عظيمة نقرت على الصخر على صورة هائلة تدل على أنها مدافن أغنياء وأمراء لا مقابر فلاحين فقراء وفي كل قرية فقراء وفي كل قرية نواويس لا تقل عن هذه بمكانتها وقد طمست الأيام معالمها فلم يعلم اسم بانيها.
والنفوس قليلة في هذين الإقليمين (وادي العجم وإقليم البلان) لا تزيد في الإحصاء الرسمي عن خمسة عشر ألف نسمة عدا القرى الملحقة بعمل دمشق مثل المزة وكفرسوسة وداريا وصحنايا والأشرفية وبلاس ومع أن البلاد تؤوي مائتي ألف وأكثر ترى الهجرة أيضاً إلى أميركا تقلل نفوسها سنة عن سنة وسكان هذه البلاد أخلاط بمذاهبهم فيهم المسلمون السنية ومسيحيون روم وكاثوليك وبروتستانت ودروز والدروز أكثرهم مضاءً وإقداماً على العمل ويليهم المسيحيون ثم المسلمون فكأن هؤلاء يكفيهم من المفاخر أن تكون حكومتهم منهم ولذلك جعلوا اعتمادهم عليها وكان عليهم أن يعولوا على تماسكهم ومضائهم كما فعل جيرانهم في اعتمادهم على أنفسهم ذر قرن الغزالة غذاة اليوم في بيتيما وشادينا الصديق الشيخ عبد الرحيم البابلي يردد في حديقة بيت أبي أحمد قول الشاعر المنطبق على ما نحن فيه من جمال الموقع وطرب النفس بالطبيعة:
الروض مقتبل الشبيهة مونق ... خضل يكاد غضارة يتدفق
نثر الندى فيه لآلئ عقده ... فالزهر منه متوج وممنطق
وارتاع من مر النسيم به ضحى ... فغدت كمائم نوره اتفتق
وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تشرق
والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالمسيم يغبق
والطير ينطق معرباً عن شجوه ... فيكاد يفهم عنه ذاك المنطق
غرداً يغني للغصون فينثني ... طرباً جيوب الظل منه تشقق
والنهر لما راح وهو مسلسل ... لا يستطيع الرقص ظل يصفق
كان اليوم الثالث معتل النسيم صافي الأديم فحمدنا السير حتى وصلنا إلى قرية جباتا الخشب آخر عمل وادي العجم فبتنا في بيت مريود على أن نعاود السير من الغد ولكن عاد الجو فاضطرب وهبت الريح زعزعاً وكثر تهطال الأمطار والبرد حتى ذكرنا نيسان بكانون ثم زاد قلق الطبيعة حتى استيقظنا صباح اليوم الثاني وجبل الشيخ قد لبس حلة(65/3)
نصع بياضاً من التي كان مكتسياً بها في اليوم الماضي وركبنا القنيطرة ورفيقنا البابلي يردد قول العفيف التلمساني:
رياض بكاها المزن فهي بواسم ... وناحت لغير الحزن فيها الحمائم
وأودت الأنواء فيهن سرها ... فنمت عليهن الرياح النواسم
بيت الندى في أفقها وهو سائر ... ويضحى على أجيادها وهو ناظم
كأن الأقاحي والشقيق تقابلا ... خدودٌ جلاهن الصبا ومباسم
كأن بها للنرجس الغض أعيناً ... للبه منها البعض والبعض نائم
كأن ظلال القضب فوق غديرها ... إذا اضطربت تحت الرياح أراقم
كأن غناء الورق ألحان معبد ... إذا رقصت تلك القدود النواعم
كأن نثار الشمس تحت غصونها ... دنانير في وقت ووقت دراهم
كأن ثماراً في غصون توسوت ... لعارض خفاق النسيم تمائم
كأن القطوف الدانيات مواهب ... ففي كل غصن ماس في الدوح خاتم
الجولان
الجولان كورة عظيمة من كور الشام تعد من بلاد حوران يحدها من الشرق نهر العلان ومن الغرب بحيرة طبريا والأردن الأعلى (الرقاد) ويفصلها نهر اليرموك عن بلاد عجلون من الجنوب وبحر الحاصباني بالقرب من بانياس وجيل الشيخ من الشمال وتسمى هذه المقاطعة بالعبرانية كولان كان يطلق هذا الاسم أولاً على مدينة إسرائيلية مقدسة من بلاد باشان تنزلها قبيلة منسى وهي اليوم مدينة سحم الجولان بعينها قرية على بعد كيلومترين شرقي نهر العلان وعلى سبعة كيلومترات من الشمال والشمال الغربي من زيزون ولا يزال فيها بعض آثار وخرائب منها برج مربع علو 15 متراً وبالقرب منه بناء جميل يظن أنه كان كنيسة وقد أقام فيها أدمون روتشيلد الإسرائيلي الغني الشهير مستعمرة للإسرائيليين.
وكانت الجولان تمتد إلى شرقي المناذرة وتعد من بلاد بترا أو العربية الصخرية ومن جملة مملكة فيليبس ولبلاد الجولان ذكر قليل في تاريخ العرب نزلها الحرث الأعرج الغساني كما كان الحرث بن أبي شمر بن الأيهم مملكاً بالأردن ولعل علماء الآثار يوفقون(65/4)
في المستقبل إلى الظفر بعاديات لغسان في الجولان كما ظفروا بقليل منها في حوران ولا سيما في جبل بني هلال الذي كان يعرف قديماً بجبل الريان لكثرة مياهه ويعرف اليوم بجبل حوران أو جبل الدروز رن الغساسنة ملكوا هذه الديار وبسطوا سلطانهم أيضاً على دمشق قبل الإسلام وافتتح الجولان شرحبيل ابن حسنة وورد ذكرها في شعر حسان بن ثابت بقوله:
قد عفا جاسم إلى بيت راس ... فالجوابي فحارث الجولان
ووردت في شعر أبي نواس في مدحه الخصيب بن عبد الحميد العجمي المرادي أمير مصر من قصيدة يصف بها طريقه من بغداد إلى مصر:
رحلن بها من عقر قوف وقد بدا ... من الصبح مفتوق الأديم شهير
فما نجدت بالماء حتى رأيتها ... مع الشمس في عيني اباع تغور
وغمرن من ماء النقيب بشربة ... وقد حان من ديك الصباح زمير
ووافين إشراقاً كنائس تدمر ... وهن إلى رعن المداخن صور
يؤممن أهل الغوطتين كأنما ... لها عند أهل الغوطتين ثؤور
وأصبحن بالجولان يرضخن صخرها ... ولم يبق من اجراحهن شطور
وقاسين ليلاً دور بيسان لم يكد ... سنا صبحه للتاظرين ينير
وأصبحن قد فوزن منة نهر فطرس ... وهن عن البيت المقدس زور
طوالب بالركبان غزة هاشم ... وفي الفرما من حاجهن شقور
ولما أتت فسطاس مصر أجارها ... على ركبها أن لا تزال مجير
قاعدة الجولان اليوم القنيطرة وكانت صغيرة جداً قبل أن ينزلها مهاجرة الجراكسة والداغستانيين منذ زهاء ثلاثين سنة وقد كانت في القرون الوسطى قبل عهد الدولة العثمانية قاعدة البلاد قرية خان ولا ندري أخان أرينيبة أو خان الدوير تارة والشقراء أخرى والجولان اليوم أو قضاء القنيطرة هو ثلاث نواحي ناحية الشقراء وهي عبارة عن مجدل شمس وجباتا الزيت وبانياس وعين قنية وعين فيت وزعورة ومغور الشباعنة والغجر وخان الدوير ومزارع الفضل هذا ما كان منها إلى جبل الشيخ أقرب. وناحية الجولان وفيها قرى الجركس وأهمها المنصورة وعين الزيوان والصرَّمان والخشنية(65/5)
وعشيرة التركمان ومزارعها وعشيرة الهوادجة والبجاترة وجبا وخان أرينبة وعشيرة الويسية والقصيرين والجعاتين والدياب وأراضي البطيحة ومزارعها ونعيمات الطاعة ولهذه العشائر مزارع وقرى تفلح فيها وتزرع وأغلب نزولها في المضارب ومساكنهم للفلاحين وإيواء الماشية فقط. والناحية الثالثة ناحية الزاوية وأهم قراها فيق والعال وكفر الما والشجرة وكوية وبيت الرَّا ومعربة والمناظرة.
ويقدرون اليوم مزارع الجولان وقراه كلها بنحو مائة وستين مزرعة وقرية فيها أراض جيدة في الجملة وتجود حبوبها في الأكثر في السنين التي تقل أمطارها أما في سني الري الكثير فإنها تغرق فبينا تشكو الأقاليم المجاورة الشرق تئن الجولان من الغَرَق ولذلك تصلح أراضيها لتربة الماشية كثيراً ولا نغالي إذا قلنا أنها الإقليم الوحيد الذي يصلح لهذا الغرض كما يصلح جقوراووه أي سهل الهوات في ولاية أضنة من بلاد الأناضول أو الروم كما كان يسميها العرب.
وهمة الفلاح في الجولان ضعيفة لأنه في الأكثر لا يملك أرضاً له بضع سنين ليتوفر على زراعتها بل أن الأراضي مشاعة بين أهل البلد الواحد فبينا يزرع هذه القطعة تراه من قابل تنزع منه وتعطى لغيره وهكذا لا يشاهد الرقي في الزراعة إلا في مزارع الجراكسة إذ اختص كل فرد منهم بأراضٍ تناسب حاله وشأنه فأصلحها ما ساعدته مادته وقوته وخدمها على مثل ما تخدم الزراعة في البلاد التي هاجر منها أي بلاد الروس اليوم وبنى البيوت بالحجر والقرميد وغرس الأشجار وعاش في الجملة أحسن من عيشة سكان البلاد الأصليين خصوصاً وأن المهاجرين يغلب عليهم الاقتصاد بحيث لا تعهد عندهم المضافات المفتحة الأبواب لكل قادم كما هي عند سكان هذه الديار من العرب وأكثرهم يعرفون دخلهم وخرجهم. ولو سار الجولانيون الأصليون على هذه الطريقة لحمدوا سيرهم ولما افتقر الأغنياء منهم بإسرافهم إسرافاً لا يعد من الكرم في شيء وبعبارة أوضح لا يعد فضيلة.
وبلاد الجولان متسعة الرقعة يقل سكانها بالنسبة لعظم بقعتها ويكفي أن أراضي الفضل وهي من جملة عمل هذه البلاد تمتد من المنصورة قرب القنيطرة جنوباً حتى بانياس شمالاً وشرقاً إلى جباتا الخشب وغرباً إلى الحولة ولا يطوفها الراكب بالسير المعتدل في أقل من ثلاثة أيام. غلاتها جيدة وفيها بعض الأشجار المثمرة والكروم وكثير الغابات اجتزناها من(65/6)
القرب من مركز القضاء إلى ارض بانياس في زهاء أربع ساعات فرأينا فيها صورة مصغرة من مناخ سورية رأينا فيها الربيع والصيف أو الصيف والشتاء في آن واحد. وأميرها وهو اليوم محمود الفاعور مالك هذه الأراضي كلها إذا شتا في أرضه بالقرب من الحولة يشتو في حرارة كحرارة الربيع وإذا اصطاف يصطاف في الأرض النجدية وإذا ارتبع يرتبع في واسط حيث بنى قصره على مثال قصور الأغنياء وهذا الأمير حاكم مطلق في عشيرته عرب الفضل المؤلفة من نحو 1500 بيت كما قال لي أحد أفرادها ولا يشاركه في ملكها سوى شيخ الهوادجة وبعض البحاترة وهم عبارة عن 180 بيتاً يملكون جزءاً صغيراً منها ومن عشائر الفضل العجارمة والربيع والفاعور ويجمعها كلها اسم الفضل وكلهم رحالة أو متنقلون ولكن رحلتهم في أرضهم لا يتعدونها إلى القاصية كما يرحل عرب بني صخر والروالة مثلاً وأميرهم يدفع ما على أراضيه من الأعشار الخفيفة وجماعته معفون من الخدمة العسكرية ليسوا مع أميرهم كصاحب أرض مع فلاحيه على ما هي عليه الحال مثلاً في الغوطة والمرج وقلمون ووادي العجم والجولان يخدمون أرضه ويقاسمهم غلاتها على الخمس أو الربع بل هو الحاكم المتحكم في أموالهم ومائهم وأعراضهم يأخذ ما يمكنه أخذه منهم وينفقه في وجوه مرافقه والتوسعة على ضيفانه. وأهل الجولان مسلمون على الأكثر وليس فيها سوى ثلاث قرى في آخر عملها اسمها عين فيت وزعورة وغجر سكانها نصيرية.
وسلطان العدل في هذه البلاد ضئيل بحيث لايرى حتى بالمجهر والكبرة لفساد أخلاق الأهلين على الأكثر ولأن الحكومة لا تختار على الغالب لولاية أعمالها سوى من قلت كفاءتهم في الجملة. قال لي أحد فضلاء القنيطرة: لقد راقبت سير الحكومة في قضائنا منذ نحو ثلاثين سنة فلم أرها إلا تقذف علينا بأحط عمالها على الأغلب فإذا اتفق أن تولى العمل الأكفاء المستقيمون لا تطول مدتهم فيفارقوننا ليخلفهم من لا يرجعون إلى عقل في أحكامهم ولا إلى عدل في نظامهم هذا ما سمعته وحققته من مجموع حوادث نقلت لي إما من المعارف فلا تجد لها في القضاء عيناً ولا أثراً ويكفي بأني قال في وصف مدرستيها الأميريتين أن الأولاد يضربون معلمهم ويعبثون بلحيته وعمامته ولكن ما دامت إدارة المعارف تفضل من يعرف كلمتين من التركية على الكفوء من المدرسين ممن لم يسعدهم(65/7)
الحظ بتعلمها من أبناء العرب وما دامت مقلة من رواتب المعلمين هيهات أن تجد أحسن من هذه الطبقة لتعليم أبناء البلاد وعندنا أن الجهل المطبق خير من هذا التعليم الناقص الدنيء لأن الفلاح الأمي لا يجد له مرتزقاً إلا من أرضه وماشيته أما الفلاح الذي تعلم هذا الأسلوب فتكبر نفسه عن الزراعة جهلاً منه وغروراً ولا يحسن عملاً اللهم إلا إذا كان خيال درك أو بواباً أو حرساً.
بين قوم هذا حالهم أنشأ صديقنا أحمد حمدي أفندي الداغستاني مطبعة في القنيطرة سماها مطبعة الجولان فعسى أن يخادنه من التوفيق ما خادن بعض قرى سورية أو بليداتها التي انتفعت من نعمة الحرية في عهد الدستور ففتحت مطابع وأنشأت جرائد أو مجلات ونجحت في عملها على الجملة.
الحولة
بتنا الليلة السادسة في بانياس آخر عمل الجولان وحقها أن تعد من الحولة إذا نظرنا إلى تقسيمها الطبيعي وبانياس بالقرب من تل القاضي حيث ينبع نهر الأردن أو مدينة دان القديمة وبها آثار مهمة وغيرهم من الإسلام وبالقرب منها حصن الصبيبة وهذا الحصن هو القلعة المشرفة عليها في رأس جبل وبينهما نحو نصف ساعة قالوا في وصف بانياس أنها مدينة قديمة كثيرة الحدائق وهواؤها وبيء وترابها كذلك وبها مياه غزيرة وآثار لليونانيين قديمة وقال أبو الفدا بانياس اسم لبلدة صغيرة ذات أشجار محمضات وغيرها وأنهار وهي على مرحلة ونصف من دمشق من جهة الغرب بميلة إلى الجنوب والصبيبة اسم قلعتها وهي من الحصون المنيعة قال العزيزي ومدينة بانياس في لحف جبل الثلج (جبل الشيخ) وهو مطل عليها والثلج على رأسه كالعمامة لا يعدم منه صيفاً ولا شتاءً وقال ابن جبير في وصف بانياس أنها مدينة صغيرة ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر يفضي إلى أحد أبواب المدينة وله مصب تحت أرجاء وكانت بيد الإفرنج فاسترجعها نور الدين ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للإفرنج يسمى هونين بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ قال وعمالة تلك البطحاء بين الإفرنج وبين المسلمين لهم في ذلك حد يعرف بحد المقاسمة فهم يتشاطرون الغلة على استواء ومواشيهم مختلطة ولا حيف يجري بينهم فيها.(65/8)
وخرائب بانياس على ما انتابها من حوادث الأيام ولا سيما الزلازل تدل على عظمة من استولوا عليها ومياهها غزيرة للغاية لو توفرت العناية بإخراج الصخور والردوم من طريقها لتضاعفت كميتها ولما كانت تقل عن مياه بردى وللإفرنج كلام طويل في عمران هذه القرية الحقيرة اليوم والمدينة العظمى أمس فقد قالوا أن اسمها مطابق للاسم اليوناني الذي كان يطلق على هذه المدينة والكورة بأجمعها سميت بذلك لمغارة اختصت بعبادة بان وهي تحت منبع الأردن وقد أنشأ فيها هيرودس معبداً على اسم أعسطس وأنجز ابنه قيليبس بناء هذه المدينة وسماها قيسرية فيليبس تمييزاً لها عن قيسارية فلسطين وقد وسمها هيرودس أغريبا الثاني وسماها نيرنياس وهو اسم أطلق عليها مدة قليلة من الزمن وكان فيها منذ القرن السادس أسقيفة تابعة للكرسي الأنطاكي واستولى عليهاالصليبيون لما فتحوا هذه البلاد وهي قلعة الصبيبة التي لم يبق اليوم منها سوى أنقاضها وذلك سنة 1129 أو 1130 عندما حاولوا فتح دمشق وقد قال أحد شعرائها في وصف غارتهم:
بشطي نهر داريا ... أمور ما تؤاتينا
وأقوام رأوا سفك الد ... ما في جلق دينا
أتانا مئتا ألف ... عديداً أو يزيدونا
فبعضهم من أندلس ... وبعض من فلسطينا
ومن عكا ومن صور ... ومن صيدا وتبنينا
اذا أبصرتهم ابصر ... ت أقواماً مجانينا
تخالهم وقد ركبوا ... قطائها حرازينا
وبين خيامهم ضموا ال ... خنازر والقرابينا
ورايات وصلباناً ... على مسجد خاتونا
واستولى على بانياس تاج الدين بوري صاحب دمشق سنة 1132 م وأعيد الاستيلاء عليها سنة 1139م واستولى نور الدين على المدينة لا على القلعة سنة 1157م ثم أنقذها بودوين الثالث أحد ملوك الصليبيين وعاد نور الدين فاستولى عليها سنة 1165م ودك السلطان المعظم حصونها ومعالمها وذلك بعد أن استولى الإفرنج على تلك القلعة من سنة 1139 إلى 1164 وأكثر ما فيها إلى الآن من الكتابات العربية من القرن السابع. والإطلال من(65/9)
قلعتها من أجمل مناظر سورية لأنها تشرف من جهة على قسم من بلاد الجولان وارض الحولة وبلاد الشقيف وبلاد الأردن.
والحولة بحيرة قال أحدهم أنها المعروفة في الكتب المقدسة بمياه ميروم هكذا يسميها الرومان وأما اليونان فيسموها سمخونيتس واسمها عند العرب الحولة أو الملاحة أو بحر بانياس قال ابن فضل الله وأما بلاد صفد فحدها من القبلة الغور حيث جسر الصنبرة من وراء طبرية ومن شرق الملاحة الفاصلة بين بلاد الشقيف وبين حولة بانياس ويفهم من هذا أن الملاحة هي غير بحيرة الحولة وهي حوض من الماء على شكل زاوية إلا قليلاً يجري منها الأردن عمقها من 3 إلى 5 أمتار وفيها طيور مائية كثيرة كالبط ونحوه ويكاد لا يدخل إليها من جهة الشمال لكثرتها وكذلك لكثرة النبات المعروف بالبردي النابت على ضفافها ولا سيما الضفة الشمالية ويتألف من السهل في شمالي البحيرة حوض كبير منظم في الجملة عرضه نحو ساعتين ومعظم هذا الوادي العميق يحتوي على الأكثر على بطائح وتسوء الصحة هناك ولاسيما بعد جفاف قليل من تلك البطائح التي تتخللها عدة قرى.
وحدود الحولة قبلة الطريق الفاصل بين نعران إلى جسر بنات يعقوب إلى قطانة والتليل من الغرب الجاعونة والملاحة والخالصة ويمتد إلى آبل القبح شمالاً ومزرعة المارية وجسر صريد المتصل بمزرعة حلتا والمحرويقة ومغور الشباعنة وبانياس من سفح جبل الشيخ وشرقاً عين فيت وخريبة السمن والمفتخرة والغرابة والدردارة.
هذا إجمال عن بلاد الحولة وقد ذكر المقدسي في القرن الرابع أن الإقليم المتوسط الهواء أوسط سورية من الشراة إلى الحولة فانه بلد الحر والنيل والموز والنخيل. ولو جففت الحولة على نحو ما يسعى بعضهم بتجفيفها وهو سهل ممكن لأحييت بها عشرات الألوف من الدونمات قابلة لزراعة البقول والخضر تكفي أهل سورية في فصول السنة الأربعة بل سورية ومصر وغيرهما ولا سيما في فصل الشتاء لمكان الحرارة الطبيعية في تلك الأراضي وكثرة خصبها المريع وشمسها التي لا تكاد تغيب.
كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض وتهوى من فروج الأصابع
فعسى أن تصح العزائم على هذا العمل فينفع في صحة السكان وثروتهم بل صحة البلاد(65/10)
المجاورة وثروة سورية عامة وكم فيها من خيرات لو حسن الانتفاع بها لكفينا مؤونة الفقر والهجرة.
جبل عامل
لم أجد تحديداً صحيحاً في كتب العرب لهذا الجبل المسمى اليوم بعضه بلاد بشارة أو بلاد الشقيف أو بلاد المتاولة فقد قال أبو الفدا إن جبل عاملة من الأماكن المشهورة وهو ممتد في شرقي الساحل وجنوبيه حتى يقرب من صور وعليه الشقيف الذي استرجعه الملك الظاهر ببيرس من أيدي الإفرنج وكانت رعاياه في حكم الإفرنج وفي شرقيه وجنوبيه جبل عوف عجلون وقال أيضاً وأما بنو عاملة فهم أيضاً من القبائل اليمانية التي خرجت إلى الشام عند سيل العرم ونزلوا بالقرب من دمشق في جبل هناك يعرف بجبل عاملة فمن عاملة عدي بن الرقاع الشاعر.
قال في المشترك شقيف ارنون بين دمشق والساحل بالقرب من بانياس وارنون اسم رجل والشقيف المذكور معقل حصين والشقيف أيضاً شقيف تيرون بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وضم الراء المهملة وواو ونون قال وهي أيضاً قلعة بقرب صور بالساحل.
وقال في شقيف تيرون أنها قلعة منيعة نافلة عن صفت (صلخد) على مسيرة يوم في سمت الشمال والشقيف أيضاً شقيف ارنون وهو في سمت الجبال عن شقيف تيرون وشقيف ارنون بعضه مغارة منحوتة في الصخر وبعضه له سور وهو حصين جداً.
والأصح أن بلاد الشقيف من مقاطعات جبل عامل الثلاث وهي بلاد الشقيف وبلاد بشارة وإقليما الشحار والتفاح ويسمى جبل عامل أو عاملة وجبل الخليل (؟) وهو البلاد الواقعة في نواحي قلعة الشقيف سمي بعاملة القضاعية وهي أم الحارث بن عدي التي تنتسب قبيلته إليها نزلوا الشام مع بني جذام ولخم وغسان وشقيف تيرون هي المعروفة اليوم بقرية نيحا على حدود جزين من أعمال لبنان وفي شقيف ارنون أو أرنولد نسبة لأرنولد من ملوك الصليبيين شيء من أبنية الصليبيين.
والغالب أن هذين الشقيفين كان يسمى أحدهما بالشقيف الكبير وهي شقيف ارنون وكان له بر وله وال كما كان لغيره من البلاد المشهورة، قال ياقوت: الشقيف كالكهف أضيف إلى ارنون اسم رجل إما رومي وإما فرنجي وهو قلعة حصينة جداً في كهف من الجبل قرب(65/11)
بانياس من أرض دمشق وبينها وبين الساحل وشقيف تيرون وهو أيضاً حصن وثيق بالقرب من صور.
وقال شيخ الربوة جبل عاملة عامر بالكروم والزيتون والخروب والبطم وأهله رافضة إمامية وجبل جبع جباع كذلك أهله رافضة وهو جبل عال كثير المياه والكروم والفواكه وجبل جزين كثير المياه والفواكه وقلعة شقيف تيرون قلعة حصينة على جبل عال ولها عمل ولها نائب ولم يحكم عليها منجنيق وجبل تبنين وله قلعة ولها أعمال وولاية وأهلها رافضة إمامية وقلعة هونين وهي على حجر واحد ولها عمل.
وتبعد تبنين خمس ساعات عن صور إلى الشرق الجنوبي وبها قلعة بناها هيوسنت ادمير صاحب طبرية سنة 1107 م وحوصرت وجرت فيها مواقع إلى أن فتحها صلاح الدين.
وأنت ترى أن شيخ الربوة فصل هذا الجبل إلى جبال وذلك في القرن الثامن ولعله كان يعرف كذلك في هده ومن المحقق أن قلاع هونين وتبنين والشقيفين ارنون وتيرون داخلة في جبل عامل وكم قاسى صلاح الدين بن أيوب في فتحها من الشدائد وقد مر الرحالة ابن جبير في أواخر القرن السادس بجبل عامل فسار من بانياس إلى قرية تعرف بالميسة ميس بمقربة من حصن هونين فبات فيها ثم رحل من الغد فاجتاز في طريقه بين هونين وتبنين بواد ملتف بالشجر وأكثر شجره الرند بعيد العمق كأنه الخندق السحيق المهوى تلتقي حافتاه ويتعلق بالسماء أعلاه يعرف بالإسطبل لو ولجته العساكر لغابت فيه لا منجى ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه المهبط إليه والمطلع عنه عقبتان كؤودتان فعجب منه فجازه فمشى عنه يسيراً وانتهى إلى حصن كبير من حصون الإفرنج يعرف بتبنين وقال عنه أنه موضع تمكيس القوافل ووصف كيف أخذ الإفرنج من قافلته المكوس.
وقال بعض المتأخرين أن جبل عامل يقال له بلاد بشارة نسبة لأحد حكامها في القرون الوسطى قيل أنه من الأمراء يعني معن وقيل هو بشارة بن مقبل القحطاني وكل ذلك لم يقم عليه برهان والذي يدور على الألسن أن مركز إمارته في قرية زبقين من أعمال صور حيث لا تزال الآثار الفخمة فيها تدل على ذلك والأرجح أن بلاد بشارة نسبت إلى حسام الدين بشارة من أمراء الدولة الأيوبية.
وتقسم بلاد بشارة إلى قسمين بشارة الشمالية ونهايتها في الشمال نهر الأولي ويفصلها عن(65/12)
الجنوبية نهر الليطاني وبشارة الجنوبية ونهايتها في الجنوب نهر القرن وكانت بلاد بشارة عامة تقسم إلى ثماني مقاطعات أربع في بشارة الجنوبية وهي تبنين وهونين وقانا ومعركة ويتألف منها الآن قضاء صور وقضاء مرجعيون وثلاث في بشارة الشمالية وهي الشقيف والشومر والتفاح المعروفة الآن بناحية جباع ويتألف من الثلاث الآن قضاء صيدا والثامنة مقاطعة جزين الداخلة في قضائها من جبل لبنان.
وقد كان بعض الجغرافيين يعد مدينة صفد من جبل عاملة كما توسع بعض المتأخرين في تخومه وكادوا يدخلون فيه جبل الريحان وأقصى حدود مرج عيون والذي عليه العرف المعقول أن جبل عامل يحده جنوباً نهر القرن الجاري شمالي ترشيحا من بلاد عكا واختلفوا في الزيب هل هي داخلة في جبل عامل أم لا وشرقاً أرض الخيط والأردن والحولة وقسم من جبل لبنان وشمالاً نهر الأولي وبذلك تدخل صيدا في جبل عامل وغرباً البحر الرومي ويقسم إلى قسمين كما مر بك آنفاً شمالي وجنوبي فالقسم الأول يسمى ببلاد بشارة الشمالية والقسم الثاني ببلاد بشارة الجنوبية وطوله 18 ساعة وعرضه يختلف من 4 إلى 8 ساعات نزله بنو عاملة فنسب إليهم إلا أن هذه التسمية اليوم بجبل عامل أو بني عاملة بين الخاصة في الأكثر أما العامة فيطلقون عليه اسم بلاد بشارة ولا سيما قضاء صور وكان بنو عاملة نزلوا الحولة كما تفرقوا في الجبل وكما نزل الغسانيون في حوران والشام والمناذرة في العراق.
وقد كانت حاضرة البلاد تبنين بادئ بدءٍ وهونين وقلعة الشقيف ثم تراجع عمرانها بما سطا عليها من المحن والاحن وكوائن الزمن وخلفتها جباع وغيرها والنبطية اليوم أكبر بلد في الجبل وهي قاعدة البلاد الوسطى سكانها نحو خمسة آلاف نسمة والمدينة الثانية بنت جبيل فيها نحو هذا القدر من السكان وهي على ثماني ساعات من النبطية وثلاث ساعات من صفت والثالثة جوبة في قضاء صور وتقدر قرى جبل عامل بنحو 300 قرية ففي قضاء صور 127 قرية وفي قضاؤ صيدا 147 وفي قضاء مرج عيون 54 فإذا حذفنا بعض القرى التي لا تدخل في عامل ولا سيما قرى المرج والحولة كانت قرى الجبل كما قلنا وهي نحو ثلث قرى جبل لبنان كما أن أهله نحو ربعهم ولكن أين لبنان بعمرانه من عامل.
سرنا من بانياس إلى النبطية سبع ساعات في جبال شاهقة وعرة ولكنها مكللة بالخضرة(65/13)
نضرة للغاية وقطعنا الجسر الممتد في مصف الطريق على نهر الليطاني الذي ينبع من أرض كرك نوح في البقاع ثم تصب إليه أعين وأنهار وهو يمتد من ذيل جبل لبنان حتى يمر بجبال مشغرا وتمده منها أعين كثيرة ثم يمر بالجرمق ثم بالشقيف ثم يعظم هناك ويمر فينصب في البحر الرومي قرب صور وعلى نحو ساعة ونصف من صور يمر بمدفن اسمه النبي قاسم فيسمى القاسمية وهو من أعظم أنهار الشام ولا سيما في الشتاء والربيع.
وقد كان فكر بعضهم أن يجره إلى وادي الزبداني ليضمه إلى مياه نهر بردى والفيجة فيسقي دمشق وغوطتها وبلاد مرج الصفر منها ولكن ثبت له أن مجراه أسفل من دمشق فلا يركبها وكذلك يحاول أهل النبطية أن يجلبوا منه قسماً ببعض الآلات الرافعة يجعلون ماءه في أنابيب من حديد لتدخل بلدهم في طور المدن من حيث استسقاء الماء على نحو ما فعلت بيروت ودمشق وصيدا وهو يكلف بضعة عشر ألف ليرة وكأني بهم وهم فاعلون.
وكذلك يفكر جماعة من مهندسي الإفرنج في تحويل مجراه قبيل مصبه بساعتين ليسقوا بمائه الأراضي المستطيلة على شاطئ البحر بين أقصى حدود جبل عامل وأرض صور من جهة صيدا ولو فعلوا لأتى عملهم بفوائد مادية لهم وللبلاد ولما ذهبت تلك المياه بدون فائدة وغدا الساحل من صور إلى صيدا والمسافة بينهما أربع ساعات في المركبة كحدائق دمشق بأشجاره ومزروعاته الصيفية.
ويقدر المهاجرين من عامل بخمسة عشر ألف مهاجر دع عنك من قصدوا مدينة بيروت وغيرها من شبانة فاشتغلوا في الحمولة وطلاء الأحذية وغيرها من المهن الشاقة الرابحة ولا يقل عددهم فيما أحسب عن نصف هذا القدر فيكون بذلك قد فارق الجبل من أبنائه نحو السبع إذا فرضنا أن سكانه مائة وثلاثون ألفاً على ما قدره بعض العارفين ومع هذا فلا نجد انحطاطاً في زراعته ومن أهم غلاتهم الدخان التوتون يزرعونه في الصيف بعلاً فيجود من وراء الغاية كجودته في جبال اللجام الكلبية والتربة حمراء على الأكثر ويزرعون المزروعات الصيفية كالبقول وبعض الخضر فتنمو كلها بدون سقيا نمواً مدهشاً وزراعتهم الشتوية أحسن من كثير من الأراضي الجبلية في سورية.
وكانت الزراعة تراجعت في القرن الحادي عشر لما أخذت سورية تلتهب بالفتن واشتغل الفلاح بالحروب عن النظر في زراعته فنضب معين الثروة وعاد أكثر الأراضي مهملاً(65/14)
بوراً وبعد أن كانت الأراضي الزراعية متسعة الأرجاء في بلاد بشارة أصبحت على طول المدة حراجاً واسعة ومراعي إلا بعض الأراضي المجاورة للقرى والمزارع.
وسكان الجبل شيعة إمامية وليس بينهم سنة إلا النادر جداً وبعض المسيحيين ممن التجأوا إلى أهل البلاد أيام حوادث لبنان منذ 51 سنة دع عنك من في صور وصيدا من السكان الأصليين وهذا الجبل مبعث التشيع في بلاد الشام ومنهم قسم في جزين والمتن والبترون وكسروان من لبنان وبلاد بعلبك وكان علماؤهم أو فقهاؤهم يدرسون في مدارس مهمة كانت لهم في هذه الديار مثل مدرسة جباع التي خرجت جلة فقهائهم وأدبائهم عرفناهم بكتبهم وأعمالهم ومدارس ميس وعيناتا وجزين ومشغرا والشقراء وكل هذه المدارس الدينية درست اليوم حتى اضطر القوم أن يرسلوا ببعض أبنائهم إلى النجف في العراق يتلقون العلوم الدينية عن أئمتهم هناك وبعد أن يقضوا بضع سنين يعودون وقد حفل وطابهم بما ثقفوه من مدرسة النجف التي هي للشيعة بمثابة الأزهر للسنة.
وإني ليسوءني ما سمعته من تعصب بعض هؤلاء الفقهاء على المدنية الحديثة تعصباً ما كنت أخال صدوره ممن يدرك سر الحياة في الأمم فقد نقل لي أن بعضهم يحرمون إلى اليوم قراءة الصحف لأنها تضر بالدين بزعمهم وتشغل عن الآخرة حتى أن القحة بلغت ببعضهم أن حرم على المنبر قراءتها وجاهر بلعن من يؤازرها فاضطر كثير من ضعاف العقول أن يقطعوا اشتراكاتهم بالمجلات والجرائد ليعيشوا بدون نور إلا ما يرسله عليهم مشايخهم ممن خفت وطأتهم ولله الحمد بعد الدستور وكانوا مع الأعيان فيما مضى يعرقون لحم الفقير ويمتصون دمه ولا راحم فنفس القانون الأساسي من الخناق بعض الشيء وتوشك تلك البقعة من سلطة الجامدين من رؤساء الدين أن تذهب كأمس الدابر إذ ليس في متن الإسلام ولا في حواشيه وشروحه ما يقال له سلطة دينية. وفي الحال التي انتهى إليها المسلمون على اختلاف مذاهبهم عبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
تراجع التعليم تراجع التعليم الديني في عامل وكان إبطال امتحان طلبة العلوم الدينية أيام عبد الحميد من جملة الأسباب ولكن البلاد ما خلت ولا تخلو من مفكرين وعالمين ممن يعتبرون الأمور بمقاصدها وينظرون إلى النافع من حيث هو وقد كاد أعيان البلاد ينزعون تلك التقاليد التي وضعها الجامدون من الامتناع عن الاختلاط بالمخالف ولا سيما إذا كان(65/15)
من غير أهل الإسلام ومنهم اليوم من يبعثون بأولادهم إلى المدارس العالية في بيروت وفي صيدا وكأني بهم وهم يرسلون أبناءهم غداً إلى الغرب ليستقوا العلوم من مصادرها كما فعل أخوانهم المسلمون في بيروت ودمشق وبعلبك وحاصبيا ولو بعثوا من ناشئتهم لتلقي شؤون الدنيا بمثل العدد الذي يبعثون به إلى العراق لتلقف مسائل الدين إذاً لأصبح عامل أرقى بمجموعه من لبنان وما لبنان عنه ببعيد.
ولسائل أن يسأل ما إذا كانت عاقبة سلطة الرؤساء في المرؤوسين هنا فالجواب أنها علمت الكثير منهم الاحتيال وشهادة الزور والاستهتار بالشعائر سراً. أخلاق تجدها في كل مغلوب على أمره ارتضى غير قانون العقل دستوراً. ولا يفهم من هذا أن جبل عامل اختص بذلك من دون سائر بلاد الشام فإن هذا القطر متساو في أخلاقه إلا قليلاً ومتى تعلم أبناؤه التعليم الابتدائي لأن القارئين والكاتبين لا يزيدون في قرية من قرى عامل على عدد الأنامل ينزعون أيديهم ولا جرم من أيدي أولئك الذين قضى عليهم نكد الطالع أن يكونوا كالميت بين يدي الغاسل يحركونهم بحسب ما تملي الأهواء النفسية.
هذا إجمال عن بلاد عامل بقي أن نقول أن الحكومات أخطأت في تقسيماته الإدارية فجعلت مراكز الحومة في أقاصي تخومه وتركت أواسطه بدون وازع جعلت الأقضية في صور وصيدا ومرج عيون وأنشأت من النبطية وتبنين مديريتين والمديريات ضعيفة السلطة بالنسبة للأقضية والألوية ففي مديرية النبطية مثلاً 43 قرية فيها من السكان نحو 25 ألفاً أفلا يجدر بها أن تكون قضاء برأسه وهكذا لو نظرت في التقسيم الماضي لرأيته غير معقول والجبل يحتاج لبعض مديريات وبضعة أقضية لتحسن طرق جبايته ويكون للحاكم قوة تحول دون التعادي بيد أن الأمن موفور فيه خصوصاً بعد الحملة الحورانية التي سرت منافعها إلى أقاليم سورية عامة وتحدث القوم بانتباه حكومة الدستور لكل مشاغب ومنتقض يجاذبها حبل الخروج عن الطاعة ولو جمعت الأسلحة من جبل عامل واللكام لاستراحت سورية بأجمعها آخر الدهر إن شاء الله.
ورجاءنا أن يعود إلى هذا الجبل سكانه المهاجرون أو سوادهم الأعظم على الأقل وقد تهذبت عقولهم التهذيب الغربي في الجملة فيعمرون رباعه وبقاعه على نحو ما عمر اللبنانيون بلادهم ويبذروا فيها من المال في الطرق المحمودة ما يعود عليهم وعلى جبالهم(65/16)
وأوديتهم المخصبة الصافية بالرفاهية والراحة يعمرونها كما يعمر الصهيونيون القرى التي نزلوها من أرض فلسطين والجليل فقد مر بنا مكارينا بقرية المطلة في أقصى حدود الحولة وهي لجماعة من الإسرائيليين فرأيناهم بتنظيمها كقرى أوربا فهلا رأى السكان مجاوريهم وقلدوهم في مرافق الحياة والشؤون النافعة.
صيدا وصور
ما الروض إلا ريض باكره السحاب ولا نسيم الصبا عطر بالشيح والملاب ولا مجامع الأنس ولقاء الأصحاب ولا العافية في بدن ذي أسقام وأوصاب ولا النضارة في خدود الغنيات الكعاب ولا تغريد العندليب وأنين العود والرباب ولا نيل الأماني بعد طول التطلاب ولا رنات الأوتار تلين لها الصم الصلاب ولا كشف غوامض المسائل بعد أن خفيت عن طالبيها الأحقاب - ما كل بهذا بأجمل من نزول صيدا في نيسانها وأيارها وقد طرزت ضواحيها وحواشيها وترنحت بالمرقصات المطربات أعطاف شاديها وتغنت أطيارها في أشجارها وتفتقت أنوارها وفاح أريج تربتها الزكية وتسلسلت سواقيها النقية فضمخت الأرجاء بماء أزاهيرها وورودها فكانت بهجة النفوس وريحانة الرواح.
أتيتها من طريق صور وكنت قصدت هذه من النبطية قاعدة جبل عامل والمسافة بين النبطية أو النابطية وصور سبع ساعات عن طريق صعب في الجملة وليس في صور ما يستحق أن يذكر سوى تاريخها القديم أما حالتها الحاضرة فأشبه بقرية وسط جزيرة تتصل مع البر برمال وهي محصورة ضيقة وبلغني أن نفوسها لا يتجاوزون سبعة آلاف نصفهم من المسيحيين والنصف الآخر مسلمون وتجارتها ضعيفة جداً وزراعتها متوسطة وقد ذكر القدماء بأن صور هي التي أوجدت فن الزراعة وغرس الكرمة.
كان لصور شأن في القديم دونه اليوم ميناء همبورغ ومرسيليا ولندن ونيويورك ومن مينائها وميناء صيدا سافرت سفن الفينيقيين واستعمرت شواطئ البحر الرومي حتى بلغت مضيق جبل طارق بل تجاوزته في بحر الظلمات إلى أن بلغت الجزائر البريطانية واستعمرتها وأقامت فيها مصانعها ومتاجرها على حين لا ترى اليوم إلا قوارب حقيرة ومراكب شراعية صغيرة لا تدل على عظمة ولا تشعر إلا بفقر ومسكنة.
أصحيح أن صور التي لا تصدر الآن إلا قليلاً من القطن والدخان كانت فيما مضى تصدر(65/17)
إلى باب العالم المدني السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات وعسل جبل عاملة وأرجوان صيدا.
أصحيح أن هذه القربة الحقيرة الضيقة النطاق الكئيبة الدور والمنازل والحوانيت كانت ذات طبقات ست وسبع وثمان ويجلب الفينيقيون الماء في قوارب لتفاههم وهي مركز حكومة فينيقية التي كان طولها خمسين فرسخاً وعرضها نحو عشرة فراسخ يقصدها أصحاب النواحي المستقلين الذين يحكمون أنفسهم لفض المصالح المشتركة فكانت منذ القرن الثالث عشر أهم مدن فينيقية ضاقت على أهلها فأُقيمت مدينة جديدة قبالتها وأسس تجارها مستعمرات في البحر الرومي كله لأن زراعتها لك تكفهم. أسسوها ليصيبوا الفضة من مناجم أسبانيا وسلع العالم القديم وكم أسسوا مثل قرطاجة مدناً لا تزال أنقاضها شاهدة بعزها الداثر ولذلك كان تاريخ صور وصيدا عبارة عن تاريخ العالم القديم.
أصحيح أن ملوك آشور حاولوا مرات الاستيلاء على صور أي مدينة الصخر فردوا عنها خائبين لحصانتها ولم تخضع لسلطانهم إلا بعد العناء الطويل محافظة بإدارتها الأصلية وأن بخت نصر بعد أن حاصرها فاشتد في حصارها ثلاث عشرة سنة اضطر أن يعقد مع صاحبها ابتوبعل معاهدة وأن أهلها قدموا للفرس أساطيل مهمة ولذلك كان أول هم للاسكندر المقدوني أن يضرب على عظمة صور حتى تكف عن مد يد المعونة لعدائه الأكاسرة.
أصحيح أن القسم القديم من هذه المدينة المسمى ببالتيروس كان يمتد من نهر القاسمية في الشمال إلى رأس العين في الغرب أي على مسافة ساعتين ليس فيها الآن إلا رمال وبعض الزروع البسيطة وأن الاسكندر جعل عاليها سافلها ليبني بأنقاضها بين البر والجزيرة سدة الغريب وطوله خمسمائة قدم وعمقه ستون وأن حصاره لها دام سبعة أشهر وقد أجرى إليها الماء وأنها بعد هذا الحصار المنهك بسبع عشرة سنة تعاصت على أنتيفوس على عهد البطالة خمسة عشر شهراً وأنها كانت على أوائل انتشار النصرانية أهم مدن فينيقية وأولاها بالتقدم وظلت إلى القرون الوسطى من المواني التي صعب على الفاتحين أخذها ولو لم ينشأ اختلاف بين ملوك الطوائف لما وجد الصليبيون سبيلاً إلى الاستيلاء عليها سنة 1124 م ولقد حاصرها الملك الناصر صلاح الدين يوسف فكانت عليه صعبة المنال ولما سقطت عكا بأيدي المسلمين اضطر الإفرنج إلى الرحيل عنها بعد أن احتلوها 167 سنة(65/18)
أقاموا بها بعض الأبراج في البحر لا يزال بعض أنقاضها بادياً وحكمها الأمير فخر الدين المعني وعبثاً حاول إنهاضها من كبوتها
وإذا نظرت إلى البلاد رأيتها ... تشقى كما تشقى العباد وتسمد
أصحيح أن عكا وصور وهما الآن فرضتان حقيرتان جداً من موانئ الشام كان لهما من المكانة في القديم ما لم تحز بيروت بعضه اليوم مهما بلغ من مجدها البحري وأن صور كانت هي وعكا ميناء دمشق وسائر المدن الداخلية منهما تصدر التجارات وترد الواردات وهمما مقصد السياح من الشرق إلى الغرب وبالعكس.
قال ياقوت: إن صور مشرفة على بحر الشام داخلة في البحر مثل الكف على الساعد محيط بها البحر من جميع جوانبها إلا الربع الذي منه شروع بابها وهي حصينة جداً ركينة لا سبيل إلا بالخذلان وهي معدودة في الإسلام من أعمال الأردن بينها وبين عكة ستة فراسخ وهي شرقي عكة. وذكرها شيخ الربوة من جملة العجائب فقال: إن البحر الرومي منها رمية نشاب وهي مربعة البناء من خارج وهي مثمنة من الداخل وعمق الماء إلى أسفل ثلاثة وأربعون ذراعاً بالكبير ويخرج منها ماء كثير وجريته فرسخين يجري إلى المعشوقة يسقي أنصاباً ومزروعات وروى ابن فضل الله: إن صور كانت ولاية في القرن الثامن وفيها كنيسة يقصدها ملوك من البحر فلهذا لا يزال عليها الرقبة وهم على هذا يأتونها مباغتة ثم يفضون فيها ما أرادوا ثم ينصرفون ولعل تلك الكنيسة هي كنيسة اللاتين التي يقال أنها من بناء الملك قسطنطين وقال البكري إن السفن كانت تسلك من الاسكندرية إلى أبي قير فدمياط فبحيرة تنيس ثم إلى جزيرة دبقوا وهي التي تصنع فيها الثياب الديبقية ثم إلى تيدار ميماس (؟) ومنها إلى غزة فمليحة الواردية فعسقلان فقيسارية فرأس الكرمان (لعله رأس الكرمل) فحيفا فعكا فصور وهي داخل البحر وهي ساحل بيت المقدس ثم إلى صيدا ثم إلى بيروت ثم إلى طرابلس الخ. وأنت ترى اليوم أن من بين هذه الموانئ السورية ما لا تقف عليه المراكب مثل عسقلان وقيسارية وصور وصيدا فسبحان محول الممالك قرى وجاعل المجاهل معالم.
وقال الشريف الإدريسي: بأن صور كانت مرسى يدخل إليه من تحت القنطرة وعليه سلسلة تمنع الراكب من الدخول قال ابن سعيد: صور التي لا يرام لحصار من جهة البر(65/19)
وقد حفر الإفرنج حولها أداروا بها البحر قال العزيزي وبين صور وعكا اثنا عشر ميلاً وفتحت في سنة تسعين وستمائة مع عكا وخربت وقد نقل معاوية إليها وإلى عكا قوماً من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية سنة 42 وكانت خراباً يوم مر بها ابن بطوطة سنة 726 وبخارجها قرية معمورة سكانها من الستوزة؟ قال أن بابها الذي للبحر بين برجين عظيمين وبناؤها ليس في الدنيا أعجب وأغرب شأناً منه كما مر بها ابن جبير قادماً من عكا في طريقه على حصن كبير يعرف بالزاب لزيب وهي مطلة على قرى وعمائر متصلة وعلى قرية مسورة تعرف بإسكندرية وقال في وصف صور:
مدينة يضرب بها المثل في الحصانة لا تلقي لطالبها بيد طاعة ولا استكانة قد أعدها الإفرنج مفزعاً لحادثة زمانهم وجعلوها مثابة لأمانيهم هي أنظف من عكا سككاً وشوارع وأهلها ألين في الكفر طبائع وأجرى إلى بر غرباء المسلمين شمائل ومنازع فخلائقهم أسجع ومنازلهم أوسع وفسح وأحوال المسلمين بها أهون وأسكن وعكة أكبر وأطغى. وأما حصانتها ومنعتها فأعجب ما يحدث به وذلك أنها راجعة إلى بابين أحداهما في البر والآخر في البحر وهو يحيط بها الآن من جهة واحدة فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعاً منها يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جداً معقود بالجص فالسفن تدخل تحت السور وترسى فيه وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها وعلى ذلك الباب حراس وأمناء لا يدخل الدخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع ولعكة مثلها في الوضع لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وإنما ترسي خارجها والمراكب الصغار تدخل إليها فالصورية أكمل وأجمل وأحفل قال وهاتان المدينتان عكة وصور لا بساتين حولهما وإنما هما في بسيط من الأرض افيح متصل بسيف البحر والفواكه تجلب إليهما من بساتينهما التي بالقرب منهما ولهما عمالة متسعة والجبال التي تقرب منهما معمورة بالضياع ومنها تجبى الثمرات إليهما وهما من غر البلاد.
وقال ابن خرداذبة: وسواحل جند دمشق عرقة طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وحصن(65/20)
الصرفند وعدلون وسواحل جند الأردن صور وعكا وبصور صناعة المراكب أي المسلحة (الترسانة) وفي نزهة المشتاق: ومن إسكندرية إلى مدينة صور خمسة عشر ميلاً وهي مدينة حسنة على ضفة البحر ومن صور إلى طبرية يومان كبيران ومنها إلى عدلون وهو حصن منيع على البحر ومنه إلى صيدا عشرة أميال وبين صور وصرفند يقع نهر ليطة ليطاني ومنبعه من الجبال ويقع هناك في البحر ومن صور إلى دمشق أربعة أيام وذكر ياقوت في المشترك أن صور أشهر مدينة بساحل الشام وحصنها وأحسنها افتتحت في أيام عمر بن الخطاب وبقيت في أيدي المسلمين إلى سنة 518 في أيام الآمر بالله فأخذها الفرنج.
هذا كلام الإفرنج والعرب في صور وقد بتنا فيها ليلة انقبضت فيها النفس انقباضاً لم يعرض لها في أحقر القرى التي مررنا بها في رحلتنا ومن الغد ركبنا المركبة إلى صيدا في أراض مزروعة وجداول منسابه والمسافة أربع ساعات وليس في الطريق من أثر إلا بقايا أنقاض الصرفند وتعرف قديماً باسم الزاربات وعدلون ومغارة اسمها معارة البزاز يرشح الماء من أعلى صخر منها المتجمع من مياه المطر فيشرب منه الرعاة حيث يلجأون في الشتاء ويعتقد بعض العامة أن كل مرضع جف لبنها وانقطعت درتها تستشفي يرشح من قطرات الماء فيدر لبنها ولم يقم دليل على ذلك في الحس كما لم يقم حتى الآن دليل على الاستشفاء بالأماكن المباركة وبعض المعابد ومحال النسك وما النذور التي ينذرها بعض عامة المسلمين من السنة والشيعة والرحال التي يشهدونها من القاصية إلا من باطل السعي ومخلفات القرون الوسطى لا يؤيدها نقل ولا يقول بها عقل.
وفي الطريق إلى صيدا بعض نواويس ومسلات منها ما هو يوناني ومنها ما هو فينيقي ومنها ما هو مصري كما تجد أحواضاً وقبوراً ومعاصر زيت وأنقاض معابد وغيرها والمهم مما كان هنا وفي صيدا نقله علماء الآثار إلى متحف الأستانة أو متاحف أوربا سراً. ومدخل صيدا بحدائقها الأنيقة مدخل المدن الكبرى وإن لم يتجاوز نفوسها عشر ألفاً ولذا رجح بعضهم أن الفينيقيين اختاروها لجمال جزين والريحان وعامل مطلة عليها إطلال الأب على ابنه أو العاشق على معشوقه.
وكيف لا يبهج الأباصر رؤيتها ... وكل روضٍ بها في الوشي صنعاء(65/21)
أنهارها فضة والمسك تربتها ... والخز روضتها والدر حصباء
وللهواء بها لطف يرق به ... من لا يرق وتبدو منه أهواء
ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً ... ولا انتشار لآلي الطل أنداء
وإنما أرج الند استسار بها ... في ماء ورد فطابت منه أرجاء
اختلف المؤرخون في صور وصيدا وأيهما كانت أكبر وأفخم على عهد الفينيقيين ويقول استرابون أن صور أقدم مدن فينيقية وأعظمها بعد صيدا وقد جعل صور العتيقة على مسافة نحو خمسة كيلو مترات ونصف من صور الحديثة أما بلين فيقول أن المدينة القديمة والحديثة متصلتان ببرزخ إحداهما مع الأخرى ومحيطهما 27 كيلومتراً أما المدينة الأصلية فمساحتها زهاء أربعة كيلومترات.
ظفر الباحثون بنقود فيها رسم أنطوخيوس الرابع قبل المسيح بمائة وثماني وستين أو سبع وستين سنة كتب عليها أنها ضربت في صور أم الصيدونيين ووجدت أيقونة أخرى كأنها رد على هذه الدعوى مكتوب عليها الصيدونيين مذلولون صور الكاذبة وهكذا تنازعت صور وصيدا شرف التقدم كما تنازعتا مدينة صرفند (صرفت) التي بناها أهل صيدا على 15 كيلو متراً ونصف جنوبي صيدون على الشاطئ ومعناها سبك المعادن من صرف العبراني أي ذوب.
بيد أن التاريخ ناطق بأن صيدا وإن سبقت الفينيقيين بتأسيس المستعمرات منذ عهد عريق في القدم فأنشأت هيبون في نوميديا وقرطاجنة في شمال أفريقية فقد سبقتها صور فيما بعد وتبين أن صيدا كانت من عمل صور حتى كانت صيدا تعرف باسم صور صيدا وظلت صيدا مستقلة في شؤونها الداخلية وكان لها حق على عهد الرومان مجلس شيوخ وحاكم أكبر كالذي كانت تنصبه الجمهوريات اليونانية. ولم يشتهر الصيدونيون بأنهم والصوريين أساتذة العالم في تجشم البحار بل اشتهروا أيضاً بأنهم أساتذة أيضاً في علم النجوم والرياضيات.
خربت صيدا سنة 351 ق. م عقب انتفاضها على ملك فارس وقتل وحرق فيها 40 ألفاً وفتحت أبوابها بنفسها للفاتحين اليونانيين ثم استولى عليها الرومان وكان يطلق عليها اسم قائدة المراكب وأم القرى والمستعمرة السامية وافتتح المسلمون صيدا سنة 637 و 38 م(65/22)
بدون مقاومة وقامت على عهد الصليبيين أهوالاً ودفعت مالاً سنة 1107 حتى رفع الصليبيون عنها الحصار إلا أن بودوين الأول عاد فاستولى عليها سنة 1111 وبعد وقعة حطين دك السلطان صلاح الدين أسوارها سنة 1187 م ثم عاد الصليبيون فاستولوا عليها سنة 1197 واستخلصها منهم الملك العادل وخربها في تلك السنة فأعاد الإفرنج بناءها سنة 1228 فخربها المسلمون سنة 1249 ثم حصنها سان لوي سنة 1253وابتاعها فرسان الهيكليين الصليبيون وهاجمها المغول سنة 1260 فجعلوا عاليها سافلها ثم وقعت في أيدي المسلمين ودك الملك الأشرف حصونها.
ولم تنهض صيدا من كبوتها إلا في القرن السابع عشر على عهد الأمير فخر الدين المعني أحد أمراء الدروز الذي جعلها مقر ولايته ونشط الأوربيين على نزولها حتى أزهرت تجارتها وأقام فيها قصراً له وخانات للتجارة وكان بعضهم من أهل طوسكانيا في إيطاليا وبعضهم من الفرنسيين وجلب تجارة الحرير إليها ثروة هائلة وظلت المدينة متقدمة في تجارتها إلى أواخر القرن الثامن عشر وامتدت ايالة صيدا سنة 1838 فتألفت من بلاد ساحل عتليت وعكا وشفا عمرو والجبل والشاغور وبلاد بشارة وطبرية وصفد والناصرة وتوابعها من القرى والعرب المخيمين في ضواحيها وقد ضربت أساطيل الأوربيين المتحدة سنة 1840 قلعة الرفاء وما زالت أنقاضها بادية.
وكانت صيدا مرفأ دمشق الوحيد في القرن السابع عشر والثامن عشر كما كانت في القرون الوسطى وبين دمشق وصيدا ستة وستون ميلاً والميل ثلاثة آلاف ذراع أو ستة وتسعون ألف إصبع والفرسخ ثلاثة أميال وثلاثمائة ألف إصبع يقص اثني عشر ألف إصبع وكانت الطريق على رواية العزيزي من صيدا إلى مدينة مشغرا وهي أنزة بلد في تلك الناحية في واد في نهاية الحسن بالأشجار والأنهار والمسافة أربعة وعشرون ميلاً ومن مدينة مشغرا إلى مدينة تعرف بكامد (الغالب أنها كامد اللوز قرية في غربي البقاع) قاعدة تلك البلاد قديماً ستة أميال ومن مدينة كامد إلى ضيعة تعرف بعين الجر ثمانية عشر ميلاً ومن عين الجر إلى مدينة دمشق ثمانية عشر ميلاً.
ولا يعرف بالتحقيق الباني الأول لصور وصيدا والأرجح أن الأولى بنيت في أيام جلعاد من سبط منشأ بني عمون اليهود والثانية بناها صيدون بكر كنعان. وكانت مدينة صيدون(65/23)
أي صيدا أول ما أحدثه كنعان علة بضعة مراحل من جنوبي بيروت ولم تكن إلا قرية للصيادين (كما يدل عليه اسمها نفسه) بناها على ما جاء في روايتهم القديمة الإله بعل (المعروف عند اليونان بسم آجنور) على المنحدر الشمالي لرأس صغير يشرف بانعطاف نحو الجنوب الغربي وقد كان لميناها عند السلف شهرة فائقة وهي محصورة بين صخور منخفضة متتابعة تبتدئ من النهاية الشمالية لشبه الجزيرة ثم تمتد بحذاء الساحل على مساحة بضع مئات من الأمتار والسهل المحيط بها يسقيه نهر جميل يعرف باسم بوسترين نهر الأولي وفيها كثير من البساتين الغناء الاريضة حتى أوجب هذا الموقع الطبيعي وهذا الجمال الخلقي تسميه المدينة بصيدون الزهراء وبحوارها شمالاً نهر الدامور وهي تمتد جنوباً إلى مصب نهر الليطاني وفيما وراء ذلك من البلاد كان في حكم الصوريين.
قالوا وفي الأحقاب الخوالي التي مضت على العالم أي أيام كان الآلهة يعيشون بين الناس اختط سمروم على القارة رسم مدينة من قصب الغاب وأمامها استقر أخوه هيزعوس في بضع جزار أقام فيها أعمدة مقدسة. وهيزعوس هذا أول بحري في العالم. وكان هذا مبدأ صور ثم جاءها بعد ذلك ملكارت وهو عند الصوريين مثل هرقل الجبار المشهور في جاهلية اليونانيين ويؤكد كهنة هذا الرب أن هيكله بني هو والمدينة في وقت واحد وقد مضى نحو ألفي سنة وثلثمائة سنة حينما زارهم المؤرخ هيرودتس فعلى حسابهم يمكننا أن نقول بأن مدينتهم هذه أسست في نحو سنة 2750 ق. م.
استكانت صور صيدا للفاتحين كما استكانت جبيل وبيروت من مدن الفينيقيين فتفرغت إلى عهد رعمسيس الثاني أحد ملوك الفراعنة لاحتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر الأبيض المتوسط وفي القرن الثاني عشر ق. م حصلتا على استقلالهما لما ضعف أمر العائلة العشرين من الفراعنة وكان خلال ذلك العهد كل من صور وصيدا عبارة عن دولة صغرى تطمح إليها أنظار مجاوريها بسبب ما أحرزتاه من توفر أسباب الثروة ولكنهما قاومتا هذه الأطماع مدة بما كان لهما من الحصون والأسوار غير أنهما لم يتأت لهما البقاء زماناً على هذا الاستقلال فأقلع من عسقلون (عسقلان) أسطول فلسطيني سنة 1210 وتلاقى بعمارة الصيدونيين فدمرها تدميراً ثم استولى على مدينة صيدون ومن نجا من أهلها فروا إلى صور فقويت بهم حتى صارت أقوى دولة فينيقية وفي أيام حيرام الأول(65/24)
(980 - 945 ق. م) بلغت صور ببحريتها أعلى الدرجات وانبسط سلطانها.
كانت صور متفرقة في عدة جزائر يفصل بعضها عن بعض ألسنة من البحر ليست بالعميقة بل تتخللها صخور طافية رؤوسها على صفحات الماء من جنس الصخور التي يتعذر معها اقتراب السفن في بعض المواضع من سواحل الشام فردم حيرام تلك المضايق التي تتخللها مياه البحر بجسور حصينة وردوم أقامها فاتسعت رقعة المدينة ولكنها لم تكن لتسع سوى ثلاثين إلى خمسة وثلاثين ألفاً وأقام ملوكها وتجارها قصورهم في أواخر سفح لبنان وبقيت الجزيرة مركز الحكومة.
وظلت صور راضية بأداء الجزية للفاتحين حتى نشب القتال بين ملكها ايلولي 768 - 692 والملك تغلات فلازار الثالث صاحب آشور انتهت بهلاكه ووقوع صور في قبضة الآشوريين ولما سقطت نينوى عاد لصور استقلالها وفازت بدفع بخت نصر عنها بمعاونة الفراعنة الصاوبين واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة من سنة 574 إلى سنة 587 ولكن نزفت قوتها بفتنتها الأهلية وفي سنة 557 أعيدت إلى سيطرة الكلدانيين ولما سقطت بابل في سنة 538 حصل لصور وفينيقية ما حصل لها فدخلت في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال.
كان لكل من صور وصيدا كما كان لكل مدن فينيقية رب خاص بها بعل وله عشتاروت اسطارطوس وهي آلهة أنثى وكانت البعليم والعشتاروت تمثل قول الطبيعة والشمس والكواكب أو الأغراض التي تتجه إليها نفوس بني آدم مثل العشق والقتال وكانت هذه الآلهة متوطنة في المرتفعات والمشارف وفي الغابات وفي المياه وفي الأحجار الخام بيت ايل - بيت الإله وكانت هذه الآلهة تؤول إلى زوج واحد أعلى أو إلى سبعة آلهة كبراء تحف باشمون الذي هو الإله الخالق وكانت عبادة هذه الآلهة غير منتظمة ومحفوفة بأساليب القسوة فكان القوم يحرقون الأطفال تمجيداً لها وإذا حل الانقلاب الصيفي أخذوا يندبون أدونيس ثم إذا جاء الخريف احتفلوا ببعثه ونشوره. ثم دخلت بعض القواعد الدينية المصرية في ديانة الفينيقيين.
أخذت فينيقية عن مصر حروف الهجاء ومن الحروف الهجائية الفينيقية اشتقت حروف الهجاء الأوربية. وأثرت في فنونهم من صياغة ونقش ونحت وعمارة وعمل زجاج(65/25)
وصناعات كلديا تارة أخرى واشتهرت صناعة الفينيقيين عند القدماء فقد أتقنوا طرق اصطناع الزجاج وحفظوا زماناً سير تحضير الأرجوان وفي الآثار التي عثر عليها في أمريت أي مارات القديمة ما يستدل به أن المدينة المصرية أثرت كل التأثير في المدينة الفينيقية بل أن معاصر الزيوت ذات الأجهزة الضخمة تشبه الآثار المصرية كل الشبه وكذلك أواني الفضة والشبهان البرونزالتي كانت تصنع في صور تراها مزخرفة بأشكال مصرية وممثلة لموضوعات مصرية وكذلك الجواهر والأساور والخناجر ودروع الخواصر والخواتم والأقراط تشبه المصنوعات المصرية فلم يكن للفينيقيين قط فنون وطنية خاصة بهم متأصلة فيهم لأنهم اقتصروا في كل عصر على تقليد أعمال الأمم التي تحكمهم فكانوا يقلدون الصناعات المصرية والآشورية أيام كانت حكومة بلادهم في أيدي المصريين والآشوريين فلما حكمهم اليونان ثم الرومان حاكوا الصناعات اليونانية.
وبالجملة فإن صور وصيدا كانتا مدينتي صناعة وتجارة يحمل أبناؤهما مصنوعاتهم ومصنوعات غيرهم إلى الجهات القاصية وهم وحدهم كانوا ينقلون البضائع في البحر المتوسط مدة قرون طويلة.
هذا ما يساعد المقام على اقتباسه من تاريخ العاصمتين القديمتين أما حالتهما الحاضرة فمتأخرة وإن كانت صيدا ترجح على صور كثيراً خصوصاً بحدائقها الأنيقة التي يعود عليها منها دخل وافر لا سيما في البرتقال والليمون واللوز والمشمش والموز والبلح ويني دنيا وهو شجر حديث أدخل المالطيون زراعته إلى صيدا أولاً منذ نحو أربعين سنة وله طعم حلو مز وبذر كبير.
إن تلك البقعة التي تقدر بنصف غوطة دمشق بمساحتها في ذاك السهل النضير الذي تطل عليه قمم لبنان مغطاة بالثلوج وجبل الريحان وتومات نيحا وصيدا في عمرانها اليوم صورة مصغرة من عمران بيروت وفيها من المعاهد والمصانع مثل ما في الأولى فلها مدرسة صناعة لمبشري الأميركان ومدرستان لهم للذكور والإناث كما فيها مدرسة لليسوعيين وأخرى للفرنسيسكان وثالثة للاتحاد الإسرائيلي ومدارس ابتدائية لجمعية المقاصد الإسلامية لا تعلق لها بجمعية بيروت المسماة بهذا الاسم ولا بجمعية النبطية التي أطلق عليها مثل هذا الاسم أيضاً وفيها مكتب ابتدائي ورشدي أميري وغير ذلك من الجوامع والكنائس كما(65/26)
أن فيها مزاراً يقال أن فيه شيئاً من جثة يحيى الحصور عليه السلام وهذا غير ثابت في التاريخ كما لم تثبت الدعاوي التي من قبيله.
وفي صيدا تصدر مجلة العرفان لمنشئها صديقنا أحمد عارف أفندي الزين وهي مجلة راقية خادمة للآداب العربية امتازت بما تنشره لعلماء جبل عامل والنجف وإيران وشعرائهم وكتابهم وما ترويه من آثار العلويين وتاريخهم ولها مطبعة متقنة وهي المطبعة الوحيدة في هذه البلاد وبالنظر لقرب المسافة بين صيدا وبيروت اكتفى الصيدونيون بجرائد بيروت ولم ينشروا جرائد لهم خاصة.
وقد فتحت صيدا شارعاً طويلاً لها أقامت فيه الدور والحوانيت على الطراز الجديد في الجملة أما بناء المدينة القديم فضيق معوج مثل أبنية بيروت وطرابلس القديمة أو أدهى وماؤها عذب يأتي في أنابيب مثل ماء بيروت ويستقى منه في أعالي البيوت وبلديتها تعتني بتنظيفها أكثر من عناية بلدية دمشق وبيروت.
وقصارى القول فإن صيدا كما قال أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري تصيد القلوب صيدا وعلى رأي ابن الساعاتي وقد مر بها يوم كانت بيد الإفرنج فرأى مروجاً خضراء كثيرة نباتها النرجس واتفق أنه هرب بعض الأسارى من صيدا فأرسلت الخيل وراءه فردته فقال:
لله صيداء من بلد ... لم تبق عندي بلى دفينا
نرجسها حلية الفيافي ... قد طبق السهل والحزونا
وكيف ينجو بها هزيم ... وأرضها تنبت العيونا
مرج عيون
عدنا من صيدا إلى النبطية في مركبة وذهبنا من الغد في زمرة من الإخوان لزيارة قلعة الشقيف التي نسبت إليها البلاد المحيطة بها ويرد عهدها إلى قبل الصليبيين عرفها الإفرنج للمرة الأولى سنة 1179 ولما استولى عليها الصليبيون سموها الحصن الجميل وحق لهم أن يسموها كذلك لجمال موقعها المطل على نهر الليطاني المنسابة مياهه في أسفل الوادي العميق ومن الجانب الآخر بعض القرة المبثوثة في الخضرة التي تأخذ بمجامع القلوب ومن البعيد سهر مرج عيون الوارد ذكره في سفر الملوك وينتهي هذا المرج بجبل الشيخ(65/27)
وبجانبه قلعة الصبيبة المطلة على حولة بانياس وبلاد بشارة أو جبل عامل وفي الجنوب بلاد نفتالي الجبلية إلى ضواحي صفد وعلى اليمين جبل الجرمق.
ومن قلعة الشقيف أيضاً ترى قلعة هونين وفي الشمال الشرقي تصعد العين الوادي وفي أعلاه جبل الريحان منظر يملك على الإنسان مشاعره فيدهش له ويبتهج ينظر القلعة فيراها محلقة في الجو كالعقاب تدل كل الدلالة على قدرة الإنسان حتى في سالف الأحقاب ويقع نظره من جهة أخرى على أجمل مناظر سورية وتتمثل له هذه البلاد وما قاسته من مطامع الفاتحين وسيئات الظالمين المستبدين.
وفي هذه البقاع التي منحتها الفطرة أسباب الصفاء والرواء تطاحنت سنين كثيرة جيوش أهل الصليب وأهل الإسلام فأهلك الإنسان أخاه بسائق الدين في الظاهر وسائق المطامع الدنيوية في الحقيقة ولولا عزيمة من صلاح الدين يوسف بن أيوب نسفت الأهواء لتجردها عن الأهواء لكانت بلادنا اليوم ملكاً لدول أوربا أو لأحداهن ولما بقيت للإسلام والعرب كله تسمع في هذه الديار كما وقع لشبه جزيرة الأندلس وجزيرة صقلية من قبل.
وقلعة الشقيف كسائر قلاع القرون الوسطى في بلاد الشام من بناء كثير من الملوك والمتغلبين وأهم أبنيتها من أواخر العهد الروماني ومعظمها من بناء العرب وفيها معبد أو مصلى من القرون الوسطى من الجهة الشرقية وهي محاطة من الجنوب ومن الغرب بهوة عميقة محفورة في الصخر عمقها من 15 إلى 36 متراً ومن الجنوب فقط لتصل القلعة بذروة الجبل ومدخلها إلى الجنوب الشرقي وطولها 120 متراً وعمقها 30 من طرفها الشمالي بناء ناتئ طوله 21 متراً متجهاً إلى الشرق وفناؤها أو صحنها في الجهة الشرقية منها عمقه نحو 15 متراً ومثلها الأبنية الخارجية ولها انحدار يختلف من 6 إلى 9 أمتار وقد قام على الحائط الجنوبي برجان على شكل نصف دائرة.
قامت القلعة على هذا المثال بحيث أعجزت المهاجمين ويقال أن صلاح الدين لم يستطع أخذها بالمنجنيق إلا بضربها به من قرية القليعة في الشق الآخر من الوادي على مسافة لا تقل عن أربعة كيلومترات وفي رواية تدور على ألسن أهل القرى هناك أنه حاصرها أشهراً ولم يستول على حاميتها إلا بحيلة دبرها قروي من أهل ذاك الجوار فدعا الحامية خارج القلعة لمأدبة أعدها لها وكانت الحامية مستأمنة له وقد أنهكها الجوع حتى صارت(65/28)
تأكل الفيران والجرذان فما شعروا وهم مشتغلون ببطونهم إلا وعسكر صلاح الدين قادمون بطعام في زي النساء حتى اقتربوا منهم فباغتوهم فلم ينج منهم نافخ نار.
والصحيح في فتحها ما قاله العماد الكاتب من أن صلاح الدين قد إلى شقيف ارنون من دمشق ماراً بقلعة بانياس وأتى مرج عيون رخيم منه بقرب الشقيف وجمع على من به من آلات الحصار أسباب التخويف وأقام عسكره في ذلك المرج الوسيع والروض الوشيع وكان الشقيف في سد صاحب صيدا ارناط فأمهله ثم أمهله ولم يجد صاحب الحصن ملجأ وتحول السلطان من مخيته إلى أعلى الجبل لمحاصرة الحصن ورتب له عدة من الأمراء إلى أن تسلمه بعد سنة بحكم السلم وكانت مرجعيون تتوافد إليها جموع المتطوعة من دمشق وحوران والمرج والغوطة قال: وفي يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول تسلم بالامان شقيف ارنون واستمر الحصار عليه منذ نزولنا في السنة الماضية بمرج عيون وصاحبه ارناط صاحب صيدا في دمشق لأجله معتقل وباب خلاصه دون فتح شقيفه مقفل وذلك أن الشقي فنى زاده وعز اجتهاده ومرد عليه في الحفظ مراده وخانه في البصر ارتياؤه وارتياده ونخب من الرعب فؤاده وأصلد باليأس زناده وامتنع عليه إصداره وإيراده فسلمه على أن يسلم صاحبه وتخلص في النجاة مذاهبه وخرج هو ومن معه وترك الشقيف بما فيه وتركه للإسلام بما يحويه وأفرج عن صاحب صيدا وصار إلى صور ولبس من التشريف والتسريح حبير الحبور.
وبعد صلاح الدين نزلت القلعة الحامية الإسلامية وما زالت تتقلب عليها الأحوال حتى سكنها في القرن الماضي أبناء العشائر أو حكام جبل عامل ولم يغادروها إلا في النصف الأخير من القرن السابق أما اليوم فقد أمست زريبة يأوي إليها الرعاة بغنمهم وماعزهم.
غادرنا عصر اليوم الخامس عشر من سياحتنا إلى مرج عيون أو مرجعيون كما يقال لها اليوم فاجتزنا إليها جسر الخردلة الممتد على نهر الليطاني ومرج عيون كانت مملكة من ممالك إسرائيل تحيط بها حدود رحوب وقادش وخاصور وافيق أي سهل هذا المرج الذي يمتد نحو عشرة كيلو مترات وعلى نحو كيلو مترين من الجديدة مركز مرج عيون اليوم تل دبين وهي ربوة في السهل فيها بعض خرائب تدل على أنه كان هناك مركز عيون وعيون هذه كانت عرضة لهجمات آرام وآشور منها أخذت هذه المقاطعة اسمها وقال بعضهم أن(65/29)
عيون هي دبين وهي قرية على ميلين شمالي جديدة مرج عيون وعلى تل دبين آثار قديمة ذات شأن وقيل هي الخيام على ميلين إلى الجنوب الشرقي من الجديدة.
واختلفت الأحوال على مرج عيون في الحكومات الإسلامية فكانت من أعمال صفد وسماها أبو الفدا مرج العيون بألف ولام وسماها غيره مرج عيون وهذه التسمية نشأت في الغالب للعيون الكثيرة التي تنبع من أرض الجديدة خصوصاً وهي عجيبة لا تكاد تخلو قطعة من عين تنبض فيها مع أن الجديدة على سطح مستو في رأس جبل لا اتصال بينها وبين القمم العالية حيث تبقى الثلوج أشهراً كما هو الحال في قمم صنين في لبنان الغربي وقمم حرمون أي لبنان الشرقي وإلى شرق مرج عيون جبل الشيخ وقراه وإلى الجنوب بلاد بشارة بحيرة الحولة وإلى الغرب قرى بلاد الشقيف وإلى الشمال جبل الريحان وتومات نيحة أو شقيف تيرون.
وعلى ميلين من الجهة الثانية عند منفرج الوادي قرية ابل ويقال لها ابل السقي تمييزاً لها عن ابل القمح من أعمال مرج عيون أيضاً وفي منتصف الوادي على نفس السطح الذي قامت عليه قرية ابل قرية الخيام أو الخيم. والجديدة والسقي والخيام ثلاث بلدان كأنها بلد واحد ذات ثلاثة أحياءٍ لا تقل نفوسها عن اثني عشر ألف نسمة والغالب أن ابل السقي كانت بعد الإسلام مقر عمل تلك الكورة بدليل ما قاله ابن خرداذبة: كورة السقي وجرثبة والحولة وقال ومن أخذ من بعلبك إلى طبرية على طريق الدراج فمن بعلبك إلى عين الجر عشرون ميلاً وإلى القرعون وهو منزل في بطن الوادي خمسة عشر ومن قرعون إلى قرية يقال لها العيون تمضي إلى كفر ليلى عشرون ميلاً ومن قرعون إلى طبرية خمسة عشر ميلاً وعد ابن خرداذبة من جملة كور الأردن كورة آبل ولعلها أيضاً هي بعينها اوابل القمح. ويقول ياقوت أن السقي قرية بظاهر دمشق ولم يقل عن مرج عيون إلا أنها بساحل الشام والغالب أنها لم تكن مشتهرة في عهد وإن كان لها ذكر في الفتح الصلاحي.
ويتبع قضاء مرجعيون اليوم كثير من قرى جبل عامل وعدد قرى قضائها 54 قرية منها المهم جداً بتاريخه وكثرة سكانه كبنت جبيل وهونين ودير ميماس ميس ولا تقل نفوس القضاء عن خمسين ألفاً ورما كان المهاجرون منهم نحو خمسهم كثير منهم الذين وفقوا بين أميركا وأثروا ولا سيما سكان الجديدة مركز القضاء ممن لا تجد بينهم أمياً من الذكور(65/30)
والإناث ولا تشبهها بهذا المعنى بلدة في سورية إلا الناصرة فيما أذكر لأن تنافس الطوائف النصرانية على تأييد نفوذهم ودعوتهم فيها دعا كل منها إلى فتح المدارس وتعميم التعليم مع التعاليم وقد فطر أهل هذه البلدة على التقليد المفيد فإذا علم أحدهم ابنه لا يلبث جاره أن يحذو حذوه وهكذا حتى أصبح أهل القصبة وأكثرهم مسيحيون متعلمين.
أما المسلمين فشأنهم شأنهم في كل مكان مررنا به: يضن الأغنياء منهم بأموالهم حتى على تعليم أولادهم والفقراء اتكلوا على الحكومة وهيهات أن يتعلم ولد يسلمه أبواه لمعلم تعينه المعارف هذا إذا فتحت لها مكاتب في مراكز الأقضية فما هو الحال في سائر القرى التي تمر بالعشرين والثلاثين والأربعين منها ولا تجد فيها مدرسة أميرية ولذلك ترى أبناء المسلمين ينصرف غنيهم على الأغلب إلى الفسق والاعتداء ولا يجد فقيرهم متسعاً له من العيش ليتعلم فيرعى الماشية ويعيش في الجهل المطبق عمره.
دخلت جديدة مرج عيون بالمتعلمين من سكانها في طور المدن ومثلها بعدد السكان كثير في بلاد هذا القطر فهي أصغر من حرستا وعربيل وداريا وجوبر من قرى غوطة دمشق التي لا تكاد تجد فيها مكتباً جيداً في الجملة ولكن أهلها على قلة عددهم أهم من جميع أهل الغوطة على قرب هؤلاء من دمشق لأن الغوطتين اتكلوا على الحكومة فلم تعلمهم ولن تعلمهم أما أولئك أفضل عليهم اللاتين والروم والبرتستانت فأحيوا نفوسهم بالآداب والمعارف على مناحيهم فأقام من أقام منهم عزيزاً وهاجر من هاجر منهم قادراً متعلماً.
وبينا تجد المسلمين يأكل كبارهم صغارهم على ما سمعته من تلك الدعوى الغريبة بين فقراء المسلمين في قرية الخيام وأعيانهم الذين سلبوهم فيما مضى على ما يقال أراضيهم لينجوهم من الخدمة العسكرية بكتم أسماء نحو ألفين منهم عن الحكومة نجد أغنياء المسيحيين يأخذون بأيدي ضعفائهم فيفضلون على المحاويج ويعلمون الأميين ويواسون من يستحق المواساة من البائسين ولا عجب فالعلم يعمر والجهل يدمر.
في الجديدة تصدر جريدة المرجلصاحبها صديقنا الدكتور أسعد رحال وهي من جرائدنا الأسبوعية الراقية وقد كان أكبر دواعي رواجها من النشيط المهاجرين من أهل المرج ولا سيما سكان الجديدة العقلاء المنورون ولا أعلم في مدن داخلية الشام جريدة أسبوعية تضاهيها بالرواج اللهم إلا إذا كانت جريدة حمص التي تباع أيضاً من المهاجرين(65/31)
الحمصيين بح بخ وزه زه.
وبعد فإن هذا المرج بطبيعته من أجمل ما وقعت عليه العين من البلاد التي عرجنا عليها في رحلتنا يشرح النظر منه ما شاء في روض بهيج لو أكثروا فيه من زرع الأشجار المثمرة لفاق غوطة دمشق وأشبه سهول فرنسا وجبالها خصوصاً وأكثر دور الجديدة وابل والخيام أصبحت تبنى على الأصول الحديثة بالحجر الصلد والقرميد البديع ولكل دار حديقة تحيط بها كالهالة بالقمر وما أرض المرج إلا كما قال الشاعر:
أرض إذا عبس الشتاء رأيته ... كملاءة ملئت من الكافور
وإذا الربيع تكاملت وجناته ... فمدبجات عطرت بعبير
وإذا المصيف تلألأت صفحاته ... ففواكه من يانع ونضير
وإذا الخريف تقلصت أردانه ... فمتاع أقوات من المذخور
جمعت بها شتى المنى فكأنما ... لقيا البشير بوصلة المهجور
وادي التيم
كتب لنا الطواف حول جبل الشيخ في هذه الرحلة ومشاهدة جهاته الأربع. وجبل الشيخ هو جبل حرمون بعينه المذكورة في التوراة وسماها العرب جبل الثلج قال حسان بن ثابت:
من دون بصرى ودونها جبل الثل ... ج عليه السحاب كالقدد
ويسمى أيضاً أمانة وبعل حرمون وسيئون وسؤيون وسنير زشنير وزعم بعض أصحابنا أن السبب في تسميته هو أن شيخاً من زعماء الطائفة الدرزية سكن مغارة في سفحه الغربي في القرن السادس للهجرة وتسمى مغارته الآن مغارة العباد وأقام هناك مع قومه السنين الطوال وبعض الإفرنج يعللون هذه التسمية ببياض الثلج الذي على قمته ويشبه رأس شيخ أشيب. وتسمية العرب لحرمون يجب الثلج تسمية طبيعية لأن علوه يحفظ الثلوج إلى آخر فصل الصيف ولا سيما في المنحدرات العالية التي لا تعبث بها الرياح الحارة والشمس على ما يجب وعلو أعلى قمة فيه 2670 متراً عن سطح البحر أو نحو 9400 قدم وطوله ثلاثون كيلومتراً أو ثلاثة وثمانون ميلاً أو سبع ساعات وهو إلى الجنوب الغربي من دمشق على بعد 30 ميلاً.
ومن الغريب في أمر هذا الجبل أن العيون المنبجسة من ثلوجه تكثر جداً من شرقيه أي من(65/32)
جهة وادي العجم وإقليم البلان كما تنبجس من جنوبيه أو ما يقرب منها مثل عيون نهر البانياسي والأردن وهو من سفوحه الغربية والشمالية ضنين بالماء جداً ولا سيما من جهات راشيا.
وبعد ذوبان الثلوج في أواخر الربيع يصعد إلى أعلى قممه بعض النظارة للنزهة والصيد وغالب صعودهم إلى قمة اسمها قصر شبيب وفيها إلى اليوم أنقاض بناء ولكن الوصول إليها يحتاج إلى سبع ساعات صعداً سواء كان من حاصبيا أو من راشيا أو من إحدى قرى إقليم البلان فيشهدون منه سورية بأجمعها ويرون بالمناظير والمجاهير دمشق وكيف لا وقمم حرمون أعلى جبال في سورية.
قدس القدماء حرمون وكان من الجبال التي يفزع إليها العباد كما تشهد لذلك المعابد الكثيرة في جواره بل في سفوحه وقممه وكان الإسرائيليون يعجبون بعلوه ويجلونه لأنه يجمع على ظهره وفي صدره الغيوم والسحب وقد ورد في نشيد الأناشيد كلام على الحيوانات الكاسرة التي تسرح فيه وتمرح ولا يزال فيه إلى اليوم جنس من الدب من النوع الذي يسميه الإفرنج وفيه أنواع من الثعالب والذئاب وضروب من الطيور وينبت فيه من النباتات ما ينبت في جبال سورية عامة وتجود فيه الكروم فوق 1440 متراً من سطح البحر وبعد هذا العلو يطلع البلوط والملول وعلى علو 150 متراً من الكروم ينبت نبات الصمغ السراس وعلى علو 1150 إلى 1650 يكون شجر مثمر ولكنه بري وثمره يؤكل وعلى السفح الغربي من الجبل يجود اللوز في مكان يدعى عقبة اللوزة. واللوز صنفان كما أن الخوخ الضخم صنفان وفي الجبل نوع من الكراز والأجاص وتنبت فيه أصناف أخرى من الثمار البرية وهو قاحل لا خضرة فيه إلا من سفحه الجنوبي حيث تنبت بعض النباتات مثل السيكران وغيره وجميع سفوح الجبل صعبة المرتقى غير مخصبة لقلة التربة فيها وفقدان المياه بعد أيام الربيع ولا يبعد أن السفوح القريبة منه كانتفي القديم مغروسة بالحراج والغابات الغبياء إلى الأمكنة التي يساعد هواؤها على الإنبات.
وفي الأطراف الغربية من جبل الشيخ أي بين جبل الشيخ وجبل البقاع الشرقي أودية وتلول يقال لها وادي التيم نسبة إلى تيم الله بن ثعلبة تفله عن وادي الليطاني الأعلى سلسلة تلال تمتد شمالاً إلى عين الجر في البقاع وعلى تلاله قرى عديدة تبلغ خمسة وعشرين(65/33)
قرية ومنها يتألف قضاء حاصبيا وقضاء راشيا أو التيم الأعلى وقاعدته راشيا كلمة سريانية بمعنى الرؤوس والتيم الأسفل وقاعدته حاصبيا كلمة سريانية ومعناها الجرار وإلى اليوم لا تزال آثار معامل الفخار في حاصبيا. ويحد ادي التيم شرقاًوادي العجم وإقليم البلان وشمالاً سهل البقاع وغرباً مرجعيون وجنوباً بلاد الحولة وغرباً جبل الشيخ.
وليس فيما ظفرنا به من كتب السلف إشارة تشعر بمجد سابق لمدينتي حاصبيا وراشيا قبل الحروب الصليبية والغالب أنهما كانتا حصنين فقط لصد هجمات المهاجمين على المدن الداخلية على نحو ما كانت قلاع تبنين وهونين والشقيف والصبيبة وغيرها وباستيلاء أمراء الشهابيين عليهما كثر الكلام بشأنهما في التواريخ الحديثة ففي سنة 557 قام آل شهاب من حوران وكانوا فيها منذ الفتح الإسلامي وأصلهم من الحجاز وزحفوا إلى وادي التيم بزعامة الأمير منقذ وكان نزولهم في بيداء الظهر الأحمر من الكنيسة الجديدة على ساعة ونصف من راشيا الوادي وكانت هذه البلاد تحت استيلاء الإفرنج فردهم آل شهاب واستنقذوها منهم في قصة يطول شرحها وكان المتولي على وادي التيم قبلهم الأمير ظهير الدين كرامة التنوخي صاحب ثغر بيروت فاتت جموع الإفرنج من صيدا وصور وعكا إلى حاصبيا فردهم الشهابيون على أعقابهم مدحورين وطردوا حاكمها الكونت أورا وبسطوا أحكامهم على هذا الوادي ثم اتصلوا بلبنان وتولوا أمره بعد الأمراء من آل معن واستولى الشهابيون على لبنان نحو قرن ونصف وقد تنصر بعض أفراد من أسرتهم ممن حكموا لبنان ولم يزل أعقابهم إلى اليوم مسيحيين أما من بقوا في وادي التيم فظلوا مسلمين ومنهم اليوم طبقة متعلمة تتولى الوظائف في الحكومة ولذلك غلط بيدكر في قوله أن بني شهاب هم من أمراء الدروز ولو كانوا من أمرائهم ما قتلوا في وقائع الشام المشؤومة سنة 1860 في راشيا وحاصبيا بيد الثوار من أشقياء حوران ولبنان أيام قتل 800 من المسيحين في راشيا و 970 من مسيحيي حاصبيا ولو لم ينج يعضهم إلى دار السيدة نائفة شقيقة سعيد بك جنبلاط لهلكوا عن آخرهم وأن معظم من نراهم ساكنين في حارة الميامنة اليوم في حي الميدان بدمشق هم ممن جلوا عن وادي التيم ولا سيما من حاصبيا وراشيا يوم تلك الوقائع المشؤومة ونزلوها وتناسلوا فيها فحسنت حالهم.
