا نشعر بأننا بين قوم يفهمون من نحن ونفهم من هم أننا نستفيد هنا إضعاف استفادتنا في أي ارض سواها لأننا لا نجد تقارباً في الأفكار والمناحي ولأننا نعرف تاريخ هذه البلاد كما نعرف تاريخ بلادنا وقد حصلت لنا على الزمن آنسة بأوضاعها المرنة اللطيفة ومن تعلم لغة قوم قلت ما بينه وبينهم من الفوارق وتيسر له أن يشاركهم ويشاركونه في كل ما لا يضر بعاداته وأخلاقه الخاصة.
أن المدينة الأوربية تتسرب كل يوم إلى عقولنا في طرق تنقلها الصحف والسياح والمدارس والجيش والأسطول بل ينقلها البرق والهواء ونحن لو أردت أن تجردنا مما استفدناه منها منذ عهد محمد علي الكبير وسليم الثالث لرجعت بنا قروناً إلى الوراء ظننتنا نعها من أهل القرن السابع أو الثامن للهجرة على نحو ما تشاهده اليوم الأفغانيين أو المراكشيين أو الجلويين بين الذين سدلوا دون مدينة الغرب حجاباً كثيفاً فحرموا من حسناتها ولم ينجو مثل غيرهم من شرورها.(89/57)
أن سكان الشرق الأقرب إذ ذكروا الفرنسيس كثيراً فذلك لأنهم يعتقدون فرنسا فاتحة العالم على نحذو ما كانت على عهد نابليون الأول ففرنسا هي التي وضعت في الحقيقة أساس النهضة المصرية الحديثة وفرنسا هي التي كانت كذلك في سورية منذ جاء نابليون عكا طعاماً في فتحها لأنها كانت مفتاح سورية حتى إذا جاءت حادثة الستين المشؤمة. وكان لفرنسا اليد الطولى في إعطاء لبنان استقلالاً إدارياً عظمت تلك المنة على أهلها وعمت المدينة الافرنسية بلاد الشام من طرق مختلفة خاصة وعامة وطينة وأجنبية رسمية وغير رسمية.
نحن اليوم إذا لجانا إلى فرنسا في معظم حالاتنا فللأثر الناتج من تلك التربية والدعوة الطويلة المتأصلة ولا يضرنا الأخذ من مدينة القوم ولكن يضرنا العلو والجمود فكما أن الفرنسيس أنفسهم لا يستنكفون أن يقتبسوا ما عند الأمم الأخرى كالانكليز والألمان والأميركان مثلاً مما ليس في أوضاعهم فنحن من مصلحتنا أن لا نكون حكرة لأمة فنأخذ عن كل قبيل أحسن ما عندهم ولا نقول هذا سويسري وذاك بلجيكي وهذا فرنسوي وآخر ألماني وغيره ايطالي أو انكليزي فكلهم أرقى منا مراحل ونحن في حاجة لكن من يعلمنا مدينة تنهض بنا من خمولنا ليساوا بنا بنفسه بعد وتعد شيئاً مذكوراً في سلسلة المراتب البشرية.
رأيت كثيراً من خاصة الطليان والألمان والانكليز يشيرون إلى أن السوريين خاصة من بين سكان الشرق الأدنى يغالون بحب الفرنسيس وليس حتى في البلاد التي حكمتها فرنسا في أقطار الشرق بلد كسورية يحسن أهلها الظن بالفرنسيس فكنت أقول لهم أن ذلك صحيح ولكن لا على إطلاقه فان القوم هناك درجات ومن يحبون الفرنسيس هم الذين أحسن هؤلاء إليهم بتعليمهم على أساليبهم وتلقينهم لغتهم العذبة فأممكم أيضاً إذ مدت يدها لسورية تعلمها لغاتها وأمجادها يعترف السوريون لها بصنيعها ويصبحون زبنها في التجارة. وكيف يحب السوري ألمانيا مثلاً وهو لا يعرف عنها إلا ما يقرأه في الجرائد الفرنسية والكتب الافرنسية وألمانيا حتى الآن لم تفتح لها مدرسة راقية في سورية والفرنسيس ملأ وأسهلنا ووعرنا بمدارسهم الدينية والعلمانية على اختلاف درجاتها لا ينال المرء إلا بقدر ما بذل والأمم الانكلوسكسونية هي أرقى الأمم بأخلاقها وآدابها ولكن أنانيتها الكثيرة دعتها إلى أن(89/58)
أحبت في العهد الأخير الانتفاع من الشرق دون أن تبذل في سبيل رقيه درهماً أو تخطو إلى أعلاه شأنه قدماً. ولذلك يبقى الشرق الأقرب يتغنى بالفرنسيس والفرنسوية حتى ينافسهم غيرهم من أمم الحضارة الحديثة منافسة حقيقية. ولا عار علينا إذا صرحنا بأننا نطرب في ارض فرنسا لأننا لا نعرف غيرها في الواقع ونفس الأمر فقد سبقت فعلمتنا آدابها وذكرتنا أمجادها فنحن بها عرفنا الغرب والمرء لا ينفق إلا مما عنده وعرفان الجميل لأهله طبع الكرام ولا ينسى الأيادي التي لك عندهم إلا اللئام والسلام.
الحياة السياسية والاقتصادية في بلاد المجر
تسكن بلاد المجر عناصر مختلفة قد يثور بينها ثائر الخلاف أحياناً ولذلك كان لمسألة الجنسيات في الأرض المجرية شأن عظيم وحروب إقليمية ولسانية لا تكاد تهدأ وتدور المناقشات في الغالب على برامج المدارس وعلى القدر الذي يجب أن يعطى للغة المجرية في التعليم في المقاطعات التي فيها رومان وسلوفاكيون وصربيون. وهناك اضطرابات تحدث زمن الانتخابات النيابية تتدخل فيها القوة المسلحة لتحمي حرية الانتخاب وأزمات وزارية وربما أطلق بعضهم عياراً نارياً على خصمه أو هدده بالقتل أو ضربه بكتاب ودواة كما حدث ولا يزال يحدث.
نحو نصف سكان بلاد المجر هم من العنصر المجري والنصف الآخر من عناصر مختلفة (ألمان وسلوفاكيان ورومانيون وروتنيون وخراتيون وصربيون) بلاد أشبه ببرج بابل اختلطت فيها الألسن وتبلبلت والمجريون يحاولون بكل ممكن أن يحترم غيرهم جنسيتهم باحترامهم لغتهم والاعتراف بتقدمهم السياسي والمدني وهذه هي الحالة هي حالة المجر ولولا أن العناصر غير المجرية مؤلفة من أجناس كثيرة ليس بينها اقل صلة وطريق الانتخابات النيابية الجارية في المملكة تحول دون أدنى مقاومة لما تم للمجر هذا التقدم على غيرهم.
ولئن حاول الإمبراطور فرنسيس يوسف ملك النمسا والمجر أن يصلح أسلوب الانتخاب بوضع الاقتراع العام منذ سبع سنين فان مسائل الجنسيات ما برحت مقدمة على المسائل الاجتماعية وقد وقع التحكيم على أن تكون النمسا متجانسة بالجرمانية وان يكون للمجرية حق التقدم في هنغاريا (بلاد المجر) وقد كان في مجلس النواب المجري سنة 1911 -(89/59)
453 مبعوثاً. منهم 387 مجرياً و40 خرواسياً و24 وطنياً وهذه نسبة تستدعي الاستغراب والمجلس الأعلى أو مجلس الأعيان مؤلف من أعضاء وراثيين مثل البالغين من الارشيدوقة وأعضاء الأسر الشريفة التي تدفع على الأقل ضريبة عن عقارتها لا يقل عن 6000 كورون ومن أعضاء يعينهم الملك مدة حياتهم بإنهاء رئيس المجلس ومن أرباب المناصب العليا مثل كبار الحكام ومن 33 اسقفاً كاثوليكياً و98 أساقفة روم أرثوذكس و6 يمثلون المذاهب اللوثرية والكالفانية البرتستاتية ومن ثلاثة ينتسبهم مجلس نواب خرواسيا.
وللمجلس الأعلى أن يرد ما يشاء من المشاريع والقوانين التي يقررها مجلس النواب ولكنه لا يستعمل هذا الحق إلا نادراً لأن مجلس النواب موقر في صدره وغاية ما يستطيع عمله أن يرجئ الإقرار على قرار مجلس الأمة.
ومن الأمراض التي أصيبت بها بلاد المجر كما أصيبت بها فرنسة والعثمانية مرض كثرة الموظفين الذي يزداد استحكاماً اليوم بعد اليوم ففي إحصاء رسمي أخير في المجر 301480 موظفاً في شعب لا يتجاوز احد وعشرين مليون نسمة فان الوزارة التي تولت شؤون المجر منذ سنة 1906 - 1910 قد أحدثت عملاً ل - 45 ألف رجل والوزارة التي خلفتها أحدثت في العشرة الأشهر الأولى لتوليها الأمر ثلاثين ألف وظيفة، وهذا السواد العظيم من الموظفين ينفع الحكومة مدة الانتخابات النيابية لأنه يمثل نحو ثلث المنتخبين بيد أن كثرة الموظفين في الحكومة لا يفسر بان الأشغال تمشي بسرعة على طريقة حسنة بل أن الوقت والمال والقوة تضيع في هذا التطويل والقيود. يساعد على ذلك الإهمال المغروس في طبيعة الموظفين على الأغلب ولا سيما في المجريين فمن لم يتابع البحث عن لوراقه ويلحقها من ديوان إلى آخر ويوصي صاحب الشأن تضيع وتهمل ولا نغالي إذا قلنا أن المجر على كثرة تغاليهم في التغاني باستقلالهم قد فتحوا للحكومة من أبواب التدخل في أمرهم حتى في المسائل الخاصة ما يصح معه أن يحكم بان البلاد المجرية أكثر الممالك التي جعلت نفسها تحت وصاية حكومتها في كل شأن من شؤونها.
ولقد عددت مجلة القرن العشرين الحرة وهي لسان علم الاجتماع في بودابست عدة أحوال نابت فيها سلطة الحكومة مناب الأقدام الخاص والتبعة الشخصية فقالت أن الحكومة تعطي راتباً للكاهن الذي يعمد الوليد وللموظف الذي يقيده في السجل وترزق المعلمين وتوصي(89/60)
الطابعين وصناع الأدوات المدرسية وتدفع لمؤلفي الكتب المدرسية ولنقادها ولإنشاء دكات للمدارس ويستعمل خشب الحكومة وحديدها والحكومة تعاون المطابع ومخازن الدخان وعمال الدخوليات (اوكتروا) والكتاب والإخباريين وغيرهم والجمعيات العلمية والصناعية والزراعية والنقلية والمجمع العلمي والممثلين والمغنين وكل من لهم مشاريع يريدون إبرازها إلى حيز الوجود ولأرباب الضجة والسكوت وتدر المال على الصانع الأهلية واستملاك محال الوقود وتساعد العامل الصغير والصانع الكبير ومنها بطلب الممثل قرضاً والصراف مالاً.
هذا وحرية الأديان والمساواة لم تتم في المجر إلا سنة 1895 وكان للكثلكة المقام الأول ولرجال الدين سلطة نافذة ويكفي أن يقال أن مساحة بلاد المجر تبلغ 324850 كيلومتراً مربعاً تملك الأسقفيات والأديار والبيع 12 ألف كيلو متر مربع منها وبذلك يحكم رجال الدين لأن من المال قوة فكيف فيمن اجتمعت له القوتان القوة الروحية والقوة المالية.
أهم القوانين الدستورية في المجر 45 قانوناً يرد عهد الأول منها إلى القرن التاسع أي إلى احد عشر قانوناً وأهمها قانون سنة 1732 و1848 وضم النمسا والمجر سنة 1867 الذي تم الاتفاق بين المجر والنمسا على أن يدافع المجر عن مملكة النمسا كما يدافعون عن مملكتهم أنفسهم ويكونون مستقلين إلا في الجيش والبحرية والأمور الخارجية فيدفعون قسطاً صالحاً من المال لمعاونة حكومة فينا وتتعهد الأسرة المالكة النمساوية بالمحافظة على استقلال المجر وحرية البلاد واستعمال جميع قوة النمسا للدفاع عن سلامة الأملاك البحرية وملك النمسا يحكم المجر كما يحكم بلاده ولكنه يمثل مملكتين متباينتين ولا يكون ملك النمسا ملكاً شرعياً إلا إذا اقر على تتويجه مجلس المجر ويقضي القانون الأساسي في البلاد أن يقيم الملك ستة أشهر في فينا وستة أشهر في بودابست ولكن هذه العاصمة لا تنال حظ قدومه سوى مرة واحدة على الأغلب وهو يتلطف التلطف مع الأمة المجرية إلا أن هذه لا تنسى ما نالها من سحق النمساويين لها في ثورة 1848 التي لا يبرح المجر يذكرونها ويحتفلون كل سنة بذكرى مقتل الثلاثة عشر قائداً مجرياً الذين اعدموا سنة 1849 لاشتراكهم بحرب الاستقلال ضد النمسا ويسمونهم الثلاثة عشر شهيداً وترفع الإعلام السوداء على النوافذ وقد كانت جنازة كوشوت سنة 1894 من أعظم الدلائل على ذلك كما(89/61)
كان الاحتفال بافتتاح قبته سنة 1909 بالغاً حداً دل على مبلغ تعلق هذه الأمة برجالها الذين سعوا لاستقلالها.
للمجر أنشودتان الملك والجيش وأنشودة ولهما عيدان وطنيان الأول في 15 آذار والثاني في 11 نيسان فالأول هو عيد المجر الحقيقي يحتفل بذكرى سنة 1848 وقد قرر مجلس الأمة المجرية اشتراك الإشراف في جميع التكاليف العامة وإلغاء حقوق السادة وحرية الصحافة وفي 11 نيسان هو اليوم الذي صدق فيه الملك فرد ديناند على القوانين الدستورية.
لا يحب المجر النمساويين ويريدون أن يخالفوهم في كل شيء ولو بالصورة الظاهرة وما انس لا انس يوم اجتاز بنا القطار من الأرض النمساوية وابتعدنا ساعتين عن فينا ودخلنا في الأرض المجرية فان الأرض تكاد تلبس خلة غير الحلة الأولى وقال لي رفاقي في القطار وكانوا مجريين أنت الآن في ارض هنغاريا يا مولاي ثم خرج الشرطة والمفتشون كأننا دخلنا إلى مملكة أخرى وان ما بين فرنسا وألمانيا من التباين لا يشعر به على الحدود بأكثر مما يشعر بالتباين بين المجريين والنمساويين.
والمجر يطلبون إشارات خاصة لعسكرهم كما يطلبون أن يكون التعليم العسكري باللسان المجري ولهم مطالب أخرى يسعون لئلا يكون للنمساويين عليهم اقل سلطة وتأثير وان كان لهؤلاء تأثير كبير في الأمور الاقتصادية والعلمية كما للألمان هذا مع أن بلاد المجر غنية بصناعتها وزراعتها وعلمائها ويكفي بان ثروة المجر قدرت سنة 1911 بثمانية عشر مليار فرنك قيمة أملاكها العقارية وخمسة مليارات قيمة أموالها غير المنقولة ومثلها صناعتها وباثني عشر مليوناً نقودها وبثلاثمائة مليون أموالها في الخارج أي بأربعين مليون مليار وثلاثمائة مليون فرنك يخرج منها ديونها العمومية خمسة مليارات ونصف.
هذا حال مملكة أفقدتها النمسا استقلالها ولكنها لم تقض أو لم تستطع القضاء على حياتها الوطنية والاقتصادية كما فعلت روسيا مع بولونيا وبقيت بولونيا بحالها أو زادت ولولا معاونة روسيا للنمسا ما استطاعت هذه أن تغلب المجريين.
ليست الأمة المجرية عريقة في المدينة كالأمم القديمة في أوربا فقد جاءت حوالي القرن التاسع وانضمت إلى أهل أوربا ونزلت بلادها اليوم ولذلك تجد فيها حتى الآن شيئاً من(89/62)
أوضاع القرون الوسطى في نظاماتها الاجتماعية فان تسعة أعشار من يعملون في الحقول المجرية إلى اليوم هم من السلافيين الصقالبة أو الرومانيين المغلوبين على أمرهم افتتح المجر البلاد وامتلكوا الأراضي وما زالوا يستثمرونها بأيدي غيرهم ولم يبرحوا في كثير من البلاد على طريقة القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر.
وإذا تأملت ملياً في حال المجري تجده يشبه التركي في كثير من أحواله فانه يعمل القدر اللازم حتى لا يموت جوعاً هكذا شأن الفلاح والصانع وكذلك شأن طالب العلم وصاحب المنصب كأن حكم العثمانيين على بودابست مئة وخمسين سنة قد طبعهم بطابع تركي فقد رأيت المجريين يشكون من ضعفهم وقلة توفرهم على العمل ويقولون أن منا كثيرين من يعملون شهرين وينقطعون عن العمل عشرة أشهر وهذا عبء كبير في مجتمعنا.
تقدر مساحة أملاك صغار الفلاحين في المجر بعشرة ملايين هكتار أي أن يكون الواحد يملك ستين هكتاراً والوسط الذي يملك ستمائة هكتار يقدر بثلاثة ملايين وكبار المزارعين بستة ملايين ومجموع ما تملكه الحكومة والمدن والمقاطعات والكنائس والأديار بعشرة ملايين هكتار.
وقد أصيبت بلاد المجر بداء الهجرة فهاجر منها منذ سنة 1900 إلى 1910 سبعمائة ألف رجل فارتفعت أجور العملة وبيعت أملاك صغار الفلاحين من أواسطهم وكبارهم ومهاجرهم مقتصد بحيث يرسل مهاجروهم إلى بلادهم كل سنة مئة وستين مليون كورون ومن يعودون إلى بلادهم أغنياء وقليل ما هم والعائدون يبتاعون الأراضي بالأثمان الفاحشة.
وللإسرائيليين المقام الأول في تجارة البلاد تعرفهم بسيماهم ولا سيما في بودابست عاصمة البلاد فان ثلث سكان هذه العاصمة من الإسرائيليين أي ثلثمائة ألف من أصل تسعمائة ألف وبيدهم التجارة والصرافة والصناعة وهم أكثر الأمة تعلماً وأقدمهم على الأعمال هذا مع أنهم ليسوا قدماء في البلاد بل أن هجرتهم إليها ترد إلى العهد الذي طردت فيه اسبانيا وفرنسا وألمانيا وبلاد القاع الإسرائيليين من بلادها فوجدوا في بلاد المجرد صدراً رحباً وخلفوا اليونان في التجارة. وحيث توطدت قدم التاجر الرومي يصعب على التاجر الإسرائيلي أن ترسخ قدمه والرومي كالإسرائيلي بشوش لين العريكة يعرف من أين تؤكل الكتف في التجارة بخلاف المجري.(89/63)
يقدر عدد الإسرائيليين في المجر بثمانمائة وأربعين ألفاً منهم ستمائة ألف تمجروا أي أصبحوا مجراً حتى في أسمائهم ومناحيهم ولا يزال عددهم ينمو فان كان أبناء إسرائيل يقبلون على التوطن في هنغاريا فليس لان التجارة والصناعة والصرافة تستميلهم إلى نزولها بل لان جميع الصناعات الحرة مفتحة الأبواب أمامهم.
هذه معلومات قليلة عن بلاد المجر التقطها في يومين اثنين صرفتها في عاصمة بلادهم ازور معاهدها البديعة وبودابست من أجمل عواصم أوربا وهي مدينتان في مدينة أي بودا وبست يفصل بينهما نهر الطونة وترتبط البلدان بأربعة جسور كبرى بديعة من أجمل ماهندس المهندسون والجسران الجديدان الأخيران هما من صنع مهندسين مجريين أما المدينة فمقسمة شوارع فخمة فسيحة وهي نظيفة لا تقل عن أحسن العواصم.
وأهل المجر يحبون الأتراك ولا يزالون يذكرونهم بالخير لأنهم يرون أن إخواننا أسدوا إليهم جميلاً غير مرة وآخر مرة في ثورة المجر الأخيرة يوم لجأ زعماء الثورة إلى الأرض العثمانية فحماهم سلطان العثمانيين وأظنه المرحوم السلطان عبد المجيد من أن تنالهم يد النمسا التي طلبت بإلحاح تسليمهم واثر أن يشهر حرباً على النمسا أو تشهرها عليه على أن يسلم من دخل حماه ولذلك ترى المجر يذكرون هذه المنة على الدهر ويشفعونها بالشكر وحسن الذكر.(89/64)
أخبار وأفكار
الأموال وتعليم الأطفال
خطب احمد شفيق باشا مدير الأوقاف الخصوصية في مصر في الاحتفال السنوي لمدرسة المرحوم خليل أغا أمين فقال: التمثيل ظاهرة تسلية ولهو وباطنه حكمة وعظة وضع لإرشاد الناس وتقويم المعوج من الأخلاق والرواية التي شهدناها تشرح بعض أمراضنا الاجتماعية ووسائل علاجها وتبين مجموعة من نقائصنا وعيوب أسرنا وتشرح السبيل إلى إصلاحها قد مزجت فيها الحكمة البالغة بالخيال الجميل ولم يزل هذا من طرق الفلاسفة في التعليم والإرشاد منذ القدم ولمثله ألف كتاب كليلة ودمنة ونحوه من الحكم الممزوجة بالخيال ولعل كتابنا ينهضون إلى عمل الروايات النافعة الموافقة لأحوالنا الشرقية المؤثرة في تهذيب العواطف وإصلاح النفوس.
رأينا في هذه الرواية محسناً عظيماً من سراة المصريين هو محمد بك أبو الذهب جاد بالألوف من الجنيهات لإقامة المعاهد ودور التعليم لأبناء بلده من بنين وبنات وظهرت لنا الثمرة الكبرى التي جناها هذا الوالد من ولده إذ علمه التعليم القويم وأنشأه النشأة الطيبة رأينا جعفراً وكيف حافظ على أدب قومه ودينه وسافر إلى أوربا وتعلم في معاهدها واختلط بأهلها فلم تستطع العادات الغربية أن تهدم بناء أخلاقه الشرقية المتينة كما هو مشاهد مع الأسف الشديد في حال كثيرين من المتعلمين في البلاد الأجنبية.
رأيناه انتخب أصلح فتاة لزواجه راعى في اختيارها العدل والحكمة غير ناظر إلى الفروق التي يراعيها من شبابنا من مصلحة الزوج ولا من فائدة البيت. ما أجمل البر وما احلي الخير خصوصاً إذا وضع في موضعه.
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع
وأفضل الخيرات ما خصص للتعليم والتربية فانه ينهض بكثير من الأمة بل بالأمة كلها فجميع الناس في حاجة إلى التعليم وأكثرهم يحتاج إلى المعونة والمساعدة في سبيله كم نرى في وقفياتنا من مال أوقف ليصرف على قبر يحلى ويزين على خوص وريحان يبتغى به الثواب وإنما الثواب في معونة متعلم أو مساعدة محتاج إلى حياة طيبة
الثواب في تنمية ذكاء في صدر ... لا تحلية أحجار على قبر(89/65)
الثواب في عمل البر والإحسان ... لا في جمع الخوص والريحان
فجدير أن توقف هذه الأموال على تعليم الفقراء لتساعد على إصلاح الحياة الدنيا وترضي المولى جلا وعلا.
واني إذا أردت أن اذكر كبار المحسنين من عظماء الرجال في عصرنا الأخير لا أجد منهم إلا القليل وكم من المصريين ممن يستطيع أن يخلد لنفسه الأثر ويكتسب عظيم الأجر إذا خص تعليم الفقراء بشيء من ماله ينفعهم ولا يضره ويزيدهم ولا ينقصه.
فإذا ذكر المحسنون فإننا نبدأ بأولهم وأولادهم بالثناء أكرم الكرماء وناشر العلم والآداب في ربوع مصر إلا وهو المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق فانه لم يكتشف بما شيده في مدة حكمه من المدارس الابتدائية والثانوية والعالية بل أراد أن يبقي له أثراً مخصوصاً فأوقف ما هو معروف بوقف الشيخ صالح ورصد إيراده الجسيم على الخيرات التي منها مدرسة كبيرة للبنين وأخرى للبنات.
ثم نذكر مشيد هذا المعهد فهو اثر حي قائم ومأثرة كبرى على الدهر باقية أسداها إلى الإنسانية رجل اسود أبت روحه البيضاء الناصعة إلا أن يكون له نصيب من خلود الذكر وحسن الأثر فرحمة الله عليك يا خليل أغا أمين.
اذكر كذلك محسناً كبيراً وهو المرحوم احمد باشا المنشاوي فله في طنطا الآثار الخالدة والهبات العظيمة للمتعلمين والفقراء والمحتاجين منها المعهد الديني والملجأ والمستشفى والمسجد الفخيم فضلاً عن مدرسة السنطة الصناعية وما ارصده من المال للجمعيات الخيرية والأعمال النافعة فهكذا يكون البر والإحسان.
هؤلاء هم كبار المحسنين فما اقلهم يا للأسف.
أما عدد المحسنات من كرائم السيدات فهو أعظم دليل ساطع على أن المشاعر والعواطف فيهن أنمى وأكبر.
فإنني اذكر وقف أم عباس باشا الأول الذي هو تحت إدارة ام المحسنين والدة الجناب العالي الخديوي فانا نعلم جميعاً الفوائد العظيمة العائدة على البلاد وأهلها من مدارس هذا الوقف.
اذكر وقف الأميرة زينب خانم أفندي الكبيرة كريمة ساكن الجنان محمد علي ياشا فإنها(89/66)
أرصدت ما يفوق عن الأربعة ألاف فدان للبر والإحسان ومنها التعليم.
اذكر وقف المرحومة شويكار خادن أفندي للمدرسة الحسينية.
اذكر وقف المحسنة الكبيرة الأميرة فاطمة خانم أفندي التي أرصدت 661 فداناً على الجامعة المصرية وربع مائة فدان على الجمعية الخيرية الإسلامية غير ما جادت به من سنة أفدنة بجوار سرايها لإقامة الجامعة عليها ومن جواهرها النفيسة لتشييدها فكذلك يكون الإحسان.
اختم بذكر الوقف الجليل الذي أتمته أخيراً السيدة المحسنة الجليلة خديجة بهجة خانم أفندي برهان فإنها أوقفت للجمعية الخيرية الإسلامية قصرها الفخم الذي تيلغ مساحته 17000 متر ومنازل للاستغلال يؤخذ منها مائتا جنيه سنوياً تقريباً ثم مبلغ ستمائة جنيه في كل سنة من إيراد أوقاف أخرى.
العميان في مصر
يؤخذ من التقرير الذي قدمه الدكتور محمد علوي باشا الرمدي الشهير إلى جمعية تحسين حال العميان في مصر أن قد بلغ عدد عميان القطر المصري زهاء مائة وخمسين ألفاً وهو عدد هائل بالنسبة إلى عدد سكان القطر. وبعبارة أوضح فنسبة العميان هناك هي 113 من كل عشرة ألاف نسمة مع إنها لا تتعدى 8 في العشرة ألاف من سكان البلاد الأخرى. قال وهي حالة دعتنا سنة 1911 إلى عقد المؤتمر الدولي الرابع لتحسين حال العميان المنكودي الحظ وتفضل حينئذ مولانا الخديوي المعظم بوضعه تحت رعايته السامية وساعدتنا على إنجاحه الحكومة السنية أدبياً ومادياً واشتركت معنا فيه الدول الأوربية والأميركية وأرسلت مندوبيها إلى القاهرة لحضوره وانضم إلينا عدد ليس بقليل من الأجانب متحملين عناء الأسفار والبعد عن ديارهم للاشتراك معنا في العمل كما اشترك معنا كثير من مواطنينا الأفاضل وكان مدار البحث مدة خمسة أيام على أسباب العمى ومناهضته في بلادنا وبعد انفضاضه بسنة رأينا وجوب تأسيس هذه الجمعية لتهذيب عميان بلادنا وتعليمهم ومساعدة المحتاجين منهم على قدر الإمكان وفي ذلك فائدتان أدبية واقتصادية. وقد كان أول اجتماع لتلك الجمعية في منتصف يوليو (حزيران) سنة 1912 تذكرون أن جمعيتنا أنشئت في عهد الحروب العثمانية الطليانية ثم البلقانية حين بذل أهالي القطر مالاً(89/67)
كثيراً يقدر بنحو نصف مليون جنيه إعانة للدولة العلية ورحمة لبائسي الإنسانية في تلك الحروب الجائرة تحت لواء الهلال الأحمر المصري.
وهو عمل شريف جليل لكنه حول الإبصار والأيدي عن مشروعنا حيناً من الدهر كذلك لم تساعدنا الأحوال من جهة أخرى بالنظر إلى شؤون القطر المالية. على أن تلك الأسباب الوقتية وان حالت في السنتين الأوليين لتأسيس جمعيتنا دون بلوغ أغراضها فهي لم تثبط عزائمنا عن السعي لدى أولي الفضل والبر لإقامة جمعيتنا على أساس ثابت قبل الشروع في عمل نافع للعميان.
ولقد كان جل اهتمامنا أثناء المدة الماضية منذ تأسيس الجمعية منحصراً في آمرين. استمالة الجمهور إلينا ودعوته للاشتراك في جمعيتنا وجمع ما أمكن جمعه من النقود قبل الشروع في عمل نافع.
وبعد أن قال أن مجموع الداخلين في الجمعية مائتا شخص وانه جمع خمسمائة جنيه قال فخمسماية جنيه وبضعة ألاف لا تكاد تكفي لتحقيق بعض الأماني فعدد عمياننا كثير جداً وان كاد لا نريد فرضاً إلا تعليم من يمكن تعليمهم وإيواؤهم إلى مدارس خصوصية فهم جيش مؤلف من ثلاثين ألفاً مختلف أعمارهم بين الخامسة والخامسة والعشرين وهم كلهم غارقون في بحار الظلمات الأدبية والمالية والعقلية. ولنأخذ مثالاً لنا في هذا العمل البلاد الراقية التي تعددت فيها مدارس العميان ومصانعهم وملاجئهم فهي تعد بالعشرات على قلة عدد العميان بالنسبة إلى بلادنا. ومع ذلك ففي تلك البلاد لا يفتأ الناس كل يوم في تحسين مطرد لحال إخوانهم العميان وإكثار عدد معاهدهم وتخفيف حسراتهم. ولا بد أنكم اطلعتم على تلغرافين أتتنا بهما من لندرا شركة روتر في 20 و27 مارس (آذار) الماضي جاء في الأول: أن الملك والملكة افتتحنا معهداً جديداً للعميان فتهتف لها ألاف من هؤلاء وأجاب الملك على خطاب تلي أمامه في الاحتفال فاستحث كل مملكة البريطانية على مساعدة المعهد الجديد. وافتتح محافظ لندن اكتتاباً طالباً فيه 130 ألف جنيه رأس مال لذلك المعهد. وجاء في التلغراف الثاني بتاريخ 27 مارس انه سيطلب غداً مساء التلغراف اللاسلكي من جميع البواخر الكبرى الماخرة بحار العالم مساعدة معهد العميان الجديد. وهاتان البرقيتان على اختصارهما تدلان على اهتمام انكلترا بهذا المعهد الجديد وفي بلادنا أكثر من 30(89/68)
مدرسة و50 مصنعاً و20 ملجأ و60 جمعية لمساعدة العميان وما ذكرت انكلترا هنا إلا اعترافاً بفضلها في سبيل تحسين العميان وأملاً بان يصل صدى ندائنا لذلك الجواد الكبير السرارنست كاسل العضو الشرفي في جمعيتنا هذه وصاحب الأيادي البيضاء على هذا القطر فانه كان أول من أجاب نداءنا سنة 1902 في المؤتمر الطبي المصري الأول عند ما طلبنا في تقرير واف مناهضة الرمد في ديارنا العزيزة فتبرع إذ ذاك بأربعين ألف جنيه لذلك الغرض وهي منة يجب ترديد ذكرها على مدى السنين.
الآلة الكاتبة
لئن كانت الآلة الكاتبة كالاختزال أو السرعة في الاستملاء لم تنتشر في بلاد العرب كما فان استعمال تلك الآلة قد اخترع منذ سنة 1714 وعيدوا مؤخراً عيد مرور المئتي سنة على اختراعها وكان المخترع الذي نال براءة بذلك رجل انكليزي ثم تعاقب المخترعون من جميع الأمم في ادوار مختلفة حتى إذا كانت سنة 1875 انبعث هذا الاختراع ثانية في مدينة نيويورك وأصبح استعمال الآلة الكاتبة بعد ذلك من الواجبات في البيوت التجارية والدواوين والمصارف والإدارات العامة والخاصة حتى أن معظم الصحف والمجلات والمطابع في الغرب اليوم لا تقبل كتابة أن لم تكن مطبوعة على الآلة الكاتبة.
السينماتوغراف والتعليم الزراعي
سيعرض المجلس الزراعي في ولاية دوسلدروف الألمانية حيث يقام معرض في سنة 1915 نوعاً من التعليم يلفت الأنظار وهو تطبيق السينماتوغراف على دروس الزراعة وستمر أمام عيون الجمهور سلسلة من الصور تمثل الارتقاء الذي تم في زراعة الأرض خلال القرون الأخيرة وما تعاورته الأيدي من الأعمال الزراعية التي كملت على التدريج باستعمال البخار والكهرباء والقوة الميكانيكية على اختلاف أشكالها.
ويمثلون أيضاً بهذه الطريقة صورة من الصور الحديثة عن المعلومات الصحيحة في الحرث والزرع والحصاد والدرس على ما هي شائعة في البلدان المختلفة بدون أن ينسى ما كان يدعى سابقاً تدبير الحقول فيتمكن الناظر على هذا الوجه من تصور ماله علاقة باستثمار الأرض وبنفع في الاستفادة من التربة ومن الأدوات الزراعية وفي وضعها واستعمالها على اختلاف ادوار المدنية وفي صور متحولة بحسب الأجيال. وهذه أول مرة(89/69)
جرى فيها استعمال السينماتوغراف للانتفاع في العلم والزراعة وبه تفتح طريق تتبعها المدارس العلمية لا في تلك الأرجاء من البلاد الألمانية فقط بل في ألمانيا وفي خارجها لان القائمين بهذا العمل لا يضنون على الناس بيع صور منهم.
تجديد البطاطا
ثبت أن البطاطا في أوربا قد أخذت تصاب بأمراض كثيرة جاءتها مع الزمن منذ انتشرت في تلك القارة قبل أربعمائة سنة وقد اخذ العلماء يجربون تجارب كثيرة في هذا الصدد ومنها الاعتماد على البزر وفي زرع البطاطا لا على تقسيم الرأس الواحد إلى عدة أجزاء وزرعها وذلك بواسطة سماد خاص اتوابه من أمريكا مهد هذه الشجرة المباركة ويأمل المخترعون لهذه الطريقة أن يحسن جنس البطاطا تحسيناً كبيراً بواسطة الانتخاب الطبيعي والتزاوج ويكون النفع من الجهتين الغذائية والمادية.
الجرذان
الجرذان يخرب الولايات المتحدة الأمريكية ولا يرحمها فقد حسبوا أن فيها 300 مليون جرذ تخرب من الحنطة ما قيمته 100 مليون دولار في السنة وهي تفسد المواني البحرية يقشرها الطاعون الدملي وما برحت تلك البلاد تكافح هذا الحيوان إلا إنها لم تفلح في إبادته وقد الفت اللجان لهذا الغرض وعلى كثرة ما لجأت إليه من الذرائع لم تقض على الجرذ ويضاف إلى الخطر الناشئ منه في البادية وباء الحيوانات الناشئ من القمل الذي ينتقل في أجسامها ويعشعش في جلودها.
اختراعات أديسون الجديدة
عرض أديسون المخترع الأميركاني الكبير على مؤتمر الكهربائيين الأخير في فيلادلفيا الأساليب الجديدة التي يهمه اختراعها اليوم فقد ارتأى بأن الطيران يحتاج لآلة طيارة تستطيع أجنحتها أن تضرب الهواء مائتي ضربة في الدقيقة ولبلوغ هذه الغاية يجب الاقتراب ما أمكن من طيران النحل لا أن يحتذى مثال الفراش في طيرانه وهو يعمل بجد لاستخراج الكهربائية مباشرة من المفحم ويرجو أن ينجح في ذلك قريباً ويصرف جزءاً من وقته في تحسين إلى السينماتوغراف المتكلم الذي سيكون رخيصاً جداً يسهل على كل الناس انتناؤة.(89/70)
مدينة ليبسيك
تسعد المدن وتشقى بسكانها ومدينة ليبسيك في ألمانيا إحدى عواصم العلم في الغرب قد بلغت منزلة تحسدها عليها كل مدينة فقد كتبت إحدى العقائل في وصف هذه المدينة إنها وان ضحك منها لوثيروس المصلح في القديم ويتي الشاعر بتشبيهه لها بمدينة باريز قد اتسع نطاقها فا كليتها وأسواقها جعلت منها مدينة ذات مسحة خاصة مقسومة قسمتين القسم العقلي العلمي والقسم التجاري الاقصادي فقد أنشئت جامعتها سنة 1409 وكان تلاميذها بادئ بدء ينظرون إلى هندام ثيابهم أكثر ما ينظرون إلى العلم ومع هذا نشأ منها أمثال الفيلسوف ليبتز والعالم توماسيوس وقام فيها في القرن الثامن عشر كتاب وأدباء أصلحوا طرق التمثيل وحسنوا ملكة النقد وأخذت المدينة تستميل إلى نزولها أعاظم الكتاب الذين تشهد الصفائح التذكارية الموضوعة على الدور التي سكنها أمثال لسنغ وكيتي وسيلر من العلماء والأدباء بما كان لهم من المكانة وقد خربت ليسيك بحروب نابليون ونحو سنة 1835 عادت مطابعها فأخذت تطبع المطبوعات المدهشة في الموسيقى والآداب والتاريخ ونشأ لها كثير من كبار رجال الموسيقى منهم فاكنير ومن أهم أرباب المطابع بها كارل بذكر الذي نشر دليله المشهور منذ سنة 1828 وزادت هذه الأدلة التي أصبح لها واحد عن كل مملكة أو مملكتين ومنها واحد عن سورية وفلسطين يجدد طبعه كل ثلاث أو أربع سنين وواحد من مصر والسودان بل كل مملكة يلاحظ أن يرحل إليها الغربيون قد جعل لها دليل غريب في تدقيقه ومنها ما يطبع بالألمانية فقط وأكثرها تطبع بالألمانية والانكليزية والافرنسية وقد توالت على هذا الأدلة كل سنة مليون نسخة. وقد عددت الكاتبة أسماء بعض الرجال العظام الذين أنشؤوا من تلك المدينة ونحن نقول أن مدينة ليبسيك قد قام فيها كثار من أعاظم المستشرقين أيضاً فطبعوا كثيراً من كتب العرب أحسن طبع وهي اليوم أعظم مدينة تقام فيها سوق للكتب وفيها مئات من المطابع وقد أقيم فيها معرض للكتب في العام الماضي دل على تفوق الألمان في صناعة الطباعة والرسم والنقش والتجليد وان ليبسيك لم توفق إلى أن تطبع كل سنة وربع ما يطبع من الكتب في العالم إلا عن استحقاق فقد قالوا أن نصف ما يطبع من الكتب يطبع في ألمانيا والنصف الثاني يوزع على أقطار العالم ونصف ما يطبع في ألمانيا من الكتب يطبع في ألمانيا ينشر في مدينة ليبسيك فانعم(89/71)
بمدينة هذا حالها جمعت العلم والعمل وفي ليبسيك ونفوسها لا تتجاوز 450 ألفاً بورصة الكتب وهو وحيد في نوعه ليس له نظير في العالم.
وضع احد الأميركان جائزة بعشرة ألاف دولار لمن يجيد في موضوع القصص الفاجعات فنالت الجائزة العقلية اليس براون محرزة قصب السبق من بين نحو ألف رجل دخلوا في هذه المسابقة فعجب الناس لذلك في الغرب وعدوه من أقصى تفوق المرأة.
البولونيون
ثبت أن عدد البولونيين المنبثين في أقطار الأرض يتجاوزون 25 مليوناً نصفهم في بولونيا الروسية وأربعة ملايين ونصف في بولونيا النمساوية وأربعة في بروسيا وأربعة ملايين في سائر أقطار العالم فهو بكثرة عددهم في الدرجة السادسة من الأمم بين ايطاليا واسبانيا وهم أكثر شعوب الأرض أولاداً وسيصبح عددهم بعد خمسين سنة 35 مليوناً وعدد الروس 120 والألمان 100 والانكليز 55 والفرنسيس 35 مليوناً. وقد قسمت أراضي بولونيا ثلاث قسمات منها 127 ألف كيلو متر مربع ضم إلى ارض روسيا و100 ألف كيلو متر إلى النمسا و60 ألفاً إلى بروسيا أي مساحة بولونيا القديمة ثلثمائة ألف كيلومتر مربع أو بقدر مساحة النمسا بدون المجر أو نصف ألمانيا أو نصف مساحة فرنسا أو نحو مساحة بر الشام. وقد ذكر احدهم في مجلة الأمم أن بولونيا الحية العظمى المجروحة في كبدها المظلومة في حقوقها تتوقع تحريرها من حالتها وجعلها مملكة برأسها مستقلة أو تابعة لمملكة أخرى تبعية المجر للنمسا وتدور جميع سياستها حول هذه المسألة وهو هل تكتفي باستقلال إداري مهما كان نوعه أو تقاتل للحصول على استقلال سياسي تام كامل وهذه المسألة ما زالت توضع على بساط البحث في بوسنانيا وغاليسيا ومملكة بولونيا ففي بوسنانيا يطالب البولونيون إلى حب النمسا وفي بروسيا بالنظر للتيار الديمقراطي الألماني أصبحت أصول إدارة القسم البولوني محتملة مقبولة على العكس في روسيا فان الضغط فيها على البولونيين على اشده والحجة في ذلك أن البولونيين هناك إذا نفس خناقهم يعودون إلى شق عصا الطاعة في حين أن فنلندا التي لم تفارق الجماعة يوماً لا تعاملها روسيا معاملة أحسن بولونيا وبهذا عرفت أن جزءاً من الأمة البولونية يفكر في نيل استقلاله أو على الأقل يود الانضمام إلى النمسا. كل هذا مما يدعو البولونيين إلى إهراق دمائهم في(89/72)
سبيل الحصول على حياة سياسية فقدتها وما فتئت تدل إنها لها أهل فقد قيل: إذا سلست حكومة الغريب فان البولونيين يثورون لأنهم يستطيعون ذلك وإذا اشتدت حكومتهم يثورون أيضاً لأنه يجب عليهم ذلك. ولكن انقسام الأحزاب السياسية في بولونيا يحول دون تحقيق هذه الأماني من جعل مملكة بولونيا مستقلة ولذا ترى هذا الشعب يميل إلى وضع يده بيد النمسا لان منازعها الوطنية ليس فيها عنف ولا إكراه والأمل في تحقيق هذا الرجال معقوداً على أبناء الأجيال المقبلة من بنين وبنات ممن يرحلون في طلب العلم والتربية إلى كليات فرنسا وسويسرا وانكلترا والبلجيك يتعلمون التعليم الحر ولا ينسون مصير وطنهم.
موت المستحمين
تدعو حرارة الصيف بعض الناس إلى الاستحمام في الأنهار فليس من العبث تنبيههم على الأخطار التي يتعرضون لها وقد يهلك بعضهم فجأة في شهري تموز وأب عقيب اغتسالهم في الماء الجاري وينسب موتهم في العادة إلى صرع يصيبهم من كثرة التعب وشدة التحول من الحرارة إلى البرودة أو إلى الدخول في الماء على امتلاء قبل أن يتم الهضم. وهذه الأسباب بعيدة عن الحق قليلاً إذ تبين من تشريح الغرقى انه قل وقوع الاضطراب في القلب ولا سيما في سن الشباب ممن تكون أجسامهم قوية ويحسنون العوم. وقد قال احد أطباء الألمان أن السبب في هلاك بعض المستحمين هو اضطراب يحدث في دهليز الأذن الداخلي بسبب دوران الرأس والرمش التشنجي. وهذه الظواهر تبدو في بعض الأشخاص الذين أصيبوا بآفة في غشاء طبلة الأذن عندما يدخل الماء البارد في أذانهم والموت الفجائي الذي يحدث في الماء ينشأ من تلف دهليز الأذن وكثير من الشبان قد أصيبوا بآفة فيها منذ صغرهم بدون أن يعرفوا ذلك ولذا فإن الغطسة الفجائية قد يحدث منها اضطراب في حاسة السمع والماء البارد قد ينشأ منه بانهيال فجائي على تجويف الأذن تأثير سيء في المعدة والدماغ ولذلك كان من الضرر على الصحة امتلاء معدة المستحم وهو ينغمس في الماء وقد نصح الطبيب الألماني لمن كانت فيهم آفة في غشاء طبلة آذانهم أن يسدوها بسداد من القطن المندوف.
الغدد
أن الغدد أو الأورام التي تحدث في الأعناق تنشأ من تضخم الجسم الدرقي وتكون تارة(89/73)
متفرقة أو خلقة وطوراً موضعية أو ناشئة عن أسباب محلية. والغدد أو السلعات تكثر في الغالب في البلاد الجبلية وقد يصاب المصاب بصمم وخرس ووجع قلب واضطراب في الذهن يكون منها البله أو نقص في البنية والفهم. وكانوا في القديم يعزون هذا المرض إلى ماء الشرب ثم اخترعوا له أسباباً أخرى أكثرها تصوري وقد ذكر احد علماء الفرنسيس مؤخراً هذه الغدد شجر الجوز وان إحدى القرى لما قلعت أشجارها لم يبق اثر للغدد في أهلها إلا قليلاً مصابين بها وأكد احد أطباء سويسرا وسويسرا بلد الغدد أن هذا المرض صلة مع التركيب الجيولوجي للبلد فان الأراضي من العصر الأولي المركبة تركيباً بحرياً أكثر استعداداً للغدد من الأراضي التي هي من الدور الثانوي وتكون طباشيرية أو من الطبقة الأرضية المعروفة بالترياس. وان الماء الذي يجري من الأراضي المركبة تركيبا ً بحرياً تحتوي مواد تحدث منها الغدد.
وقال طبيب سويسري آخر أن هذه الغدد يصاب بها الواحد ونجا الآخر وجربت تجارب كثيرة في سويسرا وفرنسا وانكلترا ونرويج في هذا المرض وقد أصيبت قرية برمتها بالغدد في سويسرا فحاولت الحكومة بكل ما لديها من وسائل التطهير ونزع العادات المضرة التي ربما كان منها فتو هذا المرض فلم تفلح وبقي أهلها ذوي غدد وقد الفت لجنة تبحث في المياه التي ستقون منها فتبين إنها خالية من كل شائبة وان الغدد في السكان لم تنشأ من تركيب الأرض ولا من الينابيع مما لا يحول دون اشتداد المرض ونسبت اللجنة ذلك إلى الأسباب الصحية التي جرت عليها أهل تلك المقاطعة وثبت أن الغدد خلقية لا موضعية وأكد احد الأطباء انه رأى رجلاً مصاباً بالغدد وله ولدان أبلهان ناقصا البنية كانا يلعبان مع كلبين في الدار يجعلانهما في فراشيهما فأصيب الكلبان بالغدد والكلب الثالث كان أقوى بنية من أخويه أصيب أيضاً بهذا المرض مما دل أنه يعدي وهو وبائي. وفي بلاد البرازيل مرض يشبه الغدد يصيب صغار الأولاد خاصة.
التلفون والسينماتوغراف
جربوا مؤخراً نقل الأصوات بالتلفون بواسطة السينماتوغراف فنقلوا في ساعة عشرين صورة إلى مسافة طويلة بدت كأنها تمثل أمام ناظرك وبذلك تنقل الحوادث التي تحدث في باريز بعد زمن قصير جداً إلى برلين بواسطة التلفون.(89/74)
النقرس والمفاصل
أسس في كلية كمبردج من بلاد الانكليز مستشفى خاص بالعناية بالمصابين بأمراض النقرس وداء المفاصل وذلك برئاسة أخصائي كبير بطب هذا المرض وهو يبحث بحثاً علمياً وتجريبياً في أسباب شفاء هذا المرض الذي لم تبرح أسبابه مجهولة وفي هذا المستشفى معمل للتصوير وآخر لاستعمال أشعة اكس وفيه مجموعة نادرة من العظام يتصور المرء الصور الشتى التي تشوه الصورة الإنسانية والأصل فيها داء المفاصل وفي متحف المستشفى هياكل عظام عثر عليها مدفونة في مصر وفي مقابر يونلن ورومية القديمة يستدل منها أن داء المفاصل كان موجوداً على اختلاف ضروبه منذ الأعصر المتطاولة ويجري مدير المستشفى الآن تجارب كثيرة في الحيوانات لاكتشاف باشلس داء المفاصل والنقرس وتركيب مصل يشفي من ألام هذا المرض العقام.
الذباب
يدخل الذباب في معدته جراثيم باثولوجية وتحتفظ بها في حواسبها على اشد ما تكون من القوة السمية مدة الشتاء وقد شرح احد الأطباء مئات من الذباب فوجد في معدها جراثيم كثيرة من الكوليرا والحمى التيفوئيدية وبذلك ستصبح عزائم بعض حكومات الغرب على إبادة الذباب حتى لا يدخر الجراثيم في معدته وينقلها من الشتاء إلى الصيف.(89/75)
مخطوطات ومطبوعات
التحفة السنية
بأسماء البلاد المصرية
جمع الشيخ شرف الدين يحيى بن المفر بن الجيعان طبع بالمطبعة الأهلية بمصر سنة 1898 هذا الكتاب هو في ذكر ما بإقليم مصر من البلدان وعبرة كل بلد وكم مساحته بالأفدنة نشره المسيو موريس مدير دار الكتب الخديوية السابق على نفقة هذا الدار العامرة وقد قال في مقدمته أن مؤرخي العرب لم يذكروا تقويماً في أملاك مصر وهو المعروف بالروك أيضاً على عهد استيلاء دولة المماليك سوى مرتين نظم احدهما بأمر حسام الدين لاجين سنة 697 هـ 1298م والثاني بعد سنين قليلة أي في سنة 715هـ - 1315م أمر بعمله الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو صاحب الآثار الكثيرة في العمران في مصر والشام وهذان الروكان لم يعرف عنهما شيء ولعل هذا الروك لابن دقماق الذي عمله سنة 777هـ - على عهد السلطان الأشرف شعبان هو عيرذينيك الروكين إذا لم يجر في كتابه ذكر للروكين السافلين. قال المؤلف أن جملة عدة الأقاليم بالديار المصرية على ما استقر عليه الحال إلى آخر شوال سنة سبع وسبعين وسبعمائة وذلك في أيام الاشرف شعبان بن حسين وجملة ذلك تسعة ألاف ألف وخمسمائة ألف وأربعة وثمانون ألفاً ومائتان وأربعة وستون ديناراً جيشية وعدتها خارجاً عن بلاد الديوان بالجيزية ألفان ومائة وثلاث وستون ناحية واصل ما وضعت عبرة البلاد فيما مضى من الزمان ليعرف من عبرة كل بلد قدر متحصلها وبيان ذلك أن الدينار الجيشي كانت قيمته ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم. . وقد وقع الكتاب في 196 صفحة فهرست الإعلام الواردة فيه في 71 وهي من عمل السيد محمد الببلاوي.
تاريخ الفيوم وبلاده
لأبي عثمان النابلسي الصفدي طبع بالمطبعة الأهلية
سنة 1899 ونشره المسيو موريس ص204
مؤلف هذا الكتاب هو من عمال الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر أخي الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من أهل القرن السابع للهجرة(89/76)
وهو سوري وكل إليه إصلاح بلاد الفيوم المصرية فكتب كتابه هذا في وصفها ومزاجها وهوائها ومائها وخلجانها وسكانها وبدوها وحضرها وبحرها وأسماء بلادها وجوامعها ومساجدها وأديارها وكنائسها وغلتها وثروتها وارتفاعها بلداً بلداً وجعل ذلك لسنة 641 وهي السنة التي أمر بالنظر في الفيوم وعقيبها ألف هذا الكتاب والغالب أن المؤلف أصيب بمرض الأب وأخذه الحنين إلى نابلسه وصفده ولعلهما كانتا أمر من الفيوم إذ ذاك فقال في آخر كتابه: اللهم خلد ملك مولانا السلطان وانصره وارزقني عاطفة من عواطفه أعود بها إلى وطني واسكن إلى سكني ألاقي بها سرور النفس وأفاق من قارنته من غير الجنس.
قال المؤلف في مزاج الفيوم وهو قول شف عن كبرياء فيه له ما يماثله من كبرياء العمال في هذا العصر بل وفي كل عصر وما هو إلا دليل ترفعهم عمن كان يجب عليهم الاختلاط بهم من السكان وإصلاح ما اختل من أحوالهم أن كان بأيديهم الرفع والخفض والإبرام والنقض: ولقد رأيت سكان مدينة الفيوم نفسها كأنهم وحش في صورة بني ادم ليس فيهم ولا بهم انس يستوحش الجالس في جمعهم ولا يستأنس الوافد في ربعهم حتى إنني وجدت الوحشة بدخولي إليها والانفراد بمقامي فيها حتى كتبت لبعض الناس من أبيات:
اشتقت فيها الناس حتى لقد ... ناديت وأشواقي إلى الناس
وأنشدني بعض الناس لشاعر دخل إلى الفيوم بيتين وهما:
يا حبذا بلد الفيوم من بلد ... كجنة الخلد انهاراً وأشجاراً
الله يعلم أني مذ حللت بها ... وجدت داراً ولكن لم أجد نارا
فأجبته في الحال بديهاً
إن قال من سكن الفيوم آونة ... وجدت داراً ولكن لكم أجد جارا
فإنني لم أجد مذ جئتها أحداً ... من الذي قال لا داراً ولا جارا.
ولا يتحركون بحركة إلا بمحرك مثل البهائم يقيم الواحد المشهور منهم المدة الطويلة في بيته ولا يخرج من داره ولا يعرف ما الناس فيه ورأيت من أقام بها من الغرباء فطالت مدتهم يلحقه من حيث لا يشعر والانفراد يوجب الوحشة ويكدر الروح الحيواني ويقتضي تردد العفن في المواضع التي هم بها والرطوبة عليها غالبة فيتراجع العفن إليهم يستنشقونه مع الهواء الذي يجد الحرارة الغريزية والروح الحيواني فيكدره وتقوى السوداء عليهم(89/77)
وتتكاثف الأبخرة المتحللة منهم وتبطي وتقل وتتراد في أبدانهم لعدم الحركة لا يعرف احد منهم بمكرمة ولا شجاعة ولا كرم ولا أريحية ولا ترنح ولا منهم ذو صورة جميلة ولا من له صوت حسن البتة ولا علم من العلوم ولا بعمل من الأعمال الدقيقة ولا من الصنائع الحسنة والأفعال المستحسنة قد غلب عليهم الكمد ولعمري لقد أقمت بالفيوم إلى حين تأليف هذا الكتاب مدة تزيد على شهرين في موضع عالي البناء رحب الفناء مكشوف من جهاته الأربع للهواء فما سمعت فيها بعرس ولا اجتماع طائفة لأنس ولا مر في طريقها احد فترنم أو غلبه ترنح فغنى أو على مذهب الفقراء زمزم بزهم في غاية الغلظ والخشونة قليل البقاء عند استعماله موصوف الغزل بضعفه وانحلاله بخلاف ما حولهم من البلاد وأغناهم لحومها قحلة رخوة كثيرة العروق عديمة الدهن قد غلب عليها العجف مع كثرة العلف لا يوجد فيها سمين البتة كأنه في المذاق تبن وكأنه في الفم وقت المضغ خرقة يلوكها الإنسان أو قطعة لبن وضعت فوق اللسان وطعامهم لعدم الآلية بشحم الكلى لا يدهن السلى وألبانهم لا تنعقد ذلك الانعقاد المعروف وخبزهم رخو إلى الغاية لكن إذا بقي يوماً وليلة يبس وصار كالبقسماط لا لذة في طعمه.
والكتاب ملحق بفهرس من عمل السيد الببلاوي أيضاً كسائر الكتب التي أحيتها بالطبع دار الكتب الخديوية العامرة.
قاموس القضاء العثماني
الجزء الخامس لمؤلفه سليمان أفندي مصوبع
طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1332 - 1914
ظهر الجزء الخامس من هذا القاموس اللطيف وهو كالأجزاء السالفة بتبويبه وتنسيقه وحسن تأليفه يفيد كل طالب في علم الحقوق وراغب من العثمانيين في دراسة القانون فلمؤلفه الشكر على نشاطه وقد بلغ ما صدر من صفحات هذا الكتاب إلى آخر هذا الجزء 600 صفحة ولا يزال في حرف الدال.
نهاية الأرب
في معرفة انساب العرب(89/78)
لأبي العباس الشيخ شهاب الدين احمد بن عبد الله بن احمد بن عبد الله بن سليمان بن إسماعيل القلقشندي الشهير بابن غدة طبع بمطبعة الرياض ببغداد.
على نفقة سليمان أفندي الدخيل
سنة 1332 ص372
مؤلف هذا الكتاب هو صاحب صبح الأعشى الذي تكلمنا عليه في الجزء الثالث من هذه السنة وكتابه هذا في معرفة قبائل العرب والعلم بأنسابها رتبه على حروف المعجم وذكر في مقدمته ما يحتاج إليه في علم الأنساب ومعرفة القبائل وفيه خمسة فصول الأول في الأنساب وفائدته الثاني في بيان من يقع عليه اسم العرب وذكر أنواعهم الثالث في معرفة طبقات الأنساب الرابع في مساكن العرب القديمة التي منها درجوا إلى سائر الأقطار الخامس في أمور يحتاج إليها الناظر في علم الأنساب. ثم الحق ذلك بمقصد تكلم فيه على انساب قبائل العرب وفي جملة لك ذكر عمود النسب النبوي وما يتفرع عنه من الأنساب وذكر تفاصيل القبائل مرتبة مقفاه على حروف المعجم وما يتهيأ ذكره من مساكنهم وفي الخاتمة ذكر أموراً تتعلق بأحوال العرب فتكلم على ديانات العرب قبل الإسلام وعلى أمور من المفاخرات الواقعة بين قبائلهم وما ينجر إلى ذلك وعلى الحروب الواقعة بين العرب في الجاهلية ومبادئ الإسلام وعلى نيران العرب في الجاهلية وأسواق العرب المعروفة فيما قبل الإسلام وأمور يحتاج إليها في علم الأنساب ومعرفة القبائل وقد خدم المؤلف بكتابه خزانة أبي المحاسن يوسف الأموي القرشي عزيز المملكة المصرية وسفيرها ومدير الممالك الإسلامية ومشيرها وهو المعروف بالمقر الجمالي ومدحه في المقدمة في صفحتين وعاد في ص28 فمدحه أيضاً في صفحتين نظماً ونثراً وبالغ فيه مبالغة الثعالبي بأبي الفتح الميكالي الذي قدم له كتاب فقه اللغة.
جمع هذا الكتاب فأوعى من أسماء قبائل العرب ومساكنهم ونقل من ثقات المؤرخين كابن فضل الله وأبي الفدا وابن جرير وابن خلدون والحمداني. والحمداني هذا كما قال فيه القلقشندي صفحة 177 كان مهمندراً ومن شأنه معرفة العرب الواصلين إلى الأبواب السلطانية وليس هو الهمداني صاحب صفة جزيرة العرب (المطبوع في ليدن سنة 1884) فإن هذا من خير من عني بالبحث في قبائل العرب ومنازلهم ولكن يصعب الكشف عنهم(89/79)
في كتابه ويسهل في كتاب القلقشندي لان هذا مرتب على حروف المعجم وذاك يتعرض للقبائل بالعرض أو بالمناسبة والقلقشندي أكثر توسعاً لأنه قرأ كتب المتقدمين وكتب المتأخرين فانتفى ما وقع عليه اختياره. ولو سلمت هذه الطبعة من التحريف والتصحيف وشفعت بفهرس عام لمطالب الكتاب كله لجاء هذا السفر مستوفياً شروطاً الجمال من حيث الوضع والطبع لجلالة موضوعه وفيه من أحبار القبائل في مصر والشام والعراق خصوصاً ما يفيد في تصور أنسابهم وان هؤلاء الإخلاف من أهل البادية هم أبناء أولئك الأسلاف وكثير من القبائل حافظت على أسمائها منذ قرون فنشكر للطابع ونرجو أن يوفق إلى أحياء أمثاله من كتب العرب النافعة.
تسريح الأبصار
في ما يحتوي لبنان من الآثار
للأب هنري لامنس اليسوعي الجزء الأول ص159
الجزء الثاني ص264 طبع في بيروت
بالمطبعة الكاثوليكية سنة 1914
مؤلف هذا الكتاب من علماء المشرقيات أقام في هذه الديار زمناً وخدم تاريخها وآدابها في دائرة معينة ومن أحسن ما خطته أنامله هذا البحث الجليل في آثار لبنان استند فيه إلى اصح ما كتب في هذا الشأن بعدة لغات وطبق العلم على العمل في المسائل الجغرافية والتاريخية والعادية وكل صفحة من صفحاته تنم عن مادة واسعة وتحقيق دقيق.
وقد حلي هذا السفر النافع بعدة رسوم وصور للعاديات فجاء على جبين الدهر من الكتب الخالدة التي لا يستغني عنها كل من يحب الوقوف على حالة هذا الجبل الطبيعية. وقد نفذت طبعته الأولى وكان نشر أولاً في عدة سنين من أجزاء مجلة المشرق. ثم أعيد طبعه ثانية هذه المرة مع تنقيح قليل وزيادة فهارس للمواد تسهل الانتفاع به فنحث على اقتنائه لأنه من الكتب الممتعة على صقع مهم من أصقاعنا بروية وفضل بحث.
تاريخ حوادث الشام ولبنان
من سنة 1197 إلى سنة 1257 هجرية(89/80)
(1782 - 1841 مسيحية)
عني بنشره الأب لويس معلوف اليسوعي في المطبعة الكاثوليكية في
بيروت
سنة 1912 ص124
ناشر هذا الأثر التاريخي الأب معلوف صاحب معجم المنجد وغيره هو من العاملين بين الأدباء اليسوعيين وقد أجاد في نشر هذا السفر الذي يجلو الغامض كثيراً في بعض المسائل التي حدثت في عصر كان فيه التاريخ صفحتين سوداء وحمراء سوداء بالجهل وحمراء بالفتن وإهراق الدماء. والمؤلف على ما يظهر ميخائيل الدمشقي كان من موظفي الحكومة والغالب أن هذا الاسم مستعار خاف صاحبه على نفسه فأخفى حقيقته وكتب ما كتب بلسان اقرب إلى العامية الدمشقية في عصره ولم يصحح الناشر من نصها إلا القليل النادر وابقي جمل الكاتب بحالها وعلق بعض الألفاظ العامية شرحاً خفيفاً وقد نقل هذا الكتاب من نسخة في مكتبة المتحف البريطاني في لندن فجمع إلى الفائدة لذة وفكاهة وهو يتناول كثيراً من الوقائع المهمة كبعض وقائع ابن سعود والوهابيين ووقعة سليم باشا في دمشق والسبب فيها ووقائع احمد باشا الجزار صاحب عكا والأمير بشير الكبير صاحب لبنان وحملة نابليون على عكا ودخول المصريين إلى الشام وغير ذلك مما تلذ تلاوته لصدوره من شاهد عيان فنثني على الأب معلوف لإتحافه التاريخ العربي بهذه الذخيرة الفريدة.
البلغة
في شذور اللغة
لائمة كتبة العرب نشرها الدكتور أوغست هفنر والأب لويس شيخو
طبعة ثانية بالمطبعة الكاثوليكية سنة 1914 ص175
هذا مجموع حوى رسائل لغوية من أنفس ما كتبه علماء العربية كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيد والنضر بن شميل وفيه كتاب الدارات وكتاب النبات والشجر وكتاب النخل والكروم وهي للأصمعي نشرها الدكتور هفنر وكتاب المطر لأبي زيد والرحل والمنزل لابن قتيبة (لأبي عبيد) واللباء واللبن لأبي زيد وملحق بكتاب اللباء واللبن لابن قتيبة ورسالة في(89/81)
المؤنثات السماعية ورسالة في الحروف العربية للنصر بن شميل وشرح مثلثات قطرب بالرجز وقد علق لناشران عليها حواشي لتسهيل الغامض أو إثبات صحة النص وجعلا لكل رسالة فهارس لغوية مرتبة على حروف المعجم وقدما على كل رسالة نبذة وجيزة لتعريف صاحبها ومضمونها والنسخ التي استند إليها وشكلاها بالشكل الكامل بطبع مشرق تلذ مطالعته. ومعظم هذه الرسائل مما تشتد حاجة المؤلف والكاتب إلى مدارسته مثل رسالة المؤنثات السماعية ويظن إنها لنور الدين بن نعمة الله الحسيني الجزائري وهي صغيرة وقعت في خمس صفحات. وأكثر موضوعات هذه المجموعة ليست مضمونة في شيء مما لدينا من كتب اللغة المضمونة كالمخصص واللسان والتاج والأساس والمصباح والصحاح وفقه اللغة بل هي في موضوع خاص مثل كتاب الأضداد والمقصور والممدود وأدب الكاتب والصاحبي وفقه اللغة وفصيح ثعلب والألفاظ الكتابية وغيرها. فأكرم بهمة ترينا كل يوم أثراً من آثارها وتحيي لنا أثراً نافعاً من آثار أجدادنا.(89/82)
جرجي بك زيدان
فجعت الآداب العربية في العشر الأخير من تموز 1914 برصيفنا جرجي بك زيدان صاحب مجلة الهلال ومؤلف تاريخ التمدن الإسلامي وصاحب التصانيف والروايات الكثيرة مثل تاريخ الآداب العربية وتاريخ مصر الحديث ومشاهير الشرق والفلسفة اللغوية وتاريخ الماسونية العام وغيرها. توفاه الله في القاهرة فجأة فعز نعيه على الأذان أكبرت النفوس الخطب فيه الجليل خدمته للعرب وتاريخهم ولغتهم وحضارتهم.
ولد الفقيد في بيروت يوم 14 كانون الأول من شهور سنة 1861 وتلقى مبادئ العلوم في مدارسها الابتدائية ثم دعته حالة والده المالية إلى الانتقال معه وكان صغيراً ولما بلغ الثانية عشرة وانشأ خلال ذلك يكب على المطالعة ويتعلم الانكليزية وبعض العلوم ودرس الصيدلة ونال شهادتها ثم هبط مصر ليتلقى الطب في القصر العيني فاستطال مدة الدراسة ثم تولى تحرير جريدة الزمان حولاً كاملاً وفي سنة 1884 سار مع الحملة إلى السودان لإنقاذ غوردون باشا بصفة مترجم بقلم المخابرات وعاد بعد عشرة أشهر إلى بيروت وفي صيف سنة 1886 زار لندرا وعاد في الشتاء إلى مصر فتولى إدارة مجلة المقتطف والمؤازرة فيها حتى سنة 1888 وفي سنة 1892 اصدر مجلة الهلال وقد اتم بوفاته سنتها الثانية والعشرين وزار في السنة الفائتة بعض بلاد الغرب وكتب عنها ومعظم تأليفه صدرت في العهد الأخير مع اطراد صدور مجلته التي راجت رواجاً لم يعهد لمجلة عربية ومع هذا لم تكن تقوم بنفقته كلها كما كان أكد لنا لولا الروايات التي كان يشفعها بها ثم يخرجها على حدة ومنها ما طبع مرات ومنها ما ترجم إلى بعض اللغات.
راجت كتب الفقيد العالم ومجلته لأنه كان له أسلوب خاص قلما يشاركه فيه مشارك من السلاسة وحسن التنسيق فكان يكتب ليفكه القارئ أولاً ثم يعمله وفي الغالب انه كان يتوخى النوع الأول فجاءت بعض كتبه التاريخية والعلمية كثيرة الاستنباط عليها في بعض الأحيان مسحة من أسلوب القصص والتوسع في الاستنتاج ولكنها مفيدة في تثقيف عقول جمهور كبير من القراء ممن نشرت بينهم المعارف التاريخية ولا سيما تاريخ الإسلام في الجملة وهذه الطبقة من الناس لو لم تأتها الفوائد بالعرض من أيسر السبل لم تجب إليها المطالعة.
ولذلك فإن لصاحب الهلال فضلاً كبيراً على الآداب العربية لأنه نشر كتبه ومجلته أبحاثاً كانت مدفونة عن العامة لا يتناولها سوى الخاصة من العلماء والمتأدبين.(89/83)
ولكثرة ما كان يطلب منه أن يكتسب يضطر أحياناً إلى عدم التوسع في البحث ويكتسب من حاضر الوقت بحسب ما يجول في خاطره لأول وهلة وقد عيب عليه تحامله في تاريخ التمدن الإسلامي على العرب حتى اتهم بأنه من غلاة الشعوبية وتناولته السن الناقدين من العلماء والأدباء بالنقد ومنهم من جاوز الحد في غمطه حقه وتحامل عليه في أشياء لا يخلو منها كتاب ومنهم من كان يطلب منه أن يكون مسلماً في بحثه وكان من قومه من يرمونه بالميل للإسلام والإفراط في ذكر مآثر العرب.
صرف فقيدنا العزيز معظم حياته في خدمة التاريخ فهو المادة الأولى في مجلته وكتبه كلها ينوع أساليبه ويقرب من الأذهان بعيده وكان لبسط العبارات الساذجة يتناول ما قاله المؤرخون ويقتضب من كلامهم أو يكتسبه بأسلوبه المعتاد فيضيع أحياناً بعض جمل ربما كانت هي روح تلك الفقرات وكثيراً ما كان يتغاضى عن ذكر السند أو ينقل ما يدور على الأفواه ويأخذ بالمتعارف لعامة القراء الملذ لهم المفرح.
وقد تعلم في آخر أمره مبادئ الألمانية والافرنسية فكان يقتبس في كتبه العلمية بعض ما كتبه علماء المشرقيات منهم على الآداب العربية والتاريخ الإسلامي وحاز شهرة في الأندية العلمية في الغرب وعين عضواً في بعض جمعياته ونال بعض الألقاب والأوسمة.
وكان أجزل الله ثوابه عاملاً مجداً مرتب العمل انتظمت حاله برواج مطبوعاته بواسطة الهلال ومكتبته ومطبعته وله شهرة في العالم العربي نالها عن استحقاق وبسهر الليالي والمطالعة والمراجعة. كان عصامياً فصار بدرسه وبحثه واجتهاده من أفراد الناس بين من يعانون صناعة التأليف في الشرق العربي ووصل به جده واجتهاد إلى مصاف العلماء على حين لم يدرس في الكليات العظمى ولا نال شهاداتها وإجازاتها الطنانة الضخمة وكم من أناس أسعدهم الحظ بقضاء سنين طويلة في المدارس الجامعة ودرسوا علومها وأحرزوا شهاداتها ولم يكتب لهم أن يبلغوا جزءاً صغيراً مما بلغه صاحب الهلال بثباته ومثابرته ودرسه وعنايته مما دل أن العبرة بالدارس لا بالمدارس وبقوة العقل في الرجال لا بمجد الآباء وكثرة الأموال.
ولذا كان فقد المترجم به في سن الكهولة شديد الألم على كل عارفيه وأصدقائه ومن انتفعوا بآثاره وأقهم تلطفه في الأداء وخدمته امزجه الجمهور من القراء وسيكون اسمه على جبين(89/84)
الدهر خالداً ما دامت العربية وتبقى ما خطته يمينه يتداول حتى يقوم في الأمة من يكتب لها بأسلوب آخر ومعلومات أوفر وبحث أوسع وأمتع. عوض الله الأمة العربية عنه وجازاه جزاء العاملين.(89/85)
العدد 90 - بتاريخ: 1 - 7 - 1914(/)
المقتبس بعد حولين
تصدر هذه المجلة بعد انقطاعها عن قرائها حولين كاملين بسبب الحرب العامة التي انقطعت بها الصلات بين الأمم وأصبح القول قول المدفع والحسام لا قول الصحائف والأقلام وبلي البشر بمحنة لم يكد يبتلى بمثلها في العصور الغابرة فاضطررنا إلى التوقف لنفاد الورق وندرة المواد التي كنا نستقي منها كثيراً من موضوعات هذه الصحيفة بداعي وقوف حركة الأندية والمجامع والمعاهد العلمية وبينما كنا نقول يسعنا ما يسع غيرنا من مجلات الغرب والشرق في الانقطاع عن الصدور قيض الله لهذه المجلة رجلاً تفرد بمزية الإقدام على العظائم والأخذ بأيدي المشاريع العمرانية والعلمية ونعني به بطل العثمانيين ناظر البحرية أحمد جمال باشا قائد الجيش الرابع فأرادنا على معاودة الصدور مسهلاً لنا الصعاب من الأسباب وحجته أدام الله توفيقه أنه لا يليق بالبلاد أن تخلو من مجلة تدون العلوم والآداب وتبث الأفكار الصحيحة وتدعو إلى مكارم الأخلاق فصدعنا بأمره ونحن عاجزون عن أداء شكره ولا غرو فهذا أقل ما يسجل في صحائفه البيض من المآثر في هذا القطر فنسأله تعالى أن يوفقنا إلى إحسان العمل وإتمام ما بدأنا به منه وأن يعيد إلينا نشاطنا السابق في التأليف والتعريب والاقتباس على وجه يجمع بين مصلحة الأمة ومصلحة طلاب الحقائق وعشاق الآداب إنه كريم جواد.(90/1)
الحرب العامة
بدأت في صيف سنة 1914 (1332) سلسلة من أشأم سلاسل المصائب البشرية لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمم السالفة وربما لا يكون لها مثيل في تاريخ الأمم الخالفة ونعني نشوب حرب عامة سالت بها الدماء أنهاراً وعد فيها القتلى بمئات الألوف بل بالملايين وما كان الناظرون في حركة السياسة الأوروبية يظنون أن الحالة تؤدي إلى إشهار هذه الحرب الضروس وتطيش بالنفوس إلى حد يتقاتل المتماثلون والمتجاورون والأقرباء الأدنون ولكن هي المصلحة السياسية المادية تعلو فوق المصالح وتنسى في جانبها القرابة والنسب واللسان والمذهب.
السبب الرئيسي في هذه الحرب أن إمبراطورية النمسا والمجر كانت على ما جاء في الكتاب الأبيض الألماني تحاذر من الدعوة التي كانت تنتشر لسلخ الأقسام الجنوبية الشرقية من أملاكها وهي السياسة التي عاضدتها الصرب وجاهرت بها متكلة على معاضدة روسيا لها وهذه كانت تسعى بكل قواها إلى تحقيق هذه الآمال بعقد التحالف البلقاني وذلك بأن الصرب المجاورة لمملكة النمسا والمجر كانت تتقوى الحين بعد الآخر خصوصاً بعد الجرب البلقانية وقد زاد سكانها واتسعت رقعة ممالكها وأخذ الصربيون من سكان النمسا والمجر يتحفزون للوثبة وروسيا ممثلة العنصر الصقلبي العظمى تضمر خلاف ما تظهر فرأت النمسا حياتها صائرة إلى خطر خصوصاً بعد أن أثبت التحقيق أن مقتل ولي عهد النمسا والمجر الأرشيدوق فرنز فردينند في مدينة بوسنة سراي بينما كان ينوب عن عمه الإمبراطور فرنسيس يوسف في حضور المناورات كان بيد جمعية سرية صربية فهلك وقرينته على صورة اشمأز منها العقلاء وذلك لأن الصرب كانت تعد هذا الأمير عائقاً عن بلوغ آمالها فلم يسع النمسا وقد رأت هذا العمل ألفظيع الذي هاجت له أعصاب سكانها إلا أن شهرت الحرب على الصرب يوم 28 تموز فتقدمت الجيوش النمساوية في أراضي الصرب وأخذت تذيقهم العذاب ألواناً.
فشق ذلك على روسيا وأمرت بتعبئة جيشها على الحدود الألمانية والنمساوية فلما رأت ألمانيا أن حليفتها النمسا فتحت بينها وبين روسيا الحرب أنذرت روسيا وهددتها فلم يصادف إنذارها وتهديدها تأثيراً في دوائر حكومة القيصر وكان جوابها لألمانية أن على النمسا أن تسلم بالتوسط بينها وبين الصرب وإذا رفضت فلا مناص من إعلان الحرب وقد(90/2)
أبرق قيصر روسيا يوم 29 تموز إلى قيصر ألمانيا يرجوه على أن يساعده على منع حليفته النمسا من التوغل في المسألة الصربية منعاً لنشوب حرب أوروبية طاحنة فبادر الإمبراطور غليوم إلى التوسط وبينما المسألة في أخذ ورد مع الحكومات ذات الشأن وإنكلترا تعضد ألمانيا حباً بعدم نشوب حرب عامة صدر أمر عام بتعبئة الجيش الروسي كله وإعداد الأساطيل فرأت ألمانيا سلامتها مهددة فبادرت هي أيضاً إلى تعبئة جيشها دفاعاً عن حليفتها النمسا ولو أتيح (الكتاب الأبيض الألماني) للصرب أن تنحشر في المستقبل بحكومة النمسا لكانت العاقبة تضعضع أركان هذه السلطنة ويلي ذلك خضوع جميع العناصر الصقلبية (السلافية) لصولجان روسيا وهذا مما يؤدي إلى هدم أركان العنصر الجرماني في وسط أوروبا.
وفي 3 آب شهرت ألمانيا الحرب على روسيا وشهرت فرنسا الحرب على ألمانيا على إثر إشهار ألمانية الحرب على روسيا بالنظر لتحالف روسيا وفرنسا ثم شهرت حكومة الجبل الأسود الحرب على النمسا أيضاً وفي 4 آب أعلنت إنكلترا دخولها الحرب براً وبحراً وعلل ذلك سفيرها في الأستانة أن الأسباب التي حملت دولته على الاشتراك في الحرب الأوروبية هي أن ملك بريطانيا العظمى مرتبط بمعاهدة للدفاع عن الإغارة على مملكة البلجيك الواقعة قبالة الشواطئ الإنكليزية وبين فرنسا وألمانيا. ولما هاجمت ألمانيا البلجيك حاذرت إنكلترا أن تخترق ألمانيا أراضي بلجيكا لتهاجم فرنسا التي لها حدود غير محصنة بينها وبين البلجيك فأعلنت الحرب. قال المستر أسكو بث من ساسة الإنكليز في خطابه الذي ألقاه في مجلس النواب الإنكليزي: إذا سألنا لماذا نحارب فأجيب بعبارتين: أولاً - للقيام بأمور دولية مقدسة لو فرض وعقدت بين شخصين في أمور الحياة الاعتيادية لعدت لا شرعية فقط بل واجبات شرف أيضاً لا يسع أي إنسان يحترم نفسه أن يخل بها. ثانياً - إننا نحارب في وقت تعتبر فيه القوة المادية العامل على المبدأ القائل بأن الأمم الصغيرة لا يجوز أن تسحق بإغارة دولة كبرى تدعي أنها تحافظ على حقوقها وعلى النظام الدولي.
وقال أحد كتاب الإنكليز أن بذور هذه الحرب زرعت ستة 1884 أيام عزمت ألمانيا أن تصير من دول الاستعمار لما رأت من تغلب بلجيكا على بلاد الكنغو وبسط إنكلترا لسيادتها البحرية على بلاد النيجر وعمل فرنسا في غرب أفريقيا ومدغسكر حاسبة أنها إن لم(90/3)
تستول هي على جانب كبير من بلدان الأمم لتتناول منها المواد التي تستعمل في الصناعة وتبيع فيها مصنوعاتها صارت صناعتها مستعبدة ذليلة لأميركا وإنكلترا وفرنسا فاستولت في أفريقيا وجزائر البحر على بلاد مساحتها 1135. . . ميل مربع ثم قصدت أن تصير من الدول البحرية الكبرى وتبسط نفوذها على البحر الشمالي وبحر البلطيق من الشمال والغرب وبحر الأدرياتيك من الجنوب والشرق وبلغت الأدرياتيك باتفاقاتها مع النمسا حتى صار اتصالها بها أشد من اتصالها ببفاريا إحدى ممالكها ثم إذا وصلت النمسا إلى بحر الأرخبيل وامتد سلطانها إلى كوروفو سهل على ألمانيا الوصول إلى بر الأناضول والعراق ثم رأى إمبراطور ألمانيا أن بسط دولته نفوذها في أفريقيا وما يتوقع أن يستولي عليه من الأملاك العثمانية لا يغنيانه عن الاستيلاء على أسوج والدانمارك وهولندا وبلجيكا فتمتد سلطته حينئذ من أسوج شمالاً إلى تريستا فكورفو فسلانيك فالأستانة فبغداد فخليج العجم جنوباً ويبقى الهند إلى أن تحين ألفرص لتدويخها وبدأ الآن في العمل بما ينويه فهاجم بلجيكا وفرنسا واضطر إنكلترا إلى الدفاع عنهما.
وقال كارل هلفريش الألماني في أسباب الحرب العامة أن روسيا أوقدت جذوة الحرب بإعلانها النفير العام الذي أمرت به يوم 31 حزيران 1914 بحيث كان رجال السياسة الروسية يرون ويسمعون بأن عملهم يضطر ألمانيا إلى الدخول في الحرب لا محالة وكل ما نشرته الحكومة الروسية بشأن إعلان النفير العام في بلادها لا أصل له فلا الأسباب العسكرية التي اتخذتها النمسا ولا الأسباب التي تعزى إلى ألمانيا تكفي لتبرير روسيا من إعلانها النفير العام ثم أن روسيا أمرت بالتجنيد العام عقب أن رضيت النمسا بطريقة حل الإشكال بينها وبين جارتها ودخلت روسيا في الحرب بعد أن تأكدت اشتراك فرنسا معها وفرنسا في الغالب لم تعد بمعاونتها لروسيا إلا بعد أن تأكدت مساعدة إنكلترا لها وكان رجال السياسة الإنكليزية مربوطين مع فرنسا رباطاً أدبياً بحيث إذا دخلت فرنسا فلا يسع إنكلترا إلا السير معها أو أنه وقع الاتفاق بينهما في هذا الشأن في أسبوع تلك الأزمة ورأت إنكلترا أن مسألة مقتل ولي عهد النمسا ومسألة الصرب لا تبرر القيام بحرب فاختلقت حجة أمام أمتها وهي مسألة خرق حياد البلجيك.
هذا وأمثاله من البراهين الثابتة في المنشورات الرسمية التي أعلنتها حكومات الوفاق ترد(90/4)
كل الرد أمام محكمة التاريخ ما يقال من أن ألمانيا أرادت الحرب وأوقدت شعلتها فقد كانت روسيا مسببة الحريق وشريكتاها في عملها إنكلترا وفرنسا. أوقدت روسيا نار الحرب لأنها طامعة في أن يكون لها السلطان الأكبر في الشرق بعد أن تراجع أمرها بعد هزيمتها مع اليابان وعزمها على التغلب على كل مقاومة تبدو من دول أوروبا الوسطى أما فرنسا فإنها اندفعت في هذا السبيل بما كان يغلي في صدرها من مراجل الحقد والأخذ بالثأر من الألمان ممزوجاً بالخوف منهم وذلك ما دعاها إلى أن تحالف كل أمة تعادي ألمانيا أما إنكلترا فإن الحسد الذي فطر عليه تجارها الذين لا يحبون أن يروا لهم منافساً جديداً وما عرف عن هذه الدولة الإنكليزية من الظهور بمظهر العداء أمام كل دولة قوية في التجارة الأوروبية وما اشتهر من تقاليدها في أن الواجب عليها أن تضرب على أيدي كل أمة تريد أن تتوسع في بحريتها هو الذي أدى إلى ما أدى.
ولما أرادت ألمانيا اختراق حدود البلجيك أبت هذه عليها ذلك وشهرت عليها الحرب وأرسلت إنكلترا في الحال إلى بلجيكا عدداً من جنودها ورجالها وأعلنت كل من إيطاليا والعثمانية حيادهما إلا أنهما أعلنا النفير العام فباتت أوروبا وقد انقطعت مواصلاتها البرية والبحرية كأنها كلها ثكنة كبرى تتدفق بالجنود والأسلحة وقد قدروا عدد الجنود المتحاربة بنحو خمسة عشر مليوناً.
وفي يوم 6 آب أغلقت إنكلترا مضيقي بادوكالة وجبل طارق كما كانت العثمانية أمرت بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل وحدثت أول حرب عظيمة بين الأساطيل الألمانية والروسية في البحر البلطيكي فكان ألفوز في جانب الأسطول الألماني الذي أغرق بقنابله طراداً روسياً واحتل جزر الأند التابعة لحكومة فنلندا الروسية وعددها ثلاثمائة جزيرة.
واحتل النمساويون ساباك على الشاطئ الأيمن من الساف وبلغراد عاصمة الصرب ويساروفجة وسمندر وسيوط من أعمال الصرب واحتلت الخيالة المجرية اوشتيزا وتقدم الجيش الألماني تقدماً سريعاً في الحدود ألفرنسية واحتل جميع المراكز الحربية ودخلت العساكر الألمانية حدود روسيا وهدمت المراكز العسكرية وهاجمت الخيالة الألمانية طلائع الجيش ألفرنسي واحتلت ألمانيا جزر الأتلنتيك كافة ومنها جزر ايزلاندا وفي 8 آب أعلنت أسوج والنرويج والدانمارك حيادها رسمياً كما أن اليونان ورومانيا وسويسرا دعت جيوشها(90/5)
إلى حمل السلاح وفي 9 آب احتلت الجيوش الألمانية مدينتي ليج وبروكسل بعد معركة شديدة واحتل الألمان عدة استحكامات روسية وحدثت معركة بحرية بين قسم من الأسطول الألماني والأسطولين ألفرنسي والإنكليزي أسفرت عن غرق ست قطع ألمانية وثلاث قطع فرنسية وقطعتين إنكليزيين وأخرج الجيش الألماني الروس الذين كانوا اجتازوا الحدود الألمانية وأباد ثلاثة الايات من خيلتهم بألفرب من سولدو كما أهلك فرقة عن بكرة أبيها بجوار اينستر بورج واستولى الألمان على كازيتوكوفا وكاليسز وفيلون وكيستارتي وبلاداً أخرى على الحدود الروسية وسقطت مدينة ليج في أيدي الألمان بعد إطلاق القنابل عليها 36 ساعة وفي 9 آب أعلن مستشار الإمبراطورية الألمانية بأن احتلال الجيش الألماني لمقاطعة بولونيا الروسية قد أحدث سروراً عظيماً في جميع أنحاء ألمانيا وأن الحكومة الألمانية ستمنح هذه المقاطعة استقلالاً وتضم إليها بولونيا الألمانية وبولونيا النمساوية وبذلك يتم تأليف دولة بولونيا المستقلة وفي 12 آب ابتاعت الحكومة العثمانية من ألمانيا السوبر دردنوط غوبن والمدرعة برسلو الألمانيتين بأربعين مليون مارك فسمت الأولى ياوز السلطان سليم والثانية مدللي وذلك لتستعيض عن المدرعتين رشادية والسلطان عثمان اللتين استصنعتهما العثمانية في معامل إنكلترا فضبطتهما هذه أوائل الحرب بينما هي على عزم تسليمهما وفي 13 منه شهرت فرنسا الحرب على النمسا وحصر الأسطول النمساوي جميع سواحل الجبل الأسود بعد أن كان ضرب انتيفاري مرفأ الجبل ودمرها وشهر الجبل الأسود الحرب على ألمانيا. وانتصر الجيش الألماني في مولهوز ولاغارد على الجيوش ألفرنسية بعد معركة دموية هائلة.
وهكذا كان النصر حليف الألمان في معظم الوقائع التي جرت بينها وبين خصيماتها والحرب سجال حتى استولت على انفرس ولوفان وبروكسل وليج ونامور وهاتان الأخيرتان من أعظم حصون العالم وذلك على ما ثبت بواسطة المدفع الذي اخترعته وكان مكتوماً سره عن كل أحد حتى ظهر بظهور الحرب الأخيرة وقطره من عيار 42 سنتمتراً وهو يدك الحصون مهما عظمت ولهم طريقة في نقله إلى الأباعد تدل على تفنن الألمان في الحرب تفننهم في ضروب العلم والصناعات.
أما الروس فقد ضربوا جزءاً من بروسيا الشرقية ولكنهم ردوا عنها مرات واستولوا على(90/6)
بعض غاليسيا من النمسا ولا سيما عاصمتها لمبرج وتوغلوا في جبال الكاريات ورجعت النمسا عن البلاد التي احتلتها من الصرب لحكمة مجهولة ولما استصفت ألمانيا معظم بلاد البلجيك تقدمت في الأراضي ألفرنسية من الشمال والشمال الشرقي فذعر ألفرنسيين لأنهم رأوا طلائع فرسان الألمان على بعد ثلاثين كيلومتراً من باريس فنقلوا عاصمتهم إلى بوردو في الجنوب الغربي مخافة أن يستولي الألمان على العصمة فتضعف شوكتهم ويختل أمرهم وقد ساعدت إنكلترا بجندها فأرسلت بعض كتائبها إلى البلجيك والبعض الآخر إلى فرنسا تقاتل مع حليفتها فرنسا كتفاً إلى كتف والتقى الأسطول الألماني بالأسطول الإنكليزي في بحر الشمال مرة وفي بحر الشيلي مرة أخرى فكانت الحرب سجالاً فقد من الجانبين مدرعات وطرادات واستولت اليابان حليفة إنكلترا على المستعمرة الألمانية في الشرق الأقصى كما أن جنود الاتفاق الثلاثي استولت على المستعمرات الألمانية في أفريقيا. وهكذا كانت الوقائع تجري بين الاتفاق أو الائتلاف الثلاثي الذي أصبح رباعياً بإعلان إيطاليا الحرب على النمسا وبين الاتحاد الثلاثي والنصر أكثره في جانب الألمان الذين أدهشوا العالم حتى اعترف لهم خصومهم أيضاً بتفوق جيوشهم على جميع الجيوش وثبت أن جيشهم أعظم جيش في الأرض وأن سلاحهم أمضى سلاح وأن قوادهم لا مثيل لهم بين أبطال القرون الماضية وكاد لا يكون لهم قرين بين أبطال القرون الحديثة.
نادت الحكومة العثمانية بالنفير العام منذ أعلنت أوروبا الحرب العامة وأخذت بتنظيم فيالقها وأعلنت الأحكام العرفية في السلطنة على النحو الذي جرت عليه دول أوروبا المتمدنة وفي 19 تشرين الأول غربي 1914 صدرت الإرادة السنية السلطانية بإلغاء الامتيازات الأجنبية وفي يوم 29 منه هاجم الأسطول الروسي جزءاً من الأسطول العثماني في البحر الأسود بينما كان يقوم بتمرينات فغرقت للروس سفينة لوضع الألغام وسفينة نسافة وفي 3. منه طارد الأسطول العثماني الأسطول الروسي فضرب سفاستابول ونوفوروسيسك من الموانئ الروسية وعندها غادر سفراء روسيا وفرنسا وإنكلترا عاصمة السلطنة العثمانية وأعلنت الحرب فدخلت الدولة مع حليفتيها ألمانيا والنمسا والمجر وفي 2 تشرين الثاني هاجم الروس الجند العثماني المرابط على حدود القافقاس فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية يوم 2 تشرين الثاني وفرنسا على العثمانية يوم 5 تشرين الثاني وإنكلترا(90/7)
على العثمانية يوم 5 تشرين الثاني والبلجيك على العثمانية يوم 7 تشرين الثاني والصرب على العثمانية يوم 7 تشرين الثاني ويوم 12 تشرين الثاني صدرت الإرادة السنية قائلة بأن المملكة العثمانية دخلت في الحرب ضد إنكلترا وروسيا وفرنسا وفي 14 منه دعا الخليفة الأعظم العالم الإسلامي إلى الجهاد ضد دول الائتلاف لأن الإنكليز والفرنسيين والروس أخذوا بأساطيلهم وجيوشهم يحاصرون دار السلطنة يريدون الاستيلاء عليها. وهذا الحلم أي الاستيلاء على الأستانة حلم قديم تحلمه روسيا وإن كان مخالفاً لرغائب إنكلترا ولكن اتفاقها معها ومع فرنسا هذه المرة ضد ألمانيا والنمسا قد دعاها إلى الرضا بذلك حتى يفتح المضيقان البوسفور والدردنيل لأساطيل دول الاتفاق فتتخذ عامة الأسباب للقضاء على ألمانيا والنمسا والمجر.
رأت العثمانية مصلحتها بالتحالف مع ألمانيا إذ أيقنت أن الحياة لها إلا بالحرب فوفقت إلى عقد المحالفة المطلوبة بفضل حسن نية الطرفين واشتراك مصالحهما لأن إنكلترا جاهرت بأنها تريد أن تكون العراق مسرحاً خاصاً لمتاجرها وملكاً مستقبلاً لأمتها وساستهم طالما جهروا بأن إنكلترا لا ترى بعين الرضا وجود دولة الخلافة قوية تشرئب إليها أعناق المسلمين وتعلق بها آمالهم بل تريد أن تقضي على آمال رعاياها وتدخل اليأس إلى قلوبهم حتى يبقوا عبيداً أرقاء لا أمل لهم في حياة مستقلة. وروسيا كثيراً ما ضربت على أحد أوتار المسألة الشرقية فحركت المسألة الأرمنية وأخذت تبث رسلها في البلاد العثمانية تثير كوا من التعصب مثل إثارة الأكراد على الأرمن وبالعكس. وفرنسا ظهرت نياتها مع الدولة العلية ولا سيما في سوريا إذ كانت المعاهدة السرية المعقودة بين الائتلافيين تقضي على العثمانية بإعطاء الأستانة لروسيا وأن تترك العراق لإنكلترا وتقسم البلاد السورية بين فرنسا وإنكلترا.
ولكن حسن التدبير إذا اقترن بحسن التوفيق فعل أكثر من كثرة العدد فإن الانتصارات كانت خلال السنتين الأولى والثانية حليفة لنا ولحلفائنا وذلك لأننا إذا ألقينا على ختام 1914 نظراً دقيقاً وسبرنا غور حوادثه يتجلى أمامنا أن ما غبر كان من كل الوجوه مناسباً لموقف ألمانيا وحلفائها ومساعداً لهم. ففي الساحة الغربية أفضى فوز الجيوش الألمانية السريع إلى إيجاد حرب المتاريس والحصون وامتدت هذه الحرب بين من البحر الشمالي(90/8)
حتى تخوم جمهورية سويسرا وما برحت الآن تثبت وتستمر شديدة.
وقد حاول الإنكليز والفرنسيون والبلجيكيون عند حلول عام 1915 أن يخترقوا خطوط الألمان حتى ينهوا أمد هذه الحرب التي صح القول بأنها حرب قلاع وحصون أبدية القرار وبذل أعداؤنا هذه المساعي في إقليم فلاندر وارتواز (في الجنوب الغربي من ليل) وفي شمبانيا وما بين نهري الموز والموزل وحتى الآن ما برح هؤلاء يندحرون دون أن يصيبوا مغنماً أمام بسالة الألمان.
وكان العدو من خلال أشهر عديدة استطاع أن يعزز مواقفه وأن يأتي إليها بجنود كثيرة العدد والعدة وأن يزيد حصونه قوة. كل ذلك استعداداً لهجوم على الألمان ولكنه لم يصب مغنماً لأن جيش ولي العهد الألماني قد تقوى على العدو في ساحة شمبانيا وأحرز سلسلة باهرة من الانتصارات وعجز الفرنسيون رغم تكاثف قواهم عن حفظ بعض كيلومترات احتلوها من الأراضي الألمانية في الفوسج. ويقال على وجه الإجمال لأن الساحة الألمانية في الغرب بقيت دون أن يطرأ عليها تبدل في عام 1915 وظلت أراضي العدو التي افتتحتها جنود حلفائنا الظافرة عند هجومها الأول منيعة لا تؤخذ وفوق ذلك فإنها عززت حتى صارت في حالة لا يقوى العدو معها أن يصيبها بأذى.
أما الحوادث في الساحة الشرقية فإنها أوسع نطاقاً. وكان الروس في ختام عام 1914 قد أغاروا بقواهم الجرارة على ولايات بروسيا الشرقية حتى أن جنودهم أطلت على بوزن فانتهت حركاتهم باندحارهم وعقب ذلك أصبحت الحروب حروب متاريس في بولونيا الروسية وفي القرب من خط الفيتول وناريف وبوهر وفي القسم الشرقي من بروسيا الشرقية وفي غاليسيا الغربية ولبست لباساً مماثلاً للساحة الغربية ورجع الروس إلى قلب مراكزهم محاولين التقدم على الجناحين غير أن هذه المحاولة ما لبثت أن تحطمت أمام مقاومة الجيوش النمساوية الألمانية في الكاربات وسقوط قلعة برزميشل وفي خلال ذلك كانت انتصارات جيش هندنبورغ في الشرق من بحيرة مازوريان من الأسباب التي أفضت إلى إنقاذ بروسيا الشرقية بصورة نهائية والحقيقة أن الاحتلال الروسي في تلك الأرض والأصقاع كان فصل انتقام شديد الهول. لكن الروس عوقبوا عليه باجتياح الألمانيتين لولايات البلطيك الروسية.(90/9)
وعند بزوغ شمس أيار كان اختراق الخطوط الروسية على ديانتز وفي غاليسيا الغربية مقدمة لتقدم هجوم الدول الوسطى في الساحة الشرقية ذلك الهجوم الذي كله فوز ونجاح. وتطهرت بيكوفينا وأعالي الكاربات وسفوحه وبقاع غاليسيا ولم يبق هنالك عدو بل أكره هذا على أن يخلي خطوط الفستول - نارف - بوهر المحصنة وأجلي عن قارسوفيا عاصمة بولونيا وكذلك أضاع الخط الثاني من خطوط دفاعه في الغرب مع قلاع برست ليتوسك وغرودونو وكوفنو وأجبرت مطاردة الجيوش الألمانية والنمساوية الظافرة العدو على الالتجاء إلى الداخلية متخلياً للغالبين عن كل منطقة الدفاع الغربية مع الحصنين العظيمين ليزك ورينيو في أيالة ولهينا.
ولما عين القيصر قائداً عاماً للجيوش الروسية بدلاً من الغرادوق نقولا تذرع الروس بهجوم أحدثوه في نقاط متعددة من شرق ويلنا وبصورة خصوصية في أيالة ويلبينا فبقيت مساعيهم المدخرة لدحر جيوش الدول الوسطى بلا طائل وبالعكس فإن هؤلاء قد ظلوا محتلين للمراكز التي أخذوها من العدو والتي تمتد من تخوم رومانيا حتى سزرتوفيتزا وتضم إليها ايسيايلا مع قناة أوزنسكي وسرفتش ونيامن وفيليا مع البحيرات الواقعة في الجنوب من دونابورغ - ديتا حتى خليج ريغا وأصبح الجنود في مراكزهم التي توفرت فيها كل الاستعدادات لهجوم يثار في البرد القارس يستطيعون به أن يضعوا أمام هجمات الروس العنيفة سداً حائلاً يرجعهم القهقرى أذلاء صاغرين حتى ينسلخ فصل الشتاء فيعود هؤلاء الجنود إلى استعادة هجومهم المكلل بالفوز. وقد حولت الدولة العثمانية وجهتها في عام 1915 إلى النظر في معارك شيه جزيرة كليبولي التي كان يحتلها جنود الاتفاقيون بقصد إخضاع الدردنيل والوصول إلى العاصمة العثمانية فلم تثمر هجماتهم ومحاولاتهم على الرغم من كثافة قواتهم وكثرة معداتهم وعظمة أساطيلهم وكل ما قاموا به من المهاجمات أبطل أمام شدة الجيش العثماني وصلابته ورأينا الإنكليز في نواديهم يجهرون بهذه الخسائر التي ألمت بهم في أنافرطة وأري بروني وسد البحر رأيناهم ينتقدون أنفسهم وأخيراً رأيناهم ينزحون عن مرابع الدردنيل فكانت هذه الكسرة ضربة قاضية على ما للاتفاق من النفوذ الممتد في بلاد المتحايدين وتلاشت كل سلطة ونفوذ لهم في بلاد المسلمين. أما في القفقاس فلم يحدث في عام 1915 حادث خاص فقد حصر العثمانيون اهتمامهم في الدفاع(90/10)
عن مناطق الحدود ضد إغارة كان بقوم بها الروس وبعكس ذلك فقد كان للساحة العثمانية الثالثة وهي الساحة العراقية شأن خاص وقد قامت الجيوش العثمانية هنالك بأعمال خارقة في تاريخ الحرب الحاضرة فالإنكليز بعد أن أصبحت الدولة العلية في عداد المتحاربين قد أبحروا بجنودهم إلى الخليج ألفارسي فاستولوا على البصرة وامتدت سلطتهم حتى اتصلت بدجلة وكادت تشرف على بغداد ومع ذلك فهذه الأعمال ظلت عقيمة لا فائدة عسكرية منها للإنكليز وكان هؤلاء يعلقون أملاً سياسيا يتوصلون إليه لدى قبائل العرب.
وقد تقدم هجومهم في عام 1915 وكادوا يحدقون ببغداد ولكن العثمانيين الذين تلقوا نجدات مهمة ردوهم على أعقابهم وطردوهم من كوت الإمارة طرد عزيز مقتدر كما أوقعوا بهم في سلمان باك ضروب التقهقر والفشل واتسعت مناطق الحرب أمام نهر دجلة وكانت الحوادث العسكرية التي تجري هناك سلسلة انتصارات كللت مفارق الجيوش العثمانية بأكاليل الظفر.
أما حوادث الساحة العثمانية الرابعة ونريد بها قناة السويس فلم يحدث في عام 1915 فيها ما يدعو إلى الذكر غير كشف تعرضي بسيط ومع ذلك فيمكن القول أن في الزوايا خبايا يرتاع لها الإنكليز وفي مقدمتها وقعة القاطية الأخيرة.
ولننظر الآن في ساحة الحرب الإيطالية التي خضبتها إيطاليا بالنجيع الأحمر ففي 23 أيار سنة 1915 أعلنت إيطاليا الحرب على النمسا وفي 8 حزيران حدثت المعارك الأولى أمام إيزنزو واكتست هذه الحوادث في تلك السنة لباساً خطراً وعقب ذلك قيام العدو بهجوم شديد على جبهة حليفتنا وفي ذات الوقت كانت المعارك الصغيرة التي لا شأن لها تجري في ساحة التيرول زكارنتي وقصارى القول فإن العدو مع توفر استعداده لم يبلغ من النمساويين منالاً وظلت أعماله مجدبة لا ثمرة فيها وكان من جيوش النمسا والمجر أن تقدمت كثيراً في تلك الأصقاع وتوشك ونحن نكتب هذا أن تطل على أرض البندقية من عمل إيطاليا وتقسم الجيش الإيطالي شطرين.
وعند نهاية عام 1915 أصبح للساحة البلقانية مركز عظيم وقد كان المقصد منها بادئ بدء إنزال العقاب بصربيا التي سببت هذا الحريق العالمي ثم الاتصال بالقسطنطينية وإعادة الأملاك المقدونية المفقودة إلى بلغاريا التي خسرتها فتم كل حادث في مدة عشرة أسابيع.(90/11)
ففي اليوم السادس من شهر تشرين الأول شرعت في الهجوم على صربيا بالاستيلاء على الساف والطونه وفي اليوم الحادي عشر من الشهر المذكور دخلت الجيوش البلغارية إلى أراضي مقدونية الصربية واسترجعتها قوة واقتداراً وتطهرت صربيا وأقطاع الجبل الأسود الشمالية من آثار العدو ودحر البلغاريون ألفرنسيين والإنكليز من وادي الوردار حتى اضطر هؤلاء إلى الاعتصام بسلانيك وفتحت طريق السكة الحديدية بين برلين والأستانة وكانت مسدودة من قبل.
ومن الكوائن دخول البرتغال في الحرب مع الاتفاقيين نجدة لهم في العهد الأخير وأهم الوقائع الأخيرة التي كتب فيها النصر لأعلامنا سقوط كوت الإمارة في العراق بأيدي الجيش العثماني وقد أسرنا من الإنكليز 13856 رجلاً منهم خمسة قواد و277 ضابطاً إنكليزياً و247 ضابطاً هندياً و133. . جندي ووقوع معركة بحرية هائلة حدثت بين الأسطول الألماني والأسطول الإنكليزي في ضواحي مضيق اسكاجراك في بحر الشمال كان ألفوز فيها للإنكليز وذلك في 31 أيار سنة 1916 فغرق للإنكليز عدة دريد نوطات وطرادات ونسافات عظيمة بلغت ست عشرة قطعة وغرق فيها سبعة آلاف إنكليزي ولم يغرق للألمان سوى طرادة وبعض نسافات وشفع هذه الواقعة الحربية الكبرى التي نزلت على إنكلترا كالصاعقة غرق اللورد كتشنر ناظر الحربية الإنكليزية مع أركان حربه بينما كان ذاهباً من إنكلترا على سفينة حربية قاصداً روسيا في البحر الشمالي. ومما ساعد الألمان على الإبلاغ في نكاية الاتفاقيين في البحر اختراعهم غواصات غريبة كانت تطوف بحار العدو وتوقع بأساطيله البلاء والرهبة وطيارات الألمان التي فعلت في البر مع أعدائنا أفعالاً تذكر فتشكر. وقد استولت ألمانيا حتى الآن على بلاد البلجيك إلا قليلاً وعلى بضع ولايات من شمالي فرنسا وعلى بولونيا الروسية وكثير من الولايات الروسية المتاخمة لها بحيث بلغت مساحة ما استولت عليه حتى الآن نحو 45. ألف كيلومتر مربع لا يقل سكانها عن 35 مليوناً واستولت النمسا على الصرب وعلى جزء من ألبانيا الشمالية وأرجعت النمسا الروسيين عن بلادها أما عن حالة الحرب العمة عند كتابة هذه الرسالة فمشتدة في جميع الساحات ولا سيما في الساحات الأوروبية بين النمسا وإيطالية وبين النمسا وروسيا وبين ألمانيا وفرنسا وإنكلترا ولكن النصر حليف الحلفاء وربما لا ينتهي هذا الصيف إلا(90/12)
وقد حدث تبدل كبير في حالة الحرب العامة.
وفي 23 أيلول 1915 أعلنت بلغاريا النفير العام وعادت رومانيا واليونان فأعلنتا حيادهما وفي شهر تشرين الأول من تلك السنة قطعت بلغاريا صلاتها مع دول الاتفاق ودخلت مع دول التحالف أي مع العثمانية وألمانيا والنمسا والمجر فهاجمت بجيوشها العساكر الصربية من الشرق كما هاجمتها العساكر الألمانية والنمساوية من الشمال وقضي على الصرب فاستولت بلغاريا على مقدونية القديمة كما استولت النمسا على البلاد الشمالية المتاخمة وأخذت أراضي الجبل الأسود الذي تفرق شمل حكومته كما تفرق شمل البلجيك والصرب نسأل الله حقن الدماء ورفع البلاء.(90/13)
آلام وآمال
نظمت في مبتدأ سنة 1915م
أرى سنة تمضي وعاماً بنا يجري ... يضيق من آجالنا فسحة العمر
ودنا على هذا الوجود أجنةٌ ... تسير بنا الأيام في السهل والوعر
فيوم على صفو نؤمل عوده ... وآخر في البأساء عد من الدهر
لنا أمل في كل عام مجدد ... ترجي به صفو الحياة وما ندري
ولولا أملني ألفتى ورجاؤه ... لأيقن أن العيش ضرب من الأسر
مضى عمنا الأدنى بذنب فعله ... يجيء الذي يتلو المغادر بالعذر
سلكنا به ظلماء حالكة الدجى ... فلما انقضى حانت لنار قبة ألفجر
ألا أيها العام الذي كنا منه ... على الكون شؤبوبا من الدم لا القطر
تحجب فيه الغيث حتى إذا انجلى ... لنا الأمر كان الغيث من دمنا يجري
أفاض علينا في النعيم ابتداؤه ... وجادت بني الغبراء عقباه بالشر
لقد هاجني من جانب الشرق صائح ... ينوح وباك حيث مستتر البدر
وذو صخب الردى في شمالها ... يردد أنات الجنوب من الذعر
تورد وجه البحر حتى حسبته ... من الجثث الملقاة ملتهب الجمر
وشاب قذال الأفق من رهج الوغى ... وأقفر رحب البر من زمر البر
فلا الأرض بالأرض التي تعهدونها ... ولا البحر بحر المد والجزر بالبحر
تغير شكل الأرض في بعض حقبة ... وأسملت الأهلون للشر في شهر
وكنا نرجي السلم لولا مطامع ... من بعض أدت للضغينة والهجر
كوامن أحقاد أثيرت فهيجت ... نفوسا لتطلاب القديم من الثأر
فغودرت الأقطار بعد ازدهارها ... خرائب والبلدان أوحش من قفر
فيا أيها الحول الذي هل شهره ... يعلل منا النفس بالصفو والبشر
لعلك حول الحول والقوة التي ... تطأمن من كبر العتاة ذمي الكبر
تعزز مهضوماً وتجلي غضاضةً ... وتمحو عن الأقوام سطراً من الضر
تسكن روع الجائفين فيزدهى ... بك الوجل المذعور مبتهج الصدر
يحيى بك العلم الملم بأهله ... وأسفاره خوف المذلة والفقر(90/14)
ينال بك العلياء من يستحقها ... وتشرق شمس السلم باسمة الثغر
هنالك بحلولي اليراع فأختلي ... بقيثارتي ألهو ببيت من الشعر
أرجع الخان السواجع شادياً ... تحن إلي الشاديات من الطير
سيسكن جأش الكون بعد اضطرابه ... ويرفل بالنعماء حيناً من الدهر
دمشق
خير الدين الزركلي(90/15)
في ديار الغرب
حيلتنا والحياة الأوروبية
سادتي الأعزاء تقاضاني بعض الأحباب ديناً لم أرى بداً من فضائه على حين اشتداد الأزمة بل الأزمات في بلادنا. أرادوني أن أحاضركم بشيء مما جنيته في هذه الرحلة الثانية إلى بلاد الغرب من ثمرات مدنيته الزاهرة فلم يسعني إلا إجابة الطلب مع الشكر لحسن ظنهم وإن كان البحث في نهوض القوم أو في فرع من فروع ارتقائهم يحتاج إلى درس عميق وبحث دقيق ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله فإذا أتيتكم بأمور تعرفونها أو أكثرها فذاك لأني أحببت المبادرة إلى امتثال الأمر مع علمي بأني لا آتي بجديد على أنه جديد تحت الشمس.
كانت السياحة في سألف الأزمان ضرباً من شاق الأعمال ولكنها أصبحت في هذا العصر على سهولتها حاجة من حاجات المجتمع يحتاج الخاصة إليها أكثر من غيرهم ويدخل في الخاصة أرباب النعمة من التجار والزراع والصناع كما يطلق على العلماء والمفكرين والباحثين والمتعلمين وقد وردت عدة آيات في الكتاب العزيز في الحث على السياحة ولكن الشرق ضعف في العمل بهدي قديمه ولم يهتد إلى وجه الصواب في حديثه.
كان لأجدادنا يطوون الأميال والفراسخ أياماً وشهوراً لينتقلوا من قطر إلى آخر ونحن اليوم نسيح من شرق الأرض إلى غربها في أيام يسيرة ونقطع بضعة ألوف من الكيلومترات في ساعات معدودة ومع هذا ترى السائحين منا إلى الآن أقل من السائحين في العصور الماضية هذا إذا قابلنا بين سرعة المواصلات وتوفر أسباب الراحة في عصرنا وفقدانها في عصور أجدادنا أيام كان يقول ابن زريق البغدادي وقد رحل من بغداد إلى الأندلس:
ما آب من سفر إلا وأزعجه ... رأي إلى سفر بالبين يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل ... موكل بفضاء الله يزرعه
إننا إذا رحلنا اليوم إلى الغرب نجدد حياتنا بعد ذبولها ونقوي حواسنا بعد انثلام حدها وندخل في طور نتعلم فيه ونعتبر ونتعود عادات حسن أكثرها وجدير بنا أن نقتبسها عمن سبقونا مراحل وأشواطاً لأنها نتيجة علم متوارث ونظر بعيد متسلسل فكل ما نراه في بلاد الغرب وهو عمل مقرون خلت وأجيال علمت فعلمت:(90/16)
وأحب آفاق البلاد إلى ألفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب
تكثر الخواطر على السائح منا في ربوع أمم الحضارة الحديثة فلا يلبث أن يذكر بلاده ويقابل بين حالها وما يشاهده هناك من السير نحو الكمال بخطى سريعة في حين يرى أمته تسير سير السلاحف:
إن القباع سار سيراً نكراً ... يسير يوماً ويقيم شهراً
نعم يسير الغرب بسرعة البخار والكهرباء ونحن ما زلنا نسير بسير الجمال والبغال والحمير وشتان بين نظام السيرين.
سر أينما شئت في بلاد المدنية تجدها نسقاً واحداً في الاستمتاع بنعم الجمال والكمال وقد تشاهد لبعضها على بعض امتيازاً في أمور تتفرد بها ولا فرق في أصل المادة بين الشرق والغرب: سهول وأودية وجبال وأنهار وبحيرات وبحار ولكن ألفرق في تربية العقول ونمط الحياة فالسر إذا في السكان لا في المكان.
سحت هذه المرة في إيطاليا وسويسرا وفرنسا والنمسا والمجر فرأيتها إلا قليلاً متشابهة في راحتها ونعيمها وعمرانها وعلمها وآدابها وصناعاتها. الناس كلهم يتفننون فيما يعملون ويسيرون اليوم بعد اليوم نحو الكمال فيا رب ما هذه الروح التي تجرد منها جسم الشرق وسرت في عظام الغرب وأعصابه وشرايينه فأتى أهله بالعظائم ونجن بقينا خامدين مبهوتين منحلين متضائلين:
لا تغبط المجدب في علمه ... وإن رأيت الخصب في حاله
إن الذي ضيع من نفسه ... فوق الذي ثمر من ماله
مدنية الغرب غريبة في كل مظهر من مظاهرها لأن أهلها أحسنوا الانتفاع من كل قوة في الوجود ونحن أضعنا بجهلنا القوى القريبة الانتفاع هذا شأنهم في كل شيءٍ فكأن الغرب حاف لا يحألف الشرق والشرق آلا أن يخالف الغرب على كثرة حاجته إليه واضطراره إلى الأخذ عنه.
رأيت أولاداً وبنات دون العاشرة يسيحون في الغرب من قطر إلى آخر وحدهم بدون أدنى رهبة وارتباك ولم أشهد كثيراً من رجالنا يستطيعون السياحة في أوروبا وأميركا على ما يجب وبهذا تعرف درجتهم ودرجتنا وتسجل بأن صبيانهم أقوى من رجالنا وفتياتهم أعقل(90/17)
من نسائنا فإذا كانت النسبة مفقودة بين ابن العاشرة وابن الخمسين فهلا تكون المسافة بين حالنا وحالهم أطول وأجزل.
إننا في درس المدنية الغربة نأخذ ما تهيأ لنا وتمثل لأنظارنا بادئ الرأي ولو أردنا استقصاء البحث لاقتضى علينا أن نصرف السنة والسنتين لندرس حال مدينة واحدة من مدنهم فما بالك بالمملكة أو الممالك. ينفد العمر ولا تنفد مادة الكلام عن رقي الغرب وكلما تأملنا معاهدة وحللنا مادة قواه نبكي لضعفنا وقوتهم وجهلنا وعلمهم ونكاد ندخل في اليأس المميت من تحسين حالنا لولا أن اليأس محرم وأن التاريخ يحدثنا أن أمماً كانت أحط منا منزلة فارقت لما صحت عزائم بنيها على إنهاضها والأمم لا تموت إلا إذا أسلمها بنوها العارفون للموت.
مواد هذه المدنية التي تأخذ بالعقل والقلب كثيرة ومن أهمها تقدم الغربيين في بيوتهم عنا ورقي الأسرة هنالك وانحطاطها هنا والمملكة التي تتألف من بيوت راقية هي التي تحرز شوطاً أبعد من غيرها وما الممالك الراقية إلا مجموعة بيوت راقية والكليات تتألف من الجزئيات ومن تماسكت أجزاء مادته كانت أسبابه أقرب إلى القوة الطبيعية.
كل من يدخل مدينة من مدن الغرب ويختلط بسكانها بعض الاختلاط فلا يبقى مقتصراً في معلوماته على حياة الشارع والمطعم والفندق والمسرح والقهوة والأماكن العمة يجل في مذكرته أمثلة لا يكاد يحصيها في رقي الأسرة الأوروبية تجسمت في جميع حالاتهم أي تجسيم وحامل المسك لا يخلو من العبق.
تحمل مدنية الغرب في مطاويها حسنات وسيئات ولكن حسناتها تربو على سيئاتها فترى فيها ألفضيلة التي بزت ألفضائل والرذيلة التي تربو على مجموع الرذائل ولكن المليح يغطي وجه القبيح فكأن شعار المدنية الحديثة الارتقاء في كل شيء والجمع بين المتناقضات أما الشرق فهو وسط أو دون الوسط والوسط والدون لا يكادان يعملان عملاً محموداً في هذا الوجود.
أذكر لكم أمثلة ثلاثة من عشرات الأمثلة وقعت العين عليها في باب ارتقاء الأسرة الغربية تمثل أدوار الأعمار وأدوار البيوت. المثال الأول أسرة فرنسية مؤلفة من والد ووالدة وطفلتين وطفلين من سكان الولايات من أهل مقاطعة الجورا على الحدود السويسرية(90/18)
جاءت لوزان لتطب أحد أولادها ونزلت في المنزل الذي أقمت فيه فلاحظت أمرها مدو أربعة أسابيع أنظر عناية الأبوين بتربية أولادهما فكان الوالد يوقظ الأولاد في الساعة السادسة والنصف ويأخذ في إلباسهم ثيابهم مع زوجته وهذه تسرح شعور الابنتين وتمشطهما فإذا تناولوا طعام الصباح يرافق الثلاثة من أولاده إلى المدرسة لأنه وضعهم في المكتب مع أن مدة مقامه في تلك المدينة لا تتجاوز شهرين ثم يعود إلى الدار ويحمل ابنه الطبيب ويعود به بعد ساعتين فيجيء الأولاد في وقت الظهر وبعد تناولهم الطعام يعود فيشيعهم ثانية إلى المدرسة وربما عاد إليهم في المساء ليصحبهم أو اكتفى بانتظارهم للخروج بهم مع والدتهم إلى النزهة. عناية فائقة من هذين الوالدين اللذين لا يعرفان غير تعهد صحة أولادهما وتعليمهم وتربيتهم وتخريجهم على الآداب والفضيلة والتدين.
هذه الأسرة من أسر الأرياف أو ألفلاحين من أهل الطبقة المتوسطة التي تكون على شيء من اليسار ولطالما هنأت الوالدين على عنايتهما بأولادهما وقلت لهما أن الأسرة ألفرنسية لو كانت كلها مؤلفة على هذا النحو وتربى بمثل هذه العناية وتتعهد بما يشبه هذا الحنان ألفتان لاستحت فرنسا أن تشكو من قلة نفوسها وانحلال التربية في بعض عواصمها ولهذه الأسرة مئات الألوف من الأمثلة ومثل ذلك يقال في جميع ديار الغرب.
والمثال الثاني الذي رأيته يمثل درجة أخرى من درجات الأسرة رأيته في إيطاليا في قصر من أعظم قصور الكبراء الذين جمعوا بين الطريف والتليد وأعني به منزل صديقي الأمير ليوني كايتاني الذي صرفت أياماً في الاشتغال في مكتبته أبحث عن تاريخ بلادي وأجدادي فإن هذا الرجل الشريف في أمته الغني بعلمه وماله لم يرزق سوى ولد واحد هو دون العاشرة ولما جاء وقت تعليمه أرسله إلى سويسرا يتعلم فيها ولم تأخذه الشفقة عليه وآثر أن لا يراه وأن يربى تربية راقية صحية على أن يكون في داره القوراء بين والديه وأهله وقبيله.
والمثال الثالث أتيكم به من بودابست عاصمة المجر فإن العلامة غولد صهير شيخ المشرقيات في هذا العصر لم يرزق سوى ولد واحد علمه فلما زوجه أخرجه من بيته على عادة الإفرنج بإخراج أولادهم من دورهم متى شبوا وتأهلوا ليؤلفوا أسرة برأسهم ويعيشوا مستقلين عن أبويهم فلا يقع نفور بين الكنة وحماتها ولا بين الولد ووالده والراحة في(90/19)
الاستقلال في كل شيءٍ.
هذه أمثلة ثلاثة من أطوار الأسرة الأوروبية تمثل أطوار تلك الأمم أما تحليل أجزاء تلك التربية ومادة تلك النفوس الكبيرة فيحتاج لمعمل كيماوي كبير يحشر إليه علماء التربية من أجدادنا والمحدثين من أهل الغرب ليقولوا لنا خلاصة تحلياهم لمادة الحياة الأوروبية النامية والعبرة بالكيفية لا بالكمية.
دعاني الأستاذ غولد صهير لتنأول طعام العشاء في بيته وقال لي أنه سيكون معنا ابنه الأستاذ غولد صهير المهندس وكنته ولما قدمني إليهما قال لي: إن كنتي وهي تعرف خمس لغات فقط تكتب بها وتتكلم بسهولة عارفة بالآثار المصرية فقلت لها: بارك الله فيك أيتها العقيلة المحترمة. مجرية في مقتبل الشباب تدرس آثار مصر ومصر باريزنا وأهلها أرقى شعب إسلامي ليس فيهم لدرس آثار بلادهم سوى رجل واحد هو العلامة أحمد كمال بك وكيل المتحف المصري هذا الرجل ألفرد في وادي النيل يتوفر على البحث في عاديات مصره على الأصول الغربية وهو منذ زهاء عشرين سنة يلوب على من يعلمه ما يعلم ليخلفه على الأقل في منصبه لأنه بلغ سن الشيخوخة ولم يجد في ثلاثة عشر مليون مصري من يقبل على تعلم ما أفنى حياته في تحصيله وألف فيه ونوع الأساليب في نشره في الكتب والمحاضرات والمقالات. أنا أعلم أيتها العقيلة النبيلة أن في أوروبا نحو عشرة من علماء الآثار المصرية ولكن ما كان يخطر ببالي أن أرى في بلاد المجر فتاة تشارك الرجال في علمهم وتساهم معهم في فن يحتاج إلى نظر دقيق ومادة منوعة في العلم فإن كان نساؤهم على هذا المثال فلا عجب إذا كان من رجالهم العجب العجاب.
إلى اليوم لم نفكر في هذا الشرق الأقرب في تعليم فتياتنا كما تتعلم فتيات الغرب والنساء نصف البشر ولا يقوم النصف الأول إلا بنهوض النصف الثاني فإن كانت كنة غولد صهير أستاذ تفسير القرآن والأصول والحديث والملل والنحل في جامعة بودابست عالمة بالآثار المصرية فكم عالمة بل عالم عندكم معاشر العرب بآثار البتراء وبعلبك وجرش وتدمر وبابل وآشور وحمير والحيرة؟
أنا مع الأسف على كثرة بحثي في تراجم الناس وأيامهم لا أقدر أن أتيكم بواحد يكون على النمط الأوروبي في بحثه ودرسه كما لا أجد في أمتي المهندس الذي أريده ولا الكيماوي(90/20)
ولا الطبيعي ولا المصور ولا النقاش دع من يماثلهم من النساء اللاتي شاركن الرجل في معظم حياته المادية والمعنوية في الغرب وعما قريب يشاركنه في الحياة السياسية.
كل ما تعلمناه إلى يوم الناس هذا وقلدنا فيه الأمم الراقية لم يخرجنا من الظلمات إلى النور فلم نبرح عيالاً على الغرب في معظم شؤوننا ومرافقنا وقيام أمرنا فما دمنا نريد التحرير السياسي وليس لنا من أسباب التحرير العلمي قليل ولا كثير هيهات أن تقوم لنا قائمة.
كيف تعمر بلادنا وتستبحر الحضارة فيها ونقلد الغربي في حياته السعيدة وليس عندنا مصور ولا مهندس ولا نقاش ولا معمار ولا موسيقار ولا كيماوي ولا غيرهم وزيادة على ذلك جهل النساء وهو من أعظم الويلات.
لم نعمل حتى الآن إحصاء بعدد الأميين في بلادنا ولكن المفهوم أن عدد الأميين هو 95 بالمئة في بلاد العرب في حين أصبح عدد المتعلمين في أكثر مدن الغرب مئة في المئة تساوى في الأخذ من العلم بالحظ اللازم النساء والرجال والمتعلم منهم التعليم الابتدائي أرقى من المتعلم منا التعليم الراقي وكل شيءٍ نسبي.
قالت لي فتاة بولونيا في الثامنة عشرة من عمرها تدرس علم التربية والتعليم في جامعة جنيف على أحد مشاهير هذا العلم وهي عارفة ببضع لغات أوروبية وقد سألتها عما تقصده من تعلم هذا العلم: أريد أن أؤسس مدرسة في بلادي لأن الواجب على المرء أن يكون شيئاً في هذا الوجود. فقلت لها: جزاك الله عن هذا السعي لأمتك خيراً ولكن نسائنا في الشرق لا يردن ولا يريد أوليائهن مثل ما تريدين اكتفين بأن يكن لا شيء في هذا العالم ولذلك لا تجد بين ألوف من الطالبات البولونيات والروسيات والمجريات والألمانيات والإيطاليات والرومانيات والبلغاريات والصربيات واليونانيات والإسبانيات والبرتغاليات والبرازيليات والأرجنتينيات طالبة عربية اللهم إلا واحدة مصرية فيما أعلم تساهم بنات جنسها وتزاحمهن على دكات الجامعات في سويسرا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا فتأملوا حال أمتكم وانظروا إلى أي درجة بلغ بين أظهركم انحطاط عقول بنات حواء.
كلما نظرت ملياً في سعادة الحياة في الغرب وشقائها في هذا الشرق ينجلي لي سر تعليم المرأة كما يعلم الرجل وإنها هي التي أوجدت تلك الحياة البيتية السعيدة فبالحب والجمال والعواطف والرغبة في الكماليات تمت للبيت الغربي سعادته ومن سعد في بيته أو توقع(90/21)
السعادة فيه كان حرياً بأن يعمل الأعمال العظيمة خارجه إذ يجد له في منزله سلوى وعزاءً وراحةً وهناءً.
رأيت كثيراً من شباننا يشكون انحطاط تربية المرأة العربية وقلة ما عندنا من ألفتيات المتعلمات اللاتي يلقن للزواج الذي تكون منه سعادة الأسرة الحديثة قوامها الآداب العصرية والفضيلة والمعارف ولكنني لم أر شاباً من هؤلاء المتعلمين ولا ممن سبقوهم من العلماء من عني بتعليم أخته أو ابنته التعليم الراقي ولا من فكر في تأسيس مدرسة ابتدائية من الطراز الحديث لتلقين البنات مبادئ تنفعهن حقيقة في تأليف البيوت التي يرفرف عليها طير السعد والرغد. النظريات عندنا كثيرة ولكن العمليات لم نسلك طريقها ويا للأسف حتى الآن. أوروبا ممدنة العالم وجنات النعيم المقيم وقرارة الراحة ومستقر الهناء أيقضى يا ترى على مدنيتك البديعة وتنحل بما حوت ديارك من جمال الوجوه وجمال ألفعال ووفرة العلم والغنى وآثار الغبطة ومعاهد الصفاء والنعمة ليقوم الشرق فيستلم زمام هذه المدنية ويكمل ما بدأت به أو يمزقه تمزيق الأخرق الأحمق كثروة ورثها ولم يعرف قيمتها أم تسلم لك هذه الحياة السعيدة وتقل مؤلماتها وموبقاتها ويعم الشرق أثرها فيشاركك في كل معنى من معانيك البديعة ويكون حظه كحظ البلاد الراقية من ربوعك ويتحرر من أسره السياسي وأسره الاقتصادي وأسره العلمي ويتخلص من التبعية لك في كل ما يدل على ضعفه وتراجع أمره.
تيار الغرب ينهال علينا فيأتينا تارة بحماة وطوراً بقليل ماء فهل نرزق التوفيق يا ترى فنكرع من معينه ونطرح كدوراته أم نتناوله على علاته ولا نكاد نسيغه.
إن ما لدينا اليوم من أسباب القوة لا يقوم في وجه ذلك التيار لأنها ضئيلة لا كفاء لها بالمقاومة ولعمري إن ألف أمي وأمية لا يوازي عقلهم عقل متعلم أو متعلمة واحدة.
كانت حكوماتنا ومجتمعاتنا حتى الآن تعد الجهل قوة والانحطاط نهوضاً. وكلما كانت الأفكار منصرفة إلى وجهة واحدة يعينها صاحب الشأن كانت تلك المجتمعات تغتبط وتفرح ولطالما قال بعض من أحسنت الأمة ظنها بهم قروناً واستولوا على عقلها وقلبها وتصرفوا بعجرها وبجرها إذا قيل لهم أن العلم الفلاني مفيد ينبغي أن يكون في الأمة أفراد يعرفونه: أن هذا العلم لا تنفع معرفته ولا يضر جهله.(90/22)
بيد أن الأيام أثبتت أننا في أشد الحاجة لكل علم وفن ومجتمعنا العربي العثماني لا يقوم حق القيام إلا متى عمد أفرادنا إلى الأخذ من كل مطلب من مطالب الحياة كما هي سنة من سبقونا ومن الأسف أننا لم نبرح في مجتمعنا نشاهد ناشئتنا الكريمة على الأغلب تميل إلى المذاهب الاتكالية وأكثرها يؤثر التوظف في فروع الإدارة والجندية ولو كانت هذه غير رابحة في الجملة.
إن جعل وظائف الحكومة هدفاً لنا في تعلمنا هو الذي أفقر هذه المملكة وجعلها في مؤخرة الممالك في عمرانها وثروتها وراحتها. والمال أساس الأعمال ولا يأتي به إلا المتعلمون من الرجال.
فهل لكم يا رجال الأمة أن تحققوا هذا الظن بكم فقد سئمنا ونحن نسمع من إقبال المتعلمين من أمثالكم على الوظائف والزهد في الصناعات الحرة وإني لا أخجل إذا قلت أن صانع الخزف والفخار والقرميد أنفع لهذه الأمة من وزير متوسط القريحة ضعيف مادة العلم لا يحسن عمله وقد وصل إلى منصبه بالمصانعة والشفاعات وإن دباغ الجلود أو صباغ الحرير والقطن أشرف من فقيه تعلم بعض فروع المعاملات ليتولى بعض الأعمال القضائية والشرعية.
وبعد فرجائي إليكم يا شبان هذه الأمة وبغيركم لا يتجدد شبابها أن تجعلوا نصب أعينكم الأعمال الاستقلالية ويكفي بعضكم أن يتولى الأعمال الإدارية وغيرها في المملكة فإن الكل لا تتسع خزينة هذه الأمة لإعاشته خصوصاً وأنتم تعلمون ضائقة الموظفين وأن جيوبهم في الغالب فارغة تتقاذفها الرياح لأنها خالية وهم على الدوام مثل تجار البورصة إقبال وأدبار والأدبار في الأكثر هو الغالب.
من لي بأن يعمل كل واحد من شبان هذه الأمة الواجب عليه أولاً ويتوفر على دراسة ألفرع الذي يمت به فإن ست الدراسة معينة محدودة لا ينبغي أن يعمل فيها ما يجب عمله في غيرها ومتى أتم الطالب ذاك الدور فلا جناح عليه إذا اشتغل بالعموميات فمشركة الطالب في المسائل العلمية يجب أن تكون في سن الدراسة إلى حد محدود وبعد ذلك فهو في حل من الاشتغال بما أراد.
أنا أحب أن أشهد من أبناء أمتي وقرة عينها رجالاً يفكرون في ترقية نفوسهم وذويهم(90/23)
وبيوتهم والأخذ بأيدي إخوانهم أكثر مما أحب أن أراهم يفكرون في المسائل الاجتماعية الكبرى التي يضيع بها الوقت على غير طائل بالنسبة إليهم وإن كان الواجب على كل وطني أن يصرف من وقته وفكره شطراً ولو قليلاً للنظر في المسائل العمومية.
تلامذة الكليات في ألمانيا هم الذين هيئوا الوحدة الألمانية ووضعوا أساسها في القرن الماضي ولكن كان العم رائدهم وكان عملهم يقف عند حد محدود فهل يأتي يوم على هذه الأمة البائسة يا ترى تشهد فيه طلاب مدارسها العليا بعد أن يتموا وظائفهم المدرسية يفكرون في الخير العام لأمتهم خصوصاً متى أتموا سني الدراسة وأصبحوا أحراراً في أعمالهم وإرادتهم.
نعم أيها الإخوان إن الشفيق بسوء ظن مولع وإن ما يتمثل للأنظار من مدنية أوروبا مهما كان ظاهره فيه الرحمة فرحمته لأهله لا لنا ونحن لا رحمة لنا إلا إذا أتتنا على أيدي رجال لنا أمثالكم وهؤلاء لا يأتون بعمل تام إلا إذا شاركهم النساء وحسن نظام البيوت وتنظيمها على الأساليب الغربية نعم نحن لا حياة لنا إلا إذا تعلم الرجال وربات الحجال التعليم اللازم وقام كل واحد بواجبه ووحدنا المقاصد في التربية والتعليم.
إن القليل المتعلم منا لا يؤلف أقل أمة صغيرة وهذه الزهرات التي أراها مهما بلغ من نضارتها تضيع بين ما هناك من عوسج وبلان فلا سبيل إلى وقايتها إلا بتنقية هذا الشوك ما أمكن ولا ينقى بغير معول العلم والتربية ومعرفة الواجب والعمل بسنة الغرب التي سلكها في الترقي على تعديل طفيف يدخل فيها بطبيعة الإقليم والعادة.
إن ناديكم هذا مثال من أمثلة التضامن ولكن أمتنا لا تعد مرتقية إلا متى كان في كل مدينة بل في كل قصبة من مدنها وقصباتها أندية تنسج على منواله في التعارف والتعاطف وتوقد في الصدور جذوة الغيرة الوطنية وتحمس النفوس إلى طلب العلم ويأخذ القوي بيد الضعيف حتى يساويه في المنزلة ويتدبر الكل في مستقبل مجيد للأمة يخرج بها إلى حالة أحسن من حالتها الآن ويتعلم ابن ألفلاح الصغير كما يتعلم ابن الغني الكبير وإذا لم تقم جميع أعضاء هذا الجسم لا ينمو ولا يتم له بقاء.
واجباتكم أيها الأعزة كثيرة جداً والأولى البدء بالجزئيات ولكن على شرط أن نبدأ ونجعل تاريخ الأمم التي نهضت قدوتنا ومهمازنا على العمل يجب أن تكون مدنية الغرب إذا أردنا(90/24)
أن نحيا حياته مصدرنا وموردنا وبدون ذلك ألفناء المطلق والعياذ بالله أو الاندماج في جسم الأمم الغربية التي تبسط أيديها علينا اليوم بعد اليوم.
إننا لا نحيا غلا بقوميتنا على نحو ما كان أجدادنا أمس وحال أمم الحضارة الحديثة اليوم ولكن هذا اللفظ الجميل - لفظ القومية - لا يطابق معناه مبناه إلا باتخاذ جميع أسبابه على نحو ما يعمل المجر والبولونيون والإيطاليون وما يجري من منافسة محمودة بين الفالونيين والفلامنديين في البلجيك والألمانيين والفرنسيين في سويسرا.
ومن دواعي الحسرة أن من رحلوا من أبناء العرب إلى ديار الغرب يدرسون في معاهد العلم ليستحقوا الاسم العربي الشريف بالفعل لا بالقول أقل عدداً من أكثر عناصر هذه الدولة. نعم هم أقل من الأتراك والروم والأرمن هذا مع أننا أكثر من نصف سكان هذه المملكة المحبوبة وبلادنا أغنى من بلاد تلك العناصر التي أخذت ما استطاعت من الحكومة لتعليم أبنائها وقامت بسد العجز من أموالها الخاصة.
بلغني أن في نية الحكومة السنية إرسال ستين طالباً من أبناء العرب إلى مدارس أوروبا العليا فإن صح النبأ عد من أعظم الإصلاحات. وإن كان هذا العدد دون الواجب أيضاً وذلك بأنه إذا خمنا عدد طلابنا الآن بستين طالباً بلغ من قابل مجموع طلبتنا في الغرب مائة وعشرين وهم لا يبلغون نحو سبع طلبة الإيرانيين في مدارس أوروبا مع أن العرب العثمانيين أكثر سواداً من الإيرانيين بالتحقيق.
هذه عددنا وهذا ما عددناه هذه أداؤنا وتلك أدويتنا وبأيديكم وأيدي أمثالكم خلاصنا فلا تخيبوا آمالنا فيكم معاشر الشبيبة المستنيرة. العبء ثقيل عليكم وبتضامنكم وتماسككم يهون كل عسير على شرط اطراد العمل وإتقانه ومضاعفة الأفعال أكثر من الأقوال وصرف المسعى إلى المنتج النافع والزهد في التافه العبث والله يتولاكم ويسدد مراميكم ويقر عيون أوطانكم بنجاحكم ويجعل منكم أعضاء عاملة في جسم مجتمعنا وأصواتاً داعية إلى كل نافع ورافع إنه سميع الدعاء.
أرض اليونان
اغتنمت فرصة إرساء الباخرة الرومانية التي ركبتها من الأستانة إلى الإسكندرية في ميناء بيرا لازور أثينا مدينة أرسطو وسقراط والمسافة بين بيرا وأثينا تسعة كيلومترات تقطعها(90/25)
السكة الحديدية الكهربائية في خمس عشرة دقيقة. رأيت أثينا مدينة وسطى لا تزيد نفوسها عن مائتي ألف وهي في منبسط من الأرض وعلى مقربة منها أكمة قام عليها الأكروبول والمدينة نظيفة في الجملة مبلطة أرصفتها بحجر أبيض يشبه الرخام وفيها حدائق نظيفة وأبنيتها الحديثة من الرخام أيضاً وأهم ما لفت نظري فيها معاهدها التي قامت بعطايا المحسنين من أبنائها مثل الإستاد أو الملعب العجيب الذي أنشئ بمال أفيروف ونصب تمثاله أمامه وأفيروف هو الذي خلف الملايين من ألفرنكات أعطاها لأمته ومنها أنشأت قسماً من الدارعة اليونانية المنسوبة لاسمه.
نعم في أثينا تتجلى عطايا اليونان المحدثين فترى مدرسة البنات عالية داخلية وخارجية أنشأها أرساكي من ماله وترى مكتبة الأمة أسسها فالينوس وترى لافيروف حبوس النساء والأودولسينا المجمع العلمي. لسيكنروس حبوس الرجال وقد أنشأ على نفقته من أثينا إلى فالير طريقاً معبدة وطولها 9 كيلومترات. وأنشأ فارفاكيس مدرسة عالية للأولاد وجاباس قصر المعرض وهو مؤسس مدرسة البنات العليا للروم في الأستانة.
وهكذا تجد فلاناً من أغنياء اليونان انشأ مدرسة صناعية وآخر مدرسة زراعية وغيره مدارس ابتدائية وليلية للفتيان والفتيات فتجد اليوناني مع أنه أكثر الأمم هجرة لبلاده - لأن نصف اليونان هاجروا إلى مصر والسودان ولأميركا وشواطئ البحر المتوسط وغير ذلك من البلاد - أكثرهم تعلقاً بحبها وتفكراً في إنهاضها يغتني أحدهم من مصر أو من أميركا ويجود بالألوف لبلاده لينهض بها وهذه خاصة من خصائص اليونان وأن كان المشهور عنهم كزازة الأيدي.
نهضت اليونان في المدة الأخيرة نهضة عظمى بفضل نشر التعليم على اختلاف صنوفه بين أبنائها وهو الدواء الشافي لكل مرض اجتماعي. التعليم في اليونان مجاني إجباري وفيها اليوم 1414 مدرسة ابتدائية للذكور منها 1197 من الدرجة الأولى و134 من الصنف الثاني و29 من الصنف الثالث و54 من الصنف الرابع وعندهم 4. . مدرسة للبنات منها 3. . من الدرجة الأولى وفي القرى 884 مدرسة تقبل الذكور والإناث على السواء وعندهم مدرسة عليا لتخريج المعلمات وقد أنشأت جمعية أثينا الأدبية عدة مدارس مسائية يتعلم فيها المئات من ألفتيان المضطرين أن يعملوا في نهارهم وليس لهم من الوقت(90/26)
غير الليل.
في اليونان 1878 أستاذا و61. معلمات و768 معلماً في مدارس الأولاد في الحقول ولهم مدرسة صناعية عليا تنقسم إلى قسمين قسم يعلم ألفنون والعلوم ويخرج المهندسين والميكانيكيين ومنهم من يعد من الدرجة الأولى والقسم الآخر يعلم الصناعات النفيسة أي النقش والرسم والتصوير والحفر والصناعات النقشية. وعندهم مدرسة تجارية ومدرسة جامعة عليا فيها أساتذة اشتهروا بأعمالهم العلمية حتى في أوروبا.
هذا مع أن لليونان في الممالك العثمانية مدارس كثيرة راقية فإن لهم في الأستانة وحدها 78 مدرسة فيها 597 معلماً يدرسون 16373 طالباً دع ما لهم في البلاد التي ضمت إلى بلادهم حديثاً وكل المدارس التي هي خارج علمهم لا تنال شيئاً من الرواتب من الحكومة بل إن اليونان هناك يقومون بنفقاتها.
ربما لم تصب بلاد بمصائب الهجرة أكثر من اليونان فإن الداخل منهم إلى نيويورك وحدها كل سنة يقدر بأربعين ألفاً فما بالك في الأقطار الأخرى فإذا كلن عدد اليونان قبل الجزر وسلانيك ويانيا التي انضمت إليهم نحو ثلاثة ملايين فأن المقدر أن مثل هذا العدد منهم موزع في أقطار العالم وهم يحافظون على لغتهم وعاداتهم حيثما كانوا بحيث كادوا يجعلون لغتهم في الإسكندرية ومصر والأستانة لغة رسمية لكثرة انتشارها وحرصهم على التناغي بها.
ومع كثرة المدارس في اليونان نرى طلبتهم في جامعات الغرب كثاراً جداً ولا سيما في باريس ولندن. واليونان إن لم يكونوا أكثر الأمم إقبالاً على تلاوة الصحف والتشوق إلى الأخبار السياسية فهم في جملة الأمم المتقدمة في هذا الشأن فلا تكاد لا تجد واحداً لا يتلو جريدة أو كتاباً أو مجلة في كل مكان والفقير منهم يستعير جريدة جليسه ولذلك لا ترج جرائدهم كثيراً فإن لهم في أثينا (11) جريدة يومية وإذا كان العدد الواحد ينتقل من يد إلى أخرى كما تنتقل جرائدنا في الشام ومصر في أيدي قرائها الذين لا يحبون أن يشتركوا ولا أن يبتاعوها اقتصاداً بارداً منهم صعب على جرائدهم أن ترقى.
ولليونان جرائد كثيرة في الأستانة والقاهرة والإسكندرية وجرائد أسبوعية في بعض عواصم أوروبا ومنها ما يصدر بغير اللغة اليونانية ليبثوا فيها أفكارهم ويؤثروا في(90/27)
الأسواق المالية والمجالس السياسية.
هكذا ما أمكن الإلماح إليه من حالة رقي المعارف في اليونان وأرضهم القديمة قبل الحرب لم تتجاوز 64 ألف كيلومتر مربع وهي غير مخصبة في الجملة بل أكثرها جزر متقطعة في عرض البحر حتى أن سواحلها تبلغ بمساحتها سبع مرات مساحة سواحل إنكلترا وتربو 12 مرة على سواحل فرنسا ولذلك كان اليونان في كل زمن يحصرون قواهم في بحريتهم ويصرفون فيها أموالهم وقسماً عظيماً من ميزانيتهم وقد كان لبواخرهم التجارية يد طولى في استقلالهم سنة 1824 لا ينكرها التاريخ.
واختلف العلماء في أصل اليونان الحاليين هل هم من نسل القدماء الذين ملئوا الأرض فتوحاً وفلسفة وصناعات نفيسة والأرجح عند الباحثين في أصول الشعوب أنهم أخلاط من الناس جاءوا منذ قرون إلى هذه الأرض واستعمروها بعد أن فرغت من سكانها الأصليين أما هم فيصعب عليم سماع هذا الحجاج ويحاولون بالطبع أن ينتسبوا لأفلاطون وأرسطو وسقراط وديوجنس وهوميروس وغيرهم من فلاسفة اليونان الذين بيضوا وجه التاريخ بعلمهم وحكمتهم.
أثينا تشبه المدن الأوروبية ممزوجة بشيء من الحياة الشرقية ولكن ألفقر ظاهر على السكان والغلاء فيه أكثر من جميع أوروبا قال صاحب كتاب اليونان الحديثة أن أسعار العيش في اليونان يزيد 5. في المئة عما هو عليه في إنكلترا ونحو 25 في المئة عما هو في الولايات المتحدة.
المدنية الرومية الحديثة منقول أكثرها عن فرنسا وفرنسا ساعدت اليونان كثيراً ولذلك حفظوا لها جميلها وما برحوا حتى اليوم يتخذونها معلمة لهم ومربية حتى أن معلمي جيشهم إلى الآن هم ضباط من ألفرنسيين وفي الحرب الألمانية ألفرنسية بعث اليونان بكتيبتين من متطوعتهم ليقاتلوا في صفوف الجيوش ألفرنسية فقتل بعضهم وبيضوا وجوههم مع من أسدى إليهم جميلاً ومن طبع اليوناني معرفة خدمة الأمزجة المختلفة والميل إلى النافع له ما أمكن بكل وسيلة.
أما ما في أثينا من بقايا العادات القديمة ليس بالشيء الذي يلفت نظر السائح اللهم إلا إذا أحب أن يزورها ليتذكر ماضيها. وأين عظمة رومية من عظمة أثينا ولا نغالي إذا قلنا أن(90/28)
بقايا عادتنا في جرش ووادي موسى وبعلبك وتدمر أفخم وأعظم من بقايا عادات اليونان كلها التي لم تقو على عاديات الأيام.
في العاصمتين
رأيت هذه المرة في العاصمتين عاصمة العثمانيين الأستانة وعاصمة المصريين القاهرة ما طالما شكا منه الاجتماعيون من الاتكال المجسم والغلو في حب التوظف والاستخدام رأيت ابن الأستانة لا يفكر ولا يريد أن يفكر في غير استحصال الرزق من باب الحكومة ورأيت المصري كذاك كلاهما يستميتان في طلب الوظائف وقد زهدا في الأعمال الحرة فلا تكاد ترى في الأستانة متعلماً إلا وهو يرغب أن يبيع استقلاله من غيره ويكون بيده آلة تحرك بدون اختيارها ومن الأسف أن هذا الخلق استحكم حتى لا تشهد سوى أسباب الرزق الضئيلة بيد الأتراك أما التجارب الواسعة والصناعات الرابحة فهي للرومي والأرمني والألماني والفرنسي وغيرهم من الشعوب والأمم وكذلك المصري المتعلم لم يتعلم إلا للخدمة في الدواوين وترك التجارة وغيرها من مذاهب المعاش للرومي والإيطالي وغيرهما.
داءٌ استحكمت حلقاته حتى افتقرنا. يسلب الغريب منا أموالنا ليحملها إلى بلاده ولا يزال آخذاً بالانتشار والعبر في القطرين تتلو العبر داعية القومين إلى إطراح المذاهب الاتكالية وإن أبواب الاستخدام إذا فتحت اليوم قليلاً فغداً تقفل حتى في وجوه الأكفاء من الطالبين وخزائن فروق ومصر تضيق صدراً عن إنفاق ما يلزم من المال على العمال والمستقل في عمله أنفع لنفسه ولقومه من المتعلق بأذيال غيره الذي يعيش عالة على السوي.
كنت في القهوة في زيارة صديق لي من أهل العلم والمكانة في الحكومة المصرية فجاءته فتاة مسلمة ودفعت إليه ورقة بخطها كتبت فيها صورة ما نالها من تنحية ديوان الصحة لها من الخدمة في المستشفى وحرمانها من خمسة جنيهات كانت عينت لها منذ تخرجت من مدرسة القصر العيني وطالبة إليه أن يساعدها لإرجاعها إلى مركزها.
فقال لها صاحبي أن مصلحة الصحة قد أسدت إليك معروفاً يجب عليك أن تشكريها عليه وهو أنه فتحت أمامك باب الاستقلال في عملك ومصر في حاجة إلى طبيبة مسلمة مثلك وليس فيها كثيرات من أمثالك وأنت تكتبين العربية والإنكليزية وتحسنينهما كما لحظت من(90/29)
كتابتك فأنصح لك أن تعمدي إلى نشر إعلانات عن محل تتخذينه وتشتهرين مع الزمن فلا ترضين بعد مدة أن تدفعي هذا القدر من المرتب الذي تعدينه شيئاً للممرض الذي تستخدمينه فإنك ستربحين العشرات من الجنيهات في شهرك وتخدمين بذلك بلادك ونفسك.
فلم يحل هذا الكلام محل القبول من قلب الطبيبة وأخذت تورد الحجج على صحة ما تريده وأنه لا قبل لها إلا بالاستخدام ولا رزق لها إلا فيه وأنها إذا نالت الخمسة جنيهات فقد حيزت لها الدنيا وأخذت بحظ من السعادة لها ولأسرتها لأن هذه أنفقت ما كانت تملكه في تعليمها فلم يعد في وسعها أن تزيد على ذلك.
وهكذا بقي صاحبي وأنا نورد البراهين القاطعة التي تلقن ألفتاة معنى الاستقلال وتبعد بها عن مواطن الاتكال حتى كل اللسان وانتهى الأمر إلى أن يكلم في أمرها أحد أصحاب الشأن ليرجعوها إلى وظيفتها التي أخرجت منها من دون سبب ولا تجد سعادتها إلا فيها.
هذا مثال رأيته بالأمس في مصر وكل يوم يقع مثله عشرات في الأستانة. وإن المرء ليأسف جد الأسف على عقول تضيع من غير فائدة وأعمال وكفاءات تذهب هباءً. أناس يرضون بالدون من العيش وفي استعدادهم أن يبرزوا في كل عمل تصح إرادتهم على اتخاذه وإن يغتنوا ويرتاحوا ويعيشوا مرفهين لا مقتراً عليهم وأحراراً لا مقيدين مستعبدين.
وفي الشرق قوى كثيرة تضيع وبعض ما يمكن الانتفاع به من موجوده لا يحسن استخدامه والمتعلم من أهله يعتقد أن الراحة والغبطة في الاعتماد على خدمة مخدمها وما درى أن تعبه في هذه الراحة وأنه لا راحة بدون تعب ولو كان هذا الخلق غرس في طباع الإنكليز والألمان والأميركان والفرنسيين وغيرهم من أمم المدنية الحديثة كما غرس في طباع سكان هذه الديار ما قامت هذه الحضارة التي تدهشنا وما استقام نظام الأسرة على صورة تبهرنا آثارها.
أليس من الأسف أن نكون حتى في بلادنا غرباء فإذا أراد أحدنا أن يترفه بعض الرفاهية لا يجد نزلاً ولا مطعماً ولا قهوة ولا مسرحاً لوطني بل كلها للإفرنج. والتركي والعربي باهتان شخصان لا يعرفان من أين تؤكل الكتف لأنهما يجهلان أصول الحياة وتحصيل الرزق ويحبان التفخل والفخفخة وضخامة الألقاب. ولطالما رأينا من نعدهم من كبرائنا يطأطئون رؤوسهم ذلةً لتاجر صغير في مظهره في الحقيقة ولكنه كبير في ذاته لأنه جمع(90/30)
مالاً وعدده إرادة أن يقرضه ما يستعين به على تمشية أموره أو يتبلغ به يسيراً ريثما تصرف له مشاهرته وهذه الحال تراها على أشدها في القطر المصري لأن ابن مصر منفاق على الأكثر لا يفكر في أن يوازي غالباً بين دخله وخرجه ولذا انتقلت الأملاك أو جزءٌ كبير منها من أيدي المصريين إلى الغرباء والرومي في المقدمة والحال في الأستانة أدهى وأمر.
وبعد فحيث اشتد العراك بين الأمم وبعبارة أخرى في العواصم الشرقية التي تكون فيها المنافسة على أتمها تجد الوطني يتضاءل ويضعف أمام الغربي بل ينهزم شر هزيمة وتتجلى للناظر صورة مجسمة من صور الاتكال والاستقلال بل صورة من العلم النظري الذي هو القشور وصورة العلم العملي الذي هو اللباب.
اشتدت في فرنسا على عهدها الأخير محبة الوظائف وكثر فيها جيوش الموظفين والمستخدمين فأحس القوم بهذه الآفة التي تهدد كيانهم فأنشأ بعض المستنيرين حقيقة يستنكفون من تولي الوظائف حتى ضاق ذرع الحكومة أو كاد في البحث عن الأكفاء إذا لم يقبل عليها إلا المتوسطون وزهد في خدمتها النوابغ وما أنس لا أنس وزيراً تعارفت إليه في باريس ترك الخدمة وتولى إدارة مصرف صغير وكم في الغرب من رجل عظيم خطبته المناصب فأبى وآثر أن يكون تاجراً أو صرافا أو صاحب معمل أو مدير شركة أو محرر جريدة أو أستاذا في مدرسة على أن يكون وزيراً كبيراً يقدم ويؤخر في مصالح أمته ويحل ويعقد في أقدارها. والأمثلة كثيرة في هذا الباب فهل يتعظ شرقنا المسكين.(90/31)
هي النفس
هي النفس هذبها بما تستطيعه ... فليس سواها بين جنبيك من نفس
وصبح بها الأخلاق فهي غنائم ... فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
وجدد من الذكر الجميل مراسماً ... لنفسك واترك داثر الشرف المنسي
فإنك حي ما نسبت لها الإبا ... وإنك ميت ما انتسبت إلى الرمس
يغالي ألفتى في سومه المجد غالياً ... ويرخص من باع الحمية بالبخس
وأنت ابن هذا اليوم فاعمل لوقته ... فلم تملك الآتي ولم تغن بالأمس
وليس يفيد الدرس ما لم تضف له ... خلائق تغني عن مطالعة الدرس
وخذ بعيان الأمر لا بخياله ... فشتان ما بين التصور والحس
قل ألفصل تملك سرة ألفضل منزلاً ... وتمتاز في فصل الخطاب على الجنس
فما ألفضل بالكرسي تجلس فوقه ... ولكن أعمال ألفتى ذروة الكرسي
كأن حياة الخلق في الأرض بقعة ... تخالفن نبتاً والفضيلة للغرس
تروحني الأخلاق ألقى نسيمها ... كأن به روحاً يهب من القدس
ابنتكم يا خاملون وإنما ... (بين هباء الذر في ألق الشمس)
فلا قلمي باك برسم صنيعكم ... ولا ضاحك في نعت أخلاقكم دمي
كم اعتضت عنكم ناطقين خواطئاً ... بما جاء منسوباً لأقلامي الخرس
فوائد قس بها الكواكب أو فقل ... فصول خطابٍ لابن ساعده قس
وما أنست نفسي بلهوٍ وإنما ... رقيك يا أرض العراق به أنسي
لألبست أقطار البلاد معارفاً ... فهل حسن أني لك ألفضل استكسي
يسرك أن الأجنبي قطاره ... يسير وأن الباخرات له ترسي
سأفديك في أغلى من الملل غيرة ... وإن باعك الأغيار في ثمن بخس
النجف
محمد باقر الشبيبي(90/32)
المذكر والمؤنث لابن جني
نشرها الدكتور أوسكاوريشر الألماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله أجمعين المؤنث الذي لايجوز تذكيره عن ابن جني العين الأذن الكبد الكرش الفحث ألفخذ الساق العقب العضد الخنصر البراجم الرواجب الضلع القدم اليد الرجل الضرب السلطان الضحى الرب البغل القوس ألفهر النار الملح السلم العروض الحدور الكؤود الصبوب النحل الكأس ألفأس الموسى ألفرسي الذود السري الغول العناق الرخل الضبع المعز الضأن الأبل الخيل الغنم الناب المسنة من الإبل السن العصا العقاب القلت موضع يجتمع فيه الماء القتب من المرط البئر الدلو الدرع اللبوس سقر لظى الطس الشمس الشمال الجنوب الصبا الدبور اليمين الشمال النوى البعد المنجنون المنجنيق والافعى والجزور والسمر والبسر والشعير وحضار والعواء وكحل والأزيب النشاط وذكاء من أسماء الشمس والسراج والخندريس وجميع نعوت الخمر وأمام وقدام ووراء وخود ومسرح وضنك وحروف المعجم يؤنث ويذكر وما لا يجوز تأنيثه الأشاجع البطن الضحى الألف من العدد النعم الناب من الأسنان الضرس النجار القليب درع المرأة القميص الرداء اللبوس من اللباس الجحيم شمس قلادة الخرز ذكر الأرنب الزيخ ذكر الضباع العقربان ذكر العقارب الأفعوان ذكر الأفعى العشي الزند الأعلى من الزناد والشهور كلها مذكرة إلا جمادى العراق واسط دابق الزبعرى الجمل الشديد والعنبى منه والجلبى مثله والصلخدي مثله وفوق السهم والسور وفحال النخل وما لا ينون في النكرة ولا يدخل عليه علامة التأنيث فاقض بأن ألفه للتأنيث نحو بشرى وشعرى وإن كان بنون أو تدخل عليه علامة التأنيث فألفه لغير التأنيث نحو أرطى ومعزى وأما الهمزة التي للتأنيث فلا تكون إلا زائدة بعد لام ألفعل نحو حمراء وصفراء فوزنها فعلاء ولام ألفعل هي الراء ولا يجوز دخول علامة التأنيث عليها ألا ترى أنك لا تقول حمراءة وصفراءة كما تقول صلاءة وعباءة وكل اسم رأيت في أخره همزة زائدة بعد ألف لم يجز دخول هاء التأنيث عليه ولم يكن على وزن فعلاء نحو حرباء وعلياء أو فعلاء نحو قوباء وخشناء فاقض بأن همزته للتأنيث ومما يعلم أن همزته للتأنيث ما كان على فعلاء نحو الرخصاء(90/33)
والنفساء والكرماء والظرفاء أو فعلاء نحو السيراء والعنباء أو فعلاء نحو قدماء وجنفاء أو أفعلاء نحو أربعاء وأصدقاء أو فاعلاء نحو القاصعاء والراهطاء أو فاعولاء نحو عاشوراء.
باب الهمزة: - الأضحى مؤنثة ويجوز التذكير يذهب بها إلى اليوم الألف من العدد مذكر فإن أنث فإنها يذهب بها إلى الدراهم الأنف مذكر الأشجع واحد الأشاجع وهو عصب على ظهر الكف مذكر الإبط يذكر ويؤنث وتذكيره الوجه الإبهام مؤنث وتذكيره لغة لبعض بني أسد الإصبع مؤنثة الأنعام جمع نعم مؤنثة الأذن أنثى الأفعى أنثى وللذكر أفعوان الأرنب أنثى وذكرها الخزز الإبل أنثى والآل الذي يشبه السراب مذكر وتأنيثه لغة أمام بمعنى قدام مؤنث الأذيب النشاط مؤنثة الأرض مؤنثة.
باب الباء: - البسر يذكر ويؤنث البراجم إناث جمع برجمة وهي ملتقى رؤوس السلاميات الباز مذكر ويقال باز وباز أخبرني أبو علي أنه يقال باز وجمعه بواز وبزاة وباز وثلثة أبواز فإذا كثرت فهي البيزان الباع مؤنثة بطن الإنسان مذكر وإذا أريد بالبطن القبيلة جاز تأنيثه البئر مؤنثة.
باب التاء: - التمر يذكر ويؤنث التوى الهلاك مذكر التولج الكناس مذكر التوت مذكر التولب ولد الحمار مذكر التجفاف واحد التجافيف مذكر الترس مذكر وجمعه أتراس.
باب الثاء: - الثعبان الحية العظيمة يقع على الذكر والأنثى والثعلبان مذكر لا غير الثدى مذكر الثمر جمع ثمرة يذكر ويؤنث الثمار نبت يذكر ويؤنث الثجير عصارة الشيء مذكر.
باب الجيم: - الجزور مؤنثة جرجان وكل اسم بلد في أخره ألف ونون زائدتان مذكر فإن أنث فإنما يذهب به إلى المدينة الجراد جمع جرادة يذكر ويؤنث وقد يقع الجراد على الواحد الذكر فيقال رأيت جراداً على جراد. الجحيم من بين أسماء جهنم مذكر وسائر أسمائها مؤنث الجبين ذكر الجام مؤنثة الجفن ذكر جمادى مؤنثة.
باب الحاء: - حضار اسم نجم مبني على الكسر والحضار الإبل البيض مؤنث الحشا وأحد الأحشاء مذكر الحرور الريح الحارة بالليل أنثى الحرب مؤنث الحدور مؤنث وهو موضع ينحدر فيه الحجاز مذكر الحانوت أنثى فإن ذكرت قصد بها البيت حوران اسم موضع مذكر الحال يذكر ويؤنث الحمام جمع حمامة يذكر ويؤنث.(90/34)
باب الخاء: - الخمر أنثى وكذلك جميع أسماءها نحو القرف والشمول والمدام الخصر مذكر الخرنق ولد الأرنب الغالب عليه التذكير الحد مذكر.
باب الدال: - درع الحديد أنثى ودرع المرأة ذكر دابق اسم موضع بطريق الشام مذكر الدار أنثى والدلاء جمع دلاة والدلاة والدلو أنثى ويجوز تذكير الدلو.
باب الذال: - الذنوب الدلو الكبير مذكر وهو أيضاً الحظ والنصيب مذكر الذود من الإبل من ثلث إلى عشر من النوق أنثى ذكاء اسم للشمس مؤنثة الذهب مؤنثة وربما ذكرت الذراع مؤنثة وربما ذكرت.
باب الراء: - الريح مؤنثة وكذلك جميع أسمائها نحو الجنوب والشمال الرخل مؤنثة وهي أنثى من ولد الضأن الرسغ مذكر الرحلى أنثى الرجل أنثى الروح مذكر فإن أنث فإنما يعنى به النفس.
باب الزاي: - الزوج مذكر وهو يقع على الذكر والأنثى عند أهل الحجاز وأهل نجد يقولون زوجة الزند من اليد مذكر الزقر لغة في الصقر ذكر الزرنب ضرب من الطيب ذكر.
باب السين: - السراويل مؤنثة السلم ذكر وربما أنث السلم الصلح مؤنثة وربما ذكر والسلم الاستسلام مذكر السري سير الليل مؤنث السبيل يذكر ويؤنث الساعد مذكر الساق مؤنثة السلطان يؤنث ويذكر السكين يذكر ويؤنث السن واحد الأسنان مؤنثة السلاح يذكر ويؤنث السوق مؤنثة وربما ذكر.
باب الشين: - الشخص مذكر عنيت به ذكراً أو أنثى الشهر مذكر الشام مذكر الشمال خلاف اليمين مؤنثة الشفر واحد الأشفار مذكر الشعير يذكر ويؤنث الشمس الطالعة مؤنثة والشمس الذي في القلادة ذكر.
باب الصاد: - الصعود من الأرض مؤنثة الصبوب مؤنثة مثلها الصاع يذكر ويؤنث صليف العنق صفحتها يذكر ويؤنث.
باب الضاد: - الضرب العسل الأبيض مؤنثة الضبع وسط العضد مذكر والضبع مؤنثة الضأن مؤنثة الضحى مؤنثة الضحى بمعناها مذكر الضلع مؤنثة الضرس مذكر.
باب الطاء: - الطريق يذكر ويؤنث الطس والطسة والطست مؤنثات طباع الرجل مؤنثة(90/35)
وربما ذكرت الطوي البئر ذكر فإن رأيته مؤنثاً فأنما يعني به البئر الطير جماعة طائر مؤنثة الطاعون يذكر ويؤنث الطاس مؤنثة.
باب الظاء: - الظهر من الصلوة مؤنثة الظهر مذكر الظفر مذكر الظئر الداية مؤنثة وجمعها ظؤار الظبي جمع ظبة مؤنثة.
باب العين: - العصا مؤنثة العضد مؤنثة العشاء مؤنثة عروض الشعر وغيره مؤنثة العرس مؤنثة العراق مذكر العجز العجيزة مؤنثة وربما ذكرت العاتق بذكر ويؤنث العقرب اسم للذكر والأنثى العقب مؤنثة العناق مؤنثة العقاب مؤنثة العلياء العصبة في العنق مذكر العنق بضم النون مؤنثة فإن سكنت النون ذكر العنز أنثى العنكبوت يذكر ويؤنث العين مؤنثة.
باب الغين: - الغنم مؤنثة الغول مؤنثة غبر اسم يقع على الذكر والأنثى.
باب ألفاء: - ألفرج مذكر ألفردوس مذكر ألفخذ مؤنثة ألفأس مؤنثة ألفرس يقع على الذكر والأنثى الفهر الحجر الصغير مؤنثة الفلك يذكر ويؤنث فرسن البقرة والجؤذر مؤنثة.
