وقد ناصلوك فأبدوا من كنانتهم ... مجداً تليداً ونبلاً غير إنكاس
ومنه التشبيه الواقع النادر كقول امرئ القيس في العقاب:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكرها العناب والحشف البالي
والكتاب في جزء لطيف كتب سنة 466 وخطه مقروء.
التعريف بما أنست الهجرة بمعالم دار الهجرة لجمال الدين أبي عبيد الله بن أحمد المطري فيه فضل المدينة وما جاء في فضل مسجد الرسول والروضة ووصف الجامع وأبوابه ومساجد المدينة والآبار التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأودية المدينة ووادي العقيق وحدود الحرم.
الجواهر الثمينة في محاسن المدينة للسيد محمد كبريت المدني كتب عام 1270.
تقديم الأبدان في تدبير الإنسان للعلامة أبي الحسن علي يحيى بن عيسى بن جزلة المطبب البغدادي أوله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأمراض وشفاء وصلواته عَلَى أنبيائه ورسله إلا منا من عرف أن الله رشحه بكماله الذي هو صلاح ماله ضن بعمره أن يغبن في أيامه وتدبيره أن يغلب عَلَى أعوامه فلا يتفق عمره إلا في أهم أموره إليه ولا يقطع دهره إلا بما عودوها عليه من مصالح دنياه وأخراه وعمارة عاجلته وآجلته: قد للمقتدي بالله وهو مجلد ضخم بالحجم الكامل جمع فيه ما عرف من أنواع الأمراض وطرق علاجها وخواص النباتات والعقاقير وغير ذلك مما يفيد جداً وقد كتبت هذه النسخة سنة 297 (؟) وعبارة الكتاب من السهل الممتع تذكر بعبارة القانون لابن سينا المطبوع في أوربا.
نصر من الله وفتح قريب للسيد محمد كبريت المدني فيه تراجم فضلاء المدينة المنورة.
غربال الزمان المفتتح بسيد ولد عدنان اختصار يحيى بن أبي بكر العامري من تاريخ الإمام أسعد اليافعي وهو مرتب عَلَى السنين فيه الوقائع وتراجم المشاهير إلى سنة 750.
البرق المتألق في محاسن جلق للراعي الشهير بابن خداو بردي المتوفى سنة 1195 فيه وصف محاسن دمشق شعراً من شعره ومن شعر غيره وآثار عمرانها وذكر أنهار دمشق نهر المنيحي والزبديني والوسطاني والغربي ودرمينا والناصية والحاجي والبالاني والزبوان والملك والشيداني بهر تل الذهب بيت نائم حزرما الغريفة والبلالية العبادة(81/54)
الجامعي البيروكليبا وعين ترما وكفر بطنا جسرين حوريا وسقبا الإفتريس وغير ذلك من الأنهار التي لا تعرف اليوم والعيون والأودية ومنها ما لا يعرف أيضاً نسخة سنة 1199 (ومنه نسخة في دار الكتب الخديوية بمصر).
النجوم الزواهر في معرفة الأواخر للبودي الدمشقي من أهل القرن التاسع ذكر فيه الأواخر كما ذكر السيوطي الأوائل أي آخو من صنع كذا وآخر من كان كذا.
مخدرات القصور في تاريخ أهل العصور تأليف ابن قطري البجيري المؤرخ المصري المتوفى سنة 898 وهو مختصر في التاريخ.
كتاب ايمان العرب لأبي إسحاق النجيرمي
الكاتب في المجموع نمرة 54 وهي في خمس ورقات بالخط الدقيق فيها ما كان يقسم به العرب وبه يستدل عَلَى أديانهم ومعتقداتهم قبل الإسلام.
الدين والإسلام
أو الدعوة الإسلامية لمؤلفه الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطا النجفي.
طبع بمطبعة العرفان في صيدا الجزء الأول صفحة 224.
لم يظهر هذا الكتاب إلى عالم الوجود حتى تسابقت أنامل الكتاب لتقريظه واستفزاز الهمم لمطالعته فتاقت نفسي للوقوف عليه إذ أن موضوع الدعوة للإسلام من المباحث التي يهتم لها كل الاهتمام لاسيما ومعالم الهمم قد رست للدعوة والعزائم قد خارت لإظهار مميزاته من مطابقة أصوله للعقل والعلم ونواميس الاجتماع فلقد تلاعبت به أيدي الجهلاء وسه محاسنه من انصاع للأمراء من العلماء الذين حجبتهم شهواتهم ونفوسهم الدنيئة عن الدعوة إليه وعن معرفة ما عليهم من الواجبات نحوه وقل من زمن بعيد من انبرى لتبرئته من الوصمات التي ألصقها به بعض من يجهلون حقيقته أو الذي يحكمون عَلَى الإسلام بالمسلمين والإسلام محجوب بالمسلمين حتى قبض الله لنا يعسوب المصلحين الشيخ محمد عبده المصري فجاهر بمؤاخاة الدين للعلم والعقل وفسر قسماً من الكتاب الكريم عَلَى أسلوب صحيح لم يسبقه إليه أحد من العالمين ولطكن قضت المشيئة الإلهية أن يقضى عليه قبل أن يتم عمله العظيم وما ينويه من الأعمال المصلحة للمسلمين.
لم يقع نظري عَلَى هذا الكتاب حتى أخذته وطالعته وإنعام فألفيته كتاباً نفيساً بل درة يتيمة(81/55)
جمع فأوعى من المسائل الدينية والعلمية والاجتماعية وقطع بقوة حججه ألسنة الملحدين المقلدين الذين بخسوا من قدر العقل وكادوا يقضون عَلَى الإنسانية بمزاعمهم الفاسدة فأوجدا الشرور في البشر وزينوا للناس حب الشهوات وهتك الأعراض حتى استباحوا الرذائل وأفسدوا الأخلاق.
عَلَى أني لاحظت بعض الأمور أثناء مطالعتي هذا السفر النفيس لم أر بداً من إظهاره حرمة لحرية النقد التي يحترمها ولا ريب أمثال الأستاذ المؤلف.
(أولاًَ) نهج المؤلف في كتابه منهج التطويل الذي يأباه عصرنا الحاضر في حين تخوله ملكته البيانية وقوته العربية في فن الكتابة أن يسلك طريق الاختصار الممدوح عَلَى قاعدة (ألفاظ قليلة وأفكار متعددة) فإن مؤلفات المرحوم محمد عبدة التي هي خير مشكاة يجب عَلَى علمائنا أن يحذوا حذوها قد سلك فيها مسلكاً غريباً لما حوته من الفصاحة والاختصار حتى سهل عَلَى جميع طبقات الناس مطالعتها فجمع في رسالة التوحيد تلك الأفكار العظيمة في هذه الوريقات القليلة ولقد وفاه حقه السيد لطفي المنفلوطي بقوله: كاد يكتب الشريعة الإسلامية بلسان صاحبها. فلو سلك المؤلف هذا المسلك في كتابه لكان حجمه نصف ما عليه اليوم فتسهل مطالعته عَلَى جميع الناس ويعم نفعه وهي أقصى الغاية التي ننشدها لأن الكتاب المطول مهما كان له من الشأن لا يقرأه غير الخواص من الناس.
(ثانياً) لقد حمل المؤلف عَلَى الملحدين حملة شعواء وكان الأجدر به أن يتجنب تلك الألفاظ ويجتزئ بالأدلة الناهضة التي أقامها لأن الحكمة تقتضي باستعمال الرفق واللين مع المعاندين وأن تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة فيسلكون طريق الحق. ولقد اثبت علماء الاجتماع أن المكابر المعاند يزداد طغياناً إذا دعي بالشدة نعم إن الملحدين لعمر الحق اكبر ضربة قاضية ولكننا بغير الرفق واللين لا نستطيع أن نستحوذ عَلَى قلوبهم حتى يميلوا إلى الحق ولقد علمنا القرآن كيف يجب علينا أن ننهج مع مثل هؤلاء الجامحين فقال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقال أيضاً: فقولا قولاً ليناً لعله يذكر أو يخشى فهذا فرعون مع ارتكابه أكبر جريمة عَلَى البسيطة أمر الله نبيه أن يسلك معه سبيل الرفق واللين فاستعمل المؤلف الشدة مع هؤلاء مدعاة المنفور فلو أضاف مع البراهين الثابتة التي أقامها قلاً ليناً لكان أولى.(81/56)
(ثالثاً) لو تجرد الكتاب عن بعض الفلسفة القديمة لكان أقوى لإقناع الخصم لأنها أصبحت أمام العلم الحديث ضعيفة الدعائم عَلَى أن المؤلف قد أيد أكثر القضايا بالأدلة المنطقية والفلسفية الحديثة إلا أنه استعمل في باب الإلهيات بعض التعليلات القديمة.
(رابعاً) تعرض المؤلف أثناء بحثه لعلي كرم الله وجهه وعصمته وكان الأجدر بأمثال المؤلف ممن نضج علمه وكمل إدراكه أن يترك هذا البحث لغيره المشتغلين بالقشور لأنهم أحق بالخوض في غماره لأن الجزئيات قد حجبتهم بالكليات وليس معنى هذا الآن مناظرة المؤلف في هذا البحث أو نقض القضايا التي أقامها لأن الاشتغال بمثل هذه الأمور مدعاة لضياع الوقت دون جدوى لاسيما والأجانب تتوثب لتقسيم أملاكنا وذهاب استقلالنا وقد قال مرة أحد فلاسفة الألمان بينما نكون في الجبال والآكام نستخرج المعادن يكون المسلمين مشتغلين ببعض مسائل دينية فرعية يتناظرون ويتناقشون. وكان الأولى بالمؤلف أن يضرب كشحاً عن هذا البحث وهب أن الحق في جانبه فإن العقل يقضي عليه بارتكاب أخف الضررين لأن المسلمين لم تتفرق كلمتهم ويذهب مجدهم إلا بمثل هذه الاختلافات الضئيلة التي لا يقام لها وزن فصرنا نقول شيعي وسني ووهابي وو الخ وما نحن إلا أخوة نجتمع متحدين تحت لواء التوحيد.
عَلَى أن هذه الهفوة تستكبر من المؤلف لأنه عالم غزير المادة كبير العقل درس حالة المسلمين الروحية والاجتماعية وصف لها أنجع ترياق لدائها. عَلَى أن هذا التشيع لم يكن إلا بقية من بقايا التقليد الذي جرى عَلَى المسلمين هذا الويل والثبور. وصفوة القول أن هذا الكتاب من أنفع الكتب الدينية والاجتماعية والفلسفية الحديثة فيجدر بالكبار والصغار أن يقتنوه فهو خير دعوة أخرجت للناس.
دمشق // عبد الفتاح السكري
التاريخ الكبير
للحافظ أبي قاسم ابن عساكر طبع بمطبعة روضة الشام سنة 1329 -
1330
(ص363 ج1) (ص464 ج2).(81/57)
مضت الأعوام والباحثون من العلماء وجمهور المتأدبين من المطالعين يتشوقون لأن يروا تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر متداولاً في أيديهم لكن ضخامة حجمه بكثرة المكررات والأسانيد عَلَى أسلوب المحدثين دعت إلى إحجام الطابعين عن طبعه حتى قيض الله له في السنة الماضية خالد أفندي قارصلي صاحب مطبعة روضة الشام فطبع تاريخ دمشق في دمشق عاهداً إلى الشيخ عبد القادر بدران بحذف ما يراه زائداً بالكتاب ولا يضر إغفاله بالجوهر فحذف ما ارتآه الصواب وأبقى ما يوسع حجم الكتاب فجاء وإن لم تقر به أعين العلماء لأنهم يحبون أن يشاهدوا التآليف عَلَى الصورة التي صدرت بها عن مؤلفيها خصوصاً وفيه ما أغفل المصحح تصحيحه من الأغلاط التي تدل عَلَى ضعفه في التاريخ فهو بالنظر لشهرة مؤلفه رحمه الله سينفع طبقة كبيرة من الجمهور ويغنيهم عن المطول ولو إلى وقت معلوم ولذلك لا يكاد يستغنى عن اقتنائه كل محب لمطالعة راغب في الوقوف عَلَى ماضي هذه العاصمة ورجالها الذين طبقوا الآفاق بشهرتهم. فنشكر الطابع جزيل خدمته. بعد همته في زمن قل جداً الآخذون بأيدي العلم والآداب الراجعون إلى الماضي بل تراهم كلهم وقد شغلهم الحاضر والمستقبل عن النظر في الماضي وهيهات أن ينجح في حاضره من لم يعرف حالة غابره.
دروس الجغرافيا
تأليف فوزي بك العظم طبع في المطبعة الأهلية في بيروت سنة
1912 - 1330
(ص48 مع 24 شكلاً)
يسرنا جداً أن بعض المنورين من أبناء هذا الوطن العزيز اخذوا ينقلون إلى اللغة العربية الشريفة مبادئ العلوم التي لم يستغن البشر عن معرفتها في دور من أدوراهم ومن ذلك ما أصدره مصنف هذه الرسالة في الجغرافيا العامة فقد أودع موجزاً ما يقضي عَلَى الصغار بل والكبار الانتفاع منه لأني علمي الجغرافيا والتاريخ لا يزهد فيهما إلا ناقص العقل راغب في الجهل. فما أحرى مدارسنا الأهلية أن تعتمد مثل هذا الكتاب تنشيطاً لمؤلفه ورغبة في تعليم الناشئة علم تقويم البلدان عَلَى هذا الأسلوب النافع للشيب والشبان.(81/58)
العباسة
هي إحدى روايات رصيفنا جرجي بك زيدان صاحب مجلة الهلال بمصر نقلها إلى الإفرنسية وطنينا ميشيل أفندي بيطار احد أساتذة مدرسة اللغات الشرقية في باريز ونسق لغتها المسيو شارل موليه وقدم لها المسيو كلود فارير مقدمة قال في أولها ما ترجمته: في 732 للميلاد حدثت فاجعة ربما كانت من أشأم الفجائع التي انقضت عَلَى الإنسانية في القرون الوسطى وما كان منها أن غمرت العالم الغربي مدة سبعة أو ثمانية قرون إن لم نقل أكثر في طبقة عميقة عَلَى التوحش لم يبدأ بالتبدد إلا عَلَى عهد النهضة وكان عهد الإصلاح يعيدها إلى كثافتها. هذه الفاجعة هي التي أريد أن أمقت حتى ذكراها وأغني الغلبة المكروهة التي ظفر فيها عَلَى مقربة من بواتيه برابرة المحاربين من الإفرنج بقيادة الكارولنجي شارل مارتل عَلَى كتائب العرب والبربر التي لم يحسن الخليفة عبد الرحمن جمعهم عَلَى ما يقتضي من الكثرة فانهزموا راجعين أدراجهم.
في ذلك اليوم المشؤوم تراجعت المدنية ثمانية قرون إلى الوراء ويكفي المرء أن يطوف في حدائق الأندلس أو بين العاديات التي لا تزال تأخذ بالأبصار مما يبدو من عواصم السحر والخيال إشبيلية وغرناطة وقرطبة وطليطلة ليشاهد والألم الغريب ذاهب منه ما عساها لو تكون البلاد الفرنسوية لو أنقذها الإسلام الصناعي الفلسفي السلمي المتسامح - لأن الإسلام مجموعة كل هذا - من الأهاويل التي لا أسماء لها وكان منها أن أنتج خراب غاليا القديمة التي استعبدها أولاً لصوص أوسترازيا ثم اقتطعوا جزءاً منها قرصان النورمانديين ثم تجزأت وتمزقت وغرقت في دماءٍ ودموع وفرغت من الرجال بما انبعثت في أرجائها من الدعوة للحروب الصليبية ثم انتفخت بالجثث بما دهمها من الحروب الخارجية والأهلية كثيرة العدد حدث ذلك عَلَى حين كان العالم الإسلامي من نهر الوادي الكبير إلى نهر السند يزهر كل الأزهار في ظل السلام تحت أعلام أربع دولات سعيدة الأموية والعباسية والسلجوقية والعثمانية.
ليس هذا فصلاً رسمياً في التاريخ الرسمي من التاريخ الكاذب الذي تعمله المختصرات لصغار الطلبة من الفرنسيس بل هو التاريخ الحقيقي الذي يتعلمه المرء بنفسه مما يجتازه من البحار أو يقطعه من الأراضي ويقلبه من خزائن الكتب الأجنبية وليس هذا بعزيز عل(81/59)
حياة سائح يريد أن يثبت عقيب رحلة له ما يمس منه بأطراف إصبعه تلك الكذبة الكبرى السفيهة التي أراد معلمونا ولا يزالون يريدون وضعها أمام أعيننا كأنها حقيقة بل هي الحقيقة.
إني لمعجب أن أقدم لجميع الفرنسويين من أصحاب الإرادة الذين يتوخون نبذ الأوقات القديمة وليس لهم وقت ولا فراغ لمباشرة رحلتين أو ثلاث في الأرض للبحث عن الحقيقة - الحقيقة الناصعة - هذا الكتاب البسيط الذي يوفر عنهم الرحلة إلى بغداد ودمشق وإسبانيا الجنوبية فيوحي إليهم كل ما هو مسرة للعيون والعقول ويصور لهم الصورة الحقيقية بل الصورة الطبيعية للإسلام في القرن السابع والتاسع ذاك الإسلام الذي قضى عليه الكارولنجي المتوحش ونبذه خارج فرنسا بضربات عظيمة من مطرقته. . . .
الروضة البهية في فضائل دمشق المحمية
طبع بمطبعة المقتبس سنة 1330 (ص105)
غالى معظم من كتبوا في دمشق من أبنائها في الوصف أو أفرطوا في الشكاية ولكن المقرر الثابت أنها من خيرة البلاد بطبيعتها وها قد ألف أحد الدمشقيين محمد فندي عز الدين عربي كاتبي هذه الرسالة فلم يخرج فيها عن خطة المادحين المعجبين والمديح مما تألفه نفوس الجمهور في الأغلب فذكر ما نقله القصاصون في فضائل دمشق ومن نزلها من الصحابة وبعض معاهدها ولاسيما الدينية واحسن في وصف أعمالها الجديدة مثل الخطوط الحديدية والأحياء الجديدة وماء الفيجة ومستشفى الغرباء فحبذا من أراد تحبيذهم تزلفاً ولم يذكر السلطان نور الدين محمود بن زنكي النعروف بالشهيد وإن هذا المستشفى بني ببقايا أموال مستشفاه النوري وما جمع من الإعانات بعد بالضرب والتجبية والترويع. وقد اودع كتابه شيئاً من الأقاصيص التي نقل بعضها عن ضعاف العقول ممن حشروا أنفسهم ظلماً في العصر الأخيرة بين المؤلفين مثل ما نقله (ص25) عن الشيخ أبي العباس أحمد بن قدامة صاحب الكرامات والأحوال الظاهرة إنه مشى عَلَى نهر يزيد بقبقاب في رجليه فلم تبتلا فطالع ليلة فكدرت عليه الضفادع بأصواتها فقال أيتها الضفدع قد أذيتمونا بأصواتكم فإما أن ترحلن عنا وإما أن نرحلن عنكن فأصبح وليس في النهر شيء من الضفادع ومن ثم لم يسكن نهر يزيد ضفادع إلى الآن!(81/60)
ومن هذا البحر والقافية أتى المؤلف بأمور منتقدة عند جمهور المحققين من رجال الدين والمدنية مما نبه عليه الأعلام في كل عصر أمثال ابن تيمية وابن الحاج وعشرات غيرهم. وكنا نود أن تعرى التآليف الحديثة من نقل هذه الأخبار الواهية وأن لا ينقل المؤلف مثلاً من جملة الفوائد أن دمشق النائم بها كالعابد بغيرها حتى يزيدنا خبالاً فوق خبالنا فإننا أحوج إلى من يقوي همتنا منا إلى من يضعفها برواية هذه المثبطات. فعسى أن يحذف الباحث كل ما لم يصححه المتحدثون والمتفقهون والمؤرخون من الأخبار المضعوفة المرذولة ويقتصر عَلَى الصحاح وإلا فتكون مضار هذه الكتب أكثر من منافعها بكثير.
الدعوة إلى الإصلاح للشيخ محمد خضر بن الحسين
طبع بالمطبعة الرسمية العربية بتونس عام 1308 - 1910 (ص41).
تتم معظم تآليف التونسيين الأخيرة عَلَى فضل علم وأدب وإن خاصتهم لا يؤلفون في الغالب إلا إذا اعتقدوا واعتقد الناس فيهم الكفاءة العلمية وقد تلطف مؤلف هذه الرسالة في موضوعه الجليل فأفاض في الحاجة إلى الدعوة وفي الدعوة في نظر الإسلام وفي شرائطها والإخلاص فيها وآدابها وآثار السكوت عنها والإذن في السكوت عنها وأسباب إهمالها وقال في خاتمة ما يدعو إلى إصلاحه وهوو ما نورده نموذجاً عَلَى نبذته النافعة: ولما افترقت الأمة في حفظ بقائها وصلاح عيشها إلى جملة من الوسائل كالصنع وبعض الفنون الحكمية كانت داخلة في واجبات وفيها كما صرح بذلك أبو إسحاق الشاطبي وغيره من الراسخين في علوم الشريعة فإن عظم مصلحتها والخطر الذي ينشأ عن إضاعتها واضح في الدلالة عَلَى وجوب التعلق بأسبابها ولكن الإسلام لم يفتح عين المكلف في كل موضع من مواضع إصلاحها أو أعطى لتفاصيلها قواعد كما تفعل في قسم العبادات والمعاملات والجنايات وغنما أرشد إلى أصول مطالبها ثم فوض في وجوه عملها معرفة ما هو الأصلح في وسائلها إلى الفطرة السليمة والعقول الراجحة كما قال صلى الله عليه وسلم في واقعة تأبير النحل (أنتم اعلموا بأمور دنياكم) فإن التمييز فيها بين الحسن والقبيح من المطالب التي لا تفوت مداركهم ويسعها طوق عقلهم.
وقد يسبق غير العارف الشرائع إلى الخبرة ببعض نظامات مدنية ولهذا لم يضع الإسلام حرجاً عَلَى أخوانه إذا كانوا غير المسلمين وعملوا عَلَى مثالهم فيما يحسن في نظرهم من(81/61)
مقتضيات المدنية وترتيبها كالصنائع والفلاحة والتجارة وحفظ الصحة وما شاكلها فإن إعراضنا عن أخذ ما بأيدي المخالفين من المعارف والاستنباطات المفيدة في هذه الحياة يقضي بنا كما قال أبو حامد الغزالي إلى أن نضرب عن كل صالح سبقونا إليه.
ويتعين عَلَى المرشد لإصلاح هذا القسم أن يجيد البحث عن أحوال الأمم الأخرى ويعرف أسباب ارتقائهم وعلل سقوطهم وتركيب الأقيسة ويؤيد بها الأفكار المستقيمة ويثبت بها صواب ما تهديه إليه البصيرة الكاملة.
هذا ما يقوله احد أستاذة الجامع الأعظم الزيتونة في تونس ثاني مدرسة دينية عالة في العالم الإسلامي فمتى يكون كذلك لسان حال سائر مدرسينا ومقالهم فتجمع هذه الأمة الدين إلى الدنيا ونور العقل الصحيح إلى التعليم السماوي الرجيح.
الحرية والإسلام
كتاب للأستاذ التونسي المشار إليه ألقاه في صورة مسامسرة وأجاد في تحديد حقيقة الحرية والشورى والمساواة والحرية في الأموال والحرية في الأعراض والحرية في الدماء والحرية في الدين والحرية في خطاب الأمراء وآثار الاستبداد كل ذلك بعبارات تستعذبها النفوس لسلاستها وتدل عَلَى بعد غور منشئها وبعد نظره في المسائل الاجتماعية والدينية.
حياة اللغة العربية
هي مسامرة طبعت أيضاً في تونس لصاحب كتاب الدعوة إلى الإصلاح والحرية في نشر الإسلام المنوه بقدره تكلم فيها عَلَى تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية وأطوار اللغة خصائصها وتراكيبها وأساليبها وإبداع العرب في التشبيه واقتباسهم من غير لغتهم وارتقاء اللغة مع المدنية واتحاد لغة العامة والعربية إلى غير ذلك من الفوائد التي أجاد المؤلف في سردها وبيانها فله الشكر عَلَى خدمته الإسلام ولغته خدمة عقل وروية.
التبيان في تخطيط البلدان
لإسماعيل بك رأفت طبع بمصر سنة 1329 (ص509).
لصديقنا مؤلف هذا الكتاب يد طولى في التاريخ والجغرافيا وهو اليوم أستاذ الجغرافيا وعلم الشعب أتنوغرفيا في الجامعة المصرية وأستاذ التاريخ العام والجغرافيا في دار العلوم في(81/62)
القاهرة وهذا الكتاب هو الجزء الأول من سلسلة كتب سينشرها بعد أن يلقيها دروساً عَلَى طلاب الجامعة وهو يحتوي عَلَى وصف قارة أفريقية وأحوالها الطبيعية والجغرافية مثل أنهارها وبحيراتها وجبالها وجزائرها ومعادنها وحيواناتها وأجناسها البشرية وصناعاتها ووصف ضاف لبلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس وبرقة والصحراء الكبرى وما فيها من الأمور الطبيعية والصناعية عَلَى أسلوب استبيان به أن المؤلف ذاق فنه كل الذوق وأحسن في شرحه وجميع المواد اللازمة من كتب الجغرافية القديمة والحديثة والتاريخ والرحلات ولاسيما الرحلات التي كتبت بالألمانية والإنكليزية والإفرنسية بحيث جاء الكتاب مجموعة فوائد يود كل عربي أن يرى مؤلفه موفقاً إلى نشر الأجزاء الباقية من كتابه بهذا التوسع النافع والوصف المشبع وقد رأينا بعض تساهل طفيف وشيء من الألفاظ نقل عن الإفرنجية بغير الألفاظ المألوفة مثل قوله الكوارتز (ص35) وهو الصوان والبازلت (ص55 و63) والمشهور الحجر البركاني والجرانيت وهو المعروف بالشام بالشحم واللحم وهو نوع من الصوان والكوتشو ويترجمه المترجمون بالمطاط والأردواز ويترجمونه بلوح الحجر وقال أيتوبيا ورأس عشم الخير والدين الفتشي وجزيرة زنزبار ولو قال بلاد الحبشة والزنوج ورأس الرجاء الصالح والدين الوثني وجزيرة زنجبار لتابع العرب والمألوف في ترجمته. وهناك بعض أغلاط مطبعية مثل قسنطينة وعسى أن يحرر كل ذلك صديقنا المؤلف في الطبعة الثانية ويضيف إلى كتابه الخرائط العربية التي وعد بها فأغفل الطابعون إلحاقها بها ونشكره عَلَى غيرته عَلَى الآداب والمعارف.
التجارة العصرية
تأليف السيد عبد الحق بن وكاف
طبع بالمطبعة المولوية بفاس عَلَى نفقة مولاي الحفيد سنة 1329 (ص376).
ربما كانت هذا الكتاب من أوائل الكتب العصرية التي أبرزتها عقول أبناء الإسلام في الغرب الأوسط وقد ضمنه المؤلف مباحث تجارية وقتية عَلَى أصول الفقه المعمول به في الجزائر أفاض في القسم الأول في الفقه التجاري الفرنسوي وفي الثاني بمسك الدفاتر وفي الثالث بالمراسلات التجارية الوقتية بعبارات سهلة كثيراً ما يمزجها المؤلف - وهو محدث ومدير مدرسة فاس - بألفاظ إفرنجية لها مقابل بالعربية ولكنها شاعت كذلك في تلك البلاد(81/63)
لاختلاط السكان بالفرنسيس والطليان والإسبانيين والبرتقاليين.
وقد أهدى كتابه وهو من أبناء الجزائر إلى علماء بلده ومشايخه مسلمين وإفرنسيين ممن أخذ عنهم هذا العلم وغيره وأجادت المطبعة في طبعه بحروف مشرقة مشرقية غير الخروف المعهودة المغربية أكثر الله من أمثال المؤلف الساعين لترقية أبناء بلادهم من طريق العلم والعمل عَلَى المناحي العصرية النافعة.
آداب العرب
لإبراهيم بك العرب طبع بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1911
ص112
كانت جريدة المقتبس تنشر الحين بعد الآخر قصائد بتوقيع العرب عَلَى لسان الحيوانات مثل قصائد الشاعر لافونتين الفرنسوي فوقعت من قراءها موقع الاستحسان الكثير لسلاستها وتضمينها الحكم الرائعة وقد انتبهت نظارة المعارف المصرية إلى فوائد هذه القصائد فطبعتها عَلَى نفقتها أجمل طبع بالشكل الكامل لتكون مثالاً يحتذيه طلاب الآداب ولغة العرب وقلم الشاعر إبراهيم العرب وهي مئة قصيدة يقرأها كل طبقات القراء فيعجبون بما فيها من أدب غض وحكمة ناصعة وهي تقرر تدريسها في المدارس الابتدائية بمصر بنين وبنات فعسى أن يعتمد عليها أيضاً مديرو المدارس الأهلية في الشام ليقتبس من فوائدها أبناء الفرات والساجور والعاصي والأردن وبردى والكلب بعض ثمرات أبناء النيل المبارك الذي أصبح عيالاً عليه استقاء المعارف والآداب العربية.
تاريخ مدينة زحلة
تأليف عيسى أفندي إسكندر معلوف
طبع بمطبعة زحلة الفتاة في زحلة (لبنان) سنة 1911 (ص298).
اشتهر مؤلف هذا الكتاب بين الباحثين من أهل هذه الديار بما نشره حتى اليوم من رسائله وكتبه ومجلته الآثار وكتابه هذا نافع في تاريخ أكبر مدينة لبنانية وما جاورها مثل بلاد المتن وبعلبك والبقاع ووادي التيم ووادي القرن ووادي الزبداني وغيرها ومعظم الكلام عَلَى هذه البلاد ورد بالعرض فأطال المؤلف الكلام عَلَى تاريخ سهل البقاع خاصة كما(81/64)
أطال عن زحلة وذكر أخبار البيع والمآوي (أنطيوش) وتاريخ إنشائها. وبيع لبنان ليست من الكاتدرائيات المهمة ولا من العاديات القديمة بل إن أكثر بيوتها صغيرة حديثة لا يهم التاريخ ولا فن البناء متى أنشئت. ونحن نسامحه فيما اقتبسه من مجلة المقتبس (ص40) من نقل خلاصة ما كتبناه في رحلتينا إلى قلمون الأسفل وقلمون الأعلى فيالسنة الرابعة والخامسة ولم يعزه إلينا مع أنه من مشاهداتنا وتحقيقاتنا الخاصة لم يسبق لأحد قبلنا أن خاض عبابه فيما نعلم.
ولا نوافق المؤلف دعواه في أن اسم زحلة مأخوذ من زحل الرجل عن مكانه إذا تنحى متباعد منه المزحل اسم مكان للموضع يزحل إليه أو مصدر ميمي وتمحله الأسباب لهذه التسمية وكذلك لا نستحسن استشهاده بقصيدته في وصف مناظر زحلة (ص11) فإنها ليست من الشعر المستملح وأين قصيدته من قصيدة خليل أفندي مطران في وصف خرائب بعلبك وكان عَلَى المؤلف أن لا يفوته ذكرها خصوصاً وقد استشهد بشعر هو دون تلك الطبقة بمراحل مثل شعر المعلم نقولا الترك فإنه ليس من الشعر الواجب تدوينه إذ هو عار عن صفات الشعر.
وقد توهم (ص37) أن القبة الكائنة عَلَى جبل قاسيون بدمشق هي قبة المرصد الفلكي الذي كان بناه الأمويون (والحقيقة أن الباني هو المأمون العباسي ثم أولغ بك التتري) مع أن هذه القبة محدثة من جملة المناور التي كانت توقد فيها النار لنقل الأخبار في الليل كما كان الحمام الزاجل يطير بالنهار وطرز بناء القبة لا يتجاوز المئة السابعة للهجرة ولا نذكر أننا قرأنا لها اسماً إلا في كتاب عجائب المقدور في أخبار تيمور وهو مما كتب في القرن التاسع.
وأخطأ في قوله (ص38) أن بيت لهيا هي الآن من قضاء راشيا وكانت قديماً من غوطة دمشق والصحيح أن قريتين كانتا معروفتين بهذا الاسم إحداهم في وادي التيم لا تزال معروفة والأخرى في الغوطة خلافاً لما قلناه في رحلتنا بين بلاد الآراميين والفينيقيين في السنة السادسة من المقتبس كما أنه أخطأ في استنتاجه (ص40) أن جبل قلمون سمي بهذا الاسم اليوناني ومناه الإقليم ومناخ لأن جودة هواء هذا الجبل مشهورة وليس في اليونانية ما يشعر بهذه التسمية.(81/65)
وجوّد صاحبنا عَلَى جغرافية زحلة هوائها ومائها وعمرانها ونباتاتها وحيواناتها وتربتها وصخورها وحوادثها القديمة والحديثة ومشاهيرها وأسرها ونهضتها بعبارات سهلة خالية من الشوائب وتنسيق لطيف وعلق عَلَى كلامه حواشي مفيدة عَلَى البلدان والقرى التي يذكرها فنرجو له التوفيق إلى إبراز غيره من الرسائل والكتب النافعة في التاريخ والسير.
ديوان الهلالي
طبع بمطبعة حماة سنة 1329 ص268.
ناظم هذا الديوان الشيخ محمد الهلالي الحموي المتوفى سنة 1311 من مشهوري الشعراء المتأخرين ديوانه أماديح لأناس من معاصريه وإن كان بعضهم يستحق المديح غير أن أكثرهم لا يستحقون أن يذكروا بكلمة خير لأنهم ما جلبوا لا عَلَى الشر ولكن أناساً من متأخري الشعراء جعلوا الاكتساب بالشعر حرفة الشعراء جعلوا الاكتساب بالشعر حرفة لهم فيطنبون في كل من يفضل عليهم ويتمحلون له المناقب التي لو تيسر جمع بعضها في فرد لعد مصلح عصره وعالم دهره وسيد مصره. وهاك نموذجاً المحمود في عالم الأمراء في زمانه الأمير عبد القادر الحسيني الجزائري:
شام برق الشام وقت السحر ... فاستفزته دواعي السهر
وصبا لما استمالته الصبا ... من شذا الربوة ذات الشجر
ربوة ذات قرار وصفا ... ومعين ونسيم عطر
جنة الله في الأرض قد ... فاخرت زهر السما بالزهر
بقصور لم تزل تجلى بها ... قاصرات الطرف فوق السرر
وخدور لبدور طلع ... قد سبلن الحور حسن الحور
خرد من كل خود وجهها ... عبرة بالحسن للمعتبر
وفتاة كمهاة في الخبا ... تأسر الأسد بطرف الجؤزر
بانة قامتها غصن نقا ... في كثيب بارز مستتر
بأبي ناهدة بن ثما ... ن وست ضرة للقمر
أخت شمس في سماء مطلع ... فرقد الفرق بليل الشعر
بجبين إن تندى عرقاً ... رصع الشمس بشهب الدرر(81/66)
ما سواها الكوكب الدري في ... أفق الحسن البديع الأنور
لست أنسى إذا غدت تسفر عن ... غرة تشرق تحت الطرر
حبذا سين ثنايا صانها ... ميم ثغر فيه عين الخضر
وبروحي أعين نرجسها ... يحرس الورد يروض الحفر
أعين سكرى وكسر في الهوا ... أبداً من جفنها المنكسر
لا يغرنك منها ضعفها ... إنها عندي لإحدى الكبر
وأعنائي بقس من حوا ... جب ترمي بسها القدر
إلى أن يقول في مدحه:
سيدي الغازي الذي منه الجزا ... ئر كانت للندى في أبحر
أسد الله عَلَى أعدائه ... حين يسطو بالحسام الذكر
لو تراه والعدى في رهج ... قسورة الفتك ببهم الحمر
قسور منه يفرون كما ... فر إبليس الغوي من عمر
بطل منتقم لله لا ... لهوى النفس ولا للبطر
وقال يهجو أهل بلده من قصيدة:
تفر عن النور المبين من العمى ... تفروا إلى ظلم الضلالة نفارا
حمر لقد خلق الشعير لهم فلا ... عجب إذا لم يفهموا الأشعارا
فقهاء أني يفقهون وإن من ... عاداتهم أن يحملوا الأسفارا
عدد بلا عدد لذاك نعدهم ... لصغار بين الكبار صغارا
أف لما غرسوه من عيب ومن ... غرس المعايب يجن منه العارا
شركاء مكر لم تزل أشركهم ... تصطاد من أوكارها الأطيارا
خسروا فلا ربحت تجارة خاسر ... أضحى بأسواق الأذى سمسارا
شروا الضلالة بالهدى عمداً ومن ... غالي الشريعة أرخصوا الأسعارا
علماء تصريف بتحريف الكلا ... م عن المواضع يمنة ويسارا
لبسوا الرياء فشف عن أوزارهم ... وكفى بذلك فضيحة وشنارا
ركبوزا الكبائر معجبين لكبرهم ... بنفوسهم فاستصغروا استصغارا(81/67)
وتبادروا فتفاخروا في أخذهم ... مال اليتيم مغانماً ومغارا
من كل محتال تراه ثعلباً ... طوراً وطوراً بالمكابد فارا
متفلسف كالسامري كهانة ... وكعجلة تركيبة وخوارا
كالماء ديناً والتراب كثافة ... والنار خلقاً والهواءِ قرارا
حبري إذا لم ترشه قدري إذا ... استعطفته وأريته الدينارا
فاسأل صلاة الصبح عنه هل لها ... علم به واستخبر الإعصارا
شيخ إذا استدعيته لخصومة ... بوديعة لا يدعي الإنكارا
بل يدعي ضاع المتاع ولم يخف ... يوم اللقا التقرير والإقرارا
أو جئته مستشفعاً في ششفعة ... علماً بأن الجار يرعي الجار
يسعى ليسقط حقهاً متحيلاً ... في صرة مجهولة مقدارا
حيل إذا حولت ظاهر أمرها ... تلقى بواطنها رباً ومقدارا
وأضيعة الإسلام في وادي حما ... لو لم يكن لبني النبي جوارا
واد به العاص تجرأ واعتدى ... وعلى الشريعة قد طغى وتجارا
إلى أن قال:
وطن توطنه البلا وسطا عَلَى ... جيرانه داعي البلاء وجارا
وعلى نواحيه نواعير النوا ... ح من البيوت تساجل الأنهار
حزناً عَلَى الأرض التي قد انبثت ... بعد القرنفل والورد بهارا
كانت حماة الشام تدعى شامة ... بين البلاد وللحماة ديارا
واليوم حمى شؤمها عمت فلا ... تروي لها السبع البحار أوارا
سل سيدي علوان عن عنوانها ... لما عليها بالدعاء أشارا
واستقص ذلك بالتواتر أنه ... عند الثقات يصحح الأخبارا
فدع الملام فإني لست أو ... ل قاطع بفروعها الأشجارا
هي منبتي وإلى حماها نسبتي ... ولرب شوك أنبت الأزهارا
وهي العروس محاسناً لكنما ... شؤم الحماة ينفر الأصهارا
نبذة مختصرة في الصحف العربية المصورة(81/68)
للفيكونت فيليب دي طرازي
طبع بالمطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1912
ذكر كاتب هذه الرسالة وهو عربي من أهل بيروت الجرائد العربية المصورة الذي صدرت منذ عرفت الطباعة إلى الآن في القطار المختلفة فكان مجموع صحف المسلمين المصورة في سورية 17 وعدد صحف المسيحيين 14 وفي القطر المصري 42 مسيحية و21 إسلامية و7 لجمعيات وفي تونس 4 للمسلمين واثنتان لليهود وواحدة لجمعية وفي أوربا أربع لمسيحيين و11 لإسرائيليين وفي أميركا 6 للمسيحيين فبلغ مجموعها 129 صحيفة ظهرت أكثر من نصفها في مصر كما أصدر أكثر من نصفها عَلَى أيدي نصارى سورية.
سورية
نشر صديقنا خير الله أفندي خير الله مبحثاً طويلاً في سورية باللغة الإفرنسية صدرت به مجلة العالم الإسلامي الباريزية عددها الثاني من السنة السادسة فجاء في 143 صفحة محلى بصور بعض مشاهير الأدباء والأديبات من أهل بلادنا فبدأه بوصف بلاد الشام وأصول شعوبها وإحصاء نفوسها وأديانها وشيعها المستقلة والحركة العلمية فيها ووصف بلاد الأجانب والوطنيين من المسيحيين وأفاض في صحافتها ولاسيما الصحافة البيروتية واللبنانية ومطابعها قديماً والحياة الاجتماعية والأدبية والسياسية فيها إلى غير ذلك من الفوائد التي تشف عن بحث وتجارب والإيضاحات التي يحتاج إلى معرفتها ابن البلاد دع غيره من الغرباء.
وقد أفاض في موضعين من مبحثه بذكر أيادي فرنسا عَلَى سورية في نهضتها العلمية فقال إننا قوم نحب فرنسا وقد تأدبنا بلسانها وآدابها ولكن حبنا لها لا يدعونا لأن ننسى أنفسنا وقد استشهد بجملة من مبحثه المفتد المسألة الاجتماعية والمدرسية في سورية الذي لخصناه للقراء في مجلد السنة الثالثة من المقتبس فأبان عن علم فيما خاض عبابه فقال لم نتشرف بأن نكون فرنسيساً نحن معها كالسويسريين من سكان لوزان والبلجيكيين من سكان لبج يتكلمون الإفرنسية لكنهم ليسوا فرنسيساً يجب أن تكون لنا اللغة الإفرنسية لا أداة من أدوات الزينة الفارغة بل دعائم متينة من دعائم الأخلاق ومن مصلحة سورية كما أنه من مصلحة السياسة الإفرنسية أن يحتفظ الرجال في بلادنا بأخلاقهم الوطنية ومشخصاتهم(81/69)
الخاصة متعلمين في مدرسة فرنسا متبعين بأفكارها ودارسين آدابها وهذا أمر سهل لأنا إذا آثرنا التربية الإفرنسية فذلك لأنها توافق عقولنا وميولنا أكثر من سواها. وقال أن عَلَى فرنسا ألا تنسى ما قدمت لسورية وتختار من رجالها من يحسنون تنمية تلك البذرة من المدنية التي بذروها في تربة الشام.
والخلاصة أن الكاتب تساهل جداً في تسرب التربية الإفرنسية إلينا مما هو ولا جرم مدرجة إلى ضياع مشخصاتنا وقوميتنا وقوله أن التربية الفرنسوية موافقة إلى ميولنا ودرجة عقولنا فيه نظر لأن من نشأ عَلَى التربية التركية أو التربية الأميركانية أو الإنكليزية أو التربية الروسية أو الرومية من أبنائنا يدعون هذه الدعوى أما نحن فالأجدر بنا أن نأخذ عن كل أمة من أمم أوربا ما عندها من الفضائل والصناعات والعلوم ونكون لنا مع الزمن مدنية عربية وطنية تلتئم مع الكل لكنها ليست لأحد.
وقد لاحظنا عَلَى المؤلف أن قد غالى في تقدير عدد الموارنة في سورية بأربعمائة وخمسين ألفاً والظاهر أنهم لا يزيدون عن ثلثمائة وخمسين ألفاً عَلَى أن الإحصائيات ناقصة في هذا الباب كما قال. كما أنه غالى في ترجمة بعض الأشخاص فقد رأيناه قال في أحدهم أنه فوق الأحزاب وأنه لم يخدم إلا المصلحة العامة وما قط فكر في نفسه ولو تعمق في البحث لعرف أن الواقع يخالفه وليس مثل كلام المرء وأعماله دليلاً عَلَى نياته ومبادئه. وقد تفضل الصديق المنشئ فاستشهد بقولنا في ارتقاء المسيحيين عن جيرانهم المسلمين وهو الفكر الذي طالما جاهرنا به ولكنه فاته أن في المسلمين والمسيحيين أيضاً من رجالاً من أبناء سورية عملوا للمصلحة العامة وخدموا الآداب والمدنية بكتابتهم ورسائلهم وكتبهم أمثال الشيخ طاهر الجزائري والسيد عبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد بدر الدين النعساني والشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان الظاهر والشيخ أحمد عارف الزين وزكي بك مغامز وعبد الله أفندي مخلص وجرجري أفندي يني والشيخ عبد القادر المغربي والدكتور عبد الرحمن شهبندر وفارس أفندي الخوري وعبد الوهاب بك الإنكليزي وشفيق بك المؤيد وشكري بك العسلي وقسطاكي بك الحمصي ومحمد علي أفندي حشيشو وغيرهم من حملة الأقلام ودعاة الإصلاح ولعله لم يلم بتراجمهم إلماماً كافياً فاقتصر عَلَى من عرف منهم.
بساط العقيق(81/70)
في حضارة لقيروان وشاعرها ابن رشيق
تأليف السيد حسن حسني عبد الوهاب طبع بالمطبعة التونسية سنة
1330
في تونس صفحة 92.
عرف هذا المؤلف بما نشره في مجلة المقتبس من رسائل الانتقاد لابن شرف القيرواني ملتقى السبل لبي العلاء المعري وما علق عليها من الحواشي المفيدة الدالة عَلَى أنه من الأساتذة الذين يعملون عَلَى طريقة غربية شرقية أي عَلَى الصول الأوربية الحديثة يمازجها التشبع بروح الحضارة العربية وقد ألم في كتابه هذا بشيء من حضارة الإسلام في أفريقية وما وصلت إليه القيروان من درجات الرقي الباهر ونظام الحكومة العربية والهيئة الاجتماعية عَلَى أسلوب جديد لا حشو فيه يدعم أقواله بالأدلة التاريخية نقلاً عن ثقات المؤرخين والجغرافيين فيصور لك ما بلغته بلد الكاتب من الاتقاء عَلَى عهد ابن رشيق أديب القطر التونسي وشاعره الذي وضع له ترجمة حافلة آخر الكتاب الذي دل بمجموعه عَلَى علو كعبه في التاريخ والأدب ولو كان جميع من يبرزون تآليفهم للناس يتعبون بالبحث فيها كما بحث هذا المؤلف لظلت معظمها من التآليف التي تصير عَلَى غابر الأحقاب ولذلك نشكره باسم الأدب العربي ويا حبذا لو حذا حذوه غيره من نبهاء الأقطار وكتبوا عن أقطارهم وشعرائهم وأدبائهم عَلَى الطريقة المشار إليها.
تاريخ الحرب العثمانية الإيطالية
تأليف سليم أفندي قبعين طبع بمطبعة التقدم بمصر سنة 1330 -
1912.
عرف صديقنا مؤلف هذا الكتاب باختيار أجمل الموضوعات في ما يكتب وينشر مما يجمع بين العلم واللذاذة وآخر ما أبرز من قلمه هذا السفر الممتع جعله عشرة أجزاء تقع ضمن ستمائة صفحة ضمنها حالة طرابلس وبرقة وجغرافيتهما وتاريخهما ثم الحرب الطرابلسية وما كان من أثرها وما تخللها من الوقائع نقلاً عن مصادر إنكليزية وروسية وإفرنسية وتركية وغيرها وحلى كل جزء برسوم عديدة تصور الوقائع والمواقع لنظر المطالع فجاء(81/71)
كتابه فرداً في بابه سد نقصاً كبيراً في باب التواريخ العربية وخلد له ولمن عاونوا في الحرب معاونة بدنية أو مالية أو عقلية أجمل ذكرى لا تمحى من الأذهان أو يمحى مصر طرابلس وبرقة من كتب تقويم البلدان فنهنئ المؤلف النشيط عَلَى عمله النافع ونسأل له التوفيق إلى إبراز أمثاله ترجمة كان أو تأليفاً.
الرحلة اليمانية
تأليف السيد شرف عبد المحسن البركاتي طبع بمطبعة السعادة بمصر
سنة 1330 - 1912 ص127.
دون المؤلف في هذه الصفحات رحلته مع الأمير الأكبر الشريف حسين باشا أمير مكة المكرمة إلى بلاد عسير لمقاتلة السيد محمد بن علي الإدريسي القائم في ذاك القطر فذكر المراحل وما وصل إليه من المعلومات عن أحوال تلك الجهات في العلم والاقتصاد وغيرهما فدل عَلَى بعد نظر وفضل وذكاء. وافاض في الكلام عن اليمن ثم تكلم عَلَى جزيرة العرب إلا أننا رأيناه غالى في وصف شعبذات الإدريسي مما لا نظن أن رجلاً تعلم في مصر عَلَى ما هو المعروف تحدثه نفسه في مثل هذا النصر يأتيه وكنا نريد أن تتنزه هذه الرحلة النافعة عن التعرض لمثل هذا غذ أن من عادات السياسيين أن يتهموا خصومهم أنواع التهم وما ننس ما قاله مؤرخو الحكومة في الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي وجماعته وما افتروه عليهم ثم ثبت للتاريخ خلافه. وإنا نتلقى العبارات التي أوردها صاحب هذه الرحلة وربما كان نقلاً عن غيره بغاية الاحتراس وعساه ينظر في ذلك ويبحث عن الثقات ويضيفه في طبعة ثانية من كتابه فتكون رحلته تاريخاً حقيقياً خالداً لا أثر فيه لأهواء السياسة وعلى كل فنشكر الكاتب عَلَى رحلته ونرجو أن ينظر نظراً بليغاً في عبارة الكتاب وطبعه المرة التالية.
مطبوعات الآباء اليسوعيين
ثلاثة كتب أهدتنا إياها إدارة المطبعة الكاثوليكية في بيروت الأول أطيب الشعر وأطيب النثر من قدماء الأدباء وأهل العصر وهذا القسم الأول وهو أطرب الشعر كان ظهر في مجلة الشرق ومعظمه في موضوعات دينية لأناس إذا تجوزنا وعددناهم نظامين فلا نعدهم(81/72)
في الشعراء بحال لأن الشعر شعوراً وأكثر هذه القصائد التي رآها مدير الشرق من الكلم النوابغ كالخرنوب رطل نشارة في دريهمات من العسل بل معظم القصائد لا وزن فيها ولا قافية ولا لفظ ولا معنى وغريب بعد كل ذلك أن تنشر هذه القصائد عَلَى أنها عنوان البلاغة والفصاحة ليتحداها طلابهما ولو أنصف ناشرها لرمى بها في سلة سقط المتاع ولما أتعب الطابع بصف حروفها والقراء بمطالعتها لئلا تخدش عليهم ملكتهم العربية وكان الواجب أن ينشر لهم الشعر العالي لمن اشتهروا في هذا العصر بجودة قريضهم وسلاسته أمثال إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وشكيب أرسلان ومعروف الرصافي وعبد المحسن الكاظمي وطانيوس عبده ونقولا رزق الله وعشرات غيرهم في مصر والشام والعراق وهم حملة راية القريض وأمراء البيان بلا جدال ومثل هذه القصائد أو معظمها تخجل الجرائد الساقطة من نشرها دع تخليدها في كتاب وبيعها من الناس لتفسد لهم ملكتهم وما الداعي لنشرها إلا لأنها تضرب عَلَى نغمة تهتز لها أوتار قلوب ناشريها وحبك الشيء يعمي ويصم.
الكتاب الثاني المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية هي كراسة في 64 صفحة من قلم الأب هنري لامس الهولاندي اليسوعي كان نشرها في مجلة الشرق وقد ألم بها حالة سورية الطبيعية والاقتصادية وببعض ما كتب العرب في وصفها في القرون الوسطى وأجاد المؤلف كل الإجادة في التعريف بذلك وكنا نود لو أتم هذه السلسلة المفيدة لأنه يكتب عن بحث طويل وينقب في كل ما نشره في هذه الديار من المصنفات تنقيب عالم ضليع في موضوعه واسع الأفق في المادة العربية والإفرنجية التي يستقي منها ولو كان لكل من يؤلفون من الكفاءة في موضوعاتهم ما للأب لامس لاستراح النقاد من نقد التآليف الغثة التي تصدر من مطابع الشام ومصر خصوصاً ولتوفرت عَلَى الأمة أغلاط وخرافات تزيدها أغلاطاً عَلَى أغلاطها وخرافات إلى خرافاتها.
الكتاب الثالث قانون بني عثمان المعروف بآصف نامه تأليف لطفي باشا وزير السلطان الكبير نشره الأب لويس شيخو علق عليه بعض حواش وفيه فائدة تاريخية نافعة لمن يتتبع تاريخ العثمانيين يعرف أسلوبهم في إدارتهم وسياسة بلادهم أيام عزهم.
البرامكة(81/73)
اعتاد صديقنا الموسيو لوسين بوفا من علماء المشرقيات أن يأتي الحين بعد الآخر إلى عالم العلم بأبحاث شرقية دقيقة تعد ابتكاراً وإبداعاً في بابها وآخر ما كتب بالإفرنسية بحث في البرامكة وتاريخهم نقلاً عن مؤرخي العرب والفرس وقد وقع بحثه في 144 صفحة أفاد فيها وأجاد عَلَى عادته وألم بجميع ما ينبغي أن يعرف عن هذه الأسرة التي كان لها شأن وأي شأن في أوائل الدولة العباسية.
تقويم البشير عن سنة 1913
هذه هي السنة السادسة والثلاثون لظهور هذا التقويم المفيد وهو في هذه السنة من تأليف الأب لويس معلوف اليسوعي مدير جريدة البشير وفيه فوائد غزيرة مثل حساب السنة بل السنين والأوقات والأعياد والأصوام وأسماء الرؤساء الروحيين ورؤساء الممالك وقناصل الدول ومعلومات نافعة عن ولاية بيروت ومتصرفية لبنان والولايات العثمانية وأحوالها الإدارية وأسماء قرى جبل لبنان وشذرات مدنية وتاريخية وجدول السلاطين العثمانيين وولاة العهد والجرائد والمجلات العربية في السلطنة وتعريفات البرد والتلغرافات والسكك الحديد وجداول النقود وإلى غير ذلك من الفوائد التي تهم مما دل عَلَى أن العناية بهذا التقويم تزيد سنة عن سنة بفضل مؤلفه وبعد نظره.
دروس الفقه
تأليف الشيخ محي الدين الخياط
طبع في المطبعة الأهلية في بيروت
تعنى المكتبة الأهلية في بيروت بطبع مختصرات مدرسية عَلَى نفقتها ومنها هذا الموجز اللطيف وهو يشتمل عَلَى ثلاثة فصول في أربعة وثلاثين درساً تفصل بها عقائد الإسلام وأحكام العبادات عَلَى الطريقتين النقلية والعقلية في 72 صفحة.
المطالب العلية في الدروس الدينية
تأليف الشيخ محمد راغب الطباخ
طبع في مطبعة البهاء بحلب سنة 1330
هذا القسم الأول من هذه الدروس النافعة العملية في العبادات وما يقتضي للصغير معرفته(81/74)
وقد قررت اللجنة العلمية ومجلس معارف ولاية حلب تدريسه لتلامذة السنة الأولى والثانية في المكاتب الابتدائية. والمؤلف من رجال النهضة السورية بفضله وفضائله.
بغية الراغبين وقرة عين أهل البلد الأمين
فيما يتعلق بعين الجوهرة السيدة زبيدة أم المؤمنين
تأليف السيد عبد الله الزواوي طبعت بالمطبعة الخيرية سنة1330.
هذه الرسالة تشتمل عَلَى ذكر أحوال عين زبيدة التي يستقي منها أهل مكة المكرمة وما لها من المنافع العمومية للقاطنين بتلك البقاع المقدسة والوافدين عليها من جميع الأقطار مع بيان الإصلاحات التي أحدثته اللجنة المؤلفة لذلك تحت رعاية سيادة شريف مكة وذكر مباحث تتعلق بخطط هذا البلد الأمين وغير ذلك.
الأربعون حديثاً في المسلسلة
جمعها عبد الله أفندي الكزبري طبعت بمطبعة الفيحاء بدمشق سنة 1330.
هي أربعون حديثاً مسلسلة بالسادة الأشراف متصلة سلسلتها بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه مرفوعة إلى النبي صلي الله عليه وسلم رآها جامعها في ثبت محدث الديار الشامية في عصره الشيخ عبد الرحمن الكزبري. وقد جعل لها مقدمة بنسب بيت الكزبري أجداده فله الشكر.
قاموس القضاء العثماني
لسليمان أفندي مصوبع طبع بمطبعة العرفان بصيدا سنة 1330.
كتاب من أحل الكتب التي صدرت تحت سماء سورية في العهد الخير يحتوي عَلَى جميع الأحكام الشرعية والقانونية المتعلقة بالمعاملات العادية والتجارية والمناكحات والعقوبات والفرائض والأوقاف ومقررات المعاهدات والامتيازات المعطاة للجانب وللرؤساء الروحيين من الملل غير المسلمة مضافاً إلى بعض الغامضة الشروح المعلقة عليها والمقررات الرسمية المفسرة لها مع مقررات الدوائر التشريعية التي وضعت لتحل محل بعض الأحكام القانونية. كل ذلك عَلَى حروف المعجم يسهل الاهتداء إلى مواده. وقد اعتمد فيه المؤلف وهو من رجال المحاماة في صيدا عَلَى مصادر منوعة عثمانية ومصرية تدل عَلَى تضلعه(81/75)
من هذا الفن الجليل وتلطفه في التنسيق والوضع وقد صدر من الكتاب حتى الآن ثلاثة أجزاء وقعت في 360 صفحة فنرجو من المؤلف التوفيق إلى إكمال عمله العلمي النافع.
في بلاد الناس أو رحلة الشتاء والصيف
لصاحبها عبد المجيد أفندي كامل
الجزء الأول طبع بمطبعة الترقي بدمشق سنة 1330 - 1912
هي رحلة موجزة رحلها المؤلف في بعض بلاد إيطاليا وسويسرا وفرنسا ووصف فيها ما أثر في نفسه وفيه النافع كما فيه شؤون لا تخلو منها بعض الرحلات الحديثة من الأحاديث الخاصة التي لا علاقة لها بالعموميات ولا تفيد الجمهور مثل الكتاب المنشور في صفحة 42 وما تبع ذلك من اتهام المؤلف المصري بتهمة التجسس بعض أبناء وطنه في أوربا. وقد قدم المؤلف رحلته إلى عبد المجيد أفندي نجل ساكن الجنان السلطان عبد العزيز خان.
كتاب الملهوف عَلَى قتلى الطوف
للإمام رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس
البغدادي.
طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1329.
مؤلف هذه الرسالة من علماء الشيعة في القرن السادس جسم فيها مقتل آل البيت عليهم السلام وما تقدم هذا العمل الفظيع في تاريخ الإسلام وما تأخر عنه من الوقائع المؤلمة عَلَى أسلوب مؤثر وقد وقع في 160 صفحة صغيرة.
هداية المتعلمين إلى ما يجب في الدين
للشيخ أحمد رضا طبعت بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1330.
هي رسالة مختصرة فيما يجب عَلَى المسلم معرفته وما يتحتم عليه الاعتقاد به عَلَى طريقة السؤال والجواب ألفه المؤلف لإفادة أبناء المدارس من ناشئة الوطن العاملي أي لأبناء الشيعة في بلاد بشارة وقد مزج فيه الاعتقاد الديني بالاعتقاد الزمني وأورد ما يجب عَلَى من يتمذهب بمذهبه اعتقاده في الإمامة.(81/76)
آثار ذوات السوار
لجامعه محمد عَلَى أفندي حشيشو طبع بمطبعة العرفان في صيدا
صفحة 160.
أجاد مؤلف هذا الكتاب وهو من نوابغ مدينة صيدا في اختيار هذا الموضوع لإفادة الجنس اللطيف والجنس النشيط معاً وذلك بجمعه عن أوثق كتب الأدب والحكايات والقصص. الأشعار والأجوبة التي صدرت عن النساء في صدر الإسلام وعهد نضارة لغة العرب وقد علق عَلَى بعض الألفاظ اللغوية شرحاً موجزاً يحل غامض المعاني فجاء كتابه جديراً بأن تعتمده في التدريس مدارس البنات العربيات ليعرفن كيف كانت جداتهن في الفضل والكمال ويأخذن البلاغة من معينها الصافي من الكدورات.
ديوان الأدب
في نوادر شعر العرب
لنسيم أفندي الحلو طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1912.
خص جامع هذا الكتاب الجزء الأول في نوادر الشعراء الأقدمين والثاني في نوادر الشعراء المعاصرين وعزا كل قصة أو قصيدة أو بيت لقائله فجاء كتابه مسلياً لطيفاً وحبذا لو كثرت أمثال هذه الكتب والرسائل التي يراعى فيها الأدب وذوق البلاد لتقوم مقام بعض الأقاصيص المعربة عن اللغات الإفرنجية التي كتبت لأمة غير أمتنا وهي لا تفيدنا في آدابنا ولا قلامة ظفر دع ما في أكثرها من الركاكة المستهجنة وقلة الأدب.
رسائل منوعة
الأولى ثلاث رسائل للشيخ حسن الشطي طبعت بمطبعة روضة الشام سنة 328 وهي رسالة في الكلام عَلَى البسملة الشريفة ورسالة في مبحث التقليد والتلفيق ورسالة في فسخ النكاح عَلَى المذهب الحنبلي.
الثانية كتاب مصر وسورية وهي مجموعة مقالات أدرجت في جريدة النصير البيروتية لنسيم أفندي ملول.
الثالثة أبناء الفقر أكثر تأثيراً في ترقية الهيئة الاجتماعية من أبناء الغني للمقيلة سلمى(81/77)
صائغ كساب وهو خطاب طبع في مجلة الحسناء.
الرابعة تقرير جمعية الملجأ الصحي التدرني في ظهر الباشق قرب قرية رومية لبنان 1911 - 1912 وفيه خلاصة أعمال هذا الملجأ ومن تبرعوا له وقانونه.(81/78)
أخبار وأفكار
المستعمرات الاجتماعية
أحدثت حماية الأولاد المهملين المتشردين والمجرمين عناية فائقة في جميع بلاد الغرب منذ ثلاثين سنة وكان السابق إلى الدعوة للنظر في هذا الأمر الخطير جول سيمون الفيلسوف الفرنسوي ثم تابعه كثير من أهل البحث والنظر والفلسفة وفي جملتهم الفيلسوف ريبو وقد ذهب الباحثون في ذلك مذهبين فمنهم من رأى أخذ الولد المجرم من أهله لئلا يؤثر فيه محيطهم وأن يسلم إلى أسرة شريفة تنظر في تربيته وتقدم عَلَى تهذيبه وقد نجحت هذه الطريقة كثيراً إلا أن بعض الباحثين في الجرائم يزعمون أنها لا ينتج نتيجة حسنة حقيقية في أحوال كثيرة من شأنها أن تحمل الولد عَلَى ارتكاب الجرائم منذ صغره لفساد طرأ عليه ومن رأيهم أن مدارس الإصلاح أو مستعمرات التوبة تنجح في تحسين حالة الأولاد الفاسدين ليس إلا وبهذا النظر أنشئت معاهد للأولاد فيلا البلاد الغربية مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا والمجر والبلجيك وهولاندة وسويسرا.
وأهم ما أنشئ من نوعها ما كان في سويسرا فإن أساسها النظام يعيش فيها الولد مطلقة حريتهم بدون أن يخضعوا لمراقبة الحراس عليهم ويعنى بهم عناية لا يشعرون بالثقل عليهم بها وهم محفوفون بكل ما يساعد عَلَى تربيتهم في محيط أدبي وإذا نظر إليهم المرء لأول وهلة يظنهم تلامذة داخليين متمتعين بحريتهم ولهم حرية تامة في أعمالهم يذهبون ويجيئون كما يشاؤن ويتكلمون كما يفكرون ويعملون بدون أن يستولي عليهم أدنى خوف من سلطة فوق رؤوسهم ولا يلاحظون أنهم مراقبون يعيشون كأنهم في عائلة متمتعين بحماية خالية من القسوة الظاهرة ومن مرض منهم يعنى بأمره عناية فائقة كأنهم بين أهلهم وذويهم وهكذا لا يزالون بهم حتى ينسوا أن ماضيهم كان سيئاً ويكفرون عما أقدمت أيديهم بتحسين الخلاق وتوسيع العقل وهذه الطريقة تعدهم للدخول ذات يوم في المجتمع الذي يتلقاهم كأنه نسي ما أتوا سابقاً.
وبعد ظهر كل أحد يعطون دروساً في التربية في صورة محاصرات تؤخذ موضوعاتها من تاريخ مدنيات الأمم. وتكون هذه المحاضرات بحسب سني الأولاد يلقيها معلمون أو معلمات وإذا شوهد أن أحد الأولاد لم ينجع فيه نصح القائمين عَلَى إصلاحه يعزل عن رفاقه بدون(81/79)
أن تساء معاملته. وبالجملة فكان خير طريقة في هذا الباب طريقة التربية عَلَى الأسلوب البيتي وتكون هذه المستعمرات في الفلاة وسط الغابات حيث يجتمع الأولاد فرقاً فرقاً كل فرقة مؤلفة من خمسة عشر ولداً تحت نظارة معلم يسمونه أبا الأسرة ويسكن معهم في مستعمرتهم ويعيش وإياهم يلعب ألعابهم ويعنى بإصلاح ذكائهم أو إعداده ويهيئ لهم مستقبلهم بان يعلم كل واحد منهم صناعة وقد كان سنة 1900 في سويسرا 36 معهداً مثل ذلك فيه 1578 ولداً.
حماية الطيور
تفكر إنكلترا بسن قانون تحظر فيه صيد الطيور إلا قليلاً إذ ثبت أن النافع منها في إهلاك الحشرات قد يصاد فيعود من ذلك ضرر كبير عَلَى الزراعة. والناس بعد التفنن في أسلحة الصيد عادوا فأنشأوا أسلاكاً كهربائية يضعونها فيصعقون بها دفعة واحدة عشرة آلاف طير فإذا شاعت هذه الطريقة في كل مكان لا تلبث ضروب الطيور أن تنقرض وقد حسب العلماء أنه أذا انقرض الطير لا تمض ثمان سنين حتى لا تعود الأرض صالحة لسكنى الإنسان. ورأى بعضهم أن خير طريقة لمنع صيد الطيور أن تشدد الحكومات فيه كثيراً وأن يعاونها الناس في تنفيذ القوانين كأن يعلم المدرس في المدرسة منافع الطيور ومضار فقدها لأنهم تحققوا فيلا أوربا أن المدارس التي عني معلموها بنصح التلاميذ أن لا يأخذوا أعشاش الطيور ليلعبوا بها قد أتت بنتائج حسنة وقد أقاموا في المجر سنة 1907 عيداً سنوياً للطيور اشترك فيه زهاء مائتي ألف ولد وقد زرعت النمسا في السنة الماضي أربعة عشر عش صناعي مجاناً وفي ألمانيا يعاقب من يزيل وكنة أحد الطيور بغرامة مائتي مارك وربما حبس أحياناً ولكي ينال المرء الحق في وضع بلبل في قفص يجب عليه أن يطالب رخصة خاصة ويدفع رسماً لمنفعة بيوت الإحسان أما سويسرا فقانونها لحماية الطيور أشد منكل بلد حتى لقد يصبح أن تسمى الجمهورية محبة الطيور - عن مجلة الديبا الفرنسوية.
لاتقاء الحر
اشتدت الحرارة هذه السنة في أكثر الأقطار وقد كتبت بعض المجلات الأوربية نصائح الصحية للناس خلال فصل الصيف جاء فيها أن ما يعمد إليه الناس من استعمال المثلجات(81/80)
والمبردات قد ينشأ من احتقان مختلف الأشكال ويحدث تعباً في الجسم وإعياء فالمبردات لا تبرد الجسم بل تثقل عَلَى المعدة وتفسد الطعام الذي فيه وتتعب الكلى والمثانة بيد أن العرق مفيد لأنه عبارة عن غسل الداخل نحو الخارج لأنه يحذف المواد الوسخة من الجسم ولاسيما جوهر البول والحامض البولي ولكن ذلك لا يطلب بتناول المثلجات بل الرياضة المعتدلة عَلَى شرط أن يغير المرء ثيابه كلما عرق لئلا يبرد جسمه بهذا التبخر وينبغي الامتناع في الحر عن المشروبات الروحية وأن لا يتعرض المرء للشمس فلا يخرج إن أمكن من محله وقت اشتدادها وإذا خرج فلا باس أن يحمل شمسية ويجعل عَلَى عنقه منديلاً ويلبس ألبسة رفيعة تكون إلى البياض أقرب واسعة بحيث يتخللها الهواء وأن يقلل الطعام ولاسيما ما كان منه مهيجاً ويكون عَلَى الأكثر ألباناً وبقولاً وينبغي أن تكون الثمار ناضجة جداً مطبوخة عند الاقتضاء وأن يمتنع عن الزبدة والمربيات وأن يقتصر عَلَى الماء المقطر النقي يؤخذ عند العطش بكمية قليلة أو تؤخذ مياه معدنية مكفولة من ينابيعها وأن يستحم المرء وينام مغطى قليلاً لئلا يختلف الهواء في الليل فما يضر بصحة النائم التقلب من حر إلى برودة ولا بأس بأن يفتح باب غرفة النوم إذا كانت متصلة بغرفة أخرى يلعب فيها الهواء أو تكون متصلة بدهليز.(81/81)
العدد 82 - بتاريخ: 1 - 12 - 1912(/)
رسالة في الكلمات المعربة
لابن كمال باشا المتوفى سنة 942
تابع ما قبله
السين: الساباط موضع بالمداين معرب بلاس آباد وبلاس اسم رجل وصوب تعريبه من شاه آباد معناه معمور الملك والساباط سقيفة بين دارين تحتها طريق (الساذج) هو المجرد أو الأطلس معرب ساده (السبج) هو الخرز الأسود معرب شبه (السبيج) البقير وهو القميص معرب شبي (السبذة) بالتحريك شبه المتكتل معرب (الستوقة) هي التي وسطها نحاس أو رصاص ووجهها فضة معرب سه تويه (السجنجيل) هي المرآة رومية معربة (السجيل) عن مجاهد أنه فارسي أوله حجارة وآخره طين معرب سنك أي حجارة الطين (السجين) ذكر أبو حاتم في كتاب الزينة أنه غير عربي (السخت) قال أبو عبيدة ربما وافق الأعجمي العربي كما قالوا غزل سخت أي صلب وقيل السخت الشديد وربما استعملت العرب بعض ألفاظ العجم كما قالوا للمسح بلاس (السختيان) ويفتح جلد الماعز إذا دبغ معرب (السدير) فارسي معرب أصله سدلي أي قبة في ثلاث قباب متداخلة (السرداق) ستر الدار معرب سرابرده هذا ما عليه الأكثر وأما ما قيل أنه معرب سرطاق فمبني عَلَى المناسبة اللفظية (السرداب) بناء تحت الأرض للصيف معرب (السرقين) الروث معرب سركين (السفتجة) كقرطقة أن يعطى مالاً لأحد وللآخذ مال في بلد المعطى فيوفيه إياه ثمة فيستفيد أمن الطريق وفعله السفتجة بالفتح معرب سفنه (السكباج) حساء حامض معرب سركبا (السكر) ما ينعقد من ماء القصب معرب شكر (السكنجبين) شراب قامع للصفراء معرب سركنكبين (السمرج) استخراج المال قي ثلث مرات معرب سامره (سمرقند) معرب شمر كند قال ابن خلكان أن شمر اسم جارية الإسكندر مرضت مرضاً شديداً فوصف لها الأطباء أرضاً ذات هواء طيب وأشاروا له بظاهر صفة فأسكنها إياها فلما طابت بنى به مدينة وكند بالتركي المدينة فكان يقول بلد شمر (السمند) دابة نارية معرب سمندر (السميد) نوع من الخبز معرب (السنباذج) حجر المسن معرب (سنجة) الميزان مفتوحة وبالسين أفصح من الصاد فإنه معرب سنك (السندس) بالضم ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف (السوذنيق والسوذق) بفتح السين فيهما الصفر وقيل الشاهين عن الغوري وكذلك(82/1)
السوذانق بضم السين وكسر النون وكلها فارسي معرب (السور) الضيافة فارسية شرفها النبي صلى الله عليه وسلم (السياسة) في النجوم الزاهرة أن جنكيزخان قسم ممالكه بين أولاده الثلاثة وأوصاهم بوصايا لم يخرجوا عنها وبقوا مع كثرتهم واختلاف أديانهم عَلَى ذلك يعبرون عن ذلك سه سيا فثقل عَلَى لسان العرب فغيروا الترتيب فقالوا سياسة (السيب) التفاح فارسي معرب ومنه سيبويه أي رائحته لقب عمرو بن عثمان النحوي الشيرازي (السيرج) معرب شيره روجن.
الشين: (الشاروف) هي المكنسة معرب جاروب (الشاكري) الأجير والمستخدم معرب جاكر (الشبكرة) العشا معرب فعلله من شبكور وهو الأعشى (الشص) ما يصاد به السمك معرب شت (الشطرنج) معرب شترنك والسين لغة فيه أو من الشطارة من القاموس في الأخير نظر (الشفارج) كعلابط وهو الطبق فيه الكرجات معرب بيشارج (الشمختر) كسفرجل اللئيم المنحوس معرب شو اختر أي منحوس الطالع (الشنقار) نوع من ذوات المخلب معرب سنقر (الشوذر) هي الملحفة معرب جادر (الشيطرج) بالكسر دواء معروف معرب جرنك.
الصاد: (الصرد) البرد فارسي معرب (الصرم) الجلد معرب جرم (صرمنجان) ناحية من نواحي ترمذ معرب جرمنكان (الصقر) نوع من ذوات المخلب معرب جرخ (الصك) كتاب الإقرار معرب جك (الصنار) في الأساس الدلب الصنار منه يتخذ النواقيس معرب جنار (الصنج) آلة بأوتار يضرب بها معرب جنك (الصولجان) هو المحجون لعله معرب جوكان.
الطاء: (الطاجن والطجين) مولدة إذا الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية (الطارج) الطري معرب تازه ومن الحديث الصحيح الجيد النقي (الطباشير) معرب تباشير (الطبرزذ) نوع من السكر كأنه نحت بالفأس معرب تبرزذ وعربيته المبرت ومعناه المضروب بالبرد وهو الفأس (الطراز) بالكسر علم الثوب معرب (الطرخون) نبات معروف أصل عروقه العاقر قرحا (الطست) معروف معرب تشت (الطشختان) معرب تشت خوان (الطنبور) معرب أصله دنبهء بره شبه بالية الحمل (الطنجير) بالكسر معرب تنجره (الطيلسان) مثلثة اللام عن عياض معرب تالسان.(82/2)
العين: (العراق) قال الأصمعي أصلها بالفارسية ويران شهر أي بلد الخراب فعربوها فقالوا العراق (العسكر) أصله لشكر في الأساس له عسكر من مال أي كثير وشهدت الكسرين أي عرفة ومنى فلا يطلق إلا عَلَى جم غفير وجمع كثير (عيسى) عَلَى مسماه الصلاة والسلام معرب أيشوع.
الغين: (الغيذا) الحمار معرب من الرومية (المغناطيس) حجر يجذب الحديد معرب (الغساق) البارد المنتن بلسان الترك.
الفاء: (الفالج) مكيالضخم معرب بياله (الفالوذ والفالوذق) معربان ونقل فالوذج (الفاليز) أرض يزرع فيها مثل البطيخ والخيار معرب باليز (الفانيذ) ضرب من الحلواء معرب بانيد (الفرانق) دليل البريد معرب بروانك (الفرجار) معرب بركارا (فرزان) الشطرنج بالكسر معرب فرزين بالفتح (الفرسطون) هو القباون رومية (الفستق) كقنفذ معرب بسته (الفلفل) معروف معرب بلبل (الفلج) بالتحريك معرب فتك (الفنزج) رقص للعجم يأخذ بعضهم بيد بعض معرب بنجه (الفوتنج) دواء معرب بوتنك (فور) بلد بساحل بحر الهند معرب بور (فهرس) الكتاب معروف فهرستت (الفيج) هو المندب الساعي معرب بيك (الفيلسوف) محب الحكمة معرب أصله فيلا سوفا وفيلا هو المحب وسوفا هي الحكمة ومنه اشتقت الفلسفة كما اشتقت السفسطة من سوفسطا معناه الحكمة المزخرفة منه أسطا بالتركي (الفيهج) ما يكال به الخمر معرب.
القاف قابوس قابوس ممنوع للعجمة والمعرفة معرب كابوس القالب بفتح اللام معروف كالبدر اتفق أنه وازن الخاتم والعالم فظن أنه من القلب القانون الطريق والقياس دخيل القبج معرب كبك لأن الجيم والقاف لا تجتمعان في كلمة عربية القراميد هي الآجر لعلها معربة بقال بناء مقرمد مبني بالآجر وبنى بيته بالقراميد القرد العنق معرب كردن القرمز دود يصبغ به قرميسين بالكسر بلد قرب الدينور معرب كرمانشاهان قسبند معرب كسبند لما يشد في الوسط أو كوسبند للشاة القسطاس صلاية الطيب رومية القسي هو الدرهم الذي خالطه غش وتدليس قال وخمسميء منها قسي وزائف قال الفارسي أن هذه اللفظة معربة ليست بأصل في كلامهم ويقال فعيل من القسوة القطوفا الذي يضاف إليه البزر فيقال بزر قطونا أعجمي معرب القنشليل المغرفة معرب كغجه ليز القمنجر القواس معرب كمانكر(82/3)
القنطار اثنا عشر ألف أوقية رومية القهندز هو الحصن القديم كهن دز ولا يوجد في كلامهم دال ثم زاي بلا واسطة القوش الصغير معرب كوجك (القيراون) معرب كاروان.
الكاف: (الكاغد) هو القرطاس معرب (الكراسة) بالتشديد واحدة الكراس الجزء من الصحيفة والكراريس جمع معرب كراسة بالتخفيف (الكرباس) بالكسر ثوب من القطن معرب أصله بالفتح غيروه لمزة فعلال (الكرج) كقبر هو المهر معرب كره (الكرد) العنق معرب كردن (الكسيج) كبرقع الكسب معرب (الكستيج) بالضم خيط غليظ يشده الذي فوق ثيابه دون الزنار معرب (كسرى) لقب ملوك الفرس معرب خسروا أي واسع الملك (الكس) الهن فارسي معرب (الكعك) نوع من الخبز يتزود به معرب كاك الكلاب خشبة يشد في رأسها عقافة أو من الحديد معرب قلاب الكنز المال المدفون لعله معرب كنج الكنيسة في القاموس هي معبد اليهود أو النصارى أو الكفار وذكر الجواليقي أنه معرب كنشت وتبين من تحرير صاحب القاموس عدم اختصاص الكنيسة باليهود ولا يقدح بذلك اختصاص كنشت بهم لأن اختصاصهم لا يوجب اختصاص معربه الكوز إناءٌ له عروة معرب كوزة الكيمياء دخيلة.
الميم: (الماجشون) لقب عالم مشهور معرب ماه كون (المارستان) دار المرضى معرب بيمارستان ويسمى دار الشفاء تفاؤلاً كالسليم والمفازة (المالج) ما يطين به معرب ماله المترس خشبة توضع قبل الباب فارسية أي لا تخف المج بالفتح حب معرب ماش المجوس ذكر الجواليقي أنه معرب المرنج المرد والوجه ضم ميمه لأنه معرب مرده المرجان ذكر الجواليقي أنه معرب المرداسنج وقد تسقط الراء الثانية معرب مرداسنك المرزجوش بالفتح المردقوش معرب مرزنكوش المستقة فرو طويل الكمين تفتح التاء وتضم معرب مشته المسك بالفتح معرب مشك المسك بالكسر معرب مشك المسيح لقي عيسى ع م وهو من الألقاب المشرفة معرب مشى معناه المبارك عبرية كما يقال في موشى موسى مشكدانة بالكسر وبالشين المعجمة لقب عبد اللع بن عمر بن أبان المحدث لطيب ريحه وأخلاقه فارسية معناه موضع المسك مصر علم بلدة عظيمة مشهورة بأم الدنيا معرب مصراييم المنجنيق جمع موبذان أو موبذ بضم الميم وفتح الباء فقيه المجوس المواتيد هي البقايا واحدها معرب ماتده المهرجان هو فصل الخريف معرب مهركان المهرة هي الخرزة(82/4)
كان النساء يتحببن بها معرب المينجتج هو المطبوخ من الأنبذة معرب مي نجته الميزاب فارسي معناه الأصلي بل الماء هربوه بالهمز ولهذا جمعوه عَلَى مآزيب.
النون: الناخذاة مالك سفينة البحر أو وكيله والجمع النواخذة النارجيل جوز الهند أعجمي عَلَى غير أبنية العرب الناريج ثمر معروف معرب نارتك النبريج بالكسر الكبش يخصى فلا يجز له صوف أبداً معرب نبريده النبهرجة هي الزيف الردئ معرب نبهره النردشير لعب معروف وضعه أردشير بن بابك ولهذا يقال له النردشير.
النسف كجبل معرب نخشب النشا لب القمح المنقوع معرب نشاسته حذف شطره.
نهاوند مثلثة النون والكسر عن الصغاني والضم عن اللباب بلد من بلاد الجبل جنوبي همذان أصله نوح آوند لأنه بناها النموذج بفتح النون مثال الشيء ن معرب نموده والأنموذج لحن النيرنج معرب نيرنك وجمعه النيرنجات النيروز أول يوم من السنة الشمسية معرب نوروز نيسابور قال نصر بن محمد بن أبي الفنون النحوي سين العربية شين في العبرية فالسلام شلام واللسان لشان والاسم اشم.
الواو: الونج بالتحريك مدينة نسف معرب ونه ومنه الإمام المحقق أبو حفص عمر بن أحمد النسفي.
الهاء: الهاون المنجار معرب هاوون الهربذ كزبرج خادم نار المجوس معرب هربذ جمعه هرابذة الهملاج بالكسر من البرازين المهملج فارسي معرب الهنداز بالكسر الحد معرب أندازه ومنه المهندز لمقدر مجاري القني والأبنية وإنما صيروا الزاي سيناً لأنه ليس في كلامهم زاي قبلها دال وإنما كسروا أوله وهو في الفارسي مفتوح لغزة بناءِ فعلال في غير المضاعف. مهندم يقال شيء مهندم أي مصلح عَلَى مقدار وهو معرب إندام مثل مهندس أصله إندازه الهيولى أصل الشيء من اصطلاحات الحكماء وليس بعربي محض في القاموس الهيولى القطن وشبه الأوائل طينة العالم به.
الياء: اليارق الجبارة وهو الدستبند العريض الياسمين نوع من الرياحين معرب الياقوت نوع من الجواهر أجوده الأحمر معرب اليشب حجر معروف معرب يشم اليوم معرب يوماً حذف الفه للتعريب اليهود فارسي معرب يهوذا كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب أو عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل.(82/5)
إنما الله آله واحد ... فرية الشرك وبال الجاحد
بسم الله الرحمن الرحيم
حامداً لمن جعل العقل في جامع هيكل الإنسان كالشمع ومصلياً عَلَى أشراف أفراد وصفوا بالجمع وعلى آله وأصحابه كل واحد منهم كالألف وخلف من بعدهم خلف وبعد فهذه جامعة الألفاظ وضعت بالعربية بالجمع اعتباراً للأجزاء كالأفراد نطفة أمشاج جمع مشج أو مشيج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها (برمة أعشار) مكسرة عَلَى عشر قطع أو عظيمة لا يحملها إلا عشرة ثوب أسمال أي أخلاق وما عليه الأسمل وأسمال رمح أقصاد جمع قصد وجمع قصدة في القطعة من الشيء إذا انكسر من قصدت العود إذا كسرته ورمح أقصاد قال الأخفش هذا أحد ما جاء عَلَى بناء الجمع قلب أعشار أي متوزع (بلد أخصاب) و (بلد سباسب) يكون الواحد يراد به الجمه كأنهم جعلوه أجزاءً (أرض أحامس) أي جدبة (جفنة أكسار) أي عظيمة موصلة وفي الأساس هي المقاري الكبار المشعبة (حبل أرمام) أي خلق رم قوسه أصلها ورم العظم والحبل حبل أرمام (بئر أنشاط) تخرج دلوها بجذبة واحدة (حلة أنواف) من النوف نقاط بياض في أظفار الأحداث (حبا أرماث) أي خلق (ماء أسدام) عَلَى وصف الواحد بالجمع مبالغة أي متغير (ثوب شراذم) لما بلي وتقطع (معا جياع) أي ساغبه (نعم إغفال) لا سمات عليها (ثوب أكياش) هو الذي أعيد غزله (غزل أنكاث) استفدته من قوله نقضت غزلها إنكاثاً (حبل إنكاث) منكدث (ثوب أخلاق) إنما قالوا أثواب أخلاق أرادوا أن نواحيه أخلاق (نعل أسماط) أي غير مخصوفة (سراويل أسماط) أي غير محشوة.(82/6)
المدنية السياسية
في
القرن العشرين
أما حان خوض المأزق المتلاحم ... وهز يراع فيه سم الأراقم
فقد ضج من وقع البلاء وبرحه ... (بنو الشرق) حتى ضاق ذرع المكارم
وأكبر أقطاب الشعوب تعصباً ... رمونا به من قبل شد التمائم
فلو مر منهم طارق الطيف بيننا ... وريع لدكوا مشمخر الدعائم
وثارت أساطيل. وطارت مطاود ... ودبت جيوش بالقنا والصوارم
ولو عقدت الموت الزؤام عجاجه ... وخيم مثل العارض المتكارم
وسدت فجاج الشرق أشلاء أهله ... وجاش بآذي الدم المتلاطم
لما انحدرت من مقلة الغرب عبرة ... ولا ارتفعت في الغرب صيحة لائم
ولا قيل أين السلم؟ والعدل؟ والحجي ... ولا أين - إنجيل المسيح المسالم ـ
فقد بات في (مراكش) السيف مصلتاً ... يراوح ما بين الطوى والحلاقم
ودارت رحى الأهوال في أرض (برقة) ... وذاق (بنو طهران) من العلاقم
وهبت إلى (دار الخلافة) عصبة ... من القوم والأضغان ملء الحيازم
وهدد (فردينند) قوم (محمد) ... بأندلس آخر غداة التصادم
فأين ملوك الغرب؟ أين رجاله ... فتأخذهم للسلم غضبة ناقم
فإن كان ضعف المرءِ ذنباً يشينه ... فلا خير في ملك ولا شرع حاكم
وكيف يكون النهي والأمر في يد ... ملوثة من مهدها بالجرائم
فيا لك من عصر يلوذ بظله ... ثعالب في زي الليوث الضراغم
يخالب فيهم (ذو السياسة) تره ... ويرهف للعدوان غرب العزائم
وما الشر طل الشر إلا لأنه ... يحاول باسم الخير جر المغانم
ولله در الغرب فالقوم كلهم ... ملائك لم يعلق بهم وهم واهم
فما انتفخت أوداجهم من تعصب ... ولا امتلأت أحشاؤهم من شخائم
ولله أرض شرفوها بوطئهم ... فما عرفت من بعد عيب واصم(82/7)
وإن غض منهم خوضهم في ضلالهم ... وشعث منهم سعيهم بالنمائم
تعرض سيف. وانبرت بندقية ... ودافع عنهم مدفع غير واجم
وذلك ما يدلي به القوم إن كبت ... بهم حجة أو عز قمع مخاصم
جهلنا ولم ندرك حقيقة أمرهم ... وران عَلَى الألباب ريب المزاعم
كنار يجول الليل دون دخانها ... فيخفى ويبدو ضوئها غير قاتم
فيا ليت أسرار الطبيعة لم تزل ... محجبة في الغيب عن كل عالم
فلا يرفع البارود في الناس صوته ... ويبرم فيه حكمه غير راحم
ولا تذر الأرجاء مخترعاتهم ... تموج بأنواع الحتوف الغواشم
فنقنع في الجهل الذي فيه راحة ... وننعم في غي الظنون الرواجم
فلا يزرع (العلم الحديث) عن الهوى ... نفوساً أبت إلا ركوب المظالم
فما هذبوا بالعلم إلا سلاحهم ... ويا ويح علم بات معول هادم
يصب عَلَى البلدان صوت عذابه ... وينسف فيها كل عال وقاتم
ويعصف بالأرواح في كل غارة ... تقام بها الأعراس بين المآتم
يقولون - هذا القرن - تم شبابه ... فهذا ربيع الدهر جم المواسم
وحسبك (بالعشرين) طيشاً وخفة ... تجر عَلَى الإنسان شل المغارم
فيا رب قد كنت (لآدم) وحده ... جنانك ما من كاشح أو مزاحم
يروح ويغدو في النعيم مسبحاً ... بحمدك مغموراً بفيض المراحم
فما هي إلا هفوة منه مرة ... فأصبح ذاك المجد أضغاث حالم
فهل جنة من بعد هذا لنسله ... وقد هتكوا بالبغي ستر المحارم
وبات طلاع الخافقين فجورهم ... ولم يقرعوا من أجله سن نادم
ففجر من الطوفان ثجاج مائه ... ليغشل عنها رجس تلك المآثم
أجل!! أنت عدل!! تلك آثار (تدمر) ... (وبابل) في طي المدى المتقادم
وقد باد ملك الروم إلا رسومه ... وكم قيل ملك الروم غير مقاوم
وكم شحذ اليونان رأياً مسدداً ... فطاش بهم عند الخطوب الدواهم
وذلك ما زاد التفجع والأسى ... وعلمان كيف احتقار العظائم(82/8)
فيا دولاً ذل القضاء لأمرها ... فساد صروح الملك فوق الجماجم
وكاثر كثبان الرمال عديدها ... وقامت بأعباء الأمور الجواسم
رويداً - فإن الدهر مازال صرفه ... يدور - وإن الملك ليس بدائم
ويا رمم القتلى بكل تنوفة ... ويا لهب النيران بين العواصم
ويا دارس الأطلال في كل دمنة ... ويا ماثل الآثار بين المعالم
ويا موج (بحر الروم) في كل ساحة ... ويا خفقات الريح بين العوالم
ففي حدثي التاريخ عن مدنية ... يشارك فيها الوحش أبناء آدم
الديار المصرية // فؤاد الخطيب(82/9)
تذكرة ابن العديم
ابن العديم هو عمر بن كمال الدين العقيلي الحلبي رئيس الشام المتوفى سنة 666 كان محدثاً فاضلاً حافظاً مؤرخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً محموداً درس وأفتى وصنف وترسل عن الملوك وكان رأساً في الخط المنسوب لاسيما النسخ والواشي وله التصانيف الرائقة منها تاريخ حلب أدركته المنية قبل إكمال تبييضه وله كتاب الدراري في ذكر الذراري صنفه للملك الظاهر غازي وقدمه له يوم ولد ولده الملك العزيز وكتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني جرادة وكتاب في الخط وعلومه وآدابه ووصف ضروبه وأقلامه وكتاب رفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وكتاب تبريد حرارة الأكباد في الصبر عَلَى فقد الأولاد. قال ياقوت: وكان إذا سافر يركب في محفة تشيله بين بغلين ويجلس فيها ويكتب. وقد رحل إلى العراق ومصر والحجاز وتولى من أجداده خمسة قضاء القضاة في حلب عَلَى التوالي ومن شهره.
فوا عجبا من ريقه وهو طاهر ... حلال وقد أضحى عَلَى محرما
هو الخمر لكن أين للخمر طعمه ... ولذته مع أنني لم أذقهما
ولابن العديم شعر مستملح ونثر عذب ومن كتبه التي أبقتها الأيام كتاب التذكرة دخل دار الخديوية بالقاهرة جزء منه في بضعة أجزاء أولها الجزء الخامس وآخرها الجزء السادس عشر في 205 ورقات صغرى أولها:
جفني بجفنك قد جفاه هجوعه ... والقلب واصله عليك ولوعه
وسقام جسمي فيك عز ذهابه ... والنوم عز عَلَى الجفون رجوعه
ومما جاء فيها:
أنشدني منجب الدين ابن الأمان المذكور قال أنشدني القاضي وجيه الدين ميلف ابن الصنديد الشيزري قال أنشدني للأمير شرف الدولة ابن المنقذ نفسه وكانت الزلزلة قد خربت شيزر اثنتين وخمسين وخمسمائة وسقطت القلعة عَلَى أخيه وأولاده وزوجته الخاتون أخت شمس الملوك فسلمت دونهم ونبشت من الردم فجاء نور الدين محمود بن زنكي إلى شيزر وتسلمها وطلب من زوجة أخيه أن تعلمه بالحال وتهددها فقالت له أن الردم سقط عليها وعليهم ونبشت سالمة دونهم ولا تعلم بشيء وإن كان لهم شيء فهو تحت الردم وكان شرف الدولة غائباً فلما حضر وراى شيزر وما حل بها وعاين زوجة أخيه بعد(82/10)
العز في ذلك الذل عمل:
ليس الصباح من المساء بمثل ... فأقول لليل الطويل ألا انجلي
شلت يد الأيام أن قسيها ... ما أرسلت سهماً فأخطأ مقتلي
لي كل يوم كربة من نكبة ... يهمى لها جفني وقلبي يصطلي
يا تاج دولة هاشم بل يا أبا ... التيجان بل يا قصد كل مؤمل
لو عاينت عيناك قلعة شيزر ... والستر دون نسائها لم يسدل
لرأيت حصناً هائل المرأى غداً ... متهيلاً مثل النقا المتهيل
لا تهنئني فيه السعادة لمسلك ... فكأنما تسري بقاع مهول
ومنها يشير إلى زوجة أخيه المذكورة:
نزلت عَلَى رغم الزمان ولوحت ... يمناك قائم سيفها لم ينزل
فتبدلت عن كبرها بتواضع ... وتعوضت من عزها بتذلل
نها وأنا أخوك مقال جا (؟) محصلاً ... سبلاً وأزمع وهو غير محصل
ودفنت بين ثلاثة ضاجعتهم ... كالليث ضاجعه ثلاثة أشبل
وقال قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم في المجلد الثني:
نقلت من خط أبي عمرو الطرطوسي لأبي القاسم الحسن بن الحسين التميمي الواساني يمدح الأمير أبا الفضل سعيد بن شريف بن سيف الدولة بن حمدان ويسأله في رد حمامه وداره وكانتا مقبوضتين مقتطعتين لبعض الجند:
لو كنت أمدح للجدا ... لشرعت في بحر الندا
وأقمت بالتأميل مولا ... نا الأمير السيدا
أولى الملوك بأن ينا ... ط به الرجاء ويقصدا
وأحق أن يهب الطري ... ف لسائل والمتلدا
داري وحمامي أق ... ل لديك من أن يوجدا
فهما الغداة كقطرة ... مدت خليجاً مزبدا
فوعده أبو الفضائل بإطلاقهما فكتب إليه يتنجز توقيعاً بذلك:
يا أيها الملك الجليل ... ظني بك الحسن الجميل(82/11)
ولعبدك المسكين في ... حمامه خطب جليل
مالي إليه بغير تو ... قيع أرواح به سبيل
فأمنن بتوقيع به ... يأمن له المجد الأثيل
فأطلق له ذلك وسلمه إليه فقال يشك ره لما تسلم ذلك:
أيها السيد استمع قول عبدك ... لم يشبه بالزور والبهتان
بل هو الحق اشهد الله والنا ... س وآتي عليه بالبرهان
أتت والله فهي بالغة الإ ... يمان أهل لليمن والإيمان
وحقيق بأن يبلغك الل ... هـ برغم العداء أقصى الأماني
يا أمير القلوب قاد هواها ... واشتراها بأوفر الأثمان
فهي تعنو له وتمحضه النص ... ح بلا ريبة ولا أدهان
ذاك أن القلوب تملك بالإحسان والخوف مالك الأبدان
لا يرى أن يقول لا أبداً ... لفظاً بها أو إشارة ببيان
وكريم المزاح إن حضر الزا ... د لبسط الإكليل والندمان
أقرب القوم منه من جاء للحا ... جة غرثان عند وضع الخوان
وحفي بفتية ليس منهم ... غير ماض العزيم ثبت الجنان
ووفي بعهده طاهر القل ... ب جدود في نصحه غيروان
دهره بين نثره وحسام ... وجواد ذي ميعة رسنان
غير صاغ إلى سماع أغان ... مطربات ولا كعاب أغان
فهو والمجد مثل طرفي رهان ... أو شقيقين ارضعا بلبان
ما تكنى أبا الفضل حتى ... فضل الناس بين قاص ودان
وتسمى باسم السعادة والأس ... ماء موصولة العرى بالمعاني
هو والله مشتري فلك أصبح باليمن دائم الدوران
سار في برجه فأطفأ بالسعد نخوس المريخ والدبران
طرف الله عين عداه وإن ساء عدوا ما قلت عين الزمان
وكفانا فيه الملمات ما صوب نجم أو لاح برق يمان(82/12)
فوحق الأنعام والكهف والطو ... ر وطه وسورة الرحمن
لو تركنا نختار بين الأماني وضقنا وهن بالأرسان
ما بلغنا في الحدس والظن مع ... شار سرور نراه رأي الأعيان
يا كريماً آباؤه أمراء الع ... رب والعجم من بني ساسان
أل حمدان سادة الناس مذ كا ... نوا قديماً في سالف الأزمان
وأحق الملوك بالفخر من أضح ... ى أميراً عَلَى بني حمدان
سيد يشتري الثناء ويخشى الل ... هـ في سره وفي الإعلان
فلأنت الأحق قد علم الل ... هـ بأن تصطفى لهذا المكان
باتفاق من سائر الناس من ح ... بي معد معاً ومن قحطان
نحن ما دمت آخذاً بزمام الملك من ريب دهرنا في أمان
لا يخاف البريء منا ولا ... ييأس جان من رأفة وامتنان
أحمد الله يا سعيد عَلَى أنك كهفي من كل إنس وجان
وعلى أنني بجودك في ظ ... ل من العيش ناضر فينان
وقد تحيرت والمهيمن في شكرك مالي بما بديت يدان
أي شيء يجز بك عني ومالي ... غير ودي وغير شكر لساني
وهما يقصران عنه ولو كنت كقس في النطق أو سبحان
غير أني قد بعت نفسي ... مولانا وإن لم أساو ما أولاني
فخذ الآن عهدتي وارض من عبدك ما يستطيعه إمكاني
لأكون امرءاً تقصيت جهدي في جزاء الإحسان بالإحسان
للسابق أبي اليمن محمد بن خضر المعري
حلب معهد الصبا والتصابي ... فسقاها الوسمي ثم الوالي
موطني بعد موطني فكأَني ... لغرامي بحبها البحتري
فلديها كل الفنون وفيها ... ما اشتهاه الشرعي والفلسفي
غير إني أرى الأطايب شرزاً ... وحليف الإفلاس عنها قصي
وقال في عبد الودود النحوي(82/13)
كشف رأس النحوي غير عجيب ... هل رأى الناس أَيلا بعمامه
هو صدر إن كان زهداً وعلماً ... قصر الثوب وانكشاف إلهامه
ودعوه فالعذر فيما أتاه ... ليس يخفى وظالم من لامه
لو تخلى من المحال لأمسى ... بيته في خلو أطلاله رام
طالما جاع في الزمان محق ... مثل ما ضاع زاهد علامه
وكتب إلى بعض الرؤساء يشكو رجلاً يقال له ابن العقيدة من أهل حلب.
العبد يشكو علة في جسمه ... وإليك يشكو علة في حاله
وابن العقيدة في الإساءة زائد ... لا ينتهي عن لومه وسفاله
بك أبيها الكافي الأمير أعوذ من ... وغد أصر عَلَى قبيح فعاله
الخادم عَلَى صورة لا يمكنه منها المثول بالحضرة السامية وشكوى ما استمر عليه من سوء معاملة هذا الوغد المذكور والله لولا الحياء وإنه ممن لا يخفضه الهجاء لكويته بميسم يشقى لناره ويبقى عَلَى الأعقاب إثر شناره ولكن طليق عرضه اللئيم وفي ذمة مقداره الذميم والرأي للحضرة في زجره عما هو عليه وأمره بما يعود لمصلحة الخادم علوه إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى إنسان صانع عمل له شيئاً فيسر إليه أجرته واعتذر.
خذ ما تيسر يا أبا منصور ... واعذر فقد أسرفت في التقصير
ومع الثناء فما تضيع صنيعة ... عندي لرب صناعة وأمين
الدراهم المراهم أطال الله بقاء مولاي.
فأما صناعته فتجل عن الورق والعين ولا تقابل بالكثير من هذين النوعين ورأيه في قبول ما تبعث به والرجوع في ذلك إلى كرم أخلاقه ومنصبه الموفق إنشاء الله هـ.
وقال: كتب لي كمال الدين القاسم بن القاسم الواسطي يطلب تبناً.
مازلت تحفر تبراً ... ونحن نطلب تبناً
وللكرام تشاد ال ... عَلَى وبالحمد تبنا
وقد رميناها سهماً ... من المديح وصبنا
فاستقي الثرى الجعد يا غيث كل جدب وصبنا(82/14)
ففي كمالك داع ... دعا بنا فأجبنا
وأنشدني عز الدين عبد العزيز بن سالم بن محمد الحراني
لو كنت تعلم كل ما علم الورى ... طراً لكنت صديق كل العالم
لكن جهلت فصرت تحسب أن من ... يهوى خلاف هواك ليس بعالم
فاستحي أن الحق أصبح ظاهراً ... عما تقول وأنت شبه النائم
هذه نموذجات من هذه التذكرة فيها الممتع النافع ويا حبذا لو صحت عزيمة أحد علماء مصر بنشر الموجود منها لأنها أثر نفيس خصوصاً وهي مكتوبة بخط صاحبها وفيها من الأشعار والأخبار ما يلذ ويفيد.(82/15)
حب الوطن
خطب ارنست لافيس من مشاهير علماء الاجتماع والتاريخ واحد أعضاء المجمع العلمي الفرنساوي في إحدى المدارس الفرنساوية خطبة في حقيق الوطن قال فيها:
الوطن أرض ينزلها أناس يخضعون لنظام واحد. ولقد صرفت العناية الكبرى لتأليف مثل هؤلاء الجماعة وتحديد مثل هذه الأرض. حتى أنك لترى الأقاليم المتنائية التي هي اليوم خاضعة لسلطان واحد تكاد تكون متحدة في ميولها ورغائبها بعد أن كانت من قبل مشتتة. جاء زمن كان فيه إقليم بيكارديا (من أعمال فرنسا) أبعد عن إقليم برتانيا وإقليم برفانس (فرنسا) مما ترى عليه اليوم فرنسا بعيدة عن أميركا والهند. ولطالما عملت الطبيعة ثم السياسة ثم الحديد ثم النار ثم العقل والقلب قروناً عديدة حتى هيأت لنا هذه الأرض التي نسكنها والسماء التي تظلنا.
علمكم التاريخ كيف عمل ملوكنا لتأليف أجزاء المملكة الفرنسوية فضموا أشتات ولاياتها واحدة بعد أخرى فكانت أول صلة ربطت إقليم بيكارديا بإقليم برتيانيا وإقليم غاسكونيا بإقليم بروفنسيا وغيرها. إنها خضعت لملك واحد فأصبح آباؤنا بأسرهم فرنسويين لأنهم صاروا كلهم رعايا ملك فرنسا فكان بذلك أول اجتماع وطني وهو اتحاد الجميع في الطاعة لملك واحد. فاهتم الشعب لما يصدر عن الملك من الأعمال وراح أجدادنا يتحدون يداً واحدة في الأعمال الحربية فقدموا لذلك مالهم ومهم فكان إذا كتب النصر لملك الفرنسيس تغتبط الأمة بأسرها وتسر وإذا نكست أعلامه تبتئس وتكتئب. وتأصلت العادة في النفوس بأن تضطرب لأنر واحد في ساعة واحدة فنشأ في ذلك في بلادنا شعور وطني.
ثم تجلت مظاهر الاجتماع بما أنتجته العقول من الأعمال فأحدثت الأمة الفرنسوية لغتها. فإن كنا اليوم نتكلم بلغة هي من أجمل لغات العالم فذلك لأن أجدادنا قد بذلوا كل نفس ونفيس قروناً عديدة حتى يجعلوها في هذا الجمال والقبول. فعلم الأدب هو بمنزلة الاعتراف العام في أمة تودعه تصوراتها في الوجود وتصوراتها في الإنسان. وكانت الآداب الفرنساوية ترجماناً عبر فكر فرنسا وأخلاقها الخاصة بها وجعل من الجماعة التي ضمت السياسة شملهم جماعة زبطت بينهم الأخلاق.
مضى زمن طويل كانت فيه فرنسا متفقة مع مليكها في الأفكار وذلك لاعتقاد الفرنسيس أن الملك كان نائب الله تعالى عَلَى الأرض يجب حيه وخدمته كما يحب المولى ويطاع.(82/16)
أيها الجمهوريون الصغار إنه يصعب عليكم قليلاً أن تدركوا هذا الشعور. ولكل زمن أخلاقه والمتأخر قد لا يعي حال المتقدم. ومن الضلال أن لا يعترف أن هذه الأخلاق كانت فيما سلف مستحكمة شائعة كما أن من الضلال أن يحاول بعضهم إحياءها بعد أن ماتت واضمحلت.
جاء يوم عَلَى فرنسا استشاطت فيه غضباً من مليكها لأنه كان يحب الخصام فتصلب في رأيه واشتد في عناده وفي معاملتها ولكن صبر أجدادنا كان غريباً في شكله طويل النفس من وراء الغاية. فكانت الأمة تقاسي ضروباً من سوء الاستعمال من عدم التساوي وقلة العدل والظلم المطبق. ولم تلبث أن أقامت الحجة ولكن كلمتها ذهبت كصرخة في واد ثم رفعت صوتها بالشكوى أعلى من ذي قبل وأخذت تتناغى بالحرية والعدل والإنسانية فكان من ذلك الثورة فسقط مع الملك طبقات الأشراف وزالت امتيازاتهم وكان لهم من قبل حقوق خاصة بين ظهراني الأمة فاشترك جميع الفرنسويين عَلَى السواء في الوطن الذي اتحدت كلمته وتماسكت أجزاؤه وطفقت فرنسا تتحاب مباشرة وأحبت فوق حبها لنفسها ما تناغت به من العدل والحرية والإنسانية ولذلك حق لها أن يحب أبناءها أنفسهم كما أحبوا بلادهم حباً مازج اللحم والدم. فوطنيتنا الثورية كانت من أجمل العواطف التي عرفها التاريخ.
أيها الأولاد: ليس وطننا أرضاً فقط بل هو عمل إنساني بدئ به منذ قرون ونحن نكمله وأنتم تتناوبون العمل بعدنا. إن ما قام به أجدادنا منذ الأصل وذكرى أعمالهم وأفكارهم وحركات عقولهم ولغتنا وفكرنا وكيفية فهمنا معنى الحياة مع ما خصت به أرضنا من الخصب والأمراع وما تجود به علينا سماؤنا من الحسن والإحسان وما عرفت به أصقاعنا من المناظر المبهجة وبلادنا الشمالية من الضباب المتكاثف والجنوبية من الصحو الممتع وبحارنا الخضراء وبحرنا الأزرق - كلها إرثنا العزيز هي وطننا ابنة الطبيعة وابنة الفكر.
ولكن وطنكم ليس وحيداً بين الأوطان في هذا العالم. هناك أوطان كثيرة تحيط بكم تألفت عَلَى غير الصورة التي تألف بها وطنكم كألمانيا وإيطاليا التي كان نشؤهما بطيئاً وكإنكلترا التي كان نشؤها سريعاً. هذه الأوطان قننت قوانينها وأنشأت لغاتها وآدابها وكل منها قد أبانت عن أفكارها وعواطفها في الطبيعة والإنسانية كما ابنا نحن. ولكل منها أفكارها التي تخالف أفكارنا ونبوغها الذي لا ينطبق مع نبوغنا وكل من تلك الأوطان يحبه أبناؤه كما(82/17)
تحب فرنسا أبناءها.
ماذا يجب أن تكون عليه عواطف تلك الأوطان وسلوكها بعضها مع بعض؟ هذه مسألة هي الآن مما يشغل الأذهان ويهيجها وتنقسم في تصورها الأفكار. فقد كان الشعور الذي تشعر به كل منها مدة قرون هو البغض والسلوك الذي تسلكه هو الالتجاء إلى الحرب. والظاهر أنه لم يكن يتأتى للمرء أن يحب وطنه بدون أن يكره وطن غيره.
وظاهر أن الحرب لم يكن يتيسر اتقاؤها في زمان كانت فيه التخوم غير مستقيمة عَلَى حال واحدة بين الممالك لأن هذه لم تكن بعد تألفت وعرفت لها كياناً. ولطالما كانت الحرب حادثاً يدعو إلى نماء الوطن وعملاً يؤدي إلى تحديد تخومها. وهكذا ربيت فينا غريزة الشدة المغروسة فكانت من موجبات بقاء تلك الممالك وذلك لأن الإنسانية ليست طبيعية في الناس وأصبحت الحرب من وظائف الحكومة فيولد الملوك زعماء حرب والناس ضباطهم ومن كان أدنى طبقة منهم يختارون الدخول في الحرب ليرزقوا منها ويحترفوا بها.
ولطالما كانت الجيوش تقف عَلَى قدم الدفاع أبداً وتنشب الحرب لاستخدام تلك الجيوش وتمرينها. وتتجلى أعوام السلام كأنها أعوام فارغة عَلَى أن تلك الأعوام الخالية كانت قليلة. ومن جملة الدواعي التي تدعو المحاربين إلى إهراق الدماء قديماً كنت ترى المصلحة السياسية والكبر والتشهي والعادة هي الفاعل الأكبر فيها. وكان ذلك من الأدوار الهائلة في تاريخ الإنسانية ونحن نعده اليوم من آثار البربرية وعلائم التوحش.
وخطب المشار إليه في إحدى المدارس وقال:
إذا سئلتم لماذا يدرس لكم أساتذتكم النحو والحساب تجيبون للحال: ليعلمونا التكلم والحساب وهما أمران ظاهرة ضرورتهما. وإذا سئلتم لماذا يعلموكم تقويم البلدان تبادرون بالجوب في الحال فتقولون حتى نعرف فرنسا بلادنا ونتصور الأرض التي هي بلاد البشر. ولكن ربما ارتبكتم إذا سئلتم فائدة دراسة التاريخ.
ابن الربعين في السنة التي أنتم فيها يبدو كأنه شيخ هرم منذ مائة سنة أو مائتين أو ثلثمائة أو أكثر. ولا شك أنكم تنكرونه ولا علاقة لكم بهم وإذا كانوا هم آمنين مطمئنين في موتهم فعليهم أن يتركوا صغار الأحياء آمنين بدلاً من أن يملؤوا دروس أسمائهم وقائمة أسمائهم بحركاتهم وسكناتهم وبأرقام تواريخهم وأزمانهم.(82/18)
ولكنكم أيها الأبناء مخدوعون باعتقادكم بأن المضي بعيد. هو قريب منا ومجاور لنا وهاءنذ أبينه لكم في بضع كلمات: ولد لويس الرابع عشر سنة 638 أي منذ 260 سنة وأنا الذي لم أبلغ سن الهرم بعد عرفت في نوفيون رجلاً أدرك المعاصرين للويس الرابع عشر.
ويدعى هذا الرجل كؤول وكثيرون ممن جلسوا الآن عَلَى هذه المقاعد يذكرون ألوما إليه فقد مات سنة 1856 في التسعين من عمره كما تشاهدون ذلك مزبوراً عَلَى شاهد قبره المصنوعة من الرخام الأبيض. وكانت سني إذ ذاك أربع عشرة سنة وكنت أراه كل يوم إلا قليلاً وكان خال خالي الكبير شهد أموراً هائلة مدهشة فرأى لويس السادس عشر يرفع عَلَى المشنقة دستور فرنسا القديم يمزق كل ممزق وفرنسا مولعة بحياة خيالية جديدة. فأخذ يوحي بروح القرن الثامن عشر الذي تعلمت مذ ذاك أن أحبه في أوهامه وخيالاته لأنه كان قرناً في الشقاء والبربرية وتلاه قرن من الهناء والإنسانية.
فالمسيو كؤول ولد إذاً سنة في سنة 1766 وبلغ سنة 1776 سن الرشد. وفي ذلك الزمن لقي ولا شك بعض أناس من أبناء الثمانين في نوفيون. وعليه فالرجل الذي كان في سن الثمانين سنة 1776 قد ولد سنة 1696 وكان في سنة البلوغ عندما قضى لويس الرابع عشر نحبه سنة 1715. وبهذا فأنتم ترون أن هذا الملك الذي يتراءى لكم أنه بعيد العهد جداً قد مسستموه بأيديكم إلا قليلاً.
إن المائة والتسعة والثمانين عاماً التي مرت بين موته وبينكم هذه مدة قصيرة من الزمن ينبغي لها ثلاثة رجال وأنا الذي أخاطبكم وخالي وذاك الرجل الثمانين إذا مسك أحد بيد صاحبه نصل إلى هذا العهد وعلى هذا فليس من حاجة إلى سلسلة طويلة من الرجال لبلوغ الزمن الذي جاء فيه المسيح إلى العالم بل يكفي ثلاثون رجلاً.
لعد بضع سنين ترون يا أولادي متى انقضت ألوف من القرون أن الإنسانية تتكلم عن الأزمان القديمة. أما الآن فإننا لا نستطيع أن نقول عن رجل مات منذ أمد بعيد جداً فلا حق لكم إذاً أن تحيدوا عن الماضي كما تحيدون عن أمر بعيد جداً وإذ كان قريباً منا كثيراً لا يجب أن يتطلع أحدكم لئلا يحمل عَلَى النظر فيه قليلاً. إن هذا التطلع إذاً ينفعكم وبه تطيلون حياتكم أن تضيفوا أزمنة إلى زمانكم كأنكم عشتم فيها. نحن قلما تنعم في حياتنا القصيرة ولذلك نحلم بخلود روحنا. أما التاريخ فيه ضروب من الخلود وراء حجب(82/19)
الماضي ويظهر لي أني بصرف حياتي في دراسته قد بلغت الآن من العمر عَلَى الأقل خمسة أو ستة آلاف سنة. وأنا أتنزه في فضاء واسع طافح بالأنوار والظلمات والحركات وأتنفس برئتين واسعتين.
بيد أن معرفة التاريخ شيئاً غير هذا وأحسن منه في الأثر فالتاريخ هو الفراق العظيم بين الإنسان والحيوان. فالكلب يجهل ما بذل من العناية الطويلة. وما اثر فيه نوع التربية حتى صار كلب صيد أو كلب راع. فهو لا يتمثل أمامه تاريخ جنسه من الكلب الأول جده الأعلى إلى أيامنا هذه. والرجل الذي لا يصعد إلى طبقة أجداده وهم في مغاورهم الأولية ليراهم حيث كانوا يأتون بالصيد ويمتصون نخاع العظام المكسرة بقدوم من الحجر هو كلب وزيادة. هو لا يتبع آثاره الإنسانية إلى الدرجة التي بلغناها من المقام الإنساني. والإحساس الظاهر من تكريم الإنسانية لا يقتبس من غير التاريخ.
معرفة التاريخ توضح سبيل محبة الوطن. والوطن مكان الإنسانية الذي ولدنا فيه ويمتاز عن سائر الأوطان بالطبيعة بل بالتاريخ أي بمجموع أعمال وأفكار متتابعة تألف منها ما قدر لنا من سعادة وشقاء. فعليكم ألا تجهلوا كيف أصبحت فرنسا من أعظم الأمم - ولا يكفي لأن يكون المرء فرنسوياً أن يولد في فرتنسا كما هو شأن أشجار الحور والصفصاف عندنا بل إن التاريخ هو الذي يطلعنا عَلَى ما قام به أسلافنا ويعلمنا ما يقتضي علينا القيام به.
فمن السهل أن يميز العمل الذي تم في خلال القرون الأخيرة. إن هذا المعاصر للويس الرابع عشر الذي ذكرته لكم منذ حين كان رعية لملك كان يعتقد نفسه - بل وكان بالفعل - سيد رعاياه ومالك أرواحهم وأشباحهم فأبادهم بحربه وبما أنفق عَلَى قصوره وأعياده وأفراحه وتركهم يعذبون في ظل إدارة ممقوتة كره العقول عَلَى الإغضاءِ هن أفكارها واضطهد الوجدانات وحبس وشرد ملأ سجون بالرجال والمطابق المؤبدة عَلَى أنه لم يكن رديئاً كما لم يكن غبياً لأنه كان عَلَى جانب من الذكاء. ولم يكن ساقطاً لأنه كان محتشماً في سره وعلى شيء من العدل. ولكن الزمن إذ ذاك كان يبيح تلك الأخلاق. وكان كل ما يأتيه الملك يعتقد - ومعظم الشعب يوافقه عَلَى اعتقاده - بأن له الحق أن يعمل ما يريد بحيث أنه لا يحزن إلا إذا قلبت الأيام له ظهر المجن ولا يتأثر وجدانه بل إنه يأسف قليلاً يبد(82/20)
عليه في حفلته وهو عَلَى سرير الملك يكلم وارثه المحزون الذي دعي لويس الخامس عشر.
نعم كانت تلك الأعصر عصور عدم المساواة الاجتماعية المعتدلة بدون نقض ولا إبرام. فكان يوصف الفلاحون من حرج في مملكة فرنسا - التي هي ضرب من جدول الأيام الوطني - بأنهم (وإن كانوا أكثر عدد من غيرهم فليسوا مما يجب الاحتفال به بل لنا أن نقول فقط بأن منهم تجبى الضرائب وأنهم يزرعون الأرض ليغذوا المدن) وغليك أيضاً كيف كانوا يعرفون الأعمال الصناعية الميكانيكية بأنها سافلة ساقطة. وكان الفقراء وحدهم يزرحون تحت أعباء الحكومة بأسرها وهي تطلب من الناس ما لا يستطيعون أن يقوموا ببعضه وأرباب الطبقات المختلفة من الأعيان سامت الملوك برفاهيتها وهي تستند إليها ويستندون عليها وعاقبة ذلك سحق الفقير.
لكم أن تقيسوا ما قمنا به من الأعمال وما حدث من الفروق بين هذا العصر والعصر السالف وما أظن أحداً في صحة من عقله يزعم بأن عصرنا عصر سيئات. نعم إن الإصلاح لم يتم إذ لا نزال نرى الشقاء الطبيعي والأدبي والظلم مستحكماً. إنكم عَلَى صغر سنكم تعرفون تلك الولايات وكثير منكم يراها قريبة منه. فمن بيوت ضيقة رديئة تحوي عوامل الفناء والأسر الوحيدة العديدة التي بقيت في فرنسا تصفر ألوانها في الأكواخ الساكنة فيها وينهكها السكر الذي ربما نشأ من الشقاء وربما أزاده وأدامه وبذاء الكلام والحركات السفيهة. وأنكى من ذلك مشاهد أولئك المحتشمين الذين لا يفتأون يقلقون ويخافون الفاقة وهم عَلَى طيب قلوبهم يحيون منقطعة آمالهم. وبين السواد الأعظم وخيار الناس من الفرق العظيم الناتج من اختلاف التربية ما هو معروف موصوف. فالجهل في السواد الأعظم يكاد يكون عاماً يتناول صفات الناس وصفات الوطن.
إن ما يجب أن يعمل أيها الأولاد هو تتابع العمل فيما بدأنا به لنحرر المجتمع الفرنسوي ما أمكن من ضروب الشقاء والمظالم الإنسانية التي لم تستأصل شأفتها.
هذا العمل شاق ولا يخلو من مخاطر وذلك لأننا نحاول للمرة الأولى أن نرفع ما سقط ونقوم ما انحنى. وظاهر بأن الناس كلهم كيفما دارت الحال لا يقدرون عَلَى الاضطلاع بأعباء الزعامة وأنه يجب شيء من النظام أبداً وشيء من الترتيب وبديهي بان بعضهم(82/21)
يتساءلون عمن يقوم عَلَى هذا النظام وهذا الترتيب.
لا تعجب أن ترى كثيراً من الناس وفيهم أهل الحشمة والصلاح يضطربون ويقلقون وينكرون علينا ما نعد الأمة له ونحلم به من تحسين مستقبلنا. هذه الفئة من الناس هي التي تريد منا أن نرجع أفكار أجدادنا وأخلاقهم ولكني لا أرى بأي حق يقفون في النقطة الفلانية بدل النقطة الفلانية من الطريق المؤدية إلى الكهوف؟ التاريخ بأجمعه طافح بأخبار الرجوع عن التقاليد وبعبارة ثانية ليست التقاليد إلا انتقالاً من الماضي للحاضر يأخذ منها الناس ما يريدون وما يستطيعون ويبذلون ما شاؤوا أو يخدمون أو فيقون ما أرادوا. وما تقليد يقف في زمن معين إلا أنه اشبه بحدود لا تتعدى.
نعم أنا مدرك ما هناك من مخاوف وأسمع أصوات الأهواء وأشعر بآهات الأحقاد. تذكر الصحف وقائع يومية محزنة وهناك الأحلام اللطيفة تعدنا بأمور جميلة. ولكن الإنسانية لم يهدأ لها بال قط. وما قط عاشت بدون شهوات وأحقاد وبدون أحلام ومطامع. أما أنا فإني معجب بما مر علي من أيام البؤس والسخط عجبي من الكون الذي يتم فيه هذا العمل العظيم في العالم.
ولو ذكرت لكم ما حدث هناك في تلك المقاطعة وحدها لطال بي المطال ولطالما أصابها ما أصاب باريز نفسها. اذكروا فيها أيام 1848 والفتن اليومية التي حدثت عَلَى عهد لويز فيلي وأيام الثورة والتمرد عَلَى أيام الحكم القديم عهد لويس الرابع عشر وحركات القرون الوسطى الهائلة أما اليوم فليس فيها شيء من هذا يباكر الناس مضاجعهم فينامون ملء جفونهم آمنين مطمئنين.
أنا لا أتنبأ فلا أقول بأن الدهر لنا بالمرصاد عَلَى أنني لا أعتقد بالتقلبات الدائمة المحزنة فقد حدث نجاح عظيم في العقل العام. إن حق الكتابة والخطابة وحق الانتخاب قد أتت عَلَى حق الثورة. أيها الأصدقاء إنكم لن تنسوا أبداً كل قسوة يعد جناية في البلاد المتمتعة بروج الجهورية.
يعلمونكم في المدرسة روح التكافل والتضامن وقاعدته أعن نفسك بنفسك وشعاره أعينوا بعضكم بعضاً وهذه القاعدة هي أساس الإخاء العلمي ثم تجيء بعد أعمال المحسنين الشريفة أي إرادة الأمة الفرنسوية لتحفظ الحياة من الأمراض التي تهددها والطفولية من(82/22)
العمال وسوء التربية والعمل من الحوادث والشيخوخة من الشقاء وتعطي الضعيف واسطة للمناقشة مع القوي وتقسم العمال العامة والتكاليف الأميرية العسكرية عَلَى نصاب العدل. وما النظام الجمهوري إلا باحث عن العدل.
ألا فلنكبر دائرة الرجاء والآمال بحسن المآل وما الخير إلا ثمرة جهادنا العظيم وسرعته أكثر مما نتصور. واذكروا أن الطريق قصيرة بين معاصر لويس الرابع عشر وبيننا فالتاريخ ما خلا الفضائل التي قلتها لكم يحوي أجمل الفضائل ألا وهو تقوية الأمل اهـ.
ها ما قاله علامة الفرنسيس لطلبة بلاده ترجمناه لتتدبره هذه الأمة العربية لأن الأمم متشابه في تواريخها وأحوالها وليت كبار رجالنا يتنزلون تنازل كبار رجال الغرب إلى مخاطبة الناشئة بمثل هذا اللسان العذب والأفكار السديدة فلا خير إلا في التعليم ولا تعليم إلا للشبان رجال المستقبل.(82/23)
الجغرافي الإدريسي وصاحب صقلية
من مبحث لأحمد باشا زكي
لما آلت إلى الملك رجار النورمندي مقاليد الأحكام في جزيرة صقلية رأى ما عليه المسلمون من الحضارة والعرفان ومكارم الأخلاق فجعل بطانته منهم وتقرب إليهم رغبة في رفع منا ملكه عَلَى ما جرت سنة الإسلام وقد تولع بعلم الجغرافيا وبحث في ممالكه عن أساطينه في تلك الأيام. فأرشده المسلمون إلى شريف من سلالة الأدارسة الذين تملكوا مراكش وانتهى إليهم الحكم في مالقة راحوزاها بجنوب الأندلس ثم دالت دولتهم وبقي نفر منهم كانوا ملوك العلماء وإن كانوا أضاعوا التاج والصولجان وفقدوا الحكومة والسلطان.
ذلك هو الشريف أبو عبد الله محمد بن محمد عبد الله بن إدريس المعروف باسم الشريف الإدريسي.
فاستقدمه رجار وبالغ في إكرامه والعناية به ليفوز بشيء م علومه وليتعرف بواسطته ماهية بلاده صقلية وأحوالها وبلغ من إكرامه له أنه كان كلما دخل عليه هرع لاستقباله عند الباب ثم أجلسه إلى جانبه عَلَى سرير الملك، حتى إذا ما أتم المحاضرات معه وأفاده بما أراد ثم هم بالخروج، شيعه الملك بنفسه إلى عتبة القصر.
وقد انتهى الأمر بذلك الملك العاقل أنه طلب من صاحبه تأليف كتاب ليعرف به جغرافية بلاده وجغرافية المعمورة بأسرها وصنع له كرة من الفضة تمثل الأرض وما عَلَى سطحها من البلدان ثم صنف له كتابه الذي كنا نسمع به ولا نرى إلا ترجمته الفرنسية الكاملة وبعض شذرات عربية طبعها الإفرنج وهي خاصة ببعض البلاد التي تهمهم مثل كلام الشريف عَلَى الأندلس فقد طبع الإسبان مع ترجمته إلى الإسبانية ومثل كلامه عَلَى إيطاليا وصقلية فقد طبعه اثنان من افاضل علماء الطليان ونقلاه إلى لغتهما أيضاً. ومثل كلامه عَلَى فلسطين فقد طبعه أحد علماء الألمان باللغة العربية لاحتوائه عَلَى البيت المقدس وما يليه من البقاع التي ظهرت فيها النصرانية.
ثم طبع اثنان من أفاضل العلماء الهولانديين قطعة من هذا الكتاب تتضمن ذكر الأندلس وبلاد الغرب ومصر والسودان وعنيا بترجمتها إلى اللفة الفرنسية مع الشروح اللغوية والجغرافية الضافية الشافية.(82/24)
هذه خلاصة وجيزة عما أعمله (وهو كثير) من هذا الكتاب الفريد الجليل وقد كنا أبناء العرب ولا نزال إلى هذا اليوم لا نعرف سوى ما سبق من القطع التي تفضل الإفرنج بل تصدقوا علينا بطبعها من هذا الكتاب النفيس المكتوب بلغتنا ولفائدتنا. فانعكست الآية وجاءنا النور ضئيلاً من الغرب ومازلنا إذا احتجنا إلى شيء من ثمراته اضطررنا لاقتطافه من الترجمة الفرنسية وفيها ما فيها. وفي حاجتنا وفاقتنا إلى تلك الترجمة من العيب علينا والحط من كرامتنا فضلاً عن عدم إمكان الوقوف عَلَى الحقائق كما هي.
ولم يكن في دار الكتب الخديوية إلا الجزء الأول مكتوباً بخط جميل ومتضمناً للمصورات (الخرط) الجغرافية ولكت فيها تشويها كثيراً وتحريفاً يجعل الفائدة منه قليلة. فلذلك كانت عنايتي كانت منصرفة للحصول عَلَى نسخة كاملة منه حيثما وجهت عزيمتي لجمع نفائس الكتب التي تكون أساساً لإحياء الآداب العربية بديار مصر. وقد وفقني الله لطلبتي وحصلت عَلَى أربع نسخ كاملة منه وهي الآن بدار الكتب الخديوية. ومتى حان الوقت المناسب لطبعها أخرجناها للناس وإظهاراً لمجد العرب وتعريفاً للكاشحين بمآثرهم الخالدة التي لا ينكرها إلا من كان في قلبه مروض ولا يجحدها إلا الجاهل الذي يعميه الغرض.
أما الكتاب فعنوانه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) ولما كان علماء الإسلام يعرفون الفضل لذويه فقد كادوا يتناسون العنوان ولا يذكرون هذا الكتاب إلا مقرناً في مصنفاتهم باسم (كتاب رجار) إذا كانوا من أهل المشرق وباسم (كتاب اجار) إذا كانوا من المغاربة وذلك تخليداً لذكرى ذلك الملك الفاضل.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن رجلاً طلب من الإدريسي قبل اشتغاله بتأليف هذا الكتاب أن يصنع كرة تمثل الأرض بما عليها وقدم للشريف كمية وافية من الفضة الخالصة فصنع له الكرة عَلَى ما يشتهي. وقد بقي من هذا المعدن النفيس شيء كثير جداً فتركه الملك له. ورجاه رجار أن يقبله دليلاً عَلَى أنه يعرف فضله.
ولم يكن عَلَى الشريف قاصراً عَلَى الجغرافية والفلك بل كان بارعاً في معرفة الطب وعقاقيره. وقد ألف في هذا الفن كتاباً أصبح الآن معدوماً بالكلية. ولكن من يمعن النظر في مفردات ابن البيطار يعرف قيمة هذا الكتاب. فقد نقل عنه كثيراً في كتابه الباقي بين أيدينا بأصله العربي وبترجمته الفرنسية.(82/25)
ولا بأس أن نذكر شيئاً من مقدمة نزهة المشتاق في اختراق الآفاق لتعريف القارئ بالثناء المستطاب الذي خلد به الإدريسي ذكرى رجار عَلَى ممر الأدهار والأعصار.
قال الشريف الإدريسي: أفضل ما عني به الناظر، واستعمل فيه الأفكار والخواطر، وما سبق إليه الملك المعظم رجار المعتز بالله، المقتدر بقدرته، ملك صقلية وإيطاليا وانكبردة وقلورية معز أمام رومية الناصر للملة النصرانية. إذ هو خير من ملك الروم بسطاً وقبضاً. وصرف الأمور عَلَى إرادته إبراماً ونقضاً، ودان قي ملته بدين العدل، واشتمل عليهم بكنف التطول والفضل، وقام بأسباب مملكته أحسن قيام، وأجرى سنن دولته عَلَى أفضل نظام وأجمل التئام وافتتح البلاد شرقاً وغرباً. وأذل رقاب الجبابرة من أهل ملته بعداً وقرباً. بما يحويه من جيوش متوفرة العدد والعدد. وأساطيل متكاثفة متناصرة المدد. صدق فيها الخبر الخبر. واستوى في معرفتها السمع والبصر. فأي غرض بعيد لم يصل إليه. ولم يخطر عليه؟ وأي مرام عسير لم يحظ به ولم يتيسر لديه؟ إذ الأقدار جارية بوفق مبتغياته وأرادته. والسعادات خادمة له ومتصرفة عَلَى اختياره في حركاته وسكناته. (واستمر الشريف عَلَى هذا المنوال إلى أن قال):
لما اتسعت أعمال مملكته. . . . . أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة ويقتلها يقيناً وخيرة. ويعلم حدودها ومسالكها براً وبحراً. وفي أي إقليم هي. . . . مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار. . . . يطلب ما في الكتب المؤلفة في هذا الفن. . . . مثل كتاب العجائب للمسعودي، وكتاب أبي نصر سعيد الجيهاني، وكتاب أبي القاسم عبيد ابن خرداذبة، وكتاب أحمد بن عمر العذري، وكتاب أبي القاسم محمد الحوقلي البغدادي، وكتاب جاناخ ابن خاقان الكيماكي، وكتاب موسى بن قاسمك القردي، وكتاب. . . . اليعقوبي، وكتاب إسحق بن حسن المنجم، وكتاب قدامة البصري، وكتاب بطليموس القالوذي، وكتاب أرسيوس الإنطاكي، فلم يجد ذلك فيها مشروحاً مستوعباً مفصلاً. . . . فأحضر لديه العارفين بهذا الشأن. . . . فلم يجد عندهم أكثر ما في الكتب المذكورة فلما رآهم عَلَى مثل هذه الحال، بعث إلى سائر بلاده فأحضر العارفين بها والمتجولين فيها. . . . .
ثم اشار الإدريسي إلى صنع الكرة الفضية وأنها عظيمة الجرم ضخمة الحجم، في وزن أربعمائة رطل بالرومي، في كل رطل مكنها مائة درهم واثنا عشر درهماً، وقال أنها(82/26)
تضمنت صور الأقاليم ببلادها وأقطارها وسيفها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاري مياهها ومواقع أنهارها وعامرها وغامرها. . . والطرقات. . . والأميال. . . والمسافات. . . والمشاهد. . . إلى أن قال أنه طلب تأليف كتاب مطابق لما في أشكالها وصورها غير أنه يزيد عليها بوصف أحوال البلاد والأرضين في خلقها وبقاعها وأماكنها وصورها وبحارها وجبالها وأنهارها ومواتها ومزدرعاتها وغلاتها، وأجناس بنائها وضواحيها والاستعلامات التي تستعمل بها والصناعات التي تتفق فيها والتجارات التي تجلب إليها وتحمل عنها والعجائب الذي تذكر عنها وتنسب إليها، وحيث هي من الأقاليم السبعة مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزيهم وملابسهم ولغاتهم وأن يسمي هذا الكتاب بنزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وكان ذلك في العشر الأول من ينير الموافق لشهر شوال الكائن في سنة ثمان وأربعون وخمسمائة فامتثل فيه الأمر وارتسم الرسم.
وعندما جاء ذكر جزيرة صقلية قال الإدريسي ما نصه:
إن جزيرة صقلية فريدة الزمان فضلاً ومحاسن ووحيدة البلدان طيباً ومساكن وقديماً دخلها المتجولون من سائر الأقطار والمترددون بين المدن والأمصار وكلهم أجمعوا عَلَى تفضيلها وشرف مقدارها، وأعجبوا بزاهر حسنها ونطقوا بفضائل ما بها وما جمعته من مفترق المحاسن وضمته من خيرات المواطن.
ثم تخلص إلى مدح رجار الأول بن تنقريد ثم عاد إلى مدح رجار الثاني. ثم عاد إلى الكلام عَلَى الجزيرة وقال:
(فأما صقلية لقدم ذكرها فأقدارها خطيرة، وأعمالها كبيرة، وبلدانها كثيرة، ومحاسنها جمة، ومناقبها ضخمة، فإن نحن حاولنا إحصاء فضائلها عدداً وذكرنا أحوالها بلداً بلدا، عز في ذلك المطلب، ضاق فيه المسلك، لكنا نورد منها جملاً يستدل بها ويحصل عَلَى الغرض المقصود منها إن شاء الله تعالى!).(82/27)
الأمة والتعليم
نشر جبرائيل سيايل من علماء فرنسا كتاباً أسماه (التربية والثورة) تكلم فيه عن واجبات الحكومة نحو الرعية وواجبات الرعية نحو الحكومة ولاسيما عامة الشعب وسوادهم الأعظم وقع في 250 صفحة وهاك تعريب ثلاثة فصول منه قال في حقوق الأمة في التعليم وهو مقدمة الكتاب:
من راقب الأمور بنظر الناقد البصير لا يلبث أن يسجل بأن الانطباع عَلَى الديمقراطية لا يتأتى إلا إذا كان له عون من الأفراد أنفسهم فالديمقراطية هي في الحقيقة تربية وتعليم لا خلقة وملكة أرثية ولا تنشأ العبودية إلا من ضاعة النفس، ولا يتمثل الظلم إلا من لؤم الطباع من يخنعون له ويتقبلونه بقبول حسن.
فينبغي الحالة هذه إبدال الأوضاع والقوانين. طرائق الاستملاك كما يقتضي قلب حالة الأفراد حتى إذا تم لهم ذلك لا يعتمون أن يقبلوا كيان المجتمع عَلَى صورتهم وأمثالهم. ولهذا اقتضى ألا تخضع الأمة خضوعاً أعمى فتكتفي بأن يكون لها رأي في انتخاب نوابها. بل كان عَلَى عامة أفرادها أن يكون لكل منهم وجدان وقوف عَلَى ما هم آخذون أنفسهم به من مؤازرة مجتمعهم وحكومتهم. وهكذا يتبدل الأشخاص إذا أبدلت الأشياء فيتعلمون بالتربية كيفية الوصول إلى معاملة حكوماتهم لهم بالعدل والقسط وينشأ لهم مجتمع مستل لا يكون الظلم حليفه ولا الإعنات رديفه.
إذا قلنا أن العليم حق للجميع وأنم عَلَى العارفين المتعلمين فروضاً عينية يقومون بها لنفع الجاهلين الأميين فلا ترانا أتينا بفكر خارق للعادة لم يعهد له نظير فقد اعتقد جميع العارفين والعلمين بأنه ينبغي تصفية ينابيع المعارف والعلوم ليتيسر أن يستقي من مرودها أفراد الأمة وتعد فوائدها هذا الحيوان الناطق.
ومن العبث أن نقول أن العلماء يعملون عَلَى بث فضل علومهم سعياً وراء أغراض لهم خاصة وإرضاءً لما في صدروهم من الأنانية وحب الذات وحرصاً عَلَى فائدة ينالها بعضهم أو لبلوغ مرقاة من مراقي الكمال تقتصر عنها يد المتناول وما عَلَى المدارس والكليات الجامعة إلا أن تأخذ بيد الأمة في هذا السبيل وتعرفها مصالحها وتعلمها ما يحفظ به كيانه.
وحري بنا أن ندعو إلى الأفكار التي تقل العناية بها لأنها تبدو في مظهر يفهم منه أنها طبيعية عامة لا تحتمل الجدال والقيل والقال وأن تتدبرها ليتجلى لنا معناها وأصلها لآنا(82/28)
كثيراًُ ما نراها تحمل في مطاويها معتقدات نشكو من وجودها ومبادئ هي في الحقيقة قوة هذا العصر وشرفه الأثيل. وهذه الأفكار الجديدة الغريبة هي أن يكون لجميع الناس حق الاشتراك في درك الحقيقة وأن يكون عليهم واجبات يقضي بها عليهم واجب العلم وأن تكون بين العلماء وعامة الأمة روابط أدبية ليوحوا إليهم بما في صدورهم من علم صحيح ويشاطروهم ما حازوه من نعمة العقل الواسع والفهم الجم.
وإذا استفتيت التاريخ عن هذه الطريقة التي نراها أنجع الطرق في تعليم الأمة لا تجد لها أثراً في العصور السالفة إذ لم يكن إذ ذاك رابطة روحية بين خاصة الأمة وعامتها بل كان الخاصة يحكمون والعامة يخضعون. وكنت ترى السياسة بأيدي الملك ومستشاريه وتضعف بضعفهم وتقوى بقوتهم والمملكة تفنى في شخص واحد يعمل ما يزن له هواه وحسابه عَلَى الله. وكنت تشهد تحت أيدي المفكرين والعاملين أصنافاً وأجيالاً من الخلق هم الدهماء وعامة الشعب يعملون ويشقون وقلما تتنبه أذهانهم للمطالبة بحقوقهم إلا إذا بلغت منهم الشدة والإعنات والجور مبلغاً.
أما في هذا المجتمع الحديث فإن العلماء والفلاسفة - وعلماء الدين يراقبونهم - يتعرضون للبحث عن الحقيقة التي لا تخلو من خطر لما ينجم عنها من القلب والإبدل وهم يؤلفون مجتمعاً صغيراً هو إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة. مجتمعاً لا نظام له وليس له قانون مكتوب. نشأ بنفسه لنفسه تحدوه مطالب ارتقاء العلم وتسوقه ضرورة المراقبة عَلَى العقول. وهذا المجتمع الذي تتجلى فيه وحدة المجتمع البشري هو مشترك بين الأمم ينتقل من بلد إلى أخرى. وأعضاءه المتشبعون بأفكار واحدة والمتضامنون في عمل مشترك لا دخل فيه لهوى الأفراد يتراسلون ويعرضون المشاكل بعضهم عَلَى الآخر ويقترحون جلها بينهم وإذا ساحوا فإن سياحتهم ليمتعوا أبصارهم برؤية بعضهم وليتعارفوا ويتعاطفوا ويتبادلوا أفكارهم عَلَى صورة مخاطبات تكون عاقبتها بينهم كثرة المراسلة.
وفي رسائل الفيلسوفين ديكارت الفرنسوي وليبنتز الألماني شهادة حية ناطقة بائتمار العلماء في مبادلة الأفكار وتوفرهم عَلَى تحرير العقول من رقها للبحث عن الحقيقة وكان من دواعي الاتصال بين العلماء اعتمادهم عَلَى اللغة اللاتينية وهي اللغة التي كان يتكلم ويكتب بها جميع المنورين.(82/29)
وكلما كان هذا النهج يتضح ويصير إلى المحسوسات أقرب وإلى البحث لا إلى التصور وإلى تقسيم الأعمال بين أهل الاشتغال من الرجال - كان العلماء يدركون بأن حاجتهم بعضهم إلى بعض ماسة كل المساس. إن أعمالهم ينبغي لها أن تكون متجهة إلى مركز واحد وأنهم كلما اتحدت وجهتهم نحو فكر واحد واشتركوا يداً واحدة في عمل واحد أصبحوا كأبناء الوطن الواحد الذين يسعون إلى إبلاغ بلادهم مبالغ الكمال.
قام بيل الكاتب الفرنسوي (1625 - 1798) المبشر بدعوة الفيلسوف فولتير بالإصلاح والتجأ إلى هولاندة لأن ظلم لويس الرابع عشر جعل تلك المملكة الصغيرة أرض الأفكار الحرة وهناك اخذ بنشر كراسة عَلَى شكل مجلة تحت عنوان ينبئ بما ينطوي عليه من المعاني الحسان وهو أخبار جمهورية الآداب وهذه الجمهورية التي حد لها ولا تخوم ولا جرم تجل عن المصالح المادية والمطامع ومزاحمة الأمراء ومنها أخذت الإنسانية تدخل في طورها المعهود وعظمتها الفائقة ولكن ما الفائدة من تعارف العلماء واجتماعهم وأي خير يرجى إذا ألفوا من أفرادهم نخبة لا اتصال بينهم وبين عامة الأمة وجهلوا أحوال الأمة لأن كيانها عدن واجتماعها منحل العرى.
جاء القرن الثامن عشر فامتزجت الفلسفة بالحياة وأصبحت تنطق بلسان الناس وتبدو بأشكال منوعة. فدخلت روحها في الراويات والقصص والوقائع التمثيلية والهزلية والمحاورات واستخدمت لغاياتها ما بدر عَلَى قلم الفيلسوف فولتير من قوارص الاستهزاء والتهكم ما انبعثت له قريحة الحكيم ديدرو وما تدفق من معين البلاغة عَلَى لسان جان جاك روسو. أخذت الفلسفة تحمل حملات عَلَى السلطة المطلقة وتدك معالم الأوهام وتفتح العيون لتريها سخف السخفاء وكانت تنظر إلى ذلك من قبل نظر الاستئناس لتكرره عَلَى النظر. وتنبه الأفكار التي أصيبت بها الناس في عاداتهم وأخلاقهم وتهزأ بمن لم ينطبع بطابع التسامح وبمن لا تشمئز نفسه من الظلم الفاضح وتبن مسافة الخلف الذي حدث بالتدريج بين هذه الأعمال البربرية والوجدان البشري ذلك عَلَى الرغم من أنصار التقليد والمحافظين عَلَى الأوهام الخيالات وهناك نشأت قوة جديدة وأعني قوة الرأي العام عَلَى أن هذا الرأي العام لا يزال مقصوراً عَلَى أرباب القصور وصادراً عن خاصة الناس وعلية القوم من أرباب الأموال والأملاك وقادة الأفكار من الفلاسفة وربات الأفكار من النساء وكلهم بما(82/30)
امتازوا به من ضروب التميز عَلَى غيرهم من عامة الشعب قد أحرزوا نعمة التميز والفكر.
وقال من فصل آخر: وسعت الثورة الفرنسوية دائرة الإنسانية فأدخلت فيها الناس عَلَى اختلاف أجناسهم. عمت ولم تخصص وتوسعت في مراميها ومعانيها وراحت تعامل جماع الخلق مطبقة ما ورد في فلسفة أرسطو من تعريف الإنسان أنه حيوان عاقل قائلة بأنه إذا كان ذلك فلا يتأتى إبعاده من حيز العقل كما لا يتيسر طرده من الإنسانية. فالتعليم حق لا يفادي به المرء إلا إذا فادى بنفسه. لقد قرأت في قاعدة تمثال السياسي دانتون هذه الكلمة: التعليم أول ما تحتاجه الأمة بعد الخبز الذي تأكله وكلنا يعلم أن الديمقراطية نشأت من المعاكسات والمناهضات والمقاومات ولا تزال تسلك سبل النجاح والارتقاء.
لا غنية للديمقراطية عن خيرة رجال كما لا يسعها أن تقدر الذكاء والعلم والفضيلة حق قدرها ولا مشاحة في أن الديمقراطية تأتي عَلَى الحواجز التي كانت تحول بين الطبقة العالية وجمهور الأمة فتدكها من أساسها ذلك لأن المجتمع يختار كبار الرجال من جمهور أهل البلاد ممن ينشؤن أبداً بين ظهراني عامة الناس. لا يزالون ينمون ويتحدون بما يصدر إليهم من حوض القوة والنشاط وأعني بهذا الحوض البلاد فإذا اعتزل هؤلاء الرجال واقتصروا عَلَى الاجتماع بأبناء طبقتهم محتقرين ما عداها فإنهم يقضون عَلَى أنفسهم بالضعف وعلى أمرهم بالفشل. ليس الشعب هو الجمهور بل هو الأمة وهو الحاكم المتحكم. والفكر لا يكون إلا مجردات ونظريات إذا لم يكن له كيان وحقيقة تؤثر في عقول أبناء الأمة وإرادتهم. وعلى الطبقة الخاصة من الناس وهي في الأصل ممتزجة بجهلاء الأمة وأهل الوضاعة منهم أن يكون لها اتصال بالشعب وعليها أن تعمل عَلَى إقناعه لتنال ثقته. تتصل به وتشركه في معرفة لحقيقة السامية التي تخضع لناموسها الإرادات المختارة. ولى مجموع يتألف منهم المجتمع الديمقراطي أن يشتركوا في الحياة الوطنية.
مطالب الوطن بأن مطالب التمدن هي هي أعز مصالحنا التي نرمي إلى نيلها وتستلزم هذه المطالب أن لا يكون حث الأمة في التعليم من الشرائع المنسوخة فقد فرضنا آنفاً من باب التجوز أن كل امرئ هو شخص في ذاته وأن كل حي خلق عَلَى صورة البشر هو إنسان وقسمنا بينهم السلطة التي كانت في القديم محصورة في يد فرد واحد فعلينا أن لا نحجم فيما(82/31)
ندعو إليه وقد أوشكنا أن نفلح فيه إلا وأنه يجب إذا أرنا أن تتفق الأخلاق مع الأوضاع ولا تناقض الحقيقة مبادئ الوطنية الرئيسة أن يقدر كل فرد عَلَى القيام بالواجبات الناشئة من الحقوق التي له ومن الضروري أن يكون الإنسان خلقاً يعقل لأنا فرضنا له ذلك وبنينا قواعد كلامنا عليه. تعليم عامة الأمة هو من النتائج المعقولة في إشراكها بانتخابات ينبغي أن يكون للأمة من العقل ما تتقي به غوائل التفرق واختلاف الآراء. أن يكون لها من معدات التعليم ما تحسن معه أن تسير في الخطة المثلى وتجري مع مهيع السداد وهذا لا يصح لها إلا إذا أحرز أفرادها نصيباً من الذكاء والنظر في العواقب وثبات الجنان. الديمقراطية لا تغفل عن تعليم الأمة إلا إذا أوكلت أمرها لجماعة من المتوحشين من أجل هذا ضاعفت الجمهورية الفرنسية عدد المدارس والكتاتيب ودور المعلمين والصنائع.
من أجل هذا عرف العلماء والفلاسفة ما يجب عليهم القيام به من خدمة البشر فاهتموا من وراء الغاية بكشف القناع عن محيا الحقيقة ورأوا من أقدس فروضهم أن يسعوا السعي الحثيث إلى بثها في عقول الأمة صغيرها وكبيرها. ومن أجل هذا نريد أن نجعل للعقول حظاً من إدراك القوانين الضرورية وأن يتناغى الأفراد في بلوغ أسمى الماطالب والأمة تصير إلى انحطاط إذا نزعت منها هذه الفكرة. فيتألف من ذلك المجموع أمة تعضدها إرادتها في اختيار أحسن الأمور وتوقن أن العلم يهيئ وحده حقيقة ما ينبغي وما يجب أن يكون.
ومن أرباب الأفكار من يذهبون إلى أن فرنسا أخطأت القصد في ثورتها فكان عليها أن تنير عقول العامة قبل أن تسعى إلى تحريرهم من رق السياسة وأنها بعملها هذا قد حلت عرى الصلة التي كانت بين الخاصة والعامة وأصبح قبول الفصل للأكثرية الجاهلة لا الأقلية العاقلة وأن فرنسا بدأت من النهاية وهي طريقة غريبة في العمل ويقولون أننا أسأنا بتأسيس أوضاعنا عَلَى الأماني الواهين باستنادنا عَلَى العامة والغوغاء من مجموع الأمة وأخطأنا أن بنينا عَلَى خيوط العناكب هذا الشبح من هذيان الفلسفة. فلسفة المساواة بين أبناء الوطن الواحد وأسلمنا المجتمع والتمدن إلى من. إلى الرجل الفطري الذي بين أيدينا. إلى العالمي الذي يطوف الشوارع. إلى حيوان شرير مفترس فاسق. عَلَى أنني أرى عَلَى الرغم مما يقولون أولئك المتفلسفون أن من الأمور ما ينبغي أن يبدأ من غاياته وهكذا(82/32)
يشرع في الأعمال العظيمة كلها. فالشاعر لا ينظم قصيدة من أبيات ملتحم آخرها بأولها. والمصور يرسم التقاطيع أولاً. والصانع يرى بادئ بدءٍ ما يريد صنعه دفعة واحدة فيتصوره في مجموعه ويحصر فيه ذهنه. وهذا الباعث الداخلي هو الذي يحمله عَلَى أن يفادي بصرف عمره كله ليحكم صناعته ويشرك الناس فيما وقع في نفسه أنه جميل نافع فالفكر يخترع صوراً جديدة من الخير ليحققها ليجدر بالأمم كلها كما يجدر بالأفراد أن يجعلوا نصب أعينهم في حياتهم واجباً كبيراً لا يغفلونه. وليت شعري هل كان أرباب الإصلاح منا يحظون بالجل الرشيد لو قعدوا ويتوقعون طلعته وهل كانوا يفوزون من عملهم بطائل ويقوم بيننا داعي الحضارة ينادي حي عَلَى الفلاح.
إلا أن تعليم الأمة من أعز مصالحنا لأن فيه السلامة العامة. عَلَى أني لا آسف إذا كانت المصلحة طوعاً أو كرهاً من جانب العدل والحقيقة. ولكن دعونا من التلميح فالأمور لا تسير يدون مسير وتعليمنا لا تقوم له قائمة بما تصدره نظائرنا من المنشورات وما يلقيه لعضهم من الخطب وما يصرح به آخرون - كل هذه لا تعفينا من الاعتماد والسعي في إصلاح الحال والاعتماد عَلَى أنفسنا لإصلاح المآل.
لا نقعدن ونحن نتوقعه أن تجري الأمور من نفسها عَلَى محو السداد فلن يقع إلا ما نحسن إرادته ومصيرنا بيدنا وسعادتنا مناط همتنا. فعلى كل فرد منا أن تكون له إرادة ثابتة كما أن يكون كما يحق له وكما يجب أن يكون عليه.
عَلَى الرجل الحر أن يتعلم ويتيقظ كل التيقظ لما فيه عظمته التي هو ضمن حارس لها وأن يثق كل الثقة أن ليس في الأعمال ما هو وضيع في ذاته وأن العظائم في هذه الدنيا هي مجموع ثمرة أعمال كثيرة فإذا عمل المرءُ لنفسه فنتيجة عمله عائدة عليه وعلى الناس أجمعين.
وقال في معنى المدارس الحرة أي اللادينية ما نصه:
الحنق والغضب أيها الأساتذة هو من العواطف التي لا يليق أن تسري إلى قلوبكم لأنها منافية للمهمة التي عهدت إليكم من إنارة العقول وتربية الملكات. فالمدرسة ولا أزيدكم علماً ليست لشيعة مخصوصة ولا لأهل حزب معين بل هي للأمة بمجموعها ولذلك لا ينطبق مع مصلحتها أن تكون خطتها إلقاء بذور الكراهة والتناكر لأن لأبناء البلاد عَلَى اختلاف(82/33)
أصولهم وأديانهم الحق أن يتبسطوا في بقاعها ورباعها وعليهم حقوق يقضونها عَلَى حد سواء.
وإني لأغتبط كلمت رأيت بأن عَلَى الأستاذ ألا يدرك قواعد الأوهام والخرافات إلا بإقامة ما يخلفها من الحقائق السامية وكلما رأيته مضطراً بحكم الضرورة إلى تجنب كل مشاغبة واعتراض وأن يلقي في الأذهان ما ثبت ووقع موقع الحسن ولم يقبل النقض من حقائق العلم ولا ينكر إلا ما لا يسعنا الاعتقاد به عن إيمان وإخلاص.
المدرسة الحرة التي لا تمس فيها الشعائر والعواطف ليست مما تجعل التعليم مشوشاً لا قيمة له ولا تأثير وتسلب المعلم الجرأة التي تعينه عَلَى القيام بعمله الشاق. وما معنى المدرسة الحرة الذي أقصده إلا أنها لا تنكر عَلَى معتقد اعتقاده ولا تحمل عَلَى الوجدانات وتنزع إلى ما دخل أعماق القلوب. المدرسة الحرة هي التي تهتم من وراء الغاية بمناهضة الأوهام كما تعنى بإقامة دعائم الحق بمعنى أنها تبذل جهدها فيما يجمع العقول في ظل مشرب واحد لا يوزعها ولا يهزعها. المدرسة الحرة هي التي إذا ناهضت الكاذب في كذبه والكافر في كفره والمتعصب في تعصبه فمناهضتها بأن توحي إلى القلوب حقائق أدبية لا يجسر امرؤ أن يجادل في صحتها جهاراً.
ليست المدرسة سلاحاً تستخدم للحرب ولا أداة تستعمل للغلبة بين الأحزاب. وليست المدرسة الحرة من الأوضاع الصناعية العارضة بل أرى لها في الماضي أصولاً تشعبت منها وقواعد قامت عليها. إن لها من التاريخ أثراً وحكمة وهي موافقة لما تم للعلم من الارتقاء وما نشأ عليه الوجدان البشري.
قام العلم المجرد منذ القرن السادس عشر مقام علم اللاهوت بفضل المذاهب الفلسفية العملية ووضعها موضع التطبيق. قام العلم المجرد يحقق نفسه ويزكيها بما عظم من أمره واتسعت به سلطته التي أمديها الإنسان وسلطة فيها عَلَى الوجود. لم تقم قط الوحدة الوطنية منذ ثار ثائر الثورة الفرنسية عَلَى وحدة الدين والمذهب. وهذا ما دعا إلى أن يكون في المجتمع المدني مبادئ تخوله البقاء والنهوض. وهكذا يرجع الحق الديني القديم القهقرى عَلَى التدريج أمام الحق البشري. وينبعث من ذلك بالتدريج فكر جديد بأن يكتفي المجتمع بما لديه من المقومات والمشخصات. وأنه بما ينشأ في وسطه من الأوضاع البشرية ثمين فقي(82/34)
ذاته غني باسمه وصفاته ويورث الناس قوة تبعثهم عَلَى ورود موارد الكمال. وأم لهم مهما كانت أديانهم وفلسفتهم ومزاعمهم عن العالم الثاني من المجتمع الذي يوليهم الذكاء والإرادة ما يرتفعون به إلى الإنسانية الحقيقية. والمجتمع في مكنته بل هو مضطر إلى أن يهب أعضاؤه المؤلف منهم تربية فيها جميع المواد اللازمة والحاجات المبرمة والغايات السامية.
يتعذر عَلَى المدرسة الآن أن تتصبغ بصبغة الدين لأن العلم والمجتمع قد نزعا عنهما تلك الصبغة ولأن المرء أصبح له مجموعة أفكار بشأن العالم والحياة هو كان أصلاً لها وعنه انبعثت وصدرت لأن الأديان التي يزعم كل منها أن الله أوحى لها بالحقيقة المطلقة وعهد إليها بالدعوة إلى انتحالها. هذه الأفكار التي أتت من الإنسان نفسه هي التي بها تتحد الإرادات في الناس عَلَى قدر القرائح والعقول.
إنا ندعو في مدرستنا الحرة إلى تحرير العقول من التشيع للمذاهب وندفع فيها التأثيرات التي لا يقول فيها العلم. نريد في هذه المدرسة أنه لا بقاء للمجتمع إلا إذا عمل بسنة العقل وتأثر بالمؤثرات الدنيوية فالعقل يعرب في كل وجدان عن نتيجة العمل الإنساني الجليل الذي يبني الفكر عَلَى أسلوبه ومباديه.
وقال في المدرسة الحرة ما تعريب:
أعيذك من اتخاذ الوطن موطناً للبغضاء والشخناء ومن جعل اسمه مردفاً للحرب والفتن الشعواء. علم يا هذا الأمم الكبرى الحديثة بأنها متضامنة لا غنية لإحداها عن الأخرى وأن مصالح كبار أهل الوطن الواحد متحدة فيهم يبطلون الحروب ويتوصلون إلى كبح جماح الأمم وحظر الانتقام عليها ويصنعون لها ما يجب عليها من أسباب التحكيم في مسائل الخلاف ويجيبون إلى نفوسها الإحسان والسلام
إذا كنت تريد يا هذا أن تجنب بلادك إلى الناس فإياك أن تعمد إلى قلوب الناشئة الموكل إليك تهذيبهم فتغرس فيها ما يعبث بوجداناتهم بل حاول أن تطهر قلوبهم وتعرضها كما ينبغي لنا أن نراها. علم الناشئة واغرس في نفوسهم ملكة الشعور بعظمة أمنيتهم الحقيقية. اكشف لهم حجاب الماضي واعرض عَلَى أنظارهم تاريخهم ولا تنس أن تطلعهم عَلَى حاضرهم وترشدهم إلى مستقبلهم. علمهم ما يقوي إرادتهم في طلب العدل وثقتهم في الحق ولقنهم ما يستطيعون معه أن يفادوا بنفوسهم ليهيؤا مدنية أفضل من المدنية الحاضرة.(82/35)
ثق بأن الناس لا يتوقفون عن ورود مواد الردى مدفوعين بتوهم الكمال إذا عرفت كيف تلقي في نفوسهم أن هذا الكما لهو مادة حياتهم وبدونه لا تقوم لهم قائمة فإن صح أن هاذ التناهي في الكمال مناف للشدة وإزهاق الأرواح وجميع ضروب القتل ولا يكون إلا بتوطيد دعائم السلم بين الأمم فلا تطلب إلى ما تريد صلاحهم أن يتطاولوا فقط إلى الدفع عن حياتهم وحبها والإدلال بقدرها بل سهل في نظرهم بذل مبهجهم في سبيل حرب الوحدة وأعني بها حرب المطالبة بحقوقنا والحرب فقي الدفاع عن استقلال أمتنا.
أنشئت المدارس لتخريج جميع من يخرجون فيها أحراراً وطنيين. فوظيفتكم أيها المعلمون أن تعلمون أولاد الأمة. ومن المتعذر عليكم أن لا تخلفوا بمطالبها المشروعة أو أن تعاكسوها في مقاصدها عَلَى حين أنكم تعرفون حاجاتها وآلامها نعم أنتم معلمون وظيفتكم قد هدتكم إلى ما لا يعرفه غيركم أو يعرفه وينساه.
استفدتم من تجاربكم اليومية ما مكنكم من الوقوف عَلَى حالة الطبيعة البشرية وأن هذه الطبيعة وكثيراً ما نخطئ محجة الصواب وأنها في ذاتها ليست صالحة وأنه ينبغي لها أن تخضع فينا كلنا لنظام العقل والإرادة. تحظر عليكم مهمتكم أيها السادة أمراً واحداً وهو أنه لا تيسير لكم أن تعتقدوا بأنه يكفي انتظار الجنة أو الحلم بها. أنتم عارفون بأنه لا يكفي تغيير الأوضاع السياسية لتبديل الناس تبديلها وأن ضمن طرق في تربية المجتمعات أن تربي الأفراد الذين تتألف منهم العناصر التي هم في الحقيقة سداها ولحمتها. فسياستكم في تعليم الأولاد أن تعرفوهم قدر الكد والعمل وأن صلاح المجتمع بصلاحهم أنفسهم. إذا فعلتم ذلك تبدؤون بتحرير الأمة عَلَى ما ينبغي من قيودها وإذا حررتموها بقدر ما في وسعكم من عبودياتها الباطنية فإنكم تعدون المجتمع المقبل بعملكم هذا لأن يكون فيه رجال أكفاء أحرياء بتولي الأعمال والعيش في المجتمع. يتهكم خصوم المدرسة الحرة بأن مدرستكم أداة حرب يقصد بها حرب الكنيسة وأنها مخالفة لروح السلطة الروحية. ولكن فاتهم أن التعليم العلمي العلماوي هو نقيض التعليم الديني وأن من شأن المدرسة الحرة أن تبتعد عن إشهار الحرب بين العقول وأن تعمل عَلَى ربط أواخي الإخاء والسلام المتبادل بين العالمين.
قال إدغار كيني سنة 1849 في كتابه تعليم الأمة: طالما ذهبت إلى أن المجتمع الحديث قائم عَلَى مبدأ لا يستطيع القيام به غيره. وعلى هذا المبدأ قام حقه المطلق في تعليم العلوم(82/36)
المدنية. أساس هذا المجتمع الذي يربط بين أجزاءه ويمنعه من السقوط هو أن فيه نقطة لا يمكن تعليمها بمثل السلطة التي اتخذتها لنفسها إحدى الأديان الرسمية. هذا المجتمع يقوم عَلَى مبدأ حب أهل الوطن الواحد بعضهم بعضاً بقطع النظر عن معتقداتهم.
فمن الذي يا ترى يتولى نشر هذا المذهب الذي هو في الحقيقة مادة العلم الحديث وهيولاه؟ يتولاه بالفعل لا بالقول. من يعلم الكاثوليكي أن يكون أخا اليهودي؟ هل يعلم ذلك وهو الذي من أصول دينه أن يلعن اليهودي؟ من يعلم البرتستانتي حب البابوي؟ ألوثيروس صاحب الذهب البرتستانتي؟ أم البابا إمام الأحبار. ومع هذا ينبغي أن يجتمع أهل الأديان الأربعة الذين اعتادوا أن يتبادلوا كره بعضهم بعضاً تحت لواء واحد يضم شملهم الحب المشترك؟ من يأتي بهذه الآية؟ ومن يجمع هؤلاء الأعداء الألداء؟ لا شك أنه لا يجمعهم إلا مبدأ واحد سام عام. يجمعهم مبدأ ليس لأهل بيعة خاصة. هذا هو أساس التعليم الحر اهـ.
هذا الكلام عَلَى شده فيه مسلم به كله إذ أن وظيفة المدرسة تنقل تجارب الإنسانية في الأدب تنقل هذا الإرث المشترك في الحقائق المنشودة التي يهم أن يشترك فيها الناس أجمعون. يتيسر جمع الناس تحت لواء الحقائق الكبرى فمن العقل أن يتعلم أولاد الأمة الواحدة أن يتكلموا لغة أخلاقية مشتركة ويفزغوا إلى مبادئها ليتخذوها قاعدة تجري عليها أفكارهم وأعمالهم.
يقولون أن من غرض المدرسة الحرة أن تدك قواعد البيعة الكاثوليكية التي تزعم أن لها عَلَى المجتمعات البشرية حق السيطرة الروحية ممنوحة لها من الخالق تعالى. ولبكن مما توصف به القرون الحديثة منذ عهد الإصلاح إلى عهد الثورة الفرنسية التي لم تنته من عملها إلى اليوم أن تكون البلاد بجميعه ما فيها من الأعمال آخذة تنصبغ بصبغة دنيوية.
ليست المدرسة الحرة العامية من العوارض التي نشأت في المجتمع من ذاتها بل هي نتيجة حوادث ماضية وهي من لوازم المجتمع في فصل الشؤون الدينية عن الدنيوية. فالمدرسة الحرة ليست بهذا النظر عدوة الأديان الصحيحة بل تجهلها وترى أن في مكنتها أن تربي أبناءها عَلَى يدها وحدها.
جاء زنة كانت فيه العادات والأخلاق بل الحق برمته مرتبطة بالدين فكان من الكنيسة أن توسعت في سلطتها الروحية بدون رقيب. من يقصر حقه عَلَى الظلم يضطهده والظلم(82/37)
يقضي بأن تكون القوة تحت أمره ويدير دفة الشؤون الدنيوية ويقمع العصاة ولكن المجتمع المدني بعد أن قاسى كثيراً من الظلم قد تخلص منه ورأى أن يحسن القيام بإدارة نفسه بنفسه. وتاريخ الفرنسويين لو نظرنا فيه مناف للكهنوتية ولطالما حاول أجدادنا أن ينزعوا ربقة الخضوع للكنيسة.
فصل الكنائس عن الحكومات بعقبه جعل المدارس حرة هو تنفيذ لمبدأ واحد هو لا يترجم بالفعل إلا عما هو مغروس في طبائعنا وقوانيننا وأفكارنا وأعني بذلك فصل الحياة السياسية عن الحياة الدينية وأن تقول في ذلك الخصوم ما تقولوا.
إلا أننا لقوم لا نريد الانحناء عَلَى الأديان ونزعها من النفوس ليدين الناس بالعدم بل نريد أن لا تكون عَلَى أعمالنا وعمالنا وحكومتنا ومجتمعنا مسحة دينية. نريد أن يكون الدين كما هو حقيقة. نريد أن تفي عنه ما ليس له. نروم أن يكون الدين لله وللمرء بينه وبينه نفسه لا علاقة بينه وبين الحكومة ونحن بعملنا هذا لا نشهر حرباً بل نلقي سلاماً.
وقال أيضاً في المدرسة الحرة:
أيها السادة: إننا لم نتخلص من سلطة الكنيسة لنبدلها بظلم طائفة الموظفين المنافقين. نحن لا نقول بالإلحاد الرسمي ولا ندعو إلى الاعتقاد بالدين بحجة شرعية وضمان الحكومة. فالإلحاد الرسمي هو أبشع مظاهر التعصب وعدم التسامح. إن الحكومات الجديدة تقصد إلى إلباس العامية التدريجية فلا علاقة للقانون أصلاً بالمذاهب والنحل بل إن له من الأوضاع البشرية ضماناً ومن المصلحة العامة ما يقوم عَلَى أساسه. فليس الزواج سراً من الأسرار الدينية بل هو عقد مدني وليس الملك كما قيل تعضده قوة سماوية ويسمح المسحة المقدسة ويستمد حقه الإلهي من السموات العلي بل هو من الشعب وهو ممثل إرادة مجموع الأمة. وسوف يكون بعد الآن كل ما هو ديني لا علاقة له بالاجتماع: الدين من خصوصيات النفس لا اتصال له بالوجدان الشخصي.
ألقت اختلافاتنا الدينية بيننا العداوة والبغضاء فانقسمنا بها عَلَى أنفسنا ولا يتأتي أن يحف السلام أرضنا والائتلاف ديارنا ولا أن يكون لنا منها أدب مشترك. لا يسوغ ن تكون المدرسة العامة إلا كما تكون الحكومة مصبوغة بغير الصبغة الدينية فإذا استوفت هذا الشرط وجحده تصبح ما يجب أن تكون وتقوم بما هو دعامتها ومادة حياتها. إن جمهوريتنا(82/38)
لا تبحث عن مبدأ وحدتها في التعليم الديني بل هي تعن باستقلالها عن كلب سلطة روحية وترى أن لها من نفسها ما يرفع بنيانها وأن لها من مراميها الخاصة جميع ما هو قوام حياتها وبقائها.
وفي وسع جمهوريتنا أيها السادة أن تنفح أبنائها كلهم تربية أساسها ما يجمع شملهم لا ما يشتت جامعتهم. وبدون الاتحاد في الأفكار والمقاصد لا سيكون المجتمع الإنساني إلا موطن مكره وتشتيت حقيقي. وبدون التربية المشتركة والتعليم الأخلاقي العامي لا وطن ولا جامعة. فالتربية الوطنية ي الحكومات التي تدعي أنها تملك رقاب الناس بحق سماوي هي من توابع التربية الدينية. ووجود القس فيها ضروري ليدعو إلى الطاعة العمياء ويؤله الشخص الحاكم الذي يحكم المملكة بأسرها. أما الديمقراطية فلا تخرج عن حدودها ولا تخضع المرء إلى إرادة عرفية بل تطلب إلى أفرادها أن يخضعوا للقانون ليس هو إلا ما يرضي الجميع عَلَى شروط تضمن فيه السلام والبقاء.
ترى الجمهورية أن تقبض عَلَى عنان التربية. ولكن أي تربية وماذا يكون نوعها وكيف يلتئم هذا النوع من التربية مع احترام الحرية والوجدان الشخصي. إننا نحصر أنفسنا في أمور تافهة ونقتصر عَلَى تعداد الواجبات بدون أن نعد لها أسبابها فيتعلم أولادنا هذه القواعد المزوقة المتسلسلة بدون أن يفهمها فالطفل يتعلمها ولكنه لا يفهمها.
إن كنتم أيها الأساتذة تريدون أن تعدوا أفكار حرية قوية فعليكم أن تخففوا من الإكثار عَلَى الذاكرة وتستعيضوا عن ذلك بتمرين العقل. ينبغي لكم إذا رغبتم في أن تجعلوا التعليم الأخلاقي تربية للضمائر أن تقوموا مع من عهد إليكم أمرها من الأطفال بما يتجلي لأعينهم معه الق وتذكروا لهم قواعد التربية عَلَى اختلاف ضروبها هي نتائج مبدأ يفهمه الفكر وترضية الإرادة ويحييه الشعور. وبهذه الشروط فقد تصبح الحقائق التي تعلمونا حقيقة حية مرتبطة بأعمال الفكر الذي يوليها عَلَى الدوام ما يكشف القناع عنها ويظهرها في مظهر الحق كلما جد تطبيقها.
وما دمت يا هذا تعدد الواجبات العامة وتأمر بالنظافة والاعتدال والشجاعة فالعالم يوافقونك عَلَى ما تقول ومتى حاولت أن ترجع هذه الأمور إلى مبدأ عام وصرحت بفكر عام في الحياة وقيمتها ومعناها فهناك تختلف الأفكار وتتعارض.(82/39)
لا تعملوا عَلَى ما فيه هضم حقوق الوجدانات واستعبادها بل تلقونها اعتقادات لا تحلم النفوس أن تدافع عنها بحجة أنكم تريدون أن تعدوا عقولاً حرة ذات كفؤ للعمل. الحكومة الجمهورية لها الحق في البقاؤ بل يجب عليها أن تحرص عليه وتحتاط لنفسها وتدافع عن حوزتها. فهي قائمة عَلَى محض احترام الحريات المتبادلة ومن حقها بل من واجبها أن تعد جيلاً من الناس يكون منه ضمان بقائها وارتقاء قوانينها.
يعتقد بعضهم في جمهوريتنا بأنها جعلت للفرد مكياناً فراح يتخيل إليه بأنه عنصر من المجتمع لا يقوم بغيره. نعم إن أفراد جمهورية حرة لا يتأتى إلا أن يكونوا رجالاً فيحب أن يكون لهم من أنفسهم ما يعلي مقامهم في عيونهم وما يرفع من دركات البهيمية لتكون لهم إرادة وحرية فيفهمون معاني الاعتدال والحكمة والمفاسد والخرافات. فالمرء إذا انقسم عَلَى نفسه واستعبد لشهواته لا يكون إلا متعدداً مشتتاً له علاقة بكل شيء إلا نفسه. وأول ما يفرض عَلَى الإنسان أن يجعل لنفسه كياناً في أفكاره وأعماله ومضاء نفسه.
لا يعد الإنسان إنساناً إلا بين الناس وكل ما يحرره من عبوديته القديمة ويعلي مقامه عن دركات البهيمية ويصفه بالأوصاف الجميلة ويحدد له عمله (سواء كان بالعلم أو بالصنائع أو بالأخلاق) ينشأ من مساعدة الأفكار بعضها لبعض ومن مشاركة الإرادات والمقاصد. أنا لست إنساناً حقيقياً إلا إذا ارتضيت بقانونه الاشتراك والتضامن بحيث أكون مديناً للمجتمع ومساعداً لجميع أخواني فغي البشرية ولهم علي من الحقوق مثل مالي عليهم اهـ.
هذه شذرات من هذا الكتاب النافع ولو اتسع لنا المجال أكثر من الآن لاقتبسنا منه فوائد كثيرة وهو كلمة عَلَى سق واحد ولا حشو فيه ولا لغو فمن فصوله الممتعة الفصل الذي عنوانه تعاون الأفكار وكليات الشعب وفصل التعليم العالي عند الشعب وفصل التربية والثورة أو الانقلاب وفصل قصر الشعب وفصل كلية الشعب وأعمال العملة وكليات الشعب وفلسفة الشعب والتعليم الثانوي والفلسفة وغير ذلك من الممتع الرائق فيا حبذا لو صحت عزائم من يحسنون التعريب عن اللغات الإفرنجية إلى ترجمة مثل هذه الأسفار النافعة باللغة العربية فيبثوا فيها روحاً عالية جديدة وذلك أفيد للناس من مشاغب السياسة والأحزاب لأنه هو الأساس ولا بناء بدون أُس قوي.(82/40)
أخبار وأفكار
حفظ المكاتب
يحسن أصحاب المكاتب صنعاً إذا أرادوا بقاء كتبهم سالمة أن يقوموا باحتياطات الآتية: يقون أولاً استعمال الخزائن ذات الزجاج ما عاد بعض الكتب الثمينة جداً التي تنفض عَلَى الدوام وذلك لأن الهواء لا يتخللها ويبقى جوها محصوراً مما يساعد الحشرات الضارة كالأرضة عَلَى الإضرار بها وتكون مستوبلاً للعفن والجراثيم. ثم أنه يجدر وضع وراء الكتب بعض قطع من الجوخ أو الصوف مغموسة بروح صمغ البطم التربنتين والبنزين وحامض الفنيك أو عصير التبغ بحسب ما يتيسر للإنسان. وهذا الاحتياط إذا جدد من حين إلى آخر يعطي نتائج حسنة.
أوائل المعادن
نشرت المجلة الأسبوعية مقالة في أول استعمال للمعادن قالت فيه ما ترجمته: يجب الرجوع إلى ما قبل التاريخ أيام استخرج الإنسان من الحجر والقرن والعظام مواد صناعته واكتشف اكتشافاً رنَّ في العالم صداه ونعني به المعادن فكان باكتشافه إياها كأنه ظفر بالطبيعة واتجهت أعمال البشر بعد إلى وجهة لا تزال إلى اليوم تتكاثر فوائدها فقد بدأ عصر المعادن حوالي نحو العشرين قرناً من الميلاد ولا تبرح سلسلته آخذة بالتسلسل حتى يأتي العلم عَلَى تسجيل موارد الأرض. فيطلق الكيماويون اسم معدن عَلَى جسم بسيط قابل للتأكسد إذا أصابه الأوكسجين ويرى الاقتصاديون في المعدن أداة نقدية غلاؤها ناشئ من ندرتها ويرى أرباب الصنائع الاختراعات المتنوعة التي ظهرت من مادة مختلفة كان حسن استعمالاتها عَلَى الدوام أن تكثر الغنى وتدمث العناصر وتستخدمها.
كان الذهب أول معدن استعمل في حين أن الفضة عَلَى كثرتها في أيامنا لم تستخدم إلا مؤخراً وآخر معدن اكتشف هو الراديوم وبين المعدن الأول والمعدن الأخير زهاء خمسة وخمسين معدناً منوعاً دخلت في الاستعمال وأصبحت مساعدة عَلَى المدنية عَلَى اختلاف الأعصار.
إننا إذا أردنا الوقوف عَلَى تاريخ المعادن مدققاً يجب علينا الرجوع إلى العهد الذي كان الناس يعملون من الحجر سلاحهم وهذا لا يقل عن خمسة آلاف سنة وبفضل بحث العلماء(82/41)
تبين أن الذهب كان يستعمله القدماء إذ وجد في مقابرهم مطرقاً عَلَى صورة حلي وبالنزر لندرة الذهب في الجملة لم يدخل في استعمال الأدوات العادية بل اقتصروا عَلَى جعله صلة بين العصرين العظيمين العصر الحجري الذي انقضى والعصر النحاسي (البرونزي) الذي أدى الإنسان إلى اكتشاف الحديد أي إلى أبواب الأزمان التاريخية. ثم ظهر النحاس وعم استعماله في أشياء كثيرة ولكنه قليل البقاء فقد اعترف مطرقوه بادئ بدء بينه فمزجوه بغيره ليقوى فخلطوه بالزرنيخ والأنتيمون أولاً ثم بالقصدير. عَلَى أن ظهور المعادن في العمل يوافق بحسب ما يظهر أول عهد عدنت فيه المعادن وليس الأمر كذلك لأن المناجم سابقة ذاك الحادث المهم فإن البشر مذ عرفوا يصقلون الحجر قبل أن يعرفوا المعادن بأزمان بحثوا في الأرض وكان من المعدنين الأولين أن استثمروا أولاً حجر الصوان فكانوا يحفرون الآبار والدهاليز برؤوس الأيائل ليستخرجوا منها المعادن وكان من الحركات الجيولوجية التي ساعدت عَلَى تأليف الكرة الأرضية غنية برؤوس عروق المعادن فظهرت عَلَى سطحا وأخذت المياه الغزيرة الجارية إلى قرارة الأنهار تلقي عَلَى الضفاف أجزاء معدنية فلم يكن المعدنون بل الباحثون الذين حملوا إلى بوتقة الإنسان الأول المعادن الأصلية المخلوطة بالأتربة وغيرها. ومنذ ألوف من السنين جرى تعجين كثير من المعادن في طور سيناء بالشرق وفي كونرال في إنكلترا وفي مورييهان وإليه والبكرزو في فرنسا بلا كما جاء في كتاب علم الآثار قبل التاريخ أنه انتشرت من البحر المتوسط الشرقي معرفة مزج المعادن في بلاد الغرب بواسطة الطرق التجارية التي فتحت في العصر النحاسي وأحدث العصور قبل العصر الحجري الصنائع في أوربا الجنوبية وانتقلت تجارة المعادن من قبيلة إلى أخرى عَلَى شواطئ الأتلانتيك حتى بلغت الجزائر البريطانية وفي هذا أيضاً اكتشفت مناجم غزيرة نفق ما استخرج منها في أسواق الشمال والغرب بل والجنوب.
وقد انتقل تطريق المعادن من الشرق إلى الغرب ودلت بعض الآثار التي وجدت مصورة في صورة تصفية بارزة من عهد الدولة الخامسة المصرية وبعض ما وجد من الأثقال الحديدية في سويسرا بأنه كان في ذاك العهد مقاييس قابلة للوزن وأن التجارة كانت تربط إذ ذاك جمعاً من البشر أو من الأجناس.(82/42)
المالوش
قرأت أخيراً في مجلة المقتبس ما كتبه البحاثة اللغوي ساتسنا في العنجوس فازددت بفضله معرفة وبأبحاثه العديدة شغفاً منها بحثه في تلك الحشرة الفاتكة مما شف عن تفانيه في خدمة لغتنا العربية ونهضتنا الحديثة.
وفي بحث العنجوس اللغوي حقه فوفر عَلَى طلاب الزراعة عناء تنقيب كثير ثم وصف خلق العنجوس جيداً وذكر بعض طرق إتلافه وما يتعلق من البحث بالزراعة العملية وجيزاً. لذلك أحببت تفصيل ما أجمل في ذلك ملماً بأطراف الموضوع، ذاكراً أصدق الوسائل المتخذة في ديار الغرب لمحاربة ذلك العدو ليعجب الزراع ويفيد البقاع إن شاء الله فأقول:
المالوش أو العنجوس أو الشبث أو الكاروب أو ما يسمى في الشام بالحالوش حشرة من رتبة المستقيمات الأجنحة من جنس الجداجد (الصراصير) تسميه عامة الفرنسويين تارة بالحراثة وطوراً بسرطان الأرض وأخرى بالخلد الجدجد. واسمه العلمي الخلد الجدجد العام لأن يدي هذه الدويبة القبيحة عريضتان مفلطحتان قويتان جداً تشبهان دي الخلد ويقيم الخلد بالأراضي المزروعة ضيفاً كريماً ويفضل حدائق البقول والمغارس الشجرية والحقول الخفيفة التربة والأماكن الرملية الرطبة كالأباطح والمنخفضات فيحقر ليلاً سراديب سطحية عديدة يطول بعضها كثيراً ويسير عَلَى الدوام في تلك الدهاليز المحددة للأمام ولا يلوي عَلَى شيء فيمزق بفكيه الجذور الدرنية كالبطاطة والجزر والشمندر فتكون له تلك السراديب ميادين يطارد فيها مختلف الحشرات. أما المواضع التي خددها المالوش فتعرف باصفرارها وذبول نباتاتها.
اختلف علماء الحشرات كثيراً في مأكول هاته الحشرة فقال بعضهم: أنها من آكلات النبات والحيوان معاً ومنهم المهندس العالم الزراعي غينو أحد مؤلفي دائرة المعارف الزراعية الكبرى. وقال آخرون: أنها من آكلات الحشرات فقط ولكنه قد يأكل بقايا النبات والحشرات المخلوطة وفرقة ذهبت إلى أنها لا تأكل سوى الحشرات والديدان منها الأستاذ بيكار فقد برهن عَلَى قوله بعدة تجارب ناطقة بفساد مذاهب الآخرين وقد امتحنت هذه الحشرة في عطلتي الصيفية الحاضرة بأن وضعت مالوشين في إناء وتركتهما في الجوع الشديد ثلاثة(82/43)
أيام مع النبات الأخضر ثم بعد ذلك فحصت النبات فإذا هو كما وضعته لم يتغير ثم أتيت للمالوش الكبير ببعض ديدان التفاح فكان يلتهمها بنهم وسرعة.
كذلك اختلف علماء الحشرات والزراعة في ضرر المالوش ونفعه والمذهب المعتدل أن العناجيس نافعة في الأرض المزروعة حبوباً لا يأكلها الديدان والحشرات الضارة وعد إضرارها بالحبوب ضرراً يذكر ولكنها ضارة جداً فيما إذا كانت كثيرة في بساتين الخضر فقد تتلف الزرع برمته إذا كانت قليلة في الأرض فتستوي كفة نفعها مع كفة ضررها ثم لنفرض أنها مفقودة فإن الدويبات الضارة التي كانت تلتهمها في وجودها تتسلط عَلَى النباتات في غيابها ولربما كان مما تفترس ما هو أضر في بعض البلاد منها فتنتفع الأراضي كثيراً ولما كانت بلادنا العربية لم تعتد بعد محاربة هذه الحشرات الفتاكة اعتيادها الحروب الدينية التي أخرتنا قروناً كثيرة. باضت الحشرات لا تبالي، وفرخت خالية الهم والبال حتى صارت من ألد أعداء الفلاحة الشرقية وأكبر مصائب الزارعين ولذلك وجب علي أن أشرح أصدق الحيل المتخذة في ديار الغرب لإتلافها وهي:
1ً - أن تسقي الأرض قليلاً لإخراج الحشرات منها عند الهجيرة لأن هذه المواليش تعشق الماء والرطوبة ومتى صارت عَلَى سطح الأرض سهل التقاطها وإهلاكها وقد ذكر لي رفيقي في درس الزراعة هاشم أفندي البهلوان المعري من أبناء طرابلس الشام أن فلاحي القرى الطرابلسية كالمنية وغيرها يتخذون هذه الطريقة في قتل المواليش.
2ً - أن تصب في ثقوب سراديب المواليش الخارجية بعض السوائل الخاصة كالزيت وكبريت الفحم أو مستحلب البترول والصابون وتستحضر المستحلب بأخذ 40 جزءاً من البترول وجزءٍ من الصابون و20 جزءاً من الماء والصابون يقطع قطعاً صغيرة ويغلى في الماء حتى يذوب فيرفع عن النار ويزاد عليه البترول ويحرك جيداً وهو سحن حتى يختلط البترول بمذوب الصابون وعند الاستعمال يمزج الرطل بعشرة أرطال ماء ويصب في ثقوب المواليش ويعد هذا المستحلب من قاتلات الحشرات بأنواعها فليستعمل لضربة الليمون برش الأشجار بالمضخة.
3ً - يهلكون كل سنة في الأراضي الرملية حوالي برلين أكثر من مئة ألف من هذه المخربات وذلك أنهم يملئون قصريات (شقفات الفخار للزهور) ماء يصبون عليه أربعين(82/44)
نقطة من زيت النفط (خلاصة التمر تينا) ويدفنون هذه القصريات في عمق خمسة سنتيمترات في الأرض فتتباهت المواليش لتموت في مائها غرقاً وقد ذكر هذه الطريقة الألمانية الأستاذ لاربالترية مدير دار الاستحضار الزراعية في مقاطعة الألب المنخفضة وأحد أساتذة مدرستنا.
4ً - أما في الأراضي المزروعة تبغاً (توتون) فقد ظفر المفتش الزراعي العثماني في ولاية آيدين بطريقة نجح بها كل النجاح في إبادة المواليش وهي: أن تسلق عرانيس الدرة وترفعها من المرجل والقدر قبيل النضج وبعد تجفيف الذرة تطحن حبوبها مع حامض الزرنيخوس وتذر الدقيق عَلَى الأرض ثم يدفن فيها بواسطة المشط قبل الزراعة الدخان بعشرة أيام وعندئذ يجب إبعاد الطيور الداجنة عن تلك الأرض المسمومة. وإني أوصي أهالي جبل عامل ولواء اللاذقية بهذه الطريقة الناجحة الفعالة.
