والأمر الغريب أن الحومة لم تنقدها المبلغ من مال الخزينة بل من ريع ملاك بسرابيا التي تديرها الحكومة ووفت الجمعية بوعدها. لكن الحرب اليابانية قللت من مداخيل الإحسان فلم تعد تستطيع وفاء دينها فاجلته إلى سنتين ثم إلى ثلاث واخيراً اضطرت إلى عدم الاحتفاظ بكل المعاهد التهذيبية والخيرية التي أنشأتها وصرحت للحكومة بأنها تضطر والحالة هذه إلى حصر أعمالها في دائرة ضيقة فتهدم ما بنته في سنين عديدة. فارسلت الحكومة مفتشين إلى سورية وفلسطين فحصواأعمال الجمعية وشهدوا بما تؤديه من المنافع الجمة للزوار الروسيين وللمدارس الأرثوذكسية فتقرر إيجاد مبلغ يدخل بصورة قانونية إلى نظارة الخارجية فتنفقه الجمعية عَلَى تحسين المدارس في سورية وفلسطين بحيث تفي باحتياجات الأهلين نظير المدارس الأوربية في هذه البلاد. ومن هنا نستنتج أن الجمعية الفلسطينية الروسية أنشأت معاهدها في هذه البلاد دون أن تساعدها الحكومة بشيءٍ بعكس ما رأيناه في أمر المدارس الأوربية الأخرى. وأنها لم تحصل عَلَى الوعد بالمساعدة المنظمة القانونية إلا بعد مضي 39 سنة عَلَى تأسيسها.
هذا شيءٌ عن حالة أوربا في سورية بسطته للقارئ وله أن يستنتج ما عسى أن يكون مستقبل هذا الوطن المحبوب إذا لم تبادر الحكومة إلى إزالة كل ما من شأنه حمل الدول الأوربية عَلَى التدخل في شؤوننا. وما هي إلا فاعلة ذلك عن شاء المولى الكريم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وطني(74/8)
اليمن وسكانها
3
خيرات اليمن
أجمع جغرافيو العرب أن اليمن الخضراء من أخصب القطار وأكثرها مرافق وخيرات حتى قال القرماني أن أهلها يزرعون أربع مرات في السنة ويحصد كل زرع في ستين يوماً. وقال بعضهم:
اليمن ثلثة وثلاثون منبراً قديمة وأربعة محدثة وصنعاء أطيب البلدان وهي طيبة الهواء كثيرة الماء يشتون مرتين ويصيفون مرتين وأهل الحجاز واليمن يمطرون الصيف كله ويخصبون في الشتاء فيمطر صنعاء وما والاها في حزيران وتموز وآب وبعض أيلول من الزوال إلى المغرب يلقى الرجل الآخر منهم فيكلمه فيقول عجل قبل الغيث لأنه لا بد من المطر في هذه الأيام.
قال ابن الفقيه: وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وظرائف الشجر ما يستصغر ما ينبت في بلاد الأكاسرة والقياصرة وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه فعجزوا عن مثل غمدان ومأرب وحضر موت وقصر المسعود وسد لقمان وسلحين وصرواح ومرواح وبينون وهندة وهنيدة وفلثوم بريدة.
قال الأصمعي أربعة أشياء قد ملأت الدنيا لا تكون إلا باليمن الورس والكندر والعطر والعصب فأما المعرق من الجزع فإنه يتخذ منه الأواني لكبره وعظمه ولهم الحلل اليمانية والثياب السعدية والعدنية والشب اليماني وهو ماء ينبع من قلة جبل فيسيل عَلَى جانبه قبل أن يصل إلى الأرض فيجمد فيصير هذا الشب اليماني الأبيض ولهم الورس وهو شيء يسقط عَلَى الشجر كالترنجين ولهم البُنك ويقال أنه من خشب أم غيلان. قال الأصفهاني وكانت جمال عمان تحمل الورس من اليمن إلى عمان فتصفر.
وذكروا من خصائص تهامة أديم زبيد ونيلها الذي لا نظير له كانه لازورد شروب عدن تفضل عَلَى القصب ومسد المهجرة يسمى ليفاً وبرود سحولاً والجريب وأنطاع صعدة وركاؤها وسعيدي صنعاء وعقيقها وقفاع عثر وورس عدن ومغلق قرح. ومن أراد العقيق اشترى قطعة أرض بموضع صنعاء ثم حفر فربما خرج له شبه صخرة واقل وربما لم(74/9)
يخرج شيء منه. والعنبر يقع عَلَى حافة البحر من عدن إلى مخا.
قال المقدسي اليمن معدن العصائب والعقيق والأدم الرقيق فإلى عمان يخرج آلات الصيادلة والعطر كله حتى المسك والزعفران والساج والتاسم والعاج واللؤلؤ والديباج والجزع واليواقيت والأَبنوس والنارجيل والقند والاسكندروس (لعله السندروس) والصبر والحديد والرصاص والخيزران والغضار والصندل والبلور والفلفل وغير ذلك وتزيد عدن بالعنبر والشروب والدرق والحبش والخدم وجلود النمور.
مذاهب اليمن
كان عند ظهور الإسلام في اليمن من الديانة النصرانية واليهودية والمجوسية عَلَى رواية البلاذي وقد كتب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ملوك حمير وهم الحارث ابن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال وشرح بن عبد كلال وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعامر وهمدان. وكان المجوس في هجر واليمن. ودخل عامل اليمن في الدعوة الإسلامية قال ابن خلدون وهو باذان عامل كسرى واسلم معه أهل اليمن فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى جميع مخاليفها وكان منزله صنعاء كرسي التبابعة ولمامات بعد حجة الوداع قسم النبي اليمن عَلَى عمال من قبله وجعل صنعاء لابنه شهربان بن باذان وقام الأسود العنسي فاخرج عمال النبي من اليمن وزحف عَلَى صنعاء واستولى عَلَى أكثر اليمن وارتد أكثر أهله ثم رجع عمال المسلمين إلى أعمالهم وقاتل أبو بكر الصديق المرتدين من أهل اليمن وولى اليمن عمال بني أمية ثم عمال بني العباس لأول أمرهم ثم تعاقبت الولاة عَلَى اليمن وكانوا ينزلون صنعاء حتى انتهت الخلافة إلى المأمون وظهرت دعاة الطالبين بالنواحي وظهر باليمن إبراهيم بن موسى الكاظم سنة مائتين ولم يتم أمره وكان يعرف بالجزار لسفكه الدم وبعث المأمون عساكره إلى اليمن فدوخوا حبه وحملوا كثيراً من وجوه الناس فاستقام أمر اليمن فولي محمد زياد عَلَى اليمن ضامناً له حياطتهم من العلويين فقدمها سنة ثلاث ومائتين وفتح تهامة اليمن وهي البلدة التي عَلَى ساحل البحر الغربي واختط بها مدينة زبيد ونزلاه وأصابها كرسياً لتلك المملكة وولى عَلَى الجبال مولاه جعفراً وفتح تهامة بعد حروب واشترط عَلَى عرب تهامة أن لا يركبوا الخيل واستولى عَلَى اليمن أجمع وأدخل في طاعته أعمال حضر موت والشحر وديار كندة وصار في مرتبة التبابعة.(74/10)
وكان في صنعاء قاعدة اليمن بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة استبدوا بها مقيمين بالدعوة العباسية ولهم من صنعاء سحان ونجران وجرش ولما بلغ عاملها أبا الجيش اسحق ابن إبراهيم قتل المتوكل وخلع المستعين واستبداد الموالي عَلَى الخلفاء مع ارتفاع اليمن ارتفع بالمظلة شان سلاطين العجم المستبدين وفي أيامه خرج باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا بدعوة الزيدية جاء بها من السند وكان جده القاسم قد فر إلى السند بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا فلحق القاسم بالسند وأعقب بها الحسين ثم ابنه يحيى باليمن سنة ثمان وثمانين (ومائتين) ونزل صعدة وأظهر دعوة الزيدية وزحف إلى صنعاء فملكها من يد اسعد بن يعفر ثم استردها منه بنو أسعد ورجع إلى صعدة وكان شيعته يسمونه الإمام.
وفي أيام أبي الجيش بن زياد أيضاً ظهرت دعوة العبيديين (الفاطميين) باليمن فأقام بها محمد بن الفضل بعده لاعة وجبال اليمن إلى جبال المذيخرة سنة أربعين وثلثمائة ويقي له باليمن من الشرجة إلى عدن عشرون مرحلة ومن مخلافه إلى صنعاء خمس مراحل وهلك أبو الجيش سنة لإحدى وسبعين وثلثمائة بعد أن اتسعت جبايته وعظم ملكه قال ابن سعيد رأيت مبلغ جبايته وهو ألف ألف مكررة مرتين وثلثمائة وستة وستون ألفاً من الدنانير العثرية ما عدا ضرائبه عَلَى مركب السند وعَلَى العنبر الواصل بباي المندب وعدناَبين وعَلَى مغائص اللؤلؤ وعَلَى جزيرة دهلك ومن بعضها وصائف وكانت ملوك الحبشة من وراء البحر يهادنوه ويخطبون مواصلته وانقرضت دولته سنة سبع وأربعمائة.
ثم ملك نجاح وقيس من موالي مرجان مولى الحسن بن سلامة وتغلب نجاح بعد أن قتل أخاه في خمسة آلاف من عسكره وضرب السكة باسمه وكاتب ديوان الخلافة ببغداد فعقد له عَلَى اليمن ولم يزل مالكاً تهامة وقاعدته زبيد قاهراً لأهل الجبال وانتزع الجبال كلها من مولاه الحسن بن سلامة ولم تزل الملوك تتقي صولته إلى أن قتله الصليحي القائم بدعوة العبيديين سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة فقام الأمر بعده بزبيد مولاه كهلان.
أما الصليحي فكان مبدأُ أمره مثل السيد أحمد بن إدريس الذي كان قائماً في عسير في السنة الماضي عرف بالصلاح فالتف الناس حوله وأظهر الدعوة العبيدية فاستولى أولاً عَلَى حصن بذورة جبل الحمام محصن ذلك الحصن ثم ملك اليمن كله ونزل صنعاء واختلط بها(74/11)
القصور واسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم وهزم بني طرف ملوك عثر وتهامة ومازال الأمر كذلك حتى استولى بنو أبي بركات عَلَى بني المظفر في شيح وحصونه ثم باع حصن ذي جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار ولم يزل يبيع معاقله حصناً حصناً حتى لم يبق له غير معقل تعز أخذه منه علي بن مهدي وبقي ملوك زبيد يخطبون للعباسيين والصليحيون يخطبون للعبيديين إلى أواخر المئة الخامسة والبلاد يتجاذبها ملوك حتى انقرض أمر آل نجاح سنة 554 وخلفهم غيرهم وبقي أمر اليمن في تقلقل والجبال لرجل وتهامة لآخر وعدن لغيرهم حتى جاء عبد النبي بن مهدي الخارجي من زبيد واستولى عَلَى اليمن أجمع وبه يومئذ خمس وعشرون دولة فاستولى عَلَى جميعها ولم يبق له سوى عدن ففرض عليها الجزية ولما دخل شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة 566 واستولى عَلَى الدولة التي كانت باليمن ونزل زبيد واتخذها كرسياً لملكه ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير مكاناً صحيح الهواء يتخذ فيه سكناه فوقع اختيارهم عَلَى مكان تعز فاختلط به المدينة كما اختلط الصليحي سنة 458 حصن ذي جبلة ونزلها وبقيت كرسياً لملكه وبنيه ومواليهم بني رسول.
وذكر ابن سعيد أن اليمن تشتمل عَلَى سبعة كراسي للملك تهامة والجبال وفي تهامة مملكتان مملكة زبيد ومملكة عدن ومعنى تهامة ما انخفض من بلاد اليمن مع ساحل البحر من البرين من جهة الحجاز إلى آخر أعمال عدن دورة البحر الهندي واليمن أخصب من الحجاز وأكثر أهلها القحطانية وفيها من عرب وائل ودامت دولة بني رسول باليمن عَلَى رواية ابن إياس نحو مائتين وثلاثين سنة وكان سبب تسمية جدهم برسول أن الخلفاء كانت تبعثه رسولاً إلى البلاد الشامية وغيرها من البلاد فسمي رسولاً وما زال يرتقي حتى ملك بلاد اليمن.
ذكر المقدسي أن المذاهب المستعملة لعهده في الإسلام التي لها خاص وعام دعاة وجمع ثمانية وعشرون مذهباً أربعة في الفقه وأربعة في الكلام وأربعة في الحكم فيها وأربعة مندرسة وأربعة في الحديث وأربعة غلب عليها أربعة وأربعة رستاقية فأما الفقهيات فالحنفية والمالكية والنفعوية والداودية وأما الكلاميات فالمعتزلة والنجارية والكلابية والسالمية وأما الذين لهم فقه وكلام فالشيعة والخوارج والكرامية والباطنية وأما أصحاب(74/12)
الحديث فالحنبلية والراهوية والأوزاعية والمنذرية وأما المندرسة فالعطائية والثورية والإباضية والطاقية وأما التي في الرساتيق فالزعفرانية والخرمدينية والأبيضية والسرخسية وأما التي غلب عليها أربعة من شكلها فالأشعرية عَلَى الكلابية والباطنية عَلَى القرمطية والمعتزلة عَلَى القدرية والشيعة عَلَى الزيدية والجهمية عَلَى النجارية.
فهذه جملة المذاهب المستعملة اليوم (في عهد المؤلف) ثم تتشعب إلى فرق لا تحصى ولما ذكرنا ألقاب واسماء تتكرر ولا تزيد عَلَى ما ذكرنا يعرف ذلك العلماء وهن أربعة ممتدحة وأربعة منكورة وأربعة مختلف فيها وأربعة لقب بها أهل الحديث وأربعة معناهن واحد وأربعة يميزهن النحارير فأما الملقبة بالروافض والمحبرة والمرجئة والشكاك أو الممتدحة فأهل السنة والجماعة واهل العدل والتوحيد والمؤمنون واصحاب الهدى وأما المنكورة فالكلابية ينكرون الجبر والحنبلية ينكرون النصب ومنكرو الصفات ينكرون التشبيه ومثبتوها ينكرون التعطيل وأما المختلف فيها فعند الكرامية الجبر جعل الاستطاعة مع الفعل وعند المعتزلة جعل الشر بقدر الله تعالى وأن يقال أفعال العباد مخلوقة لله والمرجئة عند أهل الحديث من أخر العمل عن الإيمان وعند الكرامية من نفى فرض الأعمال وعند المأمونية من وقف في الإيمان وعند أصحاب الكلام من وقف في أصحاب الكبائر ولم يجعل منزلة بين منزلتين والشكاك عند أصحاب الكلام من وقف في القرآن وعند الكرامية من استثنى في الإيمان والروافض عند الشيعة من أخر خلافة علي وعند غيرهم من نفى خلافة العمرين وأما أربعة معناهن واحد فالزعفرانية والواقفية والشكاك والرستاقية وأما أربعة لقب بها أهل الحديث فالحشوبة والشكاك والنواصب والمجبرة وأما التي يميزهن كل نحرير فأهل الحديث من الشفقوية والثورية من الحنفية والنجارية من الجهمية والقدرية من المعتزلة.
قال واعلم أن أصل مذاهب المسلمين كلها متشعبة من أربع الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة وأصل افتراقهم قتل عثمان ثم تشعبوا ولا يزالون متفرقين ولم أر السواد العظم إلا من أربعة مذاهب أصحاب أبي حنيفة بالمشرق وأصحاب مالك بالمغرب وأصحاب الشافعي بالشاش وخزائن ونيسابور وأصحاب الحديث بالشام وأقور والرحاب وبقية الأقاليم ممتزجون.(74/13)
وقال أيضاً أن اليمن قليل الفقهاء والمذكرين والقراء كما هو قليل النخيل والمياه الغزيرة والبحيرات واليهود به أكثر من النصارى ولا ذمة غيرهم وسواد صنعاء ونواحيها مع سواد عمان شراة غالية وبقية الحجاز واهلب الرأي بعمان وهجر وصعدة شيعة وشيعة عمان وصعدة وأهل السروات وسواحل الحرمين معتزلة إلا عمان والغالب عَلَى صنعاء وصعدة أصحاب أبي حنيفة والجوامع بأيديهم وبالمعافر مذهب أبي المنذر وفي نواحي نجد اليمن مذهب سفيان والأذان بتهامة ومكة يرجع إذا تدبرت العمل عَلَى مذهب مالك ويكبر بزبيد في العيدين عَلَى قول أبي مسعود أحدثه القاضي أبو عبد الله الصعواني وقت كوني ثم العمل بهجر عَلَى مذهب القرامطة وبعمان وأودية لهم مجلس.
ويؤخذ مما قاله الهمداني أن أهل عدن فيما يقال لم يدخل عليهم من الروم حد ولكن أهل الرهابنة ثم فنوا سكانها مهرة وقوم من الشراة وظهرت فيها دعوة الإسلام ثم كثر بها الشراة فعدوا عَلَى من بها من المسلمين فقتلوهم غير عشرة أناسية.
الزيدية
والزيدية هم اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي عليه السلام ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة عليها السلام ولم يجوزوا ثبوت إمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين اللذين وعن هذا قالت طائفة منهم بإمامة محمد وإبراهيم الإمامين ابني عبد الله بن الحسن بن الحسين اللذين خرجا في أيام المنصور وقتلا عَلَى ذلك وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويبكون كل واحد منهما واجب الطاعة واقتبس زيد بن علي مذهب الاعتزال فصار أصحابه كلهم معتزلة وكان من مذهبه جواز إمامة المفضول مع قيام الفضل فقال كوان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة تطييب قلوب العامة فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً وسيف أمير المؤمنين علي عليه السلام عن دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كم هي فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد وكانت المصلحة أن يقوم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتودد والتقدم(74/14)
بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترى أنه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه زعق الناس وقالوا لقد وليت علينا فظاً غليظاً فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر لشدة وصلابة وغلظ له في الدين وفظاظة عَلَى العداء حتى سكنهم أبو بكر رضي الله عنه وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والفضل قائماً فيرجع إليه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا.
ولما قتل زيد بن علي وصلب قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد ومضى إلى خرسان واجتمعت عليه جماعة كثيرة وخرج محمد وإبراهيم بالمدينة والبصرة واجتمع عليهما الناس فقتلا ثم رأوا أنه لا يجوز خروج واحد من أهل البيت حتى يأذن الله تعالى بزوال ملك بني أمية الذين يتطاولون عَلَى الناس حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها وهم يستشعرون بغض أهل البيت فقتل زيد بن علي بكناسة الكوفة قتله هشام بن عبد الملك ويحيى بن زيد قتل بجوزجان خراسان قتله أميرها ومحمد الإمام قتله بالمدينة عيسى بن هامان وإبراهيم الإمام قتل بالبصرة أمر يقتلهما المنصور.
ولم ينتظم أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان ناصر الأطروش فطلب مكانه ليقتل فاختفى واعتزل إلى بلاد الديلم والجبل لم يتحلوا بدين الإسلام بعد فدعها الناس دعوة إلى الإسلام عَلَى مذهب زيد بن علي فدانوا بذلك ونشأوا عليه وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم وخالفوا بني أعمامهم من الموسوية في مسائل الأصول ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول وطعنت في الصحابة طعن الإمامية وهم اصناف ثلاث جارودية وسليمانية وبترية والصالحية منهم والبترية عَلَى مذهب واحد.
وقال صاحب الفرق بين الفرق أن الزيدية ثلاث فرق وهي الجارودية والسليمانية وقد يقال الحرورية أيضاً والبترية وهذه الفرق الثلاث طيجمعها القول بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في أيام خروجه وكان ذلك في أيام هشام بن عبد الملك ويذهب الجارودية أولاً إلى أتباع المعروف بأبي الجارود وقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عَلَى إمامة علي بالوصف دون الاسم وزعموا أيضاً أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي وقالوا أيضاً أن الحسن بن علي هو الإمام من بعد علي ثم أخوه الحسين(74/15)
كان إماماً بعد الحسن. وافترقت الجارودية في هذا الترتيب فرقتين فرقة قالت أن علياً نص عَلَى إمامة ابنه الحسن ثم نص الحسن عَلَى إمامة أخيه الحسين بعده ثم صارت الإمامة بعد الحسن والحسين شورى في ولدي الحسن والحسين فمن خرج منهم شاهراً سيفه داعياً إلى دينه وكان عالماً ورعاً فهو الإمام وزعمت الفرقة الثانية منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نص عَلَى إمامة الحسن بعد علي وإمامة الحسين بعد الحسن ثم افترقت الجارودية بعد هذا في الإمام المنتظر فرقاً منهم لم يعين واحداً بالانتظار وقال كل من شهر سيفه ودعا إلى دينه ولد الحسن والحسين فهو الإمام ومنهم من ينتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولا يصدق بقتله ولا بموته ويزعم أنه هو المهدي المنتظر الذي يخرج فيملك الأرض وقول هؤلاء فيه كقول المحمدية من الإمامية في انتظارها محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي ومنهم من ينتظر محمد بن عمر الذي خرج بالكوفة ولا يصدق بقتله ولا بموته فهذا قول الجارودية وتكفيرهم واجب لتكفيرهم أصحاب رسول الله عليه السلام.
ذكر السلمانية أو الجريرية منهم هؤلاء أتباع سليمان بن جرير الزيدي الذي قال أن الإمامة شورى وأنها تنعقد بعقد رجلين من خيار الأمة وأجاز إمامة المفضول واثبت غمامة أبي بكر وعمر وزعم أن الأمة تركت الصلح في البيعة لهما لأن علياً كان أولى بالإمامة منهما إلا أن الخطأ في بيعتهما لم يتوجب كفراً ولا فسقاً وكفر سليمان بن جرير عثمان بالأحداث التي نقمها الناقمون منه وأهل السنة يكفرون سليمان بن جرير من أجل أن كفر عثمان رضي الله عنه.
وذكر البترية منهم فقال هؤلاء أتباع رجلين أحدهما الحسن بن صالح بن حي والآخر كثير المغوا الملقب بالأبتر وقولهم كقول سليمان بن جرير في هذا الباب غير أنهم توقفوا في عثمان ولم يقدموا عَلَى ذمه ولا عَلَى مدحه وهؤلاء أحسن حالاً عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير وقد اخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح ابن حي في مسنده الصحيح ولم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري حديث في الصحيح ولكنه قال في كتاب التاريخ الكبير الحسن بن صالح بن حي الكوفي سمع سماك ابن حرب ومات سنة سبع وستين ومائة وهو من ثغور همذان وكنيته أبو عبد الله.
قال عبد القاهر: هؤلاء البترية والسليمانية من الزيدية كلهم يكفرون الجارودية من الزيدية(74/16)
لإقرار الجارودية عَلَى تكفير أبي بكر وعمر والجارودية يكفرون السليمانية والبترية لتركهما تكفير أبي بكر وعمر وحكي شيخنا أبو الحسن الشعري في مقالته عن قوم الزيدية يقال لهم اليعقوبية أتباع رجل اسمه يعقوب أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر ولكنهم لا يتبرؤون ممن تبرأ منهم.
قال عبد القاهر اجتمعت الفرق الثلاث الذين ذكرناهم من الزيدية عَلَى القول بأن أصحاب الكبائر من الأمة يكونون مخلدين في النار فهم من هذا الوجه كالخوارج الذين ايأسوا أُسراء المذنبين من رحمة الله تعالى ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
إنما قيل لهذه الفرق الثلاث واتباعها زيدية لقولهم بغمامة يد بن علي بن الحسن ابن علي بن أبي طالب في وقته وإمامة ابنه يحيى بن زيد بعد زيد. وكان زيد بن علي قد بايعه عَلَى غمامته خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم عَلَى والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي قالوا له إننا ننصرك عَلَى أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب فقال زيد إني لا أقول فيهما إلا خيراً وما سمعت أبي يقول فيها إلا خيراً وإنما خرجت عَلَى بني أمية الذين قتلوا جدي الحسين واغاروا عَلَى المدينة يوم الحرة ثم رموا بيتاً لله بحجر المنجنيق والنار ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم رفضتموني ومن يومئذ رافضة وثبت معه نصر بن حريمة العنسي ومعاوية ابن اسحق بن يزيد بن حارثة في مقدار مائتي رجل وقاتلوا جند يوسف بن عمر الثقفي حتى قتلوا عن آخرهم وقتل زيد ثم نبش قبره وصلب ثم أحرق بعد ذلك وهرب ابنه يحيى ابن زيد إلى خراسان وخرج بناحية الجوزجان عَلَى نصر بن بشار والي خرسان فبعث نصر ابن بشار إليه مسلم بن أحوز المازني في ثلاثة آلاف رجل فقتلوا يحيى بن زيد ومشهده بجوزجان معروف.
هذا منشأ مذهب الزيدية باليمن وغيرها قال ابن فضل الله: إمام الزيدية باليمن وهو من بقايا الحسينيين القائمين بآمل الشط من بلاد طبرستان وقد كان سلفهم جاذب الدولة العباسية حتى كاد يطيح رداءها ويشمت بها أعدائها. وهذه البقية الآن بصنعاء وبلاد حضر موت وما والاها من بلاد اليمن وأمراء مكة تسر طاعته ولا تفارق جماعته والأمانة الآن فيهم من بني المطهر واسم الإمام القائم في وقتنا حمزة ويكون بينه وبين الملك الرسولي باليمن(74/17)
مهادنات ومفاسخات تارة وتارة وهذا الإمام وكل من كان قبله عَلَى طريقة ما عداها وهي إمارة عربية لا كبر في صدروها ولا شمم في عرانينها وهم عَلَى مسكة من التقوى وترد بشعار الزهد يجلس في ندي قومه كواحد منهم ويتحدث فيهم ويحكم بينهم سواء عنده المشرف والشريف والقوي والضعيف وربما اشترى سلعة بيده ومشى في أسواق بلده لا يغلط الحجاب ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجاب يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسع ولا تكثر غير مشبع هكذا هو وكل من سلف قبله مع عدل شامل وفضل كامل اهـ.
نعم جاذب القوم الدولة العباسية كما قال العمري حتى كادوا يطيحون رداءها وكذلك فعلوا من بعد إلى عهدنا هذا وذلك شيء ناشئٌ ولا جرم من جودة هواء الجبال لأن الشدة تغرس في العادة نفوس الجبليين وما سكان الجبال من اليمانيين إلا أشبه بالإفريديين عَلَى حدود الهند وأفغانستان ولقد أوى الزيدية إلى الجبال كما أوى معظم أصحاب الدعوات إليها هكذا فعل الإسماعيلية والنصيرية فأووا إلى جبل اللكام والدروز إلى جبل الشوف والجبل الأعَلَى وجبال صفد وجبال حوران والشيعة المتاولة إلى جبل عامل وجبال بعلبك ولبنان من أرض الشام.
قال بعضهم صعدة مملكتها تلو مملكة صنعاء وهي في شرقيها وفي هذه المملكة ثلاث قواعد صعدة وجبل قطابة وحصن تلا وحصون أخرى وتعرف كلها ببني الرس وأما حصن تلا فمنه كان ظهور الموطئِ الذي أعاد إمامة الزيدية لبني الرضا بعد أن استولى عليها بنو سليمان فأوى إلى جبل قطابة ثم بايعوا لأحمد الموطئ سنة خمس وأربعين وستمائة.
وقال ابن فضل الله أيضاً في الزيدية: وأما الزيدية فهم أقرب القوم إلى القصد الأمم وقولهم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أئمة عدل وأن ولايتهما كانت لما اقتضته المصلحة مع أن علياً رضي الله عنه أفضل منهما ويرون جواز ولاية المفضول عَلَى الفاضل في بعض الأحيان لما تقتضيه المصلحة أو لخوف الفتنة ولهذه الطائفة إمام باق إلى الآن باليمن وصنعاء داره وأمراء مكة المعظمة منهم وحدثني الشريف مبارك بن الأمير عطيفة بن أبي نمي أنهم لا يدينون إلا بطاعة ذلك الإمام ولا يرون إلا أنهم نوابه وغنما يتوقون صاحب مصر لخوفهم منه والإقطاع (؟) وصاحب اليمن لمداراته لواصل المكارم ورسوم وكانت(74/18)
لهؤلاء دولة قديمة بطبرستان فزالت إلا هذه البقية.
وقال ابن خلدون فأما الزيدية فساقوا الإمامة عَلَى مذهبهم فيها وإنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص فقالوا بإمامة علي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه زيد بن علي وهو صاحب هذا المذهب وخرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة وقال الزيدية بإمامة ابنه يحي من بعده فمضى إلى خرسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين السبط ويقال له النفس الزكية فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدي وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن علي فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كله وهي معدودة في كراماته وذهب آخرون منهم إلى أن الإمام بعد محمد بن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمرو هو أخو زيد بن علي فخرج محمد بن القاسم بالطالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه وقال آخرون من الزيدية أن الإمام يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور ونقلوا الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعي الزنج وقال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد محمد ابن عبد الله أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات هناك وقام بأمره ابنه إدريس واختط مدينة فاس وكان من بعده عقبة ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا وبقي أمر الزيدية بعد ذلك أمر غير منتظم وكان منهم الداعي الذي ملك طبرستان وهو الحسين بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي لن الحسين السبط أخوه محمد ابن زيد ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الطروش منهم وأسلموا عَلَى يده وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمرو وعمرو أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد عَلَى الخلفاء ببغداد.
ذوكر ابن ساعد من جملة فرق الشيعة الزيدية القائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين وغمامة من اجتمع فيه العلم والزهد والشجاعة ظاهراً وهو من ولد فاطمة رضي الله عنها ويخرج لطلب الإمامة ومنهم من زاد صباحة الوجه وأن لا يكون مؤوفاً ويجوزون قيام إمامين معاً بمكانين ومن رفض زيداً هذا أطلق عليهم اسم الرافضة أولاً وهؤلاء الثلاث(74/19)
طوائف من الشيعة أعني الإمامية والإسماعيلية والزيدية هم رؤوس فرقهم.
قال ابن حزم اتفقت الأمة كلها عَلَى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ثم اختلفوا ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو في القلب فقط أو باللسان إن قدر عَلَى ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلاً وبهذا قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة بعثمان وغيره من الصحابة وبمن رأى لقعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأو ذلك ما لم يكن عدلاً فإن كان عدلاً وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العادل. وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا يبأسون من الظفر ففرض عليهم.
وبعد فإن شيعة علي رضي الله تعالى عنه زيدي ورافضي وبقيتهم بدد لا نظام لهم قالت علماء الزيدية وجدنا الفضل في الفعل دون غيره ووجدنا الفعل كله في أربعة أقسام أولها القدم في الإسلام حين لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه ثم الزهد في الدنيا فإن أزهد الناس في الناس أرغبهم في الآخرة وآمنهم عَلَى نفائس الأموال وعقائل النساء وإراقة الدماء ثم الفقه الذي يعرف به الناس مصالح دنياهم ومراشد دينهم ثم المشي في السيف كفاحاً في الذب عن الإسلام وتأسيس الدين وقتل عدوه وإحياء وليه فليس فوق بذل المهجة واستغراق القوة غاية يطلبها طالب أو يرتجيها راغب ولم نجد قولاً خامساً فتذكره فلما رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم وتقديمه دونهم. وذاك إنا سألنا العلماء والفقهاء وأصحاب الأخبار وحمال الاثار عن أول الناس إسلاماً فقال فريق منهم من هذه علي وقال قوم زيد بن حارثة وقال قوم خباب ولم نجد قول كل واحد منهم من هذه الفرق قاطعاً لعذر صاحبه ولا ناقلاً عن مذهبه وإن كانت الرواية في تقديم علي أشهر واللفظ به أكثر وكذلك إذا سألناهم عن الذابين في الإسلام والماشي إلى الأقران(74/20)
في بسيوفهم وجدناهم مختلفين فمن قائل يقول علي رضي الله تعالى عنه ومن قائل يقول ابن عفراء ومن قائل يقول محمد بن مسلمة ومن قائل يقول طلحة ومن وقائل يقول البراء بن مالك عَلَى أن لعلي من قتل الأقران ما ليس فيهم فلا اقل من أن يكون علي في طبقتهم وإن سألناهم عن الفقهاء والعلماء رأيناهم يعدون علياً ممن كان أفقههم لأنه كان يُسأل ولا يسأل ويفتي ولا يستفتي ويُحتاج إليه ولا يحتاج إليهم ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم وإن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف والمعروفين برفض الدنيا وخلعها والزهد فيها قالوا علي وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وأبو ذر وعمار وبلال وعثمان بن مظعون عَلَى أن علياً أزهدهم لأنه شاركهم في خشونة الملبس وخشونة المأكل والرضا باليسر والتبلغ بالحقير وظلف النفس ومخالفة الشهوات وفارقهم بان ملك بيوت الأموال ورقاب العرب والعجم فكان ينضج بيوت المال في كل جمعة ويصلي فيه ركعتين ورقع سراويله ما فضل من ردائه عن أطراف أصابعه بالشفرة في أمور كثيرة مع أن زهده أفضل من زهدهم لأنه أعلم منهم وعبادة العالم ليست كعبادة غيره كما أن زلته ليست كزلة غيره فلا اقل من أن نعده في طبقتهم ولا نجدهم ذكروا لأبي الدرداء وأبي ذر وبلال مثل الذي ذكروا له في باب الغناء والذب وبذل النفس ولم نجدهم ذكروا للزبير وابن عفراء وأبي دجانة والبراء بن مالك مثل الذي ذكروا له من التقدم في الإسلام والزهد والفقه ولم نجدهم ذكروا لبي بكر وزيد وخباب مثل الذي ذكروا له من بذل النفس الغناء والذب بالسيف ولا ذكروهم في طبقة الفقهاء والزهاد فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه متفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب وهذه الطبقات علمنا أن أفضلهم وإن كان كل رجل منهم قد اخذ من كل خير بنصيب فإنه لم يبلغ ذلك مبلغ من قد اجتمع له جميع الخير وصنوفه. قال الحافظ بعد كلام عَلَى هذا النحو وإنما قصدت إلى هذا المذهب دون مذهب سائر الزيدية في دلائلهم وحججهم لأنه أحسن سيء رأيته لهم وإنما أحكي لك من كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم لن فيه دلالة عَلَى غيره وغنى عما سواه.
الخاتمة
تبين للقارئ من هذا البحث كيف كانت اليمن وكيف كان سكانها وما هي مذاهبهم وما نخال أن الداعي إلى كل ما وقمعن الفتن سوى المظالم التي دكت العمران أذعر بها السكان وهذا(74/21)
واقع بهم منذ القرون الوسطى إلى اليوم وقد أصابهم منه في عهد الدولة العلية ما لم يصب معظم الولايات لبعد ديارهم في القاصية ولأنه لم يكن يقدم عَلَى الخدمة هناك من جيش الدولة وعمالها إلا من جعل الاغتناء بأي طريقة أول همه وهمامة نفسه.
قال المقبلي اليماني: ولقد حكي عن باشا من أمراء الروم يسمى سناناً في صنعاء حين وطأتهم اليمن وخبره أشهره واكبر قد أنسى أهل اليمن ضرب المثل بالحجاج وصار علماً للظلم والفتك كأنه مولع بسفك الدماء والتفتن فيه بالسلخ والصلب والخنق والكرباج فبينا هو في خاصته يتأوه ويبتهل إلى الله في طلب المخرج من نفس مسلم قتله في الروم إذ قيل له هؤلاء الجماعة الذين أرسلت لهم فأشار أن اقتلوهم من دون اكتراث ولا نظر ولا استثبات في شأنهم فقال له بعض الحاضرين في ذلك فقال إنما أتأوه من قتل مسلم محترم وهؤلاء زيدية يحل دماؤهم إلى أن قال وكنت أن هذا شيء نادر في سنان المشؤم وجماعة قليلين وإذا هو مطبق عليه في من هو في دولة الأروام كان هذا شيء يتبع الدولة وكأنها نسخت الشريعة اهـ. كذا قال وهو عَلَى غلو فيه لا يخلو من حقيقة تاريخية فقد أثر عن الولاة المتأخرين أعمال كهذه يتناقلها اليمانيون بينهم ويدونونها في أخبارهم ولذلك قلما رأينا يمانياً ثاب إلى سكونه فعسى أن تعرف حكومتنا الحاضرة كيف تؤكل الكتف تسكن نأمة تلك الشرور المستطيرة قروناً في مملكو التبابعة وحمير.(74/22)
تاريخ الحضارة
في القرون الوسطى والقرون الحديثة
أصول الحضارة
الآثار قبل التاريخ - تجد في الأرض أحياناً دفائن من سلاح وأدوات وعظام بشرية وبقايا من كل نوع تركها البشر ولا يعلم عنها شيء ويستخرج منها ألوف من الأنواع في جميع ولايات فرنسا وسويسرا وإنكلترا بل في أوربا كلها بل يستخرج مثلها من آسيا وأفريقية ولا شك أن لها مثالاً في العالم كله. وتسمى هذه البقايا آثار ما قبل التاريخ لأنها أقدم من التاريخ ومنذ نحو أربعين سنة أخذ العلماء يجمعونها أو يدرسونها. ولمعظم المتاحف اليوم قاعة أو عَلَى الأقل بعض بيوت من الزجاج مملوء من هذه البقايا. وعَلَى مقربة من باريز في (سان جرمان إن لاي) متحف من قبل عهد التاريخ. وقد جمعت الدانيمرك زهاء ثلاثين ألف قطعة من الآثار. وفي كل يوم يعثر عَلَى تحف أثناء الحفر وعند بناء بيت وحفر حفيرة لسكة حديدية.
وهذه التحف لا ترى عَلَى سطح الأرض بل هي مدفونة في الأعماق وفي أماكن لم تنبش تربتها وهي مغشاة بطبقة من الحصباء والطين الندي تراكمت شيئاً فشيئاً فوقتها وجعلتها بمأمن من الهواء وهو ما يؤكد كل التأكيد بان تلك الدفائن هتاك منذ زمن بعيد.
علم ما قبل التاريخ - فحص العلماء هذه الآثار فتساءلوا عمن خلفها لنا وحاولوا أن يعرفوا من عظامها وأدواتها كيف بقيت وكيف كانت تعيش فأثبتوا أن هذه الأدوات تشبه ما يستعمله بعض المتوحشين إلى اليوم. ومن درس هذه التحف نشأ علم جديد سموه علم الآثار قبل زمن التاريخ.
العصور الأربعة - حدثت بقايا قبل زمن التاريخ من أجناس من البشر منوعة كثيراً فبقيت في الأرض أدواراً متطاولة جداً من الزمن كان يعيش فيه في بلادنا الماموت وهو نوع من الفيل العظيم له جلد كثير الوبر وأنياب محددة. وتقسم هذه السلسلة من القرون إلى أربعة أزمان تسمى عصوراً.
فالأول عصر الحجر النحيت والثاني عصر الحجر الصقيل والثالث عصر النحاس والرابع عصر الحديد. سمت كذلك بسبب الأدوات التي كانوا يعملونها من الحجر والنحاس أو(74/23)
الحديد. عَلَى أن هذه الزمان تختلف طولاً وقصراً وربما دام عصر الحجر النحيت مئة ضعف عصر الحديد.
عصر الحجر
بقايا الحصباء - أقدم الأطلال التي عثر عليها كانت مدفونة في الحصباء. وقد ظفر أحد علماء فرنسا المسيو بوشه دي برت (منذ سنة 1841 إلى سنة 1853) في وادي لاسوم بأدوات قاطعة من الصوان وكانت مطمورة عَلَى عمق ستة أمتار فالحصباء عَلَى ثلاث طبقات من أرض خزف وحصباءٍ وكلس صلصالية لم تحركها يد. كما عثروا في نفس تلك الأماكن عَلَى عظام بقر وأيائل وفيلة. وظل الناس يهزؤن زمناً بهذه الاكتشافات فكانوا يقولون أن هذا الصوان قد نجت صدفة بلا تعمل حتى إذا كانت سنة 1860 جاء عدة علماء بالقصد إلى وادي لاسوم واعترفوا أن هذا الصوان قد نحته يد بشر بلا مراءٍ. ومنذ ذاك العهد عثروا عَلَى زهاء خمسة آلاف قطعة تشبه تلك في طبقات من هذا الجنس نفسه وذلك في وادي السين وفي إنكلترا وكن بجانب بعض تلك الآثار بقايا عظام بشرية. ولا يختلف اثنان اليوم في أنه كان بشر في العالم في الزمن الذي تألفت فيه عَلَى تربتنا طبقات الحصباء. فإذا كانت الطبقات التي تغشى هذه الأطلال تقد تألفت بالبطء الذي تتألف به لعهدنا هذا فإن البشر الذي وجدت عظامهم وأدواتهم قد عاشوا قبل زهاء مئتي ألف سنة.
رجال الغيران - ولطالما عثر الباحثون عَلَى أطلال في الغيران محفورة في الصخر تكون أحياناًَ قائمة فوق نهر وأشهرها مغارات شواطئ الفزير (أحد أنهار فرنسا) ويكثر أمثالها في كثير من الأماكن اتخذت قدماً مساكن للناس وأحياناً قبواً لهم. فتجد فيها هياكل عظامهم وأسلحتهم وأدواتهم وهي عبارة عن فؤوس وسكاكين وأزاميل أسنة رماح من الصوان وسهام وشفار كلاليب وإبر من العظام مثل ما كان يستعملها بعض المتوحشين وقد نثرت عَلَى التربة عظام الحيوانات فكان أولئك الناس القذرون كسائر المتوحشين بلقون بها في زاوية بعد أن يأكلوا الحيوانات وقد يشقون عظامه ليستخرجوا منه النخاع عَلَى ما يفعل اليوم المتوحشون. ولست ترى بين تلك الوحوش الأرنب والأيل والبقر والحصان وحوت سليمان بل تجد بينها أيضاً الكركدن ودب الكهوف والماموت والوعل وبقر السهل وجميع ضروب الوحوش المنقرض نسلها من فرنسا منذ زمن طويل. ولزقد عثر أيضاً عَلَى بعض(74/24)
المنقوشة عَلَى عظام الوعل أو عَلَى أسنان الماموت تمثل إحداها قتال وعول والثانية حيوان الماموت أي فيلاً هائلاً إذ جلد له وبر كالصوف وأنياب معقفة.
لا جرم في أن هؤلاء الناس كانوا معاصرين لذاك الفيل والوعل فكانوا كجنس الأسكيمو (سكان القطب في أميركا) في عهدنا هذا قوم دأبهم الصيد والقنص يحسنون صنع الصوان وإيقاد النيران.
المساكن - انخفضت المياه في بحيرة زوريخ (سويسرا) سنة 1854 عقب ما حدث من الجفاف في صيف تلك السنة فاكتشف سكان الشواطئ أوتاداً غرزت للبناء وهي بالية جداً وماعوناً غليظاً غير محكم وكانت هذه بقايا قرية قديمة بنيت عَلَى الماء. ثم عثر عَلَى زهاء مائتي قرية تشبهها في بحيرات سويسرا ويدعونها القرى أو المدن المبنية عَلَى أوتاد في شواطئ البحيرات. أما الأوتاد التي قامت عليها تلك المساكن فقد جعلت من جذوع الأشجار غرزت من أطرافها في البحيرة عَلَى عمق عدة أمتار واقتضى لإنشاء كل قرية من ثلاثين إلى أربعين ألف جزع تحمل سطحاً من الخشب أقيمت عليه بيوت من خشب مغشى بالطين. ويستدل مما عثر عليه من مئات من الأمتعة في وسط تلك الأوتاد عَلَى العيشة التي كان السكان يعشونها فقد كانوا يأكلون من الحيوانات التي يصيبونها الأيل والوعل والخنزير البري عَلَى حين كانوا يعرفون من قبل الحيوانات الأهلية كالبقر والعنز والحمل والكلب ويحسنون زرع الأرض وحصاد الغلة وطح الحب لأنه وجد في أطلال قراهم حب الحنطة بل الخز (وبعبارة أخرى معجنات بدون خمير) وكانوا ينسجون الأقمشة الغليظة من القنب ويخيطون الثياب وقد عثر عَلَى إبر من عظام وكانوا يعملون الفخار عَلَى صورة ليس فيها شيء من المهارة وترى آنيتهم لا أثر للدقة فيها بل هي معمولة باليد مزدانة ببعض خطوط فقط وكانوا يستعملون السهام والسكاكين من حجر الصوان مثل سكان الغيران ولكنهم يعملون فؤوسهم من حجر صلب للغاية تعلموا صقله. ولذلك دعي عصرهم بعصر الحجر الصقيل وهؤلاء السكان أحدق عهداً من سكان الغيران لأنهم لم يعرفوا فيل الماموت ولا الكركدن وإن كانوا عرفوا الوعل والأيل في أرض فرنسا.
المصانع أو البنية - تسمى البنية المصنوعة من ضخم الشقيف من الأحجار غير المصقولة البنية الميكاليتية أي الأحجار الضخمة ويكون الحجر فيها تارة عَلَى حاله وأخرى مغشى(74/25)
بالطين. والمصانع التي يبقى فيها الصخر مكشوفاً هي عَلَى أنواع فمنها الدولمانوهو منضدة منالحجر مؤلفة من حجر مستطيل مركوز عَلَى عدة أحجار مغروزة في الأرض والكروماش وهي دائرة من الحجر يتألف من صخور كبيرة مصفوفة عَلَى صورة إطار ومنها المانهير وهي حجر طويل مؤلف من شقيفة جعلت عَلَى طرفها وكثيراً ما تكون عدة من المانهير مصفوفة صفاً واحداً. ولا تزال في الكرنك من إقليم برتانيا أربعة آلاف من هذا البناء قائمة عَلَى أحد عشر صفاً. ويذهبون إلى أنه كان قديماً عشرة آلاف واحد من نوعها جعلت عَلَى صف واحد في ذاك المكان. وإنك لتشاهد البنية الميكاليتية في فرنسا بالمئات في ولايات الغرب ولاسيما في إقليم برتانيا وتجد في إنكلترا منها عَلَى معظم الآكام ومنها زهاء ألفي بناية فقط في جزائر أوركاد.
وتسمى المصانع المدفونة التومولوس وهي تشبه أكمة عن بعد وإذا فتحت يجد المرء في داخلها غرفة من الحجر وكثيراً ما تكون مبلطة بألواح من الصخر. وترى منها في بلاد الدانيمرك وألمانيا الشمالية مصانع منثورة ويسمي أهالي تلك البلاد تلك المصانع المدفونة قبور الجبارين.
والمصانع الميكاليتية كثيرة خارج أوربا وفي الهند وعَلَى شاطئ أفريقية. ولا نعلم أي الشعوب استطاعت إخراج مثل هذا الشقيف ونقله ولقد جاء زمن طويل كانوا يظنون فيه أن قدماء الغاليين والسلتيين هم الذين عنوا باستخراجها ونقلها ومن هنا جاء اسم المصانع السلتية ولكن ذلك مردود إلى أن ثبت وجود مثل هذه المصانع في أفريقية والهند.
وإذا فتحت بعض هذه المصانع المدفونة غير الممسوسة تجد فيها كل حين هياكل عظام وكثيراً ما يكون عدة هياكل وهي إما جالسة أو مضطجعة فهذه المصانع عبارة عن قبور فتجد بالقرب من الميت أسلحة وآنية ونقوشاً. وفي أقدم هذه القبور ترى الأسلحة عبارة عن فؤوس من الحجر الصقيل والنقوش هي أصداف ولآلئ وعقود من عظم أو من عاج والآنية بسيطة للغاية بدون عروة ولا عنق بل هي مزدانة فقط بخطوط أو بنقط وترى فيها عظام حيوانات ملقاة عَلَى الأرض مكلسة وهي بقايا طعام قدم في جنازة اتلميت قدمه احبابه إلى قبره. وليس بين هذه العظام أثر ولعظم الوعل وهذا ما يستدل منه عَلَى أن هذه المصانع بنيت عندما اندثر جنس الوعل ومن أقطارنا إلى بعد زمن القرى المبنية في(74/26)
البحيرات.
قرى المعادن
القلز (النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد) استعمل البشر المعادن منذ عرفوا إذابتها ليصنعوا منها أسلحتهم مفضلين لها عَلَى الحجر. فأول معدن شاع بالاستعمال هو النحاس لسهولة استخراجه لأن منه الصافي السهل عَلَى التطريق إذ يمكن تطريقه بارداً ولكن لم يستعمل النحاس الخالص ومنه تصنع أسلحة سريعة العطب قابلة للتقليد. ولذلك مزجوه بـ 10/ 1 من القصدير ليزيد صلابته وهذا المزيج من النحس والشبه هو الذي يسمونه القلز.
أدوات البرونز - صنعوا من القلز أدو ات العمل (كالمدى والمطارق والمناشير والإبر والصنانير) وأدوات للزينة (أساور وسفافيد وقراط) وصنعوا منها أسلحة بوجه مخصوص (مثل الخناجر وزج الرماح والفؤوس والسيوف) ويوجد من هذه المصنوعات في قارة أوربا عامة في المصانع المدفونة وفي نضائد الرخام الحديثة وفي معادن الحمر المشتعل ببلاد الدانيمرك وفي مدافن الحجر وكثيراًَ ما يكتشف بالقرب من هذه المصنوعات من البرونز أدوات الزينة من ذهب وأحيانا بقايا ثوب من الصوف. ولا يتأتى أن تكون جميع أدوات البرونز متشابهة بالعرض ومعمولة من مزيج معين. لا جرم أن تاريخها يرد إلى عهد واحد وهو مقدم عَلَى وصول الرومان إلى غاليا إذ لم يظفر بها قط في جانب الآثار الرومانية وإلى اليوم لم يعرف من كان يستعملها.
قرن الحديد - لما كان الحديد أصعب عَلَى التطريق وأقسى عَلَى العمل من البرونز لم يعرف استعماله إلا مؤخراً. وإذا كان أكثر صلابة لم يستعمل غيره للسلاح منذ عرف. وكان الحديد عَلَى عهد هوميروس لبلاد اليونان معدناً ثميناً يدخرونه لصنع السيوف ويبقون القلز لسائر الاستعمالات ولذلك ترى كثيراً من القبور تحوي أشياء من القلز وأسلحة من الحديد كيفما اتفق.
وهذه السلحة هي فؤوس وسيوف واقواس ودروع ويوجد منها في العادة بالقرب من هيكل عظام وفي قبر حجر أو خشب لأن المحاربين كانوا يدفنون مع أسلحتهم ويعثر منها في ساحة الحروب متفرقة أو ضائعة في قعر حوض من الحجر وقد اكتشف في أحد هذه الأحواض في شلزويك 100 سيف و500 رمح و30 فأساً و460 سهماً و80 مدية و40(74/27)
منقشاً وكلها من الحديد وعَلَى مقربة من ذاك المكان في مجرى بحيرة قديمة رأوا مركباً عظيماً طوله 20 متراً محملاً كله من المحاز والسيوف والنصال والمدى فالأشياء المعمولة من الحديد التي يعثر عَلَى هذه الصورة لا تحصى وزهي أقل بهاء من مصنوعات البرونز لأن الصدأ يأكل الحديد بسرعة فتراها لأول وهلة أكثر قدماً ولكنها في الحقيقة أكثر جدة.
عرف سكان شمةالي أوربا الحديد قبل دخول الرومان أي في القرن الأول ب. م. وقد اكتشف في مقبرة قديمة بالقرب من مناجم الملح في هالستاد في بلاد النمسا 980 قبراً تحتوي عَلَى أدوات من الحديد والبرونز ولم يظفروا معها بقطعة من النقود الرومانية وقد دام قرن الحديد إلى عهد الرومانيين. وإن المصنوعات الحديدية ليعثر عليها مع أدوات الزينة الذهبية والفضية والأواني الخزفية الرومانية ونواويس وكتابات ونقود رومانية عَلَى مثال صور الإمبراطور والمحاربون الذين نراهم مضطجعين بالقرب من سيوفهم ودروعهم كانوا في الأكثر إلى عهد قريب منا وكان كثير منهم عَلَى عهد الميروفنجيين وبعضهم أيضاً عَلَى عهد شارلمان. فليس قرن الحديد إذاً من القرون التي تعد قبل زمن التاريخ.
الخلاصة
ماذا يراد من القرون الأربعة - استعمل سكان البلد الواحد الأحجار المنحوتة فالأحجار المصقولة فالقلز فالحديد ولكن البلاد كلها لم تكن تستعمل في القرن الواحد المعدن الواحد فالمصريون استخدموا الحديد في حين كان اليونان يستعملون القلز وبرابرة الدانيمرك مازالوا عَلَى استعمال الحجر ولم ينته عصر الحجر المصقول في أميركا إلا عندما وصل إليها الأوربيون وظل المتوحشون من أهل أستراليا إلى أيامنا هذه في عصر الحجر النحيت ولا يوجد في منازل عسكرهم سوى أدوات من العظام وقداحات تشبه ما كان يستعمله سكان الغيران فليس للعصور الأربعة إذن أدوار في حياة الإنسانية بل في حياة كل مملكة عَلَى حدتها فقط.
شكوك - ما برح علم الآثار قبل التاريخ من العلوم الحديثة النشأة وما نعرفه عن البشر الأصليين تعلمنها من بقايا حفظت بالعرض ووجدت كذلك وعَلَى ذلك وقد تؤدي صدمة جديدة وحفيرة أو خندق وانهيار أرض وجفاف مطر إلى اكتشاف جديد. ومن يعرف ما هو مدفون في بطن الأرض حتى الآن فإن ما عثر عليه اليوم من المدفونات حتى اليوم من(74/28)
الأشياء لا يقع تحت الحصر ولكن قلما تفيدنا فيما نريد أن نعرفه. فكم من زمن دام كل عصر من العصور الأربعة؟ ومتى بدأ وانتهى في البلدان المختلفة؟ ومن أي الشعوب أتت صوب الغيران والكهوف والقرى في وسط البحيرات والمصانع المدفونة في النضائد الحجرية؟ وعندما تنقل مملكة من عصر الحجر المصقول إلى القلز هل يكون الشعب نفسه قد غير أدواته أو خلفه شعب آخر؟ وعندما يتعقد بعضهم أنهم ظفروا بجواب عَلَى ذلك يحدث اكتشاف جديد يكذب علماء الآثار فقد كان يظن أن النضائد الحجرية جاءت من السلتيين فوجدوا منها في محال لم يستطع السلتيون أن يجتازوها.
مسائل محلولة - ومع هذا فإن ثلاث مسائل يظهر أنها محلولة (1ً) الإنسان هو قديم عَلَى الأرض لأنه عرف الماموت ودب الكهوف فكان يعيش عَلَى الأقل خلال العصر الذي يقال له العصر الرباعي (2ً) انتقل الإنسان من حالة الهمجية حتى وصل إلى المدنية وحسن بالتدريج آلاته وأدوات زينته من الفأس الحقير المعمول من الصوان والعقد المؤلف من أسنان الدببة إلى سيوف الحديد وحلي الذهب وذلك لأن الأدوات الغليظة كثيراً هي أيضاً عريقة في القدم (3ً) تقدم الإنسان تقدماً سريعاً ومكان كل عصر أقصر مما سبقه.
غاليا
شعوب غاليا المستقلة - كانت البلاد التي يسكنها (الفرنسويون) تدعى قديماً بلاد غاليا ويريدون بهذا الاسم جميع الصقع الممتد من جبال البيرينية إلى الألب والرين فالبحر هذه البلاد الواسعة لم تكن مملكة واحدة بل كانت تنوقسم بين مئة من الشعوب الصغيرة عَلَى الأقل ولكل منها حكومته وجيشه يحارب بعضها بعضاً.
وهذه الشعوب مؤلفة من ثلاثة عناصر مختلفة
(1ً) كان الإيبريون وهم من نفس عنصر سكان إسبانيا يتكلمون في الجنوب في البلاد الواقعة بين جبال البرنيه ونهر الغارون بلغة لا تسبه بوجه من الوجوه اللغات التي يتكلم في أوربا وما زال يتكلم بها إلى الآن الباسك في البرنيه.
(2ً) كان السلتيون في الوسط أي من نهر الغارون إلى نهر المارن من عنصر سكان إيرلاندا نفسه ولغتهم تشبه اللغة التي يتكلم بها في إيرلاندا وفي بلاد الغال وبريطانيا.
(3ً) في الشمال منة نهر المارن إلى نهر الرين الشعب البلجيكي الذي كان بعضه من(74/29)
السلتيين والآخر من الجرمانيين أي من نفس الشعوب التي تسكن ألمانيا.
فلم يكن في غاليا من ثم وحدة في الجنس ولا وحدة في اللغة.
ديانة الغاليين - كانت ديانة الشعوب الغالية اشبه بديانة اليونان والرومان فيعبدون عدة أرباب تمثلها أصنام. ونحن لا نعرف أيضاً أسماء هذه الأرباب ولكننا نعرف أهمها. وهي رب الشمس (بلن) وربة القمر (بلزانا) ورب الفصاحة ويمثلونه في سلاسل ذهب خارجة من فمه لتقيد الحضور ورب مكلف بأن يقود إلى جهنم أرواح الموتى (توتاتس) ورب الرعد ورب يدعى المفزع كان يسكن الغابات المظلمة. وكانوا يقدمون لهذه الأرباب إكراماً لها وكثيراً ما يذبحون لها ذبائح بشرية يختارونها إما من الجناة المحكوم عليهم بالإعدام أو من أسرى الحرب وكان في غاليا طبقة من الناس وقفت نفسها عَلَى خدمة الدين وهم الدوروديون يجتمعون خاصة من شبان الأسر الشريفة وهم في العادة ينوون التبتل فلا يتزوجون وكان للدوريديين مذاهب دينية تخالف دين الشعب ولم ينته إلينا ما يعرفنا بهذين المذهبين ولا نعلم أنهم كانوا يعتقدون بخلود الروح. وكانوا يلبسون فسطاناً أبيض ونعالاً ويقبضون بأيديهم قضباناً بيضاء يستعملونها في الأعمال السحرية لنهم كانوا كهنة وأطباء وسحرة وقضاة في آن واحد. وكانوا يرون أن لبعض النباتات فضيلة ذاتية ولاسيما دبق (عنم) البلوط وهو النبات الذي يشفي بزعمهم من دعامة الأمراض فكانوا يجنونه باحتفال حافل بمناجل من ذهب في اليوم السادس من آخر شهر في الشتاء.
أخلاق الغاليين وعاداتهم - كانت الشعوب الغالية إلى القرن الأول من التاريخ المسيحي برابرة متوحشين يعيشون إلا قليلاً كما يعيش اليونان قبل هوميروس أو الرومان في أوائل أمرهم وكانت البلاد مغشاة بغابات واسعة يسكنها الذئاب والأيائل والنعام والدببة وفيها بطائح مؤلفة من انهار ولم يكن فيها من طرق سوى الضيق المعوج ولم تمكن البيوت سوى أكواخ صغيرة من خشب أو من لبن مغطاة بقش لا نوافذ لها ولا مداخن ولها في السقف خرق يصعد منه الدخان حتى أنه لم يكن الأغنياء الغاليين أثاث ولا فرش بل كانوا ينامون عَلَى القش أو عَلَى جلود ويأكلون بأيديهم ولم يكن لهم مدن يصح إطلاق لفظ مدينة عليها بل لهم أسوار من الحجر يسكن داخلها القوم ويتحصنون أيام الحروب وهناك كانت تقام الأسواق وتعقد مجتمعات المحاربين والأشراف.(74/30)
ولكم يكن سكان البلاد متساويين فيما بينهم فكان الفلاحون طبقة دنيئة والمحاربون الذين يقاتلون عَلَى خيولهم هم طبقة الأشراف وهؤلاء وحدهم هم الحكام وكان لبعض الشعوب زعيم سام أي ملك (ولفظ ريكس) الغالية التي توجد في عدة من أسماء رؤسائهم مثل أمبيوريكس بوايوريكس فرسينوجيتوريكس وغير ذلك هي نفس اللفظ اللاتيني ريكس.
وكان المحاربون يتسلحون برمح لها سنان من القلز وبسيف ثقيل من الحديد ويلبسون خوذة وترساً من الخشب ولم يكونوا يلبسون الدروع. ويفوق الغاليون اليونان والرومان من جهة واحدة فقط هو أن ثيابهم كانت أكثر ملائمة وأحسن صنعاً للتوقي من البرد. فبدلاً من أن يلبسوا مثلهم ثياباً طويلة تربك صاحبها وتترك ساقيه عريانتين ونعليه تكشفان رجليه كانوا يلبسون نوعاً من السراويل (البري) ومشلحاً وضرباً من ضروب الأردية (السي) أشبه بما يلبسه الجيليون من أهل إيكوسيا وأحذية تسمى كاليكا الغالية ومنها جاءت لفظة كالوش الفرنسية واقتبس الرومانيون تلك السراويل الغالية.
غالية الرومانية
كيف أصبحت غاليا رومانية - استوطن الرومان بادئ بدءٍ الشطر الجنوبي من غاليما في جوار إيطاليا حيث طاب لهم الهواء وأطلق عَلَى البلاد جبال البيرنيه إلى جبال الألب اسم بروفانس أي ولاية (وبقي اسم بروزفانس يطلق عَلَى القسم الشرقي من شرقي نهر الرون) فلم يمض زمن طويل حتى اشبهت بلاد إيطاليا ولما افتتح قيصر بقية بلاد غاليا خف سكانها إلى التخلي عن عاداتهم واقتباس عادات الرومان فغادروا القرى ونزلوا المدن حيث انشئوا المعابد ودور تمثيل وحمامات وبيوت من رخام مفروشة بالفسيفساء عَلَى نحو ما اعتاد أغنياء الرومان.
وحذا السكان حذوا الأشراف فتركوا بالتدريج حتى لغتهم واخذوا يتكلمون باللاتينية ومن اللاتينية التي تكلم بها العامة في المملكة الرومانية نشأت اللغات الرومانية كالفرنسوية والإيطالية والإسبانية ويكاد لم يبق في الإفرنسية سوى كلمات طفيفة من اللغات الغالية (مثل بك منقار كوك ديك ألويت قنبرة مارن تراب كلسي ممزوج بصلصال دون كثيب ليو فرسخ).
نظام غاليا - لم تدثر الشعوب الصغرى التي كانت تتقاسم غاليا بل تألفت من كل واحد(74/31)
منها مدينة سميت باسم سكانها (مثل سواسون تريف ليوج باريز) وكلما أنشئت مدن جديدة تضاف إلى ما أنشئ من نوعها قبلاً. وانضمت عدة مدن متألفت منها ولاية وكان لكل ولاية حاكم ينوب عن الإمبراطور وله سلطة مطلقة نافذة فهو يقضي بين الناس ويبيت المسائل ويبلغ المدن أوامر الإمبراطور وكان الواي في كالولايات الواقعة عَلَى الحدود حيث يرابط فيلق من الجيش هو القائد.
وما قط كان لسكان غاليا غاية في تاليف أمة خارجة عن بقية المملكة حتى أمسوا عَلَى التوالي يعتبرون أنفسهم رومانيين فيطيعون الإمبراطور وحكامه عن رضى ولذلك لم يكن الإمبراطور في حاجة أن يضم شملهم تحت رايته بالقوة كما يجمع شمل الشعب المغلوب عَلَى أمره. وكان له جيش ولكن عَلَى التخوم فقط للدفاع عن الغاليين من غزوات برابرة الجرمانيين لا لإكراههم عَلَى الخضوع. ولم يكن في تلك البلاد الواسعة التي هي أكبر من فرنسا الحديثة من الجنود إلا حرس الولاة يبلغ عددهم عَلَى الجملة ثلاثة آلاف رجل.
أصول المجالس البلدية في غاليا - ظل صغار الشعوب في غاليا يديرون أمور أنفسهم بأنفسهم وكان للإمبراطور التدخل في مسائلهم الداخلية ولكنه لا يسئ في العادة استعمال حقوقه بل يطلب إليهم فقط ألا يحارب بعضهم بعضاً وأن يؤدوا المطلوب منهم للحكومة في أوقاته وأن يحضروا أمام المحكمة الوالي وكان في كل ولاية عدة حكومات صغرى وتدعى كما كانت قديماً في المملكة الرومانية مداً أو بلديات. فالمدينة عَلَى عهد الإمبراطورية الرومانية كانت عَلَى مثال المدينة الرومانية نفسها فيها مجالس لعامتها وعمال ينتخبون كل سنة وينقسمون أقساماً كل قسم مؤلف من عنصرين ومجلسة الشيوخ يتألف من كبار أرباب الأملاك أي من الأشراف والأسرات القديمة وكان حال مجلس العامة أو الأمة كما هو الحال في رومية صورياً وفي مجلس الشيوخ أي الأشراف هم الحكام حقيقة أنا وسط المدينة فهو مدينة صرفة عَلَى الدوام أي رومية مصغرة ولها معابدها وأقواس نصرها وحماماتها العامة وعيونها ومسارحها وميادين لقتالها والحياة فيها صو رة من حياة رومية مصغرة من حيث توزيع الحنطة والدراهم والمآدب العامة والحفلات الدينية الكبرى والألعاب الدموية. إلا أن دراهم الولايات في رومية هي التي تؤدي النفقات أما في المدن فإن الأشراف أنفسهم يقومون بالنفقات اللازمة للحكومة والأعياد.(74/32)
وكان الخراج الذي يجبى لحساب الإمبراطور يذهب إليه برمته لذلك اقتضى أن يقوم الأغنياء عَلَى نفقتهم بالاحتفال بالألعاب وإحماء الحمامات وتبليط الشوارع وإنشاء الجسور والمجاري والملاعب. قاموا بكل ذلك مدة قرنين وبذلوا عن سعة في إقامة المصانع المنبثة في أرض المملكة وألوف من الكتابات المزبورة عَلَى الأحجار شاهدة بذلك ابد الدهر.
كان بين جبال البيرنيه ونهر الرين نحو مئة وعشرين مدائن ولم تكن كور ساذجة عَلَى نحو ما يوهمه نظام المجالس البلدية فيها بل إنه كان لمعظمها أرض مساوية لولاية أوابرشيه وهكذا كنت تجد بين نهري اللوار والسوم مدن سانس وسوسوان وأورليان وكانت باريز ونويون وساتليس وبوفي ولاون وسوسوان وامين فقط حواضر مدن وكانت المدن في إقليم البروفانس حيث نزل الرومان منذ عهد متطاول أكثر ازدحاماً وكنت ترى في إقليمي فوكلوس ودروم فقط مدن أفينون وكاربتراس واورانج وكافليون وفيزون وسان بونس ودي وفالانس. وفي ذاك الصقع حفظت أجمل المصانع ففي مدينة ليم ترى الملاعب والمعبد المسمى البيت المربع والقناة المسماة جسر الحرس ومفي مدينة آرلس الملاعب وفي مدينة أورانج المسرح وقوس النصر ولكن جميع المدن كان لها مصانع من هذا النوع. وقد عثروا في باريز أصغر مدن الغاليين عَلَى حمامات حارة وحمامات معدنية بالقرب من نزل كلوني وعَلَى ملاعب في شارع مونج. وما من متحف إلا وترى فيه محفوظاً إلى اليوم بعض بقايا المعابد والمجاري والفسيفساء أو قبوراص رومانية.
أسباب الغارة
الجرمان - كان يسكن وراء نهري الرين والدانوب (الطونة) في البلاد التي تتألف منها اليوم ألمانيا شعوب غير ممدنة كان الرومان يدعونهم الجرمانيين وكانوا كالهنود والفرس والرومان واليونان شعوب من عنصر آري نزحت في القديم من قارة آسيا وهم شعوب من الرعاة أصبحوا حراثين وشعوباً محاربين وكانوا ينقسمون إلى عدة قبائل (نحو أربعين) تحكم كل واحدة نفسها منفصلة عن الأخرى وكثيراً ما كانوا يناوشون بعضهم بعضاً الحرب.
وكان معظم المقاتلين من الجرمانيين لا يعتبرون إلا الحرب ويقول تاسيت أنهم كانوا كلما انقطعت شأفة الحروب من بينهم يقضون أوقاتهم في الصيد ويتخلون عن كل عمل إلا النوم(74/33)
والأكل. وكان أشجعهم وأشدهم شدة في القتال لا يتعاطون عملاً يتركون العناية ببيوتهم وحقولهم للنساء والشيوخ والضعفاء وهم يعيشون كالمخدرين. وكان في كل شعب كثير من الناس جعلوا الحرب والغارة صناعتهم فيجتمعون حول محارب شريف أو مشهور ويحلفوا بأن يخلصوا له الخدمة وعَلَى هذه الصورة تتألف عصابة من الصحاب مخلصة لزعيم يعيشون في داره ويأكلون عَلَى مائدته يحفون به أيام الحرب ويفادون بأرواحهم في سبيل الدفاع عنه. وكانت تشتد حاجة هاته العصابة إلى الحرب فالرفاق ليتسلوا عن هذه الحياة المقصورة عَلَى الأكل والبطالة والرئيس ليقوم بأود رجاله. وعندما يسود السلام في الشعب تنصرف عصابات المحاربين تقاتل مع زعمائها في جيش أحد الشعوب أو يحاربون عَلَى حسابهم وكانت الإمبراطورية الرومانية تستميلهم للقيام بهذه العمال فبعضهم ينهالون عَلَى ولايات الحدود ينهبونها وآخرون يدخلون في خدمة الرومانيين يقاتلون المهاجمين من البرابرة وكثيراً ما يعودون مستمتعين برواتبهم أو غنائمهم ولكن لذت لكثير منهم عيشة التشرد فلا يكادون يرجعون إلى مساقط رؤوسهم. وقد أدى هذا النظام إلى فناء جميع القبائل النازلة في التخوم فلم تمض ثلاثة قرون إلا وقد زالت العصابات الرحالة ولم يبق حثالة من حثالات الشعوب حتى إذا جاء القرن الثالث ظهرت معاهدات تحت أسماء جديدة ليست أسماء شعوب وهي ثلاثة الألمان في الذراع الذي يتألف من نهر الرين والدانوب العَلَى والفرنك عَلَى المجرى الأسفل من نهر الرين والسكسون معَلَى طول بحر الشمال وكان لكل جماعة من تلك الجماعات الصغرى التي تكون منها تلك المعاهدات زعيم يسمى ملكاً ويحارب في العادة عَلَى نفقته.
إبذعرار السكان في الإمبراطورية الرومانية - جرى إذ ذاك في الإمبراطور الرومانية مثل ما جرى في جميع المجتمعات القديمة كإسبارطة ويونان وإيطاليا أي أنه قل عدد السكان واضمحل الأحرار وخلفهم العبيد ولم يكن لهذا الشعب من العبيد حظ من النمو بل كان إذ حدث كائن من الكوائن التي يكثر حدوثها في ذلك العهد من وباء وحرب وغارة يفنى زراع ذاك الصقع فتظل الأرض غير مأهولة ولم تلبث القرى عَلَى التدريج ولاسيما جهات التخوم أن فرغت من الرجال ولم يبق سكان إلا في المدن وأصبحت عدة أصقاع أشبه بالقفار منها بالأرياف.(74/34)
وبعد أن اجتازت بالبلاد جيوش المخربين العظمى في القرن الخامس (أمثال راداكليز وأتيلا) حدث في البلاد فراغ استحال عَلَى الإمبراطور أن يملؤه ففي بلاد الغال وإسبانيا وإيطاليا بل في بلاد الغرب أجمع بار شطر كبير من الأراضي لقلة اليد العاملة وأصبحت الولايات الواقعة عَلَى التخوم مقفرة ولم يبق في كل البلاد التي يسبقها نهر الدانوب من سويسرا إلى البلقان ولا مدينة رومانية واحدة واضمحل السكان حتى أنه منذ القرن الرابع لم يبق في جميع هذه البلاد إلا شعوب جرمانية أو سلافية وهكذا الحال في البلجيك ولم يجد الفرنك فيها غير القفر.
انحطاط الجيش الروماني - دعت هذه البلاد المقفرة الناس إلى سكناها فكان البرابرة يحاولون عَلَى الدوام أن يدخلوها وكان من السهل عَلَى الحكومة الرومانية أن تدفعهم عن البلاد كلما كان لها جيش في الجملة ولكن آلت الحال في قلة الجند كما صارت في قلة المال بحيث كان من الصعب أبداً تجنيد العدد اللازم فاعتاد السكان عيش الدعة ولم يعودوا يهتمون أن يفادوا أنفسهم في الجيش فاضطرت الحكومة أن تطلب جنوداً من كبار أرباب الأملاك وهؤلاء يسوقون بعض المزارعين (المستعمرين) في أراضيهم فيأخذونهم بالقوة من وراء سكتهم ومحراثهم فلا يكون منهم إلا جندي سيء النظام فقد أصبح المجندون في القرن الرابع من الضعف بحيث لا يستطيعون لبس الدرع واخذوا يعتاضون عن الخوذة بالقبعة.
ولذا كان القواد يؤثرون أن يستخدموا محاربين من البرابرة لنهم يقاتلون في ساحة الوغى مستميتين وكان في الإمبراطور منذ عهد طويل جنود من الجرمان في خدمة الإمبراطور وفي آخر القرن الرابع اخذ الرومان يجندون عصابات برمتها يجعلونهم مع نسائهم وأولادهم في خدمتهم في أراض يعطونهم إياها ليأخذوا منها أرزاقهم وعلوفاتهم وهؤلاء المحاربون الذين نزلوا في البلاد الرومانية كانوا يحتفظون بلسانهم وعاداتهم وأصول حروبهم وزعمائهم ولكنهم يحاربون في الجيش الروماني ويدعونهم الأجراء أو المحالفين وجاء القرن الخامس فلم يكن منهم عصابات فقط بل شعوب يرأسها الويز غوت والبورغوندا فاجتازوا الحدود بالقوة أحياناً فبدلاً من أن يقاتلوا الإمبراطور آثروا أن يكونوا في خدمته. فتألفت إذ ذاك جيوش رومانية من شعوب بربرية يقودها قواد منهم فقد رأينا الجيش الروماني الذي رد غارات أتيلا سنة 451 مؤالفاً من ألويزغوت والفرنك(74/35)
والبورغوند وأتيوس القائد الروماني هو في الأصل كأتيلا نفسه.
أخلاق الغارة - كان في الإمبراطورية الرومانية أراض كثيرة وجند قليل وإذ كان البرابرة كلهم رجال حرب ويريدون أن يتملكوا أراضٍ اخذوا يتملكون تارة بالقوة والعداء وأخرى مقابل خدمة وفي صورة محالفين ودخول البرابرة إلى الإمبراطورية هو الذي نسميه غارة البرابرة (ويطلق الألمان عليه هجرة الشعوب) وهذه الغارة لم تحدث دفعة واحدة بل وصل الجرمانيون عصابة إثر عصابة وتاريخ العصابة الأولى سنة 376 والعصابة الخيرة وقعت سنة 568 فدامت الحركة إذاً في الغرب زهاء قرنين وظلت من جهة الشرق خلال القرون الوسطى كلها فلم يكن بذلك حرب ولا فتح ولم يؤلف الجرمانيون فيلقاً بل كانوا عَلَى العكس يثيرون السكان بعضهم عَلَى بعض بحيث استحقوا إعجاب كتبة الرومان بعملهم. قال بول اوروز إننا نرى كل يوم أمة من هذه الأمم البربرية تبيد أمة أخرى ولقد شاهدنا جيشين من الغوت يفني أحدهما الآخر ولكن هذه الشعوب تتقاتل لتموت وتهلك. والظاهر أن الجرمانيين لم يمقتوا الرومانيين بل كانوا يحاربون من أجلهم عن رضى دافعين غارات غيرهم من الجرمانيين أيضاً ولم يكن لهم مأرب في القضاء عَلَى الإمبراطورية بل كانوا يؤثرون أن يكونوا في خدمتها. قال أتولف أحد ملوك الغوت أنه كان يطمع أولاً في إبادة الاسم الروماني وأن يؤسس من طول الراضي الرومانية وعرضها إمبراطورية يدعونها الغوتية يكون شأنه فيها شأن القيصر أغسطس وإذ وقع في نفسه أن الغوت لا يعرفون النظام والترتيب ليخضعوا للقوانين عقد العزم أن يفادي بقوى الغوت لتوطيد سلطة الرومان وزيادة نفوذهم فكان يطمع أن يكون مصلح الإمبراطورية بدون أن يكون لهم منزع سياسي بل لمجرد أنهم كانوا يرجون أن تكون حالهم فيها أحسن من جرمانيا ولكن نشأت من نزولهم البلاد نتائج لم يتحدث بها أحد إذ ذاك.
البربرية - كان من أقرب النتائج أن تصبح الإمبراطورية إلى التوحش أقرب منها إلى المدنية فمضى زهاء قرن وعصابات مسلحة تطوف البلاد أنواع التطواف تحرق المدن وتخرب المصانع وتقتل الحراثين أو تسوقهم أمامها ولقد أبقى الوانداليون أخوف ذكرى حتى غدت لفظة وانداليسم تطلق للدلالة عَلَى التكالب في التخريب. وكان يقول الهونس وهم شعب من فرسان التتار أن العشب لا ينبت البتة في التربة التي وطأتها حوافر(74/36)
خيولهم. فقد خربت مدن كثيرة ولم تقم لها قائمة وبعضها تراجع عمرانه حتى غدا بمثابة دساكر حصينة فخربت دور التمثيل والحمامات والمدارس وجميع المصانع الرومانية شيئاً فشيئاً واتخذ السكان في كثير من المدن أحجارها ليبنوا به أسواراً وهلك أرباب الصناعات النفيسة فلم يبق سوى صناع قليل عددهم لا يستطيعون أن يبنوا إلا مباني ليس عليها مسحة من الذوق والجمال. واضمحل كل ما يقال له مشاهد ومدارس وأدب وغدا سكان الإمبراطورية يشبهون البربر. قال أحد القسيسين ممن كتبوا تاريخ ملوك الميرفيجيين والسف آخذ منه كل مأخذ: لقد هرم العالم وانثلمت فينا حاسة النكات البديعة فما من امرئ لعهدنا تحدث نفسه أن يبلغ مستوى خطباء الزمن الماضي.
شعوب جديدة - قضى البربر في أوربا عَلَى نظام الإمبراطورية الرومانية فجاءت سنة 476 وليس في رومية إمبراطور وكل ملك من ملوك البربر سيد في الأرض التي نزلها قومه فانقسمت الإمبراطورية إلى عدة ممالك بربرية فنشأت في غاليا ممالك الفرنك والبورغوند وفي بريطانيا العظمى السبع ممالك من الإنكل والسكسون وفي إسبانيا مملكة ألويزغوت وفي أفريقية مملكة الواندال وفي إيطاليا مملكة الأوستروغوت ثم مملكة اللومبارديين وكثير من الممالك اضمحلت ودخلت في مملكة مجاورة ولكنه نشأت في كل أمة مستقلة عَلَى الأقل لها حكومتها وصناعتها وآدابها.
أخلاق جديدة - انتهت أيام المدنية القديمة بدخول الجرمانيين إلى الإمبراطورية وليس ذلك أن الجرمانيين حملوا مدنية جديدة كالرومان إلى غاليا ولا أنهم اتخذوا العادات القديمة كما اتخذ الفرس عادات آسيا بل إنهم أتوا ولهم عادات في الحياة والحومة تخالف ما ألفه الرومان فيما انخفض من بلاد الإمبراطورية.
فكزان أرباب الأملاك من الرومان يعيشون في المدن عزلاً من الأسلحة خاضعين لنظام الإمبراطور أما الجرمانيون فقد ظلوا يحملون أسلحتهم ونزلوا القرى وكان كل واحد في حلته جند من الخدمة المخلصين وكل امرئ سيد في أرضه لا يخضع البتة للحكومة وهم محتفظون بعاداتهم الجرمانية من عدم أداء الضرائب وبذلك قضوا عَلَى نظام بيت المال وعَلَى الاستبداد الإمبراطوري ومن هؤلاء المحاربين القرويين خرج فيما بعد الفرسان الأشراف.(74/37)
وكان أصحاب الملاك من الرومانيين يحرثون أراضيهم بواسطة جماعة من العبيد أما الجرمانيون فكانوا يعتمدون في استثمار أراضيهم عَلَى أناس من المستعمرين أي عَلَى مزارعين تناوبون حراثتها بالإرث. فلم يبطلوا العبودية من الإمبراطورية بل تركوا العبيد يصبحون بالتدريج خدمة ثم مزارعين يملكون الأرض التي يتوفرون عَلَى زراعتها.
وعليه لم يأت البربر بعقائد ولا باختراعات جديدة بل جاؤوا بدلت حالة أرباب أملاك الأراضي والفلاحين وغيرت جميع قواعد الحكومة. فغارة البربر حادث عظيم في تاريخ المدنية لأنه جدد المجتمع والحكومة في أوربا لكنه كما يحدث في التغييرات الكلية قضت الحال بمرور عدة قرون لإدراك نتائج ذاك التغيير.
كيف دان الجرمانيون بالنصرانية
الأرباب الجرمانيون - كان الجرمانيون كاليونان والرومان يعبدون أرباباً كثيرين يمثلونها في صورة بشرية فالأرباب الجرمانيون يؤلفون أسرة بأسرها وعندهم أن وتان والد الجميع ورب الحروب محارب أعور يتقلد رمحاً يخرق الهواء ولا يرى بل يركب عَلَى حصان أبيض وكان دونار أحد أبنائه ذا لحية حمراء وهو رب الرعد والعواصف ويسير في مركبة ويقذف المطرقة المخربة التي تعود إلى يده من تلقاء نفسها. وكان الرب تير أو ساكسنوت رب السيف والمغازي وفرير عَلَى العكس هو الرب الجميل المسالم اللطيف ينضج المزروعات ويشفي الأمراض وبالدير رب الحكمة والعدل والصلاح يتولى نصح سائر الأرباب. وهناك ربات مثل الربة مريغا امرأة الرب وتان وهي قاسية محترمة تترأس حفلات الزواج والربة فريا وهي فتاة بارعة الجمال لطيفة الشكل يسر مرآها الأرباب.
وكانت هذه الأسرة السماوية تسكن قاعة علوية اسمها ألوالهالا حوائطها ذهب وسقوفها فضة ويربط تلك العلية بالأرض التي يسكنها البشر جسر وهو قوس قزح الذي يجتاز عليه الأرباب ويجلس الرب وتان في هذه القاعة عَلَى منصة من ذهب يحف به من الأرباب ذكورهم وإناثهم أولوالكلور وهن مرسلات سماويات وبنات الحروب والغارات مسلحات بالتروس والرماح راكبات عَلَى خيول مطهمة قاصدات إلى ساحة الوغى يلتقطوا من قضوا فيها وهم يحاربون ويأتين بهن إلى قاعة ألوالهالا حيث ينالون مكافأة عن شجاعتهم وهناك يعيشون بالقرب من الأرباب في المآدب التي يأدبها الربات المعروفات باسم والكلور(74/38)
يسقينهم شراب العسل والجعة.
ونحو الشمال من أعماق الأرض جهنم مظلمة يكثر زمهريرها اسمها نيفلهيم أي مسكن الضباب وفيها ينزل رب الشر ويدعى لوكي مع ولديه فنريس الذب المفرتس وهولا ربة الموت التي يمثلونها بان نصفها أسود تأكل في صفحة الجوع ولا تترك ما تتناوله بتة. وإلى هذا المسكن الهائل يذهب المحاربون الأشرار الذين تساهلوا بأن تجرعوا كأس الحمام بسبب مرض أو شيخوخة. وغلب الرب وتان الرب لوكي وربطه إلى ثلاث صخرات ذات زوايا مع حية تقطر سمها عَلَى رأسه ولكنه يرجى له الخلاص ذات يوم ويأتي مع الجن والشياطين الشريرة عَلَى سفينة بنيت بأظافر الموتى يهاجم الأرباب الساكنين في أوالهالا وبذلك تسقط الشجرة الكبرى التي تمسك العالم من السقوط ويحترق قصر الوالهالا ويغلب الأرباب عَلَى أمرهم وهذا ما يسمونه عندهم شفق الأرباب ثم تتجلى أرض أحسن من تلك تخرج من البحر المحيط مع أرباب جدد.
العبادة - لم يكن للجرمانيين أصنام ولا شادوا لهم معابد لهم بل كانوا يعبدون أربابهم عَلَى الجبال أو في الغابات بالقرب من شجرة أو عين مقدسة وكان رأس كل أسرة يقيم باسمه الصلوات ويقدم القرابين ولم يكن عندهم كهنة جرمانيون في جرمانيا نفسها الماندرا حتى أن العصابات التي دخلت منهم إلى الإمبراطورية الرومانية لم تصحب معها أحداً منهم. ودين مبهم إلى هذا النحو لا يهتم أحد للدفاع عنه فلم يكن من شأنه أن يقاوم طويلاً ولذا كان الجرمانيون عندما داهموا الإمبراطورية ومستعدين لأن يدينوا بالنصرانية.
البرابرة الآريون - لما نزل برابرة الشمال الأرض الرومانية دانوا إلا قليلاً بالكثلكة بل بشيعة الآريوسية فد كان الوزيغوتيون في إسبانيا والسترغوتيون في إيطاليا والبورغونديون في غاليا والوانداليون في أفريقية بل واللومبارديون الذين أتوا في القرن السادس كلهم من المذهب الآريوسي. والظاهر أن الجرمانيين صعب عليهم أن يقبلوا بالرمز الذي جرى التواطؤ عليه في مجمع نيقية وربما كرهوا التصديق بان الابن مساوٍ للب. وكان رعاياهم الرومان أرثوذكسيين في مذهبهم وقد أدى هذا الاختلاف في الدين مدة تزيد عن قرون إلى حروب واضطهادات وكثيراً ما كان أحد ملوك البرابرة يأبى تعيين الأساقفة الأرثوذكس وقد بقي كرسي قرطاجنة خالياً مدة أربع وعشرين سنة لم يكتف جنزيك ملك الواندال بنفي(74/39)
الأساقفة بل رأى أن ينفذ عَلَى رعاياه الكاثوليك الأوامر التي كان طبقها الإمبراطرة عَلَى الملاحدة ومع هذا كتبت الكثرة للكثلكة عَلَى المذاهب النصرانية الأخرى ودان بها بالتدريج الملوك الآريوسيون وتمذهب بها شعوبهم فانتحل البورغونديون هذا المذهب في أوائل القرن السادس وانتحله ألوزيغوتيون الإسبانيون في سنة 589 واللومبارديون في أواسط القرن السابع أما سائر الممالك فقد خربتها جيوش الإمبراطور يوستنيانوس.
انتحال الفرنك (الإفرنج أو الفرنك أو الإفرنسيس) للنصرانية - بقي الفرنك الذين نزلوا غاليا من الشمال عَلَى وثنيتهم. وقد فضل الأساقفة الأرثوذكسيون هؤلاء الوثنيين الذين كانوا يؤملون تنصيرهم بدلاً من البرابرة المسيحيين الذين ظلوا عَلَى أريوسيتهم ورضي أحد زعماء العصابات الفرنكية واسمه كلوفيس أن يتعمد عَلَى يد أسقف ريمس القديس ريمي فحذا حذوه ثلاثة آلاف رجل ولم يلبث زعيم العصبة هذا وقد عضده رجال الكهنوت الكاثوليكي أن أصبح وحده ملك غاليا كلها ومنذ ذلك العهد أصبح جميع ملوك الفرنك من نسل كلوفيس مسيحيين وعضدوا الكنيسة الأرثوذكسية وكان ذلك من جملة الأسباب في نجاحهم أما أمة الفرنك فقد أبطات في انتحالها هذا الدين فظل كثير من المحاربين زمناً طويلاً نعَلَى وثنيتهم ومنهم من كان من حاشية الملك. وفي أواسط القرن السادس صادفت الملكة رادغوند وهي مسيحية غيورة عَلَى الطرق العامة جنائز وثنية فأمرت المحاربين من أهل موكبها أن يأتوا عليها فقام الفرنك بسيوفهم وعصيهم. ومضى زهاء قرنين أي من القرن السادس إلى السابع حتى غدا الفرنك كلهم مسيحيين.
قاعدة القديس بنوا - أنشئت في إيطاليا وإسبانيا وغاليا أخويات قسيسين ولكت العيشة التي يعيشونها في هذه الديار من بلاد الغرب لم تشبه عيشة النساك في ثيبة وفي أواخر القرن الخامس انقطع أحد أشراف الإيطاليين واسمه بنوا (480 - 543) إلى جبل كاسين في بلاد نابولي وذلك بعد أن عاش بضع سنين متنسكاً في غار وسط الصخور وكان ثمة معبد وغابة عَلَى اسم أبولون فنصر بنوا فلاحي ذاك الجوار وأمرهم بأن يخربوا ذاك المعبد وأقام بدلاً منه كنيستين وديراً عظيماً وغدا بنوا رئيس أخوية كبرى وانشأ نظاماً طويلاً لقسيسه قاضياً عليهم أن يتخلوا عن الدنيا وعن الأسرة والملك وأن لا يملكوا شيئاً لأنفسهم حتى ولو الصفائح (السفورات) والمناقش التي يكتبون بها وأن يلبسوا كساءً من الصوف الخشن أو(74/40)
مسوحاً ذات قبعات (أسكيم) كان يلبسها الفلاحون وأن يخضعوا بدون تردد كل ما يصدر عن الرئيس من الأوامر قال القديس بنوا في المدخل: اسمعوا أيها الأبناء أوامر الرب ولا تخافوا من الائتمار بأمر أب صالح والعمل به وذلك حتى يقودكم الخضوع التام إلى ما أبعدكم عنه العقوق والكسل. وقد سمى الدير مدرسة العبودية الإلهية وفي ذلك لم يأت القديس بنوا شيئاً سوى الجري عَلَى مثال رهبان المشرق ولكنه يختلف عنهم في كيفية استعمال الوقت فبدلاً من التأمل وأعمال النسك أمر بالعمل قائلاً أن الكسل عدو الروح وعَلَى الجملة فإن حياة الراهب داخلة تحت القاعدة ساعة فساعة فعليه أن يعمل كل يوم بيديه سبع ساعات ويقرأ ساعتين وينقسم اليوم إلى سبعة قداديس يبدأ الأول منها في الساعة الثانية ليلاً. وإذا أراد رجل أن يدخل في هذه الطائفة يدخل فيها عَلَى سبيل التجربة مبتدئاً وبعد شهرين تتلى عَلَى مسامعه قاعدة: هذا هو القانون الذي يجب عليك أن تقاتل تحت لوائه فإن كنت في مكنة من الاحتفاظ به فادخل وغلا فأنت حر أن تذهب من هنا بسلام. وبعد سنة يوقع عَلَى عهد يضعه عَلَى المذبح بحضور جميع القسيسين ثم يركع أمام كل واحد منهم عَلَى حدته ومنذ ذاك اليوم يوقن بأنه لم يعد يملك شيئاً حتى ولا جسمه. ولم تلبث أن أصبحت قاعدة القديس بنوا قاعدة عامة عَلَى رهبان الغرب اتخذتها جميع الأديار القديمة وعليها أنشئت جميع الأديار الجديدة وأصبح بعد حين عامة رهبان الغرب من البندكتيين.
الرهبان البندكتيون - عاد قسم من بلاد غاليا وإيطاليا في القرن السادس فأصبح خراباً يباباً وغشت الغابات العظيمة البلاد فدخل الرهبان الذين يحبون العزلة تلك القفار وبين العوسج والشوك يقيمون لهم معبداً وبعض الأكواخ ثم يأخذون بإحياء موات الأراضي المجاورة وكثيراً ما يعطيهم أحد الملوك أو الكونتية أو أرباب الأملاك بقعة واسعة (إذ كانت قيمة الأرض رخيصة إذ ذاك) فيؤسسون ديراً جديداً. ولقد كان الرهبان ينشئون الأهراء وفرناً ومطحنةً ومخبزاً ويحرثون الأرض ويصنعون الألبسة ويعملون حجار الطاحون والصناعات النفيسة وينسخون المخطوطات فكانت أديارهم حقولاً أنموذجية كما هي معمل وخزانة كتب ومدرسة وتتألف من العبيد والمزارعين في أصقاعهم قرية كبرى هكذا نشأت في فرنسا مئات من المدن حول الأديار وكثير من المدن سميت باسم القديس رئيس ديرها الأول (سان أويمر سان كلود رسيمرون) وأنشئت ألوف من الكنائس الخورنية عَلَى يد(74/41)
بعض أديار البندكتيين.
تنصر الإنكليز السكسونيين - يروى أن القديس غريغوريوس رأي قبل أن يصبح بابا وهو في سوق العبيد في رومية أولاداً شقراً بيض البشرة يباعون فسأل من أين أتى بهم فأجيب بأنهم آنكل فقال: لقد دعوا بأجمل السماء فهم حقاً ملائكة فهل هم مسيحيون؟ فقيل له أنهم وثنيون بعد. فأجاب هل من الممكن أن تحتوي هذه الجبهات الجميلة ذكاءٍ محروماً من نعمة المولى. ومنذ ذاك الحين رأى أن ينصر الإنكليز فلما غدا بابا بعث أربعين قسيساً يقودهم أغسطينوس إلى أحد ملوك بلادهم فوصل المرسلون يحملون لوحة رسم عليها المسيح فجمع الملك مجلس العظماء وسألهم فيما إذا كان يقتضي قبول الدين الجديد فوقف أحد الزعماء في المجلس فقال: ربما ذكرت شيئاً أيها الملك يحدث أحياناً في نهار الشتاء عندما تكون جالساً إلى منضدة مع مقاتلتك ونارك موقدة وغرفتك دافئة والسماء تمطر وتثلج والريح زعزع في الخارج وبينا أنت كذلك يطير طائر صغير فيجتاز الغرفة داخلاً من باب وخارجاً من آخر وهذه اللحظة التي يقضيها الطائر وهو داخل الغرفة تحلو له فلا يشعر قط بالمطر ولا ببرد الشتاء ولكن هذه اللحظة قصيرة لأن الطائر لا يلبت أن يهرب ويعود إلى الشتاء الذي كان فيه وعلى هذه المثال أرى حياة الناس في الأرض بالنسبة للوقت غير المؤكد الذي يمر في الآخرة فظاهر أن الحياة قصيرة ولكن أي وقت يجيء بعدها وأي وقت مضى قبلها هذا أمر نجهله فإذا كان هذا الدين الجديد يفيدنا في ذلك أموراً آكد فهي جديرة بأن تنتحل ويدان بها وكانت النصرانية تروق هؤلاء البرابرة الجديين لأنها تحدثهم عن اليوم الآخر. وقد نصح البابا المرسلين المسيحيين أن لا يناقضوا المعتقدات القديمة قائلاً يجب الاحتراز من تخريب معابد الأوثان بل الواجب تطهيرها وتخصيصها بعبادة الإله الحقيقي لن الأمة كلما رأت أماكن عبادتها القديمة باقية تكون أكثر استعداداً إلى الاختلاف إليها للألف والعادة فقد اعتاد رجال هذه الأمة أن يذبحوا البقر ضحايا فالواجب أن يبدلوا هذه العبادة بزياح مسيحي دعوهم ينشئون أكواخاً من أوراق الشجر حول معابدهم المحولة كنائس يجتمعون فيها ويقودون إليها حيواناتهم التي يذبحونها لا عَلَى سبيل ضحايا للشياطين بل عَلَى سبيل الله تعالى. ولم يضطهد الإنكليز السكسونيين المرسلين المسيحيين عَلَى أنهم لم يتنصروا إلا ببطء فهناك كان الملوك ولاسيما الملكات تحمي الديانة الجديدة(74/42)
كما هي الحال في غاليا ولكن المحاربين لم يهتموا لقبولها.
المرسلون الأيرلنديون - دانت إيرلاندة بالنصرانية منذ القرن الخامس وكانت إذ ذاك مشهورة بأديارها العديدة وحمية كنائسها الدينية فكانت تلقب بجزيرة القديسين فسافر مرسلون من أديار إيرلندا ونصروا جميع برابرة بريطانيا العظمى فالتقوا إذ ذاك بالمرسلين القادمين من رومية. وكان لكنيسة إيرلندا ومؤسسوها مسيحيون من أهل آسيا بعض عادات شرقية فتحتفل بعيد الفصح مثلاً في غير الوقت الذي تحتفل فيه كنيسة رومية واصطلحت عَلَى وضع إكليل الإكليروس عَلَى مقدم الرأس بدلاً من الإكليل عَلَى صورة تاج. وهذه الاختلافات في الصورة دعت إلى اشتداد الاعتراك بين المرسلين الايرلنديين والمرسلين الرومانيين فيحضر البرابرة نزاعهم بحسب ما لكنائسهم من المكانة وإليك ما ذكره أحد الكتاب الأرثوذكس من نزاع عظيم وقع في وتبي سنة 644 بحضور جميع مجلس الشعب. صرح كولمان الأيرلندي بان مواطنيه لا يستطيعون أن يغيروا طريقتهم احتفالهم بعيد الفصح لأن ذلك مما ألفه آباؤهم فأجابه ويلفريد السكسوني: إننا نحتفل بعيد الفصح كما رأيناه يحتفل به في رومية حيث عاش الرسولان بولس وبطرس وكذلك في غاليا وجميع الإمبراطورية والبروتون فقط يعاندون في مشاكسة بقية العالم وبعد فهل في المكنة أن يفضل أبوك كولومبا عَلَى قدسية فيه عَلَى السعيد أمير الحواريين الذي قال وله سيدنا يسوع: إنك بطرس (ومعنى بطرس الحجر) وبك يا حجر أبني كنيستي وأدفع إليك مفاتيح ملكوت السماوات - فسأل الملك حينئذ ذاك الأيرلندي قائلاً: أمحقق أن هذه الكلمات قالها سيدنا المسيح للقديس بطرس؟ - نعم صحيح ذلك - هل في وسعك أن تبرز لي حجة في مثل حجة كولومبا؟ - لا أستطيع - أنتم عَلَى وفاق بأن مفاتيح السموات أعطيت لبطرس - نعم - إذن هو بواب السماء ولا أريد أن أنازعه في قوله بل احجب أن أخضع له في كل أمر مخافة ألا أجد أحداً يفتح لي أبواب ملكوت السموات عندما أصل إليها.
وهذه الحجة كانت بحسب درجة ذكاء البربري فاستحسن المجلس الخطاب وعزم أن يقبل في المملكة بأسرها العادات الرومانية وانتهت الحال بغلبة الرومانيين (في أوائل القرن الثامن) ومنذ ذاك الحين خضعت للبابا كنيسة بريطانيا العظمى بأجمعها.
تنصر الجرمانيين في ألمانيا - كان يتألف من الجرمانيين الذين تخلفوا في ألمانيا عدة أمم(74/43)
كلها وثنية في القرن السادس وبدأ قسيسون إيرلنديون بتنصرهم فسكن القس غال بين السواب بالقرب من بحيرة كوستانس في المكان الذي أنشئت فيه البيعة التي نسبت إليه. ونصر كيليان الفرنكونيين في بلاد مين ثم استشهد وتمكن القديس ولفران من عزم دون دي فريزون رادبود عَلَى تعميده وبينا كان الدوق يدخل إلى القبو سأل أين بقي أجداده فقيل له أنهم في جهنم فقال أنا أريد أن أصبح مسيحياً حتى لا أنفصل عن أجدادي. واستحق وينفريد من الإنكليز السكسونيين الملقب ببونيفاس الملقب برسول الجرمان إذ أرسله البابا إلى إنكلترا كما أرسل أوغستيتنيس يحمل هذه الرسالة: رغبنا في أن تتمتعوا معنا بالأبدية فبعثنا إليكم بونيفاساً يعمدكم ويعلمكم إيمان الرب فأطيعوه في كل ما يأمر ووقروه كما توقروا أباً واسمعوا مواعظه ثم أن بونيفاساً أوصى به شارل مارتن زعيم الفرك زعماء الجرمانيين وبفضل هذه المعاضدة تمكن من الدخول في قلب ألمانيا وعقد اجتماعات وفوض الأشجار المقدسة ومنع عبادة الأصنام وبذلك تيسر له أن ينصر شطراً من الزعماء والشعب في بافيرا وتورينغ وهس ثم سكون في المايانز ملقباً برئيس الأساقفة.
وقد بقي السكسون شعباً وثنياً في بلاد ويزر (فيستفاليا وهانوفر) وبعد حروب دموية اضطر شارلمان زعماءه أن يتعمدوا ثم أسكن أساقفة وقسيسين في جميع البلاد ثم أفضل عليهم بما يمنع عنهم الحاجة وقضى بأن يقتل كل سكسوني يعبد أربابه القديمين أو يعمل القيام بالصيام الذي شرعته الكنيسة فمن ثم أصبحت ألمانيا كلها مسيحية وغدت كإنكلترا متعلقة برومية وخاضعة للبابا وأرسلت ألمانيا أيضاً مرسلين ذهبوا فنصروا الوثنيين في بلاد اسكاندنافيا ومقاتلين راحوا لتبديد شمل الوثنيين من السلافيين أيضاً.
الإسلام
دين العرب الأول - انتهت تخوم المملكة الرومانية في الشرق عند رمال بلاد العرب فظل هذا الشعب مستقلاً بربرياً منقسماً إلى عدة قبائل وكان لسكان الساحل من العرب بعض مدن صغرى تعرف بالزراعة وتبعث بقوافلها إلى الغرب تحمل إليهم البن والبخور والتمر ويطوف سكان الداخلية القفر بمواشيهم مسلحين راكبين صهوات خيولهم نصفهم رعاة والنصف الآخر قطاع طريق (كما هي عيشة البدو إلى اليوم) ويقتتل العرب فتقاتل القبيلة ولكن يعتبرون أنفسهم بأجمعهم من عنصر واحد وهو كالإسرائيليين من العنصر الذي(74/44)
نسميه العنصر السامي ويمتاز عن آريي الهند وأوربة امتيازاً ظاهراً بلغته ودينه. ولقد كانت الغرب كلها تعبد إلهاً قادراً خارقاً وهو الله تعالى ولكنها تتعبد للجن خاصة وهي أرواح لا ترى وكان لكل قبيلة إله خاص تعبده في صورة نجم أو حجر أو صنم ولكنهم كلهم يرجعون في عبادتهم إلى الكعبة في مكة وهي البيت المتفق عَلَى تعظيمه عندهم والكعبة معبد عَلَى صورة الكعب أو زهر النرد حوائطها من حجر غير نحيت مغشاة بأقمشة من الصوف ويحفظون فيها الحجر الأسود المشهور المحترم عند العرب اجمع (وهو قطعة من حجر بركاني تحتت اليوم إلى اثنتي عشرة قطعة (كذا)) وقد وضعت كل قبيلة في الكعبة صنماً هاصاً بها ويقال أنه كان تفيه 360 صنماً ومنها صنم لإبراهيم وصورة العذراء مع ابنها يسوع وأنشئت قريش مدينة مكة الصغرى حوالي القرن الخامس في الوادي الضيق الذي تحيط به الصخور القاحلة محيطة بالكعبة ويقام بها كل سنة سوق وأعياد يتنافس بها الشعراء وتبطل في خلال ذلك الحروب فمكة كانت هي المدينة المقدسة التي يحج إليها الناس من أقطار بلاد العرب كافة.
محمد (عليه الصلاة والسلام) - ولد محمد في قبيلة قريش المقدسة وهم سادة مكة وسادة الكعبة المقدسة بين سنتي (569 - 571) وعاش وهو اليتيم الفقير إلى سن الأربعين لا شأن له. وكان رجلاً جباناً سوداوياً تنتابه عوارض من الحمى ونوبات عصبية وكان حنفياً أي كافراً بعبادات العرب ويسمون بهذا الاسم من لا يعبد الأصنام بل يبعد إلهاً واحداً رب إبراهيم والد العنصر العربي. وكزان رجال قبيلة محمد تنظر إليه بغير عين الرضى فسكن بين الصخور الجرداء المحرقة وفي سنة 611 بحسب الرواية العربية حلم محمد بأنه صاحب دين وظهرت له روح فائقة في قوتها سماها محمد بعد ذلك الملك جبرائيل قالت له: اقرأ فقال محمد: ما أنا بقارئ. فقال له اقرأ. ومنذ ذاك لعهد رأى محمد نفسه بأن الله عهد إليه مباشرة بنشر الدين الحقيقي فبدأ يدعو زوجته وبناته فوراً ثم أصحابه ورجال مكة فقاومه زعماء القبيلة أجمع فاضطر إلى الهجرة إلى المدين (سنة 622) وإذ كان أهل المدينة أعداء لأهل مكة اعترفوا بنبوته وأخلصوا له الطاعة وأحاط المدنيون بالرسول في ثمانين من أصحابه هاجروا من مكة يتبعونه فبدأ إذ ذاك يناوش قوافل مكة القتال ويغزوها مما انتهى بخضوع مكة ثم حمل جميعاً لعرب عَلَى قبول دينه.(74/45)
ولم يقم محمد بمعجزات ولم يدع أنه روح إلهي بل كان يرى نفسه فقط رجلاً ملهماً يتكلم ويعمل باسم الله تعالى ويظهر في مظهر الرسول والمصلح قائلاً أن الدين الحق كان منذ عهد آدم وهو أن يعتقد بواحد أحد وأن يخضع لأوامره التي تبلغها للبشر عَلَى لسان أنبيائه فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى كانوا رسلاً. وما اليهودية والنصرانية إلا أوهام مطلقة بل أشكال محرفة من دين الله الحق وهذا الدين الأبدي هو الذي جاء محمد يدعو إليه لخلوه من التحريف فهو خاتم النبيين وأعظمهم وباسم النبي عظمه أتباعه. وقد أخذ جانباً من تعاليمه عن التوراة والإنجيل ولذا ساغ أن يقال أن محمداً مبتدع مسيحي والإسلام بدعة من البدع النصرانية عَلَى اصطلاح العرب.
القرآن - كان محمد أمياً فإذا أوحي إليه ودعا إلى دينه كانت تنقل كلماته فكتبت عَلَى الحجارة وورق النخيل وعظام الجمل. والقرآن (الكتاب) هو مجموع هذه القطع ضمت بعضها إلى بعض لا عَلَى الترتيب الذي أملاه محمد بل بدءاً بأطولها ولم تجمع إلا بعد وفاة محمد عَلَى يد أمين سره زيد وبعد حين دونه الخليفة عثمان تدويناً رسمياً وهذا هو الذي نراه بين أيدينا وفي القرآن مواعظ وقصص وقواعد وأحكام وبعثرة متفرقة فهو في آن واحد كلام متنزل في الدين والأخلاق والنظام والدستور.
الإسلام - يسمى الدين الذي دعا إليه محمد دين الإسلام أي الاستسلام لإرادة الله تعالى والذين يدينون به يسمون المسلمين (أي المستسلمين) والإسلام عبارة عن هذه الكلمات: لا إله إلا الله محمد رسول الله فالواجب إذن الاعتقاد بالله الذي خلق العالم ويدبره وهو عَلَى عرشه والملائكة حافون به يجب الخضوع لإرادته التي أبلغه الناس عَلَى لسان أبيائه وقد جاء القرآن بأوامره الكتاب الذي يحوي الحقيقة ومن يعتقد بالقرآن ويأتمر بأوامره الإلهية ينال الزلفى من المولى تعالى ويكافأ عَلَى عمله ومن يختل إيمانه لوم يخضع لسلطانه فهو مذنب مع الله يعاقبه ويجازيه.
وسيأتي يوم القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش فأما من ثقلت موازنه في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، وما أدراك ماهية، نار حامية. . . وسيق اللذين كفروا إلى جهنم زوراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات(74/46)
ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب عَلَى الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق اللذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبابها وقال تلهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين. . . أولئك المقربون في جنات النعيم. . . متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بأكوابٍ وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. . . وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم.
أما العبادات فهي فسهلة للغاية فليس المؤمن أن يصلي خمس مرات كل يوم في أوقات معينة وفي كل مدينة إسلامية يدعو المؤذن إلى الصلاة من أعلى المسجد بوقت معين وعلى المؤمن أن يتوضأ للصلاة وإذا لم يكن له ماء أن يتيمم بالتراب وأن يصوم شهر رمضان لا يتناول الطعام فيه إلا من الليل في الوقت الذي لا يتبين فيه الخيط البيض من الخيط الأسود من الفجر وأن يخرج من الزكاة عشر مال (؟) عَلَى الأقل وزأن يحج إلى مكة إن استطاع للحج سبيلا.
وأدب الدين الإسلامي هو ألا يرتكب المرء عملاً دنيئاً ولا يشرب الخمر ولا يرابي أن يتلقى إرادة المولى راضياً لأن كل امرئٍ لا يخرج عما كتب له في الأزل ولا سبيل له إلى التخلص من المقدور فالإسلام هو دين القضاء والقدر.
انتشار الإسلام - دعا محمد سنة 611 إلى دينه وكان العرب عامة يوم وفاته سنة (632) مسلمين أسلم نصفهم عن اعتقاد والنصف الآخر بالقوة وذلك مثل أهل قبيلة التاكيفيت (كذا) فقد بعثوا يقولون لمحمد أنهم يدينون بالدين الجديد إذا رضي أن يعفيهم من الصلاة وأن يترك لهم صنمهم اللات ثلاث سنين. فقال محمد أن ثلاث سنين في الوثنية يطول أمرها فعرض التاكفيون أن يمهلوا عَلَى عبادة الأصنام سنة فوافق محمد ولما أخذ يملي عهد الصلح ندم عَلَى هذا الامتياز وقال لا أريد أن أسمع بهذه العهدة فليس عليكم إلا أن تخضعوا أو نقاتلكم فطلبوا لأن يمهلوا عَلَى عبادة اللات ستة أشهر فأبى عليهم ثم اكتفوا بإمهالهم شهراً فلم يرض أن يمهلهم ساعة فأسلم بنو التاكيفيت ودخل المحاربون المسلمون المدينة وحطموا الأصنام.(74/47)
وبعد وفاة محمد أخذ العرب ينشرون الإسلام بمثل هذه الطرق ولم يبعثوا لدعوة الشعوب الأخرى إلى الإسلام رسلاً كما فعل المسيحيون بل جيوشاً فقد قال الرسول وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وحرب المشركين جهاد مقدس والله مع المجاهدين ومن قتل منهم فجزاؤه الجنة.
وقد عني الخلفاء بعد الرسول بهذا الجهاد فكانوا يبعثون إلى جميع الشعوب المجاورة رسولاً يعهدون إليه أن يخيرهم بين ثلاثة أمور: القرآن أو الجزية أو السيف ومن يسلم يكون كمن سبقوه بالإيمان ومن يخضعون ويؤدون الجزية يصبحون رعايا وذمة ومن يقاومون يقتلون ولم يستطع أحد أن يقف في وجه هذه الجيوش المتعصبة فغلب المسلمون في الشرق عَلَى سورية وفلسطين وجميع مملكة فارس وأرمينية وتركستان وجزء من بلاد الهند وفي الغرب عَلَى مصر وطرابلس وأفريقية وإسبانيا وخضع جميع المغلوبين عَلَى أمرهم إلا قليلاً ولم يبق مسيحيون إلا في ولايات الإمبراطورية القديمة وفي أقل من قرن (622 - 717) انتشر الدين الجديد من بحر الظلمات إلى نهر السند وما من دين انتشر بهذه السرعة ولم تلبث مملكة الخلفاء أن انهارت عَلَى الأثر ولكن ظلت جميع البلدان التي أسلم أهلها عَلَى إسلامهم.
وما قط أضاع الإسلام أرضاً دخل فيها إلا إسبانيا وكثيراً ما ربح بعد أراضي جديدة فإن الأتراك حملوا هذا الدين إلى القسطنطينية ولا يزال لعهدنا يدخل أمم في هذا الدين في بلاد الهند والصين وماليزيا ولاسيما بين زنوج أفريقية. والإسلام دين سهل عَلَى مستوى ذكاء الشرقيين ويبلغ عدد المسلمين اليوم نحو مائتي مليون فإذا كانت النصرانية دين أمم الشمال فلإسلام دين شعوب الجنوب.
المملكة البيزنطية
المملكة البيزنطية - كاد البربر الذين أغاروا عَلَى بلاد الإمبراطورية الرومانية يوجهون وجهتهم إلا قليلاً قبل المغرب ولذا بقي في القسطنطينية إمبراطور يحكم الشرق كله. ويقي قرنان (الخامس والسادس) والإمبراطورية الرومانية محتفظة بعد بنصف مملكتها القديمة عَلَى الأقل وحكمها نافذ في آسيا الصغرى وسورية ومصر وفي جميع البلاد الواقعة شرق البحر الإدرياتيكي حتى لقد خضعت لها إيطاليا وافريقية وشطر من إسبانيا بضع سنين ثم(74/48)
هاجمها المهاجمون فاغتصب منها السلافيون إيبيريا وجنوب بلاد البلقان واقتطع منها العرب جميع أفريقية وسورية وجزءاً من آسيا ولم يبق لها سوى قطعتين عَلَى جانبي مدينة القسطنطينية في الغرب تراسيا (روم إيلي) وفي الشرق آسيا الصغرى. بيد أن العاصمة أيضاًَ قاومت هجمات المهاجمين العرب وفي ذاك الحمى الأمين احتفظت الإمبراطورية الشرقية بألقابها الضخمة وحكومته المطلقة وإدارتها المعتادة. وظلت عَلَى هذا النحو إلى أن استولى العثمانيون عَلَى القسطنطينية (1453) وهذه الإمبراطورية التي أصبحت قرى بيزنطية هي التي نسميها الإمبراطورية البيزنطية.
يوستينيانوس - لأن كان منصب الإمبراطور وراثياً فإنه لم يبق في الإمبراطورية الشرقية أسرة مالكة فإن دسائس القصر وثرات عامة القسطنطينية لم تكد تمكن الإمبراطور إلا في الندر من نقل سلطته إلى أسلافه فكان معظم الأباطرة مغتصبين للمك. وأشهرهم يوستينيانوس (527 - 565) وهو ابن فلاح في ولايات الدانوب كان يرعى الغنم في طفولته دخل خاله يوستن بعد رعاية الغنم في الجندية ومازال يتنقل من رتبة إلى أخرى حتى غدى تؤثورن (قائد حرس القيصر) ثم إمبراطوراً واستدعى إلى القسطنطينية يوستنيانوس الذي اشتهر ببذله المال للجند وتمثيله الملاعب أمام العامة فنودي به إمبراطوراً عقب وفاة خاله.
ومن شأن يوستينينوس أن يبحث عن كل ما يزيد في إعجابه فتوفر عَلَى الشهرة بفتح البلاد وإنشاء المعاهد والمصانع وتقنين القوانين فأراد أن يكون فاتحاً عمرانياً مشرعاً. وإذ كان غير صالح للحرب عهد إلى صديقه بليزير أن يفتح البلاد باسمه وكان للإمبراطورية إذ ذاك عدوان أحدهما من الشرق وهي مملكة فارس الحربية والآخر من الغرب وهي الممالك التي أسسها البرابرة الجرمانيون في ولايات الإمبراطورية القديمة وكان ملك الفرس صاحب حول وطول جيشه قوي نظامه موطد الأركان وملوك البربر ضعفاء أخمد البذخ مقاتلتهم يمقتهم الشعب الكاثوليكي لا نظام لهم ولا ترتيب. فكان يوستينيانوس من جهة الشرق يغلب ولم يستطع بليزير غير الدفاع عن آسيا الصغرى وأن يعقد الصلح عَلَى شرط أن يدفع الجزية (533) وفي آخر مدته (562) وقع عَلَى عهد صلح جديدة متعهداً عَلَى أن يؤدي كل سنة 3000 ذهب وقد وفق بليزير من جهة ممالك البربر كل التوفيق فافتتح(74/49)
مملكة الوانداليين في أفريقية (534) بحملة واحدة ومملكة الأوستروغوت في إيطاليا بعد حرب ثمانية عشر سنة (525 - 533) وتغلب عَلَى جنوب إسبانيا أخذها من صاحبها أحد ملوك ألويزغوت. فحق ليوستينيانوس أن يفاخر أنه وطد شطراً من الإمبراطورية الرومانية القديمة ولكن استيلاءه عليها لم يكن له من القوة ما يدفع به ما افتتحه من البلاد فلم يحم إيطاليا من غارة اللومبارديين ولا أفريقية من العرب.
وتوفر يوستينيانوس وهو البناء العمراني عَلَى أن يدافع عن الإمبراطورية بحصون أقامها ويزين القسطنطينية بمصانع ومشاهد وحتى لا ينسى الأعقاب ما قام به من جلائل الأعمال كتب يصف كل ما بناه فكان ما بناه عَلَى شاطئ الدانوب 80 قلعة وفي ولايات أوربا 600 وأشأ السد الذي يحول الخليج الذي قامت عليه مدينة القسطنطينية وخطاً من الحصون عَلَى طول الفرات. وأهم هذه المصانع الكنيسة الكاتدرائية في القسطنطينية المعروفة بآيا صوفيا أجمل أعمال الهندسة البيزنطية (وهي باقية إلى اليوم جعلها العثمانيون جامعاً).
وقد عهد يوستينيانوس إلى الفقيه تريبونين أن يجمع في مجموعتين جميع الشرائع والقوانين الفقهية فوفق يوستينيانوس بفتوحه ومصانعه وقوانينه عَلَى ما يحب أن ينال شهرة ما زالت متأثقة إلى اليوم ولن ينسى عهده وكانت أيام حكمه تعسة تزوج امرأة وضيعة اسمها تيودورا كانت تدبر أمره حسب رغبته وهام جداً بألعاب الفروسية وبالشعر حتى نسي الحكم فثار الرق ونهبوا عاصمته خمسة أيام وأوشكوا يذبحونه فاضطهد أعداءه أيما اضطهاد وأغلق مدرسة الفلسفة في أثينا واشتط عَلَى الشعب في تقاضي الضرائب وغضب عَلَى القائد بليزير الذي افتتح باسمه كل هذه الفتوحات.
الأعمال التشريعية - إذا كان الأباطرة لم تبذل لهم الطاعة إلا في البلاد التي كان يتكلم فيها في اللغة اليونانية فقد ظلوا يكتبون عقودهم الرسمية باللاتينية وبقيت محاكم الإمبراطورية تحكم بالقانون الروماني ولكن لم يبقى في الإمبراطورية منذ القرن الثالث فقهاء قادرون أن يكملوا الحقوق كأتن يتفننوا بالزيادة عليها فكانوا يكتفون بتكرار تعاليم فقهاء القرن الثاني والقرن الثالث كايوس وأولبين وبول وبابنين ومودستين. وقرر الأباطرة أيضاً أن يجري عمل القضاة في المستقبل في كل المسائل التي لم يسبق للقانون أن قدر وقوعها فيتبع رأي هؤلاء الفقهاء العظام وإذا كان بينهم خلاف يجري عَلَى رأي الأكثرية وظلوا ينشرون(74/50)
الأوامر ويبعثون إلى حكام الولايات أجوبة عَلَى مسائل في الحقوق تكون بمثابة قانون وله نفوذه وأحكامه. وقد ألفوا في القرن الخامس مجموعة من هذه الأوامر الإمبراطورية سموها القانون التيودوزي.
وصحت عزيمة يوستينيانوس عَلَى أن يجمع القانون الروماني برمته فعهد إلى تريبوتين أن يقتطف من أقوال جميع فقهاء الرومان ومن أعمال الأباطرة ما يتألف منه هذا العمل الذي عنيت به لجنة من الفقهاء اشتغلت نحو عشرين سنة فألفت ثلاثة تآليف وهي (1ً) مجموعة الفتاوي (بندكيت) مستخرجة من أفواه زهاء خمسمائة فقيه روماني من عصور مختلفة وتقسم إلى خمسين كتاباً (2ً) قانون يوستينيانوس وهو مجموع الأوامر والتقاليد الصادرة عن الأباطرة منذ عهد قسطنطين (3ً) كتاب الأحكام وهو سفر في الحقوق ألف للطلبة.
ثم أن يوستينيانوس جمع في كتاب سماء السنن عامة الأوامر الصادرة في عصره وحظر أن يذكر اسم أحد من فقهاء الرومان بعد ذلك وبهذا بطل استعمال الكتب القديمة في الفقه الروماني في المحاكم فضاعت إلا قليلاً ونحن اليوم قلما نعرف شيئاً في الحقوق الرومانية إلا ما كان من قطع في مجلة يوستينيانوس ومن أجل هذا طارت شهرة هذه المصنفات.
القياصرة والشعب - أصبحت المملكة البيزنطية مع الزمن أشبه بحكومة مطلقة شرقية والإمبراطور سيدها يأمر بقتل كل من ينالهم غضبه ويصادر الأموال كما شاء هواه وله السلطة الدينية ينصب الأساقفة ويعزلهم ويتحكم في المعتقدات ويضطهد المخالفين.
ويحف به كبار الضباط والموظفون والخدم فيتألف منهم بلاط ذو أبهة ويكون لكل من الداخلين فيه رتبة شرف ويقدر كل شيء فيه برسوم دقيقة والقصر يستغرق جميع الأموال التي تجيء من البلاد ولا يذكر في الإمبراطورية غير الإمبراطور وتنقضي الحياة في القصر عَلَى معالجة دسائس النساء وبطائن الإمبراطور وفي المؤامرات. فمن 109 أباطرة تعاقبوا الحكم من القرن الرابع إلى القرن الخامس عشر 34 فقط ماتوا حتف أنوفهم عَلَى سرورهم و2 تنازلوا و18 ماتوا في السجن و18 جدعت أنوفهم وقطعت أيديهم و20 خنقوا أو سموا. وندر أن خلف الإمبراطور ابنه وكل إنسان حتى الخادم والعسيف تحدثه نفسه في الوصول إلى العرش فقد كان الإمبراطور ناستازا رئيس الحجب وجوستين رعى الخنازير وفوكاس جندياً بالعرض وكثيراً ما كان يحدث لبعض المتشردين أن يتنبأ له بعض العجائز(74/51)
فتصح عزائمهم عَلَى تدبير المؤامرات ليصبحوا أباطرة. ويروى أن باردانوس بينما كان عَلَى وشك الانتقاض دله أحد الكهنة عَلَى خدمته الثلاثة الذين كانوا يأتونه بفرسه قائلاً له إن هذين الاثنين يبايعان بالملك وهذا يبايع ثم يقتل. وهؤلاء الخدم الثلاثة هم ليون الخامس وميشيل الثاني وتوماس الغاصب ولذا كان سلاح الإمبراطور في الدفاع عن نفسه التجسس والتعذيب الليم فقد قطع فوكاس (603 - 680) ألسن أنصار سلفه وفقأ عيونهم وقطع أيديهم وأرجلهم وكان الإمبراطور يضربهم بالسهام أو يحرقهم بالنار وكثيراً ما كانت تجري هذه العقوبات الشديدة عَلَى رؤوس الأشهاد. وقد شهد الإمبراطور يوستينيانوس الثاني وهو مجدع الأنف مشهد الألعاب ورجلاه عَلَى رأس منافسيه في العرش ثم أمر بهما فأعدما. ووضع باسيل أعداءه المجذومين المصلوبين في الساحة العامة قابضاً بيده مبخرة فيها كبريت كان يبخر بها بعضهم بعضاً ثم اضطرهم ثلاثة أيام أن يشحذوا وعيونهم مفقوءة ويد كل منهم مقطوعة.
الجيش - لم تبق في الولايات سلطة غير سلطة الجيوش يجندون من المتشردين من أهل كل بلد يدرها عليهم الإمبراطور وفيهم الأروام والفرس والعرب والأرمن والصقالبة بل والفرنج والنورمانديون وكان معظمهم فرساناً لا يؤدون الضرائب ويملكون أراضي وقد دعاهم الصليبيون الفرنسويون في القرن الثالث عشر الفرسان والشرفاء وبطلت طريقة الحكام المدنيين في الولايات وسط الحروب فكل قائد جيش يحكم عَلَى منطقة ولايته وبعضهم ينقطعون عن كل صلة عن العاصمة فيدفعون عن أنفسهم بحسب ما يتراءى لهم فكانت مناطق كالإبرا وصقلية مثلاً مستقلة حقيقة.
المجاميع - حفظت القسطنطينية خزائن كتب مملوءة بنفائس قديمة وكان فيها مدارس يتخرج فيها كل من يطمعون في تولي المناصب ويقضى عَلَى الموظفين في الدولة البيزنطية أن يكونوا أدباء كما هو شان حكام الصين ويدرس الأساتذة من الكهنة إلا قليلاً علوم الدين والشريعة والرياضيات والنحو وكان بعضهم ملماً بجميع علوم عصره ولم يكن علماء بيزنطة يحاولون أن يأتوا بأعمال مبتكرة بل كانوا يسقطون عَلَى التآليف القديمة فيقبسون منها ما يجمعونه في مصنفاتهم. فقد ألف فوتيوس في القرن التاسع كتاباً سماه عشرة آلاف مصنف ووضع سيمون المترجم وهو قائد سياسي من أهل القرن العاشر(74/52)
مجموعة واسعة في حياة القديسين وجمع الإمبراطور قسطنطين البورفيروجنتي مجموعاً عظيماً. وكان البيزنطيون يرجون أن يضموا في بضعة مصنفات شتات عامة علوم القدماء وهو عمل متكبرين لا عمل عالمين ولكن عملهم حفظ شذوراً من أسفار ضائعة قديمة.
الصنائع البيزنطية - ظلت الإمبراطورية البيزنطية خلال القرون الوسطى بأسرها تنشئ كنائس وقصوراً وتزينها فكان المتفننون بالصناعات كثيراً عددهم ولاسيما في بلاط بيزنطة وفي الأديار بين الكهنة والقسيسين. وأعظم الصناعات البيزنطية الهندسة وأهم مصانعها كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينية أنشئت عَلَى عهد يوستينيانوس وحافظ عليها العثمانيون فحولوها جامعاً.
وتتألف الكنيسة البيزنطية من قبة كبيرة وسطى فيها قباب صغرى يدخل منها النور ويحيط بالقبة الكبرى عدة قباب أو نصف أقباب صغيرة وجميع هذه القباب مذهبة من الخارج تتألق أنوارها إلى بعيد وفي الداخل ترى السواري من الرخام الثمين كاليصب والسماقي وكلها ذات خطوط حمر وخضر وأرضها مبلطة بالفسيفساء المتألقة والحوائط مزدانة بصور مرصعة من ذهب. يريدون من هذا التفنن إظهار الغنى. وغدت هذه الكنائس ذات القباب المستديرة والمذهبة أنموذجا للمهندسين منذ القرن السادس إلى القرن الحادي عشر لا في الإمبراطورية البيزنطية بل عند جميع البرابرة المسيحيين في الشرق. وبقيت هذه البيع في الشرق مثال الهندسة النصرانية وجماع الكنائس الروسية كنائس بيزنطة.
وما النقش والتصوير عَلَى ما كان قديماً في مصر وآشور سوى صناعات ثانوية من شأنها تزيين أعمال الهندسة وتمثل صور الجدران صفوفاً طويلة من القديسين أو احتفالات كهنوتية والأشخاص منفصلة عن التهذيب فيها جفاء وهي عَلَى نسق واحد وعيونها واسعة الأحداق وأجسامها مقرنة لا معنى لها ولا حياة فيها وكذلك تماثيل القديسين ينتقد عليها ما ينتقد عَلَى صور الأشخاص وقد انقطع أرباب الصنائع عن صنع النقوش والتصوير والطبيعة واكتفوا بنقل نموذجات مقررة مبتعدين عن الحقيقة كلما أكثر النقل والاحتذاء.
حفظت في المملكة البيزنطية أيضاً جميع أعمال الزينة كالنقش عَلَى الخشب أو العاج وصناعة الحلي والزمرد وتذهيب المخطوطات. ودام أرباب الصناعة من البيزنطيين مدة خمسة قرون من القرن السادس إلى القرن الحادي عشر مستأثرين بصنع ما يحتاجه الملوك(74/53)
والأساقفة ورؤساء الأديار من البربر في غاليا وجرمانيا يعملون لهم زين البيع وبيوت الذخائر والكؤوس والعروش والتيجان والمخطوطات الثمينة وكان إذ تخرج أناس في الصناعة ببلاد الغرب يبدءون باحتذاء مثال الكنائس البيزنطية.
كنيسة الشرق - لم تشأ الكنائس النصرانية في الشرق أن تخضع للبابا في رومية بل كانت ترجع إلى أساقفة المدن الكبرى (القسطنطينية والقدس وأنطاكية والإسكندرية) يدعونهم بطاركة وفوقهم الإمبراطور رئيس الكنيسة وهو ملك عَلَى الأجسام كما هو ملك عَلَى الأرواح عَلَى نحو ما هو حال قيصر روسيا إلى اليوم بل هو المرجع في حسم المسائل الاعتقادية.
وقد أصدر زينون سنة 482 في الجدال الذي ثار بشأن طبيعتي المسيح أمراً قاضياً عَلَى الفريقين أن يقبلا بقانون عام وبعد مئة وخمسين سنة من هذا التاريخ والمسيحيون يتناقشون فيما إذا كانت للمسيح طبيعة واحدة أو طبيعتان اصدر هيراكلوس سنة 639 أمراً يقضي بأن للمسيح طبيعتين ولكن له إرادة واحدة فنشأت من ذلك بدعة جديدة وانقسمت كنيسة الشرق إلى عدة شيع فكان النساطرة يقولون بأن في المسيح طبيعتين الأولى إلهية والثانية بشرية وأن العذراء ليست أم الله بل أم المسيح وأسسوا الكنيسة الكلدانية نصبوا زعيمها في بابل. وقال القائلون بطبيعة واحدة في المسيح أن ليس فيه من الطبائع إلا الطبيعة الإلهية وهؤلاء أسسوا كنائس مصر وأرمينية وسورية (تحت اسم اليعاقبة) والقائلون بطبيعة وحيدة في المسيح اعتقدوا بأن له طبيعتين وإرادة واحدة ولا يزال الموارنة في جبال لبنان يعتقدون اعتقادهم.
فلم تحتفظ الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية بغير روم آسيا الصغرى وأوربا ولم يتيسر لها أن تظل بكنيسة الغرب والكنائس مختلفة في عدة مسائل فالغربيون لم يقبلوا بزواج القسيس ولا بعبادة الصور وزادوا إلى هذه الجملة التي قيلت في مجمع نيقية الروح القدس منبثق من الأب قولهم ومن الابن أيضاً ولم يرض أحد الفريقين أن يتنازل عن دعواه ومنذ ذهاب الإمبراطور من رومية كان يعترف البابا وأساقفة إيطاليا بإمبراطور القسطنطينية عاهلاً عليهم ولكن لم يقبلوا بأن تحكم الإمبراطورية في الكنيسة وأن نفض مسائل الإيمان والقوانين. وأصبحت الصلاة نادرة ومتعذرة بين البابا والمشارقة ثم جاء إمبراطور من(74/54)
القائلين بتحطيم الصور فأمر سنة 728 بأن لا يكون في البيع أقل تمثيل من تماثيل المسيح بل ولا العذراء ولا القديسين وأن تحطم التماثيل وتعفى آثار الصور فحرض البابا جماعته المؤمنين أن يقاوموا هذا الفكر وشجب القائلين بحطم الصور ولما غدا أحد ملوك الإفرنج (شارلمان) إمبراطور عَلَى الغرب انقطعت كل صلة بين رومية والشرقيين.
ولم تبق الكنيسة الرومية محصورة في الإمبراطورية البيزنطية بل بعثت رسلاً لتنصير البربر الصقالبة في أوربا الشرقية كما نصر مراسلو رومية برابرة الجرمان وفي أوربا الغربية فكما غدا الجرمان في ألمانيا وإنكلترا كاثوليكيا رومانيين أصبح السلافيون (الصقالبة) في بلغارياً وبلغاريا كاثوليكيا روميين ومازال هؤلاء كذلك وتسمى الكنيسة الرومية (وهي تسمي نفسها الأرثوذكسية) وعدد الخاضعين لها نحو 80 إلى 90 مليوناً.
مكانة الإمبراطورية البيزنطية - جرت عادة المؤرخين عند كلامهم عَلَى البيزنطيين أن يطلقوا عليهم عبارات الاحتقار. نعم إن روايات مؤرخيهم تشعر أن هناك شعباً ظالماً نذلاً فاسداً ولكن لم يبق غيرهم باقين عَلَى شيءٍ من مدنية بجانب الغرب الذي عاد فأصبح بربرياً فهم الذين حفظوا الحضارة القديمة ونقلوها إلى اسم أوربا الحديثة وبذلك شغلوا مكانة عالية في تاريخ العالم الممدن وإليك ما أنوه من الأعمال عَلَى سبيل الإيجاز:
1ً - حفظوا من التشذيب القوانين الرومانية التي لا تزال في كثير من الموضوعات القاعدة التي تجري عليها الشعوب الممدنة.
2ً - أنقذوا صناعات القديمة وكانت تضيع آثار كتاب اليونان لولا المخطوطات التي حفظها أدباء القسطنطينية وكهنتها فالبيزنطيون كانوا خزنة كتب الجنس البشري.
3ً - أنشئوا صورة عظمى من صور الصناعة وعلى الأقل في الهندسة ونعني بذلك الصناعة البيزنطية.
4ً - أسسوا كنيسة نصرانية نصرت العالم السلافي كله تقريباً.
5ً - قدمت الشعوب البربرية في أوربا الشرقية مثالاً من أمثلة المدنية ولاسيما الروس فإنهم طالما أعجبوا بالبيزنطية واحتذوا مثالها وما البيع الروسية إلا كنائس بيزنطية وألف باء اللغة الروسية مؤلفة من حروف يونانية والدين الروسي هو الكثلكة الرومية حتى أن أسماء العماد يونانية (اسكندر. ميخائيل. باسيل. حنة) وأخذ الشعب الروسي (وهو اليوم(74/55)
يناهز المئة مليون نفس) دع عنك الصربيين والبلغاريين عن بيزنطية كتابه وديانته وصنائعه. وعلى الجملة فقد كان البيزنطيون معلمي الصقالبة كما كان الرومان معلمي الجرمان.
مملكة العرب
الخلافة
الخلفاء - فتح المحاربون العرب في أقل من قرن (630 - 713) بلاد آسيا حتى بلغوا نهر السند وجميع أفريقية الشمالية وأسبانيا وخضعت البلاد التي فتحت للخليفة زعيمهم أمير المؤمنين خليفة الرسول وأقام الخليفة أولاً في المدينة المنورة مدينة الرسول (630 - 660) ثم في دمشق (660 - 750) ثم في بغداد عَلَى عهد العباسيين وعند ذلك تجزأت المملكة فصار الخلفاء ثلاثة في ثلاث عواصم: بغداد في أسيا والقاهرة في أفريقية وقرطبة في إسبانيا دع عنك الولايات المنتفضة (مثل خراسان ومراكش) التي لم تكن نخضع لخليفة قط.
والقاعدة أن ينتخب المؤمنون خليفة بإلهام من الله. قال يزيد للناس عندما بويع له: أيها الناس إني أعاهدكم أن لا أقيم قصراً ولا أجمع من حطام الدنيا فإذا قمت بوعدي فعليكم أن تبذلوا لي طاعتكم وتدافعوا عني بأنفسكم وإلا فأنتم في حل من بيعتي ولكن عليكم أن تذكروني أولاً فإذا صلحت فاقبلوا معاذيري وإذا عرفتم برجل خبرتم أخلاقه بقوم لكم بما أقوم فاختاروه وأنا خاضع له. وفي الواقع فإن انتخاب الخليفة كان حراً خالصاً فتختار الأمة الخلف الذي يعينه الخليفة السابق أو رؤساء القواد في قصر الخليفة.
الحكومة - كانت الحكومة ساذجة للغاية. متوارثة خلفاً عن سلف وعلى الخليفة كل جمعة أن يصعد المنبر ويخطب الناس ويعظهم ثم تركت هذه العادة وكان عليه أن يستقبل القوم جالساً عَلَى عرش يحف به ذوو قرباه وأعاظم دولته ولكن خليفة بغداد جعل له وزيراً يكون له خادماً ووزيراً أول يسليه بحديثه ويغنيه ويلاعبه بالنرد وينوب عنه في الحكم. وهو أيضاً يقضي وقته في قصوره أو حدائقه بين نسائه يحف به حرس من الجند المأجور من الأجانب (ويدعونهم الخرس لأنهم لا يتكلمون العربية).
وكان لكل ولاية قائد لجيشها يحكمها وكثيراً ما ينتفض الخليفة وفي كل حاضرة قاض(74/56)
يقضي بين المسلمين عَلَى أسرع وجه بدون كتابة ولا معاملة وذلك بمراعاة أحكام القرآن والعدل. ويقال عدل قاض يريدون به العدل الموجز. وكانت العرب كالرومان يتركون الشعوب الخاضعة لهم متمتعين بحقوقهم ومحاكمهم بل أساقفتهم (وكان في خلافة بغداد وحدها 25 أسقفاً مطراناً) ويتركون المسيحيين يقومون كما يشاءون بشعائرهم الدينية مكتفين منهم بتأدية الجزية فقط وأن يحترموا المسلمين وأن لا يحملوا السيف ولا يبيعوا الخمر ولا يقرعوا نواقيسهم كثيراً ولا يتلون أناجيلهم بصوت جهوري.
المذاهب - لما كان بين الشعوب المختلفة التي دانت بالإسلام كثير من الاختلاف في الأخلاق لا يتأتى معه أن يقوموا بواجباتهم عَلَى مثال واحد انقسموا إلى عدة مذاهب فقدماء المؤمنين في العادة ولاسيما العرب منهم يؤمنون مع القرآن بأحاديث الرسول وما أُثر عن أصحابه وآله فيعززون الكتاب بالسنة ومنهم اشتق اسمهم أهل السنة. لا جرم أن هذه الأحاديث التي قبلت بسائق سرعة التصديق المعهودة في الشرقيين لا يرد عهدها إلى محمد (فقد أقر أحد الوضاعين الذي قتل سنة 772 بأنه وضع 4000 حديث) ولكنها مع ذلك من أصل عربي. إما المذهب المناقض لهذا فقد تالف بعد مقتل علي فأبى أهله الاعتراف بخلفاء الأمويين في سورية ونبذوا الحديث وزعموا أنهم يتمسكون بالقرآن فدعا العريقون في الإيمان هؤلاء المخالفين شيعة أو رافضة وكان معظمهم قد أسلوا حديثاً وأكثرهم من الفرس فمزجوا الإسلام ببقايا دين زردشت القديم وادخلوا فيه حكايات واحتفالات ومعتقدات تكرهها العرب وجعل أكثرهم استنارة بكثرة تفسير القرآن وفلسفة مجازية من الدين مثل صوفية الفرس حتى لقد شبهوا هؤلاء بالإباحيين وكان من أمر السواد الأعظم كرهاً بالأمويين أن اتخذ من أخلاف علي ختن الرسول آل بيت إلهي وقالوا أن الخليفة غاصب وأن الزعيم الحقيقي من آل بيت علي وفيه السر الإلهي وهكذا جاء اثنا عشر إماماً عاشوا خاملين في المدينة ثم انقرض آل البيت فكانوا يتوقعون زمناً خروج الثاني عشر وهو محمد من مغارة بالقرب من بغداد حيث كان مختبئاً عَلَى ما يقولون ومنذ ذاك العهد أخذوا ينتظرون إماماً يأتي ذات يوم لمقاومة الشر بمعونة عيسى ويلقي السلام عَلَى الأرض وفي كل مساء يضرعون إليه أن يظهر قائلين تمثل لنا أيها الإمام فإن الإنسانية في انتظارك لأن الحق والعدل هلكا والأرض ملئت جوراً وظلماً. وهذا المسيح يسمونه المهدي (أي الرجل(74/57)
الذي يسوقه الله) وقد ظهر كثير من المهديين منذ القرن العاشر ولاسيما بين مسلمي أفريقية وأنشأ أحدهم خلافة في القاهرة وأسس آخر دولة الموحدين في مراكش وقام لعهدنا مهدي جديد آخر في السودان (1884).
المدنية العربية
منشأ المدنية العربية - كان الإسلام كالنصرانية مباحاً الدخول فيه لكل إنسان فإذا اسلم المغلوب يدخل في زمرة المؤمنين وكانت العرب الخلص في الصدر الأول التي تدعو أنفسها السود تحتقر هؤلاء الداخلين في الإسلام المدعوين بالحمر السبال ولكن الخلفاء وضعوا مبدأ المساواة قال عمر من الظلم أن يحتقر المرء أخاه المسلم. وقد أخذ الروم والفرس ممن دخلوا في الإسلام لو ظلوا عَلَى دينهم وهم أعراق في المدينة يتكلمون بالعربية ومزجوا عاداتهم بعادات الفاتحين وخرج العرب متوحشين من قفارهم فتحضروا كما كان شان الرومان قديماً وراحوا يمدنون الشعوب البربر التي مازالت عَلَى توحشها في أفريقية كما مدنت رومية بربر إسبانيا وغاليا.
بغداد وقرطبة - هذه المدنية العربية التي نشأت في الشام وفارس هي شرقية محضة فقد اقتدى خلفاء دمشق بملوك فارس فكانوا يأوون إلى قصورهم المبلطة بالمرمر الأخضر وفي وسط الفناء حوض عظيم يفيض فيسقي حديقة غاصة بالطيار وحوله عبيده يغنون فيشرب شراباً بماء الورد وكانت العاصمتان اللتان أسسهما الخلفاء وهما بغداد وقرطبة أحسن حالة فإن بغداد مدينة العجائب أنشئت في بضع سنين وكان لها أربعة أبواب من حديد تحيط بها قبة مذهبة وكان عَلَى الداخل للوصول إلى القصر أن يجتاز ثلاثة ميادين وثلاثة أبواب وكان القصر مدينة مغلقة وسط المدينة. وفي ردهة الاستقبال شجرة ذهب أغصانها الحجار الثمينة واسود مقيدة وأحواض ومياه منبجة ترطب الهواء وكان لخلفاء القاهرة حديقة أشجارها من ذهب وأزهارها من الجوهر وبلاطها من الزمرد. قالوا أنه كان في قرطبة في القرن العاشر مئة ألف دار وستمائة جامع وثمانون مدرسة وثلثمائة حمام وثمانية وعشرون ربضاً. وقد سميت الراهبة هروسويسا الألمانية مدينة قرطبة بجوهرة العالم وكان الخليفة في قرطبة كما في بغداد يستدعي الشعراء والمغنين ويعيدهم مملوءة حقائبهم من الذهب. ولأغنياء التجار أيضاً حدائق مملوءة بالزهور والشجار العطرة والبسط الفاخرة وأقمشة(74/58)
الحرير وآنية الفضة وطيوب بلاد العرب التي يحرقونها في مجامر ذهب. وهكذا بذخ الشرقي يرغب في الثمين الفاخر أكثر من رغبته في الموافق السهل.
الزراعة - من أول واجبات الحكومة أن تفتح الترع اللازمة لزراعة الأرض. وهذه كانت قاعدة أمراء العرب التي جروا عليها وحفروا الآبار وجازوا من عثروا عَلَى الينابيع بالمال ووضعوا المصطلحات لتوزيع الماء بين الجيران فإن مصر والشام وبابل هي من البلاد الحارة التي تخصب وأي خصب عندما يسقونها قد علمت العرب قيمة الماء وطريقة الانتفاع منه فنقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير التي تمتح الماء والسواقي التي توزعه. وإن الهورتا (؟) في ضواحي بلنسية وهو سهل مزروع كما تزرع الحديقة هو من بقايا حومة العرب وديوان المياه الذي كان يفض مسائل السقيا نظمته العرب.
وقد استعملت العرب جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملت كثيراً من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوربا فأحسنوا تربيتها حتى لتظنها وطنية وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمش والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الصفر والعنب العطر والورد الزرق والصفر والياسمين بل والقطن والقصب وقد دخل هذان الصنفان منذ اكتشاف أميركا.
الصناعة - وجدت العرب في الشام وفارس صناعات قديمة نقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت ومنها نشئت صناعة أوربا الحديثة. وكانوا يعملون في معامل الزجاج في بغداد والشام زجاجاً معمولاً بالياقوت والصدف وتخرج من معامل الأسلحة العربية الفولاذ العجمي واليطقانات المنحنية في البصرة والسيوف في اليمن ثم أخذت سورية تصنع النصال الدمشقية المشهورة وإسبانيا السيوف المسقية في طليطلة. ويحوكون في جبال آسيا الصغرى السجاد من صوف ذي وبر. وفي دمشق قماش الدمسكو وأقمشة القصب وأقمشة الحرير والصوف الدقيقة ويصنع الشاش في الموصل. وقد انتقلت الرسوم العجمية التي كانت تزدان بها هذه الأقمشة من طيور وأسود وفيلة وحيوانات ونباتات يتخيلونها (ويرد عهد بعضها إلى الآشوريين) إلى تزييناتنا الحديثة وكان يعمل الورق في سمرقند وبغداد منذ القرن العاشر وربما قلدوا في صنعه الصينيين ومن هاتين العاصمتين انتقلت صناعة الورق إلى صقلية وكساتيفا (؟) في إسبانيا. وكانت في الغرب معامل الجلد الشهيرة وهي(74/59)
مثال الجلد القرطبي (الكوردواني) نسبة لقرطبة (ومن هنا اشتق بالإفرنجية اسم كوردونية أي صانع الأحذية) كما يصنع السختيان (الماروكين) نسبة إلى مراكش. ويعمل في بغداد السكر الذي كان اخترع في بلاد الفرس وكانت العرب تحسن عمل المربيات والشربة والخمور الناشفة وروح الورد.
التجارة - عاش الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال عَلَى عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة يتقاضون حاصلات أرضهم ومصنوعات معاملهم ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوربا وكانت الصنائع تنقل في البحار عَلَى مراكب وفي البر عَلَى ظهور الجمال وللعرب مرفآن تجاريان عظيمان متصلان بالعاصمتين أحدهما البصرة عَلَى خليج فارس كان يفتح للعرب بحر الهند وهناك تفرغ مراكب العرب وهي قادمة من الهند تحمل العطور والأباريز والعاج وتجيء الجنوك الصينية تحمل جميع صمغ اللك والحرير وتعود بالزجاج والسكر وماء الورد والقطن. والإسكندرية هي المرفأ الثاني فتحت عَلَى العرب طريق البحر الرومي وإليه كانت تصل مراكب إيطاليا فالبصرة مرفأ بغداد والإسكندرية مرفأ القاهرة.
وتسير القوافل من بغداد إلى كل ناحية فمن الجنوب الغربي تقصد إلى دمشق وسورية وإلى الشرق نحو البصرة والهند ومن الشمال إلى طربزون عَلَى البحر الأسود حيث كانت تحمل بضائع المملكة البيزنطية وإلى الشمال الشرقي إلى سمرقند وبحر الخزر حيث كان يذهب التجار ليأخذوا جلود روسيا وشمعها وعسلها. وكانت القوافل من القاهرة تسير إلى الغرب في الطريق العظيم الذي يحاذي البحر عَلَى طوله ماراً بطرابلس والقيروان لينفذ من طنجة التي كانت تصل إليها تجارة إسبانيا ومن الجنوب طريق يصعد منها إلى النيل حتى بلاد السودان وآخر يسير عَلَى الشاطئ الشرقي من أفريقية حيث أنشأت العرب مقدشو وكلوة وسفالة. ومن هذه الجهة كان يجيء التبر والعاج والعبيد. وكان في جميع المدن العظمى كبغداد والقاهرة ودمشق والقيروان وطنجة وقرطبة وسمرقند حي للتجارة (البازار) يعرض فيه التجار أمتعتهم ويتفقون عَلَى الأسعار.
العلوم - يقول المثل العربي من سار في طلب العلم سهل الله له طريق الجنة وكثير من(74/60)
الرجال من ساحوا أشهراً في طلب حديث روي عن الرسول وبالحقيقة أن المسلم يعنى عناية خاصة بعلم الكتاب وفي البلاد الإسلامية كما في المسيحية يفضلون تعلم الفقه. فقد كان الطالب في مدارس قرطبة يقضي أربع سنين في تعلم قراءة القرآن وثمان سنين في حفظه ثم يتعلمون الكتابة وهكذا كان يتخرج العلماء وهم علماء في الفقه والكلام إذ ليس القرآن قانوناً دينياً فقط بل هو قانون مدني. ومن دراسة تراكيب القرآن نشأ علم النحو وما برح المسلمون يبرحون من العلوم الكلام والفقه والنحو وكان في الحواضر مدارس يجتمع إليها من يرغبون في التعلم أو التعليم وهؤلاء الأساتذة المرتجلون كانوا يلقون دروسهم علناً بدون مقابل أو لقاء رواتب يدفعها عليهم الحضور. وأنشئت في القرن العاشر في بغداد ودمشق وسمرقند مدارس كلية حقيقية تدفع الحكومة رواتبهن.
وحفظت في مدارس الروم في دمشق والإسكندرية علوم الروم من فلك وجغرافيا ورياضيات وطب فجمع علماء الإمبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم وأكملوها ونشروها وقد كتب أحد علماء العرب أول كتاب في الجبر ترجم إلى اللاتينية ووصف جغرافيو العرب البلاد البعيدة التي كانت القوافل تختلف إليها. واستخرجت العرب من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي الذي كان المعول عليه في القرون الوسطى وهو طب العقاقير والحبوب وكانوا كاليونان يبحثون عن داء يشفي من كل الأوصاب ولكن أهم ما غلب عَلَى العرب من علوم علم الكيمياء وكان يحببه إليهم أمران مرغبان لعقل الشرقي وهما العثور عَلَى حجر الفلاسفة الذي يحول جميع المعادن إلى ذهب والإكسير الذي يعطي الحياة ويعيد الشباب وكانوا يحاولون إخراجها بمزج كل مادة وإغلائها وتقطيرها فوقع الكيماويون في أنابيقهم وأدوات استخراجهم ما لم يكونوا يبحثون عنه فبدلاً من الإكسير حصل معهم الألكحول (1669) ثم بعد زمن بينا كانوا يبحثون عن حجر الفلاسفة وجدوا في ألمانيا الفوسفور. وظلت الكيمياء وهماً ولكن نشأت منها الكيمياء الحديثة كما نشأ قديماً في بلاد الكلدان علم الفلك من علم التنجيم.
فنون العرب - لم يكن للعرب كما للرومان صناعات وطنية خاصة بهم فكانوا إذا احتاجوا إلى قصور أو جوامع يعمرونها أولاً عَلَى الطراز الفارسي أو البيزنطي مثل جامع دمشق ولكن لم تلبث الصناعات الفارسية والبيزنطية أن اختلطت ونشأ منها صناعة جديدة هي(74/61)
الصناعة العربية وأجمل هذه الصناعات الجوامع والقصور والجامع عبارة عن قاعة كبرى يجتمع فيها المؤمنون وفي الفناء حوض ماء يتوضئون منه ومأذنة تنتهي بسطح ومنه ينادي المؤذن المؤمنين للصلاة وكانت القاعة العظمى في قرطبة تنقسم إلى أحد عشر صفاً من السواري والقصر العربي هو بيت نزهة يكون بحسب عادة البلاد الحارة ولا يبدو منه إلى الخارج إلا حوائط عارية. والقاعات كما في الدور القديمة متجهة نحو فناء (صحن) داخلي معروس بالأشجار ويرطب هواءه حوض ماء وفي صحن الأسود في قصر الحمراء في غرناطة ينبجس الماء من كأس عظيمة من الرخام الأبيض يحملها اثنا عشر أسداً من الرخام الأسود والفناء يحيط به من الشواطئ سوار يتألف منها رواق والسواري العربية رقيقة عالية عَلَى مثال الهندسة الفارسية فلا تحمل إلا حوائط رقيقة خفيفة من الجبس أو الملاط والقناطر التي تجمع بين السواري هي عَلَى شكل رسم البيكارين أو هلال أو قرن فهي هندسة جميلة خفيفة سريعة العطب كأنها أصحاف كتاب بالمقوى. وليس للعرب نقش ولا تصوير لأن القرآن حرم عليهم تمثيل الأشخاص فبدلاً من التماثيل والصور تصوروا أن يصوروا الحوائط بألوان زاهية وأكاليل من الزهر والورق وآيات من القرآن وأشكال هندسية مشتبكة وهذه الزين التي أصبحت عَلَى الدهر مختلطة مرتبكة لا أصل لها إلا في خيال رساميها قد حفظت أسماء مخترعيها فقالوا عنها أرابسك أي النقوش عَلَى هيئة النباتات والأوراق.(74/62)
مخطوطات ومطبوعات
المجموع المشتمل عَلَى الدرر
كما قيض الله سبحانه رجالاً في الهند لنشر مذهب السلف بطبع كتب الحديث وسننه ومسانيده وأجزاءه وكتب عقيدتهم الصحيحة كذلك أتاح لذلك رجالا من البحرين ومصر وجدة لا يألون جهداً في السعي وراء إحياء آثار السلف وبعثها من مراقد الإهمال الذي قضى عليها ضعف العلم في العصور الأخيرة.
ومنهم الشيخ عبد القادر التلمساني الصل نزيل مصر فقد طبع في مصر الصارم المنكي، والكافية الشافية، وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجزء رفع اليدين، وجزء القراءة خلف الإمام، وغاية الأماني وآخر ما نشره مجموعة كتب من ألطف الكتب وأنفسها يودكل نهم بالعلم لان يقف عليها ويتمتع بفوائدها.
اشتمل هذا المجموع - الذي طبع بمطبعة كردستان بأجمل ورق وألطف حرف - عَلَى تسعة مؤلفات (الأول) كتاب الرد الوافر عَلَى من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر للإمام حافظ الشام ناصر السنة محمد بن أبي بكر المعروف بابن ناصر الدين الشافعي المتوفى عام (846) جاء كتابه هذا في (136 ص) بالقطع الكامل افتتح خطبة كتابه بما ورد إتباع السنة واجتناب البدعة ثم نعى عَلَى المكفرين والمضللين وإن كل هؤلاء ركب هواه، فابتدع ما أحب وارتضاه وناظر أهل الحق عليهن ودعاهم بجهله إليه، وزخرف لهم القول بالباطل فتزين به وصار ذلك عندهم ديناً يكفر من خالفهن ويلعن من باينه، وساعد عَلَى ذلك من لا علم له من العوام، ويوقع به الظنة والإيهام، ووجد عَلَى ذلك من الجهال أعواناً، ومن أعداء العلم أخدناً، إتباع كل ناعق لا يرجعون فيه إلى دين، ولا يعتمدون عَلَى يقين، وقد رجوا به الرئاسة، وتزينوا به للعامة.
وما ألطف قوله بعد ذلك عن الناطق بالتكفير، عن هذا القول الشنيع قد أبان قدر قائله في الفهم، وإن فصح عن مبلغه من العلم، وكشف عن محله من الهوى، ووصف كيف إتباعه سبيل الهوى، ولا يرد بعد روايته عنه ونسبته إليه كلام الإنسان عنوان عقله يدل عليه.
وقد استقرأ من ترجم شيخ الإسلام ابن تيمية من مشاهير الأعلام ما يقرب تسعين إماماً مشهوراً وقد ذيل الكتاب بتقاريط أقران المؤلف ومعاصريه كالحافظ شهاب الدين ابنة حجر(74/63)
شارح الصحيح وأَضرابه.
ولمؤلفه الإمام ابن ناصر الدين شهرة كبيرة لقب بخاتمة حفاظ الشام وكان من أعلام القرن التاسع.
(الكتاب الثاني) القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي لصفي الدين البخاري الحنفي ذكر فيه كلام الأئمة الأخيار في الثناء عَلَى الشيخ، ثم عقيدة الشيخ السلفية ثم ما وافق كلامه كلام من تقدمه من السلف والخلف، ثم الجواب عما أنكروه عَلَى الشيخ، ثم ما اختاروه الحنابلة من تسمية أنفسهم أهل الأثر لا الأشاعرة ولا ماتريدية وتصويبهم في ذلك، ثم ذكروا وفاة الشيخ وبعض ما قيل في رثائه وهذا الكتاب كان طبع عَلَى حاشية المحاكمة بين الأحمدين.
(الكتاب الثالث) الكواكب الدرية في مناقب الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ مرعي الحنبلي أورد فيه ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية مسهبة، وسرد وقائعه مع الجامدين في عصره وتواريخ سعايتهم به إلى السلاطين والنواب، ثم من انتصر للشيخ من علماء البلاد ثم ما رثي به بعد وفاته من القصائد وعدتها خمسة عشرة والكتاب من أجمل الكتب التي جمعت سيرة الشيخ ومناقبه وقد طبع عن نسخة بخط السيد محمود شكري الآلوسي الحسيني أحد علماء العراق.
(الكتاب الرابع) كتاب تنبيه النبيه والغبي في الرد عَلَى المدارسي والحلبي لأحمدين إبراهيم بن عيسى النجدي وكان رأى كتاباً لشخص يلقب بالمدراسي من أهل مدارس استمد ما جمعه مما كتبه الحلبي في رده عَلَى شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى شمس الدين الحافظ الذهبي في متاب العرش وكتاب العلو وحاول تأييد مذهب الجهمية عَلَى مذهب السلف وحذا حذو أولئك المؤولين الجامدين فأوسع من التأويل والحشو المعروف لهم فكر عليه هذا العالم النجدي ودحر شهادته أجمع وتبلغ صفحاته قريباً من مائتين وتسعين بالقطع الكامل ويجد فيه مجادل الحشوية في المسائل السلفية مادة كبرى.
(الخامس) رسالة في زيارة القبور تأليف الحجة محي الدين البركوي أحد أولياء علماء الأتراك الشهيرين وصاحب لطريقة المحمدية وغيرها من المؤلفات ثم رسالته هذه في زيارة القبور وجمع من النقول في ذلك عن السلف والخلف وعن فقهاء المذاهب في آداب(74/64)
الزيارة ومحظوراتها ما لا يوجد في كتاب غيره وهذه الرسالة كانت طبعت في الأستانة مرتين طبعاً محرفاً فطبعت في هذه المجموعة عَلَى نسخة مصححة غاية التصحيح وحقها أن تكون أماً يعارض بها كل مطبوع قبلها.
(الخامس) عقيدة الشيخ الإمام موفق الدين ابن قدامة وهي من أنفس المختصرات في بيان عقيدة السلف.
(السادس) كتاب ذم التأويل للإمام موفق الدين المنوه به قبل أورد فيه مذهب السلف من الصحابة والتابعين في أسماء الله وصفاته ليسلك سبيلهم من أحب لاقتداء بهم.
وقد تخلل هذه المجموعة البديعة منظومة للحجاوي الحنبلي في تعداد الكبائر ومنظومة في عقيدة أهل الأثر لأبي خطاب الحنبلي، وكلها نفائس وغرر، جديرة أن تلقب بما لقب به بالمجموعة المشتملة عَلَى الدرر. دمشق
(أبو الضياء).
الاعتبار
تأليف مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن مرشد الكناني الشيزري بالمعروف بأبي منقذ طبع بمطبعة بريل في ليدن سنة 1884.
لمطبعة بريل في ليدن من بلاد القاع (هولاندة) يد طولى عَلَى اللغات الشرقية عامة واللغة العربية خاصة فقد طبعت جزءاً كبيراً من كتبنا في مطبعتها ولا تزال إلى اليوم تطبع كل ما يبيض وجه الآداب والعلم. وبآخر ما اطلعنا عليه من مطبوعاتها كتاب نشره هرتويغ درنبورغ أحد علماء المشرقيات من الفرنسيس لهذا المؤلف الأمير وكانت أسرته صاحبة شيزر ولها تاريخ مجيد عَلَى عهد دخول الصليبيين إلى هذه الديار أما أسامة فكان في القرن الأول من تلك الحروب وطاف مصر والشام ورأى أهاويل وقص في هذا الكتاب - الذي ظفر ناشره بنسخة منه في مكتبة الأسكوريال ببلاد الأندلس - حكايات مهمة في شجاعة أهل تلك الأيام ونالوا من صروف الأقدار ما كانوا يألفونه من العادات والأحوال بحي أسدى الناشر إلى التاريخ ولاسيما تاريخ مصر والشام بدءاً محمودة فجاء القسم الثاني منه في 168 صفحة عدا الفهارس وأسماء الرجال والنساء والحيوان والأمم والأماكن والقبائل والأنساب التي لا يكاد كتاب من كتب علماء المشرقيات يخلو منها.(74/65)
ذكر ابن منقذ فرقة العرب الذين رآهم عَلَى حدود مصر قال ورأيت بهم من الضر أمراً عظيماً وقد يبست جلودهم عَلَى عظامهم قلت: إي أنتم قالوا: نحن من بني أبي. وبنو أبي فرقة من العرب من طيءٍ لا يأكلون إلا الميتة ويقولون نحن خير العرب ما فينا مجذوم ولا أبرص ولا زمن ولا أعمى وإذا نزل بهم الضيف ذبحوا له وأطعموه من غير طعامهم قلت: ما جاء بكم إلى ها هنا قالوا: لنا بحسمى كثول ذرة مطمورة جئنا نأخذها قلت: وكم لكم هنا قالوا: من عيد رمضان إنا ها هنا ما رأينا الزاد بأعيننا قلت: فمن أين تعيشون قالوا من الرمة يعنون العظام البالية الملقاة ندقها ونعمل عليها الماء وورق القطف شجر بتلك الأرض ونتقوت به قلت: فكلابكم وحمركم قالوا الكلاب نطعمهم من عيشنا والحمير من الحشيش قلت: فلم لا دخلتم إلى دمشق قالوا: خفنا الوباء ولا وباء أعظم مما كانوا فيه وكان ذلك بعد عيد الأضحى فوقفت حتى جاءت الجمال وأعطيتهم من الزاد الذي كان معنا وقطعت فوطة كانت عَلَى رأسي أعطيتها للمرأتين فكادت عقولهم تزول من فرحهم بالزاد وقلت: لا تقيموا ها هنا يسبوكم الإفرنج.
وذكر أنه سار مع أخيه من دمشق يقصد هو وأصحابه إلى عسقلان يريدون الغارة عَلَى بيت جبريل وقتالها فاجتمع الإفرنج من تلك الحصون وقال: وهي كلها متقاربة وفيها خيل كثير للإفرنج لمغادرة عسقلان ومراوحتها. وذكر من جملة كلام له في مسيره من مصر إلى الشام أنه وصل جبال بني فهيد في وادي موسى وطلع في طرقات ضيقة وعرة إلى أرض فسيحة ورجال وشياطين رجيمة من ظفروا به منفرداً قتلوه وتلك الناحية لا تخلو من بعض بني ربيعة الأمراء الظائيين فسألت من ها هنا من الأمراء من بني ربيعة قالوا منصور بن غدفل. وذكر أنه أخذ أماناً من الإفرنج وأرسل عياله وأشغاله من دمياط إلى عكا في بسطة من بسط الإفرنج فهب هؤلاء ما مع عياله وكان نحو ثلاثين ألف دينار قال وهو مما يدل أنه كان من غلاة الكتب: وحرمنا ذهاب ما ذهب من الملل إلا ما ذهب لي من الكتب فإنها كانت أربعة ألف (آلاف) مجلد من الكتب الفاخرة فإن ذهابها حزازة في قلبي ما عشت.
وقال فهذه نكبات تزعزع الجبال تفني الأموال والله سبحانه يعود برحمته ويختم بلطفه ومغفرته وتلك وقعات كبار شهدتها مضافة إلى نكبات نكبتها سلمت فيها النفس لتوقيت الآجال وأجحفت بهلاك المال وكان لبين هذه الوقعات فترات شهدت فيها من الحروب مع(74/66)
الكفار والمسلمين مالا أحصيها سأورد من عجائب ما شاهدته ومارسته في الحروب ما يحضرني ذكره وما النسيان بمستنكر لمن طال عليه ممر الأعوام وهو وارثة ابن آدم من أبيهم عليه الصلاة والسلام.
وذكر ما وقع عَلَى أفامية مما دل عَلَى أنها غير حماة وذكر بالقرب منها وادي أبي ميمون وذكر رفنية وكان أتابك حاصرها ومما قاله في أفامية فلقينا فارسهم وراجلهم في الخراب الذي لها وهو مكان لا يتصرف فيه الخيل من الحجارة والأعمدة وأصول الحيطان والخراب.
وشهد للإفرنج الصليبيين بالشجاعة ومما قاله بالحرف: والإفرنج خذلهم الله ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى الشجاعة ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان ولا عندهم ناس إلا الفرسان فهم أصحاب الرأي وهم القضاء والحكم. وقال في وصفهم في مكان آخر: سبحان الخالق الباري إذ خبر الإنسان أمور الإفرنج سبح الله وقدسه ورأى بهائمك فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير في البهائم فضيلة القوة والحمل وقال: إن الإفرنج قوم تبلدوا وعاشروا المسلمين فهم من أصلح القريبي العهد ببلادهم ولكنهم شاذ لا يقاس عليه فمن ذلك أنني أنفذت صباحاً إلى أنطاكية في شغل وكان بها الرئيس تادرس بن الصفي وبيني وبينه صداقة وهو نافذ الحكم في أنطاكية فقال لصاحبي يوماً قد دعاني صديق لي من الإفرنج قد تجيء معي حتى ترى زيهم قال فمضيت معه فجئنا إلى دار فارس من الفرسان العتق الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج وقد أعفى من الديون والخدمة وله بأنطاكية ملك يعيش منه فاحضر مائدة حسنة وطعاماً في غاية النظافة والجودة ورآني متوقفاً عن الأكل فقال: كل طيب النفس فأنا ما آكل من طعام الإفرنج ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن ولا يدخل داري لحم خنزير فأكلت وأنا محترز وانصرفنا.
وذكر قضية له معهم وهو أنهم سرقوا خرافاً من قطعان المسلمين ووصف كيف تشاور الفرسان بأمر الملك منهم وحكموا بالغرامة عَلَى صاحب بانياس وهو منهم فأخذ منه أربعمائة دينار. ومما ذكره أن الطور كانت ولاية لمصر بعيدة كان الحافظ لدين الله رحمه الله أن أراد إبعاد بعض الأمراء ولاه الطور وهو قريب من بلاد الإفرنج. ومما رواه أن(74/67)
حصن مصياف كان لابن منقذ عم صاحب كتاب الاعتبار وكانوا يقاتلون الأتراك أو الإفرنج مما دل عَلَى أنه كزان في البلاد أتراك ولعلهم سكان مرعش وغيرها من أعمال ولاية حلب اليوم.
هذه نموذجات من الكتاب وهو يصور الصليبيين ومبلغ انحطاطهم إذ ذاك في سلم المدنية حتى أنه ذكر أن أحد رجال الصليبيين دخل الحمام في المعرة فاستعمل له ما يستعمله الرجال لتنظيف الشعر فأتى بالغد بابنته الشابة يريد الحمام أن يعمل لها ما عمل له وذكر أموراً من مثل هذه غريبة ووصف قومه وصفاً دل عَلَى أن الفروسية هي جماع فضائل المشارقة والمغاربة في القرون الوسطى ولا يمتازون الأولون عن الآخرين إلا ببعض العادات الحسنة والمدنية التي تعد شيئاً بالنسبة لتلك الأعصر.
ذيل تاريخ دمشق
لأبي يعلى حمزة بن القلانسي المعروف بذيل تاريخ دمشق طبع في بيروت سنة 1908
لعلماء المشرقيات فضل كبير عَلَى العلم والتاريخ والآداب العربية لا ينكره عليهم إلا مكابر أو جاهل ومما أحيوه بالطبع هذا الكتاب أحياء الأستاذ أميدروس الإنكليزي طبعه في بيروت في مجلد لطيف وأخذ إلى الغرب جميع نسخه ووقعت له بعض أغلاط وتحريفات لا يكاد يخلو منها كتاب نشر حديثاً ولكن الفوائد والحسنات أكثر من غيرها يستفاد منه أمور كثيرة لم نقع عليه في تاريخ قبله وهو مرتب عَلَى السنين وأهم فصوله ما كان متعلقاً منها بأمور الدولة الفاطمية في الشام ومصر والقسم الأخير من الكتاب متعلق بأخبار الحروب الصليبية وربما كان فيها تفصيل بعض الوقائع التي ألم بها صاحب الروضتين وأخبار الدولتين وصاحب الفتح القدسي إلماماً خفيفاً لأن المؤلف كان قبلهما ووصف كيف انهال الصليبيون الأول عَلَى هذه الديار من أوربا قاصدين إلى آسيا الصغرى فبلاد الشام. وتوفي ابن القلانسي سنة 555 هـ بدمشق وكان تولى رئاستها مرتين وهو من بيت وجاهة وفضل نقل عنه كثير من ثقات المؤرخين أمثال الذهبي وابن الأثير وله شعر رائق ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق ودفن في سفح قاسيون. وكتابه هذا وصل به ما قاله هلال الصائبي في تاريخه واختصر عباراته واخذ منها ما يتعلق بتاريخ الشام عامة ودمشق خاصة.(74/68)
وقد توسع المؤلف في الكلام عَلَى عادات أهل هذه البلاد وأصولهم وحكامهم وأحكامهم ودرجة عمرانهم وما أصاب البلاد من الأحداث الجوية والأرضية ولاسيما في زمنه وما نال هذه المدينة من عيث المغاربة والمصامدة وهم جيش الفاطميين كما نالها في عهد العثمانيين من مظالم اليكي جرية (الإنكشارية).
ويستفاد من هذا التاريخ أن ولاية الفاطميين عَلَى دمشق كانت إلى الشقاء وكثرت فيها المصادرات وتغيير الولاة التي تبعث بهم مصر فلا يلبثوا أن يصلوا حتى يصدر إليهم الأمر بالعودة وقد زاد الناشر بالكتاب فوائد مهمة بأن حلاه بحواشٍ نقلها عن كتب تاريخية مخطوطة مثل تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي وتاريخ الأزرقي وتاريخ سبط ابن الجوزي ومما نقله عن تاريخ سبط ابن الجوزي فو حوادث سنة 467 أن أتسز (ابن أوق مقدم الأتراك في دمشق الذي أبطل الأذان بحي عَلَى خير العمل من هذه الحاضرة) عاد إلى دمشق ولم يبق بها من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد خمسمائة ألف أفناهم الفقر والغلاء والجلاء وكان بها مائتان وأربعون خبازاً فصار بها خبازان والأسواق خالية والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادى عليها عشرة دنانير فلا يشتريها أحد والدكان الذي يساوي ألف دينار ما يشترى بدينار وكان الضعفاء يأتون للدار الجليلة ذات الأثمان الثقيلة فيضرمون بها النار فتحرق ويجعلون أخشابها فحماً يصطلون به وأكلت الكلاب والسنانير وكان الناس يقفون في الأزقة الضيقة فيأخذون المجتازين فيذبحونهم ويشوونهم ويأكلونهم ولامرأة داران قد أعطيت قديماً في كل دار ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولما ارتفعت الشدة عن الناس ظهر الفأر فاحتاجت إلى سنور فباعت أحد الدارين بأربعة عشر قيراطاً واشترت بها سنوراً اهـ.
وهذا الوصف العجيب المتعلق بتاريخ عمران هذه القاعدة لم يذكره فيما أطلعنا عليه أحد المؤرخين وقد اكتفى ابن الأثير فو حوادث سنة 468 بقوله أنه غلت في دمشق الأسعار حتى أكل الناس بعضهم بعضاً وعدمت الأقوات فبيعت الغرارة (ثمانون مداً من القمح) إذا وجدت بأكثر من عشرين ديناراً.
وإنشاء ابن القلانسي جيد وفكره خال من خرافات عصره ولا غرو فالمؤرخين ملقحة بالسداد وأفكارهم مهما انحطت عصورهم يكونون أرقى منها بمراحل خصوصا من كان(74/69)
منهم قريباً من الاختلاط بالناس وأرباب الرحلات وسبق له أن تولى أمور الناس ولم يكتف بالدرس في المدارس أمثال أبي شامة وأبي الفدا والعماد الكاتب والقاضي الفاضل وابن خلدون وابن منقذ والصابي.
تاريخ آداب العرب
لأبي السامي مصطفى صادق أفندي الرافعي طبع بمطبعة الأخبار في مصر سنة 1330 - 1912 الجزء الأول صفحة 443
مؤلف هذا الكتاب من كبار شعراء هذا العصر اشتهر بالأدب منظومه ومنثوره وقد نشر حتى الآن ديوانه في الشعر في ثلاثة أجزاء وديوان النظرات وأكثره نثر دع عنك ما أودعه بالصحف والمجلات من مقالاته وقصائده وهذا الجزء يحتوي الكلام في تاريخ اللغة العربية وتاريخ روايتها وما يداخل هذين البابين وقد بقي من التاريخ عشرة أبواب تقع في أربعة أجزاءٍ أخرى. وإذ كان للمؤلف ذوق عالٍ عال في الأدب كان إلى الإجادة في موضوعه الصعب أكثر من معظم من طرقوا هذا الباب نعم إنه لم يأت فيه بمادة جديدة ولكنه صاغ من الموجود عقداً لا بأس به وقد عرض المؤلف في من سبقوه إلى ورود حياض هذا العلم فقال أنه علم كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عَلَى عجلة الرأي ولجاجة الإقدام وقد أخصب في الأوهام حتى تفشت في واديه كل جرباء وامتزج أمره بالأحلام فلم يمس علمائه كتاب حتى أصبح قراءه أدباء عَلَى أنهم تجاذبوه انتهاباً فحاء واهياً في وثيقته وتتناكروه اهتياباً فجاء ضعيف الشبه بين ظاهره وحقيقته وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده فمضى مرخى العنان مخلى له عن طريق السبق إلى الرهام إلى آخر ما ذكره في المقدمة وكله تعريض بمن خاضوا هذا البحر عَلَى حين كانت فيهم جهابذة من أدباء أهل هذا العصر أمثال حفني بك ناصف والشيخ محمد المهدي فمدح المؤلف كتابه لا يرفع من قدر الكتاب والمؤلفون كلهم طلاب حقيقة فمن داناها منهم يشكره الناس.
وقد جعل المؤلف كتابه اثني عشر باباً تنطوي عَلَى جملة المأثور ويدو عليها التاريخ كما تدور السنة عَلَى عدة شهور وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد في تاريخ الأدب وأصل العرب. الباب الأول في تاريخ اللغة ونشأتها وتفريعها وما يتصل بذلك. الباب الثاني في(74/70)
تاريخ الرواية ومشاهير الرواة وما تقلب من ذلك عَلَى الشعر واللغة الباب الثالث في منزلة القرآن من اللغة وإعجازه وتاريخه في البلاغة النبوية ونسق الإعجاز فيها الباب الرابع في تاريخ الخطابة والأمثال جاهليةً وإسلاماً الباب الخامس في تاريخ الشعر العربي ومذاهبه والفنون المستحدثة منه وما يلحق بذلك الباب السادس في حقيقة القصائد المعلقات ودرس شعرائها الباب السابع في أطوار الأدب العربي وتقلب العصور به وتاريخ أدب الأندلس إلى سقوطها ومصرع العربية فيها الباب الثامن في تاريخ الكتابة وفنونها وأساليبها ورؤساء الكتاب وما يجري هذا المجرى الباب التاسع في حركة العقل العربي وتاريخ العلوم وأصناف الآداب جاهليةً وإسلاماً بالإيجاز التاريخي الباب العاشر في التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية الباب الحادي عشر في الصناعات اللفظية التي أُولع بها كالمتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواعها الباب الثاني عشر في الطبقات وشيء من الموازنات.
والكتاب منسق مرتب سلس العبارة لطيف المأتى علق عليه واضعه بعض الهوامش واقل فيه من العزو للمصادر التي أخذ عنها عَلَى أن معظمها من الكتب المتداولة بالطبع وكان يرجى أن يقتبس المؤلف من المخطوطات الكثيرة في مكاتب مصر ولاسيما في دار الكتب المصرية الخديوية وبعض الكتب العربية المطبوعة في الغرب. وقد وقعت للمؤلف بعض هفوات دعا إليها عدم الرجوع إلى الأصول منذ ذلك ما جاء في ص76 في الحاشية من قوله: كان أهل الشام وحوران في ذلك العهد يؤرخون من دخول بصرى عاصمة حوران في حوزة الروم. فتراءى للقارئ أن حوران ليست من الشام وما هي إلا جزء منها فكان الأولى أن يقال كان أهل حوران بل أهل الشام الخ وفي ص319: كانت بلاد قرامان - لعلها القريم - مدرسة مشهورة بمدرسة السلسلة. وبلاد قرامان في بلاد الأناضول معروفة في تاريخ العثمانيين ولها ذكر كثير فيه.
وبالإجمال فإنا نثني الثناء الأطيب عَلَى صديقنا صاحب هذا التاريخ ونرجو له التوفيق إلى إنجازه عَلَى ما يحب ويحب له عشاق الأدب.(74/71)
أخبار وأفكار
فن الأكل
دعا غلاء الحاجيات أحد الأطباء أن كتب في المجلة جاء فيها أن المرء إذا دقق في ميزانية طعامه يستطيع أن يقتصد منها اقتصاداً محموداً بدون أدنى ضرر يلحق صحته فيتمكن بذلك من النجاة من مخالب المضاربين بالأطعمة ممن يغنمون مثل هذه الفرص في الصعود فيغالون في مضاعفة أسعارهم ويقال عَلَى الجملة أن المرء يأكل أكثر مما تقتضيه حاجته الحقيقية وإن فيه مكيلاً إلى أن يكثر من الأطعمة الغالية ثم أن فقدان التربية البيتية تدعو إلى الإسراف حيث لا يحب.
وبينا نرى الوقاد يهتم قبل كل شيء بان يعرف حق المعرفة قوة آلته المحركة وما يجب من المواد لإدارتها وما تعطيه من العمل ونرى مربي الحيوانات لا يقتصر عن درس طبيعة دوابه وما ينبغي لها من العلف وينفع أكثر في تنمية الحيوانات التي يتجربها نرى الإنسان لا يهتم بتة بوظائف أعضائه وما يجب لجسمه.
ومن الأوهام الرئيسة في التغذية أن الإنسان يقوى كلما أكثر من الطعام ولذلك ترانا نحاول الإكثار ما أمكن من الأطعمة ونحمل أبناءنا عَلَى أن يقضموا ويخضموا من الطعام زيادة عَلَى رغباتهم ونشاهد الأمهات يحتلن أنواع الحيل ليجعلن من أولادهن شرهين يتناولون كميات كثيرة من الأغذية ولا يفاخرون بهم إلا إذا تناولوا كمية من الحساء بدعوى أن هذا يكبرهن.
ومن الغريب أننا إذا التقينا برجل متعب في صحته وكثيراً ما يكون الإفراط في التغذية السبب في ذلك لا نلبث أن ننصح له أن يتناول أغذية مقوية وإنا إذا يحثنا في هذه المسألة عن أمم بنور التجربة والنظر الصحيح نرى أن الإقلاق من التغذية بكمية تقرب من الحد الوسط اللازم للأعضاء نتيقن أن من يعمل ذلك لا يضعف بل عَلَى العكس يقوى.
فد جرب أحد أطباء الدانيمرك مدة شهرين الاقتصار من الطعام عَلَى ما رخص ثمنه وكثرت تغذيته فأصبح بعد ضعفه قوياً يستطيع التصعيد في النجاد وكان من قبل عاجزاً عن ذاك فكان يتناول في الصباح جريش الشعير مطبوخاً بالماء مضافاً إليه شيءٌ من اللبن والسكر والعنب وفي المساء يأكل في العادة قطعة بالخبز بالزبدة وسلطة من البطاطة أو(74/72)
البقول وكان طعام الظهر أهم الوجبات وكلها تدور عَلَى الحبوب والبقول بين سوائل وموائع وهي بكميتها أقل مما يتناوله الفرد في العادة. وحذا حذوه كثير من زبنه سائرين في ذلك عَلَى خطة اليابانيين والهنود في الإقلال من كمية طعامه فجادت صحته وقويت أعصابه وكثر نشاطه عَلَى العمل ولكنه لم يحذف اللحوم والأسمال من وجبات أكله ثم جربوها في 11 جندياً مدة ستة أشهر فثبت منافعها بالتجارب والفحص الدقيق وكان الوقت شتاء والبرد قارساً فلم يشعروا ببرد ولم تنقص قوتهم بل زادت حتى أنهم ظلوا بعد هذه المدة سائرين عَلَى هذا النحو ثم جربها الأستاذ في جماعة من المصارعين فتبين أن قوتهم زادت كثيراً مما أدهش القائمين عَلَى هذه التجارب.
وجربوا في فرنسا هذه الطريقة في رجل كان يصاب بوجع الشقيقة فلم يعتم أن شفي كل الشفاء فدام عَلَى إقلاله واقتصر عَلَى البقول والخضر وعلى القهوة والمربيات واللبن ولم يتناول شيئاً من المشروبات غير الماء الصافي وفي خلال هذه التجربة كان يرتاض بركوب الدراجة فيقطع من 60 إلى 85 كيلومتراً كل يوم بدون أن يشعر بتعب وقلت ساعات نومه وقويت نفسه عَلَى المشاق وسكنت أخلاقه من دون بلاهة. ويفهم من قائمة طعام الطبيب الدانيماركي الموما إليه أن اللحم قليل جداً في وجباته ثم أن الأستاذ شتيدن وصف الإقلال منه وأن الآخر كان حذف من طعامه اللبن والبيض واقتصر فقط عَلَى البقول.
الجزر الطافية
رأيت بارجة في صيف سنة 1892 في عرض البحر قرب نيويورك جزيرة طافية تقدر مساحتها بألف هكتار مغشاة بالأشجار عَلَى طول الواحدة منها عشرة أمتار وبعد شهرين شاهدت هذه الجزيرة باخرة أخرى قرب ترنوف فتكون قد قطعت في مدة شهرين نحو ألف ميل بحري أي 1852 كيلومتراً ولم يعد يراها أحد بعد. ومن المحتمل أن هذه الجزيرة قطعة من أرض ثابتة مفصولة من الشاطئ الشرقي من أميركا حملتها المياه إلى بعيد ثم غمرتها وتركيب هذه الجزر قد يحدث من ثقل المياه التي ترتفع فجاءت بتأثير المياه الغزيرة أو بسبب آخر. وتكون هذه الجزيرة في العادة ولكن منها ما هو معروف مثل الجزيرة القريبة من ويتنغام أحد بلاد ولاية ورمون. وتنشأ هذه الجزر بطبيعتها بدون يد(74/73)
البشر وأحياناً تكون في حر الشمال من الجليد الذي يتكسر. ومنها الصناعي ينشأ كما هو الحال في أميركا من عمارة السدود والسكور التي تحدث تغييراً غير منتظر في معدل المياه. ففي بعض البحيرات ترى جزر عَلَى سطحها ثم تغيب في أوقات معينة فإن كتلة من الحشائش قد تغمر بحيرة برمتها إلا قليلاً فإذا ارتفعت المياه تنفصل هذه الكتلة عن البحيرة ويكون منها جزيرة طافية ثم تعود المياه فتغمرها وهكذا لا ترى الجزيرة إلا إذا انحسر الماء أو يحدث سبب سابق يرفع الجزيرة فتراها العيون.
الخبز
عهدت الحكومة الإنكليزية إلى الدكتور هاميل أن يقدم تقريراً عن الخبز فأثبت أن الطرق الحديثة المستعملة في طحن الدقيق في مطاحن اسطوانية ليست أحسن من الطريقة القديمة في طحن الطحين بين حجرين ولكن هذه الطريقة القديمة لا تصلح لطحن حنطة أميركا الصلبة وأقام الحجة عَلَى من يدعي أن الخبز الأسمر أنفع للصحة من الأبيض وقال بتفضيل الأخير عَلَى الأول في التغذية ورأي أن يعطى الأطفال خبزاً أبيض وشيئاً من الخبز الذي لم يقطع وفيه شيء من السمرة الأصلية وذلك للأولاد الذين يجعلون الخبز أهم غذائهم لا لمن يتناول اللحم والبقول.
نقل الدم
كان بعض الأطباء ينقل الدم من جسم الصحيح إلى جسم العليل بواسطة أدوات لهم معروفة عندهم ولكن كان الدم المنقول لا يخلو من كدورات مضرة وقد اخترع الآن أحد الأطباء في نيويورك آلة غريبة تنقي الدم المنقول الذي يحقن به بإضافة شيء من الأوكسجين ومحلول قلوي والحديد في الماء فجرب ذلك في الضفادع والكلاب أولاً ثم جرب في المستشفيات في الآدميين فأسفر عن نتائج حسنة جداً.
دين مجهول
اكتشفوا في جبال هندوراس مجموعة أشياء من قبل التاريخ تدل عَلَى وجود عبادة غير معروفة اليوم وذلك في مكان ظنوه أولاً معدن نحاس مهجور فرأوا مغارة مقدسة تدل عَلَى وجود ديانة كانت موجودة منذ ألوف من السنين أن بها الماياس وهم شعب قديم جداً كان يعبد الخفاش وهذه الأشياء هي أجراس صغيرة تبلغ عشرة آلاف جرس ذات حجم مختلف(74/74)
وأشكال كثيرة وهذه الأجراس يشبه الصغير منها أزراراً عادية والكبير منها الأجراس أو سقاطة الباب ومن الغريب أن أصوات كل جرس يختلف بعضها عن بعض وفي المغارة صور أيضاً يظن أنها كانت من متممات العبادة وعرض مدخل المغارة نحو عشرة أمتار وعمقه 18 متراً إلى 20 والأجراس مدورة هنا وهناك ومنها ما وضع في بعض الثقوب والجحور وأكبرها لا يكون حجة عدة سنتيمترات من الديامتر ومن هذه الأجراس ما يشبه الحيوانات الغليظة ومنها ما يشبه السلاحف ذات العنق الطويل ومنها ما هو عَلَى صورة التنين الزحاف ومخلوقات غريبة ومنها ما يشبه الخفاش ذات القرون والعيون المفترسة وغيرها من الحيوان ومن هذه الأجراس ما هو معمول من المعدن المطروق ومنها من المعدن المطرق مما دل أن المغارة كانت ملجأ لرهبان كان يدينون لرب اسمه زوتياشيمكان ورد ذكره في التقاليد وكان له عَلَى أمة الماياس سلطة غريبة ولعل علماء الآثار يهتدون إلى سر هذه الموجودات لقرب عاصمة ناكو القديمة من بلاد هندوراس لأنه ورد ذكر تلك العاصمة في تاريخها.
البصل
استعمل بعض الأطباء البصل مؤخراً لمريض أصيب بضعف الكبد المشوش في الاستسقاء فأبان عن أحسن النتائج وسهل البول بحيث لا يتأتى ذلك بالأدوية المعتادة وهذا ما يدل عَلَى بعد نظر القدماء في القديم في تعويلهم تعلى البصل فقد كان أطباء المصريين والعبرانيين واليونانيين والرومانيين يحلون استعماله المحل الأرفع وكان جند قيصر يمتانه في سيره أثناء قتاله للغلو وشاع استعماله في أوربا في أواخر القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر في مداواة وجع المفاصل والرثية وأمراض الصلب أما في الطب الحديث فقد ترك استعماله بتاتاً وها هم قد عادوا إليه.
الحكم عَلَى فرنسا
طاف المستر أديسون المخترع الأميركي الشهير بلاد أوربا فسئل رأيه عن فرنسا فاصدر الحكم الآتي: إن مساكنها قبيحة لا راحة فيها ولا رفاهية وهي متأخرة عن بيوت الأميركان قروناً وفرنسا فائقة بطرقها البديعة التي تربط قراها وبلاد الأقاليم فيها بالحواضر والمدن وعلى مهندسي الممالك الأخرى أن يأتوا إلى فرنسا ليتعلموا عَلَى مهندسيها أحسن دروس(74/75)
في صناعتهم أما طبخ الفرنسيس فقد حوى الذوق وجودة الطعم وحسن الأسلوب بحيث جاء مطبخهم أفضل مطابخ الأمم الممدنة وهذا ما دعا إلى علو كعب الفرنسيس فبجودة الطعام ضمنوا لبلادهم الصحة وحسن الخلق والنجاح.
التلغراف اللاسلكي
أفاد هذا التلغراف في مواطن كثيرة وثبت غناؤه في الدول والأفراد فعزمت إنكلترا أن تمد منه خطين الأول بين مالطة وقبرص وعدن وبومباي وسنغافورة وادلايدا إلى زيلاندة الجديدة واثنان آخران يسيران عَلَى شاطئ أفريقية من الشرق ومن الغرب فتتصل الهند بأفريقية الجنوبية واستراليا بجزيرة موريس وجزيرة نيلسون ومونترال تفاوض الهند الغربية تواً فيكون لها 25 محطةً تحتاج إلى 37 مليون ونصف مليون من الفرنكات يتخابر بها الناس كل كلمة بعشرة سنتيمات وتربح منها الحكومة 15 مليون فرنك مسانهة ولا تنفق سوى 5 ملايين.
الألكحول في أفريقية
يحاول عقلاء الإنكليز أن يحظروا استعمال المشروبات الروحية في بلاد خط الاستواء وجنوبي أفريقية وذلك بوضع العقبات في سبيله لأنه ثبت أنها آذت الوطنيين بصحتهم وقرض أو كاد جنسهم وكانوا قبل دخولهم عليهم سالمين أقوياء وما كانوا من قبل يسكرون إلا بالمشروبات المخمرة المستخرجة من ماء النخل وجوز الكاكاو والذرة وهي مشروبات يقل ضررها بالنسبة لخمور أوربا ولذا أخذ زعماء الوطنيين يدعون إلى الإسلام لأنه يحظر استعمال المكيفات إذ قد وقع في نفوسهم أن عنصرهم آخذ من هذا الكحول بالانحطاط. ويقول المقترح أن هذا الخطر واقع عَلَى الحكومة الإنكليزية لأن تلك الأقاليم الاستوائية تكتفي من المنبهات بالقهوة وجوز الكولا فهي أقل ضرراً من الجين والويسكي. وإذا منعت الحكومة الإنكليزية المسكرات من تلك الأقاليم الأفريقية تخسر ثمانمائة ألف جنيه كل سنة من جنوبي نيجيريا فقط وستعتاض عن هذه الرسوم التي تنقص ميزانيتهم بضرب ضرائب عَلَى الأنفس.
الصحافة الصفراء
يسمون بهذا الاسم الحديث تلك الصحف الأميركية التي تنشر أخباراً مزعجة ملفقة تقيم(74/76)
وتقعد والحال أن هذا النوع من الصحافة قديم يرد عهدها في الحقيقة إلى يوم قام بنيت مؤسس جريدة نيويورك هرالد وأعلن أنه سيتخلون عما يسمونه بالمبادئ ويبحث خاصة فينشر رصائفه أخباراً كثيرة وحوادث اليوم مفعلاً فيما ينقل ويروي ماله دخل بحوادث البيوت وقصص العاشقين والسارقين والقاتلين وأخبارهم الشخصية فما كاد يطبق هذه الخطة عَلَى العمل حتى سلقه الناس بألسنتهم وضرب غير مرة بالسياط وما كان يجيب ذلك بغير طبعة خاصة من جريدته يقص فيها بنثره الشديد القارص ما يكثر به جمهور قراءه الجدد ثم تبعه في ذلك صاحب جريدة الورلد. وأهم ما في هذا الضرب من الصحف اليوم أحاديث بعضها موهوم وتواريخ جنايات وطلا قات وفضائح وفظائع وفي أعداد أيام الآحاد وهي أكبر حجماً وأغزر مادة ملحق مصور بالألوان وكثير من الأخبار أكثر من العادة وحوادث من شأنها أن تحدث تأثيراً شديداً وحركة اضطراب في القراء وتحبب إليهم الفضول والفزع. وقد امتازت الصحف الصفراء في سرد الجنايات فلا تكتفي أن تورد لقرائها تفصيلاً وافياً عن أعمال اللصوص عَلَى اختلاف ضروبها بل تعلمهم أيضاً الطرق الغريبة في القتل والسرقة. وهذه هي سيئات هذه الصحافة ولكن لها مزية أخرى هو أنها داعية بل أكثر داعية للارتقاء والإصلاح الاجتماعي تنصرف لخدمة المصلحة العامة مستقلة في أفكارها تحمل عَلَى الرشوة حملات هائلة تنتقد الأفكار وتكشف القناع عن أعمال رجال السياسة وفضائحهم وتقاوم الحكومة البلوتوكراتية والامتيازات فهي خادمة أمينة للديمقراطية من هذا الوجه.