أشرنا إلى هذه الوقائع والفظائع إذ لا يسوغ للمؤرخ أن يسكت عن حوادث لها علاقة كبرى(65/34)
بعمران هذه الديار خصوصاً وقد حرقت في تلك الفتنة المشؤومة غابات وادي التيم ولا سيما حاصبيا وراشيا كما أحرقت أشجار جزين وإقليم الخروب من لبنان وجباع من جبل عامل وكان المنكوبون تحصنوا فيها فأشعلت فيها النيران ليهلك من لم يهلك بحد السيف والسنان.
كان وادي التيم من أهم مراكز الدعوة الدرزية ولا يزال إلى اليوم كذلك. وفوق حاصبيا على نصف ساعة منها خلوات البياضة وفيها مجمع هذه الطائفة الديني زرتها فرأيت فيها معبداً في الوسط مفروشاً على نحو ما تفرش الجوامع وبالقرب منه مساكن وقف البياضة ومنها ملك خاص لأربابها يحب أهلها الانقطاع إلى العبادة ومن المنقطعين لهذه الغابة في البياضة أناس من وادي التيم وآخرون من الجبل الأعلى في حلب وجبال صفد وجبال لبنان وجبل حوران كما أن منهم المتزوج ومنهم المجرد وهم على جانب من النسك والتقشف شأن سائر العباد في معظم الأمم على الغالب.
وموقع البياضة جميل يطل على كثير من قرى وادي التيم وترى منه قلعة الشقيف وغيرها من بلاد مرجعيون وجبل عامل والحولة فإذا أوقدت فيها النار شوهدت إلى مكان بعيد. ونحو نصف مكان وادي التيم دروز يحسنون الزراعة وهم على جانب من الأخلاق يتوفرون على أعاملهم ويحسنون عشرة جيرانهم شأن كل من يتعلم من أبناء هذه الطائفة ولا سيما في لبنان. ومن لنا برجالهم أن يهبوا لتعليم أولادهم كما هب أخوانهم المسيحيون من قبل فاستفادوا وأفادوا فإن في أبنائهم من الصفات الحسنة العربية ما لو توفروا على تنميته وتذكيته بالعلم الصحيح لجاء منهم شعب من أرقى الشعوب العثمانية بشجاعته ومضاءه وحسن أدبه وعزة نفسه وسماحته وذكائه وبعض من هذه الصفات مما يفخر به المفاخرون.
وليس في حاصبيا ما يستحق الذكر سوى معدن الحمر الذي كان السلطان المخلوع يستثمره لنفسه وظهرت منه فوائد مادية لأهل هذه الديار وهو اليوم مهمل لقلة اليد العاملة في هذه الديار لأن الناس هاجروا بالألوف منها فاضطرت الحكومة أن تهمل هذا المعدن كما أهملت معدن سحمر في البقاع أيضاً وغيره من المعادن في سورية لم تفكر في استثمارها وقد أضر إهمال الحمر بأرباب الكروم فتصاعدت أثمانه وهو يستعمل كل سنة لتزبيرها(65/35)
وتأبيرها فلحقته الدودة من أجل ذلك وقلت مداخيله.
وقد سمعت أن من قرى ريشيا قرية اسمها بيت لهيا على ثلاثة أرباع الساعة من ريشيا وكنت قرأت في بعض الكتب أن بيت لهيا من أعمال دمشق تضاف إليها كورة تنسب إليها فإذا صحت روايتي تكون بيت لهيا وادي التيم غير بيت لهيا في غوطة دمشق التي ذكرها ياقوت ورد على من قال أن آزر أبا إبراهيم الخليل عليه السلام كان ينحت بها الأصنام ويدفعها إلى إبراهيم ليبيعها فيأتي بها إلى حجر فيكسرها عليه والحجر كان إلى عهد ياقوت بدمشق معروفاً يقال له درب الحجر قال والصحيح أن الخليل عليه السلام ولد بأرض بابل وبها كان آزر يصنع الأنام وفي التوراة أن آزر مات بحران وكان قد خرج من العراق فأقام بحران إلى أن مات ولم يرد في خبر صحيح أنه دخل الشام وللشعراء في بيت لهيا أشعار كثيرة منها قول أحمد بن منبر الاطرابلسي:
سقاها وروى من النيربين ... إلى الغبطتين وحمورية
إلى بيت لهيا إلى برزة ... دلاح مكفكفة الأوعية
والنسبة إليها بتلهي ونسب إليها خلق كثير من أهل الرواية وقال أبو بكر الصنبوري:
أمر بدير مران فاحيا ... واجعل بيت لهوي بيت لهيا
ويبرد غلتي بردى فسقيا ... لأيام على بردى ورعيا
ولي في باب جيرون ظباءٌ ... أعاطيها الهوى طبياً فظبيا
ونعم الدار داريا ففيها ... حلالي العيش حتى صار أريا
سقت دنيا دمشق ليصطفيها ... وليس يريد غير دمشق دنيا
تفيض جداول البلور فيها ... خلال حدائق ينبتن رشيا
مظللة فواكهها بأبهى ال ... مناظر في نواضرها واهيا
فمن تفاحة لم تعد خداً ... ومن رمانة لم تخط ثديا
والظاهر من شعر ابن منير والصنوبري أن بيت لهيا هذه والتي ذكرها الشعراء فأكثروا من ذكرها هي بيا لهيا الغوطة وبيت لهيا وادي التيم ومعنى بيت لهيا بيت الآلهة بالسريانية قال ياقوت بيت لهيا بكسر اللام وسكون الهاء وياء وألف مقصورة كذا يتلفظ به والصحيح بيت الآلهة.(65/36)
ولم يذكر ياقوت وادي التيم في معجمه بل ذكر يبوس وقال أنها اسم جبل بالشام بوادي التيم من دمشق وإياه عنى عبد الله بن سليم بقوله: لمن الديار بتولع فيبوس.
قلنا وجبل يبوس هو الغالب فيما رواه الزبداني ومنه الآن قرية كفر يبوس وهو المعروف بوادي الحرير ووادي القرن وإلى هنا كان يتصل عمل وادي التيم وكان هذا الوادي في القرن الثامن من معاملة كرك نوح بالبقاع وله إقليم مع ما يضاف إلى الوادي المذكور ثلثمائة وستون قرية تعد من عمل دمشق.
وزراعة وادي التيم ضعيفة وأكثر قراه جميلة على أكمة الأرض وربما كانت نفوسه نحو 25 ألف نسمة فقط أما طرقه فأصعب وأوعر طرق ومياهه فليلة ومتوسطة الجودة بطعمها ونفعها وقد تشح أيام القيظ فيقاسي الأهلون منها شدة وعناء.
هذا وفي اليوم الثالث والعشرين من أيام رحلتنا ركبت ورفيقي دابتين من راشيا فبعد أن اجتزنا سبل عيحا أو مستنقع قرية عيحا دخلنا في وادي بكة وجزناه في ست ساعات إلى التكية إحدى محطات السكة الحديدية بين بيروت ودمشق وبالقرب من هذه المحطة شلال بردى يولدون منه الكهرباء لمدينة الفيحاء ومنها ركبنا القطار عائدين إلى دمشق.
ماذا رأينا في رحلتنا
تحملنا في رحلتنا هذه المشاق المختلفة ما لا نكاد نكابد بعضه لو طفنا قارتي أوربا وأميركا وذلك رجاء أن نعود منها بفائدة نطلع عليها الأمة والحكومة وها قد كتب لنا ذلك بقدر ما سمح الوقت فرأينا أن لا نقصر بحثنا على أحوال البلاد الجغرافية والتاريخية والزراعية بل أن نتعداه إلى البحث إجمالاً في شؤونها الاقتصادية والإدارية.
أول ما يقع عليه النظر ويسر يتحققه الفؤاد انتشار أعلام الأمن في الكور التي جسنا خلالها بعد أن كان السائح يخاطر بروحه وماله لو أحب فيما مضى أن يطوف تلك البلاد. والأمن ولا شك حسنة من حسنات هذه الحكومة الدستورية التي ترجو بالعدل دوامها بالمدينة الراقية أحكامها ونظامها.
بيد أن في هذه الكور قصوراً يلحق الأهلين وقصوراً يعود على الحكومة وأهم ما نطالب به الحكومة بعد الأمن إحقاق الحق في البلدان الصغرى ليذوق الناس طعم الحكومة الحرة حقيقة لأنا لو نظرنا إلى حال الأقضية نراها وحواضر الولايات والألوية سواء من هذا(65/37)
الوجه لا تنقطع شكوى الأهلين فيها. والشكوى طبيعية في الأمم ومنها المحق ومنها دون ذلك.
لا جدال في أن العهد الدستوري قد أدخل في الإدارة شيئاً من روح النظام شعر به في الجندية والشرطة والمالية من فروع الحكومة ولكن سائر الفروع لم تبرح محرومة منه مثال ذلك القضاء والإفتاء في الأقضية فقد طغت سبعة منها أربعة من أعمال ولاية سورية وثلاثة من أعمال ولاية بيروت وأني لأستحي أن أقول أن أرباب هذه الوظائف إلا النادر ممن عصمهم الله حرموا من العلم والمعرفة والنزاهة والعاطفة الوطنية فلا دين لهم إلا أخذ الأموال من غير حلها ولا شريعة إلا التلاعب بالأحكام الدينية والمدنية ولا هدي إلا ما توحيه إليهم عقولهم القاصرة وأني لآسف لمن يجعلون على بساط الشريعة المطهرة ورائدهم الجهل وقلة الأمانة وللصيانة أن يكونوا على نحو ما ذكرت. إذا عرفت هذا فقل معي غير هياب ولا وجل أن المشيخة الإسلامية لم تخرج في توسيد هذه الوظائف الشريفة عن الحد الذي كانت رسمته حكومة الاستبداد المطلقة أي أنها في العهد الدستوري لم تأت على ما تحمد عليه خدمة على الشريعة والقانون.
القاضي أو النائب في الأقضية هو الكل في الكل وربما كانت وظيفته أهم من القائم مقام لأن حكم هذا لا يجوز إلا في الأمور الإدارية والسياسية أما الأول فأحكامه تتناول الأحكام المختلفة فإن كان ممن قلَّت تربيته ورق دينه والسواد الأعظم كذلك أتت أحكامه متناقضة مرذولة فاسدة حشوها الدرهم والدينار وسداها ولحمتها تلوث الذمة وتلون القلب وإلا وهو النادر كان داعية من دعاة الإصلاح ومثالاً من الكفاءة تشفعها الأخلاق الطاهرة.
والسبب في هذا الهزل المضني الذي أصاب حكام الشريعة في هذه المملكة أنه أتت أدوار كان ينظر إلى المناظر الخارجية في تولية القضاة لا إلى كفاءاتهم الشخصية فلم يتأهل أكثرهم لها بالعمل ولم يخضعوا لنظام كما خضع سلك القائم مقامين مثلاً ولذا ترى في نفوس أكثر هؤلاء عفة وغيرة ما لا ترى بعضه فيما انطوت عليه جوانح أولئك الذين أنبتوا نباتاً طبيعياً ونالوا حق التصدر بالرشى والمحاباة وارتكاب ما تنكره الفضيلة وتأباه أصول الحكومات الراقية.
كان أحد كبار المصلحين في مصر يقون أن الإصلاح الديني في الشرق أول كل إصلاح.(65/38)
وما الإصلاح الديني في الحقيقة إلا إصلاح عقول القائمين بالدين كالقضاة والمفاتي والحكام ولذلك كان من أهم الأعمال التي تمت في مصر على عهد نهضتها الأخيرة إنشاء مدرسة القضاء الشرعي حتى ر يقل القضاة الشرعيون في علمهم ومداركهم عن القضاة النظاميين ويتعب الأولون في إعداد نفوسهم وملكاتهم كما تعب الآخرون ويخلص الإسلام من الوصمات التي صمه بها الجاهلون به ليوقنوا أن الضعف أتى من المسلمين لا من الإسلام.
أما سائر موظفي الإدارة في الأقضية فيرجعون على الجملة إلى شيء من النظام وأن كان يندر فيهم العفيف النزيه بحيث لا تكاد تعد صالحاً واحداً منهم في كل عشرة صالحين ويكثر استهتار أحدهم ويقل حسب ذكائه وشجاعته فإن كان على شيء منها وله من يحيمه في حاضرة الولاية أو عاصمة السلطنة من كبار الموظفين أغرق في أخذ نفسه به أي إغراق لأن حاميه يدفع عنه أذى أعاديه وإلا لاذ بالتقية واعتصم بالمراوغة والمصانعة والدهان لمن فوقه في المرتبة.
هذا إجمال من حال حكومات الأقضية وإصلاحها منوط في الأكثر بتعيين متصرفين وولاة ممن خبروا أمور الإدارة بأنفسهم سنين طويلة وكانوا على جانب من العلم وحسن السياسة يحسنون لغة البلاد ويعرفون طبائعها حتى لا يكونوا آلة بأيدي فئة مخصوصة من الناس لا يكتبون إلا ما يملون عليهم ولا يعارضون إلا فيما لهم فيه مأرب خاص. ومتى أدرَّت الحكومة على الموظف الصغير رابتاً يكون على حد الكفاية وسألته عن عمله وراقبته في حركاته وسكناته فقل أن نظامنا الإداري دخله الإصلاح الحقيقي والافنيقي نرسف قيود الذل ونخبط على غير هدى.
كل من يتجول في داخلية البلاد يرى عياناً رداءة الطرق وقلة أعمال العمران ولولا قليل من الهندسة دخلت في بناء الدور والمساكن والقرميد اللطيف الذي يزين سطوحها لأقسم من يرى تأخر هذه البلاد وما حنث بأنها لم ترتق درجة واحدة في هذا القرن عن القرون الخوالي وأنها كانت قبل ألف وألفي سنة أوسع عمراناً وأكثر سكاناً مما هي اليوم.
إلى الآن لا تجد طريقاً معبدة حتى بين البلدان المهمة فإذا كان الطريق الآخذ من بيروت فصيدا فصور فصيدا فالنبطية فمرجعيون لم يزل مشعثاً متداعياً بعد أن صرف على رصفه بضع عشرات من ألوف الليرات فما هو الحال بطريق مرجعيون حاصبيا راشيا فطنا(65/39)
دمشق وطريق دمشق القنيطرة بانياس وهي لم يصرف عليها شيء وبقيت لا تصلح لمرور المواشي دع عنك الإنسان.
وبعد فإن كنا لم نرصف طرقنا إلى اليوم فأي أعمال أخرى ترجى أن نقوم بها مثل جر المياه من المحال البعيدة لسقيا الأرضين وشفاه الأهلين أو خزنها في خزانات أو تجفيف البحيرات والمستنقعات مثل بطيحة سهل عيحا قرب ريشيا الوادي البالغة مساحتها نحو أربعة آلاف دونم وبطيحة دير العشاير في وادي التيم أيضاً وبطيحة الحولة ومستنقعات الجولان مما يؤذي صحة السكان ويؤخر عمران الأرضين والبلدان.
ثم أين يد الحكومة في إنهاض الزراعة من كبوتها بإعطائها الأهلين السكك والأدوات الزراعية والبذور والغراس التي تصلح وتجود في هذه الديار الطيبة بل أين يد الحكومة تعمل على الأقل بما فيه حفظ الحالة الحاضرة حتى لا تزيد البلاد خراباً فوق خرابها وأن العين لتنبو عن النظر إلى جبالنا وآكامنا الجرداء بعد أن علمنا أنها كانت شجراء خضراء إلى ما قبل عشرات من السنين وإذا دمنا نوسعها القلع والقطع والحرق والشق فاقرأ على حراجنا السلام الأخير بعد بضعة أعوام.
بلاد تكفي لإعالة الملايين من البشر وتضيق عن عيش الألوف فمتى نعقل فنعمرها حتى نقوم حاجزاً حصيناً في وجوه من يهاجرون من السوريين إلى سائر قارات الأرض ولا سيما إلى أميركا الشمالية والجنوبية.
كنا نظن أن الهجرة لم تتناول سوى لبنان وما اتصل به من الجبال لأن الجبليين أقوى من غيرهم على تحمل المشاق وفطم النفس عن الراحة والرفاهية ولأن بلادهم قاحلة لا تخرج لهم على الجملة أكثر مما تخرج ولكن الأمر على عكس هذا لأن سكان السهول أيضاً مما يسهل عليهم الارتزاق من أراضيهم وقد غادرونا إلى ارض المهجر في طلب الرزق كانت الهجرة مقصورة على المسيحيين أولاً فتعدت إلى المسلمين سنييهم وشيعيهم وإلى الإسرائيليين والدروز والنصيرية والإسماعيلية وكانت لا تتخطى لبنان الغربي ولبنان الشرقي فها قد امتدت اليوم حتى أخذت تستلب من سورية حتى سكان المدن المرفهين منها مثل أهل دمشق وحلب وبيروت وطرابلس وصيدا والقدس وتساوي أبناء هذا الوطن الواحد في مغادرة مساقط رؤوسهم إلى أصقاع اعتنى فيها أفراد ولم يزل عشرات الألوف في فقر(65/40)
وفاقة.
يهاجرون كل يوم بالعشرات حتى كادت بعض الأقاليم تخلو من شبانها كلهم فما هذا البوق الذي نفخ في سورية من غربيها إلى شرقيها ومن شماليها إلى جنوبيها حتى أسمع الصم فكاد عدد المهاجرين من أبنائنا يربو على ثلث مليون من الشبان العاملين وظل البنات عوانس في بيوت آبائهن والنساء معطلات عن التناسل حتى نشأت من ذلك مفاسد في الأخلاق لا توازيها الأرباح مهما كثرت والأمجاد مهما استطالت وربت.
قلت اليد العملة بقلة الشبان في هذه الأقاليم حتى بقيت بعض الأراضي بائرة معطلة لقلة من يقوم على تعهدها وتعذر على أرباب الأملاك أن يجدوا عملة لأعمال الزراعة ولو أغلوا لهم الأجور. وأن أجرة البناء في وادي التيم لتبلغ الريالين ولا تجد بناء لا يعمل وأجرة العامل البسيط ثلاث أرباع الريال وقلما تحصل على القدر الذي تريده من أمثاله وأجرة فاعل الحراث مع الفدان ريال ونصف وقد لا تجده ولم يكتف الناس هنا ببوار أرضهم بل أن بعضهم في الحولة قلعوا بالألوف غراس التوت الجيد لأنهم لا يظفرون أيام مواسم الحرير بالقدر اللازم من اليد العاملة التي تقوم عليها وآثروا أن يزرعوا أراضيهم ما أمكن من القمح والشعير على غلات الحرير.
كل هذا يجري في البلاد والحكومة لا تفكر في طريقة ناجعة تدفع عنها عوادي الهجرة التي كادت تسلب منها الروح. وأن هذا القطر الشامي الذي لا يزيد نفوسه على ثلاثة ملايين ونصف ليعز عليه أن يفارقه نحو عشر سكانه الأقوياء ولا يأتيه من المهاجرين إلا الخاملون الذين قد تعطيهم الحكومة أرضاً فيبيعونها وسكة ومحراثاً فيتخلون عنها بثمن بخس وبذاراً فيأكلونه ثم تراهم يتسولون وبنيهم في شوارع البلاد مؤثرين الراحة مع الذل الشديد على العناء مع العز الأكيد.
وقد لاحظنا في سياحتنا أن كل قرية أو بلدة ليس فيها ولو بضعة من المسيحيين تكون إلى الخمول والخراب أكثر من القرى التي يكثر فيها أناس من غير المسلمين وذلك لأن جمهور المسلمين اتكلوا في الماضي على الحومة لتعلمهم وتربيهم فما استفادوا وهيهات أن يفلح قوم يعقدون رجاءهم بمن يكيفون المعارف بحسب أهوائهم ولكن المسيحيين نشطوا من عقالهم بعد حاثة الستين فتعلم أرثوذكسيهم في المدارس الروسية واليونانية وبابويهم في مدارس(65/41)
الفرنسيس والطليان وبرتستانتيهم في مدارس الإنكليز والأميركان والألمان وهكذا حتى جاء منهم جيل راق في الجملة ارتفع عن مستوى الجيل الآخر مسلماً كان أو درزياً أو نصيرياً أو إسماعيلياً.
ومن الأسف أن القرية التي يبلغ سكانها المسلمون ألفاً لا تجد لأبنائهم مدرسة والقرية التي لا يتجاوز سكانها المئة مسيحي تشهد لهم مدرسة ومدرستين كما لا تشهد للأولين جامعاً ولا مصلى وللآخرين الكنيسة والكنيستين ثم تجد التجارة بأيدي المسيحيين يزيد غناهم كل يوم يتعاضهم ومضائهم ويزيد أخوانهم المسلمون كل يوم فقراً بتفاشلهم وتكاسلهم.
نقول هذا ونحن على مثال اليقين بأن هذا القطر كسائر أقطار العالم لا ينهض إلا بنهوض السواد الأعظم من أهله وهم هنا من المسلمين وإن من أكبر دواعي الأسف أن يرحل عن هذا القطر أكثر أبنائه تعلماً ومضاءً وهم المسيحيون ولو رجعوا ورجع سائر مواطنيهم على اختلاف مذاهبهم إلى هذه الديار لعمروها وأحيوها واضطروا الحكومة بعلمهم ومطالبتهم المشروعة أن تعمر لهم الطرق وتعطيهم الامتيازات بالمشروعات العمرانية التي تعود عليهم وعلى البلاد بالخير والنماء ويكفي بأنها تخلصها من وطأة الأجنبي والدخيل فإن الكثرة قوة وكثرة العيال إحدى اليسارين.(65/42)
أخبار وأفكار
مطبعة بدون حبر
بالاتفاق وقع اختراع هذا الاختراع كما وقع اختراع كثير غيره فقد أراد مهندس إنكليزي منذ إحدى عشرة سنة أن يأخذ قطعة من النقود فتدحرجت على المنضدة فضغط عليها بدون اختيار على ورق ندي كان موضوعاً على صفحة من المعدن جعلت على موصل كهربائي غير منفرد فدهش لما رأى صورة القطعة قد طبعت طبعاً صريحاً على الورق بلون أسمر وكان الرجل ممن يحسنون معرفة الكهربائية فأخذ يبحث علمياً عن سبب هذا الطبع بالعرض فصرف عشر سنين في تطبيق هذا الاختراع على طبع الحروف وقد ذكرت إحدى المجلات العلمية المهمة أنه قد نجح مؤخراً في اختراعه فاستعاض عن الورق الندي بورق جاف مبلل بمواد كيمياوية تخلط مع الورق عندا يعمل وهذا الاختراع نافع جداً في طبع الكتب المهمة.
عميان الأميركان
في نيويورك سبع مدارس للعميان الفتيان يقرأ فيها الفتيات والصبيان مع المبصرين على معلمات يلقين عليهم دروساً واحدة معينة فيسأل الأعمى والبصير على السواء ولا فرق في تعليمهم إلا في الكتب والكتابة لأن العمي يقرؤون في كتب كتبت بحروف بارزة على أصول برابل وقد وقع تعديلها منذ أواخر سنة 1909 فقربت فائدتها وأصبحت ثمراتها مضمونة قريبة فيتعلم الولد الأعمى كما يتعلم البصير ويشترك في الألعاب الرياضية والأعمال الصناعية ويحصل على معلومات أرقى مما كان يتعلم سابقاً من ثل صنع السلال والأكياس والمكانس والجوارب كما هو الحال في مدرسة العميان في مصر بل قد أخذوا يعلمونهم ما يكونون به مستخدمي تليفون وكاتبين على آلة الاختزال يتوصلون إلى الكتابة بآلة عادية وإلى الاختزال بقلم رصاص بسيط ويعلمونهم الموسيقى والبيانو والكمنجة وغيرها من آلات الطرب فيصبحون قواماً بهذا الباب ويتمرن الفتيات منهم على الخياطة وتفصيل الفساطين والأردية وعمل الأزياء والطبخ. والعميان موضع عناية خاصة من الجميع فيأخذون بأيديهم ويقودونهم إلى بيوتهم ومتى أتموا دروسهم يتكفل القوم لهم بإيجاد أعمال في التجارة والصناعة ويرسلون بأذكاهم عقلاً إلى الكليات يأخذون من علومها ما(65/43)
طاب لهم بحيث يخرجون ليكون منهم موظفون. فاللهم هي للمبصرين منا أسباباً كهذه حتى إذا كشفت أبصارهم وبصائرهم يفكرون في تعليم العمي.
إعانة البائسين
كان في فرنسا في آخر سنة 1908 (512000) إنسان محتاج للإعانة منهم (354000) شيخ تجاوز السبعين و (100. 000) عليل و (58. 000) مريض مرضاً عضالاً ومعظم هؤلاء البائسين ابعث إليهم نظارة الأعمال والإحسان الاجتماعي مرتباتهم إلى بيوتهم وتختلف من 5 إلى 30 فرنكاً في الشهر و (39) ألفاً منهم تؤويهم في أماكن إقامتها لهم كالمتشفيات وغيرها يصرف عليهم في السنة أربعة ملايين ليرة تدفع الحكومة نصفها والنصف الآخر جمعية الإحسان وفي فرنسا الآن (16118) مكتباً لجمع الإحسان غير جمعيات الحكومة تغيث زهاء مليون من السكان.
سويسرا والغرباء
تحاول جمعية الاتحاد الوطني في سويسرا أن تحل مسألة الغرباء في بلادهم لأنهم داهموها ولا سيما في البلاد الواقعة على التخوم بحيث كادت تصبح منهم في أمر مريع فقد بلغ عدد الغرباء في تلك الجمهورية الجميلة 565. 025 شخصاً وسكان البلاد 3. 750. 000 أي أن في سويسرا 151 غريباً عن كل ألف وطني سويسري وفي بعض الأماكن يكون عدد الأجانب 40 في المائة والغرباء في لوغانوا أكثر من السكان الأصليين وقد قررت الجمعية أن تعتبر سويسرياً كل من يخلق في أرض سويسرا من الأولاد بعد الآن. ومعلوم أن لغات سويسرا هي الألمانية والإفرنسية والإيطالية يتكلم بالأولى 69 شخصاً في المائة وبالثانية 21 وفي الثالثة ثلاثمائة ألف شخص فقط وفيها 56 ألف في المائة يدينون بالمذهب البرتستانتي و42 في المائة كاثوليك.
الا لكحول في أميركا
في أميركا كما في أوربا جمعيات كثيرة لمقاومة المسكرات فقد وفقت إحدى جمعياتها إلى إرجاع ثلثمائة ألف رجل فقط عن عادة تناول المسكرات القبيحة ومن الغريب أن ثلاثين ألفاً منهم أسسوا لأنفسهم جمعية وقاموا ينادون بالإقلاع عن الكحول وجمعيتهم هي الجمعية الوحيدة التي كان أعضاؤها كلهم من السكيرين قبل سنين.(65/44)
عمران الولايات المتحدة
وافق مجلس النواب الأمريكي على ميزانية سنة 2912 فكانت 5. 127. 448. 305 فرنكاً أو نحو 250 مليون ليرة عثمانية أي نحو تسعة أضعاف الميزانية العثمانية ومن هذا المبلغ 305 ملايين لاستهلاك الدين العام و 710 ملايين للأعمال العامة منها 245 مليوناً لفتح برزخ باناما و 632 مليوناً وكسر للبحرية وزهاء 466 مليوناً للبرية. ومنذ مئة سنة لم تكن ميزانية هذه الجمهورية سوى 42 مليون فرنك أو أقل من مليون ليرة عثمانية منها 16 مليون للجيش و 8. 500. 000 للبحرية و16 مليوناً للدين ولكن سكان الولايات المتحدة لم يكونوا على ذاك العهد سوى سبعة ملايين نسمة فزادوا اليوم 13 ضعفاً في مئة سنة وزادت نفقات الحكومة ثمانين ضعفاً عما كانت.
حكاية العناصر
كتب جان فينو رئيس تحرير المجلة الباريزية مبحثاً في هذا المعنى جاء فيه أن اختلاط الألسن والشعوب في برج بابل ليس إلا ألعوبة للأولاد بجانب تأليف الأمم الحديثة فإنك ترى في البودقة الواسعة التي تخلق فيها الأوطان والشعوب الفروق الفيسيولوجية تنحل بسرعة مدهشة كما تنحل العقول الآتية من أطراف الكرة كلها لأن سهولة المواصلات ونشر التجارة بين الأمم وانتشار الأفكار واشتراك الكافة بها كل هذا آخذ بتقريب الأميال والحواس المدبرة للإنسانية وكل يوم يكثر اجتماع الناس ويتناول المجموع كمية أكثر من البلاد والعباد.
والغالب قد انقضى دور القائلين بعلو عنصر على آخر وانحطاط عنصر عن أخيه فإن يابان قد ساوت غيرها من أمم الغرب بعد أن عقدت المعاهدات مع شعبين هما في مقدمة شعوب الحضارة الإنكليز والفرنسيين وأصبحت الصين دستورية في حكومتها وستعود إلى سكانها أخلاقهم الحربية فيضطر الناس إلى احترام ألوانهم ومعتقداتهم والزنوج سائرون على سنة النشوء بسرعة تلقي الاضطراب في نفوس أشياع المتوهمين بالعناصر والألوان وقد ارتقى الزنوج في الولايات المتحدة منذ ستين سنة ارتقاء أنسى أن أصلهم أفريقي ولكن لا يمحو سيئات جنون البشر قروناً قرن في التعقل ولا بد أن تظل الحروب الآن بين أبناء آدم إذ تصبغ أديم الأرض بالدماء بضعة أجيال أخرى ويبقى للبلاد العظيمة من حيث(65/45)
حضارتها الحق أن تكون قوية لئلا تفقد في حروب الغد تراثها من الحكمة والجمال.
وإنَّا إذا أطلقنا اليوم كلمة عنصر فذلك لأنها أصبحت مشابهة لكلمة بلاد أو سكان البلاد فليس معنى قولنا عنصر الفرنسيين أنه كلهم من أصل غالي كما يدعي بعضهم بل قد امتزج بهم نحو ستين عنصراً وشعباً أقانت في فرنسا أو اجتازت بها فمنهم الاكيتون والبلجيكيون والغاليون والليكوريون والسميريون والنوتونيون والسويفيون والألمانيون والسكسونيون والفانداليون والسمرتيون والسبكيون والفسكونيون والفينيقيون الذين أكثروا من المستعمرات ومن جملة مستعمراتهم مدينة نيم وهي أجل مدنهم ثم العرب والسلافيون والفيندليون والتفاليون والروثنيون والاغاتيرسيون والبورغونديون والبلاسجيون والصليبيون والثيرنيون والاتروسكيون واليهود المراكشيون والأندلسيون الذين زحزحهم ديوان التفتيش عن أرضهم وديارهم ثم أن الفرنسيس الويغريون والمغول والهونسيون والاوز والخزر والابر والكومانيون وغير ذلك العناصر والشعوب مثل البولونيين والهلفتيين (السويسريين) والايبريين (الإسبانيين) وغير ذلك وربما بعض الزنوج.
فوحدة الدم ليس بينها وبين ما تمتاز به أمة من الصفات الأخلاقية والعقلية بل أن امتزاج دم الشعوب بعضها ببعض تزيد في قيمة الشعوب والعناصر وما يدعيه بعضهم من أن العنصر الألماني كان اليوم أرقى من العنصر الفرنساوي لأنه حفظ في دمه شيئاً كثيراً من أصله وهو غلط ووهم لأن العنصر الآري والمدنية الآرية والجنس الآري لم توجد بل هي اختراع يكفي في تزييفه بأن قال بعضهم أن الآريين أتوا من الشرق وقال آخرون أن آسيا وغيرهم من الهند وآخرون من بكتريانيا وغيرهم من البلاد الواقعة بين بلاد أورال وبحر الشمال وادعى بعضهم أن الآريين أتوا من جنوبي غربي سبيريا وغيرهم أنهم من أواسط ألمانيا وغربيها وآخرون أنهم من الشمال وأكد غيرهم أن الآريين هم أوربيون حقاً هذه أقوال علماء اللغة فمنهم من يزعم أن الآريين أتوا من جنوبي غربي أوربا ومنهم من يقول بل من أواسط آسيا وغيرهم أنهم من الغولفا وآخرون من بحر البلطيق. وهكذا اختلف أولئك المشتغلون في ألوان الآريين وجماجمهم وقاماتهم ومدنيتهم وكيف مدنوا غيرهم وما كان عملهم وأظنهم لا يزالون مختلفين في الآريين قروناً بعد لأن الأوهام كالأكاذيب قد تطول حياتها ولا تأتي عليها الشدائد لتنسفها.(65/46)
وما قيل في العنصر الفرنسوي يقال في العنصر اللاتيني على الجملة فإن الفرنسيس والطليان والأسبان والبرتغاليين والرومانيين والأرجنتينيين والبرازيليين وغيرهم من الشعوب الأخرى في أميركا الوسطى كل هذه الشعوب ليست من أصل واحد بل تختلف أصولها باختلاف سحناتها وما السحنات هي التي تربي الأرواح بل أرواحنا هي التي سحناتنا وماهيته الرؤوس التي هي تجمع بين الشعوب وتوجد بينها رابطة القرابة بل حالتهم المتشابهة في الاستمتاع بالحياة والعذاب بها.
ولقد كان يظن بعضهم أنه يقتضي مرور عشرة أجيال حتى يختلط شعب بآخر وتذهب من بينهما الفروق ولكن مثال الولايات المتحدة أمامنا لا يحتاج إلى عرض فكلما كانت الأمة قوية رحب صدرها وسهل عليها أن تدرس فيها الصفات الأجنبية ومنذ بضعة قرون لا تجد عنصراً خالصاً من الامتزاج بغيره ولا شعوباً تألفت من وحدات متشابهة معلومة.
وما الألمان في الحقيقة ونفس الأمر سوى البولونيين والأوبورترتيين والفانديين وغيرهم من القبائل والشعوب السلافية وهم الذين ساعدوا على تأليف ذاك العنصر بل قد قال نبتسش الفيلسوف الألماني وكان من أصل بولوني أن الجرمانيين الحقيقيين قد نزحوا إلى الخارج وأن ألمانيا الحالية في مرحلة تقدمها العالم السلافي.
ومثل ذلك يقال في الطليان فليسوا أبناء الرومان في الحقيقة بل فيهم أجناس كثيرة امتزجت دماؤهم بدمائهم فقد دخل فيهم السيسكانيون والليبورنيون وهم من الشعوب الأفريقية والبلاسجيون ومن تفرع منهم والاتروكسيون والسلافيون والسليتون واللونكبارديون والبيزانطينيون والفاليون والمصريون وايونان والأسبان والصقالبة واليهود والنورمانديون والعرب والبروتون والجرمان وغيرهم من العناصر والشعوب كالعنصر السامي وغيره فأين الدم الإيطالي الصرف.
وإن إنكلترا على اعتزالها في جزائرها لم تنج من اختلاط غيرها بها ففيها دم زنجي ودم أفريقي وفيها السرماني والجرماني والأبيري دع عنك الفرنسيس والألمان وغيرهم ممن امتزجوا بالدم الإنكليزي حديثاً. والإسرائيليون الذين يفاخرون بطهارة دمهم لا يستطيعون إلا أن يغضوا أبصارهم حياءً أمام الحقيقة التاريخية فقد كانوا قليلاً عددهم عندما وصلوا إلى فلسطين فامتزجوا بالعرب والفيلستينيين والهيتيين وغيرهم من القبائل وأعطوا دمهم(65/47)
إلى كثير من الأمم وتناولوا منها دمها حتى أن شعباً تركياً برمته اسمه الشازار قد دان باليهودية وانتشرت شريعة موسى في العالم وأدخلت في مجموعها من كل العناصر.
فالشعوب كالأفراد ليست كبيرة بأصولها التاريخية ولا معنى لاسمها وعددها ما دام الشك يتطرق إليهما والذي يهم في الأمم كنزها العقلي والأخلاقي وفضائلها الغيرية التي طبعت عليها أرواحهم ونور عقولهم الذي يطوف الأقطار والأمصار. وما من شعب يسمو على آخر وينحط عنه من حيث تركيبه بل أن هناك شعوباً تقل مدنيتها أو تكثر وتحسن المأتى أو لا تحسنه في جهاد الحياة والواجب على أمة تريد أن تمزج غيرها بها أن توجه عنايتها إلى أفكار الشعوب وتستميل أرواحهم. وما سعي روسيا في جعل جميع رعاياها روساً وسعي جرمانيا في جعل أهلها كذلك وسعي العثمانية في تتريك عناصرها وكل ما تعمد إليه هذه الدول من وسائل القضاء على القوميات إلا عقيمة باطلة فقد اضمحلت بوهيميا تحت السلطة النمساوية قروناً كثيرة وأخرج شعبها من عداد الأحياء ودثرت لغتها وآدابها ولكن الشعلة الضئيلة الوطنية بقيت حية تحت جبال من الرماد ولما سكنت العاصفة عاد التشك وأظهروا ذات يوم أنفسهم وعنصرهم ومقاومتهم للألمانية أكثر من ذي قبل. وجزيرة كريت الصغيرة الباسلة التعسة ستنضم عما قريب إلى يونان على الرغم من عناد الحكومة العثمانية (؟) وعمى رجال السياسة وكذلك الحال في بولونيا وفنلندا. وإن الاستيلاء على الشعوب استيلاءً وحشياً قد مضى وانقضى فالواجب استمالة القلوب واستتباع الأرواح وأن الأمل الذي يدفن في أعماق القلوب أقوى من طرقات المطارق على أجسامنا فالأمم تحيا ما دامت لا تريد أن تموت.
الصحافة الإنكليزية
زاد في الخمسين سنة الأخيرة نفوذ الصحافة اليومية وقوتها في المجتمعات الحديثة بحيث أصبحت إحدى الأدوات الهائلة التي ما قط استعلمت لخدمة المطامع والحاجات البشرية. فقد أصبحت السياسة والأعمال ونشر الأفكار العالية والدفاع عنها وخدمة المصالح المالية والاحتيال لها العضد العام والعامل الأكيد. فهي للمؤرخ الاجتماعي بانتشارها العجيب ودخولها يكثر في جميع أعمال الحياة الاجتماعية ذات فائدة قوية ومن تأمل آثار الصحافة في بلد وأسلوبها ومراميها يتأتى له أن يحكم حكماً معقولاً صحيحاً جداً على مميزات تلك(65/48)
الأمة الاقتصادية والأخلاقية وعلى درجة عقولها وضعفها وقوتها وإيغالها واسترسالها وعلوها ونزولها في سلم الاجتماع. وعلى كل جريدة أن ترضي الأميال لتحيا وتعيش وتخاطب عقل قرائها وما مجموع صحافة كل أمة إلا أثر من آثار ترقيها.
وما من مبحث أفيد وأعلق بالأذهان في هذا الشأن أكثر من الارتقاء الذي حدث في الصحافة الإنكليزية فإنها مثلت الأطماع والعظمة وكل ما فكرت فيه إنكلترا واهتزت. وصحافتها أسمى من صحافة منافسيها بما فيها من الحياة واتساع العمل وكمال الأسلوب وجلاء المبادئ التي تديرها والبحث فيها درس لا نظير له للمؤرخ والصحافي. ويرجع ارتقاء الصحافة الإنكليزية إلى أسباب عديدة منها ما هو آت من عنصر الإنكليز وعقله ومنها يرجع إلى ضرورات مادية حاضرة فالصحافة الإنكليزية لا تضاهيها صحافة مثلها بمعداتها وتنظيمها المادي المنقطع القرين وما مثلها صحافة تشخص على ما يجب روح بلادها وتؤثر مثل تأثيرها في الفكر العام والمصالح العامة ولم تبرح منذ قرن تدير دفة السياسة البريطانية وتوحي إليها الخطط الواجب ابتاعها وأن إنكلترا لمدينة بقيام ملكها ومجدها لرجال صحافتها لما تنبأوا به عن جرأة لمستقبل بلادهم ولما فطروا عليه من الوطنية العاقلة على نحو ما هي مدينة بجندها ورجال سياستها.
ولقد كانت منافسة صحافتها على شدتها تظل دائماً إلى الأدب شكلاً ومعنى وما قط عمدت إلى الابتذال لأنها لا تراه كذلك ولا ترى الشتائم حجة ففي كل حوار كانت تعرض الشيء ونقيضه بعدل يدهش كل من لا يعرف أخلاق الإنكليز السياسية. وقد اجتهدت الصحافة الإنكليزية زهاء قرن إلى عهد ظهور الصحف التجارية بأن وضعت نصب عينيها في كل حال المصلحة العامة قبل المصالح كلها. ومهما كان من حالة الأحزاب التي تنسب إليها جرائدهم فمديروها لا يبيعون جرائدهم من الحكومة فليس لحكومة إنكلترا نفقات سرية تصرفها للجرائد ولا في نظاراتها موظفون يعهد إليهم أن يعطوا الصحف إيضاحات فجرائدهم لا تنطق بلسان الحكومة ولا هي غير رسمية ولا نصف رسمية.
والفضل في ارتقاء صحافة إنكلترا رخص أسعارها وقبل صدور جريدة الديلي ميل منذ 14 سنة لم يكن في إنكلترا جريدة يزيد ما يطبع منها 250 ألف نسخة ولا تباع النسخة بأقل من عشرة سنتيمات. وجريدتا الديلي تلغراف ووالبال مال غازت وهما للطبقة العالية(65/49)
والوسطى لم يقرب المطبوع منهما من هذا القدر وعلى ما بذلتاه من العناية ظلتا واقفتين. وجريدتا التيمس والستندارد اللتان بمركز أدبي راق كان يتأتى لهما زيادة المطبوع منهما لو صحت عزيمتهما عليه ولكنهما لم يريا حاجة ولا رغبة في ذلك فكانتا تتحكمان في إعلاناتهما بقدر ما تستطيعان ولم تجد حاجة للاستكثار من القراء أن تسرا مع الأذواق الجديدة أو تمسا مبدئيهما وخطتيهما وإذ كانت هاتان الجريدتان تصف حروفهما بالأيدي وتطبعان على عدة ورقات من 12 إلى 32 ورقة على ورق جيد قد يقع ثمنه قبل طبعه أغلى من القيمة التي يباع بها من الجمهور لم يكن أمامهما لكثرة المطبوع منهما إلا الإعلانات تتحكمان فيها تحكماً يسد به العجز في ميزانيتهما.
ولما ظهرت الصحف التي تباع بخمسة سنتيمات على ورق رخيص مطبوعة ومصفوفة بآلات كاملة اتجهت الصحافة وجهة ثانية وتعدل بها الرأي العام والسياسة البريطانية وتأثرت الصحف القديمة في منافسة الصحف الحديثة كل التأثر وكانت تميل إلى رأي المحافظين ويقرؤها أهل الطبقة العالية أو الوسطى بخلاف الجديدة التي كانت ذات آراء متقدمة وقراءة كثيرين من العامة وخلفت جريدة الديلي ميل جريدة الايكو فظهرت الصحف الحديثة في مظهر أحسن من مظهر القديمة حسنة التحرير وافرة الأخبار كالصحف القديمة فلم تلبث أن أحرزت ثقة السواد الأعظم وإيثارها لها واقتطعت ألوفاً من قراء منافسيها حتى عجزت كثيرات من هذه عن المقاومة فانقطعت عن الصدور واضطرت أخرى مثل الديلي نيوز والديلي كرونيل أن تتخذ الأساليب الجديدة وتعدل خطتها وتنزل أمانها فجددت بذلك شبابها وأظهرت الجرائد العظمية كالتيمس والستاندارد والمورنن بوست والغلوب شيئاً من العناد وأخذن يعشن بشهرتهن القديمة وثروتهن التالدة وذلك بفضل إخلاص قرائهن الدائم لهن ولكن التيمس والستاندارد وهما مثال التدقيق المفرط والتقاليد المجسمة عادتا فجذبتا الضرورات التجارية ومالتا إلى تكثير المطبوع من لإعدادهما والميل بصحيفتيهما نحو الديمقراطية في مظهرها وبالصحافة الرخيصة تسربت إلى الجمهور أفكار جديدة نبهته إلى الحياة السياسية وقوت عزيمته فصحت إرادته على الانتفاع بها فهبط نفوذ الإشراف والطبقات الوسطى القديمة وارتفع نفوذ الاشتراكية السياسية وتحطمت الأحزاب القديمة بحيث عجزت عن البقاء أو كادت ودعت الصحف الجديدة إلى معاضدة العملة وبالغت(65/50)
وأكثرت في الدفاع عن قوانين التضامن والمعونة حتى كادت تضر بمصلحة الوطن كل ذلك لتستميل قلوب القوم وتستكثر من القراء وكان في مقدمة الجرائد المسموعة الكلمة في هذا الباب الساهرة على إرضاء الجمهور بالتنزل إلى درجة أفكاره جرائد الدايلي مايل والدايلي اكسبرس والمورنن ليدر التي أخذت بعد قليل من صدورها تطبع مئات الألوف.
وجريدة الديلي ميل هي التي أحدثت هذا التبدل في مظهر الصحافة الإنكليزية وأفكارها وصاحبها واسمه الفرد هرمسورت يدير اليوم بنفسه أو بواسطة رجاله معظم المشروعات الصحافية في إنكلترا. بدأ مديراً لجريدة أسبوعية أسست سنة 1888 وكانت أوشكت أن تكون إلى خطر بصنيع القائمين عليها فأورثها في أقل من سنة حياة خارقة للعادة بحيث بلغ المطبوع منها 78 ألفاً بعد أن كان 13 ألفاً وذلك بأن فتح سباقاً بين القراء ينال فيه جوائز مالية كل من يوفق إليها كأن يضع لهم سؤالاً وهو من يقدر كم دخل مصرف إنكلترا من النقود المعدنية والذي يحزر يكون له راتب يتقاضاه طول حياته قدره ليرة كل أسبوع فاهتم الجمهور لهذه المسابقة وكانت النتيجة بعد أقل من ثلاثة أسابيع أن ارتفعت المبيعات من جريدته الأسبوعية من 78 ألفاً إلى 200 ألف.
وهكذا جرى الصحافي في كل المشروعات التي قام بها بالإيداع في الأسلوب والتيقظ والبذل في سبيل إنجاحها ولما أصدر جريدة الديلي ميل في 4 أيار سنة 396 لم يبع منها نسخة بل أرسلها إلى الوكلاء وجعلها في المستودعات وكان يطبع منها كل يوم مائتي ألف على أسلوب كل مستحدث ولم يكتب له النجاح بعد شهر من صدور جريدته إلا لأنه عرف حاجات الجمهور ورغائبه فقد كان القوم قبله يتلون الجريدة ليقفوا على رأيها في الحوادث والرجال ويأخذوا منها وذلك بأثمان تختلف من العشرة إلى العشرين إلى الثلاثين سنتيماً يبذلونها ولا يخافون أما اليوم فإنهم يبتاعون الجريدة للوقوف على ما يجري مثل الأنباء الخارجية والحوادث المختلفة وأخبار المحاكم والآراء في الأزياء والرياضات مهما يهتم له جمهور الناس ويميل إليه أكثر من جميع المناقشات الفكرية يريد أن يتناول معلومات بأرخص الأثمان وقد نشأ هذا النشوء في الأفكار في حالة الحياة الجديدة وما تتطلبه من السرعة والمضاء ومن انتشار التعليم العام وكان الفضل لصاحب الديلي ميل الذي لاحظ ذلك قبل غيره وعرف من أين تؤكل الكتف فيه ففي جريدته مثال جديد من الفواصل بين(65/51)
الحوادث واختصار في النصوص وقليل من الإنشاء المكلف المدبج وكثير من الحوادث فتقدر بنظرة خفيفة أن تطلع في خمس دقائق على كل ما حدث ونقل في جريدته المقالات الافتتاحية وتكثر فيها الحياة والعنوانات تلفت النظر أبداً واللهجة أقرب إلى العامية والطبيعة والرسائل البرقية والنظرات الإجمالية مختصرة على الجملة والحوادث كثيرة فالقارئ يتلوها بسرعة غير محتاج إلى تأمل وغاية ما يلزمه قليل من الانتباه فجريدته ولا جرم جريدة رجل العمل المستعجل الجريدة التي تقرأ في المركبة والحافلة والسكة الحديدية والمرء مأخوذ بعمله وبعبارة أصح جريدته حديثة النشأة فهي تحوي جميع الأخبار التي تنشرها الصحف القديمة بتأسيسها ولكنها أجمل في الأسلوب وأقل كلفة على الجيوب أي أن ثمنها نصف ثمن أرخص الجرائد القديمة.
وأما التيمس فقد أنشئت سنة 1785 وهي صاحبة المقام الذي لا يبارى بين صحف العالم بسعة واردها وكثرة أخبارها وصحتها وشدة استقلالها وحسن تلقي آرائها وكانت في أحرج ساعات إنكلترا صوت هذه الدولة وفكرها وهي من حيث الماديات لا تجارى كبيرة الحجم تطبع على ورق ذي 16 إلى 24 صفحة حجم كل منها أربعة أمتار مكعبة وقد حسبوا ما تحتاجه إدارتها كل صباح من الورق فكان عرضه مترين وطوله خمسمائة كيلو متر وورقها جميل متين وحروفها دقيقة حسنة التنسيق والوضع آية في تصحيحها وقد راهن أحد اللوردات على مائة جنيه بأن يخرج لها خمسين غلطة فأحدق في ستة أعداد منها حتى أحصى لها ثلاث غلطات مطبعية وفي إدارتها أربعون شخصاً إذا وقعت لأحدهم أدنى غلطة يطرد من وظيفته ويؤكدون أن أحد كبار مديريها قد أجلس في قاعة الانتظار أحد زوار إنكلترا أكثر من ساعة بينا كان يفتش عن كاتب مقالة مسؤول عنها نسي أن يضع علامة الاستفهام بيد أن قراء التيمس إذا عثروا على غلطة مطبعية لا يلبثون أن يشعروا الإدارة في الحال. ولكثرة عناية التيمس في مستنداتها ومراعاتها الذمة في نقولها وتجويد إنشائها أصبحت المجموعة التي تنشرها إدارتها كل سنة في الأحكام الصادرة أشبه بمجموعة دالوز في القوانين لا يعتمد في التاريخ إلا عليها. وأسرة ولتر هي مالكتها وقد أصبحت منذ سنة 1908 لنقابة خاصة يرأسها أحد أبناء مالكيها الأول ولكن ألفرد هرمسورت صاحب الديلي ميل وكندي جون هما يدها العاملة وروحها المدبرة.(65/52)
وتجيء بعد التيمس جريدة الديلي تلغراف أنشئت سنة 1855 وشهرتها عظيمة وهي بإعلاناتها أشهر جريدة في إنكلترا بل في أوربا وتأثيرها الأدبي والسياسي أقل من التيمس ولكن أخبارها كثيرة واسعة النطاق وهي التي اشتركت مع جريدة نيويورك هرالد وبعثت هنري ستانلي للمرة الثانية للبحث ع داود ليفنكستون الذي اهتمت له إنكلترا وكان من ذلك افتتاح الكونغو وأصقاع البحيرات العظمى في أواسط أفريقية. وجريدة المورنن بوست أول الصحف اليومية بإنكلترا أنشئت سنة 1772 وهي لسان حال المنورين والإشراف تدعو إلى التوسع في الاستعمار وتخالفها الديلي نيوز وهي تدافع عن المسائل المهمة فقد دافعت عن إيطاليا ويونان وبلغاريا وأرمينية وارلندا وحملت على عدائهن حملات منكرة وهي الصحيفة الوحيدة التي لا تنشر أخبار المسابقات والرياضات. وجريدة الديلي كرونيل هي الجناح الأيمن للأحرار والستاندارد أسست عام 1827 مقبولة جداً في عاصمة الإنكليز وبين الأشراف المتوسطين وأشراف الأرياف. وجريدة المورنن ليدر غريبة مقبولة من العامة بترتيبها ووضعها وكثرة مكاتيبها في الخارج كثرة لا تضاهيها فيها جريدة اللهم إلا التيمس والديلي تلغراف. ثم تجيء الصحف الأسبوعية التي تصدر يوم الأحد فمنها جريدة النيواوف دي ورلد وجريدة اللويد وكل منهما يطبع مليوناً وأربعمائة ألف نسخة.
بين هذه الصحف نشر صاحب الديلي ميل جريدته فنطر نظرة بليغة فيمن تقدمه فلم ير أن يسبقهن في إنشاء جريدته ولا في رخصها ورأى أن إصدارها قبل ميعاد الصحف مما يهيئ لها قراء كثيرين خارج لوندار فقد كانت صحف هذه العاصمة تطبع بين الساعة الثانية والثالثة بعد نصف الليل وتسافر الساعة الخامسة في القطارات فتصل إلى الأماكن التي تبعد مائة كيلو متر عن لندرا وقت الفطور وإلى الأماكن البعيدة ثلثمائة واثنين وعشرين كيلو متراً حوالي الظهر فاكترى صاحب الديلي ميل قطارات خاصة لجريدته تسافر إلى الجهات المختلفة فتوزع جريدته إلى أيعد الأماكن قبل أن يتناول المطالعون جرائد ولاياتهم نفسها مخافة أن يكتفوا بهذه عن مطالعة الصحيفة اللندنية وكان لذلك يطبع جريدته قبل ساعة ثم قبل ساعتين من طبع رصيفاته وبذلك استغنى كثير من القراء خارج لندن عن سائر صحفها وبعض صحف الولايات وارتفع معدل ما يطبع من الديلي ميل بعد بضعة أشهر من 250 ألفاً إلى 475 ألفاً ولم يلبث أن صار 700 ألف ولم تصل إلى السنة الثالثة(65/53)
حتى بلغ المطبوع منها مليون نسخة وأصبحت اليوم تطبع مليوناً ومائتي ألف نسخة في حين تطبع التيمس 55 ألفاً فقط والديلي اكسبرس 700 ألف والديلي تلغراف 350 ألفاً والديلي نيوز 300 ألف والمورنن ليدر 350 والستاندارد 120 ألفاً والديلي ميرور 90 ألف وجريدة إيفنن نيوز وهي فرع للديلي ميل تصدر في المساء ويطبع منها 250 ألفاً. وقد فكر صاحب هذه الجريدة في شمال إنكلترا فرأى مدينة منشستر على ثلاث ساعات ونصف من لندار متوسطة بين بلاد إيكوسيا ونفوسها 750 ألفاً وهي مركز تجاري مهم فأنشأ فرعاً لجريدته هناك فيها جميع ما في جريدته اللندنية من الأخبار والمقالات منها ما يرسله من لندرا مع البريد ومنها ما يرسله على لسان البرق فتخرج الديلي ميل في منشستر في الوقت الذي تصدر فيه في لندن وبذلك تسنى له أن يبيع من الجريدة الثانية مائتي ألف نسخة فيكون مجموع ما يبيع من الديلي ميل 1. 400. 000 وقد أصدر فرعاً لجريدته في باريوبيبغ منه عشرين ألف نسخة كل يوم وأحبت بعض منافساته أن تحذو حذوه ولكنها لم تفلح لأنه أخذ دونها المقام الأول في القاصية كما أخذه في الدانية.
وأغرب من هذا وذاك أن صاحب الديلي ميل أصدر فرعاً من جريدته بحروف برايل الناتئة يصفها عميان ويطبعونها ويوزعونها وهي للعميان فيها الأخبار السياسية وغيرها تصدر مرة في الأسبوع في 16 صفحة وهذه الجريدة هي لخدمة الإنسانية المحضة وذكرها أجمل سطور في تاريخ الصحافة المصرية.
وبانتشار الديلي ميل إلى هذا القدر أقبل أرباب الإعلانات عليها وآثروها عل غيرها ولولا ذلك ما استطاع صاحبها أن يتكبد مثل هذه النفقات واستعمل أساليب التجارة في اصطياد المعلنين فلم يكتف كغيره من أرباب الصحف أن يقصد المعلنون إدارته بإعلاناتهم بل أخذ يبعث برسله إلى التجار يقاولونهم على إعلاناتهم. والإعلان في إنكلترا أهم أسباب التجارة بدونه تقل الأرباح كما قال بعضهم بل أن امتناع الصحف يوماً واحداً عن نشر إعلانات التجارة أصعب على الأمة من وقوف السلكك الحديدية وانقطاع الأسلاك التلفونية والبرقية ويكفي أن لندن وحدها تنفق في السنة على الإعلان فقط ملياراً ونصف مليار فرنك - انتهى ما عربناه عن المجلة الباريزية وعسى أن يكون فيه لهل الصحافة العرب غناء فيطرسون على آثار الصحافة الإنكليزية الراقية.(65/54)
موظفو فرنسا
الغالب أن فرنسا أكثر بلاد الحضارة موظفين ففيها الآن 967855 موظفاً على اختلاف الطبقات وإذا أضيف إليهم موظفو الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسوية يتقاضون رواتبهم من ميزانية تلك البلاد ناهز الموظفون من الفرنسيس مليون موظف فكان لفرنسا موظف واحد لكل 38 مكلفاً يتقاضون في السنة ملياراً وخمسمائة وعشرة ملايين يضاف إليها 108 ملايين رواتب رجال الملكية و 170 مليوناً رواتب العسكرية.
بين القاهرة والرأس
عزم رجلان ألمانيان أحدهما ضابط والآخر جيولوجي أن يجتازا المسافة بين رأس الرجاء الصالح والقاهرة في السيارة (اتوموبيل) والمسافة بين البلدين عشرة آلاف كيلومتر وذلك ليتأكدا إذا كان يتأتى لهذه المركبة أن تحمل ركاباً وبضائع بين جنوبي أفريقية وشماليها وسيقطران مركبة أخرى إلى السيارة التي تقلهما وتكلف نفقات إنشائها مائتي ألف مارك على أن الخط الحديدي المنوي به ربط تينك المدينتين إحداهما بالأخرى قد تم بعضه ومؤخراً افتتح فرع من واد مدني إلى سنار وقد بلغ طوله ما مدَّ منه من الجنوب 1501 ميل (نحو 2400 كيلو متر) والفرع الجنوبي تسير قطاراته الآن من كبتون إلى المحل المسمى ستار أوف كونغو في مملكة الكونغو الحرة أي على مسافة 2312 ميلاً (نحو 3700 كيلو متر) فيبقى بعيداً عن الخطوط بعد 2060 ميلاً (3200 كيلو متر) فيكون على هذا التخطيط طول هذا الخط كله 5873 ميلاً منها 3813 ميلاً قد نجزت والقطارات تغدو فيها وتروح وستجعل لها طبقة رابعة للفقراء.
سكان طرابلس
احتفل في الشهر الماضي بافتتاح الخط الحديدي بين طرابلس والشام وحمص وطوله 100 كيلومترات يقف القطار في ثماني محطات ويقطع المسافة بين البلدين في أربع ساعات وهو من الخطوط العريضة مثل بعض الخطوط الحديدية في سورية وبهذا الخط أصبحت كثر من مدن الداخلية في سورية مرتبطة بالسواحل فأول ما ربط منها يافا بالقدس ثم تبعتها دمشق بيروت فحوران ثم خط حيفا ودمشق وحيفا درعا المدينة وربطت بيروت بحلب واليوم ربطت طرابلس بحمص وما والاها.(65/55)
كتب أولاد
من مقالة لأحد العالمين من الأوروبيين أن كتاب الولد يجب أن يحوي شرطين رئيسيين أن يعجب القارئ به ويهتم له والإعجاب به يكون بما يحويه من الصور والاهتمام له يكون بما تضمنه من الموضوعات اللطيفة وهذه الصفات تحتاج لتأليف كتاب من هذا النوع إلى رجل مفنن ورجل كاتب وأن يكون كلاهما مفطورين على معرفة مخاطبة الأولاد وقلما يتوفر ذلك. وقليل في كتب الأولاد المفيد لان الأسفار التي تجعل بين الأطفال هي في العادة سقيمة الإنشاء عليلة التصوير كأن المؤلفين والمصورين يقصدون إلى إدخال السآمة على نفوس الصغار بما يكتبونه ويرسمونه على ما اتفق فالقصص التي يوردونها مملة يريدوا أن يعلموا بها بدون أن يسألوا وأن يعطوا دروساً في الأخلاق والتهذيب لا تستميل قلوبهم وليست سوى مواعظ وما أحرى تشبيهها بحقول بائرة لا تنبت فيها زهرة ولا تجد فيها ما يبعث حماسة الشبيبة نعم هي صور مضحكة يفهما الولد على حسب مداركه ولكنها لم تخرج عن كونها قصصاً عامية ينضم فيها الابتذال إلى فساد الأحكام. فارغة لا جاذب فيها تتعب قارئها إذا قرأ منها الصحف الأولى فيتخلى عنها قبل أن يتمها. فالآداب التي يدرسها الأطفال هي ولا جرم مخالفة للمقصد منها في معظم البلاد. قلنا هذه شكوى البلاد الإفرنجية من رداءة كتب الأطفال عندهم وهي ما هي فما هو الحال إذاً في مدارس البلاد العربية.
تجار الأميركان
لكل مخزن كبير في الولايات المتحدة مدرسة خاصة لتعليم مستخدميها وبائعيها تعليماً تجارياً خاصاً يدربون في الغالب كما يدرب الجند لان تجار الولايات المتحدة قد أيقنوا بأنه يصعب إيجاد مخازن كبرى إذا لم يكن فيها نظام مدقق ولذلك يدخلون الصبيان والبنات إلى هذه المدارس في الرابعة عشرة من سنهم فيعلمونهم في الصباح الحساب والإنكليزية ليجيدوا التكلم بها كما يعلمونهم الإفرنسية ويمرنونهم نصف ساعة على الألعاب الرياضية كل يوم لتكون حركاتهم منتظمة شأن المستخدم اللبق وفي النهار يشغلونهم في أعمال المحل ولكن بدون أن يختلطوا مع الزبن. وبعد تمرينهم ثلاثة أشهر على هذا النحو يبدأ بتعليمهم معرفة الأصناف التجارية وفي المساء يعلمونهم شيئاً من التعليم النظري فيدرسون مثلاً كيفية عمل البضائع ومحال عملها بحيث يستطيعون بعد أن يلقوا درساً مختصراً لمن تريد(65/56)
أن تبتاع زوجاً من الجوارب ويوقفونهم على علم النفس لان هذا العلم نافع لهم نفعه للقصي والعالم. وأمهر البائعين المرغوب فيهم هم أهل ارلندا.
التلغراف اللاسلكي
زيد في هذا التلغراف اختراع جديد مركوني نجح بواسطة طيارة تنقل في النهار رسائل برقية كهربائية إلى مسافة 560 كيلو متراً وكانت رسائل التلغراف اللاسلكي حتى الآن لا تنقل إلا في الليل خاصة وبهذا الاختراع الجديد يمكن إرسالها في كل ساعة وإلى كل مكان وينحل الأشكال الذي كان ناجماً عن المخابرة التلغرافية من سفينة مبحرة مع أي محطة في الشاطئ كانت.
حمى مالطية
ثبت أن الحمى تنتقل في لبن الماعز وذلك لأن الحكومة منعت الحامية هناك من إعطائهم لبناً حليباً في جملة الجراية اليومية. وكان ثبت أن لبن البقر ينقل جراثيم السل ولا يفيد فيه إلا التعقيم الشديد.(65/57)
العدد 66 - بتاريخ: 1 - 8 - 1911(/)
حالة الجو الطقس
الفواعل الطبيعية التي تؤثر فيها وتدل على ما تصير إليه
لا بد أن يتلقى قراؤنا الكرام هذا الموضوع بما يستحقه من الاحتفاء بعد أن ألفتت أنظارهم إليه الثلوج التي تراكمت في هذا الشتاء على ربوع البلاد فسدَت المسالك وساقت حيوانات البر من كهوفها وأوجارها لتشارك الإنسان في مساكنه وتشاطره شظف العيش في مكامنه.
وقد خُيل لمن لا إلمام لهم بالنواميس الطبيعية أن كثرة شرورنا قد كانت السبب لهذه الضربة الإلهية والحقيقة أن خطايانا كثيرة في كل سنة فلو كانت هي الداعي لذلك لاقتضى أن لا تفارقنا الضربات على مر السنين.
ومما لا ريب فيه أن الممسك أزمّة السماوات والأرض بيده قد سنَّ للطبيعة شرائع تسير بموجبها وتنتج معاً ما نشاهده من الظواهر الفلكية والتقلبات الجوية التي تختلف باختلاف اتجاه هذه الفواعل وكيفية ارتباطها معاً واجتماعها أو تفرقها على ما سنبينه.
ومع أن العلوم والمعارف هي ومجموع اختبارات البشر لا تزال قاصرة عن إيضاح معظم ما تتوق النفس لمعرفته مما لا يزال وراء حجاب الغيب فإنها قد كشفت لنا الشيء الكثير عن أسرار الطبيعة حتى صارت الميتيورلوجيا أو الظواهر الجوية علما جزيل المنفعة للملاح والزراع والتاجر وغيرهم من أرباب المهن والحرف.
وقد تبين من درس طبيعة الهواء والنور والحرارة وحركات الأرض ومهابّ الرياح والجاذبية وغير ذلك أن تقلبات الجو وظواهره بين صحو ومطر وحر وبرد الخ خصوصاً عن اتحاد أفعال السبع قوات الآتي بيانها:
1) دورة الأرض اليومية على محورها.
2) دورة الأرض السنوية في فلكها.
3) الجاذبية التي تشد الهواء إلى الأرض.
4) قوة التباعد عن المركز الناجمة عن دورة الأرض على محورها وعن قوة استمرار حركة الهواء.
5) قوة دقائق المادة المعروفة بالحرارة والنور والالفة والكيمية والكهربائية، وقوة الإشعاع التي تصل إلينا من الشمس، وجميع الاختلافات والتقلبات الموقعة على عرض الأماكن وحركتي الأرض اليومية والسنوية.(66/1)
6) فقد الحرارة بالإشعاع من الأرض والهواء.
7) اختلاف تمدد الأجسام باختلاف توزيع الحرارة في الهواء لتوقف ذلك على مركز القارات والاقيانوسات وعلى وجود أبخرة سهلة التكشيف كالتي تكون ممزوجة بقارات لا تنفك عنها وعلى النتروجين والأوكسجين اللذين يتركب منهما معظم قارة الهواء.
فأدنى تغيير في هذه القوات أو كيفية عملها يحدث تغييراً فيما يحيط بنا. ويتعب علينا التنبؤ بالدقة عن حالة الجو لأننا لا نزال نجهل ما وراء كرتنا الأرضية من الفواعل. ولكننا نعلم أن قوة ما تنتقل دائماً من الشمس إلينا بسرعة جاذبية الثقل وتتخلل الهواء المحيط بنا وبها يعلل تكوّن الشفق وذلم أن هذه القوة المسماة ليونس وإلكترونات متى تكهربت تنحرف عن سيرها المستقيم حالما تخالط الهواء وترسم منحنيات لولبية الشكل. وعندما تتصل هذه الدقائق ببعض الغازات من مثل الكربتون يستنير الغاز فيكون من ذلك النور الشفق الذي يشاهد في الأماكن القريبة من القطبة الشمالية أكثر من غيرها كأعالي اسوج ونروج وشمال كندا وغيرها.
أما الغيم والمطر والثلج والبرد وسائر متعلقاتها فتكون بالطريقة الآتية:
تلقي الشمس أِعتها على مياه الاوقيانوسات والأبحر والبحيرات وما ماثلها من المستودعات المائية فتسخن الهواء الملامس لها ولليابسة وتبخر الماء فيخفف ويصعد في الهواء المشبع رطوبة إلى الطبقة التي يتكون فيها الغيم ويتمدد الهواء بالحرارة أيضاً فيصعد بقوة يدفع بها الهواء المجاور لها من الجهات الأربع. ومعنى هذا الدفع أنه ينفق شيئاً من حرارته كلما صعد ودفع ما يجاوره حتى يبرد أخيراً وتغلب فيه الرطوبة فيبتدئ أن يتكاثف بشكل الغيم أو السديم. وهذا التكاثف إنما يتم بالتفافه حول ذرات الغبار ودقائق الإلكترونات التي تقدم ذكرها فتكسى هذه الذرات بالرطوبة كما يكسى في الصيف ظاهر إبريق زجاجي ملآن ثلجاً. وعلى ذلك فكلما زاد الغبار في الجو زاد تكاثف الغيم وقل المطر الذي لا يعطل إلا من أواسط الغيم أو فقلبه حيث الغبار قليل وذلك بعد أن يضغط على الغيم والهواء الأعلى منه وشرط في أن الغيم أن يكون مكهرباً بارداً إلى درجة تكون الندى. فمن غيمة كبيرة يكونها الهواء الرطب حول دقائق المادة قد يوجد جزءُ صغير فقط خال من الغبار فيتمدد بسرعة كافية لتكوين ماء المطر.(66/2)
ومن هذا يتضح أن إطلاق المدافع الكبيرة في الهواء إذ وصل دخانه بما فيه من الدقائق إلى مساواة الغيم يحدث غيما ويمنع وقوع المطر لان المطر لا يسقط إلا من قلب الغيوم حيث يقل الغبار أو يخلو بتاتاً.
أما إذا سقط المطر وكان الهواء بارداً جداً فإنه يجمد. فإذا كان الهواء يهب من جميع الجهات لعب فيه ودوَّره فيسقط برداً وإلا فإذا سكن الهواء سقط عطباً كنتف القطن وهو الثلج الذي تكسى به قمم الجبال وسائر الأماكن العالية الباردة.
ولمعرفة أوقات سقوط المطر أو الثلج يجب أن ندرس مهاب الرياح وعلاقة البرد من كلف الشمس ومغنطيسية الأرض وغير ذلك مما يصعب معرفته بالدقة.
غير أن الآلات التي اخترعت حديثاً للدلالة على حالة الجو وهي البارومتر والثرمومتر أي مقياس ضغط الهواء ومقياس الحرارة كثيراً ما تدل على حدوث الأمطار والزوابع بالضبط قبل وقوعها بزمن يختلف من 12 إلى 24 ساعة وما ذلك إلا لتأثرها بضغط الهواء ومبلغ ما فيه من الحرارة والرطوبة التي تقل اتكثر تبعاً للفواعل العديدة الطبيعية كما بيناه آنفاً.
فرطوبة هواء الهند مثلاً تأتي من بعد شاسع أي من جهة الجنوب الغربي للاقيانوس الهندي وهواء أوربا يؤثر في أفريقية وهواء جنوب أفريقية يؤثر في آسيا وهكذا فكأن الهواء كرة مرنة ينتقل فعل الفواعل على أحد جوانبها إلى كل جانب ولذلك فجونا عرضة للتأثر من الأعلى أي من الفلك الذي ورداء حدود الهواء ومن القطبتين ومن جانبي خط الاستواء فلا يكاد يفعل فيه فاعل إلا ويظهر تأثير ذلك في مجموعه. ولهذه الأسباب لا يمكننا معرفة أوقات الأمطار والثلوج واشتداد الحر والبرد وغير ذلك إلا إذا عرفنا تأثير جميع الفواعل والمؤثرات في اتحاد العالم. وهذا ما يسعى العلماء لرصده ومعرفته حسبما تمكنهم الأحوال.
وقد لا يمر بنا زمن طويل حتى تصير نبوات العلماء موضوع ثقة القوم فيعرف الناس جهات الرياح وأوقاتها وأزمان سقوط المطر والثلج بضبط يكاد يقرب من كنه الحقيقة.
وفي أوربا وأميركا الآن معاهد خاصة فلكية تنبئ بتغيير حالة الجو أنباء جزيلة النفع للإنسانية. وعما قريب تتفتح عيون الناس في آسيا فيختطون هذه الخطة العلمية ويجاورون القوم في حياتهم العمرانية.
بيروت // خليل سعد(66/3)
السراسرة أو الزرازرة
(1 - تمهيد) من أحسن ما يفيد اللغويين والكتاب والمعربين وأصحاب نادي دار العلوم تتبع الألفاظ الدخيلة في العربية ومعرفة الأصل الذي أخذت منه. فإن التنقيب عن هذا الأمر يكفينا مؤونة وضع بعض المصطلحات الجديدة مع وجودها عندنا. هذا فضلاً عن منع كثير من الألفاظ عن التسرب إلى لغة قريش الفصيحة وحبس مواد اللغة عن أن يعيث فيها عائث والذب عن حياضها ومناهلها الراقية وتخفيف حمل الحافظة لكثرة ما توقر في هذه الأيام بنشر الصحف المختلفة الموضوعات. وخفاً من أن تنوء بأثقالها فتبهض. ولهذا فأحسن واسطة تتخذ في هذا الباب أن يسعى إلى إقفاله بأقرب وقت وأخصر طريق يسعى في تحقيق أصول الألفاظ الدخيلة حتى تعاد إلى نصاب معانيها التي وضعت فيها ويحافظ على المعاني التي نقلت إليها في لغة العرب.
وقد اهتديت في أبحاثي إلى بعض هذه الحروف وتحقيق أصلها من ذلك كلمة سرسور.
(2 - حقيقة اللفظة نقلاً عن اللغويين) السراسرة جمع سرسور قال محيط المحيط: الزرزار (أو الزردار) (قلت: كذا بدال مهملة قبل الألف): البطرك (كذا. والأصح البطريق لأن العرب خصت لفظة بطرك أو بطريك أو بترك أو بتريك أو بطريرك بالرئيس الديني الذي هو فوق رئيس الأساقفة بخلاف البطريق فإنها قد وردت عندهم بمعنى البطرك وبمعنى كبير الشرفاء من الروم والرومانيين أي بكلا المعنيين) زرازرة (أو زرادرة). كلام المحيط وقال قزميرسكي: ; ' وقال فرريتاك: زرزارج زرزارة: ثم زاد في الاوقيانس: زروارج زروارةً. وفي التاج: الزرارزة البطارقة كبراء الروم وجمع زرزار بالكسر. وفي التكملة: الزراورة البطارقة. ولم يذكر الكلمة اللغوي الإنكليزي لين صاحب مد القاموس. وممن أغفل ذكرها صاحب الصحاح والمصباح وأساس البلاغة والنهاية ومختصرها. لا بل وصاحب لسان العرب أيضاً وهذا في منتهى العجب لأن الكتاب ضخم في عشرين مجلداً وقد حوى ألفاظاً دون الزرزار شأناً ومع ذلك فقد أهملها إلا أنه قال في مادة س ر ر: السرسور: الفطن العالم. وأنه لسرسور مال أي حافظ له. أبو عمرو: فلان سرسور مال وسوبان مال: إذ كان حسن القيام عليه عالماً بمصلحته. أبو حاتم: يقال فلان سرسوري وسرسورتي: أي حبيبي وخاصتي. ويقال: فلان سرسور هذا الأمر: إذا كان قائماً به.(66/5)
ويقال للرجل: سرسر: إذا أمرته بمعالي الأمور. النص. ولم ينبه على أن السرسور هو تصحيف زرزار. ومن ثم فإنك لا ترى في لسان العرب أثراً لهذه الكلمة الأخيرة بالمعنى الذي أشار إليه اللغويون.
أما السرسور فقد ذكرها جميع اللغويين أصحاب المطولات قال في التاج: السرسور: بالضم. الفطن العالم الدخال في الأمور بحسن حيلة. . . وعن أبي حاتم: الحبيب. . . إلى آخر النص الذي ذكره صاحب اللسان. وقد نقل أصحاب دواوين اللغة كلام أبي حاتم فلا حاجة إلى إيراد جميع نصوصهم الآخذين عنه عبارته هذه بدون تغيير وقد ذكرناها. وأما صاحب محيط المحيط فقد غلط في قوله زرادرة بالدال بعد الألف وإنما هي بالواو وقال في التكملة: البطارقة الواحد زورار كما نقلناه فويق هذا.
ولم ينبه أحد من لغويي العرب إلى أنها من أصل أعجمي وأما الإفرنج فلا أعرف منهم إلا فرنكل إذ قال أنها من أصل فارسي أو آرامي قال: سفير: سيسار وفيها لغة وهي سرسور.
والعربي إذا رأى كلتا اللفظتين: الزرزار والسرسور لا يتوقف في أن يقول أنهما من أصل واحد وهو: الزور مكررة مع تصحيف فيكون معناها: رئيس الرئيس أي الرئيس الكبير. لأن الزور هو الرئيس وليس الأمر كذلك ولا سيما الزرزار لأنهم شرحوها بمعنى البطريق أو الكبير من الروم. فلا يمكن أن تكون الكلمة إلا رومية أي لاتينية وهي أي سنسور ثم صحفها العرب وتلاعبوا بلغاتها كما فعلوا بلغتهم فتولدت منها ألفاظ كثيرة مرجعها إلى واحدة. وقلبهم النون رآها هين مستغاض في كتبهم والشواهد فيه لا تعد ولا تحد حتى في الألفاظ العربية الفصيحة كما قالوا في ريح ساكرة: ريح ساكنة. وقالوا الزون والزور. والواو والوكن. والهبور والهبون (العنكبوت) وتأسر عليه وتأسن وما فيه حبربر ولا حبنبر. والمركوس والمنكوس. إلى غير هذه من الألفاظ وعليه قالوا في سنسور: سرسور. ومن العرب من كان يقلب السين زاياً منقوطة ويجعل الالف المفخمة أي الإفرنجة تارة ألفاً وطوراً واواً كما في صلاة وصلوة. وحياة وحيوة. فقالوا على هذا القياس زرزار.
ولعل الأصح أن اللفظة أول ما وردت في كلامهم جاءت مجموعة بصورة زنازرة أو زرزارة ثم توهموا مفردها زرزار حملاً لها على مادة عربية وكان السرسور أو السنسور من ولاة القضاء عند الروم وكان من وظيفته إحصاء أبناء الرعية الرومانية وتقدير أموالهم(66/6)
وتدبير بيت المال أو خزينة المملكة. ثم امتدت سطوتهم حتى بلغت شأواً بعيداً في النفوذ وشأواً خطيراً في السلطة حتى قلد الزرازرة نقابة أشراف الروم فصارت وظيفتهم كوظيفة نقيب الأشراف عند المسلمين في عهدنا هذا. بل وأوغلوا في السطوة حتى قلدوا أمر مراقبة الآداب وتنزيل الأشراف عن مناصبهم العليا وإبعاد شيوخ المجلس الأكبر عن مناصبهم بل وربما طردوهم من المجلس طرداً لا مرد لهم إليه.
وكانت هذه الوظيفة مقيدة بالبطارقة لا غير. ومن ذلك تعريف العرب للزرازرة بمعنى البطارقة. ثم أرخي عنان جوداها فقبض عليه صهواً كل من كان أهلاً للعلى وإن كان من السوقة.
على أن أصح وجه اللفظ هو السرسور كما جاءت في أغلب كتب الأئمة إلا أنها وردت عندهم بالمعنى الفرعي لا بالمعنى الأصلي أي إنها جاءت بالمعنى الثالث الذي انتقلت إليه في الرومية واشتهرت به في عهد صدر الإسلام لأنهم قالوا في تفسيرها: الفطن العام الدخال في الأمور.
وإن قيل لنا: إن سرسور هو تعريب سيرسور واصل معناه الشعبان فرحاً. (كتاب الألفاظ الفارسية المعربة تأليف السيد أدي شير ص 89). قلنا: لا يقول هذا الكلام إلا من أراد الهزء والسخرية بأهل العلم والتحقيق وإلا أي مناسبة بين هذين المعنيين. وكيف سمى الروم صاحب مقام من أهل المراتب العليا عندهم باسم فارسي. تلك أضحوكة من الأضحوكات المبكيات. هذا فضلاً عن أن العقل يأبى مثل هذا الوضع الغريب والتأويل البعيد العجيب ولا سيما أن جميع اللغويين متفقون على أن الزرازرة هم البطارقة أي علية أشراف الرومان. والسراسرة هم الفطنون العلماء الدخالون في الأمور كأن العرب جعلت لكل فرع من المعنى فرعاً من اللفظ تفنناً وتمييزاً لفظاً من لفظ وهم كثيراً ما يفعلون ذلك.
هذا وتأويل السرسور بالمعنى الذي عقده بناصيته أهل اللغة يوافق كل الموافقة للتآويل المختلفة التي جاءت بها لفظة تعني ما يأتي: (1) الذي ينتقد مسلك الناس وأعمالهم. (2) الذي ينتقد مؤلفات المصنفين وما وقع فيها من الأوهام والأغلاط. (3) أحد عمال الحكومة تقيمه على فحص الكتب والجرائد والمجلات وهو الذيس سماه كتاب هذا العهد بالمراقب. (4) وسرسور الدروس عندهم القيم بشؤونها وبحفظ قوانينها. (5) وسرسور المصرف(66/7)
(البنك) سرسور شركة تجارةٍ وقد فوض إليه تحقيق أعمال المدبرين والمقيمين بشؤونها. وهذا كله يصح فيه معنى السرسور على موجب ما أثبت معناه اللغويون أي الفطن العالم والحسن القيام على المال العالم بمصلحته.
هذا ما أردنا إيراده بخصوص اللفظة وأصلها ومعناها عند العرب سابقاً ومعناها عند الإفرنج في عهدنا هذا. وإمكان دخول مختلف معانيها في لغتنا إذ الجامعة بين شعبها موجودة عندنا أيضاً وهذا كله من منافع الوقوف على أصول الألفاظ والبحث عن انسلالها في لغتنا. بقي علينا أن نذكر ما يتعلق بهذه اللفظة في أمرها في التاريخ فنقول:
(3 - السرسور في التاريخ) كانت إقامة رتبة السرسور أو السنسور في الطبقة الأولى عند أمة الرومان. وكان ينتخب أصحابها انتخاباً إلى زمن محدود مضروب. وإذا قلدها واحدهم أصبحت سلطته توازي سلطة القنصل مع أن هذه السلطة هي ابنة تلك لا غير. وكان يقام السرسور في الأصل لتعداد النفوس كما يدل عليه اللفظ نفسه سنسور مركبة من سنس والأداة الدالة على الصاحبية والسنس هو تعداد النفوس ومن بعد ذلك امتدت سيطرته إلى إصلاح الأخلاق وتهذيب ضروب الجماعات وطبقاتها. ومن ثم كان يشارف السوقة والبطارقة حتى إذا أخذوا بشيء وجب عليهم أن يزكوا أنفسهم كلما اقتضت الحال أو دعاهم السرسور أن يتبينوا ما يعزى إليهم. ولم تكن وظيفة أو رتبة أو منصب من مقامات الدولة الرومية إلا وتخضع لسلطة السرسور أو الزرزار. ومما كان يكلف به السهر على كل ما يتعلق بالمصالح العامة كالجسور والأقنية والأبنية العامة والقناطر والمعابر إلى غيرها. وكانت هذه السطوة أو السلطة تعلو في الشعب الروماني بقدر ما كانت تنحط وتهوي في مجلس شيوخهم على أنهم لم تأخذ بالانحطاط إلا لما دب الفساد إلى الأمة كلها وسرى إلى الخاص منهم والعام سراً وجهراً حتى فشا في السراسرة أنفسهم ولقد كان للقب الزرزار من الشرف الرفيع ما حدا بقيصر وسائر الانبراطرة أن يتسموا به ويتخذوه لأنفسهم.
وأما في بلاد اليونان فإن الزرازرة لم يفوزا بما حظي به من النفوذ زملاؤهم الرومانيون فإن زرازرة أثينة واسبرطة لم يقلدوا ذلك اللقب إلا تقليداً أدبياً ليس إلا.
وقد بقي الزرزار حتى في عهد بعض جمهوريات إيطالية الأخيرة كجمهورية البندقية مثلاً ثم انقرض بانقراضها.(66/8)
كان أول دخول هذا اللقب عند الرومانيين في نحو سنة 310 من تاريخ رومية أي سنة 444 قبل الميلاد. وكان قد لاحظ مجلس رومه الأعلى أن القناصل الذين كان من دأبهم الاشتغال بتسيير الوفود العسكرية كانوا يستطيعون أيضاً أن يحافظوا على أعمال الأفراد الخاصة فكان أول من ارتقى إلى هذه الدرجة العليا اثنان من البطارقة على ما رواه طيطس ليفيوس.
'
وكانت مدة مقامهم بادئ بدءٍ خمس سنوات ينتخبونهم في مجالسهم الكبرى يسمون هذه المجالس مجالس القوامسة أو مجلس الزرازرة فقد قال أحدهم وقو ق. اسكونيوس بدبانس يعاد انتخاب الزرازرة كل خمس سنوات وهذه عبارته اللاتينية. إلا أن هذه المدة الطويلة وسوست في صدر الذين تقلدوها ما بكدر خواطر القناصل ويقلقها فقصرها الدقططور مامرقس أميليوس فأنزلها إلى مدة 18 شهراً فامتعض من ذلك الزرازرة وانتقموا من صاحب هذا الإصلاح بمحو اسمه من قبيلته وتقييده بين عداد دافعي الخراج.
وكان من اللازم في بادئ الأمر لمن يريد الحصول على هذه المرتبة العليا أن يكون المترشح لها من أصل شريف. إلا أن هذا القيد لم يدم إلا مئة سنة ثم عدل لأن القناصل كانوا يؤخذون من سواد السوقة فساوَوا أولئك بهؤلاء. وأول من أخذ من ظهراني الشعب هوك. مرطيوس روتيليوس فانه علا وصار دِقططوراً ثم رقي فصار زرزاراً مع منليوس نفليوس ومع الزمان سنّ المدير الأعظم أو الدقططور ق. ب. فيلون سنة ومما جاء فيها أنه يجوز انتخاب السرسور من الرعية. والتاريخ يفيدنا أن ق. بمبيوس وق. متلس قلدا لازرزارية وهما من السوقة وذلك سنة 622 من تأسيس رومة. ولم يكن من الضروري قبل الحرب الفونية الثانية أن يكون المترشح ممن مارس أمراً من أمور القضاء الأكبر ليصبح أهلاً للزرزاربة بما أن طيطس ليفيوس بكر أن بيبلوس بيفينوس كراس لم يكن إلا أمير ابنية فانتخب زرزاراً وحبراً أعظم معاً. إلا أنهم بعد ذلك العهد لم يعودا يرقون إلى هذه الرتبة إلا من كان قنصلاً في السابق. ولم يكن لجوز لواحد أن يكون زرزاراً غير هـ، مرة واحدة في حياته إن كنت ممن وقف على ماء كتبه فاليرس مكسيمس تتذكر بأنه قال عن م. روتيليوس أنه من بعد أن أقيم زرزاراً للمرة الثانية وبخ الشعب توبيخاَ شديداً على(66/9)
قلة احترامه لسنة أجدادهم إذ رأوا أن من المناسب تقصير مدة هذا القضاء لأنهم تحققوا أن من بقي بيديه عنان هذه السلطة مدة مديدة يصبح قهاراً عسوفاً عضوضاً ومن ثم غدا انتخاب الزرزار للمرة الثانية مخالفاً لسنن السلف وقد قال بلينيوس الأصغر أن من يوسد الزرزاربة للمرة الثانية عليه أن يأباها حباً بالمنفعة العامة.