5ً - أن لا تهمل التفتيش عن أوكار المواليش في أشهر أيار وحزيران وتموز تظهر مثل كتل من التراب مرتفعة محاطة ببعض النباتات الجافة وحينئذ تحفر في هذه الكتل مقدار 65 سنتيمتراً فتجد فليجة (شرنقة) من التراب يابسة فتأخذها بعناية واحتياط لئلا تكسر الفليجة فيقع بيض المالوش عَلَى الأرض ثم تسحق الفليجة كل السحق والأحسن أن تطرحها في النار.
6ً - ذكر بعض كبار المزارعين في فرنسا حيلة تتمكن بها من إتلاف هذه المواليش من الأرض بتاتاً في مدة سنتين أو ثلاث وأرى طريقته هذه أنفع الحيل المتخذة في حين أنها قليلة النفقات ولا تضايق المزروعات وهي أن تحفر في الأرض قنوات معوجة يكون بين القناة والأخرى ثلاثة أو أربعة أمتار وعمقها يختلف من 25 إلى 30 سنتمتراً. ثم يمل تلك الأقنية سرقيناً زبلاً خالطه قش ويعمره سواء كان سرقين خيل أو بقر ثم تغطي الجميع بالتراب فإن سرف المواليش تهرع للقنوات كي تدفأ في السرقين وتتخذه لها مشتى حيث تدخل في دور النطور والاستحالة وينبغي فتح القنوات في شهر أيار المقبل برفع السرقين بالتدريج فتجد أن تلك المواليش بالغة والسرفات التي لم يتم بعد تطويرها فتبيدها عن آخرها.
وفي الأرض كثير من الحشرات تأكل بيوض المواليش. والبيض ينقف بعد ثلاثة أسابيع أو(82/45)
أشهر عن فراخ بيضاء صغيرة. وقد زعم بعض علماء الحيوان أن المالوشة تأكل جزءاً من فراخها وأثبت قوم أنها تدافع بالعكس عنها وتفتش لها عَلَى ما يغذيها والغالب أن المالوشة تموت بعد ما تبيض كأكثر الحشرات المنظورة. أما البيضة فصفراء بحجم بزرة القنب (القنبزة) وقشرتها متينة جداً توجد متلاصقة مع أخواتها. أما الفراخ فإنها تعيش العيشة الاشتراكية مدة شهر ثم تتفرق فتتطور إلى ثلاثة أطوار إلى آخر تشرين الأول وحينئذ يكون طول الذويبة سنتمتراً ونصفاً فإما أن تحفر لها حفرة أو أن تلتجئ للمزابل لقضاء فصل الشتاء في حالة التخدر والسبات الطويل فتبقى كذلك للربيع القادم وفيه تتطور أيضاً طورين ثم تبلغ في أيار أو حزيران وفيها ترتكب هذه المواليش أكبر فظائع التخريبات في المزروعات.
أوريزون (فرنسا) // عز الدين شيخ السروجية.
اليابان والأفيون
ذكرت الصحف الأوربية عام 1853 مع الأسف أن عادة تدخين الأفيون لم تقتصر عَلَى بلاد الصين بل تعدتها إلى إنكلترا تقل إليها استعمالها أناس من البحارة الصينيين كانوا مستخدمين في إخراج شحن البواخر أما اليوم فقد اختلفت الأحوال كل الاختلاف فما من بلد في الغرب إلا سرى إليها استعمال هذا المخدر المضر فسرت إلى أوربا عدوى فاحشة إذ ثبت في أحوال مدهشة أن المواني الغربية تؤدي أموالاً طائلة في سبيل الحصول عَلَى الأفيون الذي انتشر في مواني ألمانيا بواسطة بحريتها كما سرى إلى مواني فرنسا. وأميركا الشمالية مصابة به كثيراً حتى ثبت الدكتور ورخت بالإحصاء أن 5800 رجل من البيض في نيويورك يستعملون الأفيون وزهاء 8000 في شيكاغو يستعملونه عَلَى الرغم مما يبذلونه في محاربة هذا المخدر المضر.
ولم تنتج سوى مملكة واحدة من هذا الخطر. ومن الغريب أنها اقرب جارة للصين ونعني بها اليابان المتصلة معها عَلَى الدوام مباشرة. وقد ألف المسيو مرابن كتباً ممتعاً يفهمه العامة ولا ينفر منه الخاصة يقصد به إثارة حرب صالحة صحية عَلَى الأفيون أبان فيه أن الياباني الذكي العفيف لاحظ بادئ بدء السقوط الشخصي وضعف الجنس الناشئين من هاتين الرذيلتين: الأفيون والألكحول. ولذا عفت نفس الياباني عن أن يكون حشاشاً(82/46)
وسكيراً.
ولم يخطئ حكام تلك البلاد الاهتداء للجادة المثلى في اتقاء هذا السم الهائل ومنعه من التسرب إلى بلادهم بل صدرت الأوامر لأول العهد بأن يعاقب بالقتل كل متعاط للأفيون وإلى اليوم يجازى شاربه بالأشغال الشاقة وضربت عقوبات وغرامات شديدة عَلَى من يهرب الأفيون حتى لم يعد يجرأ صاحب سفينة أن يحمله.
والأحسن من ذلك أن يابان لما ملكت بلاد فورموز وكوريه شرعن في العمل لما من شأنه إبطال استعمال الأفيون فيهما عَلَى أسلوب بطئ ينقذ السكان من تلك المفسدة فجعلت التدخين بالأفيون عَلَى المصابين به من قبل متوقفاً عَلَى رخصة ينالونها ليستطيعوا الجري مع شهواتهم وهذه الرخصة تحدد الكمية التي يسمح لهم بأخذها. واحتكرت الحكومة عمل الأفيون وبيعه وهي لا تبيعه لغير من ألف شربه وثبت في لجنة خاصة أنهم مبتلون به وذلك بأثمان فاحشة تضطرهم إلى إبطال استعماله.
قالت الطان الباريزية بعد إيراد ما تقدم: وهذا خير مثال في الوقاية الاجتماعية قامت به مملكة الشمس المشرقة عَلَى ما رأيت. أنا نحن فنقول أن الحكومة المصرية عَلَى محاربتها في الظاهر لاستعمال الحشيش ما برح شائعاً في أهلها ويا للأسف عَلَى اختلاف طبقاتهم أما فتح العثمانية والمصرية صدر بلادهما لما يرد من بلاد الغرب من المشروبات الروحية المختلفة الصنع والاسم فإنه مما نسأل الله منه السلامة عَلَى صحة السكان وعقولهم وآدابهم وبينا نرى عجائب في الشرق الأقصى من سهر حكومته عَلَى كمال سكانه نشهد العكس من حكومات الشرق الأدنى بتساهل فقيما يورث أهله النقص والانحلال.
عصابة ضد الجنون
الجنون من أعظم النوائب التي اشتدت وطأتها عَلَى الجنس البشري فقد أثبت الإحصاء في جميع البلدان أن معدل المختل شعورهم أخذ بالتضاعف إلى حد يدهش المفكرين وجميع طبقات المجتمع يصاب منها أفراد وكثير من الناس يعلمون أسبابه ولا يتقونها. يعلم الشبان والشيوخ والكهول أن كثرة التأثر ومجارات الشهوات من أعظم العوامل في الجنون ومع هذا تراهم لا يتوقفون عن إتيان الرذائل التي تقودهم إلى المستشفيات فالموت الزؤام. وما من أحد لا يعلم أن الإفراط في استعمال الألكحول والمشروبات مدرجة إلى اختلال الشعور(82/47)
ومع هذا ترى السكارى مدمنين عَلَى أقداحهم وأهل الشهوات في مسراتهم وأفراحهم وهذا ما حدا القائمين عَلَى الصحة والآداب في الغرب أن يحابوا تعاطي المسكرات بكل ما في وسعهم وأنشأوا لذلك النقابات والجمعيات فانتفع من ذلك كل من إنكلترا وإيرلاندا وفرنسا ورأت جمعية التعاون الأميركية أن نشر التعليم العلمي النفسي بين العامة أنجع الذرائع في القضاء عَلَى الجنون أو عَلَى الأقل في تخفيف ويلاته وذلك لأن الإنسان إذا لم يكن أبله يؤثر الصحة عَلَى المرض والحرية عَلَى السجن في ملجأ فعمدت إلى استعمال الطريقة التي كانت استعملت في نشر التوراة بين الخاصة والعامة.
وقد ترأس تلك الجمعية مديرو المستشفيات والمصالح وأشهر أطباء العته وأخذت تنشر بمئات الملايين نشرات فيها بيان ما يصيب المرء بتسامحه في تعاطي المسكر الذي يؤدي إلى الجنون فتتداولها الأيدي ويقراها بإمعان الشبان والأطفال والبالغون والبنات والنساء والأمهات فتتم ثل لأعينهم هذه البلية وتنهال أمثال هذه النشرات عَلَى الأطباء ونظار المدارس ورجال الكنائس ومديري المعامل والمصانع والنجار الذين يستخدمون الرجال والنساء وأرباب المطاعم والفندق وباعة المسكرات والمرتزقة مشفوعة بالرجاء إليهم أن يساعدوا تلك العصابة الشريفة عَلَى بث دعوتها في العامة وقد ثبت مؤخراً أن معدل الداخلين الشهري إلى المستشفيات من المعتوهين والمعتوهات قد نزل عن ذي قبل.
قلنا ألا يليق بمن عدوا أنفسهم منا في زمرة الخاصة القائلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يفكروا في مثل هذه الإصلاحات الاجتماعية ومداواة العلل التي حدثت فينا من انتشار الو بقات والمسكرات بدلاً من أن يكثر بعضهم عَلَى بعض عَلَى غير طائل ويسعوا للشهرة من غير أبوابها ناسين بأعمالهم هدي كتابهم وسنة رسولهم وهيهات أن يرزق العقل السليم من حاد عن سنن الشرع السمح والمدنية الصحيحة.
جيش السلام
مات في إنكلترا رجل غريب الشأن من رجالها وهو القائد نوت مؤسس جيش السلام توفي عن 81 سنة قضاها في خدمة الإنسانية وكان أجير خياط في السنة الخامسة عشرة من عمره ثم بلغ به تقواه وحنانه الغريب عَلَى نحو ما يكون عليه بعض أهالي مذهبه فقام في ذهنه أن يدعو قومه وأبناء نحلته خاصة إلى العطف عَلَى البائسين ومواساة المنكوبين(82/48)
ووعظ السكيرين والفاسدين واللاعبين وغذ كان هو من أسرة فقيرة وعرف معنى الفقر بالعمل جاء لندن سنة 1848 وتوطن في أفقر أحيائها بين المحاويج من أبنائها وبدأ يعظهم بعملهم ويبث دعوة الإنجيل فيهم فاستمال ببلاغته قلوب الشعب وتعدى من الوعظ الخاص لأبناء مذهبه إلى الوعظ العام فاخذ يطوف إنكلترا وينشر الكلم الطيب ويؤاسي من أخنى عليهم الدهر ويدخل أناساً في جمعيته ولم يلبث أن خرج عن أهل مذهبه وأسس له مذهباً جديداً وذلك عقيب زواجه فنشر في الناس تعلماً مسيحياً كان أيضاً نظاماً عسكرياً فكسا رجاله كسوة الجند وأوجد رتباً ووزع مناصب وأدخل في جيشه الرجال والنساء ثم أنشأ عدة جوقات موسيقية وجريدة وأخذ ينشر الإعلانات الكثيرة عن مذهبه.
ولقد سخر القوم بصاحب هذا المشروع لأول مرة ولكنه ثبت عليه فأخذ ينمو السنة بعد الأخرى وكثر أشياعه وجيشه في أقطار الأرض ودخل فيه حتى الزنوج وقد اضطرت فيكتوريا ملكة إنكلترا أيام ملكها أن تستدعي إلى قصرها القائد بوت وتلتمس معونته في الهند وأوستراليا فقام في هذا السبيل بأعظم الخدم للأمة الإنكليزية.
هذا ما قرأناه في الصحف الإفرنجية وقد ذكرت مجلة التواريخ السياسية والأدبية نبذة في وصف جيش السلام بقلم أحد أعضاء المجمع العلمي الكونت دوسونفيل قال فيها: إن هذا الجيش كان سبب السخرية منه لأول مرة وإنك لا تتمالك من الضحك عندما ترى ضباطه يلبسون في رؤوسهم قبعات من القش صغيرة سوداء تحيط بها شريطة حمراء ومنذ تأسيس هذا الجيش سنة 1878 عَلَى يد القائد بوت ما يزال عرضة للمعارضة الشديدة الوحشية بل بالاضطهاد ولاسيما في البلاد البرتستانتية من إنكلترا فتغلب هذا القائد عَلَى جميع هذه المصاعب بنشاط غريب وحقق جزءاً عظيماً من نياته التي ألم بها في كتابه الشقاء ببلاد إنكلترا وهو كتاب يبين ما في مطاوي المدنية الإنكليزية من الجروح النغارة وما في نظامها السياسي المدهش من النواقص فتمكن بذلك أن يجعل من جيش السلام جمعية زاهرة غنية يلجأ إليها الناس من حكومات وبلديات وجمعيات.
والذي يزيد قوة جيش السلام في لندرا وغيرها هو أنها تجمع في إدارة واحدة الأعمال المختلفة التي يتمم أحدها الآخر ولها الآن في عاصمة إنكلترا نحو خمسين معهداً مختلفة المقاصد منها ما يؤوي الأمهات ومنها ملاجئ للبائسين يبيتون فيها ومنها مخابز ومعامل(82/49)
للمعاونة بالعمل وملاجئ للنساء وللأولاد والغاية الأساسية التي يرمي إليها هذا الجيش أن يقوي ملكة الأخلاق في أفراده ويرى والحق معه فيما يراه أن المرء الذي صار إلى البؤس بصنعه أو بتأثير الأحوال فيه فعاش فقيراً يتكفف الأيدي لا يعود إلى حالة حسنة إلا بالعمل فإيجاد عمل للداخلين في جيش السلام هو أعظم هم الجمعية لأنها ترى أن العمل يرفع الإنسان ويساعده عَلَى التخلق بالأخلاق الفاضلة.
ولهذه الجمعية في لندرا سبعة معامل للمعاونة بالعمل في الصناعات المختلفة وفي تنوع الأعمال مجال للانتفاع لكفاآت البائسين عَلَى اختلاف ضروبهم ممن لا عمل لهم فلهم معمل نجارة عظيم لا يعمل إلا بتوصية ما يطلب منه من الأعمال وجميع مصنوعاته حسنة وله معمل كبير يجمع فيه الخرق البالية من شوارع لندرا فتسير كل صباح 21 عربة إلى جهات مختلفة تحمل قمامات المدينة ولاسيما الورق القديم والمقوى العتيق والجرائد البالية والخرق والكساحة عَلَى أنواعها فتحملها إلى فناء المحل فتوزع عَلَى غرف تنقيها ثم تجعل أكداساً ترسل إلى فرنسا والولايات المتحدة تباع من معامل الورق. ويعمل في هذا المعمل ثلثمائة نسمة يعيشون من حاصلات عملهم.
ولهذا الجيش معامل للنساء كما له معامل للرجال وهي معامل المعونة بالعمل وملاجئ الليل ومعامل النساء للخياطة وغسيل الثياب. ويستخدم في إدارة هذه المعامل ستمائة امرأة ولكل منها رتبة من رتب الجندية ففيه كما في الرجال قائدة عشرة وأخرى قائدة مائة وأخرى قائدة ألف وغير ذلك مما قالوا ن السبب في إطلاقه عَلَى أفرادهم وأفرادهن حفظ النظام والطاعة وهذا القانون يشبه قانون الجمعيات الدينية عند الكاثوليك ولكنه جاء في صورة أخرى والجميع يعلمون الإحسان والشفقة عَلَى بني الإنسان ومن النساء الداخلات في الجمعية من هن من بنات الطبقة الأولى طبقة الأشراف وفيهن من أهل الطبقة الوسطى يتأدبن كلهن بآداب الإنجيل عَلَى مذهب مؤسس طريقتهن القائد بوت.
الشعب الإنكليزي
في المدينة الغربية رذائل وفضائل ومن الأسف إننا أخذنا في الشرق رذائلها قبل فضائلها فتسربت إلى أبنائنا وكادت تقوض أركان مجتمعنا وكل يوم نحن منها في شأن ولكن الحضارة في العادة تدخل ويدخل معها كل شيء فإذا ارتقى فرع من فروعها يتبعه الفرع(82/50)
الآخر وإن كان لا علاقة له به أو هو يخالفه من كل الوجوه والفرق بيننا وبين الأمم الغربية أن خاصيتهم هناك يحاربون تلك الجراحات بمواعظهم وأقلامهم وجمعياتهم وحكوماتهم ونحن معها سكوت لا نتكلم كالبله المتناومين ومن نسميهم منا الخاصة لا يحلمون بغير منافعهم ومظاهرهم.
الشعب الإنكليزي باتفاق الآراء أرقى شعوب الأرض أخلاقاً وأكثرهم حرية واستقلال أفكار ومع هذا ترى الجنون يزيد معدله فيهم بهذه الحضارة وتكثر أمراضهم من آثارها وذلك لانتشار المسكرات بينهم وشدة الجهال في الحياة ثم أن العهر يزيد عَلَى معدل ذلك الشقاء المستحوذ وقلة الاحتفال بالدين مع أن الشعب الإنكليزي من أكثر الشعوب تمسكاً بالأديان.
ظهر في باريز تاريخ الشعب الإنكليزي في القرن التاسع عشر للمسيو هالفي من علماء الفرنسيس وفيه العجب العجاب من أحوال البريطانيين قال فيه أن أخلاق هذه الأمة غريبة الشكل في المحاكم فإن منظر الجلسات في المسائل الجنائية يدهش به الغريب وذلك ترى أن مكتب القاضي غاصاً بالزهور وكذلك مكتب كاتب المحكمة ويحمل الضباط المحضرون باقات الزهور أيضاً ويجعل القاضي عَلَى رأسه شعراً مستعاراً فإذا أراد إصدار حكمه يخلي سبيله للناس فيسمح بدخولهم وفيهم كثير من الجميلات المعشوقات من بنات الولاية أو المقاطعة فيقفن فيستمعن للأحكام ومنها ما يكون الإعدام شنقاً فيتظاهرون بالتأثر ثم يخرجن من هناك ولا يلبثن أن يرقصن رقصهن اللطيف والمحكوم عليه يفكر في صدور الحكم عليه وهو بين ذاك الجمع من ربات الدلال والظرف.
وكذلك ترى الغرابة في الانتخاب لمجلس العموم فإنها تدوم خمسة عشر يوماً ويدفع المترشحون جميع نفقات الناخبين ومن انبسطت يده بالعطاء أكثر ورد أطعمته وأشربته فاستطابها منتخبوه كانت غلبته للنيابة مضمونة ويكفي أن يقال أن ثلاثة مرشحين عن يوركشير سنة 1807 أنفقوا لنيل كرسيين في مجلس النواب خمسمائة ألف ليرة إنكليزية حتى إذا ظفر اثنان منهم لم يسلما من إهانة الأمة التي كانت تلقى عليها الأوساخ والأوحال فكان الإنكليز بذلك يقتدون بإجراء طرق الرومان في رومية ممن لم يكونوا يصعدون القلعة يوم مبايعتهم قبل أن ينالهم خصومهم بأنواع السخرية والشتائم.
وليس تاريخ الإنكليز غريب فقط بل هو معلم أيضاً وفيه مثال واضح من تغالي القوم في(82/51)
الأمور الاقتصادية حتى أدى ذلك إلى مفاسد لم تحمد مغبتها وهو أنهم يريدون أن تخرج من معملهم أعمال مهمة بقليل من الوقت والنفقة ولذلك اضطر أربابها إلى استخدام النساء بدل الرجال لخضوعهن أكثر من الرجال ولقلة أجورهن قال المؤلف وهناك فوائد أخرى وهو أن النساء قد يستخدمن في جلب رضا أرباب المعمل والزائرين له والأخذ في عنان الشهوات ثم أن المعامل ما يستخدم صغار الأولاد في الأعمال الخفيفة فيدخلون تلك الأماكن الرطبة يعملون خمسة عشرة ساعة فتتأثر صحتهم وأناملهم ويصابون بعاهات تشوه وجوههم وتضر عقولهم.
ولقد كاد حب الذات في أرباب الأعمال الاقتصادية يزيد في المعامل عدد المشوهة أجسامهم الفاسدة أخلاقهم لو لم يفكر القوم باتخاذ الدواء الناجع فلما رأوا ما حل بتلك الطبقات مما وصف أعراضه الشعراء والأدباء والصحافيون ورجال السياسة ووعاظ الدين عَلَى اختلاف مذاهبهم قاموا كلهم يداً واحدة ليزيفوا هذا الضرب من العبودية وخف بعض أباب المعامل العاقلين فقللوا من ساعات العمل وأكثروا من أجور العمال مع مراعاة النسبة بين دخلهم وخرجهم وبذلك وجد الإنكليز بعض المسكنات لتلك الأدواء ولعل عقول خاصتهم تهديهم إلى معالجة غيرها وإلا فتوشك أن تصاب المدنية الإنكليزية بما أصيبت به المدنية الرومانية وغيرها.
الخوف
خطب إرنست لفيس علامة الفرنسيس خطاباً في الخوف في مدرسة نوفيون ىن تيراش (فرنسا) قال فيه أن من النقائص التي يجب أن تتغلب عليها التربية نقصاً تتساهل فيه المدرسة والأسرة معاً وذلك لأن المدرسة لا يبدو فيها هذا النقص خصوصاً وأن غير المطيع والطائش من التلامذة يلقي الاضطراب في نظام المدرسة أكثر من الجبان فهذا وديع والمعلمون يقدرون وداعة التلامذة قدرها أما الأسرة فغالباً قد ترتكب غلطاً كبيراً باعتمادها عَلَى الخوف أداة من أدوات التربية ولقد نشأت من الخوف شرور كثيرة لأن صاحبه يخشى الألم والموت بل إن حياته كلها معذبة بنتائجه وليس الذنب عَلَى الأولاد بل عَلَى من ربوهم وأورثوهم خلة الخوف فإن لقانون الوراثة تأثيراً كبيراً في الخوف سواءٌ كان فيلا الإنسان أو في الحيوان والخوف قديم كقدم الإنسان وليس فيه عار عليكم معشر الطلبة.(82/52)
ولقد قال ديكارت الفيلسوف العظيم: لا تكفي الإرادة لبث الشجاعة من مرقدها ونزع الخوف من أصوله بل تجب العناية في النظر إلى المعقولات والمحسوسات والأمثولات التي تقنع المرء بأن الخطر غير عظيم وأن الأمن يكون في الدفاع أكثر منه في الفرار وأن المجد والسرور في الظفر في حين لا يتوقع الأسف والعار من الفرار.
إنكم يا هؤلاء تخافون في العادة من البر والصاعقة والقعقعة المسموعة والأشباح المرئية في الظلمة والكلب الذي تصادفونه في الشارع والبقرة التي تحدق النظر فيكم بينا أنتم تجتازون إحدى المراعي ولكن قولوا لي كم بقرة نطحتكم وكم عدد الكلاب التي عضتكم فإن الأشباح التي ترونها في ظلام الليل الدامس قد لا تكون إذا وقدتم النور + + فسطانكم أو سراويلكم وكم من قعقعة سمعتموها ونشأ عنها ظهور لص أمامكم والرعد كم من مرة أهلككم.
لا جدال بأنه قد تحدث صواعق وسرقات واعتداآت ولكنها لا تخرج عن كونها حوادث تحصى وتنشر في الصحف إذا عراكم الخوف فاذكروا بأنكم شعرتم به أكثر من مرة ولم يصيبكم منه شيء فهو إذاً قد هزأ بكم فقولوا له: يا هذا أنا عارف بك فدعني مستريحاً. إذا فعلتم ذلك فأنتم ولا شك سائرون في طريق الشجاعة.
أريد أن أقنعكم الآن بالقاعدة التي سنها ديكارت بأن الأمن قد يكون مع الدفاع أكثر مما يكون في الهرب. وهذا الكلام مؤيد بالمثل القائل بالخوف لا يتوقى الخطر (العرب يقولون من التوقي عدم الإفراط في التوقي) بل إن الخوف كثيراً ما يحدث الخطر.
الكلب دائماً ينتصب عَلَى رجليه لأنه اعتاد ذلك فإذا وضع أنفه في الأرض وشم حيواناً يسرع في العدو والبقرة إذا خلصت من رعيتها تنظر بعينيها أمامها فيظن الولد أن الكلب يتأثره والبقرة تريد أن تبطش به من عدا أمام الكلب والبقرة كان أقرب إلى الخطر عَلَى نفسه. ولعل الوقت قد حان لأن يدرس الأولاد في المدارس الابتدائية دروساً في الشجاعة يكون أول عمل لها التغلب عَلَى الخوف والدهشة.
ولكن كل تربية لا تأثير لها إذا لم تؤازروها أنتم أنفسكم يجب عليكم أن تقنعوا أنفسكم بالجرأة أنكم إذا قستم أنفسكم بأناس من أترابكم لا يرون إلا ما يقع نظرهم عليه مباشرة ولا يحاولون الهروب تؤكدون أنكم دونهم في القدرة عَلَى السير وضعاف في النظر وإياكم أن(82/53)
تفوتكم وسيلة لغرس الشجاعة في نفوسكم.
إنكم لا تتمكنون من التغلب كل التغلب عَلَى الخوف بل تتخلصون منه بعض الشيء وإني طالما كنت في طفولتي وإلى الآن أخاف الرعد لأنني رأيت صاعقة انقضت عَلَى بضعة أمتار مني وأخشى الفئران إلى اليوم وقرضها الخفيف وإن قيل لي عندما كبرت أن الحيوانات الصغيرة لا تأكل الكبيرة. فما يطلب منكم اليوم هو أن لا تخافوا بتة بل أن لا تخافوا من خوفكم وأن تحاربوه وتغلبوه وبعد ذلك تحرزون مكافأة حسنة. تحرزون المجد والسرور كما قال ديكارت والمجد من شأن الكبار أما أنتم معاشر الصغار فالسرور خاص بكم لاسيما إذا وقعت أبصاركم عَلَى الشجعان فإن نفوسكم تحدثكم بأنكم لا تغارون منهم لأنكم صرتم شجعاناً بصنيعكم وأصبحتم معجبين بعملكم إعجاباً لا يمازجه هزؤ أبناء هذا الزمان بل إعجاباً يستحثكم في الأوقات الضنكة بمجرد الاعتماد عَلَى نفوسكم.
إذا اهتزت عظام أرجلكم وسوقكم خوفاً وهلعاً فخاطبوا ما علا فوقها من جثمانكم خاطبوا العقل وقولوا له أن له هيكلاً عظمياً إذا اضطرب فإن جزءنا الأعلى مأوى العجب بأنفسنا ومقر الشعور بالواجب ومنهما بلغ من حالتنا في حياتنا فقد تعرض لنا أحوال تدعونا إلى أن نختار طريق الشرف أو غيره فلنبتعد عن الجبن يسير في طريقه ولنسر في طريق السلامة.
أيها الأطفال الأعزة إن هذا هو شعور عظمتنا الشخصية وشرفنا وواجبنا الذي يحدث الشجاعة في كل فرد منا ويقويها هذا هو الشعور نفسه الذي يمازجه حب الوطن فيدعو إلى الشجاعة الوطنية. للأمم ساعات من الخطر. فإنكم تسمعون الحين بعد الآخر أنه ستنشب الحرب غداً نعم إن الحرب حادث عظيم مدهش إن فرنسا التي غلبت وهي تشكو من جرح لا يزال فيها نغاراً تعرفه حق المعرفة ولكنها مع ذلك لا تبدي حراكاً هي ليست دون سائر المم في إعجابها بنفسها واحتقارها لها ولكنها في الباطن تعرف قيمة نفسها تشعر بأن فيها فضائل وقوى أخرجتها عن ما مر في القرون لماضية من الهوى التي ظن بأنها تدهورت فيها تاريخها عظيم مجيد بسلاحها محيد بعقلها. إنها كسائر الأمم قد أتت شيئاً من الشر فاستحقت عليه بعض الأحايين اللعنات ولكنها كفرت عن سيئاتها بحسنات كثيرة فقد حررت شعوباً من رقهم لا يزالون يذكرون لها يدها عليهم وأوحى عليها عقلها السمح(82/54)
المستنير فلقنت أناساًَ من بلاد مختلفة قيمة الإنسان ولم يبرحوا يذكرونها بعملها فهي تعرف نفسها شريفة بين الأمم معم إن العالم حولها قد تغير كثيراً من نصف قرن فقام شعب بالقرب منا يذكرنا كل حين بلسان البغضاء والقحة بأنه عظيم قوي. ومع أن هذا الشعب عظيم وقوي فإن فرنسا التي تهدد أحداً لا تخاف أحداً بتاتاً بل تعلم إنها فرنسا عَلَى كل حال.
الإفرنج والنزهات
لا تكاد تطلع عَلَى صحيفة سياسية وعلمية من صحف الإفرنج في الصيف غلا وتجدها ملأى بوصف المنتزهات والحمامات والجبال والبحيرات والغابات وأخبار الرحلات الخاصة منهم إلى الأصقاع ذات البهجة والرياض الممرعة الخصيبة فمن قائل مثلاً أن جان جاك روسو الفيلسوف هو الذي سن للفرنسيس سنة التنقل في البلاد وحبب إليهم عيش الخلاء وعشق الطبيعة ومن مدع أن برناردين دي سان بيير هو داعية ذلك ومن زاعم أن شاتو بريان كان أمتن وأحكم في دعوته ومن قائل أن من حبب الحمامات البحرية إلى الناس هما الأب بوهورس ومامونتل ومن حبب التصعيد في الجبال هو لاروشفو كولد الحكيم والخلاصة فإن للغربيين غراماً في الطبيعة يريدون أن يرجعوا إليها في مآكلهم وملابسهم وأجسامهم ومنامهم ورياضتهم. وكل واحد من خاصتهم يبحث في فرع من هذه الفروع ويتفانى في حث قومه عَلَى جلب المصالح ورد المفاسد والأخذ بحظ وافر من هذا الوجود اغتناماً للصحة قبل المرض واستدامة للنعمة والرخاء والرفاهية وحباً بصد الناس عن غشيان المدن الكبرى مخافة أن تفرغ الحقول والقرى لأن سكنى العواصم مضر بالصحة مضعف للأبدان مقصر للأعمار وعمران هذا العصر في عواصمه عَلَى كثرة ما فيها من أنواع الراحة والرفاهية أقرب إلى إفساد الصحة وإنهاك القوى مما كان في العصور السالفة ومكيف يطيب الهواء في مدينة كباريز سكانها ثلاثة ملايين ولندرا سكانها سلعة ملايين هذا ما يخوض أدباء الغرب وعلماؤه عبابه فما قول سادتنا الخاصة في مصر والشام والعراق وتونس فمن منهم خاض في مثل هذه الموضوعات وحبب إلى الناس النزهات والرحلات عَلَى طريقة الغربيين ليحبب إليهم أوطانهم ويعرفهم رجالهم ويبحث عن أمور لا يتيسر لكل إنسان أن يحصل عليها ويتعب المفكرون في جمعها ونشرها(82/55)
فيأخذها جمهور القراء هينة لينة.
الحج المشوق
الإفرنج عَلَى تغاليهم بالبحث عن شؤونهم الداخلية وعاداتهم ورجالهم وأعمالهم وبلادهم لا يغفلون عن شؤون غيرهم وقد أصاب بلادنا حظ وافر من عنايتهم فكانت بلاد العرب أو مصر والسام والجزيرة والعراق واليمن والحجاز ومراكش والجزائر وتونس وطرابلس وبرقة موضوع أبحاثهم العلمية والأثرية والتاريخية والاقتصادية مما نخجل من كثرته إذا سمعنا بأسمائه ولا نكاد نجد الفرد والفردين منا يتوفرون عَلَى البحث في النافع من حالات بلادنا وآخر ما كتب عن الأرض المقدسة رحلة للمسيو كومز كاريللو ذكر البلاد التي نشأ منها عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وزارها وكان زار من قبل بلاد اليونان والصين واليابان وكتب فيها رحلات كثيرة وقد وصف مسيره من دمشق وما رآه من جلالة موكب الحجاج القاصدين إلى بيت الله الحرام فوصف الأماكن التي حط فيها رحاله حتى بلغ القدس وقال أنه لم يبق من طبرية عاصمة الأردن غير خرائب وقصور هيرودوت والبحيرة المقدسة ووصف قنا والناصرة وما يتخلل تلك الربوع من الجلال والجمال الروحاني وذكر في رحلته ما تهم معرفته من أحوال البلاد ولم يكثر من التفاصيل المملة وقال أنه بات في قصر أحد باشاوات سورية واستغرب من عظمة ذاك القصر كيف لم تكن فيه امرأة تؤنس ربعه وتدخل السرور عَلَى ساكنيه.
وقد وصف مواكب الحجاج من دمشق وقال أنهم مجموعة منوعة من العادات واللغات والقوميات وأن التركي يريد العثماني - والعثمانيون كما قال أكثر المسلمين تأثراً بالمدنية الغربية - يضع عَلَى رأسه منديلاً أبيض مزيناً بالزهور يجعله عَلَى طربوشه ثم وصف الفارسي والعربي وعبابه وأبناء جبل طوروس والتتر من أهل تفليس وأزوف وسباستابول وغيرهم وقال لابد أن يكون بينهم من يملك القصور الفخمة والحدائق الغناء ويعيش عيش الكبراء في الرخاء ومع هذا إذا قصدوا إلى الأماكن الطاهرة يتناسون كل هذا العيش الخضال ويساوون الفقراء من الحجاج في مآكلهم التي لا يوجد منها إلا الجشب الغليظ في البادية وينامون في العراء لا يبالون بحماوة القيظ ولا صبارة القر وعجب الرحالة من قوم لا تربطهم جامعة غير رابطة الإيمان وقال ما أعجب صفوفهم وكتائبهم وهي تسير عَلَى(82/56)
هذا النحو وعجب من وساخة الآسياويين من الحجاج وكيف يتواكلون من صفحة واحدة وفيهم ذو العاهة ولا يأنف الباقون ولا ينكر المنكرون وقال أنه لو كان بعض لك في الغرب لقامت القيامة فالشرقي في نظره لا يحسن النظافة وقال أنه علم من بعض علماء دمشق أن المسلمين لا يحجون كلهم فلو كان من كتب عليهم الحج ستين مليوناً مدة خمس عشرة سنة لاقتضى أن يحج كل سنة أربعة ملايين في حين لا يجتمع في عرفات أكثر من مائة ألف وقال إن إخلاص المسلمين في العبادة يوم يقصدون الحج لم ير مثله في كنيسة القديس بطرس في رومية يوم يحضر المسيحيون من أقطار الأرض في الحفلات العامة ولا في البيع الكبرى القديمة في ساجان دي كومو بوستل أمام ضريح الرسول (الحواري) ولا في لورد من أعالي جبال البيرنيه وهي محج كثيرين ولا في أشبيلية في الجمعة المقدسة ولا في روسيا يوم يأتي فلاحوها المتعصبون يضربون رؤوسهم وجباههم عَلَى بلاط المعابد ولا في أية مدينة مسيحية. وهكذا استرسل في وصف تقوى المسلمين وتفانيهم في إقامة شعائر دينهم نقل بعضه عن أحد علماء دمشق وبعضه مما عليقه عنده وقال أن المسلمين مولعون بلقب حاج أكثر مما أولع أهل المملكة العثمانية بلقب بك أو باشا وفي الكتب أمور حرية بالتدبر فكأن كاتبه مغرم بإظهار فكره في شأن البلاد التي دخلها والمعاهد التي زارها وقد حمد مقامه في فلسطين في أديار الفرنسيسكان ووصفهم بالطبع أجمل وصف.
حياة بابل
ذكرت بعض الصحف العلمية أن التوراة ترجع تاريخ بابل إلى أكثر من سبعة وثلاثين قرناً قبل المسيح وكانت عَلَى عهد ملكها العظيم بختنصر أي قبل الميلاد بستة قرون عاصمة العالم بأجمعه وسكانها خمسة وعشرين مليوناً وهي من الارتقاء عَلَى جانب عظيم جداً وموقع بابل عَلَى الفرات وقد اشتق اسمها حديقة الحدائق من خصبها وأمراعها. دمرها الفرس عَلَى عهد قورش وخلفائه وتركوها أنقاضاً ينعق فيها غراب الدمار وها هي اليوم منذ أكثر من ألفي سنة عبارة عن قفر يجيء بعض العلماء فيستنطقون آثاره ويتعرفون أخباره.
وسكان هذا المكان الذي طالما بكى في أرجائه أبناء صهيون الإسرائيليون هم أناس من العرب الرحالة ولكن ذلك لم يطمس من ذكرى حضارتها معلماً فقد ذكر هيرودوتس المؤرخ(82/57)
أن بابل أخصب البلاد بحنطتها تأتي حبتها مئة وزيادة بيد أن العلم الحديث حل هذا المعمى في خصب بلاد تلك الأصقاع وهو أنه كانت تروى كلها فلو تهيأت لها خزانات وسدود كما كان لها عَلَى عهد سعادتها كما تهيأ لمصر خزان أسوان فروى النيل عشرات الألوف من الأفدنة التي كانت محرومة من السقيا لعاد إلى بابل خصبها المدهش وأتت السنبلة مئة سنبلة وزيادة.
ولقد وقع في ذهن الإسكندر الكبير في آخر عهده أن يعيد إلى ذلك الصقيع بهاءه القديم فأنشأ ترعتي بالأكوبوس والنهروان وطول الواحدة 480 كيلومتراً وطول الثانية 256 كيلومتراً ليجلب مياه دجلة إلى داخل المدينة إلا أن أخلافه غفلوا عما بدأ بعمله فعادت البلاد باهتة خربة وهاان السير ويليام ويلكوكس الإنكليزي قام في ذهنه منذ سنين أن يعيد ما كان بدأ به الإسكندر المقدوني فوضع مشروعاً في الري عَلَى صورة أوفق من المشروع القديم وهو يكلف 750 مليون فرنك ويقسم تلك البقعة إلى ست مناطق تحيا الأولى بعد الثانية وكل ما تم لإحداها أمر سقياها تقوم بنفقات ما صرفته عَلَى أعمال الري فيها وبذلك تحيا الراضي الواقعة عَلَى شاطئ دجلة والفرات فالبذار يزرع في الخريف فترويه الأمطار حتى إذا جاء آذار ونيسان وفاض الرافدان دجلة والفرات تسقى تلك الأراضي بمياههما الصيف كله فهل تتحقق يا ترى هذه الأحلام ويعود لبابل عزها في سالف الأيام أم يبقى أنر ري العراق في عالم الخيال أو كلاماً في كلام.
خمر الشام
اكتشف بالقرب من مدينة بوردو الفرنسية ناووس من القرن الأول للميلاد وشوهدت عَلَى مقربة من هيكل العظام رجاجة مستطيلة وشكلها يخالف شكل الزجاج المعمول في بلاد غاليا وقد حلل العلماء ما فيها فرأوه خمراً واستدل الباحثون أن هذا الخمر من صنع سورية إذ كانت خمرها تحمل إلى جنوبي فرنسا كثيراً ويستطيبها الناس كل الاستطابة وذلك بفضل ما كان من الصلات التجارية المستحكمة القديمة بين بلاد الشام وفرنسا.
المدنية
كتب أحد علماء فرنسة في المجلة الباريزية مقال تحت عنوان هل المنية في ارتقاء أو انحطاط قال فيها: إن الناظرين إلى المدنية فريقان فريق يرى ما فيها من العظمة والمنافع(82/58)
المادية التي سخرها الإنسان لأمره وآخر يذهب إلى أن الارتقاء عَلَى عمومه لا يتأتى له إلا أن يسير عَلَى الدوام سيراً سريعاً. ويرى هذا الفريق الأخير أن كل شيء ينمو من حسن إلى أحسن وأن البشر يبذلون الجهد للوصول إلى هذه الغاية النافعة ويقولون أن العالم ارتقى في مدارج النشوء والنمو حتى صار الإنسان إلى ما صار إليه فورث قوى عاملة وما نشوء نظام الكون إلا نشوء العقل البشري والانقلابات الشديدة تحث اضطراباً مؤقتاً ولكن ينشأ عنها ما يبعث الكفاءات من مرقدها ويضم القوى المبعثرة ويحملها عَلَى أن تتجه وجهة جديدة يستقيم جريها وبالإجمال فالمدنية لا تعود القهقرى ولا تقف في مركز واحد بل هي سائرة عَلَى الدوام بيد أن التاريخ علمنا أن الأعالي تسفل والاستعباد يزول وفكر العظمة والانحطاط متلازمان تلازم الجبال والأودية والليل والنهر والشباب والهرم والحياة والموت.
إنه من المتعذر الوقوف فإما الارتقاء متواصل أو سقوط تام وبقدر الصعود يكون النزول فالولد الذي يكذب مرة يقوى في المرة الثانية أكثر عَلَى التفوه بالأكاذيب فتضعفه أخلاقه عَلَى تلك النسبة ويعود ويرتكب أفظع من ذلك وكذلك الحال في الاجتماعات فإن من يغوي فتاة يغوي فتى وهذان يغويان آخرين ومن تسومح في عقابه من المجرمين يعود فيبث دعوته في العقول ويكثر سواد أصحابه فيكثر في المجتمع الفاسدون.
الرجل المتحضر لا يقابل الرجل المتوحش أي الذي يعيش وحده بعيداً عن المجتمع نعم إن المدنية لا أثر لها إذا فقدت الصلات الاجتماعية ولكن الحياة الاجتماعية تستلزم عادات كثيرة وأشكالاً منوعة من الحياة وأساليب منوعة الصفات والحالات فقد قال اللغويون أن اللغويون أن المدنية هي مجموعة آراء وأخلاق تنشأ من الهمل المتبادل في الصناعات والديانات والفنون النفيسة والعلوم. وزاد بعضهم عَلَى هذا التعريف ما يلحق ذلك من المناحي العديدة في الصلات الاجتماعية كتبادل المحاصيل وتبادل العواطف والأفكار. بل أن هذا التحديد لا يشعر بأن المدنية كذا كاملة فرب شعب ذي مدنية ولكنها جميلة أو قبيحة رائقة أو غير رائقة إنسانية أو ظالمة عَلَى نحو ما يكون للمرء خلق حسن أو رديء فالصناعات قد تكون جميلة أو رديئة والأديان سليمة أو خرافية والعلوم نافعة أو ضارة.
كل شيء يرتقي مع هذه المدنية في مآكلها ومشاربها وملابسها وسائر حالاتها وما ننس لا(82/59)
ننس أن ألفاً وستمائة شخص غرقوا في باخرة واحدة (تيتانيك) وكان منهم من دفع 22000 فرنك أجرة سفره خمسة أيام ونصف يوم ليركب في حال من الكبر والتفخل ليس بعدها غاية. إن الحرص عَلَى هذه المدنية هو الذي أورث أمراضاً وهموماً وأفقد العالم الحياة الطبيعية فكثرت الأمراض العصبية وداء المفاصل والبول السكري وضعف المجموع العصبي بل لقد كثر الجنون حتى أكد أحد العارفين من أطباء الإنكليز وقد هاله تكاثر عدد المختل شعورهم من أمته في العهد الأخير أن إنكلترا سيعادل عقلاؤها مجانينها بعد ثلثمائة سنة.
إن المدنية أتت عَلَى الكثير من محسنات الطبيعة وعادات الأجداد الفاضلة فانتزعت من النفوس وفي هذه الحركة الاجتماعية يقول بعضهم كلما كثر عدد الناهضين يزيد عدد الساقطين. لا جرم أن التجارة ول لم توجد لما عرف الإفلاس ولو لم تنشأ السكة الحديدية لما وقعت هذه الوقائع المزعجة في المصادمات وغيرها ولكن الشعب الأعرق في المدنية هو الذي يقلل من الإفلاس بين التجار وبين المصادمات في الخطوط الحديدية بدون أن يوقف حركة التجارة ولا حركة القطارات بل يفعل ما بينهما ويجعل أعمالهما في مأمن. ومثل ذلك يقال في كل شيء. يقال في التعليم والصحافة وحقوق الانتخاب والمضاربات والأدب والصناعة بل ينطبق عَلَى كل ما في حركة المدنية من قمح وزوان ونظام خلل وجرأة وجبن. إن تغلب الأجسام عَلَى العقول هو انحطاط في المدنية. إن ضعف نظام الأسرة وروابطها واحتقار الخيار والتنصل من التبعات والزهد في التقاليد والخلاص من كل شكيمة ووازع هو دليل انحطاط المدنية.
إننا إلى نظرنا إلى المتمدنين وهم الأقلية في العالم نراهم فيلا معاملة المتوحشين هم دونهم عَلَى ثلاثة ضروب فمنهم من يعاملون من هو الأحط منهم باستثمارهم ومنهم باستعمارهم ومنهم بتمدينهم وهم قلائل جداً فالمستثمرون يبحثون عن مورد ثروة عند الأمم التي يبيعونها مصنوعاتهم والمستعمرون ينقبون عن زيادة ثروة ونفوذ بأن يحملوا بالتدريج الأمم لمنفردة عَلَى الاشتراك بالحياة الاقتصادية والتشبه بالنازلين عليهم وهؤلاء يدوم لهم استعمار الأرض طويلاً بالنسبة لغيرهم. أما الساعون في تمدين أمة فهم الذين يلقنوها معنى الحياة السامية والعمل لما فيه نشر الفضائل والسلام في الأسر وبث الوطنية والدين عَلَى نحو ما(82/60)
كانت تعمل الأمم القديمة في أيام عزها.
ولقد قيل أن فرنسا لم تحسن استثمار من وضعت أيديهم عليهم من الأمم وهذا مما يدعوا إلى مدحها لا إلى القدح فيها وذلك لأن فرنسا ليست من الطمع عَلَى جانب عظيم غيرها وهي رحيمة بمن تغلبهم عَلَى أمرهم. ويقولون أيضاً أنها لا تحسن الاستعمار وفي هذا الكلام شيء من الحق وذلك لأن أولادها ليسوا كثاراً فلا تستطيع أن تبعث إلى القاصية منهم بمن يستحقون اسم المستعمرين الحقيقيين وإنها في البلاد التي أرسلت غليها أبناءها كما هو الحال في الجزائر وتونس قد عملت والثقة ملء صدرها ما تستطيع أن تري أعدائها وأحبابها النقاط الضعيفة منه ومم لا ينكر عَلَى لغتنا أنها كانت ولا تزال في مقدمة من يحمل علم المدنية والتمدين وذلك لأن أبائها يستهينون بالأتعاب ويبذلون قلوبهم وحياتهم لنشر ما يعتقدونه. إن مستعمرينا يعلمون من يستعمرونهم الذوق عَلَى العمل واحترام المرأة والبعد عن المسكرات (؟) ومرسلينا يعلمون السود والصفر تعاليم التوراة يضاف إليها تلقينهم الاعتدال والفضائل البيتية ومثال الإحسان لأنهم يجمعون أيتامهم ويعنون بمرضاهم ويلقنون معنى التوفر عَلَى الزراعة وتربية الحيوانات والبناء ويمهدون السبيل للعاملين. فالمدنية إذا لم تمدن أبداً فإن لها بانتشارها عَلَى هذه الصورة المقام الأول بين وسائطنا في الحضارة فإن من لا يمدن يستعمر استعماراً رديئاً ومن لا يستعمر لا يأمن أن تكون له قدرة عَلَى الاستثمار طويلاً وبالجملة فإن كل أمة لا تحتفظ بسلسلة المراتب في طريق العمل والنفوذ عَلَى أساليبها الثلاثة بل إن لكل أمة تلقي الاضطراب في ذلك تدخل عليها جراثيم من الانحطاط تنمو اليوم بعد اليوم.
ها قد انقضى الزمن الذي كان يعتقد فيه المعتقدون أن لا سبيل إلى الكسب من شعب إلا بإفقاره للمنافسة بين المعطي والآخذ وهذه القاعدة منافية للحقيقة لأن من يفقر رعاياه والتابعين له ومستعمريه بل وجيرانه يفتقر هو أيضاً وما يغني التاجرين في المقايضات يغني المتقاضيين في المدنيات والاستعمار الذي يذل البعض يفسد الآخرين وكلاهما يتأثران منه. شعرت بذلك الممالك الكبرى في القديم وكذلك كان الحال في إسبانيا والبرتقال: نعم إننا نعرف اليوم كيف تضاعف المقايضات والتجارات ولا نطلب أكثر من أن نرى الزنوج يغلون من نبات المطاط لنربح منه ما نبتاع به قطناً كثيراً وأدوات نشغلها. لا نطلب أكثر(82/61)
من أن نرى شواطئ دجلة والفرات وقد أصبحت من الخصب بما تستطيع معه أن توصل في بلادنا عَلَى خطوط حديدية وقاطرات. ويا ليت شعري هل يجد أولئك الشعوب أسباباً تمكنهم من بناء عاصمة كبابل التي كان محيطها المسور يستغرق محيط مدينة باريز وسان ديني وسان جرمان وإذا وفقوا لذلك حفظها زمناً من الانحطاط كما احتفظ بها أسلافهم. إن أول قدم يخطوها السائر نحو المدنية هو إصلاح الأسرة وإعداد طبقة مختارة من الأمة وتكثير عددها وتجديد أعمالها وما السلام إلا في البيوت والمدن والمعابد وعند الأمم ومتى أثبتت الأفعال أننا بلغنا الغاية فيها يتيسر لنا أن نقول أن من ينشأُ في ارتقاءٍ.
جراثيم البيض
يقول العارفون أن البيض النظيف عقيم لا ينقف وأن البكتريا لا تدخل إلا في البيض المشقوق أو المكسور الذي تكون قشرته ملوثة بالأوساخ ممسوسة بالأيدي وبفتح البيضة يدخلها الهواءُ وقد تدخله الجراثيم الضارة فالأجدر بربات المنازل أن تتحامى استعمال البيض المكسر ولو كانت طرية لأن من استعمالها قد تنشأُ مضار ولا يخشى البيض إذا كان خارجه سليماً من الوسخ والماء الغالي. فالبيضة التي تؤكل نصف مسلوقة عَلَى الصورة المذكورة لا يخشى من تناولها.
نبات السود
خاضت المجلات العلمية بالنبات البديع الذي يكثر في النيل الأزرق والنيل البيض ويسمى السود ولم يعرف أحد يحسن الانتفاع من هذا النبات حتى الآن حتى قام عالمان ألمانيان وأثبتا أنه ينفع للوقود بدل الفحم وذلك بأن يقصل ويجمع كالقش حزماً ويحمل في النيل ولا يلبث أن ينشف ويقطع ثمن كل طن ثمانية وعشرين فرنكاً في حين تباع مثل هذه الكمية من الفحم بمائة وأربع فرنكات ويرجي باستنبات هذا النبات والاستكثار منه أن يكون ثمنه أرخص من ذلك وقد أُنشئ في الخرطوم عاصمة السودان أول معمل لإحضار هذا النبات الذي يخدم الصناعة خدماً كثيرة.
أضخم الكتب
قالت المجلة تملك المكتبة الملوكية في استوكهلم كتاباً مخطوطاً عرف باسم توراة الشيطان ويدعى أيضاً مارد الكتب بسبب حجمه العظيم فإن طوله 90 سنتمتراً وعرضه 50(82/62)
ويقتضي ثلاثة رجال لحمله ويحتوي عَلَى 390 صفحات ينقصها 7 صفحات وفي كل صفحة عمودان وقد حسبوا ما اقتضى لهذا المخطوط من الرق فكان جلد 460 حماراً. وجلده من البلوط الفارغ سمكه أربعة سنتمترات ونصف وله لسان من المعدن.
وفي سان فرنسيسكو بأميركا كتاب يعد من مردة الكتب أيضاً وهو الذي عرضته تلك المدينة أيام معروضات كليفورنيا ليكون سجلاً توضع عليه أسماء الزائرين الذين بلغوا 135 ألفاً وضعوا تواقيعهم عَلَى سبعة آلاف صفحة. وطول كل صفحة 775 سنتمتراً ووزنه 250 كيلوغراماً.
نفقات حرب عامة
حسب الأستاذ شارل ريشه ما تكلفه حرب عامة إذا نشبت في أوربة فكانت كل يوم 274 مليوناً ونصف مليون من الفرنكات تنفقها الدول العظمى فقط.
نجاح أميركا
كانت رؤوس الأموال التي وضعتها الولايات المتحدة منذ سنة 1900 إلى 1910 في الأعمال الزراعية فقط 20439000 دولار فبلغت 40991000 دولار أي أنها تضاعفت وتجاوزت رؤوس الأموال التي وضعت في المشاريع الزراعية في العشر سنين المذكورة من 8975000 دولار إلى 18429000 دولار أي زادت عن الضعف أما الأموال التي استخدمت في السكك الحديدية فكانت سنة 1900 1263000 دولار فأصبحت سنة 1910 1437000 فتأمل.
جرحى الحروب
قالوا أن الخرطوش في العهد الجديد يقل القتل به أكثر من الخرطوش قديماً ولكن الإحصاء دل عَلَى خلاف ذلك فقد قتل في حرب ألمانيا سنة 1870 واحد من كل خمسة أشخاص واليابان في منشوريا قتل لهم واحد من كل ثلاثة فقد كان المحاربون الألمان عَلَى ذلك العهد 650 ألفاً فبلغ مجموع جرحاهم 116 ألفاً ومجوع محاربي الروس 590 ألفاهم فبلغ جرحاهم 170600 واليابان في منشوريا 540 ألفاً جرح منهم 220 ألفاً.
مالية الدولة العثمانية(82/63)
ها قد مضى زهاء نصف قرن عَلَى عقد الدولة العثمانية قرضاً لها وذلك عَلَى عهد حرب القريم فكثرت سنداتها في العشرين سنة التالية في أسواق الشرق ولما بهظتها ديونها توقفت سنة 1876 عن الدفع خمس سنين تألفت إدارة الديون العمومية فكان أول حجر أساس المالية العثمانية. وبمناسبة الحرب بين الدولة وحكومات البلقان الأربع كثر تحدث الاقتصاديين في مالية دولتنا وهاك خلاصة ما قالوه مؤخراً قال بعضهم:
لا تزال مواد القراطيس العثمانية في أسواق غريزة ويؤخذ من الخزينة العثمانية الأخيرة أن الدين العثماني الموحد كان في أول آذار الماضي 126 مليوناً و9391 ليرة يضاف إليها مليون ليرة اقترضته بلدية الآستانة والشطر الرابع من قرض ولاية بغداد وهذا بيانه: 50. 146. 757 الدين الموحد والسندات 18. 275. 620 دين مضمون بجزية مصر وقبرص 2. 319. 944 قرض تتناول ضمانته مباشرة 30. 763. 414 قرض مضمون بدخل صندوق الدين 24. 603. 656 قروض تديرها الحكومة.
وينبغي أن يحذف من هذه القروض قرض سنة 1855 وفائدته 4 في المئة وقرض 91 وفائدته 4 بالمئة أيضاً وقرض 94 وفائدته 3 ونصف بالمئة لأن هذه مضمونة بجزية مصر وزيادة دخل جزيرة قبرص وهي من أضمن القروض في نظر حملة القراطيس.
ثم أن قروض 93 و94 تدفع شركة حصر التنباك وشركة السكك الحديدية الشرقية ضمانتها للمصارف مباشرة وعليه يكون الباقي قرض الموحد العثماني وقروض سندات اليانصيب العثماني وهذا قد خص بهما بموجب أمر سلطاني بعض الموارد كالثمغة ورسوم الكحول والحرير والملح والدخان يتولى إدارتها صندوق الديون العمومية وقد أربى الدخل كثيراً عَلَى النفقة اللازمة للصندوق والأسهم.
ففي سنة 1910 إلى 1911 بلغ دخل صندوق الدين 5 ملايين و61. 335 ليرة أخذ منها لنفقات الإدارة 964. 237 ليرة وبقي 4 ملايين و97. 091 ليرة يؤخذ منها لاستهلاك الأسهم المخصصة بهذه الموارد ولدفع سندات اليانصيب مليونان و157. 375 ليرة فتكون زيادة الدخل مليوناً و939. 723 تعطي الحكومة الثلاثة الأرباع والربع الآخر يعطى لخزانة صندوق الدين.
هذا ويظل الدخل أكثر من النفقة ولو حذفنا نقص دخل الصندوق من الولايات التي احتلتاه(82/64)
الحكومات البلقانية فقد جاء في الكتاب الذي قدم للسفراء في شهر ك1 الماضي أن معدل دخل تلك الولايات في العام 713051 ليرة يضاف إليه مبلغ 48990 ليرة من أثمان الملح فيكون المجموع 762005 ليرات أي عبارة عن 22 بالمئة من مجموع الدخل وإذا افترضنا نقص الدخان من هذه النسبة كان مجموع النقص مليوناً و48305 ليرات وقد ذكرنا قبلاً أن زيادة دخل الدين الصافية هي مليون و939723 ليرة وعليه تكون الزيادة الباقية حتى بعذ حذف دخل الولايات التي يحتلها البلقان 865418 ليرة.
وقال بعضهم: لا ينكر أن الدولة العلية بفقدها الولايات الأوربية قد خسرت 20 في المئة من دخلها لكن من عرف أن هذه الولايات كانت تستهلك في السنوات الثلاث الأخيرة 23 في المئة من مجموع نفقات السلطنة يرى أن خسارة مدخولها لا تؤثر في حال الخزينة. ثم أن الحرب الأخيرة لم تضطر العثمانية إلى أن تنفق أكثر مما كانت تنفقه عندما كان لها 60 ألفاً من الجنود في ألبانيا لإخماد ثورتها و50 ألفاً في أزمير ومن 60 إلى 70 ألفاً في طرابلس الغرب ومثلهم في اليمن ولم يتأخر رعايا الدولة عن دفع الأموال المفروضة عليهم حتى أن زيادة الدخل في بيان نظارة المالية الأخيرة بلغ 2. 509. 731 ليرة عثمانية وبلغ مجموع ضريبة الحرب في شهر واحد 422. 495 ليرة عثمانية. وعليه إن الحكومة العثمانية تحتاج إلى المال فما ذلك إلا لسد العجز السابق.
مدارس الفلاحة في الدانيمرك
نشرت المجلة الفرنسوية مبحثاً مهماً تحت هذا العنوان بقلم العقيلة لونر كروبي فآثرنا ليضم إلى ما سبق لنا نشره من نوعه في سني المقتبس السابقة قالت الكاتبة: عَلَى شاطئ بحر البلطيق بلاد صغيرة سعيدة وأعني بها الدانيمرك التي تضاعفت تجارتها الخارجية في الخمس عشرة سنة الأخيرة لتوفرها عَلَى استثمار أرضها وقيامها عَلَى تربية الماشية حتى أصبح لديها الألبان دافقة كالسيل المنهمر وجمعت بواسطة معامل اللبن منها ما تجعله جبالاً من الزبدة والسمون ترسله إلى إنكلترا فتتناول أثمانه ذهباً وهاجاً. تقسمت في هذه البلاد الثروة تقسيماً كثيراً ومع هذا لا ترى الفلاح يعجز عن القيام بالأعمال الكبرى التي يقتضي لها رؤوس أموال عظيمة قد تألفت شركة تعاون ضمت إليها نحو تسعة أعشار أرباب الأراضي وغدت البلاد تستثمر بأدق قواعد العلم الحديث فيحلل اللبن مرتين في الشهر في(82/65)
معامل التحليل التي تشعر صاحب الملك بأقل تغيير يحدث في حالته وتبين له ما يجب إدخاله من التعديل في تغذية الماشية. وبهذه العناية والحذق في اختيار أجناس البهائم أصبح معدل السنوي للبقرة الدانيمركية يزيد عن واحد من خمسة في خلال العشر سنين الأخيرة.
وهكذا تفحص التربة أيضاً فحصاً في المعامل ويجري إصلاحها عَلَى هذا النحو والفلاحون هم الذين يتولون أعمال هذه الشركات بأنفسهم يحاسبون أربب الأملاك ولا يقع حيف عَلَى أحد ولذلك لا تقام دعوى ولا يحد خصام بينهم. وهؤلاء الفلاحون العاملون عَلَى غاية الأخلاق يرأسون بيوتاً وأسرات وكل ولد يولد لهم يكون مادة رزق جديدة ودرجة تعلمهم أرقى من عملة المدن بل أرقى من أهل الطبقة الوسطى. فتجد لكل قرية حتى الصغرى منها قاعة لإلقاء المحاضرات يتباحث فيها الفلاحون عَلَى الدوام في المسائل الاجتماعية والزراعية السياسة والدينية وأحياناً تجد لكل قرية قاعة للاستحمام وداخل بيوتهم عَلَى غاية من الذوق والنظافة. والفلاح الدانيمركي المتعلم يفهم المصالح الاقتصادية فيدل عَلَى ذكاء وبعد نظر في مستقبل بلاده الذي هو في الألبان والسمون والبيض. وقد استطاع الفلاحون الدانيمركيون الذين يؤلفون السواد الأعظم من الأغنياء وأرباب الأملاك أن يقبضوا بذكائهم عَلَى قياد بلادهم وأن يكون لهم في مجلس النواب الأكثرية المطلقة التي تتصرف بالبلاد كما تريد وتتولى مناصب الحكومة وكم من فلاح يبحث في أعوص المسائل فيحلها في حقل عقل وتجارب. فالفلاح الدانيمركي وحيد في هذا الباب في أوربا بفضل التربية التي ربيها أولئك الفلاحون في المدارس العليا فدخل فيها 47 في المئة من مجموع السكان وتلقنوا التربية العقلية والأخلاقية اللازمة للحقول. وما القائمون بالشركات الزراعية إلا تلامذة تلك المدارس التي بنيت بأموال الفلاحين فهي مدارس خاصة يبذل لها الفلاحون عن سعة مع ما عرف به الفلاح من الاقتصاد في كل هذه البلاد. ولذا ترى كل كورة من كور الدانيمرك أن من موجبات شرفها أن يكون لها مدرسة عليا ومن لم يدخلها في عرف الفلاحين يكون من الطبقة الدنيا ليس له من أسباب الشرف لا قليل ولا كثير.
أنشئت المدرسة العليا في الدانيمرك ممثلة لأفكار ممثلها غروندفيج الذي عاش من سنة 1783 إلى 1872 ولقب بنبي الشمال وبروحه قامت وارتقت وإنك لترى إلى اليوم في المدارس التي أحدثها خطبه وأشعاره وكتاباته تقرأ وتشرح باحترام يوازي ما تقرأ به(82/66)
التوراة وتفسر به. حتى أن الأساتذة يرون أن من الواجب الاحتفاظ بتعاليمه وإنك لترى صورته معلقة في كل قاعة من تلك المدارس وهو شيخ يجري أبيض اللحية كبيرة السحنة تظهر عليه الشهامة والنشاط.
وكان هذا الرجل من بيت أدب وعلم وكتب في التاريخ والأساطير والشعر القديم والتراجم ما بلغ ثلاثين ألف صفحة وهو عمل عظيم حتى عَلَى من عاش 91 سنة مثله ممتعاً بصحته وتقواه. وكانت أمه من بيت علم وأبوه واعظاً دينياً فتعلم من والدته في صباه حب القديم والميل إلى القصص ولطالما غنت له الأغاني الوطنية والأناشيد الدينية التي كان بها في حياته الفرد المقدم فأصبح شاعراً بما لقنته إياه أمه من الشعور وبواسطة الأناشيد الدينية التي ينشدها الفلاحون كل يوم أثر في أفكار فلاحي بلاده وتعلم اللاتينية وكان يحمله معلمه عَلَى الاختلاف إلى بيوت الفلاحين فاستفاد من هذه الزيارات أكثر مما استفاد من دروس النحو والصرف فتعلم كيف يحب الفلاح وكان إذ ذاك عَلَى غاية الفقر وشعر بتنمية حبه للطبيعة والخلاء مما كان أحد مصادر شعره. لبس ثياب الوعظ وانخرط في سلك المبشرين وبعد سنين خلع ثيابه وذهب إلى لندرا فأثرت هذه الرحلة تأثيراً شديداً فيه إذ لم يكن قبلها يعيش إلا عيش الكتب والدفاتر فأخذت نفسه بما رآه في الإنكليز من الحياة العملية والنشيطة وما خصوا به من الذوق في الرياضات الطبيعية وتأصل فيهم حب الاستقلال الشخصي ولاسيما ما عرف عن مدارسهم من حيث إعداد الخلاق شبانهم ورجع من هذه السياحة والشمس في عينه وعالم جديد في قلبه وأخذ ينسج في أشعاره باللغة الدانيمركية الدارجة عَلَى مثال قدماء شعراء الإنكليز وهي ترمي إلى أنه ليس من شعور وطني بدون شعور ديني وأن الأدوار التاريخية التي خلت من الإيمان هي أدوار لا مجد لها وكل يقظة مسيحية هي يقظة وطنية وعلى هذا المحور يدور المترجم به في أشعاره وكتاباته كلها وأعماله الاجتماعية ولقد صرح في إحدى المجتمعات أنه من العبث أخذ السلاح للدفاع عن الوطن إذا لم يكن المرء متشبعاً بالشعور الديني. فمن ثم كان يرى إثارة الشعور الوطني والإيمان في مدارسه الجديدة.
وفي سنة 1832 نشر لأول مرة في مقدم كتابه الميثولوجيا الكبرى فكرة مدرسته وفي سنة 1844 في اجتمع حضره بضعة ألوف من الفلاحين الوطنيين خطب القوم فأثرت خطبته(82/67)
في النفوس فراح وهو عَلَى أبواب الشيخوخة يعزي نفسه بأنه سيرى أعماله تكلل بالنجاح ولو كان في هذه السن إذ له أسوة حسنة يستوف كولمب الذي ذهب ففتح العالم الجديد وقد ابيض فوده وعارضه. دعا بخطابه امته إلى إحياء الشعور الديني والوطني وإن أنقى مصادر الحياة العقلية والأدبية يجب أن تكون منه عَلَى طرف الثمام تتناولها عَلَى أسرع وجه وأن ينشأ في المدارس الجديدة تعليم حي عصري وطني لنسى الدانيمرك ما أصابها من المصائب والهزائم وانسلاخ أراضيها وانفصال النروج عنها وضياع مقاطعة شلشويق وكانت الدانيمرك تشعر بحاجتها إلى النهوض وأن تدافع عن الفكر الوطني في النفوس لأن تيار الشعور الألماني يدفق عليها فاقتضى لها أن تحمي حمى لغتها الدانيمركية وعلى هذا الفكر أنشئت مدرسة روديج التي أصبحت بعد كلية أزوف ومنها انبعث نغمة الوطنية الدانيمركية واللغة الدانيمركية ورأى غروندويج في مدرسته أن تجري عَلَى غير الأسلوب الفني المتعارف وأن يقصد منها تربية العقول وتفتح أمام التلاميذ كل السبل الجديدة ويقوي الشعور الوطني والديني والأخلاقي والجمالي ويعلم وطنيين مستنيرين مستعدين إذا خرجوا من بيوتهم أن يتعلموا الزراعة أو صناعة أخرى ولذلك سمى مدارسه كلية الشعب تعلم تعليماً جديداً ولا تخول المتخرج منها امتيازاً ولا تعطيه شهادة. فلم يطلب هذا الرجل من مدرسته أن تخرج تلامذة عَلَى النحو الذي تخرجه مدارس الحكومة فيمتاز متخرجها بما ناله من الدرجة بين أقرانه ومجتمع أخوانه بل يكون من تخرج منها عَلَى استعداد للرجوع إلى المكان الذي غادره ولكن بروح غير روحه الأولى.
أفق غروندويج ونجح وإخفاقه لم يزده إلا مضاءً حتى بلغ عدد مدارسه العليا من سنة 1864 إلى 1904 (71) مدرسة ولطالما شكا من أن الأشعار التي نشرها محتذاة من الإنكليزية أو من اللغة الدانيمركية القديمة لم تؤثر إلا في طبقة مستنيرة من الشعب في حين يؤثر أن تراها تفعل في عقول الفلاحين ولكن نفعت في إحياء لغة القوم عَلَى نحو ما نفعت كليات الحكومة ومدارسها عَلَى أن تلك الأشعار لم يكن يمض يوم ولا ليلة إلا وتنشد في البلاد اشتركت في الإقبال عليها مدارسه ومدارس الحكومة وكنائس الدانيمرك وأديارها.
يبقى التلميذ إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من سنه في المدرسة يتقن فيها اللغة الدانيمركية ثم يعود إلى المدرسة العليا فيزيدها إحكاماً كما يبالغون في تعليم التاريخ(82/68)
الدانيمركي وبذلك انبعثت الوطنية الدانيمركية من مرقدها ولا يسأل كل تلميذ في مدارسه سوى سؤالاً بمفرده بل يوجه إلى التلاميذ كلهم سؤال واحد يجيبون عليه ومدارسه تدفع أجورها وأجرة كل تلميذ من 200 إلى 250 كوروناً (الكورون فرنك واحد وأربعون سنتيماً) ويجتهد المعلمون أن لا يضغط التلامذة عَلَى أولادهم ويضطروهم إلى الذهاب للمدرسة حتى المعلمين إذا رأوا التلميذ يريد الهرب يفتحون له الباب ولا يسألون عنه عَلَى أن ذلك من النوادر.
وصف غروندويج فكر مدرسته بما يلي: يجب أن تحسن تعليم التلامذة معنى الحياة البشرية وطبيعتهم الخاصة وأن يلقنوا الفروض المتجثمة عَلَى الوطني ويعرفوا واجبات الوطن وأن يؤثر فيهم ببسيط الكلام فيعلمهم التاريخ والإنشاد الحي والإعجاب بما هو عظيم وجميل وبالاجتماع يلقنهم العمل المتبادل المشترك والابتهاج السليم واللذة واللعب.
وقد قاوم طريقته كثير من أهل العلم والطبقة العليا والفلسفة في بلاده وقالوا أن طريقته تخرج تلامذة محدودة عقولهم في حين يجب تعليمهم تعليماً أوربياً يحتوي أموراً كثيرة ولطالما هز بهذه الطريقة الفيلسوف العظيم كيركجارد وقال عبثاً يحاول غروندويج نشر التعليم عَلَى هذا الأسلوب ولذا أخفقت طريقته في المدن ولم تجد لها مكاناً إلا في قلوب الفلاحين وهذا ما كان يتناغى به صاحبها.
ز رت إحدى مدارس الفتيات عَلَى طريقة غروندويج في فريدريكسبورغ وفيها مائتا فتاة وكان الوقت شتاءً وفي الشتاء تعمر المدارس لأن الحقول لا عمل فيها فرأيت الدار ساذجة لا زينة فيها ولكنها البهجة بين النضرة والخضرة والنباتات المعرشة ويدخل الهواء العطر من النوافذ المفتحة والتلميذات يستمعن إلى ما يقلى عليهن من المنبر وهن في الغالب لا جمال لهن بل هن شقر الوجوه والشعور فيهن ظرف ولطف وحسن صحة وكلهن عَلَى غاية من النظافة وحسن الهندام ويلبسن فساطين من القماش الزاهي. وهن من طبقة لا تجد فيهن شريفة ولا من بنات الأعيان بل هن أجيرات في الحقول والمزارع وخادمات وترى أيديهن مسمرة عَلَى نحو مما تشاهد أيدي كل الفتيات في بلاد السكندنافيا حتى تلميذات الكليات العليا لأنهن عرفن بحبهن للرياضيات البدنية فيتلو عَلَى مسامعهن الأستاذ قطعة في تاريخ الدانيمرك كوصف معركة فريدريسيا التي قضى فيها القائد ري وكان فيها الظفر(82/69)
مؤقتاً وعقبه ضياع مقاطعة شلشويق هولستاين ويذكر الخطيب تذكارات مؤلمة وقد حضر الاجتماع مستمعات من مقاطعة شلشويق عَلَى الرغم من حظر الحكومة الألمانية عليهن الحضور. حضرن ليأخذن ما لا يتيسر لهن في مقاطعتهن من الآداب الدانيمركية فكن موضوع التأثر كما كان كلام الخطيب وانكفأن كلهن يبكين وينتحبن ويرفعن أصواتهن متأثرات ولاسيما عندما يختمن الجلسة بإنشاد النشيد الدانيمركي القديم وبعد ساعة عادت البهجة إلى المدرسة إذ انتقل الفتيات إلى قاعة الألعاب الرياضية لهذه الألعاب في هذه المدارس العليا كما هو في جميع سكندينافيا مكانة عظمى في حياة كل فرد عَلَى نحو ما يرى في الألعاب الأولمبية في استوكهلم. ومنذ عشر سنين زاد الإقبال عَلَى الرياضات الجسمية حتى أنك لتجد العملة والمستخدمين والفلاحين ذكورهم وإناثهم يعمدون إلى التريض بعد عملهم واقتنع القوم بفائدة هذه التربية الطبيعية حتى أخذ كثير من أساتذة الألعاب الرياضية في الدانيمرك يلقون دروساً مجانية في الليل عَلَى من يريد إنسانية منهم ووطنية. ومن عرف أن هؤلاء الفتيات يصبحن بعد أمهات وتلد الواحدة من ستة إلى ثمانية أولاد وهي في صحة تامة يوافق بأن للألعاب الرياضية مكانة وطنية حقيقية. وكما أن للعب مقاماً سامياً في المدارس العليا للبنات فكذلك الإنشاد والغناء يروحن ب نفوسهن ويتعلمن الأفكار السديدة بما يتسرب إليهن من الحكم خلال النغم. ويتعلمن بالإنشاد الصوتي كيف يكون النظام والاجتماع وما أناشيدهن إلا مظهراً من مظاهر حسن أخلاقهن وصحتهن واتفاق إرادتهن ومتى انتهت الرياضة يتفرقن في الحديقة فيأخذ بعضهن يخيط وأخريات يقرأن وغيرهن يركبن الدراجات وهي الرفيقات التي لا تفارقها المرأة الدانيمركية. ولا يشتغلن بالحديقة لأن مؤسس هذه الطريقة كان يرى أنهن إذا تعاطين هملاً يدوياً لا يبلغن العمل العقلي إلا وهن متعبات. ويدققن في هندامهن ولا شيء يحول دونهن أو يحظر عليهن فحريتهن تامة مطلقة يعشن مع أساتذتهن ومعلماتهن وأسرات معلميهن ومعلماتهن عيشاً بيتياً مشتركاً لا شيء يشق عليهن ويحسن استعمال ما يخولن من الحقوق. قال أحد أساتذة هذه المدارس أنني قضيت حياتي برمتها في هذه البيوت فلم أسمع فيها قط كلمة هجر تنافي الأدب ولم أشهد خصاماً رديئاً وهذا ناشيء من شيئين وهما امتياز هذا الشعب الوديع اللطيف المعتدل واللسان المهذب الذي يستعمله الأساتذة منذ أول يوم مع التلاميذ(82/70)
والتلميذات فيبلغون به شغاف القلوب ولامرأة مدير المدرسة تأثير في جعل حياة الفتيات مفرحة لطيفة والمدير يكون مستشار الأسرات عَلَى كثرتها لأن أولادهم درسوا في مدرسته.
أما مواد التعليم فتدور عَلَى التاريخ والجغرافيا وعلم الأدب واللغة الدانيمركية والرياضة البدنية وحفظ الصحة والاقتصاد الاجتماعي ومبادئ التاريخ الطبيعي والنفسي والكيمياء وتعطى دروس خاصة لم يتأخرن وهم نوادر في نفوس النحو والحساب وإذ كان من الصعب في بضعة أشهر من السنة تعليم مختصرات من هذه العلوم دع المطولات كانت الدروس تلقى بصفة محادثات تنبه شعور التلميذ وتبعثه أن يدرس بواسطة المكاتب العامة المملوءَة بأنواع الكتب كل ما يغلب عليه من الفنون وتكون المحاضرات مما يعين عقله عَلَى التفكير والعمل ولذلك كانت المسامرات والأحاديث التي يلقيها القائمون عَلَى تلك المدارس منوعة الأساليب. وشخصية المدير تؤثر في إدارة المدرسة بنوع خاص فمن المديرين من يغلب عليه التاريخ فيخاطبون العواطف في طلبتهم ومنهم من تغلب عليهم الاجتماعيات فيخاطب العقل ومنهم الدين ومنهم العلم فالتعليم منوع الأساليب ويرجع إلى دائرة واحدة. وتقبل بعض المدارس تلاميذ من كلا الجنسين اللطيف والنشيط وقد أكدت مدرسة أسكوف وفيها أربعمائة تلميذ وهي في مدينة وعليها شيء من مسحة الارستوقراطية أن تعليم الجنسين قد أسفر عن نتائج حسنة عَلَى نحو ما أكد غيرها من المدارس التي اتبعت هذه الطريقة وبين معلمي مدارس الحكومة ومعلمي هذه المدارس صلات كبرى ومن أو لئك من يحضر دروس معلمي المدارس العليا عملاً بقاعدة مؤسسها من أن التعليم العلمي عند من أخذوا أنفسهم بتعلم الأدب وتمحضوا له يضل جادة الصواب أن لم يشفعه تعليم حالة الشعب فيتعلم المتعلم الحياة ويقف عَلَى الحركة الحاضرة قال وهكذا الحال في التعليم الأهلي فإنه يفقد مكانته عَلَى أسرع ما يمكن ويكون قشوراً ل لباب فيه إن لم يمزج عَلَى الدوام بالدرس العلمي.
يعيش المعلمون في هذه المدارس مع أسراتهم ويذهبون خلال العطلة المدرسية وهي ثلاثة أشهر في السنة إلى جميع أماكن الاجتماع. يختلفون إلى الأعياد الدينية والمحاضرات والأسواق الكبرى وإلى كل مكان يعلمون أن أناساً فيه يجتمعون فيتكلمون عن مدرستهم ويدعون الفلاحين إليها في الخريف. وبذلك يستكثرون من الطلبة والحكومة لا تراقب هذه(82/71)
المدارس وتدفع لكل واحدة أتى عليها ثلا سنين إعانة نقدية من 3 إلى 4 آلاف كورون والمعلمون من الطبقة الراقية في علمهم ويكونون في الغالب ممن شعروا بميل إلى صناعة التعليم وهم في سن العشرين ولهم اجتماعات ونقابات فلا يدخل في سلكهم ضعيف ولا ساقط في فضائله وعلمه والشعب يعرض عن كل من لا يسوغ أن يتولى تربية بنيه ممن عرف بالإلحاد ولم يترب بآداب الدين. وفي كل سنة تدعو المدرسة من تخرجوا في مدارسها من الفتيان والفتيات وأسراتهم فيأتون من كورتهم مسرعين يصرفون اليومين والثلاثة في الغناء والرقص وسماع المحاضرات ومن كان منزله بعيداً ينام في المدرسة.
وبهذه الطرق التي تعمد إليها المدارس العليا وفقت للتأثير في الأفكار فصار الفلاحون في الدانيمرك ألف كورون وأعطيت لمدير المدرسة لقاء وصل بسيط يتصرف فيها كما يشاء نعم إن المعلمين والمديرين يعيشون عَلَى ما يجب في هذه المدارس التي نجحت بأفضالهم وفضائلهم فأخذوا يحتكون بالفلاح عَلَى حين تجد أمثالهم في الممالك الأخرى قد يترفعون عنه واستماتوا في تربية الشعب فبذلوا كل قوتهم وبإرادتهم المتجمعة ودعواتهم التي لم يملوا من بثها نبهوا الفلاح الدانيمركي من غفلته التي كان فيها منذ قرون. وكل بلد يقوم فيها مثل هذا النشاط تخصب في ربوعها العلوم والآداب لا محالة.
مدينة لا ذباب فيها
أجمعت الآراء عَلَى ضرورة قتل الذباب ولكن لم يظفروا حتى الآن بالطرق للخلاص من هذا الضيف الثقيل المخطر الذي ينشر جراثيم العدوى بدخوله في كل مكان وتلقيحه في كل مادة مضار عدواه. وقد وضع مؤتمر الصحة في ولاية إنديانا إحدى الولايات المتحدة قاعدة أوصى فيها بإبادة هذه الآفة وهي اقتلوا الذباب بأي صورة كانت ولكن اقتلوه جملة يرددونها في كل صفحة من صفحات كتاب الصحة. وكانت مدينة ويلمنتون في أركانساس أكثر البلاد ابتلاء بهذه الهوام تنشر من الأوبئة أشياء منها فعمد رجال الصحة فيها إلى استعمال الأدوية كلها للوقاية فيها فخابت مساعيهم. وقد قررت لجنة خاصة أن الواسطة الوحيدة أن تطهر أماكن العدوى وأن يحارب الذباب بكل حيلة فعهدت البلدية إلى أحد الأخصائيين أن يعد دواءً ناجعاً للقضاء عَلَى العفن فأكثر في المدينة من حب حمض البيرولنجين ويحدد رشه أربع مرات في النهار ودامت هذه الحرب شهراً فلم يبق بعده أثراً(82/72)
لهذا العدو الهائل وتخلصت المدينة من الذباب فخفت حمى التيفوس بذلك عَلَى التدريج وجادت الصحة أي جودة وبذلك يفهم أن الحكومات إذا أرادت أن تعمل الحسن للأمم توفق له مهما كان صعب الطريقة.
نادي المعمرين
أنشئ حديثاً في طوكيو عاصمة اليابان ناد للشيوخ الذي لا يقل عمرهم عن التسعين سنة برئاسة الكونت إوليما الياباني ويقال أن بين من يضمهم النادي الآن اثني عشر عضواً عمر الواحد منهم 110 سنوات وقد قيل شبيه الشيء منجذب إليه. إن الطيور عَلَى أشكالها تقع.
إزالة الحبر عن البسط
إن أسهل طريقة يمكنك بها إزالة الحبر عن الطنافس أو البسط أن تأخذ شيئاً من الملح الناعم وتذره عَلَى الحبر وتى اسود الملح ترفعه وتضع غيره مكانه.
أحياء الأزهار ميتة
إن الطريقة لإحياء الأزهار بعد ذبولها هي أن تقطع قليلاً من أصولها ثم تغمس هذه الأصول في ماء يغلي فالحرارة الشديدة تنبه الزهرة تعد إليها الحياة التي أوشكت أن تفقدها وتجعلها كأنها مقطوفة منذ هنيهة.
أكلة الخبز
في الإحصاءات الأخيرة أن كل دانيمركي يأكل في السنة 287 كيلوغراماً من الخبز والبلجيكي 274 كيلوغراماً والفرنسوي 234 والسويسري 212 كيلوغراماً والألماني 209 كيلوغرامات والإسباني والنمساوي 195 كيلوغراماً والإيطالي والبرتقالي 102 كيلوغرامين. أما العربي فليس له محل من الإعراب في هذا الإحصاء ولعله من أكثر الأمم تنازلاً للخبز إذ ليس عنده الآن إلا الخبز القفار وربما جاء زمن لا يحصله فيكتفي بأكل البقول والثمار.
ثروة سويسرا
أحصى الأستاذ ستيجر ثروة سويسرا عَلَى وجه التقريب فكانت نحو 14528 مليون فرنك(82/73)
وأغنى مقاطعاتها مقاطعة برن التي بلغت ثروتها العامة 2444 مليوناً ثم مقاطعة فود 1742.
نساء فنلندة
تبين بالاستقراء أن المرأة في فنلندا لما صار له شأن في توظيف الشرطة في بلادها قل الفجور بل كاد يقضى عليه كل القضاء وذلك أن من وظيفة الشرطيات الفنلنديات أن يسهرن عَلَى أخلاق الفتيات وأن يسعين في إيجاد أعمال ومحال يأوي إليها المهملون أو اللقطاء والعجائز.
العناية بالمرأة
لما كان للمرأة بولاية كولورادو في الولايات المتحدة حق الانتخاب كالرجل منذ زمن طويل فقد وفقت إلى وضع قانون لحماية الأمومة في البلاد ذلك أن كل الأمهات اللائي لا مورد لهن يعشن سواء كن عازبات أو متزوجات أو أيامى يقبضن من خزانة الحكومة معاونات مالية مهمة تسمح لهن بتربية أولادهن عَلَى ما يجب.
الأنسجة الجديدة
آخر الأزياء الجديدة من ألبسة النساء الفساطين المصنوعة من الخرز المنسوج الذي يشبه الحرير بلمعانه ومرونته وقد اخترع هذا النسيج في النمسا وألوانه عَلَى غاية من اللطف تختلف بين الأبيض والأخضر والوردي والبجلي (الليلكي) والأصفر وله لمعان كلمعان الماس. وتصنع أيضاً أقمشة من ألياف معدنية معمول من أحجار ليفية لطيفة عَلَى اللمس جداً ومتينة للغاية. ولهذه الألبسة امتيازاتها يمكن تنظيفها عندما تتجعد أو تتسخ ويكفي لذلك أن تكوى. ويصنعون أيضاً جوخاً يدعونه جوخ الحديد يستعمله الخياطون لعمل قبات الثياب. ويعمل هذا الجوخ من الصوف المعمول من الحجر الكلسي وهذا الحجر يمزج ببعض المواد الكيماوية وينشف في تنور أو يطلق عليه مجرى هواء شديد الحرارة فيستحيل إلى مادة بيضاء صوفية تكون عند إخراجها من التنور ملونة الأشكال معمولة طويلة وقصيرة عَلَى نحو ما يعمل الجوخ والثوب أو السروال المعمول من هذا الجوخ الحديدي لا يتلوث بلوثات من الدهن ومرونته تشبه مرونة أدق صوف الماعز. ومن جملة الأصناف الجديدة من هذا النوع نسيج الورق أو الحطب أو القنب فإن نسيج الورق قد خدم(82/74)
اليابانيين خدمة نافعة خلال حربهم مع الروس وهو أحسن ما يكون لصنع الأزياء العسكرية الرسمية وتعمل منه اليوم فساطين للسهرات وألبسة للحمامات وأن مدينة طوكيو عاصمة اليابان لتصدر إلى إنكلترا وألمانيا وفرنسا كميات وافرة منه. ويعمل اليابانيون من هذا القماش قفافيز للأيدي أيضاً. أما قماش القنب والحطب فيكون متيناً للغاية يمزج مع بعض المواد الكيماوية التي كتم مخترعوها أسرارها فيباع بكميات رابحة في المستعمرات البريطانية.
ذكاء الحيوان
كان للناس منذ القديم آراء متناقضة في مسألة ذكاء الحيوان فقد قال بيكورس الفيلسوف اليوناني أن للحيوانات روحاً كالإنسان وقال أرسطو والرواقيون من فلاسفة اليونان أن ليس للحيوانات ذكاء يعتد به ورأت النصرانية مثل هذا الرأي الأخير فأثبت لهم الغريزة ونفت عنهم العقل الذي لا حاجة لهم به واعتبر الفيلسوف ديكارت الحيوانات بأنها أدوات بسيطة تعمل من نفسها ولا تعرف ما تعمل وكانت فلسفة القرن الثامن عشر مناقضة لهذا الرأي ونسب الفيلسوف لايبنز للحيوانات عملاً نفسياً منحطاً عن القوى الإنسانية وذهب الماديون من الفلاسفة مذهب أبيكورس مثبتين أن النفس متعلقة بالدفاع وأن النفس البشرية غير خالدة كالحيوان وذهب مثل هذا المذهب أيضاً ملاحدة القرن التاسع عشر فأثبت كارل فونت ولويزنجتر فكراً سامياً للحيوان في الذكاء وقال داروين وهو الذي يرى أن الإنسان مرتق عن الحيوان بترقي الأنواع بأن غريزة الحيوان هي الممثلة لصفاته القوية التي هي قوية في الحيوان وقد بلغت في الإنسان أرقى طبقاتها. واقترب العلم الحديث من هذه النظريات بان أثبت للحيوان قوى ودرجه بحسب أجناسه وأصوله بأن وضع في الدرجة ذوات الثديين التي هي سلم الكائنات قريبة من الجنس البشري فاعترفوا بأن للكلب شعوراً من العقل والذكاء اللذين طالما أقام البراهين عليها وثبت أن حصان هانس يحسب ويجمع ويطرح بلا غلط ويجيب عَلَى المسائل العويصة بإشارات لا خطئُ وذبك ثبت بأن للحيوان نفوساً كما للإنسان وإنها من الذكاء عَلَى جانب.
الإتحاد الأوربي
تكتب المجلات الكبرى في الغرب الحين بعد الآخر مقالات في الدعوة إلى اتحاد أوربي(82/75)
عام تكون به دول أوربا يداً واحدة في الخصام والسلام ومن ذلك ما نشرته إحدى المجلات الإنكليزية الخطيرة قالت مؤخراً أن من الأمور الثابتة أن الحالة الحاضرة في أوربا ليست مما يبعث عَلَى الرضى فهي تفقد عَلَى التدريج المكانة وإن كانت لها فيما سلف من الأيام عَلَى حين تنشأُ أمم أخرى أمامها ونبلغ بالتدريج الدرجة الأولى. والسبب في هذا الانحطاط هو أن ممالك أوربا لا تبرح عَلَى الدوام مسلحة بعضها عَلَى الآخر سواء كان للدفاع أو للإغارة. والإفراط في التسليح عَلَى هذا النحو يدل بصراحة عَلَى ما بينهن من الحذر والحسد فإن أوربا تنفق كل سنة عشرة مليارات من الفرنكات لإطعام جيوشها فإذا نشبت الحرب تحتاج إلى ثلاثة أضعاف هذا المال لنضرب العدو المفاجئ. والطريقة التي جرت عليها أوربا ستقودنا لا محالة إلى حرب وإنا إذا نظرنا إلى حالة الأمم المختلفة نجد ألمانيا بعد حروب كثيرة قد وفقت إلى تأييد سلطانها ولكن من يحميها من المشاكل مع البلاد الخارجية إن لم تكن قوائم سيوف أبنائها. وهكذا الحال في فرنسا وغيرها من الممالك. فإن نزع السلاح من أوربا لا يمكن الحصول عليه إلا بعقد اتفاق عام وائتلاف ثم إذا فرضنا أن ذلك ميسور فكم ينبغي له من الوقت وكم تدوم مدته عَلَى أن المتحتم عَلَى أوربا أن تشبه من حيث الاقتصاد الولايات المتحدة الأميركية فيكون إذ ذاك نفوذها عظيما ويتيسر لها أن تقاوم المهاجمات وتخرج ظافرة من جميع حروبها. يبحث الآن في عقد اتفاق بريدي عام في تأليف مكتب للعمل دولي وأشياء من هذا القبيل مما يكون من وراءه إعداد المواد لعقد التحالف الأوربي العام ونحن نقترح الجمع بين أُسرة كبيرة أوربية تكون ممالكها الجنوبية أبناء ذاك فسكون هذا مؤلفاً من ست دول وهي تدعو سائر الدول إلى الاشتراك معها ويدور محور التحالف عَلَى الاحتفاظ بالحالة الحاضرة ولا شك أن كثيراً من الأمم تفادي بمصلحتها العامة وإذ كانت الحكومة لا تحكم بدون مظاهرة الشعب فعلى الشعب أن يعد الأفكار لقبول هذه الدعوة للإتحاد العام.
تبدل المناخ
تنبأ كثير من العلماء بإمكان تبدل يطرأ عَلَى الأرض وقدروا بأن كثرة ما ينفق من حامض الكربون في الهواء لكثرة إنفاق الفحم سيكون السبب في ذلك وقد أكد أحد أساطين العلم مؤخراً بأن المناخ يتغير والحرارة تشتد مستشهداً لذلك بترقي البشرية في صرف الفحوم(82/76)
وزيادته سنة عن سنة وأن كمية الحامض الكربوني تنمو عن ذلك المعدل وقد أُحصي ما أنفق من الفحم سنة 1899 فكان 823. 287. 454 طناً ولم يكن المنفق منه قبل عشر سنين أكثر من 511. 518. 258 في القرن العشرين بمليار طن عَلَى سرعة الزياد ويدعو إلى تقدير ما سينفق من الطنات في القرن العشرين بمليار طن فتتضاعف كمية الكربون في الهواء وتحفظ الكرة حرارتها فتكون الحرارة في الأرض كلها أكثر من الأول. والعلماء يتوقعون فيما إذا كانت هذه الزيادة في الحرارة تضر بوجود الهواء.
الأشجار التاريخية
في سنة 1860 غرس البرنس دي غال في حديقة نيويورك الوسطى بيده شجرة دردار أميركية وشجرة بلوط إنكليزية احتفالاً بمرور خمسين سنة عَلَى معاهدة غاند ومنذ ذلك العهد نجحت هاتان الشجرتان وأصبحتا من الجمال بحيث لا تضاهيهما شجرة من نوعهما وعمرهما. ومن الأدواح الضخمة التاريخية في العالم شجرة البارون همبولد القائمة في وادي أرغوا في جمهورية فنزويلا فإنها اكتشفت في القرن السادس عشر ولا تزال إلى اليوم عَلَى مثل ضخاتها يوم اكتشافها وكانت استدارة أغصانها 561 قدماً وهي الآن كذلك. ومن الشجار الضخمة في العالم الشجرة المعروفة بشجرة التين في أوروتثا التي ما برح طائفة الكواتش في تنريف تعظمها وقد ثار إعصار هائل سنة 1871 فألقى بها إلى الأرض وكان قطر جذعها 46 قدماً. ويقال أن يونان لم تبرح فيها الشجرة التي كانت تظلل بأغصانها أفلاطون وهو يحادث سقراط. ومن الشجار التاريخية ثلاثة شجرات في جزيرة القديسة هيلانة التي نفي إليها نابليون وبين جذوعها قضى هذا الفاتح. ومنها نخلة جورج واشنطن محرر أميركا ولا يقل عمرها عن قرنين وهي أجمل مثال في الأشجار التاريخية.
سكر النبا
النبا نوع من النخيل ذو ورق كبير مركب عل شكل ريش أو مشط مجتمع في رأس ساقها. وهو يكثر في عدة أصقاع من الأرض ولاسيما في جزائر الفلبين ويستخرج منه الكحول بلغ دخله في العام الماضي زهاء 80 ألف هكتولتر ويستعمل ورقه في نسج الحلفاء كما تصنع منه أغطية للدور وورق للفائف ويؤكل ثمره نيئاً أو مطبوخاً وقد أنبأ المكتب العلمي في مانيلا جمهور الزراع والصناع أنه اكتشف طريقة يمكن معها استخراج مادة سكرية(82/77)
تنافس سكر القصب وتفوقه بالرخص. وتعيش شجرة النبا خمسين سنة وكل فدان زرع من النبا يعطي غلات وافرة جداً. ولعل بهذا السكر يرخص سكرنا.
أعاجيب الحاسبين
ظهر في المكسيك حيسوب من أعاجيب الدهر هو فتى الآن في الثامنة من عمره اسمه ميشيل ألبرتو مانتيلا وهو ابن صراف في تلك البلاد ومنذ سنتين كان كأقرانه ليس فيه شيء من خوارق العادات بينا كان أبوه ذات ليلة يجتهد في حساب أحد التواريخ ليكون مطابقاً ليوم أحد دهش لما رأى ولده يجيبه في الحال عَلَى هذه الأشكال وإذ رآه يحسن الإجابة عاد فسأله عن يوم 24 كانون الثاني 1839 أي الأيام كان فأجابه الطفل بعد تفكر ثانيتين أنه كان يوم خميس. وعند ذلك دعا والد الطفل جيرانهما لإلقاء الأسئلة عليه فكان من جملة ما سألوه عنه أي يوم يكون يوم 24 كانون الثاني سنة 2000 فأجاب يوم الاثنين وقد فحصت المجامع العلمية هذا الولد فأعجب به إذ لم تجد في قواه النفسية شيئاً فوق العادة لأنه كاد يقرأ ويكتب قراءَة وكتابة بسيطة.
ولهذا الولد أمثال فإن في جامعة هارفرد الأميركية تلميذاً اسمه ويليام جايمس سيديس كان منذ الخامسة من سنه يحسب الأيام والسنين بحساب سريع عقلي وفي إيطاليا ولد أُمي جاء باريز فأدهش العلماء بسرعته في الحساب وقد سأله ومن جملة الأسئلة أن يخرج لبهم الجذع المكعب للرقم 27 فحل هذا الإشكال في عشر ثوان. وجاء في القرن الماضي حيسوب زيراه كولبورون اشتهر أي شهرة فسئل وكان في السادسة من عمره إذا كانت الساعة الدقاقة تدق 156 مرة في اليوم فكم دقة تدق في مائتي سنة. وسألوه عن مكعب الرقم 1449 وأي مبلغ إذا ضرب بنفسه يكون حاصله 998000 فكان جوابه لا يطول عَلَى كل سؤال من هذه الأسئلة أكثر من أربع ثوان.
وجاءَ في الفرنسويين هنري موندر فأدهش لمجامع العلمية وكان مرة ذاهباً إلى تور من طريق الحقول فصادف فتاتين غريبتين وكان هو في الخامسة عشرة من سنه فسألهما هل لكما أن تقولا لي سنكما بتقدير السنين وأنا أقول لكم كم يبلغ من الثواني فقالت له إحداهن أن سني تسعة عشرة سنة فقال لها في الحال إنك عشت 599 مليون ثانية و184 ألف ثانية. وممن يحشر في هذه الزمرة فيتو مانجيا ميل الذي حرز في نصف دقيقة ما هو(82/78)
الجذر المكعب من عدد 3. 596. 416 والحيسوب المشهور الألماني زخريا داز الذي كان في الخامسة عشرة من عمره يعمل جلسات عامة يسأل فيها هذه الأسئلة المشكلة مع القلم والدواة. ومثلهما جديدياه بركسثون الذي كان يجد بواسطة الحساب العقلي الجذع المكعب من عدد 60 رقماً. ومن الغريب أن هؤلاء الأولاد الخوارق الذين يحصرون أبداً أذهانهم في هذه الموضوعات ليسوا في الأغلب إلا أبناء فلاحين لا يقرأُون في لا يكتبون وهم بينما يعرفون ما لا يتصور العقل أصعب منه من المسائل لا يحسنون معرفة طريق البلدة التي عاشوا فيها وهم يعمرون حافظين لقواهم العقلية فسبحان من خص ما شاء بما شاء.
فن الإعلانات
لا يعرف منشأ الإعلانات حق المعرفة فقد اكتشف في ثيبة إعلانات عَلَى ورق البردي كتبت منذ زهاء ثلاثة آلاف سنة. واستعمل اليونان واسطة لطيفة للإعلان فكانوا يخرجون منادياً ينادي في الشوارع يكون من أهل الفصاحة والبلاغة ليأخذ بمجامع القلوب في الأزقة والجواد ويختارونه ممن خفت مشيته وكان جميل الشكل ويصحبونه مع هذا بموسيقار ليلفت الأنظار عَلَى طول الشوارع بأدواره ونغماته وهذه العادة بقيت في أوربا بقية إلى اليوم عند المعلنين. واستعمل الرومانيون الإعلانات ليعلنوا عن دور التمثيل وقتال المتصارعين وكانوا يلصقونها في بومبي تحت الأروقة. ولقد تألفت في فرنسا منذ القرن الثاني عشر نقابة للمنادين ينوبون عن الإعلانات وعن السماسرة وتستخدمها الحوانيت والحانات للمبالغة بمديح بضائعها فيسير المنادون في الشوارع العظمى ومصباح في أيديهم وقد ملؤا سروراً وظرفاً وزاد اختراع الطباعة في انتشار الإعلانات كثيراً فمنذ انتشرت الصحف الأولى زادت الإعلانات. وافتتح بارتولوزي واشياعه في القرن السابع عشر عهد الصور والنقوش بماء الفضة وظلت طريقتها وحيدة بصنعها. ثم جاء فاتو الذي تفنن في الإعلانات عَلَى ما رزق من قريحة وقادة وأحسن ما صنع من هذا القبيل لرجل إسكافي بيع مؤخراً من إمبراطورية ألمانيا. ونحو سنة 1870 ظهر جول شيريه وكان آية في فن الإعلانات ورسمها وجاء بعده غراسه الذي برع وأي براعة في نقش الزجاج وجلود الكتب والبطاقات فانتشر فن الإعلان عند الفرنسيس سنة 1890 وعنهم شاع في إسبانيا وألمانيا وبلجيكا وإنكلترا كم شاع في أميركا وهكذا كان تفنن الإفرنج في الإعلانات حتى صار(82/79)
البارع في وضعها وصنعها يعد من المفضلين عَلَى الإنسانية مثل مخترع الطباعة ومخترع البخار ويعيش عيشة حسنة بما ينهال عليه من الأجور والرواتب.(82/80)
العدد 83 - بتاريخ: 1 - 1 - 1913(/)
التربية الاجتماعية
أخواني الأعزاء
لا بد أنكم قرأتم أموراً كثيرة عن ذلك الفيلسوف الإنكليزي الشهير داروين. اصطدمت مخيلة هذا العالم الطبيعي صاحب الفكر الثاقب والنظر النافذ بحادثة فجائية تجلت أمامه أينما حل وحيثما ذهب، حادثة عامة وجدها تتناول جميع ما يدخل تحت عنوان الحياة نباتاً كان أم حيواناً: تلك الحادثة، كما تعلمونها عي التنازع عَلَى البقاء أو بتعبير أخص من عزم عَلَى محافظة حياته. وجب عليه أن يتجهز لرد طوارق الحدثان التي لا بد من أن يصطدم بها في كل آن.
جلبت نظره تلك الحادثة العامة فابتدأ من ساعته يبحث عن دواعي ذاك النزاع والأسباب التي تؤدي لتقوية بعضهم وتفوقهم وإضعاف الآخرين وتقهقرهم. فمكن جملة الأسباب التي وجدها، الصبر عَلَى شدائد الطبيعة، والتفوق من جهة الاقتدار المادي والمعنوي، وتزايد النسل عند فريق أكثر من الآخر غير أنه لم يقف عند هذا الحد بل واصل البحث والتنقيب حتى ظهر له بأن نتيجة هذا النزاع الدائم بين العناصر الحية هو بقاءُ الأنسب في العالم وأن السيادة مع تقلب الزمان تبقى في أيدي أولي العزم والتدبير فوجد عَلَى توالي الأيام أن الضعيف محكوم عليه والقوي حاكم، أو بعبارة أقرب إلى الحقيقة، الضعيف يموت والقوي يسود.
فهذه حقيقة قد أيدها علماء كثيرون قبل داروين، وفي جملتهم الفيلسوف العربي الشهير ابن رشد فإنه قال: (ليس عَلَى الضعيف عَلَى مر الأزمان إلا حالتان، إما أن يموت مذلولاً وإما أن يتمثل بأقوى منه فيكتسب صفاته وبذلك يقوى فيسهل عليه النزاع مع معامع الحياة) ولكن داروين، أيها الأخوان، لم يكتف بإثبات ما ذكر بل تدرج من القانون العمومي، قانون بقاء الأنسب، وظهر بنظريته المسهورة التي طالما تجاذبتها العقول وتشاحذت بها القرائح والأذهان وهي: الارتقاء في العالم.
سردت لكم أيها الأخوان هذه العبارات لا لأنني أريد شرح نظرية ذاك العالم المدقق، ولو أردت ذلك حقيقة لأضحككم حالي لعلمكم أن الوقت ضيق جداً وأن شرح تلك النظرية يتوقف عَلَى معرفة مسائل جمة لا تدخل في موضوعنا كما أني لست بقادر عَلَى إتيانها، وإنما أردت أن أذكركم والذكر لا تنفع، أن الحياة ليست كما يتوهمها كثير منا. فالطفل لدى(83/1)
خروجه من حجر أمه يقع في ارتباك ظاهر لما يتهاجم عليه من العوارض الكثير: فلمسة يد تؤذيه ولفحة قر تؤثر فيه. فيربو وينمو بين حرص الطبيعة وصعوبة المعيشة وكلما تقدم في السن كثرت احتياجاته وتراكمت عليه المشاكل وتضاعفت عَلَى جانبيه الرقباءُ حتى إذا ما أراد شيئاً وجد ألوفاً مع الموانع تزاحمه.
فهذه المناقشة أو بالأحرى هذا النزاع والتزاحم يتجلى بكل سعته وشدته عندما يخرج الإنسان من المدرسة إذ يكون حينئذ قد قبض عَلَى زمام إرادته وافلت من الحماية العائلية فيدخل إذ ذاك في حياة جديدة يطلب الرغيف والزاد متكلاً عَلَى قوة ساعديه وقيمة كسلبه فالوسط الذي يلجه يجد فيه أناساً كثيرين يزاحمونه عَلَى مرغوبه ويحولون بينه وبين مطلوبه. وهناك الطامة الكبر إذا لم يكن قادراً عَلَى دفع المشكلات وإزالة العثرات.
فحالة الأمم في وقتنا هذا لا تختلف عن حالة الأفراد إن لم تكن أشد وطأة وأعظم خطراً. فالأمة لا تنظر إلى حقائق الأمور بعين الاعتبار وتهمل نفسها بمجاراة مجاوريها في سبيل الرقي الأدبي والمادي تمسي ولا شك متدهورة في هاوية الدمار من حيث لا تشعر تختار السر وهو أشأم أصناف الانتحار وأفظعه.
قلنا أنه يجبعلى الأمة أن تنظر إلى عواقب الأمور وتسعى بكل جهدها وطاقتها وتستعمل جميع الوسائط لترقية أبنائها لا لترقيتهم بصورة مطلقة إذ أن ذلك لا يكفي، بل لإيصالهم إلى درجة يقدرون بها، بواسطة التعاون والتضامن بينهم، عَلَى الاحتفاظ بحريتهم وشخصيتهم لا جرم أنكم تعلمون أيضاً أن بعض الأمم في حالة من الرقي تختلف درجاته غير أن الرقي النسبي لا يجهل أحد منكم أن فرنسا تجتهد كل الاجتهاد لتزييد نفوسها ويحق لها أن تضطرب كل الاضطراب في الوقت الحاضر. أو بينا ترى نفوسها تزداد مائة وثلاثة آلاف في خمس سنين أي من تاريخ 1905 إلى 1909 فألمانيا قد زادت في الوقت نفسه، بما يربو عن الأربعة ملايين ومائتين وسبعة وأربعين ألفاً في حين أن إنكلترا وعدد سكانها 36 مليوناً ما عدا نفوس إيرلاندا واسكوتلاندا قد زادت سنة 1909 فقط بما يقدر بأربعمائة وثلاثة عشر ألفاً فالزيادة المطلقة التي وقعت في فرنسا في هذه المدة هو سبب ضعفها لعدم كفايتها بالنسبة لمجاوريها فهذه الزيادة العظيمة في ألمانيا تدعوها إلى أن تزيد عسكرها إلى 700 ألف مقاتل في وقت السلم وأن تتداخل في مسائل أغادير وغيرها(83/2)
مضطرة لا مختارة وتحتل أصقاعاً جديدة لتعينها وقت الشدة.
ذكرت لكم هذه الأمثل لألفت نظركم إلى أننا في ضيق وأن الوقت حرج جداً ومن ضيع الفرصة لا ينفع أن يعض أصابعه ويندم حيث لا ينفعه الندم. فيكتفي بمدح ماضيه ويعقد يديه أمام المستقبل. فمن أحب وطنه وعشقه حقيقة وجب عليه قبل كل شيء أن يصلح نفسه ويزينها بالعلوم العصرية ثم يفكر بأن هناك أمة له عليها حقوق عديدة منها حق بقائه فيجتهد إذ ذاك للقيام بواجبه نحوها وإيصالها إلى درجة الرقي والإسعاد، درجة تمنحها حق البقاء بين الأمم الحية.
أخواني، لا تظنوا بأني أعرض بالذين يفاخرون بماضيهم لأني أعتقد أن الإنسان لا يمكنه تسلق سلم المعالي إلا إذا عرف نفسه ومعرفة النفس لا تتم إلا بمعرفة الآباء والأجداد وما تركوا من الآثار. لأن الإنسان ليس ابن يومه بل ربيب أمه وأن هناك سلسلة تربطه، شاء أم أبى بالماضي. وما أصدق ما قاله الفيلسوف الشهير رنان الأمة مؤلفة من أمواتها أكثر من أحيائها فمن أراد خدمة أمته كان جديراً بأن يبحث عن ماضيها ويدرس تاريخها ويكشف التراب عن تلك الجذور التي تسنده في حياته دون أن يراها ثم يستعين بها لخدمة مبدأه وتعزيز غايته، غير أنني قصدت بقولي إذ ذاك من يتحمس مفاخراً بقوميته مع أنه يجهل أصلها وفرعها يجهل رجالها وآثارها، قصدت بقولي من يصرخ دائماً، أمتي، أمتي، كانت صاحبة علم ومجد، صاحبة مدنية عظيمة، أوليست هي مهد المدنية الغربية؟. . . . وكلها جمل مفخمة سمعها من رفيقه واكتفى بتردادها في كل محفل ومحضر دون أن يفكر بأن الألفاظ لا قيمة لها إذا لم تستند عَلَى دلائل علمية وأدلة حية.
من حب أمته فليبحث عن أحوالها وآثارها وليجتهد في تلقيح ما هو موفق من المدنية الغربية فيها. نحن العرب، يقال عنا أننا أذكياء، فلو سمعنا بهذه القضية أليس يجدر بنا أن نفهم الآن أننا في القرن العشرين، قرن الجهاد المتمادي والسعي المتوالي وإن الذكاء وحده لا يكفل للإنسان حياته إذا لم يأخذ بالأسباب بإرادة أشد من الحديد. نعم عن هذه الصفات صعبة المنال غير أنه يجب عَلَى الإنسان أمام المصاعب أن لا يقنط إن الأمة لا تعمد عَلَى حالها وليس لها ثقة بأفرادها تكون قد أساءت الظن بنفسها ومن أساء الظن بنفسه تدرج إلى اليأس وهناك الطامة الكبرى إذ ليس بنتيجة اليأس إلا الفتور والخمول.(83/3)
فحينئذ يجب عَلَى كل أمة أن تنتبه كالأفراد إلى شخصيتها وتتأهب إلى يوم معلوم. يوم لا بد أن تختبط مع غيرها فيه فإذا كانت خبيرة متيقظة في أمورها حازت قصب السباق وإلا وقعت كما هي حالتنا الآن في هوة الذل والهوان.
تذكرون ولا ريب قول ذاك الحكيم الاجتماعي مونتسكيو بحق القوة: القوة تجري إلى أن تجد مانعاً فيصدها فهذا القول ينطبق عَلَى جميع القوات طبيعية كانت أم اجتماعية. أليست تشكلات أوربا السياسية وتجمعها حول الاتفاق والائتلاف مستندة عَلَى هذه النظرية أوليس ضعفنا وتشتت شملنا هو الذي أطمع الحكومات البلقانية أن تزحف علينا بقواتها وترغب في ابتلاعنا. التساهل بالأمور وحسن النية والاتكال عَلَى الغير أمور لذيذة. لأنها هينة التناول ولكن يا للأسف إننا نرى السياسة متلونة ولا تلون الحرباء لا ثقة بها مطلقة. وما التساهل وحسن النية بالأمور إلا بلاهة ومسكنة.
كنت أظن أننا قد اعتبرنا بما قد أتى عَلَى رؤوسنا من الدروس التي أوشكت أن تضي علينا بتاتاً، كنت اظن أنه لم يبق أحد في المملكة العثمانية إلا وقد اعتبر بما انتهت إليه سياستنا العنصرية التي بعثرت قوانا وكادت تفرق قلوبنا بعضها عن بعض ولكني وجدت ويا للأسف - بالرغم عما كنت آمل - منشئاً يكتب السطر الآتية في جريدة تنشر في العاصمة: العناصر المختلفة التي تعيش في السلطنة العثمانية لا يمكنها أن يكون لها قوة نافذة بجانب العنصر التركي. منذ خمسة عصور ونحن عائشون تحت عنوان العثمانية، ففي القرن العشرين ينبغي أن نعيش تحت عنوان الترك؟.
لم اذكر لكم معشر الشبان الكرام هذه الأمثولة إلا عَلَى سبيل الاستطراد وليس جديراً بالإنسان أن يغالي بسوءِ الظن، لأن التسامح واجب والتعاضد ضروري خصوصاً في الهيئات الاجتماعية - غير أنه ينبغي علينا أن لا يحسن الظن بما يستحقه وأن ينظر إلى المستقبل بعين الدقة خصوصاً إذا كانت حياة أمة في موضع البحث وأن يعتمد عَلَى نفسه واجتهاده وعند الحاجة يكون مقتدراً عَلَى العمل بوصية الشاعر:
وإذا بليت بظالم كن ظالماً ... وإذا لقيت ذوي العدالة فاعدل
أخواني الكرام،
أريد الآن أن أتكلم عن التربية الاجتماعية أو بالأحرى عما تحتاج إليه التربية الديمقراطية.(83/4)
والذي دفعني لتخصيص هذا البحث في هذا الموضوع ظاهر عَلَى ما أظن. لأن هذا الفرع من التربية هو الذي شغل أكثر المفكرين لتناوله جميع الأفراد وله في وقتنا الحالي مكانة عظمى عند الأمم الراقية.
إن الوقت الذي كانت تستعد به الأمم بمجيءِ رجل ذي دهاء يتولى أمورها قد قل حظه وسيدفن عن قريب بين صفحات التاريخ وإن الدور الذي كان الأمر فيه بيد شخص واحد يتصرف كيف يشاءُ قد مضى وانقضى وها نحن الآن في زمن، لصغير القوم وكبيرهم حقوق يطالب بها ووظائف يدعى إلى القيام عليها، يشترك برأيه بمهام الأمور ويضع إصبعه في كل مسألة تتعلق بحياة أمته وارتقائها فمن ثم وجب عليه أن يكون قادراً عَلَى تمييز الغث من السمين ليفيد الهيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها بسعيه وعلمه. هذه المسألة من أهم المسائل الاجتماعية قدرتها المم الغربية حق قدرها وهي تشتغل ليلاً ونهاراً بتطبيقها، بنشر العلم وتعميم الفائدة بين جميع أبنائها حتى يكون كل فرد مفيداً لأمته برأيه وسعيه وعلمه وماله.
إن من الأفراد من يعلقون آمالهم وترقية أمتهم عَلَى حياة شخص واحد. إن الأمة التي لا يمكنها أن تكون معجن الرجال والتي تعلق شقاءَها وسعادتها عَلَى شخص واحد ليس لها الحق في أن تدخل مصاف الأمم الحية. الأمة الحية هي من إذا فقدت بالمرستون أتاها بيكونسفيلد ومن إذا أضاعت بيكونسفيلد داءها غلادستون ثم شامبرلين، فساليسبوري، فالبسفور فاسكويس من الرجال الدهاة والأمة الحية هي التي تملك أمثال هؤلاء الرجال ولا يهمنا إذا سقط واحد فإن هناك جماً غفيراً قادراً عَلَى أن يخلفه. فالروح الأساسية هي التي تأتي بالأعمال العالية هي روح الأمة من حيث المجموع ولا تظنن أن بسمارك كان يمكنه أن يفعل ما فعل ويوحد العنصر الجرماني تحت يد واحدة لو لم يكن مستنداً عَلَى أمة غذاؤها العلم والانتظام وأعني بهما التربية المدرسية والروح العسكرية ولا تظنن بأن تيير الفرنسوي كان يستطيع دفع الخمسة مليارات ويخلص وطنه بمدة وجيزة لو لم يكن وراؤه أمة تعودت الاقتصاد وتأصلت فيها مزايا الاستثمار.
فحري بنا نحن أبناء العرب أن نقتفي إذا أردنا لنفسنا حياةً حرةً أثر تلك المم وأن نبث روح التربية الديمقراطية بكل صقع من أنحاء جزيرة العرب وسورية.(83/5)
إن الأخصائيين في هذا الفن قد عرفوا التربية بصور عديدة فقال الفيسلوف الألماني (كانت) التربيثة تنمية الصفات الكمالية في الإنسان بقدر ما تستطيع طبيعته أو بقدر ما يتحمل استعداده. وتقول مادام نكور دوسو سور وهي آنسة اشتهرت بهذا الفن: تربية الطفل، هو إيصاله الحالة يقدر بها أن يفي بوظائفه الحيوية بأحسن صورة، ويرى هربرت سبنسر أن التربية هي إحضار الطفل للحياة الكاملة، وعرفها جيمس ميل الفيلسوف الأميركاني هكذا المقصد من التربية هي جعل الطفل آلة سعادة لنفسه ولغيره.
وبعد فإن جميع ما ذكرناه من التعاريف في التربية يتعلق بغايتها لا بذاتها ويخلو أحدها من الإبهام. لأنه إذا سئلنا ما هي الحياة الكاملة وما هي السعادة يصعب علينا أن نجاوب جواباً شافياً لأن هذه الكلمات تدل عل أشياء نسبي لا يمكن حصرها ثم فهمها. عرف جان جاك روسو التربية بذاتها فقال: التربية هي صنعة لتنمية الأطفال وإعداد الرجال فحسن هذا التعريف أنه قصير ومختصر غير أن قصره المفرط ولد فيه نوعاً من الإبهام.
ولذلك أرجح التعريف الآتي وإن كان مطولاً غير أنه يدل عَلَى المقصود ويؤلف بين التعارف التي ذكرناها التربية هي مجموع الأعمال المفكرة لمعاونة طبيعة الإنسان في ترقية خصائصه الجسمية والعقلية والأخلاقية، بقصد تكامله وإسعاده وإيفاء وظيفته الاجتماعية فهذا التعريف يجلو للأنظار بأن التربية ينبغي لها أن تنطبق عَلَى الصفات الثلاث المتمم بعضها بعضاً في الإنسان وهي الصفات الجسمية والفكرية والأخلاقية.
أستأذنكم أن أتبع كلمتي في التربية الديمقراطية بما يتعلق بالمعلومات الأساسية والصفات الفكرية والإرادية التي يجب أن تؤسس في عقل الطفل من حيث أنه عضو فعال وأن يكون بحثي بصورة خاصة في الولد الذي دخل مدرسة لتكميل ما تعلمه لأجل ذلك خصصت بحثي بالتربية وتركت تربية الأسرة والتربية اللا مدرسية (إن صح التعبير) أي التربية الذاتية بعد الخروج من المدرسة. ولي بذلك مأرب يهم الحياة العربية.
لا بد أنكم اطلعتم عَلَى بعض المقالات التي نشرت في المدة الأخيرة عَلَى صفحات الجرائد في دمشق تحت هذا العنوان المبادئِ العالية فتوالت المقالات عَلَى إثر انتشار المقالة الأولى حتى ظن أنه يوجد اختلاف بين آراء الكتاب في هذا الشأن ولكن الخلاف لم يكن إلا اختلافاً وهمياً لمن ادعى أنه لا صلاح إلا بإصلاح الأسرة فقد نطق بالصواب لأن العائلة(83/6)
عَلَى التحقيق هي أساس كل جمعية وقوامها. غير أنه إذا سئل كيف تصلح الأسرة، فماذا يكون إذاً الجواب؟
أيتمكن الأبوان أن يتوفرا عَلَى تربية ابنهما أو بنتهما مع أنهما لا يفقهان ما هي التربية وما معناها، وهل يكفي أن يلقن الآباء والأمهات معنى التربية بواسطة المحاضرات والمؤلفات والجرائد وهل هم يحسنون القراءة وإذا قرؤ أو توصلوا لفهم معنى التربية هل يتمكنون من تطبيقها وهل يمكننا أن نغير طبائعهم وعاداتهم بعد أن وصلوا إلى تلك السن ونعلمهم الثبات والدوام في العمل لأجل أن يتيسر لهم اقتطاف الثمرات أن يمكننا أن ندخل البيوت ونأخذ النفس بتربية الأطفال. كل هذا وهم باطل إذاً فلنوجه أنظارنا إلى المدارس لأن هناك آمالنا وهناك مستقبلنا هناك يمكننا أن نؤثر في الطفل وأن نغرس فيه بقدر الإمكان بعض الطبائع الحسنة ونعلمه الثبات والمضاء إنني لا أنكر ما للمؤلفات والمحاضرات من الخدم العظيمة بهذا الشأن كما أنني أعتقد أن تلك الخدم بالرغم من مكانتها ثانوية بالنسبة لتربية أمة كأمتنا.
قلت أن المكتب هو الذي يجب أن يكون المبدأ لتربيتنا: لأن الولد الذي يتيسر له نيل تربية حقيقية في المدرسة يمكنه أن يؤثر في إصلاح أسره وأن يكون سبباً لإسعاد أولاده وترقية أمته في المستقبل. ولكن من لنا بأن يربى تلك التربية التي أشرنا إليها في مدارسنا. أولئك الرجال الذين يعلمون فيها الآن؟ فكفى بنا ذهولاً واسمحوا لي بأن أهتف إلى الغرب الغرب.
لنرجع إلى موضوعنا أي إلى كيفية المعلومات الأساسية والصفات التي تتعلق بالفكر والإرادة والتي يجب عَلَى المعلم أن يلقنها تلميذه بصفته عضو من أعضاء هيئة اجتماعية وديمقراطية ولذا فلنبدأ بالتربية العقلية لأن التربية الجسمية المدرسية وضررها معلوم عند الجميع.
قلت فلنبدأ بالتربية الفكرية لأن الطبيعة الأخلاقية في الرجل وإن كانت هي التي تعطيه القوة اللازمة لاقتحام المصاعب غير أن الذكاء هو الذي ينير طريقها ويعين لها وظيفتها.
وعليه فلتربية يجب أن يكون أساسها العلم وأن تستند في جميع أوقاتها عَلَى مكتشفاته وأصوله الثابتة. لأننا في قرن الحقائق العلمية والخرافات الناشئة عن الجهل، التي تدرس في مدارسنا بدون أن يشعر بها المعلم هي لائقة بعصر كان للخرافات والتخريفات فيه حظ(83/7)
وجال. فالعقل البشري في عصرنا هذا خاصة لا يطأطئ لسهولة أمام البداهة العلمية.
ولكن ماذا يفهم من قولنا أن العلم يجب أن يكون روح التربية الفكرية في مجمع ديمقراطي؟
هل يمكننا أن نطلب من الخلق بان يملكوا كلهم فنون العلم بحذافيرها ويتمثلوا بها. كلا! فإن ذلك لا يدخل تحت دائرة الإمكان. وحيث أن الجمعية مرتبة من أعضاء مختلفين في استعداداتهم وطبائعهم فقسم منهم بطبيعة الحال يبرع مثلاً بالعلوم الاجتماعية وآخر بالعلوم الرياضية وآخر بالتجارة والصنائع والزراعة. . . الخ. وعلى كل منهم أن يكون عالماً في صنعة آمراً كان أو مأموراً وما العالم إلا من أخصى في شعبة من شعب الفنون الحاضرة فعليه ليس المقصد، كما قال رنان، أن يكون كل الأفراد علماء بل المقصد أن يشترك الكل بثمرات العلم أو بعبارة أجمل كما قال نوسيديد ليس المقصود أن يكون فرد قادراً عَلَى حل كل المعادلة بل يكتفي أن يقتدر عَلَى إدراك النتيجة من حلها.
فعليه ماذا يترتب لاستحصال هذه النتيجة العامة التي يجب أن تشمل الجميع بدون استثناء؟ أو بعبارة أخص وأوضح ما هي الأمور الضرورية التي يلزم نشرها بين جميع أبناء العرب تلك الأمور ثلاثة. أولاً نشر الحد الأصغر من المعارف الأساسية بين جميع أبناء الناطقين بالضاد ثانياً تأسيس عادات فكرية حسنة ثالثاً نشر بعض المعلومات التي تتعلق بالاكتشافات الفنية.
الحد الأصغر الذي يجب نشره من المعارف لا يمكن تحديده بصورة قطعية، لأنه يتغير بتغير الأحوال والاستعدادات فمنهم من يبرعون ومنهم من يتأخرون غير أن القاعدة العامة هو أن يبتدأَ بنشر المعلومات الابتدائية التي هي بمثابة الآلات الضرورية لترقية الفكر في المستقبل كالقراءة والكتابة وبعض قواعد اللسان العربي والحساب بإضافة بعض المعلومات التي تتعلق بالتاريخ وبما يحيط بالإنسان إذ لا بد لها لمعرفة الماضي والحال وإنارة طريق المستقبل فإذا دعمت هذه المعلومات الابتدائية بصورة مختصرة معقولة وبواسطة المدارس عَلَى الخص تمكن الرجل من أن يوسع معارفه فيما بعد بدرس المؤلفات وسماع المحاضرات هذا إذا لم يدخل في إحدى المدارس العليا ولم يساعده الحظ عَلَى إتمام عقبات التعليم.
غير أن المقصد الأساسي من تلقين هذه المعلومات الابتدائية يلزم أن ينصرف لتأسيس(83/8)
عادات وطبائع فكرية حسنة بحيث يكون الرجل صاحب فكر سليم في جميع أفعاله ومحاكاته وأن يتعود فهم الحقائق بدون أن ينخدع بالظواهر وأن يرى، كما قال المسيو ألفرد كروازي، مدير كلية العلوم الأبية بباريس، من وراء الكلمات المعاني، ومن وراء المعاني، الأشياء بذاتها. المقصد من المعرفة أن يستطيع الإنسان فهم الحقائق والحكم عَلَى الأشياء لا يتيسر إلا بالاطلاع عَلَى كنهها ومعرفة القوانين التي تدار بها.
سلامة الفكر تقتضي نفوذ النظر وشدة الثبات لنيل المقصد والذي يجب أن يولد عند الطفل الميل لمعرفة الحقائق لأجل أن يستخدمها، يجب كما يقول ديكارت الفيلسوف، أن نتمثل بالأشياء بدل من أن نقودها بميولنا الهوائية. الطبيعة لا تنقاد لمن يغضب عليها بحمق وجهالة، لأن الغضب وسواه عندها سواءٌ. وماذا يا ترى، نفع كيكاوس عندما أخذ السوط بيده وجلد به البحر ليؤدبه عَلَى هيجانه أمامه.
فعليه يجب علينا أن نعود الطفل النظر في الأشياء بعين البصيرة والتروي وأن نولد عنده طبيعة البحث عن حقائق الأمور والمثابرة عَلَى العمل ليتلذذ بثمراته.
قلت أن المثابرة عَلَى العمل والبحث ضروريان لكل شخص إذا أراد أن يتمتع بثمرات حياته ويا للأسف معاشر أبناء الشرق واخص أبناء العرب تنقصنا هذه الفضيلة الاجتماعية؟ لأن لذة التحصيل ومعنى الحياة لم تمازج أرواحنا فالذي يخرج منا من إحدى المدارس العالية يعد نفسه أنه وصل إلى منتهى الكمال في العلم؟ فيعقد يديه ويتمدد عَلَى سريره كأنه بلغ الغاية القصوى. هذه حالتنا الآن وهذه حالتنا في زمن ليس بقريب. درس كلوت بك أحد المستشرقين أخلاق العرب عَلَى عهد محمد علي باشا الكبير بمصر وسورية فامتدح منهم وأعجب بذكائهم وسرعة انتقالهم وقال إنهم لا يقصرون عن أبناء الغرب شيئاً غير أنهم يملون بسرعة ولا يداومون العمل بصورة جدية.
فهذه الخصلة، أيها الأخوان، من أتعس النقائص الاجتماعية في زمننا هذا ولقد ثبت أن الألمان لم ينجحوا ويبرزوا أكثر الأمم إلا لأن هذه الصفة امتزجت بطبائعهم وقبضوا عليها أكثر من غيرهم. فيمكننا نحن العرب، والأمثال عديدة احتذاء مثال الناهضين بأن نعطي للحياة حقها ونتخلق بهذه الصفة الضرورية لنا إذا أردنا أن نخدم أنفسنا ونقوم بأمتنا.
بقي عليّ أن أقول كلمة في القسم الثالث ألا وهي الأفكار العامة التي يجب أن تلقن للطفل(83/9)
في صغره. أول شيءٍ يمكننا أن نعلمه للطفل أن يعرف شخصه ومن هو وإلى أي أسرة ينتمي، وبأي لسان أمة ينطق ومن هي تلك ألأمة التي يرتبط بها بعاداته وطباعه ثم ننتقل به إلى الأمم الأخرى بحيث تدخل في ذنه النقطة الأساسية وهي الفرق بين الماضي والحاضر فنشا له بذلك فكرة عامة وهي فكرة الترقي الدائم في العالم. يلزم أن يعرف أن العالم لا يتبع الأهواء والأهوية في تقلباته ودورانه بل هناك نظام وقوانين يدار بها يخضع لها لا بد أنكم توهمتم بعظم هذه التعابير التي ذكرتها كالرقي الدائم والنظام في العالم، وسألتم أنفسكم كيف يمكن تلقين ولد حديث السن فهم هذه الحقائق العالية ولربما ضحك بعضكم في سره من هذا الفكر.
نعم ليس المقصد أن يدخل المعلم في تفاصيل هذه المسائل لأنه يستحيل عليه إفهامها كلها للطفل ولكن يمكنه أبداً أن يوضح ما أشرنا إليه بيان الخطوط الأولى فقط المدونة في التواريخ والكتب الاجتماعية. وعلى وجه الاستدلال أريد أن أنقل لكم عبارة للمؤرخ العالم الكبير المسيو لافيس أحد أعضاء المجمع العلمي بباريز قال: إن التقلبات التي أتت عَلَى الإنسانية مرئية محسوسة ولا حاجة للإنسان لأن يكون عالماً نحريراً أو فيلسوفاً كبيراً ليتمكن من التوقف عَلَى سرير الروح البشرية التي تقلبت بين الأعصر الغابرة لا يكتف المعلم بتفهيم شروط الحياة بين الأدوار المهمة فقط وليقل مثلاً أن الإنجيل يفرق بين كليتمنستر ولاسيل وأتالي لرسين والحروب الصليبية بين أشيل والسيد والصليب بين أفلاطون وباسكال ويبن الفروق الأساسية بين القسمين فعندها يحس الولد من نفسه بأنه منقاد بتاريخ الإنسانية عَلَى الدوام. وفي الوقت نفسه يقوده معلم التاريخ من الجمعيات الابتدائية إلى أن يوصله إلى الجمعيات الحاضرة بشرط أن يوقفه عَلَى الأصول ويهمل ما دون ذلك من الفروع.
وبديهي أنه لا يمكن استحصال هذه الشروط ولا يتيسر توسيع الفكرة وإنارة الذهن إذا لم يكن هناك حرية فكرية مطلقة. فالحري هي غذاء الفكر وقوامه وبدونها يصبح الفكر كالعضو المعطل عن الحركة فبعد أن يمضي عليه مدة من الزمن يتحضر ثم يعجز عن الإتيان بعمل واحد أحب أن أذكر لكم هذه الأمثولة التاريخية بهذا الشأن.
دخلت الدجة دورليان ذات يوم سنة 1842 ومعها ولدها عَلَى فيكتور هوجو وسألته ماذا(83/10)
يجب أن تعلم ولدها فقال: يجب أن تعلميه أن فرنسا تقيد العالم بأسره وأن الذكاء يقيدها. ماذا كان القصد من هذا الجواب يا ترى؟ القصد، هو أنه إذا ساعد الحظ ابنها الدوج دي باري وجلس عَلَى سرير السلطنة بعد والده لوي فيليب، يعرف أن الفكر حاكم عَلَى كل شيءٍ وأن مراعاته واجبة حتى عَلَى الملوك فبالحقيقة لا يقف شيءٌ أمام الإنسان إذا كان متبصراً مستنداً عَلَى حرية الفكر وقوة الإرادة.
وهاءَنذا أختم حديثي بكلمات عن التربية الأخلاقية فأقول: تعرفون ولا بد أن قسماً من الأخلاق تكون عَلَى مدى الأزمان وسير الأيام بصورة قطعية فالمذاهب والأديان العالية كلها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر مثل: يلزم عليك أن تطيع والديك وتع ين جارك وتحافظ عَلَى ح رمتك وتصبر عَلَى الأجن والآلام وتفتش عن السعادة باكتساب الفضائل فهذه الأحكام هي أحكام ثابتة، تتعلق بغايات عالية وبمقاصد شريفة. غير أن هناك صفات أخرى من الأخلاق بالنسبة إلى التشكلات الاجتماعية الحاضرة يجب أن تضاف إلى القسم الأول وأن ترسخ في عقول الأطفال وهذه الصفات تدعى بالأخلاق المدنية فأريد أن أجعلها كلمتي الأخيرة.
المقصد من الخلاق المدنية مزدوج فمن جهة، هو توليد فكر الاستقلال الشخصي في الطفل وجعله قادراً عَلَى أن يأتي بأعمال شخصية مثمرة، من الجهة الأخرى السقاءُ حسن التأليف بين الأعمال واستقلال الإرادة وسوقها إلى هدف معين. فالمراد من الأول هو الشخص ومن الثاني الجمعية. فالأول يقوي الفرد عَلَى السعي والعمل والثاني يحمله عَلَى إشراك مساعيه مع غيره فنقول بذلك لتأمين منفعة الشخص ومنفعة الهيئة الاجتماعية معاً. ولا شك بأنه يتيسر للأمة رقيها ونجاحها إذا كان الأفراد أقوياء متقدمين عَلَى فكر التعاون والتضامن.
الرجل القوي صاحب الاستقلال الشخصي والجرأة المدنية هو، عَلَى مذهب سقراط، من تغلب العقل فيه عَلَى الأميال والذي إذا تحقق لديه عمل نافع وغاية شريفة مشى نحوهما بقدم ثابتة دون أن يبالي بكثرة الموانع وازدحام المهالك.
المستر روزفلت، رئيس جمهورية أميركا الشمالية سابقاً، هو مثال مجسم في هذا الشأن ومن درس حياته ومناقشاته الاجتماعية إلى الآن يدرك أنه هو ذاك الرجل الذي يقول في كتابه (الحياة المتينة): الأمة لا يمكنها النجاح إذا لم تعود أولادها بذل الجهد. لا لاجتناب(83/11)
المصاعب، بل لقمعها، ولا للبحث عن الراحة فقط، بل عن معرفة إحراز الظفر من أيدي المشاكل والمخاطر. يجب عَلَى الرجل أن يفرح إذا أتى بعمل الرجال ويسر إذا تجرأ عَلَى تحمل الصعوبات وكد وجد وحافظ عَلَى نفسه وعل من يلوذ به، يجب عَلَى المرأة أن تكون مديرة لبيتها، رفيقة لزوجها، عاقلة لا تجزع من كثرة الأولاد الأقوياء الأشداء حولها. فرجاؤنا إلى أبناء العلم والتعليم عَلَى الأقل أن يبذلوا الجهد في إنشاء هذه الصفات العالية بين الناشئ الجديدة ومن يليها.
ويكفي أن يكون الأفراد أقويا إذا لم تنور أفئدتهم بحب المنفعة العامة وتعلق آمالهم وغاياتهم برقي الشعب الذي يرجعون إليه؟ الرجل المتفرد لا قيمة له وما قيمة المرء إلا بقيمة الهيئة الاجتماعية التي ينتسب إليها. وهل ينكر أحد أن مبدأ الترقي والمدنية هو التعاون والإخلاص المتقابل بين الأفراد! ليست هي الجمعية التي تحمل الفرد أن يتجول بكل حرية ويظهر استعداده ولياقته أينما كان. إذاً عَلَى كل فرد أن يحب أمته ويسعى لإرضائها وإسعادها، تلك الأمة التي ضمته إلى حجرها ضمنت له الحياة ثم دربته إلى أن تيسر له استنارة مداركه وأعماله. الرجل الذي تبرأ من أمته ويهمل أمرها بعد أن أخذ غذائه منها هي ولا شك، غنية عنه وعن أمثاله ومن يقدر المنفعة العامة ويخدمها ولو كان ذلك يؤدي في بعض الأحيان إلى ضرره الذاتي، فهو مبجل في جميع الأزمنة في نظر أمته ونظر الإنسانية.
حكمت أثينة ظلماً عَلَى سقراط بشرب السم. فبدلاً من أن يركب العار ويفر من قانون أمته رضي بحكم الجمهور وتجرع كأس المنون صابراً غير جازع فحب الأمة وحسن المفاداة بمنافعنا الحسيسة بحبها يجب أن تنير أفئدتنا ويعلي مقاصدنا وما أحسن ما كتب عَلَى نصب قبر أحد أولئك الأبطال الذين فادوا بأرواحهم في حرب ترموبيل حباً بأمتهم: أيها العابر اذهب وخبر إسبارطة إننا لم نمت في هذا المكان إلا حباً بإعلاء شرفها وتأييد حريتها! وهل فعلت الأعراب أقل من ذلك وما السائق الذي دفع طارق بن زياد أن يحرق المراكب وينادي بعسكره: الموت أو الظفر، وما الذي ساق محمداً المنصور الوزير الأندلسي الشهير أن يتمدد عَلَى الطريق ويصد الفارين بنفسه إذا لم يكن حب الوظيفة وحب الأمة والوطن.
الفضيلة التي تأمر الإنسان أن يضع نفسه دون مبادئه العالية هي من أول الفضائل التي(83/12)
سطرها التاريخ عَلَى صفحاته. فلنجد أيها الأخوان، لاكتسابها فإن لنا باكتسابها الفوز العظيم.(83/13)
ترعة السويس وتجارة الشرق
عرف أن التجارة أول نشأتها لم تتجاوز البحر المتوسط بل حصرت في سواحل فينيقية وبلاد الكلدان والعربية وغيرها من بلاد المشرق أيام توفرت لديها المعارف والعلوم وأينعت فيها ثمار الصنائع والفنون حتى صارت محط رحال التجارة بين المشارق والمغارب وزينة الأموال وموارد الخيرات والمكاسب ويهرع إليها الفاتحون من كل فج وصوب ليشاطروها الأرباح العظيمة ويسلبوها الصنائع العجيبة ويتهافت عليها الغزاة تهافت الفراش عَلَى السراج ولكنهم ما كانوا ينتفعون بذلك بل كان تهافتهم وبالاً عليهم في كل آن.
وبقيت شآبيب المرابح والخيرات تنهل عَلَى الشرقيين فتتدفق عليهم سيول الثراءِ من سحاب الكد والجد إلى أن نظر إليهم الزمان بعين ملؤها الحسد فألهم الإفرنج أن يكتشفوا طريقاً جديداً إلى الهند فآل الأمر إلى فاسكودي غاما ذلك الرجل العظيم الذي وجد طريقاً حول رأس الرجاء الصالح وحوّل بذلك المشروع جانباً كبيراً من تجارة الهند والصين ليسقي به ربوع الغرب فارتشفت من معينه إنكلترا وإسبانيا والبرتقال وهولاندة حتى عمت الفائدة أغلب أقسام أوربا وبقي للشرقيين من ذاك الوقت جزء يسير من التجارة يطرد بطريق حلب ودمشق ومصر نظراً لما كانوا يملون أنفسهم من المخاوف والأخطار ويركبون الغرر والأهوال في طريقهم حول رأس الرجاء الصالح أو أفريقية واخذ يتزايد يوماً فيوماً إلى أن فتحت ترعة السويس سنة 1869 عَلَى يد دي لسبس المهندس الفرنسوي الشهير فدار بذلك دولاب التجارة وعم نفعها العالم غير أنها مع كثرة منافعها إليه ما كانت لتخلو من مضار للسلطنة التي فتحت فيها وذابت مهج رجالها في حفر رمالها وعطلت من أجلها تجارتها بل كانت منفعتها لمن قاوم أشد المقاومة ألا وهي السلطنة الإنكليزية التي استأثرت بأكثر فوائدها.
أجل إن فتح تلك الترعة كان سبباً من أهم الأسباب لتوسيع تجارة العالم وامتدادها لكن الذين باشروا ذلك المشروع ومابدوا فيه عرق القربة قد قلب لهم الدهر ظهر المجن وتبدل نعيمهم بالبؤس كما يشهد لهم بذلك شرقي سورية وأسفل العراق ومدينة حلب التي كانت مركز المواصلات التجارية بين أوربا والهند فقد فقدت واردات تجارتها وعكس ذلك البصرة إذ صار لها بطريق السويس أوسع الأبواب لتصدير حاصلاتها كما تدل الآثار عَلَى ذلك.(83/14)
كان طريق فاسكودي غاما إلى الهند حول رأس الرجاء الصالح طريقاً خطراً يتجرع فيه المسافرون كأس الضيم وتقتحم فيه السفن قحم الهلكات حتى كانت تتراخى مدة السفن الذاهبة إلى الهند فكانت تقضي في سفرها أكثر السنة ولم يكن وصولها معروفاً حق المعرفة ولذلك أجبرت التجار أن تخزن جانباً كبيراً من البضائع في مخازنها حذراً من أن لا يكون في مخازنها ما يفي بالمطلوب إذا ما أُعيقت السفينة عن الوصول إليهم في الوقت المعين. أما الآن وقد صارت مدة السفر ثلاثين يوماً لا غير فاستغنى التجار عن المخازن الكبيرة وابتدأت تطلب بضائعها من الشرق وهي عَلَى يقين من وصولها في الوقت المعين وزد عَلَى ذلك فإن نقل الحنطة من الهند واللحم من أوستراليا وزيلندا الجديدة لم يكن ممكناً قبل فتح الترعة أما الآن فقد صار من أوسع أبواب التجارة.
وقد أدرك كثيرون من رجال عظماء العالم كرعمسيس ونخو ودارا هتاسب وبطليموس ونابليون وغيرهم مكانة تلك الترعة التجارية فحفر رعمسيس الثاني سنة 1300 ق. م ترعة وصل بها فرع النيل البلوسي بالبحر الأحمر وما كانت تصلح إلا لتسريب المياه وربما كان ذلك مقصده الأكبر. وعزم نحو سنة 600 ق. م عَلَى تتميمها لولا ما أنبأه العرافون أن بحفرها ينتفع بها أعداء بلاده وما قرره أيضاً مهندسوه من أن مياه البحر الأحمر أعلى من سطح مصر فخاف عندئذ عَلَى بلاده وتوقف عن حفرها بعد ما أهلك فيها نحو 20000 نفس من المصريين. ثم اشتغل بها دارا هشتاسب وبطليموس الثاني كما أنبأنا التاريخ فحفرا تلك الترعة وبقيت إلى أن ردمتها الرمال قبل أيام طريانوس فأصلحها في القرن الثاني وعادت الرمال فردمتها مرة أخرى إلى فتوح العرب من سنة 638 إلى 640 فأصلحها عندئذ عمرو بن العاص قائد جيوش عمر بن الخطاب وسماها ترعة أمير المؤمنين. ثم طمها بعده الخليفة المنصور أبو جعفر ثاني الخلفاء العباسيين ليقطع الطعام عن محمد بن عبد الله حينما خرج عليه في المدينة فبقيت مطمورة من ذلك الحين إلى أن احتفرها الحاكم بأمر الله من الخلفاء الفاطميين في مصر وجعلها صالحة للملاحة حتى ردمتها الرمال مرة أخرى وبقيت الآثار تدلنا عَلَى ذلك.
ثم جاء نابليون إلى مصر ورأى آثار تلك الترعة فجال في خاطره أن يحتفرها فيقدر عندئذ أن ينقل جنوده إلى الهند فيجبر الإنكليز عَلَى الخروج من تلك الديار وهكذا عرض(83/15)
مشروعه هذا عَلَى المهندس المسيو لوبير ووقع فغيما وقعت به المصريون من قبل وقال أن سطح البحر الأحمر أعلى من سطح البحر المتوسط بعشرة أمتار فإذا فتحت الترعة خشي من طغيان الماء. فبقيت المسألة عَلَى بساط البحث إلى أن قضت الأحوال بخروج نابليون من مصر فسقط طبعاً مشروعه وخرج وهو يردد هذه الكلمات: إن هذا العمل العظيم لم يقدر لي عمله ولعل الدولة العثمانية تسترجع عظمتها يوماً ما بإتمامه.
وظل مهندسو ذلك العصر يعتقدون بارتفاع سطح البحر الأحمر عن البحر المتوسط إلى أن قام المهندس الفرنساوي الشهير بوردالو سنة 1864 وقرر ألا فرق بين ارتفاع البحرين فأنفذت فرنسا وإنكلترا والنمسا لجنة مؤلفة من المسيو تلايوت والمستر ستيفنس والسينيور بخرلي فتحقق الأمر عندئذ غير أن المهندس الإنكليزي لم يستصوب لسياسة فتح تلك الترعة ولخوفه انهيال الرمال عليها وخسارة الهند بذلك المشروع فعاد إلى وطنه وأضعف عزيمة مواطنيه فأثر فيهم كلامه وعدلوا عن إنشائها.
وبقيت تلك المسألة موضوع البحث إلى أن قضت الأمور بأن يتم هذا المشروع الخطير عَلَى يد دي لسبس المهندس الفرنساوي بد أن استقرى طويلاً ووقف عَلَى فحوى ما ارتآه المهندسون في ذلك المشروع وعرف أن تجارة البلاد تتضاعف بها كل عشر سنوات. وهكذا آلى عَلَى نفسه بأن يفتح تلك الترعة فألف شركة غنية تحت عنوان (شركة ترعة السويس العامة) لتقوم لهذا العمل فذهب إلى الآستانة للسعي في هذا المشروع فلم يلق هناك إلا ما يميت الآمال ويثبط العزائم وهذا آب إلى بلاده خجلاً وبقي مدة في وطنه إلى أن بلغه تولية سعيد باشا عَلَى مصر سنة 1854 فأسرع إليه إذ كانت بينهما صداقة متينة العرى وأقنعه بوجوب فتح تلك الترعة التي بها يتوسع نطاق التجارة وتجر مصر ذيول الثراء فأثر فيه كلامه واقتنع بما قاله دي لسبس وعقد امتيازاً مع تلك الشركة يليه اثنا عشر بنداً أهمها أن مدة الامتياز 99 سنة تبتدئ من يوم فتح الترعة وعند انتهاء المدة تستلم الحكومة جميع أعمال الشركة فتقوم مقامها في كل عمل وأضيف لهذا البند بأن يجوز للشركة إطالة المدة أو تجديد الامتياز بشرط أن تزيد ما تدفعه للحكومة من صافي الأرباح وأنها (أي الحكومة) تأخذ 15 في المئة من صافي الأرباح عدا ربحها من الأسهم التي تكون لها والخمسة والثمانين الباقية من المائة يعطى منها 75 للمساهمين و10 في المئة للمؤسسين ثم(83/16)
أن الشركة تعين بالاتفاق مع الحكومة المصرية ما يؤخذ عَلَى السفن من رسم المرور من الترعة ويجري هذا الرسم عَلَى سفن جميع الدول بلا تمييز.
وفي 17 تشرين الثاني سنة 1869 فتحت الترعة لمرور المراكب فاجتازها خمسون سفينة باحتفال عظيم أعد فيه إسماعيل باشا معدات عظيمة ودعا إليه ملوك أوربا وأمراءها فصرف لذلك الاحتفال أموالاً طائلة كانت سبباً من أهم الأسباب لتأخر صندوق الحكومة المصرية في ذلك الحين. وهكذا ابتدأت الشركة ورأس مالها 200. 000. 000 فرنك مؤلفة من 400. 000 سهم سعر السهم 500 فرنك بعد ما تعددت عليها المعاكسات وتوقفت عن العمل مدة سنتين وحكموا بتلك المسألة إمبراطور فرنسا في ذلك العهد فرجع الأمر إلى من يقوم به وعادت الشركة للعمل بهمة ونشاط ونجحت نجاحاً عظيماً لم تنجحه قط شركة مساهمة مثلها.
وبعد فإن ما أنفقه إسماعيل باشا عَلَى الاحتفال عند فتح الترعة 100. 000. 000 فرنك وهو السبب الأكبر الذي بعثه عَلَى بيه حصة مصر من أسهم السويس وهكذا سنة 1875 قد باع إسماعيل باشا تلك الأسهم وعددها 76602 من الأسهم ثمن السهم 500 فرنك فأسرع الكولونل ستانتن قنصل إنكلترا في مصر واشترها باسم الحكومة الإنكليزية بقيمة أربعة ملايين جنيه التي قدر ثمنها سنة 1906 بإحدى وثلاثين مليوناً من الجنيهات.
وهنا يجاب أن يضاف اقتراح الشركة للحكومة ألا وهو أن تعطي الشركة للحكومة المصرية أربعة ملايين من الجنيهات مقابلة إطالة امتيازها وأن تقسطه أقساطاً أقساطاً يكون آخرها سنة 1912 وأن تعطيها أيضاً أربعة في المئة من صافي ربحها السنوي في العشر سنوات الأولى من سنة 1912 إلى سنة 1930 وستة في المئة في العشر سنوات الثانية وثمانية في المئة في العشر سنوات الثالثة وعشرة في المئة في العشر سنوات الرابعة و12 في المئة في المدة الباقية للامتياز أي سنة 1961 إلى سنة 1968 ثم تعطيها نصف صافي ربحها السنوي مدة الأربعين سنة التي يطال فيها الامتياز ولكن إذا قلَّ الربح سنة من السنين عن مئة مليون فرنك فالشركة تأخذ أيضاً أن ربحها 50 مليوناً والباقي للحكومة وإذا صادف في سنة من السنين أيضاً أن ربحها 50 مليوناً فالشركة تأخذ الربح كله ولا تتداخل الحكومة فيه.(83/17)
ونظراً لما صار للحكومة من قسم الأرباح قد سمح لها أن يكون في الشركة عضوان نائبان عن الحكومة فيها وهكذا انتخبت الحكومة نائبين عناه يمثلانها في الشركة.
وهذا بيان عدد البواخر التي مخرت الترعة في كل سنة منذ فتحها إلى سنة 1908 وبيان الرسوم التي حصلتها الشركة في كل سنة.
سنة عدد البواخرالرسوم المحصلة بالفرنكات
186910 54460
1870486 5. 159. 327
1871762 8. 993. 732
18721075 16. 407. 591
18731173 22. 897. 319
18741264 24. 859. 383
18751494 28. 886. 302
18761457 29. 974. 998
18771663 32. 774. 344
18781593 31. 098. 229
18791477 29. 686. 060
18802026 39. 840. 487
18812727 5. 174. 352
18823198 60. 545. 882
18833307 65. 847. 812
18843284 62. 378. 115
18853624 62. 207. 439
18863100 56. 527. 390
18873137 57. 862. 370
18883440 64. 832. 273(83/18)
18893425 66. 167. 579
18903389 66. 984. 000
18913207 83. 422. 101
18923559 74. 452. 436
18933341 70. 667. 361
18943352 73. 776. 827
18953434 78. 103. 717
18963209 79. 569. 994
18972986 72. 830. 545
18983503 85. 294. 769
18993607 91. 318. 772
19003441 90. 623. 608
19013699 100. 386. 397
19023708 103. 720. 020
19033761 103. 620. 268
19044237 115. 818. 479
19054116 113. 866. 796
19063975 108. 161. 896
19074267 116. 000. 096
19083795 108. 413. 410
بيروت
حبيب جرجي كحالة(83/19)
أوضاع الدولة الفاطمية
مقتبسة من الدروس التي يلقيها الشيخ محمد الخضري مدرس
تاريخ الأمم الإسلامية في الجامعة المصري
الصناعة والأسطول
الصناعة هي المكان الذي أعد لإنشاء المركب البحرية وهي بمصر عَلَى قسمين نيلية وحربية فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدو وتشحن بالسلاح وآلات الحرب والمقاتلة فتمر من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد الروم والفرنج وهي التي كان يقال لها الأسطول وأما النيلية فإنها تنشأ لتمر في النيل صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض لحمل الغلال وغيرها.
ولم يكن غزو في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الشيخين أبي بكر وعمر وكان عمر يكره الغزو فيه ويراه مخاطرة وكتب إلى عمرو بن العاص وهو عَلَى مصر أن صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه وأنا أشتهي خلافها فكتب إليه يا أمير المؤمنين إني رأيت البحر خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء وإن ركد حزن القلوب وإن أزل أزاع العقول يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة هم فيه كدود عَلَى عود إن مال غرق ون نجا برق. فقال عمر: لا والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً.
وأول غزو فيه كان في عهد عثمان وأول غاز معاوية بن أبي سفيان أذن له به عثمان عَلَى شرط أن وينتخب الناس ولا يقرع بينهم فمن اختاروا الغزو طائعاً حمله وأعانه وغزا عبد الله بن سعد أمير مصر سنة 34 في وقعة ذات الصواري وكانت له. وكان ذلك سبباً لاهتمام المسلمين بإنشاء المراكب الحربية فبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله عَلَى أفريقية حسان بن النعمان بأمره باتخاذ صناعته بتونس ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب عَلَى يد شيخ القنيا أسد بن الفرات.
قال ابن خلدون وذكر تعليل امتناع المسلمين ركوب البحر للغزو في أول الأمر والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أول الأمر مهرة في ثقافته وركوبه والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباعم في التقلب عَلَى أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدربة بثقافتهم.(83/20)
فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولاً لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته واستحدثوا بصراً بها فتاقت أنفسهم إلى الجهاد فيه وأنشئوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس.
وأول ما أنشئ الأسطول في مصر في خلافة المتوكل عَلَى الله العباسي عندما نزل الروم عَلَى دمياط سنة 238 فملكوها وقتلوا بها جمعاً كثيراً من المسلمين وسبوا النساء والأطفال ومضوا إلى تنيس فأقاموا بأشتومها فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول وصار من أهم ما يعمل بمصر وأنشئت الشواني برسم الأسطول وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البر وانتدب الأمراء له الرماة فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة وانتخب له القواد العارفون بمحاربة العدو وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب هذا وللناس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء الله وإقامة دينه. لا جرم أن كان لخدم الأسطول حرمة ومكانة وكان ولكل أحد من الناس رغبة في أنه من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقر فيه.
وكانت الغزوات بين المسلمين والروم سجالاً ينال المسلمون من العدو وينال العدو منهم وياسر بعضهم بعضاً لكثرة هجوم أساطيل المسلمين عَلَى بلاد العدو فإنها كانت تسير من مصر ومن الشام ومن أفريقية فلذلك احتاج الخلفاء العباسيون إلى الفداء ولم يقع فداء في عهد الدولة الأموية وإنما كان ينادى بالنفر بعد النفر في سواحل الشام ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور الخزرية إلى أن كانت خلافة الرشيد. فوجد أول فداءٍ بين المسلمين والروم سنة 189 وآخر فداء كبير كان سنة 335 في خلافة المطيع فهي عهد الدولة الإخشيدية بمصر والذي شرع فيه هو الإخشيد محمد بن طغج.
وقويت العناية بأمر الأسطول في مصر منذ قدم المعز لدين الله وأنشأ المراكب الحربية واقتدى به بنوه وكان لهم اهتمام بأمور الجهاد واعتناء بالأسطول وواصلوا إنشاء المراكب بمدينة مصر والإسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات وتسييرها(83/21)
إلى بلاد الساحل مثل صور وعكا وعسقلان وكانت جريدة قواد الأسطول في آخر أمرهم تزيد عَلَى خمسة آلاف مدونة منهم عشرة أعيان يقال لهم القواد وتصل جامكية كل واحد إلى 20 ديناراً ثم إلى 15 ثم إلى عشرة ثم إلى ثمانية ثم إلى دينارين وهي أقلها.
ولهم إقطاعات تعرف بأبواب الغزاة بما فيها من النطرون وكان يعين من القواد العشرة واحد فيصير رئيس الأسطول ويكون معه المقدم والقادس فإذا سار إلى الغزو كان هو الذي يقلع بهم وبه يقتدي الجميع فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه ولا بد أن يقدم عَلَى الأسطول أمير كبير من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفساً ويتولى النفقة في غزاة الأسطول الخليفة بنفسه بحضور الوزير فإذا أراد النفقة فيما تعين من المراكب السائرة (كانت في أيام المعز تزيد عن 600 قطعة وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو 80 شونة وعشر مسطحات وعشر حمالة فما تقصر عن مائة قطعة) فيتقدم إلى النقباء بإحضار الرجال فيجتمعون وكانت لهم المشاهرات والجرايات في مدة أيام سفرهم وهم معروفون عند عشرين عريفاً يقال لهم النقباء فإذا اجتمعوا أعلم النقباء المقدم فأعلم بذلك الوزير فطالع الخليفة فيقرر يوماً للنفقة فيحصر الوزير بالاستدعاء من ديوان الإنشاء عَلَى العادة ويجلس الخليفة عَلَى هيئته في مجلسه ويجلس الوزير في مكانه ويحضر صاحباً ديوان الجيش وهما المستوفي والكاتب فيجلس المستوفي من داخل عتبة المجلس وبجانبه من وراء عتبة الباب كاتب الجيش في قاعة الدار وشرط هذا المستوفي أن يكون عدلاً من أعيان الكتاب وأما الكاتب فكان في غالب الأمور يهودياً.
فإذا تهيأ المال أدخل الغزاة مائةً مائة فيقفون في أخريات من هو واقف للخدمة من جانب واحد نقابة نقابة وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة فيستدعي المستوفي من تلك الوراق المنفق عليهم واحداً واحدا فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الآخر فإذا تكملت عشرة وزن الوازنون لهم النفقة لكل واحد خمسة دنانير فيسلمها له النقيب وتكتب باسمه ويده وهكذا إلى الآخر وإذا تم ذلك ركب الوزير بين يدي الخليفة وانفض الجمع.
وإذا تكاملت النفقة وجهزت المراكب وتهيأت للسفر ركب الخليفة والوزير إلى ساحل النيل بالمقس عند منطرة المقس فيجلس فيها الخليفة يرسم وداع الأسطول ولقائه فإذا جلس(83/22)
للوداع جاءت القواد بالمراكب من مصر للحركات بين يديه وهي مزينة بأسلحتها ولبودها وما فيها من المنجنيقات فيرمي بها وتنحدر المراكب وتقلع وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدو ثم يحضر المقدم والرئيس بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو للجماعة بالنصر والسلامة ويعطي للمقدم مائة دينار وللرئيس عشرين وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى البحر فيكون له ببلاد العدو صيت عظيم ومهابة قوية.
والعادة أنه إذا غنم الأسطول ما عسى أن يغنم لا يتعرض السلطان إلى شيء منه إلا ما كان من الأسرى والسلاح فإنه للسلطان وما عداهما من المال والثياب ونحوهما فإنه لغزاة الأسطول ولا يشاركهم فيه أحد. وإذا قدم الأسطول خرج الخليفة أيضاً لمنظرة المقس وجلس فيها للقائه.
ولم يزل الأسطول عَلَى ذلك إلى أن كانت وزارة شاور ونزل ملك الإفرنج عَلَى بركة الحبش فأمر شاور بتحريق مصر وتحريق مراكب الأسطول فحرقت ونهبها العبيد فيما نهبوا. ولها ذكر يعود في ذكر الدولة الأيوبية وقد كان بمصر صناعات (ترسانات)
(1) وهي أقدم الصناعات صناعة الجزيرة بنيت سنة 54هـ ثم اعتنى أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه الصناعة وأطافها بالجزيرة ولم تزل هذه الصناعة إلى أيام الإخشيد فحول موضعها إلى بستان المختار.
(2) صناعة مصر بناها الإخشيد وكان موضعها يعرف بدار بنت الفتح بن خاقان زوج أحمد بن طولون والسبب في نقل الصناعة أنه رأى أن صناعة يحول بينها وبين صاحبها الماء ليست بشيءٍ فحول الصناعة إلى ساحل مصر سنة 325 وكان إذ ذاك عندها عندها سلم ينزل منه إلى الماء وكانت مراكب الأسطول مع ذلك تنشأ في الجزيرة وفي صناعتها إلى أيام الآمر فلما ولي المأمون بن البطانحي أنكر ذلك وأمر أن يكون إنشاء الشواني والمراكب النيلية الديوانية بصناعة مصر وأنشأ بها منظرة لجلوس الخليفة يوم تقدمه الأسطول ورميه فأقر إنشاء الحربيات والشلنديات بصناعة الجزيرة وكان بهذه الصناعة دهليز ماء بمصاطب مفروشة بالحصر العبدانية بسطاً وتأزيراً وفيها محل ديوان الجهاد وكان يعرف في الدولة الفاطمية أن لا يدخل من باب هذه الصناعة أحد راكباً إلا الخليفة أو الوزير إذ ركبا يوم فتح الخليج عند وفاء النيل ولم تزل هذه الصناعة عامرة إلى ما قبل(83/23)
سنة 700 ثم صارت بستاناً.
(3) صناعة المقس بناها عَلَى قول ابنة أبي طي في تاريخه المعز لدين الله وأنشأ بها ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر عَلَى مينا.
وقال المسبحي أن العزيز بالله بن المعز هو الذي بنى دار الصناعة التي بالمقس وعمل المراكب التي لم ير مثلها فيما تقدم كبراً وحسناً وفي سنة 386 وقعت نار في الأسطول وقت صلاة الجمعة فاحترقت خمس عشاريات وأتت عَلَى جميع ما في الأسطول من العدة والسلاح حتى لم يبق منه غير ستة مراكب فارغة لا شيء فيها.
وكان العزيز قد أمر قبل موته بتحديد عمارة الأسطول فأنشئت مراكب بدل المحترقة بغاية السرعة وقد طرحت في البحر بين أيدي الحاكم.
وكان في البهنساوية وسفط يشن والأشمونين والأسيوطية والأخمينية والقوصية أشجار لا تحصى من سنط لها حراس يحمونها حتى يعمل منها مراكب الأسطول فلا يقع منها إلا ما تدعو الحاجة إليك وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار.
الخراج
لم يكن مقدار ما يجيء من الأراضي المصرية لعهد هذه الدولة متساوي المبلغ في جميع أدوارها بل كان يزيد وينقص حسب الاهتمام بالإصلاح الذي هو أساس كثرة الجباية.
فقد كان الخراج في السنة التي دخل فيها جوهر القائد 3. 400. 000 دينار في عهد الوزير الناصر للدين الحسن بن علي اليازوري وزير المستنصر أراد أن يعرف قدر ارتفاع الدولة وما عليها من النفقات ليقايس بينهما فتقدم إلى أصحاب الدواوين بأن يعمل كل منهم ارتفاع ما يجري في ديوانه وما عليه من النفقات فعمل ذلك وسلمه إلى متولي ديوان المجلس وهو زمام الدواوين فتنظم عليه عملاً جامعاً وأحضره إياه فرأى ارتفاع مصر 1. 000. 000 دينار يقف منها عن معلول ومنكسر عَلَى موتى وهراب ومفقودين 200. 000 دينار ويبقى منها 800. 000 دينار يصرف منها:
300. 000 دينار للرجال عدا واجباتهم وكساويهم.
100. 000 دينار ثمن غلة للقصور.
200. 000 دينار نفقات القصور.(83/24)
100. 000 دينار عمائر وما يقام للضيوف الواصلين من الملوك وغيرهم.
700. 000 الجملة.
100. 000 بأن يحمل كل سنة إلى بيت المال المصون.
فحظي بذلك عند سلطانه وخف عَلَى قلبه وهذا هو ديوان الخاص وبعد موت اليازوري انتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأول وكانت قبل الفتن 600. 000 دينار فاتضع الارتفاع وعظمت الواجبات.
ولما صلحت البلاد في عهد أمير الجيش وولده الأفضل أمر الأفضل بعمل تقدير ارتفاع مصر فجاء خمسة ملايين دينار وكان متحصل الأمراء مليون أردب.
وفي وزارة المأمون بن فاتك البطانحي سنة 501 وهو وزير الآمر رأى من اختلال أحوال الرجال العسكرية والموظفين تضررهم من كون إقطاعاتهم قد خس ارتفاعها وإن في كل ناحية الفواضل للديوان جملة تجبى بالعسف وتتردد الرسل من الديوان الشريف بسببها فخاطب الأفضل بن أمير الجيوش في أن يحل الإقطاعات ويروكها وعرفه في أن المصلحة في ذلك تعود عَلَى المقطعين والديوان لأن الديوان يتحصل له من هذه الفواضل جملة يحصل بها بلاد متورة فأجاب إلى ذلك وحل جميع الإقطاعات وراكها وأخذ كل من الأقوياء والمميزين يتضررون ويذكرون أن لهم بساتيناً وأملاكاً ومعاصر ونواحيهم فقال له من كان له ملك فهو باق عليه لا يدخل في الإقطاع وهو محكم إن شاء الله باعه وإن شاء الله آجره فلما حللت الإقطاعات أمر الضعفاء من الأجناد أن يتزايدوا فيها.
فوقعت الزيادة في إقطاعات الأقوياء إلى أن انتهت إلى مبلغ معلوم وكتبت السجلات بأنها باقية بأيديهم إلى مدة 30 سنة لا يقبل عليهم فيها زيادة وأحضر الأقوياء وقال لهم: ما تكرهون من الإقطاعات التي كانت بيد الأجناد قالوا: كثرة عبرتها وقلة متحصلها وخرابها وقلة الساكن بها فقال لهم: ابذلوا في كل ناحية ما تحمله وتقوي رغبتكم فيه ولا تنظروا في العبرة الأولى فعند ذلك طابت نفوسهم وتزايدوا فيها إلى أن بلغت الحد الذي رغب كل منهم فيه فاقطعوا وكتب لهم السجلات عَلَى الحكم المتقدم فشملت المصلحة الفريقين وطابت نفوسهم وحصل للديوان بلاد متورة بما كان مفرقاً في الإقطاعات بما مبلغه 5000 دينار.
وفي سنة 515 في عهد المأمون صدر سجل يتضمن المسامحة بالبواقي إلى سنة 510(83/25)
ويبلغ ما نتهت إليه هذه المسامحة إلى حين ختم السجل.
20720. 767 دينار.
67. 005 ورق.
3. 810. 239 أردب غلة.
وغير ذلك كثير من الأصناف التي كانت تقبل بها الأرض وقد ذكرت متصلة في هذا السجل.
ولما انتهى إلى المأمون ما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادات وفسخ عقود الضمانات وانتزاعها ممن كابد فيها المشقة والتعب وتسليمها إلى باذل الزيادة من غير كلفة ولا نصب أنكر ذلك ومنع من ارتكابه وخرج أمره بإعفاء الكافة أجمعين والضمناء والعاملين من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه ويستولون عليه ما داموا مغلقين وبأقساطهم قائمين وتضمن ذلك منشور قرئ في الجامعين الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر وديواني المجلس والخاص الأميرين السعيدين الخ.
الخراج
أصدر المأمون بن فاتك البطائحي وزير الخليفة الآمر بالله منشوراً بمساحة الأرض بعد أن تجاوز للزراع عن الديون التي عليها للحكومة. وبعد أنة مسح الأرض وصل إليه مكاتبة من الوالي والمشارف ومن كان في صحبته لكشف الأراضي والسواقي ومساحتها متضمنة ما أظهر الكشف وأوضحته عَلَى من بيده السواقي وهم عدة كثيرة ومن جملتها ساقية مساحتها 360 فداناً تشتمل عَلَى النخل والكروم وقصب السكر وخراجها في السنة عشرة دنانير وما يجري الأعمال هذا المجرى وأنهم وضعوا يد الديوان عَلَى جميعها وطلبوا من أرباب السواقي ما يدل عَلَى ما بين أيديهم تذكروا أنها انتقلت إليهم ولم يظهروا ما يدل عليها وقد صيروا ملاكها إلى الباب تحت الحوطة ليخرج الأمر بما يعتمد عليه في أرهم وعند وصولهم وقع الترسيم عليهم إلى أن يقوموا بما يجب من الخراج عن هذه السواقي فإن هذه الأملاك برمتها لا تقوم بما يجب عليها فوقف المذكورون للمأمون يوم جلوسهم للمظالم فأمر بحضورهم بين يديه وتقدم إلى القاضي جلال الملك أبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربي هو يومئذ قاضي القضاة لمحاكمتهم فجرى معهم مع مفاوضة أوجبت الحق(83/26)
عليهم وألزمتهم بالقيام ما يستغرق أموالهم وأملاكهم فحصل من تضررهم ما أوجبت العاطفة عليهم وأخذهم بالخراج من بعد وأن يضرب صفحاً عما تقدم. وكتب بذلك المنشور يصح أن يسمى مبدأ إصلاح عظيم. وقد أباح فيه لكل من يرغب في عمارة أرض حلفاء دائرة ودائرة بئر مهجورة معطلة أن يسلك ذلك إليه، ويقاس عليه ولا يؤخذ منه خراج إلا في السنة الرابعة من تسلميه إياه.
وكان ذلك المنشور سبباً لحصول الاجتهاد في تحصيل مال الديوان وعمارة البلاد وترقية الفلاحين.
وفي المنهاج في أحكام الخراج أن ارتفاع البلاد المصرية والفلسطينية والطرابلسية سنة 483 الهلالية الموافقة لسنة 480 الخراجية كان 3. 100. 000 دينار عيناً وأن الذي كان يؤدي في سنة 466 الهلالية الموافقة 466 الخراجية قبل عهد بدر أمير الجيوش كان مبلغه 20800. 000 دينار وكان الزائد للسنة الجيوشية عما قبلها 300. 000 دينار أعرب عن حسن العمارة وشمول العدل.
وجبى القاضي الموفق أبو الكرم بن معصوم التنيسي عيناً خالصاً إلى بيت المال بعد المؤن والكلف 1. 200. 000 دينار ثم بعده لم يجبها أحد هذه الجباية حتى انقرضت الدولة الفاطمية.
وفي أواخر الدولة أعيدت الأموال الهلالية التي كان ابن طولون أسقطها وطارت تعرف بالمكوس وكانت نحو مئة ألف دينار وهي التي أبطلها صلاح الدين.
ومما يبين اهتمام الأفضل بن الجمالي بعمارة البلاد أن أبا البركات بن أبي الليث رئيس ديوان المجلس رغب أن يتبحبح عَلَى الأفضل بكثرة ما توفر عنده من الأموال وسأله أن يشاهده قبل حمله وذكرانه 700. 000 ديناراً خارجاً عن نفقات الرجال فجعلت الدنانير في صناديق بجانب وجعلت الدراهم في صناديق بجانب آخر وقام ابن أبي الليث بين الصفين فلما شاهد الأفضل ذلك قال لابن أبي الليث يا شيخ تفرحني بالمال وتربة أمير الجيوش إن بلغني أن بئراً معطلة أو أرضاً بائرة أو بلداً خراب لأضربن عنقك فقال: وحق نمتك لقد حاشى لله أيامك أن يون بها بلد حراب أو بئر معطلة أو أرض بور فأبى أن يكشف عما ذكر.(83/27)
دواوين المال
كان في الدولة الفاطمية جملة دواوين لبيان ما يرد عَلَى الدولة من المال وما ينصرف وكان بها نظام يسيرها عَلَى السداد فأولها ديوان المجلس (الخاص).
وصاحبه هو المتحدث في الإقطاعات ويخلع عليه ينشأُ له السجل والمرتبة والسند والدواة والحاجب ومعه جملة كتّاب وفيه يحصر ما يخرج من الأنعام في العطايا والرسوم المعتادة في غرة السنة والضحايا والمرتب من الكسوات للأولاد والأقارب والجهات وأرباب المراتب عَلَى اختلاف الطبقات وما يرد من ملوك الدنيا من التحف والهدايا وما يرسل إليهم من الملاطفات ومقادير الصلات للمترسلين بالمكاتبات ثم يضبط ما ينفق في الدلة من المهمات ليعلم ما بين كل سنة من التفاوت وهذا بيان:
دينار
3000 الصرة المنعم بها في أول العام
2000 ثمن الضحايا
7000 ما ينفق في دار الفطرة فيما يفرق عَلَى الناس
10000 ما ينفق في دار الطراز للاستعمالات الخاص وغيرها
2000 ما ينفق في مهم فتح الخليج غير المطاعم
3000 ما ينفق في سماط شهر رمضان
4000 ما ينفق في سماط الفطر والنحر
31000 المجموع
وهذا خارج عما يطلق للناس أصنافاً من خزائنه من المآكل والمشارب والمواصلة من الهبات وما تخرج به الخطوط من التشريفات والمسامحات وما يطلق من الأهراء من الغلات.
وفي هذه الخدمة كاتب مستقل بين يدي صاحب ديوانه صلي ومعه كاتبان آخران لتنز يل ذلك في الدفتر.
ديوان الرواتب
يشتمل هذا الديوان عَلَى أسماء كل مرتزق وجار وجارية وفيه كاتب أصيل لطراحة وفيه(83/28)
من المبيضين والمعينين نحو عشرة أنفس والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمر ومباشرة من استجد وموت من مات ليوجب استحقاقه عَلَى النظام المستقيم وفي هذا الديوان عدة عروض.
الأول: يشتمل عَلَى راتب الوزير وهو في الشهر 5000 دينار ومن يليه من ولد وأخ من 300 دينار إلى 200 دينار ولم يقرر لولد الوزير 500 دينار سوى شجاع بن شاور ثم حواشيهم عَلَى مقتضي عدتهم من 500 إلى 400 إلى 200 خارجاً عن الإقطاعات.
الثاني: حواشي الخليفة وأولهم الأساتذة المحنكون عَلَى رتبهم وجواري خدمهم التي لا يباشرها سواهم فزمام القصر وصاحب بيت المال وحامل الرسالة وصاحب الدفتر ومشاد التاج وزمام الأشراف والأقارب وصاحب المجلس لكل واحد منهم 100 دينار ومن دونهم ينقص عشرة دنانير حتى يكون آخرهم من له في الشهر عشرة دنانير وتزيد عدهم عَلَى ألف نفس ولطبيبي الخاص لكل واحد خمسون ديناراً ولمن دونهما من الأطباء برسم المقيمين في القصر لكل واحد عشرة دنانير.
الثالث: يتضمن أرباب الرتب بحضرة الخليفة فأوله كان الدست الشريف وجاريه 150 ديناراً ثم حامل السيف وحامل الرمح لكل منهما 70 ديناراً وبقية الأزمة عَلَى العساكر السودان من 50 إلى 90 إلى 30 ديناراً.
الرابع: يشتمل عَلَى المستقر لقاضي القضاة ومن يليه لقاضي القضاة 100 دينار ومثله داعي الدعاة ولكل من قرأ الحضرة عشرون ديناراً إلى 15 إلى عشرة ولخطباء الجوامع من عشرين ديناراً إلى عشرة وللشعراء من عشرين ديناراً إلى عشرة.
الخامس: يشتمل عَلَى أرباب الدواوين ومن يجري مجراهم وأولهم من يتولى ديوان النظر وجاريه 70 ديناراً وديوان التحقيق وجاريه 50 ديناراً وديوان المجلس أربعون وصاحب دفتر الحبس 70 ديناراً وكاتبه خمسة دنانير وديوان الجيش وجاريه 40 ديناراً والموقع بالقلم الجليل 30 ولجميع أصحاب الدواوين الجاري فيها المعاملات لكل واحد عشرون ديناراً ولكل معين من عشرة دنانير إلى سبعة إلى خمسة.
السادس: يشتمل عَلَى المستخدمين بمصر والقاهرة لكل واحد منهم في الشهر خمسون ديناراً والحماة بالأهراءِ والمناخات والجوالي والبساتين والأملاك وغيرها لكل منهم عشرين ديناراً(83/29)
إلى 15 إلى 10 إلى خمسة دنانير.
السابع: الفراشون بالقصور برسم خدمتها وتنظيفها خارجاً وداخلاً ونصب الستائر المحتاج إليها وخدمة المناظر الخارجة عن القصر فمنهم خاص برسم خدمة الخليفة وعدتهم 15 رجلاً منهم صاحب المائدة وحامي المطابخ من 30 ديناراً إلى ما حولها وله رسوم متميزون ويقربون من الخليفة في الأبسطة التي يجلس عليها ويليهم الرشاشون داخل القصر وخارجه ولهم عرفاء ويتولى أمره أستاذ من خواص الخليفة وعدتهم نحو 300 رجل وجاريهم من 10 إلى خمسة دنانير ومقدموهم أصحاب ركاب الخليفة وعدتهم اثنا عشرة مقدماً منهم مقدم المقدمين وهو صاحب الركاب اليمين ولكل هؤلاء المتقدمين في كل شهر 50 ديناراً ولهم نقباء من جهة المذكورين يعرفونهم وهم مقررون جوقاً عَلَى قدر جواريهم. جوقة لكل منهم خمسة عشر ديناراً وجوقة لكل منهم عشرة دنانير وجوقاً لكل منهم خمسة دنانير ومنهم من ينتدب في الخدم السلطانية ويكون لهم نصيب في الأعمال التي يدخلونها وهم الذين يحملون الملحقات لركوب الخليفة في المواسم وغيرها.
وأول من قرر العطاء لغلمانه وخدمه وأولادهم الذكور والإناث ولنسائهم وقرر لهم أيضاً الكسوة العزيز بالله. هذه كانت العروض أو بعبارة أخرى فصول الميزانية.
الميزانية
إذا انقضى عيد النحر من كل سنة تقدم بعمل الإستيمار لتلك السنة تمام ذي الحجة منها فيجتمع كتاب ديوان الرواتب عند متوليه وتحمل العروض إليه فإذا تحررت نسخة التحرير بيضت بعد أن يستدعي من المجلس أوراق بالإدرار الذي يقبض بغير خرج وفي الإدرار ما هو مستقر بالوجهين فيضاف هذا المبلغ بجهاته إلى المبالغ المعلومة بديوان الرواتب وجبهاتها حتى لا يفوت من الإستيمار شيء من كل ما تقرر شرحه ويعلم مقداره عيناً وورقاً وغلة وغير ذلك فيكتب ذلك مكله بأسماء المرتزقين وأولهم الوزير ومن يلوذه به وعلى ذلك إلى أن ينتهي الجميع إلى أرباب الصر فإذا أكمل استدعي له من خزائن الفرش وطاء حرير يشده وشرابة لإمساكه إما خضراء أو حمراء. ويعمل له صدر من الكلام اللائق بما عده فإذا فرغ من ذلك حمل إلى صاحب ديوان النظر إن كان. وإلا فلصاحب ديوان المجلس ليعرضه عَلَى الخليفة إن كان مستبداً أو الوزير لاستقبال المحرم من السنة(83/30)
الآتية في أوقات معلومة فيتأخر في العرض وربما يستوعب المحرم ليحيط العلم بما فيه فإذا كمل العرض أخرج إلى الديوان. وقد شطب عَلَى بعضه وكان ينتقص قوم للاستكثار يزاد قوم للاستحقاق ويصرف قوم ويستخدم آخرون عَلَى ما كانت تقتضيه الآراء في ذلك الوقت ثم يسلم لرب هذا الديوان وعلامة الإطلاق خروجه من العرض.
وقيل أنه عمل مرة في أيام المستنصر فلما استؤذن عَلَى عرضه قال هل وقع أحد بما فيه فقيل له معاذ الله يا مولانا ما تم إنعام إلا لك. ولا رزق من الله إلا عَلَى يديك فقال ما ينتقض به أمرنا. ولاحظنا ما صرفناه في دولتنا بإذننا. وتقدم إلى كاتب الإنشاء بإمضائه للناس من غير عرض. ووقع عن الخليفة بظاهره. الفقر مر المذاق، والحاجة تدل الأعناق، وحراسة النعم بإدرار الأرزاق، فليجروا عَلَى رسومهم في الإطلاق، ما عندكم ينفذ وما عند الله باق.
ووقع عَلَى خلافة الحافظ عَلَى استيمارة الرواتب ما نصه: أمير المؤمنين لا يستكثر في ذات الله كثير لإعطاء ولا يكرره بالتأخير له والتسويف والإبطاء ولما انتهى إليه ما أرباب الرواتب عليه من القلق للامتناع عن إيجاباتهم وحمل خروجاتهم قد ضعفت قلوبهم وقلقت نفوسهم وساءت ظنونهم شملهم برحمته ورأفته وأمنهم مما كانوا وجلين من مخافته وجعل التوقيع بذلك بخط يده تأكيداً للأنعام والمن. وتهنئة بصدقة لا تتبع بالأذى والمن. فليعتمد في ديوان الجيوش المنصورة إجراء ما تضمن هذه الأوراق ذكرهم عَلَى ما ألفوه وعهدوه من رواتبهم وإيجاباتها عَلَى سياقها لكافتهم. من غير تأويل ولا تعنت ولا استدراك ولا تعقب ويجروا في مسبباتهم عَلَى عاداتهم لا ينحل من أمورهم ما كان مبرماً. ولا ينسخ من أمرهم ما كان محكماً. كرماً من أمير المؤمنين وفعلاً مبروراً وعملاً بما أخبر به عز وجل في قوله تعالى إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ولينسخ في جميع الدواوين في الحضرة إن شاء الله تعالى اهـ.
قال المقريزي نقلاً عن كنز الدرر في سنة 46هـ عرض عَلَى الحاكم بأمر الله الإستيمار باسم المتفقهين والقراء والمؤذنين بالقاهرة. ومصر (الفسطاط) وكانت الجملة كل سنة 71. 333 ديناراً وثلث أو ربع دينار فأمضي جميع ذلك.
ديوان التحقيق(83/31)
هو ديوان مقتضاه المقابلة عَلَى الدواوين وكان لا يتولاه إلا كاتب خبير وله الخلع والمرتبة والحاجب ويلحق برأس الديوان وهو متولي النظر ويفتقر إليه في أكثر الأوقات.
ديوان النظر
هو أجل دواوين الأموال وصاحبه يتولى النظر عَلَى العمال والعزل والولاية ومن يده عرض الأوراق في أوقات معلومة عَلَى الخليفة أو الوزير ولم يرى فيه نصراني إلا الأحزم ولم يتوصل إليه إلا بالضمان.
ولصاحب هذا الديوان الجلوس بالمرتبة والمسند وبين يديه حاجب من أمراء الدولة وتخرج له الدواة بغير كرسي وهو يندب المترسلين لطلب الحساب والحث عَلَى طلب الأموال ومطالبة أرباب الدولة ولا يعترض فيما يقصد من أحد من أرباب الدولة.
وكانت دواوين المال بدارة الإمارة بجوار مسجد ابن طولون إلى أن بنى الوزير يعقوب بن يوسف دار الوزارة الكبرى فنقلت إليه الدواوين وبعد موته نقلت إلى القصر ولم تزل به حتى استبد الأفضل أمير الجيوش وعمر دار الملك بمصر فنقل إليها الدواوين فلما قتل عادت إلى القصر ولم تزل به حتى انتهت الدولة الفاطمية.
ديوان الإنشاء
لما كانت مصر دار إمارة كان بها ديوان البريد ويقال لمتوليه صاحب البريد وإليه مرجع ما ورد من دار الخلافة عَلَى أيدي أصحاب البريد من الكتب وهو الذي يطالع بأخبار مصر وكان للأمراء كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل إلى الخليفة وغيره فلما صارت مصر دار خلافة كان القائد جوهر يوقع عَلَى قصص المرافعين إلى أن قدم المعز لدين الله فوقع بنفسه وجعل أمر الأموال وما يتعلق بها إلى يعقوب بن كلس وعسلوج بن الحسن فوليا أموال الدولة ثم فوض العزيز بالله أمر الوزارة ليعقوب فاستبد بجميع أحوال المملكة وجرى مجرى جعفر بن يحيى البرمكي مع الرشيد وكان يوقع ومع ذلك ففي أمراءِ الدولة من يلي البريد وجعل الأمر فيما بعد عَلَى أن الوزراء يوقعون وقد يوقع الخليفة بيده فلما كانت أيام المستنصر بالله وصرف ابا جعفر محمد بن جعفر المغربي عن وزارته أفرد له ديوان الإنشاء فوليه مدة طويلة وأدرك أيام أمير الجيوش بدر الجمالي. وصار يلي ديوان الإنشاء بعده الأكابر إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية وهو بيد القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي(83/32)
البيساني الذي صار صاحب ديوان الإنشاء في الدولة الصلاحية.
قال المقريزي وكان لا يتولى ديوان الإنشاء إلا أجل كتاب البلاغة ويخاطب بالشيخ الأجل ويقال له كاتب الدست الشريف ويسلم المكاتبات الواردة مختومة فيعرضها عَلَى الخليفة من بعده وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عنها الكاتب وللخليفة يستشيره في أكثر أموره ولا يحجب عنه من قصد المثول بين يديه وهذا أمر لا يصل إليه غيره وربما بات عند الخليفة ليالي. وكان جاريه 120 دينار في الشهر وهو أول أرباب الإقطاعات وأرباب الكسوة والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه بالقصر ولا يجتمع بكتابه أحد إلا الخواص وله حاجب من الأمراء والشيوخ وفراشون وله م رتبة هائلة والمخاد والمسند والدواة ولكنها بغير كرسي وهي من أخص الدوي ويحملها أستاذ من أستاذي الخليفة.
وكان للخليفة كاتب التوقيع بالقلم الدقيق وهو كاتب يذاكر الخليفة فيما يحتاج إليه من كتاب الله وتجويد الخط وأخبار الأنبياء والخلفاء فهو يجتمع به في أكثر الأيام. ومعه أستاذ من المحنكين مؤهل لذلك ولهذا الكاتب رتبة عظيمة تلحق برتبة كاتب الدست.
ويكون صحبته للجلوس دواة محلاة فإذا فرغ من المجالسة ألقى في الدواة كاغداً فيه عشرة دنانير وقرطاسً فيه ثلاثة مثاقيل من مثلث خاص ليتبخر به عند دخوله عَلَى الخليفة ثاني مرة. وله منصب التوقيع بالقلم الدقيق وله طراحة ومسند وفراش بقد ألبه ما يوقع عليه. وله موضع من حقوق ديوان المكاتبات لا يدخل إليه أحد إلا بإذن وهو يلي صاحب ديوان المكاتبات في الرسوم والكساوي وغيرها.
أما التوقيع باسم الجليل فهي أيضاً رتبة جليلة ويقال لها الخدمة الصغرى ولها طراحة والمسندان بغير فراش لترتيب ما يوقع عليه.