ملح تونس
ثبت أن أرض تونس بطبيعتها قابلة لاستخراج الملح الصناعي الذي هو أنفع لتمليح الأسماك التي تصطاد من شمال أوربا أكثر من الأملاح التي تستخرج من صقلية وإسبانيا والبرتغال بل هو أحسن ملح في العالم لأنه خالٍ من المواد قابلة التحليل ويستخرج منه الآن خمسمائة ألف قنطار يخرج منها 200 ألف إلى إيطاليا و120 ألفاً إلى نروج و100 ألف إلى بلغاريا و20 ألفاً إلى النمسا وقليل من القناطير تصدره تونس إلى الجزائر وفرنسا ويمكن أن يستخرج من هذا الملح سنوياً ستمائة ألف طن واستخراجه متوقف عَلَى امتياز من حكومة تونس.(74/77)
الأمومة والعزوبة
لما رأت بعض الولايات المتحدة أن زيادة المواليد في أميركا الشمالية ليست مما يرضي وأن المهاجرين إليها يقل نسلها في الجيل الثاني من مقامهم فيها رأت أن تعمد إلى قوانين تسنها لإكثار النسل وهكذا قرر مجلس النواب إيلينوا أن كل امرأة تلد بعد سنتين من زواجها ولداً تقبض 500 فرنك وتقبض كلما ولدت ولداً آخر أما إذا ولدت توأمين أو ثلاثة فجائزتها تكون أكثر والحكومة تتقاضى هذه الجوائز من العزب فتأخذ من كل عزب تجاوز الخامسة والثلاثين ولم يتزوج خمسين فرنكاً في السنة ويتناقش مجلس النواب في ولاية فيسكونسين في ضرب ضريبة قدرها خمسة وعشرون فرنكاً في السنة عَلَى كل امرأة بلغت الخامسة والعشرين ولم تتزوج وربما ألفت هذه الولاية لجنة رسمية لتجد زوجاً لكل طالبة.
التعليم في بورتوريكو
بورتوريكو جزيرة في أرخبيل البحر المحيط غربي هاييتي سكانها زهاء المليون نسمة لم يكن فيها سنة 1907 خزانة كتب بتة وها قد أصبح فيها اليوم 233 خزانة كتب عامة ولما استولت الولايات المتحدة عَلَى هذه الجزيرة لم يكن فيها مدارس أما اليوم فقد بلغ عدد من يتعلمون من بنيها 121. 453 أي نحو تسع السكان وفي المدارس حدائق أطفال (الكندر جارتن) 230 طفلاً في المدارس الابتدائية التي أنشئت في 66 مدينة من مدن الجزيرة 39. 907 تلامذة وفي مدارس القرى 71. 630 وفي 158 مدرسة ليلية 8. 624 تلميذاً تلامذتها من البالغين وعدد تلامذة المدارس العالية 1078 وعدد تلامذة كلية سان جوان 300 وقد أنشئت في هذه الكلية في ريو بدراس في البرية عَلَى 11 كيلومتراً من سان جوان وفيها مدرسة للزراعة وأخرى للصناعات الحرة وغيرها للمعلمين يتعلم فيها المعلمون والمعلمات. ولا تزال الحكومة في قرى بورتوريكو تعلم باللغة الإسبانية وقد بدأت تعين من أبناء الجزيرة نفسها ولكن معظم المعلمين يأتون من الولايات المتحدة وتسعة أعشار التلامذة يتعلمون العلوم اليوم بالإنكليزية وعما قريب تقوض اللغة الإسبانية خيامها من تلك الجزيرة وتحل محلها اللغة الإنكليزية إلى أبد الآبدين.
مدارس الأمهات
أنشئوا في الغرب مدارس لتعليم الأمهات ما يستطيعون معه دفع المهالك عن أولادهم(74/78)
وتقوية أجسامهم وحفظ صحتهم إذ قد ثبت أن جهل الأمهات كثيراً ما يودي بالبنين والبنات وهذه المدارس تزداد انتشاراً في مدن أوربا.(74/79)
العدد 75 - بتاريخ: 1 - 5 - 1912(/)
تاريخ الحضارة
مملكة الإفرنج
الممالك البربرية
تأسيس الحكم الإمبراطوري - لم يشأ ملوك البربر النازلين في الإمبراطورية الرومانية أن يأتوا عَلَى المعاهد الإمبراطورية فيبيدوها بل آثروا أن يخلفوا الأباطرة ويسنوا الشرائع ويصدروا الأحكام ويجبوا الضرائب وعلى الجملة أن يحكموا كما حكم الإمبراطور. هكذا كان شأن ملوك البورغوند والويزغوت والواندال في القرن الخامس لكن ملك الأوسترغوت في إيطاليا تيودوريك قد بلغ في احتذاء ذاك الماثل أرقى درجاته في القرن السادس فكزان له في فارون قصر بني عَلَى مثال قصر الإمبراطور مع وزيره وصاحب حاشيته ووكيل خرجه وأمناء ماله وكان له ولاة ومحافظون يجبون الضرائب أما الغوت فظلوا محاربين ومنهم يتألف الجيش تحت أوامر الدوقات والكونتية منهم. وفي ظل هذا الحكم كان الإيطاليون يعيشون بسلام كما كانوا عَلَى عهد الإمبراطورية فانشئوا يصلحون المجاري والحمامات ودور التمثيل بل شادوا أيضاً مصانع جيدة مثل قصر فارون ومسلة رافن وبدأ التمثيل يعود إلى ما كان عليه وتفتح مدارس البيان لقبول الطلاب وعلى ذلك العهد نبغ بويس آخر شعراء اللاتين القدماء (470 - 524) بيد أن الغوت لم يخضعوا زمناً طويلاً لهذا النظام فبعد موت تيودوريك كانت الملكة أمالازونت تربي أبنائها عَلَى يد أساتذة رومانيين فجاء رؤساء الجند يطلبون أن يربوا والطفل مع أترابه عَلَى الصيد وحمل السلاح عَلَى نحو ما تقتضي به العادة البربرية.
حكومة الميروفنجيين - كان ملوك الإفرنج في غاليا أكثر توحشاً من تيودوريك وحاولوا مع ذلك أن يحكموا البلاد عَلَى الطريقة الرومانية فمنح إمبراطور القسطنطينية لكلوفيس لقب قنصل وبطريق فظهر في مدينة تور لابساً رداء من الأرجوان وعلى رأسه التاج واقتسم أخلافه المملكة بينهم كما يقسم الملك ولكن كان لكل منهم قصره في البقة التي كان يحكم فيها كلوفيس فيجلس عَلَى عرض من ذهب يحف به رجال الدولة بألقابهم الرومانية من قومس (كونت) إلى صاحب الخاتم إلى الحاجب وكان لبعضهم شعراء في قصورهم مثل الشاعر فنانتيوس فورتوناتوس الذي جاء من إيطاليا ونظم إكراماً لزواج برونهوت أبياتاً(75/1)
مختلة مصنعة أظهر فيها كوبيدون (إله الحب) فرحاً بالزواج والزهرة (آلهة الجمال) لتذكر أن برونهوت جميل مثلها وكان الملك شيلبريك نفسه ينظم أبياتاً باللاتينية غاية في السقم والركاكة واخترع حروفاً جديدة مثل وكان يأمر الكونتية أن يمحوا بالنشاف (الخفان) رقوق كتب التعليم في المدارس العامة ليعيدوا كتابتها بحروفه الجديدة ويعنى بعلوم الدين أيضاً ودعي أن العزة الإلهية يجب أن يطلق عليها اسم واحد وقد قال لأحد الأساقفة هكذا أريدك أن تعتقد أنت وأخوانك من علماء الكنيسة. ولما أتاه من أرسلهم إلى القسطنطينية بالأقمشة والزين وأيقونات الذهب عرض ما أتوا به في قصره وعرض في الوقت نفسه حوضاً عميقاً من الذهب الذي كان أمر بصنعه فكان يريه للناظرين بإعجاب قائلاً أن الذي استصنعته للزينة ولا رفع من لأن قدر أمة الإفرنج ولعمري كم استصنع إذا عشت من الأعلاق والتحف.
تخاذل الميرونجيين لم يستطع هؤلاء المقلدون في المدنية الحديثة أن يطول عهدهم فإن الإفرنج كالغوت بلغوا من التوحش مبلغاً ولم يقبلوا معه عَلَى النظام الملكي فكان المحاربون يحترمون ملوكهم لأنهم كانوا من العنصر الميروفنيجي ولكن خضوع مؤقت وكان المقاتلة أكثرهم عرامة يعيشون بالقرب من الملك وفي موكبه ويسميهم الملك رجاله وكثيراً ما يكون هؤلاء أكثر سلطة من الملك. وفي سنة 534 بينا كان الملك شيلدبر وكولتيبر ذاهبين لتخريب بلاد البورغوند وأراد تيري أن يبقى في مملكته جاءه رجاله يقولون لهذا لم تذهب إلى بورغونديا مع أخوانك نتخلى عنكم ونلحق بهم. يريدون تيري أن يقودهم لتخريب أوفرنيا. وبعد حين قال أحد المقاتلين لملك كونتران: نحن نعلم أين خبئت تلك الفأس الندبة بدم أخوانك فإنا نستطيع بها أن نقطع رأسك وقد أخذ كونتران الفزع فقال ذات يوم في الكنيسة أمام جمهور المؤمنين: أقسم عليكم أيها الرجال والنساء الحاضرون هنا ألا تقتلوني كما قتلت أخواني من قبل. وكان هؤلاء المقاتلين الذين لا تدريب لهم يرضون بأن يحلقون بملوكهم في الحروب. لأنهم كانوا يرجون في الحرب أن يعودوا وأيديهم ملأى بالأسرى والغنائم عَلَى أنهم كانوا لا يودون أداء الضرائب وحاول بعض الملوك أن ينفذوا القانون الروماني الذين كانوا يرونه نافعاً في جباية المال وقد عهد تيودير ملك الإفرنج في أوسترازيا إلى وزيره بارتينوس أن ينظم أمور الجباية فلما قضى نحبه انتقض الإفرنج(75/2)
وذبحوا بارتينوس في كنيسة تربف (547) وبعد ثلاثين سنة أمر شيلبريك بتنظيم قوائم بالأملاك وأن تضرب ضريبة عَلَى الأراضي والعبيد وخربت مملكة شيبلريك في السنين التالية بما أصابها من الطوفان والحريق والأوبئة وأوشك الملك أن يهلك بعد أن فقد ابنيه وكان القوم يذهبون إلى أن الله عاقب شيلبريك عَلَى الجناية التي ارتكبها بوضع الضرائب عَلَى الناس. ولما رأت الملكة فريدغوند أولادها قد مرضوا ألقت إلى النار سجلات ضرائب المدن التي كانت خاصة بها وإذ تردد زوجها أن يلقي سجلاته قالت له: وماذا يمنعك أن تحذي حذوي فاعمل عملي حتى إذا فقدنا أولادنا الأعزة نخلص عَلَى الأقل من العقوبات الأبدية (580). وفي سنة 1614 اجتمع الأساقفة ورجال الملك واكرهوا الملك كولتير أن ينشر أمراً بإلغاء الضرائب.
الحقوق الرومانية وملوك البربر - كان ملك الإفرنج في القرن السابع ملكاً عَلَى جميع جرمانيا ولم يكن سكان هذه المملكة الواسعة أمة واحدة متحدرة أجزاؤها بل كان لكل شعب لغته وعاداته ولم يكن في البلاد قانون واحد يخضع له الجميع عَلَى السواء وكان لكل إنسان قانونه الشخصي خلال زهاء ثلاثة قرون (من القرن السادس إلى التاسع) وقد احتفظ قدماء سكان الإمبراطورية بالقانون الروماني أما البربر فكان كل واحد منهم يتبع عادات شعبه القديمة. وقد كتبت هذه العادات باللغة اللاتينية في عصور مختلفة فسميت قوانين البربر فنشأ بذلك قانون الإفرنج (وهو يمنع النساء وأولادهن من كرسي الملك) وقانون ريبوير وقانون الأمان وقانون ألفريزون وقانون البافاريين وبالجملة كانت القوانين بقدر عدد الشعوب. وهذه العادات التي جعلت فيها المواد كيفما اتفق تحتوي عَلَى بعض الفصول في حقوق التملك والمواريث ولكن معظمها نظام فما يجب عمله في السرقات وحوادث القتل.
وكان البربريون يرون أن الخصومات بين أفراد ليست سوى جرائم ليس من شأن الحكومة التدخل بها فإذا وقعت جناية قتل فمن شأن القتيل أو أسرته أن ينتقموا من القاتل أو من ذوي قرباه فكل شدة تؤدي إلى انتقام اضطراري بين الأسرات تشبه الانتقام المألوف إلى اليوم في جزيرة الكورس. ولقد كانت المحكمة لإبطال هذه الفظائع تكره المجرم أن يدفع غرامة إلى آل القتيل ليكفوا عن أخذ الثأر. وفي قوانين البربر تحديد دقيق لقيمة هذه الغرامات فلكل امرئٍ قيمة بحسب حاله فإذا هلك فالقاتل يؤدي قيمته برمتها وإذا جرح يدفع(75/3)
القاتل جزءاً من قيمته عَلَى نسبة شدة الجرح وإذا ضرب رجل رجلاً في رأسه وشجه يدفع 15 سولاً من ذهب (السول خمسة فرنكات) وإذا ضربه برأسه واخرج منه ثلاث عظام يغرم بثلاثين سولاً وإذا ضربه بأم رأسه فظهر مخه يغرم بخمسة وأربعين سولاً. وإذا قطع رجله أو يده أو جدع أنفه يغرم بمئة سول وإذا بقيت اليد المقطوعة معلقة يغرم بخمسة وأربعين سولاً وإذا قطع له إبهام يده أو رجله يغرم بخمسة وثلاثين وفي الإصبع الثالثة يغرم بخمسة عشر سولاً وعن الخامسة يغرم بخمسة سولات وعن الخنصر يغرم بخمسة عشر سولاً. وكانوا يحكمون عَلَى كل فرد في المحاكم بقانون شعبه قال أسقف في ليون في القرن التاسع ليس من النادر أن يجلس خمسة أشخاص معاً ويكون لكل منهم قانونه الخاص.
مملكة شارلمان
الكارولنجيون - لم يوفق ملوك الإفرنج أن يخضعوا رعاياهم البربر إخضاع الطاعة وعلى العكس فإنهم منحوهم عَلَى التدريج جميع الملاك في الإمبراطورية ليكون مقاتلتهم عَلَى مقربة منهم فغدا المحاربون أرباب أملاك عظمى وسكنوا في أراضيهم بين عبيدهم وخلعوا ربقة الطاعة فأمسى الملك الميروفينجي شخصاً خاملاً منعزلاً. وقد نشأت في شرقي المملكة من أنحاء أردين أسرة من كبار أرباب الأملاك لها بعض احترام من قومها يؤهلها إلى خضوع مقاتلة بلادها لأمرها ودعا رئيس هذا البيت نفسه بدوق الإفرنج ولما كان هؤلاء الإفرنج في الشرق أكثر مضاء ونظاماً استباحوا كحمى إفرنج الغرب وغدى ملكهم مدير القصر لدى ملك الميروفنجيين وأصبح السيد الحقيقي في المملكة عامة وبعد نصف قرن أراد أحد الدوقات وهو ببين لبريف أن يلقب نفسه ملكاً فسئل البابا زاخري رأيه فأجاب بأن من حصلت له السلطة الملوكية يجب أن يكوم (752) وعلى ذلك نودي ببين ملكاً عَلَى الإفرنج وجاء القديس بونيفاس يمسحه هو وامرأته بالزيت المقدس فأصبحت الأسرة الكارولنجية من ثم أسرة ملوكية يحترمها الشعب وتقدسها الكنيسة.
شارلمان - كان شارلمان بن ببين اقدر ملوك البربر عَلَى الإطلاق فقد اخضع في جنده جم يع شعوب ألمانيا وتقدم إلى الشرق نحو الألب وإلى الغرب نحو الإيبر ومملكته عبارة عن فرنسا وألمانيا وإيطاليا الشمالية وقلق الباباوات في إيطاليا عَلَى ذاك العهد وحاذروا من(75/4)
اللومبادريين وملوك البيزنطيين حتى أنهم لم يكونوا في رومية من القوة بحيث يحترمهم الناس عَلَى الدوام. وكاد البابا ليون الثالث ذات يوم أن يذبح في إحدى الفتن وضرب ودبس بالأرجل واضطر إلى الفرار واستنجد الباباوات غير ما مرة بملك الإفرنج (ببين وابنه شارلمان) وكانوا يحتاجون إلى حزام قادر يحميهم فظهر من شارلمان أنه كفؤٌ ااذب عن حماهم ومنابذة من عاداهم. انتخب البابا ليون الثالث الجديد سنة 795 فبعث إلى شارلمان بمفاتيح قبر القديس بطرس المقدس وعلم مدينة رومية طالباً إليه أن يبعث بأحد ليأخذ باسمه بيعة الشعب الروماني فأجاب شارلمان إنني راغب أن أعقد معكم محالفة لا ينقض إبرامها يكون سداها الإخلاص ولحمتها الحب حتى أنال البركة الرسولية من قداستكم ويكون لكرسي الكنيسة الرومانية المقدسة من إخلاصي مدافع عَلَى الدهر. وجاء شارلمان إلى رومية سنة 800 فتوجه البابا ونادى به إمبراطوراً وعلى رواية اجنهارد صديق شارلمان أن هذا لم يتعمد هذه الحفلة بل ترك البابا يفعل ما يريد قال ولو شعر بما يراد عمله لما دخل الكنيسة ومع هذا رضي بأن يلقب بإمبراطور الرومانيين وأغسطس وما عدا أحوالاً نادرة لم يرض أن يتخذ بديلاً عن اللباس الإمبراطوري واحتفظ بلباسه الإفرنجي وهو سروال من الكتان مشدود بعصيبات وقميص من الصوف يناط به زنار ثم رداء واسع.
وهذا التتويج لم يزد في سلطة شارلمان ولم يكن حادثاً خطيراً وغاية ما في الأمر أن أصبح في الغرب بعد ذاك الحين إمبراطوراً يعترف البابا والأساقفة بأنه ملكهم وإنه حامي الكنيسة. وأصبحت هناك سلطتان رسميتان البابا والإمبراطور يحكمون الشعب ورجال الدين حكماً مشتركاً.
حكومة الكونتية - لم يحاول شارلمان العمل بقانون الإمبراطورية الرومانية بل ترك أرباب الأملاك معفون من الضرائب غذ رأى من ريع أملاكه الخاصة ما يكفي للإنفاق عَلَى قصره والجيش لا يكلفه شيئاً فليس عليه من ثم إلا أن ينشر الأمن ويقيم ميزان العدل إذا احتيج إليهم فكان الكونتية هم الذين يتولون هذه الوظائف ولكل مدينة (مثل تور انجر شارتر) كونت واحد وهو في العادة أعظم أرباب الأملاك في ذلك الصقع فكان هذا الكونت يحكم باسم ملك في مكورته وحكمه نافذ عَلَى من تحت يده فيدعو المحاربين للحملات ويطارد(75/5)
الأشقياء وكان كثيراً عددهم يومئذ ويجمع كل سنة عدة مجالس للحكم في الخلاء يحضرها أرباب الأملاك في تلك الكورة مدججين بأسلحتهم وكانت الكونتية في حاجة إلى من يراقب حركاتهم إذ كانوا من السطوة والاستقلال في بلادهم حتى أن بعضهم دعوا أنفسهم كونتية بنعمة من الله ولذا كانوا كثيراً ما يستعملون سلطانهم لاضطهاد السكان. قال الكابيتوليرلميون نريد أن لا يكره الكونتية الرجال الأحرار أن يجزوا لهم عشب مروجهم أو يحصدوا لهم حصادهم وأن لا يأخذوا بالقوة والاحتيال أملاك الفقراء.
فكان المرسلون من قبل الملك يطوفون كل سنة البلاد ليراقبوا أعمال الكونتية فيجمعون السكان في كل بلد ويسألونهم عما يشتكون منه ثم يحملون الكونت عَلَى إنصافهم مهددين إياه بغضب الملك عليه ولما سقط اعتبار الملك لم يستطع إنقاذ مرسليه غدا كل كونت ملكاً صغيراً وتألفت من كل كونتية مملكة صغيرة.
رجال الدين في الحكومة - أصبح الأساقفة ورؤساء الأديار منذ ذاك العهد من علية القوم وأرباب الأملاك الواسعة فيهم. ودخلوا عَلَى عهد شارلمان في الحكومة فكانت تعقد جلسة سنوية في قصر الملك للنظر في المسائل فيتشاور الأساقفة ورؤساء الأديان مع الكونتية ورجال الجيش وإذا كانت هذه الفئات منورة أكثر من غيرها فهي التي كانت تسن القوانين وتدونها. وكان لكل مدينة كونتها وأسقفها فجعل شارلمان كالأسقف مساوياً للكونت وأمرهما أن يحكما معاً قائلاً إننا نريد أن يعين الأساقفة الكونتية ويساعد الكونتية الأساقفة ليتمكن كل من الفريقين أن يقوم بعمله حق القيام. فكان عَلَى الأسقف أن يحرم اللصوص والعصاة وعلى الكونت أن يكوه بالقوة من كانوا يعصون الأسقف ومكافأة للسلطة التي منحها الإمبراطور لرجال الدين أصبح هو نفسه زعيم الكنيسة أو أسقف الأساقفة فكتب إلى البابا: إن من شأني أن أدافع عن كنيسة المسيح المقدسة في الخارج من سطوات الكافرين وأن أعززها في الداخل بتعريفي للإيمان الحقيقي، فالإمبراطور هو الذي يعين الأساقفة ورؤساء الأديار وهو الذي يرأس المجامع المقدسة.
ولم يكن ملوك الإفرنج من ثقوب الذهن بحيث يميزون بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية بل كانوا يمزجونهما ويجعلون زمامهما في يد واحدة. وهذا المزج في السلطة هو العلامة الفارقة في الحكومة الكارولنجية. فأنتجت نزاعاً دام عدة قرون بين الإمبراطور(75/6)
زعيم الدولة والبابا زعيم الكنيسة. ولم تدم معاونة الأساقفة للكونتية أيضاً فقد كتب شارلمان سنة 881 في مرسوم صدر عنه: إننا نريد أن نخلوا بأساقفتنا وكونتيتنا ونكلمهم خاصة ونبحث عن السبب الذي من أجله لا يحبون أن يعين بعضهم بعضاً وعندها تجري المناقشة فتقرر الخطة التي يجب عَلَى الأسقف أن يخطتها لنفسه في المسائل الدنيوية والخطة التي يسير عليها الكونت أو غيره من رجال الدنيا في المسائل الكنيسية وكان هذا هو الحد الفاصل بين سلطة رجال الدين والحكومة التي يبحث عنها شارلمان ولكن هذا الحد لم يوافق هو ولا أحد من أباطرة القرون الوسطى إلى الظفر به.
الجيش - عرف شارلمان أنه زعيم المقاتلين فقد قام بحياته بثلاث وستين حملة ولذلك قضت الحال أن يكون الشعب جيشاً ليكفي تلك الحروب التي لا تفتا ناشبة. كان جميع أرباب الأملاك من المحاربين الغزاة بحسب عادة الشعوب الجرمانية فإذا أراد الملك أن يجمل حملة يصدر أمره إليهم بالاجتماع في مكان يعينه فإذا بلغهم الأمر اليوم لا مناص لهم من الوقوف عَلَى قدم الاستعداد غداً أما الخوالف منهم فيغرمون غرامة شديدة وعلى الأساقفة ورؤساء الديار من الخاصة أن يجيبوا الدعوة كما يجيبها العامة وإليك كتاباً للدعوة للاجتماع ورد عَلَى رئيس الدير فولا: نأمركم أن تحضروا في اجتماع 20 حزيران في رجالكم المسلحين المستعدين عَلَى ما يجب فتذهبون إلى المكان المعين وانتم عَلَى الاستعداد عَلَى جانب يتيسر لكم معه أن تحاربوا في كل مكان نأمركم به ونعني بذلك أن تكونوا مسلحين تامة أدواتكم وذخائركم فيكون لكل فارس ترس ورمح ونصف سيف وسهم وجعبة مملوءة وتحمل مركباتكم أدوات مختلفة من الأجناس مثل الفؤوس والمبراة والمثاقب والمحافر والمعاول والمساحي وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها في الجيش وتحملون مئونتكم عن ثلاثة أشهر وألبسة عن سنة.
فكان يقضي عَلَى الغزاة أن يتجهزوا ويتسلحوا عَلَى نفقتهم ومن قل ماله يأتون رجالة وسلالهم ترس طويل ولكن كل من كان لهم مال يحاربون فرساناً راكبين ومدججين بشكة حديد. وهذه الشكة غير مستحدثة بل استعملها الفرسان البارتيون وكانت أجسام الفرسان الذين يقاتلون في الجيش الروماني في القرن السادس مسلحة عَلَى تلك الصورة ولما أطلقت للمحاربين حريتهم أن يتجهزوا كما يشاءون آثروا من الجهاز ما يقيهم الخطر أكثر من(75/7)
غيره وهكذا لم يبق مشاة في الجيوش في أواخر القرن التاسع لم يبق في أوربا الغربية من المقاتلة إلا الفرسان اللابسون للحديد وهؤلاء هم فرسان القرون الوسطى.
دستور الحكومة - إن المراسيم الصادرة عن شارلمان هي مجموع ما كتبته حكومته وهي عبارة عن مناشير وتقارير وكتب ولوائح بسيطة ولم يكن معظم هذه المناشير إلا ابن ساعته صدرت في غرض خاص ولكن من القوانين ما يجب تطبيقه في المملكة كلها وقد حفظ بعضها ودخل في مصطلحات الشعوب في القرون الوسطى.
الآداب والمدارس - كان شارلمان يجب الآداب حباً ساذجاً ما يحب غير المتعلمين أن يروا أحياناً السطور المكتوبة يحبها لأنها تتراءى له أنها غير منفصلة عن الدين المسيحي واليك ما كتبه سنة 787 إلى جميع أساقفة مملكته ورؤساء أدياره: أحسنوا استعمال ذكائكم بعد مشاورة المخلصين لنا فقد رأينا أن الأسقفيات والأديار في حكومتنا يجب عليها زيادة عَلَى الحياة المنظمة والقيام بالدين لمقدس أن تبذل غيرتها فيدرس الآداب وأن تعلمها إلى من يقدر عَلَى تعلمها بعناية الله فإن من يريدون أن يرضوا الخالق بان يعيشوا عيشة راضية لا يتماهلون في سبيل مرضاته بأن يتكلموا أطيب الكلام. ولما كان قد كتب إلينا في السنين الأخيرة يعرفوننا أن الإخوان الذين يعيشون فيها يضاعفون صلواتهم لنا فقد لاحظنا في معظم هذه المكتوبات التي فيها شعور الحق كلاماً غثاً لا متانة فيه ولذلك بدأنا نتخوف من أن يقل العلم في أسلوب الكتابة وأن يفقد الذكاء فيكون أقل مما يجب في تفسير الكتب المقدسة ولذا نحرضكم أن تتنافسوا في الغيرة عَلَى التعلم لتستطيعوا أن تحسنوا فهم الكتب المقدسة عَلَى أيسر وجه تحيطوا بأسرارها إحاطةً راسخة وعليه فقد أمر بأن يكون لكل كنيسة كتدرائية أو دير مدرسة فيكون في صحنها صف يقوم رجال الكنيسة عَلَى تخريج الأولاد فيه وكثيراً ما كان يحضر شارلمان بنفسه في الدروس فيتعلم الأولاد القراءة والكتابة اللاتينية وترنيم الصلوات ومن هؤلاء الأولاد كان شارلمان يختار الأساقفة ورؤساء الأديار.
ولقد كان شارلمان يحب الأدباء فجمع حوله عصابة بمجمع علمي مصغر ولقب الرجال الذين يؤلفون هذا المجمع باسم رجل عظيم من القدماء فاسم الكوين هوراس واسم أدالارد أوغسطينيون واسم أنغليبر هوميروس واسم تيودولف بينادر واسم شارلمان داود. فيقضون الوقت في تأليف أشعار لاتينية وفي القراءة والإنشاد وحل المعميات والأحاجي وإليك جملة(75/8)
مسرجة مما كتبه الكوين: ما هي الكتابة؟ _حافظة التاريخ - ما الكلام؟ _خيانة الفكر - من يولد الكلام - اللسان - ما هو اللسان؟ _المدقق الذي يضرب الهواء - ما هو الهواء؟ _حافظ الحياة - ما هي الحياة؟ _فرح السعداء وترح البائسين وتوقع الموت والأدبيات المأثورة عن هؤلاء الأدباء يرغبون فيها مع أنها صبيانية تشبه تمارين أبناء المدارس ولم يكن للبرابرة من الثقة بأنفسهم ما يجرؤون معها أن يكونوا مبتكرين هم أنفسهم بل كانوا يطمعون كل الطمع باحتذاء مثال القدماء ولذلك لم يوقفوا إلى إيجاد أدبيات ذات قيمة عَلَى أن العناية التي بذلها شارلمان ورجال الدين وأدباء عصره لم تكن عقيمة بأسرها فإنه منذ نحو قرنين لم يكن في غالية شيء يشبه الأدب وما قط دونوا كتباً بل ولا أخباراً وتكتب الكتابات بالرسمية التي لا يستغنى عنها (كالمواثيق والهبات والوصايا) باللغة اللاتينية البربرية وهي من سقم الخط بحيث يصعب حلها وبعد شارلمان أصبحت اللغة اللاتينية مضبوطة جداً والكتابة مقروءة للغاية تكاد تشبه الكتب المطبوعة.
خراب مملكة شارلمان - لم طل عمر مملكة شارلمان فإن الإفرنج لم يستطيعوا أن يقلعوا عن عاداتهم في أن يروا الممالك كالأملاك تقسم بعد موت الملك بين أولاده عَلَى السواء بيد أن نفسه وزع بلاده بين أولاده الثلاثة. فعاش لويز وحده وورث الكل ورزق لويز هذا ثلاثة أولاد أيضاً فأراد مستشاروه من رجال الكنيسة أن يرث الملك بكر أولاده فقط لتبقى مملكة واحدة وعضد الغزاة الإفرنج أصغر الأولاد سناً ذلك غلب حزب الوحدة عَلَى أمره وتعددت الممالك بتعدد أولاد كل ملك فكان تقل وتكثر عَلَى تلك النسبة. أما لقب الإمبراطور فلم تتأتى تجزئته بل كان يطلق عَلَى ملك واحد ويكون عَلَى العادة من أضعفهم سلطة مثل ملك إيطاليا وبعد سنة 924 لم يعد أحد يليق لهذا اللقب. فرأى مؤلفو ذاك العهد ولحزن آخذ منهم تلك المملكة العظمى تتفتت. وقد ألف فلوروس لشماس ليون مرثية بعقد عقد عهدة فردون قال فيها: بدلاً من ملك لنا عدة أفيال وبدلاً من ملكة لنا أجزاء من مملكة. وما من أحد إذ ذاك كان يظن أن تلك القطع تصبح أيضاً أمماً وإن ذلك لاختلاف أبرك من تلك الوحدة الرومانية.
النظام الإقطاعي
المجتمع الإقطاعي(75/9)
الطبقات الجديدة - اضمحلت في القرن العاشر القوانين الخاصة بالأمم البربرية المختلفة فقبل سكان جميع أوروبا تقريباً عادة واحدة وامتاز مذ ذلك الحين بعضهم عن الآخر لا برمتهم بل بغناهم وعملهم ولم يعد يجري ذكر للإفرنج (الإفرنك) ولا للرومان ولا للبورغونديين. بل أصبت الشهرة للفرسان والسادة والشمامسة والفلاحين قال أحد الأساقفة في القرن الحادي عشر أن بيت الله المثلث فمن أبناءه من يحارب ومنهم من يصلي وغيرهم من يعمل. وبهذا المجتمع الجديد ابتدأ نظام دام إلى أواخر القرن الخامس عشر.
الفرسان - قضي عَلَى كل رجل حر منذ عهد شارلمان أن يكون جندياً وقد جاء بعض الإسبانيين ممن طردهم المسلمون يسكنون في إقليم لانك دوك فقال لويز لادبونير وقد منحهم أراضي يستثمرونها إنهم كسائر الرجال الأحرار يذهبون إلى الجيش. وكل من لا يريد أن يخدم الجندية أو لا يستطيع أن يجهز نفسه للحرب يفقد حريته. فلم يكن غير رجال السلاح يعدون من أهل المجتمع ومنذ القرن التاسع كان الجندي يحارب راكباً حصانه عَلَى الدوام (وأصبحت كلمة ميل اللاتينية ومعناها الجندي مرادفة لكلمة فارس) فيتقلد حساماً من الفولاذ ورمحاً طويلاً من خشب الدردار ويحمل للتوقي من الضرب مجناً طويلاً من الخشب والجلد ويلبس في الوغى قميصاً مغشى بحلق الحديد وفي أواخر القرن الحادي عشر استعيض عن هذا القميص بآخر من زرد الحديد يصل إلى الركبة ويغمر حتى الذقن والرأي محفوظ بخوذة من الفولاذ والأنف بمنخرين يتنفس بهما. وهذا الجهاز ثقيل متشعب يقتضي لاستخدامه عادة طويلة وخادم خاص ليحمل المجن ويضع الخوذة والدرع وهذا الخادم يسمى حامل المجن وباللاتينية حامل الأسلحة.
في القرن الحادي عشر انتهت لحال بهؤلاء الرجال المسلحين أن يؤلفوا منهم طبقوا وراية فكان الأبناء في أسرة من الفرسان يصبحون فرساناً وبنات الفرسان لا يتزوجن إلا من فرسان ولا يحق لأحد أن يتسلح فارساً إلا إذ كان ابن فارس. وليست الفروسية صناعة بل منصب ورتبة ولم يكتف الفرسان عَلَى ذلك العهد أن يكونوا رجالاً أحراراً بل دعوا أنفسهم (الأشراف) ودخل في تلك الطبقة الممتازة الخدمة وحاملو المجان من بعد القرن السادس شر فأصبحت كلمتا فارس وبحامل المجن مرادفتين لكلمة شريف.
السادة - كل رجل عظيم في هذا المجتمع العسكري بأسره يعد رجل حرب حتى الكونتية(75/10)
والدوقات والملوك فبين الفرسان إذاً كثير من كبار أرباب الأملاك وقد نالوا من الملك أملاكاً عظيمة عَلَى سبيل الهبة أو ورثوها من آبائهم وتكون هذه الأملاك عَلَى الأقل قرية برمتها وفي الأعم الأغلب أن تكون عدة قرى. ويدعى هؤلاء المالكون العظام بحسب البلاد فمعنى البارونات الرجال ومعنى سير أو سنيور السادة أو الأغنياء ويلقب نساؤهم بدام أي سيدة. وإذا كان أولئك السادة الأغنياء فهم في حل من أن يأخذوا في خدمتهم فرساناً آخرين ويذهبوا إلى الحرب في رأس جيش صغير واصطلحوا عَلَى اتخاذ علم لهم يجتمعون تحته فيضم من شلهم ولذلك سمو العلميين
العطايا والإقطاعات - اعتاد المقاتلة البرابرة منذ عهد شارلمان أن يقسموا بالزعيم الذي يقوم بالإنفاق عليهم بالإخلاص له والاستماتة دونه فالمقاتل عندما يقسمك هذا اليمين والزعيم متى قبله يكون ارتباطهم طول الحياة فكان لزعيم يدعوا المقاتل أميني أو رجلي أو مقاطعي أو عبدي وهذا يسمي زعيمه سيدي فالمقاطع يصحب سيده إلى الحرب ويخدمه حتى عَلَى المائدة فكان خادمه ورفيقه في الحرب. والسيد يؤدي إليه لقاء خدمته ما يعوله ويعطيه أسلحة وألبسة وحصاناً وأحياناً يعطيه ملكاً.
ولقد أصبحت العادة في الإفضال عَلَى المقاطعين بأراض يستثمرونها عامة في فرنسا أواخر القرن التاسع (وربما نشأ ذلك من كون رجال الحرب نادرين في البلاد الفرنسوية) فالأرض تعط لقاء أجرة إقطاعاً أو مستعمرة ثم أصبح في حكم العادة المطلقة أن طل مقاطع يتناول إقطاعاً وأنه لا سبيل إلى أن يملك المرء إقطاعاً إن لم يكن مقاطعاً لأحد أرباب الأملاك. وإذا مات الإقطاعي يحق لابنه أن يخلفه وهكذا يتولى الفرسان أباً عن جد شؤون إقطاعاتهم فيغدون مستقلين عن سادتهم إلا قليلاً ثم أن السادة أقسموا لساداةٍ أعلى منهم بأن أملاكهم نالوها منهم عَلَى سبيل الإقطاع فيقسم الدوقات والكونتية للملك الذي كان يمنحهم الحكم إقطاعاً. ويكاد يكون جميع السادات سادة ومقاطعين في آن واحد والأراضي إلا قليلاً كانت تعتبر إقطاعات ومن هنا نشأ نظامها.
وهذا النظام الذي وضع في القرن العاشر قلما يشبه طرائد عهد شارلمان عَلَى أن الأسماء والاعتبارات بقيت بحالها فإن المقاطع يقسم أيضاً يميناً يرتبط بها مدى الحياة وهذا ما يدعونه العطية سموها لأنها تعل المقاطع رجل السيد وإليك الصورة الشائعة في هذا(75/11)
الباب: أيها السيد لقد أصبحت من رجالك صاحب الإقطاع الفلاني وأعدكم أن أرعى لكم حقكم وأدفع عنكم كيد كل من يحيا ويموت. ويعد المقاطع لسيده الإخلاص والمعاونة والمشورة ومعنى الإخلاص أن لا يضم مقاطعته ولا يقاتله ولا يعتدي عَلَى امرأته وأولاده. ومعنى المعاونة له أن يعونه سواء في المقاتلة دونه أو في إنزاله أحسن منزل وإعطاءه دراهم ومعنى المشورة أن يتقرب منه ينصحه ويعينه خصوصاً عَلَى الحكم والتصدر. انتهت هذه الواجبات بأن ضعفت وقلت حتى أن العطية لم تكن إلا اصطلاحات مألوفة ولما غلب جوفروي دانجو تيبو دي بلوا في القرن الحادي عشر اضطره لأن يتنازل له عن كونتية تورن عَلَى سبيل المقاطعة وأن يعطي لأسيره عطية.
رجال الدين - كان ينظر إلى رجال الدين (أعضاء الكهنوت) وكانوا قادرين بغناهم أيضاً. وكانوا يعتقدون بإعطاء مال أو أرضاي للكنيسة كان من أكد الأسباب لمحو السيئات وإنقاذ الروح فكان زعيم الكنيسة المقدس والرهبان خدمة القديس يكافئون المعطي بتدخله في أمرهم مع الله. وقد عثر في عطية خصصت لإحدى الكنائس المخصصة للقديس إيتن (1145) ما نصه: أعطيت إلى ايتن الشهير العظيم جزءاً من ارثي في الأرض ليكون لي من صلواته وصلوات أتباعه العفو عن خطيئاتي والنجاة الأبدي وكانت صكوك الهبات تبدأ بالعبارات الآتية: علاجاً لروحي وأرواح أجدادي وأحياناً يزيدون لدفن جسدي ولذلك يهب الواهبون أموالهم ليدفنون فيها. فكان رجال الدين يأخذون قرى برمتها وهي عطايا السادات العظام وأحيانا قطع ارض أو ملكاً وهي عطايا الفرسان والفلاحين فالدير الذي يبدأ بأن يمنح ملكاً واحداً يملك مئات من القرى بعد والأساقفة ورؤساء الأديار وهم أصحاب تلك الأملاك العظيمة يصبحون سادة عظماء ليس بعد عظمتهم عظمة.
العامة - أصبح جميع أرباب الملاك خلال حروب القرن التاسع مكرهون عَلَى الحضور إلى الجيش وكانوا إلا قليلا من حلقة الفرسان فالأرض كانت من ثم ملك الكنائس والسادات والفرسان وكلهم من أرباب كبار الأملاك لا يزرعون بأنفسهم وكانوا منقسمين إلى محلات كبرى تسمى المدن وفي العادة أن المدينة كان عبارة فيما ندعوه اليوم قرية والمحلة كانت بسعتها كالمديرية. وتكاد تكون جميع القرى الفرنسوية ريد عهدها إلى تاريخ تلك المحلة في القرون الوسطى فالفلاحون الذين سكنوا هذه المدن سموا باسمها فسموهم العامة فلم يكونوا(75/12)
مالكين للأرض بل كانوا يتوفرون عَلَى زرعها فقط فمنهم من كان من قدماء الرجال الأحرار الفقراء دخلوا في خدمة أرباب الملك كالمزارعين والمستعمرين ويسمون الأحرار والآخرون هم من نسل قدماء عبيد أرباب الأملاك ويدعون باسم العبيد الرومانيين وهؤلاء هم العبيد عَلَى أن العبد لم يكن كما كان العبد الروماني بل كان ساكناً في الأرض التي يتوفر عَلَى زراعتها وله أسرة وبيت وحقل فسيده لم يكن يستطيع أن يجليه عن قريته ببيعه إلى مكان بعيد ولا أن يأخذ امرأته وأولاده ولا أن يأخذ منه داره ولا الحقل إذا منحطا بدرجته عن العامي الحر.
حالة العامة_كان في المحلة العظمى في القرون الوسطى نوعان مون الأراضي فبعضها (القسم الأعظم) ترك ليحرثونها ويحتفظن بغلاتها والآخر (في العادة أن تكون الأملاك قريبة من دار السيد) يبقى لصاحب الملك ويقضي عَلَى الفلاحين أن يحرثوها ويزرعوها ويحصدوها له وفي أيامنا ترى الزراع عندما يكونون غير مالكين هم عملة بالمياومة أو مزارعون وزراع القرون الوسطى أو مزارعون في أرضهم وعملة بالأجرة في أراضي المالك وهم بعضهم مع البعض من الأب إلى الابن إلى صاحب الملك لا يستطيع أن يأخذ أرضه التي يشغلونها ويتوارثونها كما يتوارث الملك ولكن لقاء ذلك يتحملون عدة أعمال وحقوق إقطاعية
(1ً) يعطون المالك أجرة الأرض وضرائب ومخصصات من الحنطة والعلف الأبيض والدجاج ويسمونها العادات لأنها مقررة بحكم العادة ويميز الفلاحون العادات الجميلة أي المخصصات الموضوعة من القديم عن العادات السيئة التي يضعا السيد بالقوة خلافا للعادة.
(2ً) يجب عليهم أن يذهبوا إلى أرض السيد يزرعونها ويحصدونها ويسمدونها ويقصلونها ويجففونها ويقطعون الخشب ويأتون بالقش وهذه هي السخرة.
(3ً) عليهم أن يحملوا حنطتهم لطحنها في طاحون السيد وأن ينقلوا الخبز إلى فرن السيد ويحملون العنب إلى معصرته ويجب عليهم أن يدافعوا عن هذه الخدم المقررة عليهم لها ما يتقضي من النفقات كما يحتم عليهم في السوق أن يستخدموا قياس السيد وميزانه ويدفعوا أجترتهما.
(4ً) يتقاضون في قضاياهم إلى السيد وإذا ارتكبوا جنحة يدفعون للسيد غرامة يأخذها(75/13)
لنفسه وإذا ارتكبوا جناية يحكم السيد عليهم بالإعدام ويصادر جميع ما يملكون. والعدل أي حق جباية الغرامات هو دخل يتسرب إلى جيب السيد ويعد في جملة ما يملكه فيقول السيد: عدلي في المحلة الفلانية. فهو يبيعه ويعطيه إقطاعاً ويقسمه بين بنيه وليس من الأمور النادرة أن يملك فارس نصف أو ربع القضاء في قرية أو القضاء في بعض البيوت. وينصب السيد في أرضه رمزاً إلى حقه واللصوص الذين يصلبهم عليها دليل ناطق بحقه في هذا الشأن. وإذا تنازع سيدان في تولي أحكام العدل في قرية (كما يحدث أحياناً) يجيء رجال السيد المطالب ينزعون المصلوب ويأنون به إلى مشنقة سيدهم وإذا ربح القضية السيد الذي صلب المصلوب تعاد إليه جثة مصلوبه وإلا فيرجع إليه قميص مملوء تبناً بدله ويعيد الجثة أو صورتها.
فالعامة خاضعون كل الخضوع لسيدهم ولا يحق لهم أن يجتمعوا لفض مصالحهم وإذا فعلوا يغرمهم بغرامات باهظة فهو قاضيهم الوحيد. قال أحد مشرعي القرن الثالث عشر: إنك يا هذا إذا أخذت شيئاً من عبدك زيادة عَلَى المخصص لك في القانون تأخذه وأنت عَلَى خطر كما يأخذه اللص وليس بينك وبين عامليك من قاضٍ إلا الله. ومع هذا فحال العامة كان أقل شدة مما كان عليه حال الفلاحين العبيد في القديم ولكنهم ليسوا بعد أحراراً حقيقة فالفرسان يحتقرونهم لأنهم يشتغلون في الأرض ولأنهم عزل من السلاح وأصبحت كلمة عامي عندهم مرادفة لكلمة نذل.
الأخلاق
الحروب - جرت عادة الفرسان أن يتقاتلوا عادةً لهم أصبحت قاعدة فيحق لكل رجل يحمل السلاح أن يخوض غمار الحرب لإهانة تلحق به أو لاعتداء عَلَى محلته فيبعث الفارس إلى خصمه قفازه أو بعض شعرات من خروفه دليلٌ عَلَى إعلان الحرب. ويدخل أتباع الخصمين وذوو قرباهما في الحرب شاؤا أم أبوا ينثالون عَلَى محلات العدو ويستاقون ماشيته ويحاصرون قصره ويحاولون القبض عليه لينفدي نفسه منهم. وتصبح الحرب من ثم لعباً وتجارة فاللعب ليس فيه خطر كبير عَلَى المسلحين من الرجال بالدروع. وإليك كيف وصف أوردريك فيتال حرب بريمول (1119) بين ملك فرنسا وملك إنكلترا: سبقي 140 فارساً أسرى عند الغالب ولكني علمت أنه لم يقتقل من التسعمائة شخص الذين حاربوا(75/14)
سوى ثلاثة أشخاص فقط وذلك لأنهم كانوا مكتسين كلهم بالحديد من مفرقهم إلى قدمهم وكان خوف الله والأخوة في حمل السلاح تدعوهم إلى الاقتصاد في الطعان والتوقف في ضرب الأقران فيؤثر القرن أن يأسر صاحبه عَلَى أن يقتله. وكثيراً ما يرى الفرسان من الأوفق أن يطلبوا من الفلاحين والتجار الفدى فتنقلب الحرب إلى لصوصية. وكان في عامة البلاد سادة مثل توما دي مارل الذي كان يستوقف التجار عَلَى الطرق ويسلبهم أثقالهم ويسجنهم في قصره ويعذبهم ليكرههم عَلَى أن يفتدوا منه أنفسهم. وقد ظل حق الحرب مرعياً في جميع الولايات إلى القرن الخامس عشر فلم يرد الفرسان أن يتخلوا عنه فكانت الحرب شغلهم الشاغل طوال حياتهم. وإليك كيف قص فوك كونت دانجو سير خاله جو فروي: إن خالي صار فارساً في حياة أبيه وكانت حربه الأولى هي التي شهرها عَلَى جيرانه فقمام بقتالين أحدهما عَلَى كونت بواتو والآخر عَلَى كونت مين واسرهما كليهما وحاب أباه أيضاً ولما قضى أبوه صارت إليه كونتية آنجو فحارب كونت بلوا وأسرته في ألف من فرسانه واضطر أن يتخلى له عن تورين ثم حاب غليوم حاكم نورمنديا وحارب كونت بورج وكونت بواتو وفيكونت توار وكونت نانت وكونتية البريتونيين في رين وهوغ وكونت مين الذي خان عهده. ومن أجل هذتن الحروب وما بذله فيها من الشجاعة لقب بمارتل وحسنت خاتمته لأنه رجع عن الفروسية وعن زخارف هذه الدنيا قبل وفاته بليلة وترهب في دير القديس نقولا الذي بناه هو وأبوه تزهداً ووقفوا عليه الوقوف من الأملاك.
الأبراج والقصور - كان السادة في عهد تلك الحروب في حاجة إلى تحصين بيوتهم وكانت التحصين في القرن العاشر مشعثاً جداً وهو عبارة عن حفرة عميقة يحميها من الخارج منحدر عليه عرائس وأشجار وفي وسط ذاك السور ينشئون أكمة وبيت السيد بني في ذروتها وما هو إلا برج قوي من الخشب وبابه عالٍ جداً عن سطح الأرض ولا سبيل بالوصول إليه إلا عبر المرور عَلَى لوح من الخشب متحرك منحدر من الباب إلى آخر الخندق. ولمنع العدو من غحراق البرج يغطونه بجلود حيوانات سلخت حديثاً وهذه القلعة الغليظة هي البرج أو بيت السيد أما سائر الأماكن فتعمر في السور في سفح الأكمة (فمنها مساكن للخدم واصطبلات وأهراء) وكلها من توابع البرج.
واخذ القوم في القرن الجحادي عشر (في بلاد الجنوب أولاً) يستعيضون عن العرائش(75/15)
وبرج الخشب بحائط أو برج من الحجر عَلَى نحو ما كان للرومان حوالى مدنهم الحصينة وسموا هذه القلاع باسم لاتيني كاستل أو قصر (موقع صغير من الحصن) فقصر القرنين الثاني عشر والثالث عشر عبارة عن سور من الحجر عَلَى جوانبه أبراج وهو محاط من كل جانب بخنادق عميقة أو هوى ووهاد وبنيت عند الاستطاعة في مكان حصين عَلَى منحدر عقبة كؤود أو شقيف في أرض سهلة عَلَى أكمة صناعية فيها أنواع الدفاع فإذا جاء العدو يرى أولاً في مقدمة النخندق ما بصده عن المرمى ثم الخندق الذي يجتازه سكان القصر يصل بينهما معبر نقال معلق بسلاسل وعليه حواجز ثم يصل إلى أسفل حوائط السور التي أغلظوا سمكها ويقف المدافعون عَلَى الطريق المدور الذي يمتد في الداخل عَلَى الحائط فيقذفون السهام والحجار من الشرفات (زغاليل) ومماشي الخشب المعلقة فيحتوي عَلَى مساكن أهل القصر والمحاربين والاصطبلات والحظائر والأهراء والكنيسة وب السيد وهذا البيت هو برج جسيم (من طراز بوجانسي من القرن الحادي عشر علوه أربعون متراً وعمقه 24 وطراز كوسي من القرن الثالث عشر علوه 64 متراً وعمقه 31) وهناك القاعة العظمى التي يستقبل فيها السيد ضيوفه (للسادات العظام فقط خارج قصورهم ردهة استقبال وهي القصر) وغرفة منامه وغرفة أسرته وخزانته وسجلاته وفي ذروة ذاك المكان السطح الذي يشرف منه الديدبان عَلَى الضواحي وفي الأسفل عَلَى طبقتين من الأرض المحيس أو المطبق وهو مظلم رطب لا يخرج منه إلا بسلم. فإذا داهم العدو السور يستطيع المحاصرون الذين يعتصمون في القصر أن يدافعوا عنه رويداً رويداً وطبقة طبقة مادام الدرج الدوار ضيقاً. ويعيش السيد في قصره وباسمه يعرف بعد فيسمى بوشاردي مونمورانسي أو إنجراند دي كوسي. وللفارس كذلك بيت حصين ويطلق اسم بيته عَلَى اسم أسرته.
الفروسية - أسلحة الفرسان ثقيلة الجرم فالواجب أن يتعلم الفارس استعمالها وحملها امتياز يجب أن يرخص للمرء بحملها فالمرء لا يولد فارساًَ حتى ولو كان ملكاً فمن القواعد المطلقة ألا يكون المرء فارساً إلا بعد التخرج في ذلك والاحتفال به. فعلى الشاب اللبق التمرن عَلَى ركوب الخيل وأن يحسن الضرب بالرمح والحسام وأن يصعد السلم. ومادام يتمرن عَلَى ذلك في بيت ابيه يبعث به ابوه إلى سيد من أصحابه فيصبح الشاب بعد بضع(75/16)
سنين خادماً يحمل أسلحة معلمه فيقود كراعه ويعنى بتربيتها ويلبسه شكته ويخدمه عَلَى مائدته ويجعله في فراشه. فقد كان القدماء يرون من أعظم العار أن يخدم الإنسان إنساناً فلما أتى البربر أصبحت الخدمة منة إمارات الشرف فالسائس يخدم الفارس وهذا يخدم سيده القوامسة (والكونتية) والدوقات أيضاً يخدمون الملك عَلَى المائدة في الحفلات.
فإذا بلغ السائس أشده يقبله أحد الفرسان في جملة رجاله باحتفال وكان هذا ساذجاً أولاً والفارس يدفع إلى المبتدئ سلاح فارس وهو عبارة عن ترس ودرع ورمح. ثم يصفعه عَلَى نقرته بجمع يده فالفارس الجديد يقفز عَلَى السرج ويرمح قليلاً وأحياناً يتسايف مع مجدار (شخص من خشب) منصوب أمام القصر وبهذا يكون الفارس فارساً وبعد حوالي القرن الثالث عشر أصيف إلى هذه الحفلات حفلات دينية في الكنيسة فيقام قداس وصلوات ووعظ يوجه إلى الفارس أما العادات الفخمة في قبول الفارس عَلَى ما يصفونها في الأقاصيص الحديثة فلم توضع إلا في القرن الخامس عشر. ولكل سائس الحق أن يصبح فارساً ولكن الواجب أن يكون غنياً ليتجهز بالسلاح والعدة ويعول سائساً وخدماً ولذلك يبقى معظم الشرفاء مواساً طوال حياتهم.
أخلاق الفرسان - لا يمتاز شرفاء القرون الوسطى عن الفلاحين بتعلمهم ولا بتهذيبهم فمعظمهم لم يكونوا يعرفون القراءة وما شانهم إلا الشرب والطعام والصيد والحرب وكانوا في العادة متوحشين قساة وأحياناً حفاةً غلاظاً فقد قتل ريشاردس قلب الأسد مثال الفروسية 2500 أسير من العرب وقد فقأ عيون خمسة عشر فارساً أسروا في حرب أثارها عَلَى فيليب أغسطس وأعادهم إلى ملك فرنسا تاركاً لهم دليلاً منهم أبقى له عيناً واحدة يبصر بها فأجاب فيبليب أغسطس عَلَى عمله بأن فقأ معيون خمسة عشر فارساً من فرسان ريشاردس وأعادهم إليه تحت قيادة امرأة حتى لا يظن أحد كما قال مادحه بأنه دون ريشاردس قوة وشجاعة ولا أن يذهب إلى أنه يخافه. وفي سنة 1119 فقأ أوستاش دي بروتل أحد كبار السادة النورمانديين وصهر ملك إنكلترا عيني أحد الأشراف الذين كانوا عنده رهينة فاحتال والد المقلوعة عينه أن اخذ بنات أوستاش بواسطة جدهم وفقأ عيونهن وجدع أنوفهن. وهذا الإغراق في الشدة والقسوة البربرية لم يزل مالوفاص إلى القرن الرابع عشر والقرن الخوامس عشر. وقد أصبح الفرسان بحياة التشرد عَلَى هذا النحو قساة القلوب غلاظ الطبع(75/17)
ولكن منحتهم بعض الفضائل التي تتطلبها الحروب وجعلتهم شجعاناً مفاخرين. والفارس التام الأدوات الذي يتغنى الشعراء بمديحه ويحاول كل إنسان تقليده هو الشجاع أو صاحب الأمانة والتدبر. وكانوا إذا سلحوا فارساً يقولون له: كن شجاعاً. والشجاع عندهم هو المقدام المفاخر الصادق الذي لا يتلكأ بتة ولا يرجع عن قوله ولا يحتمل أبداً إهانة. فالشجاعة والصدق كانت ودامت الصفات الرئيسية في الشرف. والشجاعة معتبرة لا من حيث الخدم التي تؤديها بل لأنهم كانوا يرونها جميلة في ذاتها والفارس قد يقتل نفسه حتى عَلَى غير جدوى لئلا يخالج أحداً شك بأنه أوجس خيفة. والموت خير من أن يدعى الرجل نذلاً كما جاء في قصيدة قديمة. وعلى الفارس أن يكون صادقاً براً بوعده وقوله ويفتضح خاصة إذا خان يمين الإخلاص الذي يقسمه لسيده ويكون كاذباً في إيمانه خائناً في فروسيته ومن العادة في برشلونة أن من لطم سيده بيده أو طعنه بلسانه أو استباح قصره واستصفاه هو من أعظم من ارتكبوا أعظم الخيانات. يفهم ذلك من روح عدة قصائد نظمت في القرون الوسطى. فقد اضطر روندي منتوبان أن يعلن الحرب عَلَى سيده شارلمان فحاذر أن يؤذيه أقل إيذاء ولما أسر وقع عَلَى رجليه طالباً الصفح عنه. ولقد نال برنيه تابع روال دي كامبري ما جلب عليه العار من سيده فسأله سائر الفرسان كيف يستطيع أن يظل عَلَى خدمته فأجاب: إن راولا هو سيدي هو أكثر خيانة من جودا ولكنه سيدي فقالوا لهم أجمعون إنك محق يا برنيه.
الشرف - يفاخر الفارس أنه شريف وجندي ويعرف لنفسه فضائلها فلا يشك فيه أحد بل ولا يلاحظ ذلك. وليس عَلَى أحد أن يضربه أو يهينه أو يعاكسه لأن ذلك مما يؤدي إلى أنه متهم بأمانته وهو أيضاً لا يتحمل ضربة ولا إهانة ولا تكذيباً ويثلم شرفه في إظار الفرسان وفي نظر نفسه إذا لم ينتقم لذاته ممن رماه بالعار والشنار. وهذا الشعور هو الشرف وهو نتيجة كبرياء أو إعجاب شديدين فهو ينزل نفسه منزلة رفيعة ويشعر بالحاجة بأنه يريد أن يشركه غيره بهذا الفكر. ولم يكن لليونان وللرومان لفظ للتعبير عن هذه الصفة بل إنها أنشأت في القرون الوسطى وستظل إلى أيامنا دليل عَلَى الشرف الحقيقي. فنقطة الشرف والرغبة في بقاء الشرف سالماً يصبح قاعدة سلوك الأشراف ومنقذاً لمكانتهم.
حكومة الإقطاعات(75/18)
استقلال أرباب الأملاك - ضعفت سلطة الملك منذ القرن التاسع فضعفت طاعة رعيته فاعتاد السادات من العامة والخاصة أن يكونوا مستقلين في بيوتهم فكل صاحب ملك (فارساً كان أو رئيس دير) هو كالمليك الصغير في أملاكه فحراثوه وخدمته هم رعاياه وله الحق أن يقودهم ويغرمهم ويحبسهم ويشنقهم وله مشنقة خاصة وله مناد يبلغ أوامره إلى السكان ويحارب جيرانه وكثيراً ما يصك نقوداً. قال أحد فقهاء القرن الثالث عشر أن كل بارون هو مليك في أرضه. وكل محلة هي مملكة صغيرة بحيث أن رجال ذاك الحي يدعون أهل القرية المجاورة غرباء عنهم وكان في البلاد عدة ألوف من هؤلاء الأفيال وكثير هم فرسان فقط لا يملكون إلا قرية واحدة أما غيرهم من الأغنياء فيلقبون بألفاظ سير وبارون ثم أن في كل ولاية رجل يلقب بلقب كونت أو الدوق ويكون أعظم أرباب الأملاك في الولاية ولم يكن أجداده عَلَى عهد شارلمان سوى حكام في خدمة الملك بيد أن الملك في القرن العاشر لم يكن له قوة ليستعيد منهم السلطة لأنهم أصبحوا كونتية ودوقات أباً عن جد وأصبحت دوقياتهم وكونتياتهم إقطاعاً أي ملكاً وزهي كسائر الأملاك يمكن بيعها وو قفها وتنسيقها أيضاً (كما وقع لدوقية غاسكونيا) أو أن تنضم إلى غيرها (كما وقع لكونتيتي بولوز وشامبانيا) وإذا لم يعقب صاحبها ولداً ذكر تنقل أملاكه إلى ابنته ويكون لها منها بائنة (دوطة) تعطيها زوجها (ويقول عندها أن الملك صار لامرأة) وغذ ذاك يكون لكل مالك في ملكه سلطة ملك وكل ملك يجعل مملكته كملك. وقد بانت بهم الحال أن يمزجوا بين التملك والملك ولذلك كانت جميع سياسة الملوك في القرون الوسطى سياسة بيوت وأسرات وكل ملك كالفلاح لعهدنا يحاول أن يوسع ملكه وأن يعول عياله.
الملك - كان الملك أعلى سادات فرنسا كعباً وارقاهم منزلة وله لقب سامٍ ويخضع له الجميع ولكنه لم يكن أقدرهم بل كان لدوق نورمانديا وكونت تولوز املاك أوسع من أملاكه ولم يكن يمين الإخلاص الذي يرتبط به أولئك السادة العظام مع الملك إلا عبارة عن حفلة أدبية يمنعهم من أن يعلنوا الحرب عليه حتى أنهم كانوا إذا لم يريدون نقض العهد علناً قلما يتضايقون منه. وقد وضع بروبرت كونت فلاندر سنة 1101 وفي عهدة عقدها مع ملك إنكلترا الشرط الآتي: إذا هاجم لويس ملك فرنسا الملك هنري ملك نورمانديا يذهب روبرت بعشرة من الفرسان فقط إلى جيش لويس ويبقى الخمسمائة فارس الآخرون في خدمة الملك(75/19)
هنري وإذا زحف الملك لويس عَلَى إنكلترا وأخذ معه الكونت يتحتم عَلَى الكونت أن يأخذ معه أقل ما يمكن من الرجال. ولقد بلغ العجب مبلغه في بلاط لويس السابع عندما جاءه اسقف ماند إلى باريز يعترف بسلطة ملك فرنسا وقيل أن هذا البلد لم يخضع قط إلا لأسقفه ولم يكن الملك كسائر السادة مطاعاً إلا في محلته واقتضى له إذا أراد أن يطاع في مملكة فرنسا أن يوسع أملاكه عَلَى مر القرون ويدخلون ولاياتها في ملكه الواحدة بعد الأخرى.
العادة - لم يمكن لأهل القرون الوسطى قوانين محررة بل كانوا يعملون في كل مسألة بما سلف لأجدادهم منها ويسمون ذلك اتباع العادة ولم تكن العادة مكتوبة بل تحفظ تقليداً حتى في القرن الثالث عشر أيضاً إذا حدث حادث مشتبه به يجتمع أقدام السكان ويسألون عما رأوه يعمل في مثل هذا الشأن وهكذا كان لكل قرية عاداتها حدثت مع الزمن ولم تكن تشبع عادة القرية المجاورة قال بومناروا لا يوجد في هذه المملكة سيدان حاكمان يعملان بعادة واحدة ومع هذا فإن الصقع الواحد الذي تتشابه عاداته بعض الشيء يتألف منها عادة واحدة. والفرق الكبير كان بين بلاد الشمال حيث العادة كانت منبعثة من العادات الجرمانية وبين بلاد الجنوب التي احتفظت بعادات الحقوق الرومانية. وبعد فقد كان أهل القرون الوسطى يحبون العادة ويحترمونها لأنها كانت القاعدة الوحيدة التي يهرع إليها والسد الوحيد في وجه الظلم وعندهم أن العادة يجب بقاؤها ومن لا يحفظها يوشك أن يفتح سبيل الخصام الكثير بين الناس.
السلم والعدل - كان أرباب الأملاك في القرون الوسطى يوطدون دعائم السلام بين عبيد محلتهم ويحكمون بينهم (أحكاماً تختلف جوراً وعدلاً) ولكن لم يوطد أحد دعائم السلام بين أرباب الأملاك وكل منهم يحكم لنفسه بنفسه وذلك بإشهار الحرب عَلَى جاره ويقتضي لتقرير السلام أن يعدل الفرسان عن عاداتهم في التقاضي إلى السلاح وأن يقبلوا بعض قضاياهم في محكمة أن يستعاض عن الحروب بقضايا ولذا كان لفظ وسلم من الألفاظ المترادفة في القرون الوسطى ولقد كان للملك في بعض البلاد (مثل نومانديا وإنكلترا ونابل وإسبانيا) من الاقتدار ما يستطيع معه أن يكره الفرسان أن يحفظوا السلم للملك أو للدوق وحاول الأساقفة في البلاد الأخرى أن يقنعوا الفرسان بتوطيد سلام الله ولكنهم لم يفلحوا أن يؤسسوا محكمة منتظمة.(75/20)
فإذا اختصم اثنان من أرباب الأملاك قد يقرر جيرانهما أن يفضوا الخلاف بينهما بواسطة محكمين أو أن يكون سيدهما من السلطة بحيث يكرههما عَلَى المثول أمامه وفي تلك الحال ينظر في الخلاف ضباط قصره وبعض الفرسان المجاورين وهذا ما يسمى محكمة السيد ولكن هذا الفصل متقطع وغير ونافذ أحياناً لأن من يخسر في الحكم لا يسعه إلا أن يعمد إلى القتال. فقد كاتن هوغ في القرن الحدي عشر أحد التابعين لأسقفية كامبري يستوقف تجار المدن ويقطع لحاهم ويطلب الفداء منهم ويخرب قرى الأسقف. فطلب سيده هذا ثلاث مرات متتابعة ثم مثل بين يديه ولكن أبى أن يعطي أقل تعويض فحكم فرسان محكمة الأسقف عليه بأنه يؤخذ من لإقطاعه فلم يهتم هوغ بالأمر وعاد إلى منزله وبعد مدة أوقف الأسقف بالذات.
المبارزة - كانت قضية من القضايبا التي ينظر فيها الفرسان في محاكمهم أشبه بحرب فمتى اجتمع الخصمان يتضارب أحدهما وصاحبه ومن فاوز ربح القضية وكان ي1ذهب القوم إذ ذاك إلى أن الله كتب له الغلبة لأنه محق في أمره وهذا ما يسمونه بالقتال أو المبارزة. فالقضاة الذين تتألف منهم المملكة يعمدون إلى أن يحلفوا الخصمين بأنهما يزعمان بأن مع كل منهما الحق وأن يخطتوا الأرض التي تقع فيها المبارزة وأن يراقبوهما فالمحكمة تأمر بالمبارزة لا عند حدوث جناية أو إهانة بل للبت في أمر محلة لمن تكون وفي أي قاعدة في العدل يجب إتباعها. وقد تبارز خصمان في القرن الثالث عشر بأمر الفونس ملك قشتالة للحكم فيما إذا كان يدخل القانون الروماني إلى مملكته. وكان الفرسان يعتبرون المبارزة أسهل ذريعة وأشرفها للبت في قضية فلم يكن إذ ذاك مناقشة تجري ولا حجة تدل بها فلا جواب يجاب به الخصم إلا القتال.
ولم تؤلف المبارزة فقط في محاكم الفرسان بل في محاكم المدن بين أهل الطبقة الوسطى وأحياناً بين الفلاحين في البرية فيتسلح المتقاتلون بالترس والعصى وإذا كان أحد الخصمين ليس من القوة بحيث يستطيع البراز يعهد إليها إلى آخر ينوب عنه فكان القتال يجري في باريز حتى في محكمة الأسقف ولقد وقع شك في هذه العادة فسئل البابا أوجين الثالث رأيه فأجاب عليكم باستعمال عاداتكم.
ولقد تأصلت عادة البراز تأصلاً تعذر معه استئصالها ولما الغي البراز في المحاكم ظل(75/21)
ينظر إليه أنه الواسطة الوحيدة في قضايا استرداد الشرف المثلوم فهو كالمروءة بقية ما أبقته القرون الوسطى من عاداتها ولم يبق إلا بفضل الإباء والمروءة.
حكم الله - لا يستطيع النساء أن يتبارزن وكثيراً ما يمنع منه الفلاحون وفي تلك الحال يعمد القوم إلى استخدام ضرب آخر من ضروب أحكام الله. فبعد قداس أو صلوات تقام علنية للتوسل إلى الله أن يظهر الحق كان يقتضي عَلَى الرجل أو المرأة بان يحمل حديد محماة بضع خطوات وأن يغمس يده في إجانة ماء مغلي فإذا بخت يده بعد بضعة أيام من الجرح فحكم الله يكون له. وأحياناً كانوا يلقون به في مستنقع الماء فإذا غرق فقد ربح وإذا عام فقد خسر وبيناهم عَلَى أن يلقوه في الماء يستحلف الكاهن الماء بهذا الكلام: يا ماء أناشدك الله القادر الذي خلقك وأمرك بأن تقوم بحاجات الإنسان بأن تقبل هذا الرجل إذا كان مجرماً بل اجعليه يطوف عَلَى وجهك. وأحياناً يكتفون بأن يبلع المشتكى عليه قطعة من الخبز والجبن بعد أن يكونوا استحلفوهما بأن تبقى في حلق المشتكى عليه إذا كان كاذباً. وهذه المحن يسمونها الحكم. وقد كتبت الكنيسة كتاباً في الطقوس لكل واحد منها ولما اجتمع المجمع العام في لاتران سنة 1215 أمر بإلغاء تلك الكتب.
الكنيسة في القرون الوسطى
تنظيم الكنيسة
الأسقفيات - احتفظت عامة المدن في المملكة الرومانية القديمة بأسقفياتها وأبرشياتها. وكلما كانت البلاد في ألمانيا تين بالنصرانية كان الملوك ينشئون كراسي أساقفة. فكما أن الكنيسة كانت تحظر أن تقيم أسقفاً في غير المدينة كان القوم يؤسسون في آن واحد مدينة وأبرشية. وكانت الأبرشيات بأجمعها قديمها وحديثها غنية جداً فلها أملاك واسعة وقد تملك أحياناً ولاية بأسرها وقد منح الملوك للأساقفة براءات يحكمون بموجبها بلادهم بأنفسهم. وجاء في صك الإعفاء أنه ليش لموظف عام أن يدخل إلى ارض هذه الكنيسة لا لجباية خراج ولا للحكم ولا للقبض عَلَى العبيد والأحرار الذين يسكنون فيها. وبذلك أصبح الأسقف ملكاً حقيقياً فكان أساقفة كولونيا وماينس وتريف ثلاثتهم أكبر الأمراء في ألمانيا.
مجامع الرهبان - خضع قسيسو الكاتدرائية (يسمون الكاتدرائية كل كنيسة في حاضرة أبرشية) أولاً للسقف وأخذوا منذ القرن التاسع يعيشون عيشة مشتركة بحسب القاعدة التي(75/22)
جرى عليها الرهبان ومن هنا اشتق الاسم الذي أطلق عليهم وهو كاهن قانون أي الخاضع للقاعدة ومجامعهم هي مجامع الكهنة أو الرهبان. وكان الكهنة القانونيون يعيشون بادئ ذي بدء مما خصص لهم من الطعام واللباس ولما وهب القوم للمجامع عطايا أصبحت تلك المخصصات ملكاً وكثيراً ما يكون متسعاً. فكان كل راهب قانوني يتمتع بدخل مخصص يتيسر له به أن يعيش عيشة سيد ومعنى عاش فلان عيشة الكاهن القانوني أنه عاش في سهة وبلهنية وإذ استقلت المجامع عن الأساقفة أصبح القائمون عليها أيضاً أقيالاً وملوكاً.
الأديار - ما من أبرشية في القرون الوسطى إلا وكان فيها عدة أديار للرهبان وكلهم محافظون عَلَى السنة التي سنها القديس بنوا ولكن كانت كل أخوية تؤلف ديراً مستقلاً يرأسه رئيس. والدير عبارة عن مساكن للرهبان وبيت للرئيس وكنيسة ودار ضيافة (ينزلون فيها الغرباء) ومعامل ومخازن وبيوت الخدم والمزارعين فكان الدير عَلَى الأقل كناية عن قرية كبرى وأحيانا مدينة صغيرة (مثل لاربول وسان مسكان وفيزيلاي) وللدير أملاك واسعة منتشرة وأحياناً في عدة ولايات فيبعث رئيسه إلى الأملاك القاصية بضعة رهبان للسكنى تحت إدارة رئيس عليهم وهذه الأديار الصغيرة التابعة للكبيرة تسمى الطاعة. وتجري أحكام رئيس الدير بمعونة الرهبان المجتمعين في مجمعه ويكون تحت يده في الديار الكبيرة رهبان لكل منهم وظيفة مدير الدير ونائبه وقيم الثياب وقيم الطعام وقيم الخزانة وقيم الكتب ورئيس المنشدين ومدير المدرسة فيعيش الرهبان بعضهم مع الآخر وعليهم أن يلتزموا السكوت إلا في بعض الساعات ويجتمعون قبل طلوع الفجر ليترنموا بصلاة السحر عند الإشراق ثم يقومون بالفرض الأول ثم يجيء وقت القداس والصلوات كأحد أجزاء الفرض الكهنوتي وصلاة النوم. وإذا كانت سنة القديس بنوا يقضي بأن يعمل كل راهب كانوا يعنون بحرث الأرض أو ملاحظة خدمتهم أو صنع أمتعة لزينة الكنيسة أو نسخ المخطوطات. وقد وصف كثير من الرهبان عيشتهم في أديارهم ولكن الصورة تختلف باختلاف غنى الدير وفقره وجدته وقدمه وحسن إدارته وسوءها.
الخورنيات - لم تكن كنائس ولا قسيسون في غير المدن أيام الرومان ولما غدت البلاد مسيحية كلها اخذ كبار أرباب الأملاك والسادة ورؤساء الديار والأساقفة ينشئون بيعاً ومعابد في محلاتهم فيعطي المؤسس لكنيسة قطعة ارض كافية تقوم بنفقات الكنيسة وطعام راهب(75/23)
ويصدق الأسقف عَلَى هذا التأسيس وعندئذ يخدم ككاهن تلك الكنيسة (يكون لمؤسسها وأعقابه الحق في تعيينه) أرواح أهل القرية ويجب عَلَى السكان أن يأتوا إلى كنيسته ويطيعوه والأرض التي يدير شؤونها راهب تتألف منها خورنية أو إدارة ولما تم هذا العمل (وكان ذلك نحو القرن العاشر في فرنسا) انقسمت جميع البلاد المسيحية إلى خورنيات كما هي إلى اليوم وأصبح لكل قرية كنيسة أو تبعت كنيسة القرية المجاورة لها. ودخل الدين إلى المزارع الشاسعة واستطاع الفلاحون أن يتعبدوا بدون أطن يأتوا المدن وغدوا يقيمون صلواتهم في كنائس قراهم حيث يجتمعون وصارت أبراج أجراسهم وقبابها ترى من بعيد وتدعو الأجراس المؤمنين إلى الصلاة وهم أجران معمودية لتعميد أولادهم وقبور ليدفنوا فيها موتاهم وبين أظهرهم كاهنهم يعلمهم الدين ولهم قديسهم أو حامي كنيستهم وعيده عيد للقرية وكثيراً ما كانت تسمى القرية باسمه.
الحرم - كان رجال الدين في العصور الوسطى أغنى من العامة وأكثر تهذيباً وتعليماً منهم ولهم مع هذه قوة لا تغالب وهو أنهم كانوا ينالون القربان الذي لا يستغني أحد عن تناوله ولم يكن عَلَى ذاك العهد ملاحدة وإذا حدث أحيانا لأحد العامة أن نشز عَلَى الكنيسة أو أنه أساء إلى راهب في حالة غضب فإنهم كلهم يعتقدون اعتقادا راسخاً في اليوم الآخر ويثوبون وينيبون لينالوا الغفران وكان رجال الدين يستعملون الأسلحة الروحية كما كانوا يسمونها في تأديب الجناة والعصاة فكان المجرم محروماً أي مطروداً من تناول القربان مع جمهور المؤمنين فكان الأسقف يقول إننا بموجب السلطة الإلهية التي منحها القديس بطرس إلى الأساقفة ننبذ فلاناً من حجر أمه الكنيسة المقدسة فيلعن في المدينة وفي الحقول وفي بيته وعلى كل مسيحي أن لا يكلمه ولا يواكله وعلى أي راهب أن لا يقيم له القداس ولا يناول القربان وأن يدفن كما يدفن الحمار كما أن هذه المشاعل التي ألقينا بها من أيدينا ستنطفئ وأن ضوء حياته سيخمد إن لم يتب ويقدم ترضية.
وقد بدء في القرن الحادي عشر باستعمال المتع الكنائسي ضد السادة الذين كانوا يزدرون الحرم فكان رجل الدين يحرم من تناول القربان السيد ومحلته فلا يعقد عقد زواج في كل أرضه ولا يدفن ميت ولا يقرع جرس وينال السكان ما ينال سيدهم ولذلك يقضى عليهم أن يصوموا ويرسلوا شعورهم علامة عَلَى الحداد. وعلى هذه الصورة كلن رجال الدين(75/24)
يكرهون السادة عَلَى أن يحترموا القوانين الدينية ويحظرون عليهم الاستيلاء عَلَى أرزاق الكنيسة.
إصلاح الكنيسة
اختلاط السلطات - كانت الميزة ضعيفة جداً في القرن الحادي عشر بين السلطة الروحية عَلَى الأرواح والسلطة الزمنية عَلَى الأجساد فلم يكن الأساقفة ورؤساء الأديار رؤساء دينيين فقط بل كانت لهم حصة كبرى من السلطة السياسية فكانوا لما يملكون من الأملاك يعدون في السادة العظماء أي حكاما عَلَى فلاحيهم وأتباعهم من الفرسان ثم أن الملوك والأمراء وكلهم من رجال السيف كانوا في حاجة إلى رجال الكنيسة في شؤون الحكومة المرتبكة فالأساقفة هم الذين كانوا يتولون عنهم ذلك فيجلسون في قصورهم يكتبون أوامرهم ويملون أحكامهم ويحكمون. وبم يقف الأمر عند هذا الحد بل قد منح الأساقفة منذ عهد شارلمان نصيباً في إدارة الولايات وكان لكثير من الأساقفة في ألمانيا سلطة كسلطة الكونت. وهم مع حصولهم عَلَى سلطة سيد من العامة يخضعون لما يقضي به السيد. هم تابعون للملك كالكونتية فيتحتم عليهم أن يقدموا للملك كالكونتية منائح ويخدموا في الجيش وكان جيش الملك في ألمانيا مؤلفاً من فرسان أتي بهم أساقفة ورؤساء أديار ولكن الملك كان يضطرهم أحياناً أن يجيبوا الدعوة إلى حمل السلاح بأنفسهم. فقد كتب فيليب الأول إلى دير سان ميدار أي سواسون أن القاعدة القديمة تقضي عَلَى فرسان الدير أن يحضروا بقيادة رئيس الدير للاشتراك بالحملات الملوكية وأن عَلَى رئيس الدير أن يخضع لهذه العادة أو يستقيل. فاستقال رئيس الدير وجاء خلفه إلى الجيش.
الفكر السائد إذ ذاك - كان الأساقفة ورؤساء الأديار في القرن العاشر من أبناء السادات في العادة والكهنة والقسيسون من أبناء الفلاحين وخلوا في الرهبنة بدون ميل منهم بل لمجرد طاعة أهلهم أو للاستمتاع بنعم الكنيسة. فكانوا يأتون إلى كنائسهم بأخلاق العامة فيقضون أوقاتهم في الصيد والشرب واللعب والتقاتل ورؤساء الأديار يبددون أموال الدير ليعولوا عصابة من المتشردين وكثير منهم يتزوجون ويقفون كنيستهم عَلَى أولادهم. وقد شوهد في نورمانديا كهنة يتنازلون عن دورهم بائنة لبناتهم وكثير منهم كانوا أميين يحرفون كلام القداس بجهلهم وابتاع معظمهم مناصبهم من أناس من العامة وكانوا يبيعونها إلى غيرهم من(75/25)
رجال الكنيسة. وتسمى هذه التجارة بيع المقدسات الروحية (سيمونية) وأصبح الإكليريكيون الخاصة جفاة غلاظاً جهلاء طماعين كالعامة وكان بقال أن الكنيسة قد سرى إليها الفكر السائد في ذاك القرن.
رهبنات جديدة - أوجس رجال الكنيسة المخلصون لآدابها خيفة من هذه الفضائح فحملوا أرباب الغيرة منهم عَلَى تأسيس رهبانيات جديدة فجاء بعضهم في هذا العالم الفاسد وهربوا إلى البادية مثل القديس برونو الذي جاء منة شمالي فرنسا وتوغل في جبال دوفينيه المتوحشة في بضعة من رفاقه وأسس رهبنة القلايين (شارتر أو الكرتوسيين) وأسس أحد عظماء الطليان القديس رومولاد في جبال طوسكونيا رهبنة الكامالدويين. وأراد آخرون استئصال هذه الفضائح مباشرة بعد بإدخال رجال الدين تحت قاعدة فبدءوا يشددون في نظام أحد الأديار ليكون نموذجاً في إصلاح غيره. وأهم مراكز الإصلاح كان دير كلوني أقدم الأديار وقد جرى إصلاحه في القرن الحادي عشر ودير سيتو الذي أسس سنة 1094 وكلاهما في إقليم بورغونيا ودير كليرفو المؤسس سنة 1115 وبرمونتره المؤسس سنة 1120.
ولم يقصدوا من ذلك أن يستعيضوا عن القاعدة القديمة التي وضعها القديس بنوا بل عَلَى العكس أن يضعوها موضع العمل بإنفاذ نظام العمل عَلَى الرهبان والطاعة والفاقة مما بطل في الأديار بما تسرب إليها من أفكار ذاك القرن. فمنع مؤسس دير كليرفو القديس برنارد رهبانه من لبس الفراء والدثر والقبعات وقضى بحظر جميع أنواع الزينة حتى في الكنائس ولم يسمع بغير صليب من الخشب المنقوش وشمعدان كبير مشعب من الحديد ومباخر من النحاس. وبقي الرهبان كلهم بعد الاصلاح من البندكتيين وتقرر لتوقيف الخلل الذي دخل عَلَى أيسر وجه إلى دير مستقل أن ترجع للدير المصلح إدارة الأديار المؤسسة أو المصلحة عَلَى يده. وهكذا أصبحت أديار كلوني وسيتو وبرمونتره زعيمة رهبنة ولم تعد أديار رهبنتها أدياراً كبرى بل بيعاً ومعابد تخضع لرئيس واحد وتبعث بمفوضين من قبلها يمثلونها في المجتمعات العامة في الرهبنة. فنجحت الرهبنات في أسرع ما يمكن فكان لكلوني في القرن الثاني عشر أربعمائة راهب وينظر في شؤون ألفي دير وكان لسيتو تحت طاعتها نحو 1800 دير منتشرة في جميع أوربا وعند ذلك بدأت المنافسة بين رهبان(75/26)
كلوني السود ورهبان سيتو البيض. وكان هؤلاء الرهبان المصلحون هم الذين اضطروا بقية رجال الدين أن يصلحوا أخلاقهم وهم الذين عضدوا البابا أحسن عضد وحملوا المسيحيين كافة عامتهم وخاصتهم أن يحنوا رؤوسهم لسلطته. فقد كان غريغوريوس السابع العظيم المصلح الحاكم من رهبان كلوني والقديس برنارد اللاهوتي العظيم في القرن الثاني عشر من رهبان سيتو.
كان من العادة القديمة في الكنيسة إذا أقرأ أحد المؤمنين بخطيئة ارتكبها أن يقضي عليه القسيس بالتوبة قبل أن يغفر له ويدعه يدخل الكنيسة بين الناس وتجري هذه التوبة علنية إذا كانت الخطيئة ارتكبت كذلك. وكتبت في القرن الثامن كتب توبة فيها العقوبة المقدرة لكل خطأ. . مضت قرون وهذه التوبات مثال القسوة وإذلال النفس ففي بعض التوبات التي تطول سبع سنين كان يتحتم عَلَى التائب في السنة الأولى أن يقف حافياً أمام باب المدينة يركع أمام الداخلين يتوسل إليهم أن يصلوا له. والتوبات عبارة عن الصيام وترديد صلوات وضرب البدن بالعصي ثم انتظمت هذه الطريقة فرأى رجال الكنيسة أن ثلاثة آلاف ضربة بالعصا تعادل سنة في التوبة. وقد اشتهر أحد نساك الطليان في القرن الحادي عشر واسمه دومينيك ولقب بالدارع بأنه يتمكن في خمسة عشر يوماً أن يقوم بمئة سنة من التوبة وأقروا أيضاً عَلَى ابتياع التوبة بالأعمال الصالحة مثل الحج ومنح العطايا إلى الكنائس وكانوا يقولون أن للقديسين من الفضائل أكثر مما يجب لخلاصهم وهذه الفضائل الزائدة قد تألفت منها كنز الغفرانات التي بها تشترى خطيئات المخطئين. ولدى الكنيسة هذا الكنز في الغفران تنفق منه عَلَى المؤمنين وفي وسعها أن تفضل منه عَلَى أرواح الموتى التي يراد تطهيرها وتطلب لقاء ذلك بعض المال. فالخاطئ لا يشتري الغفران (كما قيل ذلك خطأ) بل يبتاع التوبة فقط وبعبارة أخرى أن الكنيسة تعطيها له. هذه هي نظرية الغفرانات. فقد قال داميانوس إننا بما نأخذه من أراضي التائبين نمنحهم كمية من التوبة بحسب ما يعطوننا. وعلى هذا كانت التوبة قسمين أحدهما وهي السهلة (ما ينال الغفران من العطايا والحج) وهكذا يكفي الأرواح الفاترة وأوقات السكون والآخر وهو بربري (ضرب العصي) تطمئن إليه الأرواح المتحمسة وقد كان الغيورون من المسيحيين مثل القديس لويس والقديسة إليزابثة يلبسون قميصاً من الشعر ويضربون بعصا يد من يعترفون له. وفي أوقات الفزع(75/27)
الديني خلال الأوبئة والحروب تتألف عصابات من المضروبين بالعصي يجتازون البلاد وأكتافهم عريانة وهم يضربون أنفسهم حتى تسيل دماؤهم.
انفصال الكنيسة الرومية - مضى دهر طويل لم يؤلف المسيحيون الروم في بلاد الشرق سوى كنيسة واحدة مع مسيحيي الرومان في الغرب فكان لهم عدة بطارقة في الآستانة والإسكندرية والقدس وأنطاكيا ويعترفون أيضاً بتقدم أسقف رومية ولكن بعد أن فتح العرب مصر وسورية لم يبق في الإمبراطورية سوى سوى بطريرك واحد هو بطريرك القسطنطينية الذي أخذ ينافس البابا. ولما قطع البابا العلائق مع الإمبراطور في القرن الثامن بشأن عبادة الصور بدأ المسيحيون الروم أن لا ينظروا إلى مسيحيي الغرب أخوانهم وكان بين الفريقين من أهل العالم المسيحي بعض فروق خفيفة في أمور التعبد والمعتقد فالروم يعتقدون أن روح القدس لم ينبثق إلا من الأب والغربيون يعتقدون أنه ينبثق من الآب والابن معاً وأن الابن من مادة الآب نفسها. والروم يستعملون الخبز في المناولة والغربيون خبزاً بدون خمير والروم يسمحون بزواج القسوس والغربيون يحظرونه.
وظهرت تلك العداوة الخفية بين الكنيستين جهاراً في القرن التاسع فعزل الإمبراطور أغناس بطريرك القسطنطينية وأقلم عوضاً عنه فوتيوس أحد قدماء الساسة والقواد وهو أكثر الناس تعلماً في زمنه ولم يكن راهباً بل اجتاز درجات الكهنوت كلها في بضعة أيام فتحزب البابا نقوى للبطريرك المقال وحرم فوتيوس وأشياعه فجمع فوتيوس في الآستانة مجمعاً حكم عَلَى معتقدات اللاتين الخاصة بأنها إلحاد وحرم نقولا (867) فاغتنم البابا فرصة تبديل الإمبراطور ليجمع في القسطنطينية مجمعاً مسكونياً (869) قضى بعزل فوتيوس وفسخ أعماله. وفي سنة 879 فسخ مجمع جديد أوامر مجمع سنة 869 وأعلن أن البابا ليس سلطاناً عَلَى الكنيسة إلا في الغرب فأجاب عَلَى ذلك بجرم فوتيوس الذي انقطع إلى أحد الأديار وبدا بذلك أن التقاطع بين الكنيسة أصبح مبرماً ولكن الباباوات في أواخر القرن التاسع أصبحوا في أيدي بارونات رومية فأمسوا من الضعف بحيث لا يستطيعون المقاومة في هذا الباب ولما شعر البابا أواسط القرن الحادي عشر بتوطيد مركزه في رومية والغرب بعث بنائبين من قبله يضعان باحتفال في كنيسة القسطنطينية براءة الحرم الذي صدر من البابا عَلَى البطريرك وأشياعه (1054) فأبت كنيسة الشرق أن تخضع وظل(75/28)
المسيحيون منذ ذاك العهد منقسمين إلى كنيستين الكنيسة اللاتينية أو الكاثوليكية التي خضعت للبابا والكنيسة الرومية أو الأرثوذكسية التي اعترفت ببطريرك القسطنطينية وليس الروم فقط هم أتباع هذه الكنيسة بل الروس والبلغار والصرب والرومانيون.
الإلحاد - كان الملاحدة (الهراطقة) نادرين متفرقين في القرون الأولى والوسطى فبدأوا في القرن الثاني عشر يتكاثرون ولاسيما في جنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا وانقسموا إلى شيع مختلفة يصعب علينا تمييزها ولا نعرفها إلا بما ينقله عنها أعداؤها فمنهم من اقتبسوا من ملاحدة بلغاريا مذهب المانوي الفارسي القديم في تنازع الخير والشر وآخرون هم الكاتاريون (الأطهار) فقراء ليون الفورديون كانوا ملاحدة بغضاً بمفاسد رجال الكهنوت في عصرهم وزعيم شيعة الفوديين فالدوس تاجر غني من أغنياء ليون كان ترجم له الكتاب المقدس باللغة العامية فأحب عملاً بحكمة الإنجيل أن يوزع جميع ما يملك عَلَى الفقراء وأخذ يدعو إلى الدين عَلَى رغم منع الأسقف عليه ذلك وكان أنصاره يرفضون كل ما لا يرونه مسطوراً عندهم في التوراة مثل الصور والماء المقدس والقديسين والذخائر والمطهر والصوم والغفرانات وكانوا يقولون أن الكنيسة الرومانية ليست كنيسة المسيح بل كنيسة الشيطان وما الأحبار إلا فريسيون يجب أن لا يملكوا شيئاً من حطام الدنيا بل أن يعملوا كل عمل الحواريون وأن لا يقودوا إذ ليس في الكنيسة الحقيقة إلا أهل التساوي فالعامة ليست دون الخاصة ولهم الحق أنة يبشروا كما كان يبشر الرسل والعامي التقي هو أشد عراقة في الرهبنة ويحسن أن يناول القربان من رجال الكهنوت أهل الخطيئات الحاكمين المتحكمين بالكنيسة فسر القربان المقدس والغفرانات لا فائدة فيه لأن الإيمان والتوبة يكفيان في السلامة. وكانت قوة هؤلاء الملاحدة باختلاطهم مع الشعب مباشرة يلكمونه بلسانه ويعيش وعاظهم عيش الفقر والشدة المخالفة لأخلاق أحد رجال الدين الأغنياء الفاسدين أحياناً ولكن معظم المسيحيين كانوا يفزعون من اسم إلحاد وطفقوا عن رضى يخدمون رجال الكهنوت ليقضوا عَلَى الملاحدة ودعا البابا فرسان فرنسا فأعلنوا عليهم حرباً صليبية كما أعلنوا عَلَى المسلمين فذبحوا جميع سكان بزيير عَلَى نحو ما فعل الصليبيون في الشرق من ذبح الرجال والنساء في أورشليم. وقد حرم البابا الإمبراطور فريدريك الثاني في ألمانيا وهو نصف عربي بشدته فاحرق كل من اشتبه فيهم أنهم ملحدون.(75/29)
ديوان التفتيش الديني - بعث البابا إلى مدن إقليم لانكدوك بموظفين عهد إليهم البحث عمن يشتبه بهم بالإلحاد وذلك ليستأصل الملاحدة عن بكرة أبيهم ومنحهم كل سلطة في إلقاء القبض عَلَى كل شخص ومحاكمته والحكم عليه وأطلق لهم الحرية أن يعملوا بما يرونه مناسباً مبيحاً لهم أن يغفر بعضهم لبعض إذا بدرت منهم بادرة وهؤلاء المفتشون (وفي العادة أن يكونوا قسوساً) يستقدمون الرجال الذين يرمون بالزندقة ويسألونهم بدون أن يقولوا لهم أسماء من أظهر أمرهم فإذا أبى المشتبه به الكلام يسجنونه ويضيقون عليه الخناق ولقد قال أحد هؤلاء المفتشين ولطالما رأيت أناساً حبسوا عَلَى تلك الصورة سنين كثيرة فانتهى بهم الحال أن اقروا أيضاً بأجرام لهم قديمة وعادوا أيضاً ليحملوهم عَلَى الإقرار يستعملون معهم طريقة التعذيب التي تركت منذ عهد الرومان وأخذت بالاستعمال عند ظهورهم وكانت محكمة التفتيش تحكم بطريقة عرفية بدون استئناف تحكم عَلَى بعضهم بغرامات فاحشة أو بحج بعيد وعلى غيرهم أن يحملوا عَلَى ثيابهم صلباناً صفراء تخاط عليها فتشعر بأنهم مشتبه بأمرهم أمام القوم ويقضى عَلَى الآخرين أن يطوفوا تائبين يحملون العصي ليجلدوا. وغيرهم يسجنون مؤبداً في مطبق صغير مظلم عَلَى خبز الكرب وماء العذاب وبعضهم يحرقون في وقود الحطب وديوان التفتيش لا ينفذ الحكم عليهم بنفسه بل يكتفي بان يدفعهم إلى القاضي المدني العامي وهو يعيدهم إلى الجلاد.
الرهبان الشحاذون - أصبحت الرهبنات الدينية التي حملت في القرن الحادي عشر عَلَى الفساد المستحوذ غنية عنىً فاحشاً فكان رئيس دير كلوني يسيح في موكب مؤلف من ثمانين فارساً والرهبان البيض الذين أرسلوا لتنصير الملاحدة قد حملوهم عَلَى العصيان بما رأوه من بذخهم ولذا دعت الحال إلى وضع نظام جديد وذلك بما قام به القديس فرانسوا الإيطالي والقديس دومينيك الإسبانيولي.
فكان القديس فرانسوا (ولد سنة 1182) ابن تاجر غني في آسيز تخلى عن المال وراح إلى المدن يستوكف الأكف ويدعو الناس. فظنه القوم مختل الشعور ولعنه أبوه ولكن لين جانبه ولطفه وحماسته لم تلبث أن عقدت القلوب عَلَى حبه فأعجبت به وجاءه من تلقوا دعوته زرافات فعزم أن يضم شتاتهم وأنشأ رهبنة الأخوان القاصرين (الفرنسيسكان) وكان القديس فرانسوا يعيش عيش التنسك يسهر ويصلي ويصوم ويلبس مسحاً ويمزح رماداً في(75/30)
طعامه لئلا يلذه طعمه ويجلد نفسه كل ليلة بسلاسل من حديد (ثلاث مرات واحدة عن نفسه وأخرى عن أرباب الخطايا الأحياء وثالثة عن أرواح المطهر) ومات مضجعاً عَلَى الأرض بلا وطاء وكان خلافاً للحبساء منخفض الجناح راغباً في خلاص غيره يريد أن يكون من جماعته الفرنسيسكان نساك أبداً فقراء ولكن نساك يعيشون بين أظهر الناس ليحرضوهم عَلَى التقوى قال لتلامذته: اذهبوا اثنين اثنين مبشرين الناس بالسلام والتوبة للعفو عن خطيئاتكم. لا تخافوا شيئاً لأننا نبدو للناس كالأطفال أو المعتوهين ولكن بشروا فقط بالإنابة والتجدد وكونوا عَلَى ثقة بأن روح الله الذي دبر العالم ينطق بلسانكم. وكانت قاعدته بسيطة للغاية وهو أن لا يملك الأخوان شيئاً بل أن يمضوا في هذا العالم كالحجاج والغرباء يخدمون الله بالفقر له والضراعة إليه والصدقات قصارى ما يتبلغون به ولا يخجلون من حالهم لأن السيد المسيح سن لنا من سنة الفقر. ويلبس الفرنسيسكان لباس الحاجين وهو عبارة عن ثوب من الصوف الغليظ له قبعة ومن هنا اشتق اسمهم (الكبوشيون) ويلبسون في أرجلهم نعالاً ويتمنطقون بحبل (ومن هنا سموا أيضاً بالحباليين) ولا يعيشون إلا من الصدقات.
وكان القديس دومينيك (ولد سنة 1170) من النساك أيضاً لا يشرب الخمر ويلبس مسحاً مع سلسلة حديد ومات مضطجعاً عَلَى الرماد وكان واعظاً وعظ عشرين سنة في البلاد الألبية لهداية الملاحدة وهناك رأى كيف يطمع الشعب لسماع كلام الله وهو يتألم لما يرى من بذخ رجال الكهنوت. وسن سنة السير عَلَى القدم بألبسة ساذجة للغاية وأراد أن يكون عَلَى شاكلته في الأمة رسل مبشرون فأنشأ جمعية الأخوان الواعظين جعل شأنهم أن يتكلموا في كل مكان بما فيه سلامة الأرواح ووضع الفقر قاعدة لهم.
وهكذا كان الفرنسيسكان شحاذين فأصبحوا واعظين والدومنيكيون واعظين فأصبحوا شحاذين وكانت الرهبنتان تتشابهان من وجوه كثيرة وكانتا كلتاهما منظمتين ولهما قائد يقودهما يطيع البابا مباشرة ولكن الدومنيكيين كانت علاقتهم بالسادة والملوك أكثر والفرنسيسكان بجمهور الشعب وامتدت كلمة هاتين الجمعيتين امتداداً لا يكاد يصدق فلم تدخل سنة 1277 إلا وكان للدومنيكيون 416 ديراً وكان للفرنسيسكان سنة 1260 - 1808 أدياراً وفي كل دير اثني عشر راهباً عَلَى الأقل وإذ كان اعتمادهم عَلَى الله الذي(75/31)
كان هريهم وخوانتهم كانوا يقبلون في جملتهم من الإخوان ما جاءهم فمن يقصدونهم يعطونهم ثوباً وحبلاً وما عدا ذلك فيكلون أمره للعناية الإلهية. ولقد عاش قدماء الرهبان خارجين عن العالم أما الرهبان الشحاذون فاختلطوا بالمجتمع وأذن لهم البابا أن يبشروا ويعرفوا ويدفنوا فاخذ المؤمنون يهرعون إليهم تاركين قسوسهم المعتادين وكان بذلك ثورة عظيمة وطدت سلطة البابا كل التوطيد.
عدل الكنيسة - كان في كل أبرشية منذ القرن الثالث عشر محكمة للكنيسة يجلس فيها مندوب الأسقف للحكم فينظر فيها في عامة القضايا التي لها مساس بأحد الإكليريكيين إذ لم يكن يقبل أن عامياً يرفع يده عَلَى رجل من رجال الله فالإكليريكي إذا ارتكب جرماً لا يحاكم عليه إلا مثله وهذا من جملة امتيازات رجال الدين امتيازات يرغب فيها لأن قضاة الكنيسة لا يحكمون بالإعدام بتاتاً وكثيراً ما كان أحد الأشقياء فراراً بنفسه من المشنقة يدخل في درجة من درجات الإكليروس ويتعلم صلاة باللاتينية ويظهر بمظهر ديني وقد امتدت سلطة المحاكم الكنائسية عَلَى العامة. فالكنيسة التي تدير أسرارها القربان المقدس يجب أن تبت في كل المسائل التي لها علاقة بهذا الشأن ومثل هذه المسائل ليست بقليلة. فقد أصبح الزواج منذ ظهور الدين المسيحي سراً من أسرار القربان فيأتي الزوجان في شهودهما يقفان تحت دهليز الكنيسة فيسألهما الكاهن فيما إذا كانا يقبلان الزواج فيقول الزوج أنا يا هذه أرضاك زوجة وتقول العروس أنا يا هذا أرتضيك بعلاً ويأتي أهل المرأة ويضعون يدها في يد زوجها ويبارك القسيس خاتم الزواج إشارة العقد ثم يدخلون كلهم الكنيسة فيتلو القسيس القداس عَلَى الزوجين الراكعين المستورين بشعار خاص وهذه الحفلة جعلت الزواج في يد الكنيسة وكانت تكفي في عهد الرومان إرادة الزوجين لعقد القران كما يكفي إرادتهما لفسخه أما المسيحيون فعلى العكس لا يستطيعون الزواج إلا إذا سمحت الكنيسة (وكثيراً ما تحظره حتى بين الأهل البعيدين) فإذا تزوجوا كان زواجهم طول العمر لأن سر الزواج لا ينحل. وهكذا بطل الطلاق وإذا تعذر التئام الزوجين لا تسمح الكنيسة إلا بالتفريق بينهما ولا تحل رابطة الزواج مطلقاً.
والكنيسة تحكم أيضاً في الوصايا لأن الرجل لا يتأتى له أن يوصي إلا بعد الاعتراف والاعتراف سر من الأسرار وتأبى الكنيسة أن تدفن من لم يعترف ولم يوص والعادة(75/32)
تقضي أن يكون في كل وصية وقف يحبس للكنيسة وترجع جميع القضايا في الوصية إلى محكمة الكنيسة. والكنيسة تحكم أيضاً عَلَى العامة المتهمين بجريمة تخالف الدين أمثال الزنادقة والمجرمين والمرابين (وذلك لأن الكنيسة تحظر الربا) وزعم أينوسان الثالث أن من واجب الكنيسة أن تحكم في جميع الخطايا وكانت محاكم الكنيسة إلى القرن السادس عشر أكثر عملاً من المحاكم العادية.
البابوية
البابوية - الباباوات في القرن العاشر كسائر أساقفة إيطاليا سقط تحت سلطة العامة من السادات الذين هم نصف لصوص في رومية فكانوا يخلون بعضهم بعضاً في خرائب المعاهد القديمة ويتوافرون عَلَى اختيار البابا الذي يشاؤن. فكان الكرسي المقدس ملكاً لأسرة من البارونات زمناً طويلاً ونساء تلك الأسرة تيودورا وماروزيا تنتخبان الحبر الأعظم فشوهد بابا في الثانية عشرة من عمره وآخر باع البابوية من خلفه وقد جعل الإمبراطور هنري الثالث حداً لهذه الفضائح وذلك بأن أخذ عَلَى نفسه تعيين البابا وما كان أنصار الإصلاح يرضون أن تكون أرقى مناصب الكنيسة خاضعة لسلطة رجل من العامة وقد وقف ليون التاسع الذي نصبه ابن عمه الإمبراطور بابا عَلَى أبواب رومية بصفة حاج وأراد أن يجري انتخابه بحسب القانون من قبل رجال الإكليروس وشعب رومية ثم قرر مجمع لاتران سنة 1061 أن يجري انتخاب الباباوات في المستقبل بمعرفة أساقفة المدن الصغرى في بلاد الأقاليم الرومية وأن يصدق الإمبراطور عَلَى انتخابه ولكن لم يلبث هذا القرار أن صرف النظر عنه. وهذه القاعدة في الانتخاب التي جرى العمل عليها بعد قد جعلت للبابوية استقلالاً عن شعب رومية والملوك الأجانب. ولما أصبح البابا مستقلاً أخذ يطهر الكنيسة من روح العصر بمنع زواج الرهبان وبيع الأشياء الروحية وتولية العامة للبابا.
خصام عَلَى التولية - تقضي القوانين القديمة في الكنيسة أن ينتخب الأسقف بمعرفة الكهنة القانونيين ورئيس الدير بمعرفة رهبانه وإذ كان لكل أبرشية ولكل دير أملاك واسعة أعطاها له الملك عَلَى سبيل الإقطاع وكان الملك ولاسيما في ألمانيا يطالب بحق تعيين من يستمتعون بهذه الإقطاعات فإذا مات أسقف أو رئيس دير يحملا الكهنة القانونيون أو(75/33)
القساوسة إلى الملك علامات المنصب الأسقفي أو الرئيس وهي العكاز رمز السلطة والخاتم رمز اتحاد الحبر مع الكنيسة فيختار الملك من يريده وفي العادة أنه يختار أحد رجال الكنيسة في قصره ويحلفه يمين التابعية له ويوليه أي يملكه زمام منصبه بان يدفع إليه العكاز والخاتم. وهذه العادة قد ثار لها المصلحون في الكنيسة. قال البابا أوربانوس الثاني أمن الممكن أن تكون الأيدي التي تشرفت بالشرف العالي في إيجاد الخلق (كذا) بحيث يؤول أمرها إلى العار بالخضوع إلى أيد ملوثة بالسم والدم. وما معنى قبول منصب كنائسي من عامي إلا الاتجار بالأشياء المقدسة وبذلك ارتكاب الخطيئة المميتة في بيع هذه المقدسات فطالب البابا من ثم أن يتخلى الإمبراطور عن انتخاب الأساقفة ورؤساء الأديار ليكون انتخابهم بحسب القواعد القانونية. وكان الإمبراطور يجيب عَلَى هذا المقترح بان الأبرشيات والأديار جزء من الأملاك الإمبراطورية وللإمبراطور وحده الحق في أن يوليها من أراد. وعلى هذا الوجه ثار بين الإمبراطور والبابا خصام عَلَى التولية. وأنصار البابا في مطالبه القسيسون وأنصار الإصلاح وأنصار الإمبراطور الأساقفة ورؤساء الأديار في ألمانيا ولومبارديا أتباعه والقساوسة المتزوجون وعندما حضر أسقف كوار سنة 1075 ليبلغ رئيس أساقفة مايانس الأمر البابوي في حظر الزواج عَلَى القسيسين قام جميع الإكليروس الذين كانوا حاضرين المجلس مغاضبين شاتمين رئيس الأساقفة ومانعيه من قبول هذا الأمر. ودام الأخذ والرد في ذاك نصف قرن (1075 - 1122) وتعذر التوفيق فيه بسبب حقوق مداخيل الكنيسة أو سلطة الأساقفة السياسية وقد حل البابا باسكال الإشكال بأن قرر تنازل الأساقفة عن المدن والكونتيات والنقود والمكوس والقصور والأملاك والحقوق التي يعطيها الإمبراطور لهم فلم يرض رجال الإكليروس عن هذا النظام ولما عقد الصلح سنة 1122 احتفظ الأساقفة بحقوق مداخيلهم وسلطتهم السياسية فسمح الإمبراطور بانتخاب الأساقفة ورؤساء الأديار من قبل الكهنة القانونيين أو القسوس وأن يعطوهم العكاز والخاتم ولكنه أبقى حق توليتهم بالعلم كالأمراء من العامة.
مناوشات البابا مع الإمبراطور - كان البابا والإمبراطور متفقين عَلَى أن يحكموا مشتركين كما وقع عَلَى عهد شارلمان فلم يكن من حاجة لتمييز سلطة أحدهما عن الآخر وتحديد حقوق كل منهما وكان يقال أن الله أعطى سيفين سيف السلطة الزمنية للإمبراطور وسيف(75/34)
السلطة الروحية للبابا ليحكموا العالم معاً ولكن عندما استعلت جذوة الخلاف بين البابا والإمبراطور اقتضى أن يتساءل الناس ما هي حقوق السلطة الروحية والسلطة الزمنية وعند أي حد تقف. وهي مسالة صعبة لم يتيسر للعصور المقبلة أن تحل عويصها ولا تزال تتناقش فيها تحت اسم صلات الكنيسة بالحكومة.
ولقد كان الناس في العصور الوسطى يسيئون فهم سلطتين متساويتين مستقلتين وهل البابا أو الإمبراطور هو الذي يحكم عَلَى الآخر وكل منهما يزعم أن سلطته رفيقة سامية فكان الإمبراطور وارث القياصرة والملقب بألقابهم يطالب بحق الزعامة عَلَى العالم أجمع والبابا يقول أن الله بإعطائه إلى القديس بطرس الحق المطلق أن يحل ويربط في السماء وعلى الأرض لم يستثن أحداً بل أخضع إليه الأمراء وجميع دول العالم وولاه أميراً عَلَى ممالك الدنيا. والبابا أسمى مقاماً من جميع الأمراء وهو قاضيهم ففي وسعه إذا رآهم غير لائقين للحكم أن يحرمهم وأن يعزلهم وأن يجعل رعاياهم في حل من إخلاص البيعة لهم. وقد نفذ غريغوريوس السابع هذه الحكمة بعزل هنري الرابع. فطال الخصام بين السلطتين فبدأ في القرن الثاني عشر عَلَى التولية ودام بشأن حقوق الإمبراطور عَلَى مدن لومبارديا إلى سنة 1250 فغلب الإمبراطور لأن سلطته عَلَى العالم وهمية ولم تكن له سلطة في ألمانيا وإيطاليا ثم أنه عجز عن أن يبذل له الطاعة أمراء الألمان ومدن الطليان.
نفوذ البابا - أصبح البابا في القرن الثالث عشر وسنده رجال الكهنوت الذي قوي بالإصلاح والتهذيب زعيم العالم المسيحي بلا منازع فهو بصفته نائب المسيح يحكم عَلَى رجال الإكليروس كافة وهؤلاء يحكمون عَلَى جمهور من المؤمنين وحفظ لنفسه الحق أن يجمع المجامع ويعزل الأساقفة ويغفر لكبار المجرمين ويعطي ما يلزم من النفقات فيتناول القربان عَلَى عرش عالٍ ويقبل جماعته رجليه ولرسائله قوة الشريعة في الكنيسة كلها وإليك كيف تحدد سلكته قال إينوسان الثالث: لقد وضع الخالق في سماء الكنيسة منصبين أعظمهما البابوية فهي تحكم عَلَى الأرواح كما تحكم الشمس عَلَى النهار واقلهما الملك فهو عَلَى الأجسام كالقمر والليل فالبابوية مفضلة عَلَى الملك كما تفضل الشمس عَلَى القمر. وقد عهد سبحانه وتعالى إلى القديس بطرس أن يحكم لا الكنيسة العامة فقط بل العالم فكما أن جميع مخلوقات السماء والأرض والجحيم تثني ركبتيها أمام الله. هكذا كلهم يجب أن(75/35)
يخضعوا لنائبه حتى لا يكون في الأرض سوى قطيع واحد وراع واحد.
وقد كتب بونيفاس الثامن سنة 1296 إلى ملك فرنسا يقول: اسمع يا ولدي كلام أب شفوق وإياك أن تعتقد بأن ليس فوقك يد وأنك غير خاضع لزعيم رجال الدين. وكتب سنة 1300 في المنشور المشهور أن الكنيسة واحدة هي جسم واحد ليس له إلا رأس واحد لا رأسان كالمسخ هو خليفة القديس بطرس علمنا الإنجيل أن في الكنيسة سيفين زمني وروحي تستعمل الكنيسة ويد البابا أحدهما والثاني الكنيسة ويد الملوك بأمر البابا.
مضتى القرون الأولى وليس في الكنيسة سوى قوانين أي قواعد وضعتها المجامع وعندما عرف البابا سلطته إلى جميع رجال الإكليروس أصبحت أوامره قوانين للكنيسة عَلَى نحو ما كانت قديماً أوامر الإمبراطور الروماني شرائع للملكة وقد جميع كراتين الراهب الإيطالي في القرن الثاني عشر الأوامر التي نسبت لقدماء الباباوات وألف منها كتاباً سماه الديكري أي الأمر. فزاد عليه الباباوات في القرن الثالث عشر عدة مجاميع جديدة مؤلفة من رسائل الباباوات التي ظهرت بعد جميع الرسائل الأولى وهكذا فكما أن يوستينيانوس ألف مادة الشريعة المدنية ألف الباباوات مادة الشريعة القانونية التي ظلت قانوناً للكنيسة.
المدنية الشرقية في الغرب
تقدم شعوب الشرق في القرون الوسطى - ليمثل القارئ لعينيه المدنيتين اللتين كانتا في القرن الحادي عشر تقتسمان العالم القديم ففي الغرب مدن حقيرة صغرى وأكواخ فلاحين وقلاع لا هندسة لها وبلاد مضطربة عَلَى الدوام بالحرب لا يتأتى أن يسير فيها السائر عشرة فراسخ بدون أن يسلب وينهب في الشرق مدن القسطنطينية والقاهرة ودمشق وبغداد وجميع مدن ألف ليلة وليلة بما فيها من قصور المرمر والمعامل والمدارس والأسواق والحدائق الممتدة عَلَى بضعة فراسخ وبرية تروي أحسن إرواء غاصة بالقرى والضياع وحركة التجار التي لا تنقطع فتراهم يذهبون بسلام من إسبانيا إلى فارس ولا شك أن العالم الإسلامي والعالم البيزنطي كانا أغنى وأحسن نظاماً ونوراً من العالم الغربي فكان المسيحيون يشعرون بنقصهم في التهذيب ويعجبون ببلاهة بما يبدو لهم من غرائب الشرق ومن يحب التعلم يقصد إلى مدارس العرب. وبدا العالمان الغربي والشرقي في القرن الحادي عشر يتعارفان ودخل المسيحيون البرابرة إلى حمى المسلمين الممدنين من طريقين(75/36)
الحرب والتجارة.
الحروب الصليبية - انتهى المسلمون من جهادهم المقدس فتسرع النصارى بجهادهم فكانت الحروب الصليبية. وقد دبر شأن الحروب الصليبية البابا أوربانوس الثاني في كلرمون وكان فرنسوياً. وكان يقصد من هذه الحرب إنقاذ البيت المقدس (أي قبر المسيح) من أيدي غير المسيحيين فمن يسافرون يجعلون عَلَى أكتافهم صليباً أو صليب البابا ومن هنا اشتق اسم الصليبيين. فكان الصليبي حاجباً مسلحاً ووعد البابا كل من يشترك بهذه الحملة أن يعفو عنه من كل التوبات التي تحملها لقاء خطاياه. وانضم إلى هؤلاء التائبين أناس من تجار الطليان وفرسان رغبت أنفسهم بالغنيمة وانتفعوا من غلبات الصليبيين عَلَى المسلمين ليقيموا في سورية حيث أنشئوا أربع إمارات (كانت تسمى الإفرنج) وفي سنة 1204 سير البنادقة حملة عَلَى القسطنطينية وفتحوا إمبراطورية الروم ولقد بدأت هذه الحرب أواخر القرن الحادي عشر ودامت إلى القرن الثالث عشر وكثيراً ما كانوا يتحدثون حتى القرن الخامس عشر بمعاودتها. وكانت آخر حملة من حملات الصليبيين في إسبانيا سنة 1492 انتهت بأخذ غرناطة.
صفة الحروب الصليبية - كانت الحروب الصليبية حملات مؤلفة من المسيحيين منظمة بمعرفة البابا زعيم النصارى العام فكان كان صليبي حاجاً مسلحاً تعفو الكنيسة عن جميع الذنوب التي وقف فيها فكان الحاجون يجمعون جيوشاً ضخمة حول السادات القادرين أو حول نائب البابا ولكن لا نظام في صفوفهم فهم أحرار أن يتنقلوا من جيش إلى آخر أو أن يتركوا الحملة عندما يرون أن نذرهم قد تم. فالجيش الصليبي لم يكن سوى اجتماع عصابات تسير إلى مقصد واحد من طريق واحد فكانوا يسيرون مشوشاً نظامهم عَلَى مهل راكبين خيولاً ضخمة لابسين دروعاً ثقيلة يحملون أثقالهم فينؤون بها كما ينؤون يخدمهم وبالنهابين معهم فكانوا يضيعون أشهراً في اجتياز الإمبراطورية البيزنطية وقتال فرسان الأتراك في آسيا الصغرى والرجال والخيول تموت في القفار التي لا ماء فيها ولا سبيل إلى أخذ الميرة جوعاً وظمأ وكانت الأوبئة التي تحدث في المعسكرات التي ينزلونها من قلة العناية والصوم المتعاقب بعد الإفراط في الطعام والشراب تحصد أرواحهم بالألوف. وكان من يبلغون سورية قليل عددهم ففي الرجال وأي فناء في القرن الثاني عشر عَلَى هذه(75/37)
الصورة عَلَى طريق الأرض المقدسة فضاق صدر الصليبيين من هذه الرحلات القاتلة في البر واخذوا يعدلون عنها وفي القرن الثالث عشر قصدوا كلهم البلاد المقدسة من طريق البحر فكانت السفن الإيطالية تقلهم وخيولهم إلى الأرض المقدسة في بضعة أشهر حيث يجاهدون الجهاد الحقيقي.
كان الفرسان في قتالهم المسلمين إذا تساوى عدد المقاتلين قد يكتب النصر لهم وذلك لأنهم كانوا بخيولهم الضخمة وسلاحهم الذي لا يتأتى خرقه يؤلفون كتائب متراصة لا يستطيع فرسان العرب الراكبون عَلَى خيول صغيرة أن يخرقوها بسهامهم وسيوفهم. نعم عن حروبهم لم تسفر عن نتيجة فعاد الصليبيون الظافرون إلى أوربا ورجع المسلمون. وهذه الجيوش المتقطعة كانت تستطيع فتح الأرض المقدسة ولكن لم تكف لحفظها بيد أنه كان ينضم إلى أهل الصليب الذين أتوا للنجاة بأنفسهم من الخطايا رجال من الفرسان والتجار الذين قصدوا البلاد ليغتنوا فكانوا يعنون بحفظ البلاد وبهؤلاء كتب التوفيق التام في الحروب الصليبية باستخدامهم القوة المؤقتة التي كان يوليها سواد الصليبيين. فكانوا يديرون الأعمال الحربية وينشئون أدوات الحصار ويأخذون المدن ويتحصنون فيها بحيث يتوقعون عودة العدو. ولو ترك أولئك الصليبيون وأنفسهم لما استطاعوا أن يقاتلوا في تلك البلاد القاصية فإن الحملات ذات الأبهة التي كان الملوك قوادها (مثل لويس الثاني عشر وكونراد وفريدريك بربروس وفيليب أغسطس وملك المجر وسان لوي) قد أخفقت كلها إخفاقاً ذليلاً. والحروب الصليبية الوحيدة التي نجحت حقيقة (الأولى التي فتحت سورية والرابعة التي فتحت إمبراطورية الروم) وكان قواد الأولى النورمانديين من إيطاليا والأخرى البنادقة. وكانت حماسة الصليبيين وشجاعتهم قوة عمياء لا ينتفع بها إلا إذا كان المدبرون لها أناساً من أهل التجربة. وما كان الصليبيون سوى معاونين والمؤسسون الحقيقيون للمالك المسيحية هم المتشردون والتجار ممن كانوا يشبهون المهاجرين المحدثين الذين كانوا يسافرون لاستيطان الشرق. وما كان هؤلاء المهاجرون قط من الكثرة بحيث تأهل بهم البلاد بل ينزلوها متخذين لهم معسكرات بين أهلها الوطنيين ولم تكن الإمارات الإفرنجية سوى عبارة عن حكم أشراف يقوم به بضعة ألوف من الفرسان الفرنسويين والتجار الإيطاليين فليس لها من تماسك الأجزاء ما كان لممالك الغرب التي تستند عَلَى(75/38)
الأمم والشعوب. فأشبهت هذه الإمارات الممالك التي أسسها زعماء المحاربين العرب أو الأتراك حيث تمتزج الحكومة والجيش وتهلك وإياه. وطال عمر هذه الإمارات قرنين وهي حياة تعد طويلة في الممالك الشرقية ولو تيسرت هجرة قوية لها لتوطدت أسسها إزاء آسيا الإسلامية والبيزنطية ولكن أوربا في القرون الوسطى لم تستطع أن تقوم بهذه الهجرات.
مضى نصف قرن ولم يشتغلوا بغير حرب صغار الأمراء في سورية وكان مسلمو مصر يعيشون معهم بسلام وهذا زمن نجاحهم ولما أتى صلاح الدين عَلَى الخلافة بمصر فقرضها وتألف بدلاً منها حكومة عسكرية في القاهرة وهوجم المسيحيون من جهة مصر فلم يستطيعوا أن يقاوموا زمناً طويلاً (كما دلت عَلَى ذلك انتصارات صلاح الدين) فإذا كانوا احتفظوا بممالكهم قرناً آخر فذلك لأن السلاطين لم يحرصوا أن يبيدوهم. لا جرم أن هذه الحرب كانت في نظر المسلمين جهاداً مقدساً ولكنها انقطعت بمهادنات بضع سنين ولا ينبغي لنا أن نتصور جميع أمراء المسيحيين متحدين عَلَى أمراء المسلمين بل كانت المصالح السياسية أشد قوة من البغضاء الدينية وما برح أمراء النصارى يتقاتلون بعضهم مع بعض كما كأمراء المسلمين يقتل بعضهم بعضاً وقد حدث أن أميراً مسيحياً تحالف مع أمير مسلم عَلَى أمير مسيحي. وما قط كان الاتفاق تاماً في جيش النصارى فالحماسة التي كانت تجمعهم لم تأت عَلَى منافستهم في التجارة ولا عَلَى تباغضهم الجنسي وكان النزاع دائماً بين الأمراء من مختلفي الممالك بين الفرنسيس والألمان والإنكليز بين تجار جنود جنوة وتجار البندقية بين التامبلية والإسبتالية (فرسان الهيكليين والمقرين) وكثيراً ما تقاتلوا. ومثل ذلك الخلاف بين الصليبيين القادمين من أوربا والإفرنج المقيمين في سورية. ولقد اتخذ الإفرنج عادات الشرقيين لما عاشوا بين أظهرهم فاستعملوا الحمامات والألبسة المسترسلة ونظموا خيالة مسلحين عَلَى الطريقة الإسلامية وانشئوا يعاملون المسلمين معاملة المجاورين ولا يحاربونهم بدون داعٍ. وأراد فرسان الغرب القدمين وقد ملئت صدورهم غيظاً من المسلمين أن يبيدوا كل شيءٍ وقد حنقوا من هذا التسامح فكانوا إذا خرجوا من البحر ينقضون عَلَى الأرض الإسلامية ويهرعون للتقاتل والنهب وكثيراً ما كانوا لا يسمعون لما ينصح لهم به مسيحيو البلاد الواسع اختبارهم في الحرب في الشرق أكثر منهم. ولقد وصف مؤرخو الغرب نصارى الأرض المقدسة بالنذالة والخديعة والفساد(75/39)
ونسبوا إليهم خرائب ممالك سورية. وليت شعري ماذا يكون منة الصدق في هذه التهم؟ ولا جرم في أن أولئك المتشردين من الإفرنج قد اغتنوا عَلَى أسرع وجه وأخذوا يعيشون في بذخ باحتكاكهم بشعوب فاسدين قد سرت إليهم مفاسد كثيرة ولاسيما من ولد منهم في سورية وكانوا يدعونهم المهارى ولكن الصليبيين لم تكن لهم من المكانة ما يخولهم إصدار مثل هذه الأحكام فإنهم أنفسهم بفعلهم قد أحدثوا من المصائب أكثر مما أحدث نصارى سورية بترفههم.(75/40)
يا شرق
لا الصبر ينفعه ولا الجزع ... قلب يكاد شجاه يطلع
يا ليل هذا ساهر قلق ... يرعى النجوم وقومه هجعوا
هل فيك ذو شجن يشاركني ... أشكو له ما بي فيستمع
سرت الهموم فقمت أدفعها ... وإذا هموم ليس تندفع
حلت بصدري لا تفارقه ... إن ضاق عنها فهي تتسع
من بات تدمع عينه أسفاً ... فأنا فؤادي بات يدمع
أشفقت من دهري عَلَى أملي ... واليوم أنظر كيف ينقطع
ويلي عليه وهو يخدعني ... أدري حقيقته وأنخدع
يا شرق لج بك العداة هوى ... يا شرق أغراهم بك طمع
عاشوا يؤلف بينهم وطن ... فتخالفوا فيه وهم شيع
يتفرقون عَلَى مذاهبهم ... وعلى الإخاء الناس تجتمع
جهلوا فأخضعهم تعصبهم ... والله لو علموا لما خضعوا
أنذرتهم يوماً صوادعه ... لو مست الأفلاك تتصدع
واريتهم زمناً ألم بهم ... يبري لهم السهام وينتزع
هنأتهم بالأمس إذ نهضوا ... واليوم أرثيهم وقد وقعوا
أهديتهم ودي فما قبلوا ... أخلصتهم نصحي فما اتبعوا
والشيء يرخص حين تبذله ... والشيء يغلو حين يمتنع
ماذا عَلَى الأقدار لو نزعت ... عن حربها فعداتها نزعوا
واسترجعت عهد الصفاء لهم ... وإذا تشاء فذاك يرتجع
قد أجهدتهم وهي عادمة ... وأظنها يوماً سترتدع
أبني بلادي قد مضت أمم ... هذا طريقهم الذي اشترعوا
إنا حللنا في منازلهم ... وقد انتجعنا حيثما انتجعوا
ولئن بطرنا مثلما بطروا ... فلسوف نصرع مثلما صرعوا
إن تصبروا فلطالما صبروا ... أو تجزعوا فلشد ما جزعوا
لم تعدنا حال لهم عرضت ... فحياتهم وحياتنا شرع(75/41)
أبداً تعيش عَلَى مغالبة ... الدهر يخفضنا ويرتفع
ونراه يبتدع الخطوب لنا ... حتى تفانت عنده البدع
لم تنتفع بتجارب سلفت ... وأخال لسنا بعد ننتفع
أشياخنا يمشي بهم كلف ... وشبابنا يجري بهم ولع
يتحاربون عَلَى فؤادهم ... والحرب تأخذ ضعف ما تدع
ماذا لهم لله درهم ... الناس قد عفوا وهم جشعوا
إن القصور بهم مقتعد ... مثل القبور بهن مضطجع
أبني المسيح وأحمد انتبهوا ... ودعوا رجالاً منكم هجعوا
جاؤوا الورى والأمر ملتئم ... ثم انتثنوا والأمر متصدع
لم يرض أحمد والمسيح بما ... صنعوا فلا ترضوا بما صنعوا
أرواحكم من بعضها قطع ... وجسومكم من بعضها بضع
لا تحسبن خلافكم ورعاً ... إن ائتلافكم هو الورع
الملك تعليه مدارسه ... تلك المساجد فيه والبيع
ويحب تموز (لعاشره) ... لا تذكر الآحاد والجمع
لمن الطلول كان عرصتها ... للموت منحرث ومزدرع
آياتها ورسومها درست ... وخلا بها مشتى ومرتبع
سكانها عن محلها نزعوا ... ولطالما في خصبها رتعوا
أسلافها في غابها أمنوا ... وبنوها في سوحها فزعوا
شمخ الزمان بهم وقد شمخوا ... واليوم يخشع إذ هم خشعوا
وقد زل عنه الصفو أجمعه ... وانتاب فيها الأزلم الجذع
كم عاش في آجامها بطل ... كالليث لا وإن ولا طلع
ثبت نجرد في مفاضته ... يلفي الدجا درعاً فيدرع
يلقى الردى والبيض مصلته ... وأسنة الخطى تشترع
والخيل غضبها في أعمتها ... والنطق منطبق ومنقشع
تمشي اللواحظ منه في ملك ... يسو الجلال به فيتضع(75/42)
حتام هذا الجهل مطرد ... ولي م ذاك ألغي منبع
وكأن ريب الدهر في يده ... سيف عَلَى الأعناق يلتمع
ما يرتجي الأحرار من زمن ... يزداد تيهاً كلما ضرعوا
أوفي عَلَى المضمار مرتقباً ... يتسابقون به ويقترع
إن بلغوا غاياتهم هنئوا ... أو قصروا من دونها فجعوا
هل تحت هذا الأفق من أمم ... جرعت كؤوسهم التي جرعوا
أحشاؤهم حرى فما ابتردوا ... وكبودهم ظمأى فما انتقعوا
إنا لأقوام لنا همم ... للمجد تدفعنا فتندفع
العمر أهون أن يضيق بنا ... والموت للأحرار متسع
القاهرة
ولي الدين يكن(75/43)
أدب الدارس والمدرس
من استقرأ ما كتب في هذا الباب الواسع قديماً وحديثاً يرَ عدداً من المؤلفات والمقالات لا يأتي عليها الحصر، ولا يخفى أن لروح كل عصر مظهراً فيما كتب في واجباته ومطالبه، وكثير منها يتبدل بغيرها لمسيس الحاجة إلى ما هو أهم منها أو اختلاف العادات في أطوارها وشؤونها إلا أن ما يتقاضاه العلم من آداب القائمين عليه درساً وتدرساً تتلاقى أصوله مع كل زمان ومكان، لذا رأيت من المهم نقل أبدع ما كتب في هذا الباب، غذ الأمة لا تبلغ أوج المجد إلا بالعلم ولا علم إلا بصلاح الدارس والمدرس والعالم والمتعلم إذ هم القائمون عَلَى تهذيب الملكات وإرشاد العقول، والهادون إلى صراط الحق وميزان العدل والصدق.
وقد رأيت من أحسن ما جمع في مقاصد هذا البحث الجليل ما أَورده محيي الدين النووي - أحد أئمة الرواية والدراية المشاهير - في مقدمة (شرح المهذب) فآثرت عنه خلاصة ما أثره عن أساطين الحكمة المتقدمين وجعلته مقالة موجزة.
أحكام درس العلوم الشرعية - أنواع العلوم الشرعية لا تعد وفي أحكامها ثلاثة أقسام.
القسم الأول فرض العين منها ويقال له الضروري وهو درس المكلف ما تصح به عقيدته وتجزئ معه عباداته، وتنفذ عقوده ومعاملته، وما لا غنى له عنه مما يتناوله ويستعمله.
ويدخل في ذلك درس أمراض القلب كالحسد والعجب والبخل وأمثالها من المهلكات فقد قال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين:
القسم الثاني فرض الكفاية ويقال له الِحاجي وهو درس ما لابد للناس منه في إقامة دينهم كحفظ القرآن والأحاديث وعلومها والصول والفقه والنحو واللغة ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف.
ومنه يحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب والهندسة.
ومنه تعلم الصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالزراعة ونحوها.
القسم الثالث النقل ويقال له التحسيني وهو كالتبحر في أصول الأدلة والإمعان فيما رواه القدر الذي يحصل به فرض الكفاية والتوسغ في فنون الأدب والمعقول.
آداب المدرس(75/44)
أهم ما يطلب منه أن يعتني به أدبه في نفسه وأدبه في درسه
القسم الأول أدبه في نفسه - وذلك في أمور (منها) أن يقصد بتعليمه وجه الحق سبحانه وتعالى لا توسلاً إلى غرض دنيوي كمال أو جاه أو شهرة أو تكثير المختلفين إليه أو نحو ذلك كما كان عليه سلف الأمة فقد قال الشافعي رحمه الله: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم عَلَى أن لا ينسب إليَّ حرف منه: وقال أيضاً: ما نظرت أحداً قط علي الغلبة ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق عَلَى يده:
(ومنها) أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها والخلال الحميدة والشيم المرضية التي أرشد إليها كالحلم والصبر والسخاء والجود وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة وملازمة الورع والوقار والتواضع والتنظف في البدن واللبسة.
(ومنها) الحذر من الحسد والرياء والإعجاب وتزكية النفس وإزراء الناس وإن كانوا دونه بدرجات.
(ومنها) أنه إذا ترخص في أمر جائز وخيف أن يظن خلافه أن يخبر أصحابه ومن يراه حقيقة ذلك الفعل لينتفعوا ولئلا يأثموا بظنهم السيئ.
القسم الثاني أدبه في درسه - وذلك أن لا يزال مجتهداً في الاشتغال بالعلم قراءة ومطالعة وتعليماً ومباحثة ومذاكرة وتصنيفاً.
وأن لا يستحي من السؤال عما لم يعلم روي أمير المؤمنين عمر أنه قال: من رق وجهه رق علمه: وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين:
وأن لا يمنعه منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه فقد كان كثير من السلف يستفيد من تلامذته ما ليس عنده، قال الإمام النووي: قد ثبت في الصحيح رواية جماعة من الصحابة عن التابعين وروى جماعة من التابعين عن تابعي التابعين، وهذا عمرو بن شعيب ليس تابعياً وروى عنه أكثر من سبعين من التابعين، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ لم يكن الذين كفروا عَلَى أُبي بن كعب وقال أمرني الله أن أقرأ عليك: ويسمون هذا النوع وراية الأكابر عن الأصاغر.
وأن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبة به ورأس ماله فلا يشتغل بغيره فإن اضطر(75/45)
إلى غيره في وقت فعل ذلك الغير بعد تحصيل وظيفته من العلم.
أدبه في تصنيفه
قال النووي: ينبغي أن يعتني بالتصنيف إذا تأهل له فيه يطلع عَلَى حقائق العلم ودقائقه ويثبت معه لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش والمطالعة، والتحقيق والمراجعة، والاطلاع عَلَى مختلف كلام الأئمة ومثقفه، وواضحه من مشكله، وصحيحه من ضعيفه، وجزله من ركيكه، وما الاعتراض عليه من غيره، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد.
وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له فإن ذلك يضره في دينه وعلمه وعرضه.
وليحذر أيضاً من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه وتكريره.
وليحرص عَلَى إيضاح العبارة وإيجازها فلا توضح إيضاحاً ينتهي إلى الركاكة ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى المحق والاستغلاق.
وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر والمراد بهذا أن لا يكون هناك مصنف يغني عن مصنفه في جميع أساليبه فإن أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ما يزيد زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب.
وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه.
آداب تعليمه
التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين والدنيا وبه يؤمن أمحاق العلم وفي التنزيل الحكيم: وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتموه وقال النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ الشاهد منكم الغائب.
يجب العلم لأن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، وأن أي جعله وسيلة إلى غرض دنيوي لأن ما كان خالصاً كان مستمراً غضاً في كل حين وما كان لغرض زال عند الظفر به فقات ما قصد له.
ولا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية فإنه يرجى له حسن النية. وربما عسر في كثير من المبتدئين وتصحيح النية فالامتناع من تعليمهم يؤدي إلى تفويت كثير من العلم مع(75/46)
أنه يرجى له تصحيحها إذا أنس بالعلم وقد قال بعض السلف طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله:: معناه أن كانت عاقبته أن صار لله.
وينبغي أن يؤدب المتعلم بالتدريج بالآداب السنية والشيم المرضية، ويحرض عَلَى الإخلاص والصدق وحسن النية.
وينبغي أن يرغبه بالعلم ويذكره بفضائله وفضائل علماءه.
وينبغي أن يحنو عليه ويعتنى بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده، ورجي مجرى ولده في الشفقة، عليه والاهتمام بمصالحه، ويعذره في سوءِ أدب وجفوة تعرض معه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرض للنقائص.
وينبغي أن يكون سمحاً ببذل ما حصله من العلم سهلاً عَلَى متبعيه متلطفاً في إفادته طالبه مع رفق ونصيحة وإرشاد إلى المهمات وتحريض عَلَى حفظ لم يبذله لهم من الفوائد.
ولا يذخر عنهم من أنواع العلم شيئاً يحتاجون إليه إذا كان الطالب أهلاً لذلك.
ولا يلقي إليه الشيء لم يتأهل له لئلا يفسد عليه حاله فلو سأله المتعلم عن ذلك لم يجبه ويعرفه أن منعه ليس شحاً بل شفقة ولطفاً.
وينبغي ألا يتعظم عَلَى المتعلمين بل يلين لهم ويتواضع وفي التنزيل الحكيم واخفض جناحك للمؤمنين.
وينبغي أن يكون حريصاً عَلَى تعليمهم مهتماتً به مؤثراً له ويرحب بهم عند إقبالهم إليه ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه، ويحسن إليه بعمله وماله وجاهه، ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته.
وينبغي أن يتفقدهم ويسال عمن غاب منهم.
وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهمهم وتقريب القائدة إلى أذهانهم حريصاً عَلَى هدايتهم.
ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة، ويخاطب كل واحد عَلَى قدر درجته وبحسب فهمه وهمته، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهماً محققاً ويوضح العبارة لغيره ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار.
ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل فإن جهل دليل بعضها ذكره له ويذكر الدلائل لمحتملها.(75/47)
ويذكر ما يرد عَلَى المسألة وجوابه إن أمكنه.
ويبين الدليل الضعيف لئلا يغتر به فيقول: استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا ويبين الدليل المعتمد ليعتمد.
ويفهمهم عَلَى غلط ما غلط فيها من المصنفين فيقول مثلاً: هذا هو الصواب وأما ما ذكره فلان فغلط أو فضعيف قاصداً التضحية لئلا يغتر به لا تنقيص القائل فإن الانتقاد إنما يكون للقول لا لقائله.
ويبين له جملاً من أسماء المشهورين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فمن بعدهم من الأئمة المشاهير وأنسابهم وكناهم وأعصارهم وطرق حكايتهم ونوادرهم، وضبط المشاكل من أنسابهم وصفاتهم، وتمييز المشتبه من ذلك، وجملاً من الألفاظ اللغوية والعرفية ضبطاً لمشكلها ومخفي معانيها فيقول هي مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة مخففة أو مشددة. مهموزة أولاً، عربية أو أعجمية أو معربة وهي التي أصلها عجمي وتكلمت بها العرب، معروفة أو غيرها، مشتقة أولاً، مشتركة أم لا، مترادفة أم لا، وإن المهموز والمشدد يخففان أم لا، وأن فيها لغة أخرى أم لا.
وإذا وقعة مسألة غريبة لطيفة أو مما يسأله عنها في المعاياة نبه عليها وعرفه حالها في كل ذلك ويكون تعليمه إياهم كل ذلك تدريجاً ليجتمع لهم طول الزمان جمل كثيرات.
وينبغي أن يحرضهم عَلَى الاشتغال في كل وقت ويطالبهم في أو قات محفوظاتهم ويسألهم عما ذكره لهم من المهمات فمن وجده حافظاً مراعياً له أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك، ومن وجده مقصراً لامه ويعيد له حتى يحفظه حفظاً واضحاً.
وينبغي أن يصنفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيراً.
وينبغي أن يقدم في تعليمهم إذا ازدحموا السبق فالأسبق ويتحرى تفهيمهم بأيسر الطرق ويذكره مترسلاً مبيناً واضحاً ويكرر ما يشكل من معانيه وألفاظه حتى يفهموه، وإذا لم يكن البيان إلا بالتصريح بعبارة يستحى في العادة من ذكرها فيذكروها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الأدب من ذلك فإن إيضاحها أهم من ذلك، وإنما يستحب الكناية في مثل هذا إذا علموا المقصود منها علماً جلياً وعلى هذا التفصيل يحمل ما ورد في الأحاديث من التصريح في وقت والكناية في وقت، ويؤخر ما ينبغي تأخيره ويقدم ما ينبغي تقديمه،(75/48)
ويقف في موضع الوقف، ويصل في موضع الوصل.
ويحسن خلقة مع جلسائه ويوقر فاضلهم بعلم أو سن أو شرف أو صلاح، ويتلطف بالباقين.
وينبغي أن يصرف يديه عن العبث وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة، ويعم الحاضرين بالتفاته ويجلس في موضع يبرز وجهه لهم.
ويقدم من دروسه أهمها فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الأصولين ثم الأهم فالأهم، ولا يقرأ الدرس وبه ما يزعجه كمرض أو جوع أو مدافعة الحدث أو شدة فرح أو غم.
ولا يطيل مجلسه إطالة تملهم أو تمنعهم فهم الدرس أو ضبطه، وليكن مجلسه واسعاً ولا يرفع صوته زيادة عن الحاجة ولا يخفضه خفضاً يمنع بعضهم كمال فهمه.
ويصون مجلسه من اللغط والحاضرين عن سوء الأدب في المباحثة، وإذا ظهر من أحدهم شيء من مبادئ ذلك تلطف في دفعه قبل انتشاره ويذكرهم أن اجتماعنا ينبغي أن يكون لله تعالى فلا يليق بنا المناقشة والمشاحنة بل سبيلنا الرفق والحياء واستفادة بعضنا من بعض واجتماع قلوبنا عَلَى ظهور الحق وحصول الفائدة.
وإذا سال سائل عن أعجوبة فلا يسخرون منه.
وإذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه أو لا أتحققه ولا يستنكف عن ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فمن العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكفلين رواه البخاري.
قالوا: وينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري: معناته يكثر منها، ولا يضع ذلك من منزلته بل يدل عَلَى وقور عقله وعظم محله لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة، بل يتمنع من لا أدري من قل علمه وقصرت معرفته وضعفت تقواه لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من عين سائليه أو سامعيه وهو جهالة منه بإقدامه عَلَى الجواب فيما لا يعمله يضر نفسه وغيره وقد يبوء بالخزي العاجل أولاً ثم الآجل وفي الحديث المتسبع بما لا يعطه كلابس ثوبي زور.
آداب الدارس المتعلم
أما آدابه في نفسه فكآداب المدرس وقد أوضحناها(75/49)
وينبغي أن يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم واستثماره، أن يقطع العلائق الشائكة عن كمال الاجتهاد، ويرضي باليسير من القوت ويصبر عَلَى ضيق العيش قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يستعان عَلَى العلم بجمع الهم ويستعان عَلَى حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة.
وقال الخطيب البغدادي: يستحب للطالب أن يكون عزباً ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة والاهتمام بالمعيشة عن إكمال طلب العلم.
وأن يتواضع للمعلم وينقاد له ويأتمر بأمره كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح.
ولا يأخذ العلم إلا ممن كم لت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته وكانت له دربة وخلق جميل وذهن صحيح واطلاع تام.
وينبغي أن ينظر معلمه بعين الاحترام والرجحان عَلَى أكثر طبقته فهو أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ ما تسمعه منه في ذهنه وقد قال الشافعي: كنت اصفح الورق بين يدي مالك رحمه الله صفحاً رفيقاً هيبة له لئلا يسمع رفعها. وقال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبة له.
ويروى عن علي كرم الله وجهه قال: من حق العالم عليك أن تسلم عَلَى القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، وتشير عنده بيدك ولا تغمزن بعينيك غيره ولا تقول قال فلان خلاف قوله ولا تغلبن عنده أحداً ولا تسار في مجلسه ولا بأحد بيوته ولا تلح عليه إذا كسل ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو عليك كالنخلة تنتظر متى يسقط عليها منك شيء.
ومن آداب المتعلم أن يتحرى رضاء العلم وإن خالف رأي نفسه ولا يفشي له سراً وأن يرد غيبته إذا سمعها فإن عجز فارق المجلس وأن لا يدخل عليه بغير إذن وإذا كان معه غيره قدم الأفضل والأسن وأن يدخل كامل الهيبة فارغ القلب من الشواغل متطهراً متنظفاً بسواك وقص ظفر وإزالة ريح ويسلم عَلَى الحاضرين بصوت يسمعهم ويخص الشيخ بزيادة إكرام وكذلك يسلم إذا انصرف.
ولا يتخطى رقاب الناس ويجلس حيث انتهى به المجلس إلا أن يأذن المعلم أو الحاضرون بالتقدم والتخطي أو يعلم من حالهم إيثار ذلك ولا يقم أحداً من مجلسه فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذ إلا أن يكون في ذلك مصلحة للحاضرين بأن يقرب من الأستاذ ويذاكره(75/50)
مذاكرة ينتفع منها الحاضرون بها ولا يجلس وسط الحلقة إلا لضرورة ولا بين الصالحين إلا برضاهما وإذا فسح له وقعد ويحرض عَلَى القرب من الأستاذ ليفهم كلامه فهماً كاملاً بلا مشقة عَلَى شريطة أن لا يرتفع في المجلس عَلَى أفضل منه.
ويتأدب مع رفقته وحاضري المجلس فإن تأدبه معهم تأدب مع الأستاذ واحترام لمجلسه ويقعد قعدة المتعلمين ولا يضحك ولا يكثر الكلام بلا حاجة ولا يعبث بيده ولا غيرها ولا يلتفت بلا حاجة بل يقبل عَلَى الأستاذ منصتاً إليه ولا يسبق إلى شرح مسالة أو جواب سؤال إلا أن يعلم رضاه فيستدل عَلَى فضيلة المتعلم.
ولا يقرا عَلَى أستاذه عند شغل قلبه وماله وغمه ونعاسه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه استيفاء الشرح ولا يسأله عن شيء في غير موضعه إلا أن يعلم من حاله أنه لا يكرهه ولا يلحح في السؤال إلحاحاً مضجراً ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه ويتلطف في سؤاله ويحسن خطابه ولا يستحي من السؤال عما أشكل إليه بل يستوضحه أكمل استيضاح فمن رق وجهه رق عمله ومن رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال.
وإذا قال له الأستاذ فهمت فلا يقل نعم حتى يتضح له المقصود إيضاحاً جلياً لئلا يكذب ويفوته الفهم ولا يستحي من قوله لم أفهم لأن استيثاقه يحصل له مصالح عاجلة وآجلة فمن العاجلة حفظ المسألة وسلامته من كذب ونفاق بإظهاره فهو ما لم يكن فهمه منها ومنها وثوق الأستاذ باعتنائه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه ومن الآجلة ثبوت الصواب في قلبه دائماً واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضية وعن الخليل بن أحمد منزلة الجهل بين الحياء والأنفة.
وينبغي إذا سمع الأستاذ يقول مسألة أو يحكي حكاية وهو يحفظها أن يصغي لها إصغاء من لا يحفظها.
وينبغي أن يكون حريصاً عَلَى التعلم مواظباً له في جميع أوقاته ليلاً ونهاراً حضراً وسفراً ولا يذهب من أوقاته شيئاً في غير العلم إلا بقدر ما لا بد له من أكل ونوم وراحة وما أجمل قول الشافعي: حق عَلَى طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلم والصبر عَلَى كل عارض دون طلبه وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصاً واستنباطاً والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.(75/51)
يقال: أجود أوقات الحفظ الإسحار ثم الغداة وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار لفراغ البال وهدوء الحركة ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع عن بعد المهيبات ولا يحمد الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق لأنها تمنع غالباً خلو القلب.
وإذا جفاه الأستاذ رجع إليه بالاعتذار واظهر ندمه وخطأه فذلك أنفع له ديناً ودنيا وأبقى لقلبه قالوا: من لم يصبر عَلَى ذل التعلم بقي دهره في عماية الجهل.
ومن آدابه الحلم والأناة وأن تكون همته عالية فلا يرضي باليسير من إمكان الكثير وأن لا يسوف في اشتغاله ولا يؤخر تحصيل فائدة وإن قلت إذا تمكن منها لأن للتأخير آفات ولا يحمل نفسه ما لا تطيق مخافة الملل.
وإذا جاء مجلس أستاذه ولم يجده انتظر ولا يفوت درسه.
وإذا وجحده نائماً لا يستأذن عليه بل يصبر حتى يستيقظ أو ينصرف والأحسن الصبر كما كان السلف يفعلون.
وينبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وحال الشباب وقوة البدن وبداهة الخاطر وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة فقد قال الشافعي: تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه:
ويعتني بتصحيح درسه الذي يحفظه تصحيحاً متقناً ويكرره مرات ليرسخه رسوخاً متأكداً ثم يراعيه بحيث لا يزال محفوظاً جيداً، وليذاكر محفوظاته وليدم الفكر فيها.
وينبغي أن يبدأ من دروسه وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالاً يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان، وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصراً ويبدأ بالأهم، ومن أهمها الحديث والأصول والنحو ثم الباقي.
وكلما أتقن مختصراً انتقل إلى أكبر منه مع المطالعة المتقنة والغاية الدائمة المحكمة وتعليق ما يراه من النفائس والغرائب وحل المشكلات مما يراه في المطالعة أو يسمعه من الأستاذ.
ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أي فن كانت بل يبادر إلى كتابتها ثم يواظب عَلَى(75/52)
مطالعة ما كتبه.
وليعتن بكل الدروس ويعلق عليها ما أمكن فإن عجز اعتنى بالأهم.
وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم من الطلبة إلى مواطن الاشتغال والفائدة ويذكر لهم ما استفاده عَلَى جهة النصيحة والمذاكرة.
ثمرة ذلك
قال الإمام النووي إثر ما تقدم: وإذا فعل ما ذكرناه، وتكاملت أهليته، واشتهرت فضيلته، اشتغل بالتصنيف، وجد في الجمع والتأليف، محققاً كل ما يذكره، ومبيناً في نقله واستنباطه، متحرياًُ لإيضاح العبارات، وبيان المشكلة مجتنباً العبارات الركيكات، والأدلة الواهيات، مستوعباً بعظم أحكام الفن غير مخل بشيء من أصوله منبهاً عَلَى القواعد فبذلك تظهر له الحقائق وتنكشف له المشكلات، ويطلع عَلَى الغوامض وحل المعضلات، ويعرف مذاهب العلماء والراجح من المرجوح، ويرتفع عن الجمود عَلَى محض التقليد، ويلتحق بالأئمة المجتهدين أو يقاربهم إن وفق الله وبالله التوفيق اهـ كلام النووي.
آداب يشترك فيها العالم والمتعلم
ينبغي لكل منهما أن لا يخل بوظيفته لعروض مرض خفيف ونحوه مما يمكن معه الاشتغال وأن لا يسأل أحداً تعنتاً وتعجزاً فالسائل تعنتاً وتعجزاً لا يستحق جواباً.
وأن يعتني بتحصيل الكتب شراءً واستعارة وليشتغل بنسخه أو استنساخه إذا كان نفيساً وليعتن بتصحيحه، ولا يرتض الاستعارة مع إمكان تحصيله، فإن استعاره لم يبطئ به لئلا يفوت الانتفاع به عَلَى صاحبه ولا يكسل عن تحصيل الفائدة منه، ولا يمتنع من إعارته غيره لأنه أعانه عَلَى العلم مع ما في مطلق العارية من الفضل (روي) أن رجلاً قال لبي العتاهية: أعرني كتابك قال: إني أكره ذلك قال: أما علمت أن المكارم موصولة بالمكاره: فأعاره، ويستحب شكر العير لإحسانه وليحذر من الإبطاء بها عن أربابها قال الزهري: إياك وغلول الكتب: يعني حبسها عن أصحابها، وبسبب حبسها امتنع غير واحد من إعارتها وانشدوا من ذلك أشياء كثيرة.
(خاتمة)
هذه النبذة من آداب المدرس والدارس أو المعلم والمتعلم مختصرة بالنسبة إلى ما جاء فيها(75/53)
وقد اردت إحياء ما قاله الأئمة المتقدمون في هذا وتطرية ذكره لما فيه من الفوائد والحكم والنصائح التي هي نتيجة ما أوصى بها السلف أيام استبحار العلوم ونضارتها في حضارة القرون الأولى، فليحرص المدرس والدارس عليها وليحافظ العالم أو المتعلم عَلَى التخلق بها والاهتداء بها، فثمرة العلم العمل وبالله الاستعانة وعليه المتكل.
دمشق
جمال الدين القاسمي(75/54)
مخطوطات ومطبوعات
مجموعة
المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سورية ولبنان من سنة 1840 إلى سنة 1910 المجلد الثالث من 26 تشرين الأول سنة 1860 إلى 5 آذار سنة 1861 ص 480 تعريب الشيخين فيليب وفريد الخازن صاحبي جريدة الأرز طبع بمطبعة الصبر في جونية (لبنان) سنة 1911
أحسنا لتاريخ هذه البلاد كل الإحسان معرباً هذا السفر النافع فإن جميع الناس لا يتيسر لهم الوصول إلى المظان الإفرنجية التي أخذ عنها والبلاد في حاجة إلى الاطلاع عَلَى ما دار بشأنها وعن أفكار الجانب فينا. وإن هذه المجموعة إذا كانت تفيد لبنان خاصة فإن سورية عامة تستفيد من تعريبها لأن حياة هذه البلاد كالسلسلة ترتبط حلقاتها بعضها ببعض. وكنا نود أن لا يتوسع المعربان في نقد إعمال معتمدي الدول ذوات الشأن في حوادث 1860 في سورية وأن لا ينظر لها كل ما أتته فرنسا في ذاك الحزين بأن الحكمة والإنسانية وحب الخير والتجرد عن كل طمع سياسي فإن آمال فرنسا في سورية معروفة منذ القديم وحمل أعمالها عَلَى مجرد الإحسان للبلاد ضرب من التجوز لا يحسن صدره ممن يقف موقف المؤرخ والأيام تدل عكس دعواه. وقد اجاد المعربان في الترجمة عن الإنكليزية والإفرنسية واكثر مصادرهما فرنسوية فجاء الكتاب مستوفى لولا وقوع بعض هنات لغوية واستعمالات غير مألوفة يسقط فيها أكثر كتاب العصر خصوصا من لا يساعدهم الوقت عَلَى النظر البليغ فيما ينشئون وينقلون كأرباب الصحف ولو كان في البلاد شيء من الرقي العلمي لتناورت عدة أيدي ما تخطه الأقلام بالنظر فيه قبل نشره كما هو الحال في بعض بلاد الغرب إلى اليوم ولاسيما قبل أن يكون أهل كل لغة من اللغات الإفرنجية محكمين لملكة الانشاء في لسانهم ويا حبذا نرى في كا مطبعة من مطابعنا عالماً مصححاً يعني بقويم الهفوات اللغوية والبيانية وغيرها ليخرج جميع كما نكتبه ونعربه سالماً من العيوب من كل وجه. وفي هذا المقام نعيد شكرنا للمعربين عَلَى نشاطهما وحسن بلائهما ونرجو لهما التوفيق إلى إتمام بقية أجزاء الكتاب ونحث محبي الاطلاع ودرس تاريخ هذه البلاد أن يقتنوه ويتدارسوه فهو أول كتاب سياسي يتعلق بحياة هذه الديار.(75/55)
دروس الجغرافيا
للسيد عبد الهادي الأعظمي طبع بمطبعة دنكور في بغداد سنة 1330 ص55
نرحب بكل كتاب علمي يصدر بالعربية في مصر وتونس والشام والعراق لأنه دليل النهوض الحقيقي والأمة العربية لا ترقى إلا إذا كان فيها كتب ابتدائية ووسطى وعليا في كل فن من فنون الحضارة. وقد اعتمد مؤلف هذه الرسالة عَلَى الكتب التركية وفقاص لبرنامج المعارف وتوسع في القسم الآخر وهو المتعلق بالبلاد العثمانية والقطر العراقي منها خاصة وخاطب فيه التلميذ الصغير خطاباً يروقه ويغرس فيه غرسة الوطنية ولسنا في رأي المؤلف في كلامه عَلَى تونس ولا في كلامه عَلَى طرابلس وبنغازي فقد قال في الأخيرتين وهي التي عليها تحاربنا بل تحاربها اليوم إيطاليا تريد اغتصابها وهيهات فستبوء بالخسران عاجلاً إن شاء الله. . . وهناك أخوانكم المجاهدون يدعونكم الآن للاشتراك معهم في هذه السعادة الأبدية الشهادة في سبيل حفظ الدين والوطن قال هذه العبارات لا دخل لها في وصف البلدان تعلم للصبيان كما أن القصيدة التي اقتبسها في الأسطول آخر الرسالة لا صلة بينها وبين الموضوع بمحال.
وقد وقعت في الرسالة تحريفات مطبعية ونحوية وجغرافية وغيرها شوهت وجه المعنى وأخرجته عن القصد أحياناً وكنا نود لو يعرى منها مصنف من ألف للأحداث حتى ينطبعوا منذ نشأتهم عَلَى الصواب. منها قوله الجغرافيا الطبيعي والجغرافيا الرياضي والجغرافيا السياسي والصواب الطبيعية الرياضية السياسية لأن لفظة الجغرافيا مؤنثة وقد طبع بذلك التركية ومنها قوله البر العتيق (لأوربا وآسيا وأفريقية) والاصطلاح أن يقال العالم القديم كما يقال العالم الجديد لا البر الجديد ومنها قوله (ص16) ساورينا سلجيا للجزيرتين المعروفتين في البحر الأبيض والصواب سردينيا وصقلية ومنها أن اسم عاصمة الجبل الأسود شتنبه والصواب ستنية أو جتنية وقوله جنوة في بلاد تركستان والصواب خيوة وجنوة في إيطاليا ومنا قوله أن مساحة سورية تبلغ 100 ألف كيلومتر مربع والأصح 115 ألفاً وفي تقويم غوتا أن مساحة لواء القدس 16 ألف كيلومتر مربع ومساحة متصرفية لبنان 3100 ولواء الزور 78 ألفاً (ويعد معظمه من سورية) وولاية سورية 95900 وولاية بيروت 16 الفاً وولاية حلب 86600 ونحو نصفها من بلا سورية. واخطأ في قوله(75/56)
أن الجزائر دخلت في حوزة فرنسا منذ قرن تقريباً والصحيح أنها بدأت بامتلاكها سنة 1830. ومن التحريفات في الإعلام قوله أن قصة جرابوب أهم مدن السنوسيين في أفريقية والصواب جغبوب وتابع اصطلاح بعض الكتاب في استعاضتهم عن صلى الله عليه وسلم بصلعم والأجدر بمقام النبوة أن يذكر اللفظ كله فإن بعض علماء المشرقيات في مطابع الغرب جروا عَلَى هذا الاصطلاح حب الاقتصار بادئ بدءٍ ثم رجعوا عنه فعسى أن يصلح ذلك في طبعة ثانية ويعارض أسماء البلدان عَلَى ما طبع من كتب الجغرافيا لعلماء العرب في أوربا ليتابعهم في اصطلاحهم وذلك مثل كتاب معجم ما استعجم للبكري وتقويم البلدان لأبي الفدا ومعجم البلدان لياقوت والمسالك والممالك لابن حوقل والتنبيه والإشراف للمسعودي ومسالك الممالك للإصطخري وصفة جزيرة العرب للهمداني والأعلاق النفيسة لابن رسته وأحسن التقاسيم للمقدسي وكتاب البلدان لابن الفقيه ومسالك الممالك لابن خرداذبة وزبدة كشف الممالك للظاهري وعجائب البر والبحر لشيخ الربوة وغيرها من الكتب الممتعة التي نفهم منها اصطلاحات العرب وتعابيرهم ومعظم ما ذكروه لم يطرأ عليه تغيير عَلَى كثرة ارتقاء علم الجغرافيا في العهد الأخير. وفي الخاتم لا نرى بداً من الثناء عَلَى المؤلف راجين أن يظل عَلَى نشر كل ما يبث المعارف بين الناشئة العربية.
كتاب خالد
هو مجلد في 349 صفحة نشر بالإنكليزية في نيويورك صديقنا أمين أفندي ريحاني وهو رواية فلسفية اجتماعية جموع فيها عن الكلام عن المدنية الشرقية والدنية الغربية أتى عَلَى ذكر الأوضاع الدينية والسياسية بلسان رشيق مفرط في الحرية شهد له العارفون بآداب اللغة الإنكليزية أنه يعد في الطبقة الأولى من أحكام بيانها وأنه شاعر غير مدافع في منظومه ومنثوره فعسى أن يكون لكتابه بين العارفين بتلك اللغة من الواقع ما كان لكتبه باللغة العربية من الأثر في إزالة غشاوة الأوهام وعساه ينقله إلى العربية فيستفيد منه المشارقة والمغاربة عَلَى حد سوى فالأقربون أولى بالمعروف ومثله من يغار عَلَى إنهاض الأمة العربية ويتوفر عَلَى تعليمها مما علم.
العقود اللؤلؤية(75/57)
- ; ' '
لليمن تواريخ كثيرة مختلفة الأزمان ومن أكبر مؤرخيها أبو الحسن علي بن حسن الخزرجي النسابة المعروف بابن وهاس المتوفي سنة 812 قال كاتب جلبي أنه عني بأخبار اليمن فجمع تاريخاً عَلَى السنين وآخر عَلَى الأسماء وآخر عَلَى الدول وغيرها. ومن جملة مصنفاته كتاب العقود اللؤلؤية فهو خاص تقريباً بتاريخ الدولة الرسولية نسبة لعلي بن رسول التي حكمت بلاد اليمن زهاء قرنين (626 - 845) وقد ظهر بعض علماء المشرقيات بنسخة منه في الهند فترجموه بالإنكليزية ونشرت الآن جمعية تذكار جب ثلاث مجلدات من الترجمة وسينشر الأصل العربي عما قريب وقد ترجمه ونشره أربعة من أئمة المشرقيان في إنكلترا وهم ريدهوس وبراون ونيكلسون وروجرس وسنفيض في الكلام عَلَى هذا التاريخ متى صدرت النسخة العربية منه ونكتفي الآن بإسداء أطيب الثناء من تمحضوا لخدمة الآداب والتواريخ العربية من العارفين بلغات الشرق من الغربيين ومن يعنون بنشرها أمثال لجنة تذكار جب.
دروس التاريخ الإسلامي
تالي فالشيخ محي الدين الخياط القسم الرابع ص248 طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت وبنفقة المكتبة الأهلية فيها سنة 1329
تكلمنا عن الأجزاء الأولى من هذا الكتاب وهذا الجزء يشتمل عَلَى مجمل تاريخ الدولة العباسية وقد جعله المؤلف جملاً كل جملة أو قطعة تحتوي خبراً يصح السكوت عليه وجعل في آخر كل درس أسئلة للطالب يجيب عليها فيدل بذلك إن كان فهم ما مر معه من الحوادث أو لم يفهمه. وذلك بتنسيق حسن وعبارة سهلة فصيحة لا شائبة فيها بحيث جاء كتابه مستوفى في موضوعه لصغار الطلاب في التاريخ وقد جعل في الأخير صفحات فيها زبدة ما مر بالدارس ثم اتبعه بجدول يبين فيه أزمنة دولة الخلفاء الراشدين والأموية والعباسية بالتاريخين الهجري والميلادي كل ذلك بحرف جلي وطبع مشرق ويا حبذا لو شكل بعض الأعلام التي قد تشبه عَلَى أكثر الطلاب وعساه يتدارك ذلك في الطبعة التالية وفقه الله لإتمام هذه السلاسل النافعة.
أريج الزهر(75/58)
تأليف الشيخ مصطفى الغرييني طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1329 - 1911 ص240
وهو كتاب أخلاقي اجتماعي أدبي حوى ما كتبه المؤلف من المقالات في الموضوعات المختلفة في الصحف والمجلات بعبارات سليمة من التعقيد عارية من الغلط اللغوي والبياني ترضاها الخاصة ولا تنبو عنها أسماع العامة كما اعتاد قلم المؤلف في الكتب المدرسية وغيرها مما نشره حتى الآن من منظومه ومنثوره. وكتابات مثل صديقنا المؤلف هي الحلقة الموصلة بين أكثر طبقات القراء والكتب العالية في الدب والاجتماع والأخلاق ومسهلة طرق تفهمها.
وقد قدم لهذا الكتاب الشيخ محي الدين الخياط الفاضل المشهور مقدمة رائقة بناها عَلَى حب الظهور وشرح ماله من الدخل في ارتقاء الأمم بعبارات تجمع المتانة سلاسة ثم عرف بصاحب المجموع واتى بنموذج من ادبه الغض وعرف المجموع وصاحبه بهذه الجملة هذا المجموع هو زهرة شبيبة فاضلة فاح أريجها غذ لم تدنسها أوضار الغرب ولم ينهكها ذبول الشرق فهو زهر أخلاق وفضائل بل هو غيرة مجسمة وحماسة تريد النهوض بناشئة الشرق والإشراف بهم عَلَى مدنية الغرب شأن أصحاب النفوس الكبيرة التي تريد الصعود من مدارج المجد والظهور من شرفات العلاء. .
ومن مقالات هذا السفر اللطيف. نهج البلاغة أو أساليب الكلام العربي. أيها الإنسان. أقحط رجال أم قحط وجدان. إلى الأمة العربية. التربية أساس النجاح. الأنانية وحب الذات. رجال الإصلاح. الإدارة. الألقاب والرتب. حديث مع النابتة. الانتقاد ومشارب المنتقدين. سعادة الحياة. دلائل التوحيد. أم القرى. مجلس الأمة. المال والشرف. العادات. الميسر. الاستقلال الشخصي. القابلية والفاعلية. النظامات والأمم. الثورة الأدبية. السد الاجتماعي. الرابطة الدينية. الخرافات والبدع الدينية. العرب والترك. اللغة العربية وغير ذلك مما لا يخلو من الخطابيات للتأثير في الجمهور وهي تشف عن غيرة وطنية وإرادة قوية في السعي لإنهاض العقول من كبوتها في الشرق الإسلامي. فتحث المتأدبين عَلَى اقتناء هذا الكتاب وفق الله مؤلفه إلى إتمام ما يريد من التأليف والنشر فإن المؤلفين من المسلمين في بلاد الشام قلائل جداً والمجيد فيهم أقل وبعض من يقتدرون عَلَى الوضع والنقل شغلوا(75/59)
بالخوض في الموضوعات السياسية الزمنية في الصحف فأضاعوا ملكاتهم إلا قليلاً وهيهات أن ترتقي أمة يكون معظم أهلها ساسة ولذا وجب علينا تكريم كل من يتصدى لنفع أمته من طريق الإصلاح العلمي والأدبي والديني من أهل هذه الديار وفي جملتهم مؤلف أريج الذهب.
البصائر
مجلة جديدة تصدر في بيروت مرة في الشهر لمنشئها جميل بك العظم وقيمة اشتراكها ريالان وعدد صفحاتها 40 ومن مقالاتها مقالة في التنجيم والمنجمين وأخرى في الخط ومشاهير الخطاطين وهي تطبع كل شهر ملزمة من مخطوط قديم وبدأت الآن بنشر كتاب تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين للفيروز آبادي صاحب القاموس. والمؤلف من الفاضل الذين يحسنون الكاتبة بالتركية والعربية له اطلاع مهم عَلَى المخطوطات العربية ووقوف عَلَى الأدب وما ينبغي له ولذلك يرجى أن ينفع الآداب العربية بمجلته لأنه يعرف الانتقاء ويحسن التأليف ويعد في جملة الأكفاء الذين أفدوا عَلَى نشر المجلات في الشام بعد حرية المطبوعات فعسى أن يثبت في خطته التي اختطها في مجلته والثبات أس النجاح في كل الأعمال ولاسيما العلمية التي قلما يجد عليها صاحبها تنشيطاً مادياً أو معنوياً في بلاد تسعة أعشار أهلها أميون والمتعلم منهم لا يعرف غير القشور دع عنك من كتب لهم الدروس العالية ومعظمهم لا يهتمون بغير التجارة والوظائف.(75/60)
أخبار وأفكار
العرب والتجارة
بين تخوم آسيا وأفريقية تيقظ شعب يعهد سكوتاً لكنه سيستولي عَلَى البحر الرومي ثم يتدخل لينافس الغربيين ونحن الآن لا يمكننا أن نقول شيئاً عن الحروب الصليبية قبل أن نذكر طرائف تلك الأمة ونبيها محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى البعثة المحمدية. كان العرب أنسباء اليهود يعيشون العيشة الرعائية غير أنهم عشاق سفر امتازوا بحب التجول وقوة الهجوم وشدة الانفعال وليس لهم إلا الشرف وحب الشعر والأدب وبغض الكذب مذهب يدينون به عَلَى أن أكثر الأديان التي وجدت قبل البعثة المحمدية كانت تشابه العقيدة الفتشية وتجير الاستلاب لا رابطة بين القبائل تضم الشعث سوى احتفالهم العام في أم القرى كل عام.
كان الأنبياء الحنيفيون منذ القرن السادس من التاريخ المسيحي تثرى عَلَى العرب لقطع شأفة الوثنية وإرجاعهم لملة أبيهم إبراهيم ومحمد أحد هؤلاء الحنيفيين بيد أنه أفصحهم لساناً وأكثرهم إقناعاً للعقول.
ولد محمد في مكة عام 570 بين القرشيين سدنة الكعبة ومروجي سلع عقائدهم القديمة فما قام ينذر ويكبر حتى خاصمه أهل قبيلته بل اقرب الناس إليه وقاوموه جد المقاومة فلم ير بداً من المهاجرة إلى يثرب التي سميت بعدئذ بالمدينة وهنا ابتدأ تاريخ المسلمين الهجري موافقاً 16 تموز 622م.
وبعد دخول يثرب وجد بلداً طيباً لبذر بذور دعوته فاتخذ له أنصاراً مخلصين اشتد بهم أزره فأعلن الحرب عَلَى المكيين ثم دخل مكة وطنه ظافراً وكسر فيها الأصنام ونشر الحكمة والكتاب وجمع شملهم بآصرة الوحدة الإسلامية العربية ثم توفي بعد أداء وظيفته العظمى عام 632.
الإسلام أو الاستسلام إلى الله بعث إلى أتباع محمد وأنصاره روح النشاط والغيرة وعصبية ملكتهم زمام العالم وجعلتهم أساتذة إذ في قرن واحد أي من 632 إلى 732 استولى خلفاؤه الصحابة الراشدون والأمويون الوارثون ومن بعدهم عَلَى سورية وفلسطين والجزيرة سنة 638 ومصر 639 وفارس 642 ثم تتابع استيلاؤهم عَلَى تركستان وقطعة من الهند وبلاد(75/61)
الأرمن وقبرص وإقيريطش (كريت) وطرابلس الغرب وأفريقية الشمالية كلها وعلى صقلية وسردينيا والجزائر البالبارية ثم هجم تيارهم عَلَى بلاد غاليا الإفرنجية وهدد هناك كيان النصرانية إلا أنه وقف هذا التيار الجارف في بواطيه عام 732م
وإن استبحار عمرانهم وسرعة انتشار سلطتهم في المسكونة لما يساعد كثيراً عَلَى فهم مكانة المدنية العربية تلك المدنية التي يعتقد بدينها اليوم أكثر من 300 مليون من البشر فقد كانت هذه الحضارة الباهرة في القرون الوسطى مزيجاً من المدنية البيزنطية والمسيحية وتم هذا المزيج المدني بأمرين الأول عشق العرب للتجارة والثاني غرامهم بالاستعمار وقد قال نبي العرب الذي كان قائد قوافل في حداثته ثم صار تاجراً: (إن الله يحب المؤمن المحترف) وأمر العرب أن يدرسوا فنون الأدب والعلوم قائلاً (الناس عالم ومتعلم ولا خير فيما بينهما) ولذلك أصبحوا لذكائهم الوقاد وحب اطلاعهم عَلَى كل شيء يخوضون غمار العلوم الطبيعية والرياضية فابتدعوا الكيمياء وبرعوا بها وطبقوا تلك العلوم عَلَى الزراعة والصناعة ولهم المنة عَلَى سائر الأمم بأرقامهم العربية النائبة مناب الرومانية وباستنباطهم فن الجبر والمقابلة واختصارهم الهندسة وأعمالهم الجميلة الفلكية في أبحاث سميت الشمس ومعادلة الليل والنهار والبقع الشمسية فقد اصطنعوا الآلات العجيبة الفلكية كالإسطرلاب ونحوه واكتشف كيماويوهم وأطباؤهم خواص الألكحول والنشادر وحامض الآزوت والكبريت والمياه المعدنية وأدخلوا في كثير من علاجاتهم مواد من نبات بلادهم الوطنية كالكافور والراوند والسنامكي وقد أوصلتهم قرائحهم التاريخية لإنشاء عمل شعري بديع وهو ألف ليلة وليلة أقول وهم أسرع الناس إلى تدوين أنسابهم وملاحمهم وأبطالهم ورواية أشعارهم والكتابة في الفلسفة والتاريخ وفنون الاجتماع كابن خلدون وغيره من جهابذة الإسلام.
أما الفنون الجميلة فإن العرب نهجوا فيها نهج البيزنطيين ولم يخالفوهم إلا بعدم تجسيم الحيوان ولكنهم استعاضوا عنه بالنقش النباتي من تشبك أوراق وأقواس باهرة وفصفصة زاهرة وآطام ومعاهد ساحرة كقصور تونس ومصر وبغداد وجامع عمر في القدس وجامع قرطبة والقصر في أشبيلية والحمراء في غرناطة الخ.
والعرب عمال زراعة ورجال براعة فقد برعوا في سقي الجنائن واخترعوا النواعير(75/62)
العجيبة بل ووطنوا النباتات والأشجار الأفريقية والآسيوية في أوربا كالنخل والبرتقال والتوت والقطن وقصب السكر والذرة والأرز والحنطة السوداء والزعفران والهندباء والخرشوف والسبانخ والباذنجان والطرخون والبصل والياسمين الخ.
وينسب إليهم اختراع طواحين الهواء ونواعير الماء وهم هم الصناع المجيدون الأولى صنعوا الجلود القرطبية وعملوا البسط الفاخرة ونسيج الشف (برنجك) والحرير سيما الأقمشة الموصلية والأقمشة والأسلحة الدمشقية وبخارى دمشق وبلنسية ومعامل الزجاج الملون ومصانع الفخار اللامع والأواني المغربية وموارد أخرى عديدة بها أثرت بغداد طليطلة وقرطبة.
وفي التجارة أحرز العرب فوق النضال عَلَى سواهم فقد رقوا الصناعة البحرية ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة واستعاروا بيت الإبرة من الصينيين (بوصلة) وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر أي ضبط وشرحوا الكفالة وأنشأوا المصارف للفقراء ووضعوا السفاتج (كمبيالة) المألوفة وردود التمسك (بروستو) وبعثوا روح الحركة في مصارفنا الحديثة.
وكنت تراهم حيثما سكنوا مهدوا السبيل وعمروا المرافئ والفرض وأصلحوا وأنشأوا الفنادق والرباطات ورتبوا سير القوافل الاقتصادية ولم تكن المدن الإسلامية غير أوساط تجارية كبرى وبغداد دار السلام لم تكن من القرن الثامن للعاشر وميناؤها الصرة غير مستودعات للشرق بحذافيره فقد كان بها مليون من السكان وكان لتجارها الكبار علائق مع الموصل والبلاد الأرمنية وفارس وتركستان (بخارى وسمرقند) والهند وجزائر الصوند (جاوة وسومطرة) التي كانت تبيع الأخشاب الثمينة وكانوا يواصلون الصين بطريقتين بري وهو ما نهجه الرومانيون ممتد في سهول البابير ووادي تاريم والآخر بحري وهو المحيط الهندي ومحطاته مرفأ قانطون وستيغارة القديمة التي كانوا يجلبون منها الأقمشة الحريرية والأواني الصينية وقطن نانكين والورق الأرزي وصمغ اللك ثم يرجعون أدراجهم إلى بغداد لتوزيعها عَلَى سائر الجهات التي يستعمل أهلوها سكة الخلفاء. والدرهم الفضي كان يساوي نحو فرنك والدينار الذهبي مقدار 13 أو 14 فرنكاً وقد أهدى هارون الرشيد خليفة بغداد لشارلمان الأقمشة الحريرية والعطور وشمعداناً مشعباً من القلز (برونز) وساعة مائية كانت سبباً لإعجاب فرنجة إيكس لاشابل فقابله عَلَى ذلك بالخيول المطهمة(75/63)
والبغال المزينة وكلاب الصيد وأقمشة مدنية فريز الصوفية.
وكانت بغداد متصلة بكابل لأسواقها الشهيرة مع سمرقند وحلب المرتبطتين بحبل من القوافل السيارة متين. وهكذا كان ينقل شال كشمير وأقمشتها ومسك التبت وتركستان وعقاقيرها عَلَى ظهور الجمال في الغدو والآصال. وكانت دمشق مدينة الصناعة الجميلة مركز تجارة شبه جزيرة العرب ومصر وسورية. وبواسطة ثغر السويس كانت تصل العرب بضائع عدن وجدة. وقد تحول لمصر قسم عظيم من الحركة التجارية وذلك من البلاد التي نبتت فيها البذور الإسلامية كالشرق الأقصى ومنه الصين وماليزيا وأصقاع قروناندل ومالابار وجزيرة مدغسكر وقد أنشأ الخلفاء الفاطميون مصر القاهرة أي مدينة النصر ولا تبعد عن منفيس القديمة كثيراً.
واحتفظت مدينة الإسكندرية ملياً بمكانتها السابقة وجرفت عربها نهر تراجان مرة ثانية وبه شدد وثائق النيل بالبحر الأحمر وسبروا بأسفارهم أغوار بلاد الحبشان وكردوفان وأسسوا المكاتب التجارية في أقطار أفريقية الشرقية ومونباسا وكيلوا وموزامبيق وصوفيا وميلندا وجلبوا منها المسحوق الذهبي والعاج وحراشف السلاحف البحرية وأصبح في المغرب من العواصم الشهيرة كالقيروان ومرفأها السوس الصغير وأرغلا وواحتها الغنية في الصحراء الجزائرية وتلمسان وفاس وغيرها من المدن الكبرى التي كانت ينابيع البيع والشراء والأخذ والعطاء.
وكان سكان فاس 500 ألف وتصدر مختلف الأصواف والجواهر (المعادن) والعطور والجلود المراكشية واستعمرت مستعمرات في فزان وطواط والسودان وكانت طمبكتو التي يقطعها نهر النيجر مجمعاً كبيراً من مجامع الوكلاء التجارية. وأما قرطبة عاصمة الأندلس فقد كانت تحتوي عَلَى مليون من البشر وعلى 273 ألف بيت و60 ألف قصر (خلعت عليه جمالها الأيام) وكانت في أشبيلية 300 ألف نسمة وطليطلة 200 ألف وكذلك غرناطة وقادس ومالقة والمرية ومرسية وجيان وطليطلة وسرقسطة وبرشلونة فقد كانت هذه البلاد تضم بين جوانحها مختلف الشعوب الإسبانية ومتباين الأمم الغربية التي كانت ترد حياضها لتناول أقداح العلوم والصنائع والفنون ولجلب صنائع التبرج والزينة ودامت العلائق الاقتصادية زمناً بين بيزر ومونبليه الفرنسويتين وبين إسبانيا المسلمة.(75/64)
وأما برشلونة وأشبيلية فكانتا من أكبر الموانئ الإسبانية وكانت الأولى ترسل سفنها للمغرب وآسيا الصغرى ورودس والقسطنطينية وعقدت في مصر معاهدات شتى مع بيزا وجنوة الإيطاليتين في مسائل الحوالات وسائر أعمال المصارف. وأما أشبيلية فكانت تبعث أساطيلها وعماراتها للأوقيانوس الأطلانطيكي لمداهمة الجزائر البريطانية وبلاد القاع (هولاندة).
وإن تعجب فأعجب للعرب كيف نبغ بينهم لأسفارهم المترامية أساتذة جغرافيون شذبوا بأقل وقت كتاب بطليموس واكتشفوا بلاداً أخرى بغير أقدامهم لم توطأ ووسعوا المصورات التقويمية للغربيين وأشربوهم ذوق التنقل وحب الترحال نخص بالذكر منهم المسعودي وابن حوقل وابن بطوطة والإصطخري ونرفع بين مشاهير الرواد راية سليمان وأبي زيد حسان اللذان عاشا للقرن التاسع ولقبا بالمحمديين وجاب أولهما شبه جزيرة مالقا واكتشف سلسلة الجبال المسماة باسمه لليوم وسبر طول نهر السند واطلع ثانيهما عَلَى أحوال ماليزيا والتبت وأقطار المحيط الهندي الأفريقية. وكم وكم عادت الحروب الصليبية عَلَى الغرب بخيرات لا تستقصى ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصبي الكنيسي لكفى. وذلك لما رآه الصليبيون من تسامح المسلمين وتساهل مشاهير أمرائهم مثل صلاح الدين الأيوبي والملك العادل اللذين لقي منهم أهل الصليب كل شرف ولطف وتفضل وبضدها تتميز الأشياء ولذلك يمكننا أن نقول أن الكنيسة ورؤساءها كبطرس الراهب الذين أرادوا تقويتها ورفعة شأنها لم يسعوا لحتفهم إلا بظلفهم لأن تلك الحروب لم تجدهم إلا شراً.
وإذا تألم الوجدان من تصالح الغرب مع الشرق وانقطاع ينابيع الدماء لذلك فقد اكتسبت هاتان الأمتان من الفوائد المادية والأخلاقية التي أذاقتهم طعم السعادة ما نساهم أيام الشقاء. وهكذا ترى البحارة انتشرت بعد الحروب الصليبية أكثر من انتشارهم أيام الممالك الرومانية فتعودت أوربا من العرب عادات الفضيلة والمدنية وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس وابتدأ الغربيون يطوفون اقتباساً عن العرب مختلف أنواع النبات والحيوان واخذوا يصنعون الأقمشة القطنية والحريرية وسكر القصب والألكحول وقلدوا العرب في أزيائهم وعمل الأسلحة العربية ثم توطد الأمن واتحدت العلائق والإسلاميون وذاق الصليبيون لذة الأسفار بعد حروبهم حتى صار الآسيويون من الرأس الأصفر لا يخشون من رحيلهم إلى(75/65)
رومية وليون وبرشلونة وباريس بل ولوندرا العصيبة.
انقلب مجن الزمان بعد تلك الحروب وزالت الريب والمخاوف وابتدأ المتصالحون يمتلكون هذه الأرض يسبرونها ويشكون في هيئتها حتى جرهم ترقي الجغرافيا لاكتشافات عديدة في العلوم الطبيعية والفلسفية بله نقول أيضاً أن تلك الحروب الصليبية وإن سبقت رواج أسواق النجارة غير أن هذه التجارة قد قربت متفرق المتحاربين ورأبت منهم الصدع وأسقطت السلاح من أيديهم وقدمت الهيئة الاجتماعية كثيراً.
دمشق
المترجم: عز الدين شيخ السروجية
أخوان روح القدس
كل دعوة تجد في أميركا بلاد الغرائب أنصاراً وكل مذهب يصادف أخواناً وأخداناً. وقد قرأنا في المجلة مقالة في مذهب جديد نشأ منذ بضع عشرة سنة يزعم أربابه أن المرضى مأخوذون لا يشفون إلا بطرد الشيطان عن أجسامهم بضربات من التوراة. نشأ هذا المذهب في ولاية مين في دورها. ثم انتشر بفضل رئيسه فرانك ستانفورد الذي يدعوه أشياعه إلياس الثاني ويرونه ظل الله عَلَى الأرض عَلَى أن من لا يعتقدون فيه يرونه من أبرع المشتغلين بالروحانيات أما الملحدون فيعتبرونه متعصباً محتالاً.
ولما شرع هذا الرجل بتأسيس معبد لشيعته لم يكن يملك قرشاً فتبرع أحد الأخوان بالأرض وعمروها في مدة قليلة ومنهم المهندس والبناء ومنهم الذي أتى بالأحجار وآخر بالأخشاب وغيره بمواد البناء ومنهم من وقف ماله كله بحيث لم يمض عَلَى تأسيس هذه الشيعة 15 سنة إذ تأسست سنة 1896 حتى أصبح رأس المال لها نصف مليون فرانك أتت كلها من صلوات يتلوها صاحب المذهب والأخوان يعتمدون عَلَى الله ولذلك يرون أنهم يغنيهم رب السماوات وقد زعموا أن الله بذاته أوعز بإنشاء هذا المعبد وقدر انجازه عَلَى أتم صوره مع ما يتبعه من مستشفى ذو أربع طبقات ومدارس ومساكن وغير ذلك فكانت الدراهم إذا نضبت يأتيهم الفرج من حيث لم يحتسبوا فيغادرون العمل ويزعمون أن مئات أووا إلى هذا المستشفى فشفوا من أوصابهم من فالج وغيره بضرب كتاب التوراة عَلَى الحائط فما هو إلا أن تغادر أجسامهم الشياطين التي تلبستها وقد ثبت ذلك فيما قالوا بألوف من(75/66)
الشهادات عَلَى أن التطبب في هذا المستشفى مجاني يدخله الأخوان وغيرهم.
ويدعي ستانفورد أنه ينفذ إرادة الله عَلَى الأرض فيصعد كل يوم إلى برج عالٍ في المعبد ويكلم المولى كما كزان يفعل موسى الكليم يستملي أوامره تعالى ثم يبلغها أخوانه فيجيبون عليها بالسكوت.
وأصل ستانفورد قس من أهل كنيسة الباتيست في نيوهاميشر وهو قوي نشط شاب تخلى أول أمره عن كل ما يملك وبقي يسيح ثلاث سنين ونصفاً فنصح له أصحابه أن لا يأتي ما أتى من ترك راحته وزوجته فلمك يسمع وبث دعوته فقبلها من قبلها متأثرين من هيئته العظيمة وحركته الآمرة وكلامه المقنع وأسسوا المعبد في مكان عالٍ مشرف عَلَى مدينة مين ووضعوا تحت أمره مصرف الله وكل ما فيه للرب أقام ستانفورد وكيلاً عنه.
ثم رأى هؤلاء الأخوان أن يبثوا دعوتهم في أقطار الأرض فاتخذوا لهم أسطولاً يركبونه هم وحدهم وهم يتولون بأنفسهم جميع أموره وهو عبارة عن سفينتين ويخت وهذا الأسطول ساعد ستانفورد وأشياعه أن يطوفوا أهم بلاد الكرة الأرضية فبينا كنت تراهم في ليفربول إذا هم في فلسطين وكانت الصلوات تقام في غياب ستانفورد كما لو كان حاضراً يقيمها أكبر الجماعة سناً ويعتقدون بأن روح صاحب المذهب لا تفتأ تدبر أمرهم. وهم اشتراكيون بالفعل فينال كل أخ في اليوم كمية محددة من الخبز والطحين تقل وتكثر بحسب الإيجاب من السماوات التي ينفذ أمرها ستانفورد وجميع الخوان يعتمدون عَلَى الله ولا يحسبون حساب الغد بل الله كفيل بحاجاتهم ويتعلم الأولاد كلهم في المدارس الاعتماد عَلَى الله بحيث أن هؤلاء الجماعة لا يحزنون ولا يتأثرون حتى لمصابهم في أعزتهم فإذا مات لهم عزيز يجعلونه في نعشه بدون احتفال ولا أبهة ولا يبكون عليه ويعتقدون أن الجسم هو غشاوة الروح التي يرفعها الله إليه وهو حر مطلق فيها وما التألم للمصاب إلا وهم وعبارة عن قامة الحجة عَلَى عمل المولى ولا يحفلون كثيراً بقبور موتاهم بل يكتبون اسم المتوفى بدون اسم أسرته بحيث يدرس بعد حين. وكان عدد هذه الشيعة إبان إنشائها نحو مائتي نسمة ولم يزد عددهم كثيراً بعد ولكن لهم في جميع الولايات المتحدة أشياع يمثلون ستانفورد في مذهبه ومن هؤلاء الأخوان من كانوا أغنياء فتخلوا عن كل ما تملك أيديهم للطائفة ومنهم من كان يملك الخمسين أو المئة ألف فرنك.(75/67)
وقد كتب ستانفورد كيف تدار آسيا وأفريقية وأوربا والشرق الأقصى والصين واليابان وجزائر مالايو ومصر وفلسطين وإيطاليا وفرنسا وإنكلترا لخدمة طائفته قال لقد أقنعتني هذه السياحات بأنه من المتعذر نشر الإنجيل بسرعة في مجموع شعوب الكرة الأرضية فإن هذا العمل من الأوهام لأن كثيراً من البشر لم يسمعوا باسم الله قط ولا يعتقدون بشيءٍ في حين ينبئ كل شيءٍ بوجود الله إلا هذا الإنسان الذي يكفر به كما قال شاتوبريان فإن عشب الوادي وأرز الجبل تقدسه والحشرة تطن بمديحه والفيل يسلم عليه في الصباح الطير يتغنى باسمه في الأوراق والصاعقة تبث قدرته والبحر المحيط يعلن عظمته واتساع ملكوته وما غير الإنسان منكر للصنائع ولا أكاد أجد ثلاثة ملايين من سكان الرض كلهم لا يعرفون من هو المسيح وإني لا أعتقد بأن الناس سيعرضون عَلَى الديان في اليوم الأكبر مقسومين إلى قسمين قسم يقوده المسيح والآخر المسيح الدجال إلى غير ذلك من العقائد وبعضه ملفق من الأديان السماوية وبعضه من عادات القوم وتقاليد صاحب المذهب.
محصول الذهب والفضة
كتب إيف كويو الاقتصادي الشهير رئيس تحرير مجلة الاقتصاديين الباريزية مقالة في الذهب والفضة قال فيها ما تعريبه ملخصاً: كانت أوربا عَلَى عهد اكتشاف أميركا سنة 1492 فقيرة جداً بالمعادن الكريمة تملك ما قيمته نحو مليار فرنك من الذهب والفضة وباكتشاف أميركا انصرفت الرغبة إلى جلب الأبيض والأصفر. ويؤخذ من تقرير وضعه بعض الاقتصاديين متخذ ين الكيلو غراماً واحداً قياساً فقدروا كيلو غرام الذهب بـ 3444 فرنكاً و44 سنتيماً وكيلو غرام الفضة بـ 222 فرنكاً - إنه بلغ محصول الذهب من سنة 1493 - 1520 5800 كيلو غام قيمتها 20 مليون فرنك ومحصول الفضة 47 ألف كيلو قيمتها 10 ملايين فرنك وهكذا تدرج المحصول بحسب الأدوار حتى بلغ ما استخرج من الذهب من سنة 1581 - 1600 7380 كيلو من الذهب قيمتها 25 مليون فرنك و418900 كيلو من الفضة قيمتها 93 مليوناً. وكان مجموع محصول الذهب والفضة من سنة 1561 إلى سنة 1580 - 1800 مليون وفي العشرين السنة التالية بلغ مجموع ثمن المستخرج من المعدنين 2370 وهكذا بلغ مجموع قيمة ما استخرج من الذهب والفضة خلال مئة وسبع سنين 4170 مليون فرنك أي نحو أربعة أضعاف ما كان في أوربا عَلَى(75/68)
عهد الفتح الأميركي سنة 1492 ومع كل هذا فإن إسبانيا لم تغتن بما ورد عليها أكثر من جميع ممالك أوربا من الذهب ووقعت في ضائقة لا مثيل لها وأصبح جند فيليب الثاني بلا طعام ولا علوفات فيعيشون بالنهب والحاجيات غالية غلاءً فاحشاً أدى لوقوع الشكايات العامة.
فحددوا سعر الحنطة ومنعوا إصدار المصنوعات إلى أميركا كما منعوا إخراج الصوف فكان المعدنان الكريمان ينهالان عَلَى انفرس بواسطة صيارفة جنويين.
وما برح الاقتصاديون منذ بودين في القرن السابع عشر إلى لوك إلى مونتسكيو إلى دافيد هوم إلى جايمس ميل إلى نيكلسون وإضرابهم يقولون في ارتفاع أسعار الذهب والفضة آراء وإن اختلفت في ألفاظها فمآلها واحد فقد قال هوم: زيدوا البضائع تنزل قيمتها وزيدوا النقود ترتفع قيمتها. وقال الأستاذ نيكلسون: الذهب ريح التجارة ومد الصناعة وجزرها وكثرته وقلته يعلي أو يخفض الأسعار العامة كالريح أو الجزر يزيد أو يخفف سرعة البواخر.