باب القاف: - القلت مؤنثة وهي حفرة تكون في الصفا تمسك الماء والقليب من أسماء البئر يذكر ويؤنث القميص مذكر القوس أنثى القفا يذكر ويؤنس القدوم أنثى القدم أنثى وقدام أنثى وتصغير (ها) بالهاء القتب من الأمعاء أنثى.
باب الكاف: - الكف أنثى الكؤود من الأرض مؤنثة الكرش أنثى الكراع أنثى وقد يذكر الكتف والكبد والكأس مؤنثات.
باب اللام: - الليت مجرى القرط في العنق مذكر اللسان لهذا العضو مذكر فإن عني به القصيدة أو الرسالة فهو مؤنث.
باب الميم: - محجر العين مذكر المسك مذكر المطر مذكر وربما أنث إذا أريد به الزراعة المعى مذكر وربما أنث المعز مؤنثة المتن مذكر وربما أنث وربما دخلت عليه الهاء فقالوا متنة المؤق والمأق مذكران وهما زاويتا العين اللتان تليان الأنف مثل يقع على الذكر والأنثى من يقع للمذكر والمؤنث الملح مؤنثة المنجنون ويقال المنجنين وهي الثالثة مؤنثة المنخر ذكر المنجنيق مؤنثة موسى الحجام مؤنثة.
باب النون: - النجار مذكر ومعناه الطباع السمك مؤنثة الناب من الأسنان ذكر والناب(90/36)
الناقة المسنة مؤنثة نحن يقع على المذكر والمؤنث النحل يذكر ويؤنث النعل مؤنثة النوى البعد مؤنثة النوى جمع نواة يذكر ويؤنث النفس أنثى النعم يذكر ويؤنث النور خلاف الظلمة مذكر.
باب الواو: - وراء بمعنى خلف مؤنثة وتصغيرها وريئة بوزن وريعة الوحش أنثى الورك أنثى واسط ذكر الوعاء ذكر.
باب الهاء: - الهدى مذكر وقد يؤنث الهبوط من الأرض أنثى الهردى نبت مؤنثة الهجنع ذكر النعام.
باب الياء: - اليمين اليد واليمين من الخلف كلاهما مؤنث اليسار اليد اليسرى مؤنثة واليد مؤنث اليأفوخ مذكر وكل اسم مؤنث هو على ثلاثة أحرف تصغيره بالهاء نحو قدر وقديرة ودار ودويرة إلا أحرفاً شذت وهي قوس وزود وحرب وعرس لأنها كثرت في كلامهم فاستخفوا بطرح الهاء من التصغير فإن كان المؤنث على أربعة أحرف فصاعداً كان تصغيره بلا هاء نحو عقرب تقول عقيرب وعقاب عقيب وأتان أتين إلا أنهم صغروا إماماً ووراء وقداماً (بالهاء) فقالوا وريئة وقديمة وأميمة لأن جميع الظروف مذكرة وهذه الثلاثة مؤنثة فلو صغروها بطرح الهاء أوهم أنها مذكرة كسائر الظروف فإن كان في الاسم المجاوز للثلاثة هاء في التكبير تنبت في التصغير تقول في سفرجلة سفيرجة وفي سلسلة سليسلة.
تم الكتاب بحمد الله وجميل صنعه وصلى الله على محمد وآله أجمعين.(90/37)
قواعد العمران
من بين آيات القرآن
إذا تجرد الإنسان هنيهة من جلباب التقاليد. وترك التصديق والإذعان جانباً ونظر إلى القرآن ككتاب غامض خبره. مجهول مصدره. وأراد أن يقرأ فيه. ثم يحكم عليه. ويأخذ عبرة منه. فماذا يرى؟ وبماذا يحكم؟
أخذ ذلك الإنسان القرآن وما هو إلا أن وقع نظره على أوائل سورة الإسراء فرأى عجباً: رأى من ضروب الوعظ والتذكير. وأفانين التربية والتعليم. وأصول الآداب وقواعد الاجتماع. مفرغاً ذلك كله في أساليب عالية. وحلل بالفصاحة والبلاغة زاهية - ما جعله يكبر الأمر. ويتساءل ماذا عساه يكون السر.
كتاب وجد منذ أربعة عشر قرناً في بلد منقطع عن العمران. محجوب عن أشعة العلم والعرفان. بين قوم أميين. قساة جاهلين. ثم هو يتضمن ما أشرنا إليه لجدير بالتعجب منه. حقيق بالتفكير فيه.
تضمنت أوائل سورة الإسراء ما تضمنت وهي ست صفحات فقط. فماذا تتضمن إذا بقية صفحات ذلك الكتاب وهي زهاء (87.) صفحة.
نحن لا نحيل القارئ الكريم إلى أمر بعيد عن القياس ولا إلى غيب لا يدخل تحت متناول الحواس. وإنما نحيله إلى عيان ومشاهدة واختبار.
الإسراء والمعراج
(من مزايا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم)
يصح نعت القرآن بأنه أقدس رسالة أتت من أقدس مقام بواسطة أقدس إنسان. وهو محمد بن عبد الله الرسول في تبليغ تلك الرسالة إلى الخلق.
وقد افتتح مرسل تلك الرسالة إحدى سورها أعني سورة الإسراء - ببيان منزلة ذلك الرسول. ليزداد الناس ثقة به. وحباً له. وحرصاً على تلقي الرسالة عنه. فقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا
اطلاع الله لذلك الرسول على آيات الكون وأسرار الخليقة هي المنزلة الرفيعة التي امتاز(90/38)
بها عن سائر بني البشر. فالمقصد من الآية إثبات تلك المنزلة له.
أما أن رحلة الرسول في الاطلاع على تلك الآيات كان بروحه الشريفة أو جسده المبارك فهذا لا نكلف الإيمان القطعي به ما دامت الآية ليست دلالتها على معناها بقطعيته. ولذلك اختلف العلماء بل الصحابة في الإسراء والمعراج:
أسري بروحه أو بجسده وكيف كانت كيفيته. وعلى أية حالة وقعت غدوته وروحته هذا من عالم الغيب لا نكلف به تفصيلاً ما دمنا مؤمنين بالغرض منه إجمالاً. ألا وهو الإيمان بأن الله اطلع على نبيه على عالم الملكوت. ولنضرب لذلك مثلاً:
نسمع أن أهل طرابلس الغرب قاموا اليوم لمناجزة إيطاليا. ونعلم أن حكومتنا العثمانية ذات الدهاء والقوة هي التي أمدتهم بالضباط والسلاح والذخائر فتمكنوا بذلك من القيام ضدها.
فيقول قوم: وكيف أوصلت حكومتنا تلك الإمدادات إليهم بالبر عن طريق مصر؟ أو بالبحر على ظهر السفن. أو بالهواء على متون الطيارات؟
ولكن هل من المعقول أن توسع مسافة الخلاف بيننا في هذه المسألة ونكثر من اللغط فيها. وليس في ذلك من فائدة لنا. وإنما ألفائدة هي في أن نثق بالحكومة وفي أن لديها من الوسائط ما يكفل إيصال القوات إلى إخواننا السنوسيين بطريقة حكيمة مأمونة.
يستبعد قوم أن يكون الإسراء قد حصل بجسده الشريف ولكن أقول أنه ربما كان هو الواقع كما يستبعد قوم أن يكون إمداد السنوسيين بطريق البحر مع أنه ربما كان هو الواقع أيضاً بل ربما كلن بواسطة الغواصات التي تنساب تحت مياه البحر.
كيف أسري بجسده صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس؟ وكيف يتصور هذا؟ ولكن قل لي - ولنفرض أنفسنا عائشين منذ مئات السنين - كيف يمكن أن يطير الإنسان مسافة أيام بساعة من الزمن؟ لو قلنا ذلك لأهل القرون الأولى أما كانوا يستبعدونه ويعدونه من المحالات العقلية؟
وكذلك إسراء النبي إذا استبعده العقل وعجز عن تصوره ينبغي له أن لا ينكره ولا يحيل وقوعه.
الاعتبار بالأمم الغابرة
عرفنا منزلة الرسول حامل الرسالة. ولنقرأ الآن الرسالة نفسها أو بعض آيات منها أعني(90/39)
أوائل سورة الإسراء
أول ما فعلته هذه الآيات أنها حولت نظرنا إلى أمة تقدمتنا كان لها في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية شأن عظيم وقد ذاقت حلو الزمان ومره بحيث أصبحت أجدر الأمم القديمة بأن يتعظ بها. ويعتبر بأحوالها. ألا وهي الأمة اليهودية:
وآتينا موسى الكتاب. وجعلناه هدى لبني إسرائيل. ألا تتخذوا من دوني وكيلاً. ذرية من حملنا مع نوح. إنه كان عبداً شكورا. وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين. ولتعلن علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أوليهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا. ثم رددنا لكم الكرة عليهم. وأمددناكم بأموال وبنين وجعلنكم أكثر نفيراً. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وإن أسأتم فلها. فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيراً. عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا
قصت علينا هذه الآيات من خبر اليهود ما فيه مزدجر وتحذير لنا أن يصيبنا مثلما أصابهم: فقالت أن الله أعطاهم التوراة فيها هدى وحذرهم مخالفة أوامره واستدبار سننه وأكد لهم أن هذه المخالفة تؤدي إلى غلبة عدوهم عليهم. واكتساحه بلادهم. فاليهود غفلوا عن سنن الكون. وتناسوا أمر الله. فسلط عليهم بختنصر نبوخذ نصر ملك الآشوريين. فأنزل بهم البلاء. ثم كشف ذلك عنهم على أمل أن يكونوا تابوا وأنابوا، فيعودوا للعمل بالتوراة. ومراعاة سنن الوجود والاتعاظ بما كان من إذلال عدوهم في المرة الأولى لهم - فلم يفعلوا شيئاً من ذلك وعادوا لما نهوا عنه. فجاءهم الرومانيون. وأوقعوا بهم واضطهدوهم وأذلوهم. كما قال لهم ربهم وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم للمخالفة عدنا لتسليط عدوكم عليكم.
هذا ما كان من أمر اليهود في سابق عهدهم. فوعظنا الله نحن المسلمين بهم. وحذرنا أن نخالف أوامره الإلهية وندابر سننه الكونية. فيصيبنا مثلما أصابهم.
ولا ريب أن القدوة عامل من أقوى عوامل التربية. وهي في تربية الأمم مثلها في تربية الأفراد. فإن أحسن طريقة يتخذها المربي في تربية الناشئ هي أن يصف له إعمال رجال ألفضيلة فيقتدي بهم. وأعمال رجال الرذيلة فيتجنب عملهم. وهكذا الأمم في طور تكونها(90/40)
يجب أن تستفيد من أمم التاريخ فتقتدي بهذه. وتحيد عن عمل تلك.
سلك القرآن الكريم في تربيتنا معشر المسلمين هذا الطريق من التربية فترونه يقص علينا أخبار الأمم السالفة وما جرى لها لنستفيد من ذلك عظة وعبرة.
اليهود في عهد البعثة المحمدية كانوا مضرباً للأمثال. وموضعاً للشفقة عليهم. والتعوذ إلى الله من المصير إلى مثل حالهم. ولكنهم اليوم عادوا فلموا شعبهم. ورأبوا صدوعهم. وأخذوا يستفيدون من تجارب الأمم غيرهم. ومن عبر التاريخ التي تستنتج من حوادث من تقدمهم.
انظروا إليهم تجدوهم في علو منزلة ورفعة شأن. على أنه لا حكومة لهم ولا سلطان لماذا انقلب ما بهم وغير الله ما بهم؟
ذلك لأنهم غيروا ما بأنفسهم.
سلكوا إلى ألفوز في هذه الحياة من طريقه الطبيعي الذي طالما تنكبوه في سألف عهدهم. سلكوا سبيل الحياة الاجتماعية وهم مسلحون بثلاث أمور:
(1) تقوية روح التضامن بينهم
(2) إصلاح التربية العائلية والمدرسية
(3) توفير الثروة من طريق علم الاقتصاد
هذه القوى الثلاث هي عماد الأمم. وأكبر العوامل في نهوضها. فيجب علينا معشر المسلمين اليوم أن نقتدي بهم في توفير هذه القوى الثلاث: لأن الحكمة ضالتنا كما قال نبينا. وإلا كان أمرنا إلى خسار. وسعينا إلى تبار.
واأسفاه. . . كنا نرثي لليهود. ونشفق عليهم. ونتعظ بالمثلاث من أحوالهم. فعدنا اليوم نعجب من أمرهم. ونباهي بأعمالهم. ونحض أنفسنا على الاقتداء بهم. والسير في الحياة الاجتماعية على أثرهم.
(لا تحقرن امرءاً كان ذا ضعة ... فكم وضيع من الأقوام قد رأسا)
(فرب قوم قد جفوناهم ولم نرهم ... أهلاً لخدمتنا صاروا لنا رؤسا)
وهذا مصداق الآية الكريمة إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
غير أن القرآن الذي أعطانا نحن المسلمين هذا الأصل في نهوض الأمم وسقوطها وهو أن التغير الاجتماعي ناشئ عن التغير الأخلاقي - أعطانا أصلاً آخر في هذا المعنى وهوترك(90/41)
اليأس مذ قال: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
هذه أسباب النهوض حوالينا. وطرق العزة والغلبة ممهدة أمامنا. فلنسلك هذه الطرق بصبر وثبات ورجاء كما أمر الله. فلا جرم أن نكون بعد ذلك من ألفائزين
التربية النفسية
بعد أن فهمنا من آيات اليهود لزوم الاتعاظ بما جرى للأمم قبلنا نرجع إلى بقية الآيات الأوائل من سورة الإسراء فنجد فيها مواعظ وحكماً وآداباً اجتماعية أخرى. من ذلك التربية النفسية:
الأصل الأول في هذه التربية أن يعتقد المرء بأن كل ما يصدر عنه - منقول أو عمل أو فكر - له تأثير في أخلاقه وسعادته ومستقبل حياته: إن حسناً فحياته سعيدة وإن سيئاً فحياته شقية. وإذا علم المرء هذا كان جديراً أن لا يقول إلا حسناً. ولا يعمل إلا حسناً. ولا يفكر إلا حسناً.
قال تعالى في آيات سورة الإسراء إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها - ثم قال - من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها
والأصل الثاني في التربية النفسية حياة الضمير وصحة الوجدان في نفس المرء: فمن كان ذا ضمير حي. ووجدان صحيح كان على نصيب وافر من صحة الحكم والقصد في الأعمال. وسعادة الحياة. وهذا مغزى قوله تعالى في آيات سورة الإسراء: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراًاقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا طائر الإنسان عمله الذي صدر عنه فهو منوط به مقصور عليه كما مر في آية إن أحسنتم. . وآية ومن اهتدى. . فأعمالك التي تصدر عنك أيها الإنسان يكفي في تمحيصها ومعرفة صوابها من خطأها أن ترجع إلى نفسك أي ضميرك أو وجدانك كما يقولون اليوم ثم تقرأ ما انطوى فيها من الهواجس والخواطر والأميال والاعتقادات. فإذا قرأت ذلك كله فهمت كيف صدرت عنك الأعمال حسنة أو قبيحة؟ وكيف أصبحت بسببها سعيداً أو شقياً.
نفسك وحدك هي نعم الحكم فيما إذا عرضت الأعمال. ونصب الميزان للفصل بين الحق والضلال.(90/42)
فالواجب علينا في تربيتنا النفسية إذا أن نقوي فينا الضمير والوجدان الذي يسمى القرآن. النفس أو النفس اللوامةتقوي ذلك فينا لنعرف كيف نقول الصدق. ونحكم بالحق.
والأصل الثالث في التربية النفسية الصبر والثبات والتجلد وهو ما يسمونه اليوم قوة الإرادة والشجاعة الأدبية وقد نهانا الله في آيات الإسراء المذكورة عن اليأس والقنوط فقال ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا أي يا عجبا للإنسان! كيف يعجل بالسخط على نفسه والبراءة منها وتمني الشر لها إذا لم تفز في بعض المواطن. أو لم تنجح عند ممارسة عمل من الأعمال - كلا لا ينبغي أن يسخط ولا أن يدعو إلى نفسه بالشر والهلاك كأنه يدعو لها بالخير بل عليه أن يصبر ويتجلد. ويقوي إرادته فيعيد الكرة على العمل الذي لم ينجح فيه. فيتم له الفوز والغلبة. فبالله قولوا إذا لم تكن قوة الإرادة والصبر أساس السعادة في هذه الحياة فما هو الأساس؟
الأصل الرابع في التربية النفسية كبر النفس وعلو الهمة كما قال صلى الله عليه وسلم علو الهمة من الإيمان فلا يرضى المؤمن لنفسه بالدون من شؤون هذه الحياة. بل يقتحم المصاعب في نيل المطالب. ويكايد العظائم. في اكتساب الغنائم.
وأي مناصب ومغانم؟ هي أن تكون أمته سعيدة فيكون سعيداً بها ومعها - هي ألفضائل والكمالات والأخلاق العالية والمظاهر السامية فيكون المرء بها رجلاً عظيماً ونابغة كبيراً.
إذا كثر الأفراد من هذا القبيل في أمة من الأمم ارتقت وعزت. وإن قلوا وفقدوا تدهورت وذلت. والله سبحانه وتعالى يعطي المرء من هذه المظاهر العالية على حسب سعيه وما طلبه بلسان حاله (وإن ليس للإنسان إلا ما سعى) وقد أ - مره أن يسعى في نيل الكمال الإنساني بأبلغ أسلوب في آيات سورة الإسراء فقال:
من كان يريد العاجلة (الخطة التي يسهل تناولها والمنزلة الناقصة) عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد. ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموماً مدحوراً أي تكون عاقبة ما أراد التعجيل به من خطة الدون البلاء والشقاء الأبدي ومن أراد الآخرة وهي الحياة الكاملة والسعادة الشاملة وسعى لها سعيها وهو مؤمن واثق بالظفر فأولئك كان سعيهم مشكوراً.
الأصل الخامس: من أصول التربية النفسية التي علمنا إياها الله في آيات الإسراء إعمال العقل في ما يعرض عليه من المسائل العلمية والكونية فلا يجوز للمرء تعطيل عقله(90/43)
ومشاعره وتصديق كل وهم يلقى عليه. فقال تعالى في آيات سورة الإسراء - ويا ما أسمى حكمته فيما قال - ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً أي لا تتبع الظن فتصدق ما لا يلتحم مع العقل اليقيني بل استعمل عقلك وسمعك وبصرك. فإذا أهملتها وعطلت العمل بها سئلت عنها يوم القيامة. فإذا قال لك ربك يومئذ لماذا اعتقدت كذا أو كنت تذهب من المذاهب والآراء إلى كذا فقلت له: يا رب قيل لي كذا وقالوا لي كذا فتبعتهم. فيقول لك وأين عقلك وسمعك وبصرك التي قد وهبتها لك؟ ولماذا لم تستعملها وتستهد بها؟ هل أعطيتك إياها لتهملها؟ أهكذا حق النعمة وشكرها؟
لا جرم أن تقوم إذ ذاك الحجة على هذا المقلد فيقذف به في هوة الشقاء. أنقذنا الله منها بفضله وكرمه.
التربية العائلية
الأمة تتألف من العائلات كما أن الجدار يتألف من الأحجار. فإذا كانت الأحجار متينة قوية محكمة الوضع كان الجدار ثابتاً حسن الوضع والعكس بالعكس. كذلك الأمة إذا تألفت من عائلات راقية في نظامها وترتيبها ونظافتها وأدبها وأخلاق أفرادها كانت الأمة في أعلى درجات الرقي والعكس بالعكس.
والعائلة تتألف من أول أطوار تكونها من أب وأم وابن
والابن الأول هو حجر الزاوية في أساس البيت. فإذا كانت أخلاقه حسنة وآدابه راقية وباراً بوالديه تبعه أخوته وأخواته وانتظم حال الأسرة. وإلا فسدت الحالة واختل النظام.
على أن البن إذا كان عاقاً لوالديه. يسيء عشرتهما. ويوصل الأذى إليهما كان جديراً بأن يفعل ذلك مع خلطائه ومعاشريه الآخرين. وهذا كاف في سقوطه وتعاسته. قال تعالى في آيات الإسراء: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً. أما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ومعنى هذه الآيات ظاهر لا يحتاج إلى تبيان.
ومن التربية العائلية التي جاءت في آيات الإسراء رحمة الوالدين وعطفهما على ابنهما فلا يقسوان عليه. ولا ينظران إليه كأنه متاع لا قيمة لفه في الوجود. وإنما هو حر مستقل في(90/44)
نفسه. يكلف أبوه بالإنفاق عليه وتربيته حتى يبلغ أشده. ثم يسرحه في هذا العالم ليسعى لنفسه وعائلته ولوطنه.
وقد نعى الله على الآباء القساة صنيعهم فقال في آيات الإسراء: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم إن قتلهم كان خطأً كبيراً
فذه القسوة أو اليأس من حصول الغنى هو من أسباب خراب العائلات وتنغيص عيشها. ونحن اليوم لا نقتل أولادنا قتلاً حقيقياً وإنما نقتلهم قتلاً معنوياً. نهمل الإنفاق على تربيتهم وتعليمهم فيكونوا على حالة من الجهل والشقاء حتى الموت الحقيقي خير منها.
فتربية الأولاد والرأفة بهم وعدم قتلهم قتلاً حقيقياً أو أدبياً هو مما أمرنا الله به وحضنا عليه في آيات الإسراء.
ومن التربية العائلية استحكام ملكة الاقتصاد في نفوس أفرادها الآيتان السابقتان آية بر الوالدين وآية عدم قتل الأولاد تحضاننا على استكمال الروح الأدبي في العائلة. أما آيات الاقتصاد التي تضمنتها آيات الإسراء فهي تحضنا على استكمال الأمر المادي أي على توفير الثروة. والاهتداء إلى أحسن الطرق في استثمارها وتحصيلها. والعائلة التي لا تعرف كيف تستثمر ثروتها. أو تزيد فيها. أو لا تعرف كيف تنفق المال في طرقه القانونية. وتقابل الصرف بالخرج على أصول البودجة يوشك أن تنفق أموالها وتضيعها بالتدريج. أو تخزنها في صناديق دون أن تستفيد منها ويكون شأنها شأن من أعطاه الله عينين ليبصر بهما فهو قد أغمضهما أو وضع عليهما عصابة فلم يعد يرى ولا يبصر.
فمثل هذا الرجل كيف يمكنه أن يعيش؟ وذلك البخيل الذي يقتر على عياله كيف تطيب له الحياة؟ قال تعالى في آيات الإسراء: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً
الحياة الاجتماعية
آيات الإسراء على قلتها حافلة بالقواعد العمرانية. والأصول المدنية. التي يتوقف عليها هناء الجماعات البشرية.
فالبشر ما داموا مدنيين بالطبع. وما داموا في حاجة إلى أن يعيشوا عيشة اجتماعية - كانوا محتاجين إلى هذه الأحكام والأصول التي جاءت في آيات الإسراء. وها نحن نسرد تلك(90/45)
الآيات سرداً من دون شرح ولا تعليق. خوف التطويل والتضييق.
1 وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراًً.
وهذا خطاب للأغنياء والعظماء في الأمم
2 ولا تزر وزارة وزر أخرى.
وهذا خطاب للحكام والزعماء فيأخذون كل مذنب بذنبه
3 وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل. ثم في آية بعدها. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده.
خطاب لكل فرد من أفراد الأمة وتنبيه حكام الشرع لحمل الناس على إيفاء الحقوق
4 ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلا.
خطاب لكل فرد من أفراد الأمة فلا يتلوثوا بهذه ألفاحشة. ويصح أن نعد هذه الآية من آيات التربية العائلية لأن الزنا يهدم بناءها
5 ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً.
خطاب لكل فرد من الأمة بأن يكونوا ودعاء متواضعين فيتحابوا فيكونوا أقوياء وإلا تخاذلوا وضعفوا. وتصلح هذه الآية مثالاً للتربية النفسية لأن التواضع وعدم الغرور أساس تلك التربية
6 ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً.
خطاب لكل فرد أو للحكام في حفظ الدماء والحكم بالحق وترك الشطط والإسراف
7 وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً.
خطاب لكل فرد أو للحكام مع الدول الأخرى فيكون من قبيل التربية السياسية. وتصلح هذه الآية أن تدمج في آيات التربية النفسية
8 وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم
خطاب عام وتنبيه للحكام
هذه الآيات كلها مم جاء في أول سورة الإسراء. ولم تستغرق ست صفحات وهي كما يرى القارئ اللبيب جماع الأصول العمرانية وكفاف القواعد الاجتماعية ويتخللها آيات في(90/46)
مقاصد أخرى كآية وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب
وهذه الآية تصلح شاهداً للتربية الاقتصادية لأن فيها حضاً على السعي والكسب والاحتفاظ بالوقت فنعرف أقسامه. ولا ندع جزءاً منه يفلت منا سدى. أو يضيع علينا بدداً.
هذه نماذج من آيات أوائل سورة الإسراء. كما أن هذه الآيات نفسها نموذج من مجموع ما في القرآن الكريم من الحكم والعبر. والمبتدأ والخبر. فرسالة هذه شأنها. والله مرسلها. ومحمد رسولها وواسطتها - هل يليق بنا أن نتغافل عند تلاوتها. أو ندع العمل بمضمون آياتها. دمشق
المغربي(90/47)
إمارة مكة المكرمة
بشرتنا البرقيات بصدور الإرادة السلطانية بتعيين حضرة الشريف علي حيدر باشا أميراً لمكة المكرمة مع توجيه رتبة الوزارة السامية إلى عهدة دولته فكان لهذا التوجيه رنة مسرور وابتهاج في أندية الشام يقدرها من عرف صاحب الدولة الشريف علي حيدر باشا في شمائله الذكية وأخلاقه الملائكية وفرط صداقته للدولة العلية وشدة استمساكه بعروة الخلافة العثمانية فضلاً عن مكانة الشريف من بنوة النبوة وسلالة البيت الذي نزلت بتطهيره الآيات المتلوة ولا يخفى أن هذه الإمارة منذ أيام الحسن ابن أبي نمي أي منذ نحو ثلاثمائة سنة كانت قد انحصرت في هذا البيت الكريم المعروفين بذوي زيد يتوارثونها خلفاً عن سلف وكابراً عن كابر ولا ينازعهم فيها منازع ولا يكابرهم في الحجاز مكابر إلى أن حصلت ألفتنة النجدية واتسع فتق ابن عبد الوهاب وقام بدعوته ابن سعود واستولى على نجد وجانب من اليمن فأرسل النجديون بعض علمائهم إلى الحرمين فناظرهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم البرهان وكتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع في مكة تتضمن الحكم عليهم فأمر بحبسهم أمير مكة وكان الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس وستين ومائة وألف فوصل الخبر إلى ابن سعود فازدادت العداوة وصار النجديون يغيرون على بعض القبائل الداخلة تحت طاعة أمير مكة وفي سنة خمس بعد المائتين والألف انتشبت الحرب بينهم وبين أمير مكة وكان الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن سعد بن زيد وقتل من ألفريقين خلق كثير.
وما زال النجديون يتقدمون حتى دان لهم أكثر الغربان الذين في طاعة أمير مكة وفي سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف هجموا على الطائف بجموع كثيرة وأخذوه وقتلوا أهله رجالاً ونساءً ولما انصرف الحجيج تلك السنة قصدوا مكة ورأى الشريف غالب أنهم سيملكونها فسار إلى جدة فقصدوه فضربهم من هناك بالمدافع وهزمهم وعضدته الدولة العلية بعسكر مع والي جدة شريف باشا فساروا وأخرجوهم من مكة سنة 1218 واستقر الشريف غالب في الأمارة ثم أعادوا الهجوم بجيوش كثيرة وأطاعتهم العربان التي حول مكة المكرمة وحصروا البلد الأمين من كل الجهات وقطعوا عنه الميرة فاشتد بأهله الجوع واضطر الشريف غالب إلى الصلح معهم على أن يبقى أميراً بمكة ورضي بذلك مصانعة لهم ورفقاً بالأهالي الذين بلوا منهم بالداهية العظمى ودخل عصاة النجديين مكة 122.(90/48)
واستولوا على المدينة المنورة ولبثوا في الحرمين سبع سنين والدولة مشغولة عنهم بالحروب مع دول أوروبا إلى سنة 1226 فصدر الأمر السلطاني إلى محمد علي باشا والي مصر بقتالهم فسير ولده طوسون باشا بجيش ملك الينبع وحأول أن يتقدم فاجتمعت عليه العرب وهزموه ولم يرجع من جيش مصر إلا القليل ولم يكن المصريون هذه المرة قد راسلوا الشريف غالب في أمر عربان الحجاز وقتلت أرض جاهلها فلما بلغ ذلك محمد علي سير جيشاً آخر سنة 1227 ومعه عدة مدافع وراسلوا الشريف غالب سراً فأشار عليهم بما يجب أن يفعلوه من سياسة العرب فاستمالوا مشايخ حرب بالمال واستولوا على المدينة وعلى جدة ثم على الطائف وكان أكثر ذلك بحسن تدبير الشريف غالب ووصلت البشائر باسترداد الحجاز إلى الأستانة ومصر فتزينت دار الخلافة ومصر وسائر البلاد فرحاً وسروراً.
وفي سنة 1228 سار محمد علي بنفسه إلى مكة وأخذ يرتب الأمور ويبعث بالزحوف إلى بلاد عسير وغامد وزهران لقطع دابر السعوديين فأخمد جمرتهم وأناط من هناك معرتهم وأغرس نعرتهم لكنه عزل الشريف غالباً وأقام مكانه ابن أخيه الشريف يحيى بن سرور بن مساعد وتوجه الشريف غالب إلى دار السعادة وتوفي في سلانيك سنة 1231 وكان مدة إقامته هناك معززاً مكرماً وآلت أخيراً إمارة مكة إلى محمد بن عون من الأشراف الحسينية لكنه ليس من بيت الإمارة المتسلسلة فيهم وإنما أنهى له بها محمد علي باشا وجاءه التقليد من دار الخلافة ومن ثم صارت إمارة مكة مراوحة بين هذين البيتين الكريمين ذوي زبد وذوي عون تارة يتولاها أحد أبناء الشريف محمد بن عون وطوراً تعود إلى أصلها في ذوي زبد ويستقر الأمر في نصابه إلى أن كانت إمارة الشريف عبد المطلب جد الشريف حيدر باشا الأمير الجديد فتولاها ثم عزل عنها وآخر مرة جرت بحقه دسائس لم يأخذ منها حذره فعزل وخلفه الشريف عون الرفيق باشا من ذوي عون فبقي فيها مدة طويلة إلى أن توفاه الله فخلفه أخوه المرحوم الشريف عبد الإله باشا ولكن ما كاد يبلغ الإرادة السنية بتقليده إمارة مكة حتى توفي وأسندت الإمارة إلى ابن أخيه الشريف علي باشا فلما حصل انقلاب الشريف المشار إليه عن كرسي الإمارة فذهب وأقام بمضر وتولى مكانه ابن عمه الشريف حسين باشا وهو فيها منذ بضع سنين.(90/49)
والأمير الجديد هو الرئيس الثاني لمجلس الأعيان وقد كان تولى نظارة الأوقاف وهو من أركان الدولة الذين عليهم المعول ولهم المقام الأول وهو رئيس مجلس الإدارة للجمعية الخيرية الإسلامية التي هي تحت حماية سمو ولي عهد السلطنة نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل كل أيام الحجاز في أيامه مواسم كما جفل ثغور الأهلين بتوليته بواسم وأن يذلل لديه الصعاب ويمهد أمامه العقاب ويجعل التوفيق رفيقه في حله وشده ويمكنه من ناصية كل عاص حتى إن أبى أن يقف عند حده أغمد فيه سيف جده.
دمشق:
شكيب أرسلان(90/50)
الشيخ إبراهيم الحوراني
رزئت الآداب العربية بفقد هذا العالم المشهور بسعة معارفه ودقة أبحاثه واعتداله بمبادئه الأدبية فاقتطفت ترجمته هذه من كتابي (مفاوض الدرر في أعيان القرن التاسع عشر) لتنتشر في مجلة المقتبس وهناك ما اقتطفته.
1 - أسرته
لا يخفى أن معظم الأسر المسيحية الشرقية المذهب حورانية الأصل من بقايا اليمنيين الذين قدموا حوران وما إليها حتى العراق في حادث سيل العزم الشهير في التاريخ. وكان منهم الغساسنة الذين نسبوا إلى ماء غسان حيث نزلوا وهو اليوم نبع عري في حوران وكانوا عمال الرومان بعد تنصرهم ثم تفرقوا في أنحاء حوران وغيرها فنشأت منهم قبيلة في إزرع المشهورة بأذرعات ومنها تسلسلت أسر كثيرة بأسماء مختلفة أهمها بنو فرح أو الحاج فرح وأبناء عمهم بنو قنديل الذين تعادوا ثم تصالحوا ثم تعادوا وتفرقوا في أنحاء سورية ولبنان. وكان بنو فرح قد قدم بعضهم في أثناء ألفتح العثماني إلى ضواحي حمص مع بعض بني قنديل أنسبائهم متصالحين ثم عادت المشاحنة ففرقتهم فنزل الفرحيون في تلك الجهات والآخرون هجروها مبتعدين عنهم عداءً وكان ممن نزل حمص وحماة من الفرحيين من لقب بألقاب مختلفة مثل بني الحوراني أسرة المترجم الآن وبني اسيسه وبني أبي عريضة وبني نسيم وأنسبائهم أما بنو الحوراني فينتسبون إلى جدهم شدود الحوراني ونشأ منهم سليمان جد جد المترجم فبنى قرية في حصن الأكراد باسم معمورة الحوراني ثم خربت ونزح منها سكانها الذين كانوا كلهم من هذه الأسرة فعرفت إلى اليوم بخربة الحوراني. وعادوا إلى حمص وحماة وضواحيهما.
فنشأ ممن في حمص أبو يحيى يعقوب بن سليمان بن فرح وهو جد والد المترجم كان شاعراً بليغاً وصاحب مكتبة احترقت ومما يحفظ من شعره قوله من أبيات:
لا تعجبي من آسى العاني فأعظمه ... منذ العصور الخوالي حظ يعقوب
وله كثير غير هذا من بليغ الشعر
ثم نشأ من أنسبائه إبراهيم الأول وهو ووالد المترجم حفيدا أخوين وكان عالماً درس على الخوري عيسى الحامض والد الدكتور سليمان الخوري الحمصي واشتهر بطلاقة لسانه(90/51)
وسعة معارفه في التاريخ والطب وكان واعظاً بليغاً توفي نحو سنة 187. عن نحو ستين سنة. وله أولاد وحفدة في حمص. إلى غير ذلك مما يدل على أن العلم في هذه الأسرة موروث والشعر متسلسل. وأعظم علمائهم المترجم.
2 - نشأة المترجم
هو الشيخ إبراهيم بن عيسى بن يحيى (أو يوحنا) بن يعقوب بن سليمان بن فرح الغساني الحوراني. ذهب والده عيسى إلى حلب نحو سنة 1838 للاتجار بالمنسوجات وتدبرها إلى أن ولد له فيها المترجم في مساء 14 أيلول سنة 1844 (رومية) فعاد به أبوه وبأخيه الأكبر إلى موطنه حمص والمترجم ابن سنة فترعرع فيها وتعلم مبادئ الحساب عند حائك بارع بالقواعد الأربع ومبادئ الصرف والنحو في الأجرومية على يد القس أبيلا والخوري بطرس الأرقش وبعض العلوم على الخوري عيسى الحامض أديب حمص في عهده. وكان يجمع أترابه ويدرسهم ما درسه. وولع بالزجل والمواليا من فنون الشعر العامي فنظمها وهو في الحادية عشرة فتناقل المنشدون قدوده يتغنون بها منها في البغدادي:
يا ساكن البان صبري من بعادك بان ... يبكي دماً كلما غنى حمام البان
سرك كتمته ولكن من دموعي بان ... والدمع فضاح أرباب الهوى في الصبا
يا روح عطفاً على العاني أسير الصبا ... مولاي شكواي ألطف من نسيم الصبا
وإن كان بتهز عطفك يا غصين البان
ونظم الشعر الموزون في سن الثانية عشرة من العمر كما سنرى في شعره
وسنة 186. نزح بيتهم إلى دمشق فتعرفوا فيها إلى الدكتور مخايل مشاقة فأعجب بذكاء المترجم وأقنع والده بإدخاله إلى مدرسة عبية الأميركية فدخلها سنة 1861 وبقي فيها إلى سنة 1864 فأحكم بعض العلوم وعاد إلى دمشق فأتمها على بعض علمائها فدرس الرياضيات والفلك والمنطق على يد الدكتور مخايل مشاقة والطبيعيات والكيمياء على الدكتور يوسف دمر ومبادئ الإنكليزية على السيدة كروفرد. ولكنه كان يعلم نفسه بالبحث والاستقراء والتدبير والمطالعة كما قال في مقالة أنشأها بعنوان أنا معلمي سنة 1913وهو: وما زلت منذ ذلك الوقت أي زمن الصبوة أطالع وأتعلم إلى هذه الساعة فاستفدت من تعليم نفسي أضعاف ما استفدته من معلمي ودرس في بعض المدارس البسيطة في ضواحي(90/52)
دمشق. وحذق علم الجبر والهندسة والمنطق والجغرافية السماوية وبعض أحوال السيارات ومبادئ علم ألفلك وعلم قياس المثلثات والأنساب والفلسفة الطبيعية والكيمياء والنبات والحيوان. واشتهر بسعة معارفه ودقة مداركه فاستقدمته المدرسة الكلية للأميركان في بيروت سنة 187. أستاذا فدرس فيها البلاغة والمنطق والرياضيات وانفتح له باب جديد للتعمق في العلوم والتبحر في إتقانها وابتكار كثير من القواعد الرياضية التي كان يمليها على تلامذته العديدين من أطباء وعلماء وأدباء وهم معظمهم نوابغ السوريين في القطرين وبقي فيها نحو عشر سنوات وقفها للبحث والتأليف والتعريب والتصحيح من سنة 1871 - 188. م ودرس في مدرسة البنات وفي المدرسة البطريركية بضع سنوات وكان يدرس في مدرسة اللاهوت الإنجيلية بعض العلوم إلى آخر حياته. واتصل بالعلامة الدكتور كارنيليوس فانديك الأميركي المشهور ورصد معه الكواكب ثم صار يرصدها بمنظاره في بيته ويحقق شؤونها ويكتب فيها المقالات الضافية.
وتولى كتابة النشرة الأسبوعية منذ سنة 188. فدبجها بفوائد علمية وأدبية رائقة. وكان مصححاً لمطبوعات المطبعة الأميركية ومعرباتها مشتغلاً بالتأليف والكتابة منصرفاً إلى إتقان العلم وتوسيع المدارك. فكتب مئات من المقالات العلمية والأدبية. وابتكر قواعد وضوابط للعلوم مشهورة بين الأدباء. وألقى الخطب البليغة في الحفلات والمجتمعات الأدبية مما أرقص أعطاف المنابر. وعلى الجملة فإنه ملأ الآداب العربية بمباحثه المفيدة. وزين المجلات والجرائد بنفثات أقلامه. وأغنى اللغة بأوضاعه ومعرباته وأساليبه العصرية. وكانت مزايا كتاباته ومنظوماته الجمع بين آراء المتقدمين والمتأخرين مع دقة نظر وصحة بحث.
وما زال يدأب في عمله إلى أن أقعده داء عقام فلازم ألفراش ولم يكن مع اشتداد وطأته عليه يمتنع عن العمل فوافته المنية بعد عام وذلك في 2 شباط سنة 1916 في بيروت. فأقيمت له حفلة حزن مؤثرة رثاه فيها الدكتوران هسكنس وبلي والقسان هاردن وجسب والأستاذان فربان وكروفرد في الكنيسة أما على الضريح فتناوب تأبينه الأدباء ضوبط وبهنا ومصور وحمية وباز. وأقيمت له حفلة تذكارية أبنه فيها الأديبان خوري وغبريل. ورثاه كثير من الأدباء بمراث مؤثرة.(90/53)
وكان طويل القامة ممتلئ الجبهة حنطي اللون روماني الأنف أجش الصوت وخطه الشيب في آخر حياته ومن أخلاقه أنه كان حاد الطبع سريع الرضا كثير الجلد على العمل لا يكاد يمل ولا يكل من البحث والمراجعة. وإذا نظم ترنم بالوزن سريع الخاطر حاضر الذهن دقيق البحث في الوضع واللغة والترتيب واسع الاطلاع يسير بالقارئ بين حزون المباحث وسهولها. ترجم وألف وصحح أكثر من 25 كتاباً. فكان جبار علوم ومقدام أعمال متحلياً بأجمل الصفات الأدبية مع ترو وتثبت وتحقيق وتدقيق محباً للآداب والأدباء غيوراً على اللغة وأبنائها. فهو من أ - هم أركان النهضة العصرية بلا مراء.
3 - شعره
كانت مزية شعر الحوراني علمية الأسلوب والنزعة رشيقة التعبير متينة القوافي بليغة المعاني فصيحة الألفاظ دقيقة الخيال جامعة بين جزالة القدماء وأفكار المعاصرين. وله ارتجال بليغ ومعربات شعرية أجاد في نقلها مظهراً بلاغتها الأصلية.؟ كيف لا وقد ورث الشاعرية عن أسلافه كما مر ونظم في سن الثانية عشرة موزوناً وفي الحادية عشرة نظم الأزجال والموالينا وغيرها ولكنه كان قليل الحرص على حفظها فتشتت حتى قيل: أنها لو جمعت كلها لكانت خمسة أمثال شعر المتنبي أو تزيد. وقال بعضهم: أنه لا يلام إلا على إهماله جمع منظومه فمرثيته للشيخ ناصيف اليازجي وغيره من المشاهير فقدت من بين أوراقه. وقد اعتنى الأستاذ داود أفندي قربان بجمع ديوانه مما وعته حافظته المشهورة ومما رآه عند أصحابه ونشر بعضها بعنوان (الدقيق الحوراني) في (مجلة المورد الصافي) البيروتية. وسعي في حياة المترجم بجمع ديوانه فاطلع عليه قبل وفاته وأثبت ما صحت روايته منه. وكان يقول عن الأستاذ قربان: أنه روايته وذاكرته كما كان لدماء الشعراء رواة يحفظون منظوماتهم. وبعض أشعاره بدأ بنشرها في جريدة الرئيس التي تولى تحريرها. ثم في جريدة النشرة الأسبوعية وغيرها مم تناقله الأدباء فمتن أول أشعار صباه مورياً بأبواب حمص:
ويونانية في باب (هود) ... سبت بالحسن عادات العريب
فتحت لوصلها أبواب قلبي ... فلوصلها هجرها (باب الدريب)
ومنه وقد سمع من أبيه نظم جده وحثه على تحديه فقال مضمناً ذلك:(90/54)
يقول أبي: بني الشعر فخر ... لمن بمقاله الغاوين يهدي
فزوال نظمه وانشر علينا ... ذكي النشر من ورد ورند
فجدك كان ذا شعر نفيس=فقلت: انشر لنا نفحات جدي
فقال: إليك ما نقلت حداة ... به كانت مطي الشوق تجدي
ألا دع ما استطعت حديث نجد ... ففي ذاك الحديث قديم وجد
فجز تلك الربوع فإن فيها ... لقتلي غادة ربوات لحد
فقلت: طربت من ذا الجد جداً ... سأبذل في نظام الشعر جهدي
وأول ما أعلنه من شعره قواه وفيه صحة مذهبه الشعري:
هذب كلامك في نظامك ... قبل نقد العالم
فالشعر كالمرآة ير - سم فيه عقل الناظم
وقال من أبيات:
وعذاب أرباب ألفضائل لذة ... وكفى الأفاضل أن غدوا أبرار
إن كان موتي في الفضيلة رفعة ... فليقض ربي أن أموت مراراً
ومن ارتجالياته قوله:
جميع الناس في تيهٍ=على طرق الردى باتوا
فلولا الجهل ما تاهوا=ولولا التيه ما ماتوا
ومما كتب تحت رسمه:
رسم يشخصني لمقلة من به ... ولهي وروحي في حماه تقيم
يعقوب أشواق إليه مهجتي ... وأنا بدين الحب إبراهيم
ومن حكمياته قوله من أبيات:
لا يخدعنك عاقل متفقه ... شرح الحقائق للعجاف مجاف
حملاً يمثله المقال وفعله ... أبداً يقول الذئب بين خرافي
لا خير في عقل ولا علم ولا ... دين ولا مال بغير عفاف
وقوله في واعظ مراء:
خلقت شجاعاً ولكنني ... جبنت لبأساء لا تتقي(90/55)
أخاف وكم خفت من واعظ ... كثير الصلاة قليل التقى
وقوله مما يدل على تواضعه وحكمته:
إني لا علم أنني لا أعلم ... وكفى بذا علماً لمن يتفهم
إن الجهول الغر يحسب أنه ... أدرى من الشيخ الحكيم وأعلم
وقوله من مرثية:
يل نفس لست بمدرك كل الذي ... تبغينه فدعي عناءك واقصري
إن الذي في دفتر الأقدار لا ... يأتي على وفق الذي في دفتري
ولقد دخلت الأرض غير مخير ... وسأترك الغبراء غير مخير
وقوله ينصح التي ترغب في مال خطيبها لا في كماله:
ما كل ذي مال شريف فاطلبي ... من شرفته في الورى أخلاقه
كم من غني مجده أمواله ... كالزهر كل جماله أوراقه
وقوله في كأس الخمر:
في هذه الكأس الهلاك فلا تذق ... حلب العصير صديد أهل جهنم
عكست لظى لألائها من نارها ... وحبابه نفث الحباب الأرقم
وقوله في الباخرة من قصيدة:
حملتك جارية المحيط كأنها ... برق سرى ليل النوى بهجوعي
دنت مني ومستني لهذا ... علقت بها كما حكم القضاء
وقوله في صدر خطاب:
لا ذنب لي قد قلت للقوم اطلبوا ... غيري فلست من أهل الخطب
إن الخطابة لا تليق بغير من ... ألفاظه درر ومعناها ذهب
أو ناسج طرفاً سداها حكمة ... ووشيعها علو ولحمتها أدب
قالوا أر العذر المليح ولا تر الب - خل القبيح ولا تفر من الطلب
فأجبت مضطراً فلا تتعجبوا ... من جرأتي هذه فقد عرف السبب
وقال من قصيدة:
ما سواد الشعر عندي حسناً ... كبياض الشعر في بعض الرؤوس(90/56)
إن تاج الشيب يا آل النهي ... عندنا أجمل من تاج العروس
إن ذاك التاج نور ساطع ... من شعاع العقل في رأس الرئيس
ومما يروى أنه كان سائراً مع صديقه المعلم سليم كساب رحمهما الله من بيروت إلى دمشق راكبين فنظم في طريقه قصيدته المشهورة:
حمل النسيم لنا عبير شذاكا ... ظبي الختام فرحت من أسراكا
ومنها:
مغنى توهمت السماء رحابه ... لما رأيت أهيله أملاكا
وظننت سكان المضارب أنجماً ... لما رأيت خيامه أفلاكا
إلى أن قال وقد قدحت سنابك خيلهما شراراً في فحمة الليل:
ركب الظلام وسار يخترق ألفلا ... نحو الربوع وغادر الأدراكا
وتسنمت عصف الرياح جياده ... تجري كدمع الصب يوم نواكا
ترمي سنابكها الشرار كأنها ... وقدت أضالعها بنار هواكا
وهي طويلة بليغة كلها من هذا الطراز الرائع
ومما ارتجله مشيراً إلى اسم أسرته في صغره:
بدوية لاموا العميد بحبها ... فأحبتهم والدمع أحمر قاني
ما شأن فيها ها بدوية ... ترمي السهام بمهجة الحوراني
وله من قصيدة طويلة في صباه:
من كل غرثى وشاح ما دنت ورنت ... إلا رمت بسهام الطرف مضناها
تظل نيران إبراهيم موقدة ... منها كليم الحشى في طور سيناها
هيفاء تزنو في بحر السنا وأنا ... اختال في مثل ما يشكوه جفناه
بالوصل أبخل غادات الورى خلقت ... وعند سفك دم العشاق أسخاها
وله أخرى في صباه متفنناً:
في وجنتيه لكل شمس مطلع ... وبمقلتيه لكل نفس مصرع
قمر لفه في كل صدغ عقرب ... من فرعه ومن البروج البرقع
إلى أن قال وأجاد بالتوجيه النحوي والعروضي:(90/57)
خلفتموني مفرداً متمكناً ... في حبكم فلما بكم لا أجمع
وخفضتموني قد نصبت لنبلكم ... هدفاً فحتى م الجفا لا يرفع
ملتم إلى الواشي بأشعار الثنا ... فصرفتموني والموانع أربع
إعجام صبري وازدياد تولهي ... وصفاتكم وجموع عذل تلذع
بين المحب وطيف ظبي كناسكم ... لم يبق للتمييز عندي موضع
طال النوى بمديد وافر هجركم ... والقرب يبطئ والمدامع تسرع
ومن قديم فلكياته قوله من قصيدة بليغة في مدح السيد عبد القادر الجزائري:
نظمت من الشهب القلائد مثلما ... حوت الأهلة في مقام أساور
وتقنعت بغياهب وتبرقعت ... بكواكب وتمنطقت بنواظر
وقوله موجهاً بخرافة الخسوف وقد جلست عجوز ثقيلة بين عروسين في عرس فسكت المغنون:
ترنموا أيها الشادون وابتدروا ... إلى المزاهر والنايات والوتر
وخلصوا البدر من حوت الخسوف أما ... رأيتم الأرض بين الشمس والقمر
وقوله من قصيدة:
إني رصدت كواكب العادات في ... أفلاكها من قبل نبت عذاري
وعرفت مشارقها ومغاربها وما ... في أمرها من غامض الأسرار
فهويت عن خبروما يرضى الهوى ... في أهله أحداً من الأغرار
وعشقت أجمل غادة كلفي بها ... كلف البخيل برنة الدينار
لا تعجبوا من صبوتي شيخاً ففي ... ثلج المشيب شبيبة من نار
وقوله من قصيدة في مدح خالد بك والي بيروت:
مغاني اللوى للنيرات مراصد ... مضاربها الأفلاك والصب راصد
فكم أمهى العشاق والشوق سائق ... مطايا السري والوجد للركب قائد
رقبنا بها الأقمار والدمع سائل ... بليل به نهر المجرة راكد
ومنها:
حكت مهجتي المريخ لما نوت كما ... نوى عن مدار ألفرقدين عطارد(90/58)
فبت وحادي النجم أعيت قلوصه ... وسرحان فجري للغزالة طارد
وقال من مرثية لأستاذه مخايل مشاقة المتوفى سنة 1888 م:
لم يبق بعد غروبكم من مطلع ... في شرقنا لسوى نجوم الأدمع
إلى أن قال:
يا رمس ميخائيل لو درت العلا ... أمسيت محسود المحل الأرفع
أقليدس الصوري فيك وذو النهى ... اسحاق أهل الغرب فاعرف من تعي
بقراط والشيخ الرئيس وغيره ... من كل ذي زكن حصيف المعي
ما للرياضيات بعد مشاقة ... ما دامت الأفلاك غير تفجع
ودوائر العرفان لم يعرف لها ... من مركز في القطر أو من موضع
شقت عليك جيوبها وصدوره ... وبغير شق قلوبها لم تقنع
والصبر عز على الجميع كأنه ... تربيع دائرة ورسم مسبع
وقال من قصيدة في تهنئة الدكتور كارنيليوس فانديك بيوبيله الخمسيني سنة 189.:
من لي بنظم كواكب الجوزاء ... عقداً فريدته الضحى لذكائي
ليس الجمان إذا أحاط بجيدها ... إلا هباءً حول حبل ضياء
شمس عنت كل الشموس لوجهها ... وغدت به كضرائر الحسناء
وأولوا الصبابة حولها سيارة ... متحيرات من سنا وسناء
وأسيرها أسد الهيام فلم يخف ... في الخافقين ملامة العواء
إلى أن قال:
ورصدتها ليل النوى في مرصد ... ما فيه غير مراقب الرقباء
فكأنني والعين ترقب خدها ... فانديك يرقب نير العذراء
فلك النهى قطب العلوم بعينها ... ومحيط دائرة الهدى للرائي
دع ذكر هرمس وابن حيان وخذ ... عنه بيان صناعة الحكماء
وانسخ به ألفلك القديم وخل ما ... أبداه بطليموس في الإخفاء
وانظر مبادئه الصحيحة تلقها ... في غيرها كالدر في الحصباء
واعدل عن الشيخ الرئيس فشيخنا ... شيخ الرئيس وعمدة الرؤساء(90/59)
لو كان بقراط الحكيم مريده ... في الطب أحيا ميت الأحباء
أو شام جالينوس برق سحابه ... ما مات ميتة سائم للشاء
هذا الذي ما جس نبض أخي ضنا ... إلا تبدل سقمه بشفاء
يشفي العليل بحكمة كشفت له ... سر الدواء ومضمرات الداء
هذا الذي جعلت رياضياته ... أمد الدراري من خطى الغيداء
فلو استبان الدرو من أشكاله ... أقليدس استولى ذرى العلياء
وقوله من أبيات ارتجلها في تأبين الياس صالح البيروتي المتوفى سنة 1895 في شرخ شبابه:
يا معشر الصحب هذه درة نثرت ... من عقدكم فاجتبت ترب البلا صدفا
ذا غصن علم نمت أزهاره وزهت ... قبل اكتهال وزاد الحمل فانقصفت
وقال من قصيدة يرثي بها صديقه الشيخ إبراهيم اليازجي أثابهما الله:
دفنوا حجاب النفس في جوف الثرى ... والنفس حلت بالمحل الأرفع
قالوا الممات من الحياة وما دروا ... أن الحياة من الممات المفجع
فالحب ينبت بع ما يلي أما ... للحي بعد ذهابه من مرجع
إن الخلود حقيقة أزلية ... نفي النفاة لها هباءة زعزع
لم ينفها العلم الحديث وأثبتت ... في مجمع العلم القديم المجمع
ومن معرباته البليغة قوله ناقلاً معنى لشكسبير الشاعر المشهور:
شاب رأسي ولم أزل في مراسي ... واقتداري كأنني في الشباب
سر هذا كرهي الخلاعة دهري ... واعتزالي لمسكرات الشراب
وقوله معرباً نظم إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني:
الله أعلن ذاته في وحيه ... ترساً لدرء الشر عنا والعنا
ولدفع إبليس الرجيم فويل من ... يبغون عن سنن المهيمن دفعنا
(الله معنا) تاجنا فجميعنا ... نسمو به وهو المؤيد جمعنا
وعرب قول جون لو يصف ضوء البدر في المشرق على الغصون:
وبدر الأفق فوق الطود يهدي ... إلى الجنات ضوء المقلتين(90/60)
أشعته على الأغصان تبدو ... كأسلاك غزلن من اللجين
وقال من كريستوفرس كولمبوس مكتشف أميركا وقد طبع في كتابه الذي جمع له بلغات العالم كلها بخطوط أصحابها:
أكرستوفر ألفرد نصف الناس لا ... تنكر علي ولا تكن بالناسي
من كان نصف الأرض من مكشوفه ... أفلا أثمنه بنصف الناس
ومن تواريخه الشعرية قوله موجهاً بالفلك بتاريخ زفاف ومن غرائب الاتفاق أن الشمس كانت في ذلك الوقت ببرج الأسد:
تقول الدراري بتاريخه ... لقد حلت الشمس برج الأسد
إلى غير ذلك مما جمع بين سلالة البحتري ومعاني المعري وأمثالهما(90/61)
مشاهد برلين
مرافق الحياة
يتوسط الشوارع الكبيرة في برلين رياض تسايرها طولاً وتفتح فيها سبلاً للراجلين خاصة فيكون الشارع مفصلاً إلى رصيفين وجادتين بينهما ممر يكتنفه عمارتان من نبات تطرزه الرياحين بألوان مختلفة ولا يشاهد الإنسان في ديارها ولو في الروض بناءً بالياً أو جداراً متداعياً والذي ساعد على تنسيق مبانيها ومتانتها أن عناصر الطين بمقربة من تلك المدينة وأن الحجارة والخشب يجلبان إليها على نهر شبري بسهولة وقيم زهيدة.
وكثير من المباني قائمة من الحجارة الرملية ويستعملون البرفير زينة في داخل البيوت وهو ضرب من حجارة الكرانيت المرادف له في العربية كلمة صوان وتفرش بعض المحلات مثل دهاليز المدارس ببلاط استك وهو قطع دقيقة من الرخام تخلط بعجين الكلس.
في كل منزل حمام يتخذ من الزنك يسخن ماؤه في قصبة تنصب إزائه مثل الأسطوانة ويتصل بحافته مجرى للماء الحار وآخر للماء البارد ومن فوقه الناضحة المثقبة ولكل واحد من المجاري الثلاثة مفتاح يتميز بكتابة على جانبه.
ومن تلك الحمامات ما يتدفق إليها الماء الحار من معمل تشترك فيه منازل كثيرة فيتيسر للإنسان أن يتطهر منها في أية دقيقة حضرت، ويقل لهذا ترددهم على الحمامات العامة ولا يقصدونها في الغالب إلا لداعية زائدة على النظافة إذ يوجد فيها من يقوم بعمل الدلك على قاعدة صحية.
ومن المنازل ما يتوسل لدفئه أيام البرد بإيقاد ألفحم في القصبات القائمة بزاوية من زوايا المنزل على الطريقة المعروفة. ومنها ما يدفأ بوسيلة ماء حار يمر في بعض نواحيه على أسلوب منتظم. وملخص ترتيبه أن ينصب في الطبقة السفلى مرجل توقد تحته النار يتناحب ويتصل بالمرجل قصبة يصعد فيها الماء إلى إناء فتح عند سقف الطبقة العليا ثم ينسكب نازلاً إلى مواضع التسخين في سائر الطبقات وحجراتها حتى يعود إلى المرجل مرة أخرى ويتركب موقع التسخين في الغالب من خمس عشرة إلى عشرين أسطوانة خشبية متلاصقة وحيث يجري الماء في مجال مستدير وسطح غير ضيق يحصل الدفء الكافي.(90/62)
وذكرت عند هذا الصنيع أن جبرائيل بن بخنيشوع المتوفى سنة 356 كان يضع من وراء الحجارة التي يجلس فيها مواقد تبعث من وهجها ما يكسر سورة البرد. دخل عليه أحد ألفضلاء على ما قصه موفق الدين في طبقات الأطباء فأحس بدفءٍ وقد أصبح البرد شديداً فكشف له بخنيشوع عن جوانب المقعد فإذا موضع له شبابيك خشب بعد شبابيك من حديد وكواتين فيها فحم الغضا وغلمان ينفخون ذلك ألفحم بالزقاق مثلما يصنع الحدادون.
ويفتحون في النوادي الكبيرة مراوح ذات آلات تجلب إليها الهواء النقي أو النسيم البارد بإدارة كهربائية. فمن محال القهوة ما يسع أكثر من ألف نسمة فتجد الجالسين صفوفاً مرصوصة ولا يحس الداخل بكدر في الهواء مع ما يقع من التدخين. وهذاأيضاً ذكرني أن بخنيشوع الذي دبر طريقة تسخين الحجرات إذا دبت عقارب البرد قد فكر في وجه استخلاص النسيم البارد إذا رمت الظهيرة بجمراتها فكان يعد من خلف القبة التي يتبؤها مواضع يصف فيها قطع من الثلج ويأخذ الغلمان مراوح يستثيرون بها من ذلك الثلج نسيماً بارداً فيهب إلى القبة في طريق متجددة.
وكانوا يستوقدون الشمع وبعض أصحاب البيوت يصنعونه من شحم البقر بأيديهم إلى قريب سنة 184. فظهر بينهم زيت الغاز المعدني اكتشفوه في أربع ولايات من ألمانيا ولكن منابعها ليست بغزيرة وقد تهللت اليوم بالضرورة مسارج الكهرباء والغاز البخاري في كل محلة. أما القصور القيصرية فكانت تنار بالشمع المستخلص من عسل النحل ثم انبجست فيها أنوار الكهرباء سنة 1888.
ولا تخلو أبواب البيوت ودواخل الحجرات من أجراس يستند تنظيمها بين الضغط على أزرارها ورنة مطرقتها إلى مجرى كهربائي تستمده من معمل تشترك فيه محلات متعددة. ويصنعون في كل حجرة من ألفنادق الشهيرة ثلاثة أجراس يدعو النزيل بإحداها من تكلف بتنظيم الحجرة وبثانيها من يعين لمناولة ما يحتاج أليه من مثل طعام أو شراب ومن ثالثها من يختص بحمل الأمتعة.
ترتبط المنازل بأسلاك حاكي الصدى التلفون وقد ريحوا بوسيلته قسطاً عظيماً من أوقاتهم فيكون الإنسان في غنى عن أن يبدد قطعة من الوقت الذي هو سلك عمره في مسافة الذهاب إلى مكان آخر والإياب عنه بإبلاغ كلمة والإنصات إلى مثلها. وقد أصبح من(90/63)
المعتاد عندهم أن الإنسان لا يضرب بخطوة إلى زيارة أحد حتى يعلم بهذه الوسيلة أنه حاضر في منزله ويفهم من خطابه أنه لم يكن في حال يقتضي تأخير اللقاء إلى دفعة أخرى.
وتسلم إدارته لكل من عقد محله فرعاً منه مجلد يحتوي على أسماء المشتركين فيه مرتبة على أحرف الهجاء مع بيان الأعداد التي جعلت علماً على فروعهم. فمن أراد ليخابر آخر خاطب الموظف في مركز دائرته أولاً وأعلمه بالعدد الذي جعل على ألفرع الواقع في منزل صاحبه فيهيء له طريقة المخابرة معه. واختاروا أن يكون الموظفون فغي هذه الدوائر نساء وقالوا في علة ذلك أن التجربة كشفت على أن كلام المرأة في هذه الآلة أوضح من كلام الرجل وأمكن في السمع.
ولا داعي إلى رفع الصوت عند المخابرة فيه فإن المتكلم يلقي بكلامه في مكر تلفون آلة تقوية الصوت الضعيف بل ربما أدى الجهر بالقول فوق العادة إلى فوات بعض الأحرف أو عدم تمكنها من سماع المخاطب.
يضعون في المطبخ موازين تسمى ميزان المطبخ يزنون بها ما يشترون من لوازم الطبخ ونحوه لكي يتيقنوا نصح البائع أو خيانته. وعلم الباعة بمثل هذا مما يجعلهم على استقامة وحذر من التطفيف بالوزن. ويتخذون الريش حشواً لألحفة ألفراش التي تكون من كتان غالباً فيجمعون في صنعهم هذا بين دفئها وخفة وقعها ويستعملون للطبخ بإرشاد من نظارة الصحة العمومية القيصرية قدوراً من الألمنيوم معدن أبيض كالفضة لأن من خواص هذا المعدن أنه لا يفسده حامض ماء البارود ولا يتضرر من حامض الكبريت إلا إذا مسه مراراً متعددة ثم أن ما يجتمع من مائه لا يسري إلى جسم الإنسان بضرر ذي بال والقدور والأواني التي تصاحب العسكر إنما تؤخذ من هذا المعدن لخفة حمله وقلة أذيته.
وفي ألفنادق الشهيرة ما عدا الساعات المنبهة المتداولة آلة تلصق في الجدران المحاذية للسرر تنالها يد المضطجع فيستعملها للإفاقة من النوم في وقت معين فتصدح في الوقت نفسه بصوت رخيم يستمر مدةً طويلةً ولا ينقطع إلا إذا أسكتتها يده بتحويل وضعها.
الديانة
ينتحل معظم الشعوب الألمانية مذهب البروتستانت. وأول من أطلق لذلك الشعوب في(90/64)
العقائد ولم يأخذ عليها في تقاليدها فريدريك الكبير فخفقت ولايته فتناً كانت التعصبات الاعتقادية تنفخ في جمراتها.
وصرح بعض أساتيذهم بمزية القرآن في الدعوة إلى التوحيد الخالص وفهمت عنه أن لدلائله وأساليبها إذ أصبحت ترجمته تسعى بين أيديهم أثراً في تأييد الاعتقاد بوحدة الإله. ومما أخذوه في شعار الديانة ان رسموا في منطقة كل عسكري جملة تعريبها الله معنا. ويغلب على فلاسفتهم التمسك بما يدينون ولا يمرقون إلى الإلحاد مثل كثير من فلاسفة أوروبا الغربية. فأشهر فلاسفة الألمان كنت المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر وقد تعرض في تأليفه المسمى انتقاد العقل الخاص للاستدلال على وجود الخالق وهذا التأليف أعظم كتاب يعتمد عليه فلاسفتهم.
الجد والعمل
يعمل الألمان في حيلتهم على شاكلة سياسيهم الكبير بسمارك القائل إن استراح صدأ فإذا رأيتهم لا سيما في غرة النهار وهم ينتشرون في الأرض بخطاً سريعة ونشاطٍ يتمثل لك الجد في أوسع مظهره وينكشف لك ألفرق ما بين العامل والقاعد في أجلى صوره.
وفي بعض إحصائيات ليست ببعيدة أن 52 في المئة من السكان يرتزقون من الصنائع وأن المعامل المنشأة في شمال المدينة وشرقها تحتوي على أكثر من ثلاثمائة ألف عامل.
لا يلاقي المتجول في أنحاء المدينة على سعة مناطقها طائفة تتسول أو يسمع لها نغماً وتخطر لي ذكرى أني لم ألق من السائلين في أشهر الإقامة هناك أكثر من عدد أنامل الكف الواحدة وهم إما رجل قطع جناحه أو عجوز بلغت من الكبر عتياً. ولا عجب إذا لم نشاهد كثيراً من العجزة يتكففون فإن في الباب التاسع عشر من قوانينهم المدنية أن تقوم الحكومة بعيش من قعد به العجز عن الاكتساب بنفسه.
المعاهد العلمية
تأسست في برلين كلية يعمرها 25. أستاذا و6. . . تلميذ ومن شعبها مدرسة الألسن الشرقية المنشأة في سنة نيف 188. ويتعلم في هذه الشعبة نحو (5. .) تلميذ. والمدارس من غير هذه الكلية لم أحط بها حساباً وإنما عرفت منها مدرسة للصنائع بها نحو (3. . .) تلميذ ومدرسة للزراعة بها (1. . .) تلميذ ومدرسة لطب الحيوانات بها 5. . تلميذ ومدرسة(90/65)
للمهندسين بها 4. . . تلميذ. وأنشئوا منذ خمس سنوات داراً في دالم على جانب من برلين وجلبوا إليها كل ما يفتقر إليه علماء الطبيعة من أدوات التجربة والوسائل المساعدة على البراعة ألفائقة في هذا العلم والمقدرة الواسعة في استنباط نتائجه وقد أصبحت هذه المحلة دار إقامة لكثير من علماء الطبيعة.
وشرع فريدريك الأول الذي نصب ملكاً على بروسيا في أوائل المائة الثامنة عشرة بإنشاء دار كتب يقدر ما في خزائنها من المجلدات بمليون ونصف. ومن بينها قسم للكتب التركية وآخر للكتب العربية. طفت بعض خزائن هذا القسم فكنت أتناول كتاباً بعد الآخر فأجدهما مختلفين في فنيهما اختلافاً بعيداً ثم طالعت ألفهرس فلقيته مرتباً على حروف المعجم بحيث تسرد فيه الكتب التي تشترك بأوائل أسمائها في حرف من حروف الهجاء على نسق واحد وإن تفرقت في موضوعات فنونها فقرأت في حرف الهمزة مثلاً أحكام القرآن لابن العربي. إسعاف المبطي. الإعلام بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ. إنفاذ الأوامر الإلهية بنصرة العساكر العثمانية وإنقاذ الجزيرة العربية. وخصوا قسماً منها بالخرائط الجغرافية العتيقة والحديثة وبها معرض نضدوا فيه آثار الخطوط العتيقة وما سبق لحروفها من الأشكال الغريبة. وفتحوا في طبقتها الأولى للمطالعة محلاً سمكوا بناءه في شكل مثمن فسيح وصففوا فيه مكاتب وكراسي في دائرة كبيرة ومن فوق كل مكتبة مسرجة من الكهرباء. وأعدوا قبالة هذا المحل بهواً في شكل مربع مستطيل لمطالعة الجرائد والمجلات خاصة ويماثله في طبقة عالية محل لمطالعة الكتب العربية والتركية أو النسخ منها.
ولا يمكن أحد من الكتاب إلا إذا كانت بيده ورقة الإذن في المطالعة فإذا أحرز ورقة الإذن ممن له النظر في إعطائها وأراد المطالعة أو النسخ لم يسلم إليه الحافظ الكتاب غلا بعد أن يثبت في ورقة رسمية اسم الكتاب وعدده ويبين هل خط بالقلم أو بالمطبعة ثم ينهيها باسمه وصناعته ومحل سكناه.
يسمح قانونها بإعارة الكتب المطبوعة دون ما خط بالقلم لأنها قد تصاب بضياع فيصعب إيجاد مثله وجعله بمكانة ولا سيما ما يكون له أثر تاريخي كالكتب المخطوطة بأقلام مؤلفيها أو غيرهم من مشاهير أهل العلم.
نظامات علمية(90/66)
تنقسم المدارس إلى ابتدائية وإعدادية وجامعة كلية فيستمر التلميذ من السنة السادسة إلى الرابعة عشرة في القسم الابتدائي ثم يتمادى في الإعدادي ست سنين فينفصل عنها إلى الجامعة ويبقى بها ثلاث سنين فإن كان من طلبة علم الطب فسحوا له في الأمد إلى منتهى خمس سنين.
والتعليم الابتدائي منتشر في جميع الطبقات على طريقة جبرية فيتحتم على الولد الاستمرار في دورته إلى أقصى غاية. وعلى وليه أن لا يمنعه بعد هذه الدورة من الاختلاف إلى المدارس الإعدادية مقدار ثلاثة أعوام ولم تشرع الحكومة قسماً ليلياً للتلاميذ الذين هم من نفس المدينة واختاروا أن يبقى للتلميذ اختلاف إلى أوليائه وانسه بهم ليراقبوا حالته ويرشحوه بشيءٍ من آدابهم.
يتعلم البنات في مدارسهن كل فن إلا علم الإلهيات إذ لا يليق بالمرأة عندهم أن تكون واعظة. ومن أمثالهم المضروبة المرأة في الكنيسة تسكت تولى المرأة وظيفة التعليم على شرط أن تكون أيما فإن أصبحت ذات زواج انفصلت عن خطتها.
جرى القانون أولاً على منع المعلم من مجازاة التلميذ بعقوبة الضرب ثم ألغاه ناظر المعارف وقال عندي ثقة بأن لمعلمي مدارسنا حناناً على التلاميذ وعواطف تأبى لهم أن يبلغوا بالضرب إلى ما فيه إساءة. لا يسوغ للتلميذ أن يتعاطى المسكرات ولو دخل في دور التعليم بالجامعة وقد قال لي أحد أساتذتهم عند الحديث في هذا القانون إن تلاميذنا مثل المسلمين. كان التلاميذ يترنمون بقصائد في اللسان اللاتيني فأبطلها القيصر وقال لا فائدة لهم في ذلك فأصبحت أناشيدهم الوطنية ألمانية محضة. يدرب التلميذ في المدارس الإعدادية على صناعة الخطابة ويطالبونه بأن يحرر في كل شهر رسالة يبحث فيها عن بعض الموضوعات العلمية.
أجر التعليم السنوي في المدارس الإعدادية (15.) ماركاً وفي الجامعة (5. .) مارك ويوازن المارك من نقودنا على وجه التقريب القطعة ألفضية ذات الخمسة قروش. يتعين مدير الجامعة في كل سنة بانتخاب من أساتذتها ثم تقرر ولايته بتسمية من صاحب الدولة.
ترسل الدولة في كل سنة وفداً من طلاب العلوم إلى أميركا ليستطلعوا مدارسها ويستكشفوا عما عساه أن يتجدد من أساليب العلم ونتائجه. يتلقى أبناء العائلة القيصرية تعاليمهم في(90/67)
مدرسة خاصة لا يغشاها إلا من نشا في مهد الملك أو كان من أسرة راقية ويقال أن والد القيصر الحالي كان يود لهم لو أنهم يتعلمون بالمدارس العامة حتى يلاقوا سائر الطبقات ويكونوا على خبرة محققة من أحوالها.
مشروعات خيرية
من مساعيهم النافعة أن ألفوا جمعية تبحث عن البائسين من طرق خفية وتوجه إليهم في البريد صدقات من غير أن يشعروا بمصدرها. وقص علي بعض أساتذتهم أن إحدى البائسات كانت ترتزق بصنعة الخياطة فوافاها ذات يوم صاحب البريد ب - 5. . مارك وناولها إياها فدهشت فرحاً واندفعت تسأل عن باعثها بإلحاح. فأبى أن يكشف لها عن الحقيقة. وترى هذه الجمعية أن التبرع بقسط عظيم على مستحق واحد أنفع من توزيعه على طائفة ينال كل واحد منها حصة يسيرة.
ومن الجمعيات عندهم جمعية (تخفيف المصائب) ومن أعمالها الحسنة أن تساعد من تنوبه مصيبة في جسده مساعدة ابتدائية ففتحت في أقسام العاصمة محالاً عينت لها أطباء ليسارعوا إلى علاج كل من يطرأ عليه حادث أو يفاجأ بمرض في أثناء الطريق مجاناً.
ترجمتهم للقرآن
ترجم القرآن المستشرق ريكرت المتوفى أواسط المائة الماضية ولكن انصرم حبل أجله من قبل أن يتم ترجمته ثم ترجمه المستشرق هنينك وهو عيش في مدينة فرانكفورت ترجمة تامة إلا أن الأول يراعي في الترجمة بلاغة اللسان الالماني فلا يبالي بالتقديم والتأخير والتعبير عن الحقيقة بالمجاز مثلاً. والثاني يحافظ على ترتيب الآية وحقيقتها في الغالب. وقد تتبعته في كثير من السور بالمقدار الذي وقفت عليه من هذه اللغة مع الاستعانة بالكتب اللغوية الألمانية العربية فوجدته ينظر إلى المعنى الأصلي ويتحرى في أدائه جهد استطاعته. ووضع غير هذين الرجلين ترجمة ثالثة لم أتتبعها ولكن قال بعض العارفين باللغتين أنه بعيدة عن المطابقة وليست في القرب من الصحة مثل ترجمة هنينك. ونبأني الأستاذ هردر أن إحدى الجمعيات راسلته بأن تراجم القرآن التامة قد يضيق الوقت عن مطالعتها واقترحوا عليه أن يترجم لهم الآيات من سور متفرقة فاقتبس لهم مما ترجمه المستشرق ركرت آيات كثيرة في التوحيد والأحكام فطبعوها مجموعة وظهرت بينهم في(90/68)
مثال التراجم الأخرى.
عنايتهم بالعربية
توسلوا إلى العربية بتعليم لسانها ثم خدموا مؤلفاتها بالطبع واقتبسوا من حكمتها بالترجمة. ألف الأستاذ (هردر) كتاباً في قواعد العربية فكان الكتاب المتداول عندهم في التدريس وقد توالى عليه الطلب هذه المدة بإعادة طبعه. وألف كتاباً يفسر فيه المفردات الألمانية بما يرادفها من العربية وأنجز طبعه في مجلد ضخم ثم وضع كتاباً آخر اقتصر فيه على الكلمات المألوفة في الاستعمال.
ترجم المستشرق الأستاذ (منفوخ) كتاب علاج العيون لعمار الموصلي وفصل علاج العيون من كتاب علي بن عيسى في صناعة الطب وفصل علاج العيون لابن سينا وكتاب وقائع العرب لأبي عبيدة بن المثني الكبير والصغير ونقل إلى الألمانية أيضاً ترجمة حمزة الأصفهاني وترجمة ابن سعد مؤلف كتاب الطبقات. وترجم المستشرق (ريثر) قصائد أبي الأسود الدؤلي ومقامات الهمذاني وأطباق الذهب لعبد المؤمن الأصفهاني ومقامات الزمخشري والأدب الصغير لابن المقفع وكتاب أحسن ما سمعت للثعالبي طبعها ثم ترجم كتباً لم تبرز في عالم الطباعة مثل الأدب الكبير لابن المقفع ومقدار الربع من معجم البلدان للبلاذري. وربما طبع الكتاب والرسالة بلسانها العربي وعلق عليها بعض بيانات بلسانه الألماني مثل شرح ابن الأنباري لمعلقة زهير وشرحه لمعلقة عنترة ورسالة المذكر والمؤنث لابن جني ورسالة في بقايا الأشياء لأبي هلال العسكري وكان هذا الأديب يحاورني في كثير من معاني الأبيات أو الحكم المنشورة وربما تعاطى الترجمة في أثناء قيامه بالوظيفة العسكرية وبمثل هذه التراجم القديمة والحديثة كان للسان العربي كما قال أحد أساتذتهم آثر في رقي آداب اللغة الألمانية. ويشهد بصحة ما قاله ذلك الأستاذ أن أشهر شعرائهم (كيتي) المتوفى سنة 1832 نظم قصيدة إبراهيم عليه السلام في أسلوب فلسفي وصرح أنه اقتبسها من القرآن الكريم. والمعروف عندهم من هذا الشاعر المستشرق أنه كان يحترم الإسلام ويعترف بحكمته.
عنايتهم باللسان العثماني
ليست عنايتهم بالعربية لهذا العهد بأوسع من وجهتهم المصروفة في اللسان العثماني فقد(90/69)
نبأني أحد المعلمين في مدرسة الألسنة الشرقية أن المتلقين للسان العثماني هذه الآونة يناهز عددهم 2. . بعد أن كانوا في السنين الماضية لا يتجاوزون نصف العشر من هذا المقدار ولبعض العثمانيين دروس خاصة يتلقاها عنهم في إدارة الأخبار الشرقية ملأ من الألمان. وصرف رئيس المستشرقين الأستاذ هرتمان همته إلى هذه اللغة ولفت نظره إلى تتبع آدابها بطلب حثيث من عصابة المستشرقين فنهض يحرر المقالة تارة ويلقي المحاضرة تارة أخرى. وانعقدت منذ أشهر لجنة توالي جلساتها في دار الكتب العامة وتنظر في القسم المؤلف بلهجة عثمانية.
أخلاق وآداب
يعرف الألماني بمتانة العزم وقلة الانقياد لخواطر اليأس وكنت طالعت مقالات لبعض أعدائهم الذين لا يثبتون لهم الذكاء ألفائق وسرعة الوصول إلى الدقائق فرأيتهم يسلمون لهم طبيعة احتمال الشدائد والثبات على الأعمال إلى أن يحرزوا فيها نتيجة حتى جعلوا مقدرتهم العلمية أو ما يظهر على أيديهم من المخترعات إنما هو ناشئ عن التجلد والمثابرة على السعي والتجربة.
ورسوخهم في خلق الصبر هو الأساس الذي قام عليه تبريزهم في القوة العسكرية ولطالما طفت غابات وعرضات حول الثكنات فرأيت الجندي نائماً بملابسه الجديدة ووسامه الشرف على فراش من تراب ولا وسادة له غير ذراعه أو قطعة من جلمود. وما برح ملوكهم يحافظون على ما يقوي هذه الخصلة في نفوسهم حتى بالغ فريدريك ويليام الأول في الحط من قدر المعارف زاعماً أنها مدعاة للفشل وإضعاف مزية الشجاعة وكان من أثر زعمه أنه لم يعين لتنمية دار الكتب التي أنشأها أبوه سوى ستة ماركات في السنة. ولما استقلها أهل العلم حينئذ قال لهم: أليس في خزائنها كثير من الكتب المكررة فيمكن أن تباع ويستبدل بها كتب مستحدثة.
استحكمت بينهم روابط الوفاق والمسالمة حتى أني أقمت ستة أشهر في برلين وثلاثة أشهر في قرية في ضواحيها ولم ألحظ مشاجرة أو أسمع صخباً ولو بين صبيين أو امرأتين. فعدم ملاحظة الغريب لمثل هذا في مدة واسعة يشعر بقلة المنازعات العدوانية فيما بينهم. ومن نتائج هذه التربية التي يعاضدها اتساع طرق الاكتساب أن الأمة أصبحت في قرار مكين(90/70)
من الأمن فلا يوجس السائر في سواد الليل بضواحي المدينة خيفة سوء فما الحال بين جدرانها. ولقد كنت أخرج من محل الأسرى عند منتصف الليل منفردا وأعود إلى القرية ماراً على غابة ليس قيها أنيس غير أشجارها المتعانقة وظلامها المتراكم ولا ألاقي في الطريق وحشة أو قلقاً. وازداد إعجاباً بهذه الراحة الشاملة إذا تذكرت صعاليك إيطاليا وأمثالهم كيف ينتشرون داخل مدينة تونس أو الجزائر ويقطعون السبيل على سكانها بنهب الأموال وسفك الدماء حتى لا يمر الرجل في الطرقات المنحرفة عن الجادة بعد العتمة إلا وهو يتوقع خطراً.
يمنحون الغريب في بلادهم صدراً رحباً فيقف الرجل إذا استوضحته أمراً أو استخبرته عن مكان ولا يتسلل عنك إلا أن تستوفي منه بياناً كافياً وربما تفرس منك الحيرة في الطريق فيفاتحك بالسؤال عن الوجهة التي تريدها ويهديك إليها بالقول المفصل أو بالمرافقة إذا لم تكن المسافة بعيدة. اشتبه علي الطريق إلى محطة القطار في بعض الأيام فاستكشفت عنها أحد المارين في السبيل فأخذ يصفها بالإشارة والإمارة ولما لم يقنع بأن عبارته وقعت مني موقع ألفهم البين قفل راجعاً يسايرني بمقدار عشرين دقيقة حتى بلغت المحطة نفسها.
يلاقي التجار والعملة عندهم الوارد بجباه منطلقة وألسنة رطبة ويعرضون عليه ما عندهم من صنوف الأشياء التي يطلبها من غير تقاعس ولا سآمة. ولهذا الأسلوب الأدبي الاقتصادي أثر عظيم في رواج البضائع والسباق في مضمار التجارة. فإن من الناس من يقصر معاملته على محل أو يبتاع منه البضاعة. ولو شطت قيمتها رعاية لما يتجمل به صاحبها من سعة الصدر ورقة الخطاب.
يغلب عليهم خلق الرصانة والتؤدة ولا سيما في المشاهد العامة والنوادي الجامعة. امتطيت ذات يوم قطار المدينة فاتفق أن كان أمامي رجل أظهر في مغازلته لامرأة طيشاً وسفهاً فوقع في خاطري أنه أجنبي عن هذه الحاضرة ثم أنه جاذبني عند انصرافي محادثة عرفني بها أنه من أحد شعوب البلقانية.
ومن آثار التعليم العام أن أصبحت الأمة بمحل الثقة في نظر الحكومة فالقطار الكهربائي ذو درجتين متفاضلتين وتقطع أوراق الركوب بها من طاقات في أوائل محطاتها ولا أذكر يوماً أن مفتشاً دخل عربات الدرجة العليا ونظر في أوراقها بل فوضوا ذلك إلى وجدان الشعب(90/71)
وأمانته. أما القطار البخاري الذي يسافر من العاصمة إلى قرى تبعد بمسيرة ساعتين أو أكثر فيتردد عليه مفتش الأوراق في الشهر مرة.(90/72)
مخطوطات ومطبوعات
معلقة عنترة
(وعليها شرح ابن الأنباري)
نشرها الدكتور أوسكار ريشر الألماني
لعلماء المشرقيات في الغرب ولا سيما في جرمانيا غرام شديد بإحياء آثار العرب وآدابهم وتاريخهم ومن جملة الناشئين في هذا ألفن ناشر هذا الشرح على معلقة عنترة نشره أولاً في مجلة الدروس الشرقية التي تصدر بالإيطالية في رومية ثم أخرجه للناس على حدة فجاء في 97 صفحة بطبع مشرق وعلق عليه حواشي تدل على اختلاف النسخ التي نقل عنها وهي نسخة مدرسة بكى جامع ونسخة مدرسة نور عثمانية في دار السلطنة العثمانية وقد رجع أيضاً إلى نسخة مكتبة أسعد أفندي في الآستانة أيضاً مما دل على تحقيق وتدقيق.
المعجم في بقايا الأسماء
(لأبي هلال العسكري)
هي رسالة نشرها الدكتور ريشر المشار إليه وقد قال المؤلف في مقدمتها وقد عرفت حاجتك أطال الله بقاءك إلى ذلك بإدمانك صنعة الكلام ونظمه ونثره فعملت لك كتباً متوسطة تشحذ ذهن البليد فضلاً عن اللقن الذكي بحسنها وبراعتها وقرب مأخذها مع بعد غورها وكتباً دون ذلك لطافاً حسنة مختارة رغبت الزاهد ونشطت ألفاتر مثل كتابي هذا وهو وإن صغر حجمه فقد كبر نفعه لغريب ما تضمنه من أسماء بقايا الأشياء وبديع طريقته في الدلالة على سعة لغة العرب وفضلها على جميع اللغات وقد نظمت ما ضمنته إياه منها على نسق حروف المعجم.
شرح معلقة زهير
لأبي بكر محمد بن قاسم الأنباري
وهذا الشرح على معلقة زهير بن أبي سلمى هو مما أحياه بالطبع أيضاً الدكتور ريشر نقلاً عن مخطوط في إحدى خزائن كتب دار الخلافة كتب في سنة أربع وعشرين وخمسمائة بخط إسماعيل بن محمد بن الحسين الخطاط الجرباذقاني.(90/73)
كتاب المذكر والمؤنث
لابن جني
هي رسالة صغيرة في هذا الموضوع الجميل نشرها الدكتور ريشر المنوه به آنفا واقتبسناها برمتها في غير مكان من هذا الجزء. وقد نشرها أولاً في مجلة العالم الشرقي التي تصدر في مدينة أوبسال من بلاد السويد بست لغات وهي اللغات الاسكندنافية: السويدية والدانمركية والنرويجية ولغات العلم وهي الألمانية والفرنسية والإنكليزية. وللمشتغلين بمثل هذه الأبحاث طريقة عملية في النشر وهو أنهم إذا لم يجدوا كتباً أو ناشراً يتولى عنهم طبع هذه الرسائل ينشرونها في مجلات المشرقيات ثم يخرجون منها نسخاً قليلة على حدة فتحفظ في المجلات وينتفع منها في النشر مستقلة وهو مقصد حسن يثاب عليه المشتغلون بإحياء آثار سلفنا.
النصرانية وآدابها
(بين عرب الجاهلية)
للأب لويس شيخو اليسوعي القسم الأول
ص149 طبع في مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1912
لصديقنا الأب شيخو همة لا تكل في نشر المقالات والرسائل والكتب التي تنهض بطائفته خاصة وتخدم الآداب العربية عامة وآخر ما نشره في مجلة المشرق هذا المبحث في النصرانية في بلاد العرب والقسم الأول منه في تاريخ النصرانية وقبائلها في عهد الجاهلية يدور على محور أن جميع سكان البلاد قبل الإسلام كان أهلها نصارى من قبيل الدعوى التي بسطها حضرته في كتابه شعراء النصرانية (المقتبس م2 ص61 و132) وقام الخلاف بينه وبين بعض علماء التاريخ والبحث في هذا الشأن هو يثبت وهم ينفون ولا يعدم كل فريق جملاً يستقر بها أو يستنبطها لتأييد دعواه وهذا المبحث وإن كنا لا نوافق على بعض ما أورده في مطاويه مثل كلامه على نصرانية غسان فإننا نعجب بما وفق إليه من استكثار المادة من العربية والفرنسية والألمانية. ولو كتبت هذه المباحث من العلم المحض كما يبحث بعض علماء المشرقيات لعدت أحسن مرجع جامع يستقي منه طلاب(90/74)
الحقائق.
ديوان السيد محمد سعيد حبوبي
عني بتصحيحه وتذييله الشيخ عبد العزيز الجواهري ونشره
ولد صاحب الديوان السيد علي وطبع بنفقة الحاج
عبد المحسن شلاش في المطبعة الأهلية
في بيروت سنة 331ص32.
صاحب هذا الديوان من شعراء النجف في العراق اشتهر بما نشر له في بعض المجلات الأدبية من القصائد وشعره على أسلوب شعراء القرن التاسع والعاشر فيه جزالة ولكن قل فيه وصف الطبيعة والاجتماعيات وهو يدور على الموشحات والمراسلات والنسيب والمديح والتخميسات والمراثي وقد قال مصحح ديوانه فيه ما نصه: لا أجازف في الحكم لو قلت أنه أشعر شعراء الشرق في فطرته الأدبية فإن جل شعراء العرب من جاهليين ومخضرمين ومحدثين ومولدين إن أبدعوا في أساليب الشعر وأفانينه إن من جهة اللفظ وإن من جهة المعنى إلا أنك لا ترى بينهم الجامع للجهتين الآخذ بزمام الشعر الحقيقي فالنابغة وجرير والكميت وزهير وأبو نواس والأبيوردي وحبيب والمتنبي والمعري والصنوبري والصفدي وغيرهم من فحول الشعراء وإن تحركت روح الشعر في أناشيدهم وأهازيجهم إلا أنهم بين مبتذل في اللفظ ومتعمل في المعنى كامرؤ القيس والحطيئة وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء وبين قلع بن برج اللفظ وزخرف المعنى كابن زريق وابن الأنباري والصفدي والقيراطي فهؤلاء وإن كانوا أئمة الشعراء ما أن تقلبت أدوار الشعر التاريخية إلا أنهم أشاحوا بوجه الشعر الحقيقي في أغلب أناشيدهم وخرجوا به عن دائرة ألفطرة الطبيعية ويمتاز شعر من نترجم اليوم برجوعه إلى الشعر الحقيقي إن من جهة اللفظ وإن من جهة المعنى أما الألفاظ فإنها السلسة الجامعة بين الطراوة والجزالة وأما المعاني فكلها وصف وتصوير لمناظر الطبيعة ونعت لمشاهد الكون وتجسيم للخواطر تحوز إلى فخامة التركيب جمال الأسلوب وبداعة الديباجة واستفزاز الشعور فها أنت تسمع من أوزانه العروضية تسبيح الراهب وتهليل العاشق ولحن المدمن وحشرجة روح الحب والجمال وكأن شعره المرآة تعكس فوقها الأرواح الشاعرة لا بل هو المجهر يريك صور الشعراء تتحرك بين(90/75)
أعاريضه وفواعيله فتارة يريك مسلماً يعزف عند قيفته وأخرى يطلك على أبي النواس يطرب حول باطيته وطوراً يجيئك بحبيب ثاكلاً بفقيده وطوراً يأتيك بالوليد هازجاً جنب ممدوحه ويشرفك على كشاجم في جوقه والصنوبري في حقله ولو خلعت القريحة على شعره حلة الأسلوب العصري لبز شوقي وحافظ والزناتي وصبري وكان السابق المجلي في حلبتهم وهم كانوا مصلين على أن العارف يرى فوق شعره مسحة من الذوق العصري إذ كله وصف وتصوير ونعت لمشاهدة الكائنات ويرى في أبياته من الحكم الرائعة والأمثال السائرة ما يكذب نبوة المتنبي كقوله من موشح:
وإذا نبت البطاح اختلفا ... غلب الشوك على الورد الجني
قوله: سل عن المسجد مني صيرفاً ... إنني أدرى بما في معدني
قوله: سماء اليوم مثل سماء أمس ... وما نقصت سمواً أو ارتفاعاً
فها أنت ترى في هذه الأبيات من الفلسفة الأدبية ما يحط دونها فكر أبي العلاء وقد سلك في شعره طريقة ابن ألفارض.
وبعد أن أورد الناشر أبياتاً من هذا القبيل ليس فيها إلا كلام هو دون كلام الشعراء المبرزين بمراحل وبالغ هذه المبالغة الشرقية التي هي أشبه بالهزل منها بالجد قال: وقد كانت تعنو لسماع شعره شيوخ أدباء العراق وتتهافت عليه ولا تهافت ألفراش على وذيلة السراج حتى إذا جفت حديقة الأدب والتوت عيدانها بين أناس تطلس من آثارهم عنوان الأدب والنبوغ دعاه ذلك إلى الإضراب عنه والانعكاف على ألفقه والأصول
وبذلك صدر الديوان بوصف صاحبه بأنه أشعر شعراء الشرق وأكبر علمائه اليوم وما كنا نظن المبالغة تبلغ هذه الدرجة بعد أن اشتهرت بالطبع دواوين المتأخرين والمتقدمين وربما كانت هذه الدعوى تجوز في بلد معين وأهل إقليم خاص ولكن هذا التعميم لا يصح على إطلاقه فلا نقول مثلاً أن شوقي أو حافظاً أو البارودي أشعر الشعراء ولا أن عبده والشميل والجزائري أعلم العلماء بل نذكر لكل واحد ميزته التي يمتاز بها على أقرانه وبها يثبت نبوغه بين معاصريه ومن سبقوه وإلا فإن الرجل الواحد لا يستجمع هذه الصفات كلها فيكون أشعر شعراء الشرق اليوم وأكبر علمائه اليوم.
بيد أن لصاحب الديوان قصائد رقيقة تحسب من الجيد العصري كقوله:(90/76)
ما لقلبي تهزه الأشواق ... خبرينا أهكذا العشاق
كل يوم لنا فؤاد مذاب ... ودموع على الطلول تراق
عجب كيف تدعي الورق وجدي ... ولدمعي يجيدها أطواق
كم لنا بالحمي معاهد أنس ... والصبا يانع الجنا رقراق
عهد لهوي به الليالي ترامت ... ما لها عرست به الأحداق
بالظعن به الرياق تهادي ... نهنهي السير ساعة يا نياق
فبأحداجك استقلت ظباءٌ ... آنسات بيض الخدود رفاق
فارحمي يا أسيم لوعة صب ... شفه الوجه بعدكم والفراق
كاد يقضي من الصبابة لولا ... أن تحاماه في الوداع العناق
وقوله:
ضممتها فنثنت وهي قائلة ... بالغنج رفقاً لقد فصمت أطواقي
رقت محاسنها حتى لو اتخذت ... عرشاً بناظرتي لم تدر آماقي
وبت أسقى وباتت وهي ساقيتي ... نحسو الكؤوس ونسقي الأرض بالباقي
في مربع نسجت أيدي الربيع له ... مظارف الزهر من رند وأطباق
تشدو العنادل في أرجائه طرباً ... والغصن يسحب فيه ذيل أوراق
كأنما النرجس الغض الجني به ... نواظر خلقت من غير أحداق
والنهر مطرد والزهر منعكس ... والناي ما بين تقييد وإطلاق
صج الأعشى
نشرت دار الكتب الخديوية بمصر كتاب صج الأعشى في كتابة الإنشا تأليف الشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي المصري المتوفى سنة 821هـ -. وقد طبعت أولاً الجزئين الأولين منه ثم طبعت جزأين آخرين الثالث والرابع بطبع مشرق بديع وورق صقيل قل جداً في الكتب العربية ما طبع على مثاله الرائق.
وهذا الكتاب (ص171 ج8 من المقتبس) هو دائرة معارف مكبرة لطالب الإنشاء فيه جميع ما يحتاج إليه مما هو مبعثر في كتب مبعثرة يذكر فيه ما يشق طلبه من كتب متفرقة وتصانيف متعددة أو يكون في المصنف الواحد منه النبذة غير الكافية ولا يجتمع منه(90/77)
المطلوب إلا من كشف الكثير من المصنفات المتفرقة في ألفنون المختلفة أو هو كما وصفه مبسوط يشتمل على أصول كتابة الإنشاء وقواعدها ويتكفل بحل رموزها وذكر شواهدها مستوعباً من المصطلح ما اشتمل عليه التعريف والتثقيف موضحاً لما أبهماه بتبيين الأمثلة مع قرب المأخذ وحسن التأليف متبرعاً بأمور زائدة على المصطلح الشريف لا يسع الكاتب جهلها متنقلاً من توجيه المقاصد وتبين الشواهد بما يعرف به فرع كل قضية واصلها آتياً من معالم الكتابة بكل معنى غريب ناقلاً الناظر في هذا المصنف من رتبة أن يسأل فلا يجاب إلى رتبة أن يسأل فيجيب منبهاً على ما يحتاج إليه الكاتب من ألفنون التي يخرج بمعرفتها عن عهدة الكتابة ودركها ذاكراً من أحوال الممالك المكاتبة عن هذه المملكة ما يعرف به قدر كل مملكة وملكها مبيناً جهة قاعدتها معرفاً الطريق الموصل إليها براً وبحراً وانقطاعاً واتصالاً ذاكراً مع كل قاعدة مشاهير بلدانها إكمالاً للتعريف ضابطاً لأسمائها بالحروف كي لا يدخلها التبديل والتحريف.
هذا إجمال لما يحوي الكتاب أما التفصيل فلا يقف عليه الناظر إلا بتصفحه من أوله إلى آخره لأنه حوى كل ما يلزم المتعلم لا المنشئ فقط فيخرج منه مثلاً مختصر في البيان ومختصر في اللغة وآخر في الشعر وآخر في الحيوان وآخر في النبات وغيره في علم ألفلك وسابع في الجغرافيا وثامن في التاريخ وتاسع في مصطلحات الدول في رسمياتهم وإداراتهم إلى آخر ما فيه مما يوسع دائرة التصور ويسقط فيه الكاتب على كل ما يلزمه من المواد ليكتب عن علم وفهم.
وفي هذين الجزئين الأخيرين الثالث والرابع مطول من علم الخط بالأشكال والرسوم اللازمة بحيث لم يترك بعده مجالاً لقائل وقد استغرق هذا المبحث 226 صفحة أي نحو زهاء ثلث المجلد الثالث ولكنه شفى الصدر وكان مأخذاً في هذا الباب على حين قلت المواد التي يعتمد عليها في هذا المبحث وقد أجادت المطبعة بأن طبعت على الحجر مع طبع الحروف جميع الصور بالخطوط التي أوردها المؤلف فكانت كأن الإنسان يرى النسخة الأصلية.
وفي هذا الجزء كلام جليل على المسالك والممالك ذكر فيه الأرض والأقاليم والبحار والأبعاد والخلافة ومقراتها وترتيبها في كل عصر ومصطلحات الدول الإسلامية وأفاض(90/78)
في مملكة الديار المصرية وخططها ونيلها وخلجانها وأمهات مدنها وزروعها ومواشيها وحدودها وأقاليمها وتاريخها القديم وكورها القديمة وملوكها جاهلية وإسلاماً إلى عصره وترتيب أحوالها وجسورها وأموالها ومكوسها ومصطلحات دواوينها وموظفيها وجندها وأعيانها والجزء الأول 532 صفحة وفي الجزء الرابع تتمة هذه المباحث في المصطلحات المصرية وفيه كلام مستوفى على المملكة الشامية وما يتصل بها من بلاد الأرمن والروم وبلاد الجزيرة بين ألفرات ودجلة مما هو مضاف إلى هذه المملكة وقد توسع في الكلام على الشام لأنه كان تابعاً لحكومة مصر إذ ذاك وتكلم فيه عن ذوق وتتبع شأنه في كل الأبحاث التي طرقها في كتابه بحيث يصور الأشياء كأنك تراها عياناً وفي الجزء الرابع مقالات في المملكة الحجازية وأعمالها وملوكها ومصطلحاتها وتكلم على الممالك الصائرة إلى بيت جنكيز خان وهي إيران والجزيرة الفراتية والعراق وخوزستان والأهواز وفارس وكرمان وسجستان والرخج وأرمينيا وأذربيجان وإيران والجبل وخراسان وزابلستان وتوران وغيرهما وفي كل ذلك اعتمد النقل عن الثقات بذوق وحسن اختبار كأن المؤلف ساح هذه البلاد وعرف مصطلحاتها بنفسه وهو يعزو لمن يأخذ عنهم من المصنفين والسائحين والكتب كانت في عهده مبذولة محفوظة أكثر من الآن وعندنا المطابع ووسائط النشر الموفورة وقد وقع الجزء الرابع في 487 ص
أحسن ناشرو الكتاب بالتعليق والتحشية عليه مما دل أكثر الأحيان على تحقيق وتتبع لإثبات الرواية الصحيحة ووضع الروايات المختلفة أما الأغلاط المطبعية فهي أقل من كل كتاب نشر في مصر اللهم إلا المخصص لابن سيدة وقد أحسنت دار الكتب الخديوية بأن أرخصت ثمنه بالنسبة لأكلافه بحيث يتيسر لكل طالب علم أن يقتنيه ويزين به خزانته فيستغني به عن كثير من الكتب التي لا توجد الآن وإذا وجدت فأثمانها فاحشة لا يتيسر لكل إنسان اقتناؤها فنحث كل عارف باللغة العربية على اقتنائه ونشكر للناشرين والطابعين والمصححين عنايتهم بإحياء آثار السلف على هذا النموذج الرائق.
جريدة الشرق
صدرت هذه الجريدة منذ نحو ثلاثة أشهر في مدينة دمشق وهي أعظم جريدة عربية بحجم واسع ومادة غزيرة مصورة الأحايين وقد أرصد لها رأس مال كبير وعهد بإنشائها إلى جلة(90/79)
من العلماء المفكرين فجاءت بعد اتخاذ أسباب النجاح كلها نافعة للأمة العربية عامة وللمسلمين خاصة تستطيع خدمة الخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية على ما يجب ويسجل صدور مثل هذه الصحيفة الراقية في باب ارتقاء الأفكار والآداب العربية في هذه الديار حقق الله رجائها إلى نيل الغاية التي ترمي إليها من خدمة الأفكار الصحيحة والسياسة الرجيحة وبث العلوم والدعوة إلى الإصلاح الحقيقي من طريق العقل والنقل.(90/80)
أخبار وأفكار
الطلاب والطالبات في السلطة
نشرت نظارة المعارف في مجموعة الإحصاء أن عدد الطلاب الذكور في المدارس الابتدائية العامة في الممالك العثمانية 3. . 776 طالباً وعدد الإناث 41293 وعدد الذكور في المدارس الخصوصية 126284 وعدد الطالبات 61571 وعلى هذا فيكون مجموع الطلبة في السلطنة العثمانية 429924 بينهم 1. 2864 من البنات ويوجد في المدارس الابتدائية غير المسلمة 152744 طالباً ومقدار الطلاب في باقي المدارس كما يلي: (1518) في دور المعلمين و (1. 1.) في المدارس التالية و (6688) في المدارس العالية وبدوام في بيله جك وإزمير وأدرنة وجتالجة على المدارس (5.) في الألف أو أكثر والبلاد التي يختلف فيها الطلاب إلى المدارس أقل ما يمكن هي الموصل وأورفه وديار بكر وتوقاد فهنا يداوم من 1 - 1. بالألف.
أما البلاد التي تداوم فيها البنات على المدارس أكثر من غيرها فهي قرق كليسا وجتالجه فإنه يداوم من الطالبات على المدارس من 31 - 5. على عكس أورفة وكركوك وتوقاد وقسطموني فإنه يداوم على المدارس طالبة واحدة في الألف أما البلاد التي لا تكاد تجد فيها طالبات تختلف إلى المدارس فهي ألوية السليمانية وحكاري وحوران مما يذكر بقول الشاعر التركي توفيق فكرت بك القائل قلبك بحسرة الأمة التي لا تعلم بناتها لأنها تحكم على أبنائها باليتم المعنوي.
الزراعة في سورية
نشر داويد تريتش من الألمانيين الأخصائيين في الزراعة مقالة في إحدى المجلات الألمانية إليك ترجمة ما قال فيها: من المعلوم أن الزراعة في الممالك العثمانية هي الأساس الوحيد الذي يبنى عليه الاقتصاد الوطني وقد جرى البحث كثيراً في احتمال ترقي العثمانية في ميدان الصنائع ومن رأي بعض الأخصائيين في العلوم الاقتصادية أنه يمكن ارتقاء الصنائع في البلاد العثمانية قبل الزراعة في وقت أقصر من المخمن لها إذا صلحت أصول الزراعة في الممالك العثمانية ومما لا ريب فيه أن التراب يمنح الآهلين ثروة ورفاهية لأن غلات الممالك العثمانية إلى الآن لا تقبل القياس مع المقدار الذي يمكن أن تعطيه.(90/81)
ومما هو طبيعي أن الأراضي التي تظل السنين الطوال خالية لا تعود إليها قوتها الإنباتية في بضع سنوات إلا أنه من المحقق أن قوتها الإنباتية هذه تعود إليها. نحن الغربيون إذا بحثنا في البوادي في الممالك العثمانية تمر على خاطرنا في الحال الأراضي المملوءة بالأكوام من الرمال مع أن هذي الصحاري ليست من الأراضي التي لا تزرع بل إنها أراض خالية منذ سنين طوال وعليه فإن البوادي التي هي من هذا القبيل في البلاد العثمانية يمكن أعمارها والاستفادة منها حتى أن كثيراً من البوادي هي من الأراضي الأكثر إنباتاً وهي بقليل من العمل تكتسب قوة إنباتية تضمن لصاحبها الثروة.
صادف القرن الثامن عشر دور تناقص النفوس في آسيا الغربية وفي ذاك الحين أضحت الأراضي بحالة البادية بسبب عدم زرعها ومما لا شك فيه أن الأراضي الرملية المتروكة التي شاهدناها في سورية منبتة وتعطي محصولاً أكثر من الأراضي الأكثر إنباتاً وفي السبعين سنة الأخيرة بدأت تتزايد النفوس بدرجة محسوسة وهذا الازدياد في النفوس حدث في بعض الممالك العثمانية بصورة لم يشعر بها ظاهراً وبرقي ذلك اتسعت بعض المدن وتأسست قرى جديدة وفي كل نقطة من البلاد العثمانية كثرت فيها النفوس زادت القوة الإنباتية مثال ذلك أن قصبة غزة كان عدد نفوسها سنة 184.: (2. . .) فصار 16. . . في سنة 188. واليوم يبلغ عدد نفوسها 45. . . وبفضل كثرة النفوس عمرت وزعت الأراضي التي تحيط بغزة وأصبحت بلاداً زراعية تغل كثيراً من المحصولات التي تصدر إلى الخارج فتحسن فيها القطن في الآونة الأخيرة تحسناً ظاهراً ولا يمكن للمسافر في تلك الجهة أن يقطع مزارع الليمون بأقل من شهر واحد. هذا عدا عن حقول الحنطة والشعير التي تمتد مسافات شاسعة في جنوبي وشرقي غزة وقد فحص أحد المتخصصين الحنطة التي تنبت في غزة وحكم أنها محصولات صحراء. وعدا الحبوب أصناف اللوز والزيتون والأثمار اللذيذة ولعدم اعتناء سكان البلاد بالزرع على الأصول الحديثة فالإيراد قليل بالنسبة لجودة التربة المهملة.
وحيث أن الماء قليل الغور في أكثر تلك الجهات فري الأراضي على الطراز الحديث سهل جداً وكيفية ري الأراضي بسيط أيضاً لا يحتاج لاستعمال الآلات الزراعية الميكانيكية ونظراً لقلة غور المياه كما ذكرنا يكتفى بتخطيط المجاري تخطيطاً بسيطاً ووضع(90/82)
المضخات بالمراكز الضرورية لتوزيع المياه وتشعيبها في جميع الخطوط وهي وسائل بسيطة لا تكلف المزارعين الأثمان الباهظة إذ أن الأراضي التي يشتغل فيها المزارع بيده لا تنتج المحصولات التي يؤمل الاستفادة منها.
ولا أقصد بهذا الشرح بيان إحالة عن أراضي غزة وما حواليها فقط فإن الوصف الذي قدمته شامل لسواحل سوريا وشبه جزيرة سيناء أيضاً وما كانت بيروت ويافا إلا مدناً صغيرة منذ زمن غير بعيد كانت نفوس يافا 6. . . في سنة 1854 فأضحت اليوم 6. . . . وكانت نفوس بيروت في سنة 1782 (6. . .) فصارت (25. . .) في سنة 1865 وارتقت إلى (1. . . . .) في سنة 1885 وهي اليوم (2. . . . .) وعلى هذا قس باقي المدن.
ومع ذلك فإن المدن التي يراد إعمارها ورقيها لا يتم لها ذلك ما لم تزرع الأراضي التي تحيط بها وجميع مدن سوريا محاطة بأراضٍ منبتة للغاية وإن بعض الجهات من هذه الأراضي وإن تكن مستورة بالرمل فإنها لم تفقد قوتها الإنباتية والقسم الساحلي من هذه البلاد منبت للغاية وما عدا ذلك فإن إقليم البحر المتوسط اللطيف يساعد على إنتاج المحاصيل والبلاد الساحلية من الممالك العثمانية تخرج زيتوناً جيداً قل نظيره ويمكن قياس هذا الزيتون فقط بالزيتون الموجود في أفريقيا الشمالية وكاليفورنيا وأفريقية الجنوبية والجنوبية الشرقية وأستراليا وتنتج السواحل العثمانية الزبيب والتين واللوز والمشمش والخوخ والدراق والرمان والبطيخ الأخضر والأصفر والثوم والبصل والقطن والتبغ وغير ذلك من الزروع وتكثر فيها البساتين ويمكن أن تكون هذه ذات مكانة أهم من مكانتها الحاضرة وعليه فإن هذه الأراضي المنبتة ذات الهواء اللطيف إذا أعطيت لها رؤوس أموال صغيرة وجلب لها القليل من الأدوات فمما لا شك فيه أن أهاليها يعيشون الرفاهة والسعادة وبالطبع فإن العثمانية التي هي مملكة زراعية يغتني أهلها برقي الزراعة وتمتلئ صناديق الحكومة.
وإن ألمانيا بعد الحرب تتدارك حاجتها الزراعية من الممالك العثمانية وعليه فإن هذه البلاد تعد القسم الأعظم من لوازم النسج لألمانيا بأصول الألمانيين ألفني وآلاتهم ورؤوس أموالهم وإن المواد التي تجلبها ألمانيا من البلاد العثمانية هي القطن والصوف والزيت والزبيب(90/83)
والعنب وجميع أنواع ألفواكه والتبغ والنباتات الليفية ومواد السروج وإذا استفيد حق الاستفادة من هذه البلاد فإن رأس المال الذي يطرح يضمن منفعة تعادل عشرة أمثاله.
دائرة المعارف
أول دائرة معارف مشهورة في أوروبا كتبها في القرن العاشر للمسيح ألفيلسوف ألفارابي في بغداد ولا تزال محفوظة في مكتبة قصر الأسكوربال الإسباني. وقيل أن أبا ألفرج كتب دائرة وطبع أول مجلد منها منذ 672 سنة. أما أول من فكر بتأليف دائرة معارف فالصينيون. وقد اشتغل منهم بهذا المشروع العلمي العظيم ألفان من العلماء. واسم دائرة معارفهم (بنك لوتانيان) وهي مقسومة إلى 23 ألف جزء في 11 ألف مجلد مجموعها 917 ألفاً و48. صفحة. وإذا وضعنا الكتب صفاً بعضها فوق بعض يبلغ علوها 159 يارداً وبالطبع لا يوجد في الصين نفسها إلا نسخات قليلة كاملة من هذا الكتاب الهائل. أما أول دائرة معارف إنكليزية فطبعت عام 162. والفرنسية ألفها ديدرو ودالمبر اللذان قربت كتاباتهما عهد الثورة الكبرى في فرنسا. أما الدائرة العربية فقام بها مرة واحدة بطرس البستاني وطبع منها هو وأسرته 11 جزءً فقط ولم تكمل.
جراحات الحرب
كان الجراحون في حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا منذ 45 سنة يعمدون لمن أصابته شظية من قنبلة أو رصاصة فيبترون العضو المؤوف أو المصاب ولكن وسائط الجراحة على ترقيها في هذه الأيام قد أورثتها الحرب البلقانية تجارب نافعة في البقاء على أعضاء من أصيبوا بشظايا أو رصاصات فأصبح من يصاب في هذه الحرب يضرب في جسمه بمأمن من بتر العضو المصاب بل إن وسائط الجراحة قد خففت الويلات وأكثر من يصابون إلى سلامة.
شجرة المطاط
على تخوم بوليفيا في أميركا الجنوبية شجرة مطاط استدارتها من أساسها 8 أمتار و35 سنتيمتراً وتغل من المطاط مدة 12. يوماً من السنة 1. كيلو غرامات تساوي الآن 27. ألف فرنك بمعنى أن الشجرة تساوي ثلاثمائة ألف فرنك وهي لأسرة وطنية تعيش من ريعها مؤلفة من سبعة أشخاص.(90/84)
مادة جديدة
اكتشف أحد الأساتذة ألفرنسيين مادة ألفلور وهو زجاج يشبه الأحجار الثمينة وأثبت أنه موجود في جميع المعادن النادرة فقال أن في كل 1. . غرام من الأسنان 18. ميل غراماً وفي كمية من مثل ذلك من العظم 56 ميل غراماً و17 ميل غراماً من البشرة وميل غرامان من الدم و155. في اللبن الحليب وقال أنه في الجنين من هذه المادة أكثر مما في البالغ وفي البيض أكثر من الدجاجة أو الجلد أو الشعر أو الأظافر وهذه المادة هي التي تورث الأجسام صلابة كالملاط لأحجار البناء.
الأجانب في سويسرا
أحب بلاد المدنية الحديثة بلاد سويسرا الصغيرة الجميلة يزورها كل سنة ملايين من السياح ولا تزال الهجرة إليها متصلة حتى بلغ عدد الغرباء المقيمين بها سنة 191. - 552. . 11 نفساً في حين كانوا سنة 185. - 71. 57. نفساً أي أته كان فيها على ذاك العهد غريب واحد لقاء 32 سويسرياً واليوم واحد في كل عشرة من سكانها ومن مديرياتها مل فيه غريب واحد لقاء أربعة من السكان وزهاء ثلث هؤلاء السكان من الألمان فإن عددهم 219. 53. وعدد الطليان 2. 28. 9 والفرنسيين 63695 وعدد الروس 8457 ومعظمهم طلبة ففي كلية لوزان وحدها 458 روسياً و3. . سويسري وعلى كثرة مداهمة الأجانب لهذه البلاد خاف أهلها على سلامتهم ووطنهم وعاداتهم وتقاليدهم فأخذ أرباب الأفكار يفكرون في عدة طرق للنظر في مداواة هذا النقص المحتمل وقوعه كما هم يفكرون أن صناعة ألفنادق التي طالما جلبت الغريب إليها قد قللت في البلاد من الأيدي العاملة فصار ألفلاحات يعملن في ألفنادق بدل أن يعملن في الحقول واحتاجت هذه في استثماراتها وانباتها إلى أيدي الغرباء.
نوادي الشبيبة
ألقى المير ألاي فون هوف بك الذي عهدت إليه الحكومة تأسيس نوادي الشبيبة في البلاد العثمانية محاضرة في الآستانة قال فيها ما يلي:
إن نوادي الشبيبة تشمل جميع العثمانيين الذين هم من سن الثانية عشرة إلى الحادية والعشرين والغاية من تأسيس هذه النوادي هي تربية جميع ألفتيان العثمانيين وعلى(90/85)
الأخص في المحال التي لا يوجد فيها مدارس بدناً وروحاً وأخلاقاً وترقية مداركهم وهذه النوادي تربي بلا استثناء ألفتيان من سن الثانية عشرة إلى سن الحادية والعشرين بلا مقابل وهي نوع من المدارس للذين حرموا منها تعلمهم ما هي حياتهم وكيف يمكنهم اكتسابها ويحمل كل فتى على الدخول إلى هذه المدرسة والتحصيل فيها ولا يستثنى فرد واحد من ذلك والغاية من تأسيس أندية ألفتيان عالية وهي تنمية القوة البدنية في الأولاد والفتيان بصورة متناسبة مع سنهم وتلقينهم ما يلزم لدوام صحتهم والمحافظة عليها وتمرينهم على احتمال المشاق وتعليمهم إدارة أنفسهم وحركاتهم وأن يكونوا أصحاب فكرة انتظام وأن لا يبقوا في هذا السبيل في طور النظر بل يدخلون في طور العمل وأن يربى فيهم الميل والمحبة للاستقامة والشرف حتى في أصغر الأعمال التي لا شأن لها وأن يقدروا الاجتهاد متحدين لأجل المنافع العامة والمحافظة على الوطن وأن يبدوا المعونة لوطنهم وبلادهم أوان التهلكة وأن يدربوا على جرأة تزيل منهم التردد والخوف في هذا الصدد وأن يتعودوا الاجتهاد بعزم لا يتزعزع وأن يميزوا الحسن من القبيح والتميز بالنظام والانتظام إلى غير ذلك من المقاصد الشريفة.
الجراد
انتشر الجراد في ربيع السنة الماضية في سوريا جاءها من جزيرة العرب فأضر أضراراً كثيرة بالأشجار والزروع الصيفية حتى أن بعض الأشجار لم تبرح إلى هذه السنة متأثرة من سطواته فلم تأت بثمرها.