وكان سلاَّ أبطل الزرزاربة إلى وقت إلا أن أوغسطس قيصر أزالها بتاتاً. وكان القياصرة يزاولون بأنفسهم ما كان مترتباً على الزرازرة إلى عهدة اسبسيانس. وبعد وفاة هذا العاهل دُثر أثر هذا القضاء المطلق حتى لم يبق منه إلا الاسم. وحاول الإمبراطور دقيوس إعادته فلم يفلح. وممن اشتهر بالزرازية قاطو أو قاطون حتى غلب عليه لقب الزرزار وعرف به. وقد اعتمدنا فيما كتبناه على عدة أسفار لعدة كتاب من روم اولاتين وفرنسويين وإنكليز.
بغداد سلتسنا(66/10)
رسائل الانتقاد
تابع لما سبق
هذا امرؤ القيس
أقدم الشعراء عصراً. ومقدمهم شعراً وذكراً. وقد اتسعت الأقوال في فضله اتساعاً لم يغز غيره بمثله حتى أن العامة تظن بل توقن أن جواد شعره لا يكبو وحسام نظمه لا ينبو. وهيهات من البشر الكمال. ومن الآدميين الاستواء والاعتدال. يقول في قصيدته المقدمة. ومعلقته المفخمة:
ويوم دخلتُ الخدر خدر عُنيزة ... فقالت لك الويلاتُ إنك مُرجلي
فما كان أغناه عن الإقرار بهذا وما أشك غفلته عما أدركه من الوصمة به وبذلك أن فيع أعداداً كثيرة النقض والبخس منها دخولاً متطفلاً على من كره دخوله عليه. ومنها قول عنيزة لك الويلات وهي قوله لا تقال إلا لخسيس. ولا يقابل بها رئيس. فإن احتج محتجٌ بأنها كانت أرأس منه قيل له لم يكن ذلك لأن الرئيسة لا تركب بعيراً يدرج أو (يموت) إذا زاد عليه ركوب راكب بل هو بعير فقير حقير فإن احتج لأنه بأنه صبر على القول من أجل أنها معشوقة قيل له وكيف يكون عاشقاً لها من يقول لها:
فمثلك حُبلى قد طرقت ومُرضعاً ... فألهيتها عن ذي تمائم مُحول
وإنما المعروف للعاشق الانفراد بمعشوقته واطراح سواها كالقسيسين في ليلى ولبنى وغيلان بمية وجميل بثينة وسواهم كثير. فلم يكن لها عاشقاً بل كان فاسقاً. ثم أهجن هجنه عليه. وأسخن سُخنه لعينيه. إقراره بإتيان الحبلى والمرضع. فأما الحبلى فقد جبل الله النفوس على الزهد في إتيانها. والإعراض عن شأنها. منها أن الحبل علة وأشبه العلل بالاستسقاء. ومع الحبل كمود اللون. وسوء الغذاء. وفساد النكهة. وسوء الخلق وغير ذلك ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقي. دع نفس ملوكي. وأعجب من هذا أن البهائم كلها لا تنظر إلى ذوات الحمل من أجناسها. ولا تقرُب منها حتى تضع أحمالها. أو تفارق فصلانها. ثم لم يكفه أن يذكر الحبلى حتى افتخر بالمرضع وفيها من التلويث بأوضار رضيعها. ومن اهتزالها واشتغالها عن أحكام اغتسالها. وقد أخبر أن ذا التمائم المحول متعلق بها بقوله فألهيتها عن ذي تمائم محول وأخبر إنها ظئر ولدها لا ظئر له ولا مرضع(66/11)
سواها فدل بذلك على أنها حقيرة وقيرة. ومثل هذه لا يصبو إليها من له همة وهذه الصفات كلها تستقذرها نفس الصعلوك والمملوك. وقد قال أيضاً في موضع آخر من هذا الباب من قصيدة أخرى:
سموتُ إليها بعد ما نام أهلها ... سُمو حباب الماء حالاً على حال
فقالت لحاك الله أنك فاضحي ... ألست ترى السمار والنار أحوالي
حلفت لها بالله حافة فاجرٍ ... لناموا فما أن حديث ولا صالي
فأخبر ههنا أنه هين القدر عند النساء وعند نفسه برضاه قولها لحاك إله فحصل على لحاك الله من هذه ولك الويلات من تلك فشهد على نفسه أنه مكروه مطرود غير مرغوب في مواصلته. ولا محروص على معاشرته. ولا مرضي بمشاكلته. ثم أخبر عن نفسه أنه رضي بالحنث والفجور. وهذه أخلاق من لا أخلاق لها. ثم أقرّ في مكان آخر من شعره بما يكتمه الأحرار. ولا ينم بفتحه إلا الأوضاع الأشرار فقال:
ولما دَنَوت تسديتها ... فثوباً نسيتُ وثوباً أَجُرْ
وأي فخرٍ في الإقرار بالفضيحة على نفسه وعلى حيه واين هذا من قول يعقوب الخزيمي:
ولا أسأل الولدان عن وجه جارتي ... بعيداً ولا أرعاه وهو قريب
وإنما سهل عليه كل هذا حرصه على ما كان ممنوعاً منه وذلك أنه كان مبغضاً إلى النساء جداً. مفروكاً ممن ملك عصبتها لأسباب كثيرة ذكرت. وكل من حرص على نيل شيء فمنع منه فعلاً. ادعاه قولاً. وله أشباه فيما أتاه. يدعون ما ادعاه. إفكاً وزوراً وكذباً وفجوراً. منهم الفرزدق وهو القائل:
هما دلياني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فهذا أول كذبة ولو قال من ثلثين قامة لكان كاذباً لتقاصر الارشية عن ذلك وقد قرعه جرير في قوله
تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلى والمكارم
وكان مغرماً بالزنا مدعياً فيه. منها ما شهر به من النميمة بمن ساعده. والادعاء على من باعده. منها دمامته ومنها اشتهاره. والمشهور يصل إلى شهوة يتبعها ريبة. فكان يكثر في شعره من ادعاء الزنا. واستدعاء النساء وهن أغلظ عليه من كبد بعير. وأبغض فيه وأهجى(66/12)
له من جرير. وخذ أطرف هؤلاء الأجناس. وهو سحيم عبد بني الحسحاس. أسيود في شمله. دنسة قملة. لا يواكله الغرثان. ولا يصاليه الصرد العريان. وهو مع ذلك يقول:
وأقبلن من أقصى البيوت يعدنني ... نواهد لا يعرفن خلقاً سوائيا
يعدن مريضاً هن هيجن ما به ... ألا إنما بعض العزائد دائيا
توسدني كفاً وتحتو بمعصمٍ ... عليَّ وترمي رجلها من ورائيا
فأنت تسمع هذه الأسود الشن وادعاءه. وتعلم لو أن الله أخلى الأرض. فلم يبق رجلاً في الطول ولا في العرض. لم يكن هذا الزنمة الزلمة عند أدراك السودان إلا كبعرة بعير. في معر عير. والممنوع من الشيء حريص عليه. مدع فيه. والمدع بما يهواه. كاتم له مستغن ببلوغ مناه. ودليل على ذلك أن المرقش الأكبر كان من أجمل الرجال وكانت للنساء فيه رغبة. وشدة محبة. وكان كثير الاجتماع بهن. والوصول إليهن وله في ذلك أخبار مروية ولم يكن في أشعاره صفة شيء من ذلك. فحسبك بذلك صحة على ما قلناه. فان قال قائل إنما وصفت عن امرئ القيس عيوباً من خلقه لا في شعره قلنا هل أراد بما وصف في شعره إلا الفخر. فإن قال لم يرد ذلك وإنما أراد إظهار عيبه قلنا ما أحمق الناس إذاً هو. وإن قال نعم الفخر قلنا فقد نطق شعره بقدر ما أراد وترجم وترجم عنه قريضة بأقبح الأوصاف فأي خلل من خلال الشعر أشد من الانعكاس والتناقض. وكل ما يخزي من الشعر فهو من أشد عيوبه قال ومن كلام امرئ القيس المخلخل الأركان. الضعيف الأسمكان. المتزلزل البنيان. قوله:
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في أثرهم منحدر
وشاقذ بين الخليط الشطر ... وممن أقام من الحي هر
وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر
فانت تسمع هذا الكلام الذي لا يتناسب. ولا يتواصل ولا يتقارب ولا يحصل منه معنىً ولا فائدة سوى أن السامع يدري أنه يذكر فرقة من أحباب لكن ذلك عن ترجمة معجمه. مضطربة منقلبة. سأل عن الخيام أمرخ هي أم عشر وليست الخيام مرخاً:
تراه إذا ما جئته متبهللاً ... كأنت تعطيه الذي أنت سائله
مدح بها شريفاً أي شريف فجعل سروره بقاصده كسروره بمن يدفع شيئاً من عرض الدنيا(66/13)
إليه وليس من صفات النفوس العارفة السامية والهمم الشريفة العالية إظهار السرور إلى أن تهلل وجوههم وتسر نفوسهم بهبة الواهب ولا شدة الابتهاج بعطية المعطي بل ذلك عندهم سقوط همة وصغر نفس وكثير من ذوي النفوس النفيسة والأخلاق الرئيسة لا يظهر السرور متى رزق مالاً عفواً بلا منة منيل ولا يد معط مستطيل لأنه عند نفسه أكبر منه ولان قدر المال يقصر عنه فكيف أن يمدح ملك كبير كثير القدر عظيم الفخر بأنه يتهلل وجهه ويمتلئ سروراً قلبه إذا أعطى سائله مالاً وهذا نقض البناء ومحض الهجاء والفضلاء يفخرون بضد هذا قال بعضهم:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جزع من صرفه المتقلب
وإنما غر زهيراً وغر المستحسن بيته هذا ما جبلوا عليه من العطاء وما جرت به عاداتهم من الرغبة في الهبات والاستجداء وليس كل الهمم تستحسن ذلك ولا كل الطباع تسلك هذه المسالك.
قال أبو الريان: وقال زهير أيضاً يمدح سادة من الناس فذمهم بأنواع الذم وأكثر الناس على استحسان ما قال أظن كلهم كلهم على ذلك وهو قوله:
على مكثريهم حق من بعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
فأول ما ذمهم به إخباره أن فيهم مكثرين ومقلين فلو كان مكثروهم كرماء لبذلوا لمقليهم الأموال حتى يستووا في الحال ويشبهوا في الكرم والحال الذين قال فيهم حسان:
الملحقين فقيرهم بغنيهم ... والمشفقين على اليتيم المرمل
المرمل القليل المال وأرمل الرجل إذا قل زاده وكما قال غيره:
الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي
وكما قال الخرنق:
الخالطين لجينهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقر
فهذا كله وأبيك غاية المدح النقي من القدح ثم استمع ما في هذا البيت سوى هذا من الخلل والزلل قال:
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ففي هذا القسم الأول عيوب على المكثرين. منها أنهم ضيعوا القريب كما قدمنا ودعوا حق(66/14)
الغريب وصلة الرحم أولى ما بدئ به ومن مكارم العرب حميتها لذوي أنسابها وذبها عن أحسابها والأقرب فالأقرب وما فضل عن ذلك فللأبعد ثم أخبر أن المكثرين ليس يسمحون بأكثر من الاستحقاق بقوله:
على مكثريهم حق من يعتريهم
ومن أعطى الحق إنما أنصف ولم يتفضل بما وراء الإنصاف والزيادة على الإنصاف أمدح ثم أخبر في البيت أن المقلين على قدر قصور أيديهم أكرم طباعاً من مكثريهم على قدرهم في قوله:
وعند المقلين السماحة والبذل
والبذل مع الإقلال مدح عظيم وإيثار والسماحة إعطاءُ غير اللازم فمدح بشعره هذا من لا يحظى منه بطائل. وذم الذين يرجو منهم جزيل النائل وهذا غاية الغلط في الاختيار وفي ترتيب الأشعار ولزهير غير هذا من السقطات لولا كلفة الاستقصاء هذا على اشتهاره بأنه أمدح الشعراء. وأجزل الوافدين على الأشراف والأمراء وسيتعامى المتعصب له عن وضوح هذا البيان وسينكر جميع هذا البرهان ويجعل التفتيش عن غوامض الخطأ والصواب استقصاء وظلماً ومطالبة وهضماً وزعم أن جميع الشعر لو طلب هذه المطالة لبطل صحيحه وانعجم فصيحه والباطل الذي زعم والمحال الذي به تكلم فالسليم سليم والكليم كليم وإنما سمع المسكين أن أملح الشعر ما قلت عباراته.
خاصة مثل قانون الجمعيات وقانون الجماعات. وقانون التجارة وكتاب الشركات من قانون المجلة.
نعم كل القوانين تبحث هما يتولد من الاجتماع والاتحاد لأن موضوعها كناية عن المعاملات وهذه لا تكون بين فرد واحد مطلقاً بل على الأقل بين شخصين.
إذاً يمكن تقسيم القوانين التي تبحث عن الاجتماعات إلى قسمين الأول ما يبحث عن المعاملات المعتادة والمتكررة مثل قانون مجلة الأحكام العدلية ومنها ما يبحث عن اجتماع قسم خاص من الخلق ولكنه أيضاً كالأول معتاد مثل قانون التجارة البري والبحري وقلما يتولد من هذا القسم ما يكدر الراحة العامة ولذلك لا تجد لموظفي الإدارة الملكية به علاقة مباشرة أما القسم الثاني فهو يبحث عن الاجتماعات التي لا تكون معتادة ومتكررة وقد يمكن(66/15)
أن تكون في بعض الأحايين من الأمور العظيمة والمخلة بالأمن العام مثل الاجتماعات التي تقع لأجل الاحتجاج على عمل من أعمال الحكومة. ولهذا وضع قانون الاجتماعات دفعاً لكل محظور. ثم هناك اجتماعات منظمة ومتكررة لاستحصال أمر مقرر عند المجتمعين ولما كان من الممكن أن يكون هذا الاجتماع مغايراً لسياسة الحكومة ربطته أيضاً بقانون وسمته قانون الجمعيات. وهو غير قانون الاجتماع.
أعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذا التذبذب الإداري المشهود الآن ناشئ عن أمرين الأول عدم حصول ملكة الإدارة عند رجال الإدارة والثاني جهل الشعب حقوقه وواجباته. وبعد فإن القانون عبارة عن مجموعة عادات راسخة في الذهان ولذلك لا تقبل الحكومات الاعتذار بجهله ولكن ذلك فيما إذا كان هذا القانون مجموعة عادات الأمة المكلفة بتطبيقه لا مجموعة عادات أمة أخرى لا تستطيع أن تفهمه فضلاً عن تطبيقه. ولو فرضنا الشعب شخصاً وأردنا إلباسه لباس شخص آخر لما أمكنه اكتساؤه ولظهر لأول وهلة بشاعة هذا اللباس المادي. وهكذا القوانين التي لا توافق مزاج الأمة فمن فقدان ملكة الإدارة وإشباع الذهن بوجوب التفرنج ونفرة الأمة من هذا الحال وجهلها القانون تظهر شرارة الاختلاف وحينئذٍ ينسى الموظف الخدمة العامة ويصبح آلة انتقام لمن يعاكسه والأمة أيضاً تقابله وهناك ما هناك والعياذ بالله.
فلإزالة هذه الحال أرى الحاجة ماسة كل المساس لترجمة القوانين العربية حتى تكون أمتنا عارفة حقوقها مراعية واجباتها. ولما كانت الترجمة وحدها لا تكفي بالنظر لأن القوانين تكون مختصرة على الأغلب ومبنية على نظريات العلماء ومستندة على القوانين الأخرى ارتأيت أن أشرح ما أظنه محتاجاً للشرح، أقدمه لقراء المقتبس الشهر بعد الشهر.
المادة الأولى: الجمعية هي كناية عن أشخاص عديدين وحدوا معلوماتهم ومساعيهم لوقت غير محدود لاستحصال مقصد معلوم غير مقاسمة الأرباح.
إيضاح - لو كان القصد من توحيد المساعي استحصال الربح لقيل للمجتمعين وقتئذٍ شركة عوضاً عن جمعية.
ثم معنى (لوقت غير محدود) كما هو مذكور في ضمن المادة وهو لفريق الجمعية عن الاجتماع. لأن هذا يحصل بغتة ويزول سريعاً. سواء كان مرتباً أو غير مرتب أما الجمعية(66/16)
فهي اتفاق أشخاص عديدين بصورة الترتيب ولوقت غير محدود لاستحصال أمر معلوم. وقصارى القول أن الاجتماع يقع لأمر وقتي مثل الاحتجاج على عمل ما أو إلقاء محاضرة وينتهي عند انتهاء الاحتجاج أو إتمام إلقاء المحاضرة. ويكون مرة واحدة. أما الجمعية فاجتماعاتها تدوم وتتكرر.
وقد مر في المتن كلمة (أشخاص عديدين) بدون تعيين العدد المطلوب. وهذه مسألة مهمة. والأغرب أن القانون ساكت عنها كل السكوت. والغالب أنه تركها لاجتهاد مأموري الإدارة. فلذلك نتحرى أقوال علماء أصول الإدارة الملكية والأوامر التي تصدر من مراجعها ودلالة القوانين الأخرى.
يقول بعضهم أن اجتماع ثلاثة أشخاص بدون إعلام الحكومة ممنوع وبعضهم يقول يجب أن يكون العدد تسعة وبعضهم يقول أحد عشر والكل متفق على أن الحد الأعظم هو العشرون. وبعضهم يقول أن الحرس يتألف غالباً من شرطي وثلاثة أنفار درك وهؤلاء لا يقدرون على تفريق أكثر من ستة عشر شخصاً بالصورة الجبرية فلذلك يجب أن الحد الأعظم المسموح قانوناً ستة عشر وما زاد فهو ممنوع ومجلبة للجزاء.
أما الأوامر فهي ضيقة جداً لأنها تعين حد الممنوع باجتماع عشرة أشخاص حتى أن الورقة المختومة بأحد عشر ختماً ترد ولا تقبل.
وأما دلالة القوانين الحاضرة فتدل على أن حد الاجتماع ثلاثة أشخاص. وهذه المادة الأولى من قانون تعطيل الأشغال تقول إذا حصل اختلاف بين العملة وصاحب المشروع المالي فينتخب العملة من بينهم ثلاثة أشخاص للوكالة عنهم كلهم. وهذا يدل على أنه لو انتخب العملة أكثر من ذلك لما جاز اجتماعهم استناداً على المادة السادسة من قانون الجمعيات. والمادة الثالثة من قانون الجماعات. وهناك دلالة أخرى أيضاً وهي كذلك مستفادة من قانون تعطيل الأشغال وصراحة مادته الثالثة وهي: ما دام العملة ينتخبون ثلاثة وكلاء وصاحب العمل ينتخب ثلاثة من قبلة ونظارة النافعة تعين واحداً لرئاستهم إذاً يستنتج بأن عدد الاجتماع هو سبة أشخاص.
ويا ليت واضع القانون عين هذا العدد وأراحنا من هذه الظنون. وسد لنا باب هذا الاختلاف الذي ربما قامت القيامة بولابه جمعاء منن أجله. كما نرى بأن الاختلافات تنشأ(66/17)
من أقل الأمور تفاهة ثم تنمو وتكبر.
سألت مرة متصرفاً عالماً ومدققاً اسمه جمال بك عن قصد واضع القانون من هذا السكوت وترك هذا الأمر المبهم مبهماً فقال لي إن القصد من ذلك هو افتراض واضع القانون بأن مأموري الإدارة أذكياء بعيدو النظر سريعو الانتقال ولذلك لم يرد تقييدهم بل ترك الأمر لفراستهم وهل تستطيع أن تنكر عليّ بأنه قد يمكن أن يتولد من اجتماع ثلاثة أشخاص من أرباب النفوذ المزورين الذين لا يخجلون وديدنهم ظلم الفقير وتلويث سمعة الشريف أضرار أكثر من اجتماع ثلاثمائة شخص آخرين ولهذا السبب ترك واضع القانون هذا الأمر بدون تحديد حتى يتسنى لمأمور الإدارة الضرب على أمثال هؤلاء الشياطين.
المادة الثانية: ليس تأليف الجمعيات متوقفاً على استحصال رخصة من الحكومة إلا أنه يجب إخبار الحكومة عقب تأسيس الجمعية وفاً للمادة السادسة.
أيضاً - ليس في هذا الكون شيء بلا مبدئ ومنتهى مطلقاً وهذا المبدأ والغاية يسمى حداً لما بينهما. نعم للأفراد الحرية بتأليف الجمعيات إلا أن لهذه الحرية حداً وهو عدم الاتفاق على شيء يخل بالراحة العامة أو ما يعاكس سياسة الحكومة وإدارتها. فلهذا يجب إخبار الحكومة عقب تأسيس الجمعية بتأليفها كما سيأتي في المادة السادسة من هذا القانون.
مر في المتن أنه يجب إخبار الحكومة عقب تأسيس الجمعية على كل حال ولكن القانون لم يعين هذه المدة أيضاً بل تركها لاجتهاد مأموري الإدارة وأما العلماء فيعينون لهذا الإخبار مدة أسبوع. وبعضهم مدة أربع وعشرين ساعة. وبعضهم قال بوجوب الإخبار حين افتراق الأعضاء وختام المذاكرة وهذا هو الصحيح دفعاً لكل طارئ وهو أقرب لمآل هذا القانون وأنفع لمؤسسي الجمعية. لأن المادة السادسة من قانون الجمعيات تقول أنه يجب إخبار موظفي الإدارة الملكية بمجرد التأسيس لها ثم سرعة الإخبار أوفق لمصلحة المؤسسين للجمعية إذ لو فرضنا بأن الجمعية تألفت يوم الجمعة وأعطي القرار بالإخبار عنها يوم الأحد واستدل البوليس عل وجودها يوم السبت لجاز له منعها وجوزي المؤسسون بالجزاء المدرج في المادة الثانية عشرة من هذا القانون استناداً على دلالة المادة السادسة.
مر بالمتن أن تأليف الجمعية لا يتوقف على أخذ رخصة الخ ومعنى هذا أن مأموري الإدارة الملكية مضطرون أن يرخصوا بتأليف أي جمعية كانت خلا ما هو مذكور في المادة(66/18)
الثالثة والرابعة والخامسة. إذاً هذا الإخبار المطلوب بمقتضى المادة السادسة لا يتضمن الاستئذان بل لأجل التنبيه فقط. وبمجرد الإخبار يعطى للمخبر علم وخبر بموجب المادة المذكورة وهذا إجباري. وهذا يتضمن الاعتراف بوجود الجمعية ولا يسوغا لمأموري الإدارة التعلل بإعطاء هذا العلم والخبر.
المادة الثالثة: ممنوع تأليف الجمعيات التي تكون مبنية على أساس غير مشروع مغايرة لأحكام القوانين الموضوعة وللآداب العامة أو مؤسسة على أساس الإخلال بحدود الدولة الملكية أو تغيير شكل الإدارة الحاضرة أو تفريق العناصر العثمانية سياسياً وتحتوي هذه المادة على قيود ستة وإليك تشريحها:
إيضاح - منع القانون تأسيس الجمعيات القائمة على أسس ستة. وأباح جميع مقاصد الجمعيات التي هي غير داخلة ضمن هذه الستة أنواع.
أولاً - مغايرة أحكام القوانين: الأرض التي لا تزرع ثلاث سنين تعد محلولة وتؤخذ من المتصرف بهاما لم يدفع بدل المثل فإن دفع فبها وإن لم يدفع فتباع بالمزاد من غيره بموجب المادة الثامنة والستين من قانون الأراضي. فلو أراد أناس تأليف جمعية لأجل منع هذا الحكم القانوني فلا يسوغ لهم تأليف جمعية لهذا المقصد. وحينئذٍ لا يأخذون علماً وخبراً من مأمور الإدارة الملكية وإن أسسوا فتمنع وفقاً للمادة الثانية عشرة من قانون الجمعيات.
ثانياً - مخالفة الآداب العامة: لا يعطى علم وخبر بموجب المادة السادسة لمؤسسي جمعية تود ترويج عادة جلوس النساء في محال القهوة. لأن آدابنا الإسلامية لا تسمح بذلك.
ثالثاً - العبث بحدود الدولة: هذا شيء مفهوم وغني عن الإيضاح.
رابعاً - الإخلال بالأمن العام ولو بالواسطة: الطلاق عندنا شرعاً جائز فلو فرضنا أنه تألفت جمعية لمنعه لاقتضى منعها لأن مثل هذه الأعمال تؤدي إلى كسر خاطر المسلمين وبالنتيجة ربما تؤدي لما لا تحمد عقباه. فإذا أدى تأليف الجمعية والحالة هذه لإخلال الأمن العام مباشرة أو بالواسطة فهو بالحكم سيان في نظر مأموري الإدارة.
خامساً - تغيير شكل الحكومة الحاضرة: وهذا أيضاً ممنوع لأنه ليس من خصائص الجمعيات بل من خصائص المجلسين.
سادساً - تفريق العناصر: وهذا أيضاً ممنوع وغني عن التشريح.(66/19)
المادة الرابعة: ممنوع تأليف الجمعيات السياسية على أساس القومية والمعنونة بعنوان الجنسية.
إيضاح - الكلام هنا من شأن المبعوثين ولذلك أمرُّ به بدون أن أنظر فيه.
المادة الخامسة: يجب أن لا تكون سن من يود الالتحاق بإحدى الجمعيات أقل من عشرين عاماً وأن لا يكون محكوماً عليه أو محروماً من الحقوق المدنية.
إيضاح - هذه المادة تبحث في شروط من يود أن يكون عضواً لإحدى الجمعيات وهي ثلاثة:
الشرط الثاني - أن لا يكون محكوماً عليه بجناية والقصد من هذا الشرط الترهيب منن الأفعال الجنائية لأن القوانين هي كناية عن ناظم للأخلاق والجناية هي الحبس في الكورك مؤقتاً أو مؤبداً والحبس في إحدى القلاع والنفي المؤبد والحرمان من المأموريات والسقوط من الحقوق المدنية.
الشرط الثالث - أيضاً وضعت للقصد السالف الذكر والحقوق المدنية كناية عن (1) الحرمان من الاستخدام في الحكومة. (2) أن يكون محروماً من الحقوق البلدية مثل عدم استخدامه بأمر رسمي في بلده أو عد ملته عند أبناء صنعته. (3) أن لا يكون معلماً. (4) أن لا يستخدم في تحقيق أمر من الأمور. (5) أن لا تقبل له شهادة. (6) أن لا يكون وصياً. (7) أن لا يحمل السلاح. وهذا بموجب المادة الثالثة والحادية والثلاثين من قانون الجزاء.
الشرط الأول - هذا داري خوفاً من أن تكون الجمعيات مجمع أولاد.
المادة السادسة: تأليف جمعيات خفية ممنوع منعاً باتاً. وعند تأسيس جمعية من نوعها يجب في الحال إعطاء بيان لناظر الداخلية في فروق ولأكبر مأمور ملكي خارجها محتوياً على عنوان الجمعية ومقصدها وعلى مركز إدارتها واسم الكلفين بإدارتها ومهنهم وشهرتهم ومحال إقامتهم ويجب أن يكون هذا البيان مختوماً وممضياً. وحينئذٍ يعطى علم وخبر بمقابل هذا البيان. ولا بد من ربط نسختين مختومتين بختم الجمعية الرسمي لهذا البيان ثم بعد أخذ العلم والخبر يعلن مؤسسو الجمعية وجودها ويجب على الجمعيات إخبار الحكومة عن التعديلات التي يجرونها بنظامها الأساسي أو فيما يتعلق ببيئة إدارتها أم محل إقامتها(66/20)
وإما حكم التبديلات والتعديلات تجاه شخص ثالث فهو يعتبر من يوم الإخبار بهذه التبديلات والتعديلات للحكومة ويجب قيد هذه التعديلات والتبديلات في سجل خاص لإبرازه عند كل طلب يقع من مأموري العدلية والملكية.
إيضاح - الجمعية الخفية هي التي ليس معها علم وخبر من مأمور الإدارة سواء كان في الأستانة أو في الولايات لأن القسطنطينية أيضاً أصبحت اليوم ولاية كسائر الولايات ولها والٍ يقوم مقام ناظر الداخلية.
يجب أن يحتوي البيان أولاً على عنوان الجمعية لنفوذ حكم المادة الرابعة. وثانياً على مقصدها وهذا لأجل مراعاة المادة الثالثة. وثالثاً على مركز إدارتها وهذا لأجل التفتيش وفقاً لحكم المادة الثامنة عشرة. ورابعاً عل اسم الأعضاء وصنعتهم ومحل إقامتهم وهذا أيضاً لمراقبة أحوالهم ولتنفيذ أحكام المادة السادسة والثانية أي مراقبة الحكومة لكل ما يجري بداخل المملكة. وخامساً على نسختين من نظامها الأساسي لتبقى واحدة عند مأمور الإدارة والأخرى عند مأموري الشرطة. والعلم والخبر لأجل دفع الشبهة بأنها جمعية خفية.
المادة السابعة - يجب أن يكون لكل جمعية هيئة إدارة مؤلفة من شخصين على الأقل وإذا كان لها شعب ينبغي أن تكون لها هيئة إدارة في مركز كل واحدة منها. ثم يقتضي مسك دفتر عند كل هيئة لأجل قيد: (1) هوية أعضاء الجمعية وتاريخ دخولهم إليها. (2) مقررات هيئة الإدارة ومفاوضاتهم وتبليغاتهم. (3) وقيد واردات الجمعية ونفقاتها بحسب الأفراد. ويقتضي إبراز هذا الدفتر لمأمور العدلية والملكية عند كل طلب.
المادة الثامنة: للجمعية التي تتألف وفقاً للمادة السادسة الحضور للمحاكم بصفة مدعي ومدعى عليه بالواسطة راجع المادة التاسعة وأما واردات الجمعيات فهي بقطع النظر عما تمدها به الحكومة أولاً كناية عن الحصة النقدية التي يدفعها الأعضاء المشروط عدم تجاوزها الأربعة والعشرين ليرة سنوياً. ثانياً المحل الخاص بإدارة الجمعية واجتماع أعضائها. ثالثاً بمقدار ما يلزمها من الأموال غير المنقولة لأجل مقصدها وعملها هذا يجب أن يكون وفقاً للنظامات الخاصة بمثل هذه المسائل وممنوع عمل الجمعيات بالأموال غير المنقولة عدا ما ذكر.
إيضاح - كل حرف من هذه المادة مبني على قصد إداري وسياسي بعيد بآن واحد ولا(66/21)
تسمح لي حالتي الجهر به الآن.
المادة التاسعة: ينوب عن الجمعية في المجالس والمحاكم كاتبها العام أو مديرها ومراجعتهما هذه ينبغي أن تكون تحت تواقيعهم وباستدعاء عليه طابع ثم يجب تعيين هوية مثل هؤلاء الأشخاص في نظام الجمعية الأساسي.
إيضاح - ذكر في المادة السادسة أنه يقدم للحكومة نسختان من النظام الأساسي فإذا كان هذا المدير أو الكاتب غير مستوف للشروط اللازمة والمذكورة في المادة الخامسة يرد ولا يقبل.
المادة العاشرة: يسوغ لأعضاء الجمعيات الانسحاب منها في كل وقت شاؤوا ولو كان عكس ذلك مشروطاً في نظامها الأساسي بشرط أن يكون المنسحب أدى جميع ما عليه من التقاسيط ولا سيما تقاسيط السنة الحالية.
إيضاح - لو فرضنا جمعية ذا نظام يحتوي على مادة تنبئ بعدم جواز انسحاب الأعضاء منها حتى الممات وأراد أحد أعضائها الانسحاب منها جاز له ذلك لأن هذا الشرط لغو بموجب هذه المادة ولكنه من المتحتم عليه دفع ما تعهد به لتلك السنة.
المادة الحادية عشرة: ممنوع إدخال الأسلحة النارية والجارحة لمحل اجتماع الجمعيات وحفظها فيها ومع هذا يجوز وجود بعض أسلحة الصيد والسيوف الصغيرة لأجل التعليم بشرط أن يكون للضابطة خبر بذلك.
المادة الثانية عشرة: الجمعيات التي لم تؤلف وفقاً للمادة الثانية والسادسة ولم تقدم بياناً للحكومة لأجل الإخبار والإعلان تمنع ويجازى مؤسسوها وهيئة إدارتها وصاحب محل الاجتماع ومستأجره بالتغريم من خمس ليرات إلى خمسة وعشرين ليرة. وأما إذا كانت هذه الجمعيات مؤلفة لأجل المواد المضرة والممنوعة والمدرجة في المادة الثالثة والمصرح بجزائها في قانون الجزاء فيكون الجزاء حينئذٍ وفقاً لذلك القانون.
إيضاح - كل جمعية ليس معها علم وخير منن الحكومة فهي خفية لأن إعلان وجود الجمعية لا يجوز قبل أخذ العلم والخبر الذي يعطى بمقابله البيان المتضمن تفصيل أحوال الجمعية ومقاصدها إذ بمجرد الاستعلام عن مثل هذه الجمعية يشرع رجال الشرطة بمراقبتها وعندما يتحققون وجودها تمنع ومعنى المنع هو الإخطار أولاً بالكلام ثم الجبر(66/22)
على كل حال أي يمنع البوليس الداخلين إليها فإن امتنعوا فبها ونعمت وإن لم يصغوا إليهم فيمنعهم بالقوة فإن قابلوه بالضرب يقابلهم وإن شهروا السلاح فيشهر هو السلاح أيضاً والحاصل معنى المنع رفع الفعل المنهى عنه قانوناً على كل حال ولو أدى لإزهاق الأرواح. والبوليس غير مسؤول عمده إلى القوة في الخطر. وقد ذكر جزاء المواد المدرجة في المادة الثالثة من هذا القانون في الفصل الأول والثاني من قانون الجزاء. فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه هناك. وهذا الجزء المدرج في هذين الفصلين من قبيل الجنايات.
أما الجزاء النقدي المدرج في متن هذه المادة فهو خاص بالجمعيات التي يكون مقصدها مباحاً وحسناً والسبب في ذلك التهاون الواقع بعدم إخبار الحكومة وفقاً للمادة السادسة فإذا لم يقدم للحكومة بيان يتضمن كيفية تأسيس الجمعية فالجزاء محقق سواء كان القصد مشروعاً أو غير مشروع إلا أن هناك فرقاً مهماً وهو إن كان المقصد حسناً فالجزاء النقدي خفيف وإن كان سيئاً فالجزاء جسماني وشديد.
المادة الثالثة عشرة: من يخالف أحكام المادة السادسة عدا ما يتعلق بإعلان الجمعية والإخبار بها وأحكام المادة الرابعة والخامسة والسابعة والتاسعة يغرم بجزاء نقدي من ليرتين إلى عشرة وإذا تكرر الحال فيجازى بضعفي الجزاء. ومن يبقي الجمعية التي منعت طبقاً لمادة الثانية عشرة أو يؤسسها ويديرها مجدداً يجازى بالتغريم من عشر ليرات إلى خمسين وبالحبس من شهرين إلى سنة. وهكذا من يقدم محلاً لاجتماع أعضاء الجمعيات الممنوع يجازى بنفس الجزاء.
إيضاح - تشرح هذه المادة الجزاء الخاص بمن يخالف بعض مواد هذا القانون أما من يخالف مندرجات المادة السادسة التي تبحث عن كيفية الإخبار بالجمعية والإعلان عنها فجزاؤه مصرح به في المادة الثانية عشرة وأما من لم يخبر الحكومة بالتعديلات والتبديلات التي تجريها الجمعية وفقاً للفقرة الأخيرة من المادة السادسة أو من لم يقيد هذه التعديلات والتبديلات في سجل مخصوص أو من يمتنع عن إبراز هذا الدفتر لمأموري العدلية والملكية فيجازى بحسب هذه المادة الثالثة عشرة. وهذا هو معنى القيد المدرج في المتن أي (ما عدا ما يتعلق عن الجمعية) وما سوى هذا فهو يستلزم الجزاء بموجب المادة الثانية عشرة لا بموجب هذه المادة.(66/23)
وأما مخالفة المادة الخامسة والرابعة والسابعة والتاسعة فيكون بموجب هذه المادة.
تنبيه: هذا بعد أن يفرقهم البوليس يجازون بهذا الجزاء. وأما من خالفوا البوليس وأصروا على عدم التفريق فيجازون بجزاء من يخالف أوامر الحكومة والبوليس معذور باستعمال جميع أنواع القسوة.
المادة الرابعة عشرة: إذا انفسخ عقد جمعية برضى أعضائها واختيارهم أو انفسخت بموجب نظامها الأساسي أو منعتها الحكومة فتعطى أموالها إلى من تقرره هيئة الجمعية العامة فيما إذا لم يكن في نظامها الأساسي صراحة بذلك. وأما إن وجدت صراحة تعرف كيفية تقسيم الأموال فيعمل بموجب هذه الصراحة. وأما إذا كانت الجمعية منعت بالنظر لموافقة قصدها لمندرجات المادة الثالثة فتصادر الحكومة أموالها.
المادة الخامسة عشرة: يجب على كل ناد أو يوفق جميع أعماله على هذا القانون.
المادة السادسة عشرة: اعتباراً من تاريخ إعلان هذا القانون يجب على كل جمعية أن تعطي للحكومة بياناً وأن تعلن وجودها في خلال شهرين وفقاً للمادة الثانية والسادسة.
إيضاح - نشر القانون في 3 آب سنة 1325 إذاً فاعتباراً من 3 تشرين الأول 1325 تجازى كل جمعية ليس معها علم وخبر من الحكومة وفقاً للمادة السادسة وتعد خفية وممنوعة وذلك بموجب المادة الثانية عشرة.
المادة السابعة عشرة: لا تعتبر الجمعيات خادمة للمنافع العامة إن لم يصدق عليها شورى الدولة. ويصدق على ذلك من قبل الدولة. ولهذه الجمعيات إجراء جميع المعاملات الحقوقية التي لم يمنعها قانونها الأساسي. ويجب قيد الاسهام التي تكون باسم حاملها في دفتر الجمعية وعلى اسمها. ولا يسوغ للجمعية قبول الأموال التي يوصى بها وتوهب إليها بدون رخصة الحكومة. المال غير المنقول الذي يهدى للجمعية ويظهر بأنه غير لازم لقيامها بواجباتها يباع ويعطى لصندوق الجمعية ويجب التصريح بالمدة التي سيباع بها في قرار قبول هذا المال غير المنقول من قبل الجمعية.
إيضاح - معنى التصديق من قبل الدولة هو الاقتران بالإرادة السنية ولو قيل في متن المادة من قبل الحكومة لكان القصد بذلك الأمر السامي أي من قبل الصدر الأعظم لأن تمثال الحكومة الصدارة وتمثال الدولة مقام السلطة العظمة. وقد مرت في المتن كلمة(66/24)
(أموال) والمال قسمان منقول وغير منقول والجمعيات إذاً ممنوعة عن قبول جميع الوصايا والهبات على الإطلاق سواء كانت منقولة أو غير منقولة بدون رخصة الحكومة.
والدليل على ذلك أن كلمة أموال ذكرت في المتن مطلقة بدون قيد والمطلق يجري على الكمال والتعميم وسبب الترخيص بذلك من قبل الحكومة مبني على مقاصد إدارية وسياسية ثم تقدير لزوم المال غير المنقول والموصى به أو الموهوب للجمعية فهو للحكومة أيضاً بموجب هذه المادة. وهذا تابع أيضاً لاجتهاد مأموري الملكية لحكم إدارية. ويجب على الجمعيات التي تقبل مثل هذا المال أن تصرح بقرار قبوله مدة بيعه وفقاً لمنطوق هذه المادة. وإن لم تفعل فلا تجري لها معاملة في أقلام الطابو.
المادة الثامنة عشرة: للضابطة حق التفتيش على الجمعيات والأندية. ويجب أن يكون محل اجتماعهما مفتوحاً لزيارة الضابطة في كل وقت. ويجب على مأموري الضابطة إبراز ورقة من مأموري الملكية تتضمن أمرهم بالدخول لمحل اجتماع الجمعيات.
إيضاح - قيل في المتن أنه يحق للضابطة التفتيش على الجمعيات في كل وقت ليلاً ونهاراً. لأن كلمة كل وقت مطلقة تشمل جميع الأوقات. أما منع قانون الجزاء الدخول للمساكن بعد الساعة الواحدة ليلاً فلا يعتد به هنا من وجهين الأول هو أن هذا القانون صدر بعد ذلك والثاني أن قصد قانون الجزاء المساكن الخاصة والقصد هنا معلوم من سياق الكلام بأن هذا التفتيش ليس لمساكن أعضاء الجمعية بل لمحل اجتماعهم.
المادة التاسعة عشرة: ناظر الداخلية والعدلية مأموران بإجراء هذا القانون.
29 رجب عام 1327 و 2 آب عام 1325.
إيضاح - من العادة أن توضع مادة في آخر كل قانون تبين المرجع فيه وهذه المادة تدل بأن إجراء هذا القانون من وظيفة مأموري الداخلية والعدلية. منع الجمعيات الخفية والتفتيش عليها ومراقبتها من شأن مأموري الداخلية وتطبيق الجزاء على من يخالف هذا القانون من وظيفة رجال العدلية.
بيروت // حسني عبد الهادي(66/25)
مختصر تاريخ
الطباعة والصحافة التركية العثمانية
- 1 -
الطباعة
أول كتاب طبع بالحروف العربية كتاب الأدعية السبعة طبع سنة 1514 ميلادية في (فانو) من أعمال إيطاليا. وطبع القرآن الكريم في إيطاليا أيضاً عل يد رجل يدعى ديبسكيا سنة 1518 ثم طبعت كتب مهمة بالحروف العربية بين سنة 1585 وسنة 1590 في مطبعة قصر كيرينال البابوي التي كانت أسست في زمن البابا سكنوس الخامس وقد كان (ميخائيل زمرمان) النمساوي الذي كان أسس مطبعة كبيرة في فينا أوفد رسولاً إلى سورية لدرس الحروف العربية وبعد عودته صنع قوالب لهذه الحروف وطبع عليها في سنة 1554 تعريب بعض مزامير من الزبور.
وفي خلال سني 1589 - 1611 أوصى (فرانسوا سافاري دربروف) سفير فرنسا في الأستانة على بعض قوالب حروف على قاعدة النسخ والتعليق فاستعملت هذه القوالب في باريز لطبع مقدمة كتاب نشر في ثماني لغات وبقي هذا الشكل من الحروف مستعملاً في مطابع فرنسا إلى الآن. وفي سنة 1657 طبع كتاب في مطبعة (روس كرافت) في إنكلترا في تسع لغات وفيه حروف عربية.
هذه فذلكة تاريخ الطباعة بالحروف العربية في أوربا. أما في المملكة العثمانية فإنها دخلت إليها على يد جلبي زاده سعيد محمد أفندي (باشا) تولى فيما بعد منصب الصدارة العظمى وإبراهيم آغا متفرقة من حراس القصر السلطاني وقد كان سعيد محمد أفندي قصد باريز مع أبيه جلبي محمد أفندي من كبار خواجكان الديوان السلطاني الذي كانت الدولة أوفدته إلى فرنسا بمهمة فوق العادة فلفتت مطابع العاصمة الفرنسوية أنظار هذا الشاب المدقق الذي أدرك في الحال فوائد فن الطباعة وأخذ يفكر في تأسيس مطبعة في الأستانة لطبع الكتب بالحروف العربية ورأى نفسه في حاجة إلى مشاور مدقق من أرباب الصناعة وأصحاب الأفكار النيرة فكاشف إبراهيم آغا متفرقة المشار إليه بما ينويه بعد عودته إلى فروق وكان إبراهيم على جانب عظيم من العلم والدراية وتذاكرا ملياً في هذه المسألة(66/26)
المهمة وقر رأيهما على فتح المطبعة وتم الاتفاق بينهما على أن يتعهد إبراهيم آغا إدارتها من الوجهة الفنية ووضع الثاني في الحال رسالة سماها (وسيلة الطباعة) شرح فيها فوائد صناعة الطبع وسهولة اقتناء الكتب المطبوعة بخلاف المخطوطات التي لا يقدر على اقتنائها إلا كبار الأغنياء وقدم هذه الرسالة إلى صدر أعظم ذاك الوقت فصادق على ما ورد فيها من الآراء الصائبة وألف لجنة من أفاضل العلماء العقلاء لدرس هذا المشروع والإقرار على فتح مطبعة تنفق عليها الحكومة من أموالها فقامت اللجنة بوظيفتها خير قيام وقررت استفتاء المشيخة الإسلامية قبل الشروع في العمل منعاً لتهيج العوام من دأبهم قاوم كل شيء جديد لم يألفوه قبلاً ظناً منهم أنه مغاير للشريعة السمحاء والمرء عدو ما جهل وهذه صورة الاستفتاء:
ما قولكم دام فضلكم فيما يقوله زيد ويدعيه من أنه يقدر على نقش صور كلمات وحروف المؤلفات في العلوم الآلية القواميس والمنطق والحكمة والفلك وجمعها في قالب وطبعها على الورق واستحصال نسخ كثيرة من هذه الكتب فهل يجوز له ذلك شرعاً أفتونا مأجورين. فأصدر عبد الله أفندي شيخ الإسلام إذ ذاك الفتوى الآتية بعد أن قرظ رسالة وسيلة الطباعة:
إن زيداً الذي برع في صناعة الطبع إذا نقش صحيحاً حروف كتاب مصحح وطبعه على الورق فإنه يحصل منه على نسخ كثيرة من غير وتعب ما يستوجب رخص أثمان الكتب والمؤلفات ومن ثم تداولها بين الأيدي وبذلك تعم الفائدة وتشمل كل طبقات الناس وعليه يجوز شرعاً الطبع على الوجه المذكور ويستحسن تأليف لجنة لتصحيح الكتب المراد نقش حروفها وطبعها والله أعلم.
وبعد صدور هذه الفتوى أفتى أكثر العلماء الأعلام نور الله مراقدهم أثر شيخ الإسلام في تقريظ الرسالة المار ذكرها ورفعت الفتوى مع قرار لجنة الاستشارة والتقاريظ إلى السلطان أحمد الثالث فصدر الخط السلطاني إلى سعيد محمد أفندي وشريكه إبراهيم آغا آذناً لهما بتأسيس مطبعة لطبع الكتب وتألفت لجنة من كل من إسحق أفندي قاضي دار الخلافة وصاحب محمد أفندي قاضي سلانيك وأسعد أفندي قاضي غلطة وموسى أفندي شيخ تكية قاسم باشا المولوية وعهد إليها مراجعة الكتب المراد طبعها وتصحيحها وعلى أثر ذلك شمر(66/27)
إبراهيم آغا متفرقة عن ساعد الجد والاجتهاد في إتمام معدات أول مطبعة في الملك العثماني التي افتتحت في سنة 1140 في دار إبراهيم آغا المشار إليه ولم تمض مدة قليلة على تأسيسها وافتتاحها حتى طبع كتاب وانقولي وهو قاموس صحاح الجوهري لمحمد مصطفة وهو أول كتاب طبع وإليك بعض المؤلفات التركية التي تم طبعها في المطبعة المذكورة:
1 - ترجمة صحاح الجوهري لمحمد مصطفى أفندي. طبع في 1141 وعدد ما طبع منه 1000 نسخة.
2 - تحفة الكبار في أسفار البحار. الكاتب جلبي. طبع في ذي القعدة 1141 وعدد ما طبع منه 1000 نسخة.
3 - ترجمة تاريخ السياح. طبع في غرة صفر 1141 وعدد ما طبع منه 1200 نسخة.
4 - تاريخ هند الغربية المسمى بالحديث الجديد (حديث نو) وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
5 - تاريخ تيمورلنك تأليف نظمي زاده البغدادي وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
6 - تاريخ مصر القديم والجديد المسمى بالدرة اليتيمة تأليف سهيلي. طبع في ذي الحجة وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
7 - كلشن خلفا تأليف نظمي زاده البغدادي. طبع في 1143 وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
8 - أصول الحكم في نظام الأمم. تأليف إبراهيم متفرقة. وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
9 - فيوضات مغناطيسية. تأليف إبراهيم متفرقة. وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
10 - جهاننما. تأليف جلبي. طبع في المحرم 1147. وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
11 - تاريخ نعيما (الجلد الأول). طبع يف المحرم 1147. وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
12 - تاريخ نعيما (الجلد الثاني). طبع في جمادى الأولى. وعدد ما طبع منه 500 نسخة.
13 - تاريخ راشد (الجاد الأول والثاني). طبع في ذي الحجة 1153. وعدد ما طبع منه 500 نسخة.(66/28)
وكانت المطبعة وقتئذٍ تدار بمعرفة إبراهيم آغا لاشتغال سعيد محمد أفندي بمهام منصبه إلى أن توفى الأول في سنة 1150 فقام بدلاً منه إبراهيم أفندي من القضاة السابقين الذي كان مساعداً لإبراهيم آغا في إدارة شؤون المطبعة وظل يديرها ويطبع الكتب النافعة إلى أن توفي هذا أيضاً في زمن السلطان مصطفى الثالث فتعطلت وتوقف الطبع لعدم وجود رجل قادر عل إدارتها ولكثرة مشاغل الدولة بأمور أخرى ذات بال وبقيت المطبعة معطلة أكثر من 20 سنة حتى قيض الله لها راشد محمد أفندي بكلسكجي الديوان العالي وواصف أفندي وقعه نويس أي مؤرخ الدولة فاشتريا المطبعة وآلاتها من ورثة إبراهيم آغا متفرقة فأصبحت خاصة بهما وقطع عنها الراتب الرسمي المخصص من الحكومة واحتفلا بافتتاحها ثانية وهو تاريخ سامي وشاكر وصبحي وذيله تاريخ عزي وأهم مطبعة تركية عثمانية أسست بعد هذه المطبعة هي المطبعة العامرة.
أما المطابع الأجنبية في المملكة العثمانية فإن أول مطبعة منها أنشئت في الأستانة مطبعة كاسترو افتتحت قبل 140 سنة في غلطة وهي باقية باسمها القديم إلى ايامنا هذه ويأتي بعدها في القدم مطبعة قائول المعروفة الآن بمطبعة (زوليج) وقاؤول هذا هو الذي أدخل فن طباعة الحجر (ليثوغرافيا) إلى الأستانة وقد عهدت الدولة إليه سنة 1242 بتأسيس مطبعة حجر لطبع كتب الطب اللازمة للمكتب الطبي الذي كان وقتئذٍ في مكتب غلط، سراي السلطاني الحالي.
هذا مختصر تاريخ مبدأ الطباعة في الأستانة أما في الولايات فإن أول مطبعة أسست في جبل لبنان سنة 1145 لطبع الكتب العربية قام بتأسيسها الراهب الماروني عبد الله طاهر وكان أغلب من يشتغل فيها من الرهبان وقد طبعت هذه المطبعة 34 مؤلفاً خلال ستين سنة.
وقبل أن أختم كلامي على الطباعة أرى إتماماً للفائدة أن أورد ملخص ترجمة الرجلين اللذين قاما بإدخال فن الطباعة إلى المملكة العثمانية فأقول:
سعيد محمد باشا - هو سعيد محمد أفندي ابن جلبي محمد أفندي المعروف بيكرمى يكز رافق والده الذي أوفد إلى باريز بمهمة رسمية فوق العادة سنة 1132
ولما عاد إلى فروق عين كاتباً في قلم مكتوبي الصدارة وأسس فن الطباعة مع إبراهيم(66/29)
متفرقة سنة 1140 كما مر ذكره آنفاَ وبعد ذلك بمدة قليلة رقي إلى رتبة خواجكان وعين كاتباً للسباهيين وفي سنة 1153 عين مندوباً ثالثاً في لجنة الصلح وفي شوال من السنة المذكورة عين كاتباً للسلحدار وفي 1154 أرسلته الدولة سفيراً إلى باريز وأنعمت عليه برتبة روم ايلي وفي 1156 صار وكيلاً لأمين الدفتر وبعد سنة أوفدته الدولة بمهمة إلى القطر المصري وصار في سنة 1158 أميناً للدفتر وبعدها بسنة رقي إلى منصب كتخذا الصدارة العظمى وفي سنة 1160 أعيد إلى أمانة الدفتر وبعد سنة صار توقيعياً للباب العالي وفي المحرم 1163 تولى مرة ثانية منصب كتخذا الصدارة وبعد ثلاثة أشهر عزل منها وفي شوال 1166 عين توقيعياً للمرة الثانية وفي 1168 تولى منصب رئيس المحاسبين (باش محاسبة جى) ثم نقل إلى منصب كتخذا للمرة الثالثة وفي المحرم 1169 تولى الصدارة العظمى ونال رتبة الوزارة ثم عزل منها في رجب ونفي إلى جزيرة استانكوي وفي 1174 عين والياً على مصر وبعد سنة نقل إلى ولاية اطنة ومنها إلى قونية فمرعش حيث توفي سنة 1175 ولهذا الوزير مؤلفات طبية وأدبية تدل على مكانته العلمية والأدبية.
إبراهيم آغا متفرقة - ولد في بلاد المجر وجاء البلاد العثمانية في عنفوان شبابه ودان بالإسلام وانتظم في عداد حراس القصر السلطاني فلقب بمتفرقة وقد توفي سنة 1150 كما مر ذكره آنفاً.
- 2 -
الصحافة
إن أول جريدة تركية عثمانية على ما أعلم هي تقويم وقائع الرسمية أسسها السلطان محمود الثاني سنة 1247 لنشر قرارات الدولة وما تصدره من القوانين وقد كانت بادئ أمرها غير يومية رديئة الطبع والورق ليس فيها إلا تافه الأخبار والحوادث مثل التمجيد والتعظيم الفارغ المخجل وذلك لقلة الملمين بصناعة الصحافة في المملكة العثمانية وقتئذٍ ولاختلال إدارتها وظلت على هذه الحال إلى أن نبغ من الرجال من يقدر الصحافة حق قدرها فأخذت تنتعش الجريدة شيئاً فشيئاً وقد اعترض سيرها عوارض جمة كانت عقبة كبيرة في سبيل تقدمها وكثيراً ما توقفت عن الانتشار لأسباب استبدادية وكان تعطيلها الأخير في زمن(66/30)
السلطان المخلوع لهفوة ارتكبها رشيد بك (والي بيروت الأسبق) مستشار نظارة الداخلية في ذاك الوقت الذي عزل من منصبه بصورة لم يسبق مثلها لأحد الموظفين من قبل وإن إلغاء هذه الجريدة الرسمية في الصحف وظلت معطلة إلى أن أعلن الدستور فنشرت من رمسها من جديد سنة 1326 وهي الآن تصدر كل يوم بانتظام مطبوعة على ورق صقيل وتحتجب أيام الجمع والأعياد والمواسم الرسمية وعدد صفحاتها أربع على الأقل وهو المقرر لها وإنما يزيد عدد صفحاتها زيادة كبيرة عندما يكون مجلس الأمة مجتمعاً لنشر محاضر المبعوثين والأعيان وثمن النسخة الواحدة 10 بارات أي متاليك واحد ولا ينشر فيها إلا الأخبار الرسمية ومنشورات الحكومة ودوائرها ومحاضر مجلسي الأعيان والمبعوثين والإعلانات الرسمية وتنقلات الولاة وتعيين الموظفين واللوائح الرسمية وقد كان لها في الدور السابق قسم خاص بالأخبار غير الرسمية وهو الذي سبب إلغاء الجريدة وعزل رشيد بك مستشار نظارة الداخلية المشار إليه آنفاً أما اليوم فإنها لا تنشر أخباراً وحوادث غير رسمية البتة وهي تابعة لنظارة الداخلية وتطبع في المطبعة العامرة ولها إدارة خاصة بها.
والجريدة الثانية في القدم هي (جريدة حوادث) أسست في أواخر الحكم السلطان عبد المجيد في العاصمة ثم أخذت تكثر الجرائد من سياسية وفنية بعد تولية السلطان عبد العزيز فصدرت في سنة 1280 جريدة تصوير أفكار السياسة الأسبوعية لصاحبها ومحررها إبراهيم شناسي أفندي الكاتب التركي الشهير ومجلة (مخزن علوم) الفنية التي كانت تطبع وتنشر مرتين في الشهر بقلم بعض الكتبة المشاهير وتلا ذلك جريدة وقت وبصيرت وفي أواخر حكم السلطان عبد العزيز بدأت تصدر الجرائد الهزلية مثل جيلاق وقرة كوز وجانطة وغيرها وكلها في فروق وأخذت الصحافة التركية العثمانية بالتقدم وتترقى في أوائل حكم السلطان المخلوع لتأسيس الحكم النيابي الأول وصارت الجرائد تكتب ما تشاء بكل حرية واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن وضعت الحرب الروسية أوزارها وصار عبد الحميد يمد يده فيتناول الجرائد التي تنتقد خطة الحكومة وأعمالها ويعطلها ليحلو له الجو فبدأت الصحافة التركية العثمانية تنحط من ذلك الوقت ولم يمض 20 سنة على حكم عبد الحميد إلا وكانت الجرائد العثمانية عامة مكمومة الفم مكسورة القلم يضغط عليها(66/31)
المراقب لا تجسر على النبس بنت شفة انتقاداً على ما تأتيه الحكومة من الأعمال بل أُجبرت على مدح الظلم والظلام وتعظيمهم بعبارات يمجها الذوق وتشمئز منها النفوس الأبية مما هو معلوم أمره للجميع لقرب العهد به.
ولما أعلن القانون الأساسي قبل ثلاث سنوات أظهرت الصحافة التركية في العاصمة ومطبوعاتها نهضة كبيرة وانتشرت جرائد كثيرة بأسماء مختلفة بين يومية وأسبوعية وسياسية وعلمية وفنية وكثر إقبال القراء عليها وصار الناس يتهافتون على هذه الجرائد تهافت الجياع على القصاع وراج سق المطبوعات عامة وأخذ كل من يملك بضع مئات من الليرات يؤسس مطبعة لكثرة ما تأتيه من الأرباح الطائلة فتعددت المطابع في الاستانة وارتفعت أجور العمال وأصبح العامل الذي كان يأخذ 10 قروش في اليوم في الدور البائد لا يرضى بأقل من نصف ليرة عثمانية فسبب ذلك ارتفاع أسعار الطبع والورق أيضاً ولم ينقض الحول حتى بدأ إقبال الناس على مطالعة الصحف والكتب يزول بالتدريج إلى أن أدى إلى إفلاس أكثر المطابع وتعطيل أغلب الجرائد الحديثة ولم يبق منها في عالم الوجود إلا القليل منها ومع ذلك فإن عددها اليوم وتنوعها يدهش الشرقي ويدل على انتشار المعارف بين إخواننا الأتراك.
تنقسم الصحافة التركية العثمانية إلى قسمين: صحافة العاصمة وحافة الولايات وتنقسم صحافة العاصمة أيضاً إلى قسمين: موالية ومخالفة. فالموالية تؤيد جمعية الاتحاد والترقي وحزبها في المجلس وتعضد وزارتها وتطري أعمال الحكومة وتطنب في مدح خطتها وتمجد سير رجالها تمجيداً غريباً وتتهجم على كل من تشتم مكنه رائحة المخالفة وتظنه مخالفاً للجمعية والحكومة وحزب الأكثرية. فتلص مثلاً بزيد من المخالفين الارتجاج وبعمرو خيانة الوطن وترمي بكراً بالتجرد من الشعور والعواطف العثمانية فهي أشبه بجرائد الدور السابق من حيث تعظيم الحكومة إلا أنها تمتاز عنها بالشدة ضد الجرائد والأحزاب المخالفة وثقل الوطأة عليها وأما الجرائد المخالفة فإنها تنتقد دائماً أعمال الحكومة المغايرة للقانون الأساسي (وما أكثر هذه الأعمال المغايرة) وروح الإصلاح وما يصدر من حزب الأكثرية من الأمور المغايرة للمبادئ النيابية وتحتج على تدخل الجمعية في شؤون الحكومة وسيطرة زعمائها الذين لا يتجاوزون عدد الأصابع على شؤون الحكومة وهيمنتهم(66/32)
على الأمة واحتكار الوظائف والمناصب لأنفسهم ولذويهم وترفع عقيرتها بالشكوى من تحكم هؤلاء الرؤساء بالنواب الذين يقاومون نياتهم ومشروعاتهم واحتقارهم للعناصر التي تطالب بحقوقها المهضومة. وهناك قسم آخر من الجرائد السياسية لا يعرف لها مبدأ تميل مع الهواء فتراها يوماً مع الحكومة والجمعية على المخالفين ويماً آخر مع المخالفين على الجمعية والحكومة فهي تسير حسبما تقتضيه الأحوال.
أما الجرائد في العاصمة فانه تقسم إلى قسمين: سياسية وفنية فالسياسية أيضاً تقسم إلى قسمين: سياسية جدية وسياسية هزلية وهذه أسماء الجرائد السياسة الجدية حسب قدمها:
1 - إقدام: جريدة رشيدة عاقلة يومية خطتها المخالفة اعتدال. صاحبها ورئيس تحريرها أحمد جودت بك. أسست قبل عشرين سنة وعطلت في الدور السابق مرة لهفوة صغيرة وردت في مقالة عيد الجلوس فحركت أشجان الاستبداد وتعطلت قبل سنتين مرة أخرى بسبب ما ورد في رسالة مكاتبها اليمني من الكلمات الجارحة عن الشعب العربي التي أوجبت هياج الطلبة العرب في الاستانة. وتصدر هذه الجريدة الآن باسم (بكى إقدام) أي إقدام الجريدة وعدد صفحاتها ثماني. يطبع منها ما يقرب من عشرة آلاف نسخة في اليوم.
2 - صباح. جريدة يومية أسست مذ 20 سنة لصاحبها مران أفندي الأرمني ورئيس تحريرها ديران كلكيان أفندي الشهير بأفكاره الصائبة. له مقالات شائقة تنشر في صدر الجريدة. يطبع منها كل يوم 10 - 12 ألف نسخة بقطع كبير ولا يعرف لهذه الجريدة خطة معينة فهي يوماً مع الحكومة ويوماً عليها ويعدها بعضهم لسان حال الشعب الأرمني.
3 - يكى غزته. جريدة يومية أدبية خطتها انتقاد مبدأ الجمعية وسير الحكومة والوزارة ومقاومة ما يصدر منها من الأمور المغايرة للقانون الأساسي. أسست قبل ثلاث سنوات وصاحبها وهجي بك ومديرها المسؤول شكري كامل بك. يطبع منها كل يوم ما يقرب من 8000 نسخة وقراؤها كثيرون في الأستانة وفي الولايات الأناضولية. ولكتاباتها وقع كبير في نفوس رجال الحكومة وفي المحافل الرسمية.
4 - سنين. جريدة يومية مفرطة في التعصب الجنسي مروجة أفكار القائلين بحاكمية الشعب التركي على بقية الشعوب العثمانية استناداً على حق تأسيس الدولة. أسست في الأيام الأولى من الدستور بأموال حسين كاظم بك والي حلب الحالي واشترك حسين جاهد(66/33)
بك مبعوث الأستانة معه في تأسيسها وكان اسمها وقتئذٍ (طنين). وقد هاجم الثائرون مطبعتها في ثورة 31 آذار ودمروا إدارتها بعد أن نهبوا ما فيها من الأثاث والعدد والحروف والأدوات المطبعية فتعطل صدورها مدة ثم عادت إلى الانتشار بعد عودة السكون إلى ربوع فروق وانطفاء نيران ثورتها العسكرية. وأراد حسين جاهد بك الذي استقل بها بعد الحادثة المذكورة وأصبح صاحبها الوحيد لا يشاركه فيها مشارك أن يؤلف لها شركة ذات أسهم فلم ينجح لعدم إقبال الناس على شراء سهامها. وقد اشتدت في المدة الأخيرة المناقشات القلمية بينها وبين تنظيمات لسان حال حزب الأحرار المعتدلين فتدخل الديوان العرفي وعطل الجريدتين فصدرت (جنين) بدلاً من طنين لصاحبها جاويد بك ناظر المالية السابق ولم تستمر في عالم الصحافة إلا بضعة أيام فلحقت بأختها طنين وقام مقامها سنين الحالية لصاحبها إسماعيل حقي بك بابان مبعوث بغداد. وهذه الجريدة التي نشر بقلم حسين جاهد بك مشهورة بإلقاء بذور الشقاق بيت العناصر العثمانية فهي التي أوقدت نيران العداوة والبغضاء بين العنصرين التركي والرومي بعد أن انطفأت وزالت في أوائل الدستور وهي التي أيقظت فتنة الأرناؤود النائمة وهي التي حركت أِجان البلغلر بمطاعنها عليهم وهي التي فتحت باب مسألة العرب والترك بطعنها على النواب العرب ونسبة الارتجاع سوء النية إليهم ووسعت الهوة بين الشعب العربي والحكومة بنشر مقالات إسماعيل حقي بك بابان مبعوث بغداد الذي طعن على البغداديين وطلب تجريد الكتائب على العراق لتأديب أهلها كما طلبت أخيراً صب (دوش) بارد على رؤوس أهل سورية وزادت الطين بلة بنشر مقالات أحمد شريف مخابرها المتجول في سورية. وتعد هذه الجريدة نصف رسمية ولسان حال جمعية الاتحاد والترقي لعلاقتها الشديدة برجال الحكومة والتصاق صاحبها جاهد بك بالجمعية ولنفوذ كلمته في الدوائر الرسمية. وهي مثل جريدة إقدام من حيث الحجم وعدد الصفحات ويطبع منها كل يوم 6 - 7 آلاف نسخة وأكثر رواجها في مدن الروم ايلي مثل سلانيك وادرنة ومناستر.
5 - ترجمان حقيقت. جريدة اتحادية طائشة مفرطة في التعصب الجنسي تصدر مساء كل يوم ولها راتب معين من الحكومة. صاحبها مختار سيد بك ورئيس تحريرها حسين كاظم أفندي خطتها كخطة جريدة (سنين) يطبع منها كل يوم ما يقرب من ألفي نسخة يروج(66/34)
أكثرها في الروم ايلي ولا شأن لهذه الجريدة في عالم الصحافة وقراؤها قليلون في الأستانة.
6 - ضياء. جريدة يومية شبه رسمية مفرطة في التعصب الجنسي لها مائة ليرة في الشهر مرتب من الحكومة. صاحبها ومحررها صفوتي ضيا بك وقد أسست قبل ثلاثة أشهر على نفقة الجمعية لتساند طنين في تأييد الوزارة الحاضرة وتقديس أعمالها. وخطتها ترويج حاكمية الشعب التركي وهيمنة الجمعية على شؤون الدولة والأمة وهي من المستميتة في الدفاع عن وزارة حقي باشا وتصدر على أربع صفحات بقطع وسط ويطبع منها كل يوم 3000 - 4000 نسخة وأكثر رواجها في الروم ايلي.
7 - حكمت. جريدة أسبوعية تصدر كل يوم خميس عل ثماني صفحات بقطع متوسط خطتها انتقاد أعمال الحكومة ومخالفة الجمعية والطعن على ما يأتيه رؤساء حزب الأكثرية من الأمور الشاذة والاحتجاج على أنانيتهم وغرورهم وتحكمهم بالمبعوثين المخالفين صاحبها فليه لي أحمد حلمي أفندي وعدد ما يطبع منها في الأسبوع يقرب من الألفين فقط وقد أسست قبل سنتين.
8 - شهراء. جريدة يومية عاقلة حكيمة أسست قبل شهرين صاحبها ورئيس تحريرها محمد خير الدين باشا التونسي الصدر الأسبق الشهير ومديرها المسؤول أخوه طاهر خير الدين بك. وتنشر هذه الجريدة كل يوم مقالة افتتاحية بتوقيع ج. ناظم المستعار عن أمور الدولة الاجتماعية والإدارية والسياسية تدل على وقوف كاتبها على أحوال الدولة وقوفاً تاماً وقد بلغني أن هذا الكاتب هو أحد ولاة حلب السابقين رشيد بك. أما خطة شهراء فهي المخالفة وانتقاد ما تأتيه الوزارة والحكومة والجمعية وحزب الأكثرية من الأمور المغايرة للدستور ولكتاباتها تأثير كبير في الأندية السياسية وأكثر قرائها من أهل الأستانة وسواحل البحر الأسود العثمانية وتطبع كل يوم 6000 - 8000 نسخة على أربع صفحات بقطع متوسط.
9 - تضمينات. جريدة يومية عاقلة صاحبها داود بك يوسفاني مبعوث الموصل ورئيس تحريرها ومديرها المسؤول لطفي فكري بك مبعوث درسم الشهير وهي لسان حال حزب الأحرار المعتدلين وقد أسست قبل شهرين باسم تنظيمات التي عطلتها الإدارة العرفية من أجل المناقشة الشديدة بينها وبين طنين فصدرت بدلاً منه جريدة زهرة ولم تعش هذه أيضاً(66/35)
في عالم الصحافة إلا قليلاً حتى صدر الأمر بمنع نشرها فقامت تضمينات الحالية مقامها ومن الكتبة البارعين الذين يحررون فيها المقالات الشائقة فريد بك مبعوث كوتاهية الشهير بهجماته على الوزارة في المجلس. ويطبع من هذه الجريدة كل يوم 8000 نسخة يباع منها 6000 في العاصمة فقط وهي رائجة رواجاً كبيراً وأكثر قرائها في فروق وأواسط الأناضول وبلاد الأرناؤود. خطتها المخالفة للحكومة الحاضرة.
10 - أرناؤود. جريدة أسبوعية أرناؤودية لها قسم تركي. صاحبها درويش بك هيما الأرناؤودي المشهور وهو من الذين اشتغلوا للحرية في الدور السابق. وخطة هذه الجريدة المخالفة الشديدة للحكومات بعبارة قاسية قارضة جداً. أكثر قرائها من الأرناؤود ومنتشرة في الولايات الأرناؤودية انتشاراً كبيراً.
هذه هي الجرائد التركية السياسية الجدية من موالية ومخالفة وإليك أسماء الجرائد السياسية الهزلية حسب قدمها أيضاً:
1 - قرة كوز. صاحبها ومصورها علي فؤاد بك ورئيس تحريرها محمود نديم بك وتصور هذه الجريدة الوقائع السياسية من إدارية واجتماعية وحربية ونيابية برسوم جميلة مضحكة وتصدر في يومي السبت والأربعاء على أربع صفحات بقطع صغير من حجم جريدة الراوي. خطتها موالاة الحكومة والوزارة الحاضرة وقد كانت هذه الجريدة في مقدمة الطاعنين على المرحوم حمادة باشا ناظر الأوقاف الأسبق وعلى أعماله بإيعاز من رجال جمعية الاتحاد والترقي لإسقاط فقيد الشعب العربي من منصبه.
2 - قلم. صاحبها صلاح جيموجوز بك صديق حسين جاهد بك وأحد أصحاب معدن (بروم) الذي استوضح ناظر المعادن من أجله في المجلس. تصدر هذه الجريدة كل يوم خميس بقطع صغير على 16 صفحة وفيها من الرسوم ما يسر الناظر ويضحك الثكلى وهي أحسن الجرائد الهزلية طبعاً وأصقلها ورقاً وأكثرها مادة وأوفرها رسوماً ولها قسم فرنسوي. وخطتها موالاة الحكومة وتأييد الجمعية والوزارة الحاضرة واستحسان قرارات حزب الأكثرية. ويطبع منها كل أسبوع ما يقرب من الخمسة آلاف نسخة وقد أنشئت منذ سنتين.
3 - يكي كوه زه. تصدر هذه الجريدة الهزلية التصويرية مرتين في الأسبوع وهي أقل(66/36)
انتشاراً من بقية الجرائد الهزلية. صاحبها كيرقور أفندي الأرمني ومديرها المسؤول أحمد مختار بك ولا يعلم لها خطة معينة فهي تسير حسب ما تقتضيه الوقائع والأحوال وقد أسست منذ سنتين.
4 - غيديق. جريدة هزلية تصويرية صاحبها ح. يوسف سيف الدين بك ومديرها المسؤول عارف حكمت تصدر مرة في الأسبوع على ثماني صفحات برسوم جميلة مضحكة أما خطتها فموالاة الجمعية والحكومة والوزارة الحاضرة وعدم مخالفة أعمالها وقد أسست قبل شهرين فقط.
5 - جم. أسست منذ سنة ونصف وهي أقوى الجراد الهزلية حجة وأجملها رسوماً وأدقها صنعة وأسماها منزلة وأكثرها انتشاراً لما حوته رسومها من المعاني البديعة والإشارات السياسية المضحكة وإقبال الناس على مطالعتها واقتناؤها عظيم جداً يصدرها صاحبها ومديرها المسؤول جميل بك في الأسبوع مرة وتطبع هذه الجريدة طبعاً جميلاً جداً على ورق صقيل بست عشرة صفحة لها قسم فرنسوي. أما خطتها فالمخالفة الشديدة فهي تنتقد أعمال الحكومة بكتاباتها الشائقة وتمثل هذه الأعمال برسومها الجميلة المضحكة.
6 - جادالوز. أسست قبل شهرين صاحبها (جادالوز) ومديرها المسؤول حيدر رشدي أفندي خطتها موالاة الجمعية واستحسان خطة حزب الاتحاديين في المجلس وعدم التعرض لأعمال الحكومة.
7 - قره سنان. صدرت هذه الجريدة قبل ثلاثة أشهر باسم (اشك) أي الحمار فعطلتها الإدارة العرفية بحجة عدم ملائمة اسمها للآداب أو طعنها على الوزارة في العدد الأول منها الذي بلغ ثمن النسخة الواحدة منه 20 قرشاً ويقال أن صاحبها طبع من هذا العدد 20 ألف نسخة بيعت كلها في أقل من ثلاث ساعات. ثم قام بدلاً منها (معلوم) فما عتم أن ألحق بأخيه الحمار بأمر الإدارة العرفية وعليه صدرت جريدة قره سنان لصاحبها ومديرها المسؤول مصطفى أفندي ورئيس تحريرها فؤاد طلعت بك. وهذه الجريدة تطعن على الوزارة الحاضرة طعناً شديداً وتنتقد خطة الجمعية انتقاداً مراً ورسومها جميلة مضحكة جداً تطبع على ورق جيد بقطع وسط وقراؤها كثيرون يباع منها ألوف في الأستانة عدا ما يباع منها في الولايات.(66/37)
أما الجرائد والمجلات الأدبية والفنية فهي كثيرة أيضاً هذه أشهرها:
1 - مجموعة أبو الضيا. صاحبها أبو الضيا توفيق بك مبعوث أنطاكية. تصدر في الأسبوع مرة في 30 صفحة وتبحث في السياسة أيضاً. جيدة الطبع والورق كثيرة المواد. أسست قبل 30 سن فهي أقد المجلات الأدبية الموجودة عهداً ولصاحبها الذي أتقن فن الطباعة شهرة كبيرة في عالم الصحافة وكان له مطبعة في الدور البائد يضرب بها المثل في الانتظام وحسن الذوق في الطبع قضى عليها عبد الحميد قضاء مبرماً بعد أن نفى صاحبها وعذبه تعذيباً. أما خطتها فهي انتقاد أعمال الحومة إذا صدر منها ما يستوجب الانتقاد.
2 - ثروت فنون. مجلة علمية أدبية فنية تصويرية أسبوعية صاحبها ومديرها أحمد إحسان بك أسست قبل 21 سنة. تطبع على ورق جيد بحجم المقتبس جيدة الرسوم متقنة الطبع أكثر ما يرد فيها مقالات أدبية لغوية شعرية ولها قسم سياسي إخباري.
3 - صراط مستقيم. مجلة دينية فلسفية علمية حقوقية أدبية تاريخية تبحث في السياسة أيضاً وتصدر في الأسبوع مرة على ورق جيد لصاحبها أبي العلا زين العابدين أفندي وح. أشرف أديب أندي ويحرر فيها كبار العلماء مثل موسى كاظم أفندي شيخ الإسلام وإسماعيل حقي أفندي مناسترلي. أُسست هذه المجلة قبلا ثلاث سنوات وخطتها تأييد مبدأ الجمعية والرضى بكل ما تفعله الوزارة.
4 - شهبال. أجمل الجرائد الفنية التصويرية. كثيرة الرسوم غزيرة المواد تطبع على أجود ورق طبعاً نفيساً فهي أشبه من حيث الإتقان بالجرائد الإنكليزية والفرنسوية التصويرية ولا تقل عنها انتظاماً ورونقاً ونفاسة وقد أنشئت منذ سنتين لصاحبها ومديرها المسؤول حسين سعد الدين بك وتصدر مرتين في الشهر وأكثر قرائها الطبقة الراقية من أهل الفروق وأصحاب المكانة الرسمية والعلمية من الأتراك العثمانيين.
5 - طبابت حاضرة. مجلة فنية طبية تصدر في الشهر مرتين وتبحث في الطب العصري والاكتشافات صاحبها ومديرها المسؤول الدكتور شكري كامل بك وأكثر محرريها من الأطباء.
6 - جريدة عدلية. مجلة رسمية غزيرة المواد بحجم المقتبس اليومي تصدرها نظارة(66/38)
العدلية في الشهر مرتين تنشر فيها أوامرها ومنشوراتها والتنقلات القضائية والقوانين الجديدة ولها قسم غير رسمي يحرره كبار العلماء المتضلعين في علم الحقوق وقد أُسست قبل سنتين.
7 - دار الفنون. مجلة أدبية فنية مدرسية بحجم المقتبس الشهري طلية المباحث تطبع على نفقة الكلية العثمانية (دار الفنون) في الأسبوع مرة على ورق جيد وتحوي كل ما يلقى من الدروس في فروع الكلية المشار إليها. مديرها ساطع بك مدير دار المعلمين في الأستانة.
8 - تدريسات ابتدائية مجموعة سي. مجلة فنية أدبية مدرسية تطبع على نفقة نظارة المعارف وتصدر مرتين في الشهر يحررها معلمو دار المعلمين وهي بحجم المقتبس الشهري. مباحثها طلية جداً ولا دخل لها في السياسة.
9 - رسملي كتاب. مجلة أدبية فنية علمية تصويرية بحجم المقتبس الشهري تصدر مرة في الشهر متقنة الطبع جميلة الرسوم على نمط مجلة الفرنسوية. صاحبها ومديرها المسؤول عبيد الله أسعد أفندي ورئيس تحريرها محمد رؤوف أفندي وقد أُسست قبل ثلاث سنوات.
10 - تصوف. جريدة تبحث في التصوف والطرق الصوفية صاحبها ومحررها الشيخ صفوت أفندي مبعث أورفة تصدر مرة في الأسبوع وتميل إلى سياسة جمعية الاتحاد والترقي وتؤيد مبدأها وتأخذ بناصر الوزارة الحاضرة. وقد أُسست قبل ثلاثة شهور.
11 - قادين. مجلة نسائية تصويرية أدبية أسبوعية بحجم المقتبس اليومي وبست عشرة صفحة تبحث في شؤون النساء العثمانيات وما يستوجب تقدمهن ورقيهن. أسسها نظام الدين حسيب بك وعادل سليمان بك قبل شهرين. سياستها تعضيد الجمعية وشد أزر الوزارة الحاضرة.
12 - عثمانلي رساملر جمعيتي غزته سي. مجلة جمعية المصورين العثمانيين تطبع على نفقة هذه الجمعية وتصدر في الشهر مرة بقطع كبير وتنحصر مباحثها في التصوير على أنواعه. مديرها حسين هاشم بك ابن الشريف عبد القادر ورئيس تحريرها كمال أمين بك.
13 - بول مراقلينار ينه رهبر. أي دليل غواة الطوابع. مجلة تبحث عن طوابع البريد فقط وتصدر مرتين في الشهر لصاحبها ومديرها المسؤول استيان أفندي.(66/39)
14 - يكي محيط المعارف غزته مي. مجلة علمية أدبية تبحث في السياسة أيضاً تصدرها لجنة دائرة المعارف التي أُلفت حديثاً لوضع قاموس كبير باللغة التركية على نمط دائرة المعارف الفرنسوية الكبيرة. يحررها أمر الله أفندي مبعوث قرق كليسا وناظر المعارف الأسبق وتصدر مرتين في الشهر على نفقة اللجنة المار ذكرها.
15 - مودا ملكه سي. مجلة تبحث في أزياء النساء وملابسهن تصدر مرتين في الشهر على ورق جيد باللغات التركية والرومية والفرنسوية. مديرها موسيو لقلر وقد أُسست قبل أربعة أشهر.
16 - رسالة موقوتة حربية. مجلة تبحث في الشؤون العسكرية تصدرها دائرة الأركان الحربية ويحررها ضباط هذه الدائرة.
17 - جريدة عسكرية. مجلة حربية رسمية تنفق عليها نظارة الحربية وتصدرها لنشر أوامرها وتنقلات القواد والضباط وترقيهم وإعلانات المناقصات والمزايدات والقوانين العسكرية الحديثة وكل ما يختص بالجندية. تحررها لجنة من الضباط ولها إدارة خاصة بها.
18 - موسيقى غزته سي. تبحث في الموسيقى فقط. تصدرها الجمعية الموسيقية العثمانية التي أُسست في العام الماضي تحت حماية الأمير ضياء الدين أفندي تجعل الحضرة السلطانية الفخيمة.
هذه هي جرائد الأستانة التركية السياسية ومجلاتها العلمية والفنية والأدبية فيعلم القراء منها ومن كثرة عددها وسمو موضوعاتها وإقبال الناس على مطالعتها ما قطعه إخواننا الأتراك من الأشواط في مضمار الرقي الفكري السياسي والعلمي فيجب علينا والحلة هذه نحن معشر العرب العثمانيين أن نسعى لمجاراتهم بذلك حتى لا نكون أحط منهم في هيئتنا الاجتماعية ولنكون عضواً حياً نامياً عاملاً في جسم أمتنا العثمانية والله الموفق لما فيه خير الأوطان.
الأستانة حقي العظم(66/40)
بحث في نوع من البديع
البديع فن جليل وركن من أركان البلاغة لا يستهان به وإن توهم كثيرون خلافه. ولكنه متى يقوم ضعاف النظر في الصناعة الشعرية ركبوا فيه متن التكليف وقصروا هممهم على نظم أنواعه بلا مراعاة ما تقتضيه الصناعة من المقتضيات وأهمها إبراز المعاني في قوالب يصح أن يسمى بها النظم شعراً فتراهم إذا ظفروا بإيداع البيت شيئاً منه ضربوا صفحاً عما عداه ولم يبالوا بعد ذلك بعلو أو انحطاط حتى كاد هذا الفن أن يكون مقصوراً على هذا الضرب من النظم وأصبح فيما نراه فيه من المهانة عند البلغاء.
ومن العيوب المزرية بقدره مزجهم الغث بالسمين من أنواعه وإدراجهم فيه ما لا يصح أن يكون نوعاً بديعياً أو ما هو جدير من المقبحات لا من المحسنات بَلهَ خطبهم في بعض التعاريف والخطأ في الاستشهاد وإدخال بعض الأنواع في بعض بحيث أصبح في حاجة كبرى إلى تهذيبه وتخليصه من تلك الشوائب.
وأنا ذاكر في هذه النبذة رأباً عنَّ لي في نوع منه وضعه ابن المعتز وسماه بتأكيد المدح بما يشبه الذم ودعاه بعضهم بالمدح في معرض الذم وآخرون بالنفي والجحود والتسمية الأولى أولى لسلامتها من الاعتراض ولكونها أوضح دلالة على النوع. وقد قسمه علماء البديع إلى قسمين قسم عرفوه بأنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح وقالوا أنه أفضل القسمين واستشهدوا عليه بقول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فول من قراع الكتائب
ويقول من يقول زيد لا عيب فيه سوى أنه يكرم الضيف. والقسم الثاني عرفوه بأنه إثبات صفة مدح ثم استثناء صفة مدح أخرى نحو أنا أفصح العرب بيدني من قريش ونحو قول النابغة الجعدي:
فتىً كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا
وكلامنا في القسم الأول فقط أطلت النظر فيما كتبه علماء هذا الفن قديماً وحديثاً فظهر لي أنهم تساهلوا في تعريفه فأداهم التساهل إلى الخلط بين شواهده كما ترى. والذي استبان لي ويستبين لكل متأمل أن بينهما فرقاً واضحاً يقسم به النوع إلى نوعين. ولبيان ذلك نقول أن استشهادهم ببيت النابغة استشهاد صحيح مطابق تمام المطابقة لاسم النوع الذي اختاره واضعه لأن وصف سيوف القوم بأنها مفلوقة مثلومة لا يشك أحد في أنه عيب يذمون به(66/41)
ولكن لما كان سببه قراعهم للكتائب دل على إقدامهم وشجاعتهم وكثرة مباشرتهم الضراب بأنفسهم فصار مدحاً لهم وصح القول بأن الشاعر أكد مدحه بما يشبه الذم لإتيانه بتلك الصفة المذمومة المقرونة بما يصرفها إلى المدح ولا يخفى حسن هذا الأسلوب البديع على من نهل من حياضه العربية وتذوق بلاغتها بخلاف استشهادهم بقول القائل لا عيب في زيد سوى الكرم وبقول القال:
ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم
فليسا في شيء من المطابقة لاسم النوع كما يظهر لي ولا يصح عدهما مع الشاهد الأول من نوع واحد وإنما أداهم إلى هذا الخلط تساهلهم في التعريف كما قدمنا لأن قولهم نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح شامل لهذين الضربين من الاستشهاد أما في الثاني فظاهر لأن الكرم والمعطف اللدن والخد المنعم المستثناة من صفة الذم المنفية كلها صفات مدح وأما في الأول فلأن الصفة المستثناة وهي فلول السيوف وإن تكن صفة ذم فقد حولت إلى صفة مدح أيضاً فصح بذلك عندهم الاستشهاد بهما على نوع واحد لشمول التعريف لهما مع أن الفرق بين الضربين لا يخفى عل ذي بصيرة. ولزيادة التوضيح نقول أن الضرب الثاني من الاستشهاد ليس فيه من تأكيد المدح بما يشبه الذم سوى الأسلوب الذي صيغت به شواهده فقط لأن ذكر الاستثناء بعد نفي صفة الذم موهم لإثبات شيءٍ ما من الذم فلما استثنى القائل صفة مدح محضة كان موهماً للنوع بأسلوب وإن لم يأت به على حقيقته.
والذي أراه في حل هذا الإشكال أن يقسم هذا النوع إلى نوعين يسمى بتأكيد المدح بما يشبه الذم ويقال في تعريفه أنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة ذم مقرونة بما يصرفها إلى المدح أو استثناء صفة مدح محولة من ذم أو غير ذلك مما يؤدي معناه وقد ظهر لي أن القرينة الصارفة قد تكون لفظية كما في بيت النابغة الذبياني لأن قوله من قراع الكتائب قرينة دالة على عدم إرادة الذم أو تكون معنوية كما يف قول القائل:
ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنيسان الأحبة والوطن
فإن جعلهم ضيوفهم ينسون أحبتهم وأوطانهم عيب ولكن لما كان سببه كثرة ألطافهم وإكرامهم إياهم صار مدحاً وهو غير مصرح به بل مفهوم من سياق البيت.
(النوع الثاني) يسمى بإيهام تأكيد المدح بما يشبه الذم ويقسم إلى قسمين قسم يقال في(66/42)
تعريفه بأنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح محضة ليس فيها شائبة ذم ويستشهد عليه بنحو قولهم لا عيب في زيد سوى الكرم وبنحو قول القائل:
لا عيب فيه سوى مكارمه التي ... نسبت لحاتم بخل كل بخيل
والقسم الثاني يقال في تعريفه بأنه إثبات صفة مدح أخرى خاليتين من شائبة ذم ويستشهد عليه بقوله عليه الصلاة والسلام أنا أفصح العرب بيد اني من قريش وببيت النابغة الجعدي المتقدم وبنحو قول القائل:
وظبيٌ ثناياه الصحاح كما ترى ... من الريق يرويها الرضاب المبرد
وقد حاز أشتات البها غير أنه ... له مقلة كحلا وخدّ مورّد
وقول البديع الهمذاني:
هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... سوى أنه الضرغام لكنه الويل
وإنما جعلنا هذين القسمين لنوع واحد لأنهما كما ترى من نمط واحد وليس فيما بينهما من الفرق ما يدعو إلى جعلها نوعين. أما أصحاب البديعيات فقد وقفت على عشرين بديعية فما وجدت بين ناظميها من تنبه لما ذكرت بل استقوا جميعهم من بحر واحد ولم يأتوا بغير إيهام النوع إلا صفي الدين الحليّ حيث قال:
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم وهو مأخوذ من
قول القائل المتقدم:
ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن
وكذلك الشيخ ابن المقري في قوله:
لا عيب فيه سوى تسليط نقمته ... على العدا ومواليه على النعم
فانه قال في شرحه أن تسليط النقم عيب ولكنها لما كانت على الأعداء كانت مدحاً وعندي فيه نظر والله أعلم.