وبعد فقد كان محصول الذهب مدة 358 سنة أي من سنة 1493 إلى 1850 4752000 كيلو قيمتها 16736 مليون فرنك ومحصول الفضة 149826000 كيلو ثمنها 40617 مليون فرنك وبلغ محصول الذهب من سنة 1851 إلى 1875 (16448) مليون فرنك أي أنه تضاعف وبلغ محصوله من سنة 1876 - 1910 (39) مليار فرنك أي أن مجموع محصوله في 35 سنة ساوى المجموع السابق كله وزاد عليه 18 في المئة وقد زاد محصول الذهب منذ اكتشف مناجمه في كاليفورنيا سنة 1849 وفي أوستراليا سنة 1850.
وزادت حركة الغنى في أوربا بعد سنة 1847 وقت المجاعة ثم وقفت وقوفاً مؤقتاً زمن الثورات التي حدثت من سنة 1848 إلى 1849 في بعض بلاد أوربا وبعد قبول إنكلترا لقانون حرية المقايضة فقبض الناس أيديهم وتعطلوا عن العمل ونهبت الأموال فلما زالت تلك الغشاوة عادت الحركة أكثر من قبل وكثر الطلب أكثر من العرض كما هي العادة في مثل هذه الأحوال بعد اشتداد النوازل وتكاثر الأهوال وكلما كان معدنوا الذهب في كاليفورنيا وأوستراليا يغرقون بما يستخرجونه منة هذا المعدن الكريم وهم في حاجة للمصنوعات والمأكولات كانت الحركة تزيد بين الأمم وتربح من ذلك البلاد الصناعية(75/69)
أرباحاً هائلة فضاعفت إنكلترا من سنة 1850 إلى سنة 1856 خطوطها الحديدية فحدث 4000 ميل زيادة وأنفق من هذا الذهب في حرب القريم كمية ولكن كل حرب يعقبها ارتفاع في الأسعار. فالنشاط في الصناعة قد بدأ من جلب الذهب من كاليفورنيا وأوستراليا إلى شرقي الولايات المتحدة فانشأت خطوطاً حديدية كثيرة بحيث بلغ ما مدته من سنة 1849 - 1857 (21) ألف كيلومتر ومن ذلك راجت سوق المضاربات والمصارف وكان من أمر هذه الحركة في ارتفاع السعار أن عادت فحدثت أزمة مالية في أميركا فاغلق فيها 150 مصرفاً دع عنك شركات الضمان التي أفلست ولم يبق من مصارف نيويورك سوى مصرف واحد من 69 مصرفاً استطاع أن يؤدي ما عليه واصاب إنكلترا من هذه الضائقة شيء كثير إذ كان لها في أميركا من الأموال ما تبلغ قيمته ثمانين مليون ليرة وعقيب حرب إيطاليا وحرب الشمال مع الجنوب في أميركا عادت الأسعار فارتفعت لا لكثرة الذهب بل لأن الذهب أصبح يقايض عليه بورق.
ولئن كان المعول عَلَى الذهب في مقايضات الأمم فإن البلاد ذات العيارين أي التي تتعامل بالذهب عَلَى حد سواء ظلت ينهال عليها الذهب ومع هذا لم ترتفع أسعار الحاجيات عَلَى تلك النسبة فالحنطة لم ترتفع إلا بفضل الولايات المتحدة والسكر نزلت أسعاره لكثرة انتشار زراعة الشوندر وبفضل فتح برزخ السويس وتسهيل طرق الملاحة لم ترتفع أسعار الشاي وكثر محصول الحديد وخف سعره ولكتن كثر الطلب عليه بسرعة وزادت أسعار اللحم والجلد زيادة فاحشة وكان من نتائج حرب النمسا وبروسيا ارتفاع الأجور كما كان من نتائج حرب فرنسا وألمانيا أن صرف فيها مباشرة أو بالواسطة 14 مليار فرنك ثم أنشئت في الولايات المتحدة والنمسا وروسيا ألوف من الكيلومترات من الخطوط الحديدية. وكان من أمر الغرامة الحربية التي أخذتها ألمانيا من فرنسا أن زادت الحركة في ألمانيا زيادة عظمى وكانت النمسا قد دخلت في جميع ضروب المضاربات وفرنسا تحتاج للمال وإنكلترا تحتاج للنقود لكثرت ما أصدرت منها إلى خارج بلادها فحدثت فيها أزمة سنة 1875 وبها نزلت الأسعار وظل نزول الأسعار مطرداً من سنة 1873 ما خلا بعض الأحوال القليلة ومنذ ذاك الحين لم يحدث من الحروب المهمة سوى الحرب الروسي العثماني الذي أنفقت فيه نفقات هائلة ولكن وسائط النقل وذرائع الانتفاع كثرت ونز لت ونزلت أسعار الحبوب(75/70)
بما ورد عَلَى أوربا من حنطة الولايات المتحدة وكندا والهند وروسيا ثم حدثت حرب الترنسفال التي أنفقت فيها عدة مليارات من الفرنكات فأخذت السعار بالصعود ثم حدثت الحرب الروسية اليابانية فانفق عليها بضعة ملايين من مليارات الفرنكات ومن جملة الأسباب في ارتفاع الأسعار قلة مواشي أوستراليا التي كان من جفاف 1903 أن نزل عددها من 106000 رأس إلى 54 ألفاً وكثر الطلب عَلَى الصوف وكذلك زاد محصول الحرير والطلب عليه ومع تكاثر الناس والطلب عَلَى الحنطة كان محصول الذهب واحداً بالنسبة للحنطة واللحم بيد أن الذهب عَلَى زيادة محصوله السنة بعد الأخرى لم يكن السبب في ارتفاع الأسعار بل عن كثرته أقل من ترقي صناعات الفحم الحجري والحديد وإذا قيس محصول الذهب بالنسبة لمجموع صناعة العالم فقيمته طفيفة جداً.
فما يخرج من المعامل من أنواع الصناعات والمصنوعات وما يخرج من المزارع من أنواع الغلات والثمرات أكثر بكثير مما يخرج من ركائز الذهب وإذا حسبنا مجموع ما يخرجه سكان الأرض وهم ألف وستمائة مليون لا يعد محصول الذهب شيئاً في جانبه بل لا يكون واحداً في المئة من مجموع أعمال العالم وحاصلاتهم ثم إن ما يحصل من الذهب لا يتعامل بنحو نصفه فإن المحصول الذي بلغ منذ اكتشاف أميركا إلى اليوم 69 مليار فرنك قد قدروا ما هو موجود في المصارف وبين أيدي الناس منه فلم يبلغ أكثر من 36 ملياراً ونصف المليار من الفرنكات والنصف الآخر من محصول الذهب خزن أو استعمل في بعض الصناعات واختلف الأخصائيون فيما تستغرقه الصناعات من الذهب ولم يتجاوز تقديرهم النصف من محصوله ولم ينقص عن الثلث إلا قليلاً. وختم العالم صاحب هذه المقالة مبحثه بالنتيجة التالية: (1) إن زيادة محصول الذهب كانت أبطأ بكثير من زيادة محصول الصناعات الرئيسية (2) إن استخراج الذهب ليس إلا صناعة صغيرة (3) إن زيادة المستخرج من الذهب وإن أكثرته فالطلب ما زال يتجاوز العرض عَلَى الدوام (4) إن زيادة المستخرج من الذهب في السنين الأخيرة لم يؤثر في أدنى تأثير في ارتفاع أسعار بعض البضائع (5) إن القائلين بنظرية الكمية لا يقاومون من مراقبة الواقع.
الشيوخ في أوربا
أحصى أحد علماء الدانمرك عدد الشيوخ في أوربا الذين بلغوا المائة من عمرهم فوجدهم(75/71)
7000 ووجد من إحصائه أن أكثر البلاد التي يوجد بها من هذا القبيل هي البلقان إذ يبلغ عددهم 5000 من السبعة آلاف المذكورة.
ويوجد من كل مجموع هؤلاء الشيوخ 3883 بلغاريين و1074 رومانيين و573 صربيين و410 إسبانيين و213 فرنسويين و197 إيطاليين و113 نمسويين ومجريين و92 إنكليزاً و89 روسيين و76 ألمانيين و23 نروجيين و10 أسوجيين و5 بلجيكيين و2 دانمركيين.
هبات الأميركيين
قالت مجلة العالم الجديد كان مبلغ الهبات المالية التي وهبها المحسنون الأميركيون في سبيل الخير والنفع العالم في سنة 1911 عَلَى ما أعلن في ختام هذه السنة 258. 751. 695 دولاراً وهو أعظم مبلغ وهب في سنة واحدة في أميركا بل ربما في العالم حتى الآن وكان الفائز بقصب السبق في مقدار البذل المثري والمحسن الشهير أندرو كرنجي الذي بلغت هباته هذه السنة فوق الأربعين مليون دولار ولم تبلغ هبات روكفلر المثري الآخر الشهير غير ثلاثة ملايين وثمانمائة وعشرين ألفاً.
كيفما نظرت وأينما حللت في أميركا تجد آثار هبات المحسنين ظاهرة تنطق بفضلهم وتخلد الذكر الجميل لهم. فالمكاتب الجميلة ومعاهد العلم الجليلة والمستشفيات والملاجئ الخيرية المؤسسة والمدارة بالهبات الخصوصية من هذه الآثار كثيرة جداً وفي كل سنة تنفق الملايين من إحسانات الأفراد في سبل متنوعة عَلَى الفقراء والمحتاجين عدا ما تبذله الحكومة والبلديات من هذا الوجه. وترى ملاجئ العجز ودور الصم والعميان والمقعدين والأيتام قائمة في كل جهة شواهد عَلَى كرم أفراد المحسنين. خلِّ عنك ما يبذل في سبيل المتاحف ومعاهد الآثار والتهذيب وما ينفق عَلَى إرسال المبشرين ومساعدة رجال العلم وغير ذلك ألف أمر أخر تبسط له أكف المحسنين بسخاء يدل عَلَى محبة صحيحة للخير والنفع العام.
وقد يتصور معظم الناس أن بذل المال عند كبار المحسنين أمر هوين مازال هذا المال موجوداً وليس عليهم غير إنفاقه إلا أن الحقيقة تناقض هذا التصور لأن بذل المبالغ الكبيرة من المال علم مستقل بنفسه يقتضي درساً دقيقاً حين يقصد القيام به بحكمة تضمن حصول النفع. ولهذا يستخدم جون روكفلر جماعة خصوصيين من الرجال الذين لا اهتمام لهم إلا(75/72)
بتوزيع هباته حيث يمكن تحقيق إتيانها بفائدة ومعظم المحسنين الكبار يتصرفون بنوع من التأني في بذلهم وكثيرون منهم يدرسون المشايع التي يراد البذل في سبيلها درساً خصوصياً بنفوسهم عَلَى نحو ما يفعل مورغن وشيف وفي بعض الأحيان روكفلر لنهم يعتبرون أنهم قد يبذلون ثرواتهم جزافاً إذا لم يترووا أو يسلكوا.
يؤثر عن أندرو كرنجي قوله أن لا خير في الرجل الذي يموت غنياً ويذهب كثيرون عَلَى أنه عامل عَلَى إنفاق كل ثروته قبل وفاته. إلا أن محسناً أميركياً آخر سبق كرنجي إلى العمل بمنطوق هذه العبارة فبذل كل ثروته البالغة سبعة ملايين دولار دون أن يحتفظ منها بشيء وهو الآن مقيم في أحد الملاجئ التي أنشأها كرمه يقضي بقية أيامه بسلام. وهذا المحسن هو الدكتور د. ك بيرسون من هايندزدايل إيلينويز الذي وهب في هذه السنة آخر ما كان يملك بما فيه أرضه والبيت المحيطة به.
ولكن الدكتور بيرسون لا يعد من كبار محسني سنة 1911 وإن تكن هباته بإجمالها كبيرة. بل يرد في المقام الثاني بعد كرنجي الدكتور صموئيل بالا أحد أطباء لوس أنجلس كاليفورنيا الذي وهب ثروة لا تقل عن عشرة ملايين دولار ورثها من أسرته في بلاد المجر. وتخلى عن جميع ألقاب الشرف التي كانت له حينما تجنس بالجنسية الأميركية. وإن مثل الدكتور بالا وأندرو كرنجي - وكلاهما غير أميركي المولد - أكبر برهان عَلَى استحقاق المهاجرين وعظم إفادتهم لوطنهم الجديد ومقدار شعورهم مع إخوانهم الأقل منهم حظاً.
ومن تنوع الغايات التي تناولتها إحسانات سنة 1911 أن السيدة ماري تروترشاستيان وقفت ثروتها البالغة خمسة ملايين دولار عَلَى إقامة ملجأ للنساء من بنات النعمة اللواتي أخنى عليهن الدهر وأصبحن بلا ملجأ. وقد أقيم هذا الملجأ في لكسنتن كنتكي وهو الوحيد من نوعه في هذه البلاد.
ومنها أيضاً ما يسعى إليه أحد أعظم تجار شيكاغو جيمس باتن من تطهير الأرض من السائل الرئوي أو الطاعون الأبيض فقد خصص لذلك حتى الآن لا أقل من أربعة ملايين دولار وهو يوالي تبرعاته بدون حساب في هذا السبيل. أما دافعه إلى ذلك فهو أخاه توفي بالسل أولاً ثم ما لبث أن توفى ابنه فكان له بذلك باعث شخصي عَلَى مقاتلة المرض(75/73)
الوبيل زيادة عَلَى الباعث الإنساني العمومي.
ومنها أيضاً أن الصحافي الأميركي الشهير جوزيف بولتزر صاحب جريدة الورلد النيويوركية الذي توفي هذه السنة خصص مبلغ مليوني دولار لإنشاء مدرسة صحافية في جامعة كولمبيا. وقد كان بولتزر مهاجراً أيضاً إلا أنه أصبح من أعظم الرجال الأميركيين العموميين وكان قوة معدودة في السياسة ومن أكبر قادة الرأي العام عَلَى الرغم من ابتلاءه بالعمى في العشرين سنة الأخيرة من حياته.
أما أعظم هبات هذه السنة وهي التي تفوق قيمتها المليون ونصف المليون عَلَى اختلاف غاياتها الخيرية والعلمية والتهذيبية فبيانها كما يأتي:
أندرو كرنجي 40711300
الدكتور صموئيل بالا 10000000
السيدة ماري تروترشاستيان 5000000
بيتر بنت بريغهام 5000000
جيمس باتن 4000000
متشل فالنتين 2559514
جون د. روكفلر 3820000
جون م. بورك 2000000
الآنسة كاترين اوغستادي بوسيتر 2000000
جوزيف بوليتزر 2000000
القائد ك. كولمان 2000000
السيدة روسل ساج 1500000
جورج كلايتون 1500000
المرأة في الولايات المتحدة
كتب البارون دوستورل دي كونتثان من أعضاء مجلس الشيوخ في فرنسا مشاهدته في الولايات المتحدة فقال أن مسألة التربية المشتركة في الولايات المتحدة أي تربية الشبان مع الشابات قد انحل أشكالها في ولايات الغرب أما في ولايات الشرق فقد اخذوا يتناقشون فيها(75/74)
وذكر ما رآه في كليات الشرق من امتزاج البنين بالبنات في المدارس الداخلية فتراهم يتعلمون ويلعبون ويرتاضون معاً وللفتيان أماكن خاصة لنومهم كما للفتيات بحيث ترى ربات الجمال يعملن فلا يخفن الهواء ولا البرد ولا الحر ولا عيون الرجال وما قط سمع بعار ارتكب أو فضيحة أتيت.
ولقد كان يخامر خاطري وأنا أرى أولئك الفتيان والفتيات يتراكضن ويتدارسن متروكين لغرائزهم ثم بدا لي بعد الاختيار أن هذه التربية هي آكد الطرق إلى الفضيلة وأن استعمال الحرية أحسن ذريعة وأتم نظام وأن فتيان الفرنسيس ليغلطون إذا وهموا أن هذا النوع منة التربية الأميركية لا يخرج رجالاً أكفاء ونساء ذات كفاءة فإنا نرى أبناء هذه التربية يسيحون في أوربا وأكثرهم لا يعرفون لغاتها وبحسن رجولتهم ومتانتهم يحسنون التخلص في كل مكان فهم يرون أن تربيتهم المستقلة لا تفصلهم عن سائر العالم بل تقربهم.
ولكالما سألني النساء ولاسيما في اقصى الغرب من أميركا حيث بلغ ارتقاء الجنس اللطيف أقصى كماله عن رأيي في حالة المرأة الأميركية والمرأة الأوربية وقالت لي إحداهن أنك أتيت من أوربا بأوهام وتقاليد بشأن المرأة وكيف جاز للأم الفرنسية أن تشك في عفاف ابنتها فلا تتركها بعد الغروب تسير وحدها فاجبتها بان بناتنا قلما نخاف عليهن من الوطني بقدر ما نخاف مثلاً عَلَى الفتاة التي تسير وحدها في جادة باريز لكثرة ما يجيء هذه العاصمة من أخلاط الزمر الذين يجيئون لينفقوا فيها أموالهم والفتاة لا سلاح معها لا ضد القانون فقط بل ضد الأخلاق التي يجب تحسينها قبل كل شيء.
وقال لي إحداهن: ولا تظنن أن المرأة الأميركية سعيدة أكثر من المرأة الإفرنسية فإن زوجها وإياها لا يشركها في حياته كما يشارك الفرنسوي زوجته أو ابنته فالزوج الإنكليزي يمر أمام امرأته والمرأة الأميركية تمر أمام زوجها أما المرأة الفرنسوية فإنها تمر مع زوجها كتفاً إلى كتف.
نغم المرأة في فرنسا ولاسيما في البلاد التي لا يسمح فيها السائحون مثل مسقط رأسي السارات هي الحاكمة الحقيقية في بيتها وبعبارة ثانية أن الحاكم هو الرجل والمرأة هي الساهرة الرجل يأمر والمرأة توحي وتبذل كل ما بوسعها للقيام بكل ما يقتضيه منزلها من الإعمال فهي تباكر قبل زوجها توقد النار وتهيئ الطعام وتوقظ الأجير أو تضع العلف(75/75)
للدواب بيدها وتنفض ثيابها وتطلي الأحذية وتعين زوجها لشد دوابه فإذا ما انصرف زوجها تضع كل شيء في الغرفة في محله وكذلك المطبخ والدار والقن والفناء والاصطبل وتلبس الأولاد وتفطرهم وترسلهم إلى المدرسة وتصلح الثياب وتغسلها وتكويها وهي تتكلم وتحدث وتقدم الطعام الجيد لزوجها وتعمل له الحلويات وتبتاع حاجياتها من البقال وتتقبل ضيوفها باسمة وهي بهندام نظيف آمنة مطمئنة وهي تحسب حساب بيتها ومنهم في هذه المقاطعات من لا يعرفن الكتابة إلا قليلاً ومع هذا ترى المرأة لا تخطيء فتدفع لهذا وتسلف ذاك وتوفي زيداً وتسلي زوجها وتدخل السرور عَلَى قلبه إذا كان كئيباً وتباحثه وتجادله فهي مستشارته وصاحبته ونصفه بل أحسن نصف فيه ولذلك لا ترى هذه المرأة تطالب بمثل ما يطالب به غيرها من نساء أميركا وإنكلترا من حق الانتخاب لأن القانون وضعها موضعها اللائق بها.
أقول هذا وأنا ألوم من استعملوا الشدة في إنكلترا مع النساء المطالبات بحقوق الانتخاب فوضعوا المرأة في طبقة أحط من طبقات الإنسانية أما في الولايات المتحدة فلم يرتكب أحط الساسة خطأ قط مع النساء كما ارتكب أحرار الإنكليز حتى أن الرئيس روزفلت نفسه القائل بالشدة لم يقاوم المرأة في وقت من الأوقات وعاملها بالحسنى عَلَى الجملة.
وإن مسألة تصويت المرأة لتنحل عقدة بعد أخرى في الولايات المتحدة وما اللذين يضحكون اليوم من مطالبة النساء بهذا الحق إلا أناس سيضحك منهن غداً وهكذا كان حال كل المدافعين عن المطالب الشريفة وجميع المقدمين والمخترعين ضحك الناس منهم وهزأوا بهم ثم أخذوا بعد ذلك يجلونهم ويقدسونهم وكقد نجح النساء في الولايات المتحدة بإشراكهن في انتخابات البلدية حتى أن منهن رئيسات في بعض البلديات كما هن أمهات صالحات ويشاركن الرجال في الإقرار عَلَى ميزانيات المعارف وانتخاب المعلمين للمدارس أو أعضاء لدور الكتب دع عنك من دخل مرتين في التعليم وإدارة المدارس وغرف التجارة والزراعة وقد كان للنساء الأميركيات يد طولى في تحرير الزنوج ثم عاد الرجال فاضطهدوهن وأخرجوهن من دائرة العمل في إنهاض بلادهن عَلَى نحو ما يخرج من الجناة والمجانين فهم الآن لا يقنعن إلا بمشاركة الرجل فلا يكتفين بالنفوذ بل يردن العمل بل العمل مباشرة. وقد ثبت لي أن النساء ممتعات في الانتخاب في المدن الداخلية حيث(75/76)
المرأة هي صاحبة الأمر والنهي في منزلها لا حيث النساء يلتهين بملاهي السواحل وحاناتها كما هو الحال في سان فرانسيسكو ولولا النساء في هذه الولاية لاشتعلت جذوة الحرب بين الولايات المتحدة واليابان ولكنهن يلطفن من تغالي الرجال ويعدنهم إلى حظيرة التعقل في كل حال.
المدارس الابتدائية في أوستراليا
أوستراليا أو هولاندة الجديدة جزيرة كبرى للغاية في المحيط الكبير وهي من أهم المستعمرات الإنكليزية سكانها زهاء أربعة ملايين نصفهم من الأوربيين جاؤوها لاستثمار ما فيها من معادن الذهب والفحم والتوفر عَلَى تربية الماشية ومساحتها عبارة عن 8. 215. 673 كيلومتراً تقسمك إلى عدة ولايات وتعد هذه الجزيرة إحدى قارات العالم الخامس وقد كتبت إحدى العقائل فيها مبحثاً في مجلة مستندات الترقي الباريزية تصف مدارسها الابتدائية اللادينية التي تقتصر عَلَى العلوم فقط فقالت أن لنظام التعليم في أوستراليا مبدأين التعليم الإجباري والمجاني.
وقد كان عدد من دخخلوا المدارس العامية في السنة الماضية من الأولاد 728000 ولد ومجموع ما أنفقته ولايات هذه الجزيرة عَلَى التعليم 75 مليون فرنك.
ولئن كانت المواد الجوهرية في التعليم الابتدائي الجيد موجودة ثمت منذ زمن طويل إلا أن مدارس حدائق الأطفال لام تنشأ إلا في العهد الأخير وكذلك مدارس تعليم البالغين. كان التعليم الابتدائي في أوستراليا دهراً طويلاً لا دخل للدين فيه بتة ورأى الشرع هناك بالنظر لكثرة المذاهب الدينية أن ليس من الحكمة إدخال مسائل الدين ومناقشته في المدرسة وإن غايتها يجب أن توفي بحاجات التعليم والتربية وليس في البلاد غير ولاية غاليا الجديدة في الجنوب شذت عن هذه القاعدة منذ وزمن بعيد وأدخلت إلى مدارسها تعليم التوراة نازعة في تعليمها منزعاً لا يشعر بالتشيع لمذهب خاص من مذاهب النصرانية ومنذ زمن غير بعيد حذت هذا الحذو أيضاً ولايتان أقل مكانة من تلك وهما ولاية أوستراليا الغربية وولاية تاسمانيا فأخذتا تقرئان في مدارسهما شيئاً من كتب الدين بيد أن الولايات الراقية من حيث الصناعة والعلم مثل ولاية فكتوريا وأوستراليا الجنوبية وكنسلاندا قد احتفظن كل الاحتفاظ بمبدأ المدارس العلمانية.(75/77)
ولم يببرح ولاة الأمور ولاسيما في فكتوريا يحرصون عَلَى تعرية المدارس من كل جدل ديني ويظهرون فضل هذه الطريقة وتنشئة أخلاق الأولاد ويبينون ما ينشأ من العدول عن كهذا المبدأ الذي ظهر ثمراته. وشعار مدارس ولاية فكتوريا في التعليم: الإجبارية والمجانية والعلمانية ومعلوم أن الإجبار المدرسي مناف للتعليم الديني الإجباري لأن هذا ربما مس العواطف الدينية في الأولاد وفي أهليهم ممكن قد تكون عقائدهم مخالفة لما يلقن أولادهم في المدارس.
أما الكنائس فإنها مخالفة لهذا المبدأ وهي بوجه الإجمال تناقض مبدأ التعليم اللاديني ولاسيما الكنائس البرتستانتية فإنها تطالب بإدخال تعليم التوراة عَلَى مثال ولاية غاليا الجديدة في الجنوب ولطالما حاولت نيل ذلك فكانت الأكثرية في جانب المدارس العلمانية أما الكنيسة الكاثوليكية فإنها تفضل أن يكون التعليم علمياً محضاً من أن تعلم في المدارس التوراة فقط عَلَى الطريقة البرتستانتية وتوشك أن تؤسس مدارس لأبنائها خاصة يوم يقال لهم تعلموا علماً دينياً يخالف مذهب آبائكم. أما غير المتدينين والطبيعيون فإنهم لا يقولون بتعليم ديني ولا بإقامة شيءٍ من الشعائر وقد سمحت حكومة فيكتوريا آباء التلامذة أن يعلموا أولادهم تعليماً دينياً بواسطة قسيسين من مذهبهم وذلك بعد إلقاء الدروس النظامية أو قبلها. وليست قراءة التوراة إجبارية حتى في مدارس الولايات التي تعلم الدين.
وعلى الجملة فإن من ولايات أوستراليا من لم تلزم الخطة اللادينية في التعليم ومنها من قبلت بتعليم التوراة مع سائر العلوم ولكل من التعليمين أنصار ولهما الأثر في تربية أرواح الأولاد. ويقول خصوم التعليم اللاديني في أوستراليا أن حالة أخلاق الشبيبة في ولاية فكتوريا أحط مما هي في سائر الولايات التي تعلم فيها التوراة ويقولون إن إحدى دور توليد النساء في ملبورن كان فيها نصف الأمهات من الفتيات من سن الـ 15 إلى الـ 20 وبعضهن من سن الـ 12 إلى الـ 13 أو الـ 14 فيجيبهم خصومهم عَلَى ذلك بأن أمثال هذه الدور للتوليد لا تقبل إلا من كن بكريات من البنات ولذلك كان عدد عظيم ممن تؤويهم من النساء هن شابات للغاية.
وقال الأستاذ آدم من كلية ملبورن أن عدد الجرائم قد تضاعفت في فرنسا من سنة 1866 إلى 1896 بسبب المدارس اللادينية وفاته أن التعليم الديني في خلال نصف هذه المدة كان(75/78)
إجبارياً في مدارس الفرنسيس وقد ادعى أحد القائلين بالتربية اللادينية أن مدارس ولاية غاليا الجديدة أتت بأنفع الثمرات في مدارسها اللادينية أكثر من مدارس ولاية فكتوريا اللادينية وأن عدد الجنح والجنايات أكثر في الولاية الأخيرة من الولاية الأولى عَلَى أنه لا يجب أن يفوتنا أن الإحصاء الذي يوردونه تأييداً لمدعاهم لا ينطبق مع حقيقة الواقع لأن من الولايات ما زاد نفوسها أكثر من غيرها ولذلك زادت جرائمها لا لفقدان التعليم الديني منها والحقيقة أن عدد الجرائم كان هكذا سنة 1908
ولاياتتعليمها لا دينيولاياتذات تعليم ديني247كنسلاندا496أوستراليا الغربية216فيكتوريا320غاليا الجديدة الجنوبية129أوستراليا الجنوبية292تاسمانياوقد كان معدل الولادات غير الشرعية سنة 1907 6. 66 في المئة في إيكوسيا عَلَى حين كان 3. 99 في المئة في إنكلترا وبلاد الغال من بريطانيا وكانت فينا من سنة 1900 إلى 1902 تعد في كل ألف امرأة غير متزوجة أو عزبة سنها من 15 إلى 45 61 ولادة غير شرعية في حين كانت باريز تعد 36 في كل ألف أما سدني عاصمة أوستراليا كلها وفيها تعليم ديني فكان منها معدل الولادات غير المشروعة خلال تلك المدة 17. 9 في المئة وكان معدل الولادات في ولاية ملبورن اللادينية 13. 5 في المئة وإديمبرغ 1. 3 في المئة ولندرا 6. 4 في المئة.
ومتى علم لم انتشرت الرذيلة في بعض المدن التي ذكرناها ولاسيما في لندرا يعجب المرء أن يرى إلى أي درجة يمكن تأثير طريقة التسجيل في الإحصاءات وكيف انتشرت طرق مقاومة الحبل انتشاراً فاحشاً. وما هذه الإحصاءات في الحقيقة بمستند يصدق عَلَى سمو الأخلاق بل ولا عَلَى انحطاطها إلا إلى حد محدود فإن كثيراً من الولادات غير المشروعة تكون في أمة دليل الجهل أكثر مما هي دليل فساد الأخلاق ولا يصير إلى دور التوليد إلا الجاهلات أما الفاسدات من النساء فإنهن يعرفن من أين تؤكل الكتف إذا وقعن في مأزق وحملن من حرام.
بيد أن الإحصاءات في أوستراليا ثبتت مكانة الأخلاق في الولايات التي اتخذت في مدارسها الحياد قاعدة في مسائل الدين ولكن هذه المكانة يحتزر المربون اللادينيون من نسبتها خاصة إلى التعليم اللاديني ولا يعمدون إلى الاستشهاد بالإحصاءات إلا لرد حجج(75/79)
خصومهم في فوائد المدارس اللادينية.
هذا ما قالته كاتبة المقالة ونحن لا نثبت ولا ننفي الآن من ترجيح إحدى الطريقتين الدينية واللادينية ولاسيما في هذه الديار المجهول أمرها فعسى ألا يتأذى أحد بما تنقله الشهر بعد الشهر عن مجلات الغربيين للعبرة والاستفادة وما القصد خدمة رجال الدين ولا غيرهم بل عرض أوضاع الغرب وأهل الشرق معها وما يختارون.
مدينة في حديقة
ينشئون الآن عَلَى مسافة خمسين كيلومتر من شمالي لندرا مدينة في حديقة غناء لإيواء اللقطاء واليتامى من الأولاد وكانت ربت إدارة هذه المدينة في معاهدها حتى اليوم منذ أربعين سنة وهو وقت إنشائها 70436 طفلاً وأنشأت 25 ألف معهد في المستعمرات الإنكليزية لهذا الغرض والغاية من إنشاء هذه المدينة الجديدة تدريب الأولاد عَلَى حياة الزراعة ولاسيما في سهول كند الفسيحة وستقسم المدينة إلى 28 داراً كل منها تؤوي 30 ولداً ولكل دار حديقة وحقل يعمل فيه الأولاد يفصل كل بيت عن جاره وهناك مستشفى وحوض لتربية السماك.
وقد سبقت ألمانيا وأنشئت هذا النوع من المدن الحدائق الخارجة عن الحواضر والعواصم لتبقى هذه للأعمال التجارية وتكون المدن الحديثة للصحة والراحة تعود بالإنسان إلى الطبيعة التي فقد الإنسان الاستمتاع بها بما يراه في المدن الحديثة من بنايات ذات أربع أو خمس طبقات. وقد رأي القائمون بذلك من الألمان أن الراضي في الضواحي البعيدة رخيصة لا تخضع لقانون المضاربات ويشترط عَلَى كل صاحب بيت مالكاً كان أو مستأجراً أن يزيد في جمال بقعته جمالاً بما يغرسه فيها من الأشجار وينشئه من الحدائق الأنيقة ويشترط عليه أيضاً أن يبقي قطعة يغرس فيها أنواع الزهور وحديقة وراء بيته يلعب فيها أولاده وقد أنشأ هؤلاء المفكرون في الضواحي حمامات ومحال اللعب ومكاتب للمطالعة ومحال للسماع مجانية ودور تمثيل ومتاحف ومستوصفات مجانية وملاجئ للأمهات وغير ذلك من المنشطات وكلها بلا مقابل.
اللبن
معظم بلاد الغرب تخرج من اللبن الحليب والزبدة والجبن وسائر ما يتفرع من اللبن صنوفاً(75/80)
وضروباً وللبن تجارة واسعة تعد بالملايين وقد ساعدت عَلَى إنمائها ونمو الزراعة بالمراعي الكثيرة والوسائط العملية الوفيرة ولذا رأينا في أوربا فلاحاً يعيش هو وأسرته من بقرة أو غنمتين ولذلك أمثال في هذا الشرق أيضاً ولكن المتوفرين هنا عَلَى تربية المواشي الحلوبة أقل بكثير من المتوفرين في الغرب عليها. فتجد في سويسرا ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية مخصصة للمراعي وتقدر مساحتها بعشرين مليون هكتولتر وثمنها بـ 333 مليون فرنك ونصف المراعي يصرف بطبعه وسبه ملايين هكتولتر تصرف لعمل الزبدة والجبن والباقي للحصول عَلَى الطحين اللبني والشوكولاتا باللبن. وسويسرا تصدر معظم ما تعمله من اللبن المجمد والجبن والطحين اللبني إلى البلاد الخارجية وفي سويسرا مليون ونصف مليون رأس من الماشية و360 ألفاً من المعزي ولكثرة ما يرد عليها من الأجانب السائحين تجلب من البلاد الخارجية 47 ألف رأس بقر و118 ألفاً من الخرفان و150 ألف خنزير في السنة وهكذا الحال في فرنسا وألمانيا وغيرها من البلاد فمن تكون واردات المملكة العثمانية كلها من ألبانه بقدر واردات سويسرا فقط وسويسرا بمساحتها أقل من نصف ولاية سورية فقط وبنفوسها تقرب من نفوس القطر السوري فتأمل.
المدارس الفرنسية في الشرق
يستفاد من تقرير المسيو ديشانل أن عدد التلاميذ الذين تلقوا علومهم في المدارس الفرنسية في بلاد السلطنة وفي الشرق قد بلغ في العام المدرسي الأخير 104 آلاف منهم 74 ألف تلميذ في السلطنة و21 ألفاً و500 في القطر المصري و2900 في اليونانية و325 في كريت و667 في قبرص و2000 في بلغارية و200 في رومانية و2800 في إيران.
أنا عدد الذين تلقوا العلوم العالية فبلغ 752 والعلوم التجارية وغيرها 1695 والعلوم الثانوية 9943 والعلوم الابتدائية 91 ألفاً و485.
الطلاق في يابان
يزداد الطلاق في الغرب اليوم بعد اليوم لكنه في الشرق أكثر ولاسيما في الشرق الأقصى فقد ذكرت إحدى مجلات يابان أنه كان سنة 1870 بالنسبة للزواج 84 في كل عشرة آلاف فتجاوز معدله اليوم 250 في العشرة آلاف والمرأة هي التي تطلب في الغالب طلاقها وذلك بفضل التربية والتعليم فقد ارتقت المرأة اليابانية وشعرت بحب الحرية أنها لا ترى أن تقيد(75/81)
بزوج قيداً أبدياً. ولو تعلمت ما ينفعها في منزلها وأسرتها عَلَى نسبة ما ينفعها في توسيع عقلها لما آثرت عَلَى عيش الأسرة حياة غيرها وليس السبب في طلب المرأة اليابانية الطلاق سوء الأخلاق وخيانة الزوج والزوجة بل توسع المرأة في تقاضي حقوقها. قالت وقد اختلفوا في الغرب بأمر الطلاق فالكاثوليك يحرمون من يأتيه ويرون أن عقد الزواج لا ينفصم إلا بالموت والبرتستانت يحلونه ولكن بشرط والملحدون يعقدون ويحلون عَلَى هواهم ويرى بعض الاجتماعيين أن الطلاق هو الدواء الوحيد الشافي من أصعب أمراض المجتمع ونحن نقول ما قاله أسلافنا أن أبض الحلال إلى الله الطلاق.
براميل القمامات
تضع مدينة باريز براميل أمام البيوت والمحال ليلقي فيها الباريزيون القمامات والكناسات التي يكسحونها من دورهم وشوارعهم يسمونه نسبة لأحد ولاة باريز السابقين الذي ابتكر هذه الطريقة فوضع هذه البراميل لئلا تلقى القاذورات في كل مكان فيتأذى بها أبناء السبيل وتضر بصحة السكان ومن العجيب أن الإفرنج يحسنون استخدام كل شيء وينتفعون من كل مادة ومن كان يخيل إليه أن عشرة آلاف رجل وامرأة وولد يتوفرون كل يوم عَلَى البحث في هذه العلب والبراميل قبل أن يرفعها الكساحون في عجلاتهم ويلقونها في أماكن لتستخدم لتسميد أراضي الضاحية فيعثرون فيها أحياناً عَلَى لقط لا تخطر في بال ويتناولون منها فضلات تقدر بعضها ببضعة ملايين وهكذا يستخرج اليوم اللانولين الذي لم يكن معروفاً منذ عشرين سنة وهو يتألف من بقايا أنسجة الصوف والخرق التي تغسل مما علق بها من المواد الدهنية والزيتية وغيرها ومن اللانولين يربح أرباب المعامل أرباحاً مهمة وكذلك الحال في قطع الزجاج التي يعزلونها من هذه العلب ويسحقونها أو يمزجون مسحوقها بملاط بورتلاند فيأتي منه مزيح يكون منه بلاط شفاف أقبل الماس عَلَى تبليط الدور والحوانيت به ويعملون من هذا المسحوق أيضاً قرميداً دخل في بعض الأبنية. ويستخدمون أيضاً الزجاج المكسور وصوالة بقايا البقول والجلد والأحذية العتيقة والقفافير البالية والمسامير القديمة المصدبة والمفاتيح والأقفال المحطمة مما تظنه ربة المنزل لا فائدة فيه.
وقد جرت بعض مدن أميركا عَلَى هذه القاعدة في أنه لاشيء بدون نفع فأخذت تسحق هذه(75/82)
القمامات عَلَى اختلاف تركيبها وتجعلها ذروراً يصير منها سماد نافع يحتوي عَلَى المواد النباتية والحديد النافع في إخصاب الأرض. وكم للإفرنج في هذه السبيل من أعمال يحيلون بها ما لا يعتقد غناءه إلى مواد نافعة حتى لقد بلغ بهم التفنن في العلم أخذوا يجمعون الدخان الذي تقذفه المواقد العالية فيضر بالمزروعات ويحولونه إلى قلي طيار وهذا النشادر يباع بأثمان مهمة ويتجر به المتجرون.
الخبز البلدي في بودابست
أنشئ هذا المخبز في عاصمة المجر سنة 1903 وهو يكاد يكفي حاجات المدينة ومعاهدها ويخبز كل يوم 28 ألف كيلو من الخبز تخبز كلها بواسطة أدوات لا تمسها يد إنسان في أمكنة مستوفاة من حيث حفظ الصحة وقد كاد يقضي هذا المخبز عَلَى الخبازين في المدينة فاضطروا أن يخفضوا أسعار الخبز ولكن الناس يقبلون عَلَى خبز المخبز لنظافته ورخص أسعاره والمخبز يدفع أجوراً لعملته أكثر من سائر الخبازة ويعملون في النهار ساعتين أقل من أخوانهم في الأفران الأخرى.(75/83)
العدد 76 - بتاريخ: 1 - 6 - 1912(/)
اللغة الانتقادية
هذه الرسالة الثانية في اللغة الانتقادية التي وعدت بها في رسالتي الأولى أسوقها محذوفاً منها ما لا حاجة إليه ومقفاة بعض حروفها بما يعين للناشر قال المؤلف:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
هذا كتاب يشمل عَلَى ما صحفته العامة وغلطت فيه من كلام العرب الجاري في الألفاظ والكتب رتبت ذلك أبواباً عَلَى حروف المعجم ليسهل عَلَى متأمله وجود ما يريد وحفظ ما يستفيده وبالله القوة والحول والمنة والطول فمن ذلك.
حرف الألف
تقول العامة لك عليَّ إمرة مطاعة بالكسر والصواب أَمرة بالفتح ويقولون هذه ضبارة والصواب إضبارة بالألف ويقولون قفلت الباب وغيره بغير ألف والصواب أقفلته بالألف ويقولون وقية للتي يوزن بها والصواب أُوقية بالألف بالفل مضمومة ويقولون عقدت العسل بغير ألف والصواب أَعقدت العسل بالألف ويقولون وعيت المتاع بغير ألف والصواب أوعيت بالألف إذا جعلته في وعائه ويقولون غفوت من النوم بغير ألف والصواب أَغفيت بالألف.
قلت يعلق في الذكر أن بعض المحدثين استعمله كذلك.
ويقولون شليت الكلب يذهبون بذلك إلى إغرائه بالصيد والصواب أشليت والإشلاء أن تدعوه إليك وكذلك للناقة والشاة فأما إغراء الكلب فهو الإيساد تقول أوسدته وأسدته إذا أغريته ويقولون للفارسي عجمي والصواب أَعجمي باللف ويقولون عق الفرس بغير ألف والصواب أعقت الفرس بالألف ويقولون حسبت فرساً في سبيل الله والصواب أحسبت بالألف ويقولون أطعنا من قطايب الجزور والصواب أن يقول من أطايب الجزور ويقولون لية الشاة والصواب أن يقال لها أَلية الشاة مفتوحة الألف والجمع أَليات ويقولون الرجل أَبردة بفتح الألف والصواب إِبردة بالكسر.
قلت الأَبردة برد الخوف.
ويقولون خذ لذلك الأمر هبته والصواب أن يقال أُهبته بإثبات الألف وضمها وإسكان الهاء ويقولون في صدره عَلَى حنة والصواب أن يقال إِحنة بالألف ويقولون عود يسر الذي(76/1)
يوضع عَلَى بطن المأسور وهو الذي يحبس بوله والصواب أن يقال عود أُسر بإثبات الألف وضم السين ويقولون غلق الباب وهو مغلوق والصواب أن يقال أغلت الباب وهو مغلوق ويقولون غليت الماء فهو مغلىً والصواب أن يقال أغليت الماء فهو مغلىً بإثبات الألف قال أبو الأسود:
ولا أقول لقدر القوم قد غليت ... ولا أقول لقدر الدار مغلوق
ويقولون أوميت له والصواب أومأت إليه بألف مهموزة مكان الياء ويقولون في استزادة الحديث إيهاً وذلك غلط وإنما يقال في الاستزادة إيه فإن قلت إيهاً فقد كففته عن الحديث ويقولون طفيت المصباح بالياء والصواب أطفأت المصباح بالهمزة وإثبات الألف في أوله ويقولون هو الانجاص بنون قبل الجيم والصواب الأجاص بتشديد الجيم وإسقاط النون قلت تتولد هذه النون في المضاعفات كثيراً حتى صححه بعضهم وأثبته بالنون.
ويقولون قد ابريته من الدين والصواب أبرأته بالهمزة وإنما يقال إبريت الناقة إذا جعلت أنفها برة.
قلت البرة حلقة توضع في أنف الناقة لقول أبريتها وبروتها أيضاً والجمع براة وجمعه بعض المتأخرين من شعراء العراق عَلَى برىً قال:
لا تسمها جذب البرى أو تدري ... ربة الخدر ما البرى والنسوع
ويقولون هي خية والصواب هي آخية ممدودة مشددة وجمعها أواخي قلت وهي الطنب.
ويقولون مشيت حتى عييت بغير ألف والصواب أَعييت بالألف ويقولون واكلت فلاناً إذا أكلت معه والصواب آكلته ويقولون قد وازيت فلاناً بمعنى جاريته والصواب آزيته.
ويقولون رجل أدر بتشديد الراء والصواب آدر ممدود مخفف بين الأدرة قلت والأدرة انفتاق يصيب الرجل في إحدى الاثنيين.
ويقولون هي الوزة (الطائر) والصواب الإوزة بالألف. ويقولون جبر القاضي رجلاً عَلَى قول كذا بغير ألف ويريدون قصره (أي رده إليه) والصواب أَجبر بالألف. ويقولون شهدنا فلاس فلان بغير ألف والصواب أن يقول إفلاس فلان بالألف. ويقولون صار فلان حدوثه والصواب أُحدوثه ويقولون هو الرز والصواب الأَرز بتشديد الزاي. ويقولون قد انتقع لون فلان بالنون وذلك غلط والصواب امتقع بالميم. ويقولون تولعت والصواب أُولعت بالصيد(76/2)
بألف مضمومة. ويقولون شرعت باباً إلى الطريق بغير ألف والصواب أَشرعت بالألف. ويقولون هدرت دم الرجل بغير ألف والصواب أَهدرت بالألف. ويقولون إذا كبر الرجل قد سن بغير ألف والصواب أَسن بالألف. ويقولون قلت الرجل في البيع بغير ألف والصواب أَقلت بالألف.
قلت الإقالة في البيع الفسخ تقول أقلته البيع وقلته بالكسر ولا تقل قلت بالضم لأنه من القول.
ويقولون قد حصره المرض بغير ألف إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها والصواب اَحصره المرض بالألف. ويقولون القوم إذا صاحوا وجلبوا بغير ألف والصواب أَضجوا بالألف.
قلت ويقال للمغلوب الجازع ضج إذا صاح.
ويقولون قد وهمت في الصلوة بغير ألف والصواب أَوهمت بالألف ويقولون عتقت العبد بغير ألف والصواب أَعتقته بالألف.
قلت ويقال عتق العبد يجعله فاعلاً إذا ملك نفسه وخرج عن الرق.
ويقولون كريت الدار وهي مكرية بإسقاط الألف وتشديد الراء والصواب أكريتها فهي مكراة. ويقولون زرى فلان بفلان بغير ألف والصواب أزرى بالألف ويقولون عجلت الرجل إذا استعجلته بغير ألف والصواب أعجلته إذا استعمله بالألف. ويقولون أبطيت علينا والصواب أبطأت علينا وقد استبطأتك. ويقولون بيني وبين فلان إمارة بالكسر والصواب أَمارة بالفتح قلت الأمارة هنا هي الموعد.
الزائد من كلام ابن الجوزي
وتقول في اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر هذه أيام البيض أي أيام الليالي البيض وسميت الليالي بيضاً لطول القمر من أولها إلى آخرها والعامة تقول الأيام البيض حتى أن بعض الفقهاء جرى في كتبه المصنفة عَلَى عادات العوام في ذلك وهو خطأٌ لأن الأيام كلها بيض وقرأت عَلَى أبي المنصور اللغوي قال العرب تسمي كل ثلث من الليالي باسم. ويقولون قد راحت الجيفة ويقولون والصواب أروحت. ويقولون أعرني سمعك والصواب ارعني ويقولون اللهم صل عَلَى محمد وذويه وهذا غلط لأن العرب لم تنطق(76/3)
بذي إلا مضافاً إلى اسم جنس كقولهم ذو مال والصواب عَلَى محمد وآله أو أَهله وقال أبو هلال العسكري يقول العوام شيءٌ أزلي قديم ويصفون الله بالأزلية وكل ذلك خطأ لا أصل له في العربية وإنما قول الناس لم يزل موجوداً ولا يزال بنوا منه هذا البناء.
قلت هذا عجب من أبي هلال فإن العلم لا بد أن يؤثر في اللغات ولا مفر من أن يزحزحها عن دائرة الجمود الضيقة فإن هذا البناء هو بناء علمي وكذلك أمثاله وكل الاشتقاقات التي لا أصل لها في العربية الأولى ثم انقلاب أساليب البيان والإلقاء والخطاب أمور طبيعية لا مناص عنها في لغة يتكلم بها الفلاسفة وتسيل بها أقلام كتاب الأمة العربية يوم كانت أرقى أمم العالم.
عَلَى أن لهذه الكلمة مخرجاً عربياً فإنها جاءت في الأدعية الفصيحة وقال اللغويون إن أزلي منسوب إلى لم يزل مثل نسبتهم الرمح الأزني واليزني إلى ذي يزن فكأنهم أبدلوا الياء ألفاً.
حرف الباء
ويقولون قد بنى فلان بأهله والصواب قد بنى فلان عَلَى أهله ويقولون هذا غلام حين بقل وجهه بتشديد القاف والصواب بقل بتخفيفها ويقولون أنة بكر بفتح الباء والصواب بكسر الباء وإنما البكر الفتي من الإبل ويقولون بديت بالشيء والصواب بدأت بالهمز ويقولون قد بسق الرجل بالسين لا يكادون يفرقون بين السين والصاد والصواب قد بصق بالصاد من البصاق وأما البساق بالسين فهو من قولهم بسق الرجل إذا طال وكذا قولهم بسقت النخلة إذا طالت قال تعالى (والنخل باسقات لها طلع نضيد) ويقولون بهت إليه والصواب بهت إليه بضم الهاء.
قلت معنى بهت إليه تنبهت وتفطنت وقد رويت بالكسر أيضاً ولعل الأصوب ما في الرسالة.
ويقولون بطيخ بفتح الباء والصواب بطيخ بكسرها.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون بزر وبزور لما يزرع ويؤكل وهو خطأ والصواب بذر وبذور قلت وقد دون اللغويون الاثنين بهذا المعنى ويقولون لما يعجل من الزرع والثمار هرَّفَ والصواب قد بكر وهو الباكورة.(76/4)
قلت ويقول فلاح العراق اليوم للمبكر من الزرع (هرفي) وهرف موجود في معاجم اللغة وكذلك أَهرف.
ويقولون هو البورق لهذا الذي يلقى في العجين بضم الباء والصواب البورق بفتحها لأنه ليس في الكلام فوعل بضم الفاء وكل ما جاء عَلَى (فوعل) فهو مفتوح الفاء نحو جورب وروشن ويقولون هذا البخور بضم الباء والصواب فتحها ويقولون البهار بفتح الباء والصواب بضمها والبالوعة والعامة تقول بلوعة بغير ألف وتشددها ويقولون بلعت اللقمة بفتح اللام والصواب بكسر اللام ويقولون بعلاً للزوج وإن لم يدخل بها والصواب أن يقال إن دخل بها بعل وقيل ذلك يسمى زوجاً وهو زوج عَلَى كل حال (قبل الدخول وبعده) ويقول خرج فلان إلى برّا (بتشديد الباء وبألف وهكذا يقولها العراقيون) والصواب برٍ ويقول بررت والديَّ بفتح الراء والصواب بررت بكسر الراء قلت وكلاهما مدون.
ويقولون بخست عينه بالسين والصواب بخصت بالصاد ويقولون بينهما بين والصواب بون بالواو ويقولون امتلأت بطن فلان يؤنثون والصواب امتلأ بن فلان مذكراً لأن العرب تذكر البطن قال الشاعر:
وإنك أن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الدم أجمعا
ويقولون للأسود خاصة بهيم والصواب أن يقال لكل لون خالص لا يخالطه لون آخر بهيم سواء أسود أو غيره.
حرف التاء
ويقولون تثاوبت والصواب تثاءبت بالهمز والمد ويقولون توضيت للصلوة والصواب توضأت بالهمزة ويقولون تعتيت والصواب بالدال ويقولون تجشيت بالياء والصواب تجشأت بالهمزة والجيم والاسم الجشأة ويقولون تخوم الأرض بضم التاء والصواب تخوم بفتح الخاء (كذا) ويقولون ذيك المرأة والصواب تيك المرأة ويقولون أَترسة جمع ترس والصواب ترسة ويقولون تغليت بالغالية (عطر) والصواب تغللت بالغالية.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون ما هذا التباطي بالياء والصواب التباطؤ بالهمزة والواو ويقولون دابة لا تردف والصواب لا ترادف ويقولون هذه الشاة تشتر بالشين والصواب بالجيم ويقولون جاءت(76/5)
المرأة بتوأم والصواب بتوأمين وإنما التوأم أحدهما ويقول تكريت للبلدة بكسر التاء والصواب بفتحها ويقولون ششتر ودوستر للبلدة المعروفة (من بلدان إيران الجنوبية) بالدال والشين والصواب تستر بالتاء (والسين أيضاً) ويقولون التغار والصواب تيغار بياء بعد التاء عَلَى وزن تفعال.
قلت والتيغار الأَجانة وفي العراق اليوم يستعملونه في الموزونات ويقولون ثفل فلان بالثاء والصواب بالتاء ويقولون التذكار للمعاهد يهيج الحزن بكسر التاء والصواب بفتحها ويقولون تواترت رسل فلان بجعل التواتر بمعنى الاتصال الذي ليس فيه انقطاع وهذا غلط منهم والصواب تواترت رسل فلان إذا جاءت منقطعاً بعضها عن بعض بين كل اثنين هنيهة قال الله تعالى (ثم أرسلنا رسلنا تترى) واصلها وترى من المواترة ومعناها منقطعة بين كل نبيين دهر قال أو هريرة (لا بأس بقضاء رمضان تترى) أي منقطعاً.
ويقولون تنهس النصارى بالهاء إذا أكلوا اللحم قبل صومهم وهو خطأ والصواب تنحس بالحاء إذا تركوا أكل اللحم وقرأت عَلَى أبي منصور اللغوي قال هذا غلط في اللفظ وقلب المعنى إلى ضده فأما اللفظ فإنما يقال بالحاء وأما المعنى فإنما يقال لهم ذلك إذا تركوا أكل اللحم ولا يقال لهم ذلك إذا أكلوه وقال ابن دريد وهو عربي معروف لتركهم أكل الحيوان ويقال تنحس إذا تجوع كما يقال توحش.
حرف الثاء
ويقولون ثدي المرأة بكسر الثاء والصواب بفتحها ويقولون هو الثوم بفتح الثاء والصواب بضمها ويقولون هو الثاءلول بفتح الثاء وألف والصواب بضم الثاء وواوٍ مهموزة مكان الألف والجمع ثآليل ممدود مهموز قلت والثآليل والبثور.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون رجل أثط بألف زائدة والصواب ثط بغير ألف (وهو الكوسج من الرجال) وربما قالوا ثدي الرجل وإنما هو ثدوة الرجل قلت قيل إن الثدي عام وروي فيه الكسر أيضاً وقد تقدم أن الصواب الفتح.
ويقولون لما يكثر ثمنه هذا مثمن بكسر الميم الثانية وإنما المثمن الذي صار له ثمن والصواب ثمين كما يقال رجل لحيم لما كثر لحمه وشحيم لما كثر شحمه.(76/6)
حرف الجيم
ويقولون جفن السيف بكسر الجيم صوابها بفتحها قلت والكسر مروى ويقولون جفيت الرجل بالياء صوابها جفوت بالواو ويقولون عندي في جمام القدح ماء بفتح الجيم والصواب بكسر الجيم خاصة ويقولون جمام في الدقيق وغيره قلت الجمام أن يمتلئ المكيال وروي مثلث الجيم ويقولون جنازة بفتح الجيم وهي لغة والصواب جنازة بالكسر ويقولون الجدي بكسر الجيم والصواب الجدي بفتح الجيم وسكون الدال ويقولون في الجد الأب أبي والأم هو جد فلان بكسر الجيم وذلك غلط وإنما الجد الحزم في الأمر تقول له جد في الأمر أي حزم والصواب فتح الجيم ويقولون جليت السيف والعروس بالياء وليس كذلك وإنما الصواب جلوت بالواو ويقولون لضرب من الحرز الجزع والجزع صوابها فتح الجيم وإسكان الزاي فأما الجزع بكسر الجيم فجزع الوادي وهو منقطعه وقيل منحاه وأما الجزع بتحريك الزاي فهو الخوف ويقولون هو الجد ضل الهزل بفتح الجيم صوابها بكسرها ويقولون للتي يغتسل بها جفنة بالكسر وصوابها بالفتح قلت وهي هنا البئر ويقولون الحراب بالفتح وهي لغة صوابها بالكسر.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون ثياب جدد بفتح الدال والصواب بضمها ويقولون هذا الجورب والجوذاب والريح الجنوب بالضم والصواب بالفتح قلت الجوذاب عَلَى مثال فوعال في الرسالة وفي القاموس الجوذاب بتقديم الألف عَلَى الذال وبضم الجيم أيضاً وهو طعام.
ويقولون في الجمع والواحد جوالق ولا تفرق بين الجمع والواحد صوابها إذا ضمت فهو للواحد وإذا فتحت فهو للجمع قرأت عَلَى شيخنا أبي المنصور اللغوي قال الجوالق أعجمي معرب واصله بالفارسية (كواله) وجمعه جوالق بفتح الجيم وهو من نوادر الجمع ويقولون جهدت جهدي بكسر الهاء صوابها بفتحها ويقولون جرعت الماء والصواب الكسر ويقولون لبثرة تخرج في العين الكدكد والصواب الجدجد بجيمين مكان الكافين وهي لغة تميم وربيعة تسميها القمع ويقول الجرد بالدال المهملة والصواب بالذال المعجمة ويقولون لجمع جواب الكتب الجوابات والأجوبة وهو خطأ والصواب ألا يجمع لأنه كالذهاب قال سيبويه الجواب لا يجمع وقولهم جوابات كتبي وأجوبة كتبي مؤلف (مخترع) وإنما يقال جواب كتبي.(76/7)
حرف الحاء
وقع عَلَى حلاوة القضا بفتح الحاء صوابها ضمها ويقولون دقيق حواري بفتح الحاء والتخفيف من صوابها حواري بضم الحاء وتشديد الواو قلت وهو الأبيض من الدقيق والمحور منه المبيض ويقولون في أسنانه حفر بفتح الحاء والفاء وصوابها بإسكان الفاء ويقولون حنيت عَلَى الرجل إذا عطفت عليه بالياء صوابها بالواو ويقولون امرأة حصان بكسر الحاء صوابها بفتحها ويقولون حمة العقرب بالتشديد صوابها بالتخفيف ويقولون للطيرة حدة وحدي بالتاء والياء غير مهموزة صوابها حدأة بكسر الحاء وفتح الدال وألف مهموزة والجمع حدآءٌ ويقولون رجل حدث السن والصواب حديث السن فإن قلت حدث لم تذكر السن فتقول فلان حدث لا غير ويقولون لما يحسى من الطعام الحسو بضم السين وإسكان الواو والصواب الحسو بضم السين وتشديد الواو ويقولون حسبت في الحساب بكسر السين والثواب بفتح السين وإنما يقال بكسر السين في معنى ظننت ويقولون حشيت الوسادة والوعاء بالياء والصواب حشوت بالواو.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون الحمام للدواجن التي تستفرخ في البيوت خاصة والصواب أن يقال لجميع ماله طوق الحمام مثل الفواخت والقماري والقطا ويقولون أحدرت السفينة أحدرها بكسر الدال من المضارع والصواب أحدرها بضم الدال ويقولون قد آن أحدار السفينة والصواب قد آن حدرها ويقولون حلفت الشيء إذا ألقيته من فوق إلى تحت وهو خطأ والصواب حلقت إذا رميته إلى فوق بقال حلق الطائر في كبد السماء إذا ارتفع ويقولون كان ذلك في حسابي والصواب في حسباني وليس للحساب ههنا وجه.
قلت قالوا أن الصحيح كان في حسباني وأما قولهم في حسابي فله وجه أيضاً ويقولون حلا الشيء في عيني بفتح اللام ص حلي بكسر اللام وإنما حلا في فمي (لا في عيني) فهذا من الحلاوة والأول من الحلية. ويقولون في عيني حور بكسر الحاء وصوابها بفتحها قلت ويظهر من بعض المعاجم الضم فقط ويقولون قد حسن الشيء وحمض بكسر السين والميم والصواب بضمها ويقولون في كنية الثعلب أبو الحسين والصواب أبو الحصين ويقولون للخارج من الحمام طاب حمامك خطأ صوابها طاب حميمك أو حمتك أي طاب عرقك لأن(76/8)
عرق الصحيح وعرق السقيم خبيث ويقولون قد حدث أمر عظيم بضم الدال قياساً عَلَى قولهم أخذني ما قدم وما حدث ويقولون فلان يحث في السير وفي الخير أيضاً صوابها أن يقال يحث في السير ويحض عَلَى الخير وقد فرق الخليل بن أحمد فقال الحث في السير والسوق والحض فيما عداهما ويقولون أحميت المريض صوابها حميته بغير ألف ويقولون إذا وجدوا في أبدانهم سخونة أجد حمى وصوابها أجد حمياً وقد بلغنا عن الصاحب بن عباد أنه رأى أحد ندمائه متغير السحنة فقال ما الذي بك فقال حمى فقال الصاحب (قه) فقال النديم (وه) فاستحسن عليه الصاحب ذلك وخلع عليه.
حرف الخاء
يقولون خمرت العجين إذا جعلت فيه الخمير وصوابه خمرت العجين بالتخفيف ويقولون أخصيت الفحل بالألف والصواب بغير ألف فهو مخصي ولا يقال مخصيً ويقولون فعلت ذلك خصوصية بضم الخاء والصواب بفتح الخاء قلت والضم معروف أيضاً.
ويقولون خليت به بالياء والصواب بالواو.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون مائدة للخوان الذي يترك عليه الطعام سواء عليه طعام أو لم يكن ص خوان بكسر الخاء إذا لم يكن عليه طعام فإذا كان عليه طعام فهو مائدة ويقولون خاتمة للحلقة إن كان فيها فص أو لم يكن ص إن كان فيها فص فهو خاتم وإن لم يكن فهي حلقة ويقولون للذهب المصوغ هذا خلاص بفتح الخاء ص بكسرها قلت هو ما أخلصته النار من الذهب وهو الخلخال والخشخاش بفتح الخاء والعامة تكسرها وهي الخصية والعامة تقول الخصوة بالواو ويقولون أخطأ الرجل إذا تعمد الذنب ص خطئ فهو خاطئٌ ومنه الخطية وإنما أخطأ يخطئُ إذا أراد شيئاً فأصاب غيره وقال بعض المتأخرين:
لا تخطون إلى حط ولا خطأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا
فأي عذر لمن شابت مفارقه ... إذا جرى في ميادين الصبا وخطا
ويقولون لمن هلك له والد أو ولد أخلف الله عليك وهو خطأ ص أن يقال لمن هلك له من يتعوض عنه كالولد أخلف الله عليك ولمن لا يتعوض عنه كالوالد خلف الله عليك أي كان خليفة.(76/9)
حرف الدال
ويقولون الدهليز بفتح الدال ص بكسر الدال ويقولون دحية الكلبي بفتح الدال ص بكسر الدال ويقولون هو الدخان بتشديد الدال والخاء ص بالتخفيف وجمعه دواخن والعامة تقول دخاخين ويقولون دم بتشديد الميم ص بالتخفيف ويقولون دنيت من الرجل إذا قربت منه ص دنوت منه بالواو ويقولون دوخلة بتخفيف اللام ص دوخلة بالتشديد قلت والتخفيف منقول فيها وهي ما تصنعه من أخواص النخل ظرفاً لتموره.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون دجاجة ودجاج بكسر الدال وهي لغة رديئة ص بفتح الدال ويقولون دمشق بكسر الدال والميم ص فتح الميم ويقولون دستور بفتح الدال ص ضمها وهو قياس كلام العرب كأسلوب وعرقوب وخرطوم ويقولون وري فلان بكسر الراء ص بفتحها ويقولون الرية وموضع دفي بتشديدهما ص التخفيف فيهما ويقولون دنياً بالتنوين وهو غلط ص من غير تنوين لأنها لا تنصرف بحال وسمعت بعض المتعبدين يقول اللهم أصلحنا في ديننا ودنيانا وهذا قبيح قلت وقال الفيروز آبادي إنها قد تنون.
ويقولون في النسبة إلى الدنيا رجل دنيائي بهمزة قبل ياء النسبة ولا وجه لذلك لأنه اسم مقصور لا ينصرف ص دنياوي أو دنيوي ويقولون أيضاً للذي يحمل الدواة دواتي وهو غلط ص دووي لأن تاء التأنيث تحذف في النسب كما تقول في النسبة إلى مكة مكي وإلى فاطمة فاطمي ويقولون للشيء الحقير ذميم بالذال المعجمة ص بالدال المهملة وإنما الذميم بالذال المعجمة السيئ الخلق وقرأت عَلَى شيخنا أبي منصور قال الدمامة بالدال المهملة في الخلق وبالذال المعجمة في الخلق ويقولون للدودة التي هي كثيرة الأرجل التي تدخل في الأذن دخان الأذن بالنون يشبهوه بالدخان ولا معنى لذلك ص دُخَّال الأذن من الدخول
حرف الذال لابن الجوزي
وتقول للجماعة القليلة من إناث الإبل ذود ولا يقال للذكور ذود والعامة لا تفرق دقن بالدال المهملة وإسكان القاف وصوابها بالذال المعجمة المفتوحة وفتح القاف ويقولون ذبل الريحان بضم الباء ص فتحها ويقولون فعلت كيت وكيت وقلت كيت وكيت ولا يفرقون بين المقال والأفعال ص أن يقال ذيت وذيت كناية عن المقال وكيت وكيت كناية عن الأفعال.(76/10)
حرف الراء
ويقولون أرهنت الرهن بالألف ص بغير ألف ويقولون رميت بالقوس ص عن القوس ويقولون الرصاص بكسر الراء صوابها فتحها ويقولون رصغ الدابة صوابها بالسين ويقولون رباعية بالتشديد صوابها بالتخفيف وكذلك رفاهية بالتخفيف ويقولون رقيت في السلم بفتح القاف صوابها بكسرها ويقولون الرق للذي يكتب به بكسر الراء صوابها أن يقال بفتح الراء وإنما الرق بكسر الراء الملك ويقولون للمتكلم عَلَى رسلك بفتح الراء صوابها بكسرها ويقولون شيءٌ ردي بتشديد غير مهموز صوابها رديءٌ مخفف مهموز.
الزائد من كلام ابن الجوزي
والرئة مهموزة والعامة تشددها ورضى الله مقصورة والعامة تمده ويقولون قد هبت الأرياح صوابها الرياح ولو قالوا الأرواح كان صحيحاً ويقولون هذا خبز الرقاق بكسر الراء وصوابها ضمها ويقولون رمح عَلَى أية حالة كان صوابها أن يقال له رمح إذا كان له زج وسنان وإلا فهو قناة ويقولون للمزادة التي هي وعاءُ الماء رواية ص أن يقال للبعير أو الحمار الذي يستقى عليه رواية فأما التي فيها ماء فهي مزاده ويقولون لكل راكب ركب وهو غلط وإنما الركب لراكب الإبل دون غيرها ويقولون أردمت الباب فهو مردوم وصوابها ردمته فهو مردوم ويقولون فلان أحمق من رجله يضيفون إلى قدمه وصوابها من رجلة وهي البقلة الحمقاء لأنها تنبت في مجاري السيول وليس لها أصل ثابت فتخطفها ويقولون رب مال كثير أنفقته وهذا كلام يناقض كلام العرب لأن العرب تقول رب مال أنفقته تشير إلى القليل فلا يخبر بها عن الكثير.
حرف الزاءِ
ويقولون في خلق فلان زعارة بالتخفيف ص زعارة بالتشديد وهي الشراسة ويستعملونها مخففة ويقولون عندي زوج من الحمام ص زوجان يعني بذلك الذكر والأنثى ويقولون الزيبق بفتح الباء من غير همز ص بكسر الباء والهمز ويقولون زهوت علينا بأرجل بفتح الزاي وبالواو ص زهيت علينا بضم الزاي وكسر الهاء ويقولون هي: أَزحة جمع زج ص زججة بغير ألف قلت وزجاج أيضاً
الزائد من كلام ابن الجوزي(76/11)
ويقولون هذا الزعرور والزنبور بالفتح ص الضم والزبيل بفتح الزاي فإن كسرتها رددتها نوناً فقلت زنبيل والعامة تقول زنبيل بفتح الزاي ويقولون زرنيخ بفتح الزاي ص كسرها ويقولون زهقت نفسه بفتح الزاء وكسر الهاءِ ص فتح الهاء ويقولون زيت الطعام إذا جعلت فيه الزيت ص زِته والزهم من الطير والدجاج والبط والدسم من دهن السمسم والجوز واللوز والزيتون والودك من الإبل والبقر والغنم والعامة لا تفرق بين ذلك.
(حرف السين)
ويقولون للطائر سماني بتشديد الميم ص سماني بالتخفيف ويقولون سفود بضم السين ص بفتحها والتشديد ويقولون كم سقي أرضك بالسين يريدون كم حظها من الماء وذلك غلط ص بكسر السين وإنما السقي بفتح السين مصدر سقيت ويقولون سخرت به ص سخرت منه.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون انساغ الشراب فهو منساغ ص ساغ فهو سائغ وهو السميدع والسفرجل والسفود والسمور والسعوط والسفوف والسوسن لنبوع من المشموم والعامة تضم الجميع وهو السرداب والسقاء وسلخ الحية والسرقين واصله السرجين معرب بكسر السين والعامة تفتحها ويقولون هذا سداد من عوز بالفتح ص بالكسر ويقولون سيلان السكين بفتح السين والياء ص بكسر السين وسكون الياء وأنشدوا.
ولن أصالحكم ما دام لي مرس ... واشتد قبضاً عَلَى السيلان إبهامي
ويقولون الريح السموم بضم السين ص بفتحها ويقولون للعوام السوقة ص أن يقال لمن دون الملك سوقة لأن الملك يسوقهم فينساقون له عَلَى مراده!!!
والواحد من أهل السوق سوقي والجمع سوقيون ويقولون جذ في السرى وقت كان سرى ص جدَّ في السرى إذا سار ليلاً ويقولون لا أكلمك سائر اليوم أي ما بقي منه مأخوذ من سؤر الإناء وهو بقية ما فيه والعامة تشير بسائره إلى جميعه ويقولون للمرأة سني قال ابن الإعرابي إن كان من السودد فسيدتي وإن كان من العدد فستتي ولا أعرف في اللغة لستي معنى قال شيخنا أو منصور قد تأوله ابن الأنباري قال يريدون يا ست جهاتي وهو تأول بعيد مخالف للمراد ص سيدتي.
يتبع(76/12)
النجف:
محمد رضا الشبيبي(76/13)
الروضة الفيحاء
في مشاهير النساء
هذا كتاب جليل صنفه الإمام العلامة أديب زمانه الشيخ يسن الخطيب ابن العلامة الشيخ خير الله بن محمود بن موسى الفاروقي الموصلي كان من أفاضل أوائل القرن الثالث عشر في الموصل وهو أحد أسلاف عائلة المرحوم سامي باشا الفاروقي صنف كتباً كثيرة منها تاريخه الذي ابتدأ فيه من الهجرة النبوية إلى عصره ومنها كتابه الموسوم بعنوان لأعيان ذكر فيهم ملوك الزمان ومنها كتابه الذي سماه الروض الزاهر ورتبه عَلَى حروف الهجاء ذكر فيه الملوك والسلاطين والوزراء وأرباب المناصب والأمراء ثم القضاة الأعلام ومشايخ الإسلام.
ومنها الدر المنتثر في تراجم أدباء القرن الثالث عشر وغير ذلك مما يطول ذكره ويفوت حصره وقد رأيت في خزانه كتب مدرسة مرجان نسخة من كتاب الروضة الفيحاء بخط المصنف قال في ختامه تمت النسخة المباركة عصر يوم الثلاثاء غرة ذي القعدة الحرام عَلَى يد جامعها ومؤلفها الفقير إليه سبحانه يسن بن خير الله بن محمود ابن موسى الخطيب العمري غفر الله لهم ذنوبهم وستر بثوب غفره ثلوبهم وذلك سنة أربع ومائتين وألف من هجرة النبي المكرم صلى الله عليه وسلم.
أول الكتاب الحمد لله الذي خلق الإنسان علمه البيان وميزه بالإدراك عَلَى سائر أصناف الحيوان إلى أن قال: وبعد فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني يسن الخطيب العمري الموصلي منذ نشأت لم أزل أطالع كتب التواريخ المتقدمة وأسرح نظري في رياض آداب أهل الكمالات حتى جمعت كتاباً فريداً ابتدأت به من سنة الهجرة إلى أواني ثم جمعت كتاباً آخر سميته عنوان الأعلين ثم جمعت بعده كتاباً آخر سميته الروض الزاهر ثم أحببت أن أجمع كتاباً في مشاهير النساء إلى أن قال وسميته الروضة الفيحاء قال ورتبته عَلَى مقدمة ومقالتين وخاتمة فجاء بحمد الله كتاباً فائقاً وزهراً رائقاً ونشراً عابقاً معانيه ظاهرة ومحاسنه زاهرة.
كتاب في محاسنه سرور ... مناجيه من الأحزان ناجِ
كراح في زجاج أو كروح ... سرت في جسم معتدل المزاج(76/14)
قال وجعلت المقدمة في فوائد لا يستغنى عنها ولا بد للمرء منها والمقالة الأولى في ذكر النساء بالصلاح والمقالة الثانية في ذكر نساءٍ اشتهرن بغير ذلك والخاتمة في ذكر بعض أذكياء النساء مع فوائد أخر وبعد أن ذكر المقدمة بنحو ست صحائف قال:
المقالة الأولى في ذكر النساء الصالحات
وذكر منهم حوا أم البشر وأنها كيف خلقت وما جرى عليها بعد الأكل من الشجرة وما كانت عليه من العلم والحلم وغير ذلك من صفاتها الحميدة.
ثم ذكر بعض أزواج الأنبياء وأمهاتهم فذكر سارة زوج إبراهيم وهاجر أم اسمعيل ولوخا أم موسى وصفورة زوج موسى وآسيا وزليخة ورحمة زوج أيوب وحنة أم مريم ومريم العذراء البتول وإيشاع زوج زكريا وسارة زوجة داود وآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وعماته وخالاته ومرضعته حليمة السعدية وبناته وأمهات المؤمنين وأم معبد وهند بنت أبي سفيان وأختها عزة وأم كلثوم بنت عقبة وهند وفاطمة ابنتي عتبة وفاطمة ابن الوليد ورملة بنت شيبة وقتيله بنت النضر بن الحارث وهي التي كتبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام لما قتل أبوها النضر بن الحارث بن كلدة:
يا راكباً إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتاً فإن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تخفق
مني إليه وعبره مسفوحة ... جادت لما حيها وأخرى تخفق
إلى آخر البيات المشهورة.
وبسرة بنت صفوان والحولاء بنت ثويبت وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأختيها أُم كلثوم وأُم فروة وأُم الخير بنت صخر أم أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأم حكيم بنت الحارث ودرة بنت أبي جهل وأختها جويرة ودرة بنت أبي سلمة وزينب أختها وأم كلثوم أختها الأخرى وأم جميل فاطمة أخت الفاروق رضي الله تعالى عنه وعاتكة بنت زيد بن الخطاب والشفاء بنت عبد الله وسهلة بنت سهيل وحبيبة بنت عبد الله ربيبة الرسول صلى الله عليه وسلم وجمانة بنت جحش وأختها أم حبيبة وأم قيس بنت محصن وأم عبد الله بنت الوليد وفاطمة وزينب ابنتي الفاروق رضي الله عنه وأم كلثوم بنت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعائشة بنت طلحة اليتيمية وفاطمة بنت(76/15)
الإمام الحسين رضي الله عنه والخيزرانة زوج المهدي العباسي وهي أم موسى الهادي وهرون الرشيد وفاطمة بنت عبد الملك لن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز. خولة بنت ثعلبة. حبيبة بنت سهل. السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن ين علي رضي الله عنهم دفينة مصر. ميسون بنت بجدل أم زيد بن معاوية وأقامت عند معاوية ثلاثة أعوام ودخل عليها يوماً فوجدها تنشد:
ولبس عباءة وتقر عيني ... أَحب إلي من لبس الشفوف
وبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
إلى أن قالت:
وخرق من بني عمي نحيف ... أحب إلي من علج عنيف
وذكر قصتها المشهورة.
وأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وبوران بنت الحسن بن سهل وزير المأمون تزوجها المأمون وضربت الأمثال بعرسها. زبيدة بنت جعفر بن منصور العباسي. الحرة السيدة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحي ملكة اليمن مولدها سنة أربعين وأربعمائة تزوجها الملك المكرم حمد بن علي الصليحي صاحب صنعاء. أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر.
أم خالد زوجة يزيد بن معاوية. قبيحة جارية المتوكل عَلَى الله الخليفة العباسي وتسميتها بذلك من باب تسمية الضد باسم الضد. شغب جارية المعتضد بالله الخليفة العباسي. جميلة بنت ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان صاحب الموصل. تركان زوجة السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي. زمرد بنت جاولي صاحب الموصل تزوجها تاج الملك بن صاحب دمشق. زمرد زوجة الأمير طغتكين الأيوبي صاحب بلاد اليمن حنيفة بنت العادل أبي بكر بن أيوب ولدت في قلعة حلب سنة 581. ملكة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب تزوجها الملك الظاهر بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب. مملكة بنت الملك العادل أيضاً تزوجها الملك المنصور محمد بن عبد الملك صاحب حماة ولما توفيت رثاها أحد شعراء عصره بقوله:
الطرف في لجة والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشرر(76/16)
لو كان من مات يفدى قبلها الفدى ... أم الظفر آلاف من البشر
ما كنت أن الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى عَلَى القمر
وربيعة بنت نجم الدين أيوب وهي أخت صلاح الدين يوسف وشجرة الدر جارية أيوب وقد قامت بالملك في مصر مدة وخطب باسمها وضربت السكة باسمها وكان نقس السكة المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين ووالدة الملك المنصور الخليل وتحاربت مع الإفرنج وانتصرت عليهم وفي ذلك يقول ابن مطروح:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤُل نصيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر بالطبل ريح
وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفاً لا يرى منهم ... غير قتيل وأسير جريح
وقل لهم إن ضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لأخذ صحيح
دار ابن لقمان عَلَى حالها ... والقيد باقٍ والطواشي صبيح
وأم الواحد بنت القاضي العلامة حسين المحاملي. وأم الفضل بنت عبد الصمد الهروية. وفاطمة بنت الحسين بن علي الأقرع. وفاطمة أم الخير بنت علي المعروفة ببنت زعبل. وشهدة بنت أحمد بن الفرج. وتقية بنت غيث بن علي الصوري وكان لها مع فضلها شعر جيد من ذلك قولها:
خذ من أهواه يهوى زحلاً ... صبغوه من دمي كالعندم
ولماه عسلاً فيه الشفا ... وحماه كعبتي بل حرمي
ونفيسة بنت عبد الله الطرابلسي. وفاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني. وخانم سلطان بنت السلطان سليمان خان. وهي خاتمة من ذكرن في المقالة الأولى.
وقد بسط المصنف الكلام في بيان فضلهن وأدبهن وذكر في الوصف بعضهن أنها كانت أحسن من أهل زمانها خطباً وأدباً وعلماً في معقول ومنقول.
ثم قال: المقالة الثانية في ذكر من اشتهرن بغير الزهد والصلاح
ونذكر منهم دلوكة بنت الزباء قال وكانت في زمن موسى عليه السلام. وقطام وإقبال وكانتا من ثمود زمن صالح عليه السلام. ورقاش أخت جذيمة الأبرش. وعفيراء بنت عباد ويقال(76/17)
لها الشموس وهي أخت الأسود من قبيلة جديس. والنضيرة بنت الساطرون واسمه الضيزن ملك الحضر وهو من قبيلة قضاعة واصله من الجرامقة والزباء بنت عمرو الملكة وسودة الكاهنة وزينب بنت الحارث اليهودية. وسجاج بنت الحارث التميمية ولها قصة مشهورة مع مسيلمة الكذاب. وحبابة جارية يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي وقطام وهي امرأة من الخوارج من تيم الرباب. وست الملك بنت العزيز بالله العبيدي وزنبي ملكة الروم كانت من بيت الملك ولاه حسن رأي وتدبير ملكت الروم سنة ثمانين ومائة وأقامت بالملك سبع سنين أيام هارون الرشيد. وتفانو ملكة الروم وهي زوجة أرمانوس ملك الروم. وعزة بنت جميل وهي التي قال فيها الكثيرون:
قضى كل دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ومزنة بنت عبد الله الكناني. وعنان جارية الناطفي. وبديعة بنت عبد الله زوجة السلطان قاتيباي الشركسي سلطان مصر. وعباسة بنت الخليفة محمد المهدي العباسي. وبيرخان بنت الشاه طهماسب بن الشاه اسمعيل بن حيدر الصفوي. وبدونة زوجة توفيل ملك الروم وأم جنكيزخان. وتركان خاتون بنت أحد ملوك الترك. وسلطان بخت بنت تيمورلنك.
ثم قال الخاتمة في ذكر أذكياء النساء وتنبههن للمحة والإشارة
وذكر جملاً من نوادرهن وقصصهن فيما جرى منهن وأحسن أجوبتهن من ذلك أن الملك العزيز كان في أيام أبيه يهوى جارية قينة فمنعه أبوه عنها فيسرت له شمامة عنبر مع الخادم فكسرها فوجد فيها زراً من ذهب فلم يفهم مرادها فنقل ذلك إلى القاضي الفاضل فأنشده ارتجالاً:
أبدت لك العنبر في وسطه ... زر من التبر قليل اللحام
فالزر في العنبر تفسيره ... زر هكذا مستتر في الظلام
وقد امتد ذلك نحو عشر صفائح وبها تم الكتاب وجميع صحائفه مائتان وثمانون صفحة بقطع الربح نحو صحيفتنا هذه ومباحثه كلها ممتعة فيها فوائد كثيرة استطرادية وأدب وافر وشعر باهر ونثر كالروض المزهر زاهر والكتاب شاهد عَلَى علو كعب مصنفه في العلوم الأدبية وكمال معرفته بالفنون التاريخية تغمده الله برحمته.
بغداد(76/18)
محمود شكري الآلوسي(76/19)
أبيات العادات
من أبيات العادات قول الشاعر:
يهب الجلاد بريشها ورعانها ... كالليل قبل صباحه المتبلج
وهو مبني عَلَى عادة كانت لملوك العرب ذكرها الجاحظ وذلك أنهم كانوا يغرزون الريش في أسنمة جمالهم يحملونها بذلك شرف أصحابها ومنه يظهر لك المراد من قولهم في أحاديثهم فرجع النابغة من عند النعمان وقد وهب له مائة من عصافيره بريشها. والعصافير إبل كانت للملوك نجائب وفي لسان العرب وأعطاه مائة بريشها قيل كانت الملوك إذا حبت حباءً جعلوا في أسنمة الإبل ريشاً وقيل ريش نعامة ليعلم أنها من حباء الملك وقيل معناه برحالها وكسوتها وذلك لأن الرحال لها كالريش اهـ.
وأما قول ذي الخرق الطهوي:
لما رأت إبلي حطت حمولتها ... هزلى عجافاً عليها الريش والخرق
قالت ألا تبتغي عيشاً تعيش به ... عما تلاقي فشر العيشة الرنق
وقول الآخر:
كأنها ريشة في غارب الجرد ... في حيثما ضربته الريح يتصرف
فليسا مما تقدم بل المعنى أن هذه الإبل قد دبرت ظهرها لأنهم كانوا إذا ظهرت دبرة بظهر بعير غرزوا في سنامه إما قوادم نسر أسود وإما خرقة سوداء لتفزع الغربان فلا تسقط عليه لأن الغراب مولع بنقر الدبر وعقرها حتى يبلغ الدأيات وهي عظام الكاهل ولهذا سمت العرب الغراب بابن دابة.
(ومنها) قول الحرث بن حلزة اليشكري في معلقته:
عنناً باطلاً وظلماً كما تعتر عن حجرة البيض الظباء
الحجرة بالفتح الناحية والمراد بها هنا موضع الغنم وأصل العتر الذبح في رجب وكانت العرب تنذره لآلهتها فيقول أحدهم إن رزقني الله مائة شاة ذبحت عن كل عشرة شاة في رجب ويسمى هذا الذبح العتيرة والرجيبة وهو مما نهى عنه الإسلام. والبيت مبني عَلَى عادة كانت لهم وهي أن الرجل كان إذا ضن وبخل بما نذر صاد الظباء فذبحها عوضاً عن الشياه والمعنى أنكم تطالبوننا بذنوب غيرنا كما تذبح الظباء بدل الغنم. وقول كعب بن زهير في رثاء جويءٍ المزني:(76/20)
لنذرك والنذر لها وفاء ... إذا بلغ الخزاية بالغوها
كأنك كنت تعلم يوم بزت ... ثيابك ما سيلقى سالبوها
فما عتر الظباء بحي كعب ... ولا الخمسون قصر طالبوها
معناه أننا وفينا لك ولم نقنع بأخذ ثأرك بشيءٍ يغني عما نذرته كما تذبح الظباء بدل الغنم وهو مثل ضربه وكان جويء لما أصيب مر به رجل فقال أخا مزينة ما طرحك هذا المطرح فو الله إنك من قوم يحمونك فرفع رأسه إليه وهو يجود بنفسه فقال أعطي الله عهداً ليقتلن منكم خمسون ليس فيهم أعور ولا أعرج وبلغ قوله قومه فوفوا له بما قال.
(ومنها) قول عروة بن الورد أشد صاحب اللسان
وغني وإن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمار إنني لجزوع
عشر الحمار نهق أو تابع النهيق عشر نهقات ووالى بين عشر ترجيعات في نهيقه فهو معشر ونهيقه يقال له التعشير. وكانت عادتهم أن الرجل منهم إذا ورد أرض وباء وضع يده خلف أذنه فنهق عشر نهقات نهيق الحمار ثم دخلها لزعمهم أنه إن فعل ذلك أمن من الوباء. وكان عروة قد خرج في رفقة إلى خيبر فلما قربوا منها عشروا وأبى هو أن يفعل فعلهم.
(ومنها) قول امرئ القيس بن حجر من قصيدة يصف بها رحيله إلى قصره:
إذا قلت روحنا أرن فرانق ... عَلَى جلعد واهي الأباجل أبثرا
عَلَى كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا
الفرانق الذي يدل صاحب البريد عَلَى الطريق وبربر قبيلة توصف خيلها بالصلابة وقد يسأل لم كانت هذه الخيول مقصوصة الأذناب فالجواب أنه كان من عادتهم قص أذناب بغال البريد ومنه قول الفرزدق:
أتغضب أن أُذنا قتيبة حزناً ... جهاراً ولم تغضب لمقتل ابن حازم
وما منهما إلا نقلنا دماغه ... إلى الشام فوق الشاحبات الرواسب
تذبذب في المحلاة تحت بطونها ... محذفة الأذناب جلع المقادم
يعني بالشاحبات البغال والمراد هنا التي للبريد كما في كامل المبرد. وأما الخيل فكانت خاصة ببرد ملوك العرب في الجاهلية ولهذا ذكر امرئ القيس في بيته المتقدم لأنه كان ملكاً(76/21)
بريده الخيل أما تخصيصه خيل بربر بالذكر دون سواها من خيل العرب فقد قال عنه ابن رشيق في العمدة كانت الخيل البربرية تلهب أذنابها كالبغال لتدخل مداخلها في خدمة البريد وليعلم إنها للملك اهـ قلت لعل ذلك كان لصلابتها كما قدمنا وأما قص أذنابها فربما للإعلام بأنها للبريد ولا يبعد أنه كان طلباً للخفة في العدو كما كانوا يعقدون شعر الأعراف والأذناب في الحرب قال الشاعر:
عقدوا التواصي في الطعان فلا ترى ... في الخيل إذ يعدون إلا أنزعا
وقال المتنبي:
ويوم جلبتها شعث النواصي ... معقدة السبائب للطراد
والسبائب جمع سبيب وهو شعر الذنب ويجوز أن يكون لسبب آخر لم أقف عليه. ثم اعلم أن عادة قص الأذناب كانت خاصة عندهم بخيل البريد دون عامة الخيل فإنهم كانوا يستحبون طول أذنابها ويمتدحون به كما قال النابغة:
وكل مدجج كالليث يسمو ... عَلَى أوصال ذيال رفن
وكما قال امرؤ القيس:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
الفرج الفرجة التي بين الرجلين قال ابن رشيق أراد طوله لأن العروس تجر ذيلها إما حياءً وإما من الخيلاء اهـ. قلت وإن عندي امرأ القيس لم يصب كل الإصابة في هذا الوصف لأنهم قالوا يكوه من الفرس أن يكون قصير الذنب وإن يكن طويلاً بطأ عليه فليته جرى هنا عَلَى ما قاله في معلقته:
ضليع إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
فوصف ذنبه بالطول إلا أنه جعله فويق الأرض لأنه إذا بلغها وطئه برجليه وربما عثر به وذلك عيب منه يظهر لك ما في البحتري من الخطأ والوصف:
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
(ومنها) قول أنس بن مدرك:
إني وعقلي سليكاً بعد مقتله ... كالثور يضرب لما عاقت البقر
لأن العرب كانت إذا أوردت البقر فلم تشرب لكدر الماء أو لقلة العطش ضربوا الثور(76/22)
ليقتحم الماء لأن البقر تتبعه كما تتبع الشول الفحل وكما تتبع أتن الوحش الحمار وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب فتهلك. وقال الجوهري إذا البقر امتنعت عن شروعها في الماء لا تضرب لأنها ذات لبن وإنما يضرب الثور لتفزع هي فتشرب اهـ. وقيل أراد بالثور ثور الماء وهو الطحلب فإذا أورد البقلر القطعة من البقر فعافت الماء وصدها عنه الطحلب ضربه ليفحص عن الماء فتشربه فيكون ذكره هنا بعد البقر للإلغاز به عَلَى المسامع.
ومنه قول الأعشى:
كالثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء مشرباً
والجني هو اسم الراعي لا الواحد من الجن في قول.
(ومنها) قول النابغة
لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكون غيره وهو رائع
هكذا رواه الأعصمي وروى وابن عربي (حملت عليَّ ذنبه وتركته) والعر بضم العين المهملة قروح تخرج من مشافر الإبل وقوائمها والبيت عَلَى عادة كان يفعلها جهال العرب فكانوا إذا وقع العر في إبلهم اعترضوا بعيراً صحيحاً فكووا مشفره وفخذه يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العر من إبلهم كما كانوا يعلقون عَلَى أنفسهم كعوب الأرانب خشية العطب ويفقؤن عين فحل الإبل لئلا تصيبها العين وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو وأكثر اللغويين كما ذكر ابن السيد في الاقتضاب. وقيل إنما كانوا يكوون الصحيح لئلا يعلق به الداء لا ليبرأ السقيم. وقيل هذا أمر لم بكن وإنما هو مثل لا حقيقة. وقيل أصله أن الفصيل إذا أصابه العر لفساد في لبن أمه عمدوا إلى أمه فكووها فتبرأ ويبرأ فصيلها لأن ذلك الداء إنما كان يسري إليه في لبنها قال ابن السيد وهذا أغرب الأقوال وأقربها إلى الحقيقة.
(ومنها) قول عبد الله بن عداء البرجمي:
لو كنت جار بني هند تداركني ... عوف ابن نعمان أو عمران أو مطر
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... لم يسلموه ولم تسنح له بقر
وذلك لأن العرب كانت تتشاءم بالبقر لحدة قرونها.
(ومنها) قول المثلم بن عمرو التنوخي:(76/23)
يمنعني لذة الشراب وإن ... كان قطاباً كأنه عسل
حتى أرى فارس الصموت عَلَى ... أكساء خيله كأنها إبل
وليس المراد أنه امتنع عن خمر لمجرد حزنه أو لاشتغاله بأخذ الثأر كما هو ظاهر المعنى بل هو مبني عَلَى عادة كانت لهم وهي أن الواحد منهم إذا أصيب بوتر كان يعقد عَلَى نفسه نذراً في مجانبة بعض اللذات.
(ومنها) قول مرة بن محكان التميمي في وصف ناقة نحرت وهو من شعراء الحماسة:
زيافة بنت زياف مذكرة ... لما نعوها لراعي سرحنا انتحبا
أمطيت جازرها عَلَى سنانها ... فصار جازرنا من فوقها قتباً
ينشنش اللحم عنها وهي باركةٌ ... كما تنشنش كفّا قاتل سلبا
ينشنش أي يكشف ويفرق قال التبريزي في شرحه قال أبو محمد الأعرابي لو قال قائل لما قال وهي باركة ولم يذكروا وهي مضطجعة وليس شيء من الحيوان يسلخ إلا مضطجعاً قيل له عن عادة العرب أنهم إذا نحروا الناقة وخشوا أن تضطجع رفدها الرجال من جانبيها حتى تموت وهي باركة وذلك إن جزرهم إياها وهي باركة مستوية هو خير من جزرهم إياها وه مضطجعة عَلَى جنبها فإذا ماتت جزلوها والجزل أن يحزوا أصل العنق ما بين المنكبين حتى يسترخي العنق ولم يقطعوه كله وقد فصلوه ثم يكتنفها الرجال فيكتف السنام رجلان وذلك أن يكون أحدهما من جانبها من شق والآخر من الشق الآخر منة قبل الكتفين وآخران من قبل العجز فثلاثة من جانب وثلاثة من جانب والسالخ واحد وهي باركة.
(ومنها) قول القائل:
إذا انتدى واحتبى بالسيف دان له ... شوس الرجال خضوع الجرب للطال
كأنما الطير منهم فوق هامهم ... لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال
احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته أو بيديه ومنه الحديث الإحتباء حيطان العرب أي ليس في البراري حيطان فإذا أرادوا أن يستندوا احتبوا لأن الإحتباء يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار وقوله انتدى أي جلس في النادي والبيت مبني عَلَى عادة كانت لهم ذكرها التبريزي في شرح الحماسة وهي أنهم كانوا يحتبون بالسيوف عند عقد جوار أو(76/24)
حرب أو تسويد رئيس وما يجري هذا المجرى لأن السيف في أمثال هذه الأحوال ربما مست الحاجة إليه ولذلك قال جرير:
ولا يحتبى عند عقد الجوار ... بغير السيوف ولا يرتدى
وفي غير هذه الأحوال إنما يحتبون بالأردية وغيرها.
(ومنها) قول حاتم:
أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم
وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم
المعنى أن أقري الضيف وأنا طاوي الحشا لأني أوثره عَلَى نفسي. وقد يسأل عن مراده في البيت الثالث ولم يكن يأكل في الظلمة والجواب أنه بلغ من إكرام العرب للضيف إن أحدهم ربما أطفأ النار وأمسك عن الأكل أوهم الضيف أنه يأكل ليشبع الضيف.
(ومنها) قول الفرزدق:
ولما تصافنا الأدواة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم
وجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليسقي عليه الماء بين الصرائم
عَلَى حالة لو أن في القوم حاتماً ... عَلَى جوده لضن بالماء حاتم
التصافن اقتسام الماء بالحصص وكانت عادتهم إذا كانوا في فلاة وقل الماء ولم يوجد معهم إناءٌ صغير يقسمونه به تصافنوه بأن يضعوا في الإناء الكبير حصاة ويسكبون فيه الماء بقدر ما بغمر الحصاة فيعطاه كل رجل منهم وقصة كعب بن مامة في المصافنة وتفضيله النمري عَلَى نفسه حتى مات عطشاً مشهورة وبسببها ضربوا به المثل في الجود وهو الذي عناه جرير بقوله لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
وما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا
وبقي في هذه الأبيات جرهم لفظ حاتم والوجه رفعه عَلَى أنه فاعل تضن ولكنهم رووه هكذا تبعاً لقوافي القطعة وخرجوه عَلَى أنه بدل من الهواء في وجوده ولهم في ذلك خلاف وكلام طويل الذيل ليس هنا موضع استيفائه ولو خيرت لكنت اختار رفعه عَلَى الإقواءِ تخلصاً مما تكلفوه. وقال التنوخي في الأقصى القريب ويروى (ضنت به نفس حاتم) ولا إشكال(76/25)
حينئذ والظاهر أن هذا إصلاح لا رواية انتهى كلامه.
(ومنها) قول القائل:
لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لذي الأزمات بالعشر
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
العشر بضم ففتح والسلع بفتحتين ضربان من الشجر والبيقور البقر وكانت عادتهم في الجاهلية الأولى إذا اسنتوا جعلوا السلع والعشر في أذناب البقر وعراقيبها وأشعلوا فيها النار وحدروها من الجبال فتضج البقر ويمطرون عَلَى زعمهم وتسمى هذه النار نار الاستمطار. والبيت الثاني ذكر صاحب القاموس في مادة (سلع) أن فيه تسعة أغلاط لم يبينها هو ولا شارحه وبينها السيد عبد الرحمن العمادي عَلَى ما ظهر له وذكرها صاحب خلاصة الأثر في ترجمته وكلها أوجلها ليس من الغلط في شيء والله أعلم.
القاهرة
أحمد تيمور(76/26)
كتاب ألف با
وقعنا خريف السنة الفائتة عَلَى مخطوط عند الشيخ ناصر المخزومي العرابي من فضلاً، جبل نابلس المعروفين عنوانه الجزء الأول من كتاب الألف باء نسخه ناسخة في ثالث رجب الفرد لسنة ألف وهو مما وقفه أحمد باشا الجزار عَلَى مدرسة جامعه نور أحمدية في مدينة عكة عكا التي كان لها في ماضي الأيام شأن مذكور ولا يوجد فيها الآن من أمهات الكتب سوى بعض المطبوعات لن الثورات الأهلية التي طار شرارها في القرن الثالث عشر تناولت تلك الكتب القيمة وفرقتها أيدي سبا وتجد اليوم بقية صالحة منها مبعثرة في أنحاء فلسطين.
وقد سألنا صديقنا صاحب المقتبس عن هذا الكتاب فأجابنا بأنه من أنفس المؤلفات التي طبعت في مصر وبعثت إلينا بالجزأين الأول والثاني من مكتبة سليم أفندي البخاري من علماء دمشق نتطالعها ونكتب عنها مبحثاً ولولا أن أعاد علينا هذا الطلب وشجعنا بقوله: ما كل مخطوط مهم ولا كل مطبوع يعرفه الناس لما رأيتنا ننقل إلى قراء المقتبس بعض فصوله وهنا مجال لأن نشكر الأستاذ البخاري عَلَى حواشيه التي علقها عَلَى الكتاب فجاءت كعقود نضيدة في جيد غادة حسناء أما المطبوع فقد طبع سنة 1287 هجرية عَلَى نفقة جمعية المعارف التي طبعت 1100 كتاب من طرزه.
قال الشيخ الفقيه المحدث الزاهد أو الحجاج بن يوسف بن محمد البلوي عرف بابن الشيخ بعد البسملة والحمدلة والصلولة أما بعد دام لنا ولكم السعد فإني عزمت بعد استخارة ذي الطول ومن بيده القوة والحول ورغبني إليه في السداد في العمل والقول عَلَى أن أجمع في هذه الأوراق كل معنى رق أو راقٍ مما هو عندي مستحسن لا مستخشن ومستملح لا مستقج واثبت فيه من الفوائد ما يزري بالفوائد ومن بدائع العلوم والفهوم ما يرتقي به من التخوم وجعلن ما أولف فيه وابني لبعد الرحيم ابني ليقرأه بعد موتي وينظر إليَّ منه بعد فوتي إذ لم يلحق بعد لصغره درجة البلاء ولم يبلغ مرتبة العقلاء وارجوا أن يجعله الله منهم ولا يقطع به عنهم فيكون إن شاء الله بقراءة هذا الكتاب في الو يادة عَلَى أن يلحق بالسادة. .
وبعد أن استطرد الكلام في أسباب تأليفه الكتاب عقب عليه بقوله:
إني أكرر الألف مع الباء وما شاكلها مراراً شتى ثم أشفعها بالوزن حتى تكون بيتاً بعد أن أضم إليها كلمتين متشاكلتين باسم القافية دامت لنا ولكم العافية ويكون الشكل في الكل واحداً(76/27)
والمعنى عَلَى خلاف فأفهم ثم افعل ذلك بالألف مع سائر حروف المعجم ليكبر الكتاب ويكثر الكلام وتعظم الفائدة وتعم المنفعة إلا أنه لم يصح لي إلا بضم الأشكال المؤتلفة في حروف المعجم عَلَى تأليف بلادنا بعضها إلى بعض مثل الباء والتاء والثاء في بيت والجيم والحاء والخاء في آخر والدال والذال وغير ذلك وبالحري باجتماعها فيكمل منها كلها بيت وبيت وربما يضيق بعض الأبيات عن جملتها فأذكرها خارجاً عن البيت وربما لا يكتمل إلا بمعكوس اللفظة فأكمله بها ثم أفسر اللفظة بما أدريه وما وجدته في كتب اللغة وما ذكره العلماء واستشهد عَلَى ذلك بما أحفظه من الشعر وبما قالته العرب وربما ذكرت ما قاله غيرهم من المولدين المشهورين وربما ذكرت شعر من لقيته من أشياخي وإن لم يكن في ذلك حجة ففه أنس مع الثقة بمعرفتهم وفضل التقدم علينا في كل أمرهم مع أني رأيت الفقيه القاضي أبا الفضل عياض بن موسى رحمه الله قد ساق في أحد تواليفه شعراً للوزير أبي عبيد الله محمد بن شرف رحمه الله وكان متأخراً قرأت في أحد تواليفه خبراً أرخه بثمان عشرة وأربعمائة فاستشهد الفضل بذلك الشعر في ضرب من البلاغة ذكره وسيأتي ذلك الشعر في هذا الكتاب إن شاء الله لأنه أعجبني فحفظته وبعد حفظه فيه أثبته ولي أيضاً في مثل ذلك الإنشاد عَلَى غرضي استشهاد وبيني وبين أبي الفضل هذا في الإسناد شيخي الجل الرفيع العماد أبو إسحق إبراهيم بن محمد الخبري عرف بابن قرقول رحمه الله لقيه وسمعت عليه وأجاز لي جميع ما لديه. رجع الكلام بعد فائدة عَلَى ما تقدم زائدة وربما ذكرت من شعري ما يليق الباب وإن لم يعد في اللباب لكن المرء بشعره شغف وإن لم يكن ذا شرف كما يعجب بابنه وهو الجون ومن غير اللون ألم تسمع قول بعضهم والمرء يعجب بابنه وبشعره نعم ويطيب له غناؤه وإن طال فيه عناؤه ويولع بتصنيفه ويأبى من تعنيفه إياك أعني يا مؤلف الكتاب تاب الله علينا جميعاً أحسن متاب ولي في هذا المعنى ما كتبت به إلى الفقيه الخطيب أبي محمد عبد الوهاب بن علي رضي الله عنه أعرض عليه شعراً قلته بعد كلام ولا غرو كل امرئٍ مادح لهره ومعجب بشعره وأنا الذي أقول:
كل امرئٍ يعجب بشعره ... حق يراه ناقد غيره
في أبيات ذكرتها بكمالها في كتاب سميته تكميل الأبيات وتتميم الحكايات مما اختصر للألبا في كتاب ألف با وقد ذكرت سببه في أوله فأنظرها هناك إن أردتها وبالله التوفيق وما(76/28)
أحسن ما به أعتذر صاحب كتاب الزهر إذ قال:
ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون
ويروي بأتيك وهو بشهره مفتون.
لكن يا بني إن العاقل رحل عن هذه المعاقل وترك فيها الجاهل فعادت كالمجاهل.
أحسن لله لي عزائي بنفسي ... إن يكن يحسن العزاء مذنب
تدري من العاقل في هذا المعنى ابن المقفع الذي ارتدى بعقله وتقفع ومع هذا فإن الشعر ترفع وكان من البلاغة في قلمه ولسانه بحيث لا يبلغه أحد من أهل زمانه.
قيل له مالك لا تقول الشعر قال الذي أرضاه لا يجيءُ والذي يجيءُ أرضاه وقيل للمفضل لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به قال علمي به يمنعني من قوله وأنشد:
أبى الشعر إلا أن يفئَ رديه ... عليَّ ويأبى منه ما كان محكماً
فيالتني غذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت محكماً
ثم عاد فقال في صدر الكتاب: رجع القول إلى صفة الأبيات التي ذكرها بعد لم يأت مثال ما ذكرته لك أب في بابه وأخ واد وكذلك فكذلك إلى آخر حروف المعجم فلما لم يتزن لي ذلك احتلت عليه وتركت هذا المعنى وقلت أب الذي هو المرعى وأخ واد وجئت بواو العطف في اللفظة حتى تدخل في الوزن ويصح دخولها في العروض التي بنيت عليها وهي المتقارب الذي يحتاج من فعولن ثمانياً وسقت مع أب وأت وأث مما يكون عَلَى وزن فعل أو فعل أو فعل أو فاع لأن هذا كله في الوزن مع فعولن سواء وكذلك أفعل في سائر الحروف وأذكر خارج البيت ما هو عَلَى هذا الشكل مما لم يتزن أو ما يتزن واستغنى عنه البيت عَلَى ما تراه إن شاء الله تعالى بعد هذا فإذا فرغت من البيت سقت معكوسه مثل وبا وتا وثا ثم أفسره كذلك ثم أقول مقلوبه بين ألف ثم حرفين مثل وباب وتاب وثاب ثم أفسر كل لفظة منها ثم أفسر مقلوبه أيضاً حرف بين ألفين مثل وابا واتا واثا ثم أرجع إلى القافية فأفعل فيها مثل ذلك وربما كانت الواو من نفس الكلمة إذا لم أجد غيرها فأسوقها وأنبه عليها مثل وكل الذي هو الرجل الضعيف العاجز سقته مع وكل اللفظة التي هي ضد بعض وكذلك وشل الماء الجاري من الجبل مع وشل بعض أنامله وغير ذلك مما أقيم به شكل البيت ووزنه وربما جلبت فائدة ثانية وعكساً آخر يفيد علماً زائداً ثم أذكر مخارج الحروف(76/29)
وعملها إن كانت عاملة مع ما تشترك في قافية واحدة ليقرب المخرج وما يجعل عوض صاحبه في النطق ثم أذكر آخر البيت فصلاً من الكلام المطول يكون أوله المعول وسيأتي تفسير هذا الفصل إن شاء الله فيما يستقبل فأقبل وقد اجتمع لي من ذلك تسعة وعشرون بيتاً عدد حروف المعجم لكن منها ما تكرر معكوساً ومقلوباً ومنها ما لم يتكمل البيت إلا بمعكوسه لقلة دوره في الكلام وزدت في أول الشعر ثمانية أبيات وفي آخره أربعاً من الكلمات المزدوجات المتشابهات الحروف المتماثلات الصنوف مثل الذي صنع ابن شرف في قوله غرّك غزك فصار قصار ذلك ذّلك فاحشَ فاحش فعلك فعلّك بهذا تهدا وله أيضاً مثل هذا نعمه يعمه تغمه نعمه بعمه تعمه نعمة اسم رجل ويعمه يتحير من قوله تعالى وفي طغيانهم يعمهون وباقي الكلمات مفهوم إلى غير ذلك مما يشكل حتى وبنقط ويشكل ومثل ما للحريري في مقاماته:
زينت زينب بقد يقد ... وتلاه ويلاه نهد يهد
في أبيات له وهذه الأبيات المذكورة قبل الشعر وبعده أخذتها من شعر لي مطول من هذا النوع عدده ثمانية وعشرون بيتاً جمعته في جزءٍ مع ما لابن شرف من ذلك من منثور مع أبيات لي أُخر عددها أحد وأربعون بيتاً قصدت بها نوعاً من المعمى واللغز منها أبيات ثانية لا تقرأ البتة إلا أن تشكل وتفسر مثل:
تصيخ تصيح نضيخ بصبح ... تصبح بضيح نضيج تصح
وسأفسر لك هذا البيت مع الأبيات الاثنى عشر قبل الشعر وبعده في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى وقد أودعت الكراسة المذكورة في كتاب التكميل المذكور وهذا الكلام الذي سقته منثوراً وفي صفة الأبيات مذكوراً قد نظمته في أرجوزة لزومية ذات قافية لامية واعتنيت به هذا الاعتناء عَلَى ما فيه من العناء لأنه الأصل في الباب وعليه مدار الكتاب منه نبعت عيونه وتفرعت فنونه وهاهي هذه فيه حليتها فئة تزيد عَلَى المائة:
قال ابن شيخ يملي ... عَلَى الذي يستملي
هذا كتاب أصلي ... أعددته لأصلي
به عظيم الجهل ... حتى يرى يا أهلي
بالقرب لا بالمهل ... يذوب ذوب المهل(76/30)
صنعته من أجل ... عهد الرحيم نجلي
وذاكم لعلي ... اسقيه من ذا العل
إذ قدوري من نهل ... فهو أعز الأهل
باسم الحكيم العدل ... سبحانه من عدل
ما أن له من عدل ... رب بعلم عدلي
قربه لا تبعد لي ... أملأ منه عدلي
أُفرغه فأملي ... منه عَلَى المستملي
فصلاً وأي فصل ... في وصف شعر الأصل
هو قصيد يسلي ... قارئه في رسل
يدر در الرسل ... ليس بقول فسل
ولا حرام بسل ... بل من بلي نسلي
لكل هم مسلي ... ضمن وزن فِعل
أو فَعَل أو فَعُل ... واحتيل في المعتل
منه في المختل ... حتى إذا ما حلي
وزن فعول خلي ... وبعد هذا الفعل
زوجته كالنعل ... لأختها في الشكل
لكنه بالشكل ... يدري سم من فعل
وثَعَل من بَعل ... ونَغل من بَغل
وجُعَل من جَعل ... وحَمل من حِمل
وجمل من جمل ... وجبل من جبل
وحبل من حبل ... ورمل من رمل
وذا كثير المثل ... يعجز عنه مثلي
فمثل هذي السبل ... تخفى عَلَى ذي النبل
إلا بضبط الرجل ... بالقيد أو بالحجل
فارضع لبان الثفل ... واعلم بأن فعلي(76/31)
لم أره يا شبلي ... لأحد من قبلي
جئت به في حفلي ... مسبباً للنفل
فانهد به للختل ... ولا تخف من قتل
فهو كمثل النصل ... أبرزته للفصل
والفصل ضد الوصل ... تعلو به وتعلي
لأنه مستعل ... مستغلق لجعل
عليه أي قفل ... فصار شبه الغفل
واللغز حين يغلي ... قلوبنا بالشغل
حتى إذا ما جلي ... عنه بكشف الجل
صقل أي صقل ... وخف بعد الثقل
واعلم يا ذا العقل ... إن ليس ذا من نقلي
للغز بل للكهل ... من لم يكن ذا جهل
جمعته في مهل ... من جبل وسهل
فاختلطت بالهزل ... ألفاظه والجزل
وهاكه يا خلي ... كعسل أو خل
فخذه أو فخل ... فرغت من سجل
نفسي دعا الأجل ... بصوتي المهل
ودمعي المنهل ... يا رب ألف شملي
يا رب خفف حملي ... واغفر لعبد قل
بالذنب مستقل ... يا سيدي وقل لي
رضيت بالأقل ... منك فسر في حل
لا شرف المحل ... جنة عدن نزلي
لا تخشين عذلي ... مؤملاًَ لوصلي
مؤمناً من فصلي ... لك متاح فضلي
لك مباح بذلي ... وبعد ذا أصلي(76/32)
عَلَى الكريم الأصل ... أحمد خير الرسل
وآله والنسل ... والحمد وهو الكلي
لله مولى الكل
ويلي ذلك قصيدة مهملة ثم شرحها وهي كموسوعة عليمة جمعت من كل شيءٍ أحسنه وهاك مثالاً من الشرح في أول بيت:
وآبَ أبٍ وأب وأَب ... وأتَّ أثَّ وبلٍ وَبل
فأما آب فمعنى رجع قال الشاعر:
فآب معصوله بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل
وهذا البيت سيأتي تفسيره إن شاء الله في باب الضاد يقال منه آب يؤوب أوباً وإياباً قال الله تعالى إن إلينا إيابهم وآبت الشمس وغابت والمآب المرجع وائتاب مثل آب فعل وافتعل بمعنى قال الشاعر:
ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤ تاب وغادي
ومآبة البئر حيث يجتمع الماء واسم الفاعل منه آيب ومنه الحديث آيبون تائبون وتوباً توبا لربنا أو با لا يغادر علينا حوبا الحوب والحوب الإثم وقد جاء في الحديث رويته حوباً بضم الحاء وقع في المعاني للنحاس إن أبا أيوب طلق امرأته أو عزم عَلَى أن يطلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلاق أم أيوب لحوب وقال المهدوي في قوله تعالى غنه كان حوباً كبيراً الحوب الإثم واصله الزجر للجمل فسمي الإثم حوباً لأنه يزجر عنه والتحوب التأثم وهو أيضاً التحزن وهو أيضاً الصياح الشديد كالزجر وقرأ الكل حوباً بالضم وقرأَه الحسن حوباً بالفتح كما وقع في الحديث والحاب مثل الحوب تقول حبت بكذا أي أثمت يحوب حوباً وحوبة وحيابة وفلان أحوب وأعق والحوبة أيضاً القرابة من ذوي الأرحام يخاف عليها الضيعة تقول أنا لي حوبة أصلها ويقال الحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة فلان يتحوب من كذا أي يتأثم والتحوب أيضاً التوجع والحزن قال الشاعر:
من الغيظ في أكبادنا والتحوب
وأما الأوب فيقال جاء القوم من كل أوب أي من كل وجه والتأويب في السير تباري(76/33)
الركاب وفي القرآن العزيز يا جبال أَوبي معه قيل المعنى سيري معه حيث شاء من التأويب الذي هو سير النهار وقيل من التأويب الذي هو الرجوح ومبيت الرجل في منزله فعلى هذا يكون التأويب سير الليل والنهار واصله من سرعة رجع أيدي الأبل وأرجعها في السير الحثيث وقيل معناه سجي ويكون معناه ترجيع التسبيح ومن الأوب الذي هو سرعة تقليب اليدين والرجلين في السير قال الشاعر:
كل أوب مانح ذي إلب ... مدارك النهر سريع التعب
أوب يديها بدقاق سهل
ويقال فلان سريع الأوبة أي الرجوع قال أبو عبيد وقوم يحولون الواو ياء يقولون سريع الأيبة ويقال ناقة أأوب عَلَى وزن فعول وأما آب فاسم فاعل من أبى يأبى إباية وإِباءً فهو آب وإبيان بالتحريك قال الشاعر:
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي ... وفقأت عين الأشرس الأبيان
قالوا أبى يأبي بالفتح فيهما مع خلوه من حروف الحلق وهو شاذ ومعنى آب كاره وأبى فلان كذا إذا كرهه وفي أسماء رجال الحديث مولى آبي اللحم وأنشد الفراء:
لقد غدوت خلق الأثواب ... أحمل عدلين من التراب
بعوزم وصبية سغاب ... فآكل ولاحس وآبي
قال والعوزم العجوز وهي الناقة المسنة أيضاً وفيها بقية من شباب ومنه قولهم رجل أبي من قوم أباة قال الزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ويعلم من حولى أنا ... أُباة الضيم نمنع كل عارِ
وأما أب من قوله تعالى وفاكهة وأباً فقال ابن عباس رضي الله عنه الفاكهة الثمار التي يأكلها الناس والأب ما ترعاه من البهائم وعنه أيضاً الأب الثمار الرطبة ذكره المهدوي وقال صاحب كتاب العين الأب الكلأ وهو ما رعته الأغنام مثل الأول قال الشاعر:
جذمنا قيس منجد دارنا ... ولنا الأب بها والمكرع
يقال كرعت الماشية إذا شربت الماء وهي فيه واقفة ثم كثر ذلك حتى سمي كل شارب كارعاً.
وأما أب فعلى وجوه شتى يقال أب الرجل يؤب إبابة إذا تهيأ للمسير وهو في إبابه أي(76/34)
جهازه وأبت إبابة الشيء طريقته وأب للشيء إذا تهيأ له قال الأعشى:
صرمت ولم أصرمكم كصارم ... أخ قد طوى كشحاً وأب ليذهبا
أي تهيأ وشمر للذهاب وأبَّ الرجل أباً إذا حن لوطنه قال هشام بن عقبة أخوذي الرمة:
وأب ذو المحضر البادي أبابته ... وقوضت نية أطناب تخييم
ويقال أبَّ يؤوب وأَوَّب يؤوب وأبَّ الرجل يده إلى سيفه إذا ردها إليه ليستله.
وأما أتَّ فيقال أتَّه يؤته أتا إذ غلبه بالكلام أو كبته بالحجة قال ابن دريد في الجمهرة وأما أث فمن قولهم أث النبت يأث ويئث أكثر من يأث اثا إذا كثر ونبت أثيث وكذلك الشعر أثيث أيضاً وكل شيءٍ وطأته ووثرته من بساط أو فراش فقد أثثته تأثيثاً وأثاث البيت من هذا قال الراجز:
يخبطن منه نبته إلاثيثاً ... حتى ترى قائمه جثيثا
أي مجثوثاً مقلوعاً وفي القرآن العزيز من هذا اجتثت من فوق الأرض والأثاث متاع البيت قال الله عز وجل أثاثاً ورئياً يقال أث الرجل يأث إذا صار ذا أثاث قال الأعمش الأثاث المال يتمتع به إلى حين الموت وقال المهدوي واحد الأثاث أثاثة كحمام حملعة قاله الحمر وقال الفراءُ لا واحد له من لفظه ويجمع عَلَى أثثة وأثث وما قبل ذلك فمن الجمهرة وأنشد ابن دريد قول النمري وهو محمد بن نمير ابن أبي نمير:
أهاجنك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث
قال وأحسب أن الاشتقاق من اسم الرجل أثاثة من هذا ويقال أثاثة بالضم والفتح وأنشد لرؤية:
ومن هواي الرجح الأَثائث ... تميلها أعجازعها الأواعث
الوعثة العظيمة العجز والوعث من الرمل ما غابت فيه الأرجل وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من وعثاءِ السفر أي مشقته والأثائث الوثيرات الكثيرات اللحم وقد جمعوا أثيثة أثاثاً ووثيرة وثاراً قال صاحب العين أث الشعر يؤث أثاثة وهو أثيث وكذلك النبات وتأثث فلان أصاب خيراً وقال امرؤ القيس يصف الشعر:
وفرع يغشى المتن اسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
فرغ البيت وبقية قافيته وقد أخرتها إلى آخر بيت من هذا الباب ومما ضاق عنه ولو(76/35)
احتجته لأخذته مثل آت اسم الفاعل من أتى يأتي وسيأتي الكلام عليه في باب أتا وآب اسم شهر من شهور العجم وهو أغثت.
ثم يأخذ بعد ذلك بسرد حكايات وأمثال لها صلة بالبحث ومن مروياته في فضل البلاغة وفضل العلم.
وصف يحيى بن زياد رجلاً بالبلاغة فقال أخذ بزمام الكلام فقاده أحسن مقاد وساق أحسن مساق فاسترجع به القلوب النافرة واستصرف به الأبصار الطامحة.
ومدح شاعر كاتباً فقال:
إن هز أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كل كمي هز عام له
وإن أقر عَلَى رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
وهذا البيت من أبدع كلام سمع والتزام جمع. .
وقيل لرجل قرشي ما بال العرب تطيل كلامها وتقصرونه معاشر قريش فقال بالجندل يرمي الجندل إن كلامنا يقل لفظه ويكثر معناه ويكتفى بأوله ويستغنى بآخره.
ومما يروق في الكتاب من الشوارد والفوائد أسماء الأيام والشهور عند العرب وهي كما يلي وإن أتى ذكرها في بعض الكتب إلا أنها تدل عَلَى مبلغ العناية التي بذلها المؤلف.
الأيام
الأحد أول
الاثنين أهون
الثلاثاء جبار
الأربعاء دبار
الخميس المؤنس
الجمعة عروبة
السبت شيار
الشهور
المحرم مؤتمر
صفر ناجر(76/36)
ربيعه الأول خوان
ربيع الآخر بصان وونصان
جمادى الأولى الحنين
جمادى الآخرة ربة أو ربى
رجب الأصم
شعبان وعل
رمضان ناتق
شوال عاذل أو وعلان
ذو القعدة هواع
ذو الحجة بركا
ويسمي العرب كل ثلاث ليالي من الشهر باسم خاص.
الثلاث الأولى (غرر) 3 نفل 3 تسع أو عفر 4 عشر 5 بيض 6 درع 7 ظلم 8 حنادس 9 دآدئ 10 محلق.
وقوله رواية ما رؤيت قبور اشد تباعداً بعضها من بعض من قبور بني العباس بن عبد المطلب عم الرسول ولدتهم أمهم أم الفضل في دار واحدة واستشهد الفضل بأجنادين ومات معبد وعبد الرحمن بأفريقية وتوفي عبد الله بالطائف وعبيد الله باليمن وقثم بسمرقند وكثير وأمه سبا أخذته الذبحة بينبع رحمهم الله.
وقال في عرض كلامه عَلَى الخال وقد جمع أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي رحمه الله في شعر به بعد أن ذكر الخال كذا والخال كذا نحو ما تقدم ثم قال والخال لفظة مشتركة تتصرف عَلَى معانٍ كثيرة وقد وجدت ثعلباً والفضل وابن مقسم قد أنشدوا ثلاثة عشر بيتاً آخر كل بيت منها خال بغير معنى الآخر ورأيت قاتلها وقد أغفل ألفاظاً أُخر كان ينبغي أن تضم إليها فزدت فيها أبياتاً ضمنتها ما لم يذكره الشاعر بلغت اثنين وعشرين بيتاً وفي الروايات اختلاف ذكرت منها ما وقع عليه الاستحسان وهي:
أتعرف أطلالاً شجونك بالخال ... وعيشاً غزيراً كان في العصر الخالي
ليالي ريعان الشباب مسلط ... علي بعصيان الإمارة والخال(76/37)
وإذ أنا خدن للغوي أخي الصبا ... وللغزل المريخ ذي اللهو والخال
وللخود تصطاد الرجال بفاحم ... وخد أسيل كالوذيلة ذي الخال
إذا رئمت ربعاًَ رئمت رباعها ... كما ريم الميثار ذو الريبة الخال
زمان أفدي من يروح إلى الصبا ... بعمي من فرط الصبابة والخال
وقد علمت إني وإن ملت للصبا ... إذا القوم كفوا لست بالرعش الخال
ولا ارتدي إلا المروءة حلة ... إذا ضن بعض القوم بالعصب والخال
وإني إذا نادى الصريخ أجبته ... عَلَى سامج عبل السوى أو عَلَى الخال
إذا قطعت عنس وذم خلاؤها ... فما هو بألواني القطوف ولا الخال
وإنا لنقضي الخيل دون عيالنا ... فمن غابق طرفاً بمحض ومن خال
جياد تباري العاصفات ولا ترى ... بها من لجان يسببن ولا خال
وإني لحاد للكماة إلى العلا ... ولست بجاد للعروج ولا خال
وإني لخلو للصديق مرزأ ... ولست بخيس في الرجال ولا خال
وإن ضن خال المزن يوماً بنيله ... فإن ندى كفي مغن عن الخال
نهابي إلى العلياء كل سميذع ... تراه إذا حلت حبا القوم كالخال
حوينا جميع المجد جوداً ونجدةً ... فما شئت من ليث هصور ومن خال
وما أبصرت عين لنا قط سيداً ... عَلَى حدج يزجى إلى الرمس بالخال
فحالفت بحلفي كل قرن مهذب ... وألا تحالفني فخال إذاً خالي
وما زلت حلفاً للسماحة والعلى ... كما احتلفت عبس وذبيان بالخال
وثالثنا في الحلف كل مهند ... لما ريم من صلب العظام به خالي
حرام عليك الدهر خدع سراتنا ... فلاقهم في مجمع القوس أو خال
الحاء والظاء في غير لغة العرب
من الحروف حرفان تختص بهما العرب دون الخلق وهما الحاء والظاء وزعم آخرون أن الحاء في السريانية والعبرانية والحبشية كثير وأن الطاء وحدها مقصورة عَلَى العرب ومنها ستة أحرف للعرب ولقليل من العجم وهي العين والصاد والضاد والقاف والطاء والثاء وما سوى الباقي فللخلق كلهم من العرب والعجم إلا الهمزة فهي ليست في كلام العجم(76/38)
إلا في الابتداء وهذه الحروف تزيد عَلَى هذا العدد إذا استعملت فيها حروفاً لا تتكلم بها العرب إلا الضرورة فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها فمن تلك الحروف الحرف الذي بين الباء والفاء مثل بور إذا اضطروا إليها قالوا فور ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف وبين الجيم والكاف وهي لغة سائرة في اليمن مثل جمل إذا اضطروا قالوا كمل وأما بنو تميم فإنهم يلحقون القاف بالكاف فتغلظ جداً فيقولون الكوم في موضع القوم فتكون القاف بين الكاف والقاف اهـ من كلام ابن دريد.
أول خطبة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم
قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: أما بعد أيها الناس قدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالاً وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ثم ينظر قدام فلا يرى شيئاً غير جهنم ومن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق ثمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
آلات النبي صلى الله عليه وسلم
قوسان اسم أحدهما الزوراء. والأخرى الصفراء. وكنانة اسمها الجمع. وسيف اسمه ذا الفقار لفقرات في وسطه. وراية تسمى العقاب وحربة تسمى النبعة. ودرعان تسمى أحدهما ذات الفضول والأخرى فضة. وترس فيه تمثال كرأس الكبش. وقضيب يسمى الممشوق. ومرآة يقال لها المدلة. ورداء يسمى الحضرمي. وجفنة عظيمة يقال لها الغراء. وخمس من الخيل أسماؤها السكب، اللحيف، المرتجز، العيبوب، اللزاز. وبغلة اسمها دلدل وحمار اسمه العفير.
الفرق بين الأيدي والأيادي
فرق العرب بين يد النعمة ويد الرجل أو بين المجاز والحقيقة فجمعوا التي من النعمة عَلَى أيادي والأخرى عَلَى أيدي ومن أحسن ما رأيت في أيادي جمع أيد قول أبي تمام يمدح:
لقد زدت أوضاحي امتدادً ولم أكن ... بهيماً ولا أرضي من الأرض مجهلاً
ولكن أيادٍ صادفتني حسامها ... أغر فحلتني أغر محجلا(76/39)
وقال بعضهم الأيادي ثلاثة بيضاء وخضراء وسوداء فاليد البيضاء الابتداء بالمعروف واليد الخضراء المكافئة واليد السوداء المن بالمعروف.
الفرق بين القول والتكليم
إن التكليم لا يكون إلا ثناء وفضيلة كما قال تعالى وكلم الله موسى تكليما والقول قد يكون ذماً أو إبعاداً كما قال تعالى لإبليس قال اخرج منها مذؤماً مدحوراً والمسلمون مجمعون عَلَى أنه لا يقال كلم الله إبليس ولا هو كليم الله ولا أنه تعالى كلم أهل النار ويقال في هذا قال لإبليس كذا وقال لأهل النار كذا.
الفرق بين السنة والعام
تسمي العرب السنة عاماً والعام سنة اتساعاً ولمكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقاً ولا كلام أفصح من القرآن فقد جاء فيما هو من هذا الغرض قال الله تعالى تزرعون سبع سنين دأباً والعرب تعبر عن الشدة والجوع بأسنم السنة تقول أكلتهم السنون ويعبرون بالعام عن الرخاء والخصب قال تعالى بعد ذكر السنين التي تدل عَلَى الشدة ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون فاتسق الكلام والتأم أحسن التئام.
آنية الشراب
قال ابن الإعرابي:
1 - أول الأقداح الغمر بالضم وهو الذي لا يبلغ الري.
2 - القعب بالفتح وهو قدر ري الرجل.
3 - القدح: وهو يروي الاثنين أو الثلاثة وعلى رأي بعض اللغويين لا يقال له قدح إلا إذا كان ملآنً بماءٍ أو غيره وإلا فيطلق عليه إناء.
4 - العس بالضم يعب فيه العدة.
5 - الرفد: بالكسر أو بالفتح أكبر من العس.
6 - التبن: بالكسر أكبر من الرفد.
7 - الصحن: أكبر من الاثنين الأخيرين قال الشاعر
ألا هبي بصحنك فأصبحينا
8 - العلبة: كالقدح الضخم يحلب فيها قال الشاعر(76/40)
ولم تسق دعد بالعلب
9 - الجنبة: أكبر من العلبة وهي تعمل من جلد البعير.
10 - الجوباة: دلو واسعة ضخمة قال أبو زيد كل إناءٍ يدعى مهدى بكسر أوله مثل الجفنة والقصة والقدح.
11 - الفرق: إناء يسع ثلاثة آصع والصاع أربعة أمداده إلى آخره.
آنية المداء
قال الكسائي: (1) الصُّحيفة: تشبع الرجل. (2) المئكلة: تشبع الرجلين والثلاثة. (3) الصحفة: تشبع الخمسة. (4) القصة: تشبع العشرة. (5) الجفنة: أعظم القصاع.
أوقات الشراب
الصبوح: شرب الغداة. القبل: الشرب نصف النهار. الغبوق: شرب العشي. الفحمة: الشرب بين المغرب والعشاء. الجاشرية: شرب السحر. الصفح: الشرب في كل وقت.
ألعاب صبيان العرب
(1) المفايلة: لعبة لفتيان الأعراب يخبئون الشيء في التراب ثم يقسمونه فإذا أخطئ المخطئ قيل له فال رأيك يقال منه رجل فال الرأي وفيل الرأي ويقال ما كنت أحب أن أرى في رأيك فيالة قال الكميت:
بنى رب الجواد فلا تفيلوا ... فما أنتم فتعذركم لفيل
أي لستم أولاد الضعيف الرأي وهو الفيل.
(2) عظم وضاح: لعبة الصبيان بالليل وهو أن يأخذوا عظماً أبيض شديد البياض فيلقوه ثم يتفرقوا في طلبه فمن وجده ركب أصحابه.
(3) الخطرة: وهو بالمخراق.
(4) الخراج: وهو أن يمسك أحدهم شيئاً بيده ويقول لسائرهم أخرجوا ما بيدي.
(5) الضب: وهو أن يصور الضب في الأرض ثم يحول أحدهم وجهه ويقول ضع يدك عَلَى صورة الضب ثم يقال عَلَى أي موضع من الضب وضعته فإن أصاب قمر بمعنى غلب.
(6) النقيري: وهي بالتراب أيضاً يقال أنقر الصبيان فهم يتفرقون وقال الأصمعي في(76/41)
رجزه:
كأن آثار الضرابي تلتفث ... حول نقيري الوليد المنبحث
تراب ما هال عليك المجتدث
(7) المبحثة: وهي تشبه الأولى ولعلها هي بعينها يخبئون شيئاً تحت الأرض في التراب ثم يصدع صدعين ثم يضرب الصبي بيده عَلَى أحدهما أو عَلَى بعضه فإن قبض عَلَى الخبء فيه قمر.
(8) المقلا والقلة: المقلا عود يلعب به الصبيان فيضربون به القلة بالتخفيف والقلة قطعة خشب صغيرة ينصبونها.
(9) العرعار: لعبة أحرى.
الخيل المعروفة عند العرب
بنات الأعوج، الوجيف، لاحق، بنات المسجد، آل ذو العقال، داحس، الغبراء، الجرادة، الحبقاء، النعامة، الشماء، حافل، الشقراء، الزعفران، الحرون، مكتوم، البطين، قرزل، الصريح، الذبير، وغلوي.
كنى الحيوانات عند العرب
الجدي أبو الحبيب، الفيل أبو الحجاج، الأسد أبو الحارث، الذئب أبو الجعدة ويقال أبو جعفر، الضبع أن عامر وأم عمرو، الدب أو رياح، الخنزير أبو قادم ويقال أبو عقبة، الثعلب أبو الحصين، الكلب أبو خالد وأبو ناصح عند بعضهم، السنور أبو خراش ويقال أبو غزران، الغزال أبو الحسين، الجمل أبو صفوان ويقال أبو أيوب، الثور أبو مزاحم، الكبش أبو حاتم، النعجة أم فروة، التيس أبو مطرف، النمر أبو وثاب. الفهد أبو قرة. الفرس أبو طالب. الضب أبو حسيل. الإتان أم حلس. البذون أبو مضاء. البغل أبو المختار. الحمار أبو زياد. القرد أبو قيس.
كنى الطيور
النسر أبو يحيى. الغراب أبو زاجر ويقال له ابن دابة. الديك أبو اليقظان وأبو حسان وأبو نبهان. أبو براقش طائر يتلون ألواناً وتسمية العامة أم حبيش ويقال هي الحرباء. العقاب أم هيثم. الجرادة أم حبين. الحمامة أم عوف. الدجاجة أم مهدي. الهدهد أم حفص.(76/42)
وصف العيون
الأعشى الذي لا يرى إذا أظلم عليه الوقت بالليل. الأغطش الضعيف البصر. الأخفش كذلك يزيد عليه صغر العين. الأحول الذي ينظر إلى المحاجر. الأقبل الذي ينظر إلى عرض أنفه. الأزرق الأخضر الحدقة. الأملج أشد من الزرق وهو الذي يضرب إلى البياض. الأدعج الشديد سواد العين. الأحور الشديد سواد العين الشديد بياض الأبيض منها. الأنجل الواسع العينين في حسن. الأشكل الذي يخالط الحمرة سواد عينيه. الأشهل أن تكون الحمرة أكثر من صاحب الشكلة.
ومن رائع شعر المؤلف قطعة منها:
حبذا غادة كحوطة بان ... لو رآها الحكيم كر رآها
أدباً جمعت وخلقاً وخلقاً ... أبواها بذلك كحبوها
رحماها عن أن تطار حماها ... وحماها عن أن تضام حماها
كم بها هام ويحه من همام ... فنهاها عن القبيح نهاها
رام منها الحرام قبلة ثغر ... فأبت أن يبوس فاها سفاها
قبل الأرض حين لم يلق فاها ... ثم لما ولت قفاها قفاها
وذكر في بحثه عن الجد ومعانيه أن الجد بضم الجيم البئر وتكون في الكلاء قال الأعشى:
مثل الفرآتي إذا ما طما ... يقذب بالبوصي والماهر
ما تجعل الجد الظنون الذي ... جنت صوب اللجب الماطر
الظنون البئر التي يظن أن فيها ماء ولا يكون والظنون الذي لا يوثق بما عنده واللجب السحاب الذي له صوت واختلاط الأصوات من كل شيءٍ لجلب من الناس وغيرهم والبوصي السفينة والماهر السابح الحاذق وتفسير السابح العائم سبح في الماء سباحة من قوله تعالى كل في فلك يسبحون أي يسيرون وجد كل شيءٍ جانبه والجد أيضاً شاطئ النهر وهو الجدة وأكثر ما يقال جده بالهاء وبها سميت جدة لأنها ساحل البحر.
والغريب أن الجد التي بمعنى بئر في الكلام لم ترد في كتاب البئر لبن الإعرابي من رجال القرن الثالث:
والكتاب كله عَلَى هذا النحو من جزالة الأسلوب ومتانة المعنى وقد راينا من المناسب أن(76/43)
نختم مبحثنا هذا بوصف منارة الإسكندرية إحدى عجائب العالم السبع قال:
أما أنا فأخبرني مخبر الإسكندرية أن داخل سورها أربعة آلاف مسجد وقل آخر ستة آلاف وإن خارجها ألف مسجد وكان ذلك غذ دخلتها سنة إحدى وستين وخمسمائة وهي أصغر مما كانت أولاً إذ بناها الإسكندر بأضعاف كثيرة رأيت بخارجها عَلَى نحو ميلٍ منها باباً عظيماً أعني بناء باب قد تهدم ما حوله وبقي عَلَى قارعة الطريق بقبلتها يقال من ذلك المكان كانت المدينة أولاً وأما منارتها فبينها وبين المدينة نحو ميلٍ أيضاً أو أكثر بجنوبيها وهي في جزيرة صغيرة في الماء وقد بني منها إلى البر رصيف في الماء طوله ستمائة ذراع أو زيد وعرضه عشرون ذراع وارتفاعه فوق الماء ثلاثة أذرع فإذا هاج البحر غطى الماء ذلك الممشى ولكنه بحر لين بسبب الجزيرة والأحجار التي حول ذلك الموضع فيمشي الماشي عليه في الماء إلى الكعبين أو نحو ذلك فإذا انحسر الماء مشي في اليبس والمنارة في آخر الجزيرة وهي مربعة كل وجه خمسة وأربعونباعاً والبحر يكثر في الممشى الذي حول البناء من جهة الشرق والجنوب بينه وبين الجدار اثنا عشر ذراعاً وارتفاعه من الماء إلى الهواء ذلك المقدار إلا أنه من جهة البحر أوسع أعني أول البناء الذي عَلَى الحجارة تحت الماء كأنه جبل ثم كلما طلع ضاق حتى يرتفع عن وجه الأرض ويبقى بينه وبين جدار المنارة القدر المذكور أولاً وقد أحكم إلصاقه وبناؤه وأفرغ بالرصاص في أقفال من حديد تمسك ذلك الكدان المنحوت الذي كل كدانة منه أطول من لوح البناء وأغلظ من عرضه وهذا البناء الذي أصفه محدث لأنه كان قد انهد ذلك الجانب فبني أحسن من البناء القديم وفي الحائط الذي يلي البحر من جهة الجنوب كتابة بالخط القديم لا أدري ما هو وليست كتابة بقلم إنما هي صور وأشكال من حجارة صلبة طوال سود قد أدخلت في الكدانوقد أكل البحر وهواءه الكدان فبرزت الحروف لصلابتها طول الأنف منها فوق الذراع ورأس الميم قد خرجت من البناء كدور فم البرمة الكبيرة وهكذا أكثر تلك الحروف عَلَى هذا الشكل وباب المنارة مرتفع عن الأرض قد بني له ممشى طوله نحو مائة باع وتحت الممشى قبة قسي شبه القنطرة يدخل الفارس تحت القوس منها ولو رفع يده ما أدرك السمك في الكبار منها وعددها ستة عشر قوساً أولها قصير ثم كلما مضى ارتفع حتى يتصل آخرها بالباب وهو أرفعا سمكاً ودخلنا عَلَى الباب فمشينا نحو أربعين باعاً فوجدنا(76/44)
عَلَى اليسار باباً مغلقاً لم ندر ما فيه ومشينا نحو ستين باعاً فوجدنا باباً مفتوحاً فدخلنا من بيت إلى بيت ثمانية عشر بيتاً سوى الزقاق التي تمشي فيها وهي بيوت ينفذ بعضها إلى بعض وحينئذ علمنا أن جوفه فارغ وإنما عددنا من عين يمين الزقاق ويساره ومشينا ستين باعاً فوجدنا أربعة عشر بيتاً ومشينا أربعة وعشرين باعاً فوجدنا سبعة عشر بيتاً ومشينا خمسة وخمسين باعاً وانتهينا إلى الحزم الأول وليس هناك درج إنما هي أرض مرتفعة قليلاً تدور بعجل عظيم تجد عن يمينك غلظ الحائط الذي لا أدري قدره وعن يسارك العجل الذي فيه البيوت المذكورة كأنك تمشي في زقاق سعته سبعة أشبار وفق الرأس سقف ألواح من حجارة رأينا إذ أطلعناه فارساً يهبط وآخر يصعد حتى التقيا في الطريق ولم يضيق أحدهما عَلَى الآخر فلما انتهينا إلى الحزم الأول ذرعنا منه إلى الأرض بشريط في طرفه حجر فوجدناه إحدى وثلاثين قامة وستارة حائط نحو من قامة وقام في الوسط فحل مثمن في كل وجه عشرة أبواع وبينه وبين الستارة خمسة عشر شبراً وغلظ الستارة سبعة أشبار أو تسعة أشكل عَلَى هذا الحرف من الأم التي نقلت هذا منها لأني كتبت هناك هذا كله ومضيت إليه بالمداد والكاغد والشريط حتى لا أسقط منه شيئاً فإنه عجب وأي عجب والله خلقكم وما تعملون وأكثر ظنى أنه تسعة ورأس هذا الحزام أضيق من أسفله فدخلنا في جوفه ومشينا خمسة عشر باعاً ووجدنا درجات رقينا فيها ثماني عشرة درجة وانتهينا إلى الحزام الأوسط فذرعناه بالشريط فوجدنا منه إلى الحزام الأول خمس عشرة قامة وقام في وسط ذلك الفضاء فحل آخر مدور غلظه أربعون باعاً وبينه وبين الستارة تسعة أشبار ونصف فدخلنا فيه أيضاً وصعدنا إحدى وثلاثين درجة وانتهينا إلى الحزام الثالث فذرعنا منه إلى الحزام الأوسط أربع قامات وفي وسطه مسجد يفتح عَلَى أبواب أربعة كالقبة ارتفاعه في الهواء نحو ثلاث قامات وغلظه عشرون باعاً وأمام ستارة غلظها شبران ومنها إلى المسجد خمسة أشبار فجميع بيوت التي دخلناها سبعة وستون بيتاً سوى الأول المقفل يقال أن فيها مهاوي تنفذ إلى البحر وطول المنارة عَلَى هذا الحساب ثلاث وخمسون قامة ومن الأرض إلى الماء خمس وتحت الماء الظاهر نحو القامة أو أكثر ترمي بالحجر من أعلاه فلا يقع إلى الأرض حتى يمس في الحائط لسعة أسفله وضيق أعلاه وإنما بني هناك ليستدل به عَلَى البلد السائرون اليه في البحر وتوقد في أعلاه النار لأهل المراكب لئلا(76/45)
يضلوا ولقد فاتنا رؤيته فلم نقدر مرسى البلد وكان رئيسنا أيضاً لم يكن دخله قبل ذلك فخفناه وراءنا وادخلتنا الريح في موضع ليس مرسى ثم سلم الله بعد أن أشرفنا عَلَى الهلكة وخرجت إلينا القطائع من البلد فأدخلونا البلد يوماً آخر وكانت العافية والحمد لله اهـ.
ولم نر بأساً من إيراد أسماء بعض العلماء الأعلام الذين عاصرهم المؤلف وعاشرهم في القرن السادس من الهجرة وأسماء بعض الكتب التي نقل منها أو روى عنها.
العلماء
الأستاذ الفقيه عبد الله بن سورة. أبو إسحاق إبراهيم محمد الحميري عرف بابن قرقول. الفقيد المحدث أبو عبد الله محمد بن إبراهيم عرف بابن الفخار. الفقيه الخطيب محمد عبد الوهاب بن علي العيش. الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني. الفقيه المحدث محمد عبد الحق الأزدي الأشبيلي. جعفر بن غياث. القاضي أبو محمد العثماني الديباجي. الأستاذ أبو محمد القرطبي. الشريف أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن العثماني نسبة إلى عثمان بن عفارن رضي الله عنه. الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن حسن الخعثمي السهيل ويكنى أبا القاسم. الإمام الزاهد الورع أبو عمران موسى بن عمران اتلقيسي الميرتلي. وغيرهم من رجالات الفضل.
أما الكتب التي نقل منها أو روى عنها فهي كما يلي:
(بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد) اسم المؤلف القاضي أبو الفضل عياض (أدب الكتاب) ابن قتيبة (الشمائل) الترمذي (فضل القرآن) أبو عبيد (مشكل القرآن) ابن قتيبة (الدلائل) ثابت بن قاسم (شرح الشهاب) أبو القاسم إبراهيم بن الوراق (السير) ابن هشام (آداب الإسلام) ابن أبي زمنين (حلية الأولياء) أبو نعيم الحافظ (الموطأ) مالك (المحكم) أبو عمر المقري (الكامل) محمد بن يزيد (التفصلة في تأديب المتعلمين) أبو الحسن علي بن محمد الغالبي (السير) ابن إسحاق (تاريخ الطبري) الطبري (شرح السيرة) أبو القاسم السهيلي (المقصورة) ابن دريد (التسلي عن الدنيا) أبو القاسم علي بن محمد عبدوس (بعض التواريخ) إسحق بن الحسن (المعجم) البكري (الأموال) أبو عبيد (قوت القلوب) أبو طالب المكي (الأربعين) الثقفي (شرح خطبة أدب الكاتب) ابن السيد (الهداية) المكي (المعلم) المازري (الأمالي وذيله) أبو علي (المعاني) النحاس (الجمهرة) ابن دريد(76/46)
(التفسير) ابن عباس (الفوائد) أبو قاسم الإدريسي (الأمثال) أبو عبيد القاسم بن سلام (شرح الأمثال) البكري (تاج اللغة) الجوهري (اللآلي في شرح الأمالي) أبو عبيد البكري (شرح الحديث) يوسف الخطابي (المعجم) أبو عمر المقري (التفسير) ابن سلام (شرح السير) عبد الرحمن الخثعمي (الكبير) ابن إسحاق (المسند) البزار (السير) ابن داود (تفضيل العرب وعيون الأخبار والمعارف) ابن قتيبة (الجامع) معمر (القناعة) ابن البستي (الأربعين) الطوسي (المقنع) أبو عمرو المقري (شرف المصطفى) القاضي عياض (أحوال السنة) ابن زمنين (الغريب) أبو عبيد (الفاصل بين الراوي والواعي) القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرمهرمزي (الفصل للوصل) ابن ثابت (الطاعة المعصية) علي بن معبد (الأعداد) القضاعي (الوثائق) ابن الهندي (النوادر) أبو علي (الأعلام) الخطابي (الناسخ والمنسوخ) ابن شاهين (المعاني) أبو جعفر النحاس (النبات) أبو حنيفة (المسالك والممالك) أبو عبيد البكري (جامع الخير) أبو قاسم عتيق بن محمد الصقلي (الإخبار بفوائد الأخبار) الإمام الحافظ أبو بكر إبراهيم محمد بن يعقوب البخاري (الأمثال) أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني (الرقائق) ابن مبارك (الصحابة) أبو جعفر العقيلي.
وغير ذلك من أمهات الكتب كالبخاري وتاريخه والترمذي والنسائي والمسعودي والأغاني انتهي.
حيفا فلسطين
عبد الله مخلص.(76/47)
نخبة الدهر في عجائب البر والبحر
كثير من كتبنا كادت تفقد بتة لو لم يتداركها الإفرنج بابتياعها منا أولاً وينشرها بالطبع ثانياً ومن جملة هذه المخطوطات هذا الكتاب لشمس الدين أبي عبد الله محمد ابن أبي طالب الأنصاري الصوفي الدمشقي المعروف بشيخ الربوة. فبينا نجد منة نسخ هذا التأليف أربع نسخ في شمال أوربا فقط الأولى في كوبنهاغ والثانية في ليدن والثالثة في بطرسبرغ والرابعة في لندن وفي هذه عدة نسخ منه لا نجد من هذا الكتاب الذي ألف في دمشق بل ولا في سورية نسخة مخطوطة فيما نعلم حتى تداركه المستشرق فرين الروسي والمستشرق مهرن الدانيمركي وطبعاه سنة 1865م 1386هـ ونسخة طبعه اليوم غزيرة جداً كسائر الكتب العربية التي يطبعها المستشرقون الأوربيون لمنفعتهم الخاصة في الأكثر.
وشيخ الربوة هذا كان من أعجيب الدهر معاصراً لأبي الفدا صاحب حماة العلامة المشهور قال فيه صاحب الدرر الكامنة أنه كان يصنف من كل علم سواءٌ عرفه أم لا لفرط ذكائه. قال الصفدي ولد سنة 645 وعانى الأشغال فمهر في علم الرمل والأوفاق ونحو ذلك وكان ذكياً وعبارته حلوة ما تمل محاضرته وكان يدعي أنه يعرف الكيمياءَ ودخل عَلَى الأفرم فأوهمه شيئاً من ذلك فولاه مشيخة الربوة وله السياسة في الفراسة مطبوع وله غيره مثل كتاب في الأصول ومن شعره:
للنفس وجهان لا تنفك قابلة ... مما تقابل من عال ومستفل
كنحلة طرفاها في مقابلة ... فيها من اللسع ما فيها من العسل
توفي في صفد سنة 727 بعد أن لحقه صمم قبل موته وذهبت عينه الواحدة وكان صبوراً عَلَى الفقر والوحدة كثير الآلام والأوجاع وكتابه هذا في العلم بهيئة الأرض وأقاليمها وتقاسيمها واختلاف القدماء في ذلك وعلاماتها ومعمورها من البحار المتصلة والمنفصلة والجزائر والجبال والأنهار والجرارات والآجام العظيمة والعيون والممالك ومسالكها والأمصار للكبار ورساتيقها والآثار القديمة والعمائر العظيمة والعيون والآبار والينابيع العجيبة والحيوان النادر الشكل والنبات الغريب والمعادن الذائبة المتطرقة وتوابعها في المعدنية والأحجار الشريفة الثمينة والتي تليها في الشرف والقيمة والتي تلي ذلك مما هو ممتاز من التراب لوصف خاص أو خاصة ذاتها ووصف ألوان الأحجار الثمينة وطبائعها وخواصها ونعت بقاعها ومعادنها وذكر أسباب توليدها عَلَى ما ذكره الأقدمون وذكر مساحة(76/48)
الأرض ومسافات أقسامها بالساعات والأميال والبرد والفراسخ والدرج الفلكية وأطوال الجبال وعرضها ونعت الأمم المبثوثين فيها وذكر معالم أنسابهم وآبائهم الأولين وذكر عامة اختلاف الأمم المشهورين منهم ونعت خلقهم وذكر كخصائص البلاد المختصة ببقعة دون بقعة وبلد دون بلد وذكر ظاهر خصائص البشر المشتركة فيها مع النوع الإنساني دون باقي الحيوانات ونعت معالم رسوم الملليين وأسماء شهورهم وأعيادهم وقرابينهم عَلَى ما وجد من آثار علومهم وما يتعلق بلوازم ذلك ولواحقه وختمته بصور جغرافية دهاناً بالأصباغ وتخطيطاً محرراً عَلَى مثل مواقع الأطوال والعروض والأصقاع في المعمور لتكون مثالاً حسياً مشاهداً بالحس يشهد منه ما وضعت وصفه من الهيئة وليكون الوصف برهاناً لما مثلت أمثلته بالجغرافية المذكورة وكل ما هو من الدهان بها أزرق فهو مثال بحر مالح صغر أو كبر دق أو عرض وفي الزرقة من لون مخالف فهو مثال جبل أو جزيرة وكل ما هو في ذلك وفي باقيها من لون أخضر فهو مثال بحيرة حلوة ونهر جار وكذلك طال أو قصر أو دق أو عرض وكل ما هو فيها لون جلناري أو خمري أو أصفر أو حجري أو أبيض أو غير مستطيل مخطط خطوطاً بالسواد فهو مثال جبال أو ربوة مشهورة وكل ما هو صورة خط أسود مستطيل من مشرق الجغرافية إلى مغربها فهو مثال فصل ما بين إقليم وإقليم من الأقاليم السبعة وما وراءها وما خلف خط الاستواء منها وكل ما صورة عمارة وتفصيل حجارة بالتخطيط فهو مثال سور أو برج أو مدينة أو هيكل مشهور في الأرض.
هذا ما ثقاله المؤلف في وصف كتابه وهو كما تراه يحوي غير فن الجغرافيا فنوناً كثيرة مثل علم طبقات الأرض وعلم المعادن وعلم خصائص الشعوب وعلم الإنسان وعلم الحيوان وعلم الأنساب والتاريخ والآثار وغير ذلك وقد أجاد كل الإجادة في وصف جغرافية بلاد الشام بحيث يصور لك حالتها في القرن السابع والثامن والغالب أنه طافها كلها ولم يقتصر في جغرافية مصر عن هذه الغاية. أما في بحثه عن الآثار فإنه في الغالب يتلقى كلامه عن الأفواه أو عمن ألفوا في القصص والحكايات ليدهشوا العامة وهنا يؤخذ كلامه بالحذر خصوصاً وكتابه قد وسمه بعجائب البر والبحر فهو يحشوه من هذا القبيل ومنها المفيد من ذلك.(76/49)
أما في الجغرافية فقد وصف فيه بلاد السودان والزنج والبربر وغيرهم في أواسط أفريقية ما لم يطلع عليه علماء الجغرافية إلا في العهد الأخير وقد وصف من أمم جزائر البحر المحيط الهندي وما والاه من الأمم وأورد من أسمائهم ما لا يعرف الآن ولعله قد حرف بالطبع لأن طبع هذا الكتاب يغلب عليه التحريف في الأكثر أما في أوربا فقد ألم إلماماً خفيفاً ببعض مدن جنوبها أما شمالها فقد اكتفى عَلَى عادة أكثر جغرافيي العرب بان قال بأنه يسكنها أقوام من الإفرنج أما أميركا فلم تكن قد كشفت في عهده ولكن أجاد في الكلام عَلَى بحر الظلمات والأقيانوس الأطلانطيكي وما فيه من الجزر وعلى سواحله من المدن وبالجملة فإن الكتاب نافع يدل عَلَى ارتقاء ذاك القرن وفيه صور ولكن لا كالتي أشار إليها في مقدمته من الأصباغ الملونة والتفريق بين المدن والأصقاع بألوان متباينة ولكن ما فيه من الصور يدل عَلَى تفنن وإن قومنا العرب كانوا في أيام حضارتهم أشبه بحال الغربيين اليوم يميلون إلى تصوير المواد العلمية وإن كان الأوربيون مبالغين في ذلك حتى يكادون لا يصدرون كتاباً بدون صور.
وهاك الآن نموذجات ننقلها من الكتاب دلالة عَلَى فضل مؤلفه خلافاً لمن رماه بأنه يخلط في تأليفه فما منا إلا من رد ورد عليه وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.
قاتل شيخ الربوة في ذكر توليد الجبال والهضاب والرمال والكلام عَلَى كيفية تكوين ذلك وعلته وسببه: قال العلماء بذلك أن الجبال الصغار والتلال قد تكون من الزلازل الكائنة من الرياح المحقونة في الأرض المتموجة تحتها حيث ترفع بعضاً وتخفض بعضاً ومن صحة ذلك أنه في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة كان المطر في الشام قليلاً وقصرت ينابيع العيون أرسل الله عز وجل زلزلة في أيام الصيف فخرجت العيون وزادت الأنهار زيادة بقدر ما كانت ثلاث مرار وأربع مرار وهذا صحيح وقد يكون باستيلاء الرياح العاصفة عَلَى بعض أجزاء الأرض بالكشف والحفر إلى أن يصير ما غلبت عليه صوراً ومن صحة ذلك أنه في سنة تشع عشرة وسبعمائة كان الجبل الأقرع شجر زيتون كثير نيف عَلَى ثلاثمائة فحمله الريح إلى أرض بعيدة بترابه وكأنه لم يكن مخلوقاً إلا من تلك الأرض وكأنه لم يكن عَلَى الجبل شجر مزروع قط وفي تلك السنة أيضاً حملت الريح ديراً قال له دير سمعان قريب من تلك الأرض بحجارته ورهبانه وما كان في الدير من قمحهم وخزينهم(76/50)
وبقرهم ودوابهم وعددهم حتى كأنهم لم يكونوا ولم يعلم لهم خبر ولم يطالع لهم عَلَى أثر وسطر بذلك محضر شرعي وطلعوا به إلى السلطان محمد بن قلاوون خلد الله سلطانه ورحم ملوك المسلمين أجمعين. وفي سنة سبعمائة نزل جبل عالٍ شامخ في بيت المقدس بقرب من عين فروج التي عَلَى الطريق فبقدر ما كان مرتفعاً توطأ في الأرض وهو الآن أرق مياه تتفق لها حركة عَلَى جزء من الأرض دون الآخر فيحفر ما يسيل فيه ويبقى ما لا يسيل فيه رابياً ثم لا تزال السيول تغوص في الجزء الأول إلى أن يعود غوراً ويبقى ما انحرف عنه سامياً ومن العجب العجيب مغارة بالشام يخرج منها جدول ماء ما يجاوز كعبي قدم الخائض فيه فإذا دخلها الإنسان وجدها واسعة طويلة المدى نحواً من أربعة آلاف خطوة تحت الأرض والماء يقطر من جوانبها وهي كصورة الأزج الطويل والقبو المبني ولكنها مغارة منحوتة وتجد تحت كل ماء قطر من سقفها حجارة جامدة من الماء المتقاطر مختلفة الألوان والشكل فمنها كهيئة العسل في لونه وكهيئة الثمار وهيئة النجوم وهيئة الأعضاء وهيئة الحبوب وهيئة النقل وهيئات منوعة وكلها حجارة جامدة من تقاطر الماء. أَصباغها صادقة في الحمرة والسواد وغيره وسميت مغارة العجب لذلك قالوا قد تتكون من أنواع الحجارة في النار.
وقال في ذكر نوادر الأحجار الثمينة المهدي بها بعض الملوك إلى بعض وذكر قيمتها ومن ذلك وجد في خزائن الخلفاء والوزراء من الجوهر النفيس والذخائر الفاخرة والدرة اليتيمة وسميت بذلك لأنه لم يوجد لها في الدنيا نظير حملها مسلم بن عبد الله العراقي إلى الرشيد فابتاعها منه بتسعين ألف دينار ومنه الفص الياقوت الأحمر المسمى بالجبل كأن وزنه أربعة عشر مثقالاً ونصفاً اشتراه الرشيد بثمانين ألف دينار وكان للمتوكل فص ياقوت أحمر وزنه ستة قراريط اشتراه بستة آلاف دينار وكان له سبحة فيها مائة حبة جوهر وزون كل حبة مثقال اشتريت كل حبة منها بألف مثقال. وأهدى بعض ملوك الهند إلى الرشيد قضيب زمرد أطول من ذراع عَلَى رأسه تمثال طائر ياقوت أحمر لا قيمة له فقوّم هذا الطائر بمائة ألف دينار. ودفع مصعب بن الزبير حين أس بالقتل إلى مولاه زياد فصاً من الياقوت الأحمر وقال: أُنج بهذا كانت قيمته ألف ألف درهم.
وسقط من يد الرشيد فص من ارض كان يتصيد بها فاغتنم لفقده فذكر له فص ابتاعه صالح(76/51)
صاحب المصلى بعشرين ألف دينار فأحضره ليكون عوضاً عما سقط منه فلم يره عوضاً. ووهب المأمون للحسن بن سهل عقداً قيمته ألف ألف درهم ومائة ألف درهم وشتة عشر ألف درهم. وكان فيما أَهدى ملك الهند إلى كسرى جام ياقوت أحمر فتحه شبر في شبر مملوء دراً قيمة كل درة ألف وخمس مائة مثقال. وكان لمحمود صاحب غزنة حجر ياقوت كمصاب المرآة إذا ركب قبض عليه وبيمينه فتبين طرفاه من جانبي يده حيث ينظر إليه الناس.
ولما انهزم أبو الفوارس بن بهاء الدولة من أخيه سلطان الدولة بن بويه أباع جوهرتين كانتا عَلَى جبهة فرسه لزين الدولة بعشرين ألف دينار فقال له من غلطك تجعل هذا عَلَى جبهة فرسك وهذه قيمتها. ووجد في خزائن مروان بن محمد مائدة وجزع أرضها بيضاء فيها خطوط سود وحمر وسعتها ثلاثة أشبار وأرجلها ذهب يقال لها أنها صنعت عَلَى شكل المشتري من أكل عليها لا يشبع ولا يتخم (؟) ووجد في خزانته أيضاً جام زجاج فرعوني محكم غلظ إصبع وفتحه شبر وفي وسطه أسد ثابت ولم تعرف له خاصية وكان لأنوشران بساط يسميه بساط الشتاء مرصع بأزرق الجوهر وأحمره وأصفره وأبيضه وأخضره فعمل أخضره مكان أغصان الشجر وألوانه بموضع الزهر والنوار فلما أخذ في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقعة القادسية حمل إليه في الفيء فلما رآه عمر قال إن أمة أدت إلى هذا إلى أميرها لأمناء ثم فرقه فوقع منه لعلي بن أبي طالب قطعة في قسمه مقدارها شبر في شبر باعها بخمسة عشر ألف دينار.
ولما فتح الملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله سيس ودخل بعض الغلمان إلى دار صاحب سيس فوجد نرداً بيادقه ياقوت أحمر وأصفر وسكرجته من حجر الماس ورقعته زركش فخطف الغلام النرد فوقع منه قطعتان تركهما داهشاً فوقعت القطعتان المنسيتان في يد الملك الظاهر فقال ما كان إلا كاملاً فاستدعى بعريف سوق الصرف وأراه القطعتين وقال له إن مسكت من هذا قطعة مع أحد الناس فعلت معك كل خير فما كان إلا قليلاً وأتى الغلام ليبيعها فمسك وأتي به إلى الملك الظاهر فوجدوا الباقي معه فأخذه الظاهر بيبرس ودفع إلى الغلام عشرة آلاف درهم.
ولما كان الملك المنصور قلاوون رحمه الله بدمشق سنة اثنين وثمانين وستمائة أُحضر إليه(76/52)
من المدرسة الجوهرية مائدة ذهب وزنها ثمانية أرطال وربع بالدمشقي وعليها تمثال دجاجة من ذهب وصيصان من ذهب في منقار كل واحد لؤلؤة بقدر الحمصة وفي منقار الدجاجة درة بقدر البندقة وفي وسط المائدة سكرجة من زمرد سعتها مثل كفة الميزان التي للدرهم السوقي الكبير مملوءة حبات من الدر قيل أن الملك الناصر صاحب حلب أودعها لنجم الدين الجوهري فأكنزها بدهليز مدرسته فوشى بها إلى لملك المنصور جارية من جواري الجوهري وكان عَلَى جميع المائدة شبكة من ذهب منسوج صغيرة الأعين حاوية لكل ما في المائدة ولها ثمان قوائم.
وأهدى مقدم زاوية عكا إلى الملك المنصور طشتاً في وسطه بيت مربع له أربع خروق في أسفله يدخل منها دم الفصاد إلى داخل البيت وفي البيت سقفه تمثال إنسان متواري في البيت ورأسه وعنقه بارز من سقفه وكلما سقط في الطشت من دم الفصاد وزن عشر دراهم ارتفع ذلك التمثال بصدره وظهرت عَلَى صدره كتابة عشرة الدراهم ولا يزال كذلك إلى مقدار ثلاث أواق دمشقية فيقف التمثال قائماً ويسمع في جوفه كلمة يونانية معناها حسبك حسبك اهـ.
تقول ولا عجب فيما رواه شيخ الربوة في هذا الشأن ولكن من عرف ثروة العمال وثروة الملوك في القرون الوسطى لا يستعظم ما يبلغه من تلك الأخبار فقد ذكر ياقوت أن علي بن أحمد الراسي كان من عظماء العمال وأفراد الرجال في أيام المقتدر وزراة علي بن عيسى وكان يتقلد من حد واسط إلى حد شهزور وكورتين من كور الأهواز جنديسابور والسواس وبادرايا وباكسايا وكان مبلغه خمسمائة ألف ألف وأربعمائة ألف دينار في كل سنة. ولم يكن للسلطان معه عامل غير صاحب البريد فقط لأن الحرث والخراج والضياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلاً في ضمانه فكان ضابطاً لأعماله شديد لها من الأكراد والأعراب واللصوص وخلف مالاً عظيماً وقد حمل من تركته لأنه لم يعقب ما هذه نسخته: العين أربعمائة ألف وخمسة وأربعون ألفاً وخمسمائة وسبعة وأربعون ديناراً الورق ثلاثمائة ألف وعشرون ألفاً وتسعمائة وسبعون مثقالاً. آنية الفضة ألف وتسعمائة وخمس وسبعون رطلاً. ومما وزن بالشاهين من آنية الفضة ثلاثة عشر ألفاً وستمائة وخمس وخمسون درهماً ومن الند المعمول سبعة آلاف وأربعمائة مثقال ومن العود المصري أربعة آلاف وأربعمائة(76/53)
وعشرون مثقالاً ومن العنبر خمسة آلاف وعشرون مثقالاً ومن نوافج المسك ثمانمائة وستون نافجة ومن المسك المنتور ألف وستمائة مثقال ومن المسك ألفا ألف وستة وأربعون مثقالاً ومن البرمكية ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعون مثقالاً ومن الغالية ثلاثمائة وستة وستون مثقالاً ومن الثياب المنسوجة بالذهب ثمانية عشر ثوباً قيمة كل واحد ثلاثمائة دينار ومن السروج ثلاثة عشر سرجاً ومن الجوهر حجران ياقوت ومن الخواتم الياقوتية خمسة عشراً خاتماً خاتم فصه زبرجد ومن حب اللؤلؤ سبعون حبة وزنها تسعة عشر مثقالاً ونصفاً ومن الخيل الفحول والإناث مائة وخمسة وسبعون رأساً ومن الخدم السودان مائة وأربعة عشر خادماً ومن الغلمان البيض مائة وثمانية وعشرون غلاماً ومن خدم الصقالبة والروم تسعة عشر خادماً ومن الغلمان الأكابر أربعون غلاماً بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم ومن أصناف الكسوة ما قيمته عشرون ألف دينار ومن أصناف الفرش ما قيمته عشرة آلاف دينار ومن الدواب المهارى البغال مائة وثمانية وعشرون رأساً ومن الجماز والجمازات تسع وتسعون رأساً ومن الحمير النقالة الكبار تسعون رأساً ومن قباب الخيام الكبار مائة وخمس وعشرون خيمة ومن الهوادج والسروج أربعة عشر هودجاً ومن العصائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر أربعة عشر صندوقاً اهـ.
ووصف شيخ الربوة خلجان النيل وخراج أرضه فقال خلجان النيل وهي سبعة كل واحد منها بحر أحدها خليج الإسكندرية والثني خليج دمياط والثالث خليج فيوم والرابع خليج دوس والخامس خليج المنهى والسادس خليج سخا والسابع خليج القاهرة وبلبيس وهذه الخلجان كان خراج النيل بها في أيام كيقاوس أحد ملوك العالم الأول مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار وجباه عمرو بن العاص في أيام معاوية اثني عشر ألف ألف دينار وجباه عبد الله بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار وجباه القائد جوهر مولى العبيديين ثلاثة آلاف ألف دينار ومائتي ألف ألف قال المعتنون بعلم ذلك أن سبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسها بما كان يصرف في الرجال المتوكلين بحفر خلجانه وإصلاح جسوره ورزم قناطره وسد ترعه وكانوا عَلَى ما حكاه ابن لهيعة مائة ألف رجل وعشرين ألف رجل مرتين عَلَى كور مصر سبعون ألفاً للصعيد وخمسون ألفاً لأسفل الأرض.
ويقال أن ملوك القبط كانوا يقسمون الخراج أربعة أقسام قسم لخاصة الملك وقسم لأرزاق(76/54)
الجند وقسم لمصالح الأرض وقسم آخر لحادثة تحدث ومسحت أرض مصر في أيام هشام بن عبد الملك بن مروان فكان ما يركبه الماءُ العامر والغامر مائة ألف ألف فدان واعتبر أحمد بن المدير ما يصلح للزرع بمصر وقت ولايته فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان والباقي قد استجر وتلف واعتبر مدة الحرث فوجدها ستين يوماً والحرث الواحد يحرث خمسين فداناً فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف حراث وأربعين ألف حراث والله أعلم.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً إلى عمرو بن العاص وكان عاملاً بمصر يقول: أما بعد يا عمرو إذا أتاك كتابي فابعث لي جوابه تصف لي مصر ونيلها وأوضاعها وما هي عليه حتى كأنني حاضرها فأعاد عليه مكتوباً جواب كتابه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أمير المؤمنين فإنها تربة غبراء وحشيشة خضراء بين جبلين جبل رمل وجبل كأنه بطن أَقب وظهر أجب مكتنفها وزرقها ما بين أسوان إلى منسا حد البر يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات يجري بالزيادة والنقصان كمجاري الشمس والقمر له وإن تظهر إليه عيون الأرض ومنابعها مسخرة له بذلك ومأمورة له حتى إذا اطلخم عجاجه وتغطغطت أمواجه واغلولوت لججه لم يبق الخلاص إلى القرى بعضها إلى بعض إلا في حقاف العقاب أو صغار المراكب التي كأنها في الحبائل ورق الأبابيل ثم عاد بعد انتهاء أجله نكص عَلَى عقبه كأول ما بدا في دربه وطما في سربه ثم استبان مكنونها ومخزونها ثم انتشرت بعد ذلك أُمة مخفورة وذمة مغفورة لغيرهم ما يعوا به من كدهم وما يناولون بجهدهم شعثوا بطون الأرض وروابيها ورموا فيها من الحب ما يرجون به التمام من الرب حتى إذا أحدق فاستبق وأسبل قنواته سقى الله من فوقه لندى ورواه من تحته بالثرى وربما كان سحاب مكفهر وربما لم يكن وفي زماننا ذلك يا أمير المؤمنين ما يغني ذبابة ويدر حلابة فبينما هي برية غبراء إذ هي لجة زرقاء إذ هي سندسية خضراء إذ هي ديباجة رقشاء إذ هي درة بيضاء إذ هي حلة سوداء فتبارك الله أحسن الخالقين وفيها ما يصلح أحوال أهلها ثلثة أشياء أولها لا تقبل قول رئيسها عَلَى خسيسها والثاني يؤخذ ارتفاعها يصرف في عمارة ترعها وجسورها والثالث لا يستأدى خراج كل صنف إلا منه عند استهلاله والسلام اهـ.(76/55)
بضعة أيام في الجليل
لا تعرف البلاد كما هي إلا برؤية القرى والدساكر قبل القواعد والحواضر فالفلاح ميزان العمران إن سعد سعدت البلاد كلها وإن شقي شقيت خصوصاً في مثل هذا القطر الذي يعول عَلَى الزراعة في حياته وتجارته وصناعاته ضعيفة ضئيلة.
قصدنا إلى عكا هذه الآونة فشهدنا فيها ما لم نتمكن في العام الفائت من مشاهدته رأينا حيفا بلدة يهودية إلا قليلاً وسالنا أحدهم عن عدد طلبة العلوم الدينية فيها يقيمون الشعائر وينظرون في أحكام الحلال والحرام فلم نر أحداً حتى إذا جئنا عكا كان أول أسئلتنا عن عدد طلبة العلوم الدينية فأخبرونا أن عددهم اليوم يتناقص وهم يبلغون نحو الثلاثين فقلنا فأل خير إذا أتقنوا كلهم ما لقنوه يسدون بعض الحاجة في ارض الجليل الذي ضعف فيه المسلمون في كل شيء ولاسيما في دينهم. والمسلم مهما تقلبت به الأجوال يحتاج إلى إمام وخطيب ومفتٍ ونائب وواعظ. ولئن لم يساعدنا الوقت عَلَى الاختلاط ببعض هؤلاء الطلبة ولكن شهدنا من فضل أستاذهم الشيخ عبد الله الجزار وتقواه ما رجح عندنا أن الفرع يتبع أصله والناس تبع لأئمتهم ومرشديهم.
ليس الأستاذ الجزار اليوم كالجزار (أحمد باشا) أمس كان هذا يرهق الأشباح في هذه البلاد أيام استيلائه عليها وذاك يحيي الأرواح بالعلوم الدينية واللسانية. الثاني بوشناقي والأول عربي. ذاك تولى زمام الأحكام فأفسدها في القرن الماضي وهذا عَلَى قلة النصير يعلم في بلد قل فيه من يحب أن يتعلم. هذا أقام مدرسته عَلَى أنقاض المدرسة التي بناها ذاك فأعاد لبلده شيئاً من رونقها وجمع لطلبته مكتبة حافلة بالأسفار العلمية الدينية المختلفة يثقف بها عقول الطالبين المسترشدين. ولو سعى كل فقيه من فقهاء الإسلام أن بتعليم قومه عَلَى نحو ما فعل الشيخ الجزار لما اضمحلت العلوم الإسلامية فوصلت إلى الحالة السيئة التي نراها عليها الآن وأكثرهم يفتون ويؤمون ويخطبون ويعظون ويعلمون بلا علم ولا تقى.
بتنا ليلتنا في قرية ظاهر في عكا اسمها المكر ولعلها المقر. ومن الغد ركبنا ومعنا دليل يدلنا عَلَى طريق صفد فأعددنا السير حتى وصلنا قرية الرامة وهي في منتصف الطريق عَلَى نحو خمس ساعات من عكا وخمس من صفد بعد أن مررنا بقرية مجد الكروم وارض دير الأسد وبعن ونحف ويجور. وزراعة هذه البلاد الحنطة والشعير والكرسنة والحلبة والبطيخ وأشجارها التين والزيتون والليمون الحلو وهو في قرية الرامة فقط كما أن(76/56)
زيتونها أجود ما وقعت العين عليه في هذه الديار وما ذلك إلا لأن أهلها توافروا عَلَى العناية بأشجارهم وحموها من فؤوس المحتطبين وأسنان المواشي وحوطوها وحرثوا أرضها وتلطفوا في قطف ثمرها حتى جادت غلة زيتونهم كل سنتين والزيتون هنا كما هو في معظم البلدان يحمل سنة ويمحل أخرى وتضمن أعشار زيتون الرامة فقط بألف مائتي ليرة.
مررنا بأرض يجور فرأيناها عامرة أكثر من غيرها من القرى المجاورة وسألنا عن صاحبها فقيل لنا أنه غني من أهل عكا اسمه فؤاد بك سعد فقلنا: سبحان الله أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. هذا الرجل ينفق نعمة غناه في إصلاح التربة والغراس والفقير في جواره بكسله وقلة وسائطه يكاد لا يجد سناداً من عوز ويعيش عيشة القلة. نحن ممن يقول بحفظ ثروة الأغنياء وإيجاد الأسباب ليزيدوا غنىً وإقداماً عَلَى تنمية ثروتهم لأنهم مادة الاقتصاد في البلاد ولكن عَلَى شرط أن يكونوا مثل ابن يملك بضع قرى في لواء عكا وهو أغنى غني فيه تربو ثروته فيما بلغنا عَلَى مئة وخمسين ألف ليرة جمع هو بعضها والبعض الآخر ورثه عن أبيه وورث عنه مضاءً ومعرفة عملية وأهلية للإثراء عَلَى الأصول جعلت منه رجلاً يفيد ويستفيد من غناه.
نحن لا نعرف هذا الرجل إلا بالاسم ولكننا عرفناه بأعماله في ترقية زراعته وإيجاد المعامل مثل معمل ثلج لعكا وآخر لحيفا ومعصرة زيت عَلَى الطرقة الأوربية في الرامة وأخرى في المغار وغير ذلك من تجارته وزراعته. أعجبنا بعمله لأننا رأينا في دمشق وحلب وبيروت وحمص وحماة ونابلس عشرات مثله بل أغنى منه فلم نرهم مكترثين بالكسب عَلَى الأصول والإنفاق كذلك رأينا غالبهم اغتنوا بالعرض إما بارتفاع قيم الأملاك والعقارات أو بطرق أخرى غير شريفة فحرصوا عَلَى ما بأيديهم ورأوا الخروج عن مألوف عادات الآباء في الاكتساب مما يقربهم من الفقر.
قال لنا ثقة أن ابن سعد هذا ينفق في السنة من فضل ماله عَلَى تعليم بعض أبناء طائفته وإقامة المعابد والمدارس لها في القرى مبلغاً لا يستقل به وقد كانت زراعته ومعاصره خير مرشد لجيرانه ولاسيما المسيحيين فقلدوه وأصبحت المعامل القديمة تخرج الزيت أحسن من ذي قبل وتربح كذلك ونحن لو جرى الأغنياء عَلَى هذه الصورة في تحسين مزارعهم(76/57)
والإفضال من أموالهم بحسب الطاقة لرقيت البلاد في بضع سنين درجة مهمة في العمران ولكن من أغنيائنا من ابتلوا بالشح الممقوت والجهل المطبق حتى أنهم ليضنون بالقرش في تعليم أولادهم ولا يستكثرون المئات ينفقونها عَلَى شهواتهم وتكبير مظاهرهم بالباطل في عيون العامة والجهلاء.
رأينا من أغنياء دمشق وحلب وبيروت من افسدوا أخلاق الناس بما حملوه إلى هذه البلاد من الموبقات وضروب الملاهي والشرور فسميحيهم منفرنج ومسلمهم منترك عبد القوة وربيب الشهوة يرون المجد كل المجد في التزالف من الحكام لا يوقرون إلا من يخافون ولا يجودون إلا عَلَى ما يشتهون. مسلمهم أبطل الزكاة أهم أركان الإسلام حتى يكاد يحبب إلى النفوس الاشتراكية المفرطة والفوضوية الضارة. ومسيحيهم يرضخ لأبناء طائفته بدراهم معدود حب الشهرة وقطعاً للألسن كأن القوم نسوا أن إنفاق المال في عمران البلاد والأخذ بأيدي الفقراء من أهلها لنشلهم من فاقتهم وإنقاذهم من جهالتهم سيعود عليهم ولو بعد حين بغنىً أكثر ولذة ونفع والعمران سلسلة يرتبط أعلاها بأدناها ويهتز أولها بحركة آخرها عَلَى السواء.
نقول المسيحي والمسلم وما أحرانا أن نقصر الكلام عَلَى المسلم الغني لأنا رأيناه أشد إيغالاً في الارتباك بحياته وحياته والعدم سواء. نعرف رجلين في حلب ودمشق يملكان من المزارع الواسعة عشرات وتحسب ثروتهما بمئات الألوف من الليرات ورثا ذاك الغنى فأساء إلى العمران والإنسانية فترى مزارعهما خربة لا يتوفران عَلَى تعهدها ولو صرفا عليها بضعة ألوف من الليرات لأحييا بها الموات العظيم ونفعا بها خلقاً كثيراً من السكان شغلاهم فيها عن الهجرة إلى أميركا وقد أفدوا الأخلاق بما ألفاه من الشهوات كل ذلك لأنهما لم يربيا التربية المطلوبة فنشآ كالسائمة وقد فتحت عيونهما عَلَى ثروة لم يسعها عقلهما.
إن الأسف عَلَى عقول لا يستفاد من ذكائها كالأسف عَلَى تربة لا يستفاد من زكائها وكم في البلاد من أراضٍ معطلة لا يستطيع أكثر مالكيها تعهدها لكزازة في أيديهم وصغر في عقولهم وضعف في نظرهم. نحن لا نلوم الصهيونيين وغيرهم من المستعمرين في بلاد الجليل وفلسطين بقدر ما نلوم أولئك الذين يملكون الأملاك الواسعة مما لو طبقت الحكومة عليهم قانونها القاضي بنزع الملك من صاحبه إذا لم يزرعه ثلاث سنين متوالية لنزعت(76/58)
جانباً مهماً من الأراضي الزراعية في السهول والقيعان والجبال من يد مالكيها أو مغتصبيها.
نوجه هذا الكلام القارص إلى الأغنياء لأنهم هم مادة البلاد ولأنا لا نتوقع من الفقير عملاً يذكر وحكومته لم تربه التربية المطلوبة في الأمس ليحسن العمل المطلوب منه اليوم. فقد مررنا في طريقنا إلى صفد بقرىً كثيرة وكنا نشهد الفرق محسوساً بين قرى المسلمين وقرى المسيحيين أولئك لم تعمل لهم حكومتهم إلا أنها أسلمتهم لجباة الضرائب والعشور والإعانات وسوق من تسوق إلى الجندية وتركهم بقمة في يد صاحب النفوذ وشيخ البلد لم تعمر لهم مدرسة ولا جامعاً ولم ترسل لهم طبيباً ولا واعظاً أما جيرانهم المسيحيون فقد اعتمدوا عَلَى أبرشياتهم ومطارنتهم وأكثر هؤلاء عَلَى جانب عظيم من الغيرة والفضل فأسسوا لهم بيعاً ومدارس وكتاتيب وهزوا أكف أغنيائهم وأهل الخير في بلاد الغرب واستعانوا بأموالهم عَلَى الأعمال الناهضة عَلَى ما ترى ذلك ماثلاً في كاثوليك حيفا والبصة وشفا عمرو وترشيحة والمغار من أهل هذه الديار ومطرانهم غريغوريوس حجار يسعى ليله ونهاره في إنهاضهم ومن وراءه ووراء الطوائف النصرانية الأخرى الجمعيات الروسية والفرنسوية والألمانية والإنكليزية والأميركانية والإسرائيلية تفتح المدارس في كل قرية ومزرعة فيها بضعة من الكاثوليك أو الروم أو البرتستانت أو الإسرائيليين.
نعم إن المسلم في بلاده هذه جاهل لقلة من يتعهد أمره وغيره يرقى السنة بعد الأخرى ومعرفة ذلك سهلة لكل من يختلط بالفريقين فيفهم درجة عقولهم ويقرأ صورة معايشهم وترتيب بيوتهم ونظام أسراتهم. ورقي الراقي منهم ناشئٌ من خروجهم عَلَى الأقل من درجة الأمية واستنارة عقله بالتربية الجديدة.
وبينا نرى وجيه قومنا إذا قدر له أن يفكر في تربية ولده يعهد بها إلى مدارس الحكومة وهي احط مدارس يتصورها العقل في بلاد تدعي المدنية رجاء أن يجيء غداً موظف يعيش كلاً حَلَى عاتق الأمة تشهد الوجيه في غير المسلمين يعلم أولاده الصناعات الحرة كالهندسة والزراعة والتجارة وغير ذلك ولك بهذا أن نحكم عَلَى مستقبل أولادهم وأولادنا.
نحن لا نعجب لارتقاء الزراعة في قرية الجاعونة من بلاد صفد ولا المجدل من أعمال طبرية ولا زمارين من عمل حيفا مثلاً لأنها ملك لجمعيات صهيونية غنية في الغرب تنفق(76/59)
عليها لمقصد ديني سياسي عن سعة. ولكننا نعجب كل العجب من مسلم لا يحذو في ترتيبه ومعاشه حذو أخيه المسيحي ففي مزارع الإسرائيليين تعمل رؤوس أموال شركاتهم ومعارف أوربا في تجويد الزراعة وفي مزارع الوطنيين غير المسلمين يعمل حب الترتيب وحسن التربية وإرادة الكسب والرفاهية فقط.
وبعد فكلما تقم السائر من بعد قرية الرامة يتراءى له انحطاط الزراعة وإهمال الفلاح المسلم لزيتونه وتينه وكرمه بل لغلاته السنوية بحيث أصبح دون مواطنه الدرزي وللدروز عناية في الجملة بأراضيهم وغرسهم ومنهم في بعض قرى عكا ومنهم في قضاء صفد وبلادهم جبلية كما هي العادة. وأهم ما شهدناه قبل صفد بساعتين شلال ماء يسقي إحدى القرى هناك يجري من شاهق جبلٍ عالٍ ويضيع بين الصخور في الطريق وهو بمائه دون شلال تل شهاب في حوران إلا أنه يمكن استخدامه فيما نحسب لتنوير عكا وحيفا بالكهربائية وتسيير ترام كهربائي فيهما.
وقد أصبحت بلاد صفد وهي 49 قرية ومزرعة جرداء من غاباتها بفضل الإهمال وكانت منذ عشرين سنة كثيرة ومنها الضخم تسد الحاجة وتلطف الهواء وتعد نزول الأمطار حتى أن القوم هنا يبحثون عن جذوع الحراج للوقود والتدفئة الآن وما ندري بم يصطلون ويوقدون بعد سنين.
ومدينة صفد تربو نفوسها عَلَى ثلاثين ألفاً نصفهم من الإسرائيليين وهي عَلَى عدة قمم وآكام عالية وفيها المياه مثل مدينة مرجعيون وقد جلب الماء في أنابيب حديد إلى أكثر أحياءها من جبل بيرية الواقع جنوب صفد عَلَى نصف ساعة منها فكلف نحو ألفي ليرة خفف عَلَى السكان بعض العناء في الاستقاء وحفظ ماءهم من الكدر ولو صرفت إدارة النافعة خمسة آلاف ليرة عَلَى طريق يربط صفد بطبرية والمسافة بينهما خمس ساعات أيضاً لاتصلت صفد بالخط الحجازي وأصبح ابن دمشق يأتي إلى صفد في يوم واحد خصوصاً والعلائق التجارية والزراعية مستحكمة بين الصفديين وأهل ولاية سورية المتاخمة قضائهم لقضاء القنيطرة حتى أن في صفد حياً خاصاً بالأكراد كما لهم في صالحية دمشق.
وطول جبل الزابود المشهور في كتب وصف البلدان نصف ساعة من شمال ميرون للغرب(76/60)
وفي قمته مياه عذبة ويناوحه من الجهة الثانية جبل كنعان وهو أخصب وأمرع وأنقى هواء فصفد بين منفرج هذين الجبلين ولكنها هي أيضاً مبنية عَلَى رؤوس جبال أشبه بمدينة الآستانة ويذكرون أن في رأس وادي الطواحين غربي صفد عيناً اسمها عين جن يتجبس منها ماء وينقطع في الساعة ولا تزال كذلك عَلَى الدهر وماؤها يدير مطحنة.
والطريق من صفد إلى طبرية كله انحدار قوي حتى يصل إلى بحيرة طبرية والهواء يختلف في الحال من البرودة إلى الحرارة لوقوع صفد في رؤوس الجبال وارتفاعه 838 متراً عن سطح البحر وهو أعلى ارتفاع في أرض الجليل ولانحطاط طبرية عن سطح البحر 208 أمتار. ولئن كانت صفد تعد من المدن المقدسة عند اليهود وينزل المسيح إلى الأرض منها بحسب رأيهم فإن المستعمرين من الإسرائيليين لم ينزلوها إلا في القرن السادس عشر وقد استولى عليها الصليبيون واستخلصها منهم صلاح الدين يوسف ثم سقطت في يد الظاهر بيبرس واحتلها الفرنسيس سنة 1799 مدة قليلة وفي سنة 1837 أصابها زلزال جعل عاليها سافلها ولم يعد إليها بعض الرونق إلا في العهد الأخير. ويقل الزيتون في قضاء طبرية اللهم إلا ما كان في قريتي حطين ولوبية وعدد قرى هذا القضاء 26 أكثرها ملك للصهيونيين ويوشكوا أن يبتاعوا البقية الباقية فيحيونها بعد مواتها.(76/61)
أخبار وأفكار
مخطوطات نادرة في مكتبة شيخ الإسلام بالمدينة المنورة
إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى للشيخ إبراهيم بن محمد الأسيوطي. الأعلام بإعلام بلد الله الحرام للشيخ قطب الدين المكي النسفي. أعلام العلماء الأعلام بحال بناء المسجد الحرام للشيخ عبد الكريم بن فخر الدين القطبي. الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل للقاضي مجير الدين أبي اليمن عبد الرحمن العليمي. الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك الغرب وتاريخ مدينة فاس للأديب أبي الحسن علي بن عبد الله أبي زرع الفاسي. إهداء اللطائف من أخبار الطائف للشيخ حسن بن علي العجيمي. البدر المتألق في محاسن جلق ويعرف بمحاسن الشام للسيد محمد بن السيد مصطفى الشهير بابن الراعي الدمشقي. بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد لعبد الرحمن بن علي الشهير بالديبع. تاريخ حلب مجهول مؤلفه. تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام للقاضي بدر الدين محمد بن أبي بكر بن جماعة الكناني الحموي. تحصيل المرام من تاريخ البلد الحرام لتقي الدين الحسيني. تحفة الدهر ونفحة الزهر في أعيان المدينة من أهل العصر للعلامة عمر بن المدرس عبد السلام الداغستاني المدني. التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية للشيخ عبد الغني النابلسي. تاريخ السخاوي في المدينة المنورة (في دار الكتب المحمودية). تراجم أعيان أبناء الزمان للفاضل حسن البدري الدمشقي الشهير ببدر الدين. ترغيب أصل المودة والوفا في سكان دار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيخ اسماعيل المدني. الترغيب في سكنى المدينة المنورة دار الحبيب له أيضاً. التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة للحافظ محمد بن أحمد المطري (وهو كتاب مهم في تاريخ هذه المدينة). الجواهر الثمينة في محاسن المدينة للسيد محمد كبريت المدني. الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية للشيخ عبد الغني النابلسي. الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز له أيضاً. الحلية الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية الثانية له أيضاً، ومنها أراد أن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان له أيضاً. دار السحابة في بيان مواضع وفيات الصحابة للعلامة حسن بن محمد الصنعاني. درر الفرائد المنظومة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة لعبد القادر بن ممد الأنصاري. الدرة المنصان (؟) فيما يحدث في دولة آل عثمان(76/62)
لمحسن بن كمال. رحلة الإمام الشافعي من مكة المكة إلى المدينة المنورة والتقاؤه بالإمام مالك لسيدي عبد الوهاب الشعراني. رسالة في دعوى الشرف من جهة الأم هل تصح أم لا لإسماعيل تائب. الروض المعطار في أخبار الأقطار في السير والأخبار لمحمد بن عبد المنعم الحميري. الروض المغرس في فضائل البيت المقدس لعبد الوهاب بن عمر الحسيني. الروضة المستطابة فيمن دفن في البقع من الصحابة (مجهول). زيارات الحرمين والقدس والشام وبيان مآثرها وفضلها عَلَى الدوام لأحمد بخاري. شذرات النصب في أخبار من ذهب في التراجم المترتب عَلَى السنين من ابيداء الهجرة إلى أخر القرن العاشر لعبد الحي الصالحي. الشرف المعلى في ذكر قبور مقبرة باب المعلا لجمال الدين القرشي الشيبي. شرف الإنسان لمحمود بن عثمان المعروف بلأمعي. الشعور بالعور وبيان أخبارهم لخليل بن أيبك الصفدي. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام لتقي الدين الناسي. الصادح الصادع بأطيب النغم في ترجمة عارف الحكم لمحمود الآلولسي. غربال الزمان المفتتح بسيد ولد عدنان وهو مختصر مختصر السيد حسين الأهدل. اختصار تاريخ الإسلام لعبد الله بن يحيى العامري. الفتح القسي المقدسي في الفتح القدسي لمحمد الأصفهاني الشهير بالعماد الكاتب. فهرست كتب العلوم القديمة من تصانيف العرب واليونان والفرس والهند وغيرهم لأبي الفرج محمد بن إسحاق الوارق المعروف بلبن أبي يعقوب النديم. فيض المنان بذكر دولة آل عثمان لمحمد البكري الصديقي. قوة العيون في أخبار اليمن الميمون لوجيه الدين الشيباني. القصيدة اللامية في تاريخ الدولة الإسلامية للشيخ صدر الدين الغزي وفيه شرح القصيدة. اللباب في معرفة الأنساب وهو مختصر كتاب الأنساب للسمعاني لابن الأثير الشيباني. مثير الغرام في فضل سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام لتاج الدين إسحاق ويليه فصول في مولد سيدنا موسى ويونس وما ورد في فضل الصحابة. محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر تلخيض كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل لعلي دده. المختصر في أخبار البشر للملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة. المذيل عَلَى الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية لشهاب الدين المقدسي المعروف بأبي شامة. المستجاد من فعلات الأجواد لأبي محسن بن علي التنوخي. المستقصى في فضائل المسجد الأقصى لنصر الدين المقدسي. مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام لشمس الدين المزالي. منايح الكرم في(76/63)
أخبار البيت وولاة الحرم لتقي الدين الناسي. نبذة في أمور النقود الإسلامية للمقريزي. النجوم الزواهر في معرفة الأواخر لأحمد بن خليل الدمشقي الصالحي. اليمين في تاريخ عين الدولة السلطان محمود بن بكتكين للعتبي. الدر المنتظم في مناقب عارف الحكم لإبراهيم أفندي بن أحمد أفندي. تاريخ المدينة للمراغي. المحاضرات والمحاورات للإمام السيوطي وبخطه كتاب عجيب.
أحمد إبراهيم خربوطلي.
الكبريات
أطول الأقنية في العالم
أطول قناة في العالم قناة مونت سانت غوذرد (إيطاليا) طولها 48480 قدماً أو نحو عشرة أميال.
وطول قناة مونت قينز (إيطاليا) 39840 قدماً أو نحو سبعة أميال.
وطول قناة هوساكِ (ماستشوستس الولايات المتحدة) 25031 قدماً أو نحو أربعة أميال ونصف الميل.
وطول قناة نوخستونغو 21659 قدماً أو نحو أربعة أميال.
وطول قناة سيوترو 20028 قدماً أو أربعة أميال.
وطول كل من قناتي بامسن وميدوي (إنكلترا) 1880 قدماً أو حوالى الميلين.