الأمراض
سرى الهواء الأصفر أو الكوليرا إلى مدينتي حلب ودمشق وما إليهما في ربيع هذه السنة جاءها من العراق وهذه أتاها من الهند وإذا كان من المقرر أن عدواه تنتقل في الماء تيسر توقيف سريانه حتى لم يكد يصاب به أحد في دمشق لجودة الماء واتخاذ أسباب الصحة. وقد تفشت في المدن ضروب من الحميات أهمها الحمى النمشية وإذ لم يهتد العلم بعد إلى أسباب سريانها فتكت بعض الشيء في سورية ولا سيما في البلاد التي تزدحم فيها أقدام الناس ثم انتقل إلى القرى والبلدان الصغيرة.(90/86)
العدد 91 - بتاريخ: 1 - 8 - 1914(/)
الكلية الصلاحية
إن أمتنا الإسلامية العظيمة بعد أن سارت في ميدان الحضارة شوطا قصيا. وتبوأت من قصائد المجد مكانا عليا. سقطت عن تلك المنزلة. وفقدت ما كان لهامن العز والسطوة وليس العار في هذا السقوط ما دمنا نراه يكاد يكون ناموسا عاما في سائر الأمم ذات المجد القديم كالرومان واليونان. وإنما العار كل العار في إن تبقى الأمة الإسلامية وحدها ساقطة في حفرتها متمادية في غفلتها فلا تنهض وتنشط وترمم ما تداعى من بنيانها كما اخذ يفعل غيرها من الأمم القديمة. وقد قال بعض الحكماء: ليس الشرف في أن لا تقع بل الشرف انك إذا وقعت لا تلبث أن تنهض فلا يراك احد إلا واقفا ولما حصل الاحتكاك بين العالم الإسلامي والعالم المتمدن الغربي في وساط القرن الماضي أي بعد حرب القريم انتبه نفر من علماء الإسلام ورجاله العظام إلى حالة المسلمين وما هم عليه من الانحطاط والخمول. وجعلوا يقلبون وجوه الرأي في تشخيص مرضهم وماذا عساه يكون علاجه الناجع. وحكموا جميعا أن المسلمين إذا لم يعملوا حتى التخلص من هذا المرض بجد واهتمام قضى عليهم. واستاصل شأفتهم. وجعلهم طعمة لغيرهم. وكانوا يذكرون أسبابا جمة لهذا المرض. ولكنهم لم يكونوا يختلفون في إن معظما لسبب فيه يرجع إلى (عدم فهم الإسلام فهما صحيحا) أو (عدم العمل بقواعد الدين المبين) حتى أصبح هذا الدين كالعضو الأشل وأصبحت رجاله كأنهم لا وظيفة لهم في هذا الوجود. مع إن الإسلام وتعاليمه الطاهرة هي السبب في السعادتين الدنيوية والأخروية ورجال الدين يجب أن يكونوا هداة الأمة إلى مجامع مجدها. والممسكين بيدها في كل موطن من مواطن حياتها وكل شان من شؤون اجتماعها. من القران والحديث وأقوال السلف الصالح يستخرج منها الأحكام التي تقتضيها حالة العصر الحاضر غير رجال الدين؟ من لوضع التأليف في العلوم الإسلامية ونشر الرسائل في الموضوعات الأدبية والأخلاقية والحياة الإسلامية غير رجال الدين؟ من لمنابر الخطابة أيام الجمع يعظ ويرشد ويحذر ويبشر غير رجال الدين؟ من لمنصات الحكم في المحاكم الشرعية والحقوقية يقيم العدل ويصون المصالح غير رجال الدين؟ من للدفاع عن الحقوق العامة والخاصة على صفحات الجرائد وفي ساحات المحاكم غير رجال الدين؟ من للخطابة في النوادي والساحات العمومية ينشر الآداب والأخلاق والفضائل بين العامة غير رجال الدين؟ من لتعليم النشء الإسلامي وتربيته تربية دينية فاضلة واجتماعية صحيحة غير(91/1)
رجال الدين؟ وبالجملة من لوراثة الأنبياء في هداية الشعوب غير رجال الدين؟ أن في إصلاح رجال الدين إصلاحا للدين والدنيا. اصلاحا للمساجد. اصلاحا للمحاكم. اصلاحا للمدارس. اصلاحا للعائلة. اصلاحا للجيش إن تقصير الدين في فهم علوم الدين فهما منطبقا على حالة الحياة التي استجدت لهم في هذا العصر أدى إلى تشويه وجه العدل في المحاكم. وخنق روح العبادة في المساجد. وتوهين رابطة الألفة في العائلة. وتلو بث النفس بالجبن في ميادين الحروب ولا يمكن آن يفهم زجال الدين تعاليم الإسلام فهما صحيحا منطبقا على مصالحهم الحاضرة وملائمة لحالة عمرانهم الجديد ما لم يقرنوا بفهمها والاشتغال بها لفهم والاشتغال بعلوم التمدن الحديث. ولا ترانا بحاجة إلى الاستدلال على هذه القضية فقد حفيت أقلام علماء السلام وكلت السنة كبار رجاله في بيانها وإيضاحها منذ خمسين سنة إلى اليوم فمصطفى رشيد باشا العثماني. وخير الدين باشا التونسي. والشيخ جمال الدين الافغاني. والسيد احمد خان الهندي. والشيخ محمد عبده المصري. والشيخ عبد الرحمن الكوكبي السوري. واسماعيل بك غصبر نسكي التاتاري. والبرنس ميلكم خان الإيراني - كل هؤلاء اشتعلوا في هذه المسالة وبرهنوا على هذه القضية بما لا يحتمل الرد. ولا مساغ معه للجدال والنقض وإن تأسيس الخلدونية بتونس. وانشاء كلية عليكرة في الهند. وادخال العلوم الحديثة على الزهر وتأسيس دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي في مصر. كل ذلك يرمي إلى الغرض الذي ذكرناه من جعل علماء الدين الإسلامي قادرين على القيام بوظائفهم في خدمة تعاليم الإسلام فهما صحيحا. وتدبر طبيعة العمران الحديث تدبرا رجيحا ولم تال دولتنا العثمانية (أيدها الله) جهدا في تحقيق هذه لأمنية وتنفيذ هذه الرغيبة فسعى خيري بك شيخ الإسلام في تأسيس (مدارس دار الخلافة) في عاصمة السلطنة. وانشا (كلية المدنية) في مدينة سيدنا الرسول العظم صلى الله عليه وسلم ولم يكن حضرة القائد الكبير احمد جمال باشا لتشغله مهام العسكرية عن خدمة هذه ألفكرة الشريفة فانه آمر بتأسيس كلية صلاح الدين الأيوبي في القدس الشريف لتكون حلقة منضمة إلى أخواتها من حلقات المعاهد الدينية التي لسست في العالم الإسلامي لتخريج علماء فضلاء مقتدرين على خدمة الإسلام. والاستفادة من تعاليمه الطاهرة في جميع المصالح والأحكام وبعد فليست هذه الكلية سوى اثر من آثار عناية حكومتنا بالعلوم الإسلامية وحرصها على ترقبة المسلمين ولم(91/2)
شعثهم عن طريق الدين. والرجوع إلى العمل بحكامه على ما القائد الكبير احمد جمال باشا أن يقف علماء الإسلام على أحوال هذا العصر واطرار عمر انه كما وقفوا على أسرار ألفقه الإسلامي وتفاصيل أحكامه - وهو يحب أيضاً السلطان صلاح الدين الأيوبي ويعجب بشجاعته وفرط غيرته على الإسلام والمسلمين فلما وقف على أمر المدرسة الصلاحية وقيل له أن السلطان صلاح الدين كان أسسها في القدس باسم أتباع الإمام الشافعي رضي الله عنهكما هو مسطور ومقروء على عتبة بابها اليوم وبلغه أنها قد تغيرت معالمها. وتحولت أوضاعها إلى غير ما أراده واقفها رحمة الله - وجد ألفرصة إذ ذاك سانحة لإظهار آثار حبه للأمرين معا: حبه العلماء الإسلام فيعيد إليهم هذه المدرسة باسم الكلية الصلاحية يتعلمون فيها ويتخرجون بواسطتها في مختلف العلوم والفنون - وحبه للسلطان صلاح الدين فيعبد مدرسته. ويحي ذكره. وما أجمل الأبطال يحيون ذكر الأبطال مر على الكلية الصلاحية سنة ونصف 333 نحو مئة طالب. واذ كان مشروعها في بدء أمره تكرر التغير والتبديل في بروغرامها وطرق التعليم فيها. امافي هذه السنة 334التي انتهت فكان عدد طلابها (15.) وكان بروغرامها اثبت. وطرق التدريس فيها اقصد واضمن وللكلية هيئة الإدارة وهيئة معلمين وكلهم يبلغون نحو بضعة عشر فاضلا. وبقية مأموريها وخدمتها يبلغون الثلاثين وهي مرتبطة مباشرة بمقام المشيخة الإسلامية الجليلة وبنظارة الأوقاف وطلابها اليوم ما بين الإثنتي عشرة والخامس والعشرين من أعمارهم ومعظمهم هؤلاء الكبار تركوها في المدة الأخيرة وتجندوا في الخدمة المقصورة والكلية تقبل من الطلاب كل سنة مئة طالب موزعين في قبول الكلية لهم - على ولايات السلطنة العثمانية والبلاد السلامية الأخرى بنسبة مقررة في تعليمات الكلية. وكلهم مجبرون على التزيي بلباس العلماء المعروف: عمامة بيضاء وجبة سوداء منطبقة على الكعبين: ويتلقون في الكلية العلوم الشرعية والحقوقية وألفنون المختلفة والالسنة المتنوعة. وينامون في الكلية ويأكلون فيها ويلبسون على حسابها. ولا يكلفون سيئا سوى الاجتهاد في دروسهم. والعمل بدينهم والإخلاص لدولتهم ووطنهم. والإطاعة لقانون كليتهم. ومدة التحصيل فيها عشر سنوات: سبعة منها للتعليم التالي (سلطاني) وثلاثة للتعليم العالي. وليس فيها تعليم ابتدائية طلابها يكلفون - وراء تحصيل العلوم والفنون - دراسة القران الكريم واستظهار طائفة من(91/3)
سوره. وتلاوته بالترتيل ورفع الصوت في اجتماعات خاصة بهذا الشأن. ويمرنون على التربية البدنية. والالعاب الرياضية. ويدربون على آداب السلوك والمعاشرة ومراعات النظام. في غرف الطعام وقاعات الحفل العام ولهم قاعة خطابة يتمرنون فيها على إلقاء الخطب والمحاضرات وقصائد الشعر - سواء كان ذلك من مقولهم أو من مقول غيرهم. كما يلقي الأساتذة شيئا من ذلك على مرأى ومسمع منهم فيزيدهم ذلك خبرة وحذقا. ويخرجون في الأحايين إلى ضواحي القدس وقراها ومشهور أماكنها مشيا على الأقدام ثلاث ساعات أو أكثر. ويحملون في ذلك الهواء الطلق على الوثب والقفز والجري وتلوية الشوي (أطراف الجسم) وتليين العضل وتقوية مجموع الجسم. وقد نصبت لهم في باحة الكلية أدوات ألعاب (جمنا ستيك) خاصة بذلك. لقد شهدتهم مرة في ضاحية القدس يتسابقون تحت نظر مديرهم ألفاضل وأساتذتهم في قطع واد من إحدى عدوتيه إلى العدوة الأخرى فكانوا يعدون عدو النعام من منحدر العدوة حتى يصلون إلى أسفل الوادي ثم يشتدون إلى العدوة القصوى ولا يزالون مصعدين في سند الجبل حتى يصلوا إلى نقطة معينة منه وقد تكررت هذه المسابقة بينهم في وقت واحد فكانت جامعة بين ألفكاهة والفائدة والتعب الشديد. وهكذا الأمم التي تريد أن تحيا في راحة يجب عليها أن تقضي شطرا من حياتها في تعب ويدرب ذو القابلية من طلاب الكلية على ممارسة الألحان وإلقاء الأناشيد بتغن وتطريب فيحدث ذلك في نفوس الطلاب راحة ونشاطا يعوض ما تكون خسرته أجسامهم بفرط الدرس والبحث وعناء القيام بالوظائف المدرسية المختلفة. ويكلف طلاب الكلية جميعهم كبارهم وصغارهم القيام سحرا لصلاة الصنج. ولم يكن يخول بينهم وبين هذه ألفريضة اليوم المطير. ولا يرد الزمهرير. وكأني انظر إلى صغارهم يتوضأون في السحرة القرة والدم يسيل من أشاجعهم وبراجمهم وسلامياتهم وهم يتضاحكون ويتحملون ذلك بتجلد وصبر ومباهات. وكنا نشجعهم على تحمل الأمر وننبههم إلى فائدته من الوجهتين الروحية والجسمية. وأنا لندعو لهذا المعهد بالتقدم والارتقاء. فان في ارتقائه ارتقاء للأمة إلى ذروة العز القعساء. منشى هذه الرسالة هو الشيخ عبد القادر المغربي كان من أساتذة كلية صلاح الدين فهو حجة فيما يصف ويقول ويؤخذ من تعليمات هذه الكلية الإسلامية إن هذا المعهد ربط مباشر بمقام المشيخة الإسلامية وبنظارة الأوقاف والغرض(91/4)
من الكلية تدريس العلوم الشرعية والحقوقية وألفنون المختلفة والألسنة المتنوعة وتخريج رجال أخصائيين في هذه العلوم يقتدرون عن الدفاع عن التعالم الدينية ويصلحون لمباشرة الوظائف العلمية والشرعية. ومدة التحصيل في الكلية عشر سنوات سبع منها (قسم تالي) وثلاث (قسم عالي) ولسان التعليم فيها اللغة العربية وتقبل كل سنة مئة طالب في الصنف الأول موزعة على الصورة الآتية: عشرة من لواء القدس وخمسون من سائر الولايات والأولوية العثمانية والأربعون من أقطار العالم الإسلامي. والخمسون طالبا الذين يؤخذون من العثمانيين يكونون بالمناوبة أما الطلاب الأربعون الذين يؤخذون من أطراف العالم الإسلامي فأمرهم بحسب ما يلي: أربعة من مصر واثنان من السودان والحبش واثنان من طرابلس الغرب وبنغازي ومن كل من تونس والجزائر وفارس وجنوبي افريقية واحد واحد وثلاثة من جاوة وفلبين وثلاثة من الصين وكاشغر وخمسة من الهند واثنان من أفغان وواحد من بلوجتان واثنان من إيران وستة من تركتان (أي بخارى وخيوه وطشقند وسمر قند وما يلي ذلك) وستة من قفقآسياو استرخان وقازان والقريم وبولونيا. وبفرض إناء التعليم في كل ساعة من ساعات التدريس في الكلية من عشرين إلى خمسين غرشا ويجوز للأساتذة أن يأكلوا ويناموا في الكلية ولا يؤخذ من الطلاب أجرة التعليم وهم فوق ذلك يأكلون ويكتسون على نفقة الكلية ولكن إذا ترك احد الطلاب العثمانيين الكلية من غير عذر شرعي ضمن ليرة ونصف ليرة عثمانية لقاء كل شهر لازم فيه غالكليه. وليس للكلية قسم نهاري بل كل الطلبة داخليون وعلى الأساتذة أن يؤلفوا كتبا في العلوم التي يدرسونها ولا يوجد فيها مؤلفات وافية بالحاجة وان يلقوا محاضرات على الطلاب في ألفنون المختلفة وتدعو الإدارة من شاءت لإلقاء محاضرات في العلوم التي اختصوا فيها وتمرن الطلاب على إلقاء الخطب ويدعى إلى القدس في كل سنة احد مشهوري العلماء في العالم الإسلام يلقي محاضرات في مسائل العلم التخصص به ويعقد لعده المحاضرات مجالس في المسجد الأقصى يشهدها طلاب الكلية وتستغرق شهرا من الزمن ويخصص للأستاذ الذي يدعى على هذه الصورة من الثلاثين إلى المائة والخمسين ليرة عثمانية لقاء نفقات وبزل ضيفا على الكلية وتقام سباحات للطلاب تحت رئاسة هيئة الإدارة خلال أشهر العطلة بقصد البحث والتقصي في المسائل العالية وألفنية. ولغة التدريس في الكلية هي اللغة العربية ومع(91/5)
هذا فيجوز أن يدرس مثل التاريخ العثماني ومجلة الأحكام العدلية وحقوق الدول والتاريخ السياسي باللغة التركية أو لغة أجنبية وكل إنسان أجنبي يدرس في الكلية يلقن بلغة أمته وتحصيل اللغات الشرقية والغربية في الكلية اختياري ويكون تدريسها بلغات أهلها على طريقة سهلة قريبة التنأول. أما العلوم التي تدرس في الصفوف العشرة في الكلية فهي التفسير والحديث ومصطلح الحديث وألفقه المعاملات وتاريخ على ألفقه وأصول ألفقه وعلى الكلام وتاريخ علم الكلام وعلم التصوف وعلم التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم المنطق وعلم الأخلاق وتاريخ الفلسفة وعلم ما وراء الطبيعة والعلوم الحقوقية كالحقوق الأساسية والإدارية وحقوق الدول وقانون الجزاء وأصول الجزاية ومجلة الأحكام العدلية وأحكام الأوقاف وقانون الأراضي والتجارة البحرية والتجارة البرية وعلم الاقتصاد وعلم المالية واللسان العربي الصرف والنحو واللغة وأصول الإلقاء والمنطق والبلاغة وآداب اللغة) واللسان التركي (صرف ونحو وقراءة وكتابة وأدبيات) والتاريخ والسيرة النبوية والتاريخ العام وتاريخ العرب والإسلام وتاريخ العرب والعثمانيين والتاريخ السياسي للعصر الحاضر وتاريخ الأديان السماوية والجغرافية العمومية والجغرافيا الإسلامية والعثمانية وألفلك ومن العلوم الرياضية (الحساب العملي والهندسة والجبر وأصول مسك الدفاتر والحساب النظري والمثلثات والميكانيك) ومن العلوم الطبيعية (الزراعة المحلية والحكمة الطبيعية والكيمياء والحيوان والنبات والمعادن وطبقات الأرض وحفظ الصحة والتداوي الابتدائي) وفن الخط والرسم ومن الالسنة الشرقية ألفارسي والارد والتاتاري ومن الألسنة الغربية والألماني وألفرنسي والإنكليزي والروسية يشترط في الطلاب الذين يقبلون في الصنف الأول أن تكون سن الطالب لا اقل من اثنتي عشرة سنة سالما من العاهات والأمراض غير محكوم بجنحة ولا جناية ولا معروف بسوء الأحوال وبيده شهادة من المكاتب الابتدائية ذات الخمسة والستة صفوف أو يكون تحصيلة بهذه الدرجة ويثبت ذلك بالامتحان وان يودع لدى إدارة الكلية سندا مصدقا من وليه أو من جمعية أو جماعة إسلامية أو معهد علمي يتضمن كفالة مالية يمكن بواسطتها تحصيل ما انفق عليه في الكلية إذا أراد تركها من دون عذر شرعي. وعلى طالب الدخول أن تكون بيده تذكرة نفوس أو تذكرة جوازباسابورطو شهادة المكتب الذي تخرج فيه وشهادة تلقيح الجدري وسند الكفالة(91/6)
المذكور وشهادة بحسن حالة تتضمن عدم الحكم عليه بجنحة أو جناية وعدم اشتهاره بسوء الحال وتكون مصدقة من مجلس إدارة بلدة أو معهد علمي مشهور. ومن لم يكن معه شهادة وأراد الدخول في الكلية يمتحن في القران الكريم والمبادىء الدينية واللغة العربية (قراءة وتكلما وترجمة) والحساب والتاريخ والجغرافية الخط. ومن أراد الدخول من طلاب القسم التالي من مدارس دار الخلافة العلية أو من مدرسة أخرى بدرجتها يقبل في الصنف الذي تكون دروسه معادلة للدروس التي تلقاها في صنفه بشرط أن يكون بيده تصديق من مدرسة وعلى الذين بيدهم تصديق من المكاتب السلطانية أو الإعدادية أن يعطوا امتحانا في الدروس التي لم يكونوا تلقوها في مكاتبهم والتي تدرس في الصف الأدنى من الصنف الذي يريدون الدخول فيه فيمتحنون باللغة العربية ومن يريدون الدخول في الكلية وهم محصلون في مدارس معادلة للمدارس السلطانية عليهم أن يعطوا امتحانا في جميع دروس الصنف الأدنى من الصنف الذي يريدون الدخول فيه ومن كان من طلاب الكلية الصلاحية وبيده شهادة من قسمها التالي أو كان من طلاب مدارس دار الخلافة أو مدرسة بدرجتها ذات ثمانية صفوف وبيده شهادة من شعبتها الثانية في قسمها التالي جاز له أن يدخل في الصنف الثامن أي في أول صفوف التعليم العالي من الكلية الصلاحية أما متخرجوا المكاتب السلطانية فيقبلون في الكلية بشرط أن يكونوا واقفين على اللغة العربية وأن يؤدوا امتحانا في جميع المواد التي لم تدرس في مكاتبهم والذين هم في المعلومات بدرجة هؤلاء المتخرجين يقبلون أيضاً بشرط أن يفحصوا في جميع المواد التي تدرس في القسم التالي من الكلية. وتبدأ مدة قيد الطلاب وقبولهم من أواسط آب إلى انتهاء أول أسبوع من أيلول وامتحانات الدخول في أول أسبوع من شهر أيلول وعلى الطلاب أن يعتقدوا أن العلوم والمعارف لا تجديهم نفعا ما لم تكن مستندة على تربية حسنة وأخلاق كريمة وأن يتخذوا الأمور الآتية دستورا للعمل: عليهم أن يعتنوا بتربية قواهم البدنية وألفكرية والأخلاقية ليصبحوا فيما بعد رجالا ذوي أبدان قوية وأفكار سليمة وأخلاق متينة وان يمثلوا رجلا مدنيا في عزيمته وبعد همته وحسن مسعاه. وان يتوخوا في جميع أعمالهم مراعاة تعاليم الدين المبين ويتواصوا بالصبر على خدمة الحقيقة وترقية شان الإنسانية ويتباعدوا جهدهم عن ارتكاب نقيضة أو رذيلة وان يكون همهم ألفذ حب الخير وممارسة ألفضيلة (ب) أن لا(91/7)
يجعلوا الله عرضة لإيمانهم وان يتجنبوا الحيلة والدسيسة والكذب ويكونوا أمناء موثوقين وأرباب شرف وأنفة في جميع اطوارهم. (ج) أن يثابروا على دروسهم وان يحترموا ويطيعوا رؤسائهم وأساتذتهم وآبائهم وأقاربهم وأن تبقى نفوسهم مشبعة بعاطفة الحنان والشفقة نحو رفاقهم (د) يجب عليهم أن يحافظوا داخل الكلية وخارجها على القيافة الخاصة بهم وان يجتنبوا في أعمالهم كل ما يخل بمسلكهم العلمي المحترم وبكرامة المعهد الإسلامي الذي ينتسبون إليه وأن يجتهدوا في أن يكونوا مثالا حسنا وقدوة صالحة لغيرهم. (هـ) أن يهتموا بالنهوض من النوم باكرا ويحافظوا على الصلوات الخمس في أوقاتها عند إسباغ الوضوء ويواظبوا على تلاوة القران ومدارسته جهرة بعد صلاتي ألفجر الصلاة وخاصة صلاة الجمعة فيسعون إليها وهم على أكمل سمت وأحسن زي هذه شذرة من تعاليم الكية الصلاحية وهي نافعة جدا في تخريج أكمل مثال من رجال الدين الإسلامي على ما تقتضيه حالة العصر والله الملهم والموفق.(91/8)
معرفة العرب ناموس الجاذبية
لا يخفى أن الناس ف5ي عالم العلم ينسبون تحقيق جاذبية الأرض إلى ألفيلسوف الإنكليزي اسحق نيوطن ويجعلونه من اجل ذلك في صف أعاظم رجال الدنيا وقل من شدا شيئا في ألفلك أو الجغرافية أو القوسموغرافية إلا وهو يحفظ اسم نيوطن والحال آن نسبة هذا الاكتشاف إلى ألفيلسوف المشار أليه هو قلة الإطلاع على كتب العرب وعدم الإحاطة بمبالغ علومهم وهذه المسالة هي أشبه بمسالة دوران الأرض التي توهم الأوروبيون أنها أيضاً من تحقيقاتهم ووفروا فيها فضل الاكتشاف لكوبرنيك والحال أنها أيضاً من المسائل التي انتبه أليها العرب تقدم لنا في فصل مختصر في علماء الهيئة من العرب نشرناه في جريدةالشرق
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وهاك ما اطلعنا عليه في القسم الأول من رسائل إخوان الصفا وخلان ألوفا مما يتعلق بالكرة الأرضية: وأما سبب وقوف الأرض في وسط الهواء ففيه أربعة أقوال منها ما قيل هو جذب الهواء لها من جميع الجهات بالسوية فوقفت في الوسط لما تساوى قوة الجذب من جميع الجهات ومنها ما قيل لدفع ألفلك إياها لا فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الدفع من جميع الجهات وقيل هو جذب المركز لجميع أجزائها من جميع الجهات إلى الوسط لأنه لما كان مركز الأرض مركز ألفلك أيضاً وهو مغنيطس الأفلاك اعني مركز الأرض وأجزاء الأرض لما كانت ثقيلة انجذبت إلى المركز وسبق جزء واحد وحصل المركز ووقف باقي الأجزاء حولها يعني حول النقطة وطلب كل جزء منها المركز فصارت الأرض بجميع أجزائها كرة واحدة بذلك السبب ولما كان الماء أجزاؤه اخف من أجزاء الأرض وقف الماء فوق الأرض ولما كانت أجزاء الهواء اخف رمن أجزاء الماء صارت فوق الماء ولما كانت النار أجزاؤها اخف من أجزاء الهواء صارت في العلو مما يلي فلك القمر وقيل هي خصوصية للوضع اللائق به وذلك أن الباري تعالى اسمه جعل لكل جسم من الأجسام الكائنات من النار والهواء والماء والأرض موضعا مخصوصا هو البق به وهكذا فلك القمر وعطارد وبقية الكواكب لكل واحد موضعا مخصوصا في فلكه فهو ثابت فيه ألفلك يديره معه وهذه العلة أشبه الفاو بل بالحق انتهى وقد جاء في أول الرسالة من رسائل أخوان الصفا وخلان ألوفا التي فيها هذا ألفصل ما باتي بعد البسملة: من اجل(91/9)
أن إخواننا أيدهم الله مذهبهم النظر في جميع الموجودات والبحث عن مباديها وعلة وجدانها وعن غرائب نظامها والكشف عن كيفية ارتباط معلوماتها بعللها بإذن باريها جل ثناؤه احتجنا أن نذكر الأرض وكيفية صورتها ووقوفها في مركز العلم وما نسبته وذلك أن المعرفة مجالها وكيفية وقوفها في الهواء هو من العلوم الشريفة لان وقوف أجسامها عليها حكم جليلة ومنها بد الخ يشيرون إلى السبب الذي حداهم على البحث في مسالة وقوف الأرض في وسط ألفضاء في رسائلهم المتعلقة بتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق قد اطلعنا على هذا الكلام في نسخة من رسائل أخوان الصفا جاء في أخره هذه الجملة: تمت الرسالة بحمد الله وعونه في الرابع عشر من شهر الله المحرم الحرام تسع وثمانين وثمانمائة وتاريخ النسخة التي نسخت منها سنة أربع وخمسمائة وكتبها محمد ابن علي بن ندى بن الحسن انتهى وربما التمس بعض القراء ذكر مجمل خير أخوان الصفا ومواضيع رسائلهم فان هذا الاسم يطرق مسمع كثير من الناشئة وربما من المشيخة ولا يفهمون عنه قليلا ولا كثيرا ولا يعلمون منه قبيلا ولا دبيرا فقصدنا أن نأتيهم من ذلك بما يزيح العلة ويشفي الغلة فنقول: قال الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن قاضي الأشواف يوسف اقفلي المتوفي سنة 646في كتابه (أخبار العلماء بأخبار الحكماء) إخوان الصفا وإخوان ألوفا هؤلاء جماعة اجتمعوا على تصنيف كتاب في أنواع الحكمة الأولى ورتبوه مقالات عدتها إحدى وخمسون مقالة خمسون منها في خمسين نوعا من الحكمة ومقالة حادية وخمسون جامعة لأنواع المقالات على طريق الاختصار والإيجاز وهي مقالات منشورات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج وكأنها للتنبيه والإيماء إلى المقصود الذي يحصل عليه الطالب لنوع من أنواع الحكمة ولما كتم مصنفوها أسمائهم اختلف الناس في الذي وضعها فكل قوم قالوا قولا بطريق الدس والتخمين فقوم قالوا هي من كلام بعض الأئمة من نسل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه واختلفوا في اسم الأمام الواضع لها اختلافا لا يثبت له حقيقة وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول ولم أزل شديد البحث والتطلب لذكر مصنفها حتى وقفت على كلام لأبي حيان التوحيدي جاء في جوابه عن أمر شاله وزير صمصام الدولة في حدود سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وصورته: قال أبو الحيان حاكيا عن الوزير المذكور حدثني عن شيء هو أهم من هذا إلى واخطر على بالي(91/10)
إني لا أزال اسمع من زيد بن رفاعة قولا يريبني ومذهبا لا عهد لي به وكناية عمتا لا أحقه وإشارة إلى ما يتوضح شيء منه يذكر الحروف ويذكر النقط ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدة إلا لسبب والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لواحدة إلا لعلة والألف لم تعجم ألا لغرض وأشباه هذا واشهد منه في غرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفخ بذكرها فما حديثه وما شانه وما دخلته فقد بلغني باابا حيان منك تغشاه وتجلس إليه وتكثر عنده ولك معه نوادر معجبة ومن طالت عشرته إنسان صدقت خبرته وأمكن إطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه فقلت أيها الوزير أنت الذي تعرفه قبلي قديماً وحديثاً والاستخدام وله منك الإمرة القديمة والنسبة المعروفة فقال ذع هذا وصفه لي فقلت هناك ذكاء غالب وذهن وقاد ومتسع في قول النظم والنثر مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة وحفظ أيام الناس وسماع المقالات وتبصر في الآراء والبيانات وتصرف في كل فن أما بالشدو الموهم وأما بالتوسط المفهم وأما بالتناهي المفحم قال فعلى هذا ما مذهبه قلت لا ينسب إلى شيء ولا يعرف برهط لجيشانه بكل شيء وغليانه بكل ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه وسطوته بلسانه وقد أقام بالبصرة زمانا طويلا وصادف بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيشي ويعرف بالمقدسي وأبو الحسن علي ابن هارون الزنجاني وأبو احمد المهرجاني والعوفي وغيرهم فصحبهم وخدمهم وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى ألفوز برضوان الله وذلك أنهم قالوا إن الشريعة قد دنست بالجهالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها وافردوا لها فهرسا وسموه رسائل إخوان الصفا وكتموا في أسمائهمإلى إن قال: قال الوزير: فهل رأيت هذه الرسائل قلت: قد رأيت جملة منها وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية وفيها خرافات وكنايات وحملت عدة منها إلى شيخنا لأبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه فنظر فيها أياماً وتبحرها طويلاً ثم ردها علي وقال: تعبوا وما أغنوا ونصبوا وما أجدوا وحاموا وما ردوا وغنوا فما أطربوا ونسجوا(91/11)
فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع ظنوا أنه يمكنهم أنهم يدسون الفلسفة التي هي علم النجوم والأفلاك والمقادير والمجسطي وآثار الطبيعة والموسيقى الذي هو معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات في الشريعة وان يربطوا الشريعة بالفلسفة وهذا مرام دونه حدد وقد تورك على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحداً أنياباً واحضر أسباباً وأعظم أقداراً وارفع أخطاراً وأوسع قوى وأوثق عرى فلم يتم لهم ما أرادوه ولا بلغوا منه ماأملوه إلى آخر ما قال وبرهن عليه وهو من قبيل ما يذهب إليهم بعضهم اليوم من كون الشريعة ينبغي أن تمشي في طريق والعلم في طريق خلافاً لرأي القائلين بتطبيق الشريعة على القواعد العلمية أو رد العلوم إلى أصول الشرع حتى لا تقع الشبهة في العقيدة وهذا بحث ليس من مقامنا اليوم وإنما جرنا إليه الاستطراد في التعريف برسائل إخوان الصفا وواضعيها ومدار الكلام اليوم على كون حكماء العرب عرفوا الجاذبية قبل اسحق نيوطن واستشهدنا على هذه الحقيقة بما ورد في رسائل إخوان الصفا وإليك نبذة ثانية أيضاً تأثرها عن ياقوت الحموي المتوفي سنة 626 وهو كلامه في مقدمة كتابه معجم البلدانوقال قوم أن الذي يرى من دوران الكواكب إنما هو دوران ألفلك وقال آخرون أن بعض الأرض يمسك بعضاً وكثير منهم يزعم أن دوران ألفلك عليها يمسكها في المركز من جميع نواحيها وقال والذي يعتمد عليه جماهيرهم أن الأرض مدورة كتدوير الكرة موضوعة في جوف ألفلك كالمحة في جوف البيضة والنسيم حول الأرض وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى ألفلك وبنية الخلق على الأرض أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل لأن الأرض بمنزلة حجر المغناطيس الذي يجتذب الحديد وما فيها من الحيوان وغيره بمنزلة الحديد وقال آخرون من أعيانهم الأرض في وسط ألفلك يحيط بها ألفرجار في الوسط على مقدار واحد من فوق وأسفل ومن كل جانب وأجزاء ألفلك تجذبها من كل وجه فلذلك لا تميل إلى ناحية من ألفلك دون ناحية لأن قوة الأجزاء متكافئة ومثال ذلك حجر المغناطيس الذي يجتذب الحديد لأن طبع ألفلك أن يجتذب الأرض إلى آخر ما قال وقال ألمقدسي فإما الأرض فإنها كالكرة موضوعة جوف ألفلك كالمحة جوف البيضة والنسيم حول الأرض وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى ألفلك وبنية الخلق على(91/12)
الأرض أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل لأن الأرض بمنزلة الحجر الذي يجتذب الحديد ومثلوا ألفلك بخرائط يدير شيئاً مجوفا وسطه حوزة فإذا أدار ذلك الشيء وقفت الجوزة وسطه. انتهى ومما يدل على معرفتهم حركة الأرض قول القز ويني في عجائب المخلوقات وهو: ومن القدماء من أصحاب فيثاغورسي من قال أن الأرض متحركة دائما على الاستدارة والذي يرى من دوران الكواكب فلا يكون حكماء العرب بقوا أجانب عن معرفة ناموس الجاذبية ولا عن حركة الأرض مما يتبجح الإفرنج بكونه من تحقيقاتهم وان كان نيوطن قد عرف الجاذبية بدون إطلاع على كلامهم فيكون من باب توارد الخواطر
دمشق
شكيب أرسلان(91/13)
القدس وتواريخها العربية
اشتهرت مدينة القدس الشريف بآثارها الدينية وموقعها وقل من عرف عناية المؤلفين بتواريخها ولا سيما مؤلفو العرب فلذلك وضعت فذلكة في مختصر تسميتها وأسماء المؤلفين في شؤونها منهم تذكرة للمطالع الكريم فأقول: عرف فذكرها قدماء العرب هذه المدينة لما انصلوا بجوران وعجلون وتلك الضواحي الأعشى شاعرهم باسم أورشليم في قوله:
وقد طفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوريشلم
فحرف الاسم لضرورة الوزن. اما الفرزدق بعد فذكرها باسم ايلياء في قوله:
وبيتان بيت الله نحن ولاته ... وقصر باعلى ايلياء مشرف
وتابعه أعرابي فقال:
فلو إن طيرا كلفت مش سيره ... إلى واسط من أبلياء لكلت
سما بالمهاوي من فلسطين بعدما ... دنا ألفيء من شمس النهار فولت
وذكرها مروان باسم (بيت المقدس) بالتخفيف فقال:
قل للفرزدق والسفاهة كإسمها ... إن كنت تارك ما أمرك فاجلسي
ودع المدينة أنها محذورة ... والحق بمكة أو بيت المقدس
وذكرها ابن حجر العسقلاني باسم البيت المقدس بالتشديد في قوله مورياً ومتفشياً
إلى البت المقدس جئت أرجو ... جنان الخلد نزلاً من كريم
قطعنا في مسافته عقاباً ... وما بعد العقاب سوى النعيم
وما اسم القدس فلم تعرف به إلا في العصور المتأخرة على أقدم من ذكرها به المطران سليمان الغزي أسقف غزة الشام في نحو القرن الربع عشر للميلاد في قوله
أيدعوك للقدس الخيال الذي يسري ... فهل لك في ترك الزبارى من عذري
هذا ما ذكره الشعراء في أسماء هذه المدينة الشهيرة في التاريخ منذ عهد بعيد وفيها إلى اليوم من الآثار الدينية والتاريخية ما يحتاج في وصفه على مجلدات حتى كثرت عناية المؤلفين بها من مشارقة ومغاربة وأعراب وأعجام. على أننا أفردنا الآن بالذكر من ألف فيها من العرب مما هو مشهور في المكتب والأسفار ذكر العرب القدس في كتبهم الكثيرة في ألفتوح والتواريخ والمعاجم الجغرافية والرحلات وأشاروا إلى تواريخها وما تقلب عليها(91/14)
من الحوادث وما جرى فيها من الوقائع وما عرفت به من الشؤون المختلفة وذلك في أثناء أبحاثهم وفي تضاعيف كتبهم وثنايا تواريخهم. أما الذين أفردوا لها المؤلفات الخاصة فكثيرون ومعظم كتبهم بل جميعها إلا قليلاً منها لا يزال مخطوطاً في زوايا المكاتب ومخادع الجوامع فرأينا الإشارة إليها واستقراء ما أمكن معرفته منها ليكون ذلك دليلاً للباحث عن شؤونها. ومرشداً للضرر في بيداء التاريخ الوطني فيجد فيها ضالته المنشودة. ويعثر على فائدته المقصودة من أقدمهم الحافظ ابن عساكر الدمشقي صاحب التاريخ المشهور المتوفى سنة 517 هـ (1123م) في مؤلف: الجامع المقتصى في فضاء المسجد الأقصىومنه نسخة في المكتبة التيمورية بالقاهرة والقاضي أمين الدين أحمد بن هبة الله الشافعي من أهل القرن السابع للهجرة في كتابهالإنس في فضائل متعمداً على (الجامع المستقصى) الآنف ذكره إلى ابن عمه. وقد رأى الإمام السبوطي نسخة في جامع دمشق مقروءة على مؤلفها بتاريخ سنة 6. 3 هـ (12. 6م) وذكر السيوطي أيضاً كتاب باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروث الشيخ برهان الدين إبراهيم بن اسحق بن تاج الدين أبي عبد الله عبد الرحمن درهم الشافعي الفزاري المعروف بابن قاضي الصلت وهو في ثلاثة عشر فصلاً ضمنها فضائل بيت المقدس وقبر الخليل انتخبها من كتابالجامع المستقصىلابن عساكر وبعضهم من كتاب أبي المعالي المشرف بن المرجي المقدسي ونسخته في المكتبة التيمورية بالقاهرة ومنهم عماد الدين الكاتب الأصبهاني المتوفي سنة 579هـ - (12. . م) في كتابهألفتح القسي في ألفتح القدسي ويسمى أيضاً قدح القسيوقيل أن المؤلف عرضه على القاضي ألفاضل فقال له سمهالقبح القسي وقد طبع في ليدن (هولندا) وفي مصر * وابن السعد عبد الله بن الحسن بن عساكر المولود سنة6. 6هـ - (13. 9م) في كتابهفضل بيت المقدسوشهاب الدين أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم هلال بن تميم بن مسرور المقدسي الشافعي المتوفي سنة 765هـ - (1363م) في كتابه (مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام) فرغ منه شعبان سنة 757هـ - (1356م) وكسره على قسمينالأولفي فضائل الشام وبيان حدوده وفيه أبواب وفصول والثانيفي فضائل المسجد الأقصى ويشتمل على أبواب وفصول أيضاً * والإمام أبو ألفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في كتابهفضائل القدسذكره السيوطي المومأ إليه ولم يشر إليه الحاج خليفة فيكشف الظنون(91/15)
* والشيخ عبد الرحمن محمد بن أحمد المنهاجي السيوطي الذي دخل القدس يوم السبت في 28 رمضان سنة 874هـ - (1469م) في كتابهاتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى * والشريف عز الدين حمزة أحمد الحسيني الدمشقي الشافعي المتوفي سنة 874هـ - (1469م) في كتابهفضائل بيت المقدس ومحمد بن محمود اسحق القدسي المتوفي سنة 776هـ - (1374م) في كتابهتاريخ القدسوكمال الدين محمد بن محمد أبي شريف الشافعي المصري المتوفي سنة 9. 6هـ - (15. . م) في كتابهاتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصىألفه في مجاورته بالقدس سنة 875هـ - (147. م) ورتبه على سبعة عشر باباً معتمداً في نقله علىالروض المغرسلثقة مؤلفه فصار عمدة ما فيه8والقاضي محير الدين أبو اليمن عبد الرحمن العليمي الحنبلي المتوفي سنة 927هـ - (152. م) في كتابهالأنس الجليل في تاريخ القدس والخليلجمع فيه خلاصة تواريخ القدس وأضاف إليه نبذة من الحوادث والوفيات أنجزه بأربعة أشهر مبتدئاً فيه من ذي الحجة سنة9. . هـ (1494م) وهذا الكتاب طبع في القاهرة سنة 1866م وترجمه بالإفرنسية هنري سوفار وطبعه في أوروبا8 والشيخ أحمد الخالدي الصفدي المتوفي سنة 1. 34هـ - (1624م) في كتابرحلته إلى البيت المقدس نظماً8والشريف عزالدين بن حمزة بن أحمد الحسيني الدمشقي الشافعي المتوفي سنة 874هـ - (1469م) في كتابفضائل البيت المقدس وأبو حذيفة اسحق بن بشر في كتابفتوح بيت المقدسوالشيخ اسحق ابن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن كامل التدمري الشافعي الخطيب والإمام بذلك المقام في كتابهمثير الغرام في زيارة الخليل عليه السلاموهو مختصر على سبعة وعشرين فصلاً وهو من معاصري السيوطي الآنف الذكر رأى كتابه هذا في المسجد الخليلي والشيخ تاج الدين أبو النصر عبد الوهاب الحسيني الدمشقي الشافعي في كتاب الروض المغرس في فضائل بيت المقدسذكره صاحباتحاف الأخصاوالإمام أبو المعالي المشرف المقدسي في كتابفضائل القدس والشاموهو في مائة وخمسة عشر باباً والتمرتاشي في كتابالخبر التام في حدود الأرض المقدسة وفلسطين والشامألفه سنة 11. 6هـ - (1694م) ونسخته في المكتبة التيمورية بالقاهرة والشيخ عبد الغني النابلسي المتوفي سنة1143هـ - (173. م) في رحلتهالحضرة الأنسية في الرحلة القدسية وهي جزء من رحلته الكبرى والشيخ عبد الله الطرابلسي المتوفي سنة 1154هـ -(91/16)
(1741م) في رحلتهالمنحة القدسية في الرحلة القدسيةوالشيخ مصطفى البكري المتوفي سنة1161هـ - (1748م) في كتابرحلة القدسوالياس الغضبان الحلبي في كتابهزيارة الأماكن المقدسةوهو أخبار رحلته إلى القدس في 3 نيسان سنة 1755م وقد كتب فيها كل ما رآه يومياً بزيارته ونسخته في المكتبة الشرقية التي جمعها الآباء اليسوعيون في بيروت مخطوطة والشيخ مصطفى الشافعي اللقيمي المتوفي سنة 1178هـ - 1764مفي كتابموانح الأنس في الرحلة إلى وادي القدسإلى غير ذلك مما في كتب ألفتوح والتواريخ والمعاجم الجغرافية والرحلات ووصف المساجد ككتابمعجم البلدانلياقوت الحموي وكتاب أعلام الساجد بأحكام المساجدللشيخ بدر الدين الزركشي الشافعي المتوفي سنة 794هـ - 1391موتسهيل المقاصد لزوار المساجدللشيخ شهاب الدين أحمد بن العماد بن يوسف الافقسي الشافعي المتوفي سنة 8. 8هـ - 14. 5م وقد رآهما السيوطي والثاني بخط مؤلفه ومنتخب في فضائل بيت المقدسرتب على ثلاثة عشر فصلاً أتم تأليفه سنة 1172هـ - 1758م ذكر في برنامج الكتب العربية في المكتبة الخديوية في مصر 7 - 2: 574 وحسن الاستقصا لما صح وثبت في المسجد الأقصىمن مجاميع المكتبة الخالدية في القدس الشريف عدد 19 وسؤال وجواب عن بيت المقدسفي مجموع آخر فيها عدد 47 والزهر العاطر لانشراح الخاطروهو شرح زيارات الأماكن الأورشليمية المقدسة تأليف شكر الله بن بطرس حوا الماروني الحلبي من أهل القرن الثامن عشر للميلاد إلى غير ذلك مما فقد أو لن يزال في مكاتب الخاصة والمكاتب الأوروبية محجوباً عن المطالعين وللمعاصرين شيء من ذلك مثل إرشاد الطالبين إلى الآثار المقدسة في فلسطينلحنا الخوري سكسك القدسي وهو مخطوط ضخم في نحو 18. . صفحة كثير ألفوائد وهو اليوم في مكتبة ولده جرجي أفندي وفي مكتبتي نخبة منه وتاريخ القدسللخوري ميخاشيل برامكي القدسي ولا يزال مخطوطاً في القدس وفيه فوائد تاريخية جمةتاريخ أورشليم لخليل أفندي سركيس صاحب المطبعة الأدبية في بيروت. ومنشئ جريدةلسان الحالوإرشاد لطيف لزائر القدس الشريفلموسى أفندي مينا طبع في مصر مصوراً ودليل الزوار المقدسةللباس فرج باسيل اللبناني طبع في القدس. وعليه انتقاد لحنا الخوري سكسك الآنف ذكره لا يزال مخطوطاً عندي نخبة منه. وأشباه ذلك مما لايقع تحت حصر وفي القليل غنى الكثير في وصف(91/17)
مدينة القدس وما يجاورها من البقعة ألفلسطينية المتلاامية في القدم والمسهورة في التاريخ. زحلةلبنان
عيسى أسكندر المعلوف.(91/18)
كتاب نادرفي أصول التدريس
في خزانة كتب جامع الحيدر خانة كتب مخطوطة ومطبوعة هي من أحسن السلف للخلف وأثمن ما أحتوت عليه مكتبات العراق، ولمرا فإن الذي وقف هذه الخزانة هو داود باشا والي العراق وهو خير وال على أريكة الحكم في هذا القطر المحبوب تولى سنة1232هـ 1816م وكان عالماً فاضلاً أنشأ المدارس العظيمة ودور الخير والإحسان جالس العلماء والحكماء والفضلاء والزهاد وأكرم وفادتهم وأحسن إليهم ما أستطاع إلى الإحسان سبيلاً وفي أيامه أخذت روح العلم تدب في أبناء العراق فقامت نهضة علمية كبرى تحت حماية هذا الوزير لا تزال آثارها باقية إلى الآن فكثر المؤلفون في زمانه وراج سوق الأدب رواجاً عظيما حتى وقفت على أبوابه الشعراء وكان يجيزهم على حسب كفاءتهم ومقدرتهم. وقد أوتي نمت التوفيق ومسالمة الدهر ما لم يؤت أحد قبله من ولاة العراق فإن الأمور انقادت إليه بطبيعتها وأطاعه جميع قطان العراق حاضره وباديه عربه وعجمه وكان محباً للعمران فتاقت نفسه إلى تقليد المدن الأوروبية في طرز البناء وشق الجواد وتعزيز الصناعة فجلب الصناع من الأوروبين وأخذ في أسباب التمدن والعمران وأمر بصنع المدافع والبنادق على الطرز الجديد حينئذ ونظم جيوشاً ضخمة على آخر نظام في زمانه حتى يلغت جنوده أكثر من مائة ألف فطمع في الاستيلاء على دبار العجم وأكتسح عدة ولايات منها وطمحت نفسه إلى الاستيلاء على آسيا الصغرى والاستقلال بالعراق العربي افتداء بمعاصرة محمد علي باشل الكبير أمير مصر وجد الأسرة الخديوية وقد داخل الدولة الرعب والخوف من اتساع الخرق عليها فأرسل عليه السلطان محمود الثاني جيشاً عدده عشرون ألفاً وناط قيادته بأحد الوزراء وهو علي باشا اللظ وصادف لحسن حظ هذا القائد أن دهم العراق وباء وبيل أفنى أكثر جيش الوزير داود وهذا ما جعله يسلم نفسه إلى علي باشل بعد حدوث عدة معارك خسر فيها جيش العراق عدداً غير يسير من الجنود فذهب إلى الآستانة وظل فيها إلى سنة126. هـ1244م بعد أن مكث فيها ثلث سنوات لاقى في خلالها حفاوة وإكراماً من السلطان محمود من أبنه السلطان عبد المجيد وكان يلبس أيام الأعياد حلة رسمية كتب على صدرهاشيخ الوزراءبالطراز المذهب ثم إن عبد المجيد خان أرسله شيخاً على الحرم النبوي سنة126. هـ1844م وبقي في المدينة منشغلاً بالعلم والتدريس ونفع أهل ذلك القطر بفضله وكان عاقداً العزم على فتح مدرسة لتنوير أفكار الحجازيين(91/19)
ولكن أختر منه المنية سنة1667هـ185. مولم يتم ما أرادهوفن في البقيع تجاه قبة سيدنا عثمان بن عفان. فرجل هذه منزلته في العلم والسياسة والإرادة لا ينتخب لخزانته إلا كل نفيس نادر وهكذا فإن خزانته لا لا ترى في زواياه غير ما تميل إليه النفس ويصبو إليه القلب من غرائب المصنفات وعجائب المؤلفات. وبينما كنا على عادتنا نجيل الطرف في طرفها ونملأ العين والفؤاد من محاسن كتبها إذا أهدانا السيد محمود شكري الألوسي من علماء العراق إلى كتاب نفيس نادر الوجود ويعد من أنفس ما ألف في القرون المتأخرة ذلك هو كتابتحفة الجنانفي أصول التدريس والتعليم لمؤلفه حيتي أفندي أحد قضاة دار السلام فتصفحناه ملياً وطالعنا معظم فصوله وأبوابه فإذا هو آية من الآيات وقل من نسج على منواله في الترتيب والتبويب وبديع الأفكار والذي يطلع عليه ويقرأ بعض مطالبه يخيل إليه أنه يقرأ بعض مطالبه يخيل إليه أن يقرأ كتابات رجل راق بأفكاره وأسلوبه تلقى العلم في أكبر معهد علمي في هذا العصر ولم نقف على كتاب في هذا ألفن من الكتب الحديثة ما يصح أن يقاس بهذا السفر المفيد وبالجملة فانه من كتب أصول التدريس على اختلاف أجناسها وأزمانها وكثيرا ما اجتهدنا في الوقوف على ترجمة حياة المنصف ومنشاة وتأليفه فلم نوقف إلى ذلك لضياع الأسانيد في المحكمة الشرعية واندثار أثارها التي تنبئنا عن احو اله وإعماله وهذا الكتاب سيخلد ذكره ابد الدهر وبذكره في زمرة الأعلام المبرزين في كل ألفنون. وقد عرفنا من لهجته في كتابه انه ينتمي إلى عنصر غير عربي أو انه عربي ولكنه قضى العقود الأولى من حياته في بلاد غير عربية فان أسلوب إنشائه دل على ذلك بدليل ميله الشديد إلى السجع في الإنشاء وتكليف نفسه فوق طاقتها فيأتي كلامه أحيانا معقدا تظهر عليه اثأر التكلف وهي خلة قل بين كتاب العرب من يميل أليها اللهم إلا ما جاء طبيعيا وأرسلته النفس إرسالا فذلك لا عيب إذ يجيء عفوا خالصا من كل شائبة تفسد معناه وتخل بجوهر الكلام. وجل ما وقفنا عليه من ترجمة هذا الرجل ما كتب على ظهر الكتاب حين وقفة وإليك نصه: الحمد لله الذي أوقف جناته على أوليائه وأكرمهم بمزيد نعمه آلائه والصلوة والسلام على سيدنا محمد صفوة أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأحبائه وبعد فقد أوقف هذا الكتاب المسمىبتحفة الجنانتأليف حياتي القاضي أفندي بمدينة بغداد دار السلام الوزير الأكرم والدستور المكرم. صاحب الخيرات والمبرات. والي بغداد(91/20)
والبصرة شهرزور حضرة داود باشا يسر الله له من الخير ما يحب ويرضى ويشل على مدارسته المسماة الداودية الواقعة في الجانب الشرقي من محلة الحيدر خانة من محلات بغداد دار السلام وقفاً صحيحاً شرعياً وحبساً مؤبداً مرعياً وشرط أن لايخرج من المدرسة المذكورة ولا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يبدل فمن بدله بعد ما سمعه فإما أثمه على الذين يبدلونه أن الله سميع عليم وكان ذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية أهل يقع الكتاب في 2. . صفحة في كل صفحة 17 سطراً وكل سطر مؤلف من نحو 16 كلمة وخطه بديع جداً كتب سنة 1226 هـ1811 م كما يفهم من كتابة في آخر النسخة وهي: لقد وقع ألفراغ من كتابة هذه النسخة يوم الاثنين لخمس عشرة خلت من رجب ألفرد على يد أفقر العباد وأحوجهم إلى رحمة ربه الغني عبد الرحيم نجل الشيخ اسماعيل المولوي غفر الله له ولوالديه سنة ست وعشرين ومائتين وألف هو الظاهر أن الناسخ كان من مشاهير الخطاطين في عصره وأنه نسخ الكتاب على نسخة المؤلف لقرب عهده به ومعاصرته له ووجوده معه في حاضرة واحدة وهي بغداد وهو مؤلف من متن وشرح كلاهما للمؤلف وقد علمنا بعد أن أكثرنا من تصفحه أنه مشتمل على مقدمة ومقالتين وخاتمة أما المقدمة ففي حد علم التدريس وموضوعه وفائدته وغايته والمقالة الأولى فهي في أحوال التدريس وفيها سبعة فصول فالفصل الأول في بيان إقساء الدرس ذاتاً لا وصفاً وألفصل الثاني في بيان أقسام الدرس وصفاً والفصل الثالث في الأسباب أي أسباب التمام والوفاء والنقصان والفصل الرابع في الدوران أي دوران الدرس بين التمام والوفاء والفصل الخامس في الحذف والترك والفصل السادس في فن الدرس وما يناسبه ألفصل السابع في بيان ما للدرس من الشروط وأما المقالة الثانية ففيها موقفان الموقف الأول وفيه تسع فصول ألفصل الأول في بيان متن الدرس والفصل الثاني في بيان أصل الدرس والفصل الثالث في بيان شرح الدرس والفصل الرابع في فرع الدرس وهو ما يجري فيه من جزيئاته والفصل الخامس في كمال الدرس وهو تقرير النكت المعينة للمعنى المقصود والفصل السادس في فيض الدرس وهو تقرير النكت الغير معنية للمعنى المقصود والفصل السابع في زيادة الدرس والفصل الثامن في فصول الدرس وهو تقرير كلام أجنبي العبارة مطلقاً والفصل التاسع في ربط الدرس أما الموقف الثاني فهو فيما(91/21)
يناسب التقرير وفيه ثلاثة مطالب المطلب الأول في طريق التقرير والمطلب الثاني في أداء الدرس والمطلب الثالث في طريقة استخراج الدرس من غيره وأما الخاتمة فهي تشتمل على تحرير الأجراء وهذه آخر فصول الكتاب وقد افتتح المؤلف كتابه بعبارة بليغة لولا أن التسجيع يغلب عليها فاخل بمعانيها خللاً بيناً وهو أنه أهدى مصنفه إلى السلطان سليم خان الثالث بعد أن امتدح أعماله وصفاته في خطبة الكتاب وإليك نصها بالحرف قال الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم والصلوة والسلام على صاحب اللوح والقلم وعلى آله وصحبه الذين نطقوا بالمبادئ والحكم أما بعد فلما كانت الحكم العلية من بسط الوجود في البرية هي المعرفة والطاعة بحسب مرتب الوضع في البضاعة وكانت هذه فائدة الإرسال والإنزال وعليها دور الغدو والأصال فاستدعى تحقيقها تشعب علوم مدونة ليرى نقطة العلم المتكثر مبينة فالعلماء لتدوينها ملهمون وفي إحاطة مزاياها مستقصون إلى ترتيب قواعدها موفقون وأنها لكتب يشهدها المقربون فكأنهم لم يتركوا مما يطلبون إلا أنهم عن علم الأجراء ساكتون فعطفنا العنان إلى جمعه وتدوينه فلما وقفنا إليه بالعلف تكوينه هدانا فيه إلى متن متين ثم أرشدنا إلى شرحه المبين ولقد الهمنا في أثناء جمعه عرضه إلى حضرة السلطان الأعظم والخاقان المعظم مولى ملوك العرب والعجم وهاب جلائل العم والدقائق فياض سجال النوال على الخلائق ألفائز بالحكمة العلمية والعملية الجامع للرياستين الدينية والدنيوية
كسا به الله دهراً حلة نسجت ... بالعدل والقسط والأنصاف والهمم
سداؤه الشرع والإحسان لحمته ... طرازها من حرير اللطف والكرم
بابه كعبة الحاجات يطوي إليه من كل فج عميق وتستقبل إليه وجوه الآمال من كل بلد سحيق الباسط جرده فراش العنوان ألفائض لطفه زلال الأمان
وما قيل فيه غير أن ضيوفه ... تلام بنسيان الأحبة والوطن
رافع رايات الشرع القديم المتين خافض الكفرة والعجزة والمشركين
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... لهن فلول من قراع الكتائب
قاهر الأكاسرة والغفافرة مبيد ألفراعنة الجبابرة صاحب السلطنة العظمى ووارث الوكالة الكبرى(91/22)
فليخضع السادات دون سريره ... كخضوع وجه الأرض دون سمائه
وبالجملة لو شبهته بذي المحاسن كلها لما أصبت في الجميع دقها وجلها ولعمري أن لساني كليل في فضائله وفواضله ومعارفه وعواطفه ولطائفة:
لا يدرك الواصف المطري خصائصه ... وإن يكن سابقاً في كل ما وصفا
إلا وهو السلطان بن السلطان السلطان سليم خان الثالث بن السلطان مصطفى خان الثالث بن السلطان أحمد خان الثالث لا زال لواء مجده منشوراً وطالع سعده منصوراً حائزاً في سلطنته مكاناً وتمكيناً ومظهراً لقوله إن فتحنا لك فتحاً مبينا ومصدقاً لقوله وينصرك الله نصراً عزيزاً ومشمولاً بقوله والله يؤيد بنصره من يشاء:
من قال آمين أبقى الله مهجته ... فإن هذا دعاء يشمل البشرا
لكن نسبة هذه التحفة إلى بابه كرجل جرادة من نمل على بابه فو الله لم أتحف هذا إلا لكون الهدية عن قدر مهديها ولكون هذا وإن كان في ذاته شيئاً قليلاً لكنه لندرته بل لعدم أمثاله يكون لدى حضرته أمراً مقبولاً ولأن نقل علم بقي في القوة إلى الآن براعة استهلال ظهور ألفتوحات في هذا الزمان وبالجملة فكل ما هو عظيم بالذات والصفات فهو بالنظر إلى عتبته العلياء بضاعة مزجاة فتوسلنا إلى بابه حتى نتوصل إلى نيل آمالنا لدى أعتابه اللهم انصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً قريباً واجعل بابه محط رحال الأفاضل وملاذ أرباب ألفضائل وعون الإسلام والمسلمين وغوث الأنام والمؤمنين وسلمه في كل حالة باسمه السلام وأعانه في مهام أموره بالإلهام وأسعده في الدارين كل الإسعاد وفسح في عمره بالنصر والإمداد ورحب أسلافه يوم المعاد وهو الموفق للسداد والرشاد أهو ومن هنا شرع في بيان مقدمة الكتاب إلى آخر فصوله ولو أردنا أن ستقصي كل ما جاء فيه من سديد الآراء والأفكار ومحاسن الأبحاث ونفائس الموضوعات لضاق بنا المجال ولكن يكفي للاستدلال على أنه ذخيرة نادرة من آثار السلف كون موشي بردها من أعظم قضاة الشرع في الزوراء وكون مقتنيها ذلك الرجل العظيم داود باشا كبير وزراء الدولة على عهده وكونه مهدى إلى ملك هو من أجل ملوك آل عثمان قدراً وارفعهم مقاماً واسماهم ذكراً نعني به السلطان سليم الثالث ولكي يقف القراء على درر محتوياته وجواهر مضامينه ومقالاته استخلصنا نبذة صغيرة من متن الكتاب تاركين الشرح خشية الإسهاب والأطناب وهو مثال(91/23)
من أمثلة جلالة قدر هذا السفرقال في حد الدرس والتدريس: انه علم تعرف به أحوال الدرس والتدريس إجمالا لتعصم مراعاته عن الخطأ فيه والدرس هو العبارة الصالحة للتدريس فيها من كتاب أو رسالة أو غيرها والتدريس ملكة يقتدر بها على تقرير ما فهم من العبارة مع القدرة على إنادة كل ما لها وما عليها ومن الجرح والتعديل وهو لا يتحقق إلا بعد الكمال العرفي بل الحقيقي فالدرس لا يصح إطلاقه إلا على من له وقوف تام على القواعد بشرا شرها مقتدراً على إجرائها في كل مجاريها إذا اهتم كما إن ألفقيه لا يصح إطلاقه إلا على من له ملكة الاستنباط في كل مسألة وإن الحكيم لا يقال إلا على من له إطلاق تام بحقائق الأشياء كافة بحسب الطاقة البشرية وبالجملة إن أهل كل فن من ألفنون المدونة لا يصح إطلاقه عليه حقيقة إلا إذا بلغ درجة لو عرض عليه أية مسألة وأية شبهة يقتدر أن يجيب عليها بجواب صحيح وكثيراً ما يطلق التدريس على التقرير مطلقاً. وقال في تعريف موضوع هذا العلم: الدري والتدريس المشاركان في الانتساب إلى الإفادة أو في التعقل لأنهما متضايقان على أن الدرس جزء من التدريس بل في جميع الأعراض الذاتية وذلك لأن ما يلحق الشيء لجزئه الأعم وإن كان عرضا غربياً عند الأقدمين إلا أنه عرض ذاتي عند الآخرين وأما أحوال التدريس فلمساواته التدريس في الوجود والغرض معرفة الأحوال الجزئية الإجمالية للدرس والتدريس وفائدته العصمة عن الخطأ في الأحوال الجزئية. وأفاض في فصل أقسام الدرس إذ قال: إن الدرس إما بسيط وهو ما لا خلاف فيه حقيقة أو حكما وأما مركباً وهو بخلافه وكل منهما إما (؟) فالبسيط منه ما يحتاج إلى تفكير مكرر كقول المتنبي:
ولو فلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتبه
والمركب ما يفتقر إلى تحرير محل النزاع كقول الأصوليين: التكليف بما لايطاق غير جائز عند النفية وقد يبلغ النكور إلى درجة الأجبار والأشكال كما سيجيء بيانهما وأما ميسور وهو ضد المنكور ثم إن المنكور إن ظهر المراد منه بعد إرادة ألفكر فهو معلوم كقوله:
ولو أن ما بي من جوي وصبابة ... على جمل لم يبقى في النار كافر
وكالألغاز والمعميات المقطوعة أسرارها كلغزي القلم ولغز العروة والذرة وكمعمى رحيم(91/24)
وإلا فإن قبل التوجيه الوجيه فمنكور موؤل كقوله:
عينان عينان لم يأخذهما رمد ... في كل عين من العينين نونان
نونان نونان لم يكتبهما قلم ... في كل نون من النونان عينان
وإلا فمنكور مجهول. وقال في أقسام الدرس من حيث الوصف: إن الدرس إما تام وهو العبارة الآخذة حقها ومستحقها وأما واف وهو العبارة الآخذة حقها وأما الناقص وهو العبارة الناقصة عن حقها وإن حق الدرس هو ما لا بد له من المنطوق وضعاً ودلالة واستعمالا ووقوفا ومن المفهوم المعتبر بل من القياس ومن الأدلة الأخرى عند قائلها وبهذا الأعتبار يوصف بأنه فصيح وبليغ وقوي ومفيد ونحو ذلك وإن ما مستحقه ما ذاد على الحق بعد وجوده وهذا إنما يحصل بكونه أفصح وأبلغ وأفيد وأقوى. ومشتملاً على ما يندفع به وما ترتفع الأسئلة وعلى الصنائع البديعية كالجناس والغز اللطيف فالمدرس إذا قرر الدرس مطلقاً على ما هو عليه فهو معدل وإذا قرر الوافي تاماً بزيادة مستحقة على حقه فهو مدبر وإذا قرر الناقص وافياً بزيادة حقه فقط أو بإبداله إليه فهو متم أو تاماً بالزيادتين أو الإبدال فهو محدد وإذا قرر التام والوافي كالناقص فإن كان مما يحذف ويفهم بالقرائن فهو معلق كما صدر من حذاق الأساتذة وإلا فهو مقصر كما وقع من القاصرين وكل هذه الأتماء على صيغة ألفاعل وإذا أطلق على المدرس يصير على أسم المفعول. ومن لطائف ما ذكره عرضاً من اختصاص بعض المشاهير قوله: قال السيوطي في تاريخ الخلفاء رأيت الحافظ الذهبي من كان فرد زمانه في فنه أبو بكر الصديق في الأنساب وعمر بن الخطاب في القيام بأمر الله وعثمان بن عفان في الحياء وعلي بن أبي طالب في القضاء وأبي بن كعب في القراءة وزيد بن ثابت في ألفرائض وأبو عبيدة بن الجراح في الإمامة وأبن عباس في التفسير وأبو ذر في صدق اللهجة وخالد بن الوليد في الشجاعة وحسن البصري في التذكير ووهب بن منبه في القصص وأبن سيرين في التعبير ونافع في القراءة والأداء وأبو حنيفة في ألفقه وأبو اسحق في المغازي ومقاتل في التأويل والكلبي في قصص القرآن والخليل في العروض وفضيل بن عياض في العبادة وسيبويه في النحو ومالك في العلم والشافعي في فقه الحديث وأبو عبيدة في الغريب وعلي بن المدني في العلل ويحيى بن معين في الزجال وأبو تمام في الشعر وأحمد أبن حنبل في السنة والبخاري في نقد الحديث والجنيد(91/25)
في التصوف ومحمد بن نصر المزوري في الاختلاف والجبائي في الاعتزال والأشعري في الكلام ومحمد بن ذكريا في الطب وأبو معشر في النجوم وأبو فرج الأصبهاني في المحاضرة وأبو القاسم الطبري العوالي وابن حزم في الظاهر وأبو الحسن البكري في الكذب والحريري في المقامات والمتنبي في ألفصاحة والموصلي في الغنا والصولي في الشطرنج والخطيب البغدادي في سرعة القراءة وعلي بن الهلال في الخط وعطا بن السليمي في الخوف والقاضي ألفاضل في الإنشاء والأصمعي في النوادر وأشعب في الطمع وابن سينا في الفلسفة. وقال في اختصاص الحيوان: صهيل الفرس. جوار البقرة. شجيج البغل. نهيق الحمار. رغاء البعير. حنس ألفيل. خوار الثور. بعار المعز. نبيب التيس. زئير الأسد. عواء الذئب. نباح الكلب. ضباع الثعلب. قباع الخنزير. ضغاء الهرة. ضحك القرد. بغام الظبي. ضغيب الأرنب. عرار النعام. صرصرة البازي. قعقعة الصقر. صفير النسر. هدير الحمام. سجع القمري. تغريد العندليب. صقاع الديك. قوقاء الدجاجة. ثؤاج الخروف. نقيق الضفدع. صريبر الجرادة. طنين الذباب. دوي النحل. نعيب الغراب. وقال في اختصاص ما سوي الحيوان: خرير الماء. بقبقو الجرة. نشنشة المقلى. هزيم الريح. هزير الرعد. عزيف الجن. حفيف الشجر. وسواس الحلي. جعجعة الرحى. صرير الباب والقلم. خفق النعل صليل السلاح. رنين القوس. اطيط المحمل. قلقلة القفل والمفتاح. وقد أسهب إسهابا غريباً عند كلامه على المباحث التي ذكرنا اشتمال الكتاب عليها مما يعجب المطالع ويلذ لكل من يود الإطلاع على براعة السلف في علم التدريس ورغبتهم إعلاء شانه ورفع منارة ووضع الأصول والقواعد له ليكون مبنياَ على أسس متينة وقواعد رصينة ويا حبذا لو استفزت الغيرة أفاضل العراق لطبع هذا السفر النافع فانه من اجل ما طبع وسيطبع من الكتب العربية ومما استوقف نظرنا ما جاء في خاتمة الكتاب قوله: وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين جرى ذلك في السبع الرابع أي يوم الأربعاء لأنه رابع الأسبوعوهو العشر الثالث أي اليوم الثالثمن الثلث الثالث أي العشر الآخر لان كل شهر يعتبر في ثلاث عشرات من السدس الخامس من النصف الثاني يعني يعتبر كل سنة عربية نصفين وكل نصف ستة أشهر فالسدس الخامس من النصف الثاني هو ذو القعدةمن العشر الثاني أي من السنة الثانية من القعدة يقال لكل من العشرين والثلاثين إلى التسعين عقد(91/26)
لاكن المراد منه هنا كل عشر من مائة ففي كل مائة عشر عشرات فيكون في كل مئة عشر عقود الثاني يعني العشرة الثانية وهي من احد عشر إلى عشرين من العشر الثالث وهي المائة الثالثة لان في ألف عشر مئات فكل منها عشر الألف من الألف الثاني وهو معلوم من الهجرة النبوية على آله أفضل التحيةقلنا ومعنا ما تقدم من هذه الألغاز انه فرغ من تصنيفه يوم الأربعاء في اليوم الثالث والعشرين من سنة بضع عشرة ومائتين وألف للهجرة النبوية وفي الكتاب غير هذه التعابير الغربية التي يحل ألغازها ويفسر غوامضها في الشرح وكل ما تقدم شواهد لا تحتمل النقد والتزييف تدل على فضل المؤلف وسعة علومه ومعارفه وانه إمام في هذا ألفن البديع غفر الله له
بغداد:
أ. ح العمر(91/27)
فوائد الحرب
مهما ارتقت المدينة ودعا دعاة الفلسفة فالحرب ما برحت العامل الرئيسي في أشغال المم. وبعيد أن يقال إن اكتشافات العلم تقلل الحروب بل من المحقق أنها بالمدينة أصبحت اشد فتكا وتدميراً. وإننا لو رجعنا إلى عهد كبار السفاحين عهد جنكيز وأنيلا لا نشهد في ساحات الوغى أرواحناً نزهق بقدر ما نرى في عصر الكهرباء والبخار. والقول بأبطال الحروب هو قول من يقول بأبطال الشيخوخة والموت من العالم. فان الجهاد بين الشعوب كان مصدر أهم الترقي ولا يرى كيف استطاع البشر الأول بدون حرب إن يخرج من دور التوحش ويؤسس هذه الممالك ألفخمة التي نشأت فيها ألفنون والعلوم والصناعات وبعد فأي حضارة كبرى لم تكن حربية بلحمتها وسداها؟ وأي شعب جنح إلى السلم والسكينة فكان له شأن في التاريخ غرس في فطرة الحيوان أن يأكل قويه الضعيف. لأجزم إن المدينة تقلل من هذه القاعدة ولكنها لا تستطيع أن تضعف النفرة المستحكمة بين العناصر الناشئة من اختلاف التركيب العقلي بينها وهي اختلافات تحمل كل عنصر يعيش عيشاً يخالف الآخر فيضطر أن يسلك مسلكاً يخالف غيره فيه وقد نشأ معظم التنازع بين البشر من هذا الاختلاف وكل حروب البشرية كحروب ألفتوح والحروب لتولي الزعامة والملك والحروب الدينية والحروب لإعلاء كلمة دين ومذهب كانت على الغالب حروباً عنصرية فقد كان الخلاف بين ألفرس والآشوريين وهو الذي نقل لأول مرة السلطة على العالم من أيدي الساميين إلى أيدي الآريين حرباً بين عنصرين وكذلك كان من أمر النزاع بين اليونان والآسياويين وبين الرومان والبرابرة وبين اليابان والروس بل أن الحروب الدينية في القرون الوسطى كانت حرباً عنصرية يريد فريق أن يفكر كما يريد ويريد الآخر أن ينحله نحلته ويقول بقوله ويخضع لسلطان الدين الجديد وما فيه من قيود عن مشخصاته أما اعتبار هذه الحروب حروب ملوك بعضهم مع بعض فليس من التحقيق في شيء فإن الملوك الذين لم تتجسد فيهم مرامي شعوبهم وأهوائهم وأحلامهم كانوا لا يلبثون على سرر الملك الأعشية أو ضحاها مهما تعددت صلات لأمم وحذت بعضها لغات الأخرى فاختلافهم في عقولهم ومناحيهم لا يزال على أتمة ولا سبيل إلى جمع الشمل بين عناصر متخلفة بالفطرة ولا التفاهم لأن كل واحد نظراً والمنازع متخلفة في مسائل كثيرة إذً فمهما وقفت المصلحة بين الشعوب فأرواحهم تباعد بينهم فبدلاً من أن يسيروا نحو أعظم يسيرون إلى(91/28)
نفور يزداد كل يوم تأصلاً ولهذه الكراهة عدة أسباب سياسية واجتماعية بعد أن تفاربت الأبعاد باختراع البخار والكهرباء أصبحت الأمم تستكثر من التسليح وتضع عقبات كمركية تقطع الاتصال بين المماليك وسيكون من أمرها بعد أن تطوق كل مملكة بطوق كسد الصين أن لا ترى الأمم هذا السد كافياً للحيلولة بينها وبين غيرها حتى لقد أخذت الحكومات حرة دستورية كانت أو مطلقة ألهية تقول بالابتعاد عن الأجانب فبعد أن أقرت أميركا كما أقرت أوستراليا على نفي الصينيين من بلادها أخذت تحظر دخول السفن الحاملة مهاجرين فقراء وحزب العملة في إنكلترا ينادي بطرد العملة من غير الإنكليز والحكومة الروسية عملت بإدارة العامة من شعبها وربما كانت هذه الإرادة أقوى من أي سلطة أعظم من القياصرة فقضت بطرد الإسرائيليين من المدن الكبرى والحكومة البروسية تطرد البولونيين والطليان الذين يعملون في سككها الحديدية وسويسرا بعد أن رفضت سنة 1894 القانون القاضي بعد إعطاء عمل للعملة الأجانب أنشأت تطلب في تعهداتها مع المتعهدين للوازم الحربية أن لا يكون صناعها إلا من السويسريين وكذلك جرت فرنسا في عامة أحوالها كل هذا مما دل على القرن العشرين لم يقو على بث مبادئ الإخاء العام بين البشر وأنه لا سبيل إلى أحكام أواصره بين العناصر المختلفة إلا إذا جهل بعضهم ما عليه صاحبه فأنت إذا قربت بين الشعوب بتقريبك بين المسافات الشاسعة وسهلت ارتياد البلاد على كل مرتاد تحكم عليهم أن يعرفوا بعضهم معرفة تامة فينتج من ذلك أن يضيقوا ذرعاً أكثر من الأول عن تحمل بعضهم بعضاً ذلك لأن تزايد نفوذ الغريب في بلد هو من مقوضات حياة المماليك فالنفوذ الأجنبي يسلب من الأمم أعز ما عندها ونعني به روحها فإن الدخيل لما كثر في مملكة الرومان انحلت وتأذن الله بفنائها الأجنبي في بلاد غيره لايخضع لقانون التجنيد ويدفع أو قد لا يدفع قليلاً من الضرائب ويعمل عملاً أسهل بأجر أكثر مما في مسقط رأسه وتوارد الأجانب على مملكة يحاذر منه لأن العناصر المنحطة التي لا تقدر على القيام بأودها في بلاده هي التي تهاجر ومهما ذهب من الأنفس في ساحات الحروب لا يكون تأثير ذلك في الأمم بقدر ما يكون من غارة الغريب والدخيل على بلد ليس هو منها في العير ولا في النفير كان القدماء يخافون الغريب من فطرتهم ويعرفون حق المعرفة أن قيمة المماليك لا تقدر بعدد سكانها بل بعد الوطنيين فيها وكل دولة كانت ذريعة إلى السلم العام الدائم تقضي(91/29)
على كل ارتقاء وتعود بالناس إلى أقصى التوحش قال فوكويه إن ضمانة السلم تولد قبل أن يأتي نصف قرن فساداً وانحطاطاً افعل في تقويم دعائم الإنسانية من عوامل الحروب لا شك أن الحروب لا تخلو من محاذير وكثيراً ذات بال ولكن إذا قورنت بغيرها تبين الكفة الراجحة من الكفة الشائلة في الحروب محاذير ترد إلى أصول ثلاثة فقد المال وفقد الرجال ضعف العنصر ففقد المال لا شأن له إذ دلنا التاريخ أن الشعوب الكثيرة الغني كانت أبداً تضمحل أمام الشعوب الفقيرة وما أفقار أمة من المضر بها كل الضرر فقد قال الأخصائيون أن ألمانيا أنفقت حتى الآن كثيراً من المليارات للاحتفاظ بولايتي الألزاس واللورين وأن جميع أوروبا تفادي كل سنة بمليارات كثيرة في سبيل تسليح شعوبها ولا جدال في أن بعض الأمم ذاهبة نحو الإفلاس وعلاج هذا الداء فيها أن تحرض على العمل وتعلم الاقتصاد ويجب أن تعتبر هذه المبالغ المصروفة في سبيل التجنيد ضرباً من ضروب المكافأة الضامنة لمن يدفعها شر الغارة عليه فالأمة الأوروبية التي تبقى يوماً بدون جيش تضم حالاً إلى دولة قوية فتستضيفها وترهقها بما تضعه عليها الضرائب الباهظة وهي أشد من كل ضريبة تؤديها في سبيل التسليح ولذلك ترى الأمم تتنافس في إنفاق الملايين على جيوشها ريثما يضرب بعضها بعضاً بالقنابل والأصل الآخر الذي يحاذر منه في الحروب قلة الرجال وهذا ليس من العظم بالقدر الذي يحمل له خصوصاً عند الأمم التي يكثر توالدها فإن نابليون أضاع في حروبه ثلاثة ملايين من الأنفس ولكنه خلف مجداً لعنصره من فوائد الحروب أنها تؤلف روحاً وطنية وبالحروب فقط تتولد هذه الروح وتتأصل في جسم الأمة بدون روح وطنية يصعب أن تقوم لشعب مدنية وحضارة. فالروح الوطنية تقويها الحروب عند الظفر وتنمو قوتها كل النمو عند الانكسار. يقولون إن وقعة اينا كانت مصيبة على ألمانيا والحقيقة أنها لم تكن كذلك إذ بدون هذه المصيبة الموهومة كانت وحدة ألمانيا وقوتها تأخرت بضعة قرون وإنا إذا لم ننظر إلى الحوادث إلا باعتبار نتائجها البعيدة يسوغ لنا أن نقول إن وقعة أينا كانت وبالاً على فرنسا الظافرة إذ ذاك لا على ألمانيا المغلوبة في تلك الوقعة. نشأ من الحروب الأخيرة في أوروبا قانون التجنيد العام فإنه وإن أضر بالأمم الأوروبية من حيث الماديات ولكنه نفعها من وجوه ولولاه لانتشرت ألفوضى وسادت الاشتراكية وتقدمت جميع أبنية المدينة الحديثة. فإن الأسس الدينية القديمة التي(91/30)
كانت تقوم عليها المجتمعات الحديثة في الغرب قد خربت فلم تجد أوروبا شيئاً تستعيض به عنها. فالقانون العسكري كان المهيمن الذي لقن أهل الغرب قليلا من الصبر والثبات وأشرب قلوبهم فكر المفاداة وأورثهم الميل نحو الكمال موقنا وبه قضى على الأنانية والترف الذي يستولي على الشعوب فينهك قواها. ضريبة الخدمة العسكرية ثقيلة تذكر باشق إدوار العبودية القديمة ولكنها لا يتأتى لمجتمع القيم بدونها ومن زهد فيها أندغم من غيره أو أغارت عليه الأمم المتوحشة فلا يجد إلى دفعها سبيلا. قال السير مولتكه في مفكراته: لا يخضع الشبان إلا زمنا قصيراً في الجملة لنفوذ المدرسة النافع ومن حسن الحظ عندنا معاشر الألمان أن التربية الحقيقية تبدأ حالما تنتهي التربية الشخصية وما من أمة أحرز مجموعها تربية تشبه تربيتنا التي جاءتنا من طريق الخدمة العسكرية. قالوا إن معلم المدرسة هو الذي كتب النصر لأعلامنا ولكن العلم وحده لا يكفي في تربية الإنسان والأخذ بيده إلى مستوى من الأخلاق يستعد به لأهراق دمه في سبيل تأييد فكر والقيام بواجب وفي طريق الشرف والوطن وغلى هذا كله ترمي تربية الإنسان. فليس معلم المدرسة هو سبب النصر بل السبب هو المربي الحقيقي: الحكومة العسكرية هي التي انتصرت فربت في الناس مدة ستة عشر سنة متوالية القوة الجسدية والعقلية وعلمتهم النظام والتدقيق والاستقامة والخضوع وحب الوطن. إن نفع القانون العسكري لا يقتصر على تعليم الأمم الشمم والإهابة بأخلاقها إلى السمو بل إليه يرجع ألفضل في النجاح العظيم الذي أحرزته الصناعة الحديثة ولا سيما في أعمال المعادن وذلك لأن البحث الذي وقع لأستجادة السلاح قد كان من إثره إدخال الصناعة في طور علمي دقيق وفي سرعة لم تكن تعرف منذ خمسين سنة على نحو ما كانت الضرورات الحربية مؤدية إلى انتشار الخطوط الحديدية فكانت الأصل في معظم الكمال الذي بلغته الملاحة في البحر. فالحروب والخوف منها هي من أقوى العوامل الأخلاقية والمادية في الشعوب ومن الأفكار العسكرية يتألف أخر عماد بدعم المجتمعات الحديثة وبذلك كان على الشعوب التي لم ترض عن الجندية أن تعترف لها بالجميل. وعلينا ألا نشكو كثيراً من النفرة المتبادلة بين الشعوب إذ بدونها يزول كل خشية ممن الحرب وبذلك تضمحل المدنية فتغدو رباعها بلقعاً. مثال الأمم التي اضر بها السلام أهل الهند فإنهم يعيشون منذ زهاء قرن في سلام دائم وبلادهم أوسع البلاد(91/31)
وأكثرها سكاناً حتى قدرت الزيادة فيهم مدة عشرين سنة بأكثر من ثلاثين مليوناً ويسكن الكيلو متر الواحد من الناس في الأرض القابلة للسكن ضعفاً ما يسكن في الممالك المتمدنة في أوروبا ومع هذا نشأت خطوب كثيرة منها مجاعات ذهبت بأرواح مئات الألوف من السكان في أدوار متعددة فلم تنفع السكك الحديدية والأسلاك البرقية وهلك في ولاية أوريسا وحدها سنة 1866 من الجوع فقط مليون إنسان كما هلك 12. . . . . سنة 1868 في إقليم بنجاب وفي سنة 1874 هلك مليون وربع من الهنود في مملكة الدكن. فهل كانت الحروب تحصد أكثر من هذا القدر من الناس وهلا كان الهلاك في الحرب أشرف وأعظم في حسن الأحدوثة؟ وبعد فإن خير الطرق لإعداد النفوس إلى ما عساه يطرأ على الأمم هو أن تبث فيها روح وعواطف يقال لمجموعها ألفكرة الجندية وهذا هو أقوى دعامة في الجيش وبدونه لا أمل لشعب في إحراز مظهر في الوجود بل يشبه حملاً ضعيفاً ليس له حول ولا طول. من أجل هذا وجب على كل من يحب وطنه أن يربي أولاده تربية جندية ويبث هذه الروح في الجنود الذين لم تمكنهم أحوالهم فيما مضى من تلقف هذه الروح حتى لا يكون حال الأمة التي تطالب بالسلام حال البيزنطيين في الأستانة أيم جاءها محمد ألفاتح يتجادلون في المسائل اللاهوتية وألفاتح يحط رحاله في أسوار القسطنطينية. يتوقف الانتصار في الحروب على معنويات الجيوش لا على كثرة عددها فهي التي تغلب وتقطف ثمرات الحرب الأخيرة. وقد أفادتنا الحرب العامة أن دول الاتحاد (ألمانيا والنمسا والمجر والعثمانية) اقل جنداً ونفوساً من الاتفاقيين (روسيا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا والبلجيك والبرتغال والصرب الجبل الأسود واليابان) ومع هذا رأينا الغلبة للاتحاديين على الوفاقيين وعلمتنا أمن لاتحاد ألفكر بين القواد والضباط العامل الأقوى في الغلبة فأحلافنا لم يختلفوا ساعة على المصلحة على حين ترى أعداءنا كل يوم في شأن من أجل القيادة والمحور الذي يدور عليه العمل للوصول إلى الغاية. هذا بعض ما تجر الحروب من ألفوائد التي أقرها علماء الاجتماع وأيدتها الشواهد التاريخية الكثيرة فإن الصين على كثرة عددها ونفوسها لا تقل عن أربعمائة مليون لما تغلبت عليها فلسفة السلم وأخلدت إلى الراحة تنقصها الأمم الغربية من أطرافها ويابان التي لا نبلغ بعدد نفوسه سدسها ضربت روسيا التي هي ثلاثة أضعافها ضربة أفقدتها منذ سنين خمسها فضربت بهذه الضربة جميع ممالك(91/32)
أوروبا وأمريكا عن الطمع في بلادها وأصبحت يابان إذا ذكرت طأطأت لها الجباه إجلالا وأصبح الغربيين يتفاخرون في الأخذ عن مدنيتها والهند لما نزعت منها الأخلاق الحربية رئمت للمذلة وخضعت لسلطان القوة فأصبح أهلها وهم خمس الأرض بعددهم لا يساوون الهولنديون وهم ثلاثة ملايين فكأن مائة مليون هندي أقل مكانة من مليون هولندي.(91/33)
الحرب والتاريخ
نشر المسيو هنري ماركزالي من أساتذة كلية بودابست مبحثاً في الحرب العامة في نظر التاريخ في مجلة التي تصدر بالفرنسية قال بها ما نعر به بما يأتي: قال القائد كلوزفيتز أحد أساتذة فن الحرب الحديث: الحرب هي السياسة بالسلاح. ونحن هنا نبحث في سياسة الممالك المتحاربة إلى يوم نشوب الحرب ونبين ما بين الأمم المختلفة من المصالح والأهواء التي دعت إلى هذه الحرب وأطالت مدتها. وقد رأينا الجماعات هذه المرة قد قضت بالحرب لا الأفراد مهما بلغ سلطانهم وعظمتهم. وبعد فلا يخفى أن الحرب نشبت رغم إرادة القيصر أكبر ملك يدعي أن سلطته من الله ولقد تنبأ مولتكه بأن الأمم هي التي ترغب بالحرب لا الوزارات وما حدث فإنه نتيجة نشوء تاريخي وسلسلة كوائن وأول هذه الحوادث حرب فرنسا وألمانيا سنة187. - 1871وهي الحرب التي أضاعت فيها فرنسا ولايتي الألزاس واللورين اللتين كانت افتتحتهما بالسيف وقلبت كيانيهما وفرنست سكانهما ودفعت فرنسا فوق ذلك غرامة باهظة ولم تعد أول مملكة أوروبية كما كانت وظل جرحها دامياً وما برحت العداوة الفرنسية الألمانية العامل الدائم في الحالة الأوروبية. وقد حاول الألمان أن يسلو تلك السخائم والعداوات من صدور لفرنسيس وحاول أناس من رجال السياسة ومن أشهرهم غامبتا ألفرنساوي أن يعيدوا الألفة بين الشعبين ولكن أخفقت جميع مساعيهم لأن أبرة هذا الانتقام ظلت متأصلة في الجرح. خرجت روسيا بعد الحرب ألفرنساوية الألمانية من قيود الاحتياط التي علمتها إياها حرب القويم ولم تبصر أمامها أوروبا كما كانت حالها من قبل وأخذت تحمي الدولة العثمانية وكانت هذه ضعفت وأختل نظامها على عهد السلطان عبد العزيز وأعلنت روسيا أنها لا تعترف بمعاهدة باريز (1856) التي كانت تحظر عليها أن تنشأ أسطول حربي في البحر الأسود وعادت تبعث آمالها القديمة من مرقدها لامتلاك المضيقين والعبث بالأملاك العثمانية وكانت إنكلترا والنمسا والمجر في مؤتمر لندر تقاومان هذه الدعوى وحدهما ولئن وصف الملك غليوم عمل القيصر بأنه الضربة القاضية فلأن المحالفة الروسية كانت أساس السياسة البروسية فأخذت بروسيا تنشأ أسطولا بحرياً في البحر الأسود ثم جددت هممها وتوسعت في ميولها لتقوية دعائم المملكة العثمانية واستعملت لذلك طريقتين فكان الكونت أغناتيف سفير روسيا يسيطر على السلطان الذي كان يبدي ضعفا وقلة خبرة ويوهمه بأنه هو الصديق الحقيقي له(91/34)
ولسلطانه وأنه وحده يحول دون أوروبا وما تشتهيه من وضع حد لسلطة السلاطين المطلقة بمحاولتهم إدخال الإصلاحات على المملكة العثمانية ولطالما قدم هذا السفير المال إلى السلطان والمقربين منه. وهكذا كانت تعمل روسيا الرسمية ولكنها كانت من جهة أخرى توقد جذوة الاضطراب وتدس الدسائس في جميع الولايات العثمانية. فكانت أموال الروس ونفوذهم تشتغل في بلغاريا والبوسنة وألبانيا والجبل الأسود والصرب ورومانيا. وإذا أيقنت روسيا الرسمية أن طريق الأستانة يمر من فينا وبودابست صرفت وكدها كلها لتقلب رأساً على عقب بوكوفينا وغالسيا وبوهيميا وهنغاريا روسيا. وكانت تجاهر بأن غايتها الوحيدة تحرير جميع الشعوب الصقلبية وضم شملهم تحت سلطان روسيا الأكبر وتدير هذه الحركة جمعية الاتحاد السلافي في موسكو وهي وإن لم تكن رسمية ولكن كان بعضدها الغراندوقات والقواد ولما تخمرت الثورة وبلغت روسيا الغية من انتفاض البوسنة والهرمك وإلقاء الاضطراب في بلغاريا ثم فرغت الصرب والجبل السود إلى حمل السلاح دخلت روسيا إلى ذاك الميدان علناً وكانت من السرعة في العمل بحيث قام الوطنيون من العثمانيين وأنزلوا عبد العزيز عن عرشه لاعتقادهم بوخامة الحالة ولم تنل الصرب من روسيا معاونة مالية فقط بل بعثت إليها بالمتطوعة وحاولوا دون العثمانية وزحفها ظافرة على بلغراد. ولم تتدخل إمبراطورية النمسا والمجر في الأمر وحالت عداوة غلاوستون للعثمانية دون إنكلترا وعمل شيء وفتحت رومانيا طريقاً للجيش الروسي طوعاً أو كرهاً وعضدت روسيا في حملة 1877_78 التي انتهت بهزيمة العثمانيين فأملى الجيش الروسي شروط الصلح على أبواب الأستانة في سان ستيفانو وأنتجت هذه الحرب تأسيس مملكة بلغاريا الكبرى وتوسيع أملاك مملكتي الجبل الأسود واليونان ولم تحظ الصرب وكانت متعلقة بأهداب النمسا والمجر بقسم كبير من هذه الغيمة وكانت رومانيا أعلنت استقلالها من قبل. وإذ كانت هذه الممالك بنات روسيا وهي القائمة على نموها واتساع رقاعها أصبح من الأمور الطبيعية إن تكون أدوات لسياسة الاتحاد السلافي. أما رومانيا واليونان فانهنا وان لم تكونا صقالبة من حيث العنصر فقد انضمتا إلى لواء القيصر بجامعة الدين الواحد. حالت إنكلترا والنمسا والمجر دون تحقيق هذا الحلم الذي طالما حلم به أهله فحدد مؤتمر برلين (من13حزيران إلى 12تموز1878) تخوم بلغاريا وأقترح مندوب(91/35)
الإنكليز أن تفوض للنمسا والمجر إدارة مقاطعتي البوسنة والهرسك واحتلال بكي بإزار. وحازت روسيا أملاكاً في أوروبا فاستضفت من حليفتها. رومانيا مقاطعة بسارابيا شمالي مصاب نهر الطونة وروسيا نفسها هي التي قدمت البوسنة للنمسا والمجر ولولا ذلك لخال جيش هذه دون دخول الروس إلى الروم أيلي. وقد عمل بسمارك في مؤتمر برلين عمل السمسار الشريف بيد أ، توسطه لم يقنع روسيا المعتادة أن تجد لبناً أكثر عند الحكومة البروسية. فأخفقت المشاريع السلافية وأصبح قواد الروس منذ ذاك العهد ينظرون إلى ألمانيا نظر الخصم الحقيقي وأخذوا يبصرون أن طريق الأستانة يمر ببرلين. دلت التجارب أن روسيا الرسمية المالية لم تعد تستطيع أن تقاوم الجامعة السلافية كثيراً واضطر بسمارك أن يعقد مع النمسا والمجر محألفة كانت تعد موادها منذ زمن طويل على الشروط التي وضعها الوزير اندراسي. وهذه المحالفة تنظر خاصة إلى السياسة العدائية التي سارت عليها روسيا وقد حياها سلسبوري باسم إنكلترا بعين الاستحسان هذه المحالفة التي كانت المفردة في أوروبا فأصبحت روسيا بمعزل وما كان لفرنسا إذ ذاك سوى ميل من الحزب غير الراديكالي الإيطالي عندما وضعت فرنسا يدها على تونس (1881 - 83) وهكذا تألفت المحالفة الثلاثية التي قامت مقام تحالف الأمبراطورة الثلاثية الموجود سنة1873وكانت أواخيها قد انحلت انحلالاً كبيراً فتحققت أمنية بسمارك في ضمان السلم لمملكة ألمانيا والمحافظة على المكانة التي بلغتها بحروب شعواء وما كان يفكر إلا في توسيع روابط تلك المحالفة وإن يدخل فيها ما أمكن من الممالك حتى بلغت بها الحال بعقد عهدة مع روسيا. هذا والمملكة العثمانية تسير في طريق التجزؤ فاحتلت انكلتراسنة1882معترفة بسيادة الباب العالي عليها وعلى قبرص وذلك بأن تؤدي إليه الجزية وتحتفظ بالإرادة الخدبوية وفي سنة 1885أعلن الروم أيلي الشرقي وكان انفصل عن بلغاريا في مؤتمر برلين انضمامه إلى هذه الأمارة وأصبحت الثورة دائمة في كريت إذ كان عمل روسيا محسوساً في كل هذه الشؤون ولا سيما في إسقاط الشجاع ألكسندر دي باتنبرغ من على عرشه على صورة وحشية لم تجوز النمسا والمجران أن تصبح شبه جزيرة البلقان تحت نفوذ روسيا ولذا كادت الحرب تنشب من أجل ذلك نحو أواخر سنة 188أنبعث فالنوكي إذ ذاك بلاغاً إلى بطرسبرج فاضطرت روسيا إلى الإذعان وفي ذلك(91/36)
التاريخ نشرت عهدة التحالف المعقود بين ألمانيا والنمسا والمجر (7شباط1887) وألقى بسمارك خطابه المشهور ضد روسيا الذي قال في ختامه نحن الألمان نخاف الله ولا نخاف سواه فاضطرت روسيا أن تحجم مرة أخرى عما تريد وذلك لأن حركة العدميين () كانت تهدد اليوم بعد اليوم حياة القيصر وأدوات ظلمه ومع هذا لم ترجع عما عقدت العزم عليه وانجلت المحالفة المقدسة بين ممالك الشمال الشرقي انحلالاً أبدياً وكان امتلاك الأستانة على الدوام تفاحة النزاع على نحو ما كانت عليه الحال في أوائل القرن عندما أريد إن يعرف من يكون صاحب المضايق فانحلت بذلك معاهدة نابليون واسكندر الأول إن روسيا لا تحلم باحتلال القسطنطينية مدفوعة إلى ذلك بعوامل تقاليدها القديمة بل إن مصالحها التجارية والسياسية تسوقها إلى الاستيلاء على عاصمة البيزنطيين لأن هذه العاصمة تستطيع أن تسد الطريق على سفنها الحربية كل حين وتحول دونها دون ما تشتهيه من نقل حبوبها إلى مرائي البحر المتوسط وهي أحسن وأقدم المصارف لتجارتها بقيت فرنسا وحدها فأصح من الطبيعي تحالفها مع روسيا وكان الاعتقاد الراسخ منذ سنة1875أن تدخل روسيا هو الذي أنقذ فرنسا من غارة الألمان ثانية عليها ليفصدوا فرنسا فصدة تصفي دمها. فعقدت المحالفة بين فرنسا وروسيا سنة1893 ووقعت هذه المحالفة الثنائية أمام المحالفة الثلاثية وأخذت أموال لفرنسيس لتسرب إلى روسيا التي لم تتعب من الأفراض (15مليار فرنك في2. سنة) وبذلك تبين أن الموازنة الأوروبية عادت فاستقامت. ولما تخلى عن الدولة العلية حاميها القديم وجهت وجهها بالطبيعة نحو المحالفة الثلاثية واستدل على هذا الانقلاب بسياحة الإمبراطور غليوم إلى الأستانة وفلسطين1898ونالت الصناعة الألمانية والأموال الألمانية امتياز السكك الحديدية في آسيا الصغرى وبين النهرين وهي مشاريع تبشر بمستقبل زاهر. وحاربت العثمانية اليونان حرباً خرجت منها ظافرة. لا جرم إن الخوف كان مستوليا على مكدونية فكانت عصابات يونانية وبلغارية تعد للمستقبل عدته ولكن أتفاق حكومتي فينا وبطر سبرج بشأن إدخال الإصلاحات كان ضماناً للحالة الحاضرة ولبقاء الحكم العثماني عليها (1897) ولم يجر الوفاق بين النمسا والمجر وبين روسيا على قاعدة التساوي وكان من الحزب الروسي في بلغاريا أن استلم زمام الحكم فيها بعد مقتل ستامبو لوف1895وعلى العكس في الصرب المدينة لساستنا بتوسيع بلادها سنة1878(91/37)
ولبقاء استقلالها مصونا من عبث البلغار سنة1885فإن سلالة اوبرنوفيتش قد علقت بقائها ومستقبلها على طالع بلادنا. ومقتل ملك الصرب الذي كان داعيا إلى صعود أسرة قره جبورجو فيتش على عرش صربيا الملوث بالدماء لم يكن فيه سقوط بيت ملوكي فقط بل تداعى معه النفوذ النمساوي في البلقان19. 3وعلى العهد الأخير وعقبت اتفاقنا مع روسيا اضطررنا إلى التخلي مركزنا فأصبحت بلغراد للحال بؤرة اضطرا بات مفرطة لا تطمح إلى الاستيلاء على مكدونيا فقط بل لتطال إلى مقاطعتي البوسنة وسلا فونيا فعادت الحال إلى ما كانت عليه قبل سنة1876وأصبحت الدولة العثمانية وسلطة إمبراطورية النمسا والمجر في خطر من جديد. النسر ذو الرأسين هو الرمز الحقيقي لروسيا فإنها ليست ذات سياستين إحداها رسمية والأخرى سرية بل إن لهذه السياسة الأخيرة: الغرب والشرق. عندما تقف في وجه روسيا عقبات مهمة في الغرب تنقلب إلى آسيا ومتى صادفت هنا مشاكل نعود فنبحث عما تعوضه في أوروبا. فروسيا لا تعرف لا توقفاً ولا راحة. لما أخذت روسيا بعد حرب القريم تجمع شملها كما قال السياسي غور تشا كوف استولت على إقليم الأمور منتزعة إياه من يد الصين ثم افتتحت بلاد خانات آسيا الوسطى مثل بخارى وخو قنذوخيوه وكان من أمر وفاق سنة1897الذي وقعت عليه وحظر عليها العمل في البلقان علنا لما فيه مصلحة سياستها إن وجهت وجهتها نحو الصين الآخذة بالانحلال فاحتلت بلاد منشور وألقت نظرها إلى كوريا طامعة أن تكون دولة بحرية في المحيط الباسيفيكي إذ لم تستطع أن تكون كذلك في أوروبا ولكن هذه الأحلام جرتها إلى عراك مع اليابان وهذه كانت قد تجددت حياتها الداخلية فزادت قوتها وكان من حربها مع الصين وخروج اليابان ظافرة سنة1894أن تنبه في هذه الدولة الغالبة الشعور فخرجت اليابان منصورة في البر وفي البحر في حرب سنة 19. 4 - 5 وفقدت روسيا بوراثور وكان من أمر كوريا أن احتلتها اليابان فاضطرت روسيا أ، تتخلى مؤقتاً عن أمانيها في آسيا الصغرى وحالت الثورات التي نجمت بشدة سنة19. 5 - 6 دونها ودون السياسة الأوروبية ولو كان للمحالفة الثلاثية خلق اعتداء وأطماع في فتح بلاد لتيسر لها في ذلك الحين أن تغتنم ألفرصة لأضعاف مملكة القياصرة زمناً طويلاً. وكانت اليابان في هذه الحرب نصيرة إنكلترا التي كانت مربوطة معها على ما علم بمعاهدة لا يزال حكمها ساريا(91/38)
وبتحريض الإمبراطور غيليوم الثاني دخلت روسيا في الحرب لتقضي على الخطر الأصفر فإن ألمانيا كانت تحاذر أبداً من جارتها في الشرق ومن اتحادها مع فرنسا فرافها اشتعال روسيا في الشرق ونظرت إليه بعين الرضا وهذا مما ينافي مصلحة إنكلترا. وكانت مشاكل هذه المصانع الحيوية منذ عهد نابليون تتقاذف القرن التسع عشر بجملته ويرجع ألفضل إلى فمبري العالم المجري الشهور في إنارة الرأي العام الإنكليزي في معنى النتائج المضرة على إنكلترا التي تحدث من التقدم الروسي وقد أدركت إنكلترا منذ ذلك العهد بأن اتساع مستعمراتها وتباين أفكارها امتداد تجارتها والمحافظة على مصارف صناعتها وطرق مواصلاتها تقتضيها مشاق تزيد اليوم عن الآخر. وصرح المركيز سلسبوري البوزير الإنكليزي في إحدى خطبه بما يجب على بريطانيا العظمى من الاستسلام للقضاء بلسان الحزن أمام ما يعترضها من أصعاب التي تكاد لا تذلل لحل هذه الإشكال. فمن ثم رأت إنكلترا بعين الرضا المحالفة الثلاثية تقيد الأطماع الروسية عن الانبعاث في أوروبا وكذلك تفعل اليابان في آسيا. وبديهي أن الأملاك البريطانية في آسيا هي أثمن في نظرها من الدولة العثمانية والمضايق وهي ترجح أيضاً أن تشفي روسيا أطماعها التي لا ينتهي في أوروبا بدلاً من أن تعبث بإمبراطورية الهند ومصارف الصين. عرف هذا فخطر لرجال السياسة الإنكليزية أن يشغلو روسيا في أوروبا ليخلو لهم الجو ويمتعوا بنعمة السلام في آسيا. ومن ألقى نظره على التاريخ يرى أن السياسة الإنكليزية ذات وجهين تشبه السياسة الروسية تقريباً فإن اختلاف الأحزاب في بريطانيا في مسائل السياسة الخارجية تحدث بينهم اختلافا كبيراً كالانحراف الشاهد في بطرسبرج بين روسيا الرسمية وغير الرسمية فحزب المحافظين من الإنكليز الذي تشبع بما دار من العراك القديم مع فرنسا يبحث أحيانا أن يكون من حزب الحكومات الألمانيا ومن قواعدهم ومن قواعدهم إجمالاً أن يكونو على صلات حسنة مع بلاط فينا ويحافظوا على الدولة العلية وفي بعض الأحوال عندما كانت الأستانة تهدد والقوى الروسية تقترب من الهند كان الأحرار يعضدون سياسة الاستعمار ولكن تقاليدهم السياسية تختلف اختلافا محسوساً. وقد ورد في كتاب مفاوضات هوراس والبول إن كاتربنا الثانية أوصت في سنة1792على تمثال فوكس زعيم حزب الأحرار المعارض الإنكليزي في عهده لأنه قاوم نشوب الحرب بين الشعبين العظيمين روسيا(91/39)
والإنكليز فكانت القيصرة تحارب إذ ذلك الدولة العثمانية التي كان يدافع عنها ببت الإنكليزي وطلبت كاترينا حصن أوتشا كوف والصقع الواقع بين نهري بوج ودنيستر أعدت الحكومة الإنكليزية عدتها لتبعث إلى بحر روسيا بأسطول من قبلها ولكن المعارضين صرخوا بأعلى أصواتهم أن هذه السهول لا توازي المبالغ التي تقتضيها الحرب وتكلم المعارضين بلسان الصناعة والتجارة الإنكليزية وما ينالهما من ألفتور بحيث اضطر ببت أن يتخلى عن دعواه أما كاتربنا فظلت تفتح فتوحها بتؤدة. ومثل ذلك حدث في الحروب العثمانية الروسية 1867 - 78 وكانت وزارة ديزرانيللي إذ ذاك تميل إلى العثمانيين وتقترح عقد محالفة مع بلاط فينا وعلى العكس في وزارة غلادستون التي كانت بسبب المذابح البلغارية تحمل الحملات المنكرة على العثمانية وتطالب بإخلاء النمساويين للبوسنة ولما استلم أزمة السياسة في بلاده لم يلق للعثمانية بالاً وكان من عمله احتلال مصر وقد أبانت تقاليد حزب الأحرار كيف أن هذا السياسي العظيم قد اسغوته عقلية نوفيكوف بلطفها على أيسر وجه بيد أن تقاليد حزب الأحرار لم تمكن إنكلترا من تجاوز حدها والانضمام إلى المحالفة الثنائية ولولا أنم حدث تبدل كبير في أوروبا ما استطاعت أن تلوي وجهها عن حليفاتها القديمات وتضع يدها في يد عدوتيها منذ الزمن الأطول: فرنسا وروسيا. وما دعت إلى هذا التبدل حوادث تاريخية بل كوائن النشوء والأريقاء وهو ارتقاء ألمانيا الخارق للمادة فإن ألمانيا بعد حرب فرنسا ظهرت في مظهر لا مثيل له في التاريخ إذا اعتبرت مملكة قوية الشكيمة في داخليتها ومعروفة بأنها أول دولة حربية في القارة الأوروبية تنصرف إلى عمل سلمي ولا تسئ استعمال قوتها لتخضع إليها شعوباً أخرى ولم يكن بسمارك يعني بغير تنظيم داخلية ألمانيا وما كان يعقده من المخالفات لا غاية له إلا تمكن بلاده من أن تعمل في ظل السلام في تنظيم داخليتها وكان هذا العمل مضاعفا وذلك لأنه يقتضي له من جهة أن يسكن ما أمكن الجدالات المذهبية والاجتماعية ومن جهة أخرى أن ينشط الأعمال الألمانية ويثمرها وهذه الأعمال نتيجة العلم العملي. فسكنت الجدالات الذهبية بعدما ثار ثائر الجهاد على الكثلكة واستطاع الكاثوليك في ألمانيا أن يشاركوا في العموميات البرتستانت جنبا إلى جنب. اقتضت الحال للرضاء العملة أن توضع نقطة من الزيت الاجتماعي في الآلات الحكومية (1881) وبمعاونة حزب السوسياليست الديمقراطي(91/40)
أحدثت على التدريج طريقة تامة لضمانة أحوال العملة وكان من نتائج الاقتصاد الألماني والعمل الألماني جمع رؤوس الأموال الكبرى. فالعلم الألماني مطبقاً على الصناعة رفع البلاد فوق درجة منافسيها من حيث إنشاء الأسلحة وجعل العالم أجمع عالة على معاملها الكيماوية وعلى تلك النسبة أرتقت التجارة الألمانية فشركات الملاحة في بريم وهامبورك كانت تنافس الشركات الإنكليزية الفرنسية في الصين وأميركا الجنوبية بل وفي الهند وهذه الشركات كانت تطمح إلى امتلاك المستعمرات فامتلكت أراضي أهملت الدول الأوروبية احتلالها مثل مستعمرات افريقية الشرقية والغربية غينا الجيدة (1884) وقد استلمت الحكومة الألمانية بعد هذه الأملاك. من أقوال اللورد بيكو نسفيلد المشهورة وهو ما نقله عن المؤرخ الروماني إن عظمة إنكلترا تقوم في الجميع بين النقيضين: إمبراطورية والحرية أما نحن فنرى أن الصفات الرئيسية في ألمانيا الحديثة قائمة أيضاً في أحكام العلا بين نقيضين: بين السلطة ونظام الجيش والإدارة بين الحرية في ألفكر والحرية في العلم. كان من بسمارك أن دخل في اعتدال زائد بل بشيء من الخوف في ميدان السياسة الاستعمارية وإنشاء أسطول حربي لأنه كان في عدة مسائل يذهب مذهب تقاليد بروسيا القديمة فكان الألمان يحاذرون من حقد لفرنسيس وعداوة الروس ولا يريدون أن ينبهوا حسد إنكلترا بيد أن الجبل الذي نشأ منذ الحرب الكبرى أصبحت له أطماع أعلى من ذلك لأنه أيقن أن فرنسا قد سحقت وروسيا مابرحت غامرة من حيث أن إنكلترا هي الخصم الممكن للأمة الألمانية التي دعيت لتكون دولة العالم بغناها وقوتها المعنوية وكان رأي الإمبراطور غيليوم كذلك من سنة 1888وعلى عهده وبمساعيه بدأت ألمانية تصبح دولة بحرية عظمى وارتقاء البحرية الحربية هو عمله بالذات عقدت عقدة الاتفاق الأولى مع إنكلترا فبعد مفاوضات مع سلسبوري وقع الاتفاق في حزيران 189. ان تكون لإنكلترا السلطة على زنجبار وتترك ذلك لألمانيا جزيرة هليكولاند وبهذه الصورة انتقل إلى المملكة الألمانية هذا الحصن الطبيعي في بحر الشمال. وكانت إنكلترا استولت عليها خلال حروب نابليون وخلص الأسطول الألماني من مراقبة خطرة في جواره مباشرة وقد أثبتت الحرب الحالية مكانة تخلي إنكلترا عن هذه الجزيرة لألمانية وتبين لماذا لا يغفر الإنكليز هذا العمل لرجال سياستهم ولم تنشأ العداوة الحقيقية بين الألمان والإنكليز إلا في حرب البوير فان(91/41)
الإمبراطور غيليوم أرسل إلى الرئيس كر وجر برقية تهنئة بعد أن غلب الإنكليز في فرضة جامسون فأحدث ذلك سخطا شديدا في إنكلترا لان الإمبراطور هو حفيد الملكة فيكتوريا وكان ولاة الأمر في ألمانيا والرأي العام منحازين خلال حرب البوير إلى هذا الشعب الصغير الذي كان مستبسلا في سبيل الدفاع عن استقلاله انعزلت إنكلترا عن السياسة الأوروبية منذ سنة 1878فلم تعد في جملة محالفة من محالفة من محالفاتها وكان سلسبوري يدعو هذه الحالة العزلة الرائقة بيد أن حرب البوير وعواطف الكراهة التي نالتها السياسة الإنكليزية في كل صقع وناد عدا النمسا أبانت لها أن هذه العزلة ليس فيها ما يشوق ويروق وكان. اسطول ألمانيا الحربي بزيد على الدوام حتى فاق أسطول فرنسا وكان بعد أسطول هذه بعد الأسطول الإنكليزي بعدده وعدده والتجارة الألمانية تفتح لها مصارف جديدة في العالم وبيننا كان يقال سنة1876ان المصنوعات الألمانية غالية ورديئة ولكنها بالنسبة للمصنوعات الإنكليزية رخيصة وجيدة أصبحت تنافس الصنائع الإنكليزية حتى في إنكلترا منافسة شديدة ولم تر ألمانيا أن تكتم أمانيها وصرح رئيس النظار البرنس بولوف في مجلس النواب أن ألمانيا تطالب أيضاً بان تحيا على هذه الأرض ولقد كتبنا سنة 19. 4ما يأتي: تجري ألمانيا على سياسة لتحرز الأولية بين الدول فإلى أين تستطيع أن تسير بدون أن تحدث لها مشاكل مع المسيطرين على العالم وهم اليوم خصومها هذا سر من أسرار المستقبل فاقتضى لألمانيا أن تنزع من فكر إنكلترا فقط أنها الحاكمة المتحكمة في البحار وفي الاستعمار والعالم واستعمال عقد اتفاق بين المملكتين وكانت روسيا. مرتبكة أنواع الارتباك أن تباشر عملا في آسيا. وفرنسا تحالف الشيطان على شرطان تكون المحالفة ضد ألمانيا بل تحالف إنكلترا التي أورثتها سنة 1898عار الطرد من فاشودة. هكذا كانت الحال عند ما تولى ادوارد السابع زمام الملك في إنكلترا فرأى بعين البصيرة في الحال ما يجب مداولته وأيقن أن من الواجب تحويل أنظار روسيا عن الشرق الأقصى حيث يرجى أن يكون خطرا على السياسة الإنكليزية وان يجذب بضبع روسيا إلى الغرب يجعلها مناصبة لألمانيا ولحليفتها ولا شك أن مصلحة فرنسا كانت كذلك. ولهذه الغاية ذهب ملك إنكلترا إلى ريفال في حزيران19. 8فلم تلبث إيران وكانت منذ زمن طويل موضع الشقاق بين روسيا وإنكلترا أن تقاسمتاها فجعلت منطقتين روسية وإنكليزية وأصبحت(91/42)
الأولية بذلك لروسيا في بلاد فارس. واهم من ذلك التقرب الذي وقع بين اليابان ومملكة القيصر من حيث النتائج. وعلى ذلك حدث تبدل تام في السياسة الإنكليزية عقيب استلام الأحرار أزمة الأحكام في إنكلترا وأصبحت المحالفة الثنائية وفاقاً بدون أن تتقيد إنكلترا بمحالفة عسكرية مثل شريكتيها. حدث في خلال سنة19. 8الأنقلاب العثماني واستولى فتيان العثمانية على زمام الحكم في البلاد وضمت عقيب ذلك البوسنة والهرسك إلى النمسا والمجر وكانت روسيا أظهرت ارتياحها إلى هذا العمل بادي بدء ثم دفعتها سياسة السير ادواردغراي فأنشئت تدافع عن حقوق الدولة العلية ثم عن مزاعم الصرب فلم تنشب الحرب لأن ألمانيا عقدت العزم على الأخذ بيد النمسا وفرنسا منهمكة فتنها الداخلية يتعذر عليها أتعاون معونة فعلية بحيث أصبحت روسيا وحيدة فولت منهزمة. ومع هذا تخلت النمسا لواء يكي بازار على مكانته الحربية لأطماع الصرب والجبل الأسود وهذه كانت جعلت مملكة وأخذ شبح الحرب العامة منذ ذلك العهد يبدو سنة عن سنة وحضت هولندا أوائل سنة 1911مرفأ فليسنج ففهم من ذلك أن النية عقدت لأقفال مجرى نهر السكوت الذي يجري إلى أنفرس ولم يصعب علينا أن نستنتج من ذلك أنه عقد تحلف فرنساوي إنكليزي من مضمونه أن تحتل إنكلترا احتلالاً عسكريا هذه القلعة المهمة ومرفأها حين نشوب حرب بين فرنسا وألمانيا. فأنقلب الوفاق الودي إلى محالفة عسكرية. وفي صيف تلك السنة دهش العلم أجمع لإرسال ألمانيا إحدى بوارجها العسكرية إلى أغادير على الشاطئ الجنوبي الغربي من مراكش وذلك للدفاع عن المصالح الألمانية من احتلال فرنسا بإشهار الحرب بل هددت إنكلترا ومع هذا وقع اتفاق هذه المرة أيضاً فأخذت ألمانيا جزءاً من الكونغو ألفرنساوية تعويضاً عن مطالبها. بيد أن الهمة انصرفت إلى اتخاذ الأسباب لفصل ألمانيا عن حليفتها حتى إذا تخلى عنها الكافة يتعذر عليها أن تقاوم ضعفت أعدائها فأخفقت هذه الأعمال على المهارة المبذولة لدى حكومة النمسا والمجر ومعلوم ما أعقب ذلك من ضم طرابلس وبرقة إلى إيطاليا ثم حرب البلقان التي أنتجت فقد الدولة العثمانية لولاياتها في أوروبا ثم ضعفت بلغاريا وتوسع صربيا كل ذلك جعل الدعوى إلى تأسيس دولة صربيا الكبرى مهيأة الأسباب وجرأ قائل ولي عهد النمسا على ارتكاب جنابته في سراجية ويوم28حزيران1914ومن جهة أخرى كان الاعتداء يعتمدون على المنازعات(91/43)
الداخلية في النمسا والمجر. ويظهر لهم أن اختلاف الأحزاب السياسية في المجر والقومية في النمسا تسهل طريق تجزئة هذه الإمبراطورية المثنوية ولكن دلت النتيجة، هذا الرأي مغلط فقد يتنازع إخوان فإذا جاءهما ثالث غريب عنهما يتدخل في شؤونهما ينقلبان في الحال يداً واحدة عليه ولو لم يكن أعداؤنا من هذا الرأي لكانوا أحجموا عن مداهمتنا في عقر دارنا. تبين مما تقدم أن سلام العالم كان ضعيف الأركان منذ سنة19. 8لتضارب المصالح الكثيرة والأهواء المنوعة بحيث يتعذر وصف علاج بقطع آفة المرض الذي ابتليت به أوروبا. وعبثاً جرى القول في الصلح وفي وضع طريقة السلاح النسبي وكان جثام الحرب العامة يضغط على الأرواح وبهذا المؤثر وافقت المجالس النيابية على تجنيد الملاين من الجند وصرف المليارات من النفقات وهي إعداد ما كان الإنسان لطولها ليصدقها إلى ذاك العهد ونرجو أن تكون كذلك في المستقبل بعد فلماذا فادت الممالك مفاداة عظمى بالرجال والمال لو لم تكن في صدد حريق عالمي هائل؟ ذلك أن فرنسا تريد أن تستعيد ولايتين كانت فقدتهما وان تعود إلى المركز الذي كان لها قديما وان روسيا تريد إن تكون الحاكمة على المضايق وتخضع لصولجان القياصرة الشعوب السلافية الذين يدينون بالمذهب الأرثوذكسي وان يابان تريد التوسع في أملاكها وتزيد ثروتها لإنشاء أسطول حربي أما نحن النمسا بين والمجرمين والألمانين والعثمانيين فقد دفعنا إلى الحرب لندافع عن كياننا فاضطررنا لنفادي بأمور ثم إلى إعلان الحرب. وربما قيل إن المسلمين بأجمعهم يقفون في مصاف الدولة العليا لتقاوم عد واتها القديمة روسيا وإنكلترا وفرنسا وهاتان الأخيرتان أصبحتا عدوتيها وكانتا صديقتيها أما إنكلترا فان الداعي لها إلى إعلان الحرب هو الخوف من تخطي ألمانيا لها في مضمار الارتقاء فهي لا تريد أن ترتفع بل أن تخفض خصيمتها إن هذه الحرب هي حرب شعوب لا حرب أمراء ومع هذا فان مقتل ولي عهد النمسا وقرينته كان شرارة اتقدت بها النار بمواد غير ملتهبة كانت منبعثة من العالم اجمع. لا جرم إن نار ودنا أودرانا هي منذ عهد الباطنيين (القرن الثاني عشر) الشيعة السياسية التي كثيراً ما كانت تعمد إلى القتل لبلوغ غايتها وكان الباطنية مسلمين متعصبين يسقيهم زعماؤهم حشيشاً ليبعثوا بهم يسفكون دماء وقد حار بهم غير ما مر سلاطين السلجوقيين وفرسان الهيكل فأبادهم مؤخراً أبنا دينهم مماليك مصر ومن العبث أن يبحث في أوروبا في(91/44)
القرن العشرين عن عواطف للتضامن وخشي من هول الجريمة وما من رابطة تجمع خصومنا ومن العجب أن روسيا التي أبادت أمماً كثيرة تقف الآن موقف المخلص للشعوب الصغيرة بقتالها التسليح العام في جنب إنكلترا وفرنسا ولا وجه للبحث هنا عن الاتحاد السلافي والاتحاد الروماني فإن الاتحاد السلافي الأدبي قد فسد بالروسية الوحشية وبانتحال المذهب الأرثوذكسي بالقوة وما من أحد يفكر بتاتاً أن يحقق أحلام الثورة الإفرنسية من حيث السياسة والاجتماع أو أماني المحالفة المقدسة الخيالية ولا يعمل هناك غير القوة الوحشية ليس إلا ونلاحظ فقط أن التطرف الغربي قد ملأ الحكم الروسي المطلق لإبادة أمم أوروبا المركزية البعيدة عن الاستبداد والفوضى وما شعارها إلا الترقي والإصلاح الاجتماعي الرصين لها.(91/45)
الشيخ إبراهيم الحوراني
تتمة مافي الجزء السابع
4نثره
أرهف المترجم به يراعه منذ الصبا فأجاد في الموضوعات التي دبجها به ولم يبق بحثاً لم يتناوله باسلاته فتفنن في مقلاته تفنناً لا يجيد فيه إلا من كان مثله كثير الاطلاع متضلعاً من العلوم والآداب متقناً للمنقول والمعقول فتراه يذهب بعقل المطالع لكتاباته الوضيحة البليغة كل مذهب وينحو به كل منحى فيمر على المدن والدساكر ويريه الشوارع والمنعطفات ويسدد خطواته في مناهج الحقيقة ويطير به في عالم الخيال ولكنه لا يتيه بالقارئ ولا يضله سبيلاً بل يملأ مخادع حافظته صور تعابير بليغة ويمأن فكره موضوعات مفيدة ويرشده إلى الصراط المستقيم ويطبع في مخيلته أصح الآراء وأسد الأفكار العلمية الأدبية فيعود مطالع أبحاثه مستفيداً كل الاستفادة محرزاً ما يريد من الأبحاث والألفاظ والمعاني مع تفنن في التعبير وخلوص من التعقيد وبساطة في التركيب ومن قرأ ما جادت به قريحته من المقلات الرنانة في المجالات والجرائد والكتب شهد بصحة قولنا ولم يحمله على الإطراء والتزلف فإننا وإن كنا من أصدقائه المخلصين فلسنا من مريديه الكاذبين ولذلك أحيل المطالع المتقيد على ماله من المقلات والخطب والمباحث وأفوض فيه أمر الحكم على المترجم بما يوحيه إليه ضميره الصادق وبصيرة النقادة المنصفة فطالع مقلات (عالم الحس الخيال) و (الكيمياء) و (العين) و (الشعر) و (القلب والعين) و (الظل) و (الشعر العربي والشعر الأوروبي) و (العالم المادي والعالم الأدبي) و (حكمة الأولين) و (فلكياته) و (والبلاغة) و (الكفاية) و (آراء جديدة في أجزاء المادة) و (الخمير والاختمار) و (غرائب الكيمياء) و (تاريخ الكرة الأرضية الطبيعي) و (الاختلاف في الآراء والعقائد) و (الجهل والهوى) و (الطبيعيات والأدبيات) و (ضرر العلم القليل) و (مساعدات الذاكرة) و (الصدى الطبيعي والصدى الأدبي) و (ألفينيقيون) و (أصل اللغات) و (قدرة العلم وعجزه) و (اختلاف تأثير العلة الواحدة باختلاف طبيعة المعلول) و (المام القدماء بظلال ما كشفه المحدثون) و (الكهربائية وكرات النار الجوية و (الموضوع) و (استقر واستدل واحكم) و (مقاومة تنازع البقاء) و (الإنسان) وما شكل كل ذلك من المباحث المختلفة(91/46)
والتفننات الرائقة وإذا تعذر على المطالع الوقوف على هذه الآثار الأدبية الرائقة فإنمني أسهل له ذلك بانتخاب بعض فقرات كلامه: فمن قوله في خطبة (عالم الحس وعالم الخيال) ومن فوائد (الخيال) أنه نزهة المعتزل ففيه يرى الحدائق الغناء توقع عليها فيان الورق أطيب الألحان وتجري تحتها جداول زلال الذمن بنت إلحان وتحيط بمنابتها بواسم الأزهار كما يحيط بالمعاصم السوار. وترى مدافع الشواهق تقذف بلجين الماء على در الحصباء في الأودية الخضراء فترده اماة المهى وظمأ الظبى فتصبو إلى الورد ولا تطفي اواما فتئن وجدا وتنشد هياماً:
ألا قل لسكان وادي الحمى ... هنيئاً لكم في الجنان الخلود
أفيضوا من الماء علينا فيضاً ... فنحن عطاش وأنتم ورود
ثم إذا مللت مشاهد النهار توجهت إلى مشاهد الليل وبدلت طلعة الشمس بمحيا سهيل فتري هنالك النجوم درراً في باطن الخيمة الزرقاء والمجرة نهراً عظيماً تدفق في حديقة نرجس وفروعها جداول البطحاء وترى هناك تباين المؤتلفات. وائتلاف المتباينات فتشاهد الطائر الواقع والذاهب والراجع والخفي والظاهر والثابت والسائر والأسد بين السرطان والعذراء والسرطان بين الأسد والجوزاء والأبراج والطوالع والأوافل فترى العالمين على العلم الأصغر وتنسى أنك العالم الأكبر ثم تنتبه إلى المعتزل وإليه تبوء فتعلم صحة قولهم: (الوحدة خير من جليس السوء) ثم قال في الخيال قولاً فلسفياً هو: ومن فوائده انه معمل المتصرفة ومخترعها أما المتصرفة فعرفوها بأنها قوة من قوى العقل الباطنة شأنها تركيب الصور والمعاني وتفصيلها والتصرف فيها واختراع أشياء لا حقيقة لها. ومن أهم أعمالها التجريد وهو ما تكتسب به الكليات من الجزئيات ولولاه كانت الصور العقلية هويات متفرقة لا علاقة بينها وقد تكلمت عليه بالتفصيل في المقالة الثالثة من كتاب (الحق اليقين) فليطالعها. ومنها إن التركيب جمع المراد مما علم بالتحليل والتعميم في صورة واحدة وهو (أما حقيقي) وهوان يجمع في الذات الحقيقية ما لها من الصفات المختلفة في الواقع كأن تجمع الحمرة والاستدارة وانتساق الأوراق وطيب الرائحة وسائر ما لا بد منه من الشخصيات في هذه الذات لتصوير هذه الوردة. (وأم تخيلي) وهو جمع مختلفات لتصوير ما لا حقيقة له كأن تجمع حمرة الورد ورائحة القرنفل في زهرة الأقحوان على نبت الزنبق(91/47)
فتصور نباتا لم يخلقومن قوله في مقالة (البلاغة): الكلام البليغ ما وضح معناه ووجز لفظه وسهل وطاب للسمع. ومن أهم ما يستلزمه وضوح معناه معرفة المخاطب معاني مفرداته. والمعنى هو الصورة الذهبية المراد بيانها. فالبليغ يرسم في ذهن المخاطب مثل الصورة التي في ذهنه. فإذا أراد أن يصف إليك الإبل مثلاً صورة في خيالك بوجيز كلامه كما يصوره البارع من المصورين على قرطاسة ومثله فيه كما يمله الماهر من نحاتي التمثيل: أما غير البليغ فربما أراد أن يرسم في خيال سامعه ظبياً فصوره قرداً أو شيئا لم يخلق بالعبارات المطولة المشوشة. ولا بد في البلاغة من مراعاة حال المخاطب فابلغ الكلام في خطاب النبيه غير بليغ في خطاب غيره. . . . ومن هذا يعلم أن الإيجاز في البلاغة نسبي أن البلاغة في خطاب الخاصة أيسر منها في خطاب العامة ولهذا سموا ما يفهمه العامة ويرضي به الخاصة بالسهل الممتنعومن قوله في صدر مقالة (أبسط مبادئ الرياضيات): المسائل الرياضية عبء الأذهان وغول الزمان ولذة إدراكها خير اللذات مع أنها نتاج الآلام والأنات وإني ممن قسم لي أن أولع بأبكارها وأسجن دهراً في دارها وشغلت وقتاً طويلاً بتدريسها وألفت وحشها وأنيسها فوجدتها من خير مميزات الأذهان. والحاملات على بغض التقليد وحب البرهان وأقوى العينات على علم الميزان (علم المنطق). ولكن رأيتها تصعب على أكثر الطلاب. وتدق عن إدراك أولى الألباب. لتشعب العقاب. وكثرة الشعاب. فبذلت الجهد عفي البحث عن أصولها ونقائها. إلى أن يسر الله الوصول إلى حقائقها. إن كل المسائل الرياضية في المقادير الصحيحة المنطقة مبنية على ثلاث سلاسل. (الأولي) سلسلة الأعداد الطبيعية 123الخ (والثانية) سلسلة الأعداد الوترية 7531الخ والثالثة سلسلة المثلثات631الخ وهي تنشئ عن جمع حلقات السلسلة الطبيعية على هذه الصورة. + 1و1 + 2و1 + 2 + 3الخ ولهذه السلاسل خواص كثيرة لا محل لها في مثل هذه المقالة الوجيزة فاق - تصر على ذكر ما الحجة إليه في بيان المرادأهالي غير ذلك مما لا يمكن استقراؤه ومعرباته ومصححاتهكلف المترجم منذ صباه بالتأليف وأول مؤلفاته (الشهب الثواقب) في الجدل و (جلاء الدياجي في لألغاز والمعميات والأحاجي) وهي رسالة لطيفة فيها كثير من منظومة ومناهج الحكماء في مذهب النشرة والارتقاءوالحق اليقين في الرد على مذهب دروينوالآيات البينات في عجائب الأرض والسماواتوضوء المشرق في علم(91/48)
المنطقوهذا آخر مؤلفاته المطبوعة. أما مؤلفاته التي لم تطبع فكثيرة منهاديوانه الشعريوقد لاحظ جمعه وتنقيحه ومراجعته قبل وفاته بقليل والأعراب في نهج الأعرابوشمس البرهان في علم الميزانوهو في المنطق اختصر منهضوء المشرقالمذكور الذي طبعالكوكب المنير في علم التفسير. وعنده فذالك كثير من المؤلفات في البيان والفلسفة الطبيعية والفلسفة العقلية والرياضيات لم يحكم ترتيبها لانشغاله بخدمة غيره سحابة العمر. عدا خطبه ومقالاته التي تناقلتها الصحف وبعضها لا يزال مخطوطاً. ونشر بعض الروايات الأدبية مثلإسفار ذات السوارفي مجلة الرئيس ومختصر بعض روايات شكسبير الشاعر وغيرها. أما معرباتها فكثيرة وبعضها لم يذكر فيها أسمه ومنها: المواعظ الميلاديةلسبرجنمواعظ موديووتفسير التوراةأس الأسفار الخمسة بزيادة تفسير له على الأصل وسكان وادي النيلورجال التلغرافوسيرة القديس أوغسطينوسو الطريق السلطانيةوأما مصححاته فليست بقليلة ولكنه لم يذكر اسمه فيها أيضاً فمنها تصحيحالنهج القويم في التاريخ القديمللأستاذ بورتروقاموس الكتاب المقدسللدكتورجورج بوست وساعد الدكتور أدي في جميع تفسير الإنجيل واشتهر في جميع ما كتبه بتحقيقه ورقة أوضاعه العربية وصحة تعابيره اللغوية مع بساطة العبارة ووضوحها حتى يسهل بحسن أسلوبه ما صعب من المباحث فتراها مفهومة.
6ً منزلته العلمية
صرف حياته منذ صبوته بالتدريس والجمع وتوسيع مداركه بالمطالعة وانتظم في سلك الجمعيات العلمية والأدبية وانتدب مدعواً لبعض المؤتمرات العلمية في أوروبا وعرفه الأوروبيون والأميركيون يسمو المدارك أما في البلاد العثمانية فكان طائر الشهرة وكثيراً ما ترجمت الصحف العثمانيةالتركيةمقالاته وأطرته وتناقلت الصحف العربية آثار أقلامه من جرائد ومجلات وقد سافر إلى مصر سنة 19. 8م ولم يلبث فيها أكثر من سنتين ترأس أثنائها تحرير جريدة المحروسة ثم عاد إلى عمله في بيروت ولقد رصد الكواكب في بيته وقرر كثيراً من شؤونها بعدما رافق أستاذه الدكتور فانديك يرصدها في مرصد الكلية في بيروت وتخرج على يده كثير من أدباء وأديبات سورية ومصر كتب كثيراً في الصحف مثلالنجاحوالجنانوالمشكاةوالمقتطفوالنشرة الأسبوعيةوالصفاوالطبيبوالمباحثولسان(91/49)
الحالوالمحروسةوقلما خلت جريدة من كتاباته ولو نقلاً عن غيره لما فيها من الطلاوة واللذة والفائدة وكثيراً ما دعته الحفلات لإلقاء الخطيب فيها فطربت له أعواد المنابر وأفاد بما يلقيه من منشور ومنظوم ومن مكتشفاته معادلة الجيوب ومعادلة معرفة أضلاع الأشكال القياسية الوترية من المسبع والمتسع وذي الأحدي عشرة وما فوق ذلك إلى غير نهاية وعبارات لجمع الأسرار المعنية وبعض التقارير ألفلكية التي انتبه إليها بالرصد ومن آرائه التي تيقنها الرأي الدوري وصدقه كثير من علماء العصر وأشكال أجزاء المادة وهذا لم يفهمه إلا الخاصة. وكثيراً ما برهن المنطق بالجبر وأجاب على أسئلة في جميع الموضوعات بسداد رأي ودقة نظر. وعرف مؤخراً طريق رسم الأشكال القياسية وقيمتها العددية بلا تكعيب. أما معارفه اللغوية فلم تطن أقل من معارفه العلمية فإذا أورد لفظة تثبت فيها وأشار إلى أول من استعملها مثل شبه جزيرة ملعقةملقةكما قال الشيخ داود البصير الأنطاكي في تذكرته. وهكذا ستخرج من بطون الكتب المصطلحات القديمة وحقق آراء العصر فيها. ومن أوضاعه المشهورة المرقب والمجهر والحوصلةالبكسولوالمضلعالقباجوروالبخيريالمدخنةوألفوارةالنوفرة وأمثالها ومن تعابيره العصرية قوله: مهيع الأخلاق أوسع من فلك نبتن وأطول من قطر المجرة. هذه صورة الحوراني المعنوية مثلناها للقراء الكرام ليعلموا خسارة الوطن بفقده أثابه الله عداد حسناته وأعاض الأدب عنه خيرا بمنه وكرمه
7ً أقواله وحكمه وآراؤه
للفقيد الكثير من الآراء الأدبية والعلمية والأقوال الرائعة والحكم الناجعة انتخب منها الآن نبذة تدل على مكانته وربما كان بعضها معرباً ومقتبساً: فمن ذلك قوله: المرأة المبتسمة أجمل من أجمل النساء المقهقهات. ريشة الإوزة أخطر من براثن الأسد الحكم على البعض لا يستلزم الحكم على الكل ولا نفيه عنه. أن أعظم الناس حرية أقواهم وأكثرهم خداعاً أضعفهم. كل شيء كم أنواع الخير وأفراده فرضنا أنه الخير الأعظم والسعادة لا يصح ما لم يكن ألفضيلة وإن لم يسلم بذلك بعض ألفلاسفة الأقدمين. إن الشرائع الطبيعية كلها نفع وعلة التأذي بها جهل. إن الكبرياء قد يؤدي إلى الجنون. إن القوة الطبيعية مقسورة أبداً والفضيلة متوقفة على الاختيار. كثيرا ما يقع الناس في الخطأ لإطلاقهم الحكم على الشيء(91/50)
في كل الأحوال والاعتبارات. فليتوقع الراغب في كثرة العلم قلة المال أو ألفقر المدقع. أنه قد يجهل العالم ما يعلمه الجاهل من آفات الانتباه توجيه ألفكر إلى أمر واحد وقتاً طويلاً ومثله الاقتصار على فن واحد أو الولوع به أكثر من سواه. متى ثار غضبك فلا تقل ولا تفعل. لا يقاس على الآراء الضعيفة إلا على سبيل الإمكان. ولا يقاس على الآراء القوية التي لم تبلغ اليقين إلا غلى سبيل الظن. قليل الطعام المغذي ونقي الهواء ومعتدل الرياضة من أمنع الحصون دون جيوش الأمراض والأوباء. إن العلل لا تفعل بالمعلولات إلا بالمباشرة. إن من اللذات آلاماً. من الناس من يخسر كل شجاعته وإيمانه في ساعة اضطراب. إن الذي لا يؤثر فيه الشعر البليغ خشن الطباع سقيم الذوق. ومما ينتج من الرياء طبعاً أن صاحبه لا يصدق ولا يركن إليه وإن تكلم بالحق وكفى ذلك عذابا للمرائين. إن نظرك في إساءتك إلى غيرك يخمد نار غيظك من إساءة غيرك إليك. القول الصالح حسن والفعل الصالح أحسن منه فالقول الصالح الجسد والعمل الصالح الروح. المرأة أجمالاً تعادل الرجل فهماً لكنها تجري أعمالها على سنن التصور أكثر مما تجريها على مقتضى المنطق. المرأة ألفاضلة مهذبة الزوج والأولاد الأقرباء والأصدقاء بالقول والفعل ولها في ذلك من التأثير ما لا تستطيعه كل فلاسفة الأرض. اللطف رشوة من لا رشوة له. من أفسد بين اثنين فعلى أيديهما هلاكه إذا اصطلحا. الصدق أس الإصلاح الأدبي. إنه يستحيل على المترجم للشعر من لغة إلى أخرى يأتي بكل محسناته الأصلية مع المحافظة على تمام الأصلي إلا نادراً. الاختبار أثبت قبول الإنسان التهذيب والتحلي بالفضائل ولكن أكثر الناس يجهلون السبيل. استقر واستدل واحكم. الشعر ضرب من الوحي. إن القوة على نظم الشعر موهبة إلهية يشرفها الإنسان أو يحقرها بالموضوعات التي يستعملها فيها. إن للشعر البليغ تأثيراً في النفوس عظيماً حتى شبهه الكثير من المشارقة والمغاربة بالسحر. نعم إنه سحر حلال يحمد به الساحر وينعم به المسحور. العلم القليل أضر من الجهل. إياك وخداع الخيال فإنه مصدر كثير من صنوف الضلال والخرافات الثقال. وأخزن فيه صور الهاديات الأخلاق والحاملات على مكارم الأخلاق. إن شرف نفس الإنسان يحفظ شرف يحفظ شرف نفسه لا شرف نسبه يحفظ شرف نفسه. ما أقدرنا على الكلام وما أعجزنا عن العمل. إذا مالت نفسك إلى كتابة مالا تريد أن يعلن بخطك فأعلم أن ذلك الميل خطر هائل لأنك بذلك(91/51)
تضر نفسك أكثر مما تضر غيرك. إن أصل المادة بأسرها أجزاء صغيرة لا تدركها الحواس تتجزأ في بعض الأحوال دون بعض. إن الصداقة تنتهي حيث يبتدئ الحذر إنا خلقنا نشعر بالألم لنحذر من أن نؤلم سوانا أحسن وقاية من النميمة أن تسد أذان عنها وأن يكتب تجاهك أبداً قول بعضهم (لا تصدق كل ما تسمع) الوعظ من أسباب الحياة الجسدية والحياة الروحية لمن يؤثر فيه إلى ما يضارع هذه الروائع ويشاكل هذه النواجع.
8ً مجونه وأزجاله
كان رحمه الله ينزع المجون والأحماض في الأحاديث أو إحجاماً للخاطر ليس إلا على حد قول الشاعر:
أروح القلب ببعض الهزل ... تجاهلاً مني بغير جهل
أمزح فيه مزح أهل ألفضل ... والمزح أحياناً جلاء العقل
ولذلك كثرت نوادره وأزجاله وأشعاره الدالة على بداهته وسرعة خاطره فكان إذا آنس من السامعين انقباضاً أو مللأولا سيما في العمليات البحتة ونحوها بنكتة رائعة تستجم خواطرهم وتلفت أسماعهم وتتلاعب بعواطفهم فيثيب إليهم نشاطهم ويتجدد ارتياحهم كما قال الرشيدالنوادر تستحد الأذهان وتفتق الآذانوإذا استقرينا أخلاقه منذ صغره رأيناه مولعاً بهذا الأسلوب الفكاهي وهذه الرقائق المستحبة حتى أنه لما كان يدرس في (عبيه) في صبوته سمع أحدهم يفاخر بقول الشيخ ناصيف اليازجي من قصيدة رقيقة:
كلفت حمل تحيتي ريح الصبا ... فكأنني حملتها بعض الربى
لا تجمل الريح الجبال وليتني ... كلفتها حملي فإني كالهبا
فقال المترجم له: وأين يروح الشيخ بعمامته وكبرهاثم لما غار المدرسة وجاء بيروت اجتمع باليازجي سنة 1871 قبل وفاته فقال له الشيخومإذا ثقلت عليك عمامتيفأجابه الحورانيوالله لو عرفت أنه سيبلغك حديث العمامة لما رأيتك إلى يوم القيامةومن نكاته أنه لما كتب في (أشكال أجزاء المادة) لم يفهم كلامه إلا القليلون فقال عنه بعضهم أنه كتب في أمر لم يدركه حق الإدراك حتى أبهم قولهفأجابه الحورانيوأنا أثني عليه أصاب أم لم يصبوله كثير من أمثال هذه الرقائق التي تدل على ظرفه وبديهته ودماثة أخلاقه أما نكاته الشعرية المجونية فمنها أنه كان مرة يروح النفس على شاطئ نهر العاصي حمص فعثر(91/52)
وسقط على فتاة كانت قريبة منه فشكت إلى أبيها فاغلظ له الكلام وكان لا يزال صبياً فقال مورياً وأجاد:
ياسيد الحلم يامن نور حكمته - يهدى به الناس من دان ومن قاص
زللت في شاطئ العاصي إلى رشاء ... عن غير عمد فاضحى الظبي قناصي
وقد شكاني إليكم فاغفروا زللي ... حتى يقولوا غفرتم زلة (العاصي)
وقال في فتاة جميلة لقية متعصبة في الدين كانت تعنقه على مزاحه وتبكيه عند ضحكه
غراء شمس نهارنا من وجهها ... وهلال ليلتنا مثال جبينها
ما كان أطربني لطيب حديثها ... لو أن رقة خصرها في دينها
ودعي مرة إلى صيداء ليخطب في حفلة مدرسية فافتتح بأبيات غزلية وتمحل لشيخوخته عذراً بقوله
قدم الزمان وصبوتي تتجدد ... فكأنني في كل عصر أولد
شيخاً أرى بين الشيوخ وأمرداً ... في المراد مما شاب
قالت غواني الرقمتين وقد رأت ... ثلجالمشيب أظن نارك تجمد
فأجبتها ما الشيب بل لهب الهوى ... في الرأس مما في الحشى يتوقد
قالت مشيبك أسود في ناظري ... قلت الحقيقةأن لحظك أسود
وكان مرة مبحراً من طرابلس إلى بيروت ورفيقه الخواجه موسى مخايل الطرف الطرابلسي ومعهما فتاتين جميلتان عيسوية اسمها مريم وموسوية اسمها سارة فلما نزلا في القارب جلست مريم على مقربة من موسى وسارة قرب إبراهيم فقال المترجم:
شمسان في القارب شنت على ... وجهيهما شمس العلى الغارة
فظل موسى رد عن مريم ... وظل إبراهيم عن سارة
وأرخ زفاف حسناء اسمها لمى إلى رجل ذميم بليد سنة 1862م:
زفاف كالحمام لكل نفس ... به شمط الرزابا قد تجلت
وأشد في الحداد مؤرخوه ... لمى سمش ببرج الثور حلت
وقال شيخ كثير المعاصي خضب شعره:
يا خاضب المبيض من فرعه=بالخزي لا يحسن هذا السواد(91/53)
إن كنت ذا لب ورمت الهدى ... فاصبغه قبل الردى بالرماد
وقال في أمرأة تركت مهذباً ألفقره وتزوجت خشناً لغناه فعذبها:
لقد هجرت أخافهم ... قليلاً ما له يعلم
وودت بعده وحشاً ... كثير المال لا يفهم
فنالت من مخالبه ... جراحاً ما لها بلسم
وذاك جزاء تاجرة ... تبيع الحب بالدرهم
وقال في غابة دمشقية:
سقت أجفان صبك كل صدر ... من العواد أيام ألفراق
ففرخ في قلوبهم التصابي ... وجن النبت من تلك السواقي
وارتجل للائم مضمناً قوا العامة (من غير شر) لما يؤذي:
ليس لي عن صبوتي بالائمي ... ماتجلى وجه سلمى من مفر
وملام الصب شر في الهوى فانصرف ياعاذلي (من غير شر)
وقال في منتزه في دمشق اسمه الجزيرة مورياً:
رأتني عند شط النهر أجري ... إليها كاعبيد إلى الأميرة
فقالت ما أتى بك قلت القى ... عبيدك بحر حبك في الجزيرة
وقال لعاشق يبكي ويشكو:
كثيراُ ما أرى العشاق تلهو ... وأنت تظل تذكر أم عمرو
وتبكي للنوى ما جن ليل ... كأنك في الصبابة (بوم قبر)
إلى كثير مما يساوي هذا الأسلوب من المجون الأدبي والنكات وللطائف والأحماضات (أما زجلياته) فلطيفة التصرف بديعة المعاني والألفاظ ابتكر فيها أوزاناً رائقة وابتده أناشيد رائعة ننتخب منها الآن ما يدل على براعته بها فمن ارتجالياته من فرادية مثل فيها السكران قوله:
اعتبروا من نحسي ياناس ... أوعوا تجوا صوب الكاس
أصل الضنا والإفلاس ... خمره في كاس الساقي
في كأس الساقي خمره ... وفي قلب الشارب جمره(91/54)
لاتشرب منها بمره ... لتصبح بالدنيا راقي
ومن تفنناته قوله من قصيد طويل موجهاً بالغناء وألفقه ومورياً:
يبكي (صبا) في حين بتغني (نوي) يلي شفافك تمر خالي من النوى
أحرقت قلبي بالتجافي والنوى ... ما كان ظني فيك تحرق منزلك
ما سمعت في محبوب أحرق مسكنه ... واللي عطاه أياه واللي سكنه
مين عاد من أهل الضمانة يضمنه ... إذا عرف أنك أحرقته وهوإلك
ومن مخترعاته الترصيع في المطلع المخمس المردوف من قصيد طويل
يلي بلحظك بابل الأسحار ... وبصحن خدك كوكب الأسحار
سرك مصون بمهجة المفتون ... ما بتدركوا الأباب والأفكار
سرك مصون بمهجة المفتون ... لولا دموعي والعيون عيون
ياظبي عينك سيفها مسنون
قطع أكباد الغزلان ... وجندل آساد ألفرسان
واستعبد مي وغزلان ... وليلى وعاشقها المجنون
ولحظك صاب أسود الغاب ... برشق حراب وشق كبود
وهز العطف رماح الحتف ... وسل الطرف سيوف الهند
ودار الريح بغير أقداح ... وبلبل صاح بلحن العود
ومال البان وسري بان ... وكان الكان بكاف ونون
سر الهوى مدفوق ... مع دمعة العاشق
يافتنة المخلوق ... ياآية الخالق
قلب ألفتى مسروق ... من لحظك السارق
سر العيون بيسرق الأرواح ... وبيظهر الأخفى من الأسرار
وهكذا إلى آخر هذه الأنشودة البليغة الجامعة لتفننات تأخذ بمجامع القلوب ومن ذلك قوله في مطلع آخر ليس بقابل بلاغة من غيره:
حنوا على المحبوس في حبس الهوى ... ضاقت علي الأرض من أربع قطار
سهرت عيوني وطال ليلي بالنوى ... من طول ليلي نسيت شو شكل النهار(91/55)
سهرت عيوني وطال ليلي بالنوى ... يلي شفافك تمر خالي من النوى
غنيت لحن حجاز وعراق ونوي ... حتى بكوا طيور السما ولأنوا الحجار
حتى بكوا طيور السما ولأن الصفا ... وزاد نهر الدمع عا نهر الصفا
يا حسرتي حل الكدر بعد الصفا ... وصار ألفي وصاحبي وحش القفار
وصار ألفي الوحش في قفر اللوى ... ومال صالب مهجتي عني ولوى
يلي رفعتو للظى أعلى لوا - دلوا غريب الدار عا ظبي النفاروقوله في مطلع آخر وفيه
تلميح وتفنن:
آمنت برهان ما بيلزم ... أنك نبي الزهر وبدر التم
من طور خدك ما قرب موسى ... ومنين جبت ألن للمبسم
من طور خدك ماقرب موسى ... ونارة اشترت منها السما شموساً
تخمين قبل مبسمك عيسى ... وحول رضابك خمر حلو الطعم
حول رضابك بالعجل خمره ... بكاس العقيق الزابدة حمرة
من برقها في وجتنك جمرة ... قلبي مجاهرها وصبري ألفحم
خمرة شفافك طعمها سكر ... ممزوج بالأطياب والعنبر
خمارها خمارته سكر ... والوف عند أبوابها تلتم
إلى أن ختمها بقوله:
إياك تطمع بعدها لمرة ... في الطيف كاسات الطمع مرة
ما كل مرة بتسلم الجرة ... خايف أنا بعد الطمع بتندم
وله مع بعض الزجليين (القوالين) نوادر ومحاضرات ولاسيما ألفران وغيره إلى كثير مما يماثل هذه النوادر والنكات اللطيفة الجامعة لكثير من الأنواع البديعة كالجناس والتورية والتلميح والتوجيه والانسجام والتفنن وغيرها من ملح الكلام ولطائف النظام وكثيراً ما يساعد الزجل على سرد القصص والأقوال طبيعية بدون تكلف أملة القيود مثل الأعراب والوزن الخاص ذلك فيجيئ كله من السهل الممتنع والمعنى المبتكر.
عيسى اسكندر معلوف(91/56)
مشاهد برلين
وعلى ذكر البحث في الأخلاق والآداب اذكر أني كنت أتجول في بعض الغابات حول قرية عن برلين نحو ساعة في القطار (فيزدورف) فخطرت على قلبي الموازنة بين المعارف والأخلاق وبدا لي وقتئذ أن كفة الأخلاق الإنسانية نظراً إلى وزنها بترقياته العلمية لم تزل خفيفة فقلت تحت عنوان أيها الإنسان:
أما كفاك ظباء أو مهاً بربي ... حتى تقنصت آساد الشرى بزبي
وما اقتنعت بما يطفو على لجج ... فغصت تلقط دراً تحتها رسبا
ولمتقف عند تنسيقي المقال إلى ... أن ماج حسناً وصار الثغر والشنبا
فبعد الرسالة دهراً أقمت له ... وزناً - أكان حصاً ثم انثنى ذهباً؟
قلبت وجهك بعد الأرض في فلك ... فظلت ترصد منه السبعة الشهبا
أما تفقهت عنها في حقائق ما ... وراءها فنضحت الشك والريبا
سار اليراع رويداً فانتهضت لما ... يحدو الصحائف في شوط أو الكتبا
صغت الحديد مطايا إذ تلبثت ال - جياد أو لقيت في سيرها نصبا
وضاقي الأرض ذرعاً عن خطاك فما ... لبست أن سرت في جو مسير جدا
واشتقت لهجة ألف فاهتديت لأن ... تمتع السمع منها حيثما ذهبا
حكى الصدى صيحة زجت فجئت بما ... يحكي القصائد أنى شئت والخطبا
حب الحياة استثار منك إلى ... طب وحرب فكنت البرء والوصبا
فما الطبيب بمستشفاه أرغب في ال - بقاء ممن يلاقي البيض والشهبا
أرسلت في كل واد رائداً فدرى ... من حكمة البحث كنه البحث والسببا
لكنني ما دريت اليوم أنك قد ... أفرغت في نفسك الأخلاق الأدبا
كنت أسيح في تلك الغابات ترويحاً للخاطر وإيثاراً لها في بعض الأحيان على مشاهد الحضارة وزخارفها ولاسيما في أيام رمضان حتى قلت خلال السياحة في سياق الأعجاب بالبداوة والارتياح إلى بساطتها أبياتاً صورت فيها حالة راعي الغنم تحت عنوان (الملك الطبيعي) وهي:
تقلد الملك بين الضال والسلم ... وهب يفتح من غور إلى علم
فعرشه ربوة حاكت طنافسها ... أنأمل الغيث إذ جادت بمنسجم(91/57)
والشمس تاج تجلى فوق هامته ... فلا تسوره أضغان محتدم
ما البدر والنجم إلا الكهرباء سرت ... من حوله فأماطت برقع الظلم
وآلة الطرب الحملان ترتع في ... خصب فيسمع منها أطيب النغم
والظبي يرقم في طرس ألفلاة خطاً ... أحلى لناظره من جولة القلم
والرعد يوجز في إنذاره خطباً ... يكفيه رائعها عن مطنب الحكم
والبرق (برق) بلا سلك يبلغه ... بشرى تلقنها من مصدر الديم
صفت مناظر غدران فكان له ... فيها مرايا جلاها ساقل النسم
عيناه ذي سارقت جفن المها نظراً ... وتلك ناظرة شزراً إلى الأجم
لم يتخذ سمرا توحي إليه بما ... شاءت وتخضب بعض الحق بالكتم
وما توارى لا بحجاب تذود أخا ... قضية قد أسالت قلبه بدم
لم يثنه الغوص في مجرى السياسة إن ... تهزه رقية النفاث في الكلم
ألم تقف تلكم الورقاء تنشده ... من شعرها موقف المثني على هرم
وما أمتطى مركباً كي لا يضاق في ... مطافه أنفس العجفاء الهرم
ومن تولى زمام الأمر في ملا=لم يقل في ساسهم سعياً على قدم
وأذكر أني كنت ذات يوم في مقعد من أحد المنازه العامة وفي يدي صحيفة أكتب بها بعض ما يسنح من الخواطر فوقف علي أحد الأساتيذ فسألني عما أكتب فقرأت عليه من حديث تلك الصحيفة الجمل الآتية: تفرق الأمة يفضي إلى موتها. وأقول التفرق أثر الموت فإن الجسم يموت فتفرق أجزاؤه. أربط نفسك باعتقاداتك تعمل لمن يشب أو ينشأ بعد موتك حتى لا يكون في صدرك حرج إذ تكون بضاعتك بين أهل عصرك كاسدة. يتلذذ المستقيم بعفته كما يتلذذ ألفاسق ببلوغ شهرته ولكن أمام لذة الاستقامة عقبة لا يقتحمها إلا قوي الإرادة. لا تثق في نفسك فيما تدعي من الإخلاص لأمتك حتى يلذ لك أن تصلح الخلل في نظامهم وهم لا يشعرون. إذا وثقت بعرى التوكل على الله لم تحتج أن تمر إلى الحق على جسر من الباطل إن الرجل ليعجب مما يصنع الساحرون أفلا يعجب من لذة تمر على قلبه مر السحاب ثم تنقلب مخازي تلبث في صحيفة حياته أحقاباً. يكفيك فيما تجتني من ثمرة العلم الصحيح أن يرفع همتك عما فتن به الجاهلون من زهرة هذه الحياة. إذا أغلق المحيط(91/58)
عين رقبائك وختم على أفواه عذالك ثم راودك على أن تنزع حلية أدبك فقل ليس للفضيلة وطن كيف تسترسل مع الأصحاب إلى أن تحيد عن جانب ألفضيلة وهم لا يرقبون ذمتك فيقفوا لك عند ما تقف في دائرتها. أسير مع الرجل على قدر ما أدرك من قيمته فإن نظرت إليه على حسب وجاهته أو كساد سمعته عند الناس فقد ألقيت بنفسي في حمأة من التقليد. إذا أحببت الذي يجاملك وهو يحارب الله لم يكن بغضك لمن حارب الله وأمسك عن مصانعتك من قبيل الغيرة على حرم الشريعة. لا يدرك قصير النظر من الحدائق المتناسقة غير أشجار ذات أفنان وثمار ذات ألوان وإنما ينقب عن منابتها وأطوار نشأتها ذو فكرة متيقظة. لا تحمل نفسك مالا تطيق من منة وضيعاً ونخوة فخور فإذا أحسست في صدرك بالحاجة إليه فاصنع ماذا تصنع لو بقي في مولته الأولى أو أدركته مولته الثانية. لا تعجب لذوق ينكر ما ألفته أو يألف ما أنكرته حتى ينقلب في التجارب والمشاهدات التي تقلب فيها ذوقك أطواراً. قد يقف لك الأجنبي على طرف المساواة حتى إذا حل في وطنك غالباً دفعك إلى درك أسفل واتخذ من عنقك موطناً. في الناس من لا يلاقيك بثغر باسم إلا إذا دخلت عليه من باب الغباوة أو خرجت له عن قصد السبيل فأحتفظ بألمعيتك واستقامتك فإنما يأسف على طلاقة وجهه قوم لا يفقهون. إن من الجهال من يرمي على مقام وجيه فعلمه بسيرتك القيمة إن الجهالة لا ترجح على العلم وزناً وإن وضع بإزائها السلطة الغالبة أو الثروة الطائلة يكفي الذي يسير في سبيل مصلحة الأمة وهو يلاحظ من ورائها منفعة لنفسه يكون في حل من وخزات أقلامها أما أطواق الشكر الصادق فإنما يتقلدها المخلصون ألا ترى الماء الذي في مجاريه الأقذار كيف يتهجم منظره ويخبث طعمه فاطرد عن قلبك خواطر السوء فإنه المنبع الذي تصدر عنه أعمالك الظاهرة لا تنقل حديث الذي يفضى به إليك عن ثقة أمنك وحسن عقيدة في أمانتك ويمكنك متى كان يرمي إلى غاية سيئة أن تجعل مساعيك عرضة في سبيله فتحفظ للمروءة عهدها وتقضي للمصلحة العامة حقها لو فكرت في لسانك حين يعرض لاطراد نفسك لم تميزه عن السنة تقع في ذمها إلا بأنه يلصق بك نقيضة لا يحتاج في إثباتها إلى بينة إذا ركبت في السياسة مركب الشعر فقلت ما لا تفعل أو همت في واد لا تعرج فيه على حق فانفض ثوبك من غبارها فإنه ليس بالغبار الذي يصيبك في سبيل الله أصغي ذلك الأستاذ إلى هذه المخاطرات فابتسم لها ابتسام(91/59)
المستحسن ولكنه ناقشني في الخاطرة الأخيرة منها قائلاً إن مجال السياسة أوسع من دائرة الحقيقة) فلم يسعني في الجواب عن هذا النقد سوى أن قلت أن الوقائع النادرة لا تمنع من سبك المقلات الموجزة وصياغتها في أساليبها المطلقة
نقودهم
تحتوي الليرة على 2. ماركاً وتترتب من 9. . قسم من الذهب و1. . قسم من النحاس ويحتوي المارك على 1. . فينيش ويتركب كالقطعة ذات ثلاثة أو خمسة ماركات من 9. . قسم من ألفضة و1. . قسم من النحاس ويتركب ألفنيش من 95 قسماً من النحاس و4 أقسام من القصدير وقسم من الزنك وهناك قطع من النيكل ذات خمسة فينيشات وتتركب من 25 قسماً من النيكل و75 قسماً من النحاس ولا فرق في المعاملة عندهم ما بين الأوراق النقدية والمسكوكات الذهبية والفضية وكثيراً ما تعطى الورقة ذات الخمس الليرات لمن يستحق مقدار عشرة متليكات كصاحب القهوة فيمسكها من غير أن يشمئز منها قلبه ولا يعز عليه أن يصرفها بأوراق صغيرة وكثير من المسكوكات ألفضية
كلمة في الموسيقى
اقتبسوا أنغامهم الموسيقية وتلاحينهم من الأوضاع الإنكليزية وقد هموا هذه الآونة أن يهجروها ويستبدلوا غيرها بها قطعاً لآثار الإنكليز من بينهم وأكبر موسيقي ظهر لديهم الشاعر (فكتر) - المتوفي سنة 1883 وله روايات شعرية تستعمل في الملاهي التي تجري فيها الروايات مقارنة لأنغام موسيقية وتستعمل عندهم رويات شاكسبير الإنكليزي من شعراء المائة السادسة عشرة وقد أحب بعضهم طرحها والاستغناء عنها بالروايات التي هي من أوضاعهم ورأى آخرون إبقائها لأن شاكسبير لم يقل في الأمة الألمانية سوءاً
اللغة ونبذها من آدابها
تنقسم اللغة الجرمانية إلى قسمين شمالية وتندرج فيها الدانماركية والنرويجية والسويدية وجنوبية وتدخل فيها الإنكليزية والهولاندية والألمانية واندمج في اللسان الألماني مفردات كثيرة من اللسان ألفرنسي والإنكليزي وكان فيما ولد عن هذه الحرب أن أخذوا في إلغائها والاستغناء عنها بما يقوم مقامها من الأوضاع الألمانية ولا يعز عليهم ذلك ما دامت لهم جمعية لغوية قائمة بإصلاح اللغة وتكميل نواقصها بني اللسان الألماني على وضع(91/60)
الأعراب مثل اللغة العربية وينقسم الاسم فيه إلى مذكر ومؤنث وواسطة يسمى بالمجرد وعلامات الإعراب في الأنواع الثلاثة مختلفة ومن خواص هذا اللسان أن يضع المتكلم أداة التعريف ويذكر عقبها أوصاف المعرف مفردات وجملاً ثم يأتي بالسم المعرف من بعدها وربما اشتملت تلك الجمل المتوسطة على أدوات تعريف ومعرفاتها ويماثل هذا أن لهم أفعالاً كثيرة تتركب من كلمتين وتدل على معنى واحد فيأتي شطر ألفعل بصدر الجملة وتلقى القطعة الثانية في آخرها وقد يفصل بين القطعتين بما ينوف على عشر كلمات وهذه الوجوه هي التي يلاحظها من يرى في تعلم هذا اللسان صعوبة تستدعي مدة أوسع من أوقات تعلم كثير من الألسنة ولكنها من جهة الكتابة سهلة المأخذ جداً لأنم الأحرف المرسومة هي المنطوقة بها من غير تفاوت ويلتزمون التعبير عن المفرد المخاطب بضمير الجمع إلا لاأن يكون من صغار أقاربه أو يكون الخطاب في شعر وإيراد ضمير الجمع للمفرد المخاطب تعظيماً له لم يكن معتاداً للعرب قبل هذه العصور وإنما يعرف منهم هذا الأسلوب في حال المتكلم فيستعمل المتكلم ضمير الجمع مكان ضمير المفرد تعظيماً لنفسه وورد عنهم ضمير الجمع المخاطب في الواحد بقلة ومن شواهده قوله تعالى (رب ارجعون) الآية حيث وقع خطاب الله تعالى بواو الجماعة إجلالاً وأدباً رفقت لهم فيما يستعملون من محاسن البديع على مثل الجناس والتورية وكانوا يعتبرون في طريقة شعرهم اتفاق الكلمات في أحرفها الأولى وأصبحت اليوم مراعاتهم لهذا الشرط نادرة أما صنعاة الخطابة فإني كنت شهدت محاضرات وخطباً كان أصحابها ينظرون عند إلقائها إلى أوراق نصب أعينهم فوقع في خاطري أن هذه الصناعة لم تبلغ عندهم أشدها ولكني حضرت مسامرة موضوعها (الإسلام في عالم الحرب) فقال بعد المسامر ثلاثة خطباء من غير أوراق والقوا خطباً مسهبة بترسل في القول ونؤدة ولا يشير الخطباء بأيديهم كثيراً حال الخطبة بل سمعت منهم من ينكر ذلك الصنيع ولا سيما حركة لا يكون وضعها مناسباً للمعنى الذي يقترن بها وهذا ما كان العرب ينقدونه على خطبائهم أيضاً قال الحجاج لأعرابي الخطيب أنا قال نعم لولا أنك تشير باليد وتقول أما بعد ويعدون بسمرك من أبلغ خطبائهم الذين يخطبون بلهجة شديدة ولبلاغته في لسانهم يستشهد مؤلفو الكتب اللغوية ببعض عباراته يوجد في أدابهم من يقول الشعر ارتجالاً كنت حضرت لشاعر يقف في مشهد عظيم فيلقى عليه طوائف من(91/61)
الحاضرين جملاً منثورة في معان متباينة وهو يكتبها في أوراق بيده جملة بعد أخرى وبأثر ألفراغ من الكتابة ينطق بكل جمله منها شعراً يؤديه في صوت ولهجة قوية
ضبط إداري
يوجد مع كل شرطي سفر في ضمنه أسماع الشوارع والحارات والمحلات الشهيرة مثل دوائر الحكومة والمعاهد العلمية فيستعين به في أداء وظيفته ويهدي به من عمي عليه السبيل من السائلين ويحمل ميزات المائعات (أر يوميتر) فيزن ما يجده عند الباعة من حليب ونحوه فإذا عرف فيه خلطاً أراقه ويراقب الشرطي الغرباء وغيرهم يتتبعهم بالملاحظة حيثما تقلبوا كنت يوم ماراً في جاداً من العاصمة فلقيني شرطي وناولني مكتوباً أرسل إلى من طرف إحدى الجمعيات وانصرف من غير أن يسألني عن اسمي ومن تراتيب إدارة الشرطة أن أصحاب البيوت أو الخانات إذا نزل عندهم أحد قدموا
إليها ورقة تحتوي على اسمه وبلاده وعمره وحرفته ثم أن الدائرة تطلب الشخص نفسه لتنظر في حاله وتطلع على رخصة سفره أن كان من بلاد أجنبية. ومن شواهد اعتناء إدارة السكة الحديدية بالشؤون المتعلقة بها وأخذها فيها بطريق الحزم أن ضاعت مني ورقة القطار الشهرية بين برلين وقرية فنزدورف فبقيت ثلاثة أيام أسافر بورقات يومية ولما جئت في اليوم الرابع إلى مقطع الأوراق أقبل على أحد العاملين في الإدارة وقال لي ضاعت منك ورقة شهرية وقد عثرنا عليها ثم صعد إلى محل الإدارة وناواني إياها وكان وجه العجب إني لم ألق إليهم خبرها من قبل ولم أضع عليها اسمي ذهولاً عما جرت به عادتهم.
العقوبة البدنية
لا يجيزون العقوبة البدنية إلا لمن سجن في جناية تنزع شرفه ويخاطب عند ذلك بضمير المفرد المخاطب ومن أمثلة الجنايات التي ينسلخ بها الشرف عندهم أن يفسد الرجل عرض من لم يتجاوز عمرها الرابعة عشرة من سنها ويجري الإعدام قصاصاً عندهم بآلة مثل الساطور تضرب في عنقه من خلف ولا يقع علناً بل يشهده أفراد خاصة مثل الحاكم به والمدعي العام.
مسجد الأسرى(91/62)
أنشأت الدولة الألمانية للأسرى المسلمين جامعاً للصلاة وحماماً ومحلات للوضوء ومنارة شامخة للآذان وإقامت غرة رمضان سنة 1333 حفلة افتتاحية محضرها سفير دولتنا العلية محمود مختار باشا وفريق من أعيان العسكرية والنظارة الخارجية الالمانية وجمع كبير من الشرقيين والمستشرفين فألقى نائب النظارة الحربية خطاباً ترجمه إلى العربية بمنطق فصيح القبطان منس ثم ألقى سفيرنا خطاباً باللسان الألماني ثم تلا أمام الاسارى وهو من أعيانهم الجزائر بين خطاباً شكر فيه رفق الدولة الألمانية ومجاملتها لهم ثم القي كاتب هذه المقالة خطاباً عربياً.
عنايتهم بأحوال الشرق
لم يكن للألمان على ما عهدوا من إشباع البحث في أحوال الأمم عناية بمعرفة الشؤون الشرقية تشابه العناية التي أخذتهم لعهد هذه الحرب فقد أصبحوا يوسعون البحث في أحوال الشرق ويلتقطون دقائق أخباره السياسية أو العلمية أو الاجتماعية بملء آذانهم ومجامع قلوبهم ومن أثر هذه العناية أن أنشئوا منذ ابتداء الحرب دائرة ترتبط بنظارة الخارجية تسمى إدارة الأخبار الشرقية واستخدموا فيها فريقاً من العارفين الألسنة الشرقية فترى بين العاملين فيها الكاتب العراقي والمصري والجزائري والفارسي والحجازي والقفقاسي والهندي وتجلب إليها الجرائد والمجلات العربية والتركية والفارسية والهندية وغيرها ويترجمون منها إلى الألمانية ما يهم الإطلاع عليه، ولا سيما المقالات والآراء التي لها مساس بحالة الإسلام أو ألمانيا ومن أعمال هذه الإدارة نشر الرسائل والمحاضرات التي لها علاقة بالحرب الحاضرة بالسنة مختلفة. وألقى بعض الألمانيين أيام كنت هناك محاضرات كثيرة في الكشف عن أحوال الشرق الإسلامي منها محاضرة تبحث عن الاقتصاد في العثمانية وأخرى في ألفرس ومحاضرة موضوعها الإسلام في عالم الحرب، ومن عاداتهم في المحاضرة أن ينصب المحاضر عن يساره أو يمينه خريطة البلاد التي يقصد البحث في حالتها وربما عرضها في التمثيل السموتغرافي ويشير في أثناء تقريراته بإصبعه أو بقضيب في يده إلى الأماكن التي جرته المناسبة إلى الحديث عنها. ومن بين صحفهم مجلة تسمى (العالم الإسلامي) تنشر الأبناء الواردة عن عالم الإسلام وتبحث عما يجري فيه من شؤون اجتماعية أو علمية، وكنت أهديت إلى مدير الأخبار الشرقية نسخاً من تأليفنا الحرية(91/63)
في الإسلام. حياة اللغة العربية. الدعوة إلى الإصلاح. مدارك الشريعة الإسلامية. مناهج الشرف. فعرضها على الأستاذ (مرتين هرتمان) مدرس اللغة العربية بمدرسة الألسنة الشرقية وأخبرني هذا الأستاذ أنه كتب في التعريف بها كتابة يريد نشرها في عالم الصحافة. دمشق
محمد بن الخضر(91/64)
مخطوطات ومطبوعات
الأسرار الكونية
في الكرة الأرضية
الجزء الأول والثاني تأليف محمد علي أفندي المحايري
طبع بمطبعة روضة الشام بدمشق سنة 1333
وهو مختصر في أقسام الأرض الطبيعية والسياسية وأقسام المخلوقات مع فروعها وهو نافع لتلامذة المدارس الأحداث وقد توسع المؤلف قليلاً في جغرافية بلاد الشام وعساه يعتمد في الطبعة الثانية على أحدث المعلومات عنها فإن منها ما قدم وتغير ولكن ذلك لا يضر بفائدة هذه الرسالة.
دروس الزراعة
تأليف فوزي بك العظم طبع على نفقة المكتبة الهاشمية
بمطبعة الترفي
هو مختصر يحتوي على أبحاث زراعية مقتبسة من إحداث الكتب العصرية والمؤلف سبق له أن نشر رسائل في بعض العلوم الحديثة واعتاد التأليف والتدريس وعرف حاجة الطلبة ولا غرو إذا كانت رسائله وكتبه نافعة في بابها لمن يقصد به نفعهم من عشاق العلم والمعارف.
كنز النجاة في علم الأوقاف
للشيخ عبد الواسع يحيى الواسعي طبع بمطبعة
الفيحاء بدمشق سنة 1334 هـ
هو مختصر في ألفلك القديم ذكر فيه عدد المنازل وتقسيمها إلى الجنوب والشمال وتقسيمها على فصول السنة ومعرفة ميزان الشمس وعدد البروج وتقسيمها على المنازل وعدد الشهور الرومية وأسمائها ومعرفة العمل بجدول السنين العربية وجدول الأوقاف ومعرفة القمر في أي منزلة ومعرفة الساعات بالنجوم ونجوم الزيادة والنقصان والإستواء ومعرفة ألفجر الصادق والكاذب والكوكب الليلي والنهاري ومعرفة ساعات الظهر والعصر ووقت(91/65)
العشاء ووقت ألفجر إلى غير ذلك من ألفوائد.
تاريخ بيروت
تأليف ف. فارجابيد
هو مختصر في تاريخ بيروت نشرة بالا فرنسية في جورنال بيروت ثم طبع على حدة وفد اعتمد فيه المؤلف على مصادر كثيرة وواجز بقدر ما تساعد عليه حالة جريدة يومية ومع هذا فهو غاص بالفوائد.
السنة الأولى للحرب
////.
هو مختصر الحوادث في الحرب وكيف نشبت الحرب بين الدول المركزية وسائر دول أوربا نشرتها جريدة بيروت الافرنسية باللغة الافرنسية بعبارات موجزة اخصر من عبارات البرقيات كل يوم بيومه بحيث يرجع إليها فيما بعد ويأخذ منها محل الشكال من أيسر سبيل فلهذه الجريدة الشكر على هذه العناية.
حق اليقين
في التأليف بين المسلمين للسيد محسن الأمين
نشرت أولاً في مجلة العرفان في صيدا سنة 1332
غرض المؤلف أن يفهم ألفريقين أهل السنة والشيعة أن منافرة كل فريق للفريق الآخر لا تعود عليه بنفع وإنما تجلب له الضرر وإنه يجب على ألفريقين تحكم العقل والدين لأجل التقرب من ألفريق الآخر ومعاملته بالحسنى وأورد على ذلك الحجج.
رسالة الخط
للشيخ أحمد رضا نشرت تباعاً في مجلة العرفان
سنة 1332 في 48 صفحة
المؤلف مشهود له بالفضل وسعة المدارك والبحث العلمي عرف ذلك له مما كتب في(91/66)
المجلات ولا سيما في العرفان والمقتطف وهذه الرسالة في الخط هي مما خططه أنامله من حاضر المواد التي عثر عليها ووصلت إليه فأشبع الموضوع وضوحاً ببحثه من أطرافه.
كتاب المسح على الجوربين
تأليف المرحوم الشيخ جمال القاسمي ويليه كتاب الاستئناس
لتصحيح انكحه الناس له أيضاً
طبعاً في مطبعة الترقي بدمشق سنة 1333
هاتان الرسالتان لفقيد الإسلام المشار إليه وهو كسائر ما كتبه من التحقيق وبغض النظر وفهم أسرار الشريعة وتقريب الناشزين منها إلى إرجاعهم إلى حظيرتها وقد عني بتصحيحهما شقيق المؤلف الشيخ قاسم خير الدين القاسمي.
المردانيات
لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية
طبع على نفقة الشيخ نايف سليمان الصالح شبلي
في مطبعة ألفيحاء بدمشق سنة 1333 (ص122)
أبدع شيخ الإسلام ابن تيمية المصلح الأعظم في القرون الوسطى في كل ما كتبه وهذه الرسالة هي في حل مسائل يكثر وقوعها ويحصل البتلاء بها ويحصل الضيق والحرج بالعمل بها على رأي إمام بعينه وكلها معقولة مشفوعة بالعقول الصحيحة
الجغرافية العمومية العثمانية
الحلقة الثالثة تحتوي على 44 شكلاً
و8 خرائط تأليف أحمد جودت أفندي المارديني
طبعت بمطبعة الترقي بدمشق سنة 1333 (3. 4)
هو مختصر مفيد في هذا ألفن الجليل جعله المؤلف بحيث تتناوله أذهان الطلبة على أسهل ما يكون ورتبه على طريقة جميلة في إجمال ما فصل والسؤال عما أورد في كل فصل واعتمد فيه على أحدث كتب هذا ألفن.(91/67)
مبادئ الجغرافيا العمومية والعثمانية
تأليف أحمد جودت أفندي المارديني
طبع بمطبعة الترقي
بدمشق هذا مختصر من الكتاب الأول يحتوي على 31شكلاً و8 خرائط بنفع أحدث الطلاب وأصغرهم سناً وعسى المؤلف أن يكمل هذه السلسلة البديعة فيجعل عدة كتب بحيث يستغني بها الطالب عن تطلب المزيد في علم تقويم البلدان.
ولاة مصر وقضاتها
لأبي عمر محمد بن يوسف الكندي نشره المستر رفن غست طبع في
المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1908
طبع هذا الكتاب الأوصياء على تركة المستر جيب المستشرق ذكرى لأثره وإتماماً للخدمة التي كان بدأ منها من أحياء أثار العرب والفرس والترك وقد أضاف إليه طابعه ذيلاً لأحمد بن عبد الرحمن بن برد في أخبار القضاة الذين تولوا مصر سنة 237 و419 منقولاً عن كتاب رفع الأصر في قضاة مصر للحافظ بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ومن كتاب النجوم الزاهرة بتلخيص أخبار قضاة مصر والقاهرة لجمال يوسف بن شاهين سبط بن حجر ومن كتاب تاريخ الإسلام للحافظ شمس الدين الذهبي الدمشقي المتوفي سنة 748 فجاء الأصل ألفرع في 614 صفحة عدا فهرس الإعلام الذي يبلغ نحو 7. صفحة وعدا المقدمة الإنكليزية التي قدمها الناشر وهي تبلغ مع ألفهارس نحو6. صفحة وعدا الخريطتين الإنكليزيتين اللتين شفع بهما الكتاب وهما خريطة مملكة الدولة العباسية وخريطة مصر وقد أتى بنموذج من الخط المنقول عنه الأصل طبعه بالطبع الحجري. وقد كان كتاب القضاة الذين ولوا قضاء مصر لكندي هذا مع ذيله لابن برد طبعاً في رومية سنة 19. 8 على يد الأستاذ كوتهيل أستاذ جامعة نيويورك وألحقه ببعض ألفهارس فجاء في 167 صفحة ماعدا ألفهارس إلا أن هذه الطبعة التي وضعها المستر غست مع الزيادات أتم وأهم (المقتبس م6ص 773) وفي المقدمة الإنكليزية به تاريخ القطر المصري وما تقلب عليه من الحوادث وكلام على المؤلف طويل والنسخة المنقول عنها كتبت له أيام كان قائداً(91/68)
لجيوش الملك المعظم عيسى الذي حكم دمشق من سنة 615 إلى سنة 624 وطريقة المؤلف في الرواية طريقة المحدثين وفي الكتاب مادة لمعرفة تاريخ مصر والشام ولاسيما مصر ومن قام فيها من رجال وما حدث فيها من الأحداث وهاك نموذجاً منه قدوم أمير المؤمنين ألفسطاط قدم لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين فسخط على عيسى بن منصور وأمر بحل لوائه وأمره بلباس البياض وقال لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس ما لم يطيقون وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطربت البلد وضم أصحابه إلى أبن عمه موسى بن إبراهيم وولى المأمون على شرط الفسطاط أحمد أبن اسطام الأزدي من أهل بخارى وركب أمير المؤمنين فنظر إلى المقياس وأمر بإقامة جسر آخر فعمل له هذا الجسر القائم بالفسطاط اليوم وترك القديم وعقد لأبي مغيث موسى بن إبراهيم على جيش بعثه إلى الصعيد في طلب أبن عبيدس الفهري ومعه رشيد التركي فظفروا بالفهري بطحا وارتحل المأمون إلى سخاسلخ المحرم سنة سبع عشرة ثم سار إلى البشرود والأفشين قد أوقع القبط بها فنزلوا على حكم أمير المؤمنين فحكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال فبيعوا وسبي أكثرهم وأتى بالفهري إلى سخا فقتله وتتبع كل من يومي إليه بخلاف فقتله فقتل ناساً كثيراً ورجع إلى ألفسطاط يوم السبت لست عشرة من صفر سنة سبع عشرة ومضى إلى حلوان فنظر إليها وأقام بها ثلاثاً ورجع إلى ألفسطاط فخرج على مقدمته أشناس وارتحل المأمون يوم الخميس لثماني عشرة من صفر فكان مقامه بالفسطاط وسخا حلوان تسعة وأربعين يوماً هذا مثال من العمل الإداري في مصر لعهد المأمون والعبرة في هذه القصة بقول المأمون رضي الله عنه لعاملهلم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس على مالا يطيقون وكتمتموني الخبروكانت الناس في تلك العصور على شيء من الأباء وعزة النفس ومن ذلك أمثلة كثيرة في هذا الكتاب منها ما ورد في الذيل نقلاً عن رفع الأصر في ترجمة عبد الله بن أحمد بن زبر أحد القضاة الذين تولوا دمشق ومصر قال المؤرخ أنه كان قوي النفس كثير الجهد واسع الحيلة وكان الوزير علي بن عيسى منحرفاً عنه ولما سعى في قضاء مصر دافع بولايته وكان السبب في انحرافه عنه كان يولى فضاءؤ دمشق فاتفق أن الوزير دخل دمشق في مهم من المهمات فخرج أهلها إلى لقيه ومنهم القاضي فسايره فصاح به أهل البلد ونسبوا(91/69)
القاضي إلى كل سوء من الرشا والظلم وغيرهما من ألفواحش والوزير يلتفت إليه فيقول له ما يقولوا هؤلاء فقال يشكون إلى الوزير غلو الأسعار وضيق الأحوال ويسألون حسن النظر إليهم والعطف عليهم فلما عاد إلى بغداد صرفه عن الحكم بدمشق أقبح صرف قال الحافظ الذهبي في حوادث سنة 329 قال أبو عمر الكندي أخبرني علي بن محمد المصري أنه رأى القاضي ابن زبر بدمشق اجتاز بسوق الأساكفة فشغبوا عليه ودقوا بشفارهم تخوتهم قائلين كلاماً قبيحاً وهو يسلم عليهم ويتطارش ويظهر أنهم يدعون له وهاك نموذجاً آخر من الكتاب قال ابن ميسر لما مات ابن الخطيب سعى ابن الوليد في القضاة وبذل لكافور مالاً فقام الناس في وجهه فرفعوا عليه فعزل عنه إلى أبي طاهر الذهلي ولما ولي عبد الله بن وليد قضاة دمشق أرسل ولده محمداً نائباً عنه وكان أهل دمشق اختاروا حكم بن محمد المالكي قاضياً عليهم لما شعر القضاة بموت قاضيهم الخصيبي وإعزال خليفته محمد بن اسمعيل الزيدي وذلك في أمرة فاتك الأخشيدي على دمشق فوصل محمد إلى دمشق في شعبان سنة 48 وهو شاب ثم وقع من دمشق من أهل دمشق منازعة في اختيار من ينوب في القضاة فتعصب قوم لمحمد ولد ابن وليد وقوم ليوسف الميانجي وكان الأعيان مع الميانجي والأوباش مع ابن وليد وذلك في رجب سنة 49 فاجتمع الشيوخ وانضم أكثر أهل البلد فاجتمعوا بفاتك ورفقته الغلمان الأخشيدية وشكوا لهم ما لقوا من الإساءة فانصفوهم فانصرفوا من عنده احسن انصراف وصرف ابن وليد.
رواية وفود النعمان
هي عربية تاريخية تمثيلية تمثل وفود العرب على كسرى أنو شروان ذات خمسة فصول لمؤلفها محمد عزت أفندي دروزة من أدباء نابلس جاءت في 54 صفحة.
في زوايا القصور
طبع بمطبعة جدعون في بيروت سنة 1913
هو سفر أخبار ونوادر غربية عن ملوك هذا العصر وأمرائه وحياتهم البيتية مأخوذة عن أوثق المصادر مكتوبة بعبارة سهلة طيلة بقلم أمين أفندي الغريب ومطالعة هذا السفر تسلي القارئ وتزيد معلوماته عن الغربيين وعاداتهم وما حواه مبعثر في بطون الكتب والصحف فجمعه المؤلف على هذا المثال بعد نشره في جريدة الحارس.(91/70)
تاريخ آداب اللغة العربية
تأليف جرجي بك زيدان صاحب الهلال الجزء الثالث ص 348 طبع بمطبعة الهلال بمصر سنة 1313 يحتوي هذا الجزء على تاريخ آداب اللغة العربية من دخول السلاجقة بغداد سنة 447 وإلى دخول ألفرثا وبين مصر سنة 1313 وفيه كلام على ما انتجته العقول في العصر العباسي الرابع والعصر والعصر المغولي والعصر العثماني وهي عصور الإكثار من المصنفات وتأليف أمهات كتبنا منسقاً أحسن تنسيق على عادة المؤلف فقيد الآداب بحيث يقرأ المرء كل فصل في محله ويلتقط كل فائدة من مكانها وكتابه زبدة عشرات من كتب العلم والتاريخ والسير المعروفة ومنها المخطوط الذي تيسر للمؤلف العثور عليه في بعض المكاتب العامة والخاصة ولو كانت طبعت جميع تركة السلف من الأسفار لجاء هذا الجزء ضعفي ما هو عليه من الحجم وتكون ألفائدة على تلك النسبة ولكن لا جود إلا من موجود ومن تلا هذا الجزء والجزئين السالفين يتبين له إفدار علماء السلف وإكثارهم من التأليف في كل فن ومطلب أيام كانت اللغة زاهرة وسوق العلم نافقة غير بائرة.
إرشاد الأمة
إلى التبر المدفون
القسم الأول تعريب أحمد مختار بك الحسني
طبع بمطبعة الترقي بدمشق عام 1333 هـ (ص176)
هو كتاب في الزراعة عربه معربه عن الإفرنسية ومزجه ببعض الأفكار من عنده ولا سيما في المقدمة وصف فيها حالة الزراعة وتسامح ألفلاح السوري والملاك السوري وقد حلاه ببعض الصور فجاء نافعاً في بابه لقلة ما في الأيدي من الكاتب الزراعية الحديثة ومن أهم ما قرأناه فيه الإدارة الزراعية في الغرب والإدارة الزراعية في سورية إلا أنه ألقى جميع التبعة لتساهلنا على عاتق الأهليين وحدهم فنحث كل من تهمه الزراعة على مقتتناه تنشيطاً لمؤلفه وأخذاً من فوائده المقتبسة عن الغربيين.
التصريف الملوكي(91/71)
صنعه أبي ألفتح عثمان بن عبد الله بن جني عني بتصحيحه وفهرسة مطالبه وشواهده وإشارات جملة الشيخ محمد سعيد النعسان طبع بمطبعة شركة التمدن المصرية
سنة 1331 و1913
المؤلف من أئمة العربية والناشر الشارح من أساتذة حماه لعهدنا وقد جود طبعه بالشكل الكامل وعلق عليه تعليقات لطيفة فجاء وافياً بالمراد جديراً بإقبال طلاب العربية عليه الذين يشكرون له هذه الخدمة ويتمنون إطرادها بأحياء الأسفار النافعة للسلف وخدمتها بالتعليق عليها خدمة تقر بها من أذهان الطالبين والمتأدبين.
جواهر الأدب
من خزائن العرب
طبع في المطبعة العمومية في بيروت
هو مجموع آداب وحكم وأشعار ولطائف مختارة من أهم كتب المحاضرات والأدب ودواو البلغاء بنشره سليم أفندي إبراهيم صادر صاحب المكتبة العمومية في بيروت وقد ظهر منه إلى الآن خمس مجلدات لطيفة وكلها بالشكل الكامل طبعت بالمطبعة العلمية فنثني الثاء المستطاب على جامعها وناشرها ونحث المدارس على الاعتماد على مثل هذه الكتب القليلة الجرم الغزيرة العائدة التي تقوي ملكة البيان في الشبان وتجعل منهم عبارات البلغاء والحكماء على طرف الثمام.
كتاب الياس جرجس طراد
جمع جرجي أفندي نقولا باز طبع بمطبعة جدعون في بيروت
سنة 1914 (ص398)
أجاد صديقنا جامع هذا الكتاب في جمع سيرة سليل مني طراد المشهورين بأنه ظهر بينهم عدة فضلاء ونوابغ أدباء وهذا هو في جملتهم وقد الم بأصل أسرة طراد البيروتية وقال أنها عادت كمعظم الأسر المهمة في لبنان في القرن الرابع عشر من حوران إلى الكورة وبعد مائتي سنة تفرقت في البلاد وذكر تراجم المشاهير من هذه الأسرة وتوسع في ترجمة من ألف له الكتاب وذكر شيئاً من خطبه ومقالاته وكتبه وشعره فاستحق صديقنا المؤلف(91/72)
ثناء الأدباء لعنايته بأخبارهم وآثارهم وغيرته على ألفضل والفضيلة.
التحفة السنية
في المشايخ السنوسية
لعلي أفندي الجميل الموصلي طبعت بمطبعة سرسم في الموصل سنة
1331
هي رسالة نافعة جميلة الإنشاء عرب بعضها عن رسالة تركية لأحمد حلمي أفندي الفلبه لي ضم إليها معربها ما قالته بعض الصحف العربية في الشيخ السنوسي ونسبه وأسرته وعمله في الحرب الطرابلسية وما صدر عنه فيما قيل من الرسائل إلى قائد العساكر الطليانية والرسالة مفيدة في بابها لو تجردت من المبالغة.(91/73)
أخبار وأفكار
الخط البغدادي سيكون أهم الخطوط الحديدية في السلطنة خط الأستانة
- بغداد وطوله 2425 كيلو متراً تم منها الآن 18. 2 وجرى
استثمراها بالفعل أما ال - 42 كيلو متراً المارة من سلسلة جبال
طوروس وال - 11 كيلو متراً الواقعة في النفق العظيم هناك فلا يتأتى
إنجازها قبل ستين لعسر الطريق وقد انشئ طريق موقت ربط الخط به
الذي انتهى إلى رأس العين على نحو ثلثمائة كيلو متر من حلب.
قرانا وقراهم
كتب رصيفنا صاحب الدام في جريدته مقالتين وصف بهما قرية قلد كيرخ في النمسا على عشرين دقيقة من الحدود السويسرية وسكانها خمسة آلاف يعيشون من غاباتهم وبقولهم وذكر فيها من أنواع الرفاهية والراحة والجمال واللطف ما لا يقصر عن أجمل العواصم هذا إلى تلك الغابات التي أصبحت بها الجبال والأودية خضراء غضراء والمياه تنبعث من كل مكان فكثرت بها المروج السندسية وعدلت برد الشتاء وحر الصيف ولم تصبح عرضة للسيول وتطهرت الأودية من الحصى الذي تجرفه الأمطار وكثرت الألبان وجادت اللحوم والثمار وأصبح السكان مظهراً للحياة المدنية وذكر عناية الأهلين بهندام بيوتهم وغرس الزهور والأشجار حواليها ولكل بيت حديقة تكفيه أرضها لإنبات البقول له وما يغالون به من تنظيم الكنائس والمدارس ولكل قرية مهما صغر حجمها كنيسة ومدرسة في أجمل مكان وأمتن صورة من البنيان وأن الحكومة أنشأت لهذه القرية كل مرافق الحياة من طرق معبدة وجادات وطرق وجسور وسكك حديد وتلفزيونات وإنارتها بالكهرباء والغاز وجعلت فيها بريداً ومدارس وملاعب عالية للبنات ودار للمعلمين وقال أن مثل هذه البلاد يحق لأهلها أن يدفعوا عنها من فتيانها إلى ابن الستين ولولا الحرب لقلت أنها أسعد بلد يسكنها إنسان لجمال أبنيتها وما زينت به من البدائع الصناعية الطبيعية وأنه يرى أن الأهالي إذا رقتهم الحكومة أولاً يعملون بعد أعمالاً مهمة كما فعل اليسار من سكان هذه القرية فإنهم أقاموا من أموالهم مقاعد في الجبال والأودية للسياح الذين يزورون بلدهم ليستريحوا عليها ولم يقولوا(91/74)
أن ذلك أمر لا يعنيهم وقال أن الوالي والمتصرف والقائمقام إذا كان لهم ذوق ومعرفة ينهضون بالبلاد نهوضاً غربياً وإن أعمالنا في الولايات لا يعنون بترقية من يتولون أمرهم وقال لو كان لي من الأمر شيء لنظرت في أحوال العامل قبل أن أعينه لأرى إذا كان يحسن تدبير أو أسرته فإذا كان كذلك وسدت إليه أمر الأمة وأيقنت أنه يحسن الإدارة قال أنه يحسن الإدارة قال إن هذه القرية ليس فيها كما في مملكتنا فرد واحد أصابته الحاجة وإن نواب النمسا والمجر صرفوا فضل معارفهم المدنية والاجتماعية في إنهاض أمتهم وإسعادها مما فكروا في إملاء جيوبهم وأنه رأى دكان مزين بهذه القرية ليس مثل مضافتها ولطفها في جميع جادة الباب العالي في دار السعادة وبهذا يتبين ألفرق بيننا وبين جيراننا ولم يرى في الآستانة شبيهاً للبلاط الذي رصفت به شوارع هذه القرية بل ولا متراً واحداً هذا ما قاله صاحب أقدام وهو يعود باللائمة على المحكوم وعلى الحكام أيضاً. والناس كلهم هنا إلا قليلاً حسالة لولا ما يحفزهم دافع الجوع في القرى ما رأيتهم زرعوا أرضاً أما الكماليات التي نعدها نحن كذلك وهي عند الأوروبيين حاجيات بل من متممات الحياة كهندسة البيوت وتنظيمها واستجادة فرشها وتحسين الموائد وهندام الثياب والشعر وقص الشعر واللحية وتعليم الأولاد وحضور الصلوات إلى غير ذلك مما أملت به القوانين الدجولية والمدنية فهذا مما لا يكاد يكون له أثر في أكثر قرانا ولذلك كانت قرية الدكيرخ أرقى من حاضرة ولاية من ولاياتنا بمراحل وليس غنى الأمم بكثرة عددها بل بنسبة الوطنيين العاملين فيها يقول رصيفنا أن النمساويين متدينون لا متعصبون وهذا التدين نفاهم في جامعتهم وتكوين وطنيتهم وليس في الدين ما ينفر من اتخاذ أسباب الراحة والتعامل بالحسنة ولا فيه ما ينكر اللطف والذوق وينافي العمل للرقي. إن قرية كالتي ذكرها يحيط أهلها بكل ما في العالم من موجبات الترقي والتعالي لا يكونون غرباء مما تعمله حكومتهم بل يقدرونه حتى قدره ويبادرون إلى إيجابة سؤلها من تلقاء أنفسهم في يوم الشدائد لو عمل الأهلون الواجب عليهم هنا على القدر الذي تعمله الحكومة لما أنحط لنا عمران ولا شكا ألفقر إنسان وإذا كانت النمسا بل قرية فيلدكيرخ إحدى قراها تعيش عيش سعادة ورخاء فذلك للأثر الناتج عن تعلم أهلها تعليماً عملياً ولأن أهل اليسار من أهلها ما ضنوا يوماً بوفرهم في سبيل الإخاء بأيدي أهل الطبقة الدنية من جيرانهم الغني عندهم لم(91/75)
يقل ليس هذا من شأني بل كان يفكر في جيرانه كما يفكر في أهل بيته وبذلك قامت مدينتهم وخافهم عدوهم وغبطهم صديقهم وكانت قراهم أرقى من قرانا ومدنهم لا تقبل القياس مع مدننا.
خسائر الاتفاق
يفهم من التقارير التي نشرتها دول الاتفاق أن خسائرها كانت إلى أخر سنة 1615 ثمانية ملايين وثلث مليون رجل منها 21. . . . . رجل من فرنسا و465. . . . من روسيا و35. . . . من إنكلترا و3. . . . . من بلجيكا (لم يبقى سوى 5. ألف من جيش بلجيكا المؤلف من 35. ألف) و 5. . . . . من سربيا (دعت لحمل السلاح رجالها إلى سن 7. فبلغ عدد الجيش 6. . ألف لم يبقى منه سوى 1. . ألف) و5. . . . من الجبل الأسود و25. . . . من إيطاليا و83. . . . . المجموع.
معامل السكر في الشام
الغالب أن مؤلفي العرب لم يكونوا يعنون عناية أهل هذه الأيام بذكر الصادرات والواردات من البلاد ولذلك عميت علينا كثير من أحوالها الاقتصادية فلا نعرف أكثر الصناعات التي كانت لعهد ارتقاء هذا القطر مثلاً إلا من سطور قليلة لا تكاد تبل الصدا. من كان يظن أنه كان يصدر في القرن الرابع عشر في الهجرة من بيت المقدس المرايا وقدور القناديل والإبر ومن طبريا ودمشق الكاغد أي الورق ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط لو لم يشر إلى ذلك المقدسي في كتابهأحسن التقاسيم في معرفة الأقاديمإشارة خفيفة. ومعلوم أن هذه الصناعات معدومة بتاتا في هذا القرن الرابع عشر من بلاد الشام وقد كتب الأمير شكيب أرسلان بمناسبة قلة الوارد من السكر وارتفاع أسعاره في القطر الشامي جملة في جريدة الشرق قال فيها: من أكبر دواعي الأسف أن يكون عندنا نهر كنهر الشريعة ماراً بأخصب أراضي الدنيا من بانياس إلى البحر الميت مسيرة خمسة أيام على ألفارس طولاً ويوم واحد عرضاً وأن لا نستفيد منه إلا سداداً من عوز. وأشد داعياً للأسف من ذلك أن تكون هذه شابكة العمارة في الغابر دارة الحلبة فائضة الخير والمير متصلة بالمدن والقرى وأن تبقى الآن عاجزة عن مبرة من فيها من بادية العرب ورحل الغوارنة قال ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 للهجرة عند ذكر الأردن في معجمه هي أحد أجناد الشام الخمسة(91/76)
وهي كورة واحدة منها الغور وطبريا وصور وعكا وما بين ذلك قال أحمد بن الطيب السرخسي الفيلسوف هما أردنان الأردن الكبير والأردن الصغير فأما الكبير فهو نهر يصب إلى بحيرة طبريا لمن عبر البحيرة في زورق أثنا عشر ميلاً تجتمع فيها المياه من جبال وعيون فتجري في هذا النهر فتسقى أكثر ضياع جند الأردن مما يلي ساحل الشام (أين نحن اليوم من هذه الحال) وطريق صور ثم تنصب تلك المياه إلى البحيرة التي عند طبريا وطبرية على طرف جبل يشرف على هذه البحيرة فهذا النهر أعني الأردن الكبير بينه وبين طبرية وأما الأردن الصغير فهو نهر يأخذ من بحيرة طبرية ويمر نحو الجنوب في وسط الغور فيسعى ضياع الغور (وهذا أيضاً لا أثر له اليوم والأراضي التي تسقى في الغور فإنما تشرب من مياه أخر) وأكثر مستغلهم السكر ومنها يحمل إلى سائر بلاد الشرق وعليه قرى كثيرة ومنها بسان وقراوة وأريحا والعوجا وغير ذلك وعلى هذا النهر قرب بحيرة طبرية قنطرة عظيمة ذات طاقات كبيرة تزيد على عشرين (ينبغي أن يكون جسر المجامع ولكن غير الموجود اليوم إذ هذا ليس فيه عشرون طاقة) ذات طاقات كبيرة تزيد على عشرين (ينبغي) أن يكون جسر المجامع ولكن غير الموجود اليوم إذ هذا ليس فيه عشرون طاقة) ويجتمع هذا النهر ونهر اليرموك (ويقال له اليوم شريعة حوران) فيصيران نهراً واحداً فيسقي ضياع الغور وضياع البنية ثم يمر حتى يصب في البحيرة المنتنة في طرف الغور الغربي وذكر ياقوت عند كلامه على الغور والغور غور الأردن بالشام بين البيت المقدس ودمشق وهو منخفض عن أرض دمشق وأرض البيت المقدس ولذلك سمي الغور طوله مسيرة ثلاثة أيام وعرضه نحو يوم فيه نهر الأردن وبلاد وقرى كثيرة وعلى طرفه طبريا وبحيرتها ومنها مأخذ مياهها وأشهر بلاده بيسان بعد طبرية وأكثر ما يزرع فيه قصب السكر ومن قراه أريحا مدينة الجبارين وفي طرفه الغربي البحيرة المنتنة وفي طرفه الشرقي بحيرة طبريا وقال عنه ذكر بحيرة طبرية وينفصل منها نهر عظيم فيسقي أرض الأردن الأصغر وهو بلاد الغور ويصب في البحيرة المنتنة قرب أريحا فلننظر الآن إلى ما تحول من الأحوال في تلك الأصقاع فنقول أولاً أن كلاً من الأردن الكبير والأردن الصغير يجري في الغور الأعلى ومن دون فائدة تذكر وربما ماتت زوابع كثيرة في الغيران عطشاً والماء جار في جانبها ثانياً إن الأراضي التي لها حظ من الشرب في هذه(91/77)
الغيران إنما تسقى من أودية جارية من الجبال مثل سيل الزرقا السائل من جهة عجلون إلى الغرب ومثل مياه بيسان المنحدرة من صوب مرج بني عامر إلى الشرق ومثل ماء ألفارغة النازل من الغرب إلى الشرق ومثل عين السلطان التي تسقي جنان أريحا ومثل ماء غور نمر المنحدر من وادي شعيب أسفل الصلت إلى الغرب وماء حسبان وغيرهما من المياه وهذه الجدأول كلها لو اجتمعت ما ساوت معشار الأردن الذي أصبح عاطلاً من كل عمل ثالثاً إذا وقف السائح على المعالم والآثار ودقق في بقايا القنوات والحنايا تحقق صحة ما هو وارد في كلام ياقوت وغيره من أن الأردن كان يسقي ضياع الغور رابعاً أن زراعة قصب السكر أصبحت اليوم مفقودة من كل هاتيك الأرض مع أنه قد عرف بالتجربة أنه لايوجد أرض صالحة لهذه الزراعة نظير الغور وقد صادف في هذه المدة أن بعض النابلسيين زرع نصيباً من قصب السكر فجاء منه غلة مدهشة ونوع من القصب هو الحلاوة والمائية بحيث لايوجد له نظير في الدنيا ومن هنا يعرف سبب اختيار الأولين هذه الأراضي لزراعة القصب وقد جاء في كلام ياقوت قوله وأكثر مستغلهم السمر ومنها يحمل إلى سائر بلاد المشرق فيظهر منه أنه كان هناك معامل للسكر كما هي الآن في صعيد مصر وفي جنوبي الغور إلى يومنا هذا مكان معروف بمطاحن السكر ومما يدل على وجود السكر قديماً في عكا ما ورد في تاريخ الروضتين عند ذكر فتح صلاح الدين عكا وهو قول العماد الاصفهاني وتصرف الملك المظفر تقي الدين في دار السكر فأفنى قنودها واستوعب موجودها ونقل قدورها وأنقاضها وحوى جواهرها وأعراضها ولعمري عار على البلاد أن تكون فيها معامل السكر في القرن السادس والسابع وإن لا يوجد فيها معمل واحد اليوم حتى يبلغ ثمن رطل السكر مائة قرش فأكثر ويلتجي الناس إلى دبس الحروب الذي كان يباع الرطل منه بقرشين ونصف قرش فصار اليوم بثلاثين قرشاً فإذا أعيد الأردن إلى محاربه الأولى وانشقت منه جداول من عند بحيرة طبرية ذاهبة جنوباً ركبت الغيران بأجمعها بسبب التحدر الذي في الأرض وأصبحت تلك الأراضي كلها سقياً بعد أن كانت عذباً تشرب من ماء المطر.
الغذاء غير المألوف
إن قلة الأغذية التي أحس بها في كل مكان من الكرة بداعي قد لفتت الأنظار إلى غذاء(91/78)
الشعوب المتوحشة ولا سيما من لم تساعدهم الطبيعة وقضى عليهم مركزهم الجغرافي وما في أرضهم من النبات والحيوان أن يتناولوا أطعمة يظهر أنها غير مألوفة لا تؤكل ونحن لا نطعمها للعادة ولو غذاء موقتاً من المآكل ما ألفه الشرقي دون الغربي وعلى العكس وما يطعمه الناس في أوربا قد لا يتناولونه في آسيا وما يحبونه في أميركا واستراليا لا يرغبون فيه في إفريقية وجزائر المحيطين وإذا أعملنا النظر نجد أن غذاءنا قليل الألوان فلا نألف إلا بعض الحيوانات من ذوات الضرعين والطيور والأسماك أما الحيوانات ذوات الأصداف وذوات القشر والهوام وغيرها مما تطعمه بعض الأقاليم فإن فيها ما حرم الإسلام أكله ومنها ما أباحه لم يجوز ألفقهاء أكل كل ذي ناب وذي مخلب من السباع أي سباع البهائم والطيور والسباع يتناول سباع الطيور والبهائم لأن كل ماله ناب أو مخلب سبع والسبع مختطف منتهب جارح عادة عادة فالمختطف مل يخطف بمخلبه من الهواء كالبازي والعقاب والمنتهب ما ينتهب بنابه من الأرض كالأسد والذب وسباع الطيور كالبازي والصقر والنسر والعقاب والشاهين وسباع البهائم كالأسد والنمر والذئب والفهد والثعلب والضبع والكلب والسنور البحري والبري والأهلي ويكره ألفيل لأنه ذو ناب واليربوع وابن عرس من السباع الهوام وكرهوا أكل الرحم والبغل ولا يحل أكل السلحفاة والغراب ألا يقع والضب والغداف واليربوع وحيوان الماء ما عدا السمك وحل الأرنب والعقق وغراب الزرع كان قدماء اليونان يأكلون الزيزان المطنة ويفضلون منها إناثها ويأكلون الديدان قبل أن تنسل وكان الرومان يحبون الديدان حتى أن الشاعر كاتول قبل المسيح وجد طعم الجراد الأصفر قريباً من فطيرة رجل الدجاجة المعمولة بالزبدة وقل جداً في عهدنا من يطعم الديدان من الأوروبيين ولكن ملايين من البشر يتناولونها في أقطار الأرض الأخرى ويؤثر سكان إفريقية الوسطى تناول السرفة والأرضة فيأكلونها نيئة ومطبوخة ومشوبة ويأكلون في جارة الصرف ويعدونها منمشة للقوى الضعيفة من الشيخوخة وبفضل الشيوخ في الهند تناول النمل المجنح والنمل المجفف المعمل بالسمن في برازيل مشهور موصوف. وأهل المكسيك يحبون بيض البق (ألفسفس) من جنس كوريزا يجعل منه حلواء فيغالي الناس في تناوله. والجراد غذاء شائع في بلاد العرب فهو مصيبة يأكل المزروعات ويؤكل أيضاً وقد ذاقه كثير من الناس مع الأرز أو مملحاً أو مع ألفلفل الأحمر أو الخل أو مشوياً فقالوا أنه(91/79)
جيد مريء.
والجراد يحضر بحسب أذواق البلاد التي يظهر فيها ففي الجزائر يغلونه في ماء مملح كما يفعلون به في الصين وفي مدغسكر يأكلونه مطبوخاً في ألفرن أو مجففاً ويجعلونه مع الأرز أو يغمسونه في الدهن الغالي وفي هذه الأقطار يعدونه من الأطعمة اللذيذة.
ولقد ذاق بعض السياح الأوربيين جميع أصناف الديدان فرأي أن التي تعيش في جذوع الاكآسيا أطيب طعماً من العجة على شرط أن تشوى في رماد حام. ويؤثر وحوش أوستراليا كل الإيثار دبابة الألف رجل وأم الأربعة وأربعين أما أهالي التونكين فإنهم يغذون الديدان من الانجاص والموز والخوخ ليعطروا بها لحمة. وجميع هذه الأطعمة تفضل علي قطائف ذباب البقر والحمير التي يتنافس في أكلها الزنوج على ضفاف نيازا وعلى البراغيث وغيرها من الهوام الدقيقة التي يأكلها أهل غرونلاندا يتناولونها من شعورهم فيلقونها في أفواههم. ويقول اليابانيون أن حلويات النحل مطبوخة في الشراب لا تقل في لذاتها عن أطيب عصير ألفاكهة ويتناول الوطنيون من سكان جاوة وصومطرة وأنام كعكعهم من الطين محلولاً بماء مطبوخاً في قدر معتقدين أنه خير غذاء. والحاصل فإن البشر احتالوا على الطبيعة والطبيعة أعطت البلاد المعتدلة كل ما يقوم بحاجة سكانها والمسألة في الأغذية ترجع إلى العادة والذوق.