النظر في المظالم
كانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف جلس صاحب الباب في باب الذهب بالقصر وبين يديه النقباء والحجاب فينادي المنادي بين يديه يا أرباب الظلامات فيحضرون فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة والقضاة رسالة يكشفها من تظلم ممن ليس من أهل البلدين (مصر والقاهرة) أحضر قصة بأمره فيتسلمها الحاجب منه فإذا جمعها أحضرها إلى الموقع بالقلم الدقيق فيوقع عليها ثم تحمل إلى الموقع بالقلم الجليل فيقف عَلَى باب القصر(83/33)
ويسلم كل توقيع لصاحبه. فإن كان الوزير صاحب سيف جلس للمظالم بنفسه وقبالته قاضي القضاة ومكن جانبيه شاهدان معتبران ومن جانب الوزير الموقع بالقلم الدقيق ويليه صواحب ديوان المال وبين يديه صاحب المال واسفسلار العساكر وبين أيديهما النواب والحجاب عَلَى طبقاتهم ويكون الجلوس بالقصر في مجلس المظالم في يومين من الأسبوع وكان الخليفة إذا رفعت إليه القصة وقع عليها (يعتمد ذلك إن شاء الله) ويوقع في الجانب الأيمن منها (وقع بذلك) فتخرج إلى صاحب ديوان المجلس فيوقع مكان جليلاً فيعلم عليها الخليفة وثبت وكانت علامتهم أبداً والحمد لله رب العالمين وكان الخليفة يوقع في المسامحة والتسويغ والتحبيس (قد أنعمنا بذلك) و (قد أمضينا بذلك) وكان إذا أراد أن يعلم ذلك الشيء الذي أنهي وقع (ليخرج الحال في ذلك) فإذا أحضر إليه إخراج الحال علم عليه فإذا كان حينئذ وزير وقع الخليفة بخطه (وزيرنا السيد الأجل وذكر نعمته المعروف به أمتعنا الله ببقائه يتقدم بنجاز ذلك إن شاء الله تعالى) وثبت في الدواوين خط الخليفة (يتمثل أمير مولانا صلوات الله عليه) ويثبت في الدواوين.
وكان بالقصر الكبير موضع يقال له السقيفة يقف عنده المتظلمون وكانت عادة الخليفة أن يجلس هناك كل ليلة لمن يأتيه من المتظلمين فإذا ظلم أحد وقف تحت السقيفة ونادى بصوت عال (لا إليه إلا الله محمد رسول الله) عليه علي ولي الله فيسمعه الخليفة فيأمر بإحضاره إليه أو يفوض أمره إلى الوزير أو القاضي أو الوالي.
ومن غريب ما وقع من المظالم في أيام الحافظ لدين الله أنه خرج من انتدب بعد انحطاط النيل من العدول والكتاب إلى الأعمال لتحرير ما شمله من الري وزرع من الأراضي وكتابة المكلفات فخرج إلى بعض النواحي من يمسحها من شاد وناظر وعدول وتأخر الكاتب ثم لحقهم وأراد التعدية فنفر فيه الكاتب وسبه وقال أنا ماسح هذه البلدة ومني حق التعدية فقال له الضامن إن كان زرع فخذه وقلع لجام بغلة الكاتب وألقاه في معدتيه فلم يجد بداً في دفع الجرة إليه حتى أخذ لجام بغلته فلما تمم مساحة البلد وبيض مكلفة تلك المساحة ليحملها إلى دواوين الباب وكانت عادتهم كتب الجملة بزيادة عشرين فداناً وترك بياضاً في بعض الأوراق وقابل العدول عَلَى المكلفة وأخذ الخطوط عليها بالصحة ثم كتب بالبياض الذي تركه - أرض اللجام باسم ضامن المعدية عشرين فداناً قطعية - كل فدان أربعة(83/34)
دنانير عن ذلك ثمانون ديناراً وحمل المكلفة إلى ديوان الأصل وكانت العادة إذا مضى من السنة الخراجية أربعة أشهر ندب من الجند فيه حماسة وشدة ومن الكتابة العدول كاتب (نصراني) فيخرجون إلى سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج عَلَى ما تشهد به المكلفات المذكورة فينفق في الأجناد وكل من العادة أن يخرج إلى كل ناحية ممن ذكر من لم يكن خرج وقت المساحة بل ينتدب قوم سواهم.
فلما خرج الشاد والكاتب والعدول لاستخراج ثلث مالية الناحية استدعوا أرباب الزرع ومنهم ضامن المعدية فلما أحضر ألزم بأداء 2/ 3 26 دينار عن نظير ثلث المال الثمانين ديناراً عن خراج أرض اللجام فأنكر الضامن أن تكون له زراعية بالناحية وصدقه هل البلد فلم يقبل الشاد ذلك وكان عسوفاً وأمر به فضرب بالمقارع واحتج بخط العدول عَلَى النمطكلفة ومازال به حتى باع معديته وغيرها وأورد ثلث المال الثابت في المكلفة وسار إلى القاهرة فوقف تحت السقيفة وأعلن بما تقدم ذكره فأمر الخليفة الحافظ بإحضاره فلما مثل بحضرته قص عليه ظلامته مشافهة وقص له ما اتفق منه في حق الكاتب النصراني وما كاده به فاحضر المتحدث في الدواوين وهو الموفق ابن الخلال وجميعه أرباب الدواوين وأحضر المكلفات التي عملت للناحية في عدة سنين ماضية وتصفحت بين يديه سنة فلم يوجد لأرض اللحام ذكر البتة فحينئذ أنمر الحافظ بإحضار ذلك الكاتب وأمر بأن يطاف به وأن يشهر في سائر الأعمال.
الحسبة والعيار
نقل المقريزي عن ابن طوير - وأما الحسبة فإن من تستند إليه لا يكون إلا من وجوه المسلمين وأعيان المعدلين لأنها خدمة دينية وله استخدام النواب عنه بالقاهرة ومصر وجميع أعمال الدولة كنواب الحاكم وله الجلوس بجامعي القاهرة ومصر يوماً بعد يوم ويطوف نوابه عَلَى أرباب الحرف والمعايش ويأمر نوابه بالختم عل قدور الهراسين ونظر لحمهم ومعرفة من جزارهم وكذلك الطباخون ويتتبعون الطرقات ويمنعون من المضايقة فيها ويلزمون رؤساء المراكب أن لا يحملوا أكثر من وسق السلامة وكذلك مع الحمالين عَلَى البهائم ويلزمون السائقين بتغطية الروايا بالأكسية ولهم عيار وهو 24 دلواً وكل دلو أربعون رطلاً وأن يلبسوا السراويلات القصيرة الضابطة لعورتهم وهي رزق(83/35)
وينذرون معلمي الكتاتيب بأن لا يضربوا الصبيان ضرباً مبرحاً ولا في مقتل وكذلك معلمو العلوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس ويقفون من يكون سيء المعاملة فينهونه بالردع والأدب وينظرون المكاييل والموازين وللمحتسب النظر في صاحب العيار ويخلع عليه ويقرأ سجله بمصر والقاهرة عَلَى المنبر ولا يحال بينه وبين مصلحة إذا رآها والولاة تشد معه إذا احتاج إلى ذلك وجاريه 30 ديناراً في كل شهر.
وكان للعيار مكان يعرف بدار العيار تعير فيه الموازين بأسرها وجميع الصنج وكان ينفق عَلَى هذه الدار من الديوان السلطاني فيما تحتاج إليه من الأصناف كالنحاس والحديد والخشب وغير ذلك من الآلات وأجر الصناع والمشارفين ونحوهم ويحتضر المحتسب أو نائبه إلى هذه الدار ليعير المعمول فيها بحضوره فإن صح ذلك أمضاه وإلا أمر بإعادة همله حتى صح وكان بهذه الدار أمثلة يصحح بها العيار فلا تباع الصنج والموازين والأكيال إلا بهذه الدار ويحضر جميع الباعة إلى هذه الدار باستدعاء المحتسب لهم ومعهم موازينهم وصنجهم ومكاييلهم فتعير في كل قليل فإن وجد فيها الناقص استملك واخذ من صاحبه بهذه الدار وألزم بشراء نظيره مما هو محرر بهذه الدار ثم سومح الناس وصار يلزم من يظهر في ميزانه أو صنجه خلل بإصلاح ما فيها من فساد والقيام بأجرته.
قاضي القضاة
لم يتسم قاضي مصر بقاضي القضاة إلا في عهد الدولة الفاطمية تشبهوا في ذلك ببغداد.
وكان الخليفة هو الذي يعين القاضي إلا إذا كان هناك وزير رب السيف فإنه هو الذي يقلد القضاة نيابة عنه.
وتكون رتبة القاضي أجل رتب أرباب العمائم وأرباب الأقلام ويكون في بعض الأوقات داعياً فيقال له حينئذ قاضي القضاة وداعي الدعاة ولا يخرج شيء من الأمور لدينية عنه ويجلس السبت والثلاثاء بزيادة جامع عمرو بن العاص عَلَى طراحة ومسند حرير ويجلس الشهود حواليه يمنةً ويسرة بحسب تاريخ عدالتهم وبين يديه خمسة من الحجاب اثنان بين يديه واثنان عَلَى باب المقصورة وواحد ينفذ الخصوم إليه.
وله أربعة من الموقعين بين يديه اثنان يقابلان اثنين وله كرسي الدواة وهي دواة محلاة بالفضة تحمل إليه من خزائن القصور.(83/36)
ويقدم إليه من القصور بغلة شهباء وهو مخصوص بهذا اللون من البغال دون أرباب الدولة وعليها من خزانة السروج سرج محلى ثقيل وراءه فترفضه ومكان الجلد حرير وتأتيه في المواسم الأطواق ويخلع عليه الخلع المذهبة.
ولا يتقدم عَلَى القاضي أحد في محضر هو حاضره من أرب سيف أو قم أو لا يحضر أملاكاً ولا جنازة إلا بإذن ولا سبيل إلى قيامه لأحد وهو في مجلس الحكم ولا يعدل شاهد إلا بأمره ويجلس في القصر يومي الاثنين والخميس أول النهار للسلام عَلَى الخليفة.
وكان له النظر في ديوان الضرب لضبط ما يضرب من الدنانير وكان القاضي لا يصرف إلا بجنحة ولا يعدل أحد إلا بتزكية عشرين شاهداً عشرة من مصر وعشرة من القاهرة ولا يحتمي أحد عَلَى الشرع ومن فعل ذلك أُدب.
وكان القضاة عَلَى مذاهب الشيعة الإسماعيلية في الفروع إلا في عهد الوزير أبي علي بن الأفضل فأنه عين أربعة قضاة يقضي كل منهم بمذهبه إمامي وإسماعيلي وشافهي ومالكي.
داعي الدعاة
داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيا بزيه في اللباس وغيره ووصفة بأن يكون عالماً بمذاهب آل البيت ويقرأ عليه ويأخذ العهد عَلَى من ينتقل من مذهبه إلى مذهبهم وبين يديه نقباء من المعلمين 12 نقيباً وله نواب كنواب الحكم في سائر البلاد ويحضر إليها فقهاء الدولة ولهم مكان يقال له دار العلم ولجماعة منهم عَلَى التصدير بها أرزاق واسعة وكان الفقهاء منهم ينفقون عَلَى دفتر يقال له مجلس الحكمة في كل يوم اثنين وخميس ويحضر مبيضاً إلى داعي الدعاة فيأخذه ويدخل به إلى الخليفة في هذين اليومين فيتلوه عليه إن أمكن ويأخذ علامته بظاهره ويجلس بالقصر لتلاوته عَلَى المؤمنين في مكانين للرجال عَلَى كرسي الدعوة بالديوان الكبير وللنساء بمجلس الداعي فإذا فرغ من تلاوته حضروا إليه لتقبيل يده فيمسح عَلَى رؤوسهم بمكان العلامة (خط الخليفة) وله أخذ النجوى من المؤمنين بالقاهرة ومصر وأعمالها لاسيما الصعيد ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث فيجتمع من ذلك شيء كثير يحمله إلى الخليفة بيده فيفرض له الخليفة منه ما يعينه لنفسه وللنقباء وفي الإسماعيلية من يحمل 33 2/ 3 دينار عَلَى حكم النجوى وكانت الدعوة تلقى إلى المدعوين مرتبة كما سبق فإذا تمت الدعوات حسب الترتيب أخذ عَلَى المريد العهد والميثاق(83/37)
وأن يستر جميع ما عرف إلا ما أطلق له أن يتكلم به وأن ينصح ويخلص للإمام.
ومن اشهر من قلد وظيفة داعي الدعاة أبو نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران الذي له مع ابي العلاء المعري مراسلات تدل علو كعبه في العلم والعرفان والجدل وسببها أنه سمع بيت المعري المشهور وهو قوله:
غدوت مريض العقل والرأي فألقني ... لتخبر أنباء العقول الصائح
فكتب إليه من رسالة. فشددت إليه رحلة العليل في دينه وعقله إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح وأنا أو ملب لدعوته معترف بميزته وهو حقيق أن لا يواطئني العشواءَ فيسلك في المجاهل ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحق بالباطل وأول سؤالي عن أمر خفيف فإن استنشقت نسيم الصبا سقت السؤال إلى المهم أسأله عن العلة في تحريمه عَلَى نفسه اللحم واللبن وكل ما يصدر إلى الجود من منافع لحيوان الخ.(83/38)
حول كربلاء
1ً وصف جامع الحسين
إن الذي يجلب المسلمين إلى كربلاء هو وجود قبر الحسين بنت رسول الله وأخيه العباس بن علي رضي الله عنهم وقبور أصحابه واعوانه الذين استشهدوا معه في واقعة الطف أو يوم عاشوراء سنة 61هـ 680م وبذلك أصبحت كربلاء مقدس الشيعة ومزارهم فيأتي إليها كل سنة لزيارة التربتين - تربة الحسين وتربة العباس - من كل حدب وصوب زرافاتٍ زرافات وجماعاتٍ جماعات قادمين إليها من ديار قاصية وربوع نائية كديار العجم وربوع الهند وآسيا الوسطى حيث يكثر الشيعيون ولهذا ترى كربلاء لا تخلو من غرباء يعدون بالألوف للغرض نفسه.
وها نحن نصف للقراء ما في جامع الحسين من الأبنية الضخمة والتزيينات الفاخرة التي هي من أفخر ما يجود به الشيعة في تدينهم وحبهم لآل البيت مستغنين عن وصف جامع العباس لقرب المشابهة بين الجامعين إن وضعاً وإن زخرفاً فنقول:
جامع الحسين من المساجد الرائقة البديعة الصنع، الفائقة الحسن وهو من أعظم المساجد في العراق شأناً، وأتقنها هندسة وصناعة، وأبدعها حسناً وبهجة، وهو عَلَى شكل مستطيل طوله قرابة 70 متراً في عرض يقارب 55 متراً وللمسجد 6 أبواب فخمة جميلة الوضع وعلى كل باب طاق مرتفع معقود بالحجر القاشاني وكل باب ينتهي بك إلى حي من أحياء المدينة، وفناء المسجد كله فضاء واسع فسيح الأرجاء مفروشة أرضه بالرخام البيض الناصع وكذلك جداره فإن وجه أسفله مغشى بالرخام إلى طول مترين، وما أقول ذلك مبني بالقاشاني الجميل القطع والنحت، ويحيط بفناء الصحن جدار يحصنه قد أقيم عليه طبقتان وفي الطبقة السفلى قرابة 65 غرفة جميلة أمام كل غرفة إيوان قوسي الشكل معقود بالحجر القاشاني.
في وسط فناء الصحن الروضة المقدسة وهي من أعجب المباني وأتقنها وأبدعها شكلاً، وفي حظها بالمحاسن، وأخذت بكل بديعة بطرف يدخل إليها من عدة أبواب ليس هنا محل ذكرها وأشهر أبوابها الباب القبلي وهو من الفضة النفيسة الصياغة وفي جوانبيه سهوات محكمة البناء بديعة الشكل عَلَى هيئة النجاريب مرصعة بقطع من المرائي تأخذ بمجامع(83/39)
القلوب، أمامها صفة مفروشة أرضها بالرخام وكذلك جدارها الأدنى فإنه مؤزر به إلى مترين مرصع كله بزجاج ترصيعاً هندسياً يقل نظيره وسقف هذه الصفة قائم عَلَى دعائم محكمة من الساج وهذا الباب ينتهي من الداخل إلى رواق يحيط بالحرم - الروضة - من شرقيها أو جنوبيها أو غربيها وعن يمينك تجد قبر حبيب بن طاهر وعليه مشبك من الشبه فتدخل باستقامة إلى باب آخر من الفضة الناصعة العجيبة الصياغة إلى مقام محكم الصنع ملون بألوان زاهية بديعة، وهو الروضة أو الحرم الذي فيه قبر الحسين وطوله 10 أمتار و40 سنتيمتراً وعرضه 9 أمتار و15 سنتيمتراً وفي داخله من أنواع التزاويق ورائق الصنع ما يحير العقول وأكثر ذلك مغشى بالذهب الوهاج فهي تتلألأ نوراً وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها، ومما زادها بهجة وزخرفة وجود الجواهر النفيسة، وقناديل ذهب وفضة، وغير ذلك من المعلقات الغالية الثمن عَلَى القبر الشريف التي أهداها إليه ملوك الفرس وسلاطين الهند في عصور مختلفة مما يعجز قلم البليغ عن وصفها والإحاطة بكل ما هنالك من نفائس المجوهرات ونوادر الآثار.
وفي أقصى الحرم مصطبة نفيسة تحتها رمم الإمام، والمصطبة بديعة الصنع والنقش والحفر عجيبة الصبغ والتلوين ترى من وراء مشبك من الفضة الناصعة وهو ذو أربعة أركان وفي جانب الطول منه 5 شبابيك وعرش كل شباك منها 80 سنتيمتراً ويتفرع من وسط الجانب الشرقي منه مشبك صغير من الفضة أيضاً عَلَى ضريح ابنه علي الأكبر الذي قتل معه - وهو غير علي زين العابدين الذي فقيد مع الأسرى إلى الشام - وطول مشبك الحسين 5 أمتار ونصف المتر في عرض 4 أمتار ونصف متر وارتفاعه 3 أمتار ونصف متر وطول مشبك الابن متران و60 سنتيمتراً في عرض متر و40 سنتيمتراً، وفي أعلى مشبك الحسين 16 آنية مستطيلة الشكل كلها من الذهب الإبريز وفي كل ركن من المشبكين رمانة من الذهب يبلغ طولها قرابة نصف متر وسماء ذلك الحرم مغشاة بقطع من المرئي عَلَى شكل لا يقدر أن يصفه واصف.
وفي الزاوية الجنوبية من الحرم قبر الشهداء وهم ملحودون عَلَى ضريح واحد وعلى وجه تلك الزاوية مشبك من الفضة الناصعة طوله أربعة أمتار و80 سنتيمتراً وهو عبارة عن 4(83/40)
شبابيك عرض كل واحد منهم 75 سنتيمتراً وارتفاعه متر و70 سنتيمتراً، ويغطي الحرم كله قبة شاهقة مغشاة من أسفلها إلى أعلاها بالذهب الإبريز، وفي محيطها من الأسفل 12 شباكاً عرض كل شباك متر واحد من الداخل ومتر و30 سنتيمتراً من الخارج ويبلغ ارتفاع القبة من أسفلها أي من سطح الحرم إلى أعلاه قرابة 15 متراً.
وفي هذا الجامع ثلاث مآذن كبيرة يناطحن السحب بذهلهن صعداً في الهواء اثنان منها مطليتان بالذهب الوهاج وهما حول الحرم والثالثة مبنية بالقاشاني وهي ملتصقة بالسور الخارجي من الجانب الشرقي وهناك أيضاً ساعة كبيرة مبنية عَلَى برج شاهق يراهما المرء من مكان قصي، وصفوة القول أن الكاتب مهما أوتي من البلاغة والفصاحة والإجادة في الوصف لا يمكنه أن يصف كل ما في هذا المسجد الضخم من الأبنية والأروقة والتزيينات وما كتبناه ليس إلا ذرة من جبل أو نقطة من بحر زاخر.
2ً لمحة تاريخية في بناء المسجد والقبر
يرتقي تأسيس القبر إلى أيام مقتل الحسين ومما يؤخذ من كلام جعفر بن قولويه في كتابه كامل الزيارة أن الذين دفنوا الحسين رضي الله عنه أقاموا رسماً لقبره ونصبوا له علامة وبناء لا يدرس أثره وفي سنة 65هـ 684م قدم لزيارة رمسه سليمان بن صرد الجزاعي مع الثائرين لأخذ ثارات الحسين وأصحابه، وقد ازدحموا عَلَى قبره كازدحام الناس عَلَى الحجر الأسود ولم يكن إذ ذاك ما يظلل قبره الشريف وجاء في كتاب كنز المصائب أن المختار بن أبي عبيدة الثقفي قام بتشييد قبره واتخذ قرية حولهن وذكر صاحب كنز المصائب عن أبي حمزة الشمالي - المتوفى في عهد المنصور العباسي - عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ما نصه. . فإذا أتيت الباب الذي يلي الشرق فقف عَلَى الباب وقل. . ثم تخرج من السقيفة وقف بحذاءِ قبور الشهداء. . . وأيد لهذا المعنى لخبر المجلس الطوسي في المجلد 22 من البحار 80 - 102 طبع إيران والسيد ابن طاووس في إقبال الأعمال صفحة 28 طبع عجم وهذا ما يدلك عَلَى أن له باباً شرقياً وغربياً وخلاصة القول أنه كان في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية بناء ذو شأن عَلَى قبره ومع هذا فقد كان الأمويون يقيمون عَلَى قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته.
ولم يزل القبر بعد سقوط بني أمية وهو بعيد عن كل انتهاك لاشتغال الدولة العباسية بغدارة(83/41)
شؤون الملك ولظهورها بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميين وغير خفي أن القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلهم كانوا من أنصار آل هاشم، ولما رسخت قدم العباسيين في البلاد وقمعوا الثورات وجهروا بمعاداة شيعة علي رضي الله عنه ولكنها كانت خفيفة الوطأة أيام المنصور والمهدي والهادي، وثقلت وطأتهم عليهم أيام الرشيد فإنه تظاهر بمناهضة العلويين فسجن كبارهم وفتك بسادتهم وأهان عظمائهم حتى أنه سجن عدد كبير من سادات آل البيت وخرب قبر الحسين وقطع السدرة وكرب موضع القبر ولعل ذلك كان لارتيابه من شيعة علي، ولما جاء دور المأمون تنفس الشيعة الصعداء واستنشقوا ريح الحرية الرطيب وكان المأمون يتظاهر بحبه لآل البيت حباً جماً حتى أنه استعاض بلبس السواد وهو شعار العباسيين بلبس الخضرة وهو شعار العلويين وأوصى بالخلافة من بعده لعلي بن الرضا بن موسى الكاظم ولعل ذلك كيد منه لأخيه الأمين واسترضاء لمناصريه الخراسانيين، وفي زمن المأمون أعيد موضع القبر وأقيم عليه بناء شامخ.
وبقي الحال عَلَى هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة إلى أن جاء دور المتوكل فضيق الخناق عليهم وطاردهم في الآفاق وأمر بهدم قبر الحسين وحرث أرضه وإسالة الماء إليه وأقام في المسالح أناساً يترصدون لمن يأتي لزيارته أو يهتدي إلى موضع قبره فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم، وقد نالت فرقة الشيعة شيئاً من الحرية عَلَى عهد المنتصر وكان هذا محباً لآل البيت ومقرباً لهم رافعاً مكانتهم معظماً قدرهم ومن حسانه إليهم أنه شيد قبر الحسين ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه، وفي خلافة المسترشد بالله ضاقت الأرض عَلَى رحبها بالشيعة لما أخذ المسترشد جميع ما اجتمع في خزانة القبر من الأموال والمجوهرات فأنفق عَلَى جيوشه قائلاً أن القبر لا يحتاج إلى خزينة إلا أنه لم يتعرض للبناء ولم يمسسه بسوء من ذلك الحين أخذت كربلاء بالاتساع فاتخذت الدور وشيدت القصور وأقيمت الأسواق.
وكان البناء الذي سيد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة 273هـ 886م فقام إلى تجديده محمد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد العباسي سنة 283هـ 896م وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه 370هـ 980م بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول(83/42)
الضريح وكان عدد من جاور القبر في ذلك العهد من العلويين 2200 نسمة فأجزل لهم عضد الدولة من العطايا وكان ما بذل لهم مائة ألف رطل من التمر وكان آل بويه من أنصار مذهب الشيعة واستفحل التشيع عَلَى عهدهم حتى أن معز الدولة أمر سنة 352هـ 963م بإقامة المأتم في عاشوراء فكان ذلك أول مأتم أقيم في بغداد وفي سنة 408هـ 1017م شبت النار حول الضريح من شمعتين كبيرتين سقطتا عَلَى المفروشات فالتهمت النار القبة وتعدتها إلى الأروقة ولم يبق من المسجد إلا السور وشيء من الحرم فرمم وهو الذي وصفه ابن بطوطة في رحلته وفي سنة 767هـ 1365م شيد السلطان إدريس الأيلكاني المسجد والحرم وأتمه وأكمله ولده السلطان حسين وقد وجد تاريخ هذا البناء عَلَى المحل المعروف عند أهالي كربلاء بنخل مريم فيما يلي الرأس وقد شاهده محمد بن سليمان بن زوير السليماني وقد كان أنزل هذا التاريخ سنة 1216هـ 1801م وفي سنة 932هـ 1525م أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً بديع الصنع إلى القبر الطاهر وفي سنة 1048هـ 1638م شهد السلطان مراد الرابع القبة المنورة وجصص خارجها وفي سنة 1135هـ 1722م نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهر وأنفقت عَلَى ذلك أموالاً لا تحصى، وفي أوائل القرن التاسع عشر أهدى فتح علي شاه أحد ملوك إيران شبكة من الفضة وهي اليوم موجودة عَلَى القبر وفي 1216هـ 1801م أمر محمد علي خان بتزيين الحرم الشريف وتعميره وبذل لذلك مبالغ وفيرة، ويوجد اليوم في أعلى أبواب الفضة فوق الآيات القرآنية فيما يقابل الوجه الشريف، وحوالى هذا التاريخ أمرت زوجة فتح علي شاه بتذهيب المأذنتين، وفي سنة 1273هـ 1865م غشيت قبة الحرم بالذهب عَلَى نفقة ناصر الدين شاه كما هو مكتوب عَلَى حائطها فوق الشبابيك بسطر من ذهب فيه بعض الآيات ولم يحدث بعد ذلك ما يهم تدوينه سوى ما جددت إنشاءه في العهد الأخير إدارة الأوقاف، هذا مجمل ما يمكن الوقوف عليه من تاريخ المسجد والقبر وربك علام الغيوب.
3ً وصف خزائن الأئمة في النجف وكربلاء
يوجد في كربلاء والنجف خزائن قديمة العهد فيها آثار ذات قيمة لا تثمن نذكر منها خزانتين للحسين والعباس رضي الله عنهما في كربلاء وخزانتين للإمام علي كرم الله(83/43)
وجهه وقد حوت هاتان الأخيرتان من الآثار التاريخية النفيسة ما لا يمكن وصفه لأنهما بقيتا بعيدتين عن أذى الوهابيين إبان حملتهم عَلَى العراق في أوائل القرن التاسع عشر، وأما خزائن الحسين والعباس فقد أتلفها يد الضياع وذهب أكثر ما فيها أثناء الغارة الوهابية عَلَى كربلاء.
أما خزينتا الإمام علي في النجف فقديمتان منها واحدة لم تفتح ولم ترى عينها إنسان إلا مرة واحدة حينا أتى ناصر الدين شاه أواخر سنة 1870 لزيارة قبور الأئمة في العراق، وكان ذلك بإرادة سنية استحصلها من السلطان عبد العزيز خان وقد حضر احتفال فتحها كمال باشا ناظر الأوقاف، وبناءً عَلَى التماس ناصر الدين شاه من السلطان عبد العزيز أُخرج منها قنديل مرصع بالحجارة الكريمة قيمته 6500 ليرة فعلق عَلَى المصطبة التي تحتها رمم الإمام وهذا القنديل لا يزال موجوداً إلى اليوم، وقد أهدى ناصر الدين شاه الخزانة سيفاً ثميناً مرصعاً باليواقيت والجواهر وبعد أن تفقد ناصر الدين شاه ما فيها من الآثار النفيسة أقفلت وختم عَلَى قفلها مدحت باشا والي بغداد وكمال باشا ناظر الأوقاف، وقد اختلف الناس في تخمين ما في هذه الخزانة من الجواهر فالبعض يدعي أن ما حوته من المجوهرات تناهز قيمته 30 مليوناً من الجنيهات حتى قيل أن هناك درة كبيرة لا تُثمَّن محفوظة في ظرف من الزجاج ومن الأقوال المأثورة فيها أنها تقوم بإعمار العراق ولو خرب وهذه تعد اليوم من جملة المعلقات الفاخرة عَلَى ضريح الإمام علي ومما يؤخذ من أقوال القيم عَلَى أموال وخزائن الإمام وهو ما يسمى عندهم كليد دارأن ما في هذه الخزانة وحدها تساوي قيمته من 600 ألف ليرة إلى 700 ألف ليرة.
أما الخزانة الثانية فليست مفتوحة في كل وقت ولا يدخلها كل احد ومن نفائس ما حوته تاج ثمين عريق في القدم كان أهداه أحد سلاطين الهند قيل أن ثمنه يساوي 1000 جنيه عثماني وهناك سيف مرصع بالزمرد يقدر ثمنه بألفي ليرة، وفيها سجادات ثمينة دقيقة الصنع كان يجلس عليها ملوك الفرس وكل قطعة منها تساوي ألف جنيه، وأما ما فيها من شالات الكشمير والأنسجة التي تحار لها العقول وتستوقف الأبصار فما لا يحصيه أحد ولا يحيط به واصف مهما أوتي من البلاغة.
ويوجد اليوم عَلَى ضريح الإمام علي تحف نفيسة ومعلقات لا نظير لها منها ظرف من(83/44)
الزجاج فيه تاج مرصع بالحجارة القديمة يقال أنه تاج ملك من ملوك إيران المتأخرين، هذا عدا ما هناك من القناديل الذهبية والمعلقات بديعة الشكل، ومما يدخل في عداد ذلك مكتبة مخطوطة حوت نفائس المخطوطات العديمة النظير منها نسخة من القرآن الكريم بخط الحسين بن علي بن أبي طالب إلى غير ذلك من نوادر الكتب والمخطوطات.
وأما خزانة العباس فهي أغنى الخزائن بعد خزانتي الإمام علي وهي عبارة عن مستودع أسلحة هو عبارة عن غرفتين مملوءتين أسيافاً ذات غرارين قامته ذات حدٍ واحدٍ، والذي يؤسف له إهمال ولاة الأمر هذه الأسلحة القديمة التي أصبحت أثراً بعد عين، وفيها صناديق عديدة مشحونة بأنواع الشالات الثمينة وأستار من الحرير المقصب، ومسارج شمعدانات ذهبية فاخرة، وسيف ذهبي فاخر مرصع محلى بالنقوش الدقيقة، وإبرة كبيرة من الألماس ذات قيمة غالية، ومسرجة شمعدان فاخرة مرصعة بالحجارة القديمة قيل أنها تساوي ألف جنيه، هذا عدا السجاد الجميل المزدان بأبدع التصاوير وأغرب النقوش، منها سجادة مصنوعة من الحرير دقيقة الصنع أهداها إلى الخزان الشاه عباس وقد كتب عَلَى حاشيتها كلب أستانة حضرة عباس أي كلب عتبة حضرة العباس.
أما خزانة الإمام الحسين فلم يبق منها عَلَى ما علم شيء جدير بالذكر، وكل ما هناك 16 إناءً مستطيلاً كلها من الذهب الإبريز وهي الآن موجودة في أعلى مشبك الحسين وقد مر ذكرها، وسبب فقر خزانة الحسين ناشئ من وقوعها بين أيدي الوهابيين وسنصف في غير هذا الموطن ما نهبه الوهابيون من خزانهة الحسين من مجوهرات وغيرها.
اظنك تتعجب من غنى هذه الخزائن ولكن لو علمت أن كربلاء عَلَى اتساعها وكثيرة سكانها لا يوجد فيها اليوم مدرسة ثانوية لازداد عجبك، ولو طفت قرى كربلاء واحدة بعد أخرى لرأيت كلها - عدا النجف الأشرف التي هي اليوم مقر العربية وموطن أدبائها وفضائلها - وفي أسوء حال بل: لرأيت الجهل متفشياً بن أبنائها، عَلَى أني أقول ما أقول لو أن أهل الحل والعقد في العراق يؤلفون جمعية يثق بها الناس لبيع هذه الآثار في أسواق أوربا ويشترون بأثمانها عقارات أو يشقون جدولاً أو يفتحون بها مصرفاً زراعياً أهلياً يساعد الفلاحين عَلَى قضاء حاجاتهم، وترويج مصالحهم، وينشئون مدرسة عالية في النجف أو كربلاء تدرس فيها العلوم الحديثة بالعربية بشرط أن يستقدموا أساتذة من علماء مصر(83/45)
والشام وينفقوا عليها من ريع تلك العقارات أو من مكاسب المصرف لخدموا المجتمع العراقي خدمة تذكر فتشكر وكانت الفائدة عامة، بل إن هناك ما هو أكثر فائدة وأعظم شأناً وهو أنهم ينشئون بأثمانها بواخر يسيرونها في نهر الفرات أو يمدون سكة حديدية بين بغداد وكربلاء فتقرب البلاد بعضها من بعض وتنمو الثروة وتزداد التجارة، ومن ريعها ينفقون عَلَى المدرسة، إذ هذا الزمن زمن التفكر بالمستقبل والعمل إلى ما فيه خير المجتمع لا وقت الكسل والخمول والانعكاف عَلَى القديم، وأي خير من خزائن لا تفيد الأمة في وقت الحاجة والضيق، في وقت يتسابق الأقوام إلى الاستضاءة بنبراس الحضارة ونحن في ظلمات الجهل تائهون، وتتراكض الشعوب إلى اقتطاف ثمار الفنون اليانعة ونحن عن ذلك لاهون، ولا أظن أحداً يعارض هذه الفكرة أو يحول دون إبرازها إلى الوجود سواء كان من رجال الحكومة أو من رجال الجعفرية هذا وإني أحث أدباء النجف عَلَى أن يكونوا أول القائمين بهذا الأمر لأنهم قادة العراق وذوو الأمر والنهي فيه، فينشئون مقالات في هذا الشأن مظهرين ارتياحهم لذلك، وربك الهادي إلى طريق الصواب.
4ً نبذة من تاريخ كربلاء القديم والحديث
لم تكن كربلاء في العهد العيهد قبل الفتح الإسلامي بلدة تستحق الذكر، ولم يرد ذكرها في التاريخ إلا نادراً وأكثر ذلك في عرض الكلام عما كان يقع في الحيرة وقرى الطف من الوقائع. وكانت قبل أن يفتحها المسلمون قرية حقيرة عليها مزارع وضياع لدهاقين العجم. وكان سكانها أهل حراثة وزراعة وظلت كذلك إلى أن افتتحها المسلمون في عهد عمر ابن الخطاب سنة 14هـ ة635م وكان الفاتح لها ابن عرفطه بأمر سعد بن أبي وقاص قائد جيوش المسلمين في حرب القادسية، وقد كانت العرب صممت عَلَى أن تجعلها مباءَة لجيوشها ومركزاً لإدارة ما فتحوه من ديار الحيرة فاتخذوها بادئ بدءٍ معسكراً ثم رحلوا عنها عندما أنكروا وخامة هوائها وكثرة ذبالها فنزلوا الكوفة. وإلى ذباب كربلاء أشار رجل من أشجع في قصيدته:
لقد حبست كربلاء عن مطيتي ... وفي العين حتى عاد غثاً سمينها
إذا رحلت من منزل رجعت له ... لعمري وايهاً إنني لأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاف من الذبان رزق عيونها(83/46)
ولما رحل المسلمون عنها قلَّ شأنها وكادت تعفو رسومها ويخفى ذكرها ومازالت إلى أن عاد ذكرها ما حدث حولها 61هـ 680م من الحوادث الخطير التي أدهشت العالم الإسلامي إلا وهي وقعة كربلاء والطف المحزنة التي قتل فيها الحسين بن علي ونفر قليل من أصحابه رضي الله عنهم لمطالبته بالخلافة وأنفة من مبايعة يزيد بن أبي سفيان لأنه يرى نفسه أحق بها منه، ومن ذلك الحين ذاع صيت هذه المدينة في الآفاق وانتشر في الأقطار، وقد جاء ذكرها في أشعار العرب ودواوينهم ومع هذا لم تكن في القرن الأول الهجري عامرة، ومع ما كان في أنفس الهاشميين وشيعتهم من مجاورة قبر الحسين لم يتمكنوا من اتخاذ الدور وتشييد البنايات خوفاً من سلطان بني أمية، وقد أخذت في التقدم في أوائل الدولة العباسية ورجعت القهقرى أيام الرشيد وقد ازداد خرابها في أيام المتوكل لأنه هدم قبر الحسين فرحل عنها سكانها، ثم أخذ الشيعة أيام المنتصر يتوافدون إلى كربلاء أفواجاً أفواجاً ويعمرونها ثم ضخمت في القرن الرابع للهجرة وقد زارها عضد الدولة بن بويه سنة 37هـ 980م وكانت مدينة عامرة آهلة بالسكان يقطنها آلاف النفوس وقد وصفها ابن بطوطة قال:
هي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات، والروضة المقدسة داخلها، وعليها مدرسة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والخارج وعلى باب الروضة الحجاب والقومة لا يدخلها أحد إلا بإذنهم فيقبل العتبة الشريفة وهي الفضة وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة وعلى الأبواب أستار الحديد، وأهل هذه المدينة طائفتان أولاد دخيل وأولاد فائز ينهم القتال أبداً وهم جميعاً أمامية ولأجل فتنهم تخربت هذه المدينة اهـ.
ولم تزل كربلاء بين صعود وهبوط ورقي وانحطاط تارة تنحط فتخضع لدول الطوائف وطوراً تعمر متقدمة بعض التقدم إلى أن دخلت في حوزة الدولة العثمانية سنة 941هـ 1534م وأخذت تتنفس الصعداء مما أصابها نكبات الزمان وحوادث الدهر التي كادت تقضي عليها، وبقيت وهي مطمئنة البال مدة طويلة تزيد عَلَى ثلاثة قرون لم ترى في خلالها ما يكدر صفو سكانها حتى جاءت سنة 216هـ 1801م جهز الأمير سعود الوهابي جيشاً عرمرماً مؤلفاً من 20 ألف مقاتل وهجم بهم عَلَى مدينة كربلاء وكانت عَلَى غاية من الشهرة والفخامة ينتابها زوار الفرس والترك والعرب فدخل سعود المدينة بعد أن ضيق(83/47)
عليها وقاتل حاميتها وسكانها قتالاً شديداً، وكان سور المدينة مركباً من أفلاق نخيل مرصوصة خلف حائط من طين، وقد ارتكب الجيش فيها من الفظائع ما لا يوصف حتى قيل أنه قتل في ليلة واحدة 20 ألف نسمة وبعد أن تم الأمير مسعود مهمته الحربية التفت نحو خزائن والقبر وكانت مشحونة بالأموال الوفيرة وكل شيء نفيس فأخذ كل ما وجد فيها. وقيل أنه فتح كنزاً كان فيه أموال جمة جمعت من الزوار، وكان من جملة ما أخذ لؤلؤة كبيرة وعشرون سيفاً محلاة جميعها بالذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة، وأوان ذهبية وفضية وفيروز وألماس وغيرها من الذخائر النفيسة الجليلة القدر، وقيل أن من جملة ما نهبه سعود أثاثات الروضة وفرشها منها 4000 شال كشميري و2000 سيف من الفضة وكثير من البنادق والأسلحة وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يرثى لها.
وقد عاد إليها بعد هذه الحادثة من نجا بنفسه فأصلح بعد خرابها وأعاد إليها العمران رويداً رويداً وقد زارها في أوائل القرن التاسع عشر أحد ملوك الهند فأشفق عَلَى حالتها وبنى فيها أسواقاً حسناء وبيوتاً قوراء أسكنها بعض من نكبوا، وبنى للبلدة سوراً حصيناً لصد هجمات الأعداء وأقام حوله الأبراج والمعاقل ونصب له آلات الدفاع عَلَى الطرز القديم وصارت عَلَى ما يهاجمها أمنع من عقاب الجوفامنت عَلَى نفسها وعاد إليها بعض الرقي والتقدم.
وفي سنة 1241هـ 1825م وقعت واقعة عظيمة تعرف بوقعة المناخور - أمير الأخور أي أمير الاصطبل، وذلك أن الدولة العثمانية كانت في ذلك الزمن ضعيفة لاختلال الجيش الإنكشاري واستقلال البلاد القاصية واشتغالها بمحاربة العصاة في البلقان وطموح محمد علي والي مصر إلى الاستقلال واستقلال علي باشا لنلي تبه في ألبانيا، وكان والياً عَلَى العراق إذ ذاك داود باشا وكان تقياً عادلاً ورعاً مشهوراً بالدهاء وفرط الذكاء إلا أنه كان شديد الحرص عَلَى الانسلاخ من جسم الدولة والاستقلال بالعراق أسوة بمن تقدمه. فسعى بادئ بدءٍ إلى جلب قلوب الأهالي بما أنشأه من العمارات والبنايات والجوامع والتكايا. وقرب علماء العراق وبالغ في إكرامهم ونظم جيشاً كبيراً وأسلحة عَلَى الطراز الجديد حينئذ، فقاوم بعد ذلك يدعو الناس إلى بيعته، ولكثرة ما كان لديه من الأعوان بايعه أكثر مدن عراق العرب إلا كربلاء والحلة فرفعا راية العصيان وعند ذلك سير جيشاً ضخماً بقيادة أمير إصطبله وكانت عشيرة عقيل تعضده فأخضع القائد الحلة واستباح جاها ثم جاء(83/48)
كربلاء فحاصرها ثمانية عشر شهراً ولم يقو عَلَى افتتحاها لحصانة سورها ومناعة معاقلها، ولما رأى ذلك أقلع عنها ثم كر عليها ثانياً وثالثاً فلم يفز بأمنيته إلا بعد حصار طالت مدته أربع سنوات من سنة 1241هـ 1825م إلى سنة 1245هـ 1829م وكانت نتيجتها أن أسر الجيش نقيب كربلاء فسجنه داود باشا في بغداد.
وفي سنة 1258هـ 1842م شق أهالي كربلاء عصا الطاعة عَلَى الدولة وأبوا أداء الضرائب والمكوس وكان والي العراق نجيب باشا فجهز جيشاً بقيادة سعد الله باشا وسيره إلى كربلاء فحاصرها حصاراً شديداً وأمطر المدينة بوابل قنابله ولم يساعده الحظ عَلَى افتتاحها لأن سو رها كان منيعاً جداً وقلاعها محكمة لا يمكن للقائد الدنو منها، ولما أعيت به الحيل الحربية التجأ إلى الخداع فأعطى الأمان للعصاة وضمن لهم عفو الحكومة فأخلوا القلاع وجاؤه طائعين فقبض عليهم وسلط المدافع عَلَى جهة السور الشرقية فهدمها وأصلى المدينة ناراً حامية، ففتحها وارتكب فيها فظاعة وشناعة، ودخل بجيشه إلى صحن العباس وقتل كل من لاذ بالقبر وبهذه الموبقات أعاد سلطة الحكومة إلى تلك الربوع.
وفي سنة 1293هـ 1842م ظهرت فتنة بكربلاء تعرف بفتنة (علي هدلة) وذلك أن جماعة من المفسدين حرضت من الأهالي عَلَى مناوأة الحكومة وكانت أفكار الأهالي مستعدة لقبولها فألفت عصابة بقيادة علي هدلة وقابلت الجيش العثماني ودحرته في مواقع متعددة. ولما رن صدى هذه الحادثة في الآستانة قلقل السلطان المخلوع وأصدر إرادة سنية بإرسال الجيوش إلى كربلاء وهددها وقتل من فيها عن بكرة أبيهم. وناط تنفيذ الإرادة بعاكف باشا والي بغداد والمشير حسين فوزي باشا وكان هذا القائد عاماً للجيش فجاء الاثنان كربلاء يصحبهما نقباء بغداد السابقين وضربوا المضارب قرب المدينة، فلم ير الوالي في المدينة آثار العصيان والتمرد. وقد علم بعد البحث الطويل أن العصاة عصابة ارتكبت إثماً واقترفت ذنباً يطاردها الجيش وليس من العدل هدم المدينة وتنفيذ الإرادة السنية عَلَى سكانها وأخذ البريء بجريرة المذنب فأحجم عن تنفيذ ذلك وفاتح القائد العام فأبى هذا إلا الإصرار عَلَى تنفيذ الأوامر فنجم من ذلك خلاف بينهما فرجعا إلى الآستانة وخاطباها بالأمر وبعد أخذ ورد صدر الأمر بالعفو، فرحل الجيش عنها بعد أن قبض عَلَى مثيري الفتنة وموقدي نيرانها قادهم إلى بغداد ومن هناك ألقاهم في أعماق السجون.(83/49)
بغداد // إبراهيم حلمي(83/50)
فجر العلم الجديد
أفق إذ شارف الدجى أجله ... وودعته النجوم مرتحله
وفحمة الليل علقت سحراً ... شرارة النور فهي مشتعلة
ومقلة الفجر في انتباهتها ... ما برحت بالظلام متكحلة
لا سائر في السبيل منصرف ... في طاعة أو مباكر عمله
إلا خفير يمشي عَلَى مهل ... حمى عليه نعاسه العجله
يحيل في كفه هراوتهِ ... أو ينتفخ البوق طارداً ممله
والغيث غمر الحياء سادلة ... خيوطه من سحائب هطله
يغزل الأرض سندساً بهجاً ... فتكتسي في الربيع ما غزله
والريح رعناء تهجمها ... عَلَى زجاج الكوى ومقتتله
تشتد في عصفها لتسكله ... مقبلة تارة ومنفتله
ترومه عنوة فيعجزها ... والنور باللين نافذ خلله
ذكرت أيامنا التي سلفت ... فداخلتني صبابة ووله
كم غدوة نرشف الصبوح منها ... أطرافها بالظلام متصلة
يدير كأس الطلى مشعشعة ... فتصبح الشمس في الضحى خجله
فتحسيها من كف فاتنة ... عصيت فيها اللوام والعذله
وحتى نخال النجوم هاوية ... والأرض في مشيها بنا ثمله
ونحسب الدهر في كهولته ... والشيب غض الشباب مقتله
وأطيب العمر ما انطوى وطوى ... وقائع المرء ما عليه وله
وليس مستقبلاً نشك به ... أمانه قد تصيب أو وجله
كيف يهز الغد الفتى جذلاً ... وربما كان فجره أجله
لولا التمني لهاله غده ... وحقه أن يخاف ما جهله
أطل طفل الزمان فابتسمت ... له ثغور الخلائق الجذله
فهل يطيل ابتسامهن وهل ... يرعى الرجاء الذي لنا قبله
مروحاً حانياً عَلَى أمل ... غض أبوه الزمان قد نجله
وهل يؤاسي الجراح منعطفاً ... عَلَى أخي الوجد شافياً علله(83/51)
إذا جن الظلام أنسه ... بالبدر أو حمل الصبا قبله
وأن يخنه في نفسه عرضاً ... حقق فيمن يحبه أمله
وهل يفي أو نرى لياليه ... غاشية بالخطوب مشتمله
تمر بالناس غير مشفقة ... وبالأماني غير محتفله
سر عن العالمين محتجب ... عليه ستر للغيب قد سدله
دمشق // جرجي الحداد.(83/52)
مطبوعات ومخطوطات
الإشارات الإلهية للتوحيدي
في المكتبة الظاهرية بدمشق الجزء الأول من هذه الكتاب لأبي حيان التوحيدي صاحب المقابسات (المقتبس م1 ص302) من كبار المنشئين في عصره وأئمة العلم والأدب وكتابه في مخاطبة النفس جاء في أوله: اللهم إنا نسألك ما يُسأل لا عن ثقة بياض وجوهنا عندك وأفعالنا معك وسوالف إحساننا قبلك ولكن عن ثقة بكرمك الفائض وطمعاً في رحمتك الواسعة نعم وعن توحيد لا يشوبه إشراك وعرفة لا يخاطبها إنكار وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة نسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك فتشمت بنا من لم يكن له هذه الوسيلة إليك يا حافظ الأسرار ويا مسبل الأستار ويا واهب الأعمار ويا منشئ الأخيار ويا مولج الليل والنهار ويا مصافي الأخيار ويا مداري الأشرار ويا منقذ الأبرار من النار والعار وعد علينا بصفحك عن زلاتنا وأنعشنا عند تتابع صرعاتنا وحطة حالنا معم في اختلاف سكراتنا وصحواتنا وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا لأنك أولى بنا وإذا خفنا منك فابرح خوفنا منك برجائنا فيك وإذا غلبت علينا بأسنا منك فتلقه بالأمل فيك الخ.
وقال من فصل: أيها المحاور والصديق المجاور كيف أتكلم والفؤاد هائم بكل واد والخاطر خال من كل حاد وهاد كيف أشكو والسر ظاهر باد أم بأي شيء أتعلل وكل ما أجده مردد ومعاد أم عَلَى من اعتمد وكل أحد أراه فهو لي ضد ومعاد. أنفاسي محترقة بالحسرات ودموعي مترقرقة بين النغمات والزفرات وكبدي مشتعلة عَلَى المناظر والهيئات ويقظتي جارية عَلَى الرسوم والعادات وأحلامي عارية من كل ما له حاصل وثبات ونفسي رهينة بالسيئات مفتونة بالحسنات بالسوانح والخطرات مغبونة عن الحسنات والصالحات. الجهات من دوني منسدة والوجوه أمامي مسودة إن قلت قيل هذا زور وبهتان وإن شربت قيل هذا غرور وعدوان وإن سكت قيل هذا سهو ونسيان قليت من ابتلائي بما لا طاقة لي به ارحمني مما لا غنى لي عنه أو ليت منة طردني عن بابه أهلني لعتابه أو ليت من جرعني مرًّ من فراقه أخطر عَلَى بالي حلاوة لقائه أو ليت من غمسني في بحر البلوى طرحني إلى ساحل المنى أو ليت من حطني عن درجات المخدومين رقاني إلى قامات الخدم الخ.
وقال من رسالة: حرام عَلَى قلب استنار بنو الله أن يكفر في غير عظمة الله حرام عَلَى(83/53)
لسان تعود ذكر الله أن يذكر غير الله حرام عَلَى نفس طهرت من أدناس الدنيا لله أن تدنس بشيء مخالفة لله حرام إلى عين نظر ت إلى مملكة الله أن تحدق إلى غير الله حرام عَلَى كبد ابتلت بالثقة بالله أن تطمئن إلى غير الله حرام لع== عَلَى من لم يجد الخير إلا من الله أن يجد طمعاً في غير الله حرام عَلَى من شرف بخدمة الله أن يتضع بخدمة غير الله حرام عَلَى من ألف فَنَاء الله أن يعرج إلى غير الله حرام عَلَى من تلذذ بمناجاة الله أن يناجي غير الله حرام عَلَى من رتع في نعمة الله أن يعبد غير الله الخ.
وأكثر الكتاب عَلَى هذا النمط وهو في مجلد ضخم يغلب عليه التحريف والتصحيف.
التحفة الظريفة
في خزانة كتب عبد القادر بك المؤَيد من فضلاء دمشق.
نسخة من كتاب التحفة الظريفة الحاوية من كل نكتة لطيفة المسماة بمجموعة الحكيم جمع السيد حسن بن السيد عثمان الحكيم جمعه سنة 1888 في عصر بارت فيه صناعة الأدب وجدت القرائح وتراجعت العلوم ومن أحسن ما رأينا في آخر الكتاب تقارظ بعض أدباء عصره وفقهائه في دمشق وأكثرها شعر ضعيف ركيك فمنها تقريظ لحمزة أفندي زاده وآخر للسيد علي العمادي ولأحمد أفندي العمادي والسيد كمال الدين البكري ومحمد شاكر أفندي العمري والسيد أحمد الشمسي العمري والشيخ عمر العمري والشيخ محمد العمري والسيد عبد الفتاح مغيزل والسيد علي الشمعة والسيد خليل بن قرا مصطفى والشيخ محمد البصيري والسيد مصطفى اللوجي والسيد عبد الخالق اللوجي والسيد يحيى العطار والسيد محمد أمين العطار والشيخ محمد البصير وخليل أفندي المحاسني والشيخ محمد الطباع الحلبي والشيخ علي المجلد والشيخ صالح بن الشيخ محمد الدسوقي والحاج أحمد الرباط ومن أرق الشعر الوارد بيتان للشيخ علي الشمعة وهما قوله:
ابدى لنا حسن الشريف لطائفاً ... قد صاغها لذوي النهى مجموعا
كل المفرق من محاسن عصره ... أضحى لدى مجموعه مجموعا
وقد رتب الجامع كتابه عَلَى خمسة عشر باباً الأول في نوادر العرب والثاني في المغفلين الثالث في القضاة الرابع في المعلمين الخامس في المتنبين السادس في النحاة السابع في الأطباء الثامن في الشعراء التاسع في الأهاجي والرسائل العاشر في الأجوبة المسكنة(83/54)
الحادي عشر في نوادر النساء والجواري والمغنيات الثاني عشر في نوادر الغلمان والخدم الثالث عشر في نوادر البخلاء الرابع عشر في نوادر الطفيلية وأخبار الطعام والأكل الخامس عشر في نوادر شتى مختلفة المعنى.
ومن نوادره: خرج الحجاج بن يوسف الثقفي يتصيد فرأى أعرابياً فقال له أيها الأعرابي كيف تقول في الحجاج وأفعاله فقال الأعرابي: إيش أقول في رجل غشوم ظلوم مشؤوم ما ولي هذا القطر اشر منه لعنه الله ولعن من ولاه علينا فبينما هو كذلك إذ أحاطت به الجند فقال الحجاج: خذوا لهذا قال الأعرابي لمن يليه: من هذا فقالوا له: الحجاج فحرك دابته حتى صار بالقرب منه ثم ناداه يا حجاج قال: قل ما تشاء قال له: السر الذي كان بيننا أحب أن يكون مكتوماً فضحك الحجاج وأطلقه.
وخرج الحجاج ذات يوم متنزهاً فرأى أعرابياً فقال له: ايها العرب من خير القرب قال قريش قال ولم ذلك قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم قال: فمن أشر العرب قال: ثقيف قال: ولم ذلك قال لأن الحجاج منهم قال أتدري من أنا قال لا قال أنا الحجاج قال الأعرابي جعلت فداك أتعرف من أنا قال لا قال أنا مولى بن عامر أجن في كل سنة ثلاثة أيام وهذا اليوم أشدها فضحك ووصله وأطلقه.
وقيل خطب المنصور يوماً بالشام فقال في خطبته ينبغي لكم أن تحمدوا الله عَلَى ما وهب لكم في أيامكم فإني منذ وليتكم صرف الله عنكم الطاعون الذي كان يجيئكم في أيام بني مروان فقام إليه أعرابي كان في المسجد فقال إن الله أكرم من يجمع علينا أنت والطاعون معاً.
وقف المأمون عَلَى باب طحان فنظر إلى حمار له بدور الرحى وفي عنقه جرس فقال للطحان: لم جعلت هذا الجرس في عنق الحمار فقال ربما أدركني النوم فإذا لم أسمع حس الجرس علمت أن الحمار قد وقف فأصيح عليه ليدور قال أرأيت لو وقف وحرك رأسه بالجرس فقال ومن أين للحمار عقل مثل عقلك أيها الأمير حتى يفعل مثل هذا.
وحكي أنه أمَّ رجلٌ من الظرفاء قوماً أياماً وكانوا من التغفل بمكان عظيم وكانوا يطعمونه الخبز والكامخ لا يزيدونه شيئاً فصلى بهم يوماً الصبح فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تطعموا أئمتكم الكامخ بل لحماً وإن لم تجدوا لحماً فبيضاً(83/55)
وسمناً ومن يفعل ذلك منكم فقد خسر خسراناً مبيناً.
وقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة فإن لم تجدوا بيضاً وسمناً فسمكاً فإن لم تجدوا سمكاً فلبناً أو حليبا ولا تمخضوه تمخيضاً ومن لم يفعل ذلك فقد افترى إثماً عظيماً فلما فرغ من صلاته جاؤوا واعتذروا له عن التقصير في حقه وإنه لم يكن عندهم خبر بهذه الآيات العظيمات المومى بها في الأئمة ثم سألوه في أي سورة هذه الآيات الشريفات فقال لهم في سورة المائدة في حزب الأكل لأي شيء سميت سورة وهي تنبئ عن مثل هذا كثير.
والكتاب عَلَى هذا النمط وفيه من الحكايات ما لا يصح أنم يقرأ لكل إنسان لعدم الإلف بأمثاله في هذا العصر ومن الأشعار التي رواها قصائد هجوية لمصطفى بك الترزي وأهاجي عبيدي باشا وفيه رسالة لرجب الحريري مداعباً صديقاً له يقال له ابن الخليفة في بعلبك ورسالة الوهراني التي كتبها عَلَى لسان بغلته وعلقها في عنقها وسيبها في دار الأمير عز الدين ابن منوسك (المقتبس المجلد الأول) ورسالة أبي نواس الهزلية إلى بعض أصحابه ورسالة ابن الطليوني إلى القاضي عمر المغربي ورسالة أبي بكر الخوارزمي إلى البديهي إلى غير ذلك من النوادر والأشعار.
لغة العرب
يسرنا أن نرى الأعمال العلمية تنمو النمو المطلوب في بلاد العرب ولاسيما في مصر وتونس والعراق والشام أكثر الأقطار العربية مدنية وأقدمها في الأخذ بمذاهب العلم والتعليم. ومجلة لغة العرب لصديقنا الأب أنستاس الكرملي هي في مقدمة ما يفاخر به من الأعمال التي ظهرت في عهد الحرية الصحافية في الشام والعراق فإن المقالات التي تنشرها رصيفتنا في اللغة والنقد الأدبي وتاريخ العراق وعمرانها عَلَى جانب عظيم من التحقيق حري بأن يخلد في خزائن الكتب دليلاً عَلَى حالة العراق العلمية في هذا العهد وقد بلغ فيها صاحبا في مدة لم تبلغ الحولين مبالغ المجلات التي مضى عليها سنين كثيرة تعاني البحث والنقل وزادت أنها علمية محضة لا تتعرض للأبحاث الدينية فجدير بالمتأدبين والمستنيرين أن يستفيدوا مما تنشره الشهر بعد الشهر لخدمة الآداب العربية وأن تعد في الندية العلمية في جملة حسنات المحسنين في التأليف الذين يقدمون عَلَى خدمة العلم والأدب بعد أن يدرسوا موضوعاتهم ويمرنوا فيها أعواماً طويلة ليدخلوا البيوت من أبوابها ولو(83/56)
كتب العامة مجلاتنا التي صدرت منذ أربعين سنةً إلى الآن يكون منشئوها أكفاء لعملهم لما بارت بضاعة العلم هذا البوار المخجل ولنفعت في تثقيف العقول أضعاف أضعاف ما نفعت.
كتاب طبقات الأمم
للقاضي أبي القاسم صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462هـ نشر الأب
لويس شيخو طبع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة1912
(ص124).
هذا الكتاب النفيس الذي وفق رصيفنا منشئ مجلة المشرق إلى نشره تباعاً في مجلته هو أشبه بفهرست ابن النديم وقد أحسن الناشر نشره وطبعه وتعليق حواشي عليه عَلَى عادته في معظم ما نشره في كتب العرب. ومن هذا الكتاب يعرف الإنسان اشتغال العرب بالعلوم المختلفة وينصفهم ولا يغمطهم حقهم. وقد كنا في أحد إعداد هذه السنة أشرنا ما وقع للأب شيخو من التحريف وصححناه بما هدانا إليه النظر والفكر فتفضل الناشر المنوه به بإضافة بعضه إلى آخر كتاب الطبقات عَلَى عادة الباحثين المصنفين في إثبات كل عمل لعامله لا كالذين يحد بهم ضيق عطنهم إلى الاستئثار بما سبق له غيرهم ليقال أنهم هم كل شيء وغيرهم لا شيء وفق الله الناشر إلى نشر أمثاله لخدمة الآداب والمعارف.
أخبار وأفكار
هو عنوان كتاب وقع في 227 صفحة لمؤلفه أمين أفندي الغريب صاحب جريدة
الحارس
وهو مجموعة أدب وتاريخ نشره في جريدته في أوقات مختلفة وتم العمل. وحبذا لو حذا حذوه غيره من كتاب الصحف فإن في مقالاتهم ما ينبغي حفظه لتتداوله الأيدي في صورة الكتب عَلَى الدهر.
تاريخ بعلبك
أهدانا ميخائيل أفندي موسى ألوف نسخة من الطبعة العربية الثالثة من كتابه تاريخ بعلبك وفيه وصف مدقق لتاريخ هذه المدينة ولاسيما قلعتها الشهيرة نقلاً عن أصح المصادر(83/57)
الإفرنجية والعربية والتجارب الطويلة التي وقعت للكاتب وفي الكتاب صور بعض التماثيل والأحجار وما وجد عليها من النقوش والكتابات الأثرية مما دل عَلَى فضل وتدقيق وكان حرياً بأن يزدن به المكاتب. وأحق الناس بمعرفة تاريخ بلد أهله. فنشكر المؤلف عَلَى هذه التحفة التي طبعة عشر مرات باللغات الأجنبية مما دل عَلَى الإقبال عليها للانتفاع مما حوت.
دروس الأشياء
هو مختصر في هذا الفن فيه أبحاث عن الإنسان والحيوان والنبات وطبقات الأرض والحكمية الطبيعية والكيمياء تأليف فوزي بك العظم وسليم أفندي هاشم من أدباء دمشق وقد حلياه باثنين وثمانين شكلاً وبسطا عبارته بسطاً لا يعلو عن مفهوم المبتدئ فلنشكرهما عَلَى عنايتهما ونرجو لهما التوفيق إلى إكمال هذه السلسلة النافعة لطلاب المدارس ولاسيما الأهلية.
رسائل مختلفة
(أمثال الشرق والغرب) ليوسف أفندي توما البستاني
اختيارات شيخ الإسلام ابت تيمية جمعها تلميذه ابن قيم الجوزية
طبعت بمطابع روضة الشام
رسالة في مسائل الإسلام داود الظاهري جمعها الشيخ محمد الشطي المتوفى سنة 1317 طبعت بمطبعة روضة الشام.
ديوان تذكر الغافل عن استحضار المآكل لمحمد أفندي الخالد جلبي الحمصي جعل ريعه إعانة لبناء مدرسة الاتحاد الوطني بحمص.
طبع بمطبعة حماة سنة 1330.
كتاب الجرح والتعديل للشيخ جمال الدين القاسمي نشر في مجلة المنار بمصر.
كتاب العمل بالإصطرلاب لعلي بن عيسى المنجم من أصحاب الهيئة في القرن الرابع للهجرة عني بنشره في المشرق الأب لويس شيخو اليسوعي طبع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1913.
رسالة الخط الجديد ومنافعه وهو دعوة إلى كتابة الحروف منفصلة طبع عَلَى نفقة جمعية(83/58)
إصلاح الحروف ونشر المعارف في الآستانة سنة 1330.(83/59)
أخبار وأفكار
البشر والهجرة
يكاد يكون ف درجة الثبوت أن البشر نما عددهم منذ عرف التاريخ عَلَى الرغم مما ننالهم من الطوارئ التي ذكرها التاريخ من الحروب والأوبئة أو الأسباب الأخرى التي تفقر النمو وتقال التناسل ومع هذا كان التناسل كثيراً في أوربا منذ بضعة قرون وإن كان يكثر موت الأولاد في الطفولية أكثر من اليوم وتلتهم الأديار جانباً من الرجال والنساء يتعطلون عَلَى التناسل وليس ترك الأرياف والقرى ونزول المدن مقصوراً عَلَى بلد خاص أو صقع معيّن بل هو ظاهر في مكل مكان من البلاد الأوربية القديمة مثل سويسرا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا ونروج والبلجيك وهولاندة ظهوره في البلاد التي أخذ سكانها بالنمو مقل الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا فترك الأرياف عام يشترك فيه جميع السلتيون: كاللاتين والسلافيون والروس والبلقانيين والسكسونيين كالإنكليز ولا يظهر أن للأوضاع السياسية والاجتماعية دخلاً فيه وما من حكومة من الحكومات خالية منه حتى أن طريقة تقسيم الأملاك لا تمسك الإنسان في الحقول وليس في قوانين المواريث ما يظهر أنه أسمى من غيره فقد أخضعت لسلطان الهجرة حتى البلدان المتماسكة الأجزاء مثل فرنسا وإنكلترا والمجر وروسيا والولايات المتحدة وأوستراليا والأرجنتين فإن أصقاعاً كبيرة استعمرت منذ زمن طويل في الولايات المتحدة ولاسيما ولايات إنكلترا الجديدة قد خضعت لهذا النظام فترك أهلها قراهم لينزلوا الحواضر يسكنونها فنمت بذلك المدن نمواً هائلاً بالنسبة لمجموع البلاد فقد سكن مدينة بونس أيرس عاصمة الجمهورية الفضية مليوناً وثلثمائة ألف في حين بلغ سكان جميع هذه البلاد ستة ملايين نسمة تدخل فيها العاصمة ومساحة أراضي الأرجنتين خمسة أضعاف مساحة فرنسا وهكذا تجد النمو بادياً في مدن الولايات المتحدة كنيويرك وشيكاغو وفيلادلفيا وسان لوي وسنسيناتي وبوسطن وسان فرنسيسكو وستل وأورليان الجديدة كما هو بادٍ في ملبورن وسدني من عواصم أوستراليا.
هذا ما قاله أحد الاقتصاديين في جريدة الاقتصاد وعقب عليه بقوله تحمل رؤوس أموال كثيرة من العالم القديم أي من أوربا تستثمر في العالم الجديد فالمليون من الفرنكات يستثمر في أرض فرنسا فيعود بربح سنوي يختلف بين ثلثمائة أو مائتي ألف فرنك إذا حسبنا جميع(83/60)
الأيدي التي تتناوله فتربح منه عَلَى حين لو جرت تنمية هذا المليون في البلاد الأجنبية لا تعود من ال فائدة بأكثر من 40 إلى 45 ألف فرنك.
إن من يهاجر إلى القاصية كمن يتركون قراهم ليستوطنوا المدن المجاورة ليبحثوا عن رفاهية أسمى مما تمتعوا به ويظنون بأنهم يحققون أمانيهم في النجاح بانتقالهم إلى محيط يصرفون فيه قولهم بما يعود عليهم بالنفع أكثر. ومعنى ذلك يدور عَلَى البحث عن أجرة أكثر وهذا هو الباعث الأول عَلَى هذه النقلة بل الباعث الوحيد فالأجور هي العامل الوحيد الذي يدعو الناس إلى التنقل في عصرنا ما أحب الهواء الجيد والحياة الاجتماعية ولطف الأخلاق وسلاسة العمل فليس لها محل من الإعراب في جملة هذه الحال.
ترى العامل في الولايات المتحدة وأوستراليا ينتقل من المدن ال القرى وبالعكس لأن الأجور واحدة في الزراعة والصناعة وكلها رابحة والقاعدة العامة في ذلك أن المدن والقرى تمسك السكان متى كانت أجورهم مضمونة وحالتهم مأمونة فقد قل المهاجرون من ألمانيا منذ كثرت صناعتها ونمت بحريتها وتجارتها ويقل المهاجرون من المجر وروسيا وإيطاليا متى حسنت الزراعة فيها وانتظمت أسباب التملك وجوّدت الأسباب الاقتصادية أي الأجور فإذا كانت البلاد الجديدة تستميل إليها المهاجرين بمئات الألوف بل الملايين فذلك لأنها توزع أجوراً عالية وأور با وإنكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وروسيا والمجر تبقي اليد العاملة في الحقول إذا ارتفع سعر الأجور الزراعية وذلك لا يكون إلا بتنويع الزراعة وتكثير المحاصيل والمواشي وتكثير الإيراد ولو قلت أسعار الحاصلات.
إن هولاندة التي تعتبر مجموعها أرضاً فقيرة لأن في استثمارها صعوبة كثر سكانها اليوم كثرة زائد بفضل عملهم بحيث يحق عَلَى الهولانديين ما قاله فرنكلين بالقرب من رغيف الخبز يولد رجل والمرء كلما دفعته الحاجة يحسن الاحتيال عَلَى المعاش وأميركا وأستراليا إلى اليوم لم تستثمر من أرضها خيراتها كلها بل إن خصبها هو المساعد فقط عَلَى العكس في غربي أوربا فإن العمل هو الذي يستثمرها وبعد فإن المجتمعات لا تتحرك بالنظريات بل بالعمليات وكل نظرية تخالف المصالح الخاصة المبنية عَلَى العدل لا يتأتى أن تجري في العمل إلا إذا جعلت هذه المصالح قيد النظر.
غلاء المعيشة(83/61)
ذكرت إحدى الصحف الإفرنجية أن غلاء المعيشة ابتدأ سنة 1895 فلم يلبث في السنين الأخيرة أن صار فاحشاً جلب نظر رجال الحكومات والاقتصاديين وأحدث في جميع الأمم الصناعية قلقاً بين العملة عَلَى حين أن غلاء النقود أحدث اضطرابات شديدة في مصالح التجار المالية فزادت السعار في إنكلترا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وكندا وربما كان الغلاء في هذه المالك أكثر مما هو في بريطانيا العظمى وهذا ناشئ من زيادة الرسوم الجمركية عَلَى المصنوعات والغلات فالواجب إذاً أن نعرف أسباب هذا الارتفاع في الأسعار. فقد نظر رجال السياسة والتجار والاقتصاديون بما بدا لهم من ظواهر هذه المسألة فاقنعوا بأن السبب الوحيد هو زيادة محصول الذهب وهذا السبب قد يمكن قبوله لأن الذهب زاد محصوله زيادة هائلة من ذ سنة 1890 في مناجم الترنسفال خاصة فصعد المستخرج منه في عشرين سنة من 82. 589. 000 جنيه إلى 113. 000. 000 جنيه سنة 1900 ومع هذا فالواجب أن ننظر بأن معظم الذهب لا يتداول نقوداً بل يدخل في الصناعات وقد استغرقت منه في السنين الأخيرة كل من الهند ومصر واليابان وأميركا الجنوبية والمكسيك كمية وافرة.
وقد ادخرت فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة كميات وافرة من الذهب احتياطاً ومع هذا فإن النقود بدل من أن تعتدل أسعارها ارتفعت عَلَى الرغم من كثرة الذهب فغلاء السعار ينسب إلى نمو طريقة الكريدتيو فإن الموارد الاقتصادية في بلد وأراضيها الخصبة وبواخرها ومعاملها وأدواتها ومادتها وأموالها أي مجموعة ثروتها هي أساس الكريدتيو التي ينظر إليها أرباب المصارف والماليون لا وفرة الذهب وكثرة محصوله.
وإنا إذا أليقنا النزر عَلَى ماضي أعمال العالم خلال الخمسة عشرة سنة الأخيرة نرى أنه حدث مع التوفر عَلَى الاستزادة من محصول الذهب عناية فائقة في المشاريع الاقتصادية النافعة وكثرت أنواعها في البلاد كلها. وأخذت البرازيل والأرجنتين وسائر ممالك أميركا كثيراً من رؤوس الأموال الأوربية وكان من الثروات الطبيعية في غربي كندا والهبة التي هبت في صناعة الولايات المتحدة ونهضة الصناعة اليابانية وكل ما كان من النهضات عَلَى هذا النحو. وقد جاء ذلك في آن واحد مع نمو محصول الذهب. ولا تنس تأثير الموارد الجديدة في حركة التجارة عامة وكان أول نتيجة لما تم قلة رأس المال في المسائل(83/62)
الداخلية وغلاء أسعار الفائض وهذا هو العامل الأكبر الذي اثر في التجارة ثم أن بعض الحوادث قد قدرت كثيراً من الحاصلات الصناعية في العالم وقلت عدد العاملين وذلك مثل حرب الترنسفال ومنشوريا وما اقتضى لهما من النفقات العسكرية في العالم بأسره. فبواسطة التجنيد حيل ملايين من العاملين وبين أعمالهم واشتغل من جهة ثانية ملايين من أرباب الصنائع في إعداد العدد الحربية فنتج من ذلك غلاء الأسعار. وإذا اعتبرنا سرعة ارتقاء الصناعات الزراعية نشهد أن جزءاً عظيماً من ريع البلاد الغية يصرف في الرفاهية والتبرج ثمن أدوات الزينة مما يؤَثر في أسعار المحاصيل بوجع عام ثم أن إقراض الأموال للبلاد الأجنبية قد زاد العملة التي تعمل بأيديها في أميركا الشمالية والجنوبية فانتهى بهجرة الناس من أوربا بكثرة زائدة. ولكن التعديل سيجري بين العرض والطلب ولا مناص من تعديل الأسعار عندما ترتقي الزراعة وموارد المناجم في الأصقاع الجديدة فتكر بذلك المآكل والمواد الأولية التي تزيد عن معدل الذهب المضروب نقوداً تتداوله الأيدي.
السود والأميون في أميركا
أثبت الإحصاء الأخير في الولايات المتحدة مسألة من أهم ما عرف في أمر الزنوج وارتقائهم في التربية فإن زنوج الجنوب لم يصلوا في دور من أدوار تاريخهم إلى مثل درجتهم اليوم في القراء والكتابة فزاد عدد المتعلمين منهم في العشر سنين الأخيرة زيادة كلية. لما قام إبراهيم لنكلن وحرر العبيد منذ 49 سنة كان عدد غير الأميين في الزنوج 3 أو 4 في المئة فأصبح عدد القارئين والكاتبين اليوم 70 في المئة وكان عدد الأميين من الزنوج سنة 1900 44 في المئة فأصبح اليوم 30 وهذا الارتقاء يزيد كثيراً عن تقدم البيض في أميركا لأن معدل قلة الأميين في البيض 6 و1 في المئة في حين كان في الزنوج 14 في المئة.
وقد كان معدل المتعلمين من الزنوج في الولايات المتحدة التي لا يلقون فيها مقاومة أقل من معدلهم في الولايات التي يصادفون فيها أنواع التسهيلات فاستدل الباحثون بأن الضغط عَلَى الزنجي يعلمه وحرمانه من التمدن هو من أعظم الدواعي لإقباله عليه وقد رأوا فروقاً عظيمة في نفقات مدارس الزنوج ومدارس البيض وأجور الأساتذة وعددهم والتعليم الذي(83/63)
يرغب فيه الزنوج هو الابتدائي أما الثانوي فقليل من يقبل علي منهم، وعلى قلة العناية في مدارس الزنوج في القرى من حيث النظافة والصحة فإن قسماً كبيراً منهم يرغب في إتقان الزراعة والصنائع اليدوية وفن الطبخ والخياطة وقد جعلوا التعليم عندهم من الدين عَلَى نحو ما ينظر إليه عند الإسرائيليين فترى الكنيسة والمدرسة في كل مكان جنباً إلى جنب وفيها يتعلم الزنجي ويرتقي وهم أنفسهم يبذلون لتعليم أولادهم الأموال الطائلة وقد أنفقوا في هذا السبيل منذ وقع تحريرهم 30 مليار دولار، ولذا أصبح في الغرب عدد الاجتماعيين والاقتصاديين لا يقولون بأن للجنس تأثيراً في المرء بل أن للتربية المقام الأول وإذا أريد الانتفاع بالزنجي حقيقة فمن اللازم تربيته والقيام بما يتمم له حاجياته في الحياة.
حالة العثمانية الاقتصادية
كتب أحد مراسلي الصحف في العاصمة العثمانية مقالة شرح فيها مركز العثمانية الاقتصادي مستنداً عَلَى أحدث التقاويم قال:
السكان والمساحة: إن مجموع مساحة العثمانية مليون و150 ألف ميل مربع منها 65 ألفاً مساحة العثمانية في أوربا و680 ألفاً مساحة العثمانية في آسيا و405 آلاف مساحة العثمانية في أفريقية أما عدد سكانها فيبلغ في بعض التقاويم 30 مليوناً وفي غيرها ولعله الأصح 25 مليوناً يتوزعون هكذا نحو 6 ملايين في أوربا و17 مليوناً في آسيا ومليون ونصف في أفريقية.
الأراضي الزراعية. أما الأراضي المزروعة من هذه البلاد الواسعة فبلغت (حسب التقويم الرسمي المطبوع سنة 1908) 5344 ميلاً مربعاً في أوربا أي أكثر قليلاً من 8 في المئة من مجموع مساحة العثمانية في أوربا وإليك بيان ما في كل ولاية منها بالأميال المربعة.
أدرنة 1690
قوصوة 1347
الآستانة 0014
سلانيك 959
يانيا 0399
مناستر 0803(83/64)
شتلجة 132
جتاجه 0132
والمجموع 5344
والقسم الكبر من هذه الأراضي مختص بزراعة الحبوب وهو يبلغ 4705 أميال مربعة أي 88 من المئة من المجموع.
أما مساحة الأراضي الزراعية في الأملاك العثمانية في آسيا فتبلغ 27027 ميلاً مربعاً أي 4 في المئة من مجوع مساحتها و85 في المئة من هذه الأراضي الزراعية مختص بزراعة الحبوب ومساحة الأراضي الزراعية في عثمانية أفريقية 690 ميلاً مربعاً فقط أي نحو سدس في المئة من مجوع مساحتها و98 في المئة منها لزراعة الحبوب.
الصادرات والواردات. اعتمد كاتب هذه المقالة في تبان صادرات الدولة ووارداتها عَلَى تقرير حديث أصدرته الحكومة في بيان مركز الدولة العثمانية التجاري حتى 31 آذار سنة 1911 فبلغ فيه مجوع الواردات التي يؤخذ منها رسوم كمركية 35. 509. 509 ليرات والواردات التي لا يؤخذ عنها رسوم (كالتي تختص بالسفراء والقناصل والمعاهد الدينية والعلمية والأدوات الزراعية الحديثة وغيرها) 2150648 ليرة وبلغت واردات التنباك والدخان 114757 ليرة.
أما الصادرات من العثمانية من البضائع ذات الرسوم فبلغت 9. 414. 068 ليرة ومن البضائع التي لا رسوم عليها 125496 ليرة ومن الخمر والملح المسلمة لإدارة الديون العمومية 167748 ليرة ومن الدخان السلم لشركة حصر الدخان 2766876 ليرة ومجوع الصادرات كلها 22474188 ليرة.
وفي الجدول الآتي تفصيل هذه الصادرات والواردات ذات الرسوم حسب المراكز الكمركية الرئيسة.
صادرات واردات المراكز الكمركية
4193960228689الآستانة وملحقاته
145385304627345سلانيك
060966291932309دده أغاج(83/65)
000585600823267بروزة
611844804721841إزمير
13958731145514الإسكندرونة
187656604961603بيروت
093093601946527بغداد
161043402227185طرابزون
037399900587480طرابلس الغرب
130158000482566الحديدة
004290100666282جدة
19464068305. 6508المجموع
السكك الحديدة: وهذا بيان السكك الحديدية الممتدة في أنحاء الدولة في أوربا وآسيا.
(1) في أوربا كيلومتر
الآستانة - مصطفى باشا 359
أدرنة - دده اغاج149
بابا إسكي - قرق كليسا 045
سلانيك - أسكوب243. 090
أسكوب - مترويجة119. 0800
= زيبفتشه 085. 109
= الآستانة510. 589
المجموع في أوربا1730. 454
(في آسيا)
حيدر باشا - أزميد09. 150
أزميد - أنقرة 485. 561
إسكي شهر - قونية445. 443
قونية - أركلي بورغدو200(83/66)
بورغدو وحلب (تحت البناء) 800
فرعان صغيران 014
أزميرـ قصبة وتمديداتها 169
مغنيسيا - صوما092
الأشهر أفيون قره حصار 352. 616
صوما - باندرما (تحت البناء) 190
أزمير - آيدين وتمديداتها533. 903
بيروت - دمشق149. 204
دمشق - حوران100
رياق - حلب 331
حمص - طرابلس 104
مرسين طرسوس أطنه 067
يافا القدس وتمديداتها087
مودانية بروسة042
دمشق - المدينة1032
= حيفا 163
المجموع في آسيا5658. 887
الأموال الأجنبية في الممالك العثمانية
نشرت مجلة الشرق الأدنى بياناً للأموال الأجنبية المستعملة في بلاد الدولة العثمانية يظهر منه أن هذه الأموال تبلغ نحو مائة مليون جنيه أكثرها للفرنسويين والألمانيين والإنكليز كما ترى في الجداول التالية.
القسم الأول سكك الحديد
للإنكليز منها السكة بين إزمير وآيدين ورأس مالها4587747 جنيهاً
للألمانسكة الأناضول== 11800000 جنيه
==بغداد== 7080000 =(83/67)
==سلانيك مانستر== 3200000 =
==مرسين طرسوس آيدين== 415500 =
والمجموع 22495500
للفرنسويين سكة يافا والقدس 96000
==مودانيا بورسة153000
==سلانيك والقسطنطينية 6800000
==إزمير وقصبة 5702400
9289340
للنمسويين سكة الحديد الشرقية2000000
بنك سكة الحديد الشرقية 3500000
سندات سكة الحديد الشرقية وذات النصيب 15632540
والمجوع الكلي 67555127
القسم الثاني سكة الترامواي وما أشبهها.
شركة سكة الترامواي في الآستانة618180
= الترامواي الكهربائي في سلانيك 240000
= ترامواي دمشق والنور الكهربائي 240000
==بيروت== 336000
==إزمير== 22720
شركة سكة النفق التونيل من غلطة إلى بك أوغلي 250000
1734172
القسم الثالث شركات البواخر.
شركة البواخر الخيرية181818
= الرفاصاتورؤساء المينا 040000
= بواخر قرن الذهب090909(83/68)
= بواخر إزمير045454
171853
القسم الرابع المرافئ والأرصفة.
شركة رصيف الآستانة1653000
= مرفأ بيروت0540000
= رصيف إزمير0440000
= مرفأ سلانيك0520000
= رصيف سافز0250000
= مرفأ حيدر باشا0640000
4025000
القسم الخامس شركات الماء والغاز والكهربائية.
شركة مياه الآستانة (تركوس) 280000
==بيروت 360000
==إزمير 270000
==إسكدار وقاضي كوي 067180
==سلانيك 380000
==غاز الآستانة230000
==إسكدار 168860
==بيروت 258000
==إزمير 125000
= الكهربائية بسلانيك وإزمير100000
2240040
القسم السادس المصارف.
المصرف السلطاني العثماني 10000000(83/69)
المصرف العثماني الأهلي 1000000
مصرف سلانيك800000
المصرف الألماني الشرقي 1600000
مصرف فلسطين الألماني 250000
مصرف العثمانية التجاري الصناعي 500000
الشركة التجارية الشرقية 120000
مصرف مدللى318180
شركة بنك الأنجلو لفتين 100000
شركة الأنجلو فلسطين 100000
14788180
القسم السابع شركات المعادن
شركة بالياقرادين المعدنية 164000
= كسندر المعدنية180000
= هرقلية للفحم الحجري 125972
= قراسون للتعدين200000
= سلنتزيا 320000
= البورق 270000
2185720
القسم الثامن شركات التبغ والتقطير.
شركة الرجي1600000
= التنباك 700000
= التبع الشرقي الجارية 250000
= سلانيك التجارية200000
= بومنثي للتقطير160000(83/70)
2910000
القسم التاسع
شركة التأمين العثمانية 460000
شركات أخرى صناعية وتجارية الخ 287000
وبناء عَلَى ذلك يكون مجموع هذه الأموال كلها 99086420 جنيهاً وهاك خلاصتها.
القسم الأول سكك الحديد رأس مالها37505127 جنيهاً إنكليزياً
= الثاني الترامواي والأمتيبوس1734172 =
= الثالث شركات الملاحة 358181 =
= الرابع شركات المرافئ والأرصفة 4025000 =
= الخامس شركات الغاز والماء والكهربائية 2240040 =
= السادس المصارف 14788180 =
= السابع شركات التعدين 2185720 =
= الثامن شركات الدخان والاستقطار 2910000 =
= التاسع شركات التأمين 460000 =
= شركات مختلفة2870000 =
وليس للإنكليز في هذه الشركات كلها إلا 10515497 ليرة أي أقل من عشرين مليون ليرة والباقي للفرنسويين والألمانيين والنمساويين.
أندية العراق
1ً نظرة في نهضة العراقيين الحديثة.
عصور خلت، وأدوار مضت عَلَى هذا القطر النكد الحظ، وهو يتقلب عَلَى الجمر من شدة ما أصابه في الأزمنة الأخيرة من الصدمات ونزل به من الكوارث والبلايا، وناله من المصائب والرزايا، بعد أن تقلص ظل الخلافة العباسية، فانهارت دعائم تلك البنايات الشامخة، واندركت تلك الصروح الشاهقة، وتزلزلت أركان ذلك العرض الفخم، وانقلب بصاحبه إلى الحضيض الأسفل، فغدت البلاد تندب رجالها، والعروش أصحابها، والمدارس(83/71)
طلابها، حتى خلت الديار من كل معهد علمي، وأقفرت الربوع من كل أثر صناعي، ولولا أن تواريخ تخبرنا بمدنيتهم البائدة، وآثارها نرها كل يوم بأعيننا تنطق بعظمتهم، وضخامة ملكهم، وخطورة حضارتهم، فتذكرنا بعزنا الدابر، ومجدنا الغابر، لانقطع حبل الأمل من كل نهوض، وبات الباحثون يجزمون بأن استرجاع ذلك المجد الأثيل، ضرب من الأماني والغرور.
وبعد فإن العراق لم يقصر في مجاراة الأمم الحية التي أخذت تحارب الجهل بما في وسعها، وتندفع اندفاعاً عظيماً إلى الوصول إلى الدرجة المطلوبة من المدنية والعمران، لو لم يحل بينه وبين ما يتمناه استبداد المستبدين، وظلم الظالمين الذين اخذوا عَلَى عاتقهم محاربة الأمة وبخسها حقها، واحتجان مرافقها، ووضع العقبات الكؤود في طريقها وسيرها نحو العمران والرقي ولاسيما في العراق من الرجال العظام من شهدت بفضلهم، وغزارة علمهم كبار الأمم.
2ً آثار النهضة وبوارقها.
في العراق اليوم نهضة أدبية اجتماعية تبشرنا بمستقبل زاهر، فقد ثبت لدى العراقيين أنه قد جاء اليوم الذي تظهر فيه مقدرة الأمم، وحياة الشعوب والوقت الذي يجب أن ينبذ فيه أولو الغايات من كل ملة غاياتهم، وينزع فيه الأولياء إلى إيثار المصلحة العامة، ويتحرك فيه الجامدون ليعلم إنهم أحياء، والحياة اليوم مضمونة بالاجتماع والاجتماع إنما يتم بالتعاضد عَلَى جلب الخير، ودفع الضير، ومما يستدل عَلَى وجود تلك النهضة اندفاع الجماعات من الطبقة المنورة من كل ملة ونحلة إلى تأسيس أندية أدبية، وتأليف جمعيات علمية، تضم شتاتهم، وتجمع متفرقهم، وتقرب بعضهم من بعض، وتبث المبادئ القويمة، والتربية الصحيحة بين الناشئة الحديثة بأن تجرد الأمة منها سيوفاً صقيلة تقارع بها أعداءها وتفتخر بها إذا فاخرت كل أمة بناشئتها، ويرجع تاريخ هذه النهضة الأدبية، والعلمية معاً إلى أوائل الدستور وها نحن ذاكرون ما في بغداد وما يجاورها من المواطن والربوع من أندية العلم والسياسة شارحين للقراء ما يهمهم من تاريخ تأسيسها وعدد أعضائها، ومكانتها بين القوم وما ظهر لها من الاثار.
3ً نادي الاتحاد والترقي.(83/72)
ليس من يجهل تاريخ هذه الجمعية التي حارب رجالها الحقيقيون سلطة عبد الحميد فصبروا عَلَى الضيم، وعرضوا بنفوسهم للهلاك وأملاكهم وثروتهم للنهب والسلب ففارقوا أوطانهم عَلَى أكتنفتهم سماؤها، وجمعتهم أرضها هرباً من سلطان المستبدين ووطأة سلطته عليهم، ومع ما كانوا عليه في ديار الغربة من قلة الأنصار وضيق أيديهم لم ييأسوا من تخليص هذه الأمة من تلك السلطة الجائرة، ولم يلبثوا ردحاً من الزمن إلا واستمالوا عظام رجال الدولة إلى تأييد مبادئهم ونشر أفكارهم، وقد عظم أمرهم جلالة وازداد شأنهم خطورة بدخول كثير من الضباط وقادة الجيش في حزبهم، فتوصلوا بهؤلاء الرجال إلى استمالة الجيش كله وتنفيذ مقرراتهم، ولما تم الأمر لهم أعلنوا الدستور في 10 تموز سنة 1908 في مناستر غير ملتفتين إلى معارضة عبد الحميد ورجاله، عند ذلك استبشرت الأمة وتلقت أفعالهم بارتياح وفرح لا مزيد عليهما فتأسست لهذه الجمعية أندية في كل ولاية ولواء بل في كل قضاء وناحية منذ ذلك التاريخ، وكان عدد أعضاء الاتحاد بادئ الأمر يناهز ألفي سنة كلهم من سادت البلاد وكبارها وعلمائها وأشرافها، ولكن هذا العدد يتناقص رويداً رويداً حتى لم يبق فيها إلا بعض أناس تمسكوا بمبادئهم، ولم يزل النادي مفتحة أبوابه إلا أن الترددين إليه قليلون ولما عاد أمرهم إلى النجاح عاد أغلب الذين كانوا قد تبرأوا منه.
4ً نادي الحرية والائتلاف.
كانت قوة المعارضين في السنة الأولى والثانية من إعلان الدستور ضعيفة لا يعبأ بها، وذلك لشدة شغف الناس بالدستور، ومكانة ثقتهم برجال الاتحاد، ولما دخلت السنة الثالثة قويت شوكة المعارضين بما انضم إليهم من شبان العرب الأذكياء وقادة أفكارهم، وكان لهم في المجلس ما يناهز 50 نائباً أكثرهم مبرزون في فنون الخطابة، ويتضلعون من علوم الاجتماع وانضم إليهم كثيرون من نواب العناصر غير المسلمة لاشتراك مصالحهم وارتباط مقاصدهم وألا وهو إعطاء العناصر حقوقها فأخذت فكرة المعارضة منذ ذلك الحين تنتشر انتشاراً رائعاً في معظم الأقطار العثمانية وكانت مقصورة عَلَى بعض شبان الأمة ممن رضعوا أفاويق العلم وتشربت قلوبهم بالمبادئ الحرة، ولكن ما لبث ذلك زمناً قصيراً إلا وعم سائر الطبقات، وشعرت الأمة بأسرها بضرورة تقوية المعارضين الذين انشأوا حزباً(83/73)
دعوه أولاً باسم الحزب الحر المعتدل ثم أطلقوا عليه ثانياً اسم حزب الحرية والائتلاف فتأسس لهذا الحزب المعارض نواد عظيمة فرعية في ربوع مختلفة منها نادٍ وأنشئ في البصرة برئاسة مبعوث البصرة ومقدام العرب السيد طالب بك النقيب وفي ألبانيا بعض ولايات الأناضول أقيمت الحفلات وأعلنت المسرات بتأسيس شعب له.
وفي سنة 1329 أسس فرع لحزب الحرية والائتلاف في بغداد فتهافت الأدباء عَلَى الانخراط فيه حتى دخله في أيام قلائل ما ينوف عَلَى 300 نسمة كلهم من أرقى طبقات بغداد علماً وفضلاً.
ومن مبادئ هذا الحزب، منح العناصر حقوقها المغصوبة وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وتوسيع مأذونية الولايات أي إعطاؤه اللامركزية فكل ولاية تتصرف بشؤونها وتعمل ما ينهض بها ويجعلها في مصارف البلاد الراقية بدون مراجعة الآستانة وبعبارة أخرى إدارة البلاد عَلَى النوع الذي كان عليه بلاد النمسا لتعدد عناصرها واختلاف شعوبها كالبلاد العثمانية، ومنها: تعين ولاة عارفين لغات أهل البلاد وإن لم يكونوا من أبنائها وجعل التدريس باللغة المحلية وغير ذلك من المبادئ الحقيقية وغير ذلك من المبادئِ المنيفة، مالو عمل بها منذ إعلان الدستور لكانت أوطاننا في مقدمة الأوطان.
هذا ما لنا من الأندية السياسة أي اثنان فقط والآن ننتقل إلى تعديد الأندية العلمية فنقول:
1ً النادي الوطني العلمي.
وهو ناد علمي دأبه وراء ما ينهض بالعرب ويحكم عرى رابطتهم، ويقوي جامعتهم، ويضم شتاتهم ويجمع متفرقهم أسسه سنة 1329هـ 1911م جماعة من أرقى طبقات الأمة الإسلامية في العراق، وأكثرهم ممن درسوا في المعاهد العلمية الكبرى وجابوا البلاد العربية في الطول والعرض، ووقفوا عَلَى أسرار تقهقرها، وقد سنوا لهم نظاماً طبع سنة 1330 في مطبعة الآداب ودنوا فيه مقاصدهم وغاياتهم وإليك ما جاء في المادة الثانية من ذلك النظام بنصه:
مقاصد هذا النادي نشر العلم في أنحاء العراق بأحداث مكاتب وطنية مختلفة، وبث التربية القويمة بين الناشئة، ومعاونة المحتاجين عَلَى التحصيل وتسفير الطلاب المعوزين إلى دار السعادة وأوربا وتعيين أساتذة لتدريس اللغات الست: العربية والتركية والفارسية(83/74)
والإفرنسية والإنكليزية والألمانية وتعيين طبيب خاص لمعاينة المحاويج وإعطاؤهم الأدوية اللازمة مجاناً وتعيين واعظ من أجل العلماء لوعظ العامة وتعليمهم أحكام الدستور التي لا حياة لنا من بدونها ولفت أنظار الناشئة إلى المذكرات العلمية والمسامرات والمحاضرات الأدبية وتعليمهم فن الخطابة بالطرق الحديثة وحفظ أوقات الشبان من الألعاب الملهية وتوفير معلوماتهم وتوسيع مداركهم وتأليف لجنة حقوقية تدافع عن دعاوي البائسين المنقطعين وتأسيس جمعية لتعريب الكتب من جميع اللغات الحية، وإصدار مجلة علمية، تاريخية، أدبية، إلى آخر ما هنالك من المطالب السامية.
وكان هذا النادي في أوائل نشأته مقصوراً عَلَى بعض أشياء تافهة كغرف القراءة وغيرها، ولما طرق أسماع السيد طالب بك النقيب خبر حاجة النادي إلى معاونته، قام وأمدهم بأموال وفيرة ساعدتهم عَلَى إبراز بعض مقرراتهم إلى حين الوجود، فافتتحوا مكتبة شائقة حوت نفائس الكتب العصرية، ومدرسة ليلية يدرس فيها مبادئ اللغة العربية والتركية والفرنساوية والإنكليزية، وهم الآن في سعي متواصل لإنشاء مدرسة باسم مدرسة المستنصرية إحياء لاسم ذلك المعهد العلمي الخطير الذي كان له القدح المعلى في تمدن العرب الفخم في القرون الخالية، وتلقى فيه الخطب العلمية والمحاضرات الأدبية.
2ً نادي اتحاد الشبيبة.
هو ناد علمي أسسه شبان من منسوري الأفكار سنة 1910م، وقد أمدنا أحدهم بما يجري فيه ويراد من تأسيسه لجهلنا ما هناك بالمطالب والمساعي قال:
قصدنا من تأسيسه فك القيود والأغلال من أعناق أبناء طوائفنا التي طوقنا بها الإكليروس الذين احتسبوا مرافقنا وعبثوا بأوقافها. وقد لاقى أعضاء نادينا في سبيل ذلك صعوبات جمة وعقبات كادت تحول دون إتمام مقاصدنا وتحقيق أمانينا لولا همة أعضائنا الكبيرة ذلك كل صعب واجتازت كل ما وضع في طريقهم من العقبات ونحن الآن في تحمس شديد وسعي متواصل لإبراز أمانينا إلى عالم الوجود وقد ظهر من آثار غرفة قراءة ومكتبة مشحونة بنفائس الكتب قديمها وحديثها، ويا حبذا لو عضدنا في مشاريعنا الخطيرة كبر القوم والمثرون منهم بمساعداتهم إيانا في الماديات والمعنويات، ويأخذون بأيدي القائمين بشؤونه فيحصلون في المستقبل القريب عَلَى فوائد جمة لم نخطر عَلَى فكر ولم تمر ببال(83/75)
اهـ.
3ً الاتحاد العثماني.
جمعية إسرائيلية صهيونية مقصد أعضائها الوحيد شراء المزارع لسكنى الصهيونيين فيها وتتخذها مستعمرات كما هي الحال في سورية تأسست هذه الجمعية سنة 1329هـ 1911م وكان لهذه الجمعية جريدة تدعى التفكر صدر منها ثلاثة إعداد باللغتين العربية والتركية وكان محرر العربية فيها أحد شبان المسلمين وكان يظن في هذه الجمعية خيراً، حتى إذا أزيل الستار عن أعمالها ورأى منها ما يحقق أقوال الناقمين عليها اعتزل تحريرها فاحتجت الجريدة لذلك عن الصدور، حتى عن معظم شبان الإسرائيليين الصادقين بوطنيتهم أبوا الدخول فيها وعرقلوا مساعيها، ومن آثار هذه الجمعية أنها افتتحت مدرسة ليلية تدرس فيها اللغات الأجنبية، أما اليوم فهي مقصورة عَلَى 20 عضواً من الإسرائيليين الذين يودون استعمار البلاد بإخوانهم واستلاب أملاك وطنيتهم.
4ً نادي الترقي الجعفري العثماني.
وهو ناد علمي أدبي أسسه كبار الجعفرية وأعاظمهم في بغداد سنة 1325هـ و1908م. وذلك لما رأوا ناشئتهم الحديثة معرضة لسباع مفترسة من الجهل أنشاوا هذا النادي الفخم لإصلاح شؤون فرقتهم ومسابقة غيرها من الفرق في الحضارة والعلوم والآداب ومما يسر له أنه نجح نجاحاً باهراً وذلك بما بذله أرباب الغيرة من الأموال الوفيرة. ومن آثاره أنه افتتح مدرسة كانت قبل أربع سنوات ابتدائية يدرس فيها أكثر العلوم الحديثة باللغة العربية، وأما اليوم فقد أصبحت بفضل النابغين من الجعفريين إعدادية وفيها من التلامذة ما يناهز 400 طالب كلهم من أبناء العرب، والأمل وطيد بأن سيكون لها شان عظيم فتسترد العربية عَلَى يدها مجدها القديم، والنادي هو اليوم عبارة عن لجنة إدارية تدير شؤون المدرسة وتراقب أعمالها أساتذتها.
5ً المحفل الكاثوليكي.
هو أول محفل وطني أسس في بغداد وكان إنشاؤه سنة 1306هـ و1889م وكان مقصوراً عَلَى إلقاء الخطب العلمية والأدبية والاجتماعية وكان أعضاؤه من سراة الكاثوليك في(83/76)
بغداد.
وكان يصدر تقويماً يدون فيه خلاصة أعماله وعدد أعضائه وأسماء المتبرعين له وذكر عناوين الخطب وموضوعات المحاضرات التي ألقيت فيه وقد صدر منه ثلاثة أعداد لثلاث سنوات وهي سنة 1889 و1890 و1891 هذا عدا ما أحواه من الفوائد الجمة والنبذ الجغرافية والتاريخية المفيدة، ولا يزال هذا المحفل حياً له اليد الطولى في نهضة شبان النصارى الحديثة وعدد أعضائه يناهزون 60 شاباً كلهم من أفاضل الطائفة الكاثوليكية وأذكاهم وأطلعهم عَلَى اللغات الإفرنجية والوطنية.
6ً النادي البغدادي.
تأسس هذا النادي سنة 1912 ومقاصده عَلَى ما جاء في الفصل الأول من أسماء برامجه في سنة تأسيسه: السعي وراء تنظيم المجتمع العراقي وتعويد استماع سماع المسامرات وحضور المباحثات الأدبية والتجارية والمتنزهات الصحية، وأعضاؤه كلهم من شبان الإسرائيليين ممن أخذوا العلم عن أساتذة أجانب في بغداد هذا إذا لم يكونوا قد ربوا في أحضان علماء الغرب ويشترط عَلَى من يدخل هذا النادي وبكون عضواً فيه أن يدفع رسماً قدره ست ليرات عثمانية سلفاً في السنة الأولى، وفيما بعدها يدفعها أربعة أقساط، ولهم اجتماعات خاصة بالأعضاء فلا يشرف عَلَى أعمالهم ومقرراتهم أحد.
7ً خلاصة البحث.
ترى مما تقدم ذكره أن عدد أندية العلم والسياسة في بغداد ستة، منها اثنان سياسيان وهما النادي لاتحادي والنادي الائتلافي، وستة اندية علمية اثنان منها للمسلمين وهما النادي العلمي الوطني ونادي الترقي الجعفري العثماني، واثنان مسيحيان وهما اتحد الشبيبة والمحفل الكاثوليكي، واثنان إسرائيليان وهما الاتحاد العثماني والنادي البغدادي، كل كل ذلك كان في مدة أربع سنوات مع ما لاقته في خلالها من العقبات عَلَى أن هذا العدد وإن بكن قليلاً بالنسبة إلى عظمة بغداد وضخامتها فإنه سيتزايد إلى أضعافه بهمة الناشئة الحديثة التي نبذت التقاليد القديمة ظهرياً واستعدت للأيام وأهوالها، ولا ريب فإن شبيبة كالشبيبة البغدادية يجب عليها أن يظهر عَلَى بعدهها فوق ما يتصور مادام ذلك الدم العربي(83/77)
يجري في عروقها.
بغداد // إبراهيم حلمي.
أقدم اثر
جاء في الإجيشان غازيتما تعريبه: أرسل الأستاذ ريزنر من علماء الآثار المصرية إلى مديري متحف الآثار السامية في هارفرد ومتحف الفنون الجميلة في بوسط بالولايات المتحدة الأميركية نتيجة أبحاثه في تنقيباته في الآثار المصرية العتيقة عند أبي الهول إذ قد اكتشف عدة اكتشافات مهمة ينتظر أن تساعد كثيراً عَلَى كشف أسرار المسائل التي طمستها مرور العصور والأجيال.
فقد عثر الأستاذ (ريزنر) عَلَى معبد بجوار تمثال أبي الهول كان شيده قدماء المصريين لأجل عبادة الشمس وهو أقدم من كل الأهرامات إذ يرجع تاريخه إلى ما قبل ميلاد المسيح بـ 6000 عام فهو إذاً أعظم الآثار المصرية قدماً في التاريخ المصري بلا جدال. ومينا أو مينيس كما يلفظون اسمه في بعض الأحيان هو أول ملك مصري اكتشف علماء العصر الحالي بواسطة تمثاله المعلومات التاريخية الخاصة بالتاريخ المصري القديم وهو الذي اشتهر بادعائه الألوهية في عصره واشتهر أيضاً بأنه الواضع لشكل أبي الهول الحالي وقد وجد قبره في هذا المعبد. ويوجد في هذا نفق تحت الأرض يؤدي إلى كهوف لم يدخل إليها أحد الآن لأن أعمال التنقيب والحفر لم يبدأ بها إلا منذ ستة شهور فقط.
إن أبا الهول في مكانه مصنوع حقيقة من صخر طبيعي لكن يوجد بجانبه كهوف ومباني مدينة من ذهب قد وصلت أعمال الحفريات للقاعة الأمامية للمعبد ويبغ مقدار اتساعها 60 قدماً وطولاً في 14 قدماً عرضاً ومتصلة بدهاليز تؤدي إلى معبد الشمس الواقع عند مخالب أبي الهول وهذه الدهاليز بشكل متعرجات متقاطعة وقد وجدوا كميات عظيمة من الرموز وتماثيل الشمس بينها مقدار كبير مصنوع من الذهب وفي تلك التماثيل أسلاك متصلة بأجراس صغيرة كان يحركها ويدقها الكهنة ليستحضروا بها أرواح الموتى.
وفي داخل أبي الهول وجد أيضاً أهرام صغيرة مع أن أبا الهول مصنوع من زمان طويل قبل بناء الأهرام الكبرى ومن رأي الأستاذ (ريزير) أن شكل الهرام في تلك الأيام كان عبارة عن ساعة شمسية ومن رأيه أيضاً أن أبا الهول كان رب الشمس وأهرام خيوبس(83/78)
المعروف الذي هو أكبر الأهرام الحالية وهو عبارة عن آلة توقيت وساعة دقيقة مضبوطة ليس إلا.
ومن رأي هذا الأستاذ أيضاً أن القطر المصري اليوم كان عبارة عن مدينة كبرى عظيمة متسعة الأرجاء وقد اكتشف أطرافها أما ما في داخلها فربما لا يمكن اكتشافه بتة. ويرجو الأستاذ (ريزير) أن يكتشف ضمن تلك الآثار الثمينة أسرار الكهنة المصريين الذين كانت أعمالهم السحرية موضع الدهشة والعجب.
وقد أشار الأستاذ إلى ما يجده في عمليات الحفر والتنقيب من الصعوبات والمتاعب غير العادية لأن العربان الذين يساعدوه في هذا العمل يرفضون قطعياً أن يرقدوا في قاعة المعبد ويقولون أنها تحوي الشياطين والجن فمن يرقد فيها يلقى حتفه.
الزراعة
وعبادة الطبيعة في الصين.
مما لا مرية فيه أن الصين واليابان والشرق الأقصى هي البلاد الوحيدة التي تعبد فيها الطبيعة عَلَى اختلاف مظاهرها بل هم الشعب الوحيد في تكريم الزراعة وتعظيمها وعلى من أحب الإحاطة بهذا الموضوع أن يقرأ تاريخ الصين ليعلم ما يتجشم أبنائها من المشاق في خدمة تلك الأراضي القاحلة وبعدئذ يعرف مقدار الثروة التي يمكن المزارع أن يجنيها عند الاقتضاء من أرضه ولو كانت مجدبة قاحل ولا مشاحة بأن المعارف الزراعية متأخرة جداً في الصين وآلات الحرث لا تزال عَلَى حالها الأول من الانحطاط بيد أنهم يستعيضون عن جهلهم أحوال الزراعة وتأخر الموارد التي تسهل لهم النجاح بثبات قد لا يوجد له مثيل عند باقي الأمم.
وليس في الصين بقعة من الأرض تصلح للزراعة ما لم تعمل فيها أيدي العمال والزراع وهي عَلَى اتساعها تعطي كلها موسمين في السنة وليس في الدنيا مملكة أراضيها كالصين ومفصولة بعضها بسياج عن الآخر وحفر صغيرة أو بجدران قليلة الارتفاع والسبب في ذلك أن كل صيني يمتلك أرضاً لذاته وكل منهم يريد أن يخدم الأرض التي ورثها عن آبائه وزرعها أجداده ولهذا فإن كل صيني لا يستأجر عاملاً لزراعة أراضيه.
إن ملوك الصين أبناء ماء السماء قد أعاروا منذ القديم اهتمامهم للزراعة والفلاحة حتى أن(83/79)
الكثيرين منهم قد اشتهروا بهذا الأمر اشتهاراً عظيماً ولم يزل الأهالي حتى اليوم يعظمون ذكرهم ويقدسونهم.
وفي كل سنة يرأس الإمبراطور حفلة عظيمة يقيمونها في عيد الطبيعة الذي يقع في اليوم الثالث والعشرين من الشهر القمري الثالث حساباً صينياً وهو يوافق أواخر شهر آذار وقد وضع هذا العيد أحد الملوك من سلالة هان الذين حكموا الصين قبل المسيح بألف ومئتي سنة وتقام هذه الحفلة في بكين عاصمة الصين بمظاهر فخمة.
ويستعد الإمبراطور لهذه الحفلة بصوم ثلاثة أيام متوالية وفي اليوم المعين يذهب إلى هيكل الزراعة العظيم المشيد في وسط العاصمة ومن خلفه ما لا يعد من جماهير الأهالي ومن حوله أمراء الأسرة المالكة مرتدين أبهى ملابسهم الحريرية يتقدمه أربعون شيخاً من كبار المزارعين وأربعون شاباً لابسين ملابس غريبة مصنوعة من القش.
والهيكل مبني وسط سهل فسيح وقد أقيم فيه أربعة مذابح لعبادة السماء والأرض والمشتري وشنبون وهو من أقدم ملوك الصينيين وأول من علم شعبه منافع الزراعة وأمرهم بتكريمها فيتقدم الإمبراطور نحو المذبح المخصص لعبادة السماء فيركع أمامه ثلاثاً ويضع عليه هدية من الأثمار ثم يدنو من محراث أصفر ذهبي اللون يربط به ثوران يذبحان بعد انتهاء الحفلة ويقدمان ضحية للسماء فيقبض عَلَى المحراث بيمينه وعلى السوط بيساره ويرسم في الأرض ثمانية خطوط وفي أثناء هذه الحفلة ينشد الكهنة صلاة مختصة بإكرام الطبيعة.
ويحرق الثمانون فلاحاً الذين يحضرون هذه الحفلة أثمن البخور في مجامر ثمينة ويضعون من الحبوب التي تنتج في الأثلام التي حرثها الإمبراطور ورجال حاشيته وأقراصاً يتركونها مدة ثلاثة أشهر عَلَى المذبح المخصص لعبادة السماء.
وهيكل الزراعة من أغرب بنايات بكين يعلقون عَلَى جدرانه أو يضعون عَلَى قواعد رخام فيها كل الآلات والأدوات والملابس التي يستعملها كل من اتخذ الفلاحة حرفة له ويضعون في الجهة اليمنى كثيراً من القبعات التي يلبسها الأهالي وأسواطاً منوعة ومكانس ومجارف وصناديق لحفظ الغلال ومذاري خشبية ذات ثلاث شعب يستعملها المزارعون لتذرية الأرز كل هذه الآلات يصبغونها باللون الأصفر وهو اللون المخصص للإمبراطور فلا يجوز لسواه من الأهالي استعماله.(83/80)
ويقيمون عَلَى قاعدة من الفلز بقرة عظيمة بطنها مبقور يظهر فيها عدة عجول خزفية وهي رمز للحيوان المقدس الذي يطوفون به باحتفال عظيم في بعض المدن الصينية إبان الحصاد. ويطره الصينيون السمن كرهاً عظيماً لأنهم يعتقدون أن البقر خلق لأجل أن ينتج ويشتغل لا للانتفاع بلبنه ويضعون إزاء آلات العمل العامة التي تعرض في قاعة خاصة كل أشكال الاختراعات القديمة والحديثة المختصة بالزراعة وناعورة لم تزل مستعملة في أراضي كان شي كيان الواسعة ودولاباً ليس فيه مسمار ولم تدخله قطعة من الحديد بل مصنوع من الخشب وجرناً حجرياً موضوعاً في طرفه مدقة يحركها رجلان وفي الجهة الأخرى آلتان للحرث والزرع وفي مؤخر هذه العلبة تنتهي بثلاثة أنابين خيزران تتساقط منها الحبوب ويفرزون محلاً خاصاً لمجرفة فضية يقدمون لها أعظم الإكرام لأن المجرفة لم تزل الآلة الزراعية التي يفاخر فيها الفلاح الصيني.
الأموال المنقولة
رفع العالم الاقتصادي ألفريد نايمرك إلى المجمع الإحصائي الدولي المجتمع في عاصمة النمسا بحثاً جديداً تناول فيه بحث الأموال المنقولة في العالم. وقد قدر المتداول منها بين الأيدي في آخر سنة 1912 بقيمة ثمانمائة وخمسين مليار فرنك. وألم بما طرأ في السنتين الخيرتين من الاختلالات السياسية والمالية والاقتصادية وبعد أن قدر ما لحق بعض المنقولات المحدودة الثمن من انحطاط الأسعار في الآونة الأخيرة فبلغ الثمانمائة مليار فرنك قال أن الرصيد الصافي لقيمة الأموال المنقولة في آخر سنة 1912 منها ما يقارب ثلثمئة مليار فرنك مبذولة لاستثمار الخطوط الحديدة في العالم أما الأموال المنقولة الخاصة فيقدرها كما يلي:
إنكلترا من 145 إلى 150 ملياراً
الولايات المتحدة=135=140 =
فرنسا=108=115 =
ألمانيا=100=110 =
روسيا=32=35 =
النمسا والمجر=25=26 =(83/81)
إيطاليا=16=18 =
اليابان=14=16 =
وزادت الأموال المنقولة في ألمانيا بين سنتي 1908 و1912 عشرين إلى خمسة وعشرين ملياراً. وزادت في إنكلترا خمسة عشر ملياراً في حين لم تزد في فرنسا عَلَى خمسة إلى عشرة مليارات وفي روسيا عَلَى مليارين إلى ثمانية. وفي إيطاليا عَلَى سنة مليارات. وفي النمسا والمجر عَلَى أربعة. نعم إن بعض هذه الأرقام يمكن المناقشة فيه ولكن مهما يكن فإن تبريز ألمانيا في هذا الباب لا ريب فيه عَلَى أن معظم الأرباح أُرصدت لتوسيع المشاريع القديمة أو لتأسيس أعمال جديدة. أما التوفيرات فبقيت عَلَى حالها والأموال المتداولة كانت قليلة وهذا ما يجعل ألمانيا تحت رحمة أول أزمة تحصل اهـ.
المدارس الفرنسوية في الشام
نشرت جريدة الإيكودي باري فصلاً طويلاً عن المدارس الفرنسوية في سورية جاء فيه: أن اليسوعيين يديرون مع مدرستهم الكلية 140 مدرسة يتلقى العلم فيها 12000 تلميذ والآباء الكبوشيون يديرون 155 مدرسة فيها 6355 تلميذاً واللعازريون يديرون 149 مدرسة فيها 7338 طالباً. وراهبات المحبة يتعلم في مدارسهن أكثر من 300 يتيم و587 يتيمة و509 أولاد صغار خارجيين و3867 بنتاً داخلي ما عدا مدارسهن في القرى. ومدارس الفرير في بيروت وطرابلس والإسكندرونة فيها 2000 تلميذاً تقريباً. وفي مدارس الفرير ماريست 953 تلميذاً ولراهبات الناصرة عشر مدارس منها واحدة داخلية ومجموع تلامذتها 1386 ولراهبات العائلة المقدسة سبع مدارس فيها 1400 تلميذة ولراهبات الظهور المرسيلية 30 مدرسة فيها 3766 تلميذة وهذا كله ما عدا تلاميذ المدرسة العلمانية في بيروت التي تحتوي عَلَى 200 تلميذ تقريباً ومدارس الأليانس الإسرائيلية التي يبلغ عدد تلاميذها الأربعة آلاف.
أما عدد المدارس الأخرى الإنكليزية والألمانية والروسية والأميركية في سورية فلا يتجاوز الثلاثمائة مدرسة ومجموع عدد التلامذة فيها لا يزيد عن 23. 000.
العمل والأسعار
سعر كيلة الحنطة سعر الليرة العثمانية أجرة العمل الصناعة السنة الهجرية(83/82)
قروش قروش قروش
70 116 12معلم1287
6العامل
5العامل
80 124 14المعلم 1295و1297
7العامل
6العامل
57 130 48المعلم1330
12العامل1331
هكذا كانت أجرة العامل وأسعار النقود والغلات منذ أربعة وأربعين عاماً في دمشق ومازالت ترتقي حتى أصبحت كما رأيت بكثرة الذهب واستثمار بعض الأراضي البائرة وازدياد عدد النفوس ومثل ذلك يقال في العراق ومصر.
وهذه الأسعار في قاعدة الشام غير مطردة تنزل وتعلو بحسب المواسم وكثرة النقود ولكن أجرة العامل والماهن تكاد تكون واحدة لقلة العملة والبنائين والنجارين وغيرهم من أهل الحرف الذين قد تدعوهم هذه الحالة إلى الهجرة إلى أقطار أخرى ولاسيما أميركا.(83/83)
صدور المقتبس
أصيت هذه المجلة في السنة الماضية بعوارض كثيرة حالت دون إصدارها في مواعيدها عَلَى النحو الذي اعتادته في معظم أدوارها فاضطرتنا الأحوال السياسية إلى أن نلحق بمصر من طريق البرية وعطلت الحكومة المقتبس اليومي عل الصورة التي سبق لها مثلها في سنة 1327 والممثل لكلتا الفاجعتين ناظم باشا والي سورية الأسبق بعينه ومينه فمكثنا أشهر الربيع والصيف في القاهرة أصدرنا خلالها جزئين وبعض الثالث ثم عدنا في الخريف إلى دمشق مضطرين ومطبعة المقتبس قد أكرهنا الوالي عَلَى بيعها ليصعب علينا بذلك إصدار المقتبس ثانية فاضطررنا أولاً إلى الطبع في مطبعة لن تكن في استعداد كاف لطبع المجلة ثم طال بحثنا عن ورق جيد حاضر في السوق فلما تمت المعبدات في الجملة تتابعت الأزمات السياسية بانتشار الحرب البلقانية المشؤمة فارتبكت الأحوال الاقتصادية في البلاد حتى انقطعنا مدة عن الطبع مكروهين وها نحن الآن نختم السنة السابعة سنة 1330هـ أواخر سنة 1331 أي أننا أصدرنا من حيث المجموع أجزاء سنة في سنتين ولذلك لا نعد سنة الحرب التي اهتزت بويلاتها أعصاب السلطنة ونال الشام بل مصر حظ وافر من هذا الاضطراب.
وإنا لنشكر كل من اهتم لصدور المقتبس وأخذوا بيدنا في نشره ونشطوه بماديتهم وأدبياتهم أكثر الله من أمثالهم الذين يهتمون للعلم والمعارف كما إنا لنثني الثناء الأطيب عَلَى مؤازري المجلة في مصر والشام والعراق وتونس وغيرها ممن لم يعقهم عدم الاطراد في صدورها عن إرسال أبحاثهم ومقالاتهم لتطبع فيها ونعدهم بأننا نبدأ منذ أول جزء يصدر في المحرم من السنة الثامنة (1332) بنشرها تباعاً بحسب أوقات ورودها ليعم نفعها قراء العربية ونستميح طبقة الخاصة عذراً عَلَى ما بدر من أغلاطنا وأغلاط المطابع فهو لا يخفى عَلَى فطنة القراء في الجملة وعذرنا إليهم في عدم العناية ما تقدم خصوصاً وبعض الملازم طبعت بدون أن نصححها بأنفسنا دع التقلقل الذي نالنا في مملكة لم تستقر حتى الآن حالتها السياسية عَلَى محور معلوم. وصفاء جو السياسة هو الميزان الكبر في سير الأعمال ولاسيما العلمية فإن الفشل الذي نالنا في الروم إيلي وطرابلس وبرقة وجزر الأرخبيل قد أصاب شرر شره كل من له علاقة بهذا الوطن العثماني عَلَى اختلاف الدرجات.(83/84)
ونسأله تعالى وهو خير مسئول أن يجل سنتنا القادمة سنة راحة وصفاء لنتمكن من خدمة الأمة العربية في الفروع التي كتب لنا الخوض في غمارها فيما سلف من الأعوام وفي النية أن نجود في الأبحاث ونعني بالتقاط درر الفوائد جهد المستطيع حتى تكون هذه الصحيفة جمعية علم وأجب تجمع إلى متانة القديم وطلاوة الحديث فلا يسأم من مطالعتها عشاق الأوابد والشوارد وإليه تعالى نبرأ من سيئات أعمالنا وشرور أنفسنا ونسأله وقايات الزمان وعثرات القلم واللسان والتنكب بنا عن تيه الباطل اللجلج إلى جادة الحق الأبلج إنه كريم جواد.(83/85)
العدد 84 - بتاريخ: 1 - 1 - 1914(/)
راعية الخيل لا راعية الجبل
1 تمهيد
لغتنا قليلة الاصطلاحات بالنسبة إلى العصر فشوها وزهوها وغضارتها إلا إن الذي وصلنا منها جاءنا مبهماً أو ناقص التعريف والتحديد أو مصحفاً ومحرفاً. وهنا الطامة الكبرى والبلوى العظمى. ومن هذا القبيل الكلمة التي نريد إن نبحث عن حقيقتها وهي راعية الخيل فقد جاءت في كتبهم مصحفة بصورة راعية الجبل فهل هذا التصحيف مقبول؟ - قلنا:
2 قول اللغويين في هذه الكلمة وأسماؤها المختلفة
قال في القاموس: راعية الجبل: طائر. ولم يزد على هذا القدر. وقال في المخصص 8: 155: الراعية يقال لها: راعية الخيل: طائرة صفراء صغيرة تراها أبداً تحت بطون الخيل والدواب كأنما خضب جناحاها وعنقها بالزعفران فيها كدرة وسواد وظهرها أصفر وزمكاها لا طويلة ولا قصيرة. وقال صاحب تاج العروس: راعية الجبل كذا في النسخ. والصواب: الخيل بالخاء المعجمة والتحتية كما هو نص التكملة: طائر أصفر يكون تحت بطون الدواب. هكذا هو في التكملة. وقال النضر بن شميل: طائرة صغيرة مثل العصفور تقع تحت بطون الخيل والدواب صفراء كأنما خضب عنقها وجناحها بالزعفران وظهرها فيه كدرة وسواد ورأسها أصفر وزمكاها ليست بطويلة ولا قصيرة. انتهى. فأنت ترى من هذه النصوص أن صحيح الرواية هو راعية الخيل لا راعية الجبل لأنها ترعى هناك أرواثها كما هو مشهور عنها وإما في الجبل فلا يمكنها إن ترعى فيه شيئا إذ لا ترى فيه إلا الخضرة إن كانت هناك خضرة والخضرة لا تفيد هذه الطويئرات فائدة ولهذا يظهر لك فساد هذا التصحيف إذ تتضافر روايات اللغويين الكبار مع الدواعي العقلية على تأييد هذا اللفظ أي راعية الخيل ودفع الرواية المصحفة وهي راعية الجبل.
وقال التاج في مستدرك ر ع ي: والراعية: طائر. ورعاءة الخيل: لغة في راعية الخيل. عن الصاغاني. قلت أنا: أما الراعية فهي نفس راعية الخيل كما تقدم نصه من عبارة صاحب المخصص إذ جعل الراعية وراعية الخيل شيئا واحدا. وإما رعاة الخيل فقد قال اللغوي الانكليزي لين صاحب مد القاموس: هكذا وردت هذه اللفظة بدون ضبط في تاج(84/1)
العروس. والظاهر إن هذه الكتابة مخطوءة لأننا إذا نظرنا إليها نراها داخلة في عداد اسم الجنس وحينئذ يجب أن تضبط هكذا رعاة الجبل. فانظر إلى هذا الكلام مع ما فيه من الغرابة. والأصح إن تضبط اللفظة رعاة الخيل وزان شدادة. فعالة بمعنى فاعلة للمبالغة فكما أنه قيل لها راعية الخيل سميت أيضاً رعاة الخيل لكثرة رعيها وإلا فلو كانت جمعاً لراعية لقيل رواعي الخيل لا رعاة الخيل كما قال لين اللغوي المذكور.
وسميت هذه الطويئرة أيضاً الرعوة فعلة بمعنى فاعلة. قال في مستدرك التاج: الرعوة: هنية تدخل في الشجرة لا تراها الدهر إلا مذعورة تهز ذنبها. نقله السيوطي. قلت أنا: وهذه صفة راعية الخيل. ولهذا سماها الإفرنج هزازة الذنب كما سموها أيضاً طويئرة الرعاة
ومن أسمائها أيضاً الذعرة أو الزعرة. وسميت كذلك لأنهم توهموا فيها الخوف والذعر ظانين إن اهتزاز ذنبها على الدوام هو من شدة ارتعاشها الحاصل من خوفها. قال ابن سيد: الذعرة: هنية تكون في الشجرة تدخل فيها لا تراها إلا مذعورة تهز ذنبها. وقال صاحب التاج: الزعرة كتؤدة طائر في الشجرة لا يرى إلا مذعوراً خائفاً يهز بذنبه ويدخل في الشجرة وهو الذعرة التي تقدمت.
ومن أسمائها أم عجلان والقوبع والفتاح. قال الدميري: أم عجلان طائر قاله الجوهري. وقال ابن الأثير: طائر أسود يقال له قوبع. وقيل طائر أسود أبيض الذنب يكثر تحريك ذنبه يقال له الفتاح. والقوبع طائر أسود أبيض الذنب يكثر تحريك ذنبه.
ويقال في الفتاح: الفتاحية بتخفيف الياء إلا أن بعض اللغويين ينكرون كون الفتاحية والفتاح شيئاً واحداً. والصحيح أنهما واحد المدلول.
ومن أسمائها: الصفرد قال في اللسان: الصفرد طائر أعظم من العصفور. . . وهو طائر جبان يفزع من الصعوة وغيرها. وقال الليث: هو طائر يألف البيوت وهو أجبن طائر.
وهذه الأسماء وإن كانت تقع على جنس واحد من هذا الطير إلا إن الاسم الواحد لا يقع على المدلول الآخر. فالصفرة كثير الصفرة اسمه بالفرنسية وبلغة العلماء وهو كثير الوجود في العراق يكون طول السنة. وأما راعية الخيل أو رعاة الخيل أو الراعية أو الرعوة فأسمها بالفرنسية وأما بلغة العلم فهو وأما القوبع فهو والذعرة وأم عجلان(84/2)
والفتاح والفتاحية والزعرة شيء واحد وأسمها بالفرنسية وبلسان العلماء أو ويشملها كلها أسم الذعرة أو الزعرة وهو أسم الجنس.
ومن أسمائها عند العوام أم صفيدة ذكرها صاحب محيط المحيط في مادة ذعر. وأعاد الكلام في دائرة المعارف في مادة ذعر. قال: الذعرة طائر يهز ذنبه دائماً.
والعامة تقول له أم صفيدة - ومن أسمائها العامية ما ذكره الدكتور أمين المعلوف في معجم الحيوان 36: 458: من المقتطف) قال: الذعرة طائر صغير يكثر تحريك ذنبه ويسمى أبا فصادة في مصر وأم سكعكع في الشام قلت: وأسمه زيطة عند العراق وصفرد أبو المليح عند الأعراب.
فمع كثرة هذه الأسماء لا ترى المعاجم الفرنسوية أو الإنكليزية العربية تذكر إلا القليل منها. أو لا تذكر شيئاً. فهذا المعجم الفرنسوي العربي الكبير للأب بلو اليسوعي على ضخامته وتبجح صاحبه في المقدمة إذ يقول: وهناك معاجم مطولة لكنها كثيرة النقص في ما يتعلق بالتدقيق والضبط إذ تجتزي في أغلب الأحيان بما يقرب من المعنى الحقيقي دون اللفظ الواجب له ومع ذلك ترى فيه من النص في المصطلحات العملية ما يسقط هذا الديوان في عيون الأدباء أطلب مثلاً كلمة تراه يقول: عصيفير، طيير ونسي أن طائر الرعاة أي هو نفس هزاز الذنب أي الذي يقول في نقلها إلى العربية: ذعرة (أم صفيدة) مع أنه يقول بالفرنسوية هي شيء واحد. ويفسرها بها. - وأما بادجر صاحب الكتاب الإنكليزي العربي المعجم الكبير فيقول في هزاز الذنب، ذعرة. ولا يزيد على هذا القدر. وقد سبقه إلى هذا التعبير بقطر في معجمه الفرنسوي العربي.
فأنت ترى من هذه الشواهد أن معاجمنا العربية ومعاجم اللغات الأجنبية إلى اللغة الغربية تحتاج إلى نظر لتضبط وتصحح ويدقق فيها حتى تجاري دواوين لغات أهل الغرب الذين يبالغون في تهذيبها وتحسينها على الدوام. وأما أصحابنا فأنهم ينقلون أقوال من تقدمهم بدون ترو أو تدقيق النظر ولهذا معاجمنا العربية الحديثة لا تمتاز عن معاجم الأقدمين بشيء يذكر.
وصف هذه الطويئرة على ما جاء به العلماء
راعية الخيل من الطويئرات القواطع من رتبة العصافير المسننة المنقار الراجعة إلى جنس(84/3)
الدقيقات المنقار وإلى صنف هزازات الأذناب. وتمتاز بمنقار دقيق مستقيم وبمنخرين ملوزين يكونان عند قاعدة المنقار ومغشيان إلى نحو منتصفهما بغشاوة جرداء ولها إبهام به ظفر طويل قليل التقوس وعرف بذنب ليس بالطويل ولا بالقصير دائم الحركة تهزه الطائرة من فوق إلى الأسفل.
والطويئرات المسماة بهذا الاسم تشمل صنفين وهما: رواعي الخيل وبالفرنسوي
وبلسان العلم والصفارد وبالفرنسوية وبلسان العلماء وكلها من أكلة الحشرات. وتعشش تحت أكوام الحجارة وفي ثقوب الأشجار الكبار وفي تخاريب الأجراف أو في المزارع والمروج. واذاجاء الربيع حسرت (أي سقط ريشها ونبت غيره) وإذا جاء وقت الهيج تتحلى ذكورها بأفخر الريش فتتميز به عن إناثها. وفي غير هذا الأوان يصعب على الرائي أن يميز الذكور من الإناث والفرق الفارق بين الرواعي والصفارد إن الرواعي تختلف إلى المروج والزروع ومجتمعات الخيل والمواشي والغنم وتتبع الرعيان أينما ذهبوا وتتأثر الحراثين لتلقط ما تقع عليه بعد الكراب من ديدان ودويبات. - وأما الصفارد فتحاور المياه والبطائح والغدران والمغتسلات. ولهذا سماها الفرنسيون: الغسالة أو المغتسلة وهذه اللفظة العربية زنة ومعنى أو تكاد. وهذا الاسم يعرفه بعض النساء اللواتي يغسلن الثياب على حافة دجلة. فتأتي هذه الطويئرات ويحمن حول هؤلاء النساء سحابة النهار وتدنو منهن بكل انس وتلتقط ما يتساقط من الفتات. وهذه الطويئرات تحاكي الغسالات بأنها تخطر بذنبها الأرض والنساء يقصرون الثيات بضربها بالميحنة.
والرواعي تلتقط طعامها بسرعة البرق الخاطف إن كان من الأرض وإن كان في الهواء. وإما طيرانها فمتموج وبخفقات ونقزات. وإذا طارت الصفارد أسمعت صوتا حادا قصيرا تردده كأنها تقول: كي كي فتجاوبها التي على الأرض بمثل هذا الصوت.
ولكل من الرواعي والصفارد ضروب وأشكال تختلف بعضها عن بعض بالنعوت فيقولون الصفرد الأرمد والصفرد الأصفر والراعية الرمداء والراعية الصفراء إلى آخر ما هناك. وبهذا القدر كغاية للغوي والأديب. ومن أراد الزيادة فليرجع إلى كتب الفن وقد سيرت عليه المراجعة بعد معرفة الألفاظ العلمية. والله ولي التيسير.
بغداد:(84/4)
ساتسنا(84/5)
الإفادات والإنشادات
وقفت في إحدى دور الكتب في النجف على مجلد يوجد درجة عدة كتب نحيفة منها مختصر تاريخ للشام في القرن السابع فقط أوله فلم أعرف مؤلفه ومنها كتاب (الفوائد الوفية بترتيب طبقات الصوفية) تأليف يوسف بن شاهين سبط ابن حجر العسقلاني الشافعي والظاهر إن نسخته هذه نسخة المؤلف ومنها الكتاب (الإفادات والإنشادات) من إملاء الشيخ الإمام النحوي اللغوي العروضي أبي اسحق إبراهيم بن موسى الشاطبي الأصل الغرناطي من رجال أواسط القرن الثامن في الأندلس وهذا الكتاب مخطوط خطا مغربيا يصعب هجاؤه وقد شذ آخره وهو ما أردنا إن ننشر شطرا منه نختاره للقراء قال المؤلف:
إما بعد أيها الأخ الصفي الصديق الوفي أعزك الله وسددك فأني جمعت لك في هذه الأوراق جملة من الإفادات المشفوعة بالانشادات مما تلقيته عن شيوخنا الأعلام وأصحابي ذوي النبل والإفهام قصدت بذلك تشويق المتعبد في العقول ولنقول ومحاضر المسترشد من نتائج القرائح والعقول والله المستعان وعليه التكلان.
إفادة
حدثني الشيخ الفقيه القاضي الجليل الشهير الخطير أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد ابن بكر بن علي المغربي رحمة الله تعالى أملاه علينا عن الإمام الكبير أبي حيان محمد بن يوسف بن حيان قال ورد كتاب من الأستاذ أبي عبد الله بن شبث الغرناطي إلى صاحب له يسمى حمزة وفيه سئل الشيخ (قال أبو حيان يعنيني) وجدت على ظهر نسخة من المفصل بخط عتيق إن رجلا سأل ابن الأخضر بمحضر ابن الابرش عما انتصب قوله.
مقالة أن قد سوف أناله
فقال (ولا تصحب الأزدي فتردى مع الردي) فقال سألتك عن أعراب كلمة فأجبتني نصف بيت فقال ابن الابرش قد أجابك لو كنت تفهم قال أبو حيان فوقعت عليه للحين إن هذا الشطر من قول النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تشك منها السامع
مقالة إن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
يروي (مقالة) بالرفع على أنه بدل من (أنك لمتني) الفاعل بأني وبالفتح على ذلك إلا انه(84/6)
بناء لما أضافه إلى مبني.
إنشاده
أنشدني الشيخ الفقيه القاضي الاعدل الفاضل أبو بكر محمد بن عمر بن علي القرشي الهاشمي إبقاء الله في السابع والعشرين لذي حجة من عام تسعة وخمسون وسبعمائة قال أنشدني تاج الدين الاموري قال أنشدني الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي لنفسه:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذي ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من رجال قد رأينا ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال
إفادة
حدثنا الأستاذ الفقيه الجليل الأصولي أبو علي منصور بن علي الزواوي رحمه الله تعالى إن الفخر ابن الخطيب سأل سيف الذين الآمدي رحمه الله تعالى فقال له لم أجاز الشرع ذبح الحيوان في حق الإنسان وهو تعذيب له وتعذيب الحيوان على خلاف المعقول فقال له سيف الدين أن إتلاف الخسيس في حق النفيس من مناهج العقول فقال له الفخر لو كان كذلك لجاز أن تذبح أنت في حق الرئيس ابن سينا.
إنشاده
أنشدنا الشيخ الأستاذ القاضي أبو عبد الله المغربي لنفسه:
أنبت عوداً بنعمان بدأت به ... فضلاً وألبسته بعد اللحا الورقا
فظل مستعراً مستدثراً أرجاً ... وبات ذا بهجةٍ يستوقف الحدقا
فلا تشنه بمكروه الجنى فكم ... عودته من جميل من لدن خلقا
إنشاده
أنشدني الأستاذ الكبير أبو سعيد بن لب أبقى الله بركته عشية يوم الأربعاء الثالث لشعبان عام تسعة وخمسين وسبعمائة لنفسه:
وهبك وجدت العفو عن كل زلة ... فأين مقام العفو من مقعد الرضا(84/7)
وكيف بثوب حالك اللون رمت أن ... يصير كثوب لم يزل قط أبيضا
إفادة
حدثني الشيخ الفقيه الأستاذ الكبير النحوي الشهير أبو عبد الله محمد بن علي الفخار البيري رحمة الله عليه أن بعض الشيوخ كان إذا أتى بأجازة ليشهد فيها سأل الطالب المجاز عن لفظ أجازه ما وزنه وما تصريفه & قلت ولما حدثنا بذلك سألناه عنها فأملى علينا ما نصه: وزن أجازة في الأصل أفعاله وأصلها أجوزه فأعلت بقل حركة الواو إلى الجيم حملا على الفعل الماضي لا أستسقالا فتحركت
الواو في الأصل وأنفتح ما قبلها في اللفظ فانقلبت ألفا فصارت أجازه فحذفت الألف الثانية عند سيبويه لأنها زائدة والزائد أولى بالحذف ووزنها في اللفظ عند سيبويه أفعله وعند الأخفش أفاله لأن العين عنده محذوفة.
إنشاده
أنشدني الفقيه الصوفي المتخلق أبو محمد بن الناظر قال أنشدت في النوم هذين البيتين:
نحن قسمنا الرزق بين الورى ... فأدب النفس ولا تتعرض
وسلم الأمر لأحكامنا ... فكل عبد رزقه قد فرض
إفادة
لما توفي الأستاذ الكبير العلم الخطير أبو عبد الله بن الفخار سألت الله تعالى أن يرينه في النوم فيوصيني بوصية أنتفع بها في الحالة التي أنا عليها من طلب العلم فلما نمت في تلك الليلة رأيت كأني أدخل عليه في داره التي كان يسكن فيها فقلت يا سيدي أوصني فقال لي: لا تتعرض على أحد. ثم سألني بعد ذلك في مسألة من مسائل العربية فأجبته عنها ولا أذكرها الآن.
إنشاده
حاذر طباع الصاحب السوء لا ... تعدو إلى طبعك أو تطرق
والماء ضد النار لكنه ... يعود إن جاورها يحرق
إفادة
حدثنا الأستاذ أبو عبد الله البلنسي قال حدثنا الأستاذ الخطيب أبو عبد الله محمد ابن مرزوق(84/8)
قال سألت أبي ونحن نطوف باليت الحرام زاده الله تشريفاً فقلت له لم كان البيت يجعل في الطواف إلى جهة اليسار ولم يجعل إلى جهة اليمين وهي أشرف فقال لي سريعاً يا بني إن القلب على جهة اليسار فجعل الشق الذي هو محل القلب إلى جهة البيت ليكون أقرب موافقة لقوله تعالى (واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) فقلت له أن الطبيعيين وأهل التشريح أطبقوا على أن محل القلب الحقيقي هو الوسط لا للجهة اليسرى ولا اليمنى نعم وضع رأسه مائلاً ذات اليمين قليلاً وابرته مائلة ذات اليسار قليلاً ثم وقفت المسألة فأنهيتها إلى الطبيب العارف أبي عبد الله الشفوري فقال لي ما قلت للأستاذ حتى قلت ثم ذكر وجهين لحل الإشكال.
إنشاده
أنشدني الفقيه الأديب أبو جعفر بن عبد العظيم في الرابع لرمضان المعظم سنة تسع وخمسين وسبعمائة قطعة له:
تتوق إلى الراحات نفسي وأنني ... لأعصي هواها تارةً وألومها
وتأبى سوى ما تشتهي فأطيعها ... وأعلم أني في رضاها ظلومها
إفادة
كثيراً ما كنت أسمع الأستاذ أبا علي الزواوي يقول قال بعض العقلاء لا يسمى العالم بعلم ما عالما بذلك العلم على الإطلاق (يريد الإخصاء) حتى تتوفر فيه أربع شروط أحداها أن يكون قد أحاط معرفة بأصول ذلك العلم على الكمال والثاني أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم والثالث أن يكون عارفا بما يلزم عنه والرابع أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم قلت (المؤلف) وهذه الشروط رأيتها منصوصة لأبي نصر بن محمد الفارابي الفيلسوف في بعض كتبه.
إنشاده
أنشدني الفقيه الأديب أبو جعفر بن عبد العظيم لنفسه في العشر الأواسط لربيع الأول عام ستين وسبعمائة:
لا يخدعنك في امرئٍ ... لبس الحلي والحلل
في الناس من تلقاهم ... حمر الوجوه من الخلل(84/9)
إنشاده
أنشدني الفقيه القاضي أبو بكر بن القرشي لنفسه في السابع والعشرين لذي حجة من عام تسعة وخمسين وسبعمائة.
إذا ما تبدي منهج الحق واضحا ... تعامى أناس في الضلالة زاغوا
جلت لهم الدنيا محاسنها التي ... بزخرف منها ذروها ويصاغ
فهم نحوها مثل الفراش تساقطت ... على النار ما غير الممات بلاغ
وليس صبا الإنسان غدراً فكيف إذ ... مضى منه شرخ واستحال صباغ
إلى الله أشكو أمر نفسي فإنها ... عن الرشد فيها حيرة ومراغ
ويا أسفي للنعمتين أضيعتا ... فهل عائد لي صحة وفراغ
إفادة
جرى لنا يوماً بين يدي الأستاذ الكبير أبي سعيد بن لب أنه حكى أن طعام فرعون كان محاح البيض ليقل برازه فإنها قليلة الفضلة فأنهيت المسألة إلى الفقيه الطبيب أبي عبد الله الشفوري فقال الدليل على قلة فضلتها ثلاثة أشياء أحدها أن في غيرها سرعة الانفعال للمضغ وهو دليل عام عند الأطباء في الأغذية فأنهم يقولون كل ما عسر مضغه عسر هضمه وإذا عسر هضمه فضل أكثره وبالضد الثاني أن ابن سينا جعل محاح البيض من أدوية القلب فأنها تكثر دم القلب ودم ألطف من كل دم يكون في البدن وما كان هكذا حقيق بأن لا تكون له فضلة يعتد بها والثالث أنه غذاء الطير عند تكوينه من البياض في جوف البيضة مع أنك لا ترى له فضلة عند خروجه منها فهذا دليل قلة فضلته.
إنشاده
أنشدني الفقيه الفاضل أبو محمد عبد الله بن حزلم قال أنشدني الفقيه الأجل الكاتب أبو عبد الله بن إبراهيم بن الشيخ الأجل الأستاذ العالم المتفنن الشهير أبي عبد الله بن الرقام قال أنشدي أخي محمد لنفسه:
لم يشتر الشهد شخص ضوءه الكسل ... فلست أول صب خانه الأمل
لا عتب أن خلفوني في الحضيض لما ... أشدو به عم صباحاً أيها الطلل
ورافقوا الغير دوني في مسيرهم ... فربما قصرت بي دونهم علل(84/10)
كم أنجدوا كلما أنهمت وانتهضوا ... نحو اليفاع وبالعلياء قد نزلوا
يجدوا قرائح منهم عزهم وأنا ... لا ناقة لي أحدوها ولا جمل
من لي بإدراك آثارٍ لأبلغهم ... وكيف ذاك وطرفي طالع عزل
إنشاده
جل في البلاد تنل عزاً ومكرمة ... في أي أرض تكن تلقى مناك بها
جل الفوائد في الأسفار مكتسب ... والله قد قال فامشوا في مناكبها
قال لي الفقيه أبو محمد بن حزلم فقلت له أني أحفظ للإمام الشهير أبي حيان يوسف بن حيان المغربي بهذا المعنى والقافية من التزم التجنيس وهي:
يا نفس مالك تهوين الإقامة في ... أرض تعذر كل من مناك بها
أما تلوتِ وعجز المرءٍ منقصةٌ ... في محكم الذكر فامشوا في مناكبها
قال فقضينا العجب من هذا الاتفاق الغريب قلت ووجدت أنا بخط الفقيه الأديب البارع المحدث أبي عبد الله محمد بن الشيخ الأستاذ الشهير أبي القاسم بن جزي قطعة له وهي:
ومعسول اللمى عادت عذاباً ... على قلبي ثناياه العذاب
وقد كتب العذار بعارضيه ... كتاباً خط قارئه اكتئاب
وقالوا لو سلوت فقلت خيراً ... وأني لي وقد سبق الكتاب
ثم كتب بعدها ما معناه إني عرضتها على شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف بعد نظمها بمدة يسيرة فقال لي قد نظمت هذا المعنى بالعروض والقافية.
وأحور زار خديه عذار ... سبى الألباب منظره العجاب
أقول لهم وقد غابوا غرامي ... به إذ لج للدمع انسكاب
أبعد كتاب عارضة يرجى ... خلاص لي وقد سبق الكتاب
وهذا غريب.
إفادة
حدثنا الأستاذ القاضي أبو عبد الله المغربي قال كان أبو زيد بن الإمام يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها فيقول والمفارقات قال ولعله في هذا كما قال أبو عمرو بن العلاء للأصمعي لما قرأ عليه:(84/11)
وغررتني وزعمت أنك لابنٌ في الصيف تامر.
فقال
وغرزتني وزعمت أنك لاتني بالضيف تأمر
فقال: أنت في تصحيفك أشعر من الحطيئة.
إنشاده
أنشدني الفقيه الفاضل أبو عبد الله بقي لنفسه قال ونظمتها ارتجالا وقد دعيت إلى نزهة أثر تشييع جنازة:
كم أرى مدمن لهو ودعه ... لست أخلو ساعة من تبعه
كان لي عذر لدى عهد الصبا ... وأنا آمل في العمر السعة
فدعوني ساعة أبكي على ... عمر أمسيت فيمن ضيعه
إنشاده
أنشدني الفقيه الفاضل أبو عبد الله بن بقي قال أنشدت في النوم مقطوعة منها هذان البيتان:
قم إذا القوم ذكروا ... وابتكر حين بكروا
إن في كل لمحة ... نفحاتٍ تكرر
إنشاده
أنشدني القاضي أبو عبد الله قال أنشدني محمد بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي قال: أنشدني محمد بن رشيد الفهري قال أنشدني أبو حفص بن الخيمي لنفسه.
لو أرى وجه حبيبي عاذلي ... لتفاصلنا على وجه جميل
إفادة
سألنا الشيخ القاضي أبو عبد الله المغربي رحمه الله عن أسم كتاب الجوهري في اللغة فقلت له من الناس من يقول الصحاح بالكسر ومن الناس من يفتح فقال إنما هو الفتح بمعنى الصحيح قالوا يحتمل أن يكون مصدر صح كحنات.
إنشاده
أنشدني الفقيه الفاضل أبو عبد الله الشريشي قال أنشدني الشيخ القاضي أبو عبد الله المغربي قال أنشدني الحاج أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الرباطي قال أنشدني تقي(84/12)
الدين لنفسه:
تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره
إنشاده
أنشدني الفقيه أبو عبد الله بن تقي قال استيقظت من نومة نمتها في القائلة في شهر رجب من عام ستة وخمسين وسبعمائة وأنا أنشد هذا البيت:
ولا يبلغ القصاد كل مرادهم ... إذا عدموا زادا من العلم نافعا
إفادة
أفادني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو عبد الله بن زمرك أثر إيابه إلى وطنه من رحلة العدوة في علم البيان فوائد أذكر الآن منها ثلاثا أحدها الفقه في اللغة وهو النظر في مواقع الألفاظ وأين استعملتها العرب ومن مثل هذا الوجه قولهم قرم وعام إذا اشتهى لكن لا يستعمل إلا مع اللحم ولا يستعمل عام إلا مع اللبن فتقول عمت إلى اللبن وكذلك قولهم أصفر فاقع وأحمر قان ولا يقال بالعكس وهذا كثير والثانية تحري الألفاظ البعيدة عن طرفي الغرابة والابتذال فلا يستعمل الحوشي من اللغات ولا المبتذل في السن العامة والثالثة اجتناب كل صيغة تخرج الذهن عن أصل المعنى أو تشوش عليه إذ المقصود الوصول في بيان المعنى إلى أقصاه والإتيان بما يحصله سريعاً ويمكنه في الذهن وتحري كل صيغة تمكن المعنى وتحرض السامع على الاستماع واخبرني أن كتاب المغرب يحافظون في شعرهم وكتابتهم على طريقة والعرب ويذمون ما عداها من طرق المولودين وإنها خارجة عن الفصاحة وهذه المعاني الثلاثة لا توجد إلا فيها.
إنشاده
أنشدني الفقيه أبو عبد الله الشريشي قال أنشدني المغربي قال أنشدني الرباطي قال أنشدني تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه من صدر رسالة كتب بها لبعض إخوانه بالحجاز الشريف:
يهيم قلبي طرباً عندما ... استلمح البرق الحجازيا
ويستميل الوجد قلبي وقد ... أصبح لي ثوب الحجى زيا
يا هل اقضي من منى حاجتي ... وأنحر البز المهاريا(84/13)
وارتوي من زمزم فهي لي ... ألذّ من ريق المهى ريا
إنشاده
أنشدني الفقيه الرحالة أبو اسحق بن الحاج قال أنشدني الأستاذ الإمام أبو حيان يوسف بن حيان لنفسه:
عداي لهم فضل علي ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فأجتنبها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
إفادة
وقع بيني يوما وبين من يتعاطى النظر في العلم من اليهود كلام في بعض المسائل إلى أن جرى الكلام إلى عيسى عليه السلام فأخذ ينكر خلقه من غير أب ويقول وهل يكون شيء من غير مادة، فقلت له فيلزمك إذا أن يكون العالم مخلوقاً من مادة وأنتم معشر يهود لا تقولون بذلك (الظاهر أن القول بخلق العالم ابتداء من غير مادة مسلم عند أهل الأديان الإلهية) واحد الأمرين لازم أما صحة خلق عيسى من دون أب وأما بطلان خلق العالم من غير مادة فبهت.
إنشاده
أنشدنا صاحبنا الفقيه الأديب أبو محمد بن حذلم لنفسه:
يقولون خل عنك الأسى ... ولذا بالسرور فذا يوم عيد
فقلت لهم والأسى غالب ... ووجدي يحي وشوقي يزيد
توعد في مالكي بالفراق ... فكيف أسر وعيدي وعيد
إنشاده
أنشدني الفقيه الأديب البارع أبو محمد بن حذلم لنفسه:
شان المحبين في أشجانهم عجب ... وحالتي بينهم في الحب أعجبها
قد كنت أبعث من ريح الصبا رسلا ... تأتي فتطفي أشواقي وتذهبها
والآن أرسل دمعي أثرها ديماً ... فتلتظي نار وجدي حين أسكبها
فأعجب لنار اشتياق في الحشا وقعت ... والريح تذهبها والماء يلهبها
إفادة(84/14)
كتب لي بخطه شيخنا الجليل القاضي أبو عبد الله المغربي رحمه الله على ظهر التسهيل لابن مالك الذي كتبته بخطي بعدما كتب لي بخطه روايته فيه عن أبي الحسين بن مزاحم عن بدر الدين بن جماعة عن المؤلف فكتب بعد ذلك ما نصه:
قال محمد بن محمد المغربي بدر الدين بن جماعة المذكور يدعى بقاضي القضاة على ما جرت به عوائد أهل المشرق في تسمية مثله وأنا أكره هذا الاسم محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الملوك لا ملك إلا الله
إنشاده
أنشدنا شيخنا الفقيه القاضي المتفنن أبو عبد الله المغربي لنفسه:
وجد تسعره الضلوع ... وما تبرده المدامع
أمل إذا وصل الرجا ... أسبابه فالخوف قاطع
بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشاق صانع
النجف // محمد رضا الشبيبي(84/15)
سيرة صلاح الدين
لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه وقد دونت سيرته في عهده فكان عند المشارقة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل وأحق ما يرجع إليه في سيرته رحمه الله من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل وتاج الدين شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين.
أما كتاب النوادر فهو على أسلوب المؤرخ كتب بعبارة مرسلة لا تكلف فيها صيغ فيه اللفظ على قدر المعنى بخلاف الفتح القسي فإنه راعي فيه السجع من أوله إلى آخره حتى يكاد يمل قارئه وتشغله الألفاظ والجناسات والترصيع وعويص اللغة عن تدبر المعنى ودخوله الآذان بلا استئذان على أن له من سجعه في الأحيان ما يجئ عفو القريحة فيكون المعجب المطرب مثل فصل ذكر حال نساء الفرنج فإنه أبدع فيه كل الإبداع وإن كان ما يظهر ركب مركب الغلو في تمثيل حالهن.
ولقد تدبرنا سيرة الملك الناصر صلاح الدين منذ ولد في قلعة تكربت (532 هـ) وكان والده أيوب بن شاذي والياً بها إلى أن جاء الموصل مع والده وقد ترعرع إلى أن انتقل معه إلى الشام وأعطي بعلبك إلى أن اتصل بالملك نور الدين محمود بن زنكي إلى أن ذهب مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر إلى أن ملك مصر وأزال دولة العاضد الفاطمية وخطب للدولة العباسية إلى أن فتح الشام واستخلص أكثر بلاد الساحل الشامي والقدس من الإفرنج إلى أن توفاه الله في دمشق بعد جهاد أربع سنين في الصليبيين - تدبرنا كل هذا فلم نحص له ولا شهدنا له إلا ما ينطبق على مكارم الأخلاق والعدل المتناهي والحلم الذي دونه حلم أحنف ومعاوية ولولا ما دسه الفقهاء عليه من تزيين قتل الشهاب السهروردي الفيلسوف لخرجت صحيفة حياته كلها بيضاء نقية قال ابن شداد أن هذا السلطان كان مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز اله أنصاره(84/16)
بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معاندا للشرائع معطلا وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمر بقتله فطلبه أياما فقتله هذه رواية ابن شداد وهو من الفقهاء أورد هذه القصة في معرض أن السلطان يعظم شعائر الدين وإثبات أنه يقول بالعبث والنشور ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار.
إلا أن ابن أبي أصيبعة قال في حقيقة قتل الشهاب السهروردي أنه لما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد كثر تشنيعهم فاستحضره الملك السلطان الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام فتكلم معهم بكلام كثير وبأن له فضل عظيم وعلم باهر وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه وصار مكينا عنده مختصا به فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضر بكفره وسيروها إلى دمشق على الملك الناصر صلاح الدين وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه أن هذا الشهاب السهروردي لابد من قتله ولا سبيل إلى إطلاقه ولا يبقى بوجه من الوجوه ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يترك مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى ففعل به ذلك وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة. قال صاحب طبقات الأطباء أن السهروردي صار له شأن عظيم عند الملك الظاهر وبحث مع الفقهاء في المذاهب وعجزهم واستطال على أهل حلب وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم فتعصبوا عليه وأفتوا في دمه حتى قتل وقيل أن الملك الظاهر سير إليه من خنقه ثم أن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه وقبض على جماعة منهم واعتقلهم وأهانهم وأخذ منهم أموالا عظيمة.
هذه الغلطة الوحيدة هي التي أحصيت لصلاح الدين وهي في الحقيقة انتقام المتفقهة من المتفلسفة أو النقل من العقل - وهذا الانتقام ما برح على أشده في كل زمان ولا سيما منذ القرن السادس إلى آخر العاشر فإنه قتل في بلاد الإسلام كثير من الأعاظم أو اضطهدوا(84/17)
وأوذوا من قبل أعداء الفلسفة وما عدا ذلك فإن صلاح الدين لا يلام على قتل أحد من الصليبيين لأنهم أفحشوا هم في أسره وعاهدوا فخانوا ومثل من قتلهم من المصريين للقضاء على الدولة العبيدية أو من قاموا يدعون إليهم بعد أن زالت دولتهم وفي جملتهم عمارة اليمني الشاعر (المقتبس م3 ص 169) كل ذلك يغتفر له لأنه في سبيل تأييد سلطانه والملك عقيم كما قيل.
ومما ذكره ابن شداد في عدله أنه كان رؤفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي ولكن يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفرا وحضراً على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ويفتح باب العدل ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات. وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ولم يرد قاصداً أبداً ولا منتصلاً ولا طالب حاجة وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته ولقد رأيته وما استغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده ولكنه لم يحابه في الحق.
وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي وذلك أني كنت يوما في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل عليّ شيخ مسن تاجر معروف يدعى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه فسألته من خصمك فقال: خصمي السلطان وهذا بساط العدل وقد سمعت أنك لا تحابي قلت: وفي أقضية هو خصمك فقال: إن سنقر الخلاطي كان مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات وكان في يديه أموال عظيمة كلها لي ومات عنها واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها فقلت له: يا شيخ وما أقعدك إلى هذه الغاية فقال: لا تبطل بالتأخير وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات فأخذت الكتاب منه وتصفحت مضمونه فوجدته يتضمن حيلة سنقر الخلاطي وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بارجيش اليوم الفلاني من شهر كذا وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن(84/18)
ملكه بوجه ما وتم الشرط إلى آخره فتعجبت من هذه القضية وقلت للرجل: لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده فرضي الرجل بذلك واندفع فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية فاستبعد ذلك استبعاداً عظيماً وقال: كنت نظرت في الكتاب فقلت نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق شهود معروفون فقال: مبارك نحن نحضر الرجل ونحاكمه ونعمل في القضية ما يقتضيه الشرع.
ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة فقلت له: هذا الخصم يتردد ولابد أن نسمع دعواه فقال: أقم عني وكيلاً يسمع الدعوى ثم يقيم الشهود شهاداتهم وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل هاهنا ففعلت ذلك ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولا فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلفه لورثته فقال الرجل: لي بينة تشهد بما أدعيه ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه فلما سمع السلطان التاريخ قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك وذكروا القصة كما ذكرها والتاريخ كما ادعاء فأبلس الرجل فقلت له: يا مولاي هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلباً لمراحم السلطان وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائب للقصد فقال: هذا باب آخر وتقدم له بخلعه ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها قال ابن شداد فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة.
مثل هذا الفاتح العظيم مات ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة فان صدقة النفل استرقت جميع ما ملكه من الأموال فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريا وجرما واحدا ذهبا ولم يخلف لملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك وكان رحمه الله يهيب الأقاليم وفتح آمد (ديار بكر) وطلبها منه ابن قره أرسلان فأعطاه إياها وهو يعطي في وقت الضيق كما(84/19)
يعطي في حال السعة وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حرا من أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه قال ابن شداد: وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا وما سمعته قط يقول: قد زدت مراراً فكم أزيد وأكثر الرسائل كانت تكون على لساني ويدي وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة ألاف رس ولم يكد يركب فرساً إلا وقد وعد بأن يعطيها لأحد طلاب عطاياه. وبالجملة فإن ما ذكره العماد وابن شداد عن خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية وعدله وكرمه وشجاعته واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة هو العجب العجاب وقرة عين المسلمين والعرب على مر السنين والأحقاب.
يرى الناظر في كتاب العماد الكاتب الأصفهاني أنه لم يكد يغفل تفاصيل الوقائع الصلاحية أو يشذ عنه نادرة من النوادر اليوسفية الأيوبية على ضيق عطن النثر والسجع عن قبول هذه المعاني بجملتها ويعاب على الأصفهاني كثرة تبجحه بكتابته فقد ذكر غير ما مرة من كتابه أنه كان هو الفرد العظيم المقدم في الديوان الصلاحي مع أن ابن شداد ذكر عن نفسه شيئا من ذلك بالعرض أورده كما رأيته في معرض الكلام على منائح صلاح الدين ولكن صاحبنا العماد جرى على عادة الفرس في المبالغة سامحه الله فقال في فتح بيروت: وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني ومضض أجفاني ولعيون العواد أبرزني وانقطعت عن الحضور عند السلطان وضعفت عن تحرير كتاب الأمان فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه فلم يرضه ما كتبوه ولم يكفه ما رتبوه فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني ومرضت أذهان الأصحاء ولم يمرض ذهني فتسلم بيروت بخطي وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي وكان الناس قد أنسوا بما أسطره وأبرزه وأنسوا سوى ما أذكره وأحبره والغوا الصحة فيه فألفوا ولقوا السقم في غيره فانفوه فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق بل كله بتوفيق من الله توثيق فما فتح فتح إلا بمفتاحه ولا رتق فتق(84/20)
إلا بصلاحه ولا جلي ظلام إلا بإصباحه ولا وري زند إلا باقتداحه.
وقال من فصل: وكان قد عرض له مرض فانقلب إلى دمشق يداوي مزاجه فلما عاد إلى الحضرة سأله السلطان: أين كنت ولم أبطأت وحيث أصبت في المجيء فما أخطأت وقد كنا في انتظارك والسؤال عن أخبارك وهذا أوان إحسانك فأين إحسان أوانك فأجر بنانك بجرأة بيانك واجز في ميدانك وما للبشائر (بفتح القدس) إلا واصفها وللفرائد إلا راصفها وللفصاحة إلا قسها وللصحافة إلا قيسها وكان قد جمع أمس كتاب دواوينه على إنشاء كتب ما ارتضاها واقتضاب معان ما اقتضاها وكانوا سألوه في كتاب الديوان العزيز فقال: لهذا من هو أقوم به وعناني فلما ساءني ناداني واستدناني فصرفت إلى امتثال أمره عناني وسلم إلي الكتب التي كتبوها بالألفاظ التي رتبوها وقال غيرها ولا تسيرها وغرضه أني أعدل معوجها وأبدل مثبجها وافترع المعنى البكر للفتح البكر وأوشح ذكر آياته بآيات الذكر فاستجديها فما استجدتها واستلمحتها فما استملحتها وشممتها وبها سهك وكشفتها وسترهاهتك وكانوا قد تعاونوا عليها وفيها لهم شرك فشرعت في افتضاض الأبكار واقتضاء الأفكار واقتراح القريحة وافتراء رحاب الكلم الفصيحة الفسيحة وافتتحت في بشرى الفتح بكتاب الديوان العزيز وأوردت المعنى البليغ في اللفظ الوجيز ووشحت ووشعت وشعبت وأشبعت وأطلت وأطبت وصبت وأصبت وأعجزت وأعجبت ووافقت وأنست. . . . .
وقال في الوقعة العادية: ولما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثلثين أربعين كتابا بالبشارات فأبلغ المعاني وأبرع العبارات وقلت إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة ورأى البشائر شائرة وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد فما أعجل ما سلبوا وعروا وفروا وقروا وقد بقرت بطونهم وفقئت عيونهم ورأينا امرأة مقتولة لكونها قاتلة وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة وما زلنا نطوف عليهم ونعبر ونفكر فيهم حتى ارتدى العشاء بالظلام فعدنا إلى الخيام وأخذت الكتب التي نمقتها بالبشائر التي حققتها وإذا السلطان قد استبطاني وعدم إجابتي لما دعاني فما صبر ولا انتظر ولا ترقبني أن أحضر ولا أمهل أن أعطى بالبشارة حقها وأجلو بأنوار المعاني فقها وأبلغ بالبلاغة مداها بتقليص الضلالة ثوب هداها وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف فأبصرت عنده مشرفي المطانج(84/21)
والأبيات ومدوني الجرائد بالإثبات وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة بعبارات سخيفة وقد عطلت الحسناء من حيلتها وعروها من بزتها وشوهوا جمالها وأحالوا حالها فذهب المبشرون وسار القاصدون فما كان لتلك الوقعة عند من وقع عليها وقع ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها وفي تلك الحال التفت السلطان إليّ وقال اكتب بهذه البشارة إلى بغداد وعجل بها الانفاذ فقلت على سبيل العتب انتم تريدون ما أكتبه ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه فقال كأنك كتبت البشائر فهاتها حتى تهدى إلى طرقاتها فقلت ما فات فات وهيهات هيهات وأخرجت له ما بقي من بشارات البلاد التي أنشأتها بالألفاظ والمعاني التي ابتدعتها وابتدأتها فسارت فسرت البعيد والقريب وخصت من جداها بالخصب الجديب وصدحت بأسجاعها المنابر وصمت بسماعها المفاخر وظهرت بعباراتها العبر وبهرت بزبرها الزبر وعمرت بمعانيها وعمت مباهجها مناهج الأقاصي والأداني.
وقال من هذا البحر والقافية في ذكر لطف من الله في حقي خفي كان السلطان قبل استيلاء الفرنج على عكا بسنة قد عمل ترجمة تفرد بها القاضي ابن قريش لمكاتبة الأصحاب ليكتب بها إليهم ويعود بها الجواب فلم يبقى المكاتبة ابتداء وجوباً بخطي وخرج حكم عكا في الكتابة عن شرطي فقلت لأصحابي ما صرف الله قلمي عن عكاء إلا وفي علمه أن الكفر إليها يعود وأن النحوس تحلها وترحل عنها السعود واستعاذني الله من استعادتها وردها إلى شقاوتها بعد سعادتها ولقد عصم الله قلمي وكلمني وعرف شيم مخايل الطاقة من شيمي وهذا قلم جمعت به أشتات العلوم مدة عمري وما أجراه الله إلا بأجري فالحمد لله الذي صانه وعظم شأنه وما ضيع إحسانه وهو للفقه والفتيا ومصالح الدين في الدنيا وما عرف إلا بعرف فما صرف إلا عن صرف وما سفارته إلا في نجح وما أسفاره إلا عن صبح وما تجارته إلا لربح فهو يمين الدولة وأمينها ومعين الملة بل معينها بمداده يستمد إمدادها وبسداده للثغور سدادها ودواته دواء المعضلات وبعقده حل المشكلات وبخطه حط عوادي الخطوب وبقطه قط هوادي القطوب وببريه برء الأمراض وبدرءه درء الأعراض وبدره انتظام عقود العقول وبدراريه ابتسام الإقبال والقبول وبجريه جرى الجياد للجهاد وبسعيه سعي الأمجاد للإنجاد وبحركته سكون الدهماء وببركته ركون الرجاء فما كان الله(84/22)
ليضيعه في صون مالا يصونه من لا يعنيه فخفقت على عكاء من وقوف قلمي عنها وكان قد ألهمني الله فإنه صانه ولم يصنها وشكرت الله على هذه اللطيفة والعارفة الطريفة.
وقال من فصل في وفاة السلطان وكيف كانت حاله بعد: وبقيت تلك الأيام لا أفرق بين الدجى والضحى ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا وحالت حالي وزال أدلالي وزاد بلبالي وبطل حقي واتسع خرقي وتنازل جاهي وتنازق أشباهي وأعضلت أدواء الدواهي وبقيت المعارف متنكرة والمطالع مكفهرة والعيون شاخصة والظلال قالصة والأيدي يابسة والوجوه عابسة وعادت أبكار خواطري عانسة ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة وبقي باب كل مرتجى مرتجا ومنهج كل معروف منهجاً وظعن الغنى واختلف في حسن الاخلاف بي ظني حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه وقام بالأمر بعزم تأنيه وحزم تأتيه وعز تأبيه فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب دري ونضارة حلي دري فكتبت له وحليت من الملك عطله ووشيت الكتب ووشعتها وجليت الرتب ووسعتها وهززت اليراعة وأغزرت البراعة وهجرت الجماعة ولزمت القناعة.
هذا هو الإعجاب بالنفس بل إعجاب الفرس تراه ماثلا من أول كتابه إلى آخره فقد قال في مقدمته: وأودعته من فوائد الكلام والفرائد الفذ والتؤام دار السحاب ودر السحاب وسميته الفتح القدسي تنبيها على جلالة قدرة وتنويها بدلالة فخره وعرضته على القاضي الأجل الفاضل وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل فقال لي سمه (الفتح القسي في الفتح القدسي) فقد فتح الله عليك بفصاحة قس وبلاغته وصاغت صيغه بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته.
أظن أن القاضي الفاضل على جلالة شأنه ما كان يستحق هذا الإعظام من العماد لو لم يكن نوه له بكتابه على أن للعماد من المزايا التي يفاخر بها ما قد يغفر له هذا التبجح ولكن كثيرين يفاخرون وليس عندهم شيء من المزايا. نشأ العماد بأصبهان وقدم بغداد في حداثته وتفقه بالمدرسة النظامية وأقام بها مدة (ابن خلكان) ولما تخرج ومهر تلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط فلما توفي أقام العماد مدة في عيش منكد وجفن مسهد ثم انتقل إلى دمشق (562 هـ) وسلطانها يومئذ الملك العادل نور(84/23)
الدين وعرفه والد صلاح الدين فأحسن إليه وأكرمه وميزه عن الأعيان والأماثل وعرفه صلاح الدين ومدحه بقصيدة ثم إن القاضي كمال الدين الشهروزي نوه بذكره عند السلطان نور الدين وعدد عليه فضائله وأهله لكتابة الإنشاء قال العماد فبقيت متحيرا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمت لي به دراية ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيدة عنده لكنه لم يكن قد مارسها فجبن عنها في الابتداء فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها واتى فيها بالغرائب وكان ينشأ الرسائل باللغة المعجمية أيضا وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام ولما اخذ صلاح الدين دمشق حضر بين يديه وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله فاستمر على عطلته مديدة وهو يغشى مجالس السلطان وينشده في كل وقت مدائح ويعرض بصحبته القديمة ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه وقرب منه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين يضاهي الوزراء ويجري في مضارهم وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان ويتوفر على مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم وصنف التصانيف القائمة من ذلك كتاب جريدة القصر وجريدة العصر جعله ذليلا على زينة دمية الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الخطيري والخطيري جعل كتابه ذليلا على دمية القصر وعصره أهل العصر للباخرزي والباخرزي جعل كتابه ذليلا على يتيمة الدهر للثعالبي والثعالبي جعل كتابه ذليلا على كتاب البارع لهرون بن علي المنجم.
وقد ذكر العماد في جريدة الشعراء الذين كانوا بعد المائة إلى سنة اثنين وسبعين وخمسمائة وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب ولم يترك أحدا إلا النادر الخامل وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات وصنف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وهو مجموع تاريخ وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود وكيفية تنقله بخدمة السلطان صلاح الدين وذكر شيئا من الفتوحات بالشام وهو من الكتب الممتعة وانما سماه البرق الشامي لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق لطيبها وسرعة انقضائها وصنف كتب الفتح القسي في الفتح(84/24)
القسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس وصنف كتاب السيل على الذيل جعله ذليلا على الذيل لابن السمعاني وهو ذيل على كتاب جريدة القصر وصنف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية (مطبوع) وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات ونفسه في قصائده طويل وله ديوان صغير جميعه دوبيت وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف.
ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى فاختلت أحواله وتعطلت أوصاله ولم يجد في وجهه باباً مفتوحا فلزم بيته وأقبل على الاشتغال بالتصانيف وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الأخرى سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان وتوفي يوم الاثنين مستهل سهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر.
أما ابن شداد مؤلف السيرة الصلاحية فقد ولد بالموصل سنة 539 وحفظ بها القرآن الكرين في صغره وتخرج بضياء الدين القربطي وبابن الشيرجي والطومي الخطيب وغيرهم قرأ عليهم القرآن القراءات والتفسير والحديث والفقه والخلاف والأدب واللغة وأعاد بالمدرسة النظامية وحج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزار بيت المقدس والخليل ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه فظن أنه يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين فإنه كان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين وقتل على جبل عرفات فلما دخل عليه ذكر انه قابله بالإكرام التام وما زاد على السؤال عن الطريق ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه فأخرج له جزءاً جمع فيه أذكار البخاري وأنه قرأه عليه بنفسه فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقال له: السلطان يقول لك إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود فعرفنا بذلك فلنا إليك مهم فأجلبه بالسمع والطاعة فلما عاد عرف بوصوله فاستدعاه وجمع له في تلك المدة كتابا يشتمل على فضائل الجهاد وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة خرج إليه واجتمع به ببقعة حصن الأكراد وقدم له الكتاب الذي جمعه وقال إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد لظاهر الموصل إذا وصل إليها ثم أنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى(84/25)
سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثم ولاه قضاء المعسكر والحكم بالقدس الشريف ولما توفي صلاح الدين كان حاضرا وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الأخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض وكتب الملك الظاهر غياث الدين ابن صلاح الدين إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق يطليه منه فأجابه إلى ذلك فأرسله الملك الظاهر إلى مصر لاستخلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب فلم يوافق على ذلك ثم ولي قضائها ووقوفها وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس وليس بها من العلماء الأنفر يسير فاعتنى ابن شداد بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعاً جيداً يحصل منه جملة مستكثرة ولم يكن له خرج كثير فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب فتوفر له شيء كثير فعمر مدرسة للشافعية وداراً للحديث في حلب ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصل بها الاشتغال والاستفادة وكثر الجمع بها.
وكان ببدء القاضي أبو المحاسن بن شداد حل الأمور وعقدها لم يكن لأحد معه في الدولة كلام وكان سلطانها الملك العزيز أبو المظفر بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين وهو صغير السن تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل وهو أتابكه وتولى أمور الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور وكان للفقهاء في أيامهم حرمة تامة ورعاية كبيرة خصوصا جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون في شهر رمضان على سماطة.
قال صاحب وفيات الأعياد بعد إيراد ما تقدم تحصيله وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم حتى أنه كان يلبس ملبوسهم الرؤوساء والرؤوساء يترددون إليه وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم لكل واحد منهم مكان معين لابتعاده ثم أنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنه الملك الكامل بن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب وكان قد عقد لهم عليها فار في أول سنة تسع وعشرين وستمائة وعاد وقد جاء بها ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجر ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة واستولى على الملك العزيز جماعة من(84/26)
الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم ولم يرى القاضي ابن المحاسن وجها يرضيه فلازم داره إلى حين وفاته وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه غابة ما في الباب إنه لم يبقى له حديث في الدولة وكانوا يراجعونه في الأمر فكان يفتح بابه لإسماع الحديث كل يوم بين السلاطين واستمر على ذلك حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة في حلب وصنف كتابه ملجأ الحكام عند التباس الأحكام بتعليق بالأقضية في مجلدين وكتاب دلائل الأحكام تكلم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين وكتاب الموجز الباهر في الفقه وكتاب سيرة صلاح الدين وغير ذلك وجعل داره خانقه للصوفيه.
هذان هما الرجلان اللذان تعلقا بخدمة صلاح الدين وحرص عليهما على أدلالهما عليه فنفقت بضاعتهما في سوقه والدولة سوق يحمل إليها ما يروج فيها ومع ما كانا فيه من السعة لم تلهما الدنيا عن التأليف والتدريس وإحياء معالم العلم والأدب فأثرا بفضلهما في حياتهما وبعد موتهما كتب العماد السيرة الصلاحية ممزوجة بالأدب ومع ذلك لم يفته الغرض من التاريخ حتى أنه قال فيما تم عليّ الأسطول من فصل فانشقت مرائر الفرنج وأزاحت سفنها عن النهج وقرنصت بزاة البيزانية وتقلصت جناة الجنوية وكرثت أدواء الداوية وكثرة أسواء الاسبتارية وزادت آلام الألمانية وعادت أسقام الافرنسسيية.
مما دل على أنه كان يعلم أجناس المحاربين ومما ذكره أيضا في ذكر ما تجدد لملك الانكتير (انكلترا) من المراسلة والرغبة في المواصلة قال: وصلت رسل ملك الانكتير إلى العادل بالمصافحة على المصفاة والمواتاة في الموافاة وموالاة الاستمرار على الموالاة والأخذ بالمهداة والترك للمعاداة والمظاهرة بالمصاهرة وترددت الرسل أيام وقصد التئاما وكادت تحدث انتظاما واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الانكتير وأن يعول عليهما من الجانبين في التدابير على أن يحكم العادل في البلاد ويجري فيها الأمر على السداد وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها وشمسها من قبوله في أوجها ويرضي العادل مقدمي الفرنج والداوية والاسبتار ببعض القرى ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا ولا يقيم معها في القدس الأقسسيون ورهبان ولهم منا أمان وإحسان واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد وجماعة من الأمراء من أهل الراية والسداد وهم علم الدين سليمان بن جندر وسابق الدين عثمان وعز الدين بن القدم وحسام الدين بشارة وقال لنا تمضون إلى(84/27)
السلطان وتخبرونه عن هذا الشأن وتسألونه أن يحكمني في هذه البلاد فلما جئنا إلى السلطان عرف الصواب وما أخر الجواب وشهدنا عليه بالرضا وعاد الرسول إلى ملك الانكتير بفضل أمر الوصلة وإراحة الجملة وإزاحة العلة واعتقدنا أن هذا الأمر قد تم إلى أن قال وبلغ الخبر إلى مقدميهم ورؤسائهم فقصوه على قوسهم وعثروا على عروسهم فجبوها بالعذل واللذع ثم رضيت على شرط الموافقة في الدين فأنف العادل إلى آخر ما ذكر.
بيد أن الصراحة في كلام ابن شداد أكثر لأنه لم يتقيد بالسجع والترصيع وأنواع البديع المريع فقال في ذكر ملك الانكتار: وهذا ملك الانكتار شديد البأس بينهم عظيم الشجاعة قوي الهمة لهم وقعات عظيمة وله جسارى علي الحر وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة لكنه أكثر مالاً منه وأشهر في الحرب والشجاعة وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص ولم يرى أن يتجاوزها إلا وأن تكون له وفي حكمه فنازلها وقاتلها فخرج إليه صاحبها وجمع له خلقاً كثيراً وقاتلهم قتالاً شديداً. . . . ولما كان يوم النبت ثالث عشر الشهر قدم ملك الانكتار بعد مصالحته لصاحب جزيرة قبرص والاستيلاء عليها وكان لقدومه روعه عظيمة ووصل في خمس وعشرين ثانية مملوءة بالرجال والسلاح والعدد وأظهر الإفرنج مسروراً عظيماً حتى أنهم أوقدوا تلك الليلة نيراناً عظيمة في خيامهم ولقد كانت النيران مهولة عظيمة تدل على عدة عظيمة كبيرة وكان ملوكهم يتواعدوا أننا به فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنهم أنهم متوقنون فيها يريدون أن يفعلوا من مضايقة البله (عكا) حتى قدومه فإنه ذو رأي في الحرب مجرب وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة. . . .
وقال من فصل: كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمسون من جانب الانكتار أن يجتمع بالسلطان وذكرت عذر السلطان عن ذلك وانقطع الرسول وعاد معاوداً في المعنى وكان حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياماً عنده بسبب مرضه واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه وأنكروا عليه ذلك وقالوا هذه مخاطرة بدين النصرانية ثم بعد ذلك وصل رسول يقول لا تظن تأخري بسبب(84/28)
ما قيل فإن زمان قيادي مفوض إليّ وأنا أحكم ولا يحكم عليّ غير أني في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني عن الحركة فهذا كان العذر في التأخير لا غير وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا وعندي ما يصلح للسلطان وأنا استخرج الأذن في إيصاله إليه فقال له الملك العادل قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية فرضي الرسول بذلك وقال الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاجة حتى نطعمها لتقوى ونحملها فداعبه الملك العادل وكان فقيهاً فيما يحدثهم به فقال الملك قد احتاج إلى فراريج ودجاج ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر على أن قال الرسول ما الذي أردتم منا أن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع فقيل له عن ذلك نحن ما طلبناكم أنتم طلبتمونا فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى فخرج رسول الانكتار إلى السلطان ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه وأعاده مشرفاً مكرماً إلى صاحبه وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عندنا من ذلك أيضاً.
وقال في مشورة ضربها في التخيير بين الصلحين بين الانتكار والمركيس: واصل التعاقد أن الملك (الانتكار) قد بذل أخته للملك العادل بطريق التزويج وأن تكون البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية لهما فإما الإفرنجية فلها من جانب أخيها والإسلامية له من جانب السلطان وكان آخر الرسائل من الملك في المعنى أن قال أن معاشر دين النصرانية قد أنكروا عليّ وضع أختي تحت مسلم بدون مشاورة البابا وهو كبير دين النصرانية ومقدمة وها أنا أسير إليه رسولاً يعود من ستة أشهر فإن أذن فيها ونعمت وإلا زوجتك ابنة أخي وما أحتاج إلا أذنه في ذلك هذا كله وسوق الحرب قائم والقتال عليهم ضربة لازم.
وقال في عود الرسول من قبل ملك الانتكار: وادي الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة وأي قدر لها في ملكك وعظمتك وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها وقد ترك القدس بالكلية فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها فأنت تترك له هذه البلاد ويكون الصلح عاماً فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال(84/29)
ويروج وأن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنوه من الرواح ولا يمكن مخالفتهم فأنظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله الولي في أن يقي المسلمين شره فما بلونا أعظم حيلة وأشد إقداماً منه.(84/30)
تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة
يفرد الغربيون كل العلوم بتأليف خاصة بل يفردون العلم الواحد بفروع كما هو الحل في التاريخ فقد وضع المسيو شارل سينوبوس أستاذ التاريخ في كلية باريز وصاحب كتاب تاريخ الحضارة الذي عربنا أكثره ونشرناه بين أهل العربية هذا الكتاب في تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة:
أفاض في نشوء الأحزاب السياسية وأشكال الحكومات وتقلبات السياسة في أوروبة منذ سنة 1814إلى سنة 1896 أي منذ سقوط نابليون أيام كان الحاكم المتحكم على كثير من بلاد أوروبا يتدخل في شؤونها الداخلية والخارجية ويحكمها حكماً عسكرياً قاسياً بل كان ببسط نفوذه مباشرة أو بالواسطة على جميع شعوب أوروبا فيحكم الإمبراطورية الفرنسوية مباشرة وهي ليست فقط فرنسا القديمة والبلاد المضافة إلى الجمهورية (كالبلجيك وولايات الريم) بل أجزاء من سويسرا وثلث ايطايا وبلاد القاع والولايات الألمانية الواقعة على شواطئ بحر الشمال والولايات الايليرية (الأسبانية) فيحكم هذه البلاد حكما مطلقاً كما كان يحكم الممالك المجاورة التي ارتبط معها بمعاهدات هجومية ودفاعية مثل ممالك اسبانية ونابولي وإيطالية وفستوفالية التي ولي عليها أقاربه وممالك ألمانية المنضمة تحت لواء اتحاد الريم وسويسرا والدانمارك واضطر سنة 1812 المملكتين الألمانيتين المستقلتين النمسا وبروسيا إلى الانضمام إليه ضد روسيا ولم يبقى خارجاً عن سلطانه إلا أطراف أوروبة مثل انكلترا وروسيا والسويد وصقلية والبرتغال وكان عصاة أسبانية يناوشونه القتال وهكذا كانت أوروبا بأجمعها منقسمة إلى معسكرين: نابليون وأعداؤه.
بدأ المؤلف بالكلام على انكلترا وذلك لأنها كما قال كانت في القرن التاسع عشر المثال السياسي لأوروبا فالشعب الانكليزي هو الذي أنشأ الطريقة السياسية التي اتبعتها أوروبا المعاصرة والحكم الدستوري والحكم النيابي وضمانات الحرية واقتدت به بقية الأمم والأحزاب التي اتصفت بها الحياة السياسية في القرن التاسع عشر (مثل الدستوري والنيابي والمتطرف والاشتراكي) قد تألفت في انكلترا قبل أن تظهر في الممالك الأخرى ولذا بدأ بانكلترا في الكلام على التاريخ السياسي في أوروبا.
تكلم على الحومة المركزية في انكلترا والسلطات المحلية وطريقة انتخاب النواب والكنائس(84/31)
وتأليف الجمعيات وحالة إيرلاندا وحالة الإصلاح وتحرير الكاثوليك والإصلاح في الانتخابات وذكر البواعث التي حملت أهل إيرلاندا على المطالبة بحقوقهم وكان منها انتشار مرض البطاطا سنة 1845 والمجاعة التي حدثت هناك سنة 1846 فكان الجياع يقصدون المدن يجمعون نفايات البقول ويأكلون الأعشاب أو مسواك القرود والطرق وقد بعثرت فيها الجثث فهلك الشعب بكثرته من الشقاء أو هاجر إلى أميركا فلم تلبث إيرلاندا أن سقطت نفوسها من 8170000 نسمة إلى 6500000نسمة سنة 1851 وأخذ الشعب منذ ذلك الحين يقلّ فبلغ 5100000 نسمة سنة 1881 و4700000 نسمة سنة 1891. وتكلم على الطرق السياسية التي عمد إليها الايرلنديون لمداواة هذا الأمراض.
وجود الكلام على انكلترا بين الاصطلاحين سنة 1832 - 1867 وفيه فصول في الإصلاح الإداري وهياج العملة وثورة ايرلندا وهياج حرية المقايضة والأزمة الايرلندية والنشوء الديمقراطي وغير ذلك. وكلام طويل على الأحزاب الانكليزية بعد سنة 1868 وما قامت به من جلائل الأعمال وكيف تألف حزب استقلال إيرلاندا الإداري وما أتاه للوصول إلى غرضه وكيف تألفت الأحزاب الاشتراكية وما قام به وزراء انكلترا في السياسة الداخلية والخارجية مثل الوزير ديزرائيلي الذي كان يهيج العواطف الوطنية الانكليزية باتخاذ سياسة الحرب والضرب باسم الشرف الانكليزي الذي أهين بسياسة الحياد الذي جرى عليها غلادستون وأهاج الشعور الوطني بأمرين: المستعمرات الانكليزية والمسألة الشرقية فكان الأحرار يرمون في سياستهم إلى الزهد في المستعمرات وإرادة انفصالها عن بريطانيا العظمى لأنها تكلف نفقات باهظة وصرح الحزب المحافظ بأنه يريد سلامة المملكة البريطانية وحاول ان يقوي الصلات بين المستعمرات وانكلترا بوحدة عسكرية وتجارية فنادت الحكومة ببيعة الملكة إمبراطورة على الهند وحاولت إنشاء وحدة أو اتحاد في إفريقيه الجنوبية انتهى بحرب الترنسغال. وصرح ديزرائيلي في المسألة الشرقية بأنه يود سلامة المملكة العثمانية فأوقفه غلادستون زمناً بإهاجة الرأي العام ضد العثمانيين لارتكابهم الفظائع في بلغاريا وعقدت سنة 1876 في المدن الكبرى بانكلترا عدة احتجاجات يظهر فيها الشعب الانكليزي سخطه على مرتكبي تلك المظالم فاستحسن مجلس النواب سياسة التداخل فعمدت انكلترا إلى نفس السياسة التي اتخذتها في حرب القريم وهي(84/32)
سياسة العداء وقامت بعمل فعلي في أوروبا.