أشهر جسور العالم
جسر بروكلين - بوشر ببناء جسر بروكلين نيورك العظيم في سنة 1870 وأتم بناؤه في سنة 1883 وقد كلف خمسة عشر مليون دولار.
جسر شلالات نياغارا - بني هذا الجسر الهائل فوق شلالات نياغارا الشهيرة (الولايات المتحدة) من الفولاذ طوله 910 أقدام وبلغ وزن الفولاذ الذي ذهب في سبيل بنائه اثني عشر ألف قنطار وبلغت نفقاته تسعمائة ألف دولار.
ولهذه الشلالات العجيبة جسراً آخر شيد بين سنة 1852 وسنة 1853 طوله 821 قدماً ويعلو عن سطح البحر 245 قدماً ويتحمل ثقل أربعة آلاف وثمانمائة قنطار.(76/64)
جسر الهافر - يبلغ طول ذلك الجسر 3271 قدماً وهو مقام عَلَى حجر سماقي من الصوان كلف عشرات الألوف من الدولارات.
جسر بريطانيا - يقطع هذا الجسر الكبير ميناوالس عَلَى علو 103 أقدام عن سطح البحر طوله 1511 قدماً وقد أكمل في سنة 1850 وكلف 3008000 دولار.
جسر لندن - بوشر ببناء جسر لندن الجديدة في سنة 1824 وأتم في سنة 1831 وشيد من الصوان وبلغت نفقاته 7291000 دولار. وهو أول جسر حجري أقيم في العالم.
وجسر كولبرودال (إنكلترا) بني سنة 1779 وجسر بروتون (إنكلترا) البالغ طوله 1545 قدماً بني في القرن الثالث عشر للميلاد.
جسر ريالتو (فينيقي) قيل أن بناء هذا الجسر هو عَلَى شكل أو هيئة الملك ميخائيل وهومبني من عقد واحد من الرخام طوله 890 قدماً ونصف قدم وأتم بناؤه في سنة 1591 وأما جسر سايز (فينيقي) القاطع مسافة بين دار المجرمين ومكان الإعدام فقد بني سنة 1589.
جسر الثالوث الأقدس - بني هذا الجسر في (فلورنس) سنة 1569 من الرخام الأبيض طوله 322 قدماً ولا ند له من حيث إحكام الصنعة وجمال الفن.
وجسر كوفد في (بافيا) بني في القرن الرابع عشر وله مئة عمود من الأعبل (الصوان) الجميل.
جسر سنت لويس - هذا الجسر يقطع نهر ميسيسيبي العظيم في الولايات المتحدة طوله 1524 قدماً وعرضه 50 قدماً وله ثلاثة عقود كبرى من الفولاذ طول قطر وسطها 502 من الأقدام وارتفاعه 47 ونصف قدم وطول قطر العقد الثالث 502 من الأقدام وارتفاعه 46 قدماً ودعامات تلك العقود مركوزة عَلَى ركائز صخرية عَلَى عمق 136 قدماً في الماء.
جسر شيكاغو - أقيم جسر شارع (رش) في شيكاغو (الولايات المتحدة) في سنة 1884 وكلف 132000 دولار وهو أكبر جسر يفتح ويغلق في العالم للتجارة العامة.
جسر فكتوريا - بني هذا الجسر في مونتريال كندا وهو من اكبر وأشهر جسور العالم طوله نحو ميلين.
جسر كليفلند أوهايو الولايات المتحدة طوله 3211 قدماً وعرضه 64 قدماً وسمكه 42(76/65)
قدماً.
أكبر أشجار العالم
أكبر أشجار العالم هي في قضائي كلفرس ومربوسا كلفرنيا الولايات المتحدة اكتشفها لأول مرة صياد اسمه (دود) في ربيع سنة 1852 علو أصغرها 275 قدماً وعلو أكبرها 335 قدماً وقطرها 43 قدماً وهي غريبة الشكل ويبلغ عددها 427 شجرة.
أكبر حدائق العالم
أكبر حدائق العالم حديقة الصخر الأصفر في غربي الولايات المتحدة طولها من الشمال إلى الجنوب 65 ميلاً ومن الشرق إلى الغرب 55 ميلاً فتكون مساحتها 3575 ميلاً مربعاً وتعلو عن سطح البحر أكثر من ستة آلاف قدم ومشاهدها الطبيعية لا مثيل لها في الدنيا.
علو أعظم الأنصاب والبنايات
قدم
1000: علو برج إيفل (باريس).
555: نصب واشنطن الولايات المتحدة
545: بناية الأمة في فيلادلفيا
485: أهرام مصر
465: كاتدرائية انتيورب بلجيكا
474: كاتدرائية ستراسبورغ فرنسا
قدم
448: كنيسة القديس بطرس رومية.
411: كنيسة مارتن لاندشت ألمانيا.
400: كاتدرائية سالبسري إنكلترا.
465: كنيسة القديس بولس لندن
386: كاتدرائية فلورنس إيطاليا
386: كنيسة فربورغ ألمانيا.(76/66)
360: كاتدرائية سيفيل إسبانيا.
355: كاتدرائية ميلان لومباردي
365: كاتدرائية بورتست هولاندا.
284: كنيسة الثالوث الأقدس نيورك.
260: برج بروكتلي في نانكن الصين.
224: كنيسة نوتردام في باريس
221: نصب بانكرهل في مستشوشتس.
179: برج لنن في إيطاليا.
175: نصب واشنطن في بلتيمور الولايات المتحدة.
153: نصب فندوم في باريس.
أوسع المعابد والدور في العالم
نفس
54000 تسع كاتدرائية القديس بطرس في رومية.
37000: كاتدرائية ميلان.
32000: كنيسة القديس بولس في رومية.
25000: كاتدرائية القديس بولس في لندن.
24000: كاتدرائية كنيسة القديس بترونيو في بولفانا.
24000: كاتدرائية فلورنس في إيطاليا.
24000: كاتدرائية أنتيورب.
23000: جامع صوفيا في الآستانة.
نفس
22000: كنيسة القديس يوحنا في رومية.
21000: كاتدرائية نوتردام في باريس.
قدم
12000: كنيسة القديس ستيفن في فينا.(76/67)
12000: كنيسة القديس دومينيك في بولفانا.
11400: كنيسة القديس بطرس في بولفانا.
11000: كاتدرائية فينا.
10000: كاتدرائية القديس بطرس في مونتريال.
8000: دار الخطابة في شيكاغو.
أعلى جبال الدنيا
28170 جبل حملايا
25380: سوراتا أنداس.
21780: إليمانيا بوليفيا.
21444: خمبورازواكيدور.
20600: هند وأفغانستان.
19408: كوتوباكسي اكيودور.
19550: أنتسيانا أكيوردور
18000: سنت إيلياس أميركا
17735: بوبوكا تابتل المكسيك.
16000: راوا هاواي.
15900: بردن.
15776: مونت بلاس.
15700: موناروس أوياهي.
15550: روزا ألب ساروينيا.
15200: نبخينكا أكيوردور.
15000: هوتني كلفرنيا.
قدم
14796: فيروز ألاسكا.
14450: نشاستا كلفرنيا.(76/68)
14320: بيك بيك كلوريدو.
13800: أوفر سومطرة.
13570: فرومونت بيك وايامن.
13400: لونك بيك كانتوما.
13000: رايز واشنطن.
12700: أراراط أرمينية.
12236: بيك أوف تزف جزائر كناري.
12000: ميلتسن مراكش.
11570: هوادوريغن.
11542: سلبون ألب.
11000: حرمون سورية.
10950: بروديو فرنسا.
10158: القديسة هيلانة أوريفن.
10050: أتنا صقلية.
9754: أُليمبس اليونان.
9080: غوذار ألب.
8000: سينا بلاد العرب.
7677: بنديوس يونان.
5467: بلاك كالدونيا الجديدة.
6234: واشنطن نيو همشر.
5467: مارس نيورك.
4400: هياقلا أيسلندا.
4400: بني نفس سكوتلاند.
4280: مانسفيلد فرمونت.
قدم(76/69)
4260: أوترييكس فرجينيا.
4030: بن لورس سكوتلاند.
3850: بارناسيوس يونان.
3930: فيسنس نابلس.
3280: بن لوفند سكوتلاند.
أعلى براكين العالم
23000 علو بركان شاهاما (بيريو).
21000: ليوليلك (شلي).
20500: أركيويبا (بيرو).
19813: كيامبي (أكيوردور).
19500: كوتوبكسي (بيرو).
19200: أنتسينا (أكيوردور).
18150: سان جوزي (شيلي).
17900: سنت إيلياس (ألاسكا).
17884: بوبكاتبتل (المكسيك).
17370: أوزبزابا (المكسيك).
17126: القبار (أكيوردور).
17120: سانفي (أكيوردور).
16512: كانتخيوسكيا (كامتخاكا).
15700: أزتا كيون (المكسيك).
15500: توليكا (المكسيك).
14400: شاستا (الولايات المتحدة).
14000: فيجياما (يابان).
13953: مايوناكيا (جزائر سندوش).
13760: مايانالوا (جزائر سندوش).(76/70)
12236: تاتريفي (جزائر كناري).
قدم
12000: القديسة هيلانة (الولايات المتحدة).
11225: هود (الولايات المتحدة).
10850: تاهيتي بيك (جزائر فرندلي).
10874: أتنا (صقلية).
ومن البراكين المشهورة في جميع أصقاع العالم بركان فيزوف علوه 3978 قدماً وبركان هيكلا علوه 1970 قدماً وبركان سترمبولي علوه 3000 قدم.
لنكلن نبراسكا (الولايات المتحدة):
يوسف جرجس زخم.
المسكرات في أوربا
صارت المسكرات في أوربا كأنها سيل جحاف لا يرد أو طاعون مبيد لا يدفع وذلك عَلَى رغم الجمعيات المقاومة لها والوعاظ الناهين عنها وتقاويم الطب الدالة عَلَى شدة فتكها وعظم تأثيرها ولذلك ربما تنحط أوربا فيما بعد بسببها انحطاطاً شديداً لا يدفعها عنها كل هذا العلم الشامل ولا كل هذه الاختراعات العامة.
ولقد انبرى أحد الكتاب لذكر هذا الخطر الوبيل وبيان تأثيره في الشعوب والممالك عَلَى ما عربه البصير فكانت إنكلترا في مقدمة ما ذكر لكثرة اشتهارها بالخمر وإدمان شعبها إياها ولكنه أشار إلى كون السكر قد اخذ يتناقص فيها بمساعي الحكومة نفسها دون الجمعيات وذلك لأنها فرضت عَلَى استخراج الخمر ضرائب شديدة فغلا ثمنها وقل المستخرج منها ولكن ويله مع ذلك يكون شديداً فيها لأن أهلها ينفقون عليها كل سنة نحو 155 مليون كما أنهم ينفقون من أرواحهم ما ينطبق عَلَى ذاك المقدار الجسيم ولهذا أخذ عددهم يقل وتناسلهم يضعف.
ثم أشار إلى ألمانيا فذكر أن الخطر وذلك لأن أهلها ينفقون في السنة عَلَى خمورهم 150 مليون جنيه مع أنهم أقل ثروة من الشعب الإنكليزي كما أنه قد تبين من أمرهم أن الخمر بينهم عَلَى ازدياد متصل فإنه بعد أن كان الفرد منهم يستهلك 30 ليتراً من الجعة في سنة(76/71)
1903 صار الآن يستهلك 124 ليتراً بزيادة 37 بالمئة وقد دلت أحوالها الحاضرة عَلَى أن المستهلك فيها يزيد كل سنة 40 ليتراً لكل فرد من أهلها وهو ما ينسبونه إلى شدة التساهل من الحكومة بل إلى ترغيبها وتسويقها لأنها تجد من الخمور مورداً عظيماً لها يعينها عَلَى الإنفاق الحربي كما أن نفس الشعب الألماني شديد الميل إلى الشرب ولذلك روي عن بسمارك أنه قال مرة أن الذي لا يشرب الجعة لا يعد إنساناً وقد اجتمع مرةً بكريستي وزير إيطاليا قديماً وكان لا يشرب فقال له: عجب كيف أنت سياسي ولا تشرب.
ومما يقوله ذاك الكاتب أن بلجيكا تعتبر أشد الممالك استهلاكاً للخمور ولاسيما الجعة التي تفوقها المملكة ولذلك ارتاعت حكومتها للأمر وأخذت تساعد جمعيات المنع بكل جهدها حتى أنها تمد جرائدها بالإسعاف وتعفيها من رسوم البريد قصد أن تزداد انتشاراً بين الرعية ويزداد خوفهم من عواقب ما يفعلون.
أما سويسرا فالأمر فيها أشد لأن أهلها يميلون إلى الكحول أكثر منهم إلى الخمور ولذلك حدثوا عنها أنه يموت بها10 بالمئة من شبابها الذين فوق العشرين وإن 40 بالمئة من جرائمها تنسب إلى السكر. ولكن الدانمرك أشد منها ويلاً فإنه يموت من شبانها 22 بالمئة وقد جن فيها سنة 1899 - 1694 نفساً كان منهم 352 بسبب الخمور كما ظهر أن 43 بالمئة من جرائمها منسوب إلى السكر وعواقبه.
أما إيطاليا فلم يذكر عنها تقويماً ولكنه أشار إلى أن السكر يتزايد فيها بازدياد غنى أهلها عَلَى حين مشهور أن الفقير هو الذي يشرب لأن أوقاته أطول وهمومه أكثر.
أما فرنسا فقد ذكرت عنها أنها كانت من 50 سنة معدودة أقل الممالك استهلاكاً للخمر فصارت الآن في مقدمتها وذلك بسبب الإبسنت وحده فإنه عَلَى انتشار عظيم كما أنه مشروب شديد الفتك والأذى فقد كان الفرنسوي الفرد لا يشرب في السنة كلها منذ 50 سنة إلا ثلاثة بينتات ونصف (البينت 150 درهماً) فضار الآن يشرب 70 بينتاً قوة كحولها مئة درجة وهو مقدار يعادل 156 بينتاً من الكونياك.
ولقد كان في فرنسا منذ 30 سنة خمارة واحدة لكل 109 من سكانها فصار الآن يوجد فيها خمارة لكل 40 نفساً. وقد بلغ عدد حانات باريس وحدها حسب التقويم الأخير 30 ألفاً مع لندن التي تبلغ ضعفيها لا يزيد عدد الخمارات عن ستة آلاف. ومما ذكره عن تأثير السكر(76/72)
في فرنسا أنه يموت فيها كل سنة 50 ألف نفس بالسل الرئوي وقد ذكر الأطباء أن أكثر هذا العدد يذهب في ذمة السكر ولولاه لكان السل ضعيفاً بسبب انتشار معرفة الصحة بين الجميع. ويقال أنه يندر أن يمضي يوم دون أن يسقط في شوارعها عدة أناس موتى فجأة بسبب تأثير الإبسنت بالخصوص. أما أسوج ونروج فإنهما أقل الممالك سكراً لن حكومتيهما تقاومه بشدة وقد يكون ذلك لأنهما اقل الدول تجهيزاً واستعدادً للحرب عَلَى خلاف سائر أوربا فإن اضطرارها الدائم للاستعداد قد صير أهلها عَلَى حرب دائمة مع الخمر لأنها تقف معها عَلَى الحياد ولا تفصل بينهما ولذلك تقتل الخمر من أبنائها من أجل ما يسمونه (السلم المسلح) أكثر ممن تقتلهم الحروب الحقيقية كحرب طرابلس الحاضرة فإنه لو نظر إلى عدد الذين يسقطون من قتلاها كل يوم ونظر إلى عدد الذين يسقطون بالسكر في المستشفيات والشوارع لكان عدد قتلى الخمر أكثر عدداً من غرقى البحار لأن التقاويم تدل عَلَى صدق ما قال.
أما الخطر الذي يحيق بأوربا الآن فليس من تأثير الخمر مباشرة بل من تأثيرها غير مباشرة وذلك أنه تبين للباحثين أن مدمني الخمر يلدون ابناء ميالين إليها كما أن أكثر مواليدها يكونون ضعافاً ليس في أجسادهم قوة لمقومة السقم. وقد قال أحد الباحثين أن الذين تظفر بهم الشرطة من السكيرين والمجرمين بسبب السكر إنما هم أقل جداً من الذين يظفر بهم الأطباء وسائر الناس أي أن الخمر لا يفضي إلى ما يتعلق بالشرطة والحكم العمومي إلا جزءاً يسيراً من أفضالها إلى الخبال التدريجي وضعف الذاكرة فضلاً عن الانتحار ولذلك أجمعوا عَلَى أن السكير يؤذي نفسه أكثر جداً مما يؤذي سواه.
ومما حدثوه أيضاً عن الخمور الطبيعية كالنبيذ أو المصنوعة كالجعة إنها لا تؤذي بل قد تعد أحياناً داخلة ضمن الغذاء لأن نسبة الكحول فيها إلى الماء وسائر المواد الممتزجة بها تعد نسبة مقبولة بخلاف الكحول كالإبسنت والويسكي والكونياك وسائر المستقطرات القوية فإنه لم يثبت لهم أنها تكون غذاء للجسم إلا من جهة كونها تحترق فداء عما كان يجب أن يحترق من الطعام نفسه أي أنها تحترق في الجسم كما يحترق المنديل المبلول بالسبيرتو فإنه حين يشتعل لا يحترق منه أولاً إلا السبيرتو ويبقى المنديل سليماً فكان السبيرتو بذلك قد رد عن المنديل خطر الاحتراق إذ قام للنار مقامه ولكن المنديل مع بقاءه سليماً يصير(76/73)
متشوهاً ضعيف النسيج وعلى مثل هذا يكون الإنسان الذي يغذي جسمه بالكحول دون الطعام.
الزواج الهندي
يعتبرون الزواج في بلاد الهند من الضروريات المبرمة التي تلحق تبعتها الأبوين ولذلك ظهر من إحصاءٍ أخير أن 250 ألفاً من البنات ممن لم يتجاوزن الخامسة قد عقدن لهن وتزوجن ومليونان من الفتيات الهنديات أصبحن زوجات قبل العاشرة من سنهن وستة ملايين ممن تختلف أعمارهن من 10 إلى 15 وتسعة ملايين بين سن الـ 15 والـ 20 ومعلوم أن الخطبة والاحتفال بها متى انتهى لا تسلم الفتاة لعروسها قبل العاشرة أو الثانية عشر من عمرها وبذلك كثير ما تشاهد في الهند أمهات في الثالثة عشرة وجدات في الخامسة والعشرين.
حماية الأطفال في إنكلترا
ألف القس بنيامين واف جمعية لحماية الأطفال من سوء معاملة الوالدين لأن كثيرين من هؤلاء يجورون عَلَى أولادهم ولا يصل إلى المحاكم إلا ما قل من هذه الحوادث وهي تحكم فيها بشدة وتفرض العقوبات الرادعة عَلَى الوالدين غير أن ذلك لم يفد في تدارك الخلل إذ نذر من الأطفال من يجرأ عَلَى شكوى والديه فتألفت هذه الجمعية لتتخلل البيوت وتنقذ الأولاد من خشونة المعاملة والجور والقسوة.
أولاد الإنكليز
سنت إنكلترا مؤخراً قانوناً جديداً لحماية الأطفال فقضت أن يغرم بخمسة عشرة ليرة إنكليزية كل والد أو والدة يترك ابنه في غرفة فيها نار مشتعلة وكل والدين يحملان ابنهما أو ابنتهما عَلَى الكدية ويمنع رجال الشرطة الفتيان والفتيات من استعمال الدخان إن لم تتجاوز سنهم السادسة عشرة وكذلك يحظر عَلَى كل طفل أن يدخل حانة إن لم يكن تجاوز الرابعة عشرة من عمره.
الصحافة في العالم
تعد أميركا في مقدمة الدول بالنسبة لكثرة عدد الصحف فيها ففي الولايات المتحدة 21435(76/74)
جريدة منها 2500 يومية ومن هذه 700 تطبع باللغة الألمانية و20 باللغة الهولاندية والبقية بالإنكليزية. ويبلغ ثمن الورق الذي تنفقه الصحافة الأميركية 130 ميلوناً من الفرنكات في العام ويبلغ دخلها السنوي 900 مليون من الفرنكات منها 450 ميلوناً قيمة البيع والاشتراكات و500 مليون قيمة أجور الإعلانات. وفي كندا يبلغ عدد الجرائد 1200 منها مائة يومية وفي كل جمهوريات المكسيك والبرازيل وشيلي 300 وفي الجمهورية الفضية 750 وفي جمهورية فنزويلا 170 وفي جمهورية خط الاستواء 20.
أما في أوربا فظهر في ألمانيا عشرة آلاف جريدة منها 1500 يومية ثم تليها فرنسا وفي النمسا 5600 وفي إنكلترا 4400 منها 230 يومية وفي البلجيك 2000 منها عدداً كبيراً يصدر يومياً. وفي إيطاليا 3500 منها مائة يومية وفي إسبانيا 2000 وفي روسيا 2000 منها 200 يومية. وفي سويسرا 1200 منها 800 باللغة الألمانية و350 باللغة الفرنسوية و50 باللغة الإيطالية وفي الدانيمرك 1450 وفي أسوج 1000 وفي هولاندا 2000 وفي نروج 600 وفي العثمانية 300 وفي اليونان 160 وفي بلغاريا والبرتغال والصرب أقل من مائة جريدة وفي اليابان 3000 منها 400 يومية أما في مصر والجزائر وأفريقية الجنوبية فالصحف قليلة وفي أوستراليا 1000 وفي الهند الإنكليزية 1800 وفي سيبريا 20 وأما في الصين فلم يتيسر إحصاء جرائدها بوجه التقريب وغنما يقال أن لكل مليونين فيها جريدة واحدة لأن فيها نحو مئتي جريدة.
واجب المدرسة
من المسائل التي لا ينازع عليها منازع أن من واجب المدرسة أن يعتني بها عناية عنايتها بالتعليم وأن المدارس تؤثر في الأخلاق كما تؤثر في العقول وإذ كان هذا التأثير حاصلاً فالواجب أن يكون تأثيراً صالحاً وهناك الصعوبة في هذا الشأن.
ومن النظريات التي وضعها كبار أرباب العقول الراجحة في القرن الماضي أن نور العلم وحده يحرر العقل البشري من رقه ويسعده ويصلحه ولكي تقوم المدرسة بواجبها في التربية يقتضي لها أن تقرن التربية بالتعليم بقطع النظر عن التمييز بينهما فهي بتثقيفها العقل وتدريسها القضايا العلمية والنسب بينها يتأتى لها أن تقول أنها تعمل في تربية الإردَة.(76/75)
ولا جرم أن حل مسألة التربية في المدرسة من المسائل التي لا تنحل بسرعة فقد تساءل روسو في القرن الثامن عشر عما إذا كان النجاح العقلي ينتج الارتقاء الأخلاقي وزعم أن المدنية إذا أرادت الحصول عَلَى نتيجة حسنة بتحرير المرء من أوهام غريزية وتحويله إلى عاقل حر عليها أن يقول القول الفصل فيها لغايات الأخلاق في الطبيعة الإنسانية وقد دلت التجربة وأحكام العقل أن التعليم صناعة يحسن ويقبح استخدامها كاللسان في مكنة التعليم أن تكون منه مادة للتربية ليست فيه ولذا كان من اللائق أن تعنى المدرسة بمهمتين مزدوجتين وأعني بهما التربية والتعليم وتعمد إلى اتخاذ الطرق الجديرة بكل منهما علينا أن نربي لا أن نقف عند حد التعليم وعند ذلك ينبغي لنا أن ننزل البيت والمجتمع منزلتهما من التأثير لا أن نعمل عَلَى تربية وجدان الطفل في المدرسة فقط. ويرى بعضهم أن تناط التربية بالحكومة تسن نظامها وهذا الاحتكار الضار الذي يسود التربية في عيون الأبناء وما التسلط عَلَى فكر الولد وعقله بالشيء المحمود أيضاً فالواجب عَلَى المربي أن ينشئ رجالاً قادرين عَلَى التفكر وأن يسيروا بأنفسهم لأنفسهم عَلَى نظام الأخلاق مدفوعين بعامل الواجب وأن تصح إرادتهم عَلَى ذلك بحيث يشعرون بأنهم يعملون في هذا الشأن أحراراً.
يجب أن لا يفوتنا أن عقل الطفل فارغ من الأفكار وأن ميله إلى أن يكون رجلاً مذكوراً مما يستميله ويغويه. ويتأثر ضعفي تأثره إذا أضفت إلى عمله الطبيعي في التعليم بما يمتعه بالحرية الشخصية فإنه يتلقن أفكاره عَلَى أيسر سبيل بل بشوق عظيم ويرى نفسه أنها أفكاره بعينها ويدعيها لنفسه. يصبح عَلَى مثل حال الرجل الذي ينومه رجل بارع بالتنويم المغناطيسي فتكون إرادته إرادة منومة. هذه هي العثرة التي يجب عدم الاصطدام بها وآكد الطرق أن لا يقترب من تربية الضمير إلا باحتراز شديد لأن المدرسة لا ينبغي لها أن توهم الأسرة والمجتمع بأن يستندا إليها فقط في تربية أولادهما بل إن المدرسة تساعد عَلَى ذلك بكل ما فيها من قوة عَلَى صورة مساعدة معاونة لا مربية مسؤولة وحدها.
هب أن المعلمين كانوا من أخيار الناس وهذا مما يجب حتماً - في أخلاقهم - وأن حياهم وأشخاصهم وحشمتهم في مهنتهم وكل أعمالهم وأقوالهم كل ذلك يكون منه تعليم أدبي نافع ألا وهو التعليم بالقدوة والمثال ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد لأن بين التعليم الذي هو مهذب مباشرة وبالضرورة وبين التربية التي ينظر إليها بأنها منفصلة عن التعليم نقطة(76/76)
متوسطة ألا وهي التربية بالتعليم وهذا هو من واجب المعلم فإن وظيفته أن يعلم لا أن يعظ ولكن من مواد التعليم ما له علاقة بالأخلاق مباشرة فيجب والحالة هذه أن لا يفوتنا أن المعرفة ليست أمراً عظيماً ولكن الفائدة في العمل وشتان بين درس استظهره التلميذ بلا غلط وبين الجهد في تطبيق ما تعلمه بالعمل. فقد قال سقراط أن من تشبع بعلم الخير تشبعاً حقيقياً لا يلبث أن يتقدم إلى العمل به. لا جرم أن كل علم لا يؤَثر بحيث يجعل الإنسان أحسن مما هو ولكن علم الأخلاق الصرف هو عامل مهم يؤثر في حياة المرء ويكون ذلك أشد أثراً فيه إذا رأى أساتذته يطبقون بأنفسهم خطتهم عَلَى تعليمهم.
ولقائل أن يقول أي التعاليم يجب أن يعملها الأستاذ هل التعاليم النظرية أمثال تعاليم أرسطو وكانت. أنا أقدر هذه التعاليم قدرها ولكن المدار في تربية الطفل اليوم عَلَى تعليمه معنى الحياة لا الفكر لأن تعاليم ذيتك الفيلسوفين قد لا تقبلهما عقول ليس لها عهد بالتمرن وهذه المبادئ هي الواجب والسعادة والحشمة والحق والحرية والسرور والمصلحة والتكافل والجهاد في الحياة والحياة الاجتماعية والمساواة والحياة الوطنية. أمور كلها تبقى بدون أن يتغلب فيها فرع عَلَى آخر وإذا كانت نظريات مجردة تبقى إلى الإبهام والغموض عرضة للأهواء في تبدلها وللأشخاص في حظوظهم فقد قال ديكارت أن الأخلاق إذا أُريد بها منطوقها لا يتأتى لها تجيء إلا بعد جميع العلوم وكيف تكون الأخلاق تامة والعلوم لا تزال في طور الاتقاء لم تمم وهل يرجى التمام من نقص وأفضل الأساليب يتخذها من يريد في الحياة فلاحة أن يعمل بما يجري عليه أهل العرض والشرف في حياتهم الحقيقية وبعد فإنا كما نلجأ إلى مهندس في حل مسالة في الميكانيكات العملية فنحن أحرى بأن نشاور من صناعته علم الأخلاق والواجبات للحصول عَلَى حل مسالة أخلاقية ولكن لفكرنا الذي تتطلبه الحياة بنظرنا وحديثنا ومطالعتنا ومعلوماتنا علاقة ببعض الأفكار تتراءى لنا أنها أهم وأصدق وأجمل وأكثر متانة من غيرها ومن هذه الأفكار نؤلف قانوناً نرى من الواجب أن لا نخونه وكلما اتسعت معلوماتنا وذهننا يتسع أساس أخلاقنا ويعظم جهادنا ليكون لها اتساق وتماسك.
إن رجل العمل يعلم جد العلم أن الخير مناط بالشر في كل شيءٍ فيتقبل كل ذلك صبرة واحدة عَلَى شرط أن يكون الخير متغلباً عَلَى نقيضه. ولا يسع المربي إلا أن يعلم ما هو(76/77)
موضوع قصورنا في الحياة الحقيقية فهو يأخذ أجمل التعابير عن الضمير الأدبي وامتنها عَلَى مثال الرجل الذي يعمل ويرى في حجر المجتمع ويبحث عن التوفيق بينها ويوقن بأن المدنية التي اكتفى بها اليونان لا تكفي ابناء العصر الحديث وأن هؤلاء يرون أيضاً أموراً جميلة في ذاتها في الأسرة والأخوة الإنسانية والعلم والعدل واحترام الشعور والحرية والعمل والمساواة ويلقي في العقول إن أحسن سلوك هو ما يوفق بين المصالح ويقلل من الأضرار ويتجنب إلقاء الأفكار غير العملية في الأمور الجازم بها وهو يعلم أن أعمال الإنسان كلها يتطرق إليها الخلل من بعض الجهات فالاقتصار عَلَى حفظ الجيد منها من كل وجه يكون منه الحكم عليها كلها.
قال أرسطو الرجل الصالح هو بذاته قاعدة الفضيلة ومقياسها ولذلك كان خير الأخلاق ما علم بالعمل قبل النظر وخير المعلمين من لم يستند عَلَى فكره وما تفضله نفسه بل من يعم في قوله ولا يخصص يتكلم ما يستحب سماعه الكل فيقول لمستمعيه هذا خير وهذا شر كما يقول رب الأسرة هذا لا يعمل ويجب أن يعمل بهذا.
إلا وأن الحكمة الصالحة لتنطبع في الذهن وتتردد في الخاطر وتختلط بأجزاء النفس بلطف تركيبها واتساع فكرها ويكون لنا منها باعث أو مبدأ للعمل ومادة للإرادة فعلى المعلم الذي يريد أن يحسن التربية أن يملي عَلَى تلامذته كل يوم قطعة فيها عمل صالح أو حكمة شريفة مستخرجة من متن الدين والأخلاق والآداب الإنسانية يتعلمها الأولاد ويستظهرونها ويشرحها لهم الأستاذ ويستخرج منها مادة الحكمة ولم يعمل كبار الوعاظ عملاً سوى أنهم شرحوا حكم التنزيل.
وما التربية الخالصة الساذجة إلا التي تصل إلى غايتها بدون تصنع بل بالوسائط التي يوحيها العقل أو الحب أو يعلمها النظر والاختبار ويتأفف بعض مشاهير علم التربية والتعليم من هذه الطرق الطبيعية ويحاولون أن يحلوا محلها الأساليب العلمية والصناعية فيرون أن الولد يطبع عَلَى نحو ما يريد مطبعه وأن الغاية تبرر الواسطة ولذلك لا يرون باساً باستعمال الحيل معه والكذب النافع عليه قال لوك (فيلسوف إنكليزي 1704) إذا أردت أن تأخذ بيد الأطفال للبحث عما ينفعهم فعليك أن تقدم بين أيديهم ما تريد تلقينهم إياه عَلَى نحو ما تقدم المسليات لا كما تعرض الواجبات وحتى يوقنوا أنك لا تتحزب لفكر(76/78)
خاص عليك أن تنفرهم من كل ما تريد أن يتقوه وذلك بحملهم عَلَى عمله بأساليب تستعملها حتى يتبعوا ويستسلموا لما تقرر لهم. إنك إذا شاهدت ابنك يلعب كثيراً بالخذروف (الدوامة) فمره أن يلعب به عدة ساعات من النهار فلا يلبث أن يمل ويترك هذه التسلية فإذا عرفت أن تلقي في نفسه عَلَى هذه الصورة كراهية الألعاب التي يحبها فصور لها العمل في صورة الأمر فلا تعتم أن تراه في الحال يرجع من ذاته فرحاً نحو الأمور التي تريد أن يحبها ولاسيما إذا عرضتها عليه في مظهر المكافأة لعمله للقيام بواجب اللعب الذي تأمره به وكيف يكون له من نفسه دافع وحماسة لطلب كتبه إذا وعدته بها جزاء تعجله في ضرب خذروفه خلال الوقت المعين للعب.
أراد روسو أن يعلم إميلاً أصل التملك فأودع في نفسه أن يزرع حديقة فعمل معه لا إجابة لهوى نفس إميل بل إجابة لهواه كما اعتقد إميل ذلك وأصبح معه كأنه أجير فدهش إميل عندما رأى البقلاء تنبت فقال له المربي إن هذا لك فإن هذه الأرض شيئاً منك لك أن تطالب، أياً كان ورأى البقلاء ذات يوم مقلوعة والأرض محروثة فصاح يا للمصاب ويا لليأس ولدى البحث ومشاركة الطفل في الماء تبين أن البستاني هو الذي قطع البقلاء ولما سئل عن ذلك أجاب أي حق لكم أيها السادة أن تتدعوا ما هو ملكي وتزرعوا في أرضي البقلاء بدل البطيخ غني أمنعكم فيما بعد أن تتنزهوا في حديقتي. وبهذا تم للمربي ما أراد من تعليم إميل معنى الملك.
ويرى بازدوو (أخلاقي ألماني 1790) أن لا تحدد حرية اللعب في الأولاد بل أن يعمل المعلم بحيث لا يختار الأولاد ألعاباً أخرى غير التي يريد أن يراهم يدرسونها وأن تحدد رغائب الولد وقمع نفسه عَلَى ما يكره فيمنع عنه الشيء ولا يقال له السبب في منعه فإذا كان لا يحب اللعبة الفلانية يكره عَلَى لعبها أو الأكلة الفلانية يجوَّع ولا يقدم له غيرها وهكذا حتى يعتاد الحرمان والتقشف وهذا ما سماه بالرجوع إلى الطبيعة بيد أن الواجب أن يجعل الأولاد أمام الحقائق وجهاً ولجه لا أمام أشباح مصنعة في التربية. والحقيقة وحدها حرية بأن تعرض عليهم ولها قوة النفوذ إلى عقولهم وأي فرق في التأثير بين تعليم ينظر فيه للأشياء كأنها ألفاظ وبين تعليم يبحث فيه تحت الألفاظ عن الأشياء فالقانون الذي يجب العمل به هو أن يكون المربي رجلاً ويحسن تربية الرجال أي الأطفال بتقريبهم من حجر(76/79)
الإنسانية.
اليمن والدولة العلية
من الأخبار التي لها علاقة كبرى بالاجتماع والعمران في هذه الديار الاتفاق الذي وقع بين الإمام يحيى إمام الزيدية في اليمن وعزت باشا قائد اليمن العام بعد أن تكبدت الأمة والدولة أموالاً وأرواحاً عشرات السنين واليك نص الوفاق ليحفظ في التاريخ وثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - يجري الوفاق بين حضرة سمو الإمام المتوكل عَلَى رب العالمين يحيى بن محمد بن حميد الدين وبين حضرة صاحب العطوفة قائد الحملة اليمانية عزت باشا المأذون من طرف الحكومة السنية عَلَى الوجه الآتي ويكون تصديقه من المرجع العالي وذلك فيما تصلح به أحوال جبال اليمن الآتي بيانها التي تجري فيها الآن إدارة الحكومة السنية العثمانية فعلاً وهي لواء صنعاء وما يحويه من أقضية صنعاء وعمران وحجة وكوكبان وحراز وما عدا صفعان وابن مقاتل ثم آنس وذمار وبريم ورداع ومن بلواء تعز من الزيديين إن كانوا نصف الناحية فصاعداً.
2 - يكون أجزاء الأحكام الشرعية بين المتحاكمين ممن يسكن البلدان المذكورة آنفاص في جميع المواد وإقامة الحدود عَلَى كل مرتكب لأسبابها كل ذلك عَلَى المذهب الزيدي ويكون تعيين الحكام وتبديلهم من قبل الإمام وذلك بأن يكتب الإمام للولاية كتاباً بتعيينهم وتطلب الولاية تصديق ذلك من الآستانة عَلَى أن لا تتأخر مباشرتهم الوظيفة عندما يكتب الإمام وتنفذ الحكومة جميع الأحكام التي تصدر من حكام الشرع ابتداءً ومن حكم الاستئناف إن لم يقنع المحكوم عليه وطلب الاستئناف.
3 - إذا لم تظلم أحد من محكمة الاستئناف واشتكى إلى الإمام يسأل سمو الإمام الحكومة عن حقيقة ذلك وإذا ظهر صدقه عَلَى صحته تظلمه أعيدت المحكمة.
4 - تؤلف محكمة الاستئناف في مركز الولاية من رئيس وأعضاء ينتخبهم الإمام وكما يصدق عَلَى تعيين الحكام يصدق عَلَى تعينهم.
5 - إذا حكمت محكمة الاستئناف عَلَى الوجه المتقدم ذكره بالقصاص الشرعي الذي هو إعدام شخص قاتل قد لاستحق الحكم عليه بالإعدام شرعاً فعلى الحاكم أن يسعى أولاً في(76/80)
طلب العفو عن القاتل من ورثة القتيل أو إرضائهم بقبول الدية من القاتل فإن لم يساعدوه رفعت المحكمة الاستئنافية الأمر إلى الآستانة وطلبت الإذن بإجراء القصاص بعد التصريح بأن الحاكم قد بذل مجهوده عند الورثة في طلب العفو وقبول الدية فلم يعفوه بشرط أن لا تزيد مدة صدور الإرادة في ذلك عَلَى أربعة أشهر من وقت إرسال تقرير المحكمة المذكورة.
6 - عند ظهور ما يستوجب تبديل الحاكم من سوء حاله فعلى الولاية أن تخبر الإمام بذلك مع تبيين الأسباب الموجبة لتبديله والدلائل الشرعية وعلى الإمام أن يبدل ذلك القاضي.
7 - للحكومة حق أن تنصب قضاة يحكمون بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بين من كان حنفياً من غير أهل جبال اليمن.
8 - إذا حصلت دعوى بين زيدي وآخر من أهل المذاهب الأخرى الإسلامية من غير أهل الجبال يكون الرجوع في تلك الدعوة إلى محكمة مختلطة تتألف من زيديين وحنفيين وإذا اختلفت القضاة في الحكم فالمعتبر حكم القاضي الذي من جهة المدعى عليه.
9 - للقضاة المعينين في النواحي والأقضية أن يتخذوا لهم معاونين ممن يثقون بهم تستخدمونهم في أمورهم والمحافظة عَلَى أنفسهم في إحضار الخصوم عَلَى شرط أن لا يزيد عددهم عن ستة رجال في النواحي وثلاثة في الأقضية وعلى والحكومة أن تؤدي لهم رواتبهم بصفة مباشرين أو شرطيين أما إذا كان هؤلاء غير كافين فالحكومة تمدهم بمعاونين من رجال الضبط بحسب ما تقتضيه الحال.
10 - ولاية الأوقاف والوصايا إلى الإمام.
11 - تعفو الحكومة السنية عن كل ما سبق من أهالي الجبال المذكورة من الجرائم والبقايا المقيدة إلى تاريخ هذا المقرر والمقصود من الجرائم هي السياسية التي وقعت أثناء الحرب وتفرعاتها.
12 - تعفو الحكومة السنية مثل عفوها عن أهل الجبال عن جميع السوابق والجرائم والبقايا في خولان ونهم وأرحب مطلقاً وتعفو عن مقطوعيتهم إلى مدة عشر سنين بشرط توقف أهل هذه الجهات عن كل ما يورث نقصاً في جانب مأموري الحكومة وعن التعرض لما يخل بالأمن العام في الطرق فإن حصل من أحد منهم أو جماعة منهم مخالفة لما ذكر(76/81)
أدب المخالف بخصوصه بما يستحقه شرعاًً وإذا صدرت المخالفة من أهل بلدٍ أو جهة بالاتفاق وثبت ذلك عليهم لزم تأديبهم وسقطوا من مزية استحقاق العفو فيما بعد.
13 - لا يطالب أحد من أهالي الجبال المذكورة بشيء غير التكاليف الشرعية الاعيار (بالخرص) والأغنام وبقية النعام بالنصاب الشرعي.
14 - إذا وقعت شكاية إلى الحكومة أو إلى حاكم الجهة المعين بنصب الإمام من ظلم الجباة والحراصين (العشارين) أو تبين من هؤلاء شيء من سوء الاستعمال لزم أولاً تحقق الأمر من جهة الحاكم وأكبر موظف في الحكومة المحلية وما ثبت بوجه شرعي كان الحكم به والإجراء من الحكومة.
15 - لا مانع لمن أراد أن يعطي الإمام شيئاً عن طيبة خاطر وذلك أن يسلمه لسمو الإمام رأساً أو إلى مأموري الأوقاف أو أمناء الأراضي المرتبطة بالإمام أو بواسطة مشايخ الدولة المختارين من الأهالي أو بواسطة الحكام.
16 - للإمام أن يأخذ بواسطة من يأتمنهم حاصلات الأراضي المرتبطة به وتأخذ الحكومة السنية أعشارها الشرعية.
17 - ناحية الحبل الشرقي التابعة لقضاء آتس المؤلفة من العزل التي هي جبل الشرق وينو قشيب وبنو اسعد والمناورة وبنو خالد وبنو سويد تعفى من جميع التكاليف مدة عشر سنين وبعد انقضاء هذه المدة فعليها أن تؤدي للحكومة الأعشار وسائر التكاليف الشرعية مثل غيرها من محلات الجبال.
18 - يطلق الإمام من عنده من رهائن جوار صنعاء وهي بنو الحارب وبنو حشيش وهمدان وبلاد البستان وسنحان وبلاد الروس وبنو بهلول وكذلك رهائن لأهل حراز وعمران.
19 - تأمين أصحاب الإمام وأصحاب الحكومة وسائر الناس في ذهابهم وإيابهم بتجارة أو غيرها وإذا اتهم أحد من الذين يدورون لاكتساب المعيشة بالسعي لما يسلب راحة الناس قبض عليه وسلم إلى حاكم الشرعية لتحقيق حاله.
20 - بعض إمضاء هذا الوفاق لا يتعدى فريق عَلَى الآخر في ما هو في إدارته الآن.
حرر في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف عربية(76/82)
وفي السابع من تشرين الأول سنة سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف رومية اهـ.
الإصلاح المدرسي
يشتغل علماء التربية في النمسا منذ سنين في إصلاح التعليم الثانوي والابتدائي فقرروا بعد البحث والنزر أن يكون الإصلاح أولاً بتطبيق التعليم عَلَى حاجيات الحياة الحديثة وأن تقل تمارين الذاكرة. وإذ كان التهذيب العام ينشئ شخصيات قوية فإن التهذيب الخاص هو الذي يمكن الطالب من أن يكون له ثمرة من تعليمه فالواجب الإقلال من العلوم وإن تضاعفت العناية بالعمليات وأن يقل الخضوع الأعمى وتكثر الحرية الذاتية والشخصية وبذلك يتيسر للطالب أن يكون لسرته عوناً بدىً من أن يكون مدة سنين عبئاً ثقيلاً عليها وهذا يتم بمعاونة ألياء التلامذة ومراقبتهم فيما يتعلمون فلا يتركون أولادهم وشأنهم يختارون من الصناعات ما يروقهم ومن المواد ما يسهل عليهم بل بل يهيئون ليتأتى لعقولهم أن تقبل أنواع البناء عليها للانتفاع منها.
أفكار الشبان
وضع أحد المولعين بالإحصاء سؤالاً عرضه عَلَى نحو ستمائة أستاذ من أساتذة الكليات في فرنسا وهو بأي رجل من رجال التاريخ أو أهل العصر الحاضر أو الأشخاص الذين تعرفهم تحب أن تتشبه وما السبب في ذلك. فأجاب عليه 1600 طالب عَلَى اختلاف تفسيرهم الموضوع المقترح فبعضهم اختار أن يتشبهة برجال من أهل محيطه مثل أحد أترابه أو أقربائه ولاسيما أخواله أو معلموه وبعضهم آثر أن يتعلم الصنعة الفلانية فمن هؤلاء 380 تلميذاً فهموا السؤال كذلك فاختار منهم 58 تلميذاً الجندية و50 الزراعة و37 الطب و30 الهندسة و40 التجارة وقليل منهم اختار التوظف والمحاماة والأدب. وستمائة طالب رأوا أن يكونوا كأحد رجال التاريخ فوزعوا أصواتهم بين أقدم رجال العصور الغابرة إلى عهدنا هذا فبدأوا بأورفيس وسقراط وانتهوا بلوتي ولبين وفيهم الشعراء والقصصيون والأمراء ورجال السياسة والقواد والأقوياء والبطال وكان ذلك لباستور 57 صوتاً ولنابليون 42 ولفكتور هوغو 36 وللاماتين 18 ولغاميتا 17 وقد تبين لجامع هذه الآراء التي لا تتجاوز أعمار كاتبيها الخامسة عشرة أنهم اختاروا من اختاروا التشبه بهم والانتساب لصناعتهم لما رأوه فيها من مظاهر النفع والبهرجة فالذين اختاروا الجندية(76/83)
أحبوها لأن فيها ثياباً براقة وخوذات لطيفة والذين اختاروا السياسة لأنها تؤهل صاحبها إلى أن يكون نائباً عن مقاطعته في مجلس النواب ويقبض 15 ألف فرنك مسانهة وقد عللوا في أجوبتهم السبب في إيثارهم للأشخاص والصناعات وكلها يستدل منها عَلَى نقص الروح الأدبية مما يكتبون وشيوع الأنانية وفقدان الغيرة والأماني الكريمة وقد علل جامع هذه الأجوبة قلة عناية الطليعة بالإنشاء بأن من العدل أن لا نطالب التلميذ بتجويد كتابته في عصر الماديات وعصر الطيارات والكهربائية وإن الروح الأدبية في الكتابة كانت تحمد في القرون الماضية أما نحن فإنا إذا وضعنا هذا السؤال عَلَى مثل أولئك التلامذة فلا شك أن معظم الأجوبة تكون مائلة إلى التطلب للمناصب الإدارية والجندية وقل من يحب أن يكون زراعاً أو تاجراً أو مهندساً أو معلماً لما وقر في نفوس القوم أن الشرف كل الشرف في خدمة الحكومة وما عدا ذلك فلا يخلو من غضاضة.(76/84)
العدد 77 - بتاريخ: 1 - 7 - 1912(/)
مدن العرب
يظن بعض الجاهلين أو المتجاهلين لحسنات المدنية الإسلامية أن العرب إبان عزهم لم يأتوا شيئاً يذكر في أعمال العمران وأن قصاراهم أن تلقفوا بعض المدن الفارسية واليونانية وتمتعوا بها قرون ثم نقلوها إلى من بعدهم من أمم المدنية الحديثة في الغرب يقول بعضهم أنهم كانوا في فن البناء دون الرومان وأن قصورهم الباقية لا تشهد بتفنن عجيب في الهندسة عَلَى أن الباقي من آثارهم إلى اليوم في الأندلس ومصر والشام والعراق وفارس والهند شاهد أبد الدهر بإبطال دعوى المدعين وما يحيك في صدورهم من الأهواء.
ولقد رأينا بعضهم يتوكأُون في الحط من أدار العرب في العمران عَلَى الفصل الذي عقده ابن خلدون في مقدمته في إن العرب إذا تغلبوا عَلَى الأوطان أسرع إليها الخراب الذي قال في آخره وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه وأقفر سكانه وبدلت الأرض فيه غير الأرض فاليمن قراراهم خراب إلا قليلاً من الأمصار وعمران العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع والشام لهذا العهد كذلك وأفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحقت بها وعادت بسائطه خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً تشهد به آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناءِ وشواهد القرى والمداشر.
هذا ما يحتجون به ولو علموا أن مقصد ابن خلدون بالعرب هنا البدو أو البادية أو العربان الرحل كما نسميهم لعهدنا لارتفع كل إشكال وإلا فإن المدن التي مدنها العرب أيام عزهم والأمصار التي مصروها والقرى التي عمروها لا تدخل تحت حصر في كل قطر دخلوه ولو أياماً مما يتيسر لغيرهم من الأمم كالترك مثلاً الذين حكموا الأقطار الواسعة العامرة بطبيعتها ستمائة سنة ولا تكاد تعرف مدينة لهم أسسوها ولا مواتاً أخصبوه ولا ماء أسالوه وشغلهم الشاغل حروب وغزوات هكذا مضوا أيام القوة وهكذا الحال زمن الضعف.
ومن قرأ كتب وصف البلاد تتجلى له مقدار عناية العرب ببناءِ مدنهم خذ لك عَلَى سبيل المثال ما رواه الأقدمون في كيفية بناء سامرا أو سُرَّ من رأى إحدى المن العباسية التي أنشئت عَلَى دجلة عَلَى مسافة ثلاثين فرسخاً من بغداد فقد قالوا أن السفاح أراد أن يبني سامرا فبنى مدينة الأنبار بحذائها وأراد المنصور بعد أن أسس بغداد بناءها فابتدأ بالبناء(77/1)
في البردان ثم بدا له وبنى بغداد وأراد الرشيد بناءها فبنى بحذائها قصراً وهو بإزاء أثر عظيم قديم كان للأكاسرة ثم بناها المعتصم ونزلها في سنة 221 وكان الرشيد قد حفر نهراً عندها سماه القاطول وأتى الجند وبنى عنده قصراً ثم بنى المعتصم أيضاً هناك قصراً ووهبه لمولاه أشناس فلما ضاقت بغداد عن عساكره وأراد استحداث مدينة كان هذا الموضع عَلَى خاطره فجاءه وبنى عنده سر من رأى بنى داراً وأمر عسكره بمثل ذلك فعمر الناس حول قصره حتى صارت أعظم بلاد الله وبنى فيها مسجداً جامعاً في طرف الأسواق وأنزل أشناس بمن ضم إليه من القواد كرخ سامرا وهو كرخ فيروز وأقام ابنه الواثق بسامرا حتى مات بها ثم ولي المتوكل فأقام بالهاروني وبنى به أبنية كثيرة وأقطع الناس في ظهر سر من رأى في الحيز الذي كان احتجره المعتصم واتسع الناس بذلك وبنى مسجداً جامعاً فأعظم النفقة عليه وأمر برفع منارة لتعلو أصوات المؤذنين فيها وحتى ينظر إليها من فراسخ فجمعوا الناس فيه وتركوا المسجد الأول واشتق من دجلة قناتين شتوية وصيفية تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامرا واشتق نهر آخر وقدره الدخول إلى الحيز فمات قبل أن يتمم وحاول المنتصر تتميمه فلقصر أيامه لم يتمم ثم اختلف الأمر بعده فبطل وكان المتوكل قد أنفق عليه سبعمائة ألف دينار.
ولم يبن أحد من الخلفاء يسر من رأى الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل فمن ذلك القصر المعروف بالعرس أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم والجعفري المحدث عشرة آلاف ألف درهم والغريب عشرة آلاف ألف درهم والشيدان عشرة آلاف ألف درهم والبرج عشرة آلاف ألف درهم والصبح خمسة آلاف ألف درهم والمليح خمسة آلاف ألف درهم وقصر بستان الإيتاخية عشرة آلاف ألف درهم والتل علوه وسفله خمسة آلاف ألف درهم والجوسق في ميدان الصخر خمسمائة ألف درهم والمسجد الجامع خمسة عشر ألف ألف درهم وبراكون للمعتز عشرين ألف ألف درهم والقصر بالمتوكلية وهو الذي يقال له الماحوزة خمسين ألف ألف درهم والبهو خمسة وعشرين ألف ألف درهم واللؤلؤة خمسة آلاف ألف درهم فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف ألف درهم.
وكان المعتصم والواثق والمتوكل إذا بنى أحدهم قصراً أو غيره أمر الشعراء أن يعمل فيه شعر فمن ذلك قول علي بن الجهم في الجعفري الذي للمتوكل:(77/2)
وما زلت أسمع أن الملو ... ك تبني عَلَى قدر أقدارها
وأعلم أن عقول الرجل ... ل تقضي عليها بآثارها
فلما رأينا بناء الإما ... م رأَينا الخلافة في دارها
بدائع لم تراها فارس ... ولا الروم في طول أعمارها
وللروم ما شيد الأولون ... وللفرس آثارهم أحرارها
وكنا نحس لها نخوة ... فطامنت نخوة جبارها
وأنشأت تحتج المسلمين ... عَلَى ملحديها وكفارها
صحون تسافر فيها العيون ... إذا ما تجلت لإبصارها
وقبة ملك كأن النجو ... م تضيء إليها بأسرارها
نظمن الفسافس نظم الحلي ... لعون النساء وأبكارها
ولو أن سليمان أدت له ... شياطينه بعد أحبارها
لا يقن أن بني هاشم ... تقدمها فضل أخطارها
وقال الحسين بن الضحاك:
سر من را أسر من بغداد ... قال عن بعض ذكرها العتاد
حبذا مسرح لها ليس يخلو ... أبداً من طريدة وطراد
ورياض كأنما نشر الزه ... ر عليها محبر الأبراد
وأذكر المشرف المطل من الت ... ل عَلَى الصادرين والوارد
وإذا روح الرعاء فلا تن ... س رواعي فراقد الأولاد
وله فيها وبفضلها عَلَى بغداد:
عَلَى سر من راَء المصيف تحية ... مجللة من مغرم بهواها
إلا هل لمشتاق ببغداد رجعة ... تقرب من ظليلهما وذراها
محلان لقى الله خير عباده ... عزيمة رشد فيهما فاصطفاهما
أفي كل يوم شفت عيني بالقذا ... حرورك حتى رابني ناظراهما
قال ياقوت ولم تزل كل يوم سر من رأى في صلاح وزيادة وعمارة منذ أيام المعتصم والواثق إلى آخر أيام المنتصر بن المتوكل فلما ولي المستعين وقويت شوكة الأتراك(77/3)
واستبدوا بالملك والثولية والعزل وانفسدت دولة بني العباس لم تزل سر من رأى في تناقض للاختلاف الواقع في الدولة بسبب العصبية التي كانت بيد أمراء الأتراك إلى أن كان آخر من انتقل إلى بغداد من الخلفاء وأقام بها وترك سر من رأى بالكلية المعتضد بالله أمير المؤمنين كما ذكرناه في التاج وخربت حتى لم يبق منها إلا موضع المشهد الذي تزعم الشيعة أن به سرداب القائم المهدي ومحلة أخرى بعيدة منها يقال لها كرخ سامرا وسائر ذلك الخراب يباب يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلها أحسن منها ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكاً منها فسبحان من لا يزول ولا يحول.
وذكر الحسن بن أحمد المهلبي في كتابه المسمى بالعزيزي قال وأنا اجترب بسر من رأى منذ صلاة الصبح في شارع واحد ما عليه من جانبيه دور كأن اليد رفعت عنها للوقت لم تعدم إلا الأبواب والسقوف فأما حيطانها فكالجدد فما زلنا نسير إلى ما بعد الظهر حتى انتهينا إلى العمارة فيها وهي مقدار قرية يسيرة في وسطها ثم سرنا بعد الغد عَلَى مثل تلك الحال فما خرجنا من آثار البناءِ إلى نحو الظهر ولا شك أن طول البناء كان أكثر من ثمانية فراسخ.
وكان ابن المعتز مجتازاً بسامرا متأسفاً عليها وله كلام منثور ومنظم في وصفها ولما استدبر أمرها جعلت تنقض وتحمل أنقاضها إلى بغداد ويعمر بها فقال ابن المعتز:
قد أقفرت سر من رأى ... وما لشيءٍ دوام
فالنقض يحمل منها ... كأنها آجام
ماتت كما مات فيل ... تسلُّ منه العظام
وكتب عَلَى وجه حائط من حيطان سامرا الخراب:
حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من ... حكم الخلائف آبائي عَلَى الأمم
فكل ما فيه مبذول لطارقه ... ولا ذمام به إلا عَلَى الحرم
وكتب عبد الله بن المعتز إلى بعض أخوانه يصف سر من رأى ويذكر خرابها ويذم بغداد وأهلها ويفضل سامرا: كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها واقعد جدرانها فشاهد اليأس فيها ينطق وحبل الرجاء فيها يقصر فكأن عمرانها يطوى وكأن خرابها ينشر وقد وكلت إلى الهجر نواحيها واستحث باقيها إلى فانيها وقد تمزقت بأهلها الديار فما يجب فيها(77/4)
حق جوار فالظاعن فيها ممحو الأثر والمقيم فيها عَلَى طرف سقر نهاره أرجاف وسروره أحلام ليس له زاد فيرحل ولا مرعى فيرتع فحالها تصف للعيون الشكوى وتشير إلى ذم الدنيا بعدما كانت بالمرأى القريب جنة الأرض وقرارة الملك تفيض بالجند أقطارها عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد كأن رماحهم قرون الوعول ودروعهم زبد السيول من خيل تأكل الأرض بحوافرها وتمد بالنقع سائرها قد نشرت في وجوهها غرراً كأنها صحائف البرق وأمسكها تحجيل كأسورة اللجين ونوطت عذراً كالشنوف في جيش يتلقف الأعداء أوائله ولم ينهض أواخره وقد صب عليه وقار الصبر وهبت له روائح النصر يصرفه ملك يملأ العين جمالاً والقلوب جلالاً لا تخف مخيلته ولا تنقض مريرته ولا يخطئ بسهم الرأي غرض الصواب ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشباب قابضاً بيد السياسة عَلَى قطار ملك لا ينتشر حبله ولا يتشظى عصاه ولا تطفى جمرته في سن شباب لم يجن مأثماً وشيب لم يراهق هرماً قد فرش مهاد عد له وخفض جناح رحمته راجماً بالعواقب الظنون لا يطيش عن قلب فاضل الحزم بعد العزم ساعياً عَلَى الحق يعمل به عارفاً بالله يقصد إليه مقراً للحلم ويبذله قادراً عَلَى العقاب ويعدل فيه إذ الناس في دهر غافل قد اطمأنت بهم سيرة لينة الحواشي خشنة المرام تطير بها أجنحة السرور ويهب فيها نسيم الحبور فالأطراف عَلَى مسرة والنظر إلى مبرة قبل أن تحث مطايا الغير وتسفر وجوه الحذر ومازال الدهر ملياً بالنوائب طارقاً بالعجائب يؤمن يومه ويغدر غده عَلَى أنها وإن جفت معشوقة السكنى وحبيبة المثوى كوكبها يقظان وجوها عريان وحصاها جوهر ونسيمها معطر وترابها مسك أذفر ويومها غداة وليلها سحر وطعامها هنيءٌ وشرابها مريءٌ وتاجرها مالك وفقيرها فاتك لا كبغداد كم الوسخة الومدة الهواء جوها نار وأرضها خبار وماؤها حميم وترابها سرجين وحيطانها نزور وتشرينها تموز فكم من شمسها من محترق وفي ظلها من غرق ضيقة الدار قاسية الجوار ساطعة الدخان قليلة الضيفان أهلها ذئاب وكلامهم سباب وسائلهم محروم وملهم مكتوم لا يجوز إنفاقه ولا يحل خناقه حشوشهم مسابل وطرقهم مزابل وحيطانهم أخصاص وبيوتهم أقفاص ولكل مكروه أجل وللبقاع دول والدهر يسير بالمقيم ويمزج البؤس بالنعيم وبعد اللجاجة انتهاءٌ والهم إلى فرجة ولكل سائلة قرار وبالله أستعين وهو محمود عَلَى كل حال.(77/5)
غدت سر من را في الغناء فيالها ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأصبح أهلوها شبيهاً بحالها ... لما سجتها من جنوب وشمأل
إذا ما امرؤٌ منهم شكا سوء حاله ... يقولون لا تهلك أسي وتجمل
ويطول بنا المقال إذا أردنا استقصاء أسماء المدن العربية كلها من شواطئ بحر الظلمات في الغرب إلى شواطئ المحيط الهندي في الشرق قال البلخي: ومن يحصي بناة المدن وواضعي القرى ومن يعلم مبادئ إنشائها إلا الله غز وجل وهبنا أخبرنا بمدن فارس عَلَى نحو ما نجد في كتبهم والمدن التي أُحدثت في الإسلام لقرب العهدة وجدة التاريخ فمن لنا بمدن مصر والهند والروم والترك وليس كل مدينة أو قرية مبنية منسوبة إلى بانيها لأنه قد تسمى المدينة باسم الباني أو باسم لها قبل حدوثها أو باسم ماء أو شجر أو شيءٍ ما وقد يجوز أن يجتمع قوم ما بموضع من المواضع فيصير ذلك مدينة فهذا يبين لك أن كل مدينة لا يوجب بانياً لها قاصداً إليها إلى أن قال والكوفة مصرها سعد بن أبي وقاص وكان بها رمل فسميت به ويقال لها الكوفان والبصرة مصرها عتبة بن غزوان وسماها بحجارة بيض كانت في موضعها وواسط بناها الحجاج ويقال لذلك واسط القصب ويقال بل توسعت الكوفة والبصرة وبغداد سميت باسم موضع كان قبلها ويقال لها الزوراء ويقال بغ اسم صنم وسمتها الخلفاء مدينة السلام وأول من بناها جعفر المنصور بنى بها قصر الخلد بناها في الجانب الغربي من دجلة وجعل حواليها قطائع لحشمه ومواليه وأتباعه كقطيعة الربيع والحربية وغيرها ثم عمرت وتزايدت فلما ملكها المهدي جعل معسكره في الجانب الشرقي فسمي عسكر المهدي وتزايدت بالناس والبناء.
قال البلخي: فاعلم أن المدن تبنى عَلَى ثلاثة أشياء عَلَى الماء والكلأ والحطب فإذا فقدت واحدة من هذه الثلاثة لم تبق. قال بعض الجغرافيين: مصرت البصرة عَلَى يد عتبة بن غزوان سنة أربع عشرة وعظم أمرها حتى سميت قبة الإسلام ولها نخيل متصلة من عبداس إلى عبدان نيف وخمسون فرسخاً ثم بني بعد ذلك واسط بناها الحجاج بن يوسف سنة ثمان وسبعين وهي جانبان بينهما جسر عَلَى دجلة طوله ستمائة وثمانون ذراعاً وفي الجانبين جامعان ولما استخلف الله من بني العباس السفاح بنى مدينة قريبة من الكوفة وسماها الهاشمية ثم رحل عنها إلى الأنبار فعمرها وسكنها ولم يزل بها إلى أن مات فلما(77/6)
ملك أخوه المنصور بنى عَلَى دجلة بغداد ويقال أن اسمها بك دار معناها دار العدل بالتركية كأنهم قالوا الحاكم العادل وسميت مدينة السلام لأنها يسلم فيها عَلَى الخلفاء ولأنها عَلَى نهر دجلة نهر السلام وفي تسميتها بغداد وبغذاد وبغداذ وكان ابتداء بنائها في سنة خمس وأربعين ومائة وتم بناؤها في سنة تسع وأربعين ثم ضاقت بالجند والرعية فبنى المهدي ولد المنصور مدينة تجاهها سماها الرصافة سنة إحدى وخمسين ولبغداد من المدن والبلاد صرصر وقصر ابن هبيرة مدينة بناها يزيد بن عمر بن هبيرة.
وإليك الآن شذرة قليلة مما عثرنا عليه بالعرض من مدن العرب وأمصارهم فمنها شيراز وهي مدينة إسلامية بناها محمد بن أبي القاسم الثقفي عَلَى أثر بناء قديم ومدينة قم كورها الرشيد وجعل لها اثنين وعشرين رستاقاً بنيت زمن الحجاج سنة ثلاث وثمانين وكان مكانها تسع قرى فجمعت وصارت محالاً وكان اسم إحدى القرى كميدان فأسقطوا بعض الحروف للإيجاز والاختصار وأبدلوا الكاف قافاً.
والمنصورية في الهند مدينة بنيت في صدر الإسلام وتسمى بالهندية تاميران كان موضعها غيضة يحيط بها خليج من نهر مهران. والحلة في العراق بناها سيد الدولة صدقة بن دبيس سنة خمس وأربعين وأرع مائة وتسمى الكوفة الصغرى لكثرة ما فيها من التشيع وأردوبل وتسمى أردبيل في بلاد أذربيجان ومصرت أيام الرشيد وإنما سميت باسم أردبيل بن أرميني ومراغة بناها محمد بن مروان بن الحكم وكانت قبل مراغة لدوابه فسميت بذلك ومرند بناها الأفشين عَلَى أثر بناءٍ قديم ومزيد بناها مراد بن الضحاك ومن بلاد أرمينية مدينة شكور وكانت مدينة قديمة أخربتها الصناوردية ثم جددها بغا سنة أربعين ومائتين وسماها المتوكلية. ومن مدن الجزيرة مدينة أذرمة بناها الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي. وبنى المنصور إلى جانب مدينة الرقة قصبة ديار مضر مدينة سماها الرافقة سنة خمس وسبعين فخربت الأولى وبقي الاسمان واقعين عَلَى مدينة واحدة ومنة مدن حضر موت في اليمن مدينة الشحر ولم تكن بمدينة وكان الناس ينزلون منه في أخصاص فبنى الملك المظفر صاحب اليمن مدينة به حصينة بعد سنة سبعين وتسعمائة. وكذلك بلاد المهرة ومصرها ظفار بناها أحمد بن محمد وسماها الأحمدية في سنة عشرين وستمائة.
وجدد قتيبة بن مسلم سمرقند وأحاط بها سوراً دوره سبعون ألف ذراع وذلك سبعة عشر(77/7)
ميلاً ونصف ميل هو بالفرسخ نحو ستة فراسخ ومدن بخارى كرمينية وبيكند والطواويس بناها قتيبة بن مسلم أيضاً. ومن مدن خراسان الجبلية ذوات الكور العريضة والأعمال الفسيحة سرخس وبورجان وسامان وبيورد مدينة وزوزن وكومن بناها عبد الله بن طاهر. كما مدينة شهرستان من أعمال خراسان وبنى في إقليم مازندران ودهسيان ثغراً عَلَى طرف مغارة كما بنى يزيد بن المهلب سنة ثمانٍ وتسعين مدينة بكر آباد في ذاك الصقع نفسه.
وبنى عمرو بن العاص الفسطاط (مصر) وبنى أحمد بن طولون القطايع ولما ملك العبيديون مصر بنى جوهر مولى المعز مدينة فوق القطايع وسماها القاهرة. وفي أفريقية مدينة المهدية بناها المهدي العبيدي سنة ست وثلاثمائة ومدينة بونة بنيت بعد الخمسين وأربعمائة ومدينة بجادته وهي مدينة حسنة البناء طيبة الفناء بناها الناصر بن علناس أحمد بني حماد سنة سبع وخمسين وأربع مائة. ومدينة وهران بنيت سنة تسعين ومائتين. ورباط الفتح في سلا من أعمال طنجة بناها عبد المؤمن وصر الفرج بناه المنصور من بني عبد المؤمن. والسوس الأقصى يقال أن أول من عمره وأجرى فيه الأنهار عبد الرحمن بن مروان بن الحكم وفيه مدن كثيرة وقصبتها تامدلت مدينة سهلية جبلية مسورة من بناءِ عبد الله بن إدريس. ومن بلاد السوس مدينة إيغلي بانيها عبد الله بن إدريس أيضاً ومراكش بناها يوسف بن تاشفين الصنهاجي سنة 490 ويلي مدوينة مراكش فاس وهي مدينتان إحداهما عدوت الأندلس بنيت سنة 292 والأخرى عدوة القرويين بنيت سنة ثلاث وتسعين ومائة. وسوق حمزة بناها حمزة بن سليمان العلوي وأشير بناها زيري والمسيلة بناها محمد بن عبيد الله المهدي المنعوت بالقائم وسماها المحمودية وقلعة بني حماد بن زيري والقيروان اختطها عقبة بن نافع ومدينة بطليموس بالأندلس بناها عبد الرحمن بن مروان ومدينة نطيلة بنيت أيام الحكم بن هشام والهارونية من أعمال الفاكية بناها هارون الرشيد.
وسلمية بالشام عَلَى سيف البرية بناها عبد الله بن صالح وعلي بن عبد الله بن عباس وطرابلس المستجدة بعد طرابلس الشام بجيش المسلمين في مملكة الملك المنصور وسيف الدين قلاوون الصالحي بنيت في سفح ذيل من أذيال جبل لبنان بكورة من أكوار طرابلس بعدها عن طرابلس القديمة الخربة نحو من خمسة أميال عَلَى شاطئ نهر يجري إلى البحر وهي المدينة المعروفة اليوم البعيدة عن الميناء المعروفة بمدينة طرابلس الشام والممصر(77/8)
لمدينة الطرسوس معاوية بن أبي سفيان في أيام عثمان بن عفان حين غزا قبرص ومدينة عكا بناها عبد الملك بن مروان ومرعش من بناء خالد بن الوليد وجددها مروان ابن الحكم ثم المنصور بعده وسميت الثغور لأن المتطوعين من أهل الحوزة كانوا يرابطون فيها ويغزون مدن الروم. وأذنة (أطنة) بناها الرشيد عَلَى نهر سيحان.
وطرسوس بنيت في أيام هارون الرشيد والمصيصة بناها المنصور وعسكر مكرم نزلها مكرم بن مطرف اللخمي فصارت مدينة ونسبت إليه.
ومدينة الأقلام بأفريقية مدينة أحدثها آل إدريس وسيله مدينة أحدثها علي ابن الأندلسي أحد خدم القائم بحانه وهي المرية من الأندلس محدثة ومدينة الزهراء بناها عبد الرحمن بن محمد خط فيها الأسواق كما قال ابن حوقل وابتنى الحمامات والخانات والقصور والمنتزهات واجتلب إلى ذلك بناء العامة وأمر منادية بالنداء إلى من أراد أن يبني داراً ويتخذ مسكناً بجوار السلطان فله أربعمائة درهم فتسارع الناس إلى العمارة فتكاثفت وتزايدوا فيها فكادت أن تتصل الأبنية بين قرطبة والزهراء.
هذا ما التقطناه في هذه العجالة ولعل بعض الباحثين يتوسعون في هذا الموضوع في رسالة عَلَى حدة يذكرون فيها جميع ما أقامه العرب من الأمصار والقرى وأعمال العمران كالطرق والجسور والأنهار والترع وغير ذلك مما يفيد في تصور المدينة العربية ويدعو الأخلاف إلى التطريس عَلَى آثار الأسلاف.(77/9)
اللغة الانتقادية
2
حرف الشين
ويقولون أشغلني الأمر ص شغلني بغير ألف ويقولون الشفة بكسر الشين وتشديد الفاء ص بفتح الشين وتخفيف الفاء ويقولون شتان ما بينهما ص شتان ما هما وشتان ما عمرو وأخروه فأما إنشادهم:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
فإنما هو بيت مولد وليس بحجة عَلَى الفصحاء وبيت الأعشى يقضي عليه وهو قوله:
شتان ما يومي عَلَى كورها ... ويوم حيان أخي جابر
ويقولون دابة شموص بالصاد ص شموس بالسين وهي بينة الشماس إذا كانت تقمص عن الإسراج والركوب ويقولون أشرقت الشمس إذا طلعت وهو غلط وإنما يقال أرشقت إذا أضاءت وصفت وشرقت بغير ألف إذا طلعة.
قلت ولا فرق بينهما عند بعض أهل اللسان ويقولون شلت يده بضم الشين ص بفتح الشين قلت لا مانع من أن نقوله بالضم مبنياً للمفعول ومثله أشلت بالألف.
ويقولون أشحنت السفينة بالألف ص شحنت بغير ألف ويقولون في أذن الجارية شنف بضم الشين ص بفتحها ويقولون شويت اللحمة حتى اشتوى ص حتى انشوى وإنما المشتوي الرجل الذي يشوي قلت وقد دون الحرفان معاً في هذا المعنى.
ويقولون في يد فلان وفي رجله شقاق وذلك غلط إنما الشقاق داءٌ يكون في حوافر الفرس والدواب ص في يد فلان ورجله شقوق ويقولون لما يكون في الحائط وغيره من صدع شق بكسر الشين ص بالفتح فأما الشق بالكسر فهو نصف الشيءِ والشق أيضاً المشقة ويقولون شللت الثوب بالتشديد إذا خطته خياطة ضعيفة ص شللت أشله شلاً بالتخفيف.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون شخص شهق البصر بكسر الخاء وشهق الرجل بكسر الهاء ص فتحها.
قلت فأما في شهق فالكسر مدون في المعاجم مثل الفتح ويقولون شراع السفينة بضم الشين ص الكسر ويقولون الشجنة بفتح الشين ص بكسرها. قال شيخنا أبو المنصور هو اسم(77/10)
الرابطة من الخيل في البد من أولياء السلطان لضبط أهله وليس باسم الأمير أو القائد كما تذهب إليه العامة والنسبة إليه شجني وهذه الكلمة عربية صحيحة واشتقاقها من شجنت البلد بالخيل إذا ملأته بها ويقولون للذي تأمره بالشم شم بضم الشين ص بفتحها ويقولون شفعت الرسولين بثالث وهو خطأ ص شفعت الرسول بآخر لأن النفع في كلامهم بمعنى الاثنين ويقولون للمريض أشفاك الله وهو فساد للمعنى المقصود لأن معنى أشفاك ألقاك عَلَى شفى هلكة ص شفاك الله ويقولون للكساء الذي يطرح تحت السرج ويلقى طرفه إلى كفل الدابة (الكبش) وهو من تعريب المولدين ولم تعرف العرب ذلك ص الشليل ويقولون في تصغير الشيء (شوي) ص شيئي.
حرف الصاد
ويقولون سنجة الميزان بميم مكسورة ص صنجة الميزان بصاد مفتوحة وهو سماخ الأذن بالسين ص بالصاد ويقولون أصرفت الصبيان عن المكتب بالألف ص بغير ألف ويقولون امرأة صبورة ص صبور بغير هاءٍ ويقولون الصندوق بفتح الصاد ص بضمه.
قلت الفتح وارد ولكنه غير مشهور ويقولون بالسين أيضاً.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون رجل صعلوك بفتح الصاد ص ضمها ويقولون الصحرا مقصور ص مدها ويقولون الصفر عن النحاس بكسر الصاد ص بضمها.
قلت حكى الكسر أبو عبيدة وحده وهو غير معروف إنما هو الكسر بمعنى الخالي يقال مكان صفر من أهله أي خالٍ وهذا بالكسر لا غير والظاهر أن (الفيروز آبادي) أخطأ إذ ظن أنه يضم بمعنى الخالي والصفر يقع عَلَى النحاس الأحمر واللاطون وهو ما يسميه العراقيون (الشبه) والشبه أيضاً عربية وهو بالفارسية (برنج).
حرف الضاد
ويقولون فلان لا يملك ضراً ولا نفعاً ص ضراً بفتح الضاد لا بالضم.
قلت ويقال أنه يضم ويقولون بفلان أي ببدنه ضعف بالفتح ص ضعف بضم الضاد.
قلت الضعف في الرأي مفتوح وفي البدن مضموم ويقولون ذهب مال فلان ضياعاً بكسر الضاد ص بفتحها قلت بالكسر جمع ضائع.(77/11)
ويقولون ضمر البطن بفتح الضاد وضم الميم ص فتح الضاد والميم قلت والأول وارد أيضاً.
ويقولون الضفدع بفتح الضاد والدال ص كسرهما قلت وصحح بعضهم فتحها وضم الضاد وفتح الدال.
والضبع بضم الباء وهو اسم للأنثى والذكر ضبعان والعامة تقول الضبع بتسكين الباء وإنما الضبع (بالتسكين) العضد ومنهم من يقول في الأنثى ضبيعة.
قلت وعن الصاحب في الأنثى ضبعة وضبعانة وقد جمعوا الأنثى والذكر عَلَى ضباع وهناك جموع أخرى. ويقولون قوى الله ضعفك وهذا دعاء عَلَى الشخص لا له ص قوى الله منك ما ضعف.
حرف الطاء
ويقولون طنفسة بضم الطاء والفاء ص طنفسة بكسرهما ويقولون امرأة طاهرة من الحيض وطالق من الطلاق بالهاءِ فيهما ص طالق وطاهر بغير هاء ويقولون طاطيت رأسي بالياء ص بألف مهموزة ويقولون الطيرة بإسكان الياء ص الطيرة بفتح الياء.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون أعوذ بالله من طوارق الليل والنهار وهو غلط لأن الطروق الإتيان بالليل خاصة ويقولون قرأت السبع الطوال (وهي سور القرآن الطويلة) بكسر الطاء ص بضمها وإنما الطول بالكسر اسم للحبل ويقولون طوبيك وطوباك ص طوبى لك.
قلت قيل أن طوباك لغة وعلى هذا ينزل قول القائل:
طوباك يا لينتي إياك طوباك
وهو فيما أذكر مولد وطوبى قيل أنها مصدر وقيل أنها تأنيث الأطيب وهو عند سيبويه اسم حامل للدعاء وذكر فيروز آبادي أنها جمع الطيبة وليس صحيح كما قال ابن سيدة وطيبى لغة بعض العرب وهنا قصة ممتعة تدل عَلَى شدة تمسك العرب العرباء بمصطلحاتهم ولغاتهم حتى كان وراءهم دافعاً فطرياً يحجرهم عن التفوه بما لا يعرفون. قال أبو عمرو ابن العلاء العالم المتوفى سنة أقرأ علي أعرابي بالحرم (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طيبى لها) قلت له طوبى هم قال طيبى فعدت فعاد فلما طال علي قلت طوطو قال طي طي(77/12)
فتأمل ويقولون عَلَى وجهه طلاوة بفتح الطاء وهي لغة ص بضمها.
حرف العين
ويقولون أعبث الرجل بألف ص يغير ألف ويقولون في العود والحائط عوج يكسر العين ص عوج يفتح العين قس كل ما ينتصب وإنما تكسر العين في قولهم في دينه عوج وفي الأرض أيضاً بالكسر ويقولون هي عصاتي بتاء قبل الياء ص هي عصاي وزعم الفراءُ أن أول لحن سمع في العراق (هي عصاتي) وقالوا هذه عجوزة بإثبات الهاء ص بغير هاءٍ ويقولون عرج (من العرج) الرجل بفتح الراء ص بكسرها ويقولون عرج بالسلم بكسر الراء ص فتحها لا غير ويقولون عمدت كذا إذا قصدته بكسر الميم ص فتحها وإنما يقال عمد بكسر الميم في قولك عمد البعير إذا اشتكى وعمد سنامه.
قلت العمد في البعير أن ينشدخ سنامه ويقال للمحب عميد ومعمود كم ذلك ويقولون عجم الزبيب وغيره بإسكان الجيم ص عجم الزبيب بفتح الجيم وإنما العجم بإسكان الجيم صغار الإبل ويقولون ماله دار ولا عقار بكسر العين ص بفتح العين والعقار النخال يقال أيضاً بيت كثير العقار (وقد يضم) إذا كان كثير المتاع ويقولون عفيت عنه بالياء ص بالواو ويقولون عبرت الرؤيا بالتشديد ص بتخفيفها.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون استكثر من الزاد خوف العوز بكسر العين ص بفتحها ويقولون رجل أعزب ص عزب ويقولون كثرت عيلة فلان ص كثرت عيالة والعيلة الفقر ومنهم من يقول عائلته وليس بشيءٍ ويقولون للمرأة أيام البناء عروس ص أن يقال للمرأة والرجل أيضاً عروس وفي أمثال العرب - كاد العروس أن يكون أميراً - قال الشاعر:
وهذي عروس بالميامة خالد
ويقولون في تصغير عين عوينة ص عيينة ويقولون عذع لغة عمرانية ص عبرانية وقال عايرت الميزان والمكيال وعاير ميزانك ومكيالك ولا تقل عيره وهم المعايرون ولا تقل المعيرون وقل عيرت فلاناً كذا ولا تقل بكذا قال ليلى:
وعيرتني داءً بأمك مثله ... وأي حصان لا يقال له هلا
ويقولون لجميع الأغاني عزف ص أن يقال لما فيها عود عزف وإذا لم يكن لم تقل لها(77/13)
عزف ويقولون لجميع أوكار الطائر عش ص إذا كان من عيدان مجموعة فهو عش وإن كان نقباً في جبل أو حائط فهو وكر.
حرف الغين
ويقولون هو منديل الغمر بإسكان الميم ص بفتح الميم. قلت والغمر الدسم ويقولون أغاظني الشيء وقد اغتظت يا هذا بألف ص بغير ألف.
قلت وبالألف موجودة يقال أغاظه وغايظه وغيظه أيضاً. ويقولون فلان كثير الغيبة بفتح الغين ص بكسرها ويقولون يغير عَلَى أهله وهو كثير الغيرة بكسر الغين ص يغال بألف وهو كثير الغير بفتح الغين.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون الغضارة بكسر الغين والغسول بضم الغين ص فتحهما ويقولون غربت الشمس بضم الراء ص فتحها ويقولون للمطر في أي وقت جاء غيث أو مطر ولا مفرق ص إن كان في إبانه فهو غيث وإن لم يكن فهو مطر. قلت الظاهر أن المطر اسم عام يقع عَلَى السحاب في جميع أوقاته أما الغيث فقد يقال أنه المطر الذي يغاث به البلاد في إبان الحاجة إليه.
حرف الفاءِ
ويقولون فقعت عينه وفقيتها ص فقأت عينه بالهمزة ويقولون فالّ مشدد اللام بغير ألف ص وهو الفأل مخفف مهموز. قلت فعله مهموز في الأصل أما الاسم فكثيراً ما يحذف الهمز منه. ويقولون فكاك الرقبة بكسر الفاء ص فتحها ويقولون فصح النصارى بفتح الفاء إذا أكلوا اللحم وأفطروا ص بالكسر.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون هي الفلكة (الفلكة تل صغير مستدير) بكسر الفاء ص فتحها والفص أيضاً مفتوح الفاء وكسره لغة رديئة.
قلت الشائع اليوم ضم فائه وهي لغة أيضاً إلا أن الأفصح الفتح ففاؤه إذاً مثلثة.
ويقولون الفلفل بكسر الفائين ص ضمهما. قلت وبكسرهما مدون أيضاً.
ويقولون فلسطين بفتح الفاء ص كسرها ويقولون فركت المرأة زوجها بفتح الراءِ ص(77/14)
بكسرها.
قلت إنما بالفتح شاذ وليس غلطاً. والفيء لا يكون إلا بعد الزوال وأما الظل فمن أول النهار إلى آخره والعامة تسمي ألفي ظلاً ولا تفرق ويقولون لبائع الفاكهة فاكهاني والعرب لا تلحق الألف والنون في النسبة إلا في أسماء مخصوصة زيد فيها للمبالغة كما قالوا للعظيم الرقبة رقباني وللكثيف اللحية لحياني ص فاكهي.
حرف القاف
ويقولون قتل فلان شر قتله بفتح القاف ص بكسر القاف والمراد الحالة لا المرة الواحدة فالحالة كالركبة والجلسة والأكلة والمرة الواحدة لا تكون إلا مفتوحة ويقولون قد أخذته قصراً بالصاد ص قسراً بالسين ويقولون قنع الرجل بفتح النون إذا رضي ص قنع بالكسر يقنع إذا رضي وقنع (بالفتح) إذا سأل.
قلت الفيروز آبادي فتح عين الفعل في الاثنين وهو خطأ عَلَى الظاهر فإنك تقول قنع قنوعاً إذا سأل بالفتح وقنع قناعة بالكسر إذا رضي.
ويقولون أقريت الضيف بألف ص بغير ألف. قلت قريت الضيف واقتريته أيضاً لا أقريته.
ويقولون قد قصر الصلاة بالتشديد ص قد قصر من الصلاة بتخفيف الصاد.
ويقولون قسطنطينية بتشديد الياء ص بتخفيفها وهي قوارة القميص بضم القاف والتخفيف وكذلك قياس كل ما كان فضله كالقصاصة والقراضة والعامة تفتح القاف وتشدد الواو.
قلت قوارة الثوب ما تقطعه مستديراً منه تقول قاره وقوره وكذلك أقتاره. ويقال للأنبوبة المبرية قلم لأنها قلمت أي قطعت فإذا لم تبر لم تسم قلماً بل يقال أنبوبة والعامة تسميها قلماً كيف كانت ويقولون للمسافرين الراجعين منهم والمارين (الذاهبين) قفل ص يقال قفل للراجعين خاصة.
قلت يعلق في الذهن من الشوارد أنهم يقولون للمسافر الذاهب قافل تفاؤلاً بقفوله أي رجوعه.
ويقولون القفاء ممدودة ويجمعونه عَلَى أقفية وهو غلط ص قفا مقصور وجمعه أقفاءٌ ممدود.
قلت لم يذكر بعض أهل اللسان جمعه عَلَى أقفية ولا لوح إلى مده كما في الرسالة ورسمه آخرون ممدوداً أثناء الكلام عليه بعد ذكره مقصوراً في العنوان والظاهر جواز جمعه في(77/15)
الكثرة عَلَى أقفية أيضاً أما مده فإما أن يكون قليلاً أو ضعيفاً مأخذه.
ويقولون هذا قوم أمرك بفتح القاف ص بكسرها ويقال ما فعلت هذا قط تريد به الماضي لأنه من قططت أي ما فعلته فيما انقطع من عمري ولا أفعله أبداً والعامة تقول في المستقبل لا أفعل هذا قط ولا افعله أبداً وهو غبط وقط هذه مشدودة الطاء فأما قط فهي اسم مبني عَلَى السكون مثل قد ومعناها حسب وربما استعملت العامة كل واحدة في معنى الأخرى.
حرف الكاف
ويقولون الكتان بكسر الكاف ص بالفتح ويقولون كافيت الرجل عَلَى ما فعله بالياءِ بغير همز ص مهموز ويقولون كلوه بالواو ص بالياءِ مكان الواو.
ويقولون أكببت الرجل لوجهه ص كبيته بغير ألف.
قلت لا يصح عند كثير من أهل اللسان أن تقول أكبه لوجهه كما تقول كبه لوجهه بمعنى ألقاه عليه فتعديه بهذا المعنى وإنما تقول أكب عَلَى الشيءِ أي لازمه وأقبل عليه وهو قاصره غير متعمد أو تقول كببته لوجهه فأكب لمطاوعة الفعل وهذا قاصر أيضاً وقيل أن هذا الحرف من النوادر التي يعدى ثلاثيها (كب) دون رباعيها (أكب) ومجد الذين الفيروزبادي أجاز أن يقال كبه وأكبه أيضاً أما في القرآن فلم يرد الأكبه وجاء في بعض الروايات (فأكبوا رواحلهم) فقيل أن الصواب (كبوا) فالقدر الذي لا نشك فيه أن كبه أفصح من أكبه إن لم نقل أن الثانية من الأغاليط.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون أكرة بألف ص بغير ألف (كرة). قلت إنها في القاموس لغاية فيها وكذلك هي في كثير من كتب الفلسفة القديمة. ويستعملون في الجمع (أكر) أكثر من (كرات).
وتول أكريت النهر أكريه وأكريت الدار أكريها والعامة تقلب هذا فيقولون أكريت النهر وكريت الدار ويقولون كفة الميزان بفتح الكاف ص بكسرها.
قلت قيل أن الفتح لغة وقال الأصمعي كل مستدير فهو كفة بالكسر ككفة الميزان وكل مستطيل فهو كفة بالضم ككفة الثوب وهي حاشيته. وكفة كل شيءٍ حاشيته.
ويقولون للإناءِ من الزجاج كأس وإن لم يكن فيها شراب ص إنها لا تسمى كأساً إلا إذا كان فيها شراب فإن لم يكن فيها فهو قدح وزجاجة وقد تسمى قدحاً وزجاجة وإن كان فيها(77/16)
شراب قال حسان:
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
ولم يسموها كأساً إلا وفيها شراب سموا الشراب كأساً قال الأعشى:
وكاس شربت عَلَى لذة ... وأُخرى تداويت منها بها
ويقولون اللهم صل عَلَى محمد وعلى آل محمد وعلى كافة أصحابه وهو غلط لأن كافة ما يكف الشيء في آخره كقولك جاء الناس طراً والصحيح أن يقال عَلَى آله وأصحابه كافة وفي العامة من يقول حدثني كافة الناس والصحيح حدثني الناس كافة ومنهم من يقول حدثني الكافة وهو غلط لأن كافة لا يدخلها ألف ولام.
حرف اللام
ويقولون لص بكسر اللام ص بفتح اللام. قلت الظاهر أن الأفصح الفتح قال بعضهم وبالضم لغة وفي القاموس ويثلث.
ويقولون لثة بتشديد الثاءِ وفتح اللام ص بكسر اللام وتخفيف الثاء وجمعها لثاث ويقولون لهوت عن الشيء إذا تركته ص لهيت بالياء لا بالواو وإنما هو بالواو من اللهو لا غير ويقولون لجيت إليه بالياء ص لجأت إليه بالهمزة ويقولون للشطرنج والنرد لعبة بكسر اللام ض بضم اللام ويقولون قد لبست عليه الأمر بتشديد الباء ص بالتخفيف.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون لمحت الشيء بكسر الميم ولهث الكلب بكسر الهاء وهو في ليان من العيش بكسر اللام ص فتحهن قلت الليان الرخاءُ والرفاهية. ويقولون لثمت فاهاً بفتح الثاء ولججت يا هذا بفتح الجيم ولحست الإناء بفتح الحاء ولعقت العسل بفتح العين ص كسرهن ويقولون اللحاق بكسر اللام ص فتحها وهي لحمة الثوب بفتح اللام والعامة تضمها أم لحمة النسب فبالضم ويقولون لسعته الحية والعقرب ولا يفرق ص لسعته لكل ما يضرب بذنبه كالزنبور والعقرب فأما ما يضرب بفيه كالحية يقال لها لذع ويقال لما يأخذ بأسنانه كالسبع والكلب نهش ويقولون فعلت هذا بعد اللتيا والتي بضم اللام ص فتحها لأن العرب إذا صغرت الذي والتي أقرت فتحه أوائلها وزادت ألفاً في أواخرها عوضاً عن ضم أولها (للتصغير) فقالوا في تصغير الذي والتي اللذيا واللتيا وفي ذاك وذلك وذيالك ويقولون لعل فلاناً قد قدم صلعله(77/17)
قد يقدم لأن لعل لترقب الآتي المستقبل.
ويقول بعض من يتفاصح مثل بغداد والبصرة (ما بين لابتيها مثل فلان) وهذا خطأ وإنما ذاك في المدينة لأنها بين لابتين واللابة الحربة وهي الأرض ذات الحجارة السوداء.
حرف الميم
ويقولون حديث مستفاض ص مستفيض ويقولون حديث مقارب بفتح الراء ص بكسرها. قلت والمقارب من الحديث والدين والرأي وما أشبه ما كان بين الجيد والرديء والمقبول والمردود.
ويقولون مرأة بلا همز ص بالهمز والجمع مرأتي ويقولون ماء مالح ص ملح ويقولون سمك مالح ص مليح ومملوح ويقولون مغزل للذي تغزل به المرأة بفتح الميم ص بكسرها ويقولون ملحفة ومروحة ومطرقة بفتح الميم ص بكسرها ويقولون ميزر بفتح الميم وإطراح الهمز ص بكسر الميم وبالهمزة ويقولون للمقراض المقص بفتح الميم ص بكسرها ومنهم من يضمها فيقول المقص.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون المنارة والرقاة بكسر الميم ص فتحها والمريخ بمسر الميم والعامة تفتحها والمعدن بكسر الدال ومسست الشيء بالكسر (وبالفتح أيضاً). ويقولون المطران بكسر الميم ص بضمها قال ابن السكيت يقال أخذ في فؤادي مغص (بسكون الغين) ولا تقلبها بتحريك الغين ويقولون المروحة بفتح الميم ص بكسرها ولا تفتحها إلا أن تريد الموضع الذي تخترقه الرياح قال الشاعر:
كان راكبيها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل
ويقولون للذي يستصبح عَلَى أبواب الملوك منيار ص منوار. لأنه من النوار أو من النار ويقولون الميضة لما يتوضأُ منه وفيه ص ميضأة ويقولون طريق مخوف ومرض ومخوف ص مرض مخيف وطريق مخوف ويقولون (المارستان) بكسر الراء ص بفتحها وبعضهم يتفاصح فيقول النمايارستان وهو أعجمي عرب.
ويقولون للشيءِ المبسوط مبرطح ص مفلطح ويقولون مهندز بالزاء ص بالسين لا غير قال شيخنا أبو المنصور وهو مشتق من الهنداز فصيرت الزاءُ سيناً لأنه ليس في كلام العرب(77/18)
زاءٌ بعد الدال والاسم الهندسة ويقولون الذي للفنون من العلوم متفنن ص مفنن وقد افتن أخذ من كل فن والمتفنن الضعيف وقد تفنن أخذ من الفن وهو ما لان وضعف من أعلى الغصن ويقولون ملاك الدين الورع بفتح الميم ص بكسرها ويقولون هذا شيء معيوب ومثبوت ص معيب ومثبت وشيءٌ مصلح ص مصلح. وقلت متعب والعامة تقول متعوب ورجل مبغوض ص مبغض ويقال خاتم مصاغ وشعر مقال وبيت مزار وفرس مقاد في الجميع أن تجعل موضع الألف واواً ويقول رجل مهيوب يهابه الناس ص مهيب وإنما الهيوب الجبان الذي يهاب من كل شيءٍ ويقولون فلان أعله الله فهو معلول وذلك خطأ وإنما يقال عله فهو معلول إذا سقاه العلل وهو الشرب الثاني ص أعله فهو معل ويقولون فلان قد جدر (بالتضعيف) فهو محدور لتكثير الفعل وتكريره وهو خطأ فإن الجدري داءٌ لا يتكرر ص جدر بالتخفيف ويقولون مقص ومقراض للحديدتين يقص بهما ويقرض ص المقصان والمقراضان.
وحكى شيخنا أبو المنصور اللغوي أن النضر مرض فدخل عليه الناس يعودونه فقال له رجل من القوم مسخ الله ما بك فقال لا تقل مسخ وقل مصخ ألم تسمع قول الأعشى:
وإذا الخمرة فيها أزبدت ... أفل الإزباد فيها فمصخ.
فقال الرجل لا بأس فيها بالسين فإنه قد يعاقب الصاد فيقوم مقامها فقال النضر فينبغي أن نقول لمن اسمه سليمان صليمان ونقول قال رصول الله.
ثم قال النضرة لا يكون إلا في أربعة مواضع إذا كانت مع الطاء كسطر وصطر ومع الخاء كسخر وصخر ومع القاف كسقب وصقب ومع الغين كصدع وسدغ فإذا تقدمت هذه الأحرف السين لم يجز ذلك فلا يجوز أن نقول خصر وخسر وقسب وقصب وطرس وطرص.
حرف النون
ويقولون أنعشه الله رفعه بالألف ص بغير ألف. قلت أنعش مثبت عند بعض اللغويين ولكن الجوهري يأباه.
ويقولون كأنجع فيه الدوآء بالألف ص نجع بغير ألف. قلت أنجع مضعفاً وأنجع أيضاً مدونان.(77/19)
ويقولون قد نشوت في نعمه بالواو ص نشيت بالياء ويقولون مكان ندي بتشديد الياء ص ندٍ منقوص ويقولون نصحتك ص نصحت لك. قلت إنما نصحت لك أفصح وإلا فإن نصحتك موجودة وكثير استعمالها.
ويقولون النكس في المرض بفتح النون ص ضمها ويقولون أبو نواس بفتح النون وتشديد الواو ص ضم النون وتخفيف الواو ويقولون نثر كنانته ص باللام (نثل) ويقولون جاءَ نعي فلان بسكون العين ص كسر العين وتشديد الياء وإنما النعي بتسكين العين هو مصدر نعيته نعياً ويقولون نشقت ريحاً بفتح الشين ص بكسرها ويقولون مائة ونيف بتخفيف نيف ص تشديده. قلت قيل أنه قد خفف وقيل هو لحن عند الفصحاء ويقولون نبحت عليه الكلاب ص نبحته الكلاب.
حرف الواو
ويقولون أوعدت الرجل يريدون الخير ص بغير ألف ويقولون الوداع بكسر الواو ص بفتحها ويقولون أوعيت العلم إذا حفظته ص وعيته بغير ألف ويقولون في صدره عَلَى وغر بتحريك الغين ص إسكانها قلت ويحرك.
ويقولون للحمل وقر بفتح الواو ص بكسرها وإنما الوقر بفتح الواو الثقل.
الزائد من كلام ابن الجوزي
ويقولون الوقود يضم الواو يعنون الحطب ص بفتحها ويقولون هذا الإناء قد وسع الطعام بفتح السين ص كسرها ويقولون لدويبة اصغر من الضب الورن بالنون وهو خطأ باللام وجمعه الورلان وقرأت عَلَى شيخنا أبي المنصور قال لم يجتمع الراء مع اللام من لغة العرب إلا في حروف يسيرة إحداها وارول جبل معروف وجرل وهي الحجارة المجتمعة.
حرف الهاء.
ويقولون هجيب الرجل بالياء ص بالواو ويقولون الناس في هرج بفتح الراء ص بساكنها فأما الهرج بفتح الراءِ فهو أن يسدر البعير من شدة الحر وشدة الطلاء بالقطران.
الزائد من كلام ابن الجوزي.
ويقولون هاتم وهاتموه ص هاتوا وهاتوه ويقولون فيما يشيرون إليه هو ذا ص هاهو ذا.
قلت ويغلط كتاب العصر هنا كثيراً.(77/20)
ويقولون هوى الشيء إذا هبط ص أن يقال هوى الشيء سواء كان هابطاً أو صاعداً قال الشاعر:
بينما كنا في ملاكة فالق ... اع سرعاً والعيس تهوي هوياً
خطرت خطرة عَلَى القلب من ذكر ... اك وهنك فيما استطعت مضياً
قلت للشوق إذ دعاني لبيك ... وللحاديين ردوا المطيا
قلت يقال أن الهوي بالفتح للصعود وللهبوط أم البيت فيشبه أن لا يكون شاهداً في المقام لأن الهوى في السير المضي فيه دون قيد إصعاد أو انحدار.
حرف الياء.
ويقولون نظرت شملة ويمنة ص يمنة وشامة ويقولون فلان لا يحلي ولا يمري ص لا يحلي ولا يمر ويقولون فلان ما يندى عَلَى أصحابه ص ما يتندى عَلَى أصحابه.
الزائد من كلام ابن الجوزي.
ويقولون مص يمص وشم يشم بالضم في المضارع ص بالفتح ويقولون يسوى ألفاً يساوي قلت يساوي أفصح ويسوى قليل.
ويقولون للمعرض عنهم هو يلهو هنا ص يلهى عنا بفتح الهاء يقال لهى عن الشيء يلهى إذا شغل عنه ويقولون الفأر يقرض بضم الراء ص بكسرها قال ابن دريد ليس في الكلام يقرض (بالضم) البتة.
باب يشتمل عَلَى ما وضعته العامة في غير موضعه وهو كلام من الخليل ابن
أحمد البصري.
فمن ذلك أشفار العين تذهب الناس إلى أنها الشعر النابت عَلَى حرف العين إنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر والشعر هو الهدب.
فصل.
ومن ذلك الطرب يذهب الناس إلى أنه الفرح دون الجزع وليس كذلك وإنما الطرب خفة تصيب من شدة السرور أو من شدة الجزع ومن ذلك الرفقة يسمونها قافلة ذاهبة وراجعة ص أن تسمى قافلة إذا رجعت ومن ذلك الحشمة يضعها الناس موضع الاستحياء وليس كذلك إنما بمعنى الغضب ويقولون للمصيبة مأتم وكنا في مأتم يريدون بذلك المصيبة وإنما(77/21)
المأتم النساء الذين يجتمعن في الخير والشر والجمع مآتم ص أن يقال كمنا في مناحة والحمام يذهبون إلى أنها الدواجن التي تستفرخ في البيوت خاصة ص الحمام ذوات الأطواق مثل الفواخت والقماري والقطا ويسمون الظل فيأ يذهبون بذلك إلى أنهما شيءٌ واحدٌ ص أن يكون الظل غدواً وعنياً من أول النهار إلى آخره والفيء لا يكون إلا بعد الزوال فلا يقال لما قبل الزوال فيء وإنما سمي بالعشي فيأ لأنه ظل فاء عن جانب إلى جانب أي رجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق والفيء الرجوع ويجعلون أيضاً الفقير والمسكين شيئاً واحداً فالفقير الذي لا يملك شيئاً والمسكين الذي له بلغة من العيش ويجعلون الخلف والكذب شيئاً واحداً فالخلف لما يستقبل وذلك أن تقول سأفعل كذا ولا تفعله والكذب فيما مضى وذلك أن تقول فعلت كذا ولم تفعله ويغلطون ويقولون قد احتسب له ابناً وبنتاً إذا ماتا صغيرين أو كبيرين إنما الصواب أن يقال احتسب ابنه وبنته إذا كاتا كبيرين فإن ماتا صغيرين قيل افترط فرطاً ويقولون فلان حسيب يعنون بذلك أنه جيد الآباء ما جدهم وذلك الغلط إنما الحسيب في نفس الرجل يقال رجل حسيب وإن لم يكن له آباء أشرف وأمجاد فإن كان مجد الآباء شريفهم قلت رجل شريف أو ماجد لا غير.
باب اللفيف
ويقولون اختفيت من كذا أي استترت وإنما الاختفاء إظهارك الشيءَ ص أن يقال في الاستتار استخفيف ويقولون آخر الداء الكي ص آخر الدواء الكي وقال آخرون آخر الطب الكي ويقولون شن عليه دره أي صهبا بشين معجمة ص بسين مهملة وإنما يقال شن عليهم الغارة بشين معجمة أي فرقها وذكلك شن الماء عَلَى شرابه إذا فرقه عليه فإن أراد أن يصبه عليه صباً سهلاً قال سن الماء عَلَى وجهه بسين مهملة ويقولون هزل الرجل والدابة بفتح الهاءِ ص هزل بضم الهاءِ وكسر الزاءِ في الرجل والدابة من الهزال وإنما يقال هزل بفتح الهاءِ والزاءِ في المزح خاصة ويقولون خمست القوم أخمسهم وعشرتهم أعشرهم بضم الميم من خمست وضم الشين من عشرت إذا صرت لهم خامساً وعاشراً وليس كذلك إنما الصواب أخمسهم بكسر الميم وأعشرهم بكسر الشين إلا الأربعة والسبعة والتسعة فإنك تقول فيها أربعتهم وأسبعهم بالفتح.
النجف(77/22)
محمد رضا الشبيبي.(77/23)
مباحث لغوية
كلمتان لهما من مناقب الحرب والجدال ما لا عظم الأمم المجاهدة وإن الخوف ليأخذ مني ما أخذه أمامهما وكأَني أسمع تلك المشاتمات التي علت زمناً كلمات أردت أن أخطو خطوة إلى حمامها. وكذلك فإن المناقشات اللسانية عندنا كثيراً ما ظهرت في شكل المناقشات اللغوية عَلَى أني لم أملك نفسي اليوم منأن أكتب شيئاً في هذه المسألة وأنا أعلم ماضيها المهيب وما ذلك لأني أراها سهلة ذات جاذبة بل لأني أجدها في هذا الزمن الأخير تحتاج إلى بحث وتدقيق عَلَى أنه لو لم يكن هذا الاحتياج وسيلة كافية للعود إليها لكان لنا من تلك السابقة التي اخترعها شبهال أكبر سائق للتمسك بأهدابها.
نعد من الاستيلاء أنواعاً فنقول الاستيلاء السياسي والاستيلاء الاقتصادي الخ وله نوع آخر لطيف يتميز عن غيره بأنه يطلبه من يريد هو أن يستولي عليهم ألا وهو الاستيلاء العلمي فلا أصول الحماية في المكوس ولا بناء السدود ولا جمع الجيوش في الحدود يمنعه إن كان مقدراً. يمر مثل الطيارة فوق هذه جميعاً وهو آمن في سربه يتبختر حتى يصل إلى المحل الذي تخير. يأبى عليك أن دعوته ويجور عليك إن تركته، وهو كضياء الشمس يحرم من الحياة من لم يتطلبه. إن رمت أن ترفع إليه فاخضع وإن شئت أن تكون حراً فاستسلم إليه أسراً. . . . ما أشد تضرعنا لأعتابه الآن! نذهب أفواجاً إلى برلين وباريز ولوندرا ونيويورك حتى يابان ولسوف ندعوه سنين عديدة أن يجيبنا لطفاً منه وتفضلاً فإذا أجاب فلسوف يحملنا من غير شفقة علينا.
أحماله الكثيرة ذرة ذرة ... نعم ذا تذلل ولكن العز فيه
* * *
إن أصلح الاحتلال بصلح هو الاحتلال العملي ولكن إذا تأخرك قليلاص عن تدارك ما يلزم لثوائه - أعني الكلمات والاصطلاحات - فإنه يأتي بها من عنده. أما هو فهو من النجابة وحسن العشرة بمكان وأما توابعه اللفظية فإنها ويا للأسف شكسة شرسة سيئة العشرة فإذا رأت قليلاًَ من التسامح هجمت عليكم فأذهب حسن الذوق من أفواهكم.
فإن كنتم تحبوا أن تدفعوا عنكم هذه التهلكة فبادروا بإحضار الكلمات والاصطلاحات.
هذه إحدى حاجاتنا التي لا تتناهى. نحن اليوم في موقف إذا أردنا أن نحفظ استقلال لساننا - كما نحفظ استقلال ملكنا - وجب علينا فيه أن نزيد - كما زدنا قوة الجيش - كتيبة(77/24)
كلماتنا وننسقها وننظمها. وكما أنه من المفروض منع نفوذ الغرب إذا أخذنا حضارته فكذلك من اللازم وضع سد منيع أمام حلول لسانه عندما نأخذ علومه وفنونه. ولكن نرى معيشتنا الجديدة تسهل علينا سرعة اختلاط اللغات. دخلت بيننا اليوم كلمات كنا ننظر إليها بعين غريب قبل ثلاث سنوات مثلاً.
قال بكارتويست آنكت بارلمانتير ديمو كراسي بريكوتازالخ ولست أشك في أنه سو يتزايد هذه الحلول الوخيم بسائق المدنية وحرية المداولات.
لست ممن يميل إلى الفرار من الأجانب وإني لأرى من الإفراط أن نطرد من حدودنا كلمات تترّكت. ونقيم بدالها كزلمات من مصنوعاتنا المحلية. ولكني أعد ذلك ربحاً كاذباً إن كانت كل إفادة جديدة تحوجنا إلى أخذ كلمة غربية وأقول أنه لا ينبغي من الآن فصاعداً أن نترك دائرة ملك لساننا مفتحة لكل طفيلي من الكلمات غريب ولو عنينا بهذه القاعدة إلى الآن وتجشم كل محرر كلفة اختراع كلمة تركية مقابل كلمة أجنبية يرى نفسه مضطراً إلى استعمالها لما كان تكدر صفو لساننا بتلك الكلمات المبرقشة التي تباين لهجتنا ولكان لتلك الكلمات المخترعة رجاء في حياتها عند من يسمعها لأول مرة ويتعلمها. إبداع اصطلاح جديد لنا إليه حاجة ووضعه في زَي مقبول هو أصعب من تبديل كلمة عمت. وكم من كلمة جديدة أحدثها أهل الفضل والإحسان من الكتاب دخلت منذ زمن غير بعيد إلى لساننا وهي تستعمل فيه بكل رشاقة.
حتى أنه ليمكنني أن أسمي الواضع وأبين كيف تلقاها الناس منذ وضعتها إلى الآن وأصور صفحات حياتها وإني لأذكر بعض تعبيرات لم يتم دور تأليفها ولم يمض عليها عمر تشتد فيه قوتها بأن يقبلها فيما يكتبه كاتب غير الذي اخترعها وها نحن نرى أحد الكتاب المحترمين استعمل ثلاث أربع مرات كلمة ذهنيت بمعنى وغني بدون أن أناقش في مكانتها اللغوية - حتى ولو كان فيها غلط من جهة - فإني أرضى باستعمالها بكل منة لأنه لا ينبغي للعطشان أن يرد نصف قدح من الماء إذا لم يجد كأساً دهاقاً. ولا ريب في أن المترجمين من بين الذين خدموا الوطن بأفكارهم وأقلامهم هم أكثر الناس تشيكاً من النواقص اللغوية والأسلوبية في هذا اللسان. إن الأفكار الجامحة التي فهمت ولكنها استعصت عَلَى من فهمها أن يفهمها غيره هي غول المترجمين أن معرفة اللسانيين - كيفية(77/25)
وكمية - لها دخل عظيم في أداء الترجمة حقها لكن لا ينكر أن أقدر الناس ترجمة تنتابه الفينة بعد الفينة حمى الحمية المتولدة من فقر اللسان عندما يترجم كتاباً له قليل علاقة بدقائق الأفكار والمعاني.
إنها لا تزول جميع المشاكل باختراع كلمة تقابل كلمة أجنبية إذ أنه يوجد طرق مختلفة في أداءِ البيان يستحيل أن يؤدي مآلها بتلك البلاغة بوسائط أُخرى. وهذا القسم من الرقي في الأسلوب مؤخر عن تكامل الكلمات وأبطأ منه سيراً فيجب علينا اليوم إذاً أن نعجل في رقي الكلمات.
حدود رخصتنا في إبداع الكلمات
كل يوم ينال لساننا قطرة لفظ أو معنى يسير به سيراً مطرداً وإن كان غير محسوس فتوسعت حتى تجمعت لدينا في ربع عصر كتابة كلمات لو كان من الممكن أن نخابر أجدادنا لأمكننا - مع فضلهم المحتمل - أن نملأ لهم صحائف مكاتيب طويلة عريضة بتركية لا يفقهونها. فمن أين أتت هذه الكلمات الجديدة مسألة؟ ذات بال؟.
كان التجدد في الماديات والمجردات يأتينا ويأتي معه بأسمائه فكلمة تياترو، غرته، دوكتور، أومنيبوس، لوكوموتيف، سيغورطه، بروتستو، نوطه، بيهس، آنسيكلوبويا الخ وغيرها مما تتوالى لواردنا عدها طفيلية دخلت بيننا لأنها لم تترجم بكلمة معقولة تقابلها ومهما كانت لهذه الكلمات من السلالة اللفظية في لسانها فلا أحد ينكر أنها تستثقل عندنا لتباين اللهجتين.
وما عدا جماعة هاته الكلمات الأجنبية التي تعيش معتزلة عن كلماتنا اعتزال الأجانب في بلادنا عنا فإنك تجد معمورة لسانية أُسست في مولداتنا القومية وضعها أرباب الحمية من الكتاب هي أصل الثروة عندنا عَلَى ما أرى. وغني لأذكر عَلَى وجه المثال بعض كلمات من تلك الكلمات المحترمة المجاهدة التي تسعى في قضاء حاجتنا المبرمة: تدرج، صائت، صامت، عنعنة، تعويض، تصوت محيط، كراسة، واحة، طيارة، إحصائيات.
إن الكلمات الوطنية ويا للأسف تتألم لسوء طالعها من أنها عرضة للاستثقال من لدن أهلها أكثر من الكلمات الأجنبية إذ إنا في الأغلب نعامل اصطلاحاتنا الجديدة معاملة شديدة، ولا ترى تلك الكلمة العثمانية المحدثة في وجهنا أثر تبسم مقدار ما تراه كلمة غيرها أجنبية. نحن أولاً أهل العنف والشدة نوقف تلك الكلمات المسكينة أمامنا ونفحص عن حسبها(77/26)
ونسبها ثم نتوهم لها عيباً في زيها وحضارتها ورشاقتها كأنه شرف لها أن تكون مملوكة لنا وأما الألفاظ الأجنبية فإنها ترى منا حسن المعاملة كأن بها فخرنا فلا نسال - وحاشاها - من أين أنت أو ذهبت ونرى البحث عن زيها وحضارتها ورشاقتها منافياً لعلو شأنها وإن لها عندنا لزلفى. وكيف لا تمن علينا وهي في الأغلب برهان إملائنا؟ إذا كانت نظارة المعارف لا تفكر في اتخاذ تدبير ينجع أو أنها لا تقدر أن تفكر أو أنها تفكر وليس في وسعها أن تطبق ما تريد فقد وفي الواجب حقه أركان الصحافة التركية مثل شهبال وغيرها إذا فتحوا لهذا البحث صحائفهم.
أيستحق المؤاخذة من يضع المشكلات أمام كلمات تدخل إلينا من جديد؟
إذا كنا كذلك فهذا أثر صلاح يحق لنا أن نسر به لأنا لم نتباعد ولا قليلاً في التصرفات اللسانية عن هذا الإهمال مرض اجتماعي اشتهرنا به في جميع شؤوننا وكانت نتيجته أن امتلأَ لساننا بالكلمات الأجنبية وتغير معنى كثير من الكلمات التي أَخذناها من العربية والفارسية منبعين فياضين لإثراء لساننا.
فلو طلبنا قبل التصاق الكلمات الأجنبية بلساننا مقابلها وأخذنا الكلمات العربية والفارسية بمعانيها الصحيحة لخدمنا لساننا خدمة يتدرج بها إلى الكمال وإني لآمل أن يشترك جميع أرباب القلم بكل ارتياح بتلك المسابقة التي وضعتموها رجاء اختراع كلمات تقابل تلك الكلمات الأجنبية. وإن مداولة الأفكار في ساحة المطبوعات ليكونن سداً منيعاً أمام تلك المخاطرة أعني استيلاء الكلمات الأجنبية. إن من يقول أن لا إذن لنا في اختراع كلمة تركية أو فارسية أو عربية لم يقل شيئاً ولكن من لا يرى اتباع قيد لساني عند وضع اصطلاح جديد يضمه لسلسلة اللغات العثمانية فهو أيضاً عندي عَلَى غير شيء. إذا كانت الكلمة المخترعة تركية فيها وإلا فإن كانت عربية فإني أحب أن أقول: أنه ينبغي أن تكون مما يحويه اللسان العربي وأن تكون مما يجوز استعمالها قواعد ذاك اللسان.
إن المناسبة المعنوية بين ونشب ظاهرة جداً ولكن إذا كانت العرب لم تستعمل صفة مشبهة من مادة نشب فأنك تصيب، عَلَى ما أظن، من لا يهش إليها ولو كانت من السلاسة بمكان ويقول: لنا الحق بإيجاد كلمة جديدة تدل عَلَى فكر جديد ومعنى جديد وضمها إلى مجموعة اللغات العثمانية ولكن لا حق لنا باختراع كلمة عربية في لساننا التركي.(77/27)
لابد أن نشير إلى كلمة نشيبة الجديدة عندما ندخلها إلى لغتنا بأنها عربية ولكن العرب لا يقبلونها بين كلماتهم العربية بدعوى أن نشيبة من مادة نشب غير مستعملة عند العرب. أفلا يكون هذا من الغرائب؟!
نعم قد تغير معنى بعض كلمات عربية في كلماتنا مثل كلمة تحسس من مادة حس فإن معناها في العربية طلب الشيء والبحث عنه فهل نقصد بها هذا المعنى بعينه. إذا قلنا تحسسات وطنبروري؟ لا. وكذلك بعض المصادر الثلاثية فقد جرى عَلَى لساننا مزيدها خلافاً للعرب ومنها تسرير فإنه وإن يكن موجوداً في العربية إلا أنه بمعنى بلغ من ماء النهر أو الحوض سرة الرجل. فهل نستعمله نحن بهذا المعنى؟ قال أرباب القلم من الأتراك في أنفسهم يشتق من الفرح تفريح فلا يشتق من الشرور تسرير فعلوها وزادوها كلمة مغلوطة لا تقبلها العرب بالطبع بين الكلمات العربية. عَلَى أن هذه الأحوال لا تكون لنا سنداً يساعدنا أن لا نتبع قيداً في إحداث كلمات جديدة لأن الباطل لا يقاس عليه. ولنا احتياج لتعلم العربية فينبغي أن تنفعنا في العربية تلك الكلمات المستعملة في التركية ومن الغرائب بل من المؤلمات أن لا نقدر أن نستعمل في العربية كلمة عربية نستعملها في التركية أو أن نضطر إلى استعمالها بغير معناها الذي نعهده. فعلنا ذلك ولكن ينبغي أن لا نفعلها بعد هذا وأن لا نزيد في سقطات لساننا. رأيت في إحدى جرائدنا التركية قبل سبع أو ثماني سنوات أن في مصر وجدوا مقابل كارت دوويزيت تركيب بطاقة الزيارة أما البطاقة فهي موصلة بوصلة توضع بين الأمتعة يكتب فيها مقدار تلك الأمتعة وقيمتها فاقتبسوا تلك الكلمة وأحدثوا هذا التركيب وهو جميل يقابل الإفرنسي كل المقابلة. وأنا أظن أن أمثال محرر شهبال من أرباب القلم ممن لهم قدرة كافية في اللسان إذا تعمقوا في أبحاثهم وجدوا أوفق مقابل للكلمات الأجنبية التي تدل عَلَى معانٍ وأفكار جديدة.
* * *
هذا ما أردت تعريبه وأنا أرى تلك المسابقة الثالثة وما يتلوها من أمثالها فرصة لتكثير سواد الكلمات العربية فاغتنموها وعندكم من علك اللغة بلحييه فلا يعسر عليه إذا سئل أن يجيب من غير تردد بما يوافق المطلوب. وعلى الجرائد العربية والمجلات نقل هذه المسابقات عيناً أولاً وترجمة الكلمات الأجنبية بجملة - لا بكلمة - تؤدي معناها حق الأداء(77/28)
ثانياً حتى إذا كان رجل يحسن اللغة العربية ولا يعرف الأجنبية فلا نحرم من علمه وينظر إلى المعنى الذي ذكرناه له بجملة أو جمل فينتخب له كلمة توافقه فنقول له مثلاً ماذا تسمى آلة من خشب أو حديد تسمر عَلَى جدار وفيها أعواد يعلق عليها الثياب فلا أظنه إلا قائلاً لكم يمكن أن نسميها شجاراً. وأن نضع من نفسها مسابقات أخرى مثلها ثالثاً ومن كان منها ذات ثروة جعلت للمجيد جائزة عَلَى أني أرى اكبر جائزة للعالم أن يخدم لغته وأن يقال أنه أبو عذرة هذه الكلمة. وكيف يجوز لنا أن نبقى عَلَى الحياد وأن ننظر من بعيد وغيرنا يتصرف في لغتنا كيف يشاء ولست أريد بذلك أن نمنعهم عن الاقتباس والتصرف لكني أريد أن يعلم أخواننا العرب أن من الواجب عليهم أن يشتركوا في تلك المباحث اللغوية ولو بلغتهم إن لم يعرفوا التركية ويناقشوهم حتى يتبين الحق فنفيد ونستفيد. نفيد أخواننا الأتراك إذ نعطيهم كلمة خيالية عن الغلط الصرفي في مؤديه للمعنى المراد هم في حاجة إليها ونستفيد إذ نحن أيضاً أحوج منهم إلى أمثال تلك الكلمات.(77/29)
الألقاب العلمية
ليس في الأيدي من مستند يركن إليه في تاريخ حدوث الألقاب العلمية في الملة الإسلامية والظاهر أنها حدثت في النصف الأخير من عهد بني العباس وشاعت وتأصلت زمن ملوك الطوائف ثم عَلَى عهد الدولتين الجركسية والعثمانية في هذه الديار أيام أصبح العلم عبارة عن رسوم والعلماء هم الذين يقربهم الملوك والحكام ولو كانوا أجهل من قاضي جبل بل أصبح أمر الألقاب أقرب إلى الهزل منه إلى الجد فصارت جملة أعلم العلماء المحققين تطلق عَلَى كل صعلوك نال منصبه في القضاء أو الإفتاءِ أو التدريس بالشفاعة أو القرابة أو الإرث لأن العلم في الثلاثة القرون الأخيرة أصبح يورث كما يورث الماعون والحرثي والعقار والمزرعة.
نعم غدت الألقاب العلمية التي لم تطلق عَلَى أبي حامد الغزالي وأبي عمر والجاحظ وأبي الوليد وابن رشد وأبي النصر الفارابي إلا بشق الأنفس تطلق عَلَى ما يحتاجون أن يرجعوا إلى الكتاب بل عَلَى عامة ليس لهم من أدوات العلم إلا أنهم اهتموا بالبياض ولبسوا الجبة عَلَى الزي المتعارف لهم.
وإن ألفاظ العالم والعلامة والإمام والرباني والحبر التي لم تطلق عَلَى أكثر حملة الشريعة والعلم أيام نضارة الدين أصبحت تطلق عَلَى الجهلاء لعهدنا فبعد أن كانت هذه الألفاظ تجعل لأفراد في الأمة امتازوا ميزة ظاهرة بعقولهم وعلومهم وقد تستعرض القطر بل الأقطار بل العصر والأعصار ولا تجد واحداً استحق هذه الألقاب صرت إذا دخلت في عهدنا إلى مدينة صغير كطرابلس الشام تظن نفسك وجميع من لهم شيء من الذكر قليل أو تولوا منصباً ولو حقيراً في خدمة الحكومة يعطون لقب العالم الفاضل والعلامة الفاضل والإمام المحدث بدون نكير.
كان يقال لجبير بن زهير الحضرمي عالم أهل الشام وللخليل بن أحمد علامة البصرة ولمالك بن أنس إمام دار الهجرة ولعبد الله بن العباس رباني هذه الأمة أما اليوم فألفاظ عالم وعلامة وإمام تطلق عَلَى الممخرقين والمتنطعين الذين لم ينفعوا الأمة بشيءٍ فقد كان يلقب بالعلامة الأول قطب الدين الشيرازي كما يطلق لقب العلامة الثاني عَلَى سعد الدين التفتازاني عَلَى نحو ما أطلق عَلَى أرسطو لقب المعلم الأول والفارابي لقب المعلم الثاني.
تشدد القوم في إطلاق ألقاب التفخيم حتى عَلَى العلماء صيانة لألقابهم من الابتذال فرأينا(77/30)
العصام في حاشيته عَلَى الجامي لا يوافق الجامي بإطلاقه عَلَى ابن الحاجب لفظ العلامة المشتهر في المشارق والمغارب فقال أن في وصف ابن الحاجب بالعلامة نظراً لأن هذا اللفظ إنما يناسب فيما بين العلماء من جمع جميع أقسام العلوم كما هو حقه من العلوم العقلية والنقلية وليس ابن الحاجب إلا من العلماء في العلوم النقلية. ولذا خص من بين العلماء قطب الملة والدين الشيرازي بالعلامة حيث سبق العلماء كلهم في جميع أقسام العلوم.
هكذا كان أدب سلفنا أما اليوم فقد استرسل عباد المظاهر في هذا الشأن فسموا إلى تلك الألقاب الشريفة التي لم يجوزوا إطلاقها عَلَى مثل ابن الحاجب الإمام المحقق في فنه وبلغت الحال ببعضهم أن صاروا يكتبونها بأيديهم عن أنفسهم كأن العلامية أو العالمية والإمامية لا تثبت بالأذهان إلا بمثل هذا العمل.
وعندنا أن الأحرى بمن تدور معارفه عَلَى الفقه وحده أن يسمى فقيهاً إن كان ممن برزوا حقيقة في أصوله وفروعه ومن اقتصر عَلَى الأصول وحده أن يسمى أصولياً ومن غلب عليه علم الحديث أن يقال عند حديثياً وإلا كلمة عالم لا تقال إلا لمن يعلم بما يعلم كما قال بعضهم وإن شئت فقل لمن يظهر فيه أثره ويمتزج بأجزاء نفسه أي امتزاج قال ابن جني: لما كان العلم قد يجوز الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة ولم يكن عَلَى أول دخوله فيه ولو كان كذلك لكان متعلماً لا عالماً.
جرت عَلَى هذه القاعدة الأمم الراقية قديماً وأمم المدنية الحديثة لعهدنا فلم يطلق عَلَى سقراط أو أفلاطون أو أرسطو الفلاسفة ألقاب العلماء في بلاد اليونان إلا بعد أن قضى كل منهم سنين في التعلم وسنين في التعليم وهكذا رايتنا الأمم الحديثة لم تطلق عَلَى نيوتن وهكسلي وكونت وكانت وكيتي اسم عالم إلا بعد أن درسوا الدروس النظامية كلها وبرزوا عَلَى رجال عصرهم بفنون مخصوصة أبرزوا فيها آثار علمهم وأثروا في محيطهم.
ومن عجيب الأخلاق أن من ينتسبون لشيء من علوم الدين في عهدنا يعز عليهم إلا أن تبقى ألفاظ العالم والمحقق والعلامة محصورة بأهل طبقتهم كأن من يعلم الهندسة أو الطب أو الحقوق أو الصحافة أو السياسة لا يستحق أن يعد من العالمين ولو أيدت عامه أمثلة كثيرة يريدون أن تبقى هذه الألفاظ لهم وكذلك بعض المشتغلين بهذه العلوم الدينية يعز عليهم أن يطلقوا الألقاب العلمية عَلَى من لا يعلمون علومهم في حين رأينا صاحب إرشاد(77/31)
القاصد وصاحب كشف الظنون عدا العلوم كلها دينية ودنيوية وسمياها كزلها علوماً حتى السحر والطلسمات والشعبذة فذكر الأول من أنواعها مئة والنوع الثاني مئة وخمسين نوعاً.
وغريب كيف أخرج بعضهم في القديم إسحق بن إبراهيم الموصلي من سلك الفقهاء وكان أحرى أن يعد بينهم لأنه يلحن الأنغام ويخترع ضروب الغناء ويشتغل بآلات الطرب مع أنه ليس دون علماءِ عصره بعلومهم ولكن غلب عليه الغناء فعدوه في الندماءِ كما غلب الشعر عَلَى بعضهم فعدُّوه في الشعراءِ أمثال أبي نواس وما هو في الحقيقة إلا من كبار علماءِ العربية.
وإنا إذا استقرينا التاريخ عَلَى اختلاف العصور نجد أن المنصفين من المؤرخين يذكرون العالمين بغير العلوم الدينية كما يذكرون علماء الدين لأنهم كلهم أعضاء نافعون في المجتمع فقد كان خالد بن يزيد الأموي من أهل القرن الأول عالم قريش بالكيمياء والطب بصيراً بهذين العلمين وكان أبو الفضل الحارثي من أهل القرن الخامس عالماً بالهندزسة والفلك والحساب والتقسيمات والهيئة ونقش الرخام وضرب الخيط والطب ومحمد القيسراني من أهل القرن الخامس أيضاً عالماً بالمساحة والميقات والفلك ورضوان الخرساني من أهله أيضاً عالماً بالرياضيات وأبو المجد ابن أبي الحكم من أهل القرن السادس عالماً بالطب والهندسة والنجوم والموسيقى والعدد والغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات عمل أرغناً وبالغ في إتقانه وكان أبو صلاح من أهل السادس عالماً بالطب والفلسفة وابن المؤيد العرضي ورفيع الدين الجيلي وعز الدين الأربلي من أهل السابع علماء بالفلسفة والرياضيات.
وهكذا لو استقصينا كتب التراجم لعثرنا من أسماء المشتغلين بغير العلوم الدينية عَلَى سلسلة طويلة وكلهم أطلق عليهم اسم العالم والمحقق والإمام والعلامة عَلَى رغم أنوف المكابرين وذكرتهم الأعصار بآثارهم أكثر مما جعلوا مناصب الدين وألقابه سبباً إلى الدنيا ونيل الحظوة من العامة والزلفى من السلاطين والأمراء.
وقد رأينا بعض المشتغلين بعلوم الشريعة لعهدنا يتخلصون من إطلاق لفظ عالم وعلامة عَلَى من لم يتزي بزيهم الخاص بأن يطلقوا عليه اسم الكاتب عَلَى أن لفظة كاتب التي يحتقرونها قلَّ في المعدودين من يستحقها قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر ينبغي(77/32)
للكاتب أن يتعلق بكل علم حتى قيل كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه فيقال فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول فلان الكاتب وذلك لما يفتقر إليه من الخواص في كل فن اهـ.
وهذا التحكم البارد في الحط ممن أخصوا في بعض الفنون التي يجهلها أكثر المتعلمين ولا يعدونها علماً في نظرهم يخرج كثير من الأئمة في عداد العلماء ممن لم تكن الكتابة إلا من جملة ما يعملون أمثال الجاحظ فإنه بحسب عرفهم كاتب فقط لأنه مجيد في الإنشاء للغاية وكذلك القاضي الفاضل ابن خلدون وابن فضل الله وأبو الفدا وغيرهم من مشاهير العلماء الذين كانوا أئمة في الإنشاء هذا لأن أولئك الأعلام لم يؤلفوا أم لم يريدوا أن يؤلفوا في الفقه والأصول والكلام والحديث عَلَى حين ورد في الكتاب العزيز يعمله علماء بني إسرائيل فأطلق الله عليهم لفظ علماء وجاء فيه والذين أوتوا العلم درجات قال الراغب أن هذا تنبيه منه تعالى عَلَى تفاوت منازل العلوم وتفاوت أربابها.
ولقد شاهدنا ما يضحك من تحكم بعض أرباب الصحف السيارة في الألقاب العلمية حتى آل الأمر ببعض الفضلاء أن يستنكفوا في ذكر أسمائهم بين أناس لا يلحقون غبارهم بحال لأن محرر كل صحيفة يعطي من الألقاب لمن يستحي العاقل من إطلاقه عَلَى أفضل أهل العصر ويمنع ذلك عن المستحق يريد بذلك إسقاطه حتى قال بعضهم من العلامة أن لا تكون للمرء علامة فما دامت لفظة علامة تطلق عَلَى المغفلين من الطلبة فأجدر بمن يستحقون هذه اللفظة أن يزهدوا فيها وهكذا لفظ الأستاذ والمعلم والفاضل وهذه اللفظة اليوم تطلق عَلَى تسعة أعشار من يقرأون ويكتبون.
وبعد فإن سلسلة الارتقاء وسلسلة الانحطاط نمط واحد يتبع بعضها بعضاً في كل أمة والتغالي في الألقاب من جملة تعلق الأمة بل من يطلق عليهم الخاصة منها القشور دون اللباب. وما أجدر أرباب الصحف والمجلات أن يتخلوا عن هذه الألقاب التي لا ميزان لها ولا مقياس وأن يذكروا الأسماء مجردة كما هو اصطرح الأمم الراقية كالإنكليز والأميركان والفرنسيس والألمان بل كما كان اصطلاح أجدادنا العرب في صدر الإسلام والجديرون بالوصف تم أوصافهم عنهم من مثل التعليم زمناً وتخريج طلبة راقين أو الإجادة في التأليف وغير ذلك من سمات الفضل والعلم قال المقدسي إن مراتب السادات مثل جليل وفاضل(77/33)
رسم الرسائل لا رسم التصانيف. والجرائد والمجلات كالكتب لا تخرج عن حد التأليف في صورة أخرى ولذا وجب أن تعرى من ألفاظ التمجيد ولاسيما إطلاق الألقاب العلمية عَلَى من تذكرهم لأن في ذلك تضليلاً للعقول واستهزاء بمقادير أهل الأقدار.(77/34)
الخزانة التيمورية
في مصر عَلَى انحلال محسوس في العزائم بعد سن طلب العلم همة عالية تشهدها لبعض الأفراد فيكفر العالم عن ذنب الخامل ويشفع العالم بجهل الجاهل فقد انقطعت الرغبات في المطالب العالية بعض الشيء وقل في مصر النوابغ وإن عم التعليم أهل الطبقتين الوسطى والعليا في المدن والحواضر وكانت أكبر آفة عَلَى العلوم والمعارف هنا ما وقر في نفوس القوم من أن العلم يراد منه التوظف والكسب لا لما فيه من الفوائد المعنوية الشريفة وقلّ أن رأينا رجلاً في مصر اشتغل بالعلم من حيث هو علم لا لمغنم عاجل يغنمه أو لمظهر مبهرج يفوز به ومن تلك الفئات الصالحة التي تنزع لخدمة العلم والآداب من حيث منافعها المعنوية وأغراضها السامية أحمد بك تيمور أحد سراة هذه العاصمة وعلمائها العاملين عرفناه منذ اثنتي عشرة سنة يختلف إلى شيوخ والدب في القاهرة يذاكرهم ويأخذ عنهم ويجعل منزله مجمعاً للعالمين والمتأدبين والطالبين لم تبهره النعمة ولم يبطره المال والجاه بل كان يصرف فضل نعمته في ترقية نفسه ومن استطاع إبلاغ النور إليهم وما كتبه في الصحف والمجلات حتى اليوم أدل دليل عَلَى ما هناك من أدب غض ونظر سديد فيما يعانيه من الأبحاث ولقد كنا نلحظ أن صديقنا من غلاة الكتب كما هو من الغلاة في اللغة والتاريخ والأدب ولكن ما كان يدور بخلدنا أن يجمع مع الزمن خزانة كتب قلَّ لشرقي أن جمع مثلها في هذا العصر إلا ما يقال عن خزانة كتب رضا باشا في الآستانة ولكن المزية التي في الخزانة التيمورية أن صاحبها عارف معرفة كافية بما حوته من أسفار العلم وقد اقتناها بمعرفته وفضل نعمته من مال حلال مال الزراعة المبارك ولعل خزانة كتب شيخ الإسلام عارف حكمت بك التي سبلها عَلَى الناس في مدينة الرسول تشبه الخزانة التيمورية كما تقرب منها بعدد المجلدات.
تفضل تيمور بك بإعارتنا كل ما طلبناه من مخطوطات خزانته ومطبوعاتها في السنين الثلاث الأولى لهذه المجلة فتكلمنا عَلَى بعض النوادر منها ولكن لم يكتب لنا أن نراها كلها إلا هذه المرة وقد دعانا والأستاذ الشيخ طاهر الجزائري إلى إحدى مزارعه في قويسنا من عمل مديرية المنوفية في الدلتا فاغتنمنا هذه الفرصة لنصف هذه الخزانة التي طالما أعجبنا وأعجب بها غلاة الكتب في المشرق والمغرب خصوصاً ونحن في صحابة أحد كبار شيوخ العلم العارفين بدرر الأسفار في ديار العرب وهو الذي تولى الترجيح في اختيار الأندر(77/35)
فالأندر وناهيك بما يرجحه الأستاذ.
أقام تيمور بك ردهة كبيرة في أعلى قصره في قويسنا نقل إليها كتبه من القاهرة ليخلوا هناك بنفسه ويتوفر عَلَى المطالعة والمراجعة في ذاك الهواء الطلق البعيد عن الضار من جراثيم المدينة الحديثة ويخلص من تزاحم الأنفاس وتشعب العوامل القاطعة في العواصم عن الطلب والتبحر والتأمل ففزع بكتبه وأدبه إلى أرض الدلتا أخصب بقاع هذا الوادي الخصيب يحمل أسفار العلم والأدب إلى ركائز الإبريز ورغام الذهب.
وبعد فقد رأينا عملاً خاصاً أو عاماً منسقاً تنسيق المكتبة التيمورية فالمكتبة بالفهرس البديع الذي دونه لها جمعها فجعل كل علم مع علمه وقرن كل شكل مثله ليسهل إحضار أي كتاب منها في دقيقة مع أن مجلداتها لا تنقص عن ثمانية آلاف مجلد منتقاة ومن خلق صاحبها أن لا يضن بأندر كتبه عن المشتغلين والمستنسخين عَلَى خلاف سنة بعض غلاة الكتب في مصر والشام ممن لا يسمحون بالنظر إلى كتبهم ولا باستنساخها والأخذ منها ولو كانوا ينظرون فيها آونة الفارغ لهان الخطب فيهم ولكنهم منعوها عن الناس فأمست مظلومة في قماطرهم ويا بئس ما يعملون.
وهاك الآن النادر من مخطوطات هذه الخزانة التي نرجو لها زيادة النمو عَلَى هذا النحو تنشر قائمتها خدمة لأهل العلم والدب ممن أخذوا النفس بإحياء آثار العرب ولاسيما علماء المشرقيات في ديار الغرب وكبار الطابعين في هذا المشرق العربي داعين لصاحبها المنوه بقدره أن يظل عَلَى مضائه وبذله في اقتناء كل نفيس وعلى همته وصحته بالوفور والنماء.
التفسير
مختصر الانتصاف لابن هشام النحوي
تفسير ابن عطية الأول والثاني
زاد المسير لابن الجوزي (الثاني والثالث)
نظم الدرز في تناسب الآي والسور للبقاعي (الأول)
تفسير جزء عمَّ للرّماني
تعليق عَلَى أماكن من التنزيل لابن أبي شريف
أحكام القرآن للقرطبي (الجزء الأول)(77/36)
البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني
الجزء الثالث من إعراب القرآن لابن النحاس كتب سنة 641.
إعراب مشكل القرآن لمكي كتب سنة 490 ونيف.
مبهمات القرآن للسهيلي (منه نسختان إحداهما في المجاميع).
الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي.
مختصر العقد النظيم في كنايات القرآن وغريبه لابن أبي المعالي الأنصاري.
الرعاية في تجويد القرآن لمكي.
النشر في القراآت العشر لابن الجردي.
مصطلح الحديث
الخلاصة في معرفة الحديث وأصوله للطيبي (نسختان الثانية في مجموعة 172).
ألفية السيوطي (نسختان).
شرح ألفية العراقي للمصنف (وهو الشرح الصغير ولم يعثر عَلَى الكبير إلى الآن).
شرح بغية الطالب الحثيث للشمني.
الحديث
مختصر استدراك الحافظ الذهبي عَلَى مستدرك الحاكم عَلَى الصحيحين.
جامع الأصول لابن الأثير.
مختصر جامع الأصول للمروزي.
فضائل القرآن وأدبه ومعالمه لأبي عبيدة القاسم ابن الإسلام.
شهاب الأخبار للقضاعي وشرحان عليه.
حاشية الشمني عَلَى الشفا.
علل الحديث لأبي حاتم الرازي (وهو من أهم كتب علل الحديث).
العقائد
المطالب العالية للفجر الرازي.
شرح العبري عَلَى صوالع البيضاوي.
التحبير في أسماء الله للقشيري.(77/37)
المجلد الثاني من الإبانة لابن بطة وهو سبعة أجزاء.
الجزء الرابع من الجمع بين العقل والنقل لابن تيمية من النسخة الكبرى والذي طبع مختصر.
عمدة الأكياس في عقائد الزيدية لبن صلاح الشرفي.
رسالة إنقاذ البشر من القضاء والقدر للشريف المرتضى ضمن مجموعة 169 عقائد.
المعارف العقلية للغزالي ضمن مجموعة 252 عقائد.
الأصول
المحصول للفخر الرازي.
الجزء الأول من الأحكام للآمدي.
شرح ركن الدين عَلَى مختصر ابن الحاجب.
شرح العبري عَلَى منهاج البيضاوي.
الجزء الأول من نهاية الوصول للأرموي.
الفقه
الفتح الرباني للإمام المتوكل ملك فاس 283.
320 جزء من تقريرات ابن رشد عن المدوّنة.
797 القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام.
288 القواعد للزركشي.
306 نظم مفردات الإمام ابن حنبل للمقدسي.
193 الفتح الرباني في مفردات ابن حنبل الشيباني للدمنهوري.
229 و233 نسختان من الإفصاح في اختلاف المذاهب الأربعة لأبي هبيرة.
أخلاق
185 صولة العقل عَلَى الهوى لابن الجوزي.
الحكمة
67 تعليقات الشيخ الرئيس ابن سينا.
اللغة(77/38)
الغريبين للهروي.
التنبيه عَلَى ما وقع في الغريبين من الخطأ للسلامي.
بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز.
مشارق الأنوار للقاضي عياض وهو في غريب الحديث (نسختان).
الزاهر في غرائب ألفاظ الإمام الشافعي للأزهري.
المغرب للمطرزي (ثلاث نسخ).
الغريب المصنف لأبي عبيد.
المرصع لابن الأثير (وقد طبع في أوربا) في الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأذواء والذوات.
تبين المناسبات بين الأسماء والمسميات.
مختصر إصلاح المنطق الأصل لابن السكيت والاختصار لأبي القاسم الراغب والظن أنه لأبي الحسين الوزير المغربي.
تحرير الرواية لتقرير الكفاية وهو شرح كفاية المتحفظ لابن الطيب الفارسي.
شرح ابن دريد عَلَى منظومته في الممدود والمقصور.
المترادف للأصمعي.
مثلث قطرب (في كراسة وهو أول مؤلف في المثلثات).
المثنى تأليف محمد بن بدر الدين المنشي.
التكملة والذيل عَلَى درة الغواص للجواليقي (نسختان).
الصرف
تصريف ابن مالك ويليه شرحه لابن إياز النحوي.
متن عقود الزواهر للقوشجي في الوضع والصرف والاشتقاق.
النحو وسر العربية
الخصائص لابن جني.
حواشي ابن هشام عَلَى الألفية.
رسالة في معاني الحروف للرماني.(77/39)
المسائل الحلبية لأبي علي الفارسي.
البلاغة
قانون البلاغة لأبي طاهر محمد بن جبلة البغدادي.
الجامع الكبير لعز الدين ابن الأثير.
التبيان لابن الزملكاني وهو مختصر دلائل الإعجاز.
الشعر
شرح الأعلم الشمنتري عَلَى الدواوين الستة (النابغة وعنترة وطرفة بن العبد وزهير وعلقمة الفحل وامرؤ القيس وقد طبع منه شرح طرفة).
ديوان قيس بن الخطيم.
ديوان سحيم عبد بني الحسحاس.
شرح ديوان جرير.
شرح ديوان ذي الرمة.
شرح المعلقات للنحاس.
270 شرح معلقة عمرو بن كلثوم للنحاس.
شرح لامية العرب لابن الأجدك والعكبري (ولشرح العكبري نسخة أخرى).
المبهج في شرح أسماء رجال الحماسة لابن الجني.
معاني الشعر للأشننداني.
حماسة الخالديين.
الحماسة البصرية لعلي بن فرج البصري.
شرح ديوان أبي تمام للتبريزي وقطعة صالحة من شرح الصولي.
ديوان ابن الرومي في ثلاث مجلدات.
عبث الوليد لأبي العلاء المعري.
نسخة من ديوان أبي فراس بها زيادة عَلَى المطبوع.
رد عَلَى رد وهو رد لابن السيد البطليوسي عَلَى ما رد به عليه أبو بكر بن العربي في شرحه شعر أبي العلاء.(77/40)
منتخب نزهة الألباء فيما يروى عن الأدباء للشيخ عبد العزيز بن جماعة والأصل له أيضاً (بخط مؤلفه).
شرح ابن بدرون عَلَى قصيدة ابن عبدون بها زيادات كثيرة من غير المصنف نمرة 399.
الأدب
19 مختارات رسائل الجاحظ.
جلوة المذاكرة وخلوة المحاضرة للصرح الصفدي.
المضنون به عَلَى غير أهله لعز الدين الزنجاني.
رسالة في الحنين إلى الأوطان للجاحظ (ضمن مجموعة رقم 351).
التاريخ
مختصر تاريخ الإسلام للذهبي.
طبقات الحفاظ للسيوطي لخصها من طبقات الذهبي وذيل عليها.
الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء أعالي الصعيد للأدفوي.
الوافي لاوفيات للصفدي (ستة أجزاء منه).
ذيل الدرر الكامنة لمؤلفه ابن حجر وبخطه.
أعتاب الكتاب لابن الآبار.
الكوكب الثاقب لعبد القادر السلوي الأندلسي.
الطب
شرح أرجوزة ابن سينا لابن رشد.
أصول الطب لعلي بن رضوان.
مختصر مفردات ابن البيطار لابن منظور صاحب لسان العرب.
غنية اللبيب حيث لا يوجد طبيب لأبي الحسن القرشي.
الفلك
منتهى الإدراك في تقاسيم الأفلاك بمحمد بن أحمد الحسيني الخرقي المتوفي سنة 533.
كتاب الإمام يوسف بن عمر بن رسول ملك اليمن في صناعة الإصطرلاب وعملياً عليه إجازات من علماء الهيئة.(77/41)
فنون منوعة
كتاب المسائل والأجوبة لابن السيد البطليوسي.
القانون في علم البيرزة وهي تربية الصقور للصيد وأصناف معالجتها.
الأقوال الشافية والفصول الوافية للملك عي بن داود الغساني الشهير بابن رسول في الخيل وما يتعلق بها.
الصعقة الغضبية في الرد عَلَى منكري العربية للطوفي.
المجاميع
12 رسالة في أصول الهمزات التي في الأسماء والأفعال والحروف لابن خالويه وقبلها وبعدها رسالة في الهمزات أيضاً.
39 نكت عَلَى مقامات الحريري مما علق من مؤلفها.
عرض الإمام بن المعطي.
بديع الإمام ابن المعطي.
نسب عدنان وقحطان للمبرد.
50 ما يذكر ويؤنث من الإنسان واللباس لسليمان بن محمد النحوي.
أسماء الخيل وفرسانها لابن الأعرابي.
نسب الخيل في الجاهلية والإسلام لابن الكلبي.
كتاب الأمثال لأبي عكرمة الضبي.
80 عجالة المبيتدي في علم النسب للحازمي.
89 بغية المؤانس من بهجة المجالس لأبي عثمان بن ليون.
لمح السحر من روح الشعر له أيضاً اختصره من روح الشعر لابن الجلاد.
105 أسماء الأسد وكناه وأسماء الذب وكناه لابن الصاغاني.
139 قصيدة ابن الدريهم في حل المترجم.
152 المقالات الفاخرة في النصيحة الباهرة للزمخشري.
ذيل التفسير
الدر النثير شرح التيسير للممالقي.(77/42)
التسهيل في علوم التنزيل لابن جزيّ.
مشكلات الكتاب للشاطبي (لأبي عبد الله محمد الأندلسي عرف بالشاطبي).
الإشارات الإلهية للطوفي.
بديع القرآن لابن أبي إصبع.
الحديث
المغني عن الحفظ لعمر بن بدر الدين الموصلي (أورده صاحب القاموس في سفر السعادة).
التمهيد لما في الموطأ في المعاني والأسانيد لابن عبد البر (الجزء الخامس).
الأصول
البحر المحيط للزركشي في ثلاث مجلدات.
الفرائض.
كفاية الفارض المرتاض في التنبيه عَلَى ما أغفله جمهور الفرائض لابن صفوان.
الأخلاق
الآداب الشرقية والمصالح المرعية لابن مفلح.
اللغة
التوقيف عَلَى مهمات التعاريف للمناوي.
غريب الحديث لأبي عبيد (مخروم الأول والآخر).
أبنية الأفعال لابن القطاع.
شرح ابن جني المسمى بالمنصف عَلَى تصريف المازني.
سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.
الشعر
شرح الشريف الغرناطي عَلَى مقصورة حازم.
الأدب
التشبيهات المشرقية لابن عون الكاتب.
الرياضيات(77/43)
تكميل التذكرة لعمر الفارسي ألفه للملك أبي الفدا.
الفنون المنوعة
رسالة في الفتوة لإدريس ابن بيدكين التركماني.
هذه هي الأسفار التي تشتد الحاجة إلى طبعها وإحيائها في الدرجة الأولى وإليك أسماء ما يطبع وينشر بعدها:
التفسير
154 تفسير أبي الليث السمرقندي.
الجزء الثالث من الوسيط والوجيز.
تقريب التفسير للغالي.
تفسير علم الدين السخاوي.
نواهد الإبكار للسيوطي
حواشي البيضاوي
تفسير سورة الرحمن للزبيدي.
أحكام البسملة للفخر الرازي.
تفسير إنا عرضنا الأمانة عَلَى السموات والأرض الآية وكتاب آخر.
123 كتاب أسباب النزول.
الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ضمن ثلاث رسائل.
رسالة في إثبات واو الثمانية.
كتاب الوقف والابتداء للغزالي.
العنوان في القراآت السبع لابن خلف.
شروح الشاطبية.
شروح مورد الظمآن في الرسم.
إرشاد المبتدي للقلانسي في مجموعة 186 ومعها أرباع القرآن.
مصطلح الحديث
حاشية ملا علي قاري عَلَى نزهة النظر نسختان.(77/44)
شرح جاد المولى عَلَى البيقونية.
حديث
التنقيح للزركشي والتوشيح للسيوطي.
شروح مشارق الأنوار.
الدرر الزاهرة للسامي.
أمالي الباغندي.
مختصر درر البحار للسيوطي.
زيادات الجامع الصغير للمؤلف.
شرح الأربعين النووية (أنظر مجاميع الحديث).
257 رسالة في الأحاديث المتشابهة.
175 تخريج الأحاديث والأذكار النووية لابن حجر.
229 أسباب الحديث لابن حمزة.
العقائد
203 قصد السبيل للكوراني.
191 تحقيق الأولى للزملكاني.
59 الأمانة الكبرى للذهبي.
60 طريقة الاستعاذة في الإمامة لأبي هاشم.
176 روضة الإفهام أو التاريخ عن سيرة ابن عبد الوهاب الإحسائي.
178 كتاب في الفرق الإسلامية والكفرة للفخر الرازي.
177 رسالة في الرد عَلَى البكتاشية.
أصول
86 لباب الأصول للسيد الجرجاني.
الفقه
236 الكلمات الشريفة في تنزيه أبي الحنيفة لنوح أفندي ابن مصطفى.
159 نزهة العين في زكاة المعدنين للعلامة حسن الجبرتي.(77/45)
نسختان من شرح الصدر الشهيد عَلَى الجامع الصغير.
321 حاشية أبي السعود عَلَى الأشباه والنظائر (في جزأين غير كاملة التأليف).
285 تعارض البيتين للخضاف.
281 تحرير المقال في أحكام بيت المال للدنوشري.
88 الحدود والأحكام.
307 خبايا الزوايا للزركشي.
310 البيان فيما يحل ويحرم من الحيوان لابن العماد.
220 تيسير الوقوف للمناوي.
912 توقيف الحكام في الأنكحة لابن العماد.
359 جزء من مسائل الخلاف للدبوسي.
163 تقويم النظر بجداول في الخلاف.
312 كشف المروط عن محاسن الشروط.
366 الكشف التام عن إرث ذوي الأرحام للمحلي الشافعي.
التصوف
78 القول المحمود لسبط الشر بلالي.
112 تأييد الحقيقة العلية للسيوطي.
40 معه محض النصيحة للغزالي.
95 مجموعة لسيدي أحمد زروق.
الأخلاق
182 وصية الإمام الشافعي وبهامشها وصية ابن خفيف.
183 الآداب الملوكية لأبي نصر الفارابي.
117 عيون الأخبار للخمي.
1 الذريعة للراغب نسخة يغلب عليها الصحة.
167 محاسن الإسلام.
199 رسالة للعضد في الأخلاق.(77/46)
94 لمح الفكر لبسط الغزالي.
109 نصيحة الحكام.
أربع رسائل في الأخلاق.
141 غرائب الأول للغزالي.
112 نهاية الرغبة في الحسبة.
195 أحكام الاحتساب ألفه سنة 1267.
149 فيض الحرم.
الحكمة
194 فيض الحرم.
رسالة المعاد لا بن سينا.
شروح عينية ابن سينا.
83 الاستبصار فيما تدركه الإبصار للقرافي (في علم المناظر).
53 مجموعة في الحكمة.
55 مجموعة أخرى.
86 مجموعة أخرى.
المنطق
44 الآيات البينات.
77 تعريب الرسالة الفارسية للسيد لولده.
17 مجموعة.
آداب البحث
11 شيخ الإسلام عَلَى السمرقندي.
13 مجموعة في آداب البحث.
اللغة
6 سفر السعادة للسخاوي
32 الوجوه والنظائر.(77/47)
35 تحفة الأريب في غريب القرآن لأبي حيان.
55 دستور اللغة.
56 تاج المصادر لأبي جعفر محمد البيهقي.
نسخ من مقدمة الأدب.
78 نظم الفصيح لابن جابر.
85 سر الصناعة لابن جني.
86 المعجم لأبي هلال العسكري.
116 كتاب التذكير والتأنيث لبي حاتم السجستاني.
117 مختصر في المؤنث والمذكر.
118 عقد الجوهرة في المؤنث والمذكر.
160 الألفاظ المعربة للسيوطي.
163 المقتضب.
164 بحر العوام.
179 مجموعة بها الأحاجي النحوية للزمخشري.
184 مجموعة في اللغة.
185 مجموعة في اللغة.
الصرف
30 الهارونية وعليها شرحان.
32 إتحاف الرفاق في الاشتقاق.
النحو وسر العربية
190 الخصائص للقرافي.
184 الكواكب الدرية في استخراج الفروع من القواعد النحوية للأسنوي.
145 فرحة الأديب لأبي محمد الأعرابي.
173 شرح ابن باشاد عَلَى مقدمته.
157 اختصار المفصل.(77/48)
129 اللباب للعكبري.
167 شرح ألفية ابن معطي المشريشي.
155 المقدمات لابن إياز.
273 شرح شواهد التحفة الوردية للمغني.
حاشية الدماميني عَلَى المغني.
62 شرح الإرشاد.
172 النكت للسيوطي.
رصف المباني في حروف المعاني.
إعراب الكلمات الغريبة.
إعراب بعض مشكلات في الحديث والشعر.
271 مجموعة في النحو.
ألفية ابن معطي.
272 مجموعة بها حاشية المكي عَلَى التوضيح.
البلاغة
نصرة الثائر.
زهر الربيع للتنوخي.
100 رشف النبيه من ثغر التشبيه.
شرح بديعية صفي الدين الحلي للجزائري.
83 الدر الثمين في محاسن التضمين.
71 الأحاجي والألغاز للخطيري.
شروح عروض ابن الحاجب للفيومي.
الشعر
317 ديوان جيران العود
الوزير ابن الزيات.
السري الرفا.(77/49)
ابن نباتة السعدي.
ابن حيوس.
إبراهيم الغزي.
الأمير صلاح الدين الكاملي وبه خروم.
محي الدين ابن عبد الطاهر.
ديوان الباعونية.
298 وسائل السائل.
322 شرح القصيدة الحميرية لنشوان.
شرح المقرية للسندوبي.
نسخ من شرح بانت سعاد للتبريزي.
شرح القشرطاسية شمن نمرة 412.
قصيدة ابن الدريهم في المديح النبوي.
شرح لامية أبي العلاء لتاج الدين في مجموعة نمرة 342.
الأدب
31 رسالة الحصكفي.
جمع الجواهر للحصري.
300 العزيز المحلي.
302 منثور الحكم ناقص الآخر.
290 سوابغ النوابغ شرح الكلم النوابغ.
التاريخ
الإعلان بالتوبيخ.
648 تاريخ الأفغان والعجم.
المدينة للمطري.
تحقيق النصرة.
شرح البسامة في تاريخ اليمن.(77/50)
724 تاريخ الكبسي.
نسختان من كوكب الروضة.
الوفا والمختار كلاهما في السيرة النبوية.
نور العيون لابن سيد الناس.
تنزيه المصطفى المختار عن ما لم يثبت من الآثار.
الجزء التاسع عشر من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
الكاشف في رجال الصحاح الستة.
تقريب التهذيب لابن حجر وبخطه.
كتاب الألقاب لابن حجر.
54 طبقات الحنفية للتميمي.
طبقات الشافعية للأسدي.
طبقات الحنابلة للعليمي.
الأول من تاريخ بغداد.
المجموعة التاجية.
شرح قلائد العقيان لابن ذاكور.
مختصر قلائد العقيان لابن فضل الله العمري.
الطب
أغذية المرضى للسمرقندي.
التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي خلف.
الصناعة
عمدة الكتاب في صفة الأقلام والمداد.
فنون متنوعة
الفوائد الخاقانية.
مفتاح السعادة.
مدينة العلوم.(77/51)
الأحكام الملوكية لابن متكلي.
المجاميع
25 بها أرجوزة في فصول السنة لابن سينا.
32 بها أصول وضوابط للنووي.
36 بها رسالة في الأحاجي النحوية ذيل رسالة ابن هشام.
38 رسالة الملائكة للمعري.
587 نصاب الاحتساب للشيخ عمر الشامي.
58 موضوعات الصاغاني.
62 القانون في حكم العالم والمتعلم والعلم لليوسي.
69 رسالة لابن كمال باشافي إعراب كلمات دائرة عَلَى السنة.
مجاميع
89 به الثغر البسام في قضاة الشام.
00 ومعه البرق السامي في تعداد منازل الحج الشامي.
80 بها عدة رسائل منها النساء المتزوجات من قريش.
87 نسخة أخرى من نصاب الاحتساب.
89 القصيدة اللغزية في المسائل النحوية لأبي سعيد الأندلسي ومعها شرحها وملحق بألغاز الزمخشري وابن هشام.
92 الفتح الرباني في الرد عَلَى البنياني للدماميني.
105 الزهر اليانع في قول العامل والصانع.
106 شرح الربعين النووية لابن دقيق العيد.
114 لسان العرب في علوم الأدب لابن شعبان.
115 مقدمة الجزولي في النحو.
124 رسالة الاشتقاق.
125 حدائق الحقائق لمحمد بن أبي الرازي.
127 الدروس في العروض لابن الدهان.(77/52)
133 رسالة في ما يجب عَلَى السلطان وله.
139 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء.
كتاب المغتالين من الأشراف.
144 قمر التمام في شرح آداب الفم والإفهام.
159 رسالة في أسماء الرسوم التي عَلَى الآلة ذات الصفائح.
161 شرح الربعين النووية لأربعة من العلماء التاودي وابن شقرون وبيس وابن كيران شرح كل واحد عشرة أحاديث.
162 ألغاز ابن فرحون.
171 رسالة في قضاته عليه الصلاة والسلام وبها تحذير الخواص من أكاذيب القصاص وبها رسالة للشيخ عيسى العروضي وجبل المقطم.
172 رسالة الصاغاني في موضوعات شهاب الأخبار يليها رد عليها المحافظ العراقي.
175 رسالة في آداب حملة العلم للحافظ الذهبي.
186 رسالة المحاسبي في التصوف.
ذيل التفسير
فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن لابن الجوزي.
شرح ملا علي قاري رائية الشاطبي في الرسم.
البرهان في علوم القرآن للزركشي.
الفتوحات الربانية للمرجاني.
مصطلح الحديث
تدريب الراوي للسيوطي وبها تقريرات وزيادات.
الحديث
عوالي الإمام مالك.
الأصول
تشنيف السماع للقوصي.
التصوف(77/53)
حاشية الخوافي عَلَى عوارف المعارف.
الحكمة
الإبصار والمبصر لأبي الحسن العاملي.
النحو
الحاشية الهندية للدماميني.
شعر
نزول الغيث للدماميني.(77/54)
العنجوس أو الشبث أو المالوش أو الكاروب
1ً: مدخل البحث
ثلاثة أشياء ترقي البلاد أعظم الرقي وترفعها إلى أوج المدنية والعمران وهي العلم والصناعة والزراعة فإذا وجدتها في صقع قلت: هناك أيضاً الفلاح والنجاح والحال أن المقتبس كثيراً ما بحث عن العلوم وطرق أبوابها المختلفة وتعرض أيضاً في بعض الأحيان للصنائع، إلا أنه كثيراً ما أغفل الزراعة، معين ثروة البلاد وسبب رقيها. ولست أريد الآن ذكر منافع هذا الفرع من الحضارة فهذا مذكور عَلَى الألسنة ومستفيض الخبر بين الناس كلهم أجمعين. إنما أريد أن أبين هنا ضرر آفة تفتك بالزراعة أعظم فتك وتتلف أتعاب الزراعين لعدة سنين في قليل من الزمن. أريد الكلام عن العنجوس، وقبل أن أمعن في البحث أذكر ما لهذه اللفظة ومرادفاتها من الحظ في اللغة فأقول:
2ً: حظ هذه الألفاظ من اللغة
العنجوس لم ترد في ديوان من دواوين اللغة التي في أيدينا إن مطولة وإن مختصرة. وهذا يدلك عَلَى أن معاجمنا عَلَى ضخامة مجلداتها لا تحوي كل اللغة بل جزءاً منها. ويستحب أن يسعى اللغويون في وضع معجم جامع للشوارد والأوابد والضوابط والروابط ولمصطلحات أصحاب العلوم والصنائع والفنون عَلَى ضروبها وفروعها حتى تكون تلك الدواوين مرجعاً يعود عليه كل عربي في كل موضوع ومصطلح.
هذه اللفظة وإن لم تذكر في كتب فنون اللغة إلا أن الإسكافي نص عليها في كتابه مبادئ اللغة والمؤلف كما تعليم من أهالي أوائل المائة الخامسة من الهجرة وكان من المجلين في اللغة في عصره. فالاعتماد عليه مما يركن إليه فقال المذكور في الصفحة 157 من النسخة المطبوعة بمصر بمطبعة السعادة ما نصه: العنجوس (وضبطها وزان صعفوق أي بفتح وسكون وضم. والمشهور أن ما جاء عَلَى وزن فنعول يكون مضموم الأول كزنبور وصندوق (ويجوز في هذا فتح) والصنبور والطنبور والعنتوت والعنبوج والعنجوف والعنجول والعنجوج ونحوها. دخال الأذن وقيل: بل هو الذي يفسد المزارع ويخلخل مساد الماء بالفرسية وأرسوه (كذا) وبيدنا أوسع المعاجم الفارسية ولم نرى فيه هذا اللفظ(77/55)
الفارسي. وشك أن الواقف عَلَى طبع هذا الكتاب صحف هذه الكلمة كما صحف كثيراً غيرها. وقد يقال في معنى هذا الحرف أنه يدل عَلَى معنى دخال الأذن عند قوم من العرب ويعني المالوش عند قوم آخرين أو عند أغلب العرب. فإن كان بالمعنى الأول فهو من أصل سامي قديم من عجش بالشين المثلثة في الآخر ومعناه لسع ولذع وغرز في اللغة الآرامية. وإن كان بالمعنى الثاني فهو عجس العربية ومعناها: قبض عَلَى الشيء أو شد القبض عليه. وهو من خواص المالوش. كما ستراه فيما في وصفه العلمي.)
الشبث وزان السبب مثل العنجوس في الاختلاف في وصفه قال في اتلتاج: دويبة كثيرة الأرجل عظيمة الرأس من أحناش الأرض (وهذا هو وصف دخال الأذن الكبير) وقيل: هي دويبة واسعة الفم مرتفعة المؤخر تخرب الأرض وتكون عند الندوة وتأكل (صغار) العقارب وهي التي تسمى (عند قوم من العرب) شحمة الأرض اهـ. وهذا أدق وصف جاء للقدماء في المالوس. واللفظة مشتقة من لفظة سامية مشتركة المعنى في جميع الحروف من شيث به بمعنى تعلق لتعلق كلتا هاتين الحشرتين بفريستهما.
العنجوس والشبث من كلام العرب الفصيح. وأما أهل الشام فيسمون هذه الدويبة المخربة المالوش والكلمة من أصل سرياني (أرميّ) من ملش أي نزع الشيء ونتفه وخرطه وقشره وخربه: وكل ذلك من أعمال المالوش هذا فضلاً عَلَى أن اللفظة سريانية المعنى والمبنى واللفظ عَلَى أنه قد يكون من أصل عربي فصيح من ملش الشيء. إذا فتشه بيده كأنه يطلب فيه شيئاً. عَلَى أن فاعول من الأوزان الخاصة بالآرامية وإن وردت ألفاظ عربية موزونة هذا الوزن الأرجح إذاً أنها أرمية أي سريانية.
وأما أهل العراق يسمون هذه الدويبة الكاروب وزان الماوش واللفظة مشتقة من كرب الأرض آثارها وقلبها. وهذا العمل كما رأيت من خصائص هذا الحييوين. عَلَى أن بعضهم يربطون فيسمونه الكرنيب ويلفظونها الجرنيب بجيم مثلثة فارسية وهو غلط. لأن الكرنيب هو نوع من الجعل يقع في كرناف النخل وأهل العراق يسمون الكرناف كرنيباً وهو أصول السعف التي تبقى بعد قطعه في جذع النخلة. وكان الصل في هذه اللفظة جعل الكرناف أو الكرنيب فحذف المضاف وبقي المضاف إليه من باب شهرة الشيء.
3ً: وصفه العلمي(77/56)
العناجيس: طائفة من الأحناش من رتبة مستقيمات الأجنحة من جنس الجدجد. اسم هذه الدويبة الفرنسوية العامي - واسمها الفصيح عندهم والإنكليز يسمونها - أي الخلد الجدجد واسمها العلمي بالمعنى الإنكليزي وسميت كذلك لمشابهتها لهذين الحيوانين معاً بظواهرها.
يدا هذه الدويبة عريضتان مفلطحتان قويتان كأنها يدا الخلد وهم مسننتان وقاطعتان من الداخل. تتخذهما بمنزلة منشار ومر وهي تنشر بهما ما يمكن نشره من أصول الشجار وعروقها وجذورها، وتحفر بهما ما يمكن حفره. وفكاها قويان صلبان.
بدنها ضخم كالإبهام مكتل وهي تجر نفسها جراً عَلَى الأرض. وهي دميمة الصورة جهمة الوجه لونها أسمر وغريبة الخلقة كأن بها قعساً لبروز صدرها واندغام رأسها فيه. ورأسها بيضي الشكل منحنٍ نحو الأرض يذكرك شكله بشكل رأس السرطان تقريباً ما خلا لونه. وجناحاها طويلان كفا ية ومطويان طي الشباك ويتجاوزان الغمدين. وقدها كبير بالنسبة إلى مجموع سائر أعضائها وينتهي بطنها بشوكتين مفصلتين شعراوين طويلتين بعض الطول.
والعنجوس يرى في جميع الربوع ويعيش كما يعيش الخلد أي تحت الأرض وهو كثير من الضرر ولا يعرف له منفعة إلى الآن.
وللعنجوس تباينات منها: العنجوس المشهور أو طوله من 3 إلى 5 سنتيمترات ولونه أطحل وفي عصعصه شوكة مخروطة معوجة حادة وغمداه بطول البطن ضعيفين. وهو يقضي شتاءه غائراً في الأرض في حالة الخمول والجمود فإذا أقبل الربيع نشط من عقاله وغادر خلوته المظلمة خارجاً منها بثقب يثقبه صعباً ويبقى مرقى له وطريقاً ينسل منه عند الحاجة. وعند الهيج يقف الذكر ربيث عند فوهة الثقب ويسمع دوياً دقيقاً رخيماً تلتذ به الأنثى فتقرب منه. وبعد اللقاح تضع الأنثى من 200 إلى 300 بيضة في ثقب محفور تحت قارعة رزدق من الرزادق فتنقف بعد شهر عن فراخ شديدة البياض لا أجنحة لها كأنها الخراطيم فتنمو رويداً رويداً وتتحول من حالة إلى حالة حتى تبلغ أشدها في الصيف التالي.
والعنجوس يحفر الدهاليز والأروقة الطويلة في باطن الأرض ويخددها أخاديد كثيرة. وهو(77/57)
بلية من بلايا البساتين والحقول والزارع وقد ظن جمهور من الناس في سابق العهد أن هذه الدويبة من أكلة الحشائش والبقول. وليس الأمر كذلك إنما تقطع الجذور والأصول والعروق التي تقف في وجهها وقوف العقبة الكؤود طلباً لرزقها. وهي لا تأكل إلا ما تجده من دود الهوام والحشرات وصغارها. إلا أن قطعها للجذور يتلف أشجاراً كثيرة ويميتها بتاتاً.
4ً: طريقة إتلافها
هذا العنجوس أعيى حياة الفلاحين والزراعين حتى أيسوا من اتخاذ الو سائل لمحاربته أو لمطاردته. فأشار بعضهم أن تحفر في الأرض موارد عديدة تكون جدرانها مقطوعة قطعاً تامة قياماً فإذا جئت لتردها سقطت فيها ولم تعد تستطيع أن تخرج منها.
ذكر آخرون أن أحسن طريقة لإتلاف العناجيس هو أن تحفر في الأرض حفر مربعة ويلقى فيها السماد فتسرع في الحال تلك الدويبات لتطلب فيها رزقها من الحشرات فإذا صارت فيها أخذت بمئات وقتلت. وإن شئت طريقة ثالثة فادفن في الأرض جرارً مدهونة الداخل بدهان الخزف فإذا دخلتها لن تستطيع الخروج منها لزلقها كلما حاولت الخروج منها. إلا أن هذه الذرائع ليست مما يعمل بها في الأرضين الواسعة بل في البساتين الصغرى. ومما يساعد عَلَى إتلافها الجرذان والفئران وكثير من الطيور والله الواقي.
بغداد
(ساتسنا).(77/58)
التعليم في مصر
انحصر الأمل في العهد الأخير بارتقاء المعارف في اللغة العربية بالقطر المصري لأنه من بلاد العرب في نقطة متوسطة ولأن الذين يتكلمون بالعربية من أبناء هذا اللسان في شمالي أفريقية وغربي آسيا هم تحت سلط حكومتين تريد كل منهما أن تنشر لسانها وتقضي عَلَى لسان البلاد الأصلي ففرنسا لا تعنى إلا بتعليم اللفة الإفرنسية في الجزائر وتونس وستكون كذلك في مراكش والدولة العثمانية لا تعلم غير التركية حتى في المدارس الأميرية الابتدائية في الشام والعراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس وبرقة ولذلك بات الرجاء معقوداً بمصر وحدها. وهذا الرجاء قد عظم خصوصاً بعد أن أصبح التعليم الابتدائي وأكثر التعليم الثانوي بالعربية وأصبح مدرسة الزراعة العليا تدرس منذ هذه السنة بالعربية. وإذا دام هذا الارتقاء الذي حدث بهمة ناظري معرف مصر سعد زغلول باشا وأحمد حشمت باشا فسيكون المصير تدريس الطب والحقوق والهندسة وغيرها أيضاً من التعليم العالي باللغة العربية فيعود للبلاد رونقها. نعم إن مصر تنفق عَلَى التعليم قليلاً بالنسبة لما تنفقه اصغر الحكومات الأوربية كسويسرا أو هولاندة أو البلجيك مثلاً وكلن الزيادة إذا أطردت في ميزانية المعارف توشك بعد مدة أن ترقى درجة عالية وإناطة التعليم المحلي بمجالس المديريات منذ سنة 1910 بزيادة مبلغ طفيف في المئة عَلَى أموال الأطيان سيكون من ورائه فائدة كبرى وبعض المدارس التي أنشئت ثانوية وبعضها مدارس للبنات وعند مجالس المديريات الآن 45173 صبياً و5500 بنت في الكتاتيب عدا 10000 صبي في المدارس التي هي أعلى منها وهذه المدارس ستقلل عدد الأُميين في مصر.
وبلغ عدد التلامذة في المدارس التي تحت إدارة نظارة المعارف في سنة 1911 15169 و2713 في مدارس تعليم معلمي الكتاتيب و7749 في المدارس الابتدائية و1644 في المدارس والفرق الصناعية و2160 في المدارس الثانوية و56 في الرسالات المصرية وتراقب نظارة المعارف 3590 كتاباً للذكور والإناث فيها من الجنسين 211485 و32 مدرسة ابتدائية ومنها 19 لمجالس المديريات فيها 5522 و14 مدرسة صناعية زراعية فيها 2093 ومدرسة ثانوية فيها 222 و3 مدارس لتعليم معلمي الكتاتيب وفيها 226 ومدرسة لتعليم الممرضات والقوابل وفيها 29 وإصلاحية الجيزة وفيها 598.
والتقدم في ترقية التعليم في الكتاتيب مطرد تحت مراقبة الحكومة وقد بلغت مساعداتها التي(77/59)
أعطتها 22982 جنيهاً وعدد الكتاتيب الخصوصية التي تراقبهم الحكومة وتعطيها الإعانات 3455 وكان عند نظارة المعارف 146 كتاباً تحت إدارتها الخاصة فيها 361 معلماً و71 معلمة و9901 من الصبيان و5268 من البنات و13 من هذه الكتاتيب خاصة بالبنات.
ولا يزال عدد المدارس الابتدائية تحت إشراف نظارة المعارف رأساً 32 مدرسة منها 11 في القاهرة و31 في الأقاليم ونقص تلامذتها 888 عن العام السابق لتوسع مجالس المديريات في أمر التعليم إما بإنشاء مدارس ابتدائية جديدة أو بإسعاف بعض المدارس التي كانت موجودة من قبل ومجموع ما في مدارس الصبيان الابتدائية التي للمعارف وعددها ستون 12405 وأُعدت الموال اللازمة لإنشاء مدرسة ثانوية جديدة في أسيوط تحت مراقبة المعارف وتفكر الحكومة في مراقبة المدارس الثانوية الخصوصية ومساعدتها كما فعلت في الكتاتيب والمدارس الصناعية.
وزادت الغربة في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة في تعليم البنات وأنشئت لهن مدارس جديدة أنشأتها المعارف أو الأفراد ثانوية وكتاتيب وأصبح عدد مدارس البنات التابعة لنظارة المعارف والتي تحت مراقبتها 2713 وعدد التلميذات فيها 25023 وكان نمو التعليم الزراعي والتجاري والصناعي سريعاً سنة 1911 فمدارس المعرف من هذا النوع 12 مدرسة وغيرها 14 وعدد التلامذة في الأولى 2097 وفي الأخرى 1968 وأنشئت بعض المدارس الزراعية وأصلحت دروسها وبرامجها ويبلغ عدد التلامذة في المدارس الصناعية 1617 فشمل التعليم العملي في مدرسة الهندسة علمي السائلات والميكانيكات واستخدم مكان توليد النور للتجارب في الصناعة الكهربائية وجعلت مدرسة الفنون التي أنشئها الأمير يوسف كمال في القاهرة سنة 1908 وفيها الآن 115 تلميذاً تحت مراقبة المعارف وأدخل فيها عملاً برغبة منشئها أسلوب جديد يزيد ميل التعليم فيها إلى الخطة العملية ويزيد ارتباطها بالفنون الوطنية ومنشئ هذه المدرسة يقوم بنفقاتها ووسعت مدرسة التدبير المنزلي وسيعلم البنات تدبير المنزل إلا قليلاً. وفتحت مدرسة للمحاسبة والتجارة فيها 150 تلميذاً ما عدا الدروس التجارية الليلية التي تعطى في القاهرة والإسكندرية ونال شهادة مدرسة الطب 27 والحقوق 79 وبلغ عدد مدارس المعلمين سبعاً للرجال واثنتين للنساء وعدد تلامذتها كلها 1182 وكان عدد الرسالة المصرية في أوربا 52 تلميذاً في إنكلترا و6(77/60)
في فرنسا و1 في النمسا وأرسل مجلسا مديريتي الدقهلية والجيزة تلامذة إلى أوربا ليتعلموا علم التعليم فأرسل أربعة إلى بلجيكا و3 إلى إنكلترا و3 إلى فرنسا.
وبلغ عدد طلبة الأزهر والمعاهد الدينية الأخرى في الإسكندرية وطنطا ودسوق ودمياط 14000 و524 أستاذاً وفي مدرسة القضاء الشرعي الآن 391 طالباً 35 في القسم الأعلى وتخرج منها هذه السنة 12 طالباً وهو الصف الأول. هذا خلاصة ما تم وأهم شيءٍ أن الحكومة منحت مئة ألف جنيه لمجالس المديريات تستعين به عَلَى إنشاء المدارس الحديثة وتأثيثها وتجهيزها وأكثر هذه المدارس قد نجز كما زادت ميزانية المعارف ثلاثين ألف جنيه لإصلاحات وأعمال قامت بها لمعاهد التعليم.(77/61)
بين دمشق والقاهرة
سادتي الأخوان
يعجز البيان عن توفية صداقتكم حقها ومقابلة عواطفكم الجميلة بمثلها فقد كسوتهم وطنيكم هذا حلة تقصر عنها قامته وظهر إحساسكم الشريف في مظهر أنساه ما لقيه من المشاق في سبيل الوصول إلى حماكم فدمتم ودامت عوارفكم كيفا يلجأ إليه في الملمات وعلم نور يستضاء به في الظلمات، ولقد كنت بيت العزم منذ شهرين أن أزور مصركم في الشتاء المقبل لألقى من خلفتهم فيها من خلص الأصدقاء مصريين وعثمانيين ولكن قضت الأقدار أن أهبط مصر في صيفها وأهلها يرحلون عنها عَلَى أن مصر حلوة في فصولها الأربعة لأن السر في السكان لا في المكان كما كنت أود أن أشخص إليها من طريق البحر المطروق في ست وثلاثين ساعة موفورة لي أسباب الراحة لا أن أوافيها من طريق البر المهجور عَلَى مطية أقضي في السير والسرى من دمشق إلى القاهرة أربعة عشر يوماً وألقى فيها من فقد الراحة ما يلقاه العادة السفار في القفار.
إن ما حملني عَلَى انتيابكم في هذه الحال تعرفونه بأجمعكم وليس ببدع أن ينال مثله كل من يتصدى لطلب الإصلاح وينشد الحق والعدل في بلاد حكمت قروناً بالاستبداد ولم تكتب لها السلامة منه، ومن ابتلى بذلك يستطيب الأذى إذا أنتج عمله نفعاً للخير العام.
قضيت في الشهر الفائت ثلاثة وعشرين يوماً في زيارة مدينة الرسول وآثار وادي موسى أو بترا المعروفة بالعربية الصخرية وبلاد مآب أي الكرك وارض الشراة التي كان يسكنها بنو العباس في أيام بني مروان ومنها خرجوا بالدعوة لدولتهم وأرض البلقاء التي كانت مصايف لني أمية أيام حكومتهم في دمشق وغير ذلك من الأقاليم في أقصى حدود بلاد الشام الجنوبية ومن هذه الأقاليم ما وصل إليه الخط الحجازي ومنها ما يقصد إليه عَلَى الدواب فلما عدت إلى دمشق أستريح من وعثاء السفر فاجأتني الحكومة المحلية بما عودتنيه أيام الحكم المطلق والحكم المقيد من خرق قانون الحرية الشخصية والفكرية ومحاولة النيل مني بلا موجب.
سعيت وطائفة من أصدقائي في سورية بعد انتشار القانون الأساسي أن يكون في بلادنا دستور حقيقي يستمتع به العثمانيون عَلَى اختلاف عناصرهم ونحلهم ولكن الفئة المتغلبة عَلَى الحكومة في الآستانة والمرسلة بصنائعها إلى الولايات أبت وخصوصاً بعد سقوط(77/62)
وزارة رجل السياسة العثماني كامل باشا إلا أن يكون الدستور استبدادياً في صورة حرية فكنا كلما طالبنا بمطلب من مطالب الإصلاح الطفيف اتهمونا بأنواع التهم بل كنا معهم كما قال ابن أبي طالب كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم فالحكومة بل الحاكم الذي كان يرهقنا زمن الاستبداد ويشردنا عَلَى أننا ناقمون عَلَى حكومة المخلوع حتى اضطررنا أن نقضي أربع سنين في هذا القطر فراراً من الحيف عاد في الدور الذي يدعونه بالحرية يرمينا بالارتجاع ثم الدعوة لإنكلترا ثم بالدعوة لحكومة عربية إلى غير ذلك مما يختلقون من ضروب الافتراءِ الذي لا يستنكف كل ضعيف في حكومة هذا الشرق التعس من أن يلصقه بمن لا يقدر عَلَى حجابه بالبرهان إذا دله عَلَى عيوبه ليتقيها ونصح له بالاعتدال لتطويل أيامه ولا تساوره أسقامه.
ففي مثل هذه الحالة يسارع مثلي إلى الهرب من وجه الظلم إذ لا قانون هناك يأخذ للضعيف من القوي وما القانون عندهم إلا هوى النفس ولا رواج إلا للزور والنفاق ولا عجب فقد قال ابن خلدون أن الدول إذا تنزهت عن التعسف والميل والأفن والسفسفة وسلكت النهج الأمم ولم يجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وإن ذهبت مع الإغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي الباطل نفق البهرج الزائف.
ولذا أرسلنا ساقينا للريح ساعة بلغنا أن الحكومة المحلية في سورية تريد القبض علينا عَلَى نحو ما قبضت عَلَى شقيقنا أحمد المدير المسئول لجريدة المقتبس فسرنا (يوم 17 نيسان (أبريل) 1912) بدون ريث بين حدائق صالحية دمشق حتى بلغنا الزاوية الغربية الشمالية منها في المكان المعروف بقبة السيار ومنها قصدنا من دمر إلى المزة بالتصعيد في الجبل أيضاً وهناك اختبأنا في إحدى قرى وادي العجم أياماً حتى تهيأت لنا أسباب الهزيمة عَلَى حصان في صحابة صديق لنا قديم رافقنا من أقصى حدود وادي العجم فمررنا من طرق معوج اجتزنا فيه أرض المزة وبلاس والأشرفية وصحنايا والدرخبية والطيبة وشقحب ثم دير العدس والحارة من قرى إقليم الجيدور المعروف عند الإفرنج بايتورة حتى بلغنا النقرة من بلاد الجولان التي يسميها الفرنجة غولانيتيد فقدنا بالقرب من نهر الرقاد وكنا هومنا في الليلة الفائتة عَلَى مقربة من نهر الأعوج المعروف في الكتب المقدسة باسم فرفر من عمل(77/63)
وادي العجم.
وفي الجولان اتصلنا بجماعة من تجار الإبل ذاهبين إلى مصر فسايرناهم وقطعنا سهول الجولان ومراعيه وبتنا في الليلة الثالثة دون عقبة فيق ومن الغد هبطنا العقبة وهي لا تقل عن ساعتين وتعد من أعظم عقاب بلاد الشام ومنها يشرف المرء عَلَى أراضي الغور غور بيسان وبحيرة طبرية ونهر الشريعة أي الأردن وليس عَلَى هذا النهر العظيم سوى جسر قديم متداع وجسر بنات يعقوب فقطعنا الأول سباحة عَلَى الدواب ثم توقلنا الجبل إلى موقع الدلايكة وهو وادٍ بين جبلين منفرجين متآزيين من عمل طبرية عاصمة الأردن القديمة بل عاصمة الجليل أصبح أكثره ملكاً للصهيونيين من مهاجرة الإسرائيليين الأوربيين يستنبتونه ويستثمرونه عَلَى طريقتهم المتعارفة في ديار الغرب حتى لقد تحس للحال بالفرق بين زراعة الوطنيين وزراعة المهاجرين فقرية مما ملكهم أرقى بزراعتها مرات من قرية كفر سبت وسكان هذه من المهاجرة الجزائر فبتنا تلك الليلة في سوق الخان بلد الصبيح عَلَى ساعتين من الناصرة وفي سفوح جبل الطور المشهور في التاريخ المسيحي.
وفي اليوم الرابع اجتزنا غابة غبياء من شجر البطم فرأيناها آيلة للخراب كما تؤول الآن غابات سورية كلها اللهم إلا ما كان من غابات لبنان التي تزيد ولا تنقص وقطعنا هذه الحراج في ساعة ونصف حتى بلغنا قرية دبورية وفي منقطع أرض هذه الدسكرة يبتدئ مرج ابن عامر أو سهل يزرعيل المذكور غير ما مرة في التوراة، قطعنا بالعرض في أربع ساعات حتى بلغنا قرية اللجون ومنها دخلنا في وادي عارة من عمل نابلس وطوله ثلاث ساعات وهو ضيق النطاق متوازي الأضلاع خصب الرباع وفي آخره كان آخر عهدنا بجبال سورية إذ لم نعد نرى بعده جبلاً يذكر حتى بلغنا أرض مصر في جهات العريش وقطية فلمحنا عن بعد جبلاً في الرمال يسمونه جبل الحلال وبتنا الليلة الخامسة في عيون الأساور عَلَى ساعتين من قيسارية وهي قرية يسكنها مهاجرون من البوشناق وكانت من المدن الكبرى العامرة في القديم، وفي اليوم السادس اجتزنا قرى بلاد نابلس مثل قاقون وقلنسوة والطيرة ومسكة حتى بلغنا نهر العوجاء عَلَى ساعة ونصف من يافا وعنده حططنا رحالنا وطريق هذا اليوم الذي قبله عامر بالحبوب ويكثر الزيتون في بلاد نابلس إحدى أمهات مدن السامرة من كور فلسطين وتقل المياه حتى يضر الأهلون أن يستقلوا من أماكن(77/64)
بعيدة، وفي اليوم السابع اجتزنا بقرى الساحل أمثال جبنة سدود مجدل بربرة بئر هديهد غزة وقضينا الليل في دير البلع وفي اليوم الثامن بدأ سيرنا في رمال عَلَى نحو ثلاث ساعات من غزة وبعد أن سرنا ست ساعات دخلنا في رفح أول حدود مصر والشام وقد كانت تنتابني الهواجس تلك الليلة أحاذر أن أقع في يد عدو للحرية أو أن أجالس من يستدل بذكائه عَلَى أنني لست من تجارة الإبل في العير ولا في النفير أو لا ناقة لي في ذاك القطيع ولا جمل فما فتحت عيني قبيل الغسق إلا وأنا أنشد بيت المتنبي:
تدبير ذي حنك يفكر في غد ... وهجوم غرّ لا يخاف عواقبا
فتفاءلت خيراً بالنجاة وإن كنت لا أحب التفاؤل ولا التشاؤم ولا أبني أعمالي عَلَى الأحلام والمرائي حتى إذا قيل لي ها أنت في رفح تدوس تربة مصر قلت ما أحراها أن تدعى فرحاً لا رفحاً ليكون لكل شيءٍ من اسمه نصيب ولا غرو فليس أحلى من النجاة عَلَى من كان يتوقع الخطر أو من الوصل عَلَى ما يطال به السهاد.
ومن عجيب ما لاحظته في أراضي فلسطين أنني شهدت لحكومتنا بعض أثر من عمل مثل إنشائها بعض الجسور عَلَى الأودية في حين لم أر عملاً عمرانياً في ولايتي سورية وبيروت كأن مجاورة لواء القدس للأراضي المصرية عدت فلسطين أو القسم الأعظم منها من ارتقاء بلاد الفراعنة فصحت عزيمة حكومة القدس عَلَى أن تمد جسوراً عَلَى الأقل وتعبد الطرق بعض الشيء ولا جرم أن العلى تعدي كما قال أبو تمام، ولقد كنا كلما اقتربنا من غزة نحس بتغير المشاهد في بلاد أشبه بهوائها وزراعتها بالبلاد المصرية والناس يكادون يشبهون سكان الصعيد بألبستهم ولهجاتهم وهذا من عدوى الجوار وكثر اختلاط المتجاورين من سكان القطرين فإنك كما ترى جمهوراً كبيراً من جالية المصريين في يافا وغزة هكذا تجد الجميز والموز من أشجار البلاد الحارة شائعين في صقيع غزة.
دخلنا اليوم التاسع في رمال ولم يكن يتغير شكلها خمسة أيام متوالية إلى أن قالت الإسماعيلية ها أنا ذا. وهذه الرمال كانت تعرف قديماً بالجفار جمع جفر وهي البئر القريبة القعر الواسعة لم تطو قال ياقوت وهي ارض من مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي متصلة برمال تيه بني إسرائيل والخشبي بينه وبين الفسطاط ثلاث مراحل كما في معجم البلدان فيه خان وهو أول الجفار من ناحية(77/65)
مصر وآخرها من ناحية الشام قال أبو العز مظفر بن إبراهيم ابن جماعة بن علي الضرير العيلاني معتذراً عن تأخره لتلقي الوزير الصاحب صفي الدين بن شكر وكان قد تلقي إلى هذا الموضع:
قالوا إلى الخشبي سرنا عَلَى لهفٍ ... نلقى الوزير جمعاً من ذوي الرتب
ولم تسر قلت والمولى نعمته ... ما خفت من تعب ألقى ولا نصب
وإنما النار في قلبي لغيبته ... فخفت أجمع بين النار والخشب
وكل الجفار رمال سائلة بيض في غربيها منعطف نحو الشمال بحر الشام وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها ولا شرب لسكانها إلا منها وكان فيها لعهد ياقوت نخل كثير ورطب جيد وهو ملك لقوم ميفرقين في قرى مصر يأتونه أيام لقاحه فيلقحونه وأيام إدراكه فيجتنونه وينزلون بينه بأهاليهم في بيوت من سعف النخيل والحلفاء وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة عَلَى القوافل وهي رفح والقس وزعقا والعريش والواردة وقطية وفي كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكاين قال المهلبي واعيان مدن الجفار العريش ورفح والواردة والنخل في جميع الجفار كثير وكذلك الكروم وشجر الرمان (أما نحن فلم نر كرماً ولا رماناً ولا دكاناً ولا خاناً) وأهلها بادية متحضرون ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك وأخصاص فيها منهم كثير ويزرعون في الرمل زرعاً ضعيفاً يؤدون فيع العشر وكذلك يؤخذ من ثمارهم، ويقطع في وقت من السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المرغ (والمرغ هو الطير بالفارسية) يصيدون فيه ما شاء الله يأكلونه طرياً ويقتنونه مملوحاً ويقطع إليهم من بلد الروم عَلَى البحر في وقت من السنة جارح كثير فيصيدون منه الشواهين والصقور والبواشق وقل ما يقدرون عَلَى البازي وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهة ما لبواشقهم وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الرأس لأنه لا يقدر أحد منهم يعدو عَلَى أحد لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئاً من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل ثم قفا ذلك إلى مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشاب من الشيخ والأبيض من الأسود والمرأة من الرجل والعاتق من الثيب فإن كان هذا حقاً فهو أعجب من العجائب.(77/66)
قلت وبعض ما قاله هذا المؤرخ من الاستدلال بالإقدام عَلَى الأشخاص صحيح والوطء يبقى أثره في الرمل أياماً وليس من الصعب أن يتأثر المرء هنا من استباح جنته فإنه إذا علا نشزاً من هذه الرمال وهي عبارة عن تلعات ومنعرجات ومنفرجات وأحادير لا يلبث أن يشاهد السائر من مسيرة ساعات وفي اليوم العاشر اجتزنا بالعريش وهو من البحر الأبيض عَلَى نصف ساعة فالمسعوديات عَلَى الساحل وفي الحادي عشر نمنا بالمزار وفي الثاني عشر بالجنادل وفي الثالث عشر بأبي العفين وفي الرابع عشر مررنا بقطية وبتنا بعراص، وفي الخامس عشر بلغنا الإسماعيلية فالقاهرة.
هذا هو الطريق الذي كان يطرقه المصريون والشاميون منذ علاف التاريخ وكثيراً ما كان بعضهم يؤثرونه عَلَى ركوب المراكب والسفن الشراعية لما كان فيها من الأخطار أيام لم يكن البخار يسير مراكب البحار قطعناه في أربعة عشر يوماً وكان أجدادنا يقطعونه في أربعة أيام عَلَى خيل البريد ومن هذا الطريق سار عمرو بن العاص سنة 19 للهجرة لفتح مصر فنزل العريش ثم أتى الفرها وبها عَلَى رواية البلاذري قوم مستعدون للقتال فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم ومضى إلى الفسطاط، والفرما أو الفرماء كان حصناً عَلَى ضفة البحر يحمل إليه مياه النيل في المراكب من تنيس ويخزن أهله ماء المطر في الجباب وكان بعض أهلها قبطاً وبعضهم من العرب وقد ورد ذكرها كثيراً في شعر أهل القرون الأولى وفي الفرما أوق الخليفة المأمون رضي الله عنه لما سار إلى مصر فبلت فيها وقد ذكر بغداد ونعيمها وقصورها فقال:
لليلك كان بالميدا ... ن قصر منه بالفرما
غريب في قرى مصر ... يعاني الهم والسدما
والميدان من أحياء دار الإسلام والسدم الهم مع الندم والحزن ذكر المقريزي أن الدرب الذي يسلك فيه إلى مصر في القرن التاسع للهجرة لم يحث إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة عندما انقرضت الدولة الفاطمية. وفي المسالك والممالك أن الطريق من دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلاً (كذا والميل بحسب اصطلاحهم ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع أربع شعيرات ظهر واحدة إلى ظهر الأخرى والشعيرة أربع شعيرات من ذب بغل) ثم إلى جاسم بلد أبي تمام الطائي أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى فيق(77/67)
أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلاً ثم إلى القلنسوة عشرون ميلاً ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلاً والطريق من الرملة إلى أزدود (؟) اثنا عشر ميلاً ثم إلى غزة عشرون ميلاً ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى جرير ثلاثون ميلاً ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى مسجد قطاعة ثمانية عشر ميلاً ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلاً ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلاً فهذه ثلثمائة وخمسة وستون ميلاً تبلغ نحو سبعمائة كيلومتر.