القاهرة // أحمد تيمور(66/43)
مخطوطات ومطبوعات
نهج البلاغة
لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه وعلى آله السلام جمع
الشريف الرضي
وشرح عز الدين المدائني المعروف بابن أبي الحديد المجلد الأول
والثاني والثالث طبعت بمطلعة دار الكتب العربية الكبرى
بمصر على نفقة أصحابها مصطفى أفندي البابي
وأخويه بكري أفندي وعيسى أفندي
أبلغ كلام عربي بعد الكتاب العزيز والأحاديث النبوية كلام رابع الخلفاء كرم الله وجهه جمعه الشريف الرضي وشرحه بن أبي الحديد المعتزلي طبع مرتين في فارس على الحجر فكان السقم يغلب عليه وطبعته دار الكتب العربية الكبرى هذه المرة بالقاهرة طبعة حسنة جعلت الأصل بحرف غليظ مشكولاً والشرح بحرف وسط والشرح هو كما قال شارحه بسط القول في شرحه بسطاً اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان وما عساه يشتبه ويشتكل من الإعراب والتصريف وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشياء نثراً ونظماً وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والأحداث فصلاً فصلاً وأشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة ضعيفة ولوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب والأميال والنكت تلويحات لطيفة ورصعه من المواعظ الزهدية الدينية والحكم النفسية والآداب الخلقية وأوضح ما يومي إليه من المسائل الفقهية إلى غير ذلك مما كان حرياً أن يقال فيه أنه دائرة معارف وآداب إسلامية فيه من تاريخ الصدر الأول ما يأخذ بمجامع القلوب ويغني عن تقليب عشرات من المجلدات ومع هذا فقد جاء الكتاب كله (أربع مجلدات) في زهاء ألفي صفحة من القطع الكامل فنثني على طابعيه بنشره في هذه البلاد وتسهيل مقتناه على طلاب الآداب ونحث على اقتنائه إذ لا يجمل بمكتبة أن تكون خالية منه وفي مأمولنا أن نكتب مبحثاً ضافياً في هذا السفر النفيس عند نجار طبعه.
تاريخ آداب اللغة العربية
تأليف جرجي فندي زيدان طبع بمطابع الهلال بمصر سنة 1911 ص(66/44)
320 ج أول لم تبرح المادة التي طبعت من كتب العرب نزرة بالنسبة
لما يقتضيه تأليف كتاب في هذا الموضوع الجليل باللغة العربية ولكن
رصيفنا صاحب الهلال استعان بما طبع من كتبنا في الشرق والغرب
وبعض ما كتبه الإفرنج عن آدابنا بالإنكليزية والإفرنسية والألمانية
فجاء هذا الجزء يشتمل على تاريخ اللغة العربية وعلومها وما حوته
من العلوم والآداب على اختلاف موضوعاتها وتراجم العلماء والأدباء
والشعراء وسائر أرباب القرائح ووصف مؤلفاتهم وأماكن وجودها أو
طبعها. وهذا الجزء خاص بعصر الجاهلية وعصر الراشدين والعصر
الأموي أي من أقدم أزمنة التاريخ إلى سنة 132 هـ -. وهو منسق
مبوب مفهرس على طريقة حسنة وقد وجدنا له كلاماً في تفصيل كلام
شاعر على شاعر كنا نود أن يعزوه لأهل هذا الشأن ممن كتبوا كتبهم
في عصر نضارة اللغة وكانوا هم شعراء مطبوعين بالطبع كما رأينا
المؤلف قال بما لم يقل به أئمة التاريخ والثقات من رواة الأخبار من
أن الإسلام (المسلمين) أبادوا مكاتب الفرس ومصر وكما أرادوا هدم
إيوان كسرى وأهرام مصر (ص 56) والمعروف الثابت عند المحققين
من علماء العرب والإفرنج أن نسبة إحراق مكاتب الفرس ومصر
للمسلمين فرية افتراها خصوم الفاتحين دسوها حتى تلقفها من لم يكن
لهم عهد بتصحيح الأخبار والمعروف من هدم المسلمين لأهرام مصر
أن المأمون أحب أن يعرف ما في داخله فأمر بنقب جهة واحدة منه
خدمة للتاريخ والآثار لا عملاً بمبدأ الخراب والدمار. وإلا فإن في(66/45)
بعض عصور الظلم قد دكت الجوامع والمدارس أيضاً وكثيراً ما تنقض
بنية جامع مشهور لتؤخذ أنقاضه إلى جامع آخر في بلد آخر أو قطر
آخر وهذا لا ينسب للإسلام بل للجاهلين من المسلمين وإن شئت فقل
للمخربين من المتلغبين. وما نظن أحداً من المحققين قال بان الإسلام
كان السبب لتكاثر الشعراء العشاق (ص 140) الانتشار التسري
وركون القوم إلى الرخاء حتى إذا نضح المدنية الإسلامية تحول ذلك
إلى التهتك والتخنث وكذلك قوله (ص 240) أن التشبيب هان على
المسلمين بعد عهد الخلفاء الراشدين مع أن المعروف أن التشبيب
موجود في الجاهلية والإسلام ولكن أخبار الجاهلية كلها لم تبلغنا وربما
كان في مخطوطات بعض مكاتب الغرب والشرق شذرات منها تجلو
لنا كثيراً من الغوامض إذا أردنا الاستقصاء في هذا المعنى وإلا فالحكم
المبرم بقليل رأيناه عل كثير مما لم نره قد يؤدي إلى ركوب متون
الأغلاط. وعلى كل فنشكر صديقنا المؤلف ونتمنى له التوفيق إلى إتمام
كتابه.
التاريخ الكبير
للحافظ أبي القاسم بن عساكر عني بتربيته الشيخ عبد القادر بدران
طبع بمطبعة (روضة الشام) بدمشق سنة 1329
لم يبق أحد ضرب بمعرفة تاريخ الإسلام إلا وتشوق كثيراً لنشر كتاب الحافظ ابن عساكر المتوفي سنة 571 هـ في تاريخ دمشق وقد صحت عزيمة الشيخ عبد القادر بدران من فضلاء دمشق على فنشره فنر منه إلى الآن 128 صفحة محذوفة التكرار والأسانيد وحذا أسانيد الأحبار في محلها ونقح الحوادث حسب الإمكان وبين مراتب الأحاديث التي رواها(66/46)
المؤلف في الحاشية وكنا نود لوفق الناشر إلى نشر هذا السفر الكبير وهو في ثمانين مجلدة صغيرة على الأسلوب الذي كتبه المؤلف وإن كان هو بأسلوب المحدثين أشبه منه بأسلوب المؤرخين أو أن يظفر الناشر بمختصر من المختصرات التي اختصرها به بعض أئمة هذا الشأن ولكن الهمم تقصر عن درك مثل هذه الغاية البعيدة الآن ولعل انتشار الكتاب على هذا المثال يشوق أبنائنا وأحفادنا في مستقبل الأيام إلى نشر ما قاله ابن عساكر بالحرف الواحد على أننا نشكر للناشر والطابع عنايتهما وحرصهما على خدمة تاريخ أقدم مدن العالم الإسلامي ونعني بها دمشق الفيحاء.
رسائل مختلطة
(السفر المفيد في العالم الجديد) والدليل التجاري لأبناء اللغة العربية والشعوب المختلطة في العالم أجمع تأليف الدكتور نجيب طنوس عبده اللبناني في 676 صفحة كبيرة الحجم مع الرسوم وفوائد مختلفة عن البلاد ولا سيما أميركا الشمالية.
(الفتوى والإسلام) تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي وقد طبعت في الأجزاء الأول من مجلد السنة السادسة من المقتبس وجردها المؤلف مع تقديم فهرس لها يبين فوائدها.
(ديوان البحتري) الجزء الأول منه ضبطه بالشكل الكامل وعلق حواشيه رشيد أفندي عطية الأديب اللبناني وهو في 400 صفحة كنا نود أن لا يسقط الناشر طائفة قليلة من أبياته لأن من شروط الأمانة أن تنشر الكتب على علاتها وأن يشير الشارح إلى بعض ما ربما لم يشرحه لأنه توقف فيه ولا سيما في أسماء البلدان والأماكن.
(برنامج جمعية النداء الخيري بدمشق) هذه هي إحدى الجمعيات الخيرية التي أسست في الحاضرة في السن الماضية. وقد كان دخلها 22235 قرشاً و35 بارة صرفت منها على تعليم أولاد الفقراء وإعطاء المحاويج 15915 والباقي احتياطي.
(البيان السري) للكلية الإسلامية العثمانية في بيروت لعامها السابع عشر فيه نظام هذه المدرسة الراقية ومنزعها في التربية والتعليم وأمالها وكيفية الالتحاق بتلامذتها إلى غير ذلك مما يدل عل تدرجها في مدارج الارتقاء والنماء سنة فسنة.
(الصهيونية) ملخص تاريخها غايتها وامتدادها حتى سنة 1905 لنجيب أفندي نصار وما جاء في دائرة المعارف الإسرائيلية عن مسألة الصهيونيين شفعها المترجم بما قاله في هذه(66/47)
المسألة الحيوية في جريدته (الكرمل) في حيفا.
التقرير السنوي السابع لجمعية تهذيب الشبيبة السورية في بيروت وهي الجمعية الخيرية التي تجمع المال لتهذيب الفتيان والفتيات بقطع النظر عن مذهبهم ولها فع نسائي وكان مجموع دخلها سنة 1910 55663 غرشاً ومجموع خرجها 11026 غرشاً وبلغ مجموع من علمتهم حتى الآن 44 فتى و 2 فتاتين صرفت عليهم من الغروش 45902 وذلك مدة سبع سنين.(66/48)
أخبار وأفكار
حرق مكتبة الإسكندرية
كتب بعضهم مقالة في جريدة التيمس أيد فيها قول من قال أن عمرو بن العاص أحرق تلك المكتبة بأمر الخليفة عمر بن الخطاب معتمداً على ما قاله جرجي أفندي زيدان في كتابه تاريخ مصر الحديث فرد عليه المستر بطلر مؤلف كتاب (الفتح العربي لمصر) داحضاً تلك التهمة. وقد نشرت التيمس رده في عدد 25 حزيران الماضي قال: غريب أن يتحدث الناس من جديد بحرق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية وأن ينشر مثل ذلك في جريدة كبيرة الشأن كجريدة التيمس وعندي أنه لا يمكن أن يكون الكاتب قد بحث في المسألة من وجهيها العلمي والتاريخي فانه لو فعل لعرف أن الحجج التي يحسبها براهين جديدة على صحة قوله ليست بجديدة ولا يركن إليها في بحث هذه المسألة.
وقد عقدت في كتابي (الفتح العربي لمصر) فصلاً طويلاً على هذا المبحث وأظهرت فيه بالأدلة البينة ما يأتي:
1 - إن قصة حرق مكتبة الإسكندرية نشرت في الكتب الأوربية بعد الفتح العربي بخمسمائة سنة وناشروها هم عبد اللطيف وجمال الدين وأبو الفدا والمقريزي. ولا شك أن أبا الفرج اقتبس روايته عن عبد اللطيف. وليست هذه الحقيقة اكتشافاً جديداً بل هي أمر قديم معروف.
2 - إن تعليل الحادثة يخرجها عن الجد والصحة.
3 - إن بطل الحادثة هو يوحنا فيليونوس وهذا مات قبل الفتح العربي بكثير من السنين.
4 - كان في الإسكندرية مكتبتان مهمتان إحداهما مكتبة التحف والثانية مكتبة السيرابيوم. ولا بد أن تكون الرواية تشير إلى إحداهما: فالأولى أتلفت في الحريق الذي أحدثه يوليوس قيصر قبل الفتح العربي بأربع مئة سنة. وأما الثانية فيظهر من التاريخ أنها إما قد تكون نقلت قبل سنة 319 قبل المسيح وأتلفت وخربت في ذلك التاريخ. وعليه لم يكن في الإسكندرية مكتبة في سنة 642 بعد المسيح ولم يوجد ذكر للمكتبة في كتب القرن الخامس والسادس والسابع مطلقاً.
5 - لو كانت المكتبة موجودة في زمن الفتح العربي لكان نقلها بسهولة ممكناً في مدة الهدنة(66/49)
التي أعطيت قبل تسليم الإسكندرية وفقاً لمادة في المعاهدة تسمح بنقل الأشياء الثمينة وكان طريق البحر يومئذٍ مفتوحاً.
6 - وأخيراً لو أن المكتبة نقلت لو أتلفت لما كان مؤرخ ذلك العصر العالم جون فيكيو أغفل ذكرها وسكت عن حادثتها كل السكوت.
وعلى ذلك فمنشئ المجلة المصرية (جرجي أفندي زيدان) لم يكتشف إلا ما كان ظاهراً معروفاً. والكاتب لم يدرج في أعمدتكم إلا اعترافاً بجهلٍ ليس فيه أدنى برهان في علم التاريخ. فليتأمل.
تربية النظر
ذكرت إحدى المجلات العلمية أن إهمال النظر في المدارس الابتدائية والثانوية في أوربا بلغ مبلغاً لم يستطع معه أكثر التلاميذ أن يعرفوا بمجرد النظر تقدير مسافة أو قياس أو وزن. ولكن الولايات المتحدة أخذت في مدارس المعلمين تداوي هذا الداء فتعلم التلامذة أن يقيسوا ويزنوا بعيونهم وقد رأى الأساتذة أن الأولاد لا يتصورون طول المئة متر تصوراً حقيقياً فصاروا يمرنونهم عليها بعد درس الحساب فيخرج الأساتذة بتلاميذهم إلى النزهة عقيب الدرس في طريق ركزت على كل عشرة أمتار منها علامة ثم ترفع العلامة ويشار إلى الأولاد أن يضعوا العلامات بالنظر ومن أحسن وضعها في أماكنها يعطى مكافأة وهكذا تقدر الأبعاد العالية على هذه الصورة فيضعون وتداً من أعلى إلى أسفل ويتفننون في تقدير الأبعاد العالية. أما التمرن علة معرفة الأوزان فهو صعب أكثر من ذلك لأن وزن الأشياء لا يمكن تقديره من حجمها ولكن الأساتذة رأوا أن يبدؤوا تمرين الطلاب على الأشياء الثابتة مثل تقدير وزن الحديد أو الخشب أو غيرهما ثم ينتقلون بهم إلى أمور أخرى وعلى هذه الصفة يكون للتلميذ درس ولعب مسل يشغل الذهن وقد اتفق المعلمون على الاعتراف بأن هذه الطريقة قد أدت إلى أحسن النتائج في تربية النظر.
المطاط
لما اخترع ماكنتوس سنة 1823 الرداء الذي لا ينفذ إليه الماء واشتهر بهكان مقدار ما يستخرج من المطاط 120 طناً في السنة وما زال يكثر المستخرج منه حتى بلغ هذه السنة 80. 000 طن وقد وصل جان ديبوفسكي البولوني إلى استخراج 10 إلى 20 في المائة(66/50)
من المطاط من صمغ اسمه جلتونغ
وهذا الصمغ يتكون على نبان ينبت في جزائر مالايو يستخرج بسهولة وبثمن قليل بحيث بات الرجاء بعد المعامل التي أنشئت لاستخراج المطاط من هذا الصمغ أن تنزل أسعار المطار كثيراً وتجاري ما يستخرج منه من مملكة الكونغو.
بين أوربا وأميركا
تنوي سويسرا أن تؤسس مؤتمراً دولياً للنظر في إنشاء خط حديدي يقرب المسافة بين جنوبي أوربا وجنوبي أميركا بحيث يجعلها خمسة أيام وذلك بإنشاء خط حديدي بعد جبل طارق على الساحل الغربي من أفريقية قاصداً إلى دكر منتهياً بباتورس بحيث يصل الإنسان إلى برناميوك في ثلاثة أيام بدون ضباب ولا جليد كما هو الحال في بحر الظلمات وتكون المسافة بين جبل طارق دكر 2788 كيلو متراً وإلى باتورس 3000 كيلو متر ولا تكلف نفقات الكيلو متر كبير أمر لأن أجرة العملة رخيصة جداً في تلك الأصقاع وبذلك يصل الراكب بعد ذلك براً وبحراً من أوربا إلى برازيل في خمسة أيام وتنتفع أوربا ومراكش ومستعمرات إنكلترا وفرنسا وأفريقية وبرازيل وتقتصر المسافة بين الكونغو وجنوبي أفريقية وكذلك ألمانيا تستفيد من مستعمرتها الأفريقية ولكن هذا المشروع يحتاج إلى رأس مال كبير حتى ينقل العملة والأدوات وتهيأ أسباب المياه للشرب وغير ذلك.
الزواج في الغرب
أكثر البلاد تزويجاً المجر فإن معدل المتزوجين كان سنة 1908 - 91 في الألف وكان سنة 891 - 17 في الألف وفي ألمانيا زاد عدد المتزوجين زيادة قليلة بعد سنة 1890 ونهض معدله في إيطاليا من 15 إلى 16. 5 في الألف وفي فرنسا 15 إلى 16 وفي إنكلترا إلى 15 وارتقى في أيرلندا من 9 إلى 10 في الألف ونزل معدل الزواج في يابان من 17 إلى 16 سنة 1893 وشاع الطلاق فيها حتى كان 325 طلاقاً في كل ألف زواج وبعد سنة 1907 بلغ معدل الزواج عندها 18 في الألف وما زال عدد الأولاد غير الشرعيين يكثر في العالم ولا سيما في يابان وكذلك في فرنسا وألمانيا وأقل المماليك بأولادها غير الشرعيين إنكلترا وهولاندة.
نهضة الجمال(66/51)
في جميع بلاد الحضارة اليوم تنشأ جمعيات ومنتديات ومتاحف للبقاء على الجمال وإنهاضه من كبوته في المحال التي لا أثر له فيها فمن جمعيات لوقاية المناظر الجميلة القديمة وإبقاء رونق المدن والقرى والدساكر على حالها ومن جمعيات لإبعاد البشاعة عن مناظر المدن والإهابة بها إلى الجمال ومن أخرى لتنشيط الهندسة والنقش وغيرها لتجويد لعب الأولاد حتى تتربى فيهم ملكة الجمال والشعور به وفي إنكلترا وفرنسا تنشأ مدن كالحدائق بتربيتها ومن معارض تقام للصناعات النفسية ومن جمعيات لتنشيط زواج جميلات الصورة من النساء بجميليها من الرجال ليكون الجمال والكمال في أولادهم صنوين ومن جمعيات تعني بتحسين الجنس البشري ففي باريز جمعية تسعى إلى نقض عهود الزواج التي يكون منها أولاد ناقصون في خلقهم موهون في تراكيبهم وهكذا يدعون إلى الجمال ويعلمونه ناشئهم فأي عملاً لنا في الشرق مثل لك.
أدبيات يابان
كتب أحد الباحثين من الإنكليز أن المرأة اليابانية كانت ممتازة بقريحتها الأدبية منذ عهد بعيد فكانت منذ القرن الثامن مشهورة بمعرفتها معنى الحياة وسهولة التعبير بلغة أدبية مختارة ولكن لم يكن يتفق وجود النساء الكاتبات ولا يتفق وجودهن إلا في قصور الملوك ثم جاء دور هيان (800 - 1186) فكان العصر الذهبي للمرأة اليابانية وقد ارتقى تسع نساء إلى عرش الملك فامتزن بحكومة عاقلة متسامحة فكان بلاط الملك معهداً يتعلم فيه النساء ويتهذبن والظاهر أن أحسن التآليف الأدبية التي نشرت في ذاك القرن قد خطتها أنامل النساء ثم أتى دوريدو فاضمحلت دولة الآداب وكذلك الحال من سنة 1608 - 1867 فقد أطفأت في خلالها حياة المرأة العقلية. وظهرت المرأة اليابانية من سباتها إلى منذ أربعين سنة ونهضت للتعلم نهضة الشمير الخبير ففي سنة 1871 بدأ النهضة النسائية بذهاب الفتيات اليابانيات يتعلمن في أميركا فنشأت عن ذلك حركة مهمة بحيث بلغ عدد الطالبات اليوم 32 ألفاً ومعظمهن يدرسن الآداب. وفي يابان عدد كبير من الجرائد والمجلات يشارك النساء في تحريرها كل المشاركة ولهن مجلة سمينها مجلة القرن العشرين جعلنها لسان الحزب الراقي من النساء يطالبن فيها لبنات حواء بالحرية وحق الانتخاب. وزعمية أديبات يابان اليوم البارونة ناكاجيما وهي كاتبة سياسية معتبرة.(66/52)
النصرانية والوثنية
حكمت يابان على رجل اسمه كوتوكو بدعوى أنه من الفوضويين فقام أنصار الحرية وقعدوا قائلين أن لبعض رجال الدين يداً في مقتله كما كان لهم في مقتل فرير المصلح الأسباني. قالت المجلة الباريزية: ليس كوتوكو كما صورة خصومه بل هو كاتب وأخلاقي وكتابه الأخير الذي سماه نسخ المسيح قد أحدث رنة كبرى بين الطبقة المستنيرة في يابان وكان المؤلف عدواً للنصرانية يجاهرها العداء ولذلك عاداه المرسلون من جميع الطوائف. وهو من تلامذة المصلح الياباني ناكاشومن وتأليفه الأخير في نفي مجيء المسيح ذهب فيه مذهب الأستاذ دروس ولم يعمد إلى القذف في كتابه بل جعله سفر علم وبحث واستنتج فيه أن المسيح (عليه الصلاة والسلام) لم يثبت ظهوره في التاريخ وحث مواطنيه أن لا يتخلوا عن دين بوذا وكنفوشيوس ليدينوا بمذهب أسس على الوهم والوثنية (كذا).
مميزات المجانين
عُني اثنان من الأطباء بالمقابلة بين المجانين من الرجال والنساء وبين العقلاء من الجنسين فثبت لهما بعد أن نظرا في ستمائة شخص أن طول المجانين قصير في الأغلب وكذلك النصف الأعلى منهم بخلاف أعضاء النصف الأسفل فإنها عادية ففي مئة رجل عاقل وجدوا أن الرجلين كبيرتان 51 مرة وصغيرتين 18 مرة بخلاف أرجل المجانين فإن في 55 رجلاً كبيرة 24 رجلاً صغيرة وبالعكس في المرأة ففي مثل امرأة عادية 52 ذات أرجل صغيرة و 23 ذات أرجل كبيرة وفي مئة معتوهة 54 كبيرات الأرجل و 18 صغيراتها ورؤوس الرجال العاقلين أقل طولاً في الأكثر منها في المجانين والمرأة العاقلة تمتاز على الجملة بطول الرأس بخلاف المعتوهة فإنها صغيرته مستطيلته ومعظم رؤوس الرجال العاقلين قليلة العرض بخلاف المجانين عريضوها أما النساء العاقلات فميتزن إجمالاً بعرض الرأس المتوسط أو بكبره والمعتوهات بصغر عرض الرأس. والمعتوهون والمعتوهات كبار الآذان.
التمثيل بباريز
بلغت مداخيل دور التمثيل في باريز سنة 1910 57 مليون فرنك أي بزيادة عشرة ملايين عن السنة التي قبلها وكانت الزيادة أولاً للأوبرا ثم للأوبرا كوميك ثم للكوميديا الفرنسوية ثم(66/53)
للأوديون ثم لغيرها من دور المثيل المدهشة المتقنة.
العاملون في الأمم
نشرة وزارة العملة الإنكليزية إحصاءً بالعملة في جميع البلاد المتمدنة فكان عدد العاملين في النمسا 51 ونصف في المائة وعددهم في فرنسا 51 وربع في كل مئة و 50 في إيطاليا و 46 في البلجيك و 44 في ألمانيا و 45 في إنكلترا و 35 في الولايات المتحدة.
الجلد الصناعي
اخترع منذ سنين أحد المخترعين جلداً صناعياً وثبت الآن غناؤه في مسابقة اللجنة الزراعية في مدينة ترني من إيطاليا ونال مخترعه الجائزة وهذا الجلد عبارة عن غمس قماش من القطن بمواد دهنية زلالية دابغة والأحذية التي تصنع به تقاوم كالجلد الطبيعي ولها مرونته وطول صبره والحذاء المعمول من هذا الجلد الصناعي يكلف مع أجرته أربعة فرنكات ويباع بستة عند التجار وهو نافع للفقراء والعملة خاصة
صرعى الحروب
ذكر بعضهم أن لحكومات تقل في العادة معلوماتها عن الحروب ونتائجها المدهشة وهكذا لا يعرف إلا القليل من كثير ممن فقدتهم فرنسا في الثورة الأولى وتأسيس حكومة نابليون فقد كانت جنود نابليون أوربا فاجتازت ألمانيا وبولونيا وهولاندة وأسبانيا وسويسرا والبرتغال وإيطاليا وكرواسيا ودلماسيا وترك في ساحة الوغى مئات الألوف من الأشلاء فهلك من الفرنسيس في حرب أسبانيا التي دامت خمس سنين 473 ألفاً وفي حرب روسيا 380 ألفاً ولا يعلم بالتحقيق عدد من هلك في معركة واترلو ومن المحقق أن الجيش العامل كان مليوناً وثلاثمائة ألف من الفرنسيس هلك معظمه. كل هذا ونابليون لا يهتم بمن يهلك حتى قال له مترنيخ السياسي النمساوي ذات يوم: ماذا تعملون متى هلك هؤلاء الشبان؟ فأجابه نابليون: لا أدفع فلساً لأجل حياة مليون من البشر. وقال نابليون لناربون أحد قواد فرنسا. إن حملة روسيا قد استلبت من رجالي ثلاثمائة ألف رجل هذا خلا من قتل من الألمان. قال من ننقل عنه أن فكرة الفتوح - بقطع النظر عن الحروب المدنية والدينية وحروب الاستقلال - كان زمناً طويلاً العامل الوحيد في الحملات العسكرية وقد نسي الناس في الغالب ما صحبها من الفظائع التي لا نفع فيها ولا محيص منها ولم تعلن للجمهور مخافة(66/54)
أن يسقط تأثير الحكومات فيهم. وقد قالوا أن التاريخ يعيد نفسه وأنا أرى أن التاريخ لم يعرف على حقيقته حتى يردد ونشره بين الناس جلياً مسلسلاً بالروايات الأكيدة أعظم نافخ في بوق السلام بين الأنام.
قلنا أما نحن فلا نعلم بأي وجه يغالي بعضهم في تكبير نابليون في العيون بأعماله وهو الذي قتل من قتل من البشر وكلف قومه لا أقل من ثلاثة ملايين من الرجال الأقوياء ومثلهم من سائر الأمم أو أكثر ولكن أنصار الملكية في فرنسا وفي مقدمتهم رجال الدين يموهون على العقول لينفروا الناس من حكم أنفسهم بأنفسهم وتكون لهم السيطرة على الإرادات والنفوس.
مجلة فريدة
بدا لجلٍ كاتب ومصور من أهل قرية في جوار سبرنجفيلد من أعمال ولاية ايلينوا في الولايات المتحدة أن ينشئ لأهل قريته مجلة خاصة بهم فريدة في أسلوبها ورسومها وشعرها ونثرها وكلها مما خطته براعته وريشته فأصدر منها عدداً واحداً وطبع منه سبعمائة نسخة بقدر عدد سكان القرية يريد بها أن يعلم أولئك الفلاحين ذوق الفنون والآداب ومن جملتها الشعر. يعلمهم به ويهذبهم وقد كانت الصور التي صورها في هذا العدد كأنها ناطقة تتكلم وتعلم مشفوعة بقصص تشرح مكانتها فمنها ما يمثل صورة شيطان الرذيلة خضع لسلطان المرأة المريبة ولطفها الساحر. ومن الصور التي صورها صورة قارب جذبه التيار في عرض البحر فمزق قلوعه وتلاعبت به الأمواج والرياح من كل جانب يشير به إلى قرية تتقاذفها الأهواء من فساد أخلاق وشرب مسكر وغير ذلك من الموبقات وهناك رسوم احتفالات ومواكب نشر الشعب أعلامها وقد كتبوا عليها مواعظ ونصائح في عمل الخير وحفظ الصحة وحسن التدبير وقد زاد المجلة رونقاً شعر صاحبها الذي ينبه الشعور ورأى أن نشر مثل هذه الصحيفة أفيد لبني قومه من موعظة يسمعونها في أبرشيتهم فيطير صداها في الفضاء.
الاستقلال المادي
نشر أحد رجال المجر كتاباً في حالة المجر الاقتصادية قال فيه أن السبب في ارتقاء هنغريا في مادياتها قلقها الدائم على استقلالها عملاً بقول ذاك الوطني المجري الكبير: إن كل ما(66/55)
تسلبنا إياه الشدة يتيسر للزمان المسالم والأحوال الموافقة أن تعيده إلينا ولكن الحقوق التي نتخلى عنها بصنعنا نفقدها إلى الأبد بدون أن نأمن رجعتها.
وعلى هذا شمر المجريون عن ساعد الجد وأعادوا قاحل أرضهم حدائق غلباً وحقولاً ممرعة وتلك المراعي التي يضل فيها الغنم أصبحت الآن تربى قطعاناً من البقر بحيث زاد عددها مليون رأس منذ عشر سنين وإن بلاد المجر كانت وما زالت بلاداً زراعية وستظل كذلك ومن الأرض تستخرج أهم مواد ثروتها على أنها بفضل جد الأفراد والحكومة بلغت في الصناعات شأواً بعيداً يحسدها عليه أرقى الأمم بحيث قدر صناعها بثلثمائة وعشرين ألفاً من أصل عشرين ميلوناً سكان المجر كلهم وقد جاوز محصولها السنوي ملياري فرنك فقدرت الزيادة في ثماني سنين بخمسين في المائة فلله ما يعمل الجد والعلم المادي ولا غرو بعد هذا إذا كان للماديات تأثير قوي في المعنويات.
الصين الجديدة
قلق الأوربيون لنهضة الصين الحديثة فمن قائل أن الخطر منها يوشك أن يتناول الأوربيين قريباً ومن قائل بان العهد ذلك بعيد الآن وقد انتدبت الجمعية الجغرافية في باريز عالماً ثقة ليدرس الحالة في بلاد الصين وعاد فكتب كتاباً في هذا الشأن قال فيه أن الخطر الأصفر ليس قريب الوقوع كما يدعي بعضهم وإن اليوم الذي يقوم الصينيون فيه ويقولون: آسيا للآسياويين بعيد ومتى حان يحيق الخطر بالقرب فالأقرب من الأوربيين (أي الفرنسيس في التونكين) كما وقع ليابان في استيلائها على كوريا ومحاولتها الأخذ بخناق منشوريا قال وإن السواد الأعظم من أبناء السماء ليحافظون على التقاليد القديمة كل المحافظة يقدسون أجدادهم ويكتوبن بخطوط صعبة يستحيل أن تنتشر بواسطتها مدنية وربما كان الإفرنج النازلون في بلاد الصين السبب الأعظم في كره الصينيين للغربيين على نحو ما جرى في ثورة البوكسر سنة 1900 فثارت البلاد على الأجانب بدون استثناء وهذه العداوة المتأصلة هناك تجعل في نشوء الصين وما هو يبطئ كما يظن فمنذ سنين قليلة كانت تمتنع الصين من إنشاء سكك حديدية ثم أعطت امتيازات لأناس من الأجانب وعادت فابتاعت منهم ما مدوه من الخطوط لئلا تكون لهم حجة في بلادها ونظامها العسكري حديث العهد وهو سائر سير نجاح وأوربا تحسن صنعاً إذا عاقت ارتقاء الصين في الجندية لا كما تعمل الآن فيقدم(66/56)
تجارها لها ما تريد من عدة برية وبحرية من أحسن الأنواع.
أكبر سد
يبنون الآن على نهر المسيسبي بأميركا في شلال الرهبان بين مونترز وكشكوك أعظم سد في العالم يحوي خزاناً تنشأ منه قوه 150 ألف حصان وطول هذا السد 1400 قدم وسعته 43 وعلوه 37 وهو من الحجر ويكون طول الخزان 56 كيلو متراً وسعته الوسطى كيلومترين.
الاكتشافات المقبلة
ذكرت مجلة أدلة الترقي أن أديسون المخترع الأميركاني المشهور مقتنع كل الاقتناع بان حجر الفلاسفة التي شغل كثيراً من المغرمين بالكيمياء القديمة لتحويل المعادن إلى ذهب سيكشف في المستقبل فيستطيع الإنسان أن يسك نقوداً ودنانير على ما يشاء من الحجارة والمعادن وبذلك يختل نظام الحالة المالية في العالم وأنه لا يمضي زمن حتى تخترع أدوات زراعية تتحرك بالكهربائية بقوة خارقة للعادة فتحرث الأرض وستلفها (تشوفها) وتبرها وتقلع حشيشها وتسقيها وتحصدها وتكدسها وتدرسها وأن الفلاح في المستقبل سيكون عالماً بالنبات وطبيعياً وكيمياوياً وتكون أدوات ابن الأرض في الأيام المقبلة عبارة عن سلسلة مفاتيح ومحركات كهربائية.
قال ولا ينتهي القرن إلا ويحل الفولاذ محل الخشب في صنع أثاث البيوت. فقد كان القرن التاسع عصر الورق فإذا انتهى القرن العشرون لا يبقى للورق من أثر ولا يعرف بماذا تصر الصرر إذ ذاك ولا على ماذا تطبع الصحف والمجلات أما الكتب فهو يرى أنها ستطبع على أوراق من معدن النيكل على ثخانة واحد من خمسة من الألف من الميليمتر.
الأسر السويدية
ملك الأسرة في السويد عبارة عن ارض زراعية أو بحديقة ينشأ في جوار القرى لا يتجاوز هذا الملك 15 ألف فرنك ويتأتى إحداث هذا الملك بمعاونة الحكومة أو بمعاونة شركات أسست لهذا الغرض فالحكومة تقرض مالاً لمن يريد أن يقتني ملكاً من هذا القبيل بفائدة 3 في المئة وكسراً وتقرض الشركات بفائدة 4 في المئة وقد كان لإحدى الشركات إلى آخر سنة 1909 - 155 فرعاً من فروع مصارفها وأعضاؤها 5490 عضواً أقرضت(66/57)
2297305 كوروناً تعاون الأفراد على الاغتناء وترفع الشقاء عن الفقراء وهذا من أفضل ما سمع به باب التضامن الاجتماعي.
سكر جديد
استخرج سكر جديد من جذع الخيزران الأبيض ويوجد فيه بكثرة وقد سمي فرباسكوس
حبوب السوجا
السوجا نبات يزرع بكثرة في آسيا الشرقية ولا سيما في منشوريا ويحمل إلى أوربا أخضر أو حبوباً أو حلويات وقد بلغ المحمول منه في السنة الأخيرة زهاء مائتي ألف طن ويستعمل اليابانيون هذا النبات في تغذية الحيوان والإنسان. وخبز السوجا يحتوي على مواد مقوية أكثر من خبز الحنطة وأقل مادة نشوية منه وفيه من المواد الدهنية عشرة أضعاف ما في خبز الدقيق وينفع خاصة المصابين بالبول السكري.
نواب الأمم
كندا أقل الأمم نواباً ففي مجلس نوابها 214 نائباً وللمجلس النيابي العثماني 274 نائباً ولليابان 369 نائباً للولايات المتحدة 391 ولألمانيا 369 ولأسبانيا 406 ولروسيا 442 ولإيطاليا 508 ولفرنسا 594 ولمجلس العموم في إنكلترا 670 ولكننا لا ندري أي المجالس النيابية أحسن عملاً.
الجراحة في بابل
اكتشفوا في حفريات حديثة في أرض بابل اكتشافاً له مكانة سامية في تاريخ الاجتماع وهو عبارة عن حجر كتبت عليه كتابة برد تاريخها إلى نيف وأربعة آلاف سنة وفيها ذكر لأجور الجراحين وقد جاء في هذان الأثران أن أجور الأعمال الجراحية كانت معتدلة بالنسبة لهذه الأيام. فكان الجراح يتناول أجرة الساق المكسورة نحو ثمانية فرنكات ونصف وأجرة قلع السن والضرس 3 فرنكات وثلاثة أرباع وأجرة العملية الجراحية بالمبضع 15 فرنكاً. وكانت العقوبات التي تحل بغير الماهرين من الجراحين فاحشة جداً فإذا أساء الجراح القيام بعملية جراحية تقطع يداه.
مكتبة لندرا(66/58)
من أفيد الطرق في إعارة الكتب لنشر المعارف ما جرت عليه مكتبة لندرا من إعارة الكتب إلى من يشاء إلى حي يشاء على أن يردها أو لا يردها إذا شاء وفي أي وقت شاء وقد جربت هذه الطريقة منذ قام بإنشاء المكتبة كارلايل الإنكليزي المشهور فأسفرت عن نجاح أكيد بعد سبعين سنة من إنشائها لأنه قلما يضيع لهذه المكتبة كتاب وإذا ضاع فإنها تستعيض عنه في الحال غير آسفة عليه لأن كتبها غير نادرة ولا تجليدها نفيس والذين يفضلون على هذه المكتبة بعض الملوك والأفراد والعلماء المشاهير وقد كان ما لديها من المجلدات سنة 1843 - 15 ألف مجلد فأصبح الآن مئات الألوف.
أفريقية الجديدة
كتب أحدهم في مجلة الطبيعة أن تغييراً كبيراً طرأ على أفريقية منذ خمس وعشرين سنة وذلك باتصال الخط الحديدي من رأس الرجاء الصالح إلى القاهرة حتى كانكا سنة 1910 ويرد تاريخ استعمار أفريقية إلى سنة 1870 أيام اكتشفت معادن الماس في كمبرلي وقد أنفق الذين اغتنوا منها معظم أموالهم في عمران الترنسفال وردوسيا وتسهيل السبل إلى بلوغ الكونغو البجيكية من جهة الجنوب والدور الثاني من استجار الاستعمار الأفريقي يرد إلى سنة 1887 عندما اكتشفت مناجم الذهب في ويتواتر ساند التي هي اليوم أعظم مناجم العالم ولا تنس معادن القصدير والفحم الحجري والحديد في بلاد الترنسفال وامتد الخط الحديدي من الرأس إلى القاهرة فبلغ ردوسيا وكثت بذلك صادرات الذهب منها ومتى وصل الخط إلى كاتانغا سهل استخراج النحاس والمأمول أن تجاري أفريقية بما يستخرج من نحاسها بلاد أميركا كما جارتها بالمستخرج من ذهبها ولكن من الأسف العظيم أنه كله يستخرج لغير أبنائها.
مدرسة الضعفاء
قام جماعة من الجنس اللطيف تحت رئاسة الآنسة روزلا سنة 1919 في مدينة بوسطون بأميركا وأسسن في إحدى حدائق المدينة حديقة للأطفال المصابين بضعف في القوى كفقر الدم وغيره. ولما رأت إدارة المعارف نجاح المدرسة والفوائد التي تنجم عنها أوعزت إلى اللجنة بأن تربط مدرستها بمدارس الشعب وعينت لها الدكتور هارينكستون مستشارا صحياً في لجنة إدارة المدرسة فهي كناية عن حديقة واسعة بجانبها عدة غرف يلتجئ إليها التلامذة(66/59)
إذا تعكر صفاء الجو وفي إحدى تلك الغرف يحضر طعام التلامذة وبرنامج المدرسة اليومي كما يأتي:
الساعةالدقيقة (1) اجتماع التلامذة في المدرسة 845إفرنجيةرحلة صغيرة خارج السورمن 910إفرنجيةإلى 1030إفرنجية (2) أشغال هادئة كالغناء ومحادثات قصص تتعلق بحفظ الصحة وغيرهامن 1030إفرنجيةإلى 1100إفرنجية (3) ألعاب جسمية كالكرة والعدو والقفزمن 1100إفرنجيةإلى 1200إفرنجية (4) تمثيل رواياتمن 1200إفرنجيةإلى 1230إفرنجية (5) تناول الغداءمن 1230إفرنجيةإلى 130إفرنجية (6) قيلولةمن 130إفرنجيةإلى 300إفرنجية (7) رقصمن 300إفرنجيةإلى 330إفرنجية (8) ألعاب عقلية مثل ألغازمن 330إفرنجيةإلى 400إفرنجية (9) طعام خفيفمن 400إفرنجيةإلى 415إفرنجية (10) الانصراف إلى بيوتهممن 415إفرنجيةوكل أسبوع يستحمون مر ويركبون مرة في سفن في البحر لاستنشاق الهواء والتلامذة صبيان وبنات تختلف سنهم بين السادسة والعاشرة وجلهم من عائلات فقيرات وأما الطعام الذي يتناولونه في المدرسة فمؤلف من الخبز والزبدة والسمك والبيض والبقول والفواكه واللبن وشيء من الحلويات في بعض الأحيان وفي هذه السنة فحص التلامذة ووجدوا أن أجسامهم قويت وعقولهم نمت وشعورهم سما فلا غرابة في ذلك لمن أمعن في البرنامج السالف الذكر لأن المدرسة لم تهمل أجسام التلامذة كما أنه لم تهمل عقولهم وشعورهم. ملخصاً عن جريدة السورفي الأميركية.
تصوير الكتب
اخترع أحد البلجيكيين آلة تصوير يأخذ بها ما يشاء من الكتب والأوراق التي يراد حفظها دون أن تشغل محلاً فسيحاً فهي تنقل الصحيفة إلى جزء من أربعين من حجمها الأصلي وسيكون لهذه الآلة شأن في نقل المخطوطات النادرة.
مستقبل الأولاد
قام في ليفربول في إنكلترا جماعة وأسسوا جمعية غايتها مساعدة الصبيان والبنات بعد خروجهم من المدرسة في الحصول على عمل يضمن لهم مستقبلهم وهي تبذل جهدها لمنع الأولاد من الاستخدام في الأعمال المحدودة التي لا تحتاج لإتعاب فكر كتوزيع البرقية(66/60)
والبريدية أو أن يكونوا مستخدمين في إحدى الحوانيت وهي تبحث في ميل الولد فتضعه في محل يوافق ميله.
رقي الصين الصناعي
مما يدل على رقي الصنائع الحديثة في الصين أن حكومتها ستصنع بعد الآن ما تحتاجه من المعدات الحربية كالأسلحة وغيرها في معامل في بلادها.
قوة الماء في سويسرا
من المحقق أن سويسرا تستعمل قوة الماء لتحريك آلات المعامل أكثر من كل البلاد بالنسبة لسعة أرضها فالقسم من البلاد الواقع في جبال الألب يستعمل الآن قوة 1. 200. 000 حصان وهو يزداد في استعمال هذه القوة سنة عن سنة ففي سنة 1908 كان ما أنشأه من الآلات إلى قوة 400. 000 حصان وأما في سنة 1910 فقد كان ما أنشأته من الآلات يحتاج إلى قوة 700. 000 حصان لإدارتها.
العمي والحرف
أُنشئ معرض في مدينة نيويورك تحت رعاية جمعية مساعدة العميان فيها لإظهار ما يمكن أن يقوم به من فقد حاسة النظر من الأعمال النافعة فافتتح المستر تافت رئيس الولايات المتحدة المعرض مع جماعة من أركان البلاد وأعجبوا بما قام به العمي من الأعمال كالضرب على الموسيقى والنجارة وحياكة المكانس والسلل وتنجيد الفرش والكي والكتابة المختزلة والكتابة عل الآلة الطابعة إلى غير ذلك من الصناعات اليدوية. وكان محل إعجاب المتفرجين تمثيل فصل من وراية لصوص مدينة البندقية لشكسبير الشاعر الإنكليزي قام بتمثيلها جماعة من معهد العميان في بنسلفانيا فتقدم عدد من البنات ورقصن برشاقة باهرة وتقدم بعض الصبيان بألعاب رياضية ابتهجت لها قلوب الحاضرين وهم أيضاً فاقدو البصر كإخوانهم. عن جريدة المراقب الأميركية.
محصول الذهب
بلغت قيمة ما استخرج من الذهب في العالم كله سنة 1910 - 450. 832. 000 ريال أميركي ويقدر محصوله في عشر السنين الأخيرة بثمانية أضعاف ما يستخرج سنة 1900.(66/61)
المطالبات بحقوقهن
كثير من النساء في لندرا يطلبن المساواة بالرجال في حق الانتخاب وقد أبين أن يعدن أنفسهن في دفتر النفوس إذ يعتبرن أن ليس للحكومة حق في عدهن من سكان البلاد لأنه لا يسمح لهن بحق الانتخاب وحاولن الهرب من وجه مأمور النفوس يوم الإحصاء.
كبر القدم والرياضة
وجد أحد معامل الأحذية في الولايات المتحدة أن معدل قياس أحذية النساء التي اشتغلها في السنة الأخيرة كان 5. 5 بينما كان معدل قياس ما صنعه منذ عشر سنين 4. 5 وبعد البحث وجد أن سبب الزيادة كان انتشار الألعاب الرياضية بين النساء في تلك البلاد وأن معدل طولهن ووزنهن قد زادا زيادة ظاهرة.
هرباً من الثلوج
ستنشئ إحدى شركات السكك الحديدية في الولايات المتحدة نفقاً تحت جبال السيرانبوادا ويكون طول ذلك النفق ستة أميال يكلف 1. 000. 000 ريال وذلك هرباً من الثلوج التي تطم الخط فيمتنع القطار عن المسير بضعة أيام وقت الشتاء فعسى أن تعمد شركة حديد بيروت - دمشق إلى احتذاء هذا المثال فتحفر النفق في حمانا بجبل لبنان فقد حالت الثلوج في هذا العام خمسة وأربعين يوماً دون سير القطارات.(66/62)
العدد 67 - بتاريخ: 1 - 9 - 1911(/)
البكتيريا
البكتريا والباشول أو الميكروبات كلمات حديثة الوضع للدلالة على الأحياء الصغيرة التي كشفها مؤخراً المجهر المسمى بالميكروسكوب.
وهذه الأحياء ليست حييوينات كما يتبادر إلى الذهن من تسميتها بالأحياء بل نباتات في منتهى الصغر فلا ترى بالعين المجردة لأن معظمها خالٍ من الكلوروفيل أي المادة الخضراء التي تتلون بها النباتات فضلاً عن تناهيها في الصغر حتى لا يمكن لأحد من الناس بصراً أن يرى أكبرها بدون أن يستعين بالآلة المعظمة أو المجهرة وهي الميكروسكوب أو المجهر الذي ظهر إلى عالم الوجود في القرن الماضي. وذلك فالعلماء الذين عاشوا قبل القرن التاسع عشر لم يعلموا شيئاً عن عالم الأحياء هذه التي أصبح درسها الآن علماً قائماً برأسه كثير الفوائد للإنسان والحيوان من قبل الوقاية الصحية والفوائد الزراعية على ما سيجيء في هذه المقالة التي ضمناها زبدة أبحاث العلماء ذوي الاختصاص حتى سنتنا الحاضرة.
صفة البكتيرا وماهيتها وانتشارها: هي أحياء نباتية ذات خلية أو حويصلة واحدة شفافة اللون غالباً، مستديرة أو أسطوانية أو مستطيلة الشكل تبعاً لأنواعها، تنمو بالانقسام الآتي فتمتاز عل غيرها بفقد القوة التناسلية العادية ويخلو جرثومها من النواة. ومعدل قطر حجم جرثومتها الحويصلية نحو جزء من ألف من الميليمتر. والمليمتر جز من ألف من المتر.
وهي قديم العد جداً كما تدل على ذلك آثارها في الأحافير المتحجرة في عصر تكوين الفحم الحجري وما قله. وتود في البرك والأنهر والبحار، وتكثر في المراحيض وكوم الزبل، وفي التراب، وحيث تلقى المواد العضوية فتتعفن، وفي جميع السوائل كالدم واللبن والبيرا والماء على أنواعه، وفي المواد الغذائية الجامدة كاللحم والخضر وغيرهما. وكل مادة من هذا القبيل إذا ظلت مدة معرضة للهواء تنتابها البكتيريا وتتوالد فيها بسرعة وكثرة هائلة. ولذلك فهي منتشرة في كل مكان تحت سطح الأرض وعليه وفي الهواء وداخل الأجسام الحية. فهي عالم يعاشرنا ويعد بملايين الملايين ولم نكن نعلم عنه شيئاً يذكر حتى أواسط القرن الماضي.
ويقل انتشار هذه الأحياء في الأعالي والبلدان المفتوحة الجوانب خصوصاً ي الشمال حيث تقل جداً بالقرب من القطبة الشمالية وتعدم بتاتاً. وينقى منها هواء الأبحر والأقيانوسات(67/1)
لأنه في تقلبه كثيراً ما يلامس الماء فيلقيها فيه ولذلك فهواء البحار أقل نقلاً للمرض والعدوى به. وكلما ارتفعنا به في الجبال قل وجوها حتى تكاد تفقد على علو600 متر فما فوق ذلك. ولهذا السبب تنسب مناعة أهل الجبال على بعض الأمراض كالهواء الأصفر وغيره مما لا تنقل ميكروباته إلا محمولة على ذرات الغبار التي تقل جداً في هواء الأماكن المرتفعة.
وتعيش الميكروبات على الحيوانات في درجات مختلفة من الحرارة. والنبات أقل ملاءمة لنموها لما فيه من السوائل الحامضة. إلا أنها تكثر أيضاً في الجذور والأغصان ذات الغدد تحت الأرض وفوقها. وهي تكثر في القناة الهضمية إلا حيث تجتمع المفرزات الحامضة لأن الحامض عدوها ولذلك يحسن معاطاته في أوقات انتشار الأوبئة. وقد علق بعض العلماء مكان كبرى على استعمال اللبن الرائب لما فيه من الحامض حتى نسب طول الحياة إلى طول استعماله غذاء.
تولد الميكروبات ونموها فعلاً: تتولد الميكروبات بالانقسام الذاتي فتتخذ أشكال أنواعها المتعددة بين مستدير وضمني وخيطي الخ. والمعتاد أن يكون انقسامها عرضاً لا طولاً فتنشق كالبراءة إذا نصفناها بالشق طولاً.
وقد امتحن بعضهم سرعة تولد هذه المخلوقات الصغيرة فزرع حويصله خويطية منها في مرق الساعة 11 صباحاً وكانت أشبه شيء بنقطة ترسم برأس إبرة فتضاعفت بعد ساعة بالانتفاخ وأفرخت عن الساعة 3. 5 بعد الظهر وصارت عشرة أضعاف حجمها الأصلي عند الساعة 8. 5 اتخذت شكلاً مستطيلاً معقداً وعند نصف الليل كان قد بلغت 12 عقدة كل منها حويصلة مستقلة. وبعد ذلك بدأت تنقسم عند ثلثها الأعلى انقساماً جانبياً بشكل قضبان دقيقة.
وهذا الانقسام كثيراً ما يحدث في بعض الأنواع بعد نصف ساعة من زرعها وما يشتق منها يعود فينقسم أيضاً بمثل هذا الوقت فيبلغ عدد ما يتولد منها في 24 ساعة ملايين الملايين كما لا يخفى على الحساب. وبعد هذا الإيضاح نعلم شدة الخطر جلياً من كثرة تولد الميكروبات الضارة داخل الجسم بمثل هذه السرعة. ولا يكون على الجسم خطر منها إلا إذا كانت من الأنواع التي تترك في الدم مفرزات أو بقايا سامة أي لا تلائم بطبيعتها الدم(67/2)
لاختلاف مادة عن مادتها اختلافاً عظيماً.
أما فعل البكتيريا في الجماد والأحياء فعلى غاية الشأن. لأنها هي التي تخمر العجين والخل والخمر وسائر المشروبات وتعدل المواد السائلة من دم وماء فتضر أو تنفع تبعاً لكيفية هذا التعديل وهي التي تفتت الصخور وتسحل وجه الأرض وتساعد على نمو النبات وحياة الحيوان بل قد عدها بعضهم أصل جميع الكائنات العضوية. إليك أخص فعلها في الحيوان والنبات والجماد.
فعلها في الحيوان: أهم أفعال الميكروبات بالنظر إلى حياة الحيوان ما تحدثه من المنفعة والضرر. فهي تفيد الحيوان من أوجه عديدة لا يتسع المقام لإيرادها هنا بالتفصيل ويكفي لتقدير نفعها مكانة وجودها في الماء الذي نشربه لأنه إذا خلا منها بالتقطير صار ضاراً وإذا خلت مياه أي نبع منه خلواً تاماً منها انقلبت سماً نافعاً كما يعلم ذلك من اختبار الينابيع الشديدة الصفاء في بعض أنحاء العالم فانه تضر شاربيها ضرراً بليغاً إذا انتفى منها وجود الميكروبات.
وقد ثبت بعد امتحانات باستور أن لا حي يتولد من غير الحي ولذلك فلا يفسد اللحم ولا تختمر السائلات على أنواعها إلا بفعل هذه الميكروبات ومفرزاتها. فهي التي تهيئ لنا ما نتمتع به من المشروبات المختمرة كالخمر والبيرا واللبن الرائب والجبن والزبدة وغيرها مما لا يحيط به العد. فلو فرضنا فقد هذه الميكروبات فجاة لانقلبت أحوال المعيشة انقلاباً يهولنا تصوره. لأنها هي التي يتم بواسطتها الاختمار والتعفن ودبغ الجلود وتحضير النيل والتبغ وسائر ما له اتصال برغد العيش خصوصاً انتماء الزرع كما سيجيء. فمعظمها نافع لذات الحياة.
غير أن بعضها يفرز في الدم مادة سامة فيمرض أو يهيئ للمرض. وقد ثبت الآن أن جميع الأمراض وفي جملتها القروح والبثور وغيرها مسبب عنها. ولا نستثني من ذلك العلل الناجمة عن فعل حييوينات ضارة.
وبعد كشف كيفية هذه الميكروبات صار من السهل شفاء الجراح بحفظها سليمة من الفساد وما الفساد إلا فعل هذه المخلوقات الصغيرة في الدم. فكل ما يميتها من الأدوية والعقاقير يسمى مطهراً لأنه يمنع إفساد الدم.(67/3)
وميكروبات الأمراض تختلف كثيراً في شكلها ومدة حياتها. فمنها ما هو ضمي الشكل كميكروب الكوليرا ومنها ما هو بيضوي أو مستدير أو غير ذلك. وبعضها لا يعيش بضعة أيام كميكروب الكوليرا الذي علم أنه يموت بعد أسبوع من ولادته أو أقل من ذلك. وغيره كميكروب الخناق أو الدفتيريا قد يعيش سنة كاملة. وميكروب السل يعمر أيضاً وتساعده المواد الحامضة على الفتك بالناس ليس لأن الحامض يلائم طبعه بل لأنه يهدم جدران الخلايا الرئوية المسلولة كما أعادتها التغذية المقوية إلى حالة كلسية. ولذلك فلا يجوز للمسلول تناول الأطعمة الحامضة مطلقاً. وإذا اقتصر على الأغذية القلوية ساعد الطبيعة على شفائها.
فعلها في النبات: في التربة أنواع من البكتيريا لا تعيش إلا على المواد النباتية كما أنه يوجد غيرها مما يعيش على المواد المعدنية. فميكروبات النبات تتناول من الهواء المادة الكربونية فتمثلها أي تهضمها وتقتات بها فتفصل بذلك النيتروجين وتبثه في جذور النبات. ومنها أنواع تحل الماء والهواء إلى عناصرهما فتسهل على النيات الاغتذاء بما يلائمه من هذه العناصر.
ومما يستحق الذكر من أن أفعالها أن بعضها يعمل عكس عمل الآخر فيتكون من هذه الأعمال دورة في تكييف المواد الغذائية تشبه الدورة المائية التي تم تبخير الشمس لمياه الأبحر وغيرها فتصعد المياه إلى الجو حيث تنعقد مطراً يعود إلى الأرض فيتبخر ثانية ويصعد ثم يعود وهكذا. وعلى هذا المنوال تحول أنواع البكتيريا المواد النشادرية في التربة إلى نيترات نباتية يتناولها الحيوان بعد تحولها إلى بروتيد ثم تعيدها البكتيريا إلى نشادر ثم إلى نيترات وهكذا كأن بيدها قياد العناصر الغذائية تصرفها طبقاً لنواميس حفظ الوجود.
وفي التربة نوع من البكتيريا الخيطية الشكل تدخل أهداب جذور النباتات القرنية كالفول السوداني وتخترق نسيجها فتشله فتكوِّن عقاً أو غدداً تغذيها بالنتروجين. وهذا هو سر تولد البطاطا وسائر الأثمار التي تحت الأرض والغدد العفصية في السنديان. وهي التي تنخر قصب السكر وغيره.
وقد عني الألمان بتربية الأنواع البكتيرية التي تخصب بعض النباتات وسموها بكتيريا النتروجين لكثرة ما تقدمه من هذا العنصر لتغذية النبات. وربى غيرهم غيرها مما يحسن(67/4)
به نمو الورد والقمح والقطاني وغير ذلك فتفعل فعل السماد الزبل الطبيعي.
وطريقة استعمالها أنهم يربون أنواع البكتيريا في مادة تلائم نموها ثم ينقعون بهذه المادة البذار أو يذرون منه في التربة المواد زرعها فيقبل الزرع إقبالاً غريباً. وفي هذه أكثر عواصم أوربا وأميركا الآن مستودعات لبيع هذا اللقاح البكتيري فما على المزارعين عندنا إلا أن يحذوا حذو مزارعي البلدان الراقية فيستفيدون ويفيدون البلاد.
فعها في الجماد: أي المواد غير الآلية. من البكتريا أنواع إنما تعيش على الجماد كالصخور والمعادن على اختلاف أجناسها فيكون لها المكانة المهمة في بنائها وهدمها مما يشبه الدورة المائية المذكورة آنفاً. فبكتيريا الكبريت مثلاً تفعل هذا الفعل بتوليدها الكلتسيوم الذي تحوله إلى تجبسيوم ثم إلى كبريت ثم تحله وتعيده إلى سيرته الأولى. ويقال مثل ذلك عن بكثير الصخور والحديد وسائر المعادن. وتعد التربة لتكون صالحة لأن يغتذي منها النبات ولأن يغتذي من هذا الحيوان ثم تعود مفرزات هذا وبقاياه إلى التربة. فهي أول ممثل لأقدم أشكال الحياة المجهزة بقوة تحول عادمات الحياة إلى أشكال حيوية. ولذلك فلها المقام الأول في إنشاء الحياة على سطح كرتنا الأرضية حتى عدها بعضهم أول جرثومة حية في الوجود كان لها شأن على وجه البسيطة.
وفوق ذلك كله قد اتضح أنها هي التي تحدث الحرارة بشدة حركاتها عند تنضيد التبغ بعضه فوق بعض وعند تكويم القطن والتبغ الخ حتى لقد تحدث اشتعال بعض هذه المواد إذا ساعدتها حرارة الطبيعة.
وهي التي يضيء بها سطح البحر لأنها تؤكسد الهيدروجين المفصفر في الماء كما تؤكد الكحل في الخمر فينقلب خلاً.
خلاصة: نحن عائشون في وسط عوالم خفية عن النظر تدعى البكتيريا أو الميكروبات. ومعظمها نافع للإنسان بما يحدثه من التغيرات المفيدة في الجوامد والسوائل. ويمكن اتقاء الضار منها بتلقيح الجسم بسم مخفف منها كمصل الدفتيريا ولقاح الجدري وغيرهما. وإن هذه الأحياء تعيش في درجات متفاوتة من الحر والبرد. فبعضها يعيش في قلب الثلج وبعضها يبقى حياً في حرارة تبلغ أكثر من مئة درجة بمقياس سنتيغرادولذلك يجب اتقاؤها بالحيطة الصحية التي قاعدتها الذهبية أحفظ يديك وصن شفتيك.(67/5)
ولنا من أجسامنا من كريات الدم البيضاء خير واقٍ من كثير من الميكروبات الضارة لأن هذه الكريات تبتلعها فتمنع انتشارها وتوليد السم بمفرزاتها.
وقد علم أن التعب والجوع الشديد والتعرض للبرد جميع هذه تقلل من مناعة الجسم فتزيده تعرضاً لفعل البكتيريا السامة. وإن الحوامض تخفف فتكها بكريات الدم الحمراء.
بعض الناس يمتنعون على بعض الأمراض لعدم وجود إلفة كيمية بين خلايا أجسامهم وبين سم البكتيريا وهذا هو السر في نجاة الكثيرين من فعل الأوبئة في حين وقوع غيرهم فريسة لها.
ويقال إجمالاً أن درس طبائع البكتيريا وإخضاعها لقوة الإنسان في كثير من الحالات من حسنات النصف الأخير من القرن الماضي الذي فتح باباً واسعاً للتوغل في البحث البكتيري الذي لا بد أن ينتهي إلى كشف حقائق نافعة تدهش العقول بما تحدثه من الانقلاب في سير العمران وترقية حياة الإنسان.
بيروت // خليل سعد(67/6)
أبيات العادات
يقف الناظر في دواوين الأدب ومجاميع الشعر والأخبار على أبيات غامضة المعنى يشكل عليه فهمها يسميها علماء الأدب بأبيات المعاني. وقد عنوا قديماً بجمعها وتدوينها وشرح معانيها وتفسير مستغلقها إلا أن يد الضياع تلاعبت بتلك المؤلفات فلم يصل إلينا منها إلا القليل ولم نقف على هذا النوع من الشعر إلا مبعثراً مفرقاً في تضاعيف الأسفار المختلفة. أذكر أنني كنت أراجع مرة في شرح القاموس مع الأمير محمود سامي باشا البارودي فمر بنا قول القائل:
فوردت مثل اليماني الهزهازْ ... تدفع عن أعناقها بالإعجاز
فلم يتكشف لنا معناه مع إطالة الرواية وإجهاد الفكر إلا بعد أن سألنا عنه أستاذنا الإمام الشنقيطي رحمه الله فقال هذا من أبيات المعاني يذكر إبلاً وردت غديراً كالسيف الصقيل في الصفاء وقوله تدفع عن أعناقها الخ يعني أنها كثيرة الألبان ممتلئة الضروع وضروعها في إعجازها فإذا نزل الضيوف بصاحبها قراهم من لبنها فأغنى ذلك عن نحرها فتكون دفعت عن أعناقها بإعجازها قال وتمام الرجز (أعيت على مُقصدنا والرجاز) انتهى.
وقد عثرت على ضرب آخر من الشعر إن لم يكن من هذا النمط فهو منه قريب رأيت أن أجمع ما تيسر لي منه وأسميه (بأبيات العادات) وهي أبيات ظاهرة اللفظ والمعنى إلا أنها غامضة من جهة القصد والمرمى فلا يفهم مراد قائليها إلا بمعرفة عادة من عادات العرب أو مزعم من مزاعمهم بني عليه البيت كقول الخنساء في رثاء أخيها معاوية:
فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيتَ ولا عقوق
ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق
فليس في ألفاظ البيتين لفظ غريب غير مفهوم كما أن معناهما ظاهر في غاية الوضوح وإنما الإشكال في مرادها بالنعلين والرأس الحليق فإذا عرفنا أن العادة كانت عند نساء العرب إذا أصبن في حميم أن يحلقن رؤوسهن وتأخذ الواحدة منهن نعلين في يديها تصفق بهما وجهها زال عنها الإشكال واستبان لنا القصد. وفي معنى بيتي الخنساء قول عبد مناف بن ربع الهذلي:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلها ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حَلية لا رطباً ولا نقدا(67/7)
إذا تأوب نوْح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا
وهو نوع مستملح من الشعر لم أرهم اعتنوا بجمعه اعتنائهم بأبيات المعاني. فمنه قول زهير ابن أبي سلمى:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطبع العوالي ركبت كل لهذم
الزجاج بالكسر جمع زج بالضم وهي حديدة تكون في سافلة الرمح واللهذم السنان ويكون في عاليته وظاهر المعنى أن من أبى الصلح ذللته الحرب أو من لا يقبل الأمر الصغير اضطر إلى قبول الكبير والبيت مع صلاحه لهذا المعنى فإنه يتضمن شيئاً آخر من عاداتهم وذلك أن الفئتين من العرب كانتا إذا التقتا في القتال سددت كل واحدة منهما زجاج الرماح نحو صاحبتها ثم يسعى الساعون في الصلح فإن أبتا إلا التمادي في القتال قلبت كل واحدة منهما الرماح واقتتلتا بالأسنة.
(ومن أبيات العادات) قول النابغة الذبياني:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السمّ نافع
يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
السليم الملدوغ وكانت عاداتهم كما في لسان العرب وشرح الديوان أن يضعوا في أيدي الملدوغ شيئاً من الحلي لئلا ينام فيدب السم في جيده فيقتله. ومثله قول الآخر:
فبت معنَّى بالهموم كأنني ... سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل
قلت وغريب تقارب بعض العادات عند الأمم فقد حكة لي شيخ مسن من الجراكسة أن من عاداتهم في بلادهم أنهم لا يدعون الجريح ينام لئلا يموت عل زعمهم فيجعلون حوله من يقرع على طست أو قدر من النحاس ليوقظه كلما أغفى ولا يزالون يتناوبون ذلك حتى يتم شفاؤه.
(ومن أبيات العادات) قول الربيع بن زياد في مالك بن زهير العبسي:
من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
فإن مراده أن من كان شامتاً مسروراً بمقتل مالك فليأت نسوتنا وهن على هذه الحال ليعلم أننا أخذنا بثأره فلا يشمت به وذلك لأن العرب كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر وقد(67/8)
حكى التبريزي أقوالاً أخرى في البيتين تخرجهما عما نحن فيه.
(ومنها) قول الكميت:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفي من الكلب
جاء في معاهد التنصيص قال ابن الأعرابي: كانت العرب تقول أن من أصابه الكلب أو الجنون لا يبرأ منه إلا أن يسقى من دم ملك فهو يقول أن ممدوحيه أرباب العقول الراجحة ملوك وأشراف ومثله قول القاسم بن حنبل من شعراء الحماسة:
بنات مكارم وأًساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشفاءُ
وقد حكة التبريزي في شرحه نحواً مما حكاه ابن الأعرابي ثم قال وقيل في دوائه أن تشرط الإصبع الوسطى من يسرى رجل شريف ويؤخذ من دمه قطرة على تمرة فيطعم المعضوض فيبرأ وقيل أنه يسعط به انتهى. ومثله قول عبد الله بن الزبير (بفتح الزاي وكسر الباء) الأسدي في عبد الله بن زياد:
من خير بيت علمناه وأكرمه ... كانت دماؤهم تشفي من الكلب
وقول عبد الله بن قيس الرقيات:
عاودتي النكس فاشتفيت كما ... تشفي دماءُ الملوك من كلب
وقول ابن عباس الكندي لبني أسد في قتلهم حجر بن عمرو:
عبيد العصا جئتم بقتل رئيسكم ... تريقون تاموراً شفاءً من الكلب
التامور هنا الدم. وكلهم اقتصروا على ذكر الكلب وقد جمع الفرزدق بينه وبين الجنون فقال:
ولو تشرب الكلبى المراضى دماءنا ... شفتها وذو الخبل الذي هو أدلف
وذكر الجنون عاصم بن فرية الجاهلي فقال:
وداويته مما به من مجنة ... دام ابن كهال والنطاسي واقف
وقلدته دهراً تميمة جده ... وليس لشيء كاده الله صادف
صادف بمعنى صارف. قال الجاحظ وكان أصحابنا يزعمون أن قولهم دماءُ الملوك شفاء من الكلب على معنى أن الدم الكريم هو الثأر المنيم وأن داء الكلاب على معنى قول الشاعر:(67/9)
كلب من جس ما قد مسه ... وأفانين فؤاد مختبل
وعلى معنى قولهم (كلب بضرب جماجم ورقاب) فإذ كلبَ من الغيظ والغضب فأدرك ثأره فذلك هو الشفاء من الكلب وليس أن هناك دماً في الحقيقة يشرب ولولا قول عاصم ابن الفرية (والنطاسي واقف) لكان ذلك التأويل جائزاً انتهى كلامه. قلت وقد تظرف البحتري فقال يهنئ من انتصد وأخرجه مخرج هذا الزعم عند العرب:
ليهنك البرءُ مما كنت تأمله ... وليهنك الأجر عقبى صائب الوصب
لئن فصدت ابتغاء البر من سقم ... فقد أرقت دماً يشفي من الكلب
(ومن أبيات العادات) قول القائل:
ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام وأنا لا نخط على النمل
النمل هنا جمع نملة وهي قرحة تخرج في الجسد ولو لم يكن البيت مبنياً على عادة لهم لما كان معنىً لافتخاره ممن لا يخطون على تلك القروح ولكن مراد الشاعر أننا لنا بمجوس نتزوج الأخوات لزعم العرب أن ابن امجوسي إذا كان من أخته وخط بيده على النملة أبرأها كذا في كتابات الجرجاني صاحب اللسان والعلامة ابن القيم في كتابه الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان أن ذلك من زعم المجوس أنفسهم. قلت لا مانع أن يكون انتقل منهم إلى العرب فاعتقدوه وأضافوه إلى مزاعمهم في الجاهلية كما انتقلت ليعضهم أشياء من التمجس عن الفرس.
(ومنها) قول سبرة بن عمرو الفقعسي:
أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ... وقد سال من ذلّ عليك قُراقر
ونسوتكم في الروع باد وجوهها ... يُخان إماء والإماء حرائر
وذلك لأن الحرائر كن في مثل ذلك الوقت يتشبهن بالإماء في كشف وجوههن ليزهد فيهن فيأمن السبي كما في شرح الحماسة للتبريزي وقال أيضاً في تفسير قول عمرو بن معد يكرب:
لما رأيت نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدَّا
وبدت لميس كأنها=بدر السماء إذا تبدى
إن المعنى كاشفة عن وجهها كأنها قد أرسلت نقابها ودلّ على هذا بقوله كأنها بدر السماء(67/10)
إذا تبدى فعلت ذلك إما للتشبه بالإماء حتى تأمن السباء أو لما تداخلها من الرعب انتهى. قلت وليس من هذا ما أنشده الاشنانداني في كتاب معاني الشعر لذي الخرق الطهوي أو لغيره:
ولما رأين بني عاصم ... ذكرن الذي كن أُنسينه
فوارين ما كنَّ حسرنه ... وأخفين ما كنَّ أبدينه
لأن معناه كما فسره أنهن نساءٌ قد سبين فنسين الحاء وأبدين وجوههن فلما رأين بني عاصم أيقن أنهن قد استنفذن فراجعن حياءهن فسترن ما كن أبدينه انتهى.
(ومنها) قول عنترة:
تركتُ جريَّة المعمري فيه ... شديد العير معتدل شديد
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يُفقد فحقَّ له الفقود
يقول تركه وفيه سهم شديد العير والعير الناتئُ وسط النصل والبيت الثاني بني على عادة كانت لهم وهي أن الرجل منهم كان إذا رمى بسهم وأراد سلامة الرمية منه رقى سهمه وإذا أراد الإهلاك لم يفعل ذلك.
(ومنها) قول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب:
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
ولا تأخذوا منهم أفالاً وأبكراً ... وأترك في بيت بصعدة مظلم
البيت الأول مخروم وصعدة مخلاف من مخاليف اليمن والمعنى أن هذا المرثي أرسل يقول لقومه بلسان الحال لا تأخذوا بدل دمي عقلاً أي دية وتتركوني في قبرٍ مظلمٍ تريد بذلك تحريضهم على أخذ الثأر ولا يفهم من ظاهر قولها بيت مظلم إلا حكاية الحال لأن القبر لا يكون إلا مظلماً ولكن الأمر ليس كذلك بل هو مبني على ما كانوا يزعمون أن قبر المقتول لا يزال مظلماً حتى يثأروا به فإن فعلوا أَضاء.
(ومنها) قول جرير يرثي قيس بن ضرار:
أظن انهمال الدمع ليس بمنتهٍ ... عن العين حتى يضمحل سوادها
وحقَّ لقيس أن يباح له الحمى ... وأن تُعقر الوجناءُ إن خف زادها
وهو مبني على عادة لهم وهي أن الرجل كان إذا مرَّ بقبر رئيس وهو في صحبة أحب أن(67/11)
ينوب عن المقبور في الضيافة وإذا لم يساعده من الطعام ما يدعو الناس إليه عقر ناقته إكراماً له. ولما قتل ربيعة بن مكدم كان لا يمر بقبره أحد من العرب إلا عقر عليه دابة أو بعيراً حتى مر به شيخ كبير فقال لا أعقر ناقتي ولكن أرثيه مكان ذلك ورثاه بقوله:
لا بعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب
نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب
لولا السفار وبعد خرق مهمة ... لتركتها تحبو على العرقوب
فكان أول من ترك العقر عليه.
(ومنها) قول الحطيئة:
قد ناضلوك وسلوا عن كنانتهم ... مجداً تليداً ونبلاً غير إنكاس
قال التبريزي في شرح الحماسة أراد بالمجد التليد أن الشجاع منهم كان إذا أسر فارساً مذكوراً فمنَّ عليه جزّ ناصيته وجعلها في كنانته. وفسره ابن أبي الإصبع في كتابه بديع القرآن تفسيراً آخر فقال معنى هذا البيت لا يعرفه إلا من عرف عادة العرب إذا منّوا على أسير أعطوه نبلاً من نبلهم عليها إشارة تدل على أنها لأولئك القوم لا تزال في كنانته فقال الحطيئة لهذا الممدوح الذي عناه بهذا المدح أن عداك لما فاخروك سلوا عن كنانتهم نبلك التي أعطيتها لهم حين مننت عليهم تشهد لك بأنهم عتقاؤك فكان هذا مجداً تليداً لك لا يقدرون على جحده تثبته لك هذه النبل التي ليست بإنكاس يعني الصائبات التي لا تنكس إذا ناضلت بها عن العرض وهذا غاية المدح للمدوح ونهاية الهجاء لعداه إذا خبرناهم مع معرفتهم بفضله عليهم يفاخرونه بما إذا أظهروه أثبت لهم الفضل عليهم وهذا غاية الجهل منهم والغباوة انتهى كلامه.
(ومنها) قول سحيم عبد بني الحسحاس:
فكم قد شققنا من رداء منير ... ومن برقع عن طفلة غير عانس
إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى كلنا غير لابس
جاء في شرح شواهد الجمل أن العرب كانت تقول أيّما امرأة أحبت رجلاً فلم يشق برقعها وتشتق هي رداءه فسد ما بينهما انتهى. ويروى (إذا شق برد شق بالبرد مثله) وحكوا أن(67/12)
العرب كانت تزعم أن المتحابين إذا شق كل واحد منهما ثوب صاحبه دامت مودتهما ولم تفسد.
(ومنها) قول عمر بن أبي ربيعة:
أهيم بها في كل مُمسى ومصبح ... وأكثر دعواها إذا خدرت رجلي
لأنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا خدرت رجله وذكر من يحب أو دعاه ذهب خدرها. ومثله لجميل:
وأنت لعيني قرة حين نلتقي ... وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي
(ومنها) قول الأعشى:
ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق
روى الثعالبي في فقه اللغة بتبن بدل قت. واليحموم فرس كان للنعمان بن المنذر والسنق في الدواب بمنزلة التخمة في الإنسان وليس في ظاهر معنى البيت ما يستحسن بل قال فيه بعض من لا يعرف عاداتهم أن القيام على الفرس والاعتناء بعلفه حتى يكاد يتخم ليس مما تمدح به السوقة فضلاً عن الملوك ومراد الشاعر وراء كل هذا لأنه بناه على عادة كانت لملوك العرب وذلك أنه بلغ من حزمهم ونظرهم في العواقب أن أحدهم لا يبيت إلا وفر سه موقوف بسرجه ولجامه بين يديه قريباً منه مخافة عدو بفجوه أو حالة تصعب عليه فكان للنعمان فرس يقال له اليحموم يتعاهده كل عشية وهذا ما تتمادح به العرب من القيام بالمحيل وارتباطها بأفنية البيوت كما في العقد الفريد. وقد ذكر الأعشى اليحموم أيضاً في قوله:
أو فارس اليحموم يتبعهم ... كالطلق يتبع ليلة البهر
يعني بفارسه النعمان وقال لبيد:
والحارثان كلاهما ومحرق ... والتبعان وفارس اليحموم
(ومنها) قول الشاعر:
كفاك الله يا عصم بن لأي ... خيال بني أبيك وهم عيام
إذا مروا بجيزك لم يعوجوا ... ولو غطى سبيلهم الظلام
عيام أي شهاوى إلى اللبن وبجيزك يعني بنواحيك جمع جيزة بالكسر. وكان من عادتهم أن(67/13)
الرجل كان يحمل حبلاً ويسترفد عشيرته إذا أعطى الشاة والحاشية من الإبل ربطها بالحبل كذا في معاني الشعر للأشنانداني أقرب لأبيات المعاني منه لأبيات العادات.
(ومنها) قول الآخر يصف حماراً:
يلوي مجامع لحيه فكأنه ... لما تمخط في السحيل نقيب
نقيب أي منقوب الحنجرة وكان من عادة العرب إذا اشتد الزمان نقبوا حنجرة الكلب أو غلصمته ليضعف صوته فلا يسمع الضيف صياحه فشبه نهيق هذا الحمار بصياح الكلب النقيب. وفي اللسان إن ذلك كان يفعله البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف باستماع نباح الكلاب. وأنشد الأشنانداني في معاني الشعر:
تجاوبن إذ برّكن والليل غاسق ... تعاوي منقوبات حيي محارب
وقال في تفسيره المنقوبات الكلاب كانوا إذا اشتد الزمان نقبوا لسان الكلب لئلا يسمع نباجه يقول فهذا الإبل كأنها منقوبات يصف إبلاً معيبة فهي ترغو رغاءً ضعيفاً.
(ومنها) قول الآخر:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدع
فظاهر معناه أنه لشدة شوقه لمن في الحي أكثر التلفت نحوه حتى وجعته عنقه. ولكن الراغب الأصفهاني في محاضراته حمله على عادة كانت لهم وهي زعمهم أن المسافر إذا خرج فالتفت لم يتم سفره قال فالتفاته لأنه كان عاشقاً فأحب أن لاي تم سفره ليرجع إلى من يحب.
(ومنها) قول بشر بن أبي خازم (بالخاء المعجمة والزاي):
تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر
المقاليت جمع مقلاة بالكسر وهي التي لم يبق لها ولد. والبيت مبني على ما كانت تزعم أن المقلات إذا وطئت رجلاً كريماً قتل غدراً عاش ولدها كذا في اللسان.
(ومنها) قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
وكان المنهال قتل ملكاً والرداء هنا السيف وكانت العادة عند الرعب إذا قتل الرجل منهم رجلاً مشهوراً وشع سيفه عليه ليعرف قاتله كما في اللسان.(67/14)
(ومنها) قول القائل:
فقأت لها عين الفحيل تعيفا ... وفيهن رعلاءُ المسامع والحامي
أنشده الجاحظ في البيان والتبيين والفحيل بفتح فكسر الفحل الكريم وأنشد أيضاً:
وهب لنا وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران
وأنشد أيضاً:
فكان شكر القوم عند المنن ... كيَّ الصحيحات وفقءٌ الأعين
وكلها مبنية على عادة كانت لهم ذكرها الجاحظ وهي أنهم كانوا إذا بلغت إبلهم ألفاً فقؤا عين الفحل فإن زادت فقؤا عينه الأخرى قال فذلك المفقأ والمعمي. وفي مادة (عمى) من اللسان قال الأزهري وقرأت بخط أبي الهيثم في قول الفرزدق:
غلبتك بالمفقئ والمعمى ... وبيت المحتبى والخافقات
قال فخر الفرزدق ف هذا البيت على جرير لأن العرب كانت إذا كان لأحدهم ألف بعير فقأ عين بعير منها فإذا تمنت ألفان عماه وأعماه فافتخر عليه بكثرة ماله قال والخافقات الرايات انتهى ما في اللسان. قلت إذا كان معنى البيت على ما فهمه أبو الهيثم كان الصواب أن يكون المفقأ بصيغة اسم المفعول لا بصيغة اسم الفاعل. وقد روى البيت في مادة فقأ (بالمفقئ والمعنى) بالنون ونقل المصنف عن الليث أن العرب كانت في الجاهلية إذا بلغ إبل الرجل ألفاً فقأ عين بعير منها وسرحه حتى لا ينتفع به ثم حكى عن الأزهري أن معنى المفقئ في هذا البيت ليس على ما ذهب إليه الليث وإنما أراد الفرزدق قوله لجرير:
ولست ولو فقأت عينك واجداً ... أبا لك أن عد المساعي كدارم
انتهى. قلت القول ما ذهب إليه الأزهري لما سيرد عليك والظاهر أن الذي حمل الليث على أن يفهم في المفقئ ما فهم كون المعنى يطلق على جمل كان أهل الجاهلية ينزعون سناسن فقرته أي حروفها ويعقرون سنامه لئلا يركب ولا ينتفع بظهره بفعل ذلك الرجل منهم إذا بلغت إبله مائة ليعرف أنه مميء فظن الليث أن الفرزدق أراده فحمل المفقئ عليه وكان وجهه على ما فهم أن يرسم أيضاً بصيغة اسم المفعول كما قدمنا.
والصواب في معنى البيت ما ذكره صاحب اللسان في مادة (عنا) نقلاً عن ابن سيده أن مراد الفرزدق بالمفقئ بيته في جرير المتقدم ذكره ومراده بالمعنى (ضبط بكسر النون) قوله(67/15)
له:
تعنى يا جرير لكل شيء ... وقد ذهب القصائد للرواة
فكيف ترد ما بعمان منها ... وما بجبال مصر مشهرات
ونقل عن الجوهري أن مراده بالمعنى قوله:
فإنك إذ تسعى لتدرك دارماً ... لأنت المعنى يا جرير المكلف
قلت عليه ويصح ضبط المعنى في بيت الفرزدق بالفتح. قال وأراد بالمجتبى قوله:
بيت زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ... أبداً إذا عد الفعال الأفضل
وأراد بالخافقات قوله:
وأين يقضي المالكان أمورها ... بحق وأين الخافقات اللوامع
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
أي غلبتك بأربع قصائد منها هذه الأبيات وعلى هذا لا يعد البيت من أبيات العادات وإنما أطلت الكلام فيه لأنه كان سبب لخلاف واستطار شرره بين بعض الأدباء بمصر.
(ومن أبيات العادات) قول آدم مولى بلعنبر:
وان أراد جدل صعب أرب ... خصومة تنقي أوساط الركب
أطلعته من رتب إلى رتب
من رجز يقوله لابنه أنشده الجاحظ في البيان والتبيين وقد يسأل لمَ كانت هذه الخصومة لنقب الركب فالجواب أنه كان من عاداتهم إذا تخاصموا جثوا على الركب.
(ومنها) قول عتيبة بن بجير المازني من شعراء الحماسة:
ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوت فهو في الرحل جانح
فقلت لأهلي ما يغام مطية ... وسارٍ أضافته الكلاب النوابح
فقالوا غريب طارق طوحت به ... متون الفيافي والخطوب الطوارح
وهذا مبني على عادة وهي أن الرجل من العرب كان إذا ضل وتحير في الليل فلم يدر أين البيوت أخرج صوته على مثل النباح فتسمعه الكلاب وتظنه كلباً فتنبح فيستدل بنباحها ويهتدي إلى المكان. ومثله ما أنشده أبو علي القالي في أماليه:(67/16)
ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... فتاه وجوز الليل مضطرب الكسر
رفعت له ناراً ثقوباً زنادها ... تليح إلى الساري هلم ال قدري
وأنشد أيضاً في معناه:
ومبدٍ لي الشحناء بيني وبينه ... دعوت وقد طال السرى فدعاني
يعني كلباً نبح له فنبح فاهتدى به فكأنه دعاه بنباحه. والأبيات في هذا المعنى كثيرة لا فائدة من سردها في هذه العجالة. وفي معنى استنبح أيضاً كلب الرجل يكلب من باب ضرب واستكلب أنشد ابن سيده في المخصص على الأول:
وداعٍ دعا بعدما أقفرت ... عليه البلاد ولم بكلب
وأنشد صاحب اللسان على الثاني: ونبح الكلاب لمستكلب:
(ومنها) قول لبيد:
ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
الفرط بضمتين الفرس المتقدمة السريعة والمعنى أنني توشحت بلجام هذه الفرسوهو مبني على عادة ذكرها التبريزي في شرح المعلقات وهي أن الفرسان كان أحدهم يتوشح لجام فرسه ليكون ساعة يفزع قريباً منه وتوشحه إياه أن يلقيه على عاتقه ويخرج منه يده. ومنه قول زياد بن حمل من شعراء الحماسة:
ليست عليهم إذ يغدون أردية ... إلا جياد قسي النبع واللجم
(ومنها) قول القائل:
قلبت ثيابي والظنون تجول بي ... وترمي برجلي نحو كل سبيل
فلأيا بلأي ما عرفت جليتي ... وأبصرت قصداً لم يصب بدليل
لأن عاداتهم كانت إذا ضل رجل منهم في فلاة قلب قميصه وصفق بيديه كأنه يومي بهما إلى إنسان يزعمون أنه إن فعل ذلك اهتدى. هذا ما تيسر لي جمعه الآن فإن ظفرت بشيء بعد ذلك ألحقته به.
القاهرة // أحمد تيمور(67/17)
الشرطي والورق
اللغوي إذا عثر على لفظة وقف على أصلها ومعدنها ومأتاها يقر عيناً ويطيب نفساً ويثلج صدراً كأنه وقع على كنزٍ ثمين. ومن أغرب الأمور أن المستشرقين يبذلون شطراً صالحاً من أوقاتهم لتتبع معرفة أصول جميع الكلم السامية ولا سيما العربية. ولا نرى من أبناء العرب من يعني بمثل هذا الأمر؟ وإذا رأيت نفراً يكتبون في هذا الموضوع من الناطقين بالضاد فلا تراهم يخرجون عما جاء في كتب الأجداد الأولين ولا يوردون من الكلام إلا ما تناقله الخلف عن السلف بدون أن ينتقدوا كلام القائل ولا ينعموا النظر فيه إذا كان مصيباً في رأيه هذا أو مخطئاً فترى كتبنا اللغوية الحديثة لا تخرج عن كتب الأقدمين ولو تقدم هذا العلم عند باحثي الإفرنج من اللغويين المستشرقين تقدماً عظيماً وظهر بمظهر النور في الدياجي.
فإلى متى نبقى في هذه الحالة المفزعة في قالب الجمود أو الخمود والركود؟ ألم يحن الآن الذي نكسر فيه قيود الأسر والرق ونطلق نفسنا من هذه السلاسل الضخمة التي بقينا راسفين فيها إلى يومنا هذا؟ بلى. لقد حان بل لقد فات الوقت كما فاتنا في أمور جمة ونحن في غفلة عنها وذهول.
على أن بعض كتاب العصر أخذوا يتابعون علماء الغرب المولعين باللغات الشرقية في أبحاثهم وآرائهم ومذاهبهم وهبوا يجارونهم وأي مجاراة حتى كادوا يفوقونهم في بعض الأبحاث. بيد أن بعضهم قاموا يقلدونهم تقليداً أعمى حتى أنهم إذا رأوا أن غريباً قال بقول من لم يعد الشرقي يتجاسر على مخالفة رأيه ظناً منه أن الإفرنج إذا أوتروا القوس أغرقوا فيها ولا يتركون لمن ينزع فيها من بعدهم منزعاً كما لا يبقون له منزعاً. وهذا وهم ظاهر لكل ذي عينين إذا ما أراد أن يتروى في الأمر أدنى تروٍ.