وختم المؤلف كلامه بالفصل الآتي تعريبه وهو في النشوء السياسي في انكلترا: ان انكلترا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي اجتازت القرن التاسع عشر بدون ان تقوم بثورة فاحتفظت بدستورها القويم ولم تمسه وكذلك بأصول حكومتها وقد نسي الأجانب الثورات التي نشبت في القرن السابع عشر واستنتجوا من ذلك ان الثبات السياسي ملازم للأخلاق الانكليزية ومع هذا فان نحت هذه الصور الباقية غير المتحولة قد تبدلت الحياة السياسية من حيث العمل تبدلاً مهماً وذلك من ابتداء القرن إلى أواخره بحيث خرجت انكلترا من طريقة حكمها القديمة فقد كانت الأمة الانكليزية سنة 1814 خاضعة بعد لطبقة من الإشراف هي القابضة على زمام المجتمع والإدارة المحلية والحكومة المركزية فجدد القرن التاسع عشر النظام الاجتماعي بسنه سنة المساواة أمام القانون فألغيت القوانين والعادات التي كانت تقضي على الطبقات النازلة ولقول بعدم الكفاءة السياسية في المخالفين في الدين مثل الكاثوليك والإسرائيليين ومثل شقاء الملاحين وسقوط المحاويج المعانين ومنع عقد جمعيات العملة وسلبت الإدارة المحلية من طبقة الأشراف من أهل البلاد وجعلت في يد مجالس ينتخبها السكان. فأبقت الحكومة المركزية على مظاهرها ولكن تبديل الجماعات المنتخبة قد اختط لها خطة جديدة فأصبح مجلس العموم بعد ان كان طائفة من المقننين الأشراف مجلسا يضم نواب الأمة وأخذ بالتدريج يقضي على حكومة الملك والنبلاء (اللوردات) حتى كاد يمسي مجلساً ذا سلطة مطلقة وصيرت الوزارة التي يجب ان تكون مجلس الملك جمعية تنفيذية لمجلس النواب وهكذا انتقلت انكلترا من الحكم الدستوري إلى الحكم النيابي وطرية حكمها النيابي تتحول إلى طريقة الحكم الشعبي أو جمهورية يحكمها مجلس منتخب انتخاباً ديمقراطياً.
وكان هذا النشوء في المجتمع والحكومة على قاعدة ديمقراطية مناقضا مناقضة صريحة للدستور الارستوكراطي في المجتمع الانكليزي الذي لم تحفل به زمنا طويلا فقد بدئ بتنفيذ هذا الدستور منذ أربعين سنة بحيث ان العالم تين (سنة 1870) لم يتكلم عليه على انه لم يحدث من تحول داخلي في المجتمع الانكليزي بل جاء به من الخارج ولم ينشأ إلا من كيفية تأليف المملكة الانكليزية المؤلفة من أجزاء متخالفة متباينة.(84/33)
ليست المملكة المتحدة بريطانية العظمى وإيرلاندا التي يدعوها بانكلترا على غير حقيقتها أمة كفرنسا بل هي مجتمع أمم قديمة (غاليون وايكوسيون وإيرلانديون) خضعت لسلطان أمة متغلبة وظلت مباينة لها في نظامها الاجتماعي والديني وربما ساغ ان تدعى أمة جديدة ذاك المجتمع الصناعي الذي نشأ منذ أوائل القرن الثامن عشر في الأصقاع المقفرة في الغرب والشمال من انكلترا.
فانكلترا القديمة أي انكلترا الجنوب والشرق التي نظمت الحكومة والكنيسة كانت ارستوكراطية وانكليكانية ولا تزال كذلك اليوم خاضعة لإشرافها وكهنوتها وقد ظلت سياج الحزب المحافظ وحصنه الحصين أما سائر أمم المملكة فلم تكن لها صلة بالأشراف ولا بالكنيسة الانكليكانية بل كانت ايكوسيا من الشيعة البرسبتارية ديمقراطية في مناحيها وإيرلاندا كاثوليكية معادية لنبلاء الانكليز وبلاد الغال وانكلترا الجديدة الصناعية في الشمال والغرب يسكنها ناس من المخالفين. فكانت هذه المجتمعات الديمقراطية والمخالفة معادية بالطبع للحكم الذي يبعدها من السلطة ويجعل أديانها غير معتبرة رسمياً وهي التي تألفت منها الأحزاب المعارضة للنبلاء الانكليز والكهنوت الانكليكاني. والايكوسيون والايرلانديون والغاليون وانكليز الشمال والغرب هم الذين ألفوا ويؤلفون بعد سواد الحزب الحر والحزب الراديكالي وهم الذين أدخلوا على انكلترا القديمة تغييراً ديمقراطياً.
بيد ان انكلترا القديمة التي كان فيها بلاط الملك والحكومة قد انتفعت من ذلك للمحافظ على طريقة الحكم القديمة ومد سلطانها على رعايا بريطانيا العظمى وبمقاومتها للجديد من الحالات حتى ينفذ صبر رعاياها قد توصلت إلى ان تخفف كثيراً التحول نحو الديمقراطية وهكذا كان التبديل البطيء في الأوضاع الانكليزية على نسبة القوى الهائلة التي استخدمها المعارضون.
لم يبدأ الحزب الديمقراطي ببث دعوته في مملكة من ممالك أوروبا قبل ان يبثها في انكلترا فان هذه سبقت العالم لأول مرة في القرن التاسع عشر وذلك انه بواسطة الراديكاليين سنة 1819 قد وضعت الخطة السياسية لجميع الأحزاب الديمقراطية في أوروبا. وما من حزب ديمقراطي قد استجاش له أنصاراً وأعواناً أكثر من الراديكاليين والشارتيين والايرلنديين والمتظاهرين من العملة سنة 1866 فقد كانت انكلترا بلاد الاضطرابات والتظاهرات(84/34)
الهائلة بيد ان هذه الجماهير الديمقراطية المحترمة بمشروعية مطالبها قد وقفت أمام مقاومة الحكومة الارستقراطية التي كانت قابضة على زمام الأمر فكبحت جماح مخالفيها من دون عناء بتوقيف المشاكسين وسن قوانين استثنائية والاستكثار من الجند.
ونال هؤلاء الجماعات في نصف قرن بما قاموا به من التظاهرات أكثر مما نالته حفنة من الجمهوريين الفرنسويين في يوم واحد وقد عمدت إلى القوة بل انها رأت لإكراه الارستقراطيين المحافظين على التنازل عن شيءٍ من حقوقهم انه من اللازم ان يحالفوا الارستقراطيين الأحرار ويندمجوا فيهم واضطروا إلى الاكتفاء بالإصلاحات الجزئية التي رضي حلفاؤهم بإعطائها وهكذا وضع في صورة تحكيم قانون الانتخاب النصف العام والتعليم الابتدائي النصف إجباري ونصف المساواة بين الأديان في إيرلاندا والإدارة المحلية النصف انتخابية وقانون العملة النصف ديمقراطي.
وقد دبر الأمر رؤساء الأحرار في هذه الإصلاحات وكان لسواد الديمقراطيين من العملة الإيرلانديين بادئ الرأي في الإصلاح بد طولى ثم جرت التظاهرات النهائية بإخافة جماعة المحافظين فطلب قدماء الراديكاليين إصلاح الانتخاب من حيث الجملة ونزعوا الإصلاحات الانتخابية الجزئية التي جرت سنة 1832 و1867 التي أعقبتها جملة من الإصلاحات الديمقراطية والعامية. وطالب الايرلانديون وحصلوا على المساواة السياسية في المعتقدات الدينية.
وبعد ان نال الراديكاليون والايرلانديون جزءاً من السلطة السياسية بواسطة حق الرأي العام في الانتخاب دخلوا تدريجياً في الحزب الحر الانكليزي وانتهى بهم الأمر ان عرضوا عليه برنامجهم في الاستقلال الإداري والإصلاح الديمقراطي بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحر والراديكالي أو الايرلندي وقد سرت دعوة الراديكاليين الاتحاديين حتى إلى الحزب المحافظ نفسه بحيث أخذ يطالب بمطالب ديمقراطية.
وهكذا تداعى بناء الحكم القديم الذي كان يدافع دوله أكثرية الانكليز الممتازة وذلك بضربات سواد المعارضين من غير الانكليز فانهار البناء قطعة قطعة وحل النظام الجديد أيضاً ب \ ون ان تكون له خطة مجموعة بالاحتفاظ بالملكية واللوردات المتوارثين خلفاً عن سلف وكنيسة الحكومة الممتازة ومجانية الوظائف الانتخابية وقيود حق الانتخاب العام فامتزجت(84/35)
أوضاع الأنقاض القديمة بطعم الجديدة في مجموع حوى المتناقضات حيث لا يمكن التبوء على التحقيق فيما سيزول أو يبقى قائماً وهكذا من الصفات المشوشة في الحياة السياسية في انكلترا الحالية.
تكلم المؤرخ على سياسة الأحزاب بعد إخفاق أعلام نابليون الأول وتاريخ الانقلابات الفرنسوية أشبه بتاريخ الانقلابات العثمانية ولعلنا نحن المقلدون لها المتشعبون بآراء أهلها. مثال ذلك معاملة حكومة فرنسا للجرائد هناك بعد سنة 1819 وما أصدرته من القوانين لإرهاقها فقد جعلت على الصحف ضمانة باهظة وضربت عليها كما في الصحافة الانكليزية ضريبة وضع طابع بعشرة سنتيمات عن كل نسخة وخمسة سنتيمات أجرة البريد ولم تكن تباع الجرائد أعداداً مفردة بل لم يكن لها سوى مشتركين بأسعار غالية إذ انه يقضي على كل نسخة ان تدفع 15 سنتيما ضريبة. وكان الاشتراك من علائم الظرف خاصاً بالكبراء أو أهل اليسار وربما اشتراك بضعة منهم ليتقاسموا قيمة الاشتراك بينهم وكانت الصحف قليلة جداً ثلاثة أو أربعة لكل حزب ومجموع ما يطبع منها نحو سنة 1830 لم يتجاوز الخمسة عشر ألفاً. وقد جاء في تقرير سري سنة 1824 ان مجموع عدد نسخ الصحف السياسية المعارضة بلغ 41 ألفاً ومجموع ما تطبعه الصحف الموالية للحكومة 15 ألفاً. وقد عدوا من علائم النجاح الكبير سنة 1830 ان كان عدد مشتركي جريدة الكونستيتوسيونل 23 ألفاً وما كانت هذه الصحف تحتوي إلا على مقالات سياسية وأدبية غير موقع عليها على الطريقة الانكليزية وقد عدوا انقلابا شروع جريدة البريس بنشرها سنة 1836 مقالات في موضوعات مختلفة وعد من العار العظيم ما أتته جريدة البريس من نشر إعلانات مأجورة لتغطية نفقاتها وكانت الجرائد على عهد الحكومة الملكية غالية الثمن فارغة من المادة متشابهة المآل قلما تشبه صحف هذه الأيام ومع هذا كان لها بعددها القليل تأثير كبير في مشتركيها وإذ كان الفرد لا يطالع سوى جريدته كان رأيه رأي جريدته فقط.
سن مجلس النواب الفرنسوي سنة 1822 قانونا للصحافة يقضي باستحصال رخصة قبل إنشاء الجريدة وان يكون للحكومة الحق بإيقافها وان تنظر في دعاويها محاكم عادية مؤلفة من حكام مستقلين عن الحكومة وألغيت المراقبة ولكن الوزارة يحق لها ان تعيدها بأمر منها(84/36)
وقد جرى البحث أيضاً لمنع إنشاء جريدة جديدة وان تبتاع الجرائد القديمة واحدة بعد أخرى. وبالحقيقة ان الصحافة كانت خاضعة لطريقة غريبة من الدعاوي والأحكام بحيث أصبحت المعارضة مستحيلة تقريباً حتى ان الحكومة إذا لم تجد مادة لمحاكمة الصحيفة تقيم على مديرها دعوى ترميه فيها بهوى في النفس وتحكم عليه بسلسلة مقالات لا سبيل إلى الحكم بها مفردة ولكنها إذا وضعت بعضها مع بعض تدل على أهواء مهيجة.
قال سينويوس من فصل في النشوء السياسي في فرنسا خلال القرن التاسع عشر: يظهر التاريخ السياسي في فرنسا منذ قرن لأول وهلة سلسلة غير مرتبطة الأجزاء من الثورات ومن ذلك وقر في صدور العالم خارج فرنسا ان الفرنسيس وحدهم شعب ذو أهواء في السياسة لا يعرفون ما يريدون وهذا عين ما كان يقال في الانكليز أواخر القرن التاسع عشر واليك مع هذا نظرة في تلك الثورات المغمضة التي بدت فيها في مظهر نشوء مدرك للغاية فقد كانت الأمة الفرنساوية في أواخر القرن الثامن عشر ملكية وان كانت أخذت تسير نحو الديمقراطية والعامية ولا سيما في المدن وأصقاع الشرق والجنوب حيث المجتمع أقرب إلى ان يكون ديمقراطياً والفلاحون أكثر عدداً وكبار المالكين أقل نفوذا ومن هذه السواد القائل بالملكية والديمقراطية انشق سنة 1792 بما قام من شق عصا الطاعة للملك والبلاط الملكي حزب ثوري صغير لم يلبث ان أصبح جمهورياً على خلاف إرادته إلا قليلا وهو حزب قليل العدد عقد العزم ان يتولى زمام الأمر وبالقوة ان اقتضى الحال فاستولى على الحكم من سنة 1792 إلى 1870 أربع مرات وكان توليه له بطريقة واحدة وهو ضرب مركز الحكومة في باريز وإذ كان أشياعه قلائل لم يتيسر له ان يستولي كل الاستيلاء بصورة قطعية وذلك لان الأكثرية من الملكيين تعزم في الحال على تأسيس حكومة ملكية فتبدد الجمهوريين وهكذا كان يتبع كل انقلاب جمهوري إعادة الحكم الملكي فيدوم ريثما يقوم جيل جديد يتقوى به رجال الجمهورية ويكثرون سوادهم للقيام بانقلاب جديد ولكن كانت كل ثورة تحمل معها شطرا من أهل الحكم القديم (الملكية) ممن لا يستطيع البقاء بإعادة سلطانه وهذا التقلب حدث مرات أربعاً.
وهكذا أفاض المؤلف في الكلام على كل دولة في أوروبا فتكلم على بلاد القاع (بلجيكا وهولاندة) وسويسرا وثوراتها السلمية البديعة واسبانية والبرتغال وايطاليا وألمانيا قبل(84/37)
الوحدة الألمانية والنمسا على عهد حكومتها المطلقة ومملكة بروسيا قبل غليوم الأول على الوحدة الألمانية والإمبراطورية الألمانية وكل ذلك بلسان المؤرخ المنصف الذي لا تأخذه العصبية لقومه ما أمكن وأفاض في النظام الدستوري في النمسا والمجر وذكر بلاد السكنديناف ومملكة بروسيا وبولونيا والمملكة العثمانية والأمم النصرانية في البلقان أي رومانيا واليونان والصرب والجبل الأسود والبلغار وعقد فصولاً في آخر سفره البديع في تحول الشروط المادية في الحياة السياسية وفي الكنيسة والأحزاب الكاثوليكية وفي أوروبا على عهد حكم مترنيخ من سنة 1815 - 1830 وفي منافسة روسيا لانكلترا 1830 - 1854 وفي تفوق فرنسا والحروب الأهلية سنة 1854 - 1870 وفي تفوق ألمانيا والسلام المسلح.
ومما قاله في مملكة النمسا والمجر وما قام فيهما بشان مسائل اللغات ان بلاد المجر والنمسا قد أصبحت منذ 1867 مملكتين مختلفتين لكل منهما حياته السياسية الداخلية الخاصة ولكن اشتراكهما في الملك والسياسة الخارجية كان موطداً للتضامن بينهما ومؤثراً في سياستهما الداخلية وكان من احتلال النمسا لبلاد البوسنة سنة 1878 معدلا للنشوء الداخلي في البلادين وعلى ذاك العهد كانت بلاد النمسا مزيجاً مختلف الجنس والطبائع من الشعوب وكانت الحياة السياسية بعد سنة 1878 مستغرقة في الجهاد بين تلك الشعوب وكانت الأحزاب وطنية فانقسمت إلى مركزين أشياع الحكومة العامة التي يدير دفتها الألمان واتحاديين أشياع الحكومات المحلية التي يتولى إدارتها الصقالبة (السلافيون) أي التشك والبولونيون والسلافيون والخرواتيون وينقسم الألمان إلى أحزاب سياسية حزب الحكم القديم الارستقراطي الكاثوليكي أي المحافظ وحزب الديمقراطيين المحررين أي الأحرار ومما كان يزيد في تعقيد الحياة السياسية ان الأمم ليست شعوباً صريحاً تخالفها فما كان العناصر في بلاد النمسا والمجر يمتازون في العمل إلا بلغاتهم فتقوم جنسية المرء بلغته التي يستعملها وأصبح جزء من الألمان صقالبة جرمانيين ولذلك كانت الأمم في كل ولاية (أي الناس الذين يتكلمون بلسان واحد) غير متصلة الأجزاء بعضها بالأخر ممزوجة مزجاً ومنضدة تنضيداً فكانت اللغة الألمانية شائعة في معظم البلاد التي يرفرف فيها العنصر السقلبي اللسان الذي تتخاطب فيه المدن وكبار أرباب الأملاك والطبقة المتعلمة إذ كانت(84/38)
الألمانية لغة التجارة والبلاط الملكي والعلم والأدب وكان للغة الايطالية نفس تلك المكانة على شواطئ البحر الادرياتيكي وكان ثمة بلاد ألمانية برمتها أي مجرمنة لا أثر فيها للمنازعات الوطنية ولكن كان الاختلاف في اللسان في البلاد الأخرى منشأ عداوات بين السكان من أهل إقليم واحد بل بين أهل المدينة الواحدة وما كان النزاع يقوم فقط في المركز بين النواب في المجلس بشان السياسة العامة التي تتبعا الحكومة الملكية بل بين مجالس كل ولاية بمناسبة حقوق كل عنصر أي بسبب استعمال اللغات فان القانون الأساسي الذي أعلن مبدأ المساواة في الحقوق بين الأمم واللغات في المدرسة والوظائف والحياة السياسية قد وضع مسألة اللغة موضع النظر ولم يحلها فكان يحق لأهل كل لسان ان يكون لهم مدارس ابتدائية تعلم فيها لغاتهم (وذلك بصعوبة في القرى المختلطة اللغات والمدن التي يتكلم فيها أبناء الأسرة الواحدة لغات مختلفة ويعيشون مشتتين) أما التعليم الثانوي فيكون باللسان المحلي بحسب مبدأ المساواة وتعلم الألمانية تعليماً راقياً حباً بمصلحة التلامذة لأنها تفسح لهم السبيل إلى تلقف العلوم الحديثة وقد نشأت ارتباكات أخرى في تطبيق مبدأ المساواة بين اللغات في الوظائف والحياة السياسية وذلك لان وحدة الحكم تتطلب لغة واحدة للملكة للقيام بالأعمال العامة فكانت اللغة الألمانية في كل زمن في النمسا لغة الملك والحكومة والجيش بل اللغة الوحيدة التي يتفاهم بها أهل العناصر المختلفة فاقتضى ان يترك له هذا الامتياز ويقلل من المساواة في الإدارة المحلية والمحاكم ولكن ذلك مما يصعب تطبيقه بالعمل فلا يكفي إنشاء اللوائح ويجيبوه بلسانه وان يقدم المحاضر بلغته ويحاكم بها وليس في الأماكن ان يتكلم كل موظف بجميع لغات الولاية بسهولة ولذا كانت مسائل المدارس الابتدائية المختلطة والتعليم الثانوي والعالي واعتماد اللغات في المحاكم والإدارة أهم مواضع الخلاف في إمبراطورية النمسا والمجر.(84/39)
في بلاد الغرب
(كتبنا في جريدتي القبس والمقتبس زهاء أربعين رسالة من ديار الغرب وضفنا فيها رحلتنا الأخيرة إليها وما لحظناه من أسباب ارتقائها واقتبسناه من فوائدها وعلومها وقد رأينا ان ننظر في أكثرها ونحذف ما ليس له علاقة بموضوع هذه المجلة وان ننشرها تباعا عسى ان تكون عليها هنا مسحة غير التي كانت لها في الصحف الطيارة وان يراجعها ويمعن النظر فيها من تهمهم هذه الموضوعات الاجتماعية).
دواعي الرحيل وجهلنا ببلادنا
كان من طاف بلادنا وقابل بين حالها وحال الأقطار الراقية يدرك لأول وهلة اننا عيال على الغرب والغربيين في كل شيء وأنهم إذا قطعوا عنا أقل صادراتهم نعود أدراجنا على النحو الذي كنا عليه منذ بضعة قرون. وهذا مما يصدق علينا في عامة شؤوننا والعلم هو أول بضاعة يجب علينا ان نستبضعها من الغرب وهو رأس الحاجيات وبدونه الممات.
وما كنا نظن بعد ان أحفينا مكاتب مصر والشام لدرس موضوع اننا كلما أوغلنا في تضاعيفه يتجلى كل التجلي جهلنا ببلادنا وأننا سنحتاج بعد بحث نحو خمسة عشرة سنة إلى ان نقصد إلى مكاتب أوروبا نأخذ منها ما فاتنا في أرضنا من المواد التي لم يحولها المطبوع ولا المخطوط مما كتب لنا الاطلاع عليه في مكاتبنا الخاصة والعامة أي غضاضة على الشرقي ان يرحل باحث في شؤونه حباً بإتقان عمله إلى غير أهله وبلده وان يتسقط الفوائد من الغريب والقريب في معزل. بيد ان يوما طويلا امتدت لياليه السود على هذا الشرق سلبت منا بحكم تنازع البقاء وبقاء الأنسب تراث أجدادنا في هذا الوجود وجردنا من منافعنا ومرافقنا وكتب أسلافنا العرب كانت أول ما رحل عنا غير آسف إذ لم يعرف لها الخلاف قيمتها الحقيقية والأسفار في كل الإعصار هي مفتاح فتح الأمصار والعلة الأولى في سعادة الشر ونقل المدنيات من النظريات على العمليات.
هاجت الخواطر في النفس خصوصا عندما ذكرت ان أميرا واحدا من أمراء ايطاليا وهو البرنس ليوني كايتاني مؤلف تاريخ الإسلام الكبير هو الذي جمع بسعيه وتنشيط حكومته مكتبة له منقطعة النظير في الغرب نفسه فيها كل ما يحتاجه باحث في تاريخ الإسلام والعرب وبلادهم فاستنسخ من المكاتب الخاصة والعامة في أوروبا وأميركا واسيا وإفريقيه(84/40)
كل مخطوط عربي فيه شيء من هذا القبيل وما لم يقدر على نقله اخذ له بالتصوير الشمسي فمن زار هذه المكتبة فكأنه زار مكاتب العالم أجمع واطلع على ما فيها من المواد التاريخية والجغرافية في هذا الباب.
شبهتني وأنا أشد الرحال إلى رومية للبحث في مكتبة الأمير الايطالي بطلاب العلم في أوروبا في القرون الوسطى وكان بعضهم من الإسرائيليين يقصدون بلاد الأندلس ليقرؤوا على علماء العرب علومهم ويرجعوا من كتب المسلمين ببله تروي غلة جهلهم فسبحلت وحوقلت قائلا ما أغرب تبدل الأمم والبلاد وما أهنأ الغرب بما صار إليه من دواعي المنعة وأسباب اعلم وما أشقانا بما فعل السفهاء منا.
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام
وليت شعري يعود ذاك العهد السعيد بالعلم على العرب ويصبح أبناء اليوم يفاخرون بالقاهرة والقيروان وفارس ودمشق وبيروت وحلب وبغداد والموصل وصنعاء ومكة كما يفاخرون بغرناطة واشبيلية ولشبونة وغيرها من مدن الاندلس وصقلية التي استعمرها العرب بالعقل والعلم وأضاعها بعد ذلك جهل أبنائهم وغرورهم؟
أيظل الشرقي يا ترى يعتقد في نفسه الكفاءة والغناء ويقلع عن القول بان الغربي يغمطه حقه باستباحته حماه واكتساحه دياره الحين بعد الأخر؟ أم يهب باحثا عن جميع علل هذا الارتقاء عندهم والتدلي عندنا ويتعلم ما جهل مع الشكر لكل من يعلمه وينعشه من سقطته.
حكوماتنا هي السبب الرئيسي في إظلام العقول واشتغالها بالفضول وأهل الغرب هم الذين قوموا معوج حكوماتهم فهل ندرك جيلا من الناس يقوم اعوجاج حكومات الشرق ونتمتع على الأقل بمعرفتنا بأنفسنا ومن عرف نفسه عرف ربه.
دار الدعوة والإرشاد في القاهرة
اغتنمت فرصة مقامي بضعة أيام في القاهرة لقضاء بعض المشاكل أثناء شخوصي إلى ايطاليا لازور دار الدعوة والإرشاد التي أنشأها صديقي السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار في السنة الماضية وكان ينوي إنشاءها في الأستانة أولا لو صادف من القابضين على زمام الأمر تنشيطاً على مشروعه وغرضه الأول من إنشائها إيجاد هيئة صالحة بالعمل من رجال الدين يجمعون إلى معرفة الدين النقي وأسراره وحكمه المطابق لأحوال(84/41)
الزمن معرفة أحوال العصر حتى تحل هذه الطبقة محل الهيئة القديمة التي كادت الأمة تنزع ثقتها منها.
انشأ هذه المدرسة الصديق الرصيف أو جماعة الدعوة والإرشاد وهي جمعية مؤلفة من ظاهر الفضل والعقل والتدين لتخريج علماء مرشدين قادرين على الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والإرشاد الصحيح وإرسالهم إلى البلاد الشديدة الحاجة إليهم ويرسل الدعاة إلى البلاد الوثنية والكتابية التي فيها حرية دينية ولا يرسلون إلى بلاد الإسلام إلا حيث يدعى المسلمون جهرا إلى ترك دينهم والدخول في غيره مع عدم وجود علماء مرشدين يدفعون الشبهات عن الإسلام ويبينون حقيقته لأهله.
وقد جاء في النظام الأساسي لجماعة الدعوة والإرشاد انه تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة والإعانات والتبرعات والهدايا والوصاية والأوقاف التي توقف أو ما تناله من ريع أوقاف أخرى ومن ريع رأس مالها ويضاف ربع دخل الجمعية السنوي إلى رأس المال للاستغلال وهذا ماعدا المبلغ الاحتياطي وكان تبرع لهذه الجمعية بعض الأجواد من العرب وفي مقدمتهم الشيخ قاسم آل إبراهيم من كرماء جزيرة العرب بالغي جنيه مباشرة ولعله يتبرع بغيرها كل سنة.
في جزيرة الروضة المشهورة الآن بالنيل حيث قام في جنوبها مقياس النيل المبارك بين جسر (كوبري) عباس وجسر الملك الصالح أو بين القاهرة المعزية ومديرية الجيزة قامت اليوم دار الدعوة والإرشاد في أحد مصايف أبناء شريف باشا الوزير المثري المشهور وقد ضمت في حجرها إلى الآن صنفين عدد طلبتهما الداخليين 35 والخارجين بين 20 إلى 30 يعلمهم عشرة معلمين منهم أناس من رجال الدين وآخرون أساتذة علوم صرف وطعام الطلبة ونظافتهم ونظامهم في قيامهم ونومهم مما لم يعهد طلبة العلوم الدينية اللهم إلا ان يكون طلبة مدرسة القضاء الشرعي الحكومة والحكومة أقدر على البذل من الأفراد.
ويستفاد من نظام مدرستنا هذه أنها تدرس العلوم والفنون التي تدرس عادة في الكليات مع التربية الدينية وزيادة العناية بالعلوم الإسلامية تنشأ أقسامها بالتدريج يبدأ منها بقسم عال لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين بالوعظ والتدريس ولسان التدريس فيها اللسان العربي ويتحتم فيها تعلم لغة من لغات العلم الأوروبية ويجوز ان تدرس فيها عدة(84/42)
من اللغات الشرقية والغربية ولاسيما لغات الشوب الكبيرة من المسلمين كالتركية والفارسية والاوردية والملاوية. ومدة صنف المرشدين ثلاث سنين وكذلك صنف الدعاة ويختار طلابه من متخرجي صنف المرشدين يمكثون ثلاث سنين أيضا وذلك ماعدا السنة التمهيدية الأولى.
التعليم في قسم الدعاة والمرشدين من المدرسة مجاني والمدرسة تنفق على الطلاب الداخلين فيه وتكفيهم كل ما يحتاجون إليه فيها وتعطيهم إعانة شهرية بحسب الحاجة والاجتهاد والتهذيب لا تقل عن ريال مصري في الشهر وأما الطلاب الخارجيون فلا تنفق عليهم شيئا.
ومما يشترط في قبول الطلبة الداخلين ان تثق المدرسة بان طالب الدخول حسن السيرة وتكون سنة بين 20 و25 وان يكون حافظا لطائفة من القران الكريم بحيث يسهل عليه إتمام حفظه قبل إتمام دراسة الصنف الأول وان يكون قد حصل قدرا صالحا من النحو والصرف والفقه وعرف القواعد الأربع من الحساب على الأقل وان يكون صحيح الإملاء وحسن الخط في الجملة جيد المطالعة في الكتب العربية ومن أصل قديم في الإسلام وتتحرى المدرسة ان يكون طلابها من الأقطار المختلفة وتمرنهم على القيام بالفرائض والسنن وعلى الرياضة البدنية والتخاطب باللغة الفصحى داخل المدرسة وخارجها وإذا وفقت هذه المدرسة إلى تطبيق فصل العلوم والفنون التي تدرس فيها حق التطبيق يجيء ولاشك من متخرجيها طلاب يشبهون دعاة الكثلكة والأرثوذكسية والبروتستانتية في علمهم واستعدادهم خصوصا ومن غرض المدرسة في باب تربية الأخلاق ان يعلم الطالب الفرق بين زماننا وزمان القرون الأولى من المسلمين في الحاجة إلى سعة الثروة وتوقف حياة الأمة عليها الآن وعدم توقفها في ذلك الزمن وكون الزهد الصحيح والقناعة الفضلى لا يتنافيان تحصيل الثروة وعمارة الدنيا لأنهما من صفات القلب وفائدتها ان يجعل الإنسان فضل ماله لنفع أمته ومجد ملته انه لا ينبغي تعمد ترك تحصيل الثروة إلا لعمل نفع للأمة والملة. ويعلمون في باب انتقال الأمم والدول من حال إلى حال مثل قوله سبحانه: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقوله: وتلك الأيام نداولها بين الناس.
هذا ما أمكنني التقاطه مما عساه يفيد واني لأرجو لرئيس جماعة الدعوة والإرشاد محمود(84/43)
سالم بك أحد علماء مصر العاملين وسائر مؤازريه الفضلاء الخير في الدارين لعلمهم المبرور وآمل ان يكتب البقاء لهذا العمل العظيم بهمة جامع شمله الأستاذ محمد رشيد رضا ناظر المدرسة ووكيل الجمعية وان يكون أساسه على صخر متين سداه الماديات ولحمته المعنويات فيكون من مادياته مخرجا إلى معنوياته والسلام.
في طريق رومية
أول ما يلاحظ المسافر من الأرض العثمانية إلى الديار الأوروبية ان كل ما يقع نظره عليه هو غريب عنه ليس له منه إلا النظر فسبحان من جعلنا في بلادنا وبلاد غيرنا غرباء مساكين.
ركبت هذه المرة القطار من دمشق إلى بيروت وهو لشركة فرنساوية ثم أبحرت من ثغر الشام على باخرة ايطالية (تيفرا) حتى إذا بلغت الإسكندرية وأردت الركوب منها إلى نابل ميناء رومية ركبت الباخرة البرنس هتري من بواخر شركة نوردتش لويد الألمانية وهكذا كنت عالة في تنقلي على الفرنساوي والايطالي والألماني ولو قصدت وجهة أخرى لكنت في ضيافة الروسي والنمساوي والانكليزي والروماني!
حالة يأسف لها وأيم الحق كل من ينبض فيه عرق الوطنية لانها تصغر نفسه في عينه ومن ساء ظنه بنفسه انحطت عن كل عمل. نعم يتألم الفؤاد من هذه الحركة الاقتصادية المباركة لان العثمانيين عامة والسوريين خاصة بعيدون عنها كل البعد ليس لهم علم الغربي يذكرون به ما ينهضهم من كبوتهم ليتمثلوا به في جهاد الحياة الراقية ولا أسبابه المادية التي تبعثهم على تقليد الناهضين من شعوب العالم المتحضر في هذا العصر.
نحن ويا للآسف نريد ان نعيش في القرن العشرين عيش ابن القرن العاشر ونرى لسوء حظنا ان مجدنا القديم يكفي تذكره وحده ليحيينا إلى الأبد حياة طيبة رشيدة ونتطاول إلى ان نقنع العالم بأنفسنا بأننا شعب راق بمجرد إيراد الشواهد على أيامنا الغر المحجلة في تاريخ المدينة السعيدة ولكن حضارة الغرب اليوم لا تبقي على ضعيف في قوته ومعرفته ومادته وحكومته. هي تبتلع العالم والشاهد على ذلك استصفاؤها قارة إفريقيه وتوشك قارة آسيا لولا بقايا شعوب مستقلة عظيمة كاليابان والصين.
مدنية أوروبا هي التي حملتنا في البحر المتوسط من بيروت إلى الإسكندرية في 32 ساعة(84/44)
ومن الإسكندرية إلى نابل في 70 ساعة ومن نابل إلى رومية في أربع ساعات على السكة الحديدية والبخار والكهرباء هما صفوة العلم الأروبي بل المثال الحي من هذه المدينة الحية التي سيعم فضلها كل بقعة من بقاع الأرض شاء أهلها أم أبوا. فتحيا الأمم التي تقوم بما قامت به أمم الحضارة الحديثة وتموت لا محالة الأمم التي لها من حكومتها أو من تقاليدها أو من ضعفها ما يعوقها عن الانبعاث والحركة.
تهتز نفس الشرقي وأي اهتزاز عندما يدوس ارض الغرب وتتوارد الخواطر عليه والتذكارات والمؤلمات وتتنازع عوامل المنشطات والمثبطات. هكذا كان حالي يوم أزعجني القدر منذ أربع سنين فنزلت مرسيليا ثغر الفرنسيين وهكذا أنا اليوم وقد وافيت نابل ثغر الطليان. وليس في هذه الفرضة من جديد فان حركة المدن الساحلية والعواصم الغربية واحدة إجمالا تكاد تتشابه لأنها قائمة بالعمل قوامها انتظام أحوال تلك الحكومات وتناغي سكانها بوطنيتهم وذهابهم بفضل العلم والنشاط وتميزهم بالذوق واللطف.
من أجل هذا كانت نابل مماثلاً مصغراً من حضارة الطليان ورومية وهذه هي العاصمة المثال المكبر والفرع يدل على أصله والكتاب يقرأ من عنوانه. لم يتسع لي الوقت وقد قضيت يوما في نابل ان أزور معالمها وكليتها وآثار بومي الرومانية خصوصاً وهي على مقربة منها لأنني في صدد البحث عن تاريخ أجدادي وبلادي لاتهمني أولا إلا الغاية التي أنا قاصد لها من البحث عن المخطوطات حتى إذا كان في الزمن متسع ازور من معاهد هذه الديار ومصانعها ما نستفيد منه عبرة لنا ولامتنا وينفعنا في الأخذ بمذاهب الرقي ان صحت نياتنا عليه.
إلى ساعة كتابة هذه السطور لم أتمكن من معرفة شيء من أحوال ايطاليا اللهم إلا ما هو معروض في الأزقة والشوارع والساحات ومحال القهوة والمنتزهات وهذا لا يبني عليه حكم ومع ان البقة الراقية تكلمك باللغة الفرنسية وكذلك تتخاطب مع أهل الفنادق والمخازن الكبرى وبعض الأماكن العمومية فانك تجد صعوبة في التفاهم مع جميع طبقات القوم لجهلك لغتهم الوطنية. هذا تقارب مع اللغتين الفرنسية والايطالية إحداهما من الأخرى واللغات اللاتينية أي الفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية متشابهه لأنها من أصل واحد كما ان اللغتين الألمانية والانكليزية متشابهتان لأنهما من أصل سكسوني واللغة(84/45)
الروسية والرومانية والبلغارية والصربية متشابهة لأنها من أصل سلافي.
ومع أن جليسك تنقبض نفسه منك في العادة إذا لم تكن لك معه لغة مشتركة لا تجد فيها تسمعه في المحال العامة ودور التمثيل والموسيقى هنا ثقلا على سمعك من لغة الطليان وان كنت لا تفهمها بل تبلغ نبراتها صماخ أذنك كأنها أوتار موسيقار تتكلم ألحانها أكثر من ألفاظها. ولا عجب فإيطاليا مهد الصناعات النفسية بل هي بلاد الموسيقى والشعر والتصوير والبناء عرفت بذلك منذ أوائل عهد الإسلام وباعت على الغرب بل وعلى الشرق من موسيقاها وشعرها وتصويرها وهندستها وهي بلاد النهضة منها نشأت وانتقلت إلى فرنسا وأوروبا كلها وطليان الجنوب يشبهون السوريين في كثير من عاداتهم وملامح سحناتهم وكلما تقدمت نحو الشمال تزيد المدنية ويفخم العمران.
وعلى ذكر الجنوب والشمال لا بأس بان يعرف القارئ ان البلاد الأوروبية كلما قربت من سمت الشمال كانت اقرب في الجملة إلى الأخذ بأسباب الرقي والحضارة. وهذا مشاهد محسوس. فنك تجد شمال ايطاليا أرقى وأعمر من جنوبها وكذلك فرنسا بل ان ألمانيا في جنوبها أحط منها في شمالها وهو سر غريب من أسرار هذا الكون ولعل الباحثين في طبائع الأقاليم بحسب القرب والبعد من خط الاستواء لا يعدمون تعليلا لذلك. أما رومية فهي مجموعة بدائع الطليان ولا جدال لأنها معدودة من أواسط ايطاليا على ما سنذكره.
الأمير كايتاني
كان الأغنياء والأمراء في الغرب قبل ان تتقرر قواعد المدنية الحديثة وترسخ أصولها يدلون على شعوبهم بحكم التغلب وقوة المال وأرجحية القدم. أما الآن فان أمثال هذه الطبقة أدركت ان كل تلك الامتيازات والاعتبارات قد ألغتها القوانين الدستورية في الأمم الحرة النيابية فلم يبقى من أسباب الفخر إلا شخصية المرء وعلمه معمله ولذلك لا تسمح بأمثال هؤلاء الناس إلا إذا أتوا عملا ينفع المجتمع ويخدم الحضارة أو يرقيها درجة أخرى.
وممن جمع فضيلتي المجد القديم والمجد الحديث فعد عصامياً عظامياً الأمير ليوني كايتاني من كبار الأسر القديمة في رومية التي يرد تاريخها إلى زهاء ألف سنة ومنها خرج رجال خدموا أمتهم على اختلاف العصور والمنازع فكان الباباوات ورؤساء الدين والقواد والحكام ولقد سار سليل هذا البيت على سنة كثير من أمراء الغرب فلم تبطره الزخارف ولم يستهوه(84/46)
المال والمجد القديم وتنكب عن الرفاهية منذ صغره فدرس في كلية رومية الآداب وأتقن من اللغات الايطالية والفرنسية والانكليزية والألمانية واللاتينية والفارسية والعربية.
ولما أحرز حظاً وافراً من العلم والآداب سمت به همته وهو قبيل الخامسة والعشرين أي منذ زهاء عشرين سنة أن يضع لأمته كتابا في التاريخ الإسلامي بلغتها يغنيها عن أكثر الكتب ويرفع كثيراً من المشاكل في تاريخ العرب الذي أدهش العالم. فجمع لذلك مكتبة ضخمة باللغة العربية وغيرها من اللغات واستنسخ واخذ بالتصوير الشمسي كل ما عرف من تاريخ العرب من المخطوطات وكان مبعثرا في مكاتب أوروبا وغيرها فجاءت مكتبته خير مكتبة في الشرق والغرب في موضوع التاريخ الإسلامي خاصة ومن رآها فكأنما زار مكاتب الغرب للبحث عن آثار العرب ومدنيتهم.
ولقد نشر حتى الآن من تاريخه ستة مجلدات ضخمة ولم ينجز بها أكثر من عشرين سنة من تاريخ الإسلام وهو يرجو أن يفسح الله في أجله عشرين سنة أخرى ليكمل القرن الأول من الإسلام فيقع في خمسة وعشرين مجلداً ولا يطبع من تاريخه أكثر من مائتين وخمسين نسخة يوزعها على المجامع العلمية في بلاده والغرب وعلى بعض أصحابه من العلماء فقط وقد جعل سعاره فيها فيقول الشاعر العربي:
كفاف عيش كفاني ذل مسألة ... وخدمة العلم حتى ينقضي عمري
يقول كفاف عيش وثروته وثروة أبيه فيما بلغني تقدر بمائة مليون فرنك فرنسي دع ثروة حليلته الأميرة وهي غنية أيضا ولهم المزارع الواسعة في ضواحي رومية إذا استثمرت حق الاستثمار على احدث الطرق تزيد ثروتهم أضعافاً في ضواحي رومية والأمير مع هذا تفرغ إلى العمل في مزارعه ويتعهدها كما يتعهد رياض العلم كل يوم ويصرف على إتقان عمله الذي صرف شبابه وهو يصرف الآن فيه سن الكهولة وسيصرف فيه أيضا سن الشيخوخة بحول الله شطرا ليس بقليل من المال فعنده ثلاثة مترجمين من اللغات المختلفة ينظر فيما يترجمون لكتابه من المواد ما عدا ما ينفقه في الكتب وطبع كتابه ولكن كل ما ينفقه في سنة لا يعادل ما ينفقه غني واحد من فساق أغنياء الأمريكان أو الروس مثلا في ليلة واحدة في باريس أو مونت كارلو فسبحان من أودع في كل قلب ما شغله.
طاف الأمير كثيراً من بلاد الشرق ولا سيما الهند وفارس والشام ومصر ودرس أحوالها(84/47)
وطابق بين ماضيها وحاضرها فإذا تكلم في تاريخنا صدر عن علم نظري وعملي. ولقد ذهب منذ ست سنين إلى بلاد الشام ليرى بعينه المكان الذي كانت فيه الوقعة الفاصلة بين العرب والروم في اليرموك. وهذا قلما يتيسر إلا لمن أوتي همة شماء واستسهل ركوب كل صعب في سبيل تحقيق رغائبه.
ومازال منذ بدء في التأليف وهو يدأب وراء منضدته في مكتبته كأنه عامل بسيط فإنه يبدأ في عمله كل يوم الساعة الخامسة صباحا ولا يزال أكثر النهار يعمل ويطالع لا تعرو همته ملل ولا ينظر في سفساف الأمور. ولقد كان نائبا في الانتخاب الماضي في مجلس النواب فأضاع في النيابة شيئا من وقته ولكن لم ينتخب هذه المرة فكان ذلك من حظ العلم والآداب لأنه توفر بجملته على خدمتهما.
وعدم انتخابه ناشئ من أن خصومه السياسيين اتخذوا من خطة الأمير في مسألة فتح ايطاليا لطرابلس وبرقة حجة أثاروا الرأي العام حتى لا يعودوا لانتخابه وذلك أن الأمير أحب أن يتكلم بلسان العالم المنصف ولم يعقه حبه لامته عن أن يقول لها وقت قامت حكومته لفتح تلك البلاد أن هذا العمل منها ضرب من ضروب اللصوصية لا يليق بأمة متمدنة وليس له مسوغ معقول قال هذا بالتلميح في المجلس وكتبه في الصحف الايطالية وغيرها بالتصريح فحنق عليه من حنق وأثاروا الخواطر من جهته وقد بذل مالا كثيرا للنيابة عن أمته قيل أنه عشرون ألف ليرة ولكن خصمه بذل خمسة وثلاثين ألف ليرة ففاز عليه.
والأمير على ما رزق من الشهرة العلمية لجمعه بين المجد التالد والطارف رقيق الحاشية يغلب عليه عدم التكلف ولما قابلته لأول مرة حاملا إليه من صديقه أحمد زكي باشا العالم المصري كتاب توصيه ليقبلني للبحث في مكتبته اعتذر عن كونه قابلني بثياب عمله وقال أن عنده شيئا من المخطوطات العربية أخذت بالتصوير الشمسي ولا يدري إن كان فيها حاجتي على انه تفضل ودلني على مظانها وما برح اليوم بعد الأخر يشير علي بالرجوع إلى كتاب كذا فقيه وهو يبش ويقول في الأحايين انه مسرور لعثوري على شذرات تهمني كل هذا وهو لا يضيع دقيقة من وقته الثمين ناهيك بارتفاع الصحف والمجلات ومنشؤها مثلا.(84/48)
لئن امتازت التيمورية في مصر بأنها تحوي أمهات كثيرة من مخطوطات علماء الاسلام في علوم مختلفة وامتازت الخزانة الزكية بالقاهرة بجمعها أنفس المطبوعات العربية في الغرب فان الخزانة الكايتانية في رومية تحتوي على الغالب أهم كتب التاريخ الإسلامي أو ماله علاقة فيه وذلك باللغات المختلفة ولا سيما العربية مما هو جدير أن يرحل إليه من الصين لا من دمشق.
وقديما كان أمراء المسلمين وعلماؤهم يفتحون خزائنهم للباحثين والمؤلفين ينزلونهم على الرحب والسعة كما فتح منصور بن نوح الساماني خزانة لأبي منصور الثعالبي فألف فقه اللغة وكما فتح علي بن يحيى المنجم من أهل القرن الثالث في قرية له نفسية بكركر من ضواحي القفص خزانة كتب عظيمة في قصره الجليل وسماها خزانة الحكمة فاخذ الناس يقصدونها من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم والكتب مبذولة في ذلك لهم والصيانة مشتملة عليهم والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى وكما وقع من غيرهما كثير أما اليوم فان هذا المعنى كاد يتفرد به علماء الغرب وأمراؤه وأصبح الشرق بلقعا حتى من كتبه وآثاره وانتقل تراثه بحكم الطبيعة إلى من أحسن تعهده واستثماره سنة الله في خلقه.(84/49)
الهجرة
أربعة أحوال تعمل في تكثير سواد الأمم: الهجرة والاستيطان والولادات والوفيات وبنقيضها تفتقر البلاد وتقل الأمم. ومحور الهجرة يدور في الأكثر على تحصيل القوات والفرار من ظلم خصوصا أيام كانت المجاعات في القرون الأولى والوسطى من اكبر العوامل المهددة للشعوب وكانت تغذية الجماعات الكبرى مناطة بفصول السنة حتى كان تأخر وصول الحبوب المشحونة في البر والبحر يحدث مخاوف هائلة ويثير مناوشات وثورات. وكانت الفوضى والحروب تجعل المواصلات صعبة أو متعذرة ويهلك سكان المدن جوعاً. وتحتكر المدن الحبوب في أماكن خاصة وتدخرها لحين الحاجة أما سكان القرى والأرياف فكانوا يقاسون الأمرين ولا يجدون غير الهجرة باباً لنجاتهم بأرواحهم وأرواح ذرياتهم وهذا ما دعا إلى إفقار كثير من الأصقاع في الشرق والغرب لأن من ولد من الأسر المهاجرة لم يواز عدد من فقدتهم البلاد بهجرتهم لها.
جاءت أزمان على البشر كان الشرق وآسيا أعمر من الغرب وكانت آسيا تقدم كثيراً من أبنائها ليكونوا جنداً في الجيش الروماني ورومية كانت حاكمة على معظم أصقاع أوروبا وجزء كبير جداً من آسيا وافريقية وسلطانها فوق كل سلطان وما ملوك تلك الأيام إلا أقيال يخضعون لصولجان رومية وقد كنت ترى سوريين من بلاد الشام في كل مكان كما تراهم الآن وكان منهم في جيش جرمانيكوس القائد الروماني عدة كتائب عندما حمل حملته على الرين.
قال سكريتان: إن القرون الوسطى بإقطاعها وما كان فيها من اللصوصية والأخلاق الوحشية وقلة المواصلات والحياة الزراعية والصناعية الأهلية وتنوع اللهجات وحكومة الجماعات والاشمئزاز من الحياة والتشتت السياسي الذي هو من خصائص تلك القرون كل ذلك مما يتمثل لعيني بقلة الرجال وطول إقفار البلاد فأفقر العالم الروماني وظلّ الشعب زمناً على نسق واحد ثم زاد بإنشاء المدن وتوطيد دعائم المركزية السياسية التي تسهلت أسبابها بنمو الموارد الاقتصادية والأيدي العاملة التي أنشأتها. ومن المدن تنبعث أبداً حركة تنظيم القوة العاملة فصاحب الأملاك يعيش بما تدر عليه أملاكه على حين تضطر المدن ان تطلب ذلك من التجارة وأن تضمن حقوقها في البلاد القاسية بتأمين السبل والتجارة.
قال وما المصانع العظمى التي قامت في القرن الثالث عشر للميلاد وما تلك البيع والمعابد(84/50)
إلا أثر من آثار زيادة السكان في أوروبا وإن الناس أصبحوا يهتمون لأمور أخرى غير حفظ حياتهم مباشرة والسكان من العوامل الضرورية في التبدلات السياسية وعندنا أن الشعب هو أرض التاريخ الذي تنبت فيه الأوضاع والأفكار ولما نمت النفوس منذ القرن الحادي عشر في حمى أسوار المدن والمقاطعات المنظمة ظهرت قوة جديدة أمام الإقطاعات وانتهى التماسك السياسي بقيام المدينة الحديثة وأدى نمو السكان نمواً عاماً بقاعدة الانتخاب الطبيعي أي الأفضل والأحسن إلى شكل جديد في الحياة وتحسين الأخلاق وتدميثها وكثرة السكان شرط في قيام المدنيات العليا وفي تأسيس الأملاك العظمى وهي التي تزيد حياة البشر حركة وغنى وبهجة.
نعم كثرة السكان شرط في الحضارة ولكنها إذا بلغت درجة تؤدي إلى قلة سريعة في المواليد ربما كان فيها الخطر على المدنية والمدنيات لا تقوم إلا في بعض أدوار التاريخ على أن الرفاهية العامة والأمن اللذين هما من أهم العوامل في المدنيات الكبرى قد يكون منها قلة عدد المواليد وهذه القاعدة تجري في كل مكان اليوم في ألمانية وايطالية وانكلترا وقد كانت فرنسا أول من وصلت إلى هذا المعدل فتعدلت وفياتها مع ولادتها مع أن فرنسا كان عدد سكانها في أواسط القرن الثامن عشر عشرين مليوناً وانكلترا ثمانية ملايين واسبانية ثمانية وايطاليا عشرة وألمانية كلها مع النمسا وتوابعها اثنين وعشرين مليوناً وروسيا في أوروبا اثني عشر مليوناً وقد زادت كلها على كثرة من هاجر منها إلى أمريكا في القرون الثلاثة الأخيرة ومع هذا زادت كل مملكة ولكن زيادة بلاد الانكليز والجرمانيين كانت أهم وأعظم فبلغت بريطانية العظمى اليوم نحو خمس وأربعين مليوناً وفرنسا نحو أربعين مليوناً وألمانيا خمس وستين مليوناً والنمسا والمجر خمسة وخمسين مليوناً وايطاليا خمسة وثلاثين مليوناً واسبانية ثمانية عشر مليوناً فمنها ما تضاعف ثلاث مرات ومنها مرة ومنها مرتين.
وقد نفى سكريتان أن يكون قلة السكان ناشئة من فساد الآداب وقال أن الرؤوس بإقرارهم أنفسهم من أعظم الموغلين في المفاسد والموبقات ومع هذا يزيد سكان الأرياف عندهم والسبب في قلة المواليد هو في الحقيقة إرادة الرفاهية الولادة لا تشكو من الفقر ولا من حرية الفكر ولا من حرية الأخلاق وما خرابها آت الأمن كثرة الحذر الذي هو ابن الطمع.(84/51)
عرف السوري منذ القديم بحب الهجرة للكسب وإحراز المجد والفينيقيون أو سكان الساحل الأوسط من هذا القطر كانوا رواد الحضارة وربابنة البحار في سواحل البحر المتوسط حتى بلغوا شطوط الجزر البريطانية في أقصى شمال أوروبا وأنشئوا لهم المكاتب التجارية في جنوبي القارة الأوروبية وشمالي افريقية وكان من أخلافهم ما يشبه هذه الأعمال والهجرات ولا سيما على عهد الحكومة الرومانية حتى إذا جاء الإسلام كانت منهم جيوش وقواد وقضاة تسافر إلى القاسية ورجال الشام كانوا في مقدمة الفاتحين للأندلس في الغرب وهم الذين فتحوا الفتوح في الشرق وأوغلوا فيها حتى وصلوا إلى بكين عاصمة الصين وضربوا الجزية على صاحبها.
وبعد فان فتن التتار والصليبيين أضعف حال البلاد وقللت سكانها خصوصا على عهد حكومات الإقطاعات الظالمة فقلت الولادات وكثرة الوفيات والأمة المظلومة في الغالب يضعف تناسلها ويكثر الموتان في أولادها بل تندر النضرة في وجوه أهلها ولم تقصر الحوادث السماوية في انتياب هذه البلاد فكانت الزلازل والأوبئة تحصد أهلها بالألوف وما بقي منهم يهلكه الظلم وقلة العلم.
حتى إذا جاء القرن الماضي ونشر خط كلخانة ووضعت التنظيمات الخيرية ودخلت البلاد العثمانية في طور أحبت فيه احتذاء مثال الغربيين في إدارتها وضعفت سلطة العمال بعض الشيء وقوي ارتباطهم بالمراكز خصوصا بعد إنشاء الأسلاك البرقية التي سهلت وصول الشكاوي إلى العاصمة بعد التسهيل وأخذ الفلاح يأمن على زرعه وضرعه بالنسبة للماضي والتاجر في المدن قد تنجو من البوائق متاجرة وكثر بعد حوادث سنة 1860 اختلاط أهل هذا القطر بالغربيين وأنشأت الجمعيات الدينية مدارسها الراقية في المدن والقرى بعد كل هذا عادت النفوس تنمو خصوصا في لبنان بعد نظامه الجديد وارتفاع أعلام الأمن في ربوعه وأصبح من الندرة الاغتيال والاقتتال فيه فكثرت نفوسه.
وإذ كانت زراعة لبنان ضعيفة تعد بين الزراعات في الدرجة الثالثة أو الرابعة لم يقم بمعاش سكانه فأخذوا يهاجرون أولاً إلى البلاد القريبة منهم ولما تنوقلت الأنباء عن نجاح جماعة من تجار بيت لحم في أمريكا سمت الهمة في بعضهم إلى السير على أثار من سبقوهم وساعد على ذلك اتصال آسيا بافريقية وأوروبا وأمريكا بالبواخر ففوق بعض من(84/52)
هاجروا من لبنان إلى جمع جانب من المال فاشتهر بين قومهم نجاحهم وأخذ يتبعهم في خطتهم الأقرب فالأقرب من سكان البلاد وكان أهل الجبال وهم معتادون القلة وشظف العيش من الجملة هم الناهضون لهجرة بلادهم ولم تمضي سنين حتى سرى داء الهجرة على الأصقاع المخصبة من أرض سوريا مثل وادي الأردن ووادي العاصي وسهل البقاع وسهل حوران فجارت هذه البقاع جبل لبنان وجبل عامل وجبل حرمون وجبال عكار وجبال اللكام وجبال الخليل واشترك السهل والوعر في الهجرة ونال من أثارها دمشق وبيروت وحلب والقدس كما نال أحقر قرية.
واشتهر في الأكثر من ارتاشو واغتنوا وآبوا إلى بلادهم فعمروا لهم دورا على الطرق الغربية واقتنوا الأملاك وأقاموا العقارات وأخذوا بحظ من الرفاهية ونسي الناس أو لم يذكروا من هلكوا وتشتتوا فما عتمنا وقد حسبنا الراحل عنا والراجع إلينا إلا وقد أصبح المهاجرون زهاء أربعمائة ألف رجل على أقل تقدير من السكان مهما بالغنا في تقديرهم وعددنا في جملتهم بعض البوادي لا يبلغون أكثر من أربعة ملايين وقدر بعض الصحفيين عدد المهاجرين من السوريين بخمسمائة وسبعين ألفاً وغالى بعضهم فقدرهم بزهاء مليون ويمكن أن يجاب عن هذا التقدير الكبير بالأثر الحادث عنه أي بالإضافة عدد من الأولاد الذين كانوا يولدون لهذا القدر من المهاجرة لو بقوا في بلادهم مع أزواجهم أو تزوج العذب منهم في السن المعينة للزواج في هذه البلاد.
خسرت البلاد من وجهين في الجملة وربحت من وجهين خسرت البلاد من عمل هؤلاء الشبان المتغيبين سنين عن أوطانهم وعن تعطلهم عن التناسل وربحت مما حملوه إلى سوريا من النقود والتهذيب الغربي ولكن الخسارة أعظم بديل أن الثروة هي العمل لاً رفعت من شمعهم فلم يعد يستطيع المهاجر أن يقيم في قريته إذا آب إليها بعد تغيبه عنها بضع سنين إذ يرى الفرق محسوساً بينما شاهد في بلاد غيره وعهد في بلاده ويتأفف من عمله الصغير في الزراعة أو الصناعات الضعيفة فلا يلبث أن يعود أدراجه إلى أمريكا ويختار الموت هناك على البقاء في أرض ذلة وقلة.
ولذا لا تعجب إذا رأيت مئات من الدور الفخمة التي عمرت بدراهم أمريكا في هذه الديار خالية من سكانها يلعب فيها الجرذ والفأر ولا من يقطنها لأن بناتها عادوا فرحلوا أما طلباً(84/53)
لثروة غير التي نالوها وصرفوها كلها في إنشاء دورهم وأما لضيق صدر نالهم من سوء إدارة وفساد نظام وهذا قليل.
قال قنصل فرنسا في تقريره الأخير على بلاد الجليل إن هؤلاء المهاجرين ينفعون بالأجور التي يؤدونها لشركات الملاحة ولكنهم يضرون البلاد في ارتقائها الاقتصادي إذ يحرمونها من الأيد العاملة وقد نجحوا بأن أسسوا في البلاد التي هاجروا إليها (أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وافريقية الجنوبية أو مصر) مستعمرات مهمة للغاية وكثيراً ممن غادروا بلادهم حفاة لا يملكون أجرة المركب الذي يقلهم وهم في الدرجة الرابعة قد عادوا إليها يحملون الدنانير في جيوبهم أو الأوراق المالية.
وقد اقتبسوا الأذواق والعادات الغربية وأنشؤوا يستخدمونها في بيوتهم وهم يبتاعون الأراضي وينشؤون الزراعات الكبرى وأكثر العائدين منهم على ما أظن هم اللبنانيون والبقاعيون.
قال وأما سبب الهجرة فلارتفاع وصاية الحكومة عليهم ولعدم قوانين لحماية الزراعة ولندرة المعاهد المعاونة والإحسان ولإرهاق العشارين والمرابين ولكسل لا ينفض غبارة إلا بالإقلاع عن البلاد وحباً بالأرباح السهلة واقتداء بمواطنيهم المغتنين ولجذب البلاد الجديدة لهم وبين نرى الوطنيين ولا سيما من سوريا يهاجرون نرى الأجانب يهاجرون إليها ولا سيما إلى فلسطين (أي الصهيونيين).
وبعد فقد كانت الهجرة مقصورة بادي بدء على المسيحيين فأخذ أخوانهم المسلمون يقتفون أثارهم وكثر المهاجرون من جميع الطوائف في الأربع سنين الأخيرة عندما طبقت الحكومة قانون الجندية على عامة شعب هذا الوطن فكان الوالد يسفر ولده في العشرين والخامس والعشرين فأنشأ يرحله اليوم في الخامسة عشرة بل وفي الثانية عشرة لينجو من الخدمة العسكرية أو ليجمع بدله النقدي قبل أن تصيبه القرعة وبعد أن تفاقم شر الهجرة في العهد الأخير أرادت الحكومة أن تمنع الشبان من السفر فكان ذلك مورد عيش جديد لارتشاء بعض الولاة والمتصرفين والقائم مقامين ورجال الشرطة وكثرة سماسرة المهاجرة حتى لم يتركوا مزرعة إلا ولجوها وأخرجوا منها أعزة أهلها وسهلوا لهم سبل الهجرة ووجد حتى الفقير المعدم من يقرضه على أن يفيه من عمله في ديار المهجر وزادت المنافسة بين(84/54)
شركات الملاحة فأصبح السفر ميسوراً من بيروت إلى نيويورك بعشر ليرات وزاد الصادر وقل الوارد وكلما أمل المؤملون أن تهدأ أحوال البلاد تعقدت مشاكلها الداخلية والخارجية وانتشرت عن البلاد أخبار السوء فتأخر عن العودة إليها أبنائها الذين هجروها.
هذا والحكومة لم تتذرع بأدنى سبب لنزع هذا الخلل في حياة البلاد من أصوله بل أن النوائب الأخيرة التي صادف وقوعها في عهد الدستور لم تزد البلاد إلا فقراً إذا اضطرت الحكومة أن تزيد الضرائب والعثور والرسوم فضعفت الزراعة وأكثر من ثلاثة أرباع هذه الأمة تعيش من أرشها وارتقت أجرة العامل إلى أعلى من منسوبها فأصبح في بعض الأصقاع الزراعية من المتعذر القيام بأعمال الزراعة على ما ينبغي لصاحب ملك ومزرعة لأنه إذا أعطى العامل في اليوم ثلاثة أرباع الريال أو الريال لا يبقى له في أخر السنة ما يوازي نصف إيجار ارضه ولولا أن بعض البلاد التي أعوزتها اليد العاملة مثل القاع استعاضت عنها بما جلبته من الآلات الزراعية الحديثة كالحصادة والدراسة والحراسة والذراية والطحانة لامست زراعتها بائرة وأكثروا من الأدوات الحديثة لتم لهم الغنى وعوضوا ما فاتهم من عمل العاملين والعادة جديبها خصيباً ونالوا من أسباب الثروة حظاً عجيباً.
إذا قدرنا ثروة السوريين في مصر والسودان وأمريكا وكندا واستراليا والترنسفال ومدغشقر والسنغال بمئة مليون جنيه وهو أقل تعديل لأن نصف هذا المبلغ يملكه السوريون في مصر فقط وفرضنا أن نصف المهاجرين أحبوا العودة إلى أصقاعهم يحملون خمسين مليون من النقود وما زكنوه وتعلموه من أساليب الصناعة والزراعة والتجارة تفتح بالطبع موارد اقتصادية جديدة في البلاد إذا صحت قبل كل شيء نية الحكومة على توطيد دعائم الأمن وإحقاق الحق وذلك باختيار طبقة راقية من العمال والضرب على أيدي الجاهلين والمرتشين منهم.
نعم إذا قامت الحكومة بواجبها الإداري تستميل المهاجرين إلى العودة وتحبب إليهم بلادهم التي يؤثرون أن يكون لهم في ربوعها من المغانم نصف ما يتمنون به في ديار الهجر فتقوم سوريا وحدها بعد بضع سنين بسد العجز من ميزانية الدولة العامة مهما كان مقدارها.(84/55)
العدد 85 - بتاريخ: 1 - 2 - 1914(/)
مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت
قليل من الناس بل من غلاة الكتب من يعرف من أمر هذه الخزانة الغنية الموجودة في المدينة المنورة شيئاً لعدم وجود فهرس مطبوع لها حتى أنك لا تجدها في ترجمة حياة صاحبها في كتاب قاموس الأعلام المؤلفة شمس الدين بك سامي الألباني كأنها ليست من الأعمال التي تجدر بالذكر أو أن يكون المترجم عرض بها فرفعوا قلم المراقبة في عهد السلطان السابق وقد كنا في عداد جاهليها إلى أن كتبت مجلة المقتبس بعض أسماء المخطوطات فيها وفي مكاتب المدينة المنورة نقلاً عن الشيخ جمال الدين القاسمي في الصفحة 718من السنة الرابعة ثم عادت فنشرت قائمة أخرى بتوقيع إبراهيم أفندي حمدي خربطلي في الصفحة 379 من السنة الرابعة.
والذي زادنا تعريفا بها هو وصف صديقنا المتقبس لها في رحلته إلى طيبة إذ يقول وأحسنها أي خزائن كتب المدينة المنورة وربما كانت خير مكتبة في البلاد العثمانية كلها بنظامها وانتقاء أمهاتها هي مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت أفندي ففيها نحو عشرة ألاف مجلد كتبت بخطوط المشهورين من الخطاطين كأن تجد الكتاب ذا العشرين جلداً مكتوباً بخط مشرق بديع في مجلد أو مجلدين وفي هذه المكتبة من التسهيل على المطالعين والعناية براحتهم مالا تكاد تجد مثله في دار الكتب الخديوية بمصر لعهدنا وما ذلك إلا لكثرة ريعها وإنفاقها في سبله واختيار القيمين عليها وادرار المشاهرات الكافية عليهم.
فلما قصدت إلى البلد الطيب صيف السنة الفائتة كان غابة مارميت إليه بعد زيارة الحجرة المعطرة زيارة هذه المكتبة فأخذني الدليل من زقاق ضيق عن يسار باب السلام وما كدنا نجتاز منعطفا هناك حتى كنا أمام دار المكتبة وهي ذات طابقين ومبنية من الجرار الحجر الأسود خلافاً لأكثر دور المدينة المبنية من اللبن فدخلناها من باب امتلأت حوله أصاحي الرياحين والأزهار واجتزناه إلى الغرفة الكبرى المتخصصة بحفظ الكتب فألفينا بعض المطالعين والنساخ يطالعون وينسخون كأن على رؤوسهم الطير إلا حركة خفيفة تنبعث مرة بعد أخرى من أهواء المهواة التي بأيديهم دفعاً لشدة حمارة القيظ.
ولما استتب بنا الجلوس أتى إلينا حافظ الكتب بفهارس المكية الخطية وطلب غلينا معرفة اسمنا فلسمنا بطاقتنا وصرنا نطالع الفهارس المرتبة على أنواع العلوم والفنون والمنسقة تنسيقاً جميلاً يدل على ذوق سليم مما يعد عنواناً على نظام هذه المكتبة كما تراه في المثال(85/1)
المحرر أدناه تقلاً على أحد الفهارس.
نمرة 175
اسم الكتاب تذكرة الشعراء المسماة بجمع الخواص
المؤلف الصادق الكيلاني
خط تعليق
سطر 19
أوراق 105
جلد 1
جدول خالي
ملاحظات بالتركي
وبعد هنيهة قدم علينا مدير المكتبة عبد القادر أفندي حوار وغدا يرشدنا إلى أمهات الكتب النفسية الموجودة في الكتب فاطلعنا على تفسير انكشاف للزمخشري وبهامشه الكشف على الكشف وقد كتب التفسير أولاً بمجلد واحد بخط مشرق جميل وجداول مذهبة ثم أضيف إليه الهامش بإلصاقه على جوانب المتن الثلاثة إلصاقاً يكاد لا يظهر إلا على الناقد البصير وقد قيل أن هذا التفسير كلف صاحب المكتبة ثلاث مئة جنية مما يدل على مبلغ تأنق الرجل في انتقاء كتبه.
وأرونا أيضاً كتاب تقويم الأبدان في الطب لابن جزله البغدادي وقد نسخه ناسخه سنة 297 أي منذ نيف وألف سنة كما أننا رأينا ديوان شعر بالفارسية اسمه غزليات شاهي كتب سنة 655 بحروف من ورق قطعت تقطيعا بديعاً وألصقت على صحائف من الورق الملون فجاءت غاية في الدقة.
وقيل لنا أن فيها محاضرات ومحاورات الإمام السيوطي بخط يده إلا أن الوقت لم يتسع معنا لمطالعته وترى جميع الكتب مجلده تجليداً متيناً ومحفوظة ضمن غلافات من جلد أيضاً مصفوفة في القماطر بنظام معجب ومطرب والمجلد يشهدها كل يوم وبصلح ما فسد منها أما المكتبة فقد أسست سنة 1260 كما هو مؤرخ في سقف قاعتها وهي السنة التي أقيل فيها من المشيخة ولعل لإقالته علاقة بتأسيس المكتبة وأوقف عليها من الكتب في اللغات(85/2)
الثلاث العربية والتركية والفارسية 5135 مجلد وورد إليها بعد تأسيسها إلى يوم الناس هذا 401 فيكون مجموع كتبها اليوم 5536 مجلداً وزهاء ألفي رسالة محررة على هوامش هذه الكتب وبينها نذر يسير باللغة الهندية أردو.
وقلة الكتب الواردة عليها التي لا يزيد معدلها السنوي على سبعة كتب تؤيد ما قلناه آنفا من أن عارفي مكتبة عارف قلائل جداً.
ولقد اقترحنا على المدير أن يطبعوا فهرساً للمكتبة وينثروة بين الناس ويحذوا حذو المكاتب الراقية فيطلب من مؤلفي الكتب ومترجميها نسخة من كتبهم لتوضع في المكتبة وتعم الفائدة لاعتقادنا أن هذه الطبقة المنورة لا تضن على تلك المكتبة ببنات أفكارها ونتاج قرائحها فاستحسن منا هذا الاقتراح ولكنه اعتذر عن تقريره لأنه من خصائص متولي الوقف يحيى أفندي قاضي مصر السابق الذي يتوقع منه كل محب للعلم والأدب أن يحل هذا الاقتراح محله ويعمل على تعريف الناس بهذه الخزانة النافقة فإن عمال المكتبة الكثيرين هم كفء ويكفؤون للقيام بأعمالها كما ستراه.
المشاهرة العدد العنوان
قرش صحيح
700 1 مدير
700 1 حافظ كتب أول
600 1 حافظ كتب ثاني
550 1 حافظ كتب ثالث
500 1 حافظ كتب رابع
500 1 مجلد
500 1 بواب
500 1 سقا
500 1 كناس
5050 المجموع
وللمرحوم أوقاف أخرى في المدينة تأتي من عاصمة السلطنة مع مرتبات المكتبة بواسطة(85/3)
الخزانة النبوية إليك بيانها:
المشاهرة العدد الموقوف عليه
قرش صحيح
600 2 قارئ الشفافي الحرم النبوي
600 2 قارئ دلائل الخيرات النبوي
12 1 سقافي الحرم
900 1 امرأة الواقف المقيمة في المدينة
2112 المجموع
ومما قلله لنا مدير المكتبة أن المرحوم كان ينوي إبلاغ كتب المكتبة إلى عشرة ألاف مجلد كانت تحت يده إلا أنه لم يتمكن من تحقيق أمنيته لأنه حين عزم على الحضور إلى المدينة المنورة يصحب بقية كتبه عاجلته المنية في دار الملك فبيعت كتبه فيها مع تركته بأبخس الأثمان ومنها كتاب الأغاني الذي بيع بخمسة عشر جنيها ثم باع من اشتراه من آخر بستين جنيها وطبع بعد ذلك عن تلك النسخة وانتشر بين القراء ويقولون أنه لو تمكن من جلب تلك الكتب وإضافتها إلى المكتبة لكانت اليوم من أحفل وأغنى مكاتب الشرق على أنها الآن تضم بين جدارها ألوفاً من الأمهات التي تفتقر إلى رجالات علم وعمل ليمثلوها للطبع ويبرزوها من خدرها وبعد أن قضينا بالمكتبة ما تيسر لنا من الوقت عدنا إلى الحرم النبوي من طريق آخر لا يبعد بضعة أذرع ودخلناه من باب جبريل.
حيفا: فلسطين // عبد الله مخلص(85/4)
في بلاد الغرب
نساء الإفرنج
الانكليز أعجب أمم الحضارة في أخلاقهم وعاداتهم لا يقبلون الجديد إلا بشق الأنفس ولكنهم إذا قبلوا تناغوا فيه وحرصوا عليه وبرزوا على من سبقهم وسابقهم.
والغالب أن كل الحاجيات تمت أو كادت في هذه المدنية الغربية حتى قامت بعض نساء الأمم وطالبت بإشراكهن في حقوق المدنية فأصبحن ينتخبن نائبات في المجالس النيابية ويشركن الرجل في أعمال السياسة ومن الفائزات السابقات في هذا السبيل نساء فنلندا واستراليا وزيلاندة الجديدة والنروج.
رأى النساء الراقيات من الانكليزيات ذلك ورأينا حقوقهن مهضومة مع الرجل وغرن الغيرة من خصائصهن من اللاتي سبقهن من بنات جنسهن وقمن منذ ثلاثين سنة يطالبن حكومة بريطانية العظمى بحقوق بنات حواء وما زلن منذ عقدت العقيدتان كوب وميلنر احتجاجا في لندرا سنة 1884 وهن على وتيرة واحدة من السعي وراء مقصدهن لم يدخل الملل على نفوسهن.
خطبت إذ ذاك العقيلة ميلنر وقالت أنها أزمعت أن لا تدفع الخراج الذي عليها للجابي بحيث تضطره إلى أن يكسر بابها ويحجز متاعها وهكذا تقاوم الحكومة وكل سنة تزيد قسوة وإملالا فضحكت الصحف من هذا القول إذ ذاك ومن الغد أرسل إليها من جميع أطراف انكلترا ابر للخياطة إشارة إلى أن المرأة هذا شأنها ولا يليق بها أن تخرج عن هذا الحد.
ولكن المطالبات بهذا الحق ظللن يجمعن قواهن هذا وهن على الملكة فيكتوريا التي سنت للملكات دع نساء الطبقات المختلفة من السوقة سبنة توفر النساء على تربية أولادهن وتدبير منازلهن والقيام على أسراتهن وبيوتهن حتى قالت في مفكرتها أن أحن امرأة هي التي تبدو صالحة لزوجها وأولادها.
ولقد ربت ملكة انكلترا وإمبراطورة الهند بناتها على التربية البيتية الراقية حتى أن الأميرة أليس دي هيس درامستاد كتبت إلى أمها تقول: ها قد صنعت الفساتين اللازمة لبناتي الصغيرات في الشتاء فعملت منها سبعة ولم أطرزها فقد بل فصلتها وخطبتها وعملت أيضاً(85/5)
رداء من الصوف للطفل الذي ننتظر قدومه وأنا التي أتولى حسابات الدار ولذلك تريني مستغرقة في العمل إن أسرتنا الصغيرة تزداد بسرعة وستقضي علينا الحال بضع سنين أن نعيش باقتصاد زائد.
في مثل هذه الأمة التي ملكتها وأميرتها على هذا الطرز من حب الانصراف إلى الأعمال البيتية يقوم ربات الحجال في أقصى بلاد الشمال ويعمدن إلى القسوة في المطالبة في حقوقهن السياسية حتى لقد لجأن كما قالت جريدة المئتين من مقالة افتتاحية إلى استعمال القوة في مقاومة رجال الضبط والربط بل أن تلك الأيدي اللطيفة التي يجب ان تكون رباتها ملكية الأخلاق بلغها ودعتها هي التي أنشأتها التيمس بأنها تشعل الحريق في بعض بلاد الانكليز لتحمل الحكومة على بابه تلك المطالب وإنه قد حرق في شهر تشرين الأول الماضي في بريطانيا من الأملاك ما يقدر بنحو ستة ملايين فرنك ونصف وثبت بالتحقيق أن للمطالبات بحقوق النساء يداً في نحو عشر حرائق منها ران النساء المتحمسات لهذه الفكرة يطلبن شيئاً من المال فلا يلبس أن يحمل إليهن فقد طلبن مرة مئة ألف جنية وأخرى ربع مليون جنية وكلما طلبن مالاً يأتيهن عفواً ويقدر ما يصرف النساء الانكليزيات في الشهر بنصف مليون فرنك على تحقيق مطالبهن.
هذه هي أعمال النساء الانكليزيات ومعظم البشر لا يرافقونهن على استعمال القوة في مقاومة القوة ولكن هذا السبات يدل على روح غريبة لا أثر لها في الشرق وكيف تكون حال نساؤنا مرضية وهن راضيات عن تقهقرهن فرحات بجهلهن العاقل لا يطلب لنساء الشرق أن يشاركن الرجال كما هن في الغرب فإن تقاليدنا وأدياننا وعاداتنا لا تنطبق مع هذا ولكن كل ما تتقيد به من قديم لا يحول بين نسائنا وبين التعليم وليت شعري كم مدرسة فتحت لتربية البنات في عهد الدستور في القطر السوري وكم رجل فكر أن يعلم بناته فن تدبير المنزل كما يعلم في الغرب.
القشور التي يتلقفها بعض بناتنا في الأمريكان ولفرنسيس والألمان ومدارس الحكومة لا ترقي أمة تشكو الليل والنهار من مجهلها وجاءتها وتخبيئها جميع المصائب من تعشيشه في صدور كبرائها فما بالك بالصغار أن ما يراه السائح في أوروبا من مظاهر تربية المرأة ومضاهاتها الرجال في جلائل الأعمال يبكيه على الشرق ولا سيما الشرق الإسلامي يأتيه(85/6)
العبر عن إيمانه وشمائله ولا يعتبر.
تسعى إيطاليا اليوم لإعطاء المرأة حقها في التصرف بمالها كما تحب دون أن تكون مقيدة بإرادة زوجها أو وليها كما كانت حتى الآن وفي الشمال حاز بنات نوعهن كل هذه الحقوق وهن يطالبن بحقوقهن السياسية ونحن حتى الساعة لم يفكر نساؤنا ورجالنا في شيء لإنهاض المرأة من كبوتها فما أبعد الفرق بين الجنوب والشمال في تربية الرجال وربات الحجال.
وبعد فإنا نشاهد كل آن العجب العجاب في هذه الديار الغربية من مشاركة الرجل للمرأة في أعمال الحياة مشاركة هي على غير الطريقة التي جرى عليها الشرق الأقرب الذي جعل المرأة في منزلة يصح أن يقال أنها أقصى دركات الانحطاط وهيهات أن تنجح أمة نصفها عاطل لا يعمل ولا يفكر ينظر إليه بغير العين التي يجب أن ينظر إليه بها وينزل منازل الجهل والخمول.
قلنا أن العاقل لا يطلب لبلادنا أن تكون المرأة فيها كما هي في الغرب فإن هذا أشبه بمريض يحتاج إلى جرعة من الدواء قدر درهم فتعطبه رطلاً وبذلك تقتله لا محالة نعم لا نريد لنسأل الآن أن يكون لهن حق المشاركة في السياسة ولا الاختلاط بالرجال على مثل هذه الحال ولا أن يكن منقطعات إلى العلم والآداب فقط بل تزيد تعليمهن التعليم الابتدائي الراقي الذي يكون محوره ترقيه عواطفهن الدينية والمدنية ليكونوا من المرأة أم تحسن التوفر على تعهد بينها وبيتها وتتدخل السرور على قلب بعلها ومحارمها وأن نقتطع فئة من هؤلاء المتعلمات للتعليم ليتخرج بهن البنات والصبيات على السواء وهن يكن من الدراسات العلوم العالية بالطبع.
قرأت الآن في الجورنال مقالة افتتاحية لأحد المشتغلين بالتعليم عند الفرنسيس جاء فيها بمناسبة القانون العسكري الجديد وجعل الخدمة ثلاث سنسن أن فرنسا استاقت ألفاً وستمائة معلم في سن القرعة للخدمة العسكرية وأنها ستستعيض عنهم بالمعلمات علمن الصبيان قال الكاتب أنه ساح في أوقات مختلفة في عدة بلاد كانت فيها المدرسة الابتدائية تقبل الفتيات كما تقبل الفتيان معاً على نحو ما تقبل المدارس العليا الطالبات مع الطلاب فرأى أن ذلك لا يضر بالآداب بل ينفعها فإن الرجال لما كان شأنهم أن يعيشوا مع النساء فمن السخف أن(85/7)
يفصل بعضهم عن بعض عشراً وخمس عشرة سنة وأن يعود كل جنس أن يعتبر الجنس الأخر دخيلاً وخطراً فإن التعليم المشترك يغرس في الفتيان الشعور بالرجولية وفي الفتيات حياء بدون أن يكشرن عن أنيابهن. فإنا نجد في البيوت التي يكون للبنات فيها أخوة والأخوة أخوات يحرزن صفات ليست أصلا لغيرهن من الأولاد ونحن لا نريد مدارس مختلطة بل مدارس للصبيان تسلم أزمة التعليم فيها للنساء.
المرأة تحب الأولاد وتعرف مراميهم فإن فطرة الأمومة التي تتنبه في الفتاة تحبب إليها الأولاد وتعرفها بهم ويكون الأولاد في الحال على ثقة مع معلمة فتاة كانت أو عجوز في حين أن الشبان المعلمين لا يتيسر لهم أن يحبوا الأولاد وذلك لأن المتزوج رب الأسرة ربما توسع في حبه أولاده فأحب أولاد غيره على ما يوحي إليه العقل ولكن معلما في العشرين لم يتزوج لا يحب الأطفال بل يضربهم ولا يبالي بهم لأنه يعتقد نفسه بأنه أشبه بالمرضعة وأن درجته انحطت فيجب مراعاة مصلحة التعليم والأولاد معاً أن يوسد أمر التعليم في مدارس الأطفال إلى النساء بدون استثناء فإن الطفل الذي يبدو شيطانا أمام معلمه يحاول أن يرضي معلمته كما هو الحال في المقاطعات المتوحشة في غرب الولايات المتحدة فيستبدل بمعلمة كل معلم لا يحسن التصرف مع الأولاد فيعود نظام المدرسة إلى أحسن مما كان.
قال إن للمرأة أسرارا في اللطف والصبر والثبات الممزوج بحب وحسن النظر يجهلها حتى المعلم الخبير فما بالك بالمبتدئ بالتعليم. المرأة تعلم وتفهم ألف أمر لا يستطيع الرجل أن يفهمها ولا يحزرها. إنها رزقت جميع أسباب اللطف التي ترافق الإحسان.
هذا ما له تعلق بموضوعنا نقلناه فمتى تنشأ لنا مدرسة في كل حاضرة من حواضر بلاد العرب تعلم الفتيات ليكن معلمات للبنات أولا وإن أمكن للصبيان أيضا تتم هذه الأمنية يكتفى اليوم بمتخرجات من مدارس المبشرين أو المدارس الطائفية ويوسد إليهن تعليم البنات والبنين.
وما أظن إلا القليلات من المتعلمات في بعض المدن العربية والقليل من المتعلمين يفكرون في هذا المطلب الجليل الذي هو أهم الأدواء القاتلة في جسم مجتمعنا وهيهات أن يحصل على شيء من البرء إلا بتعليم البنين والبنات بل إنه بدون العناية أولا بتعليم البنات لا(85/8)
تستقيم لنا مدنية وتكون تعليمها الأمور النافعة بحسب ما تقضي به عاداتنا ومعتقداتنا فينهض المجتمع العربي بإنهاض شان المرأة وبدون ذلك لا أمل لنا بإصلاح بيوتنا.
المدنية لا تشفق
أحببت أن أخدر أفكاري مؤقتا عن النظر في أخبار بلادي فأخذت أطالع بكثرة صحف هذه الديار ولا سيما باريز منها وأعني عناية خاصة بالحوادث الداخلية مما لا يتيسر للصحافي الشرقي كل حين فأتلو كل يوم مرات أخار القتل والانتحار والاعتداء والفجائع والفظائع بتفاصيلها وكلها تدل على استهانة الغربي بالحياة جريا على ما ورد في المثل العربي احرص على الموت توهب لك الحياة.
لا ينكر أن من الحوادث الطارئة هنا ما يسوق إليه اختلال الشعور من الإكثار من الخمور وانحلال العقيدة باليوم الأخر ولكن منها ما يدل على شمم وعزة نفس وتوقع المجد والشهرة. وبينا نجد أن ابن البادية عندنا يقتل عابر سبيل ليذهب ببندقيته أو فرسه أو كيسه أو ثوبه ترى الغربي ينتحر هو وزوجه أو ولده تخلصا من شقاء الحياة أو تفاديا من الوقوع في فضيحة أو لسائق غضب أو غير ذلك من الأسباب ومنها التافه ولكنها كلها تدور على احتقار الغربيين للحياة.
قرأت الآن في البيتي جورنال إن العلماء بدؤوا يتحركون بفقد بعض أجناس من الحيوان كادت تضمحل بسوء تدبير الإنسان وظلمه وقسوته وان المجمع العلمي الباريزي قد حصر جلسته الأخيرة في البحث عن أسباب حماية الفيل والكركدن والحوت والطيور التي تكثر في البلاد الحارة وتصاد بلا شفقة ليتزين نساء الغرب بريشها وإذا لم ينظر في طريقة تحفظ بها أنسال هذه الحيوانات تنقرض بعد بضع سنين لا محال فيكون الناس أشبه حالا بحكاية من قتل الدجاجة اعتقادا منه أن في بطنها بيضة ذهب.
قال صاحب المقالة: منذ عرف العالم مازال الإنسان يظلم ويطمع في القضاء على الحيوانات ويسيء استعمال الأسباب التي جعلتها الفطرة أمامه فلا جل نفع معجل بل وربما كان لجلب سرور بربري يقتل بدون خشية أنواع من الحيوانات النافعة التي يحدث من فقدها اختلال في ميزانية هذا الوجود هو يقتل الفيل لأن العاج ثمين جدا ويذبح كلب البحر لأن جلده يباع بثمن غال ويصيد الجوارح والطيور لأن ريشها تزدان به رؤوس النساء(85/9)
المتبرجات الخ.
وبينا أتصفح هذا وأعجب من رقة شعور القائمين بهذا الأمر وعطفهم على الحيوان وخوفهم من انقراضه مخافة ان يحدث منه خلل في ميزانية عالم الكون والفساد إذا بي أرى في الصفحة الثانية أخبارا من فجائع الطيارات وهلاك الطيارين مما يحدث مثله كل بضعة أيام في الغرب لأن مدنيته لا تشفق بل لا تقوم إلا ببذل بعضهم أرواحهم في سبيل إعلاء كلمة العلم.
كان بعض رجال الرحلات من الغربيين منذ قرون يهلكون في الصحاري والقفار أو في القطبين وتجشم أخطار وبحار أما اليوم فبعد ان اكتشفوا العالم الأرضي أصبحوا يريدون ان يكتشفوا العالم السماوي كانوا بالأمس يعملون في البسيطة وهم اليوم يريدون ان يسخروا الجو وما ندري غدا ماذا يخبئ العلم والاختراع من بدائع المستحدثات التي تباع في تحقيقها الأرواح بيع السماح.
كنا بالأمس تقول إذا تلون سياحة احد أرباب الرحلات من الغربيين ان كاتب الرحلة في حلم يملي من عالم الخيال ليري انه لقي أهوالا في سفره ويشتهر بين جيله وقبيلة ونرجح ان معظمها أشبه بقصة السندباد البحري وحكاية ألف ليلة وليلة بيد ان ما نقراه اليوم بل نشاهده عيانا من أخبار الطيارين في أخبار السماء كاد يدعونا إلى تحسين الظن بأكثر ما أورده أرباب الرحلات وأن هذه المدنية التي نتمتع بها أن هي إلا ثمرة الاستهانة بالحياة في سبيل الأغراض الشريفة.
مدنية الغرب تقتل الحيوان لفائدة الإنسان بل تقتل الإنسان لفائدة الإنسان وهذه التجارب التي خص الغربي بطول الروح عليها هي التي نشأت منها أكثر الاختراعات والاكتشافات الماثلة حسناتها للبشر اليوم منادية للأمم التي قام أبناؤها بشيء من هذه الأعمال حرية بان تنال ذروة المجد لأن من سخر قوة الطبيعة الصعبة لمنفعته لا يعثر عليه ان يسخر الإنسان للإنسان.
مدنية الغرب لا ترحم أحدا ومتى رحم من لا يرحم نفسه. والغرب لا يحزن لفقد ألف أو ألوف من أبنائه قذفا من الجو وهم يطيرون لأنه موقن بان هذه التجارب في النتيجة عن خير بهذا المضمون فمتى نرى أناسا من الشرقيين ينهجون هذا المنهج ويقلدون الغرب في(85/10)
صالح أعماله فان مما يخجل الشرق من ان يعمل الغرب كل هذه الأعمال المدهشة وهو نائم باهت وان يقتل الشرقي إخاء في غرض تافه ولا يقتل نفسه في تحقيق عمل مجيد ومجد مؤثل:
وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البعض البطن ليس له دواء
يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء
وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاء
ولا يعطى الحريص غنى لحرص ... وقد ينمى على الجود الثراء
وبعض الداء ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له دواء
تكريم الرجال
عرف الغربيون حسن الانتفاع من كل شيء فصاروا إلى زمن من هم في العالم كل شيء لا قول إلا قولهم ولا مدنية إلا مدنيتهم التي هي خلاصة مدنيات العالم بأسره فيها اندمجت مدنية رومية وأثينة وبابل وأشور ومصر وفينيقية والأندلس وبغداد وفارس أن هذه المدنية التي تتمثل لنا كل يوم في صور شتى قامت بعقول الرجال وأعمال الأبطال ولذلك كان الحري بالتبجيل مصدر هذا الفضل والمعول الذي كان عليه المعوّل في نبث المدفون واختراع المعدوم.
يكرم الغربيون رجالهم حتى ليخال الشرقي أنهم على شيء من المبالغة وأكثر الأمم ايغالاً في ذلك الفرنسيس على ما رأيت فان رجالهم لقوا من التكريم والتنويه مالا يكاد يراه أمثالهم في الأمم الغربية نفسها. وأن المرء ليعجب كل العجب من تغنيهم حتى اليوم بجان دارك إحدى فتيات القرون الوسطى التي برزت الرجال بشجاعتها ودافعت عن وطنها أمام جيوش الفاتحين من الانكليز وإلى اليوم هي المهماز الأعظم لفتيات فرنسا لشبانها تقام باسمها المعابد وتسمى الشوارع وتنصب التماثيل وتؤلف القصص التمثيلية وغيرها في وصف سيرتها.
ولا بدع فإن الفرنسيس كما قال برزباين - أشهر رجال الصحافة الأميركية - ورثوا عن اليونان والرومان نبوغاً كانوا به أدلة وموحين بالأفكار للعالم منذ عهد شارلمان فقد كانوا الأولين في الحركة العقلية السابقين في شجاعة القلب وشجاعة الفكر المجلين في فن(85/11)
الحرب وفن الهندسة وفن الجرأة الطبيعية الخارقة في إنشاء السيارات والطيارات وفي عامة الأعمال التي تحتاج إلى عقول لا تخاف وتطلب إقداما عليها لساعتها.
قرأت أمس في الماتين مقالة جاء فيها الفرنسويين يتأهبون للاحتفال بعيد مرور مئة سنة على موت بارمانتيه يوم (13 كانون الأول 1913) وربما يقل في قراء العربية من يعرفون هذا الرجل ويودون الاطلاع على طرف من ترجمه حياته ليذكنوا على الأقل من هو الذي يعاد ذكره بعد أن نصبت له التمايل وصيغة باسمه الصفائح التذكارية وأنشأت الجواد الشوارع بل أنشئت قرية باسمه في الجزائر.
بارمانتيه هو مخترع البطاطا في فرنسا أو مدخلها إليها على صورة عم استعمالها جميع طبقات الناس فخدمتهم في اقتصادهم وبيوتهم وتغذيتهم مدة القرن الماضي كان هذا الرجل من أبناء العامة سافر من ببلده مونتيديه إلى باريز ليسابق في وظيفة صيدلة في الجيش فقبل وأرسل مرات إلى ساحات القتال ومنذ سنة 1793 حتى يوم وفاته كان يتولى أعظم الوظائف الصحية العسكرية مثل عضو في مجلس الصحة ومفتش عام وصيدلي أول في الجيش الفرنسوي وفي خلال حرب السبع سنين أخذ أسيراً وفي أسره تسنى له أن يدرك ما في البطاطا من المواد المغذية وكانت في معظم الأوقات الغذاء الوحيد له ولا صحابة الأسرى.
حملت البطاطا من أمريكا إلى أوروبا من سنة 1580 إلى 1585 نقلها الأسبانيون لولا ثم الانكليز من فرجينيا وكانت غير معروفة كثيراً في فرنسا وينظر إليها في الجملة نظرة ازدراء وما زال بارمانتيه منذ استقرار مرة في صيدلية الانفاليد بباريز يكرر في منثورات منوعة فوائدها ويدفع اعتراض المعترضين بشدة لأنهم كانوا يحملون عليه حملات منكرة قائلاً أن رأي الناس في البطاطا أنها غير صالحة لغذاء الإنسان ساقط لا يؤديه له وكذلك دعوهم أنها تضعف الجسم وتحوي الأخطار وعلى العكس فهي لذة الأغنياء ومعوان للفقراء وسلوى في الشدائد.
وكان هذا المحسن مدفوعاً إلى ذلك بالعامل الذي وضعه بقوله: لا يكفي من أراد أن يكون نافعاً لأبناء جنسه أن يقول لهم مرة واحدة ما رآه وما عمله وما يجب أن يعمل بل يجب عليه أن لا يمل من تكرار دعوته على صور مختلفة وطرق منوعة اللهم إلا القوة فإنها لا(85/12)
تستحب ولا تنفع العلوم إلا إذا عمت الطبقات كلها هكذا كان شأن بارمانتيه حتى انتشرت البطاطا بفضل مساعيه المتواصلة وأصبحت تزرع في أرض تبلغ مساحتها مليوناً وستمائة ألف هكتار في وطنه.
ولم يقتصر بارمانتيه على الدعوة إلى البطاطا وتحبيها إلى الناس بل كان له أثر محمود في الخبز والخبازة ودرس الأغذية الرئيسية عند هذه الأمة وله العمل المهم في تنظيم المستشفيات الثابتة والنقالة العسكرية والمدنية إلى غير ذلك من أعماله في تمشيط الأشغال العلمية والصحية والزراعية والصناعات الوطنية ونشر التطعيم وطبخ الأحسية الاقتصادية هذا إلى جمعيات البيطرة والإحسان والمأوي التي كان عضواً فيها أو مديراً لأعمالها مباشرة بحيث كان كما قال فيه أحد واصفيه السابق إلى كل مكان يمكن العمل فيه كثيراً وأن يخدم بدون عوض ويجتمع لعمل الخير ويتأتى لمن يدعوه أن يكون على ثقة من أنه بإشراكه بارمانيتيه في العمل يتسلط إلى وقته وقلمه وعلى ماله عند الاقتضاء.
هذا هو عمل الرجل وربما يتساءل القارئ وكيف وجد من قلبه متسعاً للقيام بهذه الأعمال التي تحتاج إلى بضعة رجال والجواب بارمانتيه كان يصحو باكراً ويجلس إلى منضده عمله في الساعة الثالثة بعد نصف الليل صباحاً قالت (الماتين) وما أحق مدارسنا الابتدائية أن تتخذ من هذا للوالدين والشعب مثالا يبعث الهمم على العمل فإنه قد خرج من مسقط رأسه مستخدما صغيراً في الصيدلة لا سند له ولا مال بل ولا تعليم إلا التافه القليل وتمكن بعمله المتواصل من بلوغ المناصب العالية وجلس في الصف الأول بين المحسنين إلى الإنسانية.
أبعد هذا نلوم الفرنسيس إذ غالوا بحمد رجالهم وهل نشأ لنا نحن يا ترى معشر العرب نصف رجل مثل بارمانتية منذ بضعة قرون وكان بسيرته وعمله حرياً بأن نحتفل به ونذكره بكل شفة ولسان ونخلد اسمه في سجلات الأزمان.
صناعة الفنادق
لعل بعضهم يعترض على هذا العنوان فيقول وهل أصبحت الفنادق والإنزال صناعة حتى تحدثنا بها ولكن من رأى الفنادق في الغرب ولا سيما في البلاد التي بكثير إليها اختلاف السياح كفرنسا وإيطاليا وسويسرا مثلا يهون عليه ان يتصور معنى الفنادق فيرى قصوراً(85/13)
شاهقة ذات حدائق غناء مجهزة بأجهزة قصور الملوك أو أكثر وفيها من التحف والألطاف وبدائع الصناعات ما يلفت عقل البليد دع الحساس الذكي.
صناعة الفنادق لا لتمثل حق التمثل إلا لعين من كثرت سياحته إلى الأقطار المختلفة وهناك يدرك خطرها كما يدرك قدر الصحف فيرى إدارة كل نزل أشبه بديوان كبير من دواوين الدول أو مصرف عظيم أو جريدة منتشرة وإتقان تلك الصناعة متوقف على العلم الحديث فكلما تأمل في الشرق والغرب وكثرة الترف والنعيم زاد رواءً واتقاناً.
إن ما تراه في مصر والشام من إتقان بعض الفنادق أن هو إلا جزء مما أوجده العلم في القارة الأوروبية والأمريكية وفي مقدمة الأمم التي استفادت من فنادقها وأحسنت القيام عليها الأمة السويسرية حتى سمى بعض الفرنسيس أهل سويسرا الفندقيين تحقيراً لهم مع أن هذه الصناعة كغيرها مما لا يثلم الشرف ولا بعبث بالمروءة شريفة في ذاتها ولا يعد التوفر عليها سبة وعاراً. وكفى السويسريين بأن أهم الفنادق في ايطاليا وغيرها هي بأيديهم يديرونها ولا يفوقهم أحد في هذا الشأن.
ليس الفندق أو النزل الحديث كما يتخيل بعضهم عبارة عن خان من الخانات متقن بعض الشيء فإنه قد يوجد في الفنادق الحديثة من أسباب الرفاهية والنعيم مالا يوجد مثله في قصور العظماء الفندق الحديث هو معهد مؤلف من عدة أمور يحتاج حسن سيرها إلى عناية وملاحظة خذ لك فندقاً متوسط الكبر تجد فيه بحسب طبقته ومساحته أعمال الكهربائية مراجل ودينامو وآلات التدفئة والتهوية وأدوات لاستخراج الجليد وحجر مبردة وأفران للخبز والحلويات وآلات للتصعيد ومطبعة ومكتباً للبريد والبرق واصطبلات ومحال لحفظ المركبات والسيارات وأقبية وقد يساوي ما يحويه الفندق من المواد مئات الألوف من الفرنكات تكفي النزل الشهرين والثلاثة ومعملا للتصليح محمل نجارة وحدادة إلى آخر ما هنالك مما لا مقابل له بالعربية للتعبير عنه. وللفندق خدام يقومون على غاباته وحدائقه ومنتزهاته وطرقاته وسواق تامة أدواتهم لنق الأمتعة والأثقال منه واليه على الخيل والسيارات ورجال إدارته أكثر من رجال الوزارة فمنهم المستقبلون والقائمون على إعطاء التعليمات لمن يطلبها ومنهم العارفون بالسكك الحديدية وآخرون للمحاسبة وبعضهم للضجة وغير ذلك.(85/14)
فالفندق مستعمرة صغيرة ينقسم أقساما قد يختلف عدد القائمين بأعماله من 100 إلى 350 شخصاً. ومدير الفندق سواء كان مالكه أو مديره مسئول عن كل ما فيه مديره ويعنى به ويمونه ويلاحظه ويسأل عن كل غلط يأتيه رجاله العاملون بإشارته أو النازلون عنده والقانون يسأله وحده فقط عن كل ما يحدث.
ولذا لا يكون صاحب الفندق ق في العبر رجلا عاديا يكتفي منه أن يكون حسن البذة عارفا بالقراءة والكتابة والحساب بشوشا مؤنسا بل هو رجل متعلم من الدرجة الأولى يحسن إدراك ألوف من التفاصيل في إدارة تحتوي غرائب معقدة بحيث يكون أهلا لان يتصرف في الحوادث اليومية التي قد تقع اضطرارا في عمل يحوي في حملته أعمالا صناعية وتجارية مختلفة وليست الأدوات التي يقوم بها الفندق ميكانيكية بل عقلية قد تتعارض فلا بدع إذا طلب هنا من صاحب الفندق أن يكون مهندساً نقاشاً سياسياً تاجراً بل طبيباً للأرواح والأشباح.
عرفت الأمم المتمدنة مكانة هذه الصناعة فجعلت لها المكان الأول في حياتها الاقتصادية والتجارية والصناعية وفتحت المدارس لتعلمها كما فتحت مدارس لتدبير المنزل الذي تتوقف عليه حياة البيوت وسعادتها وغبطتها ولقد كانت النفس تحدثني وأنا أشهد من لذاذة الحياة في فنادق الغرب ومساكنه (بانسيون) وحذاقة طهاتها ونظافة خدامها وخادماتها من لي بأن يأتي أناس من الطبقة المستنيرة المثرية من أبناء بلادي ليروا شاهداً عيانياً محسوساً على ترقي الغرب وتدني الشرق ويفاضلوا إذا رجعوا إلى أهلهم بين حالنا وحال غيرنا وينقل بعض ما يمكن نقله من أسباب النظافة وحسن تحضير المأكل وتنويعها وجمال السرر وبساطتها والغرف وفرشها والمقاعد والخزائن والمغاسل والحمامات وأماكن الاطمئنان وغير ذلك من أساليب الراحة والنعيم الذي لم يظفر يبعضه أغنى الأغنياء فينا اللهم إلا بعض عقلاء الكبراء في الحواضر الكبرى وخصوصا في مصر.
ولكم كنت اشتهي أن يأتي بضعة شبان ممن سبق لهم الخدمة أو النظر في فنادق مصر والشام واختلطوا بالإفرنج وعرفوا خصائصهم وتأنقهم في مطعمهم ومنامهم وملبسهم أن يقضوا ولو أشهرا في الفنادق الكبرى ويحضرون ولو سنة دروس مدروسة الفنادق وتدبير المنزل في سويسرا وأظن أن من يفتح فندقاً ويحسن النظر فيه بحيث يضاهي به أو يكاد(85/15)
فنادق الغرب المتوسطة ينفع نفسه وأمته في اقتصادياتها أكثر من ألف موظف في الحكومة متوسط المعارف لا يهمه إلا رضا من سبقه في الدرجة وانتظار آخر الشهر لقبض الراتب.
سوريا بمناخها تشبه سويسرا ولكن هذه تأخذ في السنة من المصطافين والمشتين فيها قناطير مقنطرة من الذهب وذلك لأنها عرفت من أين تؤكل الكتف في خدمة الناس وتوفير أسباب الهناء والصفاء لهم بحيث يتأتى للمرء أن يكون في الفندق سعيداُ كما هو في بيته وزيادة وأن أتاهم بعضهم الدماشقة بأنهم لا يفكرون في غير إلا كل والنوم وان هذه العادة غالبة عليهم ولكن يشفع في ذلك حالة الغرب واهتمامه في هذه الشؤون الحيوية أيضا وأن يكن الفرق بيننا وبين غيرنا أننا نذكر التفكر في ذلك وهم يجعلون له وقتا لا يبحثون فيه بغيره والسلام.
رجال الكثلكة
يجدر بنا ونحن في مهد انتشار الدين المسيحي وكل ساعة يقع نظرنا على قساوته ورهبانه ونرى بيعه ونسمع أجراسه أن نحدث قومنا بعمل هؤلاء الرجال وتفانيهم في واجبهم.
من يمر في شوارع رومية يجد الرهبان والقسوس سائرين زمراً زمراً ويجدهم على الجملة يحلقون شواربهم ولحاهم ويلبسون لباسا اسود في الاكثر على عاداتهم في الشرق ويختلف هذا اللباس فالألمان والمجربون منهم يلبسون أردية حمراء فقط والفرنسيس والانكليز يلبسونها سودا والايكوسيون سودا مع زنانير زرقاء وياقات سوداء والبلجيكيون يلبسون سواداً فيه شيء من الحمرة والبولونيون يكتسون السواد وغيارا اخضر البوهميون سواداً وغياراً ممزوجاً بزرقة فاتحة واليونان الروتنيون يلبسون زرقة وزنانير حمراء مبقعة بزرقة وقسوس أميركا الجنوبية يلبسون الأسود مع غيار ازرق وبطانة زرقاء الأميركان يلبسون لباساً أسود واسع الأكمام والأردان غياراً أحمر وأعضاء الدعوة إلى الدين يلبسون أردية سوداء مع غيار وبطانة هما إلى الحمرة.
هذا هو الشكل الظاهر في طلاب المدارس الاكليريكية الذين يأتون من أنحاء العالم الكاثوليكي ليدرسوا ويتخرجوا بآداب دينهم ثم يعودوا إلى بلادهم أو غيرها يعلمون ويرشدون. وهم قسمان قسم القسوس وهؤلاء يتعلمون في مدارسهم وبعد الدرس يذهبون إلى منازلهم وقد يعيش بعضهم بين أهله وذوي قرباء فمن هؤلاء لا يطلب إلا أن يسيروا(85/16)
بموجب القواعد المقررة وهم أحرار فيما عدا ذلك أما الرهبان فدائرتهم أضيق لأنهم يعيشون في مدرسة واحدة مع أقرانهم ويطعمون طعاماً واحدا ويكون في الاكثر طعام تقشف ولا يخرجون إلا برخصة أي أن هؤلاء مقيدون كثيراً ولا قيد صغار الطلبة في المدارس الداخلية.
والرهبنات أقسام منها الفرنسيسكانيون والدومنيكيون واليسوعيون واللعازريون وغيرهم ولهم أنظمة وقوانين مشوا عليها منذ قرون وأفادوا النصرانية بنشرها في البلاد التي لم تدخلها ولا سيما في الصين والهند واليابان وأواسط أفريقية وغيرها من البلاد النائية.
وكان لليسوعيين يد طولى في هذا الشأن وهم بين الرهبان والقسوس أي أنهم يترفهون ويأكلون ما يشاؤن لكنهم يأوون إلى بيت خاص خلافاً للرهبان الذين يأكلون أكلاً معيناً وخلافاً للقساوسة الذين يأوون إلى بيوتهم واليسوعيون بجند منظمون على نظام غريب لم يختل على كثرة ما نالهم من اضطهاد الحكومات في الأزمان السالفة.
قال الأمير بورغزه في كتابه ايطاليا الحديثة: إن تأسيس طغمة اليسوعيين المشهورة هو من غرائب النظام الحقيقي فتراها جمعية مؤلفة من عناصر مختارة تخضع على الدوام لأداة الرئيس مباشرة والداخل فيها يربى على الطاعة بالتدريج والخروج المطلق عن شخصيته وإرادته. ويتراءى للناظر في نظامهم أن واضعه جندي فإن كل شيء فيه يشعر بالنظام. وقال أن نظام هذه الرهبنة ربما جرى في وضعه أغناس لويولا مؤسس اليسوعية على قواعد بعض الجمعيات الإسلامية التي كانت مشهورة في الأندلس فبنى نظام رهبنته على طاعة لا نهاية لها فتوصل بهذه الصورة أن يؤلف جيشاً يتصرف به رؤساؤه تصرفاً مطلقاً وتفنى إرادة صغيرهم في كبيرهم.
ولمعظم الرهبان والقسوس أعمال علمية وغيرها يتعاطونها ويبرزون فيها فإذا انقطعوا للتدريس تخرج بهم طلاب كانوا صورة صحيحة منهم وإذا أخذوا بالتأليف قد يعدون من كبار المؤلفين ولذا ترى الناس في ايطاليا وفي غيرها كثيراً ما يفضلون أن يربى أولادهم على أيدي القسوس وإن كان آباؤهم ملاحدة مارقين من دينهم.
ترى الرهبان إذا أخذوا بالزراعة والصناعة بما سبقوا من تخرجوا فيها أعمارهم والحكومة هنا قد جعلت رواتب لقسوس الطليان كما عينت راتباً للحبر الأعظم منذ يوم أخذت حكومة(85/17)
الوحدة الايطالية أزمة الأمر بيدها واستولت على أموال الرهبنات وكنائسهم وأوقافهم سنة 1870 لأن جميع مرافق البلاد المهمة كانت بأيديهم إذ ذاك فغيرت بعض المعاهد وجعلت بعضها مدارس ومتاحف ودواوين حكومة وثكناً للجند وغير ذلك وحظرت على أي جمعية دينية امتلاك ملك إلا أن لرئيس الجمعية أن يملك ما يشاء وقد عادت الملة النصرانية فأخذت تدر المال على رجال الدين بعد الوحدة الجديدة ولذا تراهم يعيشون عيشاً حسناً وأديارهم وكنائسهم منظمة وإرادتهم دارة نامية والفضل في ذلك يرجع إلى المتدينين من أغنياء الكاثوليك في العالم.
قلنا أن الحكومة الايطالية عينت منذ زهاء أربعي سنة راتباً لإمام الأحبار ولكنه لم يقبله بعد أن رعت منه السلطة الزمنية وكانت بيده هي والسلطة الروحية بيد أن الحكومة وضعت المبلغ تحت أمره في المصارف وفي كل خمس سنين ترفع منه الفائدة فقط وتبقي رأس المال بحاله الذي يزيد كل سنة حتى بلغ فيما بلغني 180 مليون فرنك وحضرة البابا لا يريد أن يتناوله وهكذا عف هو وأسلافه وسيتعفف أخلافه عن أخذ مال ممن يرونهم غاصبين حقهم معتمدين على سلطتهم.
إن انشقاق ألمانيا وانكلترا وغيرهما عن الكنيسة الكاثوليكية بقيام أمثال جان هوس وكلفن ولو ثيروس في أوائل القرون الحديثة وتلك الأزمة التي دخل فيها المقام البابوي إذ ذاك لم تؤثر كثيراً في سلطته على الأرواح والأشباح وكذلك تغلب الحكومة الزمنية في إيطاليا على جيش البابا يؤثر كثيراً فبقي مقام حضرته مقدساً وكذالك الكرادلة والأساقفة والقس والرهبان وذلك لأن عمل هؤلاء الرجال قائم على أنظمة وقواعد معينة لا تغيرها الطوارئ والرزايا ولأن هذه السلاسل في مراتب الكهنوت لا يصل إليها المريد إلا بالتعلم والتهذيب على الأصول المتبعة وكل ما جعلت التربية والتعلم أساسه يثبت وبعم أثره ويوفق الناهضون به.
ولقد لاحظنا أن الفتن الدينية التي أثارها التعصب الديني في القرون الوسطى كانت في ايطاليا أقل مما هي في فرنسا واسبانية حتى أن الإسرائيليين في اسبانية لما ذاقوا العذاب الأليم جلوا عن بلادهم فكان من إيطاليا أن قبلتهم وهذا ناشئ من لين أخلاق الشعب هنا ويرجح أن كل ما وقع من الاضطهادات لم يكن مما وقف الرؤساء على حقيقته ولو رجعنا(85/18)
إلى تراجم أكثر عظماء هذه الملة من باباوات وكرادلة ورؤساء أساقفة لوجدنا كثيرين منهم خدموا المدينة والآداب خدمة تذكر فتشكر كانوا كذلك يوم كانوا ملوكاً زمنيين وروحيين ويوم أمسوا روحيين فقط حدثنا التاريخ أن الباباليون العاشر في القرن الثالث عشر للميلاد وهم من أسرة ميديسيس المفضلة على العلم قد وسع نطاق الآداب وبث كلمة العلم حتى عد قرنه القرن الذهبي وكان يبسط جناح حمايته للمصورين والنقاشين والمهندسين والأدباء ويفضل عليهم بالطبع أن من يأتي بعده في الدرجة يحاول أن يقلده في محامده. والله أعلم.
العرب والطليان
وصل العرب إلى بلاد الأمة التي هي وارثة الرومان منذ القدم أوائل عهد فتح افريقية وما برح العرب يطمعون في فتح جزيرة صقلية لقربها من الشاطئ المقابل لأفريقية حتى تم لأسد بن الفرات فتحها سنة 212هـ -. قال المؤرخون كان ابتداء حصار بلرم عاصمة صقلية في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين ومائتين ودام إلى شهر رجب سنة عشرين ومائتين وفتحي بالأمان وفي سنة خمس وعشرين ومائتين أستأمنت قلاع كثيرة من قلاع جزيرة صقلية منها حرصه وقلعة البلوط واللاطنوا وقلعة ماروب ومرنا وغير ذلك.
وهذه القلاع ما زال بعضها إلى اليوم أسماء مدن تبدأ بلفظة قلتا أي قلعة فيقولون جيرونة زقلتا بلونة وقلتا لستا وكلها من تلك الحصون والقلاع بقيت أسماؤها كما بقيت أسماء كثيرة عربية في لغة سكان هذه الجزيرة فيقولون مثلاً منديللو للمنديل وغير ذلك مما يشهد بأن العرب حكموا هذه الجزيرة قرنين ونصفاً وأثرت في أهل مدينتهم ولسانهم وعاداتهم كما هي عاداتهم في كل ما ملكوه.
راجت حضارة العرب زمناً في صقلية ومنها تسربت إلى البلاد المجاورة فكان يرشح منها شيء كثير إلى الأقرب فالأقرب من البلاد ولعل تلك الحضارة راجت أيضاً في جزيرة قورسقة وأهلاه يتكلمون الايطالية أيضاً وهم اليوم تحت حكم فرنسا وملك العرب جزائر ميورقة ومنورقة المعروفة بجزائر البالايار ويابسة وكانوا يغزون شطوط اسبانية وفرنسا ولا عجب بعد ذلك إذا دخلت كلمات عربية كثيرة في لغات الفرنسيس والطليان والاسبان والبرتغال.
ومن يعلم أن تلك الجزائر مما ارتفع عليه علم الإسلام وأن أقريطش (كريت) وقبرص(85/19)
ورودس ومالطة كان حظها كذلك يعرف أن العرب كانوا رجالاً في البحر كما هم رجال في البر وأنه لا سبيل إلى الأمن من الداخل إذا لم يحفظ الساحل بالجزائر والمواني والفرض ولطالما كانت الحكومات تمتلك الساحل فلا تلبث أن تبسط سلطانها على الداخل.
كان الأدارسة حكام تونس هم المتكلفين بغزو جزيرتي سردانيا وصقلية ففتحوا صقلية وكذلك ملوك جزائر الغرب أخذوا على عهدتهم غزو منورقة وميورقة فاستولوا عليهما وعامل العرب الايطاليين والاسبانيين بالحسنى على نحو ما يأمرهم به دينهم ولما رأى الايطاليون هذه المعاملة لم يشاؤوا أن يغيروا شيئاً من مصطلحاتهم حتى أن الملك رجار الذي عاد فاستولى على صقلية سنة 485 كان يتكلم بالعربية وهو الذي أفضل كثيراً على الشريف الإدريسي الجغرافي الذي وضع كرة أرضية بالفضة كانت من أعاجيب القرون الوسطى دهشت لها أجيال الإفرنج كلهم كما دهشوا للساعة الدقاقة التي أهداها أمير المؤمنين الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا.
قال الإدريسي في رجار هو الملك المعظم رجار المعتز بالله المقتدر بقدرته ملك صقلية وايطالية وانكبرود وقلورية أمام رومية الناصر للملة الناصرية إذ هو خير من ملك الروم بسطاً وقبضاً.
ولقد كان أهل الشرق على صعوبة ركوب البحر في أيامهم يرحلون إلى بلاد ايطاليا كما يرحلون إلى الأندلس فيكتبون عليها في رحلاتهم ما تقع عليه أنظارهم وممن زار ايطاليا الجغرافي ابن حوقل فقد قال أن مدينة ملف ويقال لها الآن ملفي تتصل بأرض نابل وهي مدينة صالحة بحال دون ملف في كثير من الأحوال وأكثر أموال نابل من الكتان وثياب الكتان وقال أنه رأى بها ثياباً لم ير في سائر أقطار الأرض لها شبيهاً ولا يستطيعها صانع في جميع طرز الأرض وهو ثوب يعمل مائة ذراع في خمسة عشر ويباع الثوب منها بمائة وخمسين رباعي وزائد وناقص.
ووصف ابن حوقل صقلية فقال أن طولها سبعة أيام في أربعة أيام والغالب عليها الجبال والقلاع والحصون وجميع أرضها مسكونة مزروعة وليس لها مدينة مشهورة معروفة غير المدينة المعروفة ببلرم وهي قصبة صقلية على نحو البحر من الشمال وهي خمس جادات محدودة غير متباينة ببعيد مسافة وإن كانت حدودها ظاهرة فمنها المدينة الكبرى التي تسمى(85/20)
بلرم عليها سور من حجارة مانع شامخ يسكنها التجار وفيها مسجد الجامع الأكبر وكان بيعة للروم وفيه هيكل عظيم ومدينة تعرف بالخالصة ذات سور أيضاً من حجارة وليس كالسور الأول يسكنها السلطان وأتباعه وفيها دار صناعة البحر والديوان وبعد أن وصف أسواقها وباعتها واستطرد إلى كثرة مساجدها وقال أن فيها نيفاً وثلاثمائة مسجد وفي قرية البيضاء مائتا مسجد قال ولم أر مثل هذه العدة في بلد من البلدان الكبار على ضعف مساحتها ولا سمعت به وقد رأى على مقدار رمية السهم نحو عشرة مساجد يدركها البصر ومنها شيء تجاه شيء وبينها طريق قال وسألت عن ذلك فقيل لي أن القوم لشدة انتفاخ رؤوسهم كان يحب كل واحد منهم أن يكون له مسجد مقصور عليه لا يحب أن يشركه فيه غير أهله وحاشيته وربما كان إخوان منهم متلاصقة دارهما متصافية الحيطان فعمل كل واحد منهما مسجداً لنفسه ليكون جلوسه فيه وحده وفي جملة هذه العشرة مساجد التي ذكرتها مسجد لولد وابنتاه ليتفقه فيه وغرض كل واحد منهم أن يقال مسجد قلان لا غير. قال وبها رباطات كثيرة على ساحل البحر مشحنة بالبطالين والفساق ووصف أبواب بلرمة التسعة وقال أن هذه المدينة مستطيلة ذات سوق قد أخذ من شرقيها إلى غربيها يعرف بالسماط مفروش بالحجارة عامر من أوله إلى آخره بضروب التجارة.
ووصف الشريف الإدريسي جزيرة سردانية فقال أنها كبيرة القطر مثيرة الجبال قليلة المياه وطولها مائتان وثمانون ميلاً وعرضها من المغرب إلى المشرق مائة وثمانون ميلاً وطولها ماراً من الجنوب إلى الشمال مع قليل تشريق وفيها ثلاث مدن منها الفطينة وهي مما يلي في جنوبها وهي مدينة عامرة ممدنة ومنها مدينة قالمرة وهي رأس المجاز إلى جزيرة قرسقة ومدينتها الثالثة تسمى قشتالة وأهل جزيرة سردانية في الأصل روم أفارقة متبربرون متوحشون من أجناس الروم وهم أهل نجدة وحرم لا يفارقون السلاح وفي جزيرة سردانية معادن الفضة الجيدة ومنها تخرج الفضة إلى كثير من بلاد الروم وبين سردانية وجزيرة قرسقة مجاز طوله عشرون ميلاً.
ثم وصف جزيرة قرسقة وجزيرة البتة وبالوسة وقبريرة وقبرة وشكلة وبيت برة ومونسة وبونسة واسترنجلو وجزيرة البركان وليبر ودندمة وفيكوذة رركذة وأشتقة وجزيرة الراهب واليابسة وغيرها وقال في وصف مدينة بلرم: وبها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر(85/21)
محاسنها في بناتها ودقائق صناعتها وبدائع مخترعاتها وهي على قسمين قصر وربض فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم وهو في ذاته على ثلاثة اسمطة فالسماط الأول يشتمل على قصور منيفة ومنازل شامخة شريفة وكثير من الفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار والسماطان الباقيان فيهما أيضاً قصور سامية ومباني فاخرة عالية.
وذكر القزويني في عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات مدينة رومية فقال أنها مدينة رياسة الروم وعلمهم وهي في شمال غربي القسطنطينية وبينهما مسيرة خمسين يوماً وهي في يد الفرنج ويقال لملكهم ملك المان وبها يسكن البابا الذي تطيعه الفرنج وهم عندهم بمنزلة الإمام الذي يكون واجب الطاعة ومدينة رومية من عجائب الدنيا لمعظم عمارتها وكثرة خلقها. ذكر الوليد بن مسلم الدمشقي أن استدارة رومية أربعون ميلاً في كل ميل منها باب مفتوح فمن دخل من الباب الأول يرى سوق البياطرة ثم يصعد درجاً فيرى سوق الصيارفة والبزازين وذكر أن بين يدي السوق سوق آخر على أعمدة نحاس كل عمود منها ثلثون ذرعاً وبين هذه الأعمدة نقير من نحاس في طوق السوق من أوله إلى آخره فيه لسان من البحر تجري فيه السفن فتجيء السفينة في هذه النقرة وفيه الأمتعة حتى تجتاز على السوق بين يدي التجار فتقف على تاجر فتختار منها ما تريد ثم ترجع إلى البحر.
وذكر أشياء عجيبة عن كنيستها وقال أن فيها عشرة آلاف دير للرجال والنساء وبها جامع لمن يلتمس صنوف العلم من الطب والنجوم والحكمة والهندسة وغير ذلك قالوا أنها مائة وعشرون موضعاً قال وقد مثل في الكنيسة صورة كل نبي من وقت آدم إلى عيسى عليه السلام وصورة مريم عليها السلام كأن الناظر إليهم يحسبهم إحياء وحكي أن أهل رومية يحلقون لحاهم ووسط هاماتهم فسآلو عن ذلك فقالوا لما جاؤوهم شمعون الصفى والحواريون دعوهم إلى النصرانية فكذبوهم وحلقوا لحاهم ورؤوسهم فلما ظهر لهم صدق قولهم ندموا على ما فعلوا وحلقوا لحى أنفسهم ورؤوسهم كفارة لذلك.
وممن رحل إلى ايطاليا جمال الدين محمد بن سالم بن واصل قاضي القضاة بحماة وكان إماما مبرزا للعلوم العقلية عارفا بالمنطق والهندسة والأصول والفقه والهيئة والتاريخ توفي سنة 697 ذهب هذا رسولا إلى صاحب صقلية من قبل الملك الظاهر بيبرس الصالحي(85/22)
وذكر انه أقام عنه وفي مدينة من مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس من مدينة انبوليا واجتمع به مرارا ووجده متميزا ومحبا للعلوم العقلية يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس قال وبالقرب من البلد الذي كنت فيه مدينة تسمى لو حارة أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية يقام فيها الجمعة ويعلن بشعار الإسلام.
وفي هذا القرن كان الايطاليون هم رجال التجارة والأساطيل في البحر المتوسط وكانت لسكان بيزاوهم من إقليم توسكانيا تجارات واسعة في الشام وقال ياقوت أن السعة ظاهرة عليهم وجمهوريات بيزا وجنوا والبندقية هي أكثر البلاد الايطالية في القديم والحديث ولما كان الطليان يأتون بلاد مصر والشام وسواحل البحر المتوسط منتجعين للزق والاتجار كانت بقية أمم أوروبة غائصة في مفاوز الجهالة.
نشر المستشرق ميشيل أماري في مدينة فلورنسا الشروط والعقود السياسية بين ملوك بيشة (بيزه) وفورنتا (فلورنسا) أو فلورنسا وبين ملوك المسلمين في تونس والغرب الأقصى ومنها عقد من الملك قايتباي للفلورنتيين ذكر في شروط البنادقة ان تجار المسلمين يبتاعون من تجار البنادقة أصنافاً من متاجرهم من جوخ وصوف وغير ذلك وآخر هذه العقود سنة عشر وتسعمائة هجرية وأولها في منتصف القرن السادس.
وهكذا عاد العرب فاستخلصوا بلادهم من الطليان فكان الاختلاط على اتمه بين الأمتين ولاسيما عندما تضع الحرب أو زارها وكثيرا ما كان رسل ملوك الإسلام يأتون ايطاليا فقد ذكروا أن ابن خلدون المؤرخ جاءها رسولا من قبل صاحب تونس وصورة الطليان إذ ذاك على الحجر وجاءها في القرن الحادي عشر الأمير فخر الدين المعني صاحب لبنان وأقام بها عدة سنين ملتجأ ووصف عمرانها بالضخامة وتفنن أهلها في النقش والرسم والبناء.
ولا يتسع المجال هنا إلى ذكر كل من زاروا ايطاليا من العرب ومن زاروا من الطليان بلادنا إلى هذا العصر. ولقد كانت اللغة الايطالية في مصر والشام معروفة أكثر من الافرنسية والانكليزية إلى منتصف القرن الماضي ثم تراجعت وخلفتها هاتان اللغتان.
هذا وكان رجال الدين من كاثوليك الشرق يختلفون إلى رومية منذ القديم ويتعلمون لغتها ويدرسون الدين فيها وهم أكثر من أن يحصوا وفي مقدمتهم السمعاني اللبناني المشهور واللبنانيون الموارنة على ما يظهر أشد الكاثوليك رغبة في المهاجرة إلى رومية وتواريخ(85/23)
رجال الكهنوت عندهم شاهدة بذلك.
لذائذ الغريين
قرأت في الصحف الباريزية أن إمبراطور ألمانيا منع ضباط مملكته من رقص التانغو وألوان ستب في الحفلات الرسمية وكذلك فعل ملك الانكليز وهما رقصتان قيل أنهما من أصل أمريكي في أقصى ما يكون من الخلاعة خلافاً للرقص الذي اعتاده الأوروبيون في حفلاتهم الراقصة خاصة كانت أو عامة.
ولعل الآن بعضهم يقول وأنت الآن تحدثنا عن الرقص وأمامك محيط أوروبا وكله مما يستملي القرائح مهما كانت كليلة للكتابة والتأمل. نعم أن البحث في الرقص هو مما يجب البحث فيه أيضاً لشرقي يبحث في مدنية الغربيين.
إننا بحسب عاداتنا واصطلاحنا سكان المدن العربية لا البوادي ننكر الرقص ونعده حطة ولكن الغربيين يرون غير رأينا فيه. يرونه من الحاجات الطبيعية لبسط النفس ولذلك لا تكاد ترى الكبير والصغير والرجل والمرأة إلا ويعتادون الرقص على أنواعه من غير نكير اللهم إلا رقص التانغو وألوان ستب فإن العقلاء أنكروه لأنه باعث الشهوات البهيمية ومخرج للرقص عما وضع له.
والرقص في الغالب يكون على إيقاع النغمات الموسيقية على لحن متساوق وربما أشفع بغناء. فالرقص والموسيقى والغناء هي من المستحبات وربما تجوزنا وقلنا من الواجبات في بلاد الغرب لا يعد الفتى ولا الفتاة من أهل الظرف بدون الأخذ بحظ وافر منها فكأن الغربيين رجعوا في مدنيتهم إلى الفطرة الأولى وذلك لأنا نرى سكان البوادي في الشرق أيضاً يرقصون ويغنون ويضربون بطبل أو ينفخون بمزمار. أمور يأتونها على الفطرة وعلى حال أولية ولكنها على كل حال تدل على أن سكان غير المدن في شرقنا أقرب إلى الفطرة من المتحضرين.
كانت الطبقة العالية من رجالنا أيام رقي العرب في الأندلس ومصر والشام والعراق والجزيرة وفارس وغيرها من البلاد التي تأصلت فيها الحضارة لا تستنكف من الضرب بالعود أو غيره من أدوات الطرب أو ترفع أصواتها بالغناء ولا ينكر عليها ذلك ولطالما كنت ترى بينهم الفقيه والمحدث والطبيب وصاحب الوقار من القضاة والعمال.(85/24)
انحطت الحضارة عندنا والفنون الجميلة آخر ما تستعيده الأمة الناهضة وأول ما تفتقده المنحطة وما الغناء والموسيقى إلا من الفنون الجميلة فارتقاء صناعة الغناء والموسيقى في الأمة دليل ارتقائها فهما محركان عظيمان لأرواح أبنائها ومهمازان قويان لترقية شعورهم وتحسين عواطفهم يصرفون فيهما آونات الفراغ فيدخل بهما السرور على القلوب.
تصدر هذه العجالة من بلاد هي مهد الرقص والغناء والموسيقى من أرض أين اتجهت في حواضرها وبواديها تجدها تطرب وتتغنى من بلد قام فيها من الموسيقيين القدماء أمثال روسيني وبلليني ودونيزيتي ومن المحدثين أمثال فردي وبوتنشيني وما سكانية وليون كافاللو ومن المغنيين في المحدثين بونشي وماركوني وكاروسو ود يللوكا وباتستيني وغيرهم من المغنيات والموسيقيات ممن أعظمت الأمة واحاتهم في منزلة علمائها وفلاسفتها ورجال نهضتها.
وكل ما نراه من الموسيقى ونسمعه من الغناء يكون على ضرب النوتة بأدوار وتقاطيع مخصوصة وهو ما لم يتم حتى الآن عند العرب اللهم إلا الموسيقى الوترية في مصر ولما يعم استعمالها فإذا أصبحت موسيقانا وغنانا ضمن دائرة القانون يكون قد وضع الحجر الأول في أساس نهضة هذه الفنون الجميلة في شرقنا العربي على نحو ما جرى عليه سكان الأستانة وأفلحوا فيه من تقليد الأوروبيين في موسيقاهم وغنائهم.
الموسيقى والغناء هما مثال من حالة النفس ومن لا يريد أن تكون نفسه شفافه براقة حساسة ولكل أمة غناؤها قد تتبرم به الأمة الأخرى وتعد منكراً ولكنه يفيدها ويلذها كما ذكر ابن زندقة الاسكندري من سياح القرون الوسطى في وصف أهل شلشويق (أي أهل شلزويك هولستايين في شمال ألمانيا) وقال أن لهم نوعاً من الغناء يشبه عواء الكلاب ولو فهم معناها لما حكم هذا الحكم الذي يقوله اليوم أيضاً كل من لا يعرف لغة غيره ولا تأثير موسيقاه وغناءه ومراميها.
اللذائذ الثلاث هما من أول ما تدور عليها الحياة الغربية اليوم ولا تضر بالوقار بل تعد من أدوات الظرف والكمال ولعل شرقنا يحتذى في الموسيقى والغناء حذو الغرب مع تعديل تقتضيه طبيعته وعاداته واشتغال البيوت أو لأصحاب آونة الفراغ بضرب من ضروب الموسيقى والغناء أنفع ألف مرة من لغو الحديث وانتقاض بعضهم بعضاً والحط من أقدار(85/25)
أنفسهم والسلام.(85/26)
التبدل المادي في الحياة السياسية
أوردنا في الجزء الأول نموذجات من كتاب تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة وها نحن نشفعه بفصل ضاف عقده في معنى التبدل المادي الذي حدث في الحياة السياسية قال ما ترجمته:
الاختراعات المادية - لم يأت زمن في تاريخ البشر تبدلت فيه الأسباب المادية في الحياة بسرعة كما تبدلت فيه في القرن التاسع عشر في أوروبا فإن الصناعات العملية التي تكملت منذ العهد القديم بما نالها من الارتقاء الطبي في مجموعها قد انقلبت انقلاباً أصليلاً ظهراً لبطن بحيث كانت المسافة كبيرة جداً بين الطرق العلمية التي كان الناس يجرون عليها في القرن الثامن عشر والصناعة الحديثة وبين الطرق التي اتخذت في القرن الثامن عشر وصناعات الأقدمين ومنها الصناعة المصرية.
وهذا الانقلاب هو نتيجة الاختراعات التي قامت بالتجربة فقط أو بتطبيق أساليب العلوم العلمية وكثير منها ينتهي إلى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر بيد أن نتائجها العملية لم يشعر بها في جمهور الشعوب في أوروبا قبل أواخر حرب الإمبراطورية الفرنسوية فتغير الحياة المادية لم يبدأ إلا بعد سنة 1814 فهو أعظم حادث عصري بل هو حادث دولي لأن تلك الاختراعات أوجدتها عقول العلماء والمخترعين من كل الأمم وهي مشتركة بينهم بحيث يتعذر كل حين تمييز من له الحظ الأوفر من الأمم في هذه الخدمة فقد انتقلت من أمة إلى أخرى مفيدة لها كلها على السواء.
امتزجت أساليب الحياة المادية الجديدة في عاداتنا بحيث يصعب علينا أن نتمثل كيف كانت أوروبا سنة 1814 على قربها من زمننا واختلاطنا معها في طرز الحياة ولا يخلو من فائدة التذكير بالمخترعات الرئيسية التي جعلت بيننا وبين أجدادنا في ثلاثة أرباع قرن هذا الاختلاف العظيم وأني لأحاول أن أقص هنا تاريخ ما حدث فإنها قامت كلها في أدوار مختلفة على أساليب مختلفة من التكمل المتواتر مما يصعب به نظمها بحسب السنين بل أريد هنا أن أحصيها جامعاً على طبقات المعارف التي هي عملياتها في الحقيقة.
فإن الاختراعات الميكانيكية التي تمت كلها في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر كانت أولاً أدوات تدار بالأيدي مثل أدوات نسج القطن ونسج الصوف وخياطة الصوف وحياكة القطن وحياكة الصوف وخياطة أقمشة الصوف وصنع الجوارب (أما آلة الخياطة فلم تحدث إلا(85/27)
في القرن التاسع عشر) ثم جرى العمل باستعمال القوى الطبيعية المنبعثة من شلالات الماء لإدارة آلات النسيج والحياكة (وذلك في إنكلترا من سنة 1790 إلى 1815) أما البخار فلم يستعمل إلا بعد ذلك العهد ويلحق بالميكانيكيات الآلات الزراعية التي جاء استعمالها متأخراً وآت صنع الورق وقد نشأ من ارتقاء الميكانيكيات انقلاب في طرق المواصلات وذلك باختراع الطرق المحجرة (المكادام) سنة 1820 والطرق ذات الانحدار القليل والافريز التي قامت مقام الطرق المعبدة (الشوسة) بالحجر فقط الباهظة الثمن المشوشة النظام والطرق المستقيمة ذات الانحدار الصعب بإنشاء الجسور المعلقة والقناطر وأنفاق السكك الحديدية.
ولقد استفادت الميكانيكيات بتبديل صناعة الاستخراج فأوجدت المواد الضرورية للصناعات الأخرى بكميات وافرة مثل الفحم الحجري والمعادن والبترول (زيت الكاز) وبتغير صناعة المعادن باستعمال الفحم الحجري وإنشاء المعامل والمطارق كثر الحديد والفولاذ والحديد المصبوب فأصبحوا المادة الأولى في أدوات الصناعة الحديثة كالآلات والأسلحة والخطوط والأدوات والجسور.
وباستخراج مناجم الذهب والفضة بالآلات والطرق الكيماوية الحديثة تضاعفت كمية النقود. وقد أوجد علماء الطبيعيات القوتين الموصفتين لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه وقد دونت سيرته في عهده فكان عند المشارفة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل وأحق ما يرجع إليه في سيرته رحمه الله من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل وتاج الدين شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الضوء الكهربائي والفونوغراف والتصفيح.
ومن الكيمياء تشعبت معظم الاختراعات الثانوية فإن الثقاب (عيدان الكبريت المعمول(85/28)
بالفوسفور قام مقام القداحة البطيئة الصعبة الاستعمال ونشأت الأسمدة الكيمياوية التي أخذت تبدل الزراعة من حال إلى حال واستخرج السكر من الشمندر وأصبح الغاز أعظم واسطة لإنارة الأماكن العامة والألوان المستخرجة من الفحم الحجري والبنزين والكريزيوت مادة مستخرجة من القطران والتصوير الشمسي والتصوير النوري والمواد المنفجرة الجديدة والأدوية الكيماوية والغسل في الكلور والدباغة والمربيات من المأكولات واستخراج الألمنيوم والورق المعمول من الخشب الخ.
وتقدمت العلوم الحيوية بعض الشيء فحدثت منها المخدرات (مثل الكوروفورم والاتير) التي سهلت الجراحة والمضادات للتعفن التي غيرت الطب. ويضاف إلى ذلك تحسن البذور وأجناس الحيوانات الأهلية وهذا من نتائج التجارب المنبعثة من العلوم الطبيعية.
وبعد فإن هذه النظرة الموجزة في أهم الاختراعات تكفي في التذكار بعظمة التبدل الذي وقع في الحياة وسنبحث هنا في كيفية هذا التبدل المادي كيف فعل في الحياة السياسية في أوروبا وذلك مباشرة يتغير الأساليب العملية في الحكومات وبالواسطة بتحويل تركيب المجتمع
أساليب التدمير الحديثة - ظل الاعتماد على المواد المنفجرة القديمة إلى منتصف القرن على نحو ما كان عليه في أواخر القرون الوسطى فما كان عند الجيش سنة 1814 سوى البارود والبنادق التي تحشى حجارة والمدافع القليلة النظام التي تدك من فوهتها فكانت أسلحة ضعيفة الشأن تدك ببطء وتطلق طلقات رديئة وما كانت تحول دون المتحاربين إلا بتأثيرات معنوية ولم تكن تمنع جيشاً منظماً أن يتجمع ويداهم العدو بالحراب وكان يكفي لمن يريد العصيان إذ ذاك أن تكون عنده بندقية صيد وبارود وكرات فكان الفرق في السلاح بين الجندي والعاصي الثائر لا يعتد به بل أنه إذا وقع القتال في شارع يكون الثائر في مأمن فيتحصن وتكون له الميزة على الجندي فنشأت للحكومات من المواد الملتهبة الجديدة قوة في التدمير جددت علم قمع الثائرين فكان من الزئبق الملتهب أن اخترع الكابسول ثم اكتشف اكتشاف أهم من المواد الملتهبة من مركبات ماء الفضة فاكتشف أولاً النيروغليسيرين (1847) الذي يمزج بمواد صلبة فيتكون منه الديناميت (1864) وللمواد الملتهبة المحطة المؤلفة من مركبات ملح البارود التي يحدث منها الانفجار بواسطة ترتيب(85/29)
كيماوي آني قوة في التدمير أرقى من قوة البارود لأن التهاب هذا لا يكون إلا بالحرارة فهو أكثر بطئاً وقد استعيض عن بارود المناجم بالديناميت (لا في حفر الخنادق والنشافات البحرية فقط بل في معظم أعمال البناء في الطرق) فإن بارود الحرب الذي احتفظ به استعيض عنه بالبنادق تحشى ببارود جديد لا دخان له اخترع سنة 1870 في عدة ممالك على حدة واتخذت في المدافع مركبات من حامض ملح البارود أو حامض البيكريك (هو حامض يؤلف بعمل حامض ملح البارود على النيلة وعود الند) كماد الميلتيت الملتهبة ومادة الروبيريت الخ.
ولقد حدث على ذلك العهد تبديل في استعمال الأسلحة فاخترعت البنادق ذات الطلق الأوسط تجعل فيها خرطوشة مهيأة تدخل في مؤخر البندقية مما زاد كثيراً في السرعة وقليلاً في تنظيم الرماية وكان أول تطبيق لهذه الطريقة بندقية الإبرة (دربس) التي اعتمد عليها المشاة في الجيش الروسي منذ سنة 1847 ولم تهب سائر البلاد إلى الاقتداء بها وظلت فرنسا مكتفية ببندقية الصيد (لوفوشو) وبعد أن أحرز الألمان الظفر سنة 1866 تنوعت البندقية التي كانت تحشى من مؤخرها مثل (شاسبوت وماوزر ومارتيني) أنواعاً كثيرة وأصبحت سلاح أورباكلها ومثل هذا الارتقاء حدث في المدفعية فبعد المدفع ذي الخطوط الداخلية ظهرت المدافع التي تملأ من مؤخرها (ارمسترونغ منذ سنة 1854) ثم جرى تحسينها في ألمانيا (معمل كروب) ثم أنشئت المدافع من الفولاذ وأخذت تلك المرامي تقذف قنابل من الميلنيت وانتظم هذا الانقلاب في الأسلحة بالاكتشافات الكيماوية وكان من أثر البارود بلا دخان أن زاد قوة الالتهاب وخفف من ثقل البندقية وأن جعل القذيفة أصغر حجماً وأعظم جرماً وهذه البندقية هي التي دعيت بندقيه لبل.
ولقد حولت هذه الأدوات الحديثة في التدمير بما تم لها من الأثر الذي فاق القديم منها أسباب الحروب ففقدت المدن القديمة القوية بضعفها عن المقاومة ما كان لها من الحصانة الحربية في الدفاع عن التخوم ولم يعد المدافعون يعتمدون على ما سوى إقامة المعسكرات المحصنة بالخنادق ومراكز للذخائر تحميها سلاسل من الحصون المنفصلة وأصبحت تعبئة الجيش الكثيف متعذرة بالبنادق ذات الطابع السريع والقذائف وحلت محل عمل المدفعين المنفردين اللذين يعمدون إلى شجون الأرض فيتحصنون وراءها.(85/30)
ولقد صعب أن يتمثل الناس نتائج هذا الانقلاب في الفن العسكري حتى أن أهل الصناعة أنفسهم لم يتصورا معنى الحرب بين أمتين أوربيتين ولكن الصورة التي صنعوها هي من الدهشة بحيث تكفي لمنع جميع الحكومات أن يأخذوا على أنفسهم تبعتها وكان من ارتقاء فن الحرب أن أصبحت الحرب مستكرهة للغاية حتى أنه لا يجسر امرؤٌ على إيقاد نيرانها وكان من ارتقاء الكيمياء في القذائف أن توطد السلام.
فضمت الأسلحة الجديدة للحكومات قوة لا تقاوم في السياسة الداخلية وأصبح من المتعذر ثورة بما يتهيأ لها من الأسلحة أو بنهب الثائرين أسلحة من باعتها بل أنه لا يتيسر القتال بين بنادق الصيد وبنادق الحرب وما من متراس يقاوم المدافع الجديدة. فليس من الاتفاقات البسيطة أن تضع الثورات والانتفاضات أوزارها منذ سنة 1848 وكانت من قبل في أوربا مألوفة وما ذلك إلا بتبديل الأسلحة وقع علل بيل أحد الاشتراكيين الألمان هذا التبدل بقوله سنة 1890: لقد سبقت فقلت أن ما سينشأ من ثورة يقوم بها على الأكثر مائتا ألف رجل لا شأن له فإننا في هذا الزمن الذي شاعت فيه البنادق الشريعة الطلقات ومدافع مكسيم نضرب بالرصاص ضرب الأذلة ونتق كما تقتل العصافير.
ولم يعد في الإمكان قلب حكومة مشروعة ولا الدفاع عن الدستور من القوة الإجرائية وأوضاع الناس الطريقة الوحيدة الفعالة في مقاومة سوء استعمال الحكومة القوة التي تملك زمامها. واستحال الاعتداء الثوري إلى لقاء قذائف وأبدلت الآلة الجهنمية القديمة التي استعملت ضد لويز فيليب بالقذائف أورسيني سنة 1858 والديناميت وآلات الدمار. وهذه الطرق المفزعة قد هيأت لبعض الأشخاص المنفردين أسباب إكراه الرأي العام وأن تبدو في مظهر حزب فلم تفد في قوة الأحزاب الثورية حقيقة بل ربما أنقصتها بإثارة الغضب عليهم بإلقاء القذائف التي ارتعدت منها الفرائص وأصبح الناس متضامنين.
أساليب الانتقال الجديدة - أبدل انقلاب طرق المواصلات الحياة السياسية بثلاث طرق مباشرة: التلغراف والسكك الحديدية والصحافة. فإن من أصعب الصعوبات التي كانت الحكومة تتعثر بأذيالها في كل زمن بطء المواصلات فلا بلاغ أمر من السلعة المركزية ولأخذ معلومات من العمال المحليين كان يصرف وقت طويل أحياناً في طرق النقل القديمة برداً كانت أو سفناً وذلك حباً بإيصال الأمر في وقته مما كان يدخل البطء على عمل(85/31)
الحكومة المركزية أو يجعله مستحيلاً فاقتضى من ثم أن تترك للعمال المحليين سلطة سيئة التحديد وكذلك للوكلاء السياسيين في البلاد الشاسعة سلطة الحل والعقد إلا قليلاً واستدعى ذلك التخلي عن قبول الاستعلامات عن سلوك الوكلاء لإجراء المراقبة عليهم مباشرة.
وقد عد التلغراف الهوائي من اختراع من اختراع شوب من الارتقاء العظيم ولكنه لم يكن يستطيع سوى نقل برقيات نادرة في أوقات الصحو ثم وضع التلغراف الكهربائي بعد سنة 1850 فتمكنت به الحكومات من الاستعلام والعمل في الحال في كل الأبعاد فشعر العالم في الحال بنتائج ذلك في المخابرات السياسية فاستلمت الحكومات بوقوفها على أقل حادث زمام المسائل الخارجية بأجمعها وأصبح وكلاؤها في الخارج أدوات نقل. أما في السياسة الداخلية فإن التلغراف قد أكثر الصلات بين الحكومة وعمالها وإن لم يحذف في الأمور الإدارية ما بقي من الأدوار الماضية للتلغراف في صورة كتابة أصبحت لغواً ونسي المخترعون حذفها. فإن التلغراف بتقويته عمل السلطة المركزية زاد المركز قوة.
أما السكة الحديدية فقد قلبت البريد وهو من الأوضاع القديمة محدود بضعف أسباب السحب وذلك بأعدادها قوة للنقل تزيد عدد المراسلات وتنزل قيمتها على نسبة لم تكن تصدق فقد كان في أوربا بحسب إحصاء مكتب البريد الدولي سنة 1890 - تسعون ألف مكتب بريد أرسل منها عشرة مليارات إرسالية. وعليه فإن السكك والطرق والبرد بتسهيلها حركة الناس والرسائل قد نشطت جميع الأعمال العامة والحياة السياسية نشاطاً كثيراً فتيسر بفضلها وضع إدارة بعملها المنظم المتواصل أصابت سكان القرى القاصية وأتت على مواطن متوحشة كانت باقية في أوربا وسط البلاد التي هي أكثر عراقة في المدنية. ونظمت الشرطة البوليس في كل مكان على مثال الدرك (الجندرمة) الفرنسوي فقضت في أوبا على أرباب الدعارة والشقاوة حتى في الغابات وفي الجبال.
ودخل جميع السكان في الحياة السياسية بوسائطهم المنظمة مع عمل القضاء والجباية والجندية والإدارة. وطرق المواصلات الحديثة قربت بين رجال السلطة العامة وبين المتقاضين والمكلفين (بالخراج) والمرؤوسين وبذلك أصبحت الصلاة أشد تأثيراً وأقل كلفة وبهذه الوسائط أيضاً أتيح للأحزاب السياسية أن يبثوا دعوتهم ويعقدوا اجتماعاتهم على أيسر سبيل.(85/32)
وانقلب الصحافة ظهراً لبطن بما اخترع من الآلات فإن الآلة الطابعة بالبخار اخترعت سنة 1814 على يد إدارة الجريدة الإنكليزية التيمس ثم اخترعت آلة تنضيد الحروف ثم آلة الروتاتيف التي اقتصدت من الوقت اللازم للطبع وقللت من اليد العاملة ومكنت من طبع عدد كبير من النسخ في وقت قصير ونفقة قليلة جداً. فانتشرت الصحف اليومية السياسية بين طبقات الشعب فأخذوا يبتاعونها بالمفرد. وكانت من قبل مقصورة على مشتركين من أهل الطبقة الوسطى وتعد من علائم الظرف والزينة. ولقد حاولت الحكومات أن تحظر على الصحف الانتشار بين جمهور الناس فوضعت ضريبة الطوابع عليها أولاً (وهي الطريقة التي تصورتها إنكلترا منذ القرن الثامن عشر) ثم بإكراه أصحاب الصحف على وضع ضمان (وهي طريقة حدثت في فرنسا سنة 1819) أو بوضع ضريبة على الورق. دع القضايا التي كانت تقام على الصحف وما ينالها من الإلغاء بالطرق الإدارية (التي أحدثت ضعفاً محسوساً في بياعات الصحف عقيب الارتجاع الذي قام ضد ثورة سنة 1814) بيد أن الصحف الرخيصة على الرغم من عداوة الحكومات انتهى أمرها بأن تدخل دخولاً قطعياً في أخلاق أوربا بأسرها.
وبعد فإن الجريدة اليومية بقوة انتشارها الذي لا يفوقه انتشار قد أصبحت في المجتمعات الحديثة إدارة للاشتهار لا في التجارة فقط بل في السياسة واستعيض عن الطرق في نشر أعمال الحكومة (كالقوانين والأوامر والأحكام) بإذاعتها والإعلان عنها والمناداة بها بنشرها في الصحف وقد جعلت الجرائد من الباطل منع نشر أعمال رجال الدين وكذلك حق كتابة المعاريض التي جعلت قديماً من جملة الحريات الأساسية وللجرائد تأثير في الرأي العام بواسطتين فإنها لا تبين فقط أعمال الحكومة بل عمالها وتناقش فيها فهي الذريعة الوحيدة المؤثرة في مراقبة سوء استعمال السلطة وتعرض الآراء وتنشرها وذلك من الشروط الضرورية في إنشاء الأحزاب السياسية.
أتى زمن على الصحف عدت فيه من أدوات الظرف بين الطبقات الموسرة واحتكرت فيه الطبقة الوسطى الحياة السياسية والمراقبة والمعارضة وما كان سائر الشعب يتدخل في الحياة العامة إلا بما يقوم به من الثورات والفتن. فأدخلت الرخيصة الثمن في هذه الطبقة الجامدة تياراً من الدعوة المعارضة بدأ بالتهذيب السياسي في الشعب وبنشوة الحياة(85/33)
السياسية نحو الديمقراطية.
يضاف إلى ذلك ما حدث من التبدل مباشرة في الحياة السياسية من المنافع الفعلية التي نفعت الأمن الما. وذلك بإنارة الشوارع وأخذ صور الأشخاص بالتصوير الشمسي ممن هو فيما أرى قائمة تامة من التغيرات في شروط الحياة العامة أما التبدلات التي كانت بالواسطة فهي أكثر عدداً وأقل جلاءً فليس في الإمكان بيان غير الأهم منها وأقلها اختلافاً فيه.
تحول الشعب - أحدث ارتقاء علوم الحياة المادية نمواً في وسائط البقاء ساعدت على نمو الشعوب في أوربا كلها نمواً سريعاً وإن الإحصائيات التي قامت بها الحكومات في الجملة لتدل على مبلغ ما حدث من هذا القبيل فإن سكان أوربا قد قدروا سنة 1800 بنحو مائة وثمانين مليوناً فبلغوا اليوم زهاء 350 مليوناً وقد كانت الزيادة على الأكثر في بلاد الشمال لا جرم أن تزايد عدد السكان لم يعمل بالضرورة بذاته في الحياة السياسية ففي الشرق وربما كان في القرون الوسطى جماهير من الشعوب كثيرة التناسل وكثيرة الجمود وللولايات المتحدة سبعة سكان في الكيلو متر الواحد ولهم حياة سياسية أهم مما للهند الإنكليزية بكثرة نفوسها البالغ 80 في المئة وأن المكانة السياسية في نمو السكان في القرن التاسع عشر لغريبة في بابها فما كانت المدن سنة 1814 سوى مركز للتمدن والإدارة يتخذها أرباب الأملاك وفلاحو الناحية نقراً لهذا الشأن ومعظمها عبارة عن جماعات من الموظفين وأرباب الصناعات والتجارة يسكنون متباعدين بين شعب يتوفر على زراعة الحقول وقليل من المدن ما كان يتجاوز نفوسها الخمسين ألفاً وإن الصناعات الحديثة بجمعها العملة بالألوف والتنقل بواسطة البخار قد زاد الحركة التجارية الدولية زيادة ضخمة مع جميع أنحاء العالم وقد أنشأت شعباً جديداً من العملة والمستخدمين في التجارة فاتسعت المدن القديمة اتساعاً سريعاً لم يعهد له نظير وغدت القرى الصناعية مدناً عظمى وبلغ من ازدحام الأقدام في بعض الأصقاع الصناعية (ولا سيما في إنكلترا وألمانيا والبلجيك) أن عمت البلاد بحيث تكاد تغطي سطحها. وزاد معدل سكان المدن بالنسبة لمجموع السكان في فرنسا من 24 في المئة سنة 1946 إلى 36 في المئة سنة 1886 وكانت في إنكلترا وهي أول بلاد دخلت في هذا الارتقاء 51 في المائة من مجموع سكانها أهل مدن سنة 1851 فبلغوا سنة 1890، 89 في المئة. ويؤخذ من تاريخ القرن التاسع عشر أن المدن الكبرى(85/34)
والأصقاع الصناعية كانت في أوربا بأجمعها مراكز للانقلابات ومعارضة للحكومات ورجال الدين وفي هذه المراكز خاصة تجندت الأحزاب السياسية وكانت زيادة سكان المدن إحدى الشروط المادية في سير أوربا نحو الديمقراطية.
نمو الثروة - كان من الآلات التي جعلت عوناً للصناعة باستخدامه قوى طبيعية لا حد لها أن أنتجت كميات أكبر من المصنوعات في وقت أقصر من ذي قبل وأن تباع هذه بأثمان أرخص.
وكان من فوائد المواصلات البخارية أن صارت تجلب المواد الأولية إلى أوربا بأسعار رخيصة جداً وكذلك الحاصلات الزراعية في العلم أجمع زاد على ذلك ارتقاء الزراعة في أوربا فإنها أصبحت أكثر نماءً بما تهيأ لها من إحياء الأرض الموات وتقسيمها أقساماً تزرع بالتعاقب والأسمدة الكيماوية والزراعة الراقية وقد أوقف نمو محصول الذهب والفضة نزول الأسعار زمناً ولكن نمو المحصول ونمو النقد قد ساعدا في مساعدة زائدة في المصنوعات النافعة وفي سهولة اقتنائها مما ظهرت طلائعه في حالتين نمو المستهلك وزيادة رأس المال.
وكان نمو المستهلك على غاية من السرعة فغير العادات بسرعة مما يقتضي لنا أن نجهد قوانا لنتمثل كيف كانت الحياة ساذجة في أوائل القرن فكثرت نعمة الأغنياء وأي كثرة وتعدت إلى الشعب وأنعشته من فاقته وعم الناس ما كان مقصوراً من الأشياء على أهل الرفاهية قديماً وذلك كاستعمال السكر والشوكولاتا والثياب وأقمشة القطن والحرير والورق المصور والألبسة الجاهزة والأثاث والزجاج وآنية المطبخ والشموع والمصابيح والكتب والصحف والموسيقى والتمثيل والصور.
وقد ارتقى مع ذلك نظام الصحة فكانت القذارة عامة في القرن الثامن عشر في جماع البلاد وعند جميع الطبقات فأصبحت مما يعد عاراً عند الأمم الممدنة ولا أثر لها في أوربا إلا في بلاد الجنوب والشرق أو بين الطبقات الفقيرة من الشعب وأخذت نظافة الجسم والثواب والدار والغذاء من الضروريات الأخلاقية وعم الناس استعمالها بواسطة المدارس وتنتشر منها إلى القرى ونشأت النظافة العامة من النظافة الخاصة مثل كنس الطرق وكسح المجاري والقمامات وكانت لا تعرف قبل سنة 1814 غدا كل ذلك اليوم في جميع المدن(85/35)
من الأوضاع الضرورية وانتشر الإحساس العام من الخجل والقرف فاضطر إلى قطع المساكن الضيقة الرجسة والأزقة القذرة حيث كان يزدحم الشعب الفقير في المدن العظمى.
وللعامل بيده اليوم كثير من الأساليب المادية كما أن له كثيراً من أسباب التنعم والتربية العقلية وهو يبالغ بالعناية بهيئته كأهل الطبقة الوسطى عام 1814 ولذلك تيسر إدخاله إلى الحياة السياسية بدون أن ينشأ عن ذلك أثر من آثار التوحش الذي كان يظن وقوعه أرباب التجارب وكان يتراءى أنه حجة لا تغلب ضد التصويت العام.
وإن جزءاً مما حدث من السعة بواسطة الصناعة الحديثة قد استهلك وقسماً آخر نفع في الاقتصاد ومن الصعب أن يستدل بالأرقام على الوفر الذي تراكم منذ سنة 1814 حتى في مملكة واحدة وتقدير مستند إلى أي اعتبارات شخصية يختلف اختلافاً كثيراً.
ومن المحقق أنها تمثل رأس مال يبلغ على الأقل ضعف مبلغ رؤوس الأموال التي تركتها القرون الماضية. ومن هذا الرأس المال الجديد استخدم جزء لإحداث الآلات والأدوات الجديدة في الصناعة والتجارة فأنشئت المعامل والسكك الحديدية وإقراض الباقي للحكومات فاستخدمت في الحروب وفي التسليح خاصة ويمثلها واردات الدول. وهذا المجموع الضخم من رؤوس الأموال المجهزة قد غير الأسباب المالية في الحكومات فتهيأ بها زيادة الضرائب والميزانيات والديون على معدل كامل لا يسمح بمثله في سالف الأيام وسهل المباشرة بحرب بالنسبة على أن تتحمل نفقاتها الأجيال القادمة وهكذا زادت القوة الاقتصادية في الحكومة وعمل المجالس النيابية الموكل إليها إدارة هذه الميزانية الباهظة.
تحول الحياة الاقتصادية - أحدث إنشاء الثروة المنقولة انقلاباً في إدارة الحياة الاقتصادية في الشعوب الممدنة فكان العاملون في القديم قلما ينتجون غير ما يستهلكون أو يستهلك في السوق المحلي فالفلاحون يبيعون قليلاً ولا يبتاعون كبير أمر وأرباب الصناعات يعملون لزبن وطنيين فالصناعة بالجملة والتجارة في القاصية انحصرت في مصنوعات الزينة المصنوعة في بعض المعامل وفي نواتج المستعمرات المجلوبة من وراء البحر فانتهت الحال بالعاملين بل بالزراعيين في القرن التاسع عشر بما نشأ من الانقلاب الذي حدث أولاً في إنكلترا بين سنتي 1789 - 1814 أن لا يعملوا مصنوعات لأنفسهم ولا لزبنهم المعروفين بل للسوق فقط لا للسوق المحلية بل للسوق العامة.(85/36)
وانتشرت طريقة الشركات المغفلة من الاسم ذات الأسهم بسرعة غريبة واستخدمت في المشاريع الصناعية الكبرى على حين كان يزيد دخل الدول بنمو القروض السريع وهكذا أحدثت كميات ضخمة من الأوراق المالية جعلت قيد المضاربات وانتقلت إدارة المحاصيل إذ ذاك إلى سلطة جماعات المضاربين الذين يديرون سوق العالم ويحددون الأسعار ويستصنعون ما يشاؤون في المعامل ويعينون أسعار الأسهام وأوراق الحكومات فأصبحت بورصة التجارة ولا سيما بورصة الأوراق مركز لإدارة الحياة الاقتصادية في الأمم.
فمن ثم غيرت هذه القوة الجديدة في أسباب الحياة السياسية تغييراً محسوساً وتم لطبقة الأشراف الجديدة من أصحاب الغنى المنقول كالصيارف وكبار الصناع وكبار التجار ما أرادوه من جعل طبقة الأشراف القديمة أصحاب العقارات والأملاك في معزل فجعلت لها مركزاً في السياسة بأن وضعت نظام الأحزاب الحرة التي دخل فيها سواد الديمقراطيين من الأمة وغدت المشاريع الرابحة في الصناعة والمضاربات الكبرى منوطة مباشرة بالحكومات بما تسنه من قوانين الكمارك وتعقده من القروض وتمنحه من امتيازات في الأعمال وللصحافة يد طولى في ذلك بالعرض بفضل ما تنشره من الفصول. فالطبقة العالية من الماليين قد عملت والحالة هذه على أن تجعل تحت جناحها الحكومة والمجالس والجرائد. أما كيفية الطرق التي بها نجحت في الممالك الأوربية المختلفة فهو من التواريخ التي لم تبرح غامضة فلم أحاول سردها بيد أن قوة المضاربة على إدارة سياسة الممالك كانت ولا جرم إحدى صفات الحياة السياسية في القرن التاسع عشر.(85/37)
البلقان وحربها المشؤومة
إذا ألقى المتأمل نظرة على مصوَّر قارة أوربا يجد في الجنوب الشرقي منها قطعة كبرى تحدها من الشمال النمسا وروسيا ومن الشرق البحر الأسود وبحر مرمرة وجزء من البحر الأبيض الرومي ومن الجنوب البحر الأبيض ومن الغرب البحر الأدرياتيكي وإذا كانت مجموعة هذه البلاد لا تتصل مع البر الآن إلا من جهة واحدة ساغ في عرف الجغرافيين أن يُقال لها شبه جزيرة كما يقال ذلك لجزيرة العرب. وهذه بلاد البلقان.
وتشتمل بلاد البلقان ومساحتها خمسمائة وسبعون ألف كيلو متر مربع على بلاد اليونان وبلغاريا والروم إيلي الشرقي والبوسنة والهرسك ورومانية والصرب والجبل الأسود والروم إيلي اوالأملاك العثمانية في أوربا وكانت سبع ولايات وهي الأستانة وأدرنة وسلانيك ومناستر وقوصوه وأشقودرة ويانية ولواء جتالجة المستقل وطول البلاد العثمانية الشرقي 1520 كيلو متراً أي من الأستانة إلى منتهى البوسنة وعرضها من بلغاريا إلى حدود ساحل بلاد اليونان 930 كيلو متراً ومساحتها السطحية 325. 766 كيلو متراً مربعاً وسكانها لا يقلون عن سبعة ملايين.
وكانت مساحة يونان منها قبل الحرب 65 ألف كيلو متراً مربع أي نحو ثلثي مساحة ولاية سوريا وسكانها نحو ثلاثة ملايين على الأكثر ومساحة رومانية 131 ألف كيلو متر مربع وسكانها ستة ملايين ومساحة بلغاريا 96. 660 وسكانها نحو خمسة ملايين ومساحة الصرب 48300 كيلو متر مربع وسكانها مليونان ونصف ومساحة الجبل الأسود 9080 كيلو متراً وسكانها 240 ألفاً والبوسنة والهرسك ونفوسهما أقل من مليونين ولا تكاد توجد بقعة واحدة من هذه البلاد يتكلم أهلها بلسان واحد ويدينون بمذهب واحد وغالبية السكان في البلاد المستقلة عن العثمانية هم من أصل صقلبي (سلافي).
تعد البلقان من البلاد الفقيرة القليلة الساكن وقد كانت منذ أواخر الإمبراطورية الرومانية ميداناً للقتل والقتال وأخلص العناصر منذ القديم للعثمانية الفلاخيون سكان رومانيا والأرناؤود سكان مقدونية ولطالما حاربوا في هذا السبيل وقد احتلت النمسا البوسنة والهرسك احتلالا عسكريا سنة1878 ثم أعلنت ضمها إليها عقيب إعلان الحكم العثماني في السلطنة العثمانية واستقلت الصرب عنا سنة1878 - 1882 والجبل الأسود سنة1878 واستقلت بلغاريا سنة 1878 - 81 - 85 - 1989 واستولت على الروم إيلي(85/38)
الشرقي سنة1886 واستقلت اليونان سنة1830 بعد أن حكمها العثمانيون نحو أربعة قرون وذلك بتدخل فرنسا وانكلترا وروسيا إذ ذاك وبعد تحطيم أسطولنا في وقعة نافارين سنة1827 وفي معاهدة برلين أصلحت التخوم اليونانية من جهة الشمال.
هذه هي البلاد التي نشبت فيها الحرب البلقانية الأخيرة وبينا كانت أنظار العثمانيين متجهة إلى إفريقية في الخريف الماضي (1330هـ - و1912م) ليروا ماذا يكون مصير طرابلس وبرقة أو ليبيا التي داهمت إيطاليا سواحلها بأساطيلها ورجالها واستولت عليها وأرادت أن تتوغل في داخلية البلاد فأخذ العرب من أهلها والنزر القليل من الحامية العثمانية فيها يناوشون العسكر الإيطالي القتال والعالم الإسلامي متأثر لهذا الاعتداء والعارفون موقنون بأن سهم القضاء نافذ في ذاك الإقليم العظيم لا محالة (المقتبس م6 ص672) أعلنت الحكومات البلقانية على العثمانية الحرب في الروم إيلي فقطع الجبل الأسود علائقه مع دولتنا في 8 تشرين الأول وعملت بلغاريا كذلك في 14 منه وفي17 أعلن الحرب علينا كل من حكومتي الصرب واليونان فأصبحت بلاد الروم إيلي محصورة من الشمال والجنوب ومن البر والبحر ولم يبق للحكومة العثمانية صلة بها إلا من الشرق فقطع البلغار هذا الطريق أيضا باستيلائهم على جسر مصطفى باشا وقرق كليسا ولولو برغاس ودده اغاج على ساحل البحر الأبيض واضطرت جيوشنا إلى التقهقر إلى حصون جتالجة من ضواحي الأستانة واستولى اليونان على يانيا وسلانيك والصرب على مناستر وقصوصوة والجبل الأسود على ايبك.
فلما رأى رجال الارناؤد أو الألبان هذه الانتصارات أبوا أن يقاتل قومهم ورأوا أن استقلالهم ببلادهم والتزامهم الحياد ريثما تنفرج الأزمة أسلم لهم فامتنعوا عن الاشتراك مع العثمانيين في قتال البلقانيين بل أن الجند من أبنائهم الذي كان مع جال حاميتنا ركن إلى الفرار في وقت واحد يحمل أسلحته وذخائره.
وكان من أثر ذلك فشل العثمانيين في الروم ايلي فشلا لم يصابوا بمثله في تاريخهم ولو عاون الألبان جيوش الدولة من الشمال بقتالهم الصرب والجبل الأسود ومن الجنوب بكف عادية اليونان لما وفق الحلفاء البلقانيون الأربعة إلى نزع خمس ولايات من أهم ولايات السلطنة في الروم ايلي.(85/39)
انتهز الألبان هذه الفرصة وكان بعض المنورين من سكان جنوب ألبانيا يتناغون بالاستقلال سرا حتى أن حكم العثمانيين كان اسميا على معظم ألبانيا وأرباب الزعامة يتولون أمرها في الحقيقة فإنه منذ حارب اسكندر بك أحد قدماء زعمائهم جيوش الدولة أربعين سنة ما برحت الفتن تنشب بين الألبان والأتراك وآخرها عصيان لهم سببه استئثار علي باشا التبه دلتلي والي يانيا المتوفي سنة1822 ثم حرب سنة1830 فسنة1843 فسنة1879 فسنة1887.
يقول أحد من شهدوا الوقائع من الضباط أنه لما بدأت الحرب كان الأرناؤد يحاربون الأعداء باستبسال عظيم في برشتنة ومترويجة وايبك وغوسينة وبلاوة وأول معركة نشبت في بلاج وكانت قوة الأعداء هناك مؤلفة من فرقتين صربيتين وخمس بطاريات وقوتنا المقابلة لها طابوران من النظامي وطابوران من رديف الأرناؤد وهما من كيلان وبرشوة وبطارية واحدة سريعة الطلق وقد برهن هؤلاء الجنود على شجاعة واستبسال يعليان شرف العثمانية لأنهم ثبتوا أياما أمام قوة بلغ عددها أربعة أمثال عددهم حتى فني جنود طابوري كيلان وبرشوة عن آخرهم وعسكر الأرناؤد الذين يؤلف منهم طابور كيلان كان عددهم ألف وخمسمائة جندي لم يبق منهم غير خمسة عشر جنديا انقطع عنهم المدد ومع ذلك لم يحولوا وجوههم عن مقابلة الأعداء وحاربوا الصرب إلى أن فنوا عن آخرهم وظلوا في أيانيا واشقودرة يدافعون عن الراية العثمانية حتى الرمق الأخير.
كانت حجة البلقانيين في هذه الحرب إصلاح حال إخوانهم في مكدونية وتراكيا من البلغار والصرب واليونان ورفع المظالم والمغارم عنهم.
وشعر الكنت برختولد وزير النمسا والمجر بما تم من اتحاد هذه الحكومات الأربع على العثمانية فنصح للدولة قبل الحرب بستة أشهر أن تبادر بمنح اللامركزية الإدارية للروم ايلي لئلا تكون حجة لحكومات البلقان وبنا كانت الحكومة العثمانية تفكر في إعطاء ما يشبه هذه الصورة في الحكم للولايات العثمانية جمعاء انقض البلقانيون على بلادنا الروملية واستباحوا حماها واستصفوها وعبثا قاتل جنودنا في الذب عن ذمارهم حتى إن أدرنة التي قاومت البلغار والصرب أشهرا لمناعة حصونها عادت فسقطت في أيدي البلغاريين وكل محصور مأخوذ.(85/40)
نسي الصربيون واليونان والبلغار ما كان بينهم من الأحقاد القديمة التي يرد عهدها إلى الدولة البيزنطية ولطالما كان يلقى الشقاق بينهم وكذلك تفعل النمسا مخافة أن تتحد كلمتهم علينا ومن لا يذكر أن البلغاريين والصربيين تقاتلوا قتالا شديدا سنة 1885 وأن الأحقاد والثارات كانت دائمة متبادلة بين البلغار واليونان في مكدونيا والاختلاف بين الصرب والجبل الأسود كل يوم في شأن ولطالما كان البلغاريون والصربيون على الحياد عندما يحارب العثمانيون اليونانيون. من يذكر هذا يستعظم تحالفهم الذي تم على يد فرديناند ملك بلغاريا وباشيش وزير الصرب وفنزيلوس وزير اليونانية وكانت بلغاريا منذ سنة1907 والصرب منذ سنة1908 عام ضمت النمسا ولايتي البوسنة والهرسك نهائيا إلى ملكها واليونان منذ سنة1909 تبالغ في ابتياع الأسلحة والبارود والذخائر مبالغة لم تعهد.
بينا كان البلقانيون يعدون كل ذلك كانت الحكومة العثمانية مستغرقة بالفتن الداخلية كاليمن وألبانيا وحوران والكرك أولا ومسألة طرابلس الغرب مؤخرا وضباط الجيش إلا قليلا يتركون تمرين الأجناد ويصرفون أوقاتهم في الأندية السياسية فصادف أن الطابور المؤلف من ثمانمائة جندي ليس فيه أكثر من خمسة ضباط يقضون أكثر أوقاتهم في غير وظائفهم على حين كان فيه قبل أن تجري الحكومة تقاعد كثير من قدماء ضباط الجيش نحو ثمانية عشر ضابطا مدربا في الجملة ومن أسباب الفشل قلة الطعام والبرد القارس وبعد البلاد عنا وانقطاع مواصلاتها باستيلاء العدو على الخطوط الحديدية وأهم المراكز الحصينة كما صرح بذلك أحد كبار رجال الجندية في الدولة والسبب الرئيسي في الحقيقة وأن جنديا في الغالب لا يعرف السبب الذي يقاتل من أجله والجند الصربي والبلغاري واليوناني والجبلي متعلم مستنير بفهم معنى الوطنية في الجملة ومن لم يفهمها منهم يأتيه رجال الدين فيلقون في روعه ذروا من الحماسة الدينية فيستميت في القتال.
نعم كان لدعاة الدين في تراكيا ومكدونية يد طولى في بث الدعوة السياسية كما أن كهنة الطليان بثوا دعوتهم في بعض الولايات المتاخمة لبلادهم من بلاد الأرناؤد وسعى مثل هذا السعي البلغار والصرب فجاءوا من طريق التعليم كما هي عادة الفاتحين من الغربيين اليوم يرسلون المعلمين مبشرين ومنذرين أولا ثم يبعثون بالبعوث ويكتبون الكتائب. وكان لاستقلال بطريرك اليونان عن بطريرك القسطنطينية وبطريرك البلغار عنه أيضا دخل(85/41)
كبير في نشر كلمة الاختلاف وتقوية البغض للدولة العلية ولذا كانت حالة المسلمين في بلاد رومانيا والبوسنة والهرسك أقرب إلى الراحة منها في بلاد البلغار واليونان والصرب الذين ينام أهلها ويستيقظون في كراهة العثمانيين منذ القديم.
صرفت الدولة نحو خمسين سنة في فتح الروم ايلي وحكمته نحو خمسمائة سنة ومع هذا لم توفق في نشراتها ولا دينها على ما يجب وظل الألباني على ألبانيته والبوشناقي على بوشناقيته والبلغاري على بلغاريته والصربي على صربيته واليوناني على يونانيته والروماني على رومانيته وكل شعب يعتصم في جباله وقيعانه وينازع الحكومة السلطة وهذا هو عين الغلط في الاستيلاء على بلاد والاكتفاء منها بالخضوع الظاهري وعدم السعي في تمدينها وتعليمها التعليم النافع ولطالما كانت بلاد البلقان ميدانا للقتل والقتال تباع فيها الأرواح كما تباع السماح وأن سهل قوصوة على حدود بلغاريا والصرب والبوسنة ليجأر إلى السماء شاكيا من الدماء التي طالت فيه مرتين بين العثمانيين والبلقانيين ولطالما كانت أسوار بلغراد وفينا واقية لأواسط قارة أوربا من هجمات المهاجمين من العثمانيين.
نشبت الحرب بين الجيوش العثمانية وجيوش الحكومات المتحالفة في 17 تشرين الأول 1912 وعقد الصلح في 29 أيلول 1913 وهلك في الوقائع من الطرفين عشرات الألوف وأنفقوا من الأموال مئات الألوف من الدنانير وقدر بعض الإحصائيين أن ما خسرته العثمانية من جيشها يبلغ نحو مئة ألف بين قتيل وجريح وأنفقت ثمن ذخائر ومعدات وغيرها نحو ثمانين مليون جنيه وأن بلغاريا فقدت م جيشها 140 ألف بين قتيل وجريح و90 مليون من الجنيهات والصرب70 ألفا من النفوس و50 مليونا من الجنيهات واليونان30 ألفا و25 مليونا والجبل الأسود ثمانية آلاف نفس ومليون جنيه ولا يدخل في هذا الإحصاء ما فقده السكان في البلاد التي كانت ميدان الوغى حولا من الزمن وقد قام البلغار بفظائع مع أهل تركيا ومكدونية من المسلمين واليونان اشمأزت منها الإنسانية والمدنية وذلك عندما تراجعت صفوفها يوم أرادت عقيب النجاح الباهر الذي صادفته في الحرب الأولى عندما كانت تحارب العثمانيين من جهة ويحاربهم من أخرى اليونان والصرب والجبل الأسود ولما طمعت في الاستئثار بالغنيمة أو بأطايبها عادت حليفاتها فأنفقت عليها مع رومانيا واصلتها حربا عوانا سلبتها به قسما من البلاد التي كانت كانت(85/42)
لها واستعاد العثمانيون منها مدينة أدرنة وكان باسترجاع العثمانيين لهذه الحاضرة وقرق كليسا أن ربحوا أرضا واسعة لا يقل عرضها عن45 كيلو مترا ولا يقل طولها عن120 كيلو مترا وأهم من ذلك امتلاك الخط الحديدي من أدرنة إلى ديموتقة وإبعاد الحدود عن العاصمة واستبقاء بعض المواقع الحصينة في يد الدولة ولا يكلفها تحصينها كثيراً.
ولكن خرج معظم المسلمين في الروم ايلي من الحكم العثماني وانتقلوا إلى الحكومات الأخرى البلقانية وكان ند الصرب كمية من المسلمين حوالي نيش وعند اليونان حفنة من إقليم تساليا وعند رومانيا في إقليم دوبريجه فأخذت رومانيا من بلغاريا في حربها الأخيرة على ما ورد في معاهدة بكرش بين البلقانيين كمية وافرة من المسلمين البلغاريين فاجتمعت لرومانيا كتلة عظيمة من المسلمين في بقعة واحدة.
وقسمت بعض الصحف الإنكليزية الخطيرة عناصر سكان الولايات الخمس التي خرجت عن الحكم العثماني وأديان أهلها كما يلي:
(1) ولاية قوصوة: عدد سكانها 908915 منهم 89350 مسلماً تركياً و13680 مسلماً بلغارياً و251800 أرثوذكسي بلغاري و112870 أرثوذكسياً صربياً و150 أرثوذكسياً يونانياً و910 أرثوذكس رومان و418250 مسلماً ألبانياً و21905 لاتينياً يهودياً.
(2) ولاية أشقودرة: عدد سكانها 322000 منهم 12000 مسلماً تركياً و80000 مسلم ألباني و40000 مسلم صربي و140000 كاثوليكي ألباني و30000 أرثوذكسي صربي و10000 أرثوذكسي روماني و10000 إسرائيلي.
(3) ولاية يانيا: عدد سكانها641000 منهم180000 مسلم ألباني و110000 أرثوذكسي ألباني و120000 أرثوذكسي بلغاري و110000 أرثوذكسي يوناني و180000 أرثوذكسي روماني و110000 كاثوليكي ألباني و13000 يهودي.
(4) ولاية مناستر: عدد سكانها 846000 منهم111500 مسلماً تركياً و25900 مسلم بلغاري و218650 مسلم ألباني و330800 أرثوذكسي بلغاري و61930 أرثوذكسياً يونانياً و24700 من أديان مختلفة.
(5) ولاية سلانيك: عدد سكانها 116539 منهم333440 مسلما تركيا و98590 مسلما بلغاريا و446050 أرثوذكسيا بلغاريا و168500 أرثوذكسيا يونانيا و24970 أرثوذكسيا(85/43)
رومانيا و55320 يهوديا و38580 من أديان منوعة.
وهذا الإحصاء قبل الحرب أو في خلالها ولكن الحرب حصدت كثيرا من السكان وشتت شمل الآخر ولاسيما من المسلمين الأتراك ويؤخذ من أحداث الإحصائيات التي نشرت عن تصفية حساب حروب البلقان في السنتين الماضيتين أن اليونان نالت النصيب الأكبر من الغنيمة وتلتها في ذلك الصرب فبلغاريا فرومانيا فالجبل الأسود فقد كانت مساحة اليونان قبل الحرب64657 كيلو متر مربعا وعدد سكانها2732952 نفسا فربحت في التصفية النهائية أملاكا مساحتها56611 كيلو مترا مربعا وسكانها1620000 نفس فصارت مساحتها كلها الآن121268 كيلو مترا مربعا وعدد سكانها4352952 نفساٍ.
وكانت مساحة الصرب قبل الحرب48303 كيلو مترا مربعا وعدد سكانها2957207 أنفس فربحت في التصفية النهائية أملاكا مساحتها39047 كيلو مترا مربعا وسكانها1210000 نفس فصارت مساحتها كلها الآن87350 كيلو مترا مربعا وسكانها4167207.
أما بلغاريا فكانت مساحتها قبل الحرب 96345 كيلو متراً مربعاً وسكانها 4329108 أنفس فخسرت في التصفية النهائية أملاكا مساحتها 7525 كيلو متراً مربعاً وسكانها 285757 نفسا وربحت أملاكا مساحتها 26257 كيلو متر مربعاً وسكانها 709646 نفساً فصارت مساحتها كلها الآن112077 كيلو متراً مربعاً وسكانها 4752997 نفساً.
وكانت مساحة رومانيا قبل الحرب 131353 كيلو متراً مربعاً وسكانها 7248061 نفسا فربحت في التصفية النهائية أملاكا من بلغاريا مساحتها 7525 كيلو متراً مربعاً وعدد سكانها 285757 نفسا فصارت مساحتها الآن 138878 كيلو مترا مربعا وعدد سكانها 7533818 نفساً.
وكانت مساحة الجبل الأسود قبل الحرب 9080 كيلو مترا مربعا وسكانه285 ألف نفس فربح في التصفية النهائية أملاكا مساحتها 5876 كيلو متراً مربعاً وسكانها230 ألف نفس فصارت مساحته الآن 14956 كيلو متراً مربعاً وسكانه 515 ألف نفس.
وتبلغ مساحة ألبانيا المستقلة الآن 32 ألف كيلو مترا مربعا وعدد سكانها 880 ألف نفس.
الدولية العلية - كانت مساحة أملاك الدولة العلية في أوربا قبل الحرب 185160 كيلو(85/44)
متراً مربعاً وسكانها 6997646 نفساً فبقي لها منها بعد الحرب الأولى بموجب معاهدة لندن 9168 كيلو متراً مربعاً سكانها 1623000 نفس ولكنها عادت فاستردت في الحب الثانية أملاكا مساحتها 16201 كيلو متراً مربعاً وسكانها 725000 نفس فصارت مساحتها الآن 25369 كيلو متراً مربعاً وسكانها 2348000 ألف نفس.
وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية في الأملاك التي ربحتها كل مملكة من ممالك البلقان كالتالي: 631366 فدانا في بلغاريا و6919080 فدانا في اليونان و494220 فداناً في الجبل الأسود و1593859 فداناً في رومانيا و3706650 فداناً في صربيا و3835760 فدانا في العثمانية.
ولكن جملة الأراضي الزراعية التي كانت في بلغاريا الأصلية وما أضيف إليها من الأراضي الزراعية في الأملاك التي ربحتها في الحرب نقصت نحو760 ألف فدان عما كانت عليه أولا وذلك لأن الأملاك التي اقتطعتها منها رومانيا كلها أراض زراعية والأملاك التي ربحتها هي في الحرب معظمها أراض بور.
على أن عدد السكان في تلك الأملاك لا يثبت على ما ذكرناه آنفاً لأن كثيرين من البلغاريين في مكدونيا الصربية واليونانية هجروا أوطانهم إلى الأملاك البلغارية في تركيا وبلغاريا نفسها ولا يزالون يهاجرونها إلى الآن وسيستمرون على ذلك في المستقبل أيضاً على ما يظهر. وكذلك اليونانيين الذين في الأملاك الثمانية في تراكيا فإنهم يهاجرونها إلى الأملاك اليونانية الجديدة. والمسلمون في الأملاك الصربية واليونانية في مكدونيا فغنهم يهاجرونها إلى الأناضول. فلا يلبث والحالة هذه أن يحصل تغيير كبير في عدد سكان تلك الأملاك فينقص في بعضها ويزيد في بعضها الآخر، والمظنون أن معظم الزيادة سيقع في الأملاك البلغارية لكثرة البلغاريين الذين يهاجرون إليها من الأملاك المصرية واليونانية في مكدونيا.
أما الأموال التي أنفقتها بلغاريا على حربها مع الدولة العلية أولاً ومع حليفاتها ثانياً فقد قدرها أحد أساتذة جامعة صوفيا كالتالي 12400000 جنيه اعتمادات أصلية وستة ملايين جنيه تجهيزات ومليون جنيهاً عجز في الإيرادات بسبب الحرب وستة ملايين جنيه لأجل مون وأجرة نقل و7200000 جنيه لأجل سكك حديد حربية وشؤون أخرى تختص بالتحصين و16 مليون جنيه رأس مال لرواتب الجنود الذين أصيبوا في الحرب بعاهات(85/45)
أقعدتهم عن العمل وتحصيل رواتبهم و60 مليون جنيه ثمن الأراضي التي اضطرت بلغاريا أن تتنازل عنها لرومانيا وجملة ذلك 109600000 جنيه.
رأى القارئ مما سلف أن مساحة البلاد التي استقلت وسميت ألبانيا قد بلغت 32 ألف كيلو متر مربع ولا يبلغ سكانها أكثر من880 ألفا ولا تزال الفتن قائمة على ساق وقدم بين الأرناؤود واليونان يريد الأولون أن يستخلصوا من مقاطعة أبيروس من بقي من أبناء عنصرهم وإلى كتابة هذه السطور لم يتم شيء بين الفريقين وغاية ما جرى أن أوربا عينت لألبانيا حاكما مسيحيا هو الأمير فيد من أصل ألماني وأهم البلدان التي وقعت في حصة ألبانيا الحديثة هي دراج وايلبصان وأشقوردة وتيران وأولونية وبرات واركري وكوريجة وياقوة وبرزرين.
إن الجزر العثمانية التي استولت عليها إيطاليا واليونان خلال الحرب الطرابلسية والبلقانية فلا يزال أمرها مجهولا والمفاوضة دائرة بشأنها والغالب أننا نستعيد بعضها خصوصا ما كان بيد إيطاليا فإن المعاهدة التي جرت بينها وبين الدولة العثمانية على طرابلس وبرقة تقضي بجلاء الطليان عن هذه الجزر وربما تستريح البلاد التي أخذتها من الفتن وتستدعي العثمانية آخر من لها من الجند والمقاتلة هناك وكذلك الجزر التي وقعت في قبضة اليونان فإنه يرد علينا منها ما كان ضروريا للدفاع عن شواطئنا ولاسيما عن خليج الأستانة.
هذه بلاد البلقان وسكانها وأديانها وحربها والباعث إليها ونتيجتها استندنا في كتابتها على مصادر كثيرة ليرجع إليها عند الحاجة وتفيد في التاريخ الحديث فإن حربها الشؤمة الأخيرة من أفظع ما عهد من الحروب الحديثة التي تخرب العامر والغامر وتضر بالمغلوب والغالب بما تجلب من الولايات على الأسرات فيتراجع العمران ويقل نسل الإنسان.(85/46)
السيد جمال الدين القاسمي
تلد الولادات كل يوم أولادا وتطوي الأرض أناسا لا يحصي عددهم غير خالقهم ولكن من يؤثرون الأثر النافع فيذكرون في حياتهم وبعد مماتهم أقل من القليل وأقل منهم في أهل هذا الشرق التعس وفي أهل الإسلام خاصة وذلك لأن العلم الإسلامي بعد أن هبت أعاصير الاختلافات في القرون الوسطى وحاربت حكومات تلك الأيام رجالات المعقولات وأحرار الأفكار ضعف مستوى العقول لأنها لم تطلق لها العنان وتقاصرت الهمم لأنها لم تجد منشطا فقل جدا النابغون النابهون.
وما ننس لا ننس ما وقع لشيخ الإسلام بل لعالم السنة وإمام الأئمة ومجدد شباب الحنيفية السمحاء تقي الدين بن تيمية فقد عذب في القرن الثامن سنين كثيرة في سجون القاهرة والإسكندرية ودمشق وناله من أذى أدعياء العلم في عصره حسدا منهم لمكانته ما يبكي تذكره المقل ويهون بعده كل اعتداء على العلماء ينالهم من أهل الحشو والجمود.