وكان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي كانت تعرف ببلاد السباخ من الجوف ويسلك من الفرما إلى أم العرب وهي بلاد خراب عَلَى البحر فيما بين قطية والواردة فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة أغار بغدوين صاحب الشوبك عَلَى العريش وهو يومئذ عامر بطل حينئذ من مصر إلى الشام وصار يسلك عَلَى طريق البر مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فصار يسلك هذا الدرب عَلَى الرمل إلى أن ولي ملك مصر الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل فأنشأ مدينة الصالحية في سنة أربع وأربعين وستمائة فلما ملك الظاهر بيبرس البندقداري رتب البريد في الطرقات حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين ويتحكم في ممالكه بالعزل والولاية وهو مقيم بالقلعة وأنفق في ذلك مالاً عظيماً حتى تم ترتيبه وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة.
ومازال أمر البريد مستمراً فيما بين القاهرة ودمشق يوجد بكل مركز من مراكزه عدة من الخيول المعدة للركوب وتعرف بخيل البريد وعندها عدة سواس وللخيل رجال يعرفون بالسواقين وأحدهم سواق يركب مع من رسم بركوبه خيل البريد ليسوق له فرسه ويخدمه مدة مسيره ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني وتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطاني قال صاحب الخطط وكانت طريق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر(77/68)
من زاد وعلف وغيره ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زاداً ولا ماء فلما أخذ تيمورلنك الشام وسبى أهلها وحرقها في سنة ثلاث وثمانمائة خربت مراكز البريد واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن عن إقامة البريد فانخل بانقطاعه طريق الشام خللاً فاحشاً.
قالوا والبريد خيل تشترى بمال السلطان ويقال لها السواس والعلوفات وهي مقررة عَلَى عربان ذوي إقطاعات عليها خيول موظفة تحضر في هولال كل شهر إلى كل مركز أصحاب النوبة بالخيل فإذا انسلخ الشهر جاء غيرهم وهم لهذا يسمون خيل الشهارة وعلى الشهارة والٍ من السلطان يستعرض في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة فيه ويدوغها بالداغ السلطاني وقد أنشأ أمراء مصر وملوكها مثل كريم الدين وكيل الخاص الناصري والملك الأشرف خليل ومفخر الدين كاتب المماليك وناصر الدين الداوادار التنكزي وطاجار الداوادار وكافل الشام الطنبغا والظاهر بيبرس البندقداري وغيرهم خانات ورباطات وفنادق ومساجد وآباراً ودساكر لأبناء السبيل وكان الطريق في بعض الأدوار يتحول قليلاً من أول الكورة إلى آخرها ولكنه لم يخرج قط في كونه من مصر من الغرب إلى الشرق ثم يعرج في بلاد الشام نحو الشمال قليلاً حتى دمشق.
وكان حمام الزاجل الذي هو بمثابة تلغراف أجدادنا يسير من القاهرة إلى ببليس ومنها إلى الصالحية ومن الصالحية إلى قطية ومن قطية إلى الواردة ومن الواردة إلى غزة ومن غزة إلى القدس ومن عزة إلى نابلس ومن غزة إلى لد ومن لد إلى قاقون ومن قاقون إلى جنين ومن جنين إلى صفد ومن جنين إلى بيسان ومن بيسان إلى إربد ومن إربد إلى طفس ومن طفس إلى الصنمين ومن الصنمين إلى دمشق.
وكان الثلج ينقل عَلَى الهجين من بلاد الشام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل بالقاهرة وقد جاء زمن وهو لا يحمل إلا في البحر خاصة - كما جاء في التعريف بالمصطلح الشريف - من الثغور الشامية بيروت وصيدا ويفرض عَلَى البقاع وبعلبك إرفادهما في ذلك وكان يسيراً فكثر وقرر منه عَلَى طرابلس ممن استقر عَلَى جبة بُسري والمنيطرة من عمل لبنان اليوم. والمراكب تأتي دمياط في البحر ثم يخرج الثلج إلى الشرابخانات الشريفة ويخزن في صهريج أعد له وأصبح في القرن الثامن يحمل في البر والبحر ومدة ترتيب حمله من(77/69)
حزيران (يونيو) إلى آخر تشرين الثاني (نوفمبر) وعدة نقلاته في البر 71 نقلة متقاربة مدة ما بينها وقد صار يزيد عَلَى ذلك ويجهز بكل نقلة بريدي يتداركه ويجهز معه ثلاج خبير بحمله ومداراته يحمل عَلَى فرسه بريد ثان والمرصد في كل نقلة خمسة أحمال والمستقر في كل مركز له ستة هجن خمسة للحمل وواحد للهجان قال العمري ولا يصل الثلج متوافراً إلا إذا أخذ الثلج المجلد وأجيد كبسه واحترز عليه من الهواء فإنه أسرع إذابة له من الماء. وكذلك قال المناور مواضع رفع النار في الليل والدخان في النهار للإعلام بحركات العدو وقد أرصد كل منور الديادب والنظارة لرؤية ما وراءهم وإيراء ما أمامهم وهي من أقصى ثغور الإسلام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل حتى أن المتجدد بكرة بالفرات كان يعلم بها عشاء. وهذه المناور بدخانها ونيرانها أشبه بالهليوستا والإبجكتيف لعهدنا.
هكذا كان طريق مصر إلى القرن التاسع للهجرة وهذا أقصى ما بلغته مدينة القوم في أسباب النقل والراحة وينزل اليوم في هذه النفوذ أي الرمال المتراكمة كما يسميها العرب أناس من عرب مصر يرجعون في أصولهم إلى يطون وأفخاذ معروفة عندهم تعرفهم بسيماهم ضئال الأجسام صفر الوجوه عَلَى نحو وصفهم واصفوهم في القرون الوسطى وهم شاوية يقومون عَلَى تربية الشاء ولهم جمال قليلة وزرعهم في الأكثر الشعير في الشتاء والبطيخ في الصيف ولهم نخيل قليل في بعض واحاتهم وبالقرب من سبخاتهم ولا حجر في ديارهم يبنون به بيوتهم ومساكنهم حقيرة يصنعونها من الخوص فلا هم بادية يؤون إلى الخيام ولا هم حضر كالعرب النازلين منذ القديم في ريف مصر كالفيوم والشرقية وغيرهما من مديريات القطر مثلاً ولهجاتهم أقرب إلى لهجات سكان جنوب سورية منها إلى اللهجة المصرية ومن فلسطين يكتالون وفي فلسطين يقضون شطراً من السنة في رعي أغنامهم وماعزهم ولم تعمل الحكومة المصرية شيئاً لارتقائهم سوى أنها نشرت أعلام الأمن عَلَى ربوعها. ولذلك ترى تجار الإبل يأتون بها من بلاد مجد والجزيرة والشام ولا يزالوا يحاذرون اعتداء السراق عليها حتى يبلغوا رفح وعندها يوقنون أنه لا يضيع لهم في تلك البادية عقال بعير ركان العرب هذه النفوذ من قبل مثلاً سائراً في الاعتداء عَلَى السابلة وهم اليوم معفون من الضرائب والخدمة العسكرية وغريب كيف لا ينالهم قسط من مدنية(77/70)
مصر فحرموا منها كما حرموا من الاستمتاع بماء النيل العذب وتربه واديه الممرعة.
هذه النفوذ هي الحد الطبيعي بين مصر والشام بل الحد الناعي الذي اصطلحت عليه مؤخراً الحكومتان المصرية والعثمانية في رفح والعقبة بل الحد الفاصل بين قارتي آسيا وأفريقية لم يحل كل الزمان دون اختلاط أهل هذين القطرين الشقيقين ومن قرأ تواريخ الجبربي وابن إياس والسخاوي وابن حجر والغزي وغيرهم يدرك أن هجرة السوري إلى مصر ترد إلى مئات من السنين ومن بحثوا في أنساب من تولوا أعمال الحكومة المصرية وشاركوا مصر في سعودها ونحوسها من العلماء والتجار والصناع يجد فيهم كثيراً من الشاميين وكذلك الحال في المصريين ببلاد الشام فلا عجب إذا كان حظ مصر والشام واحداً في السراء والضراء وعلائقهما الاقتصادية موفورة مستحكمة وليس أعلق بالقلوب من الصلات المالية. وإنا لنرى العوارض السماوية أو الأرضية كلما اجتاحت الشام فمصر والشام هما قطران بالاسم ولكن بالفعل قطر واحد جرى الاصطلاح عَلَى تسمية كل منهما باسم وكل منهما متمم لصاحبه حتى لقد سئل أحد عمال الدولة العلية في القرن الماضي عن رأيه في القطرين فقال مصر مزرعة حسنة والشام مصيف جميل.
وإذ قد عرفنا أن أجدادنا قد أحسنوا الانتفاع من مجاورة القطرين العزيزين ساع لنا أن نطالب في هذا العهد بزيادة أواخي الإخاء بينهما من طريق البر عَلَى نحو ما هي عليه من طريق البحر فيسعى العقلاء من الماليين إلى نيل امتياز يربط عاصمة الشام بعاصمة مصر بخط حديدي عريض حتى يأتي الراكب في أربعة عشرة ساعة بدلاً من أربعة عشر يوماً وإذا أحب القائمون بالأمر الاكتفاء بوصل السكة الحديدة مع أقرب الطريق إلى مصر فما عليهم إلا أن يكتفوا الآن بإيصاله إلى القدس وهذه ستتصل هذا العام بخط حيفا مبدأ السكة الحديدة من محطة العفولة والمسافة بينهما مئة عن لا تقل كيلومتر تمد عَلَى نفقة أداوة الخط الحجازي ومعلوم أن حيفا مرتبطة بدرعا ودمشق وعندها يسهل عَلَى ابن مصر الاصطياف في جبال الشام وتةبعث هذه يحبونها وثمارها وترسل مصر إلى دمشق بشيءٍ من مدنيتها وعلومها وانتظامها ويخلص كل من يريد أن يخلص إلى مصر من هذه الرمال الموحشة المرعشة والمفازة المدهشة المعطشة التي تعوذ منها كل من اجتازها وقاسى الأمرين من مائها البشع المر الهوع المتروح ولولا أنني تسليت عن المأكل والمشرب في الأيام الخمسة(77/71)
التي قضيتها في اجتياز هذه المفوز بما سمعته في أحاديث رفاقي العرب في الإبل حتى صرت كأني بعض رعاتها لطال علي أمرها ولكني حملت النفس عَلَى أن تتعلم الصبر من تزلك الجمال وطبقت فيها بالعمل ما قرأته بالنظر أيام الطلب من مصطلحات العرب في إبلهم وحدائهم فصار مذهبي ولا فخر جمالياً بعد أن كان جمالياً وعملي بالأباعر عملياً وكان من قبل نظرياً.
وكأن رحزلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي عَلَى أهل البادية من أهلب المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مواكلة الأعراب في صفحة واحدة والتخلي عن الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس والأكل من أطعمتهم وهي الثمن أرز العراق والبرغل جيش الحنطة والتمر والخبز المعمول بالملة أو عَلَى الصاج يسجر ببعر الأباعر والإدام في هذه الأيام يخالطه رمل وهذا يدخل في كل مأكول ومشروب تسفوه الرياح طوعاً أو كرهاً ولقد صدق الواصفون منذ القديم لهذه الجفار بأن الخبز إذا أكل يوجد الرمل في مضغه فلا يكاد يبالغ فيه.
وإني أحمد الله إليكم عَلَى أني قضيت أيام هذه الرحلة ولياليها برمتها لم أطالع فيها جريدة ولا مجلة ولا كتاباً ولا وقعت عيني عَلَى ورقة ولا مسكت قلماً ولا كتبت مقالة ولا محاضرة ولا نكتة ولا قيدت شاردة ولم أسمع غير حداءِ الإبل وغناءِ الأعراب ولم يصل فكري إلى أبعد من عمل القهوة البدوية أو أكل التمر ولم يبلغ أذني غير أحاديث الإبل فأصبحت ولله المنة استعذب تردادها استعذابي لترديد أخبار المدنية. ومن نعم المولى علي أني رأيت صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب تمشي بين بلاد الشام ومصر ودرست نموذجاً صالحاً من أخلاق العرب بالاختلاط بتجار الجمال ورعاتها ممن كانوا يختلفون إلينا ونختلف إليهم كل مساء وصباح فلم اسمع كلمة هجر وبذاءِ وتجديف قط وما تبيت في أخلاقهم إلا الجد الذي ليس وراءه جد والعزيمة التي تخور أمامها العزائم والبحث عَلَى الدوام فيما هم بسبيله من التجارة والعناية برعية إبلهم والقيام عَلَى صحتها فكان وجود السبط والإرطة والقطف والحمط من العريش إلى قطية فالإسماعيلية وغير ذلك من الشواك والأعشاب كالشيح والرثم التي تستطيبها أنعامهم أهم إليهم من كل حديث واشهى لقلوبهم من كل نغمة وأفعل في نفوسهم من كل نعمة من نعم الجمال والكمال.(77/72)
قضيت ويا لسعادتي أسبوعين كاملين في عالم الأباعر والبعران والإبل والحوار والبطين والبطنان والكثيب والكثبان وشين وزين وترد وتصدر وندلج ونسري وننشد ونمرح ونضحي ونعشي وغير ذلك من فصح العربية الباقية عَلَى أسلات ألسن أولئك العرب الأميين ولو أردت أن أستوفي ما سمعته في هذا القبيل لاستغرق مجلداً برأسه وما أحلى ما سمعته من أحدهم يقول لصاحبه يا فلان خذ من فلان كذا وأنت الفالج أي الرابح من الفلج وهو الظفر وكيف لا أوخذ بما وعيت ورأيت وأنا طول هذه الفترة لم أسمع نميمة ولا غيبة ولا شهدت كذباً ولا منكراًَ وكان أولئك الأعراب بأجمهم مواظبين عَلَى صلواتهم بدون تكلف يتيممون يوم يقل ماؤهم ولا يسرفون فيه إذا وجد. أخلاق طاهرة متينة ما كنت أظنها باقية في البادية وأرجو أن لا تفقد بتاتاً من أهل الحضر ولو تهيأ لسكان اليمن ونجد خاصةً شيءٌ من المدنية الصحيحة لفاقوا ولا جرم الإنكليز والسكسونيين بأخلاقهم وأناتهم ورويتهم وإني لما أخبرت القوم أيقنت بفساد القضية التي وضعها أحد الباحثين من أصول الشعوب من أن الطيش والرعونة والفسق تغلب عَلَى سكان البلاد الحارة ومع أن بلاد هؤلاء الأعراب من الأقاليم الحارة جعلت منهم التربية الدينية المعتدلة أهل اعتدال وكمال وأهل مال وأعمال.
هذا وقد أطلت حواركم حتى خفت عليكم التبرم بحديثي وإني حامد شاكر لكل ما تم عليَّ لإيقاني بأن الحوادث أكبر معلم ولولا الحادثة الأخيرة في دمشق لما تيسر أن ابلغ مصر من شرقها وأن أستمتع بلقياكم الآن وأرجو أن يدوم لي هذا الاستمتاع ولكن عَلَى شرط أن يقيض الله للبلاد العثمانية من يغار عَلَى مصلحتها وينقذها من سقطتها وأسأل قاهرة الجبابرة والسلاطين أن يمن علينا بنعمة الراحة أجمعين.(77/73)
مطبوعات ومخطوطات
الحضارة القديمة
تأليف أحمد بك كمال (ص383) طبع بمطبعة مجلة الجامعة
المصرية
أهدانا محمد كامل أفندي فيضي مدير مدرسة القاهرة وأحد أصحاب الجامعة المصرية نسخة من هذا الكتاب النفيس والمؤلف أعظم أثري في هذا القطر وكتابه هذا محاضرات كان يلقيها عَلَى تلاميذ الجامعة في حضارة القدماء المصريين يلخص بها خلاصة اختصاصه بهذا الموضوع الجليل وهو مكتوب بأسلوب ساذج ومحلى بالرسوم والصور بحيث يلمُّ قارئه إلماماً كافياً بالتاريخ القديم وآثار الفراعنة في مصر.
الحضارة الإسلامية
تأليف أحمد زكي باشا (ص84) طبع في مجلة الجامعة
المصرية
مؤلف هذا الكتاب من خيرة الخطباء والكتاب في مصر نشر عدة رسائل وكتب تعريباً وتأليفاً وآخر كتبه هذا السفر اللطيف الذي جعله في صورة رواية والحقيقة أنه كتاب في الإصلاح السياسي والاجتماعي والأدبي ومن فصول الكتاب ما يأخذ بمجامع القلب ويفيد إثارة عواطف النفس ومنها ما يشير به المؤلف إلى أمور لا يوافقه عليها الكثيرون اليوم في هذا الشرق كتبها بأسلوب صريح دل عَلَى تفانيه في الحرية والتسامح.
حكم نابليون
ترجمة محمد لطفي أفندي جمعة طبع عَلَى نفقة مكتبية التأليف
بمصر سنة 1912 (ص169).
وهي حكم أثرت لنابليون أعظم الفاتحين في القرن الماضي صدرها بترجمة حياته وعربها عَلَى أسلوب سهل حرية بأن يتدارسها أبناء المستقبل فيستفيدون الكلم الملاح من المأثور(77/74)
عن ذاك السفاح.
كلمات نابليون
تعريب إبراهيم أفندي رمزي طبع بمطبعة الهداية بمصر سنة
1912 (ص135).
هذا الكتاب هو عين الكتاب الذي سبق الكلام عليه وعربه الكاتبان عن مصدر واحد ويا ليتهما اكتفيا بإحدى الترجمتين وصرفا الوقت في نقل كتاب آخر وهذه الترجمة كالتي قبلها حسنة والمترجم أيضاً من أدباء مصر العاملين.
إياك
تعريب إبراهيم أفندي رمزي طبع بمطبعة الهداية (ص56).
رسالة فيما يجب للرجل المتحضر أن يتخطاه ولا يقع فيه من الأطوار والأقوال والعادات حرية أن يتدارسها ناشئتنا ليربوا عَلَى العادات الصحيحة والأطوار الرجيحة.
الوسيط في تراجم أدباء شنقيط
تأليف الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي
طبع بمطبعة الجمالية بالقاهرة 1329 - 1911 (ص542).
أهدانا محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي طابع هذا الكتاب وعشرات غيره من الكتب النفيسة نسخة من هذا السفر وفيه كلام بديع عَلَى أدباءِ ذاك القطر وشعرائه وعلمائه وتخطيط البلاد وعاداتها وأخلاقها واقتصادياتها والمؤلف من كبار اللغويين في هذا العصر أملى هذا الكتاب من محفوظة فسد بما نقله من شعر أبناء قطره وأخبارهم ثلمة مهمة في عالم الأدب وزاد الكتاب رونقاً جمال وضعه وطبعه وشكله.
الإعلام بمثلث الكلام
لمحمد بن مالك النحوي الأندلسي المتوفى سنة 672 ويليه كتاب المقصور والمدود له أيضاً وعليهما شرح لناشرهما الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي.(77/75)
طبع بالمطبعة الجمالية سنة 1329 (ص288).
هذا الكتاب من المهمات التي لا يستغنى عن الانتفاع بها كل طالب لإحكام ملكة اللغة وكيفية النطق بالفصيح نظمها ابن مالك شعراً سلساً مشكولاً بالشكل الكامل وعلق عليها الشيخ الشنقيطي ما يقتضي لها من شرح لئلا يتعاصى عَلَى الطالب فهمها فجاءت من الكتب الجديرة بأن لا يغفل عنها عشاق اللغة وأن يتدارسوها كما يتدارس طلاب النحو ألفية ابن مالك فنشكر معلق حواشيها عَلَى همته ونشاطه.
ديوان الشماخ
طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1327 ص120.
نشر هذا الديوان للشماخ بن ضرار الغطفاني الصحابي الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي أيضاً وهو من الدواوين التي تقوي ملكة الأدب ويستفاد من سلاستها وحكمها وقد جاء الشرح أوسع من الأصل.
مختارات البارودي
لمحمود سامي باشا البارودي المتوفى سنة 1322
بالقطع الكامل طبع بمطبعة الجريدة بمصر سنة 1327 - 1329.
أربعة أجزاء في 1803 ص.
البارودي أكبر شعراء العصر والشعراء قد يكون في اختيارهم أعظم منهم في شعرهم كما قيل عن أبي تمام الطائي في حماسته ولعل البارودي الذي صرف شطراً من أوقاته في أخريات أيامه قد وفق إلى ذلك فقد جمع من شعر ثلاثين من فحول الشعراء المولدين ما فر به عَلَى الطلاب عناءً كبيراً ورتب مختاراته عَلَى سبعة أبواب وهي الأدب والمديح والرثاء والصفات والنسيب والهجاء والزهد وأما الشعراء الذين اختارهم فهم بشار بن برد العباس بن الأحنف أبو نواس مسلم بن الوليد أبو العتاهية ابن الزيات أبو تمام البحتري ابن الرومي ابن المعتز المتنبي أبو فراس الحمداني ابن هاني الأندلسي السري الرفاء ابن نباتة السعدي الشريف الرضي أبو الحسن الهائي مهيار الدليمي أبو العلاء المعري صرد ابن سنان الخفاجي ابن حيوس الطغرائي الغزي ابن الخياط الأرجائي الأبيوردي عمارة اليمني(77/76)
سبط ابن التعاويذي ابن عينين. وقد علق عليه جامعه شرحاً وجيزاً لغوياً وعني بتصحيحه كاتب يده الشيخ ياقوت المرسي وفيه شكل عَلَى الأبيات المشكلة وطبعه جيد وحرفه مشرق يوفر عَلَى أبناء العصر ممن ضاقت أوقاتهم عن أن تتسع لكل شيء إذا اقتنوه وتدارسوه فعلى جامعه فقيد الأدب والشعر تنتهل ديم الغفران.(77/77)
أخبار وأفكار
المستعمرة اليهودية في أسوان
جزيرة أسوان أو مدينة الفيل المعروفة عند اليونان باسم الفنتين وتسمى أيضاً قبح وبالعربية جزيرة البربا وجزيرة الذهب وبالمصرية القديمة مدينة أبو هي من البلاد التي توفر علماء الآثار عَلَى البحث فيها والتنقيب في أرجاء عادياتها وصرفوا عَلَى ذلك الأموال الطائلة فظفروا ببعض المستندات التاريخية وقد كتب أحد علماء الفرنسيس في مجلة الكورسبوندان مقالة في نزول اليهود هذه الجزيرة قال إننا نجهل فيها الحوادث الخاصة التي دعت جماعة من الإسرائيليين أن يأتوا من مملكة اليهودية فنزلوا جزيرة أسوان ولا نعلم إلا أن هناك حملة عسكرية أقامها المصريون عَلَى ما يظهر تقوية للحامية في مدخل القطر المصري الجنوبي. وقد كان من افتتاح بختنصر لمدينة أورشليم أكبر حامل لكثير من اليهود عَلَى أن يهاجروا إلى مصر عرفنا ذلك مما كتبه النبي أرميا وقد قادهم نيكاو إلى تلك الأصقاع ونزلوا فيها بصورة قطعية وأصبح معظمهم جنوداً وزراعاً وكانوا يسقون حقول القثاء ويزرعون الحبوب ويجنون التمر ومع هذا لم ينسوا بلادهم الأصلية بل توطنوا عَلَى شاطئ النيل ولم يبرحوا يتذاكرون في العجائب التي حدثت زمن موسى الكليم ومازال بهم الدهر حتى ألفوا هذه الجزيرة التي نزلوها وتعلموا لغتها وعاداتها ولقد كانت أوراق البردي كلها سنة 400 قبل المسيح أيام استقلت مصر تحت سلطة ملك بينها مكتوبة باللغة الآرامية وهي اللهجة التي أصبحت عَلَى عهد الفرس لغة دولية تعلمها الإسرائيليون في وقت قليل. ولم يكن من فرق يمتاز به يهود مصر إلا من حيث الدين فهم يعبدون رب آبائهم ويدعونه أياهو رب السماء والمصريون يعبدون كيروم ورأسه رأس حمل وهم يركعون أمامه في حين يذبح اليهود الحمل قرباناً كل يوم. وقد كتبت الغلبة للمصريين عَلَى الإسرائيليين فدكوا لهم معبدهم وجعلوا عاليه سافله حتى قال الإسرائيليون في أسوان لقد أتى علينا ثلاث سنين ونحن نلبس الخيش ونصوم وأصبح نساؤنا كالأيامى ولم نتطيب ولم نشرب خمراً ولم نقدم قرباناً ولا بخوراً ولا ذبيحة في هذا المعبد الذي تداعت أركانه. وإذ قد حرموا من معبدهم في أسوان انحصروا في دائرة ضيقة مقفلة عَلَى صورة تذكرهم بما ألفوه من العادات في بلادهم وما برحت هذه الحالة بالديانة الموسوية حتى أتت عليها عبادة الأوثان الشائعة في(77/78)
ذات الزمن وعندها قام النبي أرميا يهتف قائلاً أن جميع رجال بلاد اليهودية النازلين في أرض مصر سيفنيهم السيف ويأخذهم الجوع وتمت هذه الكلمات بالفعل إذ هلك اليهود في أسوان في ثورة عامة عَلَى ما يظهر. وإنا إذا لم تصلنا أخبار ما أبداه الإسرائيليون من المقاومات في الغارات فقد انتهت إلينا أحوالهم الخاصة فنعلم مثلاً أن شريعة موسى تضيق جداً عَلَى النساء أما النساء الفنتين مدينة الفيل فالظاهر أنهن كن أقل رقاً من غيرهن ونعرف عادات الأسرة اليهودية وأن البائنات (الدوطات أو الجهاز) هي عبارة عن مرايا وكؤوس من الصفر وألبسة من الصوف وفرش من ورق البردي ونعرف أولئك المهاجرين عَلَى ما كان لهم من الشواغل الحربية والمدنية وإنهم كانوا يصرفون آونة فراغهم في النظر في الآداب ومكن الأسف أن العلماء لم يظفروا بشيءٍ من رسائلهم المقدسة ولو وفقوا لذلك لأقاموا بها عماد التاريخ الأدبي بل أثمن عمدة في بيانه.
الكبريت والخصب
أثبت العلماء أن زهر الكبريت إذا أضيفت منه كمية قليلة إلى التربة المنوعة التي تجعل في الأواني لتربية الزهور ونحوها يؤثر تأثيراً مهماً جداً في الإنبات ويزيد غلة المزروع زيادة كبرى خصوصاً في التربة المستعملة عَلَى الدوام.
سماد البوتاس
للأملاح المحلولة من البوتاس شأن عظيم بين مخصبات التربة وما من نبات ينمو بدون أن يتناول ولو كمية قليلة منه في التراب وكم استعمل في هذا السبيل فكان منه أن ضاعف غلة الأرض وأهم مناجم البوتاس في بلاد ألمانيا ولذا احتكر تجار هذه البلاد تجارة هذا السماد في العالم بما ألفوه من النقابات وتحكموا في أسعاره عَلَى ما شاؤا. وإذ كانت تربة الولايات المتحدة عَلَى خصبها لا تستغني عن هذا السماد فقد بلغ ما جلبته من السماد الألماني سنة 1900 21 مليون فرنك وفي سنة 1910 61 مليوناً وفي 1911 76 مليوناً وإذا دامت هذه الزيادة مطردة مما لا مناص منه كان عَلَى الولايات المتحدة بعد عشرين سنة أن تنفق في السنة عَلَى هذا الغرض ملياري ومائتي مليون فرنك وقد بذل مجلس نواب أميركا ثلاثة ملايين للبحث عن السماد الذي يمكن استخراجه من بعض جبال البلاد حتى لا تضطر إلى إخراج مبلغ كبير لشراء السماد الألماني ولكن أعمال اللجنة في ذلك لم تأت(77/79)
بثمرة وكذلك فعل غيرها وإذ يئس الباحثون من العثور عَلَى السماد المطلوب من اليابسة أخذوا يفكرون في استخراجه من البحر إذ أن في ماء البحر كمية من أملاح البوتاس ولذا كان المحيط الكبير حوضاً لا ينفذ منه البوتاس وحسبوا أنه إذا استخرجت من البحار جميع أملاح البوتاس الموجودة فيه يتأتى الحصول عَلَى طبقة من السماد تغطي أراضي الولايات المتحدة عَلَى علو 30 متراً عَلَى أنه من الصعب استخراج ما ينبغي الآن للفلاحين من الكميات وإن ثبت للطبيعيين أن النباتات الكبرى في المحيط الهادئ تحتوي عَلَى كميات وافرة من الأملاح وهذه النباتات اسمها باللسان النباتي بيروستيس ويمكن استنباتها بكميات وافرة في البحار الأميركية من تخوم المكسيك إلى المحيط الشمالي ويبلغ طول الواحدة عشرين متراً تتألف منها غابات غبياءُ وكل طن يجفف من هذه النباتات يحتوي عَلَى 240 كيلو من ملح البوتاس تساوي مئة فرنك ويقدرون أن كل هكتار من سطح البحر يحتوي عَلَى مائتي طن من هذا النبات والحكومة الأميركية تفكر كل التفكر بهذا المشروع الحيوي.
تلفون الصم البكم
تأسف أحد العرفين من الصم البكم في الغرب واسمه ويليام شواف لأنه محروم هو وإخوانه من التخاطب بالتلفون فاخترع طريقة جديدة تفي بهذا الغرض واستعمل النور بدلاً من الصوت عَلَى طريقة أسهل من الردايوفون لا يحتاج معها المخاطب إلى الكلام مع مخاطبه إلا أن يمعن النظر في آلة أمامه فيها الحروف والأرقام التي تتألف منها الكلمات والأعداد والمصابيح الكهربائية لا تضيء إلا إذا اشتغلت الآلة الكاتبة وتنطفئ بانطفائها. هذا اختراع الصم البكم بأنفسهم لأنفسهم فمتى يخترع يا ترى في الشرق من سلمت حواسهم من الآفات.
أعماق البحار
ثبت لأحد الأخصائيين في درس الأبعاد أن المحيط الأتلانتيكي يمتد من أسلاندة فيبلغ 150 ألف كيلومتر طولاً وعلى جانبيه حوضان يبلغ عمق البحر فيهما من 4000 إلى 6000 متر وفي بعض الأماكن لا يكون أكثر من مئة متر وإن هذه المحال كثيرة الأسماء وأعمق محل في البحر الأتلانتيكي يقدر بـ 8340.
الفلسفة الحسية
واضع هذه الفلسفة المسماة بالبوزيفيتيزم هو أوغست كونت وعن فلسفته أخذ الفيلسوف(77/80)
سبنسر الإنكليزي ولهذه الفلسفة في ديار الغرب أنصار كثيرون ولم يعدم الشرق أناساً يقلدون أيضاً في قبول مبادئه فمنهم فئة في القاهرة وأخرى في الآستانة ولا ندري إن كانوا قبلوا الفلسفة الحسية بعد دراستها أو تناولوها تقليداً.
ولهذا الفيلسوف ميل شديد للإسلام وحسن الظن به وكثيراً ما يوصي بتلاوة القرآن والتوراة والنظر فيهما وكان لكونت اعتقاد جازم بمستقبل الإسلام ويعجب بما قام به من الخدم للمدنية ذكر ذلك غير مرة في كتبه ولاسيما في كتابه إلى الصدر الأعظم رشيد باشا سنة 1853 وذكرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية أن المسيو كريستيان شرفليس قد جمع مؤخراً أقوال الفيلسوف كونت في المادة مقدماً لها مقدمة طلب فيها التضامن بين الإسلام والفلسفة الحسية قال وعلى فرض أن الإسلام صار إلى خطر فلا يكون له ملجأ أضمن من دين الإنسانية أي فلسفة كونت.
عيون النبات
أثبت أحد كبار أساتذة النمسا في النبات أن لكثير من النباتات حاسة النظر ويمكن تشبيهها بالحيوانات الصغرى وخلاياها تشبه خلايا الهوام التي بها تبصر ومعلوم أن للذباب العادي أربعة آلاف خلية وسبعة عشر ألفاً للفراش وقد أيد هذا الرأي بعض أساتذة من إنكلترا وقالوا أن للنباتات عيوناً حقيقية كعيون النحل تميز بها ما يعرض أمامها بعيداً كان أو قريباً.
غلاة الكتب
يعلق غلاة الكتب مكانة زائدة عَلَى الجلود ولذا بعثت إليهم جمعية الفنون في لندرا بإنذار جميل تدعوهم فيه إلى السهر عَلَى المضار التي تحدث من الحشرات التي تغشى الجلود وهي معرضة لها في الأكثر لا مناص لها منها. وجلد السختيان والخنزير والرق الحقيقي أقل تعرضاً لعبث هاته الهوام وليس جلد الثيران وجلود روسيا ممن يجدر الاعتماد عليه في وقاية الكتب أما القماش والمقوى البسيط فيجب البتة إبعادهما من كل مكتبة يحترم ما فيها ويغالى بحفظه وبقائه.
النفقات الكمالية
لو ارتقى في الشرق فن الإحصاء ولاسيما في مصر لثبت أن التغالي في الكماليات والتفاني(77/81)
في سبيل الطرب والموبقات يزداد شهراً فشهراً بل يوماً فيوماً وما غلاء أسباب المعاش بالذي يحول عَلَى الإقبال عَلَى دور التمثيل والصور المتحركة والموسيقى والتزحلق والألعاب المختلفة ولكن ليس هذا شأن البلاد الراقية فقد أحصت باريز ما أنفق الناس في دور تمثيلها فبلغت مداخيلها في السنة الماضية نحو 59 مليوناً من الفرنكات أو نحو مليونين وأربعمائة ألف جنيه هذا عَلَى حين لم يتجاوز مجموع ما جمع لإغاثة البائسين في تلك العاصمة الكبرى 254 ألف جنيه فتأمل كيف يقبل الناس عَلَى المسليات ويرغبون عن الباقيات الصالحات.
ملك الصحافيين
يعرف قراء الصحف اليومية أن من جملة من غرقوا في الباخرة تيتانيك التي غرقت في شهر إبريل الماضي في مياه أميركا وغرق فيها نحو 1500 رجل وامرأة من أنحاء العالم المستر ويليام ستيد صاحب مجلة المجلات وملك الصحافيين في إنكلترا مغيث الملهوفين وخادم الإنسانية الأمين ولسنا نطال هنا إلى كتابة ترجمة الرجل فترجمته تشبه تراجم أكثر العصاميين في العالم تعلم في مدرسة ابتدائية فقط ثم عمل في التجارة سبع سنين ثم اتصل في الصحافة مدفوعاً إليها بعامل الولوع بها وأنشأ منذ سنة 1889 مجلة المجلات الإنكليزية وهو في الأربعين من عمره فامتازت وهي شهرية بمقالاتها السياسية المؤثرة ولكننا نريد لأن نذكر له مزية من أكبر المزايا فيه وهو أنه يلتهب إذا سمع ظلماً نال شعباً مظلوماً ولطالما شدد الوطأة عَلَى حكومته في تهورها بحرب البوير ودافع عن البوير حتى اضطرت حكومته بعد إنفاق النفقات الطائلة وبذل عشرات الألوف من الأنفس أن ترجع إلى رأيه العادل العاقل وكل الأمم كما قال أحد واصفيه مهما بلغ من عظمتها تراها كالأطفال تكشر عن نابها قبل تناول الدواء الذ يصفه الطبيب. وله اليد الطولى في إنشاء محكمة السلام في لاهاي وهو الذي قابل معظم ملوك الأرض وأعاظمها وعلمائها واشتهر بمحادثاته السياسية التي سن سنتها ولطالما كان يدل عَلَى الملوك والأمراء وأرباب المال من ذلك إدلاله عَلَى قيصر روسيا وقوله له تنصرف الآن عظمتكم لترى القيصرة والأولاد فصرف هو القيصر بدلاً من أن يصرفه القيصر ومن ذلك أنه اجتمع مع سلطان العثمانيين في صدد اعتداء الطليان عَلَى طرابس الغرب وأراد السلطان أن يهديه هدية فخاف ستيد(77/82)
من ذلك أن يكون وساماً أو غير ذلك من أدوات التشريف في الحكومات فلحظ السلطان ذلك وقال له مثلك لا يمنح وساماً فرتبتك أعظم الرتب وأراد السلطان أن يهديه علبة لفائف من الذهب فقبلها ولكن بعد أن أهدى هو للسلطان مسكة قلم من ذهب أيضاً ولم يرض ستيد أن يأخذ قط نفقة ينفها في سبيل من السبل لأجل غرض يتعلق بملك أو أمة بل كان يصرف من جيبه مع أنه ليس من أرباب اليسار الزائد وقد رأينا من يزيدون عليه مئة ضعف بثروتهم حتى في إنكلترا يسعون إلى المطامع الدنيئة ولذلك عظم موقع ستيد من النفوس حتى أنه نسي حقوق الصداقةمع سسل رودس الغني الإنكليزي الكبير يوم الحملة البويرية وحمل عليه حملة منكرة لأن هذا كان من النافخين في ضرام حرب الترنسفال في حين كان رود يريد أن يدفع مليون جنيه لستيد لينشئ بها جريدة يومية لا مثيل لها بين صحف العالم الممدن تباع عَلَى مكانتها مجاناً لتبث الأفكار الصحيحة خالية من مؤثرات رجال السياسة والماليين والتجار والمحتالين والمشتركين والمبتاعين وغيرهم لتكون صحيفة بيضاء نقية لا تقول إلا الحق ولا تدعو لغير العدل. كان ستيد الحركة الدائمة في العالم يطوف لإقناع الأمم والحكومات بإقامة العدل يفكر أثناء السفر ويكتب في البحار وعنايته بمجلته جعلتها في مقدمة مجلات العالم وكذلك كان في كل عمل تولاه قبلها ولاسيما رئاسة تحرير البال ما غازت وكان عَلَى جانب من التدين كبير يقول بأمور في الأرواح لا يقول بها المشتغلون بالأبحاث الطبيعية وبقي عَلَى تدينه إلى آخر حياته فهو خدم الإنسانية طوال حياته وخدم أمته أجل خدمة وسجن مرة لفرط حريته وخرج بعد ثلاثة أشهر أقوى همة مما كان قبل السجن وبالجملة فهو تمثال الصحافي الحقيقي بعلمه وتجاربه ومضائه وشرف نفسه وبعده عن المطامع لا كأثر الصحافيين في الشرق والغرب لصوص في صورة صلحاء وأبالسة يقولون في الملائكة ويفعلون فعل الخنازير وما الفضل حقيقة في نبوغ هذا الصحافي العظيم إلا لسلامة محيطه ومن كانت أمته كالأمة الإنكليزية في حبها الحق والعدل كان حرياً أن يعمل مثل ستيد الأعمال الكبرى التي لا يحلم بها كل إنسان.
فقيد دمشق
فقدت دمشق عالماً أديباً من الطراز الأول أستاذنا السيد محمد المبارك الجزائري عن 67 سنة كان فيها مثال الأدب الرائع والأخلاق الفاصلة كرم النفس. درس كما يدرس أهل(77/83)
عصره فحفظ القرآن وأتقن العلوم العربية والدينية واختص باللغة والأدب ثم التصوف ومما استظهره مقامات الحريري فكان يتلوها كلها لا يخرم منها جملة وعلى أسلوبها نسج في شعره ونثره فكثرت ألفاظهما وجناساتهما أكثر من معانيها ومقاصدها وله قدم راسخة في النقد الأدبي واللغوي قل أن يدانيه أحد في سورية. وللأستاذ محاورات وقصائد ورسائل ورحلات أهدى معظمها في صباه للأمير عبد القادر الحسيني الجزائري واشتغل في آخر عهده بالطريق بما زجه حسن العشرة والظرف وكان مجلسه عَلَى وقار فيه أشبه بمجالس الأدباء منه بمجالس المتصوفة والفقهاء هذا مع سماحة اليد وطلاقة الوجه بحيث لم يدخل منزله أحد عَلَى كثرة من كان يغشاه من مريديه إلا ويكرمه جهد طاقته ويصدر عنه بفائدة أدبية أو أخلاقية تستميل قلبه وكانت له طريقة في معالجة صرع المصابين بالنوبات العصبية وغيرها لا تعرف لها تعليلاً عليماً. وقد قرأ لتلاميذه ومريديه كتباً كثيرةً في التصوف والأدب الحديث والتفسير وصحح ما وقع في أكثرها من الأغلاط والأوهام فبرهن لم عرفه أنه أديب في حقيقته صوفي في مظهره طويل النفس حتى في الجزيئات طاب ثراه.(77/84)
قصة
نتائج الإهمال
دخلت عيشا ذات يوم مكاناً عاماً تعرض فيه الصور المتحركة لأقضي ليلة من ليالي همومي فأنصرف بالفرج عن السياسة فبينما أسرح الطرف لأختار مكاناً للجلوس لفتت نظري فتاة مسلمة لا تتجاوز الرابعة عشرة سنة تمشي رقصاً وتتيه عجباً بملاءة من الحرير الأسود مزركشة بأنواع التخاريم ضيقة الأطراف والأذيال تكاد تظهر أعضاؤها فيرى الناظر إليها خصرها النحيل الذي زاد نحولاً بضغط المشد وهو محاط بزنار من الحرير الأسود ويرى نهديها نافرين وكفلها بارز وكأن هذا المظهر غير كاف حتى أخرجت شعرها المتجعد من فوق جبينها الوضاح كأنه إكليل من الأزهار وزان الخالق جبينها بقوسي حاجبيها وأما عيناها النجلاوان وأجفانها المتكسرة وأهدابها البارزة فقد زينتها بكحل أسود يخص بغانيات مصر كحل يزدن به كحلهن جمالاً يسحرن بغمزهن قلوب الناظرين ولها أنف مستو يعلو نصفه برقع شفاف من الحرير الأبيض عَلَى أنها قريبة من البياض ولما دخلت لفتت رأسها إلى الجانب الأيمن فتراءى من تحت البرقع جيد أشبه بجيد الغزال مطوق بطوق من الذهب وهي مكشوفة الزندين كأنها ذاهبة إلى مرقص عَلَى النمط الإفرنكي فقلت في نفسي ما هذا التبرج؟ وهل بعد ذلك أقول أنها في حجاب! عَلَى أنه أعجبني تستر بعض السيدات المصريات بما يطلقن عليه الحجاب الشرعي إذ لا يتيسر للمرء لا يراهن متبرجات تبرجاً جاهلياً وكيف يجوز للشريفة العفيفة أن تتبرج لغير زوجها؟ وما التبرج الجاهلي إلا دليل السذاجة وسلامة الطوية أو دليل خبث النية وعادة سيئة.
أسفت عندما رأيتها دخلت إلى مثل تلك الأمكنة العامة وحيدة وليس منها مكلف من محارمها يدفع عن أذى المتهكمين ومن الأسف دخول السيدات إلى الأمكنة العامة حيث يختلطن بالرجال ويسمعن من الألفاظ ما يؤذيهن ونما هذا العمل الأخرق لآداب الشرق وشرف الحجاب.
دخلت تلك الفتاة محلاً خاصاً فدعاني حب الاطلاع عَلَى الأمور مغروس في فطرة الإنسان أن أراقب أعمالها فدنوت من المحل الذي جلست فيه وما أشد دهشتي وقد شاهدتها تتعاطى(77/85)
كؤوس حتى دخل فتى مصري وبصق في وجه الفتاة وعنفها بكلام مخجل فلما رأته ارتعدت له فرائصها ووقعت هي وحبيبها في اضطراب ووجل ثم رجع الفتى وأتى برجل من الشرطة وأخذ يراقب مكانهما فسمعتها تقول يا دهوتي بعرضك يا سيدي وأنا أعمل إيه دي الوقت فقال لها تربصي وخرج وأتى بعربة فركب فيها مع الفتاة وذهب فتبعه الفتى والشرطي بعربة أخرى فتبعتهما بعربة ثالثة إلى أن وصل الحبيبان إلى أحد المخافر ونزلا معاً ونظرا إلى الفتى نظرة تهديد وهما بالدخول إلى المخفر لكن الفتى المصري ظل سائراً مع البوليس فتبعتهما مسافة قليلة ثم نزلت ووقفت أراقب أعمال الحبيبين فرأيت أنهما لم يدخلا بل ركبت الفتاة المركبة بعد أن كلمت الشاب بضع كلمات وذهبت وبقي هو أمام المخفر ثم رجع ذلك الفتى وكلم حبيبها هنيهة غير قليلة وأنا أنظر إليهما وأستخرج المعاني من حركاتهما وإشاراتهما فتبين لي أن الحبيب كان يؤنب الفتى عَلَى عمله وكان الفتى يأتي بحركات تدل عَلَى الاعتذار. ثم تصافحا وتفارقا.
هم الحبيب بالرحيل فدنوت منه وخاطبته بلطف: أيسمح لي سيدي بأن أكلمه وأسأله عن بعض الأمور وأنا راج عفوه عَلَى جرأتي لمشافهته من غير سابق معرفة فأجاب بكل لطف لك ذلك وكرامة.
سيدي أعلم أني رجل غريب عن هذه الديار قام في ذهني أن أدرس أحوالها لأقف عَلَى الحياة الاجتماعية لهذا القطر وقد راقبت أعمالك وما جرى معك مع الفتاة المسلمة من أوله إلى آخره ولاحظت أن في المسألة غرابة وأمراً ذا بال وأن وراء الستار أموراً لم أكشفها عن بعد فهل تسمح لي بأن تقص عليّ جلي الأمر لأعلم إن كنت مخطئاً في ظني أم أنا مصيب ولا يدخلك ريب مني لأني فهمت أكثر كا تخلل القصة ولا يحتاج إلا إلى كشف الحقيقة فأطلعني عليها لثلا أخلط في ظنوني.
ـ ما اسمك ومن أين أنت قبل كل شيء. - أنا فلان.
ـ أو أنت فلان كم سمعت باسمك. - نعم أنا فلان.
ـ لي الشرف بمعرفتك أما أنا فاسمي. . . .
ـ تشرفت بحضرتك هات إذاً قص عليّ أمرك كله ولك الفضل.
ـ ما دمت في علم من أمرنا فهاءنذا أقص عليك ما وقع لي بجملته ولكن تعال وتفضل(77/86)
لنجلس في مكان فجلسنا في قهوة قريبة ثم شرع في الحديث يقول:
اعلم يا سيدي أن لي صديقاً عرفني إلى هذه الفتاة وهي من عائلة كريمة ولا تزال تلميذة في إحدى المدارس الداخلية وكان بينها وبين الصديق روابط واجتماعات دامت نحو عام وصادف أني وجدتها عند صديقي فقدمني إليها فمال قلبي إليها واقتنصت الفرص فطلبت الاجتماع بها فوعدتني هذه الليلة إلى ذاك المكان لأن ليلة السبت ليلة دخولها المدرسة فالمدرسة لا تهتم لتأخرها عَلَى ما يظهر وأهلها يعلمون أنها ذهبت إلى المدرسة فتحتال عَلَى عمدة المدرسة وأهلها في آن واحد وهكذا كانت تفعل مع صديقي الذي أغواها إغواء الشيطان ولعب بعقلها في كتبه الغرامية وهي لا تزال في سن طفوليتها لا تعرف كيف تفكر في مستقبلها وشرفها مع شرف أسرتها فسحر لبها واستحوذ عَلَى عواطفها فانقادت له طيعة حتى صارت لا تبالي بشيءٍ يمس عفافها ولا يخفى عليك أن أكثر الجاهلات يعتقدن أن الفتاة إذا كانت بالغة فهي حرة تتصرف بشخصها كما تشاء.
ـ فقلت تباً لك أيتها الحرية كم أساء إليك الجاهلون والجاهلات وكم ارتكبت باسمك الفظائع البشرية دخلت الشرق من الغرب بعد فقد حريته الطاهرة فلم يأخذ منك إلا حرية الرقص والمداعبة وحرية تناول الكؤوس عَلَى رؤوس الأشهاد والتفاخر بالمقامرة واعتبار القمار دليلاً عَلَى المدنية وحرية التبرج وفي الجملة حرية كل شيء يمس الفضائل ومحاسن الأخلاق وما يجرح العواطف الشريفة ولم يأخذ منك حرية الكلام والاجتماع والجمعيات ولا حرية الكتابة والطبع والمطبوعات ولا حرية التعليم التي فيها الحياة ولذلك فشا الفاسد في الشرق وأصبحت الرذائل مكان الفضائل عَلَى أننا في حاجة إلى حرية فاضلة وأما حرية تلك الرذائل فإنها لا تثمر إلا فساد الأخلاق وموت الفضيلة وتحذير الشعور والإحساس وقتل الشعب وإماتة الجامعة وذلك الأمة.
وحبذا غيرة الحكومة المصرية في منعها الحشيش حبا بإحياء النفوس التي أماتها والعواطف التي خدرها وليت الحكومة تبذل مثل هذه العناية في منع التنهتك ولعب القمار الذي فيه الدمار.
مهلاً يا سيدي لقد حركت عواطفي وجرحت فؤادي وأخجلتني عَلَى أنها هي التي شجعتني فلولا أني رأيت منها ميلاً وأنست منها حنواً لما أقدمت عَلَى طلب الاجتماع بها.(77/87)
ـ تباً لكم معشر الرجال ما أقسى قلوبكم تصرفون اقتداركم ومعارفكم في التسلط عَلَى قلوب النساء الضعيفة وهل تنتظر مقاومة تتمثل فيها العفة والعقل عفة تمنع قلب هذه الفتاة الضعيفة التي لا تزال في مهد الطفولية بين صفوف الطالبات من تضليل الرجال وحبائلهم الشيطانية ولا ريب بأن صديقك هو الذي أغواها وأفسد أخلاقها أنا لا أشك بأم الوسط الذي تنشأ فيه الفتاة من أكبر العوامل المؤثرة في نفسها ولكنني لا أجهل أيضاً أن حسن التعليم وإتقان التربية في المدارس وشدة الاعتناء تصلح ما فسد في البيت وربما قرأت عن جيش المجاهدين في بلاد أسوج كيف يحاربون البغاء ويخلصون الباغيات من العهر والفجور فتصبح العاهرة بفضل هذا الجيش المنظم مثال الطهر والعفة فالفتاة التي نشأت عَلَى تربية حسنة ثم زينتها المدرسة بالآداب والفضائل وثقفت عقلها وأحسنت تعليمها ولا يستهويها فاسد مثل صديقك ولكن نقص التربية البيتية وعدم الاعتناء في المدرسة وهذه الحرية الفاسدة ومهارة أمثال صديقك تفسد الملائكة فما بالك بالنساء وما قلوبهن الأهواء فلنرجع إلى حديثنا.
ـ كان موعدنا هذه الليلة فخرجت الفتاة من بيت أبيها تحمل ما يلزمها في المدرسة وأتت إليّ لأقضي معها ساعة أنس وطرب فلما جاءت أدخلتها المحل الذي أعددته لها فلما دخلت طلبت لها الجعة فما بدأنا بالشرب حتى فاجأنا الفتى المصر وبصق في وجهها وشتمها وخرج يستقدم الشرطي كما رأيت فأخذها الخوف الشديد وداخلني الريب فسكنت أكثر منها خوفاً فسألتها عنه فقالت هو ابن عمي فطار عقلي وأخذت أفكر بماذا أفعل فخطر ببالي التظاهر بالشجاعة لأني خفت من أن يكون الأمر مدبراً ليتهموني بها عَلَى أن الجاني كان صديقي فخرجت من المكان وأخذتها معي فركبنا العربة وذهبنا إلى المخفر لأشكو أمر الرجل والشرطي لأنهما اعتديا عَلَى حريتنا.
ـ بئست تلك الحرية.
ـ ولما رأى الفتى دخولنا إلى المخفر ذهب مع الشرطي فسارعت بإركاب الفتاة وإرسالها إلى مدرستها وإذ رجع الفتى عرضت له قصتي فقال أنه من جمعية سرية تناهض البغاء والفجور وأنكر أنه ابن عمها ولكنه يعرفها وأخبراني عن أسرتها ثم تفارقنا عَلَى ذلك وأشهد والله عَلَى أني تبت توبة نصوحاً ولن أفعل مثل هذه الأفعال لأن الخوف الذي استولى عليَّ(77/88)
لم أصادفه في حياتي وبعد أن مكثنا هنيهة من الزمان تفارقنا عَلَى أمل دوام المحبة.
فهذه قصة واقعية حذفت منها ما حذفت لئلا يفهم الناس أبطالها ونشرتها لتبرهن للذين لا يفهمون معنى الحرية وأن الحرية الفاضلة إنما وجدت لرقي الشعوب وراحتهم ولكن أمثال هذه الحرية الفاسدة لا تقوم بشعب بل تكون علة وانحطاطه بعلمه وأدبه وأخلاقه ونفوسه وماله.(77/89)
صدور المقتبس
يعود المقتبس اليوم إلى الصدور في القاهرة بعد أن فارقها نحو أربع سنين إلى دمشق متخلصاً من مشاغب السياسة ومتاعبها. وكأننا شعرنا بما نلقاه في خلال هذه السنة السابعة لإصدار المجلة فاشرنا في المقدمة إلى أننا سنتخلى عن السياسة الآن لننصرف جملة واحدة إلى خدمة العلم فها قد تحقق ظننا مكرهين وعدنا إلى هذا القطر السعيد مغبوطين وسيكون لنا من محيطه الواسع ومدنيته الغضة ما يدعونا بحمد الله إلى تجويد عملنا هذا أكثر مما جودناه فنخدم قراء العربية فيما نؤلفه ونترجمه ونبحث فيه ننتقده ويكتبه لنا مؤازرونا الكرام في البلاد العربية وغيرها حتى نبلغ بالمقتبس الدرجة التي نتوخاها هاله بالنسبة لرقي البلاد والأمة والله المسؤول أن يمدنا إلى الصواب ويجلو لنا غامض العلوم والآداب بمنه وحسن تيسيره.(77/90)
العدد 78 - بتاريخ: 1 - 8 - 1912(/)
تاريخ الحضارة
مترجم عن الإفرنسية
نتائج الحروب الصليبية - كانت نتيجة الحروب الصليبية قصيرة العمر فلم تستطع مملكة القدس أن تقاوم المسلمين بل انحلت سنة 1291 ودك البيزنطيون أساس الإمبراطورية اللاتينية التي أسست سنة 1204 ولكن القبر المقدس أخذ يجذب إليه كل سنة ألوفاً من الحجاج فخصصت لهم سفن تقلع من البندقية وجنوة ومرسيليا وهكذا ابتدأت الصلات المنظمة بين إيطاليا والشرق.
ولم تكن توجد أدوات الزينة وحاصلات البلاد الحارة وأباريز الهند (كالفلفل وجوز الطيب والزنجبيل والقرفة) والعاج وحرير الصين والأقمشة والبسط والسكر والقطن والأوراق إلا في أسواق الآستانة وبغداد والإسكندرية وكانت هذه السلع التي يرغب فيها الغربيون من وراء الغاية ويبذلون في سبيلها كل مرتخص وغالٍ تربح أرباحاً فاحشة فقد بدأ أهل البندقية رعايا الإمبراطورية البيزنطية يتجرون مع بيزنطة: وأخذ الناس في أوربا في القرن الثاني عشر يؤثرون أن يذهبوا لاستبضاع متاجر الشرق من مصادرها فتبعث المدن التجارية الكبرى في ذاك العهد كالبندقية وجنوة وبيزا سفنها إلى موانئ فلسطين حيث كانت تصل قوافل دمشق وبغداد وكان للبنادقة في القرن الثالث عشر حي خاص في القسطنطينية بعد أخذها ومكاتب تجارية حتى البحر الأسود حيث يتجرون وطربزون وسمح أمراء المسلمين في مصر وطرابلس الغرب بالتجارة مع رعاياهم وعقدت البندقية وجنوة معاهدات تشبه هذه فأخذت مراكب البندقية وجنوة ترد بصورة منظمة إلى الإسكندرية تقل الأباريز والأقمشة وعلى هذا فالصلات بين الغرب والشرق قد بدأت بحرب بين المؤمنين وانتهت بمسائل بين المتجرين وآثر التجار الألمان وكانوا إلى القرن الحادي عشر يجلبون بضائع الآستانة بركوب المراكب في نهر الدانوب أن يجتازوا جبال الألب ويبتاعوها من تجار إيطاليا فتغير طريق التجارة الأعظم وترك طريق الدانوب وأصبح طريقها من الإسكندرية ماراً بالبندقية فثنية برنير فأكسبورغ فنورمبرغ.
الصلات بين الشرق والغرب - تحضر الغربيون باحتكاكهم مع الشرقيون وأنه ليعتذر القول في تحديد الطريق التي دخل منها إلى أوربا اختراع من اختراعات الشرق فهل(78/1)
انتهت إلينا من طريق أهل الصليب في فلسطين أو من طريق التجار الإيطاليين أو الحرب في صقلية أو من المغاربة في أسبانيا ولكن يمكن تقدير الحساب بما نحن مدينون به للعرب وهذا الحساب يطول شرحه.
فقد أتانا من العرب (أولاً) الحنطة السوداء والهليون والقنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر التي أصبحت من أهم زراعات أميركا (ثانياً) معظم صناعاتنا في التزين مثل الأقمشة الدمشقية القطنية والسختيان وأقمشة الحرير المزركشة بالذهب أو الفضة والشاش الموصلي والشفوف (البرنجك) والصندل والحبر والمخمل الذي زيد إتقانه في إيطاليا بعد حين والزجاج والمرايا التي قلدوا في البندقية والورق والسكر وعمل الحلويات والمشروبات (ثالثاً) مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعباً. دع عنك السحر وعمل التعاويذ التي اعتقد فيها الإيطاليون إلى يوم الناس هذا وحجر الفلاسفة الذي كان بعض أمراء الألمان يبذلون من مالهم للبحث عنه حتى القرن السابع عشر وذلك بواسطة صناع الذهب أو الكيماويين.
ولقد جمعت العرب وقربت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند بل والصين) وهم الذين نقلوها إلينا ودخلت كثير من الألفاظ العربية في لغاتنا وهي تشهد بما نقلناه عنهم. وبواسطة العرب دل العالم الغربي الذي أصبح بربرياً في غمار المدنية فإذا كان لأفكارنا وصناعتنا ارتباط بالقديم فإن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة قد جائنا من العرب.
تأثير الحروب الصليبية في المعتقدات - أثر الاحتكاك بالشرق في الأفكار الدينية بين المسيحيين أيضاً فقد تحمسوا أولاً للنزال والطعان ولما شاهدوا المسلمين عن أمم رأوا بينهم رجالاً أشداء منورين كرماء أمثال صلاح الدين الذي أخلى سبيل أسرى المسيحيين بدون فدية وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين وقد مرض ليداويه فبدأ المسيحيون يحترمون المسلمين وإذ أراد الصليبيون أن يثبتوا فضائل الديانة المسيحية للمسلمين واليهود تناقشوا بينهم فاضطرتهم المناقشة أن يقابلوا بين الأديان الثلاثة ومن هذه المقابلة استنتج بعضهم أن الأديان الثلاثة باطلة إذ أن كل واحد منها يدعي أنها حقيقية وما عداها باطل فقالوا أنه لو(78/2)
جاء ثلاثة دجالين عظام (كذا) موسى ويسوع المسيح ومحمد (صلوات الله عليهم) فخدعوا اليهود والنصارى والمسلمين وهذه الجملة نسبت خطأ إلى الإمبراطور فريدريك الثاني وسرت في إيطاليا في القرن الثالث عشر. واستنتج آخرون العكس فقالوا أن الأديان الثلاثة حسنة كلها وقصوا هذا المثل: كان لرجل خاتم له ارتباط بإرثه وكان يحب أولاده الثلاثة بدرجة واحدة فصنع خاتمين اثنين يشبهان خاتمه ودفع إلى كل واحد منهم خاتماً ثم مات الأب فأنشأ كل من الأولاد الثلاثة يطالب بالإرث الذي له علاقة بالخاتم فقضى القاضي أن يرث الإرث ثلاثتهم فالنصارى والمسلمين واليهود كلهم ثلاثة أبناء لأب واحد سماوي أراد أن يكون لكل منهم حظ من إرثه. وقد جعل المسيحيون في آخر هذه القصة اختلافاً فقالوا أنهم أتوا بمريض وأمسكوه الخواتم الثلاثة فشفى عندما يمس الخاتم الحقيقي والمعجزة محك الدين الحق. والمعجزات قالت أن النصرانية أفضل.
فرنسا في القرن الثالث
الملكية الفرنسوية في القرون الوسطى
ارتقاء الملكية عَلَى عهد الكابتيين - لم يكن ملك فرنسا سيداً إلا في محلته جاء القرن الثاني عشر وأملاكه لا يعتد بها فكانت سياسة البيت الملكي في فرنسا سياسة أسرة من الفلاحين تبحث في توسيع أملاكها فيقتنى أفراده بالبيع والزواج والفتوح أملاكاً يضمونها إلى أملاكهم رويداً رويدا فيبسطون يديهم مرة عَلَى ولاية وأخرى عَلَى كونتية صغيرة (سانس وملون) وأحياناً عَلَى محلة صغرى (مثل مونتلرة وبوجنسي) وقد زادت أملاك البيت المالك عَلَى عهد فيليب أغسطس ثلاثة أضعاف ما كانت عليه بأخذ أملاك دوج نورمانديا. فكثر عديد الفرنسان في جيش الملك كما كثر المال في خزائنه والرعايا في أملاكه أكثر من كل أمير في فرنسا وأصبح أقدر سيد في مملكته وأناب عنه في أملاكه المنتشرة في أقطار فرنسا حكاماً أخذوا يضيقون خناق وكلاء كبار السادات ليجعلوا اسم سيدهم محترماً في كل صقع وناد.
باريز عَلَى عهد فيليب أغسطس - كانت باريز في القرن التاسع عشر عَلَى عهد حصار النورمانديين لا تتجاوز رقعة الجزيرة وفي أواخر القرن الثاني عشر امتدت عَلَى ضفتي السين ولكن يجعل فيليب أغسطس الحياء الجديدة بمأمن من هجمات العدو أنشأ حول(78/3)
المدينة التي وسعها عَلَى هذه الصورة سوراً غليظاً ذا أبراج لا تزال ترى إلى اليوم بعض بقاياه وظلت المدينة أبداً في الوسط وهناك كانت الكنيسة الكاتدرائية (التي أصبحت بعد كنيسة نوتردام) ومقر الأسقف وقصر الملك (حيث جمع سان لوي فيما بعد مجلس نوابه وأصبحت دار العدل أو ديوان المظالم) وعلى الشاطئ الأيسر من ناحية جبل سانت جنيفيف طلبة المدارس ورجال الكهنوت الذين يختلفون إلى المدارس ومن هذه الجهة انتهى السور أمام طرف جزيرة تورنل ماراً بجبل سانت جنيفيف وامتد إلى نهر السين قبالة متحف اللوفر. وعلى الجانب الأيمن يبدأ السور قبالة المدينة وينتهي باللوفر. وكان السكان في هذه البقعة الضيقة يزدحمون حتى لا يضيعوا فراغاً عظيماً فكانت الأزقة ضيقة معوجة ومظلمة لا بلاط فيها ولا نور. وليس فيها بوليس تقرع كل مساء علامة الانصراف إلى البيوت فيعود الأهالي الوديعون إلى منازلهم ويغلقون أبوابهم وكانت الأزقة عرضة للصوص والمتشردين من كل جنس ومن خطر الجلل أن يلقي المرء نفسه في التهلكة باجتيازها.
وما كان لمدينة بايز إدارة عامة بل كانت مبنية عَلَى أرض شطر منها فقط ملك الملك وكانت عدة أحياء ولاسيما ما بني منها خارج السور من الأرباض مبنية في أملاك الأديار التي كانت بادئ ذي بدء بنيت في القرى مثل سان جرمان دي برى (بالقرب من برى أو كلرك الذي كان يمتد إلى شاطئ السين) سان مرتان دي شان وسان جنيفيف وليس الملك هو السيد في هذه الأحياء بل رئيس الدير وله الحق لا أن يتقاضى كراء البيوت التي بنيت في أملاكه بل أن ينظر في محكمته في قضايا السكان والجرائم المرتكبة في حيه أجمع.
وبعد فما كانت باريز جسماً واحداً حتى أن شطرها الذي هو ملك خاص للملك يكن منظماً تنظيم المديريات كما كانت كثير من المدن الصغرى (مثل أمين وسواسون وبوفى وغيرها) وليس لباريز سجل مديرية ولا شيخ بلد ولا مراقب بل كان العملة الذين يعملون عملاً واحداً والتجار الذين يتجرون بنصف واحد في باريز وفي غيرها من المدن يجتمعون اجتماعات لكل منها نظامه وصندوقه وزعماؤه. وكانت أقوى النقابات في باريز نقابة تجار الماء أي النواخذة مجزي المراكب الذين كانوا يتجرون عَلَى السفن في نهر السين ولهم زعيمهم وسموه أمين التجار (شاهبندر) ومجلس إدارة مشايخ البلد وما لبث أمين التجار(78/4)
ومشايخ البلدان عدوا بمرور الأيام ممثلي الطبقة الممدنة في باريز وسمي البيت الذي كانوا يجتمعون فيه منزل المدينة أو المجلس البلدي وسمى اجتماعهم جماعة المدينة ولا يزال لمدينة باريز إلى اليوم شعار من قارب بقلوع رمزاً إلى جماعة تجار الماء وأول من سعى في تحسين عاصمته فيليب أغسطس رأس ملوك فرنسا فلم يسورها بسور فقط بل رصف بعض أزقة المدينة وطم البواليع القذرة التي كانت حول قصره وما بدأت إقامة المصانع الجميلة إلا في القرن الثالث عشر ولم يبق في باريزنا الحديثة من باريز فيليب أغسطس سوى قبة جرس سان جرمان دي برى وكنيسة سان جوليان لوبوفر الصغرى.
سان لوى - كان بسان لوى ملكاً تام الأدوات عَلَى نحو ما يطلب في القرون الوسطى مسيحياً خاضعاً وفارساً شجاعاً وقاضياً شديداً حاز جميع الفضائل التي تبلغها مدارك أهل عصره من مثل التقوى والشجاعة والعدل يحضر قداسين في اليوم ويصلي الغداة ويلبس المسح ويغسل أرجل الفقراء ويعترف ويتناول تكفيراً عن سيئاته ويأمر بطرد اليهود وإحراق الزنادقة وثقب ألسن المجدفين بحديدة محماة فتراه في الحرب يتقدم صفوف رجاله وما قط شوهد فارس مثله كما قال جوانفيل فهو حكيم القرن يتأدب مع الله ويشعر بما يجب عليه بأن يحكم بين الناس بالعدل وكثيراً ما يذهب إلى غابة فنسين ليجلس تحت سنديانة أو في حديقة المدينة وكل من لهم شأن يأتونه فيكلمونه بدون أن يزعجوهم مزعج من الحجاب فيحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون وأقصى أمانيه أن يحكم في الجميع حكماً عادلاً لا هوى للنفس فيه. صلب أحد كبار سادات المملكة أنكر أن دي كوسى ثلاثة من الطلبة لأنهم اصطادوا في قصره فقبض الملك عليه وجاء به إلى قصره فطلب بقية السادات بحسب العادة أن يدفع هذا السيد عن نفسه البراز فأبى سان لوى ذلك قائلاً أن مسائل الفقراء والكنائس والأشخاص الذين تنبغي لهم الشفقة لا يجب المرء أن يسترسل فيها عَلَى هذه الصورة فيجعل الحكم للغالب. فاغتاظ السادات وخرجوا من قصره فترك الملك هذا الموضوع ووضع المسألة عَلَى بساط الحكم فهتف أحد الأشراف مستهزئاً لو كنت ملكاً لصلبت بارونياتي فسمعه الملك وقال له: ما تقول يا جان هل تقول أن الواجب أن أصلب باروتياني لا ليس الأمر كذلك بل إني معاقبهم إذا أساؤا. ولقد كان الشعور بالعدل عظيماً في سان لوى بحيث رفعه عَلَى مستوى أعلى السادة وحظر البراز في كل بلاده وأصبحت(78/5)
جميع المسائل التي يتحاكم فيها إلى البراز يحكم فيها بحجج وشهود لأن القتال كما قال ليس طريقاً إلى الحق وبهذا فقد قدس سان لولى المملكة الفرنسوية وعود القوم أن يروا ملك فرنسا مصدر العدل كله.
معاهدة سان لوى - نفع سان لوى بالقدوة والاحترام الذي حازه أكثر مما نفع بالقوانين والأنظمة ولقد ظن زمناً طويلاً أنه سن جملة من القوانين كانوا يسمونها نظامات سان لوى ثم أدركوا أن هذه النظامات الموهومة لم تكن سوى تأليف مجموعتين من الحقوق أخذتا من العادات وكتبتا في أواخر القرن الثالث عشر عَلَى يد أناس من أرباب التجارب غير معروفين ولا علاقة لهم بالملك. وظن أيضاً أن سان لوى ألف براءة أو لوائح حقوق الكنيسة في فرنسا ثم ثبت أن هذه اللوائح المزعومة قد وضعت في القرن الخامس عشر وربما كانت بعد لوائح شارل السابع والأوامر الصادقة حقيقة عن سان لوى هي أوامر البراز ولوائح لتنظيم حسابات المستخدمين في أملاكه.
الحياة العقلية والصناعية
كلية باريز - كان لباريز كما كان لعامة الأبرشيات مدرسة ملحقة بالكاتدرائية وكان لكثير من الديار مدارس خاصة بها (مثل سان جرمان دي برى وسان جرمان لو كسروا وسانت جنيفيف) وقد كثر عدد الطلبة حتى ضاقت بهم الجزيرة فأخذوا ينزلون الضفة اليسرى من السين وهناك بين سنتي 1103 و1125 كان احد العامة من الشبان الذين جمعوا إلى الجمال طلاقة وبياناً واسمه أبلارد وهو أكثر أهل عصره استنارة (ويعرف قليلاً من اليونانية والعبرانية) يلقي دروسه في الفلسفة عَلَى ثلاثة آلاف مستمع وما كانت تسع هذا الجمهور قاعة ولا ردهة فجعل أبلارد يلقيها بين الكروم في جبل سان جنيفيف.
وكان من العادة الجارية أن يعقد أهل الحرفة الواحدة اجتماعات فكما يجتمع الخياطون والحذائون وصانعوا الأجواج وأهل كل حرفة عَلَى حدتها هكذا ألف الرجال الذين يعنون بالمدارس اجتماعاً خاصاً وقد وقع استحسان البابا عَلَى هذا الاجتماع في القرن الثالث عشر فسمى مدرسة باريز كلية (أي مجموع) المعلمين والطلبة في باريز وكان لها رئيس منتخب وخدمتها ومحكمتها التي لها الحق وحدها في أن تقضي بين الأساتذة والتلامذة وكثيراً ما تختلف كلية باريز مع أمير التجار فيعطيهم الملك الحق دونه. وقد صلب أمين تجار باريز(78/6)
سنة 1403 طالبين قبض عليها في منازعة كالتي كانت تحدث كل يوم في تلك الطرق الضيقة الغاصة بالمتشردين فأغلقت الكلية صفوفها فكانت هذه الوسيلة ذريعة لنيل تعويض فاضطر أمين التجار أن يذهب لإنزال المصلوبين باحتفال وأن يدفنهما ويقدم اعتذاره للكلية لأنه خرق امتيازاتها.
وانقسمت الكلية إلى حلقات انقسامها إلى ضروب من التعليم فبعد أن أدخل إليها تعليم الحقوق والطب (ولم يكن هذان العلمان يدرسان في باريز قبل القرن الثالث عشر) صار لها أربع مدارس اللاهوت والحقوق والطب والفنون. وكانت مدرسة الفنون تحتوي عَلَى جميع علوم الترفيوم (النحو والبيان والمنطق) والكوادرفيوم (الحساب والموسيقى والهندسة والفلك والفلسفة) ويقبض الأساتذة رواتب كما يتناولون أجوراً من المستمعين ودرسهم مكتوب عَلَى دفتر فيأتون فيتلونه عَلَى المسامع ويسكن الطلبة وهم من أعمار مختلفة في المدينة ولكن منذ قام بعض المحسنين في القرن الثالث عشر وأنشأوا أدواراً لقبول الطلبة الفقراء أخذ الكثيرون يعيشون داخليين في هذه المدارس عَلَى طريقة جروا فيها عَلَى نظام الأديار وكان لكل مدرسة ثلاث درجات في التعليم ينتقل الطالب من إحداهما بعد أن يثبت علمه بفحص وقضية يثبتها أو جدل يناضل فيه ثم يصبح بكلوراً أو معلماً أو دكتور وكان القوم يرغبون في نيل هذه الدرجات الثلاث لأن صاحبها يجد له عملاً في الكنائس والمحاكم أو المدارس عَلَى أيسر وجه.
وكانت كلية باريز في القرن الثالث عشر أعظم مدرسة في أوربا تؤوي زهاء عشرين ألفاً من الطلبة عَلَى اختلاف بلادهم. وهي التي رسمت لوربا صورة التعليم العالي وحذت كلية أكسفورد وكمبردج الإنكليزيتان حذوها ولما أراد أمراء الألمان تأسيس مدارس في بلادهم أنشأوا كلهم كليات جروا فيها عَلَى مثال كليات باريز ومنها انتهت غلينا طريقة الرتب وتقسيم المدارس الذي لا يزال عَلَى حاله القديم في ألمانيا.
الحقوق الرومانية - ما فتئ الإيطاليون يضعون الحقوق الرومانية موضع العمل وقد أخذوا في القرن الحادي عشر يدرسونها في إيطاليا درساً أصولياً في كتب يوستنيانوس فكان الأساتذة والطلبة يجتمعون في بولون وبلغ عددهم عشرة آلاف طالب واشتغلوا قرنين في تفسير كتب القوانين الرومانية والتعليق عليها سطراً سطرا وتألف من شروحهم ذيل علق(78/7)
عليه علماء القانون في القرن الثالث عشر شروحات جديدة وكانت الولايات الجنوبية في فرنسا فقط (حتى ولاية أوفرن) تعمل بالقانون الروماني أما ولايات الشمال فتجري عَلَى العادة ويحكم مجلس النواب في باريز بموجب العادة.
بيد أنه كان للقوانين الروماني الترجيح عَلَى العادة وذلك لأنها هي التي دونت وهي وحدها تدرس في المدارس فكانت تسمى العدل أو الحق خلاف العادة بلا زيادة ولا نقص ويقضي القضاة والمحامون الذين يحملون شهادات الحقوق بضع سنين في دراستها بعضهم في بولون والآخر في أورليان أو مونبليه. وكان القانون الروماني في عدة مواد يحكم بخلاف العادة فتسبع العلماء بهذا الحق وادخلوه بالتدريج حتى عَلَى غير معرفة منهم في العادة وبدأ إدماج القانون الروماني في القرن الثالث عشر إلى آخر القرن السادس عشر فتعدلت به العادات القديمة كل التعديل ولاسيما قد أضعف سلطة السادة والمديريات التي سكت عنها القانون الروماني وقوى سلطة الملك وحكامه لأن المشرعين قد طبقوا عَلَى الملك كل ما كان يعطيه القانون للإمبراطور الروماني من الحقوق كما طبقوا عَلَى عماله كل ما يطبقه القانون الروماني لولاة الرومان وحكامهم وفي القانون الروماني (إن ما يقضي به الأمير يكون قانوناً نافذاً) فأصبحت هذه الحكومة قاعدة الحكومة في فرنسا ثم في ألمانيا وكانت أساس السلطة المطلقة.(78/8)
رحلة إلى المدينة المنورة
البلقاء
عَلَى نحو مائتين وأربعين كيلومتراً من جنوبي دمشق بين نهر الأردن غرباً وزملة العليا في طريق الحج شرقاً ونهر الزرقا شمالاً ووادي الموجب جنوباً إقليم واسع خصيب سهلي جبلي اسمه البلقاء كوله من الشمال إلى الجنوب 18 ساعة للفارس المجد وعرضه من الغرب إلى الشرق 16 ساعة أو نحو مئة كيلومتر في مئة كيلومتر وهذا الإقليم الذي يبلغ بمساحته ربع جمهورية سويسرا هو اليوم جملة قضاء عمل السلط ما عدا مسيرة ساعتين من الجنوب داخلة في عمل الكرك وقد حد القدماء إقليم البلقاء بأنه بين الشام ووادي القرى وقالوا أن فيه مدناً عظيمة كثيرة وأن قاعدته عمان وقيل أن السلط هي راموت جلعاد إحدى مدن اللجاء ومد اللاويين المذكورة في الكتاب المقدس وربما اشتق لسمها الحاضر الصلت أو السلط من لفظة لاتينية سالتوس ومعناها الجبال المشجرة وكانت فيا مضى مدينة أسقفية في العهد المسيحي وقد دك المغول قلعتها ثم عاد بناءها الظاهر بيبرس البندقداري.
وموقع السلط عَلَى منحدر جبلين متناوحين أشبه بمدينة زحلة في لبنان وكانت منذ ثلاثين سنة خالية من الحدائق والبساتين فتوفرت همة أهلها عَلَى استثمار الشجار والبقول فجاد أكثرها بما عندهم من العيون التي تروي زروع الوادي أما ما كان وراء المدينة من التلعات والآكام فقد كان حراجاً إلى عهد قريب وآثار بعض سنديانه وملوله ما برحت مائلة للعيان ولكن القوم قطعوها واستعاضوا عنها بزراعة الكروم التي يعد عنبها وزبيبها أجما ما تحمله هذه الشجرة المباركة في سورية وقد يكون العنقود الواحد رطلاً شامياً وأكثره بلا بزر يصدر من زبيبه ما تقدر قيمته كل سنة بنحو خمسة عشر ألف ليرة وفي جوار السلط قليل من شجر الزيتون سألنا أحد شيوخهم عن السبب الذي دعا إلى عدم استكثار القوم من غرسه فقال لا تذكرنا بغباوتنا فقد حملنا سعيد باشا شمدين أحد متصرفي نابلس أيام كان قضاؤنا تابعاً لنابلس عَلَى أن نغرس في هذه الولاية التي تراها مئة ألف زيتونة فوقع في نفسنا أن في الأمر دسيسة من الحكومة تريد بها وضع الضرائب الفاحشة عَلَى أملاكنا وتسجيل أراضينا عَلَى صورة لا نعود معها ملاكها الحقيقيين فصدعنا في الأمر في الظاهر وغرسنا أولفاً من شجر الزيتون ولكن أتدري كيف تخلصنا منه بعد؟ كان أحدنا يجيء ليلاً(78/9)
إلى غرسة الزيتون فيحركها حتى لا يطلع جذعها وهكذا لم يبق من كل ما غرسه السلطيون إلا ما تشاهده اليوم في جوار القصبة وقليل ما هو.
قلنا عجيب تبدل تصورات الناس فرجال الحكومة بالأمس كانوا يحملون الناس عَلَى زرع الأشجار ويزينون لهم اقتناء الأراضي للزراعة واليوم يطالب الأهلون في هذا القضاء وفي غيره الراضي الموات ليحيوها ولا يعطون طلبتهم وكذلك الحال في كل مكان نزلناه في طريق يثرب فإن الأهلين أحسوا بفوائد الأرض هكذا رأينا أهل الشراة من عمال الطفيلة ومعان وهكذا سمعنا شكوى أهل الكرك وتبوك ومدائن صالح أجمع عَلَى ذلك الطلب الحاضر والبادي ولكن لا حياة لمن تنادي في حين ورد في قانون الأراضي أن كل من يحيي أرضاً مواتاً تبعد عن القرى والدساكر مقدار ما يسمع الصوت فهي له فأين هذا القانون المسطور من عمل الحكومة اليوم.
قرانا وجوه الهمة والنشاط في وجوه السلطيين مسلميهم مسيحييهم وإن كانت القاعدة في سورية كلها أن يكون المسيحيون أكثر نشاطاً وتعلماً من إخوانهم في الوطنية. وبلدهم هذا ساعدته الطبيعة فساعدها أهله أيضاً ودخل في طور العمران ويوشك أن يعد في جملة العظيمات من المدائن والبلدات.
وسكان مدين السلط اليوم نحو 16 ألف نسمة يبلغ المسيحيون منهم عَلَى اختلاف الطوائف نحو أربعة آلاف ومعظمهم إلى اليوم يلبسون زياً كزي أهل حوران وهو كوفية وعقال وعباءة وجزمة حمراء وعادات القوم هنا أشبه بعادات البادية مع أنهم حضر. وفي السلط قليل من الصناعة وتجارتها واسعة مع القبائل النازلة في البلقاء والرحالة في تلك الأرجاء وبين عمان عَلَى الخط الحجازي والسلط نحو خمسة وعشرين كيلومتراً جعل بعضه من جهة السلط طريقاً معبداً ومتى أكمل تسافر العربات والسيارات بين السلط والخط الحديدي في ساعتين وهي الآن أربع ساعات عَلَى الدواب وإذا تم اتصال السلط بالقدس بطريق معبدة تسير عليها المركبات أيضاً تعمر السلط عمراناً مهماً وهي عَلَى بعد 40 ميلاً إلى الشمال الشرقي من بيت المقدس و40 ميلاً إلى الجنوب الشرقي من نابلس ونحو 18 ميلاً شرقي الأردن.
ومن سوء حظ هذا القضاء أن معدن الفوسفات الذي نال امتيازاً بتعدينه من جبل السرو في(78/10)
منتصف الطريق بين عمان والسلط المهندس نظيف أفندي الخالدي المقدسي عَلَى أن ينشئ فرعاً بالخط الحديدي من السلط إلى عمان يتصل بالسكة الحجازية ومرفأ في حيفا - من سوء الحظ أن قد حسبوا فوجدوها لا تفي بها وارداته ولعل الحكومة تتساهل بعض الشيء في شروطها لتقوي عزيمة تلك الشركة عَلَى استثمار هذا المعدن من قضاء السلط فيتسنى لها أو لشركة أخرى تعدين سائر المعادن التي حبتها بالفطرة.
عَلَى نحو ساعة من قصبة السلط منظر من أجمل مناظر سورية ونعني به جبل يوشع الواقع عَلَى علو نحو 1096 متراً عن سطح البحر وهو مشرف عَلَى جزء عظيم من فلسطين فيمتد أمامك وادي الأردن كأنه بساط ذو ألوان كثيرة ومن خلال ذلك نهر الأردن تراه كالحية بتلويه حتى يصل إلى البحر الميت أو بحيرة لوط. ومن النبي يوشع تشاهد جبل الزيتون في الشمال الغربي ويقابلك جبل عيبال وجزريم ثم جبل الطور وما يناوحه من الجبال المحيطة ببحيرة طبرية ومن بعيد جبل الشيخ وبه تنتهي هذه المنظرة من الشمال.
ويقول العارفون من الإفرنج أن الاعتقاد بالنبي يوشع الذي يذبح له البدو ويتقربون إليه هو من التقاليد الإسرائيلية القديمة وإن بناؤ قبره يرد إلى زهاء ثلثمائة سنة. وليوشع مقام أيضاً في قضاء نابلس قرب قرية حارث وجبل يوشع في البلقاء أشبه بيوشع تبه شي أي ذروة يوشع في قرية بكوز المطلة عَلَى بحر مرمرة وخليج القسطنطينية هذا منظره بحري وذاك منظره بري ومن غريب التقاليد أن البدوي يحلف بالله ولكنه لا يحلف بشعيب ومقام شعيب عَلَى ساعتين من السلط أيضاً.
كانت عمان قصبة البلقاء فانحطت في أواخر القرن الماضي بما تواتر عليها من الزلازل وغارات البادية حتى جلا عنها بقايا سكانها الأصليين فأنزلت فيها الحكومة منذ 34 سنة ستمائة أسرة من الجركس من عشائر مختلفة هاجروا إلى البلاد العثمانية من ولاية كوبان الروسية وأخذوا يردون غارات البادية واعتمدوا في عمرانها عَلَى مضائهم وشجاعتهم وبنو عَلَى أنقاض مدينة ضخمة قرية لهم وساعدتهم مياه نهر الزرقا فغرسوا الأشجار وأنشأوا الحدائق واتوا بطريقتهم المألوفة لهم في الزراعة ببلادهم وقد هلك منهم أناس كثير من الفتن والأمراض حتى توطدت أقدامهم واغتنوا وأصبحت الحكومة بعد أن كانت تأخذ من(78/11)
عمان مئة ريال في السنة تقاضى نحو ثلاثة آلاف ليرة ولا تلبث أن تزيد بزيادة عمران عمان واتساع تجارتها عَلَى أيدي الناشطين من النابلسيين والدمشقيين ومعظم تجارة البلقاء في أيديهم اليوم.
نقول أنها كانت مدينة عظيمة والدليل عَلَى أن أنقاض دار تمثيلها كبيرة جداً تكفي لجلوس ثلاثة آلاف نسمة وفي مسرحها 45 صفاً عَلَى شكل نصف دائرة وفيها آثار قلعة مهمة ومعظم بيوتها بنيت بأحجار المدينة القديمة وكذلك قرية رأس عمان الحديثة الواقعة عَلَى قيد غلوة من عمان وسكانها جراكسة أيضاً.
لا جرم أن الجركس أدخلوا روحاً جديدة إلى هذا القضاء من التوفر عَلَى الزراعة والنشاط المستمر وأن الأهلين تعلموا منهم بعض الشيء إلا أن عمال الحكومة أساؤا الاستعمال فسلبوا ما كان للأهلين من الأراضي والمزارع العامرة ليعطوها للمهاجرين الجركس والششن والتركمان كما فعلوا بعين صويلح وعيون الحمر فقد كانتا مسجلتين باسم أصحابهما فأعطتها الحكومة للمهاجرين وذلك لأنه كتب للجراكسة أن يتولى مأمورية الطابو في هذا القضاء ثلاثة منهم عَلَى الولاء فكانوا يساعدون إخوانهم وأبناء جلدتهم عَلَى سلب الأراضي منهم وتسجيلها باسم المهاجرين وعلى هذه الصورة أخذ المهاجرون الناعور ووادي السير والزرقا والرصيفة وغيرها. صبر الناس عَلَى هذا الجور زمناً حتى صحت عزيمة بعض عشيرتي الخرشان والجبور عَلَى أن يزرعوا الموقر والعليا والنقيرة وهي عَلَى نحو ثلاث ساعات من شرقي معان يسير في أراضيها الراكب عشر ساعات كما أن بعض السلطيين يزرعون اليوم في سهل الكبد في الغور وهذا السهل جيد التربة جداً لا حجر فيه ولا مدر ولو أحبت الحكومة إحياء الموات حقيقةً لأوعزت للهلين أن يحيوا أراضي الموقر والعليا كلها فإن فيها زهاء ألف بئر معطلة تحيا بعناية قليلة.
وأعظم عشائر هذا القضاء بنو صخر وهم يتنقلون بين الغور في الشتاء وأراضي البلقاء العالية في الربيع وفي الصيف يتوفرون عَلَى حصاد الأراضي التي لهم في جهات الزيزاء ومادبا وهما مديريتان تابعتان للسلط كما أن عمان مديرية تابعة لها أيضاً. ونفوس قضاء السلط المحررة اليوم 42 ألفاً ولو أحصي بنو حسن وبنو صخر والبادية لبلغ سكانها مئة ألف أو يزيدون ولو ارتفع فيه علم الأمن كما يجب وأعطيت الأراضي الموات للأهلين(78/12)
وسجلت عليهم بحيث لا ينازعهم فيها منازع لأن أكثر المنازعات تثور عَلَى الأراضي لبلغ سكان هذا القضاء نصف مليون نسمة بعد عشر سنين.
وأهم العاديات التاريخية في هذا القضاء قصبة مادبا فقد كانت كإحدى الخرب منذ نحو ثلاثين سنة فهاجر إليها جماعة من مسيحيي الكرك أعطتهم الحكومة إياها خربة فعمروها فما هو إلا وجدوا فيها آثاراً مهمة مثل سوق طوله 140 متراً له عمد عَلَى الجانبين وبينا كانوا يحفرون في أنقاض الكنيسة ليقيموا كنيسة جديدة عثروا سنة 897 عَلَى قطعة من الفسيفساء في الصحن فرفعوا عنها المعاول وأزالوا ما كان علقاً عليها بتوالي الأيام من التراب والأحجار فإذا هو أثر عظيم من آثار القدماء هو مصور (خريطة) فلسطين وما فيها من المعاهد المقدسة والكنائس ولو سلمت كلها من معاول الذين حفروها لبلغ ثمنها المليونين والثلاثة من الليرات ولكن القطعة الصالحة الباقية منها تدل عَلَى تلك المدنية القديمة التي تمتعت بها مادبا قديماً منذ عهد الإسرائيليين إلى الموآبيين إلى العرب النبطيين إلى المكابيين وكانت في عهد هؤلاء قلعة مهمة واستولى عليها هيركان ملك اليهود قبل المسيح وأصبحت عَلَى عهد الرومانيين جزءاً من بترا أو العربية الصخرية. وآثار الفسيفساء كثيرة في هذه القرية رأينا بعضها في الدور الخاصة تلمع فتأخذ الأبصار أما أنقاض دورها ومعابدها وأحواض مياهها فحدث عنها ولا حرج وقد دخل أهلها في المدينة اليوم بفضل مدرستي الروس واللاتين اللتين أنشئتا فيها وليس بين سكانها من المسلمين إلا بعض باعة والحراثين.
قال ابن خرداذبة أن ظاهر البلقاء كان كورة من كور دمشق كما أن جبل الغور وكورة مآب وكورة جبال وكورة الشراة وكورة عمان كانت كل منها إقليماً برأسه قال الشاعر:
سلم عَلَى دمن أقوت بعمان ... واستنطق الربع هل يرجع بتبيان
قال ياقوت أن مدينة جرش هي شرقي جبل السواد من أرض البلقاء وعرف السواد بأنها نواح قرب البلقاء سميت بذلك لسواد حجارتها وفي أرض البلقاء عدة بلاد ورد لها ذكر في التاريخ العربي مثل قرية جادية التي ينسب إليها الجادي وهو الزعفران وفرية مؤتة من المشارف التي كانت بها تطبع السيوف المشرفية والموقر الذي كان ينزله يزيد بن عبد الملك قال كثير:(78/13)
سقى الله حياً بالموقر دارهم ... إلى قسطل البلقاء ذات المحارب
والقسطل نزله الوليد بن يزيد وهو قرب البلقاء وخلفه فيه عمه العباس وكان الوليد يستوطن الزيزاء. وفي البلقاء قصر الأزرق والفدين قريب من حصن الزرق وهذين قيل أنهما من عمل حوران ومعظم الراويات عَلَى أنه من عمل البلقاء.
العمران والسكة الحجازية
إن كان لدور الاستبداد حسنة فأعظم حسناته سكة حديد الحجاز التي مدت في عهد المخلوع وبتزيين قرينه أحمد عزت باشا العابد ولننهي منها حتى الآن القسم الأعظم من دمشق إلى المدينة المنورة وطوله 1303 كيلومترات ومن حيفا إلى درعا 161 كيلومتراً فانفق عليها فيما بلغنا ثلاثة ملايين ليرة ونصف صرف قسم مهم منها فقي مدينة دمشق فانتفع منه الملتزمون والتجار والزراع والعملة وبعض أرباب الصناعات والفنون وأنفق القسم الأعظم في ثمن أدوات وقطارات ومركبات حديد من معامل أوربا.
وما كاد ينتهي الخط إلى المدينة حتى نهضت البلاد بعض الشيء ولاسيما دمشق والمدينة وحيفا نهضة اقتصادية لا يستهان بها وحسن حال التاجر والمزارع وسارت الأمور الاقتصادية عَلَى نسق مرتب معقول فلم يعد في التجارة ذاك الكساد الذي نعهده في دمشق ولا التقهقر الذي كان في حيفا ولا الغلاء الفاحش في أسعار المدينة وهكذا انتفع المحطات عَلَى طول الخط من دمشق إلى المدينة وعددها 75 محطة ومحطات حيفا ودرعا وعددها 15 فأخذت كل محطة بقدر حظها من العمران وانتفع منها في الأكثر ما كان له أثر قديم في الارتقاء.
ولو كانت الحكومة تلتفت بعض الالتفات لعمران البلدان لأخذت بأيدي كل من يودون إنشاء بيوت ودكاكين وخانات وفنادق في المحاطات وأعطتهم مئات الدونمات يجعلونها حدائق ويبنون عليها مساكن عَلَى شرط أن يعمروها في مدة تعينها لهم وإذا أمكن أن تمنح بعض محاويجهم إعانة مالية قليلة يستعينون بها عَلَى التعمير فكيف لا ندهش والحالة هذه إذ رأيناها ورأينا عمالها يوقفون من يبنون المساكن في مثل مدائن صالح وعددها لا يقل عن خمسين محلاً بدعوى أنه لا يسوغ إنشاء مدينة إلا بإرادة سنية فهلا استصدرت الإرادات السنيات في الحث عَلَى مثل هذه المشروعات التي لا يتصور أنفع منها في البلاد.(78/14)
هكذا فعلت الحكومة مع من يريدون إقامة الدور والحوانيت ولم تقصر في وضع العقبات في سبيل من يريد غرس أشجار البرتقال لأنه ثبت أنها تجود في تربة هذه البلدة الرملية. وليت الإدارة تحمل الحكومة عَلَى ترغيب الناس في إنشاء الدور والحدائق لما في ذلك من الفوائد لعمالها إذ يستغنون بأسراتهم عن صرف أوقات الفراغ في المقامرة ومعاقرة الخمر ويقل عدد من يتعاطونها منهم.
نعم إن المحطات مالاً ينبت فيه كل شيء بحسب الظاهر ولا تمطره السماء إلا ساعات غير معلومة في السنة ولاسيما بعد ارض البلقاء وهواءها جاف حار محرق وعمرانها متوقف عَلَى عمل كثير طويل ومال غزير ليس بقليل فأمثال هذه المحطات تترك الآن وينشط كل من يود اعتمار الأراضي الموات قرب المحطات وإنشاء دور وحوانيت فيها ولو فعلت الحكومة لاستغنت مع الزمن من حراسة هذا الخط بكتائب من الجنود ترابط عَلَى طول السكة وإقامة اثنتي عشرة قلعة من الهدية إلى المدينة وهي اليوم تجعل في كل قطار يسافر بعد لواء حوران إلى المدينة جملة من الجند النظامي المسلح لحماية الركاب من عيث البادية إذا حدث حادث لا قدر الله.
نقول عيث البادية ولو أعملت الحكومة الفكر منذ اليوم الذي نوت فيه تمديد هذا الخط الحربي الديني التجاري لأوسعت لهم من تلك السهول الخصيبة في لواء الكرك ما كانوا الآن استغنوا بزراعته عن شن الغارات وإيذاء السابلة طمعاً في اقتناص ما يتبلغون به ولتوفروا عَلَى تربية مواشيهم وزروعهم كما يتوفر اليوم بنو حسن في قضاء عجلون وينو صخر في قضاء السلط والحويطات في معان والمجالي في الضمور والطراونة في الكرك وغيرهم في غيرها وكل هؤلاء من العرب الرحل يتأنسون بقدر ما يدخل النور عَلَى أولادهم ويستثمرون أرباح الزراعة والماشية ولاشك أنهم يعدلون بتة عن الغرة كلما أسكنت الأصقاع التي في جوارهم وخف الاعتداءُ عليهم.
ولسكة الحجاز الفضل الأكبر في تأنيس شارد البدو إذ عرفوا بأن قوة الدولة مهمة في كبح جماح كل معتد. وقد أخذت تصدر حاصلاتهم إلى الأسواق التجارية الكبرى فكانت الجنوب تكسد في بعض السنين الماضية في جهات لواءي الكرك وحوران فأصبحت اليوم تسافر إلى القاصية. وأبواب الشام والحجاز والبحر منفتحة أمامها. وهكذا يقال في السمون والجبن(78/15)
والألبان والأصواف التي تحصل من نياقهم ومعزاهم وأغنامهم وأبقارهم.
في لواء الكرك وحده أرض موات تكفي لإعالة كل أهل البادية من العرب خصوصاً وهم الموصوفون بذكاء فطرتهم ومضاء عزائمهم فإذا توفرت لهم الأسباب تحصل الفائدة الاقتصادية والعمرانية المطلوبة من السكة الحجازية فتعمل هذه في نقل الأنفس والأموال والمتاجر السنة كلها لا كما هي اليوم تشتغل أشهراً معدودة من السنة في موسم الحج ثم تبلى بالفتور إلا قليلاً. وأن من عرف أن هذا الخط قد عمر بالإعانات التي جمعت من أقطار العالم الإسلامي وهمة ضباط العثمانيين وكتائب جنودنا وإن مئات هلكوا في سبيل إنشاءه بحيث لم يكن يمد الكيلومتر الواحد إلا عَلَى أشلاء بضعة من رجالنا يوافق عَلَى تساهل إدارة السكة مع الضباط والجنود والخط خط عسكري.
ولقد لاحظنا أن القطار الحجازي يقطع المسافة اليوم بين دمشق والمدينة في ثلاثة أيام بلياليها يقف منها في المحطات الكبرى مثل درعا ومعان وتبوك والمدائن نحو اثنتي عشرة ساعة دع عنك الوقت الذي يصرفه في المحطات الصغرى ون معدل سيره عَلَى عشرين كيلومتراً في الساعة فلو تدبرت الإدارة في اختصار هذه المدة في الوقوف وحملت قاطراتها عَلَى الإسراع قليلاً في سيرها وسراها لجاز القطار المسافة بيد دمشق والمدينة وبين حيفا والمدينة في يومين وليلتين فتوفر عَلَى الناس بعض عناء السفر وإذا رأت الإدارة أنه مما يلائم مصلحتها الاقتصادية تنزيل أسعار الركوب في الدرجة الأولى والثالثة وأرجة الركوب في الثالثة من دمشق إلى المدينة أربع ليرات وفي الدرجة الأولى ثماني ليرات فأسقطت منها عَلَى الأقل ثلاثين في المئة استفادت فيما نحسب أكثر وكثر الذاهبون والجاثون وعظمت الفوائد من ذلك فعندها تقصد المدينة أكثر من الآن للزيارة والتجارة ويقصد الحجازيون بلاد الشام ليصطافوا أو يتجروا.
وليت الحكومة تتساهل في الاعتماد عَلَى أبناء البلاد وتختار الجند الذين يحرسون الخط من أبناء حوران مثلاً فهم أقدر عَلَى تحمل المشاق من ابن مدن آسيا الصغرى وسورية ومقدونية ونظنها في التجربة التي جربته في الطابور الذي ألفته من الشروق بالأجرة وسمته هجين سوار أي فرسان الهجين والشروق هم سكان شرقي المدينة أي نجد قد ثبت لها أن ابن هذه البلاد أنفع من خدمتها إذا شبع من ابن البلاد القاصية والفارس النجدي اليوم(78/16)
يتناول 450 قرشاً صحيحاً في الشهر هو وهجينه وما الجندي يكلف الحكومة أقل من ذلك فضلاً عن تعرضه للهلاك من هواء بادية العرب وكذلك يقال لإدارة السكة أن تختار عمالها من العارفين لغة البلاد قبل أن يعرفوا التركية لأن في ذلك فوائد مهمة للخط نفسه وإذا كان لا بد من الاستكثار من أبناء آسيا الصغرى وغيرها في جملة عمالها فما عليها إلا أن تشترط عليهم تعلم العربية وبذلك تتضاعف خدمتها للإدارة وللبلاد معاً عَلَى أن ابن العراق والجزيرة والحجاز أقدر في كل حال عَلَى تولي أعمال هذه السكة خصوصاً في النصف الأخير منها من جهة المدينة.
وقد لاحظنا عَلَى إدارة السكة إهمال عمالها للنظافة في المركبات ولاسيما في الدرجة الأولى بحيث أنها لا تزيد الراكب فيها راحة إلا بكون مقاعدها مفروشة بالمخمل (القطيفة) وهي أضيق من مقاعد الدرجة الثالثة ولا يخفى عَلَى أمر القائمين بأمر السكة الحجازية أن التدخين محظور في القطار في الدرجات الثلاث بأوربا دع تعاطي المسكرات وإنه ليسوءنا ما رأيناه من أن بعض موظفي الحكومة الذين كانوا آتين من المدينة المنورة يبسطون في مركبات الدرجة الأولى سفرة الشراب ويتعاطونه مع النقول اللازمة له والأغاني التي يطربون بها كأنهم في حانة أو بيت خاص من غير نكير يؤذون بذلك جلسائهم وهم يكونون بعملهم أعظم عارٍ عَلَى المسلمين والإسلام.
فليت إدارة الشركة تحظر الشراب في القطارات والمحطات عَلَى ركابها وعمالها مباشرة وتغرم من يجرأ عَلَى خرق حرمة شريعة الإسلام وقانون المدنية الحديثة غرامة ثقيلة تربي كل مقترف لهذه الكبيرة فإن كان من عمال الحكومة الأمن عصم الله من يفسدون أخلاق الرعية بما يعودونهم إياه من احتساء كؤوس الراح في المديريات والأقضية والألوية والولايات فما أحرى الحكومة أن تكف مفاسدهم عَلَى الأقل عن قصاد البلد الطيب رحمة بالإنسانية والإسلام.
بعض أعمال الكرك
قال غرس الدين الظاهري وأمما المملكة الكركية فليست هي من الشأم وهي مملكة بمفردها وتسمى مآب وهي مدينة حصينة معقل من معاقل الإسلام بها قلعة ليس لها نظير في الإسلام ولا في الكفر تسمى حصن الغراب لم تكن فتحت عنوة قط وإنما فتحها المرحوم(78/17)
صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد أن فتح القدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكانت بيد البرنس أرنلط وكان يتعرض إلى حجاج بيت الله الحرام.
وقال أن الشوبك كانت مدة بيد الإفرنج وهي مضافة إلى الكرك وحصينة أيضاً ومسيرة معاملة الكرك من العلى إلى زيزة مقدار عشرين يوماً بسير الإبل وهي بلاد عدية بها قرى كثيرة والمعاملات والمسلك إليها صعب من مقطعات قليلة الماء حتى أنه إذا وقف أحد عَلَى درب من دروبها يمنع مائة فارس اهـ.
بلدان في لواء الكرك طالما سمعنا بهما وهما قصبة الكرك وقصبة السلط فالأولى كنا نتوهمها أهم مما رأيناه والثانية رأيناها أهم مما سمعنا به من وصفها وهذا من جملة الأسباب التي تدور أهالي البلقاء أن يطلبوا إلى الحكومة جعل السلط في التقسيمات الإدارية مركز لواء بضم أراضي بني حسن من قضاء عجلون وعمل حوران إليه وجعل مادبا قضاء وعمان قضاء والزيزاء قضاء وبذلك توفر عَلَى أهل القاصية من لواء الكرك العناء الشديد الذي يلاقونه بشد الرحال إلى حاضرة اللواء كلما عرض لهم عمل فقد بلغني أن أكثر الناس يستنكفون من أداء الشهادة إذا طلبوا إليها من السلط إلى الكرك مثلاً وينكرونها ويتحملون الإثم في ذلك لأن الشاهد يستحيل عليه أن يضيع بضعة أيام في الذهاب والإياب ويتكلف مالاً طائلاً نفقه في السكة الحديدة وأجرة دواب.
فإذا اختار ابن السلط مثلاً أن يذهب إلى الكرك يضطر إما إلى المسير ثلاثة أو أربعة أيام عَلَى الدواب ذهاباً ومثلها إياباً وإما أن يركب دابة 25 كيلومتراً من السلط إلى عمان ومن هذه وهي في الكيلومتر 222 يركب القطار الحجازي إلى القطرانة وهي في الكيلومتر 326 ومنها يركب دابة إلى الكرك مسيرة ست ساعات. وهكذا يتكلف من له عمل طفيف في مركز اللواء إلى مال جزيل ووقت طويل.
وأنكى من ذلك أن معان وهي في الكيلومتر 489 بل أن تبوك وهي في الكيلومتر 692 بل أن مدائن صالح وهي في الكيلومتر 9555 إذا اضطر أهلها إلى قصد الكرك يقطعون هذه المساوف في السكة الحديدية أو الدواب وكلاهما شاق يحتاج إلى وقت ومال فتقسيم لواء الكرك الإداري مشوش مضطرب وما أحراه أن يقسم لوائين أحدهما مركزه السلط كما تقدم والثاني يجعل مركزه في معان أو إذرح وهي مدينة متوسطة من اللواء ولكنها اليوم خربة(78/18)
لا ساكن فيها وكانت من المدن العامرة قبل الإسلام وبعده حتى أن أهلها صالحوا في غزوة تبوك عَلَى الجزية فبلغت مائة دينار في كل رجب وذكر المقدسي أنها مدينة متطرفة حجازية شامية وعندهم بردة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده وهو مكتوب في أديم وبذلك يستدل أنها كانت عامرة في القرن الخامس للهجرة بل إلى عهد قريب وكانت هي وموآب مدينتي الشراة.
وارض الشراة من الشوبك إلى رأس النقب كما يحددها الأهلون اليوم أي مسيرة يوم طولاً وعرضها ساعتان وهي الأرض المفلوحة مؤلفة من تلعات وأودية وفيها عيون غزيرة لا تقل عن أربعين عيناً لا ينفع بأكثرها وقسم منها الآن في عمل قضاء الطفيلة والآخر في قضاء معان وعلى جنوب الشراة بلاد طيءٍ أو جبال طيءٍ وهي الحد الجنوبي لسورية كما عرفها العرب قال خاتم الطائي وقد أغارت طيّ عَلَى إبل للحارث بن عمرو الحفني وقتلوا ابناً له:
إلا أنني قد هاجني الليلة الذكر ... وما ذاك من حب النساء ولا الأشر
ولكنني مما أصاب عشيرتي ... وقومي بأقران حواليهم الصير
ليالي نمسي بين جوز ومسطح ... نشاوى لنا من كل سائمة جزر
فيا ليت خير الناس حياً وميتاً ... يقول لنا خيراً ويمضي الذي ائتمر
فإن كل شر فالعزاء فإننا ... عَلَى وقعات الدهر من قبلها صبر
سقى الله رب الناس سحا وديمة ... جنوب الشراة من مآب إلى زعر
بلا امرئ لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي وليس له الكدر
وفي أذرح عين ماء غزيرة فوق أرض واسعة يمكن تشجيرها كلها ولها قلعة لا تحتاج إلا إلى ترميم خفيف وهي عَلَى أربع ساعات إلى الغرب الشمالي من معان وعلى ثلاث ساعات من وادي موسى وأنقاض دورها وعقودها وعمدها موجودة لا تحتاج إلا إلى بنائين فتكون مدينة تامة الأدوات في بضعة أسابيع وفيها اليوم أنقاض ثلاثة طواحين.
ربما يستهجن بعضهم أن نقترح جعل مركز لواء الكرك في أذرح وهي خراب وتترك الكرك وهي المشهورة بتاريخها خلقت بما لها من المركز الحصين الواقع عَلَى جبل عال خال من أطرافه لتكون عاصمة كبرى فضلاً عن مركز لواء ولكن مراكز الحكومات يجب(78/19)
أن تكون في بقعة متوسطة والكرك منحرفة عن طريق السكة الحديدي ومنحرفة عن نقطة دائرة اللواء وعمرانها القديم لا يشفع لها أن تكنون الحاكمة عَلَى مدائن صالح وهذه من الكرك زهاء 660 كيلومتراً! بل الأجدر أن تكون العقبة وتبوك ومدائن صالح كلها لواءاً خاصاً برأسه إذا أرادت الحكومة تحضير البادية وحكم أهلها عَلَى ما يجب.
ولعل بعضهم يعترض بقوله أن العمران مستحيل في هذه الأصقاع ما دامت خالية من السكان ولا ماء فيها ولا كلاء ولكن الحكومة الصالحة تجذب إليها الأنفس كما تحمل الأموال وناهيك بأن عشيرة الفقرا وهي لا تقل عن 800 بيت تنتقل بين تبوك ومدائن صالح تسكن في مدة قليلة وذلك لأن الراضي الموجودة بكثرة والمياه إذا حفر بالأرض ثلاثة أو أربعة أمتار تنبط حالاً والبقاع التي ينزلونها مستعدة كل الاستعداد لزراعة البرتقال والنخل فإذا أخذت الحكومة بأيديهم فذاقوا لذة الكسب يعدلون عن عيش الغزو الذي يسوقهم إليه فقرهم ولا يلبثوا أن يصبحوا كسائر العرب الساكنة يدفعون الضرائب ويخدمون في الجندية مثل عامة العثمانيين.
لا نعتقد أن الكرك يتراجع عمرانها إذا نقل منها مركز اللواء لأنه بما دهمها من الفتنة الأخيرة فتخربت بحيث لم تعد صالحة لسكنى أهليها ولا موظفيها إلا بعد بضع سنين عَلَى أن الحكومة جعلتها عَلَى نحو عشرين سنة مركز لواء ولم ترمم قلعتها ولا أتمت مكتبها الكبير ولا مسجدها الجامع فأنت الآن إذ دخلتها تنقبض نفسك من بلد ترى الخراب يتحيفه من كل جانب فتشاهد وعينك تدمع خراباً في العقول وخراباً في النبات وخراباً في الجماد ومثل هذا البلد يعمر بالعلم والعرفان أكثر من عمرانه بالسيف والسنان.
تنقبض النفس في الكرك عَلَى جمال في طبيعتها وهي تطل من جهاتها الأربع عَلَى مناظر لطيفة ومنها البحر الميت ووادي الأردن إلى أعالي جبال أريحا وذلك لأنها كانت في معظم أدوارها التاريخية ظالمة مظلومة واشتهر أهلها بحب الغارة عَلَى عهد الإسرائيليين والموآبيين وحاربها شاول وداود وقامت قائمتها جوارم وملك اليهودية فرجعا عنها مدحورين واضمحل الموآبيون في القرن الثاني قبل المسيح وأصبحت الكرك مفتاح تلك البلاد عَلَى عهد الصليبيين واستولى عليها رنودي شاتليون الذي يسميه المؤرخون العرب البرنس أرنلط وذلك لأنها حاكمة عَلَى طريق قوافل مصر وبلاد العرب القادمة إلى سورية(78/20)
وذلك حاربها صلاح الدين يوسف بن أيوب حباً عواناً وأقام الأيوبيون فيها وحصنوها ومازال ملوك مصر والشام يحاصرونها ويقتتلون أهلها وآخر أعمال الكركيين ذبهم عسكر إبراهيم باشا المصري ثم فتنتهم الأخيرة المشؤومة ويبلغ المسيحيون في الكرك نحو أربعة آلاف أكثرهم روم وفيهم لاتين وقليل من البرتستانت وفيها مدارس حقيرة لذكروهم وإناثهم ولئن كان المسيحيون اليوم عَلَى مستوى من جيرانهم المسلمين وكانوا نحو 15 ألفاً قبل الحوادث الأخيرة أو أرقي بقليل في المدنية فسيكون مستقبل هذه البلاد لهم وناهيك بأن تلامذة المكتب الرشدي اليوم وهي زهاء ثلاثين تلميذاً كلهم من أولاد المسيحيين وإذا كان فيهم التلميذ الواحد أو الاثنان من أبناء المسلمين فيكون كلانا غير مواظب هذا في مدارس الحكومة فما بالك في المدارس الطائفية المسيحية وتجارة البلد في أيدي أناس من أهل دمشق والخليل فقدوا أموالهم في الفتنة ولم يعوضوا عنها حتى الآن سوى سبعة في المئة مما قدر لهم.
ولم تبق الفتن من العاديات القديمة ما يذكر في هذه المدينة اللهم إلا أنقاض دائرة وجميع هذه الديار كانت عامرة وهي اليوم مأوى الغراب والبوم ناهيك بأن اللجون الواقعة عَلَى ساعتين من الكرك كانت بحسب ما رأينا من أنقاض ارتجتها الضخمة من المدن المهمة فأصبحت اليوم والحكومة تسكن فيها طائفة من المهاجرين وتعمر لهم دوراً فلا يلبثون أن يرحلوا عنها إذا أردوا تناقص النفوس فيها بسبب الماء والهواء وتركوا منازلهم خاوية فأنزلتهم الحكومة في بعض أنحاء البلقاء وما ندري كيف انقلبت طبيعة تلك البلاد المأهولة قديماً حتى لم تعد المدينة منها تصلح لأن تكون مزرعة حقيرة لفساد هوائها ومائها فسبحان القابض الباسط المعمر المدمر.
العربية الصخرية
طريق الكرك من القطرانة وطريق وادي موسى من معان يبتدئان بتراب كلسي ممزوج بصلصال لا استعداد فيه للزراعة اليوم ولذلك تظنك إذا توسطت تلك السهول وعرضها نحو ثلاث ساعات من الخط الحديدي تظنك في قفر بلقع حتى إذا انتصف الطريق تتراءى لك بعض عيون وزروع والمسافة بين معان ووادي موسى سبع ساعات للراكب كما هي بين القطرانة والكرك. ووادي موسى هو قرية اللجي وعلى نحو ساعة منه بترا أو العربية(78/21)
الصخرية كما يسميها الإفرنج وسماها العرب سلعاً والسلع الشقوق في الجبال والغالب أن السلع قسم من العربية الصخرية وهي عبارة عن جبال (إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها) وحدثنا من زار خرائب الحجر أو مدائن صالح أنها دون خرائب بترا بمكانتها.
وكان لبترا هذه أيام عز طويلة عَلَى عهد الدوميين والنبطيين العرب وقدماء الرومان والمكابيين وامتد حكمها إلى دمشق وكانت بيدها زمام التجارة مدة قرون في هذا الشرق الأقرب ولم تنحط إلا بارتقاء مملكة فارس وانبساط ظل سلطان تدمر ولما جاء الإسلام كانت خرائب كما هي اليوم والغالب أن بقايا مجدها أتت عليها الزلازل فدكتها كما دكت غيرها من المصانع والآثار.
إذا اشرف الراكب عَلَى قرية وادي موسى يرى روح النعيم فيها خصوصاً ويكون قد قطع ساعات في صقع أجرد أمر ليس فيه من الأشجار إلا الزعرور ولا من الغلات إلا قليل من الحنطة والشعير ولكن في وادي موسى حدائق بديعة تسقى من العيون الدافقة عليها من الهضاب المجاورة حتى تخال لنفسك لما تراه من بهجة الخضراء أنك في صقع عامر زاهر فإذا قصدت إلى العاصمة بترا أو تجبلت في السيك أي دخلت بين الجبلين المتناوحين العاليين وكل قطعة منهما تبلغ ألوفاً من الأمتار المربعة علوها من 30 إلى 50 متراً وأنت تسير في طريق لا يقل عن خمسة أذرع ولا يزيد عن عشرة ليس فيه إلا الأحجار والحصا أو مسايل ماءٍ لا ينبت فيها إلا الرتم والطرفاء تشاهد في الأعالي النواويس والقصور والمسلات محفورة في الصخر وينفرج الطريق مسيرة نحو ثلث ساعة وينقسم إلى قسمين قسم ذات اليمين وفيه تتمة المدينة والقسم الآخر جبال طبيعية تمتد إلى بعيد وتتصل بجبل هارون من أجمل المناظر المشرفة عَلَى تلك الأودية والجبال.
وهنا يتمثل أمامك قصر فخم يسميه الناس خزنة فرعون والغالب أنه كان معبداً لإيزيس أنشئ عَلَى عهد الإمبراطور أدريانوس الذي زار هذه المدينة سنة 131 وفي واجهة هذا القصر رواق يتقدمه بضعة أعمدة كبرى وفوقها ثلاثة أعمدة أصغر منها ونقوش وتيجان وربما كان يصعد إلى العلية بلولب من الصخر بدليل ما يشاهد في الحائط من أثر الأدراج وإذا دخلت هذا الرواق ترى عَلَى اليمين قاعة كبرى تلمع أحجارها وتتموج وكأنها خرجت(78/22)
الآن من يد نقاشها وفي الجهة اليسرى قاعة مثلها وفي الصدر القاعة الكبرى أو الردهة المدهشة وكل هذه العمدان والسواري والتيجان والقاعات والرواق محفور في الصخر أو في هذا الجبل قطعة واحدة فكأن الحجر كان بيد صانعي هذا الهيكل وغيره من الهياكل والنواويس والقصور كالطين يجعلون منه ما يشاؤن والذي يزيد في الدهشة أن الحجر أحمر في هذه الجبال أو نوع من الحجر الرملي ولكنه بمتانته كالصخر الأصم ثم ترى عليك ذاك اللمعان فمن موجة حمراء إلى أخرى زرقاء إلى مثلها بيضاء إلى جانبها دكناء فسبحان من أنشأ هذا الصخر هنا منقطع النظير ورزق بانيه يد صناعاً تتفنن في تقطيعه ونقره بما فاق به البناة في سائر عاديات سورية. فإن كانت قلعة بعلبك تنم عن ذوق سليم وعلم واسع في النقش وجر الأثقال فإن هذه العاديات الخالدة الأزلية تنادي بلسان حالها هذه عظمة الديان إلى جانب عظمة الإنسان.
وترى إلى جانب الآثار قساطل من الفخار في جانب السيك الذي يشبه بعض جهاته الفج الواقع في شمالي قرية معلولا في جبل سنير (قلمون) وذلك عَلَى علو القامة استحجرت عَلَى الصخر حتى كأنها بعضه وهناك عَلَى بضع دقائق من خزنة فرعون كان في الغالب يخزن ماء هذه العاصمة برمتها وعلى مقربة من مخزن الماء وهو منقور في الجبل أيضاً ملعب التمثيل نقر في الصخر وله 33 ممشى لجلوس المتفرجين ويسع 3000 نسمة وفي هذا الجوار أقدم النواويس وأهمها وبعد ذلك يجيء قصر البنات وهو بناء من الحجر رصفت حجارته كما ترصف الأبنية الضخمة من قلاع وأبراج وأسوار ونحوها والغالب كان للمتأخرين شبه دار للحكومة وهو مما عمر قبل عهد الإسلام وهناك ولاسيما في خربة النصارى آثار بعض أديار يدل اسمها قبرسمها عَلَى أنها من عمل المسيحيين عندما كانت لهم حكومة هنا عَلَى عهد الرومان واليونان وعلى مقربة من تلك الجبال الشوامخ والمنفرجات والأودية بعض نواويس وآثار ولكنها دون آثار بترا في المكانة وفي جبل الصبرا ملعب أو صورة تمثل قتالاً بين سفن حربية.
ويقول بعض علماء الآثار من الألمان أن معظم القبور التي حفرت عَلَى مثال قبور الحجر يرد عهدها إلى الملك أرتياس الرابع أحد ملوك بترا أي 9 و30 سنة قبل المسيح وبعده وليس في وادي موسى أعمدة من قبل الحكم الروماني عليها. وإن ما يشاهد من صور أبي(78/23)
الهول وإيزيس ورؤوس الحملان يدل عَلَى أن هذه البلاد تأثرت بالمدنية المصرية والمسلتان الموجدتان في النجر تمثلان ربي النبطيين اللات ودوزارس وإنها كانت مركز عبادة النبط قبل العهد اليوناني بستة قرون عَلَى الأقل وإن المدنية اليونانية دخلت وادي موسى عَلَى عهد البطالسة فاختلط العنصران المصري والسوري وظل القول الفصل فيها للمدينة اليونانية إلى عهد أرتياس الرابع وفي بترا 851 مصنعاً من القبور والمعابد والمذابح.
وبالجملة فإن من أراد أن يتوسع في درس هذه المدينة الأزلية وجب عليه أن يصرف أياماً في خرائبها كما يفعل بعض سياح الإفرنج وعلماء الآثار منهم فيقصدونها يضربون فيها خيامهم ويصرفون في إمتاع النظر الأسبوع والأسبوعين وعلى من يحب التوسع في البحث أن يستعين بما كتبه علماء الآثار من المصنفات في وصف هذه المصانع بالإنكليزية والألمانية والإفرنسية وغيرها من لغات المدنية الحديثة.
في جوار هذه العاديات المدهشة المنبئة بمدينة راقية + + ينزل نحو ألف نسمة من العرب يأتون أياماً قلائل إلى الحي أو وادي موسى لتعهد زورعهم السقي ثم ينتقلون في الصيف والشتاء في جبال الشراة عَلَى ساعتين أو ثلاث أو أربع من بلدهم في خيام الشعر وهم فرقتان تؤلف الأولى من عرب الشرور ومن بني عطا والثانية من الهلالات والعبيدية والعلايا ويغلب عليهم الفقر ومنهم من يزرع أراضي الحويطات والنعيمات عَلَى مقربة من بلدهم بالخمس وليس فسهم من يقرأ ولا من يكتب وفي وادي موسى مدير عين حديثاً يتبع قضاء عمان كما أن في الشوبك مديراً ويلبس أهل وادي موسى الكوفية والعقال ويسمونه المرير أي المفتول والعباءة وقفاطاناً مسدولاً بدون سراويل وفي أرجلهم نعل يعملونه من جلد البعير وينوطون به حبلة يدخل منها باهم الرجل لتعلق وفي ألفاظهم بعض فصح مثل قولهم لسير الليل وقولهم الهدوم للثياب العتيقة وقولهم الريف للأراضي الخصبة والقابلة للداية وغير ذلك. ويعنون كثيراً بتربية البقر والغنم والماعز والإبل عندهم مثل بني صخر.
وما يشكوه أهل معان يشكو منه أهل وادي موسى يشكون ممن أن الأراضي للمهاجرين غير مسجلة بأسمائهم وأن عشيرتي النعيمات والحويطات تدعي ملكيتها عَلَى حين هذه لم تسجل نفوسها في سجلات الحكومة ولا تدفع إلا ما يصيبها من الأموال الأميرية وهي في(78/24)
رحالة تضرب في الفجاج إلى نجد وأبعد من نجد ولا تتوفر عَلَى زراعة الأرض كلها وإذا قتل البدوي أحد أهل البلدين يفر فلا يلوي عَلَى شيء وإذا قتل الفلاح من أهل معان ووادي موسى رجلاً من أولئك البدو تتقاضاه الحكومة الدية وتحبسه وترهقه فكأن الحكومة لا تقوى إلا عَلَى كل ضعيف خفيف الحال. سألنا أحد كبار شيوخ وادي موسى هل زرت يا عماه مدينة دمشق في حياتك فأجاب إنني لم أزرها أنا ولا أحد من أهل بلدي وأني لي وبزيارتها والطريق عشرة أيام لراكب المطايا وفي السكة الحديدية احتاج إلى أجرة لم أملكها في حياتي فتأمل.
وبعد فإن أجمل المناظر إذا خرجت من السيك أو من الصدفين أي من جانبي الجبلين وفارقت تلك القنن والقلل تقصد إلى عين موسى صعدا في هضاب عنقاء شماء واطلت عَلَى تلك المدينة التي يستحيل أي جيش من جيش العالم أن يفتحها ويستبيح حمى من فيها إذا أرادت الدفاع تشرف من ورائها عَلَى أرض واسعة جداً تظنها بحراً من أشعة الشمس وهي وادي عربة طوله ثلاثة أيام إلى الغرب وعرضه إلى الشمال أربعة من العقبة إلى الغور وفي تربته حصا وأحجار ورمال وأملاح وينابيع قليلة منها بعض الخضرة كما تجد هنا وهناك بعض الشجار البرية ويقصد البدو هذا الوادي في الشتاء لأنه غور يرعون فيه مواشيهم كما يقصد أهالي الطفيلة والكرك والسلط وما جاورهم من الأغوار إلى الغرب من ديارهم ويقصدون جهات الشرق في الربيع ويتوسطون في الشتاء والصيف.
هذا نموذج من عيش أهل المجر والمدر من البوادي ممن تشهد خيامهم السوداء كما قال ابن معتوق في وصفها:
قطع من الليل البهيم عَلَى الثرى ... سقطت وفيها أنجم الجوزاء
والتي قالت فيها الشاعرة الأعرابية يوم زوجت في دمشق وأسكنت القصور والدور من اللبن والحجر:
لبيت تخفق الأرياح فيه ... أحب إليّ من قصر منيف
أو كما قال الشاعر:
الحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
ولقد أحببنا أن نجربه للمرة الأولى فنزلنا ليلة في أرض إيل عَلَى شيخ من عرب الشرور(78/25)
واسمه محمد إبراهيم وأخرى في بير البيطار عَلَى محمد أبي فرج شيخ بني عطا وهذان المنزلان عَلَى مقربة من وادي موسى وكنا بتنا ليلة في الزيزاء عند فواز بن سطام شيخ مشايخ بني صخر فرأينا العيش البدوي عَلَى اختلاف طبقاته ديمقراطية وارستقراطية ونمنا في العراء تخفق علينا الرياح وخرجنا عن مألوف العادات فشربنا من كاس شرب بها عشرات من قبلنا فلم تغسل كفناجين القهوة وأكلنا الجريش ممزوجاً باللبن الرائب والمرق عليه رقاق تعلوها قطع اللحم والدهن بدون ملعقة ولا شوكة ولا سكين ولا صفحة خاصة ولا منديل فواكلناهم وسامرناهم وحدثناهم وحدثونا واستنصحنا بعضهم لنصرح له أي العيشين أفضل لهم البداوة أم الحضارة فقلنا لهم أنتم بالنظر لما نشأتم عليه أبقوا عَلَى بداوتكم واقتربوا من المدنية ما سمحت لكم أنفسكم ولكن إياكم أن تغفلوا عن تعليم أولادكم لينشأوا نشأة مدنية أكثر من نشأتكم وعندها إذا أحبوا أن ينقطعوا عن عيش الخلاء بتة يتيسر لهم ذلك. إني أخاف عليكم أيها العرب إذا عاشرتم الحضر فأكثرتم من عشرتهم أن تنسوا المكارم العربية ويختلط عليكم أمركم وتضيعون فطرتكم السليمة إلى ما تئن منه حضارتنا من النفاق والكذب والمزور والخديعة ولولا الغارات لآثرت أن أعيش في هذه الديارات بين البوادي ولو أشهراً معدودة من السنة.
يتبع(78/26)
مصر والمملكة الإسلامية
لعالم جغرافي عربي
من أمهات كتب الجغرافيا العربية القديمة التي أحياها بالطبع دي كوي أحد أئمة المشرقيات في الغرب وطبعتها مطبعة بريل في ليدن من بلاد هولاندة طبعة ثانية سنة 1906 كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء الشامي المقدسي المعروف بالبشاري ذكر فيه الأقاليم الإسلامية وما فيها من المفاوز والبحار والبحيرات والأنهار ووصف أمصارها المشهورة ومدنها المذكورة ومنازلها المسلوكة وطرقها المستعملة وعناصر العقاقير والآلات ومعادن الحمل والتجارات واختلاف أهل البلدان في كلامهم وأصواتهم وألسنتهم وألوانهم ومذاهبهم ومكاييلهم وأوزانهم ونقودهم وصروفهم وصفة طعامهم وشرابهم وثمارهم ومياههم ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم وما يحمل من عندهم وإليهم وذكر مواضع الأخطار في المفازات وعدد المنازل في المسافات وذكر السباخ والصلاب والرمال والتلال والسهول والجبال والحواوير والسماق (؟) والسمين منها والرقيق ومعادن السعة والخصب ومواضع الضيق والجدب وذكر المشاهد والمراصد والخصائص والرسوم والممالك والحدود والمصادر والجروم والمخاليف والزموم والطساسيج والتخوم والصنائع والعلوم والباخس والمشاجر والمناسك والمشاعر.
قال: وعلمت أنه باب لا بد منه للمسافرين والتجار ولا غنى عنه للصالحين والأخيار هو علم ترغب فيه الملوك والكبراء وتطلبه القضاة والفقهاء وتحبه العامة والرؤساء وينتفع به كل مسافر ويخطى به كل تاجر وما تم لي جمعه إلا بعد جولاني في البلدان ودخولي أقاليم الإسلام ولقائي العلماء وخدمتي الملوك ومجالستي القضاة ودرسي عَلَى الفقهاء واختلافي إلى الأدباء والقراء وكتبة الحديث ومخالطة الرهاد والمتصوفين وحضور مجالس القصاص والمذكرين مع لزوم التجارة في كل بلد والمعاشرة مع كل أحد والتفطن في هذه الأسباب بفهم قوي حتى عرفتها ومساحة الأقاليم بالفراسخ حتى أتقنتها ودوراني عَلَى التخوم حتى حررتها وتنقلي إلى الأجناد حتى عرفتها وتفتيشي عن المذاهب حتى علمتها وتفطني في الألسن والألوان حتى رتبتها وتدبري في الكور حتى فصلتها وبحثي عن الأخرجة حتى أحصيتها مع ذوق الهواء ووزن الماء وشدة العناء وبذل المال وطلب الحلال وترك(78/27)
المعصية ولزوم النصح للمسلمين بالحسبة الصبر عَلَى الذل والغربة والمراقبة لله والخشية بعدما رغبت نفسي في الأجر وطمعتها في حسن الذكر وخوفتها من الإثم وتجنب الكذب الطغيان وتحرزت بالحجج من الطعان ولم أودعه بالمجاز والمحال ولا سمعت إلا قول الثقات من الرجال.
وقال في موضع أخر في ذكر الأسباب التي عاينها في تأليف كتابه ويفهم منها مبلغ تعبه في وضعه ترجمته لنفسه عَلَى أسلوب هو الأدب بعينه والإبداع الغريب قال:
اعلم أن جماعة من أهل العلم ومن الوزراء قد صنفوا في هذا البابوإن كانت مختلة غير أن أكثرها بل كلها سماع لهم ونحن فلم يبق إقليم إلا وقد دخلناه وأقل سبب إلا وقد عرفناه وما تركنا مع ذلك البحث والسؤال والنظر في الغيب فانتظم كتابنا هذا ثلاثة أقسام إحداها ما عايناه والثاني ما سمعناه من الثقات والثالث ما وجدناه في الكتب المصنفة في هذا الباب وفي غيره وما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها ولا تصانيف فرقة إلا وقد تصفحتها ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها ولا أهل زهد إلا وخالطتهم ولا مذكروا بلد إلا وقد شهرتهم حتى استقام لي ما ابتغيته في هذا الباب.
ولقد سميت بستة وثلاثين اسماً دعيت وخوطبت بها مثل مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي وخراساني وسلمى ومقرئ وصوفي وولي وعابد وزاهد وسياح ورواق ومجلد وتاجر ومذكر وإمام ومؤذن وخطيب وغريب وعراقي وبغدادي وشامي وحنيفي ومتأدب وكري ومتفقه ومتعلم وفرائضي وأستاذ ودانشومند وشيخ ونشاسته وراكب ورسول وذلك لاختلاف البلدان التي حللتها وكثرت المواضع التي دخلتها ثم أنه لم يبق شيء مما يلحق بالمسافرين إلا وقد أخذت منه نصيباً غير الكدية وركوب الكبيرة فقد تفقهت وتأدبت وتزهدت وتعبدت وفقهت وأدبت وخطبت عَلَى المنابر وأذنت عَلَى المنابر وأممت في المساجد وذكرت في الجوامع واختلفت إلى المدارس ودعوت في الحافل وتكلمت في المجالس وأكلت مع الصوفية الهرائس ومع الخانقائية الثرائد ومع النواتي العصائد وطردت في الليالي من المساجد وسحت في البراري وتهت في الصحاري وصدقت في الورع زماناً وأكلت الحرام عياناً وصحبت عباد جبل لبنان وخالطت حيناً السلطان وملكت العبيد وحملت عَلَى رأسي بالزنبيل وأشرفت مراراً عَلَى الغرق وقطع عَلَى قوافلنا الطرق(78/28)
وخدمت القضاة والكبراء وخاطبت السلاطين والوزراء وصاحبت في الطرق الفساق وبعت البضائع في الأسواق وسجنت في الحبوس وأخذت عَلَى أبي جاسوس وعاينت حرب الروم في الشواني وضربت النواقيس في الليالي وجلدت المصاحف بالكرى واشتريت الماء بالغلا وركبت الكنائس (؟) والخيول ومشيت من السمائم والثلوج ونزلت في عرضة الملوك وبين الأجلة وسكنت بين الجهال ومحلة الحاكة وكم نلت العجزة والرفعة ودبر في قتلى غير مرة وحججت وجاورت وغزوت ورابطت وشربت بمكة من السقاية والسويق واكلت الخبز والجلبان بالسيق ومن ضيافة إبراهيم الخليل وجميز عسقلان السبيل وكسيت خلع الملك وأمروا لي بالصلات وعريت وافتقرت مرات وكاتبني السادات ووبخني الأشراف وعرضت عَلَى الأوقاف وخضعت للأجلاف ورميت بالبدع واتهمت بالطمع وأقامني الأمراء والقضاة أميناً ودخلت في الوصايا وجعلت وكيلاً وامتحنت الطرارين ورأيت دول العيارين واتبعني الأرذلون وعاندني الحاسدون وسعي بي إلي السلاطين ودخلت حمامات طبرية والقلاع الفارسية ورأيت يوم الفوارة وعيد بربارة وبئر بضاعة وقصر يعقوب وضياعه ومثل هذا كثير ذكرنا هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا إنا لم نصنفه جزافاً ولا رتبناه مجازاً ويميزه من غيره فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من مصنف كتابه في الرفاهية ووضعه عَلَى السماع.
ولقد ذهب لي في هذه الأسفار فوق عشرة آلاف درهم سوى ما دخل عليّ من التقصير في أمور الشريعة ولم يبق رخصة مذهب إلا وقد استعملتها قد صليت عَلَى القدمين وصليت بمدها متان ونفرت قبل الزوال وصليت الفرائض عَلَى الدواب ومع نجاسة فاحشة عَلَى الثياب وترك التسبيح في الركوع والسجود وسجود السهو قبل التسليم وجمعت بين الصلوات وقصرت لأفي سفر الطاعات غير أني لم أخرج عن قول الفقهاء الأئمة ولم أؤخر صلاة عن وقتها بتة وما سرت في جادة بيني وبين مدينة عشرة فراسخ فما دونها إلا فارقت القافلة وانتقلت إليها لأنظر هاقا يمد وربما اكتريت رجالاً يصحبوني وجعلت مسيري في الليلة لأرجع إلى رفقائي مع إضاعة المال والهم.
وبعد فقد أجاد المقدسي في تأليفه ما شاء وشاءت الإجادة ومن يتعب في جمع مواد مصنفه مثل ما تعب يجيء منه آية يستفاد منها عَلَى الدهر فلم يترك شاردة في الجغرافية الطبيعية(78/29)
مما يتعلق بطبائع الأرض ومياهها وجبالها وبحيراتها وسهولها إلا وذكره عَلَى حسن صورة عرفها العالم وكذلك لم يدع فائدة في علم خصائص الشعوب والجغرافيا السياسية والاقتصادية إلا ألم به إلماماً لا يستطاع أكثر منه في عصره وهو القرن الرابع. وعلى كثرة ما أتى من المواد في كتابه الذي لا يتجاوز الخمسمائة صفحة من هذه الطبعة فإنك تجد كل فائدة قد ذكرت في موضعها بتنسيق غريب أدهش من نظر فيه من علماء المشرقيات في الغرب فأيقنوا بما رأوه أن فضل الله غير محصور بأمة معينة ولا بزمن خاص.
ولقد كنا نقول ونحن نطالع ما ورد في كتاب أحسن التقاسيم في وصف بلاد الشام وفلسطين أن هذا الفصل أجمل فصول هذا السفر لأن المؤلف قدسي يحسن معرفة بلاده ووصف ما حوت من الميزات والخيرات ولكن من طالع الكتاب برمته تتجلى له إجادته في وصف جميع بلاد الإسلام وما يجب عَلَى المطالع معرفته منها وإليك الآن ما قاله في إقليم مصر.
هذا هو الإقليم الذي افتخر به فرعون عَلَى الورى وقام عَلَى يد يوسف بأهل الدنيا فيه آثار الأنبياء والتيه وطور سيناء ومشاهد يوسف وعجائب موسى وإليه هاجرت مريم بعيسى وقد كرر الله في القرآن ذكره وأظهر للخلق فضله أحد جناحي الدنيا، ومفاخره فلا تحصى، مصره قبة الإسلام ونهره أجل الأنهار وبخيراته تعمر الحجاز وبأهله يبهج موسم الحاج وبره يعم الشرق والغرب قد وضعه الله بين البحرين وأعلى ذكره في الخافقين حسبك أن الشام عَلَى جلالتها رستاقه والحجاز مع أهلها عياله وقيل أن هو الربوة ونهره يجري عسلاً في الجنة وقد عاد فيه حضرة أمير المؤمنين ونسخ بغداد إلى يوم الدين وصار مصره أكبر مفاخر المسلمين غير أن جدبة سبع سنين متوالية، والأعناب والإتيان به غالية، ورسوم القبط به عالية، وفي كل حين تحل بهم الداهية، عمره مصر بن حام بن نوح عليه السلام وهذا شكله ومثاله.
وقد جعلنا إقليم مصر عَلَى سبع كورست منها عامرة ولها أيضاً أعمال واسعة ذات ضياع جليلة ولم تكثر مدائن مصر لأن أكثر أهل السود قبط ولا مدينة في قياس علمنا هذا إلا بمنبر فأولها من نجد الشام ثم الجفار ثم الحوف ثم الريف ثم الإسكندرية ثم مقدونية ثم الصعيد والسابعة الواحات. فأما الجفار فقصبتها الفرما ومدنها البقارة الواردة العريش. وأما(78/30)
الحوف فقصبتها بلبيس ومدنها مشتول جرجير فاقوس غيفا دبقو تونة بريم القلزم. وأما الريف فقصبتها العباسية ومن مدنها شبرو دمنهور سنهور بنها العسل شطنوف مليج محلة سدر محلة كرمين المحلة الكبيرة سندفا دميرة بورة دقهلة محلة زيد محلة حفص محلة زياد سنهور الصغرى بريس.
وأما إسكندرية فهي القصبة أيضاً ومنة مدنها الرشيد مريوط ذات الحمام براس وأما المقدونية فقصبتها الفسطاط وهو المصر ومن مدنها العزيزية الجيزة عين شمس وأما الصعيد فقصبتها أسوان ومن مدنها حلوان قوص أحميم بلينا علاقى أجمع بوصير الفيوم أشمونين سمسطا تندة طحا بهنسة قيس وبازاء الحوف جزيرتان في بحيرتين فهما تنيس ودمياط.
الفرما عَلَى ساحل بحر الروم وهي قصبة الجفار عَلَى فرسخ من البحر عامرة آهلة عليها حصن ولها أسواق حسنة وهي في سبخة وماؤها مالح وحولها مصايد السلوى معدن الأسماك الجيدة وبها أضداد عدة وخيرات كثيرة وهي مجمع الطرق مذ كورة سرية غير أن ماءها مالح وطيرها مزمن وهذه الكورة كلها رمال ذهبية والمدن التي ذكرناها وسطها وفيها طرق ونخيل وآبار وعلى بريد حانوت إلا أن الريح ربما لعبت بالرمال فغطت الطريق والسير فيها صعب.
بلبيس قصبة الحوف كبيرة كثيرة القرى والمزارع عامرة بنيانها من طين والمشتول كثيرة الطواحين ومنها يحمل أكثر ميرة الحجاز من الدقيق والكعك وأحصيت في وقت من السنة فإذا هو يبلغ ثلاثة آلاف حمل جمل في كل أسبوع كلها حبوب ودقيق. والقلزم بلد قديم عَلَى طرف بحر الصين يابس عابس لا ماء ولا كلأ ولا زرع ولا ضرع ولا حطب ولا شجر ولا عنب ولا ثمر يحمل إليهم الماء في المراكب ومن موضع عَلَى بريد يسمى سويس عَلَى الجمال ماء آجن ردي ومن مثلهم ميرة أهل القلزم من بلبيس وشربهم من سويس يأكلون لحم التيس ويقدون سقف البيت هي أحد كنف الدنيا مياه حماماتهم زعاق وحشمة ملولة والمسافة إليها صعبة غير أن مساجدها حسنة وبها قصور جليلة ومتاجر مفيدة هي خزانة مصر وفرضة الحجاز ومعونة الحاج واشترينا يوماً بدرهم حطباً فاحتجنا له بدرهم حطباً وهذه الدورة غير طيبة ولا أرى في ذكر بقية مدائنها فائدة.(78/31)
العباسية هي قصبة الريف عامرة طيبة قديمة شربهم من النيل موضع الريف والخصب بنيانهم أفرج من بنيان مصر بها أضداد تحمل عليها وجامع حسن من الآجر رفقة سرية والمحلة الكبيرة ذات جانبين اسم الجانب الآخر سندفا بكل جانب جامع وجامع المحلة وسطها وجامع تلك عَلَى الشط لطيف وهذه أعمر وبها سوق زيت حسن والناس يذهبون ويجيئون بالزوارق شبهتها بواسط ودمية أيضاً عَلَى الشط طويلة عامرة بها بطيخ نادر.
الإسكندرية قصبة نفيسة عَلَى بحر الروم عليها حصن منيع وبها بلد شريف كثير الصالحين والمتعبدين شربهم من النيل يدخل عليهم أيام زيارته في قناة فيملأ صهاريجهم وهي شامية الهواء والرسوم كثيرة الأمطار جامعة الأضداد جليلة الرستاق جيدة الفواكه والأعناب طيبة نظيفة بناؤهم من الحجارة البحرية معدن الخراب وبها جامعان عَلَى جبابهم أبواب تغلق بالليل كيلا يصعد منها اللصوص وسائر المدن عامرات طيبات وفي نواحيها خرنوب وزيتون ولز ومزارع عَلَى البعل ومن ثم يصب في بحر الروم وهي مدينة ذي القرنين ولها قصة عجيبة.
الفسطاط هو مصر في كل قول لأنه قد جمع الدواوين وحوى أمير المؤمنين وفصل بين المغرب وديار العرب واتسع بقعته. وكثر ناسه. وتنضر إقليمه واشتهر اسمه. وجل قدره. فهو مصر مصر. وناسخ بغداد. وفخر الإسلام ومتجر الأنام وأجل من مدينة السلام. خزانة المغرب. مطرح المشرق. وعامر الموسم ليس في الأمصار آهل منه. كثير الأجلة والمشايخ. عجيب المتاجر والخصائص. حسن الأسواق والمعايش إلى حماماته المنتهى. ولقيا سيره لباقة وبها. ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه ولا أحسن تجملاً من أهله ولا أكثر مراكب من ساحله. آهل من نيسابور. وأجل من البصرة. وأكبر من دمشق. به أطعمة لطيفة. وأدامات نظيفة. وحلاوات رخيصة كثير الموز الرطب. غزير البقول والحطب. خفيف الماء صحيح الهواء. معدن العلماء. طيب الشتاء أهله أهل سلامة وعافية. ومعروف كثير وصدقة. نغمتهم بالقرآن حسنة ورغبتهم بالخير بينة. وحسن عبادتهم في الأفاق معروفة قد استراحوا من أذي الأمطار. وأمنوا من غاغة الشرار. ينتقدون الخطيب والإمام. ولا يقدمون إلا طيباً وإن بذلوا الموال قاضيهم أبداً خطير والمحتسب كالأمير ولا ينفكون أبداً من نظر السلطان والوزير ولولا عيوب له كثير ما كان له في العالم من نظير(78/32)
وهو نحو ثلثي فرسخ طبقاتها بعض فوق بعض.
وكانت جانبي الفسطاط والجيزة ثم شق بعض الخلفاء من ولد عباس خليجاً عَلَى قطعة منها فسميت تلك القطعة الجزيرة لأنها بين العمود والخليج وسمي خليج أمير المؤمنين منه شربهم ودورهم أربع طبقات وخمس كالمناير يدخل إليهم الضياء من الوسط وسمعت أنه يسكن الدار الواحدة نحو مائتي نفس وإنه لما صار إليها الحسن بن أحمد القرمطي خرج الناس إليها فرآهم مثل الجراد فهاله ذلك وقال ما هذا قيل هؤلاء نظارة مصر ومن لم يخرج أكثر. وكنت يوماً أمشي عَلَى الساحل وأتعجب من كثرة المراكب الراسية والسائرة فقال لي رجل منهم: من أين أنت قلت: قلت من بيت المقدس قال: بلد كبير أعلمك يا سيدي أعزك الله أن عَلَى هذا الساحل وما قد أقلع منه إلى البلدان والقرى من المراكب ما لو ذهبت إلى بلدك لحملت أهلها وآلاتها وحجارتها وخشبها حتى يقال كان ههنا مدينة. وسمعتهم يذكرون أنه يصلي قدام الإمام يوم الجمعة عشرة آلاف رجل فلم أصدق حتى خرجت مع المتسرعة إلى سوق الطير فرأيت الأمر قريباً مما قالوا.
وأبطأت يوماً عن السعي إلى الجمعة فألفيت الصفوف في الأسواق عَلَى أكثر من ألف ذراع من الجامع ورأيت القياسير والمساجد والدكاكين حوله مملوءة من كل جانب من المصلين وهذا الجامع يسمى السفلاني من عمل عمرو بن العاص وفيه منبره حسن البناء في حيطانه شيء من الفسيفس عَلَى أعمدة رخام أكبر من جامع دمشق والازدحام فيه أكثر من الجوامع الستة قد التفت عليه الأسواق إلا أن بينها وبينه من نحو القبلة دار الشط وخزائن وميضاة وهو أعمر موضع بمصر وزقاق القناديل عن يساره وما يدريك ما زقاق القناديل والجامع الفوقاني من بناء بني طيلون أكبر وأبهى من السفلاني عَلَى أساطين واسعة مصهرجة وسقوفه عالية في وسطه قبة عَلَى عمل قبة زمزم فيها سقاية مشرف عَلَى فم الخليج وغيره وله زيادات وخلفه دار حسنة ومنارته من حجر صغيرة درجها من خارج والحد بين أسفل وفوق مسجد عبد الله قد بنى من مساحة الكعبة.
ويطول الوصف بنعت أسواقه وجلالته غير أنه أجل أمصار المسلمين وأكبر مفاخرهم وآهل بلدانهم ومع هذه الكثرة اشتريت الخبز الحواري ولا يخبزون غيره ثلاثين رطلاً بدرهم والبيض ثمانية بدانق والموز والرطب رخيص يجيء أبداً إليه ثمرات الشام(78/33)
والمغرب وتسير الرفاق إليه من العراق والمشرق ويقطع إليه مراكب الجزيرة والروم تجارته عجيبة ومعايشه مفيدة وأمواله كثيرة لا ترى أحلى من مائه ولا أوطأ من أهله ولا أحسن من بزه ولا أبرك من نهره إلا أنه ضيق المنازل كثير البراغيث عفن كرب البيوت قليل الفواكه مياه كدرة وآبار وضرة ودور قذرة وبق منتن وجرب مزمن. ولحوم عزيزة. وكلاب كثيرة. ويمين فظيعة. ورسوم وحشة أبداً عَلَى خوف من القحط وانقطاع النهر وإشراف عَلَى الجلاء وتربص بالبلاء. لا يتورع مشايخهم عن شرب الخمور ولا نساؤهم عن الفجور للمرأة زوجان وترى الشيخ سكران وفي المذهب حزبان في سمرة وقبح لسان.
والجزيرة خفيفة الأهل الجامع والمقياس عَلَى طرفها عند الجسر مما يلي المصر وبها بساتين ونخيل ومنتزه أمير المؤمنين عند الخليج بموضع يسمى المختارة والجيزة مدينة خلف العمود كانت الطريق إليها من الجزيرة عَلَى جسر إلى أن قطعه الفاطمي بها جامع وهي أعمر وأكبر من الجزيرة والجادة منها إلى المغرب ويلقي الخليج العمود تحت الجزيرة.
والقاهرة مدينة بناها جوهر الفاطمي لما فتح مصر وقهر من فيها كبيرة حسنة بها جامع بهي وقصر السلطان وسطها محصنة بأبواب ممدودة عَلَى جادة الشام ولا يمكن أحد دخول الفسطاط إلا منها لأنها بين الجبل والنهر ومصلى العيد من ورائها والمقابر بين المصر والجبل. والعزيزية قد اختلت وخربت عامتها وكانت المصر في القديم وبها كان ينزل فرعون وثم قصره ومسجد يعقوب ويوسف. وعين شمس مدينة عَلَى جادة الشام كثيرة المزارع بها مسند النيل أيام زيادته جامعهم في السوق. والمحلة مدينة عَلَى نهر الإسكندرية بها جامع لطيف وليس بها كثير أسواق غير أنها عامرة نزيهة الشط حسنة النهر يقابلها صندفاً به جامع عامر شبهتها بواسط إلا أنه ليس بينهما جسر يعبرون في المراكب. وحلوان مدينة من نحو الصعيد ذات مغاير ومقاطع وعجائب بها حمام من فوق حمام آخر وسائر المدن عَلَى عمود النيل وخليجه.
وأسوان قصبة الصعيد عَلَى النيل عامرة كبيرة بها منارة طويلة ولها نخيل وكروم كثيرة وخيرات وتجارات وهي من الأمهات وأحميم مدينة كثيرة النخيل عَلَى بعض شعب النيل ذات كروم ومزارع منها كان ذو النون الزاهد وهذه الكورة أعلى أرض مصر وفيها يخرج(78/34)
النيل والفيوم جليل به مزارع الأرز الفائق والكتان الدون ولها قرية سرية تسمى الجوهريات والعلاقى مدينة في آخر الكورة عَلَى طريق عيذاب وأما الواحات فإنها كانت كورة جليلة ذات أشجار ومزارع وإلى اليوم يوجد فيها صنوف الثمار وأغنام ونعم وقد توحشت متصلة بأرض السودان تمس إقليم المغرب وبعض يجعلونها منه.
تنيس بين بحر الروم والنيل بحيرة فيها جزيرة صغيرة قد بنيت كلها مدينة وأي مدينة هي بغداد الصغرى وجبل الذهب ومتجر الشرق والغرب أسواق ظريفة وأسماك رخيصة وبلدة مقصودة ونعم ظاهرة وساحل نزيه وجامع نفيس وقصور شاهقة ومدينة مفيدة رفقة إلا أنها في جزيرة ضيقة والبحر عليها كحلقة ملولة قذرة والماء في صهاريج مغلقة أكثر أهلها قبط والبلاذات تطرح إلى الطرق وبها يعمل الثياب والأردية الملونة وثم موضوع قد نضد فيه موتى الكفار بعض عَلَى بعض ومقابر المسلين وسط البلد.
دمياط تسير في هذه البحيرة يوماً وليلة ربما لقيك ماء حلو وأزقة ضيقة إلى مدينة أخرى وهي أطيب وأرحب وأوسع وأفسح. وأحزب وأكثر فواكه. وأحسن بناء وأوسع ماء. وأحذق صناعاً. وأرفع بناء وأنظف عمالاً. وأجود حمامات. وأوثق جدارات. وأقل أذيات. من تنيس عليها حصن من الحجارة.
كثيرة الأبواب وفيها باطات كثيرة خربت ولهم موسم من كل سنة يقصدها المرابطون من كل جانب وبحر الروم منها عَلَى صيحة دور القبط عَلَى ساحله وثم يفيض النيل في البحر. وشطا قرية بين المدينتين عَلَى البحيرة يسكنها القبط وإليها ينسب هذا البز وطحا قرية بالصعيد يعمل بها ثياب الصوف الرفيعة ومنها كان الفقيه الإمام أبو جعفر الأزدى ويصنع ببهنسة الستور والأنماط والكتان الرفيع مزارعه ببوصير.
جمل شؤن هذا الإقليم
هذا إقليم إذا أقبل فلا تسأل عن خصبه ورخصه وإذا أجدب فتعوذ بالله من فحطه يمد سبع سنين حتى يأكلون الكلاب ويقع فيهم الوباء المبرح اشد حراً من سواحل الشام ويبرد في طوبه برداً شديداً به نخيل كثيرة وعامة ذمته النصارى يقال لهم القبط ويهود قليل. كثير المجذمين وبيت الجرب لأنه عفن وأكثر أدمهم السمك. وعلى مذاهب أهل الشام غير أن أكثر فقهائهم مالكيون ألا ترى أنهم يصلون قدام الإمام ويربون الكلاب.(78/35)
وأعلى القصبة وأهل صندفا شيعة سائر المذاهب بالفسطاط موجودة ظاهرة وثم محلة الكرامية وجلبة للمعتزلة والحنبلية والفتيا اليوم عَلَى مذاهب الفاطمي التي تذكرها في إقليم المغرب. والقراآت السبع فيه مستعملة غير أن قراء ابن عامر أقلها ولما قرأت بها عَلَى أبي الطيب بن غلبون قال دع هذه القراءة فإنها عتيقة قلت: قيل لنا عليكم بالعتيق قال: فعليك بها. قرأت عليه لأبي عمرو فكان يأمرني بتفخيم الراء من مريم والتورية والغالب عليهم والمختار عندهم قراءة نافع وسمعت شيخاً في الجامع السفلاني يقول: ما قدم في هذا المحراب أمام قط وهو يتفقه لمالك ويقرأ لنافع غير هذا يعني ابن الخياط قلت: ولم ذلك قال لم نجد أطيب منه وكان شفعوياً أبو عمر يا ولم أر في الإسلام أحسن نغمة منه لغتهم عربية غير أنها ركيكة رخوة وذمتهم يتحدثون بالقبطية وهو بلد التجارات يرتفع منه أديم جيد صبور عَلَى الماء ثخين لين والبطائن الحمر والهملختات؟ والمثلث هذا من المصر ومن الصعيد الأرز والصوف والتمور والخل والزبيب ومن تنيس لا دمياط الثياب الملونة ومن دمياط القصب ومن الفيوم الأرز وكتان دون ومن بوصير قريدس الكتان الرفيع ومن الفرما الحيتان ومن مدنها القفاف والحبال من الليف في غابة الجودة ولهم القباطي والأرز والخيش والقباداني والحصر والحبوب والجلبان ودهن الفجل والزنبق وغير ذلك.
الخصائص. ولا نظير لأقلامهم وزواجهم ورخامهم وخلهم وصوفهم وخيشهم وبزهم وكتانهم وجلودهم وحذوهم وهملختاتهم وليفهم ووزنهم وموزهم وشمعهم وقندهم ودقهم وصبغهم وريشهم وغزلهم وأشنانهم وهريستهم ونيدتهم وحمصهم وترمسهم وقطرهم وقلفاسهم وحصرهم وحمرهم وبقرهم وحزمهم ومزارعهم ونهرهم وتعبدهم وحسن نغمتهم وعمارة جامعهم وحالومهم وحيسهم وحيتانهم ومعايشهم وتجارتهم وصدقاتهم كل ذلك في غاية الجودة.
وقد اجتمع بها من خصائص فلسطين القلقاس وهو شيء عَلَى قدر الفجل المدور عليه قشر وفيه حدة يقلى بالزيت ويطوح في الشكباج والموز وهو عَلَى مقدار الخيار عليه مزود رقيق يقشر عنه ثم يؤكل له حلاوة وعفوصة والجميز وهو أصغر من التين له ذنب طويل والترمس وهو عَلَى قدر الظفر يابس مر يحلى ويملح والنبق وهو عَلَى قدر الزعرور فيه نواة كبيرة حلوة وهو ثمرة شجر السدر ويزيدون عليهم بالنيدة وهي السمنوا غير أن(78/36)
عجيب الصنعة يبسط عَلَى القصب حتى يجف وينعلك دهن البلسان من نبت ثم.
والنقود القديمة المثقال والدرهم ولهم المزبقة خمسون بدينار ويكثرون التعامل بالرضي وقد غير الفاطمي النقود إلا هاذين وأبطل القطع والمثاقيل. والمكاييل الويبة وهي خمسة عشر منا والأردب ست ويبات والثليس ثمانٍ وهي بطالة والرسوم بجوامع هذا الإقليم إذا سلم الإمام كل يوم صلاة الغداة وضع بين يديه مصحفاً يقرأ فيه جزءاً ويجتمع الناس عليه كما يجتمع عَلَى المذكرين ولهم آذان ينفردون به عَلَى طريق النياحة ثلث الليل الأخير وله قصة يأثرونها بين العشائين جامعهم مغتص بحلف الفقهاء دائمة القراء وأهل الأدب والحكمة ودخلتها مع جماعة من المقادسة فربما جلسنا نتحدث فنسمع النداء من الوجهين دروراً وجوهكم إلى المجلس فننظر فإذا نحن بين مجلسين عَلَى هذا جميع المساجد وعددته فيه مائة وعشرة مجلس فإذا صلوا العشاء أقام البعض إلى ثلث وأكثر سوقهم إذا رجعوا من الجامع ولا ترى أجل من مجالس القراء به وبه مجلس للمتلعبين ولهم إجراء ويضربون عَلَى جوامعهم شراعات وقت الخطبة مثل البصرة ويخلو أسواقهم أيام الجمع.
قال ما يلبسون ثوباً غسيلاً أو نعلاً قد امتعطت ولا يكثرون أكل اللحم ويكثرون الإشارة في الصلاة والنخع والمخاط في المساجد ويجعلونه تحت الحصر ويخبزون في الرساتيق وقت البيادر ما يكفيهم إلى عام قابل ثم ييبسونه ويخبئونه ولهم باذهنجات مثل أهل الشام تحمل وترو وتملق يمينهم الكبرى ورأس الله والصغرى وحق عَلَى يحبون رؤوس الأسماك ويقال أنهم إذا رأوا شامياً قد اشترى سمكاً اتبعوه فإذا رمى رؤوسها أخذوها يكثرون أكل الدلينس أقذر شيء حيوان بين زلفتين صغيرتين يفلقان ويحسى مثال المخاط.
ومن عيوبهم ضعف قلوبهم وقلة ثمارهم وأهل الشام أبداً يعيبونهم ويسخرون منهم ويقولون مطر أهل مصر الندى وطيرهم الحدا وكلامهم سيدي رخو مثل النسا أعزل الله مالك كذا أكلهم الدلنيس ونقلهم الحمص وجبنهم الحالوم وحلواهم النيد وقطائعهم الخازير ويمينهم كفر.
وأما النيل فلم أذق ولا سمعت أن في جميع الدنيا ماء أحلى منه الأنهر المنصورة وزيادته من شهر بؤنة إلى شهر توت وقت عيد الصليب ولهما سدان أحدهما بعين شمس ترعة تسد بالحلفاء والتراب قبل زيادته فإن أقبل الماء رده السد وعلا الماء عَلَى الجرف أعلى القصبة(78/37)
فيسقي تلك الضياع مثل بهتيث والمنيتين وشبرو ودمنهور وهو سد خليج أمير المؤمنين فإذا كان يوم عيد الصليب وقت انتهاء حلاوة العنب خرج السلطان إلى عين شمس فأمر بفتح هذه الترعة وقد سد أهل الجرف أفواً أنهارهم حتى لا يخرج الماء منها وجعلوا عليها الحراس فينحدر الماء إلى ضياع الريف كلها والترعة الأخرى أسفل من هذه وأعظم غير أن السلطان لا يحضرها ويبين بفتحها النقصان في النيل وهي بسردوس والمقياس بركة وسطها عمود كويل فيه علامات الأذرع والأصابع وعليه وكيل وأبواب محكمة يرفع إلى السلطان في كل يوم مقدار ما زاد ثم ينادي المنادي زاد الله اليوم في النيل المبارك كذا وكذا وكانت زيادته عام الأول في هذا اليوم كذا وكذا وعلى الله التمام ولا ينادى عليه إلا بعد أن يبلغ اثني عشر ذراعاً إلا ما يرفع إلى السلطان حسب والاثنا عشر ما يعم ضياع الريف فإذا بلغ أربعة عشر ذراعاً سقى أسفل الإقليم فإذا بلغ ستة عشرة استبشر الناس وكانت سنة مقبلة فإن جازوها كان الخصب وسعة فإذا نضب الماء أخذوا في الحرث والبذر وفي أيام زيادته تتبحر مصر حتى لا يمكن الذهاب من هذه الضيعة إلى الأخرى إلا في الزواريق في بعض المواضع.
الفسطاط جبل فيه معدن الذهب ولهم معادن زاج الحبر لا ترى مثله وطين يسمى الطفل وفي المقطم مقاطع حجارة بيض حسنة تنشر كما ينشر الخشب. ثم ذكر مشاكل مصر مع الاحتراز من الخرافات الشائعة بشأنها في الجملة قال وعلى صيحة من الفسطاط موضع يسمى قرافة فيه مسجد وسقايات حسنة وخلق من العباد وموضع خلوة وسوق لطلاب الآخرة وجامع حسن ومقابرهم في غاية الحسن والعمارة ترى البلد غبراء والمقابر بيضا ممتدة عَلَى طول المصر فيها قبر الشافعي وذكر بعض عجائب مصر مثل هرمي الجيزة وقال إنها مقابر ألا ترى إلى ملكوك الديلم بالري كيف اتخذوا عَلَى قبورهم قباباً عالية وأحكموا جهدزهم وعلوها طاقتهم كيلا تندرس وذكر منارتي عين شمس أو مسلتيها ومغائر حلوان وبرابي الصعيد ومنارة الإسكندرية وعدد الشهور القبطية وقال أن طول مصر من بحر الروم إلى النوبة أقل من شهر وعرضه من الجنوبي ثمان مراحل ومن الشمالي اثنتا عشرة وللدخلة فيه عند بحر القلزم أربع مراحل أما الولايات فللفاطمي وهم في عدل وأمن لأنه سلطان قوي غني والرعية في راحة ومن ثم سياسة ونفاذ أمر وكل سامع مطيع من(78/38)
الأركان سراً وعلانية لا يخطب إلا لأمير المؤمنين حسب. ثم ذكر خراج مصر نقلاً عن قدامة ابن جعفر وابن الفقيه إلى أن قال:
وسألت بعض المصريين ببخارى عن الخراج فقال ليس عَلَى مصر خراج ولكن يعمد الفلاح إلى الأرض فيأخذها من السلطان ويزرعها فإذا حصد الناس ودرس وجمع وشمت بالعرام وتركت ثم يخرج الخازن وأمين السلطان فيقطع كرى الأرض ويعطى ما بقي للفلاح قال وفيهم من يأخذ من السلطان تقوية فيزاد عليه في كرى الأرض بمقدار ما اقتطعه قلت فلا يكون لأحد ثم ملك وضيعة قال لا اللهم إلا أن يكون رجل اشترى ممن أقطعه السلطان في القديم ووهبها فاحتاج هو أو ذريته إلى ثمنها فباعها لعامة الناس.
وقال: وأما الضرائب فثقيلة وخاصة تنيس ودمياط وعلى ساحل النيل وأما الثياب الشطوبة فلا يمكن القبطي أن يتسبح (لعله يتشح) شيئاً منها إلا بعدما يختم عليها بختم السلطان ولا أن تباع إلا عَلَى يد سماسرة قد عقدت عليهم وصاحب السلطان يثبت ما يباع في جريدته ثم تحمل من بطونها ثم إلى من يشدها بالقش ثم إلى منإذايشدها في السفط وإلى من يحزمها وكل واحد منهم له رسم يأخذه ثم عَلَى باب الفرضة يؤخذ أيضاً شيء وكل واحد يكتب عَلَى السفط علامته ثم نفتش المراكب عند إقلاعها ويؤخذ بتنيس عَلَى زق الزيت دينا ومثل هذا وأشباهه ثم عَلَى شط النيل بالفسطاط ضرائب فقال رأيت بساحل تنيس ضرائبياً جالساً قيل قبالة هذا الموضع في كل يوم ألف دينار ومثله عدة عَلَى ساحل البحر وبالصعيد وساحل الإسكندرية وبالإسكندرية أيضاً عَلَى مراكب الغرب وبالفرما عَلَى مراكب الشام ويؤخذ بالقلزم عَلَى كل حمل درهم.
وهنا ذكر المسافات بين الأقاليم بحساب المراحل وكل ذلك مشبع بالفوائد العمرانية التي لا تكاد تراها في الكتب الأخرى الملة بذكر البلاد الإسلامية ولا بأس بأن نختم هذا الفصل بنموذج آخر من كتاب المقدسي في ذكر مملكة الإسلام قال:
اعلم أن مملكة الإسلام حرسها الله تعالى ليست بمستوية فيمكن أن توصف بتربيع أو طول وعرض وإنما هي متشعبة يعرف ذلك من تأمل مطالع الشمس ومغاربها ودوخ البلدان وعرف الممالك ومسح الأقاليم بالفراسخ وسنجتهد في تقريب الوصف وتصويره لذوي العقول والإفهام إن شاء الله تعالى الشمس تغرب في حافة بلد المغرب ويرونها تنزل في(78/39)
البحر المحيط وكذلك أهل الشام يرونها تنزل إلى بحر الروم وإقليم مصر يأخذ من البحر الرومي طولاً إلى بلد النوبة ويقع بين بحر القلزم وتخوم المغرب ويمتد المغرب من تخوم مصر إلى البحر المحيط مثل الشريطة يضغطه من قبل الشمال بحر الروم ومن قبل الجنوب بلدان السودان ويمد إقليم الشام من تخوم مصر نحو الشمال إلى بلد الروم فيقع بين بحر الروم وبادية العرب وتتصل البادية وبعض الشام بجزيرة العرب ويدور عَلَى الجزيرة بحر الصين إلى عبادان من أرض مصر ويتصل أرض العراق بالبادية وبعض الجزيرة ويتصل بتخوم العراق الشمالية إقليم أقور فيمتد إلى بلد الروم وقد تقوس عليه الفرات من نحو الغرب ووقع خلف الفرات بقية البادية وطرف من الشام فهذه أقاليم العرب ووقعت خوزستان والحبال عَلَى تخوم العراق الشرقية وطائفة من الجبال وإقليم الرحاب عَلَى تخوم أقور الشرقية ووقعت فارس وكرمان والسند خلف خوزستان عَلَى صف واحد البحر جنوبيها والمفازة وخراسان شماليها وتاخمت السند وخراسان من جهة الشرق بلدان الكفر وتاخمت الرحاب بلد الروم من قبل الغرب والشمال ووقع إقليم الديلم بين الرحاب والجبال والمفازة وخراسان فهذه مملكة الإسلام فتدبرها وفيها تقتل وتعرج لمن شقها من شرقها إلى غربها ألا ترى أنك إذا أخذت من البحر المحيط إلى مصر كنت عَلَى الاستواء ثم تميل يسيراً إلى العراق ثم تنفتل في أقاليم الأعاجم وخراسان مائلة إلى جهة الشمال أولا ترى أن الشمس تطلع عن يمين بخارا من نحو إسبيجاب.
وأما مساحتها عَلَى الوصف الذي شرحناه فإنك تأخذ من البحر المحيط إلى القيروان مائة وعشرين مرحلة ثم إلى النيل ستين مرحلة ثم إلى دجلة ستين مرحلة ثم إلى جيحون ستين مرحلة ثم إلى ثونكت خمسة عشر يوماً ثم إلى طراز خمسة عشر يوماً وإن عطفت إلى فرغانة فمن جبحون إلى أوزكنت ثلاثون مرحلة وإن عطفت إلى كاشخر فأربعين مرحلة. ووجه آخر تأخذ من سواحل اليمن إلى البصرة خمسين يوماً ثم إلى أصفهان مائة فرسخ ثمانية وثلاثين ثم إلى نيسابور ثلاثين مرحلة ثم إلى جيحون عشرين مرحلة ثم إلى طراز ثلاثين مرحلة وهذا عَلَى الاستواء ويسقط إقليم مصر والغرب والشام. وأما العرض فمختلف جداً لأن إقليم المغرب قليل العرض وكذلك مصر ثم إذا حاذيت الشام اتسعت المملكة ثم لا تزال تتسع حتى تصير وراء جيحون إلى بلد السند نحو ثلاثة أشهر وأما أبو(78/40)
زيد فجعل العرض من ملطية ماراً عَلَى الجزيرة والعراق وفارس وكرمان إلى أرض المنصورة ولم يذكر المراحل إلا أنها تكون نحو أربعة أشهر غير عشرة أيام والذي ذكرنا أبين وأتقن فمن أقصى المشرق بكاشخر إلى السوس الأقصى نحو عشرة أشهر.
قدر للخليفة سنة 232 ما يرتفع من الخراج والصدقات سوى الحماميات والجبايات من جميع المملكة فبلغ ألفي ألف وثلاثمائة ألف وعشرين ألفاً ومائتين وأربعة وستين ديناراً ونصفاً قال وحسب خراج الروم للمعتصم فبلغ خمسمائة قنطار وكذا قنطار فإذا به أقل من ثلاثة آلاف ألف دينا فكتب إلى ملك الروم أن أخس ناحية عليها أخس عبيدي خراجها أكثر من خراج أرضك. وطول المملكة عَلَى ما قدمناه ألف وستمائة فرسخ كل مائة فرسخ ألف ألف ومائتا ألف ذراع فالفرسخ اثنا عشر ألف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع ست حبات شعير مصفوفة طولا بعضعها إلى بعض الميل وثلث الفرسخ وفي البريد خلاف بالبادية والعراق اثنا عشر ميلاً وبالشام وخراسان ستة ألا ترى كيف بنى بخراسان عَلَى كل فرسخين رباط ورتب فيه أصحاب البريد فبهذا نأخذ اهـ.
ولا يسع المنصف بعهد تلاوة هذه النموذجات من المصنف العلامة إلا أن يحبذ العلماء العرب فيما دنوه بحسب ما انتهى إليه ارتقاء العلم في عصورهم وإذا وقع لهم ما يؤخذ اليوم عليهم وهو قليل جداً بحسب ما أدانا إليه البحث والتنقيب فإن هذا لا يقدح في أسفارهم ولا يحول بيننا وبين إحيائها وتدارسها عَلَى علاتها خلافاً لما يتبجح به المنطعتون من المتفرنجين منا ممن لم يسعدهم الحظ أن يدرسوا كتاباً عربياً وغاية علمهم أنهم قرأوا مبادئ العلوم باللغات الإفرنجية وجمدوا عليها جمود بعض الفقهاء عَلَى ما قاله المتأخرون منهم وترك الرجوع إلى الأصل الصحيح من كتب السنة بدعوى أن المتأخرين جرروا كل شيء فلم يبق بنا حاجة إلى الأخذ عمن قبلهم.(78/41)
اللغة الانتقادية
رأينا في اللغة مجلد شاذ الطرفين قديم الخط والورق صغير الحجم والقطع غير أن أسلوبه وصحة عبارته ورصفها تقتضي قدم تأليفه كما أن ترسل المؤلف ووفور مادته وسعة اطلاعه حتى إنا لم نعثر فيما قرأنا منه عَلَى نقل أو تعويل إلا نادراً توجب أن يكون أحد أئمة اللسان ولعل أديباً من صرعى الكتب والآثار يطلع عَلَى ما ننشره منه فيطلعنا عَلَى مصنف الكتاب وعلى حقيقة الكتاب.
هذا وفي الموجود من أول المجلد كلام عَلَى المترادفات ثم أبواب في مباحث لغوية مفيدة مرتبة عَلَى زنات الأسماء والأفعال وفيه فصول مختلفة ممتعة والذي يهمنا مباحثه الانتقادية فقد جاء فيها ما نصه.
باب ما هو مكسور الأول مما فتحته العامة أو ضمته
مما فتحته الصنارة والجنازة والرطل للمكيال والجص والرخو والأثمد وضربت علاوته أي رأسه وأيضاً ما علق عَلَى البعير والجمع العلاوى وعلاوة الربح وسفالتها بالضم واستعمل فلان عَلَى الشام وما أخذ أخذه وأخذت بأخذنا أي بخلائفنا والجراب والإهليلجة واللثة وفلان ينزل العلو والسفل والطنفسة والدهليز وشاعرت المرأة نمت معها في شعار وشعار القوم في الحرب والترياق والدرياق والسواك والوشاح والديوان والديباج وجمام القدح وأما الجمام (بالضم) ففي الدقيق ونحوه وفصح النصارى إذا أفطروا وأكلوا اللحم والمرفق مرفق اليد وما يرتفق به وأنفخة الجدي وقيل منفخة وأنت عَلَى رياس أمرك ورياس السيف مقمضة والعامة تقول رأس أمرك.
ومما تقوله العامة بالضم صوان الثوب لما يصان به ودابة بها قماص وتمر شهرين وكسرى ومما الفتح فيه لغة الرطل للمكيال والمسترخي من الرجال والبزر ويوم الأربعاء وأما جرو الكلب والإصبع فبالكسر والضم والفتح.
باب ما يتكلم فيه بالصاد مما تتكلم العامة فيه بالسين وبالعكس
نبيذ أو لبن قارص يقرص اللسان ويوم قارس والبرد قارس وسمك قريس وليلة ذات قرس ولا تقل بالصاد.
بخصت عينه وبخست حقه وبصق بصاقة وبزق ولا تقل بسق وبسق النخل طال وبسق(78/42)
فلان في علمه علا ويقال + + + يتألق (بصاقة القمر) فص الشاة والفس تتبع النمائم وقد أفرصك الأمر وأصل الفرصة أن يتفارص القوم الماء القليل فيكون لهذا نوبة فيقال جاءت فرصتك أي وقت استقائك قمرة قهره وقصره حبسه وامرأة قصيرة مقصورة أي محبوسة دابة شموس أي بينة الشماس عند الإسراج أو المشي والصندوق وصنجة الميزان ولا تقل سنجة والرساغ حبل يشد في رشغ البعير يمنعه من الانبعاث والصماخ ولا تقل السماخ وأصاخ إلى الشيء استمع وتقصصت أثره وتقسست صوته بالليل وأخذه حصر احتبس بطنه وأسر احتبس بوله.
باب ما يغلط فيه العامة فيتكلم بالياء وإنما هو بالواو
جفوت الرجل فهو مجفو ولا تقل جفيته وأما قول الشاعر
فليس بالجافي ولا المجافي.
فمبني عَلَى جفى جنوت عليه وحنيت امرأة حانية أقامت عَلَى وادها فلم تتزوج وحنيت العود والظهر وحنوتهما هجوته فهو مهجو ولا تقل هجيته فلوت المهر وافتليته فصلته عن أمه غذوته غذاء حسناً عروته أتيته فهو معرو وعزوته إلى أبيه نسبته وعزيته لغة واعتزيت إلى أبي وقروت الأرض قروا نبتعتها وقريت الضيف أقريه قرى وقرا غلوت في القول غلواً وغليت عليه من شدة الغيظ أغلى غلياً وغلياناً وخلوت به أخلو خلوة وخليت دابتي خلياً جزرت لها الخلى وهو الأخضر أو الرطب من النبات يقال أخلت الأرض أي كثر خلاها والواحدة خلاة.
عنوت أي خضعت وعنوت من بني فلان صرت فيهم عانيا أي أسيراً وعنت الأرض بالنبات تعنو عنواً ظهر نبتها وأعناه المطر وعنيت فلاناً بكلامي حزا السراب الشخص يحزوه حزواً رفعه وحزى فلان الشيء يحزيه حزياً خرصه وتقول كم تحزى هذا النحل عتوت يا فلان تعتوا عتواً ولا تقل عتيت وجلوت الصفر وجلوت عن البلد أجلو جلاء وعفوت عنه عفواً وبينهما بون بعيد أي تفاوت وما أحوله إذا كان محتالاً وقد تحول أي احتال ورجل حول ما أحيله لغة وهي الحول والحيل.
أبوت الرجل أبوه صرت له أباً وماله أب يأبوه وأبيت الشيء أباه أباء وسروت الثوب عني أسروه سروا وسريت الليل وأسريت.(78/43)
ما جاء عَلَى فعلت مما تكسره العامة أو تضمه
عسيت ودمعت عيني وعطس وشعل وسبح ولمح ونكل وكللت من الإعياء وكفل به وجهد ووجد وعتب وحرص ولعب سال لعابه ونحل جسمه ونحلت فلاناً أعطيته ونحلت القول نحلةً ولغب وغثث نفسه وغثا السيل وغلت القدر وولغ الكلب ولهث من الإعياء وذوى العول وذبل وجمد الماء وخمدت النار تخمد وعمد وقصد وعجر عن الأمر وعجزت المرأة كبرت عجيزتها وعجزت (مضعفاً) صارت عجوزاً وهدت النار وهمد الثوب بلى وغوى الرجل جهل وغوى الفصيل لم يرتو من لبان أمه ثم لا يروى من اللبن حتى يموت هزالاً وأما زعف وصلح وفسد فالضم في ثلثتها لغة.
باب من يتكلم فيه فعلت مما تغلط فيه فتقول أفعلت
نعشت الرجل رفعته ومنه نعش الميت ونجع في الرجل الدواء وفي الدابة العلف ونبذت النبيذ والشيء من يدي وشغلته وسعرهم شراً وجملت الشحم واجتملته أذبته وهزلت دابتي وفي المنطق هزلاً ووقفته عَلَى كذا وذابتي وبشيء عَلَى ولدي وجنبت الريح وشملت ودبرت وأجنبنا وأشملنا وأدبرنا ودخلنا وجنبنا وشملنا أصابتنا وبرق ورعد الشماء والرجل يتهدد وحكى أرعد وعدته خيراً وشراً فإن اسقطوا الخير والشر قيل في الشر أوعدته وكذلك إذا ذكروا الباء معه قالوا وعدته بشر وكبه الله لوجهه وعلف الدابة أو رسنتها وخششت البعير وعظت فلاناً وحميت المريض.
باب ما يتكلم فيه بأفعلت مما تتكلم العامة فيه بفعلت
أديته أعنته واستأديت الأمير عليه أنبته أعطيته وأنبته قصدته أبدرنا طلع علينا البدر وبدرنا إلى كذا أبريت الناقة جعلت لها براً وبريتها حسرتها وأبسست للغنم بالماء وبالإبل للحلب صوت بها وناقة بسوس تدر بالإبساس وبس السويق لته بالسمن بشرت الأرض عند نبتها وما أحسن بشرتها وبشرت الأديم قشرت باطنه أبعته أعرضته للبيع وبعته من فلان أبغيته أعنته عَلَى الطلب وبغيته طلبته أبقل الرمث فهو باقل وبقل وجهه خرج شعره وناب البعير طلع أترب استغنى وترب افتقر أتلد في أرض كذا أقام وتلد قدم اتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم واتبعتهم وتبعتهم مروا بك فمضيت معهم أثرى بنوا فلان كثر مالهم والأرض كثر ثراها وثرى بثرى فرح وثروناهم كثرناهم أثللت كذا أصلحته وثللت البيت(78/44)
أهدمته ومنه ثل عرشه أي ذهب عزه أجبرته عَلَى الأمر أكرهته وجبرت الفقير أعطيته والعظ فجبر أي انجبر أحد قل خيره وجحد أنكر أجرب فلان جربت إبله جرباً أجررت الفصيل شققت لسانه بخلال يمنعه عن الرضاع وفلاناً الرمح طعنته فتركته فيه يجره والفرس رسنه وجر الحبل وجريره جناية أجز النخل حان أن يجز وجززت النعجة والكبش وحلقت التيس والعنز ولا يقال فيها جززت أجم الأمر وجم الماء جموماً اجتمع في البئر والفرس جماماً ترك أياماً من الركوب وأجرم جريمةً جنى جناية وجرم الصوف جزه والنخل صرمه ونخل جريم أجززت القوم أعطيتهم وجزرة يذبحونها أي شاة سمينة والجمع جزر وجزرت الجزور نحرتها وجزر الماء قل أجلب قتبه جعل عليه جلدة رطبة ثم تركها حتى يبس وجلب عَلَى فرسه جلباً صاح أجمع أمره عزم عليه وجمعت الشيء جمعاً وجمعت المرأة لبست الخمار والدرع والملحفة ما أجمل الحساب وفي صنيعه إجمالاً وجمل الشحم واجتمله أذابه والجميل المذاب منه أجنى الثمر أدرك وجنيته جناً أجبته بكذا إجابةً وجابة وجبت الصخرة خرقتها أحددت السكين وحددت حده عضبّت وحدت المرأة وأحدت تركت الزينة أحبر جلده ترك حباراً وحبراً ترك أثراً وحبره سره والحبرة والحبر السرور احتبست فرسي في سبيل الله وأحبسته فهو محتبس وحبست فلاناً في الحبس أحجل بعيره أطلق يده اليمنى وقيد اليسرى وحجل الغراب أحجم عن الأمر كف وحجم الحاجم فلاناً والصبي ثدى أمه وفلان جمله جعل له حجاماً لئلا يعض وبعير محجوم أحذيته أعطيته وحذوته جلست بحذائه وحذوت النعل بالنعل وحذت الشفرة يد قطعتها والنبيذ يحذي اللسان أحسبته أكثرت له حتى قال حسب وحسبت الحساب حساباً وحسباناً وحسبة أحمدته وجدته محموداً أحصره منعه من سير أو حاجة وحصره العدو ضيق عليه والحصير المحتبس ورجل حصير وحصور لا يخرج من ثمن الشراب ما يخرجه أصحابه. أحميت المسمار وحميت المكان أحمات البئر ألقيت فيها الحماة وحماتها نزعت منها الحماة وأحال حالت إبله فهي حيال والماء صبه وبالدين عَلَى فلان وحال انقلب عَلَى العهد والقوس انقلبت عن العطف والحول يقال فيه حال وأحال أخطبك الصيد أي أمكنك أخطب الحنظل صار خطباناً وذلك إذا صار فيه خطوط خضر وخطب في النكاح خطبة وعلى المنابر خطبة أخنق فلان لم يغنم والنجم تولى للمغيب وخفق الطائر بجناحه خفقاً والريح خفقاناً وخفقه(78/45)
بالسيف وأخفقه ضربه أخلفت النجوم إذا لم يكن فيها مطر والرجل في ميعاده واخلف الله عليك يقال لمن ذهب ماله وخلف الله عليك فيمن مات له ميت وخلف فلان فلاناً صار له خليفة وجاء بعده وفوه خلوفاً تغير والشيء فسد أخليت المكان أصبته خالياً خالياً اخلد بالمكان أقام به ورجل مخلد أسن ولم يشب وخلد خلوداً بقى أدلجت سرت ليلاً وهي الدلج وأدلجت سرت من آخره أذممته صادفته مذموماً وذممته عبته أذال فرسه أو غلامه استهان بها وذال يذيل تبخر أرم القوم سكتوا والعظام صار فيها رم أي مخ وقد رمت عظامه أي بليت وفلان شاته والغنم نباته أكلته أربع ولد له في شبابه وأربع وربع حم ربعاً وربع الحبل فتلته عَلَى أربع قوى أرجع أهوى بيده إلى خلفه ليتناول شيئاً أرمل فلان نفذ زاده وأرمل الحصير ورمله نسجه ورمل بين الصفا والمروة رملاناً أرمى عَلَى السبعين وأربى وأرماه عَلَى ظهر دابته وأذراه ورمى الرقبة ارهن في كذا أسلف ورهن الرهن ولا يقال أرهن الرهن وأما قول الشاعر:
فلما حسبت أظافيره ... نجوت أرهنهم مالكاً
فمن روى وأرهنهم مخطئ أزبد الماء وزبده أعطاه وأطعمه الزيد أزهر النبت ظهر زهره وأزريت به قصرت وزريت ليه عبته أسفر أشرق وسفر بيته كنسه والريح السحاب وفلان بين القوم سفارة صار رسولاً فيهم والمرأة نقابها كشفته والسفير ما نحات من ورق الشجر فتكنسه الريح وأسررت الشيء كتمته وأعلنته وسررت الصبي قطعت سره والسرة التي تبقى أساف الرجل هلك ماله وهاف المال يسوف هلك ورماه بالسواف قال الأصمعي هو السواف بالضم كالقلاب والبخار وسافه سوفاً شمه اسمك الثوب خلق وسمك عينه فقاها أسد قال السداد.
النجف (العراق)
محمد رضا الشبيبي (الباقي للآتي).(78/46)
مطبوعات ومخطوطات
بداية المجتهد ونهاية المقتصد
للإمام ابن رشد الشهير بابن رشد الحفيد المتوفى سنة 595 طبع
بالمطبعة الجمالية بمصر.
كلما بحث الباحثون في تركة السلف الصالح يعثرون عَلَى أسفار ممتعة تدل عَلَى علو كعب القوم في التفنن في التأليف ولاسيما ما خدم الشريعة واللغة والأدب منه. وهذا الكتاب الذي طبعه محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي وشركاؤه نقلاً عن النسخة المولوية المخطوطة بخزانة كتب أحمد بك تيمور هي إحدى تلك الحسنات ادخرتها الأيام في القماطر لتخرج للناس في هذا العصر الحاضر والكتاب في مجلدين أجيد طبعه وشكله فجاء تاماً كأكثر مطبوعات الخانجي الكتبي وقد أثبت فيه المؤلف من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها والتنبيه عَلَى نكت الخلاف فيما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد عَلَى المسائل المنطوق عنها في الشرع وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق به تعلقاً قريباً وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد وقبل ذلك فنثني عَلَى طابعه وبحث المشتغلين بالفقه والقانون عَلَى اقتناء هذا الكتاب البديع بأسلوبه وموضوعه.
الأدب الصغير
لابن المقفع نشره أحمد زكي باشا
بمطبعة العروة الوثقى الإسلامية بالإسكندرية (1329 - 1911 ص78).
نشر أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري في السنة الثالثة من المقتبس كتاب الأدب الصغير لابن المقفع نقلاً عن مخطوط عثر عليه عند أحد أعيان بعلبك ثم ضممناه إلى رسائل البلغاء التي نشرناها تحمل في مطاويها جميع ما عرف لعبد الله بن المقفع ولعبد الحميد الكاتب من الرسائل والشذرات وها قد نشر صديقنا زكي باشا هذه الرسالة مرة ثانية نقلاً عن مخطوط ظفر به في إحدى مكاتب الآستانة وقدم لها مقدمة في الأخلاق وأشار عَلَى عادة ثقات(78/47)
العلماء الأمناء إلى مصدر رسالته وأنه استعان بما نشره الشيخ الجزائري في المقتبس وعلق شروحاً لغوية عَلَى المتن بطبع مشرق للغاية وورق جيد بحيث جاء قرار نظارة المعارف العمومية بمصر بشأن تدريس هذا الكتاب في جميع مدارسها الابتدائية أحسن دليل عَلَى مساعدة حكومة مصر للآداب واختيار النافع من المطبوعات لإنهاضها من كبوتها فللناشر الثنية عَلَى همته العالية.
حديث عيسى بن هشام
أو فترة من الزمن لمنشئه محمد بك المواليحي
طبعة ثانية عَلَى نفقة الشيخ محمد سعيد الرافعي الكتبي بمصر (سنة 1330 ص463).
منشئ هذا الكتاب من كتاب الدرجة الأولى في مصر بل في البلاد العربية كان نشر مقالات متتابعة في مجلة مصباح الشرق خيالية في الظاهر وحقيقية في الباطن وصف فيها حال مصر في أخلاقها وعاداتها ثم جمعها في كتاب أعيدت طلعته الأولى قال فيه ما أبعد فهذا الحديث حديث عيسى بن هشام وإن كان في نفسه موضوعاً عَلَى نسق التخييل والتصوير فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال لأنه خيال مسبوك في قالب حقيقة حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم وأن نصف ما عليه الناس في مختلف طبقاتهم من النقائص التي يتعين اجتنابها والفضائل التي يجب التزامها وقد وفى الكتاب بهذا الغرض ومن كل وجه فمثل حياة مصر الاجتماعية ولاسيما أهل السرف والترف من بنيها وربما بالغ في الأحايين في ذلك التأثير في قلب القارئ بقوة البلاغة التي كثيراً ما يعمد عَلَى التسجيع في إبرازها ولكنه سجع لا أثر للتكلف فيه عَلَى الجملة يدل عَلَى علو كعب المؤلف في الأدب ومبالغته في التنميق والتنسيق. وقد رأينا بعض ألفاظ لا تلتئم مع تلك الدرر والغرر منها.
في ص33 يرتكن عَلَى توقد ذهنه و112 ارتكانا عَلَى نهر صومه و157 كنا نرتكن عليه ص57 فلا يأبهون بها و200 كنت آبه بها ص64 المقاطعة عَلَى الشاهد 68 امتثلت لنصائحك ص73 امتلأ الباشا تعجباً واندهاشاً ص79 كان يضرب بغنائي (غناي) المثل ص87 سيما الرضاء بالمقسوم ص190 أخذت هذه الحانوت ص115 لا يثقون ببعضهم بعضاً. وفيها تحرير الأوراق وتسطير الصكوك و136 حرر طلباً ص125 تحصلت عليها بطرق مختلفة. يتحرى عن مسألة 137 صعد ثانياً إلى السلم فوجدناه مزدحمة بجملة أناس(78/48)
186 سبب الهلاك والنجاء (النجاة) 262 أسرعت بالخروج أطلب النجاء 188 احتذاءٍ لما ترسمه ظروف الأحوال 202 وهو بالسن الذي لم يصل فيه بعد إلى التمام 208 لكنما الأضمن عندي 120 وهؤلاء المتمشدقون 244 لا يؤثر عليهم 322 فأحصى ما فيه عدا 379 رأس متصدعة 396 نستفيد من واسع علمه أموراً شتى مسافة من الزمن 407 يعد طول التنقل والتطور مثل هذه الأهرام وخلافها 428 وعدنا إلى المدينة وقد مد من الغروب حبالته ليقتنص من الأصيل غزالته فتفرقت نفسها شعاعاً 444 طلب مني أن نحيي الليلة بالسمر وأن قلتها معه بالسهر الخ.
ومن هذه الألفاظ والتراكيب ما هو بعيد عن مناحي الفصحاء دخيل في اللغة أو ضعيف في التركيب ولفظه في غير موضعه ولعل المؤلف الفاضل يعيد نظره في هذه النقدات فإن منها ما هو من لغة الجرائد ومنها ما هو من اللغة العامية المصرية ولعله لا يضن عَلَى الآداب بنفاثته بعد اليوم فهو من أعظم الناعين عَلَى الموظفين فعسى أن لا تشغله الوظائف عن معاناة الكتابة لإنارة الأفكار كما شغلت غيره ممن ابتلوا مؤخراً في مصر بالتوظيف فطلقوا الأقلام طلاقاً بتاتاً.
مجموعة أعمال المؤتمر المصري
طبع بالمطبعة الميرية بمصر سنة 1912.
عقد بعض أقباط مصر مؤتمراً في السنة الماضية طلبوا فيه إلى الحكومة المصرية والإنكليزية بعض مطالب سياسية واجتماعية منها أن تعطل الحكومة يوم الأحد بدلاً من الجمعة أو مع الجمعة ومنها يمكن بعض أبنائهم تولي بعض الوظائف الكبرى كالمديرين (الولاة) اسوة بالمسلمين إلى غير ذلك من المطالب فهب مسلمو مصر عَلَى الأثر وعقدوا في مصر الجديد من ضواحي القاهرة مؤتمراً عاماً من كبار أرباب العقول والمفكرين والأعيان في القطر دام من يوم السبت 30 ربيع الثاني 1329 إلى يوم الأربعاء 5 جمادى الأولى 1329 تليت فيه خطب عديدة ومطالب في الإصلاح رشيدة فجاء ما قالوه نسخة صحيحة تتمثل فيها حالة مصر الفكرية وإن مصر عَلَى انحطاط في بعض شؤونها الاجتماعية هي أرقى بلاد الإسلام لا محالة.