معادن السلطة
قالت مجلة ألمانية: في البلاد العثمانية كثير من الخزائن الطبيعية الكبرى منها ما يزيد على عشرين معدناً من أهم المعادن وقد أعطى إلى الآن في ولاية آيدين وحدها ما ينوف عن تسعين امتيازا لتعدين المناجم، ولألمانيا في هذه البلاد كثير من معدن حجر الصفار (فروم) (1) وقد منحت الحكومة العثمانية إلى الآن نحو ستين امتيازا لاستخراج هذا المعدن وقد ابتاعت مصانع كروب إلى الآن معدنين من حجر الصفار واستأجرت اثنين منه استئجاراً معدن الرصاص موجود بكثرة أيضاً في البلاد العثمانية فإذ كانت هذه المعادن الرصاصية تسد من عوز ألمانيا للرصاص واحداً من عشرة فقط فيها ونعمت وقد زاد الوارد من العثمانية إلى ألمانيا من معدن الشبه (النحاس الأصفر) في السنوات العشر الأخيرة ثلاثة أضعاف الوارد منه أولاً ولو أن ألمانيا كانت مهيأة له رؤوس الأموال اللازمة لاستثمار(91/80)
معادن الشبه فلا شبهة في أن الوارد منه إلى ألمانيا يزيد زيادة كبرى ولا كان لا يتيسر للحكومة العثمانية تدارك رؤوس أموال لاستثمار هذه المعادن فهي لا تستفيد من كثير من المعادن المانحة امتيازات بها ويمكننا أن نذكر من بين هذه المعدن المستثمرة معدن الرصاص في ناحية (بالية) فإنه في الدرجة الأولى من حيث سعته وأوضاعه وقد بلغ الحاصل منه عام 1913 ثلاثة ملايين ونصف مليون مارك وفي جبال وروس معدن رصاصي فضي يستثمر بيد الحكومة يبلغ إيراده السنوي نحو المائة ألف فرنك وبين (خربوط) و (دبار بكر) تعدن الحكومة أيضاً معدن شبه نحاسي بلغ دخله عام 1914 قريباً من نصف مليون مارك وفي شمالي البلاد العثمانية معادن شبه نحاسية غنية ذات قيمة كبرى يعد البترول من الحاجات المدنية المهمة لكل مملكة ومن المعلوم في كل الدنيا أن المملكة العثمانية غنية جداً بمنابع البترول وإليك ما قاله الأستاذ (شيفر) المشهور ببحثه العميق عن منابع البترول في العراق نقلاً عن مجلة اقتصاديةإذا علمنا أن منابع البترول في العراق الممتدة في الأرض والبالغ طولها 4. كيلو متراً ينبع زيت الغاز في بعضها على سطح الأرض مما لم يعرف له نظير أبداً في علم طبقات البترول لا يبقى عندنا أدنى ريب في أن هذه المنبع من أغنى منابع البترول في العالم وأغزره وأنه يمكن بأسباب فنية تعدين هذه المعادن بأقل كلفة وأشد سرعة من عامة المشاريع الصناعية المراد إنشاؤها في البلاد العثمانية وإذا استنبطت منابع البترول في البلاد العثمانية فإنها تساعد على تقدم الوسائط النقلية في البلاد وإن استخدم البترول في القاطرات ليس بالأمر الصعب وما عدا هذا فإنه يمكن استخدام البترول بدلاً عن ألفحم في السفن الماخرة في الرافدين (دجلة والفرات) وإن اصطناع سفن تقطع في الساعة 45 كيلو متراً بواسطة استعمال البترول لا يعد أمراً عسراً وهذه السفن تقوم بخدم كبرى للمسافرين ولنقل الأمتعة والبريد وبهذه الواسطة تصير التجارة حوالي دجلة والفرات أكثر سرعة وتستجر تجارة هاتيك البلاد وتعظم ثروتها.(91/81)
العدد 92 - بتاريخ: 1 - 9 - 1914(/)
الخطابة عند العرب
توطئة
دلتنا الحرب الحاضرة على كثير مما ينقصنا من العلوم والصناعات الشائعة عند الأمم الغربية وكانت فاشية في القديم عند أجدادنا. ومن ذلك صناعة الخطابة وهي من أجل العوامل في تربية النفوس أيام الحرب والسلم وفي بث دعوة أو سفارة بين متخاصمين أو متحابين إقناع يوم الحفل واستمالة الأفكار إلى رأي أو حزب في المجالس والمؤتمرات والمجامع والجوامع لا تستغني عنها أمة دستورية بحكمها مجلس نوابها إذ أن التنفير من مسألة والتذكير بأخرى لا يتم إلا بقوة البيان وسلاطة اللسان وفصاحة الحجة وظهور المحجة والسبب في قصورنا عن هذه الغاية طول عهدنا بالحكومة الاستبدادية المطلقة حتى إذا انقلبت إلى حكومة شورية أحسسنا بنقص في عامة مكونات الأمم وكان خطباؤنا المصاقع يعدون على الأصابع في جميع أدوار مجلسنا النيابي والمبرز منهم من كتب له أن كان أستاذا في مدرسة أو مدرساً في جامع ففتقت السن أهل هذه الطبقة وقليل ما هي على أيسر وجه لأنها كانت على جانب من ألفضل ومعرفة بأصول المجالس أما أكثر النواب فكانوا بمعزل عما ينبغي لهم من أدوات ألفهم والكلام والحرية فضاحة فضحتنا بقلة المتكلمين والمفكرين منا مع أن الخطابة مما أوجبته علينا الشريعة الإسلامية كما ظهر أمرنا وتبين عجزتا واستبان إفلاسنا في مسائل العلم والتأليف فقد كان بعضهم يوهمون أن طبائع الحكومة المطلقة وهي قائمة بكم الألسن وحجز الأقلام هي التي تحول دونهم وما يشتمون من انبعاث عملهم ونشر أبحاثهم ودروسهم وظهور أثر فضلهم وأدبهم وتحقيقهم وربما غالى بعضهم فقال اختراعهم واكتشافهم وأنهم لا يتوقعون إلا دور انطلاق حتى يظهروا ما كنته صدورهم من العلو والفنون وها نحن نعيش في ظل الحكومة الدستورية منذ ثماني سنين ولم نشهد أثراً لغير من عرفوا من قبل بألفهم والعلم وجل ما اتصل بنا أنه نشرت مباحثات ومناقشات قلما تفيد أمة تريد النهوض من طريق العلم والعمل نحن موقنون أن التبريز في الخطابة صعب ولكن بالتعلم والمعاناة يصل المرء إلى درجة حسنة في الجملة وفي العادة أن يكون النوابغ قلائل في كل فن فإذا عد في الأمة عشرة منهم في كل شأن ومطلب تعد غنية بعلمها وعقلها ولانحطاط الخطابة الدينية في هذا العهد تأفف كثبر من حضور الجمع(92/1)
حتى لا يسمعوا خطباً لاقتها الألسن منذ قرون وليس فيها شيء من النفع ولقلة المجيدين بل المتوسطين في هذه الصناعة غداً الناس يسمون خطيباً كل من يرفع عقيرته ولو كان جاهلاً عامياً بل أمياً غبياً وعلى العكس رأينا في بعض البلاد خطباء بعض المساجد مجودين في الجملة يقولون ماله معنى في الوغظ والإرشاد قد حببوا غشيان المساجد لمن كانوا لا يعرفونها وبتأثير الإخلاص والإجادة والكلام بحسب طبائع القوم وحاضر العصر كثر العاملون بأحكام الدين القائمون بتكاليفه وبلغت حالة الانحطاط في ضعف البيان وفسولة الرأي والحجة بأكثر خطباء الجوامع ومنهم الأميون الذين لا يكادون يقرأون الكتاب إن أصبحت نصف خطبهم زهداً في الدنيا على غير طريقة السلف المشروعة والنصف الآخر دعاء يحفظونه لا يحرمون منه كلمة ثم هم يدعون بأدعية مردودة في الشرع شأنهم في بيان فضائل الشهور والأيام والبلدان والجوامع حتى خطب بعضهم وكان حشوياً جلجلونياً في أعظم جامع في هذه البلاد عند إرادة الحث على تجديد بنائه فقال إن الصلاة فيه تعادل ثلاثين ألف صلاة وأورد لذلك أحاديث لا تعرفها إلا عقول الرضاعين والقصاصين ولطالما خطبوا أن من صام يوم كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلى غير ذلك من البدع والفضول التي لم تأت بها شريعة الرسول وقد أنكرها أئمة ألفقه والعلم من المتقدمين والمتأخرين ولاسيما شيخ الإسلام أبن تيمية وابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751) وابن الحاج المتوفى سنة 737 ولو كان الخطباء على جانب من فهم أسرار الشريعة وعرفة طرق البلاغة وما يصلح الناس ما عالجوا من الموضوعات ما يرجع بالناس القهقرى هذا في الخطب الدينية فهي أيضاً تتصرف على ذاك النحو نصفها تجميدات ومقدمات واعتذارات وسخافات واستطرادات منوعات ولو محصت لما بقي منها إلا التافه اليسير من المعاني أم تأثيراتها في الأفكار فضعيف جداً ولعل هذا النقص البين يتلافاه أساتذة المدارس الابتدائية والوسطى والعليا بتمرين طلبتهم أبداً على الإلقاء وممارسة الكلم ألفحل يوم الحفل وفي النوازل والأمور العامة فينشأ من هذا الجيل فئات تسد هذا النقص المحسوس المشاهد في طبقة رؤساء الدين ورؤساء الدنيا ويمرن الجميع على كتابة ما يريدون الخوض فيه وعلى استظهاره أو إلقائه على نحو ما سارت الأمم الحديثة والأمم القديمة الراقية فينبغ فيها خطباء ووعاظ ومرشدون داووا جهالة شعوبهم بأساليب القول الجزل والمنطق الخلاب(92/2)
والبرهان الساطع وها نحن نحفظ لطلاب هذا ألفن الطريق الذي سلكته العرب في تقوية ملكة البيان معتمدين في النقل على أئمة هذا الشأن مشيرين إلى تاريخ الخطابة والمجودين فيها من أهل هذا اللسان قبل الإسلام وبعده موردين من الشواهد ما يصح تحديه والنسج على أسلوبه وذلك بقدر ما يتسع صدر المصادر التي نقتبس منها وتسمح صحف هذه المجلة ولعل غيرنا ينهض إلى التوسع أكثر من توسعنا في هذا الموضوع الواسع الأطراف تلقيحاً للعقول وإهابة بها إلى ما يصلحها ويزكيها بالبلاغة فنقول:
(2) حد الخطابة وأقسامها
نقل ابن رشد الخطابة صناعة تتكلف الإقناع الممكن في كل مقولة من المقولات وغايتها إقناع الجمهور فيما يحق عليهم أن يصدقوا به من الأمور السياسية والوظائف الشرعية وقال أبو البقاء: الخطابة هي الكلام النفسي الموجه به الغير للإفهام قالوا وليس للخطابة موضوع خاص تبحث عنه بعزل عن غيره ولذلك كان على الخطيب أن يلم بكل صنف من المعارف فوجب عليه لبلوغ هذه الأمنية أن يتبحر في العلم ويتفنن في ضروب ألفهم حتى كان سيسرون خطيب الرومان يوجب على الخطيب معرفة ألفنون الأدبية والرياضيات والرسم والتصوير والنقش والموسيقى وغير ذلك ومعنى إقناع الجمهور إرضاء السامعين بالبرهان بحيث تكون البلاغة ملكة في الخطيب وهناك يقتضي له من العلم الواسع ونفاد البصيرة وحضور الذهن وقوة التأثير وطلاقة اللسان ولطيف البيان ما يستميل به الجمهور إليه في موضوع ويصرف أذهانهم عن أمر ويوجه أنظارهم إلى آخر ويحرضهم ويقنعهم ولذلك أدخل الحكماء الخطابة والشعر في أقسام المنطق كما نقل عن أرسطو لأن المقصود منه أن يوصل إلى التصديق وأصولها عندهم ثلاثة الأول إيجاد المعاني الحقيقة بالإقناع من الأدلة والآداب والثاني تنسيق المعاني أي سرد أجزائها على نظام واحد ليحكم تركيب الخطة وارتباط أقسامها بحيث نكون ابين غرضاً وأحسن في النفوس وقعاً والثالث التغيير الذي يراعى فيه حال السامع لتصاغ له المعاني في ألفاظ تنتشر بها نفسه وتمتزج بأجزاء فهمه ويمكن إرجاع الخطابة إلى قسمين الخطابة المدنية والخطابة الدينية فالمدنية يتصرف تحتها كل ما فيه إصلاح المدينة والخطابة الدينية كل ما يرجع إلى تطهير النفوس ليكون لأهلها مدنية فاضلة في الدنيا وسعادة شاملة في الأخرى(92/3)
الخطابة نوع من منثور الكلام يأخذ من النثر تصوير الحقائق وإبلاغها النفوس من دون أتعاب ذهن ولا تكلف في الأداء ومن النظم سلاسته وتأثيره في النفس وقد كانت العرب في جاهليتها تقدم الشاعر على الخطيب بفرط حاجتها إلى الشعر الذي يقيد مآثرها ويفخم شأنها ويهول على عدوها ومن غزاها ويهيب من فرسانها ويخوف من كثرة عددها ويهابها شاعر غيرها قال أبو عمرو بن العلاء فلما كثر الشعراء واتخذوا الشعر مكسبة وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر وكان لكل قبيلة شاعر كما كان لكل واحدة خطيب. الخطب والوصايا متقاربة يقصد بالأولى قوم لا على سبيل التعيين والتخصيص فتكون في المشاهد والمجامع والأيام والمواسم والتفاخر والتشاجر أمام العظماء والملوك والأمراء والوفود وفي الصلح وإشهار الحرب وفي الخطوب والنوازل أما الوصايا فتكون لقوم بعينهم في زمن مخصوص على شيء منصوص وربما كانت من شخص لأهل بيته أو سيد لقبيلته عند حلول مرض أو أجل أو هجرة في الأرض
(3) الخطابة والأنبياء
ذكروا أن العرب عنيت بالخطب في جاهليتها أكثر من عنايتها بها في الإسلام ولم يظهر لنا سر هذا لأنا رأينا هدي النبيين والمرسلين على خلاف ذلك رأينا الرسول صلوات الله عليه لم يتعلم الشعر وما ينبغي له وكان سيد الخطباء بلا مراء وكلامه خطب وحكم وبسيرته الشريفة اقتدى كبار الصحابة والتابعين والخلفاء والملوك والمرشدين والعلماء العاملين ولكن كثر الشعر أكثر من الخطب لأن الشعر أقرب إلى تقييد المآثر والتأثير ولأنه يحتمل من الخيال والمحال مالا يحتمله الخطاب بحال من الأحوال قال صاحب (الريحان والريعان) إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوير من جيد المنشور ومزدوج الكلام أكثر مما تكلمت به من الموزون إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشرة ولا ضاع من الموزون عشر لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم في مشافهته الملوك أو الحالات أو الإصلاح بين العشائر أو خطبة النكاح فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه ونسيه من نسيه بخلاف الشعر فإنه لا يضيع منه بيت واحد قال ولولا أن خطبة قسس بن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام وهو إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رواها عنه في اطار ذكرها ما تميزت هما سواها قال القلفشنديبعد إيراد ما تقدم وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم(92/4)
وقلة اعتنائهم به بل لسهولة الشعر وشيوعه في حاضرهم وباديهم وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من ألفصحاء المصاقع فلذلك عز حفظها وقل عنهم نقلها وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤسائهم ممن فاز بقدح ألفضل وسبق إلى ذرى المجد ويخصون ذلك بالمواقف الكرام والمشاهد العظام والمجالس الكريمة والمجامع الحفيلة فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر أو فخر أو إصلاح أو نكاح أو غير ذلك مما يقتضيه المنام نعم إن الخطابة صناعة الرسل عليهم السلام لأنهم يدعون إلى الله ويكلفون بإرشاد الخلق وهذا يقتضي البلاغة والبيان المتناهي لذلك قال موسى رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني بفقهوا قولي وذلك لأنه كان به لعثة فخشي أن يعدها قومه عيباً ويلووا بوجوههم عن دعوته أما شعيب عليه السلام فقد سماه نبينا عليه الصلاة والسلام خطيب الأنبياء لما ورد في الكتاب العزيز من أسلوبه البديع في البيان وتلطفه في إبلاغ دعوته إلى أهل مدين الذين غلبت عليهم الشقوة قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره ولا تقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم ارفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ إلى ا، قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاًِ حسناً أن أخألفكم إلى ما أنهاكم عنه أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يحرمنكم شقاقي إن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود. ولشرف الخطابة وتأثيرها في تطهير النفوس أوجبها الشارع وسنها للمسلمين في مساجدهم كل جمعة وعيد وفي الحج أي في عرفة واوجب على الحضور التزام الأدب مع الخطيب بل علمهم حسن الإصغاء وفي الحديث إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة انصت فقد لغوت ولم يعين الشارع للخطب الدينية أو خطب الجوامع والمواسم موضوعاً خاصاً بل جعلها مطلقة يتناول الخطيب الكلام من المناسبات الزمنية ويورد للحضور من هدي الشارع ما يهذب به أرواحهم ويهيب بهم إلى بارئهم ويغرس فيهم مكارم(92/5)
الأخلاق ويطبعهم بطابع ألفضائل ويحذرهم البغي والظلم ويستل بلطيف أسلوبه سخائهم وأحقادهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزين لهم العمل الصالح ويربأ بهم عن مهلكات الشهوات.
(4) البلاغة للعرب وفي البيان والتبين كلام طويل على الخطابة
وأقوال الشعوبية أي غير العرب فيها
وقد رد الجاحظ عليهم بقوله: قالوا والخطابة شيء في جميع الأمم وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة حتى أن الزنج مع الغثارة ومع فرط الغباوة ومع كلال الحد وغلط الحس وفساد المزاج لتطيل الخطب وتفوق في ذلك جميع العجم وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ وألفاظها أخطأ وأجهل وقد علمنا أن أخطب الناس ألفرس وأخطب ألفرس أهل فارس وأعذبهم كلاماً وأسهلهم مخرجاً وأحسنهم ولاء وأشدهم فيه تحنكاً أهل مرو وأفصحهم بالفارسية الدرية وباللغة ألفهلوية أهل قصبة الأهواز فأما نغمة الهزبذة ونغمة الموبذان فلصاحب تفسير الزمزمة قال الجاحظوجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس وأما الهند فإنما لهم معان مدونة وكتب مخلدة لا تضاف إلى رجل معروف ولا لى عالم موصوف وإنما هي كتب متوارثة وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق وكان صاحب المنطق نفسه بكي اللسان غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه وهم يزعمون أن جالينوس كان انطق الناس ولم يذكروه بالخطابة ولا بهذا الجنس من البلاغة وفي ألفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة وعن مشاورة ومعاونة وعن طول التفكر ودراسة الكتب وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم الثاني حتى اجتمعت ثمار تلك ألفكر عند أخرهم وكل شيء للغرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه الهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام أو حين أن يمتح على رأسه بئر ويحدو ببعير أو عند المقارعة والمناقلة أو عند صراع أو في حرب فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذاهب وإلى العمود الذي إليه بقصد فتأتيه المعاني إرسالاً وتنهال عليه الألفاظ انثيالاً ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه أحداً من ولده وكانوا أميين لا يكتبون ومطبوعين لا يتكلفون وكان الكلام الجيد(92/6)
عندهم اظهر أو أكثر وهم عليه أقدر وأمهر وكل واحد في نفسه انطق ومكانه من البيان أرفع وخطباؤهم أو جزء والكلام عليهم أسهل وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارس وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب وإن شيئاً الذي في أيدينا جزء منه بالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب وهو الذي يحيط بما كان والعالم بما سيكون ونحن أبقاك الله إذا أدعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والإرجاز ومن المنثور والأسجاع ومن المزدوج ولا يزدوج فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة والرونق العجيب والسبك والنمط الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول في مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة وقديمة غير مولدة إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هرون وأبي عبيدة الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لايستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل ويصنع مثل تلك السير. وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي (راجع المقتبس م4) فأدخلته بلاد الأعراب الخلص ومعدن ألفصاحة التامة ووفقته على شاعر مغلق أو خطيب مصقع علم أن الذي قلت هو الحق وأبصر الشاهد عياناً فهذا فرق ما بيننا وبينهم فتفهم عني فهمك الله ما أنا قائلهذه حجة الجاحظ في العرب أن أفصح الأمم وقيل أيضاًإن جميع خطب العرب من أهل المدر والبر والبدو والحضر على حزبين منها الطوال ومنها القصار ولكل ذلك مكان يليق به وموضوع يحسن به ومن الطوال ما يكون مستوياً الجودة ومشاكلاً في استواء الصنعة ومنها ذوات ألفقر الحسان والنتف الجياد وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ وإنما حفظها التخليد في بطون الصحف قال ومتى شاكل أبقاك الله ذلك اللفظ معناه وأعرب عن فحواه وكان لتلك الحال وفقاً ولذلك القد لفقاً وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف كان قميناً بحسن الموقع وبانتفاع المستمع وأجدر أن يأمن جانبه من تناول الطاعنين ويحمي عرضه من اعتراض العيابين ولا تزال القلوب به معمورة والصدور مأهولة ومن كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه متحيزاً في جنسه وكان سليماً من ألفضول بريئاً من التعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان والتحم بالعقول ودهشت إليه(92/7)
الأسماع وارتاحت له القلوب وخف على السن الرواة وشاع في الآفاق ذكره وعظم في الناس خطره وصار ذلك مادة للعالم الرئيس ورياضة للمتعلم الريض فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة ومصلحة حال الخاصة وكان ممن يعم ولا يخص وينصح ولا يغش وكان مشغوفاً بأهل الجماعة شنقاً لأهل الاختلاف والفرقة جمعت له الحظوظ من أقطارها وسبقت إليه القلوب بأزمتها وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته وجبلت على تصويت إرادته ومن أعاره الله من معرفته نصيباً وأفرغ عليه من محبته ذنوباً حنت إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ وكان قد أغنى المستمع من كد التكلف وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم ولم أجد في خطب السلف الطيب والأعراب الأقحاج ألفاظاً مسخوطة ولا معاني مدخولة ولا طبعاً ردياً ولا قولاً مستكرهاً وأكثر ما نجد في خطب المولدين البلدين المتكلفين ومن أهل الصنعة المتأدبين سواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب أو كان من نتاج التخير والتفكر
(5) مكانة الخطابة وعيوب الخطباء
تقدم لك قانون البلاغة الذي وضعه عمرو بن نجر الجاحظ في صفحة وتدارسه يغني طالب الخطابة عن كتاب ورب مقالة خير من سفر ولقد عرفت العرب ما كانت عليه من الغريزة ألفائقة في البيان صعوبة الخطابة وأنها لا يوفق إليها إلا أفراد ولذلك كانت تكرم الخطيب أكثر من إكرام الشاعر وقد ضربت المثل بالخطيب في قولها (الخطب مشوار كثير العثار) والمشوار هو المكان الذي تعرض فيه الدواب وقالواعقل المرء من فوق بلسانهوكانت تتعاير بألفهاهة وقلة الإجادة في البيان وتقول نعوذ بالله من الإهمال ومن كلال الغرب في المقال ومن خطيب دائم السعال قال بشر بن معمر في مثل ذلك
ومن الكبائر مقول متعتع ... جم التنحنح متعب ميهود
وقال شاعرهم يعيب بعض خطبائهم:
مليء ببهر والثغات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
وضربوا المثل بالبلاغة بسحبان وائل فقالوا فلان أخطب من سحبان كما ضربوا المثل بالعي في الكلام بباقل فقالوا فلان أعيى من باقل وقد جمع الجاحظ في البيان والتبيين كثيراً من أخبار البلاغة والحصر والخطباء والبلغاء والإيمياء ومما قال: وليس حفظك الله مضرة(92/8)
سلاطة اللسان عند المنازعة وسقطات الخطل يوم إطالة الخطبة بأعظم مما يحدث عن العي من اختلال الحجة وعن الحصر من فوق درك الحاجة والناس لا يعيرون الخرس ولا يلومون من استولى على بيانه العجز وهم يذمون الحصر ويؤنبون العي فإن تكلفنا مع ذلك مقامات الخطباء وتعاطيا مناظرة البلغاء تضاعف عليهما الذم وترادف عليهما التأنيب وممتنة (مماطلة) العي الحصر البليغ المصقع في سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق وأحدهما آلوم من صاحبه والألسنة إليه أسرع وليس المجلاجالمتردد في كلامهوالتمتاممن تسبق كلمته إلى حنكه الأعلى والتمتمة رد الكلام إلى التاء والميم والألسغ الذي يحول لسانه من السين إلى الثاء أو من الراء إلى الغينوألفأفأةمردد ألفاءوذو الحبسةالذي لا يسمع قولهوالحكلةالذي لا يسمع صوتهوالرتةالعجمةوذو اللقفعي بطيء الكلام إذا تكلم ملا لسانه فمهوالعجلة في سبيل الحصر في خطبته والعي في مناضلته خصومه كما أن سبيل المفحم عند الشعراء والبكي عند الخطباء خلاف سبيل المسهب الثرثار والخطل المكثار ثم أعلم أبقاك الله أصاحب التشديق تكلف البلاغةوالتقعيرالتكلم بأقصى ألفموالتقعيبتقصير الكلاممن الخطباء والبلغاء مع سماجة التكلف وشنعة التزيد أعذر من عي يتكلف الخطابة ومن حصر يتعرض لأهل الاعتياد والدربة ومدار اللئمة ومستقر المذمة حيث رأيت بلاغة يخالطها التكلف وبياناً يمازجه التزيد إلا أن تعاطي الحصر المنقوض مقام الدرب التام أقبح من تعاطي البليغ الخطيب ومن تشادق الأعرابي القج وانتحال المعروف ببعض الغزارة في المعاني والألفاظ وفي التحبيرالجبانأنه في مسلاخصفة التام الموفر والجامع المحكك وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: أياي والتشادق وقال أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون وقال من بدا جفا وعاب الغدادين والمتزبدين في جهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق ورحب الفلاحم وهدل الشفاهإرسالها إلى أسفلوأعلمنا أن ذلك في أهل الوبر أكثر وفي أهل المدر أقل فإذا عاب المدري بأكثر مما عاب به الوبري فما ظنك بالمولد القروي والمتكلف البلدي فالحصر المتكلف والعي المتزيد الوم من البليغ المتكلف لأكثر مما عنده وهو أعذر لأن الشبهة الداخلة عليه أقوى فمن أسوأ حالاً أبقاك الله ممن يكون الوم من المتشادقين ومن الثرثارين المتفيهقين ومن ذكره النبي صلى الله عليه وسلم نصاً وجعل النهي عن مذهبه معسراً وذكر مقته له وبغضه إياه قال: ولما(92/9)
علم واصل بن عطاء أنه الثغ فاحش اللثغ وإن مخرج ذلك شنع إذا كان داعية مقالة ورئيس نحلة وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل وأنه لابد له من مقارعة الأبطال من الخطب الطوال وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة وإلى تمام الآلة وأحكام الصنعة وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وإن حاجة المنطق إلى الطلاوة والحلاوة كحاجته إلى الجلالة والفخامة وإن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتنثني إليه الأعناق وتزين به المعاني وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان والمتمكن والقوة المتصرفة كنحو ما أعطى الله نبيه موسى صلوات الله عليه من التوفيق والتسديد مع لباس التقوى وطابع النبوة ومع المحبة والاتساع في المعرفة ومع هدى النبيين وسمت المرسلين وما يغشيهم الله به من القبول والمهابة ولذلك قال بعض شعراء النبي صلى الله عليه وسلم:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر
ومع ما أعطى الله موسى عليه السلام من الحجة البالغة والعلامات الظاهرة والربهانات الواضحة إلى أن حل تلك العقدة ورفع تلك الحبسة وأسقط تلك المحنة ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان وإعطاء الحروف حقوقها من ألفصاحة رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأتى لسره والراحة من هجثه حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما تأمل حتى صار لغرابته مثلاً ولظرافته معلماً ولولا استضافة هذا الجنس وظهور هذه الحال ولما استجرنا الإقرار به والتأكيد له ولست أعني خطبه المحفوظة ورسائله المخلدة لأن ذلك يحتمل الصنعة وإنما عنيت محاجة الخصوم ومناقلة الأكفاء ومفاوضة الإخوان واللثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء والعين أقلها قبحاً وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وإشرافهم وعلمائهم.(92/10)
الشيعة في بر الشام
المسلمون اليوم ينقسمون إلى فرقتين كبيرتين أهل السنة وهي الأكثر عدداً والشيعة وهي التي تتلوها في الكثرة ولا يقل عدد ألفرقة الأولى عن مائة وخمسين مليوناً من النفوس كما لا يقل عدد الثانية عن تسعين مليوناً وينطوي تحت هاتين ألفرقتين فرق أخرى تابعة لإحدى الطائفتين وتفترق الشيعة فرقاً متعددة أكبرها وأشهرها والمتبادر معناها عند إطلاق اسم الشيعة والتي عليها المعظم في كافة الأقطار هي فرقة الشيعة الأمامية الاثني عشرية فمنها أكثر شيعة إيران وشيعة بلاد القفقاس وسائر البلاد الروسية وشيعة الصين ومعظم شيعة الهند والتركستان وبلاد التتر المستقلة وشيعة الشام وشيعة الحجاز والعراق وشيعة جبل عامل المعروفون بالمتأولة أما شيعة جبل عامل (المتأولة) فقد كانوا ولم يزالوا معروفين عند عامة الشيعة في الإفطار بالصلاح والتقوى وإن لجبل عامل اسماً مقروناً بالتكريم عند عامة الشيعة في أكثر البلاد النائية لما أنتج من العلماء العاملين الذين ضربوا آباط الإبل في نشر مذهبهم وافنوا الوقت بحثاً وتدريساً حتى أصبح الكثير من كتب الحديث وألفقه وأصول ألفقه مما يدرس في مدارس الشيعة في جماع الأقطار من مؤلفات علماء جبل عامل (المتأولة) وحسبك بالرحالة العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي صاحب الصاحب الكشكول والخلاصة الحسابية وغيرهما الذي تولى وزارة إيران مدة من الزمن ثم هجرها حباً بالإفادة والاستفادة وبالشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي المعروف بين مؤلفي الشيعة بالمحقق الكركي الذي تولى مشيخة الإسلام في إيران زمن الدولة الصفوية وكان الركن الأقوى في نشر مذهب الشيعة في بلاد فارس وبالشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المعروف بالشيخ الحر صاحب كتاب الوسائل الحديث والهداية وغيرهما حسبك بمن ذكرنا فخراً لجبل عامل وأما الشهيدان فقد كان لهما القدح المعلى في التأليف والتصنيف والمنزلى العظمى بين علماء الشيعة على الإطلاق وكذلك من خلف من بعدهم كصاحب المدارك وصاحب المعالم وأمثالهما.
بدء عهد الشيعة في الشام
مذهب الشيعة في بلاد الشام قديم يرجع إلى زمن الخلفاء الراشدين بل هو في سوريا أقدم منه في سائر البلاد حاشا الحجاز(92/11)
ؤلاء شيعتكم قال هؤلاء شيعتنا حقاً وهم أنصارنا وإخواننا ولا يخفى أن الإمام أبا عبد
والمعروف بينهم أن الذي دلهم عليه هو أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه) لما سيره الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى الشام وكان أبو ذر (رحمه الله) معروفاً لعلي وأهل البين عليهم السلام بلا خلاف بل هو أحد الأربعة الذين عرفوا بالتشيع وأطلق عليهم أسم الشيعة في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) كما أخرجه أبو حاتم في كتاب الزينة في الألفاظ المتداولة ولا يزال في بعض قرى جبل عامل آثار معروفة لأبي ذر منها مقام معروف بقرية الصرفند بين صيدا وصور يعرف بمقام أبي ذر ومثله في قرية ميس الجبل على مشارف الحولة في أعالي جبل هونين إلا أنه لم يرد في كتب التاريخ المعتمدة مما بين أيدينا ما يدل على خروج أبي ذر من دمشق إلى جبل عامل فليس فيها إثبات هذا الأمر ولا نفيه الشهرة المتواترة لدى العامليين خلفاً عن سلف الناطقة بإثباته ربما تكون دعامة للصحو ولا تبعد صلاحيتها للاستدلال على خروجه إلى هذه الديار نعم ذكر الطبري وابن الأثير أن الذي خرج من دمشق إلى الساحل هو عامر بن عبد القيس وهو أحد الزهاد الثمانية معروف بالتشيع نص عليه الكشي في رجاله ولم يذكرا أي جهة من الساحل سكنها عامر هذا إلا أنه لا يصلح أن يكون مستنداً لما نحن فيه ولا سيما وأنه لم يعرف اسم عامر كما عرف اسم أبي ذر في هذه البلاد وذكر الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المشغري من علماء عامل في القرن الحادي عشر في كتابه أمل الآمل مايدل على خروج أبي ذر إلى جبل عامل فقد قال ما نصه: روي أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من شيعة علي إلا أربعة مخلصون سلمان ومقداد وأبو ذر وعمار ثم تبعهم قليلون اثنا عشر وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفاً وأكثر ثم في زمان عثمان لما أخرج أبا ذر إلى الشام في أياماً فتشيع فيها جماعة كثيرة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم فظهر أنه لم يكن يسبق أهل جبل عامل إلى التشيع إلا جماعة محصورون من أهل المدينة وقد كان في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت في جبل عاملثم ذكر بعد ذلك رواية مرسلة عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وقد سئل عن أعمال الشقيف فقال: أرنون وبيوت وربوع تعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال قيل يا ابن رسول الله (ص)(92/12)
الله الصادق (ع) كان في النصف الأول من المائة الثانية للهجرة وذكر صاحب الدمعة الساكبة المطبوع في إيران عن كتاب البحار للعلامة المجلسي رحمه الله عن كتاب الروضة والفضائل لشاذان بن جبرائيل القمي بالأستاذ إلى عمار بن ياسر وزيد بن أرقم (رضي الله عنهما) أنهما كانا بين يدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة يونم الاثنين لسبع خلت من صفر إذ ورد عليه رجال ذوو عدة وعدد ثم ساق قصة طويلة خلاصتها أن جماعة جاءت تستفتي أمير المؤمنين عليه السلام في بعض أمورها وهي من قرية أسعار من أعمال دمشق عند جبل الثلج والظاهر من الرواية أن هذه الجماعة من الشيعة وأنها رجعت مقضية الحاجة أما قرية أسعار هذه فموقعها في سفح جبل الثلج بين قريتي مجدل شمس وجباتا الزيت لا تزال خربة تعرف بهذا الاسم ومن دونها نهر يعرف بنهر أسعار وهي على طريق القادم من دمشق إلى جبل عامل وأهل ذلك الصقع من الطائفة الدرزية الذين انشقوا من الشيعة في القرن الرابع عشر غمض تاريخ وجود الشيعة في هذه الديار على كثير من المؤرخين فلم يذكروا حيث كان شيعة هذه البلاد منذ عهدهم بالتشيع تحت سلط أعدائهم من الأمويين ومن زمن أبي ذر إلى أن انقضى زمن الدولة الأموية لم يخرجوا عن سيطرة معاوية وأبنائه ورهطه وهمما هم في مناهضة العلويين ومطاردتهم في كل صقع ومصر فكان الشيعة متمسكين بحبال الثقة لايقدرون على إظهار انفسهم فاستولى الغموض على مبدأ أخبارهم ومنتهاه في هذه البلاد ولم يكونوا كما كان إخوانهم في البلاد النائية عن مركز السلطة الأموية.
لماذا لقبوا بالمتأولة دون غيرهم من الشيعة
ما زالت الشيعة منذ وجدوا في بلاد الشام مستضعفين عند ولاة الأمر وعند العامة التي امتازت في بر الشام بكرهها الشديد للشيعة وبرميهم بكل تهمة شنعاء تؤلب عليهم الغوغاء وكان مجرد لفظ الشيعة داعياً لإثارة التعصب لما تأل من كرههم في أخلاق الأكثر نقل الجاحظ مخبراً عن بعض التجار خبر ذلك الشيخ السيء الأخلاق الطويل الأطراق الذي كان إذا سمع اسم الشيعة غضب وأربد وجهه وزوى من حاجبيه أخرجه صاحب العقد ألفريد في ذلك العصر كان أحب إلى الرجل أن ينبز بكل نبز قبيح ولا يقال له شيعي لما استحكم من بغضهم في نفوس العامة بفعل السياسة والساسة وإنك لتجد مثل ابن حزم من(92/13)
العلماء المشهورين وصاحب كتاب ألفصل في الملل والنحل يرمي الشيعة بكل وصمة ويلصق بهم كل غريبة وهم هم إلى اليوم لم يغيروا ولم يبدلوا وهذه كتبهم منشورة ومشهورة لم يخالف قديمها حديثها فليقابل بينها المنصفون ولينظروا في كثير من كلام ابن حزم ليعلموا ما نسبه إليهم العلامة المشهور وترى ابن تميمة الملقب بشيخ الإسلام وحافظ الأنام لا يذكرهم إلا مع التشيع دون برهان يستند إليه أو دليل يعتمد عليه اللهم إلا عصيبة غير صالحة استحكمت في الأخلاق بحكم البيئة والمعاشرة واتباعاً للتقليد ولعل المثير لها مناظرته مع العلامة الحسن ابن المظهر الحلي وإن لم يسلك هذا مسلك ذاك من السباب والشتم في مثل تلك الحال كان شيعة بر الشام مستمسكين بحبال التقية مما كان حولهم من العصبية التي سنها الأمويون في هذه الديار وكان أصلح أرض لنوها أرض الشام فدعوا بالعلويين تفادياً من لفظية الشيعة المكروهة وكان هذا الاسم لهم إلى أن بدلوه بلفظة (المتأولة) كما سيأتي قال الأمير حيدر الشهابي في تاريخه في حوادث سنة 584هأ ما نصهوكان حاكم القرايا (كذا) التي بالقرب من صور رجلاً علوياً منشأ العجم وكان يحكم على ستين ألفاً من العلويين وكان حين تملك الإفرنج تلك الجهات هادنوهم على جزبة تدفع لصاحب صور وينسبون إلى العلويين القاطنيين بعلبككان شيعة بلاد الشام كما قال عنهم واحد منهم وهو الشيخ علي يونس النبطي من علماء الماية الحادية عشرة في مقدمة تفسيره مختصر مجمع البيانعلماؤهم تحت الخمول فلا تقول لأنفسهم ولاضر يتظاهرون بغير ما اعتقدوا فلا قوة لهم ولا ظهر رماهم بأنواع الأذبات الظالمون يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركونكانوا كلما نبغ فيهم عالم اختار إحدى ثلاث أما الهجرة إلى بلاد الشيعة في سائر الأقطار كبلاد إيران حيث ينال المهاجر منهم الكرامة وكبلاد الهند والحجاز والعراق حتى بلاد اليمن لم تخل منهم وبلاد الروم وغيرها. وأما السكون إلى التقية والتكتم في موطن غلب عليه ألفقر واستحكمت فيه المسكنة وامتد فيه الاضطهاد ذكر صاحب أمل الآمل في علماء جبل عامل أكثر من خمسين عالماً هجروا بلادهم هرباً من الضغط والاستبداد بعضهم إلى بلاد فارس حيث أصبح الكثير منهم شيوخ إسلام وقضاة فيها وبعضهم إلى بلاد الهند وبعضهم إلى بلاد الحجاز في مكة والمدينة المنورة وبعضهم إلى القسطنطينية وبعضهم إلى أرض اليمن وبعضهم إلى العراق - فكان(92/14)
من نصيب بلاد إيران في المائة الحادية عشرة الشيخ بهاء الدين العاملي والشيخ إبراهيم البازوري والسيد بدر الدين الأنصاري والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي شيخ الإسلام والسيد محمد بن علي نحيب الدين القاضي بطوس والسيد محمد ابن مهدي والسيد ميرزا محمد معصوم والشيخ محمد ابن علي الحرفوشي والسيد علي رضا شيخ الإسلام بأصفهان والسيد حيدر بن نور الدين وكثير أمثالهم ومن نصيب البلاد الهندية الشيخ أحمد بن مكي الجزيني والسيد جمال الدين بن نور الدين والشيخ حسين المشغري والشيخ حسين بن شهاب الدين والسيد رضي الدين والسيد محمد بن أحمد العاملي والشيخ محمد بن خاونت والسيد محمد بن علي الحسيني وأمثالهم وهؤلاء بعضهم في كشمير وبعضهم في حيدر أباد وبعضهم في جيلان ومن نصيب القسطنطينية الشيخ الشهيد زين الدين بن علي الجبعي والشيخ إبراهيم ابن الحسن الحر ومن نصيب الحجاز السيد حيدر بن نور الدين والسيد نور الدين بن علي العاملي والشيخ زين الدين محمد بن الحسن ومن نصيب اليمن الشيخ زين العابدين الحر بصنعاء وفي العراق كثيرون في النجف والحلة وببغداد والبصرة.
وإما أن يبلغ عزلته في بلده فيعرف أمره وربما كانت عقباه القتل أوالتشريد وكأني بالشهيد شمس الدين محمد بن مكي الجزيتي المقتول سنة 786 وقد طبق ذكره الآفاق حتى استدعاه إليه صاحب خراسان لذلك العهد ليتولى مشيخة الإسلام بها كأني به يساق إلى السجن في دمشق مهاناً ثم يفتي بقتله بعد حبس سنة فيقتل ثم يصلب ثم يحرق وليس له ذنب سوى فضله وشهرته والتعصب الذميم في ذلك العصر الوخيم. ولم يكن حظ الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني بأحسن من حظ زميله الشهيد الأول فقد شرد عن وطنه يطارده قاضي صيدا المعروف باسم معروف إلى أن استصدر أمراً سلطانياً بالقبض عليه وإرساله إلى القسطنطينية فأدركه الطالب بمكة زمن الحج ولم يمهله أن يؤدي حجه إلا بعد الالتماس والتضرع ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر وجعجع به إلى بلاد الروم ثم قتله الموكلون بقتله بعد بلوغه القسطنطينية ثم شمل القتل غيرهما مثل الشيخ ابن سودون العاملي من علماء القرن الحادي عشر وغيره كانوا في ذلك الضغط وفي تلك الحال يعرفون في بلاد الشام باسم العلويين وفي غيرها باسم الشيعة، هذا عند العامة وأما الخاصة وأهل العلم فكانوا تارةً يسمونهم شيعة وتارةً رافضة وتارةً إماميه إلا أن اسم العلويين لم يكن ثقيلاً على أسماع(92/15)
العامة الذين كرهو ااسم الشيعة ونفروا منه وإنما اختص به من سكن منهم أرض الشام لأنهم كانوا أبعد الناس عمن يناصرهم لما احتف بهم من الغوغاء الذين رباهم الأمويون على كره أتباع آل البيت الكرام.
حقيقة لفظة متوالي
إن هذه اللفظة (متوالي) من وإلى إذا أحب ومنه ما ورد في الحديث اللهم وال من والاه، قال في لسان العرب وإلى فلان فلاناً إذا أحبه ولكن اسم ألفاعل منها موالي والفعل من متوالي توالي وفي اللغة توالى الشيء إذا تبع بعضه بعضاً وقد استرسل هؤلاء القوم في محبة آل البيت استرسالاً تبع الخلف فيه سنة السلف.
ولكن جمعه هل يكن على متأولة أومتوالية؟ القياس يقتضي الثاني وصحح السماع الأول كما جمع غساني على غساسنة.
يمكن أن يكون أصل اللفظة متولي من تولى أي اتخذ ولياً ومتبوعاً وتولى بمعنى اتبع نص عليه صاحب مجمع البحرين ومطلع النيرين وجعل منه قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهموقال صاحب لسان العرب وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من تولاني فليتول علياً معناه من نصرني فلينصره ثم حرفت فصارت متوالي وجمعت على متأولة وأما ما قيل من أن متوالي محرفة عن متولي المركبة من كلمتين (مت ولي) وأصلها أن الشيعة كانوا زمن اضطهادهم يحرضوا بعضهم بعضاً على الثبات في حب علي عليه السلام فيقول بعضهم لبعض (مت ولياً لعلي) ثم اقتصر على مت ولي وركب منها متولي - فهو بعيد وإلا فكيف اختص به شيعة جبل عامل ولبنان دون غيرهم ولم اختصت به العصور المتأخرة دونما تقدمها مع أن زمان الاضطهاد ومكانه لم يكونا محصورين في جبل عامل إن لم نقل أن ما نال العامليين منه كان أقل مما نال غيرهم لشدة تمسكهم بالتقية التي ألفوها منذ نشأتهم لأن سلطة الأمويين أعدائهم لم تتزعزع عنهم زمناً من الأزمان فشبوا ودرجوا على التخفي والتقية والتجنب عن الوقوع في التهلكة مهما أمكن.
والغريب من المذاهب في هذه اللحظة لفظ ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أن لفظ متأولة مسهل عن متأولة، واحدها متأول لأن الشيعة من أهل التأويل!! والظاهر أن صاحب هذا القول لا يعرف من مذهب الشيعة شيئاً وإلا لما جعلهم من أهل التأويل وهم ليسوا منهم(92/16)
كما لا يخفى على كل من عرف مذهبهم.
ولعل صاحب هذا القول وهم في ما نقله صاحب العقل ألفريد عن الشعبي من قوله ما شبهت تأويل الروافض في القرآن إلا بتأويل رجل مضعوف من بني مخزوم. . . . . الخ. ولكن يظهر أن المراد الشعبي بالروافض (كما يدل عليه كلامه في الخبر الذي بعده) أنهم هم الذين أحرقهم علي عليه السلام ونفاهم إلى البلدان ومنهم عبد الله بن سبأ الذاهب إلى الغلو في علي عليه السلام وتأليهه وقد خرجوا عن ربقة الإسلام والشيعة منهم براء وكيف كان، فالشعبي مع شدة تعصبه على الشيعة لا يكون كلامه حجة عليهم إذا صح أنهم هم المراد في قوله، وربما حمل صاحب هذا القول عليه المشابهة بالحروف بين متأولة ومتأولة وإن كان لا يساعد عليها المعنى ومع ذلك فلوصح ذلك في الجمع فكيف يصح في المفرد وبين لفظتي متأول ومتوالي فرق واضح.
زمن إطلاقه عليهم
بحث الكتاب في زمن تحديد إطلاق هذا اللقب (متأولة) على شيمة جبل عامل وجبل لبنان وبعلبك فذهب بارينوس إلى ما وراء الأمير حيدر الشهابي في تاريخه أنه كان في سنة 635 هجرية لما أتوا من بلاد العجم وسكنوا عشر مدن بإذن أجناد الهيكليين المتسلطين يومئذ على تلك الجهات. . . . يومئذ أطلق عليهم اسم متأولة وفي قوله هذا بعد لأنه إن أراد ظهو ر مذهبهم يومئذ فمذهبهم معروف من صدر الإسلام. وإن أراد إطلاق الاسم فقط فهم لم يعرفوا به إلا في القرن الثاني عشر الهجري بدليل أن كل المؤرخين وأصحاب السير السابقين على القرن الثاني عشر الذين ذكروا بلادهم لم يكونوا يعرفون هذا اللقب ولوعرفوه لأطلقوا عليهم كما فعل صاحب سلك الدرر المتأخر زمنه فإنه لا يذكرهم إلا نبذهم به وصاحب خلاصة الأثر عند ذكره الأمير فجر الدين المعني قال أنه كان درزياً لكنه عند ذكره رجال الشيعة من جبل عامل مثل بهاء الدين العاملي وكثير أمثالهم لم ينبذهم بالمتأولة مع أنهم من لباب الشيعة (المتأولة)، ولما ذكر شقيق آرتون (قلعة الشقيف) قال أن هذا العمل رافضة وفي ترجمة الأمير موسى الحرفوش البعلبكي قال أن البعلبكيين من الولاة في الرفض وفي كل ذلك، بل في كل تاريخه لم يذكر لفظة متأولة ولوعرفها لأطلقها.
وقبل خلاصة الأثر مر ابن بطوطة الرحالة بصور وهي خربة في سنة 726 وبخارجها(92/17)
قرية معمورة سكانها من الأرفاض وصاحب نخبة الدهر، قال عند ذكر جبل عامل وأهله رافضة أمامية وصاحب صبح الأعشى قال مثل قوله.
ولم يذكر لفظ متأولة وكلهم متأخرون عن سنة 635 التي ذكرها بارينوس، وعلى الجملة أن هذا اللقب لم يعرف عند مؤرخي العصور السابقة على القرن الثاني عشر ولوعرفوه لذكروه كما فعلوا بغيره مؤرخوالقرن الثاني عشر عرفوه فذكروه فيكون حدوثه في هذا القرن دون ما سبقه.
ورأيت في بعض التقاويم التركية (سالنامه) في جدولها التاريخي أن ابتداء ظهور المتأولة سنة 11. . هجرية ولا شك أن هذا تقريبي والمراد أنهم عرفوا حوالي تلك الأيام وذلك يؤيد برهاننا السابق.
على أن رواية بارينوس باطلة لبطلان جميع ما ورد فيها فقد جعل المتأولة قادمين من بلاد العجم في تلك السنة مهاجرين حيث سكنوا عشر مدن بإذن أجناد الهيكليين وظاهر ذلك أنه كان في جبل عامل فيما فوق مدينة صور التي كانت في حوزة فرسان الهيكل يومئذ ولم يخرجوا منها إلى نهاية القرن السابع الهجري.
ومهاجرة أهل يربوعلى الستين ألفاً كما قال من بلاد العجم إلى بلاد الشام لا تخفى على أحد ولا تكون سراً مكنوناً فكيف لم ينتبه لها أحد سوى بارينوس من المؤرخين على أن بلاد العجم يومئذ كانت خاضعة لسلطة المغول ولم يكن مذهب الشيعة قد أخذ بالانتشار فيها وأول من نصره ونشره في تلك البلاد هو السلطان أولجانيومحمد خدابنده المغولي وتبعه من كان بعده إلى زمن الدولة الصفوية فعم المذهب يومئذ أقاصي البلاد.
وقد خبط أيضاً بروايته فقال: إن الشيعة يدعون أنهم من نسل علي بن أبي طالب وأن الخلافة بعد عمر بن الخطاب كانت لهم، فرجل هذا مبلغ علمه بالشيعة كيف يعتمد على روايته في شيء من أمورهم.
والحق أن هذا اللقب إنما صح إطلاقه عليهم لما أظهروا وجودهم السياسي وخلعوا طاعة أمراء لبنان وأعلنوا استقلالهم عنه واجتمعوا جملة واحدة ثم ظاهرهم ظاهر العمر الصفدي هنالك كانوا يتحمسون في حروبهم وينتدبون باسم (بني متوال) ومن تتبع أزجال شعرائهم يومئذ ظهر له حقيقة مقالنا.(92/18)
وهذا اللقب لم يعرف لأحد من الشيعة إلا الذين أطلقوه على أنفسهم يوم خاضوا غمار ألفتن في المائة الثانية عشرة وهم شيعة جبل عامل الذين ظهروا يومئذ بزعامة الشيخ ناصيف النصار والشيخ علي ألفارس وعشيرتهما وشيعة بعلبك الذين قادهم أمراء آل حرفوش وشيعة شمالي لبنان الذين كانوا تحت لواء المشايخ آل حمادة.
وما عدا من ذكرنا من الشيعة في سورية كشيعة الديار الحلبية وكشيعة بلاد حماة وحمص وكشيعة نفس دمشق وكلهم لا يعرفون بهذا اللقب إلى اليوم ومن الغريب أن شيعة دمشق الأصليين ينبذون باسم الرافضة عندما لا يريد تكريمهم ومهاجرة بعلبك وجبل عامل في نفس دمشق يعرفون باسم المتأولة وما ذلك إلا إتباعاً للقبهم في ديارهم فقط ويتوهم كثير من العامة أن بين ألفريقين اختلافاً في المعتقد وليس الأمر كذلك.
ديار الشيعة في سورية
معظم الشيعة الإمامية في سورية في جبل عامل وهو البلاد الواقعة ما بين مصب نهر الأولى شمالاً إلى وادي نهر القرن (شمالي صفد) جنوباً ومن غور الحولة شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً ويربوعددهم في هذا الجبل على المائة ألف نسمة وقد تقدم الكلام على أول عهدهم بالتشيع. وفي مدينة دمشق بضعة آلاف منهم وعهدهم بمذهبهم قديم وربما سبقوا العامليين في ذلك مدة قليلة. وفي ضاحية حلب قرى أهلها من الشيعة مثل الفوعا وكفريا ونبل والنغاولة ومعرة مصرين وفي نواحي حماة قرى أخرى كالشيخ علي كيسون والبويضة وسمنة وتليل وفي نفس حمص وفي القرى التي في شرقيها أم العمد، البويضة، تل الأغر، أم دالي، أم تويني وفي غربيها الغور سمعليل دلابوس، أم حارتين وعهد هؤلاء أجمع بالتشيع لا يتأخر عن زمن الدولة الحمدانية التي ملكت حلب وكانت عريقة في التشيع لا يتأخر عن زمن الدولة الحمدانية التي ملكت حلب وكانت عريقة في التشيع وكانت مدينة حلب في عهدهم زاهرة بفقهاء الشيعة وفي كتب ألفقه الإمامي أقوال مشهورة تعزى إلى فقهاء حلب وكان نقباء الأشراف آل زهرة الحسينيون الذين منهم السيد أبوالمكارم بني زهرة من جلة علماء الشيعة، يومئذ كان المؤذنون يؤذنون بحي على خير العمل في كل المآذن الحلبية ولما أراد سليمان بن أرتق بناء أول مدرسة شافعية في حلب لم يمكنه الحلبيون من ذلك إذ كان الغالب عليهم التشيع وكانت نار التعصب يومئذ مستجورة(92/19)
بين الطائفتين
ومن ديار الشيعة في سورية قرى مقاطعات كسرونا والمتن والشوف والبترون والهرمل وشمسار وجزين وجبل الريحان (الجرمق) فهما داخلان في حدود جبل عامل وجزين كانت ذات مدرسة دينية فقهية للشيعة الإمامية وازدهت بعلمائها المشهو رين وأشهرهم الشهيد محمد بن مكي من أشهر علماء الشيعة في القرون الوسطى وهو صاحب المؤلفات المشهورة المعروفة في مدارس الشيعة والذي طلبه إليه صاحب خراسان ليتولى مشيخة الإسلام بها فلم يجبه إلى ذلك وكانت داره تحتوي على خمسة من العلماء والعالمات فكان أولاده الاثنان من خيرة العلماء وابنته أم الحسن وزوجته إليهما مرجع النساء في العلوم الشرعية وفاقت ابنته في العلوم العربية ولا تزال سلالته في جبل عامل لا تخلومن عالم فاضل منذ القرن الثامن إلى اليوم. والشيعة في لبنان لا يقل عددهم عن الخمسة والعشرين ألفاً.
ومن ديار الشيعة في سورية مدينة بعلبك وما إليها وأكثر سكان تلك الجهة من الشيعة ولم يظهر لنا بدء عهد البعلبكيين بالتشيع ولكنه كان منذ القرن العاشر الهجري معروفاً بينهم ولم يخبرنا التاريخ بتقدمه على ذلك العصر كما لم ينف لنا وجوده قبله وأول ما اشتد أزر الشيعة فيها في عهد الأمراء الحرافشة الذين ملكوا بعلبك بعد دخول السلطان سليم إليها.
وعهد الشيعة اللبنانيين بالتشيع إما في الجهات الشمالية فكان من مهاجرة بعلبك حوالي القرن الثاني عشر وأما في الجهات الجنوبية فعهدهم به كعهد العامليين أوقريب منه أي أنه قديم جداً.
وفي حوران في بصرى فريق من الشيعة من مهاجرة جبل عامل استوطنوا ذلك البلد ويقارب عدد الشيعة الإمامية في جهات سورية المائتي ألف وربما يزيدون ولنجعل للبحث صلة في أحوالهم الاقتصادية وشؤونهم الاجتماعية وبالله التوفيق.
النبطية (جبل عامل)
أحمد رضا.(92/20)
الخرافات والأوهام
في تأثير الفلك والأيام
لا ترقب النجم في أمر تحاوله ... فالله يفعل لا جدي ولا حمل
مع السعادة ما للنجم من أثر ... ولا يضرك مريخ ولا زحل
(البهاء زهير).
إنّ الأوهام والخرافات في الظواهر الجوية قديمة في العمران تترامى إلى العصور الأولى وأهم مسبباتها عبادة الأجرام ألفلكية وحب استكشاف المغيبات ومعرفة المستقبل والاستعداد والاستشقاء ولاسيما في الأقاليم الشرقية التي يصفوجوها في معظم أيام السنة وتتجلى فيها الظواهر الجوية بأبهى أشكالها فنزعت نفوس سكانها منذ فطرتهم إلى استطلاع المؤثرات واستنطاق النيرات والكواكب التي رأوها من مقومات الحياة الأولية. فكان تلون أشكالها واختلاف مظاهرها وتبدل مواقعها وتغير ألوانها وما شاكل داعياً إلى عبادتها ثم استرشادها لما في نفوس تلك العصور من البساطة وهم في مهد الحضارة وفي سرير النشأة فاشتهر بذلك المصريون والفينيقيون والكلدانيون والآشوريون والبابليون والفرس واليونان والرومان إلى أن دالت دولتهم وقامت دولة العرب ثم الدول التي تلتها فظلت الاعتقادات الوهمية سائدة بينهم إلى مدة قرنين، ولذلك كثر الاشتغال خاصة عند القدماء بعلوم التنجيم كالكهانة والقيافة والعيافة والزجر والخط في الرمال وتعبير الرؤيا. ووضعوا أقاصيص للمعبودات والكواكب فوجد عندهم علم الذي كثرت فيه تجرصات الأوهام وتفشت الخرافات والأقاصيص.
ومنه نشأت العلوم التنجيمية والسحرية بأنواعها وامتلأت كتب القدماء بأخبارهم وأحاديثهم القصصية في العصر الخرافي فألفت فيها الكتب الكثيرة من أهمها السندهند عند الهنود، وقد أمر الخليفة أبوجعفر المنصور بتعريبه فعربه الفزاري وقرب الخلفاء المنجمين واعتمدوا على أوهامهم فتفشى ذلك بينهم حتى لم يستطع اقتلاعه علماء الشّرع الصادعون بتخطئته. ونبغ من الغرب الخوارزمي فألف على مثال السندهند زبجه المشهو ر جامعاً فيه بين مذاهب ألفرس والهند والروم وهو جداول حركات الكواكب التي ترشد إلى التقويم والتوقيت. ثم اشتهر بعد ذلك أبومعشر البلخي ألفلكي فألف كتابه المملوء بالخرافات(92/21)
والأوهام ثم البتاني والبيروني والوسي وأمثالهم وقد نجوفي مؤلفاتهم نحوالاختبار والتحقيق أكثر من غيرهم.
وسموا علم البحث في إحكام كل وقت وزمان من الخير والشر وما يندمج في سلك ذلك من السعد والنحس إلخ، علم (الاختيارات) وفي مفتاح السعادة لطاش كبري وكشف الظنون للحاج خليفة وأسماء مؤلفات كثيرة بهذا ألفن. وسموا علم الرصد وما يبنى عليه من النافع والضار وما شاكل علم الزيج والزايرجة ولهم أزياج كثيرة عددوا أسماءها في كشف الظنون وغيره.
ولذلك ترى مؤلفاتهم كثيرة في أحداث الجو والآثار العلوية وأحكام النجوم والتأثيرات العلوية والزجر وألفال واستخراج الحب والضمير والتوفيق بين الطب والنجوم والاستدلال بالكسوفات على الحوادث وفي المذنبات وأيام العجوز وليعقوب ابن اسحق الكندي رسائل كثيرة في هذه الموضوعات كما نرى لغيره بعضها مثل أرسطووابن الخمار البغدادي والفارابي وابن سينا وابن خطيب الري والفضل بن حاتم النيريزي وأمثالهم.
فتحولت خذه العلوم من النجامة إلى الرمل وحساب النسيم والزايرجة. وقيل لها في أيامنا التبريج والتنجيم. وهكذا بقي الإنسان سحابة عصور طويلة وأحقاب مستفيضة منهمكاً بمراقبة النجوم ورصد الطوالع والمنازل يوفق بين سعودها وأعماله ويحذر من نحوسها ومستقبله فينقاد بأزمة الأوهام ويسكن بمسكنات الإنذار بالويلات ولله در القائل يخاطب أمثال هؤلاء الضالين:
يا راصد الخنس الجواري ... ما فعلت هذه السماء
مظلمونا وقد زعمتم ... أنكم اليوم أملياء
ولا نرى غير زور قول ... إذاك جهل أم ازدراء
إنا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء
رضيت بالله لي إلهاً ... حسبكم البدر أوذكاء
ما هذه إلا نجم السواري ... إلا عباد يد أوإماء
يقضي عليها وليس تقضي ... وما لها في الوري اقتضاء
فمن هذه الاعتقادات ما هو مبني على قواعد علمية ومشاهدات إخبارية مثل علاقة القمر(92/22)
بالمد والجزر وتقلبات الهواء وحدوث العواصف حتى ثبت عند بعض الراصدين بعد مراقبة سنوات طويلة: أن الزوابع والعواصف تكون أكثر عدداً إذا كان القمر هلالاً وتقل إذا أبدر.
وكذلك معرفة الكسوف والخسوف بأوقاتهما ومواعيد رجوع المذنبات وقياس أبعاد الكواكب ومعرفة قطر الأرض ومحيطها وكرويتها ودورانها حول الشمس. وعلاقة السفع الشمسية (أي سواد الشمس) باضطراب حالة الأرض الجوية والداخلية فثوران البراكين والزلازل وشدة حرارة الصيف وبرد الشتاء والزوابع تكون إذا كانت السفع في معظمها أوأقلها لما يحدث من الاضطراب المغناطيسي. ومن مفاعيل حرارة الشمس أنها تسبب الرياح والغيوم والأمطار واختلاف الدورتين الهوائية والمائية فهي بحصر الكلام حياة الحيوان والنبات والجماد. وعرف المراقبون أن أكثر أيام الشهر مطراً يكون في اليوم التاسع من الهلال وأكثر ساعات النهار مطراً يكون في الساعة الرابعة بعد الظهر.
كل هذه الإستقراآت والمشاهدات حملت الناس على تأليه الشمس والقمر وعدهما سبب حياة العالم.
ومن هذه الاعتقادات ما لم يقم على صحته دليل قاطع حتى الآن وإن كان بعضها من الممكنات مثل اصطدام الأرض بالمذنبات أوبحلقة الشهب والنيازك التي تلتقي بمعظمها كل ثلاثين سنة مرة وميعاد رجوعها سنة 1929 م. أما ملتقى الأرض بالمذنبات فيكون بموعد كل منها بحسب مدته وهي كثيرة الأنواع مختلفة المدات. على أن الرصد أفادنا أن اصطدام المذنبات بالأرض لا يضر هذه لأن مذنب بيالا سنة 1852 انقسم بصدمته شطرين ثم تفتت وكان آخر العهد به، فلذلك كان تكهن بعض العلماء من هذا القبيل لا يريب العقلاء والمفكرين وإن كان قد أقلق العامة في أزمان مختلفة. على أن مخاطر الأرض كثيرة فقد يمكن أن يكون تفانيها بجفاف البحار والأنهار وانقطاع الأمطار ونضوب المياه وتوسيع نطاق الرمضاء كما هو الحال في المريخ الآن أويكون بفقدها هو اءها وزوال بخارها المائي فلا تنعقد السحب في جوها ولا يجد المتنفس أوكسجيناً يدخل رئتيه فتموت الناس اختناقاً كما هو الحال في القمر الآن أويكون موت الناس غرقاً بمياه البحار التي تدفعها البراكين المنفجرة في قلبها فترفعها من أماكنها وترسلها على البر فتجعل النجاد سهو لاً(92/23)
وتصير الكرة ملساء بلا تضاريس وتغير سطحها فتغمرها المياه. وكذلك إذا تراكمت الثلوج وقطع الجمد في القطبين الجنوبي والشمالي فتجتمع وتزيد مساحتها إلى أن تصل إلى المحيطين فتملأها وتدفق مياههما على الأرض فتغرقها وتغطيها بالجمد. ومثل هذا أيضاً إذا كثر سجل المياه للشواطئ وجرف السيول للأتربة ووضعها في البحار فقد تزول اليابسة متوارية تحت أعماق المياه.
فمثل هذه الأسباب ممكنة منتظرة ولكن لا يعلم وقت حدوثها إلا خالق العالم الذي تسمح إرادته العالية بفناء العالم كما سمحت ببقائه لأسباب يريدها هو ونحن لا نعرف لها وجهاً ولا يمكن التذرع إلى استطلاعها بوسيلة.
فبعد أن عرفنا من هذه المقدمات هذه النتائج نقول أن أول من سلك البحار بدلالة النجوم الفينيقيون سكان شواطئ آسيا وجرى مجراهم اليونان منذ حرب طروادة سنة 12. . ق م والعرب أيضاً في إبان مجدهم ومعرفتهم الملاحة، فكان نجم القطب وغيره من السور الثابتة قائداً لهم ودليلاً في أسفارهم حتى إذا توارت هذه الأدلة بالغيوم عمدوا إلى الاستدلال بالإبرة المغناطيسية. ولكن بقي المقام الأول للملاحة معتمداً على النجوم ومطالعها.
ولما كانت النيرات والكواكب أساساً لتقسيم الوقت كان القدماء من مثل السريان والعبران والعرب والهنود والصينيين قد قسموا السنة إلى اثني عشر شهراً والشهر إلى أربعة أسابيع والأسبوع إلى سبعة أيام فجعلوا لكل يوم من الأسبوع كوكباً من السيارات السبع لعهدهم والشمس والقمر والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد وزحل ولا تزال تسمية الأيام عند الفرنج مبنية على هذه العلاقة، ونسبوا إلى ذلك كثيراً من التأثيرات الغريبة في طبائع الكائنات مع أنهم كانوا يجهلون شؤونهم الخاصة على حد قول شاعر العرب:
وما الذي تدريه في فلك العلي ... إذا كنت في أحوال دارك جاهلاً
أما العرب فقد قسموا الأفلاك إلى تسعة منها سبعة للكواكب السيارة والثامن للكرسي وهو فلك النجوم الثوابت أو الفلك المكوكب والتاسع وهو العرش ويعرف بالأطلس لخلوه من الكواكب، ولهذه الكواكب في الأفلاك أبراج عددها اثنا عشر فبعضها له منها برج والبعض برجان، وهذه البروج تنقسم إلى نارية ومائية وهو ائية وترابية وإلى صيفية وخريفية وشتوية وربيعية وإلى شمالية وجنوبية ومرتفعة وهابطة وسعيدة ونحسة. ومنازل القمر(92/24)
ثمان وعشرون منزلة يحل كل يوم من الشهر منزلة منها ويستتر.
والكواكب السيارة منقسمة إلى سعد ونحس وممتزج، ولكل نجم شرف في المنازل فشرف زحل في إحدى وعشرين درجة من المنيران وشرف المريخ في ثمان وعشرين من الجدي والشمس في تسع عشرة من الحمل. وعطارد في عشرين من السنبلة. والزهرة في سبع وعشرين من الحوت والمشتري في أربعة عشرة من السرطان والقمر في الدرجة الثالثة من الثور إلى غير ذلك من أمثال هذه الاختيارات
ومن كلفهم في هذا التأثير أن الخليل بن أحمد الفراهيدي مخترع العروض قد وجد اتفاق الحروف مع النجم فقال أن عدد الحروف العربية بعدد منازل القمر (28) وغاية ما بلغ إليه الكلام مع الزيادة (7) أحرف كعدد السيارات. وصور الزوائد (12) كعدد البروج. وما يدغم من الحروف مع لام التعريف عدده (14) ويعرف بالشمسي وهو مثل منازل القمر التي يسيرها تحت الأرض و (14) فوقها. فتأمل
ولم ينحصر ذلك في اللغة بل تجاوزها إلى صناعة الطب فإنهم اعتمدوا على كثير من العلاجات على مثل هذه الموافقات والظواهر ألفلكية فهذا ابن أبي أصيبعة قد روى في كتاب (طبقات الأطباء): أنه نقل من بعض الكتب أن بختيشوع (الطبيب المشهو ر) كان يأمر بالحقن والقمر متصل بالذنب فيحل القولنج من ساعته. ويأمر بشرب الدواء والقمر على مناظرة الزهرة فيصلح العليل من يومه.
ولا بأس أن نلم بمعتقدات القدماء في مثل هذه المظاهر ألفلكية فقد ذهب أرسطو وتبعة العرب وأهل القرون الوسطى: أن المذنب ليس إلا أبخرة تتصاعد عن الأرض حتى تبلغ طبقة الهواء المجاورة لكرة النار فتتحرك بحركة تلك الطبقة على الاستدارة ثم تستطيل وتتكاثف إلى أن تحترق فتتوقد وتتألف حتى تنطفي نارها فتتوارى وهو من أعقم المذاهب وأدناها في نظر المحققين من العلماء.
ومن مزاعم هذا ألفيلسوف أيضاً أن كرة الهواء تقسم إلى ثلاث طبقات فالسفلى تعيش فيها الحيوانات والنباتات وهي غير متحركة كالأرض التي تحتها والوسطى عليها وهي بغاية البرودة غير متحركة أيضاً. والعليا مجاورة لكرة النار تتحرك بحركة ألفلك الأعظم اليومية، وإن الأبخرة التي تتصعد من الأرض تسخن في طبقة الهواء التي تجاور كرة النار فتحمى(92/25)
وتتألف ثم تستطيل بدورانها.
ويروى أن ديموقريطس زعم أن بعض المذنبات ليست إلا أرواح المشاهير حتى تابعه بودين من فلاسفة القرن السادس عشر. ومن أقواله في هذا الوهم: إنني أعتقد اعتقاد ديموقريطس أن الكواكب هي أرواح المشاهير تصعد إلى السماء ظافرة مزدهية ولذلك كانت الحروب والأوبئة والمجاعات وأمثال هذه النكبات الجائحة تدمر الأرض عند ظهورها إذ تفقد عظماءها ونوابغها فلا يبق فيها من يدبر شؤونها.
وعلى هذا العزم الباطل توهموا أن مذنب هالي الذي ظهر سنة 43 ق م هو روح جوليوس قيصر إمبراطور رومية الذي قتل بعد ظهوره بقليل. وأشاعوا بينهم هذه الرواية وهي أن قيصر هذا تحول كوكباً وهاجاً وانتظم في سلك الآلهة العلوية وأيد قولهم شدة تألقه حتى كان يرى في الهاجرة.
ومن أغرب هذه المعتقدات أن تبقى راسخة في الأذهان حتى أوائل القرن الماضي فإن ألفرنسيين مع مدنيتهم العصر يتفاءلوا يوم ولادة نابليون بونابرت بظهور مذنب في 8آب سنة 1769 وذلك قبل ولادته بأسبوع، وتشاءموا بظهور مذنب في 21 كانون الثاني سنة1821 واشتداد تألقه في أوائل أيار ولاسيما في 5 منه يوم مات نابليون فجمعوا بهذا بين المعتقدين.
ومن مزاعم القدماء في كسوف الشمس وخسوف القمر اضطرابهم جميعاً حتى الملوك والعظماء فكان هؤلاء كثيراً ما يوصدون أبواب القصور ويلحقون شعور أولادهم حزناً وحداداً ويقدمون القرابين للآلهة وللكواكب دفعاً لغضبها وتمويهاً على الشعب بإلقاء الرعب في قلوبهم، ولاسيما عند اليونانيين والرومان.
وأما الهنود والصينيون فيشهدون الأهازيج ويطلقون البنادق ويقرعون النحاس لإعادة نظام النيرين ومثل ذلك يجري عندنا حتى اليوم في بعض الأماكن.
وكثير من الإفرنج ينسبون للقمر أيام نحس وسعد فمنهم من يتفاءل بالزواج في ليالي نموه وإبداره ومنه من يتفاءل بمحاقه فيفضل أهل أثينا ليلة الهلال.
وأهل اسكتلندا اليوم الأخير من السنة، يعتقد الدانمركيون أن المولود والقمر في الزيادة بولد بعده من جنسه وبالعكس إذا كان القمر في النقصان.(92/26)
وإذا ولد والقمر في الحضيض مات قبل سن الرشد وإذا ولد في سنة كبيسة مات هو وأمه في ليلة واحدة وعند بعضهم أن دلك اليدين في ضوء القمر يذهب الثآليل والدمامل، وعندنا أن عد النجوم يولد الثآليل، ومن مزاعم الإفرنج في الشهر أن مولودة كانون الثاني مديرة للمنزل مائلة للسويداء والكآبة ولكنها كريمة الأخلاق. . . . وشهر تشرين الثاني عند ألفرنسيين شهر الأموات وعند الهولنديين شهر السرور وألفرح فيكثر فيه الزواج، ويعتقدون أن شهر آب تحت حكم الأسد والعذراء فمن أوله إلى 21 منه يحكم برج الأسد ومن 22 إلى نهايته يحكم برج العذراء فمن ولد في الأيام التي يحكم فيها برج الأسد ينال الثروة والمجد ويكون من أرباب الترف واللهو ولكنه يصاب بالخصام في أسرته والحزن عليها وقد ينال ربحاً من إرث أونصيب.
ومن ولد في الأيام التي يحكم فيها برج العذراء كانت حياته معرضة لخطر عظيم في صغره ولا أمل له بغير الإرث وكل ما يرثه يكون موضوع النزاع.
والرومانيون واليونان وألفرنسيون والإنكليز يتشاءمون من شهر أيار ولا يتزوجون فيه والزواج في حزيران وتشرين الأول ميمون إلى غير ذلك.
وأما الاعتقاد في أيام الأسبوع فالأميركان كانوا يقولون أن مولود يوم الاثنين يكون جميل الوجه والثلاثاء ممتلأ من نعمة الله والأربعاء مسروراً وبشوش الوجه والخميس تعساً شقياً والجمعة هبة إلهية والسبت منهمكاً في تحصيل معاشه والأحد مستغنياً لا يحتاج إلى شيء. والعطاس يوم الاثنين ينذر بالخطر والثلاثاء يدل على قبلة من أجنبي والأربعاء للحصول على رسالة والخميس لليمن والجمعة للحزن والسبت لمقابلة حبيبة والأحد للعياذ من الشيطان.
ويوم الأربعاء أحسن الأيام والخميس آلام والجمعة خسارة والسبت خطر على العروس والأحد ندم على ما فعلت وأما بالنظر إلى الأشغال فالأربعاء عندهم أقبح الأيام والسبت أحسنها.
وتقليم الأظافر يوم الاثنين للأخبار والثلاثاء لزوج أحذية جديد والأربعاء للصحة والخميس للثروة والجمعة للحزن والسبت للسفر والأحد للمصيبة.
والزواج يوم الاثنين للثروة والثلاثاء للصحة والأربعاء أفضل يوم والخميس للبلايا والجمعة(92/27)
للخسران والسبت لحرمان الحظ ونيل التعاسة.
ورأيت في تعاليق بعض المخطوطات التي أحرزها من مكتبتي ولاسيما (شرح السبط المارديني لفرائض السخاوي) وهو من نوادر المخطوطات ما يوافق هذه النظرات عند العرب فمما ينسب إلى الإمام الشافعي قوله في أيام الأسبوع وتنسب إلى الإمام علي أيضاً:
لنعم اليوم يوم السبت حقاً ... لصيد إن أردت بلا امتراء
وفي الأحد البناء لأن فيه ... إبان الله إطباق السماء
وفي السماء إن سافرت فيه ... فترجع بالمليح وبالثناء
وإن رمت الحجامة في الثلاثا ... ففي ساعاته هرق الدماء
وإن شرب امرؤ منكم دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضاء حاج ... لأن الله يأذن بالقضاء
وفي الجمعات تزويج وعرس ... فتجتمع الرجال مع النساء
ولابن حجر العسقلاني:
قص الأظافر يوم السبت آكلة ... تبدووفيما يليه يذهب البركة
وعالم فاضل يبدوبتلوهما ... وإن يكن في الثلاثا فاحذر الهلكة
ويورث السوء في الأخلاق رابعها ... وفي الخميس يأتي لمن سلكه
والقسم والعلم زده في عروبتها ... عن النبي رويانا فالتفوا نسكه
وسعود الأيام ونحوسها هو بحسب ما ورد في كتاب (جامع ألفنون وسلوة المحزون)
لابن شبيب الحراني المتوفي سنة 695 هـ (1295م) من نوادر مخطوطات مكتبتي ونسخه عزيزة الوجود. إن يوم الجمعة أفضل الأيام يحمد فيه الزواج والراحة وتقليم الأظافر والسبت يوم راحة لا يجوز فيه صرم النخل. والأحد أول يوم للخليقة يصلح فيه البناء وابتداء كل عمل، والاثنين مبارك ترفع فيه الأعمال والثلاثاء للحجامة والقعود وإصلاح حال النفس والأربعاء قليل الخير ولاسيما آخر أربعاء الشهر فهو يوم نحس مستمر يشرب فيه الدواء ويحمد فيه دخول الحمام وترك الشغل والخميس مبارك للابتداء بالسفر ولطلب الحوائج وفي المأثور عن الرسول بورك لأمتي في بكور سبتها وخميسها ويكره فيه الحجامة والقصد.(92/28)
وشهر محرم أوله عند ملوك العرب يجلسون فيه للهناء كالأعياد، وصفر القعود فيه أولى من الحركة، وربيع الأول شهر مبارك. وجمادى الأولى مبعث الحوادث العجيبة حتى قالوا العجب كل العجب بين جمادى ورجب. ورجب الأصم يمتنع فيه الحرب والاستئثار عند عرب الجاهلية ورمضان شهر مبارك للصوم والاستغفار إلى غير ذلك مما اقتطفته من صفحات كثيرة للاستدلال على اعتقاد العرب.
ومن نوادر المنجمين عندهم أن هارون الرشيد مرض فأتى بمنجم فأخذ المنجم له تقويماً فتغير وجهه، فقال له هارون الرشيد أصدقني ما سبب تغير وجهك وما ظهر لك وأنت في أمان فأجابه أنه لم يبق لأمير المؤمنين إلا أيام قليلة وبينما هارون الرشيد مضطرب لهذا النبأ إذا بجعفر البرمكي وزيره قادم عليه فأعلمه بالقصة فاستدعاه إليه وقال له: كم عمرك؟ فقال ثلاثون سنة فقال له جعفر خذ تقويمك لنرى كم تعيش فقال ثلاثاً وثلاثين سنة فقال له هارون مر بقتله فقتل فقال له: لوكان صادقاً لصدق بنفسه. وعاش بعد ذلك هارون أعواماً.
ولما أراد الخليفة المعتصم العباسي فتح عمورية سنة 223 هـ (238 م) جمع المنجمين ليختاروا له الطالع السعيد للهجوم عليها فحذره من ذلك لأن المذنب هالي كان قد ظهر قبل ذلك أي سنة 222 هـ (837م) وقد وصفه المؤرخون مثل ابن الأثير وابن أبي أسامة وغيرهما. ولكنه اضطر إلى فتحها فظفر بها واكتسحها فقال أبوتمام قصيدته البائية المشهورة ساخراً بالمنجمين وهي من مشهورات القصائد الواقعية جاء فيها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصفائح في ... متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية بل أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
عجائباً زعموا الأيام مجفلة ... عنهن في صفر الأصفار أورجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذوالذنب
وصيروا الأبراج العليا مرتبة ... ما كان منقلباً أوغير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ... ما دار في فلك منها وفي قطب(92/29)
إلى آخر ما هنالك من التهكم ووصف بسالة المعتصم وإقدامه وتنكيله بأعدائه
ومن لطيف ذلك أن عبد الملك بن مازة البخاري دخل عليه مملوك وفي يده قوس فقال مشيراً إلى حلول الشمس بالقوس سعد وبالعقرب نحس:
تهاني لما بدا عقرب ... على خده أن أروم السفر
فقلت وفي يده قوسه ... أسير ففي القوس حل القمر
ومثل ما عند العرب كان عند الأعاجم فالتاريخ يروي لنا: أنه بينما كان أسطول اليونان على أهبة السفر لمحاربة السبرطيين في 3 آب سنة 431 ق م وكان بيركليس على ظهر السفينة حدث كسوف فتشاءم البحارة من ذلك الظلام القاتم وكادوا يتقهقرون جزعاً فأسرع بيركليس ووضع رداءه على وجه أحد القواد قائلاً له: أست في ظلمة وهل في ذلك ما يخيفك؟ وأي فرق بين هذا الظلام وذاك القتام سوى أن الأول ناتج عن شيء أعظم من ردائي وهكذا استبقى قواهم واستعاد نشاطهم. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
هذا ما احتمله المقام من النظر في أوهام الناس في الأفلاك والمواقيت ونحوها مما يتعلق بالجو وظواهره وفي فرصة أخرى إن شاء الله نعود إلى الكلام في تأثير النجم من سيّار وثابت على البسطاء عند الأمم قديمها وحديثها.
زحلة (لبنان):
عيسى إسكندر المعلوف(92/30)
في فن الأدب
حدث رواة الأخبار أن حميدة بنت النعمان بن بشير الأنصاري تزوجت الحرث بن خالد بن العاصي بن هشام وكان شيخاً هرماً فلم تطب لها الإقامة معه وكانت تسكن دمشق فقالت في ذلك:
فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه)
قولها (فقدت) إنشاء وليس بخبر: فهي تدعوعلى الشيوخ المسننين بأن تفقدهم عن آخرهم وتفقد كل من يتشيع بهم.
ولعل مرادها بالمتشيعين لهم سماسرة السوء الذين يسعون لدى الأسر في تزويج فتياتهم من أولئك الشيوخ الطاعنين في السن فيقعن من عشرتهم في جحيم ومن العيش معهم في بلاء مقيم، ثم قالت حميدة أن دعاءها على الشيوخ هو من بعض أقوالها فيهم أي هو أقل ما يجب أن تقوله في حقهم وفي إظهار النفرة منهم والزراية عليهم.
ترى زوجة الشيخ مغمومة ... وتمسي لصحبته قاليه)
(قالية) مبغضة كارهة. والشيخ هنا لم ترد به حميدة الواحد من شيوخ العلم الديني ولوكان شاباً حسبما اصطلح عليه المتأخرون وإنما أرادت به المعنى اللغوي وهو الرجل الذي شاخ وطعن في السن وبلغ من الكبر عتياً عالماً كان أوجاهلاً. وللشيخ سبعة جموع استوفاها بعضهم في هذين البيتين فقال:
مشايخ مشيوخاء مشيخة كذا ... شيوخ وأشياخ وشيخان فاعلما)
ومع شيخة جمع لشيخ وصفرا ... بضم وكسر في شييخ لتفهما)
قوله (شيخة) على وزن عنبة ولكنه سكن الياء لضرورة الشعر وقوله (بضم وكسر) يريد أنك إذا صغرت كلمة (شيخ) فقلت (شييخ) جاز لك إذ ذاك أن تضم الشين وهو الأصل في الاسم المصغر وأن تكسرها مراعاة لليائين التي بعدها ليسهل النطق باللفظ ويخف على السمع.
نكحت الهشامي إذ جاءني ... فيالك من نكحة غاوية)
تلوم نفسها على تسرعها بزواج ذلك الرجل فهي لم تتريث إن رضيت به مذ جاءها خاطباً ثم أظهرت الدهشة والعجب من هذا الزواج الذي كلفها ثمناً غالياً: عمراً خسرته وشباباً أبلته وجمالاً ابتذلته ومستقبلاً أضاعته:(92/31)
له فتحتان كصنان ... التيوس أعيا على المسك والغالية)
(الذفر) بفتحتين كل رائحة شديدة سواء كانت طيبة أوخبيثة: يقال مسك أذفر ورجل ذفر بكسر ألفاء له صنان وخبث ريح. والصنان بضم الصاد الرائحة الكريهة تنبعث من تحت الإبط واستعملتها الشاعرة هنا في رائحة التيوس بطريق النجوز.
و (الغالية) ضرب من الطيب مركب من جملة أجزاء، تقول أن لزوجها ريحاً خبيثاً أعياها الأمر في إزالتها وتخفيف شرها وقد استعانت على ذلك وعالجته بأنواع الطيوب فلم تفلح.
وإن دمشق وفتيانها ... أحب إلي من الجالية)
الجلاء بفتح الجيم الخروج من بلد إلى آخر. ويقال جلا القوم عن الموضع الفلاني إذا تفرقوا عنه. والقوم الذين يخرجون هذا الخروج يسمون جالية ويسمى أهل الذمة جالية لأن عمر بن الخطاب أجلاهم عن جزيرة العرب. ومراد الشاعرة بالجالية هنا أولئك الذين كانوا يجلون عن ديارهم في الحجاز ويسكنون دمشق لذاك العهد ويظهر أن لدمشق في نفوس القوم إذ ذاك مكانة عالية فكانوا يتنافسون بالعيش فيها ويضربون المثل بحسن عشرة أهلها. ولم يزل هذا أدبها إلى اليوم فهم إذا أرادوا أن يصفوا إنساناً بالذوق وطيب العشرة وكرم الطباع قالوا أنه (مدمشق) على وزن اسم المفعول أي أنه كأهل دمشق ذوقاً وأدباً كما يقولون في مصر فلان (ابن بلد) يعنون به ما نعنيه نحن بكلمة (مدمشق) ويستعمل الأوروبيين في هذا المعنى كلمة (جنتلمان) الإنكليزية. وقد ذكر سليم أفندي سركيس في بعض أعداد مجلته: أن جريدة التيمس رأت أن تضع لكلمة (جنتلمان) الإفرنجية لفظة عربية أومعربة فقالت في وصف أحد سلاطين آل عثمان القدماء أنه كان يسمى (محمود الشلبي) وفسرتها لقرائها بقولها أن معنى الشلبي هو (الجنتلمان) ثم قال سليم أفندي: وما دمنا لليوم لم نقع على كلمة ترادف (الجنتلمان) في لغتنا العربية فلنرض بم رضيته لنا التيمس أي من استعمال كلمة (الشلبي) بمقام (الجنتلمان) وكلمة شلبي بالشين العربية محرفة عن (جلبي) بالجيم ألفارسية ذات النقط الثلاث وهي كلمة تركية معناها الشريف واللطيف والظريف. وقد غاب عن سليم أفندي أن يذكر في معاني (الجنتلمان) كلمة (مدمشق) كما غاب عنه أن يذكر أيضاً كلمة (عايق) التي يستعملونها في ذلك المعنى نفسه. ولا أذكر ما هو أصل اشتقاق (عايق) وكيف استعملت في هذا المعنى في لغتنا العربية.(92/32)
وإن كانت حميدة ذكرت دمشق في أثناء التهكم بزوجها والزراية عليه فإن شاعراً آخر ذكر دمشق في غضون عتابه لزوجته وتهديده لها فقال:
دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ... تمر بعودي نعشها ليلة القدر
أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوي القرط طبيبة النشر
دمشق منادى: يقول خذي يا دمشق زوجتي التي هربت من بيتي إليك واعلمي أن الليلة تموت فيها تلك الزوجة الغادرة وأراها فيها محمولة على أعواد نعشها هي عندي بمنزلة ليلة القدر.
ثم أرى أن توقع الخلاص منها بانتظار موتها أمر يطول شرحه، فالتفت إلى الزوجة الناشزة واستحضرها في ذهنه وجعل يتهددها ويتوعدها فدعا على نفسه بأن يموت أحد الأعزاء عليه ويأكل ديته إن كان لا يتزوج ويدخل عليها الذعر ويضرم في قلبها نار الغيرة بانتقاء ضرة لها تكون أجمل منها، وأجمع لصفات الحسن.
وفي البيت الثاني كنايتان من أشهر الكنايات التي يتمثل بها البيانيون في كتبهم وهما) أكلت دماً) و (بعيدة مهوى القرط).
ومن أخلاق العرب أنهم يأنفون من ترك أخذ الثأر اكتفاءً بأخذ الدية من جمال وأنعام ويكنون عن هذه الدية الحيوانية بالدم ويعير بعضهم بعضاً بأكلها والرضا بها فشاعرنا يقول أنه إن لم يتزوج على امرأته تلك التي هربت إلى جلق فالله يبتليه بهذه الضعة والخزاية والعار الذي لا يمحى وهي أن يأكل دية قريبه بدل أن يأخذ بثأره فيقتل من قتله أما الكناية الثانية فهي قوله في صفة الضرة أنها بعيدة مهوى القرط فهو يصفها بالطول: إما طول العنق أوطول القامة. إذ أن مهوي القرط موضع هو يه وسقوطه وهو إما الكتف فالطول للعنق. أوالأرض فالطول للقامة وقوله في صفتها (طيبة النشر) أي طيبة الرائحة. وقوله مخاطباً لدمشق دمشق خذيها يشعر بأن لهذه البلدة مزية أومعنى يجتذب القلوب إليها وينزل الرحال لديها.
وإنما هدد ذلك الشاعر زوجته الناشزة بما هددها به لكونه بعلم مبلغ غيرة النساء وجزعهن من الضرة، وأبلغ ما قيل في ذلك قول الآخر:
خبروها بأني قد تزوجت ... فظلت تكلم الغيظ سراً(92/33)
ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً ليته تزوج عشرا
يقول أنها عزمت أولاً على الصبر وكتم الغيظ وأسرار الغيرة في نفسها ثم غلبتها نفسها فباحت ببعض الشيء لكنها مع ذلك ظلت متجلدة متماسكة متظاهرة بقلة المبالاة فقالت لأختها ولصاحبة لها أخرى ليت زوجي بدل الزوجة الواحدة تزوج عشر زوجات فإني كارهة له غير راغبة في القرب منه.
وأشارت إلى نساء لديها ... لا ترى دونهن للسر سترا
يقول ثم ارتقى الحال بها واستولت الغيرة علليها فلم يعد يمكنها إخفاء الخبرالذي أضناها وأطار الرقاد عن عينيها: فقالت إلى نساء كن في مجلسها تأمن جانبهن بحيث لا ترى ضرورة لستر هذا السر عنهن وخاطبتهن مشيرة إلى قلبها تقول:
يا لقلبي كأن ليس مني ... وعظامي كأن فيهن فترا
من حديث نما إلي فظيع ... خلت في القلب من تلظيه جمرا
تريد بكون قلبها ليس منها أنه أصبح كتلة نار من شدة الغيظ والكمد فهو ليس منها لأنها هي لحم ودم لا جهنم ولا أتون وفي عظامها فتر أي ضعف ووهن وانكسار ومعنى البيتين واضح لا يحتاج إلى بيان وتفسير. على أننا نشرح في الأحايين أبياتاً تكون جليلة المعنى لا غموض فيها حباً في تنبيه الطالب أوالناشئ إلى حل الشعر وتحويل معناه إلى نثر وبسط ألفاظه ومعانيه بسطاً يقوي في نفس الطالب ملكة المقدرة على تأليف الكلام وحسن التصرف فيه وتأدية المعنى الواحد بالطرق المختلفة والأساليب المتعددة وهذه هي الطريقة التي تعمد إلى منظوم فتحله إلى كلام منثور من أحسن الطرق في تحصيل فن الإنشاء وتقوية ملكة الكتابة في النفس.
وقد وضع ابن الأثير صاحب (المثل السائر) كتاباً لطيف الحجم سماه (حل المنظوم) شرح فيه هذه الطريقة وإبان وجه ألفائدة منها لطلاب ذلك ألفن.
هذا الذي تزوج على امرأته رجل يحب الانتقام ويريد لنفسه شفاء غيظها وتبريد غلها أما زوج أنيسة فقد رأى أن قطع علاقته بالمرة مع أنيسة خير له ولها من تحمل مشاكل الضرة فطلقها وقال:
رحلت أنيسة بالطلاق ... وعتقت من رق الوثاق(92/34)
أنيسة بهيئة التصغير، يقول أنها رحلت هي إلى دار أبيها وتخلصت أنا من الرق والأسر لها، ومن ثم قالوا في المرأة سيئة الأخلاق أنها (غل قمل وجرح لا يندمل)
الغل واحد الأغلال وهو طريق من حديد أوجلد، يجعل في اليد أوفي العنق.
وقمل بكسر الميم ذوقمل أي فيه قمل فيؤذي الأسير ويحرمه لذيذ الوثن فالمرأة السوء في إرهاقها زوجها مثل هذا الغل:
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي
ودواء ما لا نشتهيه ... النفس تعجيل ألفراق
أرسل هذا البيت مثلاً سائراً وحكمة بالغة فهو ينصح لكل من ابتلي بما لا تشتهيه نفسه أن يعجل فيفارقه ويقصيه عنه. وقد يقال أن هذا كان منه لمجرد هو ى النفس ونزاع الشهوة في لؤم وخسة وإن كان لضرورة قاضية وليكون في بيته ذا عيشة راضية فلا عتب ولا لوم:
لولم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالأباق
وصبرت نفسي لا ... أريد حليلة حتى التلاقي
(أرح) مبني للمجهو ل من الراحة. وأصل الأباق فرار العبد من بيت سيده واستعمله هنا في مطلق الهروب. ومراده بالتلاقي اليوم الذي يموت فيه فيلاقي فيه أجله أويلاقي وجه ربه. يقول: لولم تتيسر لي أسباب طلاق أنيسة وبقيت جاثمة في وجهي جثوم الأفعى، لكنت فررت منها فرار الآبق. وفارقتها فراق غير الوامق.
وكنت بذلك أستريح من شرها، ثم أحرم النساء من بعدها لكن قد أسعدني الحظ بتسهيل أسباب طلاقها بالطلوع والرضا فشكراً لتدبير القضاء وعفا الله عما مضي.
دمشق:
المغربي(92/35)
الحمى
طبياً
عرف العرب مرض الحمى مثل غيرهم من الأمم القديمة وعالجوه بالماء وغيره من الملطفات ووصفه أطباؤهم وألفوا فيها رسائل ومقالات ضافية من أهمها كتاب (الحميات) خمس مقالات لم يوجد أجود منه، وعلاجاته مجربة. ألفه إسحق بن سليمان الإسرائيلي الذي عمر فوق المائة ولم يتزوج ولا أعقب فعير على ذلك فقال: إن لي أربعة كتب تحيي ذكري أكثر من الولد وهي كتاب الحميات و (الأغذية والأدوية) و (البول) و (الاسطقسات) وتوفي هذا المؤلف سنة 32. هـ (932 م) ومن الرسائل في (الحميات) رسالة لمحمد بن إبراهيم ورسالة لجلال الدين السيوطي ولغيرهما رسائل وكتب أخرى ضمنت أنواع الحمى ومعالجاتها وكل ما يتعلق فيها مما هو مفيد اليوم.
شعرياً
ولقد وصفها الشعراء بقصائد ومقاطع كثيرة يحضرنا منها الآن قول المتنبي يصف حماه الليلية التي ظنها بعضهم حمى الدق (السل):
وزائرتي كأن بها حياءً ... فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام
إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام
كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام
وتصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام
فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أقي ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
وقال ابن شيروية فيها:
وزائرة تزور بلا رقيب ... وتنزل ألفتى من غير حبه
وما أحد يحب القلب منها ... ولا تحلوزيارتها بقلبه(92/36)
تبيت بباطن الأحشاء منه ... فيطلب بعدها من عظم كربه
وتمنعه لذيذ العيش حتى ... تنغصه بمأكله ومشربه
أتت لزيارتي من غير وعد ... وكم من زائرلا مرحباً به
وقال أبوبكر الخوارزمي أمير الكتاب يشير إلى ترك الغذاء فيها:
ولي من أم ملدم كل يوم ... ضجيج لا يلذ له شمام
مقبلة وليس لها ثنايا ... معانقة وليس لها التزام
كأن لها ضرائر من غذائي ... فيغضبها شرابي والطعام
إذا ما صافحت صفحات وجهي ... غدا ألفاً وأمسى وهو لام
وقال الأمير ناصر الدين بن النقيب في نوبة الحمى موارياً:
أقول لنوبة الحمى اتركيني ... ولا بك منك لي ما عشت أوبه
فقالت كيف يمكن ترك هذا ... وهل يبقى الأمير بغير نوبه
وقال أبوالحجاج الفهري الغرناطي في الوزير ابن الحكم وقد أصابته حمى تركت على شفتيه عقابيل (بثوراً):
حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا
إن كنت محموماً ضعيف القوى ... فإنني أحسد حماك
ما رضيت حماك إذا باشرت ... جسمك حتى قلبك فاكا
وقال المتنبي مشيراً إلى توقيف الحمى في اصطلاح الأطباء وهو من التعليل الحسن المبني على الشك:
ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا ... ما عذرها في تركها خيراتها
أعجبتها شرفاً فطال وقوفها ... لتأمل الأعضاء لا لإذاتها
ولم يخرج عنه أبوالفتح كشاجم الرملي فقال في سبب الحمى:
ولقد أخطأ قوم زعموا ... أنها من فضل برد في العصب
هو ذاك الذهن أذكى ناره ... والمزاج المفرط الحر التهب
ومن ألطف ما قيل في حمى الأولاد قول أحمد بن بدر المعروف بالبلاط في ولد له حم:
أعزز علي بني ما تلقى ... سدت علي شكاتك الطرقا(92/37)
قد كدت بالحمى أحق فليتني ... التي من الحمى الذي تلقى
وقال أبو نواس يخاطب عناناً جارية الناطفي مشيراً إلى إمكان عدواها وقد مرض وشفيا ولم يعلم هو بمرضها إلا بعد برئه:
إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا بحماك
وخصلة كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك
حتى إذا أنفقت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذا وذاك
وقال إلياس صالح كنعان البيروتي لما ثقلت عليه وطأة الحمى وهو آخر نظمه مشيراً إلى تأثير الحمى في الأحشاء والرأس:
إذا جن الظلام وغاب صبحي ... وفارقني أحبائي وناسي
أتت تسعى إلي وليست ترضى ... مقاماً غير أحشائي ورأسي
هذه طرف مختلفة من أوصاف الحمى الشعرية. فبقي علينا أن نذكر ما عرفه اللغويون
عنها مما لم نره مجموعاً في رسالة أو كتاب بل استخرجناه بالبحث والاستقراء.
لغوياً
من الغريب أن الكلمات العربية المبدوءة بالحاء تدل على الحرارة والتوقد ونحوهما ولذا فنحن نستقري هذه السلسلة لنصل إلى اسم (الحمى) وصحة اختياره لهذا الداء ألفتاك الذي يذيب الدماغ والحشى بل يحرق الجسم ويهلك صاحبه.
فإذا تتبعنا سلسلة الحاء وما يتركب معها من الحروف المضاعفة نجد: أنحب بمعنى عشق وحث الشيء حكه ليسقط وحثه على الشيء أحماه عليه وحج غلب بالحجة وفيه حدة وحد غضب وحذ قطع ومثلها جز وجذ. وحر ضد برد وحز قطع وفيه احتكاك وحرارة وحس البرد العشب أحرقه وحس اللحم جعله على الجمر زحش النار أوقدها والمحش ما تحرك به النار. وحص الشعر حلقه وأذهبه وحضه على الأمر أحماه عليه وحط وجهه خرج به الحطاط وهو نوع من البثور أي الحبوب يعرف بحب الصبا. والحظ التوفيق وحف الشيء كشطه. وحقت الحاجة نزلت واشتدت وحقه غلب على الحق وحكه دلكه وكشطه وحل الحرير استل خيوطه منه بالحرارة وحم التنور سجره أي أوقده وأحماه. وحن إليه أي(92/38)
اشتاق وانعطف وحي ضد مات.
فإذا راجعنا هذه المادة نجد أنها من أشد المواد العربية دلالة على الحرارة والاشتعال ولذلك أخذ منها اسم الحمى التي هي من أشد الأمراض فتكاً بالأجسام اشتعالاً ومما يزيد قولنا هذا برهاناً أننا إذا حذفنا حروف هذه المادة الثنائية وأضفنا إليها حروفاً أخرى كان لنا من معنى المادة ألفاظ كثيرة تدل على الحرارة والاتقاد مثلاً حبحبت النار اتقدت والحباحب سراج الليل المتألق، وحبك شد وقطع. والحبوكرى الداهية. وحبت السفينة جرت وتحركت وحثحث إذا ضاعف الحث. وحجن عطف وجذب. وحدر الجدار ورم من الضرب، وحدث في السير أسرع، وحسم قطع إلى آخر المادة.
ومن الكلمات التي تتعلق بالحمى من مادتها قولهم أرض وبلاد محمة ومحمة ذات حمى أو كثيرة الحمى، وحم الرجل فهو محموم إذا أصيب بها وأحمته البلد. إلى غير ذلك من الاصطلاحات.
وأما حمى التيفوئيد فهي من كلمتين يونانيتين الأولى (تيفوس) أي السبات من الحمى والثانية بمعنى شكل فمجموع معناها شكل السبات أوشبه التيفوس. والتيفوس يونانية كما مر بمعنى سبات الدماغ ونحوه. أما كلمة الحمى في اللغات الإفرنجية فهي من كلمة اللاتينية بمعنى ليسخن وليحم فهي مثل الكلمة العربية ومنها اشتقت كلمة ألفرنسية وكلمة الإنكليزية الإسبانية والإيطالية وأشباهها.
أما أنواع الحمى التي عرفها العرب فهي حمى مردم من أردمت عليه إذا لم تفارقه أياماً وحمى نائبة تنوبه كل يوم. والبرحاء شدة الحمى، وحمى الرس أول الحمى قبل أن تأخذه وتظهر فإذا كان مع الحمى قرة وجد مسها فهي العرواء (البردية) في اصطلاح العامة وعري إذا أصيب بها. وعك الرجل إذا وجد عرواء الحمى، فإذا عرق منها فهي الرحضاء وهو مرحوض وتقول أخذته رحضاء ورحض. والصالب الصداع من الحمى، وحمى صالب تسيل العرق من الصليب أي الورك وقد صلبت عليه الحمى وأخذته النفضة أي الرعدة، وأخذته حمى نافض ونفضته الحمى، والوعك الحمى التي معها حر خالص تقول وعكته الحمى فهو وعك، والورد يوم الحمى وقد وردته الحمى، وحمى ربع التي تأتي في اليوم الرابع وقيل التي تدع يومين وتأخذ يوماً وربع الرجل وأربع وأربعته الحمى وأربعت(92/39)
عليه وربعت، والقلد يوم تأتيه الربع والغب إن تأخذه يوماً وتدعه آخر وقد أغبته الحمى وأغبت عليه وغبت فهو مغب.
وإذا أقامت الحمى فذلك الحين هو القلع وخمدت الحمى سكن فوارها، وصارت الحمى تتعهده وتتعاهده وتحاوده بمعنى تداومه وتنقطع عنه، والعقابيل ما يظهر على الشفتين من غب الحمى، وهو يتضور من الحمى أي يتلوى ويضج ويتقلب ظهراً لبطن، والمسبوت العليل الملقي كالنائم يغمض عينيه في أكثر أحواله وهي من أعراض الحمى، وحمى قبس اقتبسها من غيره بالعدوى وحمى عرض تعرض لها من تلقاء نفسه، والمليلة حرارة الحمى وتوهجها، والحمى الدائرة التي تأخذ وقتاً وتدع وقتاً، وأفرق المحموم إذا تركته الحمى.
إلى كثير من أشباه هذه الاصطلاحات الكثيرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
زحلة (لبنان):
عيسى اسكندر معلوف(92/40)
القصران العجيبان
البديع وساروية
ما أشبه الليلة بالبارحة والعلم متشابه في أعماله على اختلاف العصور والأصقاع لا تكاد تجد فروقاً يمتد بها. والإنسان حين كاد يوشك أن يكون واحداً في الشرق والغرب في تصوراته ومناحيه، ذكر الحازمي أن البديع اسم بناء عظيم للمتوكل بسر من رأى وقال اليعقوبي: بنى المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها الشاه والعروس والشبدار والبديع والغريب والبرج وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وذكر الأصفهاني أنه شغب ألفرسان على السلطان في بغداد سنة 315 فأحرقوا القصر المعروف بالثريا وانتهبوا ما فيه من الخزائن وخربوا القبة والقصر المعروف بالأترجة والكوكب وسلبوا ما كان فيه من الآلة والمتاع والوحش والطير ثم بكروا من الغد إلى الحلبة فأحرقوا أبوابها وقصدوا القصر المعروف بالحسن الذي ينزل فيه المقتدر فبقوا إلى المساء يشغبون ثم بكروا من الغد إلى القصر المعروف بالبديع وبهذا ظهر أن اسم البديع أطلق على قصرين في العراق الأول في سر من رأى والثاني في بغداد وكان هذان القصران موجودين إلى تاريخ المئة الرابعة وأنشأ في المئة العاشرة قصر اسمه البديع في مراكش خاصرة الغرب الأقصى أنشأه المنصور عام ستة وثمانين وتسعمائة من خلافته وأنفق جلائل الأموال ونفائس الذخائر ذلك أنه أراد كما في مناهل الصفا أن تكون لأهل البيت به مأثرة وشفوف على دولة البربر وغيرهم من المرابطين والموحدين ومن بعدهم بني مرين فكان كل من أهل تلك الدول ابتنى بناءً يحيى به ذكره ولم يكن لأهل البيت في ذلك المعنى شيء تزداد به حظوتهم مع أنهم أحق الناس بالجد الأصيل والسؤدد الأثبل فتصدى لبنائه بقصد تشريف أهل البيت لأن البناء كما قيل من فوائده:
هم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبالسن البنيان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشأن
اتصل العمل في هذا البناء من سنة 986 إلى 1. . 2 ولم يتخلل ذلك فترة وحشر له الصناع حتى من بلاد الإفرنجة فكان يجتمع كل يوم من أرباب الصنائع ومهرة الحكماء خلق كثير حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم ونفائس أعلاقهم وجلب له(92/41)
الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزناً بوزن وكان المنصور قد اتخذ معاصير للسكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما وأما جبسه وجيره وباقي أنقاضه فإنها جمعت من كل ناحية حتى إذا وجدت بطاقة فيها أن فلاناً دفع صاعاً من جير حمله له من تينبكت وظف عليه في عمار الناس وكان المنصور مع ذلك يحسن للإجراء غاية الإحسان ويجزل صلة المعلمين بالبناء ويوسع عليهم في العطاء ويقوم بمؤنة أولادهم كي لا تتشوق نفوسهم وتتشعب أنظارهم.
وهذا البديع دار مربعة الشكل وفي كل جهة منها قبة رائعة الهيئة واحتف بها مصانع أخر من قباب وقصور وديار فعظم بذلك بناؤه وطالت مسافته ولا شك أن هذا البديع أحسن المباني وأعظم المصانع يقصر عنه شعب بوان وينسى ذكره غمدان ويبخس الزهراء والزاهرة ويزري بقباب الشام وأهرام القاهرة وفيه من الرخام المجزع والمرمر الأبيض المفضض والأسود وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب وموه بالنصار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي البشرة وجعل في أضعاف ذلك الزلاج المتنوع التلوين حتى كأنه خمائل الزهر أوبرد موش وأما سقوفه فتجسم فيها الذهب وطليت الجدارات به مع بريق نقشه ورائق الرقم يخالص الجبس فتكاملت فيه المحاسن وأجرى بين قبابه ماء غير آسن وبالجملة فإن هذا البديع من المباني المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوار العراق ومن المصانع التي هي جنة الدنيا وفتنة المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف وفي ذلك قيل:
كل قصر بعد البديع يذم ... فيه طاب الجني وفيه يشم
منظر رائق وماء نمير ... وثرى عاطر وقصر أشم
إن مراكشاً به قد تناهت ... مفخراً فهي للعلا الدهر تسمو
وبه من الأشعار المرقومة في الأستار والأبيات المنقوشة في الجهات على الخشب والزليج والجبص ما يسر الناظر ويروق المتأمل ويبهر العقول وعلى كل قبة ما يناسبها وفي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها فمن ذلك ما نقش خارج القبة الخمسينية لأن فيها خمسين ذراعاً بالعمل من إنشاء أبي فارس عبد العزيز ألفشتالي على لسان القبة المذكورة:
سموت فخر البدر دوني وانحطا ... وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا(92/42)
وصغت من الإكليل تاجاً لمفرقي ... ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا
ولاحت بأطوافي الثريا كأنها ... نثير جمان قد تتبعته لقطا
وعديت عن زهر النجوم لأنني ... جعلت على كيوان رحلي منحطا
وأجربت من فيض السماحة والندى ... خليجاً على نهر المجرة قد غطا
وهي طويلة وكلها من هذا النمط وقال أيضاً قصيدة كتبت بداخل القبة المذكورة وله أخرى كتبت في بهو ها بمرمر أسود في أبيض قال في مطلعها:
لله بهو عز منه نظير ... لما غدا كالروض وهو نضير
رصفت نقوش حلا ورصف قلائد ... قد نضدتها في الصخور الحور
فكأنها والتبر سال خلالها ... وشي وفضة تربها كافور
وكأن أرض قراره ديباجة ... قد زان حسن طرازها تشجير
وإذا تصاعد نده نواً ففي ... أنماطه نور به تشجير
شأ والقصور قصورها عن وصفه ... سيان فيه خورنق وسدير
فإذا أجلت اللحظ في جنباته ... يرتد وهو يحسنه محسور
وكأن موج البركتين أمامه ... حركات السحب صافحته دبور
صفت بضفتها تماثل فضة ... ملك النفوس بحسنها تصوير
فتدير من صفوالزلال معللاً ... يسري إلى الأرواح منه سرور
ما بين آساد يهج زئيرها ... وأساود يعلولهن صفير
وقال أيضاً وكتب في بعض المباني البديعية:
معاني الحسن تظهر في المباني ... ظهور السحر في حدق الحسان
وختمها بقوله:
قصور مالها في الأرض شبه ... وما في المجد من للمنصور ثان
وكان ألفراغ من بناء البديع عام اثنين وألف وفي تاريخه يقول الوزير علي الشياظمي وهو مما نقش في باب الرخام أحد أبواب الربيع:
الحسن لفظ وهذا القصر معناه ... يا ما أميلح مرآه وأبهاه
فهو البديع الذي راقت بدائعه ... وطابق اسم له فيه مسماه(92/43)
صرح أقمت على التقوى قوائمه ... ودل فيه على التاريخ معناه
قال في نفح الطبيب اخترع المنصور من الصنائع ثلاثة أشياء فجاءت غريبة الشكل بديعة الحسن وهي البديع والمسرة والمشتهى ومما قال المنصور في ذلك مؤرخاً:
بستان حسنك أبدعت زهراته ... ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى
وقوام غصنك بالمسرة ينثني ... يا حسن رمان به المشتهى
والذي ذكره صاحب البيان المعرب عن أخبار المغرب وهو الشيخ أبوعبد الله أبوعذارى الأندلسي أن أول من أنشأ المسرة التي بظاهر جنان الصالحة عبد المؤمن ابن علي كبير الموحدين قال وهو بستان عظيم طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليها الماء من أغمات واستنبط له عيوناً كثيرة.
قال ابن اليسع: وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلا وهذا البستان الذي غرسه يبلغ مبيع زيتونه وفواكه ثلاثين ألف دينار مؤمنية بحسب رخص ألفاكهة بمراكش ولعل المنصور جدد معالم المسرة بعد إندراسها وأفاض مجال الحياة على ميت أغراسها.
وكان المنور يفتخر بالبديع كثيراً وبنوه بعده كذلك وفي ذلك يقول أبوفارس ألفشتالي:
هذا البديع يعز شبه بدائع ... أبدعتهن به فجأة غريبا
أضني الغزالة حسنه حسداً له ... أبدي عليه للأصيل شحوبا
شيدتهن مصانعاً وصنائعاً ... أنجزن وعدك للعلا المرقوبا
وجريت في كل ألفخار لغاية ... أدركتهن وما مسسن لغوبا
فأنعم المسكك فيه دام موقراً ... تجني به فنن النعيم رطيبا
ولما أكمل المنصور البديع وفرغ من تنميق بردته وتطويق حلته صنع مهرجاناً عظيماً ودعا الأعيان والأكابر فقدم لهم من ضروب الأطعمة وصنوف الموائد وأفرغ عليهم من العطايا ومن الجوائز ما لم يعهد من قبل ولكن دالت الأيام وأمر السلطان اسماعيل ابن الشريف بهدم البديع عام تسعة عشر ومائة وألف فهدمت معالمه وبدلت مراسمه وغيرت محاسنه وفرق مجموع حسنه وعاد حصيداً كأن لم يغن بالأمس حتى صار مرعىً للمواشي ومقيلاً للكلاب ووكراً للبوم وحق على الله ما رفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ومن العجائب(92/44)
أنه لم تبق بلد بالمغرب إلا ودخلها شيء من أنقاض البديع.
أما قصر سارويه فإن القليل الذي ظفرنا به من وصفه لا يشفي غله. قال الأصفهاني أنه في سنة خمسين وثلثمائة تهدم من البنية المسماة سارويه في داخل مدينة جي جانب منة وظهر عنه بيت في نحوخمسين عدلاً من جلود مكتوبة بخط لم ير الناس قبله مثله فلا يدرى متى أخرز ذلك في هذه البنية وسئلت عما أعرفه عن خبر هذه المصنعة العجيبة البناء فأخرجت إلى حضرة الناس كتاباً لأبي معشر المنجم البلخي مترجماً بكتاب أخلاف الزيجة ويقول فيه أن الملوك بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم وحرصهم على بقائها على وجه الدهر وإشفاقهم عليها من أحداث الجو وآفات الأرض أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث وأبقاها على الدهر وأبعدها من التعفن والدروس لحاء شجرة الخدنك ولحاؤه يسمى التوز وبهم ابتدى أهل الهند والصين ومن يليهم من الأمم في ذلك واختاروها أيضاً لقسيهم التي يرمون عليها لصلابتها وملاستها وبقائها على القسي غابر الأيام فلما حصلوا لمستودع علومهم وجود ما وجدوه في العالم من المكاتب طلبوا لها من بقاء الأرض وبلدان الأقاليم أصحها تربة وأقلها عفونة وأبعدها من الزلال والخسوف وأعلكها طيناً وأبقاها على الدهر بناء فانتفضوا بلاد المملكة وبقاعها فلم يجدوا تحت أديم السماء بلداً أجمع لهذا الأوصاف من أصبهان ثم فتشوا عن بقاعها فلم يجدوا فيها أفضل من رستاق جي ولا وجدوا في رستاق جي أجمع لما راموه من المواضع التي اختط من بعد فيه بدهر داهر مدينة جي فجاؤوا إلى قهندز (قصر) وهو في داخل مدينة جي.
فأودعوه علومهم وقد بقي إلى زماننا هذا ويسمى سارويه ومن جهة هذه البنية درى الناس من كان يأتيها وذلك انه لما كان قبل زماننا هذا سنين كثيرة تهدمت من هذه المصنعة ناحية فظهروا فيها على أزج معقود من طين الشقيق فوجدوا فيه كتباً كثيرة
من كتب الأوائل مكتوبة كلها على لحاء التوز مودعة أصناف علوم الأوائل بالكتابة ألفارسية القديمة فوقع بعض تلك الكتب إلى من عني به فقرأ فوجد فيه كتاباً لبعض
ملوك ألفرس المتقدمين يذكر فيه أن طمهو رث الملك المحب للعلوم وأهلها كان انتهى إليه قبل الحادث المغربي الذي كان من جهة الجوخبره في تتابع الأمطار هناك وأفراطها في الدوام والغزارة وخروجها عن الحد والعادة وأنه كان من أول يوم من سني ملكه إلى أول(92/45)
يوم من بدوهذا الحادث المغربي مائتان وإحدى وثلثون سنة وثلثمائة يوم وأن المنجمين كانوا يخوفونه من أول ابتداء ملكه تعدي هذا الحادث من جانب المغرب إلى ما يليه من جوانب المشرق فأمر المهندسين بإيقاع الاختيار على أصح بقاعه تربة فاختاروا له موضع البنية المعروفة بسارويه وهي قائمة الساعة داخل مدينة جي فأمر ببناء هذه البنية الوثيقة فلما فرغ له منها نقل إليها من خزانته علوماً كثيرة مختلفة الأجناس فتحولت إلى لحاء التوز فجعلها في جانب من تلك البنية لتبقى للناس بعد احتباس هذا الحادث وأنه كان فيها كتاب منسوب إلى بعض الحكماء المتقدمين فيه سنون وأدوار معلومة لاستخراج أوساط الكواكب وعلل حركاتها وأن أهل زمان طهمورث وسائر من تقدمهم من ألفرس كانوا يسمونها سني وأدوار الهزارات وأن أكثر علماء الهند وملوكها الذين كانوا على وجه الدهر وملوك ألفرس الأولين وقدماء الكلدانيين وهم سكان أحوية من أهل بابل في الزمان الأول إنما كانوا يستخرجون أوسط الكوافي كب من هذه السنين والأدوار وأنه لما أذخره من بين الزيجات التي كانت في زمانه لأنه وسائر من كان في ذلك الزمان
وجدوه أصوبها كلها عند الامتحان وأشدها اختصاراً وكان المنجمون الذين كانوا
مع رؤساء الملوك في ذلك الزمان واستخرجوا منها زيجاً وسموه زيج شهريار
ومعناه بالعربية ملك الزيجات ورئيسها فكانوا يستعملون هذا الزيج دون زيجاتهم كلها فيما كان الملوك يريدونه من معرفة الأشياء التي تحدث في هذا العالم فبقي هذا الاسم لزيج أهل فارس في قديم الدهر وحديثه وصارت حاله عند كثير من الأمم في ذلك الزمان إلى زماننا هذا أن الأحكام إنما يصح على الكواكب المقدمة منه وإلى ههنا حكاية ألفاظ أبي معشر في وصف البنية القائمة الأثر بأصبهان وأبومعشر إنما وصف آزجاً من آزاج هذه البنية انهار منذ ألف سنة أقل أوأكثر فعبر منه إلى زيج شهريار فأما الذي انهار في سنة خمسين (خمسين؟) وثلثمائة من سنة الهجرة فآزج آخر لم يعرف مكانه لأنه قدر في سطحه أنه مصمت إلى أن انهار فانكشف عن هذه الكتب الكبيرة المكتوبة التي لا يهتدي إلى قراءتها ولا خطها يشبه شيء من خطوط الأمم وفي الجملة أن هذه البنية إحدى الآيات القائمة ببلاد المشرق كما أن بنية مصر المسماة الهرم إحدى الآيات القائمة ببلاد المغرب.(92/46)
بعض معامل الدولة
شاهدنا في دار صنع المدافع (الطوبخانة) في الأستانة صنع المدافع الجديدة من عيار 7 السريع المرمى على الأصول الألمانية الحديثة وهذا النوع هو أقوى من النوع ألفرنسي وشاهدنا صنع مدافع الصحراء وهي من عيار 4 أيضاً أقوى من المدافع الجبلية وأسرع منها تطلق في الدقيقة 3. قنبلة ترمي إلى مسافة 8. . . متر وشاهدنا صنع (مدفع أوبس) وهو من عيار 12 وأثقل من المدافع الجبلية ومدافع الصحراء وهذا من الاختراعات حديثة الطراز وهذا المدفع يدار لكل جهة من الجهات وهو خاص بالتخريب، وشاهدنا مدفع البومبة أوالقذائف وهو من اختراع رجالنا اخترعوه جديداً لإطلاق القنابل المفرقعة وهو يرمي إلى مسافات بعيدة تنفجر قنبلته وتفجر كل ما تجده بطريقها وكان لهذا الاختراع أعظم التأثير في حربنا الحاضرة، وشاهدنا مسدساً من اختراع رجالنا أيضاً وهذا المسدس يطلق رصاصة ثخينة تضيء ضوءً كهربائياً لأجل رؤية العدوعن مسافة بعيدة وكان لهذا الاختراع أيضاً نفع كبير في حربنا الحاضرة وهو من المخترعات المدهشة وشاهدنا مصانع القنابل (الكلل) وصبها من جميع العيارات حتى من عيار 35 التي ثقل قنبلتها 712 آقة ورأينا مصانع المارتين الحديث الطراز بقطر 56 مع التعديل التام ومسافة مرماه كمسافة الموزر الألماني وشاهدنا الغنائم التي غنمتها دولتنا العلية من (الإنكليز والفرنسيس) وهي مدافع المتراليوز تحول إلى طراز تكون به صالحة لاستعمال الرصاص العثماني ومنها البنادق (ليئن فيلد) وهو من غنائم الإنكليز وبنادق (لوبل) وهو من غنائم لفرنسيس فقد كانت هذه الغنائم تتحول إلى أسلحة عثمانية وتعاد إلى دار الحرب ليقاتل جيشنا الأعداء بنفس أسلحتهم ثم شاهدنا دوائر خاصة لصنع الأخشاب وما يلزم الأسلحة من هذا النوع وكل هذه المصانع تدار بالكهرباء.
يحتوي معمل الأسلحة والقذائف والقنابل في زيتون بروني على عدة مصانع ودوائر أول دائرة دخلها وفدنا هي دائرة عمل الرصاص (الخرطوش) الخاص بالمارتين والموزر فشاهد محلات صنع الظروف النحاسية وصب الرصاص وصقلها وملئها باروداً وتركيبها ثم صقلها ثانياً ثم طبعها بالمكنات الحديدية وإرسالها إلى الموازين الخاصة توضع في محل تمر على ميزانين فإذا كان عيارها تاماً أوناقصاً تسقط كل منها في المحل المعد له وهكذا يوضع صحيح الوزن في علب خاصة وترتب ترتيباً للإرسال إلى دار الحرب. يصنع(92/47)
المعمل يومياً زهاء نصف مليون رصاصة إذا اشتغل نهاراً وإذا اشتغل ليلاً تتضاعف الكمية وشاهدنا أيضاً معمل صب المدافع الرشاشة (شرابنل) وهذه أشهر المدافع الحديثة المدمرة التي لها التأثير العظيم في الحرب وشاهدنا تذويب ألفولاذ لصب القنابل المتنوعة العيار وقد صب أمامنا في قوالبها الخاصة من عيار 15 و21و24 ثم أخرجت من قوالبها وأرسلت إلى الصقال كما أنا شاهدنا محل الصقال وإملاء هذه القنابل والقفل عليها بصورة تدهش الرائين وشهدنا صنع البارود والكبسول وما يلزم ذلك لتركيب الأشياء المدمرة يشتغل في هذا المعمل زهاء خمسة آلاف عامل بينهم 5. . بنت تشتغل في عمل الرصاص ويصرف على العمال يومياً ما يقارب 15. . ليرة كما أن معمل الطوبخانة العامرة يحتوي على هذا المقدار تقريباً ويصرف مثل هذه النفقة.
أنشئت الأحواض في دار الترسانة (دار الصناعة) العامرة في زمن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز وزادت انتظاماً وبهجة تدريجياً إلى أن وصلت إلى الدرجة المطلوبة التي تستوعب أكبر باخرة أوبارجة للإنشاء أوالتصليح وتملأ هذه الأحواض وتفرغ 6. طناً في الدقيقة بالآلات الكهربائية وشاهدنا تصليح الحديد مهما كان ثخيناً فإنه كان يقطع ويثقب بقليل من الزمن بواسطة الآلات الكهربائية وشاهدنا آلة من صنع ضباطنا البحريين وهي من أعجب الآلات الحديثة صنعت لرمي القذائف الديناميتية لمحوالأعداء وشهدنا مصنعاً لعمل القوالب الترابية الخاصة لتذويب أصناف المعادن الحديدية والفولاذية ومعملاً لصنع المرميات ومحلاً لتوليد الكهرباء على أحدث الطرق العصرية وشهدنا معمل طوربيد وهو على هيئة سمكة من نحاس بطول مترين وسماكة 5. سنتيمتراً محشواً من القذائف المهلكة يرسل بالآلات الكهربائية تحت الماء فحين وصوله إلى دارعة مهما كانت ضخامتها ينفجر وتهو ي تلك الدارعة إلى أسفل الماء. شاهدنا هذا الاختراع العجيب يعمل في معمل الترسانة العامرة كما أننا شاهدنا أيضاً معملاً جسيم البناء مفرزاً على حدة وهو للأعمال الخشبية الحديثة الاختراع ومحلاً لعمل القوالب الخشبية لأجل تعليم العساكر ألفنون البحرية ومحلاً لعمل قوالب مختلفة يدوية وغيرها لأجل التخريب مملوءة بالديناميت غير المؤذي لأن هذه القوالب مصنوعة لتمرين الجنود على ألفنون الحربية البحرية.
أنشئ معمل الثياب في زمن الحرب على طراز جديد وهو يشتمل على طابقين فيهما عدة(92/48)
غرف مستطيلة الشكل خاصة بخياطة الأثواب العسكرية شاهد فيه الوفد الآلات الحديثة التي تدار بواسطة الكهرباء وفيه زهاء ألف ومائتي عاملة من سن 12 إلى سن 5. ينجزن يومياً ثلاثة آلاف بدلة عسكرية مع ما يلزمها ورأى في معمل الطربوش القديم (فسخانة) الذي أسسه ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان في محلة أبي أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) وهو يحتوي على الأبنية العظيمة الجسيمة معامل لصنع المنسوجات اللازمة للجيش المظفر وشاهد فيه الصوف يوضع في ماكنات الغسيل فيغسل وينظف ثم ينشف بالآلات الخاصة ثم يندف وينعم وكل ماكنة تصنع يومياً 2. . آقة ومنها يرسل إلى ماكنات ألفتل فيفتل خيوطاً فيحاك أقمشة من الجوخ الجيد لا يميز عن الحرير لنعومته ولطافة حياكته وشاهدنا تفصيل الألبسة العسكرية بوضع مثلاً عشرة طاقات من الجوخ ويقطع بمقراض الكهرباء فيخرج عشرة تفصيلات وقد تجلى لنا حينما شاهدنا هذا المقراض سر سرعة الرخص الذي تقوم به معامل أوروبا وشاهد صنع الحرامات والبطانيات فيصنع يومياً 5. . حرام للجيش و7. بطانية للمستشفيات.
وشاهد صنع الجوارب فيصنع يومياً 2. . . زوج إلى الجيش وهناك محل خاص لصبغ الصوف والأقمشة وكل ما يلزم لتلوينه من الأنواع الأخرى وجميع الماكنات الموجودة تدار على البخار والكهرباء بسرعة تفوق الحد.
وأنشئ معمل الدباغة والأحذية في زمن ساكن الجنان السلطان محمود خان ثم احترق وجدد في زمن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز خان ووسعت دوائره واستحضر له عدة آلات حديثة في زمن مولانا السلطان الغازي محمد رشاد خان نصر الله.
وشاهد الوفد في هذا المعمل المهم إدخال جلود الجاموس والبقر والغنم إلى مكان القشط بحيث ينزع منها الصوف فتغسل وتنظف وترسل إلى مكان الدباغة فيوضع لها ما يلزم من أجزاء الدباغة وتترك ساعات ثم ترسل إلى ماكنات التجفيف على البخار فتجف حالاً ومنها تدخل في مكنات ترقيق الجلد وتسويته ثم إلى أدوات الصقال ثم إلى غرف الدهن والصباغ فتصبغ من الألوان كافة وتصبغ هذه المكنات في كل يوم 5. . من جلد البقر والجاموس و5. . من جلد الغنم ثم تدفع إلى دوائر التفصيل وعمل الأحذية فتفصل هذه الجلود بالآلات القاطعة الكهربائية.(92/49)
وهناك دوائر الأحذية (الجزمات والكنادر) فقسم من العملة تجمع الجلود المفصلة وقسم تجمع الجلد والنعل وقسم تصنع المسامير وكل منها يوضع في المكنات التي تتحرك بالكهرباء بغاية الدقة والضبط وبأسرع ما يمكن من الزمن يتحول إلى جزمات وأحذية حسب اللزوم. هذا إلى دائرة خاصة لعمل الأحذية ذات نعال من الخشب وهذه الأحذية تصنع خاصة لأجل الجيش في زمن الحر ب وأيام البرد للمحافظة على الصحة وفي المعمل من العملة زهاء 18. . عامل من أفراد العساكر فينجز يومياً (1. . .) قطعة من الجزمات والأحذية.
وأنشئت دار اللوازم العسكرية في (آخور قبو) في استانبول في زمن ساكن الجنان السلطان محمود خان وكانت إذ ذاك ثكنة عسكرية وجعلت بعد الانقلاب معملاً عظيماً للخياطة وفيها مصنع لتوليد الكهرباء على البخار ومصنع على الماء ومحل خاص (كالمدرسة) لتعليم بعض أفراد الجند فن الخياطة وفيها يجري تفصيل صنف اللباس والقميص الخام وصنف الكبوت والمعاطف (الجوكتة) والسراويل (البنطلونات) فينجز يومياً من خمسة آلاف إلى ستة آلاف قطعة وهناك الغرف التي تخاط فيها الخيام على أنواعها وقماش هذه المضارب الخام والكتان هو من حياكة ومعمولات معملي إزميت وطرسوس هذا إلى غرف خاصة لتصليح الأتوموبيل يوجد بها كل الماكنات الحديثة للتصليح وتصب أيضاً الأدوات الحديدية والفولاذية الخاصة بآلات الأتوموبيل في نفس هذا المعهد الذي يحوي 56. ماكنة تدار بالقوى الكهربائية ومن العملة على 12. . عامل من أفراد الجند و6. . امرأة تشتغل في المعمل كما أن هذا المعمل يشغل مئات من حريم ألفقراء في بيوتهم.
أما معمل الأخواج في إزميت فهو من مؤسسات ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان أهمل زمناً طويلاً ثم أعيد فتحه في عهد مولانا السلطان الغازي محمد رشاد خان، وجعل من أعظم المؤسسات الصناعية وفيه خمسة أحواض حديدية على أحدث طراز لأجل غسل الصوف ثم ماكنات التجفيف والتنظيف من الأوساخ والتراب ثم يندف الصوف ويعمل خيوطاً فيحاك أقمشة فاخرة ثم يرسل إلى ماكنات تنظيف الأقمشة من الزوائد وغسلها وتنظيفها من الزيوت وغير ذلك ثم تجفف وتجمع فترسل إلى ماكنة مخصوصة لإزالة الغبار من المنسوج ثم إلى الطي والكبس فيخرج حينئذ جوخاً لطيفاً ويوجد فيه ماكنات(92/50)
للصباغ من جميع الألوان وإدارة خاصة لأجل مزج الصوف الأبيض بالأسود ليكون بهيئة واحدة وماكنات حديثة لإصلاح الأدوات الحديدية والخشبية إذا احتاج المعمل لإصلاحها وفيه من العملة 5. . عامل من أفراد الجند.
ومعامل هركة من مؤسسات ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان وكان يزاد في نطاق توسيعها وانتظام إدارتها في كل دور من الأدوار حتى أصبحت تضاهي المصانع العظيمة وهذا المصنع مشهور بصنع السجاد ألفاخر على اختلاف أنواعه وفي غرف السجاد الموجود فيها مئة وعشرون نولاً للصوف والحرير يشتغل عليها العاملات بكل جد ونشاط وهناك مكنات خشبية لصنع الشريط الحريري المختص بأنواع الأوسمة التي تحسن بها الدولة العلية. وماكنات لصنع الأقمشة الحريرية ألفاخرة من جميع أصنافها وهذه الأقمشة على غاية من الدقة بل تضاهي أقمشة أوربا وتفوقها حسناً ورونقاً ومصانع لصنع قمصان الفانلا والجوارب والزنانير ودائرة خاصة لأجل صباغ الأصواف والحرير من كل أنواعه ومعمل الطربوش بكل أصنافه وقد حاز هذا المعمل 9 ميداليات من معارض عديدة في أوربا تقديراً لمل فاق به غيره من الإبداع في العمل والإتقان في الأشغال.
أسست دار الضرب العامرة في زمن ساكن الجنان السلطان أحمد الثالث وأضيف عليها دوائر عديدة في زمن السلطان عبد المجيد خان وأخذت بالتنسيق حتى أصبحت على ما هي عليه الآن من السرعة والانتظام فأول ما شاهد الوفد فيها غرف التحليل والتركيب بحيث تكون العيارات الذهبية والفضية طبق التعديل المطلوب ثم تذويب الذهب في الأفران وفي القوالب الخاصة المركبة من دقيق العظام وبعد الذوبان يصب في قوالب حديدية فتخرج سبائك بطول نصف ذراع وعرض 5 سنتيمترات ثم ترسل إلى ماكنة تمدها زهاء ثلاثة أمتار فإلى أخرى تصقلها وتمدها زهاء خمسة أمتار حتى تصبح بسماكة الليرة وتسلم هذه السبائك بعد ذلك إلى ماكنة تقطعها ليرات بدون نقش فتقطع كل سبيكة ما يعدل 5. . ليرة ثم توضع هذه الليرات في محل خاص فتسير على الموازين المعدة لها فالموزونة تسقط في محل والناقصة في محل آخر ثم يؤتى بالموزونة تماماً فتوضع في آلة النقش فتنقش ليرة عثمانية وتسقط في محل خاص وهكذا في كل 15 دقيقة تنقش كل ماكنة 5. . ليرة عثمانية وهكذا الحال في النصف والربع ليرة ومثلها باقي النقود ألفضية كالريال المحيدي والنصف(92/51)
والربع والعملة البيضاء (النيكل) كالقرش والنصف والربع. ولكل صنف من العملة ماكنة خاصة. وعامة هذه الأدوات تدار بالقوة الكهربائية بغاية من السرعة، تصنع دار الضرب وتذوب كل يوم 6. . آقة من الذهب وقد صنعت في هذه السنة ثلاثة ملايين من الليرات ويوجد في دار الضرب العامرة من المديرين والمعاونين ورؤساء العملة زهاء 12. عاملاً.
هذه بعض إحصائيات ساعد الوقت على التقاطها من الأفواه أثناء زيارة الوفد العلمي ولعل فيها ما ترتاح له النفوس ويخلد في سجل التاريخ ليرى الأولاد والأحفاد كم كان مبلغ الآباء والأجداد من المعالي والأمجاد والحرص على سعادة البلاد والعباد وهناك أمور كثيرة يعد إفشاؤها من الأسرار الحربية لا يتسع لها كتاب وإنما اجتزأنا بما يمكن الإشارة عليه واللبيب تكفيه الإشارة.(92/52)
نبذة في وصف الأناضول
عظمة بلادنا واتساعها
ينبغي لمن يريد أن يوصف الأناضول أوآسيا الصغرى ومساحتها السطحية خمسمائة ألف وثلاثة آلاف كيلومتر مربع أونحومساحة فرنسا أن يطوفها على الأقل كما طفنا جزءاً منها في السكة الحديدية والمركبات وهذا لا يتيسر في أقل من بضعة أشهر على أقل تعديل ولا يرى الإنسان مع ذلك إلا الطرق العامة الموصلة بين الولايات. ولقد سألت كثيراً ممن طافوا ولايات كثيرة من كبار المأمورين عن مجموعة ما رأى من أرض السلطنة فلم أسقط حتى الآن على رجل رأى الأناضول الشرقي والغربي كله مثلاً ولا على رجل جمع في ذهنه معرفة الشام والحجاز واليمن ونجد والعراق والجزيرة وذلك لترامي أطراف هذه المملكة المحروسة وقلة سككها الحديدية وطرقها المعبدة بالنسبة لمساحتها السطحية.
كل ولاية من ولايات السلطنة تبلغ بمساحتها السطحية مساحة مملكتين صغيرتين من ممالك أوروبا فمساحة ولاية أطنة قبل أن يفصل عنها لواء إيج إيل (سلفكه) 39. 9. . كيلومتر مربع وسكانها أقل من أربعمائة ألف في حين تجد مساحة الدانيمارك 38. 8. 2 كيلومتر وسكانها مليونان ونصف ومساحة هولاندا 33 ألف كيلومتر مربع وسكانها نحوخمسة ملايين ونصف ومساحة بلجيكا29. 156 كيلومتر وسكانها زهاء سبعة ملايين وبينما تجد مساحة ولاية قونية 1. 2. 1. . كيلومتر مربع وسكانها 1. 1. . . . . . تجد جمهورية البرتغال92. 346 كيلومتر وسكانها خمسة ملايين ونصف ومساحة سويسرا41. 346 كيلومتر وسكانها نحوأربعة ملايين فالمملكة العثمانية ينقصها والحالة هذه السكان العاملون والخطوط الحديدية والطرق السالكة.
آسيا الصغرى
يجتاز القطار بعد مدينة حلب قضاء كليس وهو المتاخم لولاية أطنة فيسير فيه نحو خمس ساعات على ما قدرت فتأمل قضاء يقطعه قطار البخار بمثل هذا الزمن. أراضي كليس تشبه سهو ل مصر تربتها جيدة وأشجارها مثمرة ولاسيما الزيتون الذي يزيد في بركتها.
متى أتيت على آخر عمل حلب وأشرفت على سهل الإصلاحية من عمل أطنة يتجلى أمامك جبل اللكام الذي يسمى اليوم جزء منه باسم جبل بركت أوكاورطاغ وهو جبل شاهق(92/53)
كأنه حاجز طبيعي بين أرض الشام وآسيا الصغرى أوحد بين بلاد العرب والثغور كما كانت العرب تطلق عليها هذا الاسم والثغور هي طرسوس وأذنة وملطية والحدث ومرعش والهارونية والكنيسة وعين زربة والمصيصة (مسيس) أوأكثر عمل ولاية أطنة اليوم وربما أدخلوا المصيصة وطرسوس في العواصم والعواصم هي حصون موانع وولاية تحيط بها بين حلب وأنطاكية وقصبتها أنطاكية كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء وأكثرها في الجبال فسميت بذلك.
بين فروق والشام
في هذا الجبل خرق القائمون بتمديد الخط البغدادي أكبر نفق في المملكة العثمانية وثامن نفق بطوله في العالم وهو السمبلون 2. كيلومتراً ويجيء بعده نفق سان غوتار وطوله أقل من ذلك وقد كتب لي الحظ أن ركبت في خط الديكوفيل أي السكة الحديدية الضيقة الموقتة ومررنا من هذا النفق في الليل مع رئيس وفدنا العلمي الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري وثلاثة من رصفائي أرباب الصحف فقط فشاهدنا هناك عالماً يعمل كأنه الجن وقد جهزوه بآخر ما وصل إليه العلم الحديث في فتح الأنفاق وتقريب الأبعاد فتجده مناراً بالكهرباء وفيه آلات لتجديد الهواء وأنابيب لجر المياه وهم الآنن يهذبون من حواشيه ويعقدونه بالحجارة.
وهذه الشعبة من الخط البغدادي تنتهي بعد عشرة أشهر كما كان أخبرني المهندسون فيه فلا تبقى غير شعبة وروس التي يعمل فيها الآن وتنتهي بعد سنة ونصف وعندئذ يتصل الخط البغدادي العريض المتقن من حيدر باشا من ضواحي الأستانة إلى حلب فرأس العين والمسافة بين الشهباء ورأس العين 328 كيلومتر نجزت مؤخراً بمعنى أن الخط البغدادي من دار الخلافة إلى بغداد يكون طوله قريباً من طول الخط الحديدي بين باريز والأستانة أي نحوثلاثة آلاف كيلومتر والراكب يسير بين هاتين العاصمتين اثنتين وسبعين ساعة فيطوف قسماً من أرض فرنسا وبلاد سويسرا أوألمانيا وأرض النمسا والمجر بطولهما وبلاد البلقان والروم إيلي.
فما أسعد اليوم الذي يركب فيه ابن أدرنة مثلاً ويصل إلى بغداد أوإلى المدينة المنورة أومكة المكرمة إن لم نقل إلى صنعاء في القطار الحديدي مرتاحاً مرفهاً.
كان أجدادنا يجتازون المسافة بين دمشق والأستانة في ثلاثين مرحلة(92/54)
وسنجتازها قريباً في ثلاثة أيام أوأقل فنقطع شطراً من ولاية سوريا وولاية حلب وولاية أطنة وولاية قونية وشطراً من ولاية خداوندكار (بورصة) ولواءي اسكيشهر وأزميد المستقلين ولكم يفتح هذا الخط للبلاد من أبواب السعادة والرزق ويقرب بين أبعادها ويعرف سكانها بعضهم إلى بعض فنخلص من نقل حاصلاتنا على الجمال والبغال والحمير ومن ركوب العجلات المستطيلة المعروفة في الأناضول باسم بايلي وهي من صنع مدينة آماسية المعروفة في القديم بخرشنة أوعجلات (تخنة عربة) التي لا تبقي لراكبها عضواً لا تزعجه مهما كانت الطريق معبدة.
سألت صديقاً كان نصب قائم مقام على قاش من أعمال أنطالية من ألوية ولاية قونية مدة حولين كاملين هل زرت مدينة قونية قال: كيف أزورها والمسافة على الراكب من قضائي وهو على ساحل البحر المتوسط إلى قونية عشرون يوماً وهكذا المسافات في الأناضول فإن العشرين والثلاثين بل الأربعين والخمسين يوماً بين ولاية وولاية ولواء وآخر هي من الأمور الغير المستهجنة والولاية السعيدة هي التي ارتبطت مع الولايات المتاخمة لها بطرق عجلات.
المملكة العثمانية تحتاج لمائتي مليون ليرة تنشأ فيها خطوط حديدية وطرق عجلات وتجفف البطائح والمستنقعات وتقام لها الخزنات وتطهر الأنهار وتعدن المناجم وتغرس الغابات وعند ذلك لا تشكوولاية أطنة من الغرق ولا ولاية قونية من الشرق ولا غيرها من غير ذلك وتكون بعمرانها ووفرة سكانها كالبلجيك وهولاندا والدانيمارك وسويسرا والبرتغال.
قيلقية أومملكة ذوالقدرية
ولاية أطنة أوقيلقية كما عرفها القدماء ذات شأن بموقعها الطبيعي والاقتصادي قدروا ما تخرجه من القطن فقط بمليونين ونصف مليون من الليرات وأن قرية درت يول وحدها وسكانها أرمن بلغوا نحوخمسة آلاف نسمة باعت لأوربا في العام الذي قبل هذا ستين مليون برتقالة هذا إلى ما فيها من الحبوب الوفيرة والحيوانات التي تنمو في سهل (جقوراوه) كما تجود الحيوانات في سهو ل المجر والغابات فيها الكثير من الصنوبر والسنديان والزان وولاية من عملها جبل اللكام أوطوروس وفيها من السهو ل التي دونها سهو ل حوران والكرك لتحسدها الممالك وتبغضها على خيراتها كل أمة عاقلة ولذلك طمع(92/55)
فيها الفاتحون منذ القديم ففتحها ألفرس فالإسكندر فالرومان وأصبحت ساحة حرب بين البيزنطيين والفرس ثم بين البيزنطيين والخلفاء العباسيين الذين فتحوها أوائل حكمهم وكانوا يختلفون إليها ويعنون بإعمارها فأذنة بناها صالح بن علي العباس والهارونية بناها هارون الرشيد العباسي وطرسوس أعمر مدينة قيلقية في القديم والحديث غلب عليها الإفرنج زمن بني أمية إلى أن أخذها منهم أمير المؤمنين المأمون العباسي وبها مات وهو مدفون فيها كما دفن أبوه في طوس بخراسان ثم خرب ولاية أطنة جنكيز خان وتيمورلنك في القرون الوسطى.
مناظر ولاية أطنة كلها جميلة لأنها سهلية جبلية ساحلية داخلية فيها من الأنهار سيحان وجيحان وكوصوونهر البردان ومن الجبال سلسلة جبال وروس الجسمية وشعباته الجنوبية وجبال قوزان وبيك بوغا وآلاطاغ وصوماق وكوسه وكلها تأخذ بمجامع القلوب لما حوته من البدائع الطبيعية ومن طرسوس إلى بوزانتي نحوعشر ساعات في العربة.
جبال وروس
وهنا مضيق يسمونه اليوم (كولك بوغازي) ومعناه مضيق الكيلة كيلة الحبوب وكانت العرب تسميه الدرب أوالدروب ذكره امرؤ القيس ملك الشعر في الجاهلية في شعره لما توجه إلى قيصر الروم وكان مشى معه صاحب يقال له عمروبن قميئة فلما رأى عمر الدرب وهو الحاجز بين بلاد العرب وبلاد العجم بكى جزعاً لفراقه بلاد العرب ودخوله بلاد العجم ففي ذلك قال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أونموت فنعذرا
أما نحن فابتهجت أنفسنا وأيم الله واطمأنت لما اجتزنا الدرب وعلمنا أننا نركب بعده القطار ولم يمض لنا إلا ساعات معدودة لنبلغ دار الخلافة بهجة الدنيا وعاصمة الإسلام وقرارة الدعة ومدينة المنعة ومعهد الظرف واللطف وبلد الشعر والخيال. إن الدرب أومضيق (كولك بوغازي) هو كما قلنا واد تتخلله الأنهار والجداول ويكسوشجر الأرز نجاده ووهاده على صورة تظنها من هندسة أعظم مهندسي الزراعة لعهدنا وما هو في الحقيقة إلا مما نبت واستطال بنفسه أنت لا تنفك منذ تطأ عتبة جبال وروس تشم أريج شجرها ورندها(92/56)
وعرارها ولا تسأم من مناظرها لأنها منوعة في تقاطيعها وجمال هندستها بحيث لا تمل العين النظر ولا الأنف الشم ولا الأذن السماع لحفيف الأشجار وتمايل أغصانه وثغاء حملانه وخرير مياهه وأصوات عندليبه وعصفوره.
إن من يسمع من بعد وصف (كولك بوغازي) يقول في نفسه ماذا عسى يكون في هذا المضيق وجبال الدنيا كثيرة متشابهة صخور وتلعات وأكمات ومنفرجات وبطون وشيح وقيصوم وسنديان وزان ولكن جبلنا هذا لا يشبه إلا جبل بحال لأن مدبر الأكوان خلقه على غير مثال من الجبال ولون صخوره وأحسن قطعها فمنها الكبير الهائل ومنها الصغير الحقير وتربته حمراء وسوداء وبيضاء ترى تارة في الهضاب طريقاً معبدة من الصم الصلاب أومرصوفة بالتربة الذكية غرست فيها يد القدرة أشجار الأرز غرساً يتخلل الهواء بينها ولا تنبوالعين عنها لعدم نظامها واختلال هندستها وترامي أبعادها وهناك الأشكال الهندسية برمتها فمن تلعة مستطيلة إلى أخرى هرمية وبجانبها ذروة ذات شكل بيضوي وآخر محدود أومربع أوقائم الزوايا أومنفرجها جعل بعضها إلى جانب بعض ومساحتها السطحية متقاربة وكلها مزينة بالأشجار. أنت هنا تجتاز وادياً ولا كالأودية بحيث تعطي الحق لمن قال في القديم ماء ولا كصدأ ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك ولورأى القائل الدرب لقال مضيق ولا كهذا وجبال لا كطوروس.
هذه العظمة في الخلق التني تراها ماثلة على أتمها في جبال وروس التي أعجزت ألفاتحين من الأقدمين والمحدثين فكانت كالحاجز الطبيعي الذي لا يرام بين الثغور وبين بلاد الروم عامرة بطبيعتها هندسها ألفاطر وحفها بأنواع البهجة والزينة بحيث لا تملها نفس مهما اكتأبت وتود لوتقضي فيها شطراً من العمر بعيدة عن ضجة العالم وأوهام الخلق وترهات المتمدنين والمتبربرين. .
جبال وروس البديعة لقد أعجزت ألفاتحين عن اجتيز مضائقك كما أعجزت الشعراء والمصورين عن رسم بدائعك وخصائصك فما هذا الإبداع الذي عز نظيره في الأصقاع والبقاع. إيه يا منطقة البكم بالشعر ومعجزة المتكلمين في ذكرى فضائلك وفواضلك. إن جبال الألب التي استبت الألباب ببدائعها وجبال الكاريات التي اشتهرت بصياصيها الطبيعية وجبال حملايا المعروفة بسموها هي دونك في جمع كل هذه المعاني ولوهيأ لك ما(92/57)
تهيأ لتلك من يد صناع تحسن حواشيك وتحسن من أطرافك وتتعهد أزهارك وأشجارك بآخر ما اهتدى إليه العقل البشري من ضروب الصناعة لكنت لعمر الحق معهد اجتماع المصطافين والمرتبعين ومسرح أنس طلاب اللذائذ الطبيعية والصناعية وخزانة ثروة لا هلك ولا ينضب معينها أوتنضب مياه الرافدين دجلة والفرات ولكنه تعالى لا يمنح بلداً كل ما يحتاجه ولا يجمع في شخص كل الصفات والمزايا فسبحان من قسم الخصائص بين البلاد كما قسم الحظوظ بين الجماعات والأفراد.
مصنوعات الأناضول
في ولاية أطنة صناعات لطيفة من الأقمشة والخام والألاجة والبسط وغيرها ولاسيما في مدينة طرسوس التي فيها معمل للخام أنشأه رجل مصري اسمه راسم بك فيه 12. . عامل كما أن في ولاية قونية يصنع مثل هذه الصنائع وفيها يعمل السجاد.
وهاتان الولايتان تخرجان أنوع الحبوب والثمار الطيبة ولاسيما الزيتون ومن ولاية قونية يصدر الأفيون أيضاً والقنب ولكن معظم حاصلاتها من الحبوب فإن سهو لها واسعة جداً تشبه سهو ل بلاد العرب والجبال بعيدة عنها وحاضرتها قونية عاصمة ابن قرمان والسلاجقة ثم عاصمة ابن عثمان الأولي وهي سرة الأناضول وعش التركية وما أظن نفوسها تتجاوز الخمسين ألفاً قال القرماني: إنها مدينة ذات خيرات كثيرة وبساتين وافرة ولها جبل ينزل منه نهر ويدخل البلد من غربيها وبها قبر جلال الدين الرومي الشهير بملاخنكار وقبر صدر الدين القونوي أحد المشايخ الصوفية.
وبينما تجد الأبنية في صميم بلاد الأناضول من الطين واللبن تجدها في ولاية بروصة وما والاها من سواحل البحرين الأبيض والأسود القريبة من الأستانة معمولة من الخشب شأن أكثر بيوت دار الخلافة القديمة ولذلك ترى الحريق يسرع إليها ورصفها لا يوازي سرعة عطبها ولكن القوم انتبهوا في العهد الأخير فأصبحت الدور التي تجدد وتعمر بالحجر والقرميد والحجر المطبوخ والآجر وغيره من المواد المتينة الجميلة على أحدث طراز. يكثر العمران في الأناضول وتزيد مدينة السكان على نسبة قرب البلاد من البحر وقربها من دار الملك فكلما سهل الطريق إلى الأستانة تزيد السعة ويتوفر التعليم فأهل ولايتي خداوندكار وآيدين أرقى بمراحل من أهل قونية وأنقرة كما أن أهل سيواس وأرضروم أحط(92/58)
من أهل أطنة وطرابزون ولسرعة المواصلات اليد الطولى في ذلك فالولاية التي كتب لها أن تصدر حاصلاتها إلى الخارج يأتيها النقد وتتكاثر همم سكانها وتتوفر على الربح فيتعلم بعض أفرادها في المدارس الوسطى والعليا فيكونون رسل المدنية الحديثة ومتعلم واحد في أسرة كبيرة كلها من الأميين يؤثر فيهم وينشلهم من جاهليتهم الجهلاء والولاية المرتبطة بالساحل بخطوط حديدية تكثر السياحة في أهلها والسياحة مدرسة الكبار كما أن المدرسة للصغار.
تحس النفس بانبساط عندما تنتهي من ولاية قونية وتدخل في ولاية خداوندكار ولواءي اسكيشهر وإزميت فإن العمران هنا يبدوفي السهل والجبل وتكثر الأنهار والبحيرات والغابات ولا تقل فيما أحسب جبال بروصة وإزميد في عمرانها عن أرقى جبال الأرض عمراناً والصنائع على هذه النسبة حتى أن مصنوعات بروصة الحريرية من أجمل ما حاكه قول نساج وألطف ما طرزته يد صناع يجمع إلى الرخص متانة وجمالاً فحبذا اليوم الذي نتعلم فيه دروساً في الوطنية ونقتصر على مصنوعاتنا الخاصة ونزهد كل الزهد بأقمشة أوروبا ولا نلبس منها ولوأعطيناها مجاناً. بلادنا تخرج الصوف والقطن والحرير والقنب والكتان وغيرها من لوازم الأقمشة للدفء والزينة ومع هذا لا نزال متعلقين بما تصنعه لنا المعامل الغريبة الغربية ونزهد فيما تنتجه مصانع دمشق وحلب وحماه وطرابلس إلخ إن الثوب من الأقمشة الوطنية يكتسي به أحدنا يكون عوناً لأسرة صانعه الذي تعيش بربحه اليوم واليومين فمن لي بأن أرى كبراءنا وخاصتنا يبدأون أولاً ليكونوا قدوة فيلبسون وعيالهم من أقمشتنا الوطنية في الصيف والشتاء.
إن جوخ إزميت وحرير بروصة وقماش أنقرة تكفي الآن لحاجاتنا وكمالياتنا فتبقى أموالنا في بلادنا وتنشط صناعنا فتكثر اليد العاملة من نسائنا ورجالنا ونخلص من البطالة فإن رأس البطال معمل الشيطان.
التقليد والاقتصاد
بعد الحرب ستزيد الدولة ولا شك الرسوم على البضائع الأجنبية فتحمي الصناعات الوطنية حماية حقيقية خصوصاً وقد خلصنا من شر الامتيازات وأصبح الأجنبي يدفع من الرسوم مثل ما يدفع الوطني ولا يحميه من الحقوق قنصله ولا ترجمانه فليت جمعية الاتحاد(92/59)
والترقي التي حمت الدستور حتى الآن بتضامن أفرادها تصح عزيمتها مذ اليوم الأول فتعاون الحكومة في هذا الشأن كما هو برنامجها وتبين للأهلين بالعمل مقدار ألفوائد التي تنجم عن اقتصارهم على لبس الأقمشة الوطنية مهما كان نوعها كأن يشرع أعضاؤها وكل من ينتمي إليها وعامة المأمورين ونساؤهم وأولادهم بلبس الخام والديما والألأجة والقطنية والحبر التي تعمل في المصانع العثمانية في ولايات الأناضول وسورية والعراق واليمن.
والناس مفطورن على التقليد من يعتقدون فيهم العقل والذوق من رؤسائهم ومشايخهم وعمالهم كما أن المغلوب مولع بشعار الغالب في زيه ولباسه وسائر حالاته ونتعاهد بيننا أن نلوي وجوهنا عما يبعث لنا به الإفرنج مهما أرخصوا بضائعهم ونستعيض عما يرسلونه لنا بما صنعنا بأنفسنا وعندها تكثر المعامل بالأدوات الحديثة في أرضنا ونكون بعد عشر أوعشرين سنة كالغربيين أمة زراعية صناعية فقد نخرت السلع الأوروبية عظامنا وعرقت لحمنا وما ذلك إلا من ضعف مداركنا في المسائل الاقتصادية التي بها حياة الأمم اليوم.
مسألة اللغة
رأيت في طرسوس وأذنة أمراً سرني وهو أن معظم أهلها يتكلمون باللغتين التركية والعربية مع أن بلادهم تركية على ما هو عرفنا فحبذا يوم نرى أهل العنصرين الكبيرين في هذه السلطنة يسيران على طريقة أهل طرسوس وأطنة فيتعلم العربي التركية على نحوما يتعلم التركي العربية قال أحد كبار عمال السلطنة ممن تولى الولايات في بلاد الترك وبلاد العرب أن أحسن حل لمسألة اللسان الاجتماعية أن يتترك العرب ويتعرب الأتراك أي أن يتعلم أهل كل عنصر لسان العنصر الآخر إذ لا مناص لكل منهما من هذا الأمر فالعربية لسان دين الإسلام وتاريخ المسلمين والتركية لغة السياسة والإدارة فإذا وقفت جمعية الاتحاد إلى إنفاذ هذه الخطة في الولايات جمعاء فتعلم العربي بعد إتقانه للغته التركية كما تعلم التركي بعد إتقان لغته العربية تكون قد عملت عملاً معقولاً في باب سياسة العناصر العثمانية كما أن الواجب علينا إذا أردنا أن ننافس الغربي في صناعاته ومتاجره وعلومه أن يتعلم كل فرد منا لغة أولغتين من لغات العلم والمدنية وبعبارة أخرى الألمانية والفرنسية والإنكليزية لغات الحضارة الحديثة لهذا العهد وأكثر ألسن الأمم انتشاراً.
أنا لم أر في الأناضول شيئاً يقال له عرب وترك بل رأيت أخواني الترك يقدسون ابن(92/60)
العرب ويتبركون به رأيتهم مثل قومي يقرون الضيفان ويحبون مكارم الأخلاق ويغلب عليهم التدين والتمسك بالفضائل والمناغاة بذكرى الآباء والأجداد رأيتهم لا يفرقون بين أهل الدين الواحد والعلم الواحد والتاريخ الواحد ولوأضيفت إلى هذه الحسنات معرفة اللسان العربي كما أضيفت إلينا معرفة اللسان التركي لذهب كل ما نتوهمه من فرق بين أكبر عناصر السلطة المحبوبة. ولعل رجال الحل والعقد يجعلون هذه القضية نصب أعينهم بعد الحرب فيوسدون أمر المعارف إلى أناس جبلت عليها نفوسهم وهضموا ما تعلموا وعرفوا من أين تؤكل الكتف لئلا يسيروا على قاعدة من جهل شيئاً عاداه. فأعظم بلايانا جهلنا وأعظم أنواع جهلنا أن يجهل أحدنا من هو أخوه وما هو محيطه وزمانه.(92/61)
حرب القرن العشرين
دم صبغ الثرى أم أرجوان ... وسد الأفق سحب أم دخان
وشهب في الفضا انتشرت تهاوي ... كما انتثرت من العقد الجمان
وعرس ما تهادى الناس فيه ... المسرة والهنا أم مهرجان
وحرب في السما والأرض قامت ... لها سوق بها نفذ الطعان
أجل يوم تداعى الناس فيه ... لملحمة بها افتقد الجنان
فليس يرى بها إلا دماء ... وأعناق تقطع أوبنان
وأشلاء يفصلها حسام ... وأكباد يخيط بها سنان
أرانا الهول لم يشبهه هو ل ... زمان ليس يشبهه زمان
فللحرب الزبون به اعتزاز ... ولكن فيه للسلم امتهان
به جبن الكمي كما تسامى ... على البطل الكمي به الجبان
وأفحم خططه البلغاء حتى ... جفا اللسن البليغ به البيان
وعدن به الأوانس من قواف ... أوابد لا يراض لها حران
وكم هجر الصهيل به حصان ... ومزقت الحجاب به حصان
وفي الغبراء قامت معمعان ... وفي الخضراء قامت معمعان
وجن الناس في طعن وضرب ... كأن الناس ليس لهم جنان
وقد ألغوا لظي الهيجاء حتى ... كأن لظى معاركها جنان
ونصل السيف تصقله قيون ... لهم كالعود تجلوه القيان
كأن الحرب معبود فنسر ... له الخطي والغصب المدان
كان معارك الهيجاء مصلى ... وهمهمة الرجال بها أذان
ولاذ المالكون بسقي جو ... وماء تستسر وتستبان
وفيها الأنس قد برزت لأنس ... وفيها قد سطا بالجان جان
وفي رهج الكفاح الشمس غابت ... وفي البارود غاب الزبرقان
تلاعب في كلى وهام ... قناً وظبى وألحانا وحان
كأن نفوسنا أكر دحاها ... لعبث في ألفضاء الصولجان
زمان كل ما فيه هزال ... خلا أن الخطوب به سمان(92/62)
هو أن كل عيش فيه حتى ... هو أنا والهواء به هو أن
كأن له ديوناً ليس تقضي ... وأنفسنا على الدين الرهان
نقاد بحكمه طوعاً وكرهاً ... وما غير الهوان لنا عنان
وللعقل الذكي به اعتقال ... وللمال الصفي به احتجان
ويخطئ قصده ذواللب فيه ... ويدرك ما يحاوله الهدان
وبكر للحوادث جاء فيها ... لها بنفوسنا حرب عوان
فلم تر قط عين الدهر حرباً ... تماثلها ولا بصر الزمان
عجائبها تطيش بها عقول ... وهن بكل حادثة رزان
فدع أثراً يكذبه عيان ... وخذ خبراً يصدقه العيان
إذا خاض الوغى دب وحوت ... ونسر قل متى يلفى الأمان
تفانى الناس إرهاقاً وقتلاً ... ومن هذين لم يخل مكان
وكم عطف (الهلال) على البرايا ... وما أجدى التعطف والحنان
بدا بدراً ومذ ساموه نقصاً ... تعطف مثل ما انعطف السنان
تألبت الملوك على مليك ... تدين له الملوك ولا يدان
وإن تعاون الأملاك جهل ... على ملك بخالقه يعان
سرت بفيالق (الحلفاء) روح ... بها ضعف العدو وما استكانوا
فروا (للاتفاق) هشيم جمع ... كما يذري على الريح الدخان
تبدد شملهم تبديد عقد ... تبدده الولائد والحسان
إذا جهلوا لسان الحرب يوماً ... فما غير البنادق ترجمان
وللألمان فيها معجزات ... بمحكم أيها الدنيا تزان
لهم فيها كما في العلم نجم ... له في كل محمدة قران
مشوا فيها بكل قريع حرب ... يخف إذا مشى فيها إبان
لقد رضعوا ثدي الحرب حتى ... كأن دم الكماة لهم لبان
إذا خفقت بنود في الثريا ... فنسرهم هناك له معان
فسل فالكاربات تجيبك عنهم ... بأنهم الجحاجحة الرزان(92/63)
وفي فرسوفيا نبأ عظيم ... لهم ترويه ألسن واللقان
وهل ألفرس كانت في الصياصي ... من الألمان حوزتها تصان
إذا نزل القضاء فلا حصون ... مشيدة تفيد ولا حصان
ولولا بأسهم لم يروا رلو ... عجائبها ولم ينطق لسان
وأصدق ما روى عنها لسان ... المدافع والمثقفة اللدان
كأن حصونها كانت كعاباً ... محجبة ففارقها الصيان
مشوا والموت في حلف وثيق ... وتدمير الحصون له ضمان
أسلمهم علوم واقتصاد ... وحربهم فتوح واضطعان
أم التمسوا الأمان من المنايا ... وشنات المنايا والأمان
فخاضوا الحرب وهي لهم سلام ... وشبوا النار وهي لهم جنان
أعصر (الكهرباء) حفظت عهداً ... ولكن فيه أهل العصر خانوا
أضأت لهم طريق العز عفواً ... فهانوا إذ بغايته استهانوا
أتلك نتائج (العشرين قرناً) ... فنون للفناء بها افتنان
إذا ترضى به توراة موسى ... وإنجيل ابن مريم والقرآن
وكم بسياسة الغربي أضحى ... لأهل الشرق في الغرب افتتان
ما هي لووعوا إلا خداع ... وكذب أورياء أورهان
إذا لأن السياسيون قولاً ... فما لان ألفعال ولا استلانوا
روى التاريخ أهوالاً ولكن ... كهذي الحرب لم يرو الزمان
النبطية (جبل عامل): سليمان ظاهر(92/64)
مخطوطات ومطبوعات
الرحيق المختوم
في المنثور والمنظوم.
تأليف السيد محسن الحسيني العاملي
طبع في المطبعة الوطنية بدمشق سنة 1332
ص 426
هو كتاب حوى شعر هذا المؤلف ونثره قدم له مقدمة في منافع الشعر قال فيها:
إنه صقيل الأذهان وزينة الإنسان وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشعر واستنشده وارتاح له وأجاز عليه وعفا عن المجرمين بسببه ونظم أمير المؤمنين عليه السلام من الأشعار ما هو مشهور معلوم في كتب السير والآثار وإن كان الديوان المنسوب إليه لم يصح كونه من نظمه بل علم كون بعضه ليس من نظمه عليه السلام ونظم غيره من الصحابة أيضاً كما نظم العلماء والفضلاء وحسبك بالسيدين المرتضى والرضي رضي الله عنهما وما لهما من جلالة القدر والمكانة العظمى في العلم وديوان الرضي مشهور وديوان المرتضى في عدة مجلدات. . .
وورد في أخبار أهل البيت عليهم السلام من الحث والثواب على رثائهم ومدحهم بالأشعار ما هو مشهور إلى غير ذلك مما يدل على أن الشعر معدود في ألفضائل.
ومن شعر المؤلف الشاعر في القطار الحديدي:
سرت بنا الغيطان وإلا كما ... تسابق الريح مهما هب أونسما
بزلاء ليس لها رحل ولا قتب ... ولا زمام ولا شدوا لها حزما
من السوابق في المضمار ما حملت ... سرجاً ولا مضغت في دهرها اللجما
تخب طوراً وطوراً سيرها رمل ... وتارة تسبق السيل الذي دهما
ذلولة المتن تسري طوع سائقها ... بلا شعور ولم تفهم له كلما
يغدو القريب بعيداً إذ نفارقه ... وإذ تؤم بعيداً يغتدي أمما
تغدو بقطر وتمسي في سواه وفي ... سواهما لمراسيها الصباح رمى
عجماء ناطقة صماء سامعة ... فأعجب لعجماء تحوي السمع والصمما(92/65)
من الجماد غدت لكن سرعتها ... نظيرها في ذوات الروج ما علما
ومن حديد لقد أمست محجتها ... وجسمها من حديد عاد ملتئما
تطير مسرعة من غير أجنحة ... تمشي وما استعملت في سيرها قدما
تمشي على عجل مشياً على عجل ... كأنها السيل من فوق الزبى هجما
تظن غضبى وما أن مسها غضب ... وذات داء وما أن صادفت ألماً
تطبق الأرض من أصواتها زجلاً ... ولم تكن حركت عند الصراخ فماً
والماء في جوفها تغلي مراجله ... والنار قد ألهبت من تحته ضرما
وللبخار غدا في جوفها زجل ... وجوفها أبداً منه لقد فعما
تظل تزفر إن جد المسير بها ... وقلبها يقذف النيران والحمما
كأنها ملئت غيظاً واحتملت ... غماً وما عرفت غيظاً ولا غمما
تنساب كالأفعوان الصل صادفه ... من يختشيه فولى عنه منهزما
ما أن رأينا جبالاً قبلها قطعت ... كالبرق عرض الفلا تستصغر الهمما
إن فارقت منزلاً أوقاربته غدت ... تصيح معلمة من لم يكن علما
وقال في الحكم والمواعظ:
لعمرك ليس العلم بالفرو والقبا ... وبالكم في عرض السموات والأرض
وبالندب المسدول تحت عمامة ... تسد قضاء الجو بالطول والعرض
ولا بإشارات الأكف كأنما ... يريد بها الأفلاك في البسط والقبض
ولكنه قلب حفيظ ومسمع ... سميع وطرف قد جفا طيب الغمض
إذا لم يزن علم ألفتى بتواضع ... وعقل وحفظ للنوافل والفرض
فللجهل خير للفتى من علومه ... إذا لم تكن يوماً إلى عمل تقضي
وهذا الديوان يدور كسائر الدواوين أوأكثرها على المديح والتقريظ والغزل والنسيب وعلى الشيب والتهاني والمراسلات والعتاب والرثاء والحماسة والحكم والمواعظ والآداب والمناجاة وشكوى الزمان والهجاء والصفات والمعميات والألغاز والملح والتاريخ والحنين إلى الأهل والأوطان، ومنثوره مسجوع كنثر أهل القرن الحادي عشر والثاني عشر ينظر فيه إلى الألفاظ أكثر من المعاني وقد ختم ديوانه بترجمة حاله بنفسه ترجمة طويلة ذكر فيها(92/66)
عائلته ومنشأه وأساتذته وإجازاته وما مدح به من القصائد فجاءت وحدها في 66 صفحة ومعظم الديوان يدور في الحقيقة على مدح الرسول وآل البيت وأئمة الشيعة كأن قصد المؤلف الثواب على ذلك.
البعثة العلمية
إلى دار الخلافة الإسلامية.
تأليف محمد كرد علي صاحب المقتبس ومحمد الباقر صاحب
البلاغ وعبد الباسط الأنسي صاحب الإقبال وحسين الحبال صاحب أبابيل.
طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1334 - 1916 ص 296
ارتأت الحكومة في السنة الماضية إرسال وفد من علماء سورية وفلسطين ووجهائها إلى دار الخلافة ليزوروا جناق قلعة ويشاهدوا ما آتاه أبطال العثمانيين من الخوارق في الدفاع عن جزيرة كليبولي الذي هو في الحقيقة دفاع عن الأستانة نفسها فسافر الوفد مؤلفاً من 31 رجلاً وفيهم كثير من المفاتي والفقهاء والشعراء وأرباب الصحافة اختار بعضهم أحمد جمال باشا قائد الجيش الرابع المخيم في ربوع الشام وناظر البحرية وبعضهم انتخبتهم الولايات ووقع الاختيار على الشيخ أسعد الشقيري رئيساً للوفد لكفاءته العلمية وتفرد بالخطابة في اللغتين العربية والتركية فقضى الوفد شهرين في الذهاب والإياب والمقام في دار السلطنة ودار الحرب وقرر أرباب الصحف المومأ إليهم برئاسة رئيس الوفدان يؤلفوا رحلة يذكرون فيها ما لقيه الوفد من العناية وما شاهد من عظمة الدولة وقوتها وقوة الدفاع في جناق القلعة وما ثأثرت به نفوس الخطباء والشعراء من أفراده وفاض على ألسنتهم نثرا ونظماً وما أقيم لهم من المآدب ودار فيها من الخطب.
وقد عهد أرباب الصحف إلى صاحب المقتبس أن يؤلف هذه الرحلة فنسجها ونشرت وقد أوردنا في هذا الجزء نموذجاً منها مقالة بعض معامل الدولة ونبذة في وصف الأناضول وسنورد نموذجاً من شعرها. وقد صدر الكتاب برسم أحمد جمال باشا وفيه صورة الوفد في نظارة البحرية وصورة الرئيس والهيئة التحريرية.
الرحلة الأنورية(92/67)
إلى الأصقاع الحجازية والشامية
تأليف محمد كرد علي صاحب المقتبس.
طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1334 - 1916 ص 3. 2
زار أنور باشا وكيل القائد الأعظم وناظر البحرية ربوع الشام والحجاز منذ أشهر ولم يسبق لناظر في مثل مركزه العظيم أن بروز البلاد ويتفقد أحوال الجيش والرعية فضممنا ما تفرق من أخبار رحلته وما قيل من التنويه بأفضاله على الدولة والملة فجاءت الرحلة كتاب أدب ومحاضرة وخطب حوى نموذجاً من شعر الشعراء وخطب الخطباء في هذا العصر وهذا الدور تاركين لأقلام من كتبوا وخطبوا في هذا المجال حريتهم فإن نقل الشيء على حقيقته أدعى إلى تصور كل قائل بقوله فتتمثل للأنسال القادمة حالة عصرنا ومبلغ أهله من الأفكار والآداب وقد أوردنا ما قالته الصحف على اختلاف لغاتها بحرفه وأشفعناه بترجمته إلى اللسان العربي والكتاب مصدر بصورة صاحب الرحلة أنور باشا وفيه عدة رسوم تمثله وتمثل زميله أحمد جمال باشا في القدس الشريف تحت قوس النصر وفي الكلية الصلاحية في القدس وفي المسجد الأقصى والحرم القدسي وفي استعراض الجند في بئر السبع.
السنة الثانية للحرب المركزية
هي كراسة نشرتها إدارة جورنال بيروت سنة 1916 وفيها خلاصة ما نقله البرق من الحوادث عن ساحات الحرب المختلفة مما يدخل في سجلات التاريخ وقد قدم لها حليم بك حرفوش أحد محرري تلك الجريدة ألفرنسية بلغتها مقدمة لطيفة ختمها بلفظ الصلح في السنة الثالثة.
الرسائل العصرية
تأليف بطرس البستاني.
طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 191. ص 344
أجاد صديقنا مؤلف هذا الكتاب في مجموعته هذه التي حوت في مطاويها رسائل في عامة(92/68)
الموضوعات المألوفة في فن التراسل وقد أجاد كل الإجادة في تعريف المراسلة وأقسامها وأحوالها وطرقها مما لم يترك بعده مقالاً لقائل بعبارات من السهل الممتنع خالية من الحشو والتعقيد حالية بالسلاسة والرشاقة وقد اختار نموذجان من الرسائل منوعة ليتخرج بها الطالب فجاء كتابه من أوعى ما ألف في موضوعه دليل الخبرة في أحوال الطلاب وما ينبغي لهم للنبوغ في الإنشاء فنشكر المؤلف على كتابه الممتع وترجوأن يوفق إلى نشر أمثاله مما يفيد الطلاب والآداب.
آداب المراسلة
تأليف الخوري بطرس البستاني
طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1913ص 147
كتاب التلميذ
هو مختصر في فن الإنشاء على طريقة السؤال والجواب ليتأتي للأحداث استظهارها وفيه نموذجان من الرسائل يصح للمبتدئ الأخذ بها والتطريس على منوالها.
الفلسفة النظرية
أوعلم الحكمة البشرية:
تأليف الكردينال مرسيه رئيس أساقفة مالين في بلجيكا.
عني بنقله إلى العربية وتعليق حواشيه الخوري أسقف نعمة الله
أبي كرم الماروني رئيس المدرسة المارونية في رومية.
طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 191.
وهو في ستة أجزاء لا تقل عن 15. . صفحة.
أهدتنا إدارة المطبعة العلمية هذا الكتاب وهو في الفلسفة المنطبقة مع روح الكثلكة وفيه ردود كثيرة على أصحاب الفلسفة الحسية من الماديين وغيرهم وقد تصفحنا جانباً منه فرأينا بعض الغموض في بعض صفحاته وما ندري إن كان ناشئاً من الترجمة أومن الأصل الذي فيه لبس وإشكال ومعان لم يحسن مؤلفها الأول تأديتها بألفاظ مفهومة وتقريبها من عقول القراء وقد قدم المترجم مقدمة نحو95 صفحة قال في آخرها وإنني اصطلحت(92/69)
على بعض ألفاظ نقلتها عن أصل وضعها للدلالة على معان علمية حديثة أومذاهب جديدة لم أجد لها دلالة في لغتنا العربية لمسوغ ملابسة بين المعنى الوضعي والاصطلاحي كما هو شأن المؤلفين والمترجمين في كل اللغات وليس فوات مثل هذه الدلالة الجديدة نقصاً منحصراً في لغتنا العربية إنما هو شامل لكل الألسنة المستعملة بين الناس لأن واضعي اللغات تقصر بهم المدارك عن استغراق كل المعاني الموجودة والممكنة ويمتنع عليهم ضبطها في دلالات اللفظ على أن اللفظ وإن كان محدوداً بالفعل فلا يحبس قوته حد بدليل توسع نطاق الذهن بالممارسة ودوام تقدم العلوم تقدماً يزيد مع الأيام والأعصر حتى دهش العقل نفسه من سموترقيه وهو لا يزال يرغب فيه ويرتاده يوماً فيوماً بدافع نزعته ألفطرية. ولعل هذا النقص في الوضع هو كان السبب في توسيع التجوز والاستعارة في الكلام ثم في الاصطلاحات التي يسمونها الاصطلاحات الخاصة الرائج استعمالها في كل الألسن بيد أن هذا أيضاً لم يكن كافياً لسد الثلمة وقضاء اللبانة فكم من المعاني تبقى شاردة عن مصادر الألفاظ الوضعية والمجازية والإستعارية والاصطلاحية بالاصطلاح الخاص المستعمل فهذا الاختبار اليومي يشهد بشدة ما يقاسيه المؤلف والمترجم من عناء تقليب المعاجم وتصفح صحائف أهل اللغة وفرك جبهة الذاكرة فلا ينشد ضالته بل يعود حابط الجد والقلب شيق متطلع إلى ما يرى من بديع المعاني لامعة في فضاء ألفكر يشرئب عبثاً إلى اصطيادها بشراك اللفظ الواهية وعليه فإنك ترى علماء الغرب والمصنفين قد لجأوا إلى حيل النحت في الألفاظ وأكثر ما يكون هذا النحت عندهم من اللغة الإغريقية لتأصلها من أصل وضعها إلى بناء الكلمة الواحدة من ألفاظ كثيرة دالة وعدم حصر الأسماء في أوزان قياسية لا تتجاوزها فكأنما هذه الحلقة قد خلقت ينبوعاً للألفاظ العلمية في كل عصر يستقي من فيضه المؤلف والمترجم هذا وما كان أجدر بواضعي قواعد اللغات وخصوصاً بأئمة لغتنا العربية أن يصلحوا على طريقة يتهيأ لهم بها سد خلل الوضع والقيام بما لا يفي به من المجاز والاستعارة والكناية وذلك مثلاً بأن يسوغوا ما تسوغه اليونانية من النحت والتركيب رابطين قاعدة عامة يكون النحت بها قياساً مصطلحاً عليه فيستعمله المصنف أوالمترجم بلا حرج ويفهمه المطالع اللبيب بقليل من الإشارة ويعلق بحافظته لأنه مركب من ألفاظ يأنسها هي من لغته. وليس النحت بدعة في العربية ولا منكراً منه وله اسم عربي(92/70)
وورد عليه أمثلة إلا أنهم حصروا شمول فوائده في حيز ضيق ومثل مسماه لعل ذلك لأنه لم يكن لهم حاجة ماسة إلى أكثر كما هي الحال في عصرنا فما بال أئمة لغتنا اليوم لا ينشطون إلى تلافي هذا الخلل وتدارك هذا النقص يتخذون مثال الأجداد في النحت مع زيادة قوانين يترتب عليها وشروط يتقيد بها فهم إذا فعلوا يكفون أبناء جلدتهم المؤلفين والمترجمين مؤونة الكد وعناء الطلب العقيم في إيجاد ألفاظ جديدة قد لا تكون في محلها في مزج خالص كلامهم العربي بغريب الأعجمي أهو عار علينا وحط من مقام لغتنا الشريفة ومن قدر الأجداد الذين برزوا في أيامهم أن نبقى ساهين عن هذا الأمر الجليل مغضين الطرف عن قصور في لساننا مع توقد الذكاء في فؤادنا مما لا ينكره علينا عليم وحولنا من كل جانب قوم يفصحون عن المعاني الجديدة والعلوم الحديثة بألفاظ منحوتة يفهمها خاصتهم وعامتهم وهي وإن كانت ليست من أوضاع لغاتهم مأنوسة عندهم وغير أجنبية عنهم لمزاولتهم عموماً لغة الإغريق ثم لملابستها لألسنتهم.
معالم الكتابة ومغانم الإصابة
إنشاء عبد الرحمن بن علي بن شيث القرشي عني بنشره وتعليق حواشيه
الخوري قسطنطين الباشا المخلصي وطبع في المطبعة العلمية
في بيروت سنة1913.
هذا كتاب جليل تشكر الآداب العربية ناشره الفاضل على إحيائه بالطبع وتعليق حواش على بعض متونه. أما المؤلف فقد استدل الناشر أنه كان في القرن السادس من الهجرة في زمان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي وأخيه الملك العادل وذكر له أنه كان مصري المولد استوطن القدس وكان كاتباً في ديوان الإنشاء كما يظهر من نفس كاتبه الذي أخذه ناشره عن أصل مخطوط محفوظ في مكتبة دير المخلص في لبنان في مجموعة خطية تشتمل أيضاً على كتابين ناقصين وهو في صدرها لم يذكر ناسخه اسمه ولا تاريخ اسمه لكن الغالب فيما يرى من خطه أنه كتب في آخر القرن السادس أوالسابع من الهجرة وربما كان بخط المؤلف وقد تقلبت هذه النسخة بين أيدي كثيرين وعلق علها غير واحد.
وقد وقع هذا المختصر في 192 صفحة وهو فيما يجب تقديمه ويتعين على الكاتب لزومه في آداب كتاب الملوك وأركان الدولة وفي طبقات التراجم وأوائل الكتب وما يكون به(92/71)
التخاطب بين المتكاتبين على مقدارهما وذكر وضع الخط وحروفه وبري القلم وإمساكه وفي البلاغة وما يتصل بها وفي ألفاظ يقوم بعضها مقام بعض وفي الأمثال التي يدمجها الكاتب في كلامه ويستشهد بها وفيما لا بد للكاتب من النظر فيه والتحرز منه وكثيراً ما يسقط فيه الكاتب وهنا نحث كل متأدب على اقتناء هذا الأثر النفيس للأخذ من مضامينه والدمج على طريقته في الإنشاء العربي المتين والإيجاز اللطيف المرغوب فيه.(92/72)
أخبار وأفكار
المكرر يحلو
جاءنا من الأمير شكيب أرسلان ما يأتي: قد نقلتم عن (الشرق) مقالتي في صناعة السكر في الشرق واشتهار بلاد فلسطين بها وما ذكره ياقوت الحموي عن زراعة قصب السكر في غور بيسان وصناعته في تلك الأرجاء إلى غير ذلك.
وأزيدكم الآن برهاناً آخر وهو أنه وجدت في طرف أريحا الغربي آثار ثلاث معاصر للسكر مما يعزز هذه الحقيقة ويقوي الحجة على أهل زماننا هذا في إهمالهم زراعة السكر وعمله في بلاد كانت منذ مئات من السنين معدنة ومخزنة.
وأزيدكم أيضاً برهاناً آخر على عناية المسلمين بهذه الزراعة وتلك الصناعة وإن كان في جهة المغرب فالإسلام عالم واحد فأقول ورد في كتاب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى عند ذكر المنصور السعدي واسطة عقد الملوك السعديين أصحاب فاس، مراكش أنه بنى قصر البديع المشهور في حاضرة مراكش وابتدأ ببنائه في شوال سنة ست وثمانين وتسعمئة واتصل العمل فيه إلى سنة 1. . 2 ولم يتخلد ذلك ألفترة، قال: وحشد له الصناع حتى من بلاد الإفرنجة فكان يجتمع كل يوم فيه من أرباب الصنائع ومهرة الحكماء خلقاً عظيم حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم ونفائس أعلافهم وجلب له الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزناً بوزن على ما قيل وكان المنصور قد اتخذ معاصر السكر ببلاد حاقة وشوشاوة وغيرهما حسبما ذكره الفشتالي رحمه الله في المناهل هذا وقد أدرك أهل سوريا الآن ما فرطوا من أمر عمل السكر وقصروا به عن أسلافهم وعرفوا ما فاتهم من الأرباح الطائلة بعدم وجود معمل واحد أومعملين للسكر في بلادهم في هذا العصر الحاضر الذي نشأ عن الحرب فضلاً عما اضطر بالأجسام من فقد السكر وغلاء الحلوى لأنه من المقرر أن الأمزجة تلتاث بانقطاعها عن الحلويات ولا شك أن الأمراض التي نشأت في هاتين العامين كان من جملة أسبابها قلة السكر وأجدر بهذه البلاد أن تنبهها الحرب العامة إلى استدراك فرطات كثيرة من جملتها هذه.
الحرب ومنسوب المياه
كتب أحد مهندسي برلين في عام 1897 كتاباً سماه أدوار الحرب والاجتهاد العقلي في حياة(92/73)
الشعوب تنبئ فيه أن هذا الدور الذي نحن الآن فيه يكون فيه أدهش الحروب مستنداً في دعواه على منسوب مياه الأرض فإنها تختلف بموجب قانون لا يتغير بين طرفين متباينين: ألفيضانات الكثيرة واليبوسة والجفاف.
وللوصول من طرف إلى آخر يقتضي من الزمان 11. سنوات أي نصف الزمن اللازم وهو 22. سنة التي تتم فيها حركات بعد الإبرة من خط نصف النهار وتتبدل الحرارة في الأقاليم الشمالية وهذا الدور من 11. سنين ينقسم إلى أربعة أدوار مختلفة كل دور 28 سنة اثنان منها تمثل الأكثرية واثنان منها تمثل الأقلية فأدوار الجفاف على حسب رأي المهندس المومأ إليه تولد الحرب وأدوار إدرار المياه تبشر الإنسانية بدور ارتقاء في المدنية والدور بحد ذاته يختلف طولاً وقصراً في الحرب والمدنية على معدل حدود الدور المقابل لها فقد حدث دور جاف عظيم من سنة 1737 إلى 1765 وكان ذلك عهد الحروب، فر بدر بك الكبير واتبع ذلك الدور من سنة 1765 إلى 1793 وقد علا منسوب الماء كثيراً فكان فيه العصر الذهبي في الآداب والارتقاء العام لراحة الإنسانية وعلى العكس في الدور التالي بين 1693 و1821 وقد بلغ الجفاف حده فيه فجرت في خلاله الحرب العامة على عهد نابليون ومن سنة 1821 - 1848 وهو عهد رطوبة كان ارتقاء الحضارة على قدم نشاط يسير في ظل السلام واتبع هذا الدور عهد الجفاف فوقعت فيه حروب 1848 - 1876 ثم جاء دور الرطوبة من سنة 1876 - 19. 4 وفيه تمت مدهشات الارتقاء الذي نعرفه وقد تنبأ المهندس المومأ إليه سنة 1897 أن عهد الجفاف من سنة 19. 4 - 1932 سيكون طافحاً بالحوادث ولكنها تأتي على شدتها بين سنتي 191. - 192. فحرب روسيا واليابان وحرب البلقان والحرب العامة الحالية تؤيد كلام هذا المتنبي. ومن رأيه أن عهد الرطوبة يبدأ سنة 1932 وينتهي سنة 196. فيكون دور علم وحضارة ولكنه لا يفوق ما وقع من أمثاله بين سنتي 1876 - 19. 4 ومن سنة 196. إلى 1988 يبدأ أيضاً دور الحروب وتبقى مع ذلك في حد معين وسط فتأمل.
مدارسنا ومدارسهم
كتب خالد ضيا بك الكاتب العثماني الشهير مقالة في إحدى صحف الأستانة قال فيها:
أن أمور المعارف في ألمانيا معدودة من الشؤون الداخلية وعليه فإن هذه الإمبراطورية(92/74)
العظيمة المؤلفة من ولايات مختلفة تختلف إدارة مدارسها باختلاف ولاياتها فلكل منها تنسيق وترتيب يخالف تنسيق المدارس في ولاية أخرى ولكنا بقطع النظر عن الأمور ألفرعية نجد أن المدارس كلها في هذه الإمبراطورية ترجع إلى غرض واحد وتتبع غاية فذة ولا ينتظر من مملكة مؤلفة من ولايات مختلفة تساوت من حيث العلم والمدنية واتحدت أفكارها الحيوية والقومية غير هذه النتيجة.
إن درجات المدارس في ألمانيا لا تختلف عن درجاتها عندنا إلا اختلافاً طفيفاً. المدارس الابتدائية فالإعدادية فالعالية ومتى جاز التلميذ هذه الثلاث سلاسل الكبيرة (وهو عندنا في درجة التخرج من المدارس السلطانية) فإما أن يبرز إلى ميدان الحياة تواً وإما (إن كان قصده دوام التحصيل) أن يقصد إلى مدارس الأخصّاء حيث يجد أمام المدارس العليا للأمور التطبيقية وشعبات دور ألفن المختلفة مفتحة الأبواب.
دققت كثيراً في مجتازي هذه السلاسل المدرسية الثلاث وبحثت عن السبب الأولي في ألفائدة العظيمة المتأتية عن هذه المدارس فتبين لي أن السبب في ذلك لا كتب التدريس ولا الأساتذة ولا التلاميذ وإنما هو أصول التدريس وإن المدروسين آنفاً من حيث المكانة هم في الدرجة الثانية.
وبعد أن بحث في كتب التدريس الألمانية المكملة المنقحة الخالية من الحشو والأطناب والمتبعة كلها في سلسلة التدريس غاية واحدة قال: أن أول ما يلفت النظر في هذه المدارس هو الارتباط والمحبة بين التلامذة والمعلمين أول ما يتبادر إلى الذهن عندنا من لفظة المعلم أنه (يأتي ساعة كذا ويذهب ساعة كذا ويأخذ أجرة كذا)
أما عند الألمان فالمعلم مع تلميذه كالأب مع ابنه والمعلم عندهم لا يعرف اسم التلميذ فقط بل يعرف مزاياه ونقائصه وخاصيات مزاجه وقابلية ذكائه ويعرف أيضاً النقط المحتاجة إلى الإصلاح والتمريض إلى الإصلاح والتمريض في التلميذ فيوجه نحوها عنايته ويبذل وسعه في تقويمها.
فالتلميذ عندهم بين يدي المعلم أشبه بالمريض تمضي عليه مدة طويلة تحت مراقبة الطبيب وتدقيقه وإليك أصول التدريس عندنا: بعد أن يصعد المعلم منصة التدريس يشير إلى أحد التلامذة بالقيام فيقول مثلاً مخاطباً التلميذ برقمه 166 دور سلطنة السلطان سليم الأول فإما(92/75)
أن يأخذ التلميذ بسرد صحيفة أوصحيفتين مما بقي في ذهنه من الحفظ متلجلجاً متلعثماً يطلب مساعدة حافظته له ومداخلتها في الأمر وإما أن ينقطع من أول الأمر فيشير إليه المعلم بالجلوس وينهض غيره قائلاً 275 وهكذا تمضي مدة الدرس بين مختلف الأرقام أما التلامذة غير المعرضين للأسئلة فإما أن يشتغلوا بحفظ ما أهملوه من هذا الدرس وعندها لا نر إلا أعيناً مغمضة وشفاهاً تهتز وتضطرب وإما أن يخط هذا رسماً ويبري ذلك قلماً ويكتب ذلك مكتوباً.
أما الحال في ألمانيا فليس على هذا المنوال وقد زار الكاتب ودخل إلى أحد الصفوف أثناء درس التاريخ فقال:
إن التلاميذ بعد أن سلموا علينا للجلوس على مقاعدهم وأعينهم محدقة في معلمهم فقط ينتظرون ولم يكن أمامهم كتاب ولا ورق. ذكر المعلم موضوع درسه في جملة واحدة والموضوع هو هذاتبسيط دولة بروسيا والأسرة المالكة وبعد أن مكث ثانية أورد سؤالاً في هذا الموضوع فرفع التلاميذ أيديهم وكان هذا الصنف بأجمعه مستعداً لإعطاء الجواب ولكن المعلم أشار إلى أحدهم باسمه فنهض التلميذ حالاً وأجاب عن السؤال بنحو صحيفة مما كان حفظه وتعلمه ولكن لم يكن ما أورده تكراراً لعبارة كتاب معين ربما ينسى اليوم أوغداً وربما يحفظها دون أن يعرف معناها بل كان الجواب الذي أورده بلسانه نفسه حسب فهمه. وهكذا تسلسلت الأسئلة وتوالت وارتفعت الأيدي ثم انحطت ومضت نصف ساعة على هذا الموضوع أوالمباحثة وكان المعلم بلا شبهة قد تعب أكثر من كل التلامذة.
وكانت هذه المباحثة أشبه بامتحان عمومي منها يدرس لأن الأجوبة كانت ترد علناً والأسئلة تثب من هنا إلى هناك والأيدي تعلوثم تنزل وبهذا الأسلوب لم يبق نقط مجهولة في هذا الموضوع وكان المعلم في الدرس الذي قبل هذا الدرس قد كتب تقريراً في (تبسيط دولة بروسيا والأسرة المالكة هو هنزلون) فقرأه التلامذة وأضافوا الذي بقي في ذهنهم من هذا التقرير إلى ما قرؤوه في هذا الكتاب الذي بأيديهم واليوم في هذه المباحثة أوالمجاوبة العلمية فإن الذين كان فهمهم ناقصاً أوأهملوا الدرس أونسوه أصبحوا كأنهم درسوه من جديد.
وقال الكاتب أن الألمان قد طبقوا هذا الأسلوب في التدريس ليس على درس واحد فقط بل(92/76)
على دروس الحساب والجغرافية والكيمياء والحكمة الطبيعية والتاريخ الطبيعي حتى على الألسن والأدبيات وختم مقاله بقوله: ليست المدارس الألمانية الابتدائية بأحسن من المدارس العثمانية ولكن التلميذ الألماني متعلم أكثر من التلميذ العثماني وفضلاً عن ذلك فإن الأول يمكنه أن يستعمل علمه فيما يفيده في حياته وهذا على ما أظن الغاية المهمة التي يجب أن نسعى إليها.
رومانيا وجيوش التحالف
شهرت ألمانيا الحرب على النمسا والمجر هذا الشهر لتفتح ترانسلفانيا وتضم من فيها من الرومانيين أبناء عنصرها فشهرت ألمانيا والعثمانية وبلغاريا الحرب عليها والحرب الآن قائمة بين جيوش الرومان وقد أطلعنا على إحصاء أخير نشره أحد أساتذة كلية غراز قال فيه أن مساحة رومانيا السطحية تبلغ 139. 79 كيلومتراً مربعاً عدا ما دخل في ملكها من أرض بلغاريا سنة 1913 وهو 7726 كيلومتراً وهو أكثر من مساحة ربع ألمانيا وسكانها نحوسبعة ملايين ونصف أي أنه يسكنها 54 نسمة في كل كيلومتر وبحسب إحصاء سنة 1899 يوزع هذا الشعب على النحوالآتي خمسة ملايين ونصف روماني و1. 8. . . نمساوي ومجري و24. . . عثماني و32. . . من رعايا مختلفين من الممالك البلقانيا و8. . . ألماني و267. . . إسرائيلي وخمسة ملايين ونصف من سكانها يدينون بالمذهب الأرثوذكسي و15. ألفاً كاثوليك و23 ألفاً من البروتستان و18 في المئة من السكان هم من أهل المدن و81 وكسر من سكان الحقول وسكان العاصمة بكرش 341 ألفاً وفيها كلية كان عدد طلبتها سنة 9. 8 - 428. طالباً وميزانيتها مليون ونصف مارك وفي رومانيا كلية ياسي وهذي هي ثاني مدينة في رومانيا وكانت ميزانية حكومة رومانيا سنة 1915 - 486 مليون مارك وكسور من الدخل والخرج يصرف منها 47 مليون مارك على التعليم و79 مليوناً على الحربية وكان الدين عليهم 168 مليار مارك و7 في المئة من صادرات رومانيا تصدر إلى ألمانيا ويرد إليها من ألمانيا 4. في المئة من الواردات و23 في المئة من النمسا والمجر.
العلماء لا يحاربون
ذكرت جريدة الديلي نيوز الإنكليزية أنه جرى مؤخراً في لندرا توقيع ألحان من تأليف(92/77)
واكنر الألماني المتوفي سنة 1883 وأنه هذه هي المرة الأولى منذ إعلان الحرب لحنت فيها أغان لهذه الموسيقى بحضور جمهور كبير من الأهلين ومنهم ضباط بألبستهم الرسمية وربما عد بعضهم تلحين مؤلف ألماني انحطاطاً في الوطنية وعده آخرون علامة جيدة على تقرب الشعبين وقد ذكرت إحدى الصحف الألمانية أن القوم في ألمانيا لم يفتؤوا يتلون ويلحنون أقوال المؤلفين الذين هم من أمم معادية لألمانيا اليوم، فلم يتل موليير ألفرنسي ولا شكسبير الإنكليزي شيء من الحرب والحرب ليس مع الأفراد النوابغ وهم لكل أمة شرع.
وهكذا الحال في بلاد النمسا والمجر فإن نوابغ المؤلفين من لفرنسيس والإنكليز والروس تقرأ مصنفاتهم وتمثل رواياتهم كما كان في السابق واللغة ألفرنسية واللغة الإنكليزية تدرس في مدارس المجر كما كانت قبل الحرب وقد احتفلت ألمانيا منذ أشهر في مدينة نيمار بمرور ثلاثمائة سنة على وفاة شكسبير الشاعر الإنكليزي احتفالاً يليق بتكريم أمة عالمة للعلماء والأدباء من أي عنصر ولسان كانوا وناب
عن المجر رئيس مجمعها العلمي ولم يكدر صفوهذا الاجتماع مكدر ولم يذكر شكسبير إلا بالتجلة كأنه من شعراء ألمانيا نفسها فتأمل هذا التسامح في إكرام العلماء حتى زمن ألفتن والحروب.(92/78)
العدد 93 - بتاريخ: 1 - 10 - 1914(/)
الألمانية والإفرنسية
شعر العامّة والخاصّة في العهد الأخير بالحاجة الشّديدة إلى معرفة اللغة الألمانيّة في هذه الدِّيار وفي غيرها من البلاد التي حالفت جرمانيا وكانت هذه الحرب التي أدهش فيها الألمان بعلومهم وتفنُّنهم في المسائل الحربية والاجتماعية والاقتصادية من أكبر الدواعي إلى ذلك وكان الخاصة من قبل يشعرون هذا الشُّعور ولكن قلَّة أطماع ألمانيا في امتلاك بلاد الشَّرق الأقرب لم يحملها كما حمل فرنسا منذ القديم على أن تبذل همَّتها لنشر لغتها فيه وتركت المسائل لطبيعتها خصوصاً ومن سياسة ألمانيا أن لا تميل إلى تجزئة قوتها فتفضِّل نشر علمها على قطعةٍ صغيرة وراء حدودها على أن تستعمر مملكةً واسعةً في إفريقية وآسيا كما هو حال فرنسا. وحال ألمانيا في نشر لغتها تبعاً لسياستها بالطَّبيعة.
ولم نفتأ بالمناسبات منذ خمس عشرة سنةً نشير على ناشئتنا بتلقُّف هذا اللسان ونحسن لأصحاب الشأن في الأمر ودعاة العلم الصحيح نشره في مصر والشّام خاصةً ولقد قلنا في رحلتناغرائب الغربالتي نُشِرت سنة1327 - 19. 9 ما نصُّه: إنَّ اقتصارنا نحن معشر العثمانيين والمصريين والسُّوريين خاصَّةً على اللغة ألفرنساوية في الأكثر هو من الاحتكار الضّارّ فيجب أن نعرف كلّنا أو بعضنا لغة أمَّةٍ كبرى تريد أن تحارب العالم حرباً اقتصادية حتى لا يكون مثلنا مثل لفرنسيس مع جيرانهم الألمان قبل حرب السَّبعين جهلوا ما لديهم نم ماديَّاتهم فخسروا في ماديّاتهم ومعنوياتهم.
نعم نتوفَّر على الأخذ من أوربا كل ما تمتاز به مملكة من ممالكها فنحول وجهتنا بعد الآن إلى جرمانيا نتعلَّم علومها واقتصادها ومتاجرها وبريَّتها ونأخذ من فرنسا الزراعة والحقوق وعن إنكلترا السِّياسة والعلوم البحريَّة وعن إيطاليا الصنائع النَّفيسة ونجعل للغة الألمانية والإيطاليَّة حظَّاً من عنايتنا حتَّى لا نكون حكرةً مضَّرةً لحكومةٍ خاصَّةٍ من حكومات الغرب فنحن كما نريد في السِّياسة أن نعامل الدُّول كلّها بوئام يجب أن نأخذ عن كلِّ دولةٍ راقيةٍ أحسن ما عندها حتى لا نكون من الجامدين على أمَّةٍ بعينها والجامدون في مسائل الِّين كالجامدين في مسائل الدُّنيا لا يخلو حالهم من ضرر على المجتمع
ولمّا رحلنا إلى الغرب في رحلتنا الثَّنية نبحث عن موادٍّ قديمةٍ وحديثةٍ لكتابنا خطط الشَّامالذي أخذناه منذ زمنٍ نعني بتأليفه اجتمعنا بالعلاّمة كويدي المستشرق الإيطالي فكان مما سألنا إياه فيما إذا كنّا نعرف اللغة الألمانيَّة فأسف كثيراً على هذا القصور وقال لنا لو(93/1)
كنتم تعرفون هذه اللغة كما تعرفون الإفرنسيَّة لسهل عليكم اقتباس المواد التي تحتاجونها إلى كتابكم وكشف حقائقٍ عن تاريخ عمران بلادكم. ثم انقلبنا بعد شهرين إلى بلاد المجر واجتمعنا بالعلاَّمة غولدصير المستشرق المجري وهو كالسّنيور كويدي من أئمة المشرقيَّات في الغرب المشار إليهم بالبنان فسألنا في خلال الحديث ونحن نسترشده لإيجاد موادًّ لكتابنا إذا كنّا نعرف الألمانية فقال لنا مثل مقال صاحبه الإيطالي وزاد تلهفنا كثيراً قوله أن معظم ما نريده في هذا الموضوع مكتوبٌ محضَّر بهذه اللغة لا يحتاج إلا إلى ترجمةٍ ونشرٍ
ولا عجب أن أصبح اللسان الألماني مصدراً لنا في تاريخ أمّتنا ونحن أمّةٌ متأخِّرة في مضمار العلم فالألمان لكثرة الأخصّائيين في كلِّ شيءٍ عندهم أصبحوا حجّةً في العلوم والآداب في الغرب كلِّه ويكفي أن أهم كتب الطِّبِّ في اللغة الإنكليزيَّة منقولة عن مؤلفي الألمان وأهمُّ كتب الفلسفة عند لفرنسيس مترجمةٌ عن علماء ألمانيا وفلاسفتها وانَّ زهاء نصف ما نُشر باللغة العربيَّة من آداب قومنا وتاريخهم وعمرانهم ولسانهم نشره الألمان وعلَّقوا عليه الشُّروح والحواشي والتّحقيقات الممتعة والفهارس النَّافعة والباقي نشره الأمريكان والإنكليز ولفرنسيس والرّوس والطّليان والإسبان والسّويسريّون والنّمساويّون والمجريّون والهولنديون والسّويديّون وغيرهم من أمم الحضارة وكان علينا بعد أن انتشرت تجارة ألمانيا في العالم ونازعت التجارة الإنكليزيَّة الأميركيَّة وغيرها أن نسعى إلى أن نحذق هذا اللسان كما حذقنا الإفرنسيّة والإنكليزيّة حديثاً وحذقنا الإيطاليَّة قديماً وتعلَّم بعضنا الرّوسيّة واليونانيَّة وإلى اليوم لا يوجد سوى أفراد قلائل تحقّقوا بأجزاء هذه اللغة من رجال الجيش العثماني أو من سكان فلسطين وسورية ممن درسوا في مدارس القدس وحيفا ويافا وحلب وكلها معاهد في التعليم جديدةٌ نشأت وارتقت بعد استحكام صلات التقّرب بين ألمانيا والعثمانيّة وبعد إنشاء الخطِّ البغدادي ومسيس الحاجة إلى موظفين من أبناء هذه البلاد الألمانية كما يعرفون العربية والتركيّة. فقصّر الألمان وقصّرنا في نحن أيضاً في هذا السّبيل.
ومن الأسباب التي قعدت حقيقة باللغة الألمانية عن الانتشار في هذه الديار أيضاً أن بروسيا كانت كألمانيا اليوم تحب أن ترقي بنفسها وجيرانها أولا والأقربون أولى بالمعروف وكانت من الدول الثانوية في الغرب فلما أصبحت ألمانيا بالوحدة الألمانية دولة كثيرة الحصا كبيرة(93/2)
الواقعة وغلبت فرنسا في حرب السبعين أخذت لغتها تنتشر في الغرب بطبيعة الحال. أما الآن فإذا كتب النصر الأخير للألمان على خصومهم تصبح لغتهم أو تكاد عامة بين الأمم كما أصبحت اللغة الإفرنسية
من قبل وانتشرت بالقوى التي بذلها لويز الرابع ونابليون.
جاء في تاريخ جودت أن المعارف ألفرنساوية انتشرت بكثرة على عهد لويز الرابع عشر حتى حصل للأمم جمعاء آنسة بها وانتشرت آداب لفرنسيس في كل أمة وأصبح هذا الملك يتدخل في شؤون الممالك الأوروبية فعم تعليم اللسان ألفرنساوي منذ ذاك العهد وأصبحت الأمور السياسية تكتب بالافرنسية. وذكر أيضاً أن معاهدة قينارجة بين العثمانيين والروسيين كتبت من جهتنا بالتركية والإيطالية ومن جهة روسيا بالروسية والإيطالية وفي ذلك دليل اللغة الإيطالية كانت إلى ذاك الوقت معتمداً علها أكثر من الإفرنسية في الغرب.
وذكر سنيوبوس أن الآداب الفرنسوية انتشرت في القرن الرابع عشر حتى عمت الغرب وأصبح اللسان ألفرنساوي لغة جميع المجتمعات الراقية بل اللسان الرسمي
(1) هي قصبة صغيرة على 7. كيلوامتراً من جنوب سلسترة في بلغاريا اشتهرت بأنها كانت محل عقد المعاهدة بين العثمانية وروسيا على عهد عبد الحميد الأول وكاترينا الثّانية سنة 1774م
(2) تاريخ الحضارة لشارل سنيوبوس يتخاطب به رجال السياسة في الحكومات وبه ينشؤون المعاهدات وأصبح من المألوف في كل مكان تعليم أبناء الأسر الشريفة اللغة ألفرنسية وأن تمثل القصص ألفرنسية ويتحدث الناس ي القاعات باللسان ألفرنسي وبالغ الألمان في هذا السبيل كثيراً حتى أن الأمراء ورجال البلاط الملوكي أمسوا لا يعرفون حتى اللغة الألمانية وينظرون إلى هذه اللهجة بأّنها تصلح للقرويّين والعملة وألف ملك بروسيا كتبه باللغة ألفرنسية وأخذت ماري تيريز تراسل وزراءها بالافرنسية واقترح المجمع العلمي في برلين أواخر القرن الثامن عشر أن يكون موضوع المسابقة في بيان شرف اللغة ألفرنسية.
والغالب أن اللغة ألفرنسية لم تحرز كل هذا القبول في قلوب الأمم لمزية فيها ليست لغيرها بل لأن السياسة قضت بانتشارها ولأن أهلها توفروا على نشرها بأن نشأ لهم أدباء وفلاسفة(93/3)
وعلماء استفاضت بن العالمين شهرتهم واللغات في الدول تابعة في النباهة والخمول لحالة الدولة التي تحمي حماها وإلا فليست الإيطالية مثلاً دون الإفرنسية بجمالها ورنتها بل ربما كانت أسهل منها ومع هذا نازعتها الإفرنسية من عهد لويز الرابع عشر الذي طالت أيامه واشتهرت بكثرة نوابغها في الشعر والأدب والنقد الأخلاقي والفلسفة والتاريخ والفنون.
قالت مدام دي ستايل في كتابها (ألمانيا) الذي ألفته في سنة 181. منذ عهد لويز الرابع عشر أخذت جميع المجتمعات الجميلة في القارة الأوروبية تحصر وكدها في تقليد ألفرنساويين ما عدا الإسبانيين وإيطاليا وقد اعتقد القوم في فينّا (وكانت إذ ذاك مهد الألمانية)
وأفرطوا في اعتقادهم أن من إمارة الظرف أن لا يتكلم المرء بغير الإفرنسية على حين ليس المجد ولا الظرف في كل بلد إلا عبارة عن ألفكر الوطني والصفات الوطنية وقد أُدهش الفرنسويون أوروبا ولا سينا ألمانيا ببراعتهم في الرقائق والأضاحيك ولقد كان البولونيون والروسيون وهم بهجة المجتمع في فينّا لا يتكلمون بغير اللغة ألفرنسية ويحاولون أن يبعدوا عن تلك العاصمة روح الألمانية. وللبولونات أساليب تأخذ بمجامع القلوب في مزجهم التصورات الشرقية إلى مرونة ألفكر ألفرنساوي وحدته - انتهى المقصود منه.
قلنا وقد كان للروس غرام لارنسية بدأ ذلك على عهد بطرس الأكبر مصلح روسيا الحديثة وواضع أساس نهضتها الذي خبع رقبة القديم ولغتها المدنية الغربية بدون قيد ولا شر وكان في روسيا من حيث حب التجدد كالسلطان سليم الثالث العثماني ولكن المحيط ساعد الأول أكثر من هذا الثاني فقبل المدنية الهولندية والمدنية الفرنسوية وأسس الكليات وأسس الكليات العظمى ونظم الأساطيل ودرب الجيوش ومن عهده شاعت الإفرنسية بين طبقات الشعب الراقية وكادت تكون لغة التخاطب في القصور والمجامع العامة وعمت قواعد البلاد الروسية ولا يزال إثر ذلك ظاهراً للعيان في مملكة القياصرة حتى اليوم.
وكل دروب الغرب تعني بتعليم اللغة ألفرنسية عناية فائقة في كلياتها وجامعاتها بل في مدارسها الوسطى وقل في خاصة الأم الأوروبية والأمريكية من لم يحأول أن يتكلم بها الباريزي نفسه لمسيس حاجته إليها في العلم والسياسة والتجارة والصناعات بحيث(93/4)
أصبحت على طول الزمن عامة حقيقة ولها شيء من المرونة واللّطف وهذا على ما تظن ماحدا بعلماء هذه اللغة وأهل الأدب منها أن يتوفّروا على تحسينها وترويجها الكتب المنوّعة والمجلات وجميع أساليب النّشر.
أمّا في هذا الشّرق الأقرب ونعني به البلاد العثمانيّة والمصرية والإيرانية فقد انتشرت في أواخر القرن الثّامن عشر وزاد انتشارها أكثر بعد عهد نابليون بونابرت فإنّ الحكومة العثمانية بعثت بعثات علمية كثيرة إلى مدارس فرنسا يتعلمون فيها العلوم ويتخرّجون في هذه اللغة وكذلك محمد علي الكبير فإنّه اقتصر في إرسال التّلامذة إلى مدارس فرنسا ليعودوا منها فينظّموا شؤون بلاده على أحدث الطّرق الغربية وكان مستشاروه جماعة من أكابر علماء فرنسا وهم الذين اكتشفوا الآثار المصرية باكتشاف الخطّ الهيروغليفي وأنشأوا المتاحف والحدائق العامة والقناطر والسّدود وأقاموا عمران مصر الحديثة وكان منهم جماعة نابليون ومنهم الذين جاؤوها بعد وبواسطة المدارس والبعثات التي أسسها محمد علي انتشرت اللغة ألفرنسية في وادي النيل.
وكلما كانت المطامع السياسية في هذه البلاد تزداد كانت المدارس تشاد وتنفق عليها فرنسا عن سعة. قال صاحب كتاب المسألة الشرقية لما صح العزم على تخريج طبقة من الناس في المملكة العثمانية يتولون أعمالها ويستلمون زعامتها بدون أن يكون لتعاليم الدينية تأثير فيهم أنشأت الحكومة العثمانية في الأستانة تحت حماية كلٍّ من فؤاد باشا ناظر الخارجية وسفير فرنسا إذ ذاك بحسب الخطّة التي رسمها فيكتور دروي (وزير المعارف في فرنسا) مدرسة غلطة سراي وهي مدرسة وسطى فتحت أبوابها لقبول الرعايا العثمانيين وأدار شؤونها أساتذة أوروبّيّون يعلِّمون باللغة الإفرنسيّة وكان ذلك رمزاً لعمل فرنسا الحريصة على تعليم الشّعوب الشّرقيّة بلغتها مبادئ المدنيّة الغربيّة فافتتحت هذه المدرسة يوم1أيلول 1868م واشتدَّ الاعتراض على هذا العمل وثارت خصّيصاً ثورة المتعصّبين الجامدين وأنشأ الرّوسيّون يهزؤون من هذا البابل في اختلاط الألسنة في هذه المدرسة وبلغ تلامذتها في السّنة القابلة ستمائة تلميذاً وكان ذلك أسعد دورٍ في التّنظيمات الخيريّة.
وقال رينيه بينون يعجب السّائح ألفرنساوي ويداخله السّرور عندما يدخل الشّرق إذ يسمع حيثما ينقلب نغمة لغته يرنُّ صداها ويجد حتّى في صميم بلاد آسيا الصّغرى مدارس(93/5)
فرنساويّة غاصّة بالأطفال من جميع العناصر والأديان يتعلّمون تهجئة حروف لغتنا ويستعدّون لمعرفة بلادنا تحت إدارة راهبةٍ أو أختٍ فرنساويّة صالحة يختلف أكثر من مئة ألف تلميذٍ إلى المدارس التي معظمها لرهبانٍ خصَّتها الحكومة ألفرنساويَّة بشيءٍ من المال مسانهةً أو حمتها حمايةً فقط ويزيد عدد هذه المدارس سنةً بعد أخرى وهؤلاء الأطفال ينبثون في أطراف المملكة وفي البيوت التّجاريّة والسّكك الحديديّة والمصارف يحسنون سمعة فرنسا وينشرون لغتها وآدابها ومدنيّتها. قال ومن كلّيّة بيروت الزّاهرة التّي يديرها الآباء اليسوعيون والّتي كتب في حقّها غوستاف لوردميه أنّ ليس في فرنسا مدينة كبرى تكون معاهد تعليمها العالي أكثر استعداداً من كلّيّة بيروت حتّى تصل إلى المدارس الحقيرة في المدن الصّغرى في أرمينية ومكدونية تجد أخوات القدّيس منصور يوزّعن بدون نظر إلى مذهب وقوميّة قليلاً من المعلومات ويقمن بالإسعافات الطّبية ويعملن كثيراً من الإحسان. قلنا وهذا سرّ حماية فرنسا لرجال الدّين في الشّرق يطردونهم من بلادهم ويحمونها في غيرها لأنهم هنا يتوفّرون على نشر لسانهم ومناحيهم وما تخال يرجع ذلك لهم بعد الحرب بعد أن نزعت منهم امتيازات الأجانب وشعرت الأمة العثمانية بالحاجة إلى تعليم وطنيّ تكون صيغته حبّ البلاد ومعرفة ما ينعشها.
ثم غمرت فرنسا (المقتبس م 7 ص 162) بلادنا بالمعاهد الخيريّة والتهذيبية بهمة جمعية أخوة المدارس المسيحية وجمعية راهبات المحبة وكان مبشّروها ينزلون ربوع سوريا بالرغم مما قام في سبيلها من المصاعب وكانت فرنسا أبلغت مخصصاتها لمدارس مخصصاتها لمدارس سوريا وفلسطين إلى زهاء مليوني فرنك منها 45. . . . لمدارس الرهبنات و383. . . للمدارس المدنية و45. . . لمدارس مختلفة 122. . . للمعاهد الطبية هذا هو الظاهر في ميزانيتها عن سنة 1911م وهناك جمعيات تعمل على نشر التربية ألفرنساوية مثل جمعية أعمال مدارس الشرق التي أسست عام 1856م وجمعت اموالاً طائلة وزعتها على المعاهد الخيرية ومدارس الرهبنات في الشرق تبلغ قيمتها 3. . . . . فرنك ومثل مدارس الاتحاد الإسرائيلي ومثل مدارس الجمعية العلمانية وكلما كانت فرنسا ترى ألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وأميركا تعنى بفتح المدارس في هذه الربوع كانت فرنسا تزيد المال المبذول في هذا السبيل وتنوّع الأساليب لبلوغ الغاية.(93/6)
ونمت في السنين الأخيرة أعمال ألمانيا نموّاً غريباً إذ أسست كثيراً من المدارس الابتدائية وعدّة مدارس عالية ومدرسة إكليريكية في القدس وغيرها من صناعية ومستشفيات معتمدة في كلّ ذلك على الجمعيات الكاثوليكية الإنجيلية الألمانية وعلى اللجان الجنسية التي تستمد قوتها من الاتحاد النمساوي العام وقد فتحت في ميزانيتها اعتماد قدره 85. ألف مارك ينفق على معاهدها في سوريا وفلسطين. هذا إلى المدارس التي أنشئت منذ القديم في بيروت وحيفا ثم في حلب والأستانة وجميع ما تقدّم من منافسة الألمانية للإفرنسية قليل جداً لأننا لم نسمع برجل منّا نبغ حتى الآن في اللغة الجرمانية ويرى النابغين في ألفرنسية أكثر من أن يعدوا في قواعد البلاد مثل مصر والإسكندرية والأستانة وأزمير وسلانيك وبيروت حتى أن بعض الأُسرة تركت لفتها الأصلية وأصبحت تتخاطب وتتكاتب باللغة الافرنسية وكثيرا ما يشمئز الوطني وهو لا يسمع غير نغمة هذه اللغة ويرى المرزين فيها أكثر من لغتهم ومن كل لغة مما عمت به البلوى
لا يقل المتكلمون باللغة الألمانية اليوم عن مئة مليون وهذا العدد هو ضعفا المتكلمون بالافرنسية ولكن عدد الذين تعلموا الافرنسية من غير ألفرنساويين يربو كثيرا عن عدد من تعلموا من ير الألمانيين واللغة الألمانية هي لغة يعرفها الخاصة في المجر وروسيا وايطاليا وفرنسا وانكلترا والبلجيك وهولاندة والدانمرك والسويد منورج وأمريكا وتعلم لغةٍ غير اللغة الوطنيّة في أكثر هذه الممالك إجباري في المدارس وأكثر اللغات رواجاً اللغة الإفرنسيّة في غير البلاد ألفرنساويّة واللغتان الإنكليزيّة والألمانيّة في غير بريطانيا وجرمانيا
كانت اللغة الإيطالية رائجةً كثيراً في مصر والشّام في القرن الثّامن عشر فنازعتها اللغة الإفرنسيّة في القرن التّاسع عشر حتّى قلَّ عدد العارفين بها فهل تصبح اللغة الألمانيّة في هذه الدِّيار في القرن العشرين لغة العلم والتّجارة والسّياسة يا ترى ويكثر العارفون بها على مستوى العارفين باللغة الإنكليزيّة على الأقل أم تظلُّ للإفرنسيّة تلك الرّغبة وتحافظ بعد الحرب على تلك الشُّهرة؟ سؤالٌ ليس غير الأيّام كفيلةٌ بالجواب عنه.(93/7)
جرمانيا الكبرى
يدعو الدّعاة الآن إل ضمِّ شمل ممالك أوروبا الوسطى تحت لواءٍ واحدٍ تكون برلين العاملة الوحيدة فيها على نحو ما ضمّت بروسيا إليها شمل الحكومات الألمانيّة منذ ستّ وأربعين سنة. فتنشأ الآن مملكة جرمانيَّة كبرى كما نشأت مملكة ألمانيا الكبرى وبذلك يستحيل على سائر دول أوروبا أن تنال منالاً من هذه المملكة الضخمة التي تصدر عن رأيٍ واحدٍ مركزه برلين وقادته رجال الألمان وتكون حدود هذه المملكة الجديدة من نهر المارن إلى التّخوم الجنوبيّة من بولونيا ومن همبورغ إلى الأستانة وما وراءها إلى الشّرق
وقد كتبت مجلّة المجر في هذا الشّأن فصلاً قالت فيه أن تباور الممالك الوسطى حول الأصل الجرماني قد بدأ وإذا كان خصومنا من الدّول قد شهروا علينا الحرب ليقضوا القضاء الأخير على تغالي ألمانيا في جنديّتها وميل جرمانيا إلى ابتلاع كلّ من يخالفها فهل يستطيعون أن يحولوا دون تأليف أوروبا المركزيّة الجرمانية؟ أيستطيعون أن يمنعوا هذا بالقوّة - قوة الجيوش والأساطيل والمجالس الحربيّة والخُطَب والشّكايات؟
فإذا كانت النّتائج السّلبيّة التي نالها خصومنا منذ سنتين لم تكفِ لإنارة فكرهم في هذا الشّأن فإن إلقاء نظرةٍ على الماضي تكفي لأن تزعزع ثقتهم. وذلك لأن حرب السّبع السّنين مثلاً قد هيّأت أسبابها وعقدت المحالفة الكبرى من النمسا وروسيا وفرنسا والسّويد لتلك الغاية نفسها وهي نزع ما امتلكه بروسيا من الأملاك الجديدة وتصغيرها بحيث تكون أمارة صغيرة ووضع حدّ لإفراطها بالتّجنيد مما كان يقلق أعداء فريدريك الثّاني كما يقلق له اليوم أعداء غليوم الثاني.
ماذا نشأ من ذلك؟ نشأ منه أنّ سيلزيا لم تنفصل فقط عن روسيا بل إنّ هذه خرجت أكبر وأقوى مما كانت مع أنها حاربت أوروبا تقريباً. نعم أثّرت في بروسيا تلك الحرب كما أثرت في خصومها ولكنها خرجت منها وقد جعلت لها مركزاً بين الدّول العظمى فجذب جاذب القوة حول أعلامها الشّروب التي هي من عنصر ألماني فأصبحت برلين منافسةً لفيينا في التّفوق في ألمانيا وانحلّت مسألة هذا الامتزاج الألماني حلاًّ قطعيَّاً لا في موقعةكونيكراتزبل فيسيدانوحاول نابليون الثّالث أن تنعقد أواخي الوحدة الألمانيّة في وكانت إمارات ألمانيا متخالفة بينها على أمور تافهة وبعمله سارعت إلى تناسي اختلافاتها فدفع الألمان الخطر أولاً ثم الحماسة والمجد الباهر الذي أحرزوه بانتصاراتهم إذ ذاك إلى تنبيه(93/8)
عواطف لم يكونوا يعرفونها من قبل ونعني بها عواطف التّضامن العنصري وستكون الحال كذلك اليوم فإن أعدائنا يعزون ألفضل في نجاحنا إلى ألفكر العسكري الشّديد وإلى روح الجنديّة الوحشيّة المنبعثة من التّوتونيين أي الجرمانيين فيرون في ذلك الخطر على حرّيّة الشّعوب وسعادة العالم وحقوق الإنسان ولكن بلغ بهم الضّعف في التَّقدير وقلّة المنطق في السّرد أنهم يريدون أن يحاربوا هذا الشّرّ بشرٍّ مثله كبعث روح الجنديّة في كلِّ شيء وذلك بتحدّي ألمانيا واحتذاء مثالها وإن كان على شيءٍ من الضّعف
وكيف ما كانت الحال فإنَّخلافة برلينكما سمّاها وزير خارجيّة روسيا أو هذا الإتّحاد بين الممالك الوسطى آخذٌ بالتّأليف وبرلين مقرّه لأن لهذه من قوتها وغناها ما تصبح به أقوى مما كانت في حرب السّبع السّنين وأقوى مما كانت في حرب السّبعين وأعشم مما كانت بمحالفتها مع النّمسا والمجر بفضل بيسمرك وأندرلسي وأكثر استمساكاً وبقاءً من التضامن الوقتيّ بين الشّعوب المتحالفة على الحرب الآن. لا جرم أنّ وحدة المصالح التّجارية والاقتصادية وضرورة الدّفاع عن الحوزة ستؤدي بالطبيعة إلى التوفيق بين قوانين كلِّ مملكةٍ من هذه الممالك فنصبح عمّا قريب متَّحدين اتّحاداً سياسيا يشبه اتّحاد الولايات المتحدة الأميركيّة التي تحكمها إرادة واحدة.
هذه لمحة من مسألة اتّحاد دول أوروبا المركزيّة ومنه يستدلُّ جليَّاً أنّ ألمانيا أيقنت على ما أحرزته من الغلبة في هذه الحرب أنّ لا مناص من أن تقوي نفسها وحلفاءها للمستقبل وأن برلين كما قالت المجلة المجرية ترقّت من كونها عاصمة التحالف الثلاثي إلى كونها عاصمة تحالف ممالك أوروبا الوسطى بأجمعها ولكن لم يجر للدول العلية ذكر صريح في هذا ألفصل هل تدخل في جملة التحالف الجرماني هي وبلغاريا أيضاً أم لا؟ ونظن أن هناك بعض عقبات تحول بيننا وبين الدخول في هذه المعاهد إلا على حد محدود كما هي محالفتنا اليوم مع ألمانيا والنمسا والمجر. ومن جملة الأسباب التي تحول دون دخولنا بحسب ما نرى في اتحاد أوروبا الوسطى ما أوردت المجلة المجرية من الأسباب التي تربأ ببلاد المجر عن الدخول في هذه الوحدة قالت: ألمانيا عرفت مبلغ المجر من حسن البلا. وما امتازوا به من الصفات العالية وكانت لا تعرف منها إلا ذرواً قليلاً وليس في برلين من يريد أن يعبث باستقرار هنغاريا ولا بأوضاعها الوطنية ولولا ذلك لا يوجد في المجر(93/9)
إنسان يودّ الاقتراب من المملكة الجرمانية. إننا نحرص على لغتنا وأخلاقنا ودستورنا الوطني أكثر حرصنا على كل مغنم سياسي أو اقتصادي ونعلم أن هنغاريا لاى تتمكن من القيام بمهمّتها التّاريخية أي أن تكون واسطة بين الغرب والشّرق الآن تكون سوراً قوياً لأوروبا إلا إذا احتفظت بأخلاقها الوطنية المجرية وبحريتها السياسية وآدابها المستقلة. ومصلحة ألمانيا لا تنافي بتاتاً استقلال الأمة المجرية وعلى العكس فإن حلفاءها يعترفون بمشروعية هذه الأميال وكلما عرفوا أخلاق عنصرنا والأحوال الخاصة التي عيّنت لنا خطّتنا السياسية يفهمون مرامينا أكثر.
وبعد أن تساءلت تلك الصحيفة عن كيفية تكوين هذا الاتحاد الجديد وقالت أن عدد العنصر الجرماني في اتحاد ممالك أوروبا الوسطى يزيد على سبعة أو ثمانية أضعاف العنصر المجري فيُخشى حينئذٍ من أن يمتزج المجر بطول الزمن بالعنصر الجرماني ويندمج فيه كما يندمج كل عنصرٍ أجنبيٍ في الولايات المتحدة الأميركية بالعنصر الإنكليزي السكسوني قالت عبثاً يقول الألمان أنهم لا يريدون أن يُكرهونا على تعلّم لغتهم ولا آدابهم ولا طرق تفكيرهم ولا طرز حياتهم العقلية والأدبية بقطع النظر عن التمثيل ببولونيا فإن هنغاريا تتجرمن بطبيعة الحال وتندمج في الأكثرية فتفقد جزءاً من أخلاقها القومية وأنه خيرٌ للشعوب الصغيرة أن تظل على استقلالها وإن أورثتها الحرب ضعفاً فتخرج رافعةً رأسها وتتنافس الدّول الكبرى أن تكون تبَعاً تخسر نفسها ومقوّماتها ومشخّصاتها
هذا ما تحاذر منه الصّحيفة المجريّة تحاذر أن يندمج المجريّون في غيرهم ويفقدوا مشخصاتهم وقوميتهم والعنصر المجري في مملكة النمسا والمجر هم أقل من العنصر الجرماني ومن العنصر السلافي ومعلوم أن إمبراطورية النمسا والمجر مزيج من عناصر مختلفة طبائعها محتفظة بلغاتها ومشخصاتها لم يثبت الأعضاء أن عنصراً ربح من العنصر الآخر كثيراً في هذا الشأن بل هم في هذا الشأن بل هم في هذا المزيج كالفسيفساء البديعة في رقعة شطرنج فالألمان في غربي المملكة وشمالها الغربي والسلافيون في الشمال والشمال الشرقي والجنوب الغربي والمجر في الشرق وإلى جانب السلافيين في بوهيميا ومورافيا وسيلزيا تجد التشك وسلافيو غاليسيا والبورونيون والروتينيون وتجد السولفايين في شمالي البحر والسولفيين في كارنتيا وفي صقع آخر الخرواتيين أو الصربيين كما تجد(93/10)
الطليان في ترانتين وفريول وايستيريا والرومانيين في ترانسلفانيا وبوكوفينا.
لا جرم أن سكان هذه المملكة النمساوية المجرية إذا تم تأليف الإتحاد الجرماني يندمجون مع الزمن على اختلاف أجناسهم في سكان ألمانيا الذين يجمعهم لسان واحد وعنصر واحد وتربية واحدة ومن العادة أن يتمثل الصغير في الكبير كما يبتلع الكبير الصغير ومهما حاولت بولونيا وهنغاريا والدانيمرك وهولاندة أن تحتفظ بلغتها وقوميتهافإن مدينة جرمانيا التي تفيض على الأطراف تتناول كل ما يقف يقف أمامها وتضمه إليها بالطبيعة والسيل يجرف ما في المنحدرات أمامه كما أنه حرب المكان العالي
هذا الاندماج أمرٌ طبيعي في الأمم يتمّ في أجيال ولكن الإكثار من خشيته واتخاذ الأساليب غير المشروعة من تعليم وتربية مضرّ في الأمم المؤلّفة من شعوب وقبائل وأجناس. قال بلوك: إن من الناس من يتجرون باسم الوطنية والقومية كما أن منهم من يتجر باسم الدين. ومنم يتجرون بنغمة القومية في مملكة ضخمة وقوميتهم عبارة عن خمسين أو مئة ألف عائلة لا تستطيع أن تؤلّف على حدتها حكومة خاصة يضرون بالإنسانية لأن من مصلحة المجتمع أن تقوم فيه مراكز كبرى تنبعث منها أنوار المدنية وأصحاب هذه القومية بلغتهم التي لايفهمها غيرهم وتغاليهم بالتماهي بها لا يكون لهم مدنية خاصة ويبقون على اعتزالهم مؤلّفين من حثالات ورغبتهم في أن يكونوا مجتمعاً منفرداً عن غيره يضعف المجتمع الكبير الذي تضمّهم جامعته ولا يتيسّر لهم بحال وينطفئ نورهم المضيء ونارهم التي تقدف بالحرارة ومن يستحسنون عمل من يذهب هذا المذهب في استقلالهم بقوميّتهم هم أعداء البلاد في الدّاخل والخارج وأبناء الوطن الواحد إذاشجر بينهم مثل هذه الدعوة تجرّ عليهم شرّاً أكثر من الخير
مثال ذلك. ببلاد النمسا والمجر المنقسمة إلى قسمين غير متساويين فأقل من نصف النمسا يتكلم بالألمانية ومنهم أهل لغة التشيك ومشقات اللغة البولونيّة والروتينيّة والسولفانيّة والصّربيّة أو الخرواتيّة والإيطالية والرّومانيّة والنّصف الآخر بلاد المجر نحو ثلثها يتكلّمون بالمجريّة والباقون بالرومانيّة والألمانية والأسكلافونيّة والصّربيّة والروتينية وغيرها من اللغات ففي بلاد النّمسا والمجر نشأت من مسألة الوطنيّة مشاكل للحكومة فعبث ذلك بنجاحها السياسي والأدبي والمادّي ونفوذها السياسي قال: أما في سويسرا فليس في(93/11)
مسألة اللغات ما يهدد كيان كيان هذه الجمهوريّة. وسويسرا أحسن مثالٍ للشّعوب المختلفة بلغتها تعيش في بلد واحد حول جبال واحدة بحيراتٍ واحدة تتكلم الأكثرية فيها الألمانية والألمان ثلاث أرباعها والربع الآخر يتكلّم الإفرنسيّة والإيطالية والرومانشية وغيرها من اللغات والبلجيك تشبه سويسرا من بعض الوجوه نصف أهلها يتكلمون بالإفرنسية والآخر بالفلامندية ومنهم من يتكلم بهاتين اللغتين معاً وغيرهم يتكلم بالألمانية وغيرها من اللغات قال: وأما بقية بلاد أوربة ما عدا الدولة العثمانية وفرنسا وألمانية والدانيماركأسلاندة والسويد والنويج لايون فليس فيها سوى شعوب قليلة تتكلم لغة خاصة بها وقد كان من الحوادث المعلومة أن أنقذت البلاد العثمانية من عدة قوميات غريبة عن العنصر الحاكميعني بذلك البلغار والصرب واليونان والرومان وليس في هذا الباب إحصاء يعتمد عليه.
لا جرم أن حبّ الإنسان للغته غريزية في البشر ويزداد شعوراً بذلك وتفانياً فيه كلما تقدّم خطوات في طريق الحضارة. ومن كتبت له الرحلة إلى بلاد النمسا والمجر وبلاد سويسرا وبلاد البلجيك وغيرها من البلاد المختلفة السكّان يشهد غرائب من ذلك قال صاحب كتاب بلجيكا الحديثة: لقد صُرفت العناية بعد سنة183. لفرنساألفلاندر (من أقاليم البلجيك) فشقّت عصا الطاعة وعصت على كلّ ما أريدت عليه وظلّ تركيبها العقلي ثابتاً كصفاتها التشريحية ولم يطرأ أدنى تبدّلٍ على أفكارها وتقاليدها وشعورها وطرقها في التفكير والتقدير وما اللغة إلا عنوانٌ لأمّة وما من أمةٍ بدون لغةٍ ولهذا ينهض سكان فنلاندة لدفع الغارات عن أمّتهم وكذلك أهل بولونيا والنمسا والمجر وسويسرا وإسبانيا وغيرهم في كل صقعٍ ونادٍ. ويجب الإعتراف بأنّ الوطنيين الفلامنديين يصدرون عن صوابٍ في رأيهم إذا رأوا لغتهم القوة الموجدة التي وحدها يمكن أن تؤثّر فيهم
وذكر المؤلِّف أيضاً أن دعاة الاتحاد الجرماني عفوا اثر حدود مملكة ألمانيا بل تخطّوها إلى غيرها فنُشرت بطاقات بريد مصوِّرةً ممالك أوروبا سنة 195. م وقد توارث منهم البلجيك وهولندا والدانيمارك والنمسا وقسم من روسيا ورومانيا قد اندمجت في الأمة الجرمانية. ويرى اليوم دعاة الجرمنيَّة أكثر من نصف بلجيكا ألمانيا بلسانه وأنَّ لهجة هولندا وليموج المستعملة في عدَّة ولايات من تلك البلاد ليست إلا ألمانيّة محرّفة دجة في شمالي ألمانيا(93/12)
فالحدود الألمانيّة قد ألقت بخمسة ملايين من البشر في هولندا وجوارها وثلاثة ملايين ونصف في بلجيكا وتوسَّع بعضهم فقال أنّ فلاندرا الشّرقيّة والغربيّة هما أيضاً ألمانيّتان جنساً. كما أنّ هولندا شمالي فرنسا هما أيضاً من هذا الطّراز.
هذا ما قاله المؤلِّف قبل الحرب بأعوامٍ قليلةٍ أما الآن وقد افتتحت ألمانيا بالسّيف بلاد البلجيك وبضع ولايات في شمالي فرنسا فماذا يكون مصيرها منالجَرْمَنَةلا ريب أنّ ألفاتح يهوى نشر لغته ولايكلِّفه ذلك إلا صدور الأمر ومرور الزّمن وبذلك تتحقق أماني دعاة الجرمنة فتكبر رقعة مملكة جرمانيا المتحدة ولا يمضي على سكّانها جيلٌ أو جيلان إلا وتصبح كلُّها ألمانيّة المنحى والمنزع. وربما دعت حالة أوروبا وأميركا إلى تأليف الأمم بحسب العناصر فيكون العنصر الجرماني أو الاتحاد الجرماني شقَّاً والعنصر السّلافي شقّاً آخر وكلاً من العنصر اللاتيني والعنصر الإنكليزي والسّكسوني شقّاً كما يكون الجنس الأصفر في الشّرق الأقصى برأسه فسبحان مفرّق اللغات واللهجات وملوِّن الصّور والسِّحنات(93/13)
الخطابة عند العرب
الخطابة ملكة كسبية وفطرية
الخطابة كالكتابة وقرض الشِّعر ملكةٌ فطريّة وملكةٌ كسبيّة إذا صاحبت فيها الكسبيّة ألفطريّة جاء من الخطيب كلُّ قولٍ عجيب، وقد كان دمرستينوس وهو أخطَب خطيبٍ عند اليونان. كما أنّ شيشرون أخطب خطيبٍ عند الرومان - خطب في الجمهور أول مرةٍ ولم يحسن الإلقاء لأنه كان ألثغ مثل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة وكان ضعيف الصّوت فحاول إصلاح ذلك وتمكّن منه بوضع حصاةٍ في فمه وإنشاد آياتٍ وهو يركض على شاطئ البحر ويرتقي الرّوابي والآكام
قال الجاحظ: أخبرني محمد بن عباد بن كاسب كاتب زهير مولى بجيلة وكان شاعراً راويةً وطلاّبة علمٍ علامة قال: سمعت أبا داوودٍ ابن جرير يقول وقد جرى شيءٌ منذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه وصعوبة ذلك المقام وأهواله فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون الناس غيٌّّ، ومس اللحية هلك، والخروج مما بني عليه أول الكلام إسهاب، وقال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونةٌ بقلّة الإستكراه
وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس بلاغة بعض أهله فقال: إني لأكره أن يكون مقدار لسانه فاضلاً عن مقدار علمه كما أكره أن يكون مقار علمه فاضلاً على مقدار عقله، قال أبو عثمان الجاحظ: هذا الكلام شريفٌ نافعٌ، فاحفظوا لفظه وتدبّروا معناه، ثمّ اعلموا أنّ المعنى الحقير ألفاسد، والدنيء السّاقط، يعشش في القلوب، ثم يبيض ثم يفرخ فإذا ضرب يجرانه، ومكن بعروقه، استفحل ألفساد وبزل، وتمكّن الجهل وفرخ، فعند ذلك يقو داؤه، ويمتنع دواؤه، ولأنّ اللفظ الهجين لرديء، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآنف المسمع، وأشدّ التحاماً بالقلب، من الللفظ النّبيه الشّريف، والمعنى الرفيع الكريم، ولو جالست الجهّال والنوكى، والسخفاء والحمقى، شهراً فقط لم تنقذ من أوضار كلامهم، وخيال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهراً، ولأنّ ألفساد أسرع إلى النّاس، وأشدّ التحاماً بالطبع واللسان، بالتّعلّم والتّكلّم، وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكمة، يجرّد لفظه،(93/14)
ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التّعلّم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخيّر
قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي ما هذه البلاغة التي فيكم قال: سيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا فقال له رجلٌ من عرض القوم يا أمير المؤمنين هؤلاء باليسر والرطب، أبصر منهم بالخطب، فقال صحار: أجل والله لنعلم انّ الريح لتنقحه، وأن البرد ليعقده، وأنّ القمر ليصبغه، وأنّ الحرَّ لينضجه.
قال أبو عثمان: قال صاحب البلاغة والخطابة، وأهل البيان وحبّ التبيين إنما عاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلّم المتنادقين والثرثارين والذي يتخلل بلسانه، كما تتخلل الباقرة بلسانها، والأعرابي المتشادق، هو الذي يصنع بفكّيه وشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباه أل الدّرّ فمن تكلّف ذلك منهم فهو أعيب والذّم له ألزم وقد كان الرّجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدّة أمثالٍ سائرة، ولم يكن الناس جميعاً يتمثّلون بها إلا لما فيها من المرافق والإنتفاع، ومدار العلم على الشّهد والمثل وإنما حثّوا على الصّمت لأنّ العامّة إلى معرفة خطأ القول، أسرع منهم إلى معرفة خطأ الصمت. ومعنى الصامت في صمته، أخفى من معنى القائل في قوله، وألا فالسكوت عن قول الحقّ، في معنى النّطق بالباطل ولعمري أنّ النّاس إلى الكلام لأسرع، لأنّ في أصل التركيب أنّ الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل، والسكوت عن جميع القول، وليس الصّمت كلّه أفضل من الكلام كلّه، ولا الكلام كلّه أفضل من السكوت كلّه، بل قد علّمنا أنذ عامّة الكلام، أفضل من عامّة السكوت، وقد قال الله عزّ وجلّ: (سمّاعون للكذب آكلون للسّحت فجعل سمعه وكذبه سواءً) وقال الشاعر:
بني عديّ ألا ينهى سفيهكم ... أنّ السّفيه إذا لم ينهَ مأمور
وقال آخر:
فإن أنا لم آمر ولم أنهَ عنكما ... ضحكت له حتى يلج ويستشري
وكيف يكون الصّمت أنفع، والإيثار له أفضل ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمّ ويخصُّ، والرواة لم يرووا سكوت الصّامتين، كما روت كلام الناطقين، وبالكلام أرسل الله أنبيائه لا بالصمت، ومواضع الصمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة(93/15)
كثيرة، وطول الصّمت يفسد البيان. وقال ابو بكر بن عبد الله المرني: طول الصّمت حبسةٌ كما قال عمر: ترك الحركة عقلة. وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره وتبدّلت نفسه، وفسد حسّه، وكانوا يروّون صبيانهم الإرجاز، ويعلّمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصّوت، وتحقيق الإعراب، لأنّ ذلك يفتق اللهاة، ويفتح الحرح (الصوت)، واللسان إذا أكثرت تحريكه رقّ ولان، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسا وغلظ، وقال عبابة الجعفي: لولا الدربة وسوء العادة، لأمرت فتياننا أن يماري بعضهم بعضاً، وأية جارحةٍ منعتها الحركة ولم تمرنها على الأعمال، أصابها من التعقّد على حسب ذلك المنع
نصائح لمن يتطال للخطابة
مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلّم فتيانهم الخطابة فوقف بشر فظنّإبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أوليكون رجلاً من النظارة فقال بشر: اضربوا عمّا قال صفحاً، واطووا عنه كشحاً، ثم دفع إليهم صحيفةً من تحبيره وتنميقه وكان أول ذلك الكلام: خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإنّ قليل تلك الساعة أكرم جوهراً وأشرف حسباً، وأحسن في الإسماع، وأحلى في الصّدر، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين، وعزّةٌ من لفظٍ شريفٍ ومعنىً بديع، واعلم أنّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتّكلّف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، وخفيفاً على اللسان سهلاً وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه، وإياك والتوعر فإنّ التوعر يسلّمك إلى التّعقيد والتّعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراع معنىً كريماً فليلتمس له ال5فظاً كريماً، فإنّ حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجّنهما وعما تعود من أجله إلى أن يكون أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابسهما وقضاء حقّهما، وكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً، أما عن الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وأما عن العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرّف بأن يكون من معاني الخاصّة، وكذلك ليس يتصنّع بأن يكون من معاني العامّة، وإنما مدار الشّرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكلّ مقامٍ من المقال، وكذلك اللفظ(93/16)
العامي والخاصّي فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك وإقدارك على نفك، على أن تفهم العامّة معاني الخاصة، تكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفّاء، فأنت البليغ التام
كالبشر: فلمّا قرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء ألفتيان. قال أبو عثمان: أما أنا فلم أرَ قوماً قطّ أمثل طريقةً في البلاغة من الكتّاب رىأألفنزائل
فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشيّاً ولال ساقطاًسوقيّاً وإذا سمعتموني أذكر العوام، فإنّي لست أعني ألفلاحين والحشوة، والصّنّاع والباعة، ولست أعني الأكراد في الجبال، وسكان الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مثل البرد والطّيلسان، ومثل موقان وجيلان، ومثل الزنج وأمثال الزّنج، وإنما الأمم المذكورون من جميع النصّ أربع: العرب وفارس والهند والروم، والباقون همجٌ وأشباه الهمج وأما العوام من أهل ملّتنا ودعوتنا ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا فالطّبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم لم يبلغوا منزلة الخاصّة منا، عل أن الخاصّة تتفاضل في الطبقات أيضاً، ثم رجع بنا القول إلى بقية كلام بشر بن المعتمر إلى ما ذكر من الأقسام قال بشر: فإن كانت المزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك لا تسنح لك عدّ أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة التي لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها وإلى حقّها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها، وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها فإنك إذا لم تتعاطَ قريض الشّعر الموزون ولم تتكلّف اختبار الكلام المنثور، لم يعبك بتْرَكَ ذلك أحدٌ، وإن أنت تكلّفتها ولم تكن حاذقاً مطبوعاً ولا محكماً لسانك، بصيراً بما عليك أو ما لك، عابك من أنت أقلُّ عيباً منه ورآى من هو دونك أنه فوقك
فإن ابتليت بأن تتكلّف القوم وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطّباع في أول وهلةٍ، وتعصى عليك بعد إجابة ألفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعوده عند نشاطك وفراغ بالك بأنك لا تعدم الإجابة والموافاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق فإنّ تمنع ذلك عليك بعد ذلك من غير حادثً شغل عرَض، ومن غير طول إهمال والمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصّناعة إلى أشهر الصناعات(93/17)
إليك وأخفّها عليك، فإن لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسبٌ والشيء لا يحسن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات لأنّ النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة
(8) ما يجب على الخطيب وما لا يجب
قالوا: وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين اقدار المستمعين وبين اقدار الحالات فيجعل لكل طبقةٍ من ذلك كلاماً ولكل حالةٍ من ذلك مقاماً حتى تقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات فإن كان الخطيب متكلّماً تجنّب ألفاظ المتكلّمين كما انه إن عبّر عن شيءٍ من صناعة الكلام واصفاً أومجيباً أو سائلاً كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلّمين إذا كانوا لتلك العبارات أفهم وإلى تلك الألفاظ. . . . . . . . . وإليها أحسن وبها أشغف ولأنّ كبار المتكلّمين ورؤساء النّظّارين كانوا فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء وهم تخيّروا تلك الألفاظ لتلك المعاني وهم اشتقّوا لها من كلام العرب تلك الأسماء وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسمٌ فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف وقدورةً لكل تابع.
قالوا: وفبيحٌ بالخطيب أن يقوم بخطبة العيد أو يوم السماطين أو على المنبر أو في سدّة دار الخلافة أو في يوم جمعٍ وحفل أما في إصلاحٍ بين العشائر واحتماء دماء القبائل واستلال تلك الضعائن والسّخائم فيقول كما قال بعض من خطب على منبرٍ ضخم الشّأن رفيع المكان: ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ بعد أن أنشأ الخلق وسوّاهم ومكّن لهم لاشاهم فتلاشوا ولو. . . . . . المتكلّم. . . . . . إلى أن يفظ بالتّلاشي لكان ينبغي أن يؤخذ فوق يده، وخطب آخرٌ في وسط دار الخلافة فقال في خطبته: وأخرجه الله من باب الليسية فأدخله في باب الأيسية. . . . . . . . .
قال: وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميّاً ساقطاً سوقيّاً فكذلك لا ينبغي أن يكون غريباً وحشيّاً إلا أن يكون المتكلم بدويّاً أعرابيّاً وكلام الناس في طبقاتٍ كما أنّ الناس أنفسهم في طبقات فمن الكلام الجزل والسّخيف والمليح والحسن والقبيح والسميج والخفيف والثّقيل وكله عربيٌّ وبكلٍّ قد تكلّموا وبكلًّ قد تمادحوا وتعايبوا(93/18)
فإن زعم زاعمٌ أنه لم يكن في كلامهم تفاضلٌ ولا بينهم في ذلك تفاوتٌ فلم ذكروا العيّ والكيّ والحصر والمفحم والخطل والمسهل والمتشدّق والتّفيهق والمهماز والثرثار والمكسار والهمّاز ولم ذكروا الهجر والهذر والهذيان والتخليط وقالوا رجوا تلقاع (كثير الكلام) وتلهاع (متشدّق) وفلانٌ يتليع في خطبته وقالوا فلانٌ يخطىء في جوابه ويحلّ في كلامه ويناقض في خبره ولو أنّ هذه المور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمّي ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء
وأنا أقول أنه ليس في الأرض كلامٌ هو أمتع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذّ في الإسماع ولا أشدّ اتّصالاً بالعقول السّليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من طول استماع حديث الأعراب ألفصحاء العقلاء العلماء البلغاء.
يروى أن مطرف بن عبد الله كان يقول: لاتطعم طعامك من لا يشتهيه. ويقول: لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه. وقال عبد الله بن مسعود: حدّث الناس ما حدّجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترةً فأمسك قال: وجعل ابن السمّاك يوماً يتكلّم وجارية له حيث تسمع كلامه فلمّا انصرف إليها قال لها كيف سمعت كلامي قالت: ماأحسنه لولا أنك تكثر ترداده فقال: أردده حتّى يفهمه من لم يفهمه قالت: الحد أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد ملّه من فهمه. قال عبّاد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال: مكتوبٌ في التّوراة لا يعاد الحديث مرّتين. وسفيان بن عيينة عن الزّهري قال: إعادة الحديث أشدّ من نقل الصّخر. وقال بعض الحكماء: من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤنة الاستماع منك وجملة القول في التّرداد نفسه أنه ليس فيه حد يحصره من العوام والخواص
قال تمامة بن أشرس: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس قد جمع الهدوء والتّسهل والجزالة والخلاوة وإفهاماً يغنيه من الإعادة ولو كان في الأرض ناطقٌ يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة وقال مرّة: ما رأيت أحداً كان لا يتجسس ولايتوقف ولا يتلجلج ولا يتنحنح ولا يرتقب لفظاً كان قد استدعاه من بعد ولا يلتمس التّخلص إلى معنى قد تعصى عليه طلبه أشد اقتداراً ولا أقل تكلّفاً من جعفر بن يحيى. وقال تمامة: قلت لجعف بن يحيى ما البيان: قال أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغناك وتخرجه من الشّركة وتستعين عليه بالفكرة والذي لابدّ منه أن يكون(93/19)
سليماً من التّكلف بعيداً من الصنعة بريئاً من التّعقيد غنيّاً عن التّأويل.
قال أبوعثمان أعيب عندهم من دقّة الصّوت وضعف مخرجه وضعف قوته أن يعترض الخطيب البهر والارتعاش والرّعدة والعرق قال أبو الحسن قال سفيان بن عيينة: تكلّم صعصعة عند معاوية فعرق فقال معاوية: بهرك القول فقال صعصعة: إنّ الجياد نضّاحةٌ بالماء. والفرس إذا كان سريع العرق وكان هشّاًكثير العرقكان ذلك عيباً وكذلك هو في الكثرة وإذا أبطأ ذلك وكان قليلاً قيل قد كبا وهو فرسٌ كابٍ وذلك يجب أيضاً.
نصائح لطالب الإجادة في خطبه
رأيت بما مضى بعض العيوب التي يجب على الخطيب أن يربأ بنفسه عنّا مما ذكره أبو عثمان الجاحظ وهاك الآن قطعةً أخرى له قال: قال بعض الرّبّانيين من الأدباء وأهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التّشادق والتعمق ويبغض الإغراق في القول والكلف والإجتلاب ويعرف أكثر أدواء الكلام ودواؤه وما يعتري المتكلّم من ألفتنة بحسن ما يقول ويعرض للسامع من الافتتان بما يسمع والذي يورث الاقتدار من التّهكّم والتسلّط والذي يمكّن الحاذق المطبوع من التّمويه للمعاني والخلاّبة وحسن المنطق. قال في بعض مواعظه: أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام فإنّ المعنى إذا اكتسى لفظاً حسناً وأعاره البليغ مخرجاً سهلاًومنحه المتكلم قولاً مقنعاً صار في قلبك أحلى ولصدرك أملأ والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة وأُلبِست الأوصاف الرفيعة تحولت في العيون عن مقادير صورها وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زيّنت وعلى حسب ما زخرفت فقد صارت الألفاظ في معنى المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيفٌ وسلطان الهوى قويٌّ ومدخل خدع الشيطان خفيٌّ فاذكر هذا الباب ولا تنسه وتأمّله ولا تفّرط فيه فإنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لم يقل للأحنف بعد أن احتبسه حولاً مجرَّماًتامَّاًليستكثر منه وليبالغ في تصفح حاله والتّنفيرعن شأنه إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد كان خوَّفنا من كلّ منافق عليم وقد خفت أن تكون منهم إلا لما كان راعه من حسن منطقه ومال إليه لمّا رآى من رفقة وقلّة تكلّفه قال الجاحظ: فالقصد من ذلك أن تجتنب السّوقيّة والوحشيّة ولا تجعل همّك في تهذيب الألفاظ وشغلك في التّخلّص إلى غرائب المعاني وفي الإختصار بلاغٌ وفي التوسّط مجانبة للوعورة وخروجٌ من سبيل من(93/20)
لا يحاسب نفسه وقال أحد العلماء وجرى شيءٌ من ذكر الخطب وتمييز الكلام: تلخيص المعاني رفقٌ والاستعانة بالغريب عجز والتّشادق في غير أهل البادية نقص والنّظر في عيون النّاس عيٌّ ومس اللحية هلكٌ والخروج مما بني عليه الكلام إسهاب. وكان يقول: رأس الخطابة الطّبع وعمودها الدّربة وحليّها الإعراب وبهاؤها تحبير اللفظ والمحبّة مقرونة بقلّة الاستكراه وأنشد في خطبة إياد
يومون باللفظ الخفيّ وتارةً ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وقد ردّ الجاحظ على من زعم أنّ البلاغة أن يكون السّامع يفهم معنى القائل وجعل ألفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرّب كلّه سواءً وكلّه بياناً قال: وكيف يكون ذلك كلّه بياناً ولولا طول مخالطة السّمع للعجم سماعه لمفاسد من الكلام لما عرفه ونحن لم نفهم عنه إلا للنّقص الذي فينا وأهل هذه اللغة وأرباب هذا البيان لايستدلّون على معاني هؤلاء بإكمالهم كما لا يعرفون ركاكة الرّوميّ والصقلبيّ وإن كان هذا الاسم إنما يستحقونه بأنّا نفهم عنهم كثيراً من حوائجهم فنحن قد نفهم بحمحمة ألفرس كثيراً من حاجاته ونفهم بضغاء السّنّور كثيراً من إرادته وكذلك الكلب والحمار والصبيّ الرضيع
قال: وكانوا يمدحون شدّة العارضة وقوّة اللسنة وظهور الحجّة وثبات الجهاد وكثرة الرّيق والعلوّ على الخصم ويهجون بخلاف ذلك. ثمّ قال: وهم وإن كانوا يحبّون البيان والطّلاقة والتّحبير والبلاغة والتخلّص والرشاقة فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر والتّكلّف والإسهاب والإكثار لما في ذلك من التزيّد والمباهاة واتّباع الهوى والمنافسة في العلوّ والقدر وكانوا يكرهون ألفضول في البلاغة لأنّ ذلك يدعو إلى السّلاطة والسلاطة تدعو إلى البذاء وكلّ مراءٍ في الأرض فإنّما هو من نتاج ألفضول ومن حصّل كلامه وميّزه وحاسب نفسه وخاف الإثم والذّمّ أشفق من الغرارة وسوء العادة وخاف ثمرة العجب وهجنة القبح وما في حبّ السمعةمن ألفتنة وما في الرّياء من مجانبة الإخلاص
قال: وكانوا يأمرون بالتبيّن والتثبّت وبالتحرّز من زلل الكلام ومن زلل الرأي ومن الرأي الدبّري والرأي الدبّري هو الذي يعرض منه الصّواب بعد مضي الرأي الأول وفوت استدراكه وكانوا يأمرون بالتحلّم والتعلّم وبالتّقدّم في ذلك أشدّ التّقدّم. قال: أوصيك أن لا(93/21)
تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أنّ لك فيهما طبيعةً وأنهما يناسبانك بعض المناسبة ويشاكلانك في بعض المشاكلة ولا تهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة ويستبدّ بها سوء العادة وإن كنت ذا بيانٍ وأحسست من نفسك بالنّفوذ في الخطابة والبلاغة ويقوة المنّة يوم أحفل فلا تقصّر في التماس أعلاها سورةً وارفعها في البيان منزلةً ولا يقطعنّك تهيّب الجلاء وتخويف الجبناء ولا تصرفنّك الروايات المعدولة عن وجوهها والأحاديث المتنأولة على أقبح مخارجها فإن أردت أن تتكلّف هذه الصّناعة وتنسب إلى هذا الأدب فقرضت قصيدةً أو حبرت خطبةً أو ألفت رسالةً فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك ويدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدّعيه ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو إشعارٍ أو خطبٍ فإن رأيت الأسماع تصغي له والعيون تحدّج إليه ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله فإن كان ذلك في ابتداء أمرك وفي أول تكلّفك فلم ترَ طالباً ولا مستحسناً فلعله أن يكون ما دام. . . . . . قضيباً أن يحلَّ عندهم محلّ المتروك فإن عاودت أمثال ذلك مراراً فوجدت الأسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية فخذ في غير هذه الصناعة واجعل رائدك الذي يكذّبك حرصهم عليه أو زهدهم فيه. فقال: وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام ويكون له طبيعة في التجارة وليس له طبيعة في ألفلاحة ويكون له طبيعة في الحداء أو في التعبيرات في القراءة بالألحان وليس له طبيعة في الغناء وإن كانت هذه الأنواع كلّها ترجع إلى تأليف اللحون ويكون له طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي ويكون له طبيعةٌ في القصبتين المضمومتين ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في غيرها ويكون له طبع في تأليف الرسائل والطب والأسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر ومثل هذا كثيرٌ جدّاً
وقال: ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذّ في الأسماع ولا أشدّ اتصالاً بالعقول السّليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من طول اتماع حديث الأعراب ألفصحاء العقلاء والعلماء البلغاء وقد أصاب القوم في عامّة ما وصفوا إلا أنّي أزعم أنّ سخيف الألفاظ مشاكلٌ لسخيف المعاني وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل ألفخم ومن اللفاظ الشريفة الكريمة من المعاني كما أنّ النّادرة الباردة جدّاً قد تكون أطيب من النّادرة الحارّة جدّاً وإنما الكرب الذي يختم على القلوب(93/22)
ويأخذ بالأنفاس النادرة ألفاترة التي لا هي حارّة ولا هي باردة وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط وإنما الشّأن في الحارّ جداً والبارد جداً وكان محبر بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلانٌ أثقل من مغنً وسط وأبغض من ظريفٍ وسطٍ. قلنا: وهذا يشبه ما قاله لابرويير في كتابه الأخلاق: من الأشياء ما لا يطاق فيه التوسط: الشعر والموسيقى والتصوير والخطاب العامّ. قال إسحاق بن حسّان بن فوهة: لم يفسّر البلاغة تفسير ابن المقفّع أحدٌ سئل ما البلاغة قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في أمور كثيرة منها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع ومنها ما يكون في الإشارة ومنها ما يكون في الحديث ومنها ما يكون في الاحتجاج ومنها ما يكون جواباً ومنها ما يكون ابتداءً ومنها ما يكون شعراً ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل. فعامةً ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطلً والإطالة في غير إملال وليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته كأن يقول: فرقٌ بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصّلح وخطبة المذاهب حتى يكون لكل فنٍّ من ذلك صدرٌ يدل على عجزه فإنه لا خير في كلامٍ لا يدلّ على معناك ولا يشير إلى مغزاك وإلى العمود الذي إليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت قال فقيل له فإن ملَّ المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حقّ ذلك الموقف قال: إذا عطيت لكل مقامٍ حقّه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنه لا يرضيهما شيءٌ وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيءٌ لا ينال.(93/23)
علم الماني
رأينا في العهد الأخير حركة مباركةً نحو العمران في هذه الدّيار فقد فتحت في دمشق وبيروت وحلب والقدس ويافا وحمص وحماه وطرابلس وغيرها شوارع وجادات واستجدّت الهمّة لتغيير صورة المدن القبيحة بصورٍ جميلةٍ من الطّرز الجديد في البناء وشعر القوم وولاة امرهم بأنّ الطّرز العتيق في الأبنية ينبو عنه النظر ولا يسدّ الحاجة المطلوبة في البناء ولا ينمّ عن ذوقٍ بحيث أصبحت مدننا بعد ضياع فن الهندسة منها عبارةً عن قرى حقيرة واكنها واستعيض عن الحجر والآجرّ بالطين واللبن مما يسّع إليه البلا والحريق
والشرّ الأعظم في تراجع العمران في هذه البلدان عدم الاحتفال بفن هندسة البناءأو علم المباني فأصبح كلّ امرئٍ وما يختاره من البناء يبني على ذوقه بحيث لا تكاد تجد في أكثر المدن الداخلية أبنية من القرن الثاني عشر والثالث عشر هجرية إلا كئيبةً ينفر منها الذّوق وتتجافى عنها العين ولاتقوم بما تقوم به المباني في البلاد الممدّنة من الاقتصاد في النّفقة والرّاحة للسّاكن وجمال الدّاخل والخارج ولا ينافي ذلك كون بعض الدّور الجميلة داخل البلاد ولاسّما في دمشق جميلةٌ مزخرفةٌ تتوسطها أحواض الماء الدّافق وتعرّش على حوائطها النباتات والزهور وقد جعلت طابقين طابق أسفل للصيف وطابق أعلى للشتاء فإن هذه الدور قليلة العدد لاتكاد تجد في الحيّ الواحد داراً أو دارين منها أما الحوانيت والمخازن فالجيّد منها أقل من القليل.
علم البناء هو علم إنشاء المباني على نسبةٍ معيّنةٍ وبحسب قواعد مقررة يجب أن يكون كلّ بناءٍ نافعاً من وجوهٍ فإن الحاجات المادية والإلهامات الروحية وطمأنينة المرء تملي على المهندس مجموع الخطة أو التّصميم الذي يطلب منه وتقسيم داخل البناء واتّساعه وغناه أوفقره ومن أجل ذلك انقسمت المصانع المعاهد كما قال الإفرنج منذ القدم حتّى زماننا إلى ثلاثة تقسيماتٍ كبرى وهي الهندسة الدينية والهندسة المدنية والهندسة الحربية.
كانت مصر وآسيا مهد علم المباني وأجمع الباحثون أن أهرام منفيس أقدم المصانع التي عرفناها وأبا الهول المنحوت في الصخر في الجيزة القائم تحت رجليه معبدٌ من الصوان والرّخام الأبيض لا يتأتى فصله عن الأهرام ولم تعرف المسلات في مصر إلا على عهد الدولة الثانية عشرة من دول ألفراعنة وارتقت الهندسة المصرية زيادةً عن ذي قبل على عهد الدولة التاسعة عشرة والدولة العشرين.(93/24)
ظهرت الهندسة في بابل ونينوى في بناء السدود والأسوار أولاً وحازت حدائق سميراميس ومعبد بعل شهرةً مستفيضةً وبحقٍ ما اشتهرت ولم يقض على بنيانها ويدخل البلاد إلى تضاعيفها إلا ما جعل فيها من القرميد. وكان للمعادن شأنٌ عظيمٌ في معاهد الفينيقيين واليهود وكانت الهندسة الهندية تتمثل في معابد الهند ومدافنها وبيوت أصنامها. وعُرفت أثينا بأنها مهد الانقلاب الهندسي في العالم فبلغت فيها الهندسة في عهد بركليس وفيدياس أرقى درجاتها وتمثل الذوق اليوناني في المعابد أكثر من أي شيء وأثّر في هندسة الغرب حق التأثير.
وتفنن الرومان في البناء وخلّفوا في كل مكانٍ امتدّ سلطانهم عليه من آثار الهندسة في الطرق والمجاري والأسوار والمسارح والحمامات ما شهد لهم باتساع ألفكر والهندسة العملية والمتانة في العمل. ولما انتشر الدين المسيحي واعتُبر ديناً لإمبراطورية الرومان على عهد قسطنطين أخذ المسيحيون يبنون معابدهم على مثال معابد الوثنيين مع تزيين ظواهر البناء وتضاف إليها أبراجٌ وقبابٌ للأجراس. وتفنن البيزنطيون بالنقوش في البناء ويدخل فيها الرّخام والمعادن والفسيفساء وكنيسة آياصوفيا في الأستانة وهي أجمل مثالٍ من هندسة الكنائس في القرن السادس.
قال العارفون من ألفرنجة: لم يخترع العرب أبنية خاصة بهم بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين وكان تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار مماجعل لجوامعهم وقصورهم بهجةً لا يبلى على الدّهر جديدها ودلت كل الدلالة على إيغالهم بالنقوش والزينة كأن أبنيتهم ومصانعهم هي قماشٌ من أقمشة الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها.
جاء القرن الثاني عشر في أوروبا وهندسة البناء تنتقل من طورٍ إلى طور حتى إذا كان القرن الخامس عشر كانت إيطاليا بفضل نهضتها صاحبة المقام الأول في الهندسة وعن هندسة معاهدها ودورها نقل لفرنسيس والإسبان ولإنكليز والألمان والسويسريون. ومن أمم أوروبا من أضاعت أصولها القديمة في البناء واتخذت من أصول الطليان نموذجاً حسناً سارت عليه كما لا تزال الأمم تتخذ من طرز الهندسة العربية الأندلسية نموذجاتٍ إلى هذا العهد ومنها محطة السكة الحجازية الحديثة في دمشق وهي أبدع بنايةٍ حديثةٍ في هذه(93/25)
الحاضرة ولو سار الناس على نموذجٍ معيّنٍ في البناء لكانت مصانعنا ودورنا جميلةً كمصانع الإفرنج وبيوتهم ولم يوفّق في ذلك بعض الشّيء إلا أصحاب البيوت المحدثة في بيروت ولبنان والقاهرة والإسكندريّة والأستانة وسلانيك وغيرها من الساحل. ولو تطلّعنا إلى الصين لرأيناها منحطّةً في هندستها ومثلها اليابان تأثرت في هندستها القديمة بجوارها الصّين ولكنّ بناياتها الحديثة حسنةٌ كالهندسة الأوروبية
قال مهندسٌ مصريٌّ: إنّ ما تفهمه العامّة في المدن الصّغرى من أنه لا فرق بين المهندس المعماريّ والبنّاء وكثيرٌ من البنّائين الذين عندهم بعض الذّكاء والمعرفة يقومون بكثيرٍ من الأعمال ليس على حقيقته. فالمباني ليست بهذه السهولة التي اختبروها. نعم إنّ كلّ إنسانٍ قادرٌ على أن يفصّل منزله الذي يرغب في سكناه ويتخيّله ولكنّه لا يدري كيف يجعل شكل واجهته جميلاً فمنهم من يفتكر أنّ حسن المباني بكثرة الزّخرف فيملؤها به فتظهر كشكولاً قبيحاً من الأشكال المتنافرة تدلّ على خفّة واضعها. ومنهم من لا يفكّر في ذلك مطلقاً إلا بعد تمام بنائه فلا يدري كيف يفعل إذ يظهر له كثيرٌ من العيوب وللمطّلع أن يردد طرفه في شوارع القاهرة فيرى ما يدهشه من مثل هذه المباني فإذا زار القاهرة أحد المهندسين الغرباء لأول مرّةٍ فإنه يدهش كثيراً إذ كان يتخيّل قبل رؤيتها مدينةً شرقيّةً جميلةً من الطراز العربيّ التركيِّ وألفرعوني فإذا به يرى خليطاً مدهشاً من المباني لا يدري كيف يعبّرعنه فإذا دقّق النظر في كلّ بناءٍ على حدته وجد اختلافاً عظيماً بينها فبعضها مصنوعٌ على أتمّ ما يكون وهو القليل وبعضها مضحكٌ بل منفّر لا يقدر محبُّ ألفنون الجميلة أن يطيل النظر إليه إلى غير ذلك من مختلف الأشكال والألوان فإذا فحصها لا يرى في ترتيبها ونظامها مشابهةً مطلقاً فيعرف بذلك أن لا قوميّة لهذه البلاد ولا ارتباط ف أذواق أهلها
وقد يلاحظ أيضاً في بعض العمارات أنّ أصحابها ليست فيهم القدرة على بنائها فلذلك حذفوا كثيراً مما كان متمماً لها ابتغاء الإقتصاد ولا يهمهم إلا أن تكون لهم عماراتٌ كبيرةٌ من غير أن يلتفتوا إلى جودة أدواتها ودقّة صنعها ومنهم من يريد أن يجعل مبانيه في غاية المتانة والإتقان فيكثر في الإنفاق عليها دون فائدةٍ وفي كلتا الحالتين تظهر مبانيهم في غاية القبح(93/26)
يظهر أنّ كثيراً منهم ينقصهم المنطق والانتقاد بل ويزيد فيهم الإهمال والتهون والجهل فإنّ بعضهم يأخذ عمله عن رسومٍ إفرنجية ويريد أن يعمل على شكلها ويحب انيتفلسف فيها فيحذف المهم ويضيف ما يرى انه حسنٌ فيظهر عمله مشوّهٌ وهو يظنّ أنه جاء بما لم يأتِ به الأولون
علم لامباني فنٌّ من ألفنون الجميلة بل هو أحسنها فإذا قارنّا بينه وبين الموسيقى نجد أنّ كليهما مطربٌ للإنسان فالأول مكوّنٌ من نغماتٍ غير متنافرةٍ منتظمة الأوقات والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء
يظهر الأول مذببات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب به الإنسان ويظهر الثاني الظلّ والضوء واللوان فتراها العين في أتمّ ما يكون موضوعةً بنسبٍ محفوظةٍ ما بين مزخرفٍ وبسيطٍ تظهر عليها المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس فكلا ألفنّين جميلٌ غير أن الأول تذهب محاسنه في الهواء وبعد ذهابها لا بشعر بها وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظلٌّ
لا يحتاج الموسيقار في تركيب دور الموسيقى إلا لمعرفته النغمات والأزمان وانطباقها على معنىً ما يلحّنه من فرحٍ وطربٍ ولوعةٍ وحزنٍ ولكن في عمل البناء صعوباتٌ جمٌّة من بين فحص الأدوات المختلفة ووضعها وعمل حساب أثقالها ومقاومتها وجمعها وعلى ذلك فإنّ فنّ البناء هو أصعب ألفنون الجميلة وأحسنها وهو في الحقيقة أول شيءٍ يبحث عنه في كلِّ فنٍّ وهوجوابٌ لهذا السؤال الخطيرأوجد لي محلاًّ جميلاً يليق بفنّي أو عملي وأنت ترى تقدّميفيجب والحالة هذه أن لا يعهد في الأعمال إلا إلى المهندسين ألفنيين الأكفاء لا إلى المعلّمين والصنّاع كما هو شأن معظم من يبني في هذا القرن الرابع عشر في بلاد الشّام وياللأسف
ومما يجب أن يلاحظ في هذه المباني حين عملها جودة أدواتها وتحكيم ترتيباتها ودقّة زخرفها ومجانسة وكمال تركيبها العموميّ وطرازها وملائمتها لما يحيط بها ووجود كل ما يحتاج له في محتوياتها وتخطيطها وتناسب كلّ ذلك بعضه مع بعضٍ
وليس في كلّ ذلك من بأسٍ على المهندسين فإنهم معذورون بل المسؤول في ذلك هم أصحاب هذه المباني فإنهم يضنّون بالقليل أجرة أتعاب المهندس الذي يضع لهم تصميماً(93/27)
تامَّاً عن مبانيهم ويفكّرون أنّ ذلك شيءٌ لا ضرورة له ومن ذلك ظهرت هذه النتيجة المعيبة في الأبنية
إنّ الذين يحكمون على الأمة ليس لهم إلا الظّاهر منها وأنّ أول شيءٍ يظهر لهم هو حالتها الاجتماعية وكيفيّة معيشتها ومبلغ مدنيّتها وذلك لا يظهر إلا في مبانيها فإذا كانت مستكملةً الشروط حكموا لها بالّقيّ وإلا فيحكمون عليها بالجهل والانحطاط وربما يعترض بعض المطّلعين بقولهم إنّا عهدنا لبعض المهندسين بأعمالنا فقدّموا لنا رسوماً لمبانينا ولكنّا بعد أن أتممنا بناءها وجدنا شكلها ليس كما يرام فيجاب على ذلك بجوابين: الأول أنهم ضنّوا على مهندسيهم بجميع قيمة أتعابهم. الثاني: إنّ الرسوم المقدّمة إليهم كانت بنسية تلك الأتعاب ونتيجة ذلك أنّ الرسم المقدّم إليهم كان الشّكل التخطيطي فقط وليس ذلك بالكفاية خصوصاً وأنهم لم يفهموه في الغالب وهم في ذلك معذورون والمهندسون لا يمكنهم تقديم رسوم مستكملة الشّروط بهذه الأتعاب القليلة
والنتيجة أنه يجب عمل الرسوم اللازمة لأي بناء قبل الشروع فيه ويجب أن تكون الرسوم المقدّمة من المهندس أربعةً على الأقل أولها المسقط الأفقي ثانيها شكل أهم واجهة في البناء ثالثها قطّاع رأسي عن جميع البناء مبيّنٌ فيه الإرتفاعات وغير ذلك رابعها رسم تفصيلي عن أهم ما يراه المهندس في البناء
وبعد فإن المانع في فلسفة ألفنون الجميلة من أن نقول هذا البناء بلغ حدّ الكمال لم يزل إلى الآن ولا ندري إن كنّا بلغنا درجةً محسوسةً في الرّقي تظهر آثارها لمن يأتي بعدنا أو لا فإنا لم ننسى الزمن الماضي ومبانيه وقد بقي منه كثيرٌ من القصور الكبير إلى الآن فإذا نظرنا واجهة إحداها التي كانت في زمانعا آية الآيات في الزخرف والرواء عند صانعيها نقابلها الآن بابتسامةٍ فهل ما نصنه اليوم ونظنّه جميلاً سيقابل من رجال المستقبل بهذه الابتسامة أيضاً؟ لا ندري: ولكن الذي يجب علينا هو أن نصنع أعمالنا على قواعد أساسية يقررها العلم ويستحسنها العقل وترتاح لها النفس حتى إذا جاء الذي بعدنا ونظر عملنا يعتقد أننا كنّا نشتغل بفكرٍ وعلى قواعد ويكون ملزماً باحترام أعمالنا كما نحترم نحن الآن الآثار الجميلة التي تركها ألفراعنة والعرب التي هي موضع الإعجاب لعهدنا عندنا وعند غيرنا(93/28)
إنّ الحكم على شيءٍ أو المقارنة بينه وبين شيءٍ آخر هو فرعٌ عن تصوّره وذلك لا يكون إلا نتيجة مبلغٍ رقيّ المقارن في الهيئة الاجتماعيّة ومبلغ علمه فيما سيحكم فيه فما علينا إلا أن نجتهد ونرقى ونعرف وبعد ذلك نحكم فيكون حكمنا على أساس متينٍ يقبله العقلاء وتطأطئ له الرؤوس
المنزل مأوى الإنسان مع أهله بل هو المملكة الصّغيرة التي تدبّرها مدبّرته وهو ذلك الحريم الشّرقيّ الذي تعيش فيه المرأة الشّرقيّة مع أولادها بل المدرسة الأولى لأفراد الأمة المستقبلة وهو المكان الذي يأوي إليه ربّه بعد تعبه من أشغاله فيجد فيه الراحة والهناء. فيجب والحالة هذه أن يكون محتوياً على جميع أسباب الراحة مستوفياً جميع الشّروط الصحّيّة سواءً كان ذلك في البيوت داخل المدن أو في المنازل الخلويّة أو في طباق العمارات الكبيرة
إنّ رقيّ الأمة أو وجوب رقيّها يضطرّها إلى تغيير النّظام الذي سارت عليه في القرن الماضي لإيجاد المحالّ الكافية من كلّ وجهةٍ لمعيشة عائلةٍ شرقيّةٍ إسلاميّة أخذت ترجع إلى المعيشة الديمقراطية ثم سهولة الأعمال العظيمة بواسطة العدد والإختراعات الحديثة تساعدنا على إنشاء هذه المحالّ بأشكالٍ جميلةٍ ونظامٍ تامٍّ حتى يجد الأفراد فيها راحتهم وسرورهم. يلاحظ المهندي المعماري قبل وضع تصميمه شيئين: الأول ملاحظة عموميّة والثانية تفصيلية وكلتا الملحوظتين تنقسم إلى عدّة أقسامٍ فالأولى يجب على المهندس أن يضع نصب عينيه - نقطة البناء وشكلها - منظر واجهته وتلافيها بالنظر - استقلال محلاّته - الاقتصاد الممكن في البناء وكذلك مراعاته للسكان - ما يقي السكّان عند حدوث الخطر - ملاحظة المفروشات ونظامها - وحفظ الصّحّة ومراعاتها. الثانية تفصيل المحالّ من غرفة استقبال الرجال أو المطالعة وغرفة النوم والملابس والحمّام وما يتبعه وغرفة أشغال ربّة المنزل وأخرى لاستقبال السّيّدات وغرفة الأطفال والمطبخ والأنبار وغرفة الأكل. . الخ ولا يوجد قانون لجمع هاتين الملحوظتين وفروعهما وإنما يأتي ذلك بقوة ومهارة المهندس الذي يضع التّصميم ومبلغ ذكائه وخبرته وعليه أن ينظر لكل نقطة من هاتين الملحوظتين وغيرهما ويهيّئ لها جميع الأفكار التي تناسبها في خاطره ثم ينتقي أحسنها وعليها يبرز تصميمه(93/29)
وبعد فلا تدخل المدن الشّاميّة في طور العمران الحقيقي إلا إذا جعل مصوَّرٌ عامّ لكل مدينةٍ لا يسمح لأحدٍ أن يبني إلا بحسب ما تقرر. وان يشتغل المعول زمناً في هدم الحلل والأحياء والأزقة الضيقة والدور الكئيبة مع ملاحظة السكّان وحالة البلاد واتباع سنّة التدريج وأن لا يبني الباني داره ولا حانوته ولا مصنعه إلا بحسب الطراز الذي ترسمه البلديات والأبعاد التي تعيّنها للجادّات
ومن الغريب أنّ جميع مدن سورية ليس لها خريطةٌ سوى مدينة حلب وما عداها فيبني البانون فيها بحسب رغائبهم يختارون الطراز الذي يروقهم ويلتئم مع مصلحتهم المؤقتة ويبعدون عن الشارع أو لا ينحرفون عنه بحسب ذممهم وقلّ أن شاهدنا بلداًً من بلادنا أحسّ بسلطة مهندسي مجالس البلديّة عليه وكثيراً ما يعينه المهندس على ضلالته لقاء عرضٍ قليلٍ يبتاع به ذمّته. فإذا وفِّق رجال الإدارة إلى تتميم ما بدأوا به من هذا القبيل لا يمضي نصف قرنٍ على الأكثر حتى تصبح مدن الشّام بل قصباتها الصغرى عامرةٌ مستوفاةٌ شروط الذّوق والراحة وافيةً بالمراد من حيث الصّحّة والغناء
ونشير على كلّ من تحدّثه نفسه بإقامة دارٍ أو حانوتٍ أو مصنعٍ أو قهوةٍ أو مسرح أو فرنٍ أو معملٍ أن لا يشرع بعمله قبل أن يفزع إلى مهندسٍ ماهرٍ ولا يتطلّب من أرباب هذا ألفنّ الذي يرتضي بالقليل بل يؤثر الذي يتناول أجرةً جيدةً ويعمل ويعمل عملاً يماثله وبذلك يتوفّر عليه ماله وتبقى بنايته القرون قائمةً تتوارثها أعقابه من بعده وكلما طال عليها العهد حلت وأصبحت لها قيمةٌ وأصبحت لها قيمةٌ فيكون كمن استرخص طبيباً وطبّ الأرواح كطبّ الأشباح متلازمان ولولاهما لما عاش إنسانٌ ولا حيوانٌ ولخرب العمران وابذعر السكان. إنّ بيوت مهاجرة الإسرئيليين في يافا وجاليةالألمانيين في حيفا أعظم معلّمٍ لمهندسينا وأهل الأملاك فينا ينظرون كيف أنشأ بانوها من ألفقر غنىً ومن العدم راحةً وجمالاً وزخرفاً ورفاهيّةً.(93/30)
أعلام المدن والبلدان
لا خفاء أنّ كثيراً من الدواعي القديمة والحديثة والآتية تتخذ أسباباً لأسماء البلدان والمدن والأماكن على اختلافها واختلاف اللغات والقبائل والزمان والمكان ونحو ذلك من المؤثّرات التي تعمل في الإعلام عمل المؤثّرات الطبيعية من حرارةٍ وبرودةٍ ونحوهما في سيّارنا الأرضي فتقلب الجبال سهولاًوالسهول تلالاً واليابسة بحاراً والبحار يابسةً حتى إنك إذا درست طبقات الأرض وأنعمت فيها النّظر توصّلت بالبحث إلى استطلاعٍ تلك ألفواعل وتعاقبها وما سبّبته البراكين والزلازل والمؤثّرات الأخرى مهما كانت. فتقف حائراً عندها مسبِّحاً الخالق الذي أعطاك عقلاً مدقّقاً وأرشدك إلى معرفة العلل والأسباب لتقتنع وتلتذَّ بما تكتشفه من مبهماتٍ الشؤون وغرائب الحوادث
ومن الثّابت أنّ تأثير العبادات وتيّار الأديان وتعاقب ألفاتحين وتداخل اللغات أو تزاحمها هي من أهمّ هذه ألفواعل في أعلام الأماكن فترى الأمّة التي تقف على عَلَم مكانٍ كان قد وضعه من قبلها أمّا تحوّله إلى لغتها أو لغة جيرانها أو تتمحل له سبباً بغويّاً آخر لتمييزه ومعرفة معناه أو داعي تسميته. ثم تأتي أمّةٌ أخرى بعدها تطرّس على آثارها فتنقض رأيها وتؤيّد رأياً جديداً لها فيه نظرٌ آخرٌ أو تقتفي أثرها بنقل سبب تلك التسمية على علاّتها فيقع الإشكال في ردِّ الأعلام إلى نصابها وإرجاع الألفاظ إلى مظانّها ومعرفة اللغة التي وضع فيها العلم وما كان القصد من وضعه إلى ما يساوق مثل هذه التّعليلات ويدخل في حيّز اللغات الميّتة أو الحيّة ويرشد الباحث إلى الوقوف على ما هو الأرجح والأثبت. ولا سيّما إذا كان قد درس علم الآثار القديمة (الأركيولوجي) والأساطير (مثولوجية) وعلم الأزمنة والأعداد التاريخيّة (الكرونولوجية) وعلم مقابلة اللغات وعلم الديانات ونحو ذلك من العلوم التي لها أكبر علاقةٍ في معرفة الأمم وعباداتها ولغاتها وتعاقبها
ولقد وضعت تواريخٌ كثيرةٌ مطوّلةٌ لسورية وبعض مدنها وبلدانها مثل (تاريخ زحلة) الذي طبع و (تاريخ سورية المجوَّفة) أي سهل بعلبك والبقاعين و (تاريخ قضاء المتن) وغيرها مما لم يطبع وحللت فيها أسماء القرى والأماكن تحليلاً تاريخيّاً أثريّاً لغويّاً يبيّن شؤون القدماء وعباداتهم ومن هذه المؤلّفات اقتطفت هذه المقالة الآن.
فإذا بحثا في أسماء القارّات العظيمة نجد أنّ اسم قارّة (آسية) إما من كلمةٍ شرقيّةٍ قديمةٍ بمعنى (النّور) أو من كلمة (إؤس) اليونانيّة بمعنى ألفجر. وإما باسم (آسية) في الأساطير(93/31)
وهي ابنة أوقيانوس وكلٌّ من هذه الآراء هو ممكنٌ لما غي اشتراك التّسمية كما لا يخفى. والاسم اليوناني فيها أرجح لسكنى اليونان فيها قديماً
واسم قارّة (إفريقية) ربّما كان فينيقيّاً بمعن (ألفرَق) أو (المهجر) لأنّ القرطجنيين منهم أول من أطلق عليها هذا الاسم لافتراقها عن قرطجنة مستعمرتهم وأما لأن فرقة القرطجنيين نزلتها وتديَّرتها أو لمهاجرتها إليها
وكلٌّ من اسمي (آسية) و (إفريقية) وغيرهما كما لا يخفى أطلق على القسم الذي نزلته أمّة اليونان في آسية الصغرى أو برّ الأناضول والقسم الذي نزلته الأمّة ألفينيقيّة وهو شمالي إفريقية حيث تونس والجزائر وطرابلس الغرب. فسمّي الكلّ باسم البعض مجازاً وعذا كثيرٌ في التّسميات المكانيّة وغيرها
واسم قارّة (أوروبا) إمّا نسبةٌ إلى أوروبة ابنة آجنور ملك فينيقية لأنّ المشتري (جوبّيتير) حملها إلى هناك في زعمهم. وإما من كلمة فينيقية بمعنى البياض لبياض لون سكّانها أو محرَّف (عروب) أو (أربة) ألفينيقيّة أيضاً بمعنى الغروب والظّلمة لوقوعها غربي آسية
واسم قارّة (أميركة) نسبةً إلى أميركيوس ثسبوستيوس التّاجر الفلورنسي المتوفّى سنة1512م لأنّه أول من وصفها بعد اكتشاف كريستوفورس كولمبس لها وكان حقّها أن تسمى باسم مكتشفها ولكن تأثير اسم الثاني كان اعمّ فغلبت التسمية به وسمّيت أقسامٌ فقط منها باسم المكتشف مثل (كولومبية) فتأمّل: وتسمّى (العالم الجديد) لجهل القدماء لها و (جزائر الهند الغربية) لأنّهم ظنّوها من الهند في أول الأمر
واسم قارّة (أوسترالية) لاتيني من أوسترالس بمعى الجنوب
واسم قارّة (أوقيانية) نسبةً إلى الأوقيانوس المحيط لأنها واقعةٌ فيه والأوقيانوس في الأساطير القديمة نهرٌ عظيمٌ كانوا يعتقدون أنه يحيط باليابسة.
هذا هو المشهور في تسمية القارّات السّتّ وهناك أقوالٌ أخرى وأقوالٌ متلوّنة تراها بعيدةً عن الصحّة نافرةً عن مضاجع التحقيق. ولعلّ الآتين بعدنا يتوصّلون في أبحاثهم وتحقيقهم إلى ما هو أقرب إلى الصّحّة وأدنى على الحقيقة
ربّما أنّ القدماء مثل ألفينيقيين واليونان والرّومان كثرت مخالطتهم للأمم ودخلوا معظم القارّات تركوا آثار لغاتهم في أسماء البلدان والمدن وشاعت بين الأمم الأخرى من طريق(93/32)
لغاتهم ومؤلّفاتهم وأساطيرهم ونحو ذلك فمثرت هذه التّسميات ومازجتها امم الكلدان والمصريين والآشوريين والبابليين والحثّيين والفرس والعبران والعرب والتّرك والإفرنج فبقيت آثار تسمياتهم أيضاً ومن كان من هذه الأمم أشدّ حرصاً على حفظ لغته واتّساع نطاقها واستبقاء أسمائها ظفر بأمنيته وأبقى للآتين تأثير فتوحه أو امتزاجه أو عباداته ونحو ذلك مما هو جديرٌ بالاعتبار وحرٌّ بالاستقراء
فمن (الأعلام ألفينيقيّة) (بيروت) وهي جمع بئر أو اسم الإله ألفينيقيّ (بيروت) ولا صحّة لما يتمحله كثيرٌ من مؤرّخي الأمم وبينهم العرب من الأسباب الأخرى والمزاعم الإشتقاقيّة التي لا وجه لها من الصّواب في ما مرَّ وما يأتي من مثل هذه التّسميات الأجنبيّة * ومن ذلك البيرة بمعنى القصر والحصن * والمجدل بهذا المعنى ومشتقّااها كمجدليّاً ومجيدل ومجدلون * ونهر المُوت بضمِّ الميم وهو إله الجحيم المسمّى بلوتون * والفرزل بمعنى الحديد * ومالطه * بمعنى الحديد * وقرطاجنة بمعنى البلد الجديد * ونهر ادونيس أي تمّوز وهو نهر إبرهيم وربّما بدادون من بيت أدون ثمّ حذفوه بالإبدال والحذف أو أنّه مركّبٌ من بيت وداد الإله السّامي وأُلحق بأون تبعاً للغة السّريانيّة فكان معناها بيت داد. ومنها بغداد. ومثلها دده في الكورة وبادودة في الصّلت ولعلّها من الإله ألفينيقي ديده ومنها اسم (دَدَن) في بلاد العرب * والبعل ومنه تركّبت أسماء كثيرة مثل بعلبك أي بعل البقاع وبعل فاغور وبعل تامار * وجد من آلهتهم ومنه اسم جدّايل (أي الإله جدّ) وربّما كان إله الحظ وهو اسمه عندنا * ومنها اسم ميّومية وهي بلدة ذات ينابيع فاسمها من المياه * وقبراشمون قرب عيناب على طريق بيت الدين من بيرت وقرية بشامون من بيت أشمون وأشمونأحد مثلّثات الآلهة ألفينيقيّة في صيداء. وهيكل أشمون في صيداء اكتشف في بستان الشبخ فوق وادي نهر الأولى. وأخربة أشمونيت في بطرام الكورة (لبنان) وهو إسكولاب إله الطّبّ عند عند اليونانيين. وأشمونين في مصر. وأشمونيت عين في ظاهر حلب في جنوبيها قال فيها ابن أبي الخرجين:
وهل عين أشمونيت تجري كمقلتيّ ... عليها وهل ظِلُّ الجنان مديدُ
وعلينتحريف عليون أي زحل في جوار زحلة ويترجّح أنّ اسم المدينة من هذا المعبود * وحمّاتا من حمّون بمعنى المحرق وهو من معبودات القرطجنيين(93/33)
ومنالأعلام الكلدانيّة والآراميّة والسّريانيّةالإله قمر ومنها دير القمر * والمعرّة بمعنى المغارة مثل معرّة النّعمان ومعرّة مصرين ومعرّة صيدنايا ومعرّة باش * والكفر بمعنى القرية والحقل ومنها مركّبات أسماء قرى كثيرة مثل كفر عاقب وكفر عقاب * وبيت مريوالأصل موريبمعنى بيت بعل مرقد إله الرّقص * ورشعين وريشعينا ورشميّا بمعنى رأس العين ورأس الماء * وديرأحوبشة بمعنى بيت الحبس * ودمشق بمعنى المزهرة * ورامون إله سرياني تركّبت منه أعلامٌ كثيرةٌ مثل برمّاتا أي بيت الإله رامون. وعين الرّمانة وعرمّان في حوران وتعرف اليوم باسم عرمان * وبيت لهيا بمعنى بيت الآلهة * والكرك والكرخ بمعنى الحصن والمعقل * ونيحة أي المستريحة * واليمّونة تصغير يمّ بمعنى البحيرة * ويونين منيوالإله الكلداني بمعنى نور وأونينأبي البعل
ومنالأعلام المصريةاسم الإله فتّاح وراجح أنّ اسم فتوح كسروان نسبةً إلى فتّاح لا إلى فتوحها كما يذكر المؤرّخون والله أعلم * وباب مارع قريةٌ في البقاع مركّبةٌ منماآلهة مصرية ربّة العدل والحقّ أخت رعبمعنى الشمس عندهم أو إله الضوء. أو أنّها محرّف آمون رع بمعنى الشّمس الخفيّة * وآنحور عند المصريين هو مارس عند اليونانيين. وحور إله مصري أيضاً يسمّه اليونان أبلون. ومنه اسم عين حور على طريق دمشق * وآمون إله مصري ربّما كانت بلدة أميون في الكمورة باسمه * وماث نحاسيعين الجرّبمعنى مدينة النحاس * وجبّ جنين منجينونمعبود
ومن (الأعلام الآشورية) مكّة بمعنى بيت ومنها اسم مكّة المكرّمة وتسمّى أيضاً بكّة بالإبدال منبكَّاالدّالّة على قلة الماء أو على اسم نبات بالعبرانيّةبكاومنه وادي بكّة على طريق الشّام * ويثرب أصلهاأثربلد وربّعظيم فحُرِّفَت يثرب * ومأرب فماماءوربعظيم أي السّيل العظيم * وأدَد اسم إله عندهم ولعلّ الحدث محرّف عنها ولاسيّما حدث بعلبك لأنّ فيه هيكلاً قديماً ربّما كان لهذا الإله * وبنو عطارد ومنه اسم قصر نبا في البقاع وكفر نبّو في نواحي حلب وحصن نبو في بلاد العرب * وكيوان بمعنى زحل ومنها مراح كيوان في لبنان وعيتنيت منعنتوتنيتوهما اسم واحد لآلهة آشوريّة عرفت باسم سميرام وربّما كانت عيثا محرّف عنث وعيناتا أيضاً وكلتاهما في سوريا المجوّفة
ومن (الأعلام البابلية) (سين) بمعنى القمر ومنها درب السين أو دير سين أو دير بسيم(93/34)
شرقي صيداء. وكان له في حرّان هيكلٌ مشهورٌ اتصلت عبادته بسورية وكفر باسين في جبل سمعان غربي حلب والمعنى قرية بيت سين. وطور سينا كانت العرب يعبدونه في الجاهليّة ولعلّ الأيطوريين أي الجبلين العرب حملوا هذه العبادة إلى لبنان * ومردوخ المشتري ولعلّ قرية مدوخة في البقاع محرّفة عنه
ومن (الأعلام الحثّيّة) الحث وهي قرية تابعة لقرية شهباء في حوران * وكمش إله حثّي فكلمة كرك كميش بمعنى حصن كميش وهي على ألفرات. ولعلّ منها عرجموش قرب زحلة وهي المحلّة المعروفة اليوم بالغيضة فهي تحريف كركموش مثل كركميش وكموش إلهٌ مؤابي أدخله الآشوريون في جملة معبوداتهم كما عرف ذلك من الآثار * ومنها للشّاغورومشغرة وجسر الشّغَر قرب حلب
ومن (الأعلام ألفارسيّة) على ما يروى اسم الكعبة كه به وفيل أن مكّة تحريف مه كه أي معبد القمر * وقِبلة تحريف كابلاّ اليونانية بمعنى المعبد * وألفريديس ومنها فريديس حلب قرب قنسرين وفريديس الباروك وفريديس دمشق * ويرجّح أنّ الإشبانية فارسيّة بمعنى الحمر جداً من شبانة أي الخمر المشروبة ليلاً * والإيوان ومنها إيوان كسرى * والبرذون تحريف بَردَن بمعنى الإشتداد في العدو ولعلّ أسم نهر البردوني في زحلة منها. أو انه تصغير بَرَدى بمعنى البارد * والجمهور بمعنى الجماعة وهو اسم قريةٍ بظاهر بيروت فيها موقف القطار الحديدي * والجورة الحفرة أو القبر ومنها جورة البلّوط اسم قرية * والقوقاز بمعنى الأبيض
ومن (الأعلام العبرانيّة) حيفا بمعنى الفرضة والمر. . . . . . . وعميَّق بمعنى العمق * ومكسه بمعنى الضّريبة على البضائع * والبقاع بمعنى السهل * وحوران بمعنى المغاور ومنها قرية كفر حورا في الزّاوية بمعنى قرية المغارة وكفر حوار قرب دمشق * وأرجح أن عنجر عبرانية بمعنى عين الغريب
ومن (الأعلام اليونانيّة) طرابلس بمعنى المدن الثلاث لأنها كانت في العصر ألفارسي مقرّاً للمجلس المتّحد المؤلف من مندوبي صيدا وصور وأرواد وكلٌّ يقيم في قسم من المدينة فسمّاها اليونان تريبولي بمعنى المدن الثلاث وحُرّفت طرابلس وهي اثنتان في الشّام وفي بلاد المغرب ومنها تربل قربها في البقاع * وقنّوبين تحريف كنوبيون أي المجتمع(93/35)
والمنتدى * والفيجة تحريف بيجه بمعنى الينبوع ولعلّكلمة بجه في لبنان وبجة في حوران تحريفها أيضاً * وقب إلياس من قب إليوس بمعنى مركز الشّمس. وبر إلياس ابن الشّمس وأنطلياس بمعنى مقابل الشمس وبرجيليوس (جبل النصيرية) بمعنى برج الشمس وبوسفور ممر البقرة * وبرجا وطبرجا بمعنى قصبة المعاملة والديماس بمعنى الغرفة * ومن أسماء آلهتهم بكركة وكركة اسم إلاهة يونانية ساحرة * وطاميش الإله أرطاميس. وبلونه أبلون وبوذيس حُرّف بوذيه في بلاد بعلبك * وذورس إحدى بنات البحر دورس فيها * وصفيّه ابنة البحر ومنها حوش تل صفية * ووادي القرن (ترونوس) أي زحل. وقرنايل الإله زحل * وصربا سيرابيس * ومنها ماسمّي بأسماء الملوك مثل سلّوقيا (السويدية نسبةً إلى دانيها سالوقوس نيقاطور) وفيلاذلفية (عمّان) نسبةً إلى بطليمايوس فيلوقلفوس * وطبريّة إلى طيباريوس وغوطسة إلى أوغسطس وأوغسطة * فضلاً عن تسمياتٍ مختلفة هليوبوليس (بعلبك) أي مدينة الشّمس * وهيرابوليس (منبج) وكريسرواس أي مجرى الذّهب لنهر بردى * وكلشيس أوخلقيس (عين الجرّ) بمعنى مدينة النحاس * والقلمون بمعنى الإقليم والمناخ * وأنتيلبنان بمعنى مقابل لبنان * وكيلوسيري بمعنى سورية المجوّفة ويراد بها السّهل بين جبلي لبنان الشّرقيّ والغربيّ * والأناضول بمعنى الشّرق * وموناستير بمعنى دير * وإيبيروس أرض متسعة * واسطنبول بمعنى إلى المدينة * وكالينولي بمعنى المدينة الجديدة * والأرخبيل رأس البحر * ونابلس نيابوليس بمعنى المدينة الجديدة
ومن (الأعلام اللاتينية) ما هو من هذا القبيل ولعلّ غريفة تحريف أغريب صهر أوغسطوس قيصر أو أغريب الأول * وتيرون من تيرو بمعنى الجنديّ وهي اسم (شقيف تيرون) أحد الحصون القديمة * والفسطاط تحريف خندق وعسقلان من أسكلانيا أي البصل لجودة بصلها * واللجون (مرج بني عامر) وهناك قرية لجون حيث كانت تقيم فرقةٌ رومانيّة * وبرقطة في لبنان بمعنى شلاّلة * وقبصريّة نسبةً إلى قيصر مثل قيصرية فيلبس وهي بانياس وقيصرية فلسطين ويقال أنّ غسم كسّارة قرب زحلة هو تحريف قيصيرية
ومن (الأعلام العربية) النّبك وهي أصغر تلّة ارتفعت عن سطح الأرض والجديدة المحيدثة(93/36)
وأنفة وجون وقارة وهي الجبل الصّغير المنقطع والمرج والمريجات وزحلة والمعلقة والمشرع والوادي والبرج والبريج وسوق وادي بَرَدى. وجبل الشّيخ وفم الميزاب. والمشيرفة والأشرفية والمشرفة. والكلمات المركّبة من دار ودير وقصر وأشباهها مثل دار بعشتار أي دار عشتروت ودير الغزال وقصر نبّا أي قصر عطارد فتؤلّف من لغتين فأكثر وهذه الأعلام الممتزجة اللغات كثيرةٌ عندنا
ومن (الأعلام التركية) الزّوق في لبنان وعكّار بمعنى المنزل أدخلها التّركمان الذين حكموا تلك الجهات * وآستانة عتبة * وأسكي شام أي الشّم القديمة وهو أسم بصرى في حوران * ومرسين بمعنى آس * وقرق كليسة أربعون كنيسة * وجركس كوي قرية الشّركس * وقللي برغاس برج برغاس * والجنتلك بمعنى المزرعة وتطلق على الأرض التي هي بإدارة الحكومة خاصّةً مثل الجفتلك السّلطاني * وتوفّي بازار من نوفي اليونانيّة بمعنى جديد وبازار بمعنى السّوق ويقال لها يكي بازار * ونهر قره صوالنهر الأسود * ونهر سودلينهر اللبن
ومن (الأعلام المؤلّفة من لغات مختلفة) حملايا فهو من لفظتين سنسكريتين بمعنى موطن الثّلج * وأمازون هنديّة بمعنى محطِّم القوارب * وبومبي بالبرتغاليّة المرفأ الحسَن ولاصا عاصمة تّبث معناها في لغتهم أرض الآلهةوفي لبنان قرية بغسو لاصّا * وداجون معبود فلسطين سمّيت بإسمه قرى مثل (عين الدوق) في زحلة وفلسطين * ومُتنا كلمة سومريّة أكّاديّة لبعل عشترت أيّ الزّهرة فأرجح أنّ اسم المتنفي قضاء لبنان والمتين منها وكذلك المتن في قضاء المرقب. وإلا فكان هذا الاسم أولى بالجبال العالية كجبل الشيخ وصنين * وقوس إله أدومي عرفه العرب باسم قيس ومنه اسم قوسايا في سوريا المجوفة. . . . إلخ
إلى أعلامٍ أُخر ممتزجة من أكثر من لغة واحدة وما أشبهها وهذه آراء حديثة في التّسمية قابلة للتّمحيص والتّحقيق فلعلّ مؤرّخينا المدققين يعيرونها اهتمامهم فيفيدون الباحثين والدارسين فوائد جمّة. والله الموفّق إلى سواء السّبيل وهو حسبُنا ونعم الوكيل.
زحلة
عيسى اسكندر المعلوف(93/37)
الشّعر التّهذيبي
الولد والمدرسة
بقلم عيسى أفندي اسكندر المعلوف صاحب مجلّة الآثار
أرى الشّبّان قد ملؤوا المدارس ... ليكتسبوا معارفها النّفائس
فلا يجني العلوم فتىً تربّى ... بحجر دلالها كالغصن مائس
ولا يجني العلوم فتىً تربّى ... على حسن المآكل والملابس
ولا يجني العلوم فتىً تربّى ... وقد شمخت به كبراً معاطس
ولا يجني العلوم فتىً تربّى ... على أوهامه والعقل طامس
فمن طلب العلوم فقد جناها ... باحيا الليل مجتهداً ودارس
يرى النّصب الكثير له هناءٌ ... ولست تراه في الأبحاث يائس
فيلقى في مكاتبه ارتياحاً ... وتلقاه بها نعم الممارس
فبين الكدّ والإهمال فرقٌ ... كفرقٍ بين راجلنا وفارس
وسبحان الذي خلق البرايا ... صنوفاً غيّرت أصل المغارس
فمنهم من غدا ملك الأهالي ... ومنهم من تسفّل كالأبالس
ومنهم من يحبّ الدّهر سلماً ... ومنهم من يثير حروب داحس
ومنهم من يسكنه لجامٌ ... ومنهم من تحرّكه منافس
ومنهم عاقلٌ قولاً وفعلاً ... ومنهم فاجرٌ للحقّ دائس
ومنهم مشبّه الزّنبور لسعاً ... ومنهم مشبّه النّحل الجوارس
ومنهم جاهلٌ للكذب راوٍ ... ومنهم عالمٌ بالصدّق نابس
وبعضٌ عقله كالصّبح نوراً ... وبعضٌ عقله كالليل دامس
فكن لفضائل الأخلاق مرأى ... وكن لمحاسن الآداب قابس
وكن للطافة الأرواح مغنىً ... وكن لطهارة الأجسام حارس(93/38)
مصنوعات الجيش
الصّنائع الدّمشقيّة
كانت هذه الحاضرة في جميع أدوار تاريخها محطّ رحال أرباب الصّنائع المختلفة لأنّها أمّ هذا القطر والأقطار التي تليه والأمّ مصدركلّ خير في العائلة. ولقد أُصيبت مصنوعاتها كما تُصاب البلد عادةً بأنواع الاضمحلال وخصوصاً في عهد تيمورلنك الذي خرّب كل بلد عصا عليه واستصحب معه إلى سمرقند أرباب الصّنائع قال ابن عربشاه أخذ تيمور من دمشق أرباب ألفضل وأهل الصّنائع وكلّ ماهر في فن من ألفنون بارع من النّاجين والخيّاطين والحجّارين والنّجارين والإقباعيّة والبياطرة والخيميّة والنّقّاشين والقوّاسين والبازدارية وفي الجملة أهل أي فن كان
فتراجعت الصّنائع بعد ذلك العهد في قاعدة البلاد ولم يبقَ منها إلا ما لا غنيةعنه لأهل كلّ بلد مهما انحطّ عمرانه وتفرّق سكّانه. وكانت الصناعات تبعاً للحالة العموميّة إن راقت السّياسة وصفا جوُّ السّلام تكثر حاجيّات الناس فيوجد لها العملة وصنّاع الأيدي بطبيعة الحال وإن كان على ضعفٍ أحياناً والعكس بالعكس. وكانت الصّناعات الدّمشقية تجد في القرن الماضي رواجاً أكثر وإتقاناً أوفر لولم تنازعها مصنوعات أوروبا بلطافتها ورخصها ومنشأ الرّخص استمتاع الأجنبيّ إذ ذاك بامتيازاته فكانت الكمارك التي يؤدّيها على بضاعةٍ قليلة والضّرائب معفى منها جملةً وحقوقه رعية في الحكام ولو كان هو على باطل وخصمه العثماني على حق وقد يحكم له لا عليه أحياناً وبهذا قضي أو كاد على صناعاتنا الوطنية ووقفت مصانعنا الوطنيّة العثمانية
ولما نشبت الحرب العامّة انتبه رجال الدّولة للأمر وعرفوا الدّقيق والجليل من نواقصنا فكانت مسألة مصنوعاتنا من أوليّات المسائل التي نظروا فيها فألغوا الامتيازات الأجنبيّة وهناك أخذت تعود إلى مصانعنا بعض حياتها وستقوى أكثر بعد الحرب ثمّ كان منهم أن جمعوا شمل الصنّاع في كلّ مركز من مراكز السّلطنة كما فعلوا في دار الخلافة وضواحيها مثلاً فأخرجوا لوازم الجيش من سلاح ومدافع وقنابر وقذائف وأجواخ وغيرها وجاء حظّ هذه المدينة بعد حظّ الأستانة فجمع الجيش الرّابع فيها شمل الصناعات بعد تشتّتها واستفاد من كلّ قوّة كانت كالنّار مخبوءةً تحت الرّماد لا تحتاج إلاّ إلى يد صادقة حتّى تهتدي إليها(93/39)
وترفع عن وجهها ما يغشاها لينتفع بنورها وحرارتها.
محا الجيش الرّابع عن البلاد عار العوز والكسل إذ رأى المواد الأولية كلّها موفورة فيما تنال على أيسر وجه وبقليل من العناية والمعرفة وشاهدٌ في أبناء البلاد بقايا من أهل المهن والصّناعات لا يقف بهم عن المضي في مضمار الرّقي إلا شيء من العناية والتّنشيط. ذكر جودت في تاريخه أنّ جمهوريّة البنادقة كانت ساعدت بإنشاء السفن عدونا علينا فاصطنع في دور صناعتها ما يستعين به على حرب الدّولة العلية فآخذت الحكومة إذ ذاك جمهورية البندقية على عملها المنكر فأجابت هذه ليس للدولة العثمانية أن تؤاخذنا على إنشائنا السّفن في معاملنا وبيعها ممن نحب فإنّ عندها جميع مواد السّفن وهي تستطيع أن تحرج مثل سفننا ولا تحتاجنا ولا غيرنا. وكان هذا الجواب عبرةً للدولة فشمّرت عن ساعد الجدّ وأخذت تنشئ في ذاك الدّور سفنها في معاملها وموادها من حديد وخشب ورصاص وزجاج وحبال كلّها من الرض العثمانية.
كانت الحرب الأخيرة أعظم واعظ لنا في هذا السّبيل فانتبهت الحكومة أولاً للوازم الجيش فرأت من الصناعات مالا أثر له عندنا ومنه الموجود ولكن على ضعفٍ يحتاج إلى إصلاح وتعديل ومن الصناعات التي أحياها الجيش الرّابع صناعة القطن المعقّم للجرحى والأغذية المربية من بقول وثمار وصنع القذائف والبيطرة وما يلزمها من الأدوات على الأصول الحديثة ومن الصناعات الموجودة على قلّة نسج الأكياس للتّحميل من القطن وقشر القنّب وصنع الحدّاجات للجِمال والشّقادف لنقل المرضى والجرحى والسّرج للجِمال والخيام واللجم والهمايين من الجلد والقرب والمطرات والأقمشة لألبسة الجنود الضّبّاط من نوع العبا وحياكة الطّنافس والبسط والجوارب والخيام وخياطة الثّياب وصنع الحذية وغيرها
وسنتكلّم على معاهد هذه الصّناعات في دمشق معهداً معهداً حسب التّرتيب الذي وقع لنا في زيارتها ونتوسّع في الكلام ماوسعنا المقام تنبيهاً للعاقل وبشرىً للمستبشر وتحدّثاً بالنّعمة وطلباً للمزيد وحثّاً للهمم وتبصرة للمستقبل.
التّجارة والحدادة والقنار والقذائف
اعتمد الجيش الرّابع في الأعمال الصّناعيّة على ألوفٍ من الجنود السوريين على الأغلب ومنهم منسبقت له معاناة صّناعة من الصناعات وآخرون لاعهد لهم بشيء منها بل تعلّموها(93/40)
منذ دخلوا في سلك الجنديّة المقدّس يوم إعلان النّفير العام. وقد استعمل منهم أولاداً من سن التّاسعة إلى الخامسة عشرة بصفة خرّيجين في تلك الصّناعات وعددهم ثلاثمائة وخمسون خرّيجاً علموا منها ما يناسب صحّتهم ويلتئم مع أعمارهم. وبالنّظر لزكاء أبناء هذه الدّيار ولنظام المصانع التي عُدّوا في جملتها والأعمال المرتّبة التي عهد إليهم أمرها وتنظيم أساليب عيشهم وعملهم برعوا أو أكثرهم في مدّة قليلة ومنهم من أقلعوا عن عادات كانوا ألفوها من مثل التّدخين وغيره ومرنوا على العمل حتّى قلّ الثّرثارون فيهم فأنت إذا دخلت مصانعهم أيّ وقت كان من أوقات العمل المحددة لاتسمع لغواً ولا صوتاً وكلّ عاملٍ أو ماهن يصرف ذهنه إلى ما يعمل فيه مخافة أن يضيع عليه الوقت ولا يكمل حصّته من العمل ولهذه الأخلاق دخلٌ كبير في نجاح هذه الأعمال والعمّال فإنّ العامل الذي يكثر على غير نظام تقلُّ عمالته ويوميّاته أما الذي يصرف كَدَّه لعمله جماةً واحدةً فيرجح عليه في الصّناعات حتى قالوا أنّ الصّانع الإنكليزي يأخذ ضعفي أجرة الصّانع الطّلياني لأن هذا ثرثار لا يحصر ذهنه في عمله ويلتهي بغيره بالضّرورة فعمله نصف عمل.
هذا ما لحظناه من أساليب الرّقي الحقيقي الماثلة في مصانع الجيش في دمشق فقد رأينا الحديد يُذاب ويُطرق على أيسر صورة وتعمل منه أدوات العجلات والمحفّات. والأخشاب تُقطع وتُنجر وتُصقل. وأكثر الآلات التي تستعمل في هذا السّبيل جُلبت من حلب وعينتاب وطرسوس ولبنان وبيروت وكانت مبعثرةً لاتستفاد منها ألفائدة المطلوبة فلمّا ضمّ الجيش شملها وعرف كيف يستخدمها أخرجت أجمل المصنوعات في أسرع وقت ووفّرت على العاملين عناءً ووقتاً لولاهما لاقتضى العمل أيدياً كثيرة عاملة ووقتاً أطول.
كنّا عاجزين فيما مضى عن اصطناع عجلات النّقل والركوب ومحفّات الجرحى والمرضى في مصانعنا الوطنيّة وقد اختار الجيش أسهل أنواعها وأمتنها وألطفها على آخر طرز وصنع منهت ألوفاً بحيث تظنّها إذا رأيتها من صنع معامل أوروبا في حين تجد حديدها وخشبها من سوريا واليد التي اشتغلتها سوريّة وهي تُستعمل في خدمة سوريا وهذا ما يقِلُّ في جانبه كل شكر للحكومة السّاهرة على إنجاح الوطن والأخذ بأيدي أبناءه العاملين
تقوم مصانع بأعمال نفيسة من حاجيّات الجيش كالقدّوم والمنشار والكلاّب واللوالب والرّفوش والقدور والمراكن والمراجل والدّلاء والبراميل وغيرها زكلّ ذلك إذا رأيته تظنّه(93/41)
من صنع الغربيين وَردَ على هذه البلاد في علب مزيّنة وصناديق مقفلة وأوراق ملفوفة وطوى المراحل الطّويلة وتعاورته الأيدي الكثيرة حتى جعل رهن أمر جيشنا والحال أنّه من بلادنا وصنع أبنائها صنعوه ليدفعوا فيه عن حياضهم ومن صنع إبرةً لخدمة الجيش بحسب طاقته ومعرفته فحكمه حكم من صنع مدفعاً ومن مشى خطوةً في طريق الخير فأجره أجر من مشى خطوةً في طريق الخير فأجره أجر من مشى خطوات والتّكليف على قدر الاستطاعة
أمّا ملئ الخرطوش وصنع القذاف واستجادة أحسنها طرازاً وأفعلها وقت الحاجة فهذا ليس من شأننا البحث فيه وإنّما يقال على وجه الإجمال أنّ هذا النّوع من أنواع قوّة الجيش يعمل منه هنا القدر اللازم مما يوفّر عناء النّقل من جنسه المصنوع في معامل دار الخلافة العلية على ما هو معروف.
السّروج والخيام
ربّما كان من قليلي الخبرة من إذا سمع أنّ الحكومة متوفّرة الليل والنّهار على اصطناع السّروج للخيل والمحفات والحداجات للجمال وما يلزم المسافر في البوادي من الخيام والقرب والرّوايا والمطرات وخرائط الخرطوش وغيره أن يقول وهل هذا من المكانة بالموضع الذي تضعونه فيه فكلٌّ منّا يرى ويسمع أن هذه الصناعات موجودة في البلاد لم تفقد ولا في زمن من الزمان ومصنوعاتها مبذولة بأهون الأسعار لكل طالب.
ولكن من عرف أنّ جيشنا يحتاج إلى عشرات الألوف من السّروج والحداجات للخيل والجمال ومن هذه المصنوعات الجلديّة إلى مئات الألوف ليستخدمها في حلّه مرتحله يدرك ما يقتضي لصنع هذا العدد الكبير من المواد والرّجال العاملين ولتهيئة مصنوعاتهم على صورة مقبولة متينة رخيصة، من ألفكر والقياس والبحث والحساب.
كلٌّ منا يعرف أنّ قطارات السكك الحديدية نازعت قطارات الجمال حتى في ألفيافي والبوادي وإن سفن البحر وسفن البرّ قضت أو كادت على الجمال والبغال والحمير والبقر والفيل في معظم أقطار الأرض ولكن من الأقطار مالا مندوحة لها عن الاستغناء عن هذه الحيوانات في مهماتها زمن الحرب وزمن السّلم ومهما كثرت آلات البخار في الأقطار لم نكف لأن تطوِّق البلاد كلّها بطوق من قطاراتها وتغدو وتروح في نقل الإنسان وحاجاته(93/42)
وقد كانت بعض هذه الصّناعات في برّ الشّام أُصيبت بفترة بعد أن امتدّت الخطوط الحديدية من بيروت إلى دمشق فحوران ومن رياق إلى حلب فالإصلاحية ومن حلب فرأس العين ومن حمص إلى طرابلس ومن يافا فالقدس ومن حيفا فدرعا ومن دمشق إلى المدينة المنوّرة وانتقل بعض السّروجيين والخيميين إلى صناعات أخرى ولكن هذه الحرب عادت فأحيت صناعاتهم وتبيّن نفعها في داخليّة البلاد وأنّ الجيش المرابط والمجاهد في كل مصر وعصر لا يستغني عنها بحال من الأحوال.
زرنا هذه المصانع على حين فجأة فرأينا الصّنّاع على اختلاف درجاتهم مكبّين على عملهم لا يلتفتون إلى شيءٍ يجري أمامهم ومنهم قدماء أرباب الصّناعات يُرزق الواحد في اليوم العشرين والثّلاثين قرشاً وأكثرهم الجنود ومنهم طبقة الخرّيجين من صغار العملة يُعلّم في أربعة أشهر فيأتي منه ماهن ماهر كالذي تعلّم هذه الصّناعة السنين الطويلة واستعمال الآلات اللازمة للعمل ليس بعيد العهد ومنه ما يرد تاريخه إلى ستّة أشهر ومع هذا ترى الصّناع يعملون عليها كالعملة الممرّنين في معامل الغرب.
صناعة السّجاد والنّسّاجون والخيّاطون والأساكفة
راقنا جدّاً ما شهدناه في مصانع النّسيج والأقمشة وقد تمثّلت أمامنا آلات القرون القديمة من النّسيج وآلات القرون الوسطى وآلات القرن الحديث وفي كلّ واحدة من هذه الآلات يعمل النّسّاجون أقمشة نفيسة لكسوة الضّباط والجند فكأنّ لسان هذه المصانع يقول: لا جديدلمن لاقديم له. وهنا يُستفاد من كلّ قوّة
نعم استفاد الجيش الرّابع من كلّ قوّةٍ وجدها أمامه في هذه الدّيار واستعمل علمه ونشاط من عهد إليهم العمل من أصغر عاملٍ يكنس الأرض إلى المديريين ورؤساء الأدوات وبذلك صحّ فيه أن أوجد شيئاًمن لا شيء. وليست المهارة في أن يتجر التّاجر برأس مال قدره مئة ألف ليرة فيربح معاشه ولكن المهارة في أن يربح ذو رأس المال الصّغير معاشه على نسبة ذلك التّاجر الغني بأمواله
لو توفّرت هنا جميع المعدّات الكافية للنّسيج والخياطة وعمل الأحذية لما استغربنا شيئاً يعمله الجيش لأنّ الآلة بقليل من النّظر يتيسّر للقائم عليها أن يستفيد منها. ولكن أكثر العمل بالأدوات البسيطة التي تخرج مقداراً كافياً من المصنوعات بل أكثر من المأمول من مثلها(93/43)
وهذا وجه الغرابة وداعية الحمد والثّناء.
يخيط الخيّاطون أقمشةً وأجواخاً وطنيّةً في الغالب على صورة سريعة مقبولة. والحذّاءون يعملون أحذية متينة وجلودها وخيوطها من محصول هذه الدّيار
رأينا مصنوعات البسط والسّجاد المعمول في هذه المعامل ليجعل في خدمة الهلال الأحمر والجند عامّةً ممايسرّك خبره ومخبره لمتانة وثبات ألوانه. تمنّياً لوزادت مصنوعاته على المطلوب لاقترحنا على كلّ بيت في سوريا أن يقتني سجّادةً منها عنوان العمل الوطنيّ ودليل تنشيط كلّ صاحب دار للصّناعات الوطنيّة
وفي هذه المعامل فرعٌ لعمل الجوارب التي كانت تُصنع في حلب وعينتاب واطنه فقط ومازال لها معامل هناك. ونوع هذه الجوارب وافٍ بحاجة الجندي بالطّبع ينفع في الدفء والسّتر وهو متين لابأس به. أما نوع جوارب التّرف كجوارب الحرير البرّاق الشّفاف وغيرها فهي ليست من شأن هذا العمل وإنّما ينظر في الأقمشة وحياطتها والجوارب والأعبئة والأحذية إلى متانتها أولاً والفائدة التي يتوقّعها منها الجندي ولو أحبّت هذه المعامل أن تخرج بما لديها من الأدوات وجوارب وأنسجة للمترفينلما عسر عليها ذلك.
ولم نلاحظ في هذه المعامل ألاّ تفرّقها وعدم اجتماعها في صعيد واحد ليكون أدعى إلى حضور الذّهن وأجدر عنايةً بالعمل ولا ينظر الآن إلاّ إلى حالة المحل الصّحيّة أماصغره وترصيفه وتبييضه فأمر ثانوي لم يتّسع الوقت للتفكير فيه
والنّيّة معقودة أن تجعل هذه المصانع بعد الحرب في القدم جنوبي دمشق قرب معامل السّكة الحجازيّة فيختار لها أرضاً مساحتها كيلومتران ونصف كيلو متر وتجعل العامل كلّها في بقعةٍ واحدةٍ فيسهل التّفتيش على هذا المقر العسكري وتحسن إدارته ويكون منعزلاً عن المدينة مستقلاًّ في عمله
وهذا مقصدٌ حسن لأنّ العادة جرت في المعامل الكبرى في الغرب أن تكون منعزلة عن المدن والقرى بعيدة عن العمران.
معامل المحفوظات والمربيات والخمر
هذه الصناعة من الصناعات التي لم تعرف في دمشق قبل الحرب فأدخلت إليها بطرقها الكيماويّة وأدواتها المستحدثة وتعلّمها العملة من الجند والنّساء فتجد في محلّها فرعاً لعمل(93/44)
الحساء الشّورباذروراً ثمّ يُذاب في ماء حار وقت الاستعمال فيأتي منه حساءٌ لطيف كأنه طبخ السّاعة. ويُستخرج أشربةً كثيرةً مثل ماء الزّهر وماء الورد وشراب قشر الليمون وشراب قشر البرتقال فتُجعل روحه في زجاجات تكفي القطرة منه لكأس ماء حتّى تكون حلوة ذات نكهة طيّبة كأنّه عمل لساعته. وهذه الأشربة تنفع الجيش كثيراً ولاسيّما في مستشفيات البادية.
وفي هذا المعمل فرعٌ لاستخراج مرق اللّحم من العظام وتعقيمه بحيث لا تذهب العظام التي تخرج من مسالخ الجيش في هذه الحاضرة من دون فائدة وللنّساء العاملات هنا دخلٌ كبير في هذا الصّنف فتراهنّ لابسات المآزر الكحليّة يعملن على الدّوام على نظامٍ تام وتُرزق الواحدة منهن ثلاثة قروش وثلاثة أرغفة في اليوم ويتناولن طعام الظّهر في المعمل بالاشتراك بينهن وقد نُصبت لهم موائد وأمام كلّ واحدةٍ منهن صحفتها وكأسها وكذلك الرّجال في مكانٍ آخر. وأهمّ ما يستخرجه معمل المحفوظات والمربّيات حفظ الثّمار والبقول على طريقةٍ لا تنقص من تغذيتها وتكون عند الاستعمال كأنّها طريّة حديثة عهدٍ بالقطف من الشّجرة أو المسكبة ويبلغ عدد البقول المربية عشرة أنواع يتناولها الجندي في كلّ وقت كأنّما يتناولها في إبّانها ناضجة طريّة. وفي هذا المعمل فرع لعمل الخل للجيش ويُعمل كلّ ذلك على طريقة صحّيّة اقتصاديّة بحيث لا ترى جزءاً لا ينتفع به حق الانتفاع على النّحو الذي جرى عليه الغرب في معامله.
ومن الصناعات المستحدثة التي كانت هنا موجودة في حكم المفقودة صناعة عجن الخبز وخبزه بآلات تُدار بالكهرباء بسيطة في ذاتها ولكنّها تغني الغناء المطلوب فقد كان يعجن خبز الجند في أفران الجيش بالأيدي وأحياناً بالأرجل فارتأى القائد العام إحداث هذه الطّريقة الجديدة فوفّر من عمل الأيدي وخلّص الخبز مما كان يدخله من عرق الخبّازين وأوساخهم وصار معمل دمشق وحده يخرج في اليوم العشرين والثّلاثين ألف رغيف على أيسر وجه وأسرع طريقة وأنظف واسطة ويوزَّع خبز اليوم من الغد رعايةً للصّحّة.
وقد كان معمل الخبز في هذه الحاضرة منذ أشهر احترق فأُعيد على هذه الصّورة البديعة التي سداها ولحمتها مراعاةً للنظافة بل المبالغة فيها حرصاً على صحّة الضّبّاط والجند وأصبح معمل خبزنا على مثال المعامل الغربيّة وحبّذا يوم تصحّ عزيمة جمهورٍ من أرباب(93/45)
الأفران فيعمدون إلى تأليف نقابات لعمل الخبز على هذه الصّورة يراعون في صنعة جانب الاقتصاد والجودة والنّظافة
إنّ معامل التّعقيم والسّوائل واستخراج الأشربة الصّحيّة وتجفبف الثمار والبقول وخَبز الخبز بهذه الطّريقة كل ذلك يدل على براعة زائدة ويُسجّل عناية الجيش بما يدخل معد أفراده من الأطعمة والأشربة على وجه يجمع بين الاقتصاد والصّحة وسرعة التّحضير بحسب ما وصل إليه العلم في هذا العصر.
الصّنائع المحدثة
من الموجود من الصناعات وكان في حكم المفقود، صناعة البيطرة أو علم البيطرة، والبيزرة أو طبّ الحيوان كالخيل والجمال والبقر. وهذه الصّناعة قديمة في البشر ولكن هذا القرن أُدخل فيها من أسباب الرّقي حتى أصبحت تُدَرّس في الغرب كما يُدَرّس الطّب. والبيطار لا يقلّ في منزلته عن الطّبيب وكلاهما يطبُّ هذا الإنسان وذاك الحيوان. بّيد أنّ الجيش الرّابع رأى أن يعمد إلى طريقة عمليّة في تعليم البيطرة فأخذ يعلّمها في أربعة أشهر فيخرج التّلميذ وفي الغالب أن يكون من الطّبقة التي لم يسعدها الحظّ بتعلّم القراءة والكتابة بيطاراً من الدرجة الأولى جمع بين النّظريات والعمليّات.
يقرأ الطّالب في المدرسة وهو جنديٌّ أو معاون له من أبناء ألفقراء مستخدم بأجرة معيّنة درسه ويجيء إلى تطبيقه في الحيوانات على مقربةٍ منه ويشرح المعلّم للطلبة باللسان العربي طبّ الحيوان والمعلّم أيضاً ممن تخرجوا على هذه الصّورة فأصبح معلّماً بعد أربعة أشهر من تعاطي هذه المهنة ولكنّه يقرأ ويكتب بالطّبع. وقد جعل الطّلبة هناك فِرَقاً فِرَقاً وكلّهم يلبسون قفطاتاً أزرق حاسرين رؤوسهم ويتعلّمون بلسانٍ يفهمونه أي لسان العامّة.
وبجانب هذا المعمل معمل لصنع النّعال للخيل الأوروبية وكذلك معمل لنع مساميرها وفي هذا المعمل أيضاً زمرة من الأطفال الذين يتعلّمون هذه الصّناعة وينافسون فيها الشّبّان والكهول. والدوات المستعملة لتطريق النّعال ومساميرها بسيطةً للغاية ولكنّها متقنة تدل على روح تجدد.
وينشئ الجيش الآن معلّمين مما تشتدّ الحاجة إلى مصنوعاتهما وسيتمّان قريباً مضافين إلى المعامل والمصانع الكثيرة التي أحيا بها القديم من الصّناعات وأوجد بها المفقود منها هنا.(93/46)
وقديماً قالوا أنّ الصناعات إذا فقدت من مكان يتعذّر إرجاعها إليه على صورة سريعة ولكن الجيش الرّابع كذّب هذه القضية في أشهرٍ قليلةٍ وعلّم كتائب من أبناء الوطن وبناته صنائع شريفة والصّنعة في اليد أمان من ألفقر.
فطن الجرحى والمرضى
من أهمّ الصّناعات التي لم يكن لهذه الدّيار بل ولا للمملكة العثمانيّة عهدٌ بصنعها قطن الرّباطات واللفافات للجرحى فاتّخذ الجيش لصنعه أبنية حسنة بالقرب من مستشفى الغرباء في البرامكة وقسّمه أقساماً قسم الرّجال وهو لحلج القطن وندفه وقسم النّساء وهو لتنظيفه وغسله وصنعه حتى يخرج كأحسن ما يصنع من نوعه.
والنّظافة في كلّ هذه الأقسام مما يدهش له النّاظر وربّما لا نغالي إذا قلنا أنّها كادت تبلغ حدّ الإفراط ولانذكر أننا رأينا معهداً صناعيّاً في المملكة العثمانية بلغ بتأنّقه ومراعاة شروط الصّحة فيه مبلغ معمل قطن الجرحى هنا
تتمثّل لعينيك روح الإسلام العاملة الاقتصاديّة عندما ترى نساء شابّات وكهلات يتسابقن للعمل في هذا المصنع على أسلوب جديد وقد لبست كلّ واحدة منهن قفطاناً أبيض غاية في النّظافة يغطّي قامتها ووضعت على رأسها طاقيّة سترت شعرها ولم يعد يبدو غير وجهها أي أنّ المرأة هنا احتجبت بالحجاب الشّرعي وعملت عملاً يليق بها تنفع به نفسها وذويها ووطنها.
وقد نصبَ القيم عليهنّ ضابطاً كوسجاً قزماً دفعاً لكل ريبة وجُعل لهنّ مخدعان واسعان يحفظن فيهما ثيابهن ويستخدمن في المساء ماهناك من مغاسل للتّنظيف والوضوء وما يصلحهن ليعدن إلى سابق حالهن
وهذه هي الأرستقراطيّة الإسلامية ممزوجةً بروح الدّيمقراطيّة أي أن العاملات هنا جمعن بين الاجتماع على العمل الحر ولم تفُتهن الرّفاهيّة ولم يمنعهن حجابهن من الاحتراف بل عُدنَ به إلى سذاجته الأولى وأنشأن يخدمن أمّتهن من طريق الصّناعة كما كان في العصور الأولى ويكون الآن منهن الممرّضات في المستشفيات النّقّالة والثّابتة أيام الحرب.
وقد أثمر هذا العمل فوائدٌ كبيرةٌ جدّاً فلم تقتصر مصنوعاته على مستشفيات الجيش الرابع بل أرسل منذ إنشاء إلى جميع السّاحات الحربيّة قطنه ولفائفه وعصباته أرسل إلى جناق(93/47)
قلعة وإلى فقآسيا وإلى العراق جميع ما يلزم الجيوش العثمانيّة هناك بحيث استغنى الجيش العثماني عن جلب هذا الصنف من الغرب وهيهات أن يحصل عليه زمن الحرب وهو محظورٌ إصداره من كل مملكةٍ محاربةٍ أو غير محاربة يعدّ من المواد الحربيّة كالبارود والسلاح فيصادر حيث كان
دلّ هذا المعمل على روحٍ عاليةٍ في التّجدد وأننا أخذتا نحسن الانتفاع بقوانا وأنّ المسلمات كالمسلمين ليس في كتابهنّ ما يمنعهنّ عن مشاركة الرجال في الأعمال وإذا كان القطن يجود كلّ الجودة في سهول أطنة وأغوار الشّام وعندنا ما يلزمنا من الأدوات فلا تقتصر عقولنا عن القيام بالنافع ومراعاة المصلحة حرصاً على الوطن وسلامة لصحّة المجاهدين في الذب عن حياضه نعم قرأنا في تصفّح شؤون معامل القطن أنّ العثمانيات لم يقعد بهنّ الحال عن احتذاء مثال العثمانيين فحبّذا العمل وحبّذا إطّراده زمن الحرب وزمن السّلم
من يزُرْ مصانع الجيش الرابع يحكم حكماً قطعيّاً أنّ الدّولة التي تنظّم مثلها وتخرج مثالاً من المصنوعات التي سبق لنا وصفها صناعةٌ تحارب أربعين سنةً وهي تكاد تكون في استغناءٍ عن الغرب الذي كان بالأمس يعيّرنا بفقدان كلّ شيءٍ عندنا وانسلاخنا من كلّ استعدادٍ حتى كان عيالاً عليه في الخيط والإبرة
رعى الله أحمد جمال باشا قائد هذا الجيش كم له على بلاد الشّام من أيادٍ بيضاء فهو لم يكتف بدفع عاديّة العدو عنهم عنها بل جمّلها جمّل الله أحواله بالطّرق والجسور والمدارس والمشاريع الاقتصاديّة والعلميّة ومن أحسن آثار عمله هذه الصناعات التي استفاد منها جيشنا اليوم وغداً يستفيد منها الجيش والأمة التي يتألف منها هذا الجيش المحبوب
نعم غداً تنتهي الحرب ويخرج من تحت السّلاح مئات الألوف من أبناء هذا الوطن العزيز زمنهم من أسعده الطّالع بتعلّم صناعةٍ من هذه الصناعات فبعد أن كان قبل الحرب متشرّداً أو في حكم المتشّرد يستطيع غداً أن يكسب معاشه من صناعته ويعتمد على كدّه وعمله وقريحته
غداً يكون من أبنائنا بفضل الجيش الرابع أمهر النّسّاجين والخيميين والخيّاطين والحاكة والحدادين والنّجارين والسّروجيين والبياطرة وعملة المربّيات والمحفوظات من البقول والثّمار وغيرها مما لم تعهده ديارنا من قبل ويخرج خرّيج هذه المعامل وقد تعلّم قدر الوقت(93/48)
والعمل وانتظامه وما نظنّ من يدخل صناعةً على قومٍ يتعلّمون بها ما ينعشهم من هوّة الحاجة بأقلّ في حسن الأثر والأحدوثة ممن يفتح بلداّ أو يستعمر قطراً ولذلك يحمد الوطن صنيع قائد الجيش الذي عرف كيف ينتفع من كلّ قوّةٍ في البلاد وامتاز بأنّه كان من الرّجال الذين يحسنون انتخاب عمّالهم والمباشرين لجميع فروع إدارة الجيش فقد كان الصّالح للعمل في الإدارات الكبرى قبله عشرة في المئة وباقيهم خشب مسندةٍ أو كالسّوس في الخشب وهاقد أصبح بفضله وبفضل أنصاره عدد الصالحين للعمل يربو على التسعين في المئة وذلك لأنه موفّقٌ في حسن الاختيار وطرح المرذول والإتيان بالمحمود واختيار المرء قطعة من عقله ولذلك ترى فروع أعمال الجيش هنا يحلّق عليها على الدّوام طير اليمن والبركة
إنّ الروح التي بثّها في الجيش العثمانيّ أجمع صاحب الدّولة أنور باشا وكيل القائد الأعظم وناظر الحربيّة قد كان أثرها عظيماً جدّاً في هذا الجيش الرابع أيضاً إذ وجد لها مثل أحمد جمال باشا عالماً عاملاً يطبّقها ويزيد ما يرى الحاجة المحلّيّة ماسّةً إليه من الأعمال الخطيرة ومن أهمّ دواعي النجاح أنّ جمال هذا الجيش لم يتقيّد بحرفيّة القانون بل اهتمّ بجوهره وإذ كان مفطوراً على حبّ العمران جاءت على يديه مثل هذه الصناعات ونفّذ رغائبه في ذلك أناسٌ أكفاء اختارهم للعمل فبرزوا فيه وأدركوا أسراره وخوافيه
يعدّ الجيش اليوم المدرسة العادليّة أكبر مدارس الشّافعية في القرون الوسطى بدمشق ليأوي إليها ثلاثمائة وخمسون طالباً من طلاّب الصناعات في الجيش في هذا السبيل ألفاً وخمسمائة ليرة لتكون صالحةً لسكناهم ويعيشون فيها عيشاً منتظماً تجود به صحّتهم وتفتح قرائحهم وتصير أيديهم مرنةً حاذقة وعقولهم مفكّرةً مدبّرةً.