ومن قرأ تاريخ رجالنا في القرون الثلاثة التالية أي في القرن الثامن والتاسع والعاشر أو القرون الثلاثة التي سبقتها أي الخامس والسادس والسابع يعرف أن كثيرين قضوا شهداء أفكارهم وعذبوا وأوذوا في سبيلها لأنهم رأوا غير ما رآه العلماء الرسميون ومن الأهم من أرباب الزعامات في أيامهم.
ومنذ اضطر مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في القرن الخامس أيهجر العراق تخلصا من حاسديه الذين لا يعدمون عندما تصح إرادتهم حجة للاستعانة بالسلطة الزمنية للنيل ممن أربى عليهم وإيقاف نيار أفكاره إلى عصر ابن تيمية الذي ناله ما ناله في مصر والشام حتى قضى في سجن دمشق شهيد الإصلاح إلى أن جاء القرن العاشر والذي يليه من القرون وقد أصبحت العلوم رسمية والمدارس صورية والأوقاف المحبوسة على العلماء مأكولة مهضومة - منذ جرى كل هذا والأمة لا تكاد تفرح لها بعالم حقيقي يكسر قيود التقليد ويقول بالأخذ من كل علم فندر النبوغ لأنه ندر أن يلقى العالم ما ينشط عزيمته وكان قصارى من تسمو به الهمة إلى أخذ نفسه بمذاهب التعلم والتعليم أن يقتبس من كتب الفروع ما لا يخرج به عن مألوف معاصر به ومن حكم عقله في بعض المسائل كان اتهامه بأمانته من أيسر الأشياء وطرده من حظيرة الحظرة لدى العامة ومن سموا أنفسهم بالخاصة من الأمور المتعارفة أما التضليل والتفكير والتبديع والتنسيق فهذا لا يخلو منه عالم يريد أن(85/47)
يخرج بالناس من الظلمات إلى النور.
ولكن إرادة المولى سبحانه قضت بأن لا تحرم هذه الأمة من أعلام يصدعون بالحق فيجددون لها أمر دينها ويستطيبون الأذي في إنارة العقول والرجوع بالشرع إلى الحد الذي رسمه الشارع وأصحابه والتابعون والأئمة الهاديون المهديون ومن هؤلاء المجددين نابغة دمشق فقيدنا العزيز السيد جمال الدين القاسمي الذي يعرفه قراء هذه المجلة بما نشره في سنيها الماضية من آثار علمه وأدبه فقد قضى حياة طيبة ولم يعقه عن الاشتغال ما لقيه من تثبيط المثبطين في أول أمره وتنغيص الحاسدين في أواسط عمره ممن لا يخلو نمهم مصر ولا عصر خصوصا في بلاد يستمد منها كل شيء من ولاة أمرها.
نشأ السيد القاسمي من بيت فضل وفضيلة وكان والده وجده من المعروفين بالأدب ومكارم الأخلاق وهذا من النوادر في عصر لا يكبر رجاله في العيون إلا على مقدار عدهم في صفوف أهل الرسم وفي دور قل أن ينجب فيه ولد لنجيب فصم أو تصامم منذ أوائل سن التحصيل عن كل ما يقف عثرة في سبيل الطالب فكان منذ وعى على نفسه يعمل على تهذيبها ولا يكاد يمضي عليه يوم لم يستفد منه فائدة ولم يقيد شاردة فظهرت عليه مخايل النبوغ ولما يبلغ العشرين فما بالك به وقد نيف على الأربعين وقارب أن يتم العقد الخمسين.
جماع الأسباب التي نجح بها فقيدنا طهارة نفسه من المطامع الأشعبية وشغفه بالعلم للذته ونفعه في إنارة القلوب واعتقاد أنه منج في الدنيا والآخرة فهو لم يجعل الدين سلما إلى الدنيا وجسرا مؤقتا يجتاز عليه لحيازة مظهر خلاب والتصدر في المجالس بفاخر الهندام وبراق الثياب بل فرغ قلبه ووقته للعمل النافع فبورك له بساعات عمره القصير ويا للأسف. ولو عددنا ما كتبه من مصنفاته وقسناه بالنسبة لهذا العصر الذي أضحت فيه بضاعة العلم مزجاة بائرة لما قل عن اللحاق بالمكثرين من التأليف في المتأخرين أمثال العيوطي وابن السبكي وإضرابهما مع ملاحظة ما بين العصور والبيئات من الفوارق.
تذرع الفقيد بعامة ذرائع النفع لهذه الأمة فكان إماما في تآلفه الوفيرة إماما في دروسه الكثيرة إماما في محرابه ومنبره ومصلاه رأسا في مضاء العزيمة رأسا في العفة وهذه الصفة هي السر الأعظم الذي دار عليه محور نبوغه لأنه لو صانع طمعا في حطام الدنيا(85/48)
لما خرج عن صفوف أهل محيطه ولكان عالم وسطا يشتغل بالتافهات ويعيش في تقية ويموت كذلك.
كان أجذل الله ثوابه إذا لقيه المماحك في أحد المجامع عرضا أو غشيه في درسه وبيته ناقدا أو ناقما علمه م حيث لا يشعر وهداه إلى المحبة بلين القول فإذا أيقن أنه من المكابرين المموهين أعرض عنه وقال سلاما ولذلك لم يلق ما لقيه أشداء العلماء والفلاسفة في العصور الماضية مت الإرهاق والإعنات أمثال ابن حزم الأندلسي والشهاب السهروردي لأنه كان يتلطف في المناظرة وإقناع المخالف فإذا رأى المناقش بمعزل عن الفهم سكت عنه. نعم كان مثال التلطف في بث الفكر فلم يصك به - كما قيل - معارضة صك الجندل وينشقه متلقنه انتشاق الخردل.
قام الأستاذ في دور زهد الناس فيه في العلوم الدينية إلا قليلا فأعاد إليها في هذه الديار بنور عقله شيئا م بهائها السابق ولقد كان يجتمع به الموافق والمخالف فما كانا يصدران عنه إلا معجبين بعقله مقرين بفضله معترفين بقصور كثير حتى من المشاهير عن إدراك شأوه: يخلب الألباب ويستميل العقول فكأنه خلق من معدن اللطف ورقة الثمائل. لم تجد الغلظة سبيلا إلى قلبه ولا الفظاظة أثرا في كلامه وقلمه ولا عجب إذا كثر في آخر أمره أنصاره وعشقته النفوس فأكبرت الخلب فيه. جاء في الأثر لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه.
دخل عبد اللطيف البغدادي فيلسوف الإسلام على القاضي الفاضل فقال: رأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه. وهذا التعريف يصدق من أكثر وجوهه على الشيخ القاسمي فإنه كان نحيل الجسم كبير الروح ولو تهيأ لجمال الدين مثل صلاح الدين لسرت أفكاره أكثر مما سرت وراقت أسفاره أكثر مما وفق إليه ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد. وقديما زكا غرس العلم في الشرق في ظل الملوك والأمراء واليوم يزكو في الغرب في حمى الجامعات والمجامع والجمعيات. والعلم مذ كان محتاج إلى العلم.
برز الفقيد الراحل وأي تبريز في علوم الشرع وما إليها ولم يفته النظر في علوم المدينة(85/49)
فألم بأكثرها إلماما كافيا لتكون له عونا على فهم أسرار الشريعة أما وقد جمع الفضيلتين فلا تجد لكلامه مسحة من الجمود المعهود لكثيرين ممن يقتصرون على العلم والعلمين ويعدون ما عداهما لغوا. فهو عالم ديني كامل ولكنه كان يقرأ العلوم المدنية ويطالع صحفها ومجلاتها وكتبها الحديثة كما يطالعها المنقطعون إلى هذه العلوم وزيادة ولا ينكر شيئا يقال له علم أو فن ولذلك لم يمجه العصريون ولا غيرهم.
ربما قال من لم يعرف أن هذا كلام صديق فجع بصديق تسلسلت الصداقة بين بيتيهما منذ نحو ثمانين عاما وعين الحب ومداء أما أنا فلا أحيل المعترض إلا على الرجوع إلى كتب الشيخ وقراءة بعض ما طبع منها وتحكيم العقل والإنصاف وأنا الضامن بأنه لا يلبث أن يساهمني قولي ويوقن بأن المرحوم جود تآليفه التي تنم عن عقله وعلمه أكثر مما جودها كثير من متأخري المؤلفين من بعد عصر السيوطي ممن شهد لهم بالإجادة ولو سمحت له الحال أكثر مما سمحت ومتع بحرية القول والعمل أكثر مما متع لجاء منه أضعاف ما جاء ولكن ضيق العيش وضيق المضطرب لا يرجى منهما أكثر مما تم على يد فقيدنا العظيم من الأعمال والآثار وقد أغلقت دونه أبواب الدواعي والبواعث رحمة الله وبارك لنا قيمن خلف من مريديه ومعاصريه ومن ساروا بسيرته حتى لا تقع على مضمون الحديث: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
وقد كتبنا في تأبين الشيخ غداة وفاته في جريدة الإصلاح ما نصه: لا تحضرني عبارة تشعر بمبلغ الحزن الذي نال دمشق بفقد عالمها الكبير وأستاذها العالم التحرير فقد كان أحد أفراد هذا العصر المعدودين في التحقق بأسرار الشريعة. وهو ولا مراء عالم الكتاب والسنة بلا مدافع خلق ليعمل على بث الدين المبين خاليا من حشو المتأخرين الجامدين وتضليل المخرفين والمعطلين.
لم يكد فقيدنا العزيز يطرق هذه الموضوعات ويهيب بالناس إلى الأخذ بمذاهب السلف ويتلطف في إبلاغها العقول المظلمة في دروسه وتآليفه حتى أخذ بعض أهل الجمود يغتابونه ويحذرون عوامهم بدون برهان من الأخذ عنه ولكن ظلمه تقليدهم ما لبثت أن انقشعت بنور اجتهاده وتراجع أمر خصومه بعد قليل وقد بهر الناس فضله وعلمه وأنشأ(85/50)
بعد أن كان يزيفون أقواله في مجامعهم الخاصة والعامة يتبعون أقواله المدعومة بالسنة الصحيحة ومذاهب الأئمة.
وأكبر دليل على ذلك ما شهدناه يوم مشهده الأخير من إجماع من كانوا خصومه أمس على أعظام الخطب فيه والإقرار له بفضائل كانوا يغمطونه إياها ولكن المعاصرة حرمان.
رأيت رجالا كثيرين من أهل الإسلام وغيرهم وفي مصر والشام خاصة أر همة تفوق همة صديقي الراحل ولا نفسا طويلا على العمل ودؤوباً عليه أكثر منه ولا غراما بالإفادة والاستفادة ولا حبا بالعلم للعلم فقد قضى عن49 عاما وخلف ما خلف من عشرات من مصنفاته الدينية العصرية النافعة منها تفسيره الذي لم يطبع ومنها مقالاته الممتعة وأبحاثه المستوفاة وأثر في عقول كثير من الطلبة تخرجوا به وأخذوا أحكام الحلال والحرام عنه دع دروس وعظة للعامة وحلقات خاصته ومع كل هذا كان حتى الرمق الأخير أشبه بطالب يريد أن يجوز الامتحان لنيل شهادة العالمية. وكلما كان يوغل في طلب المزيد من العلم والتحقيق تراه آسفا على عدم إشباع أبحاثه حقها أحيانا من النظر البليغ.
رزق الصديق العلامة صفات إذا جمع بعضها لغيره عد قريع دهره ووحيد عصره فقد كان طلق اللسان طلق المحيا وافر المادة وافر العقل سريع الخاطر سريع الكتابة جميل اعهد جميل الود. وكان بلا جدال جمال الدين والدنيا ما اجتمع به أحد إلا وتمنى لو طال بحديثه استمتاعه ليزيد من الأخذ عنه والتشبع بفضائله والاغتراف من بحر علمه.
وبينا كنت ترى الأستاذ على قدم السلف الصالح عالما كبيرا بين الفقهاء والأصوليين والمحدثين والمفسرين إذا هو من الأفراد المختصين بالأدب وما يتعلق به وبينا تراه يؤلف ويطبع إذا بك تراه يواظب على تدريس طلبته ووعظ المستمعين في دروسه وخطبه ومع كل هذه الأعمال التي يكون منها انقباض في صدر العامل تراه يهش ويبش كل ساعة ويفسح من وقته شطرا ليغشى مجلسه أولياؤه وأخلاؤه وطلاب الفوائد منه.
فهو علامة بين العلماء منور ممدن بين المنورين بنور المدنية الصحيحة ذهب مثال الرجل الصالح عفيف الطعمة لم يسف إلى ما يسف إليه بعض من يتذوقون قليلا من المعارف وما أنكر إلا المنكر ولا أمر إلا بالمعروف ومن ضيق ذات يده كان يتصدق في السر ولا يخلو ساعة من عبادة وذكر وما فقده جلل على دمشق بل على الشام بل على أهل الإسلام(85/51)
وشهرته التي نالها في العالم الإسلامي في هذه السن من الكهولة هي مما استحقه أو أقل مما يستحقه لأنه حقيقة العالم العامل الذي يحبب الدين حتى لمن لم يتدين حياته فاللهم عوض المسلمين عن هذه الدرة اليتيمة التي أصيبوا بها وارحمه عداد حسناته وارزقنا الصبر عليه وجميع أسرته وأحبابه الذين فجعوا به.
قال صديقنا جرجي أفندي الحداد في رثاء الإمام فقيد الشام والإسلام:
أجمل عزاءك فالمصاب جليل ... والدمع في خطب الإمام قليل
جل الأسى يا قوم فاصطبروا له ... صبر العظام على العظيم جميل
قد كنت أول من يزيل دموعه ... لو كان يشفى بالبكاء غليل
جزعت دمشق وقد رأت علم الهدى ... يلوي به عادي الردى فيميل
وإلى ظلام القبر يحمل نعشه ... والفضل في أعواده محمول
واستشعرت أرض العراق كآبة ... والهند خامرها الأسى والنيل
وبكى أفاضلها على رجل قضى ... في أمة فيها الرجال قليل
ومجاهر بالحق ليس يصده ... قال تردده الوشاة وقيل
أين التقية من صراحة صادق ... لا الجور يرهبه ولا التنكيل
هو للحقيقة نثرة محبوكة ... وعلى الضلالة صارم مسلول
لولا مجاهرة الهداة بهديهم ... في الناس ما نفع الأنام رسول
أودى القضاء بعالم ومحدث ... يستأثر الألباب حين يقول
بين المحابر والمنابر يومه ... يفنى ويحيي ليله التحصيل
ملكت قلوب الناس منه شمائل ... رقت فتحسب أنهن شمول
وإذا جلست إليه أسفر وجهه ... وبدت عليه بشاشة وقبول
وجه يصون عن التبذل ماءه ... فيكاد من فرط الحياء يسيل
عن الفضيلة بالإمام وآسها ... فشجونها من بعده ستطول
وافى يشيد صرحها وربوعها ... لعب الفساد بهن فهي طلول
وتصدرت للعلم غير رجاله ... فاعتز غر واستطال جهول
قد حكموا أوهامهم وتحكموا ... فالعقل في ربقاتها مكبول(85/52)
في كفهم نعم الحياة وبؤسها ... وإليهم التحريم والتحليل
ولو أنهم عمدوا إلى التحقيق لم ... يتعارض المعقول والمنقول
جمدوا احتفاظا بالقديم وليتهم ... نجحوا فلم يعبث به التبديل
نرضى القديم لو ارتضوه كما أتى ... في الوحي لما أنزل التنزيل
والناس من نزعاتهم في ظلمة ... لم يبد فيها للصباح دليل
ضاقت مذاهبهم وضل صوابهم ... وعدت عليهم فترة وذهول
ما ضيق الدين الحنيف مذاهباً ... بل ضيق التحريف والتأويل
نهض الإمام بردعهم عن قومه ... والقوم منهم عاذر وعذول
بقريحة وقادة وعزيمة ... تمضي وفي حد الحسام فلول
واختار شأن المصلحين وأنه ... عبء تنوء به الرجال ثقيل
نم يا جمال الدين غير مروع ... إن الزمان بما ابتغيت كفيل
فستعرف الأجيال فضلك في غد ... إن كان لم يعرفه هذا الجيل(85/53)
أخبار وأفكار
الصناعة المصرية
أصدرت إدارة التعليم الفني والصناعي والتجاري في مصر نشرة تخص فيها على إحياء فنون الصناعة المصرية قالت فيها: من أجمل مظاهر هذا العصر في مصر هو ما يزدان به من المصنوعات اليدوية على اختلافها. فما صناعة النسيج والصياغة والحفر على الخشب وعمل الأثاث (موبيليات المنازل) وصناعة المعادن والزخرف والتطريز إلا قليل من كثير من الصنائع المهمة المنتشرة في أمهات المدن بالقطر المصري فيسهل على من يحترف بهذه الفنون الصناعية وكثير ما هم في أنحاء البلاد أن يجد مجالا للعمل في معظم القرى ولئن كانت المصنوعات التي يعملونها جميلة جدا في كثير من الأحوال إلا أن القيام بإتمامها على درجة من الإتقان والكمال ربما كان في غالب الأحيان بحالة لا يستحسنها الذوق فضلا عن أن تدرجها في مراقي النجاح سائر سيرا بطيئا يصعب معه وجود المنافسة والمزاحمة بينها وبين المصنوعات الأوربية. ويظهر أن أنواع الصور والأشكال التي تستعمل في كثير من الفنون الصناعية قاصر على أشكال خاصة بتكرر وضعها طبقا للنماذج دون ابتكار أي تغيير فيها أتحسين.
على أن نتائج الأشغال التي يقوم بها الصانع الجاهل بفن الرسم لا أثر لها سوى الانحطاط التدريجي الذي يذهب برونق الأشكال وجمالها وهذا هو السبب الحقيقي في قصور التنسيق المشاهد في أنحاء القطر المصري ورداءته.
ولقد أنشئ بمدرسة الفنون والصنائع الخديوية ببولاق قسم الصناعية والزخرف منذ أربع سنوات وذلك رجاء الحصول على الغرض المقصود وهو تحسين الصناعات الوطنية وترقيتها والغرض من هذا القسم تعليم الطالب تعليما عاما في الرسم والتلوين والتصميم ليحصل على المعلومات العملية الكافية لتعلمه صناعة يدوية خاصة ليتسنى له الوقوف على دقائقها وما شاكل ذلك فيستطيع ابتكار الأشكال الأصلية اللازمة إليها، لذلك يتلقى الطلبة فيه طرائق حسن الاستنباط بحالة أفضل وصورة أسرع ولا يستعان بالآلات الأوربية إلا حينما تدعو الضرورة فضلا عن توجيه العناية إلى تعليمهم طرق الأشغال المحلية مع الالتفات إلى جعل أساس التعليم في الرسم التطبيقي قائما عل نقل ومحاكاة صور الزخارف العربية(85/54)
والفارسية التي بالمساجد ودور الآثار.
ويسوغ لكل طالب حائز للشهادة الدراسية الابتدائية الالتحاق بهذا القسم. أما المصروفات المدرسية فهي ثمانية جنيهات مصرية في السنة عن التلميذ الخارجي و16 عن التلميذ الداخلي.
وتشتمل الدراسة التحضيرية على تعليم الأشغال اليدوية في فنون التجارة وعمل الأثاث والحفر على الخشب وأشغال التطعيم وأشغال صياغة المعادن وترصيعها بالجواهر وزخرفة المنازل والنسيج والصياغة.
ومدة التعليم سنتان يتخصص الطالب بعدهما لإتقان فن من تلك الفنون الصناعية مدة سنتين أخريين قبل دخول الامتحان لنل الدبلوم.
ولكي يحصل الطالب على المعارف العملية التي تستلزمها الحرفة التي يتخذها لا بد له من أن يمضي سنة أخرى في احد المصانع خارجاً عن المدرسة لاكتساب تلك المعلومات وفاقاً لما تدعو إليه أحوال التجارة عادةً. ولا تمنح دبلوم المدرسة إلا للطالب الذي نجح في الامتحان النهائي وأمضى كذلك مدة سنة في التمرين بحالة تدل على الرضا عن عمله من قبل أصحاب المحل الذي اشتغل فيه.
وان الطلبة الذين يرغبون الدخول في معترك الحياة التجارية في أي نوع من أنواع الصناعات بالقطر المصري ليجدون في هذا القسم من مدرسة الفنون ووالصنائع الحيوية ميزة خاصة لتؤهلهم لإدخال التحسينات الصناعية واستنباط المبتكرات الجديدة في صنائعهم. هذا فضلاً عما يجدون في القسم المذكور من الفرصة التي تجعلهم على بصيرة من طرق الصناعة بحيث يتمكنون في النهار من فتح وإدارة مصانع خاصة بهم.
فالقطر المصري في حاجة شديدة إلى قادة في الصناعة والأمل وطيد في حرص الشبيبة المصرية على اغتنام الفرصة السانحة لهم بقسم الفنون الصناعية بمدرسة الصنائع ببولاق حيث يرتشفون مناهل التعليم فيه ليأخذوا على عاتقهم القيام بقسط وافر من جلائل الأعمال الشريفة التي ترتقي بها موارد الثروة في الديار المصرية ويعاونون على جعل مركزها الصناعي والمالي قائما على أساس متين.
نعم أن سعادة البلاد تتوقف في الوقت الحاضر على حالتها الزراعية ومن ثم كانت قيمة(85/55)
الواردات السنوية من المصنوعات الأوربية عظيمة جداً. على أنه ليس ثمة ما يمنع المصريين من القيام بصنع تلك المصنوعات تحت إشراف الماهرين من الصناع. فان النتاج الذي بدأ في الأعمال الصناعية القليلة التي كانت تصنع تحت رقابة المصريين فيما سبق من الزمان لدليل على أنهم جديرون بإخراج أحسن أنواع المصنوعات من الأثاث وشغال المعادن وعلى أنهم قادرون تماماً على مباراة المصنوعات الأوربية الواردة من الخارج ومنافستها ولذلك فليس هناك سبب يعوقهم عن بلوغ النجاح في الصناعات الأخرى كما نجحوا في غيرها.
دين مصر
نشر صندوق الدين العمومي في مصر تقريره عن عام1913ومنه يرى أن الباقي على مصر من القرض المضمون إلى أخر السنة الماضية يبلغ7. 102. 800 جنيه انكليزي وما استهلك منه في العام الماضي بواسطة شراء أوراقه 112. 500 جنيه انكليزي. والدين الموحد 55، 971. 960 جنيه انكليزي والجملة 94، 202، 540 جنيهاً انكليزياً. وقد هبط سعر الدين الموحد في السنة الماضية إلى أوطأ ما بلغه في الأربع عشرة سنة الماضية فكان اقل ما بيع به 96 جنيهاً وأعلى ما بلغ 110 وربع جنيه في عام 1902.
الأندية (1)
سادتي الأخوان
هذه أول مرة نحتفل فيها بافتتاح ناد من مثل هذا النوع في قاعدة الشام فشكراً للقائمين به ولا سيما رئيسه المستر ديفي قنصل انكلترا واني لأتوسم الخير والبقاء لنادينا الجديد لان رأسه من امة هي اعرق الأمم معرفة بالمنتديات وما ينبغي لها فقد حدثنا تاريخ هذه المعاهد أنهم كانوا اسبق العلمين إلى تأسيس الأندية منذ زمن طويل ولا تزال كلمة كلوب انكليزية نقلتها أكثر أمم الحضارة إلى لغاتها ويقابلها بالافرنسية على سبيل التجوز سيركل وعربها العرب بالنادي فالكلوب أو النادي هو مجمع من الطراز الأول يختلف إليه أناس متماثلون في طبقاتهم ويكونون في الغالب في سيرتهم كما يكون سراة الناس أدبا ولطف ومعاملة والكلمة المقابلة في اللغة الانكليزية هي جنتلمين ومن الصعب ترجمتها بالفرنسية ويعنى بها من بلغوا غاية الكمال في التربية والتهذيب يجتمعون للعب والتسلية وتلاوة الصحف(85/56)
والتحدث وغير ذلك من الأغراض.
كانت الندية عند منشئها بادئ بدء مجتمعات أصحاب متعارفين تضم شملهم ليأكلوا فيها ويشربوا في أوقات مخصوصة ولم تكن أماكنها خاصة بمن يجتمع فيها فانتظمت مع الزمن وانقلبت قصوراً فخمة محترمة ولم يكن النساء يدخلنها لأول أمرها وكان لأعضاء النادي فندق خاص بهم يحتوي على غرفة مائدة ومكتبة ومحل للتدخين وحجر للنوم بحيث يكون المرء في ناديه كأنه في بيته الذي يؤويه ثم استخدمت الأندية للأحزاب السياسية ثم انقسمت أقساماً بحسب مقاصدها لان الغرب كما تعلمون بلاد الأخصاء والتخصص ولا سيما التي هي في مقدمة الأمم في التناغي بطبقاتها لا يستطيع فيها أهل طبقة معينة أن يختلطوا بغير طبقتهم.
تعددت الأندية بتعدد المقاصد فمنها السياسي والعلمي ومنها أندية الرياضات البدنية والحمامات والصيد وأندية اللعب والشرب وأندية العزاب والممتنعين عن التدخين والشراب وهناك نواد خاصة بأبناء حرفة معينة وطبقة معينة وفكر معين حتى صارت الأندية بالمئات في بريطانيا العظمى بل في كل الممالك التي دخلت في طور المدينة وكل يوم نسمع بأندية تؤسس عندهم فمما أسسوه في الولايات المتحدة نادي الأمهات يجتمع فيه ربات البيوت ليتداولن في تربية أولادهن وانشئوا في نيويورك مؤخراًنادياًللسجناء يأوي إليه من خرج من الحبس حديثاًفيتوسل له النادي بإيجاد عمل ينصرف إليه بعد سجنه. واغرب الأندية نادي المعمرين الذي أنشئ حديثاًفي طوكيو عاصمة اليابان فان أعضاءه اثنا عشر عضواً فقط بلغ كل منهم مئة وعشر سنين من عمره ومع هذا لم يزهد احدهم في الاجتماع مع أقرانه.
ولقد كان من اخترعوا هذا النوع من المجالس في الجزائر البريطانية أكثر الأمم استمتاعا بثمرات الاجتماع مع أن المشهور من أخلاق الانكليز كما قال إميل بوتمي أنهم أكثر الناس عزوفاً عن الاختلاط بغيرهم أو كما قال اميرسون فيلسوف الأميركان: انك تحسب الانكليزي إذا اجتمع مع الأجانب اخرس فهو لا يصافحك ولا يتركك تنظر ما في عينيه في الفندق ويلفظ اسمه بحيث لا يسمع فكل واحد من هؤلاء الجزائريين جزيرة برأسها فمن ثمرات الأندية عند البريطانيين أن أهل كل حرفة وطبقة يعرفون في أنديتهم اقدر الرجال(85/57)
فيهم فإذا جاء وقت انتخاب مجلس النواب يكونون لمبرزيهم اعرف الدعاة لهم فيختارونهم للنيابة عن الأمة أي أن أعضاء نادي الإشراف وأعضاء نادي الحوذيين والسواقين والسكافيين والطباعين والوراقين والبزالين والفحامين بل وكل ما يخطر ببالك من أرباب الصناعات المختلفة يستعينون بالأندية على اختبار مدارك إخوانهم فينيبون عنهم أخطبهم وأعقلهم وأمنهم وأعملهم وهكذا كانت الأندية نافعة في الغرب كما نفعت في الإسلام الجوامع والمدارس فكانت أندية يتفاوض فيها أهله في شؤونهم السياسية والاجتماعية أيضا.
ومن غرائب الأندية في لندن اليوم نادي السكوت وهو للصم والبكم ليس فيه كلام يسمع ولا جرس يقرع ومن يدخل النادي من المشتركين فيه يكبس زراً كهربائياً ينير قطعة من المكان فيفتح له وغير الكهربائية أيضا اصطلحوا على إشارات للتفاهم بينهم ويدخله الرجال والنساء يلعبون بالبلياردو أو يتحادثون أحاديث صم ويغنون غناء الصم. وفي لندن ناد للمعتزلين عن الناس يدخله من ضاقت صدورهم من الوحدة والعزلة ولا يقبل فيه النساء إلا بعد سن الخامسة والعشرين وهو دولي عام ولا يؤدي المشترك فيه شيئاً وهو غريب في بابه لأنه يضم أناسا من أهل الأرض بأسرها ومن جميع الطبقات الراقية وفيه كثير من أرباب المكانة والشهرة.
وهناك ناد اسمه نادي العجل الذهبي ونادي القط الأسود ونادينا وهو نادي أعاظم الأدباء ونادي 101 ونادي الست ساعات وهو ناد أعضاؤه ستة يدخلون إليه كل يوم الساعة السادسة ويخرجون الساعة الثانية عشرة ومع كل واحد منهم كتاب. والنادي الدائم وعدد أعضائه مئة يقسمون أن لا يبرحوا منازلهم مهما كلفهم الأمر من المخاطر حتى انه حدث يوماً حريق قرب ناديهم فلم يخرجوا منه إلا بقوة رجال الشرطة. وقد أسس بعض أبناء الأسر في ايرلندا سنة 1766 ناديا لهم ليختطفوا البنات ويتزوجوا بهن قسرا فانحل هذا النادي سنة 1802 عقيب حوادث أفاض فيها مجلس النواب الانكليزي. وفي ايرلندا أندية قلما تقبل النساء وفيها أندية للنساء العازفات عن الزواج. وسيفتح الآن ناد غريب اسمه نادي اللوبياء السوداء على مثال نادي نيويورك وهو مؤلف من أربعين عزباً يجتمعون مرة في السنة ويضع رئيسه في صندوق أربعين حبة لوبياء بيضاء ومنها سوداء ويسحب كل عضو حبة فمن سقطت السوداء في يده حكم عليه قانون النادي بان يتزوج والنادي يقوم(85/58)
بنفقة تزويجه كما يبتاع له أثاث بيته ونفقة سفره ثلاثة أسابيع مدة شهر العسل.
وعندهم أندية لطالبات الزواج على مثال نادي اليابان الذي يتم بواسطته كل أسبوع مئتا قران وأكثر المقترنين يتزوجون بالنظر إلى صور خطيباتهم الشمسية. وكان في لندرا نادي التقبيل ولكن حدثت منه غوائل لم تفض إلا بمعرفة المحاكم.
وفي لندرا ناد للمنتحرين شعاره بالموت شفاء الأسقام كلها ولا يقبل فيه للنساء ولا للعزاب. ولها ناد للأرواح يدخله علماء ومحامون وجراحون وباحثون ممن يهتمون بكشف الأسرار عن مخاطبة الأرواح. ولها ناد لمن لا أنوف لهم ورئيسه مصري انفه أقنى للغاية يكاد لا يظهر. ونادي مشوهي الخلقة. ونادي السوداويين يجتمعون كل أسبوع وهم عبارة عن حوذيين وسواقيين وملاحيين ليتسابوا ويشاتموا ويظهروا أفضل قرائحهم في علم الطعن والقذف ومن قصر من الأعضاء أو أبدى لطفاً في وحركاته يغرم في المرة الأولى وفي الثانية يطرد من حظيرة أقرانه. وفيها نادي العبوسين يدخله من ساءت أخلاقهم يلتزمون السكوت فيجلس الواحد منهم إلى ناحية يدخن غليونه بدون أن يتكلم. وعندهم نادي الفلس أربعة أقسام أي نادي البخلاء المقترين وفيه أناس من كبار أرباب الأملاك وأعاظم الماليين ونادي قتلة البشر وهم يؤثرون القتل على ثلم الشرف ورئيسهم قتل 25 شخصاً في البراز.
ولا اعرف فيما اطلعت عليه من كتب العرب في التاريخ والشعر والخطب والمحاضرات أنه عهد لبغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق والقيروان أيام عزها معهد يماثل هذه الأندية الحديثة وغاية ما تبين أن المتماثلين كانوا يجتمعون في بيوتهم وحلقاتهم الخاصة فمنهم من يجتمع للمباحثة في العلم كاجتماع إخوان الصفا ومن يروي عنهم التوحيدي في مقابساته كانوا من نحل مختلفة لم تمنعهم مذاهبهم في تلك العصور من الاجتماع على مقصد واحد وكان الشراب الذي يتعاطونه في الأكثر نبيذ التمر وهو أشبه بالصليبية عندنا أو الشيرا يجتمعون لتعاطيه كما يجتمع المحدثون على القهوة والشاي وغيرهما من المشروبات فيغذون باجتماعهم أرواحهم كما يفكهون بما يتعاطونه أجسادهم وما كانت الطبقة العالية من أهل الشرف والعلم والفقه ترى من الغضاضة أن ترفع أصواتها بالغناء أو تأخذ بالعزف والإيقاع في مجالسها وأنديتها لأنهم علموا قبل أهل المدينة الحديثة أن المرء قد يستغني عن القراءة والكتابة ولا يستغني عن رفع صوته ليتغنى فيطرب نفسه وجلاسه وكتاب الأغاني(85/59)
لأبي الفرج الأصفهاني مملوء بأخبار أهل هذه الطبقة.
حكا صاحب اليتيمة انه كان في جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على التبسط في القصف واللهو ابن قريعة وابن معروف والقاضي التنوخي وغيرهم وما منهم إلا أبيض الحية طويلها وكذلك كان الوزير المهلبي. فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع واخذ الطرب منهم مأخذه وضع في يد كل واحد منهم كاس ذهب من ألف مثقال إلى ما دونها مملوءاً شرابا قطربلياً أو عكبرياً فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ويرش بها بعضهم غلى بعض ويرقصون اجمعهم (كذا) وعليهم المصبغات ومخانق البرم والمنثور ويقولون كلما يكثر شربهم هرهر (والهر هر صوت جري الماء).
قال: فإذا أصلحوا عادوا لعادتهم في الرمث والوقر والتحفظ بأبهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء. والرمث في اللغة الإصلاح والمسح باليد أي ما يعرف اليوم بالتولت وهذه القصة وان كان فيها نظر لما فيها من التبذل المذموم فإنها تدل على شيء من الدعابة والظرف.
وبعد فان أسفار امتنا طافحة بأحاديث المترفين وأرباب القصف واللهو والإنشاد مما ينم عن ذوقهم ومدينتهم وتفننهم في مذاهب اللذائذ المشروعة في الغالب وتقلبهم في أعطاف الدعة والأنس وحسن العشرة وجمال العهد واختلاف كل قوم إلى أندية القوم الأخر. روى الصابئ في تاريخ الوزراء قال حدث أبو القاسم الزنجي قال: رسم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات في وزارته الثانية أن يدعى أبو الحسن موسى بن خلف وأبو علي محمد بن علي بن مقلة وأبو الطيب محمد بن احمد الكلوذاني وأبو عبد الله محمد بن صالح وأبو عبد الله والدي وأبو بشر عبد الله بن الفرخان النصراني وأبو الحسن سعيد بن إبراهيم التستري النصراني وأبو منصور عبد الله بن جبير النصراني وأبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني في كل يوم إلى إطعامه فكانوا يحضرون مجلسه في وقته ويقعدون من جانبيه وبين يديه ويقدم كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف طبق فيه سكين يقطع بها صاحبه ما يحتاج إلى قطعه من سفرجل وخوخ وكمثرى ومعه طست زجاج يرمي فيه الثفل فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم شيلت الأطباق وقدمت الطست والأباريق(85/60)
فغسلوا أيديهم وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيارز ومن تحتها سفرة ادم فاضلة غليها وحواليها مناديل الغمر من الثياب المقصور فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية واخذ القوم في الأكل وأبو الحسن بن الفرات يحدثهم ويباسطهم ويؤنسهم فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه ويغسلون أيديهم والفراشون قيام يصبون الماء عليهم والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبيقة ورطليات ماء الورد لمسح أيديهم وصبه على وجوههم فمن كانت له من الكتاب حاجة قام إليه وخاطبه فيها وسأله إياها ومن أراد اطلاعه على سر يجب الانفراد معه فيه فعل مثل ذلك.
ونتم ترون بهذا الوصف أن القوم لم يكونوا دون أهل هذا العصر في مجالسهم ورفاهيتهم ومسلياتهم وتسامحهم فان أرقى قصر من قصور الملوك والأمراء في الشرق والغرب لعهدنا ليس فيه من الاستعداد والتأنق في العيش والنظام في الطعام أكثر مما كان لابن الفرات وجماعته.
فعسانا نقتدي بالنافع من مظاهر أجدادنا في أوقات العمل والفراغ كما نأخذ عن الغرب كل ما ينفعنا في خلوتنا وجلوتنا وترقية اجتماعنا وشعورنا وشممنا وعقولنا وهذا لا يقوم إلا إذا راعينا النظير في الداخلين فقربنا كل سري عرف بحسن السيرة والسريرة ونبذنا كل معربد طائش لم يبلغ بتهذيبه مستوى أقرانه وان كان يحمل ذهباً كثيراً.
نعم نبعد السكيرين والمقامرين ليكون النادي لائقا بان يغشاه النبلاء لا حانة يضم جدرانها السفهاء وبذلك يصبح أحسن واسطة لتعارف الشرقي بالغربي فكما أن أهل المذاهب المختلفة لا تقوم لهم وطنية بدون تعارفهم وتعاطفهم هكذا المدينة لا تقوم على أصولها إلا بمناصرة الشرقي للغربي والغربي للشرقي. مدينة القرن العشرين تقوم بتبادل المنافع والأفكار أكثر من قيامها بالتقاطع والشجار فالله اسأل إن يعلمنا من مدينة الغرب ومدينة العرب ما تنبسط له النفس ويطيب له القلب فان سرعة ائتلاف قلوب الأبرار_كما قال احد الحكماء_كسرعة اختلاط قطر المطر بماء الأنهار وبعد قلوب الفجار من الائتلاف كبعد البهائم من التعاطف نكون على حد قول الشاعر:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كان به عن كل فاحشة وقراً(85/61)
سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ... ولا مانعاً خيراًولا ناطقاً هجراً
إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... ففك أنت محتالاً لزلته عذراً
المرأة في القديم والحديث
خطبت الآنسة مي في حفلة النادي في القاهرة مساء 23 ابريل 1914 ومما قالته:
طافت المدينة أنحاء العالم ولكن ما حالنا بها؟ لقد ظهرت معجزاتها في اكتشافات البشر وعلومهم وفنونهم وأساليبهم وكيفية معيشتهم إلا أن الشقاء مازال شقاء! مازلنا نشاهد حولنا الحرب والفقر والمرض والقتل والانحطاط النفسي والعاهات الأخلاقية على تعدد أنواعها وما برحت الشعوب تشكو حكوماتها والأوطان تشقى بأبنائها والعائلات تتعذب بأفرادها والأفراد تتوجع بميولها وتشقى بغرائزها المتناسخة عن وراثات بعيدة وقريبة! كلا! إن المدينة لم تأت بتمام واجبها بعدو لم تصلح من الأحوال إلا البعض اليسير أو المتوسط. وانتم أيها السادة والسيدات تعلمون سبب ذلك النقص وتعرفون موضع الضعف من مدينة القرون المنصرمة. ذلك الضعف التائن والنقص الهائل ليس إلا تقهقر نصف الإنسانية هو جهل المرأة!
قال هوجو: ليس الرجل وحده الإنسان ولا هو المرأة وحدها بل هما الإنسان والإنسان هما كل جنس دون أخيه نصف فقط ولا يصير عدداًكاملاً إلا إذا أضيف إليه النصف الأخر لا صحة للمرء إلا بسلامة دماغه وقلبه ولا سعادة للرجل إلا بسعادة المرأة.
سل عنها الدهور المتدحرجة في هاوية الزمان لو كان للدهور لسان لأنبأتك بما يدمي الفؤاد المرأة! لقد جعلتها الهمجية حيواناً بيتياً وحسبها الجهل متاعاً ممتلكاً للرجل يستعمله كيفما شاء ويهجره إذا أراد ويحطمه إذا خطر له في تحطيمه خاطر. كانت بعد ذلك عبدة شقية وأسيرة ذليلة ثم ارتقت مع مرور الأجيال إلى درجة طفلة قاصرة إلى لعبة يلهو بها السيد في ساعات الفراغ إلى تمثال بهرجة تتراكم عليه الأثواب والجواهر الثمينة ومن منا يدري بما كانت تستر الأثواب الحريرية والجواهر الثمينة من قرح القلب الدامية التي لم يضمدها بشر؟
تاريخ المرأة استشهاد طويل أليم ومن أغرب الغرائب أنها لم تجد لها في القدم صديقاً ولا نصيراً. كانت عامة الشعب تكرهها وتحتقرها وليس ذلك بكثير على قوم جاهلين تحجرت(85/62)
منهم القلوب وصمت الإفهام فهم لا يدركون شيئا مما يتجاوز دائرة شخصهم الصغير لكني أرى الأمر عجباً بل فظيعا من رجال نحسبهم نوابغ زمانهم وقادة أفكار العالم. لم يذكر شعراء اللاتين من المرأة إلا جمال جسدها وليس في قصائدهم ما يدل على تلمس آثار النفس وراء ظواهر الجسد وجميعهم متفق على تسميتها الشيطان الجميل أو ينبوع المسرات السامة وشعراء اليونان اسخيلوس واوربيدس وغيرهما يسمونها - ببساطة كلية! - بلية العالم. أما الفلاسفة فاكتفي بان اذكر هنا أفلاطون، أفلاطون الإلهي الذي يعتبره تاريخ الفكر امة بأسرها أفلاطون ذا الأحلام الغامضة والمبادئ السامية الذي لم يترك موضوع إصلاحي سياسي أو أدبي إلا عالجه رغبة في إسعاد العالم - أفلاطون لم يفكر قط في تحسين حالة المرأة ولم يهتم في درس أخلاقها واستكشاف درجتها العقلية والاستعدادية. ماذا قال! إن أفلاطون هذا قضى حياته آسفا لأنه ابن امرأة وكان يصرح بذلك تصريحاً بازدرائه بأمه ويعتقد أن من كان جبان من الرجال في هذا العالم فمنذ ولادته في عالم أخر تتقمص روحه في جسد حيوان أو في جسد امرأة.
وما علم أفلاطون أن امرأة ستتعلم فلسفته في (مدرسة الإسكندرية) وان تلك المرأة لا يمنعها شبابها الغض وجمالها الرائع أن تكون اعلم علماء عصرها. تلك هي الفتاة هيباثيا ابنة ثيونوس الرياضي الشهير التي قتلت رجماً في شوارع الإسكندرية في أوائل القرن الرابع فذهبت شهيدة علمها وإخلاصها ورغبتها في إشهار التعاليم الأفلاطونية.
أول من عطف على المرأة واسمعها كلمات الإشفاق والغفران هو يسوع الناصري. وهو أول من سوى بينها وبين الرجل إذ جعل لهما خطة واحدة تفضي إلى ثواب واحد وإلا فللضالين عقاب واحد. على أن النصرانية حرمتها من وظائف الكهنوت وما برح طائفة اللاهوتيين يعتبرونها قارورة الخطايا والآثام!
ثم جاء نبي الإسلام فرفع شانها أي رفعة في بلاد العرب إذ حرم واد الفتيات وسواها بالرجل في جميع الحقوق والواجبات إلا في الشهادة والميراث فان امرأتين اثنتين تساويان رجلاً - وفي ما عدا ذلك فهي والرجل سواء في جميع الحقوق المدنية ويقول العارفون أن لها الحقوق السياسية أيضاً. والمسلمات لهن إن يكن فقيهات وكانت أول فقيهة منهن عائشة زوجة صاحب الشريعة الإسلامية الذي قال لقومه: خذوا دينكم عنها!.(85/63)
وعلي أن اذكر هنا اسمي بلوتارك ودانتي وهما أول من تلمس نفس المرأة من طغمة الشعراء والمفكرين. لقد جعلا لقصائدهما عرائس شعر تتجلى فيهن ملكات الجمال الأدبي: وهما اللذان ترنما للمرة الأولى بذكر المرأة ذات النفس السامية والذكاء الوقاد ومقدمة عثرات الجنس القوي. من منا لا يعرف لورا وبياتريس؟ إن هذين الاسمين لا يفترقان عن اسمي بلوتارك ودانتي وسيكونان أبداً المثل الجميل الذي مر في مخيلة دانتي فصوره في شعره الساحر قد اخترق ظلمات القرون الوسطى كبرق ساطع ثم جاء كبير شعراء العالم شكسبير فجعل أبطال أكثر رواياته من النساء الجميلات ذوات النفوس الكبيرة تتلامس في قلوبهن بلطف يشبه تموجات النور في الهواء أقوى وأعذب شعائر المحبة بأسمى وأوجع عواطف التضحية وكذلك كانت النساء في روايات كورنايل وكلكم ذاكر بلا ريب بولين وكاميل وشيمان. . . ألا تذكرون؟
لم يكن مفكري القرون الوسطى من رأي شكسبير وكورنايل بل كان معظمهم مبغضاً للمرأة ساخراً بها لم يكن طاعناً فيها. ولقد اختصر بوسيه أسقف مو وأفكار معاصريه وأوردها في جملة واحدة. قال بجديته الحبرية المشهورة: المرأة خلقت من ضلع زائد في جنب الرجل فلهذا السبب هي عقيمة لا ذكاء في عقلها ولا إدراك في نفسها. رحمة الله عليك يا بوسيه! انك لم تكن نبيهاً! أما كون المرأة مخلوقة من ضلع الرجل فهذا أمر لا رأي لي فيه - غير أني أفضل أن تكون مخلوقة من عصير قلبه وعواطفه بدلاً من أن تكون - كوتلياً - مصورة! وأما كون الضلع زائدة فهذه مسالة فيها نظر وعلى كل حال فاني لا اخذ على نفسي إثبات هذه الحقيقة التشريحية. . . أو اللاتشريحية.
أيها السادة! لننس هذه الأقوال العتيقة ولننظر إلى أحوال الحاضر. إن النهضة النسائية تمتد يوميا في أقاصي المسكون. إنها لنهضة عجيبة تبشر بخير عظيم وتنبئ بان مدينة الأمس العرجاء التي لم تتكئ إلا على ذراع جنس من الجنسين هي غير مدينة الغد الممتعة بتحقيق أجمل الأماني الجائلة في قلب الإنسان. ليست مدينة الغد مدينة الرجل وحده بل هي مدينة الإنسانية لان المرأة آخذة بالصعود إلى مركزها الحقيقي بقرب الرجل. إن موجة النور نور الارتقاء النسائي تزداد ارتفاعاً واتساعاً مع الأيام. في فرنسا وانكلترا وأميركا وألمانيا وايطاليا تجاهد المرأة جهاد الأبطال في سبيل ترقية جنسها وترقية النوع البشري معها.(85/64)
ولقد نالت جميع حقوقها في اسوج ونروج وفنلندا وزيلاندا الجديدة وفي بعض الولايات المتحدة فهي الآن والرجل سواء أدبياً ومدنياً وسياسياً أيضاً. وفي كل من هذه البلاد كان تأثيرها نافعاً جميلاً وحيث تقلدت المرأة الوظائف العمومية قد قلت الجرائم وخفت وطأة السكر وظهر تحسن محسوس يكاد يكون ملموساً في مستوى أخلاق الأمة وفي حالتها الصحية جميعاً.
هذه هي المرأة الجديدة ومستودع آمال المستقبل.
كم قالوا فيها أنها لا تصلح إلا للخدمة البيتية والزينة الجسدية وها هي مصلحة كبيرة ومفكرة عاملة! وكم قالوا أنها حيوان جميل وشيطان لطيف وها هي ملك كريم يحاول إفهام الرجل أن في الحياة عنصراً سامياً هو كل الحياة! وكم قالوا أنها كاذبة خبيثة وان الصدق والإخلاص بعيدان عنها بعد الشمال عن الجنوب وها هي آخذة في تهذيب نفسها وملا شاة العاهات التي شوهتها في أزمنة العبودية! وكم قالوا أنها مترددة حائرة ذليلة لا تقوى على توليد فكر ولا تتحمل المسؤولية وها هي عزيزة النفس شديدة الحرص على الاستقلال منحنية بحرقة على الحياة العميقة! وكم قال فولتر أن فكرها سريع العطب وانه يتحطم تحطيماً إذا حاول استفهام ناموس علمي غريب أن يقول فولتر هذا القول لأنه لم يفهم كتابات نيوتن إلا بواسطة امرأة هي صديقته مدام شاتليه ومعربة كتاب نيوتن في ناموس الجاذبية ثم اذكروا مدموازل لابلاس وماري كوالسكي ومدام كوري وملايين من النساء المشتغلات في العلوم الطبيعية والعلو المجردة والفنون والصنائع والحرف المختلفة. في فرنسا خمسة ملايين من النساء تشتغلن حاملات في قلوبهن التبعة العائلية والهموم الكثيرة. يخترقن سبل الحياة المحفوفة بالكوارث والأوجاع داميات القلب ولكن شريفات النفس شريفات المقاصد. ومثل ذلك في انكلترا والولايات المتحدة حيث عدد المعلمات فقط يكاد يبلغ الأربع مائة ألف. . . ويقول الأحصائيون أن في مصر نحو مليون ونصف من السيدات المتعاطيات الأشغال العمومية.
وكم قالوا إن المعارف لم تخلق للمرأة وان العلم يذهب بجمالها وتواضعها ولطفها وانه يجعلها متكبرة جافة ومحتقرة العائلة هازئة بالرجل وها نحن نراها إذا تعلمت زادت جمالاً وحناناً أكيداً واحتراماً للعائلة ووإجلالاً للرجل. أنها الآن تفهم معاني الحياة وتريد بكل قواها(85/65)
ترقية نفسها وإعلاء مداركها وتربية شخصيتها الجميلة واستخدام ملكاتها في بث الخير والسعادة حولها وعلى كل ما يحيط بها. المرأة الراقية وحدها تعرف إن لها فخراً رئيساً واحداً وهو أن تكون (أماً) وهي وحدها تعرف أنها كانت إلى اليوم أم الجسد فقط وتحاول أن تصبح أم الروح أيضاً أم العواطف وأم الأفكار وأم الميول والمهذبة الكبرى والصديقة العظمى!
وكم قالوا أنها لا عقل لها وان حياتها سلسلة أهواء متتابعة وتقلبات صبيانية تافهة وها أننا نراها بعيدة النظر ثابتة المقاصد مفرقة منفعتها الشخصية في بحر المنفعة العامة! انظروا إلى روسيا حيث النساء تتألم تألم الرجال وأكثر. روسيا حيث الثورة الفكرية تهيئ حتماً الثورة السياسية كم من فتاة حسناء قد ضمت خطيبها ومستقبلها وهناءها حباً بمصلحة وطنها واشتركت في جمعيات تظن أن في تأييدها خيراً للبلاد.
المتهكمون على المرأة كثيرون في العصر الفوضوي ولكن أنصارها أكثر وهم من ذوي النفوس الكبيرة والرؤوس المفكرة بل هم أسمى واشرف رجال زماننا. أنهم يحترمون جهادها ويعترفون بحقوقها ويقرون بما تأتيه من الإصلاحات الباهرة ويعجبون بإقدامها وثباتها ويرون في نهضتها أيدي جديدة عاملة لخير الإنسانية وتخفيف الويلات عنها. أليس فيكتور هوجو هو القائل أن تحرير المرأة يحل أكثر المشاكل المدنية وانه ينتظر منها وحدها إلغاء الحرب في العالم؟
وهو القائل أيضاً إن القرن العشرين هو عصر المرأة. ولقد صدق في نبؤته! في كل مكان تفتح المرأة عينها لنور الحياة حتى في أطراف الشرق الأقصى في الصين بأمرهن. وفي تركيا. وها أني أرى شرارة الحياة تشتعل في مصر، أيضاً حيث الرجال يساعدوننا بأقلامهم وبألسنتهم وبمثلهم وجل ما يتمنون هو أن تستحق النساء عنايتهم واهتمامهم بأمرهن. أجل في مصر تتكسر القيود الدهرية التي طالما عذبت فكر المرأة ونحن اليوم عند عتبة مستقبل باهر. في مصر تشتعل شرارة الحياة. . .
الآثار العربية في أسبانيا
عهدت حكومة أسبانيا إلى مدير مدرسة الهندسة العليا في مدريد بتجديد كنيسة قرطبة الكاتدرائية وكانت من قبل جامعاً على عهد العرب هناك فقام بأعمال الحفر في المكان الذي(85/66)
اعتقد انه كان في القديم قصر الزهراء وذلك للبحث عن هندسة جامع قرطبة على ما يجب إذ تبين أن هذا المعهد قد امتزجت فيه الهندسة الإسلامية الصرفة مع الهندسة الأسبانية المسيحية فقال على ما نقلت عنه مجلة العالم الإسلامي الفرنسية أن الهندسة الإسلامية لا تختلف فقط بين بلد وبلد وبين عصر وأخر بل يجب أن يلاحظ أن المهندسين المسلمين قد اقتبسوا أموراً جديدة من البلاد التي افتتحها قومهم وأضافوا إلى هندستهم. قال المهندس الأسباني أن من بحثوا في الهندسة الإسلامية لم ينظروا نظراً بليغاً إلى المؤثرات الأجنبية في هندستهم. فانك ترى مثلاً جامع ابن طولون في القاهرة وهو مما بني في سنة 265هـ - (879م) زيادات ترد أصل هندسة هذا المعهد المشهور إلى بين النهرين ومن جهة أخرى كأنه من هندسة المغرب والأندلس وذلك لان فتح الفاطميين لمصر وهم من القيروان قد اثر في الهندسة المصرية لعهدهم. واستند الباحث الأسباني على ما قاله صاحب تاريخ البيان من الأندلسيين فتبين بعبارته مساحة الجامع واستخرج منه عدة قطع من أحجار وكتابات واوان خزفية ساعدته على تأييد فكرة من أن الهندسة الإسلامية الأندلسية قد اقتبست أشياء كثيرة من غيرها واستنتج من بحثه في طرق نحت الأحجار وهي طريقة قديمة جداً استعملها الأشوريون واحتفظ بها المسلمون أن لا اختلاف بين ما يرى منها في الأندلس وما يرى في غيرها واستعمال الكلس والملاط للجمع بين الأحجار المرصوصة في البناء والبلاط والرخام الأبيض والأحمر النوع كل ذلك من أسلوب الهندسة القرطبية الأندلسية. وكانوا يستخدمون من النقوش أشكالا منها ما هو من أصل بيزنطي رومي ومنها ويزيغوتي ومنها طليطلي ويعدلونها على هواهم. ومن الغريب أن المسلمين في قرطبة وغرناطة وسائر المدن الأندلسية لم يكونوا يحجمون عن تمثيل المخلوقات الحية وهمية كانت أو حقيقية فترى في نقوشهم طيوراً ورؤوس اسود وتنانين.
وصف المؤلفون من العرب قصر الزهراء أحسن وصف وقصور الخلفاء هناك قال العالم الأسباني أن مسجد قرطبة وتلك القصور الزاهرة وما حوت من النقوش المرمر والذهب تفوق ببنائها كل ما يتصوره العقل ولم يبق من آثار تلك القصور سوى عمودين من الرخام وذلك لان قرطبة كانت ميداناً للفتن منذ عصور فذهبت في جملة ما ذهب من عادياتها كنوز خلفاء المغرب ونهبت خرائب قصورهم عدة مرات واستعملت أحجارها في إقامة بنايات(85/67)
جديدة. وقد أشار إلى ما وجده من الكؤوس والأواني من القيشاني المصور عليها بالحروف الكوفية نباتات أو صور إنسانية واستدل منه إن هذه الصناعة أي صناعة الخزف المزين بالمينا هو من عمل الأندلسيين.
تجارة المواني العثمانية
نشرت الصحف الايطالية للملق التجاري في سفارة الأستانة تقريراً مسهباً عن تجارة السلطنة العثمانية في سنة1911 - 1912 استنتج منه أن التجارة العثمانية لم تخسر بما فقدته السلطنة في الحروب الأخيرة من الأملاك في أوروبا وإفريقيا إلا 22 في المائة فقط. وهذه خلاصة التقرير:
الواردات: بلغت قيمة ما استوردته السلطنة من البلاد الخارجية في السنة المذكورة مبلغ37، 600، 000 ليرة دخل منها بطريق الأستانة (مع جمارك اسطنبول وغلطة حيدر باشا وأزمير وكملك ومودانيا وبندرمه والدردنيل وغليبوني ورودستو وزنجلداك) 34، 78 في المائة وبطريق بيروت (مع سائر المواني السورية) 13، 79 في المائة. وبطريق أزمير (مع جمارك أيولي ومدللي وصاقس ورودس وسائر جزر الأرخبيل) 12، 88 بالمائة. وبطريق سيلانيك (مع جمارك قوله واسكوب وبربوي والسونا والحدود اليونانية الصربية) 12، 85 في المائة. وبطريق طرابزون (مع جمارك قرة صند وسمسون واينة بولي وارضوم والحدود الروسية الإيرانية) 6، 14 في المائة. وبطريق بغداد 5، 20 في المائة. وبطريق الإسكندرية (مع جمارك مرسين واضالية والمواني المجاورة لهما) 3، 82 في المائة. وبطريق دده اغاج (مع جمارك جسر مصطفى باشا وادرنة وبورتولاغوس والحدود البلغارية والسواحل الأوربية على البحر الأسود) 3. 67 في المائة. وبطريق بروزة (مع جمارك الونية وسانتي كوارنتا وسلاهو فوودراج واشقودة وحدود الجبل الأسود) 2، 19 في المائة. وبطريق جدة 1. 82 في المائة. وبطريق مدينة طرابلس الغرب 1، 46 في المائة. وبطريق الحديدة 1. 30 في المائة.
أما الصادرات فقد بلغت قيمتها كلها 19، 414، 068 ليرة. وفقد اصدر منها بطريق أزمير 28، 73 في المائة. وبطريق الاستانة19، 38 في المائة. وبطريق سلانيك 12، 38 في المائة. وبطريق طرابزون 10، 42 في المائة. وبطريق بيروت 9، 29 في المائة.(85/68)
وبطريق الإسكندرية 6، 39 في المائة. وبطريق بغداد 4، 14 في المائة. وبطريق دده اغاج 3، 53 في المائة. وبطريق بروزة 2، 27 في المائة. وبطريق طرابلس الغرب 1، 67 في المائة. وبطريق الحديدة 1، 61 في المائة. وبطريق جدة 0، 19 في المائة.
وإذا وزعنا مجموع الصادرات والواردات على الأملاك العثمانية في أسيا وأوربا وإفريقيا كان نصيب كل منها كما يلي:
الأستانة وداخلتيها: 34، 78 في المائة من الواردات و19، 38 في المائة من الصادرات. الولايات الأوربية: 18، 71 في المائة من الواردات و18، 18 في المائة من الصادرات. الولايات الأسيوية: 44، 95 في المائة من الواردات و60، 77 في المائة من الصادرات. الولايات الإفريقية: 1، 56 في المائة من الواردات و1، 67 في المائة من الصادرات.
شعر الشهر
تحت هذا العنوان ننشر في كل جزء ما نعثر عليه من شعر الشعراء في مصر والشام والعراق والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وتونس وبرقة والجزائر ومراكش ليقف القارئ على أطيب ما قيل وعلى درجة رقي الأدب العربي وإنا نخص هذا الجزء بنموذج من شعر الحكمة والاجتماع قال إبراهيم منيب أفندي الباجه جي.
(مجلة لغة العرب البغدادية م3ص536)
يحصد الإنسان ما قد زرعا ... فازرع الخير وكن منتفعا
والى الشر فلا تركن وكن ... حذراً في فخه أن تقعا
كم وكم صانع للشر قد ... خطفته كف ما قد صنعا
وعظ الناس بما تدري وان ... كنت لا تدري فكن متبعا
تبق ما عشت وان مت على ... ألسن الأيام ذكراً أرفعا
وعلى الدنيا فلا تعتب إذا ... لم تجد من رزقها متسعا
إن في الدنيا اتساعاً للفتى ... في طلاب الرزق لو كان وعى
فاسع في دنياك إن رمت المنى ... سعي مقدام تجده طيعا
حصة العاجز حرمان وان ... ليس للإنسان إلا ما سعى
وقال محمد أفندي الهاشمي في ص 508 أيضاً:(85/69)
كم من شقي في الحياة ... يعد في أهل القبور
الجهل ريح عاصف ... ترمي الشعوب بكل بور
وتظل تعبث بالبلا ... د وبالعواصم والثغور
مهلا بني أمي فلس ... ت على التأخر بالصبور
فلقد نفرت على العرا ... ق وأهله كل النفور
فعثرت والأدبار قد ... يهدي إلى الجد العثور
لا تنذروني يا بني ... أمي بقاصمة الظهور
ما حدت عن قصد الطري ... ق ولا جنحت إلى نفور
وجاء في جريدة اللاذقية (عدد 288) قصيدة تحت عنوان خطرات يعرب بإمضاء (ع. ز) في المعرة منها:
أولاد يعرب أين همة جدكم ... وخلوصه والصدق في العزمات
أين الحمية والمرؤة أين من ... كشفوا ظلام الظلم بالصدمات
سكن الخراب دياركم وبلادكم ... والخزي طاف بكم بست جهات
ونساؤكم هدم التبرج خدرها ... وشبابكم عكفوا على اللذات
وشيوخكم ارسوا سفينة وهمهم ... في أبحر التضليل والترهات
ومدارس كانت مصادر حكمة ... ومساجد بنيت لفعل صلات
بدلت بحانات ودور فواحش ... ومقامر ومراسح القينات
ومنها: والحج يقصده الغبي وجاهل ... وتردد النغمات للجمعات
وارى المدرس كالمدلس ينثني ... متسرعا للخوض في الشبهات
جهل على جهل تركب فانزوى ... دين النبي وبات في غمرات
أيضيع شرع الله بين ظهوركم ... يا أمة خضعت لفتك طغاة
وقال احمد أفندي نسيم في المؤبد (7267) من قصيدة:
لو تعدل الأيام في أبنائها ... ما كان منهم مسعد وفقير
ساء الزمان فليس فيه منعم ... أو مطمئن الجانبين قرير
وإذا تفكر في الحياة اخو نهى ... كره الحياة رساءه التفكير(85/70)
ما زينة الدنيا وزخرف عيشها ... إلا متاع زائل وغرور
وكأن أحداث الزمان إذا طغت ... بحر وأمال النفوس جور
يمسي الجهول مقدراً أرزاقه ... ولدى الإله الرزق والتقدير
ويدبر الدنيا ليسبر غورها ... ولربه في أمره تدبير
وأحب من مثر يجمله الغني ... عاف لآلاء الإله شكور
وتجارة أدنى معارضها التقى ... لتجارة في الله ليس تبور
من يتخذ غير الإله وليجة ... بعدت طرائقه وساء مصير
وقال عبد الحليم أفندي حلمي في العدد نفسه من قصيدة:
من يطلب الخلد فليعمل لسيرته ... يفنى الوجود ولكن تخلد السير
عقائد الشعب أساس فان ضعفت ... هدت ذراه فأمسى وهو منعفر
والناس في العيش أنصاب محركة ... تظل معبودة من حسنها الصور
كأن أرواحهم طير محلقة ... على الرؤوس متى تسنح لهم زجروا
نظل نذكر موتانا بما صنعوا ... إن يذكر الحي موتاه فقد نشروا
وقال الشيخ مصطفى الغلاييني من قصيدة في الإصلاح:
ما يفعل الخلق الكريم تحوطه ... من لؤم أخلاق الملا آجام
بل ما يفيد العلم عند معاشر ... ما في رؤوس عظامهم أحلام
أو ما ينال اخو العلى في بيئة ... للجهل فيها النقض والإبرام؟
وأبو الفضائل روضة حفت بها ... جدر السفاء كأنها آكام
يا للرزيئة من بلاد ضيعت ... أشبالها فاستأسد الأغنام
لم ترع فيها ذمة لرجالها ... والمكرمون بهائم وسوام
ما يبتغي راعي العلى من امة ... للافن فيها حرمة وذمام؟
أسف على وطن اسود عرينه ... هلكت فحلت ربعه الأنعام
تكسى الحقائق فيه ثوب مهانة ... وتسود في أرجائه الأوهام
أبناؤه نبذوا الفضيلة جانباً ... فحياتهم ابد الزمان آثام
إن ينشدوا للمجد أو يتهيئوا ... لملمة فجاهدهم إلمام(85/71)
أو يعزموا أمراً نسوه في غد ... فكأن ما قصدوا له أحلام
أو يدعهم داعي مجانبة العلى ... هبوا إليه وطيشهم زحام
يتسابقون إلى السفاهة شرعاً ... ولهم من الرأي السقيم إمام(85/72)
مخطوطات ومطبوعات
محمد والآخرة
تأليف بول كازنوفا طبع على نفقة بول غوتنر في بالريس سنة 1911
هو كراسة بالفرنسية وقعت في 83 صفحة زعم فيها مؤلفها إن القرآن الكريم تطالت إلى تحريف أشياء منه جماعة من الصحابة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مؤيداً أقواله بمزاعم غيره من الأوربيين الذين نظروا إلى الإسلام شزراً وتكلموا فيه كلام أهل القرون الوسطى.
انتقاد كتب زيدان بك
أحسنت إدارة المنار في مصر بطبع هذه الانتقادات على بعض كتب رصيفنا جرجي بك زيدان صاحب الهلال فان النقد مفيد في كل موضوع بكر به تنجلي الحقيقة ويدمث المسلك الوعر والأول من هذه الانتقادات بقلم شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني من أساتذة الهند في كتاب تاريخ التمدن الإسلامي ويليه ثان في انتقادات تاريخ آداب اللغة العربية بقلم الشيخ احمد عمر الإسكندري من أساتذة مصر والثالث في انتقاد تاريخ آداب اللغة العربية أيضاً وكتاب طبقات الأمم بقلم الأب لويس شيخو صاحب مجلة المشرق في بيروت والرابع في انتقاد تاريخ العرب قبل الإسلام بقلم الشيخ احمد عمر الإسكندري أيضاً.
الحالة الاقتصادية
في أصقاع حيفا وعكا
هو تقرير للمسيو ارتوركي احد رجال المشرقيات عند الفرنسيين وقنصل فرنسا في بغداد الآن وضعه باللغة الفرنسية عن حالة تلك الأصقاع في اقتصادياتها وقد وقع في 123 صفحة وفيه أمور نافعة وإحصائيات مدققة في الجملة تدل على مبلغ عناية المؤلف يدرس موضوعه.
تلخيص التاريخ العثماني المصور
تعريب شاكر بك الحنبلي طبع على نفقة المكتبة الهاشمية بدمشق في مطبعة الترقي أجاد(85/73)
المعرب في تعريب هذا المختصر عن التركية في تاريخ ملوك العثمانيين والأحداث التي وقعت في أيامهم وقد حلاه بصور الملوك وخرائط منوعة وهو في 152 صفحة.
إرشاد الناشئين
لنعمان أفندي الأعظمي طبع على نفقة الأمير مبدر الفرعون آل فتلة في مطبعة الآداب ببغداد.
هي دروس دينية علمية أدبية ألقاها الأستاذ الأعظمي على تلاميذه دلت على فضل وأدب وقعت في 65 صفحة.
خطبة نادي الشرق
في مطبعة سرسم في الموصل 1331هـ -
هي خطب ألقاها في الموصل السيد محمد حبيب العبيدي من أساتذة الحدباء إبان الحرب العثمانية البلقانية وفيها ما يحرك الأشجان ويثير العواطف بعبارات عذبة تدل على فرط غيرة وطنية وحمية عربية عثمانية.
الجغرافية العمومية
تأليف احمد جودت أفندي المارديني وعلى نفقة المكتبة الهاشمية بمطبعة الترقي.
هي الحلقة الأولى من علم تقويم البلدان جعلت لها أسئلة في أخر كل درس وقد حوت هذه السلسلة 28 شكلاً و8خرائط وقعت في 76صفحة فعسى أن يوفق المؤلف إلى إتمامها لفائدة النشء الجديد.
الوقاية الصحية
من الأمراض المعدية
هي رسالة صحية للدكتور سليمان الحاج في صور طبعها في مطبعة العرفان لينفق ثمنها في بناء الجامع الجديد في بلده فنال مؤلفها اجرين اجر تعليم واجر عبادة.
مجلة العلوم الاجتماعية
يسرنا صدور مثل هذه المجلة النافعة في هذا القطر وهي تبحث في الحقوق والاقتصاد والاجتماع ومعظم أبحاثها جديد وهي لمنشئها توفيق أفندي الناطور المحامي ومدير(85/74)
تحريرها الشيخ محمد منيب الناطور وقد عهد بتحريرها للجنة من الحقوقيين والاقتصاديين والاجتماعيين وهي تصدر مرة في الشهر في مدينة بيروت وعدد صفحاتها 32. وقد طالعنا في أعدادها الأولى مقالات نافعة وأبحاثاً معربة عن الإفرنجية تنير الشبهات فنحث على اقتنائها فهي من أجمل الكتب العصرية وما المجلات إلا كتب حديثة ممتعة.
إرشاد الأديب
إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء أو طبقات الأدباء لياقوت الرومي طبع بمطبعة هندية بمصر.
لصديقنا الأستاذ مرجليوت احد علماء المشرقيات من الانكليز همة لا تكل في نشر آثار سلفنا وقد نشر بواسطة لجنة تذكار حبيب حتى الآن عدة كتب مفيدة ومنها هذا السفر النفيس لصاحب معجم البلدان وقد صدر في العهد الأخير الجزء الخامس والجزء السادس والأول في 520 صفحة والثاني في 531 صفحة الأول في تراجم من يبتدئ أسماؤهم بحرف العين وفيه من المشاهير ترجمة ابن حزم وابن سيده والكسائي والأخفش والأصبهاني والتوحيدي وابن العميد والماوردي وابن القفطي وابن عساكر وفي الثاني وهو بقية من أول اسمه عين وغين وفاء وقاف وكاف ولام وميم وفيه من المشاهير ترجمة الجاحظ والقاسم بن سلام والحريري وقدامة بن جعفر والبيروني والشافعي والطبري وأمثالهم من الأعلام والكتاب في طبعه وتصحيحه وتعليق حواشيه كسائر الأجزاء السابقة فشكراً للناشر ورحمة لمن وقف المال لإحياء آثار الشرقيين عربهم وفرسهم وتركهم.
الإدارة في فارس
هي دروس بالفرنسية ألقاها المسيو دمورني في أصول الإدارة الفارسية على تلميذه الشاه احمد شاه فارس الحالي وعلى طلاب مدرسة العلوم السياسية في طهران دلت على أحكامه لهذا الموضوع وانه في الحقوق مبرز تحرير والكتاب في 216 صفحة طبعه ارنست لرو الطابع في باريس سنة 1913.
كتاب الطواسين(85/75)
أبو الغيث الحسين بن منصور الحلاج البيضاوي البغدادي هو من المتكلمين والنظار قتل في بغداد سنة 309 بفتوى من بعض علمائها لأنه تكلم فيما يقال بما يخالف الشريعة واستهوى الناس وترجمته حافلة في تاريخ ابن الأثير وغيره وقد عثر له المسيو لويس ماسنيون من مستشرقي فرنسا بكتاب الطواسين فنشره بالعربية وترجمته بالفارسية وعلق عليه شروحاً وحواشي ترفع الغامض عن مذهب الحلاج وسهل على عارفي اللغة الفرنسية الوقوف على حقيقة كلام هذا المتكلم إن صح أن كتاب الطاسين من تأليفه لان العبارات أكثرها إلى العجمية لا يفهم لها معنى كبير ولا تنطبق مع شهرة الحلاج ولعل بعض الملاحدة دس عليه هذا الكتاب ولطالما دست الرسائل ونسبت الآراء لأناس من الأعاظم وهم لم يقولوها. معنى الطواسين جمع طاسين وقد جعلها أقساماً منها طاسين السراج وطاسين الفهم وطاسين الصفاء وطاسين الدائرة الخ وكلها معميات وألفاظها غير منتقاة ومعانيها غير محررة. ويشكر ناشرها ومعلق حواشيها على كل حال وقد طبعت على نفقة الكتبي بول غوتنر في باريس سنة 1913 في 222 صفحة فنشكر للمهدي هديته.
1912
تقرير المجمع السميثوني
اعتاد هذا المجمع الأميركي أن يصدر كل سنة تقريراً مستوفي في مئات من الصفحات حاوية أبحاث الباحثين من العلماء وتقريره عن السنة الماضية قد وقع في 780 صفحة وفيه رسوم تنير النصوص.
عزة الأمس ذلة اليوم
خطاب للميرزا محمد رحيم بالفارسية تعريب الشيخ محمد الكاظمي طبع بمطبعة ولاية بغداد 1331 ص53.
عدد صاحب هذا الخطاب البلاد والممالك التي دخلها المسلمون وحكموها من سور الصين شرقاً إلى البحر الاتلانتيقي غرباً إلى نهر السين شمالاً إلى بحر عمان وعدن وجزائر مدغشقر جنوباً فاستولوا في البر على ما يساوي أكثر من ضعفي أوربا من المعمورة وعدد الدول المعظمة في الإسلام وعدد منها الدولة الأموية الشرقية، العباسية الأموية الغربية، الادريسية، الأغلبية، الطاهرية، العلوية، الصفارية، الطولونية، السامانية، المسافرية،(85/76)
الفاطمية، المكناسية، الزبادية، البويهية، الإخشيدية، الادريسية الثانية، الكلبية، الشاهينية، الحسينية (إحداها في كردستان انقرضت والثانية في تونس لا تزال) الغزنوية، الصنهاجية، المروانية، المعزاوية، الايليكية، المرابطية، المزيدية، الزيرية، الحمودية، الهودية، العامرية، المرداسية، العبادية، الافطسية، الجهورية، ذي النونية، السلجوقية، البورية، الارتقية، الشاهية، الموحدية، الزنكية، الخوارزمية، الغورية، الأيوبية، التاتارية، الحفصية، المرينية، النصرية، الزيانية، الممالكية، العثمانية، الوطاسية، الصفوية، السعدية، الغيلالية، الفلجائية، الحسينية، النادرية، الابدالية، الزندية، القاجارية، المحمدية العلوية، الباركزائية.
وتكلم عن الثروة والمالية فقال انه كان يدخل بيت مال المسلمين زمن المأمون من المال ما يساوي ثلاثمائة وخمسين مليون فرنك بعد طرح جميع نفقات الدولة في حين نرى انكلترا وهي أغنى دول الأرض وعليها من الديون ما يقرب مليار ليرة وروسيا وعليها مثل ما على انكلترا. وتوسع في الكلام عن العلماء والعلوم والمكتبات والمساجد وقصور الملوك في الشرق والغرب ومنها ما كلف الملايين من الجنيهات. وألم باهتمام السلف في تعمير الأراضي وتوسيع البلاد فقال كانت مساحة مدينة قرطبة في الأصل 33 ألف ذراع فاهتموا في توسيعها فبلغت طولاً 24 وعرضا ستة أميال فصار المجموع 144 ميلاً مربعاً وهذه مدينة لندن أوسع بلاد العالم تشتمل على ما يقرب من سبعة ملايين من النفوس مساحتها 117 ميلاً مربعاً وكان سكان مدينة بغداد مليوناً ونصفا وعدد شوارعها 64 ألفا وأنهارها 150 ألفاً ودورها 240 ألفاً ونفوس بغداد اليوم لا تبلغ 150 ألفاً وكانت انهار البصرة في عهد بلال بن أبي درة 100 ألف نهراً تجري فيها السفن الصغار ومن هنا يمكنك أن تقيس عدد نفوسها وبلغت مساحة البصرة 39 ميلاً مربعاً وكان عرض الشارع العام فيها 60 ذراعاً وسائر الشوارع 20 ذراعاً ونفوس البصرة اليوم 30 ألفاً وكان عدد رجال مصر بعد الفتح ثمانية ملايين فإذا أضفنا إلى ذلك الأطفال والشيوخ والنساء يبلغ عدد نفوسها ثلاثين مليوناً وكانت مساحة أرضها الزراعية في زمان هشام بن عبد الملك ثلاثين مليوناً من الأفدنة وقيل انه كانت الفسطاس في الاتساع بحيث اشتملت على 36 ألف مسجد وثمانية ألاف شارع عام و1170 حماماً وبلغت طبقات دورها سبع طبقات لشدة الازدحام وكان كثير من دورها يشتمل على مائتي نفس وصرفوا على بعض أبنيتها مثل دار الحرم(85/77)
بحمارويه 350 ألف جنيه.
وأفاض في المستشفيات ودور العجزة والطب والأطباء والمراصد الفلكية والسفن والمواني والصناعات وسخاء الأمراء والأغنياء بما لا يكاد يصدق لولا أن ذكره ثقات الرواة وقال أنهم حيروا العالم بثروتهم الشخصية فبلغت غلة الخيزران أم الرشيد في السنة 160 مليون فرنك وبلغت غلة يحيى وابنه جعفر في كل سنة 100 مليون جنيه وكانت تركة المنصور بعد موته 600 مليون فرنك من الفضة وسبعة ملايين جنيه من الذهب وكانت تركة يعقوب بن ليث الصفار خمسين مليون فرنك من الفضة ومليوني جنيه من الذهب وقدرت تركة المستكفي بخمسين مليوناً من الجنيهات وكانت تركة إبراهيم الموصلي مغني الرشيد 24 مليون فرنك وأوصى الرشيد إلى المأمون بألف مليون فرنك وكانت 600 بعير تحمل مطبخ عمرو بن ليث الصفار و800 بعير تحمل الماء كل يوم إلى طعام عائلة المقتفي العباسي من دجلة وكان لام المستعين فراش صرف عليه 60 مليوناً من الجنيهات عليه نقوش على شكل الحيوانات والطيور أبدانها من الذهب وعيونها من الجوهر وقد فاقت الدولة الإسلامية دول الأرض في الثروة وكانوا يظهرون أثار ذلك لسفراء الأجانب وهؤلاء كثيراً ما يستنصرون بدول الإسلام واخذوا الخراج من دول الروم والصين والنمسا والروس ولطالما كانت دول الإفرنج تتقرب بإرسال الهدايا والتحف إلى مقام الخلافة وأورد بعض الأمثلة التاريخية على كل ذلك. ثم أفاض في الذلة التي لحقت الإخلاف فرده إلى البطالة والتسامح وقلة عنايتنا بالعلم والدين مما عرفه الخاص والعام.
كتاب الشيعة وفنون الإسلام
تأليف السيد حسن الصدر طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331 ص150 مؤلف هذا الكتاب من كبار فقهاء الشيعة في العراق واحد مؤلفيهم ذكر فيه العلوم التي تقدمت الشيعة في وضعها وأول من وضع ذلك العلم ومن صنف فيه أو اخترع علماً من فروع ذلك العلم وصنف فيه أول من ابتكر معنى اتبع فيه وأول من افرد نوعاً من العلم في التصنيف إلى غير ذلك مما دل على بعد غور المؤلف وسعة مادته ولطف أسلوبه وإنا مع إجلالنا لعمله وتقدير التاريخ للخدم الجليلة التي قام بها علماء مذهبه في خدمة العلم والأدب لا نرى بداًً من إبداء ملاحظة عساها تقع من المؤلف وغيره في المحل الذي يجب أن توضع فيه وهو(85/78)
أن هذا الكتاب يحوي أماكن لا يقرها التاريخ الصحيح مثل نسبة التشيع إلى كثير من علماء الصدر الأول فان كان كل من يحب علياً كرم الله وجهه يعد في نظر المؤلف شيعياً فان جمهور المسلمين شيعة إلا قليلاً.
كنا نحب أن لا يشار إلى ذلك في هذا المكان ولكن المؤلف تحامل أيضا على عظماء في العلم والحكم كقوله في تقدم الشيعة في فن الجغرافيا في صدر الإسلام أن هشام بن محمد الكلبي صنف فيه عدة كتب ولم يذكر الحموي في معجم البلدان إلا كتاب سماه اشتقاق البلدان فقال أن ياقوتاً اغفل جملة من مصنفات علماء الشيعة في ذلك لو تعصب عليهم مع انه يستحيل التعصب على مثل صاحب معجم البلدان وان اتهم بأنه من النواصب ومصنفه في الجغرافيا لا في المذهب ولو ظفر ببقية كتب الكلبي ما تأخر ساعة عن الاقتباس منها والتنويه بفضل واضعها.
وقد تابع المؤلف مؤرخي الشيعة في اتهام المأمون رضي الله بقتل الفضل بن سهل وعلي بن موسى الرضا رضي الله عنه فقال: ولما نقل المأمون الخلافة إلى بني علي كان الفضل بن سهل هو القائم بهذا الأمر والمحسن له ولما رأى المأمون إنكار العباسيين لبغداد لذلك حتى خلعوه وبايعوا إبراهيم عمه قام وقعد ودس جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمام ثم قتل الإمام الرضا (ع) بالسم وكتب إلى بغداد أن الذي أنكرتموه من أمر علي بن موسى قد زال وكان ذلك سنة 204هـ -.
والعجب أن هذه القصة التي ما تزال يرددها بعضهم ليس لها اثر في كتب ثقات المؤرخين بل مؤرخي الأمة فكأنها من موضوعات القرون المتأخرة تتناقل لا يغار الصدور على المأمون ودولته مع انه لم يحسن احد للطالبين إحسان الخليفة المأمون ولم تتجرد نفس خليفة من الجمود المذهبي تجرده منه كما ذكر ذلك الثقات الذين يعتد بأقوالهم ويكاد يقع الإجماع على تصحيح رواياتهم. وكنا نود لو خلت الكتب العلمية العصرية على الأقل من هذه النزعات لتقريب ما بين القلوب.
الوساطة بين المتنبي وخصومه
لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني المتوفى سنة 396هـ - عني بنشره وشرحه الشيخ احمد عارف الزين طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331(85/79)
ص416.
لم يرزق شاعر عربي من الخطوة ما ناله أبو الطيب المتنبي بشعره ولم تتناول الأقلام شعر شاعر بالمدح والقدح مثله. وهذا الكتاب هو من الأمهات التي كتبت في ذاك العصر وعدل مؤلفها في حكمه على المتنبي وناهيك بمن يحكم له وعليه أمثال القاضي الجرجاني إنسان حدقة العلم ودرة تاج الأدب وفارس عسكر الشعب كما قال الثعالبي.
ولقد أجاد صديقنا صاحب العرفان بنشر هذا السفر النفيس كل الإجادة فإحياءه بالطبع منقولاً عن نسختين إحداهما عراقية والثانية مصرية وعلق عليه شروحا خفيفة تبين بعض الغوامض اللغوية منه وأتبعه بفهارس لأسماء الأعلام وللأبيات الشعرية وجود طبعه حتى جاء كأنه طبع على يد احد علماء المشرقيات من الغربيين ولم ينقص هذا العمل سوى الشكل فلو كان شكل محل الأشكال لجاء كتاباً تاماً من كل وجه وانتفع به الطلاب كما انتفع الأساتذة.
الكتاب مجموعة فوائد لغوية وأدبية وهو غاية الغايات في تعليم النقد ويكفي في الدلالة على مكانته من الدب ما قاله صاحب اليتيمة: ولما عمل صاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوئ المتنبي عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره فأحسن وأبدع وأطال وأطاب وأصاب شاكلة الصواب واستولى على الأمد في فصل الخطاب وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد فسار الكتاب مسير الرياح وطار في البلاد بغيرناح.(85/80)
العدد 86 - بتاريخ: 1 - 3 - 1914(/)
جزاء العلماء والأدباء
البشر سائر نحو الديمقراطية اليوم بعد اليوم في جميع ما فيه قوام الحياة المادية والمعنوية والعلم اليوم من جملة ما يخرج من قيود الارستقراطية والتيوقراطية والالغارشية إلى ساحة الديمقراطية الفسيحة لأنه أحق كل الأوضاع بان لا يكون عبداً أو مستعبداً لأحد.
كانت العرب على عهد حكوماتهم الراقية تحسن إلى العلماء والأدباء إحساناً لا يحتاج معه العالم والأديب إلى بذل ماء الوجه ليعيش فالوظائف كانت للعلماء وكم من قاضٍ أو عامل أو وزير خلف وهو في وظيفته مصنفات كثيرة ساعدته على البحث فيها وتوفير المواد النافعة لها ومنهم من لم يحبوا أن يشغلوا أوقاتهم في النظر في شؤون الناس وأحبوا الانقطاع إلى العلم بتة ومع هذا لم تفتأ الأمة تتعهدهم بما يصلح من شانهم ليتوفروا على الانصراف إلى ما اخذوا النفس به وما تقرؤوه في تضاعيف الكتب من أفضال بعض الملوك والأمراء والأغنياء على الشعراء ليس الباعث إليه حب المديح فقط بل تشجيع الأدب والأدباء ولذلك نرى كثيرين وقفوا في أبواب الكبراء ولكن لم نسمع بالعطايا الباهظة تقدم إلا للمجيدين في شعرهم المبرزين بأدبهم على الأغلب أما المتوسطون من العلماء والأدباء فكانوا يرزقون على نسبة عقولهم رجاء أن يكون من صفوفهم نوابغ يخلفون السابقين المبرزين.
اختلفت طرق إكرام العلماء فكان العظيم في دولة بني العباس يعطي العظيم من العلماء مبلغاً قد يستغني به أو يمنحه ضيعة أو يقوم بجميع نفقته طول العمر ويغنيه عن السؤال من احد أو يرزقه من عدة طرق كما وقع للزجاج وقد طلب منه المعتضد شرح كتاب جامع المنطق فعمل البتاني فاستحسنه المعتضد وأمر له بثلاثمائة دينار قال ابن النديم وتقدم إليه بتفسيره كله ولم يخرج لما عمله الزجاج نسخة إلى احد إلا إلى خزانة المعتضد وصار للزجاج بهذا السبب منزلة عظيمة وجعل له رزق في الندماء ورزق في الفقهاء ورزق في العلماء ثلاثمائة دينار. قلنا ومن العلماء من كانوا يرزقون عدة أرزاق لعلمهم ولإرادة الملوك ترفيههم وغناهم أي أن يأخذ رزقا أو راتباً في المهندسين ورزقا مع الفقهاء وأخر مع الأطباء وأخر مع الندماء.
ولما أنشأت المدرستان النظامية ثم المستنصرية (المقتبس م1ص268و571) في بغداد وكثرت المدارس في مصر والشام على عهد الدولتين الأيوبية والجركسية اخذ الواقفون(86/1)
يجعلون على تدريس تلك المدارس طبقة مختارة في الجملة من العلماء.
ومن العلماء من كانوا قيمين على المدارس ومنهم القيمون على خزائن الكتب ومنهم على المستشفيات والزوايا والمساجد والأوقاف والضياع السلطانية ومنهم القائمون على الأرصاد والمراصد والسفراء إلى الملوك المجاورة وكل هؤلاء كان يوسع عليهم في مشاهرتهم وإداراتهم.
أما الإفرنج في القرون الوسطى فكان المفضل على علمائهم باباواتهم وكرادلتهم وبطارقتهم وأسقافهم وقسوسهم ثم بعض المنورين من ملوكهم وأعيانهم فلما جاء الدور الحديث وأنشئت في الغرب المجامع العلمية والجمعيات المنوعة والكليات والمدارس العليا أصبح العلماء يأملون الرز من اللحاق ببعض هذه الأوضاع وكثير من جمعياتهم جعلت لها مبلغاً سنوياً خصته بمكافأة المجيد في فنه والواضع فيه كتاباً أو المخترع فيه اختراعاً وبعد أن كان أهل الخير في القرون الماضية يحبسون الأموال ويقفون الضياع والعقار على إقامة البيع والكنائس أصبحوا الآن يجعلونها على الجمعيات والنقابات والجامعات وقد كان لأغنياء أميركا الشمالية في ذلك القدح المعلى فأنشئوا بثرواتهم الطائلة يفضلون على المعاهد الخيرية لتتعهد هي الأفراد المستحقين من العلماء والباحثين المخترعين.
ومعظم العلماء والأدباء اليوم في الغرب يتكلمون في جلب معاشهم على قوتين ديمقراطيتين التأليف والتمثيل ساعد عليهما قوتان مهمتان انتشار الطباعة وكثرة المسارح 0وهاتان القوتان قائمتان ولا شك بإقبال الجمهور المتعلم فمن وفق إلى أن يصادف كتابه ومقالته أو قصيدته أو قصته إقبالاً من الناس يشتهر ومتى اشتهر فهناك المجد الأثيل والمال الجزيل وأنت ترى أن المجتمع العربي كان محروما من قوتين الطباعة والتمثيل ولذلك كان المتعلمون فيه أقل مما هم في المجتمع الغربي لعهدنا وكانت قوة الظهر عند العلماء الأمراء والأغنياء والنابغة منهم كان على ثقة من أنه يحيا بتأليفه في حياته ومماته حياة مادية ومعنوية.
قال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ إلك بالبصرة ضيعة فتبسم وقال: (إنما أنا وجارية وجارية تخدمها وخادم وحمار. أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك الزيات). فأعطاني خمسة ألاف دينار وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى ابن أبي داؤد فأعطاني خمسة(86/2)
ألاف دينار وأهديت كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاني خمسة ألاف دينار فانصرفت إلى البصرة ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد وكان أبو عبيد القاسم بن سلام إذا ألف كتابا حمله إلى عبد الله بن طاهر فيعطيه مالاً خطيراً فلما صنف غريب الحديث إهداء إليه فقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لتحقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش وأجرى له في ك شهر عشرة ألاف درهم. وروى انه قال عملت كتاب غريب المصنف في ثلاثين سنة وجئت به إلى عبد الله بن طاهر فأمر لي بألف دينار. وسير أبو دلف القاسم بن عيسى إلى عبد الله ابن طاهر يستهدي منه أبا عبيد مدة شهرين فأنفذه فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل لا يحوجني إلى غيره فلما عاد أمر له ابن طاهر بثلاثين ألف دينار فاشترى بها سلاحاً وجعله للثغر.
قال أبو العباس احمد بن يحيى قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدث في حياة أبيه يريد الحج فنزل في دار اسحق بن إبراهيم فوجه اسحق إلى العلماء فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم فحضر أصحاب الحديث والفقه واحضر ابن الإعرابي وأبو نصر صاحب الأصمعي ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد فغضب اسحق من قوله ورسالته وكان عبد الله بن طاهر يجري له في الشهر ألفي درهم فقطع عنه الرزق وكتب إلى عبد الله بالخبر فكتب إليه عبد الله قد صدق أبو عبيد في قوله وقد أضعفت له الرزق من اجل فعله فأعطه فائته وادر عليه بعد ذلك ما يستحقه.
ولقد نزل أبو الجيش الموفق مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس بعد الفتنة الجزائر التي شرقي الأندلس وهي دانية ومنورقة فغلب عليها وحماها وقصد سردانية وكان من الكرماء على العلماء كما قال ياقوت يبذل لهم الرغائب خصوصاً على القراء حتى صارت دانية معدن القراء بالغرب وهو الذي بذل لأبي غالب تمام بن غالب ألف دينار ليزيد اسمه في ديباجة كتابه فلم يفعل. قال ياقوت (معجم الأدباء) ولتمام تلقيح كتاب العين في اللغة لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وله فيه قصة تدل على فضله وذلك أن الأمير أبا الجيش مجاهد بن عبد الله العامري وهو احد المتغلبين على تلك(86/3)
النواحي وجه إلى أبي غالب هذا أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد فرد الدنانير ولم يفعل وقال: والله لو بذل لي ملا الدنيا ما فعلت ولا استجزت الكذب فاني لم اجمعه له خاصة لكن لكل طالب عامة. قال الحميدي فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها وأعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. قال المقري إن مجاهد ملك دالية بذل لأبي الغالب اللغوي هذا ألف دينار ومركوباً وكساء على أن يجعل الكتاب باسمه فلم يقبل ذلك أبو الغالب وقال: كتاب الفته لينتفع به الناس واخلد فيه همتي اجعل في صدره اسم غيري واصرف الفخر له لا افعل ذلك فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته واضعف له العطاء وقال هو في حل من أن يذكرني فيه لا نصده عن غرضه.
وهكذا كنت ترى كثيرا من العلماء يأبون على ضيق ذات بدهم أن يأخذوا شيئاً على تأليفهم كما فعل أبو الريحان البيروني الفيلسوف فانه لما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه ورفض العادة في الاستغناء به. أما الشيخ الرئيس ابن سينا الفيلسوف فما كان يستنكف على جلالة قدره العلمي من أن يقدم احد كتبه لأحد أمراء عصره بل انه كان من جملة ندماء علاء الدولة صاحب همدان.
ومن العلماء من كانت تبلغ بهم العفة درجة الغلو فقد حكا بعضهم عن أبي العباس ابن الرومية النباتي الأندلسي انه كان جالساً في دكانه باشبيلية يبيع الحشائش وينسخ فاجتاز الأمير أبو عبد الله بن هود سلطان الأندلس فسلم عليه فرد عليه السلام واشتغل بنسخه ولم يرفع إليه رأسه فبقى واقفاً منتظراً أن يرفع إليه رأسه ساعة طويلة فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى. قاله المقري في نفح الطيب.
ومثل ذلك ما وقع الفيلسوف الرياضي أبو علي ابن الهيثم فانه وزر في البصرة لأول أمره ثم أحب التجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم قال ابن أبي أصيبعة فاطهر خبالاً في عقله وتغيراً في تصوره وبقي كذلك مدة حتى مكن من تبطيل الخدمة وصرف من النظر الذي كان في يده ثم انه سافر إلى ديار مصر وأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر بها وكان يكتب في كل سنة إقليدس والمجسطي ويبيعهما ويقتات من ذلك الثمن ولم تزل هذه(86/4)
حاله حتى توفي. وذكر يوسف الفاسي الإسرائيلي الحكيم بحلب قال: سمعت أن ابن الهيثم يقول كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب في ضمن اشتغاله وهي إقليدس والمتوسطات والمجسطي ويستكملها في مدة السنة فذا شرع في نسخها جاءه من يعطيه فيها مائة وخمسين ديناراً مصرياً وصار ذلك كالرسم الذي لا يحتاج فيه إلى مواكسة ولا معاودة قول فيجعلها مؤنة لسنته.
ولقد كنت تجد في كل صقع من أصقاع العرب ملوكاً واقيالاً وأمراء ووزراء احيوا دولة العلم والأدب بحسناتهم مثل الوزيرين ابن عباد وابن العميد في بغداد وبني عباد في الأندلس الذين يقول فيهم ابن حزم أن الأيام لم تزل بهم كأعياد وكان لهم من الحنو على الأدب ما لم يقم به بنو حمدان في حلب وكانوا هم ووزرائهم صدوراً في بلاغتي النظم والنثر مشاركين في فنون العلم وآثارهم مذكورة وأخبارهم مشهورة.
نعم تساوت في الرفد للعلماء دولة الشرق العباسية البغدادية ودولة الغرب الأموية الأندلسية. أراد الحكم الربضي ذات يوم في قرطبة أن يقدم شخصا من الفقهاء يختص به للشهادة فاخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن يكون في هذه الحالة لا نؤمنه على حقوق المسلمين لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك ولما شكا إلى ولده عبد الرحمن قائلاً ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط بل لا يعيبهم ولا هو مما يزروهم صدونا عنه وأغلقوا أبواب الشفاعة وذكر له ما كان منهم قال لوالده: يا مولاي أنت أولى الناس بالإنصاف أن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم إنما قدمهم ونوه بهم علمهم أو كنت تأخذ قوماً جهالة فتضعهم مواضعهم قال: فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة قال: صدقت. فلم يجد الخليفة بداً من إعطاء ذاك الفقيه ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى فنبه قدره بان أعطاه من اصطبله مركوباً وكانت هذه أكرومة لإخفاء بعظمها. يفنى الزمان وما بنته مخلد.
ولو جئنا نعدد المؤلفين الذين أهدوا للعظماء تأليفهم فأجزل هؤلاء لهم العطايا لطال بنا نفس الكلام فمنهم محمد بن يوسف الوراق ألف للمستنصر في مسالك افريقية وممالكها ديواناً ضخماً ومنهم الشريف الإدريسي الذي ألف لروجار صاحب صقيلية كتابه في الجغرافية(86/5)
أيضا ومنهم ابن السيد البطليوسي ألف باسم عبد السلام الملقب بسحنون. وأهدى أبو علي القالي أماليه للحكم عبد الرحمن بن محمد ولي عهد المسلمين في الأندلس وأهدى ابن خلدون تاريخه إلى أبي الحسن بن مرين من ملوك الأندلس. وألف أبو منصور الثعالبي كتاب فقه اللغة باسم أبي الفضل الميكالي وأهدى أبو الحسن بن رشيق كتاب العمدة لأبي الحسن علي بن أبي الرجال الكاتب.
حكا (عن تاريخ الوزراء) محمد بن ناصح الاهوازي قال حدثني النضر بن شميل المازني قال: كنت ادخل على المأمون في سمرة فدخلت عليه ذات ليلة وعلي قميص مرقوع فقال: يا نضر ما هذا القشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحر ومر شديد فاتبرد بهذه الخلقان فقال: ولكنك قشف ثم أجرينا الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن العباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان سداد من عوز فأورده بفتح السين قال فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هشيم حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد (بالكسر) من عوز قال وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: يا نضر كيف قلت سداد قلت: نعم لان السداد: هنا لحن قال: أو تلحنني قلت: إنما لحن هشيم وكان لحاناً. فتبع أمير المؤمنين لفظه قال: فما الفرق بينهما قلت: السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل والسداد بالكسر البلغة وكلما سددت به شيئاً فهو سداد قال: أو تعرف العرب ذلك قلت: نعم هذا العرجي يقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال المأمون قبح الله تعالى من لا أدب له واطرق ملياً ثم قال: مالك يا نضر قلت: اريضة لي بمرو اتصابها واتمززها أي اشرب صبابتها قال: أفلا أفيدك مالاً معها قلت: إني إلى ذلك لمحتاج قال: فاخذ القرطاس وأنا لا ادري ما يكتب ثم قال: كيف تقول إذا أمرت من أن يترب الكتاب قلت: أتربه قال: فهو ماذا قلت: فهو مترب قال: فمن الطين قلت: طنه. قال: فما هو قلت: مطين قال: هذه أحسن من الأولى ثم قال: يا غلام أتربه وطنه ثم صلى بنا العشاء وقال: لخادمه تبلغ معه إلى الفضل بن سهل قال: فلما قرأ الفضل بن سهل(86/6)
الكتاب قال: يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم اكذب فقال: لحنت أمير المؤمنين قلت: كلا إنما لحن هشيم وكان فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار ثم أمر لي الفضل من خاصته بثلاثين ألف درهم فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني.
قال أبو بريد الوضاحي: أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار ووكل بها جواري وخدماً للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلوات وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين فكان الوراقون يكتبون حتى صنف الحدود وأمر المأمون بكتبه في الخزائن فبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ يملي كتاب المعاني وكان وراقيه سلمة وأبو نصر قال: فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم تضبط فلما فرغ من إملاءه خزنه الوراقون عن الناس ليكتسبوا به وقالوا: لا تخرجه إلى احد إلا لمن أراد أن ننسخه له على أن كل خمس أوراق بدرهم فشكا الناس إلى الفراء فجعا الوراقين فقال لهم في ذلك: فقالوا: نحن إنما صحبناك لننتفع بك وكلما صنعته فليس بالناس إليه حاجة ما بهم إلى هذا الكتاب فدعنا نعيش به فقال: قاربوهم تنفعوا وتنتفعوا فأبوا عليه فقال: سأريكم وقال للناس: إني أريد أن أملي كتاب معانٍ أتم شرحاً وابسط قولاً من الذي أمليت فجلس يملي وأملى في الحمد مائة ورقة فجاء الوراقون إليه فقالوا نحن نبلغ الناس ما يحبون فنفسخ كل عشر أوراق بدرهم.
ومثل ذلك في اقتراح الملوك على العلماء تأليف يؤلفونها ما وقع لابن الصفار الأندلسي لما أراد الحكم المستنصر غزو الروم سنة 352 فتقدم إليه وكان مشهوراً بالعلم والأدب بالكون في صحبته فاعتذر بضعف في جسمه فقال المستنصر لأحمد بن نصر قل له: إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق وبالأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفته من الغزاة فخرج احمد بن نصر إليه بذلك فقال: افعل ذلك يا أمير المؤمنين إن شاء الله قال فقال المستنصر: إن شاء أن يكون تأليفه في منزله فذلك إليه وإن شاء أن يكون في دار الملك المطلة على النهر فذلك له قال: فسأل أن يكون ذلك في دار الملك وقال: أنا رجل مورود في منزلي وانفرادي في دار الملك لهذه الخدمة اقطع لكل شغل(86/7)
فأجيب إلى ذلك وكمل الكتاب في مجلد صالح وخرج به احمد بن نصر إلى الحكم المستنصر فلقيه بالمجلد بطليطلة فسر الحكم به. والله اعلم كم أعطاه مكافأة عن تعبه.
قال ابن المعتز في طبقات الشعراء: أجود ما قاله مروان بن أبي حفصة قصيدته الغراء اللامية التي فضل بها على شعراء زمانه يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني ويقال انه اخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره ولم ينل احد من الشعراء الماضيين ما ناله مروان بشعره فمما ناله ضربة واحدة ثلاثمائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد ويقرب من ذلك ما ناله أبو الطيب المتنبي من مكارم سيف الدولة بن حمدان فانه اغتنى بشعره ولا اغتناء زولا وروستاند وغيرهما من أدباء الفرنجة لعهدنا.
وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي
حكا ابن جلجل أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب صنف لمنصور بن اسحق ابن احمد بن نوح من ولد بهرام جور صاحب كرمان وخراسان كتاباً في إثبات صناعة الكيمياء وقصده به بغداد (وكان بنو سامان يحبون العلم ويكرمون العلماء) فدفع له الكتاب فأعجبه وشكره عليه وحباه بألف دينار وقال له أردت أن تخرج هذا الذي ذكرته في الكتاب إلى الفعل فقال له الرازي: إن ذلك مما يتمنون له المؤن ويحتاج إلى آلات وعقاقير صحيحة والى إحكام صنعه ذلك كله وكل ذلك كلفة فقال له منصور: كل ما احتجت إليه من الآلات ومما يليق بالصناعة احضره لك كاملاً حتى تخرج ما ضمنته كتابك إلى العمل فلما حقق عليه ذلك كاع من مباشرة ذلك وعجز عن عمله فقال المنصور: وما اعتقدت أن حكيماً يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل قلوب الناس بها ويتعبهم فيما لا يعود عليهم من ذلك منفعة ثم قال له قد كافأناك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب فجمل السوط على رأسه ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى ينقطع ثم جهزه وسير به إلى بغداد فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء في عينيه.
هذه أمثلة قليلة مما كانت عليه حالة العلماء والأدباء في عصور ارتقاء العرب على أن الحال لم تكن تخلو من بائسين ومفلوكين (راجع الفلاكة والمفلوكين للدلجي) من العالمين(86/8)
والمتأدبين أما اليوم فان العالم الحقيقي الذي تعزف نفسه عن الدخول في سلك عمال الحكومة كالوظائف العلمية والإدارية والجندية والمالية إما أن يهلك جوعاً أو يتكسب بقلمه ما هو سداد عوز ويرضى بميسور العيش وفي الغالب إن التأليف لا تعول صاحبها ولو مهما جودها وانفق السنين في تصنيفها ولا يرمج لجهل القوم من المصنفات إلا التافه الحقير كبعض القصص والدواوين الشعرية البذيئة وغير ذلك من المعربات فهل يأتي على الأمة العربية يوم يا ترى تكون فيها التأليف ديمقراطية صرفة لا تحتاج إلا إلى إقبال القراء عليها حتى تغني أبا عذرها وترباً بنفسه عن الإسفاف للدنايا طمعاً في المال والنوال فانا في عصر لا يصح أن يعيش العلماء والأدباء مقتراً عليهم فإنهم كلما رزقوا حظاً من الرفاهية المعتدلة تجود تأليفهم وتصوراتهم ويزيد النفع ببنات أفكارهم.(86/9)
في ديار الغرب
نهضة ايطاليا
ايطاليا القديمة
كنت أحب أن اسطر قبل الآن ما اعرفه وعرفته عن النهضة الايطالية إلا أنني انتطرت ريثما قضيت شهراً في هذه الشبه الجزيرة ورأيتها إجمالاً من جنوبها إلى شمالها وقد اعتمدت فيما اكتب على من وقعت لي معهم تعارف من خاصة الطليان أو ما قرأته بأقلام الطليان بالفرنسية أو ما كتبه الفرنسيين عن الطليان وهو وان لم يكن مجموعاً صحيحاً من كل الوجوه لكنه اقرب إلى الصحة من كثير من الأحكام التي يصدرها صاحبها عفو القريحة وبادئ الرأي.
وكنت أود لوسمح لي الزمان بتعلم مبادئ من لغة الطليان الرقيقة لأخاطب العامة كما أخاطب الخاصة بلغتهم نفسها واسمع تصوراتهم والقي عليهم الأسئلة وادرس أحوالهم بالنفس ولكن المدة التي قضيتها لا تكفي لان يتعلم المرء القدر الكافي للتفاهم بهذه اللغة مع قربها جداً من الفرنسية ولولا الخوف من علماء أصول اللغات لقلت أن الايطالية تحريف الفرنسية أو هذه تحريف تلك.
ثبت كل الثبوت بعد الرحلة إلى ايطاليا أن مسالة اللغة من أهم المعضلات الاجتماعية التي يصعب حلها إلا بان يتعلم المشتغل بالعلم والتجارة عدة لغات من اللغات الحية كما يفعل الغربيين اليوم وان العامة أيضاً لأغنية لهم عن تعلم مبادئ طفيفة من لغة راقية منتشرة وان من كان يبيع منا أفكاره الصائبة بان الموظف يستطيع أن يحكم في لد لا يفهم لغة أهله وان التاجر يستطيع بواسطة الترجمان أن ينفق سلعته ويربح ويستفيد من كان لم تكن أفكاره أرقى من انفه إذ لم يستند فيها إلى تجارب ولا إلى تاريخ واجتماع.
وها نحن نتكلم على نهضة ايطاليا فنقول: قضى مركز ايطاليا الجغرافي أن تكون في الأزمنة القديمة مركزاً عظيماً من مراكز المدينة لتوسطها بين الشرق والغرب وكانت رومية نقطة هذا الاتصال وواسطة هذا العقد منذ قام الرومان الأول واخذوا يدوخون الأمم والشعوب لسلطانهم. ولما وضع الشعب اللاتيني أول جسر على نهر التبر وهو نهر رومية المقدس ومن اكبر انهار ايطاليا أصبحت رومية مطمح الأنظار وصار هذا الجسر الذي كان(86/10)
بناؤه اقرب إلى الفطرة مما يستهوي قلوب شعوب الشمال للإغارة عليه لان منه يخلص المرء إلى ساحل البحر المتوسط على أيسر سبيل. ولما دفع اللاتينيون عن جسرهم غارات الاتروكسين واليونان أصبح مقدساً ومن ملكه كان هو الزعيم بلا مدافع.
تمثلت بالقرب من هذا النهر ثلاثة مطالب أساسية للمرء والمجتمع وهي ضمانة الحياة المادية وموافقة الحياة الأدبية والصعود إلى الحياة العقلية بمعنى أن المرء يعيش ويحب ويعرف وان يكون في المجتمع قانون ودين وعلم.
قارب الرومان القدماء هذه المظاهر الثلاثة ولكن الحياة المادية كانت أتم عندهم لأنهم محاطون بأعداء إن لم يحاربوهم بالمادة يهلكون لا محالة. وكانت الحياة العقلية في كثير من ادهارهم تامة بالنسبة لتلك الآباء ونظام الأسرة ثابت الدعائم وحب الجندية مغروساً فيهم حتى كان الوالد يقدم ولده للخدمة العسكرية في السادسة عشرة ليعفى منها في السادسة والأربعين وعلى قلة عدد السكان إذ ذاك وهو كما قال المؤرخون (150) ألف نسمة في رومية وذلك قبل المسيح بخمسة قرون في ارض ذرعها 450 ميلاً مربعاً كان للرومان جيش مؤلف من ثلاثين إلى أربعين ألف نسمة يخرجون بهم من فتح إلى فتح.
وكان الرومان إذا فتحوا بلاداً يقبلون في الحال ما يتراءى لهم حسناً من عادات أهلها وصناعاتهم وأسلحتهم وهذا سر وضع القانون الروماني الذي هو ابن الأوضاع الكثيرة وسليل شعوب عدة ألاف في قرون وتعاورته الأيدي بالشرح والتذليل والإنقاص حتى أصبح دليل الحكمة الرومانية بل هو مجلة الحقوق الإنسانية التي لا تتغير. وكانت تلك الحروب الرومانية من مجددات حياتها وحماستها الوطنية حتى لقد قال ليكورك الخطيب الأثيني ليس أحسن عاملاً من الحرب في تقوية الشعب لأنها تعلمه احتقار الأخطار والإخلاص لسلامة غيره ولأسرته ووطنه.
ولما تخلص الرومان من السيزيلبيين كاد القرطاجنيون أن يهلكوهم فظفر الرومان بهم وورثت رومية مجد قرطاجية التي سقطت بعد الحروب البونيكية وقضت رومية على انيبال القرطاجني الذي جاء وهددها في عقر دارها وكان فتح الرومان لمصر وكثير من أقطار أسيا ومنها الشام من اكبر دواعي قوتهم فجلبوه به ثروة واعلاقاً نفيسة وكان من أكثر المشوقات للعسكر الذي أخذت رومية تستخدمه بالأجرة إن كان يعطى له شيء من الأنفال(86/11)
والغنائم لا كما كان في القديم يستأثر بها الزعيم أو رب الأسرة.
ولما جعلت رومية بلاد اليونان ولاية رومانية أخذت عنها الذوق في الفنون الجميلة وكلما كان الرومان يجابون من كورنت وأثينا أثراً من أثار الهندسة والنقش والجواهر كانت تتربى أذواقهم ولم يكتفوا بالآثار بل جلبوا معها مؤثريها من مثل الخطباء والسفسطائيين من الحكماء فأصبح للخطابة شان مهم في الحياة العامة وصار ملعب الفووم المشهور الباقية إلى اليوم آثاره عكاظ الرومان يخطبون فيه ويتناقشون واخذوا يبعثون بفتيانهم إلى أثينا يتعلمون على حكماء الوقت إذ ذاك ما ينفعهم ثم هاجر كثير من العلماء الاثنين إلى رومية وانشئوا يعلمون كل طالب وبلغت النهضة أشدها على عهد الإمبراطور أغسطس وسقطت بعده بقليل شان أكثر مدنيات العصور السالفة كانت من عمل حاكم أو أمير أو بضعة حكام ثم يتناسى الأمر ويزهد فيه.
جاءت أزمان ادخل فيها اليونان على الرومان أموراً أضعفت من سلطة الوالد على أولاده وتركت الحياة الجندية وأخذت الشبه والشكوك تسري إلى العقول وكثرت الموبقات بكثرة الرفاهية فكان بذلك انهيار ذاك البناء وخراب العالم الروماني فقضي على رومية وذهبت تلك المدينة كما ضعفت في النفوس آثار الوثنية واخذ الاضطراب يدخل في نظام تلك الحضارة ويبعثرها وكثر الانتحار واليأس من الحياة ومن لم يحبوا الانتحار يؤثرون العزلة وسرى اليأس من الطبقة الممتازة والأغنياء إلى البائسين والخدمة ولما كانت الحال على ذلك والنفوس تضيق من هذه المظاهر جاءت النصرانية على أنقاض المدينة الرومانية وكان لها من النساء اكبر عون على الانتشار فرأى فيها من دانوا بها عزاء لهم وسلوى. والدين وازع قوي في الدنيا والآخرة.
اضطهد القائمون بالدعوة الدينية أيضاً أمثال نيرون يظلم ولا يبقي على احد وبينما كان يحرق المتنصرين أحياء ليضيء بهم حدائق الفاتيكان كنت ترى أولئك المتنصرين يذهبون إلى الحرق باسمين لاعتقادهم بان في العالم الآخرة حياة سامية لا يخيب من قضى في سبيلها. وكلما كانت الشدة تنال أولئك المضطهدين كنت ترى أشباههم يكثرون.
وكان النزاع بين الإمبراطورية الرومانية والدين المسيحي من أعظم ما ذكره التاريخ حتى دان الإمبراطور قسطنطين بالدين الجديد فكان من انتشار الدين بعد الوثنية منافع مهمة في(86/12)
البلاد خصوصاً والدين اخذ يوافق ميول المتدينين به وحاجاتهم. توطد أمر ايطاليا بعد ذلك وأخذت تقطع أشواطاً في سبيل جمع شملها وتتناسى ما نالها في سبيل انتشار النصرانية التي عمت ايطاليا. وبينا الأمر على ذلك كان برابرة الشمال يتجمعون ليغزوا ايطاليا للاستفادة من مادياتها وقد أهلكهم الجوع ولم يكن لرومية طاقة بدفعهم فجاءوا يغشون العالم المتمدن ولكن من أولئك البرابرة من لم يلبثوا أن دانوا بالدين الجديد وتطوعوا بالدعوة إليه في القاصية بيد أنهم لنقص فيهم حرفوا ما تلقنوه ولم يعملوا بتعاليمه فاتوا مظالم كثيرة حتى اضطر الباباوات أن يجعلوا لهم سلطة مدنية فعمدوا إلى القوة علماً منهم بان سلطان الروح لا يؤثر كثيراً إن لم يكن وراءه سلطان القوة.
وهذا كان مبدأ مزج الدين بالسياسة خصوصاً على عهد شارلمان وليون الثالث وهما الملكان اللذان حاولا هذا المزج وحرصاً عليه ثم كثرت البدع والإلحاد وقاومها الباباوات بالشدة وان جاء من هؤلاء أنفسهم من لم تحمد سيرتهم أحياناً.
ولقد كانت ايطاليا خلال القرون الوسطى ميدان العراك بين الباباوية والإمبراطورية فنتج عن ذلك تمازج بين العناصر المختلفة في الغرب ثم جاءت الحروب الصليبية على الشرق وكان الدافع إليها دينيا ثم انتهت بالماديات وبعد ألف سنة للمسيح حدثت حوادث غيرت معالم العالم الغربي وكانت الدواعي إلى الحماسة الدينية حب الظهور والإتيان بالغرائب ولاسيما في نفوس العامة والزعماء من الأمراء. ولكن حرب المسلمين قرنين باستعادة الأرض المقدسة لم ينتج منه إلا أن جمهوريات ايطاليا أصبح لها مكاتب تجارية على شواطئ البحر المتوسط وباختلاط ايطاليا بل أوروبا بالمدينة الشرقية البديعة عاد إلى الغرب شيء من الحياة أصيبت به الصناعة والآداب وكان اثر الحروب الصليبية في ايطاليا اثر تقاليد اليونان المغلوبين على أمرهم في مدينة روميا.
ايطاليا في القرون الوسطى
جاء عهدان على روميا طمحت فيهما إلى أن تحكم العالم فالأول على عهد عظمة قياصرة الرومان وقد تم لها ذلك بعض الشيء والثاني على عهد التحمس الديني وبلوغ سلطة الباباوات حدها. وكان من اثر الحروب الصليبية ورؤية القوم للفنون القديمة البيزنطية والمغربية أن تمت لهم مقدمات النهضة الأولى. ثم إن المقاطعات تحررت من سلطة من(86/13)
كانوا يرهقونها من أمرها عسرا فأخذت تتنافس في إقامة الأبراج وتحب كل منها أن تكون كنيستها أوسع وأكثر بهجة واغني وخطيبها أشهر ومتفنن أشهر. وأنشأت تبحث عن الرجل الذي يكون اقدر من غيره على التغني بأمجادها في أشعاره وتعظيم أعمالها الصناعية وبدائع النقش والرسم. وبفضل هذه المباراة اغتنت المدن والقرى من معاهد البديعة فكنت ترى الكنائس الكاتدرائية في كل مكان تناطح الجوزاء والقصور تسمو من الأرض إلى الأجواء.
وانتشر في شبه جزيرة ايطاليا ميل حقيقي للجمال فحدث منه ازدهار الفنون التي لم تزل تيهرنا إلى اليوم فكان هذا العهد مناسبا لتكوين أعاظم الرجال ليستطيعوا أن يحثوا أعمالا غريبة باقية وكان للقديسة كاترين ديسين والقديس توما دي أكيك والقديس فرانسوا داسيز في القرنين الثالث عشر والرابع عشر اثر يذكر في السياسة والعلم فكانت هذه النهضة الايطالية الأولى متشبعة بالفكر الديني إلا أنها كانت تحوي في مطاويها بذورا انبتت بعد النهضة الثانية.
وقام على الأثر الشاعر دانتي الايطالي واضع أساس اللغة الايطالية الحديثة واخذ ينادي في شعره ونثره بفصل السلطتين المدنية عن الدينية. ينطق في ذلك بلسان طبقة كبيرة في عصره فلم يكد يصرخ صرخاته حتى جاوبه على الأثر أرباب الأفكار الحديثة ممن اخذوا ينزعون ربقة الدين بل ينحون على جوهره. وكان في هذا القرن أناس من أرباب الفنون الجميلة يؤمنون بما يصورون ويريدون به خدمة الدين ومنهم من كانوا يصورون وينقشون حبا بالمجد والشرف والمال خصوصا وهم يرون كم كانت أسرة ميدسيس إذ ذاك تغدق الهبات على أرباب تلك الصنائع. حتى لقد قيل أن رافاييل المصور رفض انيكون بابا واثر العمل بالتصوير. وهذا العصر يسمونه بعصر ليون العاشر الذي كان من أكرم الباباوات وأكثرهم علما وعصره كعصر أغسطس قام فيه أرباب الأفكار الحديثة واخذوا يشرون من طرف خفي بتحكيم العقل في المسائل فأصبح أهل العلم والأدب مرغوبا فيهم أكثر مما يرغب في الأمراء. وساعدهم اختراع الطباعة إذ ذاك فاخذوا يبثون أفكارهم في روح القوم على صور مختلفة حتى غدا أمثال بوج وفيللف وارتين الحاكمين المتحكمين بالافكار في عصرهم يصرفونها كما يشاءون.(86/14)
في ذاك العهد أيضا نشا للطليان أمثال المؤلف لورانزو فالا فخدم الآداب والتاريخ والخطابة والفلسفة خدما تذكر له على الدهر ومثله جيوردانوبرنو الذي احرق بأفكاره الفلسفية وكان عالما كاتبا مؤثرا وبينا كانت الأفكار تتمخض على هذه الصورة قامت حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ومنشئها من بيع الغفرانات واستئثار الباباوات بالسلطة المركزية يريدون أن يتم كل شيء في رومية في الأمر الدينية والملوك يريدون من حيث السياسة أن ينزعوا هذا العبء الثقيل عنهم والتخفيف من وطأة الارتباط بالمقام البابوي والفلاسفة والأدباء يريدون أن يحرروا العقل من قيوده وكلما كان المجتمع يدخل في طور الكمال كانت الحالة تستدعي تقسيما اكبر في العمل وتوجيه المناحي وجهاتها حتى أن أكثر من واحد من المتدينين جدا قد طلبوا التفريق بين السلطتين وبعد شؤون وشجون انفصلت ألمانيا وانجلترا عن روميا.
كان العلم في أواخر القرن السادس عشر قليلا وقام أمثال غاليلة الذي قال بدوران الشمس حول الأرض فوذي لما نادى باراه العلمية وأن التجربة هي الشرط الضروري في تحقيق المسائل العلمية وقد طبق ليونارد في عقله العجيب هذا الأسلوب على جميع المسائل المبحوث فيها واخذ مكيافيللي واضع فن سياسة الخداع يتشبع بها في كتبه السياسية وكما كان الشاعر دانتي يطالب بضرورة فصل السلطة المادية عن الدينية كان العالم غليلة يثبت بان العالم العلمي يجب أن يكون منفصلا ومستقلا على الاعتقاد الديني وهكذا لم يبرح غاليلة يؤكد مع شدة احترامه للدين أن العلم أمران مختلفان ليس بينهما تناقض ولا ارتباط. ويرى أن الكنيسة هي الحاكمة في المسائل الدينية وليس لها أجنى سلطة في المسائل العلمية وينبغي لها أن تحاذر من الحكم في مسائل هي غريبة عنها تماما.
رأت الكنيسة بعد عصر دانتي أن تحافظ على كيانها الأساسي بالقوة وأرادت ابعث غاليلة أن تحافظ على كيانها العلمي بالتعليم خصوصا يعد أن شاهدت النتائج التي تمت على أيدي اليسوعيين باتخاذهم العلم آلة للدين. واتحدت الكنيسة مع الأمراء وأخذت تلقم الناس الطاعة والخضوع فلم تحدث بعد ذلك ثورات وامن الناس ولكن ظهر بعد قرنين من انتشار الإصلاح الديني بقيام لوثيروس ونزع ألمانيا وانجلترا من الكنيسة الكاثوليكية أن الانحطاط اخذ يبدو على الشعوب التي ظلت كاثوليكية على اختلاف في عناصرهم ومناخ بلادهم(86/15)
وأحوالهم الاجتماعية والسياسية وذلك لان التعليم كان محدودا عند هؤلاء الشعوب ومقصورا على بعض الطبقات والعدل فيه شدة وضعف والطاعة أبدا يرغب فيه فقلت في هذه الشعوب القوة المبدعة على أن الرفاه المادي كان مضمونا بما انشأ فيها من المعاهد الخيرية ولكن كل ذلك لم يخرج الشعب عن حالة التنبيت والتراجع.
وعلى عهد مل هذه الإدارة ينزل ميزان العقل من كل وجه فقد أمست الصناعات والآداب والعلوم لا ترتقي إلا ببطء حتى أن الشاعر كيودي المتوفى سنة 1712 من أعظم شعراء ذاك القرن كان يتغنى بمدح عصره معرضا بالجفاء البربري الذي كان يشاهد من خلال إهمال قبائل رومية القديمة الذين لم يكونوا يحلمون إلا بفتح العالم. ومن حسن الحظ أن ايطاليا لم تعد في ذلك الدور أناسا ينهضون هنا وهناك يثيرون العواطف وينادون قومهم بان ما هم فيه باطل لا بد له من التجديد وان هذا العالم ليس عالم الأموات. فقام بتروميكا بالدفاع عن تورينو وقام فيليكايا يتغنى باغانيه الحربية لينبه سكان هذه الشبه الجزيرة المتخدرة ونهض الأمير اوجين دي سافوا يحمل أمجاد الحرب والسياسة واخذ كاريا يقيم الحجة على فظائع المحاكم وقام غيره بأعمال كثيرة نبهوا فيها العقول من رقادها ما أمكن.
ايطاليا في القرن الحديثة
بينا كانت ايطاليا غارقة في هذا السبات كانت أفكار غاليلة قد وصلت إلى انكلترا فتلقاها الفيلسوف باكون وعادت إلى ايطاليا منعكسة من طريق فرنسا في كتابات الفيلسوف ديدو وأخذت السلطة الدينية تضعف أمام حقوق العقل وجاء انتشار دائرة المعارف سنة (1751_1772) فاحدث حركة في أهل الطبقة المستنيرة وساعد فيها أهل الطبقة الوسطى من لفرنسيس أملين أن يروا منها سلاحا يحاربون به رجال الكهنوت والإشراف إما العامة فقد استعملوها واسطة للإرهاب. وقد كفت فرنسا ثلاثون سنة حتى تأتي أفكار دائرة المعارف بعملها في التخريب وذلك لان فرنسا كانت مستعدة أكثر من كل امة لقبولها لان السلطة كانت فيها على اشد ما تكون ثم أن صلاتها مع الشعوب البروتستانتية كانت مستحكمة العرى أكثر من غيرها.
فكانت ألفاظ الحرية المساواة الإخاء يؤثر السياسية. الأعظم من القوم فتدفعهم إلى الإعمال الخارقة في باب الرجولية ولما ظفرت جيوش الفاتحين من لفرنسيس بفتح شبه جزيرة(86/16)
ايطاليا 1796 كانت حالة الأفكار في فرنسا مخالفة كل المخالفة لحالتها في ايطاليا ففي الأولى مضاء واعتماد على النفس وفي الثانية ضعف وخضوع ولذلك كان الأمراء يهزمون من وجه الجيوش الفرنسية على صورة بشعة بل ربما ركبوا عار الفرار قبل أن تحتل بلادهم فلما استحكمت سلطة لفرنسيس في ايطاليا قلبوا كثيرا من أوضاعها باسم الحرية ووضعوا لها القانون الفرنسي لايطاليا في أوائل القرن التاسع عشر قد نبهها من ثباتها العميق وحدا بها أن تعقد مع سائر أوروبا الممدنة علائق ولم يفهم العامة من الطليان ما يراد بهم فكانوا يساقون كالأنعام ولكن الطبقة المستنيرة ورجال الإعمال بعثت هممها حالة لفرنسيس فأخذت تدرك أماكن إعادة الوطن وتأليف شمله المبدد وتبحث عن الطرق لتحقيق هذه الأمنية فلم تمض على ذلك خمسون سنة حتى أثمر جهاد أرباب الأفكار تأليف الوحدة الايطالية الحديثة. وحدة قوامها المساواة أمام القانون ومنح الحرية السياسية.
عاد رجال السياسة في مؤتمر فينا خريطة أوربا إلى ما كانت عليه قبل سنة 1789 وعاد الباباوات والملوك والدوجات والأمراء إلى سابق أمجادهم تحميهم الحراب الأجنبية ولكن استحال الرجوع إلى الحالة الأصلية لان رجال الشعور الخارق للعادة ومن تؤهلهم الجاذبية العقلية الشديدة إلى أن يتحرروا من الوراثة والمحيط قد عدلوا في وجهة الأفكار وجددوا ميدان أعمالهم فكان الشعراء وأساتذة الكليات والقس والإشراف المتعلمون في مقدمة مكن تبدلت عقولهم بتأثير الحوادث وما تم لفرنسا من المجد قد افهمهم معنى الجمال الذي ينطوي في مدارج القوة. وتراجع الإيمان بالحق الإلهي وعادت الفلسفة فتأثرت بتأثيرات المجددين وضربت معتقد الكنيسة الرومانية ضربة قاسية وتحمس الأذكياء وأرباب القلوب لفكرة أن وطنهم سيستعيد بهائه ويعود عظيم جميل فاخذوا يعملون بمضاء وحماسة تدعوا كل من اطلع على أعمالهم أن يحترمهم ويمجدهم.
وكثر تجدد الطبقات من الشعراء أخذت على عاتقها أن تنبه بلسان الشعار والحانة الرخيمة شعبا متناغما منذ قرون فتناول الشاعر جيو ستي صوت الهباء الذي سقط من يد باريني واخذ يضرب به وتحمس الشعراء بلاليكو ومانزوني ونيكوليني حماسة الفيري المفجعة. وساعدت قصائد فوسكولو واغاني برشت الوطنية على هذا النشور.
بيد أن الدعوة الأدبية لا تستطيع أن تعمل إلا في الأفكار المستنيرة وادلو قليلا فاخذ(86/17)
الأشراف والطبقة الوسطى من الأحرار يدركون ضرورة نشر هذه الحركة بين العامة فانشئوا يدخلون التعليم إلى القرى. وكان تكثير سواد القائلين بفكر التجدد وضم الشمل في المدن قد تسهلت أسبابه بارتقاء مستوى العقل في الشعب واستعداده لقبول الجديد ولكن بث الدعوة كان خطرة ولطالما أعار بعض الكتيبين مؤخرة حوانيتهم لعقد الاجتماعات ليتهامس فيها المتهامسون بأفكارهم وإعمالهم وأحلامهم في المستقبل ونهضة البلاد.
ثلاثة عوامل أعانت على تخمير هذه الثورة الجديدة وتنمية بذورها كبار الضباط والموظفين على عهد نابليون والجمعيات السرية ورجال الشرطة ومعظمهم كانوا دخلوا في الجمعية الماثونية فتعلموا فيها أساليب الاجتماع وجمع الشمل وحب النظام وبالنظر لحالة البلاد إذ ذاك لم يتأتى أن تنعش من سقطتها إلا بجمعية سرية وذلك لما عرى الأخلاق من انحلال وضعف ولقلة عدد أرباب الشخصيات الراقية فكثرت الجمعيات السرية من اجل ذلك في البلاد كلها وكان أشياعا بإكثار أولا بالكليات فدخل فيها أبناء الطبقة الوسطى وكثير من أبناء الأسر الكبرى وجماع الإسرائيليين وكان أكثر الداخلين مدفوعين إلى ذلك بعامل المنفعة الشخصية الممكنة وكلهم يرمون إلى جمع شمل الوطن.
كان للإسرائيليين في هذه الحركة الكعب المعلى فإنهم وان كانوا في ايطاليا اقل حيفا من حيث مادياتهم خلافا لما كانوا عليه في سائر أوروبا لكنهم كانوا خاضعين لقانون يحرمهم من الوصول إلى المناصب التي يؤهلهم إليها ذكاؤهم وثباتهم المتواصل على العمل ولقد علمهم احتقار الناس لهم فضائل تجرد منها ظالموهم فكانوا محتقرين وسذجا في الصورة الظاهرة ويتذكرون أحيانا شيئا من الخير الذي نالهم ولكنهم لا ينسون على الدوام العار وهم على ثباتهم وحسابهم للعواقب قد أصبحوا متضامنين بداعي مقاومتهم للعدو المشترك يكتمون أمرهم ويسرون ما يجول في قلوبهم وهم قد اثروا إثراء مهما فكانت منهم قوة لا تعادلها قوة لمقاومة نظام سياسي تكرهه نفوسهم.
فلم يكونوا يعتقدون في وحدة ايطاليا قلب الأوضاع التي طالما قاسوا منها الأمرين بل كانوا يرون فيها صورة من صور الانتقام من انكلترا المسيحية في رومية الباباوات ولذا يمكن أن يقال في ذلك العهد أن جميع الماسون في ايطاليا لم يكونوا كلهم إسرائيليين فان جميع الإسرائيليين كانوا ماسوناً وإذ كانت القوانين والعادات تبعدهم عن الحياة العسكرية فقدوا(86/18)
الشجاعة التي تورثها صناعة حمل السلاح فكانت معاونة الإسرائيليين ما عدا بعض الشواذ مالية أكثر منها شخصية وعظمت معاونتهم المالية في هذا السبيل حتى أن الحكومة المؤقتة في ميلان بالنظر لما ادروا عليها الإسرائيليون من المال بعد مغادرة النمساويين للبلاد قد شكرتهم على إعاناتهم الكريمة في سبيل الحرية.
وما كان القسيسين غرباء عن هذه الحركة فان أول من صاح ايطاليا واحدة وحرة كان قساً فمات في هذا السبيل وأخر من قضى في هذا المقصد هو قسيس أيضا كان في صحابة إسرائيلي. وكان هذا شأن جميع المستنيرين من عامة طبقات ايطاليا يريدون أن يحيوا وطنهم ولا يبقوه ارض الأموات. وما صادقته هذه الدعوة من العواطف في طبقة رجال الدين لا يعجب منها إذا علم أن البابا يبوس السابع كتب إلى الكونت بورو بمناسبة أعضاء جمعية الكاربوناري الثورية: أنهم يحبون ايطاليا وأنا أحبها مثلهم وكذلك كان الأشراف الذين لم تكن لهم مناصب تشغلهم في الحكومة وأقصاهم الملوك عن قربهم فإنهم شاركوا في الحركة الجديدة حق المشاركة.
قلنا الكاربوناري وهي جمعية اشتقت من الجمعية الماسونية وأعضاؤها من الجند والضباط على عهد نابليون فقامت منذ سنة 1820 بثورات عسكرية في مملكة نابولي أولا ثم في معظم إمارات ايطاليا ولكن قلة عدد أعضائها وفقدان المرددين لأعمالها غادرت حركاتها قاصرة. ولما قام مازيني الكاتب الذي كان متأثرا يرمي إلى إنهاض ايطاليا وجد أنصارا وأعوانا وان كان العيب الوحيد انه كان يتعجل قطف الثمرة قبل نضوجها. ويضيق المجال إذا أردنا إحصاء من دعوا إلى هذه الوحدة ومنهم الراهب فنسانزو جيوبرتي الذي اغضب الكنيسة بعمله فقضى أخر أيام حياته شريدا في باريس لأنه قال بضرورة فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية ومنافع ذلك للسياسة والأخلاق.
وكانت نيران الثورة تشتعل تارة وتخمد أخرى فيظن أن البلاد عادت إلى حالتها من الأمن والطمأنينة ثم لا تلبث فوهة البركان أن تقذف حممها وقد انفجرت لأخر مرة يوم قامت فرنسا وقلبت الملكية ونادت بالجمهورية وأخذت تهتز أعصاب أوربا فتحركت ايطاليا من أقصاها كأنها متأثرة بمجرى كهربائي فقامت قيام الرجل الواحد من بلاد الألب إلى صقلية أي من الشمال إلى الجنوب وظهر أن الملوك تظاهروا بالاشتراك بالحركة والبابا كذلك وان(86/19)
شئت فقل انه كان أكثر من غيره وتنازل عن سلطتهم المطلقة ومنحوا دساتير لشعوبهم والكل يريدون أولا طرد النمساويين من البلاد التي كانوا احتلوها.
ولقد تمثلت الثورة العامة في سنة 1848 في جميع الطبقة الوسطى لمناهضة السلطة المطلقة فصادقت أولا عطفاً من البابا فلما تحقق مقاصدها مزقت الدساتير المعطاة وأعيدت البلاد إلى نظامها السابق فلم يثبت من ولايات شبه الجزيرة سوى البيمون وكان لها فقط جيش يحسن الكر والفر وله نظام بزعامة الملك الجديد فيكتور عمانوئيل الثاني وما كانت المهمة التي انتدب إليها هذا الملك بالأمر السهل بل كانت تحتاج إلى سلاح ماض وطرق مواصلات منظمة ومعارف منتشرة وضم شمل أحرار الطليان وتهدئة الكاثوليك وهم كثار متحمسون في إقليم البيمون وإقناع أوربا التي لا تصدق أو هي معادية لهذا الفكر واتخاذ أنصار من حكومات أوربا ليفتوا في عضد العدو العظيم. كل هذا ولا مال لتلك المملكة الصغرى وهي مدينة بمليارين من الفرنكات هذا المركز من أحرج المراكز ولحل مشاكله يجب له نابغة من الرجال وهذا الرجل الذي تهيأ له هو كافور.
قام هذا السياسي العظيم العظيم وعرف بما خص به من حسن لانتفاع أن يستخدم أمثال غاريبالدي ومازيني للمقصد الذي ترمي إليه فكانا يريدان المناداة بالجمهورية لا بالملكية. ومن دهاء الرجل انه بعث من إقليم البيمون جنداً إلى الحرب القريم يعاون الدول الأوربية التي عاونت الدولة العلية إذ ذاك فعد العالم عمله خرقا في الرأي على الأمة صغيرة فقيرة مثقلة بالديون ولكن هذه المناداة هيأت لايطاليا بل لمملكة البيمون مركزاً بين الدول وصار لها الحق أن تبعث بمن يمثلها في مؤتمر باريس. ولا عجب فالإعمال بمقاصدها ونتائجها.
أتم النابغة كل ما كان يظن انه مستحيل ولا يعرف اليوم مذا كانت الحال ايطاليا لولا قيام هذا الرجل. وقد جبر بدهائه ما بدر من الضعف في الجمعيات السرية التي اندمجت في جمعية جيوفاني لان عملها لم يؤد إلا إلى فظائع فقام كافور يربط بحكمته القلوب حول عرش صاحب بيمون وغدت أسرة سافوا محط رحال الآمال وساعد أن كان الإمبراطور نابليون الثالث الفرنساوي من أعضاء جمعية الكارتوني منذ صباه فاضطر إلى مساعدة ايطاليا ولما أيقن الملك فيكتور عمانوئيل بمعاضدة الجيش الفرنسي نهض بالعمل بصورة أفخم وأعظم وأعلن الحرب على النمسا وقد قال لوزرائه عندما وقع على إعلان الحرب(86/20)
أني سأكون بعد عشرة أشهر ملك ايطاليا والمسيو سافوا.
ظفرت الجيوش الفرنسية في مونتبولو وبالسترو وماجنتا وسولفيرينو وبموجب معاهدة زوريخ تركت لومبارديا المملكة البيمون وقامت طوسقانة رويدا رويدا على دوجها الكبير وأعلنت انضمامها إلى البيمون. ونزل غار يبالدي إلى صقلية وتآخى مع سكانها وكانوا مربوطين بعهود الإخاء من قبل مع جمعية مازيني السرية ثم اجتاز المضيق ودخل ظافراً إلى نابل وكاد يزحف على رومية ليفتحها وبعد أيام أعلنت جزيرتا صقلية انضمامها إلى الوحدة الايطالية وفي 18 شباط 1861 اجتمع البرلمان في تورينو ونادى بالملك فيكتور عمانوئيل الثاني ملكا على ايطاليا وتوفي كافور بعد بضعة أسابيع كأنه انتظر حتى أتم عمله المجيد مخلفاً لقومه شعاره الكنيسة الحرة في المملكة الحرة.
وبقيت البندقية ورومية فقط لم تفتحا فقام أخلاف كافور وعقدوا مع بروسيا فاخذوا البندقية وسمح استدعاء الجنود الفرنسيين من ايطاليا سنة 1870 للجيش الايطالي أن يدخل ظافراً إلى رومية مقاتلاً جيش البابا الذي قاوم بعض المقاومة ولكن ما حيلته أمام هذا التيار العظيم وإرادة الأمة في نزع السلطة المدنية من يد صاحب السلطة الدينية فحصرت سلطة البابا بعد ذلك في دائرة معينة لا تتعدى حد السلطة الروحية
ايطاليا بعد الوحدة
ها قد القينا نظرة مجملة على ماضي ايطاليا وأصول مدينتها وأمجادها ودرس الماضي عون على فهم الحاضر. ولقد ترك كل دور دخلت فيه البلاد طابعا في صورة ايطاليا الحديثة كما أثرت فيها المؤثرات الجوية والجغرافية والعنصرية ولم تقوم التربية إلا على تغيير قليل فيها ونشأت مؤثرات أخرى نفعت في نهوضها كل النفع وهي سرعة المواصلات وكثرة التنقل والصلات المتواصلة مع الأمم الأخرى وغير ذلك وبعد أن صرفت ايطاليا كل جهادها الماضي إلى سنة 1870 في تكوين الوحدة الايطالية وإلغاء الامتيازات الأشراف ورجال الدين وتأسيس ملكية ديمقراطية وجب عليها أن تنظم هذه القوة فاختارت القانون الأساسي الذي كان معمول به في إقليم البيمون مع بعض تعديل أخذته عن القانون الفرنسي.
ولقد حق على القائمين بهذه الوحدة من أهل الطبقة الوسطى وأبناء إشراف من الدرجة(86/21)
الثانية والإسرائيليين والماسونيين والبيمونيتيين وكل من وجدوا مصلحته في قيام هذه الوحدة أن يرعوها فلم يجدوا أمامهم إلا العامة يتقوون بهم فانشئوا لهم مسائل الاشتراكية والنقابات الصناعية واعديهم فيها بوعود خلابة اقلها أن الجمهور يعيش بدون أن يعمل وكل ذلك بمناهضة الأشراف ورجال الكهنوت ففقدت طبقة الأشراف كل موازنة ولم تبقى لها تلك المكانة المعروفة لها قديما إما رجال الدين فاحتفظوا بمراكزهم وذلك لأنهم يمثلون شيئا لا يبرح حيا في نفوس الشعب ولان لهم قانون يضم شملهم.
التفتت الحكومة بعد الوحدة إلى تنظيم الجيش وكانت الفكر الحربي مفقودا من معظم طبقات الشعب فما برحت تزيد فيه وكان عدده على عهد أوائل الوحدة مئة ألف نسمة وأصبح ألان خمسمائة ألف نسمة منظم مدرب حين السلم وثلاثة ملايين وخمسمائة ألف جندي زمن الحرب يدخلوا فيهم البوليس وكل ايطالي بلغ سن العشرين يدخلوا الجندية فيخدموا فيها ثلاث سنين ويكاد السكر لا يعرف في الجيش وضباط يقومون على تدريب الجندي بإخلاص ويلقنوهم الفضائل الحربية ولذلك ترى مجلس النواب الايطالي يمنح ميزانية الحربية وهي 364 مليون فرنك كل سنة دون أن ينظر فيها ثقة منه بأنها تصرف في سبيلها على أبناء الأمة. ومما يعمل لنفع الجندي بأنهم انشئوا بالقرب من بعض الثكنة في البلاد دروسا زراعية عملية يتعلموا فيها العسكر مدة خدمتهم ما ينفعكم من التعليم العسكري إذا رجعوا إلى قراهم من العمليات الزراعية.
إما البحرية وميزانيتها 186مليون فيمكن أن يقال على الجملة أن ايطاليا لما تكونت لم يكن فيها اثر في القوة البحرية فأخذت منذ سنة 1873 تنظم بل توجد بحريتها ليكون لها شان في البحر المتوسط والبحر الادرياتيكي ورجال البحرية الذين يتخرجون من مدرسة ليفورنا يبدون كل إخلاص في تخريج الجند البحري.
وهكذا تعمل ايطاليا على تحسين بريتها وبحريتها لتستطيع بذلك أن تجد موردا لامتها التي يكثر نسلها وتريد أن تجد لها مرتزقا في الأرض ولاسيما بعد أن طلبت بعض الحكومات التي تكثر مهاجرة الطليان إلى أرضها أن يحمي العملة من غير الطليان الحماية الكافية التي تخولهم عدم منافسة العامل الايطالي وان ايطاليا المضطرة بحكم الطبيعة أن تكون امة بحرية من الدرجة الأولى لان شطوطها على البحر المتوسط تبلغ 6000 كم على حين(86/22)
ليس لفرنسا سوى 600.
وتناسل السكان
وتناسل السكان والخوف من إغلاق أميركا ذات يوم في وجه المهاجر الايطالي دعا ايطاليا إلى إن تفكر في فتح طرابلس وبرقة حيث يجد أبنائها ولا سيما في الجنوب مناخا يشبه مناخ بلادهم ويكونون على مقربة من أرضهم أو مسقط رؤوسهم مما دعاهم إلى الغارة على شمال إفريقيا ذكرى إن أجدادهم الرومان فتحوا تلك البلاد واستعمروها أيام عزهم قد كلفت هذه الحرب 927 مليون فرنك. ربما كان الإيطاليون من الأمم الأوربية حبا بالهجرة ذلك لان بعض الجنود من بلادهم فقير بزراعته لأنك لا تجد في ايطاليا طبقة وسطى على الأغلب فإما الفقير معدم يولد له كل سنة ولا يجد في أرضه من الموارد الاقتصادية ما يقوم بعيشه أو غني كبير وهم قلائل ولذلك لم يبق إمام الإيطاليين إلا الهجرة فقد كان عددهم سنة 1861 أي بعد الوحدة بقليل 21 مليون وهم اليوم 35 مليون بحسب الإحصاء الأخير دع الطليان المنبثين في أقطار العالم وعدد سكان من يقطنون في كل كيلو متر مربع 122 ساكنا أي أكثر من معدل السكان في ألمانيا وفرنسا ولا يفوق ايطاليا كثرة عدد السكان بالنسبة لمساحة الأرض من الممالك الأوربية إلا البلجيك وانكلترا وبلاد القاع (هولندا).
وأكثر المهاجرين يهاجرون هجرة مؤقتة وقلائل منهم من يهاجرون هجرة قطعية بل إن المهاجرين من يقضون الشتاء في أمريكا ويأتون في الصيف يحصدون أرضهم ويقطفون ثمرات أشجارهم ولولا النقد الذي يحمله أولئك المهاجرون من أميركا يضعونه في المصارف وصناديق التوفير ربطت حركة ايطاليا الاقتصادية لان النقد قليل فيها حتى تضطر الحكومة بل الأمة إن تجري أكثر معاملتها بالورق ولا تكاد تجد الذهب إلا نادرا. وقد بلغ من هاجروا ايطاليا من أبنائها في الشهور التسعة الأولى من هذه السنة 325، 335 مهاجرا ولا يقل عدد المهاجرين كل سنة عن 500 الف ومنهم من يهاجرون إلى البلاد المجاورة ولا سيما جنوبي فرنسا ومنهم إلى أمريكا.
والعامل الايطالي قنوع للغاية يقتصد جانبا من هجرته ومنهم من يعودون برؤوس أموال إلى بلادهم المتعلقون بحبها فالعامل الإيطالي يقبض دولارا ونصف في الولايات المتحدة فيصرف النصف دولار ويقتصد الباقي حتى إذا عاد إلى قريته تحدثه نفسه إن يبتاع له(86/23)
أرضا يبني فيها سكنه لذلك ارتفعت أسعار الأراضي في القرى أكثر من ارتفاعها في المدن الكبرى ولا سيما بعد ناشات جمعيات ومكاتب للمهاجرين ومنها ما أسسته الحكومة ومنها ما أسسه الإفراد لتسهيل المهاجرة ووقاية المهاجر من التلاعب به. وليس لايطاليا من المستعمرات ما عدا طرابلس وبرقة غير اريتريا وبنادر والصومال الايطالية وهي مجاورة فيهما لفرنسا وانكلترا وايطاليا جاءت إلى عالم الاستعمار بعد وحدتها وقد تقاسمت أوربا مغانم إفريقيا واسيا وتوزعت ممالكها بينها.
احتاجت ايطاليا بعد وحدتها وتأليف هذا الجيش الضخم البحرية القوية إلى موارد كثيرة فالتفتت فلم ترى أحسن موردا من الزراعة وثلث الايطاليين يعملون بها في ارض مزروعة تقدر بنحو 20 مليون هكتار تخرج سنويا 100 مليون هيكتولتر من الحبوب حنطة وذرة وارزأ و40مليون هيكتولتر من الخمور و10ملايين قنطار من الزيت والثمار. دع إعمال الألبان وتربية الحيوانات والحرير الخام وغيرها من الموارد التي تعد في جملة الزراعة يبلغ مجموع قيمتها نحو خمس مليارات فرنك كل سنة وزراعة الشمال راقية على الطرز الحديث قد أدهشنا ما رأيناه من بدائع في ضواحي فلورنسا وضواحي بولونيا ذلك لان إقليم طوسقانة وعاصمته فلورنسا عامر منذ القديم وهو مقر أمجاد الطليان وكذلك حال العمران من سفح جبال الألب إلى طوسقانة فان أرضها حدائق غناء وهذه البلاد الشمالية تختلط كثيرا بالأمم الراقية المجاورة لها مثل السويسريين والفرنسيين إما سكان الجنوب ولا سيما في صقلية وسردينيا وغيرها من الأقاليم الجنوبية فان المناخ مؤثر في أخلاق أهلها وليس لهم نشاط سكان الشمال ولا معارفهم وسكان الجنوب أشبه بالأمم الشرقية النازلة على الشواطئ البحر المتوسط وصناعة ايطاليا وتجارتها راقية على نسبة زراعتها فقد كان لهذه المملكة سنة1860 - 2198 كم من الخطوط الحديدية فبلغت سنة 1909 - 18000 كم يضاف إليها 5000كم من الترامويات والاتوبوس. وكانت الطرق العادية على عهد الوحدة 48000كم فتجاوزت اليوم 140000 وكان لايطاليا سنة 1862 - 57 سفينة بخارية تجارية تحمل 10، 228 طنا و9، 356 سفينة شراعية تحمل 643، 996 فأصبح لها سنة 1908 - 626سفينة بخارية تحمل 566738 و4701سفينة شراعية محمول 453، 334 طنا وبلغ عدد السفن الايطالية التي خرجت ودخلت في الموانئ الطليانية 190، 555 سنة(86/24)
1861 وبلغت في سنة 1909 - 246. 246 وكان إذ ذاك عدد الداخل والخارج إلى الموانئ الطليانية من بواخر الأجانب 23، 83 فبلغ في العهد الأخير 17، 434 واشتركت في ذلك جميع موانئ ايطاليا وفي مقدمتها جنوا ثم تجيء نابل وليفورنه والبندقية وبارمة. وكان لايطاليا عام 1860 - 8000 كيلو متر من الأسلاك البرقية ولها الآن 54 ألف كيلو متر تضف إليها الأسلاك البحرية والتلغرافات اللاسلكية مع مالها من الخطوط التلفونية ولم يكن البريد الشيء الذي يذكر في بعض أصقاع ايطاليا على عهد الوحدة فبلغ وارده سنة 1886 - 16 مليونا وفي سنة 1900 بلغ 107 ملايين فرنك.
وكانت الصناعة أيام الوحدة غير موجودة إلا في أقاليم البيمون ولومبارديا فعمت الآن أقاليم ايطاليا كلها ولا سيما في الثلاثين سنة الأخيرة فقد كان سنة 1889 معمل واحد للسكر في جميع ايطاليا فأصبح لها 32 معملا وارتقت صناعة حياكة الصوف والقطن والحرير والحديد الاتومبيلات ارتقاء هائلا.
ووجدت الكهربائية في ايطاليا محيطا حسنا للغاية بالنظر لما خضعت به هذه البلاد من الأنهار السريعة جريتها ومن هذه القوى النافعة تخدم الصناعة اجل خدمة وربما أوصلت الكهربائية إلى مسافات متناهية ولا تسل عن معامل الأسلحة وبناء السفن مثل معمل انسالدو في مقاطعة جنوه وغيره كثير. وإذا ضم ما يرد ايطاليا من صناعتها إلى ما تأتيها به زراعتها بلغ مجموع تلك الثروة 75 مليارا من الفرنكات يصيب كل فرد 3200 فرنك.
ويستدل على الرفاهية والغنى مما يودعه الأهلون في صناديق التوفير فقد بلغ ما أودع في الصناديق العادية مليارين ونصف مليار من الفرنكات يضاف إليها ما أودع في صناديق توفير البريد وهو 1700 مليون هذا غير ما يضعه العالم في المصارف وجمعيات التعاون مما يعد جزءا عظيما من ثروة الأمة. وما كانت البيوت المالية تعرف في ايطاليا إلا في إقليم البيمون قبل الوحدة الايطالية وقد كثر عددها اليوم وهي من الدرجة الأولى بين المصارف مثل بنك ايطاليا وبنك نابل وبنك صقلية وبنك رومية وغيرها وكلها تشغل بزهاء مليارين من الفرنكات ماعدا أموالها الاحتياطية النقدية التي تبلغ مليارا ونصف.
وفي ايطاليا مصارف زراعية ومصارف عقارية وشركات تجارية مساهمة وشركات صناعية تعاونية وغيرها وعددها يكثر كل سنة كثرة هائلة.(86/25)
وقد بلغت ميزانية الحكومة من كل ذلك مليارين ومائتين وستة عشر مليون فرنك في سنة 1911 في قسم النفقات ومليارين وثلاثمائة وأربعة ملايين في قسم الواردات.
أصيبت ايطاليا بأزمة سياسية شديدة سنة 1890 أثرت في ماليتها كل التأثير فكان شان المضاربين على الأراضي للبناء في المدن الكبرى شانهم في مصر منذ بضع سنين فقدوا ثرواتهم إلا قليلا بسقوط أسعار تلك الأراضي وذلك لان بعض المدن الايطالية أرادت أن تجدد أبنيتها على الطراز الحديث فأخذت طائفة كبيرة من أبناء الأسرات القديمة ومنهم من يعتقد بان له الكفاءة في كل شيء يبتاعون من تلك الأراضي والأبنية القديمة للهدم فكان بها خرابهم وخراب كثير من أرباب رؤوس الأموال الصغيرة ومن المصارف وبسبب هذه الأزمة عرض الوزير كريسبي الايطالي على البرنس بسمارك الألماني أن تكون ألمانيا وايطاليا يدا واحدة فأحست فرنسا بالمر من الغد فلم تر أحسن من إخفاق مسعى ايطاليا وأشغالها بقطع الموارد المالية عنها وكانت ايطاليا إذ ذاك لا تعتمد في افتراضها وتجارتها إلا على بيوت المال والتجارة في باريس فاخذ هؤلاء يرفعون ثقتهم من ايطاليا ويشمون عليها بالمال فحدثت تلك الأزمة التي منشأها الحقيقي من أناس ما خلقوا ماليين ولم يستعدوا لمعاناة الشؤون المالية بالعمل.
وعلى العكس كان من قانون الوراثة والمحيط أن هيا الإسرائيليين ليعملا أعمالا عظيمة في ايطاليا وللإسرائيليين اختصاص بالشؤون المالية ولا نجاح إلا بالإحصاء.
فإنهم اختصوا بالتجارة ومعاناة المال فنشأت مهارة لهم لا نظير لها وقد بقيت سلطة الأب على أولاده محترمة عندهم بخلاف القوانين الحديثة الاجتماعية التي قللتها عند غيرهم وترى النظام في بيوتهم التجارية والصناعية أتم مما هو عند غيرهم والاعتصابات قليلة وأعمالهم ناجحة أكثر مما عداهم لأنهم يحسنون الانتفاع من القوى والأشياء أكثر من كل الطوائف ومنشأ ذلك كونهم كان مضطهدين فاحظروا ببطء صفات يولدها الاضطهاد فيمن يؤخذون به. وهذه الصفات هي قوة المقاومة والشعور بالتضامن واللين والمرونة في أسباب الحياة.
وعلاوة على ما للإسرائيليين في ايطاليا من النفوذ العظيم الاقتصادي قد كان لهم في المسائل السياسية مكانة لا تنطبق مع قلة عددهم ولكن لها ما يشفع بها بما قاموا به من(86/26)
معاونة ايطاليا في وحدتها بالمال وما أبدوه من الصفات الحسنة التي ابانو عنها في تقلدهم إدارة المسائل العامة وطالما كان منهم رؤساء الوزارة والولاة فاظهروا من البراعة في الأمور السياسية ما يحق لهم أن يفاخروا به بل أن حاكم رومية نفسها هو اليوم إسرائيلي وكذلك أكثر الولايات التسع والستين الايطالية فان ولآتها من أبناء إسرائيل لا يأتون ما يمس عواطف الأكثرية من الكاثوليك بل كثيرا ما كان نوابهم ووزراؤهم في جانب المحافظين إذا أريد وضع قوانين واحدة وأحداث أمور جديدة من شانها إثارة الرأي العام مما دل على أن الإسرائيلي في ايطاليا خلافا لما هو عليه في سائر الممالك ايطالي أولا ثم إسرائيلي وفي غيره هذه الديار إسرائيلي قبل كل شيء وفي المظهرين تفاوت عظيم كما ليخفى.
ايطاليا وعلومها وفنونها
كان علينا وقد وصل بنا البحث إلى هذا الحد أن نتكلم على امتيازات به ايطاليا من دون سائر بلاد أوروبا من التفنين في الفنون الجميلة والتبرير في مضمارها على جميع الأمم الغربية مهما قالوا بانحطاطها عندهم بالنسبة للقرن السادس عشر والسابع عشر وذلك مثل الكلام على التصوير والنقش والهندسة والموسيقى ولكن ذلك يحتاج إلى فصول كثيرة لا تتسع لها هذه العجالة ولا تنطبق مع أذواق أكثر القراء ومع هذا فنتكلم على الآداب الطليانية في العهد الأخير من وكيف ارتقت حتى عم أهل القرى أثرها.
يعتبر تاريخ اللغة الايطالية الحديثة منذ عهد دانتي الشاعر فإنها بعده لم يعد ينقصها شيء من الألفاظ للتعبير عن التفكير ومضت القرون الثلاثة التالية يعده فأصبحت البلاد لقلة المواصلات وكلا مقاطعة لموقعها الجغرافي لا تعرف ما عند جارتها فنتج عن ذلك تعدد اللهجات وفتحت هذه صدرها لكل الألفاظ الحديثة في حين ظلت الايطالية الأدبية جامدة تقرا في المدارس كما تقرا اللاتينية واليونانية أي كأنها لغة ميتة لا حية.
ودام الحال على ذلك إلى قبل خمسين سنة وبفضل توفر المواصلات والخدمة العسكرية التي تقضي بتنقل الجنود في البلاد أخذت الايطالية الحديثة تفهم في كل مكان وبقيت اللهجات التي تعوق ولا شك دون نشر لغة عامة تفي بمطالب الفكر الحديث وأصبح عنهم لغة يتكلم بها تؤثر فيها اللهجات المحلية ولغة ايطاليا مكتوبة يحسنها الكتاب والمؤلفون.(86/27)
في ايطاليا نحو 14 لهجة لا يفهم أهل هذه لهجة أولئك وأفصح اللغات لغة طوسقانة ومنها سرت إلى رومية. ولغة ساردينا تشبه اللاتينية كثيرا وتختلف عن لغة صقلية وابن رومية لا يفهم لغة ساردينا واهم اللهجات الايطالية اللهجة البيمونتية واللومباردية والليكورية والبندقية والرومانية والنابولية والبولية والكالابرية وتعدد اللهجات مما عمت به البلوى لا في اللغة العربية فقط بل في لغات أوروبا التي يسعى أهل العلم والسياسة إلى توجيها منذ زمن طويل فمن ذلك أن في سويسرا ثماني لهجات ألمانية لا يتفاهم أهلها بعضهم مع بعض بها بل أن أهالي ألمانيا لا يفهمون لهجات سويسرا مثل لاهاي بافيرا ووتمبرغ وهيس وهكذا الحال في فرنسا وغيرها من البلاد التي يظهر إن لها لعنة واحدة والحال أنها مختلفة اللهجات لا يكاد يفهم المتناءون لغة بعضهم بعضا.
اقتضت وحدة الروح الايطالية أن يكون لايطاليا لغة كتوبة واحدة فقام بهذا الغرض من الشعراء والكتاب في أوائل القرن التاسع عشر أمثال مانزوني وبلليكو وكاردوشي فأفادوا على اختلاف في طرق الأداء في بث اللغة الصحيحة في الشعب.
ومن الشعراء الكتاب العاصرين الذين اشتهروا في الأفاق دانونسيو وباسكولي وفوكازاروودي سانكتيس وفريرو ومن النساء اللاتي نافسن الرجال في صناعة الأدب سيرا رو وواساني ودللادا ومنهن من تفردن في القصص التمثيلية وأخريات في القصص الروائية وغيرها في الصحافة.
كان من توفر أسباب الرفاهية في الشعب الايطالي أن اخذ عدد المختلفين إلى المسارح الخاصة بالتمثيل يزيد اليوم بعد الأخر ومن نشر العلم وقلة عدد الأميين سنة بعد سنة أن كثر عدد الصحف وقراؤها وكان ذلك من مواد ثمينة لتعجيل كمال اللغة المحلية لان التمثيل كالصحافة إذا أراد القائمون بها أن يفهموا وجب عليهم أن يتكلموا بلغة تتناولها عقول الكافة وإذ بعض من هذه الجوقات التمثيلية تطوف بلاد الأقاليم اقتضى لها إن تعدل من لهجتها في كل محل بحيث تتناولها الأذهان على أيسر سبل. وعند الطليان مؤلفون كثيرون للروايات التمثيلية لا يقلون عن غيرهم من الأمم الراقية كالفرنسيس والألمان.
إما الصحافة فهي تشبه صحافة فرنسا وغيرها من الممالك في الصورة والشكل وكل يوم نزيد العناية فيها بالخيار المنوعة المؤثرة وثقل مادتها من الانتقاد الجدي والموضوعات(86/28)
الأدبية فالصحافيون هنا مثل غيرهم في البلاد الأخرى يبيعون من الجمهور ما ينفق عليه ويروج عنده. وقال في صفاء المكان وذلك بان يكون المكان الذي هو فيه خاليا من الأصوات عاريا عن المخوفات والمهولات والطوارق وان يكون مع ذلك مكانا رائقا معجبا رقيق الحواشي فسيح الأرجاء بسيط الرحاب غير هم ولا كدر فإن الضم إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر من ماء وخضرة وأشجار وإزهار وطيب رائحة كان ابسط للفكر وانجح للخاطر وقد ذهب بعضهم إلى انه ينبغي خلو المكان من النقوش الغربية والمرائي المعجبة فإنها وان كانت مما ينشط الخاطر فان فيها شغلا للناظر فيتبعه القلب فيشتت له.
وليس للصحف الكاثوليكية رواج كثير كالصحف غيلار الكاثوليكية وأعظم صحف ايطاليا وأهمها جريدة كورريه دلاسييرا أي بريد المساء وهي تصدر في ميلانو من عواصم العلم القديمة أو العاصمة الأدبية كما يسمونها وتجيء بعدها جريدة التربيونا أي المنبر وهي نصف رسمية. ومن خبرة جرائدهم جريدة ايديا ناسيونالي أي الفكر الوطني وهي تمثل الفكر الوطني. وقد سارت صحافتهم كما هو شان الصحافة في كل مكان على توحيد الفكر واللغة كان السبب الرئيس في كل ما تقدم من ذرائع الارتقاء نشر التعليم بين جميع طبقات الشعب فقد كانت الحكومة الايطالية خصصت سنة 1861 مليون فرنك للمعارف العمومية وهاهي الآن تنفق مثله مليون لهذا الغرض كل سنة وأرقاء كهذا في البذل على المعارف تنشا منه تلك الوطنية والوحدة دع المدارس المنوعة التي أنشاها الجمعيات الدينية أو الإفراد وزاد عدد الطلاب ضعفي ما كان عليه عام 1861 فبلغ في السنة الماضية زهاء ثلاثة ملايين ومع هذا ايطاليا من أكثر البلاد الأوروبية أميين بعد روسيا ولاسيما في القرى وان كان التعليم لابتدائي إجباريا إلا انه لا يعمل به كثيرا وبالنظر لما وقع بالنزاع بين الحكومة والاكليروس انتهت الحال بان المدارس لا تعلم التعليم الديني إلا لولد يطلب ابوه ذلك والإباء قلما يحفلون بهذا الطلب. وقد تعطي الحكومة أحيانا إعانات للمدارس والأخويات الدينية ماله صفوف عالية وله الحق بان يكون لتلاميذه بالامتحان حقوق تلامذة مدارس الحكومة ومن المدارس ما يريه اليسوعيون وان ألغيت مدارسهم في ايطاليا منذ زمن طويل. ومدارس الجمعيات الدينية خاضعة إجمالا لتفتيش الحكومة وتترفع عن البحث في السياسة.(86/29)
بعد كناية ما تقدم اطلعنا على خطاب ناظر المالية الايطالي وقد جاء فيه أن ايطاليا ستصرف هذا العام على المعارف 148 مليون فرنك وتفيض المال الكثير على معارف الولايات ليطبق بالفعل قانون التعلم الإجباري في البلاد وقد بلغت الحركة الدولية في المقايضات خلال الأحد عشر شهرا من السنة الماضية 1913 5516 مليونا أي زيادة بمقدار 44 مليونا عن مثلها في السنة الماضية وقلت الواردات 48 مليونا وزادت الصادرات 92 مليونا وزادت السفن التجارية الداخلة إلى موانئ ايطاليا وزادت كمية المعادن ومداخيل الضريبة على السكر والحديد والتبغ ودخل السكك وكثر الإنفاق على المصارف وإعمال الري والأسباب الصحية كثيرا والحكومة الايطالية ستزيد ميزانيتها البحرية والبرية وكل هذا بدون أن تستدين وتبادل الدخل والخرج على طريقة ماهرة في الأمور المالية يقسم التعليم الأوسط في ايطاليا إلى فرعين مختلفين. الفرع المدرسي وهي دروس المدارس المعروفة بالجمباز والتعليم العملي وهو يدرس في المدارس والجمعيات الفنية وقد كان عدد تلامذة الفروع الأولى على عهد الوحدة 12 ألفا فأصبحت في السنة الماضية 41 ألفا والدروس العملية التي يتخرج منها الشبان والذين يتمحضون لفروع الصناعات الكثيرة قد بلغوا سنة 1911 - 100000 وما كانوا منذ خمسين سنة أكثر من 6000 وفي الفرع المدرسي من تعلم اللغتان اليونانية واللاتينية وفي الفرع العملي تعلم اللغات الحية إما عدد تلامذة المدارس الوسطى للمدارس الخاصة فلا يقل عن ستين ألفا ويؤكد بعضهم أن المدارس التي يعلم فيها الرهبان والقسيسون أكثر نجاحا من التي يعلم فيها العلمانيون لان فتيان القس ممتازون بإنكار الذات والتشبع بالروح الدينية أكثر من غيرهم من الأساتذة.
إما التعليم العالي فان ايطاليا منه سبع عشر كلية تتنافس فيها بلاد الأقاليم ولمن معظم هذه الكليات لا تخرج رجال عمل بل أكثرهم خيالون من أرباب النظر ويضاف إلى هذه الكليات مجامع العلم العالي الكثيرة لتدريس الآداب والعلوم في كل مدينة عظمى والحكومة تمدها بالمال. والمدارس العليا على كثرة ما تستلزمه من النفقات لا تتناول من مال الأمة أكثر من أربعة ملايين فرنك مساهمة مما يستبان منه أن الحكومة توفر العناية بالتعليم الأوسط والابتدائي أكثر مما عداهما. وعدد تلامذة الكليات والمجامع العلمية العليا نحو سبعة(86/30)
عشرين ألفا وكان الطلاب المدارس العليا في القرن التاسع عشر يصرفون أوقاتهم في الأعمال الوطنية أكثر من العلم إما الآن وقد استقرت حالة البلاد السياسية فإنهم اخذوا ينصرفون إلى أبحاثهم ودروسهم ليكون لبلادهم ما حرزته ألمانيا وانكلترا وفرنسا في مضمار العلوم والآداب.
هذا جمال ما يقال في التعليم إما الاختراعات والاكتشافات فلم يقصر فيها علماء ايطاليا أسوة غيرهم من أمم الحضارة الحديثة فقد اكتشف لامي طبيعة الأمراض الميكروبية وهي النظرية التي خلصت الجراحة والمداواة من الأوهام التي كانت تعوقها. وكذلك كان شأنها في الكهربائية وساعدها على ذلك كثرة شلالاتها وتيسير إرسال الحرارة والنور والأعمال الكيماوية والميكانيكية إلى أبعاد شاسعة ومن مخترعيهم باشنتوفي وماركوني مخترع التلغراف اللاسلكي وغيرهم من الذين شاركوا في الأعمال العلمية فاختلط الأمر وأصبح من الصعب التمييز بين المتقدم والمتأخر من مكتشفي العلماء في أميركا وانكلترا وألمانيا وفرنسا والنمسا والبلجيك وهولندا وسويسرا وروسيا وغيرها من ممالك المدينة
والنجاح كما قال الأمير جيوفاتي بور غزة في كتابه إيطاليا الحديثة واعتمال عقلي. بعض ما تقدم من هذا البحث إعلاء الوسط على الدوام ليتأتى للكائنات العليا أن تظهر بمظهرها وتثير الجموع بكلامها ومثالها وإعلاء الوسط يكون بتنشيط الشبيبة على القيم بجميع الأعمال الشريفة التي يخولهم ظغياها مظهرهم.
ومن الخطأ العظيم في عصرنا أن تجعل قيمة الشعب على نسبة ما أحرز من الارتقاء العقلي.
إن التعليم على اختلاف ضروبه يساعد على ظهور المدارك الاجتماعية وفي الكتابة والقراءة معنى جديد يجعل بيننا وبين الفكر العام صلة ولكن التعليم بدون تنظيم طبيعي من جهة وتربية أخلاقية من أخرى لا يتولد منه إنشاء رجال تامة أدواتهم في جمل لتنشأ على أيديهم عظمة مملكة وإذا نظرنا إلى ارتقاء إيطاليا نراها دخلت في ثلاثة أدوار هي أدوار النشوء الشخصي فالدور الأول الدور المادي والثاني النفسي والثالث العلمي وكان بدء الدور الأول على أوائل تأسيس روميا وفي سنة 700 قبل المسيح أي بعد 7 قرون كان عصر أغسطس وهو عصر مجدها وبعد ذلك ب3 قرون عندما نقلت عاصمة المملكة(86/31)
الرومانية إلى القسطنطينية تراجع أمر الدور المادي والنفسي والروحي هو دور ظهور النصرانية التي توفر الإمبراطور قسطنطين على نشرها وجعل عاصمة بلاده القسطنطينية فمضى 7 قرون على ذاك العهد تنصرت أوروبا وتم عمل الدين إلى أواخر القرن العاشر للميلاد.
وفيا 14 بدأت تظهر تباشير دور النهضة التي أريد بها تحرير العقل الإنساني من قيوده. والدور الثالث هو الذي نحن فيه والقرن الأخير كان أرفا أيامه وبه ظهرت إيطاليا بمظهر الدول العظمى واستقامت لها حياتها السياسية وتبعتها ثائر الأشياء ولا تستقيم حياة أمة بدون أن تستقيم حياتها السياسية واستقامة السياسة نتيجة ارتقاء العقول وارتقاء العقول لا يكون بغير قبول المدينة الحديثة والأخذ بأساليب التي اتخذها السابقون في مضمار التحضر.
ومن أمعن النظر في هذه النبذة يدرك أن كل نهضة غير متعذرة وأن أمم بلغت من الشقاء مبلغا كبيرا وتيسر لها بقوة الإرادة وإخلاص المستنيرين من الوطنيين أن تغلبت على جميع العوائق وكونت مجموعا يفتخر به وحررته من قيوده الثقيلة ومن رأى إيطاليا أمس يجوس النمساويون أو الفرنسي خلال دياره أو يستعبدون أبنائها ويرى الطليان اليوم وقد آلفو مجموعا حيا ودولة قوية وهم في حكومتهم الملكية أكثر حرية من الفرنسيين في حكومتهم الجمهورية على رأي بعضهم - من رأى ذلك لا يقول بان في العالم شيئا مستحيلا. وان قوة العقل والثبات على العمل تفعلان أكثر من كل قوة في الأرض.
في ايطاليا الحديثة عيوب كما في سائر الممالك وهذا يتعذر على السائح الشرقي في بلادها أن يدركه ولا يحل له أن يخط فيه حرفا لأنه لا يرى إلا الظواهر خصوصا ما عدم معرفته لغة البلاد فانه يبقى كالأصم الأخرس وليس ارتقاء الطبقة المستنيرة هو الميزان الوحيد في معرفة أقدار امة وكم عند الطبقة الوسطى والدنيا من الفضائل ونقيضها ما تؤخذ منه حقيقية شعب وذلك لا يتيسر إلا لمن عاشر الطبقات كلها وصرف زمنا طويلا في أصقاعهم المختلفة وحكم العقل والإنصاف في ما يكتبوا بعد درس العادات والأخلاق والتنظير بينهما وبين ما يماثلهما من الشعوب الأخرى.
وغاية ما يستطيع المفكر أن يقول به إذا رأى ايطاليا أن بينها وبين الشرق القريب من الفروق أكثر مابين مصر أو الشام أو السنغال أو بلاد نيامنيام يشهد هنا بكل شيء قياما(86/32)
وقانونا من خرج عنه ضل واهتدى ويجد نشاط الإفراد على أتمه ليس له ما يعوقه من سلطة جائرة وقانون غير معقول فالشقي يشقى بصنعه والسعيد يسعد كذلك ولكن السعادة أوفر مما يناقضها بدرجات السرور تقراه في الوجوه والبسطة في الغنى والرفاهية تشهده على الأكثر في سكان الأقاليم الوسطى والشمالية ولكل صقع من الأصقاع خاصية لا يكاد يشركه فيها الصقع الأخر فهذا اشتهر بعاداته وأثاره وذاك بحدائقه وأنهاره وهذا بتجارته وذاك بصناعته وأخر بزراعته وغيره بسكونه وأخر بحركته وتكاد ترى المواهب مقسمة بين البلاد. فلفرنسا مدينة الزهور وعاصمة طوسقانا وأثينا القرون الوسطى ومسقط رأس دانتي وتبرراك وبوكاس وغاليلة ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم من نوابغ الطليان في الشعر والموسيقى والنقش والتصوير والهندسة والعلم من المزايا ما ليس لرومية وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية كثيرة فان جمهوريات طوصقنا بينما كانت في القرون الوسطى تحسن الاندفاع من جميع العناصر الحيوية في الشعب كانت رومية تمحل بما قام فيها مكن المنازعات من الأسر الكبرى والذهاب في الدجالات المذهبية مذاهب. ولذلك كان المجد كله لمدينة فلورنسا التي هي اليوم إحدى الولايات الإيطالية.
هذا شأن المدن الداخلية وكذلك الحال في المدن الساحلية فإنك تجد مثلا للبندقية من المزايا مالا تجده لجنوى ونابل كلها مما يستجدي الغريب ويستهويه لنزول هذه الديار ودرس آثارها الكثيرة بل التي لا تدخل في عد لكثرتها وقد اتخذ ت الحكومة الجديدة أنواع الراحة لجلب سياح الأرض لغشيان بلادها وفي ذلك من الفوائد المادية ما لا يقدر فلو انقطع سياح الغرب سنتين عن زيارة إيطاليا لأحست بفقر شديد وذلك لما يبزره أولائك السياح من الأوائل في جميع فروع الإنفاق. ولها أمثال في تاريخ إيطاليا وقد نشأ حين إذ وقوف تجارها عن طريق البر التي كانت تعمل الجمهوريات حتى إذا قام الإصلاح الديني في أوروبا وفصل جزء عظيم في هذه القارة عن البابوية كل ما كان يرد مدة زمن طويل إلى إيطاليا من الأموال بالطبيعة فافتقرت.
إن كل كنيسة من كنائس إيطاليا حرة بأن يقصدها السائح للفرجة من القاصية وقد وقع ألي من الدهشة عندما رأيت كنيسة الدوم في فلورنسا مثلما وقع لي من الدهشة عندما زرت كنيسة القديس بطرس في روميا مقر البابوية وهوى أفئدة البابويين في الأرض ولكل مكان(86/33)
ميزته.
امتازت روميا بكثرة كنائسها العجيبة كما امتازت بكثرة عيونها وكثرة تماثيلها في كل جادة مما يستهوي الغريب ويستدعي دهشته كما امتازت جنوا بمقبرتها لتفنن الجنوبيين منذ القديم لتصوير الأموات على الرخام وهم بين أهلهم وفي آخر ساعات حياتهم والمقبرة هناك 3 طبقات كما أن أكثر الأبنية هي الآن في إيطاليا 6 طبقات ويضيق المقام لو أردت فقط الألم لما في روميا وحدها من العاديات والقصور ولا سيما حديقة بنشيو العامة فإنها خصت لكل أنواع الملاحة والراحة وهي مجمع الحسان الرومانيات كل عشية وفيها تتجلى عظمة الطليان وتتبدى طبقاتهم الاجتماعية وكل ما يقع نظرك عليه في هذه المدينة الأزلية صاحبة المدينتين الرومانية والنصراني تقرأ فيه روح التفنن وتقدير العلم والنشاط وحب التسامح إلا قليلا دخلت مع أحد إخواني من مستشرقي الطليان لازور كنيسة البانتويون فدهشت لما رأيت واليك البيان: كنيسة البانتويون هي الكنيسة الوحيدة الباقية من عهد روميا القديمة بنيت معبدا في سنة 27 قبل المسيح ولما رسخت قدم النصرانية في رومية جعلت كنيسة وكان يشترط على كل شيخ في مجلس الشيوخ في القرن الثامن للميلاد من جملة ما ينبغي له الاحتفاظ به كنيسة البانتويون. وكان يدفن بها بعض قديسيهم وأعاظم رجال الدين عندهم وماراعني إلا وقد رأيت إلى جانب أضرحة رافاييل المصور النقاش التوفي سنة 1520 والمصور دانيال كاراشي المتوفى سنة 1609 وغيرهما من كبار المهندسين والمصورين الطليان ضريح الملك فيكتور عما نوبل الثاني المدعو أبو الوطن لأنه أقام الوحدة الايطالية وخلف لذريته من بعده التاج الايطالي بعد أن كانت أسرته لا تحكم على غير إقليم البيمون فقط وضريح ابنه همبرت الأول والد الملك الحالي الذي اغتيل سنة 1900
نعم أعجبت لضريح المهندس والنقاش ويكون في مقام التكريم إلى جنب القديسين والشهداء وهذا في تلك القرون التي كنا نظن فيها أوروبا متوحشة وراقني أن يجيء ملوك ايطاليا اليوم ويحبون أن يدفنوا إلى جنب أولئك الصناع النوابغ. أن لحد بولس هو اكبر دليل على حب الباباوات لرجال الفنون الجميلة ولحد ملكين عظيمين إلى جنبهم هو أيضا مما يدل على روح التسامح الحديث وعلى أن لرافاييل ليس في مكانته في خدمة أمته ليس اقل من فيكتور.(86/34)
فان كانت باريس قد أقامت كنيسة البانتويون لتفن فيها رفات العظماء في العلم والسياسة في أوائل القرن الماضي فان رومية تفاخر بأنها خصت بانتونها لهذا الغرض منذ زهاء أربعة قرون. بانتيون باريس يضم رفات ميرابو وفنيلون وكوفيه وفولتيرو وروسو ونابليون وبانتيون رومية يحوي أمثالهم من إبطال الطليان. فمتى ترى يقوم ف الشرق القريب أعاظم من أبناء هذه الأجيال الحديثة يكونون في عقولهم وإعمالهم على مستوى أولئك الأبطال لتقوم بهم مدينتنا على أحسن الدعائم كما قامت مدينة الطليان في هذه الأزمان.(86/35)
صبح الأعشى للقشقلندي
الكتب كالأشخاص فيها النافع وفيها الضار وفيها مالا يضر وما لا ينفع والنافع قليل على كل حال. واو تهيأ لمصر منذ طبع أول كتاب عربي في روما في العقد الثاني من القرن الخامس عشر للميلاد رجال يعرفون من أين تؤكل الكتف في العلم ليطبعوا حتى الآن جميع ما عرف للسلف من الكتب الممتعة ولكان ما طبع في ديار الغرب من نوادر الأسفار العربية متمما لما طبع في مصر كهف العرب والعربية ولكن مصر لم تنتبه لهذا الأمر إلا على عهد محمد عيي فطبعت في الطبعة الأميرية بعض النوادر وكثرت المطابع في مصر وفي غير ومصر فطبع الجود والجيد ومجموع ما طبع حتى الآن لا يبلغ نصف ما خلفه السلف من تركهم الثمينة وبعثره الجهل والخمول.
وآخر ما احيي بالطبع من ذخائر العلم كتاب صبح الأعشى في كتابه النشا طبعته دار الكتب الخديوية بالقاهرة في المطبعة الأميرية وأخرجت للناس منه الجزأين الأول والثاني وكانت منذ بضع سنين طبعت الجزء الأول منه فأعادت طبعه ف المطبعة الأميرية لتتمه بحرف طريف ظريف وهو مقصد جميل يضاف لما لهذه الدار من المقاصد الحسنة في نشر الكتب النادرة على نفقتها خصوصا ما له علاقة بمصر مثل تاريخ مصر لابن إياس والانتصار لابن دقماق في وصف مصر وتاريخ الفيوم لأبي عثمان النابلسي وغير ذلك الكثير.
وكتاب صبح الأعشى للقشقلندي هذا سيكون في بضعة أجزاء وقد وقع الجزآن الأولان منه في نحو ألف صفحة والقشقلندي نسبة لقلقشندة قال الزبيدي: قد تبدل اللام راء وهو المشهور بلدة بمصر من إعمال قليوب وفيها ولد الإمام الليث بن سعد لرضي الله عنه وخرج منها كبار العلماء والمحدثين منهم العشرة من أصحاب الحافظ ابن حجر وهذه القرية قد وردت عليها مرات يتولاها أمراء الحاج قال ابن خلكان وهي على ثلاثة فراسخ من القاهرة وهي بلدة حسنة المظهر كثيرة البساتين.
هذه القرية هي مسقط رأس مؤلفنا كما قال السخاوي في الضوء اللامع وهو احمد بن علي بن احمد بن عبد الله الشهاب ابن الجمال أبي اليمن الفزاري القلقشندى ثم القاهري الشافعي والد النجم ولد سنة ست وخمسين وسبعمائة واشتغل بالفقه وغيره وسمع علي ابن الشيخ ومن في وقته وكان احمد الفضلاء وممن برع في الفقه والأدب وكتب في الإنشاء وناب في(86/36)
الحكم وشرح قطعا من جامع المختصرات بل شرع فنظمه وعمل صبح الأعشى في قوانين الإنسان في أربع مجلدات وكان ستضر أكثر ذلك من جامع المختصرات والحاوي وكتابا في الأنساب للعرب.
هذا ما قاله السخاوي وأنت ترى أن هذه الترجمة المختصرة ادني إلى أن تكون ترجمة ففيه ذكي في الحماة لا ترجمة علامة من جملة كتبه هذا الكتاب صبح الأعشى الذي هو دائرة معارف كبرى أكثر ما عرف من العلوم ذاك الزمن مما فيه فائدة للمنشئ الذي يريد أن ينشئ عن علم وفهم.
إليك طرفا من حال المؤلف إما تأليفه فكما قال عنه مبسوط يشتمل على أصول كتابه الإنشاء وقواعدها متوعيا من المصطلح ما اشتمل عليه التعريف والتثقيف موضحا لما افهماه بتبيين الأمثلة مع قرب المأخذ وحسن التأليف أتيا من معالم الكتابة بكل معنى غريب ناقلا الناظر في هذا المصنف عن رتبة أن يسال فلا يجاب إلى رتبة أن يسال فيجاب منبها على ما يحتاج إليه الكاتب من الفنون التي يخرج بمعرفتها عن عهدة الكتابة وردها ذاكرا من أحوال الممالك الكتابية عن هذه المملكة ما يعرف به قدر كل مملكة وملكها مبين الجهة قاعدتها معرفا الطريق الموصل إليها برا وبحرا. ذاكرا مع كل قاعدة مشاهير بلدانها إكمال للتعريف ضابطا لأسمائها بالحروف كي لا يدخلها التبديل والتحريف.
إما أبواب الكتاب فكثيرة ترجع كلها إلى مقدمة وعشر مقالات وهي في فضل الكتابة ومدح فضلاء أهلها وذم حماهم وذكر مدلول الكتابة وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وصفات الكتاب والتعريف بحقيقة دور الإنشاء واصل وضعه في الإسلام وتفرقة بعد ذلك في الممالك وقوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله. الثانية في المسالك والممالك والخلافة ومن وليها من الخلفاء في القديم وما انطوت عليه ممالكهم من الأقطار المصرية ومصافاتها من البلاد الشامية وما يتصل بها من الممالك والبلدان المحيطة بمصر من الجهات الأربع. الثالثة في ذكر الأمور التي تشترك فيها أنوع المكتبات والولايات وغيرهما من ذكر الأسماء والألقاب وكتابة الملخصات وبيان الفواتح والخواتم. الربعة في أمور كلية تتعلق بالمكاتبات مثل مصطلح المكاتبات الدائرة بين كتاب الإسلام في كل زمن من الصدر الأول إلى زمن المؤلف. الخامسة في الولايات(86/37)
وكيف يكتب لكل منها والمبيعات والعهود. السادسة في الوصايا الدينية والمسامحات والطلاقات وتحويل السنين والتذاكر. السابعة في المقاطعات. الثامنة في الإيمان. التاسعة في عقود الصلح والمفسوخ. العاشرة في فنون من الكتابة بتداولها الكتاب ويتنافسون في عملها.
وفي كل مقالة من هذه المقالات العشر أبواب كلها منسقة أحسن تنسيق مثل موانئ الفرنسي لعهدنا مع وفرة مادة الألمان في تأليفهم وانه إذا وقع للمؤلف شيء قليل في كل مئات من الصفحات مما لا ينطبق مع ذوق العصر الحاضر أو يخالف أصول العلم الحديث فالذنب في ذلك لأعلى المصنف بل على عصره الذي كتب ارق ما عهد فيه ومحصه تمحيص عاقل حكيم.
وهناك أنموذجات من الكتاب الأول: من كان فردا في زمانه بحيث يضري به المثل في أمثاله: كان لاسكندر في طوفان الأرض وكسرى انوشروان في العدل وحاتم الطائي في الكرم وأبو قراط في الطب وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في معرفة الأنساب وعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوة الهيبة وعثمان بن عفان رضي الله عنه في التلاوة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في القضاء وأبو عبيدة بن الجراح في الأمانة وأبي ذر في صدق اللهجة وأبي بن كعب في القران وزيد بن ثابت في الفرائض ونافع في القراءة وأبو الحسن المدائني في الأخبار ومالك بن انس في العلم والشافعي في الحديث وأبو الحسن الأشعري في علم الكلام وابن حزم في مذهب الظاهر وسيبويه في النحو وأبو الحسن البكري السيرى في الكذب وإياس بن معاوية في الذكاء والتفرس وأبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني في المحاضرة والرازي في الطب وابن القرية في البلاغة والجاحظ في الأدب والبين والحرير في المقامات والبديع الهمداني في الحفظ والزمخشري في تعاطي العربية وجرير الشاعر في الهجاء والقاضي الفضل في الترسل والعماد الكتب في الجناس وحنين بن اسحق في ترجمة اليوناني إلى العربي وابن سينا في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضي ونجم الدين الكتابي في المنطق والقاضي احمد في الروية والصولي في الشطرنج وجابر بن حيان في علم الكيمياء.
وقال من فصل في الحمام: ثم هو على قسمين احدهما ما ليس له اهتداء في الطيران من(86/38)
المسافة البعيدة والثاني ماله اهتداء ويعرف بالحمام الهدي وهو المراد هنا وقد اعتنى الناس بشأنه في القديم والحديث واهتم بأمره الخلفاء كالمهدي ثالث خلفاء بني العباس والواثق والناصر وتنافس فيه رؤساء الناس بالعراق لا سيما البصرة فقد ذكر صاحب الروض المعطار أنهم تنافسوا في اقتنائه ولهجوا بذكره وبالغوا في أثمانه حتى بلغ ثمن الفارة منه سبعمائة دينار ويقال انه بلغ ثمن طائر منها جاء من خليج القسطنطينية ألف دينار وكانت تباع بيضة الطائر المشهور بالفراهة بعشرين دينار وانه كان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب وانه كان ليمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتخاذ الحمام والمنافسة فيه والأخبار عنها والوصف لأثرها والنعت لمشهورها حتى وجه أهل البصرة إلى بكار بن كتيبة البكراني قاضي مصر وكان في فضله وعقله ودينه وورعه ما لم يكن عليه قاض بحمامات له ثقات وكتبوا إليه يسألونه أن يتولى إرسالها بنفسه وكان الحمام عندهم متجرا من المتاجر لا يرون بذلك باسا.