هذا ولنا نحن عدة شواهد إثباتاً لقولنا هذا. وهي وإن كان يطول سردها جميعاً إلا أنه لا يجدر بنا أن لا نذكر منها بعضاً إثباتاً لقولنا وإظهاراً للحق. فهذه كلمة شرطي أو شرطة فإن اللغويين قد ذهبوا فيها مذاهب. فمنهم من قال بأنها عربية فصحى ومنهم من أنكر أصلها هذا وجماعة ذكرت أنها من معدن رومي أو لاتيني ومنهم من خالف هذه الآراء وها نحن ذا نورد بعض الشواهد.
قال في القاموس: الشرطة بالضم واحد الشرط كصرد وهم أو لكتيبة تشهد الحرب وتتهيأ(67/18)
للموت وطائفة من أعوان الولاة م وهو شرطي كتركي وجهني. سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها. وإلى هذا الرأي ذهب السيد المرتضى. فزاد على ما سبق: قاله الأصمعي. وقال أبو عبيدة: لأنهم أعدوا (أي أعدوا أنفسهم لذلك وأعلموا أنفسهم بعلامات). وبمثل هذا القول قال صاحب لسان العرب بل وجميع أصحاب المعاجم اللغوية بدون أن يشذ واحد منهم وتابعهم في ذلك لغويو الإفرنج أصحاب المعاجم العربية الإفرنجية كغوليوس وفريتاغ وقزميرسكي ولين وغيرهم.
على أن هذا الرأي لا يمكن أن يتمسك به اللغوي. والسبب هو: لو كان الحرف مأخوذاً من الشرط لقالوا فيه شارط كضابط مثلاً من الضبط. أو مشترط كملتزم. أو نحو ذلك من المشتقات الدالة على الفاعلية لا شرطي بضم ففتح أو بضم فسكون بل وكيف قالوا الشرطة. فلا شك أن اللغوي المتتبع حقائق الأصول ودقائق الفصول لاي قنع بهذا القول غير المعقول. فهي ولا جرم لمن الألفاظ الدخيلة وقد انتبه لها المستشرقون. وأول من ذهب إلى هذا الرأي فرنكل الألماني صاحب كتاب الألفاظ الآرمية في اللغة العربية إذ قال: والأحسن إني أحب أن يقول علماء العربية أنها كلمة مصرية يونانية أو لعلها اليونانية وتأثره في ذلك الأب لامنس اليسوعي في كتاب الفروق إذ يقول: من المحتمل أن يكون معرباً عن مثل كردوسة.
قلنا: وهذا أيضاً لا يمكن أن يكون صحيحاً لأن هذه اللفظة الأجنبية إن كانت مصرية أو يونانية أو رومية محضة فهي لا تدل إلا على طائفة أو جماعة من العسكر أو الجند ولا ترد بمعنى المفرد. والحال إن صح هذا الكلام عن الشرطة فلا يصح عن الشرطي فيجب أن تكون اللفظة الأصيلة المنقولة عنها مفردة ليصح فيها التعريب أو النقل عنها بصورة المفرد. وهذا يصح إذا قلنا أنها تعريب اليونانية وبالفرنسية أو وهي بمعنى الشرطي العربية كما أن الشرطي هي تعريب ويراد بها كتيبة الزحف أو الجيش الزاحف الذي يشهد الحرب ويتيهأ للموت. أو من بمعناها.
ومن هذا القبيل كلمة ورق والرقة المراد بهما الدراهم المضروبة. فقد قال الفيروزأبادي: الورق مثلثة. وككتف وجبل: الدراهم المضروبة ج أوراق ووراق كالرقة.
وزاد صاحب التاج: قال ابن سيده: وربما سميت الفضة ورقاً. يقال أعطاه ألف درهم ورقة(67/19)
لا يخالطها شيء من المال غيرها. وقال أبو الهيثم: الورق والرقة: الدراهم خاصة. وقال شمر: الرقة: العين ويقال هي الفضة خاصة. ويقال الرقة الفضة والمال. عن ابن الأعرابي. . . إلى آخر ما هناك من الكلام الدال على أن الورق عندهم من الأصل العربي الفصيح الصريح حتى أنه لم يخطر على بال لغويي العرب أنها دخيلة على لسانهم. وتابعهم في ذلك لغويو الإفرنج أيضاً أصحاب المعاجم العربية ولم يرتابوا في عجمتها أو في عربيتها إذ قلدوا العرب في أغلب الأحيان عند نقلهم المعاجم إلى لغتهم.
وأول من تنبه لعجمتها في العربية فرنكل اللغوي الألماني المذكور ذكر أنها من الآرامية (برق) أو من الحبشية رقة. قلت: وفي كلتا اللغتين لم ترد اللفظة في الأصل على ما يدل أنها بهذا المعنى في أول وضعها بل يحتمل أن اللغتين أخذتا هذا المعنى عن العرب أنفسهم.
وممن قال بعجمتها أيضاً الأب لامنس اليسوعي في كتاب الفروق ص 260 في الحاشية وهذا نص كلامه: (أي الورق بمعنى الدراهم المضروبة) ثلاث لغات أخرى (كذا والأصح أربع لغات أخرى): وَرق. ورق. وِرق (وزد عليها: ورَق ككتف) ولا أحسبه عربياً ولم يوجد في الكتاب القديم. . (كذا لو تروى لما قال هذا القول. لأن لفظة الورق وردت في شعر ثمامة السدوسي وفي الحديث وفي شعر خالد بن الوليد وفي كلام كثيرين من الأقدمين عند مطالعة دواوينهم.).
أما الصحيح عندي أن الورق من الفارسية تعريب بره بباء فارسية مثلثة رقيقة في الأولى ثم راء وفي الآخر هاء غير منقوطة. ويقال فيها أيضاً باره بمعناها. ويراد بها مطلق القطعة وتخصص بقطعة الفضة المضروبة كما هو معنى الباره عندنا قبل خمسين سنة. ثم عوض عن الباره الفضية ببارة نحاسية وبقي الاسم عليها وإن تغيرت المادة التي أخذت منها.
هذا وأنت تعلم أن الهاء الفارسية في الآخر تنقل إلى القاف أو الكاف أو الجيم أو الهاء في العربية. وقد صرح بذلك أغلب اللغويين كما في بابونج ويرذعة وبورَق ونيزك وأصلها بابونه وبرزعة وبوره ونيزه وأما الباء المثلثة التحتية الفارسية فتكون إما رقيقة. وإما فخيمة وإما رقيقة وفخيمة فإن كانت رقيقة فتنتقل إلى الواو بالعربية أو الباء الموحدة(67/20)
التحتية كما في بابوج وواشق أصلها بابوج وباشه وإذا كانت مفخمة فتكون فاء في العربية كما في فارس وأصفهان وإن كانت بين المفخمة والمرققة فهي تكون تارة بالباء وطوراً بالواو وأخرى بالفاء مثل قبان فيقال فيها قبان وقفان. قال الأصمعي: قفان: قبان بالباء التي بين الباء والفاء أعربت بإخلاصها فاء وقد يجوز إخلاصها باء لأن سيبويه قد أطلق ذلك في الباء التي بين الفاء والباء (التاج في قفف) ومعنى قفان كل شيء: جماعة واستقصاء معرفته.
وعليه قالوا في بره: ورق. وفي باره: بارة. لكن لما توهم العرب أن الورق مشتق من ورق بل وأنها مصدر ورق أجازوا فيها الوجهين فقالوا فيها ورق ورِقة كما قالوا وعد وعدة.
وأغرب من هذا أنهم جمعوا رقة على رقين كما قالوا في إرة: إرين. وقوم من العرب توهموا الجمع مفرداً فوزنوه على فعيل بفتح الأول فقالوا: الرقين وفسروه بالدرهم والرقيم ولعل الرقيم ورد بهذا المعنى أيضاً تصحيفاً للرقين بالنون وهم يكثرون مثل هذا الإبدال في آخر الألفاظ كقولهم: الأيم والأين. الغيم والغبن. أسود قاتم وقاتن. الحزم والحزن. البنان والبنام. القعم والقعن. ومثل هذه الألفاظ تعد بالمئات.
فانظر حرسك إله كيف يتلاعب العرب بالألفاظ وكيف تتسع اللغة عندهم. وكيف يبعد مجرى الكلام عن ينبوعه ومصدره وكاد ينسيك الأصل الذي أُخذ عنه. كل ذلك من الأسرار الغامضة يتلذذ بالاطلاع عليها كل من له ذوق بهذه اللغة الشريفة البعيدة الغور.
وإذ قد اطلعت على أصل لفظة الورق وعلى أنها من الفارسية علمت علم اليقين أن معناها كل قطعة من قطع المسكوكات كما تقول بالفرنساوية ثم أطلقت على دراهم الفضة أو على مطلق الدراهم أن فضية أو ذهبية أو نحاسية بشرط أن تكون قطعة معدن مضروب لا غير.
هذا ما أردنا إيراده في هذا الباب ولنا عدة شواهد من هذا القبيل.
بغداد // ساتسنا(67/21)
رسائل الانتقاد
تابع لما سبق
قال أبو الريان ومن شر عيوب الشعر كلها الكسر لأنه يخرجه عن نعته شعراً وليس مما يقع لمن نُعت بشاعر. فأما الاقواء. والسناد. والأكفاء. والزحاف. وصرف ما لا ينصرف فكل ذلك يستعمل الآن السالم من جميع ذلك أجمل وأفضل قال ومن عيوبه المذمومة مجاورة الكلمة ما لا يناسبها ولا يقاربها مثل قول الكميت:
حتى تكامل فيها الدل والسنب
وكما قال بعض المتأخرين في رثاء:
فإنك غيبت في حفرة ... تراكم فيها نعيم وحور
وإن كان النعيم والحور من مواهب أهل الجنة فليس بينهما في النفوس تقارب. ولا لفظة تراكم مما يجمع بين الحور ولا النعيم. ومثله قول بعضهم:
والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا
لعاد تفاح الخدود بنفسجاً ... لثمي وكافور الترائب عنبرا
فالتفاح ليس من جنس البنفسج لأن التفاح ثمرة والبنفسج زهرة. وقد أجاد في جمعه بين الكافور والعنبر لأنهما من قبيل واحد. ولو قال:
لعاد ورد الوجنتين بنفسجاً=لثمي وكافور الترائب عنبرا
لأجاد الوصف. وأحسن الرصف. لكون الورد من قبيل البنفسج. فهذا النوع فافتقد. وهذا الشرع فاعتمد.
قال أبو الريان ولفضلاء المولدين سقطات مختلفات في أشعارهم أُذاكرك منها في أشياء لتستدل بها على أغراضك لا لطلب الزلات. ولا لاقتفاء العثرات. كان بشار تتباين طبقات شعره فيصعد كبيرها. ويهبط قليلها كثيرها. وكذلك كان حبيب ابن أوس الطائي فإذا سمعت جيدهما كذبت أن رديهما لما. وإذا صح عندك أن ذلك الردي لهما أقسمت أن جيدهما لغيرهما. قال ومما يعاب من الشعر الافتتاحات الثقيلة مثل قول حبيب أول قصيدة:
هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعوماً فقدماً أدرك الثأر أو طالبه
ومثل قول ديك الجن أول قصيدة:
كأنهايا كأنه خلل الخ ... لة وقف الهلوك إذ بغما(67/22)
فابتدأ هو وحبيب بمضمرات على غير مظهرات قبلها وهو رديء قال ويعاب أيضاً الافتتاحات المتطير بها. والكلام المضاد للغرض كابتداء قصيدة أبي نواس التي أنشدها الفضل بن يحيى خالد البرمكي يهنيه ببنيانه الدار الجديدة فدخل إليه عند كمالها وقد جلس للهناء والدعاء وعنده وجوه الناس فأنشده:
أربع البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي
فتطير الفضل من ذلك ونكس رأسه وتناظر الناس بعضهم إلى بعض ثم تمادى فختم الشعر بقوله:
سلام على الدنيا إذا ما فُقدتمُ ... بني برمك من رائحين وغادي
فكمل جهله وتمم خطأه وزاد القلوب المتوقعة للخطوب سرعة توقع. وأضاف للنفوس المتوجعة بذكر الموت شدة توجع. وأراد أن يمدح فهجا. ودخل ليسر فشجا قال وقريب من هذا ما وقع للمتنبي في أول شعر أنشده كافوراً:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
فهذا خطاب بالكاف بفتح ولا سيما في أول لقية. وفي ابتداء واستعطاف ورقية. وفي هذا البيت غير هذا من العيوب سنذكره بعد.
ووقع مثل هذا من قبح الاستفتاح في عصرنا وذلك أن بعض الشعراء أنشد بعض الأمراء في يوم المهرجان فقال:
لا تقل بشرى ولكن بشريان ... وجه من أهوى ووجه المهرجان
فأمر بإخراجه واستطار بافتتاحه وحرمه إحسانه قال أبو الريان ولو كان هذا الشاعر حاذقاً لكان إصلاح هذا الفساد أيسر الأشياء عليه وذلك بأن يعكس البيت فيقول:
وجه من أهوى ووجه المهرجان ... أي بشرى هي لا بل بشريان
قال ويبج جداً الإتيان بكلمة القافية معجمة لا ترتبط بما قبلها من الكلام وإنما هي مفردة لحشو القافية كقول بعضهم:
فبلغت المنى برغم أعاديك ... وأبقاك سالماً رب هود
فأنت ترى غثاثة هذه القافية وإله تعالى رب جميع الخلق وكل شيء فخصَّ هوداً عليه السلام وحده لضعف نقده وعجزه عن الإتيان بقافية تليق وتحسن.(67/23)
قال ويقبح أيضاً الجفاءُ في النسيب على الحبيب والتضجر ببعده. وغلظة العتاب على صده. كقول أبي نواس:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
فان كنت لا خلاً ولا أنت زوجة ... فلا برحت منا عليك ستور
وجاورت قوماً لا تزاور بينهم ... ولا قرب إلا أن يكون نشور
فلم أسمع بأوحش من هذا النسيب. ولا أخشن من هذا التشبيب. وذلك قوله إن لم تكوني لي زوجة ولا صديقة فلا برحت منا ستور للتراب عليك. ولا كان جارك ما عشنا نحن إلا الموتى الذين لا يتزاورون ولا يتواصلون إلى يوم النشور على أن كلامه يشهد عليه بأنه شاك وإنما المعروف في أهل الرقة والظرف. والمعهود من أهل الوفاء والعطف. أن يفدوا أحبابهم بالنفوس. من كل مكروه وبوس. فأين ذهبت ولادته البصرية وآدابه البغدادية. حتى اختار الغدر على الوفاء. وبلغت به طباعه إلى أجفاء الجفاء. فاعلم هذا وإياك أن تعمل به.
قال ومن عيب الشعر السرق وهو كثير الأجناس. في شعر الناس. فمنها سرقة ألفاظ. ومنها سرقة معان. وسرقة المعاني أكثر لأنها أخفى من الألفاظ ومنها سرقة المعنى كله. ومنها سرقة البعض. باختصار في اللفظ وزيادة في المعنى وهو أحسن المسروقات. ومنها مسروق بزيادة ألفاظ وقصور عن المعنى وهو أقبحها. ومنها سرقة محضة بلا زيادة ولا نقص والفضل في لك للمسروق منه ولا شيء للسارق كسرقة أبي نواس في هذه القصيدة التي ذكرنا معنى أبي الشيص بكماله. قال أبو الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
فسرقة الحسن بكماله فقال:
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
فهذا على أن بيت أبي الشيص أحلى وأطبع ومع حلاوته جزالة. وقد ذكر عن الحسن أنه قال ما زلت أحسد أبا الشيص على هذا البيت حتى أخذته منه وسرقة المعاصر سقوط همة. وبهذه القصيدة يناضل أصحاب الحسن عنه ويخاصمون خصماءه مقرين بأن ليس له أفضل منها. ولا لهم إلى سوى هذه القصيدة معدل عنها. فقس بفهمك واعمل فكرك على ما وصفناه من أبواب السرقة ما وجدته في أشعار لم أذكرها يظهر لك جميع ما وصفناه. ويبدو(67/24)
لك جميع ما رسمناه. قال ومما يقع في عيوب الشعر ويغفل الشاعر عنه ويجوزه الأمر فيه لصغر جرم العيب وسلامة اللفظ لذي احتبي فيه ثم يكون ذلك سبب غفلة النقاد أيضاً عنه مثل قول المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
فضع هذا الكلام على أنه إنما شكا داءَه ووصفه بالعظم فعاد شاكياً نفسه وجعلها أعظم الداء لأنه أراد كفى بدائك داءً فغلط وقال كفى بك داءً فصار كفى بالسلامة داءً فالسلامة هي الداء يريد طول البقاء سبب للفناء. وقال الله تعالى وكفى بنا حاسبين فالله هو أعظم شهيد فجعل المتنبي نفسه أعظم الداء ولم يرد إلا استعظام دائه وإصلاح هذا الفساد. وبلوغه إلى المراد. أن يقول:
كفى بالمنايا أن تكن أمانيا ... وحسبك داء أن ترى الموت شافيا
فيعود الداء المستعظم كما أراد تزول خشونة ابتدائه. وشدة جفائه. إذ خاطب للممدوح بالكاف فجعله داء عظيماً في أول كلمة سمعها منه. وقد تأدب خواص الناس وكثير من عوامهم في مثال هذا المكان فهم يقولون عند مخاطبات بعضهم بعضاً بما يخشن ذكره قلت للأبعد يا كذا أو كذا للأبعد.
ومن عيوب هذا القسم أيضاً أن قائله قصد إلى سلطان جديد وإلى مكان يحتاج فيه إلى التعظيم والتفخيم وقد صدر عن ملك نوه به أعني سيف الدولة وأغناه بعد فقره وشرفه ورفعه. وأدنى موضعه. فورد كل كافور هذا في مرتبة شريفة. وخطة منيفة. فجعل بجهله يصفه في أول بيت لقيه به أنه في حالة لا يرى منها المنية. أو يرى المنية أعظم أمنية. وعلم كافور بذكائه ووصول أخبار الناس إليه أنه في حالة خلاف ما قال وأنه كفر النعمة من المنعم عليه وأراه أن جميع ما عامله به من الجاه الواسع. والغنى القاطع حقير لديه. صغير في عينيه. فعلم كافور في هذا الوقت أنه ممن لا تزكو لديه الصنيعة وإن عظمت. ولا تكبر في عينيه المواهب وإن جسمت. ولم يكن في خلق كافور من الصبر على اتساع البذل. ولا من الرغبة في أهل الآداب والفضل ما عند سيف الدولة من ذلك فزهد فيه بعد رغبة وعلله بالقليل. وشاوقه بالجزيل. ورأى المتنبي أن الأسود ليس له في قلبه من الحب والقرب ما له عند سيف الدولة فلم يدل عليه ولا كثر من التعتب والعتاب ما يعطفه عليه(67/25)
فأضاع وضاع. وكان يتوقع الإيقاع. ولكفران النعم نقم. ثم نجاه ركوب ظهر الهرب وأقبل يعترف لسيف الدولة بالذنوب. وكان لحنه وشعره شريفين. وعقله ودينه ضعيفين. ومع ذلك فسقطاته كثيرة إلا أن محاسنه أكثر وأوفر. والمرء يعجز لا المحالة. وكان يميل إلى تعقيد الكلام ويعتمد على علمه بقبحه فيقول من ذلك ما يصف به ناقته:
فعبيت تسئد مسئداً في نيها ... أسادها في المهمة الأنضاء
يقول في المدح:
أنى يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد
ويقول في بيت آخر من قصيدة أخرى يمدح بها والبيت لا يتعلق بشيء مما قبله فيما يظهر ولا فيما بعده بشيء:
كأنك ما جاودت من بان جوده ... عليك ولا قاومت من لم تقاوم
ومثل هذا كثير وهذه الأجناس من أبيات وإن ظهرت معانيها بعد استقصاء. وأطاعت غوامضها بعد استعصاء. فهي مذمومة السلك وإن اطلعت منها على أجزل الإفادة فكيف إذا حصلت منها على السلامة بلا زيادة. وكان أيضاً يغفل عن إصلاح أشياء من كلامه على قرب ذلك من الفهم. مثل قوله يرثي أخت سيف الدولة:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النسب
فجعل يا أخت خير كناية عن اشرف النسب والكناية لا تكون إلا لعلل تتسع فيها التهم لأن الكناية ستر وتعمية فنا بال شرف النسب يورى عنه تورية المعائب. ويكنى عنه والتصريح به من المفاخر والمناقب. وقد غفل عن إصلاح هذا بلفظ فصيح. ومعنى صحيح. قد كاد يبرز من الجنان. إلى طرف اللسان. وهو لو فطن إليه:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... غنى بهذا وذا عن أشرف النسب
قال أبو الريان وهذه الجملة التي أثبت لك فيها ما دخل على الشعراء المحيدين من التقصير والغفلة والغلط وغير ذلك كافية ومغنية عن إيراد ذلك وإن لقيتها بجودة بحث وصحة قياس. لم تحتج إلى كشف عيوب أشعار الناس. ولعل قائلاً يقول مال على هؤلاء وترك سواهم لميله على من بكت. ولتفضيله من عنه سكت. فقل لمن قال ذلك الأمر، عل خلاف ما ظننت لم أذكر إلا الأفضل فالأفضل. والأشهر فالأشهر. إذ كانت أشعارهم هي المروية.(67/26)
فالحجة بهم وعليهم هي القوية. فقد نقلته علي من ميلي عليهم. إلى ميلي بالحق إليهم قال أبو الريان فأما نقد المستحسن فتمثيله لك يعظم ويتسع لكثرته فلا يسعنا إيراده ولكن ما سلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم. ثم تتسع طبقات الجودة فيه. وأحسن منه ما اعتدل مبناه. وأغرب معناه. وزاد في محمودات الشعر عل سواه. ثم يمدح الأدون فالأدون بمقدار انحطاطه إلى حيز السلامة. ثم لا مدح ولا كرمة.
قال محمد فقلت لله درك يا أبا الريان فما ألين جانبك. وما أقرب غائبك. وما ألحح طالبك. وما أسعد صاحبك. فقال أنجح الله مطالبك. وقض مآربك. وصفى من القذى مشاربك. وبث الحواضر والبوادي مناقبك.
تمت المقامة المعروفة بمسائل الانتقاد
بلطف الفهم والاقتصاد
والحمد لله أولاً وآخراً وصلاته على نبيه سيدنا محمد وآله وسلامه(67/27)
نفس المرأة
انصرفت أفكار الباحثين إلى درس طبائع المرأة ومميزاتها الجنسية وخلائقها الخاصة على أثر ما كان من نهوض المرأة لمباراة الرجل في ميدان الاقتصاد وتشوقها بعد ذلك إلى مشاركته في الحقوق السياسية فتوفر على هذا البحث جماعة من العلماء الأعلام عنوا بتمحيصه وتجريده مما لصق به من خرافات الأقدمين وأوهامهم جارين على أسلوب علمي لا يدع مجالاً للظن والشبهات العالقة بآراء الأقدمين والسادلة على الحقيقة ستاراً من الغلو ينهض بالمرأة إلى مستوى الملائكة أو يحطها إلى دركات الجحيم ومن الغريب أننا لا نجد باحثاً تصدى للموضوع إلا زعم أنه بين حقيقة المرأة وكشف عن أسرار نفسها على أن معظمهم جهلوا طبائعها الأصيلة وخواصها المميزة فجاءت أبحاثهم مهزعة فاسدة المقدمات والنتائج ولم يفرق بعضهم بين صفاتها الخلقية وبين الصفات العارضة التي اكتسبتها في أحوال خاصة.
وربما اتفق العلماء أن رأوا المرأة في حال الضعف أو الخوف أو الاحتيال أو الرياء فزعموا أن هذه الصفات من طبائعها الخلقية وانتقلت هذه المزاعم إلى الأخلاف في الأجيال المتوالية فهي لا تزال تستنكف أو تعجب اليوم بطبائع في المرأة أتت عليها سنة النشوء والارتقاء فبدلتها أو محتها. ولقد مرت على المرأة عصور وهي بعيدة عن الحياة الفكرية والعملية تراد على الطاعة العمياء لوليها فكانت أشبه بالأطفال غير أن الزمان تغير والمرأة تبدلت وبقي معظم علماء النفس واقفين عند الآراء القديمة يحسبونها رقيقة غاية حياتها خدمة الرجل.
تملصت المرأة من آثار الجمود وشاركت الرجل في الحياة العملية وتركت في زوايا القرون صفاتها القديمة وتخلقت بأخلاق جديدة فلا تصح فيها آراء المغالين في اعتبارها ولا المغرقين في امتهانها.
ولا بد للباحث أن يتساءل هل للمرأة صفات نفسية خاصة بها تميزها عن الرجل وما هي تلك الصفات الجنسية التي لا يؤثر فيها مركزها الاقتصادي والاجتماعي؟
يقول علماء الحياة باختلافات جوهرية بين الخليتين اللتين تولد الحياة من انضمامهما وأن شروط الحياة متوفرة في الخلية المذكرة أما الأنثوية فهي هادئة شديدة الاحتفاظ بقوتها العضوية وهذه الصفات تبدو آثارها في الأحياء وكلما ارتقى الجنس البشري كانت(67/28)
الخواص الجنسية أوضح أثراً تركيب المرأة وطبائعها تميل بها إلى السكون والدعة والراحة بينما نرى الرجل جلداً على مشاق الحياة يتحشم الأخطار ويخوض غمار الجهاد ويرى كل ما حوله يدفعه إلى المناجزة والإقدام.
وإذا سلمنا بآراء علماء الحياة والنفس اتضح لنا سبب تخلق المرأة بأخلاقها الخاصة وإشغالها في المجتمع مركزها الخاص فللرجل الحرب والجهاد والمغامرة والنشاط والحزم وللمرأة اللطف والصبر والهدوء إلا أنها تشتد في بعض الأحيان فتفوق الرجل حزماً ومضاءٍ وقد يوقد الرجل نار الثورة فتسعى إلى إخمادها وتهدئة روعه ويحملها ميلها إلى السكون النفسي إلى الاعتصام بحبل الدين وهي أقل إقداماً على الجرائم من الرجل لما تتطلبه من تضحية القوى الجسدية والعقلية ويزعم علماء النفس أن المرأة ضعيفة المدارك مما يحملها الاستسلام لعواطفها فهي غريبة عن الحرب والعلم والفنون وسنرى فيما يلي فساد مزاعمهم في هذا الصدد.
سار علماء النفس والحياة على أسلوب واحد في أبحاثهم فأدت بهم إلى نتائج متشابهة فقالوا أن المرأة اليوم هي ذات المرأة في القرون السالفة ويتبين لك خطل آرائهم من عرضها على أحوال الحياة الحقيقية وإذا تتبعنا ارتقاء العالم الحيواني وضحت لنا المناقضة بين آراء الباحثين في المرأة وبين حالتها الحاضرة على أنم أشكالها.
المرأة المحاربة -. لنتقدم إلى البحث في إحدى صفات المرأة التي قالوا بها من الجبن وصغر النفس ونتخذ هذه الصفة أساساً لمبحثنا فقد أجمعت آراؤهم على أن المرأة لا تصلح للقتال والذود عن الوطن فلما ارتفع صوت النساء المطالبات بالحقوق دافعها المنكرون عليها بقولهم إنها لا تستطيع مشاركة الرجل في الحرب والذب عن حياض الوطن على أنَّا إذا أنعمنا النظر وجدنا هذه الصفة عارضة لا جوهرية وليست هي من صفاتها الخلقية التي لا تتغير فنساء الحبش يقاتلن مع أزواجهن جنباً إلى جنب راكبات على الجمال أو الخيل ومتقلدات سلاح الرجال ولا ينقصن عنهم شجاعة وإقداماً وصبراً على المشقات ويقول الرحالون إن النساء يتدربن على فنون القتال فينشأن شديدات القوى وقد أكسبتهن ممارسة الحروب بطشاً لا يتصف به سوى شجعان المقاتلة.
ويقول تاسيت إن جيوش البربتونيين القدماء كانت تزحف إلى القتال والنساء في طليعتها(67/29)
ويقول مومسن بمثل ذلك عن الإيبريين فقد كانت نساؤهم يفتتحن الحصون ويقتلن زرافات في الهجوم.
وأكد جماعة من السياح أن النساء الأمازونيات القاطنات على ضفاف نهر الأمازون يشاركن الرجال في القتال ويغتذين بلحم البشر ويقص آخرون مثل ذلك عن نساء المركيتس والكواي موراس.
وذكر ارفن أن نساء الانتيل يتمرسن بالفنون الحربية حتى يضارعن الرجال ولقد قاسى كولمبس الأمرين من بأس نساء الأمازون الهنديات وفي أميركا الجنوبية يتناقلون أخبار كثيرة عن وجود النساء المحاربات.
وشاهد الرحالة تاتلي مقاتلة النساء في بلاط متزا ملك الأوغندا فعنده نساء من الأمازون يتقلدون الحراب الطويلة وتزحف نساء الغواتوتو الأفريقيات مع الرجال في الحرب.
وفي الداهومي جيش من الأمازونيات مؤلف من صنفين أحدهما الصنف العامل وعدده ثلاثة آلاف والآخر المستحفظ يدعى في ابان الحاجة ويخضعن لنظامات حربية شديدة ويتمردن احتمال الجوع والعطش وغيرها من المشاق ويجبرون على مقاساة الآلام صابرات ويتميزن بالشجاعة والبأس فإذا أشار إليهن اقتحمن الأخطار وخضن الغمرات وقد شاهد أحد رؤساء المبشرين سنة 1861 مشهداً ملأه دهشة وإعجاباً فقد أمر الملك النساء الأمازونيات أن يقتحمن حواجز علوها متران وعرضها ستة أمتار وكانت الحواجز من النباتات الشائكة يؤلم لسعها فتهشمت سوق المقاتلات العارية غير أنهن ثبتن أي ثبات فتقدمت الفرقة الأولى وما زالت تجيد حتى أعيت فوقفن منهوكات يائسات ولكن الملك صاح بهن ونظر إليهن نظرة دفعت فيهن تياراً كهربائياً فعاودن الهجوم ببسالة نادرة حتى ظفرن بما أردن.
وعند هياج البولونيين سنة 1863 تزيت نساؤهم بزي الرجال وأبلين في المعارك بلاء حسناً فأصبحت شجاعتهن مضرب المثل وسارت بأحاديثهن الركبان وتفردت منهن الآنسة بوستافويثو بالبأس والجلد حتى أصبح لها مجد حربي لا يقل عن مجد أعاظم الرجال.
إن صيد الحيوانات الكاسرة ليس أقل خطراً من خوض المعارك ونساء التتر الصينيات يصحبن أزواجهن في صيدها ونساء الروس والبولونيين يشاركن بعولتهن في صيد الدببة(67/30)
والذئاب والخنازير البرية غير عابئات بما في ذلك من المهالك.
ولا يسع الباحثين بعد ذلك إلا أن يسلموا معنا باستطاعة النساء القتال ولا سيما في الحروب الحاضرة وقد أصبح معظم الاعتماد فيها على الحذر والتيقظ والحكمة ففي وسع المرأة أن تشارك الرجل في الدفاع الوطني ولا تقل عنه جلداً وإقداماً لولا أن ذلك يعوقها عن واجباتها المنزلية وإنجاز وظيفة الأم.
قابلية الانفعال بين الجنسين -. كتبت ألوف من الجلدات في بسيكولوجية المرأة تراوحت بين الإغراق في تعظيم الشهيدة الأبدية وامتهان عدوة الرجل القديمة ولم ينتبه مؤلفوها أنهم رسموا خطوطاً لصورة المرأة في عصرٍ أو عصورٍ سالفة وأغفلوا وصف امرأة اليوم والغد فرماها بعضهم بكل شائنة وقال الآخر أنها أدق إحساساً وأرق شعوراً من الرجل وممن ذهب هذا المذهب الفيلسوف أوغست كونت فقال: تؤثر المؤثرات الطبيعية في المرأة بسهولة وشدة وقد برهن على ذلك علمنا نفر من الكتاب وترى انفعالها واضحاً في جميع الصروف فإنها تقطب جبينها وتغضب وتحتقر ويؤلمها الاضطراب وتنقاد لعواطفها فهي في ذلك أقرب إلى الطفل منها إلى الرجل وسرعة التأثر في المرأة تجعلها طوراً أرق وطوراً أقسى من الرجل ثم أن الفواعل يزول أثرها عن نفسه لأنه عرضة لمختلفاتها فالحزن يعقب السرور والبشر يتلو الأسى كما تتوالى السحب في السماء ولكن طبيعة المرأة الساكتة إذا لامستها الفواعل تركت فيها أثراً يصعب زواله فترى عواطف الحب والبغض والرحمة والقسوة أرسخ في المرأة مما في الرجل.
على أننا نرى الرجل في بعض أطواره لا يقل عن المرأة في الاستسلام للعواطف ويرجع ذلك إلى أحوال البيئة والأخلاق الشخصية لا الجنسية.
الحب ريحان حياة الرجل غير أنه حياة المرأة ذاتها ولكن ألا تفعل العواطف في الرجل فعلها في المرأة؟ قال لاكوردير في كتاب بعث به إلى إحدى صديقاته: يخطئ مني قول أن الرجل يعيش بالعقل والمرأة بالعواطف فالرجال يجبون أيضاً بالعواطف إلا أنها راقية تنزل لديكن منزلة العقل.
وبعض علماء النفس ينكرون على المرأة هذه المزية ويعزون إليها نقصاً بيناً في شواعرها كافة ويصفونها بتطرف يسير إلى قمة المجد أو يهبط بها إلى دركات الشنار فهي مفرطة(67/31)
في الحالين والأنانية والغيرية على أشدهما عند المرأة لأن فطرتها الثائرة ترمي بها إلى الغايتين المتناقضتين.
وخالف هؤلاء نفراً ادعوا أنها ولعة بالاعتدال محمولة عليه بما لها من سكون الطبع ثابتة في أعمالها وأفكارها تقاوم الفواعل التي ربما أخرجتها عن بيئتها فقضاتها الأولون ينكرون عليها حق الحكم لأنها تطاوع في ذلك عواطفها وحماستها الخرقاء.
ويوافقهم الآخرون على هذا الرأي مستندين في ذلك على مقدمات أخرى فهم يقولون أن إخلاد المرأة للسكون يبطل كل ارتقاء اجتماعي.
تلك هي آراؤهم المختلفة باختلاف وجهة النظر تنبئك أن هذه الخواص ليست جنسية وإنما هي شخصية وإذا عاش الرجل في بيئة تشبه بيئة المرأة لا يلبث أن يتخلق بهذه الأخلاق لأن قابلية التأثر لا حد لها وهذه الصفات إنما هي نتيجة أحوال المحيط.
ذكر هربرت سبنسر أن المرأة تفوق الرجل قسوة في البلاد التي يمثل أهلوها بالأسرى وقبيلة الداكوتاس تدفع الشيخ إلى النساء يتلذذن بتعذيبه ويقول ماكسيم دي كاسب أن النساء أثناء ثورة الكومون فقن الرجال فظاعة وشراسة.
ومع عتاطفة القسوة يتلألأ الحنان الأنثوي فقد عطفت نساء البرابرة على الرحالين وأظهرن لهم ضروب اللطف والرقة واتفق على ذلك مشاهير الجوابين كستانلي ولفنستون وغيرهما.
والباحث المنصف يجد للنساء مواقف مشهودة في الأخطار وعوارف محمودة في تسكين ثورة الرجل فدخول بعضهن في صفوف الثوار لا ينسينا بنات جنسهن ممن يعين السكينة في النفوس فحفظ لهن التاريخ صفحات مجيدة.
المرأة والديانة -. رقة شعور المرأة جعلتها متدينة في جميع العصور والشعوب وهي أسرع تلبية لدعاة المذاهب فيجد هؤلاء بين النساء مؤمنات مخلصات كان لهن في ثبات الديانات ونشرها تأثير شديد.
خضوع المرأة المستديم لسلطة الرجل سهل عليها الاعتقاد بعناية إلهية غامضة فهي لا تزال تقارع أنواع المشاق في الماس مصدر الرحمة الأزلي وينبوع السلام الأبدي وأدى بها ذلك إلى الاعتقاد بتفوق كل من يسودها وكيف لا تعتقد بإله أعلى وهي تتوقع منه المكافأة عل ما تتجسمه من المصاعب في هذا العالم فهي مسوقة إلى التدين لا عن ميل فقط بل عن(67/32)
حاجة وتربيتها الاتكالية زادتها اعتصاماً بالإيمان لأنه يقول بإله قادر يحييها ويرعاها.
وهي لا تشعر بخوف الله فقط بل تشغف بحبه وتبتهل إليه في النوازل الشداد فيخترق الظلمات المطيفة بها نور رجاء ينضر به عيشها وكلما قلت مطالبها في الحياة زادت استمساكاً بحبل الدين وكثيراً ما تنتابها اضطرابات دينية تذهل صوابها.
ولا يجوز لنا الإغضاء عن أن الرجل هوة الذي أوجد في المرأة تلك الفطرة ودعا إلى الدين فأجابته مذعنة شأنها في الخضوع لما تعتقد به العظمة والتفوق من أفواه الإخبار مبادئ وتستعذب سلطته لأنه يمنحها غبطة دائمة ويمني آمالها بحياة مستقيلة تمحو جميع آلامها الحاضرة فلم يخطر لها قط أن ترغب عن ذلك الجمال الفتان والأمل المتلألئ.
وعلينا أن نفرق بين الديانة والتدين فشعور الرجل بالدين يختلف عن شعور المرأة بذلك الدين وبين التقي والتقية والأخ والأخت أتباع المذهب الواحد اختلاف جنسي في الإيمان وتلازم العجائز المعابد واجدات في الصلاة غبطة ونعيماً وهن في ذلك أقرب إلى الرجال الطاعنين في السن منهن إلى أخواتهن في ريعان الصبا وكلما تعمق الباحثون في درس هذه العاطفة عند المرأة وجدوها منبعثة عن المركز الذي تشغله في المجتمع الحاضر فهي أقوى استمساكاً بحبل الدين وأشد خضوعاً للعقائد والأفكار. صفات للمرأة أفادتها إياها حالتها الاجتماعية والأدبية وتلك العاطفة الدينية ليست سوى نتيجة أعمال الرجل في ألوف من السنين.
هل المرأة أرقى شعوراً من الرجل -. منذ خمسين سنة قام جدال بين علماء النفس على انحطاط إحساس المرأة فذهب لومبروزو وتلامذته إلى ضعف شعورها وخالفه في رأيه مانتكيزا ومن تابعه وينطوي في هذين المبدأين العامين نظريات ثانوية لا تكاد تحصى وإنما تنشا عن اقتصار الباحثين على بعض الموضوعات المحدودة وأوسع مجال الاختلاف أن التجارب أنجزت في ممالك مختلفة ومما لا ريب فيه أن للبيئة وطراز المعيشة تأثيراً في الشعور فالبرابرة أقل شعوراً بالألم من المتمدنين وهؤلاء متفاوتون أيضاً في شعورهم فإن أبناء الطبقات العالية المترفين ممن ألفوا الرفاهية أناقة العيش يشعرون بالألم فوق شعور المزارعين ومتى علمنا ذلك لم يسعنا أن نعزو التفاوت في الشعور إلى الجنسية بل إلى أحوال الحياة التي تفرق بين الجنسين.(67/33)
قلنا أن بين العلماء اختلافاً كبيراً على ارتقاء حواس المرأة وانحطاطها وقد استشهد القائلون بانحطاطها على زعمهم بأنها لا تستطيع التمييز بين أنواع الخمور المختلفة وذلك يشير إلى ضعف حاسة الذوق ويقولون مثل هذا في سائر حواسها فيفند المعارضون حججهم قائلين إنما أعجز المرأة التمييز بين صنوف الخمر لأنها لا تدمنها كالرجال والمدمنات منهن يضارعن في ذلك أرقى الرجال.
أما شدة إحساسها بالألم فيفسر كثرة الآلام التي تنتابها ويقول مانتكيزا أن شعورها به أضعاف شعور الرجل ويذهب سرجا إلى ما يناقض ذلك فيقول أن المرأة سريعة الانفعال كالطفل فتذري العبرات عند أقل طارئ وتبدو عل منحياها علائم الألم غير أن مظاهر الألم ليست هي ذاته وللتربية ونسق الحياة شأن خطير في الشعور فإن النساء الكثيرات الامتزاج بالرجال اللواتي يمارسن حياة العمل يصبح دمعهن عصياً فيجلدن على احتمال المصائب والأوجاع ويتصلبن على لقاء الخطوب ويقول لومبروزو إن ضعف حواس المرأة نعمة كبرى على المجتمع إذ يسهل عليهن تحمل آلام الحمل والوضع.
سبب الانفعال -. نعود في ذلك إلى آراء الفسيولوجيين فقد برهنوا أن لنسق معيشة المرأة أثراً في جسمها ونفسها لأن حياتها المنزلية واقتصارها على إنجاز الواجبات العائلية قلل من مناعة جسمها وخفض من مضائها ونشاطها وقال بان تنمو العواطف الرقيقة حيث يضعف النشاط على أن سرعة الانفعال لا تعود إلى تركيبها العضلي بل تعزى إلى فقر الدم الناشئ عن قلة التمرين فالنساء العاملات أقل تعرضاً للانفعالات التي تنكد عيش غيرهن من النساء وقد قال أحد الباحثين أن امرأة العصور القديمة تختلف كل الاختلاف عن امرأة اليوم.
ولا ريب في أن دخول النساء في الحياة العامة وأساليب تهذيبهن التي تبدلت كان لها أشد أثر عل حياتهن المعنوية فكلما تحكمت المرأة بالرجل فقدت صفاتها الأنثوية فهل يأتي يوم تضمحل فيه خواصها المميزة؟ إن ذلك بعيد الاحتمال.
استبحار العمران وانتشار التمدن يخففان من ألم المرأة الناتج عن الأمومة فهل يرجى أن يقويا على هاتيك الأوجاع حتى يلاشياها؟ والذي نراه أن الأمومة كان وسيكون لها إلى الأبد شأن.(67/34)
الحب والجمال المعنوي -. إن ما تخسره المرأة مادياً تربحه معنوياً وهذه الأمومة تكبدها آلام لا تطاق إلا أنها تحبوها أرقى الصفات التي يمتاز بها الجنس البشري وهي الحب والحنان فالمرأة في سهرها الدائم على طفلها وعنايتها به يرتقي شعورها بالمحبة والعطف.
وفي حب الأمهات تسطع أسمى عاطفة في الوجود ويزدهر رجاء لا حد له لقربه عين الإنسانية وينفجر ينبوع هذا الحب في كل مكان فيرسم على كياننا آثاراً لا تمحى. ولا يضمحل حب المرأة إلا بانقراض آخر رجل فارتباطها بوجودنا يحملها على حفظ العهود وصيانة المواثيق ويحق للمرأة أن تفاخر بوظيفتها الاجتماعية فإن الأمومة هي مصدر الفضائل والمحبة الغيرية التي يحيا بها المجتمع الإنساني وهذا الحب الشديد الذي يفصل بينها وبين الرجل ليس إلا ليبوأها في الحياة الاجتماعية مكانة أسمى من مكانته إذا أعيا تكافل الجنسين دون مساواتهما في العظمة واشتراكهما في مقاساة الآلام.
كذب المرأة -. تنمو على شجرة حياء المرأة في أحوالها المختلفة فروع تخيل للرائي أنها المميزات الفارقة بين الجنسين وكثيراً ما يمر بها المفكرون غير محتفلين بالأسباب الطارئة التي جعلت بعضها نضيراً زاهراً يستهوي العيون مرآه والآخر ذاوياً جافاً ينبو عنه البصر على أننا إذا بدلنا بيئة الشجرة تلاشت الفروع الذابلة ولو أحاطت بالمرأة صروف الرجل لكان لها فضائله ورذائله.
وما وجدنا أعجز من رأي من يأخذ على المرأة اعتلاقها بأسباب الرياء وهي سلاح الضعفاء في النزاع الحيوي ولا بد لنا من كلام يزيد القضية وضوحاً ونحن نرى علماء النفس على اتفاق في هذا الحكم الذي يشمل المجتمعات الإنسانية من أرقاها إلى أدناها فإذا قضي على الضعيف أن ينازع القوي مال إلى المراوغة والكذب وذلك شأن المرأة فكلما تحرج موقفها لجأت إلى الإفك والبهتان ذوداً عن نفسها ويقول سبنسر: إن الكذب يرافق كل حالة اجتماعية قائمة على دعامتي القوة والخوف قوة السائدين وخوف المسودين قوة واقتداراً غير أن الفلاسفة والمتشرعين وعلماء النفس والشعراء والقصصين أغضوا عن مصدر الشر وجعلوا الكذب صفة غريزية في المرأة ومشى على هذا المذهب الشارعون فحرموا المرأة حق الشهادة زاعمين أنها أقل صدقاً من الرجل فأدى ذلك إلى استطرادها في هذا السبيل وما كان ذلك إلا ليزيد تعاسة الرجل فشقاؤه ورياؤها متلازمان والآلام التي(67/35)
يكبدها إياها تفسد نظام حياته العائلية فالمرأة عنصر ينحل في حياة الرجل وفي وسعه أن يظهر ذلك العنصر أو يفسده.
نفث في روعها على أنه لم تخلق إلا لإرضائه فتوسلت إلى هذه الغاية بوسائل مهلكة واضطرت أن تتصنع بتستر الطوارئ التي تلم بها فتذهب بروعة جمالها ومالت إلى استغوائه فتزينت وتبرجت وتخيرت جملاً عذبة تسردها من غير شعور وزاغ بها هذا التصنع عن طبيعتها وأكسبها صفات مستنكرة حتى سهل عليها بتوالي الأزمان كتم عواطفها والتظاهر بما لا تحس به فأصبحت تصرخ إذا مستها شوكة وتتمالك ذا استغرق الألم وجودها والتمست من الرجل أن يحميها لأنها رأته يميل إلى المرأة الضعيفة.
ثم أضعفت فيها ملكة النقد والتمييز بإهمال تثقيفها فأصبحت تنظر إلى المحسوسات نظراً مزوَّراً وتفسرها على غير حقيقتها ولم يشعر الرجل إلا والمرأة قد تبدلت فبات ينكر الصفات التي أفادها إياها وما زال الإفك يعبث كل العبث في المجتمع حتى أصبح دعامة الحياة العامة.
كذب الرجل -. لا ننكر أن المرأة أشد رياء من الرجل غير أنه ليس بفاقد هذه الصفة وإنما الفرق في الكمية لا في الكيفية وقد تكذب المرأة وتداجي فلا تجر مداجاتها على الهيئة الاجتماعية ما يجره بهتان الرجل من الويلات فمما يسمم وجودنا من الشواعر الكاذبة ويباعد بيننا وبين الغبطة يظهر لا بين الأفراد فقط بل بين الأجناس والشعوب وما السلم المسلح سوى أكذوبة هائلة نفذت إلى جميع الضمائر فمن التهذيب العام والخاص وعلاقات الطبقات الاجتماعية ومبادئ الحكومات والعدل وتحديد حقوق الوطنيين وواجباتهم تتولد تلك الآفة الهائلة فتفسد البيئة التي نعيش فيها وهذه العواطف غدت وسيلة الخداع والوطنية مدرجة المنافع الذاتية والتزوير عنصراً جوهرياً للحياة فالسلطة الفردية تستعين بالقول أن حق الملك من حق الله والديمقراطيون ينادون بوجوب المساواة وكلا الفريقين نازع إلى القبض على السلطة ولم يكتف مدعو الزعامة بإدخال السم في الحياة العامة حتى جاهروا بذلك غير خجلين وقد افترت الإنسانية على الديانات والأدبيات فبينا ترى التعاليم الدينية تقضي علينا بمحبة القريب نجد المتدينين يتنازعون ويتقارعون والشعوب تتطاحن في مضمار الجهاد.(67/36)
والصنائع من أرقاها إلى أدناها مدعومة بالإفك والتزوير وهؤلاء السياسيون يأتون ضروب الغش والرياء ويرتقون المناصب على سلم من المواعيد التي يستحيل تحقيقها وكلما قام مصلح لمناهضة البهتان رموه بضعف الوطنية وكل ذلك من عمل الرجل.
وحسبنا بما نقدم عليه دليلاً على مبلغ الرجل من الإفك ممات حمل المرأة في دورها على اقتفاء آثاره مسوقة بضعفها الطبيعي وعجز منتها فاقتصرت على الأكاذيب البسيطة وأفرط رفيقها في البهتان.
يستحب الرجل في شريكه حياته الرقة والخضوع شأن كل كائن قوي فيزينها في عينه وداعة الورقاء ويحببه إليها القوة والرجولية ومهما بلغ من أخلاقه فالمرأة مدفوعة إلى مجاراته على أهوائه احتفاظاً بمحبته وصيانة للنوع الإنساني فلم يكفها في ذلك جمالها ورقتها بل سعت إلى استرضائه فغالبت فطرتها توسلاً إلى بلوغ هذه الغاية وما وقفت عند حد التبهرج والدل بل اتخذت مظهراً معنوياً ملائماً لميوله. فتأصل حب الاسترضاء في نفسها حتى غدا لها طبيعة ثانية وأثرت فيها الوراثة والانتخاب الطبيعي حتى حسبت إرضاء الرجل الغاية الكبرى من حياتها وارتاح الرجل إلى تلك المظاهر مأخوذاً بما فيها من الروائع الخلابة فألهته رياء الزهر عما فيه من السم الزعاف واستنفذت المرأة مجهودها في استمالته ولو شوهت تكوينها المعنوي فأًبحت كثيرة المجاملة قديرة على كتمان عواطفها تتظاهر بالابتسام والعاصفة تثور في داخلها لتلقي على نفسها ستاراً وخادعت شريكها بقولها وحركاتها وابتساماتها فبرهن ذلك على أنه لم تخسر طبيعتها الإنسانية في عصور العبودية والرق فهي تأفك لتحفظ مزيتها الإنسانية مما يدل على ثباتها وصلابتها ومقاومتها لما سامها الرجل من الحيف والضغط.
تعاقبت القرون وتأثير الأحوال الخاصة يعمل في نفس المرأة حتى جعل لها سمة خاصة فطوت في إرضاء الرجل جميع غايات حياتها الدنيوية غير عابئة بما يسومها من ضعف فضيلتها ولكن مرونة النفس البشرية لا نهاية لها وفيها استعداد تام للرقي المعنوي فلما زالت الصروف التي تبدل من وجدانها نشطت للحرية واستعادت ما فقدته من المواهب وخرجت الشعوب المنحطة من بيئتها المظلمة لتضارع أرقى الشعوب مدنية ويكفي لمحو تأثير عشرين قرناً عقبان أو ثلاثة أعقاب فهذه قبائل الماوريس منذ قرن واحد ساردة في(67/37)
ظلمات الجهل فما فتح لها باب المدنية حتى ضربت فيها بسهم وافر ونساؤها اليوم لسن دون النساء الإنكليزيات وزنوج الولايات المتحدة عدوا منذ مائة عام بين أحط الشعوب الأفريقية وقد بلغوا اليوم شأواً بعيداً في الحضارة وشغلوا مركزاً رفيعاً في عالمي الاقتصاد والاجتماع.
وكان يحق لنا اليأس من المستقبل أو أن الإنسان استطرق في سبيل الأسلاف وأضاف إلى النقائص الموروثة ما تنتجه العصور بتواليها غير أن النفس مرنة ومرونتها تنعش الرجاء بالمستقبل والمرأة في ذلك على مستوى الرجل فيتبدل تهذيبها ومركزها الاجتماعي تستعيد الصدق إحدى صفات السادة واهجر الرياء وهو تركه عصور العبودية وعلى هذا المنوال يتغير مجموع الصفات الأنثوية لأن نفوسنا تتكيف على ما يلائم شروط البيئة فلم يخلق الرجل ولا المرأة كاذبين أو صادقين فإذا مازج البهتان حياتنا لم يكن إلا عقبى الصلات التي ربطت الجنسين.
بعض الميزات -. تنبهت في المرأة خاصتا الفهم والملاحظة لتستكشف مقاصد الرجل وتعمل على بلوغها فاكتسبت من بيئتها فضائل خاصة كما استفادت نقائص خاصة وأصبحت قادرة على التخلص من المأزق والنظر في أعماق الرجل لمعرفة مظان الضعف فيها فعرفت كيف تلطف بكلماتها العذبة آلامنا وتهيج أشواقنا وأصبحت مداهنتها أوضح أثراً وأشد فعلاً واستطاعت لنقص شخصيتها أن تمتزج بشخصية الرجل إذ لا يمنعنا من الانقياد إلى الغير سوى وثوقنا بالقوة واعتمادنا على الذات أما المرأة ففقدت هاتين الخاصتين واستغرقت في حياة الرجل وأصبحت العنصر الجوهري لسعادتنا وشقائنا.
ثم أن نفسها الساكنة جعلتها أيسر انفعالاً فحبها وبغضها وإعجابها فوق ما يشعر به الرجل على أن الأيام لا بد أن تخفف من هذه العواطف.
مالت المرأة إلى الوهم ذلك الشعور المبهم العقيم ووجدت من تهذيبها ما تنزع بها هذا المنزع فولعت بقراءة الروايات وشغلت جل أفكارها في الحب لأنها تحيا لتحب وعكفت على مطالعة الأقاصيص الغرامية فأصبحت لها كالحب مصدر عواطف لا ينضب غير أن انصرافها إلى القصص أضعف فيها ملكة الذكاء.
التصورات الحبية -. مال الرجل في دوره إلى الغرام وما وجد أجمل من حديثه وقعاً في(67/38)
نفس المرأة فأصبح للحكايات الخيالية الشأن الأكبر في حياتنا وهي غير جديرة بالنظر وغدا القصصيون من رجال ونساء قادة الإنسانية يضعون دعائم مستقبلها واشتغل الناس بالأوهام والأحلام عن الحقائق الثابتة ولعل مؤرخاً ينشأ في القرن الثلاثين ينظر إلى ولوعنا بالخيال هازئاً بما ندعيه من الرقي العقلي وربما أوقفنا في مستوى المصريين القدماء الذين عبدوا الكوائن المنحطة فلا يبعد عن الحقيقة وها نحن ذا نرى المرأة مشغوفة بالروايات مستميلة إليها الرجل وقد استغرق الحب وجودهما وقربا على مذبحه أعظم الضحايا.
حياة المرأة الضيقة الحدود القللية الواجبات جعلتها تتألم لأدنى مظاهر الحياة ومتى رأينا شدة حب المرأة وكرهها حكمنا أن العاطفتين أقوى فيها مما هي في الرجل والشجرة المنفردة في عرض البر تخيل للرائي أنها أكبر مما هي.
أثبت الباحثون أن وجوه الشبه بين نفس المرأة والطفل أوفر مما هي بين نفسي المرأة الطفل والرجل وقد يفوق الرجل في بعض المزايا وينحط عنه في غيرها شأن المرأة فمركزها التاريخي عند جميع الشعوب أكسبها بعض الصفات الفاضلة وأفقدها أكثر منها.
أطاعت الرجل وأصبحت مصدر أفراحه ومسراته فلم تقو على مضارعته في الفكر واقتبست خواص تقربها من الولد حتى وصفها بعضهم بقوله أنها رجل غير كامل إلا أنها تستطيع في دورها أن تعزو إلى الرجل ذلك اللقب ولقد يكون الطفل في حالة نموه أحد ذهناً وأوفر ذكاءً من الرجل إذا تراجع في سلم النشوء وهو على الإطلاق أطهر منه قلباً وأقل اهتماماً.
الارتقاء العقلي لا يجري على خط مستقيم فينهض بنا طوراً إلى أعلى الذرى ويحطنا تارة إلى أعمق المهاوي وهذه المميزات التي تفصل بين الرجل والمرأة ليست سوى نتيجة عوارض طارئة تزول بزوالها ومهما يكن من موقف المرأة إزاء الرجل فهو أثر من آثار المركز الذي وجدت فيه خلال عصور متوالية فهي كما وصفوها رجل ناقص لأنها امرأة غير كاملة ومما يعزينا أنها لم تخسر في عصور العبودية ذرة من القوة العضوية فيعجزها فقدانها عن استعادة مركزها وأقل تغيير في شروط حياتها العقلية والخلقية يمكنها من استرجاع الصفات التي أضاعتها.(67/39)
إن نجاح المرأة في عصرنا الحاضر ينعش في نفوسنا آمالاً ناضرة وبما أن ارتقاء الرجل قائم بارتقاء المرأة يحق لنا الوثوق بمستقبل الإنسانية الزاهر.
معرباً بتصرف من مقالة لجان فينو في المجلة الباريزية. دمشق: // جرجي الحداد(67/40)
ابن زيدون وابن جهور
هذه رسالة ذي الوزارتين أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن زيد المخرومي الأندلسي القرطبي (354 - 463) كتب بها إلى رئيسه أبي الوليد بن جهور من ملوك الطوائف بالأندلس توفي عام (443) يستعطفه بها لما كان في اعتقاله.
يا مولاي وسيدي الذي ودادي له واعتمادي عليه واعتدادي به ومن أبقاه الله ماضي حد العزم واري زند الأمل ثابت عهد النعمة.
إذا سلبتني أعزك الله لباس أنعامك وعطلتني من أحلى إيناسك وأظمأني إلى برود إسعافك ونفضت بي كف حياطتك وغضضت عني طرف حمايتك بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك وسمع الأصم ثنائي عليك وأحس الجماد باستنادي إليك فلا غرو فقد يغص الماءُ شاربه ويقتل الدواء المستشفي به ويؤتى الحذر من مأمنه وتكون منيته التمني في أمنيته والحين قد يسبق جهد الحريص.
كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الحساد
وإني لأتجلد وأرى الشامتين إني لريب الدهر لا أتضعضع.
فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها وجبين عض به إكليله وشرفي الصفة بالأرض صاقله وسمهري عرضه على النار مثقفه وعبد ذهب به سيده مذهب الذي يقول:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً ... فليقس أحياناً على من يرحم
هذا العتب محمود عواقبه وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع.
ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سحابه أو تأخر غير ضنين غناؤه فأبطأ الدلاء فيضاً أملأوها وأثقل السحب مشياً أحفلها وأنفع الحيا ما صادف جدباً وألذ الشراب أصاب غليلاً ومع اليوم غد ولكل أجل كتاب. له الحمد على اهتباله ولا عتب عليه في إغفاله.
وان يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللاتي سررن ألوف
وأعود فأقول: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك والتطاول الذي لم يستغرقه تطولك والتحامل الذي لم يف به احتمالك.
لا أخلو من أن أكون بريئاً فأين عدلك أو مسيئاً فأين فضلك.
ألا يكن ذنب فعدلك واسع ... أو كان لي ذنب ففضلك أوسع(67/41)
حنانيك قد بلغ السيل الزبى ونالني ما حسبي به وكفى وما أراني إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت وقال لي نوح اركب معنا فقلت سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وأمرت ببناء صرح لعلي أطلع إلى إله موسى وعكفت على العجل واعتديت في السبت وتعاطيت فعقرت وشربت من النهر الذي أبتلي به جيوش طالوت وقدت الفيل لأبرهة وعاهدت قريشاً على ما في الصحيفة وتأولت في بيعة العقبة ونفرت إلى العير ببدر وانخذلت بثلث الناس يوم أحد وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة وجئت بالإفك على عائشة الصديقة وأنفقت من إمارة أسامة وزعمت أن خلافة أبي بكر كانت فلتة ورويت رمحي من كتيبة خالد ومزقت الأديم الذي باركت يد الله عليه وضحيت بالأشمط الذي عنوان السجود به وبذلت لقطام:
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالجسام المصمم
وكتبت إلى عمرو بن سعدان جعجع بالحسين وتمثلت عندما بلغني من وقعة الحرة:
ليت أشياخي ببدرٍ علموا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
ورجمت الكعبة وصليت العائذ على الثنية لكان فيما جرى على ما يحتمل أن يكون نكالاً ويدعى ولو على المجاز عقاباً.
وحسبك من حادثٍ بامرئٍ ... ترى حاسديه له راحمينا
فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح ونبأ جاء به فاسق وهم الهمازون المشاؤون بنميم والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا والغواة الذين لا يتركون أديماً صحيحاً والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس فقال: ما ظنك بقوم الصدق محمود منهم إلا:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب.
والله ما غششتك بعد النصيحة. ولا انحرفت عنك بعد الصاغية ولا نصبت لك بعد التشيع فيك ولا أزمعت يأساً منك مع ضمان تكلفت به الثقة عنك وعهد أخذ حسن الظن بك ففيم عبث الجفاء بأزمتي وعاث العقوق في مواتي وتمكن الضياع من وسائلي ولم ضاقت مذاهبي وأكدت مطالبي وعلام رضيت من المركب بالتعليق بل من الغنيمة بالإياب وإني غلبني المغلب وفخر علي العاجز الضعيف ولطمتني غير ذات سوار ومالك لم تمنع مني قبل أن أفترس وتدركني ولما أمزق أم كيف لا تنصرم جوائح إلا كفاء حسداً على(67/42)
الخصوص بنت وتنقطع أنفاس النظراء منافسة في الكرامة عليك وقد زانني اسم خدمتك وزهاني وسم نعمتك وأبليت البلاء الجميل في سماطك وقمت المقام المحمود في بساطك.
ألست الموالي فيك غر قصائدي ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما
ثناءٌ يخال الروض منه منوراً ... ضحى ويخال الوشي فيه منمنما
وهل لبس الصباح إلا برداً طرزته بفضائلك وتقلدت الجوزاء إلا عقداً فصلته بمآثرك واستملى الربيع إلا ثناء ملأته من محاسنك وبث المسك إلا حديثاً أذعته في محامدك ما يوم حليمة بسر وإن كنت لم أكسك سليباً ولا حليتك عطلاً ولا وسمتك غفلاً بل وجدت آجرَّاً وحصى فبنيت ومكان القول ذا سعة فقلت وحاشا لك أن أعد من العاملة الناصبة وأكون كالذبالة المنصوبة تضيء للناس وهي تحترق فلك المثل الأعلى وهو بي وبك أولى ولعمرك ما جهلت أن صريح الرأي أن أتحول إذا بلغتني الشمس ونبا بي المنزل وأصفح عن المطامع التي تقطع أعناق الرجال فلا استوطئ العجز ولا أطمئن إلى الغرور ومن الأمثال المضروبة خامري أم عامر وإني مع المعرفة بان الجلاء. . . والنقلة مثله.
ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى ... مصارع مظلوم مجراً ومسبحا
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... بكن ما أساء النار في رأس كبكبا
عارف بأن الأدب الوطن لا يخشى فراقه والخليط لا يتوقع زياله والنسيب لا يجفى والجمال لا يخفى ثم ما قران السعد للكواكب أبهى أثراً ولا أسنى خطراً من اقتران غنى النفس به وانتظامها نسق معه فإن الحائز لهما الضارب بسهم فيها وقليل ما هم أينما توجه ورد منهل بروحط في جناب قبول وضوحك قبل إنزال رحله وأعطي حكم الصبي على أهله.
وقيل له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيت صالح ومقيل
غير أن الوطن محبوب والمنشأ مألوف واللبيب يحن إلى وطنه حنين النجيب إلى عطته والكريم لا يجفو أرضاً فيها قوابله ولا ينسى بلداً فيها مراضعه قال الأول:
أحب بلاد الله ما بين منعحج ... إليّ وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
هذا ال مغالاتي بعقد جوارك ومنافستي بلحظة من قربك واعتقادي أن الطمع في نيزك(67/43)
طبعك والغنى من سواك عنا والبدل منك أعور والعوض لنا.
وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضناً به نظري إلى الأمراء
كل الصيد في جوف الفرا وفي كل شجر نارا واستمجد المرخ والعفار فما هذه البراءة ممن يتولاك والميل عمن لا يميل عك وهلا كان هواك فيمن هواه فيك ورضاك فيمن رضاه لك.
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
أعيذك ونفسي من أن أشيم خلباً واستمطر جهاماً وأكرم من غير مكرم وأشكو شكوى الجريح إلى العقباء والرخم فما أبسست لك إلا لتدر وحركت لك الحوار إلا لتحن ونبهتك إلا لأنام وسريت إليك إلا لأحمد السرى لديك وإنك إن سنيت عقد أمري تيسر ومتى أعذرت في فك أسري لم يتعذر وعلمك محيط بأن المعروف ثمرة النعمة والشفاعة زكاة المروءة وفضل الجاه تعود به صدقة.
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
لعلي ألقي العصي بذراك وتستقر بي النوى في ظلك وأستأنف التأديب بأدبك والاحتمال على مذهبك فلا أجد للحاسد مجال لحظة ولا أدع للقادح مساغ لفظة والله ميسرك من أطلابي بهذه الطلبة وأشكاي من هذه الشكوى بصنيعة يصيب منها مكان المصنع وتستودعها أحفظ مستودع حسبما أنت خليق له وأنا منك حريٌ به وذلك بيده وهين عليه.
ولما توالت غرور هذا النثر واتسقت درره فهز عطف غلوائه وجر ذيل خيلائه عارضه النظم مباهياً بل كايده مداهياً حين أشفق من أن يعطيك استعطافه وتميل بنفسك ألطافه فاستحسن العائدة منه واعتد بالفائدة له وما زال يستكد الذهن العليل والخاطر الكليل حتى زف إليك منه عروساً مجلوَّة في أثوابها منصوصة بحليها وملابسها.
وبعد أن أورد القصيدة قال:
هاكها أعزك الله ببسطها الأمل ويقبضها الخجل لها ذنب التقصير وحرمة الإخلاص فهب ذنباً لحرمة وأشفع نعمة بنعمة ليتأتى لك الإحسان من جهاته ويسلك إلى الفضل مني طرقاته.
دمشق // محمد رشدي الحكيم(67/44)
مخطوطات ومطبوعات
تاريخ اليعقوبي
مجلدان في 940 صفحة طبع بمطبعة بربل في ليدن سنة 1883
من جملة الكتب العربية الذي نشرها الأستاذ هوتسما أحد علماء المشرقيات هذا السفر النفيس لابن واضح من أهل القرن الثالث للهجرة وقد عني بطبعه عناية أخوانه المشتغلين بإحياء آثار الشرق الإسلامي فجاء وافياً بالمرام ساداً ثغرة مهمة في تاريخ الإسلام وقد وشحه باختلاف النسخ وشفعه بفهرس لأسماء الرجال وفهرس بأسماء البلدان التي ورد ذكرها في متن الكتاب ليتيسر الانتفاع به على الطالب في الحال. والنسخة التي ظفر بها الناشر ناقصة من أولها وفيها نقص من بعض فصولها لا يحول دون الانتفاع منها بدأ فيها المؤلف بذكر شيث بن آدم وبعد أن ذكر على عادة أكثر مؤرخي العرب تاريخ الأنبياء تتعرض للكلام على ملوك الإسرائيليين وملوك الموصل ونينوى وملوك بابل والهند واليونانيين والروم وفارس وملوك الجربي والصين ومصر من القبط والبربر والأفارقة والحبشة والسودان ومملكة البجة وملوك اليمن وملوك الشام وملوك الحيرة من اليمن وحرب كندة وأديان العرب وحكامهم وأزلامهم وشعرائهم وأسواقهم وبهذا ينتهي المجلد الأول ويبدأ المجلد الثاني بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام وبتاريخ الإسلام وخلفائه إلى أيام أحمد المعتضد على الله بعبارة سهلة موجزة. وإليك مثالين من الكتاب تعرف بهما طريقة ابن واضع قال في أسواق العرب:
كانت أسواق العرب عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم فمنها دومة الجندل يقوم في شهر ربيع الأول ورؤساؤها غسان وكلب أيُّ الحيين غلب قام ثم المثقر بهجر يقوم سوقها في جمادى الأولى تقوم بها بنو تيم رهط المنذر بن ساوى ثم صحار يقوم في رجب في أول يوم من رجب ولا يحتاج فيها إلى خفارة ثم يرتحلون من صحار إلى ريا بعشرهم فيها الجلندي وآل الجلندي ثم سوق الشحر شحر مهرة فيقوم سوقها تحت ظل الجبل الذي عليه فرهود النبي ولم تكن بها خفارة وكانت سهرة تقوم بها ثم سوق عدن يقوم في أول يوم من شهر رمضان بعشرهم بها الأبناء ومنها كان يحمل الطيب إلى سائر الآفاق ثم سوق صنعاء يقوم في النصف من شهر(67/45)
رمضان بعشرهم بها الأبناء ثم سوق الرابية بحضرموت ولم يكن يصل إليها إلا بخفارة لأنها لم تكن أرض مملكة وكان من عز فيها بز وكانت كندة تخفر فيها ثم سوق عكاظ بابلي نجد يقوم في ذي القعدة وينزلها قريش وسائر العرب اأن أكثرها مضر وبها كانت مفاخرة العرب وحمالاتهم ومهادناتهم ثم سوق ذي المجاز وكانت تتحل من سوق عكاظ وسوق ذي المجاز إلى مكة لحجهم وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق فسموا المحلين وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر فيسمون الذادة المحرمين فأما المحلون فكانوا قبائل من بني أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة ابن كنانة وقوم من بني عامر بن صعصعة وأما الذادة المحرمون فكانوا من بني عمرو بن تيم وبني حنظلة بن زيد مناة وقوم من هذيل وقوم من بني شيبان وقوم من بني كلب بن وبرة فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس وكان العرب جميعاً بين هؤلاء تضع أسلحتها في الأشهر الحرم. . . وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجوهها البراقع فيقال أن أول عربي كشف قناعه ظريف بن غنم العنبري ففعلت العرب مثل فعله.
أما المثال الثاني فنقتبس منه بعض الجمل فقط دلالة على حرية المؤلف ورداً على من يقول أن مؤرخي بني العباس اضطرتهم السياسة أن يحملوا على بني أمية إرضاء لبني هاشم مع أن أولئك المؤرخين من طعنوا الطعن المبرح بالعباسيين أنفسهم وهم معاصرون لهم كل ذلك بفضل الحرية التي تمتع بها العلم في القرون الأولى لبني العباس قال المؤلف بعد أن ذكر طرفاً من سيرة المتوكل على ما هي معروفة ومن قبض عليهم واستصفى أموالهم من عماله. وفي هذه السنة أمر المتوكل بلبس أهل الذمة الطيالسة العلية وركوبهم البغال والحمير بركب الخشب والسروج التي فيها الاكر ولا يركبون الخيل والبراذين وأن يصيروا على أبوابهم خشباً فيها صور الشياطين. وقال: وأمر المتوكل في هذا الوقت أن لا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من عمل السلطان وأن تهدم الكنائس والبيع المحدثة ومنعوا من العمارة وكتب بذلك إلى الآفاق. ولعل ما دعا المتوكل إلى تشديد الوطأة على أهل الذمة الانتقام منهم عما كان يأتيه ملوك الروم من غزو الأطراف فقد ذكر ابن واضح في ترجمة المتوكل أيضاً أنه لما وجه عنبسة بن إسحاق الضبي لم يقم فيها إلا شهوراً حتى(67/46)
أناخت الروم على دمياط في خمسة وثمانين مركباً فقتلوا خلقاً من المسلمين وأحرقوا ألفاً وأربعمائة منزل وسبوا من المسلمات ألفاً وثمانمائة وعشرين امرأة ومن نساء القبط ألف امرأة ومن اليهود مائة امرأة وأخذ السلاح الذي كان بدمياط والسقط وتهارب الناس فغرق في البحر نحو ألفين وأقاموا يومين وليلتين ثم انصرفوا. ومع هذا وجه طاغية الروم برسل وهدايا وكانت يسيرة فبعث إليه بأضعافها.
وترى من خلال السطور أن المؤرخ يكاد يصرح بسوء حالة المتوكل خصوصاً في سخطه على بعض عماله وتعذيبهم ومما قال فيه: وبنى المتوكل قصوراً وأنفق عليها أموالاً عظاماً منها الشاه والعروش والشبذار والبديع والغريب والبرج وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار. قال وعزم المتوكل على المسير إلى دمشق ووصف له برد هواها وكان محروراً فكتب إلى محمد بن أحمد بن مدبر يأمره باتخاذ القصور وإعداد المنازل وكتب في إصلاح الطرق وإقامة المنازل والمرافد وسار من سر من رأى يوم الاثنين لعشر بقين من ذي القعدة سنة 243 ونزل دمشق يوم الأربعاء لثمانٍ بقين من صفر سنة 344 فنزل تلك القصور فأقام ثمانية وثلثين يوماً وبلغه عن بعض الموالي من الأتراك أمر كرهه فشخص عن دمشق إلى العراق ولم يسافر في ولايته غير هذه السفرة إلا في نزهة ولم ير في سفرته هذه شيئاً ولا نظر في مصلحة أحد وأصابت الشام كله زلازل حتى ذهبت اللاذقية وجبلة ومات عالم من الناس حتى خرج الناس إلى الصحراء وأسلموا منازلهم وما فيها واتصل ذلك شهوراً من سنة 245 وانتقل المتوكل إلى موضع يقال له الماحوزة على ثلثة فراسخ من قصر سر من رأى وبنى هناك مدينة سماها الجعفرية وحفر فيها نهراً من القاطول ونقل الكتاب والدواوين والناس كافة إليها وبنى فيها قصراً لم يسمع بمثله وذلك في المحرم سنة 246.
ومما رواه المؤلف في سيرة المأمون وحريته وعلمه أن بشر بن الوليد الكندي قاضيه ببغداد كان قد ضرب رجلاً قرف بأنه شتم أبا بكر وعمر وأضافه على جمل فلما تقدم المأمون (بغداد وكان متغيباً عنها في الشام) أحضر الفقهاء فقال إني قد نظرت في قضيتك يا بشر فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة ثم أقبل على الفقهاء فقال: أفيكم من وقف على هذا قالوا وما ذاك يا أمير المؤمنين فقال: يا بشر بما أقمت الحد على هذا الرجل قال: بشتم(67/47)
أبي بكر وعمر قال: لا قال: فوكلوك قال: لا قال: فللحاكم أن يقيم حد القرفة بغير حضور خصم قال: لا قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته فيبطل الحد قال: لا قال: فأمهما كافرتان أم مسلمتان قال: بل كافرتان قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة قال: لا قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق أفيشهد عندك شاهداً عدل قال: قد زكى أحدهما قال: فيقام الحد بغير شاهدين عدلين قال: لا قال: ثم أقمت الحد في رمضان فالحدود تقام في شهر رمضان قال: لا قال: ثم جلدته وهو قائم فالمحدود يقام قال: لا قال: ثم شبحته بين العقابين فالمحدود يشبح قال: لا قال: ثم جلدته عريان فالمحدود يعرى قال: لا قال: ثم حملته على جمل فأطفته فالمحدود يطاف به قال: لا قال: ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد فالمحدود يحبس بعد الحد قال: لا قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأشاركك في جرمك خذوا عنه ثيابه واحضروا المحدود ليأخذ حقه منه فقال له من حضر من الفقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملاً بحقوقه عارفاً بأحكامه تقول الحق وتعمل به وتأمر بالعدل وتؤدب من رغب عنه إن هذا يا أمير المؤمنين حاكم اجتهد في رأيه فأخطأ فلا تفضح به الحكام وتهتك به القضاء فأمر به فحبس في داره حتى مات.
والكتاب كله فوائد غزيرة يشف عن علم صاحبه وناشره فيا حبذا لو صحت العزائم في الشرق لإعادة طبعه على صورة أحسن تسهيلاً لاقتنائه لأن معظم الكتب التي نشرها علماء المشرقيات قصدوا بها فائدة بلادهم أو فكراً خاصاً لهم ولذلك يقللون من النسخ المطبوعة منها ما أمكن بحيث يتعذر على ابن المشرق ابتياعها لغلاء أثمانها بالنسبة لما ألف من رخص الكتب في بلاده وكثيراً ما يتطلبها فلا يظفر بها بنسخة لأنها تفقد في مدة قليلة ولا يصل خبرها إلى الشرق إلا وتكون قد نفدت أو كادت.
تقويم البلدان
قلنا غير مرة أن علماء المشرقيات من الفرنسيس قصروا في العهد الأخير عن اللحاق برصفائهم من الألمان وأن ما ينشرونه اليوم من الكتب العربية دون ما كان أسلافهم ينشرون في النصف الأول من القرن التاسع عشر وكتاب تقويم البلدان تأليف السلطان الملك المؤيد عماد الدين اسمعيل صاحب حماه أكبر شاهد على صحة هذا القول فقد طبعه في باريز بدار الطباعة السلطانية سنة 1840 المسيو رينود والبارون دميسلان بمناظرة(67/48)
سلفستر دي ساسي شيخ المستشرقين في فرنسا الذي أفضل كثيراً على العرب والعربية بما نشره من آثار السلف.
وتقوم البلدان الجغرافية العامة كما يفهم من اسمه عظيم الفائدة من وجوه أقلها أن المؤلف كان من يعد الطبقة الراقية بين علماء القرن الثامن مدقق في كل ما خطته يده من المصنفات فهو في ملوك الطوائف المتأخرين بعلمه وفضله بمنزلة المأمون من خلفاء العباسيين.
ظفر الناشر أن كتابه هذا بنسخة صححت على المؤلف وكتب عليها بقلمه بعض التعليقات أو هي نسخة المؤلف فجاءت والعناية قد بذلت بها من أصح ما طبع علماء المشرقيات.
اعتمد المؤلف على ما كتبه ابن حوقل والإدريسي وابن سعيد وعلى كتابي العزيزي واللباب ونقل عنهم حتى في جغرافية بلاده وكان أبو الفدا طاف سورية ومصر وقسماً من بلاد العرب من الحجاز وبلغ الفرات فعد كلامه ثقة فيما كتبه والغالب أنه تحدى بطليموس في تقسيماته الجغرافية قال في مقدمته: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله حمداً يليق بجلاله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وبعد فإني طالعت الكتب المؤلفة في البلاد ونواحي الأرض من الجبال والبحار وغيرها فلم أجد فيها كتاباً موفياً بغرضي فمن الكتب التي وقفت عليها في هذا الفن كتاب ابن حوقل وهو كتاب مطول ذكر فيه صفات البلاد مستوفياً غير أنه لم يضبط الأسماء وكذلك لم يذكر الأطوال ولا العروض فصار غالب ما ذكره مجهول الاسم والبقعة ومع ذلك لا تحصل به فائدة تامة وكتاب الشريف الإدريسي في المسالك والممالك وكتاب ابن خرداذبة وغيرها وجميعهم حذوا حذو ابن حوقل في عدم التعرض إلى تحقيق الأسماء والأطوال والعروض وأما الزيجات والكتب المؤلفة في الأطوال والعروض فإنها عرية عن تحقيق الأسامي وعن ذكر صفات المدن وأما الكتب المؤلفة في تصحيح الأسماء وضبطها مثل كتاب الأنساب للسمعاني والمشترك لياقوت الحموي وكتاب مزيل الارتياب عن مشتبه الأنساب وكتاب الفيصل كلامهما لأبي المجد إسمعيل بن هبة الله الموصلي فإنها اشتملت على ضبط الأسماء وتحقيقها من غير تعرض إلى الأطوال والعروض ومع الجهل بالأطوال والعروض بجهل سمت ذلك البلد فلا يعرف الشرقي منها ولا الغربي ولا الجنوبي ولا الشمالي.(67/49)
ولما وقفنا على ذلك وتأملناه جمعنا في ها المختصر ما تفرق في الكتب المذكورة من غير أن ندعي الإحاطة بجميع البلاد أو بغالبها فإن ذلك أمر لا مطمع في الإحاطة به فإن جميع الكتب المؤلفة في هذا الفن لا تشتمل إلا على القليل إلى الغاية فإن إقليم الصين مع عظمته وكثرة مدنه لم يقع إلينا من أخباره إلا الشاذ النادر وهو مع ذلك غير محقق وكذلك بلاد البلغار وبلاد الجركس وبلاد الروس وبلاد السرب وبلاد الأولق (الأولاح) وبلاد الفرنج من الخليج القسطنطيني إلى البحر المحيط الغربي فإنها بلاد كثيرة وممالك عظيمة متسعة إلى الغاية ومع ذلك فإن أسماء مدنها وأحوالها مجهولة عندنا لم يذكر منها إلا القليل النادر وكذلك بلاد السودان من جهة الجنوب فإنها أيضاً بلاد كثيرة لجنوس مختلفة من الحبش والزنج والنوبة والتكرور والزيلع وغيرهم فانه لم يقع إلينا من أحبار بلادهم إلا القليل النادر وغالب كتب المسالك والممالك إنما حققوا بلاد الإسلام ومع ذلك فلم يحصوها عن آخرها ولكن كما قيل ما لم يعلم كله لا يترك كله فإن العلم بالبعض خير من الجهل بالكل وقد جمعنا في هذا المختصر ما تفرق في كتب عديدة على ما سنقف عليه إن شاء الله عند ذكرها وحذونا في تأليفه حذو ابن جزلة في كتاب تقويم الأبدان في الطب وسمينا كتابنا هذا تقويم البلدان.
بدأ المؤلف بكر الأرض والأقاليم السبعة والأبحار والأطوال والخلجان والبحيرات والأنهار والجبال قال في الكلام على ترتيب كتابه: أما ترتيبه فانه مجدول على وضع التقاويم وقد ذكرنا فيه الإقليم الحقيقي والإقليم العرفي في بيتين والمراد بالإقليم الحقيقي أحد الأقاليم السبعة المقدم ذكرها والعرفي كل ناحية أو مملكة تشتمل على عدة كثيرة من الأماكن والبلاد مثل الشام والعراق وغيرهما. قال وقد جعلنا في الجدول بيتاً لضبط الأسماء فإن في هذه الأسامي أسماء أعجمية لا يهتدي إليها بغير ضبط وكذلك في الأسماء المشهورة أسماءٌ قد غيرتها العامة تارة بتغيير الفتحة إلى الكسرة أو الضمة وبالعكس وتارة بزيادة الحروف في الكلمة وتارة بالتنقيص مثل ما يقولون في تبريز توريز وتستر شثتر ومثل ما يقولون تدمر بضم التاء وهي بالفتح فلذلك احتجنا إلى ضبط الأسماء وذكرنا في الهامش من فوق وتحت كلاماً على ذلك الإقليم وتحديده وذكر بعض مسافاته ونحو ذلك وأما ترتيب الأماكن وتقديم بعضها على بعض في الذكر فانه أمر لم يتهيأ لنا فيه ترتيب يرضينا فتبعنا فيه ابن حوقل(67/50)
وابتدأنا بجزيرة العرب لكون بيت الله الحرام وقبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام فيها.
ومع أن مؤلفنا اعتذر بتعذر الوصول إلى أحبار بلاد الإفرنج فقد ذكر منها جملة صالحة فذكر منها مملكة بولية على بحر الروم عند فم جون البنادقة من غربية وهي تقابل مملكة الباسليسة التي من البر الآخر وملك بولية كان يقال له في زمانه الريدشار وذكر بلاد فلفرية والمرا (المورة) والملغجوط وافلرنس والتسقاله (إيطاليا) واستنبرى والروس وافرنسة وألمانية وذكر مدينة باريز فقال: مدينة بريس قاعدة فرنسا وهي ثلاث قطع كما هي مدينة الباب فالوسطى التي في الجزيرة لفرنسيس سلطان الفرنج والجنوبية للجند والشمالية لسائر قوامسهم وتجارهم ورعيتهم وذكر عن ابن سعيد بلاد الباشقرد وهم ترك جاورا الألمانيين على عهد متواثق وهم مسلمون من جهة فقيه تركماني نصرهم بشرائع الإسلام وأكثر عمائرهم على نهر دوما وعلى جنوبيه قاعدتهم قرات وهي مما دخله التتر وخربوه وأهلكوا أهله وفي شرقيها بلاد الصنقر (المجر) اخوة الباشقرد تنصر والمجاورة الألمانيين ولهم مدائن وعمائر على النهر الكبير مستعجمة وقاعدتهم مدينة ترتبوا وذكر بلاد اللنبردية وجنوة وبيزة والبندقية ورومية وبرشان (قاعدة امة البرجان) قال فيهم وكان لهم شهرة وبأس قديم الزمان فاستولت عليهم الألمانية وأبادوهم حتى لم يبق منهم أحد ولا بقي لهم أثر وذكر مدن أثينة وقسطنطينية وتسمى بوزنطيا وماقذوينية وصقجي وابروز وطرنو وبلاد (بلغار) وطلوزة قال ابن سعيد وفي شرقي بردال مدينة طلوزة يقال أن لصاحبها الفرنجي في الجبال التي في شمالية وشرقيه ما ينيف على ألف حصن وهو قريب من صاحب فرنسة والنهر في جنوبيها يصعد منه مراكب البحر المحيط إليها بالقصدير والنحاس اللذان يجلبان من جزيرة أنكطرة وجزيرة أرلندة وتحمل على الظهر إلى تربونة ومنها تحمل في مراكب الفرنج في الإسكندرية. وذكر مدينة مرشيلية ومدينة سبقلوا في شمالي جبل جرواسيا قال فيها نقلاً عن ابن سعيد أنه يصنع فيها السيوف الألمانية المشهورة ولها معدن حديد بحبلها ويقال أن في مكانٍ منه معدن حديد مسموم يصنع منه السيوف والخناجر لا يبيح الملوك انتسابها لغيرهم وفي شرقيها وسمت عرضها مدينة نفصين (هصن؟) وهي مخصوصة بعلماء ألمانية وحكمائهم. وذكر عراز ولو شيرة وسنقو ومشقة وبرغاذما. ومن هذه المدن ما دثر الآن أو تغير اسمه.(67/51)
وقصارى القول أن كتاب أبي الفدا من أصدق كتب الجغرافية العربية التي ألفت في القرون الوسطى وكأنها ألفت في هذا القرن لم يفض صاحبها إلا فيما علم فكان حجة ثبتاً في كل ما روى تكاد لا تقرأ له خرافة ينكرها طبعك وتنافي ارتقاء العصر الحاضر فيا حبذا لو صحت همة أحد لطبعه فإن نسخة فقدت ولا تكاد توجد إلا في مكاتب الخاصة ودور الكتب العامة.(67/52)
أخبار وأفكار
بدائع الصنائع والمرأة المسلمة في العصور المتقدمة
تكلمتم في الجزء العاشر من المجلد الخامس على كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع وبينتم فضل الكتاب وما له من المكانة عند المشتغلين بفقه الإمام الأعظم فأحببت أن أتحف قراء المجلة بترجمة المؤلف وترجمة أستاذه وبنت أستاذه زوجته فاطمة الفاضلة فإنها أنموذج مما كانت عليه الأمة الإسلامية من العناية بتربية النساء.
قال الفاضل محمد عبد الحي اللكنوي الهندي في طبقاته المسماة بالفوائد البهية في تراجم الحنفية في صفحة 158: محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو بكر علاء الدين السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء أستاذ صاحب البدائع شيخ كبير فاضل جليل القدر تفقه على أبي المعين ميمون المحكولي على صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي وكانت ابنته فاطمة الفقيهة العلامة زوجة علاء الدين أبي بكر صاحب البدائع وكانت تفقهت على أبيها (وحفظت تحفته) وكان زوجها يخطئُ فترده إلى الصواب وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخط أبيها وخط زوجها.
وقال في الكتاب الموسوم بمدينة العلوم (وهو من البقية الباقية من نفائس مخطوطات مكتبة المدرسة العثمانية بحلب) كتاب التحفة للشيخ الإمام محمد بن أحمد بن أبي أحمد علاء الدين السمرقندي وهو الذي تزوج الكاساني ابنته فاطمة وشرح تحفته وفاطمة هذه كانت تنقل المذهب نقلاً جيداً وربما ترد فتوى زوجها الكاساني ويرجع هو إلى قولها وكانت الفتوى أولاً تخرج عليها وعليها خطها وخط أبيها السمرقندي ثم كانت تخرج بخطهما وخط زوجها الكاساني وكانت في يدي فاطمة سواران (باعتهما) وعملت بالثمن الفطور كل ليلة بالحلاوى واستمر ذلك إلى اليوم ولهذا سميت تلك المدرسة بالحلاوية (لم يزل هذا اسمها وهي من آثار نور الدين الشهيد عمرها سنة 554).