وهذا العدد من الطلاّب إذا أضيف إليه ألوف الصنّاع الذين يعملون في مصانع الجيش اليوم يغنون ولا شكّ البلاد بمصنوعاتهم في كل فرعٍ من فروع الصّناعة ويكون ذلك من بعض حسنات القائد العامّ أحمد جمال باشا ومضاء رجال الإدارة مثل مفتّش المنزل كاظم بيك الذي له فضلٌ عظيمٌ في تنظيم هذه الصناعات وغرامٌ شديد بتخريج أبناء الوطن على حبّها(93/49)
أنا والشّلال
قالت: عهدتك لا تهاب مُلمّةً ... ما لي أراك جزعت من شلاّلِ
ولّيت عنه وكنت تعشق قربه ... ولربّما ولّى المحِبُّ السّالي
يا نفس حسبك أن ترومي والهاً ... بها والطبيعة دائم البلبالِ
إني لأعشق كلّ غصنٍ يلتوي ... وأحنّ من طرب السلسالِ
يهتاجني العصفور وهو مصوِّتٌ ... يدعو ذويه إلى ارتشاف الزّلالِ
ويروقني الجبل الرَّفيع كأنّما ... هو طامعٌ من جوّه بنوالِ
إني لَيَشغفني هوىً وصبابةً ... نبتٌ بجانب جدولٍ سيّالًِ
عبثت به أيدي النّسيم فأوّدت ... أعطافه فاهتزّ غير مبالِ
ويروقني الشّلاّل منحدراً هوى ... نحو البسيطة من أشمٍّ عالٍ
يغلي كأنّ النار بين ضلوعه ... ويثور مندفعاً إلى الأدغال
شابت غدائره فأرسلها على ... وجه الرّمال وهمّ بالإعوال
ولقد دنوت مقبِّلاً قطراته ... فرميت من قطراته بنبالي
شلاّلٌ ويحك أنت مثلي في الهوى ... أو لم تُشبكِ قوارع الأهوال
وعلامَ تدفعني وأنت معربدٌ ... خفّف عليك فأنت من أمثالي
أشكو وتشكو الحادثات وإنّما ... هي علّة الإدبار والإقبال
تابعتُ في القمم المسير فلم يرُق ... للنّائبات سراكِ في الأجبال
واليت خطوَكِ هادئاً فتمثّلت ... لكِ في السّبيل فعدت غير موالِ
صدّتكَ عن حيث ابتغيتَ عوائقٌ ... حاولن بي صدّاً عن الآمالِ
فهوَيتَ من علٍ هائجاً، ولبثتُ لا ... متململاً، والكارثات حيالي
هلاّ صبّرتَ كما صبّرتُ فإنّه ... بالصّبر يُدفع فاجئ الأجوالِ
(الزِّركلي)(93/50)
الوافي بالوفيّات
صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدي أحد رجال قرن القرن الثّامن وُلد في صفد سنة 696هـ - (1296م) وتوفّي سنة 764هـ - (1363م) وهو إمام في اللغة والشّعر والتاريخ وألفقه تخرّج على علماء دمشق في عصره فأخذ الشّعر عن جمال الدين بن نباتة واللغة عن أبي حيّان وألفقه الشّفعي عن الحافظ المزّي وابن جماعة والتّاريخ عن الذّهبي والمغازي والسِّيَر عن الحافظ بن سيّد الناس وتولّى عدّة مناصب إداريّة وماليّة في صفد والقاهرة وحلب ودمشق وقبره إلى اليوم معروفٌ في صفد وهو في حيّ الإسرائليين هناك وقد كان من المؤلّفين المجيدين ذكر له بروكلمان في تاريخ آداب اللغة العربية ثلاثين مصنّفاً تحتوي على نحو مئة مجلّد وكانت له عنايةٌ خاصّةٌ بالشّعر والنّثر ومما طبع له في الأستانة سنة 1299م كتاب جنان الجناس في علم البديع وطبع له في مصر سنة 1329م كتاب نكت الهميان في نكت العميان ويكاد يكون أخصّائياً في التراجم وأهمّ كتبه الوافي بالوفيّات يدخل في بضع مجلّداتٍ كبرى تحتوي على زهاء عشرة آلاف ترجمةٍ من أول الإسلام إلى عهد المؤلّف وفيه ما في وفيّات الأعيان لابن خلكان وطبقات الأدباء لياقوت مع زياداتٍ كثيرةٍ فاتت هذين المؤلّفين أو حدثت بعدهما
ولقد كان يظنّ أنّ كتاب الوافي فقد في جملة ما فقد من كتب العرب لكن تبيّن بعد أنّ أجزاءه مبعثرةٌ في خزائن الكتب في ديار الغرب ولاسيّما خزائن أكسفورد وباريز وفيينا وفي الخزانة التيموريّة والخزانة الزّكية في القاهرة ودار الكتب الخديوية عدّة أجزاءٍ منه إذا جمعت الأجزاء من مصر وأوروبة كان من مجموعها نسخةٌ تامّةٌ فيما نظنّ. وإذا صحّت نيّة إحدى المطابع أو الجمعيّات العلمية في البلاد المصرية أو الألمانية أو الإنكليزيّة أو الهولاندية على طبعه جاء منه كتابٌ لا يقلّ في النّفاسة والفائدة عن تاريخ الطّبري وطبقات ابن سعد والمكتبة الأندلسيّة العربية والمكتبة الجغرافيّة العربية ومعجم البلدان ومعجم الأدباء لياقوت والمخصّص لابن سيده وصبح الأعشى وغيرها من الأسفار المهمة التي أحيتها مصر وأوروبا
افتتح المؤلّف كتابه في من اسمه محمد فبدأ باسم صاحب الشّريعة عليه الصلاة والسلام وثنى بمن اسمه محمد من الرجال ثم عاد فساق التراجم على حروف المعجم وكلامه بشفّ عن تحقيقٍ إذ تهيّأت له موادٌ من التاريخ معقودٌ بعضها اليوم بحكم الضّرورة وعبارته من(93/51)
السهل الممتنع فيها الأدب الغضّ مع السلاسة الساحرة فكان من صدر عفو القريحة من قلم الصلاح الصفدي أقرب إلى مناحي ألفصحاء من عبارات المتكلّفين المتنطعين
ذكر في مقدمته البديعة أعاظم رجال الملّة الذين قال فيهم أنّ علماءها كأنبياء بني إسرائيل وأمرائها كملوك فارس في التنويه والتنويل ذاكراً فيه الخلفاء والصحابة والتابعين والأمراء والقضاة والعمال والوزراء والقرّاء والمحدّثين والفقهاء والشيوخ والأتقياء والأولياء والنّحاة والأدباء والكتّاب والشّعراء والأطبّاء والعلماء وأهل العقل والذّكاء وأرباب المقالات ورؤساء المذاهب والمتفلسفين وكل من اشتهروا بعلمٍ أو شأنٍ وقد جعل المقدّمة على فصول الأول في مصطلحات الأمم ولاسيّما العرب والفرس واليهود وغيرهم على حساب السنين والتاريخ. الثاني بحث فيه بحثاً نحويّاً. الثالث في كيفيّة كتابة التاريخ. الرابع في الأنساب. الخامس في الكنى والألقاب والعلم. السادس في الهجاء والإملاء والاختصار. السابع فيمن كتب في التاريخ. الثامن فيما يراد بالوفاة والوفيّات. التاسع في فائدة التاريخ. العاشر في صفات المؤرّخ. الحادي عشر ذكر فيه تواريخ الشرق
قال في ألفصل الثالث: تقول للعشرة وما دونها خلون لأن المميز جمع والجمع مؤنّثٌ وقالوا لما فوق العشرة خلت ومضت لأنهم يريدون أنّ الجمع مميزه واحدٌ وتقول من بعد العشرين لتسعٍ إن بَقَين تأتي بلفظ الشّكّ لاحتمال أن يكون الشّهر ناقصاً أو كاملاً وقد منع أبو علي ألفارسي رحمه الله تعالى أن يكتب لليلةٍ خلت كما منع من صبيحتها أن يقال المستهلّ لأن الاستهلال قد مضى ونصّ على أن يؤرّخ بأول الشّهر في اليوم أو بليلةٍ خلت منه وقال الحريري في درّة الغوّاص: والعرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير فيقولون لأربعٍ خلَون ولأربع عشرة ليلةٍ خلت قال: ولهم اختيار آخر وهو أن يجعل ضمير الجمع الكثير الهاء والألف وضمير الجمع القليل الهاء والنون المشدّدة كما نطق به القرآنإنّ عدة الشّهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعٌ حُرُمٌ ذلك الدِّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكمفجعل ضمير الأشهر الحُرُم بالهاء والنون لقلّتهنّ وضمير شهور السّنة الهاء والألف لكثرتها وكذلك اختاروا أيضاً أن ألحقوا بصفة الجمع القليل الألف والتاء فقالوا أقمت أياماً معدوداتٍ وكسوته أثواباً رفيعاتٍ وعلى هذا جاء في سورة البقرةوقالوا لم تمسّنا النار إلا أياماً معدودةًوفي سورة آل عمرانإلا أياماً معدوداتٍكأنهم(93/52)
قالوا أولاً بطول المدّة ثمّ إنّهم رجعوا عنه فقصروا المدّة انتهى والواجب أن تقول في أول الشهر لليلةٍ خلت منه أو لغرّته أو لمستهلّه فإذا تحقّقت آخره قلت انسلاخه أو سلخه أو آخره. قال ابن عصفور: والأحسن أن تؤرخ بالأقلّ فيما مضى وما بقي فإذا استويا أرّخت بأيهما شئت قل بل إن كان في خامس عشر قلت منتصف أو خامس عشر وهو أكثر تحقيقاً لاحتمال أن يكون الشّهر ناقصاً وإن كان في الرابع عشر ذكرته أو السادس عشر ذكرته
فائدة: ورأيت ألفضلاء قد كتبوا بعض الشهور بشهر كذا وبعضهم لم يذكروا بعدها شهراً وطلبت الخاصّة في ذلك فلم أجدهم أتوا بشهرٍ إلا مع شهرٍ يكون أوله حرف راءٍ مثل شهري ربيع وشهري رجب ورمضان ولم أدرِ العلّة في ذلك ما هي ولا وجه المناسبة لأنّه كان ينبغي أن يحذف لفظ شهر من هذه المواضع لأنه يجتمع في ذلك رأيان وهم قد فرّوا من ذلك وكتبوا داود وناوس وطاوس بواوٍ واحدةٍ كراهة الجمع بين المثلين وجرت العادة بأن يقولوا في الشّهر المحّرم شهر الله وفي شهر رجب شهر رجبٍ ألفرد أو الأصمّ أو الأصب وفي شعبان شعبانُ المكرّم وفي رمضان رمضانُ المعظّم وفي شوّال شوالُ المبارك ويؤرخوا أول شوّال بعيد ألفطر وثامن ذي الحجّة بيوم التّروية وتاسعه بيوم عرفة وعاشره بعيد النّحر وتاسع المحرّم بيوم تاسوعاء وعاشره بيوم عاشوراء فلا يحتاجون أن يذكروا الشّهر ولكن لابدّ من ذكر السّنة
ومما قاله في ألفصل الخامس: إذا عرفت العلم والكنية فسردها يكون على الترتيب تقدّم اللقب على الكنية والكنية على العلم ثمّ النسبة إلى البلد ثمّ إلى الأصل ثمّ إلى المذهب في ألفروع ثم إلى المذهب في الاعتقاد ثم إلى العلم أو الصناعة أو الخلافة أو السّلطنة أو الوزارة أو القضاء أو الإمرة أو المشيخة أو الحجّ أو الحرفة كلّها مقدّمٌ على الجميع فتقول في الخلافة أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العباس أحمد السامري إن كان وُلد بسرّ من رأَى البغدادي فرقاً بينه وبين الناصر الأموي صاحب الأندلس الشافعي الأشعري إن كان يتمذهب في ألفروع بفقه الشافعي ويميل في الاعتقاد إلى أبي الحسن الأشعري ثم تقول القرشي الهاشمي العباسي وتقول في السلطنة السلطان الملك الظّاهر ركن الدِّين أبو ألفتح بيبرس الصَالحيَ نسبةً إلى أستاذه الملك الصالح التركي الحنفي البندقدار أو السلاح دار وتقول في الوزراء الوزير فلان الدين أبو كذا فلان وتسرد الجميع كما تقدّم ثم تقول وزير(93/53)
فلانٍ وتقول في القضاة كذلك القاضي فلان الدين وتسرد الباقي إلى أن يجعل الآخر وظيفته قبل الإمرة مثل الجاشنكير أو السّاقي وغيرهما وتقول في أشياخ العلم العلاّمة أو الحافظ أو المُسند فيمن عُمِّر وأكثر الرواية أو الإمام أو الشيخ أو ألفقيه وتسرد الباقي إلى أن نختم الجميع بالأصولي أو المنطقي أو النّحويّ وتقول في أصحاب الحِرَف فلان الدين وتسرد الجميع إلى أن تقول الحرفة أما البزّاز أو العطّار أو الخيّاط فإن كان النّسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه قلت القرشي التيميّ البكريّ لأنّ قريشاً أعمّ من أن يكون تيميّاً والتّيميّ أعمّ من أن يكون من ولد أبي بكر رضي الله عنه وإن كان النّسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت القرشي العدوي العمري وإن كان النسب إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه قلت القرشيّ الأموي العثماني وإن كان النسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قلت القرشي التيميّ الطلحيّ وإن كان النّسب إلى الزبير رضي الله عنه قلت القرشي الأسدي الزبيري وإن كان إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قلت القرشي الزّهريّ السّعديّ وإن كان النسب إلى سعد رضي الله عنه قلت القرشيّ العدوي السعدي إلا أنه ما نُسِب إليه فيما علم وإن كان النسب إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قلت القرشي الزهري العوفي من ولد عبد الرحمن بن عوف وإن كان إلى أبي عبيدة بن الجرّاح قلت القرشي من ولد أبي عبيدة
وقال في أدب المؤرخ: نقلت من خط الإمام العلاّمة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ما صورته: يشترط في المئرّخ الصّدق وإذا نقل يعتمد اللفظ والمعنى وأن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في الذاكرة وكتبه بعد ذلك وأن يسمي المنقول عنه فهذه شروطٌ أربعةٌ فيما ينقله ويشترط أيضاً لما يترجمه من عند نفسه ولما عساه يطول في التّراجم من القول أو يقصر أن يكون عارفاً بحال صاحب الترجمة علماً وديناً وغيرهما من الصفات وهذا عزيزٌ جدّاً وأن يكون حسن العبارة عارفاً بمدلولات الألفاظ وأن يكون حسن التصوّر حتى يتصوّر حال ترجمته جميع حال ذلك الشّخص ويعبّر عنه بعبارةٍ لا تزيد عليه ولا تنقص عنه وأن لا يغلبه الهوى فيخيّل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبّه والتّقصير في غيره بل إما أن يكون مجرّداً من الهوى وهو عزيزٌ وإما أن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه ويسلك طريق الإنصاف فهذه(93/54)
أربعة شروطٍ أخرى ولك أن تجعلها خمسةً لأن حسن تصوُّره وعلممُه معهما الاستحضار حين التصنيف فيجعل حضور التّصوُّر زائداً على حسن التّصوُّر والعلم فهي تسعة شروطٍ في المؤرِّخ وأصعبها الاطّلاع على حال الشّخص في العلم فإنّه يحتاج إلى المشاركة في علمه والقرب منه حتى يعرف مرتبته وما ذكرت هذا الكلام غلا بالنسبة إلى تواريخ المتأخّرين فإنّه قلّ فيهم اجتماع هذه الشّروط وأمّا المتقدّمون فأما أتأدّب معهم. . .
وذكر في ألفصل الحادي عشر أسماء كتب التاريخ المؤلّفة لمن تقدّم من أرباب هذا ألفنّ فساق اسم 282 تاريخاً من تواريخ المشرق وبلاده وتاريخ المغرب وبلاده والتواريخ الجامعة وتواريخ الملوك والوزراء والعمّال والقضاة والقرّاء والعلماء والشّعراء وتواريخ مختلفة وقال في آخره: وكتب الجرح والتعديل والأنساب ومعاجم المحدّثين ومشيخات الحُفَّاظ والرّواة فإنها لا شيءٌ يحصره حدٌّ ولا يقصره عدٌّ ولا يستقصيه ضبطٌ ولا يستدنيه ربطٌ لأنها كاثرت الأمواج أفواجاً وكابرت الأدراج اندراجاً. قلنا وأسماء هذه الكتب تنعي إلى الخَلَف قصورَه عن اللحاق بالسّلَف ومن الغريب أن لم يُطبع حتى الآن سوى جزءٌ قليلٌ من تلك التواريخ وقد فقد بعضها على ما يظهر من فهارس خزائن الكتب الغنيّة في أوروبا
وهذه المقدّمة وحدها كتاب علمٌ برأسه تنمّ عن فضل كاتبها وأنّ تاريخه جعبة ألفوائد والأوابد فهي أشبه بمقدّمة ابن خلدون لتاريخه ومقدّمة الصّلاح الصّفديّ تعلّي منزلة تاريخه الوافي الشافي وهاك الآن نموذجاتٍ قليلةً منه تعرف بها أسلوبه في ترجمة المشهورين ونمطه في إنشائه وتصوير الرجال وذكر المهمات من أخلاقهم وعلومهم وأحوالهم نقلناها عن نسخة الأمير كايتاني في رومية التي أخذت له بالتصوير الشمسي نقلاً عن الأجزاء المبعثرة في خزائن كتب أوروبا
قال الصفدي في سنة 7. 2 م: كان المصاف بين التتار والمسلمين في مرج الصفر فانهزم فلّهم في الزواريق واجتازوا ألفرات من دير يسير ومما قاله شمس الدين السيطبي في هذه الوقعة:
جاؤوا وكلّ مقامٍ ظلّ مضطرباً ... ومنهم كلّ مقامٍ بات يرتجف
فشاهدوا علم الإسلام مرتفعاً ... بالعدل فاستيقنوا أن ليس ينصرف(93/55)
لاقاهم الفيلق الجرّار فانكسروا ... خوف العوامل بالتّأنيث فانصرفوا
يا مرج صفر بيّضت الوجوه كما ... فعلت من قبل والإسلام يؤتلف
أزهر روضك أزهى عند نفحته ... أم يانعات رؤوسٍ فيك تقتطف
غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجةٌ بدماء المغل تغترف
زلّت على كتف المصريّ أرجلهم ... فليس يدرون أنّا تؤكل الكتف
آووا إلى جبلٍ لو كان يعصمهم ... من هوج فرخ المنايا حين يختطف
دارت عليهم من الشجعان دائرةٌ ... فما نجا سالمٌ منهم وقد زحفوا
ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا
ففي جماجمهم بيض الظِّبا زبرٌ ... وفي كلاكلهم سمر القَنا قصفُ
فرّوا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقتلوا في البراري حيثما وجدوا
فما استقام لهم في أعوجٍ نهجٌ ... ولا أجارهم من مانعٍ كتف
قال الصفدي ما أعرف في كتب الأدب شيئاً إلا وقد اختصره جمال الدين بن مكرم فمما اختصره كتاب الأغاني ورتّبه على الحروف وزهر الآداب وكتاب الحيوان فيما أظنّ واليتيمة والذخيرة وشوار المحاضرة وغير ذلك حتى مفردات ابن البيطار وكان يختصر ويكتب في ديوان الإنشاء واختصر تاريخ ابن عساكر وتاريخ الخطيب ذيل ابن النجار وجمع بين كتاب الصّحاح للمجوهريّ والمحكم لابن سيده وكتاب الأزهري فجاء ذلك في سبعةٍ وعشرين مجلّداً ومات وترك بخطّه خمس مائة مجلّدٍ وقال في ترجمة حبيب بن محمد بن صمصامة أمير دمشق القائد أبو ألفتح وليّ دمشق مرّاتٍ من قبل خاله أبي محمودٍ الكتامي وكان جبّاراً ظالماً سفَّاكاً للدماء إذا للأموال كثر دعاء أهل دمشق عليه وابتهالهم إلى الله تعالى فيه فهلك بالجذام سنة تسعين وثلاثمائة
وقال في ترجمة الحرث بن عبد الرحمن بن الغار بن ربيعة الجرشي من وجوه أهل دمشق وفضائحهم وكان قد سرد بالغوطة قبل وصول مروان إلى مصر وكتبوا إليه بولاية دمشق وكان بداريّا يأتيه الأشراف يسلّمون عليه إلى أن أقبل عبد الله بن عليّ فنزل دمشق وقدم الحرث وافداً على المنصور مستعطفاً لأهل الشّام فقام وقال: أصلح الله أمير المؤمنين إنّا لسنا وفد مباهاةٍ ولكن وفد توبةٍ وقد ابتُلينا بفتنةٍ استقرّت كرمنا واستخفّت حلمنا فنحن بما(93/56)
قدمنا معترفون ومما سُلِب منا معتذرون فإن تعاقبنا فيما أجرمنا وإن تعفُ عنّا فبفضلك علينا فاصفح عنّا إذا مَلَكْْتَ وامنن إذا قدرت وأحسِن فطالما أحسنت فقال المنصور: قد فعلت
وقال: محمد ابن أحمد بن عبد الله أبو علي المعتزلي شيخ المعتزلة الداعية إلى مذهبهم كان يدرس الاعتزال والحكمة فاضطرّه أهل السّنّة إلى أن لزم بيته قال صاحب المرآة خمسين سنةً لا يتجاسر على الظّهور
وقال: ناصر الدين ابن المقدسي ولّي سنة 678 هـ وكالة بيت المال ونظر جميع الأوقاف بدمشق وفتح أبواب الظّلم وخلع عليه بطرحة غير مرّةٍ وخافه النّاس وظلم وعسف وعدا طوره وتحامق حتى تبرّم به النّائب ومَن دونَهُ وكاتبوا فيه فجاء الجواب بالكشف عما أكل من الأوقاف ومن أموال السّلطان والبرطيل فرسموا عليه بالعذراوية وضربوه بالمقارع فباع ما قدر عليه وحمل جملةً وذاق الهوان واشتفى منه الأعادي وكان قد أخذ من النّاصريّ الزّنبقيّة وكان يباشر شهادة جامع العقيبة فحصل بينه وبين قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي نفرة فتوجه إلى مصر ودخل على الشَّجاعيّ فأدخله على السلطان وأخبره بأشياء منها أمر بنت الملك الأشرف موسى بن العادل وأنها باعت أملاكها وهي سفيهةٌ تساوي أضعاف ما باعته فوكّله السلطان وكالةً خاصّةً وعامّةٌ فرجع غلى دمشق وطلب مشتري أملاكها بعد أن أثبت سفهها فأبطل بيعها واسترجع الأملاك من السيف السامري وغيره وأخذ منهم تفاوت المغل وأخذ الخان الذي بناه الملك الناصر قريب الزنجيلية وبساتين بالنيرب ونصف حزرما ودار السعادة وغير ذلك الخ ثم طُلب إلى مصر فوجد مشنوقاً بعمامته
وقال: مؤيد الدين المهندس الدمشقي كان أستاذا في نجارة الدّفّ ثم برع في علم إقليدس ثمّ ترك نقش الرخام وضرب الخيط وأقبل على الاشتغال وبرع في الطب والرياضي وهو الذي صنع الساعات على باب الجامع سنة 599 هـ
وقال الصفدي في ترجمة رجار صاحب صقلية: رجار ملك الفرنج صاحب صقلية هلك بالخوانيق سنة ثمانٍ وأربعين وخمسمائة ويقال فيه أجّار بهمزة بدل الراء وجيمٍ مشددة وبعد الألف راءٌ كان فيه محبّة لأهل العلوم ألفلسفية وهو الذي استقدم إليه الشّريف الإدريسي صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق من العدوة ليصنع له شيئاً في صورة العالم(93/57)
فلما وصل إليه أكرم نزله وبالغ في تعظيمه فطلب منه شيئاً من المعادن ليصنع منه ما يريد فحمل إليه من ألفضّة الحجر وزن أربعمائة ألف درهمٍ فصنع منها دوائر كهيئة الأفلاك وركّب بعضها على بعضٍ ثمّ شكّلها له على الوضع المخصوص فأُعجب بها رجارٌ ودخل في ذلك ثلث ألفضّة وأرجح بقليلٍ وفضل له ما يقارب الثلثين فتركه له إجازةً وأضاف لذلك مائة ألف درهمٍ ومركباً موسقاً كان قد جاء إليه من برشلونة بأنواع الأجلاب الرّوميّة التي تجلب للملوك وسأله المقام عنده ومتى كنت بين المسلمين على فلك (كذا) ومتى كنت عندي أمنت على نفسك فأجابه إلى ذلك ورتّب له كفايةً لا يكون إلا للملوك وكان يجيءُ له راكب بغلةٍ فإذا صار عنده يتنحّى له عن مجلسه فيأتي فيجلسان معاً وقال له: أريد تحقيق أخبار البلاد بالمعاينة لا بما ينقل من الكتب فوقع اختياره على أناسٍ ألباء فطناء أذكياء وجهّزهم رجار إلى أقاليم الشرق والغرب جنوباً وشمالاً وسفّر معهم مصوّرين ليصوّروا ما يشاهدونه عياناً وأمرهم بالتّقصّي والاستيعاب لما لابدّ من معرفته وكان إذا حضر أحدٌ منهم بشكلٍ أثبته الشّريف الإدريسي حتى تكامل ما أراد وجعله مصنفا وهو كتاب نزهة المشتاق الذي للشريف الإدريسي وكان رجار المذكور قد أخذ طرابلس الغرب عنوةً بالسيف في يوم الثلاثاء سادس المحرّم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل أهلها وسبى الحريم والأطفال وأخذ الموال ثم إنه شرع في تحصينها بالرجال والعدد ثم إنّه أخذ المهدية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة لأنّ صاحبها الحسين بن علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ الصهناجيّ عجز عن مقاومته فخرج من المهدية هارباً بما خفّ من النفائس وخرج من قدر على الخروج. ولما هلك رجار ملكَ بعده ولده غُليلم بضمّ الغين وبعده الميم المعجّمة بين اللامين الساكنين ياءٌ وبعده اللام وعليه قدم قلاقس الإسكندري سنة ثلاث عشرة وستّين وخمسمائة وامتدحه بقصيدةٍ إلى آخر ما قال.
هذه نموذجاتٌ من الوافي وهو من أجدر ما يجب الاهتمام بطبعه تتميماً لسلسلة تواريخنا(93/58)
الحقيقة في الخيال
متى تنجاب هاتيك الدّجون ... وعنّا تنجلي تلك الظّنون
متى يعلو على الشّكّ اليقين ... متى يصبو على الحزن الرّزين
أنبقى هكذا بيد الفجائع ... ضرائب للبنادق والمدافع
لنا في كلّ شارقةٍ مصارع ... تصيد نفوسنا فيها المنون
تقاضينا إلى حدّ الحسام ... على ما ليس يؤبه من خصام
وتقذفنا لمنذور الحطام ... لجارية القضاء نوّى شطون
يهيب بنا اللموع من السّرابِ ... لورد الحتف في حمس الضراب
ويخدعنا الجهام من السّحابِ ... فنحسب أنّه الغيث الهتونُ
يرينا المرء في سكنى الأطام ... خلال المرء في سكنى الخيام
ألذّ مُدامه كأس الحمام ... واهنأ عيشه الحرب الزّبون
له دانت مواليد الطبيعة ... فأضحت وهي صمّاءٌ سميعة
أطاعته وما برحت مطيعة ... تبوح بسرّها وهو المصون
فكم كشفت معارفه حجاباً ... وكم راضت مواهبه صعاباً
وكم دكّت عزائمه هضاباً ... وكم خضعت له بكرٌ وعون
فنونٌ كم له منها جنونٌ ... وإنّ جنونه أبداً فنون
وكلّ حديثه معها شجون ... وكلّ شجونه فيها فتون
تضاحكه فيطرب لا يبالي ... بما منها له تلد الليالي
وينسى ما جنته على الأوالي ... وما خبّأت له منها القرون
يطيع نداء ناقضة الذّمام ... ويعصي كلّ طيّعة الزّمام
هجيراه مجانبة الوئام ... وبين ضلوعه الدّاء الدّفين
سواءٌ عنده ركب ألفضاََء ... بتطلاب العلى أم خاض ماَء
ودأماء توسَّطُ أم دماَء ... له في كلّ حادثةٍ سفين
أجال بغامضٍِ الأكوان فكراً ... فأوضح مبهماً وابان سرّاً
وكم أوحت له آياً وسفرا ... ًوسَر كتابها فيه مبين
جلا سنن الطّبيعة فاجتلاها ... كواكب كم أبان له ضياها(93/59)
خفايا ليس يدرك منتهاها ... ولا ترقى لأيسرها الظّنون
رقى سيّارةً فوق الهواء ... تحكّ بروقها زهرُ السّماءِ
وراح بها يدلّ على ذكاءٍ ... وددت أنها منها تكون
يراها العلم معجزة العصور ... ومشكاةً جلاها للدهور
وأطلقها هوازئ بالبدور ... تقيّد في محاسنها العيون
تراها وهي ناشرةُ الجناح ... كدلاحٍ تلفع بالرياح
فما حملت سوى أجلٍ متاحٍ ... وبين ضلوعها حتفٌ مهين
فكم عنها تمخّضت السنين ... وما نشرت وكم طويت قرون
وما سمحت بمولدها البطون ... ولا بلغ الظّهور لها جنين
تخطّ بمهرق الآفاق سطراً ... فتقرأ منه للإعجاز شعراً
وللتدمير والتّفريق نثراً ... وحاصل معنييه أذىً وهون
يثور بصدرها غازٍ فتغلي ... مراجلها على حقدٍ وغلّ
وإن تنظر فليس لغير ذلٍّ ... وضيمٍ ذلك النّظر الشّفون
طوى خبر البساط لها عيانٌ ... به لبصائر الدنيا افتتان
وإن يسلس لراكبها عنانٌ ... فكم منها يعاصيه حرون
تغرّد في الفضا تغريد شادي ... فيطرب شدوها سمع الجماد
وإن هامت بها في كلّ وادٍ ... عقولٌ فهي واديها الأمين
تريك على جمام الكدّ مزحاً ... فتشرح طبعك المكدود شرحاً
وإن محضتك بعد الغشّ نصحاً ... فكم من جدٍّ يولّده المجون
تطير وهل تباريها النسور ... ودون محلّها الشّعرى العبور
ولن يرقى لمرقاها الأثير ... وهل تُرقى الخواطر والظّنون
لمسترق النّجيّ غدت شهاباً ... تلهب في أضالعه التهاباً
وتقصيه وما بلغ اقتراباً ... لخافيها المراصد والعيون
تُرى بدراً وآونةً هلالاً ... إذا في الأفق أسرعت انتقالاً
وإن لاحت بوجه الكون خالاً ... فما غير الفضا لها جبين(93/60)
إذا جاشت بها قدرٌ تفور ... تدور كما يصرفها المدير
وإن زفرت يطير بها الزّفير ... وإن غضبت يجنّ لها جنون
كأن البرق أصدقها الودادا ... فملّكها بجبينه الفؤادا
وصيّرها لناظره سواداً ... ولكنّ الخفوق لها جفونٌ
بجانحة الزّمان غدت ضميراً ... وطرفاً في محاجره قريراً
وعضباً في سواعده طريراً ... ولكن غير ما صنع القيون
أيا عصر البخار إليك شكوى ... يغصّ بها فم الأيّام شجواً
ابن إن كنت تنطق لي بنجوى ... لها بأضالعي وجدٌ كمين
أينطق في معاجزك الجماد ... ولم يمطرهم رفقٌ ولين
أتجريها جواري منشِئاتٍ ... مواثل كالجبال الرآسيات
وتوقرها صنوف المجعزات ... تراع بها المعاقل والحصون
تخادعنا ببرّاق لموعٍ ... كذلك شيمة الختل الخدوع
وكم لك في البريّة من صنيعٍ ... تشيب له الذّوائب والقرون
فنونك لم تدع أرضاً خلاءً ... ولم تجرِ بها عسلاً وماء
وكم فيها أفاضت كهرباَء ... بساطعها اعتدى ضبٌّ ونونُ
لئن نصبت بنوكٌ لها دلائل ... فلم تكًُ للورى إلا حبائل
وإن أهلّت بآنسها المجاهل ... فما هي للنهى إلا حزون
وكم لبنيك من آي اختراع ... طوائلها تقصّر كلّ باع
وتذهب بالمذانب والتّلاع ... إذا يوماً لها فاضت عيون
لئن خلبت بوارقها العقولا ... فلم يكُ ومضها غلا نصولا
وكم فينا جلت عضباً صقيلاً ... مواقع حدّ منّا الوتين
إلى مَ حياتنا تفنى جهاداً ... وأنفسنا نقطّعها جلاداً
ونحمل في الدّنا نوباً شداداً ... تنوء بحملها الأجد الأمون
أعصرَ النّور لم نرَ فيك نوراً ... ولا منك البخار غدا مطيرا
ولكن من دمٍ أجرى بحوراً ... وأشلاء الأنام بها سفين(93/61)
ابن إن كنت تفصح عن خفيٍّ ... يضيق بسرّه صدر الأبيّ
أتخترع النّكال لكلّ حيٍّ ... وللإنسان فيك أذىً وهون
كأنّ نفوسنا أضحت متاعاً ... يساومنا المنون لها ابتياعاً
وإن طارت على سومٍ شعاعاً ... فما غير ألفناء لها وكون
أنسقط من جهين على خبيرٍليصدقنا الحديث عن الدّهور
فقدماً قيل غير مقال زورٍ ... (وعند جهين الخبر اليقين)
شكونا داءنا حيناً فحيناً ... وأعضل داؤنا منّا وفينا
وكلّ رزيّةٍ صبّت علينا ... فأدوى دائها فينا كمين
شغفنا بالتّمدّن وهو داءٌ ... عضالٌ لا يرام له دواء
وليس لدائه أبداً شفاءٌ ... وهل تشفى الحقائد والضّغون
هل التّمدين غير مثار حربٍ ... ومدعاةٌ لكلّ أذىً وكرب
ومنذر فرقةٍ ورسول رعبٍ ... وداعيةٌ بكلّ رديّ قمين
متى الإنسان يصبو التصافي ... ويخلع عنه أردية التجافي
ويهجر ورد رنقٍ غير صافي ... إذا لذّت لشاربها الأج - ون
يرى حملاً وفي برديه ذئب ... هجيرة مخادعة ووثب
وأن طمعٌ أهاب به وكسب ... يريك الليث أظهره الع - رين
غرائز فيه شتى لاتحد ... وجمّ خلائق ليست تعد
وكم منها له خصم ألدّ ... عريكته لخطبٍ لا تلين
وظل وما رهى دنيا ودنيا ... يسوق لنوعه حتفاً مهينا
ولم يقض إلى طمع ديونا ... وقد قضيت وأغلقت الرهون
عزا للدين تفريقاً وظلماً ... وكم قد راح ينثر منه نظماً
ولم يلف بغير الدين ضمّاً ... وهل يدعوا إلى التفريق دين
متى للسلم يجنح والتّآخي ... ويحكم للمؤاخاة الأواخي
يرقّ لكلّ معولة الصراخ ... ويعطف من حشاشته الحنين
متى يغدو على طرف الثمام ... تودد كل مصريّ لشامي(93/62)
وينزع معرق للقا تهامي ... ونجدي لمن ضمّ الحجون
ويعطف كل غربي لشرقي ... حشاشته ويرتق كل فتق
ويطلق ذاك هذا بعد رق ... وقسوة ذاك لذا تلين
النبطية سليمان ظاهر(93/63)
أخبار وأفكار
البسيكومتر
اخترع عالمان من علماء النفس الأستاذ جونغ من جامعة زوريخ والأستاذ بترسن من جامعة نيويورك آلة دعواها البسيكومتر الكهربائي أن لم يمكن بها قراءة أفكار من يخضعون للتّجربة برضاهم أبغير رضاهم فلا أقلّ من الوقوف على حقيقة أقوالهم والآلة مؤلفة من كالفانومتر ومن آلة تقيد تنوع ألفكر وظهوره في الكلام وذلك على الوجه الآتي: أ، الكالفانومتر متصل مع مصباح ينزل لهيبه أو يصعد بحسب قوة المجرى الكهربائي ويقاس علو هذا اللهيب بمرآة ذات درجات تنعكس عليها فلا جل فحص إنسان توضع يده الوحدة على قطب من الزنك والأخرى على قطب من ألفحم ومن ذلك ينشأ مجى كهربائي تختلف قوته بحسب شدّة الحواس النفسية أو الطبيعة التي تجري في خاطر الإنسان الذي يراد اختباره فإذا كذب هذا الرجل كان من اضطراب حركة الدماغ الحادثة من التناقض بين ألفكر والإرادة التي تظهر العكس أن يحدث منه مجرى كهربائي يختلف ضعفاً وقوته بعلو اللهيب المار ذكره. وقد أثبتت التجارب الكثيرة صحة هذا الاختراع الذي هو من أغرب ما سمع.
ألمانيا الاقتصادية
الظاهر أن ليس في العالم أمة كالألمان عرفت طرق الاقتصاد وادخرت وفرها للأيام الشّداد وعالجت كلّ أسباب هذا الباب حتى أعجب بها الأعداء قبل الأحباب. وقد قدّر العارفون ثروة الشّعب الألماني قبل من 33. إلى 39. مليار مارك وثروة بريطانيا من 3. . إلى 36. وثروة فرنسا من 26. إلى 29. ودلّت كثرة الوارد على صناديق التّوفير خلال الحرب أيضاً أن ثروة ألمانيا ما برحت في نمو مع أن أصحاب هذه الأموال اشتركوا في إقراض حكومتهم أربعة قروضٍ كبيرةٍ وكانت قيمة القرض الأخير عشرة مليارات وسبعمائة مليون مارك اشترك فيه 645، 279، 5 ألمانيا ومع ذلك زاد ما وضعوه في صناديق التوفير عن 66. مليون مارك خلال سنةٍ واحدةٍ آخرها سلخ سنة 1915م.
كانت ألمانيا قبل الحرب تملك 45 مليون رأس من الماشية وفرنسا تملك 2. مليوناً وإنكلترا 13 مليوناً وبلغ محصول القمح والجاودار في ألمانيا 16. 8مليون طن في حين لم يبلغ(93/64)
محصول فرنسا من ذلك أكثر من 1. ومحصول إنكلترا 1. 4 مليون وبلغ محصول ألمانيا من البطاطا 54 مليون طن ومحصول فرنسا 13 مليوناً وإنكلترا 6 ملايين.
كان في بنك ألمانيا في أواخر السنة ألفائتة ما قيمته 55 مليون من السندات المستهلكة في حين كان بنك فرنسا 2. 91. ملايين وفي بنك إنكلترا 2. 193 ويفهم من ذلك أنّ ألمانيا قضت الأسابيع الأولى من الحرب دون أن تعتمد إلى تأجيل دفع الديون (موراتوريوم). ويستفاد من الأرباح التي أعطتها الشركات الألمانية لمساهميها مدّة هاتين السّنتين في الحرب العامّة أنّ 3. . . شركة دفعت لمساهميها 6. 48 في المئة سنة1914م ودفعت 8. 37 في المئة في السنة التالية هذا مع انقطاع ألمانيا عن أقطار العالم الأخرى.
وكان الدَّين الذي على إمبراطورية ألمانيا والإمارات المتّحدة الألمانية قبل الحرب 21ملياراً وديون بريطانيا العظمى 14 مليار مارك ومعظم الدَّين الذي على حكومة ألمانيا هو ثمن سككها الحديدية التي ابتاعتها من الشركات بعشرين مليار مارك فالديون الألمانية يقابلها ما لألمانيا من الخطوط الحديدية ويضاف إلى هذه ما تملكه من المناجم والأملاك والغابات التي تساوي أربعة مليارات فلألمانيا ملكٌ يساوي 34ملياراً من الديون لقاء 21 ملياراً من الديون على حين ليس لحكومة إنكلترا من الملك سوى 78. مليون مارك وباقي ما عليها أي 13ملياراً و6. . مليون مارك ديناً لا مقابل له ومثل ذلك يقال عن فرنسا التي يقلٌّ ما تملكه أكثر من ذلك ويصيب ألفرد من دين الحكومة في ألمانيا 312 ماركاً وفي إنكلترا 313 وفي فرنسا 664. وقد أنفقت حكومات أواسط أوروبا على تسليحها من سنة19. 5 إلى 1914م، 81 ملياراً وكانت نفقات حكومات الوفاق 42 مليار مارك ويصيب من هذه النفقات كلّ فردٍ في ألمانيا2. 2 مارك وفي النمسا 111 وفي إنكلترا 3. 5 وفي فرنسا 259 وعلى هذه النسبة كانت نفقات الحرب ويؤخذ من المجلّة الاقتصادية الإنكليزية أن حكومات أوروبا الوسطى يصيبها 35 في المئة من المئة نفقات الحرب ويصيب حكومات الاتفاق 61 في المئة فتنفق كل يوم حكومات أوروبا الوسطى كل يوم 12 مليون مارك وينفق خصومها 245 مليوناً وقد زاد سعر القطع في الاقتراض في جميع الممالك وهو في ألمانيا أقل منه في غيرها فارتفع فيها من 3. 9. في المئة إلى 5. . 5 في المئة وفي فرنسا من 36. إلى 575 وفي إنكلترا من 3. 33 إلى 5. 21 فالزيادة في ألمانيا 3. في المئة وفي فرنسا 6.(93/65)
وفي إنكلترا 57 وزاد تداول أوراق المصارف فكان في أواخر سنة 1915 في ألمانيا نحو ستّة مليارات ورقة في حين كان لفرنسا منها 11 مليار ورقة وأكبر دليل على قوّة الحياة الاقتصادية في ألمانيا أنّ المودعات في المصارف الألمانية زادت عشرة في المئة على حين نقصت في فرنسا 28 في المئة. وسعر القطع كان في ألمانيا قبل الحرب أرقى من غيرها فأصبح الآن خمسة مثل سائر الممالك أما سعر القطع الخاص فهو الآن أقل مما في إنكلترا مما لم يعهد إلى هذا اليوم. وأكبر دليل على وفرة المال في ألمانيا أن المصارف لا تعطي من ألفائض عن المال المودع عندها أكثر من 1. 5 بالمئة وتدفع مصارف إنكلترا 3. 5 في المئة
وهذا من الأدلة الناصعة على ارتقاء القوة في ألمانيا ويدل أنها أرقى من خصومها في الاقتصاد والمالية فقد أبانت الحرب الحاضرة أن ألمانيا أول دولة في العالم وأخذ علماؤها يعنون ببيان أن المدنية الألمانية أرقى من كل خصومها وقد نشر أحدهم مؤخراً في كتابٍ له أرقاماً هي أصدق شاهدٍ على تقدّم ألمانيا على فرنسا وإنكلترا فتبين أن ألمانيا أصدرت سنة 1913م - 34 ألف كتاب وإنكلترا أصدرت تلك السّنة 21 ألفاً وفرنسا 9 آلاف وأنّ ألمانيا تنفق على مدارسها 878 مليون مارك وإنكلترا 384 مليوناً وفرنسا2. 1مليون وأنّ الألمان أحرزوا من جوائز نوبل مكافأةً لأبحاثهم العلمية 14 جائزة وإنكلترا 3 وفرنسا 3 وأن نفوس ألمانيا زادت في تلك السّنة 82. ألفاً وإنكلترا134 وفرنسا2. ألفاً وأنّ محصول ألمانيا من الحنطة 25مليون طن وإنكلترا 16 وأن لألمانيا 51 مركز بريد ولإنكلترا 24 ولفرنسا14 ولها 1315 مركز تلفون ولإنكلترا 733 ولفرنسا 3. 4 وتجاربها الخارجية عدا المستعمرات 1. مليارات مارك ولإنكلترا 6 ولفرنسا 4 وثروة الشعب الألماني 375مليار مارك والإنكليزي 345 والفرنساوي 245 فألمانيا أرقى في معظم ما تقدَّم ضعفين من إنكلترا وفرنسا معاً
وإليك أيضاً أرقاماً أخرى تدلّ على ارتقائها في سلّم الحضارة أكثر من خصيمتيها ففي كل 1. . . . . جندي ألماني أميّان اثنان وفي كل 1. . . . . انكليزي 1. . وفي كل 1. . . . . فرنساوي 32. ويصيب ألفرد في ألمانيا من ديون الحكومة 31. ماركات وفي إنكلترا 323 وفي فرنسا 657 ويدفع ألفرد من الضرائب في الأولى 4. ماركاً وفي الثانية 73(93/66)
وفي الثالثة 8. ونفقة الأولى على الجيش والأسطول 21. 86والثانية 33. 5. والثالثة 67. 29
ومن الغريب أن ألمانيا لم تؤثّر الحرب فيها كما أثّرت في غيرها وأنّ ما أنفقته حكومتها على إعداد الأساطيل والجيوش تسرّب إلى خزائن رعاياها فقد قال الدكتور هلفريش الأخصائي المشهور أن أكثر من نصف ما أنفقته تلك الدولة تحول إلى ريع للملتزمين والمتعهدين في حين ترى سائر الدول المحاربة لم يكد يبقى لها ولرعاياها مما أنفقت سوى الربع على أكثر تعديل فأنفقت ألمانيا في السنتين نحو 2. - 25 مليار مارك والنمسا والمجر 1. - 12 ملياراً وإنكلترا 4. وفرنسا 25 وروسيا 3. ففقدت ألمانيا من مجموع ثروتها نحو 6 في المئة وإنكلترا أكثر من الضّعف وقد قدّر أحد رجال ألمانيا أنّ أمّته يقتضي لها ثلاث أو أربع سنين بعد الحرب لتستعيد مكانتها الاقتصادية على شرط أن لا يحسب في باب النفقات إلا ما أنفقته مباشرة على الحرب. وقال أن ثروتها تريد عشرة مليارات في العادة كل سنة منها ثمانية مليارات إلى ثمانية ونصف قيمة عمل وإذا قلت الزيادة بعد الحرب قليلاً فثلاث أو أربع سنين تكفي وأن ما يبهظ العوائق في ألمانيا من الضرائب مدّة الحرب ينزل بعدها فتتعادل الحالة الاقتصادية
هذه حقائق تشهد شهادةً صادقةً بارتقاء حليفتنا ومن أعدّ للمستقبل مثل هذه العدّة المالية يستحيل على جيوشه أن تغلب وعلى خزانته أن تنضب ومثل هذه القوى المادية إذا وقفت إلى إيجادها أمّةٌ لا تحارب حولين فقط بل عشراتٍ من السنين.
الجرائم والحرب
كتب الغربيون كثيراً في الدواعي والبواعث على الإخلال بالأمن والقتل والانتحار وقام أناس يدّعون في العهد الأخير أن الحرب من العوامل التي تساعد على كثرة الجرائم بالواسطة لأنها تحسّن حالة الاستكثار من التسليح وهو على ما يزعمون سبب معظم الشرور التي يقاسي منها المجتمع وخصوصاً في كثرة الجرائم وزعموا أن التسليح العام سببٌ عظيمٌ من أسباب الانحلال الطبيعي والأدبي. وهذا القول يصحّ على إطلاقه بالنظر للفرنسيس والطليان مثلاً حيث يضعف الوازع الديني وتطلق للنفوس حريتها المطلقة ولا يصح على النمسا والمجر وألمانيا حيث تجد للآداب الدّينية والمدنيّة شأنها ذلك لأنّ ضابط(93/67)
هاتين الأمتين الأخيرتين يتعلمون تعلماً يتمكنون به من إحسان الخدمة زمن السلم وزمن الحرب وهم للمجتمع هناك مادة قوّة لا سبب ضعف أمّا الجنود فإن التدقيق في نظامهم وتدريهم في الثكن يؤثر فيهم تأثيراً فيهم تأثيراً أخلاقيّاً مهمّا. وكثير من أهل الدّعارة قضوا خدمتهم الجنديّة فلمّا عادوا إلى قراهم كانوا مثال حسن السّلوك وذلك لأنهم النظام وهذا أكبر أعداء الجرائم. ولذا فإن قوانين بعض البلاد تقضي بأن لا يجعل المجرم الصغير في دار الإصلاح إلى ما بعد الحادية والعشرين من عمره فينقل إذ ذاك إلى الثّكنة لأنّ الملحوظ أنّها تطهره بنظامها وتوفي ما عجزت عنه الحبوس ودور الإصلاح للنّفوس فالجنديّة إذا هي من العوامل الّتي تؤثّر تأثيراً حسناً في تقليل الجّرائم وليست عاملاً من عواملها ولا سبيل إلى الدّفاع عن دولة والاحتفاظ بمصالح الجماعة إلاّ بقوة السّلاح.
منذ قرون بل على عهد نابليون كانت الجيوش مؤلفّة من حثالة من اللصوص ومن أناس لا خلاق لهم بحيث لا يستغرب أنّ الناس يخشونهم كما يخشون قطّاع الطّوق أرباب الشقاوة وكانت فرنسا إلى القرن السابع عشر تتخذ حتى الحامية الملوكية من الدّعار بحيث كان الجند مصيبة على الأمّة كما قال بعض مؤرخيهم
وإذا نظرنا إلى حرب النّمسا وبروسيّا سنة 1866 وحرب ألمانيا وفرنسا سنة187. - 1871 نجد كما قال بعضهم أن عدد الجرائم والجنايات في المجر سنة 1866 3663 وعدد الجنح9583 أي أقل مما كان في السنين التي سلفت. فارتكبت سنة1865 - 2864 اعتداء على الآداب وفي سنة 1866 كان عدد هذا النوع 2588 وسنة 1867 - 2732 وارتكبت سنة1865 - 596 جناية قتل وسنة 1865 - 539 وسنة 1867 - 618 وارتكبت سنة1865 - 44. 162 سرقة وسنة 1866 - 43. 575 وسنة 1867=41. 717 وجميع الجرائم والجنح تقل زمن الحرب ولكن تزيد زمن الحرب جرائم أخرى مثل جرائم تناول الملوك بسوء أو تفوهات ردينه كما جرائم سك النقود زادت الجنح في السّنة التّالية لسنة حرب ألمانيا=فرنسا زيادة مهمّة. . . .
وأهمّ الأسباب المؤثرة مباشرة في تقليل الجرائم مدّة الحرب هو أن عناصر الشّعب التي تجترح الجرائم تكون في ساحة الحرب مشغولة فقد جيّشت ألمانيا في حرب السّبعين مليوناً ومائتي ألف جندي فخف بذلك عدد المجرمين ولكن زاد عدد المجرمات وذلك لأن النَساء(93/68)
بقين بدون معين خلال الحرب ودفعتهنّ ألفاقة إلى ارتكاب المحظورات
الحرب تؤثّر في أخلاق الشّعب المحارب وعقل سكّانه المدنيّين فتحدث فيهم حماسة من شأنها أن تحمي ألفرد من العوامل الدّافعة إلى الجرائم ويقلّ ارتكاب الشرّ في الإنسان. ومتى زاد ألفحش في أمّة تشتد الحاجة إلى عاصفة مطهّرة تشتد إلى حرب تخلّص النّفوس من شقوتها وقد أثبت علماء الإحصاء في ألمانيا أنّ هذا الانقلاب في الأخلاق مع ألفكر المتّحد والحماسة الوطنية الّتي ولّدتها حروب الألمان هي أيضاً من أسباب قلّة الجرائم.
وهناك سبب ثالث غير هذين العاملين الطبيعي والأزليّ وهو أنّ الأفراد قد لا يشكون زمن الحرب في المسائل الطفيفة والحكومات تكون أوسع صدراً في هذا الشّأن فلا الصّغائر فيقلّ الضّرب على يديّ المجرمين حتّى يظنّ النّاس أنّ الجرائم قلّت أكثر ممّا هي في الحقيقة. والجرائم أيّام الحرب تختلف باختلاف طبيعتها ومهما كان الشعب راغباّ في إشهار الحرب فإنّ من النّاس من يحملون تبعة ذلك على ملك البلاد فيطيعون فيه ألسنتهم ولذلك يحكم عليهم بأحكام إهانة الملوك وجرائم الإفلاس تزيد زمن الحرب لاشتداد الأزمة الماليّة. والجنايات بعد الحرب وأنّ لم تطل أيّامها تكون أكثر لوقوف دولاب الصناعة بقلِّة المال وقلِّة اليد العاملة وإذ يهلك كثير في الحرب ومنهم من تقعد بهِ جراحته عن العمل فيزيد شقاء العائلات ويختلّ نظام البيوت وبذلك تزيد جنايات الانتحار كما قال ستارك. وزيد عقبى الحرب الاعتداءُ على الأفراد لأنّ عدداً كبيراً منَ الجندِ يعودونَ إلى الحياة المدنيّةِ وقد فقدوا شعور احترام الحياة الإنسانيّة والملكيّة أو قلّ هذا الشّعور وهذا ما يحقّ بهِ قول من يقول أنّ فكرةَ الحربِ لا تشبَعُ بغيرِ الذّهب والدّم. .
وممّا لا ينكرُ أنّ الدّورِ الّذي يعقب الحربَ يحمل في مطاويه القرْم إلى السّفك والتّخريب لا المتسامح فيه بل المحرّض عليه من الرّؤساء. وهذه الأهواء الّتي تعمل عملها بالإغواء والقدوةِ يحاول المجتمع والممالك المتحاربة أن يؤجِّجُّوا نيرانها بكلّ ما لديهم من الذّرائع تغرس في النّفوس أصولاّ يصعب اقتلاعها في الحال وتظلُّ تنمو حتّى إذا مدّ السّلام رواقهُ لم تعد حاجة إليها فوجب استئصالها أو منعها من النّماء.
وهنا واجبات سياسيّة اجتماعيّة يجب علينا زمن الحرب وبعده أنّ نأخذ بمحظ مّنها وهو أنّه وهو أنّه يجب على الحكومة والمجتمع أن يجتهدا في القضاء على الشّقاء والأمراض الّتي(93/69)
أحدثتها الحرب وأن يقوي في غضون الحرب في جميع طبقات الشعب الاعتقاد بالظّفر النّهائي وأننا على حقٍّ فيما نحارب لأجله وأن نثلم من النفوس بعد الحرب وحشيّتها وقسوتها وذلك بوساطة الصّحافة والتّمثيل والمحاضرات العامّة
الألعاب الرياضيّة
كتب الدّكتور ماكس نودرو العالم الإسرائيلي الألماني الكبير مقالة في إحدى المجالات الإفرنسيّة في الرّياضات والألعاب الرّياضية قال ما تعريبهُ:
لقد دعي عصرنا حتى الآن بجميع الأسماء الممكنة فسمّي عصر الطّفل وعصر المرأة وعصر الطّيران وعصر السّرعة. وإذا قلنا عصر الرّياضات كانت هذه التّسمية من أصحِّ التّسمياتِ. كانت الألعاب الرّياضية بالإنكليز جسمها واسمها أمّا اليوم فقد أصبحت المسألة الكبرى بل هذه جميع الشّعوب الممدنة ولها المقام الأول في خطط تهذيب الشّبيبة والمرأة فهي في نظر الجيل الرّاقي تنوب مناب جميع الكماليّات التّقليديّة والأخلاقيّة والجماليّة والاجتماعيّة تهتمّ لها الحكومات فتبذلُ لها من العناية الإدارية مثل ما تبذل لمسائل الخراج والجيش. لا جرم أنّ الوقت قد كاد يحين لتنشيئ فيه كل حكومة منظّمة وزارة الرّياضات فإن الاستعداد للقيام بالألعاب الأولمبية الدولية يجري على أتمِّهِ في كل مكان كما يجري الاستعداد لحملة. وكلُّ ظفر يحرز في هذه الألعاب يصبح علامة محد وطنيّ وكل انّكسار يتحوّل إلى ذلِّةِ ينال شرّها شعباً برأسه. ويظهر الجمهور أهمّ الصّحف وأكبر عناوينها الخاصّة بالألعاب الريّاضية من يوم إلى آخر وقد لا تشبعه هذه الحال فيميل إلى الحصول على صحف لا يتحدّث في الأمور التّافهة كالسّياسة الدّاخلية والخارجيّة والاقتصاد السّياسيّ والآداب والفنون والتّمثيل وأنّ لا تنشر له إلّا ما ينفعه حقيقة وأعني بذلك الرّياضات وأنّ الصّحف المستقلِّة الّتي تعني بالبحث في الألعاب الريّاضيّة قد كثرت في كلِّ مكان وكثرة المطبوع منها يدل على مبلغ الحاجة العامّة التي تبيدها لممارسة الألعاب الريّاضيّة تاريخ قديم في إنكلترا فهو أحد المظاهر المهمِّة يتبع الطّبقات الاجتماعيّة الشّغب الإنكليزي فقد أخذ الفاتحون الرّومانيّون على أنفسهم حكم جمهور السّلتيين الإنكليز السّكسونيّين ممّن غلبوا على أمرهم وحرموا من حقوقهم فألفوا طبقة خاصّة يدخل فيها غيرهم إذا كان يستحقُّ أن يعدَّ في جملتهم وهذه الطّبقة معينة والألعاب وعلامة لأهل تلك الطّبقة.(93/70)
الألعاب الرّياضيّة تستلزم صرف الوقت والمال والقوّة والخدمة والعناء والصّبر وتستدعي فراغاً وسعة ماديّة وقوّة طبيعية وصفات من الأخلاق في قوّة الإرادة والثّبات ومجموع هذه الصّفات العالية يتألف منها تعريف الارستقراطية. وقد اكتفت بعض طبقات من ألفاتحين بتملك الّثروة ونيل الامتيازات السّياسيّة والاجتماعية. فالبذخ والنّعيم هما اللّذان تأنّثت بهما أمّة الوزير غوت في إسبانيا ففسدت وكذلك شأن اللومبارديين في إيطاليا الشّمالية والمغزل والتّتار في روسيا والمنشور في الصين. ذلك إلى اليوم الّذي قضى فيه عليهم انحلالهم وقلّة مضائهم وكان ذلك من دواعي حمل العامّة عليهم لإخراجهم من مراكزهم الممتازة ودوسهم في الأرض. وكان الدينيمركيّون والنرويجيّون الّذين أصبحوا نورمانديّين ممّن يؤلّفون الارستقراطيّة ألفاتحة في إنكلترا على جانب من المكانة والذّكاء وبعد النّظر فأرادوا أن يبقوا شجعاناً بحسب الطّبيعة وأنّ يكونوا أشدّ قوّة لا من حيث القانون فقط بل كانوا يرغبون بأن يكون كلّ واحد منهم في كل مكان وفي كلّ ساعة قادراً أن يظهر بقوة زنده حقيقة استعلائه وتقدّمه على كلّ من يجرا على أن يشكّ فيه أو ينكر عليه تقدّمه ولذا كانوا يذهبون إلى أن هناك واسطتين لحفظ القوّة العضليّة وزيادتها فهم أمّا أن يقوموا على الدّوام بأعمال جسدية عظيمة وأن يعمدوا إلى الألعاب الأولمبية الحاوية على المشاهد والملاهي والدّقة ولم يكونوا يعملون أعمالاً هي من شأن العمامّة وعدوا إلى استخدام الألعاب الرّياضيّة التي كانت علامة مميّزة لطبقتهم.
وقد أرى في هذا الباب كما يجري في كلّ مكان للمجتمعات الأوليّة الّتي تضع بصنعها خطّة تتّبعها الطّبقات الأخرى في الأمّة فإن الريّاضيات كانت بادئ بدء امتيازاً بل علامة للإشراف فغدت من أكثر ما تعنى به الأمّة. وبديهي أنّ الرّجل المنوّر يقوم على أحسن ما يكون بنوع من الألعاب الرّياضيّة على الأقلّ. وأنك لترى في الكتاب الّذي وضع للتّعريف بكل إنسان ذي مكانة في المجتمع واسم مشتهر بين النّاس في جملة التّفصيلات المعتادة عنه إشارة إلى نوع الرّياضة الّذي يميل إليه والمترجم له يرى أنّ ذكر المرء وما يرتاض به هو من الجوهريّات مثل مكان الولادة وتاريخها وإيراد سلسلة نسبة وحالة أسرته ودروسه المدرسيّة ومركزه وألقاب تشريفه وأعماله الّتي رفعته.
ولما سئلت للمرّة الأولى أن أجيب على تسجيلٍٍ في هذا الكتاب ليرجع إليه عرانيّ الخجل(93/71)
أن أترك عنوان الملذ له من الرّياضيّات فكتبت بجسارة: المسايفة (لعب السّيف والتّرسّ) والعوم وإن لم يبلغ مبلغاّ من المهارة فيهما يصح أن يذكر وإن كت منذ سنين ممتنّعاً عن هاتين الرّياضيتين ويا للأسف ولم أستطع أن أصرف فيهما وقت قصير حدّاً وأنّك لترى القصص الإنكليزية الّتي تؤلفها النّساء وغيرها من أنواع الأقاصيص يوصف أبطال رجالها بقوّة لطماتهم ولكماتهم وثباتهم وصبرهم في هذه الألعاب وحذقهم في التّجديف ولقد ضحك السّياح الّذين أتوا من أقطار أوربا إلى إنكلترا من طريقة التّعليم العالي في هذه الدّيار وظهر لهم وهم يهزّون أكتافهم أنّ تربية العضلات هناك مقدّمة على التّربية العقليّة وأنّ صفوف الدّروس كانت فارغة على حين تغصّ ساحات اللّعب بالطّلبة وقد امّتازت كلّيتا كمبردج وأكسفورد قبل كلّ شيء عن المدارس العليا بلعبة الفوتبول والرّياضات المائيّة كالعوم وإنّ الشّبان الّذين ينالون ألقاب الأكاديميات كانوا يجعلون لقوّة الجسم ميّزة على تعلّم العلوم
لا جرم أنّ إنكلترا تعجب بمن قام فيها من الرّجال أمثال داروين وماكسويل واللورد كلفن ورامسي ولكن هؤلاء العظماء لا يعزونها عن رؤيتها أن يكون رجلها في الملاكمة الثّقيل الجسم بومبارديه ولس يستحقّ مؤخّراً في ساحة اللّعب في 71 ثانية على يد شاب فرنساوي فظ اسمه كارانتيه وعمره تسع عشرة سنة. لا جرم أنّ إنكلترا كانت تؤثّر التّخلّي برضاها عن اكتشاف علمي نسب إليها تغلب مبارزها الذي كانت غلبته مصيبة وطنية عامّة سجلتها كبريات صحف لندرا بمداد الحدّاد وأشارت إلى أنّ ذلك الانكسار دليل انحطاط الشّعب الإنكليزي.
ومع ذلك فإنّ الرّياضيات تكاد لا تكون الآن خاصيّة من خواص إنكلترا فقد أجازت الخلجان والبحار وهي الحاكمة المحكمة اليوم في اليوم العالمين وقد اتّفق على استحسانها مؤرّخو المدينة ورجال الأخلاق والنّاقدون واللّغويون في العصر ليدلّوا على ما في الألعاب الرّياضيّة من ألفرح والبهجة فهي تصغي الأخلاق لأنّها تستدعي نظاماً قاسيا وتضطّر صاحبها إلى القناعة والعفّة وحيث انّتشر الولوع بها تراجعت ربّتا الخمر والجمال (باخوس وفينوس) وبتأثيرها يضمحلّ ما يضرّ بالخَلق والخُلق فهي تربّي النّوع على السّرعة والشجاعة والجمال والإنسانية مدينةٌ لها بجيلٍ من الأبطال. وهذا الرّأي الشّائع لا يجرأ(93/72)
على مناقضته إلا بعض علماء التربية ممن يصرّحون بأفكارهم ولا يحاذرون أن يطردوا من حظيرة الحظوة وأن يوصموا بالارتجاع والجمود
ليس للرياضيّات من ألفضائل ما ينسبونه إليها بل هي تستفيد من الخطأ الشّائع الذي به يخلطون بين الألعاب الطّبيعيّة والألعاب في الهواء الطّلق ولا يراد بلفظ الرّياضة البراز ولا الجمناستيك بل للرياضة البدنيّة غاياتٌ أخرى ومقدّماتٌ طبيعيّة فهي تقوم بمؤثّراتٍ أخرى وفي مطاويه عدّة فروقٍ في العواطف بل إنّ الرياضة مع الجمناستيك لعى طرفي نقيضٍ فإنّ المتعصّبين للرّياضة ينظرون إلى الجمناستيك نظر ازدراءٍ ويرون أنفسهم في ألعابهم مجددين وأنّهم صورة الارتقاء والتّنوير ويعبّرون عن مرامي العصر أما المنصرفون إلى الألعاب الجمناستيكيّة فيجيبون على ذلك أنّ جميع النّتائج الميمونة التي تدّعي أنّها تحويها الرّياضة يحتويها الجمناستيك على حين ليس في هذا كما في ذاك من العوائق
فالرياضة الجسمية أو الجمناستيك يبحث عن نظام الجسم وعن الكمال العامّ في قواه وعن قمع مجموع العضلات وعن تربية الإرادة وتنمية الثّقة بالنّفس والمصارع المدرّب تدريباً حسناً ينال بدون تعمل من أعماله كلّ ما فيها من النّتائج فيبلغ هادئاّ آمناً مطمئنّاً إلى أقصى الحدود التي تستطيع بلوغها قواه الجسديّة. والرّياضة لا تعمد إلى تربية جميع القوى الطّبيعيّة تربيةً واحدةً وغايتها التّفريق والتّخصيص ولا تستلزم من الجسم إلا حالةً واحدةً ولكن يجب أن تكون في أرقى مظاهر الكمال. والسّرعة هي التي تطلب من جميع الرّياضات ولا يعدّ من أهل الارتياض في شيءٍ من لا يعجّل ويقطف ثمار الظّفر في رياضاته. والمرتاض يحمّل طاقته فوق قوّتها ولا يسوّغ له أن يضعف لا لأجل نفسه بل ضدّ غيره. وقد قال شيلر: إنّ المصارع يتعلّم في طيّ السّكوت والمرتاض بين جلبة العالم. وتقاس قوة المرتاض ضدّ خصومه ويقام أبداً مع منافسين يحاول أن يتفوّق عليهم ولا يشعر بأدنى سرور في حالةٍ حسنةٍ في ذاتها كانت أحطّ من غيرها فإذا بلغت به الحال أن يصل بتكرار العمل أن يكون الأول يجب عليه أن يدافع عن مركزه من التّالين له أو أن يترك العراك ويعترف بأرجحيّة غيره عليه ويرضى صاغراً بالتّصريح بأنّه تجاوز أقصى درجات قوّته وانّ الخطّ المستدير من حياته أخذ بالهبوط. يتأتّى أن يكون المرء مصارعاً(93/73)
إلى سنٍّ متقدّمةٍ ولا يكون مرتاضاً إلا في أوائل سنّ الشباب وقوّته على لقاها لم تصبّ بما ينقصها. ومن النّادر أن يكمل المرء في الصّراع بعد الثلاثين من عمره ولا أعلم أحداً في الأربعينات وفِّق إلى تعلّم السرعة. البراز هو الوساطة التي يبقى بها المرء زمتاً طويلاً أما المرتاض فإنّ صحّته تعجّل عليه فتنحّيه عن عمله. البراز يمكن أن يكون مشغلاً ومسلاّت لوضع الموازنة بين النشاط الطبيعي والعمل العقلي والإرتياض حاكمٌ حسودٌ لا يسمح لغيره بأن يقف معه. ولكي ينال المرء ما في التبريز في الإرتياض من الشرف يقتضي عليه أن ينصرف إليه كلّ الانصراف وإنّك لتطلب من محترفٍ بحرفةٍ أكثر مما تتطلب من مولّع بها. والرّياضة تستلزم أن تشغل حياة من يطمع في التّبريز فيها بأسرها. الإرتياض يضرّ بالجمال ويقضي على تناسب الأعضاء بإحداثه خللاً في نظام القوى وانبساط قلبٍ مفرطٍ إلى جانب هزالٍ مضنٍ. فليس هو بمناسبٍ للصّحّة بل يؤدّي بها إلى الخطر. والمتنافسون في الإرتياض معرّضون لأمراض القلب ولداء الأعصاب وقلّما يعمّرون طويلاً. الإرتياض لا ينشئ جنساً قويّاً والمرتاض الحقيقي لا يعدّ شيئاً إذا خرج عن اختصاصه فهو إذا قفز لا يحسن الجري وإذا رمى بالإطار (الطارة) لا يُطلَب منه عملٌ آخر. ولا عمل له في تحسين الجنس وبكثرة إنهاكه لقواه العصبيّة وإفراطه في عمله يكون متوسّطاً فيما يتمّ على يديه أو بالمجد والغنى وقد احتفل بالفائزين في سباق الرياضات أكثر مما احتفل بالعلماء الأعلام ولا فائدة منه إلا أنّه يدلّ أنّ المرء يستطيع أن يسير أبرع من حصان السّباق وأنّه يجري شوطاً أوسع من شوط الذّئب ويقفز أكثر من النّمر
القضاء والعلم
دعا ناظر مدرسة حقوقٍ تلامذة الصّف الآخر من مدرسته وخاطبهم فقال:
إنني مسرورٌ لرؤيتكم مرّةً أخرى مجتمعين قبل حصولكم على شهادتكم النهائية ومفارقتكم للمدرسة. لا تتصوّروا بعد حصولكم على الشّهادة أنّ باب الدّرس أقفل فالإنسان لا يستغني أبداً عن المطالعة والدّروس وعليه فأنا أميل كثيراً إلى أن تكونوا نادياً أو جمعيّةً يكون القصد منها إيجاد مكتبةٍ فيها تطالعون وترجعون إليها في أبحاثكم في المستقبل وبداعي قرب الامتحان ألفتُ نظركم إلى مسألةٍ كثيراً ما تنسونها وتعتقدون أنّ فيها ضياعاً للوقت تلك المسألة هي الراحة والفسحة فأعطوا أنفسكم نصيبها من ذلك إذا أردتم نجاحاً(93/74)
يهمّني كثيراً قبل مفارقتكم لنا أن أملي عليكم بعض الصّفات التي يجب أن تتحلّوا بها في مستقبلكم والتي عليها تتوقّف علوّ منزلتكم واعتباركم بين زملائكم أنّ أول ما أذكّركم به عزّة النّفس واعتماد الإنسان على نفسه تلك أمورٌ كثيراً ما تدور على الألسن وينصح بها كلّ إنسانٍ غيره ولكن قلّ من يطبّقها على نفسه. إنّ ذلّ النفس أمرٌ مرذولٌ جدّاً. فإذا أحاطت بالإنسان أحوال احتياجٍ فعليه أن يسعى بقدر الإمكان في كتمانها وان يتظاهر أمام الناس بأنّه في غنىً وأنّه لا يريد المزيد. تلك صفاتٌ تجعل صاحبها مهيباً موقّراً في أعين أقرانه فإنّ كثيرين من الناس يبثّون الشّكوى لغيرهم من سوء حالتهم ويذكرون لهم أموراً متعلّقةً بأشخاصهم وقد لا يميل المشكو إليه إلى سماعها مثال ذلك يقول شخصٌ لغيره إنّي فقيرٌ ومحتاج وأريد تنمية ثروتي. فهذا كلامٌ لا لزوم له ولا محصّل
يجب على الإنسان أن لا يصرّح بكلّ ما في ضميره خصوصاً مما لا يهمّ الغير. فإذا كان أحدكم في وظيفةٍ فلا يلزمه أن يشكو ويقول أنّ فلاناً كان معي وكان أقلّ منّي في المرتبة وهو الآن رئيسي. فإنّ إفشاء مثل هذه الأمور ينقص اعتبار قائلها. الإنسان يسعى ليرتقي ولكن بدون أن يشكو ويبكي
تجول في خاطري مسألةٌ أخرى كثيراً ما يقع فيها معظم الناس وأعني بها التسرّع في الغضب وعدم مقدرة الإنسان على كتمان فزعه. حقيقةً أنّ هذه أمورٌ قد يصعب في بعض الأحيان تجنّبها ولكن إذا تجنّبها الإنسان تجعله مهيباً مسموع الكلمة يلفت أنظار النّاس خصوصاً عندما يرون من هدوئه وسكونه إذا حلّ به أمرٌ يوجب القلق. إنّ اللين يفعل ما لا تفعله الشّدّة. خذوا مثالاً بسيطاً. افرض أنّ عندك خادماً أتى أمراً أوجب سخطك فانهلت عليه بالشّتائم فقل أن يفعل زجرك في خادمك فعلاً حسناً وقل أن يهابك ولكن وبّخه بطريقةٍ ليّنةٍ مذكّراً إيّاه أنّ له حقوقاً وعليه واجبات فإنّ ذلك يفعل فيه ما لم تفعله جلبتك فضلاً عن أنّك تصون نسك. هذه الصّفة العالية شديدة اللزوم في حرفتكم سواء كنتم قضاةً أو محامين فيجب على القاضي أو المحامي أن يسعى بقدر الإمكان في كتمان إحساسه ولا يتأثّر بسرعةٍ ولا يأخذه انزعاجٌ ولا دهشةٌ حتّى يكون حكمه مبنيّاً على عقلهِ لا على وجدانه. فإذا كان أحدكم محامياً وعامله القاضي بغلظةٍ وبشدّةٍ فلا يجب أن يفزع من أول الأمر بل عليه أن يصبر مرّة وأخرى ويدافع عن حقّه بدمٍ ساكنٍ وبذلك يؤثّر في نفس القاضي ويزداد(93/75)
هيبةً ووقاراً. ألفت أنظاركم إلى مسألةٍ تتعلّق بمعلوماتكم العلميّة إنّي لا أشكّ في أنّ مهمّة القاضي والمحامي من أشرف الأعمال وأشقّها. فكلٌّ منهما ليس مختصّاً فقط بمعرفة القانون وعندي أنّه لو درسه في أوسع موسوعاته لما عدّ قاضياً خطيراً أو محامياً نحريراً. إن إجادة درس القضايا والحكم فيها لا يحتاج فقط إلى معلومات قانونيّة بل إلى معلومات طبيّةٍ وزراعيةٍ وهندسيّةٍ وحسابيّة. إنّ القاضي يفصل في نقط قانونيّة بعد تقدير الموضوع ولكنّ هذا الأخير يحتاج إلى معلوماتٍ كثيراّ ما تكون غير قانونيّةٍ
أنا لا أطلب أن يكون بيد رجل القانون شهادةٌ في العلوم الأخرى فذلك أمر مستحيلٌ وإنّما أطلب منه أن يكون ذلك الرّجل الّذي يمكنه أن يبدي رئياً في كلّ شيءٍ ولو إلى درجة محدودةٍ. أطلب منه أن يكون عموميّاً فكثيراً ما أهمل القضاةُ والمحامون ذلك الأمر وعند عرض نقط طبيّة أو هندسيّة ينفضون أيديهم ويقولون نحن لسنا أطبّاء أو مهندسين لنأخذ تقرير الاختصاصيّ. فذلك ما أنهاكم عنه قد يستعين رجل القانون بتقرير الاختصاصيّ فلا يجب أن يهمل المسألة ففي يده أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم وهو المسؤول عن حكمه لا الخبير. فيجب عليه أن يبحث بنفسه ويناقش الاختصاصيّ في رأيه ويطلب منه بيان الأسباب التي أدّته إلى تكوين اعتقاده حتّى يرتاح ضميره. لا جرم أنهلا يمكنه القيام بذلك إلا إذا كان عنده بعض معلوماتٍ بالطّبّ أو الهندسة أوغير ذلك
يجب على المحامي أن يكون كذلك حتى يصون حقوق موكّله ويقوم بالدّفاع خير قيام. أستشهد بقضايا كثيرةٍ تحتاج إلى المعلومات العلميّة مثل قضايا التّنويم المغناطيسي والتّسميم وأشير أيضاً إلى قضيّةٍ حدثت في بلاد الإنكليز كان لها رنّةٌ بين رجال القانون. قضيّةٌ تضمّنت حيثيّاتها منشأ التّلغراف اللاسلكي وتاريخه وتركيبه وكلّ ما يتعلّق به حتّى قال بعضهم لمّا قُرأ الحكم: إنّ القاضي الذي أصدر الحكم كان بلا شكٍّ مرافقاً لمخترع هذا الاختراع في جميع أبحاثه. فهذا يبيّن لكم بأجلى بيانٍ المعلومات التي يجب على القاضي أن يعرفها فلا تحرموا إذا مكاتبكم من كتبٍ متعلّقةٍ بتلك الموضوعات حتّى تقوموا بحرفتكم أحسن قيام وكونوا في كلّ أطواركم مهذّبين من الرّقّة والأدب على جانبٍ أي ليكن كلٌّ منكم جنتلمان
مرض المسكرات(93/76)
ألقى الطّبيب مطهر عثمان بيكأحد الأخصّائيين في الأمراض العقليّة والعصبيّة محاضرة في مرض السّكر أحببت أن أعبها قال:
كان يحظّر على طبقة النّبلاء في الهند قديماً تناول السّكّر ومن أقدم على تناوله منهم فإنّه يسقط عن مكانته الأولى ولا يحسب في عداد النّبلاء. أمّا الصّين اليوم فإنّها ذاهبةٌ قرباناً للمسكر وإنّ أكبر عامل في انحطاط هذه الأمّة المؤلّفة من مئات الملايين من النّفوس هو المسكر وإنّه هو الذي جعلها تصل إلى هذه الدّركة من التّدنّي وأفقدها روحها وتركها بها يائسة ومما يؤثر عن أحد امبراطرة الصّين أنه قال: إذا دام فتك مرض السّكّر بهذه الصّورة فإنّي في شك من بقائنا على تخت السّلطنة في المستقبل وقد اتّخذوا تدابير كثيرة لوضع حد لتفشّي هذا المرض وأثر عن فلاسفتهم مثل قوا وكنفوشيوس كثيرٌ من القول في هذا الصّدد ولكن هذه المملكة الهرمة القاطنة في الشّرق الأقصى لا تزال سكرى ثملة ولا يزال أهلوها قاطبةً يتناولون أقراص الأفيون في منازلهم المنزوية بين ثنايا تلك الأزقّة الضّيقة ويقضون كلّ يوم ساعات كثيرة سكارى لا يعقلون
تعاطي المسكر لم ينحصر في الهند والصّين فقط بل تفشّى عند التراك والعرب والعجم وبين كل المم الشّرقيّة غير أنّه في دور مبعث صاحب الرّسالة عليه السّلام أعلنت أكبر حرب على المسكر ونزل كثير من آيات القرآن الكريم المعجزة ورويت أحاديث نبويّة جمّة بأسلوبها الّطيف الوقور ومتانتها وكلّها تخطر على من دانوا بالإسلام تعاطي هذا السّمّ القاتل وبسبب هذه الحرب التي أعلنها الدّين الإسلامي على المسكرات دخل المسلمون إلى حظيرة من السّعادة ولم يجد المسكر بين ظهرانيهم محيطاً ملائماً ولا مناخاً سهلاً وإنّ هذه الشّدة التي جاء بها الدّين الإسلامي إزاء تعاطي المسكر يؤيّدها ألفن اليوم ويسعى للقيام بها بكل ما أوتي من قوّة
المسكر أحد الأمراض الإنسانيّة الواجب معالجتها وهو أنواع جمّة متعددة ولكننا نستطيع أن نقول بصورة مطلقة أنّها كلّها مضرّة وأنّها تهدم البنية وتنخر الدّماغ والعصاب ولها تأثير كبير في الأنسال فإنّ أكثر المرتطمين في حمأة المسكر لا يلدون وإذا نسلوا ولابد فيكون ولدهم شخت الخلقة سيءّ التّركيب ضعيف البنية.
المسكر ليس بغذاء يربّي الجسم أو يزيد الدّم أو يبعث القوّة ولا يصدق هذا على الإنسان(93/77)
وحده فقط بل على الحيوان أيضاً والتّجارب التي أجراها العلماء تؤيّد هذه الحقيقة. إنّ ألفراشة التي تعيش متطايرةً في حدائق الورد لتسكرها تلك القطرات المترقرقة على اوراق الأزهار الملوّثة المفتّحة في فصل الربيع، وإن القردة لتشرب المسكر من يد سقاتها بكل لذّة وشوق ولا تزال تعوي وراء أولئك السّقاة تستعطفهم ليزيدوها من هذا المسكر حتى تصل إلى جدران المدينة، والخيل إذا سقيت المسكر يقوى بها الشّبق الشّهوةوتعدو كثيراً ولهذا ترى فرسانها يحرصون كلّ الحرص على سقيها المسكرات قبيل السّباق، ولكن هذا الحيوان المسكين لا يلبث أن يسقط فيما بعد مريضاً، حتى أن الحمر ليمرضها تناول الجرعة الواحدة منه.
يوجد في بلادنا اعتقادٌ غريب وهو أن المسكر يصلح أن يكون دواءً لبعض الأمراض وهذا بناءً على بعض روايات باطلة يعزونها إلى أطبّاء اليونان، لا، إنّ هذا الاعتقاد من الأمراض السّارية فالمسكرلم يكن في وقت من الأوقات نافعاً للحياة.
وأعود فأكرر القول بأنّ المسكر سمّ قاتل لأنّه يبيد الحجيرات الدّماغية وانّه يأتي إلى العروق وإلى أدق الأعضاء وألطفها فينخرها. يبحث بعضهم عن فائدة تعاطي المسكربكميّة قليلة. وهذا يصلح أن يكون نموذجاً لإغلاط ألفكر الإنساني، نعم، إنّ كل القرابين التي قُدِّمت من بني الإنسان لهذا السّم بدأت أولاً تتعاطاه قليلاً قليلاً ثمّ تمكّن منهم وعُدّوا فيما بعد من صرعاه. وإنّ كل الجنايات والفضائح في العالم كله أثرمن آثار المسكر.
في الغرب لا يتناول المسكر إلا الطبقات السفلى من البشر أمّا عندنا فإنّ كبار الأسرات تضعه على موائدها بين الأطعمة المغذّية وبين مختلف النّقول. وإنّ هذا الخائن الذي يُطرد اليوم من كلّ الممالك وُجِد له بين ظهرانينا مباءة صالحة. وأهم ما يجب عمله على الحكومة بلا شبهة أن تمنع تعاطي المسكر بين موظّفيها بصورة قطعية. المسكر لم يكن منذ زمن قريب معروفاً عند الأهلين وإنّما تسرّب إليهم من بعض الأورام المهاجرين من بلاد اليونان للإتجار في بلادنا فإنّ هؤلاء كانوا السببفي تفشّيه بين شبابنا في عامة الأنحاء فتراه اليوم يباع في الأناضول في كل مدينة وقصبة وقرية ومزرعة ومن المُحَقّق أنّه بعد مدّة يصبح دواء هذا الخطر من أعقد المسائل وعليه فينبغي اتّخاذ الأسباب اللاّزمة من الآن والتّحيّل لرد هذا العدو الأزرق الذي يسمّ النّسل ويضربه ضربة قاضية لا يقوم منها أبداً. رشدي(93/78)
الحكيم.(93/79)
العدد 94 - بتاريخ: 1 - 11 - 1914(/)
ري اطنة
إقليم أطنة أو آذنة أو كيليكيا هو اليوم عبارة عن لواءي أطنة وأيج آيل وكانت العرب تقول لها الثغور واسم الثغر كما قال جغرافيو هم يشمل بلاداً كثيرة وهي البلاد التي كانت معروفة في القرن السابع للهجرة ببلاد ابن لاون ولا قصبة لها لأن أكثر بلادها متساوية وكل بلد منها كان أهله يرون انهُ أحق باسم القصبة فمن مدنها بياس ومنها إلى الاسكندرونة مرحلة ومن بياص إلى المصيصة مرحلتان ومن المصيصة إلى عين زربة مرحلة ومن المصيصة إلى آذنة مرحلة ومن آذنة إلى طرسوس يوم ومن طرسوس إلى الجوزات يومان ومن طرسوس إلى أولاس على بحر الروم يومان ومن بياس إلى الكنيسة السوداء وهي مدينة أقل من يوم ومن بياس إلى الهارونية مثله ومن الهارونية إلى مرعش وهي من ثغور الجزيرة أقل من يوم وهذه الثغور الشامية تدعى بالعواصم.
وقال جغرافيو الإفرنج في تحديد كيليكيا يحدها شمالاً ليكاونيا وكبادوكية وشرقاً سورية وغرباً بامفيليا وبيسديا وجنوباً البحر الرومي وهي سهول مخصبة منبسطة يسقيها وجيحان والبردان وكانت كيليكيا تقسم إلى قسمين شرقي وهو سهل كيليكيا وهو عبارة عن لواء أطنة اليوم وغربي وهو الجبل وهو عبارة عن لواء أيج آيل ومركز الشرقي منه طرسوس ومن مدنه سولس وماله وايسوس (اياش) وعين زربة وأهم مدن القسم الثاني سلفكة سيلنونتة (سلندي) كلندريس (كلندرة) أصل سكان هذه البلاد من السريان وكان يطلق عليهم اسم لوقو كيليكيان أي السريان البيض تمييزاً لهم عن أهل سورية وقد أعمر مهاجرة اليونان بعض سواحل هذه البلاد وجعلوها مدناً وفتحها كيخسرو وضمها إلى مملكة فارس وجاء الاسكندر فاتحاً ثم ضبطها بطالسة مصر وافتتحها بومبوس وضمها إلى المملكة الرومانية وكانت أصبحت ملجأ لقرصان البحر ووقعت من سهم المملكة الشرقية كما انقسمت المملة الرومانية إلى شرقية عاصمتها القسطنطينية وغربية عاصمتها رومه وقد فتح الأمويون هذا الإقليم وكان يحكمه على عهد الصليبين بنوليون الأرمن وافتتحها السلجوقيون بالتدريج ولما انقرضوا انقسمت بين أولاد قره مان ورمضان وحكومة ذو القدرية ثم أضيفت إلى المملكة العثمانية في عهد السلطان محمد خان الثاني وبايزيد الثاني ويازر السلطان سليم.
هذه نبذة من جغرافية كيليكيا وتاريخها أما الأنهار التي تجري فيها ويراد اليوم إصلاح ريها(94/1)
فهي سيحان وجيحان وبردان تسقي سهول آذنة البالغة على أقل تعديل مائتي ألف هكتار والهكتار (عشرة آلاف متر مربع) وينبع سيحان من قضاء عزيزية في ولاية سيواس ويجري إلى الجنوب الغربي ماراً بجبل قوزان وجبل بيك بوغاز في واد بديع ثم يمر بلواء قوزان فيضم إليه بعض الأودية المنسالة من تلك الجبال حتى يصل إلى لواء أطنة ثم ينضم إليه نهر آخر ينبع من قضاء عزيزية على اليمين ماراً من وراء جبال قوزان ويسمى هناك نهر زمنتي ثم قزيل ايرماق ثم قورشون صو ثم جكيدي فيجري إلى أطنة في سهول جقوراوة حتى يصل إلى البحر الرومي وطول مجراه 45. كيلو متراً وهو يصلح لسير السفن في مصبه ولكن الرمال هناك تمنع من سير السفن الكبرى فلا يتيسر غير سير السفن الصغرى أما جيحان فينبع من لواء ملاطية ويجري إلى البستان ويسمى هناك سكودلي صو ويتألف من نهر خرماجى الجاري من جبال قوزان فيمر في أودية وجبال كثيرة حتى إذا بلغ مرعش يضم إليه نهر أق صو فيدخل ولاية أطنة ثم يأتي إلى سهل أطنة ويجري على موازاة نهر سيحان.
أما بردان أو طرسوس جاي فينبع من حدود ولاية قونية ويتألف من عدة أودية تنساب من سفوح جبل بوغاطاغ ماراً بوادي جهنم ويضم إليه نهر كولك الآتي من مضيق كولك فيجري إلى السهل ويمر بالقرب من طرسوس وبعد أن يروي حدائقها. تتألف منه بحيرة ويصب في البحر الرومي غربي مصب نهر سيحان وطول مجراه 1. . كيلو متر على التقريب. وهذا هو النهر الذي اغتسل فيه الاسكندر المقدوني وهو قاصد إلى الشرق فمرض وكاد يقضي عليه كما حُمَّ المأمون العباسي لاغتساله بنهر قرب البدندون وحمَّ ومات هناك. وعدَّ المقدسي أنهار سيحان وجيحان وبردان من الأنهار ألفائضة في المملكة وقرنها إلى دجلة والفرات والنيل وجيحون ونهر الشاش ومهران ونهر الرس ونهر الملك ونهر الأهواز وقال إنه تجري فيها السفن قال: وأما سيحان وجيحان وبردان فإنهن أنهار طرسوس وآذنة والمصيصة يخرجن من بلد الروم ثم يفضن في البحر وكذلك سائر أنهار الشام إلا نهر بردى والأردن. وقال ابن حوقل: كانت المصيصة مدينتين إحداهما تسمى المصيصة والأخرى تسمى كفر بَيّا على جانبي جيحان وإنه يخرج من بلد الروم حتى ينتهي إلى المصيصة ثم إلى رستاق يعرف بالملون فيقع في بحر الروم وكان كثير الضياع(94/2)
غزير الكراع أي إن فيه خيلاً كثيراً وذلك لأن جقوراوة مشهور بمراعيه وكانت آذنة مدينة كأحد جانبي المصيصة على نهر سيحان في غربي النهر وسيحان دون جيحان في الكبر عليه قنطرة عجيبة البناء طويلة جداً ويخرج هذا النهر من بلد الروم أيضاً. وقال ياقوت إن سيحان نهر كبير بالثغر من نواحي المصيصة وهو نهر آذنة بين إنطاكية والروم يمر بآذنة ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم وإياه أراد المتنبي في مدح سيف الدولة
أخو غزوات ما تغب سيوفه ... رقابهم إلا وسيحان جامد
يريد انه لا يترك الغزو إلا في شدة البرد إذا جمد سيحان.
وقال في جيحان إنه نهر با المصيصة بالثغر الشامي ومخرجه من بلاد الروم ويمر حتى يصب بمدينة تعرف بكفر بيَّا بازاء المصيصة وعليه عند المصيصة قنطرة من حجارة رومية عجيبة قديمة عريضة فيدخل منها إلى المصيصة وينفذ منها فيمتد أربعة أميال ثم يصب في بحر الشام قال أبو الطيب:
سريت إلى جيحان من أرض آمِد ... ثلاثاً لقد أدناك ركض وأبعدا
وقال عدي بن الرقاع العاملي:
فبت أُلهى في المنام كما أرى ... وفي الشيب عن بعض البطالة زاجر
بساجية العينين خود تلدّها ... إذا طرُق الليل الصحيح المباشر
كأن ثناياها نبات سحابة ... سقاهن شؤبوب من الليل باكر
فهن معاً أو أقحواناً بروضة ... تعاوره صنوان طلٌّ وماطر
فقلت لها كيف اهتديت ودوننا ... دُلُوك وأشراف الجبال القواهر
وجيحان جيحان الملوك وإلى ... وحزن خزارى والشعوب القوا سر
وقال ياقوت في البردان إنه نهر بثغر طرسوس مجيئه من بلاد الروم ويصب في البحر على ستة أميال من طرسوس وهو الذي عناه الزمخشري بقوله:
ألا إن قلبي في جوى لا يبله ... قويق ولا العاصي ولا البردان
هذه هي البلاد التي تريد الدولة اليوم أن تعمرها بإصلاح طرق ريها والانتفاع من أنهارها الكبار التي تذهب جزافاً دون أن ينتفع بها حق الانتفاع فتصلح سهول هذا الإقليم الواسع(94/3)
وهي لا تقل عن مائتي ألف هكتارما عدا جقوراوة المشهور بمراعيه. ويقتضي ذلك أربعة ملايين ليرة عثمانية وينتهي العمل منه على الأكثر في عشر سنين إلا إن بعض فروعه تستثمر عقب إنجازها فيكون ألفرع الأول من هذا العمل معداً للانتفاع به بعد ثمانية عشر شهراً بمعنى إن كل فرع متى نجز ينتفع منه برأسه أما الأنهار التي يصلح مجراها فهي سيحان وجيحان والبردان.
وأراضي ذاك الإقليم صالحة جداً لزراعة القطن الجيد وقصب السكر فتخرج سهول آذنة إذ ذاك 5. . ألف طن الذي يفوق ما تخرج الآن كمية وكيفية والمملكة العثمانية كلها لا تخرج اليوم أكثر من 14. ألف بالة قطن دع ما يزرع بتلك المياه من البرتقال والليمون والزيتون.
ومعلوم أن الخط الحديدي البغدادي يشق هذا الإقليم طولاً ومرسين متصلة بآذنة بسكة حديدية ثم إن ولاية أطنة اليوم أكثر الولايات العثمانية استعمالاً للأدوات الزراعية المستحدثة من حراثة وزراعة وحصاده ودراسة فإذا أضيف إلى تلك الأسباب تعليم ألفلاح طرق استثمار أرضه بالطرق الحديثة وتسميدها بحسب طبائعها بالسماد الكيماوي والطبيعي وكثرت السكان هناك بمن ينزلها من المهاجرين الذين تأتي بهم الحكومة من بلاد الروم ايلي وتكون قد جفت المستنقعات وأمنت تلك البلاد من وطأة الحميات المهلكات تصبح أطنة مصراً ثانية وأخت العراق.
لا جرم أن أغوار الشام وسهول كيليكيا والعراق تخرج أجود الأقطان التي تفوق قطن مصر والهند فإذا تم هذا العمل نحمل معامل الغرب على أن تبتاع من حاصلاتنا لمعاملها بعد أن نعمل من قطننا ما يلزم للحياكة والنسج. بلاد كلها خيرات لا تحتاج إلا إلى اليد العاملة والعقول المدبرة وبقليل من المال يتيسر إصلاح زراعتها بحيث تكفي ملايين من البشر حتى يعيشوا براحة وهناء وكانت في القرون الحديثة بؤرة ألفتن والخلل تتنازعها العوامل المنوعة فهل تكون في هذا القرن الحديث دار سلام ومعهد خصب ورفاهة عيش وهذا ما نرجوه بفضل الناهضين للإصلاح من رجال الدولة العلية.(94/4)
أحياء الغابات في فلسطين
غرائب زراعة أرض فلسطين.
توفرت منذ ست عشرة سنة على التجارب الزراعية والأبحاث الطبيعية فظهر لي إن ما تحصل معي من البحث قابل للتطبيق في ولايتي سورية وبيروت فإن هذه الولايات لا تتخالف حدودها الطبيعية كما تتخالف حدودها الإدارية.
من ألقى نظره في حال أراضي فلسطين الزراعية يرى أن السماد والمراعي والحطب قليل جداً فيها ويرى مع هذا أن فلسطين مع حاجتها إلى هذه الأصناف تصدر إلى البلاد الأخرى خشباً وتبناً وسمداً (فتخرج الحطب بعد أن تحرقه فحماً إلى مصر وتصدر التبن إلى جزائر البحر الأبيض والسماد إلى مصر).
وإنّ إصدار هذه الأصناف الثلاثة إلى خارج البلاد لما يساعد على انقراض الغابات وخرابها لأن الربح من إصدارها لا يوازي خراب الغابات وقلة غذاء الحيوانات وبوار الأرض بقلة السماد والسباخ. وهذا ويا للأسف برهان ناصع على تقهقر زراعتنا وعلى ما آلت إليه حال فلاحنا من الجهل المطبق ومن ألفاقة الحافزة على حين نرى كل حكومة تود ضمانة منافع بلادها وترفيه حال تبعتها أن تنزع الشر من أساسه وهي مضطرة إلى استعمال أنجع الأدوية السريعة لكل مرض في الأمة.
ماذا يحدث من التأثير بتخريب الغابات؟
بدأ خراب الغابات في فلسطين منذ الأزمنة التاريخية فكان من أهم التأثيرات المدهشة الأساسية أن عريت الجبال وتراكمت كثبان الرمال في الساحل وكثرت البطائح والمستنقعات. ومن المحقق أن حرمان الأراضي المائلة المسطحة من الأشجار والمراعي وتعرضها إلى للأحداث الجوية وتأثيراتها وانهيارها دعا إلى بقاء الجبال عريانة.
ومن المشاهد أن الأمطار التي تسقط في شتاء كل سنة تؤلف مياهها شلالات صغرى وتنتقل من صخرة إلى أخرى وتحمل معها الحصا والحجارة مدة سنة إلى السهول الصالحة للزراعة ولذا أصبحت مملكتنا بتجرد جبالنا كلها أشبه بهيكل عظمي وما كان يروى من أن هذه البلاد كانت في القديم تفيض لبناً وعسلاً لا يتأتى تحققه لتعود إليها قوتها الإنباتية القديمة كما كانت إلا بصرف الهمم الكثيرة والاعتصام بالصبر والمتانة وبالسير في نور(94/5)
حكمة يشفعها تعمل وانكماش. ولا يجب أن ننسى أن جميع بلاد فلسطين جبلية وبتجريد هذه الجبال من غاباتها تخريب زهاء ثلثي الأراضي الصالحة للزراعة في هذه الديار. كثبات الرمال دعا تخريب الغابات وبعبارة أصح تخريب الأشجار إلى تأليف صحار من الرمال متحركة بتحرك الأهوية والعواصف والتاريخ يؤيد ذلك فقد مدح العارفون بأخبار الناس الظلال التي كانت تمتد شرقي قيسارية على ستة أو ثمانية كيلو مترات. ويروى أن نساء الرومان كن يقلن في الهاجرة بعد الظهر في ظل تلك الغابات أما اليوم فنرى جميع هذه الأرض وهي عبارة عن ستة أو ثمانية كيلو مترات غاصة بكثبان من الرمال ولم يبق بعد ما شوهد من التهافت اليوم بعد الآخر على تخريب الحراج إلا أشجار من الدلب صينت من الاحتطاب لتبقى نموذجاً صالحاً ولم يبقى عليها سوى أن بعض القائلين بالأساطير القديمة نظروا إليها نظر تقديس.
ويؤخذ من التاريخ أن ما يشاهد من الرمال المتراكمة على عرض ستتم إلى ثمانية كيلومترات في ساحل فلسطين هو نتيجة عمل ألفي سنة ومن المحقق أن مساحة هذه الكثبان السيارة في سواحل فلسطين تبلغ مليون دونم على أقل تقدير وعلى هذا فإن قطع الأشجار في سواحل فلسطين كما أفقدنا حتى الآن مليون دونم من الأراضي يفقد كل سنة من زراعة فلسطين خمسة آلاف دونم فاقتضى من ثم أن تحصر الحكومة وكدها في إحياء الغابات وغرس الجديد منها لتقوم حاجزاً دون انهيال هذه الرمال. وهذا مما لا يصعب على الحكومة فإن مدينة بوردو في فرنسا كادت تهلك بانهيال الرمال حينها وتجد اليوم في ضاحيتها غابة كثيفة من السنديان الذي يسمونه شجر الذهب وإذا قد غرست هذه الغابة على الأصول العلمنة جاءت منها هذه المنافع في خمسين سنة تأليف البطائح.
إن نسبة تأليف البطائح والمستنقعات لقطع الأشجار تُرى لأول وهلة غريبة وقد بلغت هذه النظرية اليوم درجة الثبوت وإليك البيان: عندما تمطر السماء الجبال المغشاة بالغابات تنقسم مياهها بين الأوراق والأغصان وتبطئ بسقوطها إلى الأرض وتمتص هذه المياه على غاية من السهولة تلك الطبقة القابلة للنفوذ المؤلفة من حثالات الأوراق والأغصان المتساقطة وهذا تترشح المياه تدريجاً وتنفذ إلى باطن الأرض وتحفظ في جذور الأشجار وما يتألف حواليها من شبكة الجزيرات وتسيل رويداً رويداً من السطوح المائلة تحت(94/6)
الأرض فتنبع في السهول صافية براقة تحمل المغانم للسكان ثم تسيل بصفائها تمد الأنهار والأودية وتسيل إلى الأقاصي والأمطار التي تهطل على جبالنا بكثرة تكون على غاية من الانهمار ولا يقف في سبيلها حاجز فتسيل المياه فوق الصخور العريانة والسطوح غير القابلة للنفوذ متبددة.
وعندما تسيل مياه الأمطار إلى المروج تنشأ منها تيارات ومسايل كبيرة ويكون من هذه المسايل مدة بضع ساعات - وقد رويت تربة السهول من مياه الأمطار - طين مانع كبير ويتألف من هذا الطين صلصال مفيد يخرب زروع الحقول ويوسع مجاري المياه ويطمها وتتألف في السهول في مدة قليلة مستنقعات وبطائح كبيرة تكون مضرتها زمناً طويلاً وإذا وقع الضرر منها في مكان مرة واحدة تأخذ على الدوام في الزيادة ويتفاقم شرها ولذلك قال أصحاب الغابات: حافظوا على سلامة الجبال لإنقاذ السهول. إن هذه الأنهار التي تتبدل مجاريها وتسيل ببطء عندما تفيض بأوحال الجبال وتجري إلى البحار تصادف قرب مصابها رمالاً منتقلة تحول دون انبعاثها فمن أجل هذا ترى تلك السيول في الأراضي ذات اليمين وذات الشمال ويتألف منها بطائح. سبق أن قدرنا مساحة كثبان الرمال في فلسطين بمليون دونم والآن نقدر المستنقعات الواقعة على الساحل بعشرة آلاف دونم ولئن كانت مساحة المستنقعات أقل عشرة أضعاف من مساحة الكثبان فإنها من حيث الضرر أضر على البلاد مئة ضعف ومن المحقق أن المستنقعات هي السبب الرئيسي القديم في انتشار الحميات وهذا على رأي الأطباء كافة هو أعظم حائل يحول دون نمو السكان لأن الحمى بانتشارها يصاب بها الأطفال خاصة فتودي بالقسم المهم منهم.
ليس لدينا إحصاء عام نعرف منه زيادة الولادات على الوفيات في الولاية بيد أن ماجرى من البحث في بعض القصبات قد أثبت أن عدد السكان يزيد ببطء كثير على الرغم من وفرة الولادات ويقع هذا البطء وإن كان الزراع على شئ من الرفاهة يتبلغون بميسور العيش ومعلوم أن ازدياد السكان هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه عظمة الأمة وقوتها الاقتصادية.
اليد العاملة في فلسطين
يكفي الكيلومتر الواحد في فلسطين لإعاشة أربعين أو خمسين نسمة ويدخل في ذلك سكان(94/7)
المدن وعلى كثرة الولادات وتيسر أسباب العيش وقيام أعمال عمرانية نافعة لماذا لم يترق عدد السكان في الكيلومتر المربع عن خمس وعشرين نسمة منذ ثلاثين سنة والجواب أن كثرة الوفيات مانعة من نمو السكان النمو المطلوب وأهم ما يكثر به الموتان الحميات وهي منتشرة بكثرة بين الزراع. إن بقاء الجبال عريانة وتوسع أكثبة الرمال السيارة حتى أحدثت مستنقعات هما أعظم آفة على زراعة فلسطين
الأسباب الثانوية في خراب الغابات
ترجع هذه الأسباب إلى ثلاثة الأول الإقليم والثاني فقدان الأشجار الثمينة والثالث ندرة الطيور النافعة في الزراعة. وبعد فقد مضى الزمن الذي كان يعتقد فيه الناس أن الغابات تجلب الأمطار فإن العلم الحديث أبطل هذه النظرية من أساسها ولنا عدة أدلة على أن القطر ألفلسطيني لم يتبدل مدة ألفي سنة تبدلاً محسوساً أكثر من كل الأقطار ذات المدنيات القديمة. وما يهطل الآن هنا من الأمطار لا يختلف كثرة وقلة عما كان عليه على عهد بني إسرائيل.
إذا تقررت هذه الحقيقة تنتج لنا فائدة عظيمة عملية وهي أننا نستنتج أن قطع الغابات لم ينشأ منه خراب البلاد خراباً لا يتأتى إصلاحه وتلافي أمره وليس من الصواب أن نعتقد أن جبالنا التي حرمناها من نضرة الخضرة يتعذر أن نعيد إليها خضرتها
لا جرم أن الأشجار تساعد على خزن المياه في الأرض وتؤلف مستودعات كثيرة لها ومن هذه المخازن يحدث ألفيضان الشديد وفي أيام الجفاف وانقطاع الأمطار تمدُّ الينابيع بما يرشح منها فتكون بهذا النظام كافية للغاية وتكاثف الأشجار يعدل من قوة الرياح ويعدل قوة التبخر في المياه المخزونة فتجد النباتات من التربة طراوة ثم إن الأشجار بمحافظتها على طراوة الأرض وظلها تساعد على تأليف طبقة ترابية غنية من المواد العضوية ومن الأوراق المتساقطة وتحولها البطيء. وقصارى القول فإن إنشاء الغابات لا يؤثر تأثيراً محسوساً يوجه من الوجوه في كثرة الأمطار ولا في كيفية نزولها ولكنها تحدث ظلالاً وتخفف من شدة الرياح وتدعو إلى إسالة المياه ببطء.
جئنا إلى الكلام على قطع الأشجار الثمينة فإن لدي عدة براهين على كثرة الأشجار في القديم ومنها ما فقد تماماً أو أصبح نادراً للغاية أو وجد الآن وليس فيه ألفناء المطلوب(94/8)
بالنسبة لحاجة العصر ومن هذه الأشجار شجر الدلب والدردار والعرعر الخ ومن أراد زيادة بيان فليرجع إلى مجلة جمعية النباتات ألفرنساوية ففيها معلومات مختصرة عن الجغرافيا الزراعية في فلسطين غاية في ألفائدة.
أما ندرة الطيور النافعة للزراعة فإنها لما كانت الطيور الجارحة كثيرة العدد في فلسطين والطيور النافعة قليلة أصبحت الخسائر الناشئة المزروعة من الحشرات المضرة على من الكثرة فالجوارح تختار من الأراضي الأعالي والصخور والحواجز لتجد ما تفترسه وعلى العكس في الطيور الآكلة للحشرات فإنها تنزل الظلال وفي الغابات التي يسهل بها اختباؤها وتعيش بما هناك من الطراوة وما يتفسخ فيها ويتحول من المواد العضوية ولذلك توسلت الحكومات المتمدنة بتكثير طيور الزراعة ومنت القوانين النافعة لبقائها ونمائها أم نحن فيقضي لنا في بادئ الرأي أن نحي غاباتنا أداؤنا الجزية ألفاحشة إلى غيرنا في حين استحواذ الخراب على غاباتنا لقد صرفت الهمة لقطع غابات فلسطين على صورة واسعة جداً حتى لم يبق في بعض المحال حطب للدفء والحرق. ذكرنا فيما سلف ما جرّ على زراعتنا من الضرر إخراج السماد من البلاد ولا ندري ما نقول الآن وقد استعظمنا الأمر هناك في انقراض مادة السماد النافع في المحروقات. وقد قيل أن بلاد الجنوب كانت فقيرة بغاباتها منذ ألفي سنة أيضاً ونعني بها بلاد يهوذا ولكن البلاد المشهورة بغاباتها وهي بلاد اجليل وجبل الشيخ قد أصابها ما أصاب غيرها على نسبة واحدة فالبلاد التي ليس فيها حطب للوقود لا يكون عندها بالطبع خشب ولا ألواح للبناء وإذا كانت الأناضول تصدر قليلاً من الخشب اضطررنا للتجارة أن نستبضع ما يلزمنا من هذا الصنف من البلاد الخارجية وإذ ليس لدينا إحصاء يظهر منه مقدار ما يصرفه كل سنة من المال في هذا السبيل لا نكون إلى المبالغة إذا فرضنا أن ما يصل ثغور بيروت وحيفا ويافا كل سنة من الخشب لا يقل عن أربعمائة ألف ليرة عثمانية والمثال الذي نأتي عليه الآن يدل دلالة قطعية على حالتنا المعيبة وأننا ندفع الجزية إلى الخارج كان ما تصدره هذه البلاد من صناديق البرتقال إلى الخارج قبل ثلاثين سنة بضعة ألوف وما يصدر اليوم من يافا وحدها يربو على مليون صندوق وبعد خمس منين سيكون ثلاثة ملايين والصناديق التي يحفظ فيها البرتقال يؤتى بها من روسيا والنمسا يبتاع ألواح منها بثلاثة قروش وبعبارة ثانية أننا(94/9)
نؤدي خراجا معيناً عن كل صندوق نصدره وهذا الخراج يزيد على ما تستوفيه الحكومة ثلاثة أو أربعة أضعاف دعا جهل حكامنا السابقين وإهمالهم إلى امحاء منابع الثروة وكان من الشعوب المختلفة التي أحسنت الاحتفاظ بمنابعها الطبيعية وثروتها من غاباتها باتخاذ الأساليب المعقولة أن أصبحنا نؤدي إليها الجزية الباهظة وحولنا وجوهنا عما منحتنا الطبيعة إياه من الامتيازات فأخذت الآن تنتقم من على هذه الصورة
أهم الآفات التي ابتليت بها الغابات
أهم هذه الآفات ثلاث الرعي المتبادل وحتى الرعي في الأراضي الخالية والحيوانات الصغيرة ولا سيما الماعز وفأس المرأة ألفلاحة. ونعني بالرعي المتبادل حتى رعي قطعان أهل ناحيتين أو أكثر في أرض لهم. ويطلع حتى المرعى في الأراضي الخالية على أهالي ناحية مواشيهم إلى ما يدخل في ناحيتهم من المراعي وما لهم من الحق برعيتها ولئن استبان أن الرعي المتبادل وحق الرعي في الأراضي الخالية شيئان متخالفان ولكنهما شيء واحد في الحقيقة فإن أصول المرعى في الأراضي الخالية إذا لم توجد لا يوجد رعي متبادل. وكانت هذه الطريقة في الرعي المتبادل والرعية في الأراضي الخالية شائعة في أوربا خلال القرون الوسطى فتبينت مضارها للزراعة وفي تربية البهائم فأبطلتها الممالك المتوفرة على تربية الحيوانات وبقيت أصول الرعي المتبادل في سويسرا وإنكلترا وهولندة إلى القرن الثامن عشر حتى أبطل منها بتة. وترى اليوم كل إنسان يقبح باسم ترقي الزراعة طريقة الرعي المتبادل وحق المرعى في الأراضي الخالية لأن ذلك مما دعا إلى هلاك قطعاننا وساعد على انتشار الأمراض السارية فيها وهذه العادة ضربة قاضية على حقوق أصحاب الأراضي تدعو إلى الأسف ولها دخل كبير في تخريب الغابات وانقراضها.
تأصلت عادة الرعي المتبادل في نفوس الأهلين هنا فنزعها أو تجديدها يدعو إلى هلاك العشائر السيارة المعروفة بشن الغارة وتضطرهم إلى الرجوع أدراجهم أو أن يعودوا فيرجحوا العيش الثابت ويؤثروا حياة ألفلاح والتوطن ويطلقوا تقاليدهم القديمة منذ قرون من عيش الخيام ورعية الأنعام كما هي حال عشائر يوركلر في الأنضول وحال عشائر البدو الصغرى المختلفة في هذه الولاية ولما كانت هذه العشائر تعتقد أن طريقة الرعي المتبادل من الحقوق السماوية أصبح من الصعب أن يرجعوا عن تلك العادة حتى أن(94/10)
الأهالي الساكنين إذا أصابهم ضرر من هذا القبيل وجب على الحكومة أن تتداخل في الأمر بقوة السلاح فكما أن تراجان وكورنيليوس وبالما من قواد الرومان حموا على عهد حكومتهم الأراضي الزراعية بين صرخد وبصرى الساكنين في حوران والجولان من الأهلين ودوا عنهم غارة المغيرين من أهل البادية هكذا نعهد إلى الحكومة العسكرية اليوم أن تحمي حمانا في تلك الحال أيضاً من أبناء تلك العشائر القديمة وهم الرولة وولد علي وبني صخر.
وبعد فإن الحكومة لم تمد يد المساعدة لمن أراد أن يقوم من الأهلين بنفسه يحمي المراعي من التخريب ليأمن على أرضه حتى أن مهاجري الجراكسة لما نزلوا القنيطرة وأرادوا الانتفاع من مروج الجولان يقطعون منه قصيلاً للشتاء أغمضت الحكومة عينها عنهم فاضطر الجراكسة أن يقتتلوا مع أهل البادية دفعاً لرد عادية هؤلاء عنهم وأصبحوا يحصلون لمواشيهم على قصيل زيادة عما يلزمهم.
أوردت هذه الحادثة لأشير بها إلى أن عادة الرعي المتبادل مهما كانت متأصلة في طبيعة الأهالي ففي الوسع نزعها ومتى تم ذلك في أرض استفاد الأهلون والحكومة معاً. أن تخريب المراعي هو العامل الرئيسي في تخريب الغابات وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة على صورة لا تقبل الاعتراض وليس القطع أو الحريق من أعظم الحوائل في نمو الأشجار على اختلاف ضروبها وإيصال الأذى إليها من جذورها أو رأسها بل الضرر كل الضرر في إيصال الأذى إلى رأسها فتحول أسنان المواشي دون نموها فتتصلب سطوح الأراضي الثابتة وتنقسم الكثبان وبدلك يصعب أن تعود إلى الأشجار حياتها.
تخريب الحيوانات الصغرى ولاسيما الماعز
الماعز أعظم الآفات على غاباتنا وإذا اجتمعت على تخريب الغابة النار والفأس فلا يفعلان فيها كما تفعل أسنان الماعز. عرفت فيها هذه المضرة منذ القديم حتى جاء في قوانين بني إسرائيل صريحاً خطر تربية الحيوانات الصغيرة في فلسطين. وكان المنورون منهم يهتمون جدّ الاهتمام للمحافظة على هذا القانون ووضع القيود لتنفيذه. جاء في التلمود أن أحد حاخامي بني إسرائيل أصيب بسعال شديد فأوصه الأطباء أن يشرب لبن عنز سائغاً حديثاً فجاءه بحسب العادة المتبعة بعض رفاقه من الحاخامين يعودونه في مرضه فرأوا في فناء الدار تلك العنزة التي جعلت هناك للانتفاع بلبنها ولم يلبثوا أن رجعوا أدراجهم قائلين(94/11)
والغضب آخذ منهم، في باب الحاخام المذكور أشقياء مسلحين لا جرم أن العنزة كانت تعيش بما تخضمه وتقضمه من هنا وهناك.
وقد جرت الولايات المتحدة في تربية الحيوانات على قاعدة أن تجعل لكل مئة رأس بقعة من الأرض مساحتها 15. دونماً تروح الماشية فيها وتغدو سنتين على أن يقطع المرج من أساسه ولا شك أن ماشية ولاية بيروت لا تقل عن مليون رأس تخرب كل سنتين من الغابات15. . . . . دونم وبعبارة أخرى أن تخريبها لا يقل مانهة عن75. . . . دونم إلى مليون. فالرعي المتبادل وحق الرعي في الأراضي الخالية لا يحول فقط دون حفظ الغابات ويقرضها بل يمنعنا من تربية الماعز ويسوقنا إلى هذه النتيجة سوقاً
تخريبات المرأة ألفلاحة
تجيء المرأة القروية بعد الماعز في باب تخريب الغاب لأن من شأن المرأة في هذه الأصقاع أن تتدارك الحطب اللازم للدار والحطب المقتضي بيعه في السوق ويضيف هؤلاء النساء إلى ضعفهن الطبيعي أنهن يتسلحن بفؤوس رديئة يضربن بها الأشجار ألفتية ويحولن وجوههن عن الأشجار الكبرى ذات الأغصان المستطيلة والجذوع المتأصلة. وأن في دخول البنات والنساء إلى قراهن وقد احتطبن وجعلن حطبهم على رؤوسهن باسمات شاديات من المناظر الغريبة ولم ينحصر هذا العمل في النساء وحدهن بل يشاركهن فيه الرجال في ضواحي القرى ليحرقوا من أحطابها كلساً. ومن المشاهد أن أكمة أو جبلاً يعرى في بضعة أسابيع من مراعيه وأحطابه ليجعل من حطبه وقود لفرن أو فرنين من أفران الكلس الفقيرة أو بضعة أحمال صغيرة من ألفحم وهذا ولا شك من الجنايات التي لا ينظر إليها قانون من قوانين مملكة نظر تسامح وأغضاء.
ما قام به الأفراد لأحياء الغابات
مما يؤلم النفس أن الحكومة لم تقم حتى الآن بعمل يذكر في باب إحياء الغابات وتنميتها في أطراف المملكة على اختلاف اصقاعها ولا سيما في هذه الولاية ولم تنشط من أرادوا التشبث بذلك وقد قام فريقان من النازلين في هذه الديار وأتوا بعمل وإن كان صغير الجرم ولكنه كبير القدر في مسألة الغابات. فالفريق الأول أهل المستعمرة الألمانية قام بالتحريج على صورة محدودة ولكنها عاقلة والفريق الثاني أهل الاستعمار الإسرائيلي تذرعوا بمثل(94/12)
هذا العمل على صورة أوسع وأشجع ولما وضع ألمان حيفا أيديهم على الأقسام المهمة من جبل الكرمل رأوا أن يتذرعوا إلى الاستفادة من هذا الجبل بعض الشيء فغرسوا فيه أشجار الصنوبر وغرسوا أثمن أنواعه فأتت منها نموذجات نادرة وهو صنوبر حلب وغرسوا أيضاً من صنوبر الحبّ والصنوبر المشاهد نموذجات منه في لبنان وبيروت ولا تزال هذه البقعة من الغابات تتوسع فتدخل البهجة إلى قلوب من نزلوا في جوارها وعلى مقربة منها من الألمان.
ولئن كان هذا التوفيق درس عبرة لنا فأنا لست مع هذا من القائلين بغرس أشجار الصنوبر في ساحات واسعة وقولي هذا مستند على أسباب مهمة معروفة في فن الغابات وذلك لأن عامة أشجار ألفصيلة الصمغية سريعة الاحتراق وإذا احترقت فلا يعزب عن بالنا أن نوعها ليس من الأنواع التي تعود فتنمو وكثيراً ما يقع حريق الغابات في موسم الصيف وليليه الحارة وإذا كان ولا بد من غرس الأشجار من ألفصيلة الصمغية فيجب أن تحاط بأشجار الأوكاليبتوس المعروفة بشدة مقاومتها للحريق.
والخوف من الحريق ليس من الأمور النادرة بل وقع كثيراً في تونس والجزائر وكثرت الحوادث المكدرة بسببه فوجب علينا أن نعتبر فإن أهل الإخصاء في هذا ألفن فن التحريج لا يكتفون بما رسمه العلم من النظريات بل يراعون حال المحيط وروح الأهلين فإن هناك بعد المصاعب ألفنية موانع معنوية وروحية.
ما تذرع به الإسرائيليون لإحياء الغابات
حصدت الحميات منذ عشرين سنة الإسرائيليين وإذ كان شجر الأوكاليبتوس من موانع الحمى لم يكتفوا بالذي ذكرناه من الحرج الضعيف بل توسعوا في الغابة وغرسوا من الأوكاليبتوس كثيراً فكثر عددها حتى بلغت بحسب الجهات المئات والألوف فمنذ سنة 12 - 13 كانت هذه الساحات خالية بالكلية من الأشجار فأصبحت بحرمانها من فأس الحطاب غابات غبياء وأراضي شجراء والعمل جار الآن في كيفية استحصال طريقة أربح من غيرها من خشب الأوكاليبتوس وهذه القضية صعبة في الحل بعض الصعوبة.
وهنا مجال لأن أقول أنني في رحلاتي إلى تونس والجزائر للبحث في أحوال الغابات رأيت أشجارا وأردت اختبار أكثرها ملائمة لهذه الديار وقد بلغت أنواعها مئة نوع ولكن ما(94/13)
جربناه هنا فجاد بلغ اثني عشر نوعاً. وقد جربنا الأشجار المعتمد عليها في البلاد الحارة وشبه الحارة مثل أميركا وأوقيانوسيا فلم نجدها صالحة للغرس والنمو
وسائط لمنع تخريب الغابات
سبق لنا في ألفصول السابقة وصف النتائج التي آلت إليها الغابات بتخريبها رأينا أن الحالة من ناحيتها مخوفة داعية إلى القلق. إن انقراض الغابات آخذ بالارتقاء ويزيد فيه جهالة الأهلين نعم قامت بدل الغابات مروج وهذه تدعو الحاجة إلى الاحتفاظ بها فكما أن من اللازم اللازب قبل استرجاع ثروة فقدت بالتبذير والإسراف أن يحافظ على البقية الباقية منها فمن الواجب قبل التذرع بوسائط لاحياء الغابات أن يفكر في عدم انقراضها وتوقيف تيار الأضرار بها. والواجب في هذا لباب وضع قوانين والعناية بتطبيق مفاصلها لأن الأضرار بالغابات لم ينشأ من القوانين الخاصة بها بل من أهماها وعدم العناية بتنفيذها ولذا بات مستقبل البلاد مهدداً وتظهر فيه أنفع القوانين من الخطة التي تجري عليها في الإنقاذ فإن انفع قانون يعمد في تنفيذه إلى مأمور جاهل لا يكون إلا ذريعة لتشديد الحكم الكيفي ويزيد في الشدة على الأهلين ويبالغ في تضعيف أضرار خزانة الحكومة بواسطة بعض أهل المنافع من أرباب الأفكار الخسيسة ولذا نقترب من هذا البحث والرهبة والاحتراز آخذان منا.
لئن قل في الحكومات من وقف أمام تلك الحالة التي أضنت على انقراض الغابات في فلسطين فليست حكومتنا فقط اشتغلت بإحياء الغابات وحل قضيتها المغمضة ولكن هذه القضية المذكورة مع سهولتها على الحكومات المومأ إليها فقد شوهد أن حلها ليس من السهولة بالمكان الذي تصوروه وأدركت الحكومات التي عُنيت بالاحتفاظ بالغابات وبأحياء الجديد منها بفضل ما قامت به من التجارب الخاصة أن حل هذه القضية المعقدة بطئٌٌ يحتاج إلى نفقات طائلة وإذا خالف التوفيق من يعنى باتخاذ الطرق إليها فيكون بتنفيذ القوانين بشأنها حق التنفيذ بالحرف وتوزيع المخصصات على صورة رشيدة واسعة وأن يعهد في العمل لطبقة مختارة من الموظفين ويبالغ في البحث والاستقراء العلمي.
وهب أن الحال ساعدت على وضع قوانين لا تكلف نفقة وعهد إلى موظفين بالإشراف عليها وتطبيق مفاصلها فإن تنظيم خطط هذا التجديد وإخراجه إلى ألفعل يحتاج إلى(94/14)
موظفين أخصوا في هذا العلم وهناك أيضاً صعوبة في جلبهم وجمعهم. لأن التبريز في صناعة يقتضي لمن يديره أن يقضي دور الاستعداد في دائرة نظريات العلم ويعقبه دور طويل يقضيه في العمل وليس في البلاد حتى الآن علماء بالغابات على هذه الصورة وإذا صرفنا النظر عن الصعوبات الكثيرة التي تعترضنا في جلب علماء بالغابات من الخارج فهناك صعوبة واحدة يكتفى بإيرادها وهو أنهم يكونون ولا شك غرباء بعيدين عن معرفة ما يلزم لإنشاء الغابات في مثل هذا المحيط غير ملمين بأحوال القطر ولا بحالته الاقتصادية.
أرى هنا أن أورد بعض التجارب التي عمدوا إلى تطبيقها في بعض الممالك التي تشبهنا وأهم الأقطار التي يجب على رجال حكومتنا أن يبالغوا في البحث فيها: الجزائر وتونس وقبرص فإن بلادنا هذه تشبه تلك الأقطار من وجوه كثيرة فالمناخ فيها عينه عندنا وما يشاهد من الإسراف في قرض الغابات في فلسطين قد شوهد مثله في تلك الأصقاع أيضاً وإذ كان سكان هذه البلاد وسكان تلك من المسلمين فلهم نفس التقاليد والتواريخ ثم إنه استعملت في تلك الأقطار نفس الأشجار التي توافق بلادنا والواجب قبل كل شيء تحديد المقطوع من الخشب والحطب وتعيين شروط إصدار حاصلات الغابات ولئن كنا لا ننكر أن عندنا كثيراً من القوانين في هذا الشأن فإننا نقول بأنه لم يجر تنفيذها بتة على أن الواجب أيضاً تعديل هذه القوانين ببعض لوائح حسب محيط كل بلد وطبيعة كل أقليم وعادته فوضع القوانين واستعمال الجد في إنفاذها يجب أن يكونا توأمين متلازمين.
حرّاس الغابات
يجب أن يعهد إلى حرّاس يشرفون على الغابات على شرط آن لا يراعى في تطبيق القوانين والنظامات المذكورة الأصول القديمة وأن يختاروا من الذين تعلموا تعليماً ابتدائياً صناعياً في الجملة فإن الأصول التي اتبعت فيما مضى فدعت إلى أن يعهد إلى الجهال بمثل هذه الوظائف قد ألحق الضرر الكثير بالآهلين وإن إحداث وظائف الكسالى لا يكون إلا ذريعة لتشديد الضرر الذي يراد توقيفه. وكنا نرجي أن يكون ألفرق بين الحراس القدماء والحراس المحدثين في الغابات كالفرق بين أفراد الدرك اليوم وأفراد الدرك أمس على الأقل وما أشبه الليلة بالبارحة.
تنظيم قطع الغابات(94/15)
أشرنا فيما سلف من ألفصول إلى ما تحدثه المرأة القروية من الأضرار بالغابات عند احتطابها منها ولأجل توقيف هذا التخريب يجب توقيف الاحتطاب بتاتاً أيام نمو الأشجار والاحتطاب يبدأ في أيام الحر من 15 تموز إلى 15 أيلول فلا يسمح للمرأة ألفلاحة أن تحتطب إلا في هذا الموسم ومن الممكن أن يمتد هذا التوقيف عن الاحتطاب إلى كانون الثاني. وهذه حقائق ثابتة وفوائدها ظاهرة المحسنات فلا تحتاج إلى تفصيل.
قلع الجذور جرم
أبنا فيما سلف عند البحث على عمل الكلس والفحم الأضرار الناشئة من الطريقة التي يعمد إليها وأهم هذه الخسائر قطع جذور الأشجار مما لا يحول فقط دون نموها بل يقرضها أبديّاً فالواجب عمل الكلس والفحم على الأصول النظامية وفي الزمن الذي لا يمنع من نمو الأشجار وربما رأى الناس شدة في هذه الطرق والأساليب ولكنها في الحقيقة ليست مهمة فبدلاً من أن يقوم فلاحونا ويربحوا قليلاً من عمل ألفحم بقرض الغابات نوصيهم بأن يعمدوا إلى طرق أخرى فإنهم يضمنون لأنفسهم أرباحاً أكثر وما يكسبونه قليلاً من إصدار السماد والتبن يتأتى لهم استحصاله من طريق آخر ليعدلوا ميزانيتهم وإن ما تعلمه الوطنيون من مستعمرة الألمان والإسرائيليين في الثلاثين سنة الأخيرة من طريقة استعمال الأسمدة للأراضي أصبح في حكم قانون ثبتت فوائده في أرباض القرى وما يفعله في نمو البقول والأثمار ليس مفيداً فقط بل ضروري للغاية أما التبن فإنه يساعد ألفلاح على علف أبقاره وثيرانه على صورة أحسن فيكون من العوامل في تربيتها. وسنذكر في ألفصول التالية عند الكلام على صورة تنظيم أصول الرعي في الأراضي الخالية أن من المفيد جداً للحكومة تحديد عدد الماعز ومعاونة الأهلين على تربية البقر.
هذا ولا يتردد الرعاة بتة في قطع أغصان الأشجار ليطعموا بها قطعانهم فإن تجريد الأشجار الكبرى من بعض أغصانها يكون داعية انقراضها.
تنظيم المراعي
رأينا فيما سلف مقدار الضرر من الرعي المتبادل في الأراضي الخالية وحق الرعية فيها فعلى الحكومة إذا صحت عزيمتها على توقيف الضرر أن تبادر إلى تنظيم مراعيها. قد يشاهد في الظاهر تناقض بين مسألة تنظيم المراعي لما فيه مصلحة أصحاب المواشي(94/16)
وبين الزراع الذين ليس لهم ما يعلفون به دوابهم فيجب للتأليف بين هذين ألفريقين الظاهر تخالفهما كل التخألف بأن لا يشرع في العمل لذلك قبل إمعان الروية وإطالة النظر في المدخل والمخرج فينظر في اختلاف الحالة الاقتصادية في كل ناحية وفي سد حاجة الأهلين على غاية من التدقيق والعناية ثم يشرع في حل هذه المباينة وقد ظهر مما سبق أن تنظيم أصول المراعي يحتاج إلى تدقيق عميق طويل فإن كل الناس اليوم يقولون بأن بين المراعي والأشجار علاقة اشتراك ولذا فإن تخريب الغابات في الأماكن العالية يدعو إلى تغيير منابع المياه وجفاف المراعي فينشأ من ذلك تدني عدد الحيوانات من قلة المياه والمراعي فيكون الضرر لاحقاً في الأكثر بأصحاب المواشي. ولا جرم أن عدد الحيوانات آخذ بالتناقص ولا تنمو إلا بإحداث الغابات ونموها فهذه مقدمة لها فالواجب البداءة بهذا التحسين قبل كل شيء.
منع طريقة الرعي المتبادل
لإصلاح حق المرعى في الأراضي الخالية ولئلا يجري التزاحم على المراعي يجب أن يعين ما يلزم لكل قرية وناحية من المراعي وهنا نقسم المسألة إلى شقين فنجعل في الأول الكمية اللازمة للاستعمال في ألفلاحة والحمولة وما ماثل ذلك ليسد مجموعها حاجة القرية أو الناحية وفي الشق الثاني عدد الحيوانات التي تزيد في محصول هذا المجموع ورأس ماله بمعنى أننا إذا قلنا بأن نفادي بشيء لأجل حيوانات الطبقة الأولى فإننا لا نوافق على ذلك لحيوانات الطبقة الثانية أي أننا لا نفادي في هذا السبيل بقرض الحراج والغابات ونسوق البلاد إلى الخراب.
تحديد المراعي الخارجة عن الغابات
إن كثرة هذه المراعي في الأراضي السهلية يكون سبباً لعدم إدخال قطعان المواشي إلى الأراضي الجبلية ومع هذا فالواجب يقضي بمنع القطعان من دخول الغابات في الربيع لكثرة العشب فيه فإن ذلك مما يساعد الغابات على الراحة والتجدد وعلى تأصيل أصول الأشجار الصغيرة في الأرض وقت نشوءها الأول فيدخل في الإمكان إذ ذاك تجدد الغابات.
لا شبهة أن التزاحم من العناصر المضرة في تخريب المراعي وإن تنقيص عدد الحيوانات في بلاد يكون عدد أغنامها وماعزها متناسباً مع ثروتها ولها منها منافع كثيرة وعادات هو(94/17)
من الأمور الصعبة بل البطيئة وليس هذا خاصاً بنا وحدنا بل هو مشاهد في أعظم الممالك تمدناً. وقد عارضت أهالي الجبال في فرنسا فاضطرت الحكومة هناك إلى نشر قانون سنة 1882 بشأن المراعي طبقت مفاصله كل التطبيق فعلى الرغم من شدته لم تنشأ منه النتائج المنتظرة كما قال مدير الغابات العام في تقريره سنة 1911 آسفاً متلهفاً. ولم تقوَ النصائح والتنشيط الذي وقع على رفع الموانع العظيمة الحائلة دون تجدد المراعي وإحيائها.
الوسائل القانونية في التشجيع
أبنا سالفا مقدار التخريب العظيم الذي يحدثه الماعز للغابات ولذلك وجب التذرع بكل الأسباب التي من شأنها تنقيص عدد الماعز وتحديده والأبقار ليست من الضرر بدرجة الماعز ولذلك أرى أن تراعى البقر في وضع رسوم قليلة عليها ويؤخذ عن الماعز رسوم تامة وأن يلغى الرسم عن الغنم ويبقى الرسم على الماعز وان يطرد الجمال والماعز من الغابات طرداً كلياً وهذا من أوفق وسائط التشجيع بالوساطة لغرس الأراضي القابلة لزراعة الغابات. إلا أن الأربح للحكومة والواجب عليها أن تعمد إلى أسباب من التشويق بلا واسطة وهو أن تعفي من الخراج مدة ثلاثين سنة كل قطعة أرض جبلية جعلها صاحبها من أطرافها الأربعة بعيدة عن تخريب حق المرعى والرعي المتبادل في الأراضي الخالية.
إن هذه الأصول التي يجب اتباعها لتسهيل تجديد الغابات يتأتى أن يكون لها تأثير أسرع. ولذلك جاءت النوبة لاتخاذ وسيلة قانونية يكون لها التأثير العظيم بالنظر لارتقاء المملكة وسيرها نحو التكامل.
ولا يخفى أنه لم يبقى أثر للغابات في البلاد ولا سبيل لزراعتنا أن يتوقع منها شيءٌٌ في هذا السبيل وإن من نتائج ذلك أصبحت جبالنا وآكامنا معرضة للاتكال ولذلك تدعو الضرورة الشديدة إلى غرس الأشجار التي تجنى منها هذه الثمرة بعض الشيء وتحيا بها البلاد قليلاً فقد اشتهرت فلسطين بمحاصيلها من الحبوب ومع هذا فهي من الأقاليم التي تلائم كل التلاؤم زراعة الأشجار التي تُثمر هذه الثمرات بالنظر لأحوال هذا القطر وشؤونه الزمنية ووضعه الجغرافي ولنا عدة أبواب كبرى نصرف فيها هذا المحصول وإن مصر التي ليس فيها أراض صالحة لهذا الصنف من الزراعة قد أقامتنا الطبيعة لأن ندعي بأننا متعهدون لها بتقديم ما يلزمها من أرضنا من هذا القبيل ولذا أصبح من اللازم اللازب على الحكومة(94/18)
أن تعمد إلى اتخاذ جميع أسباب التشجيع لزراعة الغابات وتنميتها.
لئن نشر قانون يقضي بأن كل أرض جبلية غرست زيتوناً تعفى من الضرائب من ثلاث إلى عشر سنين فقد قل الأفراد الذين استفادوا من هذا الإعفاء على أن الحد الأعظم في هذا العفو وهو عشر سنين قليل بالنسبة لما ينبغي من وسائل التنشيط والواجب أن تعفى من الضرائب جميع الأراضي الجبلية التي تغرس زيتوناً مدة خمس عشرة سنة وهذا لإعفاء يشمل أشجار الخرنوب. والخرنوب إذا طعم يعطي من السكر 4. % وقشره صالح لرعية الماعز وانك لترى في جزيرة قبرص ألوفاً من الدونمات مستورة بأشجار الخرنوب. والأولى أن يسن قانون لحفظ الأشجار البرية وتجديدها وتطعيمها ويحمل الناس على اتباعه ويعهد إلى حراس الغابات بالإشراف عليه ويجب أن تعفى من الضرائب مدة خمس عشرة سنة بعض الأصقاع التي يجود فيها التفاح والكثرى على أنواعهما وأن يطعم التفاح البري إن أمكن كما نعفى شجر الزعرور إعفاء الكروم في الأراضي الجبلية من الخراج عشر سنين وتنشيط الغابات لإحيائها وإحداثها
لا بأس من أن يشمل العفو عن الخراج عشر سنين في الكروم ليسارع ألفلاح إلى غرسها فيقف تجريد الغابات من كسوتها وتزيد محاصيل البلاد وأن كان ذلك لا يقوم مقام الغابات بحال بيد أن هذا الإعفاء الذي منح لمدة عشر سنين هو لمقاومة دودة الكرمة فإذا شمل العفو الكروم نفع أيضاً في بابه.
لم تتشبث الحكومة بأدنى تشبث من شأنه أن يحيي الغابات ويكثر عددها ولكن الأفراد تذرعوا في هذا السبيل بأمور وما تذرعوا به من هذا القبيل حري بمعاونة الحكومة من كل وجه وأهله جديرون بأن يميزوا بامتيازات خاصة وللوصول إلى هذا الغرض أرى من المناسب قبول القانونين اللذين سنتهما فرنسا ونتجت منهما لها فوائد كثيرة فقد جاء في المادة 228 من قانون الغابات عندهم: تعفى من الخراج مدة ثلاثين سنة كل أنواع الأشجار التي تغرس على أكمة أو سطح مائل في الجبال وكل كثيب من الرمال. ولكن حكومة فرنسا أرادت أن تستفيد من هذا الحق جميع الأراضي الزراعية البائرة الفقيرة فوضعت المادة الآتية وهي مادة 116 من قانونها وأيدتها سنة 19. 7 بالبند الثالث من ميزانيتها ومعناها أن تقدر الأراضي التي تزرع أشجارا بربع قيمتها فقط وتعفى من الخراج من أول(94/19)
غرسها إلى مرور ثلاثين سنة عليها فنشط لذلك أصحاب الأراضي واستفادوا من هذه القوانين وأحيوا قسماً منها.
وعلى الحكومة علاوة على ذلك أن تحدث شركات أحياء الغابات تشوق الناس لاتخاذ الأصول الجديدة وتمنحها بعض الامتيازات وتخص بهذه الامتيازات تلك الشركات ليعم نفعها في أي نوع من الأراضي مملوكة كانت أو مستأجرة لمدة طويلة ومثل هذه الشركات كثير في الممالك المختلفة نتجت منها أعظم ألفوائد ومنها شركة إنشاء الغابات وأحيائها في الجزائر وشركة محبي الأشجار الدولية في تونس وشركة أشجار مدريد الوطنية. ولكن جميع هذه التشبثات لا تحل في وقت من الأوقات قضية أحداث الغابات وأحيائها فإن ذلك متوقف على أحياء الجبال وتثبيت الأكثبة وتجفيف البطائح ويحتاج ذلك إلى نفقات طائلة وأناس عارفين بالعلم وتحتاج الحكومة إلى سلوك القصد في عملها بيد أن الحكومة لم تقم بعمل شيء وتغييرها لكبار مأموريها على طريقة تبادل الوظائف مما يحول دونهم ودون معرفة البلاد وأقرب الطرق الآن أن تكتفي الحكومة بتنشيط الشركات وإنشائها لهذا الغرض وتبذل المعاونة ألفعلية والمعنوية لانتشار فن الغابات ولئن كانت الامتيازات في مثل هذه الأحوال غير معتبرة فنحن نعترف بذلك ولكن بلاداً ليس لها شركات ذات أموال كثيرة وليس عندها موظفون عالمون لا سبيل لها لأن تعمل غير ذلك ولذلك تجلب أناساً من متخصصي الأجانب يشرفون على الشروط التي نالها أصحاب الأمتياز ويهيمنون على العمل حتى ينتهي بأحسن النتائج. والقيام بعمل على خلاف هذه الصورة لا يكون منه إلا الفشل.
وبعد فقد ظهر بما تقدم ما تمس إليه الحاجة من الذرائع العظيمة لإنشاء الغابات في الجبال والمبالغة بالقيام على تعهدها ولتثبيت الأكثبة وتطهير البطائح وتجفيفها وللقيام لإدارة ذلك ينبغي إيجاد شركات ذات رؤوس أموال تكون مختلطة أو خاصة لتشرف على هذه الأعمال وتديرها وتنيل الربح لمساهميها على طرية معقولة وهذا مما يحفظ حقوق بيت المال والأهلين معاً ويصونها من الاعتداء ولا يجب بالنسبة للأحوال الحاضرة في البلاد أن يطوى شيء من هذه الإيضاحات التي هي عملية ونتيجة تجارب طويلة بل على العكس نرى في الإمكان أن يضاف إليها أمور كثيرة ولا نطالب الحكومة في حل هذه المسألة(94/20)
بالقيام بكل عمل فذلك خارج عن طاقتها ولكننا نطالب برفع الموانع والحوائل وتشجيع أحباب الغابات على إنشاء الجديد منها والاحتفاظ بالقديم.(94/21)
الخطابة عند العرب
تابع لما في الجزأين التاسع والعاشر
(1.) خطباء الجاهلية والإسلام
قال الجاحظ: كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم وأوصافهم أن نذكر أسماء الجاهلية على مراتبهم. وأسماء أهل الإسلام على منازلهم ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء ونقسّم أمورهم باباً باباً على حدته ونقدم من قدمه الله عز وجل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب وفضله في الحسب ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده تكلفت ذكرهم في الجملة.
في الخطباء من يكون شاعراً ويكون إذا تحدث أو وصف أو احتج بليغاً مفوهاً بيناً وربما كان خطيباً فقط وشاعراً فقط وبين اللسان فقط ومن الشعراء الخطباء الأنبياء الحكماء قس بن ساعدة الأيادي والخطباء كثير والشعراء أكثر منهم. ومن يجمع الخطابة والشعر قليل ومنهم عمرو بن الأهتم المنقري وهو المكحل. ومن الخطباء الشعراء البعيث المجاشّعي واسمه خدّاش بن بشر بن لبد. ومن الخطباء الطّرماح بن حكيم الطائي وكنيته أبو نفر. ومنهم عمران بن حطّان وكنيته أبو شهاب رئيس القعدة من الصغّرية وصاحب فتياهم ومقرهم عند اختلافهم ومنهم دغفل بن حنّظلة النسابة الخطيب العلاّمة. ومنهم القعقاع بن شور. ومنهم نصر بن سيار أحد بني ليث بن بكر صاحب خراسان. ومنهم زيد بن جندب الأيادي وعجلان بن سحبان الباهلي وهو سحبان وائل وخطيب العرب.
ومن الشعراء العلماء أعشى همدان ومن الشعراء الخطباء عمران بن عصام العرني ومن خطباء الأمصار وشعرائهم والمولدين منهم بشار الأعمى وهو بشار بن برد وكنيته أبو معاذ. ومن الخطباء الشعراء ومن يؤلف الكلام الجليل ويصنع المناقلات الحسان ويؤلف الشعر والقصائد الشريفة مع بيان عجيب ورواية كثيرة وحسن دل وإشارة عيسى بن دأب أحد بني ليث بن وكنيته أبو الوليد. ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطبة والشعر الجيد والرسائل ألفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمر والعتابي وكنيته أبو عمرو. وممن جمع الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار والكتب الكبار المجلدة والسير الحسن المولدة والأخبار المدونة سهل بن هرون بن راهييوني الكاتب صاحب كتاب ثعلة وعفرة(94/22)
في معارضة كليلة ودمنة وكتاب الأخوان وكتاب المسائل وكتاب المخزومي والهذلية وغير ذلك من الكتب ومن الخطباء الشعراء علي بن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة ولا أعلمه يكنى إلا أبا الحسن.
ذكر الجاحظ ثمامة بن أشرس فقال: ما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف. ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه وكان لفظه في وزن إشارته. ومعناه في طبقة لفظه ولم يكن لفظه إلى بأسرع من معناه إلى قلبك. قال بعض الكتاب: معاني الظاهرة في ألفاظه الواضحة في مخارج كلامه. كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول:
له كلم فيك معقولة ... إزاء القلوب كركب وقوف
كان ألفضل بن عيسى الرقاشي من أخطب الناس وكان متكلماً وكان قاضياً مجيداً وكان يجلس إليه عمرو بن عبيد وهشام بن حسام وأبان بن أبي عباس وكثير من ألفقهاء وهو رئيس ألفضيلة وإليه ينسبون. وكان يزيد بن أبان عم ألفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي من أصحاب أنس والحسن كان يتكلم في مجلس الحسن وكان زاهداً عائداً وعالماً فاضلاً وكان خطيباً وكان قاضياً مجيداً. قال أبو عبيدة: وكان أبوهم خطيباً وكذلك جدهم. وكانوا خطباء الأكاسرة فلما سبوا وولد لهم الأولاد في بلاد الإسلام وفي جزيرة العرب نزعهم ذلك العرق فقاموا في أهل هذه اللُغة كمقامهم في أهل تلك اللُغة وفيهم شعر وخطب وما زالوا كذلك حتى أصهر الغرباء إليهم ففسد ذلك العرق. ودخله الخور. ومن الخطباء زيد بن عالي بن الحسين وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وكان شاعراً بيناً وخطيباً لسناً. ومن أهل الدهاء والنكراء. ومن أهل اللسن واللقن. والجواب العجيب والكلام الصحيح. والأمثال السائرة والمخارج العجيبة هند بنت الحسن وهي الزرقاء وجمعة بنت حابس.
ومن الخطباء خالد بن سلمة المخزومي من قريش. وأبو ماضر وسالم وقد تكلم عند الخلفاء. ومن خطباء بني أسيد الحكم بن زيد بن عمّير وقد رأس. ومن أهل اللسن منهم البيان الحجاج بن عمّير بن زيد.
ومن الخطباء سعيد بن العاصي بن سعيد العاصي بن أمية قيل لسعيد بن المسيب من أبلغ الناس: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقيل له: ليس من هذا نسألك قال: معاوية(94/23)
وابنه وسعيد وابنه وما كان ابن الزبير بدونهم ولكن لم يكن لكلامه طلاوة مقبولة. فمن العجب أن ابن الزبير ملأ دفاتر العلماء كلاماً وهم لا يحفظون لسعيد بن العاصي وابنه العاصي من الكلام إلا ما له بال.
ومن الخطباء عمرو بن سعيد وهو الأشدق وسعيد بن عمرو بن سعيد وكان ناسباً خطيباً وأعظم الناس كبراً وهو خطيب ابن خطيب. ومن الخطباء سهيل بن عمرو الأعلم أحد بني حسل بن معيص. ومن الخطباء عبد الله بن عروة ابن الزبير قالوا وكان صفوان يشبه به وما علمت أنه كان في الخطباء أحد أجود خطباً من خالد بن صفوان وشبيب بن شبيبة الذي يحفظ الناس ويدور على ألسنتهم من كلامهما وما علمنا أن أحداً ولد لهما حرفاً واحداً.
ومن النسابين العلماء عتبة بن عمرو بن عبد الرحمن الحارث بن هشام وكان من ذوي الرأي والدهاء وكان ذا منزلة من الحجاج بن يوسف وعمرو بن الرحمن خامس خمسة في الشرف وكان هو الساعي بين الأزد وتميم في الصلح. ومن بني الحرقوس شعبة بن القلعم. وكان ذا لسان وجواب عارضة وكان وصافاً فصيحاً
. وبنوه عبد الله وعمرو وخالد كلهم كانوا في هذه الصنعة غير أن خالداً كان قد جمع بين بلاغة اللسان والعلم والحلاوة والظروف وكان الحجاج لا يصبر عنه.
ومن بني أسيد بن عمرو تميم أبو بكر بن الحكم كان ناسبة راوية شاعراً وكان أحلى الناس لساناً وأحسنهم منطقاً وأكثرهم تصرفاً ومنهم معلل بن خالد أحد بني أنمار بن الهجيم وكان نسابة علامة راوية صدوقاً مقلداً ومنهم من بني العنبر ثم من بني عمرو بن جندب أبو الخنساء عباد بن كسيب وكان شاعراً علامة وراوية نسابة وكانت له حرمة بابي جعفر المنصور ومنهم عمرو بن خولة كان ناسباً خطيباً وراوية فصيحاً من ولد سعيد بن العاصي والذي أتى سعيد بن المسبب ليعلمه النسب ومن خزاعة بن مازن أبو عمرو بن العلاء وأخوه أبو سفيان ومنهم أبو نوفل بن أبي عقرب كان نائباً خطيباً فصيحاً وهو رجل من كنانة أحد بني عريج ومن بني كنانة ثم من بني ليث ثم من بني الشداخ يزيد بن بكر بن دلب وكان يزيد عالماً ناسباً وراوية شاعراً. وولد يزيد بن يحيى وعيسى وهو الذي يعرف في العامة بابن داب وكان من أحسن الناس حديثاًَََ وبياناً وكان شاعراً راوية وصاحب رسائل وخطب وكان يجيدها جداً.(94/24)
وكان أبو الأسود الديلي وأسمه ظالم بن عمر، وبن جندل ابن سفيان خطيباً عالماً وكان قد جمع شدة العقل. وصواب الرأي. وجودة اللسان وقول الشعر والظرف ومنهم زياد بن ظبيان التميمي العاشي وكذلك ابنه عبيد الله كان أفتك الناس وأخطب الناس. ومنهم صعصعة بن صوحان من خطباء الخوارج وعبيد الله بن زياد ويضرب به المثل. وكان عثمان بن عروة أخطب الناس وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيباً شاعراً، وفصيحاً جامعاً، وجيه الرأي كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء.
ومن خطباء قريش خالد بن مسلمة المخزومي وهو ذو الشفة ومن خطباء العرب عطارد بن حاجب بن زرارة وهو كان الخطيب عند النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الخطباء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان مع ذلك راوية ناسباً شاعراً. وكان الجارود بن أبي سبرة ويكنى أبا نوفل من أبين الناس وأحسنهم حديثاً وكان راوية علامة شاعراً مغلقاً. ومن الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون عبد الله بن عباس ذكره حسان بن ثابت فقال:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فضلاً
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي أربة في القول جداً ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقة ... فنلت ذرها لا دنيا ولا وغلا
ومن خطباء بني هاشم أيضاً داود بن علي وكان يكنى أبا سليمان. وكان أنطق الناس وأجودهم ارتجالاً واقتضاباً لقول ويقال أنه لم يتقدم في تحبير خطبة قط وله كلام كثير معروف محفوظ. ومنهم عبد الله بن الحسن. ومن خطباء بني هاشم ثم من ولد جعفر بن سليمان سليمان بن جعفر والي مكة قال المكي: سمعت مشايخنا من أهل مكة يقولون انه لم يرد عليهم أمير منذ عقلوا الكلام غلا وسليمان لبين منه قاعداًن وأخطب منه قائماً. وكان داود بن جعفر إذا خطب استحقر ومضى مسرعاً فلم يرده شيء وكان في لسانه شبيه بالرثة وكان أيوب فوق داود في الكلام والبيان ولم يكن له مقامات داود في الخطب. وكان إسماعيل بن جعفر من أدق الناس لساناً، وأحسنهم بياناً. ومن خطباء بني هاشم جعفر بن الحسين بن علي وكان أحد من ينازع زيداً في الوصية فكان الناس يجتمعون ليسمعوا مجاوبتها فقط وجماعة من ولد العباس في عصر واحد لم يكن لهم نظراء في أصالة الرأي، وفي الكمال والجلالة وفي العلم بقريش والدولة، ولأقدار الرفيعة، وكانوا فوق الخطباء،(94/25)
وفوق أصحاب الأخبار، وكانوا يجلون من هذه الأسماء، إلا أن يصف الواصف بعضهم ببعض ذلك. منهم عبد الله بن صالح والعباس بن محمد واسحق بن عيسى واسحق بن سليمان وأيوب بن جعفر هؤلاء كانوا أعلم بقريش وبالدولة وبرجال الدعوة من المعروفين برواية الأخبار. وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم. ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي فأما بصر فكان صاحب أخبار وأحاديث وكان لا يعد، وحديث ابن الكلبي والهيثم. وأما إبراهيم فأنه كان رجلاً لا نظير له وكان خطيباً، وكان ناسباً، وكان فقيهاً، وكان نحوياً عروضياً، وحافظاً للحديث راوية للشعر شاعراً، وكان فخم الألفاظ، شريف المعاني.
ومن خطباء تميم جحدب وكان خطيباً راوية ومن ولد المنذر عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن المنذر وكان فقيهاً عالماً قاضياً، وكان راوية شاعراً، وكان خطيباً ناسباً، وكان حاضر الجواب مفوهاً، وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يشبه بعامر الشعبي وكان يكنى أبا شبرمة. ومن الخطباء المشهروين في العوام والمقدمين في الخواص خالد بن صفوان الأهتمي. ومن خطباء بني ضبة حنظلة بن ضرار وقد أدرك الإسلام وطال عمره حتى أدرك وقعة الجمل ومن خطباء بني ضبة وعلمائهم مشجور ابن فيلان ابن خرشة وكان مقدماً في المنطق.
ومن خطباء الخوارج قطري بن الفجاءة وله خطبة طويلة مشهورة وكلام كثير محفوظ. ومن خطباء الخوارج ابن صديقة وهو القاسم بن عبد الرحمن بن صديقة وكان صغرياً خطيباً ناسباً ويشوبه ببعض الظرف والهزل ومن علماء الخوارج شبيل بن غرزة الصنبعي صاحب الغريب وكان راوية خطيباً وشاعراً ناسباً. ومن الخطباء المذكورين روح ابن زنباع والحجاج بن يوسف. ومن خطباء الخوارج وعلمائهم عمران بن حطان ومن علمائهم حبيب بن خدرة الهلالي. ومنهم المقعطل قاضي عسكر الأزارقة أيام قطري. ومنهم عبيدة بن هلال اليشكري ومنهم الضحاك بن قيس ونمهم نصر بن فلحان.
ومن الخطباء معبد بن طوق العنبري. ومن خطباء عبد القيس مصقلة بن رقبة ابن مصقلة وكرب بن رقبة. ومن الخطباء قيس بن خارجة. وكان أبو عمار الطائي خطيب مذبح كلها. ومن الخطباء أيوب القرية. ومن خطباء غطفان في الجاهلية خويلد بن عمر والعشراء بن جابر بن عقيل بن هلال بن سمي بن مازن بن فزارة وخويلد خطيب بوم ألفجار. ومن(94/26)
الخطباء الوضاح بن خشيمة ومن أصحاب الأخبار والنسب والخطب والحكام عند أصحاب النفورات نبو الكوأ. ومن الخطباء القدماء كعب بن لؤي وكان يخطب العرب عامة ويحض كنانة خاصة على البر فلما مات اكبروا موته فلم نزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام ألفيل.
ومن الخطباء الأنبياء العلماء الذين جروا من الخطبة على إعراق قديمة شبيب بن شبيبة قال أبو الحسن: كان أبو بكر خطيباً. وكان عمر خطيباً. وكان عثمان خطيباً. وكان علي خطيباً. وكان من الخطباء معاوية ويزيد وعبد الملك ومعاوية بن يزيد ومروان وسليمان بن الوليد ووليد بن يزيد والوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. ومن خطباء بني هاشم زيد بن علي وعبد الله بن حسن وعبد الله بن معاوية خطباء لا يجارون. ومن خطباء النساك والعباد الحسن بن أبي الحسن البصري. ومطرف بن عبد الله الحرشي، ومورق العجلي، وبكر بن عبد الله المزني، ومحمد بن واسع الأزدي، ويزيد بن أبان الرقاشي، ومالك بن دينار السامي. وليس الأمر كما قال في هؤلاء القاص المجيد والواعظ البليغ وذو المنطق الوجيز فأما الخطب فأنا لا نعلم أحداً يتقدم الحسن البصري فيها وهؤلاء وإن لم يسموا خطباء فأن الخطيب لم يشق غبارهم. ومن الخطباء من بني عبد الله بن غطفان أبو البلا وكان راوية ناسباً. ومنهم هاشم بن عبد الأعلى الفزاري. ومن الخطباء حفص بن معاوية الغلابي. ومن بني هلال بن عامر زرعة بن ضمرة وكان ابنه النعمان بن زرعة بن ضمرة من أخطب الناس. ومن الخطباء عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي. ومن خطباء بني تميم عمرو ابن الأهتم وكان يدعى المكحل لجماله لم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه ومن بني منقر عبد الله بن الأهتم وكان خطيباً ذا مقامات ووفادات. ومنهم صفوان بن عبد الله بن الأهتم وكان خطيباً رئيساً وابنه خالد بن صفوان. ومنهم عبد الله بن الأهتم وقد ولي خراسان ووفد على الخلفاء وخطب عند الملوك ومن ولده شبيب بن عبد الله بن الأهتم وعبد الله بن عبد الله ابن الأهتم وخاقان بن الأهتم. ومن خطبائهم محمد الأحول بن خاقان وكان أخطب بني تميم. ومن خطبائهم معمر بن خاقان. ومن مؤمل بن خاقان ومن خطبائهم خاقان بني صريم ابن الحارث الخرج بن الصدى. ومن خطباء بني تميم ثم من مقاعس عمارة بن أبي سليمان. ومن ولد مالك بن سعيد عبد الله والعباس ابنا رؤبة. وكان العباس(94/27)
علامة عالماً ناسباً راوية وكان عبد الله أرجز الناس أفصحهم وكان يكنى أنا الشعثاء وهو العجاج. ومن خطباء هذيل أبو المليح الهزلي أسامة بن عمير. ومنهم أبو بكر الهزلي كان خطيباً قاصاً وعالماً بيناً وعالماً بالأخبار والآثار.
ومن خطباء عمان مرة بن فهم التليد. ومن العتبك بشر بن المغبرة بن أبي صغرة ومن خطباء اليمن ثم من حمير الصباح بن ثقي الحميري كان أخطب العرب. ومنهم ثم من الأنصار قيس بن الثماس. منهم ثابت بن قيس بن الثماس خطيب النبي. ومنهم روح بن زنباع. ومن خطبائهم الأسود بن الكذاب كعب العنسي. وكان طليحة خطيباً وشاعراً وشجاعاً وكاهناً وناسباً. ومن خطباء الأنصار سعد بن الربيع. ومن القدماء في الحكمة والخطابة والرياسة عبيد بن شربة الجرهمي وأسقف نجران وأكيدر صاحب دومة الجندل وأفيعى نجران وذرب بن حوط وعليم بن مناب وعمرو بن ربيعة وهو الحي بن حارثة بن عمرو مزيقيا، وجذيمة بن مالك الأبرش. ومن القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء لقمان بن عاد لقيم بن لقمان ومجاشع بن دارم وسليط بن كعب بن يربوع سموه بذلك لسلاطة لسانه ولؤي بن غالب وقس بن ساعدة وقصي بن كلاب. ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيغي وربيعة بن حذر وهرم بن قطبة وعامر بن الظرف ولبد بن ربيعة.
ومن النساك والزهاد من أهل البيان عامر بن عبد قيس وصلة بن أشيم وعثمان ابن أدهم وصفوان بن محرز والأسود بن كلثوم والربيع بن خيثم وعمرو بن عتبة بن فرقد وهرم بن حيان ومورق العجلي وبكر بن عبد الله بن الشخير الحرشي ومالك بن دينار وحبيب أبو محمد ويزيد الرقشي وصالح المزي وأبو حازم الأعرج وزياد مولى عيّاش بن أبي ربيعة وعبد الواحد بن زيد وحيان أبو الأسود ودهثم أبو العلا.
ومن النساء رابعة التيسية ومعاذة العدوية امرأة صلة بن أشيم وأم الدرداء ومن نساء الخوارج البلحاء وغزالة وقطام وحمادة وكحيلة ومن نساء الغالية ليلى الناعطية والصدوق وهند. وأبو الوليد الحكم الكندي ومحمد بن محمد الحمراني وكلاب وكليب وهاشم الأوقص وأبو هاشم الصوفي وصالح بن عبد الجليل والخطفي وهو جد جرير بن عطية بن الخطفي وهو حذيفة بن بدر بن سلمة.(94/28)
ومن القصاص أبو بكر الهزلي وهو عبد الله بن أبي سليمان كان خطيباً بيناً صاحب أخبار وآثار وقص ابنه مطرف بن عبد الله بن الشخير في مكان أبيه. ومن كبار القصاص ثم من هذيل مسلم بن جندب وعبد الله بن عرادة بن عبد الله بن الوضين. ومن القصاص موسى بن الأسواري وكان من أعاجيب الدنيا كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور به فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية ثم يحول وجهه إلى ألفرس فيفسرها لهم بالفارسية فلا يدري بأي لسان هو أبين واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منها الضيم على صاحبتها إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الأسواري.
قال أبو عثمان: وشأن عبد القيس عجب وذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين فرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب ولم يكونا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن معدن ألفصاحة وهذا عجب ومن خطبائهم المشهورين صعصعة بن صوحان وزيد بن صوحان وشيخان بن صوحان ومنهم صحار بن عياش وصحار من شيعة عثمان وصوحان من شيعة علي ومنهم مصقلة بن رقبة ورقبة بن مصقلة وكرب بن رقبة.
نقل ابن النديم من خط ابن مقلة أسماء الخطباء فإذا هم: أمر المؤمنين علي عليه السلام طلحة بن عبيد الله، خالد واسماعيل ابنا عبد الله القسري، عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، جرير بن يزيد بن خالد، يزيد بن عبد الله بن خالد، خالد بن صفوان، عبد الله بن الأهتم، صعصعة بن صوحان، بن القرية، محمد بن قيس الخطيب، زياد بن أبي سفيان، قطري بن الفجاءة، الوليد بن يزيد، أبو جعفر المنصور، المأمون، شبيب بن شبيبة، العباس بن الحسن العلوي، محمد بن خالد بن عبد الله القسري وعبد الله ابنه، شعبة بن عقال.
(11) من خطب البلغاء
قال أبو جعفر النحاس: أن حفظ خطب البلغاء والتفنن في أساليب الخطباء من آكد ما يحتاج إليه الكاتب وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة ومجامع الخطب بها تفاخرت العرب في مشاهدهم وبها نطقت الخلفاء الأمراء على منابرهم بها يتميز الكلام وبها يخاطب الخاص والعام وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة وعلى طريق الخطباء(94/29)
مشت الكتّاب. قال أبو الهلال العسكري: الرسائل والخطب متشاكلتان في أهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية وقد يتشاكلتان أيضاً من جهة الألفاظ والفواصل فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة والرسالة تجعل خطبة والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة لها.
وعلى هذا رأينا أن ننقل هنا نموذجاً من خطب الرسول وأصحابه وبلغاء الخطباء جاهليةً وإسلاماً ونحن نوصي القارئ أن لا يغفل خصوصاً عن خطب علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فأن نهج البلاغة أكبر نهج للخطيب والكاتب يستقيان منه مادة عقل وعلم وأدب وبلاغة وسياسة وإدارة ونحن نضمن لما كان له طبع شفاف إذا استظهر نهج البلاغة وتفطن لما فيه من النكات العلمية معتمداً مثلاً على شرح أبي الحديد المطول وتمرن في أساليب الخطابة على مناحي البلغاء والعرب المستعربة والعاربة والعرباء يوشك أن يكون من لغة هذا الشأن في هذا العصر أيضاً فإن كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه لا تبلى ديباجته وجدته، وكلما كرر حلاً، ومهما تأملته علا، ففي كلامه عبقة من النور الآلهي، ونفحة من الروح النبوي، ولو لم يكن للسان العرب غير خطب الخليفة الرابع، لكان كافياً في شرفه وبيانه، أن يجر على لغات الشرق والغرب ذيول ألفخر والمباهاة.
خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
أن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم أني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد علمي هذا في موقفي هذا. أيها الناس أن دمائكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت أللهم أشهد فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها. وأن ربا الجاهلية موضوع وأن أول ربا بدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وأن دماء الجاهلية موضوعة وأن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب. وأن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية.(94/30)
والعمدقود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس أن الشيطان قد يش أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس أنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحقرونه عاماً ليواطنوا عدة ما حرم الله. وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وأن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله الموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت أللهم أشهد. أيها الناس أن لنسائكم عليكم حقاً وأن لكم عليهن حقاً لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرّح فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالعمروف وأنما النساء عندكم عون لا يملكن لأنفسهم شيئاً أخذ تموهن بأمانة الله وأستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في الناس واستوصوا بهن خيراً ألا هل بلغت ألله أشهد. أيها الناس إنما المؤمنين أخوة فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ألا هل بلغت أللهم أشهد فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فأني قد تركت فيكم ما أن أخذتم به لم تضلوا بعده كتاب الله وأهل بيتي ألا هل بلغت أللهم أشهد. أيها الناس أن ربكم واحد وأن أباكم واحد كلكم لآدم آدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا هل بلغت قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب أيها الناس أن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث والولد للفراش وللعاهر الحجر من دعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فغليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نموذج من خطبة الوفود
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفدت وفود العرب على حضرته الشريفة فقدم وفد بني تميم في جملة من وفد مع حاجب بن زرارة بن عدس وفيهم الأقرع بن حابس(94/31)
والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم والحتات ومعتمر بن زيد في وفد عظيم ومعهم عييتة بن حصن الفزاري فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج إلينا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج إليهم فقالوا جئنا نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا فأذن لهم فقام عطارد فقال: الحمد لله الذي له علينا ألفضل الذي جعلنا ملوكاً ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عدداً فمن يفاخرنا فليعدد مثل عددنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: أجب الرجل فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي له السموات والأرض خلقة قضى فيهن بما أمره ووسع كرسيه عليه ولم يكن شيء قط إلا من فضله ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً واصطفى من خير خلقه رسولاً أكرمهم نسباً وأصدقهم حديثاً وأفضلهم حسباً فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله تعالى من العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه أكرم الناس نسباً وأحسن الناس وجوهاً وخير الناس فعالاً ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعاه نحن فنحن أنصار الله ووزراء رسوله نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه ومن كفر جاهدناه في الله أبداً وكان قتله علينا يسيراً والسلام عليكم. فقالوا يا رسول الله ائذن لشاعرنا فأذن له فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العرب يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم ي} نس القرع
نما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هوياً ثم نصطنع
فننحر الكوم غبطاً في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلا استقادوا وكان الرأس ينقطع
إنا أبينا ولم يأب لنا أحد ... إنا كذلك عند ألفخر نرتفع
فمن يفاخرنا في ذاك يعرفنا ... فيرجع القول والأخبار تستمع
قال وكان حسان بن ثابت غائبا فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجيب شاعرهم قال حسان فلما سمعت قوله قلت على نحوه(94/32)
إن الذوائب من فخر وأخونهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا التفع في أشياعهم نفعوا
يرضى بها كل من كانت سريرتهم ... تقوى الإله وكل البر يصطنع
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لا دنى سبقهم تبع
لايرقع الناس ماأوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون مارقعوا
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
أعفة ذكرت في الحي عقتهم ... لا يطمعون ولا يزري بهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الزرع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد ببيشة في أرساغها فدع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول أو سمعوا
فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس إن هذا الرجل لأوتي له خطيبهم أخطب من خطيبنا وشاعرهم أشعر من شاعرنا ثم أسلموا وأجارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أنزل الله تعالى إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون - انتهى عن الكامل لابن الأثير
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد اختلف الأنصار والمهاجرون في يوم السقيفة: (إن الله قد بعث فينا رسولا شهيدا على أمته ليعبدوه ويوحدوه وهم يعبدون من دون الله آلهة شتى من حجر وخشب عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم وتكذيبهم إياه وكل الناس لهم مخالف زار عليهم فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم فهم أول من عبد الله في هزه الأرض وآمن بالله وبالرسول وهم أوليائه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده لاينازعهم إلا ظالم وأنتم يامعشر الأنصار من لاينكر فضلهم في الدين ولاسابقتهم في الإسلام رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله وجعل غليكم هجرته فليس بعد(94/33)
الأولين المهاجرين عندنا بمنزلتكم نحن الأمراء وأنتم الوزراء لاتفاتون بمشورة ولاتقضى دونك الأمور).
فرد عليه حباب بن المنذر قائلاً: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترى على خلافهم ولا يصدروا إلا عن رأيكم أنتم أهل العز وأولوا العدد والمنعة وذو البأس وإنما ما تصنعون ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير.
فأجابه عمر رضي الله عنه قائلاً: هيهات لا يجتمع اثنان والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ولنا بذلك الحجة الظاهرة من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته.