ويطول بنا الكلام إذا أردنا إن نقتبس فصولا من الكتاب لبيان مزيته بين الأسفار الرائقة وقد دل تجويد المؤلف لتأليفه على مبلغه من العلم ووفرة ما كان لديه من كتب الأمهات فأوائل القرن التاسع للهجرة في زمن نسميه دور الفتور ولكن مصر لم تخل في عامة أدوارها بؤسها كأيام نعيمها من إجلاء حكماء تنبتهم تربة النيل وقد لا يشتهرون إلا بعد مماتهم لاتساع القطر والحدس المأثور عن بعض العلماء أحدهم للآخر ولكن العالم الحقيقي تظهر حسناته ولو بعد قرون وكم من مؤلف مثل القلقشندى رزق الحظوة في جميع ما كتب كما وقع المقريزي وياقوت والجاحظ والغزالي والماوردي وابن كتيبة والراغب والمجيدون في توليفهم من المتأخرين قلائل على كل حال بقي أن نسدي أطيب الثناء على عمدة دار الكتب الخديوية لتعهدها العلم الحين بعد الآخر بإحياء مثل هذه المصنفات التي قد يغني الكتاب منها عنه. خزانة كتب ويفيد في بث العلم في الدانية والقاصية ما لا تقوم به الخطب والمحاضرات والمقالات المقصورة على زمان معين وفئة معينة من الأرض ونخص بالشكر مديرها ووكيلها وقد أحسن الطابعون بجعل فواصل بين الفصول والأبواب وإنهاء السطر حيث تنتهي الجملة أو القطعة ووضع أدوات الفصل الجديدة المعروفة في اللغات الإفرنجية وإن كان أداة التعجب لم تجعل بعض الأحيان في أماكنها أما أغلاط الطبع فنادر(86/39)
في هذين الجزأين من الكبريت الأحمر، ورجاؤنا أن تزيد العناية في الأجزاء التالية ويشفع آخر الكتاب بفهرس مستوفى مثل فهرس تاريخ مصر لابن إياس طبع دار الخديوية أو أكثر توسعاً منه حتى نباهي بأن مصر فاقت أوروبا بمطبوعاتها العربية ويكون لنا هذا القليل الممتع من أمهات الكتب العملية الذي جود الطابعون طبعه ووضعه خير عزاء لما يصدر كل أسبوع من مطابع مصر التجارية ونخجل منه أمام أنفسنا دع غيرنا من علماء الأمم الراقية حتى لقد قلت ثقة علماء الشرقيات بمطبوعاتنا اللهم إلا النادر الفذ ولم يعولوا في مصنفاتهم ونقولهم إلا على ما طبع منها في بلاد الغرب خاصة.
وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريفان الحمام أول ما نشا يعني في الديار المصرية والبلاد الشامية_من الموصل وان أول من اعتنى به من الملوك ونقله من الموصل الشهيد نور الدين زنكي صاحب الشام رحمه الله تعالى في سنة 565 وحافظ عليه الخلفاء الفاطميون بمصر وبالغوا حتى افرد وله ديوانا وجرائد بأنساب الحمام وقد اعتني بعض المصنفين بأمره حتى صنف فيه أبو الحسن بن ملاعب القواس البغدادي كتابا للناصر لدين الله العباسي ذكر فيه أسماء أعضاء الطائر ورياشه والوشوم التي توشم في كل عضو وألوان الطيور نوما يستحسن من صفاتها وكيفية أفرخها وبعض المسافات التي أرسلت منها وذكر شيء من نوادرها وما يجري مجرى ذلك. وذكر في التعريف أن القاضي محي الدين بن عبد الظاهر صنف فيه كتابا سماه تمائم الحمائم وقال في مسافة الطيران: ذكر ابن سعيد في كتابه جني المحل وجني النحل أن العزيز بمصر ذكر لوزيره يعقوب بن كلس انه ما رأى القراصية البعلبكية وانه يحب أنيراها وكان بدمشق أن يجمع ما بها من الحمام المصري ويعلق في قدر كثير من القراصية فطلع بها إلى العزيز من يومه وذكر أيضا في كتابه المغرب في أخبار المغرب أن الوزير اليازوري المغربي وزير المستنصر الفاطمي وجه الحمام من مدينة تونس من افريقية من بلاد المغرب إلى مصر فجاء إلى مصر وذكر أبو الحسن القواس في كتابه في الحمام أن حماما طار من عبدان إلى الكوفة وان حماما طار من الترناوذ إلى الأبله ونحو ذلك. .
وذكر في جملة ما ذكره في تجويد الإنشاء خلو الفكر عن المشوش وصفاء الزمان وقال في هذا: قال أبو تمام الطائي في وصيته لأبي عبادة البحتري مرشدا له للوقت المناسب لذلك:(86/40)
تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء وأحفظه أن يختار وقت البحر فان النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا الدماغ من أكثر الأبخرة والأدخنة وسكنت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم. وخالف ابن أبي الصابغ في اختيار وقت السحر وجنح إلى اختيار وسط الليل اخذ من قول أبي تمام في قصيدته البائية:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب
مفسرا للدجى بوسط الليل محتجا لذلك بأنه حينئذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة ونالت قسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء فيكون الذهن حينئذ صحيحا والصدر منشرحا والبدن نشيطا والقلب ساكنا بخلاف وقت السحر فأنه وإن كان فيه يرق النسيم وينهضهم الغذاء إلا إنه يكون قد انتبه فيه أكثر الحيوانات الناطق وغيره ويرتفع معظم الأصوات ويجري الكثير من الحركات وينقشع بعض الظلماء بطلائع أوائل الضوء وبما انهضم عن بعض الناس الغذاء فتحركت الشهوة لاختلاف ما انهضم منه وخرج من فضلاته فكان ذلك داعيا إلى شغل الخاطر وباعثا على انصراف الهمم إلى تدبير الحدث الحاضر فيتقسم الفكر ويتذبذب القلب ويتفرق جميع الهم بخلاف وسط الليل فانه خال من جميع ذلك.
وقال في صفاء المكان: وذلك بان يكون المكان الذي هو فيه خاليا من الأصوات عاريا من المخوفات والمهولات والطوارق وان يكون مع ذلك مكانا واثقا معجبا رقيق الحواشي فسيح الأرجاء بسيط الرحاب غير غم ولا كدر فان انضم إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر من ماء وخضرة وأشجار وإزهار وطيب رائحة كان ابسط للفكر وانجح للخاطر. وقد ذهب بعضهم إلى انه ينبغي خلو المكان من النقوش الغربية والمرائي المعجبة فإنها وان كانت مما ينشط الخاطر فان فيها شغلا للناظر فيتبعه القلب فيشتتاه.
ويطول بنا الكلام إذا أردنا نقتبس فصولا من الكتاب لبيان مزيته بين الأسفار الرائقة وقد ذل تجويد المؤلف لتأليفه على مبلغه من العلم ووفرة ما كان لديه من كتب الأمهات في أوائل القرن التاسع للهجرة في زمن نسميه دور الفتور ولكن مصر لم تخل في عامة أدوارها أيام بؤسها كأيام نعيمها من إجلاء حكماء تنبتهم تربة النيل وقد لا يشتهرون إلا بعد(86/41)
مماتهم لاتساع القطر أو للحد المأثور عن بعض العلماء احدهم للأخر ولكن العالم الحقيقي تظهر حسناته ولو بعد قرون وكم من مؤلف صنف المائة والمائتين من المجلدات فلم يكتب لها البقاء لأنها غير نافعة وفي غيرها عنها كفاية وكم من مؤلف مثل القلقشندى رزق الحظوة في جميع ما كتب كما وقع للمفريزي وياقوت والجاحظ والغزالي والماوردي وابن كتيبة والراغب والمجيدون في توليفهم من المتأخرين قلائل على كل حال بقي إن نسدي أطيب الثناء على عمدة دار الكتب الخديوية لتعهدها العلم الحين بعد الأخر بإحياء مثل هذه المصنفات التي قد يغني الكتاب منها عن خزانة الكتب ويفيد في بث العلم في الدانية والقاصية ما لم تقوم به الخطب والمحاضرات والمقالات المقصورة على زمان معين وفئة معينة وبلد معينة من الأرض نخص بالشكر مديرها ووكيلها وقد أحسن الطابعون بجعل فواصل بين الفصول والأبواب وإنهاء السطر حيث تنتهي الجملة والقطعة ووضع أدوات الفصل الجديدة المعروفة في اللغات الإفرنجية وان كانت أداة التعجب لم تجعل بعض الأحيان في أماكنها إما أغلاط الطبع فأندر في هذين الجزأين من الكبريت الأحمر ورجاءنا إن تزيد العناية في الأجزاء التالية ويشفع أخر الكتاب بفهرس مستوفي مثل فهرس تاريخ مصر لابن إياس طبع دار الكتب الخديوية أو أكثر توسعا منه حتى نباهي بان مصر فاقت أوروبا بمطبوعاتها العربية يكونوا لنا هذا قليل الممتع من أمهات الكتب العلمية الذي جود الطابعون طبعه ووضعه خير عزاء لما يصدر كل أسبوع من مطابع مصر التجارية ونخجل منه إمام أنفسنا دع غيرنا من علماء الأمم الراقية حتى لقد قلت ثقة العلماء المشرقيان بمطبوعاتنا اللهم إلا النادر الفذ ولم يعولوا في مصنفاتهم ونقولهم إلا على ما طبع منها في بلاد الغرب خاصة.(86/42)
سجع العماد
ذكر لنا احد الفضلاء بأننا حملنا على العماد الكاتب في الجزء عند كلامنا على سيرة صلاح الدين والاستطراد إلى تبجحه بنثره دون التوسع في حسناته في بلاغته وفصاحته وما كان كلامنا فيه إلا من قبيل الاستطراد وإلا فان سجع العماد مما سار مسير المثل في البلاد ولو كان البحث خاصا فيه وقصرنا في توفيته حقه لتم هذا الحكم من كل وجوهه. وها نحن أولاء نشفع ذاك النقد بنقل شذرات من سجعه البديع وأمامنا من كتبه الفتح القسي وزبدة النصر وهما من الكتب التي باكر المستشرقون إلى تمثيلها بالطبع منذ زمن للاستفادة من مضامينهما العماد الكاتب الاصبهاني أبو عبد الله محمد بن صفي الدين المعروف بابن أخي العزيز من طلبة المدرسة النظامية في بغداد ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير ابن هبيرة ببغداد غزلاه النظر بالبصرة ثم بواسطة فلما توفي تشتت شمل إتباعه ومنهم العماد الذي أقم مدة. كما روى ابن خالكان في عيش منكد وجفن مسهد ثم انتقل إلى دمشق سنة 563 فاتصل بصاحبها نور الدين محمود بن زنكي وبصلاح الدين يوسف بن
أيوب وأهل لكتابة الإنشاء قال العماد: فبقيت متحيرا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمت لي به دراية ولقد كانت مواد هذه الصناعة (أي الإنشاء) عتيدة عنده لكنه لم يكن قد مارسها فجبن عنها في الابتداء فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها واتى فيها بالغرائب وكان ينشئ الرسائل
بالعجمية أيضا وبعد وفاة نور الدين اتصل بصلاح الدين فنظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم وكان القاضي الفاضل هو الواسطة في ذلك بينه وبين صلاح الدين وقال أنا لا يمكنني الملازمة الدائمة في كل سفرة وغدا يكاتبك ملوك الأعاجم ولا تستغني في الملك عن عقد الملطفات وحل التراجم والعماد يفي بذلك ولك اختاره وقد عرف في الدولة النورية مقداره واخذ للعماد خط السلطان بما قرره له من شغل. وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان ويتوفر على مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم.
قال صاحب وفيات الأعيان وصنف العماد والتصانيف الفائقة من ذلك كتاب جريدة القصر وجريدة العصر جعله ذيلا على زينة دمية الدهر تأليف الخطيري الذي جعل كتابه ذيلا(86/43)
على دمية القصر للباخرزي والباخرزي جعل كتابه ذيلا على يتيمة الدهر للثعالب وهذا جعل كتابه ذيلا على كتاب البارع لهرون بن علي المنجم وكتاب العماد في عشر مجلدات وصنف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وكتاب الفتح القسي في مجلدين وكتاب السيل على الذيل جعله ذيلا على الذيل لابن السمعاني وصنف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات ونفسه في قصائده طويل وله ديوان صغير جميعه دونيت وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاضرات لطاف. توفي سنة 597بدمشق. وسجع العماد الكاتب وان كتب إليه الوزير ضياء الدين بن الأثير صاحب المثل الثائر: وكيف لا يكون ذلك وقلمها هو يراع الذي نفثت الفصاحة في روعة وكمنت الشجاعة بين ضلوعه فإذا قال أراك كيف تنسق الفرائد في الأجياد وإن قال ذلك فهو كلام الأخ لأخيه والسجع كان من مألوفات تلك الأيام وابن الأثير كان مسجع أيضا فن كلام العماد لا يخلو من تخلف مهما تمثلنا قال القلشندي في صبح الأعشى فيما يكون حسن السجع وقبحه: منها إن يكون السجع بريء امن التكلف خاليا من التعسف محمولا على مايأتعي به الطبع وتبديه الغريزة ويكون اللفظ فيه تابعا للمعنى بان يقتصر من اللفظ بما يحتاج إليه في المعنى دون الإتيان بزيادة أو نقص بسبب السجع دون المعنى خرج السجع عن حيز الذم ومنها إن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة لا غثة ولا باردة مونقة المعنى حسنة التركيب غير قاصرة على صورة السجع الذي هو تواطؤ الفقر فيكون كمن نقش أثوابا من الكرفس أو نظم عقدا من الحرز الملون: قال في المثل الثائر وهذا مقام نزل عنه الأقدام ولايستطيء إلا الواحد من أرباب هذا الفن بعد الواحد قال ومن اجل ذلك كان أربابه قليلا ولولا ذلك كان كل أديب سجاعا إذا ما منهم من احد إلا وقد يتيسر عليه تأليف ألفاظ مسجوعة في الجملة. وها قد إن أوان نقل فصول من كلام العماد بيانا لمنزلته في النثر وتجليه في حلبة البيان قال في مقدمة الفتح القسي: هذا كتاب أسهمت فيه بين الأدباء الذين يتطلعون اللي الغرر المتجلية وبين المستخبرين الذين يستشرفون إلى السير المتحلية. يأخذ الفريقان منه على قدر القرائح والعقول. . . ويكون حظ المستخبر أن يسمع والأديب إن يقول. فان فيه من الألفاظ ما صار معدنا من معادن الجواهر التي نولدها (انظر إلى هذه الدعوى التي لا تفوقها إلا دعوى الوزير ابن الأثير(86/44)
صاحب المثل السائر) ومن غرائب الوقائع ما صار به لسانا من السنة العجائب التي نوردها وإنما بدأت بالتاريخ به لاستقبال سنة ثلث وثمانين وخمسمائة لان التواريخ معادها إما إن تكون مستحقة من بدء نشأة البشر الأولى راما مستحقة بمعقب من الدول الأخرى فلا امة من الأمم ذوات الملل. وذوات الدول. إلا ولهم تاريخ يرجعون إليه. ويعولون عليه. ينقله خلفها عن سلفها وحاضرها عن غابرها تقيد به شوارد الأيام وتنصب به معالم الأعلام ولولا ذلك لانقطعت الوصل وجهلت الدول ومات في أيام ذكر الأول. ولم يعلم الناس أنهم لعلاقة الثرى. وأنهم نطف في ظلمات الأصلاب طويلة الثرى. وان أعمارهم مبتداه من العهد الذي تقادم لأدم وقد اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم أراده من ظهورهم. فليعلم المرء قبل انقضاء عمره وقبل نزول قبره ما استبعده أهل الطي من حقيقة الشر. وتقبل في واحدة من الأطوار شهادة عشر. فقد قطع عمرا بعد عمر. وسار دهرا بعد دهر. وثوى والشر في ألف قبر. وإنما كان من الظهور في ليل إلى إن وصل من العيون إلى فجر ولولا التاريخ لضاعت مساعي أهل السياسات الفاضلة. ولم تكن المدائح بينهم وبين المذام هي الفاضلة. ولقد الاعتبار بمسالة العواقب وعقوبتها. وجهل ما وراء صعوبة الأيام من سهولتها وما وراء سهولتها من صعوباتها فأرخ بنو ادم بيومه. وكان أول من اشترى الموت نفسه وقاع النزع مقام سومه. ثم أرخ الأولون بالطوفان الذي بلل الأرض وأغرقها ثم بالعام الذي بلبل الألسن وفرقها وأرخت الفرس أربعة فإليه ترجع الفرس تواريخ لأربع طبقات من ملوكها أولهم كلشاه ومعنى هذا الاسم ملك الطين فإليه ترجع الفرس بأنسابها وعليه ينسق عقد حسابها وهي الآن تؤرخ بيزجرد أخر ملوكها وهو الذي بزه الإسلام تاج إيوانه وأطفئ نور الله بيت نيرانه وأرخ اليونان من فيلبس أبي لاسكندر والى قلوبطرة أخرهم وهؤلاء المسمون بالحفاء وهم الصابئون وأرخ اليهود بأنبيائهم وخلفائهم وبعمارة البيت المقدس وبخرابه على ما اقتضاه نقل أوائلهم وآبائهم وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة فكانت حمير تؤرخ بالتابعة ممن يلقب يذو ويسمى بفيل وكانت غسان تؤرخ بعام السد حين أرسل الله عرم السيل وأرخت العرب اليمانية بظهور الحبشة على اليمن ثم بغلبة الفرس عليه وأرخت معه بغلبة جرهم للعماليق وإخراجهم عن الحرم ثم أرخو بعام الفساد وهو عام وقع فيه بين قبائل العرب تنازع في الديار فنقلوا منها(86/45)
وافترقوا عنها ثم أرخوا بحرب بكر وتغلب ابني وائل وهي حرب البسوس وثم أرخوا بحرب عبس وذبيان ابني بغيض وهي حرب داس والغبراء وكانت قبل المبعث بستين سنة ثم أرخوا بعام الخنان قال النابغة الذبياني:
فمن بك سائلا عني فإني ... من الفتيان في عام الخنان
وأرخوا بعدة من مشاهير أيامهم وأعوامهم بعام المخانق وعام النائب ويوم ذي قار وبحرب الفجار وهي أربع حروب ذكرها المؤرخون وأسندها الراوون وأدنى ما أرخوا به قبل الإسلام بحلف الفضول منصرف قريش من الفجار الرابع وبحلف المطيبين وهو قبل حلف الفضول ثم بعام الفيل وهو الجار ذو القربى لتاريخ الإسلام وخرجت إمام الجمعة فطويت الصحف وجفت الأقلام واظهر الله على الأديان الدين القيم ونسخ تاريخ الهجرة كل تاريخ متقدم.
وقال في مفتتح فصل في ذكر ما جرت عليه حال الفرنجة في خروجهم من القدس وشرع الإفرنج في بيع الأمتعة واستخراج ذخائرهم المودعة وباعوا بالمجان في سوق الهوان وتقاعد الناس بهم فابتاعوا بأرخص الإثمان وباعوا بأقل من دينار كل ما يساوي أكثر من عشرة. وجدوا في ضم الذهبيات والفضيات من الأواني والقناديل والحريريات والمذهبات من الستور والمناديل ونقضوا من الكنائس الكمائن واستخرجوا من الخزائن والدفائن وجمع البطرك الكبير كل ما كان على القبر من صفائح التبر ومصوغات العسجد ومصنوعات اللجين وجميع ما كان في قمامة من الجنسين والنسيجين فقلت للسلطان هذه أموال الكنائس والأديار فلا تتركها في أيدي هؤلاء الفجار فقال إذا تأولنا عليهم نسبونا إلى القدر وهم جاهلون بسر هذا الأمر فنحن نجريهم على ظاهر الأمان ولا نتركهم يرمون أهل الإيمان بنكث الإيمان بل يتحدثون بما أفضناه من الإحسان فتركوا ما ثقل وحملوا ما عز وخف وتفضوا من تراب تراثهم وقمامة قمامتهم الكف وانتقل معظمهم إلى صور وكتفوا بالديجور الديجور وبقي منهم زهاء خمسة عشر ألفا امتنعوا عن مشروع الحق فاختصوا بمشروط الرق فإما الرجال وكانوا سبعة ألاف فأنهم ألفوا ذلا لم يكونوا آه بآلاف فاقتسمتهم أيدي سبا وتفرق الغانمون بجمعهم في الزهاد والربا وأحصيت النساء والصبيان ثمانية ألاف نسمة عادت بيننا مقتسمة وأصبحت ببكائها وجوه الدولة مبتسمة.(86/46)
وأنت ترى انه لو رفعت بعض الأسجاع من هذا الفصل البادي التكلف عليه لأصبحت عبارة العماد من السهل الممتنع ولكنه تشبث بأذيال هذه الصناعة واثر التصنيع الصعب المنقادة على الطبع السلس. وقال من فصل أخر وسار السلطان ومعه عماد الدين زنكي وسيفه بصقله يضحك وبدم الكفر يبكي ومظفر الدين كوكبوري وهو الذي حين يواري صارمة في نجيع العدى لزند الظفر يوري وصحبه من فرسان العرب كل فارس معرب ومن شجعان الأكراد كل فاتك مخرب ومن فتاك الأتراك كل قصور قاصر ومن صيد الصناديد كل كسروي كاسر وكل كمي كميش واكديش على اكديش وقارح على قارح وخضم على سابح وجرى جار جارح وبهمة وبطل وجبل على جبل وفحل على فحل وذمر نكل وورد على ورد ومرد على جرد وحلس على حلبس وباشر بالموت معبس واهيس اليس واحمى أحمس ووغشمشم همام وأيهم مقدام وباسل ذي باس وعاسل عاس ورئبال على رئبال ومشتمل على شمال وبحر على بحر وصقر على صقر وركبوا سلالهم وجنبوا جنائنهم وجروا على الساحل سيولا وجروا بالذوابل ذيولا وطارابليس طرابلس بخوا في الخوف ودام الجوى في رعب أهلها بدم الجوف وما سار إلا من خف في نهضته ونهض بخفته وأحسن حصن الأكراد بالا كدار وصفت على صافيتا بوارق البوار وقطع عرق عرقا وعقرت وتعرت العريمة وتعرقت ومزعت تلك الأعمال ومزقت وأرهقت وأزهقت ونفرت أنفارها وبقرت أبقارها وملئت بالدوائر ديارها وسيقت مواشيها وحشيت بالنيران أوساطها وحواشيها.
وفي كتاب الفتح القسي فصول اشد إيغالا من هذا التكلف الذي اقتبسنا نموذجا منه للتعريف بأسلوب هذا الكاتب وله أيضا في زبدة النصرة ونخبة العصر الذي اختصره الفتح البندري ونشه الأستاذ هو تسما الهولندي المستشرق الشهير لأول مرة في الغرب قال في بداية حال السلجوقية وهم أتراك كانت السلجوقية ذوي وعدد وأيد ويد لا يدينون لأحد ولا يدنون من بلد وميكائيل بن سلجق زعيمهم المبجل وعظيمهم المفضل وقد سكنوا من إعمال بخارا موضعاً يقال له نور بخارا وما زالوا في انصر شيعة وأنضر عيشة وهم في الرعي يكلئون الكلأ وفي الريع يملئون الملأ لا يذعر داعر ولا يردعهم رادع والسلاطين يرعونهم للملمات ولا يرعونهم ويدعونهم للمهمات ولا يدعونهم حتى عبر عب السلطان يمين الدولة محمود(86/47)
بن سبكتكين إلى بخارا المساعدة قدر خان فرأى مكيال مكيائيل بحصا الحصافة معيرا وصاع مصاعه بباسل البسالة موفرا فرغب في استغرابه وانجذب إلى اجتذابه وأراد إن يعبر إلى خراسان به وبأهله ويكنف أكنافها الذي الحفظ والحفيظة بنبله ونبله وامتنع ميكائيل عليه ومال عنه ولم يمل إليه فغاظ السلطان تمنعه فقبضه واعتقله وعبر به وبأصحابه إلى خراسان ونقله وقال له ارسلان الحاجب أني أرى في أعين هؤلاء عين الهول وأنهم لمعروفون بالجرأة والقوة والحول والرأي عندي إن تقطع إبهام كل من تعبره منهم ليؤمن ضره ولا يخاف شره فما قبل خطابه في هذا الخطب وقال له انك لقاسي القلب فلما أقاموا في خراسان تقربوا إلى عميدها أبي سهل احمد بن الحسن الحمدوني وأهدوا إليه ثلثه أفراس مختلية وسبعة أجمال بخطية وثلاثمائة رأس غنم تركية وهداه إقبالهم إلى قبول الهدية وكانوا سألوه إن بمرجهم في المروج ويسد بمواشيهم محارم تلك الفروج فعين لهم مروج دندلقان فقاربها وما قاربها وتحاكماها من عداهم وجانبها وتوفي محمود بن سبكتكين وهو كاره لأمرهم مثفق من وميض جمرهم مستشف ستر القضاء في قضية شرهم وجد أبو سهل الصعب فيهم سهلا. واتخذهم لارتفاقه بهم صحبا وأهلا ونفذ مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكرا من غزة إلى خراسان فواقعهم وقتل منهم عدة واسر منهم جماعة حملهم إلى غزة منهم يبغوا إلى خراسان فاستعطفوه فلم يعطف واستسعفوه فلم يسعف ولما غلق رهنهم وتوثق شربوا كاس اليأس وأبدلوا إيناس الناس بايحاش الحاشية ومشى شحنة طاس لاستياق ما لهم من ماشية واستلان خشونتهم واستسهل صعوبتهم ولما ظن انه أب بالغنم والغنيمة وباء بعز العزيمة ركبوا إليه صهوات الخنق وصرفوا نحوه أعنة الخيبة والعنق حتى لقوه فتركوه لقي وتبعوا المنهزمين ودخلوا إلى طاس فملكوها وجاسوا خلال ديارها وسلكوها وتشاوروا في ما بينهم وقالوا هذا بحر خضناه وفتح ابتكرتاه وطاس مدينتنا التي تؤوينا وحصننا الذي يحمينا فلا نفرج عنها ولا نخرج منها وشرع أبو سهل الحمدوني في إدراك ما فرط واستمساك ما اخبط وكادوا يجيبونه بالجميل ويحملون في الجواب ويميلون بما لأته إلى صوب الصواب فتسرع شحنة نيسابور وتعسر وجند وعسكر وشن على سرحهم غارة على غارة ونهض لمنفعة نهضت بمضرة فركبت السلجوقية إليه والى جماعته إرسالا ونبشوا معهم وشبوا قتالا وهزموهم وكسروهم وقتلوهم وأسروهم وامتدوا(86/48)
إلى نيسابور فدخلوها ووجدوا في خلوها فرصة فاهتبلوها وذلك في شهر رمضان سنة 429 وعزموا على مد يد ونهب البلد فمنعهم طغرليك محمد بن ميكائيل بن سلجق وهو أميرهم وكبيرهم وقال لهم نحن في شهر حرام لأنهتك عصمته ولا يحصل من النهب ارب وإنما يسوئنه السمعة ويشيع الشنعة فنفرت جماعته من مقاله وسخفوا رأيه في تبيين حرام الفعل وحلاله.
إلى إن قال واستولوا على خراسان وتجاوزوها إلى العراق وطارا على ملك الديلى ورموه بالصليم وغلوا الأملاك وبلغوا الأفلاك واقتسموا البلاد وطرفوا إطرافها والبلاد قال وهذه السنة (437) هي أول سنة ورد فيها الأتراك (السلجوقيين) إلى العراق وانتشروا منها في الأفاق ثم قال وأجفل الملوك من خوف إقدامهم وتنحوا من طريق ضرامهم فما جاؤوا إلى بلدة إلا ملكوا مالكها وملئوا مسالكها وأرعبوا ساكنيها واسكنوها الرعب وغلبوا ولاتها وولوها القلب وازوروا إلى الزوراء وأشاعوا مد اليد بالغارة الشعواء وقال في ظهور الإسماعيلية فنابت نوائب وظهرت العجائب وفارق الجمهور بيننا جماعة نشئوا على طباعنا وكالوا بصاعنا وكانوا معنا في المكتب واخذوا حظا وافرا من الفقه والأدب وكان منهم رجل من أهل الري وساح في العالم وكانت صناعته الكتابة فخفي أمره حتى ظهر وقام فأقام من الفتنة كل قيامه واستولى في مدة فريبة على حصون وقلاع منيعة وبدأ من القتل والفتك بأمور شنيعة وخفيت عن الناس أحوالهم ودامت حتى استتب على استتبا بسبب لن لم يكن للدولة أصحاب أخبار وكان الرسم في أيام الديلم ومن قبلهم الملوك أنهم لم يخلوا جانبا من صاحب خبر وبريد فلم تخف عنهم أخبار الأقاصي والداني وحال الطائع والعاصي حتى ولي في الدولة السلجوقية ألب ارسلان محمد بن داود ففاوضه نظام الملك في هذا الأمر فأجابه انه لا حاجة بنا إلى صاحب خبر فان الدنيا لا تخلو كل بلد فيها من أصدقاء لنا وأعداء فإذا نقل إلينا صاحب الخبر وكان له غرض اخرج الصديق في صورة العدو والعدو في صورة الصديق فاسقط السلطان هذا الرسم لأجل ما وقع لهم من الوهم فلم يشعر إلا بظهور القوم وقد استحكمت قواعدهم واستوثقت معاقدتهم وأخافوا السبل وأجالوا على الأكابر الأجل وكان الواحد منهم يهجم على كثير وهو يعلم انه يقتل فيقتله غيلة ولم يجد احد الملوك في حفظ نفسه منهم حيلة فصار الناس فيهم فريقين فمنهم من جاهرهم(86/49)
بالعداوة والمقارعة ومنهم من عاهدهم على المسالمة والموادعة فمن عاداهم خاف من فتكهم ومن سالمهم نسب إلى شركهم في شركهم وكان الناس منهم على خطر عظيم من الجهتين فأول ما بدؤوا بقتل نظام الملك ثم اتسع الخرق وتفاقم الفتق ولما أكنوا تجمعوا من كل صنف تطق إلى جميع أصناف الناس التهم ودب البري السقم وتوفرت على التوفي الهمم.
هذه هي انموذجات من سجع العماد ولعل في ذلك فائدة لمن يحب هذه الطريقة ولكنها صعبة لا تنتج في هذا العصر الذي أصبح فيه المعاني قبل المباني.(86/50)
احمد فتحي باشا زغلول
رزئت مصر بل البلاد العربية برجل نافع في نهضتها العلمية والاجتماعية والفضائية ونعني به المرحوم احمد فتحي باشا زغلول من رجال الفضاء في مصر رفعه عمله إلى المناصب العالية وكتب له عمله درجة سامية بين العلماء بما ألف وعرب توفاه الله عن نحو خمسين عاما في القاهرة وكان من الرجال العاملين الذين يصرفون فضل أوقاتهم في التعريب والتأليف وجميع ما عربه وألفه من الكتب الاجتماعية والحقوقية يدل بعد غوره وانه لا ينشر للناس إلا المفيد فأول كتبه التي نشرها كتاب أصول الشرائع لبنثام الانكليزي عربه عن بالافرنسية في مجلدين لطيفين ثم عرب كتاب خواطر وسوا نح في الإسلام للكونت هنري دي كاستري ثم كتاب سر تقدم الانكليز السكسونيين لادمون ديمولان وهذا اشتهر كثيرا واثر وأي اثر في نفوس كل من طالعوه وترجم أيضا كتاب روح الاجتماع للفيلسوف كوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب وكتاب سر تطور الأمم لذاك الفيلسوف أيضا وألف من الكتب كتاب المحاماة وكتاب شرح القانون المدني.
احتفل رجال العلم والقضاء والحكومة في مصر في أوائل شهر حزيران من السنة الفائتة في مقر الجامعة المصرية بالعالم فتحي باشا على اثر نشره كتاب شرح القانون المدني فتليت خطب كثيرة في إعماله وقدمت له نسخة مجلدة تجليدا مذهبا من كل كتاب ألفه ورسالة شكر وقع عليها المحتفلون. وفي التاسع من أيار هذه السنة احتفل طائفة من رجال العاصمة المصرية يوم الأربعين من وفاته بتأبينه وتعداد بيض أباد به علي العلم والقضاء وذلك في الأوبرا الخديوية بحضور جمهور كبير من العلماء والفضلاء والشعراء والوزراء والوجهاء فتقدم حسين رشدي باشا رئيس النظار ورئيس لجنة الاحتفال إلى مكان الخطابة وتلا خطبة ثم قام بعده عبد الخالق باشا ثروت ناظر الحقانية والقي خطبة رنانة ثم تلاهما الشيخ محمد الخضري وكيل مدرسة القضاء الشرعي والقي خطبة بليغة عن بعض ما يعرف عن الفقيد من النبوغ فيما اشتغل معه فيه من الأمور الشرعية ثم تلاه محمود بك أبو النصر المحامي نائبا عن المحاماة فصور للناس احمد فتحي زغلول باشا وحيد زمانه في الخطابة والكتابة والتأليف والتعريب وفضائل النفس وسمو الأخلاق ثم تلاه حسن بك عبد الرزاق المحامي نائبا عن الجمعية الخيرية الإسلامية فمثله في بره بالفقراء وعطفه على المعوزين ثم قام على أثره احمد بك لطفي السيد مدير الجريدة نائبا عن الصحافة والأدب(86/51)
فأتى على تاريخ الفقيد وسر نبوغه وإغراضه الكامنة في صدره منذ نعومة إظفاره في المبادئ السياسية والاجتماعية والتشريعية.
وبعد إن أتم الخطباء خطبهم تقدم محمود بك نبيه المصري والقي مرثيه وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار المدرس بمدرسة البوليس قارئا لقصيدة الشيخ عبد المحسن الكاظمي شاعر العراق التي أجمل فيها العزاء لكل مصاب بهذا الفقيد سواء في مصر أو غيرها.
ثم تلاه الشيخ عبد المطلب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي فاسترق النفوس بما أودعه في قصيدته من الحقائق عن الفقيد العزيز ثم قام بعده خليل أفندي مطران فالقي قصيدة بليغة. وبعد ذلك هم سعد زغلول باشا شقيق الفقيد ومن كبار رجال مصر إلى مكان الخطباء ليقدم بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن عائلته الحزينة شكره للأمة المصرية على ماجبرت من خاطرهم فخانته قواه وارتج عليه باب القول ففاضت عبراته وقال كلمة متقطعة في ذلك.
فما قاله رئيس النظار وهو من نبغاء مصر في العلم والقضاء أيضا: فان كنتم قد اجتمعتم اليوم مدفوعين بما عليكم الوجدان بتمجيد ذكراه وتعداد مناقبه ومآثره فإنما انتم تدلون بعلمكم هذا على ما كان للفقيد من المكانة الرفيعة في نفوسكم وعلى إنكم تعرفون أقدار الرجال.
اشتغلت أنا والفقيد في نظارة الحقانية زمانا طويلا كان فيه ساعدي اليمين، وكان لي نعم المعين. واليتني كنت افتتح اليوم هذه الحفلة لا لتأبينه بل لتكريمه حيا ومستمرا على تأدية خدمة الجليلة لوطنه فانه والحق يقال كان من اكبر مظاهر الرقي العقلي في وادي النيل.
وقال ناظر الحقانية وهو من رجال العلم والقضاء أيضا:
إلا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
باطل هذه الدنيا بما فيها واكبر باطل فيها الحياة كالبرق خلاب بشدة السنا فإذا الظلام في عقبه أو ادني. وقلما يفكر الأحياء في هذه الحقائق الوهاجة أو يتدبرها إلا إذا مضى رجل منهم كبير بعمله كبير بآثاره.
لمثل ذلك اجتمع هذا الجمع. اجتمع بذكر رجلا كبيرا قضى نخبه لا حتف انفه ولكن في جهاد عظيم وقتال كبير وليس لعمري دمه إلا ذلك المداد الغزير الذي أجراه سيف القلم على صفحات المصنفات التي أفاء الله بها عليه من المعرب والمنشأ أريد المرحوم احمد فتحي زغلول. ليس أدل على إن هذا الرجل نابغة من اعتراف فضلاء الأمة له بالفضل ولا تزال(86/52)
وأصواتهم ترن في أذاننا لقرب عهدنا باجتماعهم تكريما له وإجلالا لإعماله.
احتفلوا بالأمس بفضله واجتمعنا اليوم لتأبينه لا غرابة فالعواصف لا تصيب إلا الأشجار الباسقة والصواعق لا تنقض إلا على ما تسامى فوق الناس إلى السماء
والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الحسان
توفي المرحوم فتحي باشا ولو إن للهمة شفاعة أو لو إن العزيمة تقبل عدلا لكان أول الخالدين ولكن هذا أمر الله ولا راد لما قضى.
لو أردت إن أو في الرجل حقه من الوصف لما وسعني وقت ولما استغنيت بقلمي ولساني وحسبه رحمه الله السنة الخلق وأقلام الحق فقد وضعوه الموضع الذي هو به جدير.
لقد كان في كل ميدان فرس رهان - كان كما يقولون رجلا جامعا رجلا عموميا نبغ في المعقول والمنقول معا ومعه الأدب الجم تزينه البلاغة ويزنه المنطق الصحيح إلى العلم الغزير تثبته الحنكة وتؤيده قوة العارضة إلى صفات نادرة في تصريف الأمور.
كان كاتبا يرقص الأرواح بكتابته طربا وخطيبا لو قام بين وحوش علم الضاريات بر النقاد. كانت له باع طولي وذوق سليم في كل شيء يجمع إلى هذا كله شغفا غريبا بحسن التنسيق والتنظيم
وليس على الله بمستنكر ... إن يجمع العالم في واحد
ليس من قصدي إن اشرح حياة الرجل كلها فهذا ما ليس لي فيه مطمع وإنما أردت إن اذكر ما يحتمله المقام من ذلك. أردت إن يعرض قومه جنوده التي جاهد بها وعدد التي اعتد بها - كما تعرض الجيوش في لحظة ليتعرفوا. لم؟ لان لقوته صلب المعضلات واستقامت لغمزته قناة المشكلات. . .
وبعد إن أجمل حياته القضائية حتى أصبح وكيلا لنظارة الحقانية وكانت هذه أخر عهد له بالوظائف قال: لست أبالغ إذا قلت إن جهاده في عام من أعوامها يقصر دونه جهاد رجال في أعوام. لم يقتصر همته على أعمالها الكثيرة العظيمة بل كنت تجده عاملا في كل شان من الشؤون العامة.
له في نظارة الحقانية فضل المشاركة والمعاونة في وضع كل القوانين التي وضعت في عهده وهي كثيرة وفي الدرجة الأولى من المكانة واليه وحده يرجع الفضل كله في وضع(86/53)
قوانين المحاكم الشرعية التي يدعم عليها نظامها الحالي ولولا همته التي لا يعتريها الإكلال لما كانت الآن تلك المحاكم إلا كما كانت عليه قبل نظامها الحالي وكذلك كانت له اليد البيضاء والفضل الأول في النظام الحالي للمعاهد الدينية فان الجناب العالي لما توجهت أنظاره الكريمة إلى إصلاح تلك المعاهد عهد في وضع نظام جديد لها إلى لجنة الفت تحت رئاسة الفقيد ومعه زميلي صدقي باشا ناظر الزراعة ومنى واني لأؤدي دينا علي وعلى زميلي باعترافي الآن على هذا الملأ بان فتحي باشا رحمه الله هو وحده صاحب الفضل في كل ما وضع من النظامان الجارية عليها الآن هذه المعاهد لم تنته تلك الأعمال الكثيرة والمشاغل الجمة وقد أضنت جسمه وأضعفت قوته عما عود عليه أمته من خدمتها بالتأليف والتعريب وكان عهدها نفث هذا القلم القادر البليغ هذا المصنف الجليل الذي وضعه في شرح القانون المدني.
حياة كلها جهاد وعمل لم يؤت فيها عقله وجسمه قسطهما من الراحة مدفوعا إلى ذلك بعوامل فطرته مغالبا نواميس الطبيعة.
وخطب احمد لطفي بك السيد قال: إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص تلك الصفات التي ظهرت أثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجع معظمها إلى التأثير الوراثي من أبوابه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل على الفرع وبما تعهدت أمره في التربية الأولى وما غرست فيه من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
لا يأخذكم العجب من قولي فان من أمهاتنا نحن القرويون من هن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن المغلوب والمعارف على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق الرفيع في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم القانون الانتقال الوراثي فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارف زمنا طويلا ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتعارف في بلادنا فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعا لقوة الاستعداد أي لقوة تلك(86/54)
الصفات الوراثية فللأمهات القرويات إن يقبلن أيضا شكر الجيل الحاضر علينا إن نعترف علنا ومن غير تردد بما للأمهات من المكانة العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصر نابغين نرجو له العمر الطويل ونابغة فقدناه إسفين فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعا.
قال: أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة - أنه كان يكره الثورة - بعد سن الرجولة بالضرورة يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها فكما انه كان يرى إن الخير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه كذلك كان يرى إن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب تكمل ما فيها من اعوجاج. ويكتب ينالا يكاد يفارقه حتى يناديه الصبح من كثب لا ملل ولا سأم، تلك لذته ربها غرامه لا يزيده عذل العاذلين فيها إلا ولوعاً وربما أدرك سماره الإكلال وتشابهت عليهم وجوه الكلام وهو حديد الذهن كبير النفس ماضي العزيمة. ولم يكن سمره ولا عمله إلا فيما يرضي ضميره من كتاب يؤلف أو يترجم أو عمل صالح يقدم للجمهور من أمته. وقد ظهر لنا علو كعبه في حب الخير بما قام به في شأن الأزهر المعمور تلك المدرسة العظيمة التي بصلاحها يصلح عالم كبير من هذه الأمة إلى أن قال: ثم وضع بعد ذلك مشروع القانون الأخير ونماذج التعليم في العلوم المختلفة وقد كان عند وضعه واسع الأمل يريد للأزهر أن يكون فوق هامة المدارس وأن تكون مصر به فوق هامة البلاد الإسلامية كافة كما كان لها ذلك فيما مضى من الأزمان. وقد حاز هذا التقرير قبولاً لدى الجناب العالي الخديوي فصدر أمره الكريم أن يجري العمل به. ألف مجلس الأزهر الأعلى من ستة تعينهم وظائفهم ومن ثلاثة اختيروا الصلاح. أمر التعليم ومارس تشريع القوانين وتنفيذها وكان الفقيد أحد هؤلاء الثلاثة فسار في أمره سيرة رجل ينشد الإصلاح ويحث عليه فكنا نراه مهتماً بإنفاذ هذا القانون باذلاً جهده في علو شأن الأزهر والأزهريين كما يبذل الرجل جهده في تثقيف ولده وتقويم أوده يحب العامل ويثني عليه ويكره الكسول وينفر منه، يسوس النافر ويستجلب الشارد حتى لان له الأبي ورضي(86/55)
عنه الناس بعد أن علموا إخلاصه وتفانيه فيما يصلح شأنهم ويرقي جامعتهم. وقد سار الأزهر بتلك الهمة الشماء شوطاً بعيداً في طريق السداد والصلاح. وكما يتوجب الوفاء علينا أن نذكر لفقيدنا هذا الأثر الخالد نذكر له مواقفه في إصلاح المحاكم الشرعية فما من قانون أو لائحة وضعت لنظام هذه المحاكم وانتشالها من وهدتها إلا كانت له اليد الطولي في وضعها وإنفاذها، كان ينظر نظراً دقيقاً إلى ما هذه المحاكم من التأثير في حال الأسر المصرية الإسلامية والوصول بها إلى شيء مما تطلبه لها من النظام والاستناد على دعامة متينة وكان يرى والحق ما يرى أن الأمة لا يتم تكونها ولا ترتقي جماعتها إلا إذا اطمأنت الأسرة وأمن القرينان اللذان هما عمادها خطر الظلم وامتداد الآجال عند التقاضي إذا لم يكن منه بد تأصل هذا في نفسه فكان يرى صلاح هذه المحاكم من أول واجبات المفكرين والعاملين المخلصين فكان ينتهز الفرصة السانحة لإدخال كل نظام يسهل على المتقاضين حاجتهم وقد نجح في كثير مما أراد نجاحا عظيما وإن لم يكن كل ما أراد، وكانت الرابطة متينة في نفسه بين العملين إصلاح المعاهد الدينية وإصلاح المحاكم الشرعية لذلك كان مجهوده العظيم مبذولاً نحو الإصلاحيين على السواء.(86/56)
تسمية أبطال العرب
وقاتليهم في الإسلام
(1) الطبقة الأولى الذين أدركوا الجاهلية والإسلام
حمزة بن عبد المطلب - أسد الله قتل في غزوة أحد رماه وحشيٌ مولى جبير بن مطعم بحربة نذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل به سبعين رجلاً من قريش وكبر عليه في الصلاة سبعين تكبيرة. أمير المؤمنين علي عليه السلام - قتله عبد الرحمن بن ملجم الأيادي وهو في صلاة الصبح وقيل كان داخلاً إلى المسجد بالكوفة. الزبير بن العوام - حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله عمر بن جرموز. خالد بن الوليد - هو صاحب أهل الروم وخالد الذي فتح دمشق وأكثر بلاد الشام وله واقعة عظيمة في الروم ووقعة مسيلمة ولم يلق المسلمون مثلها وقتل مسيلمة. مات خالد على فراشه وكان يقول لقد شهدت كذا وكذا - قولهم كذا وكذا من تعبير المؤرخين - وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة أو ضربة أو رمية وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء ويروى أن وجد بجسده ثمانون مابين ضربة وطعنة فأما السهام فلم تكن تحصى وهو صاحب وقعة اليرموك في ثلاثمائة ألف. عمرو بن معدي كرب - فارس من فرسان الجاهلية ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام شهد حروب الفرس وكان له فيها أثر وعمر حتى ضعف وارتعش وهو أشهر الفرسان ذكراً طليحة الأسدي - من أكبر الشجعان جاهلية وإسلاماً ارتد وتنبئ وجمع جمعاً عظيماً وأغواهم وكان يتكهن ففل الجميع خالد وعاد طليحة إلى الإسلام وشهد حرب القادسية وغيرها من الفتوح وكانت له فيها آثار ومواقف المقداد - كان فارساً بطلاً رامياً وهو أول من رمى في سبيل الله ولما تخير عمر من يؤمن على قتال الفرس واستشار فيه قيل له هو الليث عادياً فبعثه حتى فتح العراق ولما قتل عثمان اعتزل ولم يشهد الحرب بعده ومات حتف أنفه.
أبو دجانة الأنصاري - الذي أخذ سيف رسول الله لما عرضه على الجماعة وخرج أبو دجانة يتبختر بين الصفين فقال صلى الله عليه وسلم إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع.
مسعود الثقفي - قتل الفيل(86/57)
عمار بن ياسر - صاحب رسول الله قال فيه لا تؤذوني في عمار فعمار جلدة بين عيني وأخبر أنه تقتله الفئة الباغية قتل بصفين مع علي عليه السلام.
هاشم بن عتبة - من أكابر الشجعان صاحب راية علي بصفين وله فتح جلولاء وهي الواقعة المشهورة مع الفرس.
مالك النخعي الأشتر - مات مسموماً في شربة من عسل فقال معاوية أن لله جنوداً من جملتها العسل.
القعقاع بن عمرو - طاعن الفيل في عشية القادسية.
أيام بنية أمية
الطبقة الثانية
عبد الله بن الزبير بن العوام - قاتل جرجير ملك افريقية قتله الحجاج بعد أن حوصر بمكة وأسلمه أصحابه وعشيرته ومثل به.
أبو هاشم بن الحنفية - مات حتف أنفه.
عبد الله بن حازم السلمي - والي خراسان كبش مصر قتله وقيع بن الأسود.
وكيع بن أبي سويد - ولي خراسان بعد ابن حازم فلم يضبط الأمر لهوجه مات حتف أنفه.
مصعب بن الزبير - جاد بماله وبنفسه عرض عليه الأمان وولاية العراقيين وقد خذله أصحابه وبقي في نفر فأبى أن يمضي حميداً كريماً قتله عبيد الله بن زياد - هذا غير ابن زياد الدعي - في الحرب التي كانت بينه وبين عبد الملك بن مروان.
ابن مليك التغلبي - قتله عمير بن الحباب
إبراهيم بن الأشتر - الآخأنفه. الحسين بن علي لقي عبيد الله بن زياد في أربعة آلاف وعبد الله في سبعين ألفاً فقتله بيده وهزم جيشه وحارب مع مصعب حتى لم يبق سواهما وبذل له الأمان والولاية على أي بلد شاء فلزم الوفاء لمصعب وقتل أمامه.
مسلمة بن عبد الملك - فحل بني أمية وفارسها ووالي حروبها مات حتف أنفه قتل. ر قريش - شاعر شجاع فاتك كان لا يعطي الأمراء طاعة له وقائع عظيمقتل. .
جدر بن ربيعة - لص فاتك شاعر أعي الحجاجومحك. حتال عليه فحصله وحبسه ثم اصطاد سبعاً ضارياً وجعله في حفيرة وألقي جحدر عليه مقيداً وبيده سيف فقتل الأسد(86/58)
وقال:
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك.
فأطلقه الحجاج ومات حتف أنفه.
المهلب بن أبي صفرة وأولاده - كلهم أنجاد وكان المهلب يجمع إلى النجدة الرأي والحزم وله في الحرب مكايد مشهورة ووقائعه في الخوارج أبادتهم مات حتف أنفه وكذلك ابنه المغيرة وفيه
يقول زياد الأعجم:
مات المغيرة بعد طول تعرض ... للموت بين أسنة وصفاح
القتال الكلابي - جنى جناية فخافها فأقام في جبل عشر سنين يأكل من صيده. أبو بلال - خرج في أربعين فهزم ألفين شبيب الخارجي - الذي غرق في الفرالمؤمنين. لا يبلغون ألفاً نذرت امرأته غزالة تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ في إحداهما (البقرة) وفي الثانية (آل عمران) فعبر بها جسر الفرات وأدخلها الجامع ووقف على بابه يحميها حتى وفت بنذرها والحجاج في الكوفة في خمسين ألفاً. قطري - قتل في بعض الوقائع مع المهلب وكان رأس الخوارج خاطبوه بأمير المؤمنين.
الدولة الهاشمية
الطبقة الثالثة
معن بن زائدة الشيباني - قتله الخوارج في أيام المهدي. الوليد بن طريف الشيباني - هكذا في الأصل. عمر بن حفص - أخو المهلب قيل أنه كان يتصيد فتبع حمار وحش ومازال يركض إلى أن حاذاه فجمع جراميزه ووثب على ظهره ومازال يجز عنقه بسيف أو بسكين في يده حتى قتله. أبو دلف القاسم العجلي - فارس بطل شاعر مغن نديم جامع لما تفرق في غيره طعن فارسين رد بفين فأنفذهما. المعتصم - كان يشد يده على كتابة الدينار فيمحوها ويأخذ العمود الحديد فيلويه حتى يصير طوقاً في العنق وهمته في فتوحه تناسب شدته في جبلته.(86/59)
قوميتنا ولغتنا مسألة القوميات
من مسائل القرن التاسع عشر ولدت فيه ونشأت وترعرعت وربما كان الفرنسي أسبق غيرهم من الشعوب المتحضرة إلى إنشاء القومية والتناغي بها منذ قيامهم بثورتهم الأولى وقد قام اليونان في سنة 1821 - 1830وخلعواالطاعة العثمانية باسم القومية وقام البلجيكيون وانفصلوا في سنة 1830 - 1831 عن الهولنديين بهذا الاسم أيضاً وثارا لبولونيون في سنة 1830 - 1831والمجرفي سنة 1848مدفوعين أيضا بعامل القومية والجنسية وساعد نابولي الثالث على إنشاء القومية الإيطالية أو الوحدة الإيطالية في سنة 1859وسها عن تأليف الوحدة الألمانية في سنة 1866 - 1870وكثيرمن الدول العظمى تتخذ من تشابه اللغات حجة لتوحيد الجنسيات والقوميات وضم من تراهم أهلاً لذلك مثل الجامعة الجرمانية والجامعة السلفية وفي البلقان تجري اليوم قاعدة الجنسية على أصولها يريد الروماني والبلغاري والصربي والرومي أن ينشئوا لهم من الضعف قوة ويوحدوا ألسن من ينضمون تحت لوائهم وتجنسوهم بجنسياتهم خلافاً لما جرت عليه الحكومة العثمانية في الروم أيلي مدة خمسة قرون.
وقد أنشأ بعض أتراك الأستانة يؤسسون منذ مدة لنشر لغتهم وإقامة دعائم قوميتهم أندية كثيرة مثل ترك يوردي وترك درنكي وترك أوجاعي وغير ذلك وإليك مقالتين لنا في هذا المعنى كنا نشرناهما في جريدة المقتبس (عدد 1230 - 1246
25رجب 1331و13شعبان هـ 1331 حزيران وتموز1913) فان فيهما الماعاً كبيراً إلى هذا الموضوع الخطير ولعل الطبقة المفكرة العالمة تعاود البحث فيه بحثاً علميا مجردا عن الشعوبية والعصبية.
ذكر علي كمال بك من كبار أدباء الأتراك في إحدى افتتاحياته الأخيرة في إقدام: مبحثاً في أن القومية هي قوة فقط ورد بالبراهين التاريخية على من قاموا يؤسسون أندية تركية صرفة فقال أن ألمانيا حاولت بما فيها من قوة منذ ثلاث وأربعين سنة وقد استولت على ولايتي الألزاس واللورين من فرنسا أن تجعل أهلها ألماناً في لغتهم ومناحيهم فنوعت الأساليب بين الشدة والرخاء فلم توفق إلى إخراجهم عن فرنساويتهم وإن كانت أصولهم جرمانية في القديم ولكنهم تفرنسوا بعد ونشأ لهم رجال فرنسيون في فروع العلم والإدارة والجندية خدموا فرنسا أصدق خدمة وكذلك فعلت ألمانيا من قبل باستيلائها على مقاطعة(86/60)
شلزويق الدانمركية فظل أهلها دانمركيين على الرغم من كل تضييق ومثل هذا يقال عن القسم الذي اقتطعته من أرض بولونيا فإن أهله بقوا على بولونيتهم ومن طاف أوروبا وقضى زمناً في ربوعها يعرف تأثير القومية في الأمم الراقية فالألماني لا يحب أن يتخذ عن ألمانيته بديلاً وكذلك الفرنسي والانكليزي والايطالي وغيرهم من الأمم الراقية يتناغى الفرد منهم بجنسيته ويقدسها ويفادي بكل شيء في سبيل الاحتفاظ بها.
قال وأنا معاشر الأتراك نزلنا هذه الديار منذ ستمائة سنة فأنشأنا بقوة فطرتنا وماضينا وتاريخنا دولة وسلطة وقومية ثم بالرابطة الدينية واشتراك المنافع واتحاد المنازع تجلت القومية العثمانية في مظهر آخر وإن الشعوب التي يتألف منها هذا المجموع العثماني مهما ذهبت من المذاهب في أمانيها لا ترى بداً من احترام العثمانية محبتها فعلينا نحن الأتراك أن نعمل على تأييد هذه الرابطة بقوة الخلافة والسلطنة واللسان وما لنا من الأنسال المتفرقة في قسم من قارة آسيا فنجعل العثمانية مستندنا لا التركية وحدها لأن هذه إذا اتبعنا في الدعوة إليها خطة الشدة لا تلبث أن تزول وتنطفي جذوتها ولقد أخذنا منذ عصور نقرب إلينا الشعوب العثمانية الأخرى ولاسيما من تربطنا بهم جامعة الدين مثل الأكراد والجركس واللاكز وغيرهم حتى كاد يظن أنهم امتزجوا بنا فكبرت بهم قوميتنا التركية من حيث الكيفية والكمية والمادة والمعنى ولكن أخذ بعضهم آخراً يفرطون في الدعوة التركية فكان من أثر ذلك أن أصبح أولئك الشعوب يبتعدون منا فتنبهت فيهم فكرة قوميتهم الأصلية وانشئوا يعملون على إعادة مجدها مما يورث الدولة ضعفاً فيقل عددنا كثيراً من حيث القومية في حين أننا أسسنا هذه السلطة بالتكاتف يداً واحدة مع هاته الشعوب فإذا افترقنا عنهم نكون قد عبثنا بكياننا. وكم تركي صرف يبقى يا ترى من الرعيل الذي بيض وجوهنا من الأسلاف والمعاصرين الذين اشتهروا بفضلهم وكمالهم وعقلهم. وعجيب كيف لم نعتبر بما أتى علينا من المهالك ونحن نريد أن نقوم اليوم بما يعرض حياتنا للخطر غير معتبرين بما جرى. هذا محصل ما قاله صديقنا وقبيل أن أحصله للقراء اطلعت في طنين على مقال بتوقيع أحمد توفيق ذكر فيه رحلته إلى بيروت فقال أن ستين في المائة من سكان الأستانة من أصل تركي ومع هذا نرى ثمانين في المائة من مشاريعها وأعمالها غريباً عن التركية والحال ليس كذلك في بيروت فإن كل ما أنشئ فيها من الأعمال قد(86/61)
تعرب وأنت لا تحتاج لمعرفة غير العربية في المرفأ والترام والسكة الحديدية والمخازن لأن بيروت قد عربت كل ما دخل عليها ولم تبعد من العربية كل ما صدر عنها فإنا نرى العرب الذين تفرقوا في أقطار المعمور مهما طالت غربتهم عن ديارهم لا ينسون قوميتهم فلا تسمع في أحياء العرب في نيويورك وبوني أيرس غير اللسان العربي وبواسطتهم دخلت عادات العرب وأخلاقهم إلى تلك القارات الواسعة ولا مناص لمن ينزل هذه الديار بضعة أشهر من أن يستعرب فيندمج في العرب للحاجة الماسة في حين نرى التركي الذي يقيم بضع سنين في فرنسا ينسى لغته أو يتناساها أو يصبح على الأقل وهو يمزج في حديثه ألفاظاً إفرنجية وهذا وإن كان من أسباب فقر اللسان لكن السبب الرئيسي فيه فقدان فكر الوطنية من النفوس. وإنك لتجد في بيروت حتى المدارس الأمريكانية وبالافرنسية التي تبث الأفكار الأجنبية لم يكتب لها البقاء إلا عندما تعربت. والكليتان الأمريكية والفرنسية قد جعلا للعربية مقاماً جليلاً والمعلمون كلهم محيطون باللغة العربية ومنهم المؤلف والأديب والكاتب على حين نرى أمثال هذه المدارس في الأستانة لا يكاد يوجد فيها من يكلمك بغير اللسان الإفرنجي ومهما افتخر الفرنسي بكليتهم البيروتية وقالت جريدة الظان عن سورية أنها القطر الذي فتحناه بلساننا فإن الحقيقة الراهنة أن هذه المدرسة لم تفتح البلاد بلسانها بل لأن المملكة قد أرجعتها إلى قوميتها الخاصة ولسانها الخاص أي أن العرب لم تأسرهم هذه المدرسة بلغتها بل أسروها بلغتهم. إليك زبدة المقالتين والأولى ترمي إلى التخفيف من التحمس إلى التركية لئلا يقل عدد الأتراك الحقيقيين والثانية تدعو قراءها إلى التشبه بالعرب في قوميتهم والتحمس لها حتى يبتلعوا غيرهم ولا يبتلعهم غيرهم. وكلا المقالين صحيح فإن الشعوب لا تقهر على الأخذ بلسان غيرها مهما كثرت عليها عوامل الضغط والإرهاق وحالة التركستان التاتارية وبولونيا الروسية أعظم شاهد من هذا القبيل فإن روسيا تسعى بكل ما لديها من قوة حتى تجعل سكانها روساً فلم يتيسر لها ذلك حتى الآن وإنما الناس يتعلمون لسان قوم ويتجنسون بجنسياتهم إذا وجدوا فيهما مصلحة كما وقع لكثير من الروس والطليان والمجر والألمان والبولونيين والتشيك والبوهميين في أمريكا الشمالية فإن البلاد قد جذبتهم إليها بسائق طلب المعاش أولاً ثم حببت نفسها إليهم بنظامها وعاداتها وغناها فنسوا على التدريج ألسنتهم بعض الشيء(86/62)
واندمجوا في غيرهم فتأمركوا وإذ كانت الولايات المتحدة حتى اليوم مجموعة جنسيات ولغات مختلفة لأن الهجرة إليها لم تنقطع بعد فإن الجيل القادم أو الذي بعده يصبح أميركياً لا محالة بعاداته وأخلاقه ولغته والتعريب أيضاً يقاس على هذا المقياس فقد انتشرت العربية من أقصى الشمال الغربي من أفريقية إلى أوسطها إلى تخوم فارس بقوتين قوة الدين الذي يقضي على من يدين به أن يتعلم اللسان العربي لأن صلاته ومناسكه كلها عربية والقوة الثانية قوة المصلحة لأن الأمم المغلوبة وجدت مصلحتها في الأخذ بلسان الفاتحين ومهما حافظ القليل وسط الكثير على إرثه الطبيعي من حب قوميته ولغته فإن هذا الحب يضعف فيه مع الزمن ولذلك لامناص من تأمرك عرب نيويورك وبونس ايرس مهما طال عليهم الزمن وكذلك الحال في بقايا من العرب المصريين انقطعوا من جيش إبراهيم باشا المصري لما أوغل في صميم آسيا الصغرى فاتحاً فمنهم لا يزالون إلى اليوم في لواء أنطاكية من أعمال قومية عرباً ومع هذا فالأمل ضعيف جداً في بقائهم على عربتيهم فأما أن يصبحوا أرواماً بلغتهم كما أصبح مسلمو كريت أو أتراكاً. والتركية والرومية تنازعانهم هناك. ومثل ذلك يقال في المهاجرين الجركس والششن والطاغستانيين والأتراك الذين نزلوا ولايات سورية وبيروت وحلب واستوطنوها فأنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بقوميتهم ولسانهم أكثر من خمسين سنة وأخذنا نرى أولادهم وقد تعربوا مختارين أو مضطرين وهذا لما وقر في صدر كل مسلم من وجوب تعلم العربية ومن تنازل عن جنسيته ليتخذ العرب قومه لا يرى غضاضة عليه فيما أتى لأنه يكون خرج من شعب ليس له تاريخ مجيد كالعرب ولا لسان فيه كل أسباب المدنية كلسان العرب. العربية مرنة للغاية على الرغم مما يدعي صعوبتها بعض من لا يحبون أن يتعبون أنفسهم ولو أشهراً في تعليمها ولذلك يندمج فيها أهل العناصر الشرقية الأخرى أكثر مما يندمج أهلها في أهل تلك العناصر. وحال مصرفي هذا الشأن أدهش الأغرب أنك ترى الرومي والايطالي والنمساوي والمجري والأسباني والإنكليزي يكلمون المصريين بلهجتهم مع أنه ندر في الطبقة المستنيرة من المصريين من لا يحسن التكلم بلغة أوروبية مشتركة ولا سيما بالافرنسية والانكليزية كل هذا لأن المصلحة تقضي بأن يتعلم نزيل المصريين لسانهم يكلمهم على اختلاف طبقاتهم حتى أن انكلترا وضعت شرطاً على كل من يحب تقلد الوظائف في مصر والسودان من(86/63)
أبنائها أن يحسن اللسان العربي وجعلت جائزة مهمة لمن يكتب له إحراز قصبات السبق بين أقرانه ويستعرب كل من يرى مصلحته من أهل هذه العناصر البقاء في مصر ولو بعد حين مهما حافظ على قوميته ولغته لأن الجوار يعد على نحو ما نرى بلاد القوميات المجسمة كالفرنسيس والطليان والألمان مثلاً يتكلم سكان الحدود لغتين لغة البلاد التي هم منها ولغة المملكة المجاورة وهذا كثير في الشرق أيضاً فإن بعض أهل الجزيرة لمتاخمتهم لبلاد فارس والأكراد يتكلمون مع العربية بالفارسية والكردية وأحيانا بالتركية وهكذا سكان تخوم الهند من الأفغانيين والإيرانيين. نعم إن العربية تعرب كل ما يدخل إليها من الأوضاع لأن في العرب خاصية التقليد والإقدام على أمور المعاش من مذاهبه الطبيعية ولذا ترى أكثر العمال في السكك الحديد الفرنسية وشركات الترامواي في بيروت ودمشق عرباً لأن تلك الشركات لا تجد في أبناء جنسها من يضاهيهم في عملهم ومعارفهم بمثل الرواتب التي تؤديها إليهم وهكذا قل عن مصر ولكن الأتراك لا يتعلمون مبادئ اللغات أو العلوم إلا ليوظفوا في خدمة الحكومة وهذا هو السر في قلة مثول التركية في المشاريع والشركات في الأستانة مثولها في بلادنا. وهنا سؤال وهو هل تستطيع فرنسا بعد استيلائها على مراكش كما استولت على الجزائر والتونس أن تجعل أهلها فرنسيا مع الزمن وهل يكون نصيب طرابلس وبرقة مع الطليان ومصر مع الانكليز كذلك أما جزيرة العرب وما تاخمها من الأقطار العربية اللسان فإنها تبقى عربية صرفة كمصر لأن بعض أجزائها أخذت من الحضارة الغربية حظاً وأنشأت تدمجه في لغتها وأبدت من المرونة ما قربها من مناحي الممدنين فتعلم بعض أهلها شيئاً من ألسن الأجانب ولم ينسوا لغتهم أما الجامدون كبعض أهل الغرب الأقصى والأوسط فإنهم إذا ظلوا على تعصبهم على اللغة الفرنسية يضيعون اللغتين معاً خصوصاً وولاة أمرهم الفرنسي أشد الأمم تناغياً بحب لغتهم ومناحيهم حتى يقال أنهم أقل الأمم تعلماً للغات الأخرى في حين عدوا نحو ثلث سكان بريطانيا العظمى يعرف أهله اللغة واللغتين والثلاث الغربية عنه ومن أراد منا الاحتفاظ بقوميته ولغته على وجه الدهر فعليه إلا يحتقر قومية غيره ولا لغته وأن يداوي معرفته بتعلم لغة أو لغتين من لغات السياسة والتجارة وبذلك تسلم له لغته ويعرف كيف يحتفظ بها. في ساعة واحدة تناولت كتابين غريبين في بابهما احدهما من ليبسيك إحدى قواعد(86/64)
الإمبراطورية الألمانية والثاني من دمشق قاعدة البلاد العربية. الأول كتب باللغة العربية وهو صادر عن أشهر باعة الكتب هناك يريدنا إن نبتاع منه كمية من المصاحف الشريفة التي جود طبعها في ألمانيا بمعرفة زمرة من أهل العلم وبعث إلينا بنموذج منها وقد رجانا في آخر كتابه أن نجيبه إن استحسنا باللغة الألمانية أو الانكليزية أو بالافرنسية لأنه يحسنها. إما الكتاب الثاني فهو من دمشقي نشأ في دمشق وتخرج من المدارس العليا وتعلم إحدى الصناعات الحرة وله غرض بإدارتنا فكتب إلينا كتاباً باللغة التركية فلما فضضناه أسفنا جداً ودفعناه لأول نظر إلى حامله وقلنا لصاحبك إن يكتب إلينا إن أحب لغتنا ولغته فإن وقتنا لا يتسع أن نترجم أفكار كل من يريد نشر شيء من اللغة التي يستحسنها أو يحسنها أو يزين له عقله التفاصح بها وجه الغرابة في الكتابين ظاهر لأدنى تأمل وهو أن رجلاً ألمانياً يريد أن يبيع نسخاً من الكتاب العزيز من مسلم في بلاد الإسلام فيخاطبه بلغته على بعد الديار وقلة من يكتب له بالعربية في بلاده والثاني مسلم عربي يكتب لعربي في صميم بلاد العرب باللغة التركية. فما هذه العناية من الأول وقلتها من الثاني: غربي يستعرب في الغرب وعربي يترك في بلاد العرب! من أضحك الأطوار أن تشاهد عربياً يكلم ابن جنسه أو يكاتبه بغير لغته لغير داع فكأن المتخاطبين يشيران بلسان الحال إلى إن اللسان الذي نتخاطب به أرقى من لساننا وأدل على علو كعبنا واستبطاننا أسرار المعارف في حين نرى أبناء المدينة الحديثة مهما بلغ من انحطاط أممهم وصغر عددها وقلة شأن تاريخها إذا خلوا بعضهم إلى بعض لا يتكلمون بغير لغتهم ولا يتكاتبون بسواها. وكم روى لنا السائحون إلى ديار الغرب منا أنهم كانوا يكلمون الانكليزي بالافرنسية وهم في غير الديار الانكليزية فإذا ما بلغت بهم السفينة إحدى مواني الجزائر البريطانية لا يعود ذاك الانكليزي ينطق بكلمة فرنسية. وقد سئل بعضهم في ذلك فقال نحن الآن في بريطانيا العظمى فلا يسوغ لنا أن نتكلم بغير لغتها وكذلك الألماني مع اللغة الانكليزية والفرنسية فإن معظم رجال التجارة والعلم في ألمانيا يحسنون إحدى هاتين اللغتين أو كليهما معاً فإذا دخلت عليهم في بلادهم يتجاهلونهما ليضطروك إلى التفاهم معهم بلغتهم ويحملوك على تعلم الألمانية من حيث تشاء أو لا تشاء. ولا نزال نعجب بصنيع علماء الشرقيات في هولا نده فإنهم طبعوا بضع مئات من كتب العرب في مطبعة ليدن الهولندية وجعلوا جميع حواشيها(86/65)
ومقدماتها باللغة الهولندية مع أنه قل جداً من يعرف هذه اللغة من أهل أوروبا المجاورين لبلاد القاع. هذا والطابعون والناشرون موقنون بأن كتبهم لا تباع في هولندا فقط بل إنها تروج في ألمانيا وايطاليا والنمسا والمجر وإنكلترا وأميركا وفرنسا وروسيا وأسبانيا بل وفي غيرها من بلاد الشرق ولاسيما في بلاد العرب فلولا حبهم للسانهم لما رأيت تلك المقدمات والشروح إلا باللغة المشتركة بين الأمم في الغرب كالفرنسية مثلاً أوالغة العربية التي نشرا لكتاب برمته فيها والناشرون لأمثال هذه الكتب يكتبون بهاتين اللغتين على التحقيق أو بإحداهما قطعاً. إننا بزهدنا بلغتنا نزهد في قوميتنا وتاريخنا ومن لا ينتسب إلى أصله ينكره الفرع الذي يحاول أن يتقرب منه. إن عظمة العرب وعظمة مدينتهم وحسن بيانهم دع ما هناك من الروابط الدينية مما يدعونا إلى التناغي بلساننا والحرص على تعلمه وإيجاده التخاطب والتكاتب به غير مخلين بأصل من أصوله ما أمكننا ذلك لأن من المحمود. لى مشخصاته كان حرياً بأن لا يغار على أي عزيز ويستحق احتقار غيره. إننا نحبذ كل من يتقن منا لساناً أجنبياً حتى ولو حذق لغة مالطة لما في ذلك من الفائدة فكيف باللسان العثماني وحاجتنا إليه أمس ولكننا نحب أن تكون الميزة للساننا الشريف لأن الله جعل له هذا المقام المحمود. ومدنيتنا وتاريخنا ومجدنا أعظم باعث لكل من ضعفت فيهم أعصاب العصبية القومية أن ينزعوا من نفوسهم تلك المؤثرات التي فيها من الصغار والذل مالا يرضاه من عرف أمته ويريد أن يحيا بها. إن في تاريخ لغات الأمم المتمدنة لعهدنا أعظم محرض لنا على الاحتفاظ بلغتنا مهما كلفنا ذلك فقد رأينا الفلامندي في البلجيك يتفانى في بث لغته حتى جعل لها أدبيات وأقام لها شأناً في جنب اللغة بالافرنسية التي يتكلم بها نحو نصف أهالي بلجيكا وكذلك رأينا الهولندي والدانيماركي والسويدي والفنلندي من صغار شعوب الشمال في أوروبا يحتفظون بألسنهم ولم تكن منذ مائتي أو ثلاثمائة سنة بالتي يعرف لها شأن بين اللغات وأعظم معلم لنا في هذا الباب أهل بوهيميا من مملكة النمسا والمجر فإن لغتهم وهي لغة التشيك كادت تندثر من ألسن أهلها في القرن السابع عشر بما تغلب عليها من اللسان الجرماني فعاد أستاذان من أساتذة كلية براغ إلى أحيائها بنشرهما مخطوطاً في آدابها زعما أنه قديم وقيل أنهما واضعاه فبعد أن كان البوهيمي يكتب بالألمانية ويؤلف ويخطب بها والألمانية عنده لغة الصنائع والتجارة والأدب والتمثيل(86/66)
والصحف عادت فانبثقت لغة التشيك في نفوس أبنائها حتى أصبح المتكلمون بها في بوهيميا وحدها الآن زهاء تسعة ملايين وبهيمي أتشيكي ومليوني نسمة من المورافيين وزهاء ثلاث ملايين السلوفاك في هنغاريا وأصبحت الآداب التشكيلية مما يتنافس فيه كما يتنافس فيه في مدنية البوهيميين وصناعاتهم وصارت كلية براغ أخت كلية برلين وفرانكفورت وميونخ وفيينا من عواصم البلاد الجرمانية وربما فاقت كثيراً من كليات أوروبا. لغة مجهولة أحياها بضع من أهلها بعد دثورها ونحن نرى بعض المستنيرين منا يضيعون بتهاملهم لساناً كالعربية يفاخر الغربي قبل الشرقي بتلقفه وبعد تحصيل ملكته من النعم. إن البوهيميين أعظم مثال في تناغي الأمم بألسنتها ولا تنسى سكان الألزاس واللورين الفرنسيين ولا سكان شلزويك هولستاين الدنمركيين من المانيلولا البولونيين مع روسيا ولا غيرهم مع غيرهم فكلها عبر لنا معاشر العرب
لسان يتكلم به سبعون مليون من الناس ويتعبد به زهاء مائتي وخمسين مليون من أهل الإسلام وأهله لا يهتمون به واللسان العبراني والروماني والبلغاري والأرميني على قلة الناطقين به مثلا يتخذ أهلها كل ذريعة لنشرها ويستميتون بالأخذ بناظرها فتأمل الفرق بين كثرتنا وقلتهم وغنانا بلغتنا وفقرهم بألسنتهم وانحلالنا في وطنيتنا واستبسالهم في الحرص عليها.(86/67)
الحركة العلمية
في البلاد العربية العثمانية
مضت ست سنين على إعادة انتشار القانون الأساسي في المملكة العثمانية ربحت البلاد العربية من نعمته بعض الربح من حيث النور والعلم لأنه بفضل الصحف والمجلات والأندية والجمعيات التي أنشأت في العراق والشام وغيرهما من الأقطار انتبهت العقول قليلاً من رقدتها وشعر العرب بأن هناك حياة ثانية أرقى مما هم فيه بكثير ولا يتيسر لهم الاستمتاع بها إلا بالأخذ بحظ وافر من التعليم والتربية. لو لم يكن من فضل حرية القول والاجتماع في العهد الأخير على ما فيها من القيود إلا لإدراك الناس لهذه الحقيقة لكفى بها منقبة تؤدي إلى أحسن مغبة فإن كل نهضة لا تقوم على أصولها إلا إذا جعلت لها من التعليم العصري أساسا وهذا ما كاد اليوم يشعر به ابن البادية والدساس كردع ابن المدن والحواضر من كل من كثر اختلاطه بالغريب واعتبر بما شاهد من حوادث الأيام حتى أن جميع الأقطار التي سقطت في أيدي حكومات الاستعمار كان السبب الرئيسي في استصفائها جهل بنيها الذي فتح الأبواب للعدو فاستباح حماها وقبض بعلمه على قيادها عفواً صفواً كذا كان شأن جاوة مع هولندة والهند ومصر مع انكلترا وطرابلس مع ايطاليا وتونس والجزائر مع فرنسا ومراكش مع أسبانيا وفرنسا والروم أيلي مع حكومات البلقان فبالعلم كان قليل من العدو كثيراً وبالجهل كان كثير تلك البلاد قليلاً. وإنا إذا أطلقنا العلم هنا فلا نعني به علوم الآخرة فقط بيد إن هذه إذا درست على أصولها نفعت أيضا الدنيا ولكن علوم العالم هي كل ما يعمره ويعرف الأمم طبائعه وإسرار بقائه وفنائه. نريد بالعلم العلوم التي بها فتحت أوروبا العالم واستعمرته فأصبحت كلمتها هي العليا وتراجع أمر الشرق إلى ما نراه عليه من الانحطاط المادي والسياسي والأدبي بل السقوط المؤسف في عوامل الحياة الفاضلة السعيدة. كان جمهور المسلمين في هذه الديار العربية إلى عهد قريب يرون السعادة في اتخاذ صناعتين تعلم الفقه لتولي مناصب القضاء والإفتاء والتدريس أو تعلم شيء من العلوم التي تؤهل الطالب إلى تولي الأعمال الجندية والإدارية والكتابية فالمحور يدور على التماس الشرف من مناصب الحكومة وسبيل ذلك درس فروع قليلة مما يقتضي لهذا الشأن ومنها ما هو قشور لا لباب فيها. وبينما كان إخوانهم المسيحيون والإسرائيليون يتعلمون في(86/68)
مدارسهم الطربه. ومدارس المرسلين الأمريكان والانكليز والألمان والفرنسي والطليان والروس وغيرهم ما يؤهلهم إلى التجارة والصناعات الحرة في الجملة مثل الطب والهندسة والحقوق كان المسلمون تتلمظ شفاههم بحلواء التوظف والاعتماد على الأوقاف والرواتب جمدوا عليها فتأخروا في ثرواتهم وقل الهناء في بيوتهم وضعف مستوى العقول حتى أمسوا وكثيرون يغبطون السارق والمرتشي والمزور من الموظفين والمستخدمين ويعدون عمله مهارة وتوفيقاً لأنه اكتسب من الحرام مالاً وتأثر وارتاش وأضاع حقوقاً ليملأ كرشه وجيبه ومن الغريب في نظام هذا الاجتماع أن يحبس من يسرق ديناراً يأكل به وعياله خبزاً ولا يعاقب بل يمدح السارق الكبير الذي يعرق اللحم عن العظم ويخرب قرية أو بلدة برمتها ليشتري بما يسرق دكاناً أو بستاناً أو يعمر قصراً وداراً. نعم إن الدستور عرف الناس نقصهم وإن كانوا لم يبرحوا في معظم البلدان العربية في دور الأقوال ولكن القول بدرجة العمل كما أن الشك أول مراتب اليقين. ومن النعم العظمى إن يعرف الإنسان مجال الضعف منه ومن عرف نفسه عرف ربه. عرفوا نقصهم فأخذوا يفكرون في تعلم الصناعات الحرة التي قوامها الاعتماد على النفس والخروج عن قيود الاتكال إلى باحات الاستقلال وقد زاد الإقبال على ذلك في الشام والعراق خاصة لما أيقن الناس بأن خزانة الدولة تضيق على إعاشة كل طلاب الوظائف بعد أن انسلخت ليبيا ومقدونية وتركيا وألبانيا عن جسم المملكة العثمانية. لم تكن قبل هذا الدور تسمع بأن من المسلمين في مدارس الغرب طلاب هندسة وزراعة وحقوق وكيمياء وسياسة وفلسفة واليوم تجد منها عشرات من أبناء الشام والعراق خاصة وهذا العدد وإن كان قليلاً بالنسبة لكثرة سوادهم لكن الرجاء معقود بزيادته كلما سدت في وجوه الناس طرق الاستخدام في الوظائف واقتنع القوم بأن مذاهب المعاش في العالم ثلاثة الزراعة والصناعة والتجارة وأن الاستخدام ليس مذهباً طبيعياً من مذاهب المعاش التعليم العالي هو الذي يكون أمة ولا فائدة بتعلم أفراد هذا الضرب من التعليم إلا إذا عمت المعارف سواد العامة. وهذا أخذت تتكفل به المدارس الابتدائية والوسطى التي أنشئت مؤخراً مثل المدرستين العلمية والعثمانية في دمشق والكلية الإسلامية العثمانية ودار العلوم في بيروت والمدرسة التي أنشئت في صيدا وطرابلس وحلب وحيفا ويافا والقدس ونابلس وكلها قامت بهمم الأفراد من أهل الطبقة الوسطى(86/69)
والأغنياء كانوا في الجملة بمعزل عن المعاونة ولو كان جمهور أرباب الأموال والأملاك متعلماً لقامت حتى الآن ألوف من المدارس والكتاتيب في الولايات العربية لا تزال تشتد حاجة البلاد إليها ولاسيما في غير المدن بل لإنشاء كل قطر من الأقطار العربية مدرسة كلية أو جامعة فأصبحنا نقول جامعة الشام وجامعة العراق وجامعة الجزيرة وجامعة اليمن وجامعة الحجاز كما نقول الآن الجامعة المصرية وكلية الأمريكان وكلية القديس يوسف. وفي العهد الأخير أنشئت جمعيات خيرية تعليمية ولاسيما في بيروت ودمشق وحمص توفر العناية بتعليم أبناء الفقراء وفي دمشق منها الآن خمس جمعيات تعلم زهاء أربعمائة طالب على نفقتها ومنها التي أنشأت لها مدارس خاصة مثل جمعية الإسعاف الخيري وجمعية المقاصد الحسنة والجمعية الخيرية الإسلامية في حمص تعلم نحو ألفي فقير، وهذه الجمعيات تقوم بمعاونة المحسنين من أهل الطبقة الوسطى ومن دونهم أيضاً كما أن جمعية المقاصد الخيرية في بيروت والمقاصد الخيرية في صيدا تقومان بريع أملاكهما لأنهما أمستا منذ زمن ونمتا معه بفضل العقلاء منا لوطنين. كثرت الصحف في السنين الست الأخيرة ولا سيما في حواضر الشام والعراق وأنشأت صحف في الموصل مابرحت ضئيلة تغلب عليها العجمية بخلاف الصحف الشامية والعراقية التي أخذت تكتب بلغة سلسة متينة الجملة ولغة صحف الشام أرقى من لغة صحف العراق وإن كانت هذه قطعت شوطاً محموداً في هذه الأعوام القليلة حشا مجلة لغة العرب البغدادية ومن يؤازر فيها من المنشئين والباحثين فإنها على أسلوب المجلات الإفرنجية الأخصائية سدت فراغاً في تاريخ العراق والبحث في أثاره.
أنشأت مطابع كثيرة على عهد الدستور في بلاد الشام وفي بغداد والبصرة والموصل ولكن مطبوعاتها مابرحت قليلة نادرة لأن المؤلفين المجيدين قلائل والناس مابرحوا يقبلون على المطبوعات المصرية لأن صادرة من بلاد هي أعرف الأقطار العربية في العلم على اختلاف ضروبه وأهلها أرقى العرب بل المسلمين ولعله لا يتم هذا العقد من عقود الحرية حتى تبدأ المصنفات العصية والقديمة تصدر من هذه المطابع فقد أنشأ بعض شبان المؤلفين يؤلفون في بيروت ودمشق وبغداد في العلوم الطبيعية والجغرافية والتاريخية كتب مدرسية خصوصاً بعد أن رأوا إقبال المدارس الأهلية على التعليم بالعربية وأنشأت الحكومة مدرسة(86/70)
سلطانية عربية في بيروت ومثلها في دمشق تعلم العلوم كلها باللغة العربية. وهاتان المدرستان إذا أنشئت خمس مثلها في بغداد والبصرة وصنعاء ومكة والموصل توشك أن يكون من أثر مهما كانت درجة تعليمها الرسمي منافع للناس فتفيدهم في تهذيبهم وتكون لكثير من الطلبة مدارس إعدادية تهيئهم للدخول في الجامعات الكبرى واتخاذ الأعمال الاستقلالية ومن هذه الطبقة ينشأ العلماء والمفكرون والباحثون.
ثلاثة عوامل أنشأت هذه النهضة: المدارس الأهلية وما يلحقها من إقبال أرباب اليسار على تخريج أبنائهم من مدارس الغرب العليا. والجمعيات الخيرية التعليمية وتعددها. والصحف والمجلات والكتب وكثرة انتشارها لرخص أثمانها، ولو ضم إليها عامل رابع آخر هو ارتقاء فن التمثيل وتسهيل غشيان دوره على طبقات جميع الشعب كافة لتمت الأمنية من إنهاض هذه الولايات من كبوتها ولما انقضت ثلاثون سنة إلا وهي على مستوى مصر برقيها الأدبي.
وبعد فإن ما يبلغنا عن قطري اليمن والحجاز لا يصح أن يكون من مجموعة ما يستدل منه على أنه حدث فيهما شيء في العهد الأخير من حيث النهوض العلمي الحديث والغالب أن للفتن والتعصب يداً طولى في هذا التنبت ولعل الحوادث تعلم المستنيرين من أهلهما ما يجب عليهم القيام به وتدفعهم إلى العمل بالعهد الذي أخذه الله على العلماء في تعليم الجهلاء.(86/71)
مخطوطات ومطبوعات
ثلاث مجلات جديدة
الأولى المرأة وهي أسبوعية مصورة تصدر الآن مرتين في الشهر ورئيس تحريرها وصاحبها خليل أفندي زينيه وهو من كتاب الطبقة الأولى وقدماء رجال الصحافة العربية تصدر في مدينة بيروت وفيها مقالات منوعة عصرية فكاهية وأدبية وتاريخية وصور منوعة شرقية وغربية وإنما ما عرف به صاحبها من الخبرة الواسعة في صناعة التحرير والتحبير ليدعونا إلى الرجاء بنجاح صحيفته الجديدة وقيمة اشتراكها في الولايات العثمانية عشرون فرنكا وخارج السلطنة خمسة وعشرون.
الثانية مجلة المنتدى الأدبي تصدر بإدارة احمد عزت أفندي العظمي وعاصم أفندي بسيسو في مدينة الاسيتانة مصورة وسنتها عشرة أشهر في 48 صفحة كل شهر وهي خلف لمجلة لسان العرب التي صدرت في السنة الفائتة حولا كاملا ويحرر هذه المجلة زمرة من رجال العرب في عاصمة السلطنة وخارجها وفي العدد الأول صور بعض المشاهير ومقالات منوعة في الاجتماعيات والأدبيات وغيرها مما يرقي العقول ويهذب النفوس وهذه المجلة هي إحدى حسنات المنتدى الأدبي الذي هو أجمل اثر قام لطلبة المدارس العليا من أبناء العرب في عاصمة آل عثمان. فنرجو لها النجاح الذي تستحقه وقيمة اشتراكها ثلاثة ريالات في البلاد العثمانية وستة عشرة فرنكا في الخارج وللتلامذة ريال والثالثة المستقبل مجلة علمية أدبية عمرانية أسبوعية تصدر في القاهرة في عشرين صفحة لصاحبها ومحررها سلامة أفندي موسى من أفاضل المفكرين في وادي النيل معروف بين المؤلفين والعالمين والمتأدبين بما نشره من مقالاته وتصوراته في المجلات المصرية ولاسيما المقتطف وقد تصفحنا الأجزاء الأولى من هذه المجلة فرأيناها توخت أولا جمع وتنسيق المعارف العلمية والعمرانية التي يشتغل بها العلماء الأوربيون ونشرها لقراء العالم العربي حتى يعتاد كتبته ومؤلفوه طريقة التفكير العلمي الصحيح ويقلعوا عن التقليد في النظر للمسائل العمرانية فنتحرر بذلك من القيود التي وضعها إسلافنا وننظر لمستقبلنا كصحيفة بيضاء نكتب فيها ما نشاء. وثانيا: توجيه الأدب العربي الحديث في الوجهات التي يتنبه الأدب الأوربي وتسييره على المبادئ التي يرسمها كبار الأدباء في أوربا. وذلك اعتقادا بان(86/72)
الأدب الافرنسي قد فات الأدب العربي بمسافات بعيدة. وكما ارتقى الإفرنج في الصناعة والزراعة والطب والهندسة الخ وتأخرنا نحن عن اللحاق بهم فكذلك ارتقى أدبهم وتأخر أدبنا وأصبح من الضروري إن نحتذ بهم في طرائقه وأساليبه حتى نلحق بهم.
وفي المجلة شذرات ومقالات وقصص ونوادر في هذا المطلب الذي وضعته وتوخت فيه تقليد المجلات الانكليزية فجاءت هذه الصحيفة بأسلوبها وصراحتها في أفكارها مثال الصحف المفكرة التي ترمي إلى غرض مهما كان الباعث إليه فهو شريف لأنه يراد منه إنارة العقول وتنقيتها من الشوائب والفضول فنرجو لهذه المجلة الثبات ليطرد صدورها ويكون من أثرها عموم النفع في العالم العربي وقيمة اشتراكها في مصر 32 قرشا صحيحا وفي الخارج 9 فرنكات.
تاريخ صيدا
تأليف الشيخ احمد عارف الزين صاحب مجلة العرفان طبع في مطبعة
العرفان في صيدا سنة 1331 ص 176.
لصديقنا مؤلف هذا الكتاب صاحب مجلة العرفان همة شماء ونظر بعيد في كل ما يعلي شان الآداب ويؤيد كلمة الحق وأخر ما أصدره من تأليفه هذا التاريخ الذي افرده لمدينة صيدا وحدها مستندا فيه إلى مظان كثيرة عربية وإفرنجية وتركية فجاء منسق الأسلوب سلس الإنشاء يحوي عمران ذاك الثغر البديع وتاريخه منذ عرف إلى وقتنا الحاضر لا يستغني عنه كل من يريد الإلمام بحال هذه المدينة وجميع ما يتعلق بها من المعلومات بل إن كل من ينزل صيدا مقيما كان أو ظاعنا لابد له من الأخذ عن هذا السفر البديع الذي جمع مؤلفه أثابه الله في ورقات ما تفرق في بطون عشرات من المجلدات وفيه فوائد في زراعة البرتقال وبكي دنيا وغير ذلك لا يستغني عنها كل من يحب الاطلاع على هاتين الشجرتين اللتين كانتا سبب غنى صيدا في عهد الحديث فانعم بهذا العمل ولو كان كل عالم يخدم بلده وشعبه خدمة صديقنا لهما لكانت سورية في مقدمة أقطار الشرق في العلم والعمل ولاشك إن كتابه سيصادف الإقبال الذي يستحقه فضله ووطنيته.
العراقيات(86/73)
الجزء الأول لجامعه رضى وظاهر وزين طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331 ص209
ثلاثة رجال يفاخر بهم جبل عامل لطول صبرهم على خدمة العلم والأدب ونعني بهم الشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ظاهر والشيخ احمد عارف زين وقد جمعوا في هذا السفر ما تفرق من شعر العراقيين فاتوا في هذا الجزء على ترجمة عشرة من شعرائهم ولباب أشعارهم وهم السيد محمد سعيد حبوبي والسيد إبراهيم الطباطبائي والسيد حيدر الحلي والشيخ جواد شبيب والشيخ ملا كاظم الازري والشيخ عباس بن ملا علي النجفي والسيد جعفر الحلي والشيخ عبد الباقي الفاروقي والشيخ عبد المحسن الكاظمي والشيخ الأخرس البغدادي وترجموهم ترجمة صورتهم للقارئ أحسن تصوير ومنها ما هو بقلم الشيخ محمد رضا الشبيبي النجفي العالم الباحث المشهور وفيها ما هو بقلم جامعي الكتاب الثلاثة وفي شعر العراقيين روح غريبة لا تكاد تعرف لشعراء الشام بل ولا لشعراء مصر على ارتقاء دولة الشعر في مصر هذا العصر ولذا كان جمعه على هذه الصورة من اكبر المعونات على الأدب وإخراج درر الشعر الغوال على هذا المنوال جزى الله جامعيه أفضل ما يجازى الغيور على أدب العرب المتفاني في خدمة الحق.
نقد عين الميزان
تأليف الشيخ محمد بهجت البيطار طبع في مطبعة الترقي في دمشق
سنة 1331 ص59
مؤلف هذه الرسالة من ناشئة دمشق الأدباء جعل رسالته هذه ردا على الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء الذي نقد بعض المواضع من كتاب ألفه فقيد العلم الشيخ جمال الدين القاسمي وسماه ميزان الجرح والتعديل الذي بين فيه منشأ النبذ بالابتداع ومضاره فعمد الأول إلى التطرف في بعض أبحاثه للتكفير أو التفسيق فرأى المؤلف إن ينقد النقد متلطفا فيه موردا بعض الشواهد على صحة دعواه.
وقد قال في صفحة 31 ردا على من قام من أحداث الأسنان سفهاء الأحلام الذين زعموا أنهم مصلحون ممن أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وقصروا همتهم على دراسة الكتب(86/74)
الغريبة ونسوا ما لسلفنا من العلوم العربية وهم الضاربون بأوفر سهم في كل فن وعلم عاشق الغرب وأولعوا بلغته وصبغوا بصبغته ففسدت أخلاقهم وساءت آدابهم وصارت التفرنج لهم عادة وذكر أوروبا لهم عبادة وليت هؤلاء خفاف العقول قلد الأوروبيين بالشيء النافع والعمل الرافع لكنهم يقلدونهم بالأزياء واستحسان تبرج النساء وإذا نشر الواحد منهم مقالة في صحيفة توهم نفسه انه صار بها المفرد العلم واسترسل في بيان مضار هذه الفئة والغالب انه يتكلم في أناس مخصوصين وقال إن الله لا ينصرهم على عدوهم ما لم يقلع عن غيهم ويرجعوا إلى شريعتهم ويسلكوا سبيل السلف الصالح ويرحموا الله القائل لن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وكل هذه الجمل حسنة في بالها لكنها تحتاج إلى تفصيل وان لم يكن الكتاب من موضوعها فان التفرنج مضر والاقتداء بالسلف وحده لا ينجينا من شرور هذا التيار المنهال علينا من مدينة الغرب الحديثة فإننا لو تلونا جميع ما خلفه الأجداد من إسفارهم وعملنا به لتستقيم لنا حال إلا إذا أخذنا منهم ما يفرض أخذه واقتبسنا من معلمينا الغربيين علومهم ولذلك نرى من درسوا في الغرب وكانوا على شيء من أدب النفس اعرف بما ينشل هذه الأمة من سقوطها من الذين يخاطبونها الحين بعد الأخر بالجمل الخطابية ويلبون على طريق النجاة ولا يهتدون ولو كتب لبلادنا إن تكون في أوضاعها إلى الجد لما شكا العالم الديني ولا العالم المدني من انحطاط الأخلاق والإيغال في المفاسد ولكن هذه الموبقات نراه منتشرة في الفئتين على السواء فئة المجددين وخصومها وبودقة المدنية تمحص وتنفي كما ينفي الكبر خبث الحديد إما الزبد فيذهب جفاء وإما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
شرح قصيدة ابن عبدون
لما اختلت بني أمية بالأندلس سنة 427 وتفرق أهلها شيعا وتغلب في كل ناحية متغلب وتقيم المتغلبون ألقاب الخلافة من معتضد ومعتمد ومأمون ومستعين ومقتدر ومعتصم وموفق ومتوكل ألقاب وصفها الحسن ابن رشيق بقوله:
مما يزهدني في ارض اندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
وصار الأمر كما قال في المعجب في غاية الاخلوقة والفضيحة أربعة كلهم يتسمى بأمير(86/75)
المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخا في مثلها فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا بن دارا.
لما جرى كل هذا وقويت شوكة دولة المرابطين أصحاب يوسف بن ناشفين فقتلوا سنة 485 بني المظفر ملوك مغرب الأندلس وكان ملجأ للآداب وقبلة أمال العلماء والكتاب نظم أبو محمد عبد المجيد بن عبدون من وزراء الأندلس قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
الدهر مفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا ألوك موعظة ... عن نومه بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وأنا لبدي مسالمة ... والبيض والسود مثل البيض والسمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضاربة بين الصارم الذكر
فلا تغرك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السهر
ما لليال أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد الغير
في كل حين لها في كل جارحة ... منا جراح وان زاغت عن النظر
تسر بالشيء لكن كي تغر به ... كالا يم ثار إلى الجاني من الزهر
والقصيدة في خمس وسبعين بيتا عدد فيها بعد هذه المقدمة ما لقي أبناء الزمان وبعض أمراء الأيام من بوائق الحدثان وقد شرحها شرحا مستوفي ابن بدرون الأندلسي وطبعت في أوربا في جملة ما طبع من كتب الأندلسيين نشرها دوزي المستشرق الهولندي.
مجموع رسائل
في أصول التفسير وأصول الفقه جمعها وعلق حواشيها المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي طبعت بمطبعة الفيحاء في دمشق سنة 1331 ص63
هي ثلاث رسائل الأولى في أصول التفسير للإمام جلال الدين السيوطي وهي أهمها لأنه لم يسبق إلى الآن في الأيدي متن أو رسالة يحوي لباب ما يبحث في النفسي إلا هذا الذي انتخبه ناشر الرسائل من نقابة السيوطي. والرسالة الثانية في أصول الفقه لابن حزم والثالثة مجمع الأصول ليوسف بن عبد الهادي وعليها كلها حواش تبين غوامضها.
تاريخ الجهمي والمعتزلة(86/76)
تأليف المرحوم جمال الدين القاسمي
نشر في مجلة المنار أولا وطبع بمطبعتها بمصر سنة 1331 هـ. ق وسنة 1292 هـ. ش هذه الرسالة مستوفاة للشيخ القاسمي أيضا تدل على بعد غوره وتحقيقه لعيون المسائل التي كان يخوض فيها رحمه الله. والجهمية فرقة من فرق المسلمين انتحلت مذهب الجهم ابن صفوان من أهل خراسان ينسب إلى سمرقند وترمز ومحتدي الكوفة وكان مولى لبني راسب من الازد اخذ الكلام عن الجعدي بن درهم وكان فصيحا اتخذه الحرث ابن سريج التميمي أيام قيامه بخراسان كاتبا له وكان يقص في بيت الحارث في عسكره وكان يخطب بدعوته وسيرته فيجذب الناس إليه وكان يحمل السلاح ويقاتل معه وكان صاحب مجادلات ومخاصمات في مسائل الكلام التي يدعو إليها وكان أكثر كلامه في الإلهيات قتل سنة 128 في خراسان ومرجع فلسفة جهم تأويل آيات الصفات كلها والجنوح إلى التنزيه البحت وبه نفى إن يكون لله صفات غير ذاته وان يكون مرئيا في الآخرة وان يتكلم حقيقة واثبت إن القران مخلوق إما المعتزلة فقد نشرنا مبحثا فيهم في المجلد الثالث ص163 من هذه المجلة ففيها حقيقة حال المعتزلة ومذهبهم ورجالهم وتأثيراتهم
قاموس القضاء العثماني
لسليمان أفندي مصوبع طبع في مطبعة العرفان في صيدا
صدر الجزء الرابع من هذا المعجم المفيد في القضاء العثماني وفيه كالأجزاء السابقة فوائد لايستغنى عنها كل من يعيش في هذه السلطنة من أبناء العرب الذين لا يعرفون اللغة العثمانية فعساهم يقبلون عليه لتصح عزيمة مؤلفه على إتمامه فان كتب الحقوق الحديثة عزيزة في لغتنا وحاجتنا كل ساعة ماسة إليها.
دفع الهجنة
في اتضاح اللكنة لمعروف أفندي الرصافي طبع على نفقة مجلة لسان العرب في الأستانة سنة 1331 ص111
ألف صديقنا هذه الرسالة منبها فيها على الألفاظ التي استعملها الأتراك العثمانيون في غير معناه العربي وعلى ما لم يكن عربي وهم يحسبونه عربيا وأخذها العرب منهم فاستعملوها(86/77)
استعمالهم وأورد على ذلك الأمثلة التي تدل على بعد غوره وتحقيقه في هذه المسالة اللغوية.
التحفة الايقاظية
في الرحلة الحجازية لسليمان أفندي فيضي الموصلي طبعت في المطبعة المحمودية في البصرة سنة 1331 ص310
هو كتاب لطيف وصف فيه المؤلف رحلته في ذهابه وإيابه من البصرة إلى الحجاز مارا بسورية وأزمير وسيسام والاسيتانة وحلب وبغداد وقد ذكر المشاهد والأحوال وما تأثرت به نفسه ووصلت إليه يده من الإيضاحات وكلها نافعة وقد جعل في مقدمة الكتاب التقاريظ النثرية والشعرية التي كتب له بها بعض أدباء العصر وهي في 91 ص جعلها مفصولة عن الكتاب ونعما فعل فنشكر للمؤلف الفاضل هذه العناية.
تاريخ حرب البلقان
تأليف يوسف أفندي البستاني بمصر
أجاد مؤلف هذا الكتاب الذي وقع في 327 صفحة فذكر فيه الحرب البلقانية الأولى والثانية وحلاه بنحو 40 رسما وخريطتين ونقل ما قاله المكاتبون الحربيون وغيرهم في هذه الحرب المشأمة متحريا ما التجرد عن الغرض على ما يجب على المؤرخ وفي الكتاب من المستندات التاريخية الحقيقية ما تقر به العين ويدل على أدب الكاتب.
الهدى إلى دين المصطفى
الجزء الأول طبع بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1331 تأليف كاتب الهدى النجفي ص (393)
هو كناب في الجدل الديني إلفه مؤلفه جوابا على مقالة في الإسلام لجرجس صال الانكليزي أو رسايل وكتاب الهداية في الرد على كتابي إظهار الحق والسيف الحميدي لأنه وجدهما على طريقة ينكرها شرع التحقيق في البحث والأدب في الكلام والأمانة في البيان ولا يرتضيها خدام المعارف وذلك بلسان هو إلى الأدب والحجاج الديني المعتدل وينم عن الاطلاع على الدينين السماويين الإسلام والنصرانية فلمؤلفه الشكر على عنايته وأنصافه(86/78)
في نقده
حقائق وعبر
تأليف اسكندر أفندي الخوري البيتجالي طبع بمطبعة القبر المقدس
بالقدس
سنة1913 ص194
هو مختار ما نشره المؤلف من الشذوذات الاجتماعية والقصص الأدبية وزنابق الحقل في بعض الصحف العربية السورية وفيه الملذة اللطيف إلا أن الخطابات تغلب على كلامه مثل فصل الشرقي والغربي والتفاوت بينهما فانه لم يأت فيه بأقل من القليل الذي يجب أن يقال فيهما كأن كلامه أشبه بكلام تلميذ صغير يبتدئ بالكتابة جديد أما سائر لكتاب ففيه الحسن الجميل
رسائل وكتب مختلفة
دليل لبنان وسورية لمنشئه بولس أفندي مسعد الجزء الأول طبع في مصر في سنة 1912 - 1913 ص452
رجال المعلقات العشر للشيخ مصطفى الغلايني طبع بالمطبعة الأهلية ببيروت 1331 في 308 صفحة
سحر بابل أو ديوان السيد جعفر الحلي النجفي طبع مطبعة العرفان: في صيدا سنة 1331في 466 صفحة
الفصول المهمة في تأليف الأمة لمؤلفها الشيخ عبد الحسين بن شرف الدين الموسوي العاملي طبعت بمطبعة العرفان في صيدا سنة 1330في 238 صفحة
الشبيبة والمرأة والضجة بين الأديب (ف) والأديبة (ز. ف) على صفحات الصحف الفكاهية لجامعها ابن دمشق طبعت بمطبعة الفيحاء بدمشق سنة 1331
نوادر وفكاهات من أحاديث الحيوانات لمؤلفها اليأس بك قدسي هي قصص موزونة على الوزن القرادي المعروف بالمعنى باللغة الشامية الدارجة منها ما هو معرب عن لافونتين شاعر الفرنسيين وإنها مبتكر غير مقتبس ولا معرب طبعت في دمشق(86/79)
رواية شمم العرب هي رواية تمثيلية عربية ذات أربعة فصول من تأليف صديقنا نجيب أفندي نصار صاحب جريدة الكرمل في حيفا
المعلومات المدنية لتلامذة المدارس الابتدائية لفائز بك الغصين طبعت على نفقة المكتبة الهاشمية بدمشق
جمال المعاني في الديوان الثاني للسيد جمال الدين محمد الحسن بك الحموي الكنى بابي العزم طبع بمطبعة حماه سنة1332.(86/80)
أفكار وأخبار
بكر الأولاد
كان الناس يذهبون إلى اليوم بان بكر الأولاد أرقى عقلا ولذلك خصته بعض الأمم كالانكليز بامتيازات في المواريث وغيرهما ولكن احد علماء منافع الأعضاء في الدنمارك تبين له خلاف ذلك فانه فحصه 5915 ولدا بكرا فاستنتج بان الولد الثاني والثالث قد يكونان أرقى من البكر وان القول بمتانة حمسه وكبر عقله حديث خرافة بل تبين أن السل اشد فتكا في بكر الأولاد من الثاني والثالث
فناء الأرض
كثر بحث العلماء في فناء مادة بقاء الكرة الأرضية وقد قدم مؤخرا احد الرياضيين الفرنسيين إلى مجمع العلوم في باريس خلاصة أبحاثه في هذه المسالة جاعلا ما بقي من عمر الأرض مليوني سنة فاضمحلوا النباتات والحيوانات ويفنى الإنسان معها فتقفر الأرض إذ تبلغ حرارتها إلى درجة يهلك فيها كل حي وليست هذه النبوءة المشئومة جديدة بل قد تنبأ بها كثيرون حتى اليوم ولكنها حسبت ألان بحسابات علمية وقد استند هذا العالم إلى نظرية هلملوز الذي يقول بان الشمس تبرد بالتدريج فاقدة من قوة حرارتها فان درجة حرارتها الحاضرة أخذة بحسب بعض أراء بالتناقص قال وإذا نظرنا إلى ماضيها يثبت معنا أن قرص الشمس كان منذ مليوني سنة ضعفي ما كان عليه اليوم وكذلك كانت أشعتها اشد حرارة مما هي ألان وبذلك يجب أن تكون درجة الحرارة في الأصقاع القطبية التي هي في عرض ثمانين - تسعين بميزان سنتغراد وحسب العالم الفرنسي أيضا انه ينقضي عشرون إلف قرن قبل أن يصغر قرص الشمس نحو العشر وفي خلال ذلك يجمد سطح الكرة بحيث تنزل درجة حرارة فيه إلى الصفر وتدخل حياة في دور الموت والأرجح انه يصير مال الأرض التي نعيش عليها إلى الفناء وعليه فان مجموع عمر الأرض هو أربعة ملايين سنة وما نحن كما قال الشاعر الطلياني دانتي في منتصف الطريق.
الدجاج المسمن
ظهر للباحثين أن ضرر تسمين الحيوانات الخاصة بإطعام الإنسان أكثر من نفعه وذلك ماخلا الوقت الذي يسبق أوان ذبحها بقليل وما عدا ذلك من الحالات فزيادة الثقل لا تأتي(86/81)
إلا بضرر فان البقر الثقيل جدا يعمل عملا قليلا والبقرات المعلوفة كثيرا لا تنتج كثيرا أما الدجاج الذي يطعم أكثر من كفايته ولا سيما في الشتاء فإنها تبيض كسلانة أو بيضا رديئا عند انتهاء الشتاء ولا يكون بيضها على ندرته بنسبته ما صرف عليها من الغذاء خصوصا وان رياضتها تقل في فصل الشتاء فيقضى عليها أن تعيش مدة في فنها وما كان كبيرا في السن منها يموت لا محالة وقد شرح الباحثون أشلاء الدجاج الميت على هذه الصورة وظواهر صحته حسنة فتبين لهم أن الأنسجة قد كثر شحمها وان الكبد عراه ما أوقف عمله وكذلك القلب والدم لم يعد يجري جريه العادي والرئة أضاعت من نشاطها ولم يتمكن الأوكسجين (أحد مولدي الماء والهواء) من إحراق الشحم في تركيب الجسم قالت المجلة الباريسية وهذه الحوادث نادرة ولكن الذي يجب أن لا ينسى انه ينبغي الإقلال من التغذية عندما ينقطع الدجاج عن البيض فلا تعطى عندما تبيض شيئا من الحبوب ولا الذرة ولا الشعير ولا الأرز لأنها تسمنها بل يستعاض عن ذلك بالبقول التي تبعث على القوة ويتقى بها السمن.
بحيرات ملح القلي
شرعوا يستثمرون في شرقي افريقية الانكليزية بحيرات الصودا أو ملح القلي الطبيعي وهي على مسافة غريبة باتساعها وبصفاء حاصلاتها وهذه المستودعات من الصودا هي كغيرها مكونة من الرواسب تجمعت خلال مئات من القرون فاجتمعت المياه في قيعان لا منفذ لها تاركة بالتبخر الأملاح التي تحتويها وهي عبارة عن كربونات ممزوجة بسولفات وكلورور ويكثر الكربون في هذه البحيرات التي تعرف ببحيرة ماكادي ويمكن أن يستخرج منه كل سنة مائتا مليون طنا وذلك ودون أن يضر بتجارة الصودا الصناعية.
أعظم الاكتشافات الحديثة
الاكتشافات الحديثة عشرة المصباح الكهربائي المتأجج. نقل المجرى الدوري وتبديله. الطيارات. يب الازوتية في الزراعة. تعديل المحركات ذات المحروقات الداخلة. الطيارات. الآلة التاللاسلكي. نها أشعة اكس. طريقة استخراج الرسوم. تحسين طريقة التصوير الشمسي. الفرن الكهربائي. التلغراف اللاسلكي. وهذه كلها نتيجة علم العلماء وبحث الباحثين من أهل الغرب والشرق لم يكد يعرف منها اسمها دع جسمها ورسمها.(86/82)
الإفراط في التغذية
كتب احد الأطباء في إحدى المجلات الصحية أن بعض الأطباء رأوا مؤخرا أن يقتصر في تغذية الأطفال على البقول وذهب آخرون إلى أن الطفل في مبدأ نموه يحتاج إلى غذاء كاف ولذلك وجب على أمه أن تحمله على الطعام وتحببه إليه بكل ممكن قال وارى أن ذلك من الوهم فان الإفراط في تغذية الولد تؤدي به إلى الشيخوخة المعجلة وتبتليه بداء المفاصل إلى غير ذلك من الإمراض فان تعويده الشره يحدث فيه عادات وحاجات جديدة يكون مستعبدا لها طول حياته وتنتهك بها صحته وتضمحل سعادته فان هذا الفكر المغلط طالما حمل الأمهات على تحميل أولادهن فوق طاقتهم من المأكل اعتقادا منهن أن الصحة والقوة هما بنت الغذاء الكثير ولذلك يأخذن أولادهن بالشراهة وأفضل طريقة اتبعها الانكليز في إطعام الأولاد أن يقدم الطعام إلى الأولاد قبل أن يقدم للكبار في الدار وتجعل مواعيده لهم غير مواعيده للكبار ويكون غذاء الأطفال ساذجا لا يحتوي على ملح ولا على ابازير من مثل الفلفل والتوابل والخل وغير ذلك من المقبلات التي تصيب حلمات الذوق وتثلم حاسة التأثر فيه فلا يعود يتذوق طعم الأغذية الطبيعية بل يفسد ذوقه ويحتاج إلى مشهيات اقوي مما كان يتناوله وينشا له من ذلك قلة لذة في تناول الطعام وتهيج الأنسجة المخاطية الهاضمة على هذه الصورة بغير عملها العادي وبسبب سوء الهضم وكثيرا من الإمراض في الجهاز الهضمي.
سقي النبات
أن حسن بقاء النباتات ولاسيما ما يجعل لزينة البيوت منها يرجع إلى طريقة سقيها فإذا زاد أو نقص يحدث ضرر في نموها ويؤدي أحيانا إلى ذبولها وإفنائها فان النباتات الكثيرة الجذوع يجب أن يزاد في إرواءها أكثر من التي تقل جذوعها وأفضل طريقة يتحقق بها ما يحتاجه النبات من الماء هو أن يلاحظ عند السقي في ما إذا كانت فقاقيع من الماء على سطح التراب فان ظهورها يدل على أن هناك تبخر في الرطوبة فإذا تجاوز الساقي هذا الحد اضر بالنبات وتجربة ذلك سهلة أما الوقت اللازم انتظاره لإعادة السقي فهو متى شوهد أن التربة جفت أي قبل أن تتبخر رطوبتها ورطوبة الأوراق تماما وهذا التبخر تابع لكمية بخار الماء الذي يحمله الهواء وهو ينشا أيضا من نمو الجذوع ولا يمكن وضع قاعدة(86/83)
عامة بذلك بل ينبغي أن يعرف بان الواجب تكرار الإرواء أربع مرات إذا كانت الجذوع وافرة والواجب أن يعنى الساقي بان يغمر بالماء جميع التراب بحيث لا يبقى محل فارغ بين النبات والأصيص أي إناء النبات وإذا لم تتخذ هذه الاحتياطات تكون الظواهر حسنة ولكن النبات ظمآن في الحقيقة فتنقبض العروق صغيرة وتنفلج المادة المغذية وتنحل الأوراق فلا يلبث النبات أن يهلك فكما انه يجب أن لا يفرط في إظماء النبات ينبغي أن لا يفرط في إرواءه أيضا فإنها في الحالة ثانية تبلى جذوعها وتتعفن وكثرة غمرها بالماء يؤدي إلى ظهور الحموضة فيها ولذلك فالواجب إرواء النبات ولاسيما في فصل الحر ولكن بدون أن يتبخر الماء تماما ويغمر كل الغمر فقد يكون سطح التربة نديا والطبقة السفلى منها عطشى وبالجملة بأنه لا يشرع بإرواء النبات إلا بعد أن تكون الرطوبة الناجمة على الإسقاء الأول قد زالت كل الزوال وبذلك تحفظ نباتات المساكن طويلا خصوصا إذا غسلت الأوراق الكبيرة من النبات مرة في الأسبوع وذلك بان تمسح بإسفنجة مغموسة بماء غال فيه قليل من الصابون مسحا خفيفا فتظل بذلك مسامها مفتحة وتبعد عنها الحشرات المؤذية ولاسيما الذباب الأخضر ومما ينفع في هذا الباب أيضا تجديد التربة وان يضاف إليها بعد المخصبات في الأوقات المناسبة وان لا تعرض النباتات إلى درجة من الحرارة تقل عن 5 بالميزان المئوي ولا حرارة الشمس ومجاري الهواء.
مرض الجذام
اشتغل المجتمع الطبي الفرنسي بمرض الجذام وقد طلب منه أن يعطي رأيه في كيفية التوقي منه بعد أن ثبت بان مؤتمر الجذام الذي عقد في برلين سنة 1896 أكد انه من الإمراض العضالة المعدية على أن هذا الرأي لم يقل به جميع المشتغلين من الأطباء بهذا المرض ومن مشاهيرهم الدكتور زامباكو باشا من مشاهير أطباء الأستانة المنوفي حديثا فانه نشر كتابا مهما أيد فيه رأي الجمهور في عدم سرابه هذا الداء وقد قدرت نظريته حق قدرها بين العلماء ولكنه لم يوفق إلى إقناع العالم الطبي كله بصحتها وقد رأى المجمع الباريسي أن يكره الطبيب الذي يداوي مصابا بالجذام كما تكره أسرة المريض أن يعلنوا ذلك للحكومة وان يخضع المصاب به إلى مراقبة خاصة أو يجعل منفردا وان يحظر على المجذومين أن يدخلوا فرنسا جميع أسباب الوقاية الخ.(86/84)
وقد عرف العرب الجذام حتى قالوا أن في ماء دمشق خاصية لمنع سرايته وقد جعل له مستشفى خارج باب شرقي لا يزال يأوي إليه إلى اليوم المجذومون كأن العرب تحققوا سرايته قبل لن يتحقق علماء العصر الحاضر كما تحققوا سرابه الطاعون والهواء الأصفر والأوبئة والحميات.
كبريت الكاربون
جرب في مستشفيات مرسيليا هذا الكبريت المعدني وذلك بحقن المصاب بالسرطان به فأنتج نتائج حسنة سريعة في إبادة الغدد السرطانية وقد ظهر هذا المضاد للفساد أثبت أصل السرطان وسرايته.
واردات دور التمثيل والفرج
بلغت واردات دور التمثيل والمشاهد في باريس في السنة الماضية 68452395 فرنكا وهو أعظم دخل نالته تلك الدور المنقطعة النظير في العواصم الأرض لان باريس كهف العلم كما هي كهف اللذائذ ومعظم هذه الواردات من واردات السينماتوغراف.
المخازن الكبرى
بلغ ما باعه مخزن البون مارسه في باريس في السنة الماضية 240 مليون فرنك منها 16 مليونا ربحا وبلغ ما باعه مخزن الساماريتان 125 ملايين منها ربح ثمانية ملايين وبلغت مبيعات مخزن اللوفر 132 مليونا منها سبعة ملايين وربعا وباع مخزن لافييت بما قيمته 125 مليون فرنك وكان ربحه منه ثمانية ملايين وربع مليون فرنك هذه مخازن باريس التي يعد مستخدموها بالمئات والحكومة تتقاضى منها رسوم الباتنت ولكنها تتساهل مع أكبرها أكثر مما تتساهل مع المخازن الصغيرة.
أمراض النبات
أحصي ما تحدثه في العالم أمراض النباتات مسانهة بخمسة مليارات فرنك على اقل تعديل وقد قرر المؤتمر الذي عقد في رومية مؤخرا بان يعقد عهد دولي يضمن لكل من الاثنين والثلاثين مملكة التي اشتركت في هذا المؤتمر ما يقي نباتاتها من المضار.
من الرأس إلى القاهرة(86/85)
تعمل الحكومة الانكليزية ألان بما فيها من القوى لانجاز الخط الحديدي الذي يربط رأس الرجاء الصالح في جنوب افريقية بمدينة القاهرة في شماليها وهو تحقيق الأمنية التي طالما حلم بها سيسل رودس المتري الانكليزي الشهير. ولا يكون هذا الخط كالخطوط العسكرية التي فتحها الرومان أيام عزه لتنقل عليها الحكومة جندها وذخائرهم وإثقالهم بل غاية من هذا الخط سلمية على ما يظهر ألان ينظر فيه إلى ترقية المدنية في ذاك الصقع العظيم من افريقية ويستفيد الناس من ذلك في الشؤون الاقتصادية وسينجز هذا الخط الذي شرع فيه منذ سنتين في سنة 1916 وقد ساعد في اليوم على انجازه تنازل البلجيك لانكلترا عن شطر من أراضي الكونغو البلجيكية فأصبح الخط يسير في ارض انكليزية على طول 6944 ميلا أو 11100 كم وهذه هي المسافة بين الرأس والقاهرة أو 7074 ميلا أي 11330 كم إذا أريد إبلاغه إلى الإسكندرية ويركب المسافر بين ذينك الثغرين في القطار تارة وفي الباخرة أخرى فيكون ركوبه من كابتون إلى بوكاما في القطار ومن بوكاما إلى كونغولو بالباخرة ومن كونغولو إلى خندو في القطار ومن خندو إلى بونترفيل في السفينة ومن بونترفيل إلى ستانليفيل في القطار ومن ماهاجي إلى كوستي في السفينة ومن كوستي إلى وادي حلفا على طريق الخرطوم في القطار ومن وادي حلفا إلى أسوان في الباخرة ومن أسوان إلى القاهرة في القطار.
وقد قاسى القائمون بهذا المشروع الأمرين من اعتداء السكان وفتكات الحيوان لاسيما الأسود في رودسيا الشمالية حيث اضطروا إلى أن يقيموا حواجز ليؤمن عملة السكة الحديدية من هجماتها.
أزمة الخدمة
شعر الناس حتى في البلاد التي لم تبلغ درجة راقية من المدنية كمصر والشام لقلة الخدام والوصيفات والخادمات والمرضعات والمربيات حتى أصبح بعضهم يجلب خادماته وخدامه من الخارج وما دروا أن فرنسا بل وألمانيا وانكلترا والولايات المتحدة هي أيضا في أزمة خدم تشكو قلته حتى لقد كان في فرنسا تسعمائة إلف خادم وخادمة فأصبحت اليوم وليس فيها سوى 750 ألفا وأسباب ذلك كثيرة منها قلة المواليد بحيث أصبح الفقراء من الذكور والإناث يجدون في القرى ما يعيشون به بدون الاختلاف من المدن ومنها أن الثروة زادت(86/86)
في الفلاحين ومنها ماحشيت به رؤؤسهم هناك من تساوي الناس جميعا وان لفظ الخادم مرادف للفظ المنحط ومنها انتشار الصنائع والاحتياج إلى الأيدي العاملة هذا في الغرب وأما في الشرق فليس له من سبب سوى حب البطالة فترى الفتى أو الفتاة يؤثر أن يعيش بالشحاذة ولا يمتهن خدمة عند احدهم كأنه يرى الشحاذة اشرف من الخدمة المشروعة ولو طبق قانون المتشردين في هذه الديار لبلغ عددهم نصف سكان مملكة من ممالك أوروبا الصغرى فحبذا تطبيقه بالفعل ليقل الخاملون ويزيد العاملون وبذلك لا يشكو خادم ولا مخدوم.
طريقة جديدة للاستصباح
اخذوا في بلاد البلجيك يستخدمون فحم كوك المعدني لا فحم كوك في معامل الغاز لإنارة المدن بثمن ارخص من الغاز المعتاد في الاستصباح وقد تألفت شركة لهذه الغاية وهي تعقد ألان مقاولات مع بلديات كثير من المدن البلجيكية لتنيرها بهذا الضوء الجديد الرخيص الذي لا يكلف متره المكعب سوى خمسة سنتيمات ويمكن أن تنزل قيمته إلى النصف بعد سنة ومن المدن ما وفرت بهذه الطريقة مبالغ طائلة فان مدينة انفريس تدفع خمسة عشرة سنتيماً ثمن المتر المكعب من غازها فكم يكونوا المبلغ الذي تقتصده غدا إذا ابتاعت كل متر بسنتيمين ونصف.
الأرضة
الأرضة أو دود الخشب مما لا يحاذر الناس منه كثيرا في العادة بيد أنها بما تحدثه من التلف تعد من جملة مصائب المساكن فهي تسكن في الأثاث والدفوف وكل أعمال الخشب وحملاتها شديدة بحيث يكاد لا يلحظ وجودها ولا انتشارها وكثيرا ما تدخل هذه الدودة في البيوت التي كانت سالمة منها على غير انتباه والأرضة كالقمل والبراغيث والبق إذا سكنت صعب جدا إبادتها فإنها كثيرة التناسل وتقاوم كل طريقة لإتلافها ولذلك تقضي الحال بان يحاذر كل الحذر من نقلها إلى المساكن وذلك بان لا يستخدم إلا الخشب الجديد السالم من الأرضة وكثيرا ما يحدث أن البنائين وأصحاب الأملاك يستعملون أنقاضا من البيوت تكون أخشابها عتيقة ملوثة بالأرضة ومن الناس من ينتقلون إلى بيوت فيهملون تنظيفها وتنظيف أمتعتهم التي تكون الدودة الخبيثة قد اتخذت لها فيها مساكن لا ترى وكم من دار أصيبت(86/87)
بعدوى هذه الحشرة وكانت من قبل سالمة ولا سبيل إلى الخلاص منها إلا بإبادة جميع الأمتعة التي عششت فيها.
العاج النباتي
كان الأوروبيون يتنافسون في افتتاح بلاد السودان لأنه يخرج منها العاج وريش النعام وغيرهما من حاصلات البلاد المهمة وما كنا نظن أن العاج الذي طالما تنافس فيه المتنافسون يصدر منه كميات وافرة من أميركا الجنوبية من نبات لا من حيوان.
وقد نجحت الآن تجارته نجاحاً كلياً بفتح برزخ باناما وشجر هذا العاج يجود في جنوب مملكة باناما وكولومبيا وجمهورية خط الاستواء وشمالي البيرو وفي أودية الآند على ثمانمائة أو تسعمائة متر من العلو عن سطح البحر وجذعه عظيم وقصير وهو ينمو ببطء ولا يبلغ طوله في العدة أكثر من 3 إلى 8 أمتار ونادراً أن يكون طوله 10 أمتار وورقه عظيم يشبه ورق جوز الهند وثمره أشبه برأس ولد زنجي وتحتوي قشرته لوزة يكون شكلها أولاً شكل كيس مملوء من شراب حلو مرطب ثم يجمد بالتدريج ويصلب بحيث تكون كصورة العاج وصدفته تحتوي على 60 إلى 90 لوزة كل خمس أو ست لوزات وحدها وهي تفتح بذاتها متى آن أوان نضوجها تلتقي على الأرض ثمرها الذي يبيض إذا تم نضوجه فيكون كالعاج ولا يعلم كم سنة حتى ينضج ثمر هذا الشجر ولكن الملاحظ أنه يتم في ست سنين وأن عمر الشجرة منه وأكثر وهذا العاج النباتي بفصل وينشر ويحضر كما يفعل بالعاج الطبيعي تعمل منه أزرار وأدوات زينة وقيمته أرخص من في سن الفيل. وقدروا أن جمهور خط الاستواء وحدها تصدر منه ما قيمته ثلاثة ملايين بيزو (والبيزو ثلاثة فرنكات وخمسة وسبعون سنتيماً) أو عشرون ألف طن وقد اغتنى ب هجانوه الذين يبيعونه من التجار وهؤلاء يبعثون به إلى المعامل في أميركا الشمالية على الأكثر وهي تخرج منه الرطوبة بواسطة الأدوات المستعملة لذلك ثم يجعل في براميل حديد يكون في داخلها مطارق تعريها من غشائها على طريقة ميكانيكية فتكون صبلة كالعظم بيضاء ناصعة.
أعمار الموسيقيين
أراد أحد الإحصائيين في أوربا أن يتفكه بإحصاء معدل أعمار الموسيقيين فبدأ يبحث في(86/88)
الصحف والمجلات منذ سنة 1870 إلى يوم الناس هذا فظهر له أن مات منذ ذاك العهد 4113 موسيقياً عرف السن التي قضى فيها 3737 وحسب أن معدل أعمارهم كانت 61 سنة وبلغ في هذه المدة 1870 - 1913 عدد من تجاوزا المئة سنة أربعة و76 موسيقياً منهم مات منتحراً ويكثر عدد المنتحرات من الموسيقيات والمغنيات.
حفظ السمك
كانت الطريقة المتبعة حتى الآن في حفظ الأسماك طرية غير تامة ونافعة من كل الوجوه ولا سيما طريقة تمليحها وجعلها في الجليد وقد ظل الباحثون يفكرون في طريقة جديدة تكون أضمن وأحسن حتى عثر رجل دانيمركي على محلول يفي بالمطلوب. يستخدم لها آلة واسعة الحجم جداً مؤلفة من إناء داخلي من المعدن يدور على محور أفقي مفتوح من أعلى ومن أسفل. وهذا الإناء الداخلي مملوء بماء مملح سلامورة وهناك إناء خارجي يحتوي ماء البحر وتجعل فيه السمكة التي يراد حفظها وتدور الآلة تدويراً ميكانيكياً فينفذ الماء المملح من ثقوب الاسطوانة الداخلية يوصل بينهما بمجرى دائمي من المحلول المالح ويغطى السمك بطبقة من الجليد أن يشبع بدون بالملح ويحفظ جميع صفاته.
عقم الأمم
كان بعض الاقتصاديين بين ذهب إلى أن قلة المواليد في الأمة يدل على هرمها وأن العقم كما هو عند الأفراد في الأمم حذو القذة وكل أمة قديمة تهرم فهي عاقر عقيمة وقد رد أحدهم هذه النظرية بقوله أن فطرة أن العناصر تكون عاقر عقيمة إذا هرمت هر من الخطأ الظاهر بل أن الأمم تزيد قزة إذا هي تقدمت في السن. لكل الأمم عمر واحد إذا نظر حياتها ولا تختلف إلا بعمر مدينتها والعلماء يعيشون أكثر من الجهلاء. فإنا نرى الأميرات أكثر أولاداً من نساء الشعب وأساتذة المدارس والوعاظ وأساتذة الكليات أكثر نسلاً وانحطاط الأمم يكون بهجرة الطبقة الراقية من بينها كما هجرت الطبقة الذكية من اليونان إلى إيطاليا طمعاً في مغانم تصوروها ولم يلحق بهم النساء ويكون الانحطاط بإنهاك قوى الأرض والأمة التي تحسن تسميد تربتها لا تموت أو بحروب تأتي على العامر والغامر أو بمنافسات شديدة هكذا اضمحلت تروادة وقرطاجة أو بتبديل المناخ كأن ينتقل أهل البلاد الباردة إلى الحارة وبالعكس فقد شوهد أن الجنس الجرماني لما توطن في إيطاليا وإسبانيا(86/89)
وإفريقية في القديم قد اضمحل. فالعمر لا يهرم الأجناس بل يجدد شبانها فعقم الأمم هو من الأمراض الوهمية كغيره من الأمراض اعتقدت به القرون الماضية ولكن العلم الحديث قد ناقضه.
الأحداث والأعاظم
أنشأ أربعة تلامذة من مدرسة جانسون دي سايللي في فرنسا مجلة جديدة سموها نظرة وأكبرهم سناً لا يتجاوز السادسة عشرة وقد أحدثت مجلتهم حركة إعجاب من الأمة حتى أن رئيس جمهوريتها تنازل وبعث إليها بقصيدة جميلة لم تطبع بد لتنشرها في إحدى أجزائها التالية دليل مؤازرته وعنوان تشجيعه لمن لقنوا العلم تلقيناً قبل أن يبلغوا الحلم.
دور نضوج العلم
كتب أحد المفكرين يزيف قول من قال أن أحسن الكتب في العالم هو ما كتبه مؤلفوه في عهد الشباب فإن هلاك بعض الشعراء والكتاب في سن الشباب لا يقوم دليلاً على هذه القضية وذلك لأن الأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الباب وتاريخ الأدب الحديث طافح بها فإن تنسون لم يحرز هذا المقام في الشعر الغنائي إلا بما ألفه يوم كان في الحادية والثمانين من عمره وكذلك كان من كبار رجال الأرض مثل سقراط وشاتوبريان ولافونتين ولاماوتين وهوغووكريم وميشله وأمير سون ووتمان وتولسوي وبجورنسون وتوين مما عاشوا كلهم فوق السبعين وكذلك يقال في الشاعر ايبس الدانمركي من المعاصرين وأن كيني الألماني لم يكتب الجزء الثاني من روايته الفوست إلا عند ما بلغ الثمانين وبلغ أشيل وسفوكل واورييدوهم كبار شعراء اليونان في الفاجعات سن الشيخوخة وهكذا يقال في دانتي شاعر إيطاليا ورونسارد وشكسبير ومن الذن يدخلون في سلك المعمرين الذن جودوا أيضاً تآليفهم في سن عالية مليتون وراتجة ولونغول وكانت وتاسيت وكارلايل ومولير ورابلي ومونتين وسرفانتس وبالزاك.
الاستحمام
ذكرت إحدى المجلات الخطيرة أن الواجب أن لا يستحم المرء كيفما اتفق فالحمام بحسب عادة المستحم وكيفية استحمامه ومزاجه وصحته يكون نافعاً أو ضاراً. فلا يستحم المستحم بوجه عام بماء بارد تحت درجة 24 بدور استشارة الطبيب فإذا كان الحمام الذي يؤخذ(86/90)
على هذه الصورة يحدث أوجاعاً في الرأس وهبوطاً في الجسم فالأوفق الاستعاضة عنه بالمضخة (الدوش) الباردة. وما كان جيد الصحة لا يستحم في حمام تتجازو درجة حرارته 40 والحمامات السخنة هي في العادة قليلة النفع ولا سيما إذا أخذت في الماء لأنها تكون مهيجة لا مسكنة وهي بادية الضرر في الضعاف أو الضئال. ولا أحسن في تسكين إضرابات الجسم وإراحته مثل الاستحمام في حمام تكون درجة حرارته 40 ويكون تناوله قبل النوم. ومن أنواع الاستحمام ما ينبغي اعتباره من المقويات التي أرقى من كل شراب مز ومنها الدلك بفوطة مبللة وهي توافق في الأكثر النساء المتبعات مهما كان نوع تعبهن. والأحسن أن يساعد المستحمة دلاكة فتقف المستحمة على قدمها في حمام حار (40 درجة تقريباً) مغطاة بملحفة مبللة من رجليها إلى نقرتها ويصب عليها سطل ماء بارد من درجة 25ثم تدلك بمنشفة ثم تلف في ملحفة ناشفة وتدلك حتى ينشف جلدها تماماً وتجدد هذه العملية كل يوم بخفض درجة حرارة الماء بالتدريج. ويستعمل ضد الأرق الماء الفاتر بحسب حرارة الجسم فيتغطي المستحم ليكون بمأمن من الهواء ومدة هذا الحمام عشرون دقيقة فتجعل عصائب مبلولة وتربط حول الرأس ولا حاجة للدلك بعد هذا الحمام.
الجراد
الجراد هو الجرح النغار في جسم الزراعة في كل بلد وقد اتخذوا حتى الآن لإبادته طرائق كثيرة منها جمعه وإحراقه ومنها إحراق المحصولات والأشجار التي يعلق عليها ومنها ضربه بالبنادق وسحقه بأحجار أو حديد وعبثاً حاولت الحكومات إنقاذ البلاد من ويلاته وصرفت الأموال الطائلة في سبيل إبادته حتى وفق أحد أعضاء مجمع باستور العلمي أثناء جوله في يوكاتان في الشرق الأقصى إلى اكتشاف جائحه من الجوائح تسطو على الجراد فتبيده فأخذ منذ سنة 1910 يربي جراثيمها وتوصل إلى أخذ سمها الذي يقتل الجراد لا محالة وكل لترين من مسحوقه مغلياً يطهر هكتاراً من الأرض والتطهير يجري خاصة في الأماكن الملوثة بالجراد فتقتله وتقتل بيوضه وقد أنشأوا يستعملون هذا الدواء الناجح في جنوبي أميركا مثل كولومبيا وفنزويلا والأرجنتين كما استعملته فرنس في الجزائر وكلفت حكومة إنكلترا مخترعه إلى استعماله في جراد جزيرة سيلان والحكومة العثمانية إلى استعماله في أزمير. وبذلك انحلت مسألة إبادة الجراد التي شغلت الأمم سنين طويلة.(86/91)
الخشب الأحمر
في بلاد القوقاز لا سيما في المنحدر الجنوبي من السلسلة الكبرى وعلى المنحدر الشمالي الغربي من السلسة الصغرى بجبال القافقاس في كولشيد وعلى شواطئ البحر الأسود توجد شجرة ذات أوراق تدوم على مدة الفصول وفيها صمغ وخشبها غير قابل للفساد ويسمونه الخشب الأحمر ويبلغ طول شجرته 25 متراً وقطرها 75متراً وهو ينمو ببطء إلى ما لا نهاية له معرضاً للأهوية الشديدة التي تهب في الجنوب الشرقي ومن أشجاره ما عمره 300 أو 400 سنة وقد بقي قائماً على ممر الدهور ثابتاً أمام حوادث الأيام لم يلحقه عفن ولا سوس ولطالما عرضت من خشبه مصنوعات لطيفة من النجارة البديعة في المعارض فوقعت موقع الاستحسان عند أرباب الذوق والراغبين في البدائع.
شهداء الطيران
ابتدأ الطيران سنة 1908 وما زال عدد شهدائه سنة عن سنة فقضى في السنة الأولى رجل واحد وفي الثانية 3 وفي سنة 1910 - 29 وفي سنة 1911 - 78 وفي سنة 1912 - 140 وقطع خمسة طيارين في السنة الأولى 1600 كيلو متر من حيث المجموع وقطع في سنة 1909 خمسون طياراً 44 ألف كيلومتر وبلغ عدد الطيارين في السنة التالية 500 ومجموع ما اجتازوه - 960 ألف كيلومتر وبلغ عدد الطيارين سنة 1911 - 1500 قطعوا ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف كيلومتر وفي سنة 1912 بلغ مجموع الطيارين 5800 قطعوا عشرين ملون كيلومتر فكان مجموع من هلكوا في السنة الأولى واحداً في 1600 كيلومتر وفي السنة التالية واحداً في كل 15 ألف كيلومتر وفي السنة الثالثة واحداً في كل 33 ألف كيلومتر وفي الرابعة واحداً في 47 ألف كيلومتر وفي الخامسة واحداً في كل 140 ألف كيلومتر وقد حسب الحاسبون أن عدد الطيارين الهالكين آخذا بالنقص نقص إلى عشرة ويوشك أن يقل أكثر من ذلك كلما قل عدد المتهورين من الطيارين وجرى في آلات الطيران.
المطاط
أخذ شجر المطاط الكاوتشو تكثر رزاعته في صومطرا من مستعمرات هولاندة بفضل تربتها ومناخها ورخص أجور العملة فيها وسينافس قريباً المطاط الذي يستخرج من سيلان(86/92)
وغيرها من البلاد الإنكليزية. وفي جزائر هبربد الجديدة شجر ضخم اسمه البانيان لم سكن معروفاً من قبل ولكن تبين الآن أنه يستخرج منه المطاط وقد أخذوا مؤخراً يستثمرونه ويبعثون به إلى قارة أستراليا ليدخل في الصناعات.
سارة برنارد
ما نظن في البشر الراقي أناساً لم يسمع باسم سارة برنارد أعم ممثلة في الأرض لهذا العهد وقد احتفلت الأمة الفرنساوية بتكريمها في العهد الأخير كما يحتفل بالملكات أو أكثر وقال ناظر المعارف الفرنسوية إن حكومة الجمهورية قلدتها وسام جوقة للشرف لأنها كانت ممرضة في المستشفيات العسكرية للجيش الفرنساوي سنة 1870 ولأنها نشرت اللغة الفرنسية في العالم كله مثلت في جميع الممالك وقد امتدحها بار الشعراء بشعرهم والأدباء بنثرهم وفاضت البالغة يوم تلك الحفلة التي دعاها فيها أحد كبرائهم إمبراطورة المحاضرة لأنها أخذت تحاضر الجمهور وهي الآن في شيخوختها بعد أن مثل أبدع القصص نحو نصف قرن وهي في شبابها وكهولتها واغتنت من التمثيل كما يغتني كبار رجال المال والأعمال في الغرب.
الخطوط الحديدية في أميركا
قالوا أن طول الخطوط الحديدية التي تشق بلاد الولايات المتحدة الأميركية يبلغ 241. 199 ميلاً أي أطول من مجموع خطوط ممالك أوروبا كلها وستخدم فيها 241. 155عاملاً في حين يقتضي لها مليون مستخدم ومتوسط أجرة العامل في السنة 360 ريالاً أميركياً وثمن هذه الخطوط تشعة عشر مليار دولار وكثير من الخطوط يملكها رجل واحد أو اسرة واحدة مثل خطوط اسرة فندربلت الغني الشهير ولا ترق قلوبهم بالعطف على مساكين المستخدمين في حين قد دفعت مؤخراً إحدى بنات فندربلت ثمانية لايين دولار لتصبح دوقة إنكليزية وذهبت مجموعة البدائع التي حواها متحف مورغان الغني إلى المتحف العام في أميركا بعد وفاته والمثل يقول عند الغربيين القمل بعيش على حساب الكلب المضروب
أعظم نفق
فتح نفق في العالم في نيويورك وهو مجرة تحت الأرض يسقي مدينة نيويورك فيملاً كل يوم باثنين وعشرين ألفاً وخمسمائة مليون لتر من الماء آتياً من مكان بعيد عن تلك(86/93)
العاصمة 145 كيلومتراً وقد حفر على عمق 122متراً عن سطح الأرض ودام العمل في هذا النفق سبع سنين وأنفقت عليه بلدية نيويورك مليار فرنك واستخدمت فيه كل يوم 25 ألف عامل وهدمت لأجله سبع قرى فيها ثلاثة آلاف ساكن إلى غير ذلك من الأعمال العظيمة التي لا تقوم بها إلا الأمم ذات المدينات الراقية.
شعر الشهر
قال خليل أفندي مطران في الأهرام من قصيدة في الطيران والطيارين.
خواض أجواز العنان ممانع ... غير النهي عن أخذه بعنان
يدعو الرياح عصية فتنله ... أكتافها بالطوع والإذعان
يسمو فتضع الشوامخ دونه ... حتى تأوب بذله الغيطان
يطأ السحائب ممنعاً في شوطه ... زجل الفوائد له أزير الجان
فترى منائرها هوت وجبالها ... دكت وأبحرها عفت في آن
وترى قراها العامرات وروضها ... أقوين من حسن ومن عمران
وترى مناجم تبرها وعقيقها ... مهدودة مشبوبة النيران
وترى الصفوف الكثر من حيوانها ... بادت فما كانت من الحيوان
وترى عوالم ليس منها باقياً ... إلا اختلاط أشعة ودخان
حتى إذا ما جال غير مدافع ... أو عام بين النسر والسرطان
الوى يحط فما يقول شهوده ... إلا جلال النسر في الطيران
فإذا دنا خالوه عرش كرامة ... شدته أملاك بلا أشطان
فإذا أسف رأوه مركبة لها ... عجل تسيرها يدا شيطان
فإذا جرى ثم استوى فوق الثرى ... ظهرت لهم أعجوبة الإنسان
قال أحمد بك شوقي في الطيارين اللذين طارا من بيروت إلى القاهرة على ما نشره الأهرام.
يا راكب اليح حي النيل والهرما ... وعظم السفح من سيناء والحرما
وقف على أثر مر الزمان به ... فكان أثبت من أطواده قمم
وأخفض جناحك في الأرض الني حملت ... موسى رضيعاً وعيسى الطهر منفطما(86/94)
وأخرجت حكمة الأجيال خالدة ... وبينت للعباد السيف والقلما
وشرفت بملوك طالما اتخذوا ... مطيهم من ملوك الأرض والخدما
هذا فضاء تلم الريح خاشعة ... به ويمشي عليه الدهر محتشما
إلى أن قال:
يا صاحبي أدرميد حسبها شرفاً ... أن الرياح إليها ألقت اللجما
وأنها جاوزت في القدس منطقة ... جرى البساط فلم يجتز لها حرما
مشت على أفق مر البراق به ... فقبلت أثراً للخف مرتسماً
ومسحت بالمصلى فاكتسبت شرفاً=وبالمغار المعلى فاكتسبت عظماً
وكلما شاقها حاد على أفق ... كانت مزامير داود هي النغما
جشمتماها من الأهوال أربعة ... الرعد والبرق والإعضار والظلما
حتى حوتها سماء النيل فانحدرت ... كالنسر أعيا فوافي الوكر فاعتصما
قال السيد محمد حبيب العبيدي الموصلي في فتى العرب:
أمعاتب الأيام في تبعاتها ... منيت نفسك طامعاً بمحال
أوترت للأغراض غير قسيها ... وأرشت عند أترمي غير نبال
أنت الزمان وأنت رب بلائه ... ماذا تريد من الزمان البالي
حملته تبعات نفسك جاهلاً ... فحملت أثقالاً على أثقال
إن الزمان حديثه وقديمه ... ن بيض أيام وسود ليال
الدهر حرث بنيه في أعمالهم ... يأتي بما زرعت يد العمال
فلمن أطال النوم لوعة جائع ... ولمن يغوص البحر عقد لآل
عطل الضعيف فآذنت بشقائه ... ذكرى السعادة للقوي الحالي
لا حق في هذي الحياة لعاجز ... مستضعف ولخسائر مكسال
تجلي الحقيقة بالدليل فتنثني ... حقاً فتعوزه قوي قوى الأبطال
الحق من دون العناية باطل ... ولباطل معها فسيح مجال
خير الحياة وشرها في موقف ... الحكم فيه لصارم وعوال
حتى ضعاف الطير صيد سباعها ... والظبي قنص لحبائل المغتال(86/95)
إن الحياة هي العناية، والردى ... من دونها حظ الضعيف السالي
قال خير الدين أفندي الزركلي في فتى العرب من قصيدة
يا أمة العرب هلا تنظين إلى ... ماضي العصور، لدن حليت تيجاناً
أيام سدت بني حواء بانيه ... لهم من العلم والعرفان بنياناً
أيام كنت التي يمنى لصولتها ... عز الممالك، من لخم وغسانا
أزمان كنت - وخير القول أصدقه ... أم البلاد - إلا حيين أزمان
ألا ترين رقي الأمس باكية ... رجالك الغر من أنسال عدنانا
أما تنوحين عهد الفاتحين أما ... تبكين من قد أقاموا قصر عمدانا
ولات يجديك نوح النائحات إذا + لم تجعلي للنهوض الجد عنوانا(86/96)
العدد 87 - بتاريخ: 1 - 4 - 1914(/)
سماع الألحان
فن الغناء نشأ مع البشر منذ طفوليتهم وتدرج في درجات العلو ودركات الهبوط بحسب ارتقاء الأمم. ولقد كان له شأن وأي شأن عند الأمم الراقية في القديم على ما دلت عليه روايات التوراة والصور التي وجدت في النواويس المصرية والنقوش البارزة في قصور نمرود وخراساباد حيث الموسيقيين والمغنين وأدوات الطرب كالشبابة والبوق والصنج والعدو وعيرها. ومزامير داود مشهور مذكورة.
أجمعت الأمم من جميع الطبقات (الموسيقي الشرقي) على حب الألحان حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم ولكل أمة أحان ونغمات يستلذونها ويفرحون بها لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم إلا تعود سماعها أو بمعرفة مواقع الطرب في أي لحن كان ومن الدليل البين أن لها تأثيراً في النفوس كون لناس يستعملونها تارة عند الفرح واللذة والأعراس والولائم وأخرى عند الحزن والغم والمصائب والمآتم وطوراً في بيوت العبادات والأعياد وآونة في الأسواق والمنازل وفي الأسفار والحضر وعند الراحة والتعب وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهلاء والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.
قال ابن ساعدة ومنفعة الموسيقى بسط الأرواح وتعديلها وتقويمها وقبضها أيضاً لأنه يحركها أما عن مبدئها فيحدث السرور واللذة يظهر الكرم والشجاعة ونحوها وأما إلى مبدأها فيحدث الفكر في العواقب والاهتمام ونحوها ولذلك يستعمل في الأفراح ولا حروب وعلاج المرضى تارة ويستعمل في الآتم وبيوت العبادات أخرى.
قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطبية فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد. وقال إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو بل للمنافع الذاتية ولذة الروح الروحانية وبسط النفس وترويق الدم أما من ليس له دراية في ذلك فيعتقد أنه ما وشع إلا للهو والترغيب في لذة شهوات الدنيا وغرور بأمانيها.
قال الغزالي في الأحياء: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها نا يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار في الأوتار حتى قيل من لم(87/1)
يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيرها مشاهد في الصبي في مهده فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً تستخف معه الأحمال الثقيلة لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الأعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آدانها في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها.
فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقي رضي الله عنه قال كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه فرأيت في الخباء عبداً أسود مقيداً بقيد ورأيت جمالاً قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه فقال الغلام: أنت ضيف ولك حق فتشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك في هذا فعساه يحل القيد عني قال: فلما احضروا الطعام امتنعت وقلت: لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد فقال: إن هذا العبج قد أفقرني وأهلك جميع مالي فقلت: ماذا فعل فقال: إن له صوتاً طيباً وأني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال فحملها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هماك فما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أن على وجهي فما أطن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه.
قال الغزالي بعد إيراد ما تقدم: فإذا تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهوة ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلط الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجزان يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك(87/2)
بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب.
قال حجة الإسلام: إن الغناء اجتمعت فيه معان أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها فإن فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب فالوصف الأهم أنه صوت طيب ثم الطيب ينقسم إلى المفهوم كالأشعار وغلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات أما سماع الصوت الطيب من حيث أنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة اسمع بإدراك ما هو مخصوص به وللإنسان عقل وخمس حواس ولكل حاسة إدراك وفي مدركات الحاسة ما يستلذ فلذة النظر في المبصرات الجميلة.
كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة وللشم الروائح الطيبة وهي مقابلة الإنتان المستكرهة وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة وفي في مقابلة المرارة المستبشعة وللمس لذة اللين والنعومة والملامسة وهي في مقابلة الخشونة والضراسة وللعقل لذة العلم والمعرفة وهي في مقابلة الجهل والبلادة فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها.
ونقل الغزالي أيضاً عن أبي طالب المكي إباحة السماع عن جماعة فقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا فأدركنا أبا مروان القاصي وله جوار بسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية قال: وكان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما قال: وقيل لأبي الحسن بن سالم كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يستمعون فقال: وكيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هر خير مني فقد كان عبد الله ين جعفر الطيار يسمع وأنا أنكر اللهو واللعب في السماع.(87/3)
هذا ما قاله الغزالي ونقله في السماع وفوائده والمحرم منه في الإسلام ما كان مانعاً عن العمل والعبادة محركاً للشهوات البهيمية كما أن آلات الطرب يكون حكمها حكم السماع والتلحين وفي هذه المسألة مرادات واختلافات بين العلماء في القديم والحديث ولكن العقلاء منهم اختاروا التوسط والتوسط محمود في كل حال فإنهم لم يقبلوا أن يخرجوا بالناس عن الطبع والطبيعة لأنهم إذا منعوا ما هو ضروري من ضرورات الحياة لا يعود الناس يبالون ويسيرون بلا وازع وعلى كل فإن الاعتدال هو غاية الغايات حتى في العبادة.
نحن في عصر أصبح فيه الغناء من الفنون ذات القواعد والروابط والأصول ولذلك ترى المنشدين والمغنين والموسيقيين يختارون من الألحان ما يناسب الظرف الذي هم فيه وتراعى به حالة المستمعين وقد ادعى بعضهم أن من النغمات ما يطيب في النوم ولا يطيب في آخر وبعض الألحان قد يكون لها من التأثير ما لا يكون لغيرها ولا شك أن للحالة النفسية التي يكون عليها المغني والمغنى له دخلاً في الطرب فقد وقع لنا أن طربنا مرات بشباب الراعي في الجبال أكثر من سماع الناي والقيثارة وإن راقنا الغناء الطبيعي أكثر من المصنع الموقع على الألحان وكثيراً ما يسمع المرء أمهر الموسيقاريين بين المنشدين فلا يرتاح كما يرتاح لسماع بدوي في البادية يحدو ويتغنى كأن النفس لا تميل إلى الطبيعي من الأشياء الخالي من الطلاء الصنعي.
قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه النصب والسناد والهزج فأما النصب فغناء الركبان والقينات وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فأشياء وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة وهذه القرى مجامع أسواق العرب وكانت العرب تسمى القينة الكرنية والعود الكران والزهر أيضاً هو العود وهو البريط وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو علم اين سريج والدلال ونؤمة الضحى. وقالوا غناء كل مغن مخلوق من قلب رجل واحد وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعاً وكانوا يقولون الغناء على ثلاثة أضرب فضرب منه مطرب محرك ويستخف وضرب ثان له شجى ورقة وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعه.(87/4)
الغناء مؤثر في البهائم فكيف لا يؤثر في الإنسان هو يؤثر في الطيور والهوام ولطالما شوهد العصفور والشحرور يرفرفان أمام مغن مطرب وآلة موسيقية شجية وقد أخذهما الطرب فاقتربا يستمعان للأغاني ورنات المثالث والمثاني كما يقترب الطروب من الأناسي وشوهد أن الأفاعي خرجت من أوكارها تستمع لنغمة شاد أو ضربة موسيقار بل شوهد أن من الغناء ما تهتز له جوانب القصور وترتج رفوفها وحيطانها ولعل ما قيل من أن صوت فلان يطرب الجماد له من الواقع ما يؤيده.
الألحان تصفي الأرواح وتبعث النشاط في النفوس فيها قد يجسر الجبان في ساحة الوغى ويكرم الشحيح ويرق الكثيف ويلين القاسي ويقوى الضعيف ويعدل الظالم ويعطف اللئيم. وخير الأغاني والأناشيد ما كانت ملحنة بألحان تناسبها معن الألفاظ جيدة المعاني وما قيل من أنه ليس على المطرب أن يعرب ليس صحيحاً من أكثر وجوهه فإن لجودة اللفظ والمعنى تأثيراً لا ينكره إلا مريض الذوق بعيد عن مناحي الآداب سقيم الفهم.
كان الناس في القديم لا يعرفون غير العود والقانون والمزامير والشبابات والصلاصل والطارات والكوبة من آلات الطرب واليوم أتي الإفرنج بالأرغن والبيانو وغيرهما من أدوات الطرب ولكن جل الاعتماد اليوم على البيانو لا يكاد يخلو منه بيت ذي نغمة في الغرب يضرب به أولاده وزوجه وضيوفه ويوقعون عليه أنواع الأغاني والاناشيد وتعلمه فيما نحسب لسهل من تعلم العود المألوف في هذا الشرق الأقرب.
والتغيير هو الغناء بالطقطقة بالقضيب وإنما سمي تغييراً لأن محدثيه يسمون المغيرة والكوبة طبل طويل ضيق الوسط ذو رأسين وهو المعروف بالدربكة في بلاد الشام.
قال يزيد بن عبد الملك يوماً وذكر عنده البربط فقال بيت شعري ما هو فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنا أخبرك ما هو هو محدودب الظهر أرسح البطن له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حرك أعطافه وهز رأسه.
وقد ورد في الكتاب والسنة وسيرة أعاظم سلف الأمة إشارة إلى الغناء وإلى تجوزهم في سماعه وهم ولا شك أحسن قدوة في هذا الباب. قال القرطبي من مخطوطات المكتبة الظاهرية ومن الاستدلال بالكتاب من ذلك أي على الغناء قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة هو(87/5)
الغناء وقوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال مجاهد أنه الغناء والمزامير وأنتم سامدون قال ابن عباس: هو الغناء. ومن السنة ما خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من بعض مغازيه فجاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عليٌّ وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. وفي حديث عائشة أن امرأة زفت إلى رجل من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة أما كان معهم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو. واللهو هو الغناء.
وحكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فصعد النساء على السطوح يضربن بالدفوف ويقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
روى ابن عبد ربه في العقد الفريد قال بعض أهل التفسير في قول الله يزيد في الخلق ما يشاء هو الصوت الحسن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري لما أعجبه صوته: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود.
كان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور به بكاءٍ كأنه يتذكر به نعيم الآخرة. وقال أحمد بن أبي دؤاد إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم فيقع علي البكاء حتى أن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله.
وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وإن أفراخها لتستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن. قال في العقد واردف النبي صلى الله عليه وسلم الشريد فاستشهد من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحساناً لها فلماً أعياهم القدح في الشعر والقول فيه قالوا الشعر حسن ولا نرى إن يؤخذ بلحن حسن وأجازوا ذلك في القرآن وفي الآذان فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والآذان أحق بالتنزيه عنها وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر وما الفرق بين أن ينشد الرجل أتعرف رسماً كاطراد المذنب مرسلاً أو ليرفع بها صوته مرتجلاً وإنما(87/6)
جعلت العرب الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدندنة ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.
واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: اهديتم الفتاة إلى بعلها قالت نعم قال فبعثتم معها من يغني قالت: لا قال: أوما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم
واحتجوا بحديث عبد الله بن اويس بن عم مالك وكان من أفضل رجال الزهري قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بجارية بظل قارع وهي تغني
هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله
حدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية حجرها عود فلما دخل الشعبي أمرها فوضعت العود فقال له الشعبي: لا للأمير أن يستحي من عبده قال: صدفتم ثم فال للجارية هات ما عندك فأخذت العود وغنت
ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظره ... إلىَّ التفاتاً أسلمته المحاجر
فقال الشعبي: الصغير أكيسهما يريد الزير ثم قال: يا هذه أرخي من بمك وشدي من زيرك فقال له بشر: وما عملك قال: أظن العمل فيهما قال: صدقت ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.
أرق معاوية ذات ليلة فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله (بن جعفر وكان ضيفه أنزله في دار عياله بالشام) وأخبره بخرجي إليه فذهب فأخبره فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية فلم ير في المجلس غير عبد الله فقال: مجلس من هذا قال: مجلس فلان قال معاوية: مرة يرجع إلى مجلسه ثم قال من هذا قال: مجلس فلان قال مره يرجع إلى مجلسه(87/7)
حتى لم يبق إلا مجلس رجل فقال من هذا قال مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين قال له معاوية فإن أذني عليلة فمره فليرجع إلى موضعه وكان موضع بديح المغنى فأمره ابن جعفر إلى موضعه فقال له معاوية داو أذني من علتها فتناول العود ثم غنى
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بجومانة الدراج فالمتثلم
فحرك عبد الله بن جعفر رأسه فقال معاوية: لم حركت رأسك يا ابن جعفر قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لاقيت عندها لأبليت ولئن سئلت عندها لأعطيت وكان معاوية قد خصب فقال ابن جعفر لبديح هات غير هذا وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه فعناه بديح
وليس عندك شكر للتي جعلت ... ما أبيض من قادمات الشعر كالحمم
وجددت منك ما قد كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طرباً شديداً وجعل يحرك رجله فقال ابن جعفر يا أمير المؤمنين سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك فقال معاوية كل كريم طروب ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب.
روى المبرد في الكامل قال: حدثت أن معاوية استمع على يزيد ليلة فسمع من عنده غناءً أعجبه فلما قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر قال: إذاً فاخثر له من العطاء. وحدثت أن معاوية قال لعمرو: أمض ينا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته حتى ننعي عليه أي نعيب عليه فعله يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فدخلا إليه وعنده سائب خاثر وهو يلقي على جوار لعبد الله فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية وثبت سائب مكانه وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية فرفع معاوية عمراً فأجلسه إلى جانبه ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه فأمر بالكراسي فألقيت وأخرج الجواري فتغنى سائب بقول قيس بن الخطيم
ديار التي كادت ونحن على مشى ... تحل بنا لولا نجاءُ الركائب
ومثلك قد أصيبت ليست بكنة ... ولا جارة ولا حليلة صاحب
وردده الجواري عليه فحرك معاوية يديه وتحرك في مجلسه ثم مد رجليه يضرب بهما وجه(87/8)
السرير فقال له عمرو: اتئد يا أمير المؤمنين فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالاً وأقل حركة فقال معاوية: اسكت لا أبالك فإن كل كريم طروب.
وذكر ابن عميرة الضبي في ترجمة محمد ابن إسحاق بن سليم قاضي الجماعة بقرطبة أنه كان من العدول المرضيين والفقهاء المشهورين وله عند أهل بلاده حالة مذكورة منزلة في العلم والفضل معروفة وكان مع هيبته ورياسته حسن العشرة والأنس كريم النفس مات سنة 367 حدث القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث عرف بابن الصفاران رجلاً من أهل المشرق يعرف بالشيباني دخل الأندلس فكن بقرطبة على شاطئ الوادي بالعيون فخرج قاضي الجماعة ابن سليم يوماً لحاجة فأصابه مطر اضطره إلى أن دخل بدابته في دهليز الشيباني فوافقه فيه فرحب بالقاضي وسأله النزول فنزل وأدخله منزله وتفاوضا في الحديث فقال له: أصلح الله القاضي عندي جارية مدنية لم يسمع بأطيب من صوتها فإن أذنت أسمعتك عشراً من كتاب الله عزًّ وجل وأبياتاً فقال له: افعل فأمر الجارية فقرأت ثم أنشدت فاستحسن ذلك القاضي وعجب منه وكان على كمه دنانير فأخرجها وجعلها تحت الفرش الذي جلس عليه ولم يعلم بذلك صاحب المنزل فلما ارتفع المطر ركب القاضي وودعه الشيباني فدعا القاضي له ولجاريته ولا بأس هنا أن نختم هذا الفصل بأبيات في صنعه الغناء نقلها الشريف المرتضي في أمالية قال: أخبرنا المرزباني قال: حدثنا على بن هارون قال: حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله بصف جارية مغنية قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة العناء واستحسانه مثل هذه الأبيات
ورائحة للعين فيها مخيلة ... إذا برقت لم تسق بطن صعيد
من المستهلات الهموم على الفتى ... خفا يرقها في عصفر وعقود
حسدت عليها كل شيء يمسها ... وما كنت لولا حبها بحسود
وأصفر مثل الزعفران شربته ... على صوت صفراء الترائب رود
كأن أميراً جالساً في ثيابها ... تؤمل رؤياه عيون وفود
من البيض لم تسرح على أهل ثلة ... سواماً ولم ترفع حداج قعود
تميت به البلبنا وقلوبنا ... مراراً وتحيهن بعد همود(87/9)
إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى ... صياح جنود وجهت لجنود
ظللنا بذاك الذيدن اليوم كله ... كأنا من الفردوس تحت خلود
ولا بأس أننا عند أهلنا ... شهود وما البابنا بشهود(87/10)
الملك الناصر صلاح الدين
أشار إلينا أحد الأصدقاء إن نزيد القراء من سيرة أبي المظفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد أفراد الملة الإسلامية وأكبر أبطال القرون الغابرة من كان يعلم أعداءه كيف تكون الرجولية كما كان قال امبراطور الألمان الحالي وإن نتوسع في وقائعه ما أمكن لأن سيرته الشريفة جديرة بأن بتدارسها الملوك والسوقة ويهتدي بهديها ابن القرن الحاضر والقرون الآتية فهي مثال الحكمة كلما كررت حلت ومهما أطال الناظر بصره فيها زاد بصيرة وماذا عسانا نقول فيمن جمع الفضائل النفسية ورزق من الصبر والثبات وحب الموت حباً بأحياء الأمة وخادنه من أسباب التوفيق ما لم يكتب لأحد فخدم الإسلام والمسلمين بعقله وجهاده خدمة الخليفة الثاني ونفعهم بسيرته كما نفع المأمون العباسي وكان في زهده وشدته على قدم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز اجتمعت لصلاح الدين أرقى صفات تلزم الملوك والسلاطين وأسمى أخلاق الزاهدين العالمين والكرماء المحسنين وربي تربية رشيدة لا يكاد ينشأ عليها ابن أرقى البيوت المالكة لعهدنا في بلاد الغرب مع ما لهم من المدارس الجامعة والجمعيات وأسباب تهذيب النفس وتربية الملكات وإنارة العقول.
فلاحت على وجهه مخايل السعادة وأخذت النجابة منذ نشأته تقدمه من حالة إلى حالة كما قالوا فنشأ كنف أبيه في قلعة تكريت وكان أبوه وعمه بها عمالاً لحاكم تلك الديار وكان أهله من دوين بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وهم أكراد روادية وفي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد وانتقلوا من هناك إلى تكريت وفيها ولد صلاح الدين.
قال ابن خلكان أخبرني بعض أخل بيتهم وقد سألته هل نعرف متى خرجوا من تكريت فقال: سمعت من أهلنا يقولون أنهم خرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين فنشأ موابه وتطيروا منه فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعملون فكان كما قال.
قلنا تشاءموا بولادة صلاح الدين وذلك لأنه صادف أنه أخرج والده من قلعة تكريت بأمر صاحبها بهروز ليلة ولادته. وذكر في الروضتين إن قد اجتمع مرة السلطان صلاح الدين ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة بمصر وقد قعدا على طراحة واحدة والمجلس غاص بأرباب الدولتين يوم أراد نور الدين محمود بن زنكي أن نقطع خطبة المصريين وتقام دعوة بني العباس وعند الناس من الفرح والسرور ما قد أذهل العقول فبينا الناس(87/11)
كذلك إذ تقدم نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر صلاح الدين ووالده نجم الدين والتفت إلى نجم الدين وقال له: يا مولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين ولد هذا السلطان فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه والتفت إلى الجماعة الذين حوله والقضاء والأمراء وقال: لكلام هذا النصراني حكاية عجيبة وذلك أنني ليلة رزقت هذا الولد يعني السلطان الملك الناصر أمني صاحب قلعة تكريت بالرحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي شيركوه رحمه الله وقتله النصراني وكنت قد التفت القلعة وصارت لي كالوطن فثقل عليَّ الخروج منها والتحول عنها إلى غيرها واغتنمت لذلك وفي ذلك الوقت جاءني البشير بولادته فتشاءمت به وتطيرت لما جرى على ولم أفرح به لم استبشر وخرجنا من القلعة وأنا على طيرتي به لا أكاد أذكره ولا أسميه وكان هذا النصراني معي كتاباً فلما رأى ما نزل بي من كراهية الطفل والتشاءم به استدعى مني أن آذن له في الكلام فأذنت له فقال لي: يا مولاي قد رأيت ما قد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي وأي شيء له من الذنب وبما استحق ذلك منك وهو لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئاً وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر ثم ما يدر بك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيم الصيت جليل المقدار فعطفني كلامه عليه وها هو قد أوقفني على ما كان قاله فتعجب الجماعة من هذا الاتفاق وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه.
ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين. ونور الدين هذا تركي الأصل وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس ملك الشام ومصر بحيث قوي على رد غارات الصليبيين ودفعهم عن الأرض المقدسة. فصلاح الدين يوسف ليس إذاً من أصل وضيع ولا من أصل رفيع جداً تعلم القدر الذي كان يتعلم أبناء الكبراء ونشأ نشأة دينية راقية وأخذ حسن الخلق والعدل والشجاعة والكرم عن أبيه نجم الدين أيوب بن شاذي وكان عدلاً مرضياً كثير الصلاة والصلات عزير الصدقات والخيرات يجب العلماء ربي في الموصل ونشأ شجاعاً باسلاً وخدم السلطان محمد بن ملكشاه فرأى منه أمانة وعقلاً وسداداً وشهامة فولاه قلعة تكريت فقام في ولايتها أحسن قيام وضبطها أكرم ضبط وأجلى من أرضها المفسدين وقطاع الطريق وأهل العيث حتى عمرت(87/12)
أرضها وحسن حال أهلها وأمنت سبلها ثم أضيفت إليه ولايتها وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة وكان لا يمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة وكان لا يسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه ما يستعين به على صلاح حاله.
وكان أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أيوب في قلعة تكريت مع أخيه وكان شجاعاً باسلاً مثل أخيه فاتفق أن أسد الدين نزل من القلعة يوماً لبعض شأنه ثم عاد إليها وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارص وكان رجلاً نصرانياً فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعداً إلى القلعة فعبث به بكلمة ممضة فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة وكان مهيباً فلم بتجاسر أحد على معارضته في أمر النصراني فبلغ بهروز صاحب قلعى تكريب ما جرى وحضر عنده من خوفه من جرأة أسد الدين وأنه ذو عشيرة كبيرة وإن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا وأنه ربما كان منهما أمر تخشى عاقبته ويصعب استدراكه فكتب إلى نجم الدين ينكر عليه ما جرى من أخيه ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيره صحبة الكتاب فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة وقعد هو وأخوه عماد الدين بالموصل فأكرمهما واقطعهما الاقطاعات الحسنة ثم اتصلا بنور الدين محمود بن زنكي إلى أن أرسل أسد الدين شيركوه إلى مصر ومعه ابن أخيه صلاح الدين. وبنور الدين تخرج صلاح الدين فقد كان نور الدين يرى له ويؤثره ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد وسافر صلاح الدين إلى مصر وهو كاره للسفر فجعله عمه أسد الدين شيركوه مقدم عسكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة وكان صلاح الدين في السابعة والعشرين من عمره فعرف أسد الدين حال مصر وكشف أحوالها والدولة الفاطمية فيها مشرفة على الزوال وقد ضعفت جنيديتها ودب الفشل والهرم في البيت العبيدي وصارت خلافتهم ألعوبة في يد كل ذي قوة.
والسبب في دخول أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر أن الوزير شاور هرب من مصر واستغاث في الشام بنور الدين من ضرغام بن عامر لأنه قهره وأخذ مكانه في الوزارة ولما وصل أسد الدين شيركوه وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها الضرغام وحصل لشاور مقصوده وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره غدر(87/13)
بأسد الدين شيركوه واستنجد بالفرنج عليه وحصروه في بلبيس وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال طمع في الاستيلاء عليها فبلغ شاوراً أن نور الدين قد زين له الاستيلاء على مصر وأن أسد الدين لا بد له من قصدها ثانية فكاتب الإفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنهم منها تمكيناً كلياًَ ليعينوه على استئصال أعدائه فبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه وكان توجههم من الشام في سنة 562.
استولى أسد الدين على أزمة الوزارة وقتل شارواً الوزير قبله بأمر الخليفة الفاطمي جرياً على عادة أجداده في الوزارة وذلك في ربيع الأول سنة 564 كان صلاح الدين يباشر الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياستهومات أسد الدين بعد شهرين وخمسة أيام من توليه الوزارة للعاضد الفاطمي فتولاها صلاح الدين بعده وتمهدن القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع وبذل الأموال وملك قلوب الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله تعالى عليه فتال عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد ومن حين اسئب له الأمر مازال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد وغشي الناس من سحائب الأفضال والأنعام ما لم يؤرخ من غير تلك الأيام وهذا كله وهو وزير متابع القوم لكنه يقول بمذهب أهل السنة مارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين وهو يكرم كل وافد ولا يخيب أحداً قصده.
بهذا الكرم والعقل دانت مصر لصلاح الدين وأصبح فيها الحاكم المتحكم واصطناع الفضلاء وتقريب العقلاء والأفضال على العلماء والشعراء من آكد الطرق في بلوغ المقصود وتهيئة أسباب الملك.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
ولما ثبتت قدم صلاح الدين في مصر وأزال المخالفين كما قال ابن الأثير وضعف أمر العاضد ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره(87/14)
الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين فلم يصغ نور الدين إلى قوله وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه واتفق أن العاضد مرض وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة فاستشار أمراءه في كيفية الابتداء بالخطبة العباسية فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها ومنهم من خاف ذلك إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين فلما كان أول جمعة من المحرم 567 خطب للمستضيء بأمر الله تعالى العباسي فلم ينكر أحد ذلك فلما كانت الجمعة الثالثة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية.
وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أهله وأصحابه بانقطاع الخطبة باسمه وقالوا إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما كان فيه وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد ووكل بحفظهم وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في أيوان بالقصر وجعل عندهم من يحفظهم وأخرج من كان فيه من العبيد والأماء فاعتق البعض ووهب البعض وباع البعض وأخلى القصر من أهله وسكانه. وكان ابتداء الدولة العبيدية أو الفاطمية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ومقامهم بمصر مائتي سنة وملك منهم أربعة عشر ملكاً آخرهم العاضد وأولهم المهدي.
أزال صلاح الدين دولة العبيدين على أهون سبب لأنها لم تعد صالحة للبقاء وكفى أن أمراءها أخذوا يراسلون الإفرنج لتسلم لهم مناصبهم كما فعل جماعة عمارة اليمني المقتبس م3 ص177 وأخذوا يراسلون الفرنج في صقلية وساحل الشام ليقلبوا الحكومة الصلاحية ويعيدوا الدولة العبيدية فشعر بهم صلاح الدين وصلبهم وكما فعل غير واحد من ملوك الطوائف في الأندلس فأنشأوا يحتمون بجيرانهم وأعدائهم ويستعينون بهم على قتال ذويهم وأبناء ملتهم فكان ذلك من أهم الأمور في طمع الإسبانيين ببلاد الأندلس واسترجاعها بعد(87/15)
أن حكمها العرب قروناً. عن علي بن عيسى بن الجراح قال:
سألت أولاد بني أمية ما سبب زوال دولتكم قال أربع خصال أولها أن وزراءنا كتموا عنا ما يجب إظهاره لنا والثانية أن جباة خراجنا ظلموا الناس فاحتلوا عن أوطانهم فخربت بيوت أموالنا والثالثة انقطعت الأرزاق عن الجند فتركوا طاعتنا والرابعة أيس الناس من إنصافنا فاستراحوا إلى غيرنا فهذا كان سبب زوال دولتنا. قلنا وهو سبب ذهاب أكثر الدول وهذه الخصال كانت ولا شك موجودة في الفاطمية.
قال صاحب الكامل: ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب أهله وباع منه كثيراً وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفسية ما لم يكن عند ملك من الملوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف والحبل الياقوت وغيرهما ومن الكتب المنتجة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد. وهكذا عادت إلى مصر الخطبة والسكة باسم الخليفة العباسي بعد أن انقطعت دهراً طويلاً فأرسل المستضيء بأمر الله خلعة إلى نور الدين في الشام وأخرى أقل من خلعته إلى صلاح الدين في مصر.
ثم حصلت وحشة بين نور الدين وصلاح الدين وذلك أن الأول طلب إلى الثاني أن يجمع العساكر المصرية ويأتي إلى الكرك ليجمع هو العساكر الشامية ويأتيها ليخلصوها من الإفرنج فبعد أن صدع بالأمر أرسل إليه كتاباً يعتذر فيه عن الوصول باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها مع البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغير عليه وكان سبب تقاعد صلاح الدين أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين فإذا لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده فجمع أهله ومنهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحازمي ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستظمه وكان ذا رأي وفكر وعقل وقال لتقي الدين: اقعد وسبه وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم(87/16)
من يحبك ويريد لك الخير مثلنا فقال: لا فقال: والله لو رأيت أنا وخالك شهاب الدين نور الدين بم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر من الثبات على سرجه ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه وهذه البلاد له وقد أقامك فيها وإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب إليه كتاباً وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني إليك فما ههنا من يمتنع عليك وقال بجماعته كلهم: قوموا عنا فنحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما يريد فتفرقوا على هذا وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر. ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على سرك وما في نفسك فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد وجعلك أهم الأمور وأولاها بالقصد ولو قصدك لم تر معك أحداً من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه وأما بعد هذا المجلس فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل إليه في المعنى وتقول أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي فهو إذا سمع عدل عن قصدك واستعمل ما هو أهم عنده والأيام تندرج والله كل وقت في شأن. والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به والده فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب وتوفي نور الدين ولم يقصده وملك صلاح الدين البلاد قال ابن الأثير وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها.
هذا هو التوفيق الذي حالف صلاح الدين دخل مصر كارهاً مع عمه فصار قائد جندها ثم تولى وزارتها فملكها وقلب دولة العبيديين وكل ذلك بأخذه بالحزم في أموره واستشارته العقلاء من أهله ورجاله وكان من طبعه أن لا يبيت أمراً بدون مشورة هكذا كان منذ ابتدأ شاباً إلى أن استولى بعد وفاة نور الدين سنة 569 على الشام إلى أن استخلص بيت المقدس من أيدي الإفرنج وطردهم من أكثر مدن ساحل الشام يعمل بقول بشار:
إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن ... برأي لبيت أو نصيحة حازم
ولا تستحب الشوري عليك عضاضة ... فإن الخوافي رافدات القوادم(87/17)
وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح اسمعيل وكان بدمشق عند وفاة أبيه فسار إلى حلب من دمشق فلما علم صلاح الدين أن الملك صالح صبي لا يستقل بالأمن ولا ينهض بأعباء الملك واختلت الأحوال بالشام تجهز من مصر في جيش كثيف وترك بها من يحفظها وقصد دمشق أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها بالتسليم سلخ سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها ففرح الناس به وانفق مالاً جزيلاً وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها ثم استولى على تلك البلاد إلى الفرات وما بعد الفرات وتوفي الملك الصالح بعد مدة قليلة فأخذ حلب ودانت له البلاد وفتح بيت المقدس بعد أن ملكه الإفرنج نحو مائتي سنة ولم يفشل في وقعة من وقائعه مع الصليبيين على كثرة عددهم وعديدهم أللهم إلى في عكا فاستعادوها منه بعد أن فتحها بواسطة ملك الإنكليز إذ ذاك ريشاردس قلب الأسد.
إن عدل الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد أدهش الأوربيين في ذاك العهد فكانوا هم يعاهدون فينكثون أما هو فما عاهد ونكث قط وكثيراً ما كان بعض خاصته من متعصبة المشايخ الذين لا يعرفون سياسة الملك ولا حسن إدارة الفتوحات يريدونه على أن يعامل الصليبيين بعملهم في الانتقام من أسراهم عنده كما فعل أولئك وقتلوا مرة مئات من أسرى المسلمين فما كان جوابه إلا الإعراض عن مقترحاتهم والعمل بسنة اللين واللطف حتى استهوى القلوب الشاردة وأحبه أعداؤه قبل أوليائه وهذا من أندر النوادر في الملوك وناهيك بعصره الذي كان عصر التعصب الديني في الغرب والشرق أيضاً فالصليبيون جاؤوا هذه الديار مدفوعين بعوامل الدين واستقاذ بيت المقدس من المسلمين وهؤلاء قاموا باسترجاع البلاد بهذا العامل القوي أيضاً.
قال عبد المنعم الجلياني أحد شعراء الملك الناصر صلاح الدين من قصيدة يعلل فيها السبب الذي من أجله أحب الفرنج صلاح الدين:
وفيت لهم حتى أحبوك ساطياً ... بهم ووفاء العهد قيد المخاصم
فحانوا فخافوا فانتدوا فتلاوموا ... فقالوا خذلنا بارتكاب الجرائم
وخص صلاح الدين بالنصر إذا أتى ... بقلب سليم راحماً وللمسالم
فحطوا بأرجاء الهياكل صورة ... لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
يدين لها نس ويرقى بوضعها ... ويكتبه يشفى به في التمائم(87/18)
ملك مصر والشام والعراق واليمن والملك لما يستتب له على ما يجب يستطيع بعقله وإخلاصه لأمته ووطنه أن يدفع غارات الأوربيين عن أرض الشام ومصر وبعد أن رسخت أقدامهم قرنين كاملين واستجاشوا لهم الأنصار وحشروا من جميع أمم أوربا العدد الكثير وبذلوا في ذلك من المال والرجال ما يقدر بالملايين والربوات أن هذا من عجائب التاريخ. تقف كتائب من العرب والترك والأكراد في موقف القتال مع الفرنسوي والألماني والإنكليزي والمجري والإيطالي والإسباني والنمساوي والسويسري وغيرهم من أمم الإفرنج فيبز الأولون الآخرون على قلة عددهم. ولكن الجيوش قد لا تؤتي من قلة أكثر مما تؤتى من سوء السياسة وعتو القواد والاستهانة بالشورى. وما كان المدافع كالمهاجم في وقت من الأوقات.
ومع هذا الملك الضخم الذي كان لصلاح الدين كان يعيش المتوسطين وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف (المقتبس م8 ص21) فقد كانت قطيعة الصلح بينه وبين الإفرنج في القدس مثلاً أن يؤدوا عن كل رجل عشرين ديناراً وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل ذكر صغيراً وأنثى ديناراً واحداً فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيراً فأقام صلاح الدين يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ويحبو بها الفقراء والعلماء والزهاد والوافدين عليه ولم يرحل عن القدس ومعه من المال الذي جبي له شيء وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار. قال في البرق سمعت الملك العادل (أخو صلاح الدين) يوماً في أثناء حديثه في ناديه وهو يجري ذكر إفراط السلطان في إياديه يقول: إني توليت قطيعة القدس فأنفذت له ليلة سبعين ألف دينار فجاءني خازنه بكرة وقال: نريد اليوم ما نخرجه في الأنفاق فما عندنا مما كان بالأمس بشيء فنفذت له ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال. قالوا: وكان يرضى من الأعمال لما تحمل عفواً وكله يخرج في الجود والجهاد.
وكان يكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف ومجلسه منزه عن الهزء ومحالفه حافلة بأهل الفضل قال العماد وما سمعت له قط كلمة تسقط ولا لفظة فظة تسخط يؤثر سماع الأحاديث ويكلم العلماء عنده في العلم الشرعي وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان(87/19)
بل يعتقد أنه مجالس أخ من أخوانه وكان حليماً مقيلاً للعثرات متجاوزاً عن الهفوات تقياً نقياً صفياً يغضي لا يغضب مارد سائلاً ولا صد نائلاًَ ولا أخجل قائلاً ولا خيب آملاً.
أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسناً وإن لم يكن بعبارة الفقهاء وكان شديداً على الفلاسفة والمعطلة والدهربة وكان مواظباً على صلواته وصيامه عادلاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس هام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفراً وحضراًَ على أنه كان في جميع أوقاته قابلاً لما يعرض عليه من القصص كاشفاً لما ينهي إليه من المظالم.
كان عظماء الشجعان قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات لا يهوله أمر وصل في ليلة واحدة من الإفرنج نيف سبعون مركباً إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس وكان يعطي دستوراً (أي يسرح عسكره) في أوائل الشتاء ويبقي في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف مع هذا تراه صابراً هاجراً في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه قانماً من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة. وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريباً منهم وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ويخرق العساكر من الميمنة والمسيرة يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره.
انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكوش والعلم وهو ثابت القدم في نفر يسير فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس ولم يزل مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم فإن الضعف والهلاك كان فيه أكثر ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة والمسلمون لا يتوقعونها وكانت المصلحة في الصلح.
ولقد كان يركب للحرب وهو على غاية المرض كما فعل يوم عكا اعترته دمامل ظهرت(87/20)
عليه من وسطه إلى ركبته بحيث لا يستطيع الجلوس وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل وكان يعجب من ذلك فيقول إذا ركبت يزول عني المها حتى أنزل.
ومع كل هذه الصفات التي نعدد منها ولا نعدها لكثرتها وإجماع المؤرخين من العرب والإفرنج عليها كان السلطان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم عارفاً بسيرهم وأحوالهم حافظاً لأنساب خيلهم عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها بحيث كان أصحابه يستفيدون محاضرة منه مالا يسمعون من غيره وكان يستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجالسه وكثيراً ما ينشد قولهم:
وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحاً ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفاً
ثم انتبهت وآمالي تخيل لي ... نبل المني فاستحالت غبظتي أسفاً
وكان يعجبه قول ابن المنجم في خضاب الشيب
وما خضب الناس البياض لقبحه ... وأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنه مات الشباب فسودت ... على السم من حزن عليه منازله
وكان يسأل الواحد منهم عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير وطاهر السمع فلا يحب أن يسع عن أحد إلا بالخير وطاهر اللسان فما شوهد مولعاً بشتم قط حسن العهد والوفاء عما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفه جبر قلبه وأعطاه خبز مخلفه وسلمه إلى من يكفله ويعني بتربيته وكان لا يرى شيخاً إلا ويرق له ويعطيه ويحسن إليه.
قال ابن شداد: ولقد رأيته وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي قد أصابه كرب بحيث أنه ظهرت عليه إمارات الخوف والجزع فقال للترجمان: من أي شيء يخاف فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أني ما أرى إلا الخير فرق له ومن عليه وأطقه ولقد كنت راكباً في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف كثيرة البكاء(87/21)
متواترة الدق على صدرها فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الإفرنج فسألت الحضور بين يديك وقد أتينا بها فأمر الترجمان أن يسألها عن قصتها فقالت اللصوص المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي وسرقوا بنتي وبت البارحة استغيث إلى بكرة النهار فقال لي المملوك: السلطان هو أرحم ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه فأخرجوني إليك وما أعرف ابنتي إلا منك فرق لها ودمعت عينه وحركته مروءته وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها ويدفع له ثنمها ويحضرها وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه فما كان إلا أن وقع نظرها عليها فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها وهي ترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقوله فسلمت ابنتها إليها وحملت حتى أعيدت إلى عسكرهم.
ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالبشر والقبول دلالة على حرية نفسه وسعة صدره وقد كان يوماً بعض خدمه يلعبون بس موزة (بانتوفل) في ناحية فوقعت على رأسه فأدار وجهه كأنه لم يحدث شيء وتظاهر بأنه لم ير شيئاً وكان الحافظ ابن عساكر يدخل يوماً: ما هذا؟ كنا في عهد نور الدين ندخل هذا المكان والناس كأن على رؤوسهم الطير إشارة إلى أن صلاح الدين يتساهل مع خدمه ملق حبلهم على غاربهم.
لما فتح صلاح الدين القدس وغيرها من السواحل ولم يبق في أيدي الصليبين إلا عكا وصور وغيرها من البلاد التي لا شأن لها ورأى أن المشيب أنذره بقرب الأجل عقد العزم على الحج إلى بيت الله الحرام فلما بلغ القاضي الفاضل كتب إليه مشيراً بتبطيله: إن الفرنج لم يخرجوا بعد من الشام ولا سلوا عن القدس ولا وثق بعهدهم في الصلح فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلاطيننا سفراً مقدراً معلوماً مدة الغيبة فيه ان يسيروا ليلة فيصبحوا القدس على غفلة فيدخلوا إليه والعياذ بالله ويفرط مديد الإسلام ويصير الحج كبيرة من الكبائر التي لا تغتفر ومن العثارت التي لا تقال إلى أن يقول: يا مولانا مظالم الخلق كشفها أهم من كل ما يتقرب به إلى الله وما هي بواحدة في أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يستغرب معه وقوع القطر ومن تسلط المقطعين على(87/22)
المنقطعين ما لا ينادى وليده وفي وادي بردى والزبداني من الفتنة القائمة والسيف الذي يقطر دماً ما لا زاجر له وللمسلمين ثغور تريد التحصين والذخيرة ومن المهمات إقامة وجوع الدخل وتقدير الخرج بحسبها.