وقال في الفوائد البهية أيضاً في صفحة 53: أبو بكر بن مسعود بن أحمد علاء الدين ملك العلماء الكاساني صاحب البدائع شرح تحفة الفقهاء أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي صاحب التحفة عن صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي وعن أبي المعين ميمون المكولي وعن مجد الأئمة السرخسي وله كتاب السلطان المبين في أصول الدين وتفقه عليه(67/53)
ابنه محمود وأحمد بن محمود الغنزوي صاحب المقدمة العزنوية مات في عاشر رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة ودفن بظاهر حلب عند قبر زوجته فاطمة ابنة صاحب التحفة الفقهية العالمة والدعاء عند قبرهما مستجاب قال الجامع قال علي القارئ أنه مصنف البدائع الكتاب الكامل الجليل والسلطان المبين قيل وسماه المعتمد ومن شعره:
سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همه
ولاح بحكمتي نور الهدى في ... ليال بالضلالة مدلهمه
يريد الجاهلون ليطفؤوه ... ويأبى الله إلا أن يتمه
وتفقه علي أحمد بن محمد السمرقندي وقرأ عليه معظم تصانيفه وزوجه شيخه ابنته فاطمة وقيل أن سبب تزويجها أنها كانت من حسان النساء وكانت حفظت التحفة لأبيها وطلبها جماعة من ملوك بلاد الروم ولما صنف صاحب الترجمة البدائع وهو شرح التحفة وعرضها على شيخه ازداد به فرحاً وزوجه ابنته وجعل مهرها منه ذلك فقالوا في عصره شرح تحفته وتزوج ابنته وأرسل صاحب البدائع رسولاً من ملك بلاد الروم إلى نور الدين محمود بحلب وكان قبل ذلك قدم الرضا السرخسي صاحب المحيط إلى صاحب فولاه نور الدين الحلاوية وأتقن عزله فولاه نور الدين الحلاوية فتلقاه الفقهاء بالقبول. وقال ابن العديم سمعت ضياء الدين الحنفي قال حضرت الكاساني عند موته فشرع في قراءة سورة إبراهيم حتى بلغ قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) فخرجت روحه ودفن عند زوجته داخل مقام الخليل بظاهر حلب والدعاء عند قبريهما مستجاب ويعرف عند الزوار في حلب بقبر المرأة وزوجها انتهى قلت إن الأشعار التي نسبها إليه وقد نسبها حسن جلبي في حواشي التلويح إلى الحكيم عمر الخيام والله أعلم. ونسبته إلى الكاساني بالكاف ثم الألف ثم النون بلدة وراء الشاش ذكره السمعاني وقد يقال في نسبته الكاشاني بالمعجمة بدل المهملة وفي مشتبه النسبة للذهني قاسان بلد كبير بتركستان خلف سيحون وأهلها يقولون كاسان وكانت من محاسن الدنيا خربت باستيلاء الترك عليها ومنها العلامة علاء الدين الكاساني من أئمة الحنفية بدمشق (صوابه بحلب) أيام الملك نور الدين انتهى.
قال العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار في أوائل باب الطهارة ما نصه: هذا الكتاب (أي البدائع) جليل الشأن لم أر له نظيراً في كتبنا.(67/54)
وقد أكثر العلامة المذكور في حاشيته من النقل عنه والمتتبع لها يرى أنه حينما يأتي بالنقل عنه يكون قد آّن بالإتيان بما فيه فصل الخطاب في المسائل المختلف فيها.
فكتاب يلقب المؤرخون صاحبه بملك العلماء ويشهد فيه العلامة ابن عابدين هذه الشهادة ويكون عمدته في حاشيته التي عليها المعول في عصرنا هذا يدل دلالة واضحة على عظم فضل مؤلفه وجلالة قدره وغزارة مادته ومع هذا الفضل والعلم الزاخر كانت زوجته فاطمة ربما ردت فتواه ورجع هو إلى قولها ولا ريب أنه لم تقدم على ذلك إلا حينما آنست من نفسها أنها ضاهته في العلم وبلغت مبلغه في الفضل.
وحسبنا هذا دليلاً على ما وصلت إليه المرأة المسلمة من الرقي في تلك العصور وقايس أيها القارئ بين أمثال هذه الفاضلة وبين المرأة المسلمة في عصرنا هذا وقل لي رعاك الله هل يوجد اليوم في مشارق الأرض ومغاربها امرأة مسلمة حازت من العلياء هذه الدرجة وقل لهؤلاء العلماء القائلين بتحريم تعليم المرأة الكتابة أكان صاحب التحفة السمرقندي الذي هذب ابنته فاطمة وعلمها ما علمها جاهلاً بالحكم الذي يعلمه هؤلاء.
فهل لنا أن نأخذ من ترجمة هذه الفاضلة درس عظة يوقظنا من سباتنا ويبعثنا من أجداث خمولنا ويرشدنا إلى النهوض إلى تعليم بناتنا واجباتهم الدينية وحوائجهم الدنيوية لنحيى في الدنيا حياة طيبة ونعيش في الآخرة عيشة راضية.
حلب // محمد راغب طباع
(تنبيه) علم مما تقدم أن بدائع الصنائع هو شرح لتحفة الفقهاء لكن المتصفح للكتاب لا يرى فيه المتن البتة وذلك لأنه شرح على طريقة المتقدمين أي أنه أتى إلى كل بحث من أبحاث التحفة فوسع دائرته وجعله فصلاً ومزج المتن مع الشرح مزجاً لا يمكن التفرقة بينهما إلا لمن يرى التحفة على حدتها فالكتاب عبارة عن فصول متتابعة.
تجدد إيطاليا
كتب أحدهم في المجلة مقالة تحت هذا العنوان قال فيها ما محصله: كلما خرقوا جانباً من جبال الألب ينزل على إيطاليا ينبوع من الخصب والمال وبينا تجد العجز مستحكماً في ميزانيات ألمانيا وإنكلترا وفرنسا ترى ميزانية إيطاليا يزيد دخلها على خرجها فزادت تجارة إيطاليا الخارجية منذ أواخر القرن التاسع عشر بقوة عجيبة لم تضاهها به التجارة(67/55)
الألمانية ولا تجارة الولايات المتحدة. نمت تجارة أميركا 85 في المئة وألمانيا 84 في المئة وفرنسا 50 وإنكلترا 40 أما إيطاليا فقد زادت 99 في المئة. ومدينة ميلان معهد المقدمين من الماليين كما هي معهد دعاة الاشتراكية المتحمسين ولكنهم يراعون النظام في حركاتهم ومطالبهم وما قط أهرقوا دماً حراماً واغتصبوا مالاً حراماً فالاشتراكيون على جرأتهم والماليون كذلك ويكفي أن مدينتي تورين وميلان قد أقدمتا على صنع السيارات (الأتومبيل) قبل فرنسا وربحتا أرباحاً طائلة.
وبعد فإن إيطاليا مخصبة برجالها كما هي مخصبة بالأعمال والواردات ومعدل نفوسها أكثر من ألمانيا ففي كل كيلو متر من بلادها 117 ساكناً على حين لا يوجد في كل كيلو متر من ألمانيا سوى 104 أشخاص. وينسب الاجتماعيون نفوس الشعب الإيطالي المتزايد لاعتياد البكور في الزواج فقد تجد عروساً في الخامسة عشرة من عمرها وأمَّاً في السادسة عشرة في كل خطورة تسيرها في البلاد يغلب على العامل الإيطالي القناعة والعمل والاقتصاد وهو مولع بحب الأسرة فإذا ابتعد عنها فإنما يبتعد ليكون عوناً لها ولا يغادر المهاجر الإيطالي بيته إلا ليوطد دعائمه وهو أبداً يحلم بالعودة إليه.
العامل الإيطالي مثال القناعة والتوفير والصبر أعطه من الأجر ما يموت مثله العامل الإنكليزي. وتراه مع ذلك وتراه مع ذلك يقتصد من أجرته جانباً في صندوق التوفير نعم إن أجرة اليد العاملة في إيطاليا رخيصة ولكن الوقود فيها قليل فتكاد لا تجد في تلك البلاد الخصبة فحماً حجرياً وليست ميناء جين دون مرسيليا بتجارتها فإذا كانت مارسيليا ثغر فرنسا تدخلها البضائع تنقل منها إلى غيرها فإن جين مصرف مهم لداخلية إيطاليا فقد وقف عليها سنة 1910 - 13 ألف سفينة في حين وقف على مارسيليا 17 ألفاً وكان حظ جين سبعة ملايين طن من البضائع وحظ مارسيليا ثمانية واعتصاب العملة غير مألوف كما هو مألوف في مارسيليا لأن العملة يعرفون أن مصلحتهم مرتبطة بمصلحة معلميهم ولذلك يحلون بينهم كل إشكال يقع بالحسنى.
قال ولقد أوشكت إيطاليا أن تموت مرتين وما لاقته من الشدائد لا يخلو من عبرة فقد ماتت للمرة الأولى عندما داهمها برابرة الشمال وجعلوا أعزة أهلها أذلة وذلك لأنها نقضت عهد وطنيتها وأفسدت أخلاق ساكنيها وأهملت زراعتها وأضعفت جيشها فأعادت البابوية الحياة(67/56)
إلى رومية وبدلاً من تأليه قيصر ثارت تذكر اسم الله ثم جاء دور النهضة والت بالمفننين والشاعرين ورجال الحرب والسياسة من أبنائها. وتراجع عمران رومية للمرة الثانية بما حدث من الغوائل بين البابا والإمبراطور حتى إذا كانت الثورة الفرنسوية انتفضت إيطاليا كما انتفض العصفور بلله القطر. وفي أواسط القرن التاسع عشر نشأت تلك الثورة الوطنية التي كان من نتائجها وصول إيطاليا إلى ما وصلت إليه. كانت إيطاليا منذ ستين سنة منقسمة إلى ممالك حقيرة كلحم على وضم فمن مقاطعة صقلية إلى رومان إلى اميليا إلى طوسكانيا إلى بيمون ومن كان يرجو أن يداً صناع تقدر على عجن هذه الأجزاء المنحلة لتوحيدها وإرجاعها إلى الحياة وكم من إيطالي عظيم مات وهو يفكر في هذا الأمر الجلل ويرسم هذه الخطة العجيبة.
ولقد تهيأ لإيطاليا مثل غاريبالدي الذي قاد فتيانها ومازيني الذي كانت حظوته من الشعب سلاحاً أقوى من كلا سلاح وكافور رجل السياسة الذي أحيا الزراعة كما لمَّ شعث الجيش وأقام نصاب العدل والحق كما فاوض أوربا فجعل إيطاليا وطناً.
وهكذا بني بناء الوحدة الإيطالية بسرعة ومواد متينة على أرض لا تتزعزع فتوطدت دعائم هذا البناء منذ خمسين سنة وعادت رومية عاصمة إيطاليا الجديدة وميلان وتورين ونابل هي مدن العمل النافع الرافع. ولا بسبيزيا وجين هما ولا مراء ثغران تنبعث منهما الحياة القوية فإيطاليا مملوءة بماض وهي كذلك في المستقبل ترى فيها بقايا العاديات كما تجد فيها المجددات والمبتدعات وأن أرواح عظماء رجالها المفننين أمثال ميشيل آنج وليوناردي فتسي لتسر بما ترى الآن من معامل لومبارديا المائة الكهربائية العجيبة والمناطيد الطيارة السابحة في الفضاء. كم من آمال تحققت في إيطاليا ففيها أرادت مملكة القياصرة ثم البابوية أن تلقي السلام في العالم وفيها نشأت الخطط الشريفة في الأبنية الاجتماعية والإلهامات الصناعية العجيبة وكل ما ينهض بالأمم ويعلي مقامها قد بدأ في صور بديعة لطيفة فإيطاليا من ثم معمل الكمال والخيال.
المقعدون والصناعة
في كل مجتمع أفراد مصابون بعاهات تمنعهم عن تعاطي كثير من الأعمال فما هي الوسائل التي يجب على المجتمع أن يقوم بها نحوهم؟ يجيب الإنسان لأول وهلة أنه يجب عليه أن(67/57)
يعلمهم حرفة يحترفون بها وهذا ما قامت به المدرسة الخيرية في مدينة نيويورك من المساعدة للانتفاع من المقعدين فقد رأت بعد البحث العميق أن صنعة الصياغة أوفق ما يكون لهؤلاء المنكودي الحظ لأسباب أهمها أن هذه الحرفة لا تتطلب كثيراً القوة الجسدية وفي استطاعة الصانع أن يعمل طول النهار دون أن يضطر إلى الوقوف وطلب صناع ماهرين في هذه الصنعة متواصل ولا يخشى عليها من تهافت المهاجرين الأقوياء فيفسدونها على أهلها فيفسدونها على أهلها كما أفسدوا كثيراً من الصناعات البسيطة إذ هذه الحرفة تحتاج إلى مهارة لا تتأتى إلا بصرف وقت غير قصير في تعلمها. فلهذه الغاية أنشأت تلك المدرسة صفاً للمقعدين يتعلمون فيه هذه الحرفة تحت رعاية صانع ماهر وهم الآن يصلحون ما يدفع إليهم من العقود المجوهرات المنتثرة بالأجرة عدا عما يصيغونه ويبيعونه على حسابهم والمدرسة ستجد لهم محال في المعامل متى أتموا تعليمهم.
نادي السجناء
كثير من الأحداث الذين يدخلون السجون لجرائم ارتكبوها ثم يخرجون منها عازمين على أن يكونوا مستقيمين في مسلكهم ولكنهم لا يجدون عملاً ساعة خروجهم ينتج لهم منه ما يقوم بأودهم االناس تحجم عن استخدامهم لعدم الثقة بهم فيجبرون على ارتكاب جرائم أخرى طلباً للرزق فيزجون في أعماق السجون. فلمساعدة أمثال هؤلاء الأحداث أسس في بركلن أحد أحياء مدينة نيويورك نادٍ يأوون إليه ريثما يحصل الواحد منهم على عمل يقتات منه فعندها يترك النادي. والآن يوجد كثير ممن ساعدهم هذا النادي يقومون بأعمال مفيدة وهم يمدونه بما لديهم من الوسائل.
طهارة اللبن
قال أحد فلاسفة العصر حقق لي طهارة اللبن الذي يتناوله الطفل أؤكد لك سلامته وما زال علماء العالم منذ أمد بعيد يبحثون عن الوسائل لحفظ اللبن من الجراثيم المتعددة الأنواع التي تضر بصحة البالغين فضلاً عن الأطفال فلهذه الغاية اخترع وعاءٌ مؤلف من وعاءين الواحد ضمن الآخر الأول من المعدن والثاني من الخشب وبينهما فسحة لوضع الجليد لكي يحفظ اللبن رطباً والوعآن محكمان يمر من الوعاء الداخلي أنبوب يفرغ إلى وعاء آخر خارج الاثنين ذو نمر كل نمرة تشير إلى كذا من الوزن فلا يتكلف البائع إلا لفتح أنبوب(67/58)
يفرغ إلى الوعاء المعير ويضع فيه قدر ما يطلب الزبون ثم يغلقه ويفتح أنبوباً آخر يفضي إلى أبريق الزبون فبهذه الواسطة يكون قد حفظ اللبن من الفساد بالحر ولم يدخل إليه شيء من الجراثيم وقت المناولة.
الراحة في السفر
قد فتح حديثاً في مدينة بونس آيرس عاصمة الجمهورية الفضية نزل يسع 3200 نزيل وهو زل حسن البناء والفرش ذو طابقين وفيه إدارة خصوصية لبيع طاقات السفر في السكك الحديدية فالنازل فيه لا يحتاج إلى الخروج منه إلا إذا كان يريد السفر في داخل البلاد لابتياع البطاقة وشحن أثقاله.
إصلاح زي المرأة
أهمل النساء في ملابسهن مقتضيات الصحة وراعين شروط الجمال فعمدن إلى المشد التماساً لدقة الخصر وبروز الصدر وارتدين بروداً لا تدفع تأثيرات الطقس إلى غير ذلك مما أنهك الأجسام وأعدها لعوادي الضعف والوهن والنشاء لاهيات بالمظاهر الخلابة عما وراءها من النحول والسقم ولما استفحل شر هذا الداء تألفت في ألمانيا جمعية نسائية غرضها إصلاح الأزياء عل ما تقتضيه شروط الصحة وانضم إليها كثيرات من علية نساء الألمان وأصدرن مجلة وضعن فيها رسوم الأزياء الصحية ودعت الأديبات فيها إلى خلع الأزياء الجديدة وفي مقدمة أولئك الكاتبات ملكة رومانيا.
وسرت الحركة إلى فرنسا فاهتمت مجلاتها بهذا الإصلاح ونشرت فيه الفصول الضافية وحرضت الجمعيات النسائية في فرانسا على اقتفاء أثر الجمعية الألمانية.
وانتشرت هذه الفكرة في بلاد الإنكليز فكانت الملكة أول من أبرزت الفكر إلى حيز العمل فأصدرت منشوراً نسائياً لنساء الشرفاء صرحت فيه أنها لا تقبل في البلاط إلا من ارتدين بأكسية واسعة عينتها لهن وأنكرت الترف والفخفخة على نساء الأغنياء.
وعسى أن تنهض نساء الشرق إلى مجاراة أخواتهن في البلاد الراقية.
السكر الآسيوي
يصطنعون في الشرق أنواعاً من السكر غير معروفة في الغرب منها ما يصنع في نيبون ويدعى سكر الرز ويسميه الأهلون ميزيام أي السكر السائل لأنه غير جامد تماماً ولذلك لا(67/59)
يمكن تداوله في التجارة وإنما يرسلون منه زجاجات محكمة السد تحتوي الواحدة منها من 500 غرام تباع بنحو ثمانية غروش وتلك الزجاجات تحفظ السكر من الفساد ولكنها إذا استمرت مفتوحة هنيهة خثر السكر وتفه طعمه والتجار يستعملونه لإلصاق الغلافات وطوابع البريد ويصطنع الصينيون نوعاً آخر من الجاروس فيستخرجون عصارة النبات ويضعونها أياماً في أوعية صغيرة معرضة لحرارة الشمس فتتبخر المياه ويرسب في قعر الوعاء مقدار من السكر ينشرونه على مائدة.(67/60)
العدد 68 - بتاريخ: 1 - 10 - 1911(/)
الاركيولوجيا
////
الاركيولوجيا كلمة يونانية معناها الكلام على العاديات أو الآثار القديمة. وقد خص استعمالها مؤخراً بالبحث عن قدم الإنسان وحال معيشته حتى زمن التاريخ.
وقبل الدخول في البحث عن تاريخ الإنسان القديم لا بد من تمهيد جيولوجي لشدة علاقة موضوعنا بعلم اليولوجيا - أي قدم العالم - فنقول:
يرى معظم علماء الجيولوجيا أن الأرض كانت قديماً سديمية القوام ثم جمدت فبردت قشرتها الظاهرة بعد زمن طويل إلى أن صارت صالحة لظهور الحياة عليها فظهرت (بقوة علة العلل) منذ مئات الألوف من السنين. ويسمى زمن ظهورها بالدور الثلاثي وتلا هذا الدور الرباعي فوجد الإنسان في أوائله عل الأرجح. ويرى بعضهم أن الإنسان ظهر في أواخر الدور الثلاثي غير أن الآثار التي يعتمدون عليها لتعضيد رأيهم ليست بثبت. ثم جاء العصر الحجري الطويل المدة حين كان أسلافنا الأقدمون يستخدمون الأدوات الظرانية من حجارة العسوان. وعقب هذا الزمان البرونزي فالحديدي وفيه بدأت الحضارة الحقيقية ووضح التاريخ. والأزمنة الثلاثة الأخيرة من أخص مباحث الاركيولوجيا.
وتختلف مدد هذه العصور في طولها فبعضها يتخطى عشرات الألوف من السنين وبعضها كالزمان البرونزي لا يتجاوز ثلاثة آلاف سنة.
وبما أن ما اكتشف من آثار الدور الرابع لا يزال في معرض البحث والتخليص من شوائب الريب نبدأ ببيان عاديات العصر الحجري التي قد كشف للآن شيءٌ كثيرٌ منها. ويتبين من هذه الآثار أن الإنسان ظهر على الأرض منذ نحو عشرين ألف سنة على الأقل ومائة ألف سنة على الأكثر.
العصر الحجري - هذا العصر قديم جداً سابق لأقدم التواريخ البشرية من مثل الهيوروغليفية المدونة على هياكل مصر وفي مدافنها. وانتهى على الجملة قبل المسيح بنحو ثلاثة آلاف سنة. غير أن بعض البلدان كمصر كانت قد تحضرت قبل المسيح بستة إلى سبعة آلاف سنة وغيرها بقي إلى ما بعد ذلك بزمن طويل في حالة الهمجية كما يرى اليوم في سكان أوستراليا الأصليين وبعض أهالي جزر المحيط وغيرهم المنفصلين عن العالم المتحضر.(68/1)
وبقسم علماء الاركيولوجيا العصر الحجري إلى عدة أزمنة أضربنا عن ذكرها لنسوق الكلام عليه هنا خلواً من عرقلة التقسيم والتداخل.
ويظهر من الآثار القديمة أن الإنسان لم يهتد في أوربا إلى استعمال المعادن إلا قبل التاريخ المسيحي بألفين إلى ثلاثة آلاف سنة حين بدأ باستعمال البرونز وبعد ذلك استعمال الحديد (قبل المسيح بنحو ألف سنة).
ولذلك فالخصر الحجري في أوربا وكثير من أنحاء العالم انتهى في بدء زمان استعمال المعادن بعد أن استمر زمناً طويلاً.
وقد وجدت آثار عديدة في جميع أنحاء العالم تدل على أن الإنسان استعمل الأدوات الصوانية في همجيته حيث حل في القارات الست. وكانت هذه الأدوات خشنة الملمس غير متقنة في أوائل عهد الهمجية ثم أتثنت شيئاً فشيئاً في زمن سكن الكهوف ثم صقلت وارتقت في أواخر العصر الذي تلاه زمن يسمى بالجديد وهو ما نسميه هنا بزمن العبور من العصر الحجري إلى الزمن المعدني أي استعمال المعادن.
وفي جملة ما عثر عليه الباحثون من البقايا الحيوانية والآلات الصوانية في كنت ببلاد الإنكليز وفي بلجيوم وألمانيا وفرنسا ومصر وآسيا واليابان وأواسط أفريقية والمكسيك وغيرها ما يدل دلالة واضحة على كيفية معيشة الإنسان قديماً وعلى أنواع الحيوانات المعاصرة له التي انقرض بعضها الآن كالمموث والفيل الكبير ونوع من فرس البحر هائل الجثة وكثير من الطيور التي لو رأينا هياكلها الآن لهالنا كبر حجمها وغرابة منظرها.
وقد وجدت عظام هذه لحيوانات المنقرضة بجانب أدوات الإنسان في مدافنه وكهوفه ورئي شيء من لحم بعضها لا يزال لاصقاً بالعظام.
العصر الجليدي - واستدل علماء الآثار من أدلة عديدة وجدوها في طبقات متباينة العمق تحت الأرض وفي كهوف كلسية أن نصف الكرة الشمالي كان معتدل الهواء في أواسط الدور الثلاثي إلا أن سطح أوربا الشمالي كان في ذلك الوقت غير ما كان عليه في الدور الرباعي بعده. فكانت مياه الأوقيانوس الشمالي تغطي جميع الأراضي الواقعة الآن إلى الشمال من خط يمد من جنوب إنكلترا إلى بطرسبرج. وبعد ذلك شخصت جبال الألب والقوقاس والكربتيان وباقي الجبال فغبرت هواء تلك الأصقاع بما أحدثته من الرطوبة(68/2)
والبرد فتجلدت المياه وكانت تذوب صيفاً فيتكون منها أنهر جليدية تكسح في طريقها الشواخص وتخدد المطمئنات حاملة الأوحال إلى أبعاد سحيقة وجارفة الصخور تسحل بها وجه الأرض. فنجم عن ذلك النواتيء الصخرية والرواسب الترابية في السهول كما نشاهده اليوم. ويقدر العلماء أن عمق الجليد في الدور المذكور المسمى بالجليدي أيضاً بلغ في جهات اسكندينافيا نحواً من ستة آلاف قدم. وجعل يقل شيئاً فشيئاً في الجنوب حتى محاذاة إنكلترا ولكنه لم يبلغ قط جنوبيها كما ظهر من تحليل تربة الأنهر الجليدية عند لندن.
والغريب أنه كان يتخلل هذا الدور القارس مدد معتدلة الهواء تدل عليها بقايا الأشجار الحيوانات المتحجرة. فتقلبات كهذه لا يمكن تصورها كما هي حقيقة لعدم وجود مماثل لها في عصرنا الثابت أو القليل التغيرات.
زمن سكنى الكهوف - حدثت في القرن السادس عشر أن عني أهل أوربا بالبحث عن قرن الكركدن القديم المعروف بوحيد القرن لاعتقاد عامتهم أن لهذه القرون خاصة الشفاء من كثير من الأمراض فجر البحث عنه ذلك إلى اكتشاف كثير من الكهوف والمغاور التي كان يسكنها الإنسان. ووجد فيها من الآنية والأدوات الظرانية ما يكفي للدلالة على نوع معيشة الإنسان في أواسط العصر الحجري. إلا أن هذه الأبحاث لم تأخذ وجهة علمية إلا منذ نحو قرن حين عثر على مغاور الضباع الهائلة التي كانت تفترس المموث وفرس البحر. وكان المظنون أن هذه الآثار سابقة لظهور الإنسان غير أهم اكتشفوا بعد ذلك كهف كنت وهو من هذا النوع فوجدوا فيه آثار الإنسان وآثار وهذه الحيوانات المنقرضة جنباً إلى جنب فعلوا أن الإنسان كان معاصراً لها وقد ارتقى شيئاً فشيئاً يشبه بعض متوحشي أوستراليا اليوم. ولكنه أرقى من متوحشي جزائر صندويج لأنهم اكتشفوا على نقوش ورسوم رسمها على العظام تشهد له بالتفوق حتى على بعض منحطي أهل زماننا.
وإني شهدت رسم الوعل والمموث وغيره منقولاً عنه عظام محفوظة في متحف بريطانيا فدهشت لدقة صنعها وإتقان رسمها إتقاناً تقتضي له حنكة ورياضة وارتقاءٌ عقلي مما لا يمكن أن يتم إلا بعد عصور عديدة من التقدم التدريجي. ويتصف هذا الزمان بكثرة الأوهام حتى أن لمعظم أوهام أوربا علاقة بسكان الكهوف.
زمن الظران المصقول - بعد أن مضى على الإنسان ردح من الدهر وهو يستعمل الآلات(68/3)
الصوانية السمجة الخشنة الملمس توصل إلى صقلها وجعلها مستطيلة أكثر من سابقاتها المائلة إلى الاستدارة وجعل يعتني بمقالع الصوان ويبحث في الأرض بقرون الحيوانات كالوعل لاستخراج أفضل أنواعها. وكان من يستعمل المطارق من الصوان أيضاً ومن الحجارة المستديرة القاسية. وفي هذا الزمان أكثر انتشار الإنسان في الأرض لأن آثاره وجدت في معظم جهات العالم.
زمن العبور من الهمجية إلى الحضارة - مر على الإنسان نحو ألف سنة حاول فيها العبور من استعمال الحجارة إلى استخدام المعادن. وكان الناس في آخر هذا الزمن قد ارتقوا كثيراً عن سابق عهدهم حتى أنه وجد عند اكتشاف أميركا من بقايا الهنود وآثارهم الراقية ما يخجل سادتهم الأسبانيين الفاتحين ووجدت كتابات رمزية في المكسيك لم يهتد العلماء إلى حل رموزها إلى الآن ولسوف تحل مع الزمان فيكون من وراء ذلك أعظم فائدة للتاريخ. لأن في المكسيك شيئاً كثيراً منها فلا تقل فائدتها عن كشف رموز اللغة الهيروغليفية في وادي النيل خصوصاً لأن رسومها تماثل شيئاً ما في الهند والصين وحيواناتها تشبه حيوانات هاتين المملكتين فإذا حلت هذه الرموز كانت للعلم من أثمن الكنوز.
ويمتاز هذا الزمان بوفرة كوم بقايا الأطعمة من أصداف الأسماك وغيرها لأن معظم المساكن كانت بالقرب من البحيرات والأنهر وكان لها منافذ للنجاة إلى المياه عند الوقوع في خطر من هجوم الضواري. ووجد كثير من آثار الأبنية على الآكام وعلى مرتفعات صناعية محضة وحولها ركام من فضلات المأكولات وهي أسماك وحيوانات ونباتات بعضها مطبوخ بالنار.
أما في سويسرا حيث البحيرات الجميلة تحيط بها الجبال فيظهر أن الإنسان هناك سبق جيرانه في الارتقاء مستقلاً استقلالاً نوعياً فكان يبني أكواخاً على ضفافها ويلقي فضلات طعامه فيها ويتقي الخطر بفتح نوافذ إلى المياه أو ببناء مسكنه في وسط الماء كمما شوهد في بعض الأماكن ولذلك انصرف أيضاً إلى زراعة القمح والشعير مع صيد الأسماك والحيوانات. وتوصل إلى صنع الخزف ونسج الحصر والحبال وشيء من الأثواب وكانت أهم أدواته الحجر وقرن الوعل.
ويمتاز جميع أهل هذا الزمان بإقامة أبنية مستديرة الشكل متجهة إلى الشرق أو الغرب أو(68/4)
إلى أحد الكواكب ولها دهاليز تحت الأرض. والأرجح أنها هياكل. وقد علم من انحراف اتجاه الشمس عن الهياكل التي كانت مخصصة لها أنها بنيت منذ نحو ألفي سنة قبل المسيح. وبعد هذا التاريخ بدا استعمال المعادن في إنكلترا مع أنها كانت مستعملة في مصر وغيرها قبل ذلك.
الزمن البرونزي - كان البرونز هو المزيج من النحاس والتنك مستعملاً في آسيا وغيرها فأدخل استعماله في أوربا قوم من السلتيين سلالة الآريين هاجموا أوربا من جهات مختلفة. فاستعمل البرونز أولاً في كريت قبل المسيح بثلاثة آلاف سنة وفي صقلية بعد ذلك بخمس مئة سنة وفي فرنسا بعد صقلية بخمس مئة سنة ولم يدخل إلى بريطانيا حتى سنة 1800 ق. م.
وكان هؤلاء السلتيون عند دخولهم إنكلترا يحرّقون بعض موتاهم ويدفنون البعض الآخر. وإذا دفنوا أحداً وضعوا معه آلة عمله وشيئاً من الطعام ليتبلغ به في العالم الأسفل وأما لتشاؤمهم من بقاء عدته وطعامه بعد موته.
ومن الغريب أن يستعمل الإنسان البرونز أولاً وهو مزيج مركب مع إمكانه استخراج الحديد حالاً من معدنه الأصلي. ولعل هذا المشكل يحل فيما بعد أما الآن فيظن أن الإنسان وقع عرضاً على شيء من هذا المزيج فوجده وافياً بالغاية وعلم نسبة تركيبه بالاختبار وهي 1 إلى 9 فجرى عليها.
وعلم أن أول معدن نحاسي عثر عليه الإنسان وجده في السواقي والجداول حيث كان أهل العصر الحجري يبحثون عن مواد صوانية يصنعون منها أدواتهم. فسكب أهل الزمن البرونزي ما وجدوه منه في بوائق حجرية محفور فيها رسم الفؤوس والسيوف وغيرها بمهارة تقضي بإعجاب صناعنا اليوم. وكانت هذه الصناعة قد بدأت في مصر قبل أن يعرفها سكان شمالي البحر المتوسط.
وفي هذا الزمن كان الذهب كثيراً في إيرلندا بدليل ما صنع من الأدوات المبتذلة منه. وإن وفرة ما كان يستخرج منه مما يدهش ولا ثل لها إلا في كولمبيا من أعمال أميركا الجنوبية. إلا أن الفضة لم تكشف إلا بعد الذهب بزمن ليس بقليل. وأول ما ظهرت على ما نعلم في سواحل أسبانيا بجوار الماريا حيث وجد منها كثير من الحلقات التي تستعمل لتمتين(68/5)
المقابض الخشبية في أماكنها من تجاويف الفؤوس.
ومن الغريب مشابهة رسوم الأدوات الحجرية في جميع أنحاء العالم مما يدل على تفرق الإنسان من بقعة كانت قديماً محتده الأصلي.
وخلاصة ما تقدم أن للإنسان تاريخاً مقروءاً من هذه الأدوات الصوانية والمعدنية تدل على ارتقائه بارتقاء صنعها وتعدد ضروبها وأشكالها مما لا يترك محلاً للشك في كون الإنسان تدرّج في معارج النشوء والارتقاء من الآدمي العريق في الوحشية إلى البشري ساكن الكهوف ومفترس الحيوانات إلى صانع الآلات البرونزية التي اجتاز بواسطتها من طور التوحش إلى طور استعمال الحديد فالحضارة.
وهو الآن قد أبدل الأعصر القديمة بعصر البخار جعل ينتقل منه إلى عصر الكهرباء. وعما قليل نجده يأكل ويشرب ويلبس ويسبح وينام ويستيقظ ويبني ويهدم ويزرع ويحصد ويطبع ويسافر ويشهد الألعاب والملاهي على الأرض وفي القبة الزرقاء بمساعدة قوة الكهرباء.
هذا هو متوحش الأمس ومتحضر اليوم فما عسى أن يكون إنسان الغد؟
لا ريب أن الكثير من غرائب الزمان لا يزال مخبوءاً للإنسان ومن يعش ير.
بيروت // خليل سعد(68/6)
ماذا يقال
الطابور أم التابور
كان الكتاب دائماً يقولون دائماً الطابور ومنذ وقف أحد أعضاء نادي دار العلوم على كلمة تابور في تاج العروس وأذاعها بين الناس لم نعد نرى إلا القليلين يكتبون الكلمة بالطاء والسبب أن ورود الحرف المذكور منصوص عليه بالتاء في التاج ولم يتعرض له بالطاء. فيستنتج أن الطابور عامية وبالتاء أفصح.
قلنا:
1 - إن تعاقب التاء والطاء وبالعكس بالعربية مما لا يحتاج إلى التصريح به. فإن الألفاظ من هذا القبيل تعد بالمئات لا بالعشرات. ربما تستطيع أن تملأ نصف عدد من أعداد المقتبس بمثل هذه الكلم التي تتعاور فيها التاء والطاء. على أننا نجتزئ بذكر بعضها من ذلك: القطر والقتر (الناصبة). وما أسطيع وما أستيع. وهرت الثوب وهرطه. وطاح وتاه. وعفت في كلامه وعفط. (لواه عن وجهه وكسره لكنةً) وذهب دمه تلفاً وطلفاً. . . وعليه فتكون تابور وطابور من هذا الباب ولا سيما لأن كلتا اللغتين مشهورتان.
2 - عدم ورود لفظة في ديوان لغة لا ينفي صحتها. لأن المعاجم لم تدون جميع ألفاظ العرب. وحسبك دليلاً على ذلك أن المعاجم التي أنشئت في صدر الإسلام هي دون المعاجم المؤلفة أخيراً في السعة وكثرة تعدد الألفاظ؟ أفيستنتج من ذلك أن ما جاء في هذه الكتب المتأخرة هو من أوضاع العوام أو دون الأولى فصاحة. مع أن ما قيد ودون في أخريات هذه الأزمان قد يكون أقدم عهداً مما جاء في دواوين اللغة المؤلفة في القرون السابقة.
3 - ليست طابور محرفة عن تابور وإنما الطابور كلمة دخيلة قديمة العهد في العربية ربما كانت قبل سنة 73 هـ (1331 م) وأما تابور بالتاء فإنها حديثة العهد لم تدخل لسان آل عثمان إلا بعد سنة 1561 م (969) ولم ترد في كتب العرب إلا بعد شيوع اللفظة التركية بين العثمانيين. والذي استنزل أهل النادي للقول بعربية اللفظة وجودها في تاج العروس بلا تنبيه على عجمتها. بيد أن صاحب التاج كثيراً ما يغفل عن أصل اللفظة. وإلا فسائر أمهات اللغة ودواوينها القديمة لا تذكرها وأما طابور بالطاء فأقدم منها بكثير. فقد جاء في تاريخ ابن خلدون المغربي في كلامه عن أحبار سيف ذي يزن: ولما استوثق لذي يزن(68/7)
الملك جعل يعتسف الحبشة ويقتلهم حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولاً واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالخراب. وأنت تعلم أن ابن خلدون ولد سنة 732 هـ (1331 م) وقضى نحبه سنة 806 وقيل 808 هـ (1403 أو 1405 م) فتكون طابور وجمعها طوابير قبل استعمال ابن خلدون لها وبعد انتشارها بين العرب وفشوها في المغرب.
إذاً: الطابور أفصح من التابور ولو كانت كلتا اللغتين دخيلة.
أيقال طيارة أم مطيرة
كثر الكلام في هذا العهد عن الآلة التي اخترعها الأجانب للتحليق في الجو المعروفة عند الفرنسيين باسم فسماها كتاب العرب طيارة إلا أن هذه اللفظة مشتقة من طار يطير اللازم فيكون معناها: هذه الهنة التي يتخذها الصبيان من الورق فيطلقونها في الهواء فترتفع فيه من ذاتها. وأما الآلة التي يتخذها الإنسان ليحلق بها صعداً فإنما تتخذ لتطير الإنسان وترفعه في الجو فهي مطيرة لا طائرة وبالأصل لأن راكبها هو الذي يسيرها بيديه. فالأصح فيها أن يقال مطيرة أي الآلة المطيرة لا طيارة لا سيما أن هذه اللفظة مخصوصة بالهنة المذكورة المشهورة.
نعم قد يجوز أن يقال أنها طائرة أو طيارة لارتفاعها في الهواء ونسبة الفعل إليها كنسبه إلى صاحبها. لأنه إذا أطارها ولم تطر لم يفد عمله فتيلاً. وعليه فكلاهما طائران في الهواء إلا أن التحقيق أحب إلى اللغوي من إلقاء الكلام على عواهنه بدون تبصر وتدبر. ومن ثم فعندنا أن القول بأن المطيرة أصح من الطيارة في هذا المعنى هو أرجح ووجهه أبين. واستعمال الكتاب لها ينفي كل معنى ثان ويمنع الفكر من أن يتصور المعنى الأول المعقود بناصية الطيارة.
أيقال وسط أم محيط أم حال أم بيئة أم مربى أم منشأ
للإفرنج لفظة ومعناها حرفياً الوسط أو المحيط ويريدون بها مجازاً: المواطن الذي يوافق عيشة الإنسان الأدبية أو العلمية أو العمرانية. فقال كاتب يقابلها في العربية الوطن والإقليم وليس الأمر كذلك فالوطن والإقليم أو فقد يكون كل منهما وسطاً للإنسان إلا أن معنى الوسط أعم كما يظهر لأدنى تدبر. ثم عدل عن رأيه هذا وقال هي الحال وهذا أيضاً خطأ. فالحال يقابله عند الإفرنج ' أما البيئة فأفصح من الوطن والإقليم والحال إذا أردنا بها(68/8)
الإبانة عما في خاطرنا من معنى الوسط أو المحيط.
على أن الذي ورد عند العرب من هذا المعنى هو المربى والمنشأ. وقد وردت الأولى مراراً عديدة في مقدمة ابن خلدون. وترجمها ناقلها إلى الفرنساوية بلفظة المذكورة من ذلك مثلاً ما جاء في الفصل الذي عنوانه إن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم ومن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي.
وهذه الفظة قد تكررت مراراً لا تعد في هذا السفر. وقد ورد بهذا المعنى لفظة منشأ ووجه الترادف واضح.
على أننا لا نرى سبباً لرذل كلمتي وسط ومحيط فإنهما تفيان بالمراد من باب المجاز وباب المجاز واسع لم يقيده الأقدمون بقيود من حديد ولم يضعوا له قواعد غير القواعد المعروفة عند جميع أهل اللغات. وعليه فإن جاز للإفرنج أن يقولوا بهذا المعنى الوسط والمحيط فلماذا يحظر على العرب التلفظ بمثل هذه الحروف. إن هذا لمما يأباه كل عاقل عارف بآداب اللغة.
بغداد // ساتسنا(68/9)
الزلزلة العظمى
في دمشق وأعمالها
قرأت في الجزء السابع من التذكرة الكمالية لجدنا المرحوم الشيخ كمال الغزي هذه الوقعة العظمى فأحببت أن أطلع القراء عليها تتمة لتاريخنا الحديث قال:
إنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة والف سادس ربيع الأول الساعة العاشرة من الليل قد رجفت الأرض رجفة مقلقة برياح عواصف ورعود قواصف فطاشت لها العقول وحصل والعياذ بالله غاية الذهول وتخلعت السقوف وتشققت الجدران وهدمت في الشام بيوت لا تحصى وسقطت رؤوس مآذن دمشق فمنها المأذنة الغربية والشرقية من جامع بني أمية وقع منهما في تلك الساعة حصة ومنارة العروس في ذلك الجامع ذهب منها شيءٌ يسير وبقية منارات جوامع دمشق لم يسلم منها إلا القليل وتلتها رجفات وزلازل وفي ثاني يوم من تلك الليلة ضحوة النهار رجفت الأرض وتزلزلت زلزلة شديدة فسقطت من منارة الجامع الشريف الأموي الشرقية جدران الشرقي والشمالي وسمع لها صوت هائل وما من منارة بدمشق إلا وهى بناؤها حتى أن منارة السليمية المحيوية بصالحية دمشق طارت منها حصة وافية وسقطت والجامع المظفري بها أيضاً ومنارة جامع سيباي والجامع المعلق وجامع حسان وجامع الأمير منجك بمحلة مسجد الأقصاب ومنارات الجامع بمحلة الميدان وبقية منارات جوامع دمشق تقصفت ولم يسلم منها إلا النذر القليل وقبة النسر العظمى في الجامع الشريف الأموي تشققت ووهت وتشقق الجدار الشرقي من هذا الجامع ووهى وخرب أكثر دور دمشق وقعت تلك الليلة سقوف وبيوت لا تحصى ووقعت شراريف الجامع المزبور وكان طول كل شرافة مقدار خمسة أذرع على حائط حول سقف الجامع مقدار قامة من جميع الجهات الأربع بحيث أن الشخص إذا وقف على سطح الجامع لا يرى شيئاً من الدور التي حوله فسقطت تلك الشراريف وهدمت بعض الأماكن المجاورة للجامع كدار بني الغزي وحجرة الخلوتية الطباخية بالخانقاه السيمساتية ورمت قبو إيوانها وهذه الأماكن شمالي الجامع وفعلت ببقية جهاته كذلك وفعلت أفعالاً عنيفة في الأحجار وانصدع في الجامع العمود الذي تجاه باب مشهد المحيا الشريف النبوي تجاه العضادة الكبرى وبقت الرجفات والاهتزازات تتوالى ليلاً نهاراً إلى آخر شهر ربيع الأول والناس(68/10)
يدعون الله تعالى في إذهاب تلك الشدة التي ما عهدوا مثلها وقرأوا صحيح البخاري مرتين والقرآن العظيم مراراً وتوسلوا في رفع ذلك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وانهدم في تلك الليلة المتقدمة في بيت الشهاب أحمد المنيني مكانان أحدهما فوق الآخر فسقط الأعلى فوق الأسفل فقتل تحت الردم في الأسفل ستة أنفس من أولاده وعياله جهزهم صبيحة ذلك اليوم ودفنهم جملة واحدة بمرج الدحداح وثلاثة أنفس أُخر سقطت عليهم منارة في محلة الميدان ورجل وقع عليه هلال منارة جامع حسان فقتل أيضاً. وفي تلك الليلة تزلزلت بلاد صفد فذهب أكثر أهلها قتلى وقتل بها من اليهود ألف وثلاثمائة نفس وذهبت حصة عظيمة من بلاد نابلس وقال بها خلق كثيرون وتزلزلت عكا وذهبت حصة من برجها في البحر وطبريا ودير حنا وقلعة الجندل وبلاد الشوف وسائر بلاد الساحل الشامي كصيدا وبيروت واللاذقية ويافا وحيفا وباقي تلك البلاد الشامية ولم يبق في جبل الدروز قرية إلا وأصابها حادث عظيم وبلاء جسيم وتهدمت الخانات على من بها من القفول وفي دمشق قتل ما لا يحصى من الرجال والنساء والذي أصاب مسجد دمشق ما عهد مثله وهذا الزمن الذي حصل فيه هذا البلاء في البلاد في أقل من درجة نسأل الله السلامة من أهوال الحشر والقيامة.
ووافت الناس من سائر الأقطار من الوجه الغربي والساحل يقولون لأهل دمشق احمدوا الله تعالى على ما حفكم به من اللطف فإن الخارجين عنكم لم يسلم منهم إلا القليل وأغاث الله تعالى بكافل دمشق الدستور الأعظم الوزير عبد الله باشا ابن إبراهيم الشهير بجته جي ومتولي أوقاف الجامع المشار إليه شيخ الإسلام علي بن محمد بهاء الدين بن محمد مراد المرادي الحسيني النقشبندي مفتي السادة الحنفية بدمشق فبل الوزير الهمة في إصلاح المنارات ونقض المنارة الشرقية الهائلة التي أعجزت البنائين وأهل الصناعات أن يضعوا أيديهم فيها لما هي عليه من البناء الهائل المتداعي للسقوط وطلبت طائفة البنائين من النصارى أموالاً عظيمة على نقضها وأن يجعلوا لذلك السقايل الهائلة من الأخشاب حولها الأجل النقض فأمر الوزير بقطع الأخشاب ونقلها للجامع فقطع شيءٌ كثير من الغيضة الشهيرة الكائنة بالوادي بدمشق ومن غيرها ونقل إلى الجامع حتى امتلأ خشباً واجتمع جميع نشاري دمشق لنشره قطعاً ضخاماً كل قطعة سمكها مقدار ثلث ذراع أو ربع ذراع(68/11)
وشر البناؤون في عمل السقايل لأجل النقض حول المنارة الزبورة واستعظم طائفة البنائين من النصارى نقضها فانتدب رجل من طائفة النجارين المسلمين لنقضها من غير سقالة وطلع إلى رأس المنارة إلى أن انتهى إلى هلالها ولم ينزع من ثيابه شيئاً بل خرج بقاووقه وشخشيره وأخرج معه مطرقة وإزميلاً حديداً صغيراً وصار يقلع بهما الأحجار ويلقيها في أسفل والناس ينظرون إليه من صحن الجامع ونقض في ذلك الوقت حصة من المنارة وكانت أعلا مما هي عليه الآن بخمسة وثلاثين ذراعاً وأغلظ بمقدار خمسة أذرع وهلالها فوق شاش من الحجر الكبير وبذل الوزير للنجار وكان حاضراً لما صعد إلى المنارة جائزة ووعده أنه إذا تم العمل أن يقابله بالجوائز السنية وأخذ البناؤون في تهيئة أسباب البناء من عمل الدواليب وحفر الأسس.
ثم استهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء ففي ليلة الاثنين سادس الشهر المذكور بعد صلاة العشاء بالجامع الشريف بنحو ثلث ساعة رجفت الرجفة العظمى والزلزلة الكبرى التي لم ير ولم يعهد مثلها في سوالف العصور فصارت الجبال تمور والأرض تغور والمياه تفور وبقيت بعد سكونها تتوالى إلى رجفات لطيفة إلى أن أصبح الصباح واستمرت نحو درجتين فانخلعت لها القلوب وصار الناس يبتهلون بالدعاء والتضرع لعلام الغيوب وحارت العقول وطاشت الرجال الفحول وثار في ذلك الوقت الغبار والقتام واشتد في ذلك الآن الظلام وأدهش الناس في ذلك الخطب المهم والمرعب المدلهم الذي انعقدت له الألسن وخرست وغرات له العيون والشفاه يبست وصارت الأرض تفور وتغلي مثل المرجل وانكشفت تلك الساعة عن غالب منارات دمشق بالسقوط وبالقصف والمأذنة الشرقية الأموية المتقدم ذكرها وقعت إلى الأسفل ولم تحوج إلى فك وسقطت قبة النسر في الجامع المرقوم مع عظمها وسقط جميع الرواق الشمالي بأعمدته المحكمة وعضاداته وكان مشتملاً على عضادات وأعمدة بين كل عمودين عضادة مبنية بالرخام وأنواع الحجار المثمنة من أسفلها إلى أعلاها وسقطت المنارة الشرقية على جهة الجمع فهدمت مقدار ثلث المغارب الثلاث التي بقربها وتشققت غالب الجدران وأشرفت عل السقوط فسبحان الفعال لما يريد الحي القيوم الذي لا يموت.
ولم تبق قبة في دمشق إلا وأصابها عاهة أو سقطت ولم يسلم منها إلا النادر وسقط جميع(68/12)
جامع يلبغا مع قبته الهائلة ومنارته مع أن بناءه كان في غاية الرصانة والمتانة وسقط من الخان البديع الذي بناه الوزير أسعد باشا والي دمشق ونائبها ثلاث قباب هائلة وتهدمت دور دمشق إلا القليل وكثرت القتلى في تلك الليلة وتهدمت القرى التي حول دمشق وهلك بسبب ذلك من الأنفس والمواشي ما لا يحصى كثرة وكان من جملتها قرية التل قتل بها تحت الردم ما ينوف على خمسمائة ولم يسلم منها إلا القليل وقرى الجبل كالهامة والزبداني ووادي بردى هلك فيها تحت الهدم ما لا يعد ووقع سور مدينة دمشق في نهر عقربا أحد أنهار دمشق فسده وسور قلعة دمشق الغربي سقط جميعه وسد نهر بانياس وسدت الطرق بالتراب والأخشاب والصخور وصارت السماء مع الأرض تمور وتلف من الأموال والأنفس ما لا يحيط به حد ولا يحصره عد وذهب من الأثاث والأمتعة والأواني الصيني الشيء العظيم الكبير فسبحان من قضى بلك ليعلم العباد أن كل شيء هالك إلا وجهه فصار الناس لا يألفون الأوطان ولا يستقرون بمكان وخرج أهل دمشق جميعاً بأموالهم وأنفسهم وعيالهم إلى خارجها ونصبوا الخيام وبقوا ثلاثة أشهر وهي في الخارج وقد نظم في تلك الزلزلة الهائلة الفاضل العالم الأديب مصطفى بن أحمد بن محمد الدمياطي أبياتاً قال:
إن تناسيت أوقات أنس تقضت ... لست أنسى ليالي الزلزال
أذكرتنا كيف المنام بمهد ... وأرتنا بالعين رقص الجبال
أشهدتنا تمايلات قصور ... باهتزاز كحالة الأطفال
ولما عرض كافل دمشق الوزير عبد الله بن إبراهيم الشهير بالجتجي إلى الأبواب العالية السلطانية بقسطنطينية المحمية حال الجامع الشريف الأموي المزبور وقلعة دمشق وما أصابها من الانهدام وسألوا الدولة في تعميرها وكان صاحب التخت العثماني السلطان مصطفى ابن السلطان أحمد فلما وصل الخبر إليه صدر الأمر منه بتعميرها وأرسل أميناً على العمارة المزبورة أحد البوابين بالأبواب العالية مصطفى بن محمد الشهير باسبانخجي فلما وصل إلى دمشق بالأوامر والأموال وذلك في سنة أربع وسبعين ومائة والف نزل كافل دمشق الوزير عبد الله باشا المذكور إلى الجامع وحضر معه قاضي قضاتها إذ ذاك المولى ساطع علي بن مصطفى ختن علمي أحمد أفندي ومفتي الحنفية بدمشق ومتولي أوقاف الجامع المزبور المولى العلامة شيخ الإسلام علي بن محمد المرادي النقشبندي وبقية أعيان(68/13)
دمشق من العلماء وكشفوا عما يحتاج إليه الجامع المزبور وجمعوا المعمرين والمهندسين وأرباب الصنائع من كل حرفة تتعلق بالتعمير فأمرهم المتولي عل العمارة أن يشرعوا في إعادة ما انهدم ومرمته انتهى.
دمشق // محمد فهمي الغزي(68/14)
في خمسين قرناً
إليك أربعمائة وخمسين حادثة كبرى من حوادث خمسين قرناً أو منذ فجر التاريخ المعروف حتى فجر القرن العشرين.
قبل المسيح
في سنة 3100 أسس نمرود مدينة بابل.
في سنة 2324 بدأ الكلدانيون برصد الأفلاك.
في سنة 2255 ظهرت سلالة (الهبا) الملوكية في الصين.
في سنة 2229 استعمر آشور بلاد آشور.
في سنة 2188 استعمر مصر ايم مصر.
في سنة 2000 شرع باستعمال الكتابة المسمارية.
في سنة 2000 أسس نينوى نينوى.
في سنة 1896 ولد إبراهيم الخليل.
في سنة 1821دُعي إبراهيم من أور الكلدانيين إلى أرض الميعاد.
في سنة1896 ولد إسحاق.
في سنة 1856 أسست مملكة أرغوس.
في سنة1837 ولد يعقوب وعيسو.
في سنة 1729 بيع يوسف من المصريين.
في سنة 1582 دُوِّن تاريخ الأربوندليين على صفائح رخامية جلبت إلى إنكلترا على عهد الملكة حنة سنة 1627 للمسيح.
في سنة 1571 ولد موسى بن عمران وقضى نحبه في سنة 1450
في سنة 1500 ملك سيزوستريس مصر.
في سنة 1491 انطلق بنو إسرائيل من مصر إلى أرض كنعان.
في سنة 1352 بدأ حكم قضاة بني إسرائيل وانتهى سنة 1193.
في سنة 1273 قامت دولة الآشوريين.
في سنة 1136 قام شمشون الجبار بمجزرة الفلسطينيين ومات سنة 1120
في سنة 1184 حدثت حرب ثورجان.(68/15)
في سنة 1125 ظهر صموئيل النبي.
في سنة 1100 أُسست في العين مملكة (شوا).
في سنة 1095 نُصب شاول ملكاً على بني إسرائيل ومات سنة 1056 ومات يوناتان في السنة نفسها.
في سنة 1055 نُصب داود ملكاً على اليهود وفي سنة 1048 استولى على أورشليم ومات في سنة 1015.
في سنة 1050 نُصب قودرس ملكاً على أثينا.
في سنة 1048 - 1006 أزهرت صور على عهد الملك حيرام بالصناعة والتجارة والعمران.
في سنة 1042 نقل تابوت العهد لبني إسرائيل إلى أورشليم.
في سنة 1023 قام ابشالوم بالثورة.
في سنة 1012 شُرع ببناء هيكل سليمان العظيم وفي سنة 1005 أتم الملك سليمان بناءَه.
في سنة 975 تولى رحبعام أريكة الملك.
في سنة 971 تمرد عشرة أسباط من أسباط بني إسرائيل بقيادة بريعام على الملك رحبعام.
في سنة 971 استولى المصريون على أورشليم ونهبوها.
في سنة 884 أصلح ليكرغس شرائع أسبارطة.
في سنة 878 أُسست مدينة قرطجنة.
في سنة 776 بدأ تاريخ اليونان وذلك في أول عهد الملاعب اليونانية التي كانت تحدث كل أربع سنوات يؤرّخون بها.
في سنة 753 أُسست مدينة رومية.
في سنة 747 استقلت مدينة بابل تحت حكم الملك نبوخذ ناصر (بختنصر).
في سنة 730 أخضع الملك شالما ناصر فينيقية.
في سنة 722 استولى سرغون ملك الآشوريين عل السمرة إحدى أقسام الأرض المقدسة التي هي السامرة واليهودية والجليل.
في سنة 720 حاصر سنحاريب أورشليم وهلك جيشه.(68/16)
في سنة 700 تولى يوليوس عرش الملك في رومية.
في سنة 687 حدثت حروب مسينا للمرة الثانية.
في سنة 598 حاصر نبوخذ ناصر أورشليم وفي سنة 586 دمرها وصيرها خراباً وفي سنة 579 ق. م استولى على مدينة سور.
في سنة 586 أفلت شمس مملكة اليهود.
في سنة 550 أسس قورش مملكة إيران.
في سنة 540 بدأ دور فوطيفار سيد يوسف بن يعقوب في مصر ودامت مدته عشر سنوات.
في سنة 539 استعمر الفينيقيون مرسيليا في فرنسا.
في سنة 538 استولى قورش على بابل.
في سنة 536 أعتق قورش اليهود من السبي.
في سنة 535 تجدد بناء الهيكل في أورشليم.
في سنة 529 مات قورش.
في سنة 521 تولى داريوس (دارا) أريكة الملك في بلاد العجم وكان أول ملوك الفرس.
في سنة 515 احتفل بافتتاح هيكل أورشليم للمرة الثانية.
في سنة 510 صارت كل من رومية وأثينا جمهورية.
في سنة 507 تغلب دارا الملك على مكدونية.
في سنة 490 فاز اليونان على الفرس في معركة بارثونة وفي سنة 480 قهروهم في معركة باس.
في سنة 471 نُفي استقولس عشر سنوات.
في سنة 460جدد نحميا وعزرا بناء هيكا أورشليم.
في سنة 430 ولد نيقودس.
في سنة 405 حُطم أسطول أثينا.
في سنة 400 ولد قينوفون.
في سنة 399 مات سقراط مسموماً.(68/17)
في سنة 385 ولد ديموستينس الخطيب الشهير وقضى نحبه سنة 322.
في سنة 387 رفعت أعلام السلام فوق مدينة الفلاسفة أثنيا.
في سنة 371 حدثت معركة ليوقترة.
في سنة 362 حدثت معركة بأثينا.
في سنة 342 نشبت حرب طاحن بين الأمتين اللاتينية والرومانية.
في سنة 350 دُمرت صيدا.
في سنة 338 حدثت معركة قورنية وتحرر اليونان يومئذٍ من ربقة الاستبداد والاستعباد.
في سنة 334 حدثت موقعة غربنقوس.
في سنة 332 اكتسح الاسكندر الكبير مدينة صور.
في سنة 331 حدثت موقعة أربيلا (أربيل).
في سنة 324 ظهر ديوجنيس الفيلسوف.
في سنة 323 مات الاسكندر الكبير.
في سنة 317 حاصر القرطجيون مدينة سيراقوس.
في سنة 322 انتحر ديموستينس الخطيب.
في سنة 316 قام أنطيخوس مقام اسكندر الكبير.
في سنة 312 ظهر ستوقوس.
في سنة 301 حدثت موقعة أنسوس.
في سنة 284 نُقلت التوراة من العبرانية إلى اليونانية.
في سنة 281 بدأت حروب ببرهوس الساحقة.
في سنة 280 ظهر نيقراط الفيلسوف.
في سنة 135 ابتدأ حكم المكاييبن على اليهودية.
في سنة 72 قام السود بثورة هائلة.
في سنة 30 أصبحت مصر إقليماً رومانياً.
في سنة 30 تولى أغسطس قيصر الحكم.
بعد المسيح(68/18)
في سنة 4 مسيحية ولد المسيح.
في سنة 29 صلب المسيح.
في سنة 40 دعي تلاميذ المسيحي مسيحيين لأول مرة في التاريخ.
في سنة 64 حدث أول اضطهاد للمسيحيين في روسية.
وثاني اضطهاد في سنة 95.
وثالث اضطهاد في سنة 110
ورابع اضطهاد في سنة 118.
وخامس اضطهاد في سنة 167.
وسادس اضطهاد في سنة 177.
وسابع اضطهاد في سنة 202.
وثامن اضطهاد في سنة 236.
وتاسع اضطهاد في سنة 250 في رومية وأقاليمها.
وعاشر اضطهاد في سنة 258 في رومية وأفريقية.
وحادي عشر اضطهاد في سنة 303.
في سنة 306 تبوأ قسطنطين عرش الملك.
في سنة 330 فتحت مدينة القسطنطينية.
في سنة 325 اجتمع مجلس الدول العام لأول مرة في نيقية.
في سنة 381 اجتمع المجلس المذكور ثاني مرة في القسطنطينية (فروق).
في سنة 394 أُبطلت شريعة عبادة الأوثان.
في سنة 410 غادر الرومان بريطانية.
في سنة 431 اجتمع مجلس الدول العام ثالث مرة في أفسس.
في سنة 439 استولى البرابرة على قرطجنة.
في سنة 449 غزا السكسونيون بريطانيا.
في سنة 450 اجتمع مجلس الدول العام رابع مرة في خلكدونية.
في سنة 455 نهب البرابرة رومية.(68/19)
في سنة 476 سقطت المملكة المغربية.
في سنة 488 حاصر الأشروغوطيون إيطاليا.
في سنة 510 صارت باريس عاصمة الكلوفيين.
في سنة 527 ابتدأ جستينن بالملك.
في سنة 533 توالت انتصارات بالساريوس في أفريقية ومن سنة 536 إلى سنة 539 تتابعت انتصاراته في إيطاليا.
في سنة 551 عرفت لأول مرة في التاريخ كيفية اصطناع الحرير في أوربا.
في سنة 553 انتهى ملك الاستروغوطيين في إيطاليا.
في سنة 568 ملك (لومباردس) إيطاليا.
في سنة 571 ولد محمد نبي الإسلام (وعاش ستين عاماً).
في سنة 595 بعث أوغسطينس برسالته الدينية إلى إيطاليا.
في سنة 637 استحوذ عمر بن الخطاب على أورشليم.
في سنة 640 اكتسح المسلمون الاسكندرية بقيادة عمرو.
في سنة 668 - 675 انهزم العرب في القسطنطينية.
في سنة 680 اجتمع مؤتمر الدول العام لسادس مرة في القسطنطينية.
في سنة 711 حمل العرب حملتهم المشهورة على أسبانيا.
في سنة 716 - 718 فشل العرب ثاني مرة في محاصرتهم القسطنطينية.
في سنة 733 هزم (مارتل) العرب في موقعة (طورس) العظيمة.
في سنة 752 تولى (تيبني لي ريف) عرش الملك في فرنسا.
في سنة 787 اجتمع مؤتمر الدول العام سابع مرة في نيقية.
في سنة 787 نزل (دانس) في إنكلترا.
في سنة 788 ظهرت (أيرين) ملكة الشرق.
في سنة 800 تُوج (كارلمفن) في رومية.
في سنة 814 مات الملك المذكور.
في سنة 827 حكم (أغبرت) إنكلترا.(68/20)
في سنة 841 حدثت معركة (فونتانيل).
في سنة 862 أسس (روق) مملكة روسيا.
في سنة 871 ظهر الفرد الأكبر ملك إنكلترا.
في سنة 875 أسس (هرولد فيرهير) مملكة نروج.
في سنة 901 مات الفرد الأكبر ملك إنكلترا.
في سنة 911 بيعت استريا من (رولو).
في سنة 911 استحوذ الإمبراطور (كونراد) على جرمانا.
في سنة 936 نبع (اوثو) إمبراطور جرمانيا الكبير.
في سنة 940 ظهر لقب أمير الأمراء لأول مرة في التاريخ.
في سنة 962 نُصب (اوثو) إمبراطور جرمانيا السابق الذكر إمبراطوراً على الغرب.
في سنة 969 - 975 نصب يوحنا (زمسكس) إمبراطوراً على الشرق.
في سنة 973 مات (اوثو) إمبراطور الغرب.
في سنة 987 ابتدأت مملكة (كابتبن) في فرنسا.
في سنة 1040 استحوذ نورمن على جنوبي إيطاليا.
في سنة 1055 استولى الأتراك على بغداد.
في سنة 1065 استولى المسلمون على أورشليم.
في سنة 1066 بدأ ملك ملوك (نورمن) في إنكلترا.
في سنة 1081 حدثت موقعة (دورزو).
في سنة 1096 حمل الصليبيون حملتهم الأولى على الشرق.
في سنة 1099 استحوذ الصليبيون على أورشليم.
في سنة 1118 أسس الصليبيون معهد الفقه.
في سنة 1147 حمل الصليبيون حملتهم الثانية على الشرق.
في سنة 1152 نصب فريدرك إمبراطوراً على جرمانيا.
في سنة 1154 بدأ ملك ملوك (بلانتيفتن) في إنكلترا.
في سنة 1172 زحف هنري الثاني ملك إنكلترا على إيرلاندا.(68/21)
في سنة 1176 انهزم الجرمانيون بقيادة الإمبراطور فريدرك في (لفانو).
في سنة 1187 استولى صلاح الدين عل أورشليم.
في سنة 1189 حمل الصليبيون حملتهم الثالثة على الشرق.
وفي سنة 1195 حملوا حملتهم الرابعة.
وفي سنة 1198 حملوا حملتهم الخامسة.
وفي سنة 1203 استحوذوا على القسطنطينية.
في سنة 1215 حاصر الملك يوحنا في إنكلترا (ماغاناكارنا).
في سنة 1227 حمل الصليبيون حملتهم السادسة على الشرق.
في سنة 1227 نشر جنكيزخان لواء سلطته على العرب.
في سنة 1237 باشر المغوليون دفع لجزية لروسيا.
في سنة 1248 حمل الصليبيون الحملة السابعة على الشرق.
في سنة 1261 استرجع اليونانيون القسطنطينية.
في سنة 1270 حمل الصليبيون حملهم الثامنة على الشرق.
في سنة 1270 سقطت مصر بأيدي المماليك.
في سنة 1273 نصب (ردلف هبسبورغ) إمبراطوراً على رمانيا.
في سنة 1291 انتهت الحروب الصليبية.
في سنة 1307 بدأت الثورة في السويس.
في سنة 1302 حدثت معركة (كورثري).
في سنة 1314 حدثت معركة (بانو كبرن).
في سنة 1315 حدثت معركة (مورغرتن).
في سنة 1346 حدثت معركة (كرسي).
في سنة 1347 حكم (رينزي) رومية.
في سنة 1352 اتحدت أقاليم السويس.
في سنة 1361 - 1389 درخ مراد الأول آسيا الصغرى.
في سنة 1377 عادت سلطة الباباوات إلى رومية.(68/22)
في سنة 1392 اكتشف البرتغاليون رأس الرجاء الصالح.
في سنة 1379 وقعت الملكة مرغريت على المعاهدة بين الدانيمارك وأسوج ونروج.
في سنة 1398 استولى تيمورلنك على (دهلى).
في سنة 1399 نصب هنري الرابع ملكاً على إنكلترا.
في سنة 1402 تغلب تيمورلنك على الأتراك العثمانية.
في سنة 1415 حدثت موقعة (أغنكورث).
في سنة 1445 ارتقى قسطنطين عرش الملك في بزنطية وكان آخر ملوكها.
في سنة 1453 بسط العثمانيون سلطانهم على بزنطية أي القسطنطينية غابراً والأستانة حاضراً.
في سنة 1455 ابتدأت حروب (روزس) في إنكلترا.
في سنة 1474 بلغ ميشيل انجلة أوج شهرته.
في سنة 1479 اتحدت مملكتا فرديناند و (إيزابلا).
في سنة 1485 حدثت موقعة (بوسورث).
في سنة 1419 سقطت غرنادا.
في سنة 1492 اكتشف كولمبس أميركا.
في سنة 1494 حمل كارلس الخامس على إيطاليا.
في سنة 1497 طاف القبطان قابوت شواطئ أميركا الشمالية.
في سنة 1499 استقلت أسوج.
في سنة 1515 نصب فرنسيس الأول ملكاً على فرنسا.
في سنة 1516 نصب كارلس الأول ملكاً على أسبانيا.
في سنة 1517 نشر لوثر زعيم الإصلاح الديني الشهير قضاياه الشهيرة على الكنيسة الرومانية وعددها تسعون قضية.
في سنة 1529 سمي الإنجيليون بروتستانت لأول مرة في التاريخ.
في سنة 1535 أسس (لويولا) نظام العدلية لأول مرة في التاريخ الحديث.
في سنة 1552 وقع على معاهدة (باسو).(68/23)
في سنة 1556 خلع كارلس الخامس.
في سنة 1558 ارتقت اليصابات عرش الملك في إنكلترا.
في سنة 1558 أنش مجلس التفتيش في فرنسا.
في سنة 1571 تغلبت أوستريا على الأتراك العثمانيون.
في سنة 1572 حدثت مذبحة القديس برتلماوس.
في سنة 1587 قطع رأس ماري ملكة اسكوتلندا.
في سنة 1589 نصب هنري الرابع ملكاً على فرنسا.
في سنة 1603 انضمت اسكوتلندا إلى إنكلترا.
في سنة1610 قتل هنري الرابع.
في سنة 1649 قطع رأس كارلس الأول.
في سنة 1653 ظهر كرومل الإنكليزي.
في سنة 1660 رجعت أسرة (ستورتس) الملك في إنكلترا.
في سنة 1683 تغلب القائد جان سبيسكي على العثمانيين في فينا.
في سنة 1688 بدأت الثورة في إنكلترا للمرة الثانية.
في سنة 1689 ارتقى بطرس الأكبر عرش الملك في روسيا.
في سنة 1697 امتدت سلطة كارلس إلى أسوج.
في سنة 1699 استعمرت ولاية لوزيانا في أميركا الشمالية.
في سنة 1702 حطم أسطول فرنسا في (فيفو).
في سنة 1709 اتحدت إنكلترا واسكوتلندا.
في سنة 1714 ارتقت أسرة (غولفس) إلى العرش الإنكليزي.
في سنة 1715 مات لويس الرابع عشر.
في سنة 1718 قتل الملك كارلس السابع على أسوج.
في سنة 1725 مات بطرس الأكبر إمبراطور روسيا.
في سنة 1742 تمت معاهدة (برسلو).
في سنة 1755 حدثت زلزلة في لشبونة.(68/24)
في سنة 1755 ابتدأت الحروب السبع.
في سنة 1757 حدثت موقعتا (روسباك) و (ليذن).
في سنة 1785 حدثت موقعة (زوزندوف).
في سنة 1759 حدثت موقعة (مينذن).
في سنة 1759 حدثت موقعة (كوبك).
في سنة 1762 ارتقت الملكة كاترينا عرش الملك.
في سنة 1763 انتهت الحروب السبع.
في سنة 1763 صارت كندا من مستعمرات إنكلترا.
في سنة 1765 قُرر استعمال الطوابع لأول مرة في التاريخ.
في سنة 1766 أُلغي استعمال تلك الطوابع.
في سنة 1768 نشبت الحرب بين الدولة العلية وروسيا.
في سنة 1769 ولد نابليون بونابرت.
في سنة 1770 حدثت مذبحة بوسطن في الولايات المتحدة.
في سنة 1774 رُقي لويس السادس عشر إلى عرش الملك في فرنسا.
في سنة 1774 أقفل الإنكليز مرفأ بوسطن في الولايات المتحدة.
في سنة 1775 بدأت الثورة في أميركا لأجل الاستقلال وفي السنة نفسها حدثت معركة (بنكرهل) على مقربة من مدينة بوسطن (ماس) الولايات المتحدة.
في سنة 1776 حدثت موقعتا (لونغ أيلند) و (ترنتن).
في سنة 1777 حدثت معارك (بننفتن) و (براندوين) و (جرمان ثون).
في سنة 1778 جرى الوفاق بين أميركا وفرنسا.
في سنة 1778 حدثت موقعة (مونومون) في الولايات المتحدة.
في سنة 1779 تم الاتفاق بين الولايات المتحدة وأسبانيا.
في سنة 1780 حدثت موقعتا (كارلتن) و (كامدن) قهر فيهما الأميركيون.
في سنة 1782 انتهت حرب الاستقلال.
في سنة 1783 استقلت أميركا عن الحكم الإنكليزي.(68/25)
في سنة 1786 شبت الثورة في ولاية (ماس) الولايات المتحدة.
وفي هذه السنة مات الملك فريدرك الأكبر.
في سنة 1787 عقد أشراف فرنسا مؤتمراً عاماً تفاوضوا فيه بشأن الذب عن سلطتهم وسلطة فرنسا الملكية.
في سنة 1788 طلب (غستيفس) الحرب مع روسيا.
في سنة 1789 عقد قواد الولايات المتحدة مؤتمراً عاماً.
في سنة 1789 بدت طلائع الثورة في فرنسا.
في سنة 1789 أنشأت كل من الولايات المتحدة دستوراً لها يربطها مع أخواتها.
في سنة 1789 رأس الولايات المتحدة جورج واشنطن وهو أول رئيس لهذه الجمهورية الكبرى.
في سنة 1789 دُكت أسس سجن الباستيل في فرنسا.
في سنة 1790 أعلنت نروج استقلالها.
في سنة 1791 مات الخطيب ميرابو.
في سنة 1791 تألف مجلس التشريع في فرنسا.
في سنة 1791 منحت كندا الدستور.
في سنة 1792 حدثت معركة (جيمابس).
في سنة 1792 عقدت المؤتمرات في جميع الولايات المتحدة.
في سنة 1793 قطع رأس لويس السادس عشر.
في سنة 1793 اخُترع حلج القطن.
في سنة 1793 اقتسمت بولندا بين روسيا وبروسيا.
في سنة 1794 جعلت (توروتو) عاصمة لكندا العليا.
في سنة 1795 طبع الدليل الجغرافي أول مرة في الولايات المتحدة.
في سنة 1795 أطلق بونابارت سبيل الحراس.
في سنة 1796 خيم بونابارت بعسكره الجرّار في بلاد إيطاليا.
في سنة 1796 حدثت مواقع (لودي) و (اركولا) و (ربتولي) و (لافيفورتا).(68/26)
في سنة 1797 عُقدت معاهدة (كامبوفوميو).
في سنة 1797 انتخب جان أدموس رئيساً للولايات المتحدة.
في سنة 1797 رفعت أعلام البلاد في (توليفنو).
في سنة 1798 حدثت معركة الأهرام.
في سنة 1799 أُعيد طبع الدليل الجغرافي في الولايات المتحدة.
في سنة 1799 انتصر الفرنسيس في موقعة أبي قير أول مرة.
في سنة 1800 قطع بونابارت جبال الألب.
في سنة 1800 هزم بونابارت النمساويين في (مارنغو) و (هوهوخلندن).
في سنة 1801 رأس تومس جفرسن الولايات المتحدة.
في سنة 1801 انضمت إيرلندا إلى إنكلترا.
في سنة 1802 عقدت معاهدة (أميين).
في سنة 1802 أنشأ نابليون القنصلية في البلاد الأجنبية.
في سنة 1803 تجددت الحرب بين إنكلترا وفرنسا.
في سنة 1803 اشترت الولايات المتحدة لوزيانا من فرنسا.
في سنة 1803 استقلت سويسرا.
في سنة 1803 أُطلقت الحرية للسود في كندا.
في سنة 1804 نُصب نابليون الأول إمبراطوراً على فرنسا.
في سنة 1805 حدثت موقعة طرف الغار وأوسترلتز ومات فيهما القائد نلسن.
في سنة 1805 عقدت معادة (برسبورغ).
في سنة 1806 حدثت موقعة (جينا) وقتل فيها القائد بت.
في سنة 1807 حدثت مواقع (ايلو) و (فريلاند) و (كوبنعاغن).
في سنة 1807 فرّت هيئة محكمة ليسبون (فرنسا) إلى برازيل.
في سنة 1808 بدأت حرب (بنسولر) وفي السنة عينها امتدت سلطة بونابارت إلى أسبانيا ودعي إمبراطوراً عليها.
في سنة 1809 حدثت معركة (واغرم).(68/27)
في سنة 1809 عقدت معاهدة (سكوبريون).
في سنة 1809 طبق نابليون زوجته جوزفين.
في سنة 1809 حرم البابا نابليون حرماً دينياً فغضب نابليون وسجن البابا.
في سنة 1809 هزم (ولنفتن) جيوش فرنسا في معركة طرف الغار.
في سنة 1809 انتخب (جيمس مادسن) رئيساً للولايات المتحدة.
في سنة 1810 تزوج نيوليون (ماريا لوسيا).
في سنة 1811 ولد ابن نبوليون ملك رومية.
في سنة 1811 حدثت موقعة (تيبكانو).
في سنة 1812 قامت روسيا بمناورات جيوشها الحربية إرهاباً للدول المناوئة لها.
في سنة 1812 نشبت الحرب بين إنكلترا وأميركا.
في سنة 1813 حدثت معركتا بحيرة (إيري) و (تومس).
في سنة 1813 حدثت معارك (لوتزين) و (فوتيريا) و (ليبسك).
في سنة 1814 نفي بونابارت إلى (الألب).
في سنة 1814 حدثت موقعة (لاندي لين).
في سنة 1814 حرق الإنكليز مدينة واشنطن.
في سنة 1815 عاد نبوليون من منفاه وحدثت معركة وترلو ونفي إلى جزيرة القديسة هيلانة.
في سنة 1815 نشرت رايات السلام في باريس للمرة الثانية.
في سنة 1815 نظمت المعاهدة المقدسة.
في سنة 1815 حدثت موقعة (نيواورلينس) وكان النصر فيها حليف (جكسن).
في سنة 1817 انتخب جيمس منرو رئيساً للولايات المتحدة وهو الرئيس الذي سن شريعة أميركا للأميركيين.
في سنة 1820 شبت الثورة في أسبانيا.
في سنة 1821 مات نبوليون.
في سنة 1821 بدأت حرب الاستقلال في اليونان.(68/28)
في سنة 1822 انفصلت برازيل عن برتغال.
في سنة 1824 بوشر العمل في قناة (ولاند).
في سنة 1824 نصب كارلس العاشر ملكاً على فرنسا.
في سنة 1824 مات اللورد بيرون.
في سنة 1825 انتخب جان أدامس رئيساً للولايات المتحدة.
في سنة 1825 قطعت لأول مرة باخرة المحيط الأتلانتيكي.
في سنة 1825 هاج الشعب في كندا.
في سنة 1826 حدثت معركة نافارين.
في سنة 1829 انتخب أندرو جاكسن رئيساً للولايات المتحدة.
في سنة 1829 ثار الشعب في كندا العليا طالباً حاكماً عادلاً.
في سنة 1830 حكم اللورد (اللمد) كندا السفلى.
في سنة 1830 نشبت الثورة في فرنسا للمرة الثانية.
في سنة 1831 حدثت موقعة (اوسترولنكا).
في سنة 1831 انفصلت بلجيوم عن هولاندا (البلجيك).
في سنة 1832 نصب (أوثو) مليكاً على اليونان.
في سنة 1832 منحت السلطة لمجلس النواب في كندا.
في سنة 1835 قُرر عتق العبيد في إنكلترا.
في سنة 1835 اخترع التلغراف الكهربائي.
في سنة 1837 قامت الفتنة في كندا.
في سنة 1837 تولت الملكة فيكتوريا عرش الملك في إنكلترا.
في سنة 1837 انتخب مارتن (بيورن) رئيساً للولايات المتحدة.
في سنة 1839 اتحدت كندا العليا مع كندا السفلى.
في سنة 1840 نصب فريدرك وليم ملكاً على بروسيا.
في سنة 1840 زفت الملكة فيكتوريا إلى البرت سكسكوبرغ.
في سنة 1841 انتخب هرسن رئيساً للولايات المتحدة.(68/29)
في سنة 1842 عدلت شريعة الذرة في الولايات المتحدة.
في سنة 1844 انتقلت دائرة الحكومة في كندا إلى منتريال.
في سنة 1845 ضُمت تكسس إلى الولايات المتحدة.
في سنة 1845 حدث الحريق الهائل في كوبك كندا.
في سنة 1845 انتخب بولك رئيساً للولايات المتحدة.
في سنة 1846 نشبت الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك.
في سنة 1846 تم السلام بين الولايات المتحدة والمكسيك.
في سنة 1846 رقي فرنسيس إلى عرش الملك في النمسا.
في سنة 1846 أعلنت هنغاريا استقلالها عن أوستريا.
في سنة 1846 افتتحت عساكر فرنسا رومية.
في سنة 1851 حدث المعرض العام في لندن.
في سنة 1852 تولى نبوليون الثالث إمبراطورية فرنسا.
في سنة 1855 رقي ألكسندر الثاني إلى عرش قياصرة الروس.
في سنة 1856 شبت نيران الحرب بين إنكلترا والصين وبلاد فارس.
في سنة1857 نشبت الثورة في الهند.
في سنة 1859 استعرت نيران الحرب بين أوستريا وإيطاليا.
في سنة 1859 بدأ حكم كارلس الخامس عشر على أسوج ونروج.
في سنة 1861 أشعلت نيران الحرب بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة.
في سنة 1861 رقي فيكتور عمانوئيل عرش الملك في إيطاليا.
في سنة 1861 شبت فتنة البلانديين.
في سنة 1862 شهرت فرنسا الحرب على المكسيكك.
في سنة 1862 تولى بسمارك رئاسة النظار في جرمانيا.
في سنة 1863 حرر العبيد.
في سنة 1863 دخلت الجنود الفرنسية إلى مدينة المكسيك.
في سنة 1864 ضمت جزائر انديان إلى اليونان.(68/30)
في سنة 1864 حدثت الحرب بين روسيا وأوستريا والدانيمارك.
في سنة 1866 حدثت الحرب بين جرمانيا وأوستريا.
في سنة 1867 حدثت الحرب بين إنكلترا والحبشة.
في سنة 1867 ابتاعت الولايات المتحدة ألاسكا.
في سنة 1870 استعرت جذوة الحرب بين فرنسا وجرمانيا.
في سنة 1870 حدثت موقعة سيدان وحوصر نبوليون الثالث.
في سنة 1871 رقي وليم إلى عرش إمبراطورية بروسيا.
في سنة 1871 صارت فرنسا حكومة اشتراكية جمهورية.
في سنة 1873 مات نبوليون الثالث في إنكلترا.
في سنة 1875 تولى ألفونسو الملك في أسبانيا.
في سنة 1876 دعيت فيكتوريا بإمبراطورة الهند.
في سنة 1878 نشبت الحرب بين العثمانية وروسيا.
في سنة 1878 نشبت الحرب في أفغانستان.
في سنة 1878 مات الملك عمانوئيل وخلفه الملك هيومبرت.
في سنة 1878 مات بيوس التاسع وخلفه ليون الثالث عشر.
في سنة 1878 تمت معاهدة برلين.
في سنة 1878 استقلت رومانيا ونتيفدو.
في سنة 1879 حدثت الحرب بين شيلي وبيرو.
في سنة 1880 حدثت المجاعة في إيرلاندا.
في سنة 1880 أُطلقت حرية العبيد في كوبا.
في سنة 1881 قتل اسكندر الثاني في روسيا.
في سنة 1881 بوشر بمشروع اكتشاف القطب الشمالي.
في سنة 1882 استعرت نيران الحرب بين إنكلترا ومصر.
في سنة 1883 حدثت حرب الهنود.
في سنة 1893 شبت ثورة برازيل وأرجنتين من أجل الحكم الجمهوري.(68/31)
في سنة 1894 قتل كارنو رئيس الجمهورية الفرنسية.
في سنة 1894 تولى نيقولا الثاني عرش الملك الروسي.
في سنة 1894 نشبت الحرب بين الصين واليابان.
في سنة 1894 أضرب عمال معادن الفحم والسكك الحديدية في الولايات المتحدة.
في سنة 1894 شبت الثورة في كوبا لأجل الاستقلال عن الحكم الأسباني.
في سنة 1895 حدثت المجازر الأرمنية.
في سنة 1895 رأس فيلكس فور الجمهورية الفرنسية.
في سنة 1896 توج قيصر روسيا.
في سنة 1897 رأس مكنلي الجمهورية الأميركية.
في سنة 1897 حدثت الحرب بين العثمانية ويونان.
في سنة 1898 حطم الأسطول الأميركي في هافانا.
في سنة 1898 نشبت الحرب الأميركية الأسبانية.
في سنة 1898 قتلت اليصابات ملكة أوستريا.
في سنة 1898 حدثت حادثة دريفوس في فرنسا.
في سنة 1898 اكتشف الذهب في ألاسكا.
في سنة 1898 مات بسمارك.
في سنة 1898 عقدت المعاهدة بين الولايات المتحدة وأسبانيا.
في سنة 1898 ابتدأت حرب الفيليبين.
في سنة 1899 ابتدأت الحرب أفريقية الجنوبية.
في سنة 1900 حدث معرض باريس.
في سنة 1900 هجم الصينيون على دور السفارات الأجنبية في بكين عاصمة الصين.
في سنة 1900 قتل هيومبرت ملك إيطاليا وخلفه ابنه الملك عمانوئيل.
في سنة 1900 أعلنت الدول الغربية الحرب على الصين.
في سنة 1900 رأس مكنلي الجمهورية الأميركية.
لنكلن نبراسكا (الولايات المتحدة) // يوسف جرجس زخم(68/32)
أم الطفيل
ما للديار ترآى وهي أطلال ... هل خف بالقوم عنها اليوم ترحال
كانت بها السمرات الخضر زاهية ... واليوم لا سمر فيها ولا ضال
ما بالها وهي أنقاض مبعثرة ... تغبر فيهن أبكار وآصال
هل هدَّ بنيانها من فوق صاعقة ... أو هدَّ بنيانها من تحت زلزال
بل قد عفتها فلم تترك بها أثراً ... ريح لها من لهيب النار أذيال
شب الحريق بها ليلاً مشيدة ... فما أتى الصبح إلا وهي أطلال
أثارت النار في أطرافها رهجاً ... من الدخان كأن النار أبطال
حتى حكت معركاً خرت بساحته ... صرعى بيوت وأموال وآمال
دار السعادة أمست من تحرقها ... دار الشقاء وقد ضاقت بها الحال
ترنو إلى البحر ترجو نقع غلتها ... لحظ المهجر إذ يبدو له الآل
تنهال كالرمل بالنيران أدرؤها ... حتى تكاد لها الأرواح تنهال
يا ريح مهلاً فلا تذري الرماد بها ... إن الرماد الذي تذرين أموال
قد رحت للحي مذعوراً أيممه ... ولي عن الزمر الباكين تسآل
وفي العراص ديار القوم خاوية ... وفي الشوارع نسوان وأطفال
جلسن والشمس فوق الرأس دانية ... وللغبار بعرض الحي تجوال
ولا خمار فيرددن الغبار به ... ولا يقيهن حر الشمس سربال
حتى وقفت وقلبي كله جزع ... وأدمعي لجج طوراً وأوشال
ما أنس لا أنس أم الطفل قائلة ... وفوق وجنتها للدمع تهطال
إني تجردت عن دنياي حاسرة ... ما لي سوى طفلي الباكي بها مال
أي امرئٍ بعد هذا اليوم ذي جدة ... يعولني حيث لا زوج ولا آل
أودى الحريق بدارٍ كنت أسكنها ... وكنت من بعضها للقوت أكتال
واليوم أصبحت لا دار ولا وزر ... آوي إليه ولا عم ولا خال
إن الحريق خبت نيرانه ومضت ... وما خبت في فؤادي منه وجال
يا رب رحماك إني اليوم عاجزة ... عما دها وبظهري منه أثقال
يا رب قد ضقت ذرعاً في الحياة فما ... أدري حنانيك ربي كيف أحتال(68/34)
وعندما قد شجاني من مقالتها ... لفظ يقطعه في البين أعوال
دنوت منها قليلاً وهي باكية ... ومن بكاها بقلبي هاج بلبال
حتى وقفت وإيناساً لوحشتها ... حني رأسي وحني الرأس إجلال
وقلت يا أخت لا تستيئسي جزعاً ... فإنما الدهر إدبار وإقبال
أتجزعين اكتآباً بين أظهرنا ... وكلنا عنك للبأساء حمال
ما لي أراك بعين اليأس باكية ... كأن أمرك عند القوم إهمال
ألست من أمة أيدي الرجال بها ... قد فك عنهن بالدستور أغلال
حتى لقد أصبحوا أبناء واحدة ... في المرزئات وهم في الحكم أشكال
مستعصمين بحبل من أخوتهم ... يسمو بهم للعلى فضل وأفضال
أمسى التعاضد كالحصن الحصين لهم ... إذا تصادم بالأهوال أهوال
فاستبشري اليوم فيما مس من ظمأٍ ... بأن وردك عند القوم سلسال
وان حقل عول في مساكنهم ... وما همو بأداء الحق بخال
تلك التي قد شجتني في مقالتها ... وكم لها في نساء الحي أمثال
فهل يصدق قومي ما ظننت بهم ... حتى تقوم لهم في المجد أفعال
فالمجد يدرك مرماه البعيد فتىً ... رحب الذراعين طلق الكف مفضال
وأكثر البذل حمداً ما يعان به ... من عضهم من نيوب الدهر إقلال
يا قوم هذي سبيل العرف واضحة ... فليمض فيها بكم وخد وأرقال
ومن تك الحال فيها لا تساعده ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
الأستانة الرصافي(68/35)
أخبار وأفكار
الكليات الأميركية
يخاف الكثيرون من التهذيب المشترك بين الجنسين أن يخرج النساء عن طورهن برقتهن ويفيدهن قسوة وصلابة لامتزاجهن بالذكور ولكن التجارب دلت على خطأهم وفساد مزاعمهم وانتشرت طريقة التعليم المشترك في معظم الكليات الأميركية فعدد الطالبات في جامعة نيلاند ستانفورد في كاليفورنيا يناهز الخمسمائة وقد حاولوا في جامعة شيكاغو أن يفصلوا بين الذكور والإناث في سن الطلب الأول.