وكل من قرأ ما دار في ذاك المؤتمر من المطالب وبسط فيه من الآراء وفصل فيه من(78/49)
الخطب البليغة المدهشة يوقن بأن خاصة المصريين لا يقلون خاصة الأوربيين ولكن قضي عَلَى الشرق أن يكون بأفراده مهماً قوياً وبمجموعه ضعيفاً ضئيلاً ومما راقنا من خطب المؤتمرين في الاقتصاد والاجتماع والإدارة خطبة محمود بك أبو النصر المحامي ومحمد حافظ بك رمضان المحامي وصالح بك حمدي حماد من الكتاب وإبراهيم بك غزالي من الأعيان وأحمد بك عبد اللطيف المحامي والشيخ عبد العزيز شاويش من الكتاب وإبراهيم بك الهلباوي المحامي والسيدة باحثة بالبادية من الأديبات ومحمد بك أبو شادي المحامي والسيد علي يوسف الصحافي (وقد تكلمنا عَلَى خطابه في السنة الماضية) وعلي بك الشمسي من الأعيان وإبراهيم بك رمزي من أرباب الصنائع وجبرائيل بك كحيل المحامي وعبد الستار بك الباسل من الأعيان وعبد الخالق بك مدكور من التجار. ويوسف بك نحاس الحقوقي وعمر بك لطفي المحامي وهاشم بك مهنا المحامي ومحمد بك علي المحامي وأحمد أفندي الألفي من أرباب الزراعة. وأنت ترى أن عدد المحامين أكثر من غيرهم ومعظمهم كانوا بمقترحاتهم وأقوالهم إلى أقصى ما يتصور من السداد مما دل عَلَى أن مصر غنية برجال القضاء فيها ولو تيسر أن يشارك في المؤتمر موظفي الحكومة المصرية لتليت فيه من الآراء السديدة أمور كثيرة غير ما سمعناه فأعجبنا فيه فإن فيهم رجالاً هم من خيرة المفكرين والعالمين ولكن كان للمؤتمر شبه صفة سياسية ورجال الإدارة والقضاءِ يمنعون في معظم الأمم من المشاركة في الأعمال السياسية الظاهرة.
تنزيه القرآن عن المطاعن
لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد المتوفى سنة 415.
طبع بالمطبعة الجمالية عَلَى نفقة المكتبة الأزهرية لصاحبها الشيخ محمد سعيد الرافعي سنة 1329 ص436.
مؤلف هذا الكتاب شيخ المعتزلة بل هو من أكبر مشايخهم الذين قال فيهم الحاكم وليس تحضرنني عبارة تحيط بقدر محله في العلم والفضل فإنه الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت المشرق والمغرب. وكان الصاحب يقول فيه هو أفضل أهل الأرض ومرة يقول هو أعلم أهل الأرض ومصنفاته كثيرة قيل أنها بلغت أربعمائة ألف ورقة في كل فن. وكتابه هذا أملاه في تفصيل ما بين المحكم والمتشابه(78/50)
عرض فيه سور القرآن عَلَى ترتيبها وبين معاني ما تشابه من آياتها مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها. وهو لا يستغني عنه مولع بالبحث في الكتاب العزيز وأسراره. ويليه مقدمة التفسير لأبي القاسم الراغب الأصفهاني وناهيك بكل ما خطته أنامل هذا المؤلف الذي أجاد في كل ما كتب. والغالب أن الناشر اعتمد عَلَى نسخة دار الكتب الخديوية في طبع الكتاب الأول وعلى نسخة أحد العلماء في نشر مقدمة التفسير أو يا حبذا لو أشار في المقدمة إلى الأصل المطبوع عنه تتميماً للفائدة وليزيد شكر العلم الإسلامي له.
الأخبار الطوال
لأبي حنيفة الدينوري المتوفى سنة 281.
لمصححه وضابط ألفاظه وناشره الشيخ محمد سعيد الرافعي.
طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1330 ص383.
طبع هذا الكتاب في ليدن من بلاد هولاندة وتداوله أهل العلم واستفادوا منه عَلَى ما فيه من الأخبار الواهية الضعيفة وقد أعاد طبعه صاحب المكتبة الأزهرية عاهداً إلى السيخ محمد الخضري من فضلاء المدرسين في هذه العاصمة أن يعلق عَلَى كل قطعة عنواناً لئلا يكون الكتاب جملة واحدةً وبذلك أصبح قريب المنال عَلَى أهل هذا الشرق ويا ليت الناشر أشار إلى النسخة التي أخذ عنها حرمة لعمل العاملين سواء كان اعتماده عَلَى نسخة مخطوطة أو مطبوعة لتزيد الثقة.
الدولة والجماعة
لأحمد شعيب بك ترجمة محب الدين أفندي الخطيب.
طبع بمطبعة المؤيد بمصر 1330 - 1912 ص67.
أحمد شعيب بك من علماءِ العثمانيين وكتابهم خلف كتباً ورسائل مهمة وكتب في مجلات الترك مقالات دلت عَلَى عقل واسع وتحقيق لا يستهان به وقد ترجم له محب الدين أفندي الخطيب أحد كتاب المؤيد هذه الرسالة البديعة التي قصد بها تنبيه قومه إلى سلوك محجة الصواب في نشأتهم الدستورية وتجنب الطفرة في تكييف نظام الحكومة وقدم لنا صديقنا رفيق بك العظم مقدمة أبانت عن غرض الرسالة والمت بذكر من ضرب العلوم الاجتماعية(78/51)
بسهم وذكر المعرب ترجمة المؤلف وتأثيراته في إندابة الترك فله الثناء عَلَى نشاطه وعساه يوفق إلى ترجمة المفيد من أمثال هذا الكتاب.
ديوان أبي الحسن
نظم الشيخ محمد خير الطباع طبع بمطبعة الفيحاء بدمشق سنة 1330
(ص98).
جمع هذا الديوان أحمد أفندي عبيد في دمشق وفيه ما قاله الناظم في أوقات مختلفة وأغراض شتى وشرحه محمد سليم أفندي الحنفي وشعر الناظم بين شهر الفقهاء وشعر متوسطي الشعراء ولو طال عمره لجادت ملكته ولو اتسع الوقت لكل من يعانون القريض وتدبروا أساليب شعر القدماء والبارعين فيه من المحدثين أو لو كتب لأكثرهم لأن يطلعوا عَلَى ما نظمه شعراء الإفرنج بلغاتهم لما أقدم معظمهم عَلَى نشر شيءٍ من منظوماتهم فإن المديح والغزل والتشطير والتخميس من أعظم ما ابتليت به هذه اللغة ولاسيما في أيامها الأخيرة. والشعر لو أنصف الناس لما نشروا منه إلا أبلغه فإنه مما يطاق فيه التوسط مثل الموسيقى والخطابة والتصوير. ومن لم يرزق طبعاً سليماً في البيان منظومه أو منثوره فالأشبه به أن يمشي مع طبعه واستعداده وإلا بدت مقاتلة وقصر في خدمة أمته.(78/52)
أخبار وأفكار
الكاثوليك في أميركا
إذا كانت الكثلكة تتراجع في بعض الممالك الأوربية فإنها عَلَى تزايد في الولايات المتحدة وهي البلاد التي اتسع صدرها لكل مذهب ونحلة وطريقة. فقد بلغ عدد الكاثوليك فيها 15015569 نسمة هذه السنة وكانوا منذ عشرين سنة 10978757 وعدد رهبانهم هناك 17491 ولهم 12939 كنيسة و40 رئيس أساقفة وثلاثة كرادلة و83 مدرسة أكليركية فيها 6006 طلاب و229 مدرسة عالية للذكور و701 مدرسة للإناث و5119 معبد مدرسة فيها 1333786 تلميذ يتعلمون في المدارس التابعة وعندهم 47111 يتيماً يربون في ملاجئ اليتامى وبذلك بلغ عدد من يتعلمون التعليم الكاثوليكي في أمريكا الشمالية 1540049 تلميذاً وتلميذة فتأمل هذا التفاني في بث الدعوة الدينية في بلاد هي أعرق الأمم في حب المادة والماديات.
عملة الهند
خمسة عشر مليوناً من الشعب الهندي البالغ زهاء ثلثمائة مليون نسمة يعملون في المعامل والمناجم والتراموايات ويتنقلون في البلاد يبحثون عن عمل لهم لا يهمهم إلا أن يدخنوا ويشربوا ويأكلوا ولا يدخرون شيئاً لمستقبلهم بل يصرفون في المشروبات الروحية واللذائذ الجسمية ما يحصلونه ورزقهم قليل وإن العامل الإنكليزي ليعمل هناك ثلاثة أضعاف العامل الهندي وبالطبع تزيد عمالته أي أجرة عمله عَلَى تلك النسبة.
خزانة كتب عجيبة
افتتحت في نيويورك خزانة كتب من أدهش الخزائن وكانت ثلاث خزائن أولاً فجمعت في واحدة فيها أسباب الراحة للمطالعين بحيث تراهم في غرفها كأنهم في بيوتهم يخرجون الكتب اللازمة لهم بأيديهم ويعيدونها كذلك عَلَى صورة لا تحدث تشويشاً عَلَى سائر المطالعين. وهذه المكتبة تعير الكتب اللازمة إلى البيوت خاصة وفيها مطبعة لطبع الفهارس ومعامل للتجليد وأدوات لتوليد الكهربائية لإيقاد عشرين ألف مصباح ولو جمع طول قماطر هذه الخزانة لبلغ مئة كيلومتر وقد كلف نحو مليوني جنيه.
المعمرون(78/53)
أثبتت إحدى الأوانس المهذبات أن أرباب الصناعات والفنون أطول الناس أعماراً واستشهدت بأسماء كثير من المصورين والنقاشين ممن كانوا يحركون أناملهم وهم بعد السبعين والثمانين والتسعين والمئة من عمرهم وقالت أن بعد المفننين يجيء جمهور اللاهوتيين والفلاسفة بطول أعمارهم وبلاد بلغاريا أطول الناس أعماراً ففيها 1383 ممن بلغو زهاء مئة من عمرهم أي واحد في المئة من السكان ثم تجيء رومانيا وفيها 1074 والصرب وفيها 573 ثم إسبانيا 410 ثم فرنسا 213 وإيطاليا 197 ثم النمسا فإنكلترا فروسيا فألمانيا فنورمانديا.
الخشب الصناعي
اخترع أحد الفرنسيين خشباً صناعياً يقوم مقام الخشب الطبيعي ويخدم النجارة خدمة جلي وطريقة ذلك تحويل القش إلى مادة صلبة كالبلوط والزان فيخمر وتضاف إليه بعض المواد الكيماوية ثم يضغط هذا العجين في قوالب بحسب الطلب منها الدقيق ومنها الكثيف ومنها الطويل ومنها القسر ومنها الاسطواني ومنها متوازي الأضلاع ويمكن نشر هذا الخشب كما ينشر الخشب الطبيعي وإذ كان القش رخيصاً جداً في كل محل أصبح سعر هذا الخشب رخيصاً أيضاً وهذا الخشب يستعمل للدفء تتأجج منه نار عظيمة ولا ينبعث منه دخان كثيف ويستعمل أيضاً لصنع الثقاب أو عيدان الكبريت وخشبه أحسن من الحور وأقل ثمناً ويصنع منه الورق الصر ويستعمل في أمور أخرى.
الخطر عَلَى المدنية
كتب أحد كتاب الإنكليز مبحثاً في هذا الشأن قال فيه أن فلسفة التاريخ قد جلت الماضي أحسن تجلية ولذلك يسوغ اتخاذها خطة معينة للحاضر والمستقبل والأمم كالأسر تكبر وتنمو كل النمو ثم تنحط بالتدريج فتستبدل قوتها ضعفاً وعظمتها انحطاطاً وكم من أمة حكمت العالم فأصبحت اليوم نسياً منسياً خلفتها غيرها وهذه سينالها ما نال سالفتها. وقد اختلفت أزمان الحضارات في القديم فلم تدم حضارة مصر أقل من خمسة آلاف سنة ودامت حضارة بين النهرين ثلاثة آلاف ومثلها حضارة الصين في حين أن حضارة فارس وأثينا وإسبارطة والبندقية لم تدم كل منها أكثر من بضعة قرون. ومثل هذه العلائم مشاهدة في عامة الأمم وهي من المثول بحيث أن المؤرخ عندما يكشف عن أعراض الأمراض في أمة(78/54)
يحكم عَلَى آخرتها حكماً أكيداً. وقد لاحظ بعضهم أن ترك التقاليد الدينية يتقدم أبداً سقوط الممالك وإن الإفراط في قبول الدخيل من الناس والتفاني في الديمقراطية والاشتراكية مجلبة الانحلال في الشعوب عَلَى أن هذه الآراء قد لا تصدق وتمر بها الأمم لا تصيبها بائقة. ويؤكد كثير من المتشائمين أن فرنسا ذاهبة لانحلالها وأول ما ينعونه عليها قلة تناسلها وعدم الاتحاد بين أجزائها مما يورث البلاد ضعفاً وحب المال الذي ساق الشعب الفرنسوي لاحتقار الفنون والجمال بل الشرف وكل ذلك ليس من الحجج الدامغة في هذا الشأن فإن هناك حوادث تقلق الاجتماعيين كل القلق من مثل زيادة عدد المجانين سنة فسنة فقد كان عدد البله في الولايات المتحدة سنة 1881 - 363 في كل مئة ألف فأصبحوا اليوم 429 وصعد عددهم في بروسيا من 22 في العشرة آلاف سنة 1781 إلى 26 سنة 1895 وكان عدد المختل شعورهم في أيرلاندا سنة 1889 - 75 ألفاً فأصبحوا سنة 1908 تسعين ألفاً ومعدل المجانين في إنكلترا 4 في المئة وعدد الجرائم يزيد كثيراً وبعض البلاد كإنكلترا تتحسن حالتها من هذا القبيل. وخير الذرائع التي يعمد إليها للإصلاح إدخال التحسين الطبيعي والأخلاقي.
الخطر الأصفر
لا يزال المفكرون في الغرب يذهبون مذاهب في تقدير الأخطار التي ستنشأ بعد قرن أو قرنين من الخطر الأصفر أي ترقي الصين واليابان وانكفاء شعوبهما عَلَى الغرب يخربون مدنيته ويجعلون أعزة أهله أذلة وقد كتب أحد المحققين من الإنكليز قالاً في هذا الصدد قال فيه ليس الخطر في تجريد الصين مليوني رجل من جندها يسيرون متراصة صفوفها عَلَى أوربا يخربون كما خربت الهونس البلاد فالصيني يكره الحرب بفطرته ولا يدعى لحمل السلاح إلا لتوطيد الأمن أيام السلام وما منهم من يعرض حياته للخطر لقاء بضع دريهمات يقبضها أجرة عمله بل الخطر كل الخطر في انحلال نظام الصين الحالي وهجرة أهلها إلى أوربا وأميركا بالملايين يكاثرون أهلها ويزاحمونهم في الصناعة والأعمال المختلفة وقد عرفوا بمضائهم وصبرهم الذي لا يوصف بحيث إذا كثروا في بلاد الغرب تختل بوجودهم الميزانية الاقتصادية والصناعية فهم إذا هاجروا إلى بلد كالحلمة الطفيلية يورثونها ضعفاً ويقوون بمواردها ويقطعون عيش أهلها هذا ما أدركته أميركا وأوستراليا فوقفتا تقاتلان(78/55)
أخطارهم بما فيهما من قوة.
التعليم الديني الياباني
لا تعلم يابان في مدارس الحكومة ديناً من الأديان مثل فرنسا وسويسرا وإيطاليا وأميركا وهذه القاعدة جرت عليها منذ ثلثمائة سنة سنها لها يياس مؤسس دولة توكو كانا وحافظت عليها الحكومات التي خلفته وكان الكهنة البوذيون قبل أسرة الشوغن ومجموعة المائة قانون التي حصرت السلطة كلها في يدها يعلمون قواعد الدين في معابد المدارس. وعلى تسامح يياس مع البوذيين الذي أنشأ لهم معابدهم باضطهاد أشياع المذاهب الأخرى رأى أن حكم كونفوشيوس عَلَى النحو الذي يستعمله اليابانيون تكفي الشبيبة وتحظر عَلَى كهنة بوذا أن يدخلوا في مدارس الحكومة ثم تبين أن الكنائس عَلَى اختلاف مذاهبها التي كانت تحاول تنصير اليابانيين لا ينشأ منها إلا مشاكل في الآراء فلما أعلن الميكادو سنة 1871 دستوره الجديد أغلق أبواب المدارس كلها عن دخول دين من الأديان إليها وهذا العمل السديد وقع الاستحسان عليه ودلت التجارب في هذه المدة عَلَى ضرورته عَلَى أن كثير من البوذيين والمتنصرين ما زالوا يزعمون أن سبب انحلال الأخلاق في اليابان حظر تدريس المذاهب في المدارس ولكن التعليم الديني يمكن تعليمه خارج المدرسة بدون عائق وهذا ما جرت عليه الحكومات بالتدريج لأنه من أثقو الدواعي إلى استقلال العقل ويرى بعض كتبة اليابان - وعنهم ننقل هذه الآراء وغيرهم يدخلون في التعاليم الدينية مبادئ لا تنطبق عَلَى مبادئ الحكومة ولذلك كان حظر تعليم الدين أولى.
سكة الصحراء
قالت المجلة الباريزية أن مشروع سكة حديد الصحراء الذي كبرت في تصويره الأماني لم ينا من التنشيط ما كان يتوقع له عَلَى ما فيه من الغناء والفائدة والقوم يفكرون اليوم في مشروع أوسع منه أي أن المشروع الجديد لا يقتصر عَلَى مد خط حديدي في صحراء أفريقية فيجتاز المسافة من وهران في الجزائر إلى رأس الرجاء الصالح في الجنوب أي قارة أفريقية بأجمعها وهو خط حديدي طوله عشرة آلاف كيلومتر وبذلك يتيسر السفر من لندرا إلى الترنسفال في تسعة أيام ومن إنفرس إلى الكونغو البلجيكية في خمسة أيام وقد مدت الآن ثلاثة آلاف كيلومتر في أفريقية الجنوبية وستمائة في ولاية وهران فبقي إذاً(78/56)
6400كيلومتر وهي مسافة أقل من مسافة خط سيبيريا الحديدي التي تمد عَلَى طول 8600 كيلومتر وأهم عقبة في هذا الباب اجتياز الصحراء أي بين الجزائر والسودان والمسافة ألفا كيلومتر تكون في بلاد قاحلة لا تجارة فيها وإذا استطاع عقل الإنسان أن يحول الفيضانات السنوية التي تجري في نهر النيجر بواسطة خزانات وسدود بها ذاك السطح العظيم الممتد شمال تمبكتو عَلَى نحو ما يجري في مصر وبعبارة ثانية إذا بلغ من الذكاء الإنساني أن يحول مياه النيجر إلى صحراء تسقط معظم الصعوبات المنتظرة من مد هذا الخط.
شرائع بابل
كتب أحدهم يقابل بين شرائع بابل وشريعة موسى فقال أن شريعة البابليين عبارة عن أحكام صادرة في أحوال معينة خاصة ومنها ما عرف منذ عرف تاريخ أشور إلا أن الفكر القائل بأن هذه الشريعة كانت مجموعة في كتاب واحد قد رده المؤرخون ولكن ثبت أن بابل كان لها قانون مسطر منذ عهد حمورابي المعاصر لإبراهيم وكان الناس خاضعين لأحكامها في جميع أنحاء المملكة من بلاد عيلام إلى فلسطين ومن أحكام هذه الشريعة عقوبة الاعتداء عَلَى الملكية أو التملك فقد كان السارق يعاقب بالإعدام إلا قليلاً وذلك لأن بلاد بابل كانت تجارية والاعتداء عَلَى الأمن العام يعد أعظم ماسٍ للملكية والأمن هو عامل عظيم في الحياة الإنسانية فشريعة بابل من هذه الجهة تختلف عن شريعة موسى لأن هذه الشريعة في الزمن الذي وضعت فيه كانت الحرب أكثر من التجارة شغل الإسرائيليين الشاغل وبينا كانت حياة الفرد نافعة للمجموع برمته كانت ملكية الأفراد قليلة المكانة بالنسبة وهكذا الحال في الاختلاف بين الشريعتين يعرف ذلك من قانون الإرث فقد كان الأب في بابل حراً بأن يقف جزءاً مهماً من ماله عَلَى ولده يتبناه أو يحبه أكثر من أولاده بوصية يوصي بها والنساء قد يمنعن بإرث أزواجهن في حالات مخصوصة مما لا أثر له في الشريعة الموسوية. وإن توريت الثروة بوصية يوصي بها المالك لتدل عَلَى تقدم في درجات المدنية وأفكار راقية في مسائل حقوق الملكية. قال وإن جمع قوانين بابل قد أثر في شرائع آسيا الغربية كما أثر في الشعوب السامية.
القهوة وسمها
عرف منذ زمن قديم أن في القهوة مادة سمية تحدث في بعض الأشخاص تأثيرات(78/57)
فسيولوجية وأوجاعاً عصبية وقلبية واضطرابات معينة وضعفاً في المجموع العصبي وقد استخرجت هذه المادة التي سموها كافيين سنة 1820 واستعملت دواءً مسهلاً ومشهياً ولكنها إذا أخذت بدون معرفة تضر كل الضرر وكثير من الناس يقعون في أخطارها إذا أفطروا في تناول القهوة عَلَى غير معرفة. وقد شبهوا الأعراض التي تصيب المكثرين من القهوة بالأعراض التي تصيب المكثرين من الألكحول فالقهوة كالمشروبات الروحية تلذ بطعمها وريحها وقلما تورث نشاطاً في الجسم إلا أن الكافيين يضاعف وظائف القلب ويحدث قلقاً قد يشفعه دوار وأوجاع رأس واضطرابات أحياناً فينبغي والحالة أخذ رأي الطبيب في استعمال القهوة لأن المئة غرام من القهوة الخضراء تحتوي من المادة المسمة بحسب جودة القهوة ورداءتها ما لا يقل عن ثمانية بالألف ولا تزيد عن اثنين في المئة والقهوة المستعملة عادة تحتوي عَلَى جزءاً واحداً في المئة من الكافيين وثلاثة فناجين قهوة في اليوم لا يقل ما فيها من هذه المادة عن ثلاثة في الألف. والعلماء يبحثون اليوم لإيجاد طريقة يستخرجون بها المادة السامة دون أن تفقد القهوة رائحتها وطعمتها.
غلات طرابلس الغرب
بحثت إحدى المجلات الإفرنجية في حاصلات طرابلس بمناسبة احتلال الطليان فقالت أن تجارتها اليوم تجري بالمقايضة إلا قليلاً فيعطى البائع مثلاً تمراً مقابل بضائع أخرى وأشجار النخيل أهم غنى السكان يدفع عنها خراج بقدر عددها كما هو الحال في مصر حيث تدفع كل نخلة عوائد نحو 40 سنتيماً. ويقدر عدد النخيل في طرابلس نحو مليوني نخلة تجود محصولاتها بقدر ما يستطيع أهلها ريها من العيون الطبيعية أو من آبار الواحات وتحتاج كل نخلة لثلث لتر ماء في الدقيقة حتى لا تهلك ولكنها إذا سقيت نصف لتر تجود أكثر من ذلك. الماء موجود بكثرة تحت سطح الأرض ولكن قلة معرفة الأهالي بأصول الري الزراعي دعتهم إلى أن يعتمدوا عَلَى الطرق القديمة العقيمة في السقيا فأول ماء يستخرجونه مالح وحار لأنه مستقى من عمق قليل والأحسن أن ينزل في امتياح الماء إلى العرق الثاني والثالث ليكون الماء نقياً بارداً غزيراً. والأمطار غزيرة عَلَى الجملة في طرابلس ويكون منها ماء شروب بقدر الكفاية وإن يكن هطولها رذاذاً لا وابلاً ولا ينشأ عنها فيضان في العادة إلا نادراً والآبار الارتوازية العادية التي حفرت في ذاك الصقع قد(78/58)
أتت بفائدة وتروي البئر الواحدة أربعة آلاف نخلة وغلات الزيتون حسنة للغاية ولكن الزيت الذي يصنع منه في البلاد غير حسن الطريقة وإذا استخرج عَلَى الطريقة المدنية يكون منه مورد ربح عظيم ويزرع في طرابلس شجر يدعى السمارتي المعروف بخاصياته في التداوي وفي طرابلس مناجم كثيرة والطبقات الجيولوجية في البلاد منوعة مثل الفوسفات والنطرون والكبريت. ويمكن أنيربى النعام في ذاك القطر لأنه لا يحتاج إلا الأماكن الفسيحة ويتغذى في الأحايين بالعلف والحبوب فينافس ريشه وتجارته أسواق رأس الرجاء الصالح في جنوبي أفريقية خصوصاً بعد إنشاء طرق للمواصلات وعدم الاعتماد في النقل عَلَى الجمالة والجمال.
خزن الماء
وفق أحد كبار المهندسين في أميركا إلى اختراع طريقة تخزين الماء في الشتاء لتستخدم في الزراعة زمان الصيف وهو أن تجعل الأرض أثلاماً كبرى وتحفر في بعضها خنادق تساق إليها أمطار الشتاء وقد نفعت الطريقة العلمية التي اعتمد عليها وإذ أظهر نجاحها أكثر لا تلبث أن تعم عالم الزراعة فتخصب بها كل أرض غير قابلة اليوم للزراعة بحسب الظاهر ولاسيما في شمالي أفريقية وغربي آسيا.
الحرب عَلَى الغبار
أثارت بعض الولايات المتحدة الأميركية حرباً عواناً عَلَى الغبار إذ أثبت في الصحة ما يعلق منه الحلويات والفواكه المعروضة للبيع في حوانيت الباعة ينقل جراثيم مضرة أقلها ارتباك في معد الآكلين وقد وضعوا لذلك قيوداً يغرم بغرامات فاحشة كل من يخالفها ورسموا بأن يغطى كل شيء إن لم في ألواح زجاج فلا أقل بأقمشة تغطيها كلها بل أن ولاية تكساس حظرت بيع البياعات في الأزقة للفواكه والبقول لأنه لا يعقل أن يسرن بما يحملن ساعات في الشوارع ولا يصيبها الغبار دع عنك جس المبتاعين لها وكثيراً ما تكون أيديهم قذرة. وقد ارتأى أحدهم أن أحسن واسطة لاتقاء الأخطار المنبعثة من الغبار إذا عجزت الحكومات عن دفعه أن يكون للناس من أنفسهم لأنفسهم مراقب فلا يبتاعون من بائع يعرض ما يبيع من المأكولات عَلَى هذه الصورة وبذلك يفهم الباعة ما ينبغي لهم اتقاؤه حتى تروج بضائعهم فيتعلمون بالقدوة وهو رأي حسن نافع خصوصاً في مثل بلاد الشرق(78/59)
حيث فقدت قوانين الحسبة القديمة ولم يخلفها من قوانين المجالس البلدية الحديثة ما يشدد عَلَى السوقة والمرتزقة في بياعتهم ليراعوا الصحة فيها ويتقوا الوجدان فقد رأينا الناس علموا باعة المشروبات أن الأولى غسل الأواني كل مرة بماء جديد فشاعت هذه الطريقة في بعض المدن وحبذا لو تسري إلى بلاد الأقاليم والأرياف.
القرود الضخمة
للقرود الضخمة في جنوب أفريقية ذكاء مدهش حتى أن سكان تلك البلاد يظنون جنسها قد رزق مزية التكلم وإنه يمتنع عنه مخافة أن يستعبد ويكره عَلَى العمل وقد استشهد أحد رحالة الإنكليز إلى تلك البقاع بحادثتين تثبتان ذكاء القرود الأولى أنه لكان لأحد عمال السكة الحديدية قرد يربيه فأصيب صاحبه بعاهة اقتضت قطع ساقيه فكان قرده يتولى أكثر عمله وعمله عبارة عن فتح إبرة الخط في أوقات مرور القطار والحادثة الأخرى هو أنه كان لصاحب قطيع قرد يرسله في غنمه بدلاً من الراعي يقيها من كل سوء بل يبالغ في وقايتها ولاسيما في أوقات الخطر والعواصف ويفهم القرد بأدنى إشارة ومنه ما يستخدم في تقديم الشراب ومناولة الكؤوس والأكواب.
اكتشاف أميركا
ألقى الرحالة نانسن محاضرة في الجمعية الجغرافية في لندن قال أن أول من نزلوا إلى أميركا قبل كابوت هم النومانديون في القرن العاشر للميلاد وهم المهاجرة الأولى الذين اجتازوا البحر المحيط وكانت الملاحة قبلهم محصورة عَلَى التنقل بين الشواطئ القريبة ولا يتجشمون خطر البحار واجتيازها من عرضها وسافر الأيسلانديون في القرن العاشر أيضاً فبلغوا غروانلاندة وأسسوا عَلَى الشاطئ الجنوبي الغربي منها مستعمرتين تشهد لذلك أسماء المدن التي وردت في أدبياتهم القديمة وسنة 999 كانت أول رحلة رحلها الرحالة أريك الحمر الأيسلاندي في المحيط.
نساء الحثيين
اثبت الأستاذ كارستان من كلية لفربول أن كاهنات الحثيين كن من أشجع النساء المتشابهات بالرجل في الأمم القديمة. والحثيون إحدى الأمم السبع التي حالت دون تقدم الإسرائيليين نحو الأرض المقدسة وهؤلاء الحثيون هم أول شعب جند النساء في الجيش(78/60)
فالنساء الشبيهات بالرجال المشهورات في علم الأساطير اليونانية هم الأصل فيها. وقد كشف الأستاذ المشار إليه في قبور حفرت في الصخر في بوغار كوي من آسيا الصغرى صوراً من هذه الكاهنات المسلحات ومنهن من كانت تقاتل فارسة ومنهن تقاتل راجلة وهن من حول رب لهن يدافعن عنه وبوغار كوي (أو بوغتا كوي) من مدن الحثيين المشهورة وقد فقد نساء الحثيين صفتهن الدينية عندما داهم الحثيين الفريجيون والمصريون والإسرائيليون فأبلى نساء الحثيين في تلك الحروب بلاءً حسناً مدافعات عن أربابهن ووطنهن وقد أخذت بعثة إنكليزية تبحث عن آثار تلك البلاد لما عرف من أن الحثيين هم أكبر أمم آسيا الصغرى قبل زمن إبراهيم وكانت لهم مستعمرات في القرن الرابع عشر قبل الميلاد تؤدي لهم الجزية مثل مستعمرات قيليقية وليكاونيا وفريجيا وليديا قاوموا الإسرائيليين زمناً طويلاً ولم يضحل عمرانهم إلا بعد تسعة قرون قبل الميلاد فضعفت شجاعة نسائهم.
الطب في نينوى
جرت حفريات في السنة الماضية في محل مدينة نينوى القديمة وظفر فيها بأشياء تدل عَلَى أن علم الطب وعملياته قد ارتقت في بلاد آشور قبل المسيح بستة قرون فمن عشرين ألف لوحة اكتشفت وهي من مكتبة الملك آسور بانيبال الفاتح العظيم لمصر وبابل الذي نقل رعاياه إلى بلاد السامرة - مئات تبحث في المداواة وطرق الوقاية ووصفات الأطباء فكانوا يصفون للسكيرين الامتناع عن كل شراب كما يصفون الصيام لمن أفرطوا في الأكل. وأكثر ما كان يستعمل في بلادهم من الأدوية الزيت وزيت الخروع وشراب التمر والعسل والملح وكثيراً ما كانوا يستعملون التغميز (التسميد) ومن أصيب بالصفراء يدلك ببصلة إلى غير ذلك من الوصفات الساذجة والمداواة العجيبة.
القبلات الضارة
تبين من أبحاث مدير المعمل الكيماوي في ولاية إنديانا بأميركا إن من الأولاد كثيرون أصيبوا بالسل متنقلاً إليهم من قبلات قبلهم إياها بعض المصابين من أقربائهم في أفواههم فنقلوا إليهم جراثيم العدوى فتأصلت فيهم وأضنتهم وإن القبلات أوردت الأطفال حياض المنيات فالحسن التقليل من التقبيل وإلا فيصاب الصغار والكبار بأمراض سارية من هذا(78/61)
القبيل.
ألمنة البولونيين
وضع الدكتور نيكير كتاباً في الألمان والبولونيين وصف فيه الطريق التي سلكتها ألمانيا لألمنة البولونيين أي جعلهم المان في إقليمي بوزانيا وسيلزيا قال بسمارك غداة الحرب السبعينية قضى بأن يعلم بالألمانية في جميع بلاد بولونيا البروسية وتناول هذا التعليم سنة 1900 التعليم الديني فأخذ البولونيون يقاومون ذلك كل المقاومة والحكومة تعمد إلى كل قوة في إخضاعهم لتعلم الألمانية وترك لغتهم حتى تلقى الأساتذة في المدارس أوامر من الحكومة لاستخدام العصا والضرب باليد والرجل ومع أن الحكومة عاقبت آباء التلامذة الذين حاولوا إقامة الحجة عَلَى هذا الضرب من التعليم بعقوبات شديدة للغاية لا يسعنا أن نقول بأن ألمانيا استطاعت أن تبدل الروح البولونية ولا أن تضعف الولاء البولوني ولا الرجولية البولونية.
فحبذا لو عملت كذلك كل أمة تحاول أخرى أن تقضي عَلَى لغتها خصوصاً إذا كانت اللغة المحكومة أشرف من اللغة الحاكمة وأفيد مادة ومعنى.
مدارس تدبير المنزل
كثرة المعامل في أوربا دفعت النساء في معظم الممالك أن يقبلن عليها ويتركن ما خصص له من إدارة البيوت حتى أن بعض بلاد ألمانيا وسويسرا أخذت تجد صعوبة زائدة في إيجاد خادمات وغيرهن لإدارة شؤون البيت فارتأت سويسرا أن تنشئ مدارس تعليم تدبير المنزل للفتيات فيعلمن الطبخ والخبز وعمل الحلوى والمربيات وشغل الإبرة والغسيل والكي وهندام البيوت ومبادئ الصحة والحساب وينان لدن خروجهن شهادات تسمح لهن بإيجاد عمل للحال وكثيرين منهن يرجعن إلى بيوت آبائهن وقد ثبتت حسنات هذه المدارس وهذا التعليم في تلك البلاد فيا حبذا لو أن مثلها في هذه الديار فإن الفتيات الفقيرات لا يجدن ما يعشن به وكثيراً ما يضطرون إلى الاتجار بالأعمال المحظورة ليأكلن ويشربن ولو كن متعلمات بعض المبادئ في إدارة شؤون البيوت لهان عَلَى أكثر أهل اليسار في هذا القطر وغيره أن يستخدموهن بدلاً من الأجيرات والطهاة الغرباء.
الموسيقى العربية(78/62)
رفع نجيب أفندي نحاس المحامي إلى معتمد إنكلترا بمصر تقريراً باللغة الفرنسوية عن الموسيقى العربية قال فيه: يظن الأوربيون أن موضوع الموسيقى العربية فقير للغاية لا يستحق الاهتمام وهذا ناتج عن كون الموسيقى العربية غير متقنة في أيامنا هذه لأنه تنقصا قواعد التأليف وامتزاج الأصوات ولكن من تأمل ألحانها ألفاها غاية في الرقة واللذة وتأكد أنها بقية علم كان زاهراً في العصور الغابرة.
ولذلك سعيت منذ 15 سنة في البحث عن أصول هذا الفن الجميل ووقفت إلى مؤلفات مكتوبة بخط اليد ومحفوظة في أوربا ففي مكتبة المتحف البريطاني ومكتبة نظارة المستعمرات في لندن عثرت عَلَى 15 مؤلفاً باللغة العربية والفارسية. وكذلك في مكاتب باريز وفينا وميلانو وليدن فإنني عثرت عَلَى 14 مؤلفاً أخرى. وقد اتضح لي منها أن الموسيقى كانت زاهية زاهرة أيام الخلفاء. فاجتهدت في استخراج الأبعاد التي يتكون منها المقام العربي من القرار إلى الجواب فألفيتها 17 بعداً خلافاً للأبعاد الأوربية فإنها 12 بعد فقط. وقد أجمع المؤلفون الأوربيون عَلَى ذلك عدا بعضاً منهم فإنهم خالفوهم إلى درس ناقص في هذه المؤلفات. وضمن من كتبوا في هذا الموضوع فايتس وأبروس وكيزفيتر والبارون همر بورجستال ولاند والبارون كارا دي فو وألي سميث وىخرون وقد امتحنت الأرقام الحسابية بالطريقة الجبرية وبطريقة التونومتر وفحصت الآلات المحفوظة في متحف سوت كنسزنجتن الذي تكلم عنها كارل أنجل في كتابه الثمين عن ذلك المتحف.
ولما كان هناك فرق بين الأبعاد العربية والأوربية فلا يمكن إحداث الأنغام العربية عَلَى الآلات الأوربية ولذلك اهتممت بصنع بيانو شرقي في برلين وقد خصصت جانباً من سفري هذا إلى أوربا لتتميم هذا البيانو ومتى تم أسعى في طريقي اصطناع الآلات الأخرى كآلات النفخ الخشبية والنحاسية وقد وضعت طريقة لكتابة الموسيقى العربية بعلامات تكتب من اليمين إلى الشمال عَلَى سبعة اسطر لسهولة الاستعمال ومتى تم تركيب هذه الآلات سأؤلف جوقة تضرب وأؤلف أوبرا كوميك وما أشبه ذلك.
ولما كن ذلك يستلزم اهتماماً فائقاً مني وقضاء وقت طويل ومصاريف اصطناع هذه الآلات وإنشاء مدارس لتعليم الموسيقى العربية بحسب الطريقة العلمية التي سأدونها في الكتب الذي سأطبعه قريباً فقد فكرت في أن اشرف واضع مشروعي هذا تحت رعاية فخامتكم(78/63)
السامية فكل بلدة في أوربا لها مدرسة للموسيقى عَلَى نفقة الحكومة وسيكون ذلك في مصر أيضاً إذا شملتم مشروعي هذا بعين الرعاية وكلفة نظارة المعارف العمومية في مصر الاهتمام بمساعدة هذا المشروع مساعدة مالية وأدبية.
ولا يخفى أن هذه المدارس الموسيقية في مصر ستساعد عَلَى تربية الشبيبة المصرية وتهذيبها لأن الموسيقى لغة الأرواح ترفع النفس إلى الرغائب الحميدة وتميل بالعقل والقلب إلى محبة الخير. ومتى وجدت في مصر موسيقى عربية مؤلفة عَلَى قواعد العلم ومنظمة تنظيم الموسيقى الأوربية صار لمصر مزية أخرى في عيون السياح وكتب لها في سلم الحضارة والارتقاء درجة أعلى لأن الموسيقى هي لغة التمدن والارتقاء.
إحصاء زراعي لمصر
أحصت الحكومة المصرية الأراضي الزراعية في السنة الماضية التي ابتداؤها شهر سبتمبر (أيلول) سنة 1911 وانتهاؤه شهر أغسطس (آب) سنة 1912 فكان الشتوي.
النوعس فدن
خشخاش09655
ترمس059900
قرطم221079
جنائن1828119 الجملة
حمص101121
حلبة 1153000
كتان 077324
عدس0763344
أصناف مختلفة 7315827
شعير 22364050
فول17517318
بصل0926392
جلبان 0432797(78/64)
برسيم 191368365
قمح191282935
الصيفي:
بطيخ وشمام0432595
نيلة 13
حناء151342
قصب 06795738
أرز0820624
قطن نوباري 14968566
عباسي1336354
قطن يانوفيتش11249231
بقول1422129
سمسم022691
فول سوداني1412573
ذرة
قطن عفيفي أصلي0139836
أشموني09244265
ميت عفيفي 0281910
سكلاريدس 02197450
إجمال المزروع 063671288
تنزيل منزرع بالتكرار 052395834
صافي الزمام 01538454
ضم بور تالف232393248
أصل التكليف187683332
اللدنيات(78/65)
مات مؤخراً في البلجيك رجل اسمه أنطون الشافي أو الكريم وكان يعمل النصال فلم يكتب له أن تعلم ما يخرجه عن الأمية وقضى بعض حياته وهو يدعي شفاء المرضى وكم مقعد أقامه عَلَى رجليه ومن أعمى رد إليه بصره وكان يدعي أن الإيمان هو العامل الوحيد في شفاء قاصديه للاستشفاء عَلَى يديه ممن يغشون منزله بالمئات كل يوم حتى ضاقت صدور الأطباء الرسميين منه لأنه كاد يقطع أرزاقهم فأقاموا عليه دعوى فحكمت المحكمة براءته لأنه لم يكن يتقاضى أجرة عن عمله وعند ذلك أسس له مذهباً سماه الأنطونيني نسبة إليه فكثر أشياعه وأي كثرة في أقطار العالم. وقد تبرع أحد عشاقه بمئة ألف فرنك ليبني له في جمييس من بلاد بلجيكا معبد وقدم محضر فيه 130 ألف توقيع يطلب فيه للحكومة البلجيكية أن تعترف بالمذهب الأنطونيني بأنه من الأديان الرسمية وتأسست شعب لمذهبه في بعض مدن فرنسا. قالت المجلة التي ننقل عنها بعد أن أوردت أحاديث لبعض من أولعوا بهذا الرجل أن دعوى شفاء الإسقام كانت مألوفة في كل عصر عرفتها الهند ويونان ورومية بل الغاليون أجداد والفرنسيس ولطالما ملأوا الحواضر والقرى وهم متوفرون عَلَى ممارسة صناعتهم التي كانت تعد من توابع السحر تحرمها الكنيسة أو تتسامح فيها أو تقتل أهلها إلا أن هذا الاضطهاد لم يفتر عزائمهم وعادوا كل قرن يحيون من رمادهم فالظاهر أن عنصرهم لا يفنى ولو فني الدهر يقاومون بعقولهم ارتقاء العلم ونشوء الأخلاق واتساع الأفكار بالبحث والنظر وكم فيهم من جلبهم الملك حتى في هذا العصر وسألوهم أسئلة وغمروهم بنوالهم والأغرب من ذلك أن في باريز بحسب إحصاء دائرة الشرطة زهاء عشرة آلاف عراف وعرافة انتشروا في أشرف أحياء الأشراف منها وأكثرها سكاناً يمارسون صناعتهم بمأمن ويعشون من هذه الأباطيل تحت سمع حكومة الجمهورية مؤلهة العقل ونظر العلماء الذين كشفوا كل غامض أو كادوا.
المصافحة والصحة
قالت إحدى المجلات الإفرنجية أن المصافحة تكفي للدلالة عَلَى صحة المتصافحين فهزة الكتف إذا كانت ثابة حرة من رجل مخلص حسن الصحة يكون فيها دائماً قليل من القسوة إذا تجاوزت حد اللياقة في اللمس والأدب تدل عَلَى ضعف مؤقت في الإرادة وتشعر باضطراب من يهز كفك وإن اليد التي تمتد رخوة بدون ضغط تدل عَلَى ضعف في الجسم(78/66)
والفكر ولو مؤقت وإذا صافحك مصافح بسرعة وعصبية فتستدل من ذلك عَلَى مزاج حاد سريع الانفعال واليد التي لا حركة فيها الكسلانة تدل عَلَى ضعف صاحبها والحمى ليست دلالة أكثر من اليد عَلَى مزاج صاحبها فأقل لمس للمصاب بها يكفي في تشخيص مرضها.
إزالة البقع
إذا سقطت الدهون والشحوم عَلَى خشب غرفة الطعام فإزالة بقعها سهل للغاية عَلَى شرط أن تتداركها في الحال وهي طرية وذلك بأن تضع عَلَى البقع روح التربنتين وتتركه عليها ساعتين ثم تمسحه بدون فرك وتلقي عَلَى البقع طبقة صغيرة من السعوط وتمر حديدة محماة فوقها فالسعوط يأكل الدهن والشحم كما يأكل التربنتين والبنزين والسبيرتو بقع الثياب.
أصل الجعة
قالت مجلة التواريخ السياسية والأدبية: ليس من السهل أن نبين أصل البيرا والجعة التي تصرف مكنها اليوم كميات وافرة وغاية ما علم أن البشر حاولوا في أدوار مختلفة أن يتبردوا بغير مياه العيون الصافية من الأشربة فكان لهم من اللبن وعصير الفاكهة والعسل والحب المسلوق مادة يعملون منها أشربة مخمرة ومنها جاء شراب القوميس (ابن الفرس) والخمر وخمر التفاح (السيدر) والإنجاص والجعة وشراب العرعر اهتدى البشر إلى صنعها كلها بعقولهم فنقلها الخلف عن السلف وقد بحث الباحثون المحققون في إنكلترا وألمانيا والنمسا وهي البلاد التي يبالغ سكانها في تعاطي الجعة عن زمان ظهورها وكتبت المجلدات الضخمة في قدم الجعة ولم يستطع أولئك الباحثون أن يصلوا إلى أصلها وغاية ما عرف أن ديودور الصقلي وهيرودوتس المؤرخ أثبتا أن المصريين عرفوا الجعة قبل المسيح بألفي سنة والغالب أن الملك أوزيريس كان رأس صناع الجعة وبائعيها وقد دلت أوراق البردي التي عثر عليها أن مدينة بلوزة عَلَى شاطئ النيل اشتهرت بمعاملها لصنع الجعة وقد يرد عَلَى هذا الرأي أن صنع الجعة انتقل من الهند كما انتقلت مبادئ سائر الحضارات.(78/67)
العدد 79 - بتاريخ: 1 - 9 - 1912(/)
تاريخ الحضارة
مترجم عن الإفرنسية
علم الكلام - بقي علم اللاهوت خلال القرون الوسطى العلم الرئيسي (ولمدرسة اللاهوت في جميع الكليات التقدم عَلَى كل المدارس) وقد توفر عَلَى الفلسفة خاصة أرباب العقول العاملة وكان لمشاهير علماء القرون الوسطى أمثال أبيلاروسان توما ودونس سكوت وألبر الكبير القدح المعلى في الفلسفة وليس علم المدرسة أو علم الكلام سوى فلسفة مطبقة عَلَى اللاهوت فكان المتكلمون يتقبلون تعاليم الكنيسة كلها. قال كيتموند أسقف فرنسا لا يجب أن يفهم المرء أولاً ليعتقد بعد بل يجب أن يعتد أولاً ليفهم بعد ذلك. وقال سان توما بعد حين من الدهر: إن حقيقة العقل ليست عَلَى تناقض مع حقيقة الإيمان المسيحي. ثم أن علماء الكلام درسوا فلسفة أرسطو (عرفوها من ترجمات رديئة باللغة اللاتينية نقلت من ترجمات عربية) وقد أعجبوا بمنطقه فكانوا يذهبون إلى أنهم باستعمالهم طرق البرهان يحلون المسائل التي لم تحلها الكنيسة. وهذه المسائل: قد تكون دقيقة مثل قول بطرس لومبارد: إذا كان الله يقدر أن يعرف من الأشياء أكثر مما يعلم. وقال دونس سكوت: إذا كانت الصعوبة في أن يكون مولوداً هي خاصية في تركيبة الشخص الأول في اللاهوت. وقال سان توما: إذا كان جسد المسيح عاد إلى الحياة وعليه جروح وفيما إذا كانت الحمامة الي ظهر فيها الروح القدس هي حيوان حقيقي.
وكان علماء الكلام من أكبر العاملين فقد مات دونس سكوت (الدكتور المحقق) في الحادية والثلاثين وقد ألف 12 مجلداً من قطع النصف ولخص سان توما (الدكتور العام) في كتابه السوم جميع أفكار العصور الوسطى وعلى كتابه المختصر المعول في اللاهوت بالمدارس الإكليركية الكاثوليكية. واخترع ريموند لول في القرن الرابع عشر الصناعة العظمى وهي أداة للبرهان يتأتى بها حل جميع المسائل بدون استخدام الذهن. وإذا كان المتكلمون لا يستخدمون إلا البرهان الاستقرائي دون ملاحظة الحوادث لم يزيدوا شيئاً عَلَى العلم البشري وظلت فلسفتهم كما يقولون هم أنفسهم خادمة لعلم اللاهوت.
خزائن الكتب والأدب العلمي - كان في الديار العظمى أبداً بعض القسوس لا عمل لهم إلا استنساخ الكتب وتزيينها فينقلون المخطوطات التي استعارتها أديارهم من غيرها. وعلى(79/1)
هذه الصورة أسست خزائن الكتب فلم تتجاوز بضع مئات من المجلدات (فمكان في فيكان 148 وفي سان يفرول 138) لأن الكتب كانت نادرة والرق عزيزاً وجميع الكتب كانت باللاتينية ومعظمها كان كتب عبادة وتنسك مثل الكتاب المقدس وآباء الكنيسة وكتب الطقوس وحياة القديسين وكان القسوس عَلَى صلابتهم لا يسمحون لغير هذا النوع من الكتب ويقولون أن كتب شيشرول وكتب فرجيل لا تنفع في سلامة النفس بيد أنه كان في بعض الأديار التي يغلب عليها حب الأدب بالأكثر شيء من المؤلفات اللاتينية الأخرى مثل مصنفات شيشرون وفرجيل وهوراس وبلين لجون والتعزية لبويس.
كتب رجال الإكليروس كالأساقفة ورؤساء الأديار والقسس في القرون الوسطى كثير من المؤلفات لأنفسهم فكانوا يؤلفون في الشعر والأدب ورسائل في اللاهوت وتواريخ يسرد فيها جميع أحداث العالم منذ البدء إلى زمن المؤلف ووقائع مؤلفة من أخبار جافة جداً تكتب سنة فسنة تذكر فيها أخبار المجاعات والأوبئة والمذنبات والحروب ووفاة الملوك أو رؤساء الأديار. كل ذلك باللغة اللاتينية وإنشاء مطول مزهر مصنع تكثر فيه الاستشهادات أشبه بلغة تلميذ يتعلم اللاتينية. وكان رجال القرون الوسطى جبناء الفكر يعتقدون أنفسهم أحط جداً ممن سلفوهم ولا يطمعون إلا في أن يقلدوهم وإنك لتجد في آدابهم بعض الأفكار صرح بها بقوة وبعض صحف حية في تواريخهم ولكن أدبياتهم أدبيات طلبة فهم طلبة اجتهدوا وأعوزهم الإبداع.
أدب العامي - أم عامة المدن والقصور ممن لا يعرفون اللاتينية فقد اقتضت لهم كتب باللغة العامية لغة الرومان (المشتقة من اللاتينية) وهكذا نشأ نحو أواخر الحادي عشر الميلادي الجديد فابتدأ من الشعر كما جرت العادة في أنواع الآداب فسموا هؤلاء الشعراء المتجولين وهم الذين يتجولون في شمالي فرنسا ويؤلفون أشعارهم بالفرنسوية ويسمون شعراء الجنوب الطوافين وهم يؤلفون بلغة أقاليم البروفانس (البروفنسال) وكان بعضهم فرساناً وصناعة الآخر الشعر ويسمونهم المتشعبدين كانوا يذهبون إلى الأسواق الكبرى حيث يجتمع أغنياء التجار ويقصدون قصور أعاظم السادة في أيام الأعياد ويغنون ومعهم ربابة صغيرة وهذه الشعار ذات الثمانية أو العشرة مقاطع سميت بالأغاني لأنه كان يتغنى بها وسميت (بلغة البروفنسال الرومانية) لأنها كانت باللغة الرومانية. وكان شعراء الجنوب(79/2)
أكثر خفة ولغواً فينظمون قطعاً صغيرة من الهجاء أو أغاني العشق أو أغاني الليل أو غاني السحر. وشعراء الشمال أميل إلى الجد يترنمون بالحروب والغارات وحملات شارلمان ورفاقه وارتور ملك الغال وبحروب الإسكندر فكانت أغانيهم أغاني العمل وقد نظموا من هذا القبيل مدة ثلاثة قرون في الولايات الفرنساوية في الشمال ووجد في أيامنا منها زهاء ألف قطعة في مخطوطات منسية من القرن الرابع عشر ومن يعلم كم فقد من نظائرها. ومن المتفق عليه أن أجملها ما كان قديماً مثل أغاني رولاند وراول دس كامبري وكارن لوتهرين واشعار كريتن دي تروا. ومما يسقم قصائد القرون الوسطى سواء كانت بلغة الرومان أو اللغة اللاتينية الهوس في التقليد والشرح وإذ لم يكن لشعراء لالقرن الثاني عشر أمثلة يحتذونها ذهبوا مع الطبع ونطقوا بما شعروا به ووصفوا ما رأوا. ولم يأت الشعراء في القرون التالي غير التوسع في القصائد القديمة وأصلحوها ثم حدثت القصائد ذات العشرين والثلاثين ألف بيت التي لا يحكم عَلَى غير المتأدبين بتلاوتها.
منشأ الهندسة الرومانية - لما أخذ المسيحيون في القرن الرابع يحتفلون عَلَى ملأ الناس بعبادتهم كانوا يجتمعون في كنائس كبرى وهي قاعات عظيمة مسطحة السقف تكون محكمة مدنية وسوقاً للتجار في آن واحد فكان المؤمنون يقعدون في ساحة التجار أو الصحن وهو مقسوم إلى رواقات تقسمها صفوف من السواري ومحل المحكمة عَلَى شكل نصف دائرة وأعلى الصحن كان بمثابة محراب يجلس فيه الأسقف أو القس. وقد احتفظت الكنائس المسيحية زمناً باسم البازيليك (البيعة الكبرى) وصورتها أن تتألف من صحن كبير عَلَى جانبها صحنان صغيران ومحراب يسمى عقداً بسبب العقد الذي يغطيه ثم تصوروا أن يبنوا في مقدم الكنيسة برجاً أو برجين يجعلون فيه الأجراس وأن يستعيضوا عن السواري الخفيفة بدعائم مصمتة وأن يجعلوا بدلاً من الخشب والسقف المسطح المعرض للحريق بناء من حجر عَلَى شكل عقد وبذلك نشأت هندس جديدة سميت الرومانية لأنها نشأت في بلاد الرومان. فقد بدأت في إيطاليا الشمالية وجنوبي فرنسا في القرن الحادي عشر ولكنها انتشرت في جميع أوربا الغربية والكنائس الكاتدرائية الكبرى في ورمس وسبير في ألمانيا هي كنائس رومانية ولا يزال في كثير من القرى في وادي الرون أو في أوفرنيا ونورمانديا كنائس قديمة عَلَى الشكل الروماني إذ لم تمكنها حالتها المالية من إبدال ذاك(79/3)
القديم بطرز من البناء الجديد.
الهندسة الرومانية - لما كانت الكنائس الرومانية قد بنيت في بلاد مختلفة وعصور متطاولة عَلَى يد مهندسين لم يتبعوا أصولاً واحدة في الهندسة فقد بعد الشبه بينها ولذلك لا ترى لأوفرنيا هندسة خاصة بها ومثل ذلك لنورمانديا ولألمانيا. ولكنها كلها ترجع إلى مبدأ عام وهو أن الجزء الأكثر زينة أي الواجهة متجهة نحو الغرب وقبة الجرس (وأحياناً تكون قبتان) تقوم فوق الواجهة وتنتهي بذروة محدودة وتشرف عَلَى الكنيسة بأسرها والرتاج أو الباب الأعظم يكون في أسفل الكنيسة ومنه يدخل المصلون وهو نجايا منقوشة وأحياناً لا يبغ الداخل الرتاج قبل أن يجتاز دهليزاً وهو ذو سوار في مقدم البناء والرتاج يؤدي إلى صحن الكنيسة الأعظم في الوسط وعلى الجانبين عمد متينة تضمها أروقة تمل الحوائط الداخلة التي تجتمع في أعلى البناء فيتألف منها عقد ومن كل جهة من الصحن الأكبر بين صف الأعمدة والحائط الخارجي من الكنيسة صحنان صغيران ويسميان الجانبان الواطئان فالصحن الكبير والجانبيان الواطئان بفضل بينها رواق عريض عالٍ ينتهي في كل طرف من أطرافه برتاج متطرف يشبه رتاج الواجهة (وأحياناً تعلوه قبة جرس) ثم يكون الخورس عَلَى شكل مدور عَلَى خط مستقيم مع الصحن الأعظم ولكنه أعلى منه ببضع درجات والصحنان الواطئان يمتدان عَلَى جانبيه وكثيراً ما يحيطان به من الوراء وكل هذا الشطر من البناء الذي يسمونه الرأس مغطى بقبة.
وتحت الخورس غرف معقودة وهي الناووس فيها ذخائر القديسين وتضيء الكنيسة بنوافذ تطل عَلَى الصحنين الواطئين أو الصحن الأعلى وقد أقيم في الخارج لتدعم الحوائط الخارجية لتحمل ثقل العقود الباهظ دعائم قوية جعلوها سنداً من جانبي الكنيسة بين النوافذ وأرتجة الصحنين الواطئين وقباب الجرس كلها وأقبيتها ونوافذها عَلَى صورة العقود أي عَلَى شكل نصف دائرة مثل البنية الرومانية القديمة وقد جعل شكل الكنيسة عَلَى صورة الصليب ورجله الذي هو عبارة عن ثلاثة أرباع مجموع رقعة المكان مؤلف من الصحن وما عَلَى جانبيه من الفنائين الواطئين وفيه يجتمع الناس والرواق العريض العالي يمثل ذراع الصليب والرأس المدور هو القلب وهو المحل المقدس من الكنيسة يجلس فيه رجال الدين وتقام فيه الحفلات الدينية.(79/4)
هندسة رسم البيكارين - بدأ المهندسون الذين بنوا الكنائس نحو القرن الثاني عشر يستعيضون عن العقود المدورة بعقود عَلَى رسم البيكارين. وقد احدث هذا الاختراع الذي تيسر به إنشاء عقود أعلى وأخف انقلاباً في هندسة الأبنية. فظل الرسم العام في الكنيسة واحداً: صليباً رجله الصحن ورأسه محرابه (خورس) وبلكن بدلت جميع تفاصيل البناء إذ بنيت العقود كلها عَلَى رسم البيكارين لا عَلَى صورة قوس فارتفع الصحن الوسط إلى علو شاهق وارتفع الصحنان الواطئان أيضاً وأصبحا فنائين حقيقيين. واستغني عن العمد المصمتة التي كانت تمسك العقود بجملة من العمد الصغيرة الخفيفة وجعل فوق الإسناد التي تمسك فوق الحوائط الخارجة زوافر (نصف قناطر) عظمى مارة مثل جسر هوائي فوق الصحن تدعم حائط الصحن الأكبر الأوسط من جهة وإذ كانت القناطر الضيقة موطدة البنيان عَلَى هذه الصورة ساغ أن تكون فروج البناء أكثر علواً وسعة فانفرج الحائط الذي كان في الكنيسة الرومانية يشغل أكثر من نصف الجانبين وجعلت مكانه نوافذ. فغدت النوافذ القسم الرئيسي من الكنيسة وهي عَلَى ضروب منوعة منها نوافذ عَلَى شكل المبضع تستعمل لقباب الأجراس خاصة وهي فروج عظيمة تقسمها عميدات طويلة رقيقة إلى قسمين وتشبه فرجة تتخلل الكنيسة من أعلاها إلى أسفلها والنافذة من الجوانب الخارجة مزينة منقوشة من داخلها وخارجها بتخاريم من الحجر زينت بالزجاج وفوق الأرتجة نافذة عظمى مدورة يسمونها الوردة وهي أيضاً تتخللها تخاريم عَلَى شكل الورد وليس للسواري تيجان بل تنتهي في ذروتها بباقة من الورق معمولة من حجر.
تغشى الكنيسة كلها من داخلها وخارجها نقوش من الحجر فمنها ما هو عَلَى الرتاج والنوافذ فوق الإسناد وفي طرف الزوافر وفي جميع طبقات قبة الجرس ومقدم البناء. ولقد مهر النقاشون فغدوا ينوعون تزييناتهم فكانوا يرسمون أوراق الحجر عَلَى مثال نبات البلاد مثل القراص والعوسج والحسك والورد وعليها مسحة من الظرف وتماثيل القديسين التي لا تزيد الأرتجة والكوى والمشاهد المصورة فوق الرتاج مشهورة بما فيها من الحياة والحقيقة وتمثل الميازيب حيوانات خيالية وشياطين غريبة الصور أو بشعتها معلقة في الفضاء وكل ذلك اختراع غريب مستفيض. وصور القبور ولاسيما في القرن الخامس عشر كثيراً ما تكون من بدائع النقش وقد بدأت هذه الطريقة في البناء نحو القرن الثاني عشر في أرباض(79/5)
باريز من أملاك ملك فرنسا (وربما كان ذلك في كنيستي سان ديني ونويون) ومن هنا انتشرت في أنحاء فرنسا كافة ثم في سائر بلاد أوربا وكانت هذه الطريقة هي المعول عليها منذ القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن الخامس عشر في كل من فرنسا وألمانيا وإنكلترا. وأخذ المهندسون الإيطاليون في القرن السادس يبنون عَلَى مقال القدماء فنازعوا بذلك هندسة القرون الوسطى نزاعاً شديداً إذ كانوا اتخذوه بمثابة اختراع للبرابرة الذين داهموا إيطاليا وهم الغوت فقد سموه الغوتي وبقي هذا التعبير لتحقير هذا الطراز من البناء يطلق عليه. وليس من ينكر اليوم أن الهندسة الغوتية هندسة متانة وإبداع فأجمل كنائس القرون الوسطى مثل كنيسة نوتردام دي باري وكاتدرائيات ريمس ولاون وأمين وبوفي وكولون وستراسبورغ وبال وفريبورغ كلها كنائس غوتية.
الطراز الغوتي المدني - استعملت الهندسة الغوتية بادئ ذي بدء للكنائس ثم استعملت في لأبنية الأخرى. ففي القرن الرابع عشر والخامس عشر خصوصاً نهض بعض السادة وأغنياء المدن فبنوا لنفسهم قصوراً وفنادق وبنت المدن مجالس بلدية ولا يزال كثير من هذه الأبنية باقياً إلى اليوم أثراً باهراً من آثار الهندسة ففي إقليم الفلاندر مجالس البلديات في بروج وإيبر وأدونارد وفي فرنسا قصر العدلية في روان ونزل جاك كور في بورج. وأهم ما في هذه الأبنية المدنية مقدم البناء فهي في المجالس البلدية تشبه مقدم بناء الكنيسة والمرقب يوم مقام قبة الجرس وواجهة الفنادق خاصة تطل في العادة عَلَى عَلَى فناء داخلي ويفصل بين النوافذ صليب من الحجر (ومنه اشتق اسم المشبك) وهي مزينة بأبراج صغيرة من الورق وقد فتحت في السقوف طيقان بديعة والأجنحة والأبراج عَلَى شكل حقة الفلفل وهي في جميع الزوايا بارزة عن الواجهة والزوايا كلها مزدانة بتماثيل صغيرة وداخل الحجر مزين بغصون أو صور منقوشة بألوان جميلة. وربما لم تعمل أبنية كهذه في البهجة واللطف.
الطرز الغوتي المتلألئ - كلما تقدمنا نحو أواخر القرون الوسطى رأينا الكنائس مغشاة برسوم ونقوس منوعة بديعة وأكثرها في الاستعمال ورق الملفوف المعوج اعوجاجاً غريباً فالكنيسة كانت وإحالة هذه تشبه وشياً من الحجر وهذا ما يسمونه الغوتي المشعشع شاع في القرن الخامس عشر خصوصاً وأهم ما صنع منه في ذاك العصر كنيسة وستمنستر في(79/6)
إنكلترا وبرج سان جاك في فرنسا وسان أوان في روان. واعتاد القوم أن يزهدوا في الطرز الغوتي المتلألئ وأن يعدوه إفساداً للطرز الغوتي الخالص. لا جرم أن أجمل الكنائس بناء هي من العهد الأول لاختراع الطرز الغوتي ولكن معظم الدور الجميلة هي من بناء القرن الخامس عشر.
صفة البناء الغوتي - لم يتفق الناظرون عَلَى التأثير الذي ينشأ من الكنائس الغوتية فإن معظم الزوار تملك عليهم مشاعرهم بما يروه من جلال تلك العقود العالية والسواري الصغيرة كالغابة بكثافتها وهي في الجو محلقة وبمنظر هذه القباب للأجراس المحددة والأوراق المعوجة والغيلان المتخيلة والأنوار التي ترسل من خلال الزجاج الملون وقفص الحجر والزجاج الذي يظهر أنه لا يقوم إلا بمعجزة كل ذلك مما يحدث اثر صناعة قابلة العطب ومخالفة للطبيعة واجتهاد قوي لبلوغ السماوات العلي. ومن هنا نشأ هذا الرأي الشائع وهو أن الهندسة الغوتية هي نتيجة سامية لعصر متألم تعذبه الحاجة إلى اللانهاية. ويقول بعض أهل هذه الصناعة أن هذه الهندسية عَلَى العكس تمتاز بنظامها المعقول وترتيبها المدقق في أطرافه وأعطافه والتأثير العام الذي يحدثه تأثير حياة قوية راقية فيها البهجة والأنس.
التوسع في الحريات السياسية وارتقاء الطبقات النازلة
تحرير المدن
صكوك التحرير - معظم مدن فرنسا قرى قديمة يملكها أحد السادة عَلَى ما استبان من أسمائها فأن (فيل) (المدينة) أو في معناها المحلة حتى أن المدن التي يرتقى عهد تأسيسها إلى الرومان قد سقطت في أيدي أساقفتها (مثل أمين ولاون وبوفي) أو في يد الملك (مثل أورليان وباريز) أو في أيدي بعض الأمراء (مثل أنجر التي كانت للكونت دانجو وبوردو للدوق أكيتين) فكان السيد أو وكيله يحكم كما يحكم السيد عَلَى سكانه فيكرههم عَلَى أداء المال ويقضي بينهم ويحكم عليهم وكثيراً ما يأخذ منهم بضائعهم أو يوفقهم بدون سبب لأنه كان القاضي فيهم وحده. وكانت المدن في القرن العاشر حقيرة للغاية لا تمتاز عن القرى إلا أنها محاطة بسور.
غدا السكان في القرن الثاني عشر أكثر غنى فأخذوا يرغبون في النظام المرتب واخذ(79/7)
بعضهم بشقه عصا الطاعة أو بأدائه مبالغ باهظة يتوصلون إلى أن يناولوا من سيدهم وعوداً يسجلونها في صك فكان السيد يقول إنني أعلم الجميع إنني أمنح أهل مديني العادات الآتية وذلك بأن يدفعوا إلي من الآن فصاعداً المبلغ الفلاني كل سنة في وقت كذا وأتعهدهم بأن لا أتقاضاهم شيئاً غيره. وجرت العادة في هذا الصك أن يشفع بقائم الغرامات مثل قولهم من يضرب غيره بجمع كفه يؤدي إلى 3 سولات غرامة ومن يلبطه برجله يدفع خمسة وإذا سال دمه سبعة ومن يستل مدية أو حساماً بدون أن يضرب بها يؤدي 60 سولاً وإذا ضرب عشر ليرات ومن يبصق عَلَى غيره يسمى أجذم ويدفع لي 7 سولات الخ ويشترط أحياناً أن لا يعد الدم الذي يجري من الأنف دماً مسفوحاً وأن الأولاد في سن الثانية عشر ونازلاً إذا تضاربوا لا يغرمون ومن شأن الصك أو العهد أن يحدد كل التحديد مبلغ الغرامة أي ما يحق للسيد أن يتقاضاه عن كل خطأ يرتكب. وإليك الصورة التي عرف بها أحد رؤساء الأديار في القرن الثاني عشر واسمه كيبردي نوجان هذا العقد الذي عقد بين المدينة وسيدها: إن لفظة مديرية من الألفاظ الجديدة الممقوتة ومعناها أن العبيد يدفعون مرة في السنة فقط إلى سيدهم الدين المعتاد لقاء عبوديتهم له وإذا ارتكبوا بعض الذنوب لا يؤدون سوى غرامة معينة من قبل أما سائر السخرات والتكاليف التي تتقاضى في العادة من العبيد فإنهم يعفون منها بتاتاً. وهذه العادة في تعيين الواجبات نحو سيدهم تسمى عادات وحرية أو تحريراً. فقد عنيت جميع المدن أن تنال مثلها فبدأت الحركة في أواخر القرن الحادي عشر في مدن الجنوب وفي الشق الآخر من فرنسا في إقليمي فلاندر وبيكارديا حيث كان التجار الذين يغتنون من التجارة ومنها امتدت إلى أوربا بأسرها بحيث أنه لم ينقض القرن الرابع عشر حتى لم تبق بلاد لم تحصل عَلَى حريتها.
المديريات - كان في المدن عدة ضروب من السكان وأرباب الصناعات والعملة المرتبين بحسب حروفهم ومهنهم وتجار وبيوت لها شيء من الغنى تعيش به بدون أن تعمل ويدعى مجموعهم البورجوا أي سكان مدينة حصينة (بروج) وهم محافظون عَلَى الاعتصام بطاعة سادتهم ولكن بحسب الشروط المذكورة في عهداتهم وهذه الشروط تختلف اختلافاً كثيراً. فلم يكن لهؤلاء السكان في معظم المدن من الحقوق إلا أن يعينوا أناساً منهم يسمونهم أهل الحشمة وهؤلاء هم نصحاء وكيل السيد ويعينونه عَلَى جباية الضرائب. أما في المدن التي(79/8)
نالت حظاً أوفر (مثل بوفي وليل وديجون وناربون وتولوز) فقد رخص لسكانها أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وهناك كانت المديريات الحقيقية. جاء في صك العهد الذي نالته مدينة بوفي أن كل واحد يعاون الآخر ولا يسمح بأن يؤخذ منه شيء. وكان يكفي إذا اعتدى غريب عَلَى أحد سكان ليل أن ينادي للبرجوازية أي بالسكان المدينة فيهرع إلى نجدته من كان حاضر منهم ومن يختلف يغرم وللمديرية ما للفارس من حقوق فلها أن تحارب أعدائها وتخرب بيوتهم. ولها طابع تختم به عهودها علامة عَلَى حقها كما أن لها خزانة تضع فيه مالها ومرقباً فيه جرس تدعو به سكان المدينة إلى حمل السلاح (والمرقب هو كبرج الجرس عند سكان المدن) ومجلساً بلدياً أي داراً يجتمع فيه رجال المدينة يعني مجلس الرجال الذين يحكمون المدينة.
رجال المدينة - يتألف رجال المدينة من أعضاء المديرية فيكونون تارة أربعة وأخرى اثني عشر وآونة مئة وأحياناً متساويين في العدد ويرأسهم رئيس في الأحايين فيعون في الجنوب القناصل وفي الشمال شيوخ البلد أو مشايخ الحرف أو الحكام يختارون من أشراف المدينة وكثيراً ما ينتخب بعضهم بعضاً أو يتوارثون الحكم أباً عن جد ولم يفكر أحد قط في القرون الوسطى أن يطالب بالمساواة سواء كان ابن المدن أو من الأشراف. ولهؤلاء الأشراف عَلَى السكان سلطة مطلقة فهم الذين يقضون في الدعاوي ويحكمون عَلَى المجرمين ويجبون الخراج ويحتفظون بمفاتيح الأبواب فيمدون السلاسل في الشوارع وقت الخطر ويقرعون جرس المرقب وعلى صوته يهب السكان بأجمعهم مدججين بأسلحتهم ويقفون طوعاً وإرادة رؤسائهم وعليهم أن يحضروا أيضاً إلى المجلس العظم إلى الساحة وإلى المقبرة أو إلى الكنيسة للمفاوضة في المسائل العامة لاسيما قرارات رجال المدينة.
العدل المدني - ليس لابن المدينة أن يأخذ حقه بسلاحه كما هو شأن الفارس بل عليه أن يعمد إلى رجال المدينة أو نائب السيد ليعيدوا إليه حقه المهضوم وذلك في محكمة أبناء المدينة ويطبقوا في هذه المحكمة مقاصل العادة القديمة فالمهان أو قريب المصاب يقف موقف المدعي فيبين الجرم ويركع عَلَى الأرض ويضع يده عَلَى ذخائر القديسين ويقسم بأن ذلك الرجل ارتكب الجرم ويحلف المدعي عليه بالعكس كلمةً كلمة وقد تقضي المحكمة أحياناً عليهما بأن يتبارزا بالعصي ومن غلب منهما يحكم عليه. وإذا أتي المدعي بشهود(79/9)
يجب عَلَى كل منهم أن يقسم اليمين مردداً الكلمات ذاتها من أن المدعى عليه مجرم وإذا حلف شاهدان يحكم عَلَى المدعى عليه ومن الصعب إيجاد شاهدين كل حين إذ يطلب من الشاهد أن يكون قد رأى المجرم يرتكب بعيني رأسه.
يجري كل ذلك علناً في العراء ولا يسجل شيء مما يقرر فبعد البراز أو الأيمانات تصدر المحكمة حكمها قرأ أفتوه علناً وهو: بحسب الحقيقة التي وعاها مشايخ البلد نقول لكم أن هذا وجد مجرماً ذا قلنا لكم تعاقبون بما تستحقون. ويحترم رجال البلد في القرون الوسطى الصور بحيث أن أقل هفوة تكفي في خسارة الدعوى. فقد جاءت في عادة ليل أن كل من ينزع يده من القديسين (أي من ذخائرهم) قبل أن يقسم اليمين وينطق بالكلمات التي يقضي بها القانون والعادة يخسر دعواه. وكل كلام يربط من يلفظ به لأن القضاة لا يعتبرون إلا الكلام ولا يحكمون إلا عَلَى النيات وتقدر العقوبات عَلَى صورة مبرمة لا نقض فيها وليس في مكنة القضاة أن يغيروا فيها. فالقاتل يقطع رأسه وهو الذي قتل متعمداً فيجر عَلَى طبق إلى المشنقة ويصلب والذي يحرق يحرق والمرأة التي يحكم عليها بالإعدام تدفن حية وهذه القاعدة لا تتخلف في التنفيذ. وإذا أقر المحكوم عليه تعدم صورته فيحرق أو يصلب مجدار (صورة من خشب) عَلَى صورته ومثاله. وإذا انتحر أحدهم تجر جثته عَلَى نطع ويصلب فيفعل به كما يقضي العدل بأن يفعل به ل ثبت أنه قتل آخر. وإذا قتل ثور رجلاً أو افترست خنزيرة ولداً يصلب الجلاد الخنزيرة أو الثور وقد دام قتل الحيوانات عَلَى هذه الحالة إلى أواخر القرون الوسطى.
تخفيف العبودية - حسنت أيضاً في القرون الوسطى حال السكان في القرى (وإن كان تحسينها عَلَى ضعف) وكنت ترى في القرن الحادي عشر العامة عبيداً أكثر مما كنت ترى أحراراً فكان معظم الفلاحين من المكلفين بأداء الجبايات عَلَى نحو ما يريد سيدهم وبقدر ما يستنسب وإذا ماتوا يخرجون عن ملكهم فتعود الأرض التي حرثوها إلى السيد واضطر عبيد القرى بعد القرن الثاني عشر كما اضطر سكان المدن سادتهم أن يحددوا ما يقضى عليهم أداؤه من مال ويعدلوا عن استصفاء الأرض لأنفسهم بعد موت صاحبها وكان يسمى ذلك التحرير أو الاشتراك (تحديد الحدود) وتكلف هذه العناية كثيراً لأن السيد لا يبذلها إلا مقابل مبالغ باهظة يتقاضاها ولكن عمله لا ينقض متى أبرم فقد أصبح العبد المشترك وهو(79/10)
لا يدفع هو وأخلافه إلا جباية معينة دائمة وأمسى من العامة الأحرار وهكذا كلما نالت بعض القرى الجديدة صكوكاً بذلك يقل عدد العبيد. ولم يبق أثر لذلك في بعض الولايات خلال القرن الرابع عشر وبقي من هذا الإصلاح شيء إلى القرن الثامن عشر (ولاسيما في مقاطعات بورغونيا وكونته وأوفرنيا) لكن عَلَى قلة.
ولقد نال من يحررهم سادتهم حريتهم وقضت العادة بأن كل عبد يستطيع مغادرة قريته عَلَى شرط أن يخلع طاعة سيده والسيد يحتفظ بالأرض ويجب عليه أن يطلق سراح خادمه.
معاهد إنكلترا في القرون الوسطى
السكسونيون - كان ينزل جنوبي بريطانيا العظمى منذ القرن السادس أناس من المحاربين الجرمانيين سكسونيين وإنكليزيين الذين كانوا يأتون من سهل ألمانيا الشمالية الواسع المضب (المملوء بالضباب) القاحل بلغو هذه الأرض مسلحين عصابات مع أسرتهم وقد أبادوا الشعوب القديمة أو طرحوها إلى أطراف البلاد إلى جبال كورنوال القاحلة وبلاد الغال وكانوا من الجرمانيين الخلص شقر الشعور زرق العيون ضخام الجسام مفتلي العضلات بيض الوجوه عظاماً في مآكلهم عظاماً في حروبهم يقضون النهار عَلَى المائدة (في قصور ملوكهم أربع وجبات من الطعام كل يوم) فيزدردون أبقاراً برمتها ويشربون شراب العسل ملء أوانيهم كما يتعاطون شراب العسل المخمر الذي يسكر أقوى الرجال ومتى طفحوا يغتنون بملاحم محاربيهم يحبون الحروب حتى أنهم لما انتصروا أيضاً كانوا يحبون أن يموتوا والأسلحة بأيديهم. قال الدوق دي نور تومبرلاند وهو عَلَى فراش المرض: أي عار علي يلحقني إذا أنا لم أمت في الحروب التي خضت غمراتها وأن أموت كما يموت البقر ضعوا لي درعي وسيفي وخوذتي وترسي وفأسي المذهبة حتى يموت المحارب العظيم وهو في حالة القتال.
ولقد كانوا يقتتلون سكسونيهم مع سكسونيهم والأقرباء بعضهم مع بعض. رأينا توستي أخا آرولد في القرن الحادي عشر مغاطباً من نيل أخيه الحظوة من الملك ذاهباً إلى أحد القصور الملوكية حيث كان أدب آرولد مأدبة ويقتل خدمة آرولد ويقطع رؤوسهم ويبتر أعضاؤهم ويجعلها في أواني الجعة وشراب العسل ويبعث إلى الملك يقول له: إذا قصدت قصرك تجد فيه زاداً طيباً من اللحم المملح. وبذلك يعد رجال تلك الأحقاب شجعاناً(79/11)
مخلصين صادقين لآبائهم وساداتهم في لعب السيوف أشداء عَلَى الأعداء والأولياء وقد ورد في القصيدة السكسونية الوحيدة التي أبقتها الأيام أن بيوفولف البطل مات دفاعاً عن شعبه بإنقاذه من تنين كان يحرس كنزاً. وإليك منشأ الأمة الإنكليزية: مقاتلون متوحشون سفاكون ولكنهم أهل مضاء وإخلاص.
النورمانديون - كان السكاندينافيون (الدانيمركيون والنرويجيون السويديون) في القرن التاسع كما كان الجرمانيون في القرن الرابع أهل غارة متوحشين وثنيين تقضي عادتهم أن يرث ولد واحد من أبيه بيته وماله أما سائر الأولاد فينضمون عصابات بعضهم إلى بعض ليذهبوا في طلب الثروة. فالمقاتل البربري إذا لم يخلف له أهله ما يعيش به يرى من دواعي شرفه أن ينال الغنى بحد الحسام ويعتبر العمل مخلاً بشرفه فإذا لم يكن مالكاً يسرق وينهب وإذا جاور السكاندينافيون البحر أصبحوا قرصاناً فتبحر العصابة منهم في قوارب خفيفة ذات قلوعي بقيادة زعيم تختاره من بين ملوك البحار الذين طالما فاخروا بأنهم لم يناموا تحت سقف ولم يفرغوا قرن الجعة بالقرب من الدور المأهولة. ذهب تلك العصابات ذات اليمين وذات الشمال فمنها من ضربت نحو الشمال تفتح أيسلاندا وغيروانلاندا واعتصمت أخرى في القلاع تنهب السفن وتستاق القطعان هكذا كان شأن رؤساء القرصان المشهورين في جمسبورغ الذين أرغوا البحر البلطيكي وأزبدوه خلال قرنين وقد آثر أكثر تلك العصابات أن يذهبوا إلى البلاد التي حازت شطراً من المدنية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا فنزلوا فجأة عَلَى الشواطئ وساروا في الأنهار ينهبون الدور ويهاجمون المدن إذا كانت حصينة ويشتدون في بمعاملة الكهنة لكراهة فغيهم بصفتهم وثنيين فكانوا يقولون لهم إنا أقمنا لهم قداساً من الرماح. وكانوا يدعون فقي إنكلترا الدانيمركيين وفي غيرها رجال الشمال (النورمانديين) وقد قبلت العصابة الرئيسة فيهم أن تستوطن فرنسا وكانت الولاية التي اصبحت نورمانديا خاملة لم تشتهر قط وبعد قرن ونصف عرفت في جميع أوربا فاقتبس النورمانديون في الحال الدين المسيحي واللغة الفرنسوية (ولم يتكلم باللغة الدانيمركية إلا في بايو) وتألفوا مجتمعاً وكان هذا المجتمع المؤلف من قرصان عَلَى نظام وترتيب أكثر من غيره. فكان الدوق مطاع الكلمة فيهم يعدل بين قومه كلهم وإقليم نورمانديا الوحيد في أقاليم فرنسا الذي حظرت فيه الحرب الخاصة وكان العدل منظماً عاماً(79/12)
للجميع. ولقد رويت من هذا القبيل قصة خاتم الذهب الذي ظل معلقاً عَلَى شجرة بدون أن يجرأ إنسان أن يسرقه ومع هذا فقد احتفظ النورمانديون عَلَى كر الدهور بأجسامهم الضخمة الشقراء وبالمضاء والإقدام عَلَى العمل الذي انتقل إليهم من أجدادهم المتشردين.
الفتح النورماندي - زعم غيليوم دوق نورمانديا أن ورث من تاج إنكلترا فأعطاه البابا الحق في ذلك وبعث إليه بعلم مقدس فجمع جيشاً قوياً نحو ستين ألف متشرد ليسترد مملكته وكلهم من الفرنسيس ووعدهم بأن يمنحهم أراضي وبعد أن كتبت لهم الغلبة أهمل أمر جنده وتركهم يعولون أنفسهم ويسكنون بيوت السكسونيين اللذين حاربوه ويحلون في أملاكهم ويأخذون بالقوة أياماهم أو وراثاتهم وهكذا يصبحون أرباب أكلاك وشرف (وهذا ما دعي بفتح إنكلترا) وأصبح بعد ذلك معظم الأشراف والأحبار فرنسيساص لم يقتبسوا أخلاق السكسونيين إذ كانوا يحتقرونهم بل ظلوا يتكلون بالإفرنسية ويعيشون عيش فرسان الفرنسيس فيبعثون بأولادهم إلى نورمانديا ليعلموهم اللغة وقضى بأن لا يتكلم في المدارس إلا باللغة الإفرنسية أو اللاتينية وبقيت اللغة الإفرنسية مدة ثلاثة قرون لسان الملك والبلاط والأشراف والقضاة وظلت الحال عَلَى هذا المنوال حتى أواخر القرن الرابع عشر والقوم يؤلفون قصائد إفرنسية وقد اعتذر شاعر يقصد القصيد باللغة الفرنسوية عما ارتكب من غلطات اللسان بقوله عفواً عما بدر عني فإني إنكليزي.
الملوكية - حكم الملوك الجدد مملكة إنكلترا كما حكموا دوقية نورمانديا والناظم والترتيب رائدهم وأخذوا يستنبطون أسرار مملكتهم واختار الملك أناساً من الأشراف (البارونات) يطوفون البلاد طولاً وعرضاً يبحثون عن الأراضي ويسجلون جميع أملاك إنكلترا مبينين لكل واحد كيف تسمى الدار ومن يملكوها وكم كان ثمة من الأراضي والعبيد والعامة والأحرار والحراج والمروج والمراعي والمطاحن مع أثمانها كلها وهكذا ألف كتاب - وبفضل هذا الإحصاء العام استطاع أن يعرف مبلغ قوته ومن هو الشعب الذي يبذل طاعته وذلك من الشروط الضرورية في الحكم عَلَى ما نرى ولم توفق غير نورمانديا وإنكلترا أن يتحققاه في القرون الوسطى ثم ذكر الملك أن كل إنسان حر (لا كبار السادة من أتباعه بل جميع الفرسان) ويقسم أن يذود عن حياض أرضه ويحمي شخصه من اعتداء العدو واستطاع الملك عَلَى هذه الحال أن يجمع في جيشه جميع فرسان إنكلترا.(79/13)
ولقد استخدم الملك في كل كونتيته التي قسمت المملكة بها أقساماً عاملاً وهو الفيكونت واخذ منذ القرن الثاني عشر يبعث بقضاة جوالين وكان لدى الملك مجلس يبيت بالمسائل الكبرى وقضاة يقضون في المسائل التي لها علاقة بالملك (وتسمى هذه المحكمة مقعد الملك) وقضاة للنظر في حساباته ومداخيله (وكان هؤلاء هم قضاة الرقعة. سموا كذلك لأنهم كانوا يجتمعون حول منضدة مغشاة ببساط عَلَى صورة رقعة الشطرنج) وكان المستشارون والقضاة ونواب القواسة (فيكونت) ينصبون ويعزلون من قبل الملك ولهم الحق باسم مواليهم أن يسيطروا عَلَى أعظم السادات وأن يطلبوهم إلى التقاضي وأن يحكموا عليهم. ويحظرون عليهم أن يتحاربوا بينهم كما كان شأن أشراف فرنسا وكل من كان بداهم عدوه في إنكلترا بحجة أنه يريد أخذ حقه بيده يحاكم لأنه نقض سلام الملك ولم يكن في جميع أوربا مملكة حازت مثل هذا النظام ولا ملك أطيع هذه الطاعة.
النبالة الإنكليزية - قسمت إنكلترا إلى محلات كبرى يقوم عَلَى زراعتها العامة والمزارعون وتسمى كل محلة بيتاً أي منزلاً وتتألف منها قرية وكان للسادات الذين يدعون بالفرنسية بارونات وبالإنكليزية لوردات عدة بيوت مجموعة في سمط واحد وملك أعظم سادات إنكلترا من خمسمائة إلى ستمائة محلة ودعوا بقلب (كومس كونت) (وبالإنكليزية آرل) وكانت هذه البيوت منبثة في أنحاء إنكلترا عامة ولم يكن للقومس كما في فرنسا ولاية هو الحاكم المتحكم فيها وحده يشهر حربها وإليه يرجع أمرها وكان قوامسة إنكلترا من الغنى عَلَى جنب عظيم بيد أنهم لم يكونوا ملوكاً كما كان أمثالهم في فرنسا.
ولقد كثر عدد الفرسان بادئ بدء فكانوا في القرن الحادي عشر ستين ألف رجل شاكي السلاح وصاحب الملك ومن العادة أن يملك كل واحد بيتاً وإذا حظر عليهم الملك أن يقاتلوا لم يلبثوا أن نسوا سريعاً المران عَلَى الحروب والذوق فيها وبينا كان الفرسان في فرنسا يحاربون مدفوعين بعامل الهوى والتلذذ كان فرسان إنكلترا منذ القرن الثاني عشر يرون خدمة الجندية وطاعة الملك فيها ضرباً من ضروب السخرة الشاقة ولذلك عت الحاجة أن يحمل الملك أرباب الأملاك أن يتجهزوا بجهاز الفرسان ولما عرض عليهم أن يشتروا منه أنفسهم بدفع بدل مالي عن الخدمة قبل أكثرهم مقترحه والجدل آخذ منهم. وجاء زمن (1278) أصجر فيه الملك أمره إلى نواب قوامسته أن يكرهوا جميع الرجال الذي يتجاوز(79/14)
دخلهم العشرين جنيهاً إنكليزياً عَلَى الدخول في غمار الفرسان. ولقب فارس عَلَى كثرة رغبة الناس فيه في فرنسا كان مزهوداً فيه كل الزهد في إنكلترا فيكتفي هنا أن يظل أشراف الإنكليز من حملة السلاح (سلاحدار) يعيشون في الفلاة متوفرين عَلَى حرث أراضيهم وما من فارق يميزهم عن صغار الأحرار في حين كان في فرنسا لمن أراد أن يكون شريفاً أن يكون من نشل أب شريف أما في إنكلترا فيرون شريفاً كل من كان له دخل كاف ليعيش برفاهية فإن المزارع الذي اغتني يصبح شريفاً. ولم يكن من فرق بين أشراف الحقول في القرن الخامس عشر وبين صغار أرباب الأملاك غير الثروة ولذا لم تصبح النبالة بالإنكليزية طبقة لا يدخلها غير أهلها مناقضة لسائر الطبقات كما في فرنسا.
العهد العظيم - كان الملك في إنكلترا قوياً والأشراف ضعفاء وهو عَلَى يقين بأنه ما من رجل من رعاياه يستطيع أن يقاومه ولذلك يسيء استعمال قوته فيضطر الأشراف أن يمدوه بالمال ويغتصب منهم أراضيهم وغلاتهم وماشيتهم ويسجنهم من دون ما سبب ويعدمهم بلا حكم. ولقد شوهد رجل يقتل لأنه ضرب أيلاً كان في غابة الملك وبقيت طريقة الحكم قرناً ونصفاً عَلَى هذا المنوال وانتهى الأمر بالبارونات أن بلغوا من الضعف مبلغاً لم يستطيعوا معه أن يقاموا منفردين بل اشتركوا ليقاموا تلك القوة يداً واحدة فاغتنموا فرصة كان فيها جان سان تر في حرب مع ملك فرنسا وحاجته ماسة إلى معاضدتهم فهددوه سنة 1215 بأن يتخلوا عنه حتى أكرهوه أن يقسم لهم أيماناً علناً بان يحترم في المستقبل جميع ضروب الحرية أي حقوق الرجال الأحرار في مملكته. وكتبت وعوده في عهد دخل في 63 ماجة ختمه الملك بطابعه وكان هذا هو الصك العظيم المرشد وإليك المادتين الرئيسيتين منه: لا يوضع مال جديد عَلَى جميع المملكة قبل أن يراجع مجلسها العام. لا يوقف رجل حر ولا يحبس ولا ينفى ولا يؤذى بوجه من الوجوه ولا نقبض ولا نأمر بالقبض عَلَى أي شخص إلا بحكم عَلَى الأصول بين أقرانه وبحسب عادة البلاد. وهكذا تعهد الملك (أولاً) أن يكف عن أموال رعاياه ويعف عن أخذ حاجاتهم إلا برضاهم (ثانياً) أن يحترم أشخاصهم بحيث لا يجازيهم إلا بعد صدور حكم عَلَى الأصول.
عَلَى أن هذا التعهد لم يخرج عن حد الوعد وما من قوة تحظر عَلَى الملك أن ينقضها وكثيراً ما نقضه إلا أن الملك عند جلوسه يجدد هذا الوعد (وقد جدد الصك العظيم 33(79/15)
مرة). وهذا القسم ينبه الملك الجديد عَلَى الأقل إلى واجبه وهذه الوعود مسجلة في عهد علني يعرفها كل إنكليزي يذكر للرعايا فيه أن لهم الحق أن لا يؤخذ مالهم ولا يوقفوا بحسب رغائب الملك. ومن هذين الفكرين نشا ترتيبان ابقيا عليهم حريتهم وهما مجلس النواب ومجلس المحكمين. فالعهد العظيم يقضي بأن للملك حقوقاً كما أن للأمة حقوقاً فهو أساس حريات إنكلترا.
أصل نجلس المحكمين - للملك في إنكلترا الحق فقط في أن يقضي في الجنايات ويحكم بالإعدام فهو يعين القضاة ويبعث بهم يطوفون مملكته. فلي كل سنة وفي كل بلد في أوقات معينة يأتي قاض من قبل الملك يؤلف باسمه مجلساً عاماً يحضره الأحرار والأشراف وسادات الكورة ويسمونه مجلس قضاء الجنايات (وقد حفظ هذا الاسم وانتقل إلى اللغة الإفرنسية) فينظر القاضي في الدعاوى والجنايات التي ارتكبت في المملكة ويستعين باثني عشر رجلاً شريفاً ويحلفهم أن يقولوا بعدل ما يعرفونه ويبدأ بالتحقيق لكشف الغطاء عن الحقيقة ويسألهم أي المدعيين محق في دعواه إذا كان المدعى عليه مجرماًَ أو بريئاً يحكم في مسائل الجنايات بموجب أجوبتهم بين الخصمين وكان يسمى هذا الضرب من الحكم التحقيق البلدي والاثنا عشر رجلاً منة الفرسان الذي أخذت آراءهم يسمون المحلفين أو المحكمين وهكذا نشأ مجلس المحلفين (ولم ينظر أولاً إلا في القضايا المتعلقة بالأملاك ومنذ القرن الثالث عشر أصبح ينظر في المسائل الجنائية) وقد اخترع القضاة هذا المجلس لتسهيل عملهم فكان أعظم ضمان من ظلم القضاة لأنه يطلق الحكم عَلَى المتهم للوطنيين. وما مجلس المحلفين إلا من الأوضاع في إنكلترا وعنها أخذ جميع أمم أوربا تقريباً.
مجلس نواب إنكلترا - كانت الأموال التي تجبى للملك من أملاكه والغرامات التي تتقاضى باسمه تكفي لنفقة داره والإدرار عَلَى رجاله وإذا نشبت الحرب لا تعود تكفيه بتاتاً فيكتب إلى جميع أرباب الشأن من أمته ويستدعي الأساقفة والبارونات برسائل خاصة فيجتمعون لديه ويقررون بينهم الضريبة التي يرخص للملك أن يجبيها وكانت هذه المشورة مقصورة زمناً عَلَى كبار الرجال (وهم الذين أخذوا من (جان) العهد العظيم) وفي أواخر القرن الثالث عشر سمح لكل مدينة وقصبة أن تبعث برجلين من أبنائها. ولكل مجلس مديرية أن يرسل فارسين يختارهما ولم يجيء هؤلاء النواب أولاً إلا لاستماع ما يقرره كبار السادات ليحملوا(79/16)
خبره إلى بلادهم ثم قبلوا في الدخول بالمناقشة. وقد سمي هذا المجلس الكبير بالبرلمان (مجلس الشورى) ولا يستدعيه الملك إلا ليسأله تقريراً في جباية مال إلا أن العادة جرت بأن البرلمان قبل أن يمنح الملك ما يريد يضطره إلى سماع شكاويه وكثيراً ما يسأله إصلاح إدارته أو عزل عماله. وهذه طريقة في الحكم بالواسطة وحاول البرلمان مرات أن يجعل عَلَى الملك رقباء إلا أن هذا تخلص منهم ولم تثبت العادة في ذلك إلا أن القوم اعتادوا الاستئناس بفكر أن الواجب عَلَى الملك كل سنة أن يجمع المجلس.
مضى زمن طويل والسادات الأساقفة يدعون وحدهم فقط ولذا كانوا يجلسون عَلَى انفراد ويتألف منهم مجلس اللوردات (النبلاء) وفرسان الكونتيان سكان المدن الذين تبعث بهم البلاد يؤلفون مجلساً جديداً هو مجلس العموم (النواب). وإلى هذا التنظيم ترجع شؤون إنكلترا فبدلاً من أن يتخذ صغار الأشراف مع كبارهم لمقاومة الطبقة الوسطى (كما حدث في فرنسا) قد اتحدوا عَلَى العكس معها وظل اللودرة قرنين يقودون مجلس النواب وفي خلال حرب الوردتين أفنى بعضهم بعضاً بحيث لم أنه يبق سنة 1486 غداة تولت أسرة تودور زمام ملك إنكلترا سوى 25 لورداً وأحدث الملك لوردات من جديد إلا أن الجدد منهم لم يحوزوا ما كان القدماء من الاعتبار. وأخذ مجلس النواب في القرن السادس عشر يدير شؤونه بنفسه ويستمتع بماله من السلطة. هكذا نشأ مجلس نواب إنكلترا الذي تكفل وحده بجعل الإنكليز بمأمن من الدفاع عن حقوقهم من الاستبداد الملكي فالبرلمان هو من الأوضاع المبتكرة خاص بإنكلترا حدا جميع الأمم الممدنة أن يروا من الشرف حذا مثاله.
الأمة الإنكليزية - امتزج السكسونيون والنورمانديون كل الامتزاج في القرن الخامس عشر فتألفت منهما الأمة الإنكليزية بعد أن كانا شعبين متباينين وأصبحت لغاتهم لغة واحدة جديدة وهي اللغة الإنكليزية والتي أصلها اللغة السكسونية القديمة وهي لغة الشعب وتشبه لغة الأقاليم التي لا يزال ألمان الشمال يتكلمون بها إلى اليوم. أما اللغة الفرنسية لغة الشرفاء فإنها لم تأت إلا بألفاظ علمية ومصطلحات في الحقوق السياسية والفلسفة (بيد أنها تهزعت في النطق بحيث لا تكاد تعرف) فامتزجت اللغتان حتى بات من المتعذر تركيب جملة إنكليزية بدون الرجوع إلى الكلمات السكسونية.
وما كانت الأمة الإنكليزية في أواخر القرن الخامس عشر أمة رجال البحر والتجارة كما(79/17)
هي اليوم وما من شيء كان يدل عَلَى ما يكون مصيرها فقد كانت المدن صغيرة حقيرة إلا أربع منها فقط يزيد سكانها عَلَى عشرة آلاف نسمة حتى أن صوف الغنم الإنكليزي لم يكن ينسج في إنكلترا بل يبيعه الإنكليز من حاكه فلا ندر عَلَى نحو ما تقدم أوستراليا اليوم صوفاً للمعامل الإنكليزية وما كان لهم بعد أسطول ولا ملاحون وهم عبارة عن فلاحين ومربي حيوانات ومع هذا فقد كان يلاحظ الناظر فيهم صفات تكون أمة عظمى ألا وهي النشاط وفكر الاستقلال وبطل القصائد الإنكليزية روبين هود زعيم اللصوص عاش في الغابة يقتل حراسها وبطل الشحنة ومع هذا كان يجود عَلَى فقراء الأكارين وقد صادف ذات يوم عَلَى جسر جان الصغير الذي لم يرض أن يذل له فأخذا يقتتلان بالعصي حتى رنت عظامهما فسقط روبين في الماء وهكذا أصبحا أحباباً وأخذ الإنكليز يحبون هذه المقاتلات التي يخرج منها المتقاتلان وقد كسرت ثناياهما وانثلمت خاصرتاهما وإليك المديح الوحيد الذي مدح به أمته أحد أشراف الإنكليز السير جون فورتسكو: كثيراً ما شوهد في إنكلترا ثلاثة أو أربعة من اللصوص ينقضون عَلَى سبعة أو ثمانية من أبناء الحشمة ويقتلونهم بأجمعهم أما في فرنسا فلم يشاهد سوى سبعة أو ثمانية من اللصوص ليس لهم من الجرأة إلا ما يستطيعون معه ثلاثة أو أربعة من أهل العرض ولذا كان المصلوبون من الرجال في إنكلترا خلال سنة بدعوى اللصوصية والقتل أكثر مما كان في فرنسا محكوم عليهم منهم بمثل هذه الجرائم مدة سبع سنين. ولذا احتاج هؤلاء الإنكليز حاجة لا تغالب إلى الاستقلال. قال هذا المؤلف بعينه: إن الملك لا يستطيع أن يحكم عَلَى هذه الشعوب بغير القوانين التي أقروا هم عليها ولذلك لا يستطيع أن يجني منهم ضرائب بدون رضاهم. ثم قابل بين رفاهية الفلاح الإنكليزي وشقاء الفلاح الفرنسوي فقال أن كل ساكن في هذه المملكة يتمتع بالثمرات التي تأتيه به أرضها وماشيته يستعملها كما يشاء وما من أحد يحول دونه ودون الاستمتاع بها اغتصاباً ولا يطلب قط إلى التقاضي إلا أمام القضاة العاديين وبحسب قانون البلاد ولذا اغتنى أهل هذه الديار فملكوا الذهب والفضة وجميع الحاجيات فتراهم لا يشربون ماء بتة اللهم إلا أن يكون ذلك عَلَى سبيل التوبة ويطعمون لحوماً وأسماكاً بكثرة وأقمشتهم من جيد الصوف قهم أغنياء بأثاثات بيوتهم وبأدوات الزراعة وفي كل ما من شأنه أن يجعل الحياة وديعة.(79/18)
مدن القرون الوسطى
الفتح الألماني - تخلت الشعوب الجرمانية بهجرتها إلى الغرب لتدخل إلى الإمبراطورية الرومانية عن بلاد الشرق لشعوب من عنصر آخر وهم السلافيون (الصقالبة) حتى لقد غدت جميع البلاد الواقع شرقي الألب ملكاً لقبائل من السلافيين وقد صادف القديس بونسياس حتى عَلَى شواطئ الفوادا أناساً من السلافيين هزؤا منه وسخروا وبقي ما وراء ذلك من مستنقعات شواطئ بحر البلطيق شعوباً قديمة (كالبروسيين والليتوانيين والفنلنديين) وهو الشعوب وثنية محاربة ولكنها رديئة السلاح منقسمة إلى قبائل لا قبل لها بالمقامة فشرع الألمان في تنصيرهم وإخضاعهم وأنشأ ملكوك جرمانيا بلاداً عَلَى التخوم وأطلقوا لقومها حرية الحكم كما يشاؤون ومن هذه البلاد نشأت الثلاث إمارات الألمانية الرئيسية وهي إمارة براندبورغ مملكة بروسيا وإمارة ميسني وسط مملكة الساكس والإمارة الشرقية في جنوب مملكة النمسا وأسسوا أيضاً أسقفيات بعثت من قبلها المرسلين.
أخذ التنصر يجري ببطء (من القرن العاشر إلى الرابع عشر) بطرق مختلفة فدان بالمسيحية أمراء الصقالبة في معظم البلاد عَلَى أيدي نسائهم اللاتي تنصرن وحطموا الأصنام وأكرهوا رعاياهم عَلَى قبول الدين المسيحي وكان من يتناول اللحم في الصوم الكبير من أهل بولونيا تقلع أسنانه عقاباً له. وبقى السكان في تلك البلاد صقالبة. ونال زعيمهم الوطني لقب دون أو ملك ويعترف أنه من عمال الإمبراطور ولم تكن معظم هذه الأمم عَلَى شيء من التعصب ولما جاء برنارد الإسباني إلى بومرانيا لينال الشهادة أخذ في تحطيم الأصنام المقدسة فاكتفى الوثنيون بضربه وإذ قد ظل عَلَى الدعوة الدينية اركبوه عَلَى قارب في نهر الأودر قائلين إذا كنت كثير الرغبة فيما أنت آخذ نفسك بسبيله فاذهب لبث دعوتك بين الأسماك والطيور.
وعلى العكس تمرد بعض الشعوب في الشمال فإن الأوبتريين ذبحوا ملكاً يريد أن ينصرهم (1066) وبعد ذلك قام الليفونيون وكان أتاهم الفرسان الألمان وعمدوهم مكرهين يسرعون في أثر الجيش يلقون بأنفسهم في نهر الدونا ليتسلوا من العماد وعلى أولئك أعلن الألمان حرباً أبادوهم فيها وقد فتح قوامسة الرهبنة التوتينية بلاد بروسيا وفرسان حملة السيوف ليفونيا وليستونيا فكانوا يحرقون القرى ويذبحون الرجال ويعودون بالنساء والأولاد وقد(79/19)
كثر بيع الأسرى السلافيين في بلاد ألمانيا كلها حتى أصبحت كلمة سلافي في الإفرنسية والألمانية مرادفة لكلمة عبد وبقيت كذلك وقد باد الوانديون (ولم يبق منهم إلا بقايا لجأوا إلى مستنقعات سبرى وعاد البروسيون والليفونيون رعايا هكذا فتح العنصر الألماني ثلاث ولايات جديدة براندبورغ وبروسيا وليفونيا).
الاستعمار الألماني - كانت السهول العظيمة من نهري الأودر والفيستول منخفضة رطبة ومغشاة بغابات وسط البطائح فولاية براندبورغ (رملة ألمانيا) لم تكن غير صحراء كئيبة من الرمل ولا يزال الرمل إلى اليوم عندما يهب الريح يسد أبواب البيوت وعند شيخ البلد في أرض فلامن مفاتيح عين البلد يوزع كل صباح عَلَى السكان ما يحتاجون إليه من الماء فاستدعى أمراء الألمان والسلافيون من ألمانيا فلاحين وأرباب صنائع يأتون إن أحبوا لزرع هذه الرمال واستثمار الغابات وتأسيس المدن وأنشأ الألمان يهاجرون عن رضى خلال قرنين وأتت ألوف من السر ألمانية تتوطن في القفار الشاسعة من الشرق كما يذهب الناس في أيامنا لاستيطان صحارى أميركا الشاسعة. فكان الأمير يبيع من أحد الملتزمين قطعة من غابة أو طريدة من الأرض تكفي لإنشاء قرية فيجلب الملتزم فلاحين ويوزع عليهم الأراضي حصصاً حافظاً لنفسه مالاً ويجبيه في أوقات معينة فيكون حاكمهم الوارث إلا أن الفلاحين يبقون أحراراً لأنهم هم الذين أحيوا موات الأرض ويحتفظون بعاداتهم الألمانية. وإذا أريد تأسيس مدينة يقيم لها الملتزم خنادق وحوائط في جهاتها الأربع ويؤسس فيها سوقاً يحفظ لنفسه الحق أن يأخذ منهم رسوماً. جرت هذه الأعمال عَلَى مهل تحت طي الخفاء ولقد شغل مؤرخو تلك الأيام بذكر حروب الأباطرة فلم يفكروا بأن يلموا في الصورة التي جرت في تأسيس ألوف من القرى ومئات من المدن في براندبورغ وبومرانيا وبروسيا وسيلزيا وبوهيميا. ونشأت في الجهة الأخرى من نهر الألب ألمانيا حديثة ألمانيا العاملين والجنود ألمانيا النمساويين والبروسيين الذين آل إليهم فيما بعد أمر جميع أمم ألمانيا القديمة.
المدن الحرة - أسست المدن الرئيسية في ألمانيا حول قصر الملك أو حول بيت أسقف أو أمير فالملك أو الأسقف سيد المدينة والتجار مستأجرون لأن أرض المدينة ملكه وأرباب الصناعات عبيده يعملون له ولرجاله وفرسانه وخدامه يحكمون عَلَى الصناع والسوقة. وكلما نما الشعب يتخلى الملك عن النظر في شؤون السكان حتى انتهت الحال أن لا يتناول(79/20)
سوى رسوم مقررة من الصناع أخلاف العبيد فلم يعد في المدن سوى رجال أحرار فالمدن التي زاد نجاحها في القرن الثاني عشر هي من أملاك الأساقفة جاء في المثل الألماني ما أحلى عيش المرء في ظل العكاز فيجمع الأسقف خدامه وأهم التجار في مجلسه ليحكموا مدينته ولم يكن هذا المجلس سوى مجلس للأسقف. ولما قوى نفوذ المدن في القرن الثالث عشر وطردت أساقفتها أصبح ذاك المجلس مجلس المدينة وغدت له سلطة أمير فكان يقضي ويشهر الحرب ويخاطب الإمبراطور مباشرة وتسمى المدينة المدينةُ الحرة لأنها لم تخضع لسيد.
الصنائع - قسموا الصناع إلى طوائف منذ كانوا عبيد الأسقف يعملون له ولرجاله وكل طائفة تؤلف من صناع يحترفون حرفة واحدة ويخضعون لأحد خدام الأسقف وتسمى مهنة (أي خدمة) وزعيمها وكيل المدير أو شيخ الحرفة وذلك مثل مهنة الحدادين ومهنة السروجيين ومهنة الخياطين وغيرها ومن هنا اشتق اسم صنعة بالمعنى الذي نطلقه عليها وأصبح أرباب الصناعات أحراراً بالتدريج فبدلاً من أن يصنعوا لسادتهم وهم يعولونهم يعملون لحسابهم ويبيعون ما يعملون في السوق ظلوا منظمين طوائف بحسب الحرف ويتألف من كل حرفة جماعة ولهم صندوقهم العام وعلمهم الذين يحملونه في الحفلات ويرفعونه إذا خرجت المدينة لقتال ولهم حاميهم المقدس (ويسمون في فرنسا شيوخ الحرف) ولهم نظاماتهم بحسب عادة القرون الوسطى كانت عادات لا حاجة لتدوينها. وفي فرنسا لم تدون عادة صناعات باريز إلا في أواسط القرن الثالث عشر وهذا القانون يبين الشروط التي يقبل بها المرء في هذه الصناعة. فيبدأ الولد بأن يكون خريجاً عَلَى معلم في الصنعة فيعلمه المعلم صناعته ويطعمه ويؤويه فالخريج يعمل لحسابه ويخضع لها وللمعلم الحق بأن يضربه وبعد بضع سنين يصبح الخريج رفيقاً ولا يزال يعمل باسن معلمه وله أن يغادر معلمه ويذهب إلى غيره فالرفقة هم أناس متنقلون وكثير منهم يتنقلون من مدينة إلى أخرى يعرضون عَلَى أرباب الصناعات أن يشتغلوا معهم وبقيت هذه العادة جارية في فرنسا في تنقل صاحب الصنعة في أطراف البلاد. ومن كانوا عَلَى شيء من الغنى يفتحون حوانيت ويصبحون معلمين ولهؤلاء فقط الحق في أن يعطوا آرائهم في مجلس أهل الصناعة وتبين القوانين كيف يجب العمل ويحظ عَلَى العامل أن يشتغل في غير دكانه وبذلك يتيسر(79/21)
للجمهور أن يراقبه. ويحظ عليه أن يعمل تحت نور المصباح حتى لا يعمل عملاً رديئاً ويمنع من استعمال مواد أخرى أو عمل أشياء تخالف القدر الذي أمر به القانون فالصياغ مثلاً لا يطلون الذهب بالفضة وصناع التماثيل لا يستعملون إلا أجناساً مخصوصة من الخشب وإذا كان ثوب الجوخ أكثر أو أقل عرضاً من مقياس المقرر يصادر ويغرم صانعه ويحتفظ أهل الصنعة بشرفهم وشرفهم أن يبيعوا إلا بضائع حسنة السرد والتقدير ولذا كان يراقب بعضهم بعضاً أشد المراقبة ثم أنهم يعضدون بعضهم بعضاً أمام الغرباء وأمام سائر أرباب الحرف وليس لأحد في المدينة الحق أن يصنع سلعة أو يبيعها إلا معلمو الصناعة فيغرم كل رجل يفتح دكان خياط قبل أن يقبل في صناعة الخياطين وتغلف دكانه فحق عمل شيء من الصناعة وبيعها ملك خاص لأهل تلك الصناعة فالخياطون يمنعون باعة الخلق (الأسمال) من بيع ثياب جديدة لأن لهم وحدهم الحق في عمل ذلك وما عمل باعة الخلق إلا أن يبيعوا ألبسة عتيقة وصانعوا اللحم يتقاضون عَلَى السروجيين ليمنعوهم من عمل اللحم وذلك لأن صناعات القرون الوسطى كانت تحاذر من المنافسة كثيراً.
وأهم أرباب الحرف هم الخبازون والقصابون والحاكة والصباغون والبناؤون والدباغون وصانعوا الأسلحة والنجارون وعدد الصناعات متوقف عَلَى مكانة المدينة وليس في كثير من المدن الألمانية سوى 18 أو 20 صناعة وكان في باريز زهاء مئة حرفة وذلك لأن عدة صناعات مختلفة يمكن جمعها في صناعة واحدة أو أنه يتيسر تجزئة الصناعة الواحدة إلى عدة حرف (في باريز مثلاً ثلاث حرف لصناعة السبحات).(79/22)
الخزانة الزكية
أو مجموعة كتب أحمد زكي باشا المصري
ليس في بلد الإسلام بلدة كمصر ضاهتها بنهضتها وضارعتها برجالها. ولا أرض كتب لها أن اقتبست من مدنية الغرب القدر الكافي الذي قام منذ نحو قرن بفضل عصابة فاضلة تشبعت بالحضارة الحديثة والحضارة القديمة فأتت من جلائل الأعمال ما أعجب به البعيد والقريب.
واسم أحمد زكي باشا أمين سر الوزارة المصرية (سكرتير مجلس النظارة) وأحد نوابغ مصر في هذا العصر يجب أن يثبت في القائمة الأولى من أسماء أولئك العاملين الأخيار.
ربما تقول بعض الحاسدين (وهل خلا يوم ذو نعمة من حاسد جاحد) ـ: إن عين الحب رمداء، فأنت يا هذا تنوه بأصدقائك كثيراً في حين ينزلهم المصنفون منازلهم، ويزنونهم بمعيار نراك لا تحسن استعماله. فلا تستهويهم المحبة في نقد رجالهم وتقدير أعمالهم وجوابنا لمن يقول هذا ويدعي أن زكي باشا يعرف فقط كيف يظهر لقومه مسائل يحسنها: إن من حفظ حجة عَلَى من يحفظ، ونحن قد نظرنا في أكثر أعماله العلمية منذ زهاء اثنتي عشرة سنة وأطلنا التأمل في كتبه تأليفاً كانت أو ترجمة وفي مقالاته ومحاضراته وحكمنا العقل ونبذنا الهوى ثم انقلبنا ونحن عَلَى مثل اليقين بأن أمثاله قلائل في مصر والشرق، وأنه عامل أمين في خدمة أمته، ولغته جدير أن يقرن في العلم والعمل مع نظرائه من أساتذة الغرب.
أمثال صديقنا هذا وهم لا جرم صفوة أجيال أتت عَلَى مصر وهي تنهض حتى وصلت بفضل حكومتها - لا التي تناهض أبناءها الراشدين بل تأخذ بأيديهم - إلى هذه الدرجة من الرقي ويمتاز عَلَى كثير من الخاصة بمضائه ونشاطه. عرفه بذلك قومه وهو يافع فشاب، وهو اليوم كذلك في سن الكهولة. وقد وصل بجده وعصاميته إلى المناصب العالية، فلم تشغله الزخارف والبهارج عن السير بما أخذ النفس به من التعلم والتعليم منذ وعى ورشد. وأكبر دليل نقدمه عَلَى إثبات دعوانا هذه خزانة كتبه التي جمعت فأوعت من نفائس القدماء والمحدثين والشرقيين والغربيين ولا عجب فاختيار المرء شاهد عقله.
قد عرفناك باختيارك إن كا ... ن دليلاً عَلَى اللبيب اختياره(79/23)
بدأ زكي باشا بجرثومة مكتبته وهو تلميذ بمدرسة الحقوق الخديوية سنة 1883 فكانت النقود التي كان يعطيه إياها أخوه محمود بك رشاد رئيس المحكمة الابتدائية الأهلية بالقاهرة سابقاً يشتري بها كتباً إفرنجية مما يستطيع التلميذ أن يقتصده من نفقته أما الكتب الثمينة فكان أخوه يشتريها له فيضم إليها الكتب التي كان أخذها من المدارس وجوائز ومن الأساتذة الفاحصين عَلَى سبيل التشجيع ومن ذلك تولد فيه الغرام بالكتب كما قال لنا عن نفسه.
فمكتبته والحالة هذه جمعت انتخاباً واختباراً. وما برح يضم إليه من الكتب العربية والإفرنجية التي يمكن أن تفيد الإنسان في مباحث عمومية ترجع إلى ارتقاء الشرق ولما قرأ التواريخ وتخيل المجد الكبير الذي أثله العرب في مدنيتهم من غير أن يقف عَلَى تفاصيل ذلك حدثته نفسه بأن يجعل خزانة كتبه مرجعاً لمن يريد إرجاع المجد إلى الشرق. ولذلك كان يقتني كل كتاب كان يصل إليه أو يقع تحت طاقته حتى يكون منها مجموعة ابتدائية فكانت أكبر مساعد للاستمرار عَلَى تكثيرها.
ولما دخل صاحب هذه الخزانة في خدمة الحكومة أخذ يخصص نصف راتبه الشهري لمشترى الكتب والنصف الثاني لسائر حاجياته وكثيراً ما كان يزيد النصف المخصص لابتياع الكتب عَلَى نصف الضروريات وما برحت أكثر ديونه إلى هذا العهد إلى الوراقين والطباعين وبائعي الكتب الجديدة والعتيقة في أوربا ومصر. ولما سافر إلى أوربا أول مرة سنة 1892 رجع ومعه غنيمة كبرى من الكتب وكلها إفرنجية مما يلزم الشرق وبعد ذلك اتسعت أمانيه وأصيح همه أن يكون لخزانته مزية حتى غدت الآن تستحق أن تكون مرآة يرى فيها الطالب معارف الشرق وعلومه سواء كانت من نفثات الشرقيين العرب مسلمين أو غير مسلمين أو قرائح الإفرنج. وأكثر كتب الإفرنج عنده بالإفرسية ومنها ما كتب باللاتينية والألمانية والإنكليزية والإيطالية. وهو يحس الفرنسية إحسانه بالعربية وله إلمام بالإيطالية والإنكليزية والإسبانية يستعين به في معرفة ما قد يحتاج إليه أثناء مباحثه. ولطالما سمع الخطبة العلمية في الجمعية الجغرافية الخديوية التي هو وكيلها باللغة الفرنسية فنقلها ارتجالاً إلى العربية وبالعكس من العربية إلى الفرنسية ولطالما فعل ذلك في مؤتمرات المستشرقين في أوربا وهو ينوب عن الحكومة المصرية فيها. وهذا من جملة(79/24)
الأسباب التي كثرت بها صلاته مع علماء المشرقيات في الغرب حتى لا يكاد إمام من أئمتهم إلا ذاكره في الموضوع الذي يغلب عليه واستفاد منه.
ومازال صاحب هذه الخزانة يسعى وراء غايته كلما ذب إلى أوربا في مهمة علمية فيعود بنفائس الكتب وغرائبها مما يرجع كله إلى إظهار حضارة العرب وفضلهم حتى اجتمعت إليه الآن معظم الكتب العربية التي طبعها علماء الإفرنج المستشرقين منذ القرن الخامس عشر للميلاد إلى يوم الناس هذا. وحصل أيضاً عَلَى مجموعة نادرة تحوي كل التراجم أو المباحث التي خاض غمارها علماء الفرنجة ولاسيما ما يتعلق منها بالعرب والإسلام وقد زار سورية زيارة رسمية عقاب انتشار الدستور العثماني وكان لبناء دمشق حظ وافر من الأخذ من معارفه وانتفع ناشئتا بحديثه وخطبته الرنانة وأعجب الخاصة من القوم ببيانه وتحقيقه العلمي وودوا لو زار سورية كل سنة واحد من أمثاله فتوخى إفادتها وتعليمها.
ذهب إلى الآستانة مرات فوجد المجال فسيحاً فيما هو بصدد من إحياء آثار العرب ووقع عَلَى كنوز في مكاتبها قلما وفق للاطلاع عليها أحداً قبله. وبمعاونة حسين حلمي باشا الصدر الأسبق تيسرت له المطالب وفتحت له الأبواب بعد الحرية العثمانية واشتغل كما يشاء. ولما علم الجناب الخديوي بالأمر عاونه عَلَى ما اخذ النفس به ولا عجب فالحكومات الرشيدة تعرف أن لا رونق لبلادها بدون علم. والعلم في الشرق لم تقم له سوق نافعة إلا في ظل الملوك العاقلين فإن تنشيطه من خصائص الجمعيات والأمراء المفصلين. عَلَى نحو ما كان في العرب ولا يزال إلى عهد قريب. فرأى صديقنا (وذلك مذهبه منذ القديم) أن الناسخ ماسخ لا يعول عليه في نقل الكتب النادرة فاستحسن النقل بالفوتوغراف ليكون لديه الصل برمته. واستحضر من سفرته هذه زهاء مئة كتاب بالتصوير الشمسي وكلها نفائس كان يظن أنها مفقودة. فلما رأت الحكومة المصرية هذه الهمة الفائقة وبحثت في هذا العمل المجيد كان أول مظاهر له الجناب الخديوي ورئيس الوزارة الحالي محمد باشا سعيد وناظر معارف مصر أحمد حشمت باشا فأحبوا أن يكون الشرف كله لمصر لا لمصري واحد، خصوصاً ومصر اليوم هي المكلفة بإحياء مجد العرب ووراثة تراثهم المأمونة عليهم.
فرأى أمام هذه العناية العالة أن يقدم هدية لأمته وأهل بلده فأوقف مكتبته كلها ولا يقل ثمنها عن اثني عشر ألف جنيه بمكاتبها وخزائنها وقماطرها وكراسيها وكل ما يتعلق بها. فأكبر(79/25)
الجناب الخديوي هذه الخدمة فاصدر أمراً بتخصيص قسم مستقل من دار الكتب الخديوية منعزلاً عنها وخاصاً بأحمد زكي باشا يشتغل فيه طوال حياته لنفع أمته وبلاده. والذي حدا الواقف عن هذا العمل منذ الآن أنه خشي أن يأتيه القدر المحتوم فجأة فيبدد كتبه أيدي سياء خصوصاً وقد رأى العبرة بعينه في كتب علي باشا مبارك والأمير محمد إبراهيم والشيخ رضوان العفش وحسين باشا حسني وغيرها من المكاتب المصرية الخاصة التي اشترى بعض نفائسها وضمها إلى خزانته. فأوقف ما يملكه منذ اليوم وأخرجه من داره قال: أخرجت المكتبة من ملكي حتى إذا جاءني أمر ربي ذهبت وليس في النفس حاجة. لأن ثمرة عمري وهي المكتبة موضوعة في كلاءة الأمة والحكومة فلا يعبث بها وارث ولا شبه وارث خصوصاً وأني أعتقد أن من يوقف شيئاً عَلَى الخير يؤجل نفاذه إلى ما بعد موته لا يكون له الحق في طلب الثواب عند الله لأنه تبرع مما آل إلى ورثته. وإني أحب تجديد العمل بالسنة الشريفة. فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال: أن تتصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان (رواه البخاري في صحيحه).
لم يقف الواقف عند هذا الحد بل إنه ما برح في كل يوم وفي كل شهر يشتري كتباً من أوربا ويستحضر الأسفار الثمينة بالفوتوغرافيا نت الآستانة ويضم هذا وذاك إلى مجموعته النفيسة ليكتفي الباحث بما فيها عن غيرها. ومن مميزات مكتبه إنها تضم أمهات الكتب في كل فن وعلم ومطالب لأن جامعها أراد أن يغتني بها عن الرجوع إلى دار الكتب الخديوية. وفيها كتب كثيرة من المطبوعات في مصر والهند والعراق والشام وغيرها مما لا يكاد يوجد في دار الكتب الخديوية. دع الكتب الكثيرة المحفوظة التي حوتها وقلت نظائرها في دار الكتب الكبرى هذا مع حفظ النسبة الاعتراف الصحيح بأن دار الكتب الخديوية بالنسبة لهذه الخزانة أوسع مادة وأغزر قيمة ولكن خزائن الأفراد قد يكون فيها من النوادر والوفاء بالحاجة ما لا يسقط عَلَى مثله في الخزائن العامة. وكيف يكون وجه للمفاخرة بين مجموعة جمعها رجل فرد بوسائله الذاتية وهو لم يرث عن أهله قرشاً واحداً وبين دار كتب هي مجمع ما بقي مما خلفه السلاطين والملوك والأمراء وأهل الثروة والكبراء من أعيان المصريين. قال صديقنا في عظمة دار الكتب الخديوية: وناهيك بمكتبة نفحها إسماعيل(79/26)
بنفحاته، وتولاها توفيق بعناياته، ثم شملها عباس برعاياته. ولا يمكن التنصيص عَلَى تعيين ما عنده من النفائس ولطالما شهد عمال الكتب الخديوية أنفسهم عَلَى ما فيها من الذخائر والأعلاق ويكفي أنك مها درت في ديار مصر وقلبتها من أدناها إلى أقصاها من دور الحكومة الرسمية ومعاهد العلم العمومية حتى لو ذهب إلى الدفتر خانة المصرية لا تجد فيها أثراً لجريدة الوقائع المصرية التي كانت تصدر في أوائل عهدها أيام محمد علي. ولكنك إذا أتيت الخزانة الزكية تجد قسماً عظيماً منها وتقرأ فيها المعجب المطرب مما يدل عَلَى حالة البلاد في تلك الأيام وأنت لو التمسته بالمنكاش في تضاعيف الكتب أو بمسائلة الشيوخ لا تصل إليه بتة هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة.
وتمتاز هذه الخزانة بأنها تجمع الكتاب النفيس بما تقلب عليه من الأدوار والأطوار فتجد منه مخطوطاً بخط اليد أولاً ومطبوعاً ببولاق ثم نسخة مطبوعة منه في الشرق والغرب إن لم تجد ترجمته إلى اللغة الفرنسية في الغالب أو الإنكليزية أو الإسبانية أو اللاتينية أو الإيطالية أو الألمانية. ثم الكتب التي كتبها جهابذة العلماء عَلَى الكتاب أو عَلَى المؤلف. بحيث أن الباحث يتيسر له والحالة هذه أن يستوفي موضوعه بأسهل شيء وأن يكمله بحسب حاجته ومقدار همته.
ومن الكتب المخطوطة النادرة عنده أربعة أجزاء لا بن عساكر وأربعة أجزاء مرآة الزمان لابن الجوزي ونسخة كاملة من تاريخ ابن خلدون عليها خط الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر ونسخة من الجزء الرابع من تاريخ الجبرتي ويظن أنه يحتوي عَلَى فصول كثيرة اضطروا إلى حذفها من النسخة التي طبعت في بولاق لأن فيها ما فيها مما يختص بمحمد علي ولكنه لم يحقق ذلك بطريقة يقينية غير أن ضخامة الجزء تجل الظن أقرب إلى اليقين خصوصاً والصفحة من المخطوط تعادل ثلاث صفحات من المطبوع عَلَى الأقل فتزيد باقل تقدير 153 صفحة م المخطوط وإذا أضيف إليها 40 صفحة من المخطوط أيضاً فيكون المجموع المطبوع في النهاية العظمى ومع التسامح الزائد معادلاً لألف صفحة من المخطوط وربما كان ما بقي بعد ذلك من المخطوط هو عبارة عن مجموع الفصول والجمل والعبارات التي استصوبوا حذفها من الأصل لبعض الاعتبارات وذاك يعادل خمسين صفحة من نسخة بولاق المطبوعة سنة 1297 هـ ومن الغريب أن صاحب(79/27)
النسخة المطبوعة نص عَلَى أن طبعته بلا زيادة ولا تنحسين ولا إجادة ولكنه لم يفصل هذا المجمل ولم يقل لنا أنه لم ينقص منها شيئاً.
وفيها مجموعة الكتب التي صدرت في بولاق وفي مطبعة أركان حرب الجهادية المصرية وفي مدرسة الطب المصرية. ومما يجب إلفات النظر إليه في هذه المناسبة أن محيي مصر محمد علي كان يأمر بأن يذكر في كل كتاب طبع بعهده بأنه هو الثاني أو الثالث أو الرابع من نوعه. يعرف ذلك من النظر في كتب زكي باشا. فعنده قاموس للغة العربية، والطليانية مطبوع في زمن محمد علي وهو ثاني كتاب ظهر في مطبعة بولاق الأميرية أم الكتاب الأول الذي طبع في بولاق لا نعلمه وليس لهذا الكتاب أثر في الخزائن الأخرى ذلك عدا الكتب المطبوعة في ديار الشام والجزيرة (الموصل) وتونس والجزائر ومراكش وجزيرة مالطة وغيرها.
ومن ميزاتها أن فيها مجموعة من المجلة الاسياوية الباريزية منذ أو عدد صدر منها سنة 1822 إلى الآن، ونسخة من لسان العرب عَلَى ورق الكتان،. وفيها أكبر مجموعة في الشرق لما كتب عن اللغة العربية مما هو من أبحاث علماء الشرق وعلماء الإفرنج بحيث أن الحكومة المصرية تجد فيها كل ما يلزمها في وضع معجم للشوارد والأوابد والضوابط والروابط ولمصلحات العلوم والصنائع والفنون عَلَى ضروبها وفروعها حتى تكون تلك الدواوين رجعاً يعود عليه كل عربي في كل موضوع ومصطلح يوم تصح عزيمتها عَلَى إبراز هذا الأثر النفيس الخالد.
ومن الكتب النفيسة كتاب الفتوة في الإسلام وفيه أبواب في مكارم الأخلاق بحسب الطريقة الإسلامية وينتهي بفصل طويل في مجالس الفتوة ونظامها الداخلي وهو أشبه شيء بنظام الماسون واصطلاحاتهم ورموزهم وأعمالهم وقبول الجانب في زمرتهم. وهو فصل مهم ولا يوجد هذا الكتاب في مجموعة أخرى فيما نعلم. ومنها كتاب تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد الذي تكلمنا عليه منذ بضع سنين في مجلة المقتطف وهي النسخة الوحيدة المعروفة من الكتاب.
ومن مميزاتها كتب الطب المطبوعة في أوربا بالعربية والإفرنجية، ومنها ما يتعلق بالفلسفة والعلوم كالكيمياء والطبيعة والفلك والميكانيكا والآلات الروحانية (المفرغة من الهواء)(79/28)
وكتب ابن سينا ومنها القانون وجزء من الشفاء مطبوع في مدينة رومية سنة 1593 بعد اختراع الطبع بمدة قليلة ويتلوه كتاب النجاة في المنطق.
ومن مخطوطات هذه الخزانة قطع من تاريخ الدولة الأموية من أول خلافة الوليد لبن عبد الملك إلى انقراض الدولة العباسية وهي عَلَى رأي صاحب الخزانة أوفي تاريخ معروف لهاتين الدولتين ويظهر أن المؤلف كتب كتابه في مصر عقب انقراض الدولة العباسية مباشرة لأنه يشير إلى شيخه وأستاذه ابن الأنجب الساعي. ومنها تاريخ محمد علي باشا مؤسس الأسرة الخديوية للشيخ خليل بن أحمد الرحبي بعثه عَلَى وضعه الشيخ محمد العروسي يحتوي عَلَى حالة مصر قبل الفرنسيس وحالة أمرائها وأخلاق محمد علي وعلى إخراجه من كان بمصر من المفسدين من المماليك وغيرهم وعلى تعميره لأرض مصر وإحياء قطرها بالزرع وعلى بعض آثاره من البنية والعمارات وعلى ذكر إحياء الدولة الكتبة المسلمين وعلى ما انشأه من السفن وعلى ذكر العساكر الجهادية ووجوب اتخاذهم بالأدلة الشرعية والسؤال عن القوانين الموسومة للعساكر الجهادية هل هي مطابقة بعد للشرع الشريف أم لا.
ومن مخطوطاتها الدر الثمين في تاريخ اليمن في أيام الإمام محمد بن عايط، وكتاب روح الروح فيما حدث بعد المئة التاسعة من الفتن والفتوح في اليمن. وفي الخزانة كتب منقولة بالفوتوغرافيا وهي من الأمهات أو النوادر ولا بأس أن نشير إلى بعض ما حوته خزانتنا الزكية من الكتب المأخوذة بالتصوير الشمسي فمنها تاريخ السودان في أيام محمد علي وكتاب المجاراة والمجازاة للصفدي ونسختان من الهدايا والتحف للخالديين ومختصر ذخيرة ابن بسام للأسعد بن مماتي والتذكار الجامع لمن ملك طرابلس ومن كان بها من الأخيار وهو التاريخ الوحيد في ما نعلم الذي ألف في هذه المملكة عَلَى انفراد. والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (في ثلاثة أجزاء) والبصائر الذخائر له أيضاً (في خمسة أجزاء) ومقدمة ابن خلدون وفيها تصحيح المؤلف وخطه. والشعور بالعور وهو قاموس لأعظم المشاهير الذين أصيبوا بفقد إحدى أعينهم، وصبح الأعشى نسخة كاملة سبع مجلدات فرغ المؤلف منها سنة 814 وهذه النسخة مكتوبة سنة 817 وهي أجود من النسخة المبتورة الموجودة في دار الكتب الخديوية وروايات المبرزين وأعلام المميزين لابن سعيد الأندلسي.(79/29)
ومن المخطوطات رحلة الشيح محمد بشير البرتلي من بلاد توات إلى الحرمين وصف فيها الصحارى والبلاد في القرن الثاني عشر للهجرة وقطعة منقولة بالفوتوغرافيا من كشف البيان عن وصف الحيوان، وهو موسوعات ألفها فتح الله السكندري الذي كان في أيام السلطان الأشرف برسباي وهو عبارة عن ستين جزءاً موجودة بخط المؤلف في المكتبة السليمانية وفي مكتبة طوبقبو بالآستانة. وفي هذه القطعة معلومات وافية غريبة عن المؤلف والمهم ذكر قائمة الكتب التي نقل عنها وهي تربو عَلَى الثلاثة آلاف كتاب. من المخطوطات من عيون التواريخ لابن شاكر جزآن (ومنه عدة أجزاء في المكتبة الظاهرية بدمشق وكتاب ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه وأرجوزة الصفدي في جميع من حكموا دمشق الشام عَلَى عصره ورسالة أخرى في ذات الموضوع عَلَى ترتيب حروف الهجاء وفي المكتبة الأحمدية في حلب) ومن المنقول بالفوتوغرافيا سير أعلام النبلاء للذهب أصله في أربعة عشر جزءاً ضخمة وكان موجوداً في القاهرة وفيها فقد الجزء الأول والثاني ثم انتقلت النسخة كما قال زكي باشا في جملة ما انتقل من كتب مصر إلى القسطنطينية وهناك ضاع الجزء الأخير فبقي من الكتاب ثلاثة عشر جزءاً. ومن المخطوطات كتاب الداني في حروف المعاني لبدر الدين ابن أم القاسم ومنها التحفة الوردية للعلامة عبد القادر البغدادي وهو كتاب مفيد جداً بالأدب وحسبنا في التعريف به نسبته لمؤلفه. وألطف ما فيه ما كتبه المؤلف بخطه في آخره:
قابلها مؤلفها وصحح ما تيسر منها فإن كاتبها لا يكاد يكتب كلمة صحيحة لا بارك الله فيه فإنه أتعبني في تصحيحها من غير نسخة فإن الأصل كان عنده ليكتب منه ستكتب هذه النسخة كان مسافراً نفع الله بها من كتبت لأجله وهو الوزير الجليل والصدر النبيل عبده باشا الشهير بنشانجي باشا لطف الله به في الدارين آمين. قاله بفمه وكتبه بقلمه الفقير إلى الله تعالى محبه عبد القادر البغدادي لطف الله به وبأسلافه وبجميع المسلمين. وتم ذلك في الليلة الرابعة عشرة من شهر رمضان من شهور سنة 1087. وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله عَلَى عبده وخليله محمد وآله وصحبه وسلم إلى يوم الدين. .
وأهم المخطوطات في هذه المكتبة مجموعة كاملة للمؤلفات العربية الخاصة بالكتابات السرية المعروفة الآن بالشفرة وكيفيتها عند العرب واستخراجها. قال صاحب هذه الخزانة(79/30)
وكان العرب تسمي هذا الفن بفن الترجمة ورحل التراجم وحل المترجم والذي يشتغل بذلك المترجم (بكسر الجيم) ولذلك ترى المؤلفين الأقدمين مثل ابن النديم وغيره عندما يتكلمون عن الكتب المنقولة عن اليونانية والفارسية يستعملون في الغالب لفظة النقل ولا يستعملون لفظة المترجم ولا الترجمة إلا نادراً. ولما كان هذا العلم خفياً خاصاً بأسرار الحكومات الإسلامية فكان مضنوناً به ولا يصل الجمهور إليه فلذلك جهل كثير من الناس معنى هذه الكلمة حتى أن كتب اللغة لا تشير إليها بل إن شراح المقامات (عندما أشار الحريري إليها في إحدى مقاماته) جهلوها ولم يفسروها وتمحلوا فيها بل إن صاحب لسان العرب نفسه لم يذكرها كان عارفاً تمام المعرفة بهذا الفن وكان هذا الفن مستعملاً في الدولة الإسلامية من أيام المأمون إلى الحروب الصليبية فأخذ الإفرنج عن المسلمين الذين أخذوا مبادئه عن اليونانيين ثم رده الإفرنج إلينا. ولجهلنا بمعارف أهلنا اخترناه باسمه الجديد عند الإفرنج وهو الشفرة التي نقلها الإفرنج عن كلمة صفر العربية واستعملوها بمعنى الأرقام لأنهم استخدموا الأرقام بدلاً من الحروف في الكتابات السرية ثم غننا جعلنا بدلاً من الشفرة لفظة الجفر لتقارب المخرجين خصوصاً وإن الجفر كان يستعمل في الألغاز بالحوادث المستقبلة فصار من هناك شبه علاقة جعلت العامة تعتقد أن الجفر المستعملة الآن هي مأخوذة من لفظة جفر المستعملة في كتابة الملاحم. والصواب غير ذلك.
ويضيق بنا المجال إذا أردنا الإفاضة أكثر من ذلك في وصف هذه الخزانة. ومما فيها كثير من المصورات (الخرائط) المعمولة في أيام العباسيين وبعدهم وخريطة إفرنجية صنع العلامة فلاماريون الفلكي عن السماء وما فيها من الكواكب عليها أسماء الكواكب بالعربي والفرنساوي وضعها زكي باشا. ومنها مجموعة الفرمانات الصادرة باللغة التركية بخصوص الحكومة المصرية من أول محمد علي إلى آخر إسمعيل. ومجموعة أخرى من المصورات لبلاد الأناضول المشهورة مرسومة مدنها بالألوان تريها ظاهرة مجسمة لواحد من أرباب الفنون المسلمين. وفيها صورة جميلة للسلطان صلاح الدين الأيوبي.
ومن مزايا هذه المكتبة أن صاحبها مثل صديقنا أحمد بك تيمور يعرف ما في خزانته، ليس جماعة للكتب فقط. وعلى بعض شروح وحواش وورق ومفكرات. وتجد فيها الكتب المطبوعة النفيسة أكثر من المخطوطة العربية وأكثر من الإفرنجية والخزانة التيمورية(79/31)
أغنى بمخطوطاتها وأحسن بتنسيقها كما أن الخزانة الزكية أغنى بمطبوعاتها النادرة. ولكل منها مزية تختلف باختلاف محيط صاحبها وأسبابه ومعارفه. ومن غريب الاتفاق أننا كنا هذه المرة أيضاً مع أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري يوم زيارة المكتبة الزكية زيارة طويلة لنستملي من صاحبها البحاثة بعض ما لقفناه عنه آنفاً.
عَلَى أننا نعرف خزانته منذ ثماني سنين وكان حفظه الله رخص لنا بالاختلاف إليها يوم كانت في داره بعابدين أي وقت أحببنا، كما فعل الآن، وإنا نأخذ منها ما نشاء ونرجعه متى نشاء، وقد فعل هذه المرة كذلك ولم يخص بهذه النعمة الأدبية إلا أفراداً معدودين من أصحابه. وإنا لنرجو في الختام أن تطول أيام أحمد زكي باشا لينفع مصر وكل قطر يعلمه ويعلم هذا الشرق العربي بهمته ويزيد في نهوضنا العلمي والأدبي بمشاركته الغربيين ومنافستهم في إحياء آثار سلفنا.(79/32)
اللغة الانتقادية
بقية ما في الجزء الماضي.
أشرعت الباب في الطرق وشرت لكم في الدين شريعة. أشب الله قرنه والرجل شب ولده وشب الغلام يشب شباباً والنار والحرب شبوباً وشباً. اشتهرنا في المكان أقمنا فيه شهراً وشهر سيفه وأمره شهراً وشهرة. أشكيته ألجأته إلى أن يشكون وإذا نزعت عن شكايته وشكوته شكاية. أشجاه أغصه وشجاه حزنه. أشكل عليّ الأمر وشكلت الكتاب والظاهر فيها شكولاً. أسررت الشيء أظهرته، وسررت الملح والأقط نشرته ليجف، أشاف عَلَى كذا وأشفي أرشف، وشفت كذا أشوفه جلوته، أشخص الرامي جاز سهم الهدف، وبفلان اغتابه وشخص لسفره شخوصاً وببصره فتح عينه. أشم مر رفعاً رأسه وشممت الشيء شماً وشميمياً، أشاد بذكره رفعه وبالشيء عرفه، وشاده يشيده شيداً أي جصصه بالشيد وهو الجص، أشعب الرجل مات أو فارق فراقاً لا يرجع وشعب كذا ألم بينه وفرق بينه ومنه سمي المنون شعوباً، أصحت السماء وصحا السكران يصحو صحواً أصعد في الأرض وصعد في الجبل قال أبو زيد ولم يعرفوا أصاف الرجل ولد له بعد ما أسن، وصاف السهم عن الهدف عدل. أضاح الرحل كثر ضياعه وضاع الشيء يضيع ضيعة وضياعاً وضاعه كذا يضوعه حركه ومنه تضوع الطيب تحركت ريحه، اضرب عن الأمر في بيته أقام وضرب في الأرض خرج فيها باغياً للرزق، أضجوا صاحوا وجلبوا وضجوا وجزعوا، أطل عليه أشرف، وطله دمه أبطله أطرق الرجل سكت فلم يتكلم، وأطرق الإبل تبع بعضها بعضاً وطرق طروقاً أتى ليلاً. أطلى الرجل مالت عنقه، وطليت الإبل من الجرب، وهو يطليه أي يرضه، أطاع له المرتع أي اتسع وأمره إطاعة لا غير، وطاع له أن قاد، أطلع النخل خرج طلعه وألعت من فوق الجبل وأطلعت، أطاف به ألم، وطاف حوله يطوف طوفاً وطاف طوفاً، وأطاف يطاف أطيافاً إذا ذهب إلى الغائط وطاف الخيال يطيف طيفاً، أعجمت الكتاب وعجمت النوى عضضته، أعرضت عن الشيء وعرضت العود عَلَى الإناء والسيف عَلَى الإناء والسف عَلَى فخذيه والجند قيل قد فاته العرض كقولك القبض والنقض والحبط والرفض لما يقبض ويرفض وينقض، أعنته من العون وعنته صبته بعين فهو معيون أعرته كذا وعرته صيرته أعور، أعلق الحابل وقع في حبالته(79/33)
الصيد، أعيت في المشي وعييت في المنطق فأنا عيي وعى.
أغلقت الباب ولا تقل مغلوق وأغفيت ولا تقل غفيت أغث الحديد فسد، وغاثت الشاة هزلت. أغل الجارز ترك في الإهاب لحماً وأغل وغل خان وغل صدره غلا وأغل صار له غلة. أغبر في طلب الحاجة جد فيها وأثار الغبر وغبر بقى والغبر بقية اللبن في الضرع وبقية الليل. أفلق في كذا جاء بفلق أي أعجب وفي العلم برع وقلق الهامة والصخرة أي شقها. أفرى الذئب بطن الشاة إذا شقه، وهو يفري ال فرا إذا جاء بالعجب، أفرق من علته وفرق شعره وبين الحق والباطل، أفليت صرت في فلاة وفليت رأسه وشعره وفليت بالسيف، أفتق قرن الشمس أصاب فتقاً فبدا منه وفتق الطيب والناس من عرفات دفعوا أفرضت وجبة فيها الفريضة، أفصح الأعجمي وفصح اللحان. أقفلت الجند من مبعثهم فقفلوا قفلاً وقفولاً وخيل قوافل ضوامر. أقرن له أطاقه، والرمح رفعه، وقرن بعيرين في حبل وبين الحج والعمرة أقلعت عنه الحمى وهو في قلع من حماة، وأقلع عما كانت عليه، وقلعت الشيء من أصله، أقبرته صيرت له قبراً يدفن به، وقبرته دفنته. أقصيته أبعدته وقصوت البعير فهو مقصو، قطعت طرف أذنه وجمل مقصو مقصي ولا ت قل أقصى أقبست الرجل علماً وقبسته نار جثته له فإن طلبها هو قيل أقبسته أقم الفحل الإبل لقحها جميعاً، وقم الكبيت كنسه، أقدته أسقته أعطيته خيلاً يقودها ويسوقها، أقرأت المرأة إذا طهرت وإذا حاضت. أقات عَلَى الشيء اقتدر عليه وقات أهله قوتاً والقوت الاسم وما عنده القيت ليلة وقيتها، أكرى الكرى ظهره وأخذ كروته (كذا) أو كرى نقص وق يل زاد والحديث أطاله والشيء أخره وقال فقيه العرب من سره النسا ولا نسا فليبكر العشا وليباكر الغذاء وليخفف الرداء وليقل غشيان النسا، وكروت بالكرة كرواً ضربت بها أكب عَلَى العمل وكب الإناء وكبع لله لوجهه. الأح من ذلك أشفق وبحقي ذهب به ولاح البرق والسيف يلوحا لوحاً. ألوى به ذهب به والقوم بلغوا الرجل والبقل صار لوياً أي بعضه يابساً وبعضه فيه ندوة ولوى يبده لياً ولواه بالدين مطله لياناً. أمقر الشيء صار مرّاً والمقر الصبر ومقر عنقها دقها. الإمحاق أن يهلك المال كمحاق الهلال وماحق السيف شدة حره وحقت الشيء أمتعت عنه استغنيت وقول الراعي:
خليطين من شعبين شتى تجاوزا ... قديماً وكانا بالتفريق أمتعا(79/34)
قال الصمعي ليس أحد يافرق صاحبه إلا أمتعة الشيء يذكره فكان ما أمتع هذان تفرقا ومتع النهار ارتفع ونبيذ مانع شديد الحمرة وحبل مانع جيد انصلت الرمح نزعت نصله أنصلته ركبت عليه النصل ومنصل الأسنة (رجب) لأنهم كانوا يتنازعون السنة فيه فلا يتحاربون. أنهدت الحوض أي ملأته وحوض نهدان ونهدت للعدو أي نهضت له. انصف فلان صاحبه وقد أعطاه النصفة ونص ف النهار ينصف والأوار ساقه بلغ نصفها والقوم نصافة خدمهم والناصف الخادم أنضيت البعير هزلتها فهو نضو ونضيت السيف وانتضيته سللته ونضا بربه ألقاه والخضاب نصل. أوعيت المتاع في الوعاء ووعيت العلم حفظته أوهمت مائة في الحساب أسقطها ومن صلاتي ركعة أوغل في البلاد تباعد ووغل في القوم دخل فيهم وهم يشربون من غير أن دعي ورجل واغل ووغل وفي الطعام وارش أو نزعه أغراه ووزعه كفه وقيل (لا بد للسلطان من وزعة) أي كففة. أولع بكذا والاسم الولوع وولع يلع ولعاً وولعاناً كذب. أهجد البعير ألقي جرانه عَلَى الأرض وهجد هجوداً أنام ليلاً.
باب ما يضعه العامة في غير موضعه
أطعمنا خبز ملة وخبزاً مليلاً ولا تقل أطعمنا ملة فإنها الرماد الحار، ماء اغمر وما اشد غموره ورجل غمر الخلق واسمه وفي صدره غمر أي غل ورجل غمر من قوم إغمار تبين فيهم الغمارة والغمر القدح وفي فلان ميل (بالسكون) وفي الحايط ميلٌ (بالتحريك) وفاض افناء يفيض فيضاً. عرج صار أعرج وعرج عليه أقام. لاح سهيل بدا ولاح تلألأ. تسمع بالمعيدي لا أن نراه منسوب إلى تصغير معد فاجتمع التشديدان فخفف الغل في الطش وفيما يقيد به والغل العداوة ويقال خرجنا نتنزه إذا خرجنا إلى البساتين وإنما التنزه التباعد عن الماء والريف فلان بنزهة عن الناء والشراب وفلان نزيه بعيد عن اللوم وتنزهوا بحرمكم عن القوم أبعدوها عنهم عزت إليك بكذا وأوعزت. صدقة المرأة وصداقها. ماء ملح وسمك مليح ومملوح ولا تقل مالح افعل كذا وخلان ذم أي لا تذم ولا يقال ذم ضربة لازم وقيل لازم ولاتب بإضبارة من كتب وإضمامة وللجمع أضابير وأضاميم. شيء رزين وثقيل وامرأة رزان الفحال لا يقال إلا في النخلة جمعه فحاحيل وعينان الكتاب عنوانه وعلوانه وقد عنونته وعلونته مهلاً يقال للواحد والجمع والمذكر والمؤنث عَلَى لفظ واحد ولا يقال يغنى عنك مهل وهلم كذلك ومنهم من يقول هلم وهلموا(79/35)
وهلمي وهلمي تقول إيه إذا استزدته وأيها إذا كففته وويها إذا أغريته وواها إذا تعجبت منه وتقول صه ومه إذا سكت عليه وإذا واصلت قلت صه ومه يا فلان وإذا قيل هل لك في كذا قلت فيه حاجة فحذفت الحاجة من السؤال والجواب.
إن أخطأت فخطئي وإن أصبت فصوبتي وإن أسأت فسؤ علي أي قلت لي أسأت وسوأت عليه ما صنع أي قبحته وأخطأ خطئ لغتان يقال (مع الخواطئ سهم صائب) لمن يخطئ كثيراً ويصيب مرةً ورجل أعسر يسر ولا تقل ايسر ويأمن بأصحابك وشايم أخذ بهم يمنة وشامة تكلم فلان فما أسقط حرفاً وما أسقط بحرف كقولك أدخلته ودخلت به وغفلت عنه وغفلته وأغفلته وجن عليه الليل وأجنه وقيل جنه بالضيح (الشمس) والريح ولا تقل الضيح النقد عند الحافرة أي عند أول كلمة وقال تعالى (إنا لمردودون في الحافرة) أي في أول أمرنا فلان يسئل ولا تقل يتصدق في معناه فلان وفلانة كناية عن الآدميين والفلان والفلانة عن البهائم. عايرت الموازين عياراً ولا تقل عيرتها وعيرته بذنبه. عاد الظليم صاح يعار عراراً ولا تقل عر. كانا متهاجرين فأصبحا يتكلما أخوه بلبان أمه ولا تقل بلبن أنه وهذه عصا وعجوز وأتان وعرس وفهر. وقتب لواحد الأقتاب أي الأمعاء وقدوم وأضحى كلها مؤمنات لا يدخلن الهاء وسميت الأضحى بجمع أضحاة أي الشاة التي يضحى بها بقال أضحاة وأضحى واضحية والجمع أضاحي وضحية وللجميع ضحايا.
ومما تضعه العامة في غير موضعه
تقول للمعلف أرى وإنما الأرى والأخية محبس الدابة وللجميع الواري والأواخي تأدبت بالمكان تحبست فيه وارت القدر لصق بأسفلها شيء من الاحتراق كبر حتى صار كأنه قفة أي الشجرة البالية لا يقبل منها طرف ولا عدل الصرف الحيلة من قولك أنه يتصرف يقال أكذب من دب ودرج أي أكذب الأحياء والأموات يقال درج القوم إذا انقرضوا هو نشيج وحده لمنلا شبه له وأصله أن الثوب الكريم لا ينسج عَلَى منواله غيره أحمق ما يتوجه إلى ما يحسن أن يأتي الغائط وأصل الغائط المطمئن في الأرض وزكان من يقضي حاجته إلى الغائط فقل ذلك لمن قضى حاجة التيمم أصله القصد وصار اسماً لمسح. الوجه واليدين بالتراب المسافة المفازة أصلها من السوف الشم وكان الدليل إذا ضل بفلاة شم التراب فعلم أنه عَلَى الطريق وكثر استعماله فصار يسمون البعد المسافة. لبيك وسعديك تأويله البابا ليعد(79/36)
الباب أي لزوماً لطاعتك يقال ألب بالمكان اقام به مرحباً وأهلاً اتيت سعة وأهلاً فلا تستوحش حياك الله وبياك حياك ملكك والتحية الملك وبياك اعتمدك بالخير يقال إعرابي جلف أصله من إجلاف الشاة وهي الشاة المسلوخة بلا رأس ولا قوائم ولا بطن خاس. الطعام والبيع اصله من خاست الجيفة في أول ما تروج فكأنه كسد حتى فسد. لا لاتبلم عليه أي لا تقبح أصله من أبلمة الناقة ورم حيائها من شدة الضبعة وأبلم الرجل ورمت شفتاه توحش للدواء أي اخل جوفك له يقال بات وحشاً إذا لم يطعم وباتوا أوحاشاً ليلتين. الأسير أصله أنه كان يؤخذ فيربط بالقد وأسره أي شده فصار الأسير اسماً للمأخوذ قال الله تعالى ابن عوف رجل قوي. رجع بخفي حنين لمن رجع عن حاجته قيل أنه كان رجل ادعى إلى أسد بن هاشم فأتى عبد المطلب وعليه خفان أحمران فقال عبد المطلب لا وثياب هاشم ما أعرف شمائل هاشم فيك فارجع فقالوا رجع حنين بخفيه فصار مثلاً. الشرف والمجد يكونان بالآباء يقال شريف ماجد والحسب والكرم بالنفس وإن لم يكن آباء لهم شرف. يقال فلان شولة الناصحة وشولة كانت أمة رعناء تنصح مواليها ونصيحتها وبال عليهم. الطفيلي منسوب إلى طفيل رجل من أهل الكوفة يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها يسمى طفيل الأعراس فكان يقول ودد أن الكوفة بركة مصهرجة فلا يخفى عَلَى شيء منها والعرب تسم ي الطفيلي في الطعام. الوارش وفي الشراب الواغل. بقرطكي مارية هي مارية بنت أرقم. قولهم في تحية الملك (أبيت اللعن) أي أبيت أن تأتي ما تلعن به. قرم إلى اللحم وعام إلى اللبن ورجل عمان وامرأة عيمى. يقال أم وعام أي هلكت امرأته وماشيته فصير إيماً وعميان. ووحمت المرأة اشتهت شيئاً عَلَى حملها والماشية تكون من الإبل والغنم وناقة ماشية كثيرة الأولاد البعير كالإنسان للمذكر والناقة كالمرأة والبكر كالفتى والبكر كالفتاة والقلوص كالجارية. الفقير الذي له بلغة. والمسكين من لا شيء له، الأرامل المساكين من الرجال والنساء وأرمل نفذ زاده.
وعام أرمل وسنة رملاء قليلة المطر. رمح ذو الحافر وركض ذو الخف وضبط البعير بيده. المزاد ما يستقى فيه الماء والراوية ما يحمل عليه الماء وقد رويت القوم استقيت لهم الماء ضفرت. المرأة الشعر ولها ضفيران وضفران ولا تقل ضفيرتان. الزوج يقال للرجل والمرأة وقيل زوجه وزوجته. امرأة تزوجتها وليس من كلامهم تزوجت بها وأما قوله تعالى(79/37)
(وزوجناهم بحور عين) فمعناه قرناهم وهي لغة ويقال زوجا حمام للذكر والأنثى. الغلط في الكلام والغلت في الحساب يقال غلط وغلت. توضأت وضوءاً وقد وقدت النار وقوداً ووقدا وقدة والوقود حطب يوقد به والطهور والغسول والبخور والذرور والسقوف والسعوط والسنون والسحور والفطور ما يفعل به ذلك. واللبوس ما يلبس. والقرور والبرود ماء بارد يغسل به وقد اقتررت والسدوس الطيلسان وسدوس اسم رجل. والعلوق ما يعلق به الانسان وبه سمت المنية علوقاً. السموم والحرورالريح الحارة. والذنوب لحم أسفل المتن. والدلو فيها ماء القيوء دواء يشرب للقيء. العقول دواء يمسك به البطن والمشوش ما تمش به اليد أي تمسح والمش مسح اليد بالشيء. الخشن والرقوء ما يرقأ به الدم هو شبوب لكذا أي يزيد فيه ويقويه والصعود مكان فيه ارتفاع والمؤد العقبة الشاقة وهبوط وحدور وحطوط شبوب اسم للمنية خاصة القرقل لما تقول له العامة القرقر والقافوزة والقازوزة فمولدة هو مضطلع بحمله أي قوي مفتعل من الضلاعة وفرس ظليع ولا يقول مضطلع والراكب الذي عَلَى البعير وإلا ركوب أكثر من الراكبوهم أصحاب الإبل والركاب الإبل الواحد ولا واحد من لفظها لها. زيت ركابي يحمل عَلَى الإبل والفارس راكب الفرس والحمار والبغال قيل حمار وبغال ورحالة وخيالة رجل نابل ونبال من النبل فإنه يعلمه فنابل رجل سايف وسياف وتراس ودراع ومتقوس ومتنبل معه هذه الأشياء وفارن معه سيف ونبل ومقنع عليه مغفر والمؤدي والمدجج والشكاك والشانك التام السلاح.
البغايا الفاوجر والطلائع فواحدة الإماء بغي وواحدة طلائع بغية أي طليقة في سبيل الله أنت ولا تقل في سبيل الله عليك طوبى لك ولا تقل طوباك ما به من الطيب ولا تقل من الطيبة سخرت منه ولا تقل وعجوز ولا تقل عجوزة تلك وتيك ولا تقل ديك كلية ولا تقل كلوة وكليته أصبت كليته حسبي كذا أو حسبي من كذا واحسبني كذا كفاني ولا تقل بسى قدى من كذا وقدني وقطي وقطنا وبحسبي كذلك.
النجف (العراق).
محمد رضا الشبيبي.(79/38)
آثار العرب الخالدة في أوربا
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء! بيدك الخير إنك عَلَى كل شيء قدير
قرآن شريف.
سادتي
أقرئكم تحية العرب فأقول لكل فرد: سلام عيكم،
وأثني بتحية الإسلام فأقول لكم جميعاً: السلام عليكم،
وأعزز هذه التحية المزدوجة بما أخذه الإفرنج عن العرب فأقول لكم بمراعاة المعنى الصحيح:
هذه الكلمة، أيها السادة، وإن كان الإفرنج قد نقلوها إلى معنى التملق والمبالغة في الخضوع والخنوع والخشوع، لكنها في الحقيقة تدلنا عَلَى تأثير الحضارة الإسلامية عَلَى أمم الغرب في أوريا. أفليس من سنة هذا الكون ومن نواميس العمران أن الاحتكاك بين الأقوام المختلفة وإن اختلاط الشعوب المتباينة لا بد أن يترتب عليهما تأثيراً لبعضهما عَلَى البعض الآخر حتى يظهر هذا التأثير في الأحوال العامة وفي الشؤون الخاصة؟ وذلك التأثير مصدره قوة الحضارة. فيكون ضعيفاً ضئيلاً أو قوياً جسيماً بحسب ما وصلت إليه الأمة الغالبة من الارتقاء في سلم المدنية، وبقدر ما نالته من السيطرة والرجحان.
فأيما أمة استبحر العمران بين أبنائها فلا بد لها من التبسط في الأرض والتغلب عَلَى الأمم، فلا يلبث أن يكون لها سلطان (ولو معنوي) عَلَى البطون والعشائر التي تجاورها أو تمازجها أو تأتمر بكلمة منها. وأثر ذلك أن يظهر للمتأمل المتفكر كجبين الصبح ووضح النهار في الأمور المعاشية من زراعة وصناعة وتجارة، بل في الأخلاق والعادات والطباع، بل في العلوم والمعارف، بل في الجد والهزل والوقار والخلاعة.
لست أذهب بكم بعيداً في إثبات هذه الظاهرة العمرانية وهذا الناموس الاجتماعي وإنما أناشدكم أن تنظروا عن أيمانكم وشمائلكم وفيما بين أيديكم، أفلا ترون الرجل من قومنا ممن لا يحسن التلفظ بلغة أمه وأبيه، ولم يرزقه الله إلماماً قليلاً برطانات الأعاجم، أفلا ترونه يبادر صاحبه ومشاكله عندما يلقاه في ليل أو نهار: بونجور مون شير، بون سوار؟.
أفليس من المحقق المجزوم به أن أبنائنا سيلقون في الغيط وفي البيت جود مورننج ماي(79/39)
دير، جود نايت؟ بل قد خرجت هذه الكلمة من أفواههم!
ذلك لعمري من خور النفوس وضعف الطبيعة وانحطاط الأخلاق. وقد يكون من باب التنطع عند العلماء، ومن باب الحذلقة (الحفلطة) في أنصاف العلماء (وهم شر الناس). وأما الجاهلون فحسبهم أنهم جهال. ويقيني أن التنطع والحذلقة من الأمور التي لا بد لنا من محاربتها لنكون قوامين عَلَى لغتنا وذاتيتنا، وليكون لنا سعي مشكور في إحياء آدابنا وإحياء بلادنا.
عَلَى أن موضوعي في هذه الليلة سيضطرني في كثير من المقامات إلى التذكير بألفاظ أجنبية مأخوذة عن العربية لأبين ما تركه أجدادنا من الآثار الباقية والمآثر الخالدة في الأمم الأوربية. فعلى سبيل التمهيد ومن باب الدخول في الموضوع أستأذنكم في إلقاء جملة صغيرة باللغة الفرنسية يتغلغل بها الكلام وليأخذ الحديث برقاب بعضه بعضاً.
لا جرم أن يأخذكم العجب وتتولاكم الدهشة إذا قلت لكم يا سادتي إن كلمتي مشتقتان عن جرثومة عربية محضة فالأولى (ونظيرها عند الطليان فعل مأخوذة من قول فلان حائر بائر. وأما الثانية فهي من قولهم بهرت فلاناً فانبهر. فهل يصح لأحد أن يحار بعد الآن في ذلك الاشتقاق) وقد ظهر السبب فبطل العجب؟ وهذا كما ترى.
أقف هنا قليلاً. ولا أزيدكم علماً بأن الفرنسيين كثيراً ما يستعملون كلمتي وتحليلها اللغوي وانظر إلى ذلك أو كما يقول عامتنا أهو كده هو كذا ويضارع ذلك قول العرب: وهذا كما ترى تلك الجملة ترد كثيراً في مسامرات أبي حيان التوحيدي مع وزير بغداد كما نراه في كتاب الإمتاع والمؤانسة الذي أحضرته في هذا العام من خزائن القسطنطينية. وربما حاضرت قومي به وبموضوعه في فرصة أخرى.
ذكرت لكم في الجملة الفرنسية كلمة ثالثة وهي كلمة وأصلها عربي أيضاً. ولو نطقنا بها عَلَى الطريقة الطليانية لقلنا: سوكي أو لو
بحثنا ما يقابله عندهم لوجدنا فلو سقنا الآن آية من القرآن لظهر أصل الاشتقاق. قال الله تعالى في وصف الصحابة: (رحماء بيتهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل(79/40)
كزرع أخرج شطأه (فراخه وورقه) فآزره فاستغلظ فاستوى عَلَى سوقه يعجب الزرّاع) (الآية).
أخذ الإفرنج كثيراًَ من طرق العرب واساليبهم في الزراعة كما سنبينه فيما يجيء، واخذوا معها اللفاظ تارة وهي في حالة المفرد وتارة في حالة الجمع. ومن هذا القبيل كلمة التي نحن بصددها أخذوها عن سوق جمع ساق ثم حرفوا معناه عن أصله فنزلوا بها إلى باطن الأرض وجعلوها بمعنى الجرثومة والأصل: ثم توسعوا فيها فأطلقوها عَلَى جميع المعاني التي تدل عليها الجرثومة في اللغة العربية حساً ومعنى، حقيقة ومجازاً.
وهناك ألفاظ كثيرة جداً تدل عَلَى تأثير العرب في الإفرنج تأثيراً باقياً إلى الآن:
نعم إن المعالم ذهب بها الأيام والعوادي، ولكن أثرها قد بقي. فالأطلال تحدث الشاعر الباحث. وتستوقف الناظر والمسافر وتناجي الضمائر والخواطر، بما كان للعرب في تلكم البلاد من المآثر والمفاخر.
وسأغترف لكم نذراً يسيراً مما علمت أنه مأخوذ عن العربية وقد تأصل في اللغة الفرنسية الجميلة (وما يتبعها من اللهجات الخاصة ببعض الأصقاع في فرنسا) وفي اللسان الطلياني (وما تولد عنه أو من اللهجات الشائعة في شبه الجزيرة الطليانية وما إليها من الجزر الأخرى) وفي لغتي الإسبانيين والبرتقاليين (وما تفرع عنه أو تفرع عنهما في ربوع الأندلس بحسب الاصطلاح الجغرافي العربي من الرطانات المتداولة الآن أو التي قضى عليها ناموس النشوء والارتقاء بالدخول في خبر كان).
قلت لكم إنني سأغترف من ذلك شيئاً، ولست أتعدى كلمة الاغتراف قبل أن أحيطكم علماً أن الإفرنج أخذوا عنها كلمة الفرنسية الطليانية الصقلية الإسبانية. ولكنهم كلهم تطابقوا عَلَى تناقل اللفظ العربي من المصدرية إلى الاسمية. فهو عندهم لإناء من الزجاج يوضع فيه الخمر أو الماء. ومن ذا الذي في مصر الآن إذا ذهب إلى محل تجارة مذكور لا يكون قوله مفهوماً إذا طلب المشتري الكاراف؟! نعم إن الطالب والمطلوب يتفاهما وكلاهما بغير العربية لا يتراطتان أرهما بها يتراطتان. لا اريد أن أتشبه بهذا البائع وبهذا المشتري، فلا أجول أمامكم في مضمار لست من فرجائه. فاللغة الإنكليزية قليل وبالألماني هو والعدم سواء، وباليونانية كالصفر عَلَى يسار الأقلام، إلى ما هنالك من لغات أخرى قد أخذت عن(79/41)
العربية طائفة صالحة من الألفاظ والمسميات مما يتعلق بالعلوم أو بحاجات المعيشة والأرزاق، كما أننا الآن نأخذ منهم بعقل وبدون تعقل، وبفكر وبلا تروٍ حتى أصبحنا عالة عَلَى تلك الألسنة الأعجمية فيما قد نجد له بديلاً وعنه غناء في لغتنا. دع عنك الألفاظ التي يتواضع العلماء عليها لأغراض مخصوصة أو لمستحدثات لم تكن معروفة، فهذا النوع من الألفاظ ملك شائع لجميع بني الإنسان. وهكذا سنة الله في خلقه: يوم لنا ويوم علينا، (وتلك الأيام تداولها بين الناس).
وأنا أملي (أستغفر الله) بل الواجب علينا جميعاً معاشر الناطقين بالضاد، وأهل مصر عَلَى التخصيص، أن نتضافر ونتعاون في هذا العصر العباسي الزاهر وفي ظل مليكنا الرحيم وبعناية رجال حكومته الحاضرة، فنكون عصبة واحدة ونعمل عملاً متواصلاً متوالياً حتى يسنا لنا إحياء آدابها لتجديد العلوم فيها، ولإيجاد بواعث الارتقاء المنشود. فتلك هي لعمري الخطة الوحيدة التي تجعل لنا مقاماً كريماً بين الناس، كما كان لأجدادنا السابقين إلى الغايات.
أيها السادة
سبق لهذا العاجز الذي يناجيكم الآن أنه ألقى محاضرة بين يدي سيدي العباس بمناسبة افتتاح الجامعة المصرية. وقد أبنت فيها أن أهل الإسلام إنما تسنموا ذروة المجد بالرحلة إلى الأمصار وبقطع البحار وعملاً بالأمر الرباني الذي اوجب علينا المشي في مناصب الأرض، والسعي في طلب الرزق، والرزق عَلَى معنيين: مادي وأدبي، كما لا يخفى.
عمل أسلافنا بهذه الآية الحكيمة فنالوا ما نالوا، وعكسناها فصرنا إلى ما صرنا هؤلاء نحن نرى مئات المصريين إذا جاء القيظ يقولون هلم بنا إلى أوربا للاصطياف! هذه رحلة الصيف التي كانت لإيلاف قريش! وفاتهم أن رحلة الصيف كانت لكسب المال الحلال من التجارة، وللاستفادة من المنافع المرتبطة بالارتحال: أما قومنا الآن، فالسواد الأعظم منهم يهرع إلى أوربا في كل عام، وأنتم أعلم بالغرض الذي يرمون إليه وبالهدف الذي يترامون عليه وحواليه. أهم ينفرون خفاقاً وثقالاً (أستغفر الله) بل خفاقاً متأبطين ما خف حمله وثقلت موازينه، يحملون ورقاً يغني عن الورق تكذيباً للشاعر الذي قال لممدوحه:
أهديتني ورقاً لم تهدني ورقاً ... قل لي بلا ورق ما ينفع الورق(79/42)
ولو عاش هذا الشاعر إلى عصرنا لاكتفى من ممدوحه بالتوقيع عَلَى ورقة من السفاتج (التي يسميها أصحابنا بالكمبيالات) أو من المصرف الذي يخزن فيه أمواله بإمضاء عَلَى شيك من الشيكات، تلك الكلمة الثانية أصلها عربي عن اللغة الفارسية فهي الصك وجمعه الصكوك أخذ الإفرنج هذا اللفظ عن العرب في جملة ما أخذوه عنهم من اصطلاحاتهم التجارية والمالية فقال شيك
أصحابنا يهجروننا في الوقت الذي تحتاج فيه زراعاتهم إلى عنايتهم! وفي ذلك ما فيه من الضرر عليهم وعلى بلادهم! ناهيك أنهم لا يتشبهون بالطير! تغدو خماصاً وتروح بطاناً. وأما أصحابنا فيتهافتون عَلَى أوربة بطاناً وقد تأبطوا ما جمعوه أو اقترضوه من المال ويرجعون إلينا خماصاً بل صفر الوجوه، صفر الجيوب.
أفرأيتم أولئك الفلاحين الذين أغناهم الحظ، وهم لا يكادون يفقهون لغة أمهم وأبيهم، أفرأيتموهم حينما يقولون: إنا ذاهبون إلى البلد الفلاني لأجل الكور يقولون في أفواههم ما ليس في قلوبهم كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وما هي الكور (الاستشفاء والتدبير الصحي) كلمة سمعوها فأعجبتهم غرابتها واستعملوها ولا يدرون لها معنى ولا يقيمون لها وزناً ولا يعملون عَلَى تحقيقها فعلاً وعملاً!
غير أنني في هذا الشهر المبارك شمت بارقة من الأمل ولعلها مبشرة بغيث ينهمل في المستقبل، وأعني به المستقبل القريب.
فقد تشرفت وجمهوراً كبيراً (الواو هنا واو المعية) من أكابر الموظفين بتناول الإفطار أمس عَلَى طاولة الخديوية في حضرة ولي الأمر في مصر حفيد محمد علي ولا فخر، الجالس عَلَى نحت المعز وبنية القابض عَلَى صولجان صلاح الدين وذراريه، الوارث لتاج الظاهر، المتحلي بإكليل النصر، المستوي عَلَى عرش المؤيد، المتبؤ لأريكة الأشراف، مولانا وولي نعمتنا المقر الأشرف الحاج عباس حلمي الثاني محيي الآداب، العربية.
فقد حدثنا عن إعجازه بفتى من فتيان مصر رآه يجول في جبال الألب فيما بين فرنسا وسويسرا منقباً في بطون الوهاد منقراً فوق ظهور الأنجاد مستجوباً صياصي الأجبال. وغايته من ذلك أن يتعرف ما أبقاه العرب هنالك من المآثر والآثار أو ما تركوه من الرسوم الدوارس والأطلال.(79/43)
لم يكتف المليك بهذه الرعاية التي تتطال نحوها رقاب المجتهدين من أبنائه، بل بالغ في الفضل فأوصى رجال حكومته بأنة يساعدوا هذا الرجل (وهو محمود بك سالم) عند عودته ليتمكن من إتمام عمله الجليل وسعيه المشكور فيما يرجع بالفائدة عَلَى مصر خصوصاً وعلى الشرق عموماً.
لا ريب عندي أن رجال الحكومة فاعلون لأنهم يقدرون كل عمل نافع حق قدره ولأنهم قادرون عَلَى تعضيد كل مشروع مفيد.
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين عَلَى التمام
كيف لا والإشارة صدرت من الأمير أدام الله لنا وجوده، وأتم عليه نعمته وأيده بروح منه حتى يكون حكمه السعيد مرشداً إلى سر التقدم الذي نبتغيه لتجديد المكارم بفضل حشمه ورجاله الذين وهبهم الله من العلم والحلم ما يؤذن برفع شأن الأمة المصرية.
لهذا السبب أردت أن أتعجل في القيام بالمفروض علي من امتثال هذه الإشارة والعمل بها فيما يدخل في دائرتي ويصل إليه مقدوري.
أردت أن أمهد الطريق أمام ذلك الصديق. حتى إذا ما عاد بالسلامة محمود بك سالم وجد النفوس متشربة بفائدة المشروع ورأى الأرض صالحة لهذا الغرس الطيب. فيكون شعارنا كلنا: حيَّ عَلَى عمل الخير!
ذلك هو البعث الذي نبتغيه بعد أن طال السابت، ذلك هو النشور الذي ننشده للشرق! فالحياة تتجدد في كل يوم عن يمينه في الشرق القصى وعن شماله في أوربا وأميركا وهو جامد في موقفه كأنه في البرزخ. أفلا تكون حركة من وراء هذا السكون؟
نعم فالحركة من مميزات الحياة. ونحن والحمد لله فينا بقية وإن كان بعض الناس ينظر إلينا فيخالنا كالنائمين في البراري، أو كاهل الكهف؟
بماذا تتجدد الحياة في الشرق
بالرحلة لعمري! كما ابتدأ دبيبه انتعشت بها الأمة العربية في أيام الأمويين والعباسيين. فمن المعلوم أن الوسيلة الواحدة تنتهي دائماً إلى غاية واحدة وأن المعلوم يدور مع العلة وجوداً وعدماً.
فلعل هذه الخطة الجديدة التي كنت ولا أزال أسعى وراءها منذ ربع قرن تصبح سنة بيننا(79/44)
وأنا اليوم عَلَى يقين من تحقيق الأحلام. فالداعي إليها اليوم ليس أحد أفراد الأمة وإنما هو صاحب التاج، والناس عَلَى دين ملوكهم.
هذا وإنني لا أبيع الحكمة إلا بحسن الاستماع ولا آخذ عليها ثمناً إلا فهم القلوب وهذا كما ترى!
يطربني وأيم الله أن أرى هذه السنة الجديدة متداولة بيننا معاشر المصريين فيرحل المقتدر منا إلى أوربا بشرط أن يجعل نصب عينيه العمل عَلَى الاستفادة مما وصل إليه أهلوها في حلبة الفضل وميدان التقدم.
لست أنكر عَلَى الراحلين أن يضيعوا معظم وقتهم وأن يصرفوا جل مالهم في لذات أنفسهم وشهوات بطونهم. ولكني أناشدهم وأناشدهم أمهم (مصر) أن يجعلوا الثلثين لهم والثلث لها وأن يعملوا بقول الشاعر:
والله مبني جانب لا أضيعه ... واللهو مني والخلاعة جانب
بل أكتفي منهم أن يخصصوا لوطنهم نصيباً زهيداً من اغترابهم فالذرة يتكون منها الطود الشامخ والقطرة هي أصل العباب الزاخر.
أملي فيهم أن يعودوا لنا بكتاب من كتب أجدادنا التي ليست في خزائننا (والخطب سهل فما عليهم إلا أن يصدروا أمرهم لأي إنسان من المشتغلين بالنقل بواسطة التصوير الشمسي) أملي فيهم أن يرجعوا إلى أهلهم وأهل بلادهم بفائدة (والأمر ميسور فما عليهم إلا ألأن ينظروا بالعيون التي خلقها الله وأن يعتبروا بالعقول التي أودعتها الحكمة الربانية في رؤوسهم). إن في أوربة الآن لآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو رشيد.
فكما كانت الرحلة سبباً في تقدم الشرق في أيام السلف الصالح، فكذلك تكون إن شاء الله بفضل الجيل الحاضر وما يتلوه من الذراري والأعقاب.
كيف وصل المسلمون إلى أوربة؟
يقطع البحر الفاصل بيننا وبينها. هذا البحر الذي نسميه الآن بالبحر البيض المتوسط والذي كان يسميه أسلافنا بالبحر المتوسط لتوسطه بين أراضي أفريقية وآسية وأوربة واسمه المشهور عندهم بحر الروم. ولو أنهم سموه بالبحيرة الإسلامية لكانوا قالوا حقاً وأثبتوا صدقاً. فقد امتلكه المسلمون وامتلكوا ما فيه من الجزائر مثل: ميورقة ومنورقة(79/45)
(وهي المعروفة الآن بجزائر الباليار وكان المسلمون يسمونها بهذين الاسمين وباسم الجزائر فقط وأما القطر لجزائري المشهور فاسمه عندهم مأخوذ من اسم عاصمتهم جزائر بين مزغنة وابن مزغونة) ثم صقلية، وقوسقة وأقريطش (المعروفة الآن باسم كريد) وكل هذه الجزائر كانت الحضارة الإسلامية فيها باهرة زاهية زاهرة.
أما الجزائر الصغرى فكان شأنها كذلك مثل قبرص ورودس ومالطة. وآثار الإسلام ما تزال باقية إلى الآن ولعلكم ترتاحون إلى العلم بأن مالطة كانت سوق الأدب العربي فيها رائجة كان صحبها اسمه القائد يحيى صنع له احد المهندسين صورة لمعرفة أوقات النهار بالصنج فقال أبو القاسم بن رمضان المالطي لعبد الله بن السمط المالطي أجز الله هذا المصراع.
جارية ترمي الصنج ... بها النفوس تبتهج
فقال:
كأن من أحكمها ... إلى السماء قد عرج
فطالع الأفلاك عن ... سر البروج والدروج
أما بحر الأرخبيل وجزائره فلم يدخلا في حكم العرب بصفة أكيدة حقيقية وإنما كانوا يغيرون فيه عليها من حين إلى حين تبعاً لعلاقاتهم مع الروم صلحاً وهدنةً وسلماً وحرباً. هذا البحر هو بحر الأرخبيل أو بحر هيجاي فانتم ترون أنه شيء وبحر سفيد بشيءٍ آخر. ولا عبرة بما يذكر في هذه الأيام في كثير من الجرائد العربية بمناسبة الحرب الحاضرة والكلام عَلَى الأرخبيل وجزائره العثمانية - فإن الذين وقفوا أنفسهم عَلَى الترجمة فيها قد وقفوا عندما رأوا بحر إيجة ورأوا في كتب الجغرافية والتربية أو المعربة عن هذه اللغة لفظة بحر سفيد فاغتروا وغرروا بالقارئين إذ قالوا أنه بحر سفيد وأطلقوا عَلَى هذا البحر اسم سفيد لأنه غير متعارف في مصر وظنوا أنهم أفادوا وأدوا الأمانة حقها. فكانا مصداقاً جديداً للمثل السائر عند الطليان وهو ومعناه الترجمان خوان ويضح لنا أن نترجم ذلك مع التساهل ومراعاة ملكة اللسان المصري بقولنا المترجم مبرجم والبرجمة غلط الكلام.
فأملي أن تصل كلمتي هذه إلى أرباب الأقلام فلا يعودون إلى مثل هذا التخليط.(79/46)
قلت لكم يا سادتي أن المسلمين عبروا البحر فامتلكوا جزائره وجعلوها قواعد تقوم عليها أعمالهم في الفتوح كما هو شأنها اليوم مع الدول العظمى. ومنها ذهب المسلمون إلى أوربة فامتلكوا ما قدروا عليه واحتلوا ما تيسر لهم، وأغاروا عَلَى ما أرادوا.
ذهبوا بأساطيل مؤلفة من الجوارى المنشآت في البحر كالأعلام. تلك الأساطيل التي تغنى بها الشعراء بما لا حاجة للإشارة إليه الآن لئلا يتشعب معنا الكلام فيخرج عمال يقتضيه المقام، وإنما أردت لفت الأنظار إلى أن الدول التي تريد إعلاء كلمتها وحفظ بيضتها لا بد لها من امتلاك ناصية البحار وذلك لا يكون بتلك الحصون الماخرات الشامخات المشمخرات. فإن البحر له الشأن الأكبر في رفع شأن الدول وسلاطة بعضها عَلَى بعض بحق وبغير حق. وحسبكم ما هو حاصل الآن بين سمعكم وبصركم في البحر الأبيض المتوسط وفي بحر الأرخبيل بل وفي البحر الأحمر المعروف في كتب الجغرافيا العربية ببحر القلزم نسبة إلى مدينة القلزم التي قامت مقامها وعلى القرب منها مدينة السويس.
أخذ العرب عن اليونان اسم الأسطول للدلالة عَلَى مجموع السفن التي تباشر الحرب في البحر كما أخذنا نحن الآن عن الإفرنج كثيراً من اصطلاحاتهم البحرية. ومن ذا الذي ركب منكم البحر ولم يحتجز له قمرة في الباخرة؟ هذه القمرة هي طليانية المنبت والمحتد ومعناها الغرفة والحجرة والأوضة. فإن هي إلا معاوضة ومقايضة كما أن البحر إذا انحسر عن البر من هنا طغى عَلَى الشط المقابل له في ناحية أخرى. ناموس عام تتجلى ظواهره في كل أعمال الإنسان وفي سائر أحوال العمران كذلك كان شأن الإفرنج منذ قرون ولقد بقيت الأسماء العربية متعارفة عندهم وفي كل لغاتهم وليس لهم سبيل إلى تبديلها بغيرها. إذ من ذلك مثالاً واحداً لأنه الأس وبمثابة الرأس فلفظة أميرال عربية الأصل وهو عندنا أمير الماء كما تراه في موسوعات النويري. بتر القوم القسم الأخير من باب التلطيف والتخفيف كما هو شأننا أبضاً في تعريب الكلمات الأعجمية. وقد جئنا الآن فجاريناهم عَلَى التعبير بهذا الحرف وبما تركب معه فنحن نقول: أميرال، كنتراميرال، فيس أميرال.
من هو أول أميرال مسلم؟
هو العلاء بن الحضرمي الصحابي الجليل عليه رحمة الله فهو أول مسلم ركب البحر للغزو وكان ذلك من جهة الشرق والخليج الفارسي من عمان والبحرين.(79/47)
وأما أول أميرال مسلم ركب بحر الروم للغزو فهو معاوية بن أبي سفيان حينا كان عاملاً عَلَى الشام في خلافة عثمان بن عفان.
ثم أن المسلمين شغفوا بالجهاد في البحر وامتلاك بعض جزائره. والذي يهمنا بصفتنا مصريين هو أن نعرف أن أول تأسيس دار الصناعة كان في جزيرة مصر (جزيرة الفسطاط) في سنة 54 هجرية وأن الأسطول بالمعنى الحقيقي كان أنشأه للمرة الأولى في بلادنا في أيام عنبسة ابن إسحاق وإلى مصر باسم الخليفة المتوكل العباس الذي سنذكره بمناسبة المنجنيق عما قريب وكان ذلك في سنة 238 وكانت مصر إنما تصد بأسطولها غارات الروم وغيرهم من أمم أوربة.
وأما الهجوم فلم يكن من شأنها إلا في حالة العدوان عليها. وذلك لأنها من حيث الفتح والتوسع في الاستعمار ما كانت تطمح في غير رودس وقبرص.
والسبب في ذلك أنها تركت أمر الجزائر الأخرى للبلاد الإسلامية القريبة منها فكانت تونس توجه همتها البحرية إلى صقلية وسرادينة، وكان المغرب الأقصى متكفلاً بجزائر ميورقة ومنورقة ويابسة وشطوط الأندلس وسواحل فرنسا.
ولكن تونس سبقت مصر في اتخاذ الأساطيل في أيام عاملها حسان بن النعمان بأمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة69 للهجرة.
بلغت الأساطيل الإسلامية من الجلالة أنه كان لا يدخلها غشيم - عَلَى قول الإمام المقريزي - ولا جاهل بأمور الحرب وكان لخدامها حرمة ومكانة ولكل أحد من الناس رغبة في أن يعد من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقر فيه. وقد أفادنا أيضاً أن العناية بالأساطيل الإسلامية في مصر إنما قويت منذ قدوم المعز لدين الله إليها. وأن المقدم عَلَى الأسطول كان أميراً كبيراً من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفساً (وهو الأميرال) وكان الأسطول يزيد في أيام العز عَلَى ثمانمائة قطعة ثم اخذ في الانحطاط ولكن لم ينقص قط عن مائة قطعة فكان الخليفة يحض بنفسه تجهيز الأسطول وتفريق النفقة عَلَى رجاله. حتى إذا تهيأ للإقلاع ركب الخليفة إلى منظرة المقس (محل جامع أولاد عنان الآن) لتوديعه في احتفال باهر فيكون له يوم مشهود يزيده بهاء ورواء حركات الأسطول المعروفة الآن بالمناورات البحرية والحربية وقد بلغ من عنايتهم بالأسطول إن دار الصناعة في مصر ما كان(79/48)
يدخلها أحد راكباً إلا الخليفة ووزيره وذلك يوم الاحتفال بفتح النيل أي جبر الخليج الذي انطمس الآن وصار طريقاً للترمواي وأصبح الاحتفال الآن معروفاً بموسم وفاء النيل.
كان للأسطول في أيام صلاح الدين ديوان مخصوص يسمى بديوان الأسطول وسلمه إلى أخيه الملك العادل. فكان هذا الديوان يشبه ما كان معروفاً في أيام محمد علي بديوان البحرية وما هو معروف بديار أوربة بنظارة البحرية. وهو الآن صفر في مصر لا عين ولا أثر.
وكانت إسكندرية ودمياط هما الميناءان الحربيان البحريان في ديار مصر وضف إليها مدينة تنيس التي هي الآن خراب بلقع وأما الفسطاط (مصر القديمة) وقوص (من أعمال الصعيد) فكانتا من أعظم الموانئ النيلية وفيهما يكون إنشاء السفن الحربية التي ترابط بتلك الثغور وتذهب للغزو والبحر لأجل إعلاء كلمة مصر وجعل رايتها خفاقة في الخفاقين.
ما هي القطع التي كان يتألف منها الأسطول في الدول الإسلامية؟
هي الأعواديات والأغربة والبركوشات والحراريق (أو الحراقات) والشلنديات والمسطحات. ويتبعه سفائن أخرى تأتي في المرتبة الثانية من المكانة وإن كانت حاجته إليها شديدة وسنتكلم عليها عما قريب.
سارت الأساطيل الإسلامية باسم الله مجراها ومرساها فأرست عَلَى سواحل الجزر وشطوط أوربة. وألق مراسيها وهي الأناجر جمع أنجر لفظة يونانية عربوها فقال الفرنسوين واشتقوا منها المصدر ثم ربط العرب مراكبهم بالحبال الغلظة وهي الأمراس والمرار جمع مر فسمى الطليان ذلك الحبل وتوسع فيها الفرنسيون فقالوا مثل ما صنع العرب حينما قالوا أمر السفينة أو الشيء أي ربطها بهذا الحبل الغليظ القوي المتين وعلى ذكر الحبل أذكر بأنه هو الفرنسية بمعنى واحد وأن اللفظة الثانية مأخوذة عن ذلك الأصل العربي.
ولا يسعني أن أتجاوز الشط وأن أتتبع العرب في سيرهم قبل أن أقول أنهم حينما استقرت قدمهم بالسواحل أنشأوا فيها دور صناعة عَلَى مثل مذ ذكرنا في مصر وتونس فقال الطليان في أول الأمر (دور الصناعة) فكان مثلهم في هذا مثل أهل أسبانيا والبرتقال. ثم قال الطليان ثم ثم ثم واستمروا عَلَى هذا اللفظ الأخير إلى يومنا هذا ومنه كلمة الفرنسيين فلما جاء محمد علي وتقلد أمر مصر وأراد إحياءها رأى أن ذلك لا يتم إلا بإنشاء(79/49)
الأسطول. فاستحدثت دار الصناعة في الإسكندرية وأشنأ الأسطول واستخدم في ذلك الكثير من الأتراك والطلبيان وغيرهم من بني الأصفر فلذلك جارى أجدادنا الأقربون هؤلاء القوم فاستردوا منهم كلمتنا العربية البحتة المحتة المحضة مصبوغة بلون إفرنكي ضاعت معه معالمها الأصلية فقالوا كما قال الترك ترسانة بل تركها بعضهم أكثر من الترك أنفسهم فقالوا ترسخانة من باب المبالغة في التضليل وتعفية آثاره الأصلية. وقد استحكمت هاتان الكلمتان في استعمال الخاصة والعامة حتى لا سبيل لاقتلاعهما أو الإقلاع عنهما مع أن الطليانيين لا يزالون إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم يقولون ولكن للدلالة عَلَى القسم الداخل في جوف الميناء حيث يربطون السفن المحتاجة للتعمير بعد نزع آلاتها وجهازتها.
ما هي الوظيفة الأساسية لدار الصناعة؟
إنشاء السفن وإصلاح ما عساه يحدث فيها من العور؟
أخذ الإفرنج الكلمة الثانية وصنعوا منه كلمة ثم أطلقوها أيضاً عَلَى جميع أنواع العوار في السفن والسلع وغير ذلك.
ومن المعلوم أن إنشاء السفن يدعو إلى ما نسميه نحن الآن بالقلفطة عَلَى يد القلفاط فهذان اللفظان نالهما ما نال دار الصناعة فإنهما معربان عن اللغات الأوربية التي أخذتها عن اللغة العربية. وهذا كما ترى.
رأى أجداد عملة المسلمين يشتغلون في دور الصناعة بالقلافة فيقلفون المراكب فقالوا من فعل قلف العربي ثم أضافوا إليه علامة المصدر في لغتهم بعد زيادة حرف التاء للتوصل للنطق بين ساكنين كما يقولون في حالة الاستفهام ?) قال في تاج العروس قلف السفينة قلقاً بحرز ألواحها بالليف وجعل في خللها القار (الزفت) والاسم القلافة بكسر القاف أفليس هذا هو الذي يفعله القلفاط يا أبناء السبالة وأولاد الأنقوشي؟ فأنتم في ذلك شهود عدول.
كل أسطول لا بد له من سفائن تحمل له الزاد والمتاع والكراع. فمنها التي نسميها اليوم (بالنقالات) أما الأساطيل الإسلامية فكانت تخدمها القراقير جمع قرقور اخذ الطليان هذا اللفظ فقالوا وقال الفرنسيون لا تعجبوا بين الصل والفرع فإن الإنتقال من لغة إلى أخرى يلدنا عَلَى ما هو أشد وأبعد ولتعلمن نبأه بعد حين ولكن إذا علمتم أن البرتقاليين يقولون في تسمية هذه السفينة ثبت لكم صدقي وقد استرجعنا اللفظ منهم في هذه العصور الحديثة(79/50)
ولكن مفرنجاً فقلنا كركاة من قول الطليانيين ولكن بمعنى آخر لنوع آخر من السفن التي تستعمل لنزع الطين والرمال من قاع النهر والترع والخلجان ومن قاع المواني والمعابر البحرية في نظير المركب المسى عن الفرنسيين وكان لابد لكل أسطول من سفائن خصوصية لحمل الخيل وهيب التي تسمى بالطرائد جمع طريدة (وذلك خلاف الطراد وجمعه طرادات) أخذ الإفرنج هذا الاسم فقال الطليان ثم وقال الفرنسيون ولكن للدلالة عَلَى سفائنها الشراعية التي تمخر في البحر الأبيض المتوسط غرباً. ومن توابع الأسطول الفوالك جمع فلوكة فقال الطليان وقال فرنسيون وكذلك الشباك - ومن توابعه القارب فقالوا من اللفظ المفرد وهو قارب وربما يصح القول أنهم أخذوه من غرائب بقيت عَلَى شكل كلمة بشأن الشلنديات التي ذكرتها في أسماء مراكب الأسطول. فمفردها شلندي (ولا ادري ما أصله في العربية) وربما كان أصله عن اللاتينية وهو واخذوه الروس فقالوا وقال الطليان والفرنسيون واسترجعناه منهم بطريقة التعريب والتقريب والتمثيل والتأهيل فقلنا (صندل) وأصبح هذا الاسم بتحريفاته عندهم وعندنا عَلَى السفائن المخصصة لنقل البضائع مثل الماعين جمع ماعون التي قال فيها الفرنسيون وقال الطليان رجعوا قليلاً بنا إلى البحر فإن الأسطول قد تصادفه الرياح بما لا تشتهيه وقد تعاكسه الأمواج فيلقى النوتية أو النواتية منه الأمرين وهو البحر وهولته بعرفهما كل من اقتحم لجتة فالملاحون يسمون إضراب الموج الشديد بالهولة فقال الفرنسيون في ذلك للموج المتعالي كالجبال وقد تعاكسه الرياح التي تهب من الجنوب الشرقي فبقى السم الثاني في ذاكرة اففرنج فقال الطليان - وأما الفرنسيون أطلقوا عليه وكل ذلك مأخوذ من الشرق وأما رياح الموسم فيسمسها الفرنسيس والطليان ولا تعجبوا لوضعهم النون بدل الميم في آخر الكلمة فلهم في التبديل شيء كثير من هذا القبيل وحسبنا جنميعاً أنهم يسمون مدينة سواكن فلنأخذ النون من هناك ونضعها بدل الميم هنا لنرد كل شيء لأصله لأن كلمة عندهم ماخوذة من الأصل العربي وهو الرد ولا عجب فإن اللاتينيون قالوا بإضافة علامة المصدر فزاد الطليان والفرنسيس نوناً من عندهم وليس لنا في ذلك شأن عندهم ولكنهم عند نحت الاسم يردون الكلمة التي جرثومتها العربية فيقولون في تقديم الحساب وفي تسليم الحصون.