ملأت أوقاف صلاح الدين مصر والشام وهي غير منسوبة إليه قال اين خلكان ولقد أفكرت في نفسي من أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة فإنه فعل في هذه الدنيا الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر لما مات صلاح الدين لم يخلق مالاً عن 57عاماً وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً وابنة ولم يخلف سوى دينار واحد بعد أن دخلت في يديه ثروة الفاطميين وجبي إليه خراج البلاد المفتتحة وحاز مغانم الصليبيين مران تغيب السلطان صلاح الدين أربع سنين في فتح القدس وغيرها من بلاد الساحل وفلسطين لم يدخل خلالها دمشق مع أنه كان يحب البلد ويؤثر فيه الإقامة على سائر البلاد فرأى أولاده الأفضل والظاهر والظافر وأولاده الصغار وأقام في دمشق أياماً يتصيد هو وأخوه الملك العادل أبو بكر بن أيوب وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا وكأنه وجد به راحة مما كان فيه من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل ونصب النهار وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع نزهه وبينما هو على ذلك ونفسه تحدثه بزيارة مصر بعد طول الغيبة عنها ناداه مولاه فلباه فأبكى المقل وأدمى الحناجر.
مات رحمه الله والألسن تذكره بالمحمدة حتى قيام الساعة فكان رجلاً بعد بعشرات الملايين وكم من ألوف لا يساوون واحداً يساوي ألوفاً. مات وقد زلزل المسلمون لفقده كما كتب القاضي الفاضل في ساعة موته إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب من بطاقة: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أن زلزلة الساعى شيء عظيم كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الخناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله عزَّ وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء(87/23)
وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وأنا عليك يا يوسف لمحزون وأما الوصايا مما يحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائج الأمر فإنه أن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام.(87/24)
صفحة منسية
أفضنا في السنة الأولى للمقتبس (ص30و40و110) في الكلام على ترجمة الوهراني ونكتة وكتابة وهو أحد أدباء عصر صلاح الدين وقد ظفرنا في الجزء الثالث عشر من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري من مخطوطات دار الكتب الخديوية بمصر على ما يأتي بشأن شكوى الجوامع في دمشق من سوء حالة الأوقاف في أيامه قال: الوهراني ليب أخترع طريقاً، وأفنزع عذراء لم تك رحيقاً، طلعت شمسه من المغرب ولم يغلق للرحمة باب، ولا كانت من مقدمات النذر للألباب، وقد والدولة الصلاحية قد استعلت، ويد تصرفها على البلاد قد استولت، والمجلس الناصري معمود باللإجلاء مأهول بالقاضي الفاضل وأقرانه من الفضلاء، وريح الأدب قد هبت، ووفود الخواطر إلى تلك المشاعر قد لبت، والحظ الفاضل قد أخذ معه حظ كل فأخذ ما للكل ولم يترك لهم إلا الفاضل، وكان يغر على كل بيت فكر ويرى أن لا نصيب لغيره على محياه حذر، وكان الوهراني لوذعياً تحميه لألأوه، والمعيا تريه البصيرة آراؤه، فخاف نفثات ذلك الصل، وعبثات ذلك السيف الذي لا يكل، فمال إلى السحف، إذ كان لا يحد على تلبيه ولا ينافس في ترديه وتحليه، وجعل هذا سبباً لإظهار ما عنده من الإحسان، وتكلم ولم يخف عثرة القلم ولا زلة اللسان، فرفرف عليه جانب من الحنو الفاضلي، ورق عليه كما يرق غسق البابلي، وهنيت له نغبة من العيش قدر عليه رزقها وقرر له رفقها، وولي خطابة المسجد الجامع بداريا، وقيل له الآن أنت وحي ليلى وأدر ريا، وكان إلى هذا ليس له من حاظ الدين ما يزعه، ولا من حاضر العقل ما ينزعه، فرداه سوء التجري من شاهقه وألقاه عدم التحري لقى لبوائقه، وأطلق لسانه فعثر في طلقه، وكبه في طبقه، وتخرص المنام الذي أتى فيه بالأكاذيب، وحسن باطله بحسن الترتيب، وذكر فيه الملائكة الكرام، وانهتك عرض السلف الحرام، وغير ذلك من كباره التي لا تطاق، ومنكراته التي لا يصبر عليها، وقد ذكرت بعضها هنا وإنما ذكرته لئلا أخلي هذا الكتاب منه، وهو من المسموع بهم والمسئول عنهم، وأنا استغفر الله مما ذكرت من دده، وأوردت من أباطيله، وعقدت البيان على القلم حين تسطير أضاليله، وإن كنت لم أوردها كالصد (؟) الحالي، وأنا فيه ناقل لا قائل ومن الله العصمة وبه السلام.
ومن نثره الرقعة التي له عن جامع دمشق، لما حكمت يد الضياع، في مساجد الضياع وارتج باب العدل وغلق، ونبذ كتاب الله وحلق، فزعت المساجد إلى جلق، وهو يومئذ(87/25)
أميرها، وعليه مدار أمورها، فلما دخلوا عليه من بابه، واجتمعوا تحت قبته ومحرابه كتب لهم جامع النيرب قصة إليه، وتوصلوا إلى من عرضها عليه، فكانت الرقعة مسطورة على هذه الصورة.
المماليك مساجد الكورة يقبلون الأرض بين يدي الملك المعظم، الرفيع المكرم، كهف الدين جمال الإسلاموالمسلمين، بيت الاتقياء والصالحين، مدفن الأنبياء والمرسلين معتد الملتين، صاحب الدولتين، بيه أمير المؤمنين أعلا الله مناره، وأيد أنصاره، وعمر بالتوحيد أقطاره، وينهون إليه ما يقاسون من جور العمال. وتضييع الأعمال. ونهب الوقوف. وخراب الحيطان والسقوف. قد ألفهم الظلمة والظلام. وأنكرهم المؤذن والإمام. فلا تسمع فيهم إلا آذان البوم. وتسبيح الغراب. قد ركعت أركانها. وسجدت سقوفها وحيطانها. تبكي عليها النواقيس. وترثي لها البيع والكنائس. يا ويح من يرثي له الشامت. وقد فزهنا أيها الملك إلى بابك. وأوينا تحت جناحك. فافعل بنا ما هو الأهل بك والسلام.
فلما وقف على هذه الحكاية. وفهم مقتضى هذه الشكاية. استوى جالساً في مقعده وضرب بيده على يد. وقال: وكيف أم للإنسان ما تمنى ثم رفع رأسه وغنى
وما شرب العشاق إلا بقيتي ... ولا وردوا في الحب إلا على وردي
ثم أشرف عليهم من إيوانه. بين حفدته وأعوانه. وأقبل يقلب طرفه في الجموع ويكفكف أسراب الدموع. لما يرى من اختلالهم وفساد حالهم. فابتدر جامع المزة للمقال. فتقدم بين يدي الملك وقال: الحمد لله الذي قضى علينا بالخراب. وصير أموالنا كالسراب. وجعنا مأوى للبوم والغراب. أحمده حمد من كان فقيراً فاستغنى. وأدرك بما الوقف ما تمنى. وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له شهادة عالم عامل. متحمل لثقل الأمانة حامل. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين الأكرمين. أما بعد أيها الملك السعيد ثبت الله قواعد أركانه وشيد ما وهى من بنيانك. فإن الخراب قد استولى على المساجد حتى خلت من الراكع والساجد. فأصبحت جوامع الغوطة غيطان. لا سقوف لها ولا حيطان. ومشاهد البقاع. صفصفاً كالقاع. ومساجد حوران. مخازن وأفران. فكم من بنية لعب الجور بأربابها. ونسج العنكبوت وكم من بيوت الله أغلقت دون أصحابها فعشعش الحمام في محرابها. ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر(87/26)
فيها اسمه وسعى في خرابها. وقد دخل العمال أيها الملك على الوقوف. بحجة العمارة والسقوف. فاتفقت علينا الأهواء. واختلفت فينا الأمطار والأنواء. فلا يزال بنها. وتأخذه السيول والأمطار. حتى يمنحني رسمه. ولا يبقى منه إلا اسمه. وأنت أيها الملك عمادنا. وإليك بعد الله معادنا فالتفت أيها الملك إلى مالنا. وانظر في مصالح أحوالنا. يصلح الله أحوالك ويسدد أقوالك وأفعالك والسلام.
ثم جلس فقال الملك: هؤلاء المساجد. فما بال المشاهد. فبرز مشهد برزة متوكياً على مشهد الأرزة وهو يصلصل ويصول ويلطم وجهه ويقول:
كلما حاولت أشكو قصتي ... لا ألاقي غير ذي قلب جريح
يتشكى مثل شكواي له ... يا لقومي ما عليها مستريح
أما بعد أيها الملك السعيد أدام الله جمالك وبلغك في العدو آمالك فإن مقام إبراهيم، أصبح في كل وا يهيم، ومغارة الدم، لا تستفيق من الذم، ومسجد الكهف، لا يفتر من اللهف، وقير شيث، قد استأصله الخبيث، وقبر نوح، يبكي وينوح، وقبر جيلة، مالنا في عمارته حيلة، وقبرإلياس، قد تعوضنا عنه باليأس، فأمست المشاهد كأربابها، وأصبحت رميماً كأصحابها، قد محتها الغوادي، وحد بها الحادي،
جرت الرياح على رسوم ديارها ... فكأنما كانوا على ميعاد
فقال الملك رب طارق على غير وعد، وفي كل واد بنو سعد، ثم استفتح المقال بأن قال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه، نصب صراط العدل وسواه، وأمده بعونه وقواه، فمن أضل ممن اتبع هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، أحمده على ما رزقني من الأحمال، وأشكره على ذهاب العرض والجاه والمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً سيد الأولين والآخرين رسول الله، أما بعد معشر المتكلمين، وطائفة المساجد المتظلمين، فإنه والله ما يصل إليكم من الجور إلا ما يفضل عني، ولا ينتهي إليكم إلا ما يستعار مني، ولولا أن أركاني سليمة، وبنيتي قديمة، لأصبح جامع بني أمية، يغني عليه يا دار مية، وقد والله شرقت بغصتكم، وحرت في قصتكم، إن رفعت أمركم إلى الملك العادل، ردكم إلى الشيخ العاذل، فلا يرعى لكم حرمة، ولا يراقب إلا ولا ذمة، شكوى الجريح إلى الغربان والرخم، والرأي عندي أن تكتبوا للشيخ قصة، ولا تتركوا(87/27)
في صدوركم غصة، وأن تجعلوا في الكتاب أنواعاً من الكتاب؟ فإن التأم رأيه برأيكم، إلا فالسلطان من ورائكم، أقروا قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، فبادر الغلام بالدواة والأقلام. فقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم واكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من ملك الجوامع بجيرون. إلى أبي سعيد ابن أبي عصرون
لقد اسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
أما بعد يا عدرا فقد هجت الألم. وأبهمت الظلم. ومن استرعى ظالماً فقد ظلم. كم تغاضينا عن خياناتك. وتغافلنا عن جناياتك. حتى أكتنزت الأموال وبسببه طالت نياحك. ولأجله كنت تسبح وتصيح. حتى غبطك المسيح. لقد عجبت أيها الشيخ من حالك. في ابتداء حالك. ومن فساد أمرك في آخر عمرك. صليت بالمسوح والقيد. حتى ظفرت بأنواع الصيد. وقلدت الأمور العظام. حتى تقلدت الذنوب العظام. إن كنت في العمل إلا كما في المثل
صلى وصام لأمر كان يأمله ... حتى حواه فما صلى ولا صاما
عرفني أيها الشيخ المفتون. والبائع المغبون. لم بعت الباقية بالفانية. والقاصية بالدانية. إن فعلت ذلك إلا لعلة. أو لتحقيق حلة. أما إن تكون استطبت السكباج واستليقت الديباج. وأما أن تصدق أهل الأحقاد. في أنك نصري الاعتقاد لا تقول بالنجعة ولا تصدق بالرجعة. وكلاهما أنت فيه ملوم. ومعاقب ومذموم. وحسبك أنه قد بلغني ما أنت عليه من قلة الوفاء. مع هؤلاء الضعفاء. فاحسم عنهم أذاهم. ولا تمكن منهم عداهم والسلام الخ.(87/28)
معجم البلدان
في الكتب ملا يبلى جديده كلما توالى الجديدان ومنها كتب ياقوت الرومي.
وكتابه معجم البلدان إن لم يكن أفضل كتبه فهو من أفضلها على أنه لم يطبع به من الكتب حتى الآن غير معجم الأدباء والمشترك وضعاً والمختلف صقعاً أما كتابه معجم الشعراء وتاريخه المبدأ والمآل وكتاب الدول ومجموع كلام أبي على الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب وأخبار المتنبي وعيره فهذه لن يبلغنا أنها طبعت ولا نعرف إن كانت باقية في إحدى خزائن المخطوطات في الشرق والغرب أو دثرت مع ما دثر من آثار سلفنا وثمرات عقولهم.
أخذ عبد الله شهاب الدين الرومي أسيراً من الروم وهو صبي فقيل له الرومي اشتراه في بغداد تاجر يعرف بعسكر الحموي المقتبس م1 ص489 فنسب إليه فقيل له ياقوت الحموي أيضاً وقد جعله في الكتاب يتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره وقرأ شيئاً من النحو واللغة وشغله مولاه بالأسفار فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام ثم اعتقه مولاه سنة 596 فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصل بالمطالعة فوائد وعاد مولاه فألوى عليه وأعطاه شيئاً وسفره إلي كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً. وبذلك سهل على ياقوت أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان واستوطن مرو ودخل خوارزم وغيرها وبعبارة أخصر كما قال عن نفسه أنه جاء البلاد ما بين جيحون والنيل.
تعود ياقوت في رحلاته الحالات المختلفة وألف من زمانه كل حالة حتى عده صاحب كتاب الفلاكة والمغلوكين في جملة البائسن ومنذ ذكر يوماً أحدهم في بع أسواق دمشق وذكر رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان منحرفاً عنه فيما يقال وثار عليه الناس وكادوا يقتلونه ففر إلى حلب ثم إلى الموصل وأربل ودخل خراسان ومرو وخوارزم فانهزم منها من التتار بنفسه وقاسى شدائد وبلغ الموصل وهو فقير داثر منذ وقع له هذا وما زال يغتني بعض الشيء تارة ويفتقر أخرى وكثيراً ما يخرج من بلد كيوم ولدته أمه لا مال ولا نوال قال جمال الدين القفطي في تاريخ النحاة أنه كتب إليه رسالة من الموصل شرحاً لما لتم على خراسان ومنها كان المملوك لما فارق مولاه أراد استعتاب الدهر الجامح(87/29)
واستدرار حلب الزمان الجائح اغتراراً بأن الحركة بركة والاغتراب داعية الاكتساب فامتطى غارب الأمل إلى الغربة وركب ركوب التطواف مع كل صحبة فلم يرث له دهره الخؤون ولا رق له زمانه المفتون
إن الليالي والأيام لو سئلت ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا
وهيهات مع حرفة الأدب بلوغ وطر أو إدراك أرب ومع عبوس الحظ ابتسام الدهر الكظ ولم أزل مع الدهر في تفنيذ وعتاب حتى رضيت ن الغنيمة بالإياب. . .
والقفطي هو وزير حلب الذي يروي عنه ياقوت كثيراً في كتبه بقوله وحدثني الصاحب الأكرم والغالب أنه كان من المحسنين لياقوت ولا يعرف الفضل إلا ذووه لأن القفطي كان عالماً أيضاً وهو صاحب أخبار الحكماء المقتبس م5 ص335 واحتكاك ياقوت بأمثال القفطي من أرباب الدولة هيأ له الإطلاع على ما يتعذر على كثير من المشتغلين بالتأليف أن يطلعوا عليه مثل مقدار الجباية في قطر وبعض أمور تتعلق بالبلاد وترى من ذلك نموذجاً في مادة حلب فإن ياقوت جوَّد الكلام على هذه المدينة أكثر من تجويده على دمشق في الجملة لأن الصاحب الأكرم أطلعه على أمور كثيرة ولذلك ترى المؤلف قضى شطراً من حياته في حلب وما نظنها كانت إلا دون دمشق بمكانتها العلمية والاقتصادية ولكن الرجل الواحد تكبر به البلد وتعظم في النفوس ومئات الألوف من الناس قد لا يكون فيهم الرجل الرشيد فتزدريهم وتتخطاهم إلى غيرهم.
وقد اهدى ياقوت معجم البلدان إلى القاضي الأكرم وزير حلب فقال في ذلك: إذ كنت منذ وجدت في حل وترحال ومبارز للزمان ونزال أسأل منه سلماً ولا يزيدني إلا هضماً
فلما قضت نفسي من السير ما قضت ... على ما بلت من شدة وليان
بعد طول مكابدة حرقة الحرفة وانتظار تبلج ظلام الحظ يوماً من سدفة.
علقت بحبل من حبال ابن يوسف ... أمنت به من طارق الحدثان
فرد عني صرف الدهر والمحن ورفه خاطري عن معاندة الزمن لما
تغطيت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فأصبحت من كنفه في حرز حريز ومن إحسانه وتكرمه في موطن عزيز
فلو تسأل الأيام عني لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني(87/30)
أهدى ياقوت كتابه إلى صاحبه الذي عرف قدره وهكذا تجده يصرح ولا يحمجم في ممادح البلاد وبالعكس فقد قال في مرو ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها فارقها سنة 616هـ - أي قبل وفاته بعشر سنين إلى الممات لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها قال وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت أرتع فيها واقتبس من فوائدها وأنساني حبها كل بلد وألهاني عن الأهل والولد وأكثر فوائد هذا الكتاب معجم البلدان وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن.
تقرأ حرية ياقوت في تآليفه وكلامه على البلدان والسكان فاقرأ هذا الفصل وهو صورة من أخلاقه وقل معنا أنه لا يقل عن اعتراف الفيلسوف جان جاك روسو لكنه في غير محرم قال: وكنت قدمت نيسابور في سنة 613 وهي الشاذياخ فاستطبتها وصادف بها من الدهر غفلة خرج بها عن عادته واشتريت بها جارية تركية لا أرى أن الله تعالى أحسن منها خلقاً وخلقاً وصادفت من نفسي محلا كريماً ثم أبطرتني النعمة فاحتجبت بضيق اليد فبعتها فامتنع علي القرار وجانبت المأكول والمشروب حتى أشرفت على البوار فأشار علي بعض النصحاء باسترجاعها فعمدت لذلك واجتهدت بكل ما أمكن فلم يكن إلى ذلك سبيل لأن الذي اشتراها كان متمولاً وصادفت من قلبه أضعاف ما صادفت مني وكا لها إلى ميل يضاعف ميلي إليها فخاطبت مولاها في ردها علي بما أوجبت به على نفسها عقوبة فقلت في ذلك:
ألا هل ليالي الشاذياخ تؤب ... فإني إليها ما حييت طروب
بلاد بها تصبي الصبا ويشوقنا ال ... شمال ويقتاد القلوب جنوب
لذاك فؤادي لا يزال مروعاً ... ودمعي لفقدان الحبيب سكوب
ويوم فراق لم يرده ملالة ... محب ولم يجمع عليه حبيب
ولم يحد حاد بالرحيل ولم يزع ... عن الألف حزن أو يجول كئيب
أئن ومن أهواه يسمع أنتي ... وبدعو غرامي وجده فيجيب
وأبكي فيبكي مسعداً لي فيلتقي ... شهيق وأنفاس له ونحيب
على أن دهري لم يزل مد عرفته ... يشتت خلان الصفا ويريب
ألا يا حبيباً حال دون نهائه ... على القرب باب محكم ورقيب(87/31)
فمن يصح من دار الخمار فليس من ... خمار خمارٍ للمحب طبيب
بنفسي أفدي من أحب وصاله ... ويهوى وصالي ميله ويثيب
ونبذل جدينا لشمل يضمنا ... ويأبى زماني إن ذا لعجيب
وقد زعموا أن كل من جدَّ واجد ... وما كل أقوال الرجال تصيب
الكلام على معجم البلدان طويل كطوله ولكنه طول غير مملول وكأن ياقوت شعر بما أتى فقال في مقدمته: ولقد ألتمس مني الطلاب اختصار هذا الكتاب مراراً فأبيت ولم أجد لي على قصر هممهم أولياء ولا أنصاراً فما انقدت لهم ولا أرعويت ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع ما لفقت وتفريق ملتئم محاسنه ونفي كل علق نفيس عن معادنه ومكامنه باقتضابه واختصاره وتعطيل حيده من حليه وأنواره وغصبه إعلان فضله وأسراره فرب راغب عن كلمة غيره متهالك عليها وزاهد في نكتة فيره مشغوف بها ينضي الركاب إليها فإن أجبتني فقد بررتني جعلك الله من الأبرار وإن خالفتني فقد عققتني والله حسيبك في عقبي الدار ثم اعلم أن المختصر من الكتاب كمن أقدم على خلق سوي فقطع أطرافه فتركه عاطلاً أو كالذي سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلاً. وقد حكي عن الجاحظ أنه صنف كتاباً وبوبه أبواباً فأخذه بعض أهل المصنف كالمصور وأني قد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما أعمى الله عينيك وكان لها أذنان فصلمتهما صلم الله أذنيك وكان لها يدان فقطعتهما قطع الله يديك حتى عد أعضاء الصورة فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله أه.
ومع كل هذا التصريح ودعاء ياقوت على من يقدم على اختصار كتابه معجم البلدان مع علمه بتطويله أقدم الجلال السيوطي على اختصاره كما أقدم على تلخيص اللباب في الأنساب لابن الأثير وسماه لب اللباب وأصل اللباب للسمعاني راجع باب المخطوطات والمطبوعات من هذا الجزء.
جاء في كشف الظنون أن مختصر معجم البلدان للسيوطي لم يتمكما في الفهرست قال السيوطي في مختصره وبعد فإن الغرض من وضع هذا الكتاب إنما هو بيان ما يدل على المقصود فلا ينبغي أن يخلط به غيره مما يبين في علم آخر لئلا يتشعب الفهم ويطول الكلام فيؤدي إلى الإملال وهذه حال معجم البلدان فإن الغرض إنما هو معرفة أسماء(87/32)
الأماكن والبقاع التي على الربع المسكون من الأرض مما ورد به خبر وجاء في شعر وبيان جملة من الأرض من أصقاعها فما زاد على هذا القدر فهو فضل لا حاجة إليه وخلط الحموي اشتقاق الأسماء وذلك علم يرأسه تشتمل عليه كتب اللغة وكذلك ما ذكره من طول الكتب الموضوعة في معرفة الرجال واستقصاؤه غير ممكن فكتب منه ما لا بد منه في الأسماء الواردة على الأخبار والآثار وكتب المنازي وقيدت ما أهمله وربما زدته بياناً في بعض المواضع وأصلحت ما نبهت عليه فيه من خلل ووجدن النقل من غيره وهو خطأ وأظنه كذلك وسميته مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع طبع في أوربا كما طبع لب اللباب قال كاتب حلبي بعد إيراد ما تقدم أقول لكنه أي مراصد الإطلاع لم يتم وللصميري ولأبي عبيد البكري ولابن عساكر ولصفي الدين عبد المؤمن مختصرات من كتاب معجم البلدان في معرفة المدن والقرى والخراب والعمار والسهل والوعر من كل مكان.
بدأ مؤلفنا بوضع كتابه سنة خمس عشرة وستمائة أي قبل وفاته بإحدى عشرة سنة وقد نضج علمه وكثرت تجاربه وتجوابه إذ ألقي في روعه افتقار العالم إلى كتاب في هذا الشأن وقد سئل بمرو الشاهجان عن اسم حباشة فاستعصى كشفه في كتب غرائب الأحاديث ودواوين اللباب فأخذ منذ ذلك الحين يأخذ من كتب جغرافي العرب ولغويتهم قال وهذه الكتب المدونة في هذا الباب التي نقلت منها ثم نقلت من دواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب والمحدثين ومن أفواه الرواة وتفاريق الكتب وما شاهدته في أسفاري وحصلته في تطوافي أضعاف ذلك.
رتب ياقوت كتابه على حروف المعجم ووضعه كما قال وضع أهل اللغة المحكم وإبان عن كل حرف من الاسم هل هو ساكن أو مفتوح أو مضموم أو مكسور وذكر اشتقاقه إن كان عربياً وفي أي إقليم هو وأي شيء طالعه ومن بناه وأي بلد من المشهورات يجاوره وكم المسافة بينهما وبماذا اختص من الخصائص وما قيد من العجائب وبعض من دفن فيه من الأعيان والصالحين والصحابة والتابعين ونبذاً مما قيل فيه من الأشعار في الحنين إلى الأوطان وفي أي زمان فتحه المسلمون وكيفية ذلك ومن كان أميره وهل فتح صلحاً أو عنوة ليعرف حكمه في الفيء والجزية ومن ملكه في أيامه ولا سيما البلدان المشهورة ونقل(87/33)
أشياء تأباها العقول على علاتها مع أنه مرتاب بها كما قال وهو في مثل هذه النقول مقلد أما وصفه للبلاد التي رآها فهو فيه مجتهد ولذلك ترى التحقيق بادياً على كلامه.
ولقد رأينا بعض الخاصة ينقدون على ياقوت قوله في الأحايين أن الاسم الفلاني اسم جبل في اليمن مع أن بلاد اليمن واسعة الأطراف لا تعد مملكة بل ممالك وكان عليه أن يحدد موقع الجبل ويعينه تعييناً بيد أن هذا مما يفوت طوق المؤلفين لعهدنا فما بالك في القرن السابع للهجرة والعرب وأهل الغرب إلى اليوم لا يعرفون جغرافية اليمن على ما يجب مع ارتقاء فن الطبوغرافيا وكثرة المواصلات البحرية والبرية وكثرة الباحثين من الغربيين في مهد الحضارة الحميرية. فطلبنا من ياقوت أن يكون مدققاً في كل ما نقل وروي هو طلب خيالي لا تقوم به الجمعيات الكبرى اليوم فما الحال بالأفراد أمس وياقوت معذور على كل حال إذا يجود كلامه إلى على البلاد التي رحب إليها أو على الحواضر منها وكفاه ذلك منقبة ومثل ذلك يقال في كتب تقويم البلدان التي وضعها المقدسي والاصطخري وابن حوقل والهمداني وأبو الفدا وغيرهم من جغرافي العرب.
ألا ترى إلى ما قاله ياقوت في أرم ذات العماد المختلف فيها ومن الناس من قال أنها الإسكندرية ومنهم من قال وهم الأكثر أنها دمشق وإياها عنى البحتري بقوله:
إليك رحلنا العيس من أرض بابل ... يجور بها سمت الدبور ويهتدي
فكم جزعت من وهدة بعد وهدة ... وكم قطعت من فدفد بعد فدفد
طلبتك من أم العراق نوازعاً ... بنا وقصور الشام منك بمرصد
إلى أرم ذات العماد وإنها ... لموضع قصدي موجفاً وتعمدي
وحكى الزمخشري أن أرم بلد منه الإسكندرية وروى آخرون أن أرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد بين اليمن وحضرموت وصنعاء من بناد شداد بن عاد وكل مئة رجل من وكلائه وقهارمته تحت يد كل رجل منهم ألف من الأعوان وأمرهم أن يطلبوا فضاء فلاة من أرض اليمن ويختاروا أطيبها تربة ومكنهم من الأموال ومثل لهم كيف يعملون وكتب إلى عماله الثلاثة غانم بن علوان والضمان بن علوان والوليد بن الريان يأمرهم أن يكتبوا إلى عمالهم في آفاق بلدانهم أن يجمعوا جميع ما في أرضهم من الذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والزعفران فيوجهوا به إليه ثم وجه إلى جميع المعادن(87/34)
فاستخرج ما فيها من الذهب والفضة ثم وجه عماله الثلاثة إلى الغواصين إلى البحار فاستخرجوا الجواهر فجمعوا منها أمثال الجبال وحمل جميع ذلك إلى شداد ثم وجهوا الحفارين إلى معادن الياقوت والزبرجد وسائر الجواهر فاستخرجوا منه أمراً عظيماً فأمر بالذهب فضرب أمثال اللبن ثم بني بذلك تلك المدينة وأمر بالدر والياقوت والجزع والزبرجد والعقيق ففضض به حيطانها وجعل لها غرفاً من فوقها غرف فعمد جميع ذلك باسطين الزبرجد والجزع والياقوت ثم أجرى تحت المدينة وادياً ساقة إليها من تحت الأرض أربعين فرسخاً كهيئة القناة العظيمة إلخ.
وبعد أن أورد تتمة هذه القصة صفحتين قال ما نصه: قلت هذه القصة مما قدمنا البراءة من صحتها وظننا أنها من أخبار القصاص المنمقة وأوضاعها المزوقة.
ومثل ذلك ما رواه في مدينة النحاس قال: ويقال لها مدينة الصفر ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة وأنا بريء من عهدتها إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دونها العقلاء ثم أتي على ذكرها القريب في ثلاث صفحات.
فكأن ياقوت بما ينقل من هذه الأوهام وغيرها يريد أن لا يخلي كتابه من كل أطروفة ولو كانت سخيفة فيستفيد منه الجاهل ويتفكه به العالم وبتعلم الأديب ويقتبس الباحث. ومما ذكره في استعمال الفضة قوله في شنت مربة في الأندلس فال وأظنه يراد به مريم بلغة الإفرنج وهو حصن من أعمال شنتبرية وبها كنيسة عظيمة عندهم ذكر أن فيها سواري فضة ولم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط.
ومن ذلك أيضاً ما ذكره في وصف قصر بهرام جور وهو أحد ملوك همذان بقرية يقال لها جوهستة والقصر كله حجر واحد منقورة بيوته ومجالسه وخزائنه وغرفه وشرفه وسائر حيطانه فإن كان مبنياً بحجارة مهندمة قد لوصك بينها حتى صارت كأنها حجر وحد لا يبين منها مجمع حجرين فإنه لعجب وإن كان حجراً واحداً فكيف نقرت بيوته وخزائنه وممراته ودهاليزه وشرفاته فهذا أعجب لأنه عظيم جداً كثير المجالس والخزائن والغرف وفي مواضع منه كتابة بالفارسية تتضمن شيئاً من أخبار ملوكهم وسيرهم وفي كل ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة.
قلنا وليس حفر هذا القصر على هذه الصورة من الأمور المستحيلة بعد أن رأينا خزنة(87/35)
فرعون في وادي موسى (بترا) قطعة واحدة وعبارة ياقوت تبين أنه رأى ذاك القصر أو نقل عن ثقة. وهذا من أعاجيب الدنيا ولا شك مثل قصر شيرين وشيرين بكسر الشين بالفارسية الحلو وهو اسم حظية كسرى أبرويز وكانت من أجمل خلق الله والفرس يقولون كان لكسرى أبرويز ثلاثة أشياء لم يكن لملك قبله ولا بعده مثلها فرسه شبذير وجاريته شيرين ومعنيه وعواده بلهبذ. وقصر شيرين موضع قريب من فرميسين بين همذان وملوان في طريق بغداد إلى همذان وفيه أبنية عظيمة شاهقة بكل الطرف عن تحديدها ويضيق الفكر عن الإحاطة بها وهي إيوانات كثيرة متصلة وخلوات وخزائن وقصور وعقود ومنتزهات ومستشرقات وأورقة وميادين ومصابد وحجرات تدل على طول وقوة. . . .
وقصر اللصوص بناؤه عجيب جداً وذلك انه على دكة من حجر ارتفاعها عن وجه الأرض نحو عشرين ذراعاً فيه إيوانات وجواسق وخزائن تحير في بنائه وحسن نقوشه الأبصار وكان هذا القصر معقل أرويز ومسكنه ومنتزهه. وإيوان آسك من نواحي الأهواز وهو عال في صحراء على عين غزيزة وبيئة وإزاء الإيوان قبة منيفة سمكها على مائة ذراع بناها للملك قبان والد أنوشروان قال مسعر بن مهلهل وما رأيت في جميع ما شاهدت من البلدان قبة أحسن بناء منها ولا أحكم.
والتأنق في القصور ليس خاصاً بالفرس والروم بل هو من شأن العرب في دولتهم الشرقية ودولتهم الغربية ومن تلا سير الأندلسيين يعرف مبلغ حرصهم على تشييد القصور والزهراء والحمراء بعض بقايا تلك الهندسة البديعة والثروة الوسيعة فانظر الآن مثالاً مما قاله ياقوت في قصر عيسى وهو عباسي مشرقي قال: هو منسوب إلى عيسى ابن علي بن عبد الله بن عباس وهو أول قصر بناه الهاشميون في أيام المنصور ببغداد وكان على شاطئ نهر الرفيل عند مصبه في دجلة وهو اليوم في وسط العمارة من الجانب الغربي وليس للقصر أثر الآن إنما هناك محلة كبيرة ذات سوق تسمى قصر عيسى وقد روي أن المنصور زار عيسى بن علي ومعه أربعة آلاف رجل فتغذى عنده وجميع خاصته ودفع إلى كل رجل من لجند زنبيل فيه خبز وربع جدي ودجاجة وفرخان وبيض ولحم بارد وحلاوى فانصرفوا كلهم مسمطين (يقال رأيته متسمطاً لحماً أي يحمله) ذلك فملا أراد المنصور أن ينصرف قال لعيسى: يا أبا العباس لي حاجة قال: ما هي يا أمير المؤمنين(87/36)
فأمرك طاعة قال: تهب لي هذا القصر قال: ما بي ضن عليك به ولكني أكره أن يقول الناس أن أمير المؤمنين زار عمه فأخرجه من قصره وشرده وشرد عياله وبعد فإن فيه من حرم أمير المؤمنين ومواليه أربعة آلاف نفس فإن لم يكن بد من أخذه فليأمر لي أمير المؤمنين بقضاء يسعني ويسعهم اضرب فيه مضارب وخيماً لقلهم إليها إلى أن أبني لهم ما يواريهم فقال له المنصور: عمر الله لك منزلك يا عم وبارك لك فيه ثم نهض وانصرف.
ومثل ذلك ما رواه في قنطرة خرزاذ تنسب إلى خرزاذ أم أردشير ولها قنطرتان إحداهما بالأهواز والأخرى من عجائب الدنيا وهي بين أيذخ والرباط وهي مبنية على واد يابس لا ماء فيه إلا في أوان المدود من الأمطار فإنه حينئذ يصير بحراً عجاجاً وفتحه على وجه الأرض أكثر من ألف ذراع وعمقه مائة وخمسون ذراعاً وفتح أسفله في قراره بالرصاص والحديد كلما علا البناء ضاق وجعل بين وجهه وجنب الوادي حشو من خبث الحديد وصب عليه الرصاص المذاب حتى صار بينه وبيه وجه الأرض نحو أربعين ذراعاً فعقدت القنطرة عليه فهي على وجه الأرض وحشي ما بينها وبين جنبي الوادي بالرصاص المصلب بنحاتة النحاس. وهذه القنطرة طاق واحد عجيب الصنعة محكم العمل وكان يجتاز عليها لا سيما في الشتاء وحدود الأودية وكان ربما صار إليها قوم ممن يقرب منها فيحتالون في قلع حشوها من الرصاص بالجهد الشديد فلم تزل على ذلك دهراً حتى أعاد ما انهدم منها وعقدها أبو عبد الله محمد بن أحمد القمي المعروف بالشيخ وزير الحسن بن بويه فإنه جمع الصناع المهندسين واستفرغ الجهد والوسع في أمرها فكان الرجال يحطون إليها بالزبل بالبكرة والحبال فلما استقروا على الأساس أذابوا الرصاصا والحديد وصبوا على الحجارة ولم يمكنه عقد الطاق إلا بعد سنين فيقال أنه لزمه على ذلك سوى أجرة الفعلة فإن أكثرهم كانوا مسخرين من الرساتيق التي بين أيذج وأصبهان ثلاثمائة ألف دينار وخمسون ألف دينار وفي مشاهدتها والنظر إليها عبرة لأولي الألباب.
وسنقتبس في الجزئين التاليين شذوراً من كتاب ياقوت تفيذ في تصور العمران على عهده وتدل على مبلغ عناية العرب بكل شيء ولا سيما بفن تقويم البلدان وحالة الإنسان على مدى الأزمان.(87/37)
في ديار الغرب
سويسرا
أصحيح أن القطار غداً يخترق العقاب والشعاب، ليخلص من إيطاليا مهد المدنيين الرومانية والنصرانية، إلى سويسرا جنة أوربا، بل جنة الدنيا، ومدرسة العمل العليا، وأبهج مصف ومشتى، لملتمس الراحة والسلوى.
أيكتب غداً للروح أن تطمئن قليلاً في أشرف ديار، عرفت في بال حرية الأديان والأفكار، ويشهد الطرف حسناء ضمت إلى صدرها شمل المدنيات العصرية ووضعت على مفرقها تاج البدائع الأرضية والسماوية، بلاد خص كل شبر منها بمزية عالية غالية، وتعاورتها الأيدي بالتحسين والمزينين والتطرية، فلم يتصور العقل الآن أرقى من نظامها. ولا أبدع من طرازها وهندامها.
أصحيح أن هذه المدينة الفاضلة، دهشة الأمصار والأقطار، وزبدة جهاتز القرون والأعصار، المغبوطة من جارتها بل من أهل الغرب أجمع، على قانونها لتتكامل، وأنها الشامل، سكول للنفس قسطمن الراحة في رباعها البهجة شهراً من العمر، بعد كالف شهر، فتستمتع الحواس بعجائب صنع الديان والإنسان. وآخر حسنات العمران في هذه الأزمان.
سلام عليك يا جمهورية السلام والوئام، عقمت الأيام أن تنشئ مثلك أنت الوحيدة في العمل بتعالم السيد المسيح بين الممالك الغربية فلم يعد عليك أن جوزت بعد تحضرك قتل النفوس، لامتلاك النفائس، ولا أن ظلمت شعباً آمناً لاستصفاء بيته وحقله، ولا أن هتكت أستاراً وأعراضاً، لتغتنمي عروضاً وأعراضاً، بلى كنت من خير من عطف على مدحور ومظلوم، وأكرم مثوى وأفد مقهور مغموم، وعلم طالب علم وصناعة تعلماً مجرداً من النزعات المذهبية والنزعات السياسية، ومسلاة كل متعب راغب في التفريغ لنفسه، لقنت الأمم معنى الحكومة الصالحة في الأمة الصالحة، وحققت بالعمل معنى تضامنك في شعارك الواحد للكل والكل للواحد فحكمت نفسك بنفسك حقاً وصدقاً ولا كذباً ورياءً.
هذه الوجوه النضرة التي تهش للغريب، كما تهش للقريب، هي صورة صحيحة من أخلاق هذا الشعب القليل بعدده، الكثير بفضائله وعدده، فإن كان هنا لا يتجاوز إحصاء المكين، أربعة ملايين، ولا مساحة المكان 41346 كليومتراً مربعاً، فلكم كان القليل العالم، خيراً من(87/38)
الكثير الجاهل وعظمة الأمم بعلمها وعملها. لا يوفر سكانها وطول سهلها وجبلها: سويسرا تفاخر وحق لها الفخر بأنها اليوم لا تعرف الأميين.
إلا بما تقرأه عنهم في صحف العالمين. فهل عهد مثل هذا النور لأمة في القدماء أو المحدثين.
يخيل للناظر أن هذه البلاد الواقعة بين أربع ممالك راقية. فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا. قد أخذت من هذه المدنيات الأربع أطايبها. ولعله لا يخطئ من قال أن هذه الممالك أخذت كثيراً من أطايب ما عند سويسرا. فجاءت هلفسيا أو سويسرا مجموعة الإبداع. في البقاع والأصقاع. وسلسلة مفرغة في المحاسن لا يعرف أين طرفاها. تقاسمت القرى مع المدن. والأودية مع الجبال. آثار الجمال والكمال فعز لها قسيم في استهواء القلوب بين هذه الديارات. بل بين الخمس من القارات وما ظرف عمران الألمانيين والفرنساويين والإيطاليين والنمساويين. إذا قيس بظرف بلاد السويسريين إلا كالنضارة في خدود فتاة العشرين. في جنب نضارة ابنة الأربعين.
لا جرم أن هذه الجمهورية الرشيدة هي التي وصفها للناس أفلاطون وروسو فكانت بما وفقت إله مما يضعف الفصحاء عن توفيتها حقها من الاستحسان وذكر المجردات لا يقنع بقدر الأدلاء بالحجة ولذا نقتصر على طرف مما عرفناه وعرفه عنها كوصف حياتها القومية والروحية والعملية والاقتصادية عسى أن يثمر ذلك فائدة لمستفيد. وعبرة لمعتبر. في شرقنا المتخدر الأعصاب منذ أحقاب. الذي كادت تدمع لحاله عيون الأعداء بعد أن أدمى مقل الأحباب.
سويسرا: الأفراد والأسرة
أول من يبده الداخل إلى أرض سويسرا: الخضرة والنظافة. فإنها كلها أشبه بحديقة في وسطها مصايف من أجمل ما بنى المهندسون ونقش النقاشون وصور المصورون. الدور على اختلاف هنستها سواء كانت بيضاء كما هي في سويسرا الفرنساوية أو منقوشة كما هي في الشمال الشرقي أو من الخشب على ما تراها في أوبرلاند تفيض بهجة ونضرة ونظافة وزينة وتبدو على الدوام جديدة حتى ولو كانت مبنية منذ قرنين أو ثلاثة. والغربيون مولعون بإبقاء القصور القديمة مهما لانت ويؤثرونها على الجديد من نوعها.(87/39)
وداخل البيوت على مثال خارجها في الحسن حذو القذة بالقذة.
أدخل إلى الفنادق الكبرى أو الصغرى وإلى منازل الطبقة العليا أو الفلاحين وإلى قصور الأغنياء أو المقترين تجدها كلها متناسقة بنظافتها وتشهد المساكن والمخازن على هذا الطراز في الصباح والمساء على السواء. وما أنس لا أنس تلك النظافة التي شهدتها في المنزل الذي حللت فيه في مدينة لوزان المطل على بحيرة ليمان ومن ورائها جبال الألب وذلك منذ تدخل الدهليز فتصعد الدرج إلى أن تدخل المنزل وتجلس في غرفتك إلى المائدة إلى الطعام المنوع المستطاب إلى أحقر شيء في الدار.
ولقد كنت أعجب كل يوم من رؤية الخادمة تمسح البلاط والدف في الأرض والنوافذ والدرفات وتنفض الستور والأغشية والكراسي والمقاعد والخزائن والمناضد والزروع الموضوعة في الأصاصي دع التحف والصور والتماثيل الصغيرة ومصابيح الكهرباء وغير ذلك مما لا تخلو منه دار في الجملة. كل هذا مع خدمة المطبخ والمائدة وبعض من يلزم من السوق تقوم به خادمة واحدة وليس هذا الحال خاصاً بالبيوت والفنادق فقط بل إنك تراه في الشوارع والأزقة على صورة مكبرة فإن الأوساخ الخفيفة لا تلبث أن تطرح حتى تكتسح وكذلك الثلج لا يلبث أن يتساقط 20سنتمتراً وأكثر إلا ويرفع من الطرق. وكل شارع وجادة وساحة وسوق وينظف ويغسل بلا إمهال بحيث تصح هنا حكمة الغرب: النظافة أثر من آثار النظام والعمل. والشعوب النظيفة هي التي تحب أن ترى كل شيء في مكانه تقاسي ضيقاً حقيقياً بل ألماً مبرحاً إذا شاهدت الخلل.
ليست النظافة ابنة الكسل لأنها تستوجب من الأفراد والحكومة عملاً وجهاداً متواصلاً ويستدعي أن تحث عليه الحكومة المحكومين كما هو الحال في سويسرا فإن بلدياتها تنفق عن سعت لتجعل البلاد في هذه الحالة من النظافة التي تعجب لها أرقى أمم الحضارة دع شرقياً لا يكاد يقع نظره في بلاده إلا على أقذار الشوارع والساحات والحارات بل في البيوت والحوانيت وخللاً في كل شأن من شؤون الحياة الراقية.
وكان من أثر هذه المفاداة التي أفادت بها بلديات سويسرا في متصرفياتها أو مديرياتها الاثنين والعشرين تحسين الصحة العامة واستجلاب السياح وأحسن معلم لبث الأفكار النظام والوقاية والرفاهية.(87/40)
تتبارى الحكومات والمديريات والإدارات الخاصة والعامة في مضمار النظافة فتجد اقفاصاً من أسلاك لطيفة موضوعة في المدن في كل شارع وحديقة لتوضع فيها القشور أو الأوراق وربما سار الواحد عدة أمتار حتى يرى تلك السلة المعلقة فيضع فيها ما بيده من الفضلات الخفيفة. ذلك لأن كل سويسري لا يحب أن يرى منتزهه وشارعه وحيه إلا كما يرى بيته طاهراً نقياً ليس فيه ما ينبو عنه النظر. وكيفما انقلبت في سويسرا في القطارات أو المراكب في المحطات والإدارات تشاهد النظافة المجسمة كأن هذه الخاصية صفة من صفات الأمة السويسرية. وربما نسي الغريب أن يضع ما استغنى عنه من الورق أو غيره فيشير إليه الآهلون إلى وضعها في محلها بل إن المفتش في القطار لا يستنكف أن يرفع أوراقاً تتساقط من ركاب قد يكونون في الأكثر غرباء لا يعرفون درجة غلو سويسرا في النظافة في كل شيء.
ما كانت النظافة في فطرة سويسريين أو جنسهم بل هي كسبية وثمرة تربية طويلة ومدينة طاهرة. ولا جدال في أنهم بنظافتهم أرقى من سكان الجنوب والغرب أي من الطليان والفرنسيس نعم ما كانوا أمس كما هم اليوم والدليل على ذلك أن من البلاد السويسرية ما لم يبلغ حتى الآن درجة كافية من النظافة كما يحب السويسريون ولا سيما البلاد التي لا يقصدها السياح وليس فيها فنادق مثل بعض محال من مقاطعة الفالي والكريزون والرينتال وهي إذا قيست بمقاطعات وزوريخ أحياء قليلة على شيء من الوساخة بالنسبة لمجموع البلاد. ولكن مثل هذه الأحياء تهدم الواحد بعد الآخر والقرى تطهر بأسرع ما يمكن وهي نموذج مما كانت عليه سويسرا قبل خمسين أو مئة سنة فاستطاع أهلها بالتربية أن يحرزا فضيلة النظافة التي أصبحوا فيها قدوة الأمم الراقية.
تساءل الباحثون في حال هذه الأمة فيما إذا كان للدين تأثير في نظافة السويسريين والراجح من آرائهم على ما ذكره البردزا في كتابه سويسرا الحديثة أن الدين أثر بالواسطة لا مباشرة وأن للتربية العملية المقام الأول. فالمقاطعات التي سبقت غيرها في مضمار العلم وأحب أهلها النظام وتفانوا في المحافظة عليه كالمقاطعات الألمانية في الشمال وأهلها برتستانت هي أكثر نظافة من مقاطعات الجنوب أي الفالي والتسين والكريزون وأهلها كاثوليك وذلك لأن سكان هذه إيطاليون جاؤوا متأخرين بالنظافة عن الألمان وكذلك في(87/41)
التعليم. ومع هذا ترى من مقاطعات الشمال مقاطعتي الفو ونوشاتل وهما من جنس فرنساوي لا تقلان في النظافة عن مقاطعتي زوريخ الألمانيتين.
ومهما يكن من أصول السويسريين ألماناً كانوا أو فرنسيساً أو إيطاليين فإن سويسرا أشبه بفسيفساء من الشعوب والعناصر وامتزجت وتعاشرت لا تفرق بينهم إلا اللغة وقد اختلطت دماؤهم اختلاط الماء بالراح كما ترى من سحناتهم الألمانية غالبة عليهم وكذلك ترى في بعض المقاطعات الألمانية التي تتكلم باللغة الجرمانية منذ عشرة قرون ملامح السلئيين والريتيين من قدماء الرومان.
نشأت من هذه العناصر الممزوجة روح سويسرية ووطنية سويسرية وذلك بامتزاج الفكر الجرماني بالفكر اللاتيني فأخذ السويسري عن الألماني صفات التدين والرزانة والشعور بالتضامن والنظام والثبات والرغبة في الماديات والحقائق واقتبس من العنصر اللاتيني تقاليد البشاشة والأدب وجودة الحكم وحسن التقليد والظرف. والرأي الديني في ابن مقاطعة تسين لا يماثل الرأي الديني في ابن مقاطعة لوسرن بين الفرنسويين ويغالي الأولون بالأكثر في توطيد سلطة الحكومة وتوسيع اختصاصها وتراهم مولعين بتقاليدهم مرتبطين بعاداتهم القديمة وحرياتهم المحلية وخصائصهم على العكس في السويسريين الفربسويين فإن هذه الصفات تبدو فيهم بمظهر آخر.
والسويسريين على اختلاف أصوله ولغته أفرنسياً كان أو ألمانياً قليل الفضول لا يسألك في الفندق ولا في الشارع إذا تعرفت إليه عن مقاصدك ولا يتتبع عوراتك ولا يسألك أسئلة لا تحب أن تجيب عليها على العكس في السويسري الأيطالي وهو ساكن في الجنوب طبعاً فإنه يملل نزيله وصاحبة بأسئلته. ومن ترك الناس وشأنهم في هذه البلاد نشأ في أمم أوربا حسن الظن بالسويسريين فاختاروا سويسرا مصيفاً ومشتى لأن من تلك الأمم ولا سيما الشعوب الإنكلوسكسونية من لا يحب أن يسمعك صوته فضلاً عن أن يطلعك على عجره وبجره.
وهذا الخلق سرى للحكومة وهي وقانونها صورة من صور الشعب أكتب هذا عن لوزان وقد مضى عليَّ فيها خمسة عشر يوماً وأنا لم أر سوى ثلاثة أو أربعة من رجال الشرطة بالعرض أقامتهم المديرية بداعي الأعياد فقط ولم أر سوى جندي واحد هذا والمدينة لا تقل(87/42)
نفوسها عن سبعين ألفاً وفيها على الأقل عشرون ألف غريب.
هذه هي الجمهورية السعيدة التي أسسها ثلاثة فلاحين منذ عشرة قرون قد بلغت بالعلم والتربية هذا المبلغ من الرقي. وإن أكثر ما يقع في هذه الديار من الحوادث مثل السرقة والسكر والعربدة التي لا تخلو منها أرض لا يكون على ما رأيت من أنباء الصحف إلا من بعض الغرباء وأكثرهم من الطليان والأروام فبوركت بلاد هذا حالها.
سويسرا: النساء والرجال
السويسري كالإيطالي والألماني والإنكليزي كثير الولد والذرية وأولاده لا يعدون بالزوج بل بالعقد وبلغني أنه ولد لأحدهم من زوجة واحدة ثلاثون ولداً فقط لا غير أما الأزواج الذين رزقوا العشرة الخمسة عشر ولداً فهؤلاء أكثر من أن يحصوا فأولاد السويسريين كالبيض أو البرتقال يعدون بالخمسات والعشرات. وترى الأبوين لا يدهشان لكثرة نسلهما فإنهما في الأغلب يلبسانهم ولا سيما في القرى ألبسة بسيطة للغاية لا تختلق في الصيف عن الشتاء كثيراً ويطعمانهم ما حضر من الطعام وأكثره يدور على اللبن والحليب والبيض والجبن والخبز الأسمر وقد لا يطعمانهم اللحم إلا قليلاً أما الخمور فهذه لا تكاد تعرف لأنها محتكرة للحكومة وأثمانها فاحشة لا يصل الفقير إليها وليست كل المقاطعات مما تجود في الكرمة.
يلعب الأولاد حول أمهم وفي الحقل حتى السابعة من عمرهم ثم يذهبون إلى المدرسة وعندئذ يقل لعبهم حتى أن ابنة العشرة أو الثانية عشرة تعمل أعمالا من الخدمة وتحصيل المال يعجز عنها ابن العشرين أو الثلاثين في شرقنا. فتراها من المدرسة إلى النزل تخدم في الأوقات المتيسرة لها إلى تربية أخيها أو أختها وتعهده إلى بيت فلان تغسل لهم الأواني أو غير ذلك.
والحكومة تحول دون الأولاد وما يشتهون أحياناً فإن أكثر الحدائق العامة لا يستطيع الأولاد أن يدخلوها إذا كانوا دون الخامسة عشر إلا إذا كانوا مع كبير من أهلهم يسأل عن حركاتهم وسكناتهم وفي بعض المقاطعات يحرم على الفتى أو الفتاة دون الخامسة عشرة أن يخرجا إلى الشارع بعد الساعة السابعة ليلاً وفي أخرى لا يحضر الولد بعض المسارح والصورة المتحركة بل إن له مسارح ومشاهد غير للبالغين.
انتشر فكر الأسرة كثيراً في سويسرا وذلك بتداخل الحكومة أيضاً التي جعلت في جملة(87/43)
المرغبات في الزواج إعفاء المواريث من كل رسم إذا انتقلت إلى وارث حقيقي مباشر كالابن ونحوه وأما إذا كانت تنتقل إلى الأباعد فإنه يدفع عنها رسم فاحش للحكومة وبينا ترى الحياة الصناعية في أوربا بأسرها قد عاقت كثيراً عن تأليف الأسرات وتأسيس البيوت ترى سويسرا كلما زادت حركتها الصناعية تتكاثر في ربوعها البيوت وذلك بأن العامل أو العاملة يعمل في داره ما يعرفه من أنواع الصنائع كعمل الساعات والتطريز والنقش على الخشب وغير ذلك فأبن القرى يعمل وهو في بيته ولا ينقطع عن عمله الزراعي طول السنة وقد خال ذلك دون كثير من أبناء القرى عن غشيان المدن والسكنى بها واقفار الأرياف فإن خلو الدساكر من سكنها هو من أول أسباب الخراب كما هو حاصل في الشام من الهجوة إلى أميركا مباشرة وكما هو كذلك في فرنسا في الهجرة من قراها إلى مدنها والخطب أسهل.
نعم تعمل هنا المرأة والفتاة في قريتها ما تحسننه من الصناعات في المعمل أو في بيتها بدن أن تنقطع عن محيطها وأسرتها وأن تتجلى عن تدبير منزلها. والمرأة السويسرية مشتهرة بأنها لا تحب الظهور كل ساعة للناس وهي مخلصة صالحة على الجملة تؤثر تعهد عملها وبيتها على كل شيء وتفكر كثيراً بحيث أن السفاسف والزينة لا تشغل من قلنها مكناً فهي امرأة منزل وعمل تهتم لبيتها اهتماماً غريباً واظهر حبها للنظام حتى في عواطفها.
ما من بلد في الأرض ساوت فيه المرأة الرجل كما هي في سويسرا فهي قرينته في عمله وشريكته حقيقة وهذا ناشئ ولا شك من تربية المرأة على العمل وحبه وقد بلغ سنة 1900 عدد السويسريات اللائي يعملن في الصناعات المختلفة من زراعية وتجارية وصناعية وصناعات حرة 1. 575. 000 امرأة.
هذا في شعب هواقل من أربعة ملايين فإذا فرضنا أن النساء 1900000في سويسرا وأخرجنا منهن العاجزات وصغار البنات لا يبقى إلا عدد أقل من القليل غير عامل من النساء السويسريات فالمرأة العطلة عن العمل ليست بضاعة سويسرية والعاملات من النساء على نسبة العاملين من الرجال. وقد أحرزن منذ زمن طويل الحق بان يكون منهن الطبيبات والمحاميات أما حقوق الانتخاب ومشاركة الرجال فيها فإنها قلما تهمهن ولذلك(87/44)
كان النساء في التجارة والصناعات الحرة أكثر من الرجال. قال لنا رئيس تحرير جريدة غازت دي لوزان أن الناس هنا يعملون مهما كانوا أغنياء ولا تكاد ترى عشرة في مدينة لوزان لا عمل لهم على كثرة أغنيائها وأرباب الأملاك فيها الأخلاق هنا في الجملة قاسية والحياة بالغة حد النظام والناس كلهم يعلمون ولذلك تقل البواعث على التبذل والخلاعة وحب الشهوات لأن ذلك يستدعي أوقات فراغ والفراغ لا يعرفه السويسريون والسويسريات. ثم إن المناح لا يساعد على الخروج كل ساعة بل بالعكس مما يحمل على الرغبة في الحياة اليتية. وسويسرا مثل هولاندة أقل البلاد الأوربية التي يولد فيها أولا غير شرعيين قهي من هذه الوجهة أقل من ألمانيا ثلاث مرات. وسبب قلة العهر العمل بلا شلك لأن رأس البطال معمل الشيطان.
متى توزجت المرأة السويسرية تصبح عشيرة الرجل حقاً فهي يوم الأحد تذهب وإياه إلى الكنيسة وفي المساء إلى القهوة. السويسري يجد في علطة الأحد أحسن فرصة له لأنه يتخلى عن عمله فلا يطلب من أسباب السرور إلا أن يكون مع أخل بيته.
ويقل اختلاط الشبان والشواب في أوقات الفراع حتى يوم الأحد اللهم في الأعياد السنوية النادرة التي تقام فيها مراقص. ويذهبون الشبان أيام الآحاد إلى الكنائس ولا سيما البرتستانت منهم وبعد الظهر يذهبون عصابات يتمرنون على الرماية ولعب الكرة ويغنون ويعربدون قليلاً ولكنهم يوم الاثنين في الساعة المعينة تقرأ الرزانة في وجوهمهم ويعود كل رجل يستعيد مركزه في الحياة الاجتماعية.
تذهب الأسرات مساء الأحد ولا سيما في سويسرا الألمانية إلى أحد الفنادق أو القهوات فترى الأمهات والنساء والأخوات جالسات إلى منضدة بالقرب من أبنائهم وأخواتهن أو أزواجهن يشربون جعة وقهوة وقليلاً جداً من المشروبات الروحية والرجال يدخنون وربما غنى الحضور ولكن أغاني هزلية أدبية ولكن لا غرام فيها ولا عشق.
المرأة السويسرية قد يعالجها الهرم في الغالب أكثر من غيرها من النساء المرفهات في أوربا الغربية والوسطى ولكن هرمها يزيد في عقلها ويبقى قلبها على نضارته وأخلاقها على سذاجتها. والسذاجة خلق من أخلاق السويسريين والسويسريات والسويسري وسط بين حرية الغالي الفرنساوي ورصانة الإنكليز. ولئن كانت كتب الرقاعة والخلاعة لا محل لها(87/45)
من الإعراب في جملة حال السويسري فهو مع ذلك لا يخامره ريب في صحة أخلاق بناته وزوجته ويعرف أن اختلاطهن إذا اقتضى الحال بالرجال والخلوة بهم أو رؤية التماثيل المعراة في المتاحف وعلى قارعات الطريق مما لا يلقي أدنى اضطراب في عفتهن. ومن لم يكن له من نفسه وازع لا تحول الحواجز والأستار بينه وبين ارتكاز الرزائل.
سويسرا الصفات الاجتماعية
أول ما يبده المسافر في سويسرا ضبط المواعيد فإن السكك الحديدة كما هي في أكثر بلاد العالم المتمدن لا تتأخر ولا تتقدم دقيقة عن ميعادها والقطارات تسير الهوينا في أصقاع كأنها هي أيضاً تحب أن تمتع نواظرها بمناظر سويسرا البديعة فالسكك الحديدة هنا كسائر الأعمال تسير عجلة في بطء ولا حاجة لأن يعجل المرء هنا في المبادرة إلى المحطة لأن العالم كلهم مدققون في أوقاتهم ومتى كانوا كذلك بورك لهم فيها.
الصلابة والثبات صفتان لازمتان للسويسري وقد كان المشهور أن الفرنسويين أكثر الأمم اقتصاداً ولكن ظهر أن السويسريين يفوقونهم فإنهم أول أمة أوروبية تحسن استخدام أموالها ويليها الأمم السكاند نافية وقد تجازوا ما وضعه 1. 300. 000من السكان في صناديق التوفير مليار فرنك فيصيب الفرد ثمانمائة فرنك وهذا مما لا يكاد يكون له نظير: ثلث الأمة تقتصد وتجمع المال الذي لا نحتاج إليه!
لا تردد في أخلاق السويسري يقبل الجديد ولا يخون القديم فهو إما أن يقول نعم أو لا ليتمثل لك ذلك في المشاريع واللوائح التي توضع وتسن مما يقتضي تنفيذه عند غيرهم سنين. أما هنا فإذا أريد القيام بعمل تبدأ الصحف بإعداد الأفكار له وتلقي المحاضرات فيضع أحد النواب أو الحكومة مشروع القانون الجديد وإذا اقتضى الحال تصدق عليه الأمة ويخضع له كل الناس وإذا وضع قانون ولم ينفذ فالسويسري يصر على العمل به بدون ملل مثال ذلك بعض السكك الحديدية الجديدية فإن من الخطوط ما يمد في عشرين سنة ولا يكون طوله أكثر من عشرين كيلومتراً ومع هذا فقد تفتح كل سنة محطة جديدة منه ولكن الخط ينتهي في الآخر.
إذا كان السويسريون عنودين فذلك لأنهم عمليون لا نظريون في أعمالهم قلما يطيرون وراء الخيالات. وقديماً نبغ في السويسريين فلاسفة أمثال جان جاك روسو الذي في ولد في(87/46)
جنيف أما اليوم فلم تنشأ لهم مثل تلك الطبقة بل ينشأ لهم أهل عمل أقرب إلى الحقائق متشبعين بالحق عارفين المداخل والمخارج فخلف رجال الأعمال رجال الخيال.
امتاز السويسريون بالصناعات فاستفادوا من ذلك فوائد جمة في بلاد شحيحة بخيراتها صبعة المراس بطبيعتها الاقتصار على الزراعة فيها لا تسير به الحركة الاقتصادية على محورها. فليس فيها فحم حجري ولا معادن للصناعة ولا شواطئ بحرية ولا أنهار عظمى للتجارة فيها عقاب من جبال صعبة المرتقى أقيمت على التخوم في الجنوب والشرق والشمال وربعها غير صالح للزراعة لأنه مألف الثلوج والجليد طول السنة أو صخور لا ترتقي وتربة قاحلة وثلثيها صالح للغابات والشتاء يطول ويشتد في بعض مقاطعاتها ويغمرها بالثلوج برمتها وبحيرات هي كالخال في عنق ذات الجمال والدلال ولكن الإنسان العاقل يغلب الطبيعة أو يعرف كيف يستخدمها. فإن تلك الحواجز الجبلية قد خرقتها السك الحديدية بحيث أن سويسرا بعد أن كانت تحول دون الاتصال بين فرنسا والنمسا وبين إيطاليا وألمانيا أصبحت الصلة اللازمة بينها فشق القطار جميع الأصقاع وتسلل بخطوطه المنوعة حتى الأصقاع البعيدة عن التركيب الاجتماعي يحمل إليها مائية الحياة الاقتصادية ورشاشة من بحر المدينة واستعاضت سويسرا عن الفحم الحجري الأسود بما عندها من الفحم الأبيض وأحسنت ضبط المياه فدورت بها المعامل والمواد الأولية تجلب من الخارج ولكنها تعود بأرباح فائقة فإن ثلاثة أرباع صادراتها هي من حاصلات بدلت فيها اليد السويسرية وغيرت مثل القطن والحرير والشكولاتا وأنوع المطرزات والساعات.
أحسنوا هنا استخدام جميع أنواع التربة الصالحة للزراعة على أحدث الطرق الزراعية المنوعة فوفرت كرومها ومراعيها وكثرت فيها تربية البقر بما يلحقه من اللبن الزبدة والجبن حتى أن بعض مقاطعاتها الشرقية تبلغ حاصلاتها 80في المئة من البقر وما يشتق منه والثلوج والجمد والصخور والشقيف وكانت من المعونات على الاستكثار من إقامة الفنادق والإنزال ليأوي إليها السياح الذين ملوا من رؤية الحضارة ويريدون أن يرجعوا شهراً أو شهرين إلى الطبيعة فليس في سويسرا حيوانها وجمادها وإنسانها شيء لم يحسن استخدامه ويجر في سبيله.
السويسريون عمليون في حياتهم الخاصة وهم كذلك في حياتهم العامة فلا تجد في الممالك(87/47)
مكاتب أشغال تنظر إلى الجواهر لا إلى العرض مثل مكاتبهم ولا إدارات أقل تشبثاً بالأعمال القرطاسية من إداراتهم. فهم في هذا الباب يصلحون أساتذة للفرنسيس والطليان والألمان. دخلت كثيراً من المصارف والبيوت المالية في مصر والشام وباريز ورومية فلم أشهد لمصارف سويسرا تلك الدهشة في مصارف الشرق والغرب على الغالب.
وهكذا هم في كل أعمالهم الاشتراكية الاجتماعية. ومن أغرب ما يسمع أن مدينة بال ارتأت أن تستوفي الضرائب من الآهلين في بطاقات بريدية قتم هذا العمل في أسرع من يمكن ولم ينتظر المكلف في شباك البريد أكثر من عشر دقائث فاحتذى هذا المثال كثير من المدن السويسرية تخفيفاً من أجور الجباة وتيسيراً على الناس.
اختار السويسريون السهولة حتى في أصول التعليم في مدارسهم فلا يخرجون اليوم من ست كليات راقية لهم سوى رجال أعمال لا رجال آمال وخيال. يخرجون رجل الغد على ما ينبغي له في جهاد الحياة فيتخرج من مدارسهم قليل من العلماء والأدباء وكثير من الزراع ولاتجار والعاملين. يعملون أموراً تنفع الطالب في الحال ويلقنونه العمليات وحب الأعمال المنتجة. يرى السويسيون الآن في الأمة كثيراً من المخترعين المتوسطين والمتفنين الجائعين والكتاب الذين لا قرائح لهم وكلهم لا فائدة منهم ولكن البقال والصانع وموظف السكة الحديدية وإن كان متوسطاً أفيد للحياة الاجتماعية من شاعر شقي لا ينتفع به في شيء.
ولذلك ترى الكليات تطبق علومها على حسب أقطارها فكلية بال مثلاً يتفنن أساتذتها في تعليم الطلاب حسن استخدام الألوان في كل أبحاثهم الكيماوية لأن البلاد صناعية ولكليتي زوريخ وفريبورغ فرعان تجاريان. ولكل فروع التعليم مقام محمود التعليم الصناعي في سويسرا يوافق ضروريات الحياة والمصالح في كل مقاطعة. فالمدارس الزراعية منوعة وهي مرتبطة بالمديريات مثل المعارف العمومية ولكن حكومة الاتحاد السويسري تمنحها إعانات كثيرة تقوم بحاجتها وفي سويسرا مدارس نظرية وعملية زراعية ومدارس زراعية للشتاء ومدارس لتربية الكرمة ومدارس لاستدرار الألبان وغير ذلك وفيها كثير من المدارس التجارية للمديريات أو البلديات وتقيم شركة التجارة السويسرية كثيراً من الدروس التجارية ولكثير من المدارس الوسطى فروع تجارية هذا عدا المدارس الخاصة مثل(87/48)
مدارس الساعات ومدارس التطريز ومدارس الفنادق ومدارس تدبير المنزل.
بين تلك الجبال الصعبة الخطرة رسولة الشتاء الطويل التي لا يستطيع فيها المرء بمفرده أن يعمل ما يقاوم الطبيعة التي لا تشفق أحس السويسري بضرورة التضامن وشعر بالحاجة إلى التساند والعمل يداً واحدة ترتيب الجهاد على ما يجب. الجبلي قاس وفطري وهو كريم المثوى وأقراء الضعيف سنة قديمة عند السويسريين كما هي عند الأيكوميين في إنكلترا أو العرب في بلادهم ولا تزال هذه السنة إلى اليوم كما كانت أمس ولكن الأجيال الجديدة مالت إلى الحقائق أكثر من أجدادها فاخترعوا من الضيافة صناعة وهي صناعة الفنادق والإنزال.
وربما يبلغ التضامن عند أمة ما بلغه عند السويسريين فإن حركة جمعيات التعاون والشركات والنقابات أكبر دليل على رسوخ عادة الاجتماع في عقول السويسريين منذ أحقاب. فالنقابات الصناعية استعادت تقاليد الأخويات القديمة حتى أصبح المستخدمون والتجار والصناع والزراع في سويسرا مربوطين بنقابات لا ليكون من أثرها ضرر على المجموع من مثل الاعتصابات والإضراب عن العمل بل ليكون منها عموم النفع. والشركات المحلية متحدة كل مديرية بمديريتها ثم ترتبط مديرات البلاد كلها وهذا في جماعات العملة والمعلمين. وأصحاب الفنادق بل القهاوي متحدة بعضها مع بعض. وما الحكومة السويسرية إذا نظرنا إليها من حيث المجموع إلا اتحاد واسع من النقابات السياسية لا تزال يقابل الملك المشترك الذي كان معروفاً في القرون الوسطى في الغرب ولم يبرح معروفاًُ بعضه في الشرق قائمة على أتمها ولا سيما في الأصقاع التي بقيت على فطرتها فإن السكان إلى الآن في وادي أنيفرس يحلبون الأبقار بالاشتراك ولك الحق على نسبة ملكه في حصته من اللبن والزبدة والجبن ولم ترتفع من ذلك خلال عشرين سنة سوى شكويين. وكثيراً ما تكون بقرة أو بغل أو بيت مشاعاً بين عدة مالكين وكثير من المراعي الجبلية هي أملاك بعض رؤساء الأسر وفي كل قرية تملك الأسرة بيتاً خاصاً أو مشاعاً بين أهلها.
وصناعة الجبن في أكثر بلاد سويسرا على أيدي شركات مرتبطة بجماعات المستخرجين للجبن وفي مقاطعة الفالي حيث تقل المياه تروي البلاد بأقنية جلبت مياهها من بعيد على(87/49)
مسافة 48كيلو متراً وكل قناة عملت وأديرت على يد جماعة من أرباب الأملاك ينتخب رئيس شركتها أصحاب الأراضي التي هي آخذة بالتقسيم والتجزئة.
وبعد فإذا كان الشعور بالتضامن العملي والنظري هو على أتمه في سويسرا فإن الفكر الوطني والنظام الاختياري والضمير الإفرادي المشاهد في أخلاق الوطني السويسري جدير بالإعجاب من كل وجه. فالسويسري يعرف واجبه نحو المجتمع والحكومة ويخالف في ذلك الشعوب اللاتينية التي تحب الخلاف بفطرتها والشعب الألماني الذي يخنع للسلطة إدارية وعسكرية على صورة غريبة وذلك بإطاعته الرؤساء طاعة عمياء والخضوع لأوامر الإمبراطور ولكن الوطني السويسري يخضع لنفسه ويرضى بنظام ارتضاه بحريته. والفكر الوطني في سويسرا الألمانية أشد منه في سويسرا الفرنساوية هي مديريات نوشاتل وفريبورغ وجنيف ولوزان وسويسرا الإيطالية مقاطعتها التسين والغريزون وما عدا هذه الست مديريات أي الأربع عشرة مديرية فهي ألمانية.
السويسري الألماني خصوصاً لا يستنكف من أن يشكو كل من يخالف الأمر والنظام لأن لكل شاك الحق بنصف الغرامة وقليل جداً من يشتكي منهم ولذا فليس من العبث ما تقرأه على المنعطفات وفي مداخل الحدائق والمنتزهات من الكتابات بحروف غليظة لجعلها تحت ملاحظة الجمهور ومعانة الوطنيين فإن هؤلاء قد عرفوا منزلتهم من بلادهم وما ينالهم من شرفها وما وضعته فيهم حكومتهم من الثقة فلا يريدون بحال أن يشوهوا وجوه مرافقهم ومتنزهاتهم وجناتهم بل يعملون بما فيه حفظها على ما يستلزمه حبهم لبلادهم وإعجابهم بها. ورجال الإدارة يجتهدون أن يعلموا الشعب وإن يؤهلوه ليخدم نفسه بنفسه بدلاً من أن يعتبروه ولداً يجب على الدوام الأخذ بيده وقيادته ولهذه أمثال كثيرة تعد بالعشرات مما لا مثيل له عند الأمم الأخرى.
وندر جداً في السويسريين من يستحلون أكل مال خزينة الأمة أي أن يخفوا عن الحكومة ما يحق لها أخذ رسوم وضرائب منه ولا سيما في سويسرا الألمانية وإن كان بعض أرباب الغايات وهم لا تخلو منهم أمة مهما طهرت نفسها قد يقفون عثرة أحياناً في سبيل بعض الأعمال كما وقف بعضهم سنة 1886 لما أرادت الحكومة احتكار اللالكحول ووقفوا ستة 1907لما أرادت منع شراب الابسنت المضر وحسنت صحة البلاد.(87/50)
لا جرم أن هذا الشعب الذي صورنا هنا صفاته الاجتماعية هو شعب عظيم فإن من يضرب صفحاً عن شهواته المادية لنفع المصلحة العامة ومن يفادي براحته وحب ذاته وهو راض ساكن باسم لأجل مصلحة وطنه بعد من الشعوب التي تحيا حياة طيبة.
أللهم إني أحسد الشعب السويسري حسد غبطة على هذه الأخلاق الفاضلة واطلب إليك أن ترزق شرقنا المسكين مثلها حتى لا يموت بفساد أخلاقة وقلة علمه ميتة جاهلية وقد خسر الدنيا والآخرة.
سويسرا: قيودها في الحرية
منذ قام الهلفسيون وكانوا يسكنون في شمالي سويسرا الألمانية الحالية أي في أرض ألمانيا وانضموا نحو القرن الأول قبل المسيح إلى التوتونيين والسميريين وهم مثلهم يحبون الغزو والغارة وأخلاق الحرية تبدو على هذا الشعب الهلفسي الذي سميت سويسرا باسمه هلفسيا وضع هذا الخلق مع لبن أجداده وتسلسل فيه على اختلاف القرون. وما كان أشراف القرون الخالية ولا حكومة الرومان التي استولت على سويسرا نحو خمسة قرون ولا النمسا بعد ولا الأساقفة ورجال الدين وكانوا هم الحاكمين في كثير من بلاد أوروبا ولا دوجات ميلانو وسافوا وبورعونيا ممن حكموا سويسرا يستطيعون أن يشددوا الوطأة على السويسريين لأنهم أشداء من وراء النشأة الجبلية متضامنون بينهم أخوان في السراء والضراء.
من قرأ تاريخ سويسرا يعجب من صبر السويسري ويرى أن حروبه حتى زمن القسوة كانت لطيفة وكثيراً ما كان السويسريون يردون غارات جيرانهم بفزيعهم وتشتيتهم فقط أو بأمطارهم الأحجار من الأعالي أو إلقائهم في البحيرات إرهاباً وما أظن أنه سبق في التاريخ أن محارباً يجيء معتدياً على بلد ويحاصرها ثلاثة أشهر ويضيق خناقها ثم تخدم المحصروين الأقدار ويفيض نهر فيحمل جسراً عليه كمية من عسكر عدوهم فيتركون الحصار ويأخذون بإنقاذ الغقرى كما رقع لمدينة سولور السويسرية فإن صاحب النمسا حاصرها لتخضع له وهي مستقلة ثلاثة أشهر فطاف نهر الآر وحمل طائفة من جنده فبدلاً من أن يغتنم المحصورون هذه الفرصة تنادوا لمساعدة الغرقى فأنقذوا منهم عدداً كثيراً فلما رأي الملك ليولولد من السلوريين هذه الشهامة تأثر جداً وعقد معهم الصلح ورفع عنهم(87/51)
الحصار وكان ذلك في القرن الرابع عشر.
تعلم الهفلسيون الاحتفاظ بحقوقهم والاعتياد على الشورى وحكم أنفسهم بأنفسهم وكره الملوك منذ قال زعيمهم ديفكوليوليوس قيصر عامل الرومان تلك الجملة البديعة وقد أراد أن يعقد معه صلحاً فطلب قيصر إلى الهلفسيين رهائن فقال ديفييكو. تريد رهائن وقد علمنا آباؤنا أن نأخذها لا أن نعطيها وكان على الرومان أن يذكروا ذلك. ولكنك ترى اليوم هذه الأمة مع ما بلغته من الحرية التي لم تعهد لغيرها تتساهل بحقوقها مع حكومتها فيما تراه نافعاً لبلادها علماً منها بأن الحرية المطلقة لا يمكن حصولها في مكان من لمجتمع وهي بالضرورة محدودة بحقوق الغير وبالمصلحة العامة.
السويسريون يرون في كل مكان المصلحة العامة ويتركون لها برضاهم صغار مطالبهم النفسية ويطالبون خاصة بتطبيق حقوق الفرد الأولية فلا يسيئون استعمال حريتهم الوجدانية وحريتهم القولية ليتخلصوا من عبءٍ فيه مصلحة عامة.
السويسري لا يستطيع مع ما نال من الحرية أن يقطع شجرة من غابته إلا بإذن حكومته ولا أن يضمن داره من الحريق إلا عند حكومته لأنها هي ضامنه من الحريق ولا أن يلقي ورقاً ولا قصناً في إحدى البحيرات فضلاً عن الأقذار والأوخام فسويسرا التي احتفظت بحقوقها في عصور الظلمة قد زادت منذ خمسين سنة تدخل الحكومة في مصالحها على ما هي الطريقة المتبعة في إدارة البلاد الجرمانية وذلك بأن يكون للحكومة إشراف قليل على بعض شؤون لا تضر بحرية الأفراد والمجتمع.
حرية الضمير والرأي والعبادة مضمونة في ارض سويسرا بموجب قانون الاتحاد السويسري الأساسي ولكن لا بصورة مبهمة بل إن لكل مديرية قانونها الخاص للاجتماع والدين والصحافة ينظر فيه الحين بعد الآخر ويطبق بحسن ارتقاء الشعب وأخلاقه. وحرية الصحافة لم تنقلب قط إلى عداء ومماحكات ومع شدة الانتقاد والجدال في المنازع السياسية فإن لها حداً تقف عنده لا تتعداه أعظم الصحف السويسرية ولذلك كانت صحافتهم على صورة لا تشبه صحافة الأمم الأخرى وربما كانت هي والصحف الإنكليزية صحف الحرية الحقيقية مع الاعتدال الغريب. أما نشر السفاهات والغراميات والخلاعيات فهذا لو جسر على نشره صحافي لا يجد من الأمة من يقرأه فيسقط بطبيعته. ومن الغريب أنك تجد في(87/52)
سويسرا كنيسة يصلى فيها أهل مذهبين من مذاهب النصرانية وجريدة هي لسان حال حزبين مختلفين الحزب المحافظ والحزب المتطرف الاشتراكي فالقارئ يحكم على آراء الفريقين المتخاصمين من العدد الواحد.
لا جرم أن القرون الخالية وحوادث الأيام قد دربت السويسريين طويلاً على الحرية وقلبتهم بين الشدة والتسامح أزماناً فصاروا يقدمون نعمة السلام والوئام وما تعقلهم الحال إلا ثمرة نضجت على مهل بعد أن ذاق أصحابها في انتظارها وتكييفها على هذه الحالة نصباً. حرية العمل وحرية الاشتراك في سويسرا متعادلتان فمن هذه نشأ الاعتراف بنقابات العمال وبحقوق اعتصابهم ومن تلك نشأ احترام المعتصبين لحق المخالفين لهم في الإضراب عن العمل ومع هذا تجد الاعتصابات أقل مما هي عند الأمم الصناعية الأخرى والأجور تزيد بزيادة غلاء الحاجيات وارتفاع أسعار الكماليات لأن العملة يتفاهمون ويجتمعون على الدوام مع زعمائهم. وكذلك حق حماية سويسرا للمظلومين ولا سيما السياسيين فإنه أرقى مما عند الأمم الأخرى ولكن سويسرا لا تحمي القاتل وكثيراً ما تعمد بعض مقاطعاتها إلى إخراج السفاكين وأرباب الدعارة من غير أبنائها إلى خارج الحدود.
يبدأ تلقين الحرية وتطبيق حقوق الوطني عند السويسريين منذ عهد المدرسة الابتدائية. وليس في سويسرا على الجملة مدارس داخلية بل إن الطلبة الذين يرحلون من قراهم وبلادهم للتعليم يدخلون بيوت الأسر حتى لا يعيش التلميذ منذ صغره عيشاً متكلفاً كعيش المدارس الداخلية لا مثيل له في الحياة ولا يخضع لقوانين جائرة وهو الذي يحتاج في بدء نموه إلى الهواء والشمس والانطلاق. ومن علماء التربية هنا من بالغوافي منح إعطاء الطلبة حريتهم وأنشأوا لهم مدارس التربية الذاتية أو الحكم الذاتي فيتألفون أولاداً من سن الثانية عشرة إلى السادسة عشرة جمهوريات حرة ينظمون بينهم أمرهم والمعلمون لا يعملون إلا أن يلقوا عليهم الدروس وذلك لتلقين الأولاد الاستقلال والحياة العمومية. فالأولاد يختارون رئيسهم وهيأتهم الإدارية وأمين صندوقهم ويكون اختيارهم حسناً جداً في الأغلب ويجيدون في مناقشة القانون الذي يضعه مديرهم وتصح أحكامهم في عقوبة المخالفين لنظامهم فلا يسرق شيء من مال الصندوق ولو كان الأمين عليه في الثانية عشرة من عمره تحدثه نفسه أن يبتاع ببعض الدريهمات حلواء أو شكولاتا أن ملبساً يأكلها أو كرة(87/53)
يلعب بها. فكأن سويسرا خلقت بدون أولاد أو أن التربية جعلت أولادها رجالاً ونساءها كذلك.
حرية الصيد البري والصيد النهري والبحيري محدودة مقيدة في بعض الأوقات وعلى بعض المحال. ورجال الصحة يمنعون كل شيء إذا اقتضت الصحة العامة ذلك ولو كان فيه خراب عدة مقاطعات كأن يقيمون الحجر الصحي على الإنسان والحيوان فيمتنع أحد من الدخول إلى تلك المحال الموبوءة أو الخروج منها ولا ينبس أحد ببنت شفة اعتراضاً على ما حصل. وقانون العمل وتحديد أوقاته يشغل المستخدمين والعمال والعملة على صورة معقولة فيتمتعون به بشيء من الراحة والحكومة تتدخل في حياة الوطنيين الخاصة لتقدير الضريبة على دخل الأفراد الذين يقدرونها بأنفسهم أولاً وللحكومة الحق أن تراقبهم وكذلك كتابة كشف بعد وفاة الميت بملفاته.
لكل عمل في سويسرا موانع ومحظورات فالماهر من يقرأ ما يقع نظره عليه من المكتوبات في الطرق والمحطات لئلا يغرم شيئاً بتعديه حمى لا ينبغي السير فيه أو إتيانه عملاً يعد منكراً في عرف القوم وهو عند غيرهم مباح وأي مباح. مثل منع دوس العشب في المروج عندما تنبت وقطع عدة زهور من جبال الألب وسير المرء في بعض المقاطعات على بعض طرق الكروم يتناول المنع في ذلك الأولاد والرجال مخالفة أن تحدث أحد الشرهين نفسه بأن يقطف خصلة من الكرم. واقتطاف العشب يجري بمعرفة الحكومة كل جهة بمفردها. ويمنع على بعض الجسور الخشب في بعض المقاطعات أن يدخن المرء أو يحمل قداحة ويوقف حيوانات اجتماعات. وهكذا تراهم يفرضون فروضاً ربما لا تقع مرة في العمر ويكتبون لها اللوحات ويضعون على من تعدى عليها الغرامات.
هذه قيود الحرية وضمانات لها في آن واحد لأن الشعب مهما بلغ من رقيه هو كقطيع الغنم لا يخلو من جرباء وفي الأكثر يكون المقصود من هذه القيود الأجانب ليسوا على مستوى واحد في عقولهم وعاداتهم. عادة البصق ممنوعة قطعاً في كل مكان ولا سيما في القطارات حتى أن بعض الكنائس ككنيسة فريبورغ كتبت العبارة الآتية بحرف غليظ: احتراما لبيت الله المرجو الامتناع عن البصاق ويمنع التدخين من بعض المركبات في القطارات وللمدخنين مركبات خاصة كما أن للسكارى كذلك. وإذا حدث اختلاف بين راكبين في قطار(87/54)
أحدهما يريد فتح النافذة والآخر يأباه فالحكم في ذلك لرئيس القطار فهو الذي يحكم بني المختلفين وهذه أيضاً من جملة ما قدروه من الاحتمالات في أنواع الحريات.
سويسرا أرض الحرية منذ القديم ولكنها كما رأيت حرية من نوع آخر خاص لا تخلو من قيد في كل حال خلافاً لما يتصوره بعض الخياليين.
سويسرا: حياتها السياسة
ليست سويسرا جمهورية بل فسيفساء مؤلفة من عدة جمهورات صغرى ملونة براقة غربية في حجمها ونظامها وأفكارها وأخلاقها السياسية. فمن مقاطعاتها ما هو صغير ومنها ما هو كبير ومنها ما تدار المدينة فيه بإدارة غير إدارة القرى المجاورة لها ومنها ما هو عبارة عن مدينة وبضع قرى حولها أو أرباض. ومنها من يدين أهلها بالكثلكة وأخرى بالبرتستانتية وغيرها مزيج من المذهبين ومنها ما ينتمي إلى الحزب الإكليركي وأخرى محافظة متنطعة في مذهبها وغيرها متطرفة في اشتراكيتها ومنها التي تقدم نوافذ للعذراء مثل فريبورغ في حين جارتها جنيف فصلت بين الكنيسة والحكومة.
وفي الجبال الوسطى وجبال الشمال لا تزال الحكومة المعروفة بحكومة البطارقة على الحالة التي كانت على عهد الألمان والفرنك والقوة التشريعية بيد مجلس الوطنيين ومن الجمهوريات جمهوريات صناعية مثل زوريخ وبال احاطتا علماً بكل دقائق المجالس النيبابية فتضعان ضرائب على الدخل وضرائب على رأس المال وتحكران بعض الأصناف للحكومة وتختاران طريقة الانتخاب على نسبة العدد. عادات نروفدية قديمة إلى جنب الاختراعات السياسية في القرن العشرين!
قطعة من الجبال والأودية والبحيرات لا تبلغ مساحتها ثلث مساحة ولاية سورية ونفوسها لا يزيدون عن نفوس بر الشام كله وحكومتها في مديرياتها والأصح أن يقال في مملكها لأن لكل مقاطعة حكومة كأنها مملكة مستقلة أنواع منوعة وهذا لتكون عندهم اللامركزية على أسدها ويستمتع أخل كل ناحية مهما صغرت بفصل ما يرونه الأنسب لمصلحتهم والتغيير يتناول حتى النواحي التي تختلف إدارتها بحسب الإقليم.
في غرب البلاد يسيرون على الطرق الفرنساوية وفي سويسرا الألمانية لكل بلد نظامه والمرجع واحد. خنا تجيء الناحية الضرائب وهناك تسمح لها وإرداتها أن لا تطالب(87/55)
المكلفين بقرش. الاستقلال الإداري إلى جانب السلطة المحلية تختلق كل الاختلاف. المركزية في سويسرا الفرنساوية أكثر من غيرها في حين ترى نواحي أبينزل الألمانية جمهويات صغرى أنو جمهوريات تنوب عن جمهورية مستقلة إلا قليلاً وبهذا التغيير الكثير ساغ للأنظمة والأوضاع أن توافق أخلاق كل صقع وضرورياته وحاجات سكانة ورغائبهم التي تختلف باختلاف نوع الحياة. فالتعليم مثلاً إجباري في البلاد كلها يقضي على كل ولد أن يصرف في المدرسة من سن السادسة إلى الرابعة عشرة يتعلم فيها أموراً مشتركة بين المقاطعات كلها وما عدا ذلك فكل مديرية حرة بأن تنظم مدارسها على طريقتها وهي تطلق للنواحي حريتها أيضاً في بعض الأمور مدة التعليم في السنة تسعة أشهر ولكن بعض النواحي تقسم العطلة قسمين قسم وقت اشتداد الحر والآخر من آخر أيلول إلى أول كانون الأول وهو الزمن الذي تنزل فيه الماشية من الجبال وترعى في المروج إلى أوائل نزول الثلج تحت ملاحظة أولاد تلك القرى للتخصيص على هذه الصورة فوائد لا ينكرها إلا كل مكابر. يمنع التعديل الجائر ويحفظ للنواحي تنوعها وغرابتها ويبث روح الحياة المحلية والهمم الإفرادية ويزيد في ارتباط المرء بوطنه الصغير وهذه أحسن طريقة لتعريفه قدر الوطن الكبير وتحبيبه إليه. لكل مديرية وطنيتها فلها أعلام خاصة بها وألوان لا تشاركها فيها جارتها ولها أسلحة ولها شارات. وفي جميع الأعياد وعلى جميع المعاهد العامة توضع شارات لمديرية إلى جنب أعلام الاتحاد السويسري مثل دل برن وثور أوري ومفاتيح أونتروالد وكواكب فالي ومطرقة سان غال. لأن كل مديرية هي مملكة ووطن ولها تقاليدها وتاريخها وأمجادها فهي ليست مديرية بالمعنى الذي نتصوره في مصر والشام قطعة من بلاد اقتطعت منها كيفما اتفق بدون مراعاة الطبائع والتقسيم الطبيعي بل هي عضو حي نام واحد متماسك الأجزاء في الجسم الاجتماعي.
وربما قيل أن تخصيص كل بقعة بحقوق خاصة مما يفرق أجزاء الحياة السياسية فتختلف الأحزاب وتكثر فلا يستطيع مجلس النواب العام أن يقوم بعمل ولكن سويسرا ليست على مثل ذلك فإن إرادة الأمة تسري حتى على المخالف ويسكت المناقش بظهور الحجة وربما قيل أن هذه للامركزية المفرطة تشغل أهل كل ناحية بخصوصياتهم فلا يعودون يلتفتون لأرقى مما يتجاوز حدود دائرتهم الضيقة كما هو المشاهد من جرائدهم الحلية فإنها كلها(87/56)
جرائد خاصة بدائرة لا تتعداها ولا سيما في سويسرا الألمانية ولولا الجرائد الكبرى مثل جورنال دي جنيف والبوند وهي الصحف الجوالة الراقية لكان من يعيش في سويسرا أشبه بمن يعيش في قطر منعزل لأن السويسريين لا يهتمون إلا لزراعتهم وتجارتهم ومجالسهم وحوادثهم وما عداها فمعرفة وعدمها سواء ولكثرة هذا التغالي في اللامركزية خيف في القرن الماضي من تشتت الكلمة بتعدد النظامات فاتحدت أكثر القوانين العامة والمدنية اتحدت الخطوط الحديدية واتحد نظام العمل والجمرك وسير التوموبيلات فلم يعد يخشى التباس وصارت البلاد مستقلة كل واحدة بذاتها ولكنها في الشؤون العامة متحدة. وحدثت من هذا الاتحاد فوائد جمة من مثل اتحاد المديريات على أن تحتكر الحكومة كلها الخمور فنشأت من ذلك فوائد قللت من مقطوعية الخمر وحسنت نوعه وقل السكيرون والمعربدون وحسنت على بث الدعوة للامتناع عن المشروبات الروحية!. وابتاعت الحكومة الخطوط الحديدية الكبرى ما عدا الخطوط الصغرى المحلية على صورة كأنها لم تدفع عنه ثمناً وذلك بدون أن تضرب ضرائب ولا أن تعقد قرضاً أو تحتال حيلة فإن باجتماع الخطوط تحت إدارة واحدة قلت النفقات وكثر الإقبال فأخذت تلك الخطوط تربح ومن ريعها السنوي مدة 56سنة يغطى المليار فرنك الذي يدفع ثمناً للخطوط على نجوم وتقاسيط.
ومن عجيب احتكارات الحكومة السويسرية احتكارها لضمان الحريق بل للضمان من الحوادث والأمراض لا لطبقة مخصوصة من العمال كعمال السكك الحديدية مثلاً بل للجنود الذين هم تحت السلاح ومن السلام وزمن الحرب. ومن الغريب المدهش أن تضمن حكومة أرواح مكوميها من رصاص العدو وقنابله وهذا لا مثيل له في المدينة الحديثة. ولا تضمن الحكومة من الشيخوخة كطبقة العملة مثلا لتنفق عليهم واحد أن يفكر فيه وضمانة مبلغ معين لمن بغلوا سناً معينة هو مكافأة على عدم الحساب للعواقب وللكسل. ولذلك لا ترى في سويسرا من لا يعم أم الشحاذة فلا أثر لها ولا اسم. والحكومة العامة هنا احتكرت خطوط التلفون وضمتها منذ البدء لإدارة البريد والبرق ولكن للأفراد أن يضعوا في محالها أو منازلها كحذائقهم أو منازلهم أو فنادقهم ما أحبوا من مثلها.
السويسريون عريقون في الديمقراطية بكل ما فيها من المعاني تأصلت في نفوسهم وتشربتها دواؤهم منذ قرون طويلة. قلا لي أحد مديري الصحف الكبرى في لوزان أنني لا(87/57)
أستطيع أن أعامل عمالي والمستخدمين في إدارتي إلا معاملة الأكفاء نعم أمرهم ولكنني أحاسبهم في معاملتي كما أحاسن رصفائي في التحرير وأصدقائي.
وما ذلك إلا لأن الديمقراطية تأصلت فيهم وما ديمقراطية أميركا الشمالية التي يرد تاريخها إلى زهاءٍ مئة وثلاثين سنة وما ديمقراطية فرنس التي بلغت 43سنة من العمر بالنسبة لجمهوريات الاتحاد السويسري إلا بنات وأطفال فجمهوريات سويسرا عمرها خمسة وستة قرون ولذلك ترى في السويسري شعوراً طبيعياً في المساواة وليس في جمهوريته أوسمة ولا ألقاب تشريف فالعامل يشرفه عمله والمفضل على أمته ترفعه على رأسها في حياته ومماته. ورئيس الجمهورية السويسرية هو من أهل الطبقة الوسطى لا يميزه عن سائر أنباء السبيل في شوارع مدينة برن شيء من الأبهة والعظمة التي يبدون بها بلادنا القائم مقام الصغير دع لمتصرف والوالي والقائد والوزير ولا تجد تشرفات في سراي الاتحاد السويسري التي تضم إليها مجلس الأمة ومجلس الأقاليم وينتخب مجلس الاتحاد السويسري كل سنة رئيساً يتولى رئاسة المجلس ورئاسة جمهورية هلفسيا السعيدة وليس هو في الحقيقة إلا عميد مستشاريه الستة.
ولا تشهد في بلاط حكومة سويسرا دسائس يراد بها بقاء الحكومة في أيدي المتولين عليها على نحو ما يقع في الأمم النيابية فإن المجلسين السويسريين لا يقبلان الوزارة قط فلا تعهد عندهم الأزمات الوزارية التي تسمع بها في الممالك الدستورية وإذا حدث خلاف بين المجلس والحكومة يتفاهمان بحرية إذا لم يتيسر لهما الاتفاق ويخضع المجلس الاتحادي أي الوزارة لإرادة مجلس النواب والأقاليم كما أن هذين المجلسين لا يماحكان ولا يراوغان. فمجلس الأمة لا يقلب الحكومة التي تنتخب مستشاروها السبعة أو وزراؤها السبعة كل ثلاثة سنين بل يجدد انتخابهم الفصل بعد الفصل لأنهم يكونون قد نشأت لهم تجارب مهمة في العمل. ورئيس مجلس الاتحاد السوري أو رئيس الجمهورية ينتخبه رصفاؤه الستة كل سنة ويعمل وإياهم بإخلاص وخلو غرض ويجددون انتخابه على رأس السنة وربما مضت الأعوام والرئيس لم يتغير لأنه إذا عمل العمل الصلاح وهو لا يعمل غيره بالطبيعة لا يرى من رصفائه من يحدسه على مركز الرئاسة.
رواتب النواب هنا مقسمة بحسب الجلسات فأعضاء المجلس الاتحادي ينتاول أحدهم عن(87/58)
كل جلسة عشرين فرنكاً ويمكن أن يبلغ مجموع ما يتناوله أحدهم في السنة ثلاثة آلاف فرنك فقط أم نواب الأقاليم فيتناولون عضو البلد عن كل جلسة ستة فرنكات وعضو القرية سبعة للواحد منهم على طول السنة من الرواتب من 240إلى 280فرنكاً في السنة ورواتب مستشاري المملكة ووزراؤها 15ألف فرنك لكل واحد مسانهة وراتب رئيسهم أي رئيس الجمهورية السويسرية 18ألف فرنك مسانهة ولذلك قد يضطر المسكين إذا كانت له أسرى كبيرة أن يشتغل أحياناً أعمالاً أخرى من تجارة وزراعة ونحوها ولكن لا على أنه رئيس جمهورية له سلطة بل بصفته فرد حكمه حكم الأهالي.
الإخلاص هو الخلق الجوهري في الديمقراطية السويسرية فالشعب هو السيد ويجب أن يبقى كذلك. وقد اتخذت جميع الاحتياطات لتظهر إرادته بمظهرها ولتكون محترمة على الدوام. حتى أن بعض الأقاليم لا تزال بحسب قاعدة الفليسوف جان جاك روسو تحافظ على الحكومة التي تحكمها مباشرة بمعنى أن مجلس الوطنيين فيها يلتئم كل سنة فيتجنب حكام الأقاليم ويصدق على الحسابات ويقرر القوانين التي أعدها المستشارون الذين انتخبوا في السنة الفائتة.
في سويسرا حزبان مهمان حزب المحافظين وحزب الأحرار يتناقشان في مصلحة البلاد ولكن إذا تولت الأكثرية زمام المجالس لا تنحني على الأقلية بل ترى من مصلحتها أن تقبل أعضاءها في جلسات وهناك حزب اشتراكي ولكن لا تأثير له لأن الأمة اشتراكية بطبيعتها. قال لي المسيو جان سبير وأستاذ العربية في كلية لوزان عندنا حزبان وأنا من حزب الأحرار ولكنني لا أجد فرقاً بين الحزبيين يصح أن يعد فرقاً ولذلك فكلنا حزب واحد في الحقيقة. فبارك الله بأمة مهما تعددت مناحيها وأصولها وأهويتها ودرجة غناها وأعمالها لا تختلف في المصلحة الوطنية ولا تختلف عن الحق قيد شبر.(87/59)
آداب العرب
من التطاول على مقام الشعر العربي أن أحاول الإحاطة به في محاضرات ثلاث.
ولكنكم قد رأيتم جميعاً هذه الكتب الصغيرة الموجزة التي يستدل بها المسافرون في سياحاتهم يفتح السائح دليلة فيجد المؤلف قد تكفل بأن يريه باريس وعجائبها وما حوت من كنوز في خمسة أيام. ومصر ونيلها وأهرامها وقبورها ومعابدها ومسلاتها وما أبقت الأدهار فيها في اسبوع من الزمان. فيجري وراء دليله الصامت الناطق ويعمل برأيه فيعييه الجري ويتولاه التعب ويقطر العرق من جبينه ولا يكون لديه مجال للتأمل والتفكير فيما يتجلى أمامه من العبر وما يقع عليه بصره من عظات القرون ولكنه مع ذلك يرى من المشاهد ما يترك في ذهنه أثراً قديماً وما يكفي لتكوين فكر عام لديه وتتولد عنده من الأثر ويطيل الوقوف أمامها يسائلها عما مر بها العصور الخوالي فكأنما سفرته الأولى تمهيد لسفرته الثانية. . . . . .
فغايتي الآن أن أطير معكم فوق ربوع الشعر العربي. نطير طيراناً مكتفين بالتحليق في ممائه دون أن تطأ أرجلنا أرضه فنمتع النظر معاً بمرآها البهيج ونستنشق هواءها العليل البليل حاملاً أريج بلاد العرب وشذاها العطري. فهل لكم بعد هذا التطواف أن تجوسوا تلك الربوع الفائنات التي تمر أمام عيوننا مسرعة تجري كالريح فلم تروا منها سوى شواهقها وأن تشعروا بالحنو عليها والرغبة في التجول فيها لتستريحوا في وديانها وتشربوا من عيونها وغدرانها وتقطفوا من يانع ثمارها وتترنحوا بشذا أزهارها العطرة وقد أسكرتكم محاسنها.
وأول سؤال يخطر على البال هو: ما هو الشعر العربي قال بعضهم في تعريفه إنه صورة ظاهرة وفي هذا التعريف من حلاوة التعبير وفي سمو المعاني ما فيه لأن الشعر يكون إذ ذاك مظهراً لصور حاسة وعواطف حقيقية لا تصنع فيها ومجموع حقائق لا أكاذيب
وعرفه غيرهم بصوت أحلى من ذلك وأليق بالشعر فقال:
إن الشعر أنقى كلام وأغلى نظام وأبعد مرقى في درجة البلاغة وأحسنه ذكراً عند الرواية والخطابة وأعلقه بالحفظ مسموعاً وأدله على الفضيلة الغريزية مصنوعاً وحقاً لو كان الشعر جوهراً لكان عقيانا، أو من النبات لكان ريحانا، ولو أمسى نجوماً لزاد ضياؤها أو عيوناً لما غار ماؤها فهو ألطف من در الطل في أعين الزهر إذا تفتحت عيون الرياض(87/60)
غب المطر وأرق من أدمع المستهام ومن الراح رقرق بماء الغمام (من شرح ديوان المتنبي للواقدي)
فالشعر هو ريحانة النفوس ومزيل الهموم وديوان الحكمة ومصدر الخير والشعاع الساطع الذي يجذب الأنظار وتحوم حوله النفوس. بل هو عنوان المجد الخالد ورائد البلاغة وحجة اللغوي ومالك القلوب والدافع إلى جلائل الأعمال والمحرك للعزائم والرسول الذي يحمل أدق الرسائل وأرق العبارات.
وقد عرف ابن خلدون الشعر بأنه الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقبل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وما بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة
وهذا التعريف معول من قديم الأزمان ومن واجبات كل شاعر حريص على هذا الفن أن يتحراه في نظمه ويعمل به وإلا زالت عنه صفة الشاعرية. وعلى ذلك فالشاعر لا يكون جديراً بهذا الاسم إلا إذا صاغ عبارة في قالب خيالي وراعى أحكام الوزن واتبع فوق ذلك القواعد التي وصفها الأقدمون لتنسيق الشعر وأحكامه. فكأنما الحرية والتلاعب والخروج عن المألوف لا مجال لها في هذه المملكة مملكة الشعر التي كلها خيال في خيال والتي يهيج الفكر في أرجائها دون قيد ولا حرج. فإن صناعة الشعر خاضعة في شكلها بل وفي موضعها إلى حد ما لقواعد ثابتة لا بد من التقيد بها يظهر لنا إذن كأنه آلة موسيقية متناسقة الأنغام والتواقيع ولكنها خيالية من التنويع أما الشعراء فهم كالبلبل المغرد يحلو تغريده ويرق صوته ولكن نغماته هي هي في الصباح وفي المساء. . . . .
وما دام هذا العيب هو العيب الوحيد في شعرنا فلنشهد أن شعراءنا عنوا على الدوام بالألفاظ والعبارات أكثر مما عنوا بالمعاني وهمهم أن يؤدوا المعنى الواحد بعبارات مختلفة متعددة رنانة بديعة الأسلوب. وقد شبهوا المعنى بالماء - وهل كان لهم أن يشبهوه بالخمر وهي من المحرمات - والشعر بالإناء وقالوا أن الماء ماء على الدوام ولكن العبرة بالإناء فكلما أجاد الصانع إتقان صنع هذا الإناء وحلاه بالنقوش والزخاريف وأبدع في صناعته وأبرزه تحفه تلفت الأنظار كان أعظم شأواً في عالم النظم وأجود شعراً وأرفع مكانه ولهذا ترى الشعراء على الدوام يسعون وراء الألفاظ البديعة ويتنافسون في صوغ العبارات(87/61)
الساحرة النادرة ويتلاعبون بها كما تشاء أهواؤهم وكما توحي إليهم مخيلاتهم وليس في الأرض أمة بلغت مبلغ العرب في سبك الألفاظ وصياغتها فهم حقيقة صواغ الكلام والسحرة الصادقون الذين كانوا يسحرون الناس بحسن بيانهم وهم أيضاً كانت تسحرهم الحروف التي كانت ترقص أمام عيونهم وتتلاعب بهم. ما كانت العرب تقول ماذا يهمنا من الكأس إذا طاب الشرب ودب دبيب الخمرة إلى النفوس بل كانوا من المولعين بفنهم الشغوفين به يسكرهم جمال الشكل وبسحرهم حلو الحديث ويأخذ بمجامع قلوبهم الكلام الجزل والخيال الذي لا تلمسه الأيدي.
ألقى رينان محاضرة شهيرة في سنة 1883 عن الإسلام والعلوم انتقد فيها بشدة ما قيل عن المدينة الإسلامية وقال إن ما تفق الناس على تسميته الحضارة الإسلامية لم يكن لم يكن في الحقيقة سوى المدينة اليونانية نشرت من رمسها وهذبت تبعاً لما أظهرته الأيام بل ولم يكن الفضل في نشرها للعرب وإنما كان الفضل في ذلك للسوريين والكدانيين وأهل الهند وفارس والأندلس الذين صاروا عرباً بحكم الفتح واتحاد اللغة.
قد يكون فول هذا العالم الكبير صحيحاً من بعض وجوهه وعلى كل حال فإن مجال الأخذ والردلية فسيح وباب المساجلة واسع ولكن الأمر الذي لا مجال فيه للجدل هو أن العرب لم يأخذوا شعرهم من اليونان أوالرومان أن من أية أمة من الأمم. فالشعر العربي زهرة نبتت في أرض العرب وتفتحت أكمامها في بلاد العرب وأينعت في بلاد العرب دون أن تتلقح بلقاح غريب بل هي عذارى عربية ولدت في الصحارى العربية وشبت وترعرعت في البلاد العربية دون أن يلامسها غريب فيشوه محاسنها ودون أن تضيف إلى حينها البدوي حسناً مستعاراً ما أغناه عنه.
ولاحظا يا سادتي أن العرب نفوا إلى لغتهم كل أوجل ما يهمهم من المؤلفات والكتب التي تركتها الأمم التي سبقتهم في ميدان المدينة وأخذوا عن كل أمة أحسن وأثمن ما أخرجت قرائح أبنائها فأخذا عن اليونان الفلسفة والطب والهندسة والموسيقى وعن الفرس الفلك وآداب الاجتماع والموسيقى والروايات، وعن الكلدانيين الزراعة والتنجيم وعن المصريين الجراحة والكيمياء إلى غير ذلك مما أخذوه عن غيرهم. ولكنهم ما خطر في بالهم يوماً من الأيام أن يقبلوا من أمة أخرى بيتاً من الشعراء ومعنى من معاني الخيال أو أن يتحدوا(87/62)
غيرهم في فن النظم. كانوا يعتقدون أن شعرهم أرقى وأسمى من شعر جميع الأمم فكانوا كلما ألقوا أنظارهم على ما أثمرت قرائح أبناء العرب طربوا ورقصوا لو داخلتهم العزة وحق لهم أن يفخروا وأنفوا أن ينقلو من غيرهم شيئاً في هذه الباب.
وفي لاواقع فإنه لا توجد في العالم أمة وصلت آدابها إلى ما وصلت إليه آداب اللغة العربية لا في غناها وفي غزارة مادتها ولا في متانة أساليبها ولا في نوع شعرها الحماسي ولا غزلي وغيرهما من فنون الشعر الخيالي (فالشعر العربي يكاد يكون كله من الشعر الخيالي) ولم ينبغ في أمة من الأمم عدد من الشعراء يوازي أو يناهر عدد شعراء العرب وذلك راجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
السبب الأول - أن العربي حاد الإحساس إلى درجة غريبة سريع التأثير كثير التحمس كريم النفس قريب الغضب والرضا على السواء. ومن طبائعه أنه مندفع في أمره. مفيض بما في خاطره. فلا يمكنه كتمان ما في نفسه. ولذا تأبى طبيعته أن يظل ساكتاً عما حوله من المؤثرات فكان من الطبيعي أن تغنى بما يشعر به وأن يكون غناؤه صدى حقيقياً لعواطفه شبيهاً بها في شدتها وتناسبها وتناسقها فيخرج كلامه مصوراً تصويراً خيالياً موزوناً هو الشعر.
السبب الثاني - أن اللغة العربية هي في ذاتها أصلح اللغات للشعر وهيهات أن تقاربها لغة أخرى في غناها وفيها ما لا يحصى من المترادفات المتوافقة لفظاً وكثير منها متحد وزناً وهي وحدها تكفي لتصوير الخيال بدون الاحتياج إلى الاستعانة بغيرها فإن فيها العشرات بل المئات من الأسماء للدلالة على بعض المسميات سواء كانت من الحيوان كالأسد والثعبان والحمار ولناقة والثور والكلب ولقط. أو من المأكول كاللبن والعسل والتمر أو من المشروب كالماء والخمر أو من السلاح كالسيف والقوس والسهم والرمح ولمجن أن أو من الأوصاف كالطول والقصر والكبر والصغر والشجاعة والجبن والكرم والبخل فللأسد خمسمائة اسم وللثعبان مائتان وللناقة مائتان وخمسون وللماء مائة وسبعون أما المصائب والأرزاء فأربعمائة اسم ولعمري أنه عدد لا مبالغة فيه بل ربما كان أقل مما يلزم بالنسبة إليها. . . . . .
على أن هذه الكثرة في مادة اللغة لم تمنعها من أن تكون دقيقة في معانيها محكمة في مبانيها(87/63)
فقد خصت كل ليلة من ليالي القمر باسم كما خصت كل ساعة من ساعات الليل والنهار. وكذلك سميت الريح بأسماء مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا وقعت بين ريحين فهي النكباء وإذا وقعت بين الجنوب والصبا فهي الجربياء وإذا هبت من جهات مختلفة فهي المتناوحة وإذا كانت لينة فهي الريدانية. وإذا جاءت ينفس ضعيف فهي النسيم فإذا كان لها حنين كحنين الإبل فهي الحنون فإذا ابتدأت بشدة فهي النافجة وإذا كانت شديدة فهي العاصف. فإذا كانت شديدة ولها زقزقة فهي الزقزاقة الخ. .
وربما كانت هذه الكثرة داعية إلى الاستغراب ولكن متى ظهر السبب بطل العجب. فقد كان العرب في جميع الأزمان من أكثر الأمم اشتغالاً بلغتهم ثم كانوا فوق ذلك مولعين بفطرتهم بتحليل كل ما تقع عليه أبصارهم ويدرس نزعات النفس وأحوالها. فدرسوا من كل شيء جسمه وشكله وروحه وأثبتوا أوصافه ومميزاته وأصله ومؤثراته وعيوبه وفضائله وخصوا كلاً من هذه الأوصاف والمميزات باسم يدل على الوصف وعلى الحالة التي يكون بها. فالخمر مثلاً سميت خمراً للدلالة على أن أصلها من الاختمار وراحاً للدلالة على ما تحدثه في نفس شاربها من الارتياح وحمياً للدلالة على ما تبعثه فيه من الانفعال الخ. . . .
ثم إن الأمة العربية كانت مؤلفة من عدة قبائل ولكل قبيلة منها لهجة خاصة ولغة تختلف بعض الاختلاف عن لغة غيرها فلما توحدت هذه القبائل اندمجت ألفاظ كل قبيلة وعباراتها في صلب اللغة. وبعد ذلك جاء الفتح الإسلامي واختلط العرب بغيرهم من الأمم فرأوا من الأشياء والأدوات والحاصلات والعادات والصناعات ما لم يكن لهم له عهد من قبل، فاضطروا إلى إدخال الأسماء الأعجمية إلى اللغة العربية بعد أن نحتوها وهذبوها فأصبحت جزءاً منها.
ومن ذلك توجد لديكم فكرة عن مقدار غنى لغتنا العربية الذي لا يحيط به حصر ويقصر عن وصفه لسان. أضيفوا إلى ذلك تعدد الجناس وتفرقه وهي تفتح السبيل واسعاً للتورية والمجاز وغير ذلك من ضروب البيان التي تأسر اللب فيجد منها الشعراء الفحول والكتاب البلغاء ما يبغون لكي يهيموا على عالم الخيال ما شاؤوا وشاءت لهم مقدرتهم وبكون لهم منها ينبوع للفكاهات والتنكات ولما تسمونه أنتم معاشر الفرنسيس كلامبور وبهذه المناسبة أذكر أن العلامة اللغوي الشهير لتريه زعم أن تاريخها يرجع إلى القرن الثامن عشر للميلاد(87/64)
وأنها من وضع شريف أوجي. ولكني أميل إلى الاعتقاد بأنها أعرق من ذلك شرفاً ونسباً وأنها مؤلفة من كلمتين عربيتين هما كلام وبور أي كلام فارغ. . .
وللعرب قصائد بتمامها تنتهي كل أبياتها بكلمة واحدة يختلف معناها في كل بيت منها والآخر بسيط لا غرابة فيه فكلمة عين مثلاً لها 35معنى وكلمة عجوز ستون الخ.
السب الثالث - أن العربي فطر على رقة الشعور وسعة الخيال والقناعة والتفكير والتمتع اليسير من حاجيات المعاش فساعده ذلك على الانصراف إلى التأمل والتفكير والتمتع لهذه الحياة التي ينشط منها الفكر من عقاله ويسرح في مسارح الخيال. فإذا انصرف عن القتال وانتهى من الغزو أحاط به السكون من كل جانب وشمله الهدوء ونظر إلى السماء فإذا هي زرقاء لامعة في النهار مرصعة بالنجوم في الليل فدعاه السكون الذي حوله وجمال المناظر التي يرسل إليها بصره إلى فحص فؤاده وتعرف خبايا قلبه والإمعان في مصائب الناس وتصاريف الزمان وتقلبات الأيام فإذا انقطع هذا السكوت فجأة واقبلت القبائل كعادتها تتقاتل وتتطاحن وجد في ضربات السيوف وفي ملاحمة الأقران ما يثير حماسته ويدعوه إلى الفخر والتغني بالبأس وشدة المراس. فكان من كل ذلك محرك للنفس العربية ولكل أوتارها ونغماتها.
فليس بغريب إذن أن يكثر شعراء العرب وأن تكون ثمرات قرائحهم قد بلغت حد الإعجاز مع وفرتها.
على أني لا أرسل الكلام على عوهنه ولا أقتصر على إرسال القول مبهماً بل أقول لكم جميعاً افتحوا مؤلفاتنا القديمة والحديثة سواء كانت تبحث في الفلسفة أو الطب أو الفلك أو الكيمياء أو الفقه أو الرياضيات أو لاموسقى أو لتاريخ. ثم أجيلوا النظر فيها تجدوا فيها حتماً كثيراً من الأشعار. ذلك أن العشر امتلك لب العربي منذ بزغت شمس تاريخهم وصار له على نفسه السلطان المطلق. فلو تركنا الشعر جانباً وغضضنا الطرف عنه لما استطعنا معرفة تاريخ العرب ولا فهم أحوالهم وعاداتهم والأدوار التي مروا بها فالشعر هو من عناصر الحياة العربية فهو بالنسبة لها كالهواء بالنسبة للحياة الإنسانية بل هو الحياة العربية نفسها بكل قوتها وشدتها ورقتها.
وقد كان الشعر فطرة عند العرب يرسلونه على البداهة بلا أدنى صعوبة ولم يكن فقط(87/65)
مظهراً لسانحة تمر أو فكر يخطر على البال ثم ينمحي. بل كان مظهراً لكل معنى من المعاني العادية ووسيلة للتعبير عن كل المعارف الإنسانية حتى منها بل للتعبير عن أدق النظريات وأبعدها غوراً فتجد بعض المؤلفات النحوية شعراً بل تجد من المؤلفات الخاصة بالتقوى والعبادة أو بالطب أو الكيمياء أو المنطق ما وضع شعراً. بل إني أستطيع أن أقول دون أن أتعرض تعرضاً كبيراً للتكذيب، إن العرب لا بد أن يكونوا ضمنوا المعادلات الجبرية والهندسية بعض أبيات من أبياتهم حتى تعلق بالأذهان كما جرت عادتهم. بل إنه لا يكون من الإغراق في القول أن أقول بأن العرب كانوا يعبرون عن أفكارهم في غالب الأحيان وفي جميع الأزمان بطريق النظم فيكون الوزن قاعدة تعبيرهم كما كان قاعدة أفكارهم وحركاتهم وسكناتهم. ولا غرابة أن يكون ذلك من أقدم الأزمان فقد زعم بعضهم أن أول من نطق بالشعر العربي أبونا آدم عليه السلام وقد حفظ لنا التوراة الأشعار التي نظق بها. وما زال بعض المولعين بالمناقشات يتباحثون إلى اليوم إذا كان الأمر الذي لا نزاع فيه هو أنه إذا كان آدم شاعراص فإن العرب أحق الناس بالانتساب إليه وأجدرهم به لأنهم أمراء الشعر وسادة البيان. فإذا كان للملوك أسر فإن للشعراء أيضاً أسراً آل إليها المجد ووالله لهؤلاء أكبر شرفاً وأحق بالفخر الصحيح والمجد الرفيع من أولئك. وأذكر هنا النعمان ين بشير الأنصاري فهو شاعر اين شاعر وحفيد شاعر وابن شاعر ووالداً للشاعر الكبير زهير زجداً للشاعرين بن كعب بن زهير وبحير.
وهل أنسى سلالة حسان بن ثابت التي نبغ فيها عدد عظيم من الشعراء مدة قرون متوالية.
وقد كان الحال كذلك بعد الإسلام أيضاً فإن الشاعر الكبير فارس كان أبوه وجده من الشعراء ومثلها أبناؤه وأحفاده.
وما الفائدة من هذا المقدار وأي إنسان تبلغ به الدعوى مبلغاً يزعم معه أن في وسعه أن يخصي شعراء العرب وقد كان عددهم يتجاوز على قول أحدهم النجوم التي ترصع الزرقاء والأزهار التي يفوح عنبرها في الحدائق والمروج.
على أن كثيراً من الشعراء نعرف أسماؤهم ولكن لم يصلنا شيء من منظماتهم وبعضهم لم يصلنا منهم إلا أبيات قليلة مع أنهم كانوا على ما أثبت التاريخ من كبار الشعراء. ولا غرابة في ذلك إذا علمنا كيف وصلت إلينا أشعار الجاهلية.(87/66)
وكان يلتف حول الشعراء في العادة جماعة من مريديه وتلاميذه فيحفظون ما يلقيه من الأشعار ويتناقلونها عنه وينشدونها أمام الأمراء أو المجاهدين السائرين إلى البلاد أو بين الجماعات مراعاة لمقتضى الحال متبعاً لما إذا كان الغرض من القصيدة المديح أو الفخر أو الغزل أو الحكمة ثم تلا ذلك العصر كان الحفاظ أو الرواة يستظهرون عدة قصائد من فحول الشعراء مدفوعين إلى ذلك بعامل الإعجاب والتغني بها والمقارنة بينهما. وقد كان هؤلاء الحفاظ هم الوسيلة الوحيدة لبقاء هذه الأشعار وتناقلها بالتواتر من جيل إلى جيل. ولكن عدداً عظيماً منهم لقي حتفه في الحروب التي قامت في صدر الإسلام فنزل معهم إلى القبر جزء عظيم من الأبيات البديعة التي كانت تحويها صدورهم والتي كانت مفخرة العرب فلم يعد أحد يتناقلها بعدهم.
ولم ينبته أحد إلى تدوين قصائد كبار شعراء الجاهلية في بطون الكتب لحفظها من الضياع إلا في آخر القرن الأول من الهجرة وعمدوا في هذا السبيل إلى جمعها من صدور كبار الرواة الذين كانوا يستظهرون الكثير منها كحماد الذي كان يحفظ سبعة وعشرين ألف بيت من أشعار الجاهلية كل ألف منها تبدأ بحرف من الحروف الهجائية وكالمفضل الضبي وخلف الأحمر وأبو ضمضم الذي كان ينشد أشعاراً لمائة شعر باسم عمرو وكأبي تمام واضع كتاب الحماسة الذي كان يحفظ على ظهر قلبه أربعة عشر ألف بيت من الشعر كلها لفحول شعراء الجاهلية.
أما الأشعار التي قيلت لعد الإسلام فقد ضاع منها عدد عظيم بسبب الفتن والحروب التي قامت بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم من الأمم في جميع لأزمان وفي جميع البلاد التي خضعت للإسلام ويكفي لمعرفة ما ضاع منها أن نلقي نظرة على مؤلفات بعض أكابر الكتاب التي هي أسبه بالفهارس لالتزامها جانب الإيجاز لنتبين منها أسماء الذين عاصورهم من الشعراء وما ألف في فنون النظم ثم نتساءل ما الذي بقي من كل ذلك لم يبق إلا النزر اليسير الذي لا ينكر ولكن هذا النزر اليسير يكفي لرفع شأن أمة واحدة وهو يدل على مقدار نبوغ العرب في حلبة النظم وعلى ما كان لكبار الشعراء لديهم من المنزلة السامية والمقام الرفيع.
ويجرنا هذا الحديث إلى البحث في منزلة الشعراء في العالم العربي ثم إلى ذكر كلمة في(87/67)
بيان مميزات الشعر العربي في أهم العصور في تاريخ العرب.
كان الشاعر في الجاهلية مهيباً موقراً يحيط به الإجلال وحف به الإكرام. فإنه كان عميد القبيلة وحامي ذمارها وراوي تاريخها والحافظ لأنسابها والمتغني بذكر مجدها فهو بهذا الاعتبار كان قريب الشبه بالكهنة في التاريخ القديم.
فهو الذي كان يفتخر بأجداده وبالوقائع والغزوات التي امتاز فيها قبيلة بالبسالة والأقدام وشدة البطش فيحفظ بذلك ذكرها في أبيات من الشعر لأن الأشعار هي الأثر الوحيد الباقي في تاريخ العرب والوسيلة الوحيدة لمعرفة أحوالهم وتاريخهم. وهو الذي كان يهجو أعداء عشيرته ويدفع السباب بمثله. وكثيراً ما كانت كلمة عذبة حلوة من شاعر مجيد تسكن ثائر العداوات وتطفئ نار الخصومات كما أنه ما كانت كلمة منه تستفز بغضاء القبائل وتشعل نار الحرب بينها.
ومن البديهي أن أمة هذه حالها وهذه طبائعها كانت تقابل ظهور شاعر بين ظهرانيها بالفرح والابتهاج وتعتبر شهرته من الحوادث ذات البال. فكانت القبائل الموالية للقبيلة التي نبغ فيها شاعر تقدم إليها زرافات لمشاركتها في إعلان أفراحها فتقام الولائم وتنحر الذبائح وتوزع الأرزاق وتعلو أصوات النساء ويتسارع الأطفال إلى تقبيل طرف ثوب بطل الاحتفال عسى ربة الشعر توحي إليهم في مستقبل الأيام ما أوحته إليه.
وكان العرب في كل يوم ينصرون عن القتال وتبطل بينهم الحروب ويتهادنون لأيام معدودة ويغدون من كل فج سحيق من امرأة وعلماء وتجار وشعراء إلى حيث يجتمعون في عكاظ يتفاخرون بالشعر ويتبارون في الإبداع فيه. وكان يضرب لذلك فسطاط فخم ويتولى الحكم بين المتسابقين أبعد الشعراء شهرة وأعلاهم كعباً فكان يسمع ما يتلى بين يديه من القصائد ثم يبدي حكمه. وتكتب أجمل القصائد على نسيج من الكتان أو ورقة من أوراق البدي وتعلق ف يالكعبة ومن هذا أطلق عليها اسم المعلقات وعددها سبع وهي من أمتن الشعر وأحسنه بل إن المعلقات - وشعر الجاهلية عامة - هي المثال الذي مازال الشعراء ينسجون على منواله وينسجون نحوه إلى اليوم إلا في ما ندر من الأحوال تناقلها الناطقون بالضاد جيلاً بعد جيل وتغنوا بها وحفظوها وحاول شعراؤهم على ممر الأزمان يتحدوها في معانيها ومبانيها وتصوارت واصفيها وخيالاتهم. وما زال الشعراء إلى زماننا يتبعون(87/68)
في وضع أشعارهم القواعد والروابط التي وصفها شعراء الجاهلية فترى الشاعر يبدأ على الدوام ينصب المضارب والخيام ومنازل الأحباب كما كان يفعل شعراء العصر الجاهلي. ويطلب من صديقه أو من صديقته أن يقف معه ليبكيا معاً على الطلل والمنزل الذي كان مرتعاً للبهجة والأنس ثم هجره الصفاء وأصبحت ذكراه مصدراً للألم ومثاراً للأشجان. ثم ينتقل إلى التغزل بمحاسن المحبوبة والتفاخر بقومه وبشاعتهم وثباتهم في حومة الوغى ومكارمهم ثم يتخلص من ذلك ببيت يجب أن يكون غاية في الحسن والإبداع منتقلاً في تذكارات حبه وغرامه أن يرجعوا إلى المعاني القديمة والتخيلات البديعة التي سبقهم إليها سلفاؤهم مقتصرين على تغيير المبنى والتلاعب بالألفاظ وحسن السبك.
ثم جاء الإسلام فانصرف الناس عن الشعر زمناً فإن العرب وجدوا في القرآن ما تصبوا إليه نفوسهم من جيد القول. وجاءهم الكتاب المنزل بصورة جديدة من صور الكتابة لم يألفوها من قبل فلاهي بنثر ولا هي بنظم بل هي شيء أعلى من ذلك جاءهم بصورة إلهية سامية لا يعرف الواصف يصفها جلبت ألبابهم ولعبت بعقولهم وهم الذين رضعوا الفصاحة من ثدي امهاتهم وتربوا على البلاغة من مهادهم وعغرفوا غث الكلام من سمينه فاسركتهم هذه البلاغة العالية الخالدة وهذه الكلم الجوامع. وذهب المفسرون بعد ذلك إلى أن القرآن هو غاية الإعجاز في باب البلاغة والبيان وإلى أن الملائكة والناس يعجزون عن الاتيان بآية من آياته.
وقد نشأ من ذلك أن الشاعر سقط من شاهق مجده ولم تعد له نتلك المكانة الرفيعة التي كانت له في سالف الأزمان لم يعد ذلك الكاهن القديم والمدافع عن قبيلته وحامي حمى قومه بل تغير رأي الناس فيه وصاروا ينظرون إليه شزراً. وزاد الطين بلة أن بعضهم ذهبوا - أن صواباً وأن خطأ - إلى أن الرسول يكره الشعر، والشعراء واستدلوا على ذلك ببعض كلمات وردت في موضعين أو ثلاثة من القرآن يمكن تفسيرها بأنها لوم لبعض الشعراء أضف إلى ذلك أن الحماسة الدينية بلغت أشدها عند ظهور الإسلام فانصرفت الأذهان عن الأشعار والفنون واشتغلت بطبيعة الحال وبحكم الانقلاب الجديد بالبحث في أصول دينهم وأحكامه وتفاسيره وبالغزو والجهاد لنضر الدعوة إلى الإسلام. على أن الشعر رغماً من ذلك لم يمت تماماً فإن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين أشار على المسلمين بأن(87/69)
يعلموا أولادهم الأمثال والشعر وكان الإمام علي ابن أبي طالب رابع الخلفاء من فطاحل الشعراء وأعلاهم كعباً في ميدان النظم.
ولما أمر الخليفة عثمان بن عفان بجمع القرآن من صدور الرجال ولم يكن قد جمع إلى عهده وتبين أنه يصعب تفسير بعض آياته وكلماته وإدخالها في أذهان الأمم الأجنبية كأهل مصر والشام وفارس الذين كانوا قد انتحلوا الإسلام وتألفت منهم غالبية أهله منذ القرن الأول للهجرة - رجع شارحوه ومفسروه إلى الأشعار القديمة للاستئناس بها والاستعانة بها على فهم ما أغلق عليهم من معاني بعض الألفاظ القرآنية متبعين في ذلك قول ابن عباس إذا قرأتم شيئاً في كتاب الله فلم تعرفوه - فاطلبوه - في أشعار العرب فكان ذلك مشاهداً على نهضة الشعر والعناية بأمره بعد إهماله زمناً فبدأت تعدون إليه بهجة الأزمان الخوالي رويداً إلى أن بلغ أعظم شأو في أيام الأمويين وارتفعت منزلة ارتفاعاً كبيراًَ.
وهناك أسباب سياسية دعت إلى هذا التغيير فإن موت الإمام على أوقع الفتنة في بلاد العرب فانقسموا إلى قسمين متناظرين حزب على وحزب معاوية. وعادت القبائل إلى التطاحن والقتال بعد أن كان الإسلام قد جمع بينها ووحد كلمتها ومحا الضغائن التي تأصلت في نفوسها قروناً فبعثت العادة القديمة من الرمس وسار كل شاعر في طليعة قومه يحرضهم على القتال ويبعث الحمية في نفوسهم متوسلاً إلى ذلك بتذكيرهم بوقائعهم الباهر وأفعالهم المجيدة. وكان معاوية داهية حصيف الرأي فعسى بجمع الوسائل إلى زيادة عدد أنصاره فأفلح في ضم معظم القبائل إلى جانبه بفضل دهائه وحكمته وسخائه وكان من بين الوسائل التي عمد إليها أنه أغدق هباته على الشعراء فقابلوا الجميل بمثله وألفوا القصائد في مدحه والتحدث بكرمه ومروءته فكان ذلك من أكبر الأسباب في ميل القلوب إليه وتمهيد أسباب النصر له. وسار خلفاء معاوية على نهجه ففتحوا أبوابهم للشعراء لاكتساب مودتهم من جهة ولأن بعض الأمراء كانوا مولعين بالشعر من جهة أخرى. فأزهر عصر الشعر وبلغ درجة لم يبلغها من قبل. ولكن الشعراء نسوا مقامهم القديم ومكانتهم الأولى ولم يدركوا قدر اللآليء التي كانوا يجودون بها فانحط مقامهم ونزل قدرهم. وبعد أن كان الشاعر في الجاهلية أمير قبيلة وسيد قومه أصبح في عهد الأمويين رجلاً من أولئك الذين تتألف منهم بطانات الأمراء. كل همه أن يستدر هباتهم وأن يتزلف إليهم وينال الحظوة لديهم.(87/70)
وفي عام 132 للهجرة حدث انقلاب جديد في العالم الإسلامي فإن أبا العباس ثار على الأمويين ونصره في ذلك أهل خراسان وفارس فتغلب عليهم ونزع الملك من بين أيديهم بعد أن نكل بهم تنكيلا وقد علا شأن الشعراء في عهد العباسيين من أول عهدهم إلى يوم زوال ملكهم حين استولى التتار على بغداد في عام 656 للهجرة. فكان الشاعر نديم الأمير وسميره جليسه فإن الخلفاء العباسيين قربوهم إليهم واستصفوهم وبالغوافي أكرامهم مراعاة لأسباب سياسية لا طعماً في استعمالهم وسيلة لكسب قلوب المسلمين بل لأن جلهم كانوا من أهل العلم والأدب وكانوا لا يأنفون من قول الشعر.
وقد بلغ العرب في أيام العباسيين من العزة والسؤدد إلى غاية ما وراءها غاية وأدركوا أكبر نصيب في ميدان التقدم والنجاح. بل إن عهد الدولة العباسية كان العصر الذهبي للشعر وللشعراء أيضاً مدة خمسة قرون متوالية. ولم يعد الشاعر ذلك الكاهن القديم ذلك العهد قبائل وشيعاً بل كانوا أمة واحدة جمعت كلمتها وتمازجت عشائرها - من الوجهتين الدينية والاجتماعية - بل كان الشاعر صديق الأمير ومؤانسه ومسيره ورفيقه في ساعات لهوه وأوقات أنسه. فعلا شأنه وارتفع قدره ونبه ذكره وانهالت عليه النعم وكان الناس يجلونه ويخشون بأسه وسطوته ويحسدونه على ما هو فيه من نعيم.
وكان الشاعر عالماً أن الفضل فيما ناله من الحظوة والخير يرجع إلى إبداعه في فنه فكان يطلب المزيد كل يوم في الإجادة ويضرب في الإبداع بسهم أوفر حتى رق الشعر وسما وبلغ منزلة رفيعة لم يعرفها من قبل بل صار هيكلاً مقدساً لا تصل إليه النفوس العالية والقلوب الرقيقة الحساسة. تدخله خاشعة متهيبة تحاذر الزلل فيا له من عصر سعيد تحكم فيه الشعر في النفوس وملك الأفئدة ومهد السبيل لصاحبه ليصل إلى أرفع درجات الجد وأعلى ذرى السؤدد. كان الشعر يغنى عن الحسب والنسب ويغنى الشعر عن التفاخر بغيره من الفضائل الحربية أو المزايا السياسية. حتى أن شاعراً مدح أبا العباس مؤسس دولة العباسيين فولاه ولاية. بل إن المأمون فعل ذلك مع ابن الجهم جزاءً له على قوله بيتاً من الشعر أعجبه وأطربه.
بل هل جاءكم نبأ الخلفية هارون الرشيد الذي بلغ من إكرامه للعلم والآداب أنه صب الماء لأبي معاوية الضرير ليغسل يديه. أو ابنيه الأمين والمأمون اللذين تنازعا في أيهما يقدم(87/71)
لأستاذه حذائيه ثم اتفقا على أن يقدم له كل منهما واحداً.
وأذكر على سبيل الاستطراد أن مسلم بن الوليد عين لوظيفة سامية هي وظيفة صاحب البريد بتقاضي رواتبها دون أن يشتغل فيها وكفى أنه كان يغتني بابنة الكرم ومكارمها. وأن الطغرائي كان وزيراً لسلطان الموصل مسعود ين محمد السلجوقي وأن المتنبي كان يعامل الأمراء وتؤدى له التحية التي تؤدى لهم. في تلك الأيام السعيدة كانت القصيدة تكتب على قطعة من رخام فيجازى قائلها بثقلها ذهباً. وكان البيت الواحد يساوي من ألف درهم إلى ألف دينار. فيالك من زمن مضى وانقضى كان الشعراء فيه ملوكاً والملوك شعراء. نعم لقد كان الملوك شعراء لا مبالغة في ذلك ولا مجاز وفي طليعتهم الخليفة هارون الرشيد ومعظم الخلفاء العباسيين وأحسنهم وأبلغهم عبد الله بن المعتز الذي قضى في الخلافة يوماً وكأنما فيكتور هيجو شاعر الفرنسيس كان قد أخذ عنه حين قال في رواية روت ما معناه
وفتحت روت عينها بين اليقظة ولمنام وتساءلت أي أله في هذا الصيف الخالد ألقى وهو سائر هذا المنجل الذي صيغ من ذهب في الحقل الذي رصعته النجوم
فإن عبد الله بن المعتز قال قبل ذلك بعشرة قرون
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا
ولقد أطلت القول عن هذا العصر. لأنه أحسن العصور بالنسبة للشعر العربي حيث تجلى فيه جمال الشعر وإبداعه أكثر من كل عصر سواه. وثانياً لأن ذلك العصر الزاهر الأنوار أعقبه ليل بهيم كشف الظلمات مازلنا نتخبط في دياجيره إلى اليوم فلا تغيره إلا بعض نجوم قليلة تتألق فيه حيناً بعد آخر وبعض بروق تومض أحياناً ثم تختفي. أذكر ذلك العهد السعيد لأنه منذ زال رحل الشعر معه وانحط شأن الشعراء فالناس تجهل أقدارهم وتغمط أفضالهم وهم يتخبطون بين الحياة والموت.
وقبل أن أختم كلامي أقول كلمة عن مميزات الشعر العربي في كل عصر من العصور التي أشر إليها.
كان الشعر في العصر الجاهلي مرآة حقيقية تنعكس فيها أخلاق العرب وعاداتهم وأحوال معيشتهم. فكان الأعراب في ذلك الحين يضربون في الصحراء لا يستقرون على حال وهم(87/72)
يعيشون من السطو والغزو وقطع الطرقات وشن الغارة على القوافل أما محاصيل الأرض فكانت ضعيفة لا تكفي لسد حاجاتهم. فكان شعرهم - وهو مرآة أخلاقهم - بسطاً سلسلاً سهلاً عليه أدلة الصدق مع مسحة من الخشونة وهل كان لشعرهم سبيل إلى أن يكون غير ذلك؟ وكانوا يقرون بالخاطر يجول في مخيلتهم ويتجلى لهم المنظر أمام عيونهم يدعو إلى السرور أو الأسى فيرسلونه شعراً للتعبير عما في نفوسهم دون إغراق ولا موارية. فتجد فيه العبارات العنيفة الوحشية للتغني بالقتل والقتال وسفك دماء الأعداء وتجد فيه العبارات اللينة التي تسيل رقة للتعبير عن غرام خالج الفؤاد ولعب بالقلب وأذل تلك النفس العاتية. ليس في عباراتهم تكلف بل هي تسيل كالماء الذي يجري من عين صافية دون جهد ولا عناء بل كأن الشعر جاء عفواً دون أن تستكد الشاعر ذهنه. لا يقيد شاعرهم بموضوع ولا يشعر ولا بقافية ولا يحاول أن يأتي ف أبياته بأنواع التشبيه والمجاز ولا بالغريب في الألفاظ ولا يسعى في تزيين القول ليكون صورة ما في نفسه وما تكنه جوارحه. فإذا لا قى ما يدخل السرور إلى قلبه هتف هتاف الفرح وإذا عرض له ما يدعو إلى الأسى أنَّ وناح. أو إذا أراد الفخر عبر عن أعماله وأعمال قومه بغاية البساطة والسهولة لا فرق في ذلك بينه وهو في هذه الحالة الفطرية وبين الطير الذي من الرياء والتصنع فهو كالطبيعة بل هو كالجمال.
أما في أيام الأمويين فإن اللغة بعثت كما كانت ولكن الشعر لم يعد هذه العذراء الطاهرة التي لم يقربها رياء بل إن الشعراء الذين نزلوا إلى مصاف المملقين والمتزلفين شوهوا محاسنها ومزقوا ثوب عفافها. فبينما كان الأقدمون يقولون مع حسان:
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
أصبح المتأخرون يزعمون أن أحسن الشعرا كذبه. أضف إلى ذلك أن فتوحات الإسلام امتدت فدخل تحت حكم العرب كثير من الأمم الغريبة عنهم التي تخلفت مشاربها عن مشاربهم وإن هذه الأمم المغلوبة دانت بدين الفاتحين وتعلمت لغتهم فيم يعد الشعراء من العرب دون سواهم بل كان بينهم المصري والسوري والفارس والأندلسي ولكل منهم نزعة خاصة قسم عليها شعره ويظهر أثرها في قوله. والصفة الغالبة في شعر ذلك العصر أن معظمه كان شعراً غرامياً الغرض منه الغزل والتشبه مع خلاعة ومجون يرجع السبب(87/73)
الأصلي فيهما إلى كثر النساء اللواتي وقعن في أسر المسلمين في حروبهم وهناك أشعار اشتملت على أمور سياسية وعلى مطاعن يعزى السبب فيها طبعاً إلى انشقاق المسلمين إلى أحزاب وإلى ما قام من الخلاف بين أسرة معاوية وأسرة الأمام علي. على أنه يمكن القول بوجه الإيجاز أن هذا العصر كان زاهراً بالشعر وقد نبع فيه جماعة من فطاحل الشعراء وأعظمهم كالأخطل وجرير والفرزدق.
وبلغ الشعر أعلى ذروة في عهد العباسيين فإن النجاح الذي صادفه العرب والتقدم الذي بلغوه والمدينة التي أصابوها كل ذلك كان له أثر كبير في الروح الشعرية. ثم إن معيشة الخلفاء وترفهم والخمور والحب الخ. حول الشعر من حال إلى حال فرق حتى صار نسمة من نسمات الروح وتهذيب ألفاظه وحلت مبانيه وخفت روحه. هذا فضلاً عن تقدم العلوم وانتشار المدينة والفلسفة وبلوغ حرية الفكر والقول إلى درجة كبرى وسعت دائرة العقل وشحذت القرائح ورفعها إلى الابتكار فوصلت تخيلات الشعراء إلى درجة من السمو لم تصل إليها في من الأزمان.
ويمتاز الشعر في العصر العباسي من جهة شكله بمتانة الوزن والقافية مع السهولة والمرونة بحيث أصبح أسهل تناولاً وأطوع للشاعر وبروح جديدة كشرت قيود القوالب القديمة التي تقدي بها الفكر العربي في سالف الأزمان. وامتاز من جهة موضوعية بقوة التصور والمناقشات العلمية والخيالية والتأملات الفلسفية التي تضمنها. وبعد أن كانت الأشعار في الماضي كفة القلوب فقط أصبحت تتضمن الحكمة والآراء العلمية والأبحاث المنطقية. فكان الأطباء يضعون كتباً في الطب شعراً. والفلاسفة يقيدون شوارد أفكارهم وخواطرهم شعراً فيما يتعلق بمنشأ الكون والقضاء والقدر وحرية الاختيار وخلود النفس إلى غير ذلك من الأبحاث العويصة. ولا يزعمن زاعم أن ذلك كان عمل ناظم يرص الكلمات رصاً دون أن يكون في كلامه أثر من آثار الشاعرية الصحيحة بل إن ذلك ما فعله جماعة من فحول الشعراء أمثال المتنبي وأبي العلاء المعري وابن هاني وغيرهم وأسعارهم في هذا الباب تنفذ إلى القلوب فهي من أحسن الشعر وأرقه وأكثره تأثيراً في النفوس.
أما ما آلت إليه حالة الشعر العربي بعد سقوط بغداد فإني أضرب صفحاً عنها مكتفياً بالكلمة(87/74)
التي قلتها فيما مر.
وإنما أقول أنه منذ القرن الثامن للهجرة (القرن الخامس عشر للميلاد) أصبح الشعر صورة كيكية فاسدة. وتقليداً سقيماً للأشعار القديمة لا أثر فيها للابتكار على الإطلاق وأصبح الشعراء - استغفر الله بل الناظمين - أضحوكة يقلدون من سلفهم تقليداً أعمى مع جهل مطبق بروح الشعر القديم وبأحوال الزمان الحديث على السواء فتراهم كما كان الحال أيام امرئ القيس وأصحاب المعلقات يبدأون بذكر المضارب والخيام في الصحارى والقفار ويشكون من الظمأ ويخاطبون الناقة التي أخناها السير وأنهكها التعب ويغزلون بمحاسن المحبوبة بنفس لاألفاظ التي كان تغنى بها الشعراء أيم البداوة مع أنهم يقيمون في مدائن آهلة بالسكان ومنازل عامرة توفرت لهم فيها أسباب الراحة والزفاه وبجانبهم أنهر جارية تروي مياهها ما هم فيه من الظمأ وهم يتطون صهوات الجياد أفنات عليها السروج من الخز وقد تحجرت قلوبهم فلا تنبض لهوى ولا تشعر بعاطفة من عواطف الغرام!
ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول كما قال الأستاذ جول لومتر إن الشعر في مجموعة بما حوى من العواطف الرقيقة أنقى شعر عرفه العالم وقد أضاف الأستاذ إلى ذلك وهو الناقاد البصير الذي لا يلقي الكلام على عواهنه أنه أقرب الأشعار إلى المعاني الرجولية والشرف والحياء الصحيح والشهادة أه.(87/75)
مخطوطات وطبوعات
تاريخ العرب
للمسيو كليمان هوار جزآن طبع في باريز سنة 1912 - 1912 ص 893
2
عرف المسيو هواربين علماء المشرقيات من الفرنسويين بتوفره على العلم ووقوفه على أحوال الشرق فهو بيعرف عدة لغات شرقية ولا سيما الفارسية والعربية ومن جملة ما نشر كتاب البدء والتاريخ لأبي البلخي مع ترجمته إلى الإفرنسية وتاريخ آدات اللغة الإفرنسية ورحلته إلى قونية ودراويش الولوية ومفركات على سياحته في سورية وتاريخ بغداد منذ استيلاء المغول إلى مذابح المماليك وكتب الخطاطين والمذهبين في الشرق الإسلامي إلى غير ذلك من الرسائل والأبحاث في دائرة المعارف الإسلامية والمجلة الآسيوية ومجلة العلم الإسلامي وكله من آثار الجد وآخر ما نشروه هذا الكتاب في تاريخ العرب الذين كانوا كما قال دعاة الإسلام ويهتم الغربيون لهم حق الاهتمام ولا سيما في ابتداء هذا القرن العشرين وقد كثر احتكاك الأوربيين بهم.
وتاريخ العرب على ماقال عنه المؤلف عبارة عن تاريخ شبه جزيرة العرب قبل الرسول وعلى عهد خلفائه مباشرة ثم الممالك الإسلامية العربية ولم يتكلم فيه على البلاد العربية التي اقتحمها العثمانيون في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر ولكنه عني بالإمارات التي احتفظت باستقلالها مثل عمان ومراكش.
وصف المؤلف جزيرة العرب أولاً وتكلم على عادات العرب وأخلاقهم وعلى تاريخ الجزيرة في القديم ويدخل فيه الكلام على ملوك غسان الذين كانوا عمالاً لامبراطورة الرومان في حوران وأرجائها وعلى مكة قبل الرسول والكعبة وبداية أمر محمد (عليه الصلاة والسلام) ووقعة ذي قار وعلى الهجرة إلى المدينة وعلى نظام المجتمع الإسلامي وخلافة الراشدين ثم الأمويين فالعباسيين فالأغالبة في تونس فالطولونين في مصر فالحمدانين في حلب فالفاطميين وعلى الأوضاع السياسية والاقتصادية في الإسلام من مثل نظام القضاء والشحنة والتملك والأوقاف والمواريث ومزانيات العباسيين.
هذا مضمون فصول الجزء الأول وفي الجزء الثاني تكلم على الدولة الأيوبية والحروب(87/76)
الصليبية والدولة الأتابكية ودولة المماليك البحرية وعلى الصلات السياسية والتجارية مع دول الغرب من مثل البضائع التي كان يجري عليها التفاوض بين الشرقيين والغربيين والطرق التجارية وإنشاء القنصلات وابتياع الأسرى والعلائق السياسية مع رومية وبحث في إسبانيا والمغرب وفتحهما والحروب الأهلية في إسبانيا والممالك الصغرى فيها وعن دولتي المرابطين والموحدين ويدخل فيه الكلام على قلعة بني حماد وصقلية وهجرة اليونان إلى شمالي أفريقية وخاتمة استيلاء العرب على إسبانيا ودول مراكش والأشرف الحسنية في سجلماسة واليمن والدولة الرسولية وعمان والخوارج والوهابين وعرب والسودان والمهدي والآداب العربية والعلوم عند العرب.
ولم بتوسع المؤلف في بحثه كثيراً بل جعله مختصراً تكون فائدة المطالع منه على طرف الثمام وتكون عند المطالع من الإفرنج فكراً أجمالياً عن تاريخ هذه الأمة الجليل والمسيو هوارليس كسيد لميو صاحب تاريخ العرب الذي ترجم بالعربية في غرامه بالعرب وإنصافه لهم فهما وإن كانا فرنسويين لكن زمنهما مختلف ومشربهما كذلك.
ومما راقنا في كتابه قائمة الكتب التي رجع إلها المؤلف في آخر كل فصل ومعظمها مما نشره الألمان لأن علم المشرقيات عند الجرمانيين أرقى منه عند غيرهم. وله فهرس واسع حوى الأسماء التي ورد ذكرها في الكتاب وفي آخر كل دولة من الدول الإسلامية فهرس بأسماء ملوكها في آخر الفصل لتسهيل الكشف عنهم وتيسير حفظهم ولعل صاحبنا المسيوهوار يؤلف بعد هذا المختصر مطولاً في تاريخ العرب يطلق فيه العنان لقلمه السيال حتى يكون المرجع الأعظم للباحثين والمسترشدين من الأوربيين والشرقيين خصوصاً مع توفر المواد له بعدة لغات في مدينة كباريز مهد العلوم والآداب فنثني الثناء الأطيب على المؤلف والطابع ونرجو أن تظل هذه العناية على اتمها عند الفرنسيس بعلوم الشرق وتاريخه كما هي عند الألمان والإنكليز وغيرهم من أمم المدينة الحديثة.
تاريخ حماه
تأليف الشيخ أحمد الصابوني طبع بنفقة مكتبة عنوان النجاح في مطبعة
حماة سنة 1332 (ص161)
هو مختصر في تاريخ هذه المدينة تكلم فيه مؤلفه أحد أدباء حماة على تاريخ الحثيين(87/77)
والإسرائيليين واليونان والرومان والعرب وتوليهم مقاليد الحكم على هذه المدينة ولكن بإيجاز يكاد يكون مخلاً وكلام قليل على حماة القديمة وحدودها ونهرها العاصي ونواعيره وراحيته وجسوره ومحلاته وعدد نفوسه ومساكنه والجوامع والمدارس والمارستان والحمامات وأحوال حماة الجوية والصناعية والعمرانية وهذا استغرق نحو نصف الكتاب وهو بحجم الربع ثم تراجم مختصرة لبعض مشاهير ملوكها وفقائها وعلمائها وأدبائها استند فيها المؤلف على طبقات السكي وتاريخ ابن خلكان وتاريخ أبي الفدا والمحيي والمرادي وغيرها من الكتب المتداولة.
وأفيد ما في هذا الكتاب بعض ما نقش على أبواب المساجد والمدارس والمحال العامة منذ القديم من الكتابات وبيان ما هو معروف منها ومن أوقافها لهذا العهد ولو توسع في ذلك كثيراً لجاء في أحسن مرجع في بابه ولكنه اكتفى بما تهيأ له لأول وهلة والنظرة الأولى قد تخطئ وتراجم الرجال لا تشبع غليلاً لأن منها زاد بإيراد شيء من شعر المترجمين ومنه مالا يفيد لأنه خال من نكتة تاريخية وأدبية وليس فيه إلا ما يورث الترجمة طولاً على غير طائل فأي فائدة مثلاً من نقل ما قيل من المراثي في صاحب حماة أبي الفدا وإهمال التوسع في ترجمته وهو ثاني المأمون بخدمته للعلم والآداب لم يشرف حماة بنسبته إليها بل شرف الشام والعالم العربي فمن كان بهذه المثابة جدير بان يتوسع في ترجمته لا أن يكون حظ أديب من العناية أكثر منه وهذا ليس له إلا شعر قد يكون ضئيلاً لاجزالة فيه بل أي فائدة من ترجمة أصحاب الكرامات والتنويه بمن كانوا يعتبرون الرؤيا ووسمهم بأن ذلك من الفنون ومن أصحاب هذه التراجم ما لوحظ فيه على ما يظهر إرضاء بعض العامة والأعيان والتاريخ لا يكتب على الهوى وإذا لم يستطع المرء أن يترجم الأسلاف إلا بما يمليه الأخلاف فالأولى به أن يطوي تاريخه لينشر بعده خالياً من أعراض هذه الأغراض. وقد وقعت للمؤلف غلطات منها مطبعية ومنها لغوية وصرفية ومنها جغرافية تاريخية كنا نود أ - ن يعرى منها هذا المختصر مثل تذكيره للبئر ص15 وهي مؤنثة وتذكيره للحما وهو مذكر.
ومثل ذلك ما رقع في الرسم وأغلاطه النحوية والطفيفة الدالة على تساهل كقوله (ص59) ثلاث أميال. ثلاث أقضية و (ص23) ثمانية ساعات والصحيح ثلاثة أميال ثلاثة أقضية(87/78)
وثماني ساعات ومن أغلاطه الجغرافية واللفظية قوله في ترجمه ابن واصل (ص14) ومن تأليفه الأنبروزية في المنطق صنفها للإمبراطور ملك الصقالبة (إيطاليا) المسمى فريدريك والصحيح الأنبرورية بالراء المعجمة في الثانيةلا بالزاي نسبت إلى الأنبرور أو الإمبراطور وقوله الصقالبة غلط ومنازل العنصر الصلقي ذكرها جغرافيو العرب والإفرنج. وكان مثل ابن واصل حرياً بأن يتوسع في ترجمته لأنه يعد في الفلاسفة وهو أهم من مائة أديب يعتاش بشعره أمثال ابن مليك ومن أغلاطه قوله في أبيات لابن حجة (ص129) من قصيدة قالها سنة 820 في مدح الخيثمي
هو أي بسفح القاسمية والجسر ... إذا ذهب ذاك الريح فهو والهوى العذري
قال في الحالية والقاسمية هي الرحى على جانب جسر باب النهر من بناء قاسم باشا الخطيب. ولم تن الدولة العثمانية قد دخلت سورية على ذاك العهد بل دخلتها سنة 922 ولفظ باشا من مصطلحات الأتراك في التشريف لا من مصطلحات الجراكسة على أن معظم ما أورده صاحب هذا الكتاب من الحواشي مفيد في بابه مزيل للبس ونشكره على تأليفه ونرجوا أن يضع هذه الملاحظات محلها من النظر ويضيفها وغيرها إلى الطبعة الثانية التي وعد بطبعها من كتابه هذا خدمة للتاريخ والحقيقة وبتوسع في الأعمال الواجب بسطها ويختصر في الأماكن التي لا يجوز فيها إلا الإيجاز.
مدارك الشريعة الإسلامية
وسياستها
طبعت بمطبعة الترقي بدمشق
من علماء الدين رجال اطلعوا على أسرار الشريعة فأنشأوا يبثونها في صور مختلفة ويشربونها القلوب بلسان يوافق الأذواق العصرية ومن هذه الفئة الفاضلة السيد محمد الخضر بن الحسين من مدرسي الجامع الأعمظم في تونس سابقاً فقد اعتاد هذا الأستاذ أن يلقي محضرات يبين فيها حكمة الشريعة وينشرها في كراسات خاصة يبثها بين جميع الطبقات وآخر محاضراته التي ألقاها في تلك العاصمة رسالة في مدارك الشريعة الإسلامية وسياسيتها أفاض فيها في حكمة التشريع والشرائع وتقسيمها ومنابع الشريعة الإسلامية والإسلام دين وسياسة واختلاف المذاهب وانتشارها وطبقات الفقهاء والأمراء كل ذلك(87/79)
بعبارة منسجمة تجمع إلى الطلاوة متانة وهاك نموذجاً مما قال في اختلاف المذاهب:
كره الشارع التفريق في الآراء وندب الأمة إلى الوفاق بقدر ما يمكنها ولكنه يعلم أن تماسكهم وسيرهم في جميع الأحكام على مذهب واحد غير ميسر لهم فإذن لهم بعد بذلهم الوسع في انفاق الرأي أن يأخذ كل طائفة بما استقرب عليه أفهامهم ولا يضرهم متى تمكنوا في صناعة تقرير الأحكام واستوفوا شروطها أن لا يصيبوا وجه الحق في الواقع قال صلى الله عليه وسلم إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر وأطلق الشارع للعقل عنانها في الاجتهاد ليفتح لها المجال في النظر ويربيها على مبدأ الاستقلال بالرأي حتى لا يستولي عليها التقليد من جميع جهاتها فيتخللها الجمود ويصلح الفرق بينها وبين العقول المتصرفة كالفرق بين الماء الراكد في حماءٍ والماء المنهمر على الصفا لا يمازجه كدر.
ومن شعر بهذه الحكمة لا يمكنه الغض من جانب علماؤ الإسلام حيث أفضى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف بل هذا مما يجر إلى الاعتراف بمزيتهم ويبرهن على أنهم نشأوا على مبدأ البحث واستقلال الفكر ولو أنهم كانوا بعقول خامدة وإرادة ميتة لاتبعوا ما يفتي به أول فقيه منهم وتسلموه بتقليد.
وبعد أن أبان الوجوه المتعددة التي تدعو المجتهدين إلى الخلاف قال: ولو أن أهب الإسلام استمروا على تأليف الجمعيات العلمية لتحرير أحكام الحوادث واستخلاص الحقيقة من الآراء المتلاقية لا لتأمت عدة خلافات حقيقية وسقطت أقوال كثيرة من حساب مسائل الخلاف وقد كان للسلف اهتمام بجمع العلماء في المسائل المشكلة فقد نقل الحافظ ابن عبد البر عن المسبب بن رافع أنه جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة رفع إلى الأمراء فجمعوا له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق أه.
كتاب الأنساب للمعاني(87/80)
عرفوا علم أنساب فأنه علم يتعرف منه أنساب الناس وقواعده الكلية والجزئية والغرض منه الاحتراز عن الخطأ في نسب شخص وهو علم عظيم النفع جليل القدر وقد عنيت العرب بضبط أنسابها حتى إذا أكثر أهل الإسلام واختلظت أنسابهم بالأعجام تعذر شبطها بالآباء فانتسب كل مجهول النسب إلى بلده أو حرفته أو نحو ذلك حتى غلب هذا النوع قال كاتل حلبي وقد صنفوا فيه كتباً كثيرة والذي فتح هذا الباب وضبط علم الأنساب هو الإمام النسابة هشام بن محمد السائب الكلبي المتوفي سنة 204 فإنه صنف فيه خمسة كتب ثم اقتفى أثره جماعة. قلنا ومنهم الإمام أبو سعيد عبد الكريم ابن محمد المرزوي الشافعي الحافظ المتوفي سنة 562 وكان أبو سعيد هذا كما قال صاحب وفيات الأعيان واسطة عقد البيت السمعاني وعينهم الناظر ويدهم الباطشة وإليه انتهت رئاسيهم وبه كملت سيادتهم رحل في طلب العلم والحديث إلى الشرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها وسافر إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خرسان عدة دفعات وإلى نومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل ولاجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ولقي العلماء وأخذ منهم وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ وصنف التصانيف الحسنة الغزيرة منها كتاب الأنساب نحو ثمان مجلدات وهو الذي اختصره عز الدين أبو الحسن علي ابن الأثير الجزري واستدرك عليه والمختصر هو الموجود بأيدي الناس والأصل قليل الوجود.
قال في الكشف أن ابن الأثير سمى كتاب السمعاني اللباب وهو في ثلاث مجلدات ثم لخصه السوطي وجرده عن المتنسبين وزاد عليه أشياء وسماه الألباب في تحرير الأنساب ولخصه الخيضري المتوفي سنة 894 وكأن اله ادخر كتاب السمعاني في خزانة المتحف البريطاني إلى هذا العهد ليقوم أحد علماء المشرقيات الأستاذ مرجليوث بنشره على نفقة تذكار حبيب الإنكليزي. طبع على المجر (ليتوغرافيا) فجاء مثل الأصل المأخوذ عنه حذو القذة وذلك على ورق جيد في زهاء ألف ومائتي صعحة من الحجم الكامل وإذ كانت النسخة المنقول عنها مختلفة الخطوط جاءت كذلك وفي ظننا أن هذه النسخى لو طبعت بالحروف كما طبع الأستاذ مرجليوث أيضاً معجم الأدباء لياقوت لعمت الإستفادة من هذا السفر الجليل وسهل على كل مطالع الأخذ منه لأن في هذه الخطوط ما يصعب حله إلى بعد أعمال النظر(87/81)
وأكثره من الخلط اللطيف النسخي ويا حبذا لو شفع الناشر هذا الكتاب بمعجم لألفاظ الإعلام الواردة فيه وأتبعه بغير ذلك من الفهارس على عادة الأوربيين في طبعهم كتبنا العربية.
قال السمعاني في مقدمته: وكنت في رحلتي أتتبع ذلك وأسأل الحافط عن الأنساب وكيفيتها وإلى أي شيء نسب كل أحد وأثبت ما كنت أسمع ولما اتفق الاجتماع مع شيخنا وأمامنا أبي شجاع عمر بن الحسين البسطامي ذكر الله بالخير مما رواء النهر فكان يحثني على نظم مجموع في الأنساب وكل سنة إلى قبيلة أو بطن أو ولاء أو بلدة أو قرية أوجد أوحرفة أو لقب لبعض أجداده فغن الأنساب لا تخلو عن واحدة من هذه الأشياء شرعت في جمعه بسمر قندفي سنة خمسين وخمسمائة وكنت أكتب الحكايا والجرح والتعديل باسانيدها ثم حذفت الأسانيد لكيلا يطول وملت إلى الاختصار ليسهل على الفقهاء حفظها ولا يصعب على الحفاظ ضبطها وأوردت النسبة على حروف المعجم وراعيت فيها الحرف الثاني والثالث إلى آخر الحرف وابتدأت بالألفف الممدودة لأنها بمنزلة الألفين وذكرت الأبرى في الألفين وهي قرية من سجستان وإلا برى بالألف مع الباء المحد وهذه النسبة إلى عمل الإبرة وأذكر نسب الرجل أذكره في الترجمة وسيرته وما قال الناس فيه وإسناده وأذكر شيوخه ومن حدث عنهم ومن روى عنه ومولده ووفاته إن كان بلغني ذلك.
هده جملة حال الكتاب والمحور الذي يدور عليه وتراجم الرجال الواردة أسمائهم فيه مختصرة على الأغلب لأن المقصد الأول تعيين نسبته وله شبه كثير بكتاب المشتبه في أسماء الرجال المحافظ الذهبي إلا لأنه مطول أكثر وفيه تراجم يصح أن تعد تراجم ولكن المشتبه عبارة عن معجم لما استعجم من أسماء الرجال. فنشكر الطابع والناشر أطيب الثناء ونتمنى أن يوفق الأمناء على تذكار جيب إلى طلع أمثاله من كتب العلم المبعثرة في خزائن التب في الغرب والشرق لأنهم مؤتمنون عليها عارفون بأقدارها بعلمون بتأن في إخراجها للناس بحسب المناسب والدواعي وفقهم الله.
دروس الجغرافيا
تأليف فوزي بك العظم طبع بمطلعة جمال بنفقة المكتبة الأهلية في
بيروت ينة 1332 - 1914 ص128
هذا هو القسم الثاني الذي وعد به المؤلف في العام الفائت وهو يشتمل على دروس(87/82)
وتمارين في الجغرافيا بعبارة تترقى بحسب الطالب وهذا الموجز أوسع من الجزء الذي سلفه فنشكر مؤلفه ونرجو له التوفيق إلى إتمام هذه السلسة النافعة لتلامذة المدارس وغيرهم.(87/83)
أخبار وأفكار
الموسيقى الأهلي
تألف في القاهرة معهد للموسيقا الأهلي من جماعة من الوطنيين والأجانب ورئاسة حسن باشا واصف من عيون أعيان القاهرة والغرض منه ترقية هذا الفن الشريف وقد جعله الجناب الخديوي تحت حمايته وخصه أمراء الأسرة الخديوية برعايتهم ومعونتهم.
الجنايات في مصر
بلغ عدد حوادث الجنايات في القطر المصري في العام الماضي 4096 حادثة مقابل 3784 في العام الذي قبله.
السفن الراسية في بيروت
بلغ مجموع السفن البخارية والشراعية التي أرست في تغر بيروت سنة 1913 - 1024 سفينة بخارية منها 232 إنكليزية و171 أفرنسية و147روسية و141نمساوية و139طليانية ومحمولها كلها 1. 766. 541 وجاء الثغر 1826 سفينة شراعية محمولها 32. 873 طناً منها 1826سفينة عثمانية.
أكل الثوم
كان بعضهم يذهب إلى أن البلغاريين تطول أعمارهم لإكثارهم من تناول اللبن الرائب وقد ذهب أحد أطباء باريز اليوم إلى أن الإكثار من أكل الثوم مما يطيل الحياة فهو يحرض الناس على مزاولة أكل الثوم ويمدح الحساء المطيبة بالثوم ويعتقد بأن من يتناولها يعيش أكثر من ثمانين سنة ويخطئ من يقول بأن البلغاريين تطول باللبن أعمارهم وعلل ذلك لكثرة تناولهم في مآكلهم من الثوم.
الطلبة المصريون
ثبت بالإحصاء أن مجموع الطلبة المصريين الذين يطلبون العلم في أوربا على نفقاتهم نحو 614 منهم 373 طالباً في بلاد الإنكليز و139في فرنس و64 في سويسرا منهم من يتعلم الحقوق ومنهم الاقتصاد السياسي ومنهم الطب ومنهم الآداب ومنهم الهندسة ومنهم الزراعة ومنهم التجارة ومنهم الفنون الجميلة ومنهم غير ذلك.(87/84)
أهل الإسلام
ذكرت مجلة العالم الإسلامي التي تصدر في لندن أن في الدنيا كلها 201. 296. 696 مسلماً منهم 156690110 في آسيا و42. 039. 349 في إفريقية و2. 373. 676 في أوربا و173. 61 في أميركا الشمالية والجنوبية و19. 500 في أوستراليا والجزر التابعة لها. وإن 167093. 891 منهم تحكمهم حكومات مسيحية والباقون وعددهم 34. 192. 805 لا يزالون يتمتعون باستقلالهم.
حفلة تكريم
أقيمت في مصر ليل 4 حزيران 1914 (11رجب سنة 1323) حفلة في أوتل شبرد لتكريم واصف بك غلي صاحب المحاضر المنشورة في هذا الجزء لنقله إلى الغرب مزايا العرب وآدابهم ووقوفه موقف الدفاع عنهم وهو ابن بطرس باشا غلالي أحد رؤساء النظار السابقين ومن كبار رجال النهضة القبطية فاحتفل به جمهور كبير من عظماء مصر وعلمائها وأدبائها ورجال صحفها وسياستها وعددهم107 فانتدب الجناب الخديوي عنه عثمان باشا مرتضى رئيس ديوانه وجعلت الحفلة برئاسة إسماعيل باشا صبري ولما تناولا الطعام هنيئاً طابت نفوسهم إلى الكلام فافتتح الكلام إسماعيل صبري باشا بأبيات قال في مطلعها
أي صوت حيته بالأم ... س باريس مقر العلوم والعلماء
من ترى ذلك الذي جملته ... حكمة الشيب في ربيع الفتاء
ذلك الأسمر الذي به البي ... ض مطلاً من منبر الخطباء
وأما اللثام عن أدب العر ... ب كرام الآباء والأبناء
إلى أن قال
أيه ياابن الأمجاد قمت بأعبا ... ءٍ كبار والمجد ذو أعباءِ
وأريت الأنام ذوي القر ... بى ورأي الكريم في الكرماء
وقال أحمد بك شوقي في قصيدة
إنما يقدر الكرام كريم ... ويقيم الرجال وزن الرجال
وإذا عظم البلاد بهوها ... أنزلتهم منازل الإجلال(87/85)
توجت هامهم كما توجوها ... بكريم من الثناء وغال
إنما (واصف) يناء من الأخ ... لاق في دولة المشارق عال
ونجيب مهذب من نجيب ... هذبته تجارب الأحوال
وأهب المال والشباب لما ين ... فع لا للهوى ولا للضلال
ومذيق العقول في الغرب مما ... عصر العرب في السنين الخوالي
في كتاب حوى المحاسن في الشع ... ر وأوعى جوائز الأمثال
من صفات كالعين صدقاً وسبتاً ... في أداء الوجوه والأشكال
نسيب تحاذر العيد منه ... شرك الحسن أو شباك الدلال
ونظام كأنه فلك اللي ... ل إذا لاح وهو بالزهر حال
وبيان كما تجلى على الرس ... ل تجلى على رعاة الضال
ما علمنا لغيرهم من لسان ... زال أهلوه وهو في إقبال
بليت هاشم وبادت نزار ... واللسان المبين ليس يبال
كلما هم مجده نزوال ... قام فحل فحال دون الزوال
يا بني مصر لم أقل أمة القب ... ط فهذا تشبث بمحال
واحتال على خيال من المج ... د ودعوى من العراض الطوال
إنما نحن مسلمين وقبطاً ... أمة وحدت على الأجيال
سبق النيل بالأبوة فينا ... فهو أصل وآدم الجد تال
نحن من طينة الكريم على الل ... هـ ومن مائة القراح الزلال
مر ما مر من قرون علينا ... رسفاً في القيود والأغلال
وانقضى الدهر بين زغردة الع ... س وحثوا التراب والأعوال
ما تحلى بكم يسوع ولا ك ... نا لطه وديمه بجمال
وتضاع البلاد بالنوم عنها ... وتضاع الأمور بالإهمال
يا شباب الديار مصر إليكم ... ولواء العرين بالأشبال
كلما روعت بشبه يأس ... جعلتكم معاقل الآمال
هيئوها لما يليق بمنف ... وكريم الآثار والأطلال(87/86)
وانهضوا نهضة الشعوب لدنيا ... وحياة كبيرة الأشغال
وإلى الله من مشى بصليب ... في يديه ومن مشى بهلال
وقال حافظ بك إبراهيم:
يا صاحب الروضة الغناء هجت ينا ... ذكر الأوائل من أهل وجيران
نشرت فضل كرام في مضاجعهم ... جرَّ الزمان عليهم ذيل نسيان
إني أحييك عنهم في جزيرتهم ... وفي العراق وفي مصر ولبنان
جلوت للغرب حسن الشرق في حلل ... بما يستهين بها نساج (هرنان)
ظنوك منهم وقد أنشأت تخبطهم ... بما عنا لك من سحر وتبيان
ما زلت تبرهنا طوراً وتبرهم ... حتى ادعاك محياك الفريقان
لولا اسمرارك فازوا في ادعائهم ... (بواصف) وخسرنا أي خسران
إلى أن قال:
أمسى كتابك كالسيما يعيد لهم ... مرأى الحوادث مرت منذ أزمان
قد شاهدوا فيه تحت النفع عنترة ... يصارع الموت عن عبس وذبيان
وشاهدوا أسداً يمشي إلى أسدٍ ... كلاهما غير هياب ولا وآني
هذا من العرب يلوي به فزع ... زذاك أروع من آساد خفان
لله در يراع أنت حامله ... لو كان في أنملي يوماً لأغناني
وقفت تدفع عن آدابنا تهماً ... كادت تقوض منها كل بنيان
فكنت أول مصري أقام لهم ... على نبالة مصر آلف برهان
ما زلت تلقي على أسماعهم حججاً ... في كل ناد وتأتيهم بسلطان
حتى أثنيت وما في الغرب مجتريء ... على البناء ولا زار على الباني
محوت ما كتبوا عنا بقاطعة ... من البراهين فلت قول (رينان)
انحنى على الأدب الشرقي مفترياً ... عليه ما شاء من زور وبهتان
ظن الحقيقة في الأشعار تنقصنا ... واللفظ والقصد والتصوير في آن
وإننا لم نصل فيها إلى مئة ... عداً وذاك لعي أو لنقصان
ولو رأى ابن جريح في قصائده ... لقال آمنت في سري وإعلاني(87/87)
مالي أفاخر بالموتى وبين يدي ... من شعر أحيائنا ما ليس بالفاني
في شعر شوقي وصبري ما نتيه به ... على نوابعهم دع شعر مطران
بوركت يا ابن الوزير الحر من رجل ... لم يختلف فيه أو في فضله اثنان
بلغ إذا جئت بايزاً أفاضلها ... عنا التحيات وأشفعها بشكران
وخص كاتبهم (جولاً) بأطيبها ... كيما نقابل إحساناً بإحسان
واجعل لسفرك ذبلاً في شواعرنا ... وقف لهن هناك الموقف الثاني
وقال أحمد أفندي نسم من قصيدة:
وحسب فضلك أن أعليت بينهمو ... قدر النساء باكبار وإجلال
حليتها بالعفاف المحض فابتدرت ... بالطهر غالية عن كل لآل
لو كان عندي كعوب جئت تمهرها ... لكان شفرك أقصى مهرها الغالي
أحييت فضل الألي بادت أوائلهم ... من مالكين زمام الدهر أفيال
قوم إذا سئلوا جادوا بباهرة ... من العوارف لم تخطر على بال
وإن همو حاربوا هشت نفوسهمو ... للحرب من كل كرار ونزال
حتى إذا نهضوا خافت بوادرهم ... كواسر الوحش من شبل ورئبال
وإن أحبوا فما في حبهم ريب ... تؤذي العفاف لغدار ومحتال
وإن هم انتسبوا في كل منقبة ... جاؤوا بكل كريم العم والخال
الصادعين على الأملاك بيضتهم ... من كل أروع بادي الكبر مختال
فجدد العهد واذكر أمة سلفت ... يا من فخرت بذكرى عصرها الخالي
عز القريض فمن لي بابن هانئه ... يطريك في حكم غر وأمثال
كنت الرسول إلى القوم الألى نكروا ... هذي المآثر عن سهو وإغفال
فكنت مثل يسوع في واقفه ... يهدي نفوس شعب عنه ضلال
نايين! حاسدة باريس مذ أخذت ... عندك النهى بين تكبير وإهلال
شفيت فيها جهالات مغشية ... على عقول أناس منذ أجيال
فالعمي مبصرة والصم سامعة ... والميت قام لما تلقيه من قال
وتكلم ويصا أفندي فما قال عن المحتفل به: أنه كتب ما كتبه كشاعر ليجب من يقرأ كتابه(87/88)
في اشعر العربي فاستعمل لغة الشعراء حتى لقد يخيل إلى القرئ أنه يقرأ شعراً لا نثراً. وفي الحقيقة فإن واصف بك ولد شاعراً فغرامه بالشعر العربي سيد الشعر كما يقول هو غرام فطري فعبر عنه بلغة هي لغة الآلهة كما يقول القدماء فكر كثيراً في الشكل الذي يصوغ فيه معنيه فأدهش من قرأها من الفرنسويين حتى أن كتابه ولو أنه حديث في آداب القوام فقد عنيت الجرائد الكبرى كلها بإنقاذه وتقريظه ثم دعي بعد فألقى محاضرات في الشعر العربي بأجمل ما قيل في اللغة الفرنسوية.
بين في مقدمة بليغة كيف أن الشعر كان شريفاً عند العرب فجعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وتواريخهم وحكمهم وحياتهم اليومية كما فعل المصريون على جدران معابدهم وكيف كان ملكة مستحكمة فيهم حتى أنهم كانوا ينطقون به ارتجالاً فكانوا كلهم شعراء ثم سرد لذلك أسباباً عدة: منها شعور العربي وشدة تأثره وانفعالاته النفسانية واتساع مدى خياله. ومنها استيعابه اللغة العربية وما فيها من المترادفات العديدة فكان رؤساء العرب متنافسين في الشعر فرئيس القبيلة كان ناشدها وحامي ذمارها ينشد انتصاراتها ويهجوا أعداءها.
ثن بين مصادر الشعر وقسمها ستة أقسام أصلية وهي الغزل والحماسة والمدح والذم والوصف والحكم ثم بين كيف كان الشاعر ب \ يقصد المدح والافتخار بقومه ولم يكن ينتظر أجراً على ذلك. ولكن بعد الفتح الإسلامي جاء خلف لم يكن اللسان لسانهم وتعلموا الشعر صناعة ثم مدحوا أمراء العجم بأشعارهم طالبين أجراً فصار الغرض من الشعر الاستجداء فترفع أهل المراتب عنه وأصبح تعاطيه مذمة وكذلك الهجو فكان الشاعر يبيع أشعاره كالسلع لمن غالى في شرائها.
كل ذلك صاغه المحتفل به بلغة فصيحة شعرية فعند ما تكلم مثلاً على الغزل أمام السيدات الشريفات في الليسيوم الذي ترأسه الدوقة دوسين انظروا كيف وصف الحسناء العربية منتقياً ألفاظ الجمال من كتب العرب فترجمها بألفاظ شعرية من اللغة الفرنسوية حتى أني بعد ما قرأت هذا الوصف سألت نفسي هل هذه الحسناء لم تكن تمثالاً من المرمر صوره خيال الكاتب أو هل لم يصف أحد هذه التماثيل المعروضة في متحف اللوكسمبرج والتي لابد أن يكون قد وقع نظره عليها قبل إلقاء محاضراته.
ثم انظروا كيف وصف الحب عند العرب. قال إنه كان طاهراً نقياً بعيداً عن كل بهيمية(87/89)
وكانت المرأة محترمة مساوية للرجل وذكر من اشتهر من النساء في الحروب والشعر والآداب والطب والعلوم.
ذكر عمرة ابنة علقمة التي اشتهرت في واقعة واحد والخنساء التي حمدت ربها على استشهاد بنيها الأربعة يوم القادسية ورجت منه أن يجمعها معهم في مستقر رحمته وزينب التي مارست في الطب وجندب زوجة امرئ القيس وعائشة بنت طلحة وعمرة بنت هبل اللاتي سبقن مدام دي رمنوييه في جمع الشعراء والأدباء في بيوتهن للسمر والمحادثة في شؤون الآداب.
ثم بين ما امتاز به العرب من الصفات كالوفاء بالعهد أمثال حمظلة بن أبي عفرة وهو مشهور ومعروف والسموأل ثم احترام المرأة واحترام البنين لآبائهم والكرم وحب الانتقام الخ.
ولكن أحسن ما كتبه واصف بك هو ما كتبه عن حكم العرب فقال إن هذه الحكم هي نوع من الحماسة والفخر مصدرها الأنفة العربية فالشاعر العربي لا يفتخر فقط بأنه أشعر الشعراء وأشجع الفرسان وأكرم الكرماء بل يفتخر أيضاً بأنه أحكم الحكماء خاض معترك الحياة وذاق حلوها ومرها وعرف أسرارها فمن اتبع نصائحه اهتدى وهذه النصائح يهديها إلينا بلا مقابل كرماً منه فهو رجل كامل. ثم لخص بعد ذلك ما جاء في هذه الحكم فقال إن حكماء العرب يفكرون في الموت ويستهينون بالدنيا ويذكرون أنها ليست لحي وطناً فيجب اتخاذ صالح الأعمال فيها والاعتصام بالصبر والسكوت ذخيرة.
ومن قرأ هذه الحكم وأراد أن يقارنها بنوع من الفلسفة الحديثة لم يجد إلا الفلسفة المعروفة بال ولكن الشعر العربي له مزية خاصة إذ إنه يرفع هذه الحكم ويلبسها ثوباً من الظرف والجدة.
وقال أحمد حافظ بك عوض من خطبة.
أن آداب اللغات سواء كانت فطرية خالصة كما كانت آداب العرب في عهد البداوة أو مزر كشة عليها مسحة الصناعة والرشاقة كما كانت في أواخر المدينة العربية - هي مرآة صادقة تظهر فيها أخلاق الأمة وأطوارها ظهيراً لا سبيل فيه إلى المراء والمداراة وقد كانت الدرجة التي تصل إلها آداب اللغة في أمة من الأمم هي مقياس رقيها في درجات(87/90)
المدينة والكفاءة العقلية حتى ليصح أن يقال أن وحدة القياس للمدينة هي الآداب من شعر ونثر وحكمة.
وما على الباحث في تواريخ الأمم الغابرة إلا أن يكون لديه من سلامة الذوق ودقة النظر ما يمكنه من استجلاء صور هاتيك الأمم من قراءة الآداب. وأما التاريخ فهو بمعزل عن هذه الروح لأنه لا يؤدي إلى إلا إحصاء حوادث قد يقع مثلها في كل أمة وفي كل عصر. وربما أصدق التواريخ في وصف حالات الأمم النفسية والاجتماعية ما كان لمؤلفه يد في الأدب ومشاركة فيه ولهذا فإن كان مؤرخو العرب قد قصروا في الصناعة التاريخية فإنهم كانوا أدباء في تواريخهم، مؤرخين في أدبهم وبذلك أوقفونا على حالة الأمة العربية النفسية والأخلاقية وجعلونا كأننا نعيش معهم.
إن أوربا اليوم قد ألقيت إليها مقاليد السيادة في العالم فجلست على منصة الحكم بين الأمم. لا أقول الحكم بالاستعمار والتسلط فقط ولكن والحكم على رقي الأمم في مستوى المدينة والآداب أيضاً. فليس من سبيل إلى رفع مقدار أمة من الأمم الشرقية خاصة أو اللاأوربية بوجه عام في نظر الأمم أو الدول الأوربية أقرب وأشرف من رفع اللثام عن الحالة النفسية لتلك الأمة وعرضها كما هي مصورة في أشعارها وآدابها. وذلك ما صنعه واصف بك بين الأمة العربية والأمة الفرنسية بل والعالم الأوربي بأجمعه، ولهذا نحن نكرمه الليلة.
فواصف كان كالمحامي عنا خصه الله بموهبة المعرفة بلغة قضاتنا أمامهم غير هياب ولا وجل يناضل عنا بأفصح عبارات لغتهم ويشرح لهم ما لأمتنا من الآداب الراقية والحكم الرائقة حتى يحصرهم بفصاحته وحجته فحكموا لنا حكماً يفيدنا في مصالحنا الاجتماعية والأدبية بل والاقتصادية والسياسية.(87/91)
العدد 88 - بتاريخ: 1 - 5 - 1914(/)
المجودون من المصنفين
التآليف في الأمم كالأشخاص منها العاطل والجيد والأجود والعاطل يقضى عليه لا يبقى لأنه ساقط بطبعه والجيد قد يدوم لفائدة قليلة فيه أما الأجود فباق بقاء الأيام وكلما ذكر اسم صاحبه حلا في الأفواه وتطلعت نحوه العيون كان الموجودون من المؤلفين في القرون الأولى للإسلام أكثر من المجودين في القرون الأخيرة لأن كانت أرقى عند العرب ومائدة العلم لا يجرأ على الأخذ منها طفيلي لأن الأمة تميز والنقد أشد والحرية أوسع.
فإنا إذا قلبنا صفحات التاريخ نجد في كل عصر العشرين والثلاثين من الرجال المبرزين وهؤلاء يجب أن يشاد بذكرهم كل حين لأن تآليفهم وحدها إذا بقيت للأمة تتناقلها الجيل بعد الجيل تكفيها في قيام أمرها إلا قليلا مما يحدث مع كرور الأيام فالعرب مثلا إذا اقتصروا على تأليف المجودين من المصنفين في علوم اللسان والدين فلا يستغنون عن أخذ سائر العلوم عن أحدث الأمم حضارة.
وها نحن أولاء نلم في هذه العجالة بأسماء بعض من اشتهروا من المجودين من علماء العرب على اختلاف العصور منذ بدأ التدوين عندهم فمنهم أبو بكر بن مجاهد العارف بالقراآت وعلوم القرآن وهو آخر من انتهت إليه الرئاسة بمدينة السلام توفي سنة 324 ومنهم الخليل بن أحمد 170 وهو أول من استخرج العروض وغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس ومنهم صاحبه سيبويه قال ابن النديم وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله ولم يلحق به بعده قرأت بخط أبي العباس ثعلب اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا منهم سيبويه والأصول والمسائل للخليل ومنهم أبو عبيدة 210 والأصمعي 210 وأبو حاتم السجستاني255 والمبرد 279 والزجاج 310 ومنهم ابن دريد 321 وأبو سعيد السيرافي 368 وأبو الحسن الرماني وأبو علي الفارسي 370 وال كسائي 197 والفراء 207 والمفضل الضبي وابن الأعرابي 331 وأبو عبيد القاسم بن سلام وابن السكيت 246 وابن قتيبة قال صاحب الفهرست أنه كثير التصنيف والتأليف وكتبه في الجيل مرغوب فيها وقال ابن خلكان أن كتبه كلها جيدة واو حنيفة الدينوري وابن خالويه 370 وابن جني 392 وابن إسحاق صاحب السيرة قال ابن النديم وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول 150 وهشام الكلبي قال إسحاق الموصلي كنت إذا رأيت ثلاثة يرون ثلاثة يذبون علويه إذا رأى مخارقا وأبا نواس إذا(88/1)
رأى أبا العتاهية والزهري إذا رأى هشام 206 والوا قدي وهو الذي خلف بعد وفاته ستمائة فمطر كتباً كل قمطر منها حمل رجلين وكان له غلامان مملوكان يكتبان الليل والنهار وقبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار 207 والمدائني 225 والبلاذري صاحب كتاب البلدان وأحد النقلة من الفارسي وأبو الفرج الأصفهاني 360 وعبد الله بن المقفع قال ابن النديم الكتب المجمع على جودتها عهد أزدشير كليلة ودمنة رسالة عمارة بن حمزة الماهانية اليتيمة لابن المقفع رسالة الحسن لأحمد بن يوسف الكاتب وسهل بن هرون وكان أبو عثمان الجاحظ يفضله ويصف براعته وفصاحته قدامه بن جعفر والمرزباني 378 والصابي والصاحب بن عباد وأبو زيد البلخي كان فاضلا في العلوم القديمة والحديثة تلاقي تصنيفاته وتأليفا ته طريقة الفلاسفة إلا أنه بأهل الأدب أشبه وإسحق الموصلي وبشار بن برد وأبو نواس وابن الرومي والبحتري ومالك بن أنس والشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأبو يوسف والمزني وداود بن علي وأبو عبد الله البخاري وابن جرير الطبري ويحيى النحوي ويعقوب ابن إسحق الكندي وأبو نصر الفارابي ومتى بن يونس ويحيى بن عدي وابن زرعه وبن بنو موسى بن شاكر وثابت بن قرة وإبراهيم بن سنان وعمر بن الفرخان ومحمد بن موسى الخوارزمي قال ابن النديم وكان منقطعاً إلى خزانة الحكمة للمأمون وهو من أصحاب علوم الهيئة وكان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجيه الأول والثاني ويعرفان بالسند هند وبنو الصباح محمد وإبراهيم والحسن قال في الفهرست والجميع من حذاق المنجمين بعلوم الهيئة والأحكام والبتاني صاحب الزيج وحنين بن إسحق العبادي والعباد نصارى الحيرة وقسطا بن لوقا البعلبكي ويوحنا بن ماسويه وإسحق بن حنين وأبو بكر الرازي وجابر بن حيان.
وابن وحشية وابن السيد البطليوسي قال ابن خلكان وهو مجيد في كل ما صنفه ك وكمال الدين بن يونس 639 قال ابن خلكان تبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة وكان أهل الذمة يقرؤن عليه التوراة والإنجيل وشرح لهم هذين الكتابين شرحا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله وكان في كل فن من الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه وأحمد بن الطيب السر خسي قال ابن أبي أصيبعة كان متفنناً في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب حسن المعرفة جيد القريحة بليغ اللسان مليح(88/2)
التصنيف والتأليف 286 وثابت بن قرة قال ابن أبي أصيبعة لم يكن في زمانه من يماثله في صناعة الطب ولا في غيره من جميع أجزاء الفلسفة وله تصانيف مشهورة بالجودة وكذلك جاء جماعة كثيرة من ذريته ومنهم أبو سعيد ابنه سنان وأبو الحسن ثابت بن سنان وأبو علي بن زرعة وعلي بن العباس المجوسي مصنف كتاب الملكي في الطب وأبو الفرج بن الطيب وأبو الحسن بن بطلان وابن الشبل البغدادي وابن رضوان وسعيد بن هبة الله وابن جزلة وأمين الدولة بن التلميذ والبديع الاصطرلابي وأبو الخير الحسن بن سوار وأبو الفرج بن هند والرئيس ابن سينا وأبو الريحان البيروني قال ابن العبري أنه مبحر في فنون الحكمة اليونانية والهندية وتخصص بأنواع الرياضيات وصنف فيها الكتب الجليلة ومصنفاته كثيرة متقنة محكمة غاية الإحكام أبو الفرج بن الطيب قال القفطي أنه أحيا من علوم الحكمة والمنطق ما دثر وأبان منها ما خفي وقد تلمذ له جماعة سادوا وأفادوا منهم المختار بن الحسن بن عبدون المعروف بابن بطلان قال ابن بطلان إن شيخنا أبو الفرج بن الطيب بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضة كان تلفظ نفسه فيها وهذا يدلك على شدة حرصه واجتهاده وطلب العلم لعينه.