ولم تحافظ على القواعد القديمة سوى كلية هارفارد فإنها أصرت على إيصاد أبوابها في وجوه الطالبات وفي أميركا 321 جامعة وكلية ومدرسة عالية تقبل الطلاب والطالبات على السواء بدون أقل تمييز بين الجنسين.
والتعليم في الجامعات الأميركية يقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول فيه أساليب خاصة بكل من الجنسين: والثاني يشترك فيه الذكور والإناث بدون تفريق ولا استثناء. والثالث يشترك فيه الجنسان ويختص الإناث بفروع تساعد في حياتهن المستقبلة.
والمدارس المختصة بالإناث هي دون الجامعات في رقيها العلمي وأساليب تهذيبها وفي الولايات المتحدة الأميركية أربعمائة جامعة لكل منها رأس مال يبلغ عدة ملايين من الريالات ولها دخل سنوي لا يقل عن مليون ريال. فلا يستطيعون أن ينشئوا جامعات أنثوية تضارع الجامعات الراقية.
ونرى من جهة ثانية أنه إذا وضعت خطط التعليم في الجامعات بدون نظر إلى الفروق الجنسية لم تجد الطالبات فيها ما يسعفهن على إنجاز وظائفهن الخاصة في حياتهن العائلية وقد نظر علماء الأميركيين في هذه القضية فأدخلوا دروساً كثيرة في بعض الجامعات يلقنونها للفتيات خاصة.
وإليك مثالاً في خطة التعليم في جامعة شيكاغو:
(1) حفظ الصحة الجسدية وعلاقاته الاجتماعية والأدبية.
(2) الهيجين العمومي.
(3) علم الحياة والبكتيريولوجيا.(68/36)
(4) تدبير صحة الأطفال وينطوي هذا الدرس على المواد الآتية: الوراثة والبيئة. - ارتقاء الطفل الطبيعي والعقلي والأدبي. - حفظ الصحة في سن البلوغ. - ويضاف إلى هذه المواد ملاحظات عن الطفل في المدرسة واللعب والدرس وتأثير الأموال الطبيعية في ارتقائه الأدبي والعقلي.
(5) الأسرة. - باعتبار الوجهة التاريخية والفيسيولوجية ويدرسون أيضاً أحوال الأسرة الاجتماعية والأدبية والاقتصادية.
(6) درس في الشرائع الأكثر تأثيراً في حياة الأفراد والحياة التجارية.
(7) العلم السياسي. وفيه درس تأليف الحكومات المتحدة وظائفها وإدارة المملكة ومبادئ الحقوق الأساسية.
(8) تاريخ الصناعة ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء.
فمسألة التهذيب المشترك قد حلت في الجامعات الأميركية بحضور طالبات الدروس العالية واختصاصهن ببعض الفروع.
أساليب التعليم الجديدة
تمتاز فرنسا بارتقاء مدارسها ولا سيما معاهد التعليم الحر ويصح أن يكون في ذلك قدوة سائر الأمم إلا أنها ينقصها بعض الأوضاع التهذيبية الحديثة التي اتخذتها المدارس في أميركا وانكلترا واسكندينافيا.
اجتذبت أميركا انتباه العالم المتمدن بتعليمها المؤسس على قواعد البسيكولوجيا فجامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة شيكاغو فيهما معاهد خاصة لدرس هذه الطريقة وإصلاح ما تظهره الأيام فيها من الخلل وارتقاء خواص الطفل الأدبية والعقلية يرجع الفضل فيه إلى ذلك الأسلوب العملي المحض الذي يرقى بالطفل سنة فسنة بل شهراً فشهراً والطلبة من الجنسين ينتابون تلك المعاهد ويشتركون في تلقي الدروس وتراقب أحوالهم الصحية وتطبع تجارب الأساتذة وأبحاثهم في مجلة خاصة تدعى أخبار أساتذة الكليةفيطبقها الطلاب والطالبات الذين سيكونون أساتذة في المدارس الابتدائية والوسطى ويرفون جل عنايتهم إلى هذه الأبحاث والاختبارات التي كان لها أثر شديد في تربية الأطفال وترقية مواهبهم.
أما في مدارس السويد فهم لا يعلقون على الذاكرة كبير أمر ولا يعنون بتلقين الطلبة دروساً(68/37)
يستظهرونها بل يلقون إليهم مبادئ العلوم الطبيعية والجغرافية وغيرها في شكل حكايات يرتاح إليها صغار الطلبة ويحفظون فيها مبادئ العلوم ولا يشعرون.
وهذا الأسلوب المتبع في التعليم يشابه طريقة الأميركان من وجود كثيرة وقد انتشر في ألمانيا أيضاً طريقة الاستظهار الفاشية في المدارس الشرقية وبعض أقسام أوربا وهي تؤدي إلى خلاف الغاية المطلوبة فلا توسع مدارك الطفل ولا تمرن شعوره بل تؤول إلى انحطاطها شيئاً فشيئاً ومتى دخل الطالب غمار الحياة العلمية لم يستطع الانتفاع بما تلقنه من تلك المعلومات ولا وسعه تطبيقها.
والمدارس الإنكليزية تعني بتعليم الطلاب والطالبات الأشغال اليدوية وتحاول أن تكون الواصلة بين الحياة المدرسية والحياة العملية.
وللطرق التي تجري عليها المدارس الأميركية في التربية والتعليم مزايا أخرى وهي أن الطالبات يشتركن مع الذكور في تلقي العلوم ويتقاسمون لذتها جميعاً فتتوثق بينهم صلات لا أثر للميل الجنسي فيها ومتى خرجن إلى معترك الحياة وقفن إزاء الرجال وقفة القادر المستقل الواثق بنفسه والمعتمد على حوله وهي خاصة تمتاز بها المرأة الأميركية عن شقيقتها الأوروبية لأنها اعتادت من صغرها أن تعد نفسها مساوية للرجل.
ثم أن وجود الطالبات يلطف من عواطف الذكور ويدمث من أخلاقهم فلا يشذ أحدهم عن المنهج السوي خيفة من عيون رفيقاته اللواتي يراقبنه مراقبة لها في نفسه تأثير يفوق تأثير مراقبة الأساتذة.
وانتشرت هذه الطريقة في شمالي أوروبا أي في بلاد نروج فأكسبت النساء قوة وجلداً على مشقات العيش ومباراة الذكور في الحياة العملية ومشاركتهم حتى في الأعمال السياسية فنلن حق التصويت في انتخاب بعض المجالس ونبغت منهن نساءٌ فقن الرجال في جميع الأعمال التي تعاطينها وأصبحن قدوة للنساء العاملات في الممالك الراقية.
التعليم الأدبي في اليابان
التعليم في اليابان علمي محض وليس للديانة أقل سلطة في المدرسة ففرنسا واليابان هما المملكتان الوحيدتان اللتان نشرتا أصول التهذيب اللاديني العلماني في العالم بأسره.
وفي اليابان فصل التعليم عن الديانة حسب شريعة التهذيب الصادرة سنة 1872 ولا(68/38)
ينحصر ذلك في المدارس العامة بل يشمل المدارس الابتدائية والثانوية حتى التي تنشئها الجمعيات الدينية إذ يحضر عليها أن تلن التعاليم الدينية وهذا الفصل بين التهذيب والديانة كان القاعدة التي جرت عليها الحكومة منذ سنة 1868 أي منذ فتحت البلاد اليابانية للأجانب.
وقبل ذلك العهد لم يكن للحكومة أيسر اهتمام بالتهذيب العام بل تركته للأفراد حاشا بعض المدارس الأريستقراطية المختصة بأبناء الموظفين ولم تكن الحكومة تدير المدارس فقد نحن اليابان في التعليم منحى المدارس الغربية منذ نشر قانون التعليم سنة 1868 وألفت فيها نظارة المعارف عقيب صدوره بسنة فلم تحجم الحكومة عن المفاداة بأعز ما لديها في سبيل الارتقاء ونشر التهذيب بين ظهراني الأمة.
وفكرة التهيب العلماني ليست من ابتداع الحكومة الجديدة بل يجدون ما يشبهها في تاريخ اليابان القديم.
فقسوس البوذيين لم يعلموا الديانة في معاهدهم ولا في مدارسهم المجاورة للهياكل والمعابد ومعظم الطلاب اليابانيين لا يزور الكنيسة المسيحية ولا الهيكل البوذي وإنما تنشئتهم على الآداب وكارم الأخلاق فالتعليم في اليابان علماني محض ليس للديانة تأثير فيه والأهلون راضون بما يعقب ذلك التعليم من النتائج ولهم كل الثقة بالأساتذة الذين يحبهم الطلبة ويحترمونهم.
ليس للحكومة اليابانية ديانة رسمية ولكنها لا تقاوم الأديان بل تترك لكل فرد حريته المذهبية.
الأمر الملكي والتهذيب -. سنة 1890 صدر الأمر الملكي وفيه مثال للتهذيب الأدبي وجب على مدارس اليابان جميعها أن تتحداه وفيه كثير من الآراء التي تتفق مع آراء الفرنساويين وبعضهم يعزو وطنية اليابان إلى ما تبثه المدارس في نفوسهم بمقتضى الأمر الملكي لكنهم واهمون في ذلك لأن حب الوطن إحدى طبائع الرجل الياباني.
والأمر الملكي قسمان أحدهما في التهذيب العام والآخر في التهذيب الوطني وإليك الواجبات التي ذكرت في الأول:
حب البنين لآبائهم. تواد الأخوان والأخوات. اتفاق الزوجين. حفظ عهود الأصدقاء.(68/39)
الحشمة والاعتدال. الرغبة في خير الجميع. طلب العلوم والفنون. ترقية المواهب العقلية. الاشتراك في خدمة الأمة والوطن. احترام الشورى. طاعة القوانين. تضحية المنافع الشخصية في سبيل المملكة.
والحكومة والإنسانية هي تنطوي على جميع الواجبات ومنها تنشأ فضائل الإخلاص والشهامة والصدق والأمانة والشجاعة والوطنية وهذه هي حقيقة التهذيب الصالحة لجميع الأعصر والأمكنة تشمل الشريعة الأدبية التي يجب أن يخضع لها العالم بأسره.
والقسم الثاني يتفرع عن أحوال الشعب فقد أدبتهم بآداب خاصة وغرست في نفوسهم فضائل ينفردون بها.
الأمة اليابانية عريقة في القدم وهي تعتقد أنها أسرة كبيرة من أصل واحد يقوم الملك عليها بمثابة الوالد واعتقادها هذا سبب احترامها الشديد للإمبراطورية فحب الإمبراطور والوطن واحد في عرفهم والميكادو ممثل الوطن.
ويبالغ اليابانيون في إكرام أسلافهم وتبجيلهم ويستميتون في سبيل الوطن لأنه بلاد آبائهم وأجدادهم ومنذ ستة وعشرين قرناً أسس الإمبراطور الأول المملكة الأولى ولم تنج من الغزاة غير أن أهل البلاد اتحدوا على الذود عن حوضهم فلم يستعبدوا للفاتحين.
ولا يتيسر لمطالع أن يفهم حقيقة احترام اليابانيين للأسرة الملكية وشدة تعلقهم برب السرير ما لم يعرف مبلغ احتفاظ القوم بذكرى أجدادهم وأنساب سلالاتهم فكل فرد منهم يعرف آباءَه إلى عهد بعيد والأسرة المالكة اليوم هي نسل الحكام الذين تعاقبوا على عرش المملكة اليابانية منذ نشأتها حتى عصرنا الحاضر وكلهم من أسرة واحدة.
ويلقب الإمبراطور بابن السماء لأن الشعب يحسبه من سلالة الآلهة ولكن آلهة اليابانيين أسلافهم وأجدادهم فاحترامهم للإمبراطور فيه شيء من مواجب الدين.
وأول تمدن شاهده اليابانيون كان عند مجاوريهم الصينيين غير أنه لم يؤثر في الروح الوطنية شيئاً وكانت قاعدتهم في التهذيب الروح اليابانية ثم الحكمة الصينيةودخلت البوذية إلى اليابان في القرن السادس فكان لها في آداب اليابانيين شأن خطير.
ومنذ إصلاح سنة 1868 طرأ على اليابان تغيرات جمة بانتشار المدنية الغربية ولكن النفس اليابانية لم تفقد شيئاً من خواصها ومزاياها.(68/40)
وفي كل مدرسة أوقات معينة للتعاليم الأدبية وهي لا تدرس في المعاهد الابتدائية والوسطى بل تتعداها إلى المدارس العليا والتجارية والفنية والطبية وغيرها والغاية من هذا التعليم صقل نفس الطفل وطبعه على المبادئ القويمة ويعلقون عليه شأناً جليلاً فيقولون أن ارتقاء مملكتهم وانحطاطها منوطان به إذ لهم ديانة يتأدبون بآدابها.
وعند اليابانيين سنة يدعونها سنة القربان أو البوشيدو وقد ذكرت فيها آداب هؤلاء وما يجب أن يتحلوا به من الفضائل وفي مقدمتها الإخلاص للإمبراطور وطاعته وفداء النفس من أجل الحاكم والشجاعة والإقدام ويجب عليه أن لا يعرف في حياته الخوف وأن يكون أبداً على أهبة الموت في قتال خصم من أكفائه وأن يجمع بين الصلابة والحزم والجود والسخاء فيحمي الضعفاء ويجير المساكين ويستقيم في أموره وقد خسرت البوشيدو مظهرها القديم ولكنها اكتسبت شكلاً جديداً في نفوس الشعب.
على أن التعليم الأدبي تعترضه عقبات كؤود أهمها إنفاق جل وقت الطالب في دراسته وتحصيله وتخير الأساتذة الكفاة ممن يصح اتخاذهم قدوة في الفضائل الخلقية وكثرة التبدلات في حياة اليابان الاجتماعية بانتشار المبادئ الغربية وتأصلها.
وإذا كانت اليابان قد اقتبست أصول العلوم الحديثة والفنون عن بلاد الغرب فإن التعاليم الأدبية لم تتصل بها عن ذلك الوقت وإنما هي تركة الأسلاف والأجيال القديمة يحرص اليابانيون عليها اشد الحرص ويحفظونها خالصة من شوائب الفساد علماً منهم أن مستقبل مملكتهم معقود بها.
التعليم الأهلي
ألقى في نادي المدارس العليا بمصر أحمد أفندي فهمي القطان أستاذ التربية بمدرسة المعلمين الخديوية خطاباً قال فيه:
مهما أطنبنا في شرح حسنات القرن التاسع عشر فإننا لا نشك لحظة واحدة في أن نظامات التعليم التي أوجدها ستكون إما سببا في سعادة عيش الجيل القادم ورغده أو أنها ستجلب عليه المصائب والحسرات. كان يلتفت في العصور المختلفة في البلاد المتمدنة بنوع خاص لتربية الأفراد الذين يحكمون البلاد ويديرون شؤونها في المستقبل وكان هؤلاء في العادة من نسل الحكام والأشراف وقد تكرم بعض الغيورين من وقت لآخر فسهلوا سبل التعليم(68/41)
لأفراد قليلين من أبناء الفقراء الذين أظهروا ذكاءً مفرطاً.
استمر الحال على هذا المنوال حتى جاء القرن الماضي فتيقظ العالم المتمدن وإدراك كل وظيفة كبيرة كانت أو صغيرة وكل مهنة مهما كانت صغيرة لابد أن يستعد لها المحترف بها وذلك الاستعداد لا يكون إلا في المدرسة - وأقصد بذلك الاستعداد أن يربي جسمه وخلقه وعقله حتى يصبح قادراً على أمرين:
الأول - أن يكافح الحياة ويصير قادراً على المعيشة وسط حبائل هذه الدنيا التي هي في تعقيد كل يوم عن سابقه.
والثاني - أن يقوم بوظيفته أو مهنته القيام الذي يليق بالعصر الذي يعيش فيه وبالوسط الذي هو فرد منه.
فما أدركت الأمم هذه الحقيقة بدأت تكون ما أسميه نظامات التعليم الأهلية - أي نظامات تضمن التعليم بجميع أدواره لجميع أفراد الأمة على اختلاف طبقاتها من غير تمييز بين وضيع ورفيع.
ظهرت الاختراعات العلمية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر فأدخلت لتحسين الزراعة والصناعة وظهر في الوقت عينه أئمة للتربية رجال رأوا أن مستقبل بلادهم الحقيقي ليس بالزراعة والصناعة فقط بل هو بالتربية فقرروا نظريات شتى وبنوا عليها أعمالهم وأكدوا وجوب تهذيب الرجل الذي سيكون مزارعاً أو صانعاً في المستقبل - وجوب تهذيبه من الوجهة الجسمية والأدبية والعقلية.
وقد قضت نفس تلك الاختراعات الصناعية على العمال بازدياد معلوماتهم حتى يصبحوا قادرين على إدارة الآلات الحديثة التي عهدت إليهم.
ولا يخفى أن الرجل الذي يقضي كل حياته في تأدية عمل بسيط - نتيجة ثابتة مدى السنين كالفلاح مثلاً - لا تأتي عليه أحوال يحتاج فيها لإجهاد فكره أو تمرين قوته الاختراعية لمقاومة طارئ هو في الحقيقة لني قع - فالطبيعة تفقد عادة إجهاد النفس وفي المعتاد يصبح في درجة من الغباوة والجهل أقصى ما يمكن أن يصل إليها إنسان فكأنه اشترى مهارته في فلاحته بثمن غال ألا وهو فقد غرائزه الأدبية والاجتماعية والحربية ولكن واآسفاه هذه هي الحالة التي يصير إليها فقراء العمال أو بالأحرى أغلب السكان من كل أمة(68/42)
متمدنة - إن لم تبذل حكومتها كل جهد لمداواة تلك الحال.
وبالاختصار فإن ظهور تلك الاختراعات في القرنين الماضين سبب نتيجتين:
(1) وجوب تربية الأمة بأجمعها تربية عامة خوفاً عليها من السقوط.
(2) تربية الأفراد الذين سيناط بهم إدارة تلك الأعمال سواءٌ كانت زراعية أو صناعية أو تجارية - تربية خاصة تشمل دراسات العوامل الطبيعية التي اكتشفت وقتئذٍ.
كانت إنكلترا في أول الممالك التي ظهرت فيها الاختراعات الصناعية الجديدة آخر الدول في تقرير التعليم العام فقد قررته بروسيا وسكونيا وورتمبرج في أواخر القرن الثامن عشر وفرنسا وكان لها نظام تعليم تم بكل حذافيره أيام نابليون أما إنكلترا فإنها لم تنشر المدارس الابتدائية لتعليم جميع أبناء الشعب إلا سنة 1870 - ويلتمس المؤرخون لإنكلترا العذر في تأخيرها تعميم التعليم ويقولون أن الانقلابات الداخلية التي طرأت على دار ندوتها كانت سبباً في تأخرها.
أما نحن فلم نفكر في التعليم أصلاً إلا منذ سنين قلائل مع أن مصر كما قال إسماعيل باشا الخديوي الأسبق هي جزء من أوربا فيجب علينا أن نجاري الزمن الذي نعيش فيه - يجب علينا أن نعمل لنشر التعليم بين طبقات الأمة حتى تستنير وتسير إلى الأمام بحزم وعزم ثابتين. يجب علينا ونحن جزء من أوربا أن نجاري أوربا تعليماً إن كنا نريد أن نجاريها زراعة وصناعة وتجارة.
ولقد قال أحد أئمة التربية بأميركا في زمن شبيه بزماننا.
نحن الآن نختبر أنفسنا في الحكم الذاتي - أي أن الأمة تحكم الأمة - ومن العادات المتبعة من قديم الزمان أن يكون للحكام أوفر نصيب من التعلم إذا اقتضى أن يتعلم كل فرد من أفراد شعب ديمقراطي حاكم نفسه بنفسه إذ أن الشعب هو الحاكم الحقيقي.
قال المستر روبرت في مجلس النواب الإنكليزي عقب التصديق على لائحة الإصلاح الدستوري سنة 1870: الآن وقد عيننا الشعب نواباً لتنفيذ أغراضه أو بعبارة أخرى وقد أصبح الشعب هو السيد الحقيقي فأول واجب مقدس علينا هو أن نربي جميع سادتنا.
حارب نابليون البروسيين وكسرهم في واقعة بينا فجمع ملكهم شتات شملهم وخطبهم قائلاً: أيها الجنود ثقوا أن الفرنسيين لم ينتصروا علينا في ساحة القتال إن انتصارهم الحقيقي كان(68/43)
في المدرسة.
قال ملك البروسيين ذلك اعترافاً منه بأن رقي التعليم الفرنسي وقتئذٍ عنه في بروسيا كان سبباً في انتصار الفرنسيين على البروسيين لذلك أفراغ البروسيون جهدهم في إصلاح التعليم بمملكتهم وحذا حذوهم جميع المملك الجرمانية الأخرى وانضمت جميعها تحت لواء الإمبراطورية الألمانية وخطا التعليم فيها خطوات واسعة ونبغ كثير من أئمة التربية في ألمانيا حتى جاءت سنة 1870 فحارب الألمانيون الفرنسيين وكسروهم وأخذوا منها الألزاس واللورين ولكنهم في الحقيقة لم يأخذوا هاتين المقاطعتين في ساحة القتال، بل اكتسبوهما في المدرسة.
إني لا أرى أن حالتنا الحاضرة تسمح لنا بمجاراة ألمانيا والسويد مثلاً في برامج مدارسها الأولية إذ هذا يحتاج لمالٍ أكثر مما يمكننا تديمه الآن - وعدد من المدرسين الأكفاء لا يمكننا الحصول عليه إلا بعد بضع سنين.
فأرى أن نتبع الخطة الطبيعية ونبدأ صغاراً ثم نرتقي مع الزمن وبعد التجارب أراني مقتنعاً بنشر التعليم بواسطة الكتاتيب في الوقت الحاضر فإن المال الذي تحتاجه مثل هذه المعاهد قليل ومدارس معلمي الكتاتيب التي أخذت تنتشر في القطر كفيلة بتخريج العدد الكافي من المدرسين ما بين فقهاء وعرفاء فيجب علينا إذن أن يكون لدينا من الكتاتيب ما يفي بحاجة هذه الأمة.
ولتنفيذ ذلك يجب على كل فرد غني أن يساعد الحكومة في إيجاد مثل هذه المعاهد وزكاة المال التي هي ركن من أركان الإسلام والتي من أجلها حارب أبو بكر الصديق رضي الله عنه المرتدين من العرب هذه الزكاة كفيلة ببناء الكتاتيب.
لذلك أقول ثانياً يجب على كل فرد غني منكم ومن جميع أبناء هذا القطر من حلفا إلى البيت الأبيض أن يقدم زكاة ماله لمواطنيه في شكل يفيد الجميع ولا أرى أفيد من إنشاء معاهد التعليم في الوقت الحاضر.
ترمي التربية الحقة إلى ثلاثة أمور تهذيب الجسم والأخلاق والعقل. فالتربية الجسمية مهمة جداً إذ يترتب عليها تخريج رجال ونساء أشداء أقوياء يقدرون على القيام بواجباتهم المختلفة ولأن العقل الحكيم في الجسم السليم.(68/44)
أريد أن أرى أبناء مصر في صحة تامة وعضل متين ودورة دموية منتظمة.
أما التربية الأخلاقية فلا يشك أحد في ضرورتها وجوبها فبها وحدها يتعلم الشعب الصدق والأمانة والوفاء بالوعد والإخلاص وآداب الزيارة والأكل والطريق واحترام الغير وغير ذلك.
وبها وحدها تقل الجرائم على اختلاف أنواعها كالسرقة وكثير من المحرمات والمنكرات.
وبالتربية العقلية تتهذب قوى العقل المختلفة ما بين ملاحظة وحفظ وذكر وتخيل وتفكر وبرهنة وحكم وقياس.
فللعمل بموجب هذا التقسيم أقترح أن يكون برنامج التعليم بالكتاتيب كالآتي:
أولاً - قراءة وكتابة ومبادئ اللغة العربية إذ هذه هي الواسطة الوحيدة للوقوف على ما يجري من الحوادث في العالم على وجه عام وبالوطن على وجه خاص. وبالكتابة تدون الكتب والتواريخ وهي الواسطة في المرسلة.
ثانياً - حتى يعرف الشخص دخله ومصروفه ويعرف معنى التوفير والاقتصاد في المصروف ويعرف التاجر لدفاتره معنى والمزارع يدرك قيمة محصوله من القطن بالقنطار والجنية.
ثالثاً - دروس الأشياء وتنتخب الموضوعات من الأشياء التي تحيط بالكتاب فإن كان في القرى وجب أن تكون أكثر الموضوعات زراعية وإن كان بالمدن تحتم أن يكون أغلبها صناعية ودروس الأشياء عظيمة الفائدة جداً إذ أنها تفتق الذهن وتدعو الطالب إلى ملاحظة ما يحيط به فضلاً عن كونها تعطيه معلومات مفيدة عما يحيط به من مزروعات أو مصنوعات.
رابعاً - الخط. كي يتعود الطالب تحسين خطه ولا أرى أبداً ضرورة لتعليم الخط الثلث بمثل هذه المعاهد.
خامساً - الأخلاق. وأرى أن يكون أساسها القرآن. وذلك أنه متى كان الدرس عل احترام الوالد مثلاً وجب على المعلم أن يستشهد بالآيات الكريمة التي تأمر بذلك وهكذا في الأخلاق الأخرى.
ولسنا في حاجة لأن ندرس القرآن الشريف بأجمعه لمثل هؤلاء التلاميذ بل يكفي منه ما(68/45)
يتعلق بقواعد الدين والمعاملات المختلفة وذلك هو الجزء الذي يستظهر ويلاحظ في انتخاب الآيات الشريفة احتياجات التلاميذ - فلا ضرورة لإعطائهم شيئاً عن الزواج والطلاق مثلاً في سنيهم الأولى بل هم في حاجة لمعرفة قيمة الصدق واحترام الوالدين وطاعة الله ورسوله.
وأرى أن لا يكون العمل العقلي بالكتاتيب إلا في الصباح فقط وبعد الظهر يتعلم التلاميذ أشغالاً يدوية - ففي القرى يتمرنون على الفلاحة وفي المدن يتعلمون مبادئ إحدى الصنائع.
أما البنات فيجب أن يتعلمن الطباخة والأشغال اليدوية ومبادئ الاقتصاد المنزلي عامة. يجب الاهتمام بتعليم الفتاة إذ أنها ستكون أمَّاً في المستقبل فيجب أن نعدها لأن تكون أمَّاً صالحة. يجب أن نعلمها ونربيها التربية الحسنة حتى تقدر هي على تربية أبنائها الصغار قبل دخولهم المدرسة.
أرسلتني الحكومة المصرية لدراسة الأشغال اليدوية ببلاد السويد في صيف 1903 فدرست ما يتعلق منها بالتجارة على وجه خاص ثم بدأت أطوف البلاد السويدية لأرى نظامات التعليم بها وأكتب تقريراً عنها فزرت ذات يوم مدرسة للبنات في استوكهلم وكانت من أرقى مدارس البنات التي رأيتها في سياحاتي بأوربا.
كان لتلك المدرسة مطبخ بالقرب منها تتعلم فيه البنات الطبخ فيذهب عشرون منهن كل صباح على التناوب ويطبخن الطعام نحن مراقبة ثلاث معلمات متخصصات بهذا الفن وكانت كل فتاة مرتدية الثياب الخاصة بالطباخات فوطة بيضاء طويلة على صدرها وقبعة صغيرة من التيل الأبيض فوق شعرها.
وبجوار ذلك المطبخ قاعة كبيرة للأكل وبالقرب منها مصنع للأعمال اليدوية للذكور الفقراء الذين لا تقل سنهم عن اثنتي عشرة ولا تزيد عن ست عشرة. وكان هؤلاء الأولاد غالباً من المتشردين في الشوارع يؤتى بهم إما برضاهم أو بواسطة البوليس كي يتعلموا صناعة. والصنائع التي كانت تدرس بذلك المصنع هي النجارة والحدادة وعمل الأحذية والفرش سواء كانت للشعر أو للملابس أو غير ذلك.
تطبخ البنات الطعام وتحضره للغذاء في قاعة الأكل وترتب الموائد وتقف في خدمة من(68/46)
يحضر لتناول ذلك الغذاء - أما الآكلون فكانوا تلاميذ ذلك المصنع المجاور - يأكلون بلا ثمن ويخدمون بلا أجر وبعد ذلك يذهبون لصنعهم لمباشرة أعمالهم - وما يخرجونه من أثاث أو فرش أو غير ذلك بتهافت الناس على شرائه حباً في مساعدة ذلك المعهد والثمن يكفي للأمور الآتية:
(1) شراء ما يلزم المطبخ من سمن وخضر ولحم ووقود ورواتب معلمات الطباخة.
(2) شراء ما يلزم للمصنع من خشب وحديد وشعر وجلد ومشاهرات معلمي الصنائع.
(3) يبقى احتياطي يعطى منه 10 جنيهات بصفة مكافأة لكل تلميذ أقام سنتين بالمصنع وأتقن صناعة ما وحسنت في حقه الشهادة - يعطى ذلك المبلغ مساعدة له في الشروع في فتح دكان للنجارة أو الحدادة أو غيرهما حتى لا يعود كما كان متشرداً بالشوارع وكنت عد زيارتي لذلك المعهد أتباحث مع مديره في فوائده. فبعد أن ذكرت له ما تراءى لي من تلك الفوائد قال لي: فاتتك فائدة كبيرة فإنك تعلم أن التعلم ببلاد السويد إجباري مجاني من زمن مديد فأبناؤنا متعلمون وخدمتنا متعلمون فالجو الأدبي في منزلي نقي طاهر والجو في المدرسة كذلك نقي طاهر - فإذا خفت على آداب ولدي مثلاً فلا أخاف إلا من الشارع حيث المتشردون - فهذا المصنع وأمثاله يجمع المتشردين من الطرقات وبذلك يصير جميع جو المدينة نقياً طاهراً لا تسمع فيه لفظاً واحداً يمش شعورك إذ تشمئز منه نفسك وقد جرت لي حادثة أثناء وجودي بقاعة الطعام - وذلك أنني رأيت فتاة تبلغ من السن نحو الرابعة عشرة ذهبية الشعر زرقاء العينين معتدلة القوام بيدها ممسحة بيضاء تنظف بها أواني الأكل وأدواته قبل تقديمه للأولاد - فذهبت لمحادثتها كي أعرف إن كانت تخدم هؤلاء المتشردين اضطراراً وخضوعاً لأمر مدرستها أم ماذا؟
وقلت لها أمثلك يخدم هنا المشرد القذر؟ فرفعت عينيها الزرقاوين وهزت رأسها في وجهي وقالت بعظمة وربما كان باحتقار لي: ومعناها بالعربية أما هو سويدي فشعرت بارتياح وأدركت أن هذه الفتاة الجميلة تخدم هذا الولد القذر طوعاً ر كرهاً - تخدمه لأنه سويدي وهي سويدية.
وفي تلك اللحظة قرب مني مدير المصنع وأظهر اهتماماً زائداً بمحادثتي الفتاة ولما انتهيت أخذني على انفراد وقال لي أتعلم من اخترت لتوجيه سؤالك. قلت: لا قال هذه حفيدة الملك(68/47)
- حفيدة الملك أوسكارا - فدهشت دهشة شديدة ثم أفقت لنفسي مسرعاً وقلت له: إن هي إلا برهان حي تأثير حسن التربية فالتربية الحقة تلطف الشعور التربية الحقة لقرب القلوب بعضها من بعض تغرس في القلوب حب الوطن والمواطنين.
قررت إنكلترا أن يكون التعليم الإجباري من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة ولكن ألمانيا والسويد قررتاه من السادسة إلى الرابعة عشرة فكأن الممالك الثلاث اتحدت في تحديد نهاية التعليم الإجباري ولكنها اختلفت في سن الابتداء وعندي أن يعمل بموجب نظام ألمانيا والسويد إذ يجب أن يترك الطفل عدداً من السنين يرتع ويجري ويلعب ويقوى جسمه قب دخوله في مضمار التعليم حتى يكون له من الجسم والصحة المخ ما يضمن لنا قيانه بأعماله العقلية بدون تأثير في جسمه أو إضعاف لمخه كما يحصل كثيراً للمحترفين بمهن عقلية محضة - فمن رأيي إذن أن يكون التعليم الإجباري بهذا القطر من سن السادسة إلى الرابعة عشرة.
يقضي التلميذ الثلاث سنوات الأولى بالكتاب وبعد ذلك يجب أن ينتقل إلى المدرسة الابتدائية فيمضي فيها خمس سنوات ويجب أن يكون برنامج المدارس الابتدائية على طراز يؤهل التلميذ للانخراط في سلك المدارس الثانوية إذا أراد أن يشمل برنامجها شيئاً من الصناعة والزراعة ولذا يجب أن لا يشتغل تلاميذ هذه المدارس بالمواد العقلية إلا في الصباح.
فمتى اجتمع هذان الشرطان أمكن التلميذ دخول المدارس الثانوية ومنها إلى المدارس العالية أو الجامعية.
أما إذا كان برنامجها لا يؤهل التلميذ لدخول المدارس الثانوية فنكون كأننا أغلقنا باب التعليم في وجهه عقب انتهائه من دور التعليم الابتدائي وبذا نكون قد أتينا جرماً لا يغتفر.
هذا فيما يخص طالبي التعليم المجاني إما الأغنياء فعندي أنه يجب أن يكون نظام تعليمهم كالآتي مدارس بساتين الأطفال أو الكندرجارتن. كما سماها موجدها فردريك فرويل الألماني. وهي مدارس لصغار الأطفال من سن الرابعة إلى الثامنة تقريباً وفيها ينظر للطفل كما لو كان نباتاً صغيراً يقوم بحين العناية والمدرسة هي في هذه الحال بستان والبستان هي المدرسة إذ دلت التجارب على أن النساء وحدهن هن القادرات على إدارة(68/48)
مثل تلك المدارس - فيرى الطفل في هذه المعاهد من الوجوه الثلاثة الجسمية والأدبية والعقلية.
وبعد أن يخرج الطفل من بستان الأطفال يجب أن ينتقل إلى مدرسة ابتدائية تؤهله للمدارس الثانوية ومنها ينتقل إلى المدارس العالية أو الجامعات.
أما الاختصاص في دراسة الزراعة أو الصناعة فيجب أن لا يأتي إلا بعد التعليمين الأولي والابتدائي على الأقل حتى تضمن لذلك المزارع أو الصانع مقداراً وافياً من الذكاء يؤهله للقيام بأعماله بفكر وروية.
أما في الوقت الحاضر الذي يكثر فيه عدد الأميين من البالغين الراشدين فيجب أن نعمل عملاً آخر بجانب عملنا الخاص بالأطفال. يجب أن نسرع في إعطاء هؤلاء المساكين شطراً من التعليم يساعدهم على ترقية أحوالهم ويمكنهم من أن يكونوا أعضاء عاملين في المجتمع الإنساني بالمعنى الحقيقي.
السينماتوغراف الناطق
اختراع جديد لأديسون لم ينجزه بعد وإنما أجرى بعض التجارب في نيويورك فاتت بنتائج موافقة ويرجو المخترع أن يتغلب على ما يعترضه من العقبات.
لغة الاسبرانتو
وضعها ذاك الطبيب الروسي لتكون كما هو معلوم اللغة التي يتفاهم بها بنو البشر وهي لتنتشر يوماً فيوماً فلجمعية الاسبرانتو الألمانية 193 فرعاً يبلغ أعضائها 6000 وللجمعية البريطانية 130 شعبة يختلف أعضاؤها بين الأربعة والخمسة آلاف. أما فرنسا فقد سبقت عامة البلاد إلى درس لغة الاسبرانتو ففيها 340 جمعية أعضاؤها عشرة آلاف وعدد جمعيات هذه اللغة في العالم بأسه يناهز الألف وستمائة.
المؤتمر النسائي السادس
اجتمع في مدينة استوكهولم برئاسة العقيلة شبمان كات فافتتحت الحفلة بخطاب ذكرت فيه انضمام بلدين إلى الاتحاد النسائي وهما سربيا وايسلاندا فبلغ مجموع البلاد المنضمة 24 وقالت إن النساء في خلال سبع سنوات الأخيرة قربن من مطالبهن في خمس عشرة أمة وفي هولاندة والسويس نلن حق الانتخاب لعضوية الكنائس وفي الدانيمارك حزن حق(68/49)
التصويت في المجالس العامة وفي أوستراليا ونروج وفنلاندا أو بعض أقسام أميركا الشمالية تعد النساء (منتخبات) وقد تألفت عند انعقاد هذا المؤتمر جمعية للرجال الساعين في إسعاف النساء بمطالبهن.
انتباه الصين
عين أحد أمراء الأسرة المالكة وزيراً فانتقد الناس تعيينه انتقاداً شديداً وقام الفوضيون يهددون حتى قال المارشال فوكي التتري أنه يوم الانتقام للأربعمائة مليون صيني الذين تظلمهم الأسرة المالكة. على أن الصحف الصينية تطري الأمير الوزير لأنه صرح أن الوطنيين في الحقوق سواءٌ وقد صدرت الأوامر إلى رجال السياسة والقنصليات أن يرتدوا بالملابس الأوروبية على بعض التغيير فيها وأصبح رجال الصين يؤمون بلاد أوروبا لتلقي العلوم الحديثة ولم يكونوا يجيئونها قبل ثورة البوكسر سنة 1900 وصدر الأمر بتبديل الأزياء على أثر ما كان من سخرية الأوروبيين بعظماء الصين الذين يشخصون إلى ديار الغرب ولكن نهضة الصين ترافقها جميع معايب المدنية الحديثة فالمبارزة دخلت حديثاً للبلاد وشرع الفوضويون باستعمال الديناميت.
حوض البحر الميت
يشغل البحر الميت 926 كيلومتراً مربعاً ومياه ملأى بالحمر وقد كانوا يستخرجون من جنوبه أيام عظمة بيزنطة المرمر الثمين والرخام السماقي والكبريت والنحاس والملح ومع هذه الثروة الطبيعية فقد أضرب القوم منذ عهد بعيد عن التعدين فيه حتى نال ملك الامتياز أحد موظفي الأتراك وقد أوشك أن يتنازل عن حقوقه إلى ماليين أميركيين لقاء مليون ونصف من الريالات.
الموت جوعاً
دل الإحصاء الرسمي على النتيجة المحزنة الآتية وهي أن 119 شخصاً هلكوا في إنكلترا جوعاً خلال سنة 1909 ومنهم 54 قضوا نحبهم في لندن عاصمة الدولة البريطانية وأكبر مدن العالم فاعتقد الكثيرون أن هؤلاء البائسين لم تسعفهم الجمعيات الخيرية بشيء.
العمال الليليون(68/50)
من أغرب ما يشاهد في نيويورك أن مائة وخمسين ألف عامل يقومون بواجباتهم ليلاً وبينهم قواد الترامواي والحوذيون والوقادون ومستخدمو البريد والتلفون وغلمان المطاعم والمسارح فدار في خلد بعضهم أن ينشئ ملهى يشتغل من الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الرابعة والنصف لأن معظم هؤلاء يودون أن يروا شيئاً من الملاهي عند إفاقتهم الظهر قبل العودة إلى أعمالهم فأنشئ الملعب ونجح نجاحاً باهراً فاقتفى كثيرون أثر منشئيه وقاموا بأعمال أخرى من إلقاء الخطب والمحاضرات والاجتماعات الدينية.
الفنون في الدور الحجري
بينت الحفريات التي جرت سنة 1875 في وادي الفيزيران أن الإنسان في الدور الحجري كان ماهراً في الفنون فقد استطاع أن يحفر على الحجر صور الحيوانات التي عاش بينها وفي الحفر دقة غريبة ومهارة معجبة وقد وجدوا أجمل تلك الرسوم في مغارة التاميرا فرأوا صور البقر والخيول الوحشية والخنازير البرية وقد رسمت بالتراب الأحمر والأسود في مظاهر مختلفة وبمهارة فنية مدهشة واكتشفوا رسوماً أخرى في كومبارس وكلها تروق النظر بدقة صنعها ومن أجمل ممثلات الفن في العصور الحجرية الرسوم التي عثروا عليها في مغارة نيو فقد وجدوا الرسوم مخطوطة بالمراود وبمزيج من الفحم وأوكسيد المنغنزيا ورأوا في غيرها من المغاور رسوماً ونقوشاً ترد إلى ما قبل العصر الحجري وقد نقشت على العظم والعاج ثم انحطت هذه الفنون في العصور التالية لأسباب لا تزال مجهولة.
المناطيد في الحرب
يتوقعون أن يستخدموا المناطيد في اكتشاف مواضع العدو فتحقن بذلك دماء جنود الاستكشاف ويفضلون في هذه الخدمة الطيارات على المناطيد المسيرة وميزة هذه أنها تستطيع الوقوف على علو شاسع إذا كان الهواء ساخناً لتفحص الأراضي بدقة ويحاولون اليوم نقل الأثقال في المناطيد وقد استطاع المهندس بريكث أن ينقل 12 شخصاً وزنهم 633 كيلو.
إن قطعاً معدنية صغيرة تزن إحداها خمسة وعشرين غراماً إذا ألقيت من طيارة تجري على علو 1300 متر بسرعة 90 كيلو متراً تنفذ في الأجسام نفوذ قذائف البنادق وعشرة آلاف من هذه القطع لا تزن أكثر من 250 كيلو.(68/51)
انتقال الطيور
عكف العلماء على دراسة هجرات الطيور وتمكنوا من معرفة أمور عنها على أنها لا تزال محاطة بالأسرار الغامضة فلم يستطيعوا أن يفسروا كيف يجتاز بعض أنواع الطيور 3850 كيلومتراً فيعبر الأوقيانوس إلى جزائرها واي وكيف ينتقل سنونو البحر كل سنة من أقاصي الشمال إلى البلاد التي حول البحر المتوسط فيقطع في ذهابه وإيابه نحو 3500 كيلومتر وقد أبدى أحد العلماء ملاحظات غريبة بهذا الصدد فقال: إن هجرات الطيور بمسافات قصيرة فارتادت الأرض وكانت المسافة تبعد كلما جربت تجربة عند ما عرفت الطيور مزايا الهجرة التي اعتادتها. أما المسالك الهوائية التي ينتخبها النازحون فلم يقروا عليها إلا بعد أن أثبت لهم الاختبار أنها أمثل الطرق إلى أماكنهم الصيفية أو الشتوية والمزية التي جعلتهم يؤثرون تلك السبل على سواها هي أنهم يجدون فيها الغذاء الكافي أثناء رحلاتهم غير مراعين في ذلك طول الطريق وقصرها قال فالقمري ذوه الرأس الأسود يمعن في جنوبي الولايات المتحدة عند نهاية نيسان حتى يبلغ المكسيك ويرافقه في رحلة السنونو الأميركي وفي أيار يعود إلى الشمال في طرق أخرى فيتدرج قسم القمري نحو ألاسكا تواً يتخطف السنونو إلى كريلاندا فتزيد مسافة ما يجتازه 3200 كيلومتر ويتقوت في رحلته بما يعرض له من الهوام الطيارة.
بحيرة تشاد
ليس هذه البحيرة الأفريقية التي يكثر الجغرافيون من وصفها مزايا غيرها من البحيرات فقد قررت بعثة بتلهو أنها أشبه بمستنقع قليل العمق يمتد على مسافة واسعة ويختلف مقدار مياهه باختلاف الفصل وكمية الأمطار ومياه تشاد نقية تقل فيها كلورات الصوديوم مما يدل على وجود مصرف خفي لها تحت الأرض وقد اكتشفوا بحيرة أخرى جفت مياهها وكانت قبلاً بمثابة مصب لبحيرة تشاد واقعة على بعد 400 كيلومتر إلى الجنوب الغربي ويزعمون أن هذه البحيرة كانت إحدى موارد النيل.
غدائر الصينيين
كان الصينيون يفاخرون بذوائبهم المسدلة على ظهورهم حتى دخلت بلادهم المدينة الحديثة فشرعوا يجزونها ولهذا التبديل نتائج اقتصادية واجتماعية خطيرة الشأن فإن الصيني كان(68/52)
يصرف على هندمة شعره خمس عشرة دقيقة في اليوم على الأقل وإذا حسبنا إن الرجل يجب إن يدفع للمزين خمسة سانتيمات على الأقل عرفنا المبلغ الكبير الذي يقتصده الصينيون بالإقلاع عن تلك العادة ثم إن الذوائب تخلق الثوب الذي تسدل عليه فتقل مدة بقائه عشرة في المائة فإذا وفر الصيني على الوجه عشرين سانتيماً في السنة اقتصدت الأمة نحو مائة مليون فرنك سنوياً نضيف إليها ثمن أوقات الهندمة ونفقاتها فيبلغ المجموع بضع مئات ملايين من الفرنكات فجز الغدائر في الصين عمل اجتماعي اقتصادي تربح البلاد منه أرباحا طائلة.
مستقبل الكونفوشيوسية
ارتاح اليابانيون ارتياحاً شديداً إلى تعاليم الديانة الكونفوشيوسية وفي جميع البلاد اليابانية الكبرى يلتقون في فصلي الربيع والصيف محاضرات عن الفيلسوف الصيني العظيم فيأخذ الأساتذة البارعون يسردون فضائله ومزايا تعاليمه وتلتف حولهم الجماهير الغفيرة تتلقى عنهم العقائد كما تلقاها أول أتباعه لم يطرأ عليها خلل ولا تحريف.
تاريخ الملاحة
اسم رجل الأول الذي ركب البحر غائب في ظلمات العصور ولكننا نعرف إن الإنسان اقتحم البحر على جذع شجرة واستعان على التجذيف بغصن من غصونها ثم شرع بتجريف الجذع فبدأت الزوارق الحقيقية تطفو على وجه الغمر ثم استخدم الريح في تسيير السفن وأقدم ما نعرف من السفن الشراعية مراكب البابليين التي اخترعتها مصر وفي مؤخرتها غرفة للربان على سطح مرتفع يمكن الربان من مراقبة السفينة ويأتي الفينيقيون بعد المصريين وقد نشروا تجارتهم البحرية في جميع سواحل البحر المتوسط وركب اليونانيون اللجج في القرن الثالث عشر قبل المسيح وفي مراكبهم الحربية كانت تقف المقاتلة على جسر طاف ثم تجيء المراكب الرومانية وقد أصبحت أشبه بقلاع تطفو على وجه اليم مزدانة بقطع من الرخام وتماثيل محفورة وأصنام من البرونز وفيها المكاتب الواسعة على نحو ما كانت عليه سفن كاليغولا في سفراته على سواحل كامبانيا. ومركب الفكين صلب البناء قصدوا فيه إلى مقاومة الأمواج المتضاربة في بحور الشمال ولهذا بني الفريد الكبير أسطولا لإنكلترا.(68/53)
على ذلك الطرز ولكن الملاحة الحديثة في تلك البلاد ترتقي إلى عهد تيدروس وأول باخرة اجتازت بحر الظلمات الاتلانتيك سنة 1819 بنيت في أميركا ودعيت سافانا ولكن الجمهور لم يرغب في ركوب السفن البخارية ولم تزل شكوكه ومخاوفه حتى كانت سنة 1838 فاجتازت الاتلانتيك أربع سفن تجارية كبرى بدون مساعدة القلوع.
أسنان من خشب
اخترعها أحد أطباء اليابان لتقوم مقام العاجية وغيرها ولا يزال فيها بعض الخلل غيران المخترع يرجوا أن يتداركه.
الهجين العام
شرع الصينيون يفكرون في حفظ الصحة فاتخذت مراكز الإمبراطورية الوسائل الفعالة لمقاومة الطاعون وأنشئت في البلاد الإدارات الصحية.
جامعة باريز
يزداد عدد الطلاب في هذه الجامعة سنة فسنة وعدد الأجانب فيها يقارب عدد الفرنساويين ففي قسم الآداب يوجد1800 أجنبي و1147 فرنسوياً وفي قسم الطب 350 أجنبي و318 فرنساوياً ومجموع طلبتها 2121.
موسيقى المستشفيات
ألفت في باريز موسيقى خاصة بالمستشفيات تعزف لتسلية المرضى ولا سيما الناقهين منهم فأتت بنتائج حسنة حملت جميع البلاد على اقتفاء أثر فرنسا في هذا العدد فتألقت موسيقى من نوعها في بطرسبرج عاصمة البلاد الروسية.
الاتوموبيل في ألمانيا
نجحت صناعة الاتوموبيل في ألمانيا نجاحاً باهراً فزاد من عدد معاملها من 15 إلى 58 في بضع سنوات وارتقى ثمن المصنوعات من ستة ملايين مارك إلى ثمانين مليوناً.
قوة الولايات المتحدة
بات حديث الحرب شائعاً في جميع أنحاء الولايات المتحدة وشرعوا يتساءلون عن مبلغ قوتها أبان الحرب فكتب كاتب أميركي يقول: عندنا جيش منظم ففي زمن الحرب نجهز(68/54)
الميليس والمتطوعين فيستدعي الأولين رئيس الجمهورية على إن الآخرين لا يجتمعون إلا بعد قرار المجلس والميليس أنفسهم يقسمون إلى قسمين الحرس الوطني وغير المنظم ولنا حسب تقرير سنة 1910 جيش فيه 85392 جندياً وضابطاً وليس لنا من فرق الخفر سوى فرقة المدفعية الساحلية والتابور يؤلف من 800 إلى ألف رجل فيهم المشاة والمدفعية والفرسان وليس عندنا في زمن السلم سوى 34456 جندياً وضابطاً وينبغي لنا إن نجند 7000 آخرين ليكونوا قوة سيارة ومعظم ما يبلغه عدد الميليس المنظم 119000 بين جندي وضابط إما سائره فلا يعول عليه في غمرات الحرب وإذا ضمنا إليهم المتطوعة بلغ عدد جيشنا 224000 تملك 532 مدفعاً. يقولون إن الحاجة تسن الشريعة فعلينا إن نحشد الجيوش وندعو الأمة لحمل السلاح وفي الولايات المتحدة 16 مليونا من الرجال تختلف أعمارهم بين 18و45 فإذا دعي نصف هؤلاء للتدريب كان لنا جيش يبلغ الثمانية ملايين يذود عن بلادنا غارات الأعداء ولا ينكر إن موانينا محصنة ولكن تنقصها الذخائر والمؤن.
جنازات المصريين
كان قدماء المصريين في عهد الفراعنة يعتقدون أن الأموات يعبرون إلى ما وراء جبال ليبيا حيث تموت الشمس في المساء لتعبث في اليوم التالي فكانوا يشيدون أضرحتهم في الغرب ويحسبون إن الأموات ينزلون سهل عيرو وفي إحدى أوراق البردي المكتشفة رسم الشعائر الدينية التي قاموا بها في جنازة إحدى السيدات وكانوا يحاكمون الميت محاكمة عثروا على صورتها في ورقة أخرى ويضحون عن نفس الأموات.
التلفون في الأبعاد الشاسعة
تقدمت المراسلات التلفونية تقدما غير منتظر ونجح المكتشفون بنقل الأصوات في الأبعاد الشاسعة فمدوا أسلاكا تحت البحر بين أبونس كليف قرب دوفر في انكلترا ورأس كرينة في فرنسا وقد توفرت في الأسلاك جميع الشروط المطلوبة حتى إنها فاقت عامة الجهازات المستعملة للمخاطبة عن بعد سحيق ويمكن استعمالها بين محطات لا تتجاوز المسافة بينها ألفاً وخمسمائة كيلو متر ويعتقدون إنهم يستطيعون إن يصلوا بين لوندرا وأستراخان بالتلفون فيتجاوز مدن أوربا كافة ويؤكد المهندس الانكليزي إنه بعد عشر سنوات تقدر شيكاغو إن تخاطب بطرسبرج وشركات التلغراف والتلفون في أميركا ترى إنها بالغة يوما(68/55)
يتسنى لها فيه الوصل بين شرقي الولايات المتحدة وغربيها بأسلاك التليفون وتعلن إنه قبل انقضاء هذه السنة يتم معظم المشروع ويسود في نيويورك ولوندرا اعتقاد بأن الاكتشافات الكهربائية ستجعل المخاطبة التلفونية ممكنة بين أي نقطة وثبت اليوم إن الأصوات المنقولة ممكنة بالجهازات الخفيفة تسمع بوضوح وجلا وعرفوا من التجارب إن ليس ثمت من فائدة في تغليف الأسلاك بالمطاط إذا لم يكن منه إضرار وفي التليفون أسرار لا تكتشف إلا تدريجيا كما هي الحال في التلغراف والفونغراف والنور الكهربائي ومحركات البخار وتوفر العمال على الإتقان يذلل كل يوم عقبات جمة حتى لنستطيع القول مع نابليون إن العالم ليس لديه مستحيل.
باريز ميناء بحرية
يفكرون اليوم بحفر قناة بين باريز والأقيانوس ويقدرون نفقاتها بنحو أربعمائة مليون فرنك ويبلغون في منزلة هذه القناة الاقتصادية والحربية غير إن باخرة واحدة تغرق فيها أيام الحرب تسدها وتجعل المرور فيها مستحيلا والقائلون بالمشروع يهيجون رغبة الناس إليه ويضربون الأمثلة إن انكلترا حفرت قناة مانشستر وألمانيا قناة كيال وإن بلجيكا تدأب لتحول عاصمتها بروكسل إلى فرضة بحرية. ولكن هذه الأفنية الأجنبية لم تكن للدول مورد غنم وفائدة لأن أرباحها ضئيلة جدا مقابل نفقاتها الفاحشة.
المرض في روسيا
نشر أحد الأساتذة في الأكاديمية الطبية إحصاء للأمراض التي تنتاب الروسيين جاء فيه إنه يمرض كل سنة منهم 17مليونا أي واحد في السنة ويحدث مليون وخمسمائة ألف وفاة. إما الإصابات فمنها ستة ملايين بالأمراض السارية يتوفى منها 12000000 وأشد تلك الأمراض فتكا الجرب والملاريا والسل الرئوي وحمى التيفوس.
التعليم في نروج
سنة 1885 أنشئ في نروج جامعة للفعلة مدت فروعها في البلاد منذ ذلك الحين فأصبح لها سبعون شعبة ونظارة المعارف تساعد هذه الجامعة والفعلة المتخرجون فيها يشهدونها بالهبات والاعطات ويبلغ عدد الحضور في جامعة كريستيانيا 42000 وهو عدد مفرط الكثرة بالنسبة لعدد الشعب وفي هذه الجامعات مكاتب للمطالعة ومعامل من الطراز الأول.(68/56)
الجامعات في الدانيمارك
الدانيمارك بلاد زراعية رأى النابغون من أبنائها أن يتلطفوا بنشر المعارف في أمتهم فأنشأوا الجامعات الوطنية تلقي دروسها في الشتاء فقط إذ لا يكون للزارع وقتئذ ما يجب عليه عمله فيجتمع إليها ألوف من فتيان الدانيمارك ومزارعيهم ممن يعملون صيفا في الحقول والمزارع فيقبلون علي الطلب ويتلقون الدروس في معاهد تقوم بها جمعيات مختلفة تمدها الحومة بالمال ويقصدون من هذه الدروس إلى تعريف العامل بوسائل تحسين الزراعة فيدرسونه الكيمياء والزراعة على الأصول الحديثة ويزودونه بالمعارف التي تفيده في حياته ولا يهملون فيها التهذيب العام.
المدرسة الإفرنسية في بطرسبرج
تسعى فرنسا لنشر تهذيبها في العالم بأسره فهي لم تكتف بمن يفد عليها من الطلبة الأجانب بل عمدت إلى نشر مدارسها في البلاد فأنشأت مدرسة فلورنسة وأخرى في مدريد وسيؤسس لها مثيل في بطرسبرج عاصمة الروس وقد قال أحد كبار الفرنساويين إن وجود مثل هذه المدرسة في عاصمة شعب يبلغ عدده 160 مليوناً شديد الارتباط بالشعب الفرنساوي يكون له نتائج جلى فأصغت أمته إلى قوله ولا يلبث المشروع إن يتحقق.
دور المطالعة في أميركا
سبقت أميركا سائر البلاد في إنشاء هذه الدور وتألفت الجمعيات للإكثار منها. وعقد مؤتمر لها في فيلادلفيا سنة 1876 قرر أن تنشر دور المطالعة في عرض البلاد وطولها لتهذيب الشبان والعمال وكانوا لا يسمحون بدخولها إلا لمن ناهز الثامنة عشرة من عمره ثم خفضوا ذلك إلى الثانية عشرة فالعاشرة فالثماني وقيموا تلك الدور مكلفون بإرشاد الأطفال إلى مطالعة الكتب الأغزر فائدة لهم وقد يجيئهم الطفل طالبا كتاب قصص عن ذوي الجلود الحمراء فلا يزالون به حتى يطلب كتابا أوفر نفعا وأجزل عائدة ولم تكتف الجمعيات بذلك بل أنشأت مستودعات للكتب في الحارات المختلفة قائلة يجب علينا أن نسير إلى الفتيان والفتيات ولا ننتظر مجيئهم إلينا. وأرادت المدرسين على تسهيل المطالعة للطلاب بإعارتهم الكتب التي يرغبون فيها أو بإنشاء مكاتب صغيرة للمطالعة في مدارسهم. وما أزدهرت هذه المكاتب إلا بفضل المتبرعين لها من أنصار العلم والإنسانية والباذلين في سبيلها مبالغ(68/57)
جسيمة وحسبك بهبات كارنجي وغيره من كبار الأغنياء دليلاً على ما تقول وبنوا لمن بلغوا أشدهم مكاتب فيها جميع المجلات والصحف الصادرة في ذلك اليوم فيجيئها الشبان في أول أمرهم لمطالعة هاتيك الوريقات ثم يألفون المطالعة رويدا رويدا فيتشوقون إلى قراءة المصفحات النافعة الممتعة. وفي مدارس الشعب مكاتب عامة خدمت التهذيب العام أجل خدمة وعملت على ترقية روح الشعب. قلنا إن أغنياء الأميركيين تعهدوا تلك الدور بالهبات الطائلة ولقد أنشأ المستر أندروكارنجي الغني المشهور ألفا وثمانمائة مكتبة انفق عليها 51 مليون دولار ونيفا وكلها في البلاد التي يتكلمون فيها باللغة الإنكليزية فهي منتشرة في الولايات المتحدة وكندا وإنكلترا وبلاد الغال وأيرلندا وايكوسيا وزيلاندا الجديدة والهند الغربية الإنكليزية وأوستراليا وتسمانيا وأفريقية الجنوبية وغيرها.(68/58)
مخطوطات ومطبوعات
توجيه النظر إلى علم الأثر
تأليف الشيخ طاهر الجزائري طبع بالمطبعة الجمالية بمصر على نفقة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه ص420
اعتاد استأذنا مؤلف هذا الكتاب إن يضع تأليفه في أكثر العلوم المختلفة التي هو أمامها المحقق بحسب المناسبات فبينا نراه يؤلف كتابا في البيان إذا هو ينظم بديعية ويشرحها وبينا هو يؤلف كتابا في الطبيعيات إذا هو يكتب كتابا في قصص الأنبياء وفيه رد على من طعن بالإسلام فتارة يؤلف في العقائد وأخرى في النحور وطورا في الخطوط وأحيانا في الحساب والمساحة ثم تراه يشرح رسائل ابن نباتة ويودعها من دقيق الأبحاث ما ينفع ويلذ ثم كتابا في الألغاز والأحاجي وآخر في الأدب ثم في اللغة ثم في التاريخ ثم في التفسير وآخر كتبه هذا المصنف الجليل ألفه على غير مثال احتذاه وإن كان المؤلف الأمام لا يسير خطوة بدون الإحالة إلى كتب الأئمة واستخراج درر بحورهم والانتفاع بعلومهم ولا نعلم اليوم عالما من علماء الإسلام جمع فأوعى في الفنون المختلفة مثل هذا المؤلف وأجاد كل الإجادة فيما ألف وأختار المناسبات لإظهار ما رزق من علم وفضل تجارب. وقد وصف كتابه الأخير في سطر فقال إما بعد فهذه فصول جليلة المقدار ينتفع بها المطالع في كتب الحديث وكتب السير والأخبار وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول الحديث ولكن ما نقله الأستاذ لا يسهل على كل عالم أن يظفر به دع عنك من درجة العلماء وقد ضمن أنفع ما وقع عليه في أبحاثه وما اطلع عليه من كتب السلف ومن أهم ما قرأناه فيه مقالة في الخط العربي والحركات العربية ما نظن عالماً شرقياً أو غربياً يكتب ما بدانيها في التحقيق والجمع بأطراف هذه المسألة مما دل على بعد غور العلامة المؤلف وإصلاحه الشديد في خدمة العلم أمتع الله الأندية العلمية بثمرات فضله.
المجازات النبوية
للشريف الموسوي السيد الرضي طبع بمطبعة الآداب في بغداد على نفقة سيد حسن صدر الدين ص287
كتاب جليل يشتمل على مجازات الآثار النبوية وفيها كثير من الاستعارات البديعة ولمع(68/59)
البيان الغربية وأسرار اللغة اللطيفة وهو من أفيد ما أحي من آثار السلف قدم الطابع أمام الكتاب ترجمة مؤلفة وناهيك به من حبر كبير من أحبار الإسلام وبحر من بحور العلم والعرفان. وكنا نود لو عني الطابع بتصحيح الكتاب على أحد علماء العرب في العراق ليكمل تأليفا ووضعا وطبعا وشكلا وعلى كل فله من الآداب الثناء.
تاريخ التمدن الإسلامي
تأليف جرجي أفندي زيدان نقله إلى التركية زكي مغامر طبع بمطبعة قناعت في الأستانة سنة 1329
نشر المترجم وهو من الكتاب المجيدين بالعربية والتركية ترجمة تاريخ التمدن الإسلامي وسماه مدنيت إسلامية تاريخي عني بنقله طبق الأصل بحيث لا يشعر قارئه باللسان العثماني إنه مترجم ويوقن من قرأه بالعربية أولا ثم قرأه بالتركية إن المترجم استعمل غاية الأمانة في نقله فأستحق ثناء الآداب العربية ونفع بما نشر مكاتب اللغة العثمانية. وقد نشر منه حتى الآن ثلاثة أجزاء وبقي عليه الجزآن الآخران.
كتب مختلفة
رحلة قصيرة أفندي صياغ وقرينته العقلية نجلا (مطران) صباغ بين الولايات المتحدة الأميركية وسورية ولبنان طبعت بالمطبعة الأدبية في بيروت.
العبر - نظمها ميخائيل أفندي الصقال بعد حوادث سنة 1909في إنطاكية وغيرها من بلاد قيليقية طبعت بحلب في المطبعة المارونية.
صحيفة الوجدان - هي شذرات من منظومات محمود رمزي أفندي نظيم من ناشئة شعراء مصر في موضوع التربية والاجتماع وتربية النساء.
سمير الليالي - الجزء الثاني مصدر الغرائب الزمانية في أشهر الحوادث التاريخية تأليف محمد أمين أفندي الصوفي في السكري طبع بمطبعة البلاغة بطرابلس الشام على نفقة المكتبة الرفاعية.
أرجوزة في علم القيافة - للشيخ محمد أمين العمري المتوفي سنة 1204 طبعت بمطبعة دار السلام ببغداد.
تحذير المسلمين عن أتباع غير سبيل المؤمنين للشيخ عبد العزيز البداح الكويتي طبعت(68/60)
بمطبعة دار السلام في بغداد.
منظومات جميل أفندي الشطي الدمشقي نظمها في أغراض مختلفة ومنها الاجتماعي طبعت بمطبعة الإنصاف بدمشق.
ثلاث مجلات
كان الشهر الماضي من أبرك الشهور على الآداب العربية في مصر والشام والعراق نشأت للغة العربية في هذه الأقطار ثلاث مجلات رائقة نشرها أربابها عن كفاءة بعد التخرج في الموضوعات التي عانوها سنين فجاءت مجلاتهم ناضجة في الجملة من أول صدورها فالمجلة الأولى صدرت بالقاهرة اسمها.
البيان وهي تبحث في الآداب والتاريخ والفلسفة والأخلاق والتربية والاجتماع والنقد والروايات والصحة وتدبير المنزل وتعني بنشر آثار الغرب وآثار العرب لمنشئيها الشيخ عبد الرحمن البرقوقي ومحمد أفندي السباعي وهي شهرية في 80 صفحة واشتراكها السنوي 50 قرشاً مصرياً. والمجلة الثانية مجلة الآثار وهي عامة المباحث شهرية تصدر عن زحلة في لبنان لمنشئها عيسى أفندي اسكندر المعلوف واشتراكها في البلاد العثمانية ريال مجيدي ونصف وفي غيرها عشرة فرنكات وهي شهرية في 32 صفحة. والمجلة الثالثة لغة العرب وهي شهرية أدبية علمية تاريخية لمنشئها في بغداد الأب انستاس ماري الكرملي واشتراكها في الديار العربية تسعة فرنكات وفي الديار الأجنبية أثنا عشر فرنكا وعدد صفحاتها 40 تصفحنا الأعداد الأول من هذه المجلات المثقنة فرأينا فيها أبحاثا ممتعة وشذرات مفيدة تدل على بعد غور أصحابها العاملين الباحثين وأدبهم وغيرتهم على نشر الفضائل والمعارف ولكل منها ميزة تختلف عن الأخرى وكلها متناسبة في التنسيق والجمع بين ما يروق الخاصة ولا يتبرم به العامة فعسى إن تجد هذه الصحف من الناطقين بالضاد ما تستحق من الإقبال ليزيد ذلك في نموها ويضمن لها البقاء حتى تضاهي أكبر المجلات الأوربية بعون الله.(68/61)
العدد 69 - بتاريخ: 1 - 11 - 1911(/)
كتب اللغة الانتقادية
أختلط العرب بالأجانب بعد الفتح فأثر التياثهم بهؤلاء فيهم آثار اسبقها التأثير في لغتهم لأن اللغة وهي آلة الترجمة والتفاهم أقرب إلى إلى الانتقال من الأخلاق والعادات بل هي المدخل إلى انفعال الآداب ولنا من اهتمام الأمم الحية بنشر لغاتها دليل بات على ذلك ولا أريد هنا شياع الألفاظ الدخيلة وتسربها إلى العربية فإن ذلك إنما ظهر بعد تبسط الأمة في العمران ولكن أريد بذلك اللحن الذي حدث بعد الفتح أو في أخرياته والعرب عرب في أزيائهم وأوضاعهم وشظفهم في المعيشة فقد بدأوا يلحنون في التراكيب ثم في المفردات وانتهى ذلك بوضع علمين علم يحفظ التراكيب عن الخطأ وهو النحو وآخر يحفظ المفردات الصحيحة وهو علم اللغة وابتدأ العلماء قبل عهد التدوين ينتقدون اللحن في محاوراتهم ثم دونت اللغة ودون في أثنائها فن يصح إن يسمى (اللغة الانتقادية) وهو فرع بمعنى خاص من علم اللغة تنتقد فيه المفردات المستعملة غلطا في كلام الخاصة والعامة فيذكر فيه المصحف والمحرف والمقلوب والمستعمل في غير موضعه والمتغير وضع حركاته وسكناته وقد ألف في هذا الفن جماعة من أقدمهم أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي البصري المتوفى سنة 211 وقيل قبل ذلك ألف كتاب (ما تلحن فيه العامة) ولعله أول من كتب في هذا الشأن فإني لم أجد غيره ممن طرق هذا الباب إلا أتلى منه وللإمام أبي بكر المازني المتوفى سنة 248 كتاب بهذا الاسم ولأبي حاتم سهل بن محمد السجتاني العالم الشهير المتوفى سنة 255 وقيل قبل ذلك بقليل كتاب (لحن الأمة) وبهذا الأمم كتاب لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري المتوفى سنة 290 وألف المفضل بن سلمة الفاضل الكوفي صاحب الاستدراك على العين وكان معاصر للفراء ومنقطعا للفتح بن خاقان كتاب (الفاخر) في لحن العامة وبهذا الاسم أيضا كتاب في لحن العامة لابن البلخي وكان مستوفيا في بلخ على عهد السلطان محمد السلجوقي وألف محمد بن الحسن الزبيدي الاشبلي المتوفى سنة 379 كتاب (ما يلحن فيه عوام الأندلس) ولأبي هلال العسكري صاحب كتاب (الصناعتين) المتوفى سنة 395 كتاب (لحن الخاصة) وألف ابن باني محمد بن علي السبتي المتوفى سنة 733 كتابا في لحن العامة وفيه كتاب لابن هشام لابن هشام محمد بن أحمد اللخمي المتوفي قبل الستمائة.
وقد أنتقد جماعة من اللغويين كتب آخرين منهم فمن الكتب المنتقدة وهي في موضوع(69/1)
انتقادي كتاب (درة الغواص في أوهام الخواص) وهو الكتاب المعروف لأبي القاسم محمد بن عثمان الحريري البصري صاحب المقامات المتوفى سنة عشر وخمسمائة وقيل سنة 546 وقد أعتني به الأدباء فحشاه وشرحه واختصره وزاد عليه ورده ونظمه جماعة منهم وممن شرحه شرحا انتقاديا شهاب الدين شهاب الدين الخفاجي المصري صاحب الديوان المعروف وأبو الثناء الألوسي البغدادي صاحب (روح المعاني) وسمى شرحه (الطرة) وزاد عليه ابن منصور موهوب بن احمد الجواليقي المتوفي سنة 539 ملحقاً سماه التكملة ولكن في لحن العامة وممن رد عليه ابن الخشاب المتوفي سنة 567 ورد على الحريري في الدرة أيضاً أبو جعفر محمد بن عبد الله المكي اللغوي المتوفي سنة 565.
ومن العلماء النقادين أبو نعيم علي بن حمزة اللغوي البصري المتوفي سنة 375 ردّ على ثعلب في الفصيح كما انتصر له ابن خالويه ولأبي نعيم هذا رد على جماعة من اللغويين وصنف أبو حاتم الهروي كتاب (الرد على أبي عبيدة) في غريب القرآن ولبعد السلام بن عبد الرحمن اللهخي الإشبيلي المتوفي سنة 627 كتاب يرد على ابن سيده صاحب المخصص المتوفي سنة 458.
ومن كتب اللغة المشهورة التي انتقدها العلماء كتاب (العين) الذي يقولون أنه أول كتاب وضع في اللغة ولكنه لم يكمل واشتهر أنه للخليل بن أحمد الفراهيدي الإمام الشهير المتوفي سنة 175 ولكن أنكر العارفون أنه له كما جمعوا على تشويشه وسوء ترتيبه وتطرق الخطأ إليه واشتغل جماعة بترتيبه وتهذيبه واختصاره وانتقاد الأغاليط التي جاءت فيه وممن انتقده محمد بن عبد الله الإسكافي أحد أصحاب الصاحب بن عباد في كتاب جمع فيه كثيراً من أغلاط الأدباء واختصره أبو بكر المازني واستدرك عليه المفضل بن سلمة وألفت كتب كثيرة بشأنه وتوجد من كتاب (العين) نسخة على نقصها في بعض بيوت النجف خطها وورقها عاديان.
ومن رجال الانتقاد في اللغة مجد الدين الفيروزأبادي صاحب القاموس فقد خطأ جماعة من اللغويين منهم أحمد بن فارس القزويني اللغوي صاحب (المجمل) المتوفي سنة 398 فإن الفيروزأبادي جمع عليه ألف وهم في كتابه المعروف بالمجمل وذلك في كتاب مستقل وكتاب المجمل هذا يقع في جزئين كبيرين ويوجد جزؤه الأول عند أحد الأدباء في النجف(69/2)
مخطوطاً في القرن السادس على ما أظن ولا أحفظ السنة ويوجد منه جزءٌ في مكان آخر ولا أعلم أهو الأول أم الثاني وممن خطأه صاحب القاموس الإمام أبو نصر إسمعيل بن حماد الجوهري صاحب (الصحاح) المتوفي سنة 393 فإن من يتصفح القاموس يجد نسبة الوهم إلى الجوهري في مواضع كثيرة منه والقاموس إنما بني على انتقاد الصحاح والزيادة على ما فيه ثم أن الفيروزأبادي يتحامى ابن فارس أكثر مما يتحاشا من الجوهري على أن صاحبي المجمل والصحاح متعاصران ولا يعلم أن الجوهري أجاد فيما كتب أكثر من ابن فارس ولكنه إنما تناول الأول وحط منه لتوفر الناس على مطالعة كتابه واشتهاره أكثر من المجمل فنال غرضه وهو أن نبذ القراء الصحاح وأقبلوا على القاموس وهو وإن كان أوفر مادة إلا أنه أعجمي اللهجة ثقيل العبارة عكس الصحاح.
وانتقد الصحاح جماعة غير الفيروزأبادي منهم الإمام عبد الله بن بري المتوفي سنة 576 سمى كتابه (التنبيه والإيضاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح) وللقاضي الأكرم علي بن يوسف القفطي مؤلف تاريخ النحاة من علماء القرن السادس كتاب (إصلاح الخلل الواقع في الصحاح). وللصفدي صاحب شرح لامية العجم المتوفي سنة 757 كتاب (نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم) وقد انتصر للصحاح على القاموس جماعة منهم القاضي أويس بن محمد المتوفي سنة 1037 في كتاب سماه (مرج البحرين) ومنهم أبو زيد عبد الرحمن بن عبد العزيز نزيل مكة في كتاب سماه (الوشاح في رد توهيم المجد للصحاح) وقد اعتمد المؤلف في رده على مجمل ابن فارس ومختصر العين للزبيدي وعلى نسخة من نهاية ابن الأثير بخط المصنف وعلى نسخة وقعت له من الصحاح خالية من التصحيف والتحريف العارضين اللذين أوهما بعض المنتقدين فرد على الجوهري في بعض المواضع وقد أحسن نصير الصحاح هذا في دفاعه ما شاء ولا يكاد يوجد هذا الكتاب الانتقادي على أنه مطبوع وهو يقع في 134 صفحة متوسطة طبع سنة 1281 ببولاق بالمطبعة الكبرى الممتازة.
وقد ألف النقادون كتباً في الرد على القاموس نفسه منها كتاب (الدر اللقيط أغلاط القاموس المحيط) لمحمد بن مصطفى الشهير بداود زادة المتوفي سنة 1017 ولدي كتاب (القول المأنوس في شرح مغلق القاموس) وهو تعليقة جمعها مؤلفها من حاشيتين إحداهما لعبد(69/3)
الباسط سراج الدين البلقيني والأخرى لجمال الدين الشهير بسعدي الرومي والكتاب مبني على إيضاح بعض الجمل والمفردات وقد تذكر فيه مواضع الخلاف بين صاحب القاموس وصاحب الصحاح وغيره ويزاد عليه من المعاني في الصحاح ما قد أغفله الفيروزأبادي وردت فيه بعض المواد التي ادعى إغفال الصحاح إياها إلى نسخة من الصحاح مصححة وجدت تلك الألفاظ في هامشها وخط التعليقة حسن متأخر وورقها جيد مذهب وصفحاتها 146 ولا أعرف لها ثانية.
وممن انتقد القاموس ورد عليه السيد علي خان صاحب (سلافة العصر) و (أنوار الربيع) وهو أحد أعلام الأدب في القرن الحادي عشر فانه ألف كتاباً ممتعاً في اللغة سماه (الطراز) ولكنه لم يتم ويوجد جزآن منه في بعض المكتبات الخاصة في النجف وسمعت صاحبه يقول أنه تتبع سقطات صاحب القاموس كما تتبع سقطات صاحب الصحاح فهو يقول ووهم (الفيروزأبادي) كما يقول الفيروزأبادي ووهم (الجوهري) وآخر من تجرد للرد على القاموس فيما أعلم المرحوم أحمد فارس صاحب الجوائب وكتابه (الجاسوس) معروف عند المتأدبين وهو من أحسن الكتب الانتقادية.
ولما نهضت العربية في نشأتها الأخرى أي بعد انتشار الصحف اخذ بعض الكاتبين ينتقد الألفاظ والأساليب العامية والركيكة المقتبسة من الأجانب ومن أشدهم جهاداً في ذلك المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي فانه كتب في مجلة (الضياء) وفي غيرها فصولاً في الإصلاح اللغوي صحح فيها أغلاط الكتاب وانتقد لهجتهم ولكنه أخطأ في أشياء بنى على خطأ القوم فيها ولا يزال يجيءُ في الجرائد والمجلات شيءٌ من الانتقاد اللغوي سواءٌ كان ذلك على الكتب المؤلفة أو في مقالات خصت بانتقاد أغاليط الكتابة المصرية والمقتبس هي المجلة التي تسير على هذا المبدأ الصحيح الذي يبشرنا بحياة جديدة لهذه اللغة التي امتهنها أهلوها وحمل الناس على إهانتها اقتعاد أبنائها غوارب الفرقة والجهالة.
ومن الرسائل التي قرأتها في اللغة الانتقادية رسالتان وقفت عليهما في مجموعة ذات رسائل في موضوعات شتى واسم إحداهما (سقطات العامة) وهي كراسة صغيرة مرتبة على حروف الهجاء وقد شذ منها بعض حرف الهمزة والرسالة غير منسوبة لأحد ولم أجدها في كشف الظنون إلا أن لجهة كاتبها تدل على أنه من المتأخرين والرسالة الثانية(69/4)
تقع في كراستين ونصف وهي كسابقتها مرتبة على الحروف لكنها خير منها وأجمع وأنصع لفظاً وأرصن تعبيراً ولم تنسب لمؤلف أيضاً وفي كثير من فصولها يذكر ما نصه (الزائد من كلام ابن الحوزي) ولعل هذا هو أبو الفرج عبد الرحمن صاحب كتاب (المدهش) الذي نشر المقتبس وصفه وخط الرسالتين سقيم حتى لا يكاد يقرأ هذا وإلى قراء المقتبس شيئاً مما جاء في سقطات العامة:
فصل الهمزة
مما جاء في (الإيوان) بكسر أوله الصفة العظيمة والناس يفتحون همزته وهو لحن إذ هو لفظ عربي كالدبوان ولكن يجوز الفتح في الدبوان حكاه في القاموس.
فصل الباء
مما فيه (البرية) بتشديد الراء الصحراء والجمع أبرار وتخفيف الناس راءها (عامة العراق تشددها اليوم) غلط إذ هي بالتخفيف من برأ الله الخلق أي خلقهم (البشارة) هي بالفتح بمعنى الجمال والاسم من البشرى بكسر الباء وضمها لا غير والناس (عامة العراق تسكن الباء) في الاسم من البشرى وهماً منهم (الباكرة) هي من مخترعات وليست من كلام العرب والصحيح البكر (بنيامين) هو كإسرافيل أخو يوسف عليه السلام ولا تقل (ابن يامين) وقد شاع بين الناس أن ابن يامين ظناً منهم أنه لفظ عربي وليس كذلك بل هو أعجمي وهو غير الذي في معلقة طرفة (البلور) على وزن تنور وسنور معروف فكسر الباء مع ضم اللام على ما هو المشهور لحن.
فصل التاء
مما جاء فيه (التوأمان) هذه اللفظة تثنية توأم يقال أتأمت المرأة فهي متئم إذا وضعت اثنين وغلط الناس أنهم يستعملونه بمعنى (التوأم) أي المفرد (الترجمة) بفتح الجيم مصدر على وزن فعللة من ترجمة وترجم عنه أي فسر وما شاع بين الناس من ضم الجيم خطأ (الترجمان) يقولونه بفتح التاء وضم الجيم ولم يقل به أحد من أصحاب اللغة.
فصل الثاء
مما فيه (الثقل) كعنب ضد الخفة ويستعمله البعض في المعنى بسكون القاف وهو خطأ قال في القاموس الثقل واحد الأثقال كجمل وأجمال (الثيب) يزيدون في هذه اللفظة تاءً ويقولون(69/5)
(ثيبة) وهو خطأ لأنها وردت مجردة عن التاء بلا خلاف.
فصل الجيم
مما جاء فيه (جمادى الأولى والأخرى) فعالى كحبالى والعوام تستعمله (لم نسمع هذا الاستعمال) بالمعجمة المكسورة ويصفونها (هذا معروف) بالأول فيكون فيه ثلاث تحريفات قلب المهملة معجمة والفتحة كسرة والتأنيث تذكيراً وكذا جمادى الأخرى يقولون فيها جمادى الآخر بلا ياء والصحيح الآخرة أو الأخرى وهما معرفتان من أسماء الشهور وكذا ربيع الأول وربيع الآخر في الشهور وأما ربيع الأزمنة (يريد الفصول) فالربيع الأول باللام.
فصل الحاء
مما جاء فيه (الحباب) يستعمله الأكثر في النفاخات التي تعلو على وجه الماء بضم الحاء وهو خطأ إذ هو بضم الحاء المحبة فالصحيح فتح الحاء (كعب الأحبار هو بالحاء) المهملة واشتهر بين العوام بالمعجمة لكثرة ما يرويه من الأخبار قال يف الصحاح كعب الحبر منسوب إلى الحبر الذي يكتب به لأنه كان صاحب كتب وقال صاحب القاموس ولا يسمع الأخبار (أي بالمعجمة) إلا في الروايات (الحيدر) هو بالحاء المهملة من أسماء الأسد واللحانون يستعملونه (هذا الاستعمال لا يعرف في العراق) بالمعجمة وههنا حمل المؤلف على الناس متأففاً من الجهل والتقليد فكأنه يدعو هلم اعملوا مستقلين لا يضلكم القديم ولا العادات الموروثة فقال يستعملونه بالمعجمة لعدم زوال الكزازة منهم بتحصيل طرف من العلم بل ربما يسمعون الحق فلا ينتبهون لان ترك المألوف صعب! (الحيوان) هو بالتحريك جنس الحي وأصله حييان ذكره في القاموس فإسكان الياء كما فعله العامة لحن.
فصل الدال
مما فيه (الدعاوي) هي كصحاري جمع الدعوى وبكسر الراء خطأ (الديانة) هي معروفة فلحن بعض العوام بتقديم النون على الياء (هو غير معروف) وقولهم دناية عن الجهل كناية وعلى اللفظ جناية.
فصل الذال
من بعض ما فيه (الإذعان) الغلط فيه من حيث يستعملونه بمعنى الإدراك فيقولون أذعنت(69/6)
بمعنى فهمت والصحيح أذعنت له ومعناه الخضوع والذل (الأذناب) وقع في مختصرات الصرف (الزاجر عن الأذناب) زعموا أنها الأذناب على وزن أفعال جمع ذنب بمعنى الإثم وإنما الأذناب جمع ذنب بفتح النون.
فصل الراء
جاء فيه (المرثية) هي بالتخفيف مصدر قال في الصحاح رثيت الميت من باب رمى رثاءً ومرثية أيضاً إذا بكيته وعددت محاسنه فتشديد الناس ياءها (وهذا شائع بين المنتمين إلى الأدب) لحن محض وأما القصيدة فهي مرثية فيها (ويصح إطلاق المرثية عليها) (الرفاهية) هي بالتخفيف كالطواغية يقال فلان في رفاهية من العيش أي في سعة وخصب ولين والناس يلحنون (هذا اللحن شائع أيضاً) فيها بتشديد الياء.
فصل الزاي
بعض ما فيه (الزعيم) هو بمعنى الكفيل قال سبحانه وتعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وفي الحديث (الزعيم غارم) فاستعمال الناس إياه على أنه الحسبان مبني على الزعم الفاسد.
فصل السين
مما جاء فيه (السبق) من باب ضرب والناس يزيدون فيه تاءً فيقولون (السبقة) فهو لحن منهم ويمكن أن يقال يجوز أن تكون الثاءُ للمرة كالضربة لكن من تتبع استعمالاتهم يعرف أنهم لا يقصدون بها المرة بل يستعملونها بمعنى المصدر فقط فيقولون (وهو من قبيل سبقة اللسان) (السحور) هو بالفتح اسم لما يتسحر به كالغبوق والصبوح لما يشرب في العشاء والصبوح فضم السين (وبالضم يستعملونه اليوم بمعنى السحر الذي هو قبيل الفجر) كما يفعله بعضهم خطأ (السلس) على زن كتف تقول شيء سلس أي سهل ورجل سلس أي لين منقاد وفلان سلس البول إذا كان لا يمسكه فالسليس بزيادة الياء عل ما هو المشهور غير سلس بل هو لحن محض (مسيلمة) تصغير مسلمة اسم للكذاب المشهور فمن يقوله بالفتح ويدعي الصحة أكذب منه.
فصل الشين
فيه (الشباهة) هي لفظة مستعملة بين الناس ولكن لا صحة لها والصحيح الشبه بفتحتين(69/7)
تقول بينهما شبه.
فصل الضاد
فيه (الصلاحية) اخترعها أصحابنا بتشديد الياء واستعملوها لكنها من الألفاظ المهملة والمصدر هو الصلاح والصلوح.
فصل الظاء
مما فيه (المظلمة) بكسر اللام على وزن محمدة مصدر ظلم قال في الصحاح ظلم يظلم ظلماً ومظلمة انتهى والناس يفتحون لامها فيقولون مثلاً ضرب اليتيم مظلمة أي ظلم وهو خطأ إذ هي بفتح اللام ما تطلبه من الظالم وهو اسم ما أخذ منك.
فصل العين
فيه (المعجب) شاع بين الناس بكسر الجيم وهو خطأ (المعدن) بكسر الدال منبت الجواهر من ذهب ونحوه من عدن بالمكان يعدن أي أقام ومنه (جنات عدن) أي جنات إقامة (الأعطاف) هو جمع عطف بكسر العين بمعنى جنب الشيء والجانبان العطفان والناس يحسبونه جمع العطف بفتح العين الإشفاق فيقولون (لا يبعد من ألطاف مولانا وإعطانه أن يفعل كذا) (عاميٌّ) بنخفيف الميم خطأ والصحيح بتشديد الميم منسوب العامة (العيش) هو بفتح العين وكسرها على ما أشاع خطأ لأن العين إذا كسرت تلتزم التاء كعيشة راضية.
فصل الغين
مما فيه (الغذاء) بالذال المعجمة على وزن كساء ما به نماء الجسم هكذا فسر في القاموس وقال في الصحاح (الغذاء) ما يتغذى به من طعام أو شراب وقد شاع بين الناس بالدال المهملة اسما لما يؤكل فقط ففيه غلطان (أي أهمل داله وتخصيصه بالطعام) وأظنهم يغلطون من (الغذاء) بالفتح والمد ضد العشاء بمعنى طعام الغد طما أن العشاء بالفتح والمد طعام (الغيبة) بالكسر من الاغتياب وفتح غينها لحن ازهي بالفتح مصدر بمعنى الغيبوبة.
فصل الفاء
فيه (الفراغة) هي لحن استعملوه من غير نكير لكن الصحيح الفراغ بلا تاء (الفلاكة) هي من الألفاظ التي اخترعوها يستعملونها في ضيق الحال كأنهم اشنقوها من لفظ (الفلك) فقالوا به فلاكة وهو مفلوك أي أصابه الفلك.(69/8)
فصل القاف
فيه القوابل يستعملونها جمع قابل وهو جمع قابلة لأن فاعلة في الصفة جمع فاعلة إلا فوارس جمع فارس على ما عرف في موضعه (القنديل) هو بكسر القاف معروف ووزنها فعليل لا فنعيل وفتح القاف لحن مشهور.