'(79/51)
نعود إلى السطول ونقول أنه بعد أن لقى من البحر ما لقى دخل إلى الميناء ولعدم خبرة الربان اصطدم بشعب فقال إفرنجي في ذلك تشبيها له ببروز الرصيف في الشوارع والطرقات التي أنشأها العرب فيما بعد بتلك البلاد ثم دخول الأسطكول إلى الميناءفي كلاءة الله وحفظه وفعل ما سنأتي عَلَى بيانه. وصل إلى المحل الذي يأمن فيه من عبث الرياح وثوران المواج وهو الموضع الذي يسميه الإسبانيون والبرتقاليون والفرنسون وقد استعمله الفرنسيون من كلمة.
ألفاظ أصلها مشتق من كلمة كلأ العربية بمعنى حرس وحفظ.
وهذا كما ترى.
ماذا صنع الأسطول؟
اصطف للقتال ونصب المنجنيق. هذه كلمة يونانية استلحقها العرب وأضافوا إليها النون الأولى لتدخل في أوزانهم.
عادة المغاربة جرت بأنهم لا يضعون نقط الأعجام فوق الفاء والقاف وتحت الياء متى كانت هذه الحروف مفردة أو في أواخر الكلمات.
غذ في هاتين الحالتين لا يمكن حدوث التباس بينهما وبين ما يشابههما من الحروف الأخرى. فلو تصورنا أن بعضهم كتب اسم هذه الآلة الحربية عَلَى هذا المثال منجنيق وفرضنا أن ذيل الحرف الأخير انطمس بسبب ما فأصبح منجنيو فإننا لو أردنا أن نرسمها وهي عَلَى هذا الشكل بحروف إفرنكية لتحصلنا عَلَى منجنيو وبنطقهم منجنو بغير تشديد النون وإن كانت مكتوبة مرتين وهو الاسم الذي القه الفرنسيون عَلَى المنجنيق.
أتعبتكم بذكر البحر والحروب وأنتم أهل السلام فهل تحبون الذهاب إلى العراق والدخول بمدينة السلام، مدينة بغداد؟
كانت مدينة أبي جعفر (بغداد) جنة الدنيا في عهد هارون والمأمون وخصوصاً في أيام المتوكل. وكان فيها شاعر يسمى أبو العبر له أحوال عجيبة وأمور غريبة وكان من المجان الذين يقل نظيرهم في الدنيا. وقد تكفلت كتب التواريخ والأدب بشرح أموره وكان يزيد في كل سنة حرفاً في اسمه حتى انتهى بعد بضع سنوات إلى: أبي العبر طرد طيل طليرى بك بك بك كان المتوكل يلبسه قميصاً من حرير ثم يرمي به في المنجنيق إلى نهر دجله فمتى(79/52)
حذفه المنجنيق في الهواء قال: الطريق الطريق (كما تقول الان وسع وسع) ثم يقع في الماء فيأتي السباح ويستخرجونه من الماء. وكان في أحد قصوزر المتوكل زلاقة ما اشبهها بالتوبوجان الموجود الآن في مصر الجديدة (واحة عين شمس) فكان الخليفة يامره بالجلوس عليها ومن هناك ينحدر ساقطاً من فوق الزلاقة حتى يقع في البركة فيطرح الخليفة الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك. وفي ذلك يقول شاعرنا:
ويأمرني الملك ... فيطرحني في البرك
ويصطادني بالشبك ... كأني من السمك
فعل المنجنيق بالحصون أفاعيله وتم له النصر فخلا الجو البر للعرب فنزلوا وقاتلوا وفازوا ثم شنوا الغارات عَلَى الأقطار النائية تمهيداً للتسلط عليها فقال أصحابنا في الغارة وقال الإسبانيون في المغاورين ولا يزال أهل إيطاليا يقولون للدلالة عَلَى الجندي وعلى المرزاق الذي يعتقله وقالوا في الغازي (وذهب بعضهم إلى أنها ماخوذة من الوزير) ولا عجب من إضافة الجيم في هذه الحالة الثانية فإنهم يضيفونها عَلَى جميع الكلمات العربية المبدوءة بحرف الواو فيقولون في الوضوء وفي الوادي الكبير وهكذا من كلمة اشتق الفرنسيون قولهم لحارس المذنبين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة ورأوا العرب يستعملون البسطانة وهي آلة لرمي البندق وصيد الطيور فقال الإسبانيون والبرتقاليون وأما الطليانيون فقالوا واقتصر الفرنسيون عَلَى رأوهم يستخدمون قاطعة وهي من نوع السكاكين فقالوا وربما كان هذا اللفظ مأخوذ عن صيغة الأمر من قول العرب: قط يقط قطاً أما الخنجر فقال الطليان فيه والفرنسيون وعلى ذلك قول شاعرهم:
وقالوا في الزغاية وهو نوع من الحراب العربية: تجتمع العساكر عادة عَلَى سوت البوق ولكن الإسبان حينما أخذوا هذه الكلمة ونقلوها إلى لغتهم قالوا لزمارة الراعي. ومتى اجتمعت العساكر للعرض والتمرين فإن الفرسان تختال بخيولها وقد يختال الفرس فيدور عَلَى نفسه وذلك قول العرب كركر الفرس أخذ الفرنسيون ذلك اللفظ فقالوا وما أجمل امرئ القيس حين وصف الفرس بشطرة واحدة كل كلمة منها تدل عَلَى حركة مخصوصة(79/53)
وتجعل السامع يتخيلها واقعة حاصلة بحضرته قال:
مكر نفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عَلَى.
وكانت السهام في ذاك الوقت هي التي يترامى المحاربون بها. ولا يزال العرب مشهورين بإصابة القبلة وهي الهدف والغرض والقرطاس. فقال الفرنسيون في هذا المعنى من كلمة قبلة. ولا أزيدكم علماً بأن السهام توضع في الكنانة وهي الجعبة غير أن اشتباك العرب بالفرس والترك جعلهم يختارون كلمة من غير لسانهم وهي التركاش بهذا المعنى فقال الطليان ثم قالوا كما قال الإسبان وكما قال البرتقاليون والفرنسيون وانتم تعلمون أن الفرنسيين كانوا إلى عهد قريب ينطقون بحرفي كما ينطقون بحرفي ولكنهم عدلوا عن كتابة في مثل هذا المقام وأبقوا عَلَى حال رسمها ونطقوها بالنطق الجديد فلذلك صار بينها وبين أصلها العربي بون كبير.
إلى هنا وضعت الحرب أوزارها فاستقرت قدم الفاتحين وعرضوا جيوشهم تخفق فوقها الرايات والأعلام والبنود. فأخذ الفرنج هذه الكلمة الأخيرة فقالوا في بند المعربة عن الفارسية دلالة عَلَى الجماعة المنضوين تحت لواءٍ واحدٍ ثم اطلقوها من هذا القيد وقال الطليانيون في ذلك والفرنسيون وأخذنا عن الطليانيين كلمتنا مطلينة فنحن نقول الآن بنديرة.
ماذا كان لون راياتهم؟
كان تبعاً لشعار الدولة القائمة في دمشق أو بغداد أو القاهرة. فشعار بني أمية من الألوان الخضرة في الملابس والبياض في الرايات أخذوا البياض عن اللون الذي كان يعمم به النبي صلى الله عليه وسلم وأما بنو العباس فشعارهم السواد في الحالتين. لأخذوا ذلك فيما يقال عن اللون الذي اختاره رسول الله يوم حنين ويوم فتح مكة. فإنه عقد لعمه العباس راية سوداء وقيل أن ذلك يرجع إلى حزنهم عَلَى إبراهيم بن محمد أول القائمين بالدعوة العباسية. فإن مروان بن محمد الجعدي المنبوذ بالحمار هو آخر بني أمية حينما ضيق عليه الخناق قال الرجل لشيعته: لا يهولنكم قتلي. فإذا تمكنتم من أمركم فاستخلفوا عليكم العباس. فلما قتله مروان لبس أشياعه كلهم السواد حداداً وحزناً عليه حتى إذا صار إليهم هذا الأمر أعني الخلافة جعلوا السواد شعارهم في كل أمرهم وكانت جنودهم تعرف باسم المسودة(79/54)
فكانت المسودة تتقابل مع المبيضة (أي لابسي البياض من الموالين للأمويين) والناس عَلَى فريقين بعضهم يسود وبعضهم يبيض حتى عم السواد سواد العراق وخفق عَلَى جميع الآفاق. اللهم إلا في الأندلس فإنها عادت أموية بفضل عبد الرحمن الداخل وكان شعارهم الخضرة في الرايات كما يراه الإنسان في البقايا المحفوظة إلى الآن في دور التحف بمدريد وغيرها من أمصار إسبانيا.
وقد تغالى الأندلسيون في أيام دولتهم في كراهة السواد حتى أنهم لم يستعملوه في الحزن والحداد فكانوا يلبسون الثياب البيض فقط في الحداد لئلا يشتبهون بالعباسيين في شيء ما حتى عند وقوع المصائب وكوارث الأيام.
ولقد تجددت في هذه الأيام ذكرى الأندلسيين في حدادهم عَلَى يد غادة من فتيات أميركا وهي تظن أنها مبتدعة للبس البياض في حالة الحداد. أشير إلى أرملة الخواجة استور صاحب القناطير المقنطرة من الدنانير والملايين المملينة من الذهب الوهاج.
فإنه بعد أن غرق حديثاً في الباخرة تيتانيق وهي لا تزال في ربيع العمر وريعان الشباب رأت من الواجب عليها أن لا تشوه محاسنها بلبس السواد عَلَى ما جرت به العادة الشائعة الآن في جميع أقطار العالم فاختارت البياض. فمن لي بتعريف هذه العادة المعينة بأنها ليست من المجتهدات وإنها كانت لعرب الأندلس من المقلدات.
ومن غريب ما يتعلق بالسواد والنساء أن الظافر خليفة الفاطميين بمصر لما قتله وزيره. بعث نساء الخليفة بشعورهن إلى الصالح طلائع بن رزيك وهو يومئذ عامل بمنية ابن الخصيب (أعني أنه كان مدير المينا بحسب اصطلاحنا الإداري الآن) فأسرع لنجدتهن. ورأى أن يستميل الأمة المصرية وأجنادها إليه لأجل إغاثة الحريم والدفاع عن بيضة الخلافة فعقد تلك الشعور عَلَى رؤوس الرماح (كما هو الحال الآن في وضع جدائل الشعر فوق المزاريق التي يتعلقها الرماحة في أوربا وفي مصر) وأقام الرايات السود من باب الحزن عَلَى الخليفة المقتول وعلى ما حل بالقصرين وساكنات القصرين من بيت الخلافة وإعلاناً بالحرب لأخذ ثأر الظافر فدخل القاهرة عَلَى هذه الصورة. فكان ذلك من الفأل العجيب وهو أن مصر انتقلت إلى المسودة (بني العباس) ورجعت إلى حكمهم بعد ذلك بخمسة عشر سنة في أيام العاضد آخر الفواطم وعلى يد صلاح الدين الذي يسميه الإفرنج(79/55)
كلهم فكان السواد شعارها الرسمي تبعاً لراية أمير المؤمنين
حتى جاءت دولة المماليك فصار لون الرايات هو الصفر. كانت لهم راية سلطانية صفراء وهي مطرزة بالذهب وعليها ألقاب السلطان. وبعدها راية عظيمة صفراء أيضاً وفي رأسها خصلة من الشعر وهي التي تسمى بالجاليش. ويتلو ذلك رايات صفر صغار تسمى السناجق.
فلما جاءت الدولة العثمانية صار اللون الرسمي هو الأحمر يتوسطه الهلال المحبوب الذي ترمقه العيون وتلتف حوله القلوب.
فلنقف الآن تحت الهلال ونترك البقية الباقية لمحاضرة أو محاضرات تالية إن شاء الله.
أحمد زكي.(79/56)
مطبوعات ومخطوطات
مؤلفات الدكتور شميل
قليل من المؤلفين المتقدمين والمتأخرين من رزقوا شجاعة الدكتور شبلي شميل وصراحته في المجاهرة بآرائه العلمية والفلسفية والاجتماعية عرف ذلك منذ نحو أربعين سنة فعد في مصر والشام أحد أفراد قلائل جداً وربما كان فرداً في بابه نبت المؤلف في كفر شيما من جبل لبنان ودرس الطب في كلية الأميركان وأتفن الفرنسية فسهل الكتابة بها كما سهل عليه الكتابة بالعربية وهو ينظم الشعر يتوخى فيه المعاني العلمية والاجتماعية وهاجر إلى مصر منذ أربعين سنة ولولا ذاك لاضطهد وأوذي كثيراً خصوصاً ومن مذهب الدعوة إلى العلم المحض الجديد والزهد في التعاليم القديمة كيف كانت حالها وهو ناشر مذهب دارون في النشوء والتحول باللغة العربية وهذا المذهب هو الذي يدعي بعضهم أن أصل الإنسان قرد والحقيقة أنه لا يقول أن القرد أصل الإنسان وأن الحمار أصل الفرس بل إن افنسان والقرد والفرس وسائر الأحياء في الطبيعة قاطبة من أصل واحد في نشوئها من مواد الطبيعة وبمجرد قواها وقد تغيرت تبعاً لناموس المطابقة حتى بلغت مبلغها الآن بالانتخاب الطبيعي فمذهب دارون الذي أثار ضجة كبرى في هذا الشرق الأدنى يوم ظهوره بالعربية هو مذهب علمي محض يدرس اليوم في المدارس الحرة من غير نكير وهو لا يضر بجوهر الأديان عَلَى ما يقول بعض الباحثين فيه بيد أن الحكمة تقضي عَلَى المتشبعين به أمثال صديقنا الشميل أن يدعوا إليه ولا يغضوا من شأن تعاليم رسخت في النفوس فوقرتها عَلَى توالي القرون وعندنا أن المبادئ العلمية كانت تربي قبولاً من النفوس في بلادنا أكثر مما رأت لو لم يعرض أربابها بما هو أعز عزيز عَلَى الناس شربوا تقديسه مع لبن أمهاتهم وهيهات أن يتحولوا عنه بمجرد دعوة داعٍ أو تعريض معرض.
والكتب التي بين أيدينا من مؤلفات الشميل هي كتاب فلسفة النشوء والارتقاء وقع في 377 صفحة طبع بمطبعة المقتطف بمصر سنة 1910 وكان نشر أكثره في مجلة المقتطف العلمية كبيرة المجلات العربية ومجموعة ثانية وهي كجزء ثانٍ للكتاب فيها موضوعات شتى عمرانية طبيعية علمية تاريخية أدبية سياسية تقريرية انتقادية فكاهية مما نشره المؤلف في جرائد مجلات كثيرة فضم شتاته وقد طبع في مطبعة المعارف بمصر وهو يقع(79/57)
في 341 صفحة والكتاب الثالث رسالة في آراء الدكتور شبلي شميل طبعت بمطبعة المعارف بمصر سنة 1912.
مؤلفات الحسيني
من الناس يؤلفون إرادة النفع العام ومنهم من يؤلفون للاتجار بما يؤلفون وكلتا الطبقتين نافعة ومن أهل الطبقة الأولى صديقنا أحمد بك الحسيني أحد سراة القاهرة وفقهائها القانونيين وآخر ما أهدانا من كتبه ورسائله ما طبعه بمكتبة كردستان العلمية كتاب بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة أموال الأوراق وهو بحث عصري ديني بحث فيه الوراق المالية عند الأمم كلها وحكمها ونظامها وطبق ذلك عَلَى الشريعة الغراء وهو في 221 صفحة والكتاب الثاني البيان في أصل تكوين الإنسان وهو في 208 صفحات والرسالة الثالثة في كتاب أعلام الباحث بقبح أم الخبائث في 154 صفحة والرسالة الرابعة في الصول المسماة تحفة الرأي السديد الحمد لضيا التقليد والمجتهد في 84 صفحة وهذه الرسائل كلها مما تشتد حاجة العصر إليه لدفع الحرج عن الناس وتعليمهم الدين أو بعض مسائله العويصة مطبقاً عَلَى أحكام العلم والعقل فجزى الله المؤلف أفضل ما جازى عاملاً لا يتوقع من عمله إلا الصلح والنفع.
طبقات الأمم
تأليف جرجي بك زيدان طبعه بطبعة الهلال بمصر سنة 1912
ص286
لمنشئ الهلال جرجي بك زيدان نفس طويل في التآليف وتفنن في ابتداع المبتكرات من الموضوعات ولاسيما ما راق منها طبقة خاصة من القراء وآخر تآليفه هذا السفر وهو يبحث في أصول السلائل البشرية وكيف نشأت وتفرعت إلى طبقات وانتشرت في الأرض وما تقسم إليه كل طبقة من الأمم أو القبائل وخصائص كل أمة البدنية والعقلية والأدبية ومنشأها ودار هجرتها ومقرها الآن وعاداتها وأخلاقها وآدابها وأديانها وسائر أحوالها وقد اعتمد فيه عَلَى أشهر ما كتب بالإنكليزية في هذا الموضوع وأضاف عليه بعض ما يلذ ويفيد من المعلومات العربية وحلاه بأنموذجات من صور كل جنس من أجناس البشر فجاء(79/58)
يجمع إلى الفائدة العلمية الخفيفة النكتة الفكاهية الظريفة تنتفع به الخاصة وتحرص عليه العامة فنهنئه بكتابه الجديد ونرجو له التوفيق إلى تأليف العشرات من أمثاله خدمة للغة وآدابها.
حكم النبي محمد
للفيلسوف تولستوي وشيء عن الإسلام وأوربا نقله عن الروسية سليم أفندي قبعين طبع بمطبعة التقدم بالقاهرة سنة 1912 - 1330 ص79.
اعتاد صديقنا المعرب أن يتحف العالم العربي الحين بعد الآخر بشيءٍ مما يكتبه المفكرون في روسيا ولاسيما ما له علاقة بالإسلام والمسلمين يتلطف في ترجمته ويوشك أن يكون وحده الذاهب بفضل هذه المزية في النقل عن الروسية ولا نذكر من المعربين عنها إلا أناساً لا يبلغون عدد الأنامل من أبناء سورية عربوا شيئاً قليلاً عن لغة السلافيين. أما هذه الرسالة فقد قال في وصفها المترجم رأى الفيلسوف تحامل جمعيات المبشرين في قازان من أعمال روسيا عَلَى الدين الإسلامي ونسبتها إلى صاحب الشريعة الإسلامية أموراً تنافي الحقيقة تصور للروسيين تلك الديانة وأعمال صاحب تلك الشريعة بصورة غير صورتها الحقيقية فهزته الغيرة عَلَى الحق إلى وضع رسالة صغيرة اختار فيها عدة أحاديث من أحاديث النبي محمد عليه السلام ذكرها بعد مقدمة جليلة الشأن واضحة البرهان وقال هذه تعاليم صاحب الشريعة الإسلامية وهي عبارة عن حكم عالية ومواعظ سامية تقود الإنسان إلى سواء السبيل ولا تقل في شيءٍ عن تعاليم الديانة المسيحية.
وقد رد المعرب الأحاديث إلى أصولها وضم إليها مقالات نشرها بعض كتاب الروس في مجلاتهم بفضائل الإسلام وحقيقته فنشكر للمترجم وترجو أن تصح عزيمة كل عارف بلغة أجنبية أن ينقل لقومه ما يهمهم من الموضوعات وينقصها من المعلومات والإيضاحات.
الحكمة الشرقية
تعريب محمد لطفي أفندي جمعه طبعه عَلَى نفقة مجلة البيان ص100.
معرب هذا الكتاب من رجال المحاماة والقلم والخطابة يعرفه القراء بما عرب وألف حتى اليوم فهو مثال النشاط المصري ونموذج الكاتب الاجتماعي العصري وكتابه هذا آخر ما نشره للناس وهو ذو اسفار ثلاثة الأول حكم فتا حوتب الجكيم الوزير المصري الثاني(79/59)
كلستان للشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازي الثالث كتاب التعليم الراقي للمرأة في اليابان للفيلسوف الياباني أونادايجاكو. وفيها كبها من الحكم الروائع والكلم النوابغ ما يجدر بالمتأدب الأخذ به وحبذا لو ضاعف المترجم وأمثاله من الإكثار من مثل هذه الأسفار ليدفعوا عن الناشئة قليلاً من السموم التي تنفثا في النفوس روايات الغرام والفوضى وأخبار اللصوص التي أضرت بآداب الجمهور كبير من المطالعين في هذا القطر وفي غيره من الأقطار العربية وحبذا لو صحت همة نظارة المعارف المصرية عَلَى منعها فهو أول واجباتها ومحاربة الرذائل لا يقل في النفع العام عن الأخذ بأيدي الفضائل.
بلوغ المرام من أدلة الأحكام
لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني طبعه عبد الرحمن أفندي بدران
سنة 1330 - 1912 ص280.
إن ما طبع من كتب الحديث في هذه الديار لم يبلغ القدر الذي طبع منه فيما نعلم في بلاد الهند وهذا المختصر يشتمل عَلَى الصول والأدلة الحيثية للحكام الشرعية بين المؤلف عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة وهو نافع لطلاب الأثر وطلاب الأحكام معاً فلطابعه الشكر الجزيل.
عجائب المتأدب
ويليه رسالة لقط الحكمة تأليف صالح بك حمدي حماد طبع سنة 1330 - 1912 بمطبعة مدرسة والدة عباس الأول بالقاهرة.
مؤلف هذه العجالة كتب وترجم كثيراً في الموضوعات التي تنفع وتنهض بالقراء إلى مستوى راق وتلقنهم الأفكار الصحيحة وآخر كتبه هذا السفر جمع فيه حكماً ومواعظ قديمة وحديثة منظومة ومنثورة عزاها لأربابها وقدم لكل فصل كلاماً نافعاً من عنده يؤثر في نفس القارئ وبعده لتناول الحكمة المستشهد بها جزاه الله عن الآداب خير.
بلاغة الإنكليز
أو مختارات لوبان تعريب محمد أفندي السباعي طبع بمطبعة التقدم بمصر سنة 1912 في ثلاثة أجزاء صغيرة تبلغ زهاء 350 صفحة.(79/60)
أهدتنا مكتبة البيان لصاحبها عبد الرحمن البرقوقي هذا الكتاب النافع معرباً بقلم السباعي أفندي وهو مختارات من كبار مؤلفين الإنكليز في الحكمة والأدب والتاريخ والأخلاق والاجتماع منها ما يلذ المطالع العربي ومنا ما لا يقدر لها قيمة إلا من قرأه بلغته الأصلية وتشبع بروح اللغة المنقول عنها وعرف عادات أهلها ومناحيهم وما يستطيبونه من القول وما يمجونه والكتاب عَلَى عادة المعرب في ما نقله جيد ممتع وفقه الله إلى ترجمة أمثاله من الكتب النافعة ككتاب التربية لسبنسر والأبطال لكارلايل وغيرهما من معرباته.
كتب ورسائل مختلفة
أحسن القصص تأليف صالح بك حمدي حماد فيها ثلاث روايات عصرية مصرية. مؤلفة الأولى رواية الأميرة يراعة في 142 صفحة والثانية رواية ابنتي سنية في 152 والثالثة رواية بين عاشقين في 137.
حقائق عن الانتخابات النيابية في العراق وفلسطين وسورية لحقي بك العظم.
الإسلام والإصلاح قرير رسمي للسر ريشار وود في الإسلام نشره محب الدين أفندي الخطيب.(79/61)
أخبار وأفكار
ثرثرة النساء
يقول احد علماء الإنكليز أن ما شاع عَلَى الألسن من أن في دم المرأة أن تكون ثرثارة أمر ثابت من طريق العلم أيضاً وناشئ حقيقة من تواد الدم إلى دماغها عَلَى صورة تخالف توارده إلى رأس الرجل فالمرأة يرد عليها أعظم كمية من الدم الشرياني واصلاً إلى نقرتها عَلَى حين يصل إلى الرجل أحسن دم وأغزره إلى الدماغ من جزئه الأعلى أو إلى الجبهة وعلى ذلك فيكون عمل الدم في الذكر والأنثى مختلفاً فالقسم الورائي من الدماغ هو مركز الحواس وهو محل حاستي النظر والسمع في حين أن القسم الأعلى يحتوي عَلَى مركز الإرادة والشهوات والرغبات الناشئة من الشعور الداخلي. فالتأثير المنبه الناشئ من غزارة الدم في كلا القسمين يدل إذا عَلَى السبب في رؤية المرأة الأشياء بسرعة ولماذا تتلو بسرعة أكبر وتتكلم أسرع من الرجل وتلتذ بكلامها وتهنأ أكثر من الرجل فإن لطف قواها في المدارك الحساسة وشدة ذكائها وتأثرها متنبه فيها أكثر من رفيقها الرجل ثم أن مجرى الدم في الرجل أغزر في الجزء الخارجي يهبه غرابة في ظواهره العالية من حيث الأعمال العقلية وحكماً أهدأ وإرادة أقوى ولذلك كانت المرأة ثرثارة أكثر من الرجل - قالته جريدة المايتن.
تفوق الرجال
نشرت الكاتبة المدونة صوفيا نادجدا في إحدى صحف لندن أبحاثاً جديدة بشأن اختلاف الإحساس في الحواس فقالت أن المرأة أسمى من الرجل في اللمس والرجل أسمى منها في الشم ويختلف الرجل والمرأة في الحكم عَلَى الطعم فالرجل يشعر بالمرارة أكثر من المرأة وهذه تشعر بالحلاوة أكثر وحاسة السمع في الرجل أقوى منها في المرأة وغلط رؤية الألوان عند المرأة أندر منه عند الرجال وبينا نرى من يغلطون في تمييز الأوان من الرجال عَلَى معدل واحد في كل 25 أو 30 نرى عدد النساء واحدة في كل 250 بل 1000 وهكذا في القابليات الأدبية في الجنسين فقد تبين بالاستقراء أن صفة الهدوء هي في الرجال عَلَى معدل 25 في المئة في حين أنها في النساء عَلَى معدل 20 وقد فرض عَلَى 25 طالباً و25 طالبة أن يكتبوا في آن واحد ومهلة حددت لهم ما يستطيعون كتابته من(79/62)
الكلمات فكان معدل ما كتبه الطلاب 1375 كلمة وما كتبته الطالبات 1128.
البقول الشافية
كتب طبيب في جريدة ألطان مبحثاً في البقول الشافية قال فيه أن الحروب في القديم لم تكن ضارة كل الضرر بل أتت بمنافع عادت عَلَى الفاتحين بالشيء الكثير فإن نساء مقدونية كن يسرن مع جيش الإسكندر ليهيئن لأزواجهن المحاربين طعامهم وبذلك عرفن البصل اليابس والبصل الطري والجرجير التي يتناولها المصريون ولو لم يداهم الإسكندر ابن فيلبس بلاد الهند لما استطاع العالم القديم أن يعرف الفاصولية واللوبيا. وأخذ أهل غاليا عن أهل فوسة اليونان الذين داهموا إقليم البروفانس الزيتون وصنع الخبز وعاد القرطاجنيون من حملتهم عَلَى سردينيا يحملون البقدونس ووجد أحد الإنكليز في فرجينيا البطاطا عَلَى عهد الملكة إليزابيث وبالجملة فإنا عرفنا معظم البقول المائية بالاختلاط كثيراً مع شعوب الشرق والغرب وهذه البقول البصل فقد عرف القدماء خواصه في إدرار البول ولطالما كان حساء البصل الدواء الحقيقي يورث الرجال قوة وقد رأى أحد كبار أطباء القرن الثامن عشر أن أربع بصلات تسحق في قليل من الخمر الأبيض تفتح الكلى وتسهل مجرى البول كما تسهل جميع العقاقير الحادة وقد عاد أحد أطباء بوردو منذ سنتين بعد أن نسي الاستشفاء بالبصل يسمح لأحد المصابين بالاستسقاء باستعماله مقلياً ومشوياً ومطبوخاً فبعد أن كان بطنه مملوءاً ماء أخذ يخف انتفاخه ويرجع إلى حالته الطبيعية وعللوا ذلك لما فيه من آزوت البوتاس الطبيعي الموجود بكثرة في لب البصل وقد استعمل الدكتور دلكاشه في باريز البصل علاجاً لإحدى البنات كانت قد أصيبت بالخناق ثم بالكلب وامتلأت ساقاها ماء وعسر عليها البول فلم تكد تستعمل البصل إلا وارتفع البول من 250 غراماً إلى لتر واحد وخف الورم وزال هذا ويلاحظ أن بعض المعد ترى البصل بطيئاً عَلَى الهضم. ولطالما استعمل الثوم في الشفاء من الطاعون والوباء ورائحته تتبخر من الجلد والرئتين والتنفس ولذلك حظر اليونان الدخول إلى المعبد عَلَى كل من تناوله فهو مضاد للتعفن أحسن من المواد غير الطبيعية التي نستعملها اليوم وكنا نشير عَلَى الناس بالإكثار من استعماله لولا أنه نمام تنم عليه روحه وأنفاسه.
ثم أن الرضي شوكي زمنً مسحوقاً للشفاء من الحميات المتقطعة ولبه إذا طبخ في الزبدة(79/63)
(القشطة) يكون لذيذاً للناقبين وينفع المصابين بالبول السكري ومثل ذلك يقال في الجزر والفاصولية وأحسن طريقة في الانتفاع من البقول أن لا تغلى كثيراً لتفقد خاصية ما فيها من الأملاح النافعة بل أن تطبخ عَلَى البخار كما يطبخها من حتموا عَلَى أنفسهم التغذي بالبقول أو عَلَى الطريقة الإنكليزية ويكف أن تجعل في سلة من المعدن تناط في القدر فوق ماءٍ غالٍ وبذلك تجمع إلى اللذاذة فائدة. ويحتوي الجزر عَلَى صبغة كيماوية وأملاح وفوسفات البوتاس وسكر وغير ذلك من الحجيرات والمواد النافعة في التداوي.
واختلف العلماء في الهليون فمن قائل بأنه دواء أكثر منه طعام ومن مدع أنه سم وقد قال الطبيب فريدريك في أوائل القرن الثامن عشر أن الشراب المعمول من جذوع الهليون يسكن الخفقان وهو أحسن مسكن للقلب والهليون أحد الجذوع الخمسة المدرة للبول وأحسنه البرى أما المزروع في الحدائق فقد فقد من خاصياته بقدر ما زاد في طعمه ولذاذته وتكثر مائيته فتكون 93 في المئة منه وإذ كان الهليون يهيج الكلى خصوصاً فيمن تجاوزوا الخمسين بحيث قد ينشأ عنه ضرر فالأولى لهم الابتعاد عنه أو يستشيرون طبيبهم في ذلك.
ولقد كان الخس مما يرغب فيه القدماء ومنهم من يستعمله عقيب الطعام ويرون أنه مرطب للون وفيه من المواد ما ينفع في تنقية الأحشاء من الفضلات ويدخل مع الكراث في حساء البقول. وهذا الحساء إذا أخذ بارداً عَلَى الريق يكون مصلاً نافعاً شافياً من اضطراب المعدة ومن الإمساك الشديد ومانعاً من التعفن ويمكن أن يتناول حاراً ممزوجاً بقليل من الشعرية والسميد وتحضيره سهل وهو أن يغلي لتر من الماء مع ملعقة صغيرة من الملح الأسمر وتلقى فيها كراثتان وجزرة ولفتة ونصف خسة وقليل من الهندباء المسحوقة وأن تغلى من عشرين إلى خمس وعشرين دقيقة لا أكثر وإلا فتصبح مرة والمقصد مزجها لا جعلها حساء.
وكان للملفوف أيضاً عند أجدادنا موقع مهم ولطالما وصفه كبار الأطباء الأقدمين لما فيه من الكبريت وقد أوصى كوبلر احد أطباء القرن التاسع عشر في استعماله لمراض الجلد وتحسين التنفس وإذا صعب هضمه فلا بأس أن يضاف إليه أثناء طبخه ملعقة من بيكربونات الصودا وكذلك السبانخ فإن فيه حديداً حياً بكمية وافرة ولذلك ينفع كثيراً أرباب فقر الدم وفساده وهو ملين يحتوي الكثير من المواد الغروية والكر والحسن لمن فيهم مغص(79/64)
أن يبتعدوا عن تناوله. ومثل ذلك يقال في القرع والجرجير والخردل الذي يهيج الأحشاء ويطهر الأمعاء ولا ينبغي الإكثار منه لفتح القابلية للطعان في البلاد الحارة فإنه يضر.
هذا وأن البطاطا فقد ارتأى أحد كبار أطبائنا أنها نافعة للمصابين بالبول السكري يتناولها المصاب به 1500 غراماً لما فيها من أملاح البوتاس الخاصة الغزيرة بحيث أن الكيلوغرام منها يحتوي من المواد القلوية التي لا تحويها معظم المياه المعدنية التي تستعمل في أمراض الكبد.
عظمة الجبان وشقاؤه
كتب بول غولتيه في الطان مقالة تحت هذا العنوان قال فيها أن من لم يدخل الجبن قلبه بعض الأحايين ينعي عَلَى نفسه أنها متوسطة في مداركها وقابلياتها وانها غير مستعدة للبلوغ والتفنن ومن لم يدخل في طور من الجبن ولو قليل في صباه يستحيل عليه أن يلبس لكل حالة لبوسها بدون تردد عَلَى العكس في الشبان الذين يجربون أنفسهم في مواطن الجبن والشجاعة فإنهم من أرباب العقول المبتذلة عَلَى أن الجبن في المرء ينبغي أن يكون محطة واحدة في حياته وصعب إذا تأصل الجبن بقليل من الخجل والخوف فهو نوع من الاضطراب لا يخلو منه امرؤ وأن وشفور زعيم الاشتراكيين ليصفر وجهه ويجبن قليلاً أمام الجمهور وكذلك المحامي بالي المشهور وكذلك كان شأن نابليون الأول وهو يقف أمام شعبه فيتماسك وكم أصيب بهذا الجبن رجال ولاسيما من الممثلين والمحاضرين والواعظين وكم من رجل يعد من كبار الخطباء فإذا جئت تقدم له رجلاً يحمر خجلاً وكم من آخر يخوفه ابنه ويحسب له ألف حساب ومن الوف يخشون باس نسائهم ومن آخرين يخشون بأس الرجال وكم من أستاذ يخاف من تلاميذه فيجبن أمامهم وكان وهو تلميذ لا يخاف بادرة أحد وكم من رجل كبير العقل واسع المدارك يجبن إذا التقى وأحمق لأنه يدرك هول الموقف فلا يتيسر أن يتفاهم واباه للفروق بينهما.
والجبناء هم الذين غرز الجبن فيهم بالفطرة بدون أن يجبنهم أحد فيجبنون لأنفسهم بدون أدنى سبب فيخفق قلبهم ويحمرون ويصفرون ويهتزون وتضيق أنفاسهم وقد يصابون بمغص وغشيان وكم من ممثلة كبيرة أصيبت قبل الدخول إلى المسرح بمثل هذه الأعراض وكم من امرئ أضاع صوابه فلم يعرف ماذا يقول وماذا يريد فسلبت منه حاسة القول(79/65)
وحاسة الإرادة وغاب فلم يع عَلَى نفسه يسكت فلا يحير جواباً ويغيب عن حضور ذهنه ومثل ذلك يصيب الطلبة في الفحوص وكم منهم من أخفق بسبب هذا الجبن. ولطالما شكا الفيلسوف جان جاك روسو المقنن مونتسيكيو من جبن ينالهما حتى قال الأخير عن نفسه أن الجبن كان آفة حياتي.
الجبان يضحك الناظرين منه فقد يرفع صوته في محل يجب خفضه ويخفضه في محل الرفع وتختل حركاته وقد يخرج من الغرفة ويقع من تعلق رجله بالبساط وربما حقر الكبير وكبر الصغير وربما ظنه الحضور أحمق أخرق لا عقل له ولا معرفة ولذلك لا ينجح في حياته وكم من واحد يدفعه حب المال أن يذهب إلى أقصى الأرض فيستفيد من ضعفه ويظهر كذلك وليس هو سعيداً في حبه وربما كان هو المحب الحقيقي بحيث أن كل إنسان مولع بالحب مهما بلغ من جسارته يصبح جباناً أمام محبوبه فلا يحب. والنساء لا يؤخذ بمجامع قلوبهن إلا الجسورون وليس للجبان حظ مع النساء وما أقسى الحكم عليه في ذلك لأنه لم يكن جباناً إلا طمعاً في العواطف.
وفي تلبك الحال يغير الجبن أخلاق المصابين إذا لم يستطيعوا التخلص منه ومن يتفوقون عليه يكونون في الغالب دونه عَلَى أن الجبان قد يختار العزلة عن الناس لئلا يناله منهم ما يضره في عزة نفسه وينزله عن كبريائه عَلَى أن الجبان لا يظل عَلَى جبنه إلا لضعف في إرادته وتضاؤل في امتلاك اضطراباته والدليل عَلَى ذلك أن الجبن يزيد وينقص بحسب الحالة الصحية والاحمرار يكون عَلَى أتمه فيكون فيهم يحمرون بسبب وبلا سبب فهم يشبهون راكب الدراجة يخاف السقوط فتخونه رجلاه فيسقط وكم منهم بقوا عازبين ولم يستمتعوا باللذائذ وكم منهم فكروا بالانتحار ليخلصوا مما هم فيه.
وأحسن دواء للخلاص من الجبن إن لم يكن سهلاً فهو ممكن أن يعمد إلى عمل كل ما يقوي المجموع العصبي وأكثر ما ينجع فيه التأني وتربية الإرادة. وبالجملة فإن الجبن محطة في الحياة يجب أن يقف فيها الشاب وهي جوهرية تنقذ الرجل الذي يتربى بان تكرهه عَلَى أن يحسن قياد نفسه وتعد لحياة داخلية دع أن الجبن في أكثر الأحيان هو نتيجة استعداد لأن يأبى صاحبه بالبدع والرغائب وقصارى القول ينبغي أن يتفاءل خيراً للجبان عَلَى شرط أن يداوي نفسه ومثله هو الذي يخاذله التوفيق لأن يكون رجلاً في هذه الحياة.(79/66)
الأمم والحمامات
أرسل الدكتور كين أحد أطباء مانشستر بلاغاً من ألطف ما كتب إلى المجلس الصحي في يور ك من بلاد إنكلترا بشأن نظافة الجسم الإنساني والحمامات قال بعد البحث الدقيق أنه في كل عشرين نزيلاً في الفندق واحد فقط يستحم وفي مقدمة المستحمين الضباط ثم من اعتادوا الألعاب الرياضية أما رجال الدين فهم أقل الطبقات استحماماً وإذا وضعنا للأمم ترتيباً في الاستحمام فيكون رجال الإنكليز في المقدمة ثم الإيكوسيون ثم الأيرلانديون ثم نساء الأميركان ثم نساء الإنكليز ثم رجال أميركا ثم الفرنسيس والألمان وهؤلاء عَلَى مستوى واحد والسر في تفوق نساء الأميركان عَلَى نساء الإنكليز في النظافة هو أن نساء الأميركان لا يتحاشين الخروج بألبسة النوم في الفنادق أمام النزلاء بخلاف الإنكليزيات فإنهن يتحامين ذلك أدباً وتعففاً هذا ما قاله إنكليزي في حين كان من الأمور الثابت في أوربا أن أكثر أهلها نظافة هم الإنكليز والسر في نزافة الإنكليز أن الاستحمام في معظم فنادقهم مجاني في حين أن الاستحمام في الفنادق ولاسيما في البلاد التوتونية يكلف الفرنكين والثلاثة كل مرة أما في الشرق فمن العجيب أن تقل النظافة مع بذل الماء وتسهيل الوسائط عما كانت عليه في القرون الوسطى مثلاً.
اللؤلؤ
تشرت المجلة الفرنسوية بحثاً في اللؤلؤ آثرنا تحصيله فيما يلي: كان اللؤلؤ الذي يرغب فيه كل ذات ظرف اليوم مشهوراً عند المصريين والبابليين والآشوريين والصينيين ورد ذكره في العهد القديم والعهد الجديد ولطالما أولع بحبه الشرق ولا تكمل حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة إلا إذا كان فيها كلام عن اللؤلؤ ومازالت جميع بلاد الإسلام تبتاعه ويكتفون منه بما حضر مهما كان حجمه لأن أسبابهم المالية لا تساعدهم عَلَى ابتياع المدور منه ولا يستعملونه إلا مثقوباً يجعلونه في الأساور والعقود ويدخل في بعض العقاقير ولاسيما في بلاد الصين التي تستعمل مسحوق اللؤلؤ في كثير من الأدوية زعماً منهم أن مسحوقه يعيد إلى الشيخ نشاط الشباب في الخامسة والعشرين من عمره وهذا الاعتقاد في نفع اللؤلؤ قديم فقد قيل أن كيلوبطرا ملكة مصر تناولت لؤلؤ حلتها في الخل وكانت تعتقد بغناء هذا الدواء. وقد دخل استعمال اللؤلؤ إلى فرنسا عَلَى عهد هنري الثاني عَلَى يد كاترينا دي(79/67)
ميديسيس ولم يستعمله الناس كلهم إلا منذ نحو عشرين سنة بل كان خاصاً بالعظماء والعظيمات ولطالما أحبت إسبانيا وبولونيا وجزءاً من روسيا الشرقية اللؤلؤ وعدته من أنواع الزينة الوطنية ومنذ نحو عشرين سنة شاع استعماله في إنكلترا وإيطاليا شيوعه في فرنسا ثم اخذ ينتقل إلى جميع بلاد أوربا ويصل أميركا الشمالية والجنوبية والنساء يرغبن اليوم في اقتناء اللؤلؤ بحيث كادت الأثمان التي تبذل فيه تعد في فصل مالاً ينتج من رأس المال فأصبح مغاوص اللؤلؤ لا تقوم بما يطلب منها كل سنة حتى رأوا أن يبتاعوا القديم منه المستخرج من جمهوريات أميركا الوسطى وهو الذي يصاد في بنما وكوستاريكا فبلغت أثمانه عشرين ضعفاً مما كانت تساوي ويبتاع أهل إسبانيا وروسيا وبولونيا لؤلؤهم من الهند والصين فيرقبون أنلاس الراجات أو ملوك الهند بعض السنين ليخرجوا عن لؤلؤهم العظيم وإن كان يعوز عليهم ذلك كما يعز عَلَى الصينيين أن يبيعوا لؤلؤهم خصوصاً ما كان منه مدفوناً مع آبائهم وأجدادهم لأن العادة أن تدفن مع الميت جواهره وحليه ولا يلبث اللؤلؤ القديم أن يبتاع من المشرق فينقطع أثره وهذا السبب في غلاء ثمن اللؤلؤ فإن ما يعاد منه أصبح نادراً ولا يعاد اليوم إلا الصغير الحجم ففي سنة 1911 التي كانت من السنين الجيدة في صيد اللؤلؤ في الخليج الفارسي لم يستخرج سوى أربعين لؤلؤة تتجاوز الواحدة الخمسة والعشرين قمحة وهو أحسن موسم للؤلؤ في بحار العالم كله وتقدر قيمة ما يستخرج من الخليج الفارسي سنوياً من أربعين إلى ستين ملون فرنك ويختلف شكل اللؤلؤ بحسب أصدافها وقعر البحار التي تعيش فيها فإذا كان قعر البحر كلسياً جاء اللؤلؤ أبيض وإذا كان حديدياً جاء لؤلؤه ملوناً واللؤلؤ يستخرج وعن منطقة مستطيلة في بحار الأرض في خليج فارس إلى جزيرة مرغريتا إلى فنزويلا فمصايد أستراليا فمصوع وتاهيتي وبناما وكليفورنيا والجزائر الهولاندية وغير ذلك وخير الصدف ما استخرج من المصايد القديمة أما المصايد الحديثة فتنضب بسرعة ولا توازي العناء في الاستثمار.
قد يظن بعضهم أن من يصيدون اللؤلؤ أغنياء والحقيقة أن صائديه فقراء ويختلف عددهم بين ستين وثمانين ألفاً في شاطئ جزيرة العرب والمتجرون به من تجارهم الأغنياء لا يزيد عددهم عن خمسة عشر شخصاً ومصائد اللؤلؤ عَلَى 150 إلى 200 ميل من شاطئ بلاد العرب يقضون أعظم المشقات في صيده ويغوصون ثلاث دقائق في الغالب ومنهم من(79/68)
يهلك غرقاً أو أن تعضه سمكة ولا يستطيع أن يغوص أكثر من خمس سنين ثم يضعف. قال الكاتب ولما رأيت ما حل ببعض هؤلاء الغواصين ذكرت أوباش باريز فقلت في نفسي ليت الحكومة ترسلهم ليعملوا في صيد اللؤلؤ الأشغال الشاقة فإن هلاكهم واقع لا محالة والبلاد تنجو منهم وأعظم سوق تقام للؤلؤ في العالم مدينة بومباي يقصدها تجاره من بلاد العرب ومصوع وسيلان وجزائر جاوة وغيرها من مصائد المحيط الهندي وفيها تكون لسماسرة هذا الحسم الكريم شدة وعرامة وأهم تجاره إنكليز كما أن أهم مصائده بيد إنكلترا وقيمة المستخرج منه تقل سنة عن أخرى وربما جاء يوم استعيض عنه في الزينة بالأحجار الكريمة كالياقوت والزمرد والزبرجد عَلَى أن بعض معادن هذه آخذة في النقص أيضاً وتجارته اليوم تساوي مئات الملايين من الفرنكات وكم اغتنى منه من تجار الإنكليز والإيطاليين والألمان خصوصاً بعد أن كان يباع لثمن بخس ولم تكن الأنظار متجهة إليه أما اليوم فندر من يبيع بثلاثة أضعاف ما يشتري وفي الماضي كان ذلك من المألوف.
الإسراف في القهوة
يزيد غرام العالم اليوم بعد اليوم باستعمال القهوة فالفرنسوي يصرف في السنة كيلوغراماً ونصفاً من البن والألماني كيلوغرامين ونصفاً والأميركي ثلاثة ونصفاً والبلجيكي خمسة ونصفاً والعثماني ستة ونصفاً والبرازيلي سبعة والإنكليزي يكتفي بكيلو واحد. قالت المجلة رواية هذا النبأ وليت شعري هل اعتدال الإنكليز في القهوة نشأ عنه سكوته في عراك هذا العالم العصبي.
الألكحول والأمية
لاحظوا في ألمانيا أن لانتشار الألكحول علاقة بتعليم الشعب فالعملة الذين يطالعون أكثر من غيرهم ولاسيما الصحف أقل استعمالاً للألكحول ممن لا يطالعون ففي إقليم ورتمبرغ حيث تجد للسكان رغبة دائمة في المطالعة وتباع الصحف كثيراً يقل شاربو المسكرات أكثر من ولاية بورن الألمانية التي يرغب سكانها عن المطالعة وتقل صحفها وبذلك تسقط دعوى من قال أن العملة يزيد تعاطيهم المسكرات كلما قل عملهم وكثر فراغهم.
أكبر محطة
تعمر الآن في أميركا أكبر محطة من محطات السكة الحديدية في العالم وهي محطة سكة(79/69)
بنسلفانيا نيويورك وتنتهي سنة 1915 تكلف تسعمائة مليون فرنك وأهم ما فيها الشرفات التي تبنى لقبول الركاب وهم نازلون من القطار والخطوط الحديدية تعلو قليلاً عن سطح الأرض وتقام فوق المحطة عمارات ذات عشرين طبقة.
الحمى المعاودة
قالت الطان: إن للحمى المعاودة شدة خاصة بسبب انتشارها العفني وهي تكثر في أفريقية الشمالية وأفريقية الوسطى وينتقل ميكروبها الحلزوني بواسطة الحشرات الطفيلية ولاسيما القمل وقد أكد نيكول وبيلزو ونسل أن هذه الحشرات لا يمكن أن تنقل الميكروب إلى الأشخاص الذين ليس في جلدهم آفة أو جرح فبحث العلماء منذ ذلك العهد عن كيفية انتقال المرض فأثبتوا أن الميكروبات عندما تلحق بالحشرات تتبدل وتصبح مرئية بالمجهر وتدخل إلى الباطن فتنمو وتتكيف تكيفها الأول بعد ثمانية أيام وهكذا يمكن التوقي من الحمى المعاودة إذا اعتنى السكان بإهلاك حشراتهم بدون سحقها والظاهر أن الحميات المعاودة المنتشرة في بعض أقاليم روسيا وآسيا وإيرلاندة وكندا التي يسكنها أناس قلما يحفلون بالقواعد الصحية لها نفس هذه الوسائط في الانتقال والعدوى.
الصناعة في النمسا
وجدت الصناعة النمساوية لها مصرفاً عظيماً في بلادها إذ زادت في الجمهور القدرة عَلَى الابتياع بزيادة أجور العمال وسهولة استخدام العاملين لأيديهم وأبدانهم ويستدل عَلَى زيادة المصروف من البضائع وقلة الصادر منها بنمو عدد العمال في تلك الإمبراطورية فقد كان عددها سنة 1902 - 11954 مشروعاً لصنع الحاصلات الصناعية وتحويلها فأصبح عددها سنة 1901 - 14517 أي بزيادة 2563 منها 2639 معملاً للنسيج و2967 معملاً لصنع الحجر والفخار والخزف والزجاج و2225 معملاً للمواد المأكولة و1518 معملاً للمعادن و1467 معملاً للسلال و925 معملاً للحاصلات الكيماوية وقد كان يعمل 1723000 شخص سنة 1902 في هذه المعامل المختلفة والبيوت وعددها كلها 103114 وتبلغ أجورهم 105 ملايين كورون فأصبح عددهم سنة 1910 2666000 شخص وأجورهم 1890 مليون كورون يعملون في 23000 معملاً ومحلاً فزيادة عدد العملة 31 في المئة والأجور 57 في المئة يدل عَلَى أن قوة الاستهلاك في الناس قد نمت في النمسا(79/70)
عَلَى معدل واسع.
السكك الحديدية الهوائية
يراد بالسكك الحديدة الهوائية النقالات المحتوية عَلَى أدوات للجر وطرق للدفع مؤلفة من سلك أو أسلاك معروفة من القديم ولم تستخدم في الصناعة ببلاد الغرب إلا في سنة 1823 في حين كانت معروفة في نابولي ففي متحفها قطعة من السلك نحاس وجدت في خرائب بومبي وقد عرفت هذه النقالات الهوائية منذ زهاء ألف سنة في يابان والصين وجعلوا لها أسلاكاً من ألياف نباتية ليجتازوا عليها الأنهار والأودية العميقة ولكن أول وصف لسكة حديدية هوائية لم يجر إلا سنة 1411 كما شوهد مسطوراً في مخطوط محفوظ في مكتبة فينا ثم شاع استعمالها واخذ اللومبارديون يعمدون إليها في اجتياز الأنهار ونقل التراب لعمارة الحصون وفي كتاب لرجل ظهر في البندقية نحو سنة 1617 أول تخطيط لسكة حديد هوائية تستعمل لنقل الأشخاص وكانت ألمانيا في العهد الحديث أسبق الأمم إلى استخدامها فقد استعملوها سنة 1872 في بناء الحصون في متز ثم أولع بذلك الأميركان.
الحبوب النافعة
للفوسفور دخل كبير في قوام الجسم الإنساني كان البشر في أيامهم الأولى يحصلون عليه من ألبانهم ولحومهم ولما شرعوا يزرعون الحنطة ويمصرون الأمصار ويختطون القرى أخذوا يعمدون إلى البقول في الحصول عَلَى الفوسفور اللازم قال الدكتور هالم في الطان أن الأرز الذي هو أن الأرز هو أساس غذاء المشارقة يحتوي عَلَى 14 في المئة من الحامض الفوسفوري وفيه غذاء كاف حديدي ومطبوخه نافع في الشفاء من الإسهال أكثر من جميع الأحسية والعدس عَلَى ما يظهر من تاريخ عيسو كان له شأن عظيم في القديم وفي العدس 7 غرامات و55 في الألف من الفوسفات وهو نافع جداً للمصابين بالبول السكري. والحنطة كانت في كل قرن غذاء نافعاً تأتي بالفوسفات المطلوب في الأجسام وكان أجدادنا يتناولون الخبز أسمر بما فيه فنفعهم لأن فيه 77 في الألف من هذه المادة في حين لا يحتوي الأبيض أكثر من نحو واحد في الألف من الفوسفات ولذلك يفضل الأسمر عَلَى الأبيض في الصحة وقد قال أحد علماء الصحة أن انتشار داء ضعف المجموع العصبي (النوراستنيا) ناشئ من تناول الدقيق الأبيض في الخبز وأحسن الخبز ما كان(79/71)
وسطاً لا أبيض ولا أسود والأبيض منه قد كان منه مرض الزائدة الدودية المنتشرة في هذا العصر. وقد قال الدكتور أن الحب والرضاع يأخذان المرأة فوسفوراً كثيراً وكذلك يفقد المرء فوسفوراً كثيراً إذا كان مصاباً بإحدى الأمراض المعدية كالسل والقرمزية والحمى التيفوئيدية ومن أصيب بالهم والغم وإنهاك عقله بالأشغال الفكرية ومن استرسل في شهواته وفي بيض الدجاج معوض مهم عن الفوسفور لأن فيه 13 في الألف فأوصى المتعوبين والمعمرين أن يتناولوا في الصباح عند قيامهم من النوم صفار بيضة تمزج بسكر ناعم معنجان قهوة وتخلط بلطف في قهوة سوداء لا تكون غالية كثيراً.(79/72)
العدد 80 - بتاريخ: 1 - 10 - 1912(/)
كتاب الأدب والمروءة
عني بنشره الشيخ طاهر الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين قال صالح بن جنان: اعلم أن العرب قد تجعل للشيء الواحد أسماء وتسمي بالشيء الواحد أشياء فإذا سنح لك ذكر شيء فاذكره بأحسن أسمائه فإن ذلك من المروءة وإنما الرجل بمروءته فالمروءة اجتناب الرجل ما يشينه واجتناؤه ما يزينه وإنه لا مروءة لمن لا أدب له ولا أدي لمن لا عقل له ولا عقل لمن ظن أن في عقله ما يغنيه ويكفيه عن غيره وشتان بين عقل وافر معه خمسون عقل كلها وافر مثله ومن عقل وافر لا فائدة معه ومن ذلك قول الشاعر:
وما أدب الإنسان شيء كعقله ... ولا زينة إلا بحسن التأدب
وقال أن الأفئدة مزارع الألسن فيمنها ما ينبت ما زرع فيه من حسن ولا ينبت ما سمج ومنها ينبت ما سمج ولا ينبت ما حسن ومنها ما ينبت جميع ذلك ومنها لا ينبت شيئاً وإن من المنطق لما هو أشد من الحجر وأنفذ من الإبر وأمر من الصبر وأحر من الأسنة وأنكد من زحل ولربما احتقرت كثيراً منه عَلَى حرارته ومرارته وتنكد مخافة ما هو أحر منه وأمر وأفظع وأنكر وفي ذلك قول الشاعر:
لقد أسمع القول الذي كاد كلما ... يذكر تيه الدهر قلبي يصدع
فأبدي لمن أبداه مني بشاشة ... كأني مسرور بما منه أسمعه
وما ذاك من عجبٍ به غير أنني ... أرى أن ترك الشر للقمر أقطع
وقال في ذي الوجهين: من أظهر ما تحب أو تكره فإنما يقاس ما أضمر بما لا أظهر لأنك لا تقدر أن تعرف ما أسر وقال:
ليس المسيء إذا تغيب سوء ... عندي بمنزلة المسني المعلن
كم كان يظهر ما أحب فإنه ... عندي بمنزلة الأمير المحسن
والله أعلم بالقلوب وإنما ... لك ما بدا منهم بالألسن
ولقد يقال خلاف ذلك وإنما ... لك ما بدا منهم بالأعين
وقال في الصدود: أما بعد فقد أحضرتني من صدرك ما آيسني من ودك ولم يزل يجري في(80/1)
لحظك ما يدخلني في رفضك ويدلني عَلَى غل صدرك وفي ذلك أقول شعراً:
نظل في قلبه البغضاء كامنة ... فالقلب يكتمها والعين تبديها
والعين تعرف في عيني محدثها ... من كان من حزبها أو من يعاديها
عيناك قد دلتا عيني منك عَلَى ... أشياء لولاهما لم كنت أدريها
أن الأمور التي تخشى عواقبها ... إن السلامة ترك ما فيها
وقال في كثرة المال وقلته: لا تستكثر مال أحد ولا تستقله حتى تعلم ما عياله فإن من كثر ماله وعياله فهو مقل ومن قل ماله وعياله فهو مكثر.
وقال في ذكر الأحمق ودخوله فيما لا يعنيه: وأكثرهم دخولاً فيما لا يدخل فيه وأرضاهم بما لا يكفيه - عدوه أعلم بسره من صديقه وصديقه قد غض منه بريقه ولا يثق بمن نصحه ولا يتهم من خدعه ولا يأمن إلا من يخونه زلا يتحفظ إلا ممن يحفظه ولا يكرم إلا من يهينه أشبه شيء خلقاً باللئيم إن أحسنت إليه لم يشكر وإن أسأت إليه لم يشعر لا ينفعك من وجهه إلا ضرك من وجوه: إن أقبل عليك لم يسرك وإن أدبر عنك لم يضرك إن أفسد شيئاً لم يحسن أن يصلحه وإن أصلح شيئاً أفسده إن أحببته فرأى منك حسناً لم يحسن أن ينشره وهو مع ذلك بخطئه أشد إعجاباً من العاقل بصوابه إن جلس إلى العلماء لم يزدد إلا جهلاً وإن جلس مع الحكماء لم يزدد إلا طيشاً وإنما جعل نفسه المحدث لهم يكلفهم أن يكونوا المنصتين له أعيا الناس إذا تكلم وأبلدهم إذا تعلم واصحبهم لمن يشينه وأرفضهم لمن يزينه وأشدهم في موضع اللين وألينهم في موضع الشدة وأجبنهم في موضع الشجاعة أن افتقر عجب من الناس كيف يستغنون وإن استغنى عجب من الناس كيف يفتقرون لا يفهم إلا حدثته ولا يفقه إن أفهمته ولا يقبل إن وعظته ولا يذكر إن ذكرته وفي ذلك أقول شعراً:
المرء يصرع ثم يشفى داؤه ... والحمق داء ليس منه شفاء
والحمق طبع لا يجول مركب ... وما أن لأحمق فاعلمن دواء
وقال في ذكر الهوى: إن من الناس من إذا هوي عمي ومنهم من إذا هوي أبصر مرة وأعمي أخرى ومنهم من إذا هوي لم يكد يخفى عليه شيء وهو اللبيب العاقل الحليم الكامل الذي إن أعجبه أمر نظر إلى هواه وعقله فإن اتفقا اتبعهما وإن اختلفا اتبع عقله وترك هواه وكان أمراً معتدلاً يشبه بعضه بعضاً وقليل ما هم في ذلك أقول شعراً:(80/2)
أملك هواك إذا دعاك فربما ... قاد الحليم إلى الهلاك هواه
الله يسعد من يشاء بفضله ... وإذا أراد شقاءه أشقاه
وقال أيضاً في أناس تحسن وجوههم عند حاجاتهم وتغير وجوههم عند غناءهم شعراً:
أرى قوما وجههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا
وإن كانت حوائجنا إليهم ... تغير حسن أوجههم علينا
ومنهم من سيمنع ما لديه ... ويغضب حين يمنع ما لدينا
فإن بك فعلهم شحا وفعلي ... قبيحاً مثله فقد استوينا
وقال فيمن فعل أمراً لا يحسن أن يحتال له: اعلم أن من قاتل بغير عدة أو خاصم بغير حجة أو صارع بغير قوة فهو الذي صرع نفسه وخصم نفسه وقتل نفسه فإن ابتليت بقتال أحد أو خاصمته أو مصارعته فأحسن الإعداد له واعرف مع ذلك عدته وأبصر حجته وأخبر قوته كما يخبر قوتك وحجتك وعدتك فإن رأيت تقدماً وإلا كان التأخر قبل التقدم خيراً من التندم بعد التقدم وفي ذلك أقول شعراً:
إذا ما أردت الأمر فاعرفه كله ... وقيه قياس الثوب قبل التقدم
لعلك تنجو سالماً من ندامةٍ ... فلا خير من أمر أتى بالتندم
وإن من الناس من يرزق حجة أو عدة أو قوة فتكون عدته هي التي تقتله وقوته التي تصرعه وحجته التي تخصمه وذلك أنه ربما أدل فقاتل قبل أن يعلم أهو أعد أم الذي يقاتله وكذلك في الذي يخاصمه ويصارعه فإذا هو قد قتل أو صرع أو خصم أمام الذي يقاتله وكذلك في الذي يخاصمه ويصارعه فإذا هو قد قتل أو صرع أو خصم فلم ينفعه جودة عدته ولا قوة حجته حين أتى الأمر من غير جهته وفي ذلك أقول:
إذا ما أتيت من غير وجهه ... تصعب حتى لا ترى منه مرتقاً
فإن الذي يصطاد بالنفخ إن عنا ... عَلَى الفخ كان الفخ أعتى وأضيقا
وقال في الذي يعاقب الناس بغير مودتهم ويوجب حق نفسه عليهم: لا تدع الناس إلى برك وإجلال أمرك وتعظيم قدرك بالمعاتبة ولكن ادعهم إلى ذلك بما تستوجبه منهم وانظر الأمر الذي أكرم به من هو أبعد منك وقرب به من أنت أقرب منه فألزمه فإنك إن تلزمه لم تحتج معه إلى معاتبة ولا استبطاء حق لأنك إن دعوتهم إلى تكرمتك بغير ما تستوجب التكرمة به(80/3)
فإنما دعوتهم إلى أهانتك إما بكلام يحرجك وإما بفعال تقدحك وإن دعاهم إلى ذلك فضلك أجابوا إما بثناء يرفعك وبجزاء ينفعك.
وقال في معرفة الأخوان إنك لن تعرف أخاك حق المعرفة ولن تخبره حق المخبرة ولن تجربه حق التجربة وإن كنتما بدار واحدة حتى تسافر معه أو تعامله بالدينار والدرهم أو تقع في شدة أو تحتاج إليه في مهمة فإذا بلوته في هذه الأشياء فرضيته فانظر فإن كان أكبر منك فاتخذه أباً وإن كان أصغر منك فاتخذ ابناً وإن كان مثلك فاتخذ أخاً وكن به أوثق منك بنفسك في بعض المواطن وقال: كن من الكريم عَلَى حذر إن أهنته ومن اللئيم إن أكرمته ومن العاقل إن أحرجته ومن الحمق إن مازحته ومن الفاجر إن عاشرته ولا تدل عَلَى من لا يحتمل أدلالك ولا تقبل عَلَى من لا يحب إقبالك وكن حذراً كأنك غرو وكن ذاكراً كأنك ناسٍ والتزم الصمت إلى أن يلزمك التكلم فمن أكثر من يندم إذا نطق وأقل من يندم إذا لم ينطق وإذا ابتليت فعند ذلك تعرف جودة منطقك وقلة زللك وسعة عفوك وقلة حيلتك ومنفعة قوتك وحسن تخلصك واعلم أن بعض القول أغمض من بعض وبعضه أبين من بضع وبعضه أخشن من بعض وبعضه الين من بعض ولو كان واحداً فإن الكلمة اللينة لتلين من القلوب ما هو أخشن من الحديد وإن الكلمة الخشنة لتخشن من القلوب ما هو ألين من الحرير وإن عظم الناس بلاء وأدومهم عناء وأطولهم شقاء من ابتلى بلسان مطلق وفؤاد مطبق فهو لا يحسن أن ينطق ولا يقدر أن يسكت واعلم أن ليس يحسن أن يجيب من لا يسألك ولا تسأل من لا يجيبك وفي ذلك أقول شعراً:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه إن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
وقال في الرفق في الدواب: إن رفق الرجال بدوابه وحس تعاهده لها وقيامه عليها عمل من أعمال البر وسبب من أسباب الغنى ووجه من وجوه المروءة وقال التدبير مع المال القليل وخير من المال الكثير مع سوء التدبير وإنما المنفقون ثلاثة جواد مبذر وكريم مقدر ولئيم مقتر وفي ذلك أقول شعراً:
رب مال سينعم الناس فيه ... وهو عن ربه قليل الغناء
كان يسقي به وينصب حيناً ... ثم أمسى لمعشر غرباء(80/4)
ماله عندهم جزاء إذا ما ... أنعموا فيه غير سوء الثناء
رب مال يكون غماً وذماً ... وغني بعد في الفقراء
وقال في تصنيف الطعام إذا كنت ممن يؤكل طعامه وتحضر مائدته ويؤكل معه فليكن الذي يتولى صنعة طعامك من ألب الناس في عمله وأنظفهم في يديه ولا تدع أعلامه إن أحسن ولا إنذاره إن أساء فإن تعتبك عليه خير من تعتب الناس عليك واعلم أن لكل شيء غاية وإن غاية الاستنقاء التنظيف في الاستنجاء والإكثار من الماء حتى يستوي اليدان والريح والمنظر فإنه لا طيب أطيب من الماء ولو أنه المسك وما أشبهه من الأشياء وإنما يستدل عَلَى نظافة الرجل بنقاء أثوابه وإنما يكون القذر في الحمقى من الرجال والنساء ويستدل عَلَى بلادتهم وفي ذلك أقول شعراً:
ولا خير قبل الماء في الطيب كله ... وما الطيب إلا الماء قبل التطيب
وما أنظف الأحرار في كل مطعم ... وما أنظف الأحرار في كل مشرب
وقال في صفة العدو والصديق: احرص أن لا يراك صديقك إلا أنظف ما تكون ولا يراك عدوك إلا أحصن ما تكون فأما الصديق فإن كان الذي أعجبه منك خلقك أو خلقتك ولهما كان بحبك فكلما ازددت حسناً كان حبه لك أكثر ورغبته فيك أوفر (وأكثره عندك وأكبر لك في صدره) وأدوم له عَلَى عهدك وأما العدو فليس شيءٌ أعجب إليه من دمامتك وخساستك فاحترس منه وأظهر الجميل فليس شيء أعجب إليه من التمكن منك فانظر أن لا يكون شيء أعجب إليك من التحصن منه.
وقال في العقل والأدب: اعلم أن العقل أمير والأدب وزير فإن لم يكن وزير ضعف الأمير وإن لم يكن أمير بطل الوزير وإنما مثل العقل والأدب كمثل الصيقل والسيف فإن الصيقل إذا أعطي السيف أخذه فصقله فعاد جمالاً ومالاً وعضداً يعتمد عليه ويلتجأ إليه فالصيقل الأدب والسيف العقل فإذا وجد الأدب عقلاً نفقه ووفقه وقواه وسدده كما يصنع الصيقل بالسيف وإذا لم يجد عقلاً لم يعمل شيئاً لأنه لا يصلح إلا ما وجد وإن من السيوف لما يصقل يسقي ويخدم ثم يباع بأدنى الثمن ومنها ما يباع بزنته دراً وزبرجد وذلك عَلَى نحو الحديد وجودته أو رداءته وكذلك الرجلان متأدبان بأدب واحد ثم يكون أحدهما أنفذ من الآخر أضعافاً مضاعفة وإنما ذلك عَلَى قدر العقل وقوته في الأصل وفي ذلك قلت شعراً:(80/5)
وقد يصلح التأديب من كان عاقلاً ... وإن لم يكن عقل فلن ينفع الأدب
وقال في المراء: إذا اجتمع أهل نوع فتذاكروا عَلَى نوعهم ذلك لم يكن أصل كل واحد منهم أن ينفع بما أسمع وينتفع بما سمع فاعلم أن تذاكرهم ذلك من أول المراء يصدع العلم ويوهن الود ويورث الجمود وينشئ الشحناء وينغل القلب وفي ذلك أقول شعراً:
تجنب صديق السوء وأصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصاً فداره
وأحبب صديق الخير واحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره
وقال في الحكمة: أما ما يسمع من كثير من الحكمة فإنه أوله شيء يخطر عَلَى الأفئدة إذا خطر وهو أصغر من الخردلة وأدق من الشعرة وأوهن من البعوضة ثم تحركه اللسنة وتنبذه الأفئدة كما يحاك البرد وكما يمد النهر فيعود أكثر من الكثير وأوثق من الحديد وأثمن من الجوهر وأحسن من الذهب وأنفع من كليهما لأنه يزيد في المنطق ويذكي الذهن ويعين عَلَى الإبلاغ ويتجمل به القائل ويتقلب فيه كيف يشاء ويختار منه ما يشاءُ فينتفع به اللطيف ويقبل به السخيف ويتزيد به الكثيف ويتأيد به الضعيف ويزداد به الأيدي قوة من منطقه وبلاغة في كتبهم وللكرماء في بشاشتهم وللشعراء في قصائدهم فإذا كنت ممن يؤلف حكمة أو يضع رسالة أو يذكر في مهمة فلا تكمه قلبك ولا تكره ذهنك فإنه إذا أكره كل ووقف ولكن إن كنت في شيء من ذلك فاستعن بالتفرغ منه عَلَى التفرغ له والتأخر عنه عَلَى التقدم فيه فإن الذهن يجم كما يجم البئر ويصفو كما يصفو الماء.
وقال في الكلام وإخراجه: اعلم أن مثل الكلام كمثل الحجارة فمنها هو أعز من الذهب والفضة ومنها ما لا يعطى في الصخرة العظيمة منه درهم وفي ذلك أقول شعراً:
وما الحجر الكبير أعز فيما ... ظفرت به من الحجر الصغير
وكم أبصرت من حجر خفيف ... صغير بيع بالثمن الكبير
وقال في طلاقة الوجه وحسن الخلق: كن أسهل ما تكون وجهاً وأظهر ما تكون بشراً وأقصر ما تكون أمداً وأحسن ما تكون خلقاً وألين ما تكون كنفاً وأوسع ما تكون أخلاقاً فإن الأيام والأشياء عقب ودول فإن أنكرت منها شيئاً يوماً ما كان (ما) أنكرت منها شيئاً خفيفاً عَلَى أهل الشمانة وأهل الصفاء واحذر أن تحزن من يحبك وتفرح من يحسدك فلم أر في مصاب الدهر مصيبة أوحش من تغيير النعمة وإن أنت لم تنكر منها شيئاً ودامت لك بما(80/6)
تريد فما من الدنيا شيء تناله بدعة ولا رفق إلا وهو أهنأ مما نيل بتعب ونصب فأما من كفي وعوفي فما يصنع بالغضب والتضايق وأنهما هما العمر ونكد الدهر وفي ذلك أقول شعراً:
ما تم شيء من الدنيا علمت به ... إلا استحق عليه النقص والغير
ولا تغير من قوم نعيمهم ... إلا تكدر منه الورد والصدر
فعاد غماً ولن تلقى أمراً أبداً ... (أغمّ) من ملك أيام يفتقر
وقال في الكذب:
كذبت ومن يكذب فإن جزاءه ... إذا ما أتى بالصدق أن لا يصدقا
وقال فيه أيضاً:
إذا ما رأيت المرء حلواً لسانه ... كذوباً فأيقن أن لا حيا له
ولا خير في الإنسان إن لم يكن له ... حياء ولا في كل من لا وفا له
وقال في الأخوان:
ليس من كان في الرخاء صديقاً ... وعدو الصديق بعد الرخاء
عدة في إخائه لصديق ... إنما ذاك عدة الأعداء
لو صدفنا بذي إخاء أمين ... لاشترينا إخاءه بالغلاء
لو وجدنا أخاً متيناً أميناً ... لاتخذنا أخاه للشفاء
أما الرفقاء في السفر والجلساء في الحضر والخلطاء في النعم والشركاء في العدم فاحفظ مصاحبتهم وواظب عَلَى إخائهم وفي ذلك أقول شعراً:
وكنت إذا صحبت رجال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم ... واجتنب الإساءة إن أساؤوا
وأبصر ما يعيبهم بعين ... عليها من عيوبهم غطاء
أريد رضاهم أبداً وآتي ... مشيئتهم واترك ما أشاء
لا تبتدئن أحداً بصغير مما يكره ولا بكبيره ولا بقليل مما يسخط ولا بكثيره فإن ابتداك أحد بشيء من ذلك فقدرت عَلَى الانتصار منه فعفوت أو انتصرت فما أحسن جميع ذلك إلا أن العفو أكبر والانتصار أعز وكلاهما حظ وفي ذلك أقول شعراً:(80/7)
(فماذات باب بحمده فيما علمت عليه من طريق الصواب. . كم)
وأي الناس الأم من سفيه ... بقول لا يخاف من الجواب
وقال في الجهل: إياك والجهل فإنما تجهل عَلَى ثلاثة رجل أنت أعز منه ورجل هو أعز منك ورجل أنت وهو في العز سواء فأما جهلك عَلَى ما أنت أعز منه فلؤم وأما جهلك عَلَى ما هو أعز منك فحيف وأما جهلك عَلَى من هو مثلك فهراش مثل هراش الكلبين ولن يفترقا إلا مفضوحين أو مجروحين وليس هذا من فعال الحكماء والعلماء الحليم أرزن والجهول أنقص وفي ذلك أقول شعراً:
ما تم علم ولا حلم بلا أدب ... ولا تجاهل في قوم حليمان
ولا التجاهل إلا ثوب ذي دبس ... وليس يلبسه إلا سفيهان
وقال في رؤية الرجل وخبره إن من الناس من يعجبك حين تراه وتزداد عند الخبرة إعجاباً (به) ومنهم من تبغضه حين تراه وعند الخبر تكون له أكثر بغضاً ومنهم من يعجبك مخبره ولا يعجبك منظره ومنهم من يعجبك منظره ولا يعجبك مخبره وفي ذلك أقول شعراً:
ترى بين الرجال العين فضلاً ... وفيما أضمروا بالغبن الغبين
ولو الماء متنبه وليست ... تخبر عن مذاقته العيون
فلا تعجل بنطق قبل خبر ... فعند الخبر تنصرم الظنون
وقال أيضاً في ذلك:
وما صور الرجال بها امتحان ... وما فيها لمعتبر بيان
ولكن فعلهم ينبيك عنهم ... به تحب الكرامة والهوان
وما الإنسان لولا أصغراه ... سوى صور يصورها البنان
وقال أيضاً:
لم أزل ابغض كل امرئ ... وجهه أحسن من خبره
فهو كالغصن يرى ناضراً ... ناعماً يعجب من زهره
ثم يبدو بعده ثمن ... فيكون السم في ثمره
وقال في النهي عن القبيح: وإذا رأيت من أحد أمراً فنهيته عنه قلم يحمدك ولم يذمم في نفسه عَلَى مكانة أو يحدث حدثاً تعلم أنه قد انتفع بمقالتك فإن ذلك عيب آخر قد بدا لك منه(80/8)
لعله أقبح من الذي نهيته عنه وفي ذلك أقول شعراً:
ولا نهيت غوياً من غوايته ... إلا استزاد كأني كنت أغريه
ولا نصحت له إلا تبين لي ... منه الجفاء كأني كنت أغويه
وقال في المؤاخاة: لا تؤاخ أحداً إلا عَلَى اختيار منك له وارتضاء منك به واتفاق منه لك فإذا اتفق أمركما كذلك فاعلم أن كلاكما يحسن ويسيء ويصيب ويخطئ ويحفظ ويضيع فوطن نفسك عَلَى الشكر إذا حفظ وعلى الصبر إذا ضاع وعلى المكافأة إذا أحسن وعلى الاحتمال والمعاتبة إذا أساء فإن معاتبة الصديق إذا أساء أحب إلى الحليم من القطيعة في معاشرة من تؤاخيه وفي ذلك أقول شعراً:
وإذا عتبت عَلَى امرئ أحببته ... فتوق ضفر عتبه وسبابه
والن جناحك ما استلان لوده ... واجب أخاك إذا دعا لجوابه
واحرص من أن تعرف موقعك من كل أحد حتى من أبيك وأمك فمن السخافة أن تكون لأخيك فيما يحب ويكون فيك فيما تكره وما أقبح أن تكون له فيما يكره ويكون لك فيما تحب واعلم أن من تنفعك صداقته ولا تضرك عداوته الكريم الذي إن أحسنت إليه كافأك وإن أسأت إليه عاقبك وأما من تضرك عداوته ولا تنفعك صحبته فهو الجاهل السفيه اللئيم وفي ذلك أقول شعراً:
من الناس أن يرض لا تنتفع به ... ولكن متى يسخط فما شئت من ضرر
ضعيف عَلَى الأعداء لكن قلبه ... اشد إذا لاقى الصديق من الحجر
وقال في تقلب الدنيا شعراً:
إنما الدنيا سراج ... ضوءه ضوء معار
بينما غصنك غصن ... ناعم فيه اخضرار
إذ رماه الدهر يوماً ... فإذا فيه اصفرار
وكذاك الليل يأتي ... ثم يمحوه النهار
وقال في المداراة: إذا هبطت بلداً أهلها عَلَى غير ما تعرف وأنت عَلَى غير ما يعرفون فألزم كثيراً من المداراة فما أكثر من دارى ولم يسلم فكيف لم يكن منه مداراة وفي ذلك أقول شعراً:(80/9)
يا ذا الذي أصبح لا والداً ... له عَلَى الأرض ولا والده
قد مات من قبلهما آدم ... فأي نفس بعده خالده
إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينيك الواحدة
وقال لا تقاتلن أحداً تجد من قتاله بداً فإنما الحق لمن غلب ولا غالب إلا الله وإن آخر الدواء الكي فلا تجعله أولاً وفي ذلك أقول شعراً:
وكم رأينا من أخي غبطة ... أصبح مسروراً وأمسى حزيناً
وكم رأينا فتى يركب طاحونة ... للحرب قد أصبح فيها طحيناً
وقال في الإعسار والإيسار:
كم من صديق لنا أيام دولتنا ... وكان يمدحنا قد صار يهجونا
إني لأعجب ممن كان يصحبنا ... ما كان أكثرهم إلا يراؤنا
لم ندر حتى انقضت عنا إمارتنا ... من كان ينصحنا أو كان يغوينا
من كان يصنفنا ما كان يصحبنا ... إلا ليخدعنا عما بأيدينا
وقال في الصلة والتفضل: لا يكن من وصلك أحق بصلتك منك وبصلته ولا من غير تفضل عليك أولى بالتفضل منك عليه فإنما أتت وهو كرجلين ابتدرا كرومة فقصر أحدهما وبلغ الآخر فإنما القاصر قصر عن حظ نفسه وأما البالغ فبلغ بجميل أمره وعظيم قدره.
وقال في القدر: إذا كان الرجل لبيباً فاعلم أنه كامل ولكن لن يقدمه ذلك إلى ما كان يطالب ولن يؤخره عما كان يحاذر إلا بقدر يلحق به ما طلب ويسبق به ما يحذر وإن من الناس من يؤتى منطقاً وعقلاً ولا يؤتى مالاً ومنهم من يؤتى مالاً ولا يؤتى غيره فيحتاج مع ماله إلى عقل ذي العقل ومنطقه ويحتاج ذو العقل إلى مال ذي المال ورفده وينهض هذا بهذا وهذا بهذا (فليس لأحدهما إذاً غنى عن الآخر) فأحوج الملك إلى السوقة وأحوجت السوقة إلى الملك.
وقال في التفاضل: لا تقل فلان أغنى مني وأنا أحزم منه فإنه لو جمع العقل والشدة والشجاعة والمال وأشباه ذلك القوم وبقي قوم لا شيء لهم لهلكوا ولكن الله عز وجل قال أهم يقسمون رحمة بك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضهم درجات فأوتي بعضهم عقلاً وبغضهم قوة وبعضهم مالاً مع أشياء مما يكون فيه(80/10)
صلاحهم وبه معايشهم ثم أحوج بعضهم إلى بعض فعاشوا وإنما مثل الرجل ورزقه ومثل أدبه وعقله ومروءته وحكمه كمثل الرامي ورميته فلا بد للرامي من سهم ولا بد لسهمه من قوس ولا بد لقوسه من وتر ولا بد لجميع ذلك من قدر يبلغ به ما رشق ويصيب به ما يبلغ ويحوز ما أصاب وإلا فلا شيء فالرامي الرجل والرمية الرزق ولا يجمع بينهما عقل ولا عز ولا شيء من ذلك إلا بقدر وفي ذلك أقول شعراً:
ما القوس إلا عصا في كف صاحبها ... يرعى بها الضان أو يرعى بها البقر
أو عود بان وإن كانت معقفة ... حتى يضم إليها الشهم والوتر
وإن جمعت لها هذين فهي عصا ... حتى يساعد من يرمي بها القدر
وقال: إن حسن السمت وطول الصمت ومشي القصد من أخلاق الأتقياء وإن سوء السنت وترك الصمت ومشي الخيلاء من أخلاق الأشقياء فإذا مشيت فوق الأرض فاذكر من تحتها وكيف كانوا فوقها وكيف حلوا بطنها وكيف كانوا أمما واعلم أن ابن آدم أعز من الأسد وأشد من العمد ما لم تصبه أدنى شوكة وأدنى مرض وأدنى مصيبة فإذا اصابه شيء من ذلك وجدته أهون من الذرة وأمبن من البعوضة فلا يغررك تجبره وتكبره وتفر عنه واستطالته وفي ذلك أقول شعراً:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً ... فكم من تحتها قوم هم منك أرفع
فإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم طاح من قوم هم منك أمنع
وقال في الغنى والقنوع: إن الغنى في القلب فمن غنيت نفسه وقلبه غبيت يداه ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه وفي ذلك أقول شعراً:
إذا المرء لم يقنع بشيءٍ فإنه ... وإن كان ذا مال من الفقر موقر
إذا كان فضل الله يغنيك عنهم ... فأنت بفضل الله أغنى وأيسر
وقال في الرأي والمشاورة: إذا استشير نفر أنت أحدهم فكن آخر من يشير فإنه أسلم لك من الصلف وابعد لك من الخطأ وأمكن لك من الفكر وأقرب لك من الحزم وفي ذلك أقول شعراً:
ومن الرجل إذا زكت احلامهم ... من يستشار إذا استشير فيطرق
حق يجول بكل وادٍ قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول فينطق(80/11)
فبذاك يطلق كل أمر موثق ... وبذاك يوثق كل أمر يطلق
إن الحليم إذا تفكر لم يكد ... يخفى عليه من الأمور إلا وفق
وقال في النهي عن مجالسة أهل الأهواء والبدع ومحادثتهم: أما هذه الأهواء فإني لم أر أحداً ازداد فيها بصيرة إلا ازداد فيها عمى لأن أمر الله اعز من أن تلحقه العقول ولم أر اثنين تكلما فيها إلا رأيت لكل واحد منهما حجة لا يقدر صاحبه عَلَى دفعها إلا بالشبهة والمغالطة وأما بالنصيحة فلا ومن غالط في هذا أو مثله فإنما يغالط نفسه وعليها يخلط وإياها يخدع أو أراد أن يخادع ربه والله أعز من أن يخدع لقد نبئت أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لا تجادل أهل الأهواء فيوقعوا في قلبك شيئاً يوردك به إلى النار فهذا أمر نهى عنه موسى عليه السلام وقد أعطى التوراة فيها هدى الله وكلم الله موسى تكليماً فكيف بغيره من الأهل الأهواء ولم يزل الصالحون يتناهون عن الهوى والمراء فيه والجدل به وبم أر قيا ساقط ثم ولا كلاماً صح إلا وفيه كلام بعد كثير فالسنة إن لا يتكلم في شيءٍ من الأهواء بالهوى وبغير الإتباع للكتب المنزلة والسنن للرسل الصادقة وفي ذلك أقول شعراً:
إذا أعطي الإنسان شيئاً من الجدل ... فلم يعطه إلا لكي يمنع العمل
وما هذه الأهواء إلا مصائب ... يخص بها أهل التعمق والعلل
وقال في النميمة: إياك والنميمة فإنها لا تترك مودة إلا أفسدتها ولا عداوة إلا جددتها ولا جماعة إلا بددتها ولا ضغينة إلا أوقدتها ثم لا بد من عرف بها أو نسب إليها أن يتحفظ من مجالسته ولا يؤتى بناحيته وأن يزهد في مناقشته وأن يرغب عن مواصلته وفي ذلك أقول شعراً:
تمشيت فينا بالنميم وإنما ... يفرق بين الأصفياء النمائم
فلا زلت منسوباً إلى كل آفة ... ولا زال منسوباً إليك اللوائم
وفي مثله قوله:
كالسيل في الليل لا يدري به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه
فالويل للعبد منه كيف ينقصه ... والويل للود منه كيف يبليه
وقال: إذا قيل لك شيء أطول فقل الكلام وإذا قيل لك أي شيء أقصر فقل الكلام لأن الكلمة(80/12)
الواحدة قد تكون جواباً لألف كلمة وقد يكون جوابها ألف كلمة وأكثر ولن تدرك الكلام حتى تذره ولن تذره حتى تحذره وفي القول خطأ كثير وبعضه صواب وإن الصمت منه لأصوب فاترك منه ما لا تنتفع بأخذه وخذ منه ما لا تقدر عَلَى تركه واسجن لسانك كما تسجن عدوك واحذره كما تحذر غائلته.
وقال في تأديب النفس: إذا أبصرت بعض ما تكره من غيرك فأسرع الرجعة منه قبل أن يبصر منك ما يستربيه واحمد الله الذي أحسن إليك وبصرك عيوب نفسك ونبهك الرجوع عن غيك وإذا أخبرك بعيبك صديق قبل أن يخبرك به عدو فأحسن شكره واعرف حقه فإن خبر العدو تعييب وخبر الصديق تأديب وفي ذلك أقول شعراً:
ولن يهلك الإنسان إلا إذا اتى ... من الأمر ما لم يرضه نصحاؤه
وقال في الحاسدين: اعلم أنك لن تلقى من الخير درجة ولن تبلغ منه رتبة ولن تنزل منه منزلاً إلا وجدت فيه من يحسدك وإنما الحاسد خصم فلا تجعله حكماً فإنه إن حكم لن يحكم إلا عليك وإن قصد لم يقصد إلا إليك وإن دفع لم يدفع إلا حقك وفي ذلك أقول شعراً:
ولو كنت مثل القدح ألفيت قائلاً ... إلا ما لهذا القدح ليس بقائم
ولو كنت مثل النصل ألفيت قائلاً ... إلا ما لهذا النصل ليس بصارم
تم أدب صالح بن جنان بفضل منشئ الروح ومجري الرياح والملك الوهاب الفتاح وذلك في سلخ شهر ذي القعدة سنة 1086 والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(80/13)
تنبيه
لم نقف عَلَى ترجمة صاحب هذا الكتاب فيما بين أيدينا من الكتب وإنما رأينا له ذكراً في كتاب العلم للحافظ بن عبد البر. حيث قال أحسن ما قيل في الصمت ما ينسب لعبد الله بن طاهر وهو:
أقلل كلامك واستعذ من شره ... إن البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من عيه ... حتى يكون كأنه مسجون
وكل فؤادك باللسان وقل له ... إن الكلام عليكما موزون
فزناه وليك محكماً في قلة ... إن البلاغة في القليل تكون
وقد قيل أن هذا الشعر لصالح بن جنان والله أعلو وهو أشبه بمذهب صالح وطبعه اهـ.(80/14)
الحكومات وشرائعها
عرف الإنسان منذ نشأته أن الاتحاد ذريعة لنيل سعادته ووسيلة للحصول عَلَى مراده فمال بالقسر إلى الاجتماع تكاتفاً عَلَى ما يتعلق بأمر معيشته من هجوع وترحال ومأكل ومشرب ودعاه إلى ذلك داعي العجز والتقصير للقيام بمقتضيات حياة المدنية كالزراعة والصناعة عَلَى اختلاف أصنافها والعلم عَلَى تعداد أنواعه فكان اجتماعه قسرياً ضرورياً لراحته ورفاهته عبرت عنه الحكماء بقولها الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم.
ولما كان الإنسان ميلاً بالطبع إلى الظلم والعدوان كان من الضروري لاجتماعه وجوب وجود وازع يدفع بعض الناس عن بعض ويهتم بإصلاح شؤونهم وأحوالهم ومعيشتهم وإلا تضعضعت دعائم العمران ووهت أسبابه وقواعده لأنه ليس من الممكن عقلياً اجتماع أفراد بدون اتفاق فيما بينهم عَلَى كيفية نيل المعاش واقتسام الرزق ولا يمكن ذلك الاتفاق إلا بوجود وازع عادل يحدد حقوق كل فرد وواجباته طبقاً لقواعد أدبية واجتماعية تعرف الآن بالشريعة وهي لئن الآن اختلفت مبدأ باختلاف العادة والمكان لا تختلف غاية وهي المحافظة عَلَى حقوق الإنسان لقيام المجتمع البشري كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: ولكي يتم للإنسان الاجتماع لابد له من سنن يكفله ولابد من العدل في هذه السنن أي مراعاة مصالح الجمهور المتبادلة ولا بد من احترامها كذلك وإلا انفصمت عروة الاجتماع وتداعت دعائمه: ولكن لما كان الإنسان كثيراً ما لا يسلك م نفسه الطرق المثلى المؤدية إلى ذلك إما عن عتوا أو غرور أو عن جهل وذهول كان لابد له من إقامة قوة يناط بها المحافظة عَلَى المقرر من السنن والاقتصاص ممن يحيد عن جادتها وإلا آل به الحال إلى الفوضى أي لابد له من وازع يكون من إذا لم يمكن أن يكون سواه يدفع عدوان بعضه عن بعض ويتهم بإصلاح شؤونهم اهـ.
فهكذا نشأت الشرائع والحكومات ولم تكن الأولى بداءة بدء سوى مجموعة عوائد وآداب بعضها ما فرضته الأديان وأخرى ما قضت الأحوال بإتباعه عفواً فأخذت ترتقي بعدئذ بالاتقاء الإنسان إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن كما أنه لا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الأزمان.
فما الشريعة سوى خطة تسري الحكومة بموجبها فتحدد حقوق الجميع وهي مسئولة بالطبع(80/15)
لدى هذا النظام عما تفعله بالنظر إلى رعاياها كما أن أرباب العائلات مسئولون أمام نظامهم عما يفعلون بالنظر إلى عائلاتهم لا بل تبعت الحكومة أعم من مواجب أرباب العائلات لأن رب العائلة تطالبه أُسرته وهو مسؤولية لها ولذمته في حين تكالب الرعية الحكومة والرعية مجموع أُسر عديدة فتكون مسئولة لها وللوطن كما قال أرسطو: العالم بستان سياجه الدولة والدولة سلطان تحيا به السنة والسنة سياسة يسوسها الملك والملك نظام يعضده الجنود والجند أعوان يكفلهم المال والمال رزق تجمعه الرعية والرعية عبيدٌ يكنفهم العدل والعدل مألوف وبه قوام العالم.
فينتج إذن مما تقدم أن نشوء الشرائع والحكومات كان قديماً بقدوم أول اجتماع نظراً لما في طبيعة الإنسان الحيوانية من الأثرة والعدوان التي تحول دون اجتماعه وتآلفه لولا حاكم عادل يحد لكل حقوقه حسب الشرائع المفروضة فتاريخ الشرائع مرتبط بتاريخ الحكومات وتاريخ الاجتماع البشري كل ارتباط أي لم يكن الاجتماع دون الحكومات لتحفظ كيانه وتذب عن حماه وتدفع عن حوزته ولم تكن الحكومات دون الشرائع لتسير بموجبها فتحدد بالقسط والسوية حدود الجميع لم تكن الشريعة بدون حكمة تسنها ولم تكن الحكومة بدون جمعية تحكمها كما قال الموبذان بن بهرم في حكاية البوم التي نقلها المسعودي الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة ولا قوام بالشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخلقة نصبه الله وبه قوام العالم. اهـ.
قلنا الشريعة لم تكن بادئ بدءٍ سوى مجموعة آداب وعوائد قضت الأحوال بإتباعها عفواً ثم أخذت ترتقي بارتقاء الإنسان إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن من الرقي والفلاح فهي إذاً مرآة صافية ينعكس عليها مركز الأمة في الجسم الاجتماعي كما ينعكس عليها أيضاً من عوائدها وأخلاقها ما يظهر لنا تأخرها أو تقدمها. فمن اطلع عَلَى شرائع الفرس واليونان قديماً وأهل سومطرة مثلاً في القرن الماضي ووقف عَلَى ما جوزته شرائعهم من سلخ جلد المجرم بالقتل وسحقه بين صخرتين أو طمره حياً في الرماد حتى يموت تحته خنقاً إلى غير ذلك من الفظائع الحيوانية كأن يلقوا المجرم إلى السباع أو يمزقوا جسده بالكلاليب أو يحرقوه حياً أو يشدوا أطرافه إلى أربع أفراس فيمزق المجرم بالقتل إرباً إربا عرف حق(80/16)
المعرفة فظاظة طبائعهم وقسوة قلوبهم وغلظة أكبادهم وحكم حكماً باتاً عَلَى تلك الأمم بسكرة الجهل وتسكعها في مهامه الخمول لأن قساوتها وانحطاط أخلاقها وعوائدها كانت تتجلى في شرائعها بأجلى بيان عَلَى بقائها تحت وقر الجهل ووراء ظل الارتقاء.
وإذا رجعنا فوقفنا عَلَى كثير من شرائع أمم أوربا المتمدنة الآن كإنكلترا وفرنسا وألمانيا وغيرها من أمم العالم المتمدن كأميركا وخصوصاً شرائع مملكتنا العثمانية نحكم بالطبع عَلَى وجوب رقي تلك الأمم لما ينجلي منعكساً عَلَى مرآة شرائعهم الصافية من حسن العوائد وطيب الأخلاق ما يضطرنا أن نقول بارتقاء تلك الأمم طبقاً لارتقاء شرائعها.
ولكن لماذا لا يصدق هذا الحكم عَلَى أمتنا العثمانية وشريعتها من أحسن الشرائع ونظامها من أقوم النظامات؟ لماذا لا يصدق علينا هذا الحكم بل لماذا نحن في تأخر؟ إلا أننا من جنسية غير جنسيتهم ونحن ذرية الذين اشتهروا بالصناعة والتجارة والحماسة والشجاعة والفتوحات والفصاحة والمعارف والحكمة؟ أم لأنهم أقرب منا استعداداً للارتقاء ونحن من القوم الذين أفاض الله عليهم من بركات الحجى ما أقام لهم الاندماج في سلك الرتبة الأولى بين مراتب بني آدم؟ كلا ليست هذه من الأسباب التي أودت بأمتنا بعد أن كان لها من بسطة الملك واستفحال الكلمة ونفوذ الشوكة ما لم تصل إليه أمة من أمم أوربا الراقية. ولكن هو ضعف الإدارة في الأعمال وعدم تنفيذنا الأوامر الشرعية والقوانين المفروضة وقلة رجالنا الأمناء المخلصين كانت من جملة أمراضنا الاجتماعية فقلدنا كما قيل كبائر الأعمال لصغائر العمال أي وضعنا الشيء في غير موضعه فأصبح الوالي ظالماً والقاضي محابياً والجندي خائناً وأمر الشريعة لغوٌ لا يعمل به ولا ينفذ فلا بدع إذا فسدت الأمة بفساد الحكومة التي هي بمنزلة الرأس منها وقد أجاد القائل:
وإذا رأيت الرأس وهو مهشم ... أيقنت منه تهشم الأعضاء
وهكذا يستنتج بأن سلامة الوجود موقوف عَلَى سلامة النظام وسلام الناظم يكفله حسن العمل وذلك مترتب بالطبع عَلَى إدارة مستقيمة حسنة تصدر عن رجال مخلصين أمناء لأن إدارة ميزان كل حكومة وقوام كل مملكة كما أن الرجال سياج الأمة يذوبون عن حوضها ويدرؤون طوارئها فيذهبون بها من غمرات الخلل إلى سواحل النظام والسعة كما قال أنو شروان الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل(80/17)
والعدل بإصلاح العمال واستقامتهم وتنفيذهم أوامر الشريعة المفروضة من الله.
فإذا كانت شريعتنا من أقوم الشرائع ونظامنا من أحسن النظامات وحكومتنا لا تعمل به فهو لغو ومعتبر حين تسير بموجبه الحكام فتحدد بالسوية حقوق الكل وواجباتهم. التعليم إجباري بمملكتنا المحروسة ولكن من يرد عليه هذا الأمر ولا يسقط في يد ومن يعمل به من الحكومة؟ توسيع الطرق وتطهير الشوارع وتسهيل أسباب النقل ومراقبة أسعار ضروريات الإنسان من واجبات المجلس البلدي في كل ولاية مثلاً ولكن هل تسير أعضاؤه عَلَى خطة واجباتهم فتحافظ عَلَى راحة الشعب ورفاهته وتوسع الطرق وتطهر الشوارع حتى قال بها أحدهم مرة إن أهالي دمشق تود لو تزرع الشجار في شوارعها لتكثر الأمطار فنتخلص من الغبار الذي لا يسكنه غير مياه السماء. شريعتنا تحرم الرشوة بالطبع فتقول ما حرم أخذه حرم إعطاؤه ولكن العاملين بها قلبوا الآية فحللوا الأخذ والعطاء. التصرف عَلَى الرعية - كما ورد في القانون - منوط بالمصلحة فيلزم أن يولى المناصب أهلها ولا يكلف الناس ما لا يحتمل ويدفع الظالم عن المظلوم ويؤمن السبل ويدفع الأذى ولكننا نحن نقلد الوظائف لمن لا يصلح لها فنضع الشيء بغير موضعه ونساعد الظالم عَلَى المظلوم وإن كنا ندري بأن ذلك مبدأُ الخلل. .
وخلاصة القول أن شريعتنا من أحسن الشرائع وأقومها ولو نعمل بموجبها ولكن فساداً طرأ عَلَى أفكار العاملين بها فغيروا المعاني وصحفوا الألفاظ وحرفوها طبقاً لمآربهم ومقاصدهم. الكلية بيروت:
حبيب جرجي كحالة(80/18)
النحام ومرادفاته
1ً تمهيد
أصعب ما في اللغة العربية تحقيق الألفاظ العلمية ولاسيما ما يتعلق منها بعلم المواليد فترى أغلب المعاجم تخبط هذا البحث ولا خبط عشواء. ولهذا يحسن بالعلماء أن يحققوا تلك الألفاظ ويتتبعوها تتبعاً علمياً محضاً حتى يصرح اللبن عن الرغوة ويعول عليها الكتاب من مؤلفين ومعربين ولا يبقوا سائرين في الوعث فيكابدون من العناء والجهد الأمرين. ومن جملة الألفاظ التي تحتاج الي تحقيق كلمة نحام من الطير وها نحن نثبت ما يزيل الشك في هذا الباب فنقول.
2ً النحام في كتب العربية
قال في حياة الحيوان: النحام طائر عَلَى خلقة الإوز الواحدة نحامة. يكون آحاداً وأزواجاً في الطيران وإذا أرادت المبيت اجتمعت رفوفاً، فذكوره تنام وإناثه لا تنام وتعد لها مبايت فإذا نفرت من واحد ذهبت إلى الآخر. اهـ المقصود من إيراده - وقال داود الإنطاكي: النحام: طير دون الإوز، قيل أنه شديد الحرارة ينفع المبرودين وهو مجهول - وقال ابن البيطار: النحام هو من طيور الماء. ابن ماسويه: لحمة من أكرام لحوم الطير وأفضلها. . . وفي التاج: النحام، كغراب: طائر أحمر كالإوز أي عَلَى خلقته. قال الجوهري يقال له بالفارسية سرخ آوي وهكذا ضبطه الزهري وابن خالوية. وغلط الجوهري في فتحه وشده وضبطه السهيلي كضبطه الجوهري. اهـ - قلنا: الاسم الفارسي الحقيقي هو سرخ آب أو سرخاب ويلفظها بعضهم سرخ آوي عَلَى لغة قلب الباء واواً وهي لغة كثيرين من الفرس الأقدمين والمحدثين ومن أسمائه بالفارسية أيضاً خرجال كما جاء في برهان قاطع - وعلى ذلك يكون النحام هو المسمى بالفرنسوية أو وبالإنكليزية وبلسان العلماء أو اللاتينية
3ً سبب تسميته عند العرب
لم يتعرض اللغويون لسبب تسمية هذا الطائر بهذا الاسم. وعندنا أنه مشتق من النحم أو النحيم وهو صوت كالزحير أو فوقه، يخرج من هذا الطائر عند الطيران. وفعال بالضم من الصيغ الدالة عَلَى الفاعلية وإن لم ينبه عليها النجاة كشجاع وخشاش (وهو الماضي من الرجال) وقد يزاد عَلَى هذه الصيغة الياء للمبالغة ويبقى المعنى عَلَى ما هو كقولهم:(80/19)
القطامي وهو الصقر. قال الأصمعي: القطامي مأخوذ من القطم وهو الشهوان للحم غيره. وهذا الكلام يدل عَلَى أن اللغويين انتبهوا إلى صيغة فعال أو فعالي للفاعلية.
4ً تصحيف النحام ومرادفاته
صحف كثير من الكتاب هذه الكلمة لجهلهم إياها. ومن أشهر من صحفها أحمد فارس الشدياق الشهير فقد قال في كتابه شرح طبائع الحيوان ص282: النحاف (بفاء في الآخر) هذا طائر طويل ضخم وفي غاية الحسن إلى آخر ما نقله عن الإفرنج. وقد جاءت بهذه الصورة القبيحة في عدة مؤلفات نقل عنها دوزي في كتابه الملحق بالمعاجم العربية في مادة نحف.
وممن أخطأ في أسماءه الأب بلو اليسوعي في معجمه الفرنسوي العربي المطبوع سنة 1900 قال في تعريب غواص، طائر طويل الأرجل لونه أحمر زاه، نحام اهـ. فالغواص غير النحام عَلَى ما أثبته العرب والعلماء الأقدمون والمحدثون.
ونحن العراقيين نسميه في ديارنا الغرنوق وهو كثير الوجوه في البطائح والآجام والمستنقعات وفي القاموس: الغرنوق كزنبور وفردوس: طائر مائي أسود وقيل أبيض أو الغرنوق أو الغرنيق: الكركي أو طائر يشبهه. اهـ. ويجب أن تصلح عبارة القاموس هكذا: الغرنوق كزنبور وفردوس: طائر مائي ويريد به العراقيون النحام والكلمة المعربة عن اليونانية بمعنى الكركي وقد وردت بهذا المعنى أيضاً عندهم والغرنوق في بلاد السودان هو نوع من الكركي اسمه العلمي وعند أهل المغرب هو نوع آخر من الكركي اسمه العلمي - ومن أسمائه في العربية الشرخاب قال السيد المرتضى في التاج في مادة سرخب أو في مستدركها: السرخاب بالضم، أهمله الجماعة وذكره أحمد بن عبد الله التيفاشي في كتاب الأحجار وقال: إنه طائر في حجم الإوز (أي أن كبر جسمه بكبر جسم الإوز وهو أمر لا اختلاف فيه لكن لا يراد بذلك أنه بطول الإوز كما يؤخذ من كلام الدكتور أمين أفندي المعلوف في المقتطف 36: 766) أحمر الريش ويوجد ببلاد الصين والفرس وأهل مصر يسمونه البشمور (واليوم يسمونه البشروش وهي تصحيف أختها) ويعلقون ريشه في المراكب للزينة. يوجد في عشه حجر بقدر البيضة أغبر اللون فيه نكت بيض رخو المحك في خواص لإنزال المطر في غير أوانه. اهـ. نقله ولم يذكر المؤلف(80/20)
أن اللفظة الفارسية الأصل. وهي كذلك قد وردت في دواوين لغتهم. وهي كلمة مركبة من سرخ أي أحمر. وآب أي ماء وأظن أن الصل في هذا الاسم ما معناه: الطائر الحمر السابح في الماء ثم اختصروا العبارة فقالوا ما معناه: الأحمر الماء - والظاهر أن الإفرنج المستشرقين الذين نقلوا المعاجم الفارسية إلى لغتهم لم يهتدوا إلى حقيقة هذا الطائر. فقد قال فلرس في معجم الكبير الفارسي اللاتيني ما هذا نصه:
ومعناه ضرب من الطير المائي أحمر اللون. ولم يذكر اسمه باللاتينية ثم قال: ويسميه البعض خرجال أيضاً. ثم زاد عَلَى ما تقدم: أي بط بري. فأنت ترى من هذا أنه لم يُعرف ما يقابله عند العلماء. وكذلك لم يعرف حقيقته جنصن في ديوانه الكبير الفارسي العربي الإنكليزي. وذكر هناك أنه نوع من البط المائي. والبط والإوز عند العرب بمعنى واحد في كتبهم اللغوية. فهذا القول يوافق وصف العرب للنحام أي أنه عَلَى خلقة الوز. ولم يذكر صاحب التاج البشمور في مظنتها وإن كان ذكرها استطراداً في مادة سرخب ولم أعثر عليها في معاجم اللغة العربية التي وصلت إليها يدي.
ومن أسمائه الفارسية أيضاً ميش مرغ أيضاً. لكن البعض يقولون أن المسمى بهذا الاسم هو الحباري. لا النحام. عَلَى حد ما اختلف العرب في تعريف الغرنوق.
وأما لفظ البشاروش أو البشروش فقد وجدتها في كتب منون اللغة الفرنسية التركية منها. معجم و. ويزنطال المطبوع في مطبعة قره بت في الآستانة في مادة إلا أنه ذكرها مصحفة بياءٍ مثلثة فارسية في الأول بدلاً من الباء الموحدة أي يشاروش وهكذا ذكرها أيضاً ش. سامي في معجمه الفرنسي التركي. والأصح في كل ذلك البشاروش بباءٍ مثلثة فارسية في الأول وشين أو سين في الآخر وهي من أصل فارسي بشرو أو بيش رو أي المقدم أو الإمام أو الماشي أمام الكل. وسبب هذه التسمية هو أن هذا الطير إذا سارت في طلب رزقها تولى أحدها قيادتها ليحذرها من الخطر إذا داهمها وحالما يشعر هذا الوالي الأمين بمشقة تحصل وإن كانت بعيدة يبادر إلى الإهابة بصوت عالٍ كصوت البوق فتتهيأ كلها للطيران حالاً. (راجع شرائح طبائع الحيوان لأحمد فارس الشدياق ص283).
وقد صحف التونسيون كلمة بشاروش أو بشروش بصورة شبروش وقد نقلها دوزي في معجمه المذكور وقال أن بوسيه وتريسترام ذكراها بمعنى النحام. قلنا: وكذا نقلها أيضاً(80/21)
غاسلين في معجمه الكبير الفرنسوي العربي. فانظر حرسك الله كيف يجيء الاسم الواحد مصحفاً بموجب لغات البلاد والعباد. وكيف أن للحيوان الواحد أسماء عديدة بدون أن تذكرها المعاجم. وحاصل ما جاء من أسماء النحام الفصيحة والمصحفة هي: النحام والنحاف والغرنوق والسرخاب والبشمور والبرشوش والبشروش والشاروش والبشاروس ولعل له أسماء أخرى لم نقف عليها وأحسن الأسماء كلها هو النحام لأنها من أصل سامي إذ هو كذلك باللغة الآرامية مع الألف الزائدة في الآخر وهو من مزايا لغتهم أي (نحاما) وأما سائر الألفاظ فهي من أصل يوناني أو فارسي أو تركي ونحن في غنىً عنها.
5ً النحام عَلَى ما وصفه علماء الإفرنج العصريون
قال علماء الإفرنج في تعريفه ووصفه: جنس من الطيور يدنو من السوابح بمنقاره ويشبه الشاهمرجات بساقه لطولها ولهذا عزل كلتا الطائفتين وجعل في طائفة خاصة به هي فرع من طائفة الشاهمرجات أو الخوائض أي الطويلات الساق. وهو صغير الجسم طويل الساق حتى يبلغ طولها زهاء متر ورأسه صغير ومنقاره صلب في حافيته صفيحات عَلَى عرضيهما عَلَى حد ما يرى ذلك في البط وهو مموج عند منتصفه وإذا أراد أن يصطاد فريسته كالهلامات والدود والهوام والحشرات وبيض السمك التي يراها عَلَى أرياف الغدران والمستنقعات يلقب رأسه بأن يضع الفك الأعلى أسفل حتى يتمكن أن يتصرف في عقافته - وهو يطير جماعات تعرف بالرفوف (جمع رفٍ) لكثرة أفرادها ويتقوم من هيئتها مثلث عَلَى حد ما تفعله الكركي. وإذا حطت عَلَى الأرض اصطفت صفين كالعسكر وعشها عبارة عن مدورةٍ تركبها ركوباً عند الحضانة كما يركب الإنسان الحصان ولها صوت كصوت النفير وهو النحيم ولحمها لذيذ ولاسيما لسانها. واليوم يرغب في هذا الطير لريشها وهي أصناف منها البشروش أو نحام الأقدمين وبالفرنسوية وبلسان العلم وريشه كله وردي بديع اللون ما خلا الجناحين فغنهما أحمران ملتهبان ومثل لونها لون المنقار وهو كثير الوجود في العراق وفي ديار فرنسا الواقعة عَلَى سواحل بحر الروم. - والنحام الأحمر أو البهمن وبلسان العلم وهو كثير الوجود في أصقاع أميركا الجنوبية وهي اصغر قداً من النحام السابق ذكره وألوانه أزهى وأبهى. والنحام ذو الرداء الناري وبلسان العلم ولونه أحمر واضح وهو يوجد في أحاء باتاغونية وبرونيس آيريس. -(80/22)
والنحام القزم وباللاتينية ويكون في ربوع الرجاء الصالح وفي سنغال وهو دون ما جانسه من هذا الطائر بنصف.
وهذه الطيور تعيش غالباً في القصباء والحلفاء والآجام والغياض وهي تبحث عن رزقها فيها كما يفعل البط والوز تغط مناقيرها فيها لتقع عَلَى قوتها. وأكثر ما ترى أنها تجتمع جماعات من 20 إلى 30 طائراً. وسيرها ثقيل ومرتبك وإذا نامت قامت عَلَى رجل واحدة وضمت الأخرى إلى الأولى أو تحت بطنها وتخفي رأسها تحت جناحها وإذ كانت كثيرة الحذر يقوم أحدها ديدباناً إذ نام سائر الأخوة والأخوات وإذا ذهبت تسترزق. وهي تخاف الإنسان أكثر ما تهاب الحيوان. ولهذا إذا أراد الصيادون قنصها اختفوا في جلد حصان أو بقرة وذهبوا إليها. وإذا أطلقوا عليها البندقية نالوا منها عدداً وافراً والسبب لأنها تروع من طلقاتها ولا من رؤية ما يموت منها ولهذا لا تبتعد كثيراً عن مسقطها فيصاب منها كثير. هذا جل ما يقال عن النحام، وفي الختام أُقرأك السلام.
بغداد
ساتسنا.(80/23)
كتب مخطوط
عثرنا في هذه الأيام عَلَى كتاب مخطوط ذهب منه الجزآن الأول والثالث ويدل عَلَى ذلك ما جاء في خاتمة هذا الجزء.
تم الجزء الثاني يتلوه إن شاء الله تعالى أول الجزء الثالث المقصد الثاني في ممالك جزيرة الغرب الخارجة عن مضافات الديار المصرية.
وتاريخ كتابته 1193 هـ كتبه عطوة بن علي الهونيني موطناً العباسي الأول.
صحائف الكتاب 456 طوله 33 سانتيماً وعرضه عشرون سنتيماً ورقه نياتي وخطه واضح جلي أسطر كل صحيفة ثمانية وعشرون سطراً.
أما المؤلف الكاتب فلم نجد له ذكراً فيه ويظهر أنه شافعي المذهب ومن رجال أوائل القرن التاسع الهجري ودليلنا عَلَى ذلك أنه في ذكره لملوك الطبقة الرابعة من ملوك مصر وهم الترك ذكر آخرهم الملك المنصور عبد العزيز وحصره في قلعة دمشق والقبض عليه واستبداد المستعين بالله بالأمر من غير سلطان وذلك في ثاني عشر ربيع الأول سنة خمس عشرة وثمان مائة.
موضوع الكتاب
أول الكتاب الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الأولى في الكلام عَلَى نفس الخط وفيه سبعة أطراف وفيه هنا مباحث في فضيلة الخط وحقيقته وفي وضعه وفي عدد الحروف وفي تحسين الخط وقواعد تتعلق بالكتابة وفي مقدمات تتعلق في أوضاع الخط وقوانين الكتابة وذكر قوانين يعتمدها الكاتب في الخط وهنا بحث عن الأقلام المستعملة في ديوان الإنشآت بزمانه وقال وسيأتي في النقالة الثالثة في الكلام عَلَى ما يناسب كل مقدار من مقادير قطع الورق من الأقلام وذكر المذاهب في أصل الأقلام وهي ستة (1) مختصر الطومار (2) وقلم الثلث الثقيل (3) والخفيف (4) قلم التوقيعات (5) قلم الرقاع (6) قلم الغبار هذا مجمل ما في هذا الجزء من المباحث وكلها جليلة ويظهر أن هذا الجزء يشتمل عَلَى مقالتين المقالة الأولى في عَلَى الكلام عَلَى ما يحتاج إليه الكاتب وقد فقدت من هذه المقالة الباب الأول.
والمقالة الثانية موجودة برمتها وهي في المسالك والممالك تشتمل عَلَى أربعة أبواب وتحت(80/24)
كل باب تقسيمات وتفريعات تفوت الإحصاء وكلها في موضوعات مفيدة.
الباب الأول في ذكر الأرض عَلَى سبيل الإجمال وفيه بحث عن معرفة شكل الأرض وما اشتملت عليه من الأقاليم وفي أطوالها وفي ذكر البحار التي يتكرر ذكرها بذكر البلدان وفي كيفية استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها هذا إجمال ما يشتمل عليه الفصل الأول من الباب الأول والفصل الثاني في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء ومقراتهم في القديم والحديث وما انطوت عليه الخلافة من الممالك في القديم ومات كانت عليه من الترتيب وما هي عليه في عهد مؤلف الكتاب قال وإما من وليها (الخلافة) فعلى أربع طبقات الطبقة الأولى الخلفاء من الصحابة (رض) الطبقة الثانية خلفاء بني أمية الطبقة الثالثة خلفاء بني العباس الطبقة الرابعة خلفاء بني العباس في الديار المصرية وذكر خلفاء الطبقات الأربع وسني توليتهم الخلافة ووفياتهم ومقراتهم.
وفي الفصل الثاني من الباب الثاني بحث جليل عن ترتيب الخلفاء في الصدر الأول وشعارها وبحث في توليه الملوك من الخلفاء والوظائف المعتبرة عندهم.
والباب الثالث في ذكر مملكة مصر ومضافاتها وفيه طرفان الطرف الأول في الديار المصرية وفيه سبعة مقاصد المقصد الأول في فضلها ومحاسنها المقصد الثاني في ذكر خواصها وعجائبها وما بها من الآثار القديمة المقصد الثالث في ذكر نيلها ومبتدئه ومنتهاه وهنا قال وقد ذكر الحكماء أنه ينحدر من جيبل القمر إما بفتح القاف والميم كما هو المشهور وإما بضم القاف وسكون الميم وهنا بحث في طول النيل وعرضه والبلاد التي يمر فيها وفي زيادته ونقصه ومقاييسه.
المقصد الرابع في ذكر خلجانها وبحيراتها والخامس في جبالها والسادس في زروعها ورياحينها وفواكهها والسابع في ذكر مواشيها ووحوشها وطيورها والثامن في ذكر حدودها والتاسع في ابتداء عمارتها والعاشر في ذكر قواعدها القديمة والمستقرة والحادي عشر يشتمل عَلَى ذكر خططها.
والفصل الثالث في المقالة الثانية في ذكر كور الديار المصرية وأعمالها والفصل الرابع في ذكر ملك الديار المصرية جاهلياً وإسلاماً وطبقاتهم والفصل الخامس من الباب الثالث من المقالة الثانية ذكر في ترتيب أحوال الديار المصرية وفيه بحث في ذكر معاملاتها وما(80/25)
يتعامل به وزناً وما يتعامل به معاده وفي الفلوس المطبوعة بالسكة وغير المطبوعة وفي المثمنات والمكيلات والمقيسات وأرض الزراعة والأبنية والأقمشة والأسعار.
وفي الجسور والمعابر والجسور البلدية وري السواقي وهنا بحث في طرق زراعة الأرض وصنوف الزروع.
وبحث في وجوه أموالها الديوانية والمقصد الثالث في ترتيب المملكة وفيه بحث عما كانت عليه في زمن أعمال الخلفاء من حين الفتح إلى آخر الدولة الإخشيدية كذكر الآلات الملوكية من التاج والقضيب والسيف والدواة والرمح والدرقة والحافر والمظلة والأعلام والنقارات والخيام وفي حواصل الخليفة وهذا فيما كانت عليه أحوال الديار المصرية في عهد الفاطميين وفي هذا المقصد أبحاث تتعلق في الوظائف والدواوين وفي مواكب الخلافة المختلفة ويذكر في هذا المقصد قصيدة عمارة اليمني التي يرثي فيها الفاطميين بعد انقراض دولتهم واستيلاء السلطان صلاح الدين الأيوبي عليها وصف بها مملكتهم وعد مواكبهم وحكى مكارمهم وجلى محاسنهم وأوردها برمتها.
ثم يذكر أحوال الدولة الأيوبية ورسومها وأحوال الدول التي انتقلت إليهم الديار المصرية إلى زمان المؤلف.
وهنا أبحاث مفيدة يتجلى منها ما كانت عليه أحوال الدولة القديمة من الترتيب والانتظام.
والفصل السادس من المقالة الثانية في المملكة الشامية وما يتصل بها من بلاد الأرمن وبلاد الجزيرة بين الفرات ودجلة مما هو مضاف إلى هذه المملكة وفيه أربعة أطراف.
الطرف الأول في فضل الشام وخواصه وعجائبه وفيه مقصدان الأول في فضل الشام الثاني في خواصه وعجائبه وهنا يذكر ما يراه فيه من العجائب كحمة طبرية وقبة العقارب بمدينة حمص وعين الفوارة داخل البحر المالح عَلَى القرب من ساحل مدينة طرابلس ووادي الغور إلى غير ذلك.
الطرف الثاني في حدود وابتداء عمارته وتسميته شاماً وفيه مقصدان الأول في حدوده والثاني في ابتداء عمارته.
الطرف الثالث في أنهاره وبحيراته وفيه خمسة مقاصد الأول في ذكر الأنهار العظام في بلاد الشام الثاني في ذكر بحيراته الثالث في ذكر جباله وهنا جاء فيه عن جبل عاملة ما(80/26)
هذا نصه:
وهو جبل ممتد في شرقي بحر الروم وجنوبيه حتى يقرب من مدينة صور وعليه شقيف أرنون نزله بنو عاملة بن سبأ من عرب اليمن عند تفرقهم بسيل العرم فعرف بهم المقصد الرابع في ذكر زروعه وفواكهه ومواشيه والخامس في ذكر مواشيه والسادس في ذكر النفيس من مطعوماتها.
الطرف الرابع في ذكر جهاته وكوره وقواعده المستقرة وأعمالها وفيه مقصدان الأول في ذكر جهاته وكوره القديمة وهنا يذكر اصطلاح القدماء بتقسيمه إلى خمسة أجناد جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرين.
المقصد الثاني في ذكر قواعده المستقرة وأعمالها القاعدة الأولى دمشق وأعمالها غزة والرملة وقافون وهي الجهات الساحلية والجبلية وهي القدس والخليل ونابلس والقبلية عمل بيسان وبانياس ومنها قلعة الصبيبة وعمل الشعراء وعمل نوى وعمل أذرعات وعجلون والبلقاء والصلت وصرخد وبصرى وزرع والشمالية وهي بعلبك وعمل البقاع البعلبكي وعمل البقاع العزيزي وعمل بيروت وعمل جبيل وعمل صيدا والشرقية وهي عَلَى ضربين الضرب الأول ما هو داخل في حدود الشام وهو غربي الفرات ويشتمل عَلَى خمسة أعمال حمص ومصياف وقارا وسلمية وتدمر الضرب الثاني وذكر منها الرحبة وجعبر.
القاعدة الثانية حلب وذكر أعمالها الساحلية والجبلية ومن أعمالها الرها.
القاعدة الثالثة حماة وذكر أعمالها القاعدة الرابعة طرابلس وذكر أعمالها والخامسة صفد وذكر أعمالها وهي إحدى عشر عملاً وهي عمل تبنين وهونين وجاء فيه عند ذكرهما وهما حصنان بنيا بعد الخمس مائة بين صور وبانياس بجبل عاملة المتقدم ذكره في جبال الشام المشهورة وجعل العثماني قلعة هونين من عمل الشقيف وأهل هذا العمل رافضة.
القاعدة السادسة الكرك وذكر أعمالها وهي الشوبك وزعر ومعان.
الطرف الثاني من الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة الثالثة فيمن ملك البلاد الشامية وملوكها وهو عَلَى قسمين الأول ملوكها قبل الإسلام وهم أربع طبقات الطبقة الأولى الكنعانيون الثانية الإسرائيليون الثالثة الفرس الرابعة اليونان والرومان.(80/27)
القسم الثاني من ملوك الشام ملوكه في الإسلام وهم عَلَى ضربين الضرب الأول عمال أصحابه (ص) فمن بعدهم من نواب الخلفاء إلى حين استيلاء الملوك عليه.
الضرب الثاني من وليها ملكاً
الطرف الرابع من الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة الثانية في ذكر أحوال المملكة الشامية وفيه مقصدان.
المقصد الأول في ترتيب نياباتها عَلَى ما هي مستقرة عليه قال قد تقدم أن الممالك المعتبرة بالبلاد الشامية ست ممالك في ست قواعد وكل مملكة منها قد صارت نيابة سلطنة مضاهية للملكة المستقلة.
ثم ذكر كل نيابة وأحوالها في المعاملات ونحوها عَلَى مثال ما ذكره من أحوال الديار المصرية في الفصل الخامس من الباب الثالث من المقالة الثانية.
المقصد الثاني ترتيب ما هو خارج عن حاضرة دمشق وهو عَلَى ضربين الضرب الأول ما هو خارج عن حاضرتها من النيابات والولايات قال وقد تقدم أن لدمشق أربع صفقات غربية وهي الساحلية والقبلية والشمالية والشرقية ففي الصفقة الأولى وهي الغربية عشر نيابات وخمس ولايات فأما النيابات فمنها غزة والقدس والولايات فمنها ولاية الرملة واللد وقاقون وبلد الخليل ونابلس.
وأما الصفقة القبلية وهي الثانية ففيها نيابات وثمان ولايات فأما النيابات فالأولى منها نيابة قلعة صرخد ونيابة عجلون وأما الولايات فالأولى ولاية بيسان وواليها جندي الثانية ولاية بانياس وواليها جندي تارة وتارة أمرة عشرة والثالثة ولاية قلعة الصبيبة الرابعة ولاية الشعراء الخامسة ولاية أذرعات السادسة ولاية حسبان والصلت من البلقاء السابعة ولاية بصرى واليها جندي الصفقة الثالثة الشمالية وفيا نيابة واحدة وثلاث ولايات فأما النيابة فنيابة بعلبك وأما الولايات فالأولى ولاية البقاع البعلبكي الثانية ولاية بيروت الثالثة ولاية صيدا الصفقة الرابعة الشرقية وبها ثلاث نيابات وأربع ولايات.
ثم ذكر نيابة حلب عَلَى نحو نيابة دمشق ونيابة طرابلس ونيابة صفد ومنها ولاية تبنين وهونين وولاية الشقيف.
الفصل الثالث من الباب الثالث من المقالة الثانية المملكة الحجازية وفيه طرفان الطرف(80/28)
الأول في فضل الحجاز وخواصه وعجائبه الطرف الثاني في ذكر حدوده وابتداء عمارته الخ.
وذكر قواعده وهي مكة المشرفة وهنا ذكر ملوكها قبل الإسلام وفي الإسلام وهم طبقات وبين ترتيبها والمدينة الشريفة وذكر نواحيها وأعمالها وملوكها من بني إسرائيل وفي الإسلام وهم أربع طبقات الطبقة الأولى من كان بها في صدر الإسلام الطبقة الثانية عمال الخلفاء من بني أمية الطبقة الثالثة عمالها في زمن خلفاء بني العباس الطبقة الرابعة أمراء الأشراف من بني حسين إلى عهد المؤلف.
ثم ذكر ترتيب المدينة النبوية فقال أما معاملاتها فعلة ما تقدم في الديار المصرية من المعاملة بالدنانير والدراهم الخ.
الباب الرابع من المقالة الثانية في الممالك والبلدان المحيطة بمملكة الديار المصرية وفيه أربعة فصول الفصل الأول في الممالك والبلدان الشرقية عنها وما ينخرط في سلكها من شمال أو جنوب وفيه أربعة مقاصد الأول في الممالك الصائرة إلى بيت جنكيزخان وفيه جملتان الجملة الأولى في التعريف باسك جنكيزخان ومصير الملك إليه والثانية في عقيدة جنكيزخان.
ثم ذكر ممالك جنكيزخان عَلَى التفاصيل وهي مملكتان الأولى مملكة إيران ويذكر حدودها وأقاليمها وهي بابل والمدائن وبغداد وسر من رأى والإقليم الأول الجزيرة الفراتية الإقليم الثاني العراق وقواعدها ومدنها ومن المدن التي بالعراق هيت والحيرة والكوفة والبصرة وواسط وحلوان والحلة والنهروان والإبلة والقادسية وعبادان.
ثم يذكر بعد ذلك طبقات ملوكها جاهليةً وإسلاماً وترتيب هذه المملكة كعادته في غيرها.
المملكة الثانية مما بأيدي جنكيزخان توران. هذا جل ما في الكتاب من الموضوعات وندع الكلام عنه بتفصيل أكثر حتى نقف عَلَى آراء الباحثين فيه ولعل فيهم من لا يجهل اسم الكتاب واسم مؤلفه المجهول لنا.
عَلَى أننا سنوالي البحث عن الجزئين لمفقودين منه علنا نعثر عليهما والكتاب عثرت عليه أنا وصديقي الأستاذ الشيخ أحمد رضا.
النبطية - جبل عامل:(80/29)
سليمان ضاهر.(80/30)
مرآة الشباب
أيصدقه العلاء فيستريب ... ويدعوه الفسوق فيستجيب
وتخطيه الكؤوس فيجتبيها ... شمولاً دون لذعتها اللهيب
كأن شروبها إذ يحتسيها ... ربيبٌ حين أعوزه العجيب
يحرق إرماً إثر ارتعاص ... بدا منه بجبهته قطوب
تحجب لبه استارعي ... فكنفه المثالب والعيوب
سرى يبغي العلاء فحين دانى ... ورود حياضه شع القريب
وحالت دونه أكواب دن ... ترشفها فأدركه الشحوب
فتى عبثت به أيدي التصابي ... كما في الطير قد عبث الربيب
رماه بدائه وانسل كوب ... وهل يأتي بغير ألفي كوب
وراقته مداعبة الغواني ... ففلز يرشده الصوت الرطيب
ارتهن لحاظهن ضروب سحر ... وللغادات من سحر ضروب
فبات كان في أذنيه وقراً ... إذا ناداه مرشده اللبيب
وظل ولا طبيب لما عراه ... وهل ينجي من الموت الطبيب
إذا خطبته مكرمة تولى ... وإن نادته غانية يجيب
تعاطيه الكؤوس فتاة دل ... فيطرب وهو لو علم الكئيب
وتطوي عرسه الأيام صبراً ... وساقيه بدرهمه لعوب
ترى الدينار يرقص في يديه ... وقد اضني بنيه طوى مذيب
إذا ما مومي خطرت تدلى ... وتابع خطوها وله وثوب
يحن إلى دنو فتاة سوء ... وقد ظمأت حليلته العروب
ويؤنسه حديث ذوات تيه ... وقد مجته منهن القلوب
ينام نهاره حتى إذا ما ... تصرم هب يحوه الغروب
تؤم به غواتيه فيسعى ... فلا نصب يقيه ولا لغوب
يجوب بغاء غانية قفاراً ... وما لسوى الهوى قفزاً يجوب
ويركب متن حدثان الليالي ... فيلوي حيثما ابتدأ الركوب
يهب إلى الشبيبة بعد عجز ... ويهرجها إذا يبدو النضوب(80/31)
كأن شبابه كرة ازدهاء ... فجاد من الحياة بما يطيب
كأن حياته هانت عليه ... فجاد من الحياة بما يطيب
كأن سنينه أحلام صب ... صحا فإذا نضارتها نكوب
كأن حجاره غادر أصغرية ... وآلى في الشبيبة لا يؤوب
متى يدن المشيب يثب هداه ... إليه كأنما الموت المشيب
وزجر الشيب أعمل في نفوس ... من السمر اللدان إذا تصيب
دمشق:
خير الدين الزركلي.(80/32)
مطبوعات ومخطوطات
ثلاثة كتب
كتاب الألفاظ الكتابة وكتاب الألفاظ الأشباه والنظائر وكتاب الألفاظ
هذه ثلاثة كتب مختلفة العناوين ومختلفة أسماء المؤلفين والموضوع واحد والنص واحد والمؤلف الحقيقي واحد لكن قضى التسرع عَلَى ناشريها أن يصدروها بأسماء مؤلفين هم غير كاتبها أو مصنفيها كما سترى.
فالعنوان الأول هو اسم الكتاب الذي تولى طيه الأب لويس شيخو. فقد جاء في مفتتح السفر المذكور وهو الذي بأيدينا ما هذا نقل حرفه: كتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيس الهمذاني. اعتني بضبطه وتصحيحه الأب لويس شيخو اليسوعي. طبع سابعة بمطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1898 برخصة نظارة المعارف الجليلة في الآستانة العليا. حق الطبع محفوظ للمطبعة. .
والعنوان الثاني هو اسم الكتاب الذي عني بنشره أحد عليما بغداد وإليك ما جاء في صدره: كتاب ألفاظ الأشباه والنظائر للإمام اللغوي عبد الرحمن بن سعيد الأنباري عليه رحمة الباري. وهو كتاب لم ينسخ عَلَى منواله ناسخ، ولم يسلك طريق مناهجه ناهج، مشهور عند أرباب اللغة والأدب، منتزع من أوعية السنة العرب. قديم التصنيف، عجيب الترتيب والتأليف، سليم من الغلط، حسن الأسلوب والنمط، وقد طبع بعد تصحيح أبي البركات خير الدين السيد نعمان ابن المفسر المشهور محمود أفندي الألوسي زاده، مفتي بغداد، سهل الله تعالى له كل مطلب ومقصد يراد، آمين. - التمثيل الأول. - طبع برخصة نظارة المعارف في القسطنطينية سنة 1302. (هـ - 1884 - 1885 م) طبع في مطبعة أبو الضيا. .
والعنوان الثالث هو اسم الكتاب المذكور عَلَى رواية صاحب كتاب الفهرست (أي ابن النديم الوراق) فقد قال في ص137 عبد الرحمن بنن عيسى الهمذاني (بالدال المهملة) كاتب بكر بن عبد العزيز أبي دلف. وكان شاعراً كاتباً وله من الكتب: كتاب الألفاظ. وقال في ص 171 من الكتاب المذكور: كتاب الألفاظ (وفي الأصل مطبوع ألفاظ وهو غلط الطبع) لعبد الرحمن بن عيسى الهمداني (بالدال المهملة).
فأي العناوين هو الأصح وما اسم المؤلف من التحقيق؟(80/33)
قلنا: أصح هذه العناوين هو ما ذكره ابن النديم لأن المؤلف قديم وله أتم الوقوف عَلَى أسماء الكتاب والمصنفين وكل من يطالع كتابه الفهرست يشهد له بسعة الإطلاع وغزارة العلم فعنوان الكتاب هو إذن كتاب الألفاظ وزيادة الكتابية في من النساخ، وزيادة الأشباه والنظائر هي من زيادة الناسخ أيضاً أو من الواقف عَلَى طبعه وعليه فالأوفق أن يعاد العنوان إلى صحته بدون زيادة.
وأما اسم المؤلف الحقيقي فلا جرم أنه الاسم الذي أورده ابن النديم أي: عبد الرحمن بن عيسى الهمداني (بدال مهملة) وميم ساكنة نسبة إلى همدان وهي قبيلة باليمن من حمير ينسب غليها جماعات عديدة من العلماء. لا نسبة إلى همذان بميم مفتوحة وذال معجمة فإن هذه اسم بلدة من بلاد فارس. ووهم الطابع في هذا الاسم هين. لكن وهم العلامة الآلوسي عظام لأنه وإن كان قد كتب عَلَى أول صفحة من الكتاب أنه لابن الأنباري فكيف جاز له أن يكتب عَلَى رأس كل صفحة من صفحاته (وهي 132) هذه الكلمات: كتاب الألفاظ لعبد الرحمن بن عيسى. فكان يجب عليه أن يطابق أحد الأمرين عَلَى الآخر إما أن يقول إنه لابن الأنباري في صدر الكتاب ومثانيه وإما أن ينسبه لابن الأنباري أولاً وآخراً. عَلَى أن عمله هذا أبان كل الإبانة أنه غالط لا محالة. ومن غريب الأمر أن الشيخ الآلوسي ذكر ترجمة ابن الأنباري قبل أن يذكر مقدمة المؤلف ولها أورد هذه المقدمة قال فيها: قال عبد الرحمن بن عيسى حماد: الصناعات مختلفات. . . فكيف لم ير البون البين بين النسبين وهما واضحان متميزان. عَلَى أن الإنسان إذا تذكر هذا الكلام المأثور: لكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة. تحقق أن أعظم العلماء قد يزل مع عليه من حسن النية وإخلاص الطوية.
وفي نسخة صاحب كتاب الألفاظ بعض الاختلاف فطبعة بيروت تقول في ترجمة عبد الرحمن وفي المقدمة: عبد الرحمن بن عيسى بن حماد الهمذاني الكاتب. وطبعة الآستانة تقول: عبد الرحمن بن عيسى بن حماد وابن النديم يقول: عبد الرحمن بن عيسى الهمداني. فلا غرو أن نسب حماد داخل في نسب عبد الرحمن لكن هل ترى كان من أجداده أم لقب أبيه. فهذا ما لا يتضح إلا بعد التنقيب عن هذا الاسم في عدة نسخ وفي ذكر نسب المؤلف كمعجم الأدباء لياقوت. ولهذا لا نجزم فيه.
ومن غريب الأمر أن طابع النسخة البيروتية مع وفرة اطلاعه عَلَى المطبوعات العربية(80/34)
في الشرق والغرب لم يذكر طبعة هذا الكتاب في القسطنطينية، فهل كان منه جهلاً أم تجاهلاً؟ نقول: الأليق أن نقول أنه فعل ذلك منه لأن نسخة الآستانة وإن طبعت قبل نسخته فإنها لم تطبع إلا قبل أربعة أشهر فقط ولما كانت مطبوعات الآستانة قليلة الشهرة لخلو الحاضرة من الجرائد العربية يومئذ هان لنا أن نفهم جهله لما يطبع هناك. وعلى كل فكان الأجدر به أن يذكر هذه الطبعة في النسخ التي جدد نشرها بعدئذ. ولعل الأمر فاته بالمرة وهذا ليس ببعيد. وأما بعد الآن فهو ليس بمعذور.
وإن سألتني أي النسختين هي الفضلى: ألطبعة الآلوسية أم الطبعة البيروتية؟
قلنا: عليك أن تعلم قبل هذا أن الطبعتين وإن كانتا تتفقان بعض الأحيان تختلفان في أغلب المرار. وهذا الاختلاف موجود في الأبواب وفي كثرة المواد. فإنك مثلاً تجد أبواباً غير مذكورة في الطبعة الآلوسية وهي مذكورة في الطبعة البيروتية طوراً وبالعكس. ثم إنك تجد في الباب الواحد مادة وافرة في نسخة دون النسخة الأخرى. هذا فضلاً عن الاختلاف في تتالي الأبواب وفي عناوينها ثم إنك تجد في الطبعة الآلوسية أغلاط طبع لا تحصى كما أن أغلاط الطبعة البيروتية في اللغة كثيرة.
وقبل أن نصدر حكم المفاضلة بين النسختين نذكر باب المعايب في كلتا الطبعتين ليمكنك أن تقبل حكمنا أو ترذله بعد الاطلاع عَلَى مثال يكون لك بمنزلة قياس تقيس عليه ما ورد في كلتا الطبعتين.
1ً جاء في الصفحة 12 من كتاب الألفاظ المطبوع في الآستانة ما هذا نصه:
باب المعايب
يقال ثلب فلان (حاشية: قال الواقف عَلَى تصحيحه: لعل فلاناً بالنصب، ولكنه كتب بالدفع (كذا. وهذا من غلط الطبع والأصح: الرفع) في الأصل مصححه). قال صاحب هذه المقالة: الصح أن يقال: ثلب فلاناً. وأما فلان فمن غلط الناسخ لا غير. وقصبهن وشتره، وضرسه، وسمه به، وندد به، وشرديه، وسعيه، وتنقصه، وعابه، وجد به، ووقع به، وشعث منه، وألحم عرضه، وقرع صفاته، ورتغ في عرضه، وسبه، وقذعه، وزوده الخنا، وأخذ من جنبه، وقرع مسامعه، ومزق أديمه، وقرع مروته، ونحت إثلته بالفتح، واخذ من عرضه، واتبعه القبيح، وذكر معايبه، ومثالبه، ومعايره، ومشانيه، ومناقصه، ومخازيه،(80/35)
ومساويه، ومقابحه، ومقاذره ومفاضحه، وسوآته، ومسآته. قالت ليلى الأخيلية:
لعمرك ما بالموت عار عَلَى الفتى ... إذا لم تصبه في الحيوة المعابر
والقذع، والخنا، والرفث، والفحش هو قبيح الكلام، ويقال فلان بذي اللسان، ملحب، سباب، وقد بذو يبذوه بذاءة، والإزراء، والطعن والقدح، والغميزة (كذا) والتعبير، في طريق واحد، ويقال: كان من فلان نوافر، وبوادر، وقوارص، وشتايم، وقد سفه علينا غلان سفاهة، ولم يكن سفيهاً تقول: نعوذ بالله من قوارعه، وقواذعه، ونواقره، وقوارص لسانه.
2ً: وجاء في هذا الباب في الصفحة 20 من الطبعة البيروتية بهذه الصورة:
باب الثلب والطعن
تقول: مازال فلان يذكر معايب فلان، ومثالبه. ومساوئه. ومقابحه. ومشايينه. ومقاذره. ومناقصه. ومخازيه. ومعايره. ومساءته. وسوآته.
قالت ليلى الأخيلية في المعايير:
لعمرك ما بالموت عار عَلَى الفتى ... إذا لم تصبه في الحيوة المعابر
ويقال: ثلب فلاناً، وتنقصه. وعابه. (ويقال:) عيرته كذا، ولا يقال بكذا.
قال النابغة:
وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل عليَّ بأن أخشاك من عارِ
ويقال: نكرت عَلَى فلان ما صنع وأنكرته ونكرته. (ومنه قول القرآن الجليل:) نكروا لها عرشها أي غيروه.
ويقال: شبعة، وجدبه جدباً، وقصبه، وجرحه، وشز به، وشزبه، وشز عليه، وضرسه، وشعث منه، وسمع به، وندد به، وزرى عليه. (يقال:) زرى فلان عَلَى فلان فعله إذاً عابه. ونقصه زرياً، وأزرى به إذا صغره إزراءَ. وقدح فيه، وطعن عليه، ونقم عليه ومنه وفي عرضه سبه، وقذعه، وقفاه يقفوه، وطاخه بقبيح إذا لطخه به، ووقع فيه، وقرع صفاته إذا قال قبيحاً في عرضه، ونحت أثلته، واستطال في عرضه (والفحش، والقذع، والخنا، والرفث، القبيح من الكلام). (يقال: فلان بذئ اللسان، ملحب، وسباب، ألحمته عرض فلان إذا أمكنته من شتمه. (والإزرار، والطعن، والقدح، والغميزة، والتعبير (في طريق واحدة). (وتقول:) قد كانت في فلان قوارص، ونواقر، وشتائم. (فنقول:) نعوذ بالله من قوارعه.(80/36)
ولواذعه، ولواذعه، وقوارص لسانه، وبذئ فلان يبذأ، وبذؤ يبذؤ بذاءة، وقد رسفه غلينا سفاهة، ولم يكن سفيهاً وقد سفه.
قال ترى بين هاتين النسختين فرقاً ظاهراً. والصواب والغلط يتجاذبان الطرفين فمرة يكونان في هذه النسخة ومرة في تلك فتمسك أنت بما يوافق الصحة.
وبعد هذا التبيين نقول: إن نسخة بيروت أصح طبعاً من نسخة الآلوسي. فإن الأغلاط التي وردت في طبع هذه الأخيرة تنفر كل إنسان من مطالعتها. ومع ذلك ففيها من الفوائد ما لا تراه في النسخة البيروتية. ولهذا يجدر بأحد الأدباء أن يجمع بين النسختين ويصحح الواحدة. عَلَى الأخرى ليكسب رضا الجميع في إحياء مآثر السلف.
الخلاصة
كتاب الألفاظ (ولا يجوز لك أن تغير هذا العنوان بقولك: كتاب الألفاظ الكتابية. أو كتاب ألفاظ الأشباه والنظائر) هو لعبد الرحمن بن عيسى (بن) حماد الهمداني نسبة إلى همدان القبيلة اليمانية المشهورة. وليس لعبد الرحمن بن محمد بن سعيد الأنباري، لاسيما إن علمت أن ابن الأنباري ولد سنة 513 وتوفي سنة 577 وأن الهمداني توفي سنة 320 وإن من النسخ القديمة الكتابة التي ظفر بها الطابع البيروتي ما كتب سنة 522 أي تسع سنوات بعد ولادة ابن الأنباري فلا يعقل أنه ألف كتابه في هذا العمر. وعليه يجب تصحيح ما ورد من الخطأ والوهم في هذا الباب. فإن تفعل تحظ بالصواب.
ساتسنا.
وصف كتاب جامع التعريب، بالطريق القريب
من تأليف أحد علماء القرن الثاني عشر الهجري أو السابع عشر
الميلادي.
في جامع مرجان من جوامع بغداد خزانة كتب جليلة من وقف نعمان الآلوسي المؤلف الشهير ابن المؤلف الكبير محمد الآلوسي. وبين كتبها الخطية كتاب اسمه جامع التعريب، بالطريق القريب. إلا أن صاحبه لم يذكر اسمه لا في صدر الكتاب ولا في عجزه. والظاهر أنه عالم من علماء القرن الحادي عشر للهجر نقول ذلك تقريباً وتكهناً ولا تأكيداً وتثبتاً(80/37)
اعتماداً عَلَى كلام صاحب كشف الظنون المتوفى سنة 1068 هـ 1658 م إذ يقول عن معرب الجواليقي: وهو كتاب لم يعمل فيه أكثر منهفالظاهر من هذا القول أن الحاج خليفة لم يعرف هذا الكتاب الذي نشير إليه لعدم وجوده يومئذ. وإلا لما قال تلك العبارة. ثم أن مؤلف جامع التعريب لم ير كتاب الخفاجي لأنه لو رآه أو كان ممن عاش قبله لذكره أيضاً في مقدمته وعليه نظن أن الكاتب كان في عصر الحاج خليفة والخفاجي نفسيهما.
وهذا الكتاب من أوسع وأحسن ما كتب في هذا الموضوع والنسخة الموجودة أمامنا حسنة الخط طولها 22 سنتيمتراً في عرض 17 وفيها 360 صفحة وفي كل صفحة 25 سطراً وهي مجلدة بالسختيان والكاغد أخضر اللون. قال الناسخ في آخرها: تمت كتابته في سلخ جمادى الأولى سنة 1203 بخط أفقر الوردي وأضعفهم إلى الغنى القوي عبد الكريم بن أحمد بن محمد الطرابلسي الخلوتي الحنفي غفر الله له ذنوبه آمين. .
وإذا وقفت عَلَى مقدمته عرفت بعد منزلته. قال: الحمد لله الذي صان بلغة العرب الكتاب والسنة. واظهر بها عَلَى غيرها من اللغات الفضل والمنة. ومنع بمن أقامه بضبطها الأجنبي والغريب. وميز لهم ما وقع بها من الأعجمي وما فيه من التعريب أحمده عَلَى التوفيق لسلوك الأدب. ولزوم تحصيل فضائل العجم والعرب أما بعد فإني بعد أن وقفت عَلَى كتاب المعرب ابتداع الأستاذ أبي منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الجواليقي شكر الله مسعاه. وجعل الجنة مقره ومثواه. كان محتاجاً إلى تتمة في الترتيب. وزيادات فائقة في آثار التعريب. ظفرت بكتاب التنزيل والتكميل. مما استعمل في اللفظ الدخيل. الذي جمعه الفاضل المنيع جمال الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن أبي بكر بن موسى العذري الرثوثي الشهير والده بشيشي (ويروى سيسي) بخطه. فوجدته والله قد أفرغ الوسع في التتبع والاستشهاد بهمة تقارب رتبة الاجتهاد. بل أحسن فيه الجمع وحسن الترتيب. ومعونة للطالب والأديب. غير أن فيه تكراراً وإطالة ربما تفضي إلى الكسل والملالة. فأحببت أن أختصر من الأصل ما زاد جرياً عَلَى المألوف والمتعارف والمعتاد، مع رعاية الاختصار والإيجاز. وتبيين ما يتحقق الإحاطة به والامتياز. مع زيادات وحسن تلخيص. تباعداً عن الإسهاب والتمحيص. وسميته: جامع التعريب. بالطريق القريب. والله أسأل المعونة والتوفيق. - ثم قال: باب الهمزة مع الألف: آب وهو(80/38)
يكتبها هكذا آاب أب بألف ممدودة وراءها ألف هاوية كما كان يفعل الأقدمون في مثل هذه الألفاظ. ثم يذكر بعدها آاجاص. آاجر. آاجنقان. آاذار. آادم. . . الخ. وهو يشرح كل لفظة شرحاً مشبعاً لا يبقي لمستزيد زيادة.
إلا أن الناسخ وإن كان حسن الخط وخطه تعليق إلا أنه لا يحسن النسخ ولهذا فقد مسخ ألفاظاً كثيرة ولجهله معناها فصورها بصورة مألوفة السمع سهلة الفهم لكن لا تنطبق عَلَى بقية العبارة: فلهذا يحتاج القارئ إلى التيقظ التام في تصفح الكتاب. وفي شرحه بعض الألفاظ شروح إضافية الذيل، ناقلاً إياها عن عدة كتاب سبقوه مما يحرص عليها كل الحرص. وربما خرج في كلامه إلى ما محل له كما كان يفعل المصنفون في سالف العهد. - والمؤلف قد أدخل في سفره ألفاظاً جمة لم ترد في معربات الجواليقي ولا في شفاء الغليل ولا فيغيرهما من مؤلفات هذا القبيل. ولهذا نرى طبعه من الضروريات. وربما ذكر في كتابه أعلام المدن والرجال لكنها دون الألفاظ الجنسية عدداً واعتناء.
وقد حان لبنا أن نعطي مثالاً من كلامه ونذكر ما جاء في أبو جاد من الشرح وقد ورد في الصفحة 11 من النسخة المذكورة. وهذا نصه بحرفه:
أبو جاد لفظ سرياني قيل أنه اسم ملك من الأول وكذا هوز. حطي قيل اسم لأول أيام الأسبوع عن سيبويه. أبو جاد وهوز وحطي بياء مشددة أسماء عربية وأما كلمن وسعفص وقريشات فإنهن أعجميات لا يتصرفن وأنشد:
أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أحرف متتابعات
وخطوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصاً وقريشات
قال أبو سعيد السيرافي: فصل سيبويه بين أبي جاد وهوز وحطي فجعلهن أعجميات. وكان أبو العباس يجيز أن يكن كلهن أعجميات. وقال بعض المحتجين بسيبويه: إنه جعلهن عربيات لأنهن مفهومات المعاني في كلام العرب. ودقد جرى أبو جاد عَلَى لفظ لا يجوز إلا أن يكون عربياً تقول إن هذا أبو جاد. ورأيت أبا جاد. وعجبت من أبي جاد قال أبو سعيد: والذي يقول أنهن أعجميات غير مبتعد عندي إن كان يريد بذلك الأصل فيها العجمة لأن هذه الحروف عليها يقع تعلم الخط السرياني وهي معارف. وقال بعضهم: جاد في قولك: أبو جاد مشتق من جاد يجود أو من الجواد وهو العطش أو من قولهم جوداً له أي(80/39)
جوعاً له! ووقع الناس في أبي جاد أي في باطل قال الإمام قطرب: قولهم أبجد وهو أبو جاد وإنما حذفت واوه لأنه وضع لدلالة المتعلم. فكره التطويل والتكرار وإعادة المثل نمرتين فكتبوا أبجد بغير واو وألف لأن الألف في أبجد والواو في هوز قد عرفت صورتاهما وكل ما مثل من هذه الحروف استغني عن إعادته. قال أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني يقال: إن أول من وضع الكتابة العربية قوم من الأوائل نزلوا في عدنان بن أَدد فاستعربوا ووضعوا هذه الكتابة عَلَى عدد حروف أسمائهم فكانوا ستة نفر أسماؤهم: أبجد. هوز. حطي. كلمن. سعفص. قرشت. وأنهم ملوك مدين رئيسهم كلمون فهلكوا يوم الظلة مع قوم شعيب عليه السلام فقالت أخت كلمون ترثيه:
كلمون هد ركني ... هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الحتف ثاو وسطه ظله
جعلت نار عليهم ... دارهم كالمضمحلة
هذا وقد توهم الصغاني أن حمزة قائل هذه الأبيات في كتاب التنبيه عَلَى حدوث التصحيف. وليس كذلك ثم وجد ما جاء بعدهم حروفاً ليست من أسمائهم وهي ستة الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين فسموها الروادف. ويدل عَلَى كون أبجد وما بعدها أسماء رجال وضعوا الكتابة العربية عليها كون هذه الكلمة الواقعة عَلَى حروف الهجاء لم تزل مستعملة عَلَى ممر الدهور عند كل أمة وجيل من سكان الشرق والغرب متداولة في الأعداد النجومية وكذا هنا عند السريانيين فهي الأصل الذي يتعلم منه الهجاء تبعهم في ذلك الإسرائيليون من اليهود والنصارى يدرسونه صبيانه في كنائسهم قائلين هجاء العبرانية ألف. باء كمل. دالث. يتبعونه بما بعده عَلَى حكاية لغتهم وهذا هو الذي عربه عرب الإسلام فقالوا أبجد مكان ألف. بأكمل دالث. قال ابن دريد: في حروف الهجاء العربي حرفان لا يجريان إلا عَلَى لسان العرب ولا يوجدان في لغات سائر الأمم وهي الظاء والحاء وخوالف في الحاء بأنها موجودة في السريانية والعبرانية والحبشية وقيل الضاد لا تقع في لغة الروم كما أن الصاد لا تقع في لغة الفرس والذال لا تقع في لغة السريانيين كما أنه لا يقع في لغة العرب لام بعدها شين وكما لا يقع فيها حرفان من حروف الهجاء لفظهما واحد متجاورين في أوائل الأسماء نحو ششن كك وقد يقعان في أواخرها نحو تكك ومشش(80/40)
إلا في أسماء أصلها فارسية كحوببات وددان كما أنه لا يقع الدال في لغة الفرس في أوائل الأسماء والأفعال وغنما تقع في أواخرها وأواسطها وكون أصل الهجاء العربي مؤسس عَلَى: أبتث جحد ذرزس شصضط ظعغف قكلم نوهي هو قياس اب ت ث وألف من حروفها وبا وجمل تجري في العربية مجرى أبجد في السريانية لكن هذا الخبر صادر عن رجل كان يولد الأخبار عَلَى الأمم الذين بادوا كعاد وثمود وطسم وجديس وأضرابهم وإذا احتاج البى توليد أشعار يؤكد بها تلك الأخبار خرج ملتمساً ممن يحسن الشعر من الأعراب تقديره أن يقول شعراً من جنس مراده فكانوا يعلمون مثل كلمون هدركني وهذا الرجل هو الذي ادعى عَلَى آدم عليه السلام أنه أنشد:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم وريح ... وزال بشاشة الوجه المليح
وبدل أهلهم إثماً وخمطاً ... بجنات من الفردوس فيح
وجاورنا عدو ليس يتأتى ... لعين لا يموت فتستريح
فلولا رحمة الرحمن أضحى للع من جنان الخلد ريح (؟) كذا. والأصح: بكفك.
فيا أسفاً عَلَى هابيل ابني ... قتيلاً قد توسد في الضريح
فنسب معاواته إلى نبي الله شعراً ركيكاً واهن الركن ضعيف الأسر ذا أقواء مع ثبوت أن الأقوآء من أقبح عيوب الشعر وعدم مطابقة قوله تغيرت البلاد ومن عليها وأين كانت بقاع تلك البلاد ومن كان عليها إذ ذاك. علي بن هشام قال في كتابه التيجان بعد إنشاده هذا الشعر. قال جبير بن مطعم ليس هو إلى آدم عليه السلام بل هو متحول إليه وهود عليه (كذا) واستخف منه زعم من قال أن إبليس أجاب عنها بقوله:
تنج عن البلاد وساكنيها ... فقد في الخلد ضاق بك الفسيح
وكنت تعيش وزوجك في رخاء ... وقلبك من ذوي الدنيا فريح
فما انقلبت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الثمن الربيح
فلولا رحمة الجبار أضحى ... بكفك من جنان الخلد ريح.
ولعمري كم من مفسر ومؤرخ يذكر هذا الشعر ولم ينبه عَلَى ضعفه ووضعه فكم ترك الأول للآخر. وكم دام من السخف عَلَى الخواطر. وقد جاءت روايات عارية من الحال(80/41)
محققة للمحال من الأنبار إلى الحيرة ثم من الحيرة إلى مكة والطائف وتسويده ما روي عن يحيى بن جعدبة أنه قال سالت المهاجرين من أين صارت إليكم الكتابة بعد أن لم تكونوا كتبة فقالوا من الحيرة فسألنا بعده من أهل الحيرة ممن أخذتموها فقالوا من أهل الأنبار وروى ابن الكلبي والهيثم بن عدي: أن الناقل لهذه الكتابة من العراق إلى الحجاز حرب بني أمية وكان قدم الحيرة قدمة فعاد إلى مكة بها. قال: وقيل لأبي سفيان بن حرب ممن أخذ أبوك هذه الكتابة. فقال من أسلم بن سدرة وقال سالت أسلم ممن أخذت هذه الكتابة فقال من واضعها مرار بن مرة فحدوث هذه الكتابة للعرب قبيل الإسلام صحيح يؤيده حدوث آلات لم تكن لهم من قبل كالخطاب والشعر والبلاغة فإنها قريبة الميلاد من إقبال دولتهم وقد كانوا عبروا الدهر الطويل وهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون وكان لحمير كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكانت مباينة لكتابة العرب عَلَى حدة في اللغة السير بعيدة الدار من بلادهم في منقطع الترب عَلَى شاطئ البحر جيراناً للحبشة والزنج وكانوا يحظرون تعليمها عَلَى العامة مع أنه كان لا يتعاطاها إلا من أذن له في تعلمها فلذلك دخلت دولة الإسلام وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب. . .
وجل كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة وهي العربية والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية. فخمس منها اضمحلت وبطل استعمالها في بلادها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي الحميرية والقبطية والهندية واليونانية والصينية وأربع مستعملات في بلاد الإسلام وهي العربية والفارسية والسريانية والعبرانية وأما العبرانية فنوع واحد لا تتفنن وإنما تتغير بخصيص أقلامهم حال التجويد أو التعليق. وأما الفارسية فتسعة فنون عَلَى ما ذكر أبو جعفر محمد بن المؤيد المتوكلي فإنه زعم أن الفرس كان إمام ملكها مقر عن أصناف إيراداتها (كذا) سبع كتابات وهي برم دفيره وكشته ودفيره ونيم كشته دفيره. وفروده دفيره. وسف دفيره. فمعنى الأولى الكتابة العامية والثانية الكتابة المغيرة والثالثة الكتابة المغيرة نصفها والرابعة كتابة الرسائل والخامسة كتابة السر وكانت كالترجمة والسادسة كتابة الدين وكان يكتب بها قرآنهم وكتب شرائع دينهم والسابع جامع الكتابات يشتمل عَلَى لغات الأمم من الروم والقبط والبربر والهند والصين والترك والنبط والعرب(80/42)
وكانت كتابة العامة من بينها ترسم قلماً وعشرين قلماً لكل فلم منها اسم عَلَى حدة نحو ما يقال في الخط العربي خط التجاويد. وخط النحاس. وخط القراطيس. وخط التحرير وخط التعليق وكانت صناعة الكتابة ذات أسماء مختلفة تلزم فنون طبقات الأعمال وقد نسي أكثر أسمائها لكثرتها فقد كانت غير ذلك فدرست وصاروا يستعملون منها هذه الأنواع السبعة كما كانوا يستعملون في المخاطبات اللغات الخمس الفهلوية والدرية والفارسية والخوزية والسريانية. فالأولى كان بها كلام الملوك في مجالسهم وهي منسوبة إلى فهله الواقعة اسماً عَلَى خمسة بلدان وهي: أصبهان والري وهمذان وماه نهادوند وآذربيجان والثانية لغة مدن المدائن وبها كان يتكلم من بباب الملك وهودر بالفارسية والغالب عليها من لغات أهل المشرق لغة أهل بلخ والثالثة كان يجري بها كلام الموابدة ومن ناسبهم من كور بلاد فارس والرباعة منسوبة إلى خوزستان وكورها الثلاث وبها كان يتكلم الأشراف في الخلوات كالتعري في الحمام والإبزن والمغتسل والخامسة منسوبة إلى كور بلد سورستان أعني العراق والسريانيون هم النبط وبها كان كلام حاشية الملك عند التماس الحوائج وتشكي الظلامات وكان للفرس كتابة العصا حكاها السلماني وكانت ملوك الفرس تودعها الأسرار في مخاطبة خواصها وعمالها ولم يكن بخط ولا بأعداد ولا بما يجري مجراها وإنما كانت تعمد إلى جلد أبيض فتقد منه سيراً طويلاً ثم تعمد إلى عصي الفيج أو المكاري فتلف السير عليها وتضم حروف السير بعضها إلى بعض ثم تدعو بمسامير تركبها عليها ثم تكتب فإذا انتهت الكتابة سلت تلك المسامير وكشف ذلك السير عن العصي فكان ما كان منها إلا نقط متفرقة ثم تلف السير وتجعل كالطبق ويقال للمكاري إذا نزلت منزلاً فضع طعامك عليه لتوهم أنه طبق طعامك فيكون هذا دأب الرسول إلى مبلغ المكتوب فح يرد لف السير عَلَى العصي كما كان رسم بأن يجعل الثقب التي في السير تجاه الثقب التي في العصي ويشك المسامير في الثقب ثم يضعها عند المكتوب إليه فهذه المتابة التي كانت إذا ضم بعضها إلى بعض أمكن قراءتها وإذا نشر زالت صورتها وتعذرت قراءتها. وسئل أحمد بن علي المتوكل عنها فأخذ درجاً من كاغد فكسر منه شبيهاً بورقتين وضم أثناءه بعضه إلى بعض ثم كتب عليه شيئاً يقرأ ثم نشره وبسطه فصار في كل موضع من الورقتين كالعلامة والنقطة فهذا الذي أريد بقول الشاعر:(80/43)
أي كتاب بالطي تعرفه ... وعندهم تبين أحرفه
وأشر مما يزيل صورته ... وكتبنا كلها تخالفه. اه بجرفه
فأنت ترى من هذا المثال، طويل المقال، الواسع المجال، إن هذا الكتاب الجليل من أحسن ما صنف في هذا القبيل. ولاسيما أن الكاتب قد أحاط بكثير من الألفاظ التي لم يذكرها من سبقه إلى هذا الموضوع. بل ولم ينوه عنها من جاء من بعده. ولهذا نتمنى أن يخرج هذا التصنيف اليتيمة إلى عالم المطبوعات. لينتفع بها محبو اللغات. ويقف عَلَى بعض محتوياته ما لا يوجد في كثير من المصنفات. قيض الله أديباً فاضلاً يعنى به. إنه عظيم كريم.
بغداد:
ساتسنا.
تقارير المجمع العلمي السميثوني
عن سنة 1909 - 1910 - 1911
1909 - 1910 - 1911
عودنا هذا المجمع أن يمتعنا كل عام بتقرير عن أعماله السنوية وذلك بكتاب ضخم يخصص القسم الأكبر منه لنشر ما يظهر في عالم المطبوعات من الأبحاث والمحاضرات العلمية سواء ظهرت في أوربا أو أميركا. وأمامنا الآن ثلاثة من هذه التقارير الأولى لسنة 1909 وأهم ما فيه من الأبحاث بحث في مستقبل العلوم الرياضية وبحث فيما إذا يميز المناطيد وآخر في تقدم الطبيعيات وآخر في مسألة النتروجين من الوجهة الحربية وآخر في مذنب هالي وعودته وآخر في طبقة الهواء العليا وآخر في المبلورات وغيره في الصخور النارية وفي البراكين وفي حفظ الموارد الطبيعية وفي البعثة البريطانية إلى القطب الجنوبي وآخر في رسم بحر غرينلاند ورحلة في أفريقية من النيجر إلى النيل ومحاضرة في ماضي العراق وحاضره ومستقبله ألقاها السير ويليام ويلكوكس في الجمعية الجغرافية الإنكليزية. ومبحثان في النشوء الحيواني ومذهب دارون. وآخر في قدم الإنسان في أوربا وآخر في نسبة العلم إلى حياة البشر وآخر في نسبة الحشرات إلى الأمراض(80/44)
وآخر في المقاومة الطبيعية للأمراض السارية وإسعافها وهذه الأبحاث كلها من أقلام نخبة رجال العلم في أوربا وأميركا.
أما تقرير سنة 1910 فهو كالذي سبقه في الحجم والإتقان وإن كان أدق وألطف من الأول ورقاً وأهم موضوعاته: بحث في تزاويق البسط والسجاد وفي تقدم فن الطيران حديثاً وآخر بالانتفاع في الأراضي المقفرة في غربي الولايات المتحدة وآخر في القوة الكهربائية من نهر المسيسبي وآخر وسائط التأمين في معامل الفولاذ في الولايات المتحدة وغيره في نقل الرسوم بواسطة التلغراف السلكي واللاسلكي والآراء الحديثة في تركيب المادة. التقدم الحديث في وسائط تجربة المفرقعات. السكنروسكوب. مسائل فلكية في المناطق الجنوبية. صلاح الأرض للحياة في المستقبل. حفظ الغابات. بحث في معرفة نوع الجنين وآخر في ريش النعام. نظرة من الوجه الاقتصادية والجغرافية في الشعوب السلافية المعاصرة. وآخر في سكان الكهوف في العالم الجديد والقديم. حالة المزارع الصحية والسل وانتشاره.
ويحوي تقرير سنة 1911 كغيره أبحاثاً مفيدة في الطبيعيات والفلك والحيوان والكيمياء وطبقات الأرض وحفظ الصحة إلى آخر ما نشر من الموضوعات الحديثة خلال تلك السنة.
وهذه التقارير في الجملة غاية في الإتقان والدقة مزدانة بالرسوم حسب ما تتطلبه الأبحاث والناظر إليها يشعر برقي هذا المعهد العلمي سنة عن سنة نفع الله العلم به وأكثر من أمثاله في العالم. وقيض لهذا الشرق العربي أناساً يخدمونه في الماديات ليخرجوا به من عالم الأدبيات والخطابيات.(80/45)
أخبار وأفكار
إيطاليا والإسلام
قال لنا ذات يوم أحد علماء الشرقيات من الألمان أتدري السر الأعظم في غلبتنا الفرنسيس في حرب السبعين فذكرنا له ما حضرنا من الأسباب فقال: لا هذا ولا ذاك وإنما كنا معاشر الألمان عارفين بما عند جيراننا حق المعرفة أما هم فكانوا يجهلون حقيقتنا ولذلك كتب النصر لنا.
ولقد حملت مجلة العالم الإسلامي الباريزية مبحثاً للمسيو أنطوان كاباتون من مستشرقي فرنسا تحت عنوان إيطاليا دولة إسلامية فآثرنا ننقل لبابه إلى العربية ليعلم من لا يعلم أن كل أمة لا تعرف ما عند جارتها تغلبها كما غلب الألمان الفرنسيس وأن التمجد بالقديم وحده دون أن يكون لصاحبه شيء من دواعي الشرف الحقيقي الطريف مما يلقي بالأمم من قمم العز إلى دركات الذل وأن الشرق ينون أن يعد له قوة تعادل قوة الغرب يزدرده هذا ويقضي عليه سنة الله في خلقه. قال العالم الفرنسوي:
إن معاهدة لوزان الخيرة التي اعترفت بامتلاك إيطاليا الفتاة لليبيا قد أدخلت إيطاليا في مصاف الدول الإسلامية فإن أثرت الحرب بين إيطاليا والعثمانية في المسألة العثمانية البلقانية كل التأثير فقد أثرت في مكانة إيطاليا ونفوذها ووجهتها السياسية والاقتصادية أيضاً. واعتبرت حملة طرابلس حادثاً جديداً لقسمة قارة أفريقية بين الدول الأوربية وعنواناً حديثاً لسلطان المدنية الغربية الطامعة القوية عَلَى الغفلة الشرقية.
وراحت إيطاليا مدفوعة بعوامل التذكارات الماضية وما أصابها من الفشل بين جاراتها ومنافساتها تريد الظهور في القبض عَلَى قيادة بلاد البحر المتوسط.
وما من حرب منذ سنة 1859 وقعت موقع القبول عند الشعب الإيطالي مثل الحرب الأخيرة إذ تلقتها الأمة الإيطالية بالبهجة عَلَى اختلاف طبقاتها ومن النساء من أرسلن ثلاثة أولاد لا رابع لهن إلى ديار الحرب وخرجن يوعونهم ويقلن نتجبي الحرب فلقيت الحملة في ذهابها وإيابها من ضروب الإكرام في بلادها شيئاً كثيراً ولا تسل عن فرح القوم يوم شاهدوا أبناءهم عائدين يحملون شارة الاستعمار لبلاد ربما كان أولادها في المستقبل جيش إيطاليا السود.(80/46)
وحدث ما شئت أن تحدث عما صدر في إيطاليا من الكتب والرسائل والصحف في وصف طرابلس وبرقة وما إلى ذلك يوم نادت إيطاليا: هيا إلى الحرب وعضدتها الصحف والحكومة عَلَى اختلاف صبغاتها في هذه الدعوة لا ليكون لإيطاليا مجد ومصرف اقتصادي فقط بل لتكون عَلَى قيد غلوة من بلادها أراض مخضبة ينزلها أبناؤها الذين يكثرون كثرة زائدة ولذلك كانت إيطاليا تمجد بحماسة تمازجها سذاجة أقل حرس يعود من ليبيا وكيسه عَلَى ظهره كما كانت تتألم لأقل نقد يأتيها من الخارج.
فالأسلوب العلمي العظيم الذي وفقت إليه إيطاليا لوضع الحرب أوزارها انتهى بتمجيد الأمة الإيطالية. بعثت إيطاليا مئة ألف مقاتل عَلَى أسطولها الفاره لتقضي كل القضاء عَلَى الأتراك والأعراب ممن لم يتيسر لحماستهم الدينية وحبهم للاستقلال أن ينوبا مناب الأسلحة المنظمة والذخائر والجند والنظام.
اغتبطت إيطاليا بفتح طرابلس وبرقة وأثبتت أنها الوارثة الوحيدة لمملكة رومية التي كانت الحاكمة عَلَى العالم في القديم وحققت أمانيها منذ خابت يوم ضمت فرنسا تونس إليها سنة 1881 وانهزمت في الحبشة سنة 1889 لأنها عادت فأصبحت مملكة مستعمرة بما فتحته من ليبيا التي فتحتها رومية منذ الزمن الطول أيام كانت ضفاف البحر المتوسط للروح الإيطالية مهمازاً يحفزها كما كانت الآستانة مهمازاً للروح الصقلبية السلافية.
ولقد طمحت إيطاليا في كل زمن إلى هذا الشاطئ من البحر المتوسط فحملت أولاً القوة والسلام الروماني ولما انحلت عرى هاتين المادتين تحت ضربات البرابرة عادت توجهه وجهها إلى تلك الوجهة أيضاً لا إلى الشمال فكان البحر المتوسط ميدان عمل جنوة وبيزا والبندقية وأمالفي وباري وسالرن ولم يقنع تجارها بأن يغتنوا بالاتجار بأقمشة الهند وفارس وجزيرة العرب وأفاؤيتها وأباريزها بل أخذوا برزانة يؤيدون النفوذ اللاتيني في آسيا الصغرى ومصر والحبشة وكان من انتشار الإسلام وقوته في القرن الثامن أن ضربت هذه الفتوح التي تذكر بفتوح رومية أيام عظمتها ضربة شديدة فاحتقر المسلمون إيطاليا عَلَى سمو مدارك أبناءها ومرونة أخلاقهم وأغاروا عليها فأدخلوا عَلَى قلوب أهلها الهول والفزع فكان الجلاد عظيماً ولئن وفقت إيطاليا إلى طرد العرب من صقلية فإن نجاح مدنها الساحلية في الجنوب قد تراجع وظلت جنوة وبيزا متأثرتين وعادت البندقية فوجهت(80/47)
وجهتها إلى آسيا الصغرى.
وكان من الحروب الصليبية أن تهيأت لإيطاليا أسباب الانتقام فهذه الغارات وإن كان باباوات رومية هم الذين أملتها عقولهم قد بذل فيها العنصر الإيطالي بما عرف به من الحمية الممزوجة بقليل من التبجح من حسن السياسة أكثر مما بذل من الشجاعة.
فاقتصر الإيطاليون في الحرب الصليبية عَلَى مرافقة جيوش أوربة إلى آسيا وبينا كان ملوك الأمم الأخرى تقيم ممالك صغرى في الأرض المقدسة كان الإيطاليون يقطفون ثمرات تلك الحملات. وقد ثبت هذا الدهاء السياسي الإيطالي في الحملة الصليبية الرابعة فإنه أنتج لجنوة وبيزا أن ربحتاً كثيراً واستأثرت البندقية بتجارة آسيا الصغرى وامتلاك أراضٍ مخصبة عَلَى الشواطئ الشرقية من البحر المتوسط وجزء من الآستانة. ولما سقطت القسطنطينية عَلَى يد محمد الثاني سنة 1453 حالت دون هذا السير النافع وهذا فإن البندقية مع ما أتته من عجائب المهارة وحسن المأتى بل بجهادها العلني قد احتكرت جميع تجارة أوربا مع الشرق.
وبهذا الاحتكاك غير المنفصل تمت للبندقية عَلَى قوتها البحرية والتجارة معرفة الشعوب الإسلامية حق المعرفة أكثر من كل أوربا وكان من العادة الجارية مع طبقة التجار من أبناءها أن يتكلموا التركية والعربية ويألفوا بعض العادات والمصطلحات الشرقية ولكن جاءت قوة في القرون الثلاثة التالية أكثر من قوة البندقية عَلَى ما لها من الصلات التجارية مع العناصر ألإسلامية فزادت عليها لأنها تطمع في امتلاك العالم ونعني بها الباباوية.
فإن كنيسة أحلام رومية استطاعت أن تمتد إلى الخارج ويكون لها مطلب أعلى من الزنج حتى أنها في عهد غارات الجرمانيين كانت تحلم أن تقبض ذات يوم عَلَى قياد الوحدة وحب الاستيلاء الذي سقط بسقوط دولة القياصرة فأحسن صلاتها مع المسيحيين بل ومع الوثنيين في الشرق ممن تطع في تنصيرهم وأدركت كل الإدراك الخطر الناشئ من امتداد كلمة الإسلام عَلَى أوربا المسيحية. ومع أن الحملات الصليبية قد أخفقت وقوة الإيمان قد انثلمت في القائمين بها ما برحت كنيسة رومية إلى أوائل القرن السابع عشر تطالب بأعمال أخرى وفي هذا العهد كان العف أخذ ينال العثمانيين.
بيد أن رومية شعرت في الحرب الصليبية الثانية أن السيف وحده غير كافٍ في مثل هذا(80/48)
الجهاد ورأت أن تعارض التعصب الإسلامي بطوائف متماسكين في اتحادهم من غيوري الأوربيين أو الشرقيين لتقطع أوصال المسلمين قطعاً أدبياً بعد أن أوقفتهم عن سيرهم المادي. وما فتئت رومية منذ القرن الثاني عشر والثالث عشر تحاول تنصير جميع الشعوب الآسياوية التي ظلت عَلَى وثنيتها فبعثت إلى بلاد المسكوب وفارس وأرمينية والتاتار والتبت ومغوليا والصين والأرخبيل الهندي وفوداً من أهل الذكاء والحصافة ممن خلفوا لنا رحلاتهم ومذكراتهم اليومية عهدت إليهم أن يسبروا غور أمراء لينصروهم أو ليتحالفوا وإياهم صد المسلمين عَلَى الأقل. وكان نصيب مصر والحبشة أيضاً البحث عن مثل هذا الشأن.
فلم تلبث الرهبنات العظمى قد أنشئت مثل الدومنيكينيين والفرنسيسكانيين واليسوعيين والكبوشيين والكرمليين واللعازريين ليكونوا جنداً مخلطاً في خدمة إمام الأحبار وتفتح تلك البلاد لدخول النصرانية إليها فأثبت جيش من الرهبان عَلَى اختلاف مظاهرهم في قارتي آسيا وأفريقية الشمالية لافتتاحها ونشر الإنجيل فيها ثم نشر المدنية الغربية فحبط القائمون بالأمر أولاً ولم يهتدوا لأحسن الطرق في العمل فانهال الفرنسيسكانيون والدومنيكينيون يفادون بأرواحهم ويصبرون عَلَى ضروب العذاب في سبيل دعوة الشعوب الإسلامية في أفريقية الشمالية إلى الدين المسيحي وكانت الطرق التي عمدوا إليها عَلَى تحمس فيها ممزوجة بكثير من الجهل فشعروا في الحال أن الضرورة تقضي عَلَى من يريد دعوة أحد إلى دينه أن يتكلم بلغته عَلَى الأقل ليتفاهم الداعي والمدعو فنادا القوم في كل مكان بضرورة إنشاء مدارس لتعليم اللغات كان رايموند لول داعيتها الذي لم ينله تعب ولا نصب.
فقضى مجمع فينا سنة 1311 الذي كان يرأسه أكلمنتس الخامس لأن يؤسس في باريز وأكسفورد وبولون وسلمنكة دروساً عربية وعبرانية وكلدانية من شأنها تخريج وعاظ وأهل جدل أشد لتنصير المسلمين واليهود وأنشأ الفرنسيسكانيون والدومنيكينيون في ايدارهم دروساً من هذا القبيل ليعدوا رهبانهم لنشر الإنجيل ومنذ ذاك العهد أصبحت إيطاليا مهد حركة بالمشرقيات وأخذوا بنوع خاص يدرسون العبرية لفهم أسرار التوراة لتنصير اليهود واللغة العربية لتنصير المسلمين وكان أساتذة العبرية يتخرجون بأعلم العلماء الربانيين(80/49)
وأساتذة العربية كانوا ممن رحلوا إلى البلاد اللغة التي أخذوا يدرسونها ويصحبهم بصفة معيدين أناس من المسلمين أو من السوريين الموارنة ممن كانوا يعلمونهم العربية بالعمل ورأى هؤلاء القسس بحكم الضرورة أن يتقنوا من اللغة العامية إلى الفصحى ليشتد ساعدهم في فهم المسائل الفلسفية ورد حجج المخالفين بأسلوب فسلفي أدبي.
ومن أجل هذه الغابة اهتموا أيضاً بمصر والحبشة ومن مدارسهم نشأ العلماء الأول من الأقباط والحبش والأمحريين ولكن دراسة اللغة العربية بقيت الحاكمة المتحكمة في شبه جزيرة إيطاليا فكان ينظر إلى تعلمها أنه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية. فقد وضع أحدهم سنة 1265 باللغة العربية كتاب المعاهدة التجارية بين تونس وجمهورية بيزا وظلت العربية مألوفة في عدة أماكن من إيطاليا الجنوبية عقيب احتلال العرب صقلية فكانت في بلاط ملوك نورمانديا وهوهانستوفين وفريدريك الثاني ودي منفروا لغة العلم العالي والشعر والأدب. وما كانت العربية عَلَى ما فيها من القصائد المقيمة المقعدة والعواطف المؤثرة لتحمل أمثال شارل دانحو عَلَى تحمسه لدينه أن يخاف عاديتها بل كان الطباء والطبيعيون في قصره إما من الإسرائيليين أو من المسلمين المنحلين في عقائدهم وكان الطب هو الجواز التي سارت به الفلسفة العربية عندما قام جيرارددي كرمون الشهير في أوائل القرن الثالث عشر في ظل دولة فريدريك الثاني يترجم بعض كتابات ابن سينا الفيلسوف.
وفي القرن الثالث عشر ترجم المعلم موسى من أهل بلرمة من اللاتينية إلى العربية كتاب أبقراط في أمراض الخيل فتسربت فلسفة ابن رشد من أمثال هذه الطرق ولم تلبث أن صادفت قبولاً بين ناشئة إيطاليا حتى شكا من ذلك جهاراً بترارك في القرن الخامس عشر إذ رأى في تلقف فلسفة ابن رشد الإلحاد والازدراء باليونانية واللاتينية. وكثير من العلماء والأدباء من غير طبقة الرهبنان كانوا يرون في موجبات الفخر في القرن التالي أن يعرفوا العربية سائرين عَلَى سنة بيك دي لاميراندول.
وعلى توفر بعضهم عَلَى نشر كتب في الجدل مع المسلمين حتى قبل أن يترجم القرآن بإحدى اللغات الغربية فإن عشاق العربية كانوا يرون من الحيطة ودواعي الغيرة أن يمرنوا أنفسهم عَلَى ترجمة رسائل في الطب ينقلونها عن العربية إذ لم يكن أحد يجهل مكانة(80/50)
العرب في هذا الفن وبذلك يرون أنهم ينجون من الاتهام بالزندقة وقد أصبح أندري أريفاين في البندقية حجة في هذا الباب وأنشأ هؤلاء المترجمون يدققون علاوة عَلَى ذلك كل التدقيق فيما ينشرون فكان لهم أسلوب علمي حقيقي. ولما رأي أندري مومكاجون بللون في القرن الخامس عشر لأن تراجم ابن سينا القديمة وأطباء بلاط فريدرك الثاني ليس فيها عناية ذهب يحكم دراسة اللغة العربية في دمشق وأتم تعليمه الشرقي بالرحالة في مصر وسوريا وفارس وآسيا الصغرى رحلة طويلة وذلك قبل أن يعود إلى كلية بادو ليشرح لتلامذته فلسفة ابن سينا. وقصد جيرولا مورانوزيو أحد أطباء البندقية بلاد الشام أيضاً في سنة 1483 ليتبحر في فهم فلسفة ابن سينا ويعلق شروحاً عَلَى ترجمته عليها.
وكان من سقوط القسطنطينية وهجرة علماء من اليونان إلى إيطاليا وكثير من نصارى الشرق واختراع الطباعة وقيام الإصلاح أن هبت في أرجاء إيطاليا حركة النهضة العلمية التي تجلت في أجمل مظاهرها في الدروس الشرقية ولاسيما في دروس العربية والإسلام.
كانت الحركة في تعلم المشرقيات عامة وإفرادية معاً انتشرت كل الانتشار بفضل الكاردينال فريدريك دي مديسيس في فلورنسا والباباوات في رومية والكاردينال بورومة في ميلان والكاردينال بارباريكو في بادو ومن تقدمهم مثل باباغانيني الذي نشر في البندقية أول طبعة من القرآن باللغة العربية ولكن هذه الطبعة لم تلبث أن أبيدت بغيرة دينية خرقاء وكان من الأسقف أغوستينو جويستنياني المشغوف بالدروس الشرقية ولاسيما العربية والعبرية أن يقبل من فرنسيس الأول بتدريس اللغة العبرية بعد أنصرف ثروته واقتناء مجموعة من المخطوطات المهمة في العبرية والعربية والكلدانية والرومية وكان تيزايوامبرو كيو قومس (كونت) ألبونز مستشرقاً مدققاً.
وهكذا كانت إيطاليا كلما أُولع علمائها باللغة العربية وتشربوا روحها تميل كل الميل إلى الأقطار التي كان يتكلم فيها. وقد نشر أندريا أريفابن من مانتو أول طبعة إيطالية من القرآن إن كل كل هذه الأعمال عَلَى جلالتها لا تعد شيئاً في جانب إنشاء مطبعة أشر ميديسيس المالكة والمطبعة الشرقية لبث الدعوة ومطبعة بادو وكليتها وإحداث مملكة أمبروز في ميلان وكل ذلك بغية تنصير المسلمين والوثنيين. فقد طبعة مطبعة ميديسيس 18 ألف نسخة من الإنجيل باللغة العربية سمته (أربعة أناجيل يسوع المسيح سيدنا(80/51)
المقدسة) وأرسلتها مع تجار لتباع ثمن بخس في البلاد العربية أو التي تفهم بها العربية عَلَى صورة حازمة لا يظهر منها القصد الذي يرمي إليه دعاة الدين.
وكانت النية معقودة قبل كل شيء عَلَى إعلان حرب صليبية جديدة روحية عَلَى الإسلام يدخل إليها بالوسائل العلمية وعني الباباوات الأدباء أمثال ليون العاشر أو إكلمنتيس السابع عناية خاصة بتأسيس خزائن كتب من المخطوطات تسلب من المسلمين الأعداء القدماء لتكون بذلك مجموعات نفيسة في دار كتب الفاتيكان أما غريغوريوس الثالث عشر فكان لا يرى أحسن في النجاح من تنصير الناس وإبادتهم وأنشأ يوليوس الثاني في مدينة فانو عَلَى بحر الإدرياتيك أول مطبعة عربية احتفل ليون العشر بافتتاحها سنة 1514 بنشرها أول كتاب طبع بحروف عربية وهو كتاب صلاة السواعي. وكان في رومية مطبعة حجرية شرقية أنشاها سافري دي بريف الذي ظل سنين طويلة سفيراً لملك فرنسا في القسطنطينية وهو نفسه الذي حفر أمهات الحروف العربية التي نقلت عنها مطبعة الأمة في باريز أشكالها. ونشر منذ سنة 1613 كتاب التعليم المسيحي.
وظل الكاردينال فرديناند دي ميديسيس متمماً لذوق أسرته في حب المعارف الشرقية فابتاع مخطوطات شرقية باسم البابا وكان يدير بطرياركية أنطاكية والإسكندجرية ومملكة الحبشة إدارة روحية وأنشأ عَلَى نفقته مطبعة ميديسيس وولى عليها ريموندي الذي ولد سنة 1536 في نابولي وهي أكثر البلاد التي كانت العربية منتشرة فيها. فكان باللغات الشرقية التي كان يتقنها ولاسيما العربية قدوة الداعين إلى تعلم المشرقيات ونشر بالعربية كتاب نحو وكتاب ابن سينا وغيرها فكانت مطبوعاته بحسن طبعها ووضعها موضوع الإعجاب العام وبعض أن قضى ريموندي نحبه لم تعد أسرة ميديسيس تفكر في إعلان الحرب الروحية عَلَى المسلمين بواسطة الكتب بل عمدت إلى إحداث الاضطرابات العملية.
ولم تشأ رومية أن تكون في خدمة المعارف الشرقية بالمطابع والمكاتب والمدارس دون أسرة ميديسيس في بث هذه الدعوة لتنشر بها الدعوة للإسلام فقد صارت بفضل الباباوات ميدان درس ونشر كل ما يرقي عقول القسيسين الذين تنتدبهم رومية لفتح العالم فتحاً روحياً يتخرجون في المدارس ما أمكن بلسان البلاد وعاداتها ومعتقداتها التي يريدون بث دعوتهم فيها ودار الكتب تتمم لهم هذه المعلومات فيعثرون فيها عَلَى ما سطره أسلافهم في رحلاتهم(80/52)
إلى البلاد التي عنوا بتنصير أهلها وما تلقفوه من معتقداتهم وعاداتهم ولهجاتهم وصناعهم ويقضى عَلَى كل قسيس أن يكتب مقامه في القاصية كتابة أو رسالة تخدم هذا الغرض. ومطبعة بث الدعوة تنشر كل ما يؤلف من هذا القبيل وتترجم إلى لغات شرقية كثيرة الكتب المسيحية والردود عَلَى الإسلام وكان للغة العربية الشأن الأول من بين هذه اللغات التي تطبع فيها المطبعة وهي عشرون لغة شرقية.
وما كان القصد من هذه العناية إلا دينياً محضاً بادئ بدءٍ ولم يكن العلم الشرقي إلا واسطة تساعد عَلَى علم الجدل وكذلك اللغة العربية لم تكون إلا سلاحاً تقاتل به الإسلام ولذلك كانت المدرسة الإكليركية الشرقية في بادو لا ترى غضاضة عليها أن تشتغل بالعلم المجرد أحياناً للأثر الذي يحدث عنه وكانت المطبعة والمكاتب الشرقية من المتمات لتك المدرسة لذهابها بفضل الشهرة وتأثيرها في الأفكار.
وقد تخرج بالأستاذين ماراسي وأغابيتو عد تلاميذ باللغة العربية فصنفوا فيها وأفادوا وتعاقب اثنان من الكرادلة عَلَى أبرشية بادو كان ل منهما يتنافس في عصره في خدمة الدروس الشرقية. وهكذا كان شأن ميلان فإن فريدريك برورومة بث فيها روح العلوم الشرقية وبعث منذ سنة 1609 إلى الشرق يبتاع بالأثمان الباهظة كتباً ومخطوطات شرقية فأسس المكتبة الأمبروزية الشهيرة ولم يكثر تلامذة المدرسة التي أسسها لهذا الغرض بل كانوا قلائل امتازوا بإخصائهم وكان ثمة أساتذة خاصة من مسيحيي الشرق أو المسلمين الملحدين ولطالما عطف عليهم ونشطهم وتخرج في مدرسة امبرواز أنطونيو جيجي باللغة العربية فكان لها مجداً أثيلاً.
عد القرنان السادس عشر والسابع عشر عصر ازدهار الدروس الشرقية ولاسيما الدروس العربية في إيطاليا أما القرن الثامن عشر فكوان عصر الانحطاط التام إذ قلت فيه حتى الغيرة الدينية والحماسة العقلية ولم ينشأ فيه سوى الكاردينال ميزوفانتي الخارقة في إتقان اللغات المنوعة فكان مفخراً للعلم الإيطالي وقد تقاسم جمهور الشعب أقيال وملوك متوسطون صار معهم إلى الشقاء والعبودية أما الطبقة العالية فقد حرمت من الاشتراك في إدارة شؤون بلادها ينهكها الاستبداد المدقق أو اضطهاد النمسا الشديد فنسيت في لذائذها المادية حريتها وعلو منزلتها العقلية.(80/53)
وفي سنة 1790 احترقت مطبعة ميديسيس ثم أعيد إنشاؤها وبعد أن تقلب عليها الأحوال ونقلت إلى باريز بأمر الإمبراطور نابليون أعيدت إلى إيطاليا وفيها طبع أعاظم مستشرقي الطليان أمثال أماري وسيكابارللي وكويدي كتبهم وما نشروه عن آثار العرب. ولما فتح نابليون مصر وأعلن أنه يراعي للمسلمين معتقداتهم وحقوقهم وأنه لا أرب له إلا قتال المماليك أحلاف إنكلترا رأى أن يستولي عَلَى قلوب المصريين فظهر لهم بمظهر الحياد وحسن الخدمة وبعث يجلب مطبعة لبث الدعوة الشرقية من إيطاليا فأتته إلى مصر واخذ بها يطبع الكتب خدمة للسياسة والتجارة.
فأصيبت من ثم المطابع الشرقية في إيطاليا بضربات السياسة والحوادث وبقيت المدرسة الإكلركية وخزائن كتبها في معزل وعلى ما عرف به المستشرق العالم بالعربية أسيماني من سعة الفضل فإنه من لم يتيسر لبلاده أن تعيد الحياة للمشرقيات بعد انطفأت جذوتها بالفتن والكوائن وانقراض بيت ميديسيس. ونشأ للعربية أستاذ في القرن الثامن وهو القس فللا درس في كلية بلرمة ونشر بعض الكتب ولكن القرن التاسع عش امتاز بآدابه كما امتاز بالحياة في إيطاليا التي هبت قوة حرة وراحت ترفرف نحو كل ما كان فيه مجد ما أيام تاريخها المجيد فأزهرت فيه الدروس الشرقية ولاسيما الدروس العربية والعلوم الإسلامية. فكانت الولايات الجنوبية في إيطاليا تخرج أبطالاً في المشرقيات أمثال المؤرخ والسياسي ميشيل أماري الذي نشر أحسن تاريخ للمسلمين في صقلية وكثير من الكتب التي تدل عَلَى فضل علم وتدقيق. ودروس العربية في كليتي فلورنسا وبيزا ونشأ معه الأستاذ سيكا بارللي مدرس العربية في فلورنسا ثم بونازيا مدرسة كلية نابولي وأغناس كويدي الذي هو اليوم أحد زعماء المجلين من علماء المشرقيات من الطليان وهكذا نشأ لإيطاليا أجلة من المتجرين في علوم الشرق ولغاته وأمراء يفضلون عَلَى العلماء في طبع ما يلزم ونشره.