وفخر الدين الرازي وابن جلجل والغافقي الأندلسي قال ابن أبي أصيبعة وكتابه في الأدوية المفردة لا نظير له في الجودة ولا شبيه له في معناه وأمية بن الصلت وابن باجة وأبو العلاء بن زهر وابن رشد وابن الرومية وابن الهيثم والمبشر بن فاتك وله تصانيف جليلة في المنطق وغيره من أجزاء الحكمة وهي مشهورة في ما بين الحكماء الخطيب التبريزي القطب الشيرازي الإمام القزويني والجوهري وابن سيده وابن الحاجب ونصير الدين الطوسي والغزالي وابن دقيق العيد والزمخشري وسيف الدين الآمدي والبيضاوي والماوردي وابن حزم وابن البيطار ومحي الدين بن عربي وابن مجلي الموصلي وابن فلوس المارديني وابن مسكويه والمسعودي وابن خلدون وابن الأثير وأبو الفدا وابن فضل الله وأفضل الدين الخونجي قال أبو الفرج بن العبري وفي هذا الزمان أي في النصف الأول من القرن السابع كانت جماعة من تلامذة الإمام فخر الدين الرازي سادات فضلاء أصحاب تصانيف جليلة في المنطق والحكمة كزين الدين الكشي وقطب الدين المصري بخراسان وافضل الدين الخونجي بمصر وشمس الدين الخسروشاهي بدمشق وأثير الدين(88/3)
الأبهري بالروم وتاج الدين الأرموي وسراج الدين الأرموي بقونية وعبد المنعم الجلياني وابن الصلاح وموفق الدين بن المطران وشرف الدين بن الرحبي وعبد اللطيف البغدادي والصاحب أمين الدولة السامري وابن حيان البستي ابن عبد ربه بديع الهمداني الحسن بن رشيق القيرواني قال ياقوت كان شاعراً أديباً نحوياً لغوياً حاذقاً عروضياً كثير التصنيف حسن التأليف وكان بينه وبين ابن شرف الأديب مناقضات ومحاقدات وصنف في الرد عليه عدة تصانيف وأبو هلال العسكري وابن جني ذكر الضبي في بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس أن أبا علي القالي صاحب الأمالي المشهورة لما هاجر من بغداد إلى قرطبة في سنة 330 كان الأمير أبو العاصي الحكم بن عبد الرحمن من أحب ملوك الأندلس للعلم وأكثرهم اشتغالاً به وحرصاً عليه فتلقاه بالجميل وحظي عنده وقربه وبالغ في إكرامه ويقال أنه هو قد كتب إليه ورغبه في الوفود عليه واستوطن قرطبة ونشر علمه بها وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمور وبعد أن صارت إليه يبعثه على التأليف وينشطه بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام.
وذكر أيضاً في ترجمة حسان بن ملك بن أبي عبدة الوزير أحد أئمة اللغة والآداب ومن أهل بيت جلالة ووزارة نقلاً عن ابن حزم أنه عمل على مثال كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب الذي ألف في أيام الرشيد كتاباً سماه بكتاب ربيعة وعقيل قال أبومحمد ابن حزم وهو من أصلح ما ألف في هذا المعنى وفيه من أشعاره ثلثمائة بيت وكان سبب تأليفه إياه أنه دخل على المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر وبين يديه كتاب أبي السري بعجب به فخرج من عنده وعمل هذا الكتاب وفرغ منه تأليفاً ونسخاً وتصويراً وجابه في مثل ذلك اليوم من الجمعة الأخرى وأراه إياه فسر به ووصله عليه وروي أيضاً في ترجمة صاعد بن الحسن الربعي وكان عالماً باللغة والآداب والأخبار أنه كان سريع الجواب حسن الشعر طيب المعاشرة فكه المجالسة ممتعاً فأكرمه المنصور - أبو عامر الأندلسي في المئة الرابعة - وزاد في الإحسان إليه والإفضال عليه وكان مع ذلك محسناً للسؤال حاذقاً في استخراج الأموال طبناً بلطائف الشكر دخل على المنصور أبي عامر يوماً في مجلس أنس وقد كان تقدم فاتخذ قميصاً من رقاع الخرائط التي وصلت إليه فيها صلاته ولابسه تحت ثيابه فلما خلا المجلس ووجد فرصة لما أراد تجرد وبقي في القميص المتخذ من الخرائط فقال له ما(88/4)
هذا فقال له هذه رقاع صلات مولانا اتخذتها شعاراً وبكى وأتبع ذلك من الشكر ما استوفاه فأعجب ذلك المنصور وقال له لك عندي مزيد وكان قد حظي عنده بما ألف له من الكتب علي بن الحسين الأصبهاني الشريف المرتضى القاضي الجرجاني علي بن عبيدة الريحاني أبو حيان التوحيدي صاحب المقابسات ابن الجوزي ابن قيم الجوزية ابن تيمية ابن العميد ابن القفطي القلقشندي والنويري وإبراهيم بن الحصري صاحب زهر الآداب قال ياقوت وله تآليف جيدة في ملح الشعر والخبر أبو علي الفارسي أبو حنيفة الدينوري أبو العلاء المعري وابن النديم والجاحظ والحريري ابن الصائغ أبو بكر بن زهر القاضي أبو الفرج المعافي قال ابن خلكان كان فقيهاً أديباً شاعراً عالماً بكل فن وله عدة تصانيف ممتعة في الأدب وغيره وكتاب الجليس الأنيس تصنيفه أيضاً 390 واصل بن عطاء ياقوت الحموي يحيى بن أكثم ابن السكيت ابن عبد البر وابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة وابن الأنباري عبد القاهر الجرجاني أبو إسحق الأسفراييني قال ابن خلكان أخذ عنه العلم والأصول عامة شيوخ نيسابور وأقر له بالعلم أهل العراق وخراسان وله التصانيف الجليلة 418 أبو إسحق الشيرازي قال ابن خلكان أنه صنف التصانيف المباركة المفيدة 496 أبو حامد الأسفراييني 406 وابن زيدون والصلاح الصفدي أبو الفضل الميداني صاحب كتاب الأمثال 518 القاضي الفاضل الثعالبي صاحب اليتيمة القاضي عياض قال ابن خلكان صنف التصانيف المفيدة قال وبالجملة فكل تواليفه بديعة القاضي الباقلاني أبو الحسين البصري له التصانيف النائقة في أصول الفقه وانتفع الناس بكتبه الحاكم النيسابوري قال ابن خلكان إمام أهل الحديث في عصره والمؤلف فيه الكتب التي لم يسبقه إلى مثلها 405 وابن دريد صاحب الجمهرة وأبو بكر الأنباري 328 أبو عبد الله المرزباني صاحب التصانيف المشهورة 378 المسبحي - بالباء لا بالياء - صاحب التاريخ المشهور وغيره من المصنفات420 لسان الدين بن الخطيب أبو العباس القرطبي انتفع الناس بكتبه وأجاد فيها عيسى بن دينار الأندلسي صاحب كتاب الهداية الذي يقوا فيه ابن حزم أنه أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم وأجمعها المعاني الفقهية مالك بن علي الفهري صاحب القصي أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد صاحب التفسير الذي قال فيه ابن حزم أنه الكتاب الذي أقطع قطعاً لا استثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله ولا تفسير محمد بن(88/5)
جرير الطبري ولا غيره وإن تآليفه قواعد الإسلام لا نظير لها ومن الأندلسيين أيضاً القاضي منذر بن سعيد وأبو محمد قاسم بن أصبغ ومحمد بن عبد الملك بن أيمن ويوسف بن عبد البر وأبو الوليد الفرضي وابن سعيد المؤرخ والقاضي محمد بن لبابة والقاسم بن محمد المعروف بصاحب الوثائق وإسماعيل بن القاسم وابن القوطية وابن التياني وأحمد بن فرج وأبو الحسن الكاتب وأحمد بن محمد بن موسى الرازي وحسين بن عاصم وإسحق بن سلمة الليثي وأبو مروان بن حيان صاحب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس نحو عشرة أسفار قال ابن حزم هو أجل كتاب ألف في هذا المعنى وله كتاب المتين في التاريخ وهو في ستين مجلدة محمد بن عاصم قال ابن حزم وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحق وهي كتب حسان رفيعة وكتب محمد بن الحسن المذحجي المعروف بابن الكتاني وهي كتب رفيعة حسان وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش الزهراوي ولئن قلنا أنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقن وفي الفلسفة كتب سعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار وأبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي وفي الأزياج مسلمة وابن السمح وأحمد بن نصر ومحمد بن عطية الغرناطي الحميدي والباجي وابن بشكوال ابن بسام صاحب الذخيرة أبو القاسم صاعد بن أحمد الطيطلي عريب بن سعيد القرطبي أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري صاحب كتاب المسهب في فضائل المغرب لم يصنف في الأندلس مثل كتابه أبو عبد الله بن أبي الخصال الشقوري صاحب سراج الأدب وأبو عبيد البكري صاحب كتاب اللآلي وابن السيد البطليوسي وابن عصفور الإشبيلي النحوي وابن الطراوة والسهيلي وابن خروف وأبو عبيد البكري الأونبي صاحب كتابي معجم ما استعجم والمسالك والممالك وأبو علي الشلوبين وابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان المقدم في علم الفلسفة أبو عمر الداني ابن جبير صاحب الرحلة أبو علي القالي صاحب الأمالي قال الضبي وكانت كتبه على غاية التقيد والضبط والإتقان وقد ألف في علمه الذي اختص به اللغة والأدب تواليف مشهورة تدل على سعة روايته وكثرة إشرافه وقالوا لئن كان كتاب أبي العباس المبرد أي الكامل أكثر نحواً وخبراً فإن كتاب أبي علي - النوادر - أكثر لغةً وشعراً ومن كتبه في اللغة البارع كاد يحتوي على لغة العرب وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف في بابه مثله(88/6)
توفي أبو علي سنة 356 0(88/7)
رومانيا وملكها
رومانيا إحدى ممالك البلقان بل رأسها عل التحقيق لفتت أنظار العالم في العهد الأخير بدهائها وحسن سياستها واستفادتها من مغانم الحلفاء البلقانيين بدون أن تهرق دماً أو تصرف وقتاً ومالاً في الاستعداد لإهراقه فهي اليوم مملكة في أوربا الشرقية شمالي شبه جزيرة البلقان تحدها من الشمال بلاد النمسا والمجر وروسيا ومن الشرق روسيا والبحر الأسود ومن الجنوب بلغاريا ومن الغرب صربيا والنمسا وكانت مساحتها قبل الحرب الأخيرة 131. 353 كيلومتراً مربعاً وسكانها 7248061 نفساً فأصبحت بعد الحرب البلقانية 138. 878 كيلومتراً وسكانها 7. 533. 818 نفساً - المقتبس م8ص102 - أصل سكان رومانيا مزيج من عناصر مختلفة وكان يسكنها قبل الفتح الروماني الداسيون والجتيون ولما فتحها الإمبراطور تراجان الروماني أقام فيها عدة مستعمرات عسكرية جاء بها من إيطاليا فنزلت بين سكان البلاد وبعد حين جاءها كثير من المجر والصقالبة فأدخلوا فيها لهجاتهم ثم ورد عليها زمر من الشغان - النور أو الغجر - يبلغ عددهم مائتي ألف نفساً ووافاها أربعمائة ألف إسرائيلي هاجروا من روسيا وبولونيا وذكاء الروماني حاد وله ميل عظيم إلى الشعر والموسيقى والفنون والسواد الأعظم من السكان هم روم أرثوذوكس ولكن جميع المذاهب حرة.
وبلاد رومانيا زراعية وأهم مواردها تربية الحيوانات والزراعة راقية في الأودية أكثر من الجبال وهذه للمراعي وتربية البهائم وهي ناجحة في إقليم البغدان أكثر من إقليم الأفلاخ وأهم محصولاتهم القمح والشعير والذرة والكرم والأشجار المثمرة كالمشمش والخوخ الذي يستخرج منه عرق جيد ومن مواردها الخشب الذي يقلع من غاباتها الكثيرة ويقل المستخرج من فحمها الحجري والفحم المعدني وغيرها من الفحوم المعدنية وفيها الكرانيت والبترول والملح وفيها صنائع لا بأس بها مثل صناعة الزجاج والنساجة والمناشير الميكانيكية في البلاد الجبلية ويعمل في بعض المدن النسيج والجوخ وغير ذلك ولكت رومانيا لما كانت تصدر من حاصلاتها الأرضية شيئاً كبيراً على ما سيجيء اضطرت إلى أن تستبضع البضائع الثمينة وتبتاع أدواتها وآلاتها من بلاد النمسا والمجر وألمانيا وإنكلترا.
وقد أخذت تجارة هذه البلاد بالارتقاء فتجاوزت وارداتها منذ سنة 1900 إلى 1911 من(88/8)
217 إلى 410 ملايين والصادرات من 280 على 610 وأصبحت زراعتها بفضل القوانين الزراعية الرشيدة غاية الغايات وزاد المزروع من أراضيها وأخذت غلاتها تزيد سنة عن سنة وقد زاد سطح المزروع من أراضيها في الخمس سنين الأخيرة من 3 ملايين إلى 6 ملايين هكتار ومجموع سطح رومانيا 13. 072. 000 هكتار وبلغ صافي أسعار الحاصلات سنة 1911 - 1912 ملياراً و394 مليون فرنك ومع كل هذا فالفلاح الروماني لقلة ما لديه من النقود لم يستطع حتى الآن أن يبتاع الأدوات الزراعية الحديثة كالحصادة والدراسة الميكانيكية والسكك البخارية لغلاء أسعارها ولكن كبار أرباب الأملاك قد ربحوا منها أرباحاً طائلة.
وتاريخ الفلاح أو نصف رومانيا اليوم مثل تواريخ الممالك الصغرى لا يعرف عنه إلا الشيء القليل وقد ذكروا أن مؤسسها الحقيقي هو ميرتشا (1386 - 1481) وهو الذي حالف الصرب لقتال العثمانيين الذين كانوا إذ ذاك يهددون أوربا بالهجوم عليها فهزمه السلطان مراد وأخذ أسيراً إلى بورصة فاضطر فدية عن نفسه أن يعلن بأن بلاد الفلاخ خاضعة للدولة العثمانية سنة 1391 ولما عاد إلى بلاده عقد محالفة مع البولونيين والمجريين لصد هجمات العثمانيين ثم انهزم في موقعة نيكوبولي 1396 وعاد فظفر في روفيين على جيش السلطان بايزيد وقاتل إخوة هذا السلطان قتالاً شديداً وضم إلى بلاده جزءاً من بلغاريا وإقليم سلستريا ودوبريجة وكان أول امتياز ناله من الدولة العلية هو أنها لا تتدخل في مسائل رومانيا الداخلية ولا في انتخاب أمرائها وبعد موته عاد أولاده ففتحوا أبواب بلادهم للعثمانيين من أجل تاج رومانيا فوقعت بين الغالبين والمغلوبين وقائع كثيرة كانت الحرب فيها سجالاً حتى قيض العثمانيون على قياد البلاد وما برح الأمر كذلك حتى تولى الحكم في رومانيا الأمير ميشيل الشجاع 1593 - 1601 بطل الفلاق المشهور فقد قاتل جيش السلطان محمد الثالث وظفر بأميري ترانسلفانيا والبغدان والجيوش الألمانية فنادى بنفسه أميراً على الأفلاق والبغدان وترانسلفانيا ولم يكن حلفاؤه مثله وأضاعوا تراثهم فصار نهباًً.
أما تاريخ موالدفيا أو البغدان فهو أيضاً يبدأ من أوائل القرن الرابع عشر للميلاد وكانت تخضع تارة لملوك المجر تتقاذفها أهواء جيرانها بحسب أحوالها الداخلية وعلى نسبة متانة(88/9)
أمرائها أو أفن آرائهم وضعف نفوسهم حتى إذا ملك أمرها أتين الرابع الملقب بأتين الكبير ضرب ماتيا كورفين ملك المجر الذي جاز جبال الكاربات إلى بلاده وضرب التتار ضربة شديدة في راكوفا وقاتل جيش سليمان باشا الذي كان مؤلفاً من 120 ألفاً وهزم ملك بولونيا سنة 1457 شر هزيمة وحاول أن يعقد حلفاً شرقياً ضد العثمانيين فلم يفلح ولما مات أوصى أولاده أن يخضعوا للدولة العلية فصدعوا بلأمر حتى زمن الأمير باسيل الذئب الذي كان معاصراً لماتيو بازاراب وعمل لإمارته كما عمل هذا لإمارة الفلاق ومنذ سنة 1658 إلى سنة 1685 تولى زمام هذه الإمارة أحد عشر أميراً منهم ثمانية أروام فأصبح كل شيء رومياً أو يوشك أن يكون كذلك في تلك الإمارة بل دام ذلك في الإمارتين إلى سنة 1821 أيام ثار الرومانيون وطردوا الأمراء اليونان وأقاموا أمراءهم الأصليين غريغوريوس جيكا في البغدان وجان ساندوستورزا في الفلاخ (1822 - 1828).
ولما أعلنت روسيا الحرب على الباب العالي سنة 1828 أخذت تحتل الإمارتين المذكورتين وأقامت فيهما حكومة موقتة وبعد أن عقد الصلح في أدرنة سنة 1829 كان من شروطه أن تبقى الأفلاق والبغدان في يد روسيا ريثما تستوفي الغرامة الحربية البالغة عشرة ملايين دوكا وظلت روسيا في البلاد ست سنين عملت في خلالها على تنظيم داخليتها وأدخلت إليها دستوراً عرف باسم اللائحة الأساسية ودعي كل من الأميرين المومأ إليهما إلى تطبيق هذا القانون وإذ كان من شأنه أن يخنق كل دعوة وطنية رومانية ثار الرومان في 7 حزيران 1848 فكبح جماحهم في البغدان للحال ولكن امتدت ثورتهم في جميع بلاد الفلاة ونادوا بأميرهم رئيساً لعصابات الثورة ضد روسيا فاضطر الأمير أن يجيبهم إلى رغائبهم وأن يوقع على أمر يقضي بإلغاء القانون الذي وضعته روسيا ثم غادر البلاد وبعد ذلم وقع الاتفاق بين روسيا والدولة العثمانية على أن يعين للبلاد أمير كل سبع سنين يكون له حق تعيين الدواوين والعمال فاضطر الثائرون من الرومانيين أن يهاجروا من بلادهم فأخذوا يطوفون في أوربا ويقنعون رجال سياستها بمراميهم فكثر منهم أنصارهم ومن جملتهم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا إذ ذاك وكان من معاهدة باريز 1856 أن قضت على حماية روسيا لرومانيا وكان من عهدة باريز بعد سنتين أن منعت الباب العالي من التدخل في شؤون رومانيا أي في انتخاب العمال والنظر في الواوين وفي ذاك العهد تم(88/10)
للأفلاق والبغدان ما تريدان من الاتحاد الوطني فانتخب لهما أمير واحد وهو إسكندر كوزا (1859) وبعد سنتين أعلن هذا الأمير وحدة الإمارتين وأن يكون لهما مجلس نواب واحد مركزه في بكرش (1861) وعند ذلك بدأ دور إصلاح في البلاد وأهمه إلغاء الاستعباد فشق ذلك على طبقة الأشراف أصحاب الأملاك وما برحوا يدسون دسائسهم حتى اضطروا أميرهم إلى التخلي عن إمارته سنة 1867 وجعل شارل هوهنزولرن ملكاً عليهم وكان من نتائج الحرب العثمانية الروسية سنة 1877 أن أضاعت رومانيا إقليم بسارابيا وتخلت عنه إلى روسيا لقاء إقليم دوبريجه ولكن استقلالها تم أمره 1878.
خلف البرنس شارل هوهنزولرن الأمير كوزا أمير الأفلاق والبغدان في 18 أيار 1866 عقيب تنازل هذا عن الإمارة ودخل بكرش عاصمة رومانيا باحتفال جرى له مثله في جميع البلاد التي اجتازها منذ الحدود وبعد ستة أشهر ذهب إلى الأستانة ليأخذ البراءة بتنصيبه على نحو ما كانت عادة السلطنة العثمانية مع أمراء الفلاق والبغدان منذ القديم ولكن الأمير الجديد أبدى شمماً في مقابلته لحضرة السلطان في قصر طولمه باغجه وحدثته نفسه أن ينزع عن بلاده حماية الدولة وكان أول عمل له استحصال رضا الدولة بافتراض رومانيا مبلغ ثمانية عشر مليون فرنك من باريز ولكن بشرط فاحش قضي عليها به أن تدفع 13 في المئة رباً فدفعت في ثلاث وعشرين سنة اثنين وثلاثين مليوناً وكانت أخذتها ثمانية عشر.
وطفق الملك شارل يبذل الصبر والأناة وحسن السياسة وبعد النظر والجرأة والروية واللين ما كان به للبلاد استقلالها ثم قوتها ثم نفوذها وكم من عراك دخل غماره فأوشك أن يودي فيه وما ملكت يداه وقد كاد يتخلى سنة 1871 عن العرش الروماني زين له ذلك الأمير بسمارك الألماني ووالده ولكن من الرجال من تنفعهم المحن وتقوي عزائمهم وتمتن أخلاقهم فلما قنط من حاله لم يبق أمامه سوى الثبات إلى النهاية فثبت وحل المجلس الذي كان يحول دون رغائبه فزال كل إشكال.
ولقد كتب في مفكراته الخاصة أن الأنواء العظيمة كانت تقذف بسفينتي صعوداً وهبوطاً ولكن الله حماني فلم أسلم النفس للغرق وأن البحارة لتريد عن رضا إلى اليوم أن تلقي بي من حالق ولكن قسماً منها يدرك بأن في استطاعتي أن أقود السفينة إلى مرفأ أمين فقد(88/11)
جعلت نصب عيني مسألتين أن أخرج من هذا المأزق واسمي طاهر لم يدنس وأن لا أطمع بحال من الأحوال في أن أترك من بعدي الطوفان بدون ذمة ولا قلب.
قاتلت رومانيا في بلافنا أي في الحرب الروسية العثمانية فظنت أنها بذلك تساعدها أوربا على استقلالها بتاتاً ولكن لم يكتب لها ذلك إلا سنة 1878 على شرط تجنيس الإسرائيليين فيها بالجنسية الرومانية وإصلاح بعض مواد من قانونها الأساسي وفي 25 أيار 1881 نودي بشارل الأول ملكاً على رومانيا أي صار مستقلاً عن وصاية أية حكومة له ولبلاده فكان أكبر همه أن يحسن موارد بلاده الاقتصادية ويعلم أمته ما يخرجها من الظلمات إلى النور فنشط التعليم العام ونشر اللغة الرومانية وحرر الكنيسة من الخضوع لغيرها واعترفت لها بطريركية الفنار سنة 1885 باستقلالها ثم أنشأ الخطوط الحديدية وابتاعتها الحكومة كلها وحسن الصناعة وعني عناية خاصة بترقية الزراعة وحدد الديون العمومية قام بذلك عقيب أن بويع له بالملك وذلك في دور كثرت فيه الاضطرابات والدسائس السياسية وتعدى العمال أطوارهم ولكن نفوذ الملك قد عدل من تكالب الأحزاب فانقلب تطاحنها إلى مناقشات لطيفة وتحسنت الأخلاق وتدمثت وكان الموظفون قديماً يبدلون عند كل تغيير في الحكومة فأصبحوا بعدها أمناء على مراكزهم وأصبح لهم استقلال وطمأنينة فكان من تثبيت أقدام الموظفين في وظائفهم والمثابرة على الأوضاع على وتيرة واحدة بإنقاذها من المؤثرات السياسية أعظم واسطة لإحياء البلاد حياة طيبة باقية.
ومملكة هذا حالها وعملها قام بها ملك هو جندي وله أخلاق الجند من فطرته وله جيش قوي من ورائه مالية ناجحة لا تستطيع أن تسكت على ما ناله الحلفاء البلقانيون من المغانم وافتتحوه من الأراضي فأخذ الشعب يطلب حصته من المغنم في البلقان في حربها الأخيرة وكانت كلمة مليكهم حاجزاً دون التدهور فأبدت رومانيا طرفاً من التهديد فيما إذا تغيرت خريطة البلقان لأن في توسع البلغار في بلادها تهديداً لرومانيا فطلبت رومانيا إقليم سلستريا من البلغار فأبدت حكومتهم كبراً وعتواً وصرح رئيس مجلس بلغاريا أن أمته لا ترضى بالتخلي عن سلستريا فقال له ملك رومانيا لقد وقع لي في مدة حكمي أربعين سنة إن كنت أسير خلافاً للرأي العام أحياناً لأني كنت أرى في ذلك مصلحة بلادي فعلى رجال السياسة أن يعرفوا في بعض الأوقات كيف يعزمون عزماً ضرورياً يخالفون فيه شعور(88/12)
السواد الأعظم الذي يكون على غير سداد.
وظلت بلغاريا على عتوها سكرى بخمار النصر الذي أحرزه جنودها وأضاعه سوء تدبير رجالها فلم تقبل بمقترحات الدول عليها بشأن تسليم سلستريا لرومانيا وغير ذلك من التسامح فاضطرت رومانيا لإعلان الحرب عليها يوم 3 تموز فجندت في عشرة أيام 467 ألف جندي مما دهش له العالم وتقدم جيشها واجتاز الطونة وحط رحاله أمام صوفيا عاصمة البلغار فعقد الصلح في بكرش بعد أسبوعين على صورة كان فيها الحيف على بلغاريا التي تركت من أرضها نحو ثمانية آلاف كيلومتر مربع فيها 308 آلاف ساكن وهو نفع مادي قليل لكنه من الوجهة المعنوية كبير جداً وأقل ما فيه أن رومانيا أحرزت لها نفوذاً على حلفائها وسلطة وسعها اعتدالها في مطالبها ويرجع الفضل في عقد الصلح بسرعة إلى ملكها شارل فإنه لم يقع بعد انتصاره فيما وقعت فيه بلغاريا عقيب انتصارها من الجبر والاشتطاط والطمع بل أبدى من النصفة والاعتدال وكرم الأخلاق مع المغلوبين البلغاريين ما جعله وهو شيخ ملوك البلقان حكمها الذي لا ينازع ولم تتردد أوربا أن تمنحه هذا اللقب معترفة له بجميله.
ولكن الممالك كالأشخاص قد لا تتم لها سعادتها ولا تنتهي أطماعها فإن رومانيا مع أحرزته مؤخراً من المنافع وكسبته من الصيت الحميد بين الدول لا تزال تحلم بأن تضم إليها الثلاثة ملايين والنصف مليون من الرومانيين الذين هم في حكم النمسا والمجر وتطالب المجر باستعادة إقليم ترانسلفانيا إليها لأن الرومان فيه يؤلفون الأكثرية ونفوسه 1. 472. 000 بحسب إحصاء المجر و2. 500. 000 بحسب إحصاء الرومان وكان هذا الإقليم ضم إلى المجر سنة 1867 على الرغم من وعد الإمبراطور فرنسيس يوسف بأن يترك لرومانيا استقلالها قبل ذلك بأربع سنين ومنذ ذاك العهد والعراك قائم بين الرومان المستعبدين وبين حكومة المجر فإن هذه الحكومة تحاول بقوة عمالها أن تمجرهم أي تجعلهم مجراً بلسانهم ومدنيتهم وهم يأبون إلا البقاء على لغتهم ومناحيهم فلا تستطيع رومانيا رسمياً أن تنشط رومان المجر ولكنها بصورة غير رسمية تكتب جرائدها وتعمل جمعياتها أعمالاً من شأنها الوصول بأبناء لسانهم المنفصلين عنهم إلى ضمهم إليهم أو استقلالهم عن هنغاريا فرومانيا ترمي سراً إلى إنشاء مملكة رومانية يدخل تحت لوائها كل من يتكلم(88/13)
بلغتها وهذا من خيالاتها التي يحملها عليها شعبها والسياسة تحول دونه بإسداد.
ومع هذا فإن مملكة رومانيا قد ختمت بسنة 1913 إحدى الفصول المملوءة بتاريخها فوسعت أرضها بدون إهراق دماء ووضعت أوزار حرب يمكن أن يحدث من طولها لأوربا عواقب سيئة وكانت بحكمتها وصبرها واعتدالها حكماً بين البلقانيين فالبلقان مدينة لها بالسلام وأوربا براحتها نعلم أن صحيفتها حسنة وأجمل منها أن تكتب بدون ترميج ولا حذف ويحق لعاهلها الشيخ أن يفاخر فخراً مازجه الاعتدال بنجاح سياسته في بلاطي فينا وبرلين.
نكتب هذا وقد زار هذا الربيع عشرات من تلامذة دار الفنون أي جامعة الأستانة مدينة بكرش وتعرفوا إلى طلبة كليتها وزار هؤلاء أيضاً الأستانة وتعرفوا بطلبتها والحكومتان العثمانية والرومانية تتقاربان وتتعاطفان.(88/14)
عنوان المجد
في تاريخ بغداد والبصرة ونجد
تنافس فطاحل المؤرخين في الكتابة عن بغداد وتاريخها وأقسامها ودورها وقصورها ورجالها وفلاسفتها ومدارسها ومعاهدها وذلك لبعد شهرة هذه المدينة الطيبة التي ظلت خمسة قرون مهد الحضارة ومهبط المدنية وكعبة العلم والعرفان ومقر الدولة الإسلامية فبلغ عدد من ألفوا في هذا الموضوع المئات والألوف إلا أنه لم يبق من تصانيفهم غير قسم قليل في دور الكتب العراقية فإن أكثرها ذهب ضياعاًً وأكل عليها الدهر وشرب فمنها ما صار طعمة للنار أو ألقي في الأنهار ومنها ما اقتنته الإفرنج بوسائل شتى فازدانت بها معاهدهم ومكتباتهم ولقد رأينا كثيراً من علماء المشرقيات يطوفون هذه الديار قادمين إليها من القاصية للبحث والتنقيب عن آثار الحضارة العربية والإطلاع على ما في دور الكتب من نفائس الكتب ونوادر المخطوطات باذلين في سبيل غايتهم اللجين والنضار فالنسخة النادرة التي عسر على المستشرق ابتياعها أو استنساخها عمد إلى أخذ تصويرها الشمسي مهما كلفه ذلك تعباً ونصباً كذلك رأيناهم يعملون في بعض الأعلاق النفيسة التي ضمتها جدران خزائن كتبنا وأهملنا العناية بها والانتفاع منها وهكذا دأب الغربيون في سلب ذخائرنا وكنوزنا وآثارنا للوقوف على سر مدنية بلادنا القديمة فأصبحنا ونحن عالة على المغاربة حتى في الكتابة عن تاريخ بلادنا وحضارتها وعمرانها ورجالها وملوكها.
ومن الكتب التي أسهب مؤلفوها في تاريخ بغداد وأجادوا في وصف ما كانت عليه من الجلالة والعمارة في الدولة العباسية كتاب تاريخ بغداد تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي المعروف بالخطيب المتوفى سنة463هـ - 1070م وهو كتاب ضخم في أربعة عشر مجلداً أسهب مؤلفه في تراجم علماء الزوراء وأدبائها ومن ورد إليها من الرجال العظام وقد ضم إليه فرائد وخرائد يضيق بنا المقام عن سردها وتبيانها ومنه الآن نسخة كاملة في خزانة السيد عبد الرحمن أفندي نقيب أشراف بغداد وخزانة هذا الزعيم من أغنى خزائن الكتب في هذا القطر ففيها نحو خمسة آلاف مجلد نصفها أو أكثر من النصف مخطوط وغير مطبوع وكل ما فيها نفيس نادر ناهيك أنه توارثها عن أسلافه القدماء منذ نحو أكثر من قرنين ونصف قرن ويقال أنه يوجد من هذا التاريخ الكبير نسخة تامة في كل(88/15)
من المتحف البريطاني بلندن والمكتبة الأهلية في باريس وهناك أجزاء متفرقة مبعثرة توجد اليوم في مكتبة برلين ومكاتب الأستانة العمومية وفي المكتبة الخديوية وبعض خزائن أعيان العراق وهذا السفر النافع فريد في أبحاثه وحيد في تبويبه وترتيبه ولم يقصره المؤلف على الشؤون التاريخية وسرد الواقع والأخبار بل ملأه بكل شاردة وواردة تتعلق بالتاريخ والجغرافيا والتراجم والآثار فهو سفر تاريخي جغرافي أثري يغنيك عن البيان أن مؤلفه ذلك الحبر العلامة الذي طبقت شهرته الخافقين وقد لخص هذا الكتاب الضخم أحد علماء القرن الخامس مسعود بن محمد البخاري بعد أن زاد عليه شيئاً كثيراً من الحوادث والأخبار التي عرفها بنفسه واعتمد فيها على أمهات الكتب التاريخية وهناك عدد كبير من مؤلفات المتقدمين في أحوال بغداد عروس البلاد الشرقية كتاريخ بغداد لأحمد بن طيفور البغدادي وهو أقدم تاريخ لدار السلام وكتاب - البيان - تأليف أحمد بن محمد بن خالد البرقي الكاتب الكبير وهو حافل بمحاسن دار السلام وذكر أطلالها ودوارسها وهذا ما يدل على مبلغ عناية المتقدمين بأحوال هذه العاصمة الكبرى ولو أردنا أن نستقصي كل ما ألف في هذا الموضوع لاحتجنا إلى مجلد ضخم ولما دخلت عصور الحروب والكروب والفتن والمصائب اشتغل الناس بحالة البلاد السياسية عن التأليف ومزاولة العلوم حتى قل من كتب عن بغداد في القرن الثامن والتاسع والعاشر أو سعى إلى تدوين ما تعاقب عليها من الأدوار التاريخية ولولا عناية بعض الأسر الكريمة كأسرة الألوسي والسويدي والحيدري بتاريخ البلاد واحتفاظها بما عثرت عليه من الآثار القديمة ونبوغ أبنائها واشتغالهم بالتأليف والتصنيف لبقي ذكر هذه المدينة خاملاً ولنوسي تاريخها واضمحلت آثارها وفقدت مكانتها.
وقد اشتهر في القرنين الأخيرين جمهور من كبار العلماء المدققين الذين عاهدوا الله على خدمة الأمة والدين والوطن بعقولهم ومواهبهم وهم الذين أوجدوا هذه الحركة العلمية المباركة وأحيوا ميت الآمال وبعثوا في النفوس الخاملة عوامل السعي والعمل فقام من بينهم المؤلف الفاضل والفيلسوف الكامل والفقيه المحدث والمفسر الكبير والمتشرع الخطير والكاتب النحرير وكل منهم سار في الطريق التي اختارها لنفسه وحصر أوقاته في إتقان العلم الذي رغب فيه فغصت بتلامذتهم أندية العلم والمدارس وازدهت بهم دار السلام فعاد إلى البلاد رونقها وبهاؤها وكان من جملة المصنفين في تاريخ بغداد ثلاثة أعلام: 1 -(88/16)
السيد إبراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري البغدادي صاحب تاريخ عنوان المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد ويوجد منه الآن أربع نسخ خطية الأولى بخط المؤلف وهي موجودة في المكتبة الخالدية - نسبة إلى الشيخ خالد النقشبندي - والثانية في خزانة العلامة السيد محمود شكري الألوسي والثالثة في مكتبة دير مبعث الكرملين والرابعة هي النسخة التي بأيدينا ونريد أن نتكلم عنها الآن. 2 - الشيخ عبد الرحمن زين الدين بن الشيخ عبد الله الويدي البغدادي المتوفى سنة 1200هـ - 1776م مؤلف كتاب حديقة الزوراء وهو تاريخ جليل في ثلاث مجلدات ضخام يدور ما فيها حول ما وقع في العراق من وقائع العصور المتأخرة في زمن ندر فيه المؤلفون والكاتبون والمدونون للوقائع التاريخية ولولا هذا المصنف الجليل لضاع تاريخ هذا القطر الحديث ولا توجد منه إلا نسخة في خزانة السيد عبد الرحمن النقيب. 3 - هو حيد عصره السيد محمود شكري الألوسي صاحب كتاب بلوغ الأرب في أحوال العرب الذي أعجب به علماء الفرنجة أيما إعجاب وأحرز قصب السبق على سائر المؤلفات في هذا المضمار وللعلامة المشار إليه تاريخ مفيد عن بغداد دعاه كتاب أخبار بغداد وما جاورها من القرى والبلاد جاء في أربعة مجلدات بحث فيه بحث العالم المدقق والمؤرخ المحقق عن تاريخ دار السلام ومدن العراق وما كان لها من القصور الشاهقة والأبنية السامية وأشبع الكلام على تراجم أدباء الزوراء وأكابر أعيانها وزهادها ومدارسها ومعابدها.
وكتاب تاريخ المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد من الكتب النفيسة النادرة التي قل من نسج على منوالها والمؤلف معروف لدى علماء العراق بسعة الاطلاع وطول الباع في المسائل التاريخية وهو ينتمي إلى أسرة شريفة المحتد عريقة في النسب هي أسرة الحيدرية ويتصل نسب جده الأعلى بموسى الكاظم وإلى هذه الأسرة تنسب الدولة الصفوية في فارس لأن جد الحيدرية أحمد الأعرابي كان من بادية الحجاز فتحضر في المدينة وهاجر بعض من سلالته إلى العراق وهم الذين نشأ منهم المؤلف المشار إليه والبعض الآخر إلى بلاد ما وراء النهر ومنهم نشأت الدولة الصفوية واتصال هذه الدولة بالحيدرية يرتقي إلى الشيخ صدر الدين ابن قطب الشيخ صفي الدين أبي الفتح إسحق وكان الصفويون على مذهب أجدادهم مذهب السنة والجماعة ثم تشيعوا لغايات سياسية اقتضتها حالة عصرهم والشاه(88/17)
إسماعيل أول من حاد عن مذهب أسلافه فإنه انتحل المذهب الجعفري ظناً منه أنه بذلك يقهر عدوه السني السلطان سليم خان وكان السلطان حسن الأبلخاني المعروف في كتب الأتراك التاريخية بأزون حسن حسن الطويل الذي ملك بغداد وآمد ديار بكر وخراسان ونواحيها فرعاً من هذه الشجرة الطيبة.
وكان الشيخ إبراهيم فصيح الحيدري من مشاهير هذه العائلة وأكابر أعيان بغداد على عهده وتصدر في المدارس لتدريس علوم الدين وكان مبرزاً في الفقه والتفسير والتاريخ والمنطق توفي سنة 1299هـ - 1881م ولم نعثر على سنة ولادته وله مؤلفات عديدة وكتابه عنوان المجد من أجلها قدراً وأبعدها شهرة والنسخة التي أمامنا قد بلغت صفحاتها 478 كتب في كل صفحة 20 سطراً والسطر مؤلف من تسع كلمات وقد ألف كتابه هذا في البصرة الفيحاء قال بعد البسملة والصلاة على رسول الله يقول العبد الفقير المحتاج إلى عفو ربه السيد إبراهيم فصيح بن السيد صبغة الله الحيدري البغدادي إني قبل هذا سافرت من بلدي مدينة دار السلام إلى دار الخلافة القسطنطينية حماها من كل سوء رب البرية ومنها إلى مصر والحجاز وعدت إليها ثانياً لأستوفي الوقوف على بدائعها بالحقيقة لا بالمجاز ثم خرجت منها إلى الديار السورية وبعض البلاد الأناضولية فاطلعت على تلك البلاد وأحوال العباد ثم رجعت إلى بلدي مدينة السلام ذات الثغر البسام ومكثت فيها بين أهلي وأحبابي غير قليل من الأعوام حتى رمتني الأقدار بسهام النيابة إلى البصرة المسماة بخزانة العرب وقبة الإسلام فلما وردتها ورأيت ما فيها من عجائب الأنهار وغرائب النخيل والأشجار الممتنعة الحد والحصر مع ما فيها من المد والجزر في اليوم مرتين بحيث تمتلئ الأنهار والسواقي وكل عين وقد آلت إلى الخراب فلم يبق منها إلا الاسم واندرست آثارها فلم يبق إلا الرسم أحببت أن أؤلف كتاباً في بيان أنهارها ونخيلها وأشجارها وبيان بيوتاتها القديمة من ذوي الثروة العظيمة مع بين أحوال بغداد وإن كنت قبل هذا قد ألفت في دار الخلافة كتاب أحسن السلام في دار السلام إلا أني أردت أن أجمع أحوال البلدتين في هذا الكتاب وأحوال أراضي نجد وقبائله وما يليه من البلاد مع تصدير الكتاب ببعض ما ذكره الحكماء في سياسة الملوك فشرعت في ذلك ورتبته على مقدمة وثلاث مسالك وخاتمة. . . وقد تكلم في المقدمة عن سياسة الملوك والسلاطين في رعاياهم وذكر الأحاديث النبوية(88/18)
والآيات الشريفة المنزلة في تدبير الملك وسياسة البلاد والعباد فأفاض في هذا الباب أحسن إفاضة وإليك بعض ما قاله:
. . العدل من أعظم الأركان التي بها قوام السلطنة والملك ودوام الدولة فإنه ميزان الله تعالى في الأرض الذي يأخذ به للضعيف من القوي والحق من الباطل قال الله تعالى إن الله يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر يعظكم لعلكم تذكرون. وقد شبهوا الملك بالرجل واعتبروا السلطان رأسه والوزير قلبه والأعوان يديه والرعية رجليه والعدل روحه وهو موجب لاجتماع الرعية على محبته المفضي إلى استقامة أمره ونظام ملكه وإذا عدل السلطان قرب منه وصلح له وعدة السلطان ثلاثة أمور مشاورة النصحاء وثبات الأعوان وترويج سوق العدل ثم العدل ينقسم إلى قسمين قسم إلهي جاءت به الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الله تعالى وهو الشرائع وقسم يشبه العدل وهو السياسة الاصطلاحية ويستحيل أن يدوم بقاء السلطان أو تستقل رعية في حالة إيمان أو كفر بلا عدل قائم ولا ترتيب للأمور ثابت ووافقت حكماء العرب وغيرهم على هذه الكلمات فقالوا الملك بناء والجند أساسه فإذا قوي الأساس دام البناء فلا سلطان بلا جند ولا جند بلا مال ولا مال إلا بالعمارة ولا عمارة إلا بالعدل فصار العدل أساساً لسائر الأساسات. . ثم أشبع الكلام عن الفقهاء والقضاة والتجار والرعية والخراج ومصالح الدولة ودواوينها مما دل على سعة خبرة وغزارة فضل وبعد غور في الشؤون الاجتماعية ثم أسهب في فضل العلم وحملته وحث الناس على تلقنه وتكلم باختصار عن الكيمياء والهندسة والحساب والجبر والسيمياء والنجوم والموسيقى والفلسفة إلى غير ذلك من الأبحاث الشائقة الرائقة.
وكتب في المسلك الفصل الأول عن فضائل بغداد وبنائها وبانيها وبيان سواد العراق وخراجه وعشره وأنهار الزوراء وجسورها وعشائرها وأكابرها المعاصرين له وغير ذلك مما يتعلق بأحوال بغداد ومما أفاض في ذكره وبعد من جملة حسنات كتابه الكلام على بيوتات بغداد فإنه أجاد في هذا البحث وأفاد التاريخ فائدة كبرى فدون أسماء البيوتات القديمة وذكر رجالها ومشاهيرها وتراجمهم وأنسابهم وهو بحث جميل قل من تطرق إليه من المصنفين القدماء ومن فصول هذا الكتاب الممتعة كلامه على عشائر العراق ومشايخها وأمرائها ومنازلها وأنسابها القديمة ومذاهبها وعدد رجالها وعقب بعد ذلك الكلام على ذكر(88/19)
البيوتات البدوية الرفيعة ثم عقد فصلاً في تراجم العلماء والفضلاء الذين برزوا في صنوف العلوم والفنون ومن حسنات هذا الكتاب الكلام في أنهار بغداد القديمة والحديثة مع تعيين مواقعها ومصادرها ومصابها وبعد ذلك تكلم عن البصرة وبيوتاتها وعلمائها وأنهارها والمد والجزر فيها وإليك ما قاله عن بساتين البصرة:
. . والبساتين الموجودة في البصرة ونواحيها ذات النخيل والأشجار والأنهار حدها من القرنة إلى رأس البحر المسمى بالفاو ويبلغ مقدارها ثلاثين ساعة بسير الفارس وأما المشي فالمسافة بالنسبة إليه أكثر والفرج بين ذلك الخالية عن النخيل يسيرة وهي من البصرة إلى الدواسر ومن القرنة إلى الكوت الفرنجي ولكنها بالنسبة إلى المتصلة لا تعد ولا تعتبر والبساتين الباقية كلها متصلة بعضها ببعض مقدار عشرين ساعة طولاً على طرفي شط العرب وأما عرضاً ففي الجنوب يبلغ أكثر من ثلاث ساعات وهي ذات نخيل وأشجار وفواكه لا تعد ولاتحد وحد البساتين شرقاً من كتيبان إلى سبع القصبات وجنوباً إلى الفاو وشمالاً إلى العنبري. . ثم أفاض في الكلام عن التجار في البصرة والعلماء والبيوتات القديمة هناك.
ومما قاله عن أنهار البصرة الباب الثالث في بيان أنهار البصرة الموجودة في هذا العصر الكبار المحصوة والصغار التي لا يحصيها عد ويجري فيها الماء من شط يقال له شط العرب وهو مجتمع دجلة والفرات ويحصل لهذا الشط ولجميع الأنهار المد والجزر في اليوم والليلة مرتين مرة في الليل وأخرى في النهار وتختلف ساعات المد تقديماً وتأخيراً والأنهار الكبار لم تزل مملوءة من الماء إلا العشار فإنه يخلو من الماء حالة الجزر وأما الصغار فهي خالية أثناء الجزر فإذا حصل المد امتلأت الصغار وازدادت الكبار التي تجري فيها السفن وجميع الأنهار الكبيرة خارجة من شط العرب وبعض الكبار من الصغار فأول الأنهار الكبيرة ابتدأ من البصرة نهر العشار المشهور الداخل إلى البصرة وهو نهر عظيم تجري فيه المراكب والسفن وحوله بساتين كبيرة وبيوت عامرة. . وقد عد أنهراً كثيرة من الأنهر التي تمخر فيها السفن وقال إن الأنهر الصغيرة كثيرة لا يمكن حصرها وانتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الخراج والأعشار والغرائب في عصره وتكلم بعد ذلك عن المحمرة وعبادان والأهواز وما في هذه الديار من الأنهار والأراضي والقبائل وجعل الكلام(88/20)
على نجد آخر فصول الكتاب فكتب عن قبائل نجد وأشرافها وعلمائها ومذهبها شيئاً فيه الغث والسمين إلا أن التحقيق يغلب على أكثر أبحاثه وقد قرظ أعمال النجديين وأثنى عليهم وعلى النهضة التي قام بها زعماؤهم وأمراؤهم وأتى في هذا الفصل على ترجمة صاحب الدعوة الوهابية والقائمين بترويجها وتراجم مشاهير الحنابلة وعلماء نجد الذين تصدروا للقضاء والإفتاء ومكاتباتهم إلى الملوك والأمراء المعاصرين لهم ومؤلفات نوابغهم ثم استطرد من هذا البحث إلى ذكر الحجاز وتهامة والبحرين والقطيف وما فيها من العجائب والغرائب ووصفها وتمثيلها أحسن تمثيل وتطرق أيضاً إلى البحث عن أحوال البلاد العربية الكائنة على ضفاف الخليج الفارسي كمسقط وعمان وإماراتها وأمرائها وقبائلها ثم أرصد فصلاً ممتعاً في أبعاد الأماكن التي ورد ذكرها في كتابه ومن حسنات كتابه أنه عقد فصلاً في أنساب الأمراء مع بيان أحوالهم وأطوارهم ورسوم حكوماتهم وعقد فصلاً آخر في تراجم مشاهير علماء المذهب الحنفي والمالكي ومشاهير الحنابلة على عهده.
وأما الخاتمة فهي تشتمل على مباحث شتى منها العلم في بلاد العرب وأنواع خراجها ومقاييس مكاييلها وجباية الأموال الأميرية ومعاملاتهم وإقطاع البلاد إلى غير ذلك مما يطول ذكره والخلاصة أن هذا الكتاب من أجلّ كتب التاريخ التي تصور لنا حالة العراق وبلاد العرب الزراعية والصناعية والتجارية تصويراً حسناً وما يحتاج إليه المؤلف والمؤرخ والكاتب والأديب فإنه مما لا يستغني عنه العام والخاص نفعنا الله بعلم مؤلفه وأكثر بين أبناء الأمة العربية من أمثاله المحققين المدققين.
بغداد إبراهيم حلمي العمر(88/21)
في ديار الغرب
سويسرا الوطنية والجيش
قالت العرب احرص على الموت توهب لك الحياة وقال المتأخرون من أراد السلم فليكن أبداً على استعداد للحرب وهاتان القاعدتان جرت عليهما سويسرا فمن يظن أن هذه الأمة التي تعيش بمعزل عن الدول وليست لها سياسة خارجية واستقلالها مضمون باتفاق الدول العظمى تتمرن ليلها ونهارها على الأعمال الحربية وكلها مسلحة وكلها محاربة عند الاقتضاء وتستطيع عند أول صرخة أن تجهز 180 ألفاً من الجند الذين يحسنون الرماية كأحسن أهلها ويعلمون عما يدافعون ويأتون إلى أي مكان من حدودهم في سرعة البخار ثم يستطيعون أن يجهزوا 140 ألفاً من الدرجة الثانية ومثل هذا العدد في الدرجة الثالثة وتجهيزاتهم ليست على الورق بل عددهم وعددهم حقيقة لا شائبة فيها كأعمالهم.
قسم السويسريون الخدمة العسكرية إلى عدة أدوار حتى لا تثقل عليهم وينقطعوا بتاتاً عن أعمالهم وبيوتهم ويخففوا عن أمتهم نفقة إطعامهم وإيوائهم فبلاً من أن يقضي الشاب سنتين أو ثلاث سنين تحت السلاح كما هو عند معظم الأمم لا يبقون في الخدمة إلا أشهراً معدودة في السنة الأولى ولكن المرء يبقى جندياً من العشرين إلى الأربعين ويدعى لحمل السلاح والتعلم في مواعيد مختلفة قد لا تتجاوز إلا ربع السنين وتكون عنده بندقيته يتعلم فيها في بيته وحقله ولا يستعملها إلا لهذا الغرض والولد منذ المدرسة الابتدائية إلى المدرسة العليا إلى الكلية يتعلم التعليم العسكري وهو تحت ملاحظة الضباط الذين يأتون أحياناً للتحقيق عن أمره والإشراف على رمايته وفحص سلاحه الذي تعطيه إياه الحكومة ومن خالف ذلك يعاقب بأشد العقوبات وهيهات أن تجد مخالفاً.
سويسرا الحديثة ليست محاربة ولا تثير بينها وبين جاراتها أسباب النزاع لأن قلة عددها بين أمم كبرى لا يجعل الحرب من مصلحتها ولذلك فاستعداد السويسري للطوارئ وتمرينه على الحرب ووطنيته المشتعلة وفكره الشعبي ليست إلى عداء وحب فتح بل للدفاع عن كيانه فسويسرا كل سنة تعطي منحة لمكتب السلام في برن ولكنها باليد الأخرى تبتاع السلاح الجديد وتجهز جيشها بكل ما تقدر عليه من القوة وتزيد في ميزانيتها البرية سنة عن سنة لم يمنعها الحياد أن تعمد على الطرق العملية كسائر أعمالها في فروع الحياة لأن(88/22)
أرضها لا تحمى إلا إذا كانت على حال الدفاع بحيث يحترمها جيرانها وب1لك تحفظ استقلالها لا بمجرد العهود التي تدار بالأرجل عند ثوران الغضب وهيجان النفوس للفتح وجر المغانم.
سويسرا لا تريد أن تكون طعمة سهلة لكل آكل ولا تخاف في الأغلب أن تداهمها فرنسا من الغرب والنمسا من الشرق بل تحاذر في الأكثر من الشمال تخاف عادية ألمانيا وأن تضمها هذه ذات يوم بالقوة إلى أرضها كما فعلت بمقاطعة شلشويق هولستاين وهانوفر وهيس وفرانكفورت والألزاس واللورين وأخوف ما تخاف من عادية إيطاليا من الجنوب ولذلك تقيم على الشمال معظم جيشها وعلى الجنوب المعاقل المدهشة ومنها معقل غوتار والسمبلون فإن كان السويسريون يحمون بلادهم ويفادون بالرجال والمال للذب عن حياضها فذلك لأنهم يحبونها حباً يمازج أجزاء نفوسهم ولا شيء أحسن وأضمن للتعلق بالوطن من الاستقلال وحكم المرء نفسه بنفسه.
قال أحدهم إن سويسرا ليست من البلاد التي تبقى لضرورة في بقائها كإنكلترا وإسبانيا بل إنها لم تبقى إلا لأن السويسريون يريدون بقائها نعم إن الإرادة وحب الحريات السياسية من القوى ولكنها ليست كلها جماع القوى فإن سويسرا لم تتألف عرضاً ولإرادة المتعاقدين المتحدين من أبنائها بل إنها اجتمعت لاتفاقها في العواطف والروح وبما لها من التقاليد المتماثلة والماضي والمجد الذي يتجسم كل حين باسمغليوم تل بطلها القديم.
وغليوم تل هو أحد رجال الثورة الذين أنقذوا سويسرا منربقة النمسا سنة 1307م وذلك أن عامل الإمبراطور النمساوي كان علق قبعة الدوج على رأس خشبة في الساحة العامة في التورف وأراد أن يذل السويسريون بأن يسلموا على القبعة كلما مروا بها فأبى أن يخضع غليوم تل لهذه المذلة فاستدعاه الوالي النمساوي ولما عرف أنه من الرماة الماهرين بالقوس والنشاب حكم عليه جزاء إبائه أن يضرب سهماً على تفاحة وضعها الوالي على رأس أبن غليوم تل فلم يسع هذا إلا أن ألقى سهمه فأصاب التفاحة ولم يصب ابنه بسوء ولما سأله الوالي لماذا أعد سهمين فقال له الواحد للتفاحة والآخر لك وعندها نادى بالثارات سويسرا وكان بذلك خلاص البلاد من حكم النمساويين في أوقات مختلفة كان يكتب فيها النصر للسويسريون لأنهم مدافعون لا مهاجمون.(88/23)
غليوم تل نصبت له التماثيل الكثيرة اليوم في بلاد سويسرا فهو مثل غاريبالدي في إيطاليا أحيا أمته بشجاعته ومن أجل هذا التاريخ المعنعن بالواقع لا ترى السويسريين سواء ممن كانوا يتكلمون الألمانية وهم الأكثرية أو الإفرنسية أو الإيطالية أو الرومانشية تحدثهم نفوسهم أن ينضموا إلى أبناء جنسهم بل إنك ترى السويسري وأبناءه وأحفاده وأحفاد أحفاده تغربوا في إيطاليا وألمانيا والنمسا وفرنسا قرناً وأكثر ولا يزالون محافظين على تابعيتهم وقد عرض مرة على أحد علمائهم إدوار وود وكان باريزياً في موطنه فقط وسويسرياً بجنسيته أن يتجنس بالجنسية الفرنسوية لينتخب عضواً في المجمع العلمي مجمع الأربعين المخلدين فقالف والسذاجة طافحة من كلامه إنني أحب فرنسا وأسكن باريز ولكنني سويسري مات والدي ووالدتي في سويسرا وأنا لا أكون في المجمع العلمي. . هذه هي الوطنية السويسرية متأصلة في شغاف القلوب ولكنها ساذجة لا تتعمد الصياح ولا التظاهر ولا تجد داعياً للتبجح بها كل حين.
وطنية السويسريين في صدورهم مكتومة لها أعياد وحفلات ومصانع وتذكارات تذكرهم الساعة بعد الساعة بما بذل أجدادهم من إهراق دمائهم في دفاعهم عن وطنهم وما يجب عليهم أن يقوموا به ليحفظوا هذا التراث الجميل النادر دع ما ينشره علماؤهم وأدباؤهم من المصنفات الممتعة التي كلها ترمي إلى تحبيب وطنهم إليهم وتلقن أبناءهم منذ نعومة أظفارهم التعليم الوطني في المدارس وتلامذة مدارسهم يتغنون في كل شارقة وبارقة بالقصائد الحماسية الوطنية التي نظمها الشاعر السويسري جوست أليفيه ويتلون الفترة بعد الفترة ما وصف الشاعر الكاتب أوجين رامبرت طبيعة سويسرا وجبالها وأوديتها وبحيراتها فيزيد هيامهم بأرضهم.
السويسريون لا يقنعون أن يحبوا بلادهم حباً مجرداً بل يزورونها بعناية واهتمام وعدد من يرحل منهم صيفاً وشتاءً 22 % في المئة من مجموع السياح القادمين إلى سويسرا ينتقلون في جبالها وأوديتها وترى العامي منهم إذا اجتاز أرضاً لم يعرفها بعد يقف في القطار مأخوذاً بما يمر به منا الأصقاع بحيث لا يفوته منها جميل وإذا ذهبت إلى القرى أتاك بعض من أهلها بدون طلب منك وحدثوك عما تجب زيارته من المحال البديعة في جوارهم فالسويسريون معجبون ببلادهم وحق لهم العجب وربما كانوا أكثر الأمم المجاورة في(88/24)
طربهم بما خصت به جبال الألب من المحاسن التي تخلب الألباب.
اشتهر السويسريون منذ عهد غليوم تل أنهم في مقدمة الرماة في أوروبا لأن بلادهم تستلزم ذلك ولا تكون حربها بالنظر إلى جبالها إلا مناوشة وكميناً فترى في كل قرية جمعية للرمي وتقام له الأعياد وكل سويسري في سن العسكرية فلاحاً كان أو ساكن المدينة يصرف مع رفقته يوم الأحد ساعات طويلة في التدرب على الرماية وفي كل بيت بندقية أو عدة بنادق لشبان سويسرا يعدونها ليدفعوا بها عن أنفسهم وبلادهم كأنهم لا يزالون في عهد الإقطاعات يكلف فيها كل واحد بحماية نفسه وأسرته ولكن هذا شأن الأمة المسلحة بسلاحين سلاح القوة المادية وسلاح القوة المعنوية العلمية التي لم تكن في القرون الوسطى.
ضباطهم يخرجون من الجيش مباشرة ثم يتعلمون التعليم الحربي وأكثره عملي في الغالب وهم في الأكثر من أبناء الفلاحين يعاشرون الأفراد ويواكلونهم وطعام الجنود من أحسن ما يعهد لهم مطابخ تنتقل معهم في المناورات فتراهم في كل وقت يتناولون الطعام الصحي الفاخر الذي لا يوجد إلا في المدن وفي حال التوطن والرفاهية وجنديهم يقبض كل يوم 80 سنتيماً في المشاة وفرنكاً في الفرسان وهو أحسن راتب يقبضه جندي في جميع أمم أوروبا لأن هذه عجزت عن إطعامهم وإلباسهم لكثرتهم بدون فائدة دع إدرار النفقة عليهم ولا يبتعد عن أهله من الجند إلا من دخل في جيش الفرسان فالسويسري سعيد في كل حال من أحواله مرتب في حله وترحاله ممتع باستقلاله ناهض في عامة أعماله ولذلك لا تراه يشكو شيئاً على نحو ما يشكو ابن البلاد الراقية الأخرى الذي يرزح تحت أثقال المغارم والمظالم لينفق على بحريته وبريته قال لي كثيرون نحن سعداء في بلادنا فكنت أقول لهم بارك الله بسعادتكم التي أحرزتموها بجدكم ورزق شرقنا المسكين بعض ما أنتم فيه إنه كريم جواد.
سويسرا المذاهب والقوميات واللغات
الدين واللسان من جملة المظاهر المهمة التي تدل على روح شعب وقد كان لهما في الأرض السويسرية بفضل التسامح والاتحاد ومراعاة حرية الغير مشاكل في الماضي ولكنها اليوم قد انحلت صعوباتها وتعبدت عقباتها وكان الدين ثم اللسان شعار الوطن الأصغر ثم امتزج أهل كل دين وأهل كل لسان امتزاجاً في البلاد فلم ينشأ في سويسرا مشاكل تذكر كما نشأ في بعض البلاد التي تنازعتها البرتستانتية والكاثوليكية أو(88/25)
الأرثوذكسية والإسرائيلية أو مذهب أهل السنة والشيعة في الإسلام.
المذهبان السائدان في سويسرا هما البرتستانتية والكاثوليكية ولما انتشر المذهب البروتستانتي في القرنين السادس عشر والسابع عشر على يد دعاة من أبناء البلاد أخذت كل مقاطعة تجعل مذهباً رسمياً وإجبارياً وتدعو إليه في أرضها وتحتم على الأهلين حضور الصلاة به وإن كان لا ينتحل هذا المذهب وهو شيء من الشدة نشأ للسويسريين بانتشار المذهب البرتستانتي ثم أخذت المدنية تعدل من شدته والبروتستانت أكثر عدداً من الكاثوليك بقليل.
قال دوزا إذا كان الدين يؤثر احياناً أثراً ظاهراً في روح أمة فإن الشعب يكيف الدين على صورته مع توالي الأيام والأمر الثاني ظاهر في سويسرا وإن لم تكن تخلو من الأول ولا جدال بأن المقاطعات الكاثوليكية بمجموعها أكثر انحطاطاً من المقاطعات البروتستانتية والأنحاء الأقل نظافة هي كاثوليكية أيضاً والمقاطعات الكاثوليكية هي التي احتفظت بالأكثر بلهجاتها وإن فكر حرية البحث الذي دعت إليه البروتستانتية قد أثمر وأينع فإن التعليم العام في البلاد البرتستانتية أكثر انتشاراً مما هو في غيرها وأفكار التسامح مقبولة فيها بسرعة ورجال المذهب البروتستانتي قلما يعنون بالسياسة وليست هذه الفروق مهمة فإن تأثير عقل الأمة في المذهبين هو أشد ظهوراً.
السويسري متدين حق التدين ولكن دينه في قلبه وهو لا يحفل على الجملة بالظواهر ولذلك ناسبت البروتستانتية مزاجه وللقيام بالفروض الدينية منزلة من حياة السويسري المنظمة كما للأعمال الدنيوية كذلك فتراه يذهب صباح الأحد إلى الكنيسة كما يذهب في المساء إلى القهوة بكل رزانة وتماسك أو كما يذهب إلى عمله خلال أيام الأسبوع والرجال والنساء يحضرون في القرى والمدن في البيع لسماع القداديس أو المواعظ وربما كان النساء أكثر عدداً في الكنائس الكاثوليكية كما لحظت من الحضور في بعض الكنائس لوزان الكبرى ولكن الكنيسة البروتستانتية مع هذا تغص بالمستمعين والعابدين الراكعين وكلهم يستمعون باحترام لما يلقى عليهم من المواعظ.
ذكرت الفروض الواجبة نحو الخالق في جميع البرامج المدرسية ومعظم المدارس تقيم الصلوات وليس لرجال المذهب البروتستانتي في سويسرا ارتباط بسلطة خارجية وكذلك(88/26)
أهل المذهب الكاثوليكي ليس لهم أساقفة ورؤساء عظام بل إن كل واحد مرتبط بالمقام البابوي ارتباطاً خفيفاً لا يشبه ارتباط سائر البلاد الكاثوليكية في أوربا وآسيا وأميركا وأفريقية مثلاً فالسويسريون غلاة في حب الاستقلال في كل شيء حتى أن رهبانهم وقساوستهم يلبسون لباساً يخالف ألبسة غيرهم في الأمم الأخرى ونرى الكل متشابهين متقاربين مما يذكر أن سويسرا كانت في القرون الوسطى مهد التسامح وإن وقع لها في القرن التاسع عشر أن نشبت فيها حرب دينية من أجل القانون الذي وافقت عليه الأكثرية بنفي الرهبنات من سويسرا في حين لم تنشب في أوربا حرب دينية في ذاك القرن ومع ذلك تجد جنيف ببرتستانيتها وفيبورغ كذلك في تمسكها بكثلكتها كأنهما رومية بكاثوليكيتها ولم تمض على هذه الحرب خمس وعشرون سنة بفضل تلقين المدارس فكر التسامح حتى أصبحت سويسرا أكثر بلاد أوربا تعلقاً بحرية الوجدان والعبادة على صورة منظمة حرة لا مثيل لها.
اعتبرت سويسرا حتى اليوم الكنيسة إدارة من إدارات الحكومة هذا مع أن الحياة الدينية فيها مادة من مواد الحياة العامة فجعل الأديان تحت سلطة الحكومة مثل المصارف والسكك الحديدية ولكل مقاطعة قانونها الأكليركي الذي تنظر فيه السلطة التشريعية وتقر عليه أو تعدل منه مطلقة الحرية تحت بعض شروط يقتضيها الدستور السويسري من مثل حرية الوجدان وحرية التدين وغير ذلك ورؤساء الدين بحسب المقاطعة بروتستانتاً كانوا أم كاثوليكاً تدفع لهم الحكومة رواتب تستوفيها من أهل هذه المذاهب وللحكومة حق التدخل في مسائل العبادة والطقوس وإذا أرادت فيكون القول الفصل في بعض المسائل لمجلس الأمة وتدخل الكنيسة البروتستانتية في أعمال الحكومة غير محسوس في سويسرا الألمانية البروتستانتية مثل ما هو في سويسرا الكاثوليكية الفرنسوية وغيرها.
وبعد حرب سوند بربوند اتهم اليسوعيون بأنهم أوقدوا الفتنة الدينية في البلاد السويسرية فطردوا منها وقد حظر عليهم دستور سنة 1748 الدخول إلى سويسرا بيد أنهم دخلوا في الحقيقة على فريبورغ بعد عشر سنين ومدرسة اللاهوت في هذ المدينة يديرها الدومنيكيون في الظاهر ولكنها بيد اليسوعيين في الواقع ولاهوتها هو اللاهوت اليسوعي دع من هناك من الرهبان الذين طردوا من فرنسا وجاؤوا فريبورغ وغيرها من بلاد الكثلكة السويسرية(88/27)
يعلمون ويعظون ولمعظم الكليات السويسرية صفة دينية ظاهرة عليها فإذا كانت كلية فريبورغ كاثوليكية محضة فكلية لوزان وكلية جنيف برتستانتيتان.
هذا إجمال ما يقال في المذاهب في هذه البلاد أما القوميات أو الجنسيات أو العناصر المتألفة منها فإن نصف سويسرا روماني أو لاتيني والنصف الآخر جرماني وربما كان العراك بين هذين العنصرين على صورة لم يعرف بها في بلد آخر في أوربا منذ أوائل القرون الوسطى واختلط العنصر اللاتيني بالجرماني وعلى العكس اختلاطاً كبيراً ومن السويسريين الفرنسويين من تألمنوا أي أصبحوا ألماناً بلسانهم على طول الزمن ومن الألمانيين من تفرنسوا ويكاد لا يتجاوز اللاتينيون أي الفرنسيس والطليان والرومانش في سويسرا مليوناً ومائتي ألف وبقية الأربعة ملايين هم ألمان عاشوا حتى اليوم بحرية تامة في استعمال ألسنتهم بفضل استقلال المقاطعات وعدم المركزية وربما كان الألمان أكثر توسعاً في البلاد وهم الرابحون في التبسط في ربوعها على الزمن حتى أصبح اللسان الفرنساوي خاصاً بغرب البلاد والرومانشي بشرقها والإيطالي بجنوبها والألماني بشمالها ويقدرون عدد الألمان المهاجرين إلى المقاطعات الفرنساوية بمئة ألف وعدد الفرنسيس المهاجرين إلى المقاطعات الألمانية بخمسين ألفاً.
ولم تعترف الحكومة رسمياً بلغة الرومانش كما اعتبرت الألمانية والإفرنسية والإيطالية وكتبت معظم الأوراق الرسمية بهذه اللغات الثلاث وذلك لأن المتكلمين بها قلائل ولأنها أشبه بلهجة خاصة لا أدبيات لها وأهلها يتزوجون بالألمان ويختلطون بهم وكل سنة يخف عدد المتكلمين بلسانهم وربما كان الرومانشيون مثال مملكة أضاعت لغتها على التدريج بدون أن تضيع استقلالها أضاعت لغتها واندمجت في غيرها على خلاف الطليان وعددهم في سويسرا اللاتينية زهاء 230 ألفاً فإنهم احتفظوا بعنصريتهم لأنهم احتفظوا بلغتهم واحتفظوا بلغتهم لأن لها آداباً خلافاً للرومانشية.
ومسألة الألسن غريبة في سويسرا لا تؤثر في الأمور الإدارية لأن حقوق الأقلية مصونة كحقوق الأكثرية ومن أعجب الأمور أن اللسان في سويسرا وإن كان من مواد الوطنية المحلية فليس شارة من شارات الوطنية الجامعة واختلاف الألسن ليس من العوائق في إدماج السويسريين في قالب الأخلاق وليس في اللسان أدنى مادة من مواد الانفصال(88/28)
فالسويسري الفرنساوي في مقاطعتي ألفو ونوشاتل لا يريد ان يصبح فرنسياً بتابعيته وكذلك السويسري الإيطالي لا يحب بوجه من الوجوه أن ينضم إل ى إيطاليا ومثله ألماني مقاطعات شافوز وتوركوفي وسان غال لا يريد أن ينضم إلى ألمانيا.
ولولا أحوال نادرة لصح أن يقال أن سويسرا في جميع أدوار التاريخ قد نالت أعظم الحرية في استعمال اللغات في جميع الأعمال الخاصة والعامة أما اليوم فإن الحرية موجودة مبدئياً ولكن احترام حقوق الأكثرية والأقلية على أسلوب معقول تحت نظارة جمعيات تتولى النظر في مسائل اللغات المحلية وانتشارها وتدافع عن حقوق الأكثرية ولا تغمط حقوق الأقلية في كل بلد يسبق غيره في عدد المتكلمين بلغة دون أخرى وكانت كتابة جميع الرسميات والعموميات بعدة لغات في القديم للإفهام والتفهيم أما اليوم فإنه يراعى بما يكتب حق السواد الأعظم.
اللغة الرسمية في كل ناحية هي لغة أكثرية السكان وبهذه اللغة تكتب مداولات المجالس البلدية والأعمال الإدارية التي تعلق ليقرأها الجمهور وبها تكتب أسماء الشوارع والمصانع ويدرس في المدارس ويلقى الوعظ أو القداس في الكنائس ومن النواحي من اختارت برضاها التساهل مع أهل اللغة الأخرى في بعض هذه المسائل كأن تترك مقاطعة المدينة اللغة الإفرنسية تجعل لسان التدريس فس مدرستها أو أن سكان مقاطعة رومانشية يقدس لهم بالألمانية وللمنتخبين في المقاطعات المختلفة أن يتكلموا بإحدى اللغتين كما يشاؤن في جميع المداولات وتكتب الإعلانات وغيرها باللغتين وإذا بلغت الأقلية العدد الكافي تكون لها مدرسة بلغتها وكنيسة تعظ وتقدس بلسانها وفي الكتابات الخاصة وعناوين الدكاكين تركت للناس حريتهم وما يسري على الناحية يسري على المديرية حذو القذة بالقذة أي تكون اللغة الرسمية لغة الأكثرية والأقلية لا تحرم من حق التفاهم.
ويطلب إلى الموظفين في جميع المقاطعات المختلفة معرفة لغتين وتكثر فيها الإعلانات وأسماء الأماكن باللغتين ويقبل استعمال اللغتين في المجالس وعمال السكك الحديدية يبدأون في كل مقاطعة بلغة البلاد في مخاطبة الركاب ثم يثنون ويثلثون إذا اقتضى الحال بغيرها وجميع القطارات تكتب عليها اللغات الثلاث إلا الإيطالية فإنها تنقص من بعض القطارات التي تمر قليلاً في البلاد الإيطالية والسويسرية وللغتين الألمانية والإفرنسية المساواة التامة(88/29)
تكتب جميع أسماء المحطات وغيرها بهما ويجعل التقدم للغة البلدة الشائعة.
وفي سويسرا سبع كليات منها ما يدرس بالألمانية ومنها بالإفرنسية وفي بعضها دروس مختلفة باللغتين فكلية بال التي أنشئت سنة 1460 تدرس بالألمانية وكذلك كلية زوريخ التي أنشئت 1833 وكلية برن التي أنشئت سنة 1834 أما كلية جنيف التي أسست سنة 1873 وكلية لوزان المؤسسة سنة 1890 وكلية نوشاتل التي تمت سنة1909 وكلية فريبورغ التي قامت سنة 1889 فإنها تدرس بالإفرنسية وفي كلية فريبورغ عدة دروس مختلطة بين اللغتين.
أعضاء مجلس الاتحاد السويسري سبعة ومنهم رئيس الجمهورية خمسة منهم ألمان واثنان فرنسويان وقراراتهم تكتب باللغتين وفي سويسرا ثمانية فيالق اثنان فرنسويان وخمسة ألمان وواحد إيطالي ورومانشي ولغة التعليم في الفيلق الأخير الألمانية والإدارات الخاصة تتبع هذه القاعدة لإرضاء قرائها من ذلك أن نقابة أصحاب الفنادق في سويسرا الألمانية لم ترض أن تغير أسماء قوائم الطعام من الإفرنسية إلى الألمانية لأن معظم الداخلين إلى البلاد يفهمون الإفرنسية أكثر من الألمانية حتى أن الألمان أنفسهم يفضلون أن يرووا أسماء الألوان بالإفرنسية لاعتقادهم بأن المطبخ الفرنساوي هو خير المطابخ وألوانهم أجمل المآكل وكذلك ترى أصحاب الفنادق يصدرون جريدتهم باللغتين كل ذلك يدل على جوهر أخلاق السويسريين وإن المحافظة على حق أو على حرية ينبغي أن يكون على قدم المساواة.
سويسرا بابل اللغات لأن فيها على صغرها منهن أربعاً وفي النمسا سبع وفي العثمانية سبع أمهات الآن ماعدا اللهجات ولكن سويسرا والنمسا حلتا هذه المسألة الحل المعقول العادل فهل نوفق نحن إلى حلها كذلك والعرب هم السواد الأعظم وقد أمرنا باتباع الأكثرية وللغتهم ميزات ليست لغيرها والأمم الدستورية تراعى فيها قبل كل شيء حقوق الأكثرية.
سويسرا كيف تجلب الغريب
كانت بعض البقاع في سويسرا منذ نحو ثلاثين سنة من أفقر بلاد أوربا فبفضل ما أنشئ فيها من الفنادق وبذل من المساعي لاستجلاب رضى السياح والمصطافين والمشتين اغتنت تلك الأصقاع وأصبحت سويسرا وجل اعتمادها على القادمين إليها من أقطار الأرض حتى(88/30)
لقبوها فندق أوربا ولكن هذا اللقب وهذه الثروة التي يبذرها فيها الأجانب لم تحصلها عن عبث فإن علم جلب الغرباء وإمساكهم وحملهم على العودة ثانية بكمية أوفر قد أصبح في سويسرا علماً حقيقياً له أساليبه وقوانينه وإحصاآته وجرائده ومنشوراته المنوعة الظريفة وكلها متناسقة متساوقة كآلة الساعة وقد علمت السويسريين التجارب أن السائح يستمال بست قواعد من أحسن استخدامها اغتنى وأفاد واستفاد.
القاعدة الأولى: أن يزرع المرء كثيراً ليحصد أكثر فقد جعل السويسريون لنشر الإعلانات بالكلام والصور المقام الأول ما عدا إعلانات المحطات والمنشورات المصورة وغيرها من المقالات التي تدفع عليها الأجور الباهظة أحياناًُ في صحف سويسرا وغيرها والمقصود منها الإعلان وكل إدارة وكل نقابة توزع منشوراتها مجاناً وكثيراً ما تكون كبيرة الحجم يحتاج طبعها لمال كثير وعناية تامة من استجادة الورق والصور والجلود وفيها من كل شيء أطيبه بحيث تستدعي النظر إليها ولو بعد مدة وتنفق على ذلك كله نفقات هائلة ولكن الثمرات التي تعود منها قد قدرت بثلاثة أضعاف أو أربعة.
القاعدة الثانية: جميع تراكيب هذه الآلة متضامنة ولا تنافس بينها وهذه قاعدة اقتصادية مهمة وهو أن كل صاحب فندق لا تحدثه نفسه أن يحتكر جميع السياح بل يهتم لإنجاح المدينة أولاً ثم الناحية وأرباضها أو النجاح العام وهذا لا يتم إلا بالتضامن بين أبناء هذه الحرفة فيشترك مثلاً جميع أرباب الفنادق في بقعة ليعملوا عملاً يسر جمهور النازلين في فنادقهم وإنزالهم ويجلبوا السرور والراحة لهم على السواء ومثل ذلك التضامن نراه على أتمه أيضاً بين الإدارات والشركات المختلفة لا تحاسد بينها ولا تعاير في المصلحة قد ألف معظم أرباب الفنادق نقابات لهم فتألفوا مديرية أولاً ثم تألفت المديريات كلها نقابة واحدة آخراً فأصبحت فنادق سويسرا كالبنيان المرصوص ومثل ذلك أصبحت بعض القهاوي ومحال السماع ومحال إعطاء التعليمات وشركات التضامن نقابة خاصة يأتون كل ذلك على شرط أن يرضى السائح ويرتاح.
القاعدة الثالثة: أن تراعى حال جميع الطبقات بحيث يرضى كل سائح بالمعاملة التي يراها وذلك لأن سويسرا أدركت أن الرحلات اليوم قد أصبحت ديمقراطية أيضاً وإن المتوسط غناهم هم أكثر من الأغنياء أرباب اليسار بل هم أخلص وأشرف وعلموا بالإحصاء أن(88/31)
واحداًً فقط في المائة من السياح الذين يصطافون أو يشتون في بلادهم يركب في الدرجة الأولى في السكك الحديدية و85 في الدرجة الثالثة ولركاب هذه الدرجة ميزانية مقررة إذا فصدوا كثيراً في مادياتهم لا يعاودون رؤية تلك البلاد وفي سويسرا فنادق وإنزال على اختلاف أذواق الناس واقتدارهم فمن أراد الرفاهية يدفع ثمنها في قصور هي أحسن من قصور الملوك ومن أحب التوسط كان له ما أراد وكذلك من أحب أقل من التوسط وإني لم أسمع بأن إنساناً يمكن في أوربا أن يأكل ويشرب وينام بفرنكين وهذا ما أعلن عنه مؤخراً إحدى البيوت التي تنزل الأضياف عليها في لوزان
القاعدة الرابعة: النظر أبداً إلى راحة السائح وإظهار العناية بأمره فقد عني السويسريون أن يسهلوا جميع مصاعب السفر على المسافر فيرى هذا أهم اللغات الأوربية الرئيسية يتكلم بها في المحطات والفنادق والمخازن الخ والبريد من أسهل ما يمكن وفي زهاء 107 مدينة وبلد من سويسرا مكاتب للاستعلامات للغريب والقريب يسأل الإنسان فيها عما يشاء مجاناً وقد نظمت بمعرفة الشركات المحلية ولا عمل لعمال هذه المكاتب إلا أن يجيبوا الناس عما يسألون من الصباح وإلى المساء والشعب يبدي العطف على الغريب والعناية بأمره فالسويسريون إذا لم يكونوا في رقة الطليان بالاحتفال بالغريب والأخذ بيده فيما لا يعلم ومرافقته مئات من الأمتار أحياناً لدلالته على طريق أو غيره فهم وسط في ذلك فإن الواحد منهم يشرح لك محل مقصدك بأوضح عبارة ممكنة وإذا شكرته لا يرى أنه يستحق الشكر.
القاعدة الخامسة: أن يعرض كل شيء أمام السائح من دوت أن يعجز بمطالب مبرمة وذلك أن تصل إلى المحطة فلا تجد حمالاً بل أنت تصرخ حمال فيجيبك ولا تجد عاملاً من عمال الفنادق بل تجد لوحة موضوعة في مخرج المحطة فيها أسماء الفنادق في البلدة على اختلاف درجاتها ولا تجد حوذياً يريد أن يركبك في مركبته ولا سائقاً يريد أن يستاقك في سيارته بل أنت إذا طلبت واحداً منهم أتاك سريعاً بأدب أما وجود الشحاذين الذين يطلبون صدقة كما تشاهد في إيطاليا فهذا لا أثر له لأن الشحاذة ممنوعة هنا أكثر من فرنسا ولا تجد أحداً يتعرض لك لابتياع شيء منه وتحسين بضاعته بل تراها على اختلاف أنواعها معروضة في الزجاج وقد كتبت عليها أسعارها وهذه أخصر طريقة وأشرفها في قاعدة العرض والطلب وهكذا بائع المرطبات والمشروبات يكتب عليها أسعارها ويجلس في(88/32)
المحطات بحيث تراه ولا يسألك شيئاً. القاعدة السادسة: إرضاء جميع الأذواق والحاجات حتى الغريب منها واجتناب ما يكدر وإذا وقع خلاف فيراعى ذوق الأكثرية. ولأجل استمالة قلوب السياح عني السويسريون بحسن الانتفاع من بلادهم من كل وجه وضاعفوا المسليات والمفرحات فتقرأ في نشراتهم التي يستولون بها على عقل الغريب ما يشير إلى أن في بقعتهم ما يرضي جميع المشارب والأمزجة من أرباب الصفاء إلى طلاب الخلاء إلى المولعين بالألعاب الرياضية إلى الراغبين في التصعيد في جبال الألب إلى من يريدون التسلي إلى من يرغبون في التعليم إلى من يؤثرون الوحدة إلى المصورين والطبيعيين والأثريين وكل واحد يخاطبونه بما يشتهي ويدلونه على ما يهمه.
نعم وفروا الراحة لجميع الأذواق وقاموا بما يرضي الأرواح والأشباح فترى أوقات الأطباء معينة مذكوراً إلى جانبها أوقات القداديس والمواعظ وعنوان الطبيب مع عنوان الكاهن أو الواعظ. ولا يأتون ما تشمئز منه نفس السائح حتى إن دفن الموتى لا يجري في أوقات الصيف إلا قبل الشمس حتى لا يقع نظر السائح على مار بما تشمئز منه نفسه فيذكر الموت في بلاد لا يجب أن يكون فيها إلا الصفاء والرخاء.
وكثير من هذه الأعمال تقوم بها شركات لان فكر الاشتراك منتشر للغاية عند السويسريين فمن شركاتهم شركة المنتدى الأدبي السويسري وهذه عنيت بتربية الأدلة وتعليمهم يصعدوا مع السياح في جبال الألب وقد فتحت لتعليمهم ثلاث مدارس في أهم البلاد الجبلية وضمنت لهم حياتهم بمبلغ يربو على ثلاثة مليارات وربع من الفرنكات وعددهم نحو 900 يدفع لهم المنتدى في السنة نحو نصف التقاسيط وهناك شركات لا تحصى في كل مديرية لتحبيب البلاد إلى الأمم ونشر ما ينبغي عنها من مالهم وربما أهان بعضها المجالس البلدية على تحسين حالة البلد أو القرية إذا كان هناك نقص يجب تداركه لاستجلاب رضا الغريب فكان من اثر هذه الجمعيات تكثير سواد القادمين على السويسريين سنة عن سنة.
والحكومة لم تدخر وسعاً في هذا السبيل فبذلت الأموال عن سعة في المدن والدساكر فتحت الشوارع الجميلة وجملت الأرض وعبدت الأرصفة الفسيحة وأنشأت المتنزهات الظليلة والحدائق العامة وأقامت فيها المقاعد الكثيرة ليجلس عليها من أحب وأدخلت الكم باء إلى كل مكان وكذلك التلفون والمياه الطاهرة النقية وأقيمت القهاوي المهمة في جميع المحال(88/33)
التي يلحظ إن المسافر يقصدها.
قد اعد السويسريون جميع الألعاب الرياضية التي يحبها الانكليز كالتينس والفوت بول وغيرها دع أيام الشتاء التزحلق والتدحرج في الثلج (لالوج والسكي والباتناج). عادات أولع الغربيون بها تقليداً للانكليز وكل سنة يموت في خلالها من المرتاضين المئة والمئتان ومع هذا ترى النساء والرجال يرتاضون هذه الرياضة الخطرة ويزيد عددهم سنة عن أخرى. وبذلك كثر ترداد الناس إلى سويسرا في الشتاء ولا سيما الانكليز والاميركان. ويقدر عدد من يقصد سويسرا كل سنة بزهاء مليوني نسمة فإذا فرض أن كل واحد ينفق عشرين ليرة فيكون المجموع أربعين مليوناً تأخذها سويسرا في أشهر معدودة من السنة من الألماني والانكليزي والروسي والنمساوي والمجري والفرنساوي والايطالي والاسبانيولي والبرتغالي واليوناني والمصري والهولندي والأميركاني والبلجيكي والسكاندينافي وغيره وللألمان المقام الأول في كثرة العدد وهم يؤثرون النزول في البيوت لرخص العيش فيها.
ويقدرون عدد الفنادق الكبرى بزهاء ألفي فندق في سويسرا كلها من الطراز الأول والثاني أما الفنادق البسيطة والبيوت فهذه أكثر من إن تعد وما وصلت هذه الصناعة في إقراء الضيوف إلى هذا من الارتقاء إلا بالثبات والعمل والتفنن والعلم حتى أصبح السويسري معلماً للأمم في صناعة الفنادق وكثير من مدن أوروبا وحماماتها المدنية ومتنزهاتها البحرية بيد أناس من السويسريين. ويقدرون عدد السرر الموجودة على الدوام في هذه الفنادق بنحو مئة وثلاثين ألف سرير وعشرة آلاف سرير احتياطية وما برحت شركة الفنادق السويسرية منذ أسست سنة 1882 وهي تتفنن في خدمة الفنادق والإنزال واستجلاب أنظار العالم المتمدن ولها جريدتان لبث أفكارها توزعها مجاناً دع المنشورات والكراسات والكتب التي لا تقصر في توزيعها ومما أنشأته مدرسة لتعليم صناعة الفنادق يتعلم فيها مدير الفندق تعليماً على أسلوب معقول وذلك لان ضرورة المباراة وحاجات الزبن وصعوبة الحياة الحديثة تجعل صناعته مشكلة يوماً بعد آخر ولذلك أحدثوا مدرسة داخلية في ضواحي لوزان واسعة الأطراف مطلة على البحيرة وفيها مجال للألعاب الرياضية وجعلتها داخلية وشددت قانونها فقضت بان ينام طلبتها في الساعة العاشرة وتطفأ المصابيح ويمتنع فيها جميع أنواع اللعب بالورق والقمار ومنعت التدخين والخروج بدون رخصة وان يذهب(88/34)
الواحد إلى غرفته حتى في النهار بدون ترخيص وان يختلف إلى الأماكن العامة وأجرة المدرسة أو ثمن الأكل فيها فقط 130 فرنكاً في الشهر لابن سويسرا و150 للغريب. ومدة الدراسة ثمانية أشهر ويسأل فيها الطالب في الأكثر في اللغات الحية ويجب أن يكون سنه من 16 إلى 18 وتدرس في هذه المدرسة الفرنسوية والانكليزية والألمانية والايطالية والحساب والجغرافيا (الجغرافيا العامة وجغرافيا طرق المواصلات) وتاريخ سويسرا والتعليم الوطني وحسن الخط والحساب (أصول معاملة الفنادق والمعاملات التجارية على أصول الدفاتر) ومعرفة الحاصلات ونظريات في الخدمة ودروس في التنظيم وحسن الهندام وتقديم الطعام وحفظ الصحة والرياضة البدنية والألعاب والرقص وبعد أن ظهرت فوائد هذه المدرسة أنشئت عدة مدارس في سويسرا كلها للوفاء بهذا الغرض ولكن الظاهر أن مدرسة لوزان ارقأها. وأنشأت شركة الفنادق تعلم أناساً فن الطبخ وعهدت إلى الخبراء يمتحنون من يريد الدخول في هذه الصناعة بعد أن ينال شهادة منهم بتقدمه فيها. ويقدرون رؤوس الأموال التي وضعتها الفنادق نحو ثمانمائة مليون فرنك وما برحت على ازدياد وأرباحها كذلك في اعتدال لان السويسري يرضى بالربح القليل جرياً على ما تستلزمه القاعدة الاقتصادية. وتختلف أجور الفنادق فمنها ما يدفع فيه الواحد في اليوم مائتي فرنك منها ما يأكل فيه وينام كل يوم بأربعة فرنكات وكل على حسبه ويقدرون عدد المستخدمين في الفنادق بزهاء خمسة وثلاثين ألفاً معظمهم من النساء وفيهم الغرباء يدفع إليهم 16 مليون فرنك عدا الحلاوين التي تقدر بثلاثة أضعاف هذا المبلغ ومن الصعب تقدير ما تربحه البلاد كلها من السياح والمعروف أن أرباحها من ذلك تجيء بعد أرباحها من صناعة الحرير والتطريز والساعات اللهم إلا إذا حسب من ينتفعون من الغريب بالواسطة فإن أرباح السياح يكون لها المنزلة الأولى وبها اغتنت سويسرا بعد أن كانت فقيرة.
طول الخطوط الحديدية في سويسرا نحو خمسة آلاف كيلو متراي 13 كيلو متر في كل عشرة آلاف متر مربع وقدر ب 95 مليوناً عدد من يتنقلون كل سنة على خطوطها ولها طريقة جميلة في إعطاء أوراق اشتراك فيدفع الواحد 45 فرنكاً يأخذ بها ورقة في الدرجة الثالثة يركب بها أي قطار أحب مدة خمسة عشر يوماً ويدفع 65 في الدرجة الثانية و90 للدرجة الأولى. هذا عدا الخطوط الكهربائية والخطوط الحديدية الجبلية والحوافل.(88/35)
ولسويسرا 120 سفينة تجارية في 17 بحيرة كبرى من بحيراتها تغدو وتروح في نقل الركاب تنقل زهاء ثمانية ملايين راكب في السنة وهي دائماً تنتظر القاطرات والقطارات تنتظرها. والبرد متصلة علائقها مع السكك الحديدية وفيها جميع أنواع الراحة للقريب ومراكز البرد وصناديقها كثيرة حتى لقد ذكرت أحدث الصحف مؤخراً ما مثاله: ينم عن ارتقاء الشعب كثرة مواصلاته البريدية وكثرة ما يبتاعه من الصابون وقد امتازت الدانيمرك بكثرة بردها فإن لكل 234 ساكناً فيها صندوق بريد وفي سويسرا لكل 286 نسمة صندوق ولكل 320 في لوكسمبورغ صندوق ولكل 424 ألمانياً صندوق ولكل 472 فرنساوياً صندوق ثم تجيء النمسا فانكلترا فالبرتغال أما العثمانية فقد أحرزت الدرجة الأخيرة إذ ليس عندها غير صندوق واحد لكل 69، 300 عثماني!. هذا بعض ما عرفته عن سويسرا وما يأتيه الأفراد والحكومة لجلب السياح إليها حتى أصبحت فندق أوربا حقاً وصدقاً.
سويسرا: تفننها في الإعلانات
لا ترى في مدينة سويسرا نقصاً في فرع من فروعها وعمل من أعمالها فكل مخزن وكل دكان وكل إدارة وكل معمل وكل شارع وكل حي وكل دار وكل منزل صغير وكل دائرة وكل مدرسة بل وكل مستراح وكل شيء كتب عليه اسمه وعمله وما يجب للداخل إليه والمعاملة معه بحيث لا يحتاج الإنسان أن يسأل أحداً وربما إذا ترويت قليلاً بالنظر لوضوح هذه الكتابات تطوف سويسرا كلها وقلما تطلب من يدلك على من تقصده إذا كانت نمرة محله واسم شارعه في جيبك. خاصية غريبة قلما تجد مثلها حتى في كثير من البلدان الراقية. بل قد كتب على الأبواب الخاصة والعامة ادفع أو اقفل وكتب على المراحيض ارفع أو اخفض لتطهير المكان وكتب على بلاس الباب الرجاء مسح رجليك وكتب في المدارس إياك وإدخال عصاك أو مظلتك إلى الداخل وكتب على الصور والتماثيل ممنوع مس شيء وكتب على صناديق البريد تفتح ساعة كذا ودقيقة كذا ولو أردنا تعداد مثل ذلك لطال بنا المطال وسئم القراء تفاصيل لم يسمعوا بها ولا تخطر لهم في عالم الخيال.
ومن يظن أن في دور البريد صناديق تدفع إليها ثمن الطابع كما هو في بعض بلاد أوربا الراقية فينزل إليك فتلصقه على كتابك وفي صناديق البيوت التي تعلق في دهليز الدار(88/36)
وتكون هذه مؤلفة على الأكثر من خمس أو ست طبقات كل طبقة شقتان أو مسكنان فيجيء الساعي ويضع كتب وجرائد كل منزل في صندوقه حتى إذا وضعها يطن جرس من داخل الصندوق فيسمع أهل المنزل فينزلون ويأخذون بريدهم كل ذلك تخفيفاً على من الحركة بدون لزوم وفي المخازن والمحال العامة صناديق للقبض والصرف لا تغلط في العد وتحصي على العامل ما أباعه في اليومه. ذكرنا هذا وإن كان بعضه لا يدخل في باب الإعلان الذي هو المقصود بهذه الجملة فقد بلغ التفنن بالإعلان في الغرب حداً من الارتقاء لا يكاد يوصف وأظن سويسرا إن لم تكن أرقى الغربيين في التفنن بعلانها فهي من أرقاهم بلا جدال وكفاها فخراً إنها لولا الإعلان عن بلادها ما استطاعت أن يكون لها هذا الغنى الدثر والسعادة الشاملة فعرفت الناس بقدر بلادها وجمال أصقاعها وربما أفرطت في ذلك أحياناً لمقتضى الوصف الشعري ولقد أطلعت على كثير من الكراسات التي توزعها مكاتب الاستعلانات مجاناً على طالبيها فما رأيت أكثر من مهارتهم في إيجاد المزايا لكل مدينة ولكل قرية ولكل طريق ولكل غابة في أرض سويسرا.
وكل شيء هنا بالإعلانات إذا لم تقرأ صحفها لا تهتدي إلى ما تريد ابتياعه أو عمله وقد يكون لها جرائد خاصة بها اسمها جريدة إعلانات مقاطعة كذا ومنها ما يطبع الثلاثين والأربعين ألفاً في اليوم لا تكاد تخلو منها دار واشتراكها عشرة فرنكات في السنة تصدر في ثماني أو عشر ورقات من حجم جريدة المقتبس وكلها إعلانات إلا الصحيفة الأخيرة أو الصفحتان الأخريان ففيهما حوادث ونكات قد يكتفي الواحد بهما للوقوف على حركة بلاده على الأقل. وكل جريدة مرتبطة مع شركة إعلانات تبتاع منها قدراً معيناً من الصحيفة وهي تفتش لها على إعلانات تناسب سعة انتشارها ومكانتها. كنت أتلهى في الأحايين بقراءة بعض الإعلانات في الصحف لأعرف منها روح الشعب وحركة تجارته وعمله فكنت استغرب في الضحك عندما أقرأ السذاجة تغلب على إعلاناتهم والتفنن فيها اخذ آخذه من النيقة والعناية.
فمنهم من يعلن عن 100 كيلو من الجبن من جنس كذا بثمن كذا ومنهم من يقول أن عنده رأسين من البقر عمرها كذا وهما يصلحان للذبح ومنهم من يقول يحب أن يبيع خمس نعاج عجفاء وآخر عشرين رأساً من الغنم وبعضهم يعلن عن لبنه وآخر عن زبته وآخر عن بيع(88/37)
عربته أو دراجته أو دثاره أو صندوقه أو ثيابه وآخر عن خنزيره الذي علفه وغيره عن حذائه الذي ما أتلفه. وتجد آخر خزانته وبعضهم عن سريره وبعضهم عن آلة موسيقاه أو محراثه أو منكاشه أو مجرفته أو حصادته وعصارته ومذراته وآلة تصويره وآلة خياطته وآلة حياكته وآخر عن كلبه. والصدق يغلب عليهم في إعلانهم عن متاعهم وآنيتهم وأدواتهم. أما التفنن في الإعلان عن الاستخدام وطلب عمل في مخزن أو حقل أو إدارة أو منزل ذكوراً كانوا أم إناثاً صغاراً أم كباراً فهذا مما بلغ الغاية التي لم يبق وراءها وراء فكل طالب وكل طالبة يضع شروطه ومزاياه وعمله وربما الأجرة التي يريدها بأخصر عبارة تستهوي القارئ وتستدعي الراغب فيه إلى مفاوضته ومخابرته على أسرع ما يمكن وكل يوم تقرأ إعلانات كثيرة في طلب حالب بقرات تبلغ عدد كذا في محل كذا بغجرة كذا ومستخدم لمخزن يعرف كذا وطاهية تحسن إدارة بيت فيه كذا من الأنفس وبواب لمحل كذا وسائس باجرة كذا وحوذي وسائق وراع كذلك وحراث ومجلد ووراق وسكاف ومطرزة وعاملة في معمل إلى غي ذلك من الأساليب التي لم يسمع بها الشرق وهي من اختراع الغرب لان الإعلان نشأ فيها ومنه نشأت الجرائد.
الإعلان عن الحاجيات والكماليات لطيف ونافع ولكن ما كان يظن أن الغربيين أيضاً تساوى في طلب ذلك الرجال والنساء لأنهم يعتبرون الزواج وما يشبهه من الحاجات الطبيعية التي لا عيب فيها الأمر أنهم يعلنون عن ذلك بدون تسمية أسم الطالب والطالبة. وهذه الطريقة كانت البادئة بها فيما أظن جريدة الجورنال الباريزية ثم تبتعها على الأثر جرائد العالم وكان للسويسريين حظ وافر منها وإن كان عدد الطالبين والطالبات أقل من عددهم في باريز. وذلك بان يطلب أحدهم خادمة تستخدم لكل شيء بأجرة كذا على أن تقوم بعمل كذا وأن يكون عمرها كذا من السنيين أو أن الخادمة تطلب ذلك ولا تتوقف عن أن تصف صفاتها وجمالها وسنها وتصف رزانتها ووقارها. أكتب هذا وأمامي صحيفة إعلانات لوزان وفيها كثير من هذا القبيل منها أن امرأة إسرائيلية تريد التعرف إلى زوج عمره بين الخامسة والعشرين والثلاثين وأن تكون له ثروة ثم وصفت عمرها وما تملكه ومنها أن عقائل وأوانس يردن أن يتعرفن إلى خواجات تكون لهم مراكز طبية ومنها أن شاباً في الثالثة والثلاثين لا يتناول المسكرات حسن الخلقة والخلق من كل وجه له منصب(88/38)
حسن في الأرياف يريد أن يتعرف إلى فتاة في الخامسة والعشرين إلى الثلاثين ويؤثر أن تكون مسيحية ومعودة النظام ويقبل بأن تكون حاملة شيئاً من النقود وأنه رزين لا يفشي سراً وإذا أرسلت إليه الصورة الفوتوغرافية يعيدها في الحال والرجاء أن يكتب في ذلك بنمرة كذا لإدارة جريدة لوزان. والقوم هنا لا يكتفون بتعليق إعلاناتهم على الحوائط والمركبات في السكك الحديدية والكهربائية وعجلات النقل وفي الصحف والمنشورات والكراسات وعلى الأبواب والنوافذ ورؤوس الأبنية بل إن التاجر يعلن عن محله حتى في الورق الذي يصر به لك قميصاً أو بدلة أو كتاباً أو حذاءً أو منديلاً أو ورقاً أو أي شيء تبتاعه بل إن الخيط الذي يربط به الاضبارة أو الرزمة قد كتب عليه أسم محله وما فيه وهكذا في جميع ما يخطر ببال.
وتعتقد جميع المحال التجارية والشركات الصناعية والمدارس وغيرها أنها إذا لم تكثر من الإعلان عنها يتناساها الناس وتقل أرباحها وهذه لوزان لولا ما تفنن أهلها في الإعلان ما أصبحت عاصمة العلم في سويسرا الفرنساوية وبلغ طلبة كليتها ألفاً وأربعمائة منهم نحو ألف غريب من غير السويسريين وهكذا المدارس الخاصة التي يعيش بالتعلم فيها أناس لا يستقل بعددهم ومنها ما يدرس فن تدبير المنزل وآخر الفنون الجميلة وغيرها التجارة وبعضها اللغات وبعضها الألعاب الرياضية إلى آخر ما تفننوا فيه فجاء الغريب يستفيد منه فكان للوزان فصلان فصل الصيف يكثر فيه السائحون للنزهة وفصل الشتاء يكون خاصاً بالطلاب والمتعلمين ويستفيد من ذلك أهل البلاد مئات الألوف من الليرات.
وبلغ من تفنن القوم بالإعلانات أن أحدهم ألف كتاباً في فن الطبخ فكسد كساد بضاعة العلم في بلاد العرب ففكر فلم يجد أحسن من أن يعلن أن الفتاة التي تراجعه مرسلة إليه ثلاثة فرنكات يقدم لها خير نصيحة قبل زواجها تكفيها غوائل الدهر وحوادث الأيام فكان يبعث لكل مرسلة بالمبلغ المطلوب بنسخة من كتابه ويقول لها تعلمي هذا فباع من كتابه ثلاثة ألاف نسخة. وكتب بعضهم إذا أردت أن تغتني فأعمل عملي وأنا لا أعلمك ما عملت إلا إذا بعثت بكذا فرنك حوالة. فكان جواب هذا الشاطر لمن طلب إليه النصيحة أن يقول له أعما عملي فتغتني لا أي أكتب في إعلانك كما كتبت وهناك المال يقبض عليك. ولكن هذه الطرق نادرة جداً والصدق هو الغالب على الإعلانات كما قلنا ولذلك اعتمد الناس عليها(88/39)
وزادت عنايتهم بأمرها وأسست لها البيوت والشركات المهمة التي تدخلها فتظن نفسك في مصرف كبير أو معمل خطير. والإعلانات مادة الصحف في الغرب وكثير من أمهات جرائدها لا تصدر يوماً واحداً لولا الإعلانات لأن ما تأخذه من القراء والمشتركين لا يبلغ ثمن الورق مع أنها تطبع بمئات الألوف فتأمل يا تاجر بلادنا
سويسرا: التربية العملية
من أعظم أسرار امتياز الغربي عن الشرقي إن الفرد عندهم يعيش بنفسه لنفسه ونحن نتكل في عيشنا في الأغلب على الوالد والوالدة والقريب والحكومة ويقل جداً فيهم من اغتنى من غير المذاهب الطبيعية في المعاش من صناعة وزراعة وتجارة واقل منه فتى أو فتاة في مقتبل العمر تقعد به همته عن اتخاذ أسباب الكسب انتظاراً لأرث ربما يورثه إياه أبوه أو أمه أو لوظيفة تليق بعظمته يتناول راتبها الباهظ بعمل ضئيل قليل.
حالة تدهش في الغرب من عيش الاستقلال ونحن حالنا على ما تعهد من عيش الاتكال الذي انقض عدد العاملين والعاملات وقذف بنا من حالق مجد وسعة إلى دركات ذلة وفاقة. كلما ذكرنا وأيم الحق أن في دمشق نحو ثلاثة عشر ألف شحاذ أكثرهم أصحاء أقوياء نقضي المجب من حالنا ونسجل بأننا سواء وحكومتنا في هذا النوم أو التناوم عن السعي في مداواة أمراضنا الاجتماعية وبدون ذلك لا تقوم لنا قائمة ولا نتحرر من قيودنا السياسية والاقتصادية.
وأني آسف وأبكي لمئات من الشبان في سورية ولا سيما في دمشق وحلب وحماة وطرابلس والقدس سئموا الحياة لبطالتهم وهم يعيشون عالة على أهلهم ومنهم الموسع عليه في رزقه لا يتنزلون للاحتراف بحرفة ولا يرون أنه يليق بهم إلا أن يتصدروا على مقاعد الحكم آمرين ناهين يؤثرون البطالة منتظرين أن يموت أولياؤهم ليستولوا على أموالهم وفي الغالب أن يموت الموسر عندنا وهو موسر بالنسبة لمحيطه ويخلف أولاداً كثاراً تقسم بينهم الثروة فينال الواحد جزءاً قليلاً لا يستطيع إنماءه ولا يقوم بتفخله وبذخه هذا إذا لم يكن فاسد الأخلاق ولم يصرف دخل سنة في شهر وهناك بشع بالفقر إلى أرذل العمر.
أما الغرب فحاله غير حالنا إذا تعلم الولد التعليم الابتدائي غالباً يبدأ أهله يقطعون عنه راتبه ويطالبونه باجرة الدار وثمن الطعام ليلقي نفسه في معمعان الحياة ويعلم أنه فرد مسؤول(88/40)
عن نفسه لا يقوم بإعالته غير عمله ولهذا مئات الألوف من الأمثلة ولقد قلنا في مقالة سبقت أن ليس في الأرض امرأة ضاهت الرجل في عمله كالمرأة السويسرية فلا تكاد تجد في النساء من لا يحترفن في هذه الجمهورية السعيدة غنيات كنا أو فقيرات ولذلك تزيد ثروة البلاد يوماً بعد آخر وترتقي في كل فرع من فروعها المدنية الحيوية. وحال معظم أمم الحضارة كذلك.
أكتب هذا وأمامي أربع فتيات في المنزل الذي أويت إليه في لوزان لا أطاب لوطني إلا أن يكون رجاله دع نساءه في درجتين من التفاني في الحياة العملية والتناغي بحب الاستقلال في الأعمال. الفتاة الأولى انكليزية والثانية ألمانية والثالثة سويسرية فرنساوية والرابعة سويسرية ألمانية وكلهن سواء في كره الاتكال ومثال صالح غريب المثال قالت لي الفرنساوية السويسرية وهي في الحادية والعشرين من عمرها تعطي دروساً في الموسيقى وقد سألتها عن والدها وحالته في الدنيا: إنه متعهد أبنية ولنا بيتان يحتويان على زهاء عشرين مسكناً نؤجرهما في شالي من ضواحي لوزان وشقيقي الواحد صاحب نزل في نيس والآخر معلم بستاني في لندرا فقلت لها مثلك في الشرق يستريح ولا يعرف إلا الأزياء والرفاهية فقالت إن الناس كلهم في سويسرا يعملون وكل واحد يعيش لنفسه فليس من العدل أن أعيش عالة على والدي أو والدتي ولا على أحد أشقائي بل أعمل وأجمع ثروة لنفسي عملاً بسنة العاملين والعاملات أما الفتاة الانكليزية وهي في الحادية والعشرين أيضاً فقد هجرت بلادها وجاءت لوزان تدخل في إحدى البيوت الخاصة التي توفرت على تعليم الفتيات اللائي تخرجن من المدارس العليا في انكلترا وألمانيا وروسيا أو غيرها وأردن أن يتقدمن في معرفة الفرنساوية وآدابها والرياضيات البدنية والرقص والغناء وغير ذلك من لوازم المرأة الأوروبية الراقية التي تليق لترأس المجتمعات العالية والتصدر في الردهات والقاعات. قالت إنها تعلم الانكليزية وهي لا تتناول مالاً وإنما تعيش مع الفتيات في مدرسة وتتعلم الافرنسية بهذه الواسطة. وقد ذهب الفتيات خلال عطلة رأس السنة إلى الجبال للتزحلق والتدحرج والتسلق على الثلج فاقفل باب النزل فعرض عليها هي ورفيقتها الفتاة الألمانية أن يذهبا مع الفتيات فأثرتا البقاء في لوزان فجعلتهما مديرة تلك المدرسة في النزل الذي نحن فيه مدة العطلة تنفق عليهما ريثما تفتح أبواب منزلها أو مدرستها. أما الفتاة(88/41)
الألمانية رفيقة الانكليزية فهي في الثالثة والعشرين وحالها أيضاً حال رفيقتها تعلم الألمانية وتتعلم الافرنسية وتزيد عليها بان تعطي دروساً خارج المدرسة وأهلها أصحاب يسار في الجملة ولكنها تحتاج لتعلم الافرنسية وهذه هي الواسطة التي رأت إن تعمد إليها في إتقان لغة هوغو وموسيه لتضمها في صدرها إلى لغة كيتي وشيلر.
أما الرابعة وهي ألمانية سويسرية فحالها أدهش من حال الثلاث وذلك لان والدها صاحب مخزنين في لوسرن وانترلاكون لو حسب ما يملكه على حساب بلادنا لعدد من الأغنياء عندنا على انه لا يعد في المحاويج بل المتوسطين هنا فأراد إن يعلم ابنه وابنته الافرنسية لمسيس الحاجة إليها في تجارته وحتى يكونا على أتم الاستعداد لتلقي مصاعب الحياة فجاء بالوالد وهو في السابعة عشرة يجعله في نزل في ارباض لوزان خادماً يأكل وينام ويتناول راتباً قليلاً ويتعلم الافرنسية ويتمرن عليها بالعمل وكان تعلم مبادئها بالنظر في المدرسة وشقيقه هذا الفتى في التاسعة عشرة من عمرها شأن شقيقها تحب إن تتعلم الافرنسية وتدبير المنزل وتعيش مستقلة فجعلها أبوها خادمة براتب25 فرنكاً في الشهر في النزل الذي نحن فيه وهي وحدها تتولى جميع أعمال المنزل إلا ملاحظة الطبخ فان صاحبة الدار تنظر فيه بنفسها فترى تلك الفتاة من الساعة السابعة صباحاً إلى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليلاً تعمل بكد لم أر مثله وتقوم بجميع أنواع الخدمة على صورة مدهشة فبينما تراها تكنس بضع غرف في الدار وترتب فرشها وتصلح أدواتها الكثيرة أو تفرك الدهليز والممشى والزجاج والدرفات والأبواب إذا هي تتعهد المطبخ أو تخرج كالبرق في جلب حاجة من السوق أو تقدم الطعام على المائدة وترتب السفرة أو تجلو الطباق والصحون أو غير ذلك مما يكثر عدده في البيوت الأوربية تعمل كل ذلك ومنه الشاق الوسخ ومع هذا لا تراها إلا باسمة في حين حرمت من رفاهيتها في دار أبيها وعند الخادمات والخدمة.
هذا مثال ما رأيته بالذات من أمثلة التربية الاستقلالية في البنات هنا وبعدها هل يعجب المرء من غنى هؤلاء الأوربيين بعد أن عدوا كل عمل شريفاً اللهم إلا ما يثلم العرض ويعبث بالمروءة وهذا لا تكاد تخلو منه أمة مهما أدعت أنها أمة أخلاق وتدين وشرف.
كل فتاة من هاته الفتيات وفرت على أهلها بعملها مئة أو مئة وخمسين ليرة في السنة وربحت التعلم العملي والتدرب على الحياة الاقتصادية الاستقلالية فبالله عليك(88/42)
أيستطيع احد أبناء الطبقة الوسطى عندنا وهي تعد من الفقراء في الغرب أن يقول لابنه اذهب إلى بلد كذا واخدم وتعلم فضلاً عن أن يقول لابنته علمتك القراءة والكتابة والحساب فعلميها لمن الطبخ وتدبير المنزل والخياطة والتفصيل.
رآنا في مصر والشام أناساً من المسلتير لم يعقهم عن تعليم أولادهم التعليم المطلوب الأضيق ذات يدهم وكثرة أولادهم لأنهم كلهم يريدون أن يعيشوا مرفهين ابن الحراث كابن الغني صاحب المزارع والعقارات. ورأينا أناساً فادوا بالمال واقتطعوا جانباً من رؤوس أموالهم ليعملوا به أولادهم على أمل أن يعينوهم في أيامهم السود فكان من أولادهم من تعلموا تعليماً ناقصاً ولم يكن منهم إلا أن عظمت نفوسهم وظنوا أنفسهم شيئاً مذكوراً وشمخت أنوفهم عن العمل إلا في الأعمال التي يصورها لهم الخبال أنها نافعة شريفة وذهب ما صرفه أولياؤهم من الذهب عبثاً الأولاد إذا ربوا كما يربي السويسري والألماني والانكليزي بناته جاء منهم محنكون يعرفون قدر المال والعمال ويدخلون في الحياة من الصغير فيرتقون إلى الكبير. يتهمون الألمان بالشح والفرنسيس بالاقتصاد الزائد والانكليز بقسوة القلب والحقيقة أن البشر كله من طينة واحدة يحن إلى أولاده ويستميت في ترفيههم ولكن الفرق بيننا وبينهم إنهم يلقنون أولادهم معنى الحياة المستقلة ونحن ننشئهم على حياة الاتكال والرضا بالقلة.
أيأتي يا ترى على الشرق الأقرب يوم نرى فيه الرجال والنساء صغارهم وكبارهم يعملون لنشهد أو أبناؤنا وأحفادنا مثالاً من الأمم التي تود البقاء لا الدثور والفناء أم نبقى هكذا يسرق بعضنا بعضاً ونعد عمله مهارة أو ينتظر صغيرنا كبيرنا ليموت فيرثه ونحسبه من الموفقين أم تضعف وطنيتنا وحبنا لبلادنا فنتركها تنعي من بناها إلى بلاد أخرى حيث الحياة سهلة والعيش خضال طف المدينة والمزرعة وادخل المعمل والمخزن وانظر الباعة والإشراف في سويسرا تجدهم كلهم لا يستنكفون عن العمل. في لوزان سوق تقام مرتين في الأسبوع على عادة معظم المدن الأوربية مثل سوق الأحد وسوق الجمعة في دمشق تباع في ذاك السوق جميع أنواع المأكول والملبوس والمنظور فترى فيه نموذجاً صالحاً من حاصلات البلاد وصناعتها وأكثرها رخيص قصدته عدة مرات للفرجة وابتياع بعض اللوازم فدهشت وقد رأيت بعض النساء الغنيات والفتيات البارعات الجمال يبتعن بأنفسهن(88/43)
حاجات بيوتهن يجعلنها في كيس براق من المطراز ويحملنها إلى مساكنهن وقد تكون بعيدة وعند أكثرهم على ما بلغني الخادمات والطباخات والوصيفات قلما يعهدن إليهن بشراء حاجة ولو طفيفة ويذهبن بأنفسهن لابتياعها وهكذا تجد الديمقراطية تشربتها نفوس الكبير والصغير فلا يجد احد من المعيب أن يخدم نفسه وداره وأهله وسواء في الشرف من يكسح القمامات والثلج من الشارع ويرزق خمسة فرنكات في النهار ومن يملك مصرفاً كبيراً يعد ما يربحه كل يوم بمئات من الفرنكات ما دام كلاهما يعمل في دائرته بقدر طاقته ولا يتعلق بأحد وأول ما يسأل الزوج عن فتاة يخطبها قبلان يسأل عن جمالها ما هي معارفها وما تسطيع عمله. فاللهم علمنا علماً ينفعنا في نهوضنا حتى لا نخجل من انحطاطنا في أنفسنا دع خجالتنا أمام غيرنا فان الفرق بين بلادنا وبلادهم أصبح كالفرق بين النور والظلمة والجنة والنار وما راء كمن سمعنا.(88/44)
معجم البلدان
أفضنا في الجزء السالف في الكلام على هذا المعجم الجليل ونقلنا شذرات لطيفة منه بياناً لمنزلته بين المصنفات وها نحن نعاود البحث فيه فنقول: إن معجم ياقوت في البلدان هو من امثل ما طبع أيضا من كتب الخطط وتاريخ العمران وكوارث البلدان ووصفها تستخرج منه عدة أبحاث ولذلك ساغ أن يقال أن هذا المعجم عبارة عن كتب حواها كتاب أو هو دائرة معارف أو موسوعات العلوم العمرانية فما نقله في عمران البلدان فيالشاذباخ قال أنها مدينة نيسابور أم بلاد خراسان في عصرنا وكانت قديماً بستاناً لعبد الله بن طاهر بن الحسين ملاصق مدينة نيسابور فذكر الحاكم أبو عبد الله بن البيع في آخر كتابه في تاريخ نيسابور أن عبد الله بن طاهر لما قدم نيسابور والياً على خرسان ونزل بها ضاقت مساكنها من جنده فنزلوا على الناس في دورهم غضباً فلقي الناس منهم شدة فاتفق أن بعض أجناده نزل في دار رجل ولصاحب الدار زوجة حسنة وكان غيوراً فلزم البيت لا يفارقه غيرةً على زوجته فقال له الجندي يوماً: اذهب واسق فسقي ماء فلم يجسر على خلاف ولا استطاع مفارقه أهله فقال لزوجته: اذهبي أنت واسقي فرسه لأحفظ أنا أمتعتنا في المنزل فمضت المرأة وكانت وضيئة حسنة. واتفق ركوب عبد الله بن طاهر فرأى المرأة فاستحسنها وعجب من تبذلها فاستدعى بها وقال لها: صورتك وهيئتك لا يليق بهما أن تقودي فرساً وتسقيه فما خبرك فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر بنا قاتله الله ثم أخبرته الخبر فغضب وحوقل وقال: لقد لقي منك يا عبد الله أهل نيسابور شراً ثم أمر العرفاء أن ينادوا في عسكره من بات نيسابور حل ماله ودمه وسار إلى الشاذياخ وبنى فيه داراً له وأمر الجند ببناء الدور حوله فعمرت وصارت محلة كبيرة واتصلت بالمدينة فصارت من جملة محالها ثم بنى أهلها بها دوراً وقصوراً. قال ياقوت هذا معنى قول الحاكم فإنني كتبته من حفظي إذا لم يحضرني أصله ولذلك قال الشاعر يخاطب عبد الله بن طاهر:
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... بالشاذياخ ودع غمدان لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من ابن هوذة يوماً وابن ذي يزن
ثم انقضت دولة آل طاهر وخربت تلك القصور فمر بها بعض الشعراء فقال:
وكان الشاذياخ مناخ ملك ... فزال الملك عن ذاك المناخ
وكانت دورهم للهو وقفاً ... فصارت للنوائح والصراخ(88/45)
فعين الشرق باكية عليهم ... وعين الغرب تسعد بانتضاح
ومثل ذلك ما ذكره التاج وهو اسم لدار مشهورة جليلة المقدار واسعة الأقطار ببغداد وكانت من دور الخلافة وكان بناه جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أولا ليخلو فيه بندمائه وقيانه فلما أوقع الرشيد بالبرامكة وكان القصر إلى ذلك الوقت يسمى القصر الجعفري انتقل إلى المأمون فكان من أحب المواضع إليه وأشهاها لديه واقتطع جملة من البرية عملها ميداناً لركض الخيل واللعب بالصوالجة وحيزاً لجميع الوحوش (حديقة حيوانات) وفتح له باباً شرقياً إلى جانب البرية وأجرى فيه نهراً قال ثم نزل القصر الحسن بن سهل والد بوران زوج المأمون ولما طوت العصور ملك المأمون والقصور وصار الحسن بن سهل من أهل القبور بقي القصر لابنته بوران إلى أيام المعتمد على الله فاستنزلها المعتمد عنه وأمر بتعويضها منه فاستمهلته ريثما تفرغ من شغلها وتنقل مالها وأهلها وأخذت في إصلاحه وتجديده ورمه وأعادت ما دثر منه وفرشته بالفرش المذهبة والنمارق المقصبة وزخرفت أبوابه بالستور وملأت خزائنه بأنواع الطرف مما يحسن موقعه عند الخلفاء ورتبت في خزائنه ما يحتاج إليه من الجواري والخدم الخصيان ثم انتقلت غالى غيره وأرسلت المعتمد باعتماد أمره فاتاه فرأى ما أعجبه وأرضاه واستحسنه واشتهاه وصار من أحب البقاع إليه وكان يتردد فيما بينه وبين سر من رأى فيقيم هنا تارة وهناك أخرى ثم تولاه المعتضد وابتدأ في بناء التاج وجمع الرجال لحفر الأساسات ثم مات ولما تولى ابنه المكتفي بالله آت عمارة التاج الذي كان المعتضد وضع أسساه بما نقضه من القصر المعروف بالكامل ومن القصر الأبيض الكسروي الذي لم يبق منه الآن بالمدائن سوى الإيوان فكان الآجر ينقض من شرف قصر كسرى وحيطانه فيوضع في مسناة التاج وهي طاعنة إلى وسط دجلة وفي قرارها ثم حمل ما كان في أسست قصور كسرى فبنى به أعالي التاج وشرفاته قال وما صفة التاج فكان وجهه مبنياً على خمسة عقود كل عقد على عشرة أساطين خمسة أذرع ووقعت في أيام القتفي سنة 549 صاعقة فتأججت فيها وفي القبة وفي دارها التي كانت القبة إحدى مرافقها وبقيت النار تعمل فيه تسعة أيام ثم أطفئت وقد صيرته كالفحمة وكانت آية عظيمة ثم أعاد المقتفي بناء القبة على الصورة الأولى ولكن بالجص والآجر دون الأساطين الرخام وأهمل إتمامه حتى مات وبقي كذلك إلى سنة 574 فتقدم أمير المؤمنين(88/46)
المستضيء بنقصه وإبراز المسناة التي بين يديه إلى أن تحاذي به مسناة التاج فشق رأسها ووضع البناء فيه على خط مستقيم من مسناة التاج واستعملت أنقاض التاج مع ما كان اعد من الآلات من عمل هذه المسناة ووضع موضع الصحن الذي فيه الأئمة وهو الذي يدعى اليوم بالتاج ومن عجائب ما ذكره في القصور العربيةدار الشجرة قال هي دار بالدار المعظمة الخليفية ببغداد من أبنية المقتدر بالله وكانت داراً فسيحة ذات بساتين مونقة وإنما سميت بذلك لشجرة كانت هناك من الذهب والفضة في وسط بركة كبيرة مدورة أمام إيوانها وبين شجر بستانها ولها من الذهب والفضة ثمانية عشر غصناً لكل غصن منها فروع كثيرة مكللة بأنواع الجواهر على شكل الثمار وعلى أغصانها أنواع الطيور من الذهب والفضة إذا مر الهواء عليها أبانت عن عجائب من أنواع الفير والهدير وفي جانب الدار عن يمين البركة تمثال خمسة عشر فرساً ومثله عن يسار البركة قد البسوا أنواع الحرير المديح مقلدين بالسيوف وفي أيديهم المطارد يتحركون على خط واحد فيظن أن كل واحد منهم إلى صاحبه قاصد.
وكثيراً ما يتوسع ياقوت في الكلام على تاريخ المدن ولا سيما مدن العرب (المقتبس م 7ص 401) مثل كلامه على واسط قال ورأيت أنا واسطاً مراراً فوجدتها بلدة عظيمة ذات رساتيق وقرى كثيرة وبساتين ونخيلاً يفوت الحصر وكان الرخص موجوداً فيها من جميع الأشياء ما لا يوصف بحيث أني رأيت فيها كوز زبد بدرهمين واثنتي عشرة دجاجة بدرهم وأربعة وعشرين فروجاً بدرهم والثمن اثنتا عشر رطلاً بدرهم والخبز أربعون رطلاً بدرهم واللبن مائة وخمسون رطلاً بدرهم والسمك مائة رطل بدرهم وجميع ما فيها بهذه النسبة. وواسط هي التي بناها الحجاج وكانت لرجل من الدهاقين يقال له داوردان فساومه عامل الحجاج فقال له الدهقان: ما يصلح هذا الموضع للأمير فقال: لم فقال: أخبرك عنه بثلاث خصال تخبره بها ثم الأمر إليه قال: وما هي قال: هذه بلاد سبخة البناء لا يلبث فيها وهي شديدة الحر والسموم وان الطائر لا يطير في الجو إلا ويسقط لشدة الحر ميتاً وهي بلاد أعمار أهلها قليلة قال: فكتب بذلك الحجاج فقال هذا رجل يكره مجاورتنا فاعلمه أنا سنحفر بها الأنهار ونكثر من البناء والغرس فيها ومن الزرع حتى تعدو وتطيب وأما قوله أنها سبخة وان البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا وأما قلة أعمار أهلها(88/47)
فهذا شيء إلى الله تعالى لا إلينا فاعلمه أننا نحسن مجاورتنا له ونقضي زمامه بإحساننا إليه. قال فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء في أول سنة83 واستتمه في سنة 86 إلى آخر ما قال وفيه من كبر عقل الحجاج ما لا يقدر على الإجابة بأحسن منه اكبر ساسة العصر وأرقاهم بعلوم هذه الأيام ولا عجب فالعرب كانوا ينظرون في مسائل الصحة نظراً بليغاً. ذكر ياقوت في مادة حضوة انه شكا قوم من أهلها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وباء أرضهم فقال لو تركتموها فقالوا معاشنا ومعاش إبلنا وطننا فقال عمر للحارث بن كلدة (طبيب العرب): ما عندك في هذا فقال الحارث البلاد الوبئة ذات الأدغال والبعوض وهو عش الوباء ولكن ليخرج أهلها إلى ما يقاربها من الأرض العذبة إلى تربيع النجم وليأكلوا البصل والكراث ويباكروا السمن العربي فليشربوه وليمسكوا الطيب ولا يمشوا حفاة ولا يناموا بالنهار فاني أرجو إن يسموا فأمرهم عمر بذلك ولذلك قال عمر وقد ذكرت له الشام ووباؤها: لبيت بركبة (أحب إلي من عشرة أبيات وقال في سيراف ما ملخصه: ذكر الفرس في كتابهم المسمى بالابستاق وهو عندهم بمثابة التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى إن كيكاوس لما حدث نفسه بصعود السماء صعد فلما غاب عن عيون الناس أمر الله الريح بخذلانه فسقط بسيراف فقال اسقوني ماءً ولبناً فسقوه ذلك بذلك المكان فسمي بذلك لان شير هو اللبن وآب هو الماء ثم عربت الشين إلى السين والباء إلى الفاء فقيل سيراف وهي على ساحل بحر فارس كانت قديماً فرضة الهند رأيتها وبها آثار عمارة حسنة وجامع مليح على سواري ساج وهي في لحف جبل عال جداً وليس للمراكب فيها مينا فالمراكب إذا قدمت إليها كانت على خطر إلى إن تقرب منها إلى نحو فرسخين موضع يسمى نابذ هو خليج ضارب بين جبلين وهو مينا جيد غاية وإذا حصلت المراكب فيه امتنعت جميع أنواع الرياح وبين سيراف والبصرة إذا طاب الهواء سبعة أيام. ووصفها أبو زيد حسب ما كانت في أيامه فقال أنها الفرصة العظيمة لفارس وهي مدينة عظيمة ليس بها سوى الأبنية حتى يجاوز على نظر عملها وليس بها شيء من مأكول ولا مشروب ولا ملبوس إلا ما يحمل إليها من البلدان ولا بها زرع ولا ضرع ومع ذلك فهي أغنى بلاد فارس قلت (أي ياقوت) كذا كانت في أيامه فمنذ عمر ابن عميرة جزيرة قيس صارت فرضة الهند واليها منقلب التجار خربت سيراف وغيرها ولقد رأيتها وليس بها قوم إلا(88/48)
صعاليك ما اوجب لهم المقام بها إلا حب الوطن ووصفها الاصطنحري إن بناءها بالسلج وخشب يحمل من بلاد الزنج وأبنيتهم طبقات وهي على شفير البحر مشتبكة البناء كثيرة الأهل يبالغون في نفقات الأبنية حتى أن الرجل من التجار لينفق على داره زيادة على ثلاثين ألف دينار ويعملون فيها بساتين.
وكثيراً ما يستطرد ياقوت إلى ذكر واردات المدن وصنائعها كما فعل في نشر ميزانية الحكومة في حلب لعهده وكما فعل في وصف صنائع سلجماسة من بلاد السودان قال ولنسائهم يد صناع في غزل الصوف فهن يعملن منه كل حسن عجيب بديع من الإزار تفوق القصب الذي بمصر يبلغ ثمن الإزار خمسة وثلاثين ديناراً وأكثر كأرفع ما يكون من القصب الذي بمصر ويعملون منه غفارات يبلغ ثمنها مثل ذلك ويصبغونها بأنواع الأصباغ. وقال فيكاكدم مدينة بأقصى المغرب جنوبي البحر: وبأرضهم حيوان يقال له اللمط من جنس الظباء إلا انه أعظم خلقاً ابيض اللون يتخذ من جلده الدرق اللمطية قطر الدرقة منها عشرة أشبار لم يتحصن المحاربون قط بأوقى منها يكون ثمن الجيد منها بالمغرب ثلاثين ديناراً مؤمنية تدبغ في بلادهم باللبن وقشر بيض النعام وقال في شاطبة في شرقي الأندلس انه يعمل الكاغد الجيد فيها ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس وقال في دمياط: ومن ظريف أمر دمياط في قبليها على الخليج مستعمل فيه غرف تعرف بالمعامل يستأجرها الحاكة لعمل الثياب الشرب فلا تكاد تنجب إلا بها فإن عمل بها ثوب وبقي منه شبرا ونقل إلى هذه المعامل علم بذلك السمسار المبتاع للثوب فينقص من ثمنه لاختلاف جوهر الثوب عليه وقال ابن زولاق يعمل بدمياط القصب البلخي من كل فن والشرب لا يشارك تنيس في شيء من عملها وبينهما مسيرة نصف نهار ويبلغ الثوب الأبيض بدمياط وليس فيه ذهب ثلاثمائة دينار ولا يعمل بدمياط مصبوغ ولا بتنيس ابيض وهما حاضرتا البحر وبهما من صيد السمك والطير والحيتان ما ليس في بلد - واخبرني بعض وجوه التجار وثقافتهم انه في بلد. وبها الفرش القلموني من كل لون العلم والمطرز ومناشف الأبدان والأرجل وتتحف بها جميع ملوك الأرض.
ومن هذا المصنف البديع تفهم مبالغ الثروات في حكومات عصره وقبلة ودرجة تأنقهم ورفاهيتهم من ذلك ما رواه في سامراء من أن المتوكل انفق سبعمائة ألف دينار على(88/49)
نهرين. . . . . . . . . . . من دجلة تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامراء ولم يبن احد من الخلفاء بسر من رأى من الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل وعدد ياقوت ما أنفقه من مئات الألوف من الدنانير والدراهم على القصر المعروف بالعروس والقصر المختار والوحيد والجعفري والغريب والشيدان والبرج والصبح والمليح وبستان الابتاخية والتل والجوسق والمسجد الجامع والغرد والمتوكلية والبهو واللؤلؤة.
بدائع لم تراها فارس ... ولا الروم في طول أعمارها
وللروم ما شيد الأولون ... وللفرس آثار أحرارها
ولا عجب في غنى الخلفاء فقد كان الوزراء أيضاً على هذه النسبة فقد ذكر ياقوت عن السلفى عمن حدثه قال كان لأبي غانم القصري أربعمائة غلام يركبون بركوبه وكان يدخل الحمام ليلاً فيكون بين يديه شمع معمول من العود والعنبر وأنواع الطيب إلى أن يخرج ولم يحك عن احد من الوزراء ما حكي عنه من التنعم. وذكر في مادة دور الراسبي وكان الراسبي من عظماء العمال وأفراد الرجال توفي سنة 301 في أيام المقتدر ووزراء علي بن عيسى وكان يتقلد من حد واسط إلى حد شهرزور وكورتين من كورة الأهواز وكان مبلغ ضمانه ألف ألف وأربعمائة ألف دينار في كل سنة ولم يكن للسلطان معه عامل غير صاحب البريد لان الحرث والخرج والضياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلاً في ضمانه فكان ضابطاً لأعماله شديد الحماية لها من الأكراد والأعراب واللصوص وخلف مالاً عظيماً وحمل من تركته إلى بغداد. ما هذه نسخته: العين. أربعمائة ألف وخمسة وأربعون ألفاً وخمسمائة وسبعة وسبعة وسبعون ديناراً. الورق ثلاثمائة ألف وعشرون ألفاً ومائتان وسبعة وثلاثون درهماً. وزن الأواني الذهبية ثلاثة وأربعون ألفاً وتسعمائة وسبعون مثقالاً. آنية الفضة ألف وتسعمائة وخمسة وسبعون رطلاً. ومما وزن بالشاهين من آنية الفضة ثلاثة عشر ألف وستمائة وخمسة وسبعون درهماً. ومن الند المعمول سبعة ألاف وأربعمائة مثقال ومن العود المطرا أربعة ألاف وأربعمائة وعشرون مثقالاً. ومن العنبر خمسة آلاف وعشرون مثقالاً ومن نوافج المسك ثمانمائة وستون نافجة. ومن المسك المنثور ألف وستمائة مثقال ومن السك ألفا ألف وستة وأربعون مثقالاً. ومن البرمكية ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعون مثقالاً. ومن الغاليه ثلاثمائة وستة وستون مثقالاً ومن الثياب المنسوجة(88/50)
بالذهب ثمانية عشر ثوباً قيمة كل واحد ثلاثمائة دينار. ومن السروج ثلاثة عشر سرجاً. ومن الجواهر حجران ياقوت. ومن الخواتم الياقوتية خمسة عشر خاتماً. خاتم فضة زبرجد. ومن حب اللؤلؤ سبعون حبة وزنها تسعة عشر مثقالاً ونصف ومن الخيل الفحول والإناث مائة وخمسة وسبعون رأساً. ومن الخدم السودان مائة وأربعة عشر خادماً ومن الغلمان البيض مائة وثمانية وعشرون غلاماً. ومن خدم الصقالبة والروم تسعة عشر خادماً. ومن الغلمان الأكابر أربعون غلاماً بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم. ومن أصناف الكسوة ما قيمته عشرون ألف دينار. ومن أصناف الفرش ما قيمته عشرة آلاف دينار. ومن الدواب المهاري والبغال مائة وثمانية وعشرون رأساً. ومن الجماز والجمازات تسع وتسعون رأساً. ومن الحمير النقالة الكبار تسعون رأساً. ومن قباب الخيام الكبار مائة وخمس وعشرون خيمة. ومن الهوادج والسروج أربعة عشر هودجاً. ومن الغضائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر أربعة عشر صندوقاً.
قلنا ولا عجب أن يختلف احد العمال مثل هذه الثروة والبلاد عامرة على ذاك العهد أكثر من اليوم ولم تكن الدولة تحتاج كما هي حال الدول اليوم أن تنفق على بحريتها وبريتها هذه النفقات المضنية الفاحشة ذكر ياقوت في مادة السواد أن الخليفة الثاني أمر بمسح السواد سواد العراق فكان بعد أن اخرج عنه الجبال والأودية والأنهار ومواضع المدن والقرى ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم والشجر ستة دراهم وحتم الجزية على ستمائة ألف إنسان وجعلها طبقات الطبقة العالية ثمانية وأربعون درهماً والوسطى أربعة وعشرون درهماً والسفلي اثنا عشر درهماً فجي السواد مائة ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم. قال عمر بن عبد العزيز لعن الله الحجاج فإنه ما كان يصلح للدنيا ولا للآخرة فإن عمر بن الخطاب رضي الله عمه جبى العراق بالعدل والنصفة مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم وجباه زيادة مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف درهم وجباه ابن عبيد الله أكثر منه بعشرة آلاف ألف درهم ثم جباه الحجاج بعسفه وظلمه وجبروته ثمانية وعشرون ألف ألف درهم فقط وأسلف الفلاحين للعمارة ألفي ألف فحصل له ستة عشر ألف ألف قال عمر بن عبد العزيز وها أنا قد رجع(88/51)
إلي على خرابة فجبيته مائة ألف ألف وأربعمائة وعشرين ألف ألف درهم بالعدل والنصفة وأن عشت له لأزيدن على جباية عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وشبيه بهذا ما وراء ياقوت في مادة مصر عن احمد بن المدير من انه لو عمرت مصر كلها لوفت بالدنيا وقال: أن مساحة مصر ثمانية وعشرون ألف ألف فدان وإنما يعمل فيها في ألف ألف فدان. جبى عمرو بن العاص مصر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اثني عشر ألف ألف دينار فصرفه وقلدها عبد الله بن أبي سرح فجباها أربعة عشر ألف ألف فقال عمر لعمرو يا أبا عبد الله أعلمت أن اللقحة بعدك درت فقال: نعم ولكنها أجاعت أولادها. وقال لنا أبو حازم: أن هذا الذي رفعه عمرو بن العاص وابن أبي سرح إنما كان عن الجماجم خاصة دون الخراج وغيره. . ولا عجب فإن عمران مصر في القديم كعمران العراق أو هو أكثر روى ياقوت في مادة حرجة قال: حدثني الثقة أن شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخا الملك الصالح الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب كان يقول: ما اعرف في الدنيا أرضاً طولها شوط فرس في مثله يستغل ثلاثين ألف دينار غير الحرجة.
يفيض ياقوت في كلامه على البلدان بذكر أسماء من خرج منها من الأعيان ولا سيما المحدثون بحيث ربما ادخل الملل على بعض المطالعين لأنه يورث الكلام طولاً ولكن منهم من هو المهم في فنه. ويستشهد بأقوال الشعراء في البلاد وربما استشهد بالشعر لجودته أو للتنويه بقائله بالمناسبة مثال ذلك ما قاله في طرطوشة في ترجمة ابن أبي رندفة الطرطوشي المتوفى 520 وكانت له نفس أبيه أخبرت انه كان في بيت المقدس بطبخ في شقف وكان مجانباً للسلطان استدعاه فلم يجبه وراموه الغض من حاله فلم ينقصوه قلامة ظفر وله تأليف وشعر فمن شعره في بر الوالدين:
لو كان يدري الابن أية غصة ... يتجرع الأبوان عند فراقه
أم تهيج بوجده حيرانة ... وأب يسخ الدمع من آماقه
يتجرعان لبينه غصص الردى ... ويبوح ما كتماه من أشواقه
لرثى لأم سل من أحشائها ... وبكى لشيخ هام في آفاقه
ولبدل الخلق الأبي بعطفه ... وجزاهما بالعذاب من أخلاقه.
وقال في صيمرة ومنها أبو العنبس الصيمري المتوفى سنة 275 وكان شاعراً أدبياً مطبوعاً(88/52)
ذا ترهات وله تصانيف هزلية نحو الثلاثين منها تأخير المعرفة وغير ذلك ومن شعره:
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعواد
قد يصاد القطا فينجو سليماً ... ويحل القضا بالصياد
ومثال الإشعار التي أوردها في البلدان قول أحيحة بن الجلاح في أرضه الزوراء:
استغن أو مت ولا يغررك ذو نسب ... من ابن عم ولا عم ولا خال
يلوون ما عندهم عن حق جارهم ... وعن عشيرتهم والمال بالوالي
فاجمع ولا تحقرن شيئاً تجمعه ... ولا تضيعنه يوماً على حال
أني أقيم على الزوراء أعمرها ... أن الحبيب إلى الإخوان ذو المال
بها ثلاث بناء في جوانبها ... فكلها عقب تسقى بإقبال
كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا ندائي إذا ناديت يا مالي
ما أن أقول لشيء حين افعله ... لا استطيع ولا ينبو على حال
ومثله ما أورد في مادة يميم بفتح أوله وثانيه وميم ساكنة وباء موحدة أخرى وميم اسم موضع قرب تبالة عند بيشه وترج والتلفظ به عسر لقرب مخارج حروفه قال حميد بن ثور
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وتأوما
من الورق حما العلاطين باكرت ... عسيب أشاء مطلع الشمس مبسما
اذا زعزعته الريح أو لعبت به ... أرنت عليه مائلاً ومقوماً
تنادي حمام الجهلتين ونرعوب ... إلى ابن ثلاث بين عودين أعجما
مطوق طوق لم يكن عن تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تقبض عنه غرقي البيض واكتسى ... أنابيب من مستعجل الريش أقتما
يمد إليها خشية الموت جيده ... كمدك بالكف البري المقدما
فلما اكتسى الريش السخام ولم يجده ... لها معه في باحة العش مجثما
اتيح لها صقر منيف فلم يدع ... لها ولداً إلا رماماً وأعظما
فأرقت على غصن ضحياً فلم تدع ... لباكية في شجوها متلوما
فهاج حمام الجهلتين نواحها ... كما هيجت ثكلى علي الموت مأتما(88/53)
اذا شئت غنتني باجزاع بيشة ... أو النخل من تثليث أو من يميما
عجبت لها أنى يكون بكاؤها ... فصيحاً ولم تغفر بمنطقها فما
فلم ار مخزوناً له مثل صوتها ... أحر وانكي في الفؤاد واكلما
ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما.(88/54)
أخبار وأفكار
التلغراف اللاسلكي
أخذ هذا السلك يرتقي ويكثر ويقدرون الآن عدد محطاته بمائتين وثلاثين محطة على سطح الكرة منها 32 في كندا و25 في انكلترا و23 في روسيا و20 في ألمانيا و20 في ايطاليا و15 في البرازيل و11في الهند و9 في اسبانيا و8 في فرنسا ويبلغ عدد البواخر التجارية التي تمخر عباب جميع البحار التي ارتبطت بالتلغراف اللاسلكي 1200 باخرة منها 590 لانكلترا و153 لألمانيا و90 لفرنسا وهذه الطريقة من المواصلات تنمو سنة عن سنة.
لغة الاسبرانتو
الشيء لأنها سهلة مؤلفة من ابسط الكلمات اللاتينية ويرجو ناشروها اليوم أن تعم العالم كله فتصبح لغة الأمم لتزول الخلافات بين الشعوب التي تتقاتل كل يوم ولا تفكر إلا في أن ينقض بعضها على الآخر وينهب احدها ملك الآخر. قال احدهم إذا كان بعضهم يرون أن من الخيال أن تكون اليوم للبشر لغة عامة مشتركة فإنه لا يبعد أن تحقق هذه الأمنية غداً فإن المستقبل للمتخيلين. واكبر دليل على أن البشر يستطيعون أن يتعلموا لغتين تكونان لهم بمثابة لغة واحدة أن شعوباً برمتها لهذا العهد تتكلم بلغتين وتعتبرها لغة واحدة. فإن الشعب في إقليم البروفانس يتكلم باللغة البروفانسية ومع هذا يتكلمون بالافرنسية بسهولة وفي بلاد الباسك يتكلمون الفرنسية وباللغة الباسكية وفي إقليم برتانيا يتكلمون بلغة البروتون وبالافرنسية وفي بلاد الغال بالغالية والانكليزية وفي سويسرا يتكلم نصف مليون من أهلها باللغتين الافرنسية والألمانية وأهل فلندا يتكلمون باللغة الفلاندية وبالسويدية وأهل صقلية والبيمون في ايطاليا يتكلمون باللغة الايطالية ولهم لهجة خاصة مختلفة أحداها عن الأخرى تختلف عن الايطالية الحقيقية التي يتكلم بها في فلورنسة ورومية. فإذا صحت عزائم الصناع والعملة والفلاحين على تعلم هذه اللغة لا يضطرون في دراستها إلى مدارسة النحو والصرف بل يتعلمونها لاهون سبب وتنفعهم في جميع أرجاء العالم لسهولتها وهذه اللغة كما قالوا هي أشبه بالأخوة المسيحية لأن المتكلمين بها يتكلمون كما يتكلم الأخوة إذ لا اختلاف بينهم. أما الشرقيون فإن تعلم لغة الاسبرانتو يقرب في صعوبته عليهم من تعلم لغة من لغات المدنية الحديثة ولذلك كانت الاسبرانتو لغة للغربيين. والشرقيون ولا سيما في(88/55)
تركستان والصين وافغانستان وبلوجستان وإيران وجاوره ومعظم أقطار افريقية اقرب إلى أن يتفاهموا باللغة العربية لأنها سهلة وكثير من خاصتها يحسنونها ولا سيما أهل الإسلام منهم.
الطيور اللامعة
كان القدماء يعتقدون بوجود طيور مضيئة وقد أكد ذلك بلين في عصره وقال انه كان في غابة هرسنين الممتدة بين نهري الرين والفستول من هذه الطيور وما زال العلماء بعده يثبتون هذه الدعوى من حين إلى آخر حتى أثبتت إحدى المجلات العلمية الانكليزية سنة 1907 انه ظهر في ضواحي كمبردج طيور من هذا الشكل فأكدت ما طالما ذهب إليه علماء الفرنسيس من وجود طيور بهذه المثابة في جبال البرنية والغوج وقد قتل احد الصيادين مؤخراً بومة فيها هذا اللمعان وثبت لهم أن لمعانها من ريشها وان تأنق بعض الطيور أثبته الطبيعيون ونسبوه إلى ميكروبات تقوم على أجنحة الطيور والمسألة آخذة شأناً مهماً من البحث بين العلماء.
حانات الأمم
كان الشائع أن الطليان أكثر الأمم إغراقاً في تناول المسكرات ولكن تبين من عدة إحصاءات أن الفرنسيس أشد استرسالاً في هذا السبيل فقد ذكرت مجلة الصحة الافرنسية أن أماكن بيع المشروبات الروحية في العالم المتمدن هي كما يلي:
يصيب في فرنسا كل 83 شخصاً حانة واحدة
يصيب في سويسرا 143 شخصاً حانة واحدة
يصيب في ايطاليا 170 شخصاً حانة واحدة
يصيب في هولاندة 300 شخصاً حانة واحدة
يصيب في انكلترا 230 شخصاً حانة واحدة
يصيب في ألمانيا 246 شخصاً حانة واحدة
يصيب في الولايات المتحدة 388 شخصاً حانة واحدة
يصيب في البلجيك 410 شخصاً حانة واحدة
يصيب في السويد 5500 شخصاً حانة واحدة(88/56)
يصيب في كندا 9000 شخصاً حانة واحدة
يصيب في نروج 9500 شخصاً حانة واحدة
وبهذا الإحصاء تسقط دعوى من يقول أن البلاد الباردة يحتاج ساكنها إلى الكحول أكثر من غيرها فأنت ترى السويد ونروج وهما اشد أوربا برودة اقلها مسكرات فليتأمل الشرق الذي يقلد على العميا في تناول المشروبات الروحية.
المرأة في الهند
عقد هذه السنة المؤتمر الأول لتعليم المرأة المسلمة في الهند بحضور مئات من الطبقة الراقية من المتعلمات وألقيت فيه خطب ترمي إلى تهذيب الفتاة المسلمة وتعليمها التعليم الديني المدني. وقد ذكرت بعض المجلات أن الهند قد بدأت في العشر سنين الأخيرة تستفيد من ارتقاء المرأة فيها بفضل مساعي الهنود والذين استفادوا من التربية الغربية وبمعاونة المرسلين وعمال الحكومة فتحررت المرأة الهندية من جهلها وخرافاتها وقد دلت الإحصاءات الأخيرة أن في كل عشرة آلاف امرأة 105 متعلمات و10 في العشرة ألاف تعرف الانكليزية ولا يوجد في شعب يبلغ 315 مليوناً سوى نحو مليون امرأة متعلمة. والمتعلمات أكثرهن في طائفة البارسيس ومنهن المسيحيات وقد بدأت النهضة من مدينة بومباي وفيها تألفت جمعيات النساء الأولى ونشرت مجلة تحرير المرأة الهندية. وشارك النساء الرجال في جميع الأعمال وأثرن في كل شيء حتى في السياسة. وقد اشترك في جمعية كبرى في لندن البارسيسيات والمسلمات والمسيحيات والأوربيات وأخذن يتبادلن الأفكار ويتعارفن ويتريضن وربما دعون الرجال في الأحايين لمشاركتهن في الألعاب الرياضية وهذه الجمعية خدمت في فك القيود التي ما زالت تتقيد بها الطبقات من الشعب هناك وتحول دون النساء من الاختلاط بالرجال. ومن جمعيات النساء ما يسعى بتطهير الضواحي وتعلم الأمهات حفظ الصحة والنظافة وتمرض المرضى وتقاوم الكحول والفساد وتقاوم مبدأ تزويج البنات في سن الطفولة وقد أسست مثل هذه الجمعيات في جميع حواضر الهند في بنجاب وبنغال وكلكوتا ومدارس وقد تعدى عملهن إلى ما وراء الهند فبلغ جنوبي افريقية حيث هاجر كثير من الهنود مع أزواجهن.
حرير الخث(88/57)
ظهر أن في الخث أو نبات الماء الذي يقذف به البحر على شواطئ نورمانديا ونروج وايكوسيا وكندا المعروف باسم تان خصائص فنية يصلح معها لعمل حرير صناعي ينافس الحرير المعروف بجنس شاردونه وقد اخذ أناس من أرباب الصناعة من الانكليز يستثمرون هذا النبات ويعلقون عليه آمالاً كبيرة ومتى حول الخث إلى نسيج يصبح ذا قيمة صناعية لم تكن له حتى الآن.
آثار في الحبشة
جرت حفريات في بلاد الحبشة منذ أربع سنين فاكتشفوا قصر ميروي الملكي والحمامات المعدنية المتصلة به كما عثروا على كنز من الذهب. وقد حفروا في خرائب معبد صغير من الطراز الروماني رأوا فيه أمتعة يستدل منها أن الجيش الروماني احتل بلاد الحبشة زمناً وهذا مما يصحح بعض ما أشكل البت فيه على مومسن صاحب تاريخ دولة الرومان. وعلم الآثار منذ كان أعظم مساعد على فهم الحقائق التاريخية القديمة.
فطر ينفجر
اسم هذا الفطر العلمي فيلوبولوس كريستالينوس وهو ينبت وينمو ويموت في أربع وعشرين ساعة فيبدو لطعاً صفراء أولاً ولا يلبث أن تتكون منه أنبوبة صغيرة مذهبة وبعد ثلاث ساعات ينفتح طرف الأنبوب وتغطيه حقة تكون له بمثابة غطاء وفي هذا الانتفاخ توجد التراكيب المنتجة للفطر ثم يفقد لونه ويصبح شفافاً كما عدا الحقة الصغيرة التي تسود وبتأثير الضوء يأخذ السائل الحامض الموجود في الأنبوب بالتخمر وتنفجر الحقة ولما كان طول هذا الفطر نحو ثلاثة مليمترات فقط أصبح لا يرى إلا بالمجهر.
استعمار الجزائر
في المجلة الأسبوعية أن النفوس قد تكاثرت في الجزائر بسرعة بالنظر لما فيها من الموارد العظيمة فزاد عدد سكان ذاك القطر في خلال خمس وثلاثين سنة ضعفاً وكان سنة 1876: 2807000 فأصبح 5563000 سنة 1911 يدخل في هذا العدد الوطنيون من سكان الأراضي الجنوبية الذين اخرجوا مؤخراً من هذا المجموع لأسباب إدارية وحددت الجزائر على البلاد الساحلية فأصبحت 166 ألف كيلو متر مربع وما كان وراء ذلك من(88/58)
الصحراء والقريب منها جعل ولاية خاصة على أن عدد الجزائر على تحديد رقعتها قد بلغت زهاء خمسة ملايين نسمة في إحصاء سنة 1912 ومنه 766 ألف أوربي. ولما بدأت فرنسا باحتلال تلك البلاد سهلت السبيل إلى المستعمرين (وهم بالطبع من الأوربيين) فأخذت تمنحهم أراضي مجاناً على شرط أن يسكنوا في البلاد فأنشئت قرى جديدة وأعطيت امتيازات إلى بعض المستعمرين المنفردين ولكن هذه الطريقة لم تأت بنتيجة وذلك لان المستعمرين لم يكونوا في الغالب أهل قابلية ولا عندهم الأسباب اللازمة للأعمال الأولية في الزراعة فظلت الأراضي بائرة إلا قليلاً ولما رأت أن هذه الطريقة لم تأت بفائدة عمدت إلى بيع الأراضي في المزاد كما هي طريقة الاستعمار وبذلك يبتاع الأرض غالباً من اعتاد القيام عليها ويتعلق بها لأنه يكون قد وضع كمية من النقد لاستثمارها وبذلك تنتخب الحكومة كل سنة أراضي تريد أن تحدث فيها مزارع أو قرى تربطها بالمراكز القريبة منها وتقوم بالحاجيات العامة من مثل جر المياه اللازمة أروائها وإنشاء الأماكن العامة الضرورية للحياة المدنية. وهذه الأراضي المقسومة إلى عدة قطع تختلف مساحتها بين 10060 هكتاراً (الهكتار عشرة ألاف متر مربع) وتعرض للبيع بأقل من ثمن مثلها بقليل وتأخذ ثمن الأراضي على تقاسيط ثمانية مدة عشر سنين. اثنان منها عند عقد المقاولة الأولى وواحد بعد ثلاث سنين واحداً من الثمانية في السنين الأخيرة وقد قالت المجلة التي عربنا عنها ما سلف أن نتائج هذه الطريقة قد كانت مما يوجب الرضا كما تبين من إحصاء الأراضي التي أخذت تباع على هذه الصورة منذ نهاية سنة 1904 فقد بيع 104437 هكتاراً بمعدل 125 فرنكاً كل هكتار فجاء يستثمرها ويسكن بالقرب منها 661 أسرة مستعمرة مؤلفة من زهاء ألفي نسمة على حين أن 42707 كانت توزع مجاناً على 535 أسرة ولا تأتي بفائدة. قلنا وهذه الطريقة في توزيع الأراضي إذا جربتها الحكومة في الشام والعراق والجزيرة العربية تأتي ولا شك بفوائد مهمة خصوصاً إذا اشترطت أن يفضل فيها الوطني على الأجنبي.
الخشب الباقي
الخشب يتغير على الزمن وان صنع بحيث يقاوم تأثير الرطوبات والخشب الطبيعي هو غاية الغايات في هذا الباب وقد وجدت في بعض الجوامع والقصور والقبور نوافذ ومنابر(88/59)
وصناديق منذ القرن الخامس والسادس ومنها نموذجات في دار الآثار العربية في القاهرة كانت وما زالت موضع إعجاب من يحبون بقاء المادة وإبقاء الآثار. والغالب أن أرز لبنان الذي بني به هيكل سليمان وكان الفراعنة ينقلونه على سفنهم من شواطئ سورية إلى شواطئ مصر كان ولا يزال أعظم خشب لا تبلي الأيام جديدة هذا مع انه كان في مصر غابات ولا سيما على عهد الخلفاء الفواطم وسلاطين بني أيوب استخدم خشبها لعمل المراكب للأسطول ولا شك في انه عدا هذه الأشجار المعدة للبحرية من زرع شجر آخر نجد خشبه في معروضات دار الآثار الكثيرة ولجفاف هواء مصر صار الخشب يحفظ جيداً في ربوعها ومن ثم أضحى له دخل كبير في أبنيتها إلا ترى أن دعائم جامع ابن طولون التي يزيد عمرها على ألف سنة لا تزال بها السافات الخشب الأصلية وكذلك أقدم القباب المعمولة من الآجر تحتوي على مجموعة من الخشب أشبه بشيء بالقفص أو الهيكل الذي أقيمت عليه القبة وهناك إفريز نقش عليه القرآن الكريم كله بالقلم الكوفي. أما في بلاد الشام فإن أقدم خشب عثر عليه فيما نذكر تابوت السلطان صلاح الدين في مدفئته شمالي جامع بني أمية فتح في أوائل هذا القرن عندما ترميم القبة ثم أعيد إلى ما كان عليه كأنه عمل الساعة لم يلحقه سوس ولا أرضة ولا رطوبة ولا شيء من مفسدات الخشب وفي دار الآثار الإسلامية في الأستانة نموذجات من الخشب القديم ولكنها غير قديمة كثيراً على ما يظهر. وقد قرأنا في المجلة الباريزية أن في عينة الفرنسوية شجراً اسمه المانجروف وهو أشبه بخشب الأرز بمتانة ابتاعت إحدى شركات السكك الحديدية منه ألواحاً سنة 1909 لتجعلها عوارض في الخطوط فغمرتها منذ ذاك العهد في بئر جعلت فيها جميع عناصر الإفساد للخشب ولا تزال الألواح سليمة بحالها وكثافة هذا الخشب تبلغ 110 في حين أن كثافة البلوط 70 وكثافة الصنوبر 40 وتكثر فيه المادة الدابغة التي تقيه سطوات الحشرات وهو لين صعب قطعة يستعمل عوارض للسكك الحديدية وعمداً للجسور ودعائم في إنفاق المناجم ولتجارة السفن وغير ذلك.
الحرب والعناصر
اصدر احد الانكليز بحثاً في تأثير الحرب في أجيال الناس وعناصرهم فقال أن تأثيرات الحرب هي منافية لقاعدة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب فإن تقاتل الأمم يبيد العناصر(88/60)
الأكثر فتوة والأشد قوة ويترك للضعاف أمر تدبير من عاشوا بعد الحرب فقد استطاعت يابان بعد مائتي سنة قضتها في السلام المتواصل أن تجند جيشاً كان برجوليته موضع إعجاب العالم ولا سيما الصين والروس وما ذاك إلا لان قاعدة الانتخاب الطبيعي خلال هذه المدة لم يصادمها عائق من العوائق. وهكذا الحال في ايكوسيا من بلاد الانكليز فإنها بعثت خلال مائة وخمسين سنة بالقوة أبنائها يقاتلون في صفوف الانكليز فلم يبق لها اليوم إلا عدد قليل من العنصر القديم والكتائب الايكوسية تشكو من هذه القلة. الحرب يأتي على جذوع الشجرة الوطنية فالثمر لا يناله شيء من بوائقها من حيث كيفية بل يناله من حيث كميته فإنها تقل وبذلك لا يأتي زمن طويل حتى يضعف الجذع نفسه. وهكذا ترى الأقوياء من الرجال بعد حرب طاحنة على ندرة ويتنازل معدل الرجولية.
المراقبة بالسينما توغراف
يعمد أرباب المعامل في العادة إلى المعلمين في معاملهم لملاحظة العملة من إضاعة أوقاتهم وتليهم عن العمل ولكن هذه المراقبة قد لا تتناول جميع المستخدمين فاخترع اثنان من أهل البحث في الغرب طريقة فعالة في منع العملة من النجاة من المراقبة ومن خديعة المراقب وذلك باستخدام السينما تواغراف فأنشأ آلة لها ساعتان دقاقتان لإحداهما وجه مقسم إلى مئة جزء متساو تتحرك عليه إبرة تدور عشر دورات في الدقيقة وكل تقسيم يقابل واحداً في الألف من الدقيقة وليس في الساعة الثانية شيء خاص بل هي تدل فقط على الساعة كالتي ترى في كل مكان فتوضع الساعتان إحداهما في مقابل العامل وتأخذ تخرج حركاته في الآن الذي يبدأ بالعمل فإبرة الساعة الأولى تدل على الوقت الذي مضى بين كل من هذه الحركات والساعة الثانية تدل على سير الساعة والجهاز الذي ينقل الحركات يتوالى ثلاث مرات في كل ألف مرة من الدقيقة وترى وهي تدور ببطء تقيد العامل بما يعمل وهذا الاختراع يفيد في بيان ما يلزم لعمل شيء أو لإدارة آلة فالعامل لا يستطيع بهذه الآلة أن يغش في عمله من حيث الكيفية والكمية وليس في هذا الاختراع من عيب إلا غلاء سعره ومتى رخص يعم استعماله وما ندري كم يأتينا العلم من الغرائب بعد.
أقدم متحف
أقدم متحف في العالم هو في مدينة نارا من أعمال يابان أنشئ سنة 756م وفيه مجموعة(88/61)
نفيسة من الجوامد والمعادن وإنموذجات من الخشب الوطني وألوف من الأواني المعمولة من الملك الصيني ومجموعة أعشاب يابسة. ولكن هذا المتحف محظور دخوله فلا تتأتى زيارته متى بعهد إلى لجنة خاصة كل صيف أن تدخله للتفتيش عليه وفيما خلا ذلك من الأوقات فهو مغلق.
غنى العالم
الذهب والفضة اليوم جزء ضئيل من ثروة الأرض فإذا شئت أن تعرف مبلغ غنى امة فعليك أن تتمثل أساليبها في عملها وتتدبر قوتها المالية كما تتدبر قوتها العددية والجندية. وعلى كثرة الإحصائيين والماليين والاقتصاديين يصعب اليوم إعطاء حكم صريح في ثروة العالم المنقولة وغاية ما قدره نيمارك إلى آخر سنة 1912 أن مجموع الثروة المنقولة في الأرض هي 850 مليار فرنك وكان مجموعها سنة 1903 677 ملياراً فزادت في عشر سنين 175 ملياراً أي بزيادة 17. 3 ملياراً كل سنة. تزيد حاجات الإنسانية العامة بسرعة ويزيد غرام الأمم بالقروض. وهذه الأرقام تمثل القيمة الحقيقية لثروتنا المنقولة فالقول بأن ثروة العالم المنقولة أو ثروتها من ذهبها 850 مليار فرنك موضع نظر بليغ فأول ما يجب جعله قيد النظر أن ترد هذه الثروة إلى كل مملكة برأسها ويحسب ماذا يصيب الممالك وقد اعتاد الأخصائيون أن يقسموا الثروة في العالم إلى خمسة أقسام أساسية: انكلترا ومستعمراتها (ما عدا كندا وممالك افريقية الجنوبية المتحدة) وقارة أوربا وقارة أمريكيا وقارة أسيا وقارة افريقية، ثم يقسمون نوع الثروة المنقولة إلى ثلاث فصائل القروض العامة (قروض الممالك والبلديات والقروض الداخلية) أسهم المصارف وأموال الصناعات مثل ثروة التجار وثروة المعادن. والقسم الأول من ذلك وهو قسم القروض آخذ بالنمو كثيراً فقد كان سنة 1907 - 5 مليارات فرنك فأصبح سنة 1910 - 9 مليارات ثم نزل معدلها في سنة 1911 - 1912 - 1913وذلك بداعي الحروب والأزمات واضطرت الحكومات إلى إصدار سندات أو استلاف أموال من طرق منوعة كما فعلت الدولة العثمانية خلال ذلك ريثما عقد بعد الحرب البلقانية القرض الأخير بسبعمائة مليون فرنك وكما فعلت حكومات البلقان نفسها وذلك لان ميزانيات الحربية آخذة بالازدياد في كل الممالك المتحايدة حتى الصغرى مثل البلبيك والدانيمرك واسوج ونروج وسويسرا فقد زادت ميزانية يابان 578(88/62)
في المئة عن سنة 1890 أو نحو ستة إضعاف ما كانت عليه منذ 24 سنة وازدادت في النمسا 410 في المئة خلال هذه المدة وزادت 238 في المئة في روسيا و140 في ألمانيا و112 في البلجيك و47 في فرنسا وما قط تحمل نظار المالية مثل هذه التبعة. والقسم الثاني أي أسهم المصارف اقل من الأول بكثير فلم يكن 20 في المئة من مجموع ما صدر من السندات والأسهم أما القسم الثالث فهو أهم الأقسام لأنه يدخل فيه مجموع ما صدر من السندات والأسهم أما القسم الثالث فهو أهم الأقسام لأنه يدخل فيه جميع المشاريع الإنسانية وحدوده واسعة للغاية فإذا أخرجنا منه 300 مليار فرنك قيمة الخطوط الحديدية في العالم يبقى المال المستخدم في الصناعات فإنه حسب ما هو موجود منها في برلين فقط مكان عشرة مليارات سنة 1910 والبلجيك آخذة بإنماء ثروتها في صناعاتها فقد كانت سنة 1913 - أربعة مليارات ومئة مليون فرنك وهي تزيد السنة بعد السنة زيادة كبرى بفضل معادنها وأعمالها الحديدية والكهربائية فقد ربحت من ذلك أرباحاً طائلة ولا سيما من الحديد والكهرباء. بقي هنا أن يقال من يملك يا ترى هذه الثروة المنقولة فالجواب أن بريطانيا العظمى هي أغنى الممالك فإنها تملك من 145 - 150 ملياراً ثم الولايات المتحدة ولكنها توشك أن تحرز المقام الأول فإن ثروتها تقدر ب - 135 - 140 ملياراً كلها لها ولامتها وفرنسا هي الثالثة بثروتها بين ممالك العالم فإنها تقدر من 110 إلى 115 ملياراً وتزيد ثروتها في السنة مليارين ونصفاً ومن ذلك ثروة الفرنسيس أنفسهم من 60 إلى 75 ملياراً ونحو أربعين ملياراً للأجانب واهم البلاد المقترضة من فرنسا هي روسيا فإن لها عندها 11 ملياراً ثم أمريكا اللاتينية ومصر والممالك البلقانية والدولة العلية. وألمانيا تكاد تكون مثل فرنسا بثروتها فإنها تقدر ب - 110 مليارات وكانت سنة 1908 - 85 ملياراً فربحت في خمس سنين 25 ملياراً فالربح السنوي الذي يزيد في ثروتها بالاقتصاد وغلاء الأسعار يبلغ سنوياً خمسة مليارات أي قيمة الغرامة الحربية التي قبضتها دفعة واحدة من فرنسا في حرب السبعين.
أما الممالك الأخرى فلا يتأتى تشبيهها بتلك الممالك الأربع الكبرى فإن أموال روسيا كلها تقدر بخمسة وثلاثين ملياراً والنمسا بخمسة وعشرين وايطاليا بثمانية عشر واليابان بستة عشر ومع هذا فإن ثروة هذه الممالك آخذة بالازدياد فروسيا ترقى السنة بعد السنة ديونها(88/63)
وكذلك ايطاليا واسبانيا وكذلك اليابان وعلى هذا ربما حدث تغيير في ميزانية الدول في المستقبل. هذا بعض ما قرأناه في إحدى الصحف المالية الكبرى نقلناه تفكهة للقراء فان الجارية القرعاء تفتخر بشعر جارتها ونحن في الشرق لا نعرف من تنمية الثروة إلا أن نقترض ونستلف.
التهاب المفصل
من جملة أمراض المفاصل الداء المعروف بالالتهاب (ارتريت) المشوه الذي يسميه العامة وجع الشيخوخة وان كان يصيب الصغار كما يصيب الكبار وقد جرت مداواة هذا المرض بأدوية كثيرة حتى الآن كالرياضة البدنية وصيغة اليود واخذ الحمامات الكبريتية والمعالجة بالماء البارد ولكن جميع هذه الوصفات لم تثمر الثمرة المطلوبة للمصاب بهذا الداء الذي حسب في جملة الأمراض العضالة. وقد اخترع أحد أهل الأخصاء من أطباء الألمان دواء جديداً غريباً لهذا المرض وهو أن يوضح نحل على المحل الموجع فليذع بحمته الجلد فيحدث فيه احمرار ومن سميته يرتعش جسم المصاب ويحس بوجع رأس وغثيان وضربات قلب أولاً ثم يخف آلمه ويتبين بعد ذلك فيما إذا كان هذا الوجع حادثاً من التهاب في المفاصل أو انه أعراض سل أو سيلان مخاطي أو غير ذلك واشترط المخترع في معالجة المبتلى أن يكون الداء في أوله لا مزمناً والعظم سليماً لا مشوهاً.
تأثير الهواء
كان العلماء إلى أوائل القرن العشرين يرون الهواء عاملاً ثانوياً في تركيب الأرض وقد دلت الأبحاث الأخيرة في آسيا الوسطى وافريقية الاستوائية والجنوبية وفي الجنوب الغربي من أمريكيا الشمالية أن ما كلن يراه العلم مقرراً من هذا القبيل يحتاج إلى تعديل وعلم الآن أن الهواء عامل قوي في انحلال الصخور وتسوية الأراضي واليه ينسب تركيب الأصقاع المقفرة أو البوادي. وهذه النظرية من أهم نظريات العلم في السنين العشر الأخيرة أثبتها لأول مرة سنة 1904 الجيولوجي بأسارج الألماني وأيدتها التجارب التي جربت في منطقة ما وراء بحر الخزر وفي أعالي سهول المكسيك ففسرت الظواهر العديدة التي تلاحظ في الأراضي الحارة تفسيراً معقولاً وكان القدماء يعزونها إلى عمل الأمطار ومجاري المياه وإنها هي العامل الأول في تبديل صورة الأرض فظهر اليوم أن هذه النظرية مغلطة وان(88/64)
للهواء اليد الطولى في هذا التبدل فيه تنحل الصخور وتحمل بقاياها إلى المحال البعيدة.
ورق الرتم
أخذت صناعة الورق تستخدم في حاجياتها النامية مواد أولية من النباتات الغنية بالخلووز ففي أمريكيا يصنعون الورق من الذرة والسورغو وفي الصين من الخيزران والتوت وشمالي افريقية يستخرج من الحلفا وفي جنوبي فرنسا يحاولون اليوم صنع الورق من الرتم الزان وهذا النبات غني بأليافه ذات النسيج وكثير ينبت بنفسه في الأراضي البائرة ويمكن الحصول عليه بنفقة قليلة ولا يضر به الجليد الشديد ولا القيظ الفاحش ويستخرج هذا النبات من ايطاليا بثمن زهيد وقد جمعوا ما ينفق عليه فكان مهما بلغ نحو نصف أكلاف سائر المواد التي يستخرج منها الورق. والرتم هذا يقوم مقام الخشب الذي يعمل منه الورق أيضاً وقد اخذ بالتناقص وأسعاره بالارتفاع.
هبة كريمة
وهبت السيدة بهية خانم كريمة المرحوم علي باشا برهان في مصر للجمعية الخيرية الإسلامية في القاهرة سراياً في درب الجمامين ومساحة ما يتبعها من الأراضي 17000 دونم وقيمة هذه الهبة لا تقل عن خمسين ألف جنيه. ورصدت للجمعية غير ما ذكر 600 جنيه مساهمة. وللسيدات مبرات كثيرة غير ذلك جزاها الله خيراً.
الجامعة المصرية
يستخلص من تقرير مجلس إدارة الجامعة المصرية عن أعمالها عام 1913_1914 أن مجلسها يفكر في إنشاء ستة أقسام أخرى غير الأقسام الموجودة الآن كما مست الحاجة إلى احدها وتوفر المال اللازم لإنشائه وهي لعلم طبقات الأرض أو الجيولوجيا وللعلوم الطبيعية وللعلوم الكيماوية وللمعادن والفلزات ولعلم الحيوان وتشريح المقابلة ولعلم النبات مع حديقة خاصة بهذا القسم وقسم المكتبة الجامعة.
أما حالة الجامعة المالية فلا تزال ما يقتضيه هذا المشروع العظيم ولكن المجلس يستبشر خيراً بالهبة العلوية التي نفحتها بها الأميرة فاطمة إسماعيل فإنها نهضت بالجامعة نهضة يرجى أن تكون فاتحة عصر تقدم سريع لها وارتقاء مطرد.
وقد بلغت إيرادات الجامعة من أكتوبر (تشرين الأول) 1912 لغاية سبتمبر (أيلول) 1913(88/65)
نحو 9096ج م وإعانة الحكومة المصرية وقدرها 2000 ج. م وفوائد أموال الجامعة وهي 1124 ج. م وإيجار الوقفيات وإيرادات متنوعة وكان للجامعة في أول أكتوبر 1912 من الأموال في البنك الألماني الشرقي وسواه 19808 ج. م. وبلغت جملة المصروفات في المدة عينها 8394 ج. م فزاد المال الذي للجامعة وصار 20510 ج. م في آخر سبتمبر 1913 وتقدر قيمة الأطيان الموقوفة على الجامعة بنحو 17000 ج. م.
ويظهر من مراجعة بيان الدروس المنشور في هذا التقرير أن الجامعة لم تقتصر على تعلم الآداب بل شرعت في تعليم العلوم فقد أدخلت في مواد التدريس العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية وعلم الفلك. وسينضم إلى أساتذة العلوم ثلاثة من طلبة الجامعة في أوربا يعودون إلى القطر في آخر هذا العام. وقد وافقت نظارة المعارف على تمييز متخرجي قسم الآداب في الجامعة في الراتب واشترطت لذلك أن تمثل في لجنة الامتحان لشهادة العالمية وكان عدد طلبة الجامعة في العام السابق 75 فبلغ في هذا العام 321 منهم 94 من طلبة المدارس العالية و48 من طلبة الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم و31 من موظفي الحكومة و70 من طلبة المدارس الثانوية والخصوصية و90 من رجال القضاء والمحاماة والهندسة والطب و9 من الموظفين في محلات تجارية و11 من المزارعين أو غير ذوي مهنة وعدد النساء منهم 35 والزيادة مطردة في مكتبة الجامعة فقد صار مجموع ما فيها من المجلدات نحو 12 ألفاً منها 3700 إفرنجية و1300 عربية و2000 من مكتبتي شفيق بك منصور ويحيى باشا منصور يكن وقد أهديتا إلى الجامعة و2000 كتاب أيضاً.
أموال المهاجرين
يقول قنصل الولايات المتحدة في طرابلس الشام أن المهاجرين السوريين أرسلوا إلى أوطانهم في سورية عن يد أصحاب البنوك في طرابلس شام في سنة 1913 أكثر من 775 ألف ليرة. وانه يؤخذ من المصادر الصادقة انه وصل إلى المواني السورية الخمسة في العام الذي انتهى فيه آخر حزيران سنة 1913 أكثر من مليون و775 ألف ليرة من المهاجرين السوريين في أنحاء العالم.
الأراضي الزراعية في أمريكا
تبلغ مساحة الولايات المتحدة ما عدا أملاكها ومستعمراتها في الخارج 2973890 ميلاً(88/66)
مربعاً ومساحة الأراضي التي توزع منها بحسب إحصاء سنة 1910 نحو 135725007 فداناً منها 878798325 فداناً مزارع (أبعاديات) قدرت قيمتها بنحو 40991450000 ريال و478451750 فداناً أراضي معدة للزراعة قدرت قيمتها بنحو 21 ألف مليون ريال وغلتها السنوية كلها بأكثر من خمسة ألاف مليون ريال.
ويبلغ عدد السكان الذين يشتغلون في الزراعة 10381765 نفس منهم 9404429 رجلاً و977336 امرأة ويملك الأميركيون البيض من المزارع 4771063 مزرعة والبيض غير الأميركيين (الأجانب) 669556 مزرعة والزنوج 920883 مزرعة ويسكن في هذه المزارع 3948722 من أصحابها و58104 من مديريها و712294 من مستأجريها و1319953 من مستأجريها بالشركة و208436 من مستأجريها بالنقد والشركة والباقون عمال.
وبلغ المزروع من الذرة في العام الماضي 105820000 فدان محصولها 2446988000 بشل ومن القمح 501840000 فدان محصولها 763380000 بشل ومن الشوفان 38399000 فدان محصولها 1121768000 بشل ومن الجودار 2557000 فدان محصولها 41381000 بشل ومن الشعير 7499000 فدان محصولها 178189000 بشل ومن البكهويت (نوع من الحنطة) 805000 فدان محصولها 13833000 بشل ومن بزر الكتان 2291000 فدان محصولها 17853000 بشل ومن الأرز 8271000 فدان محصولها 25744000 بشل ومن البطاطس 3668000 فدان محصولها 331525000 بشل.
وبلغت مساحة الأراضي التي زرعت قشاً لعلف المواشي 48954000 فدان كان محصولها 64116000 طن وقيمتها 797077000 ريال.
وبلغ محصول القطن 13677000 بالة ومحصول سكر القصب 696640000 رطل وسكر البنجر 727 ألف طن.
وبلغت مساحة الأراضي التي زرعت دخاناً 1216800 فدان محصولها 953734000 رطل.
ويستخدم الأميركيون في زراعة أراضيهم الواسعة بحسب التقدير الذي قدرته الحكومة في(88/67)
أوائل العام الحالي 20992000 حصان و4449000 بغل و56592000 رأس من البقر على اختلاف أنواعها. ويربون فيها الآن 49719000 رأس من الغنم و58933000 رأس من الخنازير.
وبلغت قيمة الأبقار ما عدا الحلوبة منها 1116333000 ريال وقيمة الأبقار الحلوبة 1118487000 ريال وقيمة المواشي التي في المزارع كلها 6891229000 ريال.
وبلغت زنة الصوف الذي جز من الغنم 318547000 رطل وزنة اللبن الذي حلب من الأبقار والأغنام 12183375885 رطلاً صنعت جبناً وزبدة ولبناً محفوظاً بالعلب فبلغت قيمتها بعد صنعها 18682789 ريالاً.
وبلغت قيمة البقول التي عللت وحفظت في العلب سنة 1905 نحو 45 مليون وربع مليون ريال وقيمة الفواكه المسكرة والمحفوظة في العلب 11644042 ريالاً وقيمة الفواكه المقددة 15664784 ريالاً.
الافرنسية
ذكرت مجلة مستندات الترقي الباريزية أن اللغة الافرنسية ما برحت في الدرجة الأولى من المكانة فهي لغة ثانية للمستنيرين من البورتقاليين وتنتشر بين الأسبان أي انتشار وتعد لغة رجال السياسة في رومانيا وقد قل استعمالها في روسيا ولم تبرح شائعة في فنلندة وبولونيا كما إنها منتشرة في المملكة العثمانية واليونان وكندا والبرازيل. وفي هولاندا 1175 مدرسة تعلم الافرنسية وفي طهران 3000 طالب يتعلمها وفي مصر 22175 طالباً، وفات المجلة أن تذكر عدد من يعلمها من الجزائريين والتونسيين فإننا رأينا أناساً من أهلها المتعلمين يتعامي عليهم التكلم بالعربية ويجدون كل السهولة بالتخاطب والتكاتب بالافرنسية.
انتشار الألمان
نشرت مجلة الاتحاد الجرماني إحصاء في عدد الألمان المقيمين خارج بلادهم فكان عددهم 1800000 في روسيا و500000 في فرنسا و100000 في انكلترا و50000 في الدنيمرك و50000 في رومانيا و5000 في البلاد العثمانية و50000 في جاوة و4200 في الصين و4200 في الهند الصينية و12000 في مصر و360000 في كندا(88/68)
و2666990 في الولايات المتحدة و400000 في برازيل و10724 في الشيلي.
التشويه
اعتادت الأمهات والمرضعات عادة سيئة وهي أن يحملن الطفل مضطجعاً على ذراعه الأيسر ممسكات باليد اليمنى المضمومة إليهن وهذه الوضعية إذا تجددت على الولاء مدة طويلة من النهار غير متقطعة إلا وقت وضع الطفل في السرير ولتطهيره وإرضاعه تنتج في الغالب عقيب الضغط على الحوض أو على الفخد تحويل سلسلة الفقار ويكون ذلك محسوساً في البنات ويظهر ظهوراً بيناً عندما يبلغن سن البلوغ. وقد اثبت الدكتور انجلمان من فينا الذي قام بتجارب طويلة مبنية على التشريح أن هذا التشويه يبدو في العادة من جهة اليسار أكثر من اليمين ويكون شديداً جداً إذا كانت المرضعات ضعيفات البنية مستعدات للكسح. ويستدل من الإحصاء قام به أناس من الاختصاصيين أن في كل 2314 تلميذاً من تلامذة المدارس الابتدائية 91. 4 في المئة فيهم تشويه في العمود الفقري مع انحناء إلى اليسار. وأكد آخر أن في 64 في المئة من المشوهين من يحنون رؤوسهم إلى تلك الجهة. ويرى الطبيب النمساوي أن هذه العاهة لا تحدث إلا من الطريقة الرديئة في حمل الطفل ولذلك ينصح بالانتباه إلى ذلك على الدوام. على أن التشويه القديم غير قابل للشفاء فإن المشدات والتمسيد وأدوات الجبس كلها من الوسائط التي قلما تؤدي إلى تقويم هذا التشويه إذا كان المرض عقاماً وان الأحسن التوقي لا التداوي وتلافي هذا المرض من أصله لا معالجته بطرق أكثرها عقيم.
غرس الأشجار
نشرت نظارة الزراعة المصرية منشوراً في كيفية غرس الأشجار جاء فيه: يجب أن تفك الأشجار المحزومة حال وصولها وتوضع جذورها في حفرة وتغطى جيداً بالتراب ثم تروى رياً كافياً وتوضع الأشجار منفردة في الحفرة إذ لا فائدة من وضعها حزمة واحدة وتغطية جذورها الخارجية بالتراب. فإذا تأخرت الأشجار العارية الجذور في الطريق وظهر على قشرتها انكماش فالأحسن غمرها ليلة في مجرى ماء ثم تدفن بجذورها وأغصانها في الأرض مدة ثلاثة أيام وبعد ذلك يمكن استخراجها وغرسها ويجب أن تفحص الجذور بعناية قبل الغرس فتنزع جميع أجزائها الممزقة والمنسلخة والمكسورة.(88/69)
أما الأشجار التفاح واللوز والمشمش والتين والخوخ والكمثرى والبرقوق والسفرجل والحمضيات فيجب قطع سوقها على ارتفاع 60 سنتيمتراً من القاعدة وإذا وجدت في بقية الساق أغصان صغيرة تقل على بعد 7 أو 8 سنتيمترات من الساق. وقد يموت عدد عظيم من الأشجار لأنها لم تقل وقت النقل ويحسن قبل نقلها إلى المغارس أن تغمس جذورها في الطين (الرهريط) فتحفر حفرة عمقها 40 سنتمتراً ويملأ جزء منها بالتراب ثم يخلط التراب بماء كاف حتى يصير مائعاً وتغمس فيه الجذور فيقل الضرر الذي يلحق بالأشجار من تعرضها للشمس أثناء الغرس. وأما الأشجار المغلفة الجذور بالطين فيجب غرسها وريها حال وصولها.
باشلس الخناق
ثبت أن باشلس الخناق (الدفتريا) لا يعشش في محل واحد من الجسم كما كان يظن إلى اليوم بل انه يغشى القلب والرئتين والكبد والطحال والكلية والنخاع وأحياناً الدماغ.
أشعة اكس
أن أشعة اكس التي استعملت واسطة للبحث قد استخدمت أيضاً عاملاً من عوامل الشفاء فإن بها تعرف بعض الأمراض في القناة الهاضمة وتشخص أمراض الكبد ويبحث عن الأجسام الغريبة في تركيب الجسم وترى بها آفات الهيكل العظمي وتعدل على الآكلة والبثور الصغيرة الجلدية والأكزيما والثآليل والقرع والنواتئ الجلدية والغدد والأورام الليفية. وهذه الطريقة نافعة في الأكثر خصوصاً لأنها خالية من الألم.
الرياضة البدنية
أن الرياضة البدنية ولا سيما الألعاب الشائعة في الغرب وبعض الشرق مثل التينس والكريكت والسكتين والفوتبول والتجديف في الزوارق وركوب الدراجات والسباق والقفز هي نافعة للصحة بلا جدال ولكنها تعرض اللاعب للخطر وقد وضع احد أطباء هايدلبرغ إحصاء في العوارض التي تحدث منها وهذا الإحصاء في بعض الحالات يعلم اتقاء الوقوع في المخاطر ويدل على طرق الإصلاحات الواجب إدخالها في هذه التمرينات المنتشرة وقد أخذت بعض المدارس في الغرب تضع ملاحظات الطبيب موضع النظر.
الهواء السائل(88/70)
ثبت انه يمكن استعمال الهواء السائل بدون صعوبة ولا خطر بمثابة مادة منفجرة وجرب احدهم مزيج الهواء السائل بفحم من الحطب فكانت منه مادة منفجرة سماها اوكسيليكيد ولكن هذا التركيب لا يخلو من خطر ويحتاج إلى يد ماهرة جداً في استعماله وقد وضعت حكومة ألمانيا المقالع الملكية بالقرب من برلين تحت أمر رجلين من رجال البحث في هذا الاكتشاف ليركبا تركيباً ينفجر ولكن يكون مضمون النتيجة.
الحرب في القرون الأخيرة
أحصى العالم كاستون بودار الحروب التي جرت منذ سنة حتى 1905 فكانت كما يأتي: بمدة 287 عاماً حدث 1044 موقعة برية و122 موقعة بحرية و490 حصاراً و44 تسليم مدينة. الحرب التي كانت مدتها اطول من كل هذه الحروب هي التي اشتبكت بين البندقية والعثمانية وقد دامت 55 سنة أي من سنة 1644 إلى سنة 1699 واقصر هذه الحروب هي الحرب بين النمسا وايطاليا سنة 1849 ودامت ستة أيام.
والأمة التي حاربت أكثر من غيرها هي الأمة الفرنساوية فإنها خاضت 1079 موقعة ويأتي بعدها بالترتيب النمسا وانكلترا وروسيا وبروسيا واسبانيا حاربت فرنسا 15 مملكة وانتصرت 584 مرة واندحرت 495 مرة. ومعدل انتصارات بروسيا وانكلترا 60 في المائة واندحارهما 40 في المائة. ولتكون لفرنسا هذه النسبة يجب أن تكون انتصاراتها 648 واندحارها 431.
انتصرت فرنسا بحروبها مع النمسا 262 مرة واندحرت 196 ومع انكلترا غلبت 120 مرة وانكسرت 155 مرة وبحروبها مع اسبانيا 911 انتصاراً و45 اندحاراً ومع هولاندا 80 ضد 63 وبلغ عدد المواقع بين فرنسا وألمانيا 309 مرات وكان الانتصار للفرنسيويين في 152 معركة.
وأطول حصار كان حصار جبل طارق فان هذه القلعة قاومت الانكليز مدة 1167 يوماً أي من سنة 1779 إلى سنة 1782. وقادس 903 أيام ضد جنود الانكليز والأسبان المتحدين ويأتي بعدها حصار فينا بيد العثمانيين في سنة 1683 وحصار سباستوبول دام 346 يوماً وبروت ارثور 221 وكنديا 228 وبلافنا 142 وكانت خسائر موقعة موكدن 138 ألف رجل وفي سيدان 122 ألفاً.(88/71)