فأجابه حباب قائلاً: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبو عليكم فاجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فأنه بآسيافكم وأن الناس لهذا أدين أنا جذيلها المحك وعذيقها المرحب أنا أبو شبل في عرينة الأسد والله لئن شئتم لنعيدها جذعة.
وقال أبو بكر في هذا الموقف أيضاً من رواية أخرى:
يا معشر الأنصار لو شئتم أن تقولوا أنا آويناكم في ظلالنا وشاطرناكم في أموالنا لقلتم فنحن وأنتم كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين ازلفت ... بنا نعلنا في الواطنين فزلت
أبوا أن يملوها ولو أن أمنا ... تلاقي الذي يلقون منا مللت
هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت ادفأت وأظلت
يا معشر الأنصار أن العرب لا تدين لهذا الحي من قريش فلا تنفسوا على أخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله.
إلى آخر ما ورد في هذا المقام على اختلاف الروايات فيه عند المؤرخين وكذلك ينسى الإسلام للخطابة صنيعها يوم اليرموك إذ خرج المسلمون متساندين فخطبهم خالد بن الوليد رضي الله عنه قائلاً: هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه ألفخر والبغي اخلصوا جهادكم وأرضوا الله بعملكم فإن هذا يوم له ما بعده ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية وأنتم(94/34)
متساندون. فأمروه عليهم ونبذوا التساند ظهراً فأنزل الله عليهم نصره وأيديهم بروح منه وهو ولي المؤمنين.
من خطب أكثم بن صيفي بني تميم:
يا بني تميم لا يفوتكم وعظي أن فاتكم الدهر بنفسي أن بين حيزومي وصدري لكلاماً لا أجد له مواقع إلا سماعكم ولا مقار إلا قلوبكم فتلقوه بإسماع مصغية وقلب واعية تحمدوا مغبته الهوى يقظان والعقل راقد والشهوات مطلقة والحزم معقول والنفس مهملة والرؤية مقيدة ولم يعدم المشار مرشداً والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل ومن سمّع سمع به ومصارع الرجال تحت بروق الطمع من سلك الجد أمن العثار ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ويشغل فكره ولا نجاوز مضرته نفسه يا بني تميم الصبر على جرح الحلم أعذب من جنى ثمر الندامة ومن جعل عرضه دون مال استهدف للذم وكلم اللسان أنكى من كلم البيان والكلمة مرهونة ما لم تخرج من ألفم فإذا نجمت فهي أسد محرب أو نار تلهب ورأي الناصح دليل لا يجوز ونفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب
ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إلى الإسلام أرسل أكثم ابنه حبشياً فأتاه بجبره فجمع بني تميم وقال:
يا بني تميم لا تحضروني سفيهاً فإن من يسمع يخل أن السفيه يوهن من فوقه ويثبت من دمنه لا خير فيمن لا عقل له كبرت سني ودخلتني زلة فإذا رأيتم مني حسناَ فأقبله وأن رأيتم مني غير ذلك فقوموني استقم أن ابني شافه هذا الرجل مشافهة وأتاني بخبره وكتابه يأمر فيه المعروف وينهى عن المنكر ويأخذ بمحاسن الأخلاق ويدعو إلى توحيد الله تعالى وخلع الأوثان وترك الحلف بالنيران وقد عرف ذو الرأي منكم أن ألفضل فيما يدعو إليه وأن الرأي ترك ما ينهى عنه أن أحق الناس بمعونة محمد ومساعدته على أمره أنتم فأن يكن الذي يدعو إليه حقاً فهو لكم دون الناس وأن يكن باطلاً كنتم أحق الناس بالكف عنه والستر عليه وقد كان أسقف نجران يحدث بصفته وسفيان بن مجاشع يحدث به قبله وسمّى ابنه محمداَ في أمره أولاً ولا تكونوا آخراً ائتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين أن الذي يدعو أليه محمد لو لم يكن ديناً لكان في أخلاق الناس حسناً أطيعوني وأتبعوا أمري اسأل لكم أشياء لا تنزع عنكم أبداً وأصبحتم أعز شيء في العرب وأكثرهم عدداً فأني أرى أمراً لا(94/35)
يجتنبه عزيز إلا زل ولا يلزمه ذليل إلا عز أن الأول لم يدع للآخر شيئاً وهذا أمر له ما بعده.
فقال مالك بن نويرة قد خرف شيخكم فقال أكثم ويل للشبحي من الخلي ولهفي على أمر لم أشهده ولم يسبقني. ومن أمثاله السائرة ما قاله في وصيته لبنيه
تباروا فإن البر يبقي عليه العدد، وكفوا ألسنتكم فإن مقتل الرجل بين فكيه، أن أقول الحق لم يدع لي صديقاً، الصدق مناجاة، لا ينفع الوقي مما هو واقع، وفي طلب المعالي يكون العناء، ومن قنع بما هو فيه قرت عينه، التقدم قبل التندم، اصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح ذنبه، لم يهلك من مالك ما وعظك، ويل لعالم أمر من جاهله، يتشابه الأمر إذا أقبل وإذا أدبر عرفه الكنيس والأحمق، البطر عند الخاء حمق والعجز عند البلاء أفن. ومنها: تباعدوا في اليار تغاربوا في المودة، لا تغضبوا من اليسير فأنه يجني الكثير، لا تجيبوا قيما لم تسألوا عنه، ولا تضحكوا مما لا يضحك منه، نعم لهو الحرة المتزل، حيلة من لا حيلة له الصبر، المكثار كحاطب ليل، من أكثر أسقط، لا تجعلوا سراً إلى أمة. ومن هذا النوع خطبته أمام كسرى وهي:
أن أفضل الأشاء أعاليها وأعلى الرجال ملوكها وأفضل الملوك أعمها نفعاً وخير الأزمة أخصبها وأفضل الخطباء أصدقها والصدق منجاة والكذب مهواة والشر لجاجة والحزم مركب صعب والعجز مركب وطيء الرأي الهوى والعجز مفتاح ألفقر، وخير الأمور الصبر حسن الظن، ورطة وسوء الظن عصمة، اصلاح فساد الرعية خير من اصلاح فساد الراعي، من فسدت بطالته كان كالغاص بالماء شر البلاد بلاد لا أمير بها، شر الملوك من خافة البريء، المرء يعجز لا المحالة أفضل الأولاد البررة خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة، أحق الجنود بالنصر من حسنت سيرته، يكفيك من الزاد ما بلغلك المحل، حسبك من سماعه الصمت حكم، وقليل فاعله البلاغة الإيجاز من شدّد نفّر ومن تراخى تألف.
خطبة لقس بن ساعدة الأيادي أسف نجران:
لما قدم وفد أياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة الأيادي قالوا كلنا نعرفه قال فما فعل قالوا هلك قال يرحم الله قساً أني لأرجو أن يأتي يوم القيامة أمة وحده أني لا أنساه بسوق عكاظ في الشهر الحرام على جمل له أحمر وهو(94/36)
يخطب الناس ويقول:
اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكا ما هو آت آت أن في السماء لخبراً وأن في الأرض لعبراً، سماء تمور ونجوم تغور في فلك يدور ويقسم قس قسماً أن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون ارضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا. أيكم بروي من شعره. فأنشد بعضهم:
في الذاهبين الأولين ... من القروين لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
لا يرجع الماضي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر
أيقنت أني لا محا - لة حيث صار القوم صائر
وكان قس يفد على قيسر ويزوره في قصره فسأله يوماً ما أفضل العقل قال: معرفة المرء نفسه قال: فما أفضل العلم قال: وقوف المرء عند علمه قال: فما أفضل الموءة قال: استبقاء الرجل ماء وجهه قال: فما أفضل المال قال: ما قضي به الحقوق.
ومن خطبه في إياد قوله: تباً لأرباب الغفلة والأمم الخالية والقرون الماضية يا معشر إياد أين الآباء والأجداد وأين المريض والعواد وأين ألفراعنة الشداد وأين من بني رشيد وزخرف ونجد وأين المال والولد، أين من بغى وطفى وجمع فأوعى وقال: أنا ربكم الأعلى ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً وأطول آجالاً طحنهم الدهر بكلكله ومزقهم بطوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو الله المعبود ليس بوالد ولا مولود.(94/37)
الشعر المنثور
وداع غوطة دمشق
وداعاً غوطة ألفيحاء، مجلى الطبيعة ومغنى النس، وروضة الطيبات، ومهبط التجليات، سلام زكي كتربتك المسكية، جميل جمال بيطك السندسية، عطر كأنوار أدواحك الجنبة، وتحية طيبة تتساقط على عمرانك تساقط الوابل والطل على جناتك الغبياء وجراحك الغلباء، وأشجارك الملياء، وغلاتك الكثيرة الأتاء.
سلام عليك يا مستقر النعماء، وقرارة الهناء والرخاء، وخير خلوة يفزع إلى أرجائها الناسكون والعالمون، ويتقلب في أجوائها عشاق الطرب وأرباب المجون فيك تتجسم عظمو خالق السموات إذا بالغ في الأفضال على الأرضين، وتبدو قمة الخلق إذا صحت عزائمهم أن يكونوا عالمين لا خاملين، فليس في الأقاليم ما يفوتك باعتدال المواسم وانترار المباسم، وتلون المظاهر، وتنوع الثمرات والأزاهر، وتلي الجداول والأنهار، وتجلي الطبيعة في العثايا والأسحار.
سلام على وادي دمشق إنه آية الحسن والإحسان، فيه تتجدد الحياة كل حين لأنه بمنزلة الربيع من الزمان، ويحلو العيش في ظل أفيائه على سذاجته مهما كان مراً وتطمئن النفس إلى التنقل في رباعه برداً كان أو حراً، إيه غوطة جلق لم يؤثر عنك أن أمسكت خيراتك عاماً عن أبنائك فلا تفتأين على الدهر تخرجين لساكنيك أفلاذ أكبادك على تعاقب الأمم والدول، وتصدقين الود لكل من يطلب قربك فيعيش معك في رخاء وصفاء.
سلام على سكونك في الليالي الظلماء والقماء، ربيعاً كان أو صيفاً أو خريفاً أو شتاءً، وهنيئاً مريئاً لمن يستمتعون بالنظر إليك من الصباح إلى المساء، ويتعهدونك بالحرث والكرث والتقليم والتنقية والزرع والأرواء، سواء عندهم حمارة القيظ وصبارة القر وظلمة الليل وشمس النهار، سلام غليهم أنهم مثال النشاط في المزارعين، لا يضنون على أرضهم بأوقاتهم وأتعابهم وهي تجردهم ضروب الخير والمير كلما جودوا زراعتها، وتزيدهم بركات على بركات كلما رعوها فأحسنوا رعايتها، وهم مهما صهرت جسومهم حراتها، وصفرت سحناتهم رطوبتها، بيض الوجوه شم الأنوف، لأن رزقهم مناط أيديهم العاملة، لا يعتمدون في تحصيل قوتهم، على غير قوّتهم، ولا يتكلون إلا على من ينزل الغيث ويمع(94/38)
الزرع، ويدر الضرع، ولو حسن فيها نزع ألفضول من العقول، وأنيرت بأنوار علوم المدينة على الأصول، فتعهد أبناؤها بالتربية كما تربى عندهم الرياض والحقول، وتوقى مما يؤذي الزروع والثمار والبقول، لكانت خير بقعة يسكنها ساكن في الحياة، ولصلح عليها قول من قال طوبى لمن كان له في أرضها مربط شاة.
سلام غوطة دمشق كلما غردت اطيارك فلك على المشاعر سجع الحمام واليمام، وهديل العندليب والهزاز وتغريد العصفور والشحرور، كيف لا تستهوين النفس وتعيق الغربان ونقيق الضفادع إذا رددهما الصدى في لياليك يفسرهما القلب بمعان لا تفهم منها في الكور الأخرى، كما يفسر في النهار ثغاء الماعز والحملان، وخوار البقر وجؤار الثيران.
فسلام وألف سلام عليك يا كريمة الطبع، وبديعة الصنع، وعريقة المجد، ونبيلة الجد والجد، وزكية العرق ن وهنية الزرق، وطيبة النجار، والمحسنة للأهل والجار، ففي مغانيك تصفو النفس من كدورات هذه الحضارة الملفقة، وتنجو من سماع فظائع الإنسانية المعذبة، وبقليلك - وإن كان قليلك لا يقال له قليل، يغطبط الإنسان، ولا يتكالب على حطام الدنيا تكالب الضاري من الحيوان، وبتطلع الزهرة ربة الجمال من منافذ أفقك توحي إلى الخيال روحاً من عندها فتفيض القرائح وترق العواطف، وفي منبسط صعيدك الطيب يسلو الخاطر همومه وتطرب الحواس، من دون ما كاس ولا نغمة أوتار وأجراس.
وفي هذا الريف العجيب تقرأ سور العدل الآلهي في تقسيم الأرزاق فلا فقر مدقح ولا غنى مفرط، ويعيش القائمون على تعهده عيشاً متشابهاً ألا قليلاً ن يغتني أفراد منهم بذكائهم واقتصادهم، فلا ترى في فقرائهم سلاطة الجياع أرباب النهم، ولا في أغنيائهم قسوة قلوب أهل الرفاهية والنعم، فسبحان من وفر للغوطة قسطها من الغنى والغناء، وضاعف لها حظها من الجمال والإعتدال، وأجزل لها عناصرها الحيوية فزادها كرماً لجديدين نماء إلى نماء.
وداع الشام
عنيت بشرق الأرض قدماً وغربها ... أجوب في آفاقها وأسيرها
فلم أر مثل الشام دلر إقامة ... لراح أغاديها وكأس أديرها
مصحة أبدان ونزهة أعين ... ولهو نفوس دائم سرورها(94/39)
مقدسة جاد الربيع بلادها ... ففي كل أرض روضة وغديرها
هذا ما وصف به البحتري القطر الشامي منذ نحو ألف سنة وهو يصدق عليه اليوم وإلى ما بعد اليوم فقد منح الفاطر تعالى هذا القطر من ضروب الجمال والاعتدال ما هو قرة العيون وبهجة النفوس فقضى أن تأخذ فيه ألفصول الأربعة حكمها وأن تتم في قيعانه وجباله وأسباب النعيم في الحياة: أهويته معتدلة، وأمطاره وثلوجه متهاطلة، وتربته مخصبه، وغاباته ومعادنه ليست بقليلة، وأنهاره جارية، وبحيراته غريبة وأجواؤه بهجه، ورباعه منبسطة.
تعشق الشام لأنها رأت طلعة موسى وعيسى وأحمد صلوات الله عليهم من النبين وأمثال الإسكندر وابن الخطاب وابن الوليد ونور الدين وصلاح الدين وسليم وابراهيم ونابليون من ألفاتحين وعمر بن عبد العزيز والمأمون من الخلفاء العادلين فقل في الممالك كما قال كورتيوس المؤرخ الألماني ما اندمج فيه الكثير من التواريخ في بقعة ضيقة كهذه.
يضم الشام بين جوانحه معظم المعتقدات والمذاهب ولذلك كثر بالأمس الطامعون به فكان من حسنات هذه الحرب أن قضي على مطامعهم آخر الدهر إن شاء الله وعرف من لم يكن يعرف أن الجامعة العثمانية أشرف الجامعات وأقواها وأن التفكر في غيرها مثلبة مهلكة.
وداعاً بلاد الشام فقد اخذت بمجامع القلوب بخصائصك الطبيعية فكل تعب يهون في خدمتك وكل مفاداة يستهان بها في سبيل مرضاتك فأرضك معشوقة الأنفس، وتربتك عليها درجنا وفيها ندرج ولن نتخذ عنك بديلاً مهما تحملنا من المشاق وما عناؤنا إلا ابتغاء المبالغة في العناية بأمرك.
سلام عليك بلاد الشام معدن الخيرات والبركات مهوى الهوى ومغاني الخردالعين سلام على مناظر حرمون وصنين والصبر وقاسين ويوشع والأرز والهرمل والكمل، سلام على أغوارك وأنجادك وعلى بحيراتك وأنهارك، سلام على الأردن واليرموك والعاصي والفرات وبردى والساجور والليطاني والزرقاء والعوجاء والأعوج والأولي وقاديشا والموجب وغيرها من أنهارك وجداولك التي تفيض البركات على أبنائك.
سلام على جبال الشراة والخليل وعامل وسئير وحوران وعجلون وحرمون ولبنان وعكار واللكام وأنطاكية والقصير وريحا، سلام على سهول حوران والجولان والجيدور والغوطة(94/40)
والبقاع والبقيعة وحمص ومرج ابن عامر وشارون والبلقاء، سلام على آثارك وعادياتك قديمها وحديثها، ولا سيما جرشك وبتراؤك وبعلبكك وتدمرك. أحبت القلوب هذا القطر السعيد لأنه حوى على ضيق مضطربه ما لا تحويه الأقطار بل القارات من الحسنات وفيه من الغرائب الطبيعية والصناعية ما دعا الأمم إلى شد الرجال إليه والحج إلى مزاراته وزيارة مصانعه ومعاهده. يعرف ذلك كل من فارقه مدة وقابل بينه وبين غيره في عمرانه وطبيعته.
إيه سورية مجموعة غرائب العالم تستودعك قلوبنا فإن بك حيث كنا قد شغلت عقولنا أننا نودعك على أمل اللقاء القريب ونحن نحمل إليك من أنباء جاراتك التي يظلها علم الهلال المنصور ما ينفس الكربة ويزيل الغمة ويفيض النعمة بحول الله ولا قوة إلا به.
في شبه جزيرة كليبولي
إلى هذه البقعة الطيبة بمناظرها وغاباتها وسهولها وجالها يهوي اليوم ويحق له أن يهوي فؤاد كل عثماني يحب هذا الوطن المحبوب ويتفانى في التيرك بتربته ويخاف عليها من عوادي المعتدين ويكره لها ظل المستعمرين من الغربين.
جزيرة مستطيلة كهذه يبلغ عرضها فيما أذكر من ستة كيلوا مترات إلى ثلاثين وطولها 85 كيلوا متراً تتقاذفها القنابل والقذائف والمدمرات والمتفجرات وطيارات السماء ودوارع الماء منذ زهاء سبعة أشهر وهي لا تزال صابرة على الأذى باسمة الوجه للقاء العدى.
في هذه الشبه الجزيرة تجلى العقل العثماني وتمّ آخر ما وصلت إليه مدارك أبناء هذا الوطن قي استكمال أسباب الدفاع والأخذ بحظ أوفر من أساليب الكر والفر والتعبئة والمصاف ولولا هذه العناية والإستهانة بكل عزيز في سبيل الذود عن حمى هذه الشبه الجزيرة لتبدلت وجة الحرب الأوربية ولنلنا من الإضطهاد ما لا يخطر لناعلى بال.
هذه الأرض المحاطة بالبحر من أكثر أطرافها عرفت دول الإتفاق المربع ولا سيما انكلترا وفرنسا منهن أن هناك قرة أسمر من قوة البشر وهي القوة الآلهية التي استبد إليها العثمانيون قبل كل شيء ودونها قوى الأساطيل والغواصات والطيارات والمقذوفات والمفرقعات يضاف إليها يقين مازج الأفئدة والأرواح من الإنتصار وكراهة ليس بعدها غاية لحكم الأجنبي والتشبع بعاني الوطنية والجنسية. وقفت على جبهات الحرب في مواقع(94/41)
أري بروني وأنافورطة وجناق قلعه وأشرفت على أنحاء سد البحروهي المواقع الأربعة التي دار ويدور عليها القتال واشتد فيها الطعن والنزال فعظم في عيني غناء جيشنا وفاخرت نفسي بقواتنا وضباطنا وجندنا وأيقنت أننا إذا ضمنا شملنا في كل نازلة وكل شأن وتذرعنا بعامة الأسباب التي يتذرع بها البشر المدن نضاهي أعظم الدول منعة ومضاء وها قد قضينا باعتصامنا بحبل الله على مطامع الطامعين من الإنكليز والفرنسين وهم ما هم بقواهم البرية والبحرية.
سبعة أشهر مضت على دفاع جناق قلعه والعدو يمخر العباب بدوارعه وطراداته ورعاداته ومدمراته ويخرج إلى البر الكتائب اثر الكتائب ويستجلب السلاح ويتذرع بأقصى ما وصل إليه طرق الإنسان من التفنن في إرهاق الخصم واقتحام السبل فلم يستطع التقدم شبراً عن المكان الذي نزله أول يوي ولا يزال جيشه تحت حماية أساطيله لا ذرى له ولا أكمات وجيشنا يطل عليه اطلالاً يذيقه كل يوم مرارة الهزائم وألواناً وأشكالاً ويفحش القتل في رجاله حتى قدر الهالك منه بنحو مئة ألف فقدها وفقد معها جانباً من أسطوله وأنفق مئات الملايين من الدنانير وهو في مكانه لم ينل ولن ينال بحول الله ما تطمع به نفسه من استباحة حمانا.
هذا المضيق هو في الحقيقة مفتاح دار الخلافة وكان المتفقون على مثل اليقين بأن عملهم سهل يحتاج إلى بضعة أسابيع ولكن خيب المولى ظنونهم ونعى عليهم اعتدالهم بقوتهم وألقى عليهم أمثولة مما ينال الظلمة من سوء المغبة وأن التمويه للعبث بعقول الناس لحكمهم كما تحكم البهائم إن جاز يوماً فلا يجوز على الأمم في آخر وأن الله لا يضيع عمل عامل.
إن دفاعنا عن حمانا في جناق قلعه قطع آخر عرق من الآمال للمتفقين وقضى على مطامعهم فينا أند الدهر إن شاء الله ومن رأى ما رأيناه هنا من أبداعنا في طرق القتال وشاهد استعدادنا في حصولنا وطرقنا وسلاحنا ومدافعنا ونظام جيشنا وما ينبغي له من المؤنة والذخيرة والتمريض يجهر بصوته قائلاً هذا عمل لا يتهيأ إلا لأمة تحب أن تبقى ولا يتيسر إلا لمن كتبت له السعادة.
غابات شبه جزيرة كليبولي ونجادها ورهادها وسواحلها وسهولها لقد طلت في ربوعك دماء(94/42)
زكية من دماء العثمانيين ولكنها ستبقى على جبين الأيام مسكية الأريج عطرة الثناء تنم عن معرفة من استشهدوا في سبيل ألفرض الوطني وذاقوا معنى الوطن والوطنية. إن الدم الطاهر الذي أريق على تربتك جعل لها ريحاً من ريح الجنة وسيكون لمن فادوا بها من الذكر الجميل ما كان لأبطال المسلين في وقائع الصليبين وشعار ذلك: هذا عمل أفراد قتلوا ليحيوا أمة وفادوا بنفوسهم في سبيل الله ليحموا ذمار الخلافة المعظمة ويربأوا بهذا الوطن عن أن يستباح حماه ويحافظوا بأرواحهم على آخر دولة إسلامية مستقلة جمعت شمل الإسلام والمسلمين وحمت حمى الحرمين الشريفين.
كلما هبت الصبا والشمال على أرجاء شبه جزيرة كليبولي وطلعت عليها الشمس وغربت وأقمرت السماء وأمطرت وأثلجت وأرعدت وأبرقت يردد لسان الحال فيها هذه ثمرة التضامن بين أعضاء البيت الواحد. هنا قضى العربي والتركي واللازي وغيرهم لإعلاء كلمة الحق واتقاء عادية الدخيل الثقيل. هنا نظم العثمانيون أرقى جيش انتظم لهم منذ عهد ألفاتح وسليم وسليمان وتشبع أهله بروح الوطنية وغنم غزاتهم أحياءً وأمواتاً سعادة الدارين.
أرض شبه جزيرة كليبولي ستبقين مقدسة في نظر كل عثماني خاصة وكل مسلم عامة كما قدس الله الأرض المقدسة وستذكرك الأجيال عقيب الأجيال والدهور إثر الدهور بالإعظام والاحترام كما تذكر هذه الحرب العامة بالهول والاستغراب. أنت كذبت البشر في ادعائهم أن كل محصور مأخوذ وأكدت لهم عكس القضية في أن كل محصور محفوظ فسلام عليك محاربة ومسالمة. وألف ألف رحمة ورضى على عظام شهداء ضمتها تربتك الطيبة ومروجك السندسية وتلعاتك الزمردية.(94/43)
بلاد العرب
البلاد العربية على التحقيق هي كل شبه الجزيرة التي يحيط بها ألفرات وخليج فارس وخليج عمان شمالاً وشرقاً وجبال وروس والبحر المتوسط والبحر الأحمر شمالاً وغرباً والبحر الهندي فيما سوى ذلك بل ينبغي أن يضاف إليها معظم البلاد الواقعة بين نهري ألفرات ودجلة من عرض ماردين وديار بكر شمالاً إلى القرنة جنوباً فإن كل هذه البقعة كانت من أول فجر التاريخ إلى هذه الغاية يسكنها أقوام من الجنس السامي هم أقرب ما يكون إلى العرب والعادية العدنانية في أخلاقهم وعوايدهم ولغتهم فضلاً عن بنيتهم الجسمانية. وتشير التقاليد العربية على ما ذكر أشهر المؤرخين إلى أن العاديين في أقدم دولهم التي نزلت الأحقاف وحضرموت وبعدهم تمود هاجروا إلى الجنوب من العراق وما يجاوره.
والآثار دلت دلالة لا يختلف فيها أحد من العلماء الباحثين في العصر الحاضر على أن حمورابي الشهير كان عربياً والمتحقق أيضاً أن لغة بابل القديمة ولغة الآشوريين الذين شادوا فيما بين النهرين دولة من أعظم الدول القديمة كانت لغتهم عربية أو أقرب ما يكون إلى اللغة العربية العادية أو العدنانية المضرية. وإشباع البحث الآن في هذا الموضوع خارج عن مقصدنا وربما عدنا إليه في مقالة على حدة.
موضوع مقالتي الحاضرة هو بلاد العرب الأصلية الواقعة جنوبي خط موهوم يمتد من رأس خليج السويس إلى رأس خليج العجم بين البحر الأحمر غرباً والبحر الهندي جنوباً وشرقاً وخليج عمان وخليج فارس شرقاً وشمالاً. وحدودها واضحة كل الوضوح ليس في بلدان الدنيا ما هو أوضح منها إلا في جهتها الشمالية حيث يحدها الخط الموهوم كما أشرنا.
مساحة هذه البلاد
مساحة هذه البلاد بين مليون ومليون ومئتي ألف من الأميال المريعة ثلثها رمال دهناوية ونفودية (نسبة إلى دهناء ونفود) ومعظم هذه الرمال في الدهناء الكبيرة المعروفة بالربع الخالي بين اليمن وحضرموت وعمان وبلاد نجران إلى ما يصاقب قلعة بيشة غرباً وجنوباً وشرقاً وجنوبي شبه جزيرة قطر مما يلي عمان إلى واحة يبرين إلى الدواسر شمالاً ثم النفوذ الشمالي الكبير الذي يفصل بين صحراء سوريا شمالاً وبلاد شمر خيبر ومدائن(94/44)
صالح جنوباً.
وهناك رمال أخرى تفصل بين الحسا وهي كل البلاد الواقعة على الخليج ألفارسي من فاو تقريباً إلى شبه جزيرة قطر وبين نجد ثم الرمال التي تفصل شمر ونجداً عن العراق من مشد علي شمالاً إلى فاو جنوباً وهذا الثلث من الأرضين لا عمارة فيه أصلاً إنما ينزله الأعراب أو ينزلون أطرافه في الشتاء والربيع لرعاية أنعامهم وفي بعض هذا اثلث أحسن المراعي العربية في الزمن الذي أشرنا إليه.
والثلث الثاني صحار وحزون هي مراع للسائمة من الإبل والشاه وليس فيها عمران حضري إلا ما ندر حيث ثم بعض أعداد المياه. وأعداد المياه جمع عد وهو الماء الجاري لا ينقطع والقديم من الركايا.
وأما الثلث الثالث فأرض زرع وضرع لا ينفص في خصبه عن أخصب الأرضين في العراق وضفاف النيل في مصر والصعيد وفي هذا الثلث أغلب اليمن ومتصرفية عسير وقسم كبير من عمان ومعطم أودية حضرموت ونجد ولا سيما الفلج وأعراض اليمامة وواحات الحسا.
عدد السكان
يختلف الكتاب في تقدير عدد سكان هذه البلاد وحقهم أن يختلفوا لاتساع مساحتها وانفصال بعض أقسامها عن بعض وصعوبة الوصول إلى كل قسم من أقسامها أياً كان أما للحوائل الطبيعية أو لتنكر أهلها من غريب عنهم يجوس خلال ديارهم والذي رأيناه في مطالعتنا كلها لكتاب من الإنكليز. وهؤلاء لا يؤتمنون على الحقيقة في كل ما يتعلق بالبلاد العثمانية فإنهم منذ زمن بعيد لا يرون ولا يكتبون إلا ما يوافق سياستهم ومقاصدهم الخصوصية الخفية حتى في أمر كالذي نحن في صدده أي عدد السكان فأنهم يزيدون فيه أو ينقصون على ما يكون أمام غايتهم وقد رأيت لكاتب ورحالة منهم مشهور يعرف باسم كين مؤلفاً جغرافياً في مجلدين وفيه ما يقضي بالعجب فإنه يذكر في موضع من كتابه أن سكان هذه البلاد لا يزيدون عن خمسة ملايين في الأكثر ثم يذكر في موضع آخر أنهم يبلغون اثني عشر مليوناً وبين العددين تفاوت كبير. ولا أتصدى الآن لبيان الداعي الذي دعاه لذكر هذين العددين المختلفين اختلافاً بيناً من غير أن يظهر في كتابته أو في إشارة إلى أنه فطن(94/45)
إلى ما بينهما من التفاوت العظيم ولكبي أذكر ما ذكره عن المستر ولفرد بلنط الكاتب والسياسي الإيرلندي المشهور وهذا الرجل زار حائلاً مدينة ابن الرشيد وعاصمة بلاد شمر فقال كين عنه أنه (أي بلنط) تحقق أن موقع حائل بالنسبة إلى جبل أجا هو غير ما ذكره الجغرافيون وأهل العلم بتخطيط البلدان ومع علمه هذا لم يصلح الخطأ مخافة أن يقتنع العثمانيون من إصلاحه فيما إذا عرضت واقعة مهمة في المستقبل تقتضي معرفة موقعها الحقيقي. والظاهر من كتابته أنه لم ينكر عن بلنط ولا رأى فيما أتاه من إخفاء هذه الحقيقة لهذا الغرض ما يؤاخذ عليه. وأقوام هذه حالتهم وهكذا مقاصدهم ومتجه أفكارهم لا نلام فيما إذا كنا نشك في كل ما كتبوه ويكتبونه عن الحكومة العثمانية والبلاد العثمانية حتى عن عدد الأجناس المختلفة فيها ولا أظن أن كين يختلف عن بلنط من هذا القبيل فإنهما انكليزيان وكل انكليزي من غير طبقة الغوغاء يسابق صاحبه في خدمة مقاصد دولته وترويج سياسة الحكومة العليا في الخارج يكاد يفعل ذلك سليقة وبالبديهة وقائدهم في ذلك صحافتهم الداهية الخلابة والصخابة عند الإقتضاء.
والذي أرجحه في عدد سكان العربية أنهم يزيدون عن الإثني عشر مليوناً ف ن عمان بلاد واسعة خصبة جيدة الهواء قليلة الوبالة وأهلها يحسنون الزراعة ويشدون شيئاً من الصناعة الخاصة بهم والرائجة عندهم وفوق ذلك هم أهل تجارة واستعمار وفد كان معظم شرقي افريقية لهم بل امتددت سلطتهم وتجارتهم إلى قلب الكنغو وأواسط جنوبي إفريقية وما زالت كل بلاد زنجبار لهم إلى أن خالطوا البريطانين فعمل هؤلاء على التخفيف عنهم من ثقل مسؤوليتهم في افريقية ففصلوا هذه أولاً عن مركز السلطة في عمان ثم ما زالوا يخففون من مشاق العثمانيين وسلطان زنجبار في تلك الأصقاع ويتحملون هم تلك الأعباء الشاقة عنهم حتى لم يبقوا عليهم شيئاً من التعبئة يستحق الذكر فجزاهم الله عن أتعابهم جزاء يستحقونه!
بلاد كبلاد عمان بلاد زراعة وصناعة وتجارة واستعمار وتكاد تكون إلا في سواحلها أحسن بلاد في الدنيا طيب هواء وجمال مناظر وفوق ذلك لا تقل مساحتها عن خمسة وثمابين ألف ميل مربع أي مضاعف مساحة سورية من رأس خليج اسكندرون إلى العريش ولها بادية أيضاً هي ضعف بادية سورية مساحة على الأقل. بلاد هذه صفتها ما أظن ينقص عدد سكانها عن عدد سكان سورية وفي الراجح عندي أنهم لا يقلون عن أربعة ملايين.(94/46)
ومن الغريب أن كين يقدر عدد سكان عمان في كتابه المطبوع سنة 1896 بمليون ونصف من النفوس ويقدر عدد سكان شمر والبحرين ونجد بثلاثة ملايين ونصف على أن بولفريف قدر في سنة 1862 إمارة ابن الرشيد وكل بلاد نجد بدواً وحضراً بمليون وسبعمئة ألف نفس وقدر سكان عمان بمليونين ومئتين وثمانين ألف نفس على التفصيل الآتي:
عدد نفوس إمارة ابن الرشيد الحضر
اسم البلاد عدد القرى عدد السكان
جبال شمر 4. 162،. . .
الجوف 12 4.،. . .
خيبر 8 2.،. . .
القصيم العليا 2. 35،. . .
تيماء 6 12،. . .
عدد البدو
شمر 8.،. . .
الشرارات 4.،. . .
الحويطات 2.،. . .
بنو عطية 6،. . .
معاز 4،. . .
طي 8،. . .
وحيدية 8،. . .
المجموع بدواً وحضراً أربع مئة وأربعون ألفاً تقريباً
عدد سكان إمارة نجد الوهابين من الحضر
اسم البلاد عدد القرى عدد النفوس
العارض 15 11.،. . .
اليمامة 32 14.،. . .
الحريق 5. 45،. . .(94/47)
اسم البلاد عدد القرى عدد النفوس
أفلاج 12 12،. . .
وادي دواسر 5. 1. .،. . .
سليل 14 3.،. . .
الوشيم 2. 8.،. . .
سدير 25 14.،. . .
القصيم (السفلى) 6. 3. .،. . .
الحسا 5. 16.،. . .
القطيف 22 1. .،. . .
المجموع 316 1، 219،. . .
عدد البدو أو الأعراب
اسم القبيلة عدد الأنفس
العجمان 6،. . .
بنو هاجر 4، 5. .
بنو خالد 3،. . .
بنو مطير 6،. . .
بنو عطيبة 12،. . .
الدواسر 5،. . .
السباعة 3،. . .
قحطان 6،. . .
حرب 14،. . .
عنيزة 3،. . .
آل مرة 4،. . .
بطون متفرقة 1.،. . .
المجموع 76، 5. .(94/48)
ومجموع البدو والحضر 1، 285، 5. .
فإذا أضفنا إلى هذا العدد نفوس إمارة ابن الرشيد أي أربعمئة وأربعين ألف نفس كان مجموع عدد السكان في شمر ونجد أي في إمارة ابن الرشيد وإمارة ابن سعود نحواً من مليون وسبعمئة وخمسة وخمسين ألفاً.
فلينظر ناظر إلى مقدار التفاوت بين تقدير الرجلين والذي أعتقده أن بولغريف زاد في عدد إمارة الرشيد بعض الزيادة ونقص من عدد ابن السعود لميله إلى الأول وكرهه الثاني.
وأما إمارة عمان فأرجح أيضاً أن بولغ ريف قدّر عدد سكانها بأقل مما هو حقيقة واعتمد في ذلك على بعضهم ممن كانو يعرفون الحكومة الإنكليزية في تلك البلاد أو على معرفته هو بالسليقة أو بالبداهة ثم جاء كين بعد ثلاثين سنة من أيام بولغريف وكانت المنازعات على عمان بدأت في شدتها بين الإنكليز والفرنساوين فقدر عدد تلك الامارة بما قدره تهويناً من أمرها على ألفرنساويين فيما أرجح وألا فلا يعقل أن تتراجع هذه البلاد على خصبها واستتاب الاظمن فيها إلى الوراء فيقل سكانها بعد مرور ثلاثين سنة نحواً من سبعمائة ألف أي ما يزيد على خمسة وثلاثين في المئة على حين كان يجب أن يكون العكس أن يزيد عدد سكانها في هذه المدة أربعين في المئة عما كانت هليه في أقل تقدير.
لنرجع إلى موضوعنا فنقول: قدر كين ولاية الحجاز بثلاثة ملايين نسمة وولاية اليمن بمليوني ونصف النسمة ولم يجر ذكراً لحضرموت ولا للقارة بين حضرموت وعمان وكذلك لم يشر أدنى إشارة إلى منطقة عدن وما حواليها مما هو داخل في نفوذ مملكته وكذلك لم يذكر شيئاً عن بلاد سبأ التي عاصمتها مارب ولا عن الجوف ولا عن نجران ولا ما يحوم حول هذه البلدان أو يتبعها تبعاً سياسيا أو تجاريا أو جواراً.
أما الحجاز ويراد به كل متصرفية عسير فضلاً عن أرض الحرمين فتقديره ولا يبعد كثيرا عن الصواب فيما أرى، وكذلك تقديره اليمن فأن الداخل منه في ولايتنا العثمانية كما هي ولاية سوريا لايزيد فيما أظن عن المليونين والنصف، إلا أن هناك ما هو عثماني ألا أنه تحت حكم أمرائه وشيوخه اليمانيين لا أثر فيه لنفوذ أجنبي وذلك كقبائل حاشد وبكيل وهمدان وخيوان في الجبال التي إلى الشرق والشمال من صنعاء والحكم فيه لأمام الزيدية ومقره الآن في صعدة على ما أرجح فكل هذا القسم من اليمن وفيه معظم مملك حاصور(94/49)
القديمة وصميم الدولة الحيرية ممن عرفو بالأزواء في آخر عهدهم ويلحق به بلاد مأرب ولاجوف ونجران لا ينقص عدد أهليته فيما أرجح عن المليون والنصف من السكان وهو غير بعيد فإذا قدرنا سكان حضرموت ومهرة بثلاثة أرباع المليون ويقدرون عادة بين المئتي والثلاثمئة ألف في أعلى تقدير واضفنا ذلك إلى الأغداد المذكورة سابقاً بلغ سكان العربية من أربعة عشر مليوناً والنصف مليون وان شئت قل خمسة عشر مليون على ما يأتي:
أسماء الإمارات والولايات - عدد السكان بالملايين
إمارتا أبن السعود وابن الرشيد 3. . . . . .
إمارتا الحسا والقطيف 35. . . . .
سلطنة عمان 4. . . . . .
ولاية الحجاز 3. . . . . .
ولاية اليمن 25. . . . .
يافع ومأرب والجوف وبلاد حاشد وبكيل ونجران 15. . . . .
حضرموت ومهرة والقرى 5. . . . .
المجموع 145. . . . .
نسبة هذه الولايات والإمارات عسكرياً
أما عمان فمنفصلة كل الانفصال لما يحبط بها من بحور الرمال من كل الجهات مما أدى إلى انقطاع طريق الحاج البرية بينها وبين مكة منذ مئات السنين بل الطرق التجارية بينها وبين الحسا والقطيفة قلما يسلكها احد الآن ومثل ذلك الطريق إلى نجد واليمامة، ولاقوم لا يحملون حقداً على العثمانيين وكثيا منهم أهل السواحل لم يسمعوا شيئاً مما يفتري أهل البريطانيين علينا لأن هؤلاء القوم الحملان يتحرجون اخلاصاً ويأثماً من التشنيع علينا عند العثمانيين في داخلية بلادهم لأن العثمانيين يخافون ما يخافون منهم إذا مر مار منهم زائرأً أكرموه وأحسنوا ضيافته كل الإحسان ثم يصرفونه من حيث أتى راجعاً أدراجه
وأما في السواحل فالقوم يعلمون عن البريطانون وعن مقاصدهم أكثر مما يعلمه العلمون منا نحن وقد اختبروا أمرّ أختبار ما أنتجته مداخلاتهم التجارية والسياسية منذ أواسط القرن(94/50)
الماضي إلى اليوم من إلقاء بذور ألفتنة ثم تحيزهم إلى ألفاتنين بما أوجب شق السلطنة وانتزاع كل شرقي افريقية منهم أخيراً
على أن العثمانيين يخافون قوة القوم البحرية ويدارونهم غاية المداراة ولكنهم على حذر منهم وتيقظ وذلك مما جعلهم حتى الساعة يستغنون عن مساعداتهم الخيرية ومعاهدهم التهذيب وسركاتهم التجارية وطرقهم الحديدية والفضل في ذلك عائد إلى أهل الجبال من الداخلية فأنهم مستقلون في داخليتهم عن حكومة مسقط استغناء كل ولاية عمن الولايات المتحدة عن حكومة واشنطن على أقل تقدير.
إن بولغريف الإنكليزي اليسوعي الشهير استطاع أن يلقي بعض المفاسد في حائل والرياض وكثيراً منها في الحسا والقطيفة أما في عمان فلم يستطع شيئاً من ذلك.
وقد ذكر عن حسن معاملة القوم للغرباء وكرم أخلاقهم وحسن ضيافتهم ما لو استطاع إخفاءه لإخفاه أو قوي على إنكاره لأنكره ويقول أيضاً أن العثمانيين على الساحل يخافون طمع الإنكليز ويرقبوهم بعين الحذر وأما في الداخلية وضمن جبالهم وهم هناك أهل النجدة والبأس فلا يبالون بالبريطان وإلى الآن لم يجسر أحد منهم على اختراق بلادهم ولو عابر سبيل.
وأشد من العثمانيين تجنباً للإنكليز ولكل أجنبي أهل مهرة وحضر موت ساحلهم وداخليتهم أما في الداخلية فلا وصول للإنكليز إليهم بوجه من الوجوه والمطلع على سياحة ثيودور بنت المترجمة إلى المقتطف سنة 98 على ما أظن أن هذا الرجل الغني وفي حاشيته الإمام بهادور شريف وغيره من المسلمين لاقى من مقاومة السكان ما لاقى مع أنه كان معتمداً في سياحته على مساعدة سلطان مكلا وهي أكبر فرضة على ساحل حضرموت ولسلطانها معاملات كثيرة مع الهند وعدن سياسيا وتجارياً.
ومع ذلك لم يكن هذا الرجل يطأ داخلية حضرموت حتى اضطر أن يرجع أدراجه على غاية من الخوف والسرعة كما كان نصيب ليوهرش المستشرق النمساوي الشهير من قبله هذا في حضرموت أما عدن وما حولها حيث منطقة النفوذ الإنكليزي فإن معظم به حاكم عدن من رؤساء القبائل الذين تنتقدهم الحكومة الهندية راتباً معلوماً في كل سنة أن يؤمنوا طريق التجارة فلا يعرضون القادمين إلى عدن بمحصولات الداخلية ولا الراجعين منها(94/51)
بالبضائع الإنكليزية والهندية لا يطمعون منهم بأكثر من ذلك.
وأما أهل نجد فقل عنهم أضعاف ما قلناه من أهل حضرموت وعدن واليمن فإنهم يكرهون كل تداخل أجنبي ترى ذلك واضحاً في إجماع خاصتهم وعامتهم على البعد عن دهاة لجنة الخليج ألفارسي. ولطالما اجتهدت هذه اللجنة ومركزها في أنو شير في أن تقوي النجدين وتدخلهم في معاهدة أو رابطة معها فلم تفلح.
وفي سنة 1864 على إثر بولغريف من الرياض خائباً ناقماً على الأمير فيصل الوهابي وعلى الوهابيين وكان جاء الرياض متنكراً على نفقة إمبراطور فرنسا ومر بحائل أيضاً فعلى إثر انصرافه برغث صدر الكونيل لوس بلي مدير سياسة الخليج ألفارسي فكتب رسالة خاصة إلى الأمير فيصل يستأذنه في زيارة إلى مقره في الرياض فأغفل الأمير جوابه فكتب ثانياً يسأل خفارة وأدلآ. ولما طال الوقت ولم يرد جواب الأمير عبر إلى الكويت ومن هناك أرسل ثالثة ما كان سأله من الخفارة والإدلاء وانظر عدة أسابيع وبعد أن طال انتظاره وكاد يفرغ صبره ورد عليه جواب الأمير بأوجز عبارة لا يزيد عن صريح الإذن بقبول زيارته ولكن لا دليل ولا خفراء فسافر هذا الرجل هو وحاشيته في بزّه أهل نجد لم يجسر أن يظهر بزّيه الإفرنجي ولما بلغ الرياض نزل في مقصف لابن الأمير خارج المدينة ولم يؤذن له بمواجهة الأمير فيصل إلا في اليوم الثاني وبه تردد مدة ثم بعد أن أقام ثلاثاً لم ير له أفضل من سرعة الرجوع فزم جماله واعتمد دليلاً من قناصة الصليب فقاده هذا في طريق غير مطروق نفذ به شمالي الهفوف. ومما يذكر في هذه الزيارة أن الكولونيل وحاشيته لم يجسروا أن يستعملوا شيئاً من سياحاتهم العلمية الجغرافية في أخذ عرض مكان أو طوله أو رسم خارطة للطريق الذي مروا فيه أو شيئاً آخر مما يحرص عليه أصحاب الرحلات من علماء الأوربيين. ومنذ عهده إلى هذا العهد لم يدخل نجداً بريطاني لا سائحاً ولا جاسوساً فيما نعلم ويعلمه أيضاً جورج هوغرث صاحب الكتاب المشهور المسمى اختراق البلاد العربية المطبوع سنة 19. 4.
والخلاصة فإن أهل نجد هم من أبعد أهل العربية عن الإسترسال إلى الإنكليز بوجه من الوجوه مهما بلغ من دهاء سياستهم وخلابة مواعيدهم.
والشمريون لا ينقصون مثقال ذرة عن إخوانهم النجدين ولا يحتاج إلى اطالة الكلام في(94/52)
شأنهم فإنهم الآن جنباً إلى جنب مع العثمانيين يدفعون في صدر الإنكليز لم تؤثر فيهم رقاهم ولا خلبتهم مواعيدهم الغرارة التي هي كما نلم ويعلمون ولا يطعن فيما أوردناه من نفور عرب البادية من دهاة البريطانيين ورجال السياسة وذوي الوعود البراقة فيهم، عصيان أمير مكة السابق الشريف حسين عون وما تواتر عنه من أنه استهواه الذهب الإنكليزي فجوابنا لمن أراد نقض ما بنيناه بمثل هذا القول أن عمل الأمير حسين من الأعمال الخارقة للعادة التي لا تنجلي حقيقتها ولا تتضح أسبابها إلا بعد خمود نارها وحينذاك يصح للمعترض أن يؤسس ما يقوله على فكرة ثابتة وأما وأنباء حسين وأعوانه غامضة وراء ستار وهو وجمعه يأتون ما يأتونه من خلف أجبال وكهوف تحجب عنا أمرهم وتستر سرهم فلا يمكن للمؤرخ الاعتماد على نبأ غير مسبور الغور ولا واضح الحقيقة.
هذا ما اتفق لنا إيراده الآن في البحث عن الأقطار العربية. والإيغال في ذكره يعوزنا إلى المجلدات. وفوق كل ذي علم عليم.
بيروت
ج. ض(94/53)
العلم في ألمانيا
لم تحرز ألمانيا التفوق الباهر على الشعوب المتمدنة في فروع العلم والصناعة إلا بفضل انتظام جامعاتها وارتقاء كلياتها فهي تتجدد على مرور الزمان وتتطور بأطوار العصور وتراقب الاختراعات والاكتشافات في جامعات أوربا وأمريكا الكبرى فتناظرها وتنافسها فهي تبعث كل عام في العطلة المدرسية بوفود علمية مؤلفة من فحول العلماء والأساتذة ومعهم فريق من نوابغ التلامذة ونخبة أذكيائهم للطواف في عواصم العالم المتمدن والتفتيش عن نظامات دور العلم والصناعة والمجامع الأدبية والفلسفية والطبية والمحافل المالية والاقتصادية وذلك لاقتباس ما يناسب الروح الألمانية فتعود البعثة مزودة بأجد الأفكار وأحدث الأطوار وتطبق حينئذ العلم على العمل وعلى هذه الطريقة ترسخ أقدام التجدد في تلك الكليات التي أصبح لها ألفضل العظيم في تكوين الوحدة الألمانية، وتشييد أركان هذه الإمبراطورية الواسعة التي أرهبت العالم بقوتها وصوتها وامتداد سلطانها في قلب القارة الأوربية بعد أن كانت شعوباً متفرقة وإمارات متشتتة ومعرضة لإطماع ألفاتحين والغزاة من القياصرة والملوك. قال بسمارك في حديث له مع أحد المكاتبين الحربيين في حرب السبعين أن ألمانيا لم تنتصر على فرنسا في ميادين القتال والنزال إلا بفضل النظام ناشئتها ورجاحة عقول شبيبتها التي أدركت المنافع الوطنية من طريق المدرسة وعرفت أن حياة الافتراق والانشقاق لا تفرق كثيراً عن الموت الحقيقي والانقراض الطبيعي فليست مهارة القواد الألمانيين وكثرة الجيوش وقوة السلاح هي التي نصرت ألمانيا على عدوتها بل المدرسة الألمانية والعقل المدني هو الذي عقد ألوية النصر والفوز على رؤوس الألمانيين فالحروب الحديثة لا تأثير السلاح والكراع فيها وإنما العامل الوحيد للانتصار فيها هو العقل والتربية والنظام ونمو الروح الوطنية وفي الحقيقة أن ألمانيا لم تكن على جانب كبير من العلم والتمدين يوم اكتسحا نابليون وأخضعها لسياسته وجبروته فقد كانت حينئذ ميداناً للفتن وكان الخصام والنزاع والبغضاء سائدة مستحكمة في قلوب أمرائها وملوكها فلما أنشئت المدارس في أرجائها وشيدت الدارس في أمصارها وأقطارها وأشرقت شمس العلم والعرفان في البلاد أصبح من الخزي والعار أن يخضع الألمان لأجنبي فاتح فكان من آثار تلك النهضة العلمية نهضة سياسية أثمرت الوحدة الألمانية وأعقبها انقلاب عجيب في العلم والصناعة والتجارة والزراعة.(94/54)
للجامعات الألمانية بما تكتشفه وتخترعه فيما ينفع الحضارة والعمان المقام الرفيع بين كليات العالم المدني ولها الامتياز على غيرها من الكليات باتباعها خطة بث الاستقلال ألفكري والاعتماد على النفس وحب العمل والتجرد إلى ما ينفع الوطن والعنصر وقد فضلها بعض العلماء الباحثين على جامعات ألفرنسيين والإنكليز والأمريكيين من هذه الوجهة، ومما أذاع شهرة الكليات الألمانية وجود دور المساعي والمباحث العلمية التي أنشئت كفروع لها يطبق فيها التلميذ النظريات على العمليات بعد نيله الشهادة بالامتحان ففي إحدى كليات ألمانيا نحو خمسين فرعاً لها من دور البحث والتنقيب في المسائل العلمية وهي تشمل على عدد كبير من المكتبات والمتاحف والمصانع لإجراء التجارب ألفنية في الطب والكيمياء والهندسة وعلم طبقات الأرض والفلك وغيرها من فروع العلم والصناعة التي توسع مادة الدماغ الألماني وتعده أهلاً للاكتشاف والاختراع.
في ألمانيا اليوم دور خطيرة للمباحث العلمية غير ما تقدم من المصانع الخاصة بالجامعات وهي أوسع نطاقاً وأعظم دائرة منها اتفق على تجهيزها بالأدوات العلمية وتوفير أسباب البحث والتنقيب فيها مئات الملاين من الماركات فكان لها النتائج الحسنة والفوائد الغزيرة في الحرب العامة فقد توفق العاملون فيها وهم من خيرة علماء الألمان إلى اختراع أشياء كثيرة أفادت السلاح الألماني في ميادين القتال فاكتشفوا مادة كيماوية أطلقوا عليها لفظ - بروغليسيرين - فاستعملوا مقام مادة - الغليسرين - الذي كانت تجلبه ألمانيا من الديار الأجنبية قبل الحرب فانقطع وروده بسبب احتشاء أساطيل الأعداء في البحار وقد أنتج هذا الاختراع أثراً حسناً في إظهار مقام المدينة الألمانية ولما استعمل الأعداء المواد الخانقة في مقاومة الجيش الألماني بعد أن أعيتهم الحيل والمكائد الحربية وفشلت خططهم واختلت نظاماتهم اخترع علماء الألمان الباحثون في تلك المعاهد والمصانع مادة كيماوية أبطلت تأثير الغازات الخانقة التي حرمت القوانين الدولية استعمالها رأفة بالعنصر الألماني والجامعة البشرية وعلى أثر امتداد الحرب نفدت بعض المواد الإبتدائية في ألمانيا فاكتشف الكيماويون وعلماء النبات مواداً ثابت منابها وقامت مقامها فلم يمد الألمان يد العوز والافتقار إلى غيرهم من الشعوب المتحايدة واستغنوا عن سواهم بعقولهم وأعمالهم.
من حسنات دور ألفنون الألمانية إجراء التدريس في دائرة الاستقلال والحرية لإنماء ألفكر(94/55)
وتربية العقل، فالأستاذ في الجامعة غير مضطر إلى توفيق محاضراته وخطبه مع مستوى عقل التلميذ واقتداره فهو قانع أن طلابه مستعدون لقبول ما يلقيه عليهم من الدروس العالية ومختلف الأفكار والآراء. أما التلميذ في الكلية فهو حر مستقل كأستاذه يطلب العلم الذي يراه لائقاً بنفسه ويصبو إلى الأستاذ الذي يعتقد فيه النفع والفائدة لعقله ويشتغل بدروسه على مقدار ما تميل إليه الروح والنفس وما يفوته من شوارد خطب أستاذه يستطيع أن يجده في مكتبات الكلية الغاصة بمئات الألوف من المجلدات في علوم مختلفة فإن أحط جامعة في ألمانيا لا تخلوا من مكتبة واسعة تسد حاجة التلميذ وتوسع مادة علومه ومعارفه.
أما التدريس في المدارس التالية وهي التي تعد الناشئة للدخول إلى الجامعات الكبرى - وتقابلها عندنا المدارس السلطانية - فهو جار على أصول المجانسة فالأستاذ فيها يراعي قاعدة مراقبة التلامذة وأطوارهم وطباعهم وقياس عقولهم واقتدارهم فهو يتفنن في تلقين الطلاب وحثهم على استماعها والمل بعقولهم إليها، والمراد بأصول المجانسة في المدارس الألمانية هو التزام الجد والاعتناء في إجراء الامتحانات سواء في قبول التلامذة الجدد أو في الامتحانات السنوية بحيث لا يستطيع أحد أن يجد فرقاً في العلم والعقل والاقتدار والكفاءة بين تلامذة صف من الصفوف بخلاف مدارسنا التي يجلس على مقاعد صفوفها الذكي ألفاضل إلى جانب الغبي الخامل وهو ناجم فينا عن مراعاة العواطف والالتماس في ألفحص السنوي مما أخل بنظام مدارسنا خللاً بليغاً وللمدارس التالية الألمانية عناية خاصة بأطوار التلامذة فهي تنتخب لهم مشاهير الأطباء في الأجسام والعقول لإجراء الكشف الطبي فالتلامذة المصابون بأمراض وعلل مختلفة والمبتلون بالخمول والجمود أوالحماقة وخفة العقل بطريق الوراثة لا تجوز لهم مخالطة غيرهم في المدرسة بل ينقلون إلى مدارس خاصة بهم تتوفر فيها أسباب معالجاتهم ومداواتهم مع إعطائهم قليلاً من العلوم والفنون على ما يناسب اقتدارهم وتكون غالباً تلك المدارس قائمة بين الغابات والأحراج أو على ضفاف الأنهار حول المروج وغيرها من المواقع الطبيعية.
ومما هو جدير بإطالة النظر وإمعان الفكر قلة المدارس الليلية في ألمانيا بالنسبة إلى ما في بلاد الشعوب الأوربية والأمريكية. فالألمانيون لا يقبلون عليها ولا يميلون إليها وهي تكون على الأغلب ملجأ للمنقطعين وأبناء السبيل وغيرهم من ألفقراء والمسغبين الذين يتعذر(94/56)
عليهم إعاشة نفوسهم مع الاختلاف إلى المدرسة وطلب العلم أما الأغنياء والمتوسطون وبعبارة أخرى كل من يستطيع أن يقوم بنفقة ابنه وقريبه في داره فهم يفضلون المدارس النهارية على الليلية، ومنشأ هذا الميل اعتنائهم بحياة العائلة وتربيتها فالوالد يرغب من صميم فؤاده أن يكون طفله قريباً من حياة أسرته مشاركاً لها في معائشها كي لا يطرق الخلل إلى تربيته وأخلاقه الموروثة عن آبائه وأجداده فهو يود أن يشرف دائماً على أطواره وعاداته وأخلاقه وتربيته ويرجح أن يمضي ولده سواد الليل في داره وبين أركان عائلته على أن يكون نائياً عنها في مدرسة ليلية.
ولا تقل مدارس الإناث في ألمانيا رقياً وانتظاماً عن مدارس الذكور وقد فاقت ألمانيا غيرها من أمم العالم المتمدن في هذا الشأن وبرزت عليها جميعها فالمأة الألمانية - حسب شهادة بعض العلماء - أعلى كعباً في العلم وأرقى أخلاقاً وأشرف نفساً من المرأة في فرنسا وانكلترا وأميركا وايطاليا والنمسا فهي خلقت لتربية أطفالها ومشاركة زوجها في أعماله وتخفيف كروبه وخطوبه ولها عناية كبرى في تدبير منزلها لا يسابقها أحد في هذا المضمار وهي أقل نفقة من النساء ألفرنساويات والأميركيات والإنكليزيات ولا تميل إلى البهرجة والفخفخة بل تقنع بالألبسة المتينة البسيطة وتجتهد في اجتناب ما ينافي أطوارها الاجتماعية ويمس تربيتها وأخلاقها، والفضل في ارتقاء المرأة الألمانية عائد بالطبع إلى انتظام مدارس الإناث وإحكام أصول التدريس فيها وهي تنقسم إلى ثلاثة فروع أو أقسام فالأول هو إعداد ألفتيات للدخول إلى الجامعات الكبرى والإحصاء في علم من العلوم كالطب والهندسة والفلسفة والتربية والتعليم والاجتماع والآداب والثاني هو اللحوق بدور المعلمات لتخريج معلمات من الجنس اللطيف أخصائيات في التربية والتعليم وإدارة المعاهد العلمية والثالث من أهم فروع مدارس الإناث هو المدارس الخاصة بالنساء الراغبات في علم تدبير المنزل وتأليف الأسر وإنشاء العائلات ويشترط على اللاحقات بهذا ألفرع أن يكنّ من حاملات شهادة البكلوريا وقد أصبح لهذه المدارس أثر خالد في ارتقاء الحياة الاجتماعية والانتظام السائد في المدارس الألمانية فهي تنشئ ألفتيات على أساليب علمية وأصول راقية بحيث تكون الخريجة منها صالحة لإدارة منزلها وتربية أطفالها ومعاشرة زوجها فالمرأة هي الحاكمة والأميرة المطلقة في دارها فإذا لم تكن عالمة بشؤون الاقتصاد(94/57)
وأصول التربية والأخلاق والمعاشرة تصبح وباءً على أسرتها وزوجها فشقاء الأمة بشقاء المرأة وسعادتها قائمة بتربيتها وتعليمها.
وبالإجمال فإن ألمانيا لم تهمل فرعاً من ألفروع العلمية سواء في التربية والعلم والخلاق والصناعة والتجارة والاقتصاد وجميع الماديات والمعنويات إلا وأدخلته إلى كلياتها ومدارسها التي لم تأل جهداً في إنماء الروح الوطنية في قلوب الناشئة إذ تنتخب لهذا الأمر الخطير أساليب بديعة وطرائق متنوعة بحيث يخرج التلميذ على جانب من العلم والفضل مع الوطنية الصحيحة والمبادئ العالية فيكون ألمانياً صادقاً بميوله وأفكاره وطبائعه لا يحب غير ألمانيا ولا يميل إلى غير وطنه وعنصره، ورجلاً مستقلاً بنفسه مستعداً لركوب الأخطار والمهالك في كسب الرزق وإنماء الثروة وهذا هو الذي رفع شأن ألمانيا بين الممالك والقوام فأصبح لها المقام الرفيع في عالم الحرب والسياسة والاقتصاد، وفي حياة الشعب الألماني وما تقلب عليه من حوادث العسر واليسر والتشتت والاجتماع والانحطاط والارتقاء عظات بليغة ودروس نافعة للأمم الخاملة والشعوب الجاهلة.
إبراهيم حلمي العمر(94/58)
شعر الرحلتين
تداولت أيدي المطالعين في الشهر الأخير كتابين شغلا جانباً عظيماً من ساعات فراغهم وحلا محلاً حسناً من قلوبهم وأكثرت الصحف من ذكرهما والحث على اقتنائهما حتى شعر بنفسه بالنوق إليهما كل من لم يكتب له العثور عليهما وليس في أمرهما مجال الغرابة فإن كتابين أحدهما يضم بين دقتيه ما اتفق لأدباء الشام وفلسطين من الشعر والخطب في استقبال أحد عظماء الدولة وكبار رجالها أنور باشا والثاني يستوعب أنباء رحلة وفد علمي سير بأمر القائد الكبير أحمد جمال باشا من ربوع الشام إلى عاصمة خلافة الإسلام، لهما كتابان جديران بما لقياه من إقبال القراء والباحثين حقيقان بأن يكون لهما الوقع الحسن والتأثير الأدبي لدى عامة أفراد الأمة أديبها وعالمها وأخصائيها وجغرافيها وسائر طبقاتها من مؤرخ يحفظ بهما حديث رحلتين أفردلهما مكان رحيب في صدر التاريخ، وشاعر تتمثل له فيهما صورة مجسمة عما بلغ إليه الشعر في دور صولة السيف وجفاف اليراع وكاتب يلذه ما حوياه من ضروب التفنن في الإنشاء، وخطيب يروقه سماع ما فاه به خطباء قطره في المواقف المختلفة فهو يصفق للمجيد ويتحسر على البليد، وهكذا فلكل مفكر في خلال الرحلتين نظرة يلمحهما بها وكلمة يقولها بهما، أما أنا فمن أولئك الذين استهوى حب الإجادة في المنظوم أفئدتهم واستولى الولوع بالشعر على قلوبهم فإن أردت الكلام فنكتة أدبية أمليها أو ملاحظة شعرية أرويها تاركاً ما عدا ذلك من مباحث الكتابين إلى المشتثلين به وها أنا ذا أشرع ببيان ما عثرت عليه فيهما من الحسن الجيد أو المنتقد الذي لم أجد بدأً من إظهار ما خالج الضمير من البوح به على أني لا أنجس الناس أشيائهم ومعاذ الله أن أفعل وفي شعراء الرحلتين عدد من أئمة الأدب وجهابذته وذوي المكانة الرفيعة والمنزلة السامقة من ناظمي قلائده وناثري فرائده قد يحرجهم الموقف ويضطرهم الحث على الإسراع إلى تجاوز بعض الحدود في التراكيب والقواعد أو التصور والخيال ولا أراهم بملومين اللهم ولا أراني ملوماً إذا أشرت إلى الشيء اليسير من هذا النوع خدمة للأدب واللغة والعاملين على الرفع من شأنها. . .
أول ما يبدهك من الشعر في الرحلة الأنورية قصيدة غراء أعجبني منها قول ناظمها (ص 31):
فليعلم القوم الذين تجبروا ... أنا القضاء على الذين تجبروا(94/59)
وأما القساطل في قوله (ص 32):
والنيل قد مدت إليه قساطل ... وجرى أمام ألفاتحين الكوثر
بمعنى الأوعية التي يجري فيها الماء من الحديد أو غيره فلا أحسبه مما عرفته اللغة فكان ينبغي الإشارة إلى أنه من محدثات المتأخرين وإنما القسطل الغبار. . ولا سبيل إلى منع صرف السبع بتكلف في قوله:
وببئر سبع جرى الحديد كأنما ... بخطوطه للنصر نكتب أسطر
والقصيدة الثانية في الكتاب تعد من غرره ودرره إليك منها (ص 33):
يوم يتيه به الزمان ويفخر ... ميألق بالبشر أبلج أزهر
مشت الكتائب فيه يتبع بعضها ... بعضاً تخب بها العتاق الضمير
والبض في أيدي الكماة لوامع ... كالبرق تخفى في العجاج وتظهر
ومواكب في أثرهن مواكب ... من فوقها خفق اللواء الأحمر
هتفت فرددت البلاد هتافها ... لما بدا سيف الخلافة أنور
بطل له في الخافقين كليهما ... تاريخ مجد بالسيوف مطر
وما كان ليتبغي لصاحب هذه القصيدة أن يمنع من الصرف اسم علم الجمال في قوله (ص 36):
وجمال منه لديك خير معاضد ... في بأسه ذكرى لمن يتذكر
ومن الطالع الحميلة في الكتاب ما ورد (ص 4.):
زها السرق لما لاح أنورنا ألفرد ... فمن وفده نور ومن وجهه سعد
وفي هذه القصيدة أبيات منتخبات وكان يحس بصاحبها أن يبتعد عن لغة الإشغال الرديئة في قوله (ص 242):
وحرب ضروس أشغلت حركاتها ... ممالك أوروبا وضاع بها الودّ
وعن تعدية أغار باللام في قوله:
أغار العدى للدردنيل ومادروا ... بأن بجوف الدردنيل هو اللحد
وله أن يقول: في الدردنيل. وفي الشطر الثاني ركة ظاهرة تشفع بها
أجادته بعد أبيات بقوله:(94/60)
فآبوا لسدّ البحر يبغون منفذاً ... فعادواوقتلاهم ورائهم سدّ
وراقني من المطالع قول الآخر (ص 44):
ملك الجمال اطلت فيك تحيري ... فإذا عجزت عن امتداحك فاعذر
وقول غيره (ص 49):
يا أمة لبني عثمان تنتسب ... لإنت في عزة تحنى لها الركب
ولم أرى من يجمع الخطب على خطب وقد جاء في قوله (ص 5.):
أو من يضاهي جمالاً في حماسته ... فرداً به تتقي الأزمات والخطب
وفي هذه القصيدة أبيات عامرات يعجبني منها قوله (ص 51):
هلا ذكرنا حيال الدردنيل قوى ... من الحديد بها الأمواج تضطرب
تضيق عنها فجاج البحر عابسة ... تسعى إلى الموت في أنيابها العطب
تبغي اقتحام عرين الأسد معلنة ... أن الأعادي على تذليلنا أعتصبوا
فقابلتها غداة الروع صابرة ... صبر الكرام أسود هزها الغضب
إلى أن يقول:
ردوا الأساطيل تهوي في مذلتها ... يقودها للنجاة الخوف والهرب
وأكثر النحاة على كراهية إدخال أل على كل وأن أجازها فريق منهم جاءت في قول آخر (ص 65):
وعلى العلائق بدت مطالع فوزنا ... والكل أضحى بالمنى مستبشراً
وما أرشق قوله بعده:
فوز به طاف السرور بطيبة ... وتهللت فرحاً به أم القرى
ومن عيوب الشعر الشائعة في هذه البلاد الاختلاس وهو زيادة حرف على الوزن يسرق في الإنشاد كقول الثاني (ص 67):
لا سيما فخري باشا من به افتخرت ... بين البرية أبرار وأحرار
وما أحسن قول الآخر من قصيدة يخاطب رجلي الدولة الكريمين (ص 126):
منكما هزت الشريعة سيفاً ... صقلته من السماء يدان
سيف حق يسيل ناراً ونوراً ... ما عهدنا الضدين يجتمعان(94/61)
وفي قول الآخر إشباع معيب (ص 131):
ولم تكتف منها برد حياتها ... وما فقدته من مفاخرها العز
وفي البيت الآتي قطع همزة الوصل مما لا يجوز للشاعر المجيد وإن تسامح به العرضيون
لك أسم أصوغ منه بمدحي ... عقد در من الثناء مجوهر
ولا أرى مثل هذا الاكتفاء من البديع وأن عدوه في البيع في قول القائل (ص 137) ولا تنس الكل:
يتمرنون على القتال يديرهم ... عرفاؤهم والكل في طرب وفي
وكأنه هان على ناظم هذه القلادة فقال بعد أربعة أبيات:
يا رب فانصره وأيد عرشه ... فيدوم في ظفر وفي عز وفي
ولعله أراد في الثانية معنى الوفاء فكان عليه أن يقول: وفي بالتشديد ولا يخلو من ضعف في معناه. . وأين الأدب مع الله في نهيه إياه عن التأفف بقوله:
فلأنت موئلنا ومنك غياثنا ... وإليك مرجعنا، فلا تتأفف (!)
فهل يخاطب غير السوقة بهذا القول. . واستعاض الآخر عن المهيب المهاب وهو مما انتقده الباحثون قال (ص 14.):
سلام على جند ابن عثمان إنه ... لجند مهاب لم يرعه التكاثر
وما أدري ما دفع الشاعر الآخر إلى وصف القائد المقدام بلقب الشهم وهو مما ابتذلته الطبقات المنحطة وأصبح ينعت به الكثيرون من العامة، قال يخاطب أنور باشا (ص 145):
كذاك أخوك الشهم (؟) أحمد عصرنا (؟) ... جمال لدى الهيجاء ليث غضنفر. .
وكان الأجدر بهذا الشاعر أن يتفطن لما فطن به الشاعر الأندلسي محمد بن القوزراني (المترجم في بغية المتلمس) بقوله:
ظلمناك إن قلنا الأجل ولم نقل ... هو الواحد المفضال والأوحد البرّ
وشاعرنا القائل في قصيدته (ص 144):
فيا فارس الإسلام في كل معرك ... ومن عزمه قد ذل كسرى وقيصر
أراد: ويا من من عزمه إلخ وأما كسرى فلا أعلم ما جاء به اليوم؟. . وهو القائل بعد(94/62)
أبيات:
وكن لجمال العصر عوناً معضداً ... ولا سيما في فتح مصر مبشر. .
أراد: مبشراً فغلبته القافية. . ويخطيء الكثيرون بوضع إذ مكان إن كقول الآخر (ص 147):
سل عن بسالته وشدة بأسه ... إذ كنت تجهل سر أنور في الورى
أراد: إن كنت. . وعجيب من الآخر تشبيهه أنور باشا بإبن مقلة وحسان قال (ص 148):
أين ابن مقلة ابن حسان إذا ... خطت يداه من البلاغة أسطرا
وابن مقلة خطاط وحسان شاعر فأين شاعرنا من تشبيه القائد الكبير بالفاتحين المغاور كابن الخطاب والخراساني والفاتح وابن الوليد وأمثال هؤلاء. . ولم أجد
الظميئة فيما بين يديّ من كتب اللغة والأدب قال آخر (ص 177):
وكيف تطيب النفس عن ورد فضله ... وموردها وهي الظميئة كوثر
وفي القاموس: ظمىء كفرح وهي ظمآئة. وفي الصحاح: وبابه طرب وهي ظمأى. ومثله في لسان العرب وأساس البلاغة. وفي التاج: قال شيخنا: وظمئة كفرحة زاده ابن مالك وهي متروكة عند الأكثر. فأين الظميئة. . ولعله أراد تصغير ظمئة وهو ركيك وفي هذه القصيدة مفردات تمياز بالجودة ومتانة السبك كقوله (ص 177):
وجاهدت حتى عاد للدين عزه ... وباء عدوي الله بالخزي يعثر
برزت إليه والأسنة شرع ... وخطب الرزايا (؟) للمنايا مشمر
فأوقع فيه سيفك الغضب محنة ... ستذكر حتى يحشر الناس محشر
وهناك تجوز ضعيف ارتكبه الثاني بقوله (ص 18.):
أهلا بأكرم معشر ... حيوا فأحيوا الأربعا
يريد فأحيوا، بفتح الياء، فلم يسعفه الوزن. وفي هذه الأبيات بيت يذكر في ألفوائد وهو:
النصر من أنصاره ... يسعى له أنى سعى
وأخطأ صاحب هذه البيات في قطعة ثانية قال فيها (ص 181):
فمر السعادة أنور ... والبدر أحمدنا الممجد
وألفرقد الوضاء عزمي ... داموا بتوفيق مخلد(94/63)
فالبيت الثاني غير مستقيم. . ومن بديع ما في الكتاب قصيدة جاء فيها (ص 23.):
جيش تألف والإسلام رأيته ... من خيرة العنصرين الترك والعرب
سارت بجحفله الأقدار تقدمها ... ملائك الله فوق الخيل والنجب
تسربات بدروع الوحي واعتقلت ... من نبعة النور أطراف القنا السلب
وبعد أبيات وصف بها جنود الأعداء (ص231):
الت: سأرحل عن مصر وما رحلت ... قالت: أثوب إلى العدل ولم تثب
وفي ابتداء القصيدة (ص229):
مذ قيل أنور الشعب في حلب ... قد ماجت القدس من صفو ومن طرب
ولو قال: ماجت له القدس، لكان أرشق
ترى النفوس على طول القطار له ... من شدة الشوق ملقاة على القضن
بها انتظاراً إلى ميمون طلعته ... ما بالقطار من التضرام واللهب
ولو قال: بهن شوقاً، لكان أحسن من الإنتظار. . وما دريت ألفرق بين النجب والنجب في قول الآخر (ص237):
لله أنور المقدام من شهدت ... بحزمه الخلق من نجب ومن نجب
وقال آخر (ص272):
لا غرو أن أمّ هذا القبر مبتهلاً ... يستمنح النصر حتى يأته (؟) الظفر
يريد: حتى يأتي الظفر. وهو القائل (ص274):
هذا الوزير الذي جلت مآثره ... أن يحصها العد أوأن تحوها ألفكر
يريد أن يحصيها وأن يحويها. ومن أحاسن هذه القصيدة:
هشت لمقدمك المحبوب تربتها ... كأنما أنت في أحيائها مطر
أذكرتها زمن الصديق من حقب ... أو يوم يحكم في أرجائها عمر
أراد: يوم كان يحكم. وأحسن منه: أو يوم حكم.
يسعى وغايته الإخلاص مجتهداً ... ودأبه الجد والتفكير والسهر
والأفضل لو قال: وغايته العلياء أو ما معناه وأما الإخلاص فعنوانه وقائده ومسيره. .
تلك المزايا التي خص الإله بها ... قوماً هم الناس أن عدو وإن ذكروا(94/64)
واستعمل الآخر حيث للتعليل ولم تعرفه العرب بل هو من مستحدثات المولدين قال (ص279):
يا حمص تيهي حيث زارك أنور ... ردء الخليفة سيفه البتار
وهو القائل:
عم البسيطة والبرية عدله ... فالخلق شخص والبسيطة دار
والشطر الثاني مما لا يتحصل منه معنى. وقال:
يا واحد الدنيا الذي بشبيهكم ... عقم الزمان وضنت الأدوار
أراد: بشبيهه. وهو أدرى بالأدوار!. وعجبت من قوله:
أيدت دين الهاشمي فلم يضع ... لبني الشريفة عند سيفك ثار
فكأنه يقول. أن بني الشريعة (يريد المسلمين) قد أدركوا ما لهم عند سيفك من الثأر القديم، وفيه ما ترى! وهو يقصد عند وجود سيفك
وأعجبني من قصيدة أخرى قول منشئها (ص286):
لك المنزل المعمور فينا وإنما ... غداً في قلوب المؤمنين يعمر
نظمت من الإسلام أسنى قلادة ... وكادت وأيم الحق لولاك تنثر
وما أبدع قوله بعده:
وكيف ترى الأيام محو سطوره ... وفي كل صدر م} من منه أسطر
ثم يقول:
ومد على الإسلام منه سرادق ... يصان بها دين الحنفي وينصر
والسرادق مفرد مذكر فحقه أن يقول: يصان به. والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه. والأولى أن يقال: دين الحنيف كما قال لسان الدين بن الخطيب: يا ناصر الحنيف وأهله. . البيت. . ثم قال وخطأه النحوي ظاهر (ص288):
وعما قريب يحبط الله سعيهم ... ونربح مصراً والعراق ويخسروا (؟)
ومن جيّدها:
أيا واحداً صحت جموع صفاته ... وأعداؤه جمع ولكن مكسراً!
وفي القسم الأخير من الكتاب قصيدة هي من خير ما فيه مطلعها (ص289):(94/65)
كسعيكما فليسع من يطلب المجدا ... فمن حاد عن نهجيكما أخطأ القصدا
أعزما إلى حزم وراياً إلى هدى ... لقد جزتما من طاقة البشر الحدا
لى أن يقول: أأنور لا ننسى مواقفك التي ... تشيب على أهوالها الأسد الورودا
مواقف أعشى كل رأي ظلامها ... فكنت برأي ألفرد نيرها ألفردا
فهل لك نفس هذه ... فأرخصت فيها السوم إذ تشتري الحمدا
فأي يد تحصى أياديك جمة ... لقد ضل من أحصى النجوم ومن عدا
رأيتك في أجبال برقة قائماً ... يزين لك الأقدام خطب بها اشتد
جمعت قلوباً فرق الجهل بينهما ... وألفت منها في مجاهلها جندا
ثم قال:
ولو كنت يوماً بالتناسخ قائلاً ... لقلت ابن سرح في صحابته ردا
هذا بعض ما أردت إراده من شعر الرحلة الأنورية وأما كتاب البعثة العلمية فالشعر فيه أقل من النثر على كثرة ما فيه من المنتقد قال أحد شعرائه (ص195):
شرف التمثل بين أيدي أعاظم ... يبنى عليه تزاحم الأدباء
فلا أعلم ما يصنع بياء أيدي المختلسة وهو يمر عليها عند تلاوة البيت مرور الكرام!
يا موسى يا مفتى الأنام وشيخهم ... يا مرجع الأحبار والعلماء
وهو يمر بالحرف الأخير من موسى مروره بالياء الأخيرة من أيدي السابقة ولعله يريد: يا موس، على الترخيم فيكون الخطأ في الطبع
يا عادل في نشر شرع محمد ... يا قائم برياسة النقباء
والأحسن: يا عادلاً، ويا قائماً.
يا منقذي الإسلام والبلد الحرام وحافظي فاروق (؟) من أعداء
يريد: فروق، وهذا من تحريف الإعلام، وقد أورده الشاعر نفسه في قوله من أبيات آخر (ص2. 8):
سنشكركم سكان فاروق. . كلما ... دخلنا بيوتاً للتهجد والنسك. .
وما أدري الباعث على اختصاص بيوت العبادة للشكر. . وأما تنكير أعداء في البيت السابق فقبيح. . ومن رقائق الكتاب أبيات تلاها الآخر في مأدبه (ص196)(94/66)
هذه ليلة السعود وإني ... أنا أهوى ليالي الإسعاد
ليلة أشرقت بنور علي ... ورجال الحكومة الأمجاد
هي مني مكان قلبي من الصدر ... ومن ناظري مكان السواد
ولآخر قصيدة في خيار ما في الكتاب، أعجبني منها قوله (2. 9):
ولم أرى كالإخلاص في حب دولة ... فكم أرحب الإخلاص من رجل صدرا
ولم أرى كالإنصاف في جمع أمة ... فكم وحد الأنصاف من أمة فكرا
وهو القائل قبلهما يخاطب رجال فاروق (ص21.):
فكنتم نجاد الملك والعرب سيفه ... وكنتم يمين الملك والعرب اليسرى
وكان على بعد البلادين بينكم ... هدى الدين سلك الكهرباءة والمجرى
وما أحسن استدراكه في قوله (ص2. 8):
سلام على الدستور حلواً مذاقه ... وإن كان بعض الناس قد ذاقه مرا!
وجل أبياتها من الغور لولا المسألة الأخرى في قوله (ص21.):
أما أنتم بالحزم كنتم رجالها ... وقد كنتم أعلى بمسألة أخرى (؟)
وإدخال ال - على غير قبيح وإن جوزه بعض البحثين، قال آخر يمدح الأساتذة (ص23.):
لئن طال مدح الغير فيها تكلفاً ... فإن قصور المدح بالشعر أجمل. . .
وفي عجز البيت ما فيه. . ولم أدر ما المترجم في قوله (ص221):
ويطرف طرف مد بالسوء نحوها ... وعقل رماها بالترجم يعقل
وفي البيت الآتي خرق لا يرتق:
وإن رام يوماً شاعر وصف ما حوت ... ولو أنه الضليل راح مضلل. . .
يريد: راح مضللاً، ولكن القافية لم تعنه. وأعجبني من هذه القصيدة قوله (ص222):
ورب أمريء في حبهم عاد عاذراً ... وقد كان لي بالأمس يلحى ويعذل
ومن خيرة قصائد الكتاب قول الشاعر يخاطب دولة أحمد جمال باشا بعد عودة الوفد من عاصمة الملك (ص26.):
سرى وفدك الغازي ومثلك يوفد ... وعاد بملء البشر والعود أحمد(94/67)
سرى منك مضمون النجاح مسيرة ... وطالعه يا كوكب السعد أسعد
يعني رئيس الوفد الأستاذ الشقيري
سرى لمقر الملك والذين قاصداً ... كما يقصد البيت العتيق الموحد
وما أرق قوله يصف زيارتهم لدار الحرب (ص263):
فكدنا نضم الرمح قداً مهفهفاً ... ونلثم حد السيف وهو مورد
وحرف المثل الذي هو أعقد من ذنب الضب بقوله (ص264):
إذا أدبروا فالخزي أو أقبلوا الردى ... فموقعهم من ملمس الضب أعقد
ومن الطراز الأول في الكتاب قصيدة في مديح أحمد جمال باشا جاء فيها (ص286):
تبيت رعاياه بعين قريرة ... ويقضي سواد الليل يقظان ساهداً
ومن طلب العلياء والمجد لم يكن ... إذا رقد العز المفرط راقدا
فلو أن مجد المرء أخلد ربه ... بقيت على الأيام في الدهر خالدا
ومنها في وصف الأعداء:
أقاموا على شط القنال معاقلاً ... ستبقى لهم يوم اللقاء مصائدا
ويذهل فيهم والدعن وليده ... ويخطىء وجه الشد من كان راشدا
إلى أن يقول في خطاب الممدوح (ص288):
ومن نيط يوماً في ملاك رجاؤه ... تناول بالكف المجرة قاعدا
وفي القصيدة بيت يقول فيه (ص286):
رمى الله منك الإنكليز بصارم ... صقيل يقد الهند وأني غامدا
يريد: مغمداً أو مغموداً ولعله ألحقه بباب عيشة راضية ولم يسمع في هذا ألفعل.
وأخالني قد أطلت على القراء ولو أردت البحث في كل ما عليه النظر من مليح وقبيح لملأت الحائف الكثيرة وحسب الواقف على هذين المؤلفين أن يجتمع له آثار فريق كبير من شعراء هذا العصر كامين بك ناصر الدين والسيد حبيب العبيدي وشبلي بك ملاط والشيخ مصطفى الغلاييني والشيخ علي الريماوي والسيد بدر الدين النعساني والشيخ عبد الكريم عويضة والشيخ سليم اليعقوبي وغيرهم من رجال الشعر والأدب. وفيها عدد من القصائد التركية وخطب ومحاضرات مفيدة منها للخطيب الكبير الشيخ أسعد الشقيري(94/68)
رئيس الوفد ومنها لمصنفها المفضال ولغيره من الصحافيين والأدباء والفضلاء. وبالجملة فالكتابان روضتا شعر وأدب يحسن بالمتأدب اجتناء ثمارها كما يحسن بي أن أتقدم بالشكر لمؤلفها الأستاذ صاحب هذه المجلة الزهراء الذي وقف حياته على خدمة العلم والاجتماع والتاريخ والأدب ولا أنسى الإشارة إلى أنني لم أكن أنظر في هذا النقد إلى الأسماء والألقاب فأثني وأطري وأنتقد أنتقم شأن بعض المتصدين لمثل هذه الأبحاث بل نظرت إلى الشعر دون الشاعر والقول دون القائل ولعلها تسلم لي الإصابة في جل ما ذهبت إليه خدمة لهذه اللغة وآدابها والله المستعان في كل آن
دمشق
أحد القراء(94/69)
رزايا الحروب ومزايا البشر ونتائج الفنون
عفت الربوع فلا رنوع ... وخلا الجميع فلا جميع
أين الغواني بالمغاني ... لا يروعها مريع
الساحبات مطارفاً ... عنها الشذا الداري يضوع
المالكات وما لها ... إلا الإبا التاج الرفيع
والمرسلات لواحظاً ... كم بين أسهمها صريع
في شعرها عبس الدجى ... وبثغرها ضحك الصديع
فبدت وما طويت على ... غير الجوى منها الضلوع
ما أن لها إلا الصدى ... أن تدع معشرها سميع
تستنجد العبرات إذ ... لا منجد إلا الدموع
صدعوا لها شملاً به ... لفؤآدها منه صدوع
بالراح تدفع وثبةً ... ليست تفل لها جموع
وتخال أن زفيرها ... لعدآء أعداها دموع
ترنو لمبغوم وأحشا - ها يقطعها النزوع
لم يدر ما معنى الحيا - ة وكيف يفهمها رضيع
ويكاد يسلم نفسه ... للحتف والده الجزوع
فله مدامعه تذا - لجوىً وللحرب النجيع
وفؤاده كلوائه الخفا - ق خفاق مروع
تدعو الوغى فيجيبها ... ويجيب إذ تدعو الربوع
ولرب ليل لم يزر ... طرفي بجنحيه هجوع
قلبت صفحة أفقه ... ولكم به مرأى بديع
فقرأت أسطره وما ... غير الدراري لي شموع
كم قد تردى بردةً ... من نسج ظلمته جزوع
وإذا نضى عنه هزيعاً ... لفه منه هزيع
يشكو الولوع لنجمه ... من قد أضرّ به الولوع
ما الهم إلا طائر ... وله بداجيه وقوع(94/70)
والنجم قلب فيه يخفق ... ليس تحضنه ضلوع
يشكو كما أشكو جوىً ... ويذيع منه ما أذيع
وخفوقه عن وجده ... والدمع عن وجدي مذيع
والفكر يدنيه وأن ... ينأ به الأمد الشموع
ناجيته لو كان لي ... منه على النجوى سميع
ألرهبة أبعت عن ... أرض تقلبها سريع
ترنو إلى أبنائها ... شزراً وكلهم مروع
وهم ضرائب للقوا - ضب والرماح لهم شروع
أحرارهم ما انفك في - ها يسترقهم الخضوع
ألفوا الحمام كأنما ... هو طائر لهم سجوع
وفشا الخداع بهم فما ... يلفى بهم إلا الخدوع
درسوا ألفنون وإنملهم ألففون فناً مريع
مرعى ألفضيلة مجدب ... والنقص مرعاه مريع
لهم البدائع في الزما - ن وكل صنعهم بديع
لولا التجاذب بينكم ... ما كان منك لهم طلوع
الجهل فرقهم فهم ... شتى وجهلهم جميع
قطعوا به أرحامهم ... ولكم به رحم قطيع
رهج الكفاح لبوسهم ... ودخانه لهم دروع
وصدا الدروع عبيرهم ... ومن النجيع لهم ردوع
يتجرعون بدهرهم ... غصصاً هي السم النقيع
ومن الدمآء لبانهم ... والمرهفات لهم ضروع
أغرى العداوة بينهم ... أن ليس بينهم قنوع
وأضلهم طرق الهداية ... والنهى الحسد الشنيع
وإذا يدا طمع يهيب ... بهم له برق خدوع
حسدوا النجوم مكانها ... ومكانها عنهم رفيع(94/71)
ولكم وراها من (منا - طيد) جرى لهم تبيع
دفعت وليس لها سوى ... غاز يخفرها دفوع
فكأنها راع وما ... غير النجوم لها قطيع
تعصي الرياح عواصفاً ... ولنزر غازهم تطيع
فكأنها سفن وما ... غير الرياح لها قلوع
وكأنما هي طائر ... وجناحه البرق اللموع
أو مثقلات حملها ا - لأهوال والقيل الذريع
إن راق منظرها العيو - ن فأن مخبرها فظيع
هي للردى سبب وكم ... في وصله سبب قطيع
النبطية
سليمان ظاهر(94/72)
مطبوعات ومخطوطات
كلمة موجزة
في سبير العلم وسيرتنا معه لإسعاف أفندي النشاشيبي
هي كراسة كان حاضر بها صاحبها بعض فضلاء القدس وطبعها على حدة في مطبعة دار الأيتام السورية ألم فيها بتاريخ العلم في العالم وذكر ما كان لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم من الأثر الذي تغيرت به الأرض وبعد أن ذكر ما كان لأئمة العلم في الإسلام من الآثار الخالدة قال ما ننقله نموذجاً من إنشائه العذب أيضاً: والعلم الحق لن يلقاه في هذا العصر ناشده ولن يجده رائده إلا في الإقليم الإفرنجي فإن أهل هذا الإقليم قد هجروا الكرى منذ قرون والمشارقة هاجدون وأنشأوا يفكرون ويحققون ويقتبسون من فطنة كل علم ومئنة كل أدب ما يقدرون على اقتباسه ويقاومون كل من ثناهم عن معرفة أو قدعهم عن طلب حكمة ولم يقعدهم عن مواصلة السير في نشدان الخير أمير قاهر أو كردينال جائر أو ديوان تفتيشي أو منشور باباوي أو نار طلم موقدة أو أخدود ذو جاحم مستعر يقذف فيه كل من تفكر واعتبر وبحث ونظر وأبى أن يسم نفسه بسمة الجاهلين ولم يبرح القوم مشيحين دائبين ومشمرين منكشين حتى جاءت هذه العصور المتأخرة فباء الحق وزهق الباطل وجاء باكون رب الطريقة الإختبارية في الفلسفة ونيتن الذي هدى العلماء بجاذبيته إلى ما هداهم إليه وعبّد لهم من الطرق ما عبّد وديكارت الذي شاد في العلم أصولاً وهدم أصولاً وسيبنوزه الذي كسا مقالة وحدة الوجود رداء علمياً قشبياً وليبنز العالم ألفيلسوف الكبير صاحب فلسفة التفاؤل وكانت الذي سلك في الفلسفة طريقاً عذراء وقال بالآداب ما لا يقل به سواء وغوت النابغة في الشعر والعلم الذي شهد له سبنسر باحتياز هاتين ألفضيلتين والتحلي بالمنقبتين وكونت صاحب الفلسفة الثبوتية والشريعة الإنسانية وشوبنهور الفيلسوف المدهش وصاحب فلسفة التشاؤم وجان مولر واضع علم منافع الأعضاء ومبدعه وسبنسر البحاثة الاجتماعي وواضع فلسفة النشوء والمنعوت عقله بجبار العقول ودروين صاحب المذهب الذي ورد على كل ناد وولج كل بيت وشرق وغرب وعرف الإنسان مكانه وجاء البخار والكهرباء والصحيح من علمي الطبيعة والكيمياء وجاء علم الإنسان وعلم الحياة وجاء قول كنت ولابلاس في تكون الكون وقول لافزيه في بقاء المادة وقول(94/73)
روبرت ماير في استمرار القوة ورأي لامرك ودروين في أمر التحول والنشوء والإنتخاب الطبيعي وقول كوبرنيك من قبل في مركز الأرض وقول ليل في طبقاتها فأضاءت هذه الأقوال من أمور الوجود ما كان مظلماً وأيقظت من كان نائماً وداوت من العقول ما كان مريضاً وجاء رونتجن وجاءت أشعته وجاء المجهر والمرقب فلمحنا الجن وناغينا الكوكب وجاء إيدسون وجاءت عجائبه وجاء الأستاذ أرنست هيكل الذي أدرك ما لم يدرك وعلم ما لم يعلم والذي نشر مذهب النشوء في ألمانيا وصارع خصومه فصرعهم والذي قال بالوحدة وكان رسول هذه النحلة إلى الناس وجاءت مباحث هذا البحر القذاف بجواهر الحكم التي ربط بها الحلقات وحل المعضلات وهتك الأستار عن الأسرار وكاد يطلعنا على الغيب فلو كشف الغطاء ما ازددنا يقيناً وجاءت علوم ومذاهب وآراء لا يحصيها الإحصاء ولا يستقصيها الإستقصاء ومشت جماعة ألفكر مع شيعة الاختبار والتحقيق وآخى النظر البحث فآنس الإنسان من الآيات العلمية ما لم يؤنسه قدماً ورأى بعين يقظان ما لم يحلم به إنسان وجاء العيان بما بخل به السماع فطلع الإقليم الإفرنجي بذلك مجلياً في ميدان الحياة وسابقاً في حلبة العلم ومعبراً في وجه كل إقليم وتبذخ قطنيه بما أبدعه وحق له أن يبتذخ وصغرت في عينه الدنيا وأحر بها أن تصغر وطمع في سكنى النجوم ولا نستبدع ظفره بمتمناه وقد أرانا منه ما رأيناه.
لا أروم الآن أن أبين في ما تلوت مزايا الغرب الدثرة الكثيرة وخصائصه الجمة الأثيرة فإن ذلك يحتاج إلى حين ممتد وصحائف من الكاغد لا تعد وما ذكرت ما ذكرت إلا لأنبئ بأن العلم قد عدن في الإقليم الإفرنجي وريّم ولم ينزعج عنه ولم يرم فمن نعاه فليول وجهه شطر المغرب وليتناوله من معدنه أو مما ينجم من معدنه ولا يتفائل ويستنكف من أخه عن الإفرنج فإن ذلك لا يقبحه ولا يعيبه عند أحد من الناس كما لم يضع من الإفرنج أنهم تلمذوا للعرب واليونان ورضوا بحكمائهم ولكن الذي يقلل من مكانة الشرقي ويضحك منه خصمه وخليله أن يجد المنهل العذب وهو ملتهب الكبد فلا يرد ويتنور مقتبس الأنوار وقد دجا ليله وأحلولك فلا يقتبس. . .
ارتقاء ألمانيا الوطني
تأليف الدكتور كارل هلفريخوتعريب فليكس افندي فارس(94/74)
طبع في المطبعة المارونية بحلب 1916
(ص142)
هذه رسالة في ثروة ألمانيا الوطنية وارتقائها في مدة الخمسة والعشرين سنة الأخيرة أو التقدم الاجتماعي وارتقاء ألمانيا الوطني منذ مدة 25سنة لحكم الإمبراطور غليوم الثاني وفيها حقائق كثيرة من العوامل الاقتصادية في الإمبراطورية الألمانية والطرق التي سلكتها حتى بزت خصومها في هذا الباب وبعض الإحداثيات في هزا الكتاب مملة مطولة وكان على المعرب أن يختصرها ويورد منها ما يكفي بمعرفته للقارئ العربي عن ألمانيا وإلا فأن التفاصيل والأرقام الطويلة قد تدخل املل حتى على نفوس من كتب الكتاب لهم
رسائل وكتب مختلفة
الشرق المصور - مجلة أصدرتها أدارة الشرق في دمشق وفيها كثير من صور المشاهير والوقائع الأخيرة وقصائد بالعربية والتركية وهي في 16صفحة
الحجاز - جريدة سياسية تصدر ثلاث مرات في الأسبوع في المدينة المنورة مدبجة بيراع رئيس تحريرها محمدبن بدر الدين أفندي النعساني من أستذة حلب وصاحب كتاب التعليم وغيره من الرسائل والمقالات
فتاة الوطن - مؤلفها م. عادل ومعربها محمد بن علي أفندي حشيش طبعت بمطبعة العرفان مع أصلها التركي سنة1334
رسالة الجهاد على فتوى خليفتنا الأعظم السلطان الغازي محمد رشاد لأديب أفندي الجراح طبعت في مطبعة نينوى في الموصل سنة1333في 88صفحة
أحاديث الأربعين القدسية من الصحف الإبراهيمية والموسوية لمؤلفها أديب أفندي الجراح طبعت بمطبعة سرسم في الموصل سنة 1332في 171صفحة
عظة الناشئين - للشيخ مصطفى الغلاييني وهو كتاب أخلاق وآداب واجتماع طبع في مطبعة الثبات في بيروت سنة 1331في 198صفحة
مفكرة صادر لعام 1917وفيها فوائد زمانية وعمراتية
مجلة العالم الإسلامي الامانية - صدر العدد الأول منها وهومصدر باسم مولانا السلطان الأعظم وجلالة إمبراطور ألمانيا ومحل برسوم كثيرة وهو في 61صفحة(94/75)
مصور جول الصحراء المصورةهي مجلة تصدر في بئر سبع من أقصى فلسطين بالتركية والعربية مرتين في الشهر يحررها مفتش منزل البادية وفيها رسوم المشاهير وقد صدر العدد الأول منها برسم حضرة الخليفة ورسم أنور باشا واحمد جمال باشا
إيقاظ ذوي الألباب في ذم التبرج وكشف النقاب - للشيخ عبد الواسم بن يحيى الواسعي طبعت بمطبعة ألفيحاء سنة 1334
ورسالة هذه الصحيفة وتسمى مسند الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادقين محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين البط بن أمير المؤمنين زامام المتقين علي بن أبي طالب سلام الله عليهم أجمعين طبعت بمطبعة الترقي في دمشق سنة 1334
تعزية الخاطين في العترافات مار اغوسطين - عربها المونسنيور يوسف العلم طبعت بالمطبعة البنانية سنة 19. 9في638 صفحة صغيرة(94/76)
أخبار وأفكار
نفقات القتل
اقتبست الصحف الألمانية عن إحدى المجلات الباريسية في تقدير المال الذي يستدعيه قتل الجنود في ساحات القتال فقالت: معلوم أن كل قتال يبدأ بإطلاق نار المدفعيات فلا يلبث المعسكران المتحاربان أن يمطر كل منهما الآخر عدداً من القذائف والقنابل من جميع العيارات فما هو إلا أن تفرغ عجلات الذخائر وتعود فتملا بقنابل تؤخذ من المستودعات وهذه تمدها القطارات الواصلة إلى أقرب محطة بما تحمله إليها من المهمات والأدوات المهلكات. وفي مكان بعيد عن ساحة القتال يعمل عشرات الألوف من الناس في معامل لصنع الذخائر التي تصرف في بضع دقائق في ساحات القتال
أما نفقات هذه العملية فهي كما يلي:
خذ بطارية مؤلفة من أربعة مدافع من عيار 25ملم مع أثنتي عشرة عربة للذخائر ترى أن لكل مدفع ولكل عربة قطاراً من الذخائر ولكل بطارية قطاراً من مثل ذلك يحتوي كل منها 24 قنبلة وفي كل عربة 72فبكون مجموع ما للبطارية من القنابل 1248أي312قنبلة لكل واحدة فيطلق كل مدفع في 24ساعة 4. . قنبلة أي 2. قنبلة في الساعة على أكثر تعديل وثمن كل قذيفة 3. فرنكاً ويقدرون أن المدفع لايعود صالحاً للاستعمال بعد أن يطلق 6ألاف طلقة
ويكلف كل مدفع 18. . . فرنك أي أنه يخسر في مل طلقة ثلاثة فرنكات ويبلغ ثمن القنابل التي يطلقها المدفع الواحد في 24ساعة من عيار 75ملم 135ألف فرنك وذلك عن 4. . طلقة. فالمئة والشرون مدفعاً الموجودة مع فيلق من ألفيالق تنفق في يوم واحد 1. . . . . . فرنك، وتستدعي المدفعية الضخمة نفقة أبهظ من هذه، فقد قدروا أن كل طاقة من مدفع فرنساوي من عيار32ملم تكلف 641. فرنك وقد تبين بعد عمل كل حساب مدة المئة يوم التي دامت فيها الحرب على فردون أن كل قتيل أنفق على قتله 75ألف فرنك وقد انفق الإنكليز أكثر من هذا القدر بكثير في حرب البوير فكان القتيل الواحد يكلفهم 2. . ألف فرنك على أقل تقدير وقد كانت نفقات القتيل في حرب البلقان رخيصة أكثر من ذلك فلم يكن يكلف قتل الجندي الواحد أكثر من 5. ألف فرنك، وقد قالوا أن الذهب الذي انفق في(94/77)
حرب فردون لو جمع ليرات في صعيد واحد لبلغ حجمه 8. متراً مكعباًهذا ما كلفته الحرب العامة فكم تنفق فيها الأمم من أولها إلى آخرها يا ترى
التجارة الخارجية
ذكرت جريدة غرفة التجارة العثمانية أن الإنكليز كانوا مستأثرين بخمسين في المئة من تجارة الصادرات في المملكة العثمانية والخمسون الأخرى تتقاسمها الأمم المختلفة من الأجانب وليس للعثماني فيها سوى خمسة في المئة
كانت تجارتنا من الصادرات 45مليون ليرة فإذا افترضنا أن الأجانب يربحون عشرة في المئة من الأرباح كان معدلهم من أرباحنا أربعة ملايين ليرة في السنة ولايعود من الربح على الرعايا العثمانيين سوى نصف مليون ليرة، وقد ذكرت الجريدة أن السر في أن العثمانيين ما استطاعوا حتى الآن منافسة الأجانب في التجارة، هو أن التاجر الأجنبي متعلم وعنده معارف عامة تؤهله لدخول كل سوق من الأسواق ولان للتاجر الأجنبي رأس مال كبير وثقة مالية يهبه إياها بنو قومه ويعتمدون عليه دون غيره فقالت لا سبيل إلى استيائنا على زمام الأمور والتجارة إلا إذا تعلمنا التعليم التجاري على مستوى المتعلمين في هذا الشأن من الأجانب ودخلنا نتمرن في البيوت التجارية المعتبرة أما رؤوس الأموال فيمكن تأليف شركات كوبراتيف للمحاصيل ونقابات كنقابة التين في أزمير التي كان منها رواج هذا الصنف بعد أن كاد يقضى عليه بسبب الحرب فربحت النقابة منه أرباحاً طائلة
إحصاء مهم
نشر احد الإحصائيين الأمريكيين إحصاء مهماً اثبت فيه أن ألفيات في الحروب آخذة بالتناقص منذ القرن السابع عشر إلى يومنا هذا، قال أن عدد القتلى في الحروب التي وقعت منذ سنة 1631 إلى 1634 وهو عهد إدخال الأسلحة النارية واستعمال الحراب كان25. 5في المئة ونزل معدلهم في الحروب التي وقعت بين سنتي 1745و1813 إلى 2. . 7 في المئة وهبط أيضاً في أحدى عشرة حرباً وقعت بين عامي 1845 و1863 إلى 45. 5في المئة زبين سنة 1816 و187. وهو عهد أوائل استعمال المدفع الذي يملأ من مؤخرته في 6حروب من حرب كنكراتز إلى سيدان نزل معدل الهلكى في الحرب ال11 في المئة ونزل أيضاً إلى 1. في المئة في سبع حروب من حرب سان جوان إلى موكدن(94/78)
أي من سنة 1898 إلى سنة 19. 5 أما هذه الحرب التي طالت وعرفت بشدتها بحيث لم يسبق لها مثيل في التاريخ فأنه يصعب تشبيهها بالحروب التي سبقت وكانت في وضع الإحصاء
بواكير الشعراء
نريد ببواكير الشعراء أوائل أقوالهم التي فتحت بها قرائحهم واقتطفت منها ثمار أفكارهم وهاك الآن بعض هذه البواكير التي نظمها قدماء الشعراء
قال الأصمعي: أن أول بيت نظمه النابغة الذبياني هو:
قزاها أن صاحبها بخيل ... يحاسب نفسه بكم اشتراها
وأول كلام نطق به هكطور في أليذة هوميروس اليوناني قوله:
فأجاب أخوه ذو المدد ... بالحق نطقت ولم تزد
لك قلب كالصخر الأجد ... وبصدرك نفس لم تمد
جهداً تزداد على جهد
كالأفؤس تنفذ في الخشب ... بذراعي قطاع الحطب
وشار الفلك المقتضب ... لقواه تضيق قوى القضب
بمجامع مصقول الحد
وقيل أن أول ما تكلم به عبد بني الحساس من الشعر أنهم أرسلوه رائداً وهو يقول:
أنعت غيثاًحسناً نباته ... كالبشي حوله بناته
فقالوا: شاعر والله. ثم نطق بالشعر بعد ذلك
وأول شعر قاله عدي بن زيد العبادي وكان أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى أنوشروان:
رب دار بأسفل الجزع من ... دومة أشهى إلي من جيرون
وندامى لايفرحون بما نالوا ... ولا يرهبون صرف المنون
وقدسقيت الشمول في دار بشر ... قهوة مرة بماء سخين
وأول شعر لأمرئ القيس وهو ابن عشر سنوات قوله:
ازود القوافي مني ذيادياً ... كذود غلام غوي جوادا(94/79)
فلما كثر وعنينه ... تخيّر منها جواداً جوادا
فأعزل مرجانها حانيا ... وأخذ من درها المستجاد
وأول ما فتحت به قريحة طرفة بن العبد البكري لما خرج مع عمه في سفر فنصب فخاً حتى إذا أراد الرحيل ارتجز:
يالك من قبّرةً بمغمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري ... قد رحل عنك الصياد فابشري
لابد يوماً أن تصادي فاصبري
وروى ابن الأثير: أن أول شعر قاله المهلهل بن ربيعة التغلبي قوله من قصيدة أصلها 18 بيتاً:
كنّا نغادر على العواتق أن ترى ... بالأمس خارجة من الأوطان
فخرجن حين ثوى كليب حراً ... مستيقنات بعد هوان
فترى الكواعب كالظباء عواطلاً ... إذ حان مصرعه من الأكفان
وأول ما تمثل لخاطر عبيد بن الأبرص قوله:
يابني الزينة ما غركمُ ... لكم الويل بسربال حجر
عيسى اسكندر المعلوف(94/80)
عدد الشيعة
قرأت في الجزء التاسع من المقتبس الشيعة في بر الشامللفاضل العامري الشيخ أحمد رضا فاستوقفني قوله أن عدد أهل السنة من المسلمين 15. مليون والشيعة 9. مليون وتعليقكم عليه بأن أهل الشيعة لايزيد عددهم عن 12مليون كما يتضح من الأرقام الآتية:
أهل السنة 228مليون والشيعة 12مليون فالمجموع 24. مليون
أهل السنة بحسب مذاهبهم:
أحناف 14. مليون - شوافعة 64مليون - موالكة 16مليون - حنابلة 7مليون
فيتضح أن عدد المسلمين 24. مليونكما قال الأستاذ العامري والفرق ألفارق هو بين تقديره عدد الشيعة بأكثر من حقيقتها أضعاف الأضعاف وعلى ذكر الإسلام والمسلمين نورد هنا بعض الإحصائيات عن المسلمين باعتبار عناصرهم وقاراتهم ولغاتهم وغير ذلك مما يفيد معرفته:
المسلمون باعتبار عناصرهم ولغاتهم
- الهنود على اختلافهم 64 مليوناً - العرب على اختلافهم 45مليوناً
- الأفريقيون والسودانيون 32 مليون - الترك على اختلافهم 15 مليون
- جزائر ملقة 36 مليون - الصينيون 31 مليون
- الإيرانيون 9 مليون - البوماق والبشفاق 8 مليون
المسلمون باعتبار قاراتهم التي يسكنونها:
- آسيا166 مليون - أوروبا 14. 5 مليون
- افريقيا 59. 5 مليون المجموع 24. مليون
المسلمون بحسب تبعيتهم السياسية
- رعايا الدولة العثمانية 14 مليون - رعايا الدول الإسلامية الأخرى17 مليون
- رعايا حكومة الصين الوثنية 34 مليون - رعايا الدول المسيحية 175 مليون
المجموع24. مليون
وإليك بياناً مهما عن عدد المسلمين الخاضعين للدول المسيحية على اختلافها والقارات التي يقع فيها هؤلاء المحكومون فيها:
في آسيا في أوربا في أفريقيا المجموع الدول الحاكمة(94/81)
63. . 18 81 انكلترا
1. . 34 35 فرنسا
. . . . . 2. 2 ألمانيا
. . . . . 3. 3 ايطاليا والبرتغال واسبانيا
36. . . . 36 هولاندا
. . 1. 5. . 1. 5 النمسا والبلغار والرومان
. 3 13. . 16 روسيا
1. 3 5. 14 57 174. 5 المجموع
أضف إلى ذلك 3. . ألف مسلم في جزائر ألفلبين من آسيا و68. . . مسلم في اقيانوسيا تحكمهم الولايات المتحدة الأمريكية فيكون المجموع فيكون المجموع 175 مليون وزيادة في الإيضاح خذلك بيان عن المسلمين التابعين للحكومات الإسلامية والوثنية على ما يأتي:
التابعة للحكومة العثمانية دولة الخلافة العظمة
- في أوروبا 2مليون - في آسيا 12 المجموع 14 ملون
التابعون للحكومات الإسلامية وجميعها بآسيا
3ملايين ونصف مسقط ونجد وما إليهما من الإمارات الصغرى
4 ملايين ونصف الأفغان 9 ملايين إيران المجموع 17 مليون
والبقية وهي 34 مليون بآسيا تحكمها حكومة الصين الوثنية، ويوجد أيضاً 3. ألف مسلم في جزيرة سيام ومليون مسلم في جزيرة فورموز.
هذا ما وصلنا إليه البحث ولعل الفضلاء من إخواننا المسلمين الضاربين في عرض الأرضينقبون عن هذه الإحصائيات ويعملون على نشرها لتتم الغاية المبتغاة من تعارف المسلمين وتآلفهم وبالتالي اتحادهم وتآخيهم حتى يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وعلى اله قصد السبيل
حيفا جبل الكرمل
عبد الله مخلص
المقتبس إن ما أورده صاحب هذه النبذة في عدد المسلمين عامة والشيعة خاصة وهو(94/82)
تقريبي على ما يظهر إذ لم بستند فيه إلى مرجع تطمئن إليه النفس ولعل بعض المدققين يعيدون النظر في ذلك ويجمعون إحصاء أقرب إلى الإقناع.
755(94/83)
العدد 95 - بتاريخ: 1 - 12 - 1914(/)
البيزرة وكتاب فيه
مدخل البحث
بين جمادى ورجب سنة 1332 دعاني ورفيقين لي في النجف سادن إلى دار له لصق مسور المشهد العلوي فنثر بين أيدينا من الأجلاد والأوراق والأجزاء والطباق ما أرانا العجب والعجاب. نفيسات آثار شعثها الإهمال وطمسها الابتذال، منبوذة في ناحية غامضة نبذك سقط المتاع ملقاة نالت منها الأرضة والحشرات أضعاف ما اقتبسته العقول النيرات. وقد علاها من الزبل وسلح الطيور ونحوها ما غيّر محاسنها وأخلق كريم دباجتها. فأنتشنا من الجملة الجزء الأول من نواظر العيون في مختصر تذكرة ابن حمدون المتوفى سنة 562 لم نعرف صاحبه غير أنه صنع برسم الخدمة المولوية السلطانية الصالحية خطه حسن جداً يرتقي إلى القرن السابع. وأورد في كشف الظنون (منتخب الفنون في مختصر تذكرة ابن حمدون) وهو مختصر آخر والأصل من أمهات دواوين الأدب والتاريخ. قطعة من كتاب في المقصور والممدود من أجود ما جُرِدَ في هذا المعنى بخط قديم مشكول. شرح أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة 468 على ديوان المتنبي ربما ارتقى نسخه إلى عصر المؤلف أو ما يدانيه. كتاب السكردان تأليف ابن أبي حجلة المتوفى سنة 776 مخطوطاً على عهد المؤلف. كتاب البيزرة وهو من حيث الموضوع أهم الجميع فأثرت نعته ونشر شيء منه للقراء غير أن هذا يستلزم إيراد كلمة عن هذه اللفظة في اللغّة وفي الآثار.
لفظة البيزرة في اللغة
البيزرة والبزدرة بمعنى صناعة سياسة البزاة أو حرفة القيام على الجوارح وتعهد عتاق الطير من المفردات الدخيلة في كلام العرب وهي من قولهم بيزار معرب (باز - يار) أي صاحب الباز أو من قولهم بزدار معرب (باز - دار) أي ذي الباز في الفارسية أو أن بازيار وبازدار لغتان. وقيل أنها بالدال مولدة وأن الأصل بيزار قال الكميت:
كأن سوابقها في الغبار ... صقور تعارض بيزارها
وبالدال جاءت في قول أبي فراس
ثم تقدمت إلى الفهاد ... والبازداريين باستعدادِ(95/1)
ويكثر في لسان العلماء والفصحاء دوران بازيار وبيزار جمعوها في التكسير والتصحيح على بيازرة وبازياريين وبازيارّية. على أن للعرب الأقحاح أن يستعملوا مكان بازيار الأعجمية لفظة بياز العربية الصرفة دلالة على اتساع ذرع لغتهم وعدم ضيق عطفها في شيء وقد قالت العرب في قياس قولهم بيّاز صقّار وعقاب لقيم الصقورة والعقبان كما قالوا في هذا الباب كلاب وفهّاد وفيّال ونحو ذلك وهو متداول مشهور. وإنما أضاف اللغويون صناعة البيزرة إلى البزاة مع أنها تتناول غيرها من الجوارح لأن البزاة أجرأها وأجزاها وابتغها أثراً في الصيد. وقد كان لهذا العلم عندهم شأن خطير.
علم البيزرة عند العرب
تلقى العرب صناعة البيزرة على ما يظهر من آثارهم عمن تقدمهم والمرجح أنهم عرفوها أولاً بسليقتهم واختبارهم لمزاولتهم تغرية سباع الطير. على أن ملوكهم فضلوا الصقور على ما دونها وقلما روي شريف من العرب يستحسن حمل الباز لأن ذلك من عمل (البازيار) بخلاف الصقور والشواهين. ولا يدري لذلك علة إلا أن الصقر عندهم عربي والباز أعجمي ثم لما نضجت مدنيتهم أضافوا إلى ما عندهم ما وجد في كتب اليونان والفرس والرومان عن هذه الصناعة فسبيلهم فيها سبيل البيطرة وقد تلحق بها وتعد بمكان الفرع منها. وما أوثق لحمة النسب عندهم بين البيطرة والبيزرة أو بين طب الخيل أو طب الطير بل وطب الإنسان. فكل طب. وربما دونّوا الثلاثة في ديوان وأشركوها في عنون.
وقد مضى لهذه الحرفة شان كبير في حدثان ما كان من دولة العباسيين فبلغ من عنايتهم بها وأهلها أن رسموهم في الأعطيات والفرائض فأخصبوا وأفادوا أكثر من كثير في المهنة وأرباب الصناعات حتى قالوا إن البيازرة أغنى ممن يبتاع منهم وجاء في قائمة نفقات المعتصم (سنة 279 - 295) خمسمائة دينار مشاهرة أصحاب الصيد من البازياريين والكلابزيريين وثمن الطعم والعلاج وقيل كانت مياومتهم سبعين ديناراً.
ثم أن هذه الصناعة نفذت فيما نفذ من علوم المشرق إلى الأندلس بالمغرب فعني بحملتها بعض أمراء تلك الديار منهم نجم بن طرفة (سنة 330) الملقب صاحب البيازرة وهو على ما يظهر من أهل التأنق في المعيشة. ولما لم تكن البيزرة من الصناعات الضرورية التي عمت بها البلوى عندهم تراجعت وتأخرت وقلت بل انتفت تدريجياً دراستها من حيث أنها(95/2)
فن من الفنون المدونة فدرست أو كادت حتى أن المتكلمين على تاريخ الفنون والآداب العربية لم يشيروا إليها في الأغلب. وأصبح من لهم العناية بأمور الجوارح على قلتهم يربونها تربية مأخذها التجربة والاختبار لا الصحف والآثار كما يشاهد الآن في بعض الأقطار العربية والأعجمية. هذا وقد عرف في الطبقة الأولى جماعة من مشاهير البيازرة.
مشاهير البيازرة
إنه لشيء لا ينقضي العجب منه أن يكون بين أئمة هذا الفن عند العرب مثل الغطريف ممن صحب الرشيد. هاشم. أدهم بن محرز. سعد بن عقير يستشهد بأقوالهم ويحتج برواياتهم وأنقالهم ثم لا يتسع لهم مجال كتب الترجمة والتاريخ وتضيق عنهم صدور المعاجم معاجم الأطباء والحكماء. وإنما يجيء ذكرهم عرضاً في بعض الآثار الموضوعة في صناعتهم سموهم فيها تسمية مجردة. وقد سموا غير من مرّ من أعلام البيازرة. سومارس. صرغيث النبطي. ابن العوام لعله أبو زكريا يحيى بن محمد بن العوام صاحب كتاب الفلاحة نقله عن اليونانية. قسطوس الرومي لعله قسطوس بن اسكور صاحب كتاب الفلاحة الرومية وهم كالمجاهيل أغفلهم أصحاب معاجم الأعلام والطبقات مع أن بعضهم من رجال صدر الدولة العباسية ويغلب على الظن أن بعضهم من السريانيين المستعربين الذين كثر بينهم حذقة العلوم القديمة ونقلتها إلى العربية إذ ذاك.
البيزرة في الكتب
قلما تكلم على البيزرة من الوجهة العلمية عالم أو أديب في كتاب اللهم إلا الشيخ داوود الأنطاكي المتوفى سنة 1008 فقد أملى فيها نحو أربع قوائم من التذكرة مورداً في ترجمتها لفظ بزدرةناقلاً عن أهل هذا الفن معترفاً بقلتهم. وأورد فيها الحاج خليفة المتوفى سنة 1068 ثلاثة أسطر فقط نقلاً عن جامع السعادة لطاشكبري زاده بلفظ بيزرة والظاهر أنه لم يقف على كلام الأنطاكي وإلا لزاد. وفي بعض الكتب الفارسية عنها شيء لعله منقول على العربية مثل ما في كتاب تحفة المؤمنينتأليف حكيم مؤمنمن المتأخرين وفي دائرة البستاني عنها كلمة لم تستوعب عموداً ترجمتها بزدرة.
وقد تكلم على طباع الضواري والسباع من الطيور استطراداً لا من باب الخوض والتشمير في الفن جماعة منهم المسعودي في مروج الذهب والقزويني في عجائب المخلوقات(95/3)
والدميري في حياة الحيوان وغيرهم في غيرها كثير.
الكتب في البيزرة
إن مجموعة ما ألفيناه من الكتب المجردة في البيزرة ضئيلة جداً إليك أهمها. كتاب البزاة والصيد تأليف الأمير أبي دلف العجلي المتوفى سنة 225 القانون في البيزرة في الخزانة التيمورية وفي كشف الظنون نقلاً عن جامع السعادة أنه كاف في هذا العلم وسماه القانون الواضح ولم يسموا المؤلف. أنس الملا بوحش الفلا في البزدرة تأليف محمد بزمنكلي نقيب الجيش المصري ي أواخر القرن الثامن رقمه 2834 في خزانة باريس. رسالة في البزدرة تأليف قابادانيوس الحكيم الفيلسوف تاريخ نسخها سنة 923 في هذه الخزانة. القواعد المحبرة في البيطرة والبزدرة للأنطاكي وهناك آثار تعمم الصيد بالكلاب والنبل والنشاب وهي كثيرة ولا قمس الموضوع مساس الكتب المتقدمة نذكر من جملتها كتاب المصائد والمطارد تأليف أبي الفتح كشاجم المتوفى سنة 330 انتهاز الفرص في الصيد والقنص للشيخ تقي الدين بن حمزة بن عبد الله الناشري ألفه بزبيد سنة 910 مناهج السرور والرشاد في الرمي والسباق والصيد والجهاد تأليف زين الدين عبد القادر ابن أحمد بن علي الفاكهي رقمه 2834 من خزانة باريس. وقد وصف كواسب الطير وكواسرها ونعت أحرارها ومصرحاتها وكيفية تخليتها وإرسالها ونحو ذلك مما نحن فيه فريق من شعراء العرب أشهرهم أبو نواس وأبو فراس والناشي وكشاجم وصفي الدين في قصائد مزدوجة سميت الطردياتوهي مشهورة. ومن أهم ما عثرنا عليه من كتب هذا الفن كتابنا في البيزرة.
كتابنا في البيزرة
أول شيء في هذا الكتاب إغفال تسمية مؤلفه فيه وأنه خال من البسملة والحمدلة عار من تقديم مقدمة قبل الشروع في المقصود. وعلة ذلك أخرجناها فيما قدمنا من انقطاع دابر هذا الفن وأهله حتى لم تتألف من مشاهيرهم إلا طبقة محدودة ما أدركنا منها إلا الأسماء المجردة سيما وكثير منهم من غير أهل الإسلام. وليس هذا الكتاب ما ألف للإسكندر الرومي ثم نقل إلى العربية كما يظهر مما جاء على ظهره وهذا نصه كتاب البيزرة صنف الحكماء المتقدمين للملك الإسكندر الرومي وهو كتاب عجيب مما يصلح بالملوك إذ لابد لكل ملك من مسير إلى صيد بأحد هذه الطيور الجوارح والذي أوقع الوراقين في هذا الوهم(95/4)
ما ورد في نحو الكتاب من إن ثقات الروم من أهل المعرفة ذكروا أن الإسكندر الرومي قال للحكماء المحتفين بخدمته أريد أن تعرفوني بطبيعة الباز وأمراضه وعلامة كل مرض ودائه وهل طبيعة الباز تقارب طبيعة الآدمي أم لا؟. وأنت تعلم قصور هذه العبارة فيما يدعون. كيف وفي الكتاب نقل كثير عن حكماء العرب والمستعربين ومنهم من صحب الرشيد!! فالكتاب إذاً من طرائف عصر عربي راق كما يظهر أيضاً من أسلوب إنشائه السهل الممتنع البليغ. ولا يبعد أن يكون مؤلفه من رجال أواخر القرن الثالث أو أوائل الرابع للهجرة. يدلنا على ذلك أن المسعودي المتوفى سنة 346 أورد في مروج الذهب عن الجوارح فصلين نرجح أنهما منقولان عن هذا الكتاب باختلاف يسير كما سيقع الإيماء إلى ذلك.
وروى لنا خبير أن في خزانة باريس كتاب رقمه 2831 بدون اسم إلا أنه كتب على ظهره بخط غير خطه كتاب الجوارح والبزدرة تصنيف الفيلسوف أبو بكر ابن يوسف بن أبي بكر بن حسن بن محمد القاسمي القرشي العلوي الأشعري تاريخ كتابه سنة 848 هـ.
فاسم هذا الكتاب طبق المحز وأصاب المفصل من الكتاب الماثل أمامي الآن لكن لا تزال حقيقة مؤلفة مبهمة مجهولة. هذا وكتابنا جزآن أو مقالتان في المقالة الأولى 52باباً في تاريخ الصيد بالجوارح وتقسيمها إلى أقسامها وكيفية تربيتها وسياستها ثم إرسالها على غايتها وفي المقالة الثانية 63 باباً في أدواء الجوارح وعللها وما يتخذ لعلاجها من المركبات فجملة الأبواب 115 باباً في حجم 145 قائمة أو 290 صحيفة صغيرة مخطوطة خطاً واضحاً متأخراً االيطه يخطائها العد وفي آخره وقع الفراغ من كتابة هذه البيزرة نهار السبت 10 جمادى الأخرى سنة 1201 من الهجرة على يد ملامط بن عبد الله الطرفي.
النجف -
محمد رضا الشبيهي(95/5)
الشاعر
درست طباع الناس في الشرق والغرب ... وميّزت ما بين العريزيّ والكسبي
وخضت غمار الوهم في كل مطلبٍ ... وجبت فلاة الحق في شوطها الصعب
وعاينت من أهل الفنون عجائباً ... غرائب تدعو للتعجب والعجب
فلم أر مثل ابن القوافي فقد حرى ... عجائب أضاد يحار بها قلبي
يطوف بلاد الله وهو بأرضه ... ويفتتح الدنيا وحيداً بلا حرب
وينفر حتى لو أتاه حبيبه ... لأعرض عن هذا الحبيب بلا ذنب
ويؤنس حتى تلتقي الطير حوله ... وتلفظ منه ما أعد من الحب
ويهدي إلى سبل الرشاد وأنه ... ليحسبه أهل العقول بلا لب
ويتخذ الناس الأرائك مقعداً ... وما راقه إلا بساط من العشب
ويسمو إلى شهب النجوم محلقاً ... إليها بحراج التصور والجذب
ويوشك لا كفر أن يرقى إلى السما ... ويطمع حتى بالمثول لدى الرب
ويجمع ما بين النقيضين قلبه ... كما يتلاقى الهدب في النوم بالهدب
فيجعل نجم الأرض مع أنجم العلى ... ويجعل نجم الأفق مع أنجم الترب
ويسكر حتى لا يفيق بلا طلى ... ويصحب أهل الأرض وهو بلا صحب
ويقنعك البيت الوحيد سكنته ... ويبني ألوفاً لا يقول بها حسبي
يرى في ظلام الليل والشمس غرّبت ... ويعمى وما مالت إلى جهة الغرب
وإن أعوزته الراح في خلواته ... ترشفها بالوهم من وجنة الحب
ويا طالما صاغ الدراري فزينت ... عروس أمانيه بعقدٍ من الشهب
يحن بلا قلب ويشفى بلا عنا ... ويبكي بلا ثكل ويهوى بلا قلب
فكذب بلا إثم وبأس بلا قوى ... وسكر بلا خمر وشغل بلا كسب
فمن كان يزري بانقريض فإننا ... رضينا من الدنيا بتعذيبه العذب
ومن كان يستحلي من الشعر كذبه ... فهذه حياة الشاعرين بلا كذب
بيروت - طانيوس عبده(95/6)
قوائم المكاتب العربية
انتبه الإنسان حينما بدأ يجمع الكتب منذ القديم إلى وضع قوائم أو فهارس أو برنامجات لتعريف الكتب بأسمائها وموضوعاتها وأسماء مؤلفيها ومختصر تراجمهم ووصفها وما يتعلق بذلك من الشؤون اللازمة لتميزها وتعريفها. ولقد وضعت الفهارس المشهورة في مجلدات كثيرة ضخمة الجوانح الطبيعية فنالها ما نال غيرها من الكتب من السبي والنهب والحرق والإغراق في المياه والتمزيق ونحو ذلك ففقدت تلك الفهارس أو القوائم وفقد معها تعريف المكاتب ومحتوياتها مثل مكاتب العجم والعرب في العراق والشام ومكاتب مصر والمغرب والأندلس فاحتجنا إلى الطواف في البلدان والتقصي في البحث لنقف على شيء منها وهي أعز من الكبريت الأحمر لكن المطابع أظهرت لنا بعضها ومن أقدم القوائم ما وضع يمكاتب العباسيين في زمن الرشيد وولده المأمون كما يستفاد من كتاب (الفهرست) لابن النديم إذ أنه أعتمد على مثل هذه القوائم في وضع كتابه وهكذا نشأ فن وصف المؤلفات والمؤلفين بحسب كلف الأدباء بالمطالعة واقتناء الخزائن ومن أهم هذه المؤلفات في وصف الكتب ما وضع قبل عصر النهضة الحديثة وهو:
1 فهرست ابن النديم وهو المتوفى سنة 235هـ (849م) ويعرف بقمطر الكتب ولا تزال نسخه الكاملة نادرة حتى أن نصفه في مكتبة فينا (النمسا) والنصف الثاني في مكتبة الأمة في باريس (فرنسا) والظاهر أنه أول كتاب من نوعه أفرد لوصف الكتب وهو مجموع قوائم المكاتب التي عرفت في أيامه والكتب التي كانت موفودة لذلك العهد. وقلما نجد له ذكراً في الكتب التي بين أيدينا لقلة نسخه
2 فهرست ابن النديم لمؤلفه أبي الفرج محمد بن اسحق بن يعقوب النديم البغدادي الورّاق المتوفى نحو سنة 385هـ (995م) وقد بدأ بطبعه المستشرق الشهير فوسطاف فنرغل المتوفى سنة 1870م مع ملاحظات وتحقيقات فأعجلته المنية عن إتمامه فأنجزه بعده هرمان رودريغر وأوغست ملّو فطبع الكتاب سنة 1870م بالعربية في مدينة ليبسيك في 360 صفحة بقطع نصف كبير والحق به جزء ضخم في 279 صفحة ضمن التفاسير والتعاليق والاستدراكات بالعربية والنمسوية مختوماً بفهارس للإعلام طبع سنة 1872م وقد استدرك أحد المستشرقين على هذه الطبعة أول المقالة الخامسة صفحة 172 فنشرها في مجلة ألمانية سنة 1889م وهذا الفهرست هو من أهم وأقدم القوائم التي تعرف الكتب(95/7)
والعلوم وتشير إلى موضوعاتها أحياناً وعليه يعتمد دارسو آداب اللغة والمولعون بمعرفة المؤلفات والمؤلفين. وفي هذه الطبعة نواقص أشير إليها بأصفار من مثل اسماء الأعلام والكتب وسني الولادة والوفاة ونحو ذلك مما أفردت له مقالة خاصة.
3طبقات الأمم لأبي قاسم صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن صاعد التغلبي القرطبي قاضي طليطلة في الأندلس المتوفى سنة462هـ (1069م) بدأ فيه بتعريف العلوم عند الأمم كالهند والفرس والكلدان واليونان والروم والمصريين والعرب وبني إسرائيل وذكر المؤلفين فيها وكتبهم وأطال عن العرب في العراق والشام ومصر والأندلس بلاد المؤلف وقد نشر في مجلة الشرق (566: 14 فصاعداً) وطبع بكتاب على حدة.
4 فهرست الكتب والتآليف لأبي بكر محمد بن حير بن خليفة الأشبيلي الأندلسي من علماء القرن السادس للهجرة. وصف فيه 1400 كتاب في كل علم مع أسانيدها ما رواه عن شيوخه في العلوم والمعارف. طبع هذا الفهرست أولاً ملحقاً لكشف الظنون في ليبيسك من سنة 1835 - 1858م ثم نشرته مجلة أسبانية بعناية فرنسيس كوديرا سنة1894م في مدينة كازيروكوسته.
5القصيدة اليائية في أسامي الكتب العلمية - لشرف الدين محمد بن عمر القدسي الكاتب المتوفى سنة 712هـ (1312م) ذكره ابن حجر العسقلاني في كتابه (الدرر الكامنة) بقوله وما رأيت من ألف فيه شيئاً غيره وقد عرفت حال النظم وضيقه عن استيعابه كما ينبغيفيكون أول قوائم الكتب الشعرية.
6 إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد - لأبي الجود شمس الدين محمد بن ابراهيم بن ساعد الأنصاري المعروف بابن الأكفاني السنجاري الأصل المصري المتوفى سنة 749هـ (1348م) ومداره على وصف العلوم وأهم الكتب المؤلفة فيها طبع في مصر سنة 1318هـ (1900م) وفي بيروت بعناية الشيخ طاهر الجزائري سنة 1904م في 148صفحة. ومنه نسخ كثيرة مخطوطة في المكاتب وفي مكتبة منشئ هذه المقالة نسخة منه متقنة مضبوطة قديمة.
7 فهرست السيوطي - وهو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن كمال الدين بن محمد الخضيري السيوطي المشهور بمؤلفاته الكثيرة في العلوم والفنون نشر (فهرسته) في كشف(95/8)
الظنون أيضاً طبع ليبسيك كما مر آنفاً وتوفي السيوطي هذا سنة 911هـ (1505م).
8 فهرست ابن خليل السكوني - ذكره المقري في نفح الطيب (499: 2) أنه روى ما حرفيته:
شاهدت بجامع العديس بأشبيلية ربعة مصحف في أسفار ينحى بها نحو خطوط الكوفة إلا انه أحسن خطاً وأبينه وأبرهه وأتقنه. فقال له الشيخ الأستاذ أبو الحسين ابن الطفيل بن عظيمة هذا خط ابن مقلة. . . . . . ثم قسنا حروفه بالضابط فوجدنا أنواعها تتماثل في القدر والوضع فالألفات على قدر واحد واللامات كذلك والكافات والواوات وغيرها بهذه النسبة انتهى فيستدل من هذا الوصف أن فهرست السكوني في الكتب لأنه وصف المصحف وصف الخازن أو الفهرسيّ.
9 مفتاح السعادة ومصباح السيادة - لعصام الدين أبي الخير أحمد بن المولى مصلح الدين مصطفى بن خليل الملقب بطاش كبري زاده المتوفى سنة 968هـ (1560م) وقد طبع منه جزآن في الهند والجزء الثالث لا يزال مخطوطاً وهو في تعريف العلوم ثم ذكر المؤلفين وما ألفوه مما أفردت لوصفه مقالة خاصة في مجلة المقتبس هذه وهو يقع في نحو ألف صفحة مطبوعة مرتب على العلوم.
10 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - لمصطفى بن عبد الله كاتب حليي المعروف بالحاج خليفة (حاجي خليفة) المتوفى سنة 1068هـ (1657م) وهو مرتب على حروف المعجم مع مقدمات في العلوم بحسب الحروف التي تقع فيها وقد امتاز عما قبله من القوائم بنقل شيء من مضامين الكتب أو تعريف موضوعاتها وقد طبع مراراً في أوروبا والأستانة ومصر وهاتان الطبعتان في جزأين كبيرين بقطع نصف كبير. وأضبط طبعاته الأوروبية في سبعة مجلدات وعليها ذيل مفيد في مكاتب الأيام المتأخرة وعدد مجلداتها كما أشرت إلى ذلك في مقالة خاصة.
11كشف الظنون في أسماء الشروح والمتون - لكمال الدين محمد بن مصطفى بن كمال الدين بن علي البكري الصديقي الحنفي العزي المتوفى سنة 1096هـ (1684م) وقد جمع فيه أسماء الكتب على طريقة غريبة. ولم نعلم بوجوده فلعله مفقود.
12 المكتبة الشرقية - ومن أمهات هذه الفهارس المفيدة المكتبة الشرقية ليوسف السمعاني(95/9)
اللبناني المتوفى سنة 1767م (1181هـ) وهي باللاتينية وصف فيها المخطوطات القديمة بالعربية والسريانية مترجماً مؤلفيها في 12 مجلداً طبع أربعة منها فقط من سنة 1719 - 1730 في رومية والأجزاء الثمانية منها مخطوطة.
13 قائمة المخطوطات الشرقية في المكتبة النانية - للسمعاني الآنف الذكر وصف فيها ما في هذه المكتبة من المخطوطات باللغات الشرقية ولاسيما العربية.
14 ذيل كشف الطنون في أسماء الكتب والالحاقات - لإبراهيم بن علي الحنفي الرومي رئيس طائفة الجند المعروفين بالحوذيين (العربجية) في الدولة العثمانية توفي سنة 1189هـ (1775م) كما في سلك الدرر للمرادي (14: 1) ولا نعلم من أمره شيئاً ولعله في مكاتب الأستانة أو في بعض مكاتب الخاصة. وهو ذيل على (كشف الظنون) للحاج خليفة السابق وصفه. ولو وجده فلوغل لإضافه إلى الذيول التي ألحقها بطبعته للكشف البالغة منتهى التحقيق والتوسع لأنه أضاف إلى ذلك ذيول كثيرة مثل (آثارنوا) لأحمد حافظ زاده المتوفى سنة 1180هـ وفيه أهم الكتب التركية والفارسية التي عرفت بعد الكشف. وغيره مما أفردت له مقالة خاصة مطولة في وصفه ووصف فهرست ابن النديم.
15 فهرست مخطوطات الفاتيكان العربية - وهو قائمة المكتبة المشهورة في ملانية رومية ألفه المطران اصطفان عواد اللبناني المتوفى سنة 1782م (1197هـ) بمساعدة خاله السمعاني قيم المكتبة الفاتيكانية الآنف الذكر. وطبعه في ثلاثة مجلدات الكردينال ماي خلخ السمعاني في نظارة المكتبة المذكورة. ثم طبع فهرس الكتب التي دخلت المكتبة بعد ذلك بكتاب آخر ألحق بالأول.
16 فهرست مخطوطات كيجي العربية - وضعه المطران عواد المذكور لوصف مخطوطات هذه المكتبة في رومية أيضاً.
17 فهرست الكتب الشرقية في المكتبة المديسية - وهذه المكتبة هي فلورنسة (ايطاليا) وضع فهرسها المطران عواد أيضاً واصفاً فيه 537 كتاباً مترجماً معطم مؤلفيها وناقلاً بعض مضامينها مع حواش وتعاليق مفيدة.
18فهرست مخطوطات الإسكوريال العربية - وهو برنامج وضعه الخوري مخايل العزيزي الطرابلسي لما استقدمه ملك اسبانيا سنة 1748م لتنظيم مكتبة الاسكوريال في(95/10)
مدريد (اسبانيا) التي يسميها العرب مجريط وتوفي سنة 1791م (1206هـ) وقد طبع هذا البرنامج في مجلدين بقطع نصف باللغتين اللاتينية والعربية من سنة 1761 - 1770م بمساعدة بولس خضر الماروني. هذا إلى غير ذلك من الفهارس الأخرى التي لا تزال مخطوطة أو مجهولة أو فقدت أو نقلت إلى المكاتب الأخرى وأغفل أمرها.
وعلى الجملة فإن القدماء اعتنوا بفهارس الكتب التي حفلت بها مكاتبهم فرتبوها في رفوف وخزائن حسب مواضيعها أو على حروف المعجم ووضعوا عليها أرقاماً (نمراً) ربطوها في القوائم بها لزيادة الضبط.
وقد يعرفّون المؤلفات والمؤلفين أحياناً بما يزيل الإبهام أو يكاد لتوارد الخواطر في التسمية وتغيير أسماء المصنفات بحسب الدواعي حتى أن بعض الكتب لها أكثر من أسمين مختلفين وكذلك يقال في المؤلفين وتراجمهم.
وقد يطيلون في البحث عن أشياء ليست من أغراض مؤلفي القوائم فيذهبون بالمطالع بين سهول المباحث وحزونها. كما فعل ابن النديم في أبحاثه عن الصابنة وماني وخرافات القدماء مما ليس تحته كبير فائدة مثلما فاه في أبحاثه عن الفلسفة والفلاسفة ونقله الكتب فهي وإن كانت تتجاوز غرضه فتحتها فوائد جديرة بالمطالعة وكذلك فعل صاحب الكشف في بعض مواضيعه وقد يقتضبون الكلام عن المؤلفات كما فعل ابن النديم في معظمها بخلاف صاحب الكشف. وقد يعرّفونها بما يفي بحاجة الباحث مثل تعريف ابن النديم لكتاب (المنتهى في الكمال) صفحة 137 وذكر فهرست آخر صفحة 107 وقد يذكرون أثمان الكتب كما وقع لابن النديم في صفحتي 252و253 وغيرهما وصاحب الكشف (335: 1) من طبعة الأستانة وقلما يشيرون إلى الخزائن التي توجد فيها المؤلفات إلا في القليل كما فعل صاحب الكشف في بعض المواضع.
وكذلك يفعلون سني التأليف والنسخ وما على الكتب من الحواشي إلا ما يورده صاحب الكشف أحياناً.
وعلى الجملة فإن لهذه القوائم القديمة مزايا مفيدة ونواقص استدركها عليهم المعاصرون في ما وضعوه في قوائمهم المتقنة المعرفة للكتاب من حيث حجمه وقطعه وخطه وصفحاته وما في كل منها من الأسطر وعدد كلمات كل سطر وموضوع الكتاب ونقل شيء منه وذكر(95/11)
أقسامه وفصوله وما تبحث عنه في كل ذلك. ثم تعريف المؤلف ومختصر ترجمته وسنة وفاته وما اشتهر به ووضعه من المؤلفات الأخرى. والإشارة إلى ناسخ الكتاب وسنة نسخه ونوع خطه. ومعارضة النسخة بغيرها وذكر ثمنه وتجليده وورقه إلى ما يساوق هذه الأبحاث المفيدة المختومة بفهارس مختلفة لتسهيل المطالعة ويتيسر العثور على المطلوب بأقرب وقت. ومعرفة المؤلفات والمؤلفين من نظرة خفيفة. ما فيه اقتصاد وقتي ودقة نظر وصحة بحث. وفي قوائم المحدثين تدقيقات جديرة بالمطالعة كما سترى في مقالة أخرى خصصت بقوائمهم.
زحلة (جبل لبنان) -
عيسى اسكندر المعلوف(95/12)
فوات نهج البلاغة
لمولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام من الحكمة البالغة التي تتجلى ببرود البلاغة الرائعة ما لا يجهله ذو مسكة من البيان العربي.
وهو مع كونه غذي بدر النبوة وارتضع أفاويق الحكمة فهو بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبلغ الهاشميين الذين هم مهبط القرآن ومعدن الإعجاز في البيان وهم أفصح قريش الذين هم أفصح العرب على الإطلاق.
وقد عني الشريف الرضي الموسوي في جمع ما عثر عليه من كلامه عليه السلام في كتابه نهج البلاغة فكان هذا الكتاب نبراساً للمتأدبين ومنهجاً لاحباً للطالبين وتوفرت العناية في دراسته من طالبي الحكمة الأخلاقية أو الملكات اللغوية أو السلائق البيانية.
وقد عثرت في مطالعاتي على كلام له عليه السلام لم يذكر كله أو جله في نهج البلاغة فأحببت أن أتحف قراء المقتبس بهذه الدرر الحكيمة والجواهر الكريمة خدمة للعلم فقد أخرج الشيخ الإمام محمد بن محمد بن النعمان المعروف بأبي عبد الله الحفيد المولود سنة 338 والمتوفى سنة 413 في كتابه المعروف بالإرشاد جملة صالحة من كلامه في مواضع شتى إليك بعضها مع شرح وجيز لها.
النبطية (جبل عامل) -
أحمد رضا
من كلام عليه السلام في وجوب المعرفة بالله تعالى والتوحيد له
ونفي التشبيه عنه والوصف لعدله
فمن ذلك ما رواه أبو بكر الهزلي عن الزهري عن عيسى بن زيد عن صالح بن كيسان أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في الحث على معرفة الله سبحانه والتوحيد له.
أول عبادة الله معرفته وأصل معرفته توحيده ونظام توحيده ففي التشبيه عنه جل عن أن تحله الصفات لشهادة العقول أن كل من حلته الصفات مصنوع وشهادة العقول أنه جل وعلا صانع ليس بمصنوع بصنع الله يستدل عليه وبالعقول يعتقد معرفته وبالنظر تثبت صحته جعل الخلق دليلاً عليه فكشف به عن ربوبيته هو الواحد الفرد في أزليته لا شريك له في آلهته. ولا ندّ له في ربوبيته بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضدّ له(95/13)
وبمقارنته بين الأمور المقترفة علم أن لا قرين له (في كلام طويل).
ومما حفظ عنه في نفي التشبيه عن الله تعالى
ما رواه الشعبي قال سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يقول والذي احتجب بسبع طباق فعلاه بالدرة ثم قال له:
يا ويلك أن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء سبحان الذي لا يحويه مكان في الأرض ولا في السماء. فقال الرجل أفأكفّر عن يميني يا أمير المؤمنين قال عليه السلام لا أنك لم تحلف بالله فتلزمك كفارة الحنث وإنما حلفت بغيره.
ومن كلامه:
روى الحسن بن أبي الحسن البصري قال: جاء وجل إلى أمير المؤمنين بعد انصرافه من صفين فقال له يا أمير المؤمنين أخبرني عما كان بيننا وبين هؤلاء القوم من الحرب أكان بقضاء من الله وقدر فقال له أمير المؤمنين عليه السلام ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا والله فيه قضاء وقدر فقال الرجل فعند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له ولم قال إذا كان القضاء والقدر ساقانا إلى العمل فما وجه الثواب لنا على الطاعة وما وجه العقاب لنا على المعصية فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أو ظننت يا رجل أنه قضاء حتم وقدر لازم لا تظن ذلك فإن القول به مقال عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومحبوسها إن الله جل جلاله أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكف يسيراً ولم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم يخلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا بربهم فويل للذين كفروا من النار.
فقال الرجل فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين قال الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا فأما غير ذلك فلا تظن فإن الظن له محبط للأعمال فقال الرجل فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك وأنشأ يقول
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته ... يوم المآب من الله غفرانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ... جزاك ربك بالإحسان إحسانا(95/14)
ومن كلامه في الدعاء إلى معرفته وبيان فضله وما ينبغي
لمتعلم العلم أن يكون عليه
ما رواه العلماء في الأخبار في خطبة منها والحمد لله الذي هدانا من الضلالة وبصرنا من العمى ومن علينا بالإسلام وجعل فينا النبوة وجعلنا النجباء وجعل إفراطنا إفراط الأنبياء وجعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونعبد الله ولا نشرك به شيئاً ولا نتخذ من دونه ولياً فنحن شهداء الله والرسول شهيد علينا نشفع فنشفع فيمن شفعنا له وندعو فيستجاب دعاؤنا ويغفر لمن ندعو له ذنوبه أخلصنا لله فلم ندع من دونه ولياً. أيها الناس تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله أن الله شديد العقاب. أيها الناس إني ابن عم نبيكم وأولاكم بالله ورسوله فاسألوني ثم اسألوني فكأنكم بالعلم قد نفذ وأنه لا يهلك عالم إلا هلك معه بعض علمه وإنما العلماء في الناس كالبدر في السماء يضيء نوره على سائر الكواكب خذوا من العلم ما بدا لكم وإياكم أن تطلبوه بخصال أربع لتباهوا به العلماء أو تماروا به السفهاء أو تراؤوا به في المجالس أو تعرفوا وجوه الناس إليكم للترأس ولا يستوي عند الله في العقوبة الذين يعلمون والذين لا يعلمون ونفضنا الله وإياكم بما علمنا وجعله لوجه الله خالصاً انه سميع مجيب.
ومن كلامه في وصفه العالم وأدب المتعلم
رواه الحرث الأعور قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول من حق العالم ألا يكثر عليه السؤال ولا يعنت في الجواب ولا يلح عليه إذا كسل ولا يؤخذ بشوبه إذا نهضا ولا يشار إليه بيد في حاجة ولا يفشى له سر ولا يغتاب عنده أحد ويعظم كما حفظ أمر الله. ولا يجلس المتعلم إلا أمامه ولا يعرض من طول الصحبة وإذا جاءه طالب علم وغيره فوجده في جماعة عمهم بالسلام وخصّه بالتحية وليحفظ شاهداً أو غائباً وليعرف له حقه فإن العالم أعظم أجراً من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله فإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه وطالب العلم تستغفر له الملائكة.
ومن كلامه عليه السلام في أهل البدع ومن قال في الدين برأيه
وهذه الخطبة ورد أكثرها في نهج البلاغة وفيها زيادات(95/15)
لم تذكر هناك فأوردناها برمته
ما رواه ثقات النقل من الخاصة والعامة في كلام افتتاحه الحمد لله والصلاة على نبيه صلى الله وآله وسلم.
أما بعد فذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم انه لا يهيج على التقوى زرع قوم لا يظمأ عنه سنح أصل وإن الخير كله فيمن عرف قدره وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره وأن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل وكله الله إلى نفسه جائز عن قصد السبيل مشعوف بكلام بدعة قد لهج فيها بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن أفتتن به ضال عن هدي من كان قبله مضل لمن أقتدى به حمال خطايا غيره رهن بخطيئة قد قمش جهلاً في جهال عشوة غار باغباش الفتنة عمي عن الهدى قد سماه أشباه الناس عالماً ولم بغن فيه يوماً سالماً بكر فاستكثر مما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن واستكثر من غير طائل جلس للناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره أن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله وإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه ثم قطع عليه. فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ. ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهباً. أن قاس شيئاً بشيء لم يكذّب رأيه وإن أظلم عليه أمراً اكتتم به لما يعلم من نفسه من الجهل والنقص والضرورة كيلا يقال أنه لا يعلم ثم أقدم بغير علم فهو خائض عشوات ركاب شبهات خبّاط جهالات لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم. ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم. يذري الروايات ذرو الريح الهشيم تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء ويستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم به الحلال لا يسلم بإصدار ما عليه ورد ولا يندم على ما منه فرط.
أيها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعذرون بجهالته فإن العلم الذي هبط به آدم عليه السلام وجميع ما فضلت به النبيون إلى نبيكم خاتم النبيين. في عترة محمد صلى الله عليه وعلى آله فأين يتاه بكم بل إلى أين تذهبون يا من نسخ من أصلاب أصحاب السفينة هذه مثلها فيكم فاركبوها فكما نجا من هاتيك فكذلك ينجو من هذه من دخلها. أنا رهين بذلك قسماً حقاً وما أنا من المتكلفين والويل لمن تخلف ثم الويل لمن تخلف. أما بلغكم ما قال فيهم نبيكم صلى الله عليه وآله حيث يقول في حجة الوداع: إني تارك فيكم الثقلين ما تمسكتم(95/16)
بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما إلا هذا عذب فرات فاشربوا وهذا ملح أجاج فاجتنبوا.
ومن كلامه عليه السلام في التزود للآخرة وأخذ الأحبة للقاء الله تعالى
والوصية للناس بالعمل الصالح
ما رواه الثقات أنه كان ينادي في كل ليلة حين يأخذ الناس مضاجعهم بصوت يسمعه كافة أهل المسجد ومن جاوره من الناس.
تزودوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلوا العرجة على الدنيا وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فإن أمامكم عقبة كؤداً ومنازل مهولة لا بد من الممر بها والوقوف عليها فإما برحمة من الله نجوتم من فظاعتها وأما هلكة ليس بعدها انجبار يا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة وتؤديه أيامه إلى شقوة جعلنا الله وأيامكم ممن لا تبطره نعمة ولا تحل به بعد الموت نقمة فإنما نحن به وله وبيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ومن كلامه عليه السلام في التزهيد في الدنيا والترغيب في أعمال
الآخرة
يا ابن آدم لا يكن أكبر همك يومك الذي أن فاتك لم يكن من أجلك فإن همك يوم فإن كل يوم تحضره يأتي الله فيه برزقك وأعلم أنك لن تكتسب شيئاً فوق قوتك إلا كنت خازناً لغيرك يكثر في الدنيا به نصبك ويحظى به وارثك ويطول معه يوم القيامة حسابك فاسعد بمالك في حياتك وقدم ليوم معادك زاداً يكون أمامك فإن السفر بعيد والموعد القيامة والمورد الجنة أو النار.
ومن كلامه عليه السلام في ذكر خيار الصحابة وزهادهم
ما رواه صعصعة بن صوحان العبدي قال صلى بنا أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم صلاة الصبح فلما أسلم أقبل على القبلة بوجهه يذكر الله لا يلتفت يميناً ولا شمالاً حتى صارت الشمس على حائط مسجدكم هذا (يعني جامع الكوفة قيد رمح ثم أقبل علينا بوجه فقال: لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأنهم(95/17)
ليراوحوا في هذا الليل بين جباههم وركبهم فإذا أصبحوا أصبحوا شعثاً غبراً بين أعينهم شبه ركب المعزى فإذا ذكروا الموت مادوا كما يميد الشجر في الريح ثم انهملت عيونهم حتى تبل ثيابهم ثم نهض عليه السلام وهو يقول: كأنما القوم باتوا غافلين.
ومن كلامه ومواعظه وقد ذكرت في النهج على اختلاف بين روايتها
هنا وهناك
الموت طالب حثيث ومطلوب لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب فأقدموا ولا تنكلوا فإنه ليس عن الموت محيض أنكم أن لا تقتلوا تموتوا والذي نفسى بيده لألف ضربة بسيف على الرأس أيسر من موتة على فراش.
ومنها
أيها الناس أصبحتم أغراضاً تنتصل فيكم المنايا وأموالكم نهب المصائب ما طعمتم في الدنيا من طعام فلكم فيه غصص وما شربتم من شراب فلكم فيه شرف وأشهد بالله ما تنالون من الدنيا نعمة تفرحون بها إلا بفراق أخرى تكرمونها. أيها الناس إنا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء لكنكم من دار إلى دار تنقلون فتزودوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه والسلام.
ومن كلامه عليه السلام في الدعاء إلى نفسه والدلالة على فضله
ما رواه كثير من الخاصة والعامة وذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة خطبها بعد بيعة الناس له على الأمر وذلك أبعد قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أما بعد فلا يرعين مرح إلا على نفسه شغل من الجنة والنار أمامه ساع مجتهد وطالب يرجو ومقصر في النار ثلاثة واثنان ملك طار بجناحيه ونبي أخذ الله بيديه لا سادس هلك من ادعى وردي من اقتحم اليمين والشمال مضلة والوسطى الجادة منهج عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة إن الله تعالى داوى هذه الأمة بدوائين السوط والسيف لا هوادة عند الإمام فيهما فاستتروا بيوتكم وأصلحوا فيما بينكم والتوبة من ورائكم من أبدى صفحته للحق هلك قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها معذورين أما إني لو أشاء أن أقول لقلت عفى الله هما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه ويله لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيراً له انظروا فإن أنكرتم فأنكروا وإن عرفتم فبادروا حق وباطل ولكلّ أهل ولئن(95/18)
أمر الباطل فلقديماً فعل ولئن قلّ الحق فلربما ولعل وقل ما أدبر شيء فأقبل ولئن رجعت إليكم نفوسكم أنكم لسعداء وأني لأخشى أن تكونوا في فترة وما علي إلا الاجتهاد. إلا وأن إبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً ألا وأنا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا وبقول صادق أخذنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا وإن لم تفلوا يهلككم الله بأيدينا معنا راية الحق من تبعها لحق ومن تأخر عنها غرق إلا وبنا تدرك ترة كل مؤمن وتخلع ربقة الذل من اعناقكم وبنا فتح الله لا بكم وبنا يختم لا بكم.
ومن كلامه عليه السلام
ما رواه عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله قال: دخل على علي ابن أبي طالب عليه السلام بالمدينة بعد بيعة الناس لعثمان فوجدته مطرقاً كئيباً فقلت له: ما أصاب قومك فقال: سبحان الله والله أنك لصبور قال فاصنع ماذا قلت: تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك وتخبرهم أنك أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالفضل والسابقة وتسألهم النصر على هؤلاء المتمالئين عليك فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة وإن دانوا لا كان ذلك على ما أحببت وإن أبوا قاتلتهم فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله الذي أتاه نبيه عليه الصلاة والسلام وكنت أولى به منهم وإن قتلت في طلبه قتلت شهيداً وكنت أولى بالعذر عند الله وأحق بميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: أتراه يا جندب يبايعني عشرة من مائة قلت: أرجو ذلك قال: لكني لا أرجو من كل مائة أثنين وسأخبرك من أين ذلك.
إنما ينظر الناس إلى قريش وأن قريشاً تقول أن آل محمد يرون أن لهم فضلاً على سائر الناس وأنهم أولياء الأمر دون قريش وأنهم إن ولوه لم يخرج منهم هذا السلطان إلى أحد أبداً ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم لا والله لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعين أبداً قال: فقلت له أفلا أرجع فأخبر الناس بمقالتك هذه فادعوهم إليك فقال لي: يا جندب ليس هذا زمان ذلك قال: فرجعت إلى العراق فكنت كلما ذكرت للناس شيئاً من فضائله ومناقبه وحقوقه زبروني ونهروني حتى دفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة ليالي ولينا فبعث إلي فحبسني حتى كلم فيّ فخلى سبيلي. ومن كلامه عليه السلام:
لما توجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج فاجتمعوا(95/19)
ليسمعوا كلامه وهو في خبائه قال ابن عباس فأتيته فوجدته يخصف نعلاً فقلت له: نحن على أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبها وقال لي: قومّها فقلت: ليسر لهما قيمة قال على ذاك قلت كسر درهم قال: والله لهما أحب إلى من أمركم هذا إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً. قلت: أن الحاج اجتمعوا ليسمعوا من كلامك فتأذن لي أن أتكلم فإن كان حسناً كان منك وإن كان غير ذلك كان مني قال لا أنا أتكلم ثم وضع يده على صدري وكان شثن الكفين فآلمني ثم قام فأخذت بثوبه وقلت: أنشدك الله والرحم قال: لا تنشد ثم خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وليس في للعرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة فساق الناس إلى منجاتهم أما والله ما زلت في ساقتها ما غيرت ولا بدأت ولا خنت حتى تولت بحذافيرها ما لي ولقريش أما والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتوقين وإن مسيري هذا عن عهد إليّ فيه أما والله لأبقرن الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا وأنشد
وذنب لعمري شربك المحض خالصاً ... وأكلك بالزبد المقشرة التمرا
ونحن وهبناك العلاء ولم تكن ... علياً وحطنا حولك البيض والسمرا
لها تابع(95/20)
دائرة المعارف الإسلامية
كتب الإفرنج كثيراً على الإسلام والمسلمين منذ دخلت العلوم عليهم واشتدت حاجة اجتماعهم واقتصادهم إلى معرفة ما عند الأمم المجاورة لهم ولكن معظم ما كتب لا ينم عن تحقيق. كتب من حاضر الوقت وما وجد للحال تحت اليد فجاء مختلاً من عدة وجوه وبين أكثره وبين الحقائق هوىً سحيقا زادها هوى النفوس وسرائر التعصب في تلك الأيام ولما قوية الإستشراق أو تعلم علوم المشرقيات بين الغربيين أخذ كلامهم على الإسلام وأهله يقرب من الحقيقة خصوصاً إذا كان الكاتب ممن لا ينطق عن غرض سياسي كما فعل سيديليو الفرنساوي في كتابه تاريخ العرب وفعل بروكلمان الألماني في كلامه على تاريخ آداب اللغة العربية وكما فعل بعض علماء المشرقيات من الألمان والنمساويين والمجريين والهولانديين والسويسريين وغيرهم.
أمامنا الآن أمتع مؤّلف كتبه أهل الغرب عن المسلمين وبلادهم حتى هذا العصر وهو دائرة المعارف الإسلامية ظهر أولاً نموذجات منه باللغة الألمانية لأنها لغة العلم على الأكثر في أوربة الوسطى وبلاد السكاندنافيا وهولاندة فلم يسع فرنسا إلا أن توسلت بإخراج هذا العمل بلغتها أيضاً ونفحت الطابع مبلغاً من المال وكذلك فعلت انكلترا وها قد مضى ثماني سنين ولم يصدر من هذا الكتاب النفيس سوى عشرين كراساً وقع منها سبعة عشر في 9 صفحة بدئت بحرب اوانتهت بحرف الثلاثة الباقية وقعت في 192 صفحة وهي في حرف وصل إلينا منها إلى قبيل الحرب مقالة كل بابا البكداشي.
موضوعات الكتاب كلها منتقاة يكتبها عشرات من علماء المشرقيات المشهود لهم بسعة العلم وفضل العمل أو من طبقة ثانية منهم تلاحظ الطبقة الأولى ما يكتبون وكل من كتب مقالة أو مبحثاً ذيله باسمه ليكون ذلك أقرب إلى الثقة ولا يخلط المؤلف في شيء سيتناقل عنه. والكتاب معجم أو قاموس في جغرافية بلاد الإسلام وأصول شعوبها وتراجم رجال الأمة الإسلامية فترى كل موضوع وقد عهد إلى الأكفاء في تحبيره وتحريره مستوفىّ من كل وجه وفي أسفله المصادر التي نقل المؤلف منها والكتب الإفرنجية أو الشرقية التي أعتمد عليها.
ومن أهم المقالات في هذه الدائرة الكبرى مقالة مصر وأفغانستان وجزيرة العرب والأندلس وأرمينية والبربر والفقه وغير ذلك من تراجم أعيان الأمة في القديم والحديث والتوسع في(95/21)
بلادها وسكانها توسعاً وسطاً ينظر فيه إلى جودة المادة على الأغلب. وإن دائرة معارف من جملة المساعدين فيها كويدي وغولدصهير وهارتمان وبروكلمان وغيرهم من أعيان علماء ألمانيا وهولاندة وفرنسا والدانيمرك والسويد ونروج وسويسرا وإنكلترا وإسبانيا إيطاليا والنمسا والمجر وروسيا وأميركا والجزائر والهند وفي كتابها الإسرائيلي والمسيحي والمسلم لا غرابة في كونها من أرقى كتب القرن العشرين ولا نغالي إذا قلنا أنها كتاب القرن العشرين عن الشرق.
وقد ضمت هذه الدائرة تراجم بعض رجال من أهل الإسلام أو لمن كان لهم شأن في أقطارهم كانت مجهولة حتى عند الخاصة منا لأن القائمين بتأليف هذا الكتاب النادر بالنظر لأخصاء كل واحد منهم في بقعة أو شيء توغلوا في البحث واستوفوا كل دقيق وجليل في تقويم بلدان المسلمين وتقدير رجالهم. عنوا من ثم بأرض المسلمين ومن دب عليها حتى الآن فلم حاجة في نفس المطالع إلا قضوها ولا باباً من أبواب الأفادة إلا ولجوه فجاءت الفوائد على طرف التام يتناولها كل من يعرف إحدى لغات العلم الثلاث الألمانية والإفرنسية والإنكليزية.
يطبع الكتاب في مطبعة بريل في هولاندة المشهورة بطبع كتب الشرق منذ ثلاثة قرون وتساعدها جمعية المجامع العلمية الدولية فصح أن نقول دائرة المعارف الإسلامية هي كتاب الغرب أوروبا وأمريكا قدمه للشرق آسيا وإفريقيا وما كان أحرانا معاشر الآسيويين والإفريقيين أن نكون نحن البادئين في نشر مثل هذا السفر الأنفس خصوصاً وصاحب الدار أدرى بالذي فيها ولذلك لم بيق لنا رجاء إلا أن نرجو ممن يحزقون إحدى لغات الكتاب أن يعتمد كل واحد منهم على الطبعة التي يحسن لغتها ويقتبس منه لأهل الإسلام ما يفيدهم في موضوع بلادهم ورجالهم وأصولهم فإن من البلاد ما يحيثه النور إلا منعكساً والشرق بعد أن كان مصدر النور أخذ يقتبس نوره من الغرب.
وهاك الآن ما كتبه إلينا الأستاذ العلامة هوتسما رئيس تحرير هذه الدائرة الإسلامية وأستاذ كلية أوترخت في بلاد القاع (هولاندة) بشأن هذا التأليف وقد سألناه منذ ثلاثين شهراً عن الطرق التي عمدوا إليها حين أنشأها فتفضل بالجواب الآتي تعريبه: يجب أن يعلم أنه طالما جرى البحث ولاسيما في مؤتمرات المستشرقين الدولية في الحاجة الماسة إلى دائرة(95/22)
معارف إسلامية تجمع شتات جميع أبحاث المستشرقين التي هيأوها لنا عن الشعوب الإسلامية. ومثل هذا التأليف لا أثر له في الغرب إذا استثنى من ذلك كتاب المكتبة الشرقية الذي نشره في باريز هربربر منذ زهاء قرنين. إن دوائر المعارف العربية والتركية لم توضع بحيث تقوم بغرض القراء من الغربيين ممن لا يعرفون هاتين اللغتين فهي لا تسد هذه الثلمة.
ولقد دعيت إلى القيام بمثل هذا التأليف فنشرت بمساعدة بعض المستشرقين والسادات بريل في ليدن نموذجاً من دائرة المعارف الإسلامية نال استحسان ورصفائي. وكنت طلبت وحزت معاونة المجامع العلمية في أوربا بأسرها للإنفاق على هذا المشروع قبل السادات بريل في ليدن بنشر هذا التأليف على نفقتهم. ومن الأسف أنه لم يقع الإتفاق على المال الواجب استخدامه حتى وقع القرار مؤخراً بأن تنشر دائرة المعارف بثلاث لغات (الألمانية والإفرنسية والإنكليزية) في آن واحد. وهو قرار يؤسف له لأن مهمة التحرير تطول بذلك وتصعب ثلاث أضعاف وأشق من ذلك أن نشرها على هذه الصورة يستلزم وقتاً أطول ثلاث أضعاف للنشر ولعل النفقات على نسبة ذلك. ومع هذا لما شاهدت قبولاً من المجامع ومن رصفائي لم تحدثني نفسي أن أطرح الموضوع وبعد أتخذ أسباب أخرى ضممت إليّ المسيو باسيه عميد كلية الآداب في الجزائر يتولى تحرير النسخة الإفرنسية والإستاذت. وأرنولد في لندرا للقيام بالطبعة الإنكليزية وجميع المقالات المتعلقة بشمال إفريقية (الجزائر وتونس ومراكش والسودان) هي مما تولاه المسيو باسيه ومؤازروه وجميع الأبحاث المتعلقة بالبلاد الخاضعة للحكومة الإنكليزية ما عدا مصر هي مما يرجع به إلى المستر أرنولد وجميع البلاد مثل مصر والمملكة العثمانية بأجمعها وفارس وآسيا الوسطى والهند والهولاندية (جاوة) الخ هي في عهدتي. وقد عهد بالمقالات المختلفة المتعلقة بهذا الشأن إلى علماء الأكفاء يوقعون عليها بأسمائهم وهم وحدهم المسؤلون عما تحويه. وتجد بين المؤازرين في التحرير أسماء المشاهير من كل أمة مثل المسيو هاوار والمسيو كازادي فو في فرنسا والمسيو بكيروغولدصهير وهارتمان وهرفلد وكثير غيرهم في ألمانيا والمسيو مورنالد من روسيا والمسيو زترستين في السويد والمسيو بوهل في الدانيمرك والمسيو سوتر من سويسرا والمسيو كويدي والمسيو نالينو من إيطاليا والمسيو موردهام من الأستانة(95/23)
والسيد هدايت حسين من كلكونا وهذا هو الشرقي الوحيد الذي دخل العمل حتى الآن ثم المستشرقين الهولانديون مثل مسيو سنوك هوركروج والمسيو جونبول والمسيو فيمش الخ. والغاية من تحرير هذه الدائرة علمية صرفة وذلك ليحيط الناس حق الإحاطة بحال الشعوب الإسلامية ويطلعون على تاريخهم ودينهم وفنونهم وعلومهم وجغرافية البلاد التي ينزلونها وتراجم المشهورين من رجالهم وقد ختم كتابه في الشكوى من حال التأخر في نشر الدائرة وإنجازها.(95/24)
طرق الشرق
ربما يظن بعضهم أن الاتصال بين الشرق والغرب كان في القديم معدوماً والحقيقة أن الاتصال للتجارة والزيارة كان موجوداً ولكن لا كما هو اليوم فكنت ترى في البلد الواحد من الشرق أو الغرب بضعة رجال سافروا إلى القاصية في البر أو البحر واليوم ترى في المدن التي كثر اختلاط أهلها بالأمم المجاورة والبعيدة خمسة أو عشرة في المئة ولا سيما سكان الساحل فكثر الخلط في الأخبار قديماً وقلّ اليوم إذ عرف كل شيء وسهلت الطرق التجارية بحرية كانت أو برية طرق الاطلاع على الحقائق وكانت طرق فارس في الأمم القديمة آمن الطرق وأسلكها (المقتبس م3 ص103) ولذلك سهل على كثير من أهل الإسلام أن يزوروها وكانت كتابة قدماء جغرافيي العرب أمتع من كتابتهم على نفس ديار العرب ولم تبطل المواصلات بين الغرب والشرق فتارة يتقدم الفينيقيون ويحملون على سفنهم متاجرهم إلى سواحل البحر الرومي وربما بلغوا بها بريطانيا العظمى وطوراً تكون النوبة للرومان يفتحون جزءاً عظيماً من بلاد الشرق الأقرب فتكثر متاجرهم مع أهله وآونة يكثر الاختلاط بين بالروم من أهل المملكة الشرقية ويتسلطون على كثير من الأقاليم الشرقية فتزيد الصلات التجارية معهم ثم تجيء نوبة الروسيين فالجنوبيين فالبيزيين فالبنادقة الإيطاليين.