وكان امتياز إيطاليا قديماً في نشر المعارف في كل البلاد فأصبحت كذلك في عهد وحدتها تريد أن اجعل لكل إقليم حظاً من هذه الخدمة ولمتلبث صعوبة الحياة الحديثة والأطماع القديمة التي يظهر أنها اليوم العامل في حياة الممالك الأوربية أن تحدو إيطاليا السياسية إلى الانتفاع من هذه المعارف النظرية انتفاعاً عملياً.(80/54)
ولما تمت لإيطاليا وحدتها لم ترى لها نصيباً في المغانم في أرض أوربا فوجهت وجهتها منذ ثلاثين سنة إلى أن تضع يدها عَلَى ما لم يكتب له الاستعمار الأوربي من حوض المتوسط فرأت أولاً أن تبعث بالفقراء من أبنائها في صقلية وسردينيا إلى تونس إذ قد رأت فرنسا قبضت عَلَى قياد الجزائر وإسبانيا عَلَى الريف وإنكلترا عَلَى مصر ولكن سرعان ما أخفقت أحلامها بإعلان فرنسا حمايتها عَلَى تونس سنة 1881 فبقيت أمامها طرابلس الغرب ولكن لم تجرأ أن تحلم بها ولذلك أبعدت في أطماعها بادئ بدءٍ فأرادت الاستئثار ببلاد الشاطئ الشرقي من أفريقية فكان فيها مراسلوها وعلمائها دعاة لما تريد إيطاليا القيام به.
وإذا كانت مصر عَلَى قربها من إيطاليا وغناها وعراقتها في الإسلام مما يكون الخطر كانت هي أول غاية انصرفت إليها كهنة الطليان وتجارهم وكانت إيطاليا منذ القرن السادس عسر مركزاً لتعليم الآداب القبطية وقد أنشأت تعلم علم الآثار المصرية القبطية في بيزا لتثبت بذلك أنها لا تريد أن تكون غريبة عن علم كانت لها القدم الراسخة قديماً في الإبداع فيه وكانت للغة الحبشية المقام الأول في إيطاليا لأنها رأتها أقرب إلى بث الدعوة في نساطرة الحبش وإن التجارة تمكن ودن أن يصطدم الإيطالي مع الإسلام الذي لا يتساهل.
وفي أوائل القرن التاسع عشر أنشأت إيطاليا مجمعاً ومدرسة لتنصير الأفريقيين وتعلم دعاة لهذا الغرض تأخذهم من أبناء تلك البلاد وتربيهم ليعودوا إلى مساقط رؤوسهم يحيون فيها روح دينهم الجديدة لكن هذا العمل في التنصير أخفق لما حال أمامه في كل مكان من بث دعوة الإسلام ونشر الدعوة البرتستانتية فاقتصرت إيطاليا من ثم عَلَى غرس نفوذها في تلك البلاد وإعداد الأسباب للمطامع الاستعمارية.
فكانت سياسة إيطاليا حازمة محتشمة أولاً ففي سنة 1869 عندما فتحت ترعة السويس ابتاعت شركة الملاحة الإيطالية روباتينو من زعيمين مستقلين مرفأ أساب بالقرب من جزيرة بريم عَلَى الشاطئ الأفريقي من البحر الأحمر فجعلته محطة لسفنها الذاهبة إلى الشرق الأقصى ولما خاب ظن إيطاليا في الاستيلاء عَلَى تونس ابتاعت من هذه الشركة سنة 1882 جميع ما تملكه في تلك الرجاء بمبلغ 410 آلاف فرنك فكلفتها كثيراً وأرسلت(80/55)
حملة لتأديب قبائلها المجاورة مثل الدناكل والصومال من المسلمين فذبحوا لها رجالها سنة 1894 وعادت فبعثت بحملة إلى مصوع وبعثت إنكلترا جيشاً إلى البحر الأحمر للدفاع عن سواكن ومصوع من عصاة السودان واقترحت عَلَى إيطاليا أن تكون الحملة مشتركة عَلَى أن تكون مصوع لإيطاليا ويحق لها بسط سلطاناه عَلَى الجبشة فبادرت إلى احتلال مصوع وتيسر لإيطاليا بأعمال حربية قليلة أن تضم أرضهما إلى أرض أساب.
ولكن بسط حمايتها عَلَى الحبشة نشأت عنه كارثة غير متوقعة وذلك أن جيوشها ما كادت تصل إلى البحر الأحمر حتى تحالف أمراء الحبشة وجعلوا نجاشيهم جوهانس إمبراطوراً عليهم فقتل هذا حملة للطليان مؤلفة من ستمائة شخص عن بكرة أبيها سنة 1887 فأرسلت إيطاليا عشرين ألف رجل فلم يكادوا ينزلون إلى البر حتى فيهم الجوع والحصار ودهمهم ثمانون ألفاً من الحبشان فانهزمت إيطاليا شر هزيمة في ساكنتي (1888) ثم استمالت إليها النجاشي منليك واعدة إياه بأن يكون هو إمبراطور الحبشة دون جوهانس ولكنه لم يتغرر بأمانيها بل رد الإيطاليين رد الأبطال عن حياض داره فذبح سنة 1895 أناس من المستعمرين الإيطاليين في أمباألاكاخي وبعد بضعة أشهر سحق الحبشة لإيطاليا جيشاً مؤلفاً من خمسة وسبعين ألف إيطالي في أدوا فاضمحلت آمال الإيطاليين بعد ذلك وقنعت بما ترك لها من المواني هناك وراح أبناؤها ينتشرون في تونس ومصر وعلماء المشرقيات من المتضلعين من العربية من أبنائها يرفعون شأنها الماضي كفي الحضارة وتقاليدها القديمة في النصرانية.
واتفق أحد رجال البيت الخديوي الأمير أحمد فؤاد باشا تعلم في المجمع العلمي في تورينو فكان منه بعد ذلك أن عقد أنفع الصلات مع إيطاليا كما بدأ ذلك منه سنة 1908 وقد عين رئيساً للجامعة المصرية لتعلم العلوم الحديثة للمصريين ونظم الجامعة بمشورة عالم فرنساوي مشهور المسيو مسبور وكانت أكثر الدروس تلقى بالعربية فكان من الأساتذة كويدي ونالينو ومالو الإيطاليين الذين درسوا الدروس التي عهدت إليهم بالعربية.
ومنذ ذام العهد مالت الأفكار في إيطاليا إلى طرابلس الغرب لتكون لها أهراء حنطة كما كانت للرومان قديماً وذلك لأن صرف المال وبذل الوقت والعناية بزراعتها سيكون منها مورد ربح عظيم وتجد فيها اليد العاملة من الطليان مجالاً واسعاً للاستعمار فرأت إيطاليا أن(80/56)
يكون الفتح الاستعماري مشفوعاً بالرفق والرحمة والتساهل في معاملة الشعوب الإسلامية وأن يكون أساس الاستعمار في تلك الأقطار المصالح الاقتصادية وأن تدار البلاد بأيدي أعظم رجل الإدارة ممن تتعلم منهم وزارات الأوربية دروساً في الاستعمار.
واخذت إيطاليا بتنظيم كلية بادو التي كانت اتخذتها جمهورية البندقية منذ قرنين مدرسة لتخريج رجال سياستها وتراجمتها وسماسرتها تدرس فيها اللغة العربية والفارسية والتركية ولاسيما العربية وستعنى هذه المرة بالعربية أكثر ليكون من متخرجيها أعظم الإداريين المستعمرين لليبيا وتضاف إلى دروسها اللهجات البلقانية المنوعة ممن تتجر معهم البندقية وإيطاليا. ولجنوة درس عربي طالما تناوب تدريسه أعظم مستشرقيها وهي اليوم تطالب بأن يكون لها امتياز بتخريج رجال الإدارة والاستعمار بإنشاء كلية بحرية استعمارية فيها وكذلك سيكون لكلية بولون أثر عظيم في تخريج رجال بالعربية كما منهم حظ ليس بقليل الآن. وفي رومية في مدرسة الدعوة إلى الإيمان درسان للعربية والسريانية وكذلك مدرسة القديس أبولينير فإن درس العربية يدرسه فيها الأسقف بوغاريني وتفتخر الحكومة اللادينية في رومية بأن فيها درساً للغة العربية وآدابها بزعامة الأستاذ سكياباريللي والحبشية تحت نظارة كويدي. وفي جنوب شبه جزيرة إيطاليا المملوء بتذكارات إسلامية والقريب من حيث الوضع الجغرافي من بلاد المسلمين كلية بلرمة التي تدرس العربية فيها كل من الأستاذين ناينو وبوبونازا واقتصرت نابولي عَلَى تعليم العربية بالعمل كما تعلمها بالنظر أيضاً. وفي نابولي مجمع شرقي يعلم بالعمل اللغات الحية في آسية وأفريقية وفيه تلامذة صينيون وهنود وبلغاريون وصربيون وفلاخيون وألبانيون ويونان. وفي سنة 1901 عيد تنظيم هذا المجمع عَلَى مثال مدرسة اللغات الشرقية في باريز ويمتاز بأن دروسه مجانية ولا يمتحن الطلاب فيه.
لا جرم أن فتح طرابلس سيزيد في نجاح هذه المدرسة فيكون لإيطاليا الحظ بأن تكون دولة تحيا فيها المدنية الشرقية في البحر المتوسط عَلَى ما يبدو الآن لأعين الشعوب الإسلامية النازلة في البحر المتوسط من أن هذه الدولة حديثة العهد بنفوذها بما ترسله من فقراء المستعمرين والعاملين القادرين عَلَى منافسة اليد العاملة الوطنية. اهـ.
كليات ألمانيا(80/57)
الكليات أو الجامعات أو دور الفنون في ألمانيا هي المدارس العالية المحتوية عَلَى الفرع الآتية: الأولى شعبة الإلهيات، الثانية شعبة الحقوق، الثالثة شعبة الطب، الرابعة شعبة الفلسفة (وهذه أربع فروع، (1) الفلسفة المجردة وعلم التربية والمنطق (2) علم الألسن والأدبيات (3) التاريخ والجغرافيا وتاريخ الصنائع والموسيقى (4) السياسات وعلم الاقتصاد) الخامسة شعبة الرياضيات والطبيعيات (وهي الرياضيات وعلم الفلك والحكمة الطبيعية والكيمياء والحيوانات والنباتات وطبقات الأرض). فعدد كليات ألمانيا اثنتان وعشرون. نصفها في بروسيا ونصفها في سائر الحكومات المتحدة وهاك أسماء الموجودة بها مع تاريخ تأسيسها وعدد طلابها السنة التدريسية الشتائية من سنة 1911.
تاريخ التأسيس عدد الطلاب الكليات
1908 14543برلين (بروسيا)
1472 07596ميونخ (بافيرا)
1409 05804 ليبسيك (سكسونيا)
1818 01407 بون (بروسيا)
1502 02811هالله (بروسيا)
1567 02506 استراسبورغ (إلزاس ولورين)
1702 02429 برسلاو (بروسيا)
1457 02387 فرايبورغ (بادن)
1737 02355 غوتنغن (بروسيا)
1771 02296 مونستر (بروسيا)
1386 02181 هايدلبرغ (بادن)
1527 01936ماربورغ (بروسيا)
1477 01913 توبينكن ورتمبرغ
1558 01753 يينا ساكس وإيمار
1544 01614 كنغسبرغ بروسيا
1665 01570 كيل بروسيا(80/58)
1402 01509 ورتسبورغ بافيرا
1607 01409 كيش هس
1743 01099 أرلانكن بافيرا
1456 01034 كرابغسوالد بروسيا
1419 00903 روشتوك مكلمبرغ
1913 جديدةفرانكفورت عَلَى ماين بروسيا
63755المجموع
ومن هذا المجموع 5000 طالبة تقريباً. وعدا ذلك فإن في غالب المدن مدارس عالية علمية، هندسية، زراعية، صناعية، تجارية، حربية ومراصد فلك ودور معلمين ومعلمات.
الحنطة في فرنسا
قالت الماتين: إن أكثر الأمم مقطوعية للحنطة هي الأمة الفرنسوية ثم أيدت قولها بالإحصاء التالي وهو إحصاء سنة 1909 الذي يمكن اعتباره كمتوسط كمية الحنطة التي تناولتها مقطوعية 1909.
مقطوعيتها (ألف قنطار) المقطوعية الفردية
فرنسا984322. 5
ألمانية576130. 9
النمسا والمجر 571201. 1
إسبانيا401672. 1
الجزر البريطانية739441. 7
إيطاليا644481. 9
روسيا (أروربا وآسيا) 1784001. 1
الولايات المتحدة1490051. 6
فيتبين مما تقدم أن المقطوعية الشخصية هي في فرنسا أكثر منها في سواها. وإن في الإشاعات المتداولة عَلَى ألسنة الناس في الخارج أو الفرنسويين يكثرون في أكل الحنطة والضفادع شيئاً صحيحاً أي أن قسمي الخبز صحيح أما الثاني فخرافة.(80/59)
ثم إذا اعتبرت المقطوعية من الوجهة العامة كان الفرنسيون بعد روسيا الشاسعة الأطراف والولايات المتحدة في طليعة سائر الأمم في المقطوعية. وإن في الجدول الآنف دلالة عَلَى مقطوعية كل شعب من الحنطة. بقي أن نعرف كيف تتحوط كل أمة لإملاء أهرائها التي تفرغ في كل عام. عَلَى أنه لا بد من التمييز بين البلاد التي تزيد مقطوعيتها من الحنطة عن حاصلاتها والتي تزيد حاصلاتها الخاصة عن مقطوعيتها فمن الفئة الأولى.
حاصلاتها (ألف قنطار) الفرق
ألمانيا3755720056
النمسا والمجر499367184
حاصلاتها (ألف قنطار) الفرق
إنكلترا 1748656458
إيطاليا 5181312635
فأعظم البلاد استيراداً للحنطة هي إنكلترا ثم ألمانيا حليفتها. أما فرنسا وإسبانيا فإن محصولهما من الحنطة يعادل عَلَى نوع ما مقطوعيتهما وبيان ذلك.
حاصلاتألف قنطارالفرق
فرنسا 97752680
إسبانيا 39219948
أما البلاد التي تزيد حاصلاتها عن مقطوعيتها فروسيا وحدها في أوربا ثم رومانيا. أما البلاد الأخرى فكلها واقعة وراء البحار وبيان ذلك.
المقطوعيةالحاصلات
روسيا178400 230288
رومانيا 704016022
الولايات المتحدة 149005 185980
كندا30051 45318
الهند الإنكليزية 66487 77616
أوستراليا14137 24607(80/60)
الأرجنتين 884835655
ولهذه الأرقام من الوجهة السياسية مكانة عظمى فالجزر البريطانية تستطيع أن تستمد من مستعمراتها ثلاثة أرباع ما ينقصها لمقطوعيتها. وإن ما نقوله هنا عن الحنطة ليصح أيضاً في اللحوم وسائر الحبوب الغذائية. فالقوة البحرية الإنكليزية الضخمة تضمن ورود الأقوات عليها بانتظام وهي مسألة حيوية بالنسبة إليها لأنه إذا استطاع العدو أن يمنع عنها القوات اللازمة هلكت بالمجاعة. ومثل ذلك يقال في دول التحالف الثلاثي فهي لا قوام لها بدون وصول المؤونة اللازمة لها من الخارج. وأهم البلاد التي تستورد منها روسيا وهي عدوتها. فإذا أمسكت عنها الحنطة في إبان الحرب وكانت لها (أي روسية) بحرية قوية هلكت أمم التحالف الثلاثي جوعاً. وإن هذه الجاة حاجة استيراد المؤن من الخارج لتزيد عاماً فعام بسبب ازدياد الناس في أوربا في الآونة الأخيرة وتجد البرهان عَلَى ذلك المقارنة التالية:
الكمية المستوردة (ألف قنطار)
1881 1909
ألمانيا 3085 2056
النمسا والمجر 4137184
إنكلترا35520 56458
إيطاليا48512605
أما فرنسا التي كانت ما قط تستورد كميات كبيرة فقد استوردت في سنة 1881 اثني عشر مليوناً و864 ألف قنطار أي أكثر مما استوردته دول التحالف الثلاثي بثلاث مرات. وسبب ذلك أن سكان ألمانيا كانوا في ذلك العهد 44 مليوناً مقابل 64 مليوناً في 1909 و67 مليوناً اليوم. وكانت النمسا 38 مليوناً وهي اليوم 53 مليوناً. وإن ازدياد عدد السكان في أوربا كلها ليضطرها أن تستورد حاجتها من الحنطة من الخارج. وهذا الاضطرار يقضي بوجوب الاعتماد عَلَى عمارة تجارية كبيرة وأسطول حربي ضخم. اهـ.
أموال الفرنسيس
لفرنسا وحدها في القروض التي عقدتها الدولة منذ سنة 1885 إلى الآن مبلغ 846 مليون(80/61)
فرنك يضاف إليها ما لها من الأموال في المشاريع الآتية:
مليون فرنك
في البنك العثماني63
سكة حديد أزمير 71
القدس ويافا 18
دمشق حماة121
سلانيك 127
معدن هركلي 29
مرفأ أزمير11
بيروت14
الآستانة 37
مياه الآستانة 17
شركة حصر الدخان 16
يكون المجموع ملياراً و370 مليون فرنك يضاف إليها الديون غير المنتظمة وهي:
فرنك
الديون الموحدة العثمانية83. 600. 000
تحويلات الرومللي11. 400. 000
ديون أخرى 75. 000. 000
سلفات متفرقة7. 000. 000
3000000000 20/ 15
100
هذا عدا عن الأموال المستثمرة في بعض المشاريع الثانوية وهي كثيرة أيضاً فإذا أضفنا إليها سائر الديون العثمانية بلغ المجموع نحو ثلاثة مليارات من الفرنكات تزيد فائدتها 25 في المئة من مجموع دخل الدولة ويضاف إلى ذلك القرض الأخير وهو 700 مليون فرنك.
طلابنا في فرنسا(80/62)
الغالب أن معظم من يدرسون العلوم من أبناء العثمانيين في كليات أوربا ينزلون ويختارون من كلياتها كلية باريز وكلية ليون فكرونو بل فمونبليه فنانسي ثم يكون من طلبتنا أناس في كليات ألمانيا فإنكلترا فالنمسا.
وقد ذكرت الطان إحصاء في عدد طلاب الكليات في فرنسا جاء فيه أن عدد طلاب الكليات في فرنسا 41109 طالب وطالبة منها 4056 من الفتيان والباقون ذكور أي نحو عشر الداخلين في المدارس الجامعة هن من الجنس اللطبف وبلغ عدد الأجانب من الطلبة 3819 أي نحو عشرة في المئة من مجموع الطلبة و4056 طالبة فيوكن مجموع الطالبين والطالبات من غير الفرنسويين في كليات فرنسا 7875 من أصل 41. 109.
واكثر الطلبة الأجانب يدرسون الحقوق ويأتون من الشرق فقد بلغ عدد طلاب رومانيا 257 والروس 243 والمصريين 163 والعثمانيين 124 أي نحو ثلثي عدد الأجانب ثم 83 بلغاريا و36 ألمانياً و28 يونانياً و27 صربياً و25 نمسوياً ومجرياً و33 لوكسمبرغياً و21 أميركانياً جنوبياً و17 سويسرياً وثلثة الطلبة الأجانب في الطب هم من الروس الذين يبلغ عدد أبنائهم 861 ثم يجيء العثمانيون وعددهم 87 والبلغار 67 والرومان 59 واليونان 39 والذين يدرسون العلوم من الروس 950 ومن العثمانيين 70 أما عدد الدارسين في الآداب فهم 709 من الروس و233 من الألمان و141 من الإنكليز و70 من الطليان فيكون مجموع الطلبة الأجانب في كليات فرنسا كما يلي: 2769 روسياً 408 رومانياً و323 عثمانياً و289 ألمانياً و233 بلغارياً و214 مصرياً و190 إونكليزياً و154 نمسوياً ومجرياً و130 إيطالياً و106 من الولايات المتحدة و106 من اليونان و68 سويسرياً و81 من أميركا الجنوبية و52 صربياً و52 أفريقياً و47 لوكسمبرغياً و40 إسبانيولياً و36 من الإلزاس واللورين و31 سويدياً ونروجياً و27 بلجيكياً و36 من أميركا الوسطى و25 إيرانياً و23 برازيلياً و19 برتقالياً.
تربية النساء
بينا نحن مع قومنا في ول درجة من سلم الارتقاء ولما لم نصعدها إذاً بنساء الغرب قد بلغن شوطاً في التعلم لا يكاد يصدقه شرقي فقد ثافن الرجال في التعليم والتهذيب حتى كدن يفقنهم وبالغن في إنهاض بنات جنسهن حتى تطاولن في بعض الممالك إلى المطالبة(80/63)
بإشراكهن في الحياة السياسية فنلن في فنلندة ونروج وأوستراليا والولايات المتحدة الأميركية ما أملن في هذا الشأن ولا يمض زمن طويل حتى ينال نساء بريطانيا العظمى حقوقهن في الانتخاب كما نال سكان تلك الممالك الأربعة المذكورة وهن يحاولن في فرنسا أن يكاثرن الرجال في المجاميع العلمية فيكون منهن أعضاء في اكبر مجالس العلم في باريز وعمالاتها.
وإن الباحث ليمل إذا أراد نقل بعض ما يكتب النساء الغربيات من المقالات والأبحاث ويلقين من المحاضرات والخطب في هذا الشأن وفيهن مديرة المدرسة العالية والمحامية والصحفية والطبيبة والعالمة بالطبيعة والفلك والكيمياء والهندسة والمعلمة وآخر ما قر عليه قرارات العالمات من النساء في إنكلترا أن بين الرجل والمرأة اختلافاً أساسياً هو في المرأة بالنسبة للرجل صعوبة الحياة وطولها وطول سلسلة مصائبها وقوتها عَلَى مقاومة الأم راض وندرة نبوغها وبعض ما اختصت به من العاهات كالجنون والجرائم. وهن يحاولن هناك أن تربى المرأة تربية تتأهل بها للكسب وتصير صالحة للقيام بوظيفة الأمومة عَلَى ما يجب.
قال إميل فاكي: كانت المرأة لأول عهدها دابة ثم حيواناً داجناً ثم رقيقة ثم خادمة ثم قاصرة ثم هاهي اليوم تحاول أن تثبت رشدها وتسجله في سجلات القانون. ولقد صح أن النساء النبيلات وبنات الطبقة الثانية في الناس ككن في القرون الوسطى يشاركن في الحياة البلدية ويدخلن المجالس فقد قادت جان دارك الجيوش وأرسلت كاترين دي سين في القرن الرابع عشر سفيرة إلى أفنيون إلى حضرة البابا وحكمة مرغريتا دوجة سافوا بلاد القاع عَلَى عهد ابن أخيها شارت الخامس وكثيرات من الأميرات في ذاك العهد تولين الأحكام وتعاطين التجارة والإدارة ومنهن من عملن في كليات إسبانيا وإيطاليا.
ولما جاء القرن الخامس عشر والسادس عشر انقلب الأمر فكانت من نتائج الإصلاح الديني أن اتجهت الأفكار نحو إحياء العبرانية ومصطلحاتها كما كان من نتائج النهضة الاتجاه صوب الأوضاع اليونانية بيد أن التعليم الذي كان لا بأس به ويلقنه الفتيات في الأديار قد حرمن منه بعد إقفالها.
فالتربية التي حيل دون النساء خلال ثلاث قرون الأخذ بها في الغرب قد بدأن بتربيتها(80/64)
فأنتج ذلك تلك الحركة الأدبية الباهرة في القرن الثامن عشر في فرنسا وبريطانيا العظمى وما كان عزوف نساءِ إسبانيا عن الاختلاط واعتزالهن اعتزال الشرقيات في خدورهن وجهلهن إلا سبب انحطاط أمتهن.
يجب أن يصبح النساء أمهات قبل كل شيء ولهذا وجب عليهن أن يقوين مداركهن وينرن عقولهن. إن مميزات الرجل وميزات المرأة متمم بعضها للآخر وهي ضرورية لارتقاء المجتمع.
الارتقاء الذي نتخيله للمستقبل وكل تغيير يحدث في تربية المرأة وفي قبولها في الأعمال الخاصة اليوم بالرجال يجب أن يجري عَلَى فكر عملي وعلى طريقة التجربة وباحتراز واحتياط وأن يلاحظ فيها الأخلاق الفطرية في المرأة ويميز بينها وبين الصفات الثانوية الخ.
هذا ما حكم به العلامة المشار إليه عَلَى المرأة وهو الحكم المعتدل لمعقول أما نحن فعلى رأيه تحب أن تكون المرأة أماً قبل كل شيء ولكن أماً مهذبة التهذيب الراقي في الجملة تخفف عن الرجل عناءه وتنشل هذا المجتمع من سقوطه فتأثير المتعلمة الواحدة أكثر من ألف جاهلة وأنا موقون بأن ارتقاء المرأة البلغارية واليونانية والصربية كان أعظم باعث لارتقاء تلك الأمم والظفر بنا في مواقع الدفاع عن ذمارنا وديارنا لجودة سلاحهم وكثرة نصائرهم أما نحن فقد حرمنا التربية البيتية كما حرمنا التربية المدرسية وهذا جماع انحطاطنا. نريد لنساء الإسلام التعليم الابتدائي الراقي الآن ثم ترتقي درجته.
معادن القطر المصري
أنشأ المستر جون والس المفتش الأول في مصلحة المعادن المصرية سابقاً نقالة شائقة عن المعادن في هذا القطر قال فيها:
اختلف الناس في مسألة التعدين في القطر المصري في السنوات العشر الماضية وتضاربت آراؤهم فيها فوضعها بعضهم موضع الهزء والسخرية وأحلها آخرون محلاً رفيعاً من الاهتمام ولاسيما الذين جالوا في هذا القطر وجابوا صحاريه وتمكنوا من مشاهدة الأعمال التي عملها القدماء لاستخراج الذهب والنحاس والحجارة الكريمة والتنقيب فيها. فالحصون القديمة والآبار والمحطات التي لا تزال آثارها ماثلة إلى اليوم تشهد عَلَى ما بلغته مصر(80/65)
من حسن النظام في عهد حكامها الأقدمين وكذلك اتساع بعض المناجم القديمة والطرق التي كانت تستخرج بها المعادن لا تترك مجالاً لتخرص المتخرصين.
ولكن الناس في أيامنا هذه لا ينظرون إلى الشيء من الجهة الخيالية بل ينظرون إليه من الوجهة المادية أو الربح الذي يعود عليهم منه. فهل المعادن التي في مصر كافية لأن تكفل الربح للذين يستخرجونها والفائدة للقطر المصري؟
ومن رأيي أن المعادن موجودة في مصر بكميات وافرة تعود عَلَى القطر بفائدة اقتصادية كبيرة ولكن بشرط أن تعير الحكومة المصرية هذه المسألة الاهتمام اللازم وأن تشجع رواد التعدين في بلادها وأن تحسن شروط الامتيازات الحاضرة وتحمي مصالح أصحابها أكثر مما تحميها الآن. ولا يسعني المقام في هذه العجالة أن أبحث في مسألة التعدين بحثاً مستفيضاً فأحصر كلامي لذلك في المعادن التالية وهي أهم المعادن التي في مصر.
الذهب - في الصحراء الشرقية كثير من المناجم القديمة وبعضها كبير جداً ولكن ظهر من الأبحاث التي أجريت فيها أن استئناف العمل فيها بنمط عظيم لا يعود بربح يذكر عَلَى الشركة أو الشركات التي تقوم به إلا أنه يستدل من العروق الغنية التي في تلطك المناجم أن استئناف العمل فيها قد يعود بالربح عَلَى الشركات الصغيرة أو المعدنين الذي يملكون رأس مال كان للقيام بذلك. ولا مشاحة في أن الأبحاث التي أجريت في مصر إلى الآن كانت قاصر جداً ولا يبعد أن تؤدي الأبحاث المقبلة إلى اكتشاف رواسب مهمة جداً من التبر الدنيءِ في الصخور المتبلورة والمتكتلة.
وقد اظهر التعدين في بعض المناجم ولاسيما في منجمي أم يارت برامية ما خصت به عروق الذهب فغي بعض الطبقات الصخرية في مصر من الغنى فإن هذين المنجمين استخرج منهما ما قيمته مئتا ألف جنيه من الذهب الإبريز من كمية قليلة من التبر والدلائل كلها تدل عَلَى أنه لا يبعد أن يعثر عَلَى عروق تكون غنية بتبر الذهب مثل العروق التي عثر عليها في الأيام الغابرة.
النحاس - موجود في أماكن عديدة ولكن لا يؤمل أن يكون من استخرجه ربح يذكر في أي مكان من الأماكن الموجودة فيها تبره.
الرصاص - موجود في الطبقة الطباشيرية المتوسطة من طبقات الأعصر الثلاثية وفي(80/66)
الصخور الكلسية التي في سواحل البحر الأحمر بين الدرجة 26 والدقيقة 30 والدرجة 24 من العرض الشمالي بكثرة تدعو إلى البحث عنه عَلَى نمط عظيم. وقد اهتم لأمره في جبل الرصاص منذ أربع سنوات أو خمسة.
الزمرد - في سقايظ وأم حربة وسواهما مناجم قديمة لاستخراج الزمرد وبعض هذه المناجم كبير جداً وقد بلغ العمل فيها أعظمه في العصر اليوناني الروماني واستأنفت شركة من شركات المستر ستيتر العمل فيها عَلَى نمط صغير فعثرت عَلَى حجارة جميلة من الزمرد ولكن الشركة لم توال العمل ولم تكن مهتمة به الاهتمام اللازم علاوة عَلَى أن أحوال المعيشة في الصحراء الشرقية كانت غاية في الصعوبة ولم تكن أسباب الوصول إليها سهلة في تلك الأيام مما جعل مواصلة العمل فيها ضرباً من المحال.
الزبرجد - يوجد منه حجارة جميلة في جزيرة القديس يوحنا (جزيرة الزبرجد) الواقعة إزاء رأس بناس في درجة 24 من العرض الشمالي. وفي هذه الجزيرة شركة إنكليزية فرنسوية تستخرج حجارة الزبرجد منها الآن.
المغنيس - يوجد أكسيد المغنيس في شبه جزيرة سيناء وهو طبقات متسعة في دوائر كبيرة يبلغ مسطح الدائرة منها عدة أميال مربعة وهذه الدوائر تعد الآن ليستخرج منها المغنيس حتى تسهل سبل النقل والشحن.
الحديد - يوجد طبقات متسعة من معدن الحديد إلى الشمال من رأس بناس ولكنه يحتوي عَلَى كمية كبيرة من التيتانيوم ولا ينتظر أن يأتى في حالته الحاضرة بفائدة اقتصادية تذكر.
الفوسفات - القطر المصري أغنى بلاد العالم بصخور الفوسفات وهي توجد بمقادير عظيمة في سواحل البحر الأحمر بين الدرجة 26 والدرجة 27 من العرض الشمالي وفي الضفة الشرقية من النيل جنوبي قنا وفي الواحتين الداخلة والخارجة. أما في الطبقات التي في سواحل البحر الأحمر فإن شركات عديدة تعمل فيها الآن لاستخراج الفوسفات منها وكل الدلائل تدجل عَلَى أنها ستنجح نجاحاً باهراً. والأفكار متجهة الآن إلى استخراج ما فوق الفوسفات (سوبر فوسفات) والأبحاث جارية الآن في ذلك.
الزيت - تقدمت الأبحاث التي بدئ بها في خليج السويس منذ بضع سنوات تقدماً عظيماً فثبت منها أن مقادير كبيرة جداً من زيت البترول موجودة عَلَى عمق غير بعيد في رأس(80/67)
جمسه. والزيت التي ظهر هناك من أعلى الأصناف وأجودها ويحتوي من 15 إلى 30 في المئة بنزيناً ومن 30 إلى 40 في المئة من زيت الإضاءة وقليل من زيت الثخين الذي يستعمل في تزيت الآلات ومن 3 إلى 6 في المئة من الشمع ولا يحتوي شيئاً من زيت الوقود أو الفضلات. ولكن مستقبل الزيت في القطر المصري يتوقف بالأكثر عَلَى وجوده في الطبقة الرملية التي يختلف عمقها بين 2600 و3500 قدم فإذا ظهر من المباحث التي يجرونها الآن أنه موجود في هذه الطبقة صارت مصر في مقدمة البلدان التي تستخرج الزيت.
الملح - موجود في القطر المصري بمقادير كبيرة جداً وتختلف سماكة الطبقات الموجودة فيها من بضعة أقدام إلى ألف قدم.
الصودا - توجد كربونات الصودا بمقادير وافرة جداً في وادي النطرون والصحراء الغربية.
حجارة البناء الثمينة - في الصحراء الشرقية بالقطر المصري أجمل أنواع الحجارة التي تستعمل في زخرفة الأبنية وتزويقها وأشهر هذه الحجارة وأجملها كلها الحجر السماقي الأحمر (البرفير) الذي في مقاطع جبل الدخان والحجر الناري اللماع (ديوريت) في مقالع كلوديانوس.
صلصال الخزف - في القطر المصري نحو ستة آلاف نفس يشتغلون بضع مواعين الخزف البسيطة. والأتربة الصالحة لصنع جميع الأنواع من الخزف القاسي المشوي والمواسير موجودة بكثرة في مصر ولكن لا ينتظر أن تتقدم هذه الصناعة إلى حد تصير كافية لسد حاجة القطر وإصدار شيءٍ منها إلى الخارج إلا بعد أن تحل مسألة الوقود وترخص أثمانها ويسهل الوصول إليها.
الوقود - لم يبحث إلى الآن عن الوقود عدا زيت البترول بحثاً وافياً. والحطب المتحجر في صعيد مصر لا يقابل بسائر أنواع الفحم التي ترد من الخارج فهو والحالة هذه من أدنى أنواع الوقود وأقلها قيمة ولكنه يحتوي عَلَى كمية كبيرة من الكربون وقد يمكن تحويلها إلى غاز محترق بواسطة أحد الأجهزة الملائمة فإذا تحقق ذلك سهل الانتفاع بالطبقات الدلغانية التي تكثر في الصعيد واستخدامها في إدارة الآلات الرافعة وغيرها من الأعمال الصناعية.(80/68)
وقد لا يبعد أن يوجد الغاز في حالته الطبيعية بجوار السويس وحلوان والأحوال الجيولوجية هناك تحمل عَلَى إجراء المباحث بهذا الصدد.
الفحم - لا دليل إلى الآن يثبت وجود الفحم في مصر ولكن يحتمل العثور عَلَى فحم تجاري في شبه جزيرة سيناء إذا بحث عنه بحثاً منتظماً إلا أن معلوماتنا الجيولوجية القديمة عن تكوين الصخور الكربونية في سيناء لا تخولنا إبداء رأي قاطع في هذه المسألة المهمة.
دول الحضارة
بحث إحدى المجلات الأوربية عن مساحة الدول الثلاث ألمانيا وإنكلترا وفرنسا وعن عدد نفوسها وثروتها العامة وأوردت سكانها وحكومتها وتجاراتها الخارجية ومحمول بواخرها التجارية والحربية وجاء فيها ما يلي:
مساحة أراضيها عدد سكانهازيادة النفوس
ألمانيا 540. 858 64. 926. 000 13. 6 في الألف
إنكلترا 313. 607 44. 902. 000 11.
فرنسا 536. 463 39. 600. 000 1. 8
الثورة العمومية الواردات السنوية العامة
ألمانيا 340 مليار فرنك50 مليار فرنك
إنكلترا320 45
فرنسا287 25
واردات الحكومة سنوياً (عن سنة 1911)
ألمانيا 10 مليارات فرنك
إنكلترا 5
فرنسا 5
التجارة الخارجية محمول السفن التجارية (عن سنة 1912)
ألمانيا24 مليار فرنك3023 ألف طن
إنكلترا27 11683
فرنسا 14 1462(80/69)
محمول السفن الحربية
ألمانيا995400 طن
إنكلترا6016500
فرنسا643000
فضل القراءة
خطب إرنست لا فيس عالم الفرنسيس ومؤرخهم في إحدى القرى في فرنسا خطبة عَلَى من أتموا دروسهم من أبناء الفلاحين قال: يا أولادي الأعزة. أخاف أن يكون بينكم من يغادرون منكم المدرسة الآن أناس يقولون في نفوسهم: لا دروس ولا فروض ولا دفاتر ولا كتب خلص من كل هذا. فإلى أمثال هؤلاء أوجه كلامي أريد أن أزيل عنهم ما انخدعوا به. كلا أيها الأصحاب الصغار ليس الأمر كذلك ولم يقف عند هذا الحد. فإن زمان الدراسة قصير لا يتأتى تخريج رجل في خلاله فالواجب أن تظلوا عَلَى طلب الاستفادة والتعلم ولكنكم ستقولون أنكم مضطرون أن نعمل لنتعلم كيف نعيش. أعرف هذا وثقوا بأني لا أرغب في أن يقضي جماع الفرنسيس حياتهم عَلَى نحو ما يقضيها أهل صناعتي في القراءة والكتابة جالسين عَلَى الكراسي. فسترون الآن بأني لا أطالبكم بما يشق عليكم القيام به مهما كان نوع الحرفة التي تحترفون.
يجب عليكم أن لا تتوقعوا من أساتذتكم كل تهذيبكم وأن تتعلموا أن تكونوا أساتذة أنفسكم فأنتم لا تدركون كم يعمل المرء في إنهاض نفسه إذا أراد. وما من امرئ ينهض بكم أكثر من نهوضكم بأنفسكم. إني آمل بادئ بدءٍ منكم أن تبقوا كتبكم المدرسية عندكم وربما لم تروقكم مطالعتها واستظهارها واللعب يشغلكم ولكنكم الآن لستم مضطرين إلى تلاوتها لاستظهارها بل تتلونها متى راقكم وعلى النحو الذي يروقكم.
بعد أيام قليلة إذا أمطرت السماء ذات يوم أو كان اليوم يوم أحد تذكروا بأن الصفحات الفلانية من الكتاب الفلاني قد أعجبكم فأعيدوا قراءتها وأني لا أعجب إذا لم ترقكم أكثر من ذي قبل لأنكم تفهمونها أحسن لسببين الأول لأنكم في سن النمو العقلي والثاني لأنكم تقرأون لا لتسمعون بل للتلذذ.
في كل مديرية من مديراتنا دروس ومحاضرات تلقى عَلَى الكبار في الأعمار فاحضروها(80/70)
وفي كل مدرسة مكتبة فاستعيروا من كتبها وابتاعوا كل مدة كتاباً ولا تكثروا بل اكتفوا بثلاثة أو أربعة كتب في السنة فالكتب اليوم رخيصة وبضعة فرنكات تكفي لأن تؤلفوا منها مكتبة حافلة بالجملة وتصبحون مثالاً لأبناء الطبقة الوسطى ممن لا تحدثهم أنفسهم أن يبتاعوا كتاباً واعتنوا مهما كان نوع المسكن الذي تسكنون فيه أن تنصبوا لكم لوح خشب تضعون عليه كتبكم وغطوها لتأمن من الغبار واللوثات. ومن اللائق أن تكون الكتب مغطاة أحسن تغطية وإن تقدمتم قليلاً في السن عودوا أنفسكم تلاوة الجرائد فتجدون في جرائد الشعب مادة تنيرون بها عقولكم في الحوادث العظمى التي تجري في بلادكم وبلاد العالم أجمع.
أننتم هنا من أبناء المزارعين وستكونون كذلك في المستقبل والشتاء والليالي طويلة في المزرعة فالأولاد يرقدون في فراشهم والحيوانات في حظائرهم ولا شيء يشغلكم في الليل فكيف بقضاء الوقت النافع وقد كان الزارع في القديم يحيك كزوجته جوارب وغيرها وقد أهملت هذه العادة. وقيل لي أن عادة قضاء السهرات والزيارات بين الجيران قد بطلت أيضاً. دقاق الساعة يروح ويجيء في السكون فكأنه يعيد الحياة قطرةً قطرة ويقول عند كل دقة ها قد سقطت نقطة أخرى والمرء من وراء ذلك يكتئب ويمل. ولكل حرفة ساعات من الملل تشبه هذه.
افزعوا إذا انقطعتم عن العمل لتلاوة كتاب واقرأوا بصوت جهوري وكرروا ما تقرأونه فقد كان خالي في هذه القرية عشاباً فلاحاً وهو يتلوا قصص لافونتين آونة فراغه لم يبق عَلَى غيرها من كتبه المدرسية فكان يتلوها بتدبر في خلواته وجلواته بصوت عال وبأدبها تأدب وبحكمتها قضى حياة طيبة أوقات الفراغ فدفعت عنه الملل.
أما أنتم فعصركم عصر لا يجوز فيه اللغو فقد طويت المساوف في الأرض وكانت من قبل واسعة الأطراف بحيث تكفي المرء الآن بضعة أسابيع ليطوفها وبعض الثواني لنبعث بفكرنا بل بصوتنا إلى أبعد ألوف من الكيلومترات وقد قربنا من السماء والنجوم قريبة من مجهر الراصد والتبحر بما فيها من الأودية والجبال المرسومة عَلَى خارطة كأنها تشير وتنادي ببحاثة يبحث فيها. وقرب ما بين القطبين الشمالي والجنوبي وأرباب الرحلات اقتربوا منها والجبال قد خرقت وجعلت في بطونها الأنفاق والطيارات تحوم من فوق قممها(80/71)
والثلوج ترى عليها م فرقها إلى قدمها والترع تحيط بالأرض وقد فتحت والصحاري بعدت إلا بالحديد الذي يخرقها وهاهم يخططون الآن سكة حديدية بين المحيط الأتلانتيكي والبحر الهندي والبحر الرومي والبحر الجنوبي. وممالك أوربا القديمة تنشئ ممالك في القارة السوداء وسيكون من هذا الاختلاط أجناس جديدة وأمم لا يعلم مستقبلها كما لم يكن يعلم مستقبل أوربا منذ خمسة آلاف سنة حكماء مصر ولا بلاد كنعان. لم تكن أوربا في عصر من العصور أعمل منها الآن أخذت شعوبها تتحاب وما قط أحب أحد وطنه حبه له الآن والحروب وإن يوم انتشبت فسيأتي يوم تقدس كل الأمم معبد الهاي أو قصر السلام الذي يؤمل دعاته أن تثبت كلمتهم في الشعوب فتبطل الحروب.
الأمم تطمع في الحرية أكثر من قبل وبهاء التيجان قد اصفر وفي كل مكان انتشر الفكر الديمقراطي واضطر الحكومات إلى العناية بكل ما يجعل الحياة موطدة الأركان. والعلم لا يزال يرتقي في المكاتب والمعامل الكيماوية والصناعية وفي كل يوم خبر عظيم. أول أمس بلغنا أن يابانياً من تلامذة باستور اكتشف في معمل كيماوي في أميركا ميكروب الكلب وأمس وصل علم الطيارات في الهواء إلى ما وصل فماذا تعلم غداً.
ولذا أوصيكم ألا تبقوا منعزلين عن هذه الحركة وجاهلين بزمانكم وبلادكم أي أناس بدون تاريخ ولا وطن. إنكم بذلك تنحطون ولا يكون لكم ما تفاخرون به فعليكم أن تتعلموا بكل الطرق: بإطالة المكث في المدرسة، بالقراءة، بإطالة الروية في تجارب الحياة. تقومون اليوم بشيءٍ وغداً بآخر عَلَى التدريج تزداد معلوماتكم وتنسق في رءوسكم وتنشأ مادتكم من الأفكار والعواطف فتعرفون زمانكم وتحسنون كيف تعيشون. وأختم كلامي بتوصيتكم باقتناء لوح خشب تضعون عليه كتبكم وأعدكم بأني أعطي لوحاً لمن يطلبه مني وهو مدهون وملمع أيضاً. اهـ.
المرأة القديمة
حاضر المسيو بنلفه من أعضاء مجمع العلوم في باريز نادي الطلاب في تلك العاصمة فيما كان للمرأة في القديم من التأثير العقلي والأدبي ومما قاله: إننا نتخيل بأننا نتهور ونبتدع شيئاً جديداً لأننا نفتح السبل أمام المرأة والفتاة اليوم للتوافر عَلَى دراسة العلوم والآداب والصناعات العقلية وهذا وهم لا حقيقة وذلك لأننا نحن أخلاف الرومان مباشرة أولئك الذين(80/72)
رزقوا عقولاً لا تحب الحقيقة المجردة وفيها من المتانة شيءٌ كثيرٌ ولكنها قصيرة قصر سيوفهم نخدع بجسارة مجتمعنا الحاضر ونظن أننا أتينا أمراً فرياً. ولكل إذا رجعنا إلى الأمم التي كانت أعظم الشعوب في إشراك غيرها بثمرات الارتقاء البشري وكانت الموحدة الحقيقية للمدنية وأعمي بهم اليونان ومصر ولاسيما آشور يثبت معنا أن المرأة شاركت الرجل منذ العصور القديمة لا في الجمال فقط بل في البحث عن الحقيقة. والظاهر أن المرأة في تلك القرون التي كان فيها الرجال أقرب إلى الطبيعة بما خصت به من الإدراك هي الدليل البصير الفطري تقود الرجل في أبحاثه الطويلة المعقولة المدققة. ولقد تجلى تأثير النساء العرافات عند جميع الشعوب اليونانية الذين كانوا تلامذة كهنة بلاد آشور وكلدية. فقد كان الفيلسوف فيثاغورس ناشر تعاليم العلم الآشوري في يونان يحنو عَلَى امرأته تيانو الجميلة حنو حب وعبادة ومن فلسفته أن الرجل اختص بالعقل والقوة المنطقية والمرأة بالنظر العقلي فإذا كان الرجل في هذا العالم الغريب في أسراره مفكراً فإن المرأة ناشرة للأفكار.
وكان هذا الفكر الذي هو نتيجة الأزمان القديمة والمأثور عن كهنة الوثنيين والبابليين عَلَى الجملة جماع العلوم المأثورة عن البشر وهذا الفكر هو الذي تترجم عنه للجمهور أساطير اليونان ومصر وما كان للمرأة من الشأن في مواعظ الوحي الغريبة فكان النساء العذارى في غابة دودون المظلمة المختصات بعبادة المشتري هن اللائي يحسن التعبير عن اللغة السبيلية المنبعثة من البلوط المقدس وكان العذارى أيضاً في غابة سيكلوب عن عمد الكرنك يستقبلون حجاج المصريين الذين يسألون المولى تعالى. ولقد قام في دودون والكرنك عَلَى ما جاء في أساطير هيلاد ومصر فتاتان أُخذتا أسيرتين من مركب فينيقي وهما اللتان أنشأتا المعبدين وأصبحت كاهنتين وسماهما اليونان الرسولتين أي الناقلتين من بلاد القاصية الحقائق الجديدة.
الفلاح الغربي
يختلف التعليم في أوربا وأميركا باختلاف البلدان فتعليم البلاد التي تغلب فيها الصناعات غير تعليم الأقاليم الزراعية والكور التي يكثر بها التجار غير الكور الساحلية البحرية وتعليم بلاد الغابات غير تعليم بلاد البقول والزرع وأقاليم المعادن والمناجم غير تعليم(80/73)
الصيد البحري وهكذا يلقن أطفالهم التعليم الذي يناسبهم ويتعدى العلم قصور الأغنياء إلى أكواخ الفقراء ويشترك بالنور المدني والقروي وترتقي الأمة بمجموعها والبلاد بجملة أطرافها.
وبقد عرف الغربيون أن العمل الزراعي يشبه معملاً ومهماً تقلبت عليه العناية والتحسين لا يزال عبارة عن منزل ولا يصلح الفلاح إن لم يصلح تدبير البيت وبذلك يتأتى له أن ينتفع الانتفاع المطلوب من تربية الحيوان والألبان كما ينتفع فلاح الدانيمرك مثلاً فتقل موفيات الأطفال بانتشار المعارف الصحية وتقل السرقات والموبقات بتعليم الفلاحين جوهر الدين الصحيح وتتعلم الأم الفلاحة فتخرج الفلاحين الصالحين.
قالوا أن الغربيين أكثروا لفائدة الرجال من تأسيس المعاهد لتكميل الرجل الفلاح في صناعته ولم يكتفوا بالمدارس فقط بل عنيت به الجمعيات والنقابات وكثرت عليه المحاضرات والمسابقات والمعارض يرى فيها الأدوات وتحسينها وأنواع الزراعات ونموها وأن بعض بلدان الغرب اقتصرت من تعليم الفلاحين القدر الكافي من الدروس الابتدائية وحبستهن في قن الدجاج والمطبخ ومعمل اللبن يعملن ما خلقن له والفنة فلم تحصل لهن أنسة بالأساليب الزراعية الحديثة لينتفعوا عَلَى ما يجب من الألبان والبيوض والطيور.
رأت بعض الأمم أن المدارس الزراعية وغيرها لا تفيد الفائدة المطلوبة من إنارة عقول جميع أبناء القرى القاصية كما تنار عقول القرى الدانية فأنشأت مدارس مؤقتة سيارة تقيم في القرية بضعة أسابيع تعلم أهلها ما يلزمهم لتحسين حالهم وتقوم بعملات سريعة وإن كانت غير منتظمة قليلاً ولا تامة ولكنها نافعة في الجملة.
لسويسرا مدارس للخادمات ومدارس لإتقان تدبير المنزل ومدارس عالية لتعليم المعلمين والمعلمات في الفنون وأنشأوا في إيرلاندا وبولونيا وهنغاريا جمعيات نسائية وأنشأ النساء في القسم الفلامندي من بلجيكا أندية الفلاحات وهي عبارة عن مجتمعات ومدرسة للنساء والبنات معاً بل هي ضرب من الكليات الشعبية وفرع للإناث من مدرسة جامعة للعامة يعمى فيها بالتعليم الصناعي والأخلاق المحلية وهي لهن خير ملاجئ تؤويهن.
تكلم أحدهم في جريدة الطان عَلَى هذه الأندية فقال أن برنامج التعليم فيها يدهش بسعته وقد تبين مع هذا أنه أسفر عن نتيجة حسنة لما دل من الكلام عليها في المؤتمر الدولي الثالث(80/74)
الذي عقده القائمات بهذا الأمر من البلجيكيات من مدينة غاند فظهرت بالأرقام فائدة هذه الأندية التي بلغ عددها في تلك البلاد الصغيرة فقط 183 منتدى فيه من الداخلات 21. 406 نسوة وانتشرت الأندية في بولونيا والولايات المتحدة وغيرها انتشار الحانات من جديد في بلادنا. أما برنامج الدروس التي تعلمها الأندية للبنات والنساء فهي علم ولادة الأطفال وتربية أجسامهم وعلم التربية والتعليم وصحة البيت والاصطبل وقواعد التغذية المقوية الاقتصادية ومضار الألكحول والإسعافات الطبية المؤقتة للمرضى والجرحى ونظام القن وأصول عمل الجبن والسمن وتربية الطيور وتربية الأشجار وتربية النحل وتعهد المباقل وعلم عمل المربيات والحلاوى وعلم الحساب ومضار الاشتراء بالدين والخياطة وتفصيل الثياب والغسيل والكي واحترام التقاليد وطاعة مبادئ الخلاق الدينية.
وبالجملة يتعلمن دائرة معارف مختصرة سهلة يتعلمها بناتهم ونساؤهم في القرى لينجبون فلاحين صالحين ويتوفرن عَلَى حسن استثمار الثروة من الأراضي والحيوان ويعشن عيش المرفهات الطاهرات المقتصدات والنساء في بلجيكا هن اللائي أخذن عَلَى عاتقهن هذا الواجب مع القسيسين في أميركا يتولى ذلكلمبشرون والكهنة وكذلك في بولونيا.(80/75)
العدد 81 - بتاريخ: 1 - 11 - 1912(/)
رسالة في الكلمات المعربة
لابن كمال باشا المتوفى سنة 942.
عني بنشرها سليم أفندي البخاري عن مخطوط قديم في مكتبة جميل أفندي
الشطي.
بسم الله الرحمن الرحيم
زدت نعماً جدت بها يا كريم حامداً لم علم آدم الأسمى وعند اختلاف الألسنة من الآيات العظمى ومصلياً عَلَى بعض من شرف بعض لغة الفرس بالتلفظ فسن التكلم بها وأفاد للتعريب نوع تيقظ وعلى فارسي ميدان صحبته من آله وصحابته. وبعد فهذه رسالة في التعريب عَلَى ترتيب أنيق غريب جمعتها حين التصفح لكتب اللغات المعزوة إلى الإثبات الثقات تمييزاً للعربي القح من الأعجمي الكح رفعاً للالتباس وإشارة لفوائد الاقتباس.
(مقدمية) في القاموس التعريب تهذيب المنطق من اللحن وفي الصحاح تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب عَلَى مناهجها عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء وغيرهم أن طه والميم والطور والربانيون بالسريانية والقسطاس والفردوس والصراط بالرومية ومشكاة وكفلين بالحبشية وهيت لك بالحورانية وبه قال فقهاء العلماء.
وزعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العجم شيء لقوله تعالى عربي مبين قال أبو عبيد الصواب عندي مذهب فيه تصديق للفريقين وذلك أن هذه الحروف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء إلا أن العرب حولتها عن العجمة إلى ألفاظهم ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلامهم فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال أنها أعجمية فهو صادق قال في الارتشاف: الأسماء الأعجمية عَلَى ثلاثة أقسام قسم غيته العرب وألحقته بكلامها فحكم أبنية العرب نحو دروهم وبهرج وقسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها فلا يعتبر في القسم الأول نحو آجر وسيسنبر وقد تركوه غير مغير فلما لم يلحقوها بأبنية كلامهم لم يعد منها مثال الأول خراسان لم يثبت فيه فعالان ومثال الثني خرم الحق بسلم وكركم ألحق بقمقم قال أئمة اللغة تعرف عجمة الاسم بوجود (1) النقل من أئمة اللغة (2) خروجه من أوزان العربية نحو إبريسم (3) وجود نون ثم راء نحو نرجس فإن ذلك مفقود في لسان العرب (4) وجود دال بهدها زاي نحو مهندز (5) اجتمع الصاد والجيم نحو(81/1)
جص والصولجان (6) اجتماع الجيم والقاف نحو جردق (7) أن يكون خماسياً أو رباعياً خالياً من حروف الذلاقة وهي الباء والفاء والراء واللام والنون فإن مثى كان عربياً فلا بد أن يكون فيه شيءٌ منها نحو سفرجل وقذعمل وقرطعب وحجمرش.
فائدة: حروف لا يتكلم بها العرب إلا إذا اضطرت فحينئذ يحولونها عند التكلم إلى أقرب الحروف من مخرجا وذلك الباء العجمية والباء والفاء والجيم العجمية بين الجيم والشين والكاف العجمية فإذا تلفظوا بلفظ بر قالوا فر وفي جون شون في قولهم جون بو أي كيف كان في كل جل كما في جلنار.
الألف: (الله) أصله لاها حذفت ألفه الأخيرة للدلالة عَلَى التعريب وأدخل عليه الألف واللام ليدل عَلَى أنه غير مشتق (آمين) هو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب كرويد وقيل تعريب همين أي همين في خواهم أو همين في بايد (الآنك) الأُسرب أعجمية (إبراهيم) أعجمي اختلف في تعريبه (أبرويز) معرب برويز (الإبريسم) مو القز النيئ معرب أبريشم وأما الحرير فهو الإبريسم المطبوخ (الإبريق) كوز له عروة وأنبوبة آبريخ (الأجاص) أعجمي إذ الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة عربية (آزر) عد في العرب عَلَى قول من قال أنه ليس بعلم لأبي إبراهيم ولا للصنم وعن معتمر بن سليمان أنه قال سمعت أبي يقرأ وإذ قال إبراهيم لبيه آزر بالرفع قال بلغني أنها بمعنى أعوج إنها اشد كلمة قال إبراهيم لأبيه وقال بعضهم هي بلغتهم يا مخطئُ (الأستاذ) معرب أستاد (الإستبرق) أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه الديباج الغليظ معرب استبره (الإسطرلاب) هي مرآة للمشمس وضعت لمعرفة الأوضاع الفلكية لغة رومية في القاموس اللاب بجل سطر أسطراً وبنى عليها حساباً فقيل إسطرلابٍ ثم مزجا ونزعت الإضافة فقيل الإسطرلاب معرفة انتهى ومدار هذا التفسير عَلَى المناسبة اللفظية مع ثبوت أن اللاب اسم الواضع (الأسطوانة) هي السارية والعمد والنون أصلية وهي أُفعولة مثل أقحوانة لأنه يقال أسطاين مسطنة معرب أستون (الإسفست) هي الرطبة معرب سبست (إسماعيل) قال الجواليقي في المعرب أن العرب كثيراً ما يجترئون عَلَى الأسماء الأعجمية فيغيرونها بالإبدال قال إسماعيل وأصلها إشمائيل فأبدلوا لقرب المخرج قالوا ويبدلون مع بعد المخرج وقد ينقلونها إلى أبنيتهم ويزيدون (أشتة) لقب جماعة من المحدثين من أهل أصفهان (أصفهان) اصلها أسباها أي(81/2)
الأجناد لأنه كانوا سكانها أو لأنه دعاهم نمرود عَلَى محاربة من في السماء كتبوا في جوابه: أسباه آن ندكد باخداجنك كند. أي الجند ليس ممن يحارب الله (الإفرنجة) جيل من أهل الإنجيل معرب الإفرنك (إفريز) الحائط بالكسر طنفه معرب (الإقليد) قال ابن دريد الإقليد والمقليد المتاح معرب كليد (الأملج) دواءٌ معرب أمله (الأميص والآمص) مرق السكياج المبرد المصفى من الدهن معرب خاميز (الإنبج) ثمرة شجرة هندية معرب إنب (الأنج) هي المرساة من آلات السفينة تلقى في البحر إذا رست رست (الإنجيذخ) هو الذي يثبت فيه ما عَلَى الناس معرب ناجيره (أنقره) بلد بالروم معرب أنكرويه (الأرواج) وما ينقل إليه الإنجيذخ ثم ينقل إلى جريدة الإخراجات وهي عدة أوراجات معرب أوراه (الإيارجة) بالكسر وفتح الراء مسهل معروف وجمعه إيارج معرب إياره وتفسيره الدواء الإلهي.
الباء: (الباج) اجعل الباجات باجاً واحداً أي لوناً واحداً وأصله بالفارسية باها أي لون الأطعمة (الباذق) هو النيئ من العنب إذا طبخ أدنى طبخة حتى يذهب أقل من ثلثه وغلى واشتد وقذف بالزبد وإنه حرام قليله وكثيره قال خواهر زاده هو فارسي معرب لأنه في العجم يسمى باده (الباري) والبارية والبارياء والبوري والبورية والبورياء هي الحصير المنسوج معرب بوريا والجمع بواري (الباشق) نوع من ذوات المخلب معرب باشه (الباطية) إناء متسع معرب بادية (البابغاء) بالمد إلا كارع نعرب بايها (؟) (البخت) الجد الفارسي (البد) بالضم الصنم معرب بت (البرباد) هو العلاوة فارسي (البردج) السبي معرب برده (بزرج) بضم اوله وثانيه وفتح أوله علم معرب بزرك أي الكبير (البرق) الحمل معرب بره (البريد) هو في الصل البغل وهي كلمة فارسية أصلها بريره دم أي محذوف الذنب لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب فعربت الكلمة ثم خففت ثم سمي الرسول الذي يركبه بريداً وفي الحقائق هو البغلة المبترة ثم الرسول المحمول عليها ثم سميت به المسافة (بز) بالضم لقب إبراهيم بن عبد الله النيسابوري المحدث معرب بز الماعز (البستان) هو الحديقة معرب بوستان (البسد) كسكر المرجان معرب بشد (بسطام) بلد معرب أوستام (البطاقة) رقع فيها رقم المتاع رومية (البطريق) القائد سمي به عظيم رهابنة النصارى (البط) طائر معروف معرب (بغداد) اسم أعجمي معناه عطية الصنم(81/3)
معرب بيك داد سماها الأصمعي دار السلام (بغشور) بالفته بلد بيد هراة وسرخس والنسبة بغوي عَلَى غير قياس معرب كوشور أي الحفرة المالحة (البوس) التقبيل فارسي معرب (البهرمان) العصفر أو الحناء فارسية (البوصي) ضرب من السفن معرب بوزي (بوشنج) معرب بوشنك بلد من هراة منه أو الحسن الدوادي المحدث (البيزار) حامل البازي معرب بازيار (البيعة) ذكر الجواليقي أنه معرب.
التاء: (تاريخ) الكتاب كلمة معربة (التخت) السرير معرب (التخريص) بالكسر بنيقة الثوب معرب تهريز (الترياق) دواءُ السموم رومي معرب ترياك والفصحى الدرياق بالدال المهملة (التنور) الكانون يخبز فيه وصانعه التتار ذكر الثعالبي أنه معرب تنير (التوت) أعجمي معرب أصله توث أو توذ فأبدلت العرب من الثاء المثلثة أو الذال المعجمة تاء ثنوية (التوتياءُ) حجر يكتحل به معرب.
الجيم: (الجاموس) معرب كاوميش (الجبت) صنم لقريش ليس من محض العربية إذ لا يجتمع الجيم والتاء في كلمة من غير حرف ذولقي كذا في المزهر (الجرامقة) قوم بالموصل من العجم (الجربان) بالضم والتشديد لبنة القميص معرب كريبان (الجربز) هو الخب المحتال ومنه الجزيرة معرب كربز (الجردق) الرغيف كرده إذ الجيم والقاف لا تجتمعان في كلمة إلا أن يكون معرباً أو حكاية صوت (الجرزة) خرجوا بأيديهم الجرزة هي المقامع جمع جرز أظنه معرب كرز (الجرصن) دخيل قيل هو البرج وقيل هو مجرى ماء مركب في الحائط عن البزودي جزع يخرجه الإنسان من الحائط ليبني عليه (الجرم) الحار معرب كرم (الجرموق) شيء يلبس فوق الخف معرب غرموك إذ الجيم والقاف لا تجتمعان في كلمة عربية (الجريب) المزرع أو الفدان منها عرب كري (الجزر) بالتحريك أَرومة تؤكل معرب (الجزاف) معرب كزاف ومنه المجازفة في البيع وبيع جزيف ومجتزف (الجص) ويكسر معرب كج إذ الجيم والصاد لا تألفان في كلام العرب فأبدلت الجيم من كاف لا تشبه كاف العرب والصاد من جيم أعجمية لا تشبه جيم العرب (الجلاهق) البندق (الجلسان) قال الأعشى: لنا جلسان عنده وبنفسج، يريد نثار الورد معرب كلنار (الجلنجبين) الورد مع العسل معرب كل إنكبين (الجناح) الإثم معرب كناه (الجنبذة) ما ارتفع واستدار كالقبة معرب كنبد (الجوارش) مركب حاضم معرب كوارش (الجواليق) وعاء ماء معرب(81/4)
جوال (الجوز) فارس معرب (الجوزل) فرخ الحمام معرب جوزه (الجوهر) كل ثمين من الأحجار معرب كوهر وأما الجوهر المقابل للعرض ففوعل من الجهر سمي به لظهوره (الجهابذة) جمع جهبذ هو البندار أي الصراف والتاء للدلالة عَلَى التعريب في القاموس بالكسر هو النقاد الخبير (جهنم) طبقات النار معرب كهنام ويمكن اعتبار أخذها من الجهم وهو الباسر (الجيسوان) جنس من أفخر النخل معرب كيسوان ومعناه الذوائب.
الحاء: (الحب) هو الدن معرب حنب وخم مخفف منه ذكر أبو حاتم أن الحاءَ في الحب بدل من الخاءِ وهذا لم يذكره النحويون وليس بالممتع.
الخاء: (خجسته) بضم الخاء وفتح الجيم وسكون السين اسم نساء أصفهانيات من رواة الحديث أعجمية معناها المباركة (الخرص) بالكسر البد معرب خرس (الخز) فارسي معرب (خش) في قول الأعشى معرب خوش إلى الطيب (الخشكنانج) نوع من الخبز محشو بلب اللوز والسكر معرب خشك نان (خشنام) أي الطيب الاسم معرب خوش نام (الخلنج) كسمند شجر فارسي معرب قال:
يضرب الجيش بالجيوش ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج
(الخبجة) الدن الصغير معرب خنبجة (الخندريس) الخمر القديمة معرب (الخندق) معرب أطله كنده أي المحفور (الخوان) هو السماء معرب بـ خوان (الخوذة) هي البيضة معرب خود (الخورنق) كغضنفر قصر للنعمان الأكبر معرب خورنكاه أي موضع الأكل والشرب (خيوق) بالكسر بلد بخوارزم معرب خيوه.
الدال: دار بجرد بلد بفارس معرب دار بـ كرد (الداناج) العالم معرب دانا (الدرابنة) البوابون جميع دربان بالفارسية (الدرب) الباب الواسع معرب دروازه (دروز) الثوب معروفة معرب (درواسنج) بالفتح ما قدام القربوس من فضلة دفة السرج معرب دروازه كاه (الدست) هو الوسادة والصدر واللباس ودست القمار في الأساس فلان حسن الدست شطرنجي حاذق (الدستبند) ما يجبر به الكسر فارسي الدستجة الحزمة من البقل وغيره معرب الدستيج إناء يحول باليد معرب دستي الدشت الصحراء معرب أو اتفاق اللغتين الدكان فارسي معرب الدلق دويبة معرب الدمق ثلج وريح معرب دمه الدمهكر الأخذ بالنفس معرب دمه كير الدولاب شيءٌ عَلَى شكل الناعورة يستقى به الماءُ فارسي معرب الدهبرج(81/5)
مشددة الراء معرب ده بره أي عشر ريشات الدهقان رئيس القوم ومقدم أصحاب الزراعة معرب ده خوان الدهليز ما بين الباب والدار فارسي الدينار معرب أصله دنار فأبدل من إحدى النونين ياء الديبوز ثوب ذو نيرين معرب دو بود.
الراء: الراهنامج كتاب الطريق يسلك به الربابنة البحر ويهتدون به في معرفة المراسي وغيرها معرب بـ راه نامه الرزداق والرستاق هو السواد والقرى معرب بـ روستاه الرصاص معرب أرزيز فأبدلت الزاء صاداً وحذفت الهمزة من أوله واسمع بالعربية الصرفان الرمق قطيع الغنم معرب رمه روزة البيت فارسي معرب الروشن معرب معناه جيزي بيرن آورده براي روشناي الروح معرب روحا حذفت ألفه للتعريب الروط بالضم النهر معرب رود الرهوج في الصحاح يشبه أن يكون فارسياً معرباً وفي أدب الكاتب الرهوج الهملاج وأصله راهورا.
الزاء: الزئبق كدرهم وزبرج معرب بـ زيوه ومنه ما يستقى من معدنه ومنه ما يستخرج من حجارة معدنية بالنار الزاج ملح معروف معرب بـ زاك الزرافة في كتاب سيبويه خلق الله الزرافة يديها اطول من رجليها هي مسماة باسم الجماعة لأنها في صورة جماعة من الحيوان وجاء بها ابن دريد مضمومة الزاي وشك في كونها عربية الزرجون بالتحريك الخمر وقيل الكرم قال الأصمعي هي فارسية معربة أي لون الذهب والأنسب ذهبي اللون الزردج ماء العصفر المنقوع معرب الزرمانقة بالضم حبة صوف معرب بـ اشتربانه أي متاع الجمل الزرياب بالكسر أي ماء الذهب معرب الزط جيل من الهند معرب جت والقياس يقتضي فتح معربه الزماورد معرب والعامة تقول بزماورد الزنج جيل من السودان معرب زنك الزنديق معرب بـ زند اسم كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت المزعوم أنه نبيهم فنسبوا إليه ثم عرب وعن ابن دريد عن أبي حاتم الزنديق فارسي معرب كأن أصله عنده زنده أي يقول بدوام بقاء الدهر وفي القاموس هو بالكسر من الثنوية أو القائل بالظلمة والنور أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دي أي دين المرأة.
لها بقية.(81/6)
نحن وأوربا
أيها السادة الأخوان:
التاريخ كما لا يخفى عليكم يلقح فكراً جديداً وتاريخ كل أمة مرآة أعمالها تنعكس عليها صورتها. فلا يشقن عَلَى بعضكم إذا سمعوا في هذه الجلسة كلاماً في تاريخنا السياسي الأخير لم يعهدوه من قبل أو لم ينطبق مع رغائبهم فالأفضل لكل أمة تريد النهوض أن تعرف ماضيها حق معرفته وتقف عَلَى ما دبره ويدبره أعداؤها لها من أن تتحدث بالخيالات وتتمجد بالأباطيل فصديقك من صدقك لا من صدّقك. وفي الماضي لمن بقي اعتبار.
موضوعنا الليلة علاقة أوربا بالمملكة العثمانية وعلاقتنا بأوربا نفيض فيه بقدر ما تساعد الحال لتتلجلي لنا الحوادث والكوارث التي جرت في هذا الشرق العثماني وخصوصاً في بلاد البلقان التي قامت حكوماتها الصغرى منذ أسبوعين تجاذبنا حبل السلطة في مقدونية بل في بلاد الروم أيلي أي أملاك الدولة العلية في قارة أوربا.
قد يعد من يلقي أقل نظر في تاريخ العرب الفاتحين من أغلاط الفتح التي ارتكبها بنو أمية أن قذفوا بأحد قوادهم إلى شبه جزيرة إسبانيا يفتحون جزؤاً مهماً منها سموه الأندلس فهزم العرب سكان البلاد الأصليين إلى الجبال ولم يفكروا من جاء بعد الفاتحين في طريقة للخلاص من عاقبة أمرهم كأن يدخلوهم في الإسلام أو يخضعوهم بحد الحسام أو يجلونهم عن أرضهم بسلام.
وقد أدرك سيد بني أمية أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مغبة نزول المسلمين في أرض يحيط بها أصحابها الأول من أطرافها فأمر أحد عماله أن يرسم له مصور بلاد الأندلس ويريد إجلاء العرب عنها لأن مقامهم فيها غير طبيعي. وبعد وفاة هذا الخليفة ترك ذاك الأمر وشأنه وتأصل الإسلام في ربوع الأندلس وأزهرت فيه مدنية العرب هناك فقامت الأندلس بنحو النصف من هذه المدنية الباهرة والباقي تم في بغداد وفي باقي عواصم الإسلام الكبرى ولم ينجل المسلمون عن غرناطة آخر عاصمة للعرب في بلاد الأندلس إلا سنة 897 للهجرة أي أن نظرية عمر بن عبد العزيز صحت بعد ثمانية قرون وكأنه أدرك بسديد نظره رحمه الله أن الأخلاف لا يسيرون عَلَى سنة الأسلاف في الحساب للعواقب وأنهم ربما شغلوا بما في الأندلس من الخيرات عن قطع شأفة العدو(81/7)
وكذلك كان.
ففتح الأندلس وإن أورث العرب ذلاً في الآخر فقد أورثهم عزاً وأي عز في الأول واستفادة أوربا كلها من حضارة الإسلام باحتكاكها بالأندلسيين العرب ووقوفها عن أمم عَلَى علومهم وآدابهم وصناعاتهم وزراعتهم ومصانعهم فالأندلس كانت أو فتح للمسلمين في قارة أوربا انتهت بإجلائهم عنها كما كان فتح العباسيين في جزيرة صقلية سنة212 كان من الأغلاط في الفتح فلم تدم في يد المسلمين سوى نحو قرنين ونصف فاستولى عليها الملك روجار سنة 485 هـ بعد أن انقطع إمداد المسلمين عنها لاشتغال كل جهة بما يخصها من الفتن.
هاتان الغلطتان لبني أمية وبني العباس فيفتح بلاد قصية عنهم انتهتا بإخراجنا عما ملكنا بعد قرون وبنو عثمان ارتكبوا مثل هذا الغلط في الفتح بأن توسعوا في مد سلطانهم شرقي أوربا بعد فتح القسطنطينية وتركوا لأهل البلاد المغلوبة حريتهم المذهبية ولغاتهم القومية فظلوا في حرب دائمة معهم لا تكاد تلقي أوزارها حتى فيوقد العدو أُوارها. واوربا لم تبرح تسر إخراجنا من قارتها منذ أزمان لاعتقادها بأننا شعب آسيوي لا يليق بنا أن نأوي إلى غير كننا إذ القاعدة عندهم أن أوربا للأوربيين كما أن أميركا للأميركيين ولكنا نشهد الآن ويا للأسف أن آسيا ليست للآسيويين وافريقية ليست للأفريقيين.
إن ما يسميه الإفرنج بالمسألة الشرقية يرجع في الحقيقة إلى امتلاك العرب أرض الأندلس وانتباه أفكار الأوربيين إلينا يرد عهده إلى اليوم الذي تقدم فيه جيش المسلمين إلى بوتيه من أرض فرنسا فهزم شارل مارتل جيش المسلمين في أزاخر الثلث الأول من القرن الثامن للميلاد. واكثر من ناصبونا العداء من الأوربيين في حروب الصليبيين هم فرنسا وألمانيا وبولونيا وبريطانيا وإيطاليا في الأغلب وكانت هذه الأمم إذ ذاك عَلَى مستو واحد تقريباً بقوتها ومدنيتها. وبحرية البرتقال والإسبانيول أعظم بحرية حربية للدول الأوربية في القرون الوسطى كما كانت أقوى بحرية تجارية في تلك الأزمان للبيزيين والطوسكانيين والجنويين أهل إيطاليا اليوم.
ولقد عرف إدوارد دريول المسألة الشرقية بما ترجمته: ملك الإسكندر الكبير البلاد الواقعة بين البحر المتوسط والبحر الأسود والصحراء من الغرب ونهر السند الأندوس من الشرق أي الطريق من أوربا إلى الهند وجاء بعده الرومان فلم يصلوا إلى نهر دجلة إلا نادراً وكان(81/8)
للفرس أيضاً بعض العظمة والمجد. وفي القرن السابع والثامن امتدت المملكة العربية أيضاً من البحر المتوسط إلى نهر السند واتصلت تخومها من آسيا إلى المملكة المقدونية ما عدا قسماً طفيفاً في الجنوب. ومن القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر كانت غارات البرابرة الذين توطنوا أوربا واضطربت آسيا الغربية تلك المنطقة التي هي أوربية وآسيوية معاً بمن هاجر إليها من الشعوب واستولت مملكتا جنكيزخان وتيمورلنك عَلَى جميع البلاد من آسيا الصغرى إلى نهر القنج. وظلت القسطنطينية زمناً آخر سياجاً لأوربا في وجوه الفاتحين المداهمين من الشرق الأقصى أو من نجاد آسيا الوسطى. ودك آخر تيار من هؤلاء المهاجمين ألاسيويين سنة 453 أسوار مدينة القسطنطينية معقل النصرانية من الإسلام وامتدت المملكة العثمانية زهاء أربعة قرون عَلَى أوربا الشرقية وآسيا الغربية من الخليج الفارسي إلى نهر الطونة (الدانوب) إلى البحر الأدرياتيكي وتدخل سلطان القسطنطينية في القرن السادس عشر في مسائل أوربا وكان قد حالف ملك فرنسا واخضع علىنهر الطونة الأوسط التخوم الألمانية وقد بلغت هذه السطوة في عهد سليمان الكبير (1520 - 1566) ذروة المجد والعظمة. .
ولكن تغلب العثمانيين لم يغرس في البلاد المنفتحة وسيما في أوربا جذوعاً عميقة فزلوا عَلَى الأمم المغلوبة بدون أن يحاولوا الامتزاج بها وربما كان من المتعذر مزج العثمانيين وهم من عنصر تتري مع اليونان أو الصقالبةالسلافيين وهم من عنصر آري واختلاط المسلمين بالمسيحيين. واكتفى العثمانيون بإلقاء الرعب في سطوتهم في نفوس المغلوبين عَلَى أمرهم وبإطفاء كل ثورة بالشدة المتناهية. دام ذلك إلى زمن ضعفت فيه تلك القوة أيام أصبح السلاطين يؤثرون العيش بين جواريهم عَلَى اقتحام الحروب وغدا البنجربة الإنكشارية وهم متزوجون رحالون وأمر الحرب في أيديهم يشتدون فيه اشتداد وقسوة وجبروت ومنذ ذاك العهد أي منذ القرن السادس عشر ضعفت المملكة العثمانية وراجعت حدودها مضغوطة عَلَى نفسها وذهبت نضرتها وجمدت مائيتها كالثمرة تتغضن إذا عتقت. .
فنزول المسلمين في أوربا وفي آسيا عَلَى ضفاف خليج القسطنطينية البوسفور وجناق قلعة الدردنيل قد نشأت عنه المسألة الشرقية وما تاريخها في الحقيقة سوى تاريخ ارتقاء الأمم(81/9)
المجاورة باقتطاع بلاد من الشعوب الإسلامية. ثم أن لهذه المسألة صفات دينية وذلك لأن تغلب محمد الثاني وسليمان القانوني عَلَى أراضٍ هي من صميم الأراضي المسيحية كان بمثابة تغلب راية الهلال عَلَى الصليب فإن محمداً الثاني قد نزع من جدران كنيسة آيا صوفيا الصور النصرانية وركز السلطان سليمان علم النبي الأخضر عَلَى أسوار بلغراد وحمله حتلا وصل به إلى أسوار فينا وطرد من رودس فرسان القديس يوحنا الأورشليمي وهم بقايا الصليبيين وما نراه في عهدنا من تغلب الروس عَلَى العثمانيين وثورات المملك المسيحية في البلقان إن هو إلا أخذ لثأر الصليب من الهلال. وإن الشعر المسيحية في كل مكان سواء في تركستان أو جنوبي القافقاس وعلى نهر الطونة وفي الأرخبيل وسورية ومصر حتى الهند لتهزم علم الإسلام. وهذه حرب صليبية هائلة تعد حروب الصليبيين في القرون الوسطى بالنسبة إليها ألاعيب أطفال.
ولما كان امتلاك هذه الأصقاع ذات التاريخ القديم ذا شأن خطير وكان للأمم الأوربية في آسيا فيما وراء نهر السند وبحر ىرال مصالح حيوية وكان يتأتى لصاحب القسطنطينية وآسيا الشرقية أن يكون سيد القارة القديمة أصبحت أوربا تنظر والقلق آخذ منها إلى تطور المسألة الشرقية وتكونها فروسياً بما لها من رقعة الملك وما فيها من جدة الشباب وقوة اليقين تشرف عَلَى الشرق من شماله من نهر الطونة إلى جبل البامير ولفرنسا عَلَى عامة صفاف البحر المتوسط الشرقية مصالح مادية ومعنوية قديمة للغاية لا يتيسر لها أن تتخلى عنها بدون أن تغدر بمن اعتادوا منذ الحرب الصليبية أن يعتمدوا عليها ومملكة النمسا والمجر التي هي من بلاد الطونة لا تريد أن يقطع عليها طريق الأرخبيل وألمانيا البروسية تحاذر أن تعود النمسا فتتطلع إلى أصقاع الرين والألب تدفعها إلى الجنوب وإنكلترا التي لا تود أن تقطع طريق الموصل من البحر المتوسط إلى الهند ومن قبرص ومصر وأفغانستان تحاول أن تحصر الروس فيما وراء عبر البحر الأسود وبحر الخزر خصوصاً وهي ترى تلك الكتلة من الجليد وأعني روسيا لا تزال أبداً في تزلق وانهيال. .
وهكذا يتواثب جميع أبناء يافث لاتينيهم ويونانيهم جرمانيهم وإنكليزيهم السكسوني وصقلبيهم وروسيهم عَلَى بلاد البامير طائفين حول شعر بمصر والساميين بين النهرين والعثمانيين في آسيا الصغرى يتواثبون عَلَى ضرب هذه الشعوب الغريبة التي أتت عَلَى(81/10)
غير مياد فاحتلت البلاد الواقعة بين نهر السند والبحر المتوسط فاصلة بين الفرعين العظيمين من الأسرة الهندية الأوربية ممن قضت الأقدار عَلَى ما يظهر أن ينضم أحدهما إلى الآخر.
بيد أن تاريخ المسألة الشرقية لعهدنا قد برز في مظهر اقتصادي فهي إحدى صور الجهاد في الحياة الذي قد يقتتل في سبيله شعبان عَلَى ما بينهما من لحمة القرابة ولقد فتحت بفتح ترعة السويس الطريق التجارية العظمى إلى العالم القديم فربط بين 350 مليوناً من الأوربيين و250 مليوناً من الهنود و400 مليون من الصينيين وفيها تحمل من المحيط الهادئ إلى المحيط الأتلانتيكي بحر الظلمات ماراً بالعالم القديم جميع الحاصلات التي نعيش بها كل يوم. ولإنكلترا المقام السامي عَلَى البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي وتملك فرنسا الشاطئ الشمالي والشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط الغربي ولها وفي الشرق مصالح وتقاليد أعظم منها ولها في الشرق الأقصى مصالح حديثة تزعم الانتفاع منها. ولا ترضى روسيا أن تظل منعزلة في سهول بلاد الشمال بل يقتضي لها مصارف عَلَى بحر حر كالبحر المتوسط والمحيط الهندي والمحيط الباسيفيكي وجميع الأمم الأوربية محتاجة لمكان عَلَى هذه الطريق التجارية العظمى إذ الظاهر أن من يتنحى عنها من الأمم يقضى عليه أن يعدل بأن يكون له شأن في الحركة الاقتصادية الشديدة في الأزمان المقبلة. .
فالشرق الذي بدأ فيه التاريخ عاد فغدا أخص ميدان للتاريخ وتاريخ الجديد إذا جرى التنظير بينه وبين التاريخ الماضي ذو ألوان وأشكال غريبة يحمل في مطاويه عَلَى الجملة فجائع وفظائع لما فيه من تداخل الحوادث التي تتألف منها السياسة الحديثة وربما كانت حياة الشعوب القديمة لم تبد لأنظارنا ساذجة أكثر من حوادث اليوم لأننا لا نعرفها حق المعرفة ولم نعش عيش أهلها اهـ. .
هذا ما قاله دريول في كتابه المسألة الشرقية ترجمته بحرفه وفيه عَلَى إيجازه حقيقة تاريخية راهنة وإن كانت روح التحامل تبدو في معظم ما يكتبه الغربيون عَلَى الشرقيين والعاقل من يأخذ من كل كلام عبرة. مسألة البلقان من أهم فروع المسألة الشرقية إن لم تكن أهمها. ومادتها التي تحيا بها نزوع الشعوب البلقانية إلى الثورة والانتفاض وإثارة إحدى(81/11)
الدول الأوربية ذات مصلحة لمن يريد أن يتحرر من الحكم العثماني قال رينه بينون في كتابه أوربا والمملكة العثمانية وعليه أكثر اعتمادي فيما سيمر يكم: إن الأمم في أوربا الغربية بما لها من القوة تعارض المشارع العظيمة فلم يبق إلا الشرق حيث الخميرة لينة والحدود تكاد تكون غير معينة حيث شبه جزيرة البلقان ولاسيما آسيا العثمانية فهي ميدان جديد للتوسع الاقتصادي والنفوذ السياسي وإلى تلك الأصقاع توجه الدول العظمى أطماعها ومنافساتها.
ثم أن المملكة العثمانية هي الحاكمة الشرعية عَلَى تلك المواقع الحربية المشرفة عَلَى الطرق العظمى في الأرض تلك الطرق التي هي شرط في كل تغلب بحري وفي كل تفوق عالمي وهي البوسفور والدردنيل والسويس فجميع طرق الهند تجتاز البحار العثمانية أو الأرض العثمانية ولذلك دارت جميع المحالفات الكبرى والوفاقات الأوربية منذ زهاء قرن حول المسألة الشرقية وبأسبابها تنحل تلك العقود والمواثيق.
فسياسة أوربا ترجع بالنظر إلى الدولة العلية ومستقبلها إلى مبدأين متعارضين أحدهما يؤدي إلى التدخل في شؤونها والآخر يرمي إلى سلامتها. فالمبدأ الأول منبعث من تأثيرات دينية أو فلسفية أو إنسانية كما يدعون وعلى ضروب من الأشكال ومنه حدثت في القديم الحروب الصليبية. وقد اخرجت أوربا الدين من السياسة فلم تفلح في القضاء عَلَى العواطف المستكنة في حنايا التضامن المطلوب بين الشعوب المسيحية أمام غير المسيحية وكثيراً ما بدت في التاريخ الحديث آثار هذا التضامن وزاد عليها بعد الثورة الفرنسوية مبدأ حقوق الشعوب وحقوق الإنسان فأصبحت حجة يتوكأ عليها أرباب الأحزاب الحرة أو الثورية في الغرب وبها يستعينون عَلَى دك عروش الظالمين الذين عدونا نحن في جملتهم معاشر العثمانيين عَلَى غير إنصاف.
ومن نتيجة مبدأ التدخل طرد العثمانيون من جميع البلاد التي لا يؤلف المسلمون فيها أمثرية السكان وتحرير جميع الشعوب المضطهدة. يريدون بالشعوب المضطهدة الشعوب البلقانية وغيرها وتدخل الدولات في شؤوننا نحن المعدودين في مصاف الدول الأوربية العظمى ولكن عَلَى طريقة فيها الغبن الفاحش علينا.
وكلما قمعنا ثورة أو اشتددنا في إرهاق من يريد الخروج عن الجماعة وهو حق لنا لو(81/12)
أنصفونا لأنهم يأتون مثله مع من ينبذ طاعتهم يرموننا بكل كبيرة وقد عدوا علينا من الكبائر التي لا تغتفر ما أتيناه من الشدة سنة 1877 و1894 - 1895 التي قالوا عنها أنها لا تناسب ماحي الممدنين كأنهم يريدوننا أن نعاقب القاتل بالعفو حالاً ومن يريد أن يؤسس مملكة في مملكتنا بالابتسام له وطلب رضاه.
ضمنت المعاهدات لدولة العثمانية مركزها من الحق العام الأوربي ولكن سرعان ما تنقض تلك العهود المسطورة إذا كان من ورائها نفض عنصر من شعوب البلقان يده من طاعة سلطنتنا. ولقد تعهدت ثلاث دولات أوربية في حرب القرم سنة 1856 بموجب معاهدة باريز أن تدافع بالسلاح عن سلامة المملكة العثمانية ولما استبيح حماها سمة 1877 أي في الحرب الروسية لم ينتطح عنزان ولا تحك منهم لحق الدماء إنسان قال بينون: إنا إذا أحببنا إنصاف العثمانيين في كثير من المواطن نقول أنهم ليس لهم ذنب إلا كونهم عثمانيين. وهو كلام المؤرخ العاقل.
ولطالما حجة حماية غير المسلمين في المملكة العثمانية من الأسباب التي تتذرع بها حكومات الغرب ولاسيما فرنسا التي سبقت غيرها إلى هذه الدعوة منذ عهد فرنسيس الأول بما أفضل عليه أحد سلاطيننا العظام من الرعاية واللطف ولذا ترى حقوق العناصر في هذا الشرق تذكر في المعاهدات فقد ذكرت في المادة التاسعة من معاهدة باريز وفي المادة الثالثة والعشرين والحادية والستين من معاهدة برلين ولكن عَلَى صورة مرنة كالمطاط يعمد إلى تأويلها حينما يكون مأرب لإحدى الدول تريده منا ويغض عنها إذا لم يكن لهن ثمت باعث عَلَى التدخل في أحوالنا.
ولقد كان من سياسة إنكلترا منذ استولت عَلَى بلاد الهند أن تكون الطريق إليها سالمة من العوائق والمضايق لأن في الهند ثروة إنكلترا والهند شرط وعلامة عَلَى استيلائها عَلَى البحار وقبضها عَلَى الشؤون الاقتصادية فالهند هي المملكة كما عرفها ديزرئيلي الوزير الإنكليزي المشهور وجرى عَلَى ذلك أخلافه. وقبل فتح ترعة السويس كان من حكم الآستانة وجناق قلعة وله منفذ إلى بحر الأرخبيل أو كان له سلطة عَلَى بحر قافقاسيا يستطيع منها النزول عَلَى أرمينية أو فارس إلى ما بين النهرين والخليج الفارسي - من كانت هذه قوته وبلاده يكون منه خطر دائم عَلَى الطرق الأرضية أو البحرية إلى الهند أو(81/13)
التجارة الشرقية فإن القفار المحيطة بمصر ليست مما يحمي ترعة السويس حماية كافية وكثير من الشعوب منذ عهد كيكاوس (كمبيز) والإسكندر داهموا مصر وفتحوها براً آتين إليها من آسيا فإن جيش نابليون سافر من مصر وداهم سورية وجيش إبراهيم باشا هدد الآستانة مرتين فليس القفر والحالة هذه سداً يحول دون إغارة المغيرين وهجمات الفاتحين.
ولذا كان هم إنكلترا منذ رفعت علمها عَلَى الهند أن لا يكون في الآستانة حكومة تخاف عادياتها وأن تكون أرمينية وسورية وفارس عَلَى سلام وإياها ومن أجل هذا مدت إنكلترا يدها إلينا غير مرة تريد مؤاخاتنا في السياسة ومحالفتنا عَلَى السراء والضراء وكانت تريدنا عَلَى أن نتحضر ونقوى كما حضرت اليابان وقوتهم فضربت عدوتها أمس في الشرق الأقصى ضربة تشيب لها النواصي ولكن قدر الله بأن يبعث عبد الحميد وأعوانه مدة طويلة بالسياسة العثمانية سائرين فيها عَلَى الهوى ثم قامت في عهد الدستور تلك الفئة المتغلبة وقبضت عَلَى أمر الأمة وسارت بنا تيه لا يؤدي إلى خدمة أفكار الجامعة الجرمانية.
تريد روسيا أن يكون لها عَلَى البحر المتوسط لا تدوس للوصول إليه إلا أرضها ولذلك كان لها من وصية بطرس الأكبر كل حين حادث يستحثها والنمسا تطمح أن تخلص إلى سلانيك كذلك عَلَى الخطة التي تتصورها فالآستانة وسلانيك هما بيت القصيد في السياسة الشرقية ونقطة الدائرة في الحقيقة طريق الهند لا تزعج فيه إنكلترا. ولذلك كانت تهتم بالمسألة الشرقية أكثر من جماع الدول والاهتمام عَلَى قدر المعرفة بالواجب ومن يهدد في حياته لا يلام إذا عمد إلى اتخاذ كل سبب يقيها من المصارع وسلامة المملكة العثمانية مما قالت به إنكلترا سنة 1833 واستعملته سلاحاً ضد محمد علي ولوزير فيليب.
قال بينون: إن إنكلترا تقوي الجولة العلية كمن يقوي معقلاً للدفاع فهي التي تدفعها في سبيل الإصلاح واللامركزية للقضاء عَلَى المطالب المزعجة التي تتذرع بها شعوب البلقان وهي تنصح للسلطان أن يمزجها عَلَى التدريج في السلطة الناهضة إلى التجدد المتسامحة في تقاليدها البحرة النيابية وبهذا المؤثر كتب خط كلخانة سنة 1839 وتمت التنظيمات الخيرية سنة 1856 وتطبيق أصول الحكومة الحرة الإنكليزية قد أتى بأحسن النتائج لبلاد الدولة العلية. إن كل ما يتم في بلاد للذين الشأن الأول في تأليف الوطنية فيها بغية التدرج(81/14)
بها إلى مدارج اللامركزية الإدارية كان معرضاً للإخفاق وكذلك الإصلاح السياسي والاجتماعي يؤدي إلى فشل تام أما إلغاء الإنكشارية والإصلاح العسكري في السلطنة فقد تكللا بالنجاح بحيث أن الدولة العثمانية بعد انقلابها في قبول التجدد أصبحت أشد إسلاماً مما كانت بل أقرب إلى الآسياوية بل أقوى من حيث الجندية مما كانت.
ولشد ما بذلت إنكلترا من الجهد بعد ولاسيما في الحرب الروسية العثمانية للدفاع عن مصلحة العثمانيين لأن في الدفاع عنها مصلحة لها تريد سلامتنا ليسلم لها طريق الهند بقوتنا وروسيا تريد أن يكون الخليجان (جناق قلعة وخليج الآستانة) حرين للتجارة البحرية ولبسط سلطانها لتحرير الشعوب السلافية ولكن إنكلترا علبت عَلَى أمرها ونجحت سياسة بطرسبرج وبرلين وفينا وكانت متفقة يداً واحدة عَلَى تحرير شعوب البلقان الشمالية واحتلال النمسا للبوسنة والهرسك واقتطاع روسيا لبعض ممتلكاتنا مثل باطوم والقرص وأردهان من أرمينية واحتلت إنكلترا جزيرة قبرص لتكون مشرفة عَلَى طريق أرمينية وآسيا الصغرى وسورية لئلا تداهم جيوش روسيا ذات يوم طريق الهند من طريق الخليج الفارسي أو من الإسكندرونة أو من سورية فخرجت إنكلترا ظافرة بحسن سياستها فنالت روسيا منا ونالت هي من روسيا ومنا ولله ما يفعل العقل والتوفيق السياسي.
ولقد تجلى في مؤتمر باريز وكان البرنس بسمارك رأسه ورئيس سلطان الدهاء في السياسة فتلطف الوزير الألماني في مراعاة حقوق النمسا وروسيا وحكومات البلقان كل التلطف فهو بدفعه النمسا إلى التقدم نحو سلانيك يخدم الأمة الجرمانية لأن تزايد السكان في ألمانيا سيضطرها ذات يوم لأنه يكون لها منفذ خاص مثل سلانيك نحو البحر المتوسط إن لم يكن في يدها مباشرة فلا أقل من أن يكون في يد النمسا وأغلق في روسيا طريق الآستانة عن سكة رومانيا وأصبحت رومانيا صديقة الألمان وعدوة الروس لأن هؤلاء اضطروها إلى إخلاء إقليم بسرابيا لقاء دبروجيه وكان من نتائج مؤتمر برلين أن أخفقت آمال الروس من البلقان بعد حربها معنا ونالت حقوقاً ضعيفة فمن مؤتمر برلين نشأ التحالف الثلاثي بين النمسا وألمانيا وإيطاليا والوفاق بين روسيا وفرنسا وكان من دهاء إنكلترا أن أشركت ألمانيا في الدفاع عن مصالح الشرق من اعتداء روسيا فتمكنت في مؤتمر برلين بإبعاد القوة المسكوبية عن ترعة السويس وطرق الهند وأن قربت منها ألمانيا. والحقيقة أن ألمانيا قد(81/15)
ربحت في مؤتمر برلين سنة 1878 بفضل بسمرك كما ربحت إيطاليا بفضل كافور في مؤتمر باريز سنة 1855.
سلكت من الحكومات الصغرى الأربع التي تكونت في معاهدة برلين في سياستها مسلكاً يوافق مصالحها فاقتربت رومانيا من ألمانيا لتنجو من روسيا والطريق التي توصلها إلى الآستانة واقترب الجبل الأسود من روسيا لئلا تكون النمسا وصية عليه وأرادت الصرب أن تحذوا هذا الحذو ولكن علائقها الاقتصادية بالنمسا دعتها إلى أن تمسك بيدها الأولى النمسا وبالأخرى روسيا.
أما بلغاريا فإن الحرب التي شهرت لأجلها قد أحيت في النفوس فكرة عودة بلغاريا العظمى إلى العالم فتكون لها حتى بحر الأرخبيل وإلى حدود ألبانيا وأبواب سلانيك ولكن معاهدة برلين قضت بأن تكون بلغاريا الأصلية ولاية مستقلة وتكون الروم إيلي الشرقي للعثمانيين هي وسائر البلاد المقدونية إلا أن الروم إيلي الشرقي عاد وانضم إلى تلك الولاية المستقلة سنة 1885 وعين أميراً عليهما البرنس باتنبورغ ابن القيصر وهذا الضم مغاير لبنود معاهدة برلين ولولا المحالفة الثلاثية لنقضت تلك المعاهدة عروةً عروة مع معاهدتي فرنكفورت وسان ستفانو.
ولما أخفقت الدول في المحافظة عَلَى حالة البلقان قامت اليونان والصرب تريدان أن تنالا تعويضاً يوازي ما نالته بلغاريا من الروم إيلي الشرقي وبلغ الحنق من إمبراطور روسيا إسكندر الثالث أن حمل البرنس باتنبورغ عَلَى التنازل عن الملك فانتخب مجلس الأمة البلغارية سنة 1887 بنفوذ النمسا وألمانيا البرنس فردينان دي ساكس كوبورغ غوتا من ضباط الجيش النمساوي والمجري وهو الأمير الحالي الذي بايعوه ملكاً عَلَى البلغاريين منذ أربع سنين.
وفي سنة 1895 - 1896 أحدثت الوقائع الأرمنية المشؤمة في الآستانة وأرمينية مبنية عَلَى أحلام أخفقت وقد نجحت فغيها السياسة الروسية كثر من الإنكليزية لأن قسماً مهماً من الأرمن هم في أرض روسيا وهم لا يؤلفون أكثرية في ولايات أرمينية وكردستان.
ولما رات روسيا نفسها محصورة عَلَى تخوم البلقان أرادت أن يكون لها منفذ ولو إلى الشرق الأقصى وكانت سكتها الحديدية في سيبيريا قد أشرفت عَلَى النجاز فقلقت من ذلك(81/16)
إنكلترا واغتنمت فرنسا هذه الفرصة ففتحت جزيرة مدغسكر وضمت مستعمراتها الأفريقية بعضها إلى الآخر وحلت المسائل المختلفة عليها بينها وبين إنكلترا في أفريقية وفي آسيا ثم نشأت مسألة الكونغو وسيام وشاطئ غربي أفريقية.
وكان لإنكلترا يد طولى في تأخير مسألة كريت ونزعها منا وكريت أخت أرمينية في الصورة والشكل وإن كانت غاية كل منهما متباينة ولألمانيا يد كبرى في جعل كريت تحت حماية السلطان وغمارة البرنس وجورج اليوناني آثرت عَلَى ذلك أن تراها لقمة سائغة لإنكلترا كما كانت مصر وقبرص من أجل طريق الهند وبذلك ازداد نفوذ ألمانيا في الآستانة وصار لسياستها الموقع الأول الذي بدأ في مؤتمر برلين فكان منه عموم النفع لشؤونها التجارية والاقتصادية. وفي سنة 1897 عقدت روسيا مع النمسا والمجر معاهدة عَلَى حفظ السلام في البلقان وكبح جماع المتناغمين بجنسيتهم من عناصرها في سنة 1903 اتفقت ذانك الدولتان عَلَى بروغرام مورزتج لإصلاح مقدونية وذلك تعدل نفوذ الألمان في الآستانة.
مسألة المضايق أو المضيقين البوسفور والدردنيل مرتبطة بالمسألة الشرقية أي ارتباط ولطالما تألمت روسيا من اعتزالها وراء البحر الأسود تملك بعض شواطئه ولكناه لا تستطيع أن تنفذ منه فشبهوا مقامها هناك بالمسجون فيلا قصر لا يستطيع الخروج منه ولولا إنكلترا لقبض الروس عَلَى قياد المضيقين ومن قبض عليهما قبض عَلَى منافذ البحرين الأسود والأبيض ولما سار إبراهيم بن محمد علي باشا المصري بجيوشه سنة 1833 من سورية إلى آسيا الصغرى وكان يهدد الآستانة لم تر الجولة إلا أن تستعين لدفع غائلته بالأسطول الروسي فبعثت دولة القياصرة أسطولاً إلى قرن الذهب في خمسين ألف جندي حتى إذا أمنت السلطنة شرد ذاك المهاجم وأراد الأسطول أن يعود من حيث أتى بعد أن كان مروره في المضيقين لأول مرة وبوارجه الحربية ترفع أعلامها أراد تعويضاً عن ذلك فعقد الباب العالي مع حكومة القيصر معاهدة خنكار أسكله سي وبموجبها تحمي روسيا المضيقين حماية حقيقية بحد السلاح فغضبت إنكلترا من هذا العقد الذي يضر بمصلحتها ومازالت تتفنن في أساليب السياسة حتى اضطرت الدول أن تعقد مؤتمراً في لندرا سنة 1841 وكتبت فيه معاهدة جاء في بندها الرابع أن المضيقين لا تفتح لدولة من الدول تسير(81/17)
فيهما بوارجهما فسقطت بذلك معاهدة خنكار أسكله سي وأصبح من حق سلطان العثمانيين أن يغلق المضيقين في وجوه الدول وليس من حقه أن يفتحهما فتقيد بذلك تقيداً لا ينطبق مع ما تدعيه حكومات أوربا من مراعاتها لحقوق السلطنة وسلامة استقلالها.
ثم أن إنكلترا اضطرت روسيا بموجب هذه المعاهدة أن لا يكون لها سوى عدد معين من السفن في البحر الأسود ولا تنشئ دوراً للصناعة (ترسانات) عَلَى شواطئه وبذلك سد البحر الأسود في وجه روسيا فلم يبق بحيرة عثمانية كما كان عَلَى عهد كاترينا الثانية وبطرس الأكبر ولا بحيرة روسية كما قضت معاهدة خنكار أسكله سيوهذا المنع لا يتناول بالشدة المعينة سائر دول أوربا الخمس الكبرى ولاسيما كبيرتها إنكلترا فقد دخل الأسطول الإنكليزي والفرنساوي ليضربا مع الجيش العثماني قلعة سواستبول الروسية وهكذا اصبح ما يحرم عَلَى روسيا لا يستحيل عَلَى غيرها فكأن معاهدة لندرا يقصد بها اتقاء عادية الروس عَلَى البحر المتوسط فقط وقد أيد البند القاضي بالحجر عَلَى روسيا وراء المضيقين سنة 1841 في معاهدات 1856 و1871 و1878.
في الأمثال العربية لا تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع وهذا مما ينطبق عَلَى حكومات البلقان الأربع المجاورة للأملاك العثمانية فإنها بعد أن استقلت الاستقلال التام وصار لها عَلَى صغر حجمها ملوك ومجالس نيابية حداها الغرور أن تتوسع في بلادها ولا سبيل إلى ذلك باقتطاع شيء من الأراضي العثمانية وكي السبيل إذا كان علم الأمن مرفرفاً في ربوعنا؟
ولذا عمدت اليونان والصرب والبلغار إلى تأليف عصابات من أبنائها وفيهم كثير من خاصتهم المتعلمين في المدارس العليا تلقي الفوضى وترتكب أعمال التعذيب والقتل في ربوع مقدونية التي تريد كل منها الاستئثار بها أو ببعضها ومقدونية هي عبارة في عرفهم عن ولايات سلانيك ومناستر وقوصوه والحقيقة أن مفدونية هي مهد الإسكندر حيث ترى عاديات بللا وييدا وأمفيبوليس فكان معدل من تهلكهم عصابات الهول والإرهاب من الأهلين ألفي نسمة كلب سنة يذبح اكثرهم كما تذبح النعاج فخربت هذه البلاد وكانت من قبل من أكثر بلاد الله عمراناً وعادت كما يقول بينون زراعتها بائرة وخصبها جدباً ولطالما قاصت تربتها السوداء في تلك السهول المنبسطة لبناً وعسلاً فأمست لا تعطي سوى غلات(81/18)
ضئيلة لا تكاد تسد عوز السكان وكثرت في حقولها النباتات الطفيلية من العوسج والأعشاب الضارة وتجردت الآكام من غابتها الغبياء بما سطى عليها من أسنان المواشي واتخذت المطار تنهال عَلَى المنحدرات لا يقف شيء في سبيلها تحمل التربة الصالحة للزرع فتؤلف منها بطائح ويتجمع كثير من هذه التربة الزكية تحملها السيول إلى خليج سلانيك بحيث لا يأتي عليه مئة سنة إلا ويطم كالحوض المطبق وانحصرت القرى في أعماق الأودية أو رؤوس الآكام المنحدرة ولم يبق في تلك الأرض مزرعة ولا بيت منفرد وأخذت الأكواخ ينضم بعضها إلى الآخر خوفاً وهلعاً.
نعم إن هاته العناصر التي ادعت المدنية هي التي تهرق دماء الأبرياء وتدعي أنها من رسل المدنية والسلام والذنب في ذلك عَلَى أوربا التي كانت بعض حكوماتها تسر حسواً في ارتقاء وتدفع البلقانيين إلى ارتكاب المنكرات من الإيقاع بالنفس والعبث بالأموال وبالعروض وقد اشترطت وربا في مؤتمر الآستانة ومؤتمر سان ستفانو أن تجرى الإصلاحات في الولايات العثمانية من قارة أوربا ولكن أي إصلاح تقوم به دولة والعدو المجاور يرسل عليها كل يوم عصابات تستبيح السفك والفتك وإن المرء ليحزن إذا أراد إحصاء ما بذلت هذه الأمة من دمائها منذ قرن فقط في سبيل بقاء الروم إيلي في أيدينا.
لما استقلت حكومات البلقان الشمالية في مؤتمر برلين لم تعط ولاية الروم إيلي الشرقية لبلغاريا لأن البلغاريين ليسوا فيها أكثرية ولكن بلغاريا خرقت هذا البند من المعاهدة وضمت إليها تلك الولاية وهكذا الآن تحدثها نفسها أن تستولي عَلَى مقدونيا أو جزء منها مع أن العنصر البلغاري هو بعض سكان هذا الإقليم إذ فيه صربيون ويونان وفلاخيون دع الأتراك والأرناؤد فمقدونية هي مزيج من عدة عناصر وليس في حقوق البشر قانون يقضي بانفصالها عنا وذلك لأن الفاتحين لتلك البلاد منذ عهد البلاسجيين قد تركوا فيها آثاراً وهذه البلاد التي نشأ فيها الإسكندر فاتح العالم قد اقتبست أموراً من اليونان ومن الرومان ومن الصقالبة ومن البلغار ومن العثمانيين لأن كل أمة حكمتها استولت عَلَى سهولها أما الجبال فكانت معاقل طبيعية لمن ارادوا الاحتفاظ من السكان بقومياتهم ولغاتهم ومن هؤلاء تألفت كتلة قامت تتناغي بعد بالاستقلال وكل أمة من أمم الطونة الأربع أي بلغاريا والصرب ورومانيا واليونان تدعي أن سكان مقدونية جزء من عناصرها مع أن لغاتهم متباينة وكذلك(81/19)
أديانهم وكل منها بذلت في سبيل الناطقين بلغتها أموالاً طائلة وعلمت تاريخا وأمجادها وأنسابها حتى انك لتجد في مناستر تاجراً ولد ألبانياً ثم تبلغراي صار بلغارياً ثم يونانياً أما الآن فهو روماني وهذا من أضحك ما سمع في التبدل. ومن خان لغة أبيه وأمه كان بالطبع خائناً للغة التي يتعلمها أيضاً ويدعي الانتساب لأهلها زوراً.
بقول كاتب الإفرنج أن الدولة العلية لم تقم بالإصلاحات التي تقررت في الولايات المقدونية ولو وفت بالوعود لما فتح سبيل لتلك الدويلات أن تطالب بشيء للبلاد المجاورة لها ولما قامت يونان تقول أن لغتها ومدنيتها هي الحاكمة المتحكمة في مقدونيا منذ عرف التاريخ ولا ادعت الصرب ولا بلغاريا ولا رومانيا مثل هذه الدعوى ولكن الموظفين العثمانيين إذا تركوا وشأنهم يهملون إصلاح حالة البلاد ونحن ما قاله صديقنا لطفي فكري بك لو قمنا من أنفسنا بالإصلاحات في الروم إيلي وطبقنا القانون الذي كنا سنناه لننفذه في أرجائها لما احتجنا إلى من يحثنا عَلَى ما يجب علينا القيام به من تلقاء أنفسنا ولكن أمراض الشرق كثيرة ومرض الإهمال أحد تلك الأدواء القتالة.
ولقد انتهت الحال سنة 1902 في مقدونية عقيب حدوث حوادث مزعجة أن بعث الباب العالي مفتشاً عَلَى الولايات الثلاث وتألفت لجنة مختلطة من خمس دول لإصلاح مالية هذه الولايات وحي بضباط إيطاليين وفرنسويين وألمان وروس وإنكليز لإصلاح سلك الجندرمة الذي طالما جلب الولايات بخلله عَلَى البلاد العثمانية فدرست اللجنة المالي الولايات الثلاث فإذا ميزانيتها سنة 1906 تبلغ 2. 680. 050 ليرة عثمانية يصرف منها 1. 480. 080 عَلَى الجندية ويصيبها 354 ألف ليرة من ديوان الدولة فلم تقدر اللجنة أن تعدل شيئاً من النفقات الحربية ونظرت في ميزانية الملكية وهي 822 ألفاً فتعذر عَلَى الدول أن يطالبن حكومتنا بتطبيق الإصلاحات العمرانية وكان من ذلك تساهل معتمديها في قبولهن زيادتنا ثلاثة في المئة عَلَى الرسوم الجمركية ولإنكلترا ستون في المئة من مجموع ما يرد للسلطنة العثمانية من الواردات فنالت بريطانيا وغيرها من الدول ذات الشأن امتيازات وتمديد مهلات ومنحت حقوقاً أخرى علاوة عَلَى مالها في الأرض العثمانية.
تمكنت الحكومة العثمانية بعد سنة 1904 من كبح جماع العصابات لأن كثيراً من رؤسائها ولاسيما البلغارية منها هلكوا في أيدي جنودنا. وهنا جيب أن يعرف أن سواد البلغاريين في(81/20)
مقدونية أكثر من غيرهم من العناصر غير المسلمة وهم أهل النشاط والحرب وثلاثة أرباع من هاجر من بلاد مقدونية إلى أميركا هم من البلغاريين والمهاجرون فيها لا يقلون عن مئة ألف. وقد اغتنوا كما اغتنى بعض السوريين ومنهم من عاد إلى بلاده فابتاع الأراضي بالثمن الباهظ ومنهم من تخلص من سلطة الأغنياء أرباب المزارع الواسعة وعمروا الدار والعقار. ولسيت الهجرة من ممالك البلقان إلى أميركا وغيرها اقل من هجرة سكان الروم إيلي حتى لقد هاجر خمسة عشر ألف يوناني من جهات وارنه في بلغارا سنة 1906 إلى أثينة وغيرها عقيب مناوشات قتل فيها أفراد من اليونانيين والبلغاريين وذلك بداعي تعيين أسقف يوناني في وارنه.
أقول عقيب مناوشات وما أحرانا أن نقول عداوات فإن اليوناني يكره البلغاري والبلغاري يكره الصربي والبلغاري يمقت الروماني والجبلي يتألم من الصربي عَلَى صورة يستغرب من قرأ تاريخهم أمس كيف يتفقون اليوم اتفاقاً مربعاً لم تخرج عنه سوى رومانيا المرتبطة مصالحها بمصالحنا وأعجب منه أن نرى روسيا عقب مؤتمر برلين بعد أن كانت في البلقان هي الكل والكل رضيت بأن تشاركها في نفوذها دولة النمسا والمجر واغرب من كل هذا أن إيطاليا والنمسا وألمانيا وروسيا وإنكلترا كلها تنادي بسلامة المملكة العثمانية وحفظ الحالة الحاضرة في البلقان مراعاة لمصالحها لأن كل واحدة تستفاد من الروم إيلي وهو في أيدي العثمانيين من حيث التجاور والأمور العمرانية والمالية أضعاف أضعاف ما تستفيد منه لو كان لا قدر الله في أيدي غيرنا من حكومات البلقان وذلك لأن القوم في أوربا يستفيدون من إهمالنا وعدم عنايتنا بالمصالح المالية بخلاف غيرنا لو كان سلطان عَلَى شبه جزيرة البلقان كلها فإنه يقطع عَلَى الماليين والمتجرين الأوربيين أرزاقهم ويحاربهم حرباً اقتصادية شعواء.
نعم تعلم الدول الست أن أهل كل عنصر من العناصر البلقانية أقوى عَلَى قلة عديدهم في التشيع لأبناهم الناطقين بلغتهم من العثمانيين بمجموعهم عَلَى كثرتهم فإن الصربي مسلماً كان أو كاثوليكياً أو أرثوذكسياً يهتم لمصلحة بلاده أكثر مما يهتم التركي أو العربي! وكأن هذا الحق خاص بشبه جزيرة البلقان إلا قليلاً فقد رأينا الأرانؤط مسلميهم مسيحييهم يدافعون يداً واحدة عن كل ما فيه سلامة وطنيتهم ولغتهم لم تفرق بينهم المذاهب والنحل(81/21)
وكذلك البلغار يتعلقون بجنسيتهم أكثر من تعلقهم بدينهم وهذا الخلق ضعيف جداً في ديارنا وما برح أهل كل نحلة يتناغون بحب بعضهم بعضاً ولو كانوا لا تجمع بينهم لغة ولا وطن ولا قرابة جنسية.
اقترحت إنكلترا لما رأت عجزاً في ميزانية الولايات المقدونية الثلاث لكثرة ما ينفق من أموالها عَلَى الحامية هناك أن ينزل عدد الحامية ليتوازى الدخل والخرج ويستطيعوا أهل الشأن إذ ذاك أن يقوموا بالإصلاح المطلوب لمقدونية ولكن الدولة العلية تعلم أكثر من كل دولة أن سلامتها في الروم أيلي معقود بناصية جيشها وأنة عهود الدول ومحالفتهن تستعمل عليها لا لها فقد ضمنت لها معاهدة باريز سلامة أملاكها من التمزق ومع هذا فقدت بعدها ولايات كثيرة ولم يقم من دول أوربا من يقول أن اقتطاع أرض عثمانية مخالف لتلك المعاهدة التي أقرتها الدول أو معتمدوها.
وإنا إذا وصمتنا أوربا بالظلم في بعض شؤونها فلا يسعها إلا أن تعدنا مظلومين عَلَى الأكثر ولاسيما فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية الحيوية من استثمار الخيرات والتجارات والصناعات في السلطنة قال بينون: لا تزال ميزانية النافعة (الأشغال العمومية) في السلطنة في حالة التكون أو كالجنين لم يتكون فالأجانب هم الذين ينشئون الخطوط الحديدية والمرافئ والأرصفة والترموايات والفنادق وهم الذين يبيعون المدرعات والنسافات والمدافع والبنادق وكل المعدات التي تلزم للجيش وهم يعنون المناجم ويؤسسون شركات الملاحة وقد اعتادوا أن يحملوا إلى البلاد العثمانية أدوات المدنية الحديثة عَلَى شرط أن يكون فيها ربح لهم وتجتهد كل حكومة في أن تنال مشاريع أكثر ثمرة من فغيرها وبذلك تنحصر منافسة الدول العظمى في الآستانة يراد بها الأعمال الاقتصادية.
ولطالما كان للمعتمدين السياسيين سماسرة من المتجرين والصانعين ولم ير غليوم الثاني حطة عليه أن يكتب إلى السلطان عبد الحميد شخصياً ليضمن طلبية كبرى للصناعة الألمانية والعثماني يدخن نارجيلته في ظل شجرة دلب قديمة. يرى هذا وهو يدهش من تكالب الغربيين عَلَى الأعمال وتنافسهم في سبيل الكسب واغتنائهم من بلاده ووضع أيديهم عَلَى مصادر ثروتها وحياتها والسلطان هو الذي يمنع هذه الامتيازات (هذا الكلام قبل الدستور) في الظاهر وهو صاحب الوقت ولا حرية له في لارفض ما يعرض عليه لأن(81/22)
للدول التي تطلب مدرعات وجنوداً تستعملاه حين الحاجة لضمانة ديونها ولاستصناع بضائع في معالمها وهي تراقب المالية وتنظر في مسائل الديون العمومية ولا يعمل شيء إلا بفضل رؤوس أموالهم وعلى أيدي مهندسيهم ولا يخضع رعاياهم بموجب قانون الامتيازات الأجنبية للقوانين العثمانية ولا يحكم في مسائلهم غير قناصلهم. وللأجانب مدارس لأولادهم ومدارس داخلية وكليات ورهبان وأطباء وإدارات بريد وبرق وليس للبوليس العثماني ولا لجابي الأموال أقل سلطة عليهم فكل واحد منهم كائن لا يمس فالسلطان يحكم ولكن الأجانب يتمتعون و1ذلك لأنهم ملوك المال اهـ.
يتمتع الأجانب في البلاد العثمانية بسعيهم الحثيث ونفوسهم التي لا تمل وأعلام دولهم التي تحميهم فبعد أن كان لفرنسا منذ القديم المقام الأول في التجارة نازعتها إنكلترا حتى استأثرت بأكثر من مجموع نصف الصادرات والواردات ثم جاء الدور لألمانيا بعد مؤتمر برلين فإن كانت هذه الدولة قد فتحت ولايتين هما الإلزاس واللورين فتحاً سياسياً فقد فتحت الولايات العثمانية فتحاً اقتصادياً فأنشأت البيوت التجارية والمصارف والمدارس ومن أهم الامتيازات التي نالتها سكة حديد بغداد تصل بين الآستانة والخليج الفارسي ولكن إنكلترا لم تغفل عن ذلك لأنها تحاذر من أن يصل أحد إلى الهند من غير طريقها وإرادتها فسلحت البادية فيما يقال بسلاح إنكليزي هندي وبعثت عيونها طول الخط الحديدي ولما لم يمد ثم انتبهت للتجارة مع العثمانية حكومة إيطاليا والنمسا وكل الدول تنازعنا بل تتنازع حياتنا الاقتصادية والمملكة العثمانية كما قال بعضهم فيها مجال لك طالب عَلَى فقرها بل إن فيها مجالاً للعثمانيين أنفسهم لو يعملون.
ولما أيقنت إنكلترا بالخطر عَلَى مصالحها في الشرق ولاسيما الهند بتهديد الألمان لخليج فارس بسكتهم الحديدية الجديدة من الآستانة إلى بغداد أرادت تأمين طريقها إلى هندها بتطويق بلاد العرب بطوق من حمايتها فأثارت أولاً مسألة تحديد التخوم بين مصر وسورية وذلك في المسألة التي عرفت بمسألة العقبة وطابة سنة 1906 فاستأثرت مصر التي هي محتلة لها بشبه جزيرة سيناء وأمنت إنكلترا من هذه الجهة وكانت قد عقدت مع فرنسا عقداً في سنة 1904 يكون إنكلترا بموجبه حرة في وادي النيل كما تكون فرنسا حرة بعملها في شمالي أفريقية وينتج من ذلك قبض فرنسا عَلَى قياد حكومة مراكش حتى أصبحت جرائد(81/23)
الفرنسيس تذكر اليوم أخبار المغرب الأقصى في باب المستعمرات كما ت1ذكر تونس والجزائر والسنغال ومدغسكر وسيام والهند الصينية. وهكذا جعلت السياسة للعقبة وطابة اسماص في التاريخ وكانت من قبل نكرة كما جعلت الحملة التي سيرتها فرنسا منذ بضع سنين من أعالي وادي النيل مثل ذلك لقرية فاشودة وانتهت بالوفاق الفرنساوي الإنكليزي وكما اشتهر بورارثو في الشرق الأقصى الذي زحزح اليابان عنه الروسيين عقيب معركة لم يسمع في التاريخ بأعظم منها زكان من ذلك أن عاد الروس أدراجهم من الشرق الأقصى واشتهرت بورارثو.
نقول طوقت إنكلترا شبه جزيرة العرب بطوق من حمايتها ومن عرف كيف أخذت مضيق باب المندب وعدن وبريم منذ القديم لا ينكر وضع حمياتها عَلَى صاحب الكويت لتدعي بعد أن حوض الخليج الفارسي إنكليزي محض كما وضعت حمايتها عَلَى أمير مسقط أهم سلاطين عمان وحمت صاحب البحرين وصاحب لحج فطوقت بذلك الجزيرة لتأمن غائلة الألمان والله أعلم ماذا يخبئ المستقبل للعراق وللشام واليمن والحجاز ونجد والجزيرة وكل هذا تسأل عنه حكومة الاستبداد الماضية التي أرادت إرضاء ألمانيا فأغضبت إنكلترا فكانت النتيجة خسارتنا عَلَى كل حال.
وكذلك الشرق يقتسمه الغرب وحكوماته تشتغل بالباطل كما حدث لجارتنا إيران فوقعت بين أيدي إنكلترا وروسيا ادعت أن هذه منطقتها من الشمال وتلك استأثرت بالجنوب وكان من اختلال الأمن في بلادها حجة توكأت عليها السياسة الحديثة كما كان كذلك في العهد الأخير من مراكش مع فرنسا.
ومن أخلاقنا معاشر الشرقيين أننا نذكر الداء عند وقوعه ولو قيل لنا أن نتخذ شيئاً من الاحتياط القليل بادئ بدء هزأنا بالمشير علينا واستسلمنا للأقدار فالأخطار فقد رأينا مثلاً فرنسا نشرت مدارسها في الشرق العثماني والمصري أي انتشار حتى كادت تدعي أن لها حق الحماية عَلَى رعاياها بعض أصقاعنا بحجة حماية أناس في الشرق وقد حذت حذوها إيطاليا فنشرت عَلَى فقرها مدارسها بأموال خصصتها لها في ميزانيتها في طرابلس وبرقة. وإن ذكر هذين القطرين ليرمض قلب كل عثماني اليوم. وفعلت مثل ذلك بعض بلاد الأرناؤد وكذلك تفعل ألمانيا في بلاد الأناضول ووادي الفرات فتنشئ اليوم مدارس ألمانية(81/24)
تحت رعاية إمبراطورها كما أنشئت في فلسطين ومثل ذلك فعلت روسيا في ديارنا وكل يوم امتيازات جديدة وحقوق علينا أكيدة.
ومنذ حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا لم تر أوربا دولتين أو ثلاث التقتا في حرب ما عدا حرب الصرب وبلغاريا سنة 1885 ونرى مصالحها تقض بينها بالسلام سلام عليهم وحرب عَلَى غيرهم. وكل مدة نسمع بعض زعمائهم وملوكهم يجتمعون ويتفاوضون سراً فلا نلبث أن نرى أزمة في إحدى بقاع الشرق لا تنحل إلا بربح جماعة المتفاوضين. نعم يشرب بعضهم نخب الآخر كما قال بينون ويتآخون ويتصافحون وهم في الحقيقة هم يجسون عَلَى الأرض ليكونوا ثقة منها فبما إذا نشبت عليها حرب حقيقية وهذه سياسة غريبة كل الغرابة في مظاهرها المتناقضة في هذا العهد وما قط كانت الحقائق العميقة مختلفة عن الظواهر التي تغشاها كل هذا الاختلاف قال: وعلينا أن لا يفوتنا أنه ربما تحدث مشاكل غير منتظرة في الشرق لأنه فيه تجد أوربا بلاداً بكراً واصقاعاً جديدة لم ترزق حتى الآن أدوات الاقتصاد الحديث فليس يرجي في أوربا الغربية والوسطى الآن حروب فتح وغلبة وليس فليس فيهما أمة تستطيع أمة تستطيع أن تربح من الأخرى ولذلك ظهرت منافستهن فيلا الأصقاع النائية وإذ كانت أوربا مغلقة في وجوههن وآسيا الشرقية لا تقبل وصاية دولة عليها بتة وأفريقية لم تأت حتى الآن بثمرة تذكر لم يبق أمام أمم أوربا غير التنازع في المملكة العثمانية عَلَى مصارف جديدة لصناعاتهم وأعمالهم وتجاراتهم.
هذه جملة حالنا مع أوربا وهي اقرب أن تكون لهجتها لهجة المتشائم لا لهجة المتفائل ومع هذا فإننا بما عرف من تاريخنا وتاريخ غيرنا من الأمم لا يزال الرجاء معقوداً في مضائنا وعقول القائمين بالأمر فينا ولا ينقصنما إلا أن نجمع عَلَى الخير كلمتنا ونجعل العلم والعمل رائدنا فليس الخطأ فيما وقع علينا من الحيف هو خطأ الحكومة فقط بل أن المحكوم عليهم مسؤولون كثيراً عن كل ضعف بدا وكل شر نجم يسألون عن تفاشلهم وتخاذلهم وعن فساد أخلاقهم وقلة نظرهم في عواقب أمرهم وثبرهم عَلَى جهلهم وادعاء المعرفة وبذلهم في التافه وكذاذة أيديهم في المآزق.
كلنا يعلم أن حياتنا السياسية مقرونة ببقاء هذه الدولة العلية العثمانية آخر مملكة قوية مستقلة من الممالك الإسلامية وإن دولتنا اليوم في بحران شديد فأين أغنياؤنا يبذلون عن(81/25)
سعة لإعانة الأمة عَلَى الأقل في كسوة أبنائنا المجاهدين في الروم أيلي بعض ما يصرفونهم عَلَى شهواتهم. إنني والله أخجل من تسطير تلك الصدرات والجوارب والأعبئة القليلة التي لم يجد ملوك المال فينا بغيرنا وقد رأينا واحدهم وثروته كلها من رقاب الفلاحين وسرقة الخزينة لا ينفق في هذا السبيل ربع ما أنفقه لاستحصال رتبة أو أخذ منصب أو مكافأة عَلَى وسام فاين هذا وأمثاله من ذاك اليوناني الذي تبرع لحكومته بأربعة ملايين فرنك تبتاع بها بارجة حربية!
إن هذا التضامن المنشود عَلَى أشده في الحكومات الأوربية والأميركية هو الذي أعوزنا اليوم فتركنا هدي كتابنا الكريم وأردنا تقليد المحدثين فصرنا كالعقعق أراد مشية الحجل فنسي مشيته ولم يحسن تقليد من يريد تقليده. إننا إذا تضامنا نضع الأشياء مواضعها وإذا تفاهمنا ننجح في تأليف أحزابنا وحزب عدونا ونأمن عَلَى مستقبلنا السياسي والاقتصادي وإلا فكل كلام ضائع وكل سعي في إنهاضنا هباء فتدبروا رحمكم الله وإياكم فليس للدهر بصاحب من لم ينظر في العواقب والسلام بعدد ما سجل التاريخ لأجدادكم من المآثر وعد لهم من الأيام الغر المحجلة فقد قيل:
الناس كالناس والأيام واحدة ... والدهر كالدهر والدنيا لمن غلبا(81/26)
مدينة كربلاء
1ً معناها اللغوي
كربلاء بالمد تطلق اسم علم لبلدة من ديار عراق العرب واقعة في البر بعيدة عن الفرات، وكانت فيما سلف اسم قطعة من أرض فيها قرية بجانبها المزارع وفي اشتقاق كلمة كربلاء آراء عديدة منها: أولاً أنها مأخوذة من كربل وهو نبات له نور أحمر مشرق يقال أنه الحماض. ثانياً إنها مشتقة من الكربلة بهاءٍ وهي الرخاوة في القدمين. وقيل ثالثاً أنها من الكربلة بمعنى المشي في الطين يقال جاء مكربلاً كأنه يمشي في الطين. وقيل رابعاً أنها من الكربلة بمعنى الخوض في الماء والخلط، وقيل خامساً أنها مأخوذة من الكربلة بمعنى تهذيب الحنطة وتنقيتها من القسطل كالغربلة ومنه نما جاء في هذا البيت:
يحملني حمرآء رسوباً للثقل ... قد غربلت وكربلت من الصقل
سادساً قال قوم: إنها حديثة الوضع مشتقة من الكرب والبلاء فحففت ونحتت وصارت كربلاء. سابعاً قيل أنها كلمة كلدانية معناها حرم الله وهذا القول أقرب إلى الصحة من غيره لأنه كان في تلك الديار معبود وله حرم فسمي باسم الهيكل. ثامناً ذكر صاحب دبستان المذاهب أن المجوس يزعمون أن لفظة كربلاء مشتقة من كلمتين فارسيتين معناهما العمل العلوي. واللفظتان هما كاربالافعربتها العرب بكربلاء وهذا رأي ضعيف وضعفه ظاهر. وهم يزعمون أنها كانت بيوت نيران ومعابد لهم في الزمن السالف، والعصر الغابر.
2ً كربلاء القديمة
ذكر لي ثقات أن كربلاء الحالية التي فيها قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما هي غير كربلاء القديمة التي كانت المزارع في ربضها حين ورود الحسين إليها بل إن كربلاء القديمة واقعة في الجنوب الشرقي من البلدة الحالية ويطلق عليها اليوم اسم كربلة بهاءٍ. وذكر آخرون أنها واقعة في الشمال الغربي من كربلاء الحالية مما يلي أرض القرطة وهي اليوم مكان مرتفع يسمى باصطلاح الناس العرقوب ويبعد موقعها عن قبر الحر بن يزيد سبعة آلاف متر، وأرضها من أملاك آل بحر العلوم وهي أسرة شريفة من كربلاء. ويستدلون بما ذكره المؤرخون في دواوين أخبارهم أن الحسين رضي الله عنه حين إقامته بأرض الطف ابتاع الأرض التي تلبي قبره من أهل نينوى والغاضرية بستين ألف درهم(81/27)
وتصدق بها عليهم وشرط أم يرشدوا إلى قبره من يزوره ثلاثة أيام ولم يذكروا أنه اشترى أرضاً تسمى كربلاء، وهو دليل واضح يشير إلى أن كربلاء كانت من أرض الطف بعيدة عن قبر الحسين.
ولهم دليل آخر وأوضح بياناً من المتقدم وهو: إنه لم يسمِّ في وقت من الأوقات سابقاً محل القبر الشريف وما اتخذ حوله من الدور والأبنية باسم كربلاء وتأييد ذلك يؤخذ من كلام علي رضي الله عنه: كأن بأوصالي يتقطعها عسلان الفوات بين نواويس وكربلا فنفى بكلامه هذا أن يكون محل قبره الشريف كربلاء بل إنها عَلَى ما يظهر خارجة عنها. ونما أطلقت لفظة كربلاء عَلَى هذه القطعة الحالية لمجاورتها للقطعة التي كانت تسميت بهذا الاسم وهي كربلة.
3ً ما يجاور كربلاء من المواطن المختلفة
وحول كربلاء مواطن مختلفة منها: الطف بالفتح والفاء مشددة. وهو في اللغة ما أشرف من أرض العرب عَلَى ريف العراق قال الحموي فيما رواه عن الأصمعي وإنما سمي طفاً لأنه دنا من الريف من قولهم خذ ما طفالك واستطف أي ما دنا وأمكن. . وقال أبو سعيد سمي الطف لأنه مشرف عَلَى العراق من أطف عَلَى الشيء بمعنى أطل وقيل إنما سمي بالطف لأنه طرف البرية مما يلي الفرات وكان يجري بجنبها، وطف الفرات ما ارتفع منه، وقيل هو الشاطئ منه، وكان في الطف عدة عيون جارية وقرى ومزارع كثيرة.
وفي حدوده مواطن منها (باخمرا) بالراء عَلَى سبعة عشر فرسخاً من الكوفة وهي التي قتل فيها إبراهيم بن عبد الله أخو صاحب النفس الزكية بأمر المنصور العباسي، ومنها السماوة قريبة من ذي قار ونضرب صفحاً عن سائر ما في حدودها ونقتصر عَلَى ما تلي حدودها وهي الفرات في شرقيها وشماليها وعين التمر التي من قراها شفاثا والقطقطانة وعين الصيد والرهيمة في جنوبيها.
وكانت أرض الطف من ديار الفرس ومسالحهم بالقطقطانة، وينصب من قلبهم الحكام عليها ثم تملكها الإسكندر المقدوني بعد محاربته ملك فارس دارا بن بهمن وتقسيمه ديارهم بين ملوك الطوائف فانتهز العرب الفرصة لما في أنفسهم من ريف العراق وكثرة خصبه واستبشروا بما وقع بين الملوك من الاختلاف وطمعوا بغلبة الأعاجم عَلَى ما يلي بلادهم(81/28)
منه أو مشاركتهم فيه، فاجتمعوا رؤساء العرب وقرروا المسير إليها وانتزاعها من أيدي أكاسرة الفرس وكان أول من سار إليها عَلَى ما ذكر الطبري الحيقار بن الحيق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس ثم سار مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم اللات، ومالك بن زهير بن فهم بن تيم اللات وغطفان بن عمرو وزهير ابن الحارث، وصبيح بن صبيح فيمن تنحى عنهم من عشائرهم وحلفائهم، ونزلوا الأنبار إلى محل الحيرة في طف الفرات وغربيه وما والاها من المظال والألخيبة، لا يسكنون بيوت المدر، ولا يجامعون أهلها فيها، واتصلت جماعتهم فيما بينها، وكانوا يسمون عرب الضاحية. فكان أول من ملك منهم عليهم مالك بن فهم إلى أن ظهر أردشير بن بابك وتغلب عَلَى سائر ملوك الطوائف وقهرهم ودان له الناس وضبط الملك واسترجع الطف من العرب وأقر جذيمة الأبرش عَلَى ما هو عليه من تملكه الحيرة وكان ملك جذيمة الأبرش عَلَى الحيرة وبشاطئ الفرات والاها بعد أبيه مالك بن فهم وفي آخر عهد الدولة الساسانية كان ينصب عَلَى أرض الطف عامل من قبل كسرى مستقل بأمره لا يتأمر عليه ملك الحيرة، وكان العامل عليها في عهد كسرى يزدجردقيس بن مسعود بن خالد وهو الذي أمره كسرى أن يعين إياس بن قبيصة الطائي عَلَى هانئ بن مسعود الشيباني وكان إياس ملكاً في الحيرة مكان النعمان بن المنذر ملكه كرى بعد قتله النعمان. وكان سبب وقوع هذه الحرب وقعة ذي قار وذلك أن كسرى طلب تركة النعمان بن المنذر من هانئ فأبي تسليمها فوقعت تلك الحرب الطاحنة كما تقدم.
وكانت قرى الطف قبل الفتح الإسلامي ضياعاً لكبار العجم، ولما ورد سعد بن أبي وقاص العراق كتب من لهم الضياع إلى كسرى وحرضوه عَلَى إرسال الجيوش لصد غارات المسلمين خوفاً من أن يستولوا عليها فسببوا حضور رستم القائد الفارسي الكبير لحرب الإسلام فوقعت بأيدي المسلمين بعد حرب القادسية والمدائن وتشتت شمل الفرس فيهما، ولما تم الأمر للمسلمين أقطعوها وإليها يشير الأقيشر الأسدي في قصيدته المشهورة:
إني يذكرني هنداً وجارتها ... بالطف صوت حمامات عَلَى نيق
نبات ماءٍ معاً بيض جآجئها ... حمر مناقرها صفر المحاليق
أبدي السقاة منهن الدهر معملة ... كأنما لونها رجع المخاريق
أفني تلادي وما جمعت من نشب ... قرع القوافيز أفواه الأباريق(81/29)
4ً ما يرادف اسم كربلاء
تعرف كربلاء أو المحل الذي فيه قبر الحسين بأسماء مختلفة منها الحائر واختلف علماء اللغة في وجه تسميته، قال ياقوت مع اللغويين: الحائر حوض يصب إليه مسيل الماء من المطار سمي بذلك لأن الماء يتحير فيها ويرجع من أقصاه إلى أدناه، وقيل أنها سمت بالحائر بعد أن أطلق المتوكل العباسي الماء عَلَى القبر الشريف فحار حول القبر، وارتفع القبر في الهواء بإذن الله، أو لأمر آخر حاصله عدم وصول الماء إلى القبر، وقيل هو المكان المطمئن فيجتمع فيه الماء فيتحير فيه ولا يخرج منه ونشاهد اليوم مصداق هذا القول من انخفاض محل القبر الشريف وما حوله من الحرم والأورقة والصحن والغرف المحيطة بالصحن والمتشرف بالزيارة إذا أراد الدخول من أي جهة شاء إلى أرض الصحن الشريف وهو الآن قد ارتفع كثيراً بالنسبة إلى ما كان عليه من الانخفاض عند بناء السراديب وفرش أرض الصحن بالرخام.
5ً موقع كربلاء الحالي
قد رأيت فيما تقدم من كلامنا ما هو موقع كربلاء في الزمن الحالي ونأتي بذكر حدودها في الزمن الحالي فنقول: كربلاء واقعة عَلَى ضفة نهر الحسينية قريبة من الدرجة 32 عرضاً ونحو الدرجة 42 طولاً من باريس، وهي في الحنوب الغربي من بغداد وعلى بعد 30 كيلومتراً منها، ويحدها من الشمال الشرقي مدينة بغداد، ومن الشرق الجنوبي مدينة الحلة أو خرائب بابل القديمة، ومن الجنوب والغرب بر الشام. وهي تعد من أمها مدن العراق لكثرة نفوسها واتساع تجارتها، وخطورة مركزها، والذي أذاع شهرتها الحالية فطبق الخافقين وجود قبر ريحانة الرسول وأخيه وإذ يأتي لزيارة هذه الأماكن المشرفة كثير من المسلمين من كل حدب وصوب، فيزرونها كل عام، كما يزورون البيت الحرام، وهي الآن تعد مركز لواء يقسم إلى عدة أقضية ونواحٍ وقرى.
6ً مساحتها ونفوسها وتقسيماتها
تقدر مساحة لواء كربلاء بـ 23000 كيلومتر مربع، وأرضها خالية من الجبال والآكام، قليلة الغابات، كثيرة العيون الينابيع، وهي بلدة متموجة بالسكان يبلغ عدد سكانها 75000 ألف نسمة منها 20 ألفاً من العثمانيين و40 ألفاً من الإيرانيين وبعض الأجانب مختلفي(81/30)
العناصر، و15 ألفاً من الزوار والغرباء الوافدين من ديار قاصية، وربوع نائية، كديار العجم والهند والأفغان وكورقاف (قفقاسية) وفيها عدد قليل من اليهود وليس فيها نصارى، وهذا كبير بالنسبة لمدينة من مدن العراق ككربلاء، ولكن هذا ربما زاد إلى ضعفيه أيام الزيارات في شهر ذي الحجة المحرم فإنك ترى أزقتها ضيقة عَلَى اتساعها، وفنادقها الكثيرة مملوءة بأخلاط الناس.
ويقسم لواء كربلاء إدارياً إلى ثلاثة أقضية وهي مركز قضاء كربلاء والهندية والنجف، وإلى سبع نواحٍ، وهي ثلاثة منها في مركز القضاء وأسماؤها: المسيب والرحالية وشفاثا، وواحدة في الهندية وهي الكفل. وأربع في النجف وهي: الكوفة. والرحبة. والتاجية. وهور الدخن.
7ً زراعتها وتجارتها ووارداتها
أرض كربلاء خصبة للغاية. وتمتاز عن كثير من أراضي العراق بكثرة ينابيعها. وزراعتها متقدمة بعض التقدم إلا أنها ويا للأسف لم تزل عَلَى النمط القديم. وبدون أصول علمية. وتقدر الأرض المزروعة في كربلاء بـ 336569 فدانً. وحاصلاتها عبارة عن القمح والشعير والعدس والذرة والأرز وفي كربلاء بساتين كثيرة فيها النخيل. وأهلها يعنون عناية عظيمة بزراعته وهم خبيرون بما يعودون عليه بالجودة ونمو الثمر. والتمر عندهم من المعايش الثانوية بعد القمح. وليس فيه شيء إلا وله منفعة واستعمال عندهم. وقد بلغ من عنايتهم بالنخل أن طول جذع النخلة في بعض بساتينهم ربما تجاوز 68 قدماً وطول سعفها اثنتي عشرة قدماً. وجاء في الإحصائيات الأخيرة الرسمية أن غلة التمر في لواء كربلاء تقدر سنوياً بثلاثين ألف طن. وهي كمية وافرة تدل عَلَى ما وصلت وهي كمية وافرة تدل عَلَى ما وصلت إليه كربلاء من الرقي والتقدم المادي في عالم الزراعة.
وحيواناتها الأهلية كثيرة. ويولد في كربلاء كل سنة من البقر 42000 ومن الجاموس 20000 ومن الخيل 15000 ومن الحمير 18000 ومن البغال 16000 ومن الجمال20000 ومن الأغنام وسائر الماشية 500000 والمحصولات عَلَى كثرتها لا تكاد تسد عوز السكان لكثرة المختلفين إليها.
وأما تجارتها فخطيرة جداً وواسعة ممتدة إلى سائر الجهات العرقية. ولها علاقة تجارية(81/31)
بإيران. ومما يزيد امتداد تجارتها واتساعها وجود كثير من الإيرانيين والهنديين. ومن أهالي ما وراء النهر الذين اتخذوا كربلاء موطناً لهم يجلبون إليها بضائع وأموالاً من بلادهم ويأخذون بدلها من حاصلات كربلاء ويرسلونها إلى ديارهم ومن أجل ذلك ترى أسواق كربلاء مشحونة ببدائع الصنائع ونفائس المنسوجات وأغلبها فارسية. ويباع في أسواقها من السجاد الثمين البديع الصنع ما لا يباع نصفه في بغداد. وترى في حوانيتها الزعفران الفاخر الخالص من كل شائبة وغش مما لا تجد مثله في أغلب المدن العراقية.
وتختلف واردات كربلاء مع توابعها بين 45 ألف و70 ألف ليرة عثمانية. ونفقاتها لا تتجاوز 7 آلاف ليرة. ولو عنيت الحكومة بإرسال موظفين عارفين لغة أهلب البلاد غيورين عَلَى مصالح الدولة. وأسرعت فأنجزت أعمال سدة الهندية وشقت الجداول وحفرت الأنهار القديمة المندرسة. وعاملت الفلاح بالرفق واللين وصانت حاصلاته من كل أذى لازداد دخل الخزينة وتضاعفت وارداتها ولما احتاجت في السنوات الأخيرة إلى أن تمد يد العوز إلى الغرب.
8ً هواؤها وأنهارها
يختلف هواء كربلاء باختلاف فصول السنة. ولا يختلف كثيراً عن سائر مدن العراق والحر والبرد شديدان في كربلاء ولكنهما في بعض الأحايين يابسان. وأحياناً تشتد وطأة الشتاء. وربما نزلت الحرارة إلى 8 درجات في المدينة و16 في البرية. ويشتد الحر كل سنة حتى تبلغ 48 درجة في الظل. وكان قبل نصف قرن يبلغ 50 درجة إلا أنه كان يحتمل بعض الاحتمال إذا كان يابساً والهواء غربياً أو شمالياً. أما إذا كان شرقياً فتضيق الأنفس وتحرج الصدور. ويشتهي السكان سكن القبور. ويقتل الحر كل سنة عدة أناس بأمراض مختلفة تتولد من حمارة القيظ. ومما تقدم تعلم أن هواء كربلاء ردئ جداً في فصلي الشتاء والصيف. أما في فصلي الربيع والخريف فمعتدل للغاية.
ليس في كربلاء نهر يعتمد عليه غير الحسينية (بالتصغير). وهذا قد حفره السلطان العثماني سليمان خان القانوني سنة941 هـ 1534م لما افتتح بغداد وكان أهل كربلاء يشربون مياه الآبار قبل حفر الحسينية لبعدها عن الفرات. وامتداد الحسينية سبع ساعات أو 35 كيلومتراً وصدره من نهر الفرات عَلَى بعد 3 كيلومترات من جنوبي ناحية المسيب.(81/32)
ويصب ماؤه في بطيحة (أبو دبس) عَلَى بعد أربع ساعات من جنوبي غربي كربلاء وتنضب مياه الحسينية في القيظ. فتحرج الصدور وتضيق الأنفس. ويغلو ثمن الماء ويضطر الأغنياء إلى جلب الماء من أماكن بعيدة وأما الفقراء فيحفرون الآبار. ويشربون مياهها فتتولد الأمراض. وتفشوا بينهم فشواً ذريعاً. وتفتك بالنفوس. والأشهر التي ينضب في أثنائها ماء الحسينية هي: حزيران. تموز. آب. أيلول. وسبب ذلك أن الحكومة أهملت أمر هذا النهر وتهاونت في كري مجراه بادئ بدءٍ حتى استفحل الخطر ويخشى من انقطاع المياه طول فصول السنة.
9ً وصف كربلاء وعمرانها
كربلاء مدينة واسعة الرجاء حافلة الأسواق. كثيرة المساجد. منظرها بهيج يسر الناظرين. وموقعها يوقف الأبصار. لها سور خرب كان أقيم لحفظها من غارات الأعراب بعد وقعة الوهابية ثم هدمه والي بغداد نجيب باشا سنة 1258هـ و1842م بأن سلط المدافع عليه من الجهة الشرقية عَلَى أثر ما وقع في كربلاء من الفتن في ذلك العهد. وإذا أتيتها وأنت قادم من النجف أو المسيب يذهب ببصرك نور مآذنها وقباب جوامعها المغشاة بصفائح من الذهب الإبريز. وتدهشك ساعاتها المبنية عَلَى بروج شاهقة ترى من مكان بعيد.
وكربلاء تقسمك إلى قسمين عتيق وجديدة. فالعتيق ضيقة الأزقة تكثر فيها التعاريج لا يتجاوز عرضها المترين. وبناؤها عَلَى الطراز القديم. وشوارعها مملوءة أوساخاً وأقذاراً ودورها عَلَى غير نظام. إلا أن ما يباع في أسواقها بديع الصنع. ونفيس الطرز. وأكثر سكانها إيرانيون وبينهم عدد قليل من مختلفي العناصر. وأما القسم الجديد. فاسواقه عريضة وشوارعه فسيحة عَلَى خط مستقيم تجري فيها الرياح جرياً طلقاً لا حائل يحول دونها. وليس فيها تعاريج. ويخترق هذا القسم عرضاً خمس جادات وطولاً أربع متصلة بعضها ببعض ويختلف عرض أزقتها بين 16 و18 متراً وطولها بين 200 و250 متراً عَلَى شكل هندسي جميل. وهناك ساحة تعرف بساحة الميدان تنار بروح الزيت الحجري ويوجد في وسطها بناء أقيم تذكاراً للحرية. وفي هذا القسم دوائر البلدية والبرق والبريد. وبيوت الكبار والأشراف وعمال الحكومة. وسائر الطرق تنار بالقناديل والمصابيح ذات الزيت الحجري.(81/33)
وفي كربلاء مستشفى فخم ذو بناء شامخ يناطح السحاب محفوف بالأوراد والأزهار من جميع جهاته ومنظره بهيج يأخذ بمجامع القلوب صرف عَلَى بنائه 5000 ليرة ولم يكمل بعد. وفيها دار حكومة حسنة مشيدة الأركان. وثكنة قوية للجند ودائرة بلدية. وقنصلية إنكليزية وروسية وإيرانية ووكلاء مسلمون. ومدارس دينية كثيرة ومدرستان ابتدائيتان إحداهما للهنود والأخرى للإيرانيين فيهما ما يناهز 150 طالباً ويصرف عليهما من جيوب أهل الفضل. ومدرسة ابتدائية وأخرى من نوع الرشدي. يصرف عليهما من واردات الحكومة. وفيها كتاتيب عددها زهاء 50 يتردد إليها ما يناهز ألف صغير يتعلمون مبادئ القراءة والخط. وفيها جامعان كبيران فخمان أحدهما يسمى جامع الحسين. والآخر جامع العباس. وهما أهم ما في كربلاء من الآثار وسيأتي ذكرهما مع تاريخ بنائهما ووصفهما في فصول خاصة ننشرها في أجزاء مقبلة:
بغداد
إبراهيم حلمي.(81/34)
رحلة إلى المدينة المنورة
تتمة ما في الجزء السابع
في مدينة الرسول
ماذا يرجى لراكب القطار الحديدي أن يراه ليصفه والقطار يسرع في سيره مواصلاً الليل بالنهار وكل بقعة من البقاع بين دمشق عاصمة الإسلام الثانية ويثرب عاصمة الإسلام الأولى تحتاج إلى عدة علماء يتوافرون عَلَى دراسة ما فيها من الآثار العادية والتاريخية والطبقات الأرضية والأحداث الجوية والمواليد الثلاثة الطبيعية أو المملكة النباتية والحيوانية والجمادية ولكن عابر سبيل يمر كالسهم لا يطالب بمثل ما يطالب به الباحث محققاً مدققاً فمعذرة إلى من يتوقعون منا أن يروا في رحلتنا هذه فائدة تخرج عن حد ما وقع عليه النظر في أيام معدودة.
ركبنا من محطة القطرانة في الكيلومتر 326 إلى المدينة فوقف بنا القطار ساعات في المحطات الكبرى وهي معان في الكيلومتر 489 وتبوك في الكيلومتر 692 ومدائن صالح في الكيلومتر 955 ثم المدينة في الكيلومتر 1303 وكانت المناظر تختلف علينا اختلاف الأهوية وكلما تقدمنا نحو الحجاز نشعر بالحرارة. وكان الوقت شهر آذار والطريق التي سلكها الخط الحجازي غريبة تدل عَلَى حذق في الهندسة وتفنن وهي لا تبعد كثيراً عن الطريق التي يسلكها الراكب الشامي مدة ثلاثة عشر قرناً فيما نعلم اللهم إلا ما اقتضته الهندسة من التعاريج كما شاهدنا ذلك في المحل المسمى ببطن الغول وغيره.
والجبال غريبة التكوين في الطريق من بعد تبوك فبعضها هرمي الشكل والآخر أسطواني وبعض متساوي الأضلاع وآخر زاوية منفرجة أو حادة أو قائمة جعلت في بسائط منظمة منفرجة تسير ساعات بل أياماً بسير الجمال ولا ترى إلا رمالاً وصخوراً وليس من الغابات إلا الهشيم (الهيش) في بعض الأصقاع أو السلم والسمر وهما أكثر شجر الحجاز. والجبال مصهورة حمراء أو كما قال البكري (معجم ما استعجم) في وصف الجبال بين مكة والمدينة أنها كلها تضرب إلى الحمرة تنبت الغرب والغضور والثمام.
وإن المرء لتحدثه نفسه وهو يطوي البيد طي السجل للكتاب من دمشق إلى المدينة كيف كان الحجاج قبل السكة الحديدية يقطعون هذه الأودية والتلول والجبال والحرات والبرقات(81/35)
في ثلاثين يوماً عَلَى الجمال والبغال والخيول من يتعب وهو راكب في القطار الحديدي ثلاثة أيام كان حرياً بان يهلك عَلَى ظهور المطايا أو في المحفات والهوادج والمحارات ثلاثين يوماً يضاف إليها عشرة أخرى من المدينة إلى مكة ولكن هي العادة تسهل الأشياء والتعب ينال الراكب في الأيام الأولى ثم يدمن ويمرن.
أعلى نقطة في هذا الطريق اليوم العقبة تعلو 1153 متراً عن سطح البحر والمطالع تعلو 1142 متراً وفي بعض هذه الرمال يمكن إنباط المياه وفي بعضها مياه يستقي منها العرب الرحالة هنا وأبناء السبيل فإن عشيرة الفقراء ومنازلها من تبوك إلى مدائن صالح لا تقل عن ثمانمائة بيت وقبيلة بني عطية تنزل من المدور إلى المعضم وهي تزيد عن ألفي بيتفلو صرفت عناية الحكومة إلى إسكان هاتينم العشيرتين وإعطائهما الأراضي مجاناً والصالح منها للزراعة كثير لما أتت بضع سنين إلا ودخلت هذه الموامي والمغارات في دور عمران تغني ساكنيها عن شن الغارات أو مد الأكف لأبناء السبيل في أستوكاف الصدقات.
ومن آسف ما رأيناه في الخط الحديدي ولاسيما بعد بلاد الشام أن الأولاد والبنات والرجال والنساء يأتون يلتقطون ما تجود به أكف الراكبين من الخبز والأدم يلتهمونه التهاماً وقد كان يقتلهم الجوع كما صهرت شمس الحجاز أبدانهم وإنك إذا أعطيتهم نقوداً لا ترضيهم بمثل ما يرضون بكسرات من الخبز القفار. فكأن القفار لا ينفع فيها إلا الخبز القفار. وعندنا أن أعظم صدقة يتصدق بها قاصدو البقاع الطاهرة في السكة الحجازية أن يحملوا معهم ما تسمح به نفوسهم من الخبز والأدم يوزعونه في المحطات عَلَى هؤلاء المجاويع المدقعين وذلك ريثما تصح عزيمة ولاة الأمر عَلَى تهيئة أسباب المعاش لهم.
ليس من الرأي السديد أن يعلم شعب أو أكثره عَلَى الشحاذة بل أن يعود العمل والاعتماد عَلَى النفس ولكن أرضاً لم تشفق عليها سماؤها حرية بأن يكون لأبنائها عناية من حكومتها فإن معظم ما نسمع به من الغزوات والغارات منبعث عن جوع مذيب والجوع كافر. فيساق الغازون إلى الموت أو ينالون ما يتبلغون به لسد رمقهم. وكل من قطع الطريق من مكة فالمدينة فدمشق يحدثك من فقر عرب تلك الأنحاء ما هو العجيب العجاب أو من الغريب أن الحكومة العثمانية لم تفكر حتى اليوم في إحداث موارد للرزق يعيش عليها عرب الحرمين(81/36)
وغيرهم ممن أرمضت نفوسهم القلة.
وإذا كان بعض قبائل الحرمين يعيشون بأجور الجمال بإكرائها في موسم الحج للحجاج بين جدة ومكة وبين هذه والمدينة تعذر تمديد الخط الحجازي من المدينة إلى مكة الآن أو تفتح الحكومة موارد جديدة يعيش منها عشرات الألوف من أهل البادية تعيضهم عن العيش من كري جمالهم في الجملة وما يتصوره بعض عمال الدولة ممن قضوا سنين في نجد والحجاز من أن العرب لا يتحضرون إلا إذا أهلكت جمالهم برمتها فيضطرون إلى السكنى ويكفون عن الغزو فهو كلام لم يراع به قائله حالة العمران والمكان وكيف يتخلى الأعراب عن تربية الأنعام وهي تدر عليهم رزقاً يسدون به حاجاتهم يستثمرون ألبانها وصوفها وشحمها وجلدها وعظامها ويبيعون حوارها وما يكبر من نياقها وجمالها. ومصر وحدها تبتاع من جمال الجزيرة العربية كل سنة ما لا يقل عن مئة ألف ليرة.
في الحجاز منافع كثيرة غفلت عنها الحكومة فلم تعرف حتى الآن غير إرهاف الحد وعندي إنها لو استعاضت مثلاً عن بناء اثنتي عشرة ثكنة من العلا إلى المدينة التي صرفت عليها 184 ألف ليرة ببعض حقول تنشئها لأعراب تلك الأنحاء وطرق للكسب توجدها لهم ومدارس ساذجة تعلم فيها بنيهم وبناتهم موجزات تنفعهم في دينهم ودنياهم لأحسن صنعاً.
ولا يستهان بعدد السكان هنا فإن جهينة وبلي والحويطات لا تقل عن سبعين ألف رجل وأكبر قبائل المدينة حرب وهي خمسون ألفاً ففي الوجهة وينبع والعلا والعقبة من أعمال المدينة مائتا ألف محارب كما قدر بعض العارفين وفي قضاء السوارقية عرب مطير وهتيم. وهتيم بقد مطير في العدد والمدد. وحدود المدينة تمتد إلى الفرع من جهة مكة وسكانها بادية كلهم وفيها قرى واسعة وقرى جوار المدينة اثنتا عشرة قرية. والفرع لا تحكمها مكة ولا المدينة وقوتهم كلهم الأرز الهندي والدقيق والتمر واللبن والأقط وأقل العرب واشرهم في أطراف هتيم ومطير. ومع كل ما في هذا القطر من الفقر تصدر منه بعض الحاصلات كالجلد والصمغ والتمر والأغنام والجمال والخيل والصوف والسمن ولو مد الخط الحجازي إلى مكة فالبحر الأحمر ومن مكة إلى صنعاء اليمن لتضاعفت صادرات الحجاز واليمن والشام ووارداتها وأمكن الناس ولاسيما الحجاج الخلاص من عاديات البدو بين الحرمين وزاد عدد الحاجين كل سنة ثلاثة أو أربعة أضعاف عددهم الآن.(81/37)
نقول عرب الحرمين هم كالسائمة أشرار منذ القديم عَلَى ما أنبأنا التاريخ ظلوا عَلَى جاهليتهم الأولى لم يلطف الإسلام من شرتهم إلا قليلاً فهم يحاولون بكل ممكن أن يحولوا دون تمديد الخط أو تجعل لهم مرتبات سنوية يتقاضونها ويأمنون تقاضيها عَلَى الدهر وهي لا تقل مسانهة عن ربع مليون جنيه والعقل يعذرهم فيما لا يأتون لأن من يدافع عن رزقه يعذر والحكومة وهي الوصية الطبيعية عَلَى الضعفاء حتى يقووا مضطرة بحكم الشرائع أن تنظر في حياة أبنائها لا وأن تهلكهم جوعاً وعرياً وتعفي فقيرهم وغنيهم كما هي الآن من الجندية ودفع شيءٍ من الضرائب ولو كانت تأخذ من الموسرين لتفضل عَلَى المعسرين لحمدت خطتها أكثر.
يعيش كثير من سكان المدينة ومكة من الصدقات والأوقاف ورواتب الحكومة وربما غالى بعضهم في هذا الاتكال ولكن كيف السبيل وتجارة بلادهم ضعيفة لا تروج إلا أياماً مخصوصة من السنة في موسم الحج وتكاد زراعتهم تنحصر في بعض البساتين الضئيل ريعها التي تروى من مياه الآبار بالدلاء ثم أن العلوم التي تبعث الهمم عَلَى الأعمال الاقتصادية مفقودة في بلادهم لندرة من يعرفها منهم وبلادهم لا يدخلها إلا المسلمون وربما كان فيمن يزورونها طبقات راقية ولاسيما الهنود والمصريون ولكنهم لا يطيلون مقامهم إلا بقدر ما يزورون أو يجيء الراقون منهم ولا عمل لهم إلا التجرد عن الدنيا لا يخالطون ولا يعاشرون.
لا جرم أن سكة الحجاز قد نفعت سكان يثرب كمما نفعت سكان دمشق لأن الزوار كثر عددهم عَلَى طوال السنة والتجارة دب فيها روح جديدة في الجملة والاختلاط بالأمم نبه أفكار سكان طيبة الأصليين إلى قصورهم في ميدان العلم والتعلم. نقول السكان الأصليون وعددهم لا يكاد يبلغ ثمن السكان والباقون شاميون ومصريون ونجديون وعراقيون وتركيون وجاويون ويمانيون وزنجباريون وسودانيون وجزائريون وتونسيون ومراكشيون وسنغاليون وصينيون وهنديون وقفقاسيون وطاغستانيون وجراكسة وأكراد وكرجيون وغيرانيون وأفغانيون وبخايون وبلوجستانيون وغيرهم من شعوب الإسلام يأتون هذه البلدة الطيبة ينقطعون فيها للعبادة في مسجد خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
للمسلمين معرضان دينيان مهمان أحدهما وهو الأكبر في جبل عرفات كل سنة مرة والآخر(81/38)
مسجدي مكة ويثرب طول السنة ولذلمك تسمع فيها كل اللغات في آسيا وأفريقية وترى فيها كل السحنات من أبيض وأحمر وأصفر وأسود ممن تفرع من الجنسين الآري والسامي ولذلك نجد المدينة المنورة أقرب إلى أن تكون برج بابل لاختلاط اللغات والسحنات والعادات منها إلى أن تكون عربية وهي بلد النبي العربي وفي صميم بلاد العرب. والمدينة بطبيعتها تشبه إحدى مدن الأرياف في مصر لأن نحو ربع سكانها مصريون صعايدة ونصف الربع مغاربة والباقون مجنسون عَلَى ما يخمن المخمنون لا عَلَى ما يحصي العادون لأن البلاد العثمانية كلها ليس فيها إحصاء يعتمد عليه بل كثير من أصقاعها ليس له إحصاءٌ بالمرة كالحجاز مثلاً. كنت أؤمل أن أرى عناية الحكومة بالمدينة وهي مهبط أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أكثر من عنايتها الآن إذا صحة إثبات شيءٍ من العناية لها هنا ومن الأسف أنها لا تقدر هذا الامتياز المعنوي العظيم الذي تتمتع به دولة الخلافة العظمى صاحبة الحرمين الشريفين ولو قدرته حقيقة لذلت كل ما عز وهان في سبيل عمران البلدين الطيبين ولما استطاعت نظارة الأوقاف فيما بلغنا أن تلتهم أوقاف الحرمين عَلَى كثرتها وهي لا تقل عن 17 ألف ليرة في الشهر لا يصرف منها عَلَى الحرم النبوي كل سنة أكثر من خمسة آلاف ليرة لأن الأئمة والخطباء والمؤذنين ليس لهم من الرواتب ما يكفيهم فقد تجد الواحد يتناول راتباً قدره ريالان ونصف في الشهر!
وليس معنى هذا أن تصرف كل هذه الأوقاف رواتب للأئمة والخطباء والمطوفين والمزورين والناظرين والمؤذنين بل يصرف قسم منها عَلَى عشرات منهم تكفيهم ذل الطلب ويصرف الباقي في مرافق الحرمين الشريفين ثم عَلَى تزيين البلدين وفتح الشوارع والجادات فيها وجلب المياه وتوزيعها في مناهل وغرس الحدائق وإنشاء المتنزهات والساحات فمن أعظم ما شهدناه أن لا يكون في طيبة سوى شجيرات مع أنه كان عَلَى الحكومة لو غرست كل سنة عشرين شجرة أن يصبح لديها منها ألوف تحسن الهواء ويكون منها مورد يصرف في مرافق المدينة وكل حكومة تريد العمران لا يصعب عليها تحقيقه مهما حاربها الجو وما طبيعة هواء المدينة بأصعب من طبيعة عدن ومع هذا أصبحت عدن بحكومتها جنة عدن بعد أن كانت جحيماً تعوذ من نزولها كل سائح منذ عرف التاريخ.(81/39)
تقول العمران: وما أحرانا أن نقول الأمن والأمان أولاً لأنه هو أول ما تطالب به الحكومة فقد شهدنا الحامية وافرة جداً في المدينة بالنسبة لسائر المدن العثمانية ومع هذا ترى اللصوص وقطاع الطريق يسلبون وربما يقتلون كل من يصادفونه خارج السور ليلاً وأحياناً نهاراً. ولقد كنت نازلاً في الفندق الوحيد الكبير الذي بناه أحد الوطنيين خارج سور بالحجر السود طبقات كلف نحو عشرين ألف ليرة وهو عَلَى قيد غلوة من سور البلدة أقضي عند بعض الأحباب إلى أول الهزيع الثاني من الليل ومع أن الحكومة الاتحادية كانت أصحبتني بدون طلب مني شرطيين يراقبان أعمالي إرساباً لي فإن أصحابي كانوا يتكفلون إيصال ي إلى النزل كل ليلة خوفاً من اللصوص أما أنا فكنت أعد الخطب سهلاً مع قطاع السابلة أكثر من الخطب بأولئك اللصوص الطغام في صور حكام ومن يكتفي بالمال والمتاع ويعفو عن قطع الأعناق لا يسوءك بقدر من يسرق ويقتل. القتل أنواع ومنه القتل المعنوي الذي ارتكبته عصابات الهول والإرهاب وبلغت بها أنقحة في استعماله حتى في البلد الطاهر في حين من دخله كان آمناً.
نعم إنني لا أعجب لتراخي الحكومة هناك في تقرير الأمن في نصابه فإن احتلال أسباب الراحة قضت عَلَى صاحب كل عربة نقل للحجارة يدفع خوة أو باجاً للصوص الأعراب الذين يستوفون خوة أيضاً من بساتين المدينة ما خلا بساتين كبار الأشراف. وهذه المساءل المحسوسة لا يجرأ أحد من أهل المدينة أن يكتبها في الصحف أو يرفعا إلى المقامات العليا لأن طواغيت الحكومة هناك هم لا يعدمون أنصاراً من الأهلين المنافقين يرهقون الكاتب ويختلقون عليه الزور للإيقاع به إذا شُهروا. ومن أغرب ما تحققت أن الحكومة قلما ترسل محافظاً للمدينة ممن ترضي سجاياهم في الجملة بل أن معظمهم عَلَى شاكلة بصري وعثمان: شدة في غير موضعها وعدم معرفة بالأمور الإدارية وأشياء ليس هذا محل سرودها.
تأملت كثيراً في مسجد الرسول أثناء الصلوات وغيرها فما رأيت خشوعاً من جميع من يختلفون إلى الحضرة النبوية الشريفة ولاسيما من غير الناطقين بالعربية فقلت في نفسي - وقد سمعت خطبة الجمعة وهي لا تخرج عن حد التزهيد في العمل والإعراض عن الدنيا كسائر خطب الجوامع في بلاد الإسلام خلافاً لما كانت عليه سنة السلف الصالح ولكن لبس(81/40)
الإسلام لبس الفرو مقلوباً كما قال علي كرم الله وجهه فوارحمتاه لغربة الإسلام ـ
هو أدار هذه القوة المعنوية رجال دين سليم وعقل راجح لكانت فوائد هذا الاجتماع من حيث الدين والمدنية أضعاف أضعاف فوائده اليوم فكما أرسل عليه الصلاة والسلام شعاعاً من نور حكمته قلب به العالم وغير بشريعته الطاهرة نظام الأمم هكذا يحمل دعاة دينه والمؤتمنون عَلَى تراثه سياسة المهتدين بهديه ما تستنير به العقول في هذا المجمع الجامع ويعم ضياؤه سكان الخافقين وهذا من القوى المهمة التي أضعفناها وكم ضاعت في بلادنا مواهب وقوى.
لم أشهد في المدينة عناية بأمور النظافة والإسلام جعلها من أولى الفروض فإن في المدينة عشرات من التكايا والزوايا منها نحو 25 تكية للبنود فقط كلها تحتاج لإشراف رجال الصحة وكذلك الحال في المستشفيات. أما المدارس والكتاتيب فهي تشبه بضعفها سائر فروع الأعمال واللغة العربية لا تكاد تجد لها من العناية في المدارس الأميرية نصف ما لها في مدارس لبنان الأهلية! فكأننا أبت الأقدار إلا أن نكون حتى في بلادنا غرباء. ويكفي أن يقال من جملة التمثيل في هذا الباب أن الورق الروسي والروبيات الإنكليزية معمول بها في المدينة أكثر من النقود العثمانية.
وأهم خزائن الكتب في المدينة خزانتان مكتبة السلطان محمود العثماني ومخطوطاتها ومطبوعاتها تافهة لا شأن لها وأكثرها من المشهور ونظامها وسط. وأحسنها وربما كانت خير مكتبة في البلاد العثمانية كلها بنظامها وانتقاء أمهاتها في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت أفندي ففيها نحو عشرة آلاف مجلد كتبت بخطوط المشهورين من الخطاطين كأن تجد الكتاب ذا العشرين جلداً مكتوب بخط مشرق بديع في مجلد أو مجلدين وفي هذه المكتبة من التسهيل من المطالعين والعناية براحتهم ما لا تكاد تجد مثله في دار الكتب الخديوية بمصر لعهدنا وما ذلك إلا لكثرة ريعها وإنفاقه في سبله واختياره القيمين عليها وإدرار المشاهرات الكافية عليهم.
وبعد فإن مسجد الرسول عَلَى كثرة عناية ملوك الإسلام بأمره في كل دولة وحكومة ليس من السعة وجودة البنيان بأكثر من جامع السلطان أحمد أو آيا صوفية من جوامع الآستانة وإن كان يشبههما في طراز بنائهما فهو أقل سعة من جامع الأزهر بالقاهرة والجامع(81/41)
الأموي بدمشق كان هذا المسجد الشريف والمسلمون قليل عددهم لا يتجاوزون عشرات الألوف ثم كبره بعض الملوك بحسب ما اقتضت الحال ولو نظرنا اليوم إلى عدد المسلمين وهم لا يقلون عن 250 مليوناً وعددنا من يحج ويزور منهم كل سنة لأقضى لا أن نجعل سعة الحرم المدني أربعة أضعاف ما هو الآن عَلَى الأقل ونزينه بجميع أسباب المدنية الحديثة التي لا يحرمها الشرع ولا تنم عن إسراف.
قال ابن قتيبة في المعارف: روى إبراهيم بن صالح عن سعد بن كسيان عن نافع أن عبد الله بن علي أخبره أن المسجد يعني مسجد المدينة كان عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً بلبن وسقفه الجريد وعمدوه خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً وزاد فيه عمر ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة وبالفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ووسعه المهدي سنة ستين ومائة وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسعه والمؤذنون فيه من ولد سعد القرظ مولي عمار بن ياسر وقرأت عَلَى موضع زيارة المأمون أمر عبد الله عبد الله بعمارة مسجد رسول الله سنة اثنتين ومائتين طلب ثواب الله وطلب جزاء الله وطلب كرامة الله فإن عنده ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً أمر عبد الله عبد الله بتقوى الله ومراقبته وبصلة الرحم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عيه وسلم وتعظين ما صغر الجبابرة من حقوق الله وإحياء من أماتوا من العدل وتصغير ما عظموا من العدوان والجور وأن يطاع الله ويطاع من أطاع الله ويعصى من عصى الله فإن لا طاعة لمخلق في معصية الله والتسوية بينهم في فيئهم ووضع الأخماس مواضعها.(81/42)
معجم ما استعجم
المؤلفات كالأشخاص منها ما يخادنه السعد فيشتهر وتتداوله الأيدي الجيل وبع الجيل والقرن بعد الآخر ومنها ما ينسى ولا يظهر ومنها ما بينَ بين. وكتاب معجم ما استعجم لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن أبي مصعب البكري الوزير هو من الطكتب التي عزت قبل الطباعة وبعدها لقلة ما استنسخ منها فيلا عصر مؤلفها وبعده في الغالب حتى أن ياقوتاً الرومي في معجم البلدان قال أن لأبي عبيد كتاب المسالك والممالك (ولعله مطبوع) وكتاب معجم ما استعجم من أسماء البقاع ولم أره بعد البحث عنه والتطلب له. ولكن ما عز عَلَى المتقدم تهيأ للمتأخر فإن إبراهيم الجنيني من أهل دمشق أكمل نسخ هذا الكتاب الممتع سنة 1100 في دمشق وكان أكمل الجزء الثاني سنة 1095 إذ لم يجد الأول ثم بلغه أن في مكة منه عند الشيخ حسن بن العجيمي وبعد ثلاث سنين أرسل له هذا أنه جءا مع رجل نسخة من مصر فنسخها وبعثها لصاحبه الدمشقي فأكمل نسخته وهذه النسخة بعينها هي التي نقلت من جملة ألوف كتب العلم في دمشق عاصمة الشام وعمرت بها مكاتب ألمانيا منذ منتصف القرن الماضي إذ كان القوم هنا لا يحرصون عَلَى غير الدينيات واللسانيات من الأسفار.
ولقد قيض الله لنشر هذا المصنف البديع عالماً من علماء المشرقيات من الألمان الأستاذ وستنفليد شيخ اللغة العربية في عصره المتوفى سنة 1899 فنشره كما نشر معجم البلدان لياقوت ونشر نحو مائتي كتاب من كتب المسلمين في التاريخ والجغرافيا والنسب وغيرها مثل طبقات الحفاظ للذهبي والاشتقاق لابن دريد وسيرة ابن هشام والأنساب للسمعاني والمشترك وضعاً والمختلف صقعاً لياقوت وعجائب المخلوقات وآثار البلاد للقزويني ووفيات الأعيان لابن خلكان فاستحق شكر الأمة العربية بل الآداب العربية كما استحق ذلك الأستاذ دي كوي الهولاندي الذي طبع ثمانية تآليف في الجغرافيا لأئمة هذا الشأن من الأقدمين وسماها المكتبة الجغرافية العربية.
وأبو عبيد البكري هم كما قال ابن مكتوم عبد الله بن عبد العزيز محمد البكري من أهل شلطيش سكن قرطبة يكنى أبا عبيد روى عن أبي مروان بن حيان أبي بكر المصحفي وأبي العباس العذري سمع منه بالمرية وأجاز له عمر بن عبد البر الحافظ وكان غيرهم من أهل اللغة والآداب الواسعة والمعرفة بمعاني الشعر والغريب والأنساب والأخبار متقناً لما(81/43)
قيده ضابطاً لما كتبه جميل الكتب مهتم بما يمسكها في ثياب الشرب إكراماً لها وصيانة وجمع كتاباً في أعلام نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام أخذه الناس إلى غير ذلك من تواليفه وتوفي رحمه الله في شوال سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
وترجمة الفتح ابن خاقان في قلائد العقبان بما صورته: عالم الأوان وقدره ومصنف البيان ومشنفه بتواليف كأنها الخرائد وتصانيف أبهى من القلائد حلى بها من الزمان عاطلاً وأرسل بها غمام الإحسان هاطلاً ووضعها في فنون مختلفة وأنواع وأقطعها ما شاء من إتقان وإبداع أما الأدب فهو كان منتهاه ومطحل سهاه وقطب مداره وفلك تمامه وإبداره وكان كل ملك من ملوك الأندلس يتهاداه تهادي المقل للكرى والآذان للبشرى عَلَى هناة كانت فيه فإنه رحمه الله مباكر للراح ولا يصحو من خمارها ولا يمحو رسم إدمانه من مضمارها ولا يريح إلا عَلَى تعاطيها ولا يستريح إلا إلى معاطيها قد اتخذ إدمانها هجيره ونبذ من الأقلاع نبذ عاصم بن الأيمن مجيره فلما حال انقراض شعبان وانصرامه كانت فيه مستبشعة الذكر مستنشعة النكر تمجها الأوهام والخواطر ويثبتها السماع المتواتر.
وقد أثبت ما يشهد لك بتقدمه ويريك منتهى قدمه رايته وأنا غلام ما أقمر هلالي ولا نبع في الذكاء كوثري ولا زلالي في مجلس ابن منظور وهو في هيئة كأنما كسيت بالبهاء والنور وله سبلة يروق العيون إيماضها ويغرق السواد بياضها وقد بلغ سن ابن ملحم وهو يتكلم فيفوق كل متكلم فجرى ذكر ابن مقلة وخطه وأفيض في رفعه وحطه فقال:
خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه وأصبحت مقلاً
فالدر يصفر لاستحسانه حسداً ... والورد يحمر من إبداعه خجلاً
وله فصل من كتاب راجع به الفقيد الأستاذ أبا الحسن بن دريد رحمهما الله: وتالله إني لا أطعم جنى محاورتك فيقف في اللهاة وأجد لتخيل مجالستك ما يجده الغريق للنجاة وأعتقد في مجاورتك ما يعتقده الجبان في الحياة.
متى تخطئ الأيام في بأن أرى ... بغيضاً يناءي أو حياً يقرب
ورأيت رغبتك في الكتاب الذي لم تحرر ولم يتهذب وكيف التفرغ لقضاء إرب والنشاط قد ولى وذهب فما أجده إلا كما قيل:
نزراً كما استكرهت عائر نفحة ... من فارة المسلك التي لم تفتق(81/44)
وإن يعن الله عَلَى المراد فيك والله يستفاد وبرغبتك أخرجه من الوجود إلى العدم وإليك يصل أدنى ظلم بحول الله.
وله فضل من رقعة يهنئ بها الوزير الأجل أبا بكر بن زيدون بالوزارة: أسعد الله بوزارة سيدي الدنيا والدين وأجرى لها الطير الميامين ووصل بها التأييد والتمكين والحمد لله عَلَى أمل بلغه وجدل قد سوغه وضمان حققه ورجاء صدقه وله المنة في ظلام كان أعزه صحبه ومستبهم غداً شرحه وعطل نجر كان حليه وضلال دهر صار هديه.
فقد عمر الله الوزارة باسمه ... ورد إليها أهلها بعد إقصاد
هذا هو المؤلف أما تأليفه فقد جعل عَلَى حروف المعجم ولكن عَلَى طريقة الغاربة أو الطريقة الإفريقية لا طريقة المشارقة فبدأ: اب ت ث ج ح خ د ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ وي. وحقق فيه أسماء البقاع والبلاد والمياه والجبال والبحيرات في بلاد العرب من الحجاز وتهامة واليمن والشام والعراق ونجد والموصل. وغريب والحال حال مؤلفي الغرب: أندلسي يعني ببلاد المشرق يجيد ولا إجادة المشارق أنفسهم. وهذا الكتاب ضروري كما يقول دوزي المستشرق الهولاندي لمن يدرسون التاريخ القديم والجغرافيا وشعراء الأقدمين والحديث فيذكر المؤلف رسم البلد أو البقعة ويعين مكانها ويستشهد بكثير من الأشعار التي وردت فيها ذكر هذه البلدة.
قال المؤلف هذا كتاب معجم ما استعجم ذكر فيه جملة ما ورد من الحديث والأخبار والتورايخ والأسفار من المنازل والديار والقرى والأمصار والجبال والآثار والمياه والآبار والدارات والحرار منسوبة محددة. وقد أفاض في المقدمة في الكلام عَلَى جزيرة العرب وحدودها وقبائلها وما إلى ذلك من الفوائد الجغرافية فاستغرق نحو 55 صفحة من هذه الطبعة التي طبعت في غوتنغن في (ألمانيا) سنة 1876 عَلَى الحجر والغالب أنها بخط ناشره الأستاذ وستنفيلد أجزل الله ثوابه. وإليك مثالاً من وصفه خراسان:
خراسان بلاد معروف قال الجرجاني معنى خركل أو أسان معناه سها أي كل بلا تعب وقال غيره معنى خراسان بالفارسية مطلع الشمس والعرب إذا ذكرت مطلع المشرق كله قالوا فارس فخراسان من فارس وعلى هذا تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من أهل فارس إنه عنى أهل خراسان لأنك إن طلبت مصداق(81/45)
هذا الحديث في فارس لم تجده أولاً ولا آخراً وتجد هذه الصفة نفسها في أهل خراسان دخل الإسلام رغبة ومنهم العلماء والنبلاء والمحدثون والمتعبدون وأنت إذا أجملت المحدثين في كل بلد في كل بلد وجدت نصفهم من خراسان وجل رجالات الدولة من خراسان البرامكة والقخاطبة وطاهر وبنوه وعلي بن هاشم وغيرهم وأما أهل فارس فكانوا كنار خمدت لم يبق لهم بقية ولا شريف يعرف إلا ابن المقفع وابنا سهل الفضل والحسن.
ومما قاله في رسم ضرية وحليت (ص 637) جبل أسود في أرض الضباب بعيد ما بيبن الطرفين كثير معادن التبر وكان به معدن يدعى النجادي كان لرجل من ولد سعد بن أبي وقاص يقال له نجاد بن موسى به سمي ولم يعلم بالأرض معدن أكثر منه نيلاً لقد أثاروه والذهب غال بالآفاق كلها فأرخصوا الذهب بالعراق والحجاز ثم أنه تغير وقل نيله وقد عمله بنو نجاد دهراًَ قوم بعد قوم. .
ومن فوائده أيضاً قوله فيما يؤنث من البلاد ويذكر قال: الغالب عَلَى أسماء البلاد التأنيث والمؤنث منها عَلَى أحد أمرين إما أن تكون في علامة فاصلة بينه وبين المذكر كقولك مكة والجزيرة وإما أن يكون اسم المدينة مسغنياً بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة كقولك حمص وفيد وحلب ودمشق وكل اسم فيه ألف ونون زائدان فهما مذكر بمنزلة الشام والعراق نحو جرجرا وحلوان وحوران وأصفهان وهمذان أشد الفراء:
فلما بدا حوران والآدل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظراً
وانشد أيضاً عن الكسائي:
سقيا لحلوان ذو الكروم وما ... صنف من تينه ومن عنبه
هكذا رواه صنف بضم الصاد ورواه يعقوب صنف بفتحها يقال صنف التمر إذا أدرك بعضه ولم يدرك بعض فإن رأيت شيئاً من ذلك مؤنثاً فإنما يذهب فيه إلى معنى المدينة والأغلب عَلَى فيد التأنيث وكذلك بعلبك وقد تقدم ذكر ذلك في رسومها وقال أبو هفان هي مبني وهو مبني وأنشد اللوجي:
سقى منى ثم رواه وساكنه ... وما ثوى فيه واهي الودق مُنبعق
وقال الفراء الغالب عَلَى منى التذكير والإجراء والغالب عَلَى فارس التأنيث وترك الإجراء قال الشاعر:(81/46)
لقد علمت أبناء فارس أنني ... عَلَى عربيات النساء غيور
وهجر الغالب عليه التذكير وربما أنثوها وقد أنشدنا شعر الفرزدق في تأنيثها وسجع العرب قال الفراء إنما أجرت العرب هنداً ودعداً وجعلاً وهي مؤنثات ولم يجروا حمص وفيد وتوز وهي مؤنثات عَلَى ثلاثة أحرف لأنهم يرددون اسم المرأة عَلَى غيرها ولا يرددون اسم المدينة عَلَى غيرها فلم تردد لم تكثر في الكلام لزمها الثقل ونرك الإجراء وقال أبو حاتم حجر اليمامة يذكر ويؤنث قال وفلج مذكر عَلَى كل حال وعمان الغالب عليها التأنيث وقباء وأضاخ فيذكران ويؤنثان وبدر مذكر قال الله عز وجل ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وحنين مذر لأنهما اسمان للماء قال الله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم وربما أنثته العرب لأنه اسم للبقع قال حسان:
نصروا بنيهم وشدوا أزره ... بحنين يوم تواكل الأبطال
والحجاز واليمن والشام والعراق ذكران ومصر مؤنثة قال الله تعالى ملك مصر وقال تعالى ادخلوا مصر وقال عامر بن وائلة الكناني لمعاوية أما عمرو بن العاص فانطفته مصر وأما قول الله عز وجل اهبطوا مصراً فإنه أراد مصراً من الأمصار وقرأ سليمان الأعمش اهبطوا مصر وقال هي مصر التي عليها سليمان بن علي فلم يجرها. ودابق يذكر ويؤنث من ذكر قال هواسم للنهر ومن أنت قال هواسم للمدينة قال الشاعر في الإجراء:
بدابق وابن مني دابق
وأنشد الفراء في تلك الأجزاء:
لقد ضاع قوم قلدوك أمورهم ... بدابق إذ قيل العدو قريب
ونجد مذكر قال الشاعر:
قال تدعى نجداً دعه من به ... وأن تسكني نجداً فيا حبذ نجدا
وبغداد تذكر وتؤنث وقد مضى القول في ذلك وذكرنا كم من لغة فيها وصفون وقنسرون وماردون والسليحون. وكذلك نصيبون وفلسطون وقد مضى القول في أعرابها وجرت الغالب عليه التذكير والإجراء وربما أنثوه وقد مضى الشاهد عَلَى ذلك وأجاز الفراء أن تقول هذا حراء بالإجراء تقول هذه ثم تذهب إلى الجبل كما تقول ألف درهم والكلام هذا ألف درهم وثبير مذكر وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما تغير وكبكب معرفة مؤنث لا تجري(81/47)
وهو اسم للجبل ما حوله وقد تقدم إنشاد بيت الأعشى فيه اهـ.
هذه نموذجات من الكتاب وهو جعبة فوائد للمتأدبين والعالمين وقد وقي في زهاء 850 صفحة وأضاف إليه ناشره فهراساً عاماً بأعلامه عَلَى عادة علماء المشرقيات في أسفارنا التي يحيونها بالطبع في بلادهم.(81/48)
مصير ومسير
كل فرد لغاية هو غاد ... لا يرى غيرها طريق السداد
باذلاً جهده وراء الأماني حثيثاً يسعى لها في الجهاد
غير أن الغايات مختلفات ... فهي بين الإصلاح والفساد
والذي ينظر في الدن ... يا بعيني بصيرة واتنتقاد
لا يرى غير طامع بجمع الما ... ل ويغنى وطامع بازدياد
فكأن الإنسان ما جاء إلا ... لمعاش ما بين ماءٍ وزادِ
قل لمن يجهل الحياة تفكر ... في مصير الاباء والأجداد
كيف كانوا واين صاروا واين الرسل وأين القرون من قبل عاد
أينَ أين المكلوك وأين الرعايا ... أين أين القواد والأجناد
أين أين البناة أين الباني ... أين من شيدوا كذات العماد
أين إسكندجر واين هرقل ... اين نمرود اين ذو الأوتاد
اين قارون اين فرعون موسى ... اين كسرى وقيصر ذو الآد
اين من كتبوا الكتاب للحر ... ب وصالوا بالمرهفات الحداد
اين من كانوا يحرضصون عَلَى الما ... ل ومن كان كعبة القصاد
هذه ذورتهم تجيبك عنهم ... لو يجيب الجماد صوت المنادي!
صرتهم كأس المنون لما ... يستفيقوا حتى أوان التنادي
وغدوا يحملون من بعد عرش الملك في موكب عَلَى الأعواد
وجفاهم إخوانهم وبنوهم ... وجميع الحجاب والقواد
واستقروا في ضيق اللحد يا سعد مقر السيوف في الأغماد
ووضعوا بالتراب بعد فراش ... من حديد مؤثر ووساد
جمعتهم دار المنون جميعاً ... وهم من قبائل وبلاد
فغدا الضد يألف الضد طوعاً ... وغريب تآلف الأضداد
ومليك الزمان منهم له الدو ... د نديم بعد الحسان الخراد
كل هذا وأنت تطغى وتغتر ... بدنيا مصيرها للنفاد!
أنت في كل حالة حيث صاروا ... صائر خلفهم بلا استعداد(81/49)
سعد أن الإنسان أصلحه الله ... ظلوم من ساعة الميلاد
ذو نفاق وذو جداع وذو ... مكر وذو شرة وذو استبداد
أيها المرء أنت اشرف مخلو ... ق عَلَى الأرض ذو حجى وقاد
أيها المرء أنت أحسن خلق الله خلقاً وأحسن الإحاد
لم يكن خلقك الذي جئت فيه ... عبثاً كالوحوش أو الجماد
بل لأمر بل أمور كثار ... أنت عنهن غافل في رقاد
طاعة الله رأسها فوق رب النا ... س رب الفناء رب العباد
مرسل الريح منشئ السب داحي ال ... أرض بل رافع الطباق الشداد
واحد ما له بكل شريك ... جل عن والد وعن أولاد
قربته الظنون من كل شيء ... نزهته العقول عن الأنداد
إنما الفضل لو علمت هو العلم ... وبذل الندى وبيض الأيادي
والنهي والإباء مع شمم الأنف ... وغوث اللهيف بالأنجاد
طلب المجد عزة النفس حسن الذكر نيل الفخار طول النجاد
سعة الخلق عفة الجيب نفع ال ... ناس طرداً من حاضر أو باد
سيرة العدل لهجة الصدق حفظ ال ... عهد حفظ الذمام صدق الوداد
أيها الغافل انتبه من رقاد ... إن ذاك العصر ليس عصر الرقاد
إن ذا العصر عصر رب المساعي ... إن ذا العصر عصر واري الزناد
إن ذا العصر عصر جذب ودفع ... عصر نيل العلا بطول السهاد
إن ذا العصر عصر نور وهدى ... عصر علم الحجى والسداد
عصر سبق ومفخر ورقي ... عصر سير البخار والمنطاد
ليت شعري متى تلين القلوب ... من اناس قست كصم الصلات
فيؤاسي الغني منهم أخا الفقير ويضحي الشحيح سمج الأيادي
ويعيش الفتى بأرغد عيش ... لا يرى عيشه خسة ونكاد
وتمر الأيام طراً عَلَى النا ... س يعدونها من الأعياد
ويصير الغني منهم نبيهاً ... عارفاً بالإصدار والإيراد(81/50)
ويعودون من قد دعي لأذاة ... حين يدعو كنافخ في الرماد
ثم تغدو ترعي مع الذئاب شاء ... وظباء النقا مع الأسياد
لست ادري وليتني كنت أدري ... أي يوم تزول فيه العواري
أي يوم يموت فيه غواة! ... قد تمادوا في ألغي أي تماد
كم أضلوا عن الهدى واستبدوا ... بالديانات أي استبداد!
كلما قلم مصلح ثم يدعو ... هم إليه رموه بالإلحاد
فمتى يا ترى يبدد شمل ... ذو اجتمع من عصبة الأوغاد
ومتى تسترد بغداد مجداً ... سالفاً لهفتي عَلَى بغداد!
يوم كانت في عصر ههرون تزهو ... مثل زهور الربيع بالأوراد
وتمر المياه منها فتستقي ... جنة بعد جنة في الوهاد
وتشد الرحال من كل فج ... لحمى ربعها ومن كل واد
كل ركب قد سار يقفوه ركب ... أمها من شواسع الأبعاد
فهي ملتقى الآمال نجح الأماني ... منجع الناس منهل الوراد
يا سواد العراق (بيضك) الجد ... ب فصرت البياض وسط السواد!
يا سواد العراق فيك كنوز ... يعلم الله ما لها من تفاد
يا سواد العراق أمجلك القو ... م وقد كنت روضة المرتاد
يا سواد العراق ابنك ذا اليو ... م من الضغط في ثياب حداد!
يا سواد العراق تبكيك عين ال ... شعر ذا اليوم عن سواد المداد!
يا سواد العراق شلت يمين ... ذات إثم دلت عليك الأعادي
ليتني كنت في الزمان إماماً ... شيمتي شيمة الكريم الجواد
وهماماً تهخشى لقاه كماة ال ... حرب في يوم معرك وجلاد
فأذيق الطغاة طعم المنايا ... وأكبد البغاة أهل العناد
وأبيد الخمول والجهل والظلم وجيش النفاق من بغداد
وأرى القتل والشهادة في دع ... وا غاي المنى وكل مراد
حبذا الموت في سبيل المعالي ... والمنايا في خدمتى لبلادي(81/51)
إن خير القريض ما كان منه ... يطرب السامعين بالإنشاد
والذي نظمه يقص عَلَى القا ... رئ وعظاً يذيب صم الجمال
فهو طوراً ما بين أمر ونهي ... وطوراً بين حاد وهاد
وهو حيناً بين المآتم ناعٍ ... وأوانا بين العرائس شاد
خالي الذكر من أحاديث لبنى ... وسليمى وزينب وسعاد
سلس اللفظ والعبارة جزل ... معجز باهر كشعر زياد
إن هذا يا سعد غاية سؤلي ... إن هذا يا سعد جل اعتقادي
هو مقصودي الذي طول عمري ... أتمناه من صميم فؤاد
إن أكن مخطئاً فأنا ابن أنثى ... أو مصيباً فمن صحيح اجتهاد
بغداد كاظم الدجيلي(81/52)
مطبوعات ومخطوطات
إلى القارئ الكريم بعض ما عثرنا عليه من المخطوطات النادرة في دار كتب شيخ الإسلام عارف حكمت بيك في المدينة المنورة التي ورد ذكرها في مكان آخر من هذا الجزء مما هو جدير بالإحياء ولم يطبع فيما نعلم.
الزبد والضرب في تاريخ حلب لشيخ الإسلام رضي الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي الحلبي في المجموع نمرة 59 وهو المجموع الثالث
وقع في 14 ورقة وهو مختصر لكتاب زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن جرادة المقلي الحلبي انتزعه من تاريخه الكبير للشهباء المرتب عَلَى الحروف والأسماء وضمنه ما وصل إليه ووقع عليه من ذكر أمراء حلب وولاتها وملوكها ورعاتها وبعض من عثر عليه من الوزراء والقضاة والملوك والرعاة.
طبقات القراء تأليف محمد بن سلام الجحمي أوله قال: أبو محمد أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصير بن يحيى القاضي أنبأنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجحمي قال أنبأنا أبو عبد الله محمد بن سلام الجحمي قال وللشعر صناعة وثقافة يعرفهما أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تتقنه العين ومنها ما تتقنه الأذن ومنها ما تتقنه اليد ومنها ما يتقنه اللسان ومن ذاك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره وهو تحت نمرة 668.
كتاب التشبيهات لأبي إسحاق البغدادي قال فيه زادك الله في الآداب رغبة وللعلوم محبة ودلك عَلَى الحجة ووفقك للمحجة وأعانك عَلَى طلبك بالرشد وأظفرك بالغرض عند الفحص سألتني أعزك الله أن أثبت لك أبياتاً من تشبيهات شعراء الواقعة وبدائعهم فيها الظريفة وقد تقدم الناس أعزك الله في اختيارك الشعر وتمييزه غير أنهم لم يصنفونه أبواباً وذلك أن الشعر مقسم عَلَى ثلاثة أنحاء منه المثل السائر كقول الأخطل:
فأقسم المجد حقاً لا يحالفه ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر
وكقول الفرزدق:
ذل العدو فإنا لا نلين له ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
فقلت لها يا أم بيضاء إنني ... هريق شبابي واستشن أديمي
وكقول الحطيئة:(81/53)