ومنذ القرن الرابع للمسيح أخذ من دانوا بالنصرانية يأتون إلى الأراض المقدسة وفي الحروب الصليبية كثرت هذه العلائق وكان للنورمانديين فضل السبق على سائر الأمم الأوربية بتحمسهم في زيارة الأصقاع المقدسة في فلسطين مدفوعين بعوامل حب الربح والاتجار أيضاً فكانوا يتحاشون تجثم أهوال البحر ولذلك كنت تراهم يقطعون المسافة براً فيمرون بفرنسا وبجزء عظيم من إيطاليا ثم يركبون البحر من نابولي أو كايت أو سلونا وهي الموانئ التي كانت تتقايض التجارة مع سورية وقد قضى الصليبيون الذين سافروا من أوربا إلى فلسطين من طريق الأستانة براً ثمانية أشهر وكانت تقطع المسافة بحراً في مراكب تلك الأيام بين إحدى مواني الأندلس وبين الإسكندرية في ثلاثين أو أربعين يوماً وربما بلغت من البندقية إلى يافا خمسين يوماً بحسب ملائمة الهواء. والطريق التي كانت متبعة في القرن السادس عشر للذهاب من فرنسا إلى الشرق براً هي راغوس يكي بازار اسكوب تاتار بازار جق.(95/25)
وكانت الطرق البرية المسلوكة معبدة كل التعبيد ومرافق الحياة موفورة بها ولا سيما البغال والحمير والخيل والجمال والهوادج والمركبات لكل إقليم اصطلاحه وعاداته ولذلك كان المرء إذا قصد السرعة يتأتى له ذلك كما فعل البارودي لاكاد فقضى اثنين وعشرين يوماً للذهاب من الأستانة إلى فونتينبلو قرب باريز. وزار برتراندون دي لابروكيير القدس فرجع راكباً من الأستانة إلى فرنسا من طريق بلاد الفلاخ وبلغراد وبشته في خمسين يوماً ووقف منها أياماً في الطريق وقضى الرحالة ابن جبير من لدن خرج في القرن السادس للهجرة في غرناطة الأندلس إلى أن آب إليها عامين كاملين وثلاثة أشهر ونيفاً. وكان للأندلسيين غرام في الرحلة إلى المشرق يقصدونه للحج وطلب العلم والتجارة كما كان للمشرقيين عناية بذلك ولكن أقل من عناية الأندلسيين ولا غرابة فالأندلسيون أوربيون ومن أين للشرقي همة كهمة الغربي.
لقد عمرت مدن كثيرة في القديم بسبب التجارة لإيواء القوافل والسياح وفي جنوبي أوربا شيء كثير منها وفي بلادنا عمرت البتراء (وادي موسى) وتدمر كما عمرت مخافي بلاد اليمن في أواخر القرن الثامن عشر ثم خلفتها مدن في نقل واردات اليمن وصادراتها وكان يصل إليها من أرض الهند الياقوت واللؤلؤ وأصناف من المسك والكافور والعود الرطب والعطر والحديد والفلفل ويصل من الصين الحرير والقصبات ويصل من عمان وأرض فارس تحف كثيرة. وكانت اليمن كالشام والعراق لتوسطها بين الشرق والغرب يغشاها كثير من تجار الأوربيين منذ العهد الأطول.
وفتح العرب قبل غيرهم طرق التجارة مع الشام قبل الإسلام بل وصلوا إلى أقصى الروم وإلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها (المقتبس م7 ص222) إلى الشعوب البربرية في أوربا. وللعرب مرفآن تجاريان عظيمان متصلان بالعاصمتين أحدهما البصرة على خليج فارس تفرغ فيه مراكب الهند تحمل العطور والأبازير والعاج وتجيء الجنوك الصينية تحمل صمغ اللك والحرير وتعود بالزجاج أأ
والسكر وماء الورد والقطن والإسكندرية هي المرفأ الثاني فتحت على العرب طريق البحر الرومي وإليه كانت تصل مراكب إيطاليا.
وتسير القوافل من بغداد إلى كل ناحية فمن الجنوب الغربي نقصد إلى دمشق وسورية(95/26)
وغلى الشرق نحو البصرة والهند ومن الشمال إلى طربون على البحر الأسود تحمل بضائع المملكة البيزنطية وإلى الشمال الشرقي إلى سرقند وبحر الخزر حيث كان يذهب التجار ليأخذوا جلود روسيا وشمعها وعسلها وكانت القوافل من القاهرة تسير إلى الغرب في الطريق العظيم الذي يحاذي البحر على طوله ماراً بطرابلس والقيروان لينفذ من طنجة التي كانت تصل إليها تجارة أسبانيا ومن الجنوب طريق يصعد منها إلى النيل حتى بلاد السودان وآخر يسير على الشاطئ الشرقي من افريقية حيث أنشأت العرب مقدشو وكلوة وسفالة ومن هذه الجهة كان يصدر التبر والعاج والعبيد.
قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك: كان مسلك التجار اليهود الرازانية الذين يتكلمون بالعربية والفارسية والرومية والإفرنجية والأندلسية والصقلبية أنهم يسافرون من المشرق إلى المغرب براً وبحراً يجلبون من المغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفرآء والسمور والسيوف ويركبون من فرنجة (فرنسا) في البحر الغربي فيخرجون بالفرما ويحملون تجارتهم على الظهر إلى القلزم إلى أبحار وجدة ثم يمضون إلى السند والهند والصين فيحملون من الصين المسك والعود والكافور والدار الصيني وغير ذلك مما يحمل من تلك النواحي حتى يرجعوا إلى القلزم ثم يحملونه إلى الفرما ثم يركبون في البحر الغربي فربما عدلو بتجارتهم إلى القسطنطينية فباعوها من الروم وربما صاروا بها إلى ملك فرنجة فيبيعوها هناك وإن شاؤا حملوا تجاراتهم من فرنجة في البحر الغربي فيخرجون بأنطاكية ويسيرون على الأرض ثلث مراحل إلى الجابية (?) ثم يركبون في الفرات إلى بغداد ثم يركبون في دجلة إلى الإبلة ومن الإبلة إلى عمان والسند والهند والصين كل ذلك متصل بعضه ببعض.
فأما مسلك تجار الروس وهم جنس من الصقالبة فإنهم يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود والسيوف من أقصى صقلية إلى البحر الرومي فيعشرهم صاحب الروم وإن ساروا في تنيس نهر الصقالبة مروا بخليج مدينة الخزر فيعشرهم صاحبها ثم يصيرون إلى بحر جرجان فيخرجون في أي سواحله أحبوا وقطر هذا البحر خمسة مائة فرسخ وربما حملوا تجارتهم من جرجان على الإبل إلى بغداد ويترجم عنهم الخدم الصقالبة ويدعون أنهم نصارى فيؤدون الجزية. فأما مسلكهم في البر فإن الخارج منهم يخرج من الأندلس أو من(95/27)
فرنجة فيعبر إلى السوس الأقصى فيصير إلى طنجة ثم إلى إفريقية ثم إلى مصر ثم إلى الرملة ثم إلى دمشق ثم إلى الكوفة ثم إلى بغداد ثم إلى البصرة ثم إلى الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ثم إلى السند ثم إلى الهند ثم إلى الصين وربما أخذوا خلف رومية في بلاد الصقالبة ثم إلى خليج مدينة الخزر ثم في بحر جرجان ثم إلى بلخ وما وراء النهر ثم إلى ورت تعزهر ثم إلى الصين.
وما برح الناس في الشرق والغرب يركبون متون الأخطار في قطع البراري والبحار لربط صلات الاتجار بين أوربا وإفريقية وآسيا حتى افتتح دياز البرتقالي سنة 1486م طريق رأس الرجاء الصالح في جنوبي إفريقية وخرقت ترعة السويس التي وصلت البحر الأبيض بالبحر الأحمر سنة 1869 فقربت المسافات البحرية ولما عمت الخطوط الحديدية بلاد الغرب وأخذت بعض بلاد الشرق ولا سيما الجزائر وتونس ومصر والبلاد العثمانية والهندية واليابانية وغيرها تقطع المساوف في قطار البخار سهلت الطرق وعم الاختلاط وتوفرت المتاجر واشتدت الحاجة في هذه الحرب العامة إلى الطريق الأمينة لأن العالم انقسم قسمين قسم سموه بالدول المركزية وهي ألمانيا والنمسا والمجر والبلغار والعثمانية وبلادهم اتصلت بعضها ببعض ولا سيما بعد أن استصفوا مملكة الصرب والجبل الأسود ورومانيا وقسم بقي وحده في غربي أوربا وجنوبها وهم الانكليز والفرنسيس والطليان وآخر في شرقها وهم الروس.
وقد نشر ارتورديكز في جريدة عثمانيشر لويد مقالة في الطريق إلى الشرق وحواجزها قال فيها: إن الحرب قد جعلت لصلات أوربا الوسطى مع الشرق نفس المكانة التي كانت لتلك الصلات في الأيام التي لم تكن فيها الاتصالات بين أوربا وأميركا الشمالية في الدرجة الأولى من العناية. وقد كان وقع الاستعداد لهذه الطوارئ بإنشاء خطوط الأناضول الحديدية ولا سيما خط بغداد وأضرت الحرب بالتجارة الهادئة ولكنها زادت في صلات أوربا الوسطى مع الشرق بواسطة النقليات العسكرية وبذلك حدث تبدل في البلقان وفي الشرق الأقرب مما يبشر بأنه سيكون له أثر في الصلات الاقتصادية أيضاً وقد أنذرتنا الحرب بعدم كفاية طرق المواصلات بين أوربا والشرق ومنها ما يسد زمن الحرب أو يصعب اجتيازه زمن السلم وللوصول من ألمانيا إلى الشرق الأقصى والأقرب أثنا عشر طريقاً (1)(95/28)
من بحر الشمال فالمانش فجبل طارق فالسويس (2) مارسيليا السويس (3) جنوة السويس (4) إيطاليا نابولي السويس (5) تريستا السويس (6) سراجيفويسكي بازار سكوبلج سلانيك السويس (7) بلغراد صوفيا بورتولاغوس السويس أو أزمير (8) بلغراد صوفيا الأستانة بغداد (9) قمسوار بازياس صوفيا الأستانة بغداد (10) اورسوفا لوم صوفيا بغداد (11) الطونة روسجق وارنة البحر الأسود (12) كرونستاد كونستانزا البحر الأسود.
فند الكاتب هذه الطرق ثم قال أن السبعة الأولى منها تجتاز السويس ومنها ما يمر بأرض فرنسا ومنها ما يجتاز المانش تحت مدافع انكلترا ومنها ما يضطر إلى السير في إيطاليا أو البحر الأدرياتيكي أو الأرخبيل وقد علمتنا تجارب الحرب أن لا نعنى بعد الآن إلا بالطرق البرية أو التي تجتاز من البحر مسافة قليلة وهذه الطرق هي التي تمر بالبلقان وكانت من قبل في حيز القوة لأن صربيا كانت في عداد أعدائنا تحول بيننا وبين الشرق من صوفيا. ورومانيا كانت على الحيادلكنها تميل إلى أن تكون محطة بين روسيا وصربيا من أن تكون بين الدول الوسطى والدولة العثمانية فتبدلت الحالة بعد ذلك وفتحت صربيا وفتح الطريق بين بلغراد وصوفيا ثم انقلبت رومانيا مع أعدائنا فكان منها أن سدت طريق بلاد الأفلاخ وجزءاً عظيماً من نهر الطونة وليس الآن من الطرق السالكة حق السلوك إلا طريق واحدة وهي المارة من بلغراد فصوفيا وهي تكفي للنقل بين برلين وبلغراد لا للصلات بين أوربا الوسطى من بلغاريا والأستانة.
قال والرجاء معقود بأن تكثر الخطوط الحديدية في البلقان في المستقبل فيكون منها ما يتصل بنهر الطونة والخط القديم الرئيسي - بلغراد صوفيا الأستانة - ويجب أن يضاف إليه خط من سنجاق يسكي بازار بواسطة جسر على الطونة ماراً بصربيا الشرقية القديمة مستفيداً من نهر الدانوب وسكك حديد لوم وروسجق وجرناردا وما يقام في هذا السبيل من العقبات تزل إلى الأبد فإن أوربا الوسطى يجب أن تخابر مقدونية وبلغاريا القديمة والأستانة وآسيا الصغرى من دون منازع ولا ممانع مهما كلفها الأمر والطرق التي تجتاز نهري الساف والطونة وأودية مواراويا والواردار والمريج لا ينبغي أن تغلق في وجه تجارة أوربا الوسطى.
وبعد فقد استفدنا بهذه الحرب عبراً كثيرة منها شدة حاجتنا بعد الآن لأن يركب الإنسان من(95/29)
برلين وهمبورغ في القطار ولا ينزل منه إلا في الأستانة ليعبر الخليج إلى آسيا ويركب في القطار الحديدي فلا ينزل إلا في صنعاء اليمن أو بغداد العراق وإنا بفتحنا طريق الصرب في العام الماضي وكانت صلاتنا مقطعة بين دار الخلافة وبرلين قد أدخلنا الحرب العامة في طور جديد فسقط في أيدي أعدائنا بفضل الطريق التي افتتحناها بيننا وبين أوربا الوسطى ودخلت تجارتنا في طور آخر وخفت وطأة الحرب إلى أقل من النصف.
فلو كان لنا اتصال مباشرة مع حلفائنا منذ أول نشوب الحرب من عدة طرق كيف كانت نتيجتها على الأتفاقيين الذين قبضوا على مضايق البحر وأخذت سفنهم وبوارجهم تسبح في عرض الماء في البحر الشمالي والبحر المحيط والبحر المتوسط والمحيط الهندي لولا ما أرصد لهم من الغواصات الألمانية التي ضيقت خناقهم ولولا هذه الممرات لما فتحنا من بلاد العدو تلك الأقطار والأقاليم ولا غنمنا هذه الغنائم الكثيرة.
إن الطرق الحديدية شرايين الممالك تحمل إليها الحياة وإذا انفتح الشريان في الإنسان مات ولولا الخطوط الحديدية الحربية في ألمانيا ما تيسر لها أن تسوق جيوشها إلى الشرق والغرب والجنوب في هذه السرعة المدهشة ونحن أيضاً لولا الخط البغدادي والسكة الحجازية ما استطعنا أن نحارب هذه الحرب ولو كانت خطوطنا ممتدة إلى القاصية أكثر مما هي الآن لضربنا عدوتنا انكلترا في البصرة وجدة ضربة يرن صداها كما ضربناها في كوت الإمارة وجناق قلعة.
يبلغ طول الخطوط الحديدية في السلطنة العثمانية نحو ثمانية آلاف كيلو متر وبها عمرت هذا العمران فماذا كان حالها لو كان فيها عشرون أو ثلاثون ألفاً وهي مستعدة لأن يكون فيها ثلاثمائة كيلو متر وماذا كان حالها لو اتصلت كل خطوطها الحربية بالمواني البحرية كما اتصلت من يافا وحيفا وبيروت وطرابلس واسكندرونة وأزمير مثلاً ولو اتصلت طرقنا البحرية بالبحر الأسود من عدة جهات وكذلك بالخليج الفارسي والبحر الأحمر والبحر الأبيض كيف كانت حالتنا التجارية مع الهند والقافقاس وأوربا الوسطى وافريقية وغيرها.
إن الأمم لا تستغني بعد الآن عن الاتصال بينها وقد بطلت العادة التي كانت متبعة في القديم من تقسيم المملكة الواحدة إلى مئات من الأجزاء كل جزء يعتصم وراء جبله أو يختبئ في واديه ولا يعرف ما عند صاحبه وجاره. الأمم اليوم محتاجة إلى التعارف(95/30)
والاتجار فأبن اليمن لا يعيش إذا لم يبدل حاصلات بلاده مع ابن بافاريا مثلاً وابن بروسيا مضطر إلى الاتجار مع ابن المجر والبلغاري محتاج إلى الفارسي وهكذا جميع الشعوب والممالك فهل يطول يا ترى عهد إنشاء طرق المواصلات في مملكتنا مع جيراننا أم ننسى زمن السام ما احتجنا إليه أيام الحرب.(95/31)
إمبراطورية النمسا والمجر
خلفت مملكة النمسا والمجر بموجب القرار الرئاسي الأساسي الذي نشر في 21 كانون الأول 1867 مملكة النمسا القديمة فهي تتألف مت مملكتين منضمتين تحت لواء واحد فإمبراطور النمسا هو أيضاً ملك المجر ولا اشتراك بين المملكتين في غير الجيش وجزء من المالية والأمور الخارجية ولكل مملكة منها قانونها الخاص وإدارتها الخاصة. يقسم بين بلاد النمسا والمجر نهر الليتا الذي يصب في نهر الطونة شرقي فينا. وولايتا البوسنة والهرسك اللتان ضمتا إلى هذه المملكة سنة 1908 مشتركتان بين النمسا والمجر.
كانت مساحة النمسا بموجب إحصاء سنة 1910 - 193، 300 كيلو متراً مربعاً وسكانها898، 567، 28 ومساحة المجر 325، 325 كيلو متراً مربعاً 20. 850. 700 ساكن. وأصول شعوب هذه المملكة متنوعة تنوع رسم جبالها وأنهارها وهم كالفسيفساء الجبلية منهم نحو ثلاثة عشر مليوناً ونصف من الألمان ونحو تسعة ملايين من المجر وثلاثة ملايين من الرومان وواحد وعشرين مليوناً من السلافيين وهم ينقسمون بحسب لغاتهم إلى ستة أقسام فسلاف الشمال عبارة عن ثمانية ملايين وهم التشك والمورافيون والسولفاكيون ينزلون في بوهيميا ومورافيا وفي الأصقاع المجاورة لبلاد المجر وفيها نحو أربعة ملايين ونصف بولوني في سيلسيتريا وغاليسيا الغربية ونحو أربعة ملايين روتيني في غاليسيا الشرقية والأصقاع المتاخمة للمجر ثم سلافيو الجنوب ومنهم نحو ثلاثة ملايين ونصف خرواني وصربي ومليون وربع سلوفاني ونحو ثلاثة أرباع المليون إيطالي وثلاثة أرباع أهلها هم من الكاثوليك الرومانيين وخمسهم هم من الروم الكاثوليك أو الروم الشرقيين على اختلاف الطقوس وأربعة ملايين وربع من البروتستانت ومليونان ومئة ألف إسرائيلي وزهاء ستمائة ألف مسلم.
هذه هي الإمبراطورية التي فقدت مؤخراً إمبراطورها حليف الدولة العلية العثمانية وعميد ملوك الأرض فرانسوا جوزيف. توفي صباح 22 تشرين الثاني سنة 1916 (26 المحرم 1335) عن 86عاماً كان بها إمبراطوراً 68 عاماً فقد ولد في مدينة فينا سنة 1830 وهو ابن الإمبراطور فرانسوا الأول ولي الحكم سنة 1848 وقد تنازل عن الملك عمه فرانسوا الأول وتنازل والده عن حقوقه في الملك فظهرت في السنة الأولى من ملكه خطوب مهمة وفتن مستطيرة منها ثورة فينا التي قمعت على أصعب وجه وثارت إيطاليا والمجر لتخلعا(95/32)
ربقة الحكم النمساوي فكبح جماح الثائرين من الإيطاليين ووطد الإمبراطور حكمه على المجر بمعاونة روسيا وانتهت حرب إيطاليا ينة1859 بتقلص ظل الحكم النمساوي عن لومبارديا الإيطالية مما أحدث في البلاد النمساوية سخطاً فرأى الإمبراطور أن يسكن ثائرة غضب أمته بمنحها دستور سنة 1861 وفيه إعطاء حرية مطلقة لها.
وحدثت من جهة بروسيا شجون أخرى بشأن مسألة دوجيتي شلشويق هو لشتماين فاتحدت بروسيا مع النمسا أواخر سنة 1863 لإعلان الحرب على الدانيمرك وفي سنة 1865 نشب الخلاف بين الحكومتين المتخالفتين الظافرتين فاتحدت بروسيا مع إيطاليا ودحرت النمسا في موقعة سادوفا (1866) وانتهى ذلك بانفصال النمسا عن الاتحاد الجرماني وبفقدها إقليم البندقية.
وقد أعقب هذه الحرب المشؤمة إصلاحات جمة في داخل البلاد فأصبح الكونت دي بوست وهو ألماني سكسوني وزيراً لإمبراطورية النمسا والمجر وعهد إلى الكونت أندراسي في بلاد المجر أن يؤلف وزارة بحرية وفي 8 حزيران 1867 توج فرنسوا جوزيف ملكاً على المجر وكان فيها فاتحة الملوك الذين يتوجون ملوكاً على مملكتين وقد كان يتوقع أن يوجه الكونت دي بوست دفة سياسة النمسا نحو سياسة الانتقام من بروسيا لكن هزيمة الفرنسيس أمام الألمان في حرب السبعين قلبت المسائل إلى طور آخر واضطر فرنسوا جوزيف أن يعاهد كلاً من بروسيا وإيطاليا اللتين ظفرتا به فظهرت المحالفة الثلاثية. ثم حدثت اضطرابات داخلية أخرى وهي نزوع التشك في بوهيميا إلى الثورة يريدون أن ينالوا استقلالهم على نحو ما فعل المجر. وصبت مصائب أخرى على رأس الإمبراطور المتوفى من مثل مقتل أخيه مكسيمليان إمبراطور المكسيك عام 1854 وانتحار الأرشيدوق رودولف ابنه (1889) ومقتل الإمبراطورة اليزابيت زوجته (1898) وكان مقتل ولي عهده الأرشيدوق فرانز وزوجته في سراجيفو بيد صربي غادر من الأسباب الظاهرية في اندلاع لهيب الحرب العامة التي لا نزال نصبح في عجائبها ونمسي منذ ثلاثين شهراً منحت بلاد النمسا قانونها الأساسي سنة 1848 وإذ كانت مختلفة العناصر والجنسيات اضطرت الحكومة أن تستعيده منها مرات ثم تعطيه فكان نيل السلافيين على أكثرية عظمى في الانتخاب سبباً في دهشة الحكومة وظل الألمان في النمسا والمجر بمثابة الجزء القليل(95/33)
بالنسبة للجزء الكبير فدعت الحال أن يعدل القانون الأساسي الذي وضع لمثل هذه المملكة على صورة يتمثل فيها الدهاء والجربذة وإن معاملة النمساويين للمجريين هذه المعاملة الحسنة بعد الخلاف الشديد الذي استحكمت أواخيه بينهم زمناً قد دل على حسن سياسة النمسا ولا سيما الإمبراطور المتوفى فضمت النمسا والمجر سنة 1867 بأن تم الاتفاق بين هاتين للملكتين على أن يدفع المجر عن مملكة النمسا كما يدفعون عن مملكتهم (المقتبس م8 ص459) ويكونون مستقلين إلا في الجيش والبحرية والأمور الخارجية فيدفعون قسطاً صالحاً من المال لمعاونة حكومة فينا وتتعهد الأسرة المالكة النمساوية بالمحافظة على استقلال المجر وحرية البلاد واستعمال جميع قوة النمسا للدفاع عن سلامة الأملاك المجرية ملك النمسا يحكم المجر كما يحكم بلاده ولكنه يمثل مملكتين متباينتين ولا يكون ملك النمسا ملكاً شرعياً إلا إذا أقر على تتويجه مجلس نواب المجر ويقضي القانون الأساسي أن يقيم الملك ستة أشهر في فينا وستة أشهر في بودابست وهو يتلطف بالأمة المجرية كل التلطف وقد تعلم لسانهم في صغره وخطبهم به قبل أن يتولى الملك فأعجبوا به وكثيراً ما كان يلبس الثياب الوطنية الخاصة ببعض شعوبه مثل سكان التيرول وكان التيروليون والسالزبورغيون يحبونه حباً كثيراً وكذلك شعبه حتى كان يقال أن إمبراطورية النمسا تتداعى أركانها بعد موت الإمبراطور فرنسوا جوزيف وكان بعض الغربيين أنفسهم يدعون أن لطفه هو الذي يحول دون حدوث شيء في البلاد والحال أن أسرة هابسبورغ مشهورة بذوقها ولطفها منذ القديم وباتحاد المملكتين حياتهما وقوتهما. من المصائب في مملكة في أن تتألف من عدة عناصر يصعب الجمع بينها لكن حكمة الإمبراطور ورجاله عدلت المسائل وثقفت الناشز وأخذت من عنان المغضب ودارت مع الزمن حتى اشتهرت النمسا بأنها مملكة حسن الإدارة وقد جاء زمن على حكومتها منعت فيه الصحف المجرية من الصدور بلسان المجر وعقبه زمن آخر أصبحت فيه حرية بلاد المجر كأحسن حرية في الشعوب الأوربية.
كان الإمبراطور المتوفى عاملاً مهماً سعى في ترقية أمته حتى أصبحت بفضله دولة قوية الشكيمة بعيدة الشوط في مضمار المدنية والصناعات وأبانت عن قوتها في جيشها وحسن إدارتها في الحرب الأخيرة وهي تقاتل الجيوش الروسية من الشرق والجيوش الإيطالية من(95/34)
الجنوب.
أما الإمبراطور الجديد فهو شارل ابن الأرشيدوق أوتو وأمه ماريا جوزيفا أميرة سكسونيا ولد سنة 1887 فيكون عمره اليوم 29سنة وقد وعد برعاية القانون الأساسي في إدارة جميع الشعوب في بلاد النمسا والمجر وجرى تتويجه في فينا وفي بودا عاصمة المجر الأصلية متبعاً في ذلك الأصول القديمة غير مخل بشيء منها وكان الإمبراطور الجديد أثبت لياقته في حرب عدو بلاده هذه المرة وقد ربي تربية عسكرية راقية يرجى له بها أن تكون بلاده في عهده عهد سلام وراحة ورقي.(95/35)
الخطابة عند الإفرنج
من تأمل في تاريخ الطرق الخطابية ير أن القدماء أفرطوا في فن الخطابة وأنه وإن صعب العثور على مبدأ معين في كتب الأقدمين وطريقتهم في خطاب الجمهور فإن جميع المصنفات التعليمية تحوي إبهاماً خلطوا فيه بين علم الكتابة وعلم الكلام فإن علم الخطابة لم يكن في نظر القدماء هو علم التكلم والإلقاء بل علم تحسين الكلام وتنميق الإنشاء ومن تلا كتاب الجمهورية لأرسطو وفيه مباحث جليلة في الخطابة عند اليونان يتجلى له أن جميع خطباء آثينة كانوا ينمقون العبارات قبل أن يتلوها وتتراءى لهم من خلال سطورهم آثار التعمل والاستعداد قبل إلقاء خطبهم على مسامع الجمهور وإذ كان يحظر على المحامي في آثينة أن يدافع عن غيره اضطر بلغاء اليونان أن يكتبوا خطبهم في الدفاع ويعطوها لغيرهم يستظهرها ليلقيها ولذلك قل المرتجلون من الخطباء في يونان وأن وجدوا فهم على ندرة.
قال بعض المعاصرين لو لم يكن خطباء الأقدمين يهيئون خطبهم قبل إلقائها ما كان بقي لنا من كلامهم إلا النزر اليسير وذلك لأن فن الأختزال لم يكن يعهد إذ ذاك بيد له مما لا شك فيه أن بعض خطباء اللاتين
الذين وصلتنا خطبهم قد ألقوها بدلاً من أن يستعدوا لها بكتابتها وكان من العادة أن يعود الخطيب عندهم فيدون بالكتابة ما قاله من خطاب كما فعل شيشرون في بعض خطبه والحق الذي لا مرية فيه أن الخط طالما اعتبر في اليونان ورومية بأنه الأسلوب الوحيد في الحملة لإعداد الكلام ليلقى على المسمع العام ويجب أن يلاحظ أن الخطيب الآثيني مهما بلغ من ثقته بنفسه لم يكن يجسر أن يقف موقف الخطابة قبل أن ينظر نظراً بليغاً فيما سيلقي عليهم لأنه عارف بدرجة مدارك الحضور ومعرفتهم نقد ما يقول وما بقي من خطب خطباء يونان هو مما هذبته أناملهم ونظرت فيه عقولهم ملاحظين في ذلك أنهم سيخلفون ذلك للأعقاب فلا يليق أن تكون من إلا من أحسن ما يجب.
ولطالما هذب شيشرون خطبه وتمرن على إلقائها حتى أنه في سم الستين قبل أن يقتل كان يمرن نفسه على كيفية الإلقاء. وكان القدماء يعلقون شئناً عظيماً على الإلقاء في المجالس العامة حتى لقد أفرط شيشرون في قوله أن الخطاب العام يتطلب تعبيرات لطيفة منتقاة فقد كتب إلى أحد أصحابه أن الرسالة لا يمكن أن تشبه دفاع المحامي أو خطاباً سياسياً فأنه(95/36)
تستعمل فيه جمل شائعة في الاستعمال. بيد أن كثيرين من خطباء اللاتين وقدماء خطباء اليونان كانوا لا يحفلون بإعداد خطبهم ويظهر أن هورتانسيوس وهو أستاذ شيشرون لم يكن موافقاً لتلميذه على قضاياه وهورتانسيوس هذا كان على جانب من الذكاء وحسن الذاكرة بحيث كان يستطيع أن يتلو خطبه ويؤلفها في الحال جارياً في ذلك على طريقة شارلماد وميترودور وهما خطيبان آثينيان كانا يعدن في ذهنهما ما يريدان إلقاءه.
وكانت طريقة القائد الخطيب الروماني كالبا غريبة في بابها فكان ينقطع في داره مع خدامه غداة يريد أن يلقي دفاعاً ويلقي عليهم ممرناً نفسه فيما يريد أن يخوض على بابه فكان يخرج من الغد في حالة تهيج خارقة للعادة وعيناه تقدحان شرراً وهو على غاية التحمس يعبث به هواه ويذهب إلى ميدان الفوروم. واعتاد بعض شبان الخطباء من الرومان أن يأتوا إلى المحكمة بدفاعهم مكتوباً على الورق وكان كنتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين يرى أن يتقيد الخطباء في إعداد ما سيتلون ولا سيما للمترشح للخطابة المبتدئ فيها ويرى أن الإرتجال لا يتأتى للمرء إلا في أواخر عمره بعد أن ذاق الأمرين في تعلم صناعة الخطابة وعرف حلوها ومرها ولم يكن في عهده وهو القرن الأول للمسيح سوى خطيبين مرتجلين هما بورسيوس لاترو وكاسيوس وما عداهما فكانوا ككل الناس يعدون خطبهم قبل إلقائها.
وكان بوسويه خطيب الفرنسيس المتوفى سنة 1704 يكتب خطبه على الورق فيرسمها ثم يتوقع ما يوحيه إليه المنبر ليجعل فيها حياة حركة وظلت الأصول المتبعة في فرنسا مدة القرن الثامن عشر بان يقيد المحامون والخطباء أقوالهم هكذا كان يسير أكبر المحامين كوشين. ولما حدثت الثورة الفرنساوية الأولى اضطرابات السياسة إلى الارتجال فأخذوا يخطبون قومهم بدون أن يستعدوا من قبل ثم ارتقت الخطابة عندهم في الكليات والمحاكم والمجالس حتى قال موريس آجام ما من شيء يضاد الارتقاء في الخطابة أكثر من إعدادها بالكتابة قبل الإلقاء فإذا كان وصل كبار المتكلمين إلى أرقى درجات الفصاحة فبدونها وصلوا أو عبارة ثانية على الرغم منها.
ويرى أن يتمرن المرء على الارتجال بأن يرتجل كل صباح في موضوع من الموضوعات لنفسه ولو لربع ساعة فيتمرن جرسه وصوته وذلك بأن يذكر دائماً قاعدة بنيون أن المرء(95/37)
يتعلم الارتجال بتكرار العمل فيه. وأن الواجب تعويد الناشئة النطق منذ نعومة أظفارهم وأن صناعة الخطابة ولا سيما الارتجال لا يتعلمها من جاز الأربعين من العمر ولا من جاوز الثلاثين فالأولى أن يبدأ بها منذ الصغر وانه من اللازم على من يريد تعلم الخطابة أن يستنصح صاحباً له يدله على عيوبه في النطق والإشارة وأن يأخذ النفس كل يوم بسماع مصاقع الخطباء لا متوسطيهم حتى يتعلم منهم فأن المتوسط يفسد عليه ملكة الخطابة ولذلك كانت العواصم والحواضر أكبر ميدان للتخرج من الخطابة لأن فيها من أهل الطبقة العالية أصنافاً من الخطباء. وذلك لأن السماع يجعل المتكلم متكلماً وفكر البشر يغتذي بالتقليد وعليك يا هذا أن لا تعمد إلى استعمال الغريب ولا تتقمر بل توخ السهولة ومألوف الناس من الكلمات تؤثر فيهم وتفعل في عقولهم. لا تعمد لغير الوضوح ودع الكلمة النادرة للشاعر والكلمة العويصة للفيلسوف وإذا اعتقدت أنه يكفي الإنسان أن يتلو كتاباً يبحث في أصول الخطاب حتى يصبح خطيباً فألق سريعاً هذا الكتاب طعاماً للنار.
كان بوسويه نصف مرتجل يعد مفكرات لخطبه ثم يزيد عليها وينقص منها عند الإلقاء وكان فلشيه وفنيلون في مواعظهما يعدان ما يلقيان من قبل ويستظهرانه وكان كوشين يعد من قبل مدافعاته حتى استطاع في آخر عمره أن يرتجل. وكان المحامي جربيه يعد ما يخطب به مطولاً ولا يزال يمحو منه حتى لا يبقي على أكثر من عشرين سطراً وكان تارجه يكتب دفاعه برمته ويقرأوه وكان ميرابوا خطيب الثورة ممن يعتمد على الكتابة ليخطب فاضطرته السياسة أن يرتجل وما كان يحسن الكتابة وهو مستريح البال أما إذا هاج فهو يعاود القلم ويكتب في الجملة وكان يبدأ بخطابه متأنياً في باديء الأمر ويتحمس بالتدريج وكان فيرنيو من خطباء الثورة لا يخطب إلا إذا تألم لظلم يقع أو حاذر خطراً يداهم وعندها تنتبه حواسه ويفكر سريعاً ويعمل في ساعة ما لا يعمل في ساعات. بدأ محامياً وكان يكتب دفاعه ويتلوه ثم كف عن الكتابة وكان يعد كل الإعداد خطبه الكبرى ولا سيما في تلاوتها لأصدقائه من قبل أن يلقيها على الجمهور وهذه الطريقة هي التي جرى عليها بعد حين تيرس رئيس الجمهورية الأول في الجمهورية الثالثة والعالم المشهور وكان كواديه من خطباء الثورة يكتب خطبه عندما كان محامياً ولما أصبح خطيباً سياسياً صار يرتجل وكان ايسنارد من خطباء الثورة مرتجلاً ولكنه كان يكتب وكان دانتون خطيب(95/38)
الثورة الخطيب التام الأدوات في الثورة وأقدرهم على إدراك حاجة عصره. وكان آرول دي سيشل من خطباء الثورة يكتب ويحفظ خطبه ويعمل بقول فولتيرإن الألفاظ بريد الأفكار. كان روبسيير من خطباء الثورة يعد خطابه ويمحو ويثبت كثيراً كتلميذ مبتدأ ومعظم خطبه أخترعت وألفت من قبل أن تنشر لم يتوسع فيها عندما يقولها. وكانت طريقة بانجامان كونستان الكتابة لما يخطب به مثل القائد فوا ولافيت ودويون ورويه كولار. وكان النائب مانويل مرتجلاً لا يكتب خطبه إلا في أمور المالية. ولم يتخل دي مارتينان عن كتابة ما يريد إلقاءه مع أنه يرتجل أحسن ارتجال ومن كان يسمعه يتكلم بصوت رخيم يستريح ويسكت وينوع لهجته يستدل على أنه يرتجل. وكان لينه مثل كواديه ورافيه وفيرير من أمراء الكلام لم يجعل المتقيد بالكتابة إلا مقاماً ثانوياً وفيرير كان أعظم من وجد من رجال المحاماة كان يفكر طويلاً فيما يريد أن يلقيه ويتأمله فلم يكن ممن يعتمد على الكتابة صرفاً. وكان هانكن من رجال المحاماة لا يأنف طول حياته من اعداد خطبه. وكان بريه المحامي لا يكتب خطبه ولم يعرفوا طريقته في خطبه هل كان يحدث بها أصحابه قبل أن يلقيها كما كان بفعل فرنيو وتيرس أو يفكر فيها مثل فيرير أو يكتبها في فكره مثل هورتانسيوس والذي عرف عنه وكان يكتم طريقة نبوغه أن كلامه كان يسبق فكره وغنشاؤه كان منحطاً وكان الأخوان دوبين المحاميان يرتجلان ولكنهما يدرسان موضوعهما حق حق المدرس قبل النزول إلى ميدان الخطابة وكان أحدهما يأسف لأن الوقت لا يساعده أن يفكر ملياً في خطابه ويقول لو أكثر ديموستين وشيشرون من الدفاع كثيراً لقلنا لم يكونا ديموستين ولا شيشرون. وكان تيرس يعد معظم خطبه من قبل بان يلقيها مرتين وأحياناً أربعة على من يغشون مجلسه. ولم يكن فيكتور هوغو الشاعر الكبير خطيباً بل كان يضطر أن يكتب خطبه ويستظهرها ولطالما قال: يستطيع المرء أن يكون خطيباً حقاً إلا إذا كان كتب خطابه. زهد المحامي لاشو في الكتابة وكان يقيد إلا رؤوس المسائل التي يتكلم فيها. وكان الوزير غامبتا لا يكتب ما يخطب وهو يشبه نابليون بعقله وذاكرته وكان يعد بعض خطبه الأولى من قبل فلما نشبت الحرب أخذ يرتجل حقيقة وكان في خطبه يبدأ بصوت منخفض جداً حتى يكاد يقول له الحضور اسكت وبعد هنيهة ترن القاعة من صوته وتدهش لفضل بيانه. وكان المحامي ليون دوفال يعد خطبه من قبل محتفلاً بها من وراء(95/39)
الغاية وكان الدوج دي بروكلي يتأنق في إعداد خطبه لكنه يستطيع أن يرتجل على أيسر وجه وكان بوفه مرتجلاً يؤثر بفصاحته في مجلس الشيوخ في مسائل كثيرة وإن كان عضواً من حزب قليل في الوزراء. وكتب المحامي الإيطالي هنريسكوفري عن نفسه فقال أنه تعلم بأن كان يقصد الضواحي ويرفع صوته ويجرب نفسه بالخطابة حتى خطب مرة ثماني ساعات متوالية ومرة إحدى عشرة ساعة.
ونشر آجام عادات طائفة من الأساتذة والمحاضرين من العلماء في الخطابة من الفرنسيس فكان منهم أناس يفكرون ملياً قبل أن يخطبوا أي أنهم يعدون الكلام أو معناه ومنهم من يكتب ما يريد قبل إلقائه والآخرون يرتجلون والأكثر في هذه الفئة الكتابة قبل الإلقاء لأن خطبهم علمية على الأغلب ولا يرتجل عادة سوى السياسيين وعلى من أحب أن يجودها أن يخطب لنفسه في منتزه أو قاعة خاصة مرة أو عشر مرات ريثما يستجم قريحته ولا تخونه الألفاظ وكل مرة في الموضوع الواحد تزيد معانيه وتعزز ألفاظه وجب ألا يهتم لانتقائها والتنطع فيها بل يكفي بما جاءه عفو الخاطر وابن الساعة.
وقد سأل المؤلف كثيرين من المشتهرين بالخطابة من قومه المبرزين فيها عن طرقهم في تعلمهم وارتجالهم فمنهم من قال أنه يفكر ملياً في محاضراته بأن يقولها بصوت منخفض أولاً وأحياناً يقولها في عقله وأنه لا يكتب كتاباً صغيراً قبل أن ينشئه في عقله ويستظهر الجمل الأربع الأولى حتى لا يفجأه الحضور مثل أمامهم ومنهم من تحضره الأفكار إذا أمسك القلم وقيدها لكنه يحاذر استظهاره وهو يرى أن من يكتب محاضرته وخطابه يتعلم الارتجال مع الزمن ومنهم من تتمثل لعينيه المعاني والألفاظ عندما يشرع في الكلام كأنها مكتوبة أمام عينيه ومنهم من ينظم الأفكار التي يحاضرها على الورق ثم يرتجل ويستعد قبل الكلام أن يقول في ذاته ما يجب إلقاءه على الجمهور مرة أو مرتين وقال أنه بكتابته خطابه من قبل يسقط على الأفكار التي لا تجيئه بصورة أخرى ومنهم من قال أن خير طريقة لاستظهار ما يريد إلقاءه أن يكتب تلك القطعة ومنهم وهو أستاذ عظيم يعد موضوعه ولاً ثم يعين في عقله أفكاره ثم يخط لها خطة ثم يفكر في البراهين التي عثر عليها ونظمها ومنهم من ضعفت ذاكرته فيضطر للاستظهار أن يحرك شفتيه بما يحفظ حتى يعلق شيء منه في ذهنه ومنهم من لا يحسن الكلام إلا إذا اضطربت نفسه وفرحت أو سخطت فإنه في(95/40)
تلك الحال يسرع في خطابه غير مبال أما إذا لم يكن على حالة من تلك الحالات فيتلعثم ويتردد ولا يعثر على اللفظ الذي يريده والخجل الذي يشعر به يزيد هذا الارتباك ومنهم من لا تأتيه الأفكار وتواتيه إلا إذا كان القلم بيده. وآخر يستظهر المقدمة والخاتمة ومعظم الجمل الأساسية ثم يتكلم ويترك الباقي للمصادفات وغيره يرى أن الكلمات تولد فيه الأفكار وتفتح أمامه أفقاً جديداً وهو يدرس موضوعه بالإيجاز ويفكر فيه قليلاً أو طويلاً بدون أن يحكيه ولا يكتبه في عقله ويكتب أو يحاول أن يكتب والكتابة تسهل بزوغ الفكر أحياناً وأحياناً يتضرر من الكتابة وتفلج قريحته. وبالجملة فإن الكلام بالجمهور من شأن الحكومات الديمقراطية والخطباء يكثرون كما قال مونتين حيث تكون الأمور تتقاذفها للعواطف الدائمة بين أخد ورد.
وقال ريبو أن معرفة الموضوع الذي يريد الخطيب الخوض فيه ورسم خطته في الفكر بسيطة للغاية من قبل وهما شرطان أساسيان للخوض في الكتابة وما عدا ذلك فهو من شأن الحضور المستمعين أكثر مما هو من شأن الخطيب وأسعد ضروب الارتجال مما ساعد فيه الحضور بتراسل عيون الحب بينهم وبين خطيبهم والعبرة في معرفة روح الجمهور فإن له مناحي خاصة في الحسن والتعقل والفهم وحتى ولو كان مؤلفاً من فلاسفة وعقلاء قال ماكس نوردو: اجمع عشرين أو ثلاثين من أمثال كيتي وكانت وهلمهولز وشكسبير ونيوتن واعرض على حكمهم وآرائهم المسائل العملية الحاضرة فإن قراراتهم لا تخلف بتاتاً عن مقررات أي مجلس كان. ولماذا يكون ذلك؟ لأن كلاً من العشرين والثلاثين منتخباً فضلاً عن تفرده بمزايا تجعله رجلاً فائقاً قد ورت بعض صفات نوعه مما يكون به مثيلاً لجاره في المجلس بل شبيهاً لعامة الأشخاص الذين يمرون في الشارع فإن الجوهر الإنساني مستحكم من شخصية المرء وطربوش العامل يغطي قبعة الفيلسوف.
قال المؤلف وبقدر ما يستطيع الخطيب قيادة جمهور سامعيه يفعل في أرواحهم ويسوقهم إلى ما يريد. ومن أجمل ما قاله بريان من خطباء فرنسا أن الخطاب ليس قطعة أدبية بل هو عمل والخطاب لا يعمل ليقرأ بل ليسمع وصورته التي يظهر فيها ثانوية فالتأثير يحدث والنتيجة الحاصلة هي كل شيء ومراعاة القواعد مطلوبة في الخطاب ولكن مهما كانت قيمته من الوجهة الأدبية فإنه إذا فصل عن محيطه الذي ألقي فيه وفارق الأسباب التي(95/41)
دعت إليه هل يكون له شأن صحيفة جميلة من الأدب استخرجت من قلم أستاذ في الكتابة.
وإليك بعض نصائح عملية لطالب النبوغ في الخطابة لقفناها من كتاب آجام منها أن يجتنب كل الاجتناب كل استعداد كتابي للخطاب. أن يحمل الخطيب نفسه كل صباح ولو عشر دقائق أن يتكلم بمضمونها سواء كان في عقله أو بصوت جهوري فالتفكير والكلام قبل الكتابة في أي شيء كان مطلوبان وأن لا يعد خطابه في آخر ساعة بل يجب أن تكون بين ساعة إلقاءه وساعة الاستعداد له ليلة على الأقل واستجمام الأفكار خلال الساعات الأخيرة التي تسبق المحاضرة وأن لا يكثر من استعمال المفكرات بل يقتصر على قيد التقاسيم الكبرى والتواريخ وأن يحفظ حق الحفظ الأسماء الخاصة التي ترد في الكلام وان يعود المرء نفسه النطق الصعب من الحروف ومعاناة المخارج المختلفة من اللسان وأن يتفنن الخطيب في الجمل التي لا مناص له من استعمالها وهي من لوازم أكثر الناس فيجتهد أن ينوعها ويكثر من الأساليب التي هي بمعنى واحد وبألفاظ متباينة وأن يبدأ الخطيب خطابه أبداً ببطء بل بانخفاض ثم يتدرج في رفع صوته فكل خطيب يبدأ كلامه بصوت جمهوري يوشك أن يختمه وقد أبح صوته وانخفض ويجب يعرض فكره بدون أن يثور غضبه فإن الغضب ليس من الصحة في شيء وبه يبح الصوت وينبغي له أيضاً أن يحدق نظره فيمن ينصتون إليه وأن لا يشغل نفسه بقراءة شواهد أو التقليل منها ما أمكن وللحركات في الخطيب مكانة ولكن الإكثار منها لا يحتمل والأحسن أن يذهب الخطيب مع الطبع وإذا قوطع الخطيب فعليه أن ينتظر ريثما يعود السكون إلى المجلس وعلى الخطيب أن يلاحظ تتمة سلسلة كلامه قبل أن يعد جواباً على البديهة والجواب السديد على الغالب هو من جودة الذاكرة وعليه إذا خانته لفظه ألا يضيع وقته أصلاً في البحث عنها فاللحن والخطأ أفضل من الوقوف في الإلقاء قال إياك أن تضيع فرصة إسماع موسيقار حاذق في صناعة الكلام أي خطيب مصقع وفّر من المدندنين فرارك من الوباء.
هذا ما قاله المؤلف موريس آجام وكتابع علمي عملي معاً وهاك الآن خلاصات لقفناها من كتاب آخر في هذا الفن وهو عملي محض واسم مؤلفه سيلفن روديس واسم كتابه الخطيب الحديث توخى فيه تعليم الخطابة في الجملة لمن لا يستغني عنها من الناس قال أما النبوغ فيها فلا بد له من هبة الهية ولكن بالتعلم لأسلوب الخطابة يستطيع من يدخل المجتمع(95/42)
ويشترك في بعض الجمعيات الخيرية ونقابات العملة والمعلمين والأندية والمجامع المختلفة أن يخطب على أسلوب حسن ولا يخجل من التعبير عما في فؤاده وأن على المرء أن لا يلقي بنفسه في ميدان الخطاب العام إذا كان موضوعه لم ينتج أو تافهاً فالأولى قبل كل شيء دراسة الموضوع للخوض في عباب الكلام الذي تكثر مناحيه والأسباب الملجئة إليه اليوم بعد اليوم وخير ذريعة للمرء حتى لا يخونه الكلام أن يستظهر كثيراً من المفردات حتى إذا نسي لفظة أقام غيرها مكانها من دون أن يتوقف فقد كان الشاعر تيوفيل غوتيه يقرأ كل يوم صفحة من المعجم ولا يبعد أن يكون شأن الشاعرين بالزاك وبودلير والكاتب فلوبر على هذا النحو لما علم من تمكنهم من أساليب اللغة ومصادرها فكانوا يتصفحون أيضاً هذه الكتب الضخمة التي جمعت نبوغ عنصر بأجمعه وبدت بها مظاهر مدنيته المنوعة على اختلاف العصور. وأرى أن من المفيد التطريس على آثار أولئك الكتاب وأن يقرأ المرء كل يوم صفحة من معجم اللغة وكم من لفظ تذكر به صاحب الفكر عالماً وروايات وتواريخ وصفحة من الطبيعة وبلاداً وعصراً ثم أن الألفاظ وحدها لا تكفي لإكثار مادة الخطيب ولا بد له من القوالب فعليه أن يحفظ جملاً مأثورة لطيفة تعلمه أساليب البلغاء وتركيب الجمل على مختلف الصور ولا يبالغ في الاستشهاد بها فإنه بذلك يضيع شخصيته ويكون ناقلاً كلام غيره فقط. وعليه أن يركب لنفسه جملاً يمكنه أن يقولها ويلفظ بها بصوت جهوري كل يوم من 15 على 30 دقيقة ونجاحه مؤكد لا محالة.
وقال أن تعلم الارتجال هي غاية الغايات التي يجب على مريد الخطابة أن يحاول بلوغها وإليك ما عساه يهيء لك الطريق إلى ذلك: افرض أنك بمالقفته سابقاً من المعارف لقد استعددت لأن تكتب بعض الشيء خطاباً لك على الورق فاترك الآن عادة تقييد فكرك في الكاغد وفكر في موضوع لك مدة ساعة أو ساعتين وذلك بينما أنت سائر أو راكب في حافلة أو منصرف إلى عملك اليدوي إن كنت ممن يتعاطون صناعة بيدك أو بينما تكون في مكتبك فالخطب سيان. انظر إلى جميع النقط التي تعرض لفكرك وآت بالاعتراضات وردها بما لديك من الحجج تنقضها بها وخمّر المادة العقلية التي بلغت منزلتها حتى إذا كنت في دارك بمعزل عن المكدرات وضوضاء الخارج اطرد من ذهنك جميع الشواغل الخارجة وخذ نفسك بما تريد أن تأخذه بها واجمع كل قوتك العقلية في الفكر في الفكر الذي(95/43)
يأخذ من نفسك بخط وتدبر فيما تريد بضع دقائق واشرع في التكلم جهاراً جائياً ذاهباً في غرفتك. تكلم على مهلك بدون أن تبحث عن تعابيرك ولا تهتم بحالة جملك ولا لصحتها من النحو الصرف ودوام بدون انقطاع ودع كلماتك تتساقط منك ولكن بأن تصل بينها ما أمكن اتصالاً جيداً أو رديئاً فتقارب بينها وتتشوش الأفكار فالقطع على هذا الضرب من الكلام تنتهي في الدمدمة أو لا تنتهي أبداً وأنت لا يأخذك قلق من ذلك بل ظل مثابراً أيضاً وتخط العوائق واطرح وراءك الفقرات التي لم تتلطف في رصفها ولا تبتئس قط لما لا تذكره حافظتك ولا لما يتخلل كلامك من المنافذ أو لضعف حججك وتفاهة براهينك وثابر ثم ثابر واذهب أدراجك لا تلوي على شيء وارفع صوتك حتى ينخفض ويخونك بطعه.
وإياك أن تحبط إذا لحظت أن النتيجة التي تحصل عليها حقيرة فإن هذا الجهد الذي يبدو لك هزواً بانحلال السياق والسباق بين أجزاءه ربما عبث بنشاطك وخيب من أملك فليس هو من العبث بالدرجة التي تتصورها بادي الرأي. لا جرم أن مثل هذه التجربة لتربية ملكة الخطابة لا تنتج شيئاً إذا اقتصر عليه. ومهما بلغت من الثبات في الخطة التي اختطتها لنفسك ورزقت من الصبر لتجديدها على الدوام فإنك تصلح منطقك بالتدرج والكلام الذي تدعوه يأتيك عفواً أكثر من قبل ولا تستعصى عليك الجمل وتليز قناة الكلام وتتلاحم أجزاؤه على سلوب حسن وتنجلي الأفكار فتنال كل مرة نتيجة تحمد غبّ سراها فتصل بعد بفضل الثبات والصبر إلى ما تريد بلوغه من مراقي الكمال وإياك إذ ذاك أن تقنع بغير سلطة الإرادات العالية. لا يكفي السهولة في المنطق بدون ارتجال فكثرة مادة الكلام حسن ولكن الواجب تنظيمه وتخطيط الطريق الذي يجب عليه سيره حتى لا يضل في تفاهات لا منفذ لها: إن تعيين الخطة ضرورية في إنشاء خطاب مكتوب وهو ضروري أكثر عند إرادة الارتجال. إن القريحة المخيلة والمنطق في الخطيب التي تظهر بأنها منبعثة من ذهنه هي ثمرة التدرج والنظام العلمي باديء بدء وبدونه لا رباط ولا سياق.
ثم شبه الخطيب بالمثل في حركاته ولكن تمثيلاً حسناً بحسن استعمال حركاته وسكناته لا تأخذه رهبة ولا جزع قال والأحسن أن يعمد من يحب التبريز في هذا الفن أن يتمرن أمام أصحابه ويقوم بينهم خطيباً كما لو كان بين غرباء وهو يدلونه على نقصه ويبينون له عوراته وبصحة الإرادة وفضل الانتباه يتوصل المرء إلى ما يريد حتى إذا حصلت له(95/44)
آنسة بالكلام يشرع في خطابه ببطء والمستمعون لا يستمعون له بكليتهم أولاً بل أن لهم من أحواله أعظم جاذب وعلى الخطيب أن يلاحظ وسط القاعة التي يخطب فيها أو آخر الحضور ويحدق النظر فيهم ليدلهم بلسان حاله أنه يعنى بإسماعهم وإقناعهم.
هذا محصل ما اخترناه من الكتابين في الخطابة عند الفرنسيس وهم من الأمم المشهورة بفصاحتها وخطبائها الذين يحكمونها ببلاغتهم أكثر مما يحكمونها بسياستهم فالسياسي الخطيب منهم هو الذي يتسلط على النواب ببيانه ويتولى الوزارات والسفارات وكلما برز في هذا الفن استجاش أنصاراً وأحرز سمعة على وجه الدهر والخطيب بين العلماء وهو الذي يستولي كل الاستيلاء على المجامع العلمية والكليات ويكهرب الشعب بأقواله ويكثر أشياعه وأعوانه.(95/45)
تاريخ التاريخ
جاء في برقيات الأجانس الملي وهي شركة البرقيات العثمانية يوم 7ربيع الثاني 1335 و30كانون الثاني 1917 ما نصه لما كان التاريخ المستعمل في البلاد العثمانية لا قيمة فنية له ودوام استعماله نقيصة في بلادنا التي عزمت عزماً أكيداً أن تتبوأ مكاناً خاصاً في ذروة المدينة العصرية فقد اقترحت الحكومة على مجلس النواب العثماني إهمال التقويم المذكور واستعمال التقويم المستعمل في جميع العالم المتمدن فقبل المجلس أمس لائحة القانون. وبناء على ذلك فسيعتبر اليوم السادس عشر من شباط سنة 1332 اليوم الأول من آذار لسنة 1333 وأما سنة الميزانية فستبقى مدتها إلى شباط حسب المعتاد. وقد صرح الشيخ بشير الغزي مبعوث حلب بأن لا مانع يمنع شرعاً من استعمال التقويم الغربي وكان فخر الكائنات (عليه الصلاة والسلام) يأمر دائماً بمراعاة الشؤن الموافقة لمصلحة المسلمين والتي توجب السهولة للأمة وعليه فمن الموافق لمصلحة الأمة قبول التاريخ الغربي المذكور مع المحافظة على التاريخ الهجري بهذا الاعتبار.
قبلت البلاد العثمانية التاريخ الغربي وقد كانت سبقتها البلاد المصرية إلى قبوله أما سائر البلاد الإسلامية فلا شأن للتاريخ الهجري فيها إلا بين الخاصة على الأغلب والمعول عليه هو التاريخ الغربي أللهم إلا البلاد الإسلامية التي وقعت في قبضة روسيا وفي بلاد اليونان فإنهما تستعملان التاريخ الشرقي الذي كان المعول عليه في السلطنة العثمانية قبل هذا. وقد وافق مجلسنا النيابي اليوم على إبداله بالتاريخ الغربي الأكثر شيوعاً مع الاحتفاظ بالتاريخ الهجري كما كانت الحكومة تفعل في كثبها الرسمية فيكون الحساب الغربي كما كان الحساب الشرقي للداخلية والخارجية والحساب الهجري للداخلية فقط.
ولقد كانت مسألة حساب السنين منذ القديم موضوع نزاع بين الأمم كل فريق بل كل أمة تتناغى في تاريخها وتحرص عليه. كتب إلينا أحد أساطين العلم الحديث في القاهرة منذ ثلاث سنوات وقد أرخنا كتابنا غليه بالهجري يقول: جاريتك في التاريخ الهجري ولكن يا أخا العرب لا يثبت في الأرض إلا ما ينفع الناس. والتاريخ الذي جرى عليه أصحاب الملايين والأساطيل والمدارس والمكاتب والعامل أرباب العلوم والفنون وأهل الجد والاجتهاد الخمس مئة المليون سكان أوربا والمئة والخمسون مليوناً سكان أميركا هذا التاريخ لا فائدة من تركة ولا يحتمل أن يزول وقد جعلت بهند والصين واليابان تستعمله(95/46)
وكانت العرب في أول عهدها تستعمل تاريخ الاسكندر لأنه كان شائعاً ولم يروا في ذلك ضعة. هذا ما كتبه صديقنا وهو من أفراد العلماء المعاصرين الذين نشروا للشرق علم الغربي منذ نحو نصف قرن وقد كتبنا وقت إذ لأستاذنا الشيخ طاهر الجزائري الذي يعرف الشرق والغرب علمه الواسع وحرصه على بقاء مشخصات الأمة فكتب إلينا بما يلي: عجبت لمن يسعون في أن نهجر التاريخ الهجري ويفاتحونا في ذلك كأنهم لا يعلمون أنا نعلم ما يرمون غليه عن بعد. لكل أمة شعار إذا تركته طمع فيها واستغفت جانبها وربما صارت بعد مدمجة في غيرها وقد سعى أناس منذ عهد بعيد في أن يضعفوا ما يقومي أمر الأحلام عموماً والعرب خصوصاً فنجحوا بعض النجاح فطمعوا في أن يقضوا عليه فلم يجدوا أقرب إلى ذلك من إضعاف أمر اللغة العربية والسعي في تبديل خطها والتزهيد في الكتب التي كتبت به جعلوا ذلك دأبهم ودينهم حتى أثروا في كثير من أبناء جلدقنا الذين يظنون أنهم في غاية من الذكاء والوقوف على أسرار الأمم فكان ما كان مما هو معروف. ثم زاد الأمر فطمعوا في تبديل التاريخ الهجري وساعدهم على ذلك جبت مصر اسمعيل ففرحوا فرحاً لا مزيد عليه وقال بعضهم الآن شفي الغليل من هذا الأمة غير أن كثيراً ممن انتبه لهذا الأمر سعى في إعادته على قدر الإمكان فيها فامتعض أولئك القوم وصاروا يلمزون كل من يسعى في ذلك ولما ظهرت مجلة المقتبس ورأوا أنها تستعمل التاريخ الهجري صاروا ينظرون إليها شزراً وعرفوا أنها ترمي إلى خلاف مرماهم ولو أمكنهم توقيفها لم يتأخروا عن ذلك.
وليت شعري كيف يلام المسلم على أن يؤرخ كتابه بالتاريخ الهجري فهل انقرض التاريخ الهجري وهل يريدون أن ينقرض وأصحابه أحياء فإن قالوا أن المقصود توحيد التاريخ في الأمم وأوربا هي القوية الآن قيل أن أوربا لها تاريخان أحدهما شرقي والآخر غربي وكل يؤرخ به قوم منهم فهل أوقف ذلك التجارة أو أثر في المدينة شيئاً ولم لا يكلفون الانكليز تغيير مكاييلهم وموازينهم وأذرعهم لتتحد المقاييس في الأمم وتتغير ذلك ليس فيه عضاضة بخلاف التاريخ وقد رأيتهم يعتذرون عنهم ويعدون ذلك متانة في الأخلاق فانظر ما وصلنا إليه. .
هذا رأي الأستاذين المشار إليهما ولكل وجهة وقد أثبت التاريخ أن الأمم كانت تتبع في(95/47)
تاريخها القوة والقوة اليوم للغرب فحبذا إلى مجاراته مع الاحتفاظ بتاريخ الملة. فقد قبلت الحكومة منذ سنتين الساعة الزوالية أو الوسطى وبقيت الساعة الشمسية مستعملة أيضاً فساعتنا اليوم ساعة برلين وفينا وباريز ولندن وسيكون غداً تاريخنا تاريخ برلين وفينا وباريز ولندن توحيداً للمناحي ورفعاً للألتباس والتوقف.
ويجدر بنا في هذا المقام أن نامّ بتاريخ التاريخ عند الأمم القديمة فيتبين للقاري أن هذا الخطب قديم وأن البقاء على حالة واحدة ومراعاة التقاليد قد يصعب إلا إلى صد محدود. قال السيوطي في أوائله أن أول من ورخ بالهجرة عمر رضي الله عنه بمشورة علي رضي الله عنه سنة ست عشرة وسبب ذلك أنه كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر رضي الله عنه أن يأتينا كتب ما نعرف تاريخها فاستشار عمر فقال بعضهم أرخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فرق بين الحق والباطل فأرخ به. ويقول القسطلاني في تعليقه على البخاري فجمع عمر الناس فقال بعضهم أرخ بالمبعث وقال بعضهم بالهجرة فقال عمر الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها وبالمحرم لأنه منصرف الناس في حجهم فاتفقوا عليه.
قال القرماني وأقدم التواريخ التي بأيدي الناس تاريخ القبط لأنه بعد انقضاء الطوفان ثم اجتمع رأي كل ملة فأرخ الروم واليونانيون بظهور اسكندر وأرخت القبط بملك بختنصر وأرخ بنو اسحق من مبعث نبي إلى مبعث نبي آخر وما زالوا يؤرخون بما كان من الكوائن حتى أتى عام الفيل فجعلوه تاريخاً قال المحب الطبري أمر رسول الله حين قدم المدينة بالتاريخ وكانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه صلى الله عليه وسلم حتى أرخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الهجرة لأنها فرقت بين الحق والباطل وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة من الهجرة وقدموا التاريخ على الهجرة بشهرين وجعلوه من المحرم.
ويؤخذ مما قاله المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف أن الأمم السالفة والأجيال الخالية والقرون الماضية كانت تؤرخ بالكوائن لعظام والأحداث الكبار عندها وتملك الملوك فمن أقرّ بالطوفان من الأمم كانوا يؤرخون به ثم أرخوا العالم بتبلبل الألسن بإقليم بابل فأما المجوس فلإنكارهم كون الطرفان المستولي على جميع الأرض أرخوا بكيومرت كلشاه(95/48)
معنى ذلك ملك الطين وهو عندهم آدم أبو البشر ثم أرخوا بقتل داريوس الملك وظهور الاسكندر الملك ثم أرخوا بظهور اردشير بن بابك وجمعه الملك واستيلائه على ملوك الطوائف ثم أرخوا بملك يزد جرد بن شهريار بن كسرى ابرويز بن هرمز بن خسرو انو شروان بن قباذ الملك وهو آخر ملوكهم.
وكان سوالف اليونانيين والروم والقبط وهم السريانيون يؤرخون بملوك لهم متقدمين وكوائن وأحداث ثم أرخوا بسني الاسكندر بن فيليس وقد تتوزع في مبدأ تاريخ الاسكندر فمنهم من رأى أن ذلك من ابتداء ملكه ومنهم من رأى ذلك من أول السنة السابعة من ملكه حين خرج عن بلاد مقدونية إلى ناحية المغرب وغيرها من البلاد الإفرنجية ومنهم من رأى ذلك في غلبته على إقليم بابل وقتله دارا ابن دارا ومنهم من رأى أن ذلك من وفاته.
وكانت القبط بأرض مصر تؤرخ بأول السنة التي ملك فيها بخت نصر وقد ذكر ذلك ابطليموس في كتاب المجسطي. فأما تاريخهم في زيجة فمن أول سني فيلبس أبي الاسكندر ثم أرخوا بملك دقلطيانوس الملك القبطي لعظم ملكه واستقر تاريخهم على ذلك إلى هذه الغاية. فأول هذه التواريخ تاريخ بخت نصر ثم تاريخ فيلبس ثم تاريخ الهجرة ثم تاريخ يزد جرد ذكر ذلك محمد بن كثير الفرغاني في كتاب الثلثين فصلاً الذي فيه ناكر جوامع المجسطي لا بطليموس وغيره من أصحاب الجيزة في النجوم والقوانين كالغزاري ويحيى بن أبي منصور والخوارزمي وحبش وما شاء الله ومحمد بن خالد المروروزي وأبي معشر جعفر بن محمد البلخي وابن الفرّخان الطبري والحسن بن الخصيب ومحمد بن جابر البتاني والتبريزي وغيرهم ممن تقدم وتأخر.
وكان الإسرائيليون يؤرخون بوفاة إسرائيل وهو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ثم بخروجهم من أرض مصر مع موسى ثم أرخوا باخراب بخت نصر أورشليم وهي بيت المقدس وسبيهم إلى بابل وكذلك أرخت النصارى من مولد المسيح وغير ذلك من أحواله وأما الهند والصين ومن وافقهم من الأمم ممن قال بقدم العالم وأزليته فيأبون كون الطوفان عم جميع الأرض وما ذكر من تبلل الألسن وتواريخهم موضوعة على سوالف ملوكهم وأحداث عظيمة كانت في أيامهم وبأعالي الهند ومشارفها البيت المعروف بيت الذهب بدأ تاريخهم بعد ظهور اليدّ (الصنم) الأول فيهم وهو اثنا عشر ألف مضروبة في ثلثة وثلاثين ألف(95/49)
عام.
وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة فأما حمير وكهلان ابنا سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان بأرض اليمن فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم كملك تبع الأكبر وتبع الأصغر وتبع ذي الأذعار وتبع ذي المنار وأرخوا بنار صوران وهي نار كانت تظهر ببعض الحوار من أقاصي بلاد اليمن وأرخوا ببعث شهيب بن مهذم وملك ذي نواس وملك جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم الدوسي وملك آل بني شمر من غسان بالشام وأرخوا بعام السيل وهو سيل العرم وخروج عمر بن مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة النطريف بن أمريء ألقيس بن ثعلبة بن مازن بن الازد من مأرب جماع غسان في قومه من الأزد وغيره من كهلان وحمير وتفرقهم في البلاد. ثم أرخوا بظهور الحبشة على اليمن ثم غلبة الفرس على اليمن وإزالة الحبشة إلى أن جاء الله بالإسلام.
فأما تاريخ ولد معد بن عدنان فإنهم كانوا يؤرخون بغلبة جرهم العماليق وإخراجهم إياهم عن الحرم ثم أرخوا بهلاك جرهم في الحزم ثم أرخوا بعد ذلك بعام التفرق وهو العام الذي افترق فيه ولد نزار بن معد بن عدنان من وبيعة ومضر وإياد وانمار. ثم أرخوا بعد ذلك بعام الفساد وهو عام وقع فيه بين إحياء العرب وقبائلها التنازع والحروب فاستبدلوا الديار وتنقلوا في المساكن وأرخوا بحجة الغدر وكانت قبل الإسلام بنحو من مائة وخمسين سنة. وأرخوا بالحرب بين ابني وائل بكر وتغلب المعروفة بحرب البسوس. وأرخوا بحرب بني بغيض بن ريث بن غطفان المعروفة بحرب داحس والغبراء وذلك قبل البعث بنحو من ستين سنة وبحرب لاوس والخروج ابني حارثة بن ثعلبة وهو العنقاء.
قال المسعودي: وكانت كل قبيلة من قبائل العرب تؤرخ بيوم من أيامها المشهورة في حروبها فكانت بكر وتغلب ابنا وائل بن قاسط بن هنيب بن أفعى بن دعمى بن جديلة ابن أسد بن ربيعة بن نزار تؤرخ بعام التحالف من أيام حروبهم المنسوبات إلى حرب البسوس وفزارة وعبسى ابنا بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان ابن مضر بن نزار يؤرخون بيوم الجبلة وبنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوزان يؤرخون بيوم شعب جبلة. وإياد تؤرخ بخروجها من تهامة وحروبها مع فارس الحرب المعروفة بوقعة دير الجماجم ثم أرخوا بخروجهم عن العراق إلى الجزيرة حين أوقع بهم(95/50)
سابور ثم أرخوا بعام الانتقال من ديارهم إلى بلد الروم.
وتميم تؤرخ بعام الكلاب وهي الحرب التي كانت بين ربيعة وتميم. وأسد وخزيمة تؤرخ بعام مأقط الذي قتلوا فيه الملك حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي أبا أمريء القيس. والأوس والخزرج ابنا حارثة تؤرخ بعام الآطام لما تحاربوا على الآطام وهي الحصون والقصور. وطيء وحليمة تؤرخ بعام الفساد وهي الحرب التي كانت بين الغوث بن طيء وجديلة بن سعد بن فطرة بن طيء بجبلي أجاء وسلمى وما يلي ذلك من السهل ولم يزل في وصفنا من قبائل العرب يؤرخون بالأمور المشهورة من موت رؤسائهم ووقائع وحروب كانت بينهم إلى أن جاء الإسلام فأجمع المسلمون على التاريخ من الهجرة.
وقد ذهب قوم من أصحاب السير والآثار إلى أن آدم لما هبط من الجنة وانتشر ولده أرخ بنوه من هبوطه فكان ذلك هو التاريخ حتى بعث الله نوحاً فأرخوا من مبعثه حتى كان الطوفان فكان التاريخ منه إلى نار ابراهيم فلما كثر ولد ابراهيم افترقوا فأرخ بنو إسحاق من نار ابراهيم إلى يوسف ومن يوسف إلى مبعث موسى ومن مبعث موسى إلى ملك داوود وسليمان وما كان بعد ذلك من الكوائن والأحداث وأرخ بنو إسماعيل من بناء البيت حين بناه ابراهيم وإسماعيل فلم يزالوا يؤرخون بذلك حتى تفرقت معدّ وكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون بخروج آخر من خرج منها من قضامة وهم سعد ونهد وجهينة بنو زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضامة حتى مات كعب بن لؤي فارخوا من موته إلى الفيل ومنهم من كان يؤرخ بيوم الفجار بين قريش وسائر كنانة بن لؤي وبين قيس بن عيلان. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش تؤرخ بموت هشام بن المغيرة المخزومي والفيل وقد ذكر للإبراهيميين تواريخ كثيرة منها التاريخ بوفاة ابراهيم ثم بوفاة إسحاق. وفي الإسماعيليين من كان يؤرخ بوفاة إسماعيل وغير ذلك.
قال وكان عمر شاور الناس في التاريخ لأمور حدثت في أيامه ولم يعرف لها وقت تؤرخ به فكثر منهم القول وطال الخطب في تواريخ الأعاجم وغيرها فأشار عليه علي بن أبي طالب أن يؤرخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وتركه أرض الشرك فجعلوا التاريخ من المحرم وذلك قبل مقدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بشهرين واثني عشر يوماً(95/51)
لأنهم أحبوا أن يبتدئوا بالتاريخ من أول السنة وكان ذلك في سنة 17 أو 18 يتنازع الناس في ذلك.
وذكر المقريزي في خططه أن لكل أهل ملة تاريخاً فكانت الأمم تؤرخ أولاً بتاريخ الخليقة وهو ابتداء كون النسل من آدم عليه السلام ثم أرخت بالطوفان وأرخت ببخت نصر وأرخت بفيلبس وأرخت بالاسكندر ثم بأغسطس ثم بانطيس ثم بدقلطيانوس وبه تؤرخ القبط ثم لم يكن بعد تاريخ القبط إلا تاريخ الهجرة ثم تاريخ يزد جرد فهذه تواريخ الأمم المشهورة وللناس تواريخ آخر انقطع ذكرها. وذكر البستاني في دائرة المعارف أن التاريخ الفارسي الجديد يسمى بالجلالي نسبة إلى جلال الدين بن ألب ارسلان السلجوقي فمبدأه يوم الجمعة عاشر رمضان سنة 471هجرية.
هذا إجمال تاريخ التاريخ في الأمم ونموذج من حجج القائلين بالاعتماد على التاريخ الهجري أو إبداله بالتاريخ الغربي أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.(95/52)
بين الشام والعراق
الثروة الطبيعية
الشام قطر واسع هو باب الشرق إلى البحر الأبيض مؤلف من ثلاث ولايات هي بيروت ودمشق وحلب ولوائين هما جبل لبنان والقدس الذي يشمل البقاع الفلسطينية مهبط الوحي والنبوات ومشرق شمس الحكمة والديانات أما العراق العربي فمؤلف من ثلاث ولايات أيضاً هي بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين والموصل رافعة لواء التمدين في العصور الوسطى ومدينة البصرة مجتمع العلماء ودار الباحثين من أقطاب الحضارة الإسلامية ويضيفون إلى العراق لواء نجد أو الإحساء الممتد على ساحل الخليج الفارسي وكان قبل أعوام قليلة تابعاً لولاية البصرة تدير شؤونه رأساً مع أن التقسيم الإداري في سورية أوسع منه في العراق فلا يزال ما بين النهرين أكثر مساحة وأجسم وضعاً.
وإذا كان في الشام أنهار جميلة كالليطاني وبردى والعاصي والأردن والساجور التي تروي بلاد الشام ففي العراق نهران عظيمان هما دجلة والفرات يؤلفان شبكة من المياهفي هاتيك الجزيرة الزاهرة التي كان يقطنها نحو عشرين مليوناً من أعقل العناصر البشرية فطوراً ترى نهراً مصدره الفرات ومصبه دجلة وآونة تشاهد جدولاً يستقي مياهه من دجلة فيدفعها إلى الفرات وهكذا يرى السائح في هاتيك الربوع أنهراً متقاطعة هي منبع حياة الزرع والضرع في بلاد قليلة الأمطار وإذا تبخل السماء بمدرارها لم تبخل الأرض بأنهارها ويظل الرافدان سائرين من أعالي الأناضول حتى يلتقيا عند القرنسة فيؤلفان شط العرب الكبير الذي يروي أراضي البصرة والمحمرة وجزءاً كبيراً من بلاد إيران ويدفع هذا النهر ماءه في قلب خليج فارس عند مضيق الفاو على شواطئه فيكون طوله نحو 145 كيلو متراً وعرضه لا يقل أمام البصرة عن 540 متراً وعمقه يختلف بين عشرة أمتار وخمسة أمتار وفيه تسير البواخر القادمة من أصقاع شاسعة كالهند وثغور فارس وبلاد الصين واليابان وأوروبا وأميركا ومصر ومنه تتفرع أنهر صغيرة كأبي الخصيب وهو معروف في كتب تخطيط البلدان العربية ونهر العشار وغيرهما فتفيض أوديتها ماءً نميراً بسبب وقوع المد والجزر مرتين كل يوم فتسيل على البساتين والحقول والمزارع وتسقي رياضاً وغياضاً في الإحصاءات المتقننة أنها لا تقل عن اثني عشر مليون نحلة أغلبها الموسرة في البصرة وما(95/53)
بقي منها فلامير الكويت ولحاكم المحمرة.
وفي العراق غير هذه من الأنهار وأن وهو الذي حفه الإسكندر المكدوني على ما قيل وديالي المشهور في كتب العرب بشهر تامراً ويسقي مقاطعة خراسان العراق وهي أخصب بقعة فيه ونهر الغراف الذي يتفرع من جانب دجلة الأيمن أمام الكوت التي انتصر فيها حق العثمانيين على باطل الإنكليز وهو يمر بمدن وقرى كثيرة من ديار المتفق لاسيما مدينة الحي ويقال أنها مدينة واسط التي شيدها الحجاج أمير العراق على عهد الأمويين وهذا النهر يصب في ضفة الفرات اليسرى على مقربة من الناصرية التي بناها الأمير ناصر باشا السعدون أحد أقطاب الأسرة السعدونية صاحبة القول المطلق حينئذ على جميع قبائل العراق تقريباً ومن أحل الاطلاع على أخبارها فليراجع كتاب مطالع السعود في أخبار الوالي داود لعثمان بن سند البصري مخؤبق كتاب تاريخ نجد المطبوع في بغداد حديثاً وبقيت هنالك أنهار أخرى كالمجر الصغير والمجر الكبير والكحلة وهي تطفئ فلة ديار بعيدة الأكتاف مترامية الأطراف في لواء العمارة ومصدرها دجلة وتصب في المستنقعات الصالحة لزراعة الأرز وهناك قبائل وأفخاذ وبطون تتخذ ومنه خبزاً نقياً وفلما تأكل القمح غلا نادراً وطعامهم مقصور على السن والأرز والتمر وهم أقوياء الأبدان سمر للسحنات يستترون بمآزر فقط وصدورهم وأكتافهم معرضة لحرارة الحر وبرودة القمر.
كل هذه الأنهار في العراق صالحة لسير السفائن البخارية والشراعية ففي دجلة تسير بواخر الشركة العثمانية التي أسسها أبو الأحرار مدحت باشا والشركة الإكليزية التي نالتامتيازها ايام السلطان عبد المجيد فأساءت الصنيع مما حمل العثمانيين على فسخه وفي الفرات والغراف وشط العرب تسير بواخر كثيرة للبريد ولتأمين الراحة وتوطيد الأمن وكما أن السكك الحديدية في سورية أحكمت عرى الروابط الاقتصادية بين حواضرها كذلك الطرق البحرية أو النهرية ربطت بلاد العراق بعضها ببعض وليس في العراق أنهار غير صالحة للسير إلا النهر وأن الخالص ودلي عباس فالأول مندرس ولم تبق منه إلا أطلال طامسة وأنقاض دراسة وكان مصدره من دجلة ما فوق سامراء بثلاث ساعات ويصب على مقربة من المدائن عاصمة دولة الساسانيين ويقول بعضهم باقياً إلى اليوم تعلوه بعض الركام من الرمال وعليه آثار القناطر والجسور ويقال أن صدره مشيد بحجارة من الرخام أفرغ(95/54)
عليه ذائب الرصاص ولذلك يطلقون عليه في سامراء اسم نهر الرصاصي وقد صرح كبار المهندسين في تقارير مطولة عليه في وزارة النافعة أن أحياء هذا النهر يتوقف على إنفاق ربع مليون جنيه ولكنه يسقي أصقاعاً بقعاً جرداء هي الآن لا تقل مساحتها عن ثلثمائة ألف فدان ومن ضفاف دجلة تتشعب أنهار أكثرها مندرسة كنهر القاطول وهو الذي يخترق قصور الخلفاء في سامراء ونهر الذهب فوق قرية الدور وهذه الأنهار كانت في عهد العباسيين تدر لبناً وعسلاً ولم يبقَ منها اليوم إلا أطلالها وآثارها.
ومن الفرات تتفرع أنهار كثيرة في طليعتها نهر الحلة الذي أنفقت الدولة العلية على إحيائه نحو تسعمائة ألف ليرة فشيدت له القناطر والجسور والخزانات للمياه قرب الهندية إحدى ثغور الفرات وهو الآن يروي مقاطعة الحلة ومزروعاته لا تقل عن مائة ألف فدان فعادت النضارة والنضارة تجددت الحياة في هاتيك الأصقاع التي كانت مواطن للبابليين أرباب التمدن الزاهر، وهذا المشروع من أعظم وأفخم المشاريع التي قامت في العراق بل في البلاد العثمانية بأسرها.
التجارة
إن امتدت مساحة كبيرة من سورية على ساحل البحر الأبيض قد جعلها في مقام رفيع يحسدها عليه العراق كما تحسده هي على أنهاره فسورية تفوقه بسواحلها وثغورها والعراق يفوقها بمياهه النميرة وقد استفادت سورية بأن كانت أسبق بلاد العرب إلى الاغتراف من بحار التمدين والاقتباس من أنوار الحضارة العصرية فأصبحت كعبة القصاد غليها تشد الرحال من ديار قاصية وبلاد نائية طلباً للعلم وانتجاعاً للأدب في معاهدها وكلياتها على أنها مع امتيازها البحري لا تزال دون العراق في التجارة والمكاسب لأن الزراعة في مابين النهرين جعلت صادرة من الحبوب والتمور والأصواف والجلود والأسمان ومواد الأصباغ أكثر من وارداته من ديار الفرنجة وهي لا تتجاوز عشرة ملايين ليرة سنوياً ولذلك بقيت الثروة الوطنية في مواطنها فلم تتسرب إلى يد الأجنبي كما هو الشائع في سورية.
ومن امتيازات العراق على سورية وغيرها أن فيه كنوزاً طبيعية وفيرة قلما توجد في البلدان الأخرى التابع البترول كثيرة في تخوم فارس قرب خانقين ومتدلي ومناجم الفحم(95/55)
الحجري قريبة من الصلاحية والإسفلت والملح والبورت تكثر قرب مدينة هيت القديمة فهذه الثروة الطبيعية أغنت العراق عن مد يد العوز والفقر إلى الأجنبي فقد مضت ثلاث سنوات على الحرب فلم يشك قلة البترول وهذه البواخر تسير في دجلة ووقودها الفحم الحجري العراقي وقس على ذلك أشياء كثيرة تظهر غنى العراق كالرخاء السائد في أقطاره في حين تشتد الضيق وتعسر المعيشة في الأقطار الأخرى ومن أدلة فقر القطر السوري بالنسبة إلى العراق مدينة حلب فأنهارها لا تكفي لإرواء بقاعها الواسعة ولولا مياه الأمطار التي يخزنها الحلبيون في الصهاريج على طراز فني أو غيره لماتوا عطشاً وظمأً وهكذا أقل عن القدس وهي تعد من أمهات مدن الشام وحينما كنا نقرأ في كتب تخطيط البلدان العربية كمعجم ياقوت وابن حوقل والبلاذري وابن خردانة والمسعودي ما خطته أنامل الكتبة القدماء ورددته السن الشعراء عن نهر قويق الذي يمر بجلب من الإطراء والمديح حتى قالوا أنه أعذب من النيل وأصفى من الفرات، كنا نحسب إخواننا الحلبيين يشربون نميراً ورحيقاً ولكن حينما كتب لنا الحظ بالسياحة إلى سورية وأطلعنا على هذا النهر الصغير الذي لا يصلح ماؤه للشرب ولا للطبخ المآكل عرفنا حينئذٍ أن الشعراء مبالغون على الأكثر وأن استخراج الحقائق من بين ثنايا أقوال الشعراء أمر محال.
قلنا ان العراق أوسع تجارة من سورية وربما يلاقي بعض الناقدين هذا القول بالحيرة والاستغراب أو يحمولنه على محمل المبالغة والغلو بدليل أن سورية أقرب من العراق إلى القارة الأوروبية وأن أعلها ورثوا علم الاقتصاد والتجارة منذ أزمنة قديمة عن أجدادهم الفينيقيين فهي سياج الجزيرة العربية ومنفذها الوحيد إلى أوروبا والاستانة ومصر والحجاز واليمن كما أنها ملتقى الطرق البحرية فلا يعقل بعد كل هذه المميزات أن يسبقها العراق إلى تجارة هي أعرق منه وأعرف بها وبطرقها فنجيبه حينئذٍ إذا كان السوريون أبناء الفينيقيين فالعراقيون أحفاد البابليين وإذا صح أن دولة حمورابي هي أول دولة متمدنة في العالم اشتغلت بالتجارة والعلوم كما نطقت به الآثار والأسانيد التاريخية نفير غريب وليس بعيداً أن يسبق العراقيون غيرهم في معترك الحياة الاقتصادية.
ومما يزيد تجارة العراق نمواً واتساعاً هو كون مدينة الزوراء فرضة تجارية لأكثر بلاد فارس وديار الكرد وهذا هو سر التزاحم الأوروبي على نيل امتياز خط حديدي يمتد من(95/56)
طهران إلى خانقين الواقعة على تخوم العراق وبينها وبين الوزراء نحو مائة وخمسين كيلو متراً كما أن الألمان عزموا - على ما قيل - على نيل امتياز خط من خانقين إلى بغداد أموال تجارية من أوروبا تذهب إلى فارس وهي لا تقل عن ثمانية ملايين ليرة وتربح منها الدولة وتجار العراق أرباحاً جزيلة وسبب ذهاب البضائع من أوروبا والهند إلى فارس بطريق بغداد هو أن ثغور فارس على الخليج في ثورات وحروب وفتن يتطاير شررها كل حين إلى ما يجاورها من البلدان والمدن بحيث تعطلت أسباب النقل ولنقطعت سبل المواصلات بينهما وبين العالم المتمدن ولذلك يفضلون طريق العراق التي تحميها الدول العثمانية ببأسها وهيبتها.
لما فشلت إنكلترا في مزاحمة الألمان على نيل امتياز خطو بغداد الكبير حاولت أن لا يتناول الامتياز الألماني جنوبي العراق فيمتد خط من بغداد إلى البصرة فسواحل الخليج مخافة منها على القطر الهندي من أن تلعب فيه الأصابع الأجنبية ولكنها عجزت أيضاً عن تحقيق أمانيها وآمالها فحاولت بعد هذا الفشل والإخفاق أن تمد خطاً حديدياً يبتدئ من مدينة عهبادان التي اغتصبتها من سادتها الحقيقيين وأقامت فيها الأبنية الضخمة وسمتها لندن الشرق وينتهي إلى قصر شيرين محاذياً للتخوم العثمانية تجاه خانقين وماراً بمنابع البترول وكانت تضمر نيات سيئة وتبني العلالي والقصور من المكر فهي ترؤيد بهذا العمل أن تقتنص في شباك غدرها أربع فوائد الأولى: أنها تطرق العراق من جنوبه إلى شماله بنفوذها فتبذر فيه بذور الشقاق. الثانية: أنها تضرب تجارة بغداد ضربة قاهرة فينتقل طريق تجارة فارس منها إلى عبادان وهي فرضة إنكليزية وأقرب الثغور إلى أوروبا والهند وذلك لكيلا يستفيد الألمان من الخط الكبير فائدة عظيمة. والثالثة: أنها تعتمد إلى استثمار البترول الذي تمتد ينابيعه على تخوم العراق وفارس. والرابعة: أنها تعمد إلى كسر شوكة النفوذ العثماني على عشائر فارس وتريد أن تحدث شغباً وقلاقل على الحدود وتثير نار عصبية بين العرب والفرس.
غير أن إنكلترا لم تنجح بمسعاها لأن الأمر ليس من الهنات الهيئات فهو متوقف على إرضاء العثمانية وفارس والاعتماد على صداقة القبائل وهذا شيء عسير دونه خرط القناد.
كل هذه الشواهد التاريخية والسياسية نثبت لنا أن بغداد لا تمثل تجارة العراق فقط بل تمثل(95/57)
في الوقت نفسه واردات فارس وبلادة الكرد وصادراتها فكان العراق أوسع تجارة وأعظم أرباحاً من سورية ناهيك أن البصرة وحدها تصدر من التمرإلى أوروبا والهند ما لا يقل ثمنه سنوياً عن خمسة ملايين ليرة، هذا غير صادراتها من الأرز والقمح والشعير والدخن والذرة وغيرها من الحبوب والأثمار، أما الموصل فهي أخصب رقعة في هذا الملك الواسع والذرة وغيرها من الحبوب والأثمار، أما الموصل فهي أخصب رقعة في هذا الملك الواسع ويقول الخبيرون أن مزارعها وفيرة جداً حتى فاقت قونية وأزمير فمساحتها لا تقل عن تسعة ملايين دونم. والشعب هناك شعب تجارة وزراعة وأهل جد وكسب يسابقون الريح إلى الرزق يتجولون ويتنقلون ويطوفون العربية هي مصدر تجارة بلاد الكرد وجنوبي الأناضول وفيها أنواع الخيرات والبركات ولها وأن على دجلة ومن أعمالها مدينة كركوك أو شهرزور المعروفة في كتب العرب ونظنها أحمر لواء أو متصرفية في العراق فلها علائق تجارية مع فارس وكذلك أربل ولها تاريخ مجيد ومجد تليد ومنها يصدر الجبن والعسل والتين والجوز والزبيب والفستق والبندق ولو تيسر لهذه البلاد ما تيسر لسورية من أسباب النقل لكانت الآن زهرة يانعة ودرة ثمينة في تاج الاقتصاد العثماني وقد أحسن الألمان صنيعاً في تمديدهم خط بغداد الكبير ماراً بمدينة الموصل أحياء لتجارتها وزراعتها.
تمتاز تجارة سورية من العراق بكون المسلمين هم أرباب الكلمة فيها والجاه العريض في أسواقها أكثر من مسلمي العراق فبيروت مثلاً تكاد تكون الأعمال فيها مناصفة بين المسلمين - على قلتهم - والمسيحيين وفي الشامة يؤلف أهل الإسلام الأكثرية في عالم التجارة وبضدها حلب فالأغلبية فيها للمسيحيين وهم أقدر من إخوانهم في الوطنية على التفنن بالبيع والشراء ولهم قدم راسخةة في علم الاقتصاد لمعرفتهم اللغات الأجنبية واختلافهم إلى مدن أوروبا وافتقادهم معاملها ومصانعها أما اليهود فلا شأن لهم يذكر في بيروت ودمشق ولكن سطوتهم طاهرة في فلسطين فقد أصبح زمام التجارة في قبضتهم كما هي الحال في بغداد والبصرة فالمسلمون هناك ضعفاء وقليلو الجرأة والخبرة في التجارة وشؤون الاقتصاد ولذلك تمكن الإسرائيليون من ناصية الثروة العراقية فامتلأت صناديقهم باللجين والنضار ولليهود في بغداد شركات كبرى لها معامل كثيرة في أوروبا والهند فالمسلم يكدح يمينه ويعرق جبينه تحت حرارة الشمس وبرودة الهواء والزوابع والأمطار(95/58)
والثلوج واليهودي في حانوته ومخزنه في رفاهه وترفه يبتر منه ثمرة عمله وسعيه ببضائع إفرنجية يبيعه غياها بأضعاف أثمانها وهو يجهل قيمتها الحقيقية وفي استطاعة الموسرين المسلمين في بغداد والبصرة وأن يوقفوا هذا السيل الاقتصادي الإسرائيلي بتأليف شركات تجارية تقاوم شركات الإسرائيليين أو تشاطرهم مكاسبهم على الأقل، ة ولكنهم انغمسوا في الملذات والشهوات بدل أن يفكروا في ما يضمن لهم السيادة في المستقبل. وأعرف كثيراً من المتمولين في البصرة وبغداد لا يقل ريع أحدهم عن عشرين أو ثلاثين ألف ليرة سنوياً ينفقونها عل السفاهات والخلاعات في الهند أو بين جدران قصورهم على موائد الميسر أو في جرعة من الراح وقبلة من خدود الملاحة فيصبح الملاَّك الموسر في البصرة رازحاً تحت أثقال الديون حتى يضطر إلى بيع أملاكه وأطيانه صفقة خاسرة ولو كان لليهود صلة مع العرب والفلاحين أو لو تكن عصبية الشيعة لكانت أكثر أملاك المسلمين تنتقل بطبيعة الحال إلى تصرف اليهود، فهذه العصبية هي التي أقامت لنا هذا الشبح الذي حفظنا به شرفنا الحالي ولو بالاسم فقط.
إن ضعف اليهود الاقتصادي في دمشق وبيروت هو كضعفهم في الموصل وكركوك وهذا ما يدل على أن المسلمين في هذه الحواضر شعروا بضرورة الاعتماد على النفس ونبذ المعيشة الاتكالية وقد رأيت شبهاً عظيماً بين الدمشقي والموصلي في الطباع والأخلاق والعادات والمعايش فهما لا يميلان إلى البهرجة والفخفخة ونفقاتهم غالباً أقل من مكاسبهم فكأن الشبه بين سهول البلادين وجبالهما وبساتينهما وأمطارهما وبردهما وثلوجهما هو الذي أولد هذه المضارعة المحكمة بين الأمزجة والطباع. ولذلك فاليهودي في دمشق لا يستطيع مزاحمة هذه المجموعة العاملة فيقتحم صفوفها ويده أقصر من أن تمتد إلى المصارعة والمكافحة فهو كأخيه في الموصل لا صوت ولا شأن له يذكر في عالم التجارة والاقتصاد.
للشام طرق واسعة للمكاسب كالاصطياف في لبنان حيث يرحل إليه عشرات الألوف من مصر وما يجاورها لقضاء فصل الصيف في جباله الشاهقة والتمتع بمشاهد الطبيعة وجمال الكون على البر والبحر وبين الأشجار وعلى ضفاف الأنهار، وتحت سماء صافية كصفاء دموع العاشقين ويقال أن ما يربحه الجبل لا يقل عن مائتي ألف ليرة في كل عام هذا مع توفر أسباب الراحة وفي سورية مكاسب وفيرة غير ما تقدم وهي ما تنفقه زوار المسيحيين(95/59)
في فلسطين وحجاج المسلمين في طريقهم إلى الحرمين الشريفين وطرق الموصلة ففيه مشاهد أئمة البيت كقبر الإمام على في النجف ومراقد الشهداء في كربلاء التي دفن فيها الإمام أبو عبد الله الحسين وأخوه الإمام العباس وأبناؤهما وأنصارهما في وقعة العطف وفي الكاظمية مدفن الأمامين محمد الجواد وموسى الكاظم وفي سامراء قبر الإمام حسن العسكري والمسجد المشهور بأن فيه السرداب الذي غاب فيه الإمام المهدي الذي ينتظر الشيعة بفارغ الصبر خروجه منه فيملأ الأرض عدلاً كما ملثت جوراً وحينئذٍ تدين الشعوب كلها بدين الإسلام.
فهذه المساجد الضخمة أنفق الشيعة على تزيينها وتوزيعها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فالمآذن والقناب والأبواب والأروقة كلها مغشاة بالذهب والإبريز والأأبنية الداخليةة مرصوفة بقطع من المرائي والفسيفساء على طراز بديع ويقال أن مجموع ما أنفقه سلاطين العجم وملوك الهند من الشيعة على هذه المساجد يناهز عشرة ملايين ليرة والشيعة تقصد زيارة المراقد الطاهرة من ديار قاصية فيأتي إلى العراق كل عام نحو مائتي ألف شيعي من الهند وثغور فارس وسواحل الخليج وبخارى وخيوه والصين لزيارتها وتقديم الطاعة الدينية لها فإذا أن متوسطة ما ينفقه كل زائر خمسة جنيهات كان نصيب العراق سنوياً لا يقل عن مليون ليرة فهناك القومة والحجاب والمرشدون إلى آداب الزيارة والعلماء المجتهدون يعيشون من هذه الزيارات وعددهم يقدر بالألوف ومنهم من لا يقل ريع أحدهم سنوياً عن بضعة آلاف من الليرات وقد كان في النجف قبل حوادث فارس الأخيرة والحرب العامة نحو ثمانية آلاف طالب علم يقتاتون طوال السنةة بما يربحونه في بضعة أيام من الزائرين ولو كان في البلاد خطوط حديدية لكثر عدد السياح والزائرين واستفاد العراق أضعاف ما يستفيده اليوم وفي استطاعة أهل الحل والعقد أن يمدوا خطاً حديدياً من خانقين إلى النجف ماراً بكربلاء فإن خزائن الأئمة المملوءة بالمجوهرات والعقود الثمينة تكفي للقيامة بأعظم من هذا الخطة وحينئذٍ يرتبط العراق بفارس ربطاً محكماً ويتدفق سيل الثروة على الأمة العراقية من كثرة ورود المتدينين إلى زيارة العتبات.
الصناعة الوطنية
الصناعة في سورية أرقى منها في العراق ففيها معامل كثيرة لنسج الحرير والقطن(95/60)
والملابس العربية ومصانع كبيرة المصابون فإن دمشق وحمص وحماة ترسل كل سنة إلى العراق مقداراً جسيماً من المنسوجات البديعة على اختلاف أنواعها وكانت تباع في بغداد والبصرة والموصل بأثمان غالية هي مصدر حياة السوري زمناً غير قصير بيد أن تجارة المنسوجات السورية اعتورها بعض الوقوف ففقدت مكانتها القديمة لأنها لم تتجدد مع الزمان ولم يدخل الإصلاح إلى أنوالها ولأن منسوجات الهند والصين شرعت تنافسها وتقاوصها وكان ما يرد من الهند أرخص بكثير مما يره من سورية أما المتانة وحسن النسج فالناس لا ينظرون إليها بعين الاعتبار، ما دامت غالية الثمن وأعرف مخازن واسعة أصيبت بالإفلاس من أجل هذه المنافسة على أن جمهوراً كبيراً من العراقيين شرع بترك الملابس القديمة والإقبال على الملابس الإفرنجية فكانت الألبسة الصوفية والحريرية والقطنية القادمة من أوروبا وأميركا تزداد انتشاراً من حين إلى آخر كانت الصناعة الوطنية في تقهقهر دائم وفشل ما وراءه فسل لأن الصانع الوطني ضعيف المادة قليل العلم عديم الثبات أيضاً ولم تكن له من القرانين التي تحميه كما هي اليوم تجاه سيل الأجانب الاقتصادي وهكذا أبيدت وماتت صناعة الوطنيين في سورية والعراق وحلت مكانها الصنائع الأجنبية.
في العراق كما في سوريةة بقايا من الصنائع التي عكف عليها أربابها غير مبالين بما يحيط بهم من الفقر والبؤس ففيه اليوم أنوال كثيرة لصناعة اتلألبسةة الحريرية وقد اختصت بها طائفة في بغداد لا يقل عمالها عن خمسمائة عامل وكذلك العباءة فلا تزال على اتقانها القديم وفي النجف وبغداد وكربلاء والقرنة والعمارة والحي عدد كبير من الصناع يزاولون منها شيء كثير إلى ديار الكرد وسورية والجزيرة وكذلك في العراق مصانع صغيرة للنسج الأرز والمناديل والكفافي والمناشف وهذه كلها على جانب عظيم من التجويد والاتقان. وفي هذه الحرب تجلى الذكاء العراقي بأحسن مظاهره وأبهى مناظره فإن العمال الوطنيين أصلحوا عدداً كبيراً من المدافع الإنكليزية التي اغتنمناها في ساحة الحرب وصارت صالحة لاستعمال قنابلنا وفي بغداد معمل حربي كبير وهو الذي أنشأه المرحوم مدحت باشا أصبح اليوم بفضل النابغين العاملين منبع حياة الجيش فهو الآن يصنع الألبسة والأقمشة والأجواخ ويصلح القنابل وألغام الديناميت والقذائف اليدوية وقد أصلح تلامذة مدرسة(95/61)
الصنائع الطيارات التي ربحناها من الإنكليز وفي الموصل مدرسة واسعة نظيرها قائمة على رابية شاهقة غربي المدينة توفرت فيها أسباب الارتقاء والتقدم وعلى الإجمال أن الصناعة الوطنية منحطة في القطرين الشقيقين ولكنها في سورية أرقى منها في العراق.
التربية والتعليم
يختلف التعليم في العراق عن التعليم في سورية أن الأول وطني محض والثاني مزيج بالأفكار الأجنبية التي أضرت القطر السوري وعطلت قراه الوطنية ففي سورية كليات ومعاهد راقية لا نظير لها في العراق ولكنها كانت مباءة للنفوذ الأجنبي وللمبادئ المضرة فمدارس المرسلين من الفرنسيس والإنكليز والروس والطليان والأميركان ليست الغاية منها خدمةة التمدين والإنسانية كما يتصور الجاهلون ولكن المقصد الوحيد منها هو بث الروح الأجنبية وإفساد العقائد وأضلال معقول وأغواء الشعب على احتقار العادات الشرقية أو الحضارة الإسلامية والتناغي بحب المدنيات التي تنتسب إليها هاتيك المعاهد فالمدارس والمستشفيات والملاجئ التي شيدها الفرنجة في الشرق هي مقدمة حملة عنيفة لإبادة الشعور الشرقي واستنزاف الثروة الوطنية قال أستاذنا الكبير سليمان نظيف بك في بحث له عن دار المجانين في الاستانة الذي كان قبل الحرب فرنسوياً فانقلب بعدها عثمانياً صرفاً ما يلي: في أثناء حرب القرين أو عقيبها بقليل أنشأ الفرنسيس في أحد أحياء الاستانة ستشفى كبيراً فظن الجاهلون أن الدافه لهم خدمة الإنسانية وأحكام روابط الألفة وأنا من جملةة أولئك المعتقدين بأن المفاسد والرذائل التي تتنخر عظام هيكل المدنية الشرقية لا تأتينا إلا من طريق المعاهد الأجنبية سواء قام بتأسيسها الأصدقاء أو الأعداء فأقل مقاصد الأجانب منها وأخفها ضرراً هو إحراز ثروة طائلة برأس مال صغير وخدمة تافهة وكيف تجد آلامنا وأوجاعنا صدى رحمة وشفقة في قلوب الروس ولكن كان لهم أمام مدرستنا الحربية دار للشفاء. . والعاقل المفكر متى وجد مدرسة أو معبداً أو مستشفى أو ملجأ خيرياً ترفرف فوقه الأعلام الأجنبية يعتقد لأول وهلة بأن ثروة الأوطان وسلامة استقلالها وحضارتها وأخلاقها ومعتقداتها أصبحت مخفوقة بالمخاطر والمهالكة ومهما كان العثماني سليم النية نقي الطوية فهو لا يرى فضلاً وخدمة لأولئك الاجانب المندفعين بسائق الغيرة المدنية ظاهراً إلى تسكين آلامنا وأوجاعنا فقد ثبت أن هذه الأمم الغربية تحمل الكتاب(95/62)
بشمالها والسيف بيمينها ثم قال عن فوائد هذه الحرب أنها علمت العثمانيين حياة الاستقلال وأطلعتهم على خفايا السياسة وكوامنها ومن أمثلة ذلك أن راية الهلال خفقت تعلى السارية التي كانت تخفق فوقه راية الألوان الثلاثة في دار المجانين فانقلب هذا المشروع الذي كان ملوثاً بأدران المفاسد السافلة والغاغيات الرذيلة إلى عمل شريف يخدم الإنسانية والبشرية.
من مضار المدارس الأجنبية في سورية أنها حببت المهاجرة إلى الشبيبة حتى أن الوطن السوري لم ينتفع النفع المقصود من جمهور كبير من المتعلمين الذين برعوا في فنون كثيرة كالطب والهندسة والآداب والفلسفة والحقوق والعلوم الاجتماعية وفي كل سنة تهاجر إلى أميركا ومصؤر والسودان طبقات من الشبان المستنيرين بنور العلم والعرقان ولو كان التعليم في سورية وفي مدارسها الأجنبية على المناحي الوطنية الممزوجةة بروح العصر لكانت الحركة العلمية القائمة في هذا القطر منذ نصف قرن تقريباً قد رفعته إلى سماء المعالي والمفاخر وإلى مصاف البلاد الناهضة لأن خريجي المدارس يزدادون كل سنة زيادة محسوسة بيد أن العبرة في الأسلوب العلمي لا في كثرة المتعلمين والناشئين
لكانت الأمة اليوم على أسلوبة واحد في عاداتها وأخلاقها ومبادئها وغاياتها على اختلاف المذاهب والأجناس وكلما اشتدت وطأة التعليم الأجنبي تصاغرت أمامها الوطنية وضعفت لعة البلاد واللغة الرسمية الواجب انتشارها لإيجاد صلة التعارف والتفاهم بين الحاكم والمحكوم وبين الرعية والرعاة ففي بيروت تسود اللغة الفرنسوية سيادة مطلقة وبها تجري المخاطبات والمكاتيات ودخلت أكواخ اتلفقراء كما شاعت في قصور الأغنياء وتنتشر اللغة الإنكليزية في لبنان وتضارع لغة البلاد كما تنتشر الألمانية في فلسطين فأصبحت اللغة العربية لا شأن لها في صميم بلادها بقطع النظر عن بعض بيوتات اشتغلت بآدابها وفلسفتها واختصت بنشر النافع من أسفارها وتكاد تكون اللغة الرسمية في حكم العدم تجاه الألسنة الأجنبية وهذا ما عاد على الأمة والوطن بالضرر الجسيم فقد صار المتعلم يعرف من تاريخ الفرنسيس والطليان والإنكليزة والألمان ما لا يعرف بعضه عن بلاده اليت أقلته أرضها وأظلته سماؤها أما في دمشق وحلب وبعض مدن الداخل فالحالة فيها على عكس مدن السواحل التي انبثت فيها مدارس المرسلين فاللغة العربية في قلب البلاد السورية أقوى بكثير منها في سواحلها - ماعدا بيروت - وكذلك يقال عن اللغة الرسمية التي(95/63)
وجدت أفذاذاً انكبوا على اتقانة آدابها ونشرها بين الشعب وقد رأيت كثيراً من الخاصة والعامة لاسيما في حلب وأعمالها يتكلمون بها هي والعربية على حد سواء. .
اللغة والأدب
اللغة في العراق راقية أكثر من رقيها في سورية كما يشهد المنصفون الذين عرفوا القطرين وامتزجوا بالشعبين فالنابغون في الآداب العربية كالشعر واللغة هم في العراق أكثر منهم في سورية فعلى وفرة المدارس واقتراب بلاد الشام من العالم المتمدن لم ينبغ فيها شعراء وفصحاء كالرصافي والزهاوي والشبيبي وشقيقه والكاظمي والحلي والهنداوي والعبيدي فهم أمثولة الشعر العربي اليوم وزبدة ما وصل إليه عقول العرب من الارتقاء في الآداب وأمثالهم في القطر المصري قلائل جداً يعدون على الأصابع ولا نظن حافظ ابراهيم وشوقي محرم يفوقون هؤلاء المشاهير العراقيين في شيء من قوة التصور ورقة الخيال ودقة المعاني وعذوبة الألفاظ على إننا لا نحرم سوريا من العدل والإنصاف فنعترف أن الإنشاء في سورية يفوق الإنشاء في العراق والفرق بين الفريقين بعيد وكبير فإن سورية قطعت مراحل واسعة في هذا الميدان وأحسنت في تقليد الإفرنج بأسلوبهم وتعبيرهم ولكي ينشأ في العراق كتاب مجيدون على الطرز الحديث كالريحاني وجبران خليل جبران والغريب في الأسلوب الإفرنجي وإضراب محمد كرد علي والمغربي وشكيب ارسلان في الأسلوب العلمي والاجتماعي ويجب أن تجتهد الأمة العراقية وتسعى أكثر مما سعت في إتقان هذه الأعمال الصحافية. فالعراق من هذه الوجهة لا يزال في دور الطفولية وعهده بالصحافة قريب.
قلنا أن لغة العراق راقية وفضلناها على لغة السوريين لأن الأولى خالية من الألفاظ الأجنبية والتعابير الإفرنجية والثانية مشحونة بها وبكل ما هو دخيل في العربية وهذا ناشئ عن احتكاك السوريين بالأوربيين واقتباسهم نع أوربا العلوم والعرفان وعن بعد العراق عن بلاد الغرب وقلة احتكاكه بالأجانب ولما كان العرب حملة العلم ودعاة التمدين كانت ألفاظ اللغة العربية منتشرة في تعابير الفرنسيس والأسبان والطليان ولا سيما ما يخص المصطلحات الفنية ولكن لما تقهقر العرب في ميدان الحضارة وشرعوا اليوم بالأخذ عن مدنية أوربا دخلت إلى لغتهم بعض التعابير.(95/64)
والألفاظ الاصطلاحات كما هو المعروف في سورية وكلما كان القطر بعيداً عن الامتزاج بالأجانب كانت اللغة أقرب إلى الفصاحة والبلاغة وعلامة التعبير فلغة نجد واليمن وحضرموت والحجاز أفصح من لغة العراق لأن النجديين واليمانيين والحجازيين لم يمتزجوا ولم يختلطوا بالأعاجم حتى تفسد لغتهم ويتسرب الدخيل إلى ألفاظهم كما أن لغة العراقيين أقرب إلى الفصاحة من السوريين لأنهم أقل اختلاطاً بغيرهم وهذا القياس مقصور على اللغات الشائعة بين العامة لا على لغات الخاصة فإنها واحدة في جميع الأقطار وارتقاؤها متوقف على نسبة ارتقاء العلم وانتشار المدارس.
في العراق كثير من أثمة اللغة والأدب والبديع والبيان والتاريخ والفلسفة القديمة ولكنهم لم يظهروا كما ظهر العلماء السوريين لأن المطابع والصحف في سورية ساعدت فضلاءها وأدباءها على نيل الشهرة والصيت بعكس العراق فهو حديث العهد بالمطابع وبالصحافة وتاريخها يرتقي إلى ما قبل الدستور بزمن يسير واعرف كثيراً من كبار العلماء والمجتهدين وأرباب العقول والمفكرين في العراق يترفعون عن الكتابة في الجرائد والمجلات ويعتقدون أنها من خصائص صغار التلامذة ولولا هذا الاعتقاد لعرف العالم العربي جمهوراً كبيراً من فطاحل العلماء وأرباب البحث والنقد وهم الآن منزوون بين جدران المعابد والمساجد. وكما نشأت في الشام بيوتات شريفة اشتغلت في العلم والأدب كأسرة البستاني واليازجي والشرتوني والأسير وأرسلان كذلك في العراق اشتهرت بنشر العلم والآداب بيوتات رفيعة العهد كعائلة الألوسي والسويدي والشبيبي والحلي والقزويني والشاوي والفاروقي فإن جميع هذه الأسر الكريمة مما توارثت العلم كابراً عن كابر منذ مئات من السنين. والنهضة العلمية في العراق أقدم عهداً من النهضة في سورية إلا أن الأولى اعتورتها الحادثات والكارثات والثانية جدت في طريقها فساعدها الزمان على النشوء والارتقاء ففي اليوم الذي أولدت بغداد شاعراً مفلقاً كالأزري الذي لا يزال شعره من أبلغ ما قالته العرب المتأخرون وعالماً كالشهاب الألوسي ولغوياً كالحلي لم يكن في سورية يومئذ - قبل مصر تقريباً - من احتذى حذوهم وسار على منوالهم وجاراهم في أسلوبهم وأعمالهم. وفي قطر العرق اليوم كلية علمية أو معهد أدبي يقطنه بضعة آلاف من التلامذة الذين يشتغلون في العلوم العربية وفي الاجتماع والفلسفة والأخلاق - ذلك المعهد هو مدينة(95/65)
النجف الأشرف فهي دار علمية أكثر منها مدينة. وعليها وحدها المعول في إحياء اللغة والأدب.
نزيل دمشق
ابراهيم حلمي العمر(95/66)
أنت يا شمس
أنت يا شمس علة العلل ... لحت تحيين ميت الأمل
حجبتك الغيوم عن ملأ ... بات لما صددت في خبل
عشقت الغيوم بازغة ... تذرين الأقمار في خجل
ترسلين الشعاع مبتسماً ... يتجلى كالوحي للرصل
وتشدين في السماء ضحى ... دولة تلك ربة الدول
دولة النور لا ظلام بها ... أنت كؤنتها من من الشعل
تدخلين الكوى بلا وجل ... وتنيرين ممظلم السبيل
وتزورين عاشقيك فما ... إن تواريك خشة الملل
كلما أشرق النهار بدا ... منك وجه يرام بالقبل
تتمشين غير جازعة ... في فسيح الفضاء في مهل
تبهرين الأبصار طالعة ... تتردّين أبهج الحلل
حبذا أنت من محبّبة ... لقلوب الرائين والمقل
ليت كف الهجران قد رقيت ... منك بعد الصدوه بالشلل
ما عهدناك تعرضين قلى ... لحت يا شمس ربة البخل
لا نطيق البعاد فاقتربي ... من كثيب يهواك أو طلل
كيف يرضى الفؤاد منك نوى ... عنه والهجر غير محتمل
إن ترومي عن أرضنابدلاً ... لم نرم نحن عنك من بدل
للسماء بكاء من حزن ... إن تغيبي والشيب للجبل
تتعرى الغصون نادبة ... ويبات النبات في وجن
وتمور البحور لاطمة ... ما تعالى من شامخ القلل
أشرقي يا ذكاء لا تدعي ... عامل اليأس منك ذا عمل
قد صبونا إليك لا قتلت ... ملة الصابئين في الملل
ما ترين القلوب تخفق من ... حسرات الأصطبار يلي
ما ترين الأطيار صامتة ... عن بديع التغريد في شغل
مذ تناءيت عن مرابعنا ... حلها البؤس غير مرتحل(95/67)
يا حياة النفوس لا تذري ... عالم الأرض ضيق الأجل
ما بدا نورك البهيج به ... فهو في مأمن من العلل
ما لحبل الصدود متصلاً ... بعد أن كان غير متصل
وحجاب السحاب منسدلا ... ًبعد أن كان غير منسدل
إبسمي يا ذكاء واطرحي ... بعض هذا الملام والعذل
حنت النفس للربيع هوى ... وانتشاق النسيم ذي البلل
وصغير العصفور منطلقا ... ًوثغاء الخروف والحمل
وأرى القلب للرياض صبا ... ونشيد النسيب والغزل
بك يا شمس ذال كل شجى ... وتولى الأسى على عجل
دمشق -
خير الدين الزركلي(95/68)
الامتيازات الأجنبية
جرى هذا الشهر التصديق القطعي المتبادل على مقاولات ومعاهدات بين الدولة العثمانية ودولة ألمانيا تتعلق بالقناصل وحق إقامة تبعة كل من الدولتين في مملكة الأخرى على شروط متساوية وحقوق متقابلة على نحو ما يجري بين دولتين مستقلتين من دول أوروبا العظمى. وكانت لرعايا الدول الغربية في البلاد العثمانية موقع خاص أمام القانون والمحاكم ولم تكن الامتيازات الأجنبية بمقتضى حقوق الدول المحصورة بالسفراء والموظفين السياسيين المرتبطين بهم بل كانت شاملة للقناصل أيضاً أما امتيازات الأجانب في الحقوق والاقتصاد فكان من شأنه إماتة الحياة الصناعية والزراعية في المملكة فلم تكد تقدر الحكومة أن تنظم تعرفة للمكوس ولا تعقد معاهدة تجارية كما تشاء لعهود كانت مربوطة بها ولم يكن في وسعها وضع انحصار لمستهلكاتها الداخلية فكانت نفقاتها الزائدة عن دخلها تسدد بالقروض الخارجية حتى قدر ما عليها من الدين بزهاء مائتي مليون ليرة. معنى الامتيازات الأجنبية في السلطنة العثمانية إعطاء الحق لرعايا الأمم المسيحية أن لا يحاكموا أمام محاكم المملكة بل أمام محاكم قناصلهم وكانت هذه الامتيازات سبباً من أسباب نجاح التجارة الغربية وضعف التجارة العثمانية ويلحق بالتجارة الصناعة والزراعة بالطبع. فكانت الدولة مغلولة اليدين عن الانطلاق في مصالحها الخاصة غير حرة في تقرير كماركها ولا في ترويج صناعتها تجارتها ولا في منح امتيازاتها ولا في محاكمها وكنا مع الأجنبي كما قال شاعر مصر:
يقتلنا بلا قود ولا دية ولا رهب
ويمشي نحو رايته فتحميه من العطب
وبلغت الحال في مصر في الابتلاء بالامتيازات الأجنبية أعظم شدتها في العهد الأخير وامتياز الأجنبي في القطر المصري وهو من أجزاء السلطنة العثمانية يدور على أن كل القضايا المدنية والتجارية التي تقع بين الأوروبيين والوطنيين أو بين الأوروبيين المختلفي الجنسية (إن لم تكن من قبيل الأحوال الشخصية) وكل القضايا المتعلقة بالأراضي والأطيان بين الأوربيين والوطنيين أو بين الأوربيين المتفقين أو المختلفين في الجنسية تنظر في المحاكم لمختلطة وإن كل الدعاوي الجنائية التي تقام على الأوربيين تنظر في محاكمهم القنصلية بحسب قوانين بلادهم ما عدا دعاوي معينة جعل النظر والفصل فيها من(95/69)
اختصاص المحاكم المختلطة ولا يجوز الدخول إلى منزل أوروبي (وأميركي أيضاًَ) غلا بعد مصادقة قنصله على ذلك ما لم يكن الدخول إلى منزله ناتجاً عن قضية جنائية تختص المحاكم المختلطة بالنظر فيها ألا تضرب ضريبه على الأوربيين من الضرائب التي يجبي لمال منهم فيها رأساً كالأموال المقورة إلا بعد مصادقة جميع الدول على ذلك.
وهكذا كان يحكم في مصر في الحقيقة زهاء أربع عشرة دولة وكذلك في بلاد السلطنة وكان للصعلوك الغربي من الشأن ما تتضائل أمامه قيمة الشريف العثماني والمصري فالغربي في هذه البلاد ينجر وينتمي ويسرق ويشتط وقد يرتكب الجنايات وهو في حل من كل عقوبة ومن كل ضريبة مرعي الجانب محترم بين الخاصة والعامة يهدد بخادم قنصله فينال من العثمانيين والمصريين كل ما تطمح إليه نفسه ويدوس حقوق البلاد ويعق قانونها ويتمتع بخيراتها والغرم على أهلها فقط مع أن للغنم بالغرم في كل بلد أقامت للحقوق وزناً.
نشأت الامتيازات الأجنبية في هذا الشرق القريب قبيل قيام الدولة العلية العثمانية وكان اختلاط ملوك الطوائف من الأيوبيين والجراكسة المماليك كثيراً مع بعض مدن فرنجة أي فرنسا ووجمهوريات البنادقة والجنوبيين والبيزيين أي إيطاليا ولما جاءت الدولة العلية منحت بعض امتيازات للأوربيين تفضلاً منها فأعطت في أيام قوتها ما استعملته الدول يعد سلاحاً في وجه الدولة ورعاياها فنتج شر مسطير من عمل انبعث عن مرحمة وشفقة فبلغت لقحة مبالغها بكيل أجنبي في هذه السلطنة وما زال يشتد خناق الامتيازات على الحكومة حتى الغتها أوائل هذه الحرب وكان من أحسن ما وقفت إلى عمله من الأعمال النافعة وهذه الحقبة من الزمن.
ويقال على الجملة إن هذه الامتيازات الأجنبية بدأت في القرن الثاني عشر للميلاد فمنح أهل مرسيليا حق التحاكم أمام قضاة خصوصيين وأن يكون لهم في معظم مدن الشرق شارع خاص وكنيسة وفرن ونالت بعض المدن الإيطالية بعض الامتيازات في بعض الأقطار الإسلامية ولكن فرنسا سبقت في هذا الشأن فلم تنل امتيازات بسبب رعاياها فقط بل باسم الشعوب المسيحية ولما نالت فرنسا الامتيازات على عهد السلطان سليمان سنة 943 اشترط مثل تلك الامتيازات لدولة الإنكليز ومنها ابتدأت العلائق وفي عهد السلطان مراد الثالث سنة 985هـ نالت الملكة ايزاببيلا امتيازاً خاصاً بتجار بلادها وهي أن تحمل(95/70)
سفنها العلم الإنكليزي وبه تدخل بلاد الدولة وكان يحظر عليها ذلك من قبل بل كانت السفن على اختلاف جنسياتها ما عدا سفن البندقية لا تدخل المواني العثمانية إلا إذا كانت تحمل العلم الفرنساوي كما قضت بذلك العهود المبرمة مع السلطان سليمان ابن السلطان سليم الثاني وتجددت في أوائل حكم السلطان مراد الثالث.
فالمعاهدة التي عقدت بين السلطان سليمان القانوني وفرنسوا الأول ملك فرنسا سنة 1539 وهي معاهدة صلح وتحالف كانت نموذجاً وأساساً لكل ما عقد بعدها من المعاهدات ومن سنة 1535 إلى 1740 جددت الامتيازات الفرنسوية في المملكة العثمانية اثنتي عشر مرة بدون إدخال تعديل كبير عليها وكان من الشر في ذلك أن أصبح رعايا الأجانب في المسائل المدنية والحقوقية يتقاضون أمام المحاكم القنصلية بل تقضي هذه بينهم في مسائل الجنايات أيضاً.
ولما حمل نابليون الأول حملته المشهورة على مصر (1798 - 1800) احتلت الصلات بين الدولة العثمانية وإمبراطورية فرنسا ولكن عادت الحكومة العثمانية فاعترفت بالامتيازات الأجنبية وصدقت عليها في معاهدتي 1802 - 1838 وبعد حرب القريم أرادت الدولة العلية أن تتحرر من رق هذه الامتيازات فنظرت فيها وعينت الصلات التجارية فيها وعقد الباب العالي في سنتي 1861 - 63 معاهدات تجارية جديدة مع فرنسا وبريطانيا العظمى وايطاليا وروسيا والنمسا والولايات المتحدة وبروسيا والاتحاد الجمركي الألماني وكلها تؤيد حق الأجانب في السلطنة وتحميهم.
إن المعاهدة التي عقدها فيلنوب سفير لويز الخامس عشر ملك فرنسا لدى السلطان محمود الأول سنة 1740 وما زالت مرعية حتى العهد الأخير وقد أيدت كما قلنا الامتيازات الممنوحة في العهود السابقة وأحدثت امتيازات أخرى فأعفت الفرنسيس من كل ضريبة وأصبحت تجارة القطن حرة ونالوا حق الصيد في بحار السلطنة وأصبح من حق سفرائهم أن يختاروا تراجمهم وكتابهم وقواصتهم ويتقدم سفراء فرنسا بحسب العادات القديمة في الأوقات الرسمية على سفراء أسبانيا وغيرها من الدول والأجانب الذين ليس لهم سفير يمثل دولتهم لدى الباب العالي يحق لهم الاتجار إذا جعلوا شعارهم شعار إمبراطور فرنسا وخفضت الرسوم الجمركية إلى 3 في المئة للفرنساويين ويحق للأجانب الذين يحملون العلم(95/71)
الفرنساوي أن يدفعوا مثل هذا القدر عن بضائعهم أي كالفرنسيس وقضت المادة السبعون من قانون الامتيازات الأجنبية أن تصان منازل الفرنساويين وأن يكونوا أحراراً في إقامة شعائر أديانهم.
هذا ما جاء في المصادر الإفرنجية ويقول مؤرخو الترك إن الدولة العلية لقد اتخذت لها سياسة خارجية للمرة الأولى على عهد السلطان سليمان القانوني وقد وقع السعي للاستفادة ما أمكن من تحسين العلائق بين العثمانية وفرنسا والبندقية وبولونيا وبالغت البندقية في استمالة قلوب رجال الدولة إذ ذاك وسعت إلى عقد معاهدة تجارية مع الحكومة العثمانية فاستنكف رجال حكومتنا بادي الرأي من إطلاق اسم معاهدة على العهد الذي وقع عليه بين الطرفين مدعين أن المعاهدة تعقد في العادة بين دولتين متساويتين وحكومة البندقية فضلاً عن كونها غير مساوية للدولة العلية في القدر هي تريد الاحتماء بها فبذلت لها هذه العناية وترجموا لفظة العناية بكلمة كابيتولاسيون ومعنى هذه اللفظة تطلق على كل قلعة عجزت عن المقاومة لشدة الضيق عليها وأذعنت للتسليم فانتهى ذلك على مرور الزمان بسائق غفلتنا إلى خروج الشيء عما وضع وكان من اثر ما ارتكب من التزويرات منح الحقوق المدنية لرعايا الأجانب وإدخال هذا التعامل في جملة الدساتير الجاري العمل بها بين الدول.
وكانت صلاتنا مع فرنسا على صورة أهم فكان يعتبر ملك فرنسا من جملة الملوك العظام مثل شارلكان ولم يكن لملك ولا لقيصر موسكو هذه المرتبة واعتبر ملك فرنسا بأنه محالف للدولة العلية للخلاص من أسرة هابسبورغ النمساوية فظاهرته الحكومة العثمانية ولما سقط فرانسوا ملك فرنسا في يد شارلكن سعت الدولة العلية في إنقاذه كثيراً فالتجأت والدته إلى ملك الملوك سلطان العثمانيين فبفضلنا استفادت فرنسا كثيراً ولولانا كانت طعمة للنمسا مما انتهى بأن تعرف فرنسا بعد ذلك بأنها حامية المسيحيين في الشرق وكتبت المعاهدة بين الدولة العلية وفرنسا على مثال المعاهدة التي كتبت من قبل الدولة وجمهورية البندقية ولكن منحت فرنسا امتيازات أخرى فالمعاهدة التي كتبت مع البندقية كتمت هذه أمرها ولم تنشرها أما التي عقدت مع فرنسا فقد نشرتها هذه فصارت دستوراً للعمل في المعاهدات التي عقدت مع الدول الأخرى بعد ذلك (942).(95/72)
وكانت الدولة تعتبر حكومات أسبانيا والبورتغال وجنوى داخلة مثل النمسا في منطقة نفوذ الإمبراطور شارلكان فلم تكن تعير التفاتاً يذكر وكانت تنظر إلى حكومة فلورنسا بعين الحب والولاء ولم تكن لنا إلى ذاك العهد صلات مع السويد وإنكلترا وفي تلك الأثناء جاء سفير العجم وعقدت صلات مع حكومة إيران وجاء سفيرها إلى الاستانة وكان كل سفير يرد على الأستانة يقدم هدايا جميلة من نفائس وأعلاق وذهب وأحجار كريمة إلى سلطان العثمانيين وكبار رجال سلطنته وظلت هذه العادة تضعف فبدأ بها سفير العجم فقدم عشر ما كان يقدمه أسلافه ثم أتم ذلك سفير فرنسا حتى بطلت العادة.(95/73)
جمهرة المغنين
أو شرح قصيدة السيد عبد الرحمن ابن النقيب المعروف بابن حمزة التي يذكر فيها المغنين والندماء في الدولتين الأموية والعباسية
لا مرية بأن الغناء راحة الروح وترجمان العواطف ومسرة الشعور ومثير الاحساسات ترتاح إليه النفوس على السراء والضراء وحين اليأس وينفث الإنسان به ما أكنه صدره في كمين التأثرات وجن في حنايا ضلوعه من خفي السرائر مما لا يدركه الوهم ولا يتوهمه الإدراك فما يكاد يطرق سمع السامع حتى يفعل به فعل الكهرباءة بالأجسام فكم من جبان عاد بتأثيره شجاعاً وبخيل أصبح جواداً أو عزهاة أمسى وامقاً فأي ناسك يسمع العاشق يناجي محبوبته مغنياً ومستفهماً
هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني
ولا ينقلب أكثر صبابة من جميل بثينة بل وأي غريب يسمع الشاعر اليماني وهو يجود بنفسه نازحاً عن بلده يطرب بقوله:
ولما تراءت عند مروٍ منيتي ... وخل بها جسمي وحمت وفاتيا
أقول لأصحابي أرفعوني لأنني ... يقر بعيني أن سهيل بداليا
ولا ينقطع نياب قلبه حنيناً لوطنه.
ولم يستبد بالغناء قوم دون قوم بل ولا الإنسان دون الحيوان فما تغريد الطائر عند انصداع الفجر على غصن يأوده نسيم سج في روضة أنف بل وما بغام الظباء عندما تودع الشمس الأفق تاركة بوجناته أرجوانية من القبلات في فلاة لا يدرك الطرف أخرها الاغناء تعرب عما تتأثر به وكم من صادح رفرف على رأسه مغن
والطير قد يسوقه للموت ... اصفاؤه إلى حنين الصوت
ووحش أنس بصوت حسن وأشباه ذلك كثير فيما سنذكره في لمعة عن تاريخ الغناء والمغنين. ولقد اطلعت على قصيدة فريدة في بابها للسيد عبد الرحمن النقيب المعروف بابن حمزة يذكر فيها المغنين والندماء ومجالسهم عند خلفاء الدولتين واحداً بعد واحد إلى زمن الراضي ثم ذكر البرامكة وآل حمدان وابن العميد والصاحب ابن عباد ثم شفع ذلك بذكر الأماكن التي لها مناسبة ومساس بالموضوع كغوطة دمشق وشعب يوان وصغد سمرقند والأبلة ثم أورد طرفاً من مدينة العباسيين وعاداتهم في سكنهم ومعاشهم وختمها بتوديع كل(95/74)
ذلك بالسقيا لهم ولأيامهم شأن كل من اطلع على يسير من تاريخهم. فداخلني إذ ذاك من السرور ما الله به عليم لأنها طبقات رجال أكل الدهر على أخبارهم وشرب حتى أصبحوا نسياً منسياً لكنها لا تقف بالقارئ على أكثر من تعداد أسماء لا يعرف من حالها شيئاً (أعني المغنين) فرأيت إن أشرحها شرحاً يفسر من محاسنها ويكشف النقاب عن فضارتها بعد أن فاتحت بذلك أحد أركان العلم والأدب فما كان منه إلا أن نفث في روعي روحاً أججت فاتر الهمة فعند ذلك مضيت في العمل فما زلت التقت من كل كتاب نادرة وطومار نكتة شاردة أضم بعضها إلى بعض وأقرب المسافات بينها بالمناسبات (لتفرق ذلك في مبعثرات الكتب وعدم تدوينه في كتاب على حدة فيما وصلنا من الأسفار قليل ما هي) حتى أقمعته وأنا على ثقة من أني لم أبلغه درجة الكمال لكان جهد المقل وغاية المملق وتتميماً للفائدة صدرته بلمعة ذكرت فيها (تاريخ الغناء، وأول من دونه، وتأثيره، وآلاته، ومن دونت له صنعة فيه من الخلفاء وأولادهم، احتج به في جوازه، وتاريخ المغنين، ومنزلتهم، وترجمة صاحب القصيدة) وترجمة الشرح (بجمهرة المغنين).
لمعة في تاريخ الغناء والمغنين
تاريخ الغناء
الغناء قديم وجد مع النفس فهو تربها الذي تأنس به وصاحبها الحميم تفزع إليه وقت الشدائد وتستعين به على تنمية ما تميل إليه من حزن أو سرور ولم يكن الغناء في فابر العصور على ما نعهده اليوم من ضبط القواعد والروابط بل كان بسيطاً ساذجاً وأول من جعل له قواعد وضوابط على ما قيل بطليموس وكان أول من غنى في العرب لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما
ألا يا قيين ويحك قم وهينم ... لعل الله يصبحنا غماما
وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم ساذجاً كتغني الحداة في حداء إبلهم والفتيان بالقمر والنجم والفلاة والخيل. وقد ورد ذكر الغناء في شعرهم قال طرفة ابن العبد:
إذا نحنا قلنا اسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطلوقة لم تشدد
أي لم تتكلف وهذا هو الغناء الساذج وكانوا يطلقون على الترنم بالشعر اسم غناء وإن كان بالتهليل أو القراءة سموه تغيراً لأنه يذكر بالغابر ولم يزالوا على طريقتهم هذه بالغناء إلى(95/75)
أن جاء الإسلام ودوخوا الأقطار واستولوا على الممالك فكانوا إذ ذاك لا يطريون إلا بالقراءة والشعر الحماسي لتمكن الدين منهم ولأنهم في دور تأسيس وفتوح فلما استتب لهم الأمر غلب عليهم الرفه والترف بما حصلوا عليه من غنائم الأمم فمالوا إلى الدعة والسعة في العيش ورقت طبائعهم ولانت جوانبهم وتفرق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي لهم وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر مولى عبد الله بن جعفر فلحنوا شعر العرب وأجادوا فيه وطويس أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق وعنه أخذ ابن سريج والدلال ونؤمة الضحى وكان يكنى أبا عبد المنعم وأول صوت غنى به في الإسلام:
وقد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب
وما زالت صنعة الغناء تتدرج في مدارج الارتقاء إلى أن بلغت الغاية القصوى أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي الموصلي وابنه اسحق وابنه حماد وكانت الدولة يوم إذ في عنفوان شبابها وكانت العرب اشتغلت في نقل العلوم وكان من جملتها كتب الموسيقى لليونان والهند فتناولوها ودرسوها وأصبحت الموسيقى عندهم علماً ذا أصول وألفوا فيها التأليف دع ما استنبطوه من الألحان واخترعوه من الآلات وأمعنوا في القصف واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها لميه وجعل صنفاً واحداً واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج وهي تماثيل خير سرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل ويكررن ويفررن ويثاقفن وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتقل فن الغناء إلى المغرب بواسطة زرياب غلام الموصلبين فإنه لحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن
الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز وجعله من خواص ندمائه فأورث بالأندلس من صنعة للغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمامتها بإشبيلية بحر زاخر وعقدت للغناء المجالس وماأدراك تلك المجالس قباب من بلور يتحدر الماء من أطرافها ومن حول القوم الحور وبينهم فتانة العينين مهضومة الحشا تنحني على ابن الطرب فتغنيه مشفقة.(95/76)
(جادك الغيث إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل في الأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس)
وتناقل منها بعد ذهاب عضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقيا والمغرب وانقسم على أمصارها: ولم يزل الغناء يتكيف بمجريات الدولة العباسية صعوداً وهبوطاً حتى جرت عليها جوار السعد والنحس فتارة تعتورها دواعي الانحلال وأخرى تصادمها هوادي الاضمحلال وهي تتماسك تماسك الريحانة في مهاب الرياح إلى أن قضى عليها القضاء المبرم فقضى معها الغناء كما قضت فنون الأدب وكثير من العلوم فلبثت علوم الأدب ومعها الغناء في طي الخفاء ماشاء الله أن تلبث فكان الغناء يعد في تلك الفترة لغواً وينظر للمغني بالنظر الذي لا يرضاه الأدب إلى أن بعث الله تعالى في هذه العصور الأخيرة في مصر والشام والعراق من نهض بالأدب من كبوته وبالغناء من القطرين الأولين من عثرته ولكن لم يزل الغناء حتى الآن في دور طفولتيه لم يبلغ الحلم كأخيه الشعر وسائر فنون الأدب التي قطعت شوطاً بعيداً.
أول من دون الغناء
اتفق الجمهور على أن واضع هذا الفن أولا فيثاغورس فإنه صنع آلة وشد عليها ابريسماً ووضع قواعد هذا العلم وأضاف بعده الحكماء مخترعاتهم إلى ماوضعه إلى أن انتهت التوبة إلى أرسطاطليس فتفكر فوضع الأرغنون وكان غرضهم من استخراج قواعد هذا الفن تأسيس الأرواح والنفوس الناطقة إلى عالم القدس لا مجرد اللهو والطرب. أما عند العرب فإن أول من ألف في هذا الفن يونس بن سليمان الكاتب الذي أخذ الغناء من معبد وتبعه كثيرون كالخليل ابن أحمد فإنه ألف كتاباً في الموسيقى زم فيه أصناف النغم وحصر به أنواع اللحون وحدد ذلك كله ولخصه وذكر مبالغ أقسامه ونهايات أعداده. وكيحو بن أبي منصور الموصلي فإنه ألف كتاباً في الأغاني وآخر في العود والملاهي وابراهيم بن المهدي ألف كتاباً سماه كتاب الغناء واسحق بن ابراهيم الموصلي ألف كتباً كثيرة في الغناء والمغنين. وبذل المغنية ألفت كتاباً في الأغاني يشتمل على أثني عشر صوت ويحي بن مرزوق المكي ألف متاباً يشتمل أيضاً على أثني عشر ألف صوت إهداء إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر فوصله بثلاثين ألف درهم وشاع هذا الكتاب وصححه الموصلي وعبد الله(95/77)
ابن عبد الله بن طاهر ألف كتاباً دعاه (الآداب الرفيعة) في النغم وعلل الأغاني.
وأمير المؤمنين عبد الله بن المعتز ألف كتاباً سماه (الجامع في الغناء) وغير هؤلاء كثيرون ولم يصلنا من هذه الكتب غير كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وهو من أجل كتب هذا الفن إن لم يكن أجلها. (دمشق) // خليل مردم بك(95/78)
الشيخ عبد الرزاق البيطار
فقدت دمشق في 10 ربيع الأول سنة 1335 هذا العالم المنوّر والأديب المشارك عن 82 عاماً (ولد سنة 1253هـ) فعز نعيه على كل من عرف فضله الواسع وأدبه الغض ومجالسه المفيدة ودروسه الممتعة.
حفظ القرآن وجوّده في صباه وتمهر في علومه وأخذ بحظ وافر من الحديث والفقه والتصرف وكانت له يد في التاريخ والأدب والفلك والموسيقى وخلص في آخر أمره من قيود التقييد فكان يتكلم كلام من فهم أسرار الشريعة وتعلق بالكتاب والسنة صحيحة ولذلك لم يخل من حساد ومنافسين استعانوا بالسلطة الزمنية ليحطوا من قدره عند العامة.
كانت مجالس الأستاذ الخاصة كمجالسه العامة مملوءة بالفوائد العلمية والأدبية إذا جد اشرأبت إليه الأعناق والأفكار وإذا مزح ارتاحت لمباسطته الأرواح والقلوب فكان جعبة أدب وظرف ظرف ما غشي مجلسه أحد إلا وتمنى لو امتد أمد الاجتماع به والاستفادة من مروياته ومحفوظاته والتسلي بوثائقه ونوادره. طبع بطابع الرقة وحسن العشرة وأوتي الضرب على العرق الحساس في الناس.
نظم الشعر ومنه بعض المقاطيع والموشحات المشهورة المتداولة ونظمه أرقى من نظم الفقهاء. ودون شعر المغلقين من الشعراء وكتابته على طريقة السجع القديمة وقل أن انفك من أسره كما انفك من أسر التقليد الأعمى لبعض المتقدمين.
وكانت في فن الموسيقى العربية مرجعا يعتمد عليه تخرج به أناس في هذه الحاضرة وساعده على ذلك عذوبة صوته وعذوبة حديثة فجمع إلى العلم بهذا الفن الجليل عملاً حتى كانت له في صباه وكهولته مجالس خاصة في الإنشاد والغناء المستجاد يحسده عليها كل من رزق ذوقاً سليماً وهي في غير ما محرم عقلاً وديناً وعرفاً بل يقصد منها راحة القلب من هموم الحياة وإلقاء النشاط في النفس لتقوى على العمل والانكماش وتدب فيها روح الشجاعة ورقة العاطفة وتلقن حب الوطن والملة.
فإذا كان فقيدنا توغل في كتب السنة وأمعن النظر فيما قاله ابن تيمية وابن قيم الجوزية والشوكاني وحسن صديق خان فلم يفته تلحين شعر ابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وأبي الطيب وإن دعا إلة العلم الإسلامي الصحيح فما قصر في النسيب والتشبيب وما يطرب به الأديب. وإذا رتل الكتاب ترتيلا في محرابه وصومعته فما سلب من النفس(95/79)
حظها في خلوته وجلوته فهو متنسك متعبد وطروب مغرد مولع بتداول الأفكار وتسقط الأخبار ولوعه بتجويد الألحان وتوقيع الأوتار جمع بين زاد الآخرة ومقومات الحياة في الدنيا فذهب شيخاً معمراً شبع من دنياه وعمل لأخراه بما علمه مولاه.
لم يشبه عصر الشيخ الأول هذا العصر في وفرة أنواره وسعة محيطه وظهور الحقائق فيه جلية فجاء منه في أول أمره رجل يقرب من الحشوية المظلمة عقولهم اللهم إلا في ذكائه وتحصيله فلما انتشرت كتب الأئمة رجع عن كثير مما كان يقول به في الأربعين والخمسين من عمره شأن العالم العاقل. ولقد كان يقول لصديقه فقيد العلم الشيخ جمال الدين القاسمي ياجمال أحمد الله على أن انتبهت وأنت في سعة من عمرك ولحيتك سوداء فتتمكن من الاستمتاع بعقلك ويتسع لك الوقت لنشر آثار فضلك أما أنا فلم يعد لي وقت طويل في الحياة وهاقد ابيضت لحيتي وشاب قذالي فانتبهت لأشياء كنت من القائلين بها وقد كبرت سني ووهن العظم مني فالآمال فيك وبأمثالك من الشببة والكهول محصورة.
للفقيد عشر رسائل وكتب منها في الموضوعات الدينية والصوفية ومنها في الأبحاث التاريخية الأدبية وأهمها كتاب حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر وهو في نحو 1500 صفحة وقد تكلمنا عليه في مكان آخر من هذا الجزء والمؤلف على ما ظهر لنا من صداقتنا معه أعظم في اجتماعاته منه في كتبه لأن معظمها قد كتبه بسرعة قبل أن يفتح عليه فيما اشتهر عنه في آخر عمره وكم من عالم رزق الحظ فيما يكتب ولم يرزقه فيما يخطب وبالعكس ورب شاعر لا ينثر وناثر لا ينظم.
نُكب المرحوم بفقد ولديه الوحيدين في آخر حياته فزهده ذلك في العالم وزحزحه عن التأليف والتدريس وعزفت نفسه عن عزف المعازف والاستزادة من أسباب المعارف وشغل أجزل الله توابه بأمر مبكياته عن مفرحاته ومنشطاته.
والعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما محت أواخره(95/80)
أخبار وأفكار
النزهة والألعاب 1
في المثل الإنكليزي أن الشاب الذي لايميل إلى النزهة والألعاب هو أحمق لايعرف قدر الحياة وفي الحقيقة أن السعي للتواصل الذي لايتخلله طرب وأنس يورث الأجسام والعقول أمراضاً كثيرة حيث يصاب المرء في عنفوان شبابه بالضعف والنحول ويخطئ المعتقدون أن في الألعاب ذهاب الوقت عبثاً فقد ثبت بالتجارب نفعها الجزيل ولها خطورة عظيمة في تقوية الجنس البشري فالألعاب تزيد الأجسام قوة ونشاطاً وتساعد على نمو الصدر والأكتاف بنوع خاص.
لا تقتصر فائدة الألعاب الرياضية على صيانة الجسد من الأسقام بل هي تولد في الشاب الجرأة الأدبية في أعماله وتعلمه أن لايكون ضعيفاً عبداً لمطامعه وغاياته ضعيف الإرادة خائر العزم ومنهمكاً بما لافائدة فيه من الشؤون فهي حينئذٍ كما تفيد الوجود الإنساني كذلك أيضاً تزيد الأخلاق الفاضلة رسوخاً في النفوس والطبائع. فالجرأة ومقاومة الأتعاب والسيطرة على أهواء النفس والاعتدال ثمرة من ثمار الرياضة الجسدية وليس من المبالغة ماقيل: أن انتصار الدوق ولنكتون في معركة واترلو هو من آثار مواظبة على الألعاب البدنية في ميدان ايترن
أفضل الدروس وأنفعها لأطفالنا وتلامذة مدارسنا هي الدروس التي يتلقونها وهم يلعبون على شرط أن لايكون اللعب كعمل يجب القيام به بل كنزهة أو فكاهة يتلذذ التلامذة بها لما فائدتها من الوجهة الصحية فنستشهد عليها بأقوال السير جايمس باسث هو من الأخصائيين المبرزين في علم حفظ الصحة قال: للألعاب تأثير كبير في الأخلاق فهي شاملة لمشاغلنا ومعاملاتنا اليومية التي تظهر من مقاييس أخلاقنا لأن الألعاب تجمع طبقات مختلفة من الناس للسعي وإشراك العمل لغاية واحدة وهي وإن لم تولد في الإنسان رعاية الحقوق واحترام الغير بسائق الطبيعة ولكنها تغرسها فيه بسائق الاعتياد فمهما تكن منزلة المنفعة عالية في ميادين السباق فهي دون منزلة الواجب لأن كل أحد يعرف أن اهتضام الحقوق أمر يجلب العار والشنار فالذين لا يتلاعبون بحقوق زملائهم في ميادين اللعب يكونون دائماً موضع التكريم والإجلال.(95/81)
قال الأستاذ ميخائيل فوستير في خطاب ألقاه: أن منشأ الأتعاب في الأعمال العضلية هو الدماغ وكل يعلم أن هناك أتعاباً منبعثة عن العضلات وهذا ما يبرهن أن الأشغال العقلية هي كالأعمال مترافقة بتبدلات كيموية تحدث في الدماغ والعضلات على طراز واحد إلا ماندر. وكما أن الجسم مفتقر إلى جريان دم غير مشوب لتجديد قوته بعد انقاذه من المواد السمية التي تجمعها الحركة فكذلك الدماغ محتاج أيضاً إلى هذا الجريان الدائم.
كانوا قديماً يطلقون لفظة سبور على عامة الألعاب ويجعلونها شاملة لجميع أنواء. وأخيراً أصبحت مقصورة على السباحة في البحر والركض والقفز في البر وللإنكليز عناية خاصة بهذه الألعاب وهم أساتذة الشعوب الأوربية في هذا العلم فنبغ عندهم مشاهير المصارعين واللاعبين بطرائق مختلفة وقد قال أحدهم أن الرياضة البدنية ليست حادثة فينا بل انتقلت بطريق الإرث إلينا من أجدادنا القدماء.
يبحث العلماء كثيراً في مسألة افتقار العنصر الإنساني إلى مياه نميرة في حين أن البشر مدينون للهواء أكثر من الماء فهو النوع الرقيق الذي ينفذ في جميع أطراف أجسامنا فتغسل بمادة لطيفة لا نشعر بها أبداً ومع هذا فهي قوية جداً تسير ببواخرنا في البحار وتنقل من الجبال الشاهقة إلى مدننا ألطف الروائح وأطيبها وتسمعنا أصوات أحبابنا وأنغام الطبيعة المطربة وماعدا ماتقدم نجد الهواء كنزاً ثميناً للأمطار التي تبتسم لها الأزهار والأشجار فإن الهواء يعدل حرارة النهار وبرودة أنواره في سماء الصباح والمساء فهو بلطافته وفائدته من أرق أنواع آرييل (1) اللطيفة وأجملها البحث كثيرة من الهواء الرديء على أن الحقيقة تقول بصوتها العالي أن ليس هناك هواء جدير بهذا الوصف القاسي فإن جميع النسمات لطيفة نافعة إلا أنها بأثواب مختلفة ولا جدال أن في بعض الأهوية مضاراً كبيرة للزراعة والحصاد إلا أن جميع أنواعها مفيدة للإنسان وقد قال الفيلسوف روسكين الهواء الفاسد غير موجود ولكن هناك أنواع مختلفة من النسائم المفيدة.
ليس في الراحة والنزهة شيء من الكسل والبطالة فإن الجلوس تحت أغصان الأشجار الباسقة وفي الفنادق الشاهقة وسماع أغاريد الأطيار والأزهار والتمتع بمشاهدة انسياب الأنهار والنظر إلى السحب البيضاء المتكاثفة في كبد السماء لا يقال فيه جميعه ضياع للوقت الثمين. فالهواء الطلق هو نافع المفكر كنفعه للبدن وأن الأرض والسماء والجبال(95/82)
والحقول والمروج والغابات والأنهار والبحار أحسن مدرسة للإنسان يتعلم فيها من شؤون الحياة وانقلابات الكون مالم يتعلمه في الكتب والمدارس.
والغني الذي يغتنم الفرصة من أوقاته لإجراء سياحة في البحر بقاربه أو لاقتطاف الأزهار المنعشة وصعود الجبال والسباحة في الأنهار يكون قلبه على الأغلب طافحاً بالسرور مع ارتقاء في صحته لأن مشاهدة الطبيعة أحسن غذاء وأجمل شراب ينعش القلوب والأفكار لاشبهة أن حصر الأوقات بالألعاب هو حياة لا لذة فيها فيجب على الإنسان أن لايضيع الطرب والأنس موضع أعماله الحياتية فيهمل بيته وحرفته وينبذ المطالعة ومزاولة العلوم والفنون ويميل بكليته إلى الألعاب بل يسير بنفسه في جادة الاعتدال والاستقامة فينال مستقبلاً زاهراً ونجاحاً باهراً. ومن الفكاهات والمسرات ما هي كاذبة وصادقة وقد سألوا سقراط الحكيم عن المسرات الصادقة فأجاب: هي النظر إلى الألوان الجميلة والمناظر البديعة وتشنيف الإسماع بالأصوات والألحان المطربة فإن ذلك يولد في النفس شعوراً رقيقاً.
تختلف اللذائذ من بعض الوجوه ولكنها متفقة في حب البدائع والافتتان بالجمال غير أن الأستاذ فيليب يقول أن مايسر ذوي الأرواح هو الفرح والذوق والفكاهة أما أنا فلا أرى أيهم بل اعتقد أن العقل والذكاء والحافظة والرأي السديد هو أحسن للإنسان في حاله ومستقبله من جميع اللذائذ التي يميل إليها والأذواق الحقيقية لا تنحصر أبداً فالعائلة والأصدقاء والمعاشرة والكتب والموسيقى والشعر والصنائع والألعاب والراحة وجميع ألواح الطبيعة كالصيف والشتاء والصباح والمساء والليل والنهار والحرارة والبرودة والشمس والزوابع والمزارع والغابات والأنهار والبحيرات والبحار والحيوانات والنباتات والأشجار والأزهار والأوراق والأثمار لاتؤلف إلا جزءاً صغيراً من هاتيك اللذائذ إذا لم تكن حياتنا سعيدة فنحن المسؤولون أمام أنفسنا فنيل السعادة قائم بإرادتنا وعزمنا غير متوقف على أسباب خارجية كما يزعم ضعفاء العقول فالسعادة والشقاء والفقر والغنى والصحة والمرض أثر من آثار إرادة الإنسان فإن جهله يورث الكون خساراً أعظم من خسائر الزوابع والزلازل والحوادث الجوية. إن الغني القوي الإرادة يستطيع أن يكون سعيداً وغنياً صحيح البنية عالي المقام بين أبناء جنسه.(95/83)
قال جونسون في وصف إحدى المحاضرات أن ماتكلمنا به في هذا المساء جميل جداً فالمكالمة مع داروين ولايل وكنفسلي وروسكين وتيندال هي مفيدة لعقولنا كإفادة استنشاق النسيم لأجسامنا ومن هذا يظهر فضل الرياضة البدنية وانتجاع الهواء الجيد. وكما يجب على الإنسان أن يتعهد عقله بالعلوم والفنون ويقوي بدنه بالرياضة كذلك يجب عليه أن يكون طلق اللسان نصيحاً فقد رأينا كثيراً من مشاهير العلماء والباحثين لا يمكن الانتفاع من معارفهم إلا بصعوبة لأنهم لم يكونوا طليقي الألسنة والفصيح يكون جليلاً رفيع المقام بأعين الأمة. والفصاحة كغيرها لاتنال إلا بالمواظبة والمثابرة على مطالعة كتب المشاهير من البلغاء والفصحاء وقد قال رتامبل: أول واسطة للنطق بالكلام الخلاب الذي تميل إليه النفس هو الافتكار في الحقيقة وثانيها حسن الإدراك وثالثها الفرح ورابعها الذكاء والاستعداد وفي وسع كل أحد أن يقوم على الأقل بالوسائط الثلاث الأولى.
إن كثيراً من النابغين قد برعوا في العلوم بطريق المناظرة والمسامرة ويقول الفيلسوف باكون إن الذين يسألون كثيراً يعرفون كثيراً وتكون معارفهم مبنية على أسس عملية وتراجم المبرزين في الفنون من رجال الاختراع والاكتشاف تبرهن لنا على أن أكثرهم لم يتخرجوا من المدارس بل درسوا في مدرسة الكون وكان لهم من صحة أجسامهم ما ساعدهم على مثابرة أعمالهم ومزاولة شؤونهم وفي الحديث العقل السليم في الجسم السليم. // إبراهيم حلمي العمر
مطالعات
ألوان الكواكب
اللون الأبيض هو اللون العام في جميع الكواكب من سيار وثابت كالزهرة والشمس وبنات نعش: ومنها مايكون لونه أحمر مثل المريخ وبيت الجوزاء والدبران والسماك أو أصفر مثل المشتري والطير والجدي أو رصاصياً مثل زحل.
ألوان الأبحر
إن لون ماء البحر الرقيق أخضر والعميق أزرق وقد يكون أبيض كما في خليج غنينية وأصفر كالبحر الذي بين اليابان والصين وقرمزياً في نواحي كاليفورنيا وأسود مثل البحر(95/84)
المجاور لجزائر ملديفين وقد يكون بنفسجياً في الأبحر الأخرى.
ومن هذه الأسباب سميت الأبحر بأسماء الألوان مثل البحر الأبيض والأحمر والأسود وينسب اختلاف ألوان البحار إلى كثرة النقاعيات وقلتها ونحو ذلك مما هو علة فسفورية البحر.
معاني أسماء بعض الدول المتحاربة
(الجرمان) بمعنى الجيران سماهم به الغاليون القدماء لمجاوريهم منهم ثم عمّ على جميع هذا الجنس.
(النمسويون) اسم روسي أطلقه الروس على الجنس الجرماني والنمسوي الذي يرجع إلى أصل واحد وهو في لغتهم نيمتس) أي الحرس لأنهم رأوهم في أول الأمر يعبرون عن مقاصدهم بالإشارات.
(العثمانيون) نسبة إلى السلطان عثمان التركي مؤسس هذه الدولة العظيمة المؤيدة بنصر الله والترك نسبة إلى أحد زعمائهم المسمى (ترك) قديماً.
(البلغار) نسبة إلى نهر فولكا لأنهم كانوا في ضفافه فقيل فولكار ثم حرّفت بلغار (انكلترا) و (إيرلندة) و (اسكتلندة) بمعنى أرض الأنكلوسكسون وهم قدماء الإنكليز في الأولى. وأرض الإيريشيين في الثانية. وارض السكوتيين في الثالثة وأطلق عليهم جميعاً اسم (الإنكليز) تحريف الكلمة الأولى.
(الفرنسيون) نسبة إلى قبائل الفرنك أو الفرنج ويسمون الغاليين بمعنى الديوك.
(البلجيكيون) نسبة إلى قبائل بلجة التي عمرت تلك البلاد.
(الروسيون) تحريف (ردتس) أي أهل الشمال بلغتهم وأما (الموسكوب) نسبة إلى عاصمة بلادهم موسكو.
تحليل بعض المسميات العصرية
(الثرمومتر) من كلمتين يونانيتين (ثرموس) بمعنى حرارة و (مترون) بمعنى قياس فمجموعهما مقياس الحرارة (البارومتر) من لفظتين يونانيتين أيضاً (باروس) بمعنى ثقل و (مترون) بمعنى مقياس فالمعنى مقياس الثقل (أي ثقل الهواء) الأوكسجين يونانية عن(95/85)
(أوكس) بمعنى حامض و (جنو) مولِّد فالمعنى مولد الحامض. و (الهيدروجين) من (هيدرو) اليونانية بمعنى ماء و (جنو) مولد فمعناها مولد الماء والنيتروجين من نتروس) اليونانية بمعنى الهواء و (جنو) مولد فالمعنى مولد الهواء.
عيسى اسكندر المعلوف
الإنكليز والهند
نشرت جريدة عثمانيشر لويد فصلاً قالت فيه: لايبعد عن جادة الحق من يقول أن الهند في بداية القرن السابع عشر كانت بلاداً مجهولة عند الأوربيين وما كان اسمها يحل منهم محلاً ينفع في مصلحة شخصية أو وطنية وكان بعض علماء أوربا يعرفون عنها وعن عظمتها السالفة أموراً استقوها من الكتب وكثير من قصصها البديعة انتقلت إلى الشرق الأقرب فوصلت إلى أوربا وهذا كان جماع ما يعرف عنها فلم يكن الغربيون يذهبون إلى الهند بل ولا يفكرون فيها فكانت بمأمن من مطامع الغرب ولكن عندما أثبت أرباب الملاحة من البورتغاليين والهولانديين أن رأس العواصف أو رأس الرجاء الصالح يمكن اجتيازه بدون صعوبة في سفن كبرى أصبحت المسافة التي كانت تحمي بلاد الهند الجميلة من مطامع الأوربيين تقل سنة عن أخرى.
وجاء بعد البرتغاليين والهولنديين إلى شواطئالهند أناس من عناصر أخرى فالمتمسوا أن يسمح لهم بالمقام في الساحل وكان من جاؤوا على هذه الصورة في أوائل القرن السابع عشر جماعة من الإنكليز يحملون كتاباً من ملكهم جاك الأول يوصي بهم فيه أخاه إمبراطور دلهي جهانكير فأذن لهم صاحب الهند أن ينشبوا مكاتب تجارية في سورات وكامباي وأحمد آباد وفي سنة 613 أصدر توقيعه في تأييد ملكيتهم على هذا الوجه أسست الشركة الإنكليزية في الهند الشرقية التي استرسلت حتى أدعت بعد الحق الأعلى على الهند. مضى قرنان فقط على موافاة حفنة من تجار الإنكليز بلاد الهند خاشعين متوسلين إلى أمراء الهند السماح لهم بالتجارة مع شعوبهم واليوم يحكم الإنكليز الهند حكم السيد للسود وقد انحلت شركة الهند الشرقية ومنذ سنة 1858 أصبحت الهند تابعة لعرش انكلترا مباشرة ينوب فيها نائب الملك إذا كان الشكل الذي بدت فيه بريطانيا العظمى في حكمها بلاد الهند قد اختلف فالفكر واحد الإنكليز لم يقفوا فيها عند حد التجار بل أن السياسة التي اتبعوها في(95/86)
الهند مازالت سداها ولحمتها الربح والقانون الذي نوه لحكم تلك الديار التعسة هو قانون تجاري صرف فالهند في نظر حكومة بريطانيا مزرعة واسعة لا يقصد منها إلا استخراج أرباح أكثر وبحق ما دعيت الهند بأنها بقرة انكلترا الحلوب. ومن يعرف في إنكلترة تاريخ احتلال الإنكليز للهند يوقن بأن مااستمال قلوبهم كان الأمل في الاستئثار بغنيمة كبرى وعندما حكموا البلاد لم يغفلوا هذا المطلب بحال من الأحوال فإنكلترة مدينة في نجاحها المدهش لصلاتها مع الهند لأنها كانت منذ أواسط القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا المنبع الأصلي لغناها ولكن تحت طي الخفاء.
ومنذ دحيت الأرض لم يقع على مايظن عمل أنتج أرباحاً كثيرة كما ربحت انكلترا من استصغاء الهند وما اقتطفته من ثمراتها استطاعت به أن تكون لها المنزلة العليا في الصناعات ولكن أي نتيجة كانت للهند من وراء احتلال الغريب لها فالعالم لا يعرف من ذلك إلا النزر اليسير وذلك لأن الإنكليز يحظرون أن تشيع الحقيقة من طريقتهم في أحكامهم التي يزعمون أن أساسها الحب والتجرد عن الغرض وعلى العكس زي مداح الاستعمالر الإنكليزي يصفون الحكم الذي كانت خاضعة له الهند على عهد استقلالها أبشع وصف وإذا بحث المرد في الحق بحثاً مجرداً عن الهوى يؤدى به البحث إلى نتائج متخالفة متناقضة فيثبت له بدون نظر طويل أن الهند محكومة لمنفعة الإنكليز الخاصة بدون اهتمام لمصالح البلاد وما من سبيل إلى انكسار أن انكلترا تحقق في الهند ما يرقى بها إلى أوج الإرتقاء الوطني وأن موارد ثروتها قد نضبت وأن القحط الذي طالما شن عليها الغارة قد خربها وأدى بها إلى أن أمست من الأفقر أقطار الأرض وها بعد هذا دليل على سقوط الأحكام الإنكليزية التي يمتدح بها الإنكليز كأنها ضرب من ضروب النعم السماوية وكثير من حكامهم قد بدت من أفواههم على هذا بوادر تكشف القناع عن سر وجه السياسة التي اختطتها انكلترا لنفسها في الهند فقد قال السياسي الإنكليزي الهندي المستر ويليام تاكراي:
يجب أن يكبح في الهند جماح عواطف الكبر واستقلال الفكر والميل إلى التفكر فيما يولد أحياناً الثروة فإن كل هذا مخالف كل المخالفة لسلطاننا ومنافعنا فنحن لا نحتاج إلى قواد ورجال إدارة وسياسة ولا إلى رجال قانون مشرعين بل نحتاج إلى حراث عامليم. وقال المركيز سالسبوري رجل المملكة الإنكليزية المشهور في عهده: إذا قضت الحال أن تقصد(95/87)
الهند فالواجب أن يغرس المبضع في الأجزاء المحتقنة أو على الأقل في الأطراف التي فيها مجرى دم كاف ولا تقصد من الأطراف التي ضعفت بما أصابها من فقر الدم. وقال أحد المؤلفين في سنة 1792 أن الغاية الرئيسة التي جرت عليها انكلترا يجب الاعتراف بها حتى الاعتراف وهي أن تكتشف ما تستطيع استخراجه من رعاياها الأسياويين لا أن تحمل إليهم النعم. وهذه التصريحات وهي الخطة الحقيقة للسياسة الإنكليزية لا تبقي شكاً في أن الهند خاضعة لقانون جائر يحول نحو انكلترا قواها وغناها وقد أبان هندمان في عباراته الجارحة خلاصة هذه السياسة بقوله: الهند آخذة بالضعف فإن استيلاءنا عليها قد أضعفها حتى في أدق ألياف تركيبها فانفجر دمها بطيئاً ولكنه يزيد يوماً عن يوم.
تقسم البلاد التي تدعى الهند قسمين القسم الإنكليزي والأقاليم الهندية ففي الأول تسود سلطة الإنكليز وبفضل ما صرفوه عليها من الأموال قد نجحت أحوالها نجاحاً تاماً أما الأقاليم الهندية فما عدا غراس الشاي والقهوة والنبل والجوت والممالك الإقطاعية فهي كل بلاد الهند ماعدا الأراضي التي عرضها خمسون ميلاً إنكليزياً الواقعة على جانبي الخطوط الحديدية وأماديح رجال السياسة الإنكليزية من حاكم الهند إلى وزراء بريطانيا تتناول هذه الهند الإنكليزية وكل ما يقال من الإطراء في الكتب الزرقاء المنتشرة في مسائل الهند يقصد منه الهند الإنكليزية ومادة مداح الاستعمار الإنكليزي للهند هي هذا الجزء من البلاد ولكن إذا نظرنا إلى ماوراء هذه الظواهر من بلاد الهند حيث يتحرك ثلاثمائة مليون من الأنفس نجد غير الصورة التي يرسمونها نرى في كل خطوة نخطوها من هذه البلاد مشهداً من البؤس الغريب وويلات تحدثها المجاعات وصعاليك لايكادون يجدون ما يغطي عوراتهم من اللباس وضروباً من الذكاء تذهب في الهباء وعقولاً تتبله وتتبلد وأناساً يعيشون بلا أما وكان من أمر الحكم الإنكليزي إن أصبحت المجاعات دائمية على ماتقرأه في الإحصاء المدهش المنقول عن تقارير رسمية فقد حدثت أربع مجاعات في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الثامن عشر (1769 - 1792) ومئة واثنتا عشرة مجاعة في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1802 - 1838) وخمس وثلاثون مجاعة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر (1854 - 1908) فمات بالمجاعة خلال القرن التاسع عشر فقط زهاء اثنين وثلاثين مليوناً من الأنفس قال ويليام ويجبي: أن ماحدث من هلاك(95/88)