فصل الكاف
(الكراهية) هي بالتخفيف من مصادر كرهه فتشدد الياء على ما فعله البعض مما يكرهه السمع ويمجه الذوق.
فصل اللام
مما فيه (اللكنة) هي بضم اللام عجمة في اللسان يقال رجل الكن وقد لكن من باب ضرب كما ذكر في اللغة وما زلت اسمع من بعض العوام تحريف هذه الكلمة وارى بعض الناس حيارى في أمثال هذه الاغاليط تارة يصيبون ولا يدرون إصابتهم ويخطئون ولا يدرون ولك لا يرجعون إلى اللغة فيما أشكل عليهم حتى يخرجوا من ظلمة الشك إلى نور اليقين.
فصل النون
(المنبر) هو بكسر الميم لكن شاع بين العوام فتح ميمه (هو كذلك اليوم) وكذا ضم ميمه (النزل) بضمتين وبالتسكين ما يهيأ للنزيل أي الضيف والعوام يزيدونه واوا (لعلها من إشباع الضمة) وليس النزول إلا مصدرا بمعنى الهبوط والحلول (النزلة) وهي الزكام يقال به نزلة والجمع نزلات والجاهلون يعبرون عنها بالنازلة ويجمعونها على النوازل (تجمع كذلك الآن) وه وخطأ إذ النازلة هي الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس كما تفصح عنه كتب اللغة (النقرس) هو داء معروف وزيادة الياء على ما هو الشائع بين العوام خطا لأن النقر يس الدليل الحاذق (النكاة) بكسر النون جمع النكتة وإذا ضمت النون حذفت الألف (فيقال النكت) وكثير من الناس يضمون النون ويثبتون الألف هذا بعض ما جاء في الرسالة الأولى ولعلي في فرصة ثانية أتي بالرسالتين.
النجف // محمد رضا الشبيبي(69/9)
بين الفيحاء والشهباء
عمران حلب القديم والحديث
كان أجدادنا يقطعون المسافة بين دمشق وحلب في تسعة أيام على الدواب وها قد أصبحنا نقطعها في ست عشرة ساعة بالقطار وهو يمر مر السحاب ولو وجدت الشركة داعيا قويا لقطعت اليوم في ساعة فبفطر الراكب في الصباح في الفيحاء ويتعشى في حاضرة سورية البيضاء لأن المسافة تقل عن أربعمائة كيلو متر يتيسر قطع الخمسين كيلو مترا في ساعة واحدة من رياق إلى حلب والخط بينهما من النوع العريض وقطاراته منظمة أكثر من قطارات بيروت - دمشق - حوران أو يافا - القدس أو حيفا - دمشق - المدينة.
أتيت الشهباء أو عاصمة سورية البيضاء لأول مرة فرأيت فيها الصورة التي كانت تتخيلها المخيلة إلا قليلا وذلك لأن القدماء والمحدثين اشبعوا الكلام عليها أكثر من كل بلد سواها ولان الحكومات التي توالت عليهم أرفعت من شانها وأعلت من بين البلدان ذكرها. وناهيك ببلد كان ينزله ويمدحه ويحن إليه مثل البحتري والمتنبي والصنوبري وكشاجم والمعري والخفاجي وابن جبوس والوزير المغربي وأبي العباس الصفري وأبي فراس والحلوي وابن سعدان وابن حرب الحلبي وابن النحاس وابن أبي حصينة وابن الحداد وابن العجمي والملك الناصر وياقوت وغيرهم من رجال الأدب والعلم. وما قاله الشعراء في مدحها يكاد يقترب مما قالوه في أختها الفيحاء فقد قال كشاجم:
أرتك ندى الغيث آثارها ... وأخرجت الأرض أزهارها
وما أمتعت جارها بلدة ... كما أمتعت حلب جارها
هي الخلد تجمع ما يشتهى ... فزرها فطوبى لمن زارها
وقال البحتري:
أقام كل ملث الودق رجاس ... على ديار الشام ادرس
فيها لعلوة مصطاف ومرتبع ... من بانقوسا وبابلي وبطياس
منازل أنكرتنا بعد معرفة ... واوحشت من هوانا بعد إيناس
يا علو لو شئت أبدلت الصدود لنا ... وصلا ولان لصب قلبك القاسي
هل لي سبيل إلى الظهران من حلب ... ونشوة بين ذاك الورد والأس(69/10)
وقال المتنبي:
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل
فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والنميل
أول من استوطن بقعة حلب بنو حام بن نوح وكانوا ينزلون من شط بغداد إلى مصر وقد كانت فرقة منهم فيها قيل أنها تسمى الكيتا فسكنت بقعة حمص وحماة وحلب. وسكن حلب إبراهيم الخليل ثم جاء بعده بنو أرام بن لوط من بني سام واستولوا على تلك البقعة واخرجوا منها أولاد حام فسميت مملكة الآراميين والسريانيين وقسموها إلى ثلاثة أقسام الأولى جزيرة الآرام وهي من الخابور إلى الفرات والثانية المملكة الشامية وهي دمشق وما قرب منها الثالثة مملكة آرام صوبا وهي الجبول من ضاحية حلب وما قرب منها.
ووصفت حلب بالشهباء لأن القادم إليها تتراءى له بيضاء من بعيد بخلاف غيرها من البلدان. ويقولون أنها منم بناء العمالقة بدليل الكتابة التي وجدت على الحجر الأسود في الحائط بظاهر جامع القيقان داخل باب انطاكية مكتوبة بالخط الهيروغليفي بلغة الكيتا أو الحماتيين وكانت هذه الكتابة مصطلحا عليها في أيامهم وكان اسم حلب بلغتهم هليون وهلبه واستمرت بأيديهم إلى إن أتى ملوك الفراعنة من مصر وحاربوهم وملكوها منهم وهم توتمس الأول وتوتمس الثاني وسيأتي ورعمسيس الأول وذلك قبل التاريخ المسيحي بألفين وخمسمائة سنة إلى ثلاثة آلاف سنة ثم استردها الكيتا منهم صلحا واتى بعدها ملوك بابل وحاربوا السريانيين وملكوها وذلك قبل التاريخ المسيحي بستمائة وستين سنة وقد عثروا في قرية من قرى جبل سمعان قرب حلب اسمها كفرنابو على الصنم الذي كان يعبده البابليون ومعنى نابو بلغتهم اله فيكون معنى كفرنابو قرية الإله وفي سنة 860 ق. م حارب شلمناصر الرابع الحماتيين وملك حلب في جملة ما ملك من البلاد فظل ملوك الحماتيين تحت سلطة البابليين إلى إن أتى ملوك العجم واستولوا على البلاد فاخرجوا البابليين منها وبقيت بأيديهم إلى إن جاء لاسكندر وأخذها منهم فصارت مسكنا للروم اليونانيين يقولون لها ما خيله ولما حولها خلبن بالخاء المعجمة وكانوا يقولون لها بروبا لأنها فيم أقيل تشبه إحدى مدنهم ولعلها عربية من قولهم بريرى لأن الناظر إلى البر من قلعة حلب يراه ممتدا إمامه.(69/11)
وجدد سلوقس تيكاتور احد ملوك الرومان قبل المسيح بثلاثمائة واثنتي عشرة سنة بناء نحو النصف من مدينة حلب وبنى القلعة وأمر اليهود إن يختلفوا إليها التجارة ويقيموا بها فكثرت دورهم حتى بلغت نصف ساعة طولا ثم استولى الروم على حلب وجعلوها كرسي مملكتهم مع سورية وإنطاكية.
وأراد السلوقيون أن يزيدوا في بناء حلب ثم عدلوا موثرين لقنسرين لأنها كانت أعظم والتجار يختلفون إليها أكثر فكانت تأتيها القوافل من البحر إلى الفرات ومن الفرات إلى البحر عن طريق قنسرين ولم يكن في حلب ما في قنسرين من الصناعات وغيرها حتى إن تجار أوروبا كانت تأتي إليها من السويدية في طريق إنطاكية ويأتي إليها تجار العجم من الفرات بطريق بالي (مسكنة) ولم تكن الطريق في ذلك الوقت سالكة إلى حلب إلا من يقصد الذهاب منبج (هيرابلس).
وقنسرين هي التي نسب إليها احد أجناد الشام الخمسة وهي جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرين والجند هنا بمثابة الفيلق في أيامنا يتجمع فيه الجند ويقبضون أعطياتهم قال ابن جبيرة: إن قنسرين بلدة شهيرة في الزمان لكنها خربت وعادت كان لم تغن بالأمس فلم يبق إلا أثارها الدراسة ورسومها الطامسة ولكن قراها منتظمة لأنها على محرث عظيم من البصر عرضا وطولا وقد فسر ياقوت سبب خرابها ووصف موقعها فقال أنها كورة بالشام منها حلب فتحت على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة 17هـ - وكانت مدينة بينها وبين حلب مرحلة من جبهة حمص بقرب العواصم وبعضهم يدخل قنسرين في العواصم ومازالت عامرة آهلة إلى إن كانت سنة 351 وغلبت الروم على مدينة حلب وقتلت جميع من كان بربضها فخاف أهل قنسرين وتفرقوا في البلاد فلم يكن بها في القرن السادس إلا خان ينزله القوافل وعشار السلطان وفريضة صغيرة وذكر ابن جبير الخانات من حلب إلى قنسرين إلى باقدين إن خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في غابة
والعواصم حصون موانع وولاية تحيط بها بين حلب وإنطاكية وقصبتها إنطاكية كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء وأكثرها في الجبال فسميت بذلك وربما دخل في هذا ثغور المصيصة وطرطوس وتلك النواحي ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى(69/12)
حمص حتى زمان يزيد بن معاوية فجعل قنسرين وانطاكية ومنبج وذواتها جنداً فلما استخلف الرشيد إفراد قنسرين بكورها فصيرها جندا وإفراد منبج ودلوك ورعبان وقورس وإنطاكية وتيزين وما بين ذلك من الحصون فسماها العواصم لأن المسلمين كانونا يعتصمون بها فتعصمهم وتمنعهم من العدو إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا من الثغر وجعل مدينة للعواصم منبج واسكنها عبد الملك ابن صالح في سنة 73 فبنى فيها أبنية مشهورة ذكرها المتنبي في مدح سيف الدولة فقال:
لقد أوحشت أرض الشام طراً ... سلبت ربوعها ثوب البهاء
تنفس والعواصم منك عشر ... فيوجد طيب ذلك في الهواء
جدد الملك كيرويس الشرواني ما انهدم من سور حلب وقت حرب العجم وعمر بالقرب من باب إنطاكية بيتا للنار لأنه كان ممن يعبدونها فاشتملت حلب إذ ذاك على أربعة أنواع من الديانات وهي اليهودية والنصرانية وعبدة الأوثان وعبده النار ثم دخل الإسلام وكانت حلب في المذاهب الإسلامية تختلف باختلاف الدول عليها شانها ذلك شان دمشق فتارة توالي عليا وأصحابه وأخرى توالي غيره.
ولما أراد بدر الدولة أبو ربيع سلمان ابن عبد الجبار بن الرق صاحب حلب بناء أول مدرسة للشافعية في هذه المدينة لم يمكنه الحلبيون إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيع وكان أهل حلب كلهم سنية حنفية حتى قدم شخص إلى حلب فصار فيهم شيعية وشافعية وهو الشريف أبو إبراهيم الممدوح.
وقد أتى صلاح الدين يوسف بن أيوب وخلفاؤه على التشيع في حلب وكان المؤذنون في جوامعها يؤذنون بحي علي خير العمل وحاول السلجوقيون الأتراك مرات القضاء على التشيع في هذه الديار فلم يوفق لذلك إلا الملك الناصر صلاح الدين كما ضرب على التشيع في مصر وكان على أشده فيها على يد الفاطميين بحيث لا يكاد عالم مصري يصرح بمذهبه إذ ذاك ولا يزال إلى اليوم أثر من آثار التشيع بادياً على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل الجوشن بظاهر الشهباء وفيه ذكر الأئمة ألاثني عشرية وكان حكم بني حمدان وهم شيعة من جملة الأسباب التي نشرت التشيع في حلب وجوارها وابتدأت حكومتهم سنة 333 هـ وانقرضت سنة 381 وفي سنة 141 ظهر في حلب قوم يقال لهم(69/13)
الرواندية خرجوا بحلب وحيران وكانوا يزعمون أنهم بمنزلة الملائكة وصعدوا تلا بحلب فيما قالوا ولبسوا ثيابا من حرير وطاروا منه فانكسروا وهلكوا.
ولقد كان لحلب كما كان لغيرها من أمهات المدن الإسلامية غرامة وشدة في التعصب على المخالفين ويعد في سيئات الجامدين تاليهم على الشاب السهروردي الحكيم الإلهي العالم فقد حاورهم فبزهم في حضرة صاحب حلب الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف فلم يروا واسطة لإهلاكه أحسن من الاستشفاع بوالد مليكهم فكتبوا إليه محضرا وبالغوا في عاقبة أمر السهر ودي حتى صدر الأمر إلى الملك الظاهر بقتل هذا الفيلسوف فاختار إن يلتقي الله بمنع الطعام والشراب وعنه وهلك في قلعة حلب فيما بلغني معروف إلى اليوم ناعيا على الدهر أولئك المتلاعبين بالدين والمتعصبين لأهواء نفوسهم زاريا على العصور الظلمات ولو كره السفسطائيون عادا ذلك سيئة لصلاح الدين وان كانت أعمال هذا كلها حسنات وأيامه غررا محجلات. قضى السهروردي ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره وكم مثله من حكيم قضت عليه أهواء معاصريه ولو عمر لملا الدين علماً وعقلاً.
وبعد فقد كان شان حلب في العهد الإسلامي شان سائر مدن الشام دخلت في حكم بني أميه ووليها عمالهم ثم انتقلت إلى أيدي بني العباس ووليها صالح بن علي سنة سبع وثلاثين ومائة فنزل حلب وابتنى بتا خارج المدينة من شرقها قصرا بقربه يقال لها بطياس بالقرب من النيرب وأثاره باقية ذكرها البحتري وغيره في أشعارهم وقد كان جماعة بني أمية اختاروا المقام بناحية حلب وآثروها على دمشق ومنهم هشام ابن عبد الملك انتقل إلى الرصافة وسكنها واتخذها منزلا لصحة تربتها ومنهم عمر بن عبد العزيز أقام بخناصرة واختارها منزلا ومنهم سلمة بن عبد الملك سكن بالناعورة وابتنى بها قصراً بالحجر الصلد الأسود.
ومازال عمال بني العباس يتولون من أمر حلب ما يتولون من سائر بلاد الخلافة حتى ولي المعتصم اشناس التركي الشام جميعه والجزيرة ومصر وجاء القرامطة حلب سنة 290 فقاتلهم أهلها ودخل الاخشيد حلب وافسد أصحابه في جميعه النواحي وقطعوا الأشجار التي كانت ظاهر حلب كانت كثيرة جدا وقيل أنها كانت من أكثر المدن شجرا. وقال ابن(69/14)
الخطيب: وكانت حلب كثيرة الأشجار وكان موضع باتقوسا (احد أحيائها اليوم) أشجار كثيرة كما ذكر ابن الملا في تاريخه أيضا فقد كان الإخشيد إذا نزل حلب يقطع أشجارها ويحاصرها فإذا أخذها ورجع إلى مصر جاء سيف الدولة بن حمدان وفعل ذلك الفعل وتكرر ذلك منهما حتى فني ما بها من الشجر ولذلك لما أمر الملك المؤيد شيخ بتسقيف قصر القلعة أمر إن يقطع له من الأخشاب من بلاد دمشق فقطعت وجيء بها إلى حلب في غاية الطول ونهاية الغلظ وقيل إن بعض الأخشاب المذكورة كانت من بعلبك ولما جاء الصليبيون حلب سنة 518 اخذوا يقطعون الأشجار من جملة ما أتوه من تخريبها وحدائقها المشجرة اليوم قليلة ليس بينها وبين ضخامة المدينة نسبة.
وتشرب حلب من نهر قويق وهو نهر ينبعث على ستة أميال من دابق ثم يجري إلى حلب ثماني عشرة ميلا ثم إلى قنسرين عشرين ميلا ثم إلى المرج الأحمر عشر ميلا ثم يصب في بحيرة المطبخ وذلك في زمن الشتاء وقال يافون إن مخرجه من قرية تدعى سبتات وقيل إن مخرجه من شناذر قرية على ستة أميال من دابق ثم يمر في رستاتيق حلب ثمانية عشر ميلا إلى حلب ثم يمتد إلى قنسرين اثني عشر ميلا ثم إلى المرج الأحمر اثني عشر ميلا ثم يفيض في أجمة هناك فمن مخرجه إلى مفيضه اثنان وأربعون ميلا وماؤه أعذب ماء وأصحه فيما قال ياقوت إلا انه في الصيف ينشف فلا يبقى إلا نزور قليلة وإما في الشتاء فهو حسن المنظر طيب المخبر وقد وصفه شعراء حلب بما ألحقوه بنهر الكوثر ومن أمثال عوام بغداد يفرح بفلس مطلي من لم ير دينارا وقد أحسن القيسراني في وصفه قوله:
رأيت نهر قويق ... فساءني ما رأيت
فلو ظمئت وأسقي ... ت ماءه ما رويت
ولو بكيت عليه ... بقدره ما اشتفيت
واسم قويق القديم شالوس وسبب تسميته بقويق إن رجلا من رؤساء عشائر التركمان في القرن الرابع للهجرة اسمه قويق آغا انشأ لهذا النهر عدة دود ليجري جرية حسنة فأطلق اسمه على النهر من ذاك الحين وأرباب الرقاعة يسمونه أبا الحسن وهو ينبجس اليوم من قرية اسمها جاغد يغين من إعمال عينتاب ويجري إلى قرية تبعد عن حلب ثلاث ساعات اسمها حيلان ويصب نحو ثلثه إلى حلب تجري إليه فيه عدة ينابيع مجداول من قضاءي(69/15)
عينتاب وكليس وينضم إليه نبع عين التل وعين البيضا المنسجمتين من جوار حلب وفي الشتاء تجري بقاياه إلى خان طومان من اعلي جبل سمعان وتكون من مياهه بحيرة تجف بحرارة الصيف
قال أبو فراس:
الشام لا بلد الجزيرة لذتي ... وقويق لا ماء الفرات منائي
وأبيت مرتين الفؤاد بمنبج ... السوداء لا بالرقة البيضاء
ويرى بعضهم إن نهر الساجور الذي كان إجراء ارغون إلى حلب ليزيد به نهر قويق إذا أضيف إلى ماء قويق تخصب أكثر ضواحي حلب واصل نهر الساجور من عينتاب وتجتمع إليه عيون أخر من بلاد تل باشر ثم ينتهي إلى الفرات ويصب فيه ويرى آخرون إن خير ذريعة لتكثير ماء حلب اقتطاع ترعة من الفرات وهو من حلب على 18 ساعة ولا يمنع انخفاض مجراه عن الانتفاع به في حلب على علوها وكيف كان الحال فمتى زاد عمران الشهباء يفكر أبناؤها في تكثير مائها.
وبعد فقد كانت الحرب سجالا بين سيف الدولة ابن حمدان والروم منذ استقرت له ولاية حلب سنة 336 إلى حين وفاته سنة 356 فكان يغزوهم ويغزونه فتخرب حلب ثم تعمر واستولوا عليها سنة 351 وحرقها الدمستق وعاث فيها بالقتل والنهب والسبي وبعد تسعة أيام رحل عنها ولم تكن حكومة سيف الدولة مباركة على حلب بقدر ما صورها شعراؤه الذين كان يغدق عليهم هباته ليقطع ألسنتهم ويشغلهم عنه ومن جملة ما قراناه من مظالمه إن أبا الحصين علي بن عبد الملك الرقي ولي قضاء حلب وكان ظالما فإذا مات إنسان اخذ تركته لسيف الدولة وقال: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك.
استولى الروم على معظم البلاد المجاورة كمرعش وأدنه وطرسوس إلا إن حلب لم يستولوا عليها وكذلك استولى الصليبيون على كثير من عمالاتها مثل إنطاكية والسويدية ولم يقدر بودوين اجدلا ملوكهم إن يستولي عليها سنة 1124 م ومازالت حالتها حال بلاد الشام على عهد الدولة الأيوبية حتى وافاها التتر وحاصروها سنة 658 حصارا شديدا وقتلوا من أهلها كثيرا وقتل هولاكو أهل حارم عن آخرهم وسبي النساء وخرب أسوار قلعتها عن آخرها وجاء قازان التتري سنة 699 فحاصر حلب وخربها وقتل واسر كثيرا من أهلها وجاء(69/16)
تيمورلنك سنة 803 وأجرى في حلب ما أجراه في دمشق من الفظائع والنهب والقتل والسبي وفي سنة 863 وقع الطاعون بحلب فاحصي من مات بها وبضواحيها فأربى على مائتي ألف إنسان وكادت تخرب بالفتن الأهلية سنة 896 عن آخرها كتب ابن بطلان إلى هلال بن المحسن الصحابي في نحو سنة 440 هـ في دولة بني مرداس حلب فقال أنها بلد سور بحجر ابيض وفيه ستة أبواب وفي جانب السور قلة في أعلاها مسجد وكنيستان وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير والفقهاء يفتون على مذهب الأمامية وشرب أهل البلد من صهاريج مملوءة بماء المطر وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف وفي الوسط دار علوه صاحبه البحتري وهو بلد قليل الفواكه والبقول والنبيذ ومن عجائب حلب إن في قيسارية البز عشرين دكانا للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعا قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة والى الآن وما في حلب موضع خراب أصلا.
قلنا وقد اشتهرت حلب في عامة أدوارها بإتباع تجارتها لوقوعها في طريق القوافل وتوسطها من بلاد الروم والجزيرة والعراق والشام ولذلك لم تنحط صناعة البز الو الأقمشة حتى في أيامنا هذه كما انحطت في معظم بلدان الشام لأن لها من بلاد الروم مصارف تنفق فيها سلعا ويعتقد أهل الروم الخير في تجار الشهباء فلا يعاملون غيرهم للألف والعادة وذكر المقدسي إن من التجارات التي كانت تجمل من حلب القطن والثياب والاشنان والمغرة.
قال ياقوت ولأهل حلب عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال فقلما ترى من ناشئتها من لم يتقبل أخلاق إبائه في مثل ذلك فلذلك كان فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة ويتوارثونها ويحافظون علي قديمهم بخلاف سائر البلدان هذا ما وصف به الحلبيون منذ نحو سبعة قرون وهي أخلاق لم تبرح متسلسلة في أعقابهم إلى يوم الناس هذا ولذلك صح إن يقال أن الحلبيين أغنى من الدمشقيين والبيروتيين والحمويين والحمصيين والطرابلسيين والنابلسيين والمقدسيين والعكاريين واليافاويين والحيفاويين.
وصف ابن حوقل مدينة حلب في القرن الرابع فقال إنها مدينة جند قنسرين وكانت عامرة جدا غاصة بأهلها كثيرة الخيرات كان لها سور من حجارة لم يغن عنهم من العدو شيئا فخرب الروم جامعها وسبي ذراري أهلها واحرقها وكان بها قلعة غير طائلة ولا حسنة(69/17)
العمارة فلجا إليها قوم من أهلها فنجوا وهلك بها من المتاع والجهات للغرباء وأهل البلد وسبي بها وقتل من أهل سوادها ما في أعادته ارماض من سمعه ووهن على الإسلام وأهله وكان لها أسواق حسنة وحمامات وفنادق ومحال وعراص فسيحة وهي الآن كالمتماسكة ولم تنزل أسعارهم في الأغذية وجميع المأكل قديما واسعة رخيصة وعليهم ألان للروم في كل سنة قانون يؤدونه وضريبة تستخرج من كل دار وضيعة معلومة وكأنهم معهم في هدنة وليست وان كانت أحوالها متماسكة وأمورها رضية بحال جزء من عشرين جزءا مما كانت عليه من قديم أوقاتها وسالف أيامها.
ووصف ابن جبير حلب في القرن السادس فقال: إن هذا البلد موضوعة ضخم جدات حفيل التركيب بديع الحسن واسع الأسواق كبيرها متصلة الانتظام مستطيلة تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى إن تفرغ من جميع الصناعات المدنية وكلها بالخشب فسكانها في ظلال وارفة فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجباً وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا مطيفة بجامع المكرم لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المراي الرياضية قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللها شرف خشبية بديعة النقش وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل منظر وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم.
وقصارى القول فان عمران حلب القديم يشبه عمرانها الحديث إلا قليلا ومن أعظم ما يجعل الشبه كثيرا بين أدوارها المختلفة ذاك الحجر الأبيض المتين بني الحلبيون به بيوتهم وحوانيتهم وخاناتهم وتكاد تظن الشوارع والحارات والمساكن قطعة واحدة لأنها كلها مبلطة معمولة من صنف واحد من الحجارة تنبسط له النفس بخلاف الحجر الأسود الكثيب المستعمل في النداء بدمشق وحمص وغيرها.
وقد أصاب حلب من مقوضات دعائم العمران في القرون الأخيرة ما أصاب غيرها من بلدان سورية ومنها الزلازل والأوبئة التي انتشرت فيها عقيب استيلاء السلطان سليم العثماني عليها سنة 922 بعد وقعة دامت ست ساعات بين جنده المؤلف إذ ذاك من ثمانين ألفا وثمانمائة مدفع وجند الغوري الجركسي سلطان مصر والشام الذي كان ضعيف التدبير قليل النظام وذلك في مكان يعرف بمرج دابق على بضع ساعات من حلب ونهض(69/18)
الحلبيون ففتحوا أبواب مدينتهم للفاتح بزعامة خيري بك والي حلب من الجراكسة كما تلقاه أهل دمشق كذلك لأن الناس كانوا سئموا في مصر والشام من الجراكسة وعلقوا الآمال الطويلة بدولة ابن عثمان الفنية القوية وقد استولى السلطان سليم على مليوني ذهب ومهمات كثيرة كان أذخرها الغوري في خزانة حلب ليقوى بها على محاربة العثمانيين والاستيلاء على القسطنطينية منهم فجعل الله بهلاك الغوري وانفض الناس حوله وأبقى السلطان العثماني البلاد على حالتها الأولى من حيث الإدارة في حلب وخطب فيها له لأول مرة تلقبا بخادم الحرمين الشريفين.
والظاهر مما في أيدينا من تواريخ حلب أنها لم ترتق ارتقاء محمودا على العهد العثمانيين بعد إن كانت في عهد العباسيين تضاهي بعظمتها بغداد والموصل على قول شيخ الربوة وكان جيش الانكشارية (بكي جرى) وغيره من اكبر أدوات التخريب ينسفون العمران ولا نسف المصائب السماوية ولم ينتظم لها أمر بحكومة الاقطاعات والنهب إلا عندما جرى تأليف الولايات على النسق المتعارف اليوم في السلطنة سنة 1283 هـ -.
فدخلت الحكومة في طور قليل من النظام وأصبحت الحال تحسن بإحسان الولاة الذين يتولونها فإذا كانوا أعفة قادرين على الإدارة يزيد عمران حلب وإلا فيقف أو يتقهقر وممن ساعد على عمرانها الحديث وتنظيمها وفتح الشوارع الجديدة فيها على الأصول المدنية جميل باشا ورائف باشا.
ويكتفي في تقدير غنى حلب في القرون الوسطى والقرون الحديثة إيراد دخلها من الجباية والعشور وغيرها والمقابلة بينها. هذا مع غلاء النقود إذ ذاك ورخصها في الأيام الأخيرة فقد كان ارتفاع حلب سنة تسع وستمائة في الأيام الظاهرية دون البلاد الخارجة عنها والضياع والأعمال ستة ألاف ألف وتسعمائة ألف وأربعا وثمانين ألفا وخمسمائة درهم وذكر ابن شداد تفصيل هذه الارتفاعات من الزكوات والعشمر وضرائب البقول والفواكه والخيل والجمال والبقر والغنم والرقيق والصناعات والغلات والحطب والفحم والخشب والحديد والقنب وغير ذلك من الحكورة والمواريث وغيرها فكانت في بعض النسخ 7. 305. 000 درهم.
وقال يايقوت ومسافة ما بيد مالكها في أيام الملك العزيز من المشرق إلى المغرب مسيرة(69/19)
خمسة أيام ومن الجنوب إلى الشمال مثل ذلك وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية ملك لأهلها ليس للسلطان فيه إلا مقاطعات يسيرة ونحو مائتين ونيف قرية مشتركة بين الرعية والسلطان وهي بعد ذلك تقوم برزق خمسة آلاف فارس مزاحي العلة موسع عليهم. قال الوزير الأكرم ابن النفطي وزير صاحبها لياقوت الحموي: لو لم يقع إسراف في خواص الأمراء وجماعة من أعيان المفاريد لقامت بارزاق سبعة آلاف فارس لأن فيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف قارس يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم ويمكن إن يستخدم من فضلات خواص الأمراء ألف فارس وفي أعمالها إحدى وعشرون قلعة يقام بذخائرها وأرزاق مستحفظيها خارجا عن جميع ماذكرناه وهم جملة أخرى بسبحة ثم يرتفع بعد ذلك كله من فضلات الاقطاعات الخاصة بالسلطان من سائر الجبايات إلى قلعتها عنبا وحبوبا ما يقارب في كل يوم عشرة آلاف درهم وقد ارتفع إليها العام الماضي وهو سنة 625 من جهة واحدة وهي دار الزكاة التي يجبى فيها العشور من الإفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع سبعمائة ألف درهم وهذا مع العدل الكامل والرفق الشامل بحيث لا يرى فيها متظلم ولا متهضم وهذا بن بركة العدل وحسن النية وقد بلغ دخل حلب سنة 1322 شرقية من ضريبة الأملاك والبدل العسكري والأغنام والجمال والأعشار وغيرها 4564586 غرشاً صحيحا ودخل لواء حلب كله 29، 167، 416 غرشاً وبلغ دخل ولاية حلب كلها في تلك السنة ويدخل في ذلك لواء أمر مرعش وأورفة 41، 322، 107 قروش صيحة أنفقت الحكومة على جندها وموظفيها وغير ذلك 6، 715، 344 غرشاً هذا مع إن الجباية لعهدنا فاحشة والضرائب متعددة أكثر من الأدوار السالفة. ويقدرون قيمة الدراهم اليوم بثلاثة قروش صحيحة.
غنى حلب ولغتها ومعاهدها وتدليها
لما كانت حلب في طريق قوافل الهند أصبحت ممتازة بموقعها منذ القديم بين البلدان ومعدودة قاعدة شماليي سورية وقد كان الإفرنج ولا يزالون فيها أكثر عددا مما هم في دمشق لأنها اقرب منفذ لاتصال الشرق بالغرب فكان تجارهم يأتونها من ثغر السويدية يتجرون مع أهلها ويقايضون محصولاتهم ومحصولات الشرق ولا سيما الهند وفارس والعراق.(69/20)
وكانت فرنسا والبندقية أول البلاد الأوربية التي اتجرت مع حلب وأقامت معها الصلات المهمة والمكاتب التجارية ثم جاء الانكليز في القرن السادس عشر وتلاهم الهولانديون ولا يزال الإفرنج فيها إلى اليوم يقربون من عدد إخوانهم نزلاء بيروت وبعضهم تناسلوا في حلب وارتاشوا وتأثلوا وعدوا كأنهم من أهلها. وقد كان البنادقة يتجرون بالبهار يأخذونه من حلب بكميات وافرة كما كانوا يجلبون منها الشب والقطن.
واهم ما أصاب حلب من الزلازل زلزلة سنة 1170م على عهد نور الدين محمود بن زنكي فقام يرممها وقلعتها وقد أصيبت بزلزال مدمرة في قرون مختلفة وآخرها زلزال سنة 1822 الذي خرب به ثلثها وزلزال سنة 1830 ونهضت حلب على عهد حكم إبراهيم باشا المصري من سنة 1831 إلى 1840م إذ جعلها معسكراً له.
لا يتجاوز سكان حلب في التعداد الرسمي ال - 30 ألفاً وربما كانوا في الحقيقة نحو 180 ثلثاهم أو أكثرهم من المسلمين والباقون روم ويهود وأرمن وموارنة وكاثوليك وبرتستانت ولكل طائفة من الطوائف الغير إسلامية عدة مدارس ابتدائية والمسيحيين متشبعون باللغة العربية أكثر من إخوانهم المسلمين النهم أكثر عراقة في التعلم بفضل مدارسهم والإفرنجية. أما المسلمون فان المتعلمين منهم يتعلمون على الطريقة التركية ليعيشوا عالة على التوظف اللهم إلا بضع مئات من الأتراك الأناضوليين الذين ينزلونها للتجارة أو الموظفين الذين يأتونها لخدمة الحكومة.
وليس للمسلمين مدارس أهلية راقية والمدارس التي تصبغ المأمورين هي المدرسة السلطانية وكانت إعدادية من قبل فقبلوا اسمها كما قبلوا أيم كثير من أسماء المكاتب الإعدادية في أمهات المدن العثمانية والمكتب الرشدي العسكري ومكتب الصنائع وفيها 92 كتابا ومدرسة ابتدائية أميرية و39 مدرسة لغير المسلمين و32 مدرسة دينية وبعضها عامر و3 مكاتب للإناث و7 خزائن كتب عامة كما إن فيه 16000 منزل ونحو 8000 دكان مخزن و117 خانا و106 أحياء و169 جامعا و 182 مسجدا و19 تكية وزاوية و40 حماما و21 كنيسة وديرا و4 بيع و29 طاحون ماء و128 طاحونا على الدواب و3000 نول و112 فرنا و 8 مدابغ و27 معمل مناديل وزهاء 100 قهوة و12 معمل صابون و50 خمارة و1885 حديقة.(69/21)
وحلب برزخ بين البلاد العربية والتركية وعلى نحو أربعين كيلومترا من شمالي حلب يقل المتكلمون بالعربية وتصبح البلاد تركية محضة وان كان من أقضية حلب القريبة من لا يعرفون غير التركية من الفلاحين أسكنتهم الحكومة هناك مهاجرين من بلاد بعيدة. فمعظم أقضية لواء حلب يتكلم أهلها بالتركية كما إن أهلي لواءي اورفة ومرعش يتكلمون بالتركية وبعض العشائر في لواء مرعش يتكلمون بالكردية وفي بعض الأقضية من التركمان والعرب.
ويمكن إن نلخص من ذلك إن جهات الغرب من حلب كلها عرب وهي عبارة عن أقضية الدب وحارم وجسر الشغور ماعدا بعض قرى من إعمال حارم سكانها جركس وسكان العمق أكراد ومن الشمال من حلب إلى قبيل كليس عرب وتتكلم بعض قراهم بالتركية والعربية ومن كليس إلى اورفة فصاعدا كل السكان أتراك ومن الجهة الشرقية جميع السكان عرب وكل قضاء الباب في الشرق الشمالي من حلب عرب وفيهم قليل جدا من التركمان والأتراك والأكراد والجراكسة وكل قضاء منبج جركس نزلوه حديثا وفيهم عرب وقضاء الرقة عرب وقضاء المعرة في الجنوب عرب كله ويقال إن أهلي قضاء عينتاب يتكلمون بالتركية وقضاء كليس وان تكلم أهل المركز بالتركية فان النواحي يتكلم أهلها بالعربية والتركية والكردية.
وأهل قضاء اسكندرونة يتكلمون على الأكثر بالتركية والأرمنية وأهل إنطاكية منهم من يتكلم بالتركية ومنهم من يتكلم بالعربية فيصح أن يقال فيهم أن تركيهم تعرب وعربيهم تترك وأهالي ادلب كلهم عرب وكذلك أهالي حارم وفي بعض قرى هذا القضاء مهاجرون من الأتراك والجركس والتاتار وأهالي قضاء بيلام يتكلمون بالتركية وأهل أقضية المرة والباب وجبل سمعان وأهالي مركز قضاء جسر الشغر وناحية المضيق عرب وناحية أردوا أتراك وأكثر أهالي قضاء منبج من مهاجري الجراكسة وأهل قضاء الرقة عرب وأهالي قضاء جران منهم من يتكلم بالعربية ومنهم الكردية.
هذه هي اللغة الغالبة على حلب وأعمالها وليس اليوم في هذه المدينة ما يستحق الذكر من أعمال العمران سوى بناياتها الجديدة التي أقيمت إلا قليلا على مثال أبنية الأمم الراقية منفردة بعضها عن بعض ليتخللها الهواء والشمس بعيدة عن الطرق العامة لأن السكان من(69/22)
عاداتهم اليوم أن يؤخروا بناء بيوتهم وحوانيتهم ما أمكن ويعطوا فضل أراضيهم للشارع حتى يكبر بحسب الخريطة التي تريدها البلدية ولذلك تجد الإحياء الجديدة مثل العزيزية والجميلية فسيحة عريضة كأنها بنيت في يوم واحد أو هي لرجل واحد وكان من ذلك أن صرفت واردات البلدية القليلة وهي لا تتجاوز الستة آلاف ليرة مسانهة على تنظيف المدينة وتطهيرها وتنويرها.
ولقد كنا نود أن نرى في الشهباء نهضة علمية راقية لما عرف في أهلها من الذكاء والمضاء والحساب للمستقبل ولكن رأينا الخاصة الذين يرجى منهم إن يسيروا في المقدمة متشاغلين بخويصة أنفسهم ومن كان على خطتهم من المتأدبين دأبهم النيل من الكبراء وأرباب النفوذ والثراء ممن يتوفرون على اعنات الفقراء واجتجان الصفراء والبيضاء وربما صح أكثر هذه الشكوى ولكن لا حيلة فيمن اعجزوا الحكومة وعرفوا كيف يصرفونها على ما يشاؤون. وعندنا أن يترك الطعن جانبا ولتعارف الطبقة المستنيرة إلى الطبقة القابضة على زمام البلاد من الأعيان الموسرين ليتسنى بذلك النهوض بالشعب المسكين وتثقيف عقول الناشئة ومادام الاختلاف مستحكما بين المنورين والموسرين فالغرباء يجدون سبيلا إلى التلاعب وينطبق ذلك مع رغائبهم.
نحن نعتقد انه ربما كان من أرباب اليسار من جمعوا ثرواتهم الطائلة من طرق غير مشروعة في حكومة عبد الحميد ولكننا نعتقد أن منهم من جمعوها بالاتفاق كان تتوالى سني الجدب - والخصب قلما يدوم سنتين كثيرة في حلب وعملها - فيأتي الفلاح باكيا شاكيا إلى ذاك الوجيه يتخلى له عن كل ما يملك من عقار وارض ليعوله وعياله ويدفع عنه الضرائب والعشور التي يتعذر عليه جدا في غير سني الخيران يقوم بها حق القيام.
وسواء جمع أرباب اليسار ما يملكون الطرق القانونية المشروعة أو من السحت البحت وإرهاق الفلاح والعبث بمصلحة الفقير فان من ملك ملك ومن هلك هلك وليس من وسيلة الآن لنزع ما ملكوا من أيديهم فالا حجي أن تحسن سياستهم في الجملة للانتفاع من أموالهم تصرف على أعمال الخير وإنشاء الكتاتيب والمدارس وما نظن أكثرهم إلا قانعين من الطبقة المستنيرة بالسكوت عما مضى. وما تم في الغابر هو لا جرم نتيجة ضعف الحكومة وفسادها ولو عرفت منذ القديم كيف تحسن سياسة الرعية وتدفع الناس بعضهم عن بعض(69/23)
لما اختل النظام ولرضي الخاص والعام.
نحن نعلم أن أموال الأغنياء هنا بل وفي كل مكان تصرف على الأكثر فيما لا يرضى عنه الأدب والأخلاق وان أبناء الطبقة الوسطى أمضى عزائم وأجمل أخلاقا ولكن ليست المهارة في النقد من بعيد بل المهارة بدخول المجتمع وإصلاح ما أمكن من مفاسده ومهلكاته. أن في التباعد جفاء وفي الاجتماع حسن تفهم وكم من عدو لك بتحكك به ينقلب على الزمن صديقا وكم من صديق يكون بابتعادك عنه عقوقاً.
أن ما رأيناه من حلب وهي ماهية من عظمتها وغناها وما نقل لنا وشهدناه من تنوع ضروب الفجور والملاهي فيها أبكانا على قاعدة من أهم قواعد الشام وكهف عظيم من كهوف الإسلام ودعانا إلى إن ننسب القصور للعالمين والجاهلين على السواء فلا يخلص من تبعه هذا الانحلال عاقل اللوم يلحق العالم أن ينال الجاهل.
تالله لو صرفت حلب ربع ما تنفقه في سبيل اللهو والموبقات على المعارف والآداب الرافعة لأصبحت في بضع سنين ذات مدنية راقية. وبعد أليس من العار أن تكون نابلس في فلسطين وهي مشهورة بانغماسها في حماة الجهالة بعدد نفوسها اقرب إلى التعلم من حلب دخل من أبناء أعيانها بضعة وعشرون ليدرسوا في المدارس الأستانة العالية وبضعة قصدوا ديار الغرب ولا نرى إلا عددا قليلا من الحلبيين يقصدون الأستانة ليتخرجوا في مدارسها ليجيء منهم اتكاليون من عباد الوظائف وعبيد الحكومة ولا نرى في الغرب من أبنائهم سوى اثنين أو ثلاثة فقط وبهذا نرجو النهوض ونتوسل بأسباب الارتقاء.
أليس من العار أن يكون بلد يبلغ بمساحته ضعفي مساحة دمشق وفي غناه التجاري من أهم المدن التجارية في البلاد العثمانية وفي طيب مناخه من أجود البقاع وفي مضاء سكانه مثلا مشهورا ثم لا تشهد فيه صحيفة عربية واحدة تصدر باسم رجل مسلم من أهلها بعرف طرق الإصلاح ويحسن المطالبة به. ولا مدرسة ابتدائية أهلية تعلم ابن الفلاح والتاجر والصانع ما يلزمه في دينه ودنياه ولا ناديا ولا جمعية ولا شركة تنفع في التعارف والتعاطف والتكافل.
أن معظم البلاد استفادت من نعمة الدستور فهبت تتعلم وتفكر في الإصلاح ولكن حلب على ما ظهر لنا في مؤخرة البلدان التي لم تدرك حتى الآن ما يراد بالحرية.(69/24)
أن تلك الطائفة التي تعتز اليوم بأموالها وبينها سيجيء عليها زمن تدثر هي وما جمعت ومن جمعت لهم أن لم تعالج ذاك الضعف المميت بقوة العلم والأخلاق ويستخلف ربنا غيرها في أرضهم ممن يصلحها شانه في خليقته منذ دحي الأرض ورفع السماء.
قلعة حلب
أصاب الآثار القديمة في هذه المدينة ما أصاب اثأر غيرها من البلدان فلم يبق منها إلا أنقاض تنبي بمغالاة السلف في تجويد البناء وإحكامه ومن أهم هذه العاديات قلعة حلب فهي أفخم ما في الديار الحلبية من القلاع بنيت وسط المدينة على أكمة ربما كانت صناعية ويحيط بها خندق عظيم كان القدماء يملئونه ماء ليتعذر الوصول إليها إلا من مدخلها وهذا من أحصن ما يتصور العقل ويقال أن مدينة أي حلب القديمة كانت كلها مبنية في هذه القلعة وقد تعاورتها الأيدي بالبناء في قرون مختلفة وظلت مسكونة إلى سنة 1822م أيام خربت بالزلازل.
يسير الداخل إلى القلعة على جسر بديع أقيم فوق الخندق فيبلغ برجا خارجا جعل في واجهته أنواع من نوافذ الحديد البديع قيل انه من عهد الملك الظاهر لما وجد في مدخله من كتابة تاريخها سنة 605 مع بعض الآيات الكريمة وقد بذل بعض علماء الآثار قدرا وافرا من المال لقلع تلك النوافذ واخذ حديدها وأحجارها إلى متاحف أوربا فلم تقبل الحكومة ولا تزال تحظر الدخول إلى القلعة إلا برخصة لأنها جعلت فيها مستودعا لبعض المهمات العسكرية وفي دهليز القلعة المتعرج عدة كتابات ونقوش بارزة على الحجر ومنها صورة نمرين على الباب ويساره من أجمل ما زبرت أيدي الناقشين على الصخور فإذا دخل المرء من الباب وجد ساحة وأثار عدة شوارع وركاما من الأنقاض بعضها أنقاض جامع ومأذنة وأخرى أنقاض أروقة وأخرى محال لرصد العدو وفي الوسط صهريج كبير يستقى منه إلى اليوم ماء عذب والغالب انه من ماء المطر. والناظر إلى حلب من قلعتها يدرك عظمتها ويتجلى له برها الفسيح البديع ولا سيما زمن الربيع وقد اكتست السهول والجبال بجللها السندسية.
قال ابن الشحنة أول من بنى قلعة حلب سلوقس الذي بنى مدينة حلب وهي على تل مشرف على المدينة وعليها سور محكم البناء وفي وسطها بئر ينزل إليها بمائة وخمس(69/25)
وعشرين درجة قد هندست تحت الأرض ويقال لها الآن ساطوره وكان بها دير للنصارى ويقال أن في أساسها ثمانية آلاف عمود ولما ملك كسرى حلب بنى بها مواضع ولما فتحها أبو عبيدة في أيام عمر بن الخطاب (رض) رمم أسوارها لأنها خربت بسبب زلزلة كانت أصابتها قبل الفتح فاخر بت أسوار البلدة والقلعة. ولما استولى نقفور ملك الروم على حلب سنة 351 امتنعت عليه القلعة ولم يكن لها يومئذ سور محكم ومن ذلك الوقت اهتم الملوك بعمارة القلعة وتحصينها فبنى سيف الدولة وابنه سعيد الدولة وبنو مرداس وعماد الدين اق سنقر وابنه عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود وابنه الملك الصالح ولما ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حصنها وحصنها وبنى بها مصنعا للماء ومخازن للغلات وبنى سفح تلها بالحجر الهرقلي واعلي بها إلى مكانه ألان وبنى على الباب برجين لم يبن مثلهما قط وجعل لها ثلاثة أبواب حديد ولما تسلم التاتار القلعة أخربها وأخرب أسوارها واخذ ما كان بها من الذخائر والزردخانات والمجانيق ولم يبقوا بها مكانا للسكنى واستمرت خرابا إلى أن جددت عمارتها في أيام الملك الاشرف خليل بن قلاوون ولما أتى التمرلنك أخرب أسوار البلد والقلعة واحرقها واستمرت خرابا إلى أن جاء الأمير سيف الدين حكم نائبا من قبل الملك الناصر فرج برقوق فأمر ببناء القلعة وألزم الناس بالعمل في الخندق وأزال التراب منه حتى انه عمل بنفسه واستعمل وجوه الناس بحيث كان الأمراء يحملون الأحجار على ظهورهم.
هذا أجمل تاريخ لهذه القلعة البديعة اكبر قلاع سورية واهما إلى القرن العاشر وما نظن العثمانيين جددوا فيها شيئا بعد إلى يومنا هذا وقد وصفها ابن جبير في رحلته فقال: ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع وقد صنع عليه جبان فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ ابد الدهر والطعام يصير فيها الدهر كله وليس في شروط الحصانة أهم ولا أكد من هاتين الخلتين ويطيف بهذين الجبين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه وشان هذه القلعة في الحصانة أعظم من أن ننتهي لي أوصفة وسورها الأعلى كله أبراج منتظمة فيها العلا لي المنيفة والقصاب المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا وكل برج منها مسكون وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية.(69/26)
وهذا أخصر وصف للقلعة زمن عزها وعمرانها أيام كان بها يضرب المثل في الحسن والحصانة لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض وفي وسط ذلك الوطاء جبل عال مدور صحيح التدوير مهندم بتراب صح به تدويره والقلعة مبنية في رأسه ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء وفي وسط هذه القلعة تصل إلى الماء المعين وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة
وما أحرى هذا الحصن بقول البحتري من قصيدة يصف بها إيوان كسرى:
لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتما بعد عرس
وهو بنبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس
ليس يدري اصنع انس لجن ... سكنوه أم صنع جن لأنس
عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليس الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنس
زراعة حلب
ليس في ظاهر حلب من الحدائق الأنيقة ما يبلغ نحو عشر ما في ظاهر دمشق على كثرة الماء وجودة التربة هنا. أما في أعمالها فتنبت أكثر الحبوب وتجود معظم الثمار ولولا قلة الري التي تحدث بعض السنين بقلة الغابات وتدرجها نحو الفناء وما يعشش في أرباضها من الجراد في معظم السنين لكانت زراعتها كزراعة بلاد دمشق وأكثر ومع هذا فان أقضية دمشق لا تعادل أفضية حلب في زيتونها قال المهلبي: وتجلب من كور حلب وضيعها ما يجمع جميع الغلات النفيسة فان بلدة معرة مصرين وجبل السماق بلد التين والزيتون والزبيب والفستق والسماق والحبة الخضراء وقال ابن شداد وفي بعض ضياع حلب ما يجمع عشرين صنفا من الغلات. وقال ابن الشحنة ومما اختصت به حلب ماء الورد النصيبي الذي يستخرج بالباب من إعمالها فانه لا يوجد في الدنيا مثله بحيث لا يقاربه شيء مما يجلب إلى الديار المصرية من الشام مع أن المجلوب من دمشق عند المصريين في غاية العظمة بحيث يصفه أطباؤهم للمرضى فيقولون ماء ورد شامي. وقال ياقوت ويزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكروم والذرة والمشمش(69/27)
والتين والتفاح عذبا لا يسقى إلا بماء المطر ويجيء مع ذلك رخصاً غضاً روياً يفوق ما يسقى بالمياه والسيح. وقال ابن حوقل أن ما حول معرة نسرين من القرى أعذاءٌ ليس بجميع نواحيها ماءٌ جار ولا عين وكذلك أكثر ما بجميع جند قنسرين أعذاءٌ ومياههم من السماء وقال ابن جبير في بلاد المعرة وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين وهي من أخصب بلاد الله وأطهرها أرزاقاً.
ويصدر من حبوبها اليوم الحنطة والشعير والأرز والقطن والحمص والعدس والبقلاء وبذر الكتان والاينسون والسمسم والخردل والكزبرة اليابسة والماش والقصب والدخان وغير ذلك ومن الثمار الفستق الجيد في أفضية حلب وقلعة الروم وعينتاب ويجود الزيتون كل الجودة في أفضية حلب وإدلب وكليس وحارم وعينتاب وإنطاكية وجسر الشغر ونزيب ويجود الليمون والبرتقال بين إنطاكية واسكندرونة وفي حلب والباب يجود الرمان وفي أريح الكرز والوشنة كما يجود في حلب وإعمالها أنواع الثمار والبقول على اختلاف ضروبها.
ويجود التوت في أفضية إنطاكية إسكندرونة وبيلان وحارم بكثرة فيكون منه حرير جيد وفي أفضية الولاية ولواء مرعش مثل أفضية جسر الشغر وإنطاكية وبيلان وكليس وإسكندرونة وقلعة الروم من أعمال اورفة تخرج غابات كثيرة كالبلوط والدر دار والصنوبر والعفص والدفلة وغيرها وف جبال البستان تخرج على أطراف الأنهار والجداول أشجار برية من الحور والصفصاف وفي السهول عرق السوس ففي داخل الولاية يكثر التين والعنب والأجاص والدراق وفي السواحل الليمون والبرتقال والكراد والطورنج ويكي دنيا وفي هذه الولاية يكثر البصل والثوم ويجود البطيخ الأحمر (الجبس) من وراء العقل وتزرع البطاطا في بعض الأنحاء كما أن الكماءة تستخرج من باديتها وسهولها.
هواء حلب وصحتها
يبلغ ارتفاع حلب خمسمائة متر عن سطح البحر وبالنظر لتعرضها لحرارة الشمس من جهاتها الأربع وعبث الرياح التي لا يحول دونها حائل من الأشجار أو غيرها كان بردها شديداً وحرها على تلك النسبة فهوائها اقل اعتدالا من هواء دمشق يزيد في ذلك قلة مياهها(69/28)
في الدور كما هي في دور الفيحاء المشهورة بقاعاتها وأحواضها فهواء حلب جاف معتدل للغاية ولولا بناء منازلها بالحجر لضاقت أنفاس سكانها أيام القيظ وقد تبلغ درجة الحرارة الأربعين أو أكثر بالميزان المئوي وقد نزلت الحرارة في الشتاء الماضي إلى تحت الصفر بخمس وعشرين درجة.
ومع ذلك نجد لأهل حلب رجالا ونساء من صحة الأجسام ونضرة الوجوه مالا تكاد تجد مثله في معظم البلاد الداخلية من سورية. قال المهلبي وأما أهل حلب فهم أحسن الناس وجوها وأجساما والأغلب على ألوانهم الدرية والحمرة والسمرة وعيونهم سود وشهل. قلنا إما البياض الناصع فهو كثير للغاية ويزيده رونقا في بعض النساء تلك الحبة التي تخرج على الأغلب في الوجوه وتترك أثرا في الخدود بحجم الريال يزيدها رونقاً وحسناً.
وهذه الحبة يقال لها في هذه البلاد حبة حلب وهناك يقال لها حبة السنة وليست في الحقيقة خاصة بأهل حلب بل يشترك فيها سكان الشرق حتى بلاد فارس واختلف العلماء في تعليلها فقال قوم إنها تخرج بخاصية في ماء حلب ولو صحت هذه النظرية لكان أهل عينتاب وروم قلعة (قلعة الروم) وبيرة جك (البيرة) واروفة (الرها) وخربوت ودباربكم والموصل ودير الزور وبغداد ناجين منها والحال أنها تصيبهم كما تصيب الحلبيين حذو القذة بالقذة. وقال قوم أنها منبعثة من الماء ولو كان الأمر كذلك لاقتضى من ذلك أن تطلع في سكان القرى البعيدة ساعتين عن حلب على انك لا ترى لها فيهم أثراً.
وأغلب الأطباء على أنها من الإمراض السارية ودليلهم على ذلك أن إبراهيم باشا المصري لما قدم حلب كان في حملته رجل من قرية بشلمون في لبنان فأصيب بالقرحة المذكورة وقيل أن بئرا منها عاد إلى بلاده فعدى بها أهل قريته ويقال أنها لا تزال إلى اليوم موجودة ويقال لها الحبة الشامونية.
والحقيقة أن أمر هذه القرحة لم يبرح سرا غامضا على الأطباء ومرضا جلديا يصاب به الأطفال في الطفولة وبعض الغرباء الذين ينزلون حلب في الكبر ويقيمون فيها سنة وقد ينجون منها وإعراضها عبارة عن بثور تظهر في طرف من أطراف الجسم ويكون في الوجه أو اليد أو الرجل غالبا حتى إذا شفيت بدون أن ينشا عنها وجع تترك اثأرا ونوبا بيضاء ويصاب بها الغرباء والوطنيون على السواء كما يصاب بها الكلاب والقطط وكثيرا(69/29)
ما تخرج بعد أن يغادر المرء البلاد بزمن.
متنزهات حلب
تتغير أسماء المتنزهات كما تتغير أسماء البلدان بتغير الأزمان فمن متنزها تحلب القديمة اشمونيث قال أنها عين في ظاهر حلب في قبلتها تستقي بستانا يقال له الجوهري وان فضل منها شيء صب في قويق ذكره منصور بن مسلم بن أبي الخرجين يتشوق حلب
أيا سائق الإظعان من ارض جوشن ... سلمت ونلت الخصب حيث تزود
إلى أين عنها تشف مآب من الجوى ... فلم يشف مآبي عالج وزرود
هل العوجان الغمر صاف لوارد ... وهل خضبته بالخلوق مدود
وهل عين اشمونيث تجري كمقلتي ... عليها وهل ظل الجنان مديد
إذا مرضت ودت بان ترابها ... لها دون اكحال الأساة برود
ومن جرب الدنيا على سوء فعلها ... يعيب ذميم العيش وهو حميد
إذا لم تجد ما تبتغيه فخض بها ... غمار السر أم الطلاب ولود
بابلا قرية كبيرة بظاهر حلب بينهما نحو ميل وكانت عامرة آهلة في أيام ياقوت قال الوزير أبو القاسم بن المغربي.
حن قلبي آلة معالم باب ... لا حنين الموله المشغوف
مطلب اللهو والهوى وكناس ال ... خرد العنين والظباء الهيف
حيث شطا قويق مسرح طرفي ... والاسامي مؤانسي وأليفي
بطياس قال ياقوت أهل حلب كالمجمعين على أن بطياس قرية من باب حلب بين النيرب وبابلا كان بها قصر لعلي بن عبد الملك بن صالح أمير حلب وقد خربت القرية والقصر قال البحتري:
يا برق أسفر عن قويق فطرتي ... حلب فأعلى القصر من بطياس
عن منبت الورد المعصفر صبغة ... في كل ضاحية ومجني الأس
ارض إذا استوحشت ثم أتيتها ... حشدت على فأكثرت إيناسي
وقال أيضاً:
نظرت وضمت جانبي التفاتة ... وما التفت المشتاق إلا لينظرا(69/30)
إلى ارجواني من البرق كلما ... تنمر علوي السحاب تعصفرا
يضيء غماما فوق بطياس واضحا ... يبض وروضا تحت بطياس اخضرا
وقد كان محبوبا إلى لو انه ... أضاء غزالا عند بطياس احورا
تل ماسح قرية من نواحي حلب ذكرها امرؤ القيس في شعره:
بذكرها أوطانها تل ماسح ... منزلها من بربعيص وميسرا
جوشن جبل مطل على حلب في غربيها في سفحه مقابر ومشاهد للشيعة وقد أكثر شعراء حلب من ذكره جدا فقال منصور ابن مسلم بن أبي الخرجين النحوي الحلبي من قصيدة:
عسى مورد من سفح جوشن نافع ... فاني إلى تلك الموارد ظمآن
وما كل ظن ظنه المرء كائن ... يحوم عليه للحقيقة برهان
وقال ابن سنان الخفاجي:
ابرق طالع من ثانية جوشن ... حلبا وحي كريمة من أهلها
واسأله هل حمل النسيم تحية ... منها فان هبوبه من رسلها
ولقد رأيت فهل رأيت كوقفة ... للبين يشفع هجرها في وصلها
قال الخفاجي ومن هذا الجبل كان يحمل النحاس الأحمر وهو معدنه حربنوش قرية من قرى الجزر من نواحي حلب قال حمدان بن عبد الرحيم الجزري:
الأهل إلى حث المطايا إليكم ... وشم خزامى حربنوش سبيل
دابق قرية قرب حلب من أعمال عزاز بينها وبين حلب أربعة فراسخ عندها مرج معشب نزه كان ينزله بنو مروان إذا غزوا الصائفة إلى ثغر المصيصة وبقربها قرية أخرى يقال لها دويبق قال عيسى بن سعدان الحلبي
ناجوك من أقصى الحجاز وليتهم ... ناجوك ما بين الحص ودابق
أمفارقي حلب وطيب نسيمها ... يهنيكم أن الرقاد مفارقي
والله ما خفق النسيم بأرضكم ... ألا طربت من النسيم الخافق
وإذا الجنوب تخطرت أنفاسها ... من سفح جوشن كان أول ناشق
الدارين هو ربض الدارين بحلب ذكره عيسى بن سعدان الحلبي في مواضع من شعره فقال:(69/31)
يا سرحة الدارين آية سرحة ... مالت ذوائبها علي تجننا
أرسى بواديك الغمام ولا عنا ... نفس الخزامى الحارثي وجوشنا
أمنفرين الوحش من أبياتكم ... حبا بظبيكم أسا أو حسنا
اشتاقه والاعوجية دونه ... ويصدني عنه الصوارم والقنا
وقال الأعشي:
وكاس كعين الديك باكرت خدها ... بفتيان صدق والنواقيس تضرب
سلاف كان الزعفران وعندما ... يصفق في ناجودها ثم يقطب
لها أريج في البيت عال كأنه ... الم به من بحر دارين اركب
دير حشيان بنواحي حلب من العواصم ذكره حمدان بن عبد الرحيم فقال:
يا لهف نفسي مما أكابده ... إن لاح برق من دير حشيان
وان بدت نفحة من الجانب ال ... غربي فاضت غروب أجفاني
وما سمعت الحمام في فنن ... إلا وخلت الحمام فاجأني
وما اعتضت مذ غبت عنكم بدلا ... حاشا وكلا ما الغدر من شأني
كيف سلوي أرضا نعمت بها ... أم كيف انسي أهلي وجيراني
لا خلق رقن لي معالمها ... ولا اجتني انهار بطنان
لكن زماني بالجزر اذكرني ... طيب زماني به فأبكاني
ديرمارنين يعرف أيضا بدير السابان وهو بين حلب وانطاكية مطل على بقعة تعرف بسرمد وهو دير حسن كبير وكان خرابا في القرن السادس وآثاره باقية وفيه يقول الشاعر:
ألف المقام بدير رومانينا ... للروض ألفا والمدام حزينا
والكاس والإبريق يعمل دهرا ... وتراه يجني الأس والنسرينا
ديرعمان بنواحي حلب وتفسيره بالسريانية دير الجماعة قال فيه حمدان بن عبد الرحيم الحلبي:
دير عمان ودير سابان ... هجن غرامي وزدن أشجاني
إذا تذكرت منهما زمنا ... قضيته في عرام ربعاني
ومر أبو فراس بن أبي الفرج فقال مرتجلا:(69/32)
قد مررنا بالدير دير عمانا ... ووجدناه دائرا فنجانا
ورأينا منازلا وطلولا ... دارسات ولم نر السكانا
وارتنا الآثار من كان فيها ... قبل تفنيهم الخطوب عيانا
فبكينا فيه وكان علينا ... لاعليه لما بكينا بكانا
لست أنسى يا دير وقفتنا في ... ك وان أورثتني نسيانا
من أناس حلوك دهرا فخلو ... ك وأمسوا قد عطلوك ألامنا
فرقتهم يد الخطوب فأصبح ... ت خرابا من بعدهم اسيانما
وكذا شيمة الليالي تميت ال ... حي منا وتهم البنيانا
حربا مالذي لقينا من الده ... ر وماذا من خطبها قد دهانا
نحن في غفلة بها وغرور ... وورانا من الردى ماورانا
دير مرقس من نواحي الجزر قال حمدان بن عبد الرحيم يذكره:
الأهل إلى حث المطايا إليكم ... وشم خزامى حر بنوش سبيل
وهل غفلات الدهر في دير مرقس ... تعود وظل له فيه ظليل
إذا ذكرت لذاتها النفس عنكم ... تلاقي عليها وجدة وعويل
بلاد بها أمسى الهوى غير أنني ... أميل مع الأقدار حيث تميل
وذكر ابن الشحنة في تاريخ حلب طرفا صالحا من متنزهات حلب فقال أنها كثيرة فمنها ما يقصد في أيام الأعياد والمواسم ويستوي فيه الخاص والعام كباب المقام داخلا وخارجا يجعل فيه فيالات وتعمل فيه أنواع الفنون وتعقد به الحلق لأرباب الصنائع ويباع فيه أنواع المآكل وكذلك خارج باب النيرب وخارج باب الفرج إلى ارض الماتين والمجدية وخارج باب النصر وظاهر بانقوسا وظاهر باب قنسرين مادا إلى جسر الأنصاري. وإما ما يقصد في سائر الأيام والأوقات التي تخطر للمتنزهين فأولها من جهة القبلة الأبيض ثم مرج الخالدي وعين مباركة وعين اشمونيث وهي المعروفة بعين أشمول وارض بطياس والسعدي وهو قضاء فياح تجري فيه انهر متشعبة من نهر واحد بحافتيها مروج خضر وبها من الزهر المختلف مالا يبلغه الوصف ثم الجوهري وهو بستان قديم وصفه الشعراء والبلغاء ومنها الأنصاري وجسراه المعروف احدهما بحقل ابن رافع والفيض وجندبات(69/33)
وزاوية عباس ومنها ارض الخوابي وطواحين السلطان ومشهد الزرازير وبستان شمس لولوا وجبل جوشن والقلوت وجسر الطواشي وبستان البقعة وبستان العجمي والكهف وبستان الجزيرة والحبشي وقيصر ومرجة الفرايين وجسر باب انطاكية وجسر باب الجنان وجنينة المهمندار المعروفة آخر وقت بابن نجيح وبستان الوزير وجهرة الانكليس ومنها بابلى وهي قرية قريبة متصلة أرضها بأرض بانقوسا بها عدة جواسق وبحرات وجنينات وغير ذلك. ومنها قرنبية وجبل البختي والهزازة والميدان الأخضر ومشهد سيدي فارس وقسطل الحاجب وبعادين ومرجة أغلبك وارض بالصفراء وعين التل والأرض المسماة بالجوز سميت به لأشجار جوز عظام كثيرة الظل على شاطئ النهر ممتدة إلى حيلان وحوش البدوية وهو مكان فياح على نشر من الأرض ينبت فيه الشيح والقيصوم والقرنفل والصعتر ومنها الخناقية وكتف الأزرق والأرض المجدبة وجورة الأسقف التي بها بستان النصيبي وتجاه مرج السلحولية ثم جنينة عبيد والناعورة وارض الحلبة ورأس الطابق والنهريات وهي مسافة يومين من اول المسلمية إلى تل السلطان.
وللصنوبري الشاعر قصيدة طويلة في وصف بعض متنزهات حلب وقراها القريبة جاء فيها:
حبذا الباات باءا ... ت قويق وراها
بانقوساها بها ... باهى المياه حين باها
وببا صفرا وباب ... لا وبا (؟) مثلي وتاها
لاقلي صحراء نافر (؟) ... قل شوقي لأقلاها
لاسلا أجيال باسل ... ين قلبي لا سلاها
وبباسلين فليب ... غ ركابي من بغاها
والى باشقليشا ... ذو التناهي يتناها
وبعاذين فواها ... لبعاذين وواها
بين نهر وقناة ... قد تلته وتلاها
ومجاري برك يجل ... وهمومي مجتلاها
ورياض تلتقي آ ... مالنا فيما التقاها(69/34)
زاد اعلاها علوا ... جوشننا لما أعلاها
وأزدهن برج أبي الحا ... رث حسنا وازدهارها
واظبت مشرف الحص ... ن اشتياقا واطناها
وأرى المنية فازت ... كل نفس بمناها
ازدهواي العوجان السالب ... النفس هواها
ومقيلي بركة الت ... ل وسيبات رحاها
بركة تربتها الكا ... فور والدر حصاها
كم غراني طربي حي ... تانها لما غراها
إذ تلا مطبخ الحي ... تان منها مشتواها
بمروج اللهو ألقت ... غير لذاتي عصاها
وبمغنى الكاملي أس ... تكملت نفسي مناها
وغرت ذا الجوهر ال ... مزن غيثا وغراها
كلا الراموسة الحس ... ناء ربي وكلاها
وجزى الجنات بالس ... عدى بنعمى وجزاها
وفدى البستان من فا ... رس صب وفداها
وغرت ذا الجوهر ال ... مزن محلولا غراها
واذكر دار السليما ... نية اليوم إذ كراها
حيث عجنا نحوها العب ... س تباري في براها
وصفا العافية المو ... سومة الوصف صفاها
فهي في معنى اسمها حذ ... وبحذو وكفاها
وصلا سطحي وأحوا ... ضي خليلي صلاها
وردا ساحة صهري ... جي على سوق رداها
وامزجا الراح بماء ... منه أو لا تمزجاها
حلب بدر دجى أن ... جمها الزهر قراها
للرحلة صلة(69/35)
قانون الجماعات
وشرح المغمض منه
أبنت في جزء سبق أن القوانين التي تبحث عن أفعال الناس الناشئة من اجتماعاتهم تقسم إلى قسمين: قسم له مساس بالأمن العام رأسا وآخر بالواسطة وقلت أن أفعال الناس المجتمعة التي قد تخل بالأمن العام تظهر في مظهرين الأول: دائمي والآخر مؤقت والقانون الذي يبحث عن الاجتماعات الدائمة قانون الجمعيات وقد مرت ترجمته وشرح شرحا إجماليا. وأما القانون الذي يبحث عن الاجتماعات المؤقتة فهو قانون (الجماعات) وهو موضوع بحثنا اليوم.
هذا القانون كناية عن (11) مادة فقط. وهو مأخوذ عن القانون الصادر في فرنسا عام 1881 وكثير الشبه به. وقد نشر في 20 جمادى الأولى عام 1327 موافق 27 أيار سنة 1325. عقيب حوادث 31 آذار المعلومة.
المادة الأولى - العثمانيون أحرار في عقد الاجتماعات العامة بلا سلاح. وبشرط الرعاية للمواد الآتية فلا حاجة لأخذ الرخصة.
إيضاح - أعلن واضع القانون حرية الاجتماع بهذه المادة بكل صراحة لأن هذا حق من حقوق الأمة الطبيعية متولد من حرية الكلام وحرية تعاطي الأفكار وحرية اتحاد الآمال.
الاجتماعات قسمان (1) سياسي (2) غير سياسي وكلاهما جائز والدليل قول واضع القانون (الاجتماعات العامة) كما مر في المتن بدون قيد.
وهنا تجد بيننا وبين فرنسا فرقا مهما يجلب نظر. وهو أن قانون الاجتماع الفرنساوي يمنع الاجتماعات لأجل الانتخابات وأما قانوننا فيجوزها كما هو مستفاد من إطلاق هذه المادة. أي أن قانون الاجتماع الفرنساوي لا يسوغ الاجتماع إلا للمرشحين والمنتخبين فقط، وإما قانوننا فهو مطلق الحرية للمرشحين والمنتخبين ولكل ناظر.
ثم مر في متن المادة كلمة (العثمانيون أحرار) فيفهم من هذا بان الأجانب ممنوعون من الاستفادة من هذا الحق. لأن لكل كلمة مفهومين: مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.
فان ذكر احدهما يستدل على أن الآخر غير مقصود وغير مطلوب فقول واضع القانون هنا (العثمانيون) يدل بأنه قصد إخراج غير العثمانيين من مداول هذه الكلمة. ومن هنا يستدل(69/37)
بأنه لا يسوغ لغير العثمانيين من حق الاجتماع.
يقول بعض العلماء أصول الإدارة الملكية ولا سيما الأستاذ ضيا بك بحوار عقد الاجتماع من قبل الأجانب نزلاء بلادنا بشرط أن لا يتدخلوا بالسياسة المحلية. وإما هذا العاجز فيرى إن هذا القول من قبيل التوسع الفكري وليس من التفسير القانوني. لأن القانون حصر هذا الحق بالعثمانيين حصرا بينا بقوله (العثمانيون الأحرار) بدون تقييد بشيء آخر.
أما إذا قيل بان هذا حق لكل الإفراد طبيعي لا يجوز نزعه من الأجانب فأقول بان القوانين توضع في الأصل لأجل تحديد كل حق يحتمل ظهور أقل ضرر منه. وناهيك بما يقول له الأجانب حق وهم منفردون وحينئذ احكم كما تشاء على ما يمكن حدوثه منهم وهم مجتمعون. فلهذا السبب أرى الاكتفاء بصراحة القانون أوفق للاحتياط والتبصر بعواقب الأمور وأما أن قيل: أما يسوغ لهم الاشتراك مع العثمانيين في اجتماعاتهم؟ فأقول أيضا لا يجوز لأن القانون وحساب العواقب هكذا يقضيان لأن اقل أمر يحدث في أثناء الاجتماع ربما يحدث أعظم المشاكل مع الدولة التي ينتسب إليها هذا الأجنبي ولذلك كان إتباع ظاهر القانون أوفق واسلم وانفع. ولاسيما إذا كان الاجتماع سياسيا فعدم قبول الأجنبي فيه من اضر الضروريات لا علاقة له به مطلقا.
مر في المتن أيضا كلمة (بلا سلاح) فإذا كان المجتمعون مسلحين علنا أو سرا فهذا الاجتماع ممنوع. إما إن كان شخصان أو ثلاثة من بين هذا الجمع الغفير مسلحين فيجب على هيئة الإدارة تجريدهم من سلاحهم وإذا امتنعوا فيعد الاجتماع مسلحاً ويمنع.
مر في المتن أيضا بان الاجتماع غير متوقف على اخذ إذن من الحكومة. نعم لا يجب الاستئذان لذلك إلا انه لما كان من الممكن وقوع مالا تحمد عقباه أثناء الاجتماع اشترط واضع القانون بعض الشروط على مسببي الاجتماع حفظا للأمن العام. وهذه الشروط مدرجة في المادة 8، 7، 6، 5، 4، 3، 2 كما سيأتي بيانها.
المادة الثانية - قبل الاجتماع يجب تنظيم بيان يتضمن يوم الاجتماع وساعته ومحل وقوعه وان يمضي من شخصين احدهما متوطن في محل عقد الاجتماع وان يكونا نائلين حقوقهما المدنية والسياسية على شرط أن يصرحا باسميهما وشهرتيهما وصفتيهما وبمحلي أقامتيهما.
إيضاح - الاجتماع غير منوط بإذن الحكومة. إلا انه يجب إخبارها بوقوعه لأجل اتخاذ(69/38)
التدابير اللازمة خوفا من وقوع ما يكدر المخاطر ولأجل منع الاجتماعات الغير الجائزة قانونا بمقتضى المادة 9، 8، 7، 6، 3 من هذا القانون.
قيل في المتن أيضا ضرورة بيان (يوم الاجتماع وساعته ومحل وقوعه) وهذا أيضا ضروري. لتتخذ الحكومة التدابير اللازمة بالوقت المعين خوفا من إجراء الاجتماع قبل أن تتخذ الحكومة التدابير الاحتياطية.
وهكذا قيل في المتن (يجب أن يمضى من شخصين احدهما متوطن في محل عقد الاجتماع فإذا أمضى البيان شخصان احدهما متوطن في البلد الذي سيقع فيه الاجتماع والثاني من بلد آخر فهو جائز بنظر القانون. وقصد واضع القانون من كلمة (محل) البلاد والقصبات والقرى.
مر في المتن (نائلين حقوقهما المدنية والسياسية) واليك البيان:
الحقوق المدنية - هي أن يكون غير ساقط من هذه الحقوق وهي مذكورة إجمالا في المادة 31 من قانون الجزاء ودرجة في الصفحة (465) من مقتبس هذه السنة في شكل خلاصة الخلاصة.
الحقوق السياسية - هي الحقوق التي تؤهل المرء لاشتراك في إدارة المملكة مثل حق انتخاب المبعوثين وحقوق التوظف في دوائر الحكومة والعسكرية الخ.
ثم يجب أن يصرح هذان الرجلان اللذان سيمضيان البيان باسميهما وبشهرتهما وبجميع علائمهما المميزة ليسهل على الحكومة البحث عنهما عند الاقتضاء.
المادة الثالثة - يعطى البيان في استانبول لناظر الضابطة وفي الملحقات للولاة والمتصرفين والقائم مقامين والمديرين. وبمجرد إعطاء البيان يؤخذ بقابلة علم وخبر.
وان يعطي علم وخبر فلمقدمي البيان تنظيم ورقة ضبط وإمضاؤها من شخصين من الحاضرين يكونان من الحائزين على الشروط المدرجة في المادة الثانية.
وحينئذ يسوغ عقد الاجتماع. ويجب التصريح باليوم والساعة التي سيقع الاجتماع فيها في العلم وخبر وورقة الضبط. أما الاجتماعات التي تقع بلا علم وخبر وورقة ضبط فهي ممنوعة. ويجازى مرتبوا الاجتماع بالحبس من أسبوع إلى شهر أو بالتغريم بجزاء نقدي يختلف بين الثلاث ليرات وخمس عشرة ليرة.(69/39)
إيضاح -. ورد بان البيان يعطى باستانبول لناظر الضابطة). إما وقد أصبحت استانبول ولاية كسائر الولايات فيجد والحالة هذه إعطاؤها للوالي بها. ثم إذا امتنع مأمور الإدارة عن إعطاء علم وخبر في مقابل البيان فعلى مقدمي البيان تنظيم ورقة ضبط تبين امتناع. ويجب أن يمضى هذا الضبط من رجلين آخرين غير مقدمي البيان. وبهذه الصورة تكون ورقة الضبط محتوية على أربعة إمضاءات. اثنان مدعيان واثنان شاهدان لأجل محاكمة المأمور. وجزاء من يمتنع عن إعطاء هذا العلم والخبر قطع راتب شهر لأول مرة وإذا تكرر فيطرد من مأموريته وفق للمادة (102) من قانون الجزاء.
العلم وخبر لا يتضمن الترخيص بل يتضمن الاستخبار من قبل من هو مكلف بحفظ الأمن العام. أي أن معنى البيان الأخبار ومعنى العلم والخبر وثيقة لأجل عدم الإنكار في المستقبل. حتى إذا ما وقع محظور من الاجتماع وسئل عنه مأمور الإدارة الملكية وأراد الإنكار وادعى لأنه لم يعلم بوقوع الاجتماع ليتخذ التدابير اللازمة يقال له أن المجتمعين قد أخبروك وهذا العلم والخبر دليل على ذلك إذا أنت متهاون ولهذا أنت جدير بالجزاء هذا هو سر لزوم إعطاء البيان والعلم والخبر لا غير. لأن الاجتماع غني عن الاستئذان لكونه حقا من الحقوق الطبيعية. أما الاجتماع الذي يقع بدون أخبار الحكومة بتاتا فهو ممنوع. أي أن للبوليس الحق في فضه أولا بالكلام ثم بالتهديد ثم بالإكراه ثم أن الضرب والجرح والقتل الذي يقع من مأموري الضابطة أثناء إيفاء وظائفهم يؤدي إلى المعذرة بموجب المادة 189 من قانون الجزاء العام وقانون البوليس والجند رمة الخصوصيين وعلى هذا ففي كلمة (ممنوع) فسخ الاجتماع بكل التدابير حتى تصل إلى قتل من يخالف أمر البوليس. وهذا الأخير غير مسؤول عن هذا القتل بالنظر لما هو مصرح به في المادة المذكورة من قانون الجزاء.
وبعد تفريق المجتمعين يجازى المرتبون بالجزاء المدرج في متن المادة المذكورة آنفاً.
المادة الرابعة -. يجب أن تمر ثماني وأربعون ساعة بين إعطاء البيان وعقد الاجتماع. مر سبب هذا أعلاه في شرح المادة الثانية.
المادة الخامسة -. يجب إيضاح سبب الاجتماع والمقصد منه في البيان.
إيضاح -. حتى يتسنى للحكومة منع الاجتماع الغير القانوني ولأجل التبصر في مقدار(69/40)
العسكر الذين يجب إرسالهم للمحافظة ولأجل إرسال مأمور خاص لمحل الاجتماع للنظارة عليه وحتى إذا ما خرج عن الموضوع يفسخ الاجتماع الخ.
المادة السادسة -. الاجتماعات ممنوعة في المحال المكشوفة والقريبة مقدار ثلاثة كيلو مترات من سراي السلطان المعظم ومن دائرتي المبعوثان والأعيان إثناء انعقاد المجلس العمومي.
إيضاح -. مر في المتن كلمة (مكشوفة) ومعناها إن الاجتماع يقع أما في محال مكشوفة أو في محال مغلقة أي ذات سقف وباب. ومثال الأول الساحات والعاص ومثال الثاني القهاوي ودور التمثيل والأندية. لماذا؟ لأن من الاجتماعات ما يجب إجراؤه في محل مغلق كالمحاضرات العلمية. لأن هذه لا تلقى على قارعة الطريق. ومنها أيضا ما هو واجب إجراؤه في المحال المكشوفة كالاحتجاج على عمل ما يخالف القانون صدر من الحكومة أو من شركة ما ولما كان هذا شاملا لجميع الآهلين غالبا فبالضرورة يجتمعون في الساحات والعراص على الأكثر. فلهذا السبب أساغ واضع القانون كلا النوعين من الاجتماعات.
واستثنى منها ما يقع في المحال المكشوفة القريبة من سراي السلطان المعظم ومن مجلس المبعوثان والأعيان إثناء انعقاد المجلس العمومي مسافة ثلاثة كيلو مترات أي ثلاثة آلاف متر.
كذلك قيل في المتن (سراي السلطان) والقصد من هذه الجملة سرايه في استانبول لا القصور العامة في الملحقات. لأن كلمة (همايون الملصقة بسراي في الأصل التركي أي سراي همايون) تفيد التخصيص بسرايه الخاص.
أعرف والياً ممن ظلمهم الحظ وأجلسهم على عرش الولاية أراد منع احتجاج على عمله وذهب لتفسير (سراي همايون) بدار الحكومة. وبعد اللتيا والتي أقنعناه بحقيقة المسالة قيل في المتن أيضا (إثناء انعقاد المجلس العمومي) ومعنى هذا أيضا إذا لم يكن المجلس العمومي أي مجلس المبعوثين والأعيان منعقدين فالاجتماع جائز القرب منهما ولو بمسافة اقل من ثلاثة كيلو مترات.
وهكذا يستفاد من كلمة (المحال المكشوفة) بان الاجتماعات التي تقع في المحال المغلقة في القرب من السراي السلطاني ومن المجلس ولو كانا منعقدين فهي غير ممنوعة أيضا ثم قيل(69/41)
في أول المتن (ممنوعة) وقد مر معنى المنع القانوني في شرح المادة السابقة فالاجتماع الممنوع إذا (1) هو الذي يقع في المحال المكشوفة القريبة من سراي السلطان مسافة ثلاثة آلاف متر (2) التي تقع في المحلات القريبة من مجلس الأعيان والمبعوثين على مسافة ثلاثة آلاف كيلو مترات أثناء انعقاد المجلس العمومي. أما الاجتماعات التي تكون في محال مستورة فهي جائزة ولو كانت على مقربة من سراي السلطان والمجلسين.
المادة السابعة - شرع الاجتماع ونظر إليه من قبل علماء فن تدبير المملكة بنظر حق طبيعي لأنه مؤد إلى نفع عام وخاص. أما إذا وقع في الطريق العامة فمن المحقق انه يعطل المارين والعابرين ويعوق سير التجارة ويخل بحرية أرباب الصنائع وسائر المسالك الأخرى. ولما كان درء المفسدة أولى من جلب المنفعة وفقا للمادة الثلاثين من قانوننا العام أي مجلة الأحكام منع هذا الاجتماع الذي يقع في الطرق العامة. لكي لا نكون جلبنا ضررا محسوسا لجلب نفع موهوم.
هذا هو سبب الفقرة الأولى الإدارية من هذه المادة.
وإما الفقرة الثانية فهي تبين وقت الاجتماع. فكما أن الاجتماع يقع في المحال المكشوفة من طلوع الشمس حتى مغربها. وأما في المستورة فيجوز دوامه ليلا أيضا كما انه يسوغ عقدة في منتصف الليل أو في آخره لأن المحافظة هناك سهلة جدا لا سيما والمحال المغلقة هي إما قاعة خاصة دار تمثيل أو قهوة كبرى. وهذه الإيضاحات مستنبطة من مفهوم المخالفة لقيود هذه المادة والتي قبلها.
المادة الثامنة - يدار الاجتماع من هيئة مركبة على الأقل من ثلاثة أشخاص وعلى هذه الهيئة الاعتناء بمحافظة الانتظام ومنع ما يخالف القانون والاهتمام بعدم الخروج عن موضوع البيان وعدم إيراد الخطب المخلة بالأمن العام والآداب العامة ودم التفوه بأقوال تكون من قبيل التشويق لإيقاع الجرائم. وان لم تعين هذه الهيئة من قبل ممضي البيان انتخابها من المجتمعين. وإذا وقع فعل يخالف المادة السابعة وهذه المادة فالتبعة توجه على هيئة الإدارة وقبل تأليفها فالتبعة على ممضي البيان.
إيضاح - يجب أن يكون الثلاثة الأشخاص الذين يؤلفون الهيئة الإدارة حائزين على الشروط الثلاثة المدرجة في المادة الثانية من هذا القانون. لأنه لا فرق بين هيئة الإدارة(69/42)
وممضي البيان أبداً. لا سيما وهو مجاز للحكومة توجيه تبعة الاجتماعات على ممضي البيان كما هو مذكور في متن هذه المادة.
هيئة الإدارة مكلفة بواجبات ستة واليك بيانها بمثال:
أولاً - المحافظة على الانتظام: لأن التشتت يضيع الفائدة المنتظرة من الاجتماع وهي مثل تعارض الخطباء والصراخ وكل ما يخل السكون المطلوب. الاجتماع المنتظم هو الذي يخطب به الخطيب والناس تسمع له والذي لا يتكلم به احد سوى الخطيب فإذا عارض الخطباء بعضهم وظهر لكل واحد منهم حزب يؤيده فهناك بعد الانتظام مختلا يحتاج لمداخلة هيئة الإدارة.
ثانياً - منع ما يخالف القانون: إذا ترك احد أرضه الأميرية ثلاث سنين متتالية معطلة تعد محلولة ويؤخذ من صاحبها الأصلي (بدل المثل) عنها وان لم يدفع هذا فتؤخذ منع وتباع بالمزاد من غيره. وهذا مؤيد في المادة (68) من قانون الأراضي.
فلو أراد خطيب يخطب بعكس هذا لما جاز له ويجب هنا أيضا مداخلة هيئة الاجتماع الإدارية ويجب عليها منعه، وهكذا جميع القوانين بلا استثناء. أما من رأى اعوجاجا في القوانين فعليه أن ينبه مرجعها بلائحة خاصة أو بواسطة الجرائد وهذا مشروط بان يكون تصديق القانون التصديق الرسمي.
ثالثاً - عدم الخروج عن موضوع البيان: مثلا لو قيل في البيان بان الاجتماع هو لأجل الاحتجاج على حكومة اليونان فقط فلا يجب الخروج عن ذلك ويجب المنع أن حصل احتجاج على حكومة الجبل الأسود لأن البيان كان عبارة عن الاحتجاج على اليونان لا غيره. وقس عليه البواقي.
رابعاً - الأمن العام: غني عن الإيضاح
خامساً - الآداب العامة: لو أراد الخطيب استعمال البيرا أو إحدى المشروبات الأخرى إثناء خطابه فيمنع من ذلك. لأن آدابنا الإسلامية تحظر علينا التهتك بالمنكرات. وهنا أيضا يجب على الهيئة الإدارية أن تتدخل بالأمر.
وهذا الأمر يشمل الغير مسلمين أيضا. نعم يسوغ لهم استعمال المشروبات المسكرة ولكن في أماكن خاصة لا علنا لأن الآداب العامة الوطنية (وهي إسلامية بالنظر للأكثرية) لا(69/43)
تجيز ذلك بتة والقصد من الآداب العامة مراعاة العواطف لا غير. وهل يجوز لغير المسلمين عقلا ومنطقا جرح عواطف إخوانهم المسلمين أكثرية المملكة باستعمال المشروبات علنا؟ كلا. إذن يجب منع الخطيب الغير مسلم أيضا أن أراد استعمال البيرا أو الكونيك على منبر الخطابة العلني وهم يعملون هذا التقليد للأوربيين أما آدابنا فلا نستطيع أن تهضم هذا بوجه من الوجوه. ولذلك منع واضع هذا القانون وأمثاله وبهذه الصورة حفظ الآداب العامة من طروء الخلل عليها:
وهذا لا يحجز حرية أحد لأن الإنسان حر في بيته إن يفعل ما يشاء ويشرب ما يشاء.
سادساً - عدم التفوه بأقوال تشق إلى ارتكاب الجرائم وهذا أيضا غني عن الإيضاح هذه الأمور الستة واجبات الإدارة يجب الانتباه لها وإذا حصل تهاون فالجزاء محقق بموجب المادة العاشرة من هذا القانون.
قد يمكن أن لا يبين الشخصان اللذان يمضيان البيان أسماء هيئة الإدارة لأسباب عديدة. فإذا ما وقع مثل هذا الحال. وجب على المجتمعين انتخاب ثلاثة أشخاص من بينهم قبل كل شيء وتعريف الحكومة عنهم وإذا لم ينتخب أحد لهيئة الإدارة فتوجه التبعة على ممضي البيان والجزاء بكون بموجب المادة العاشرة.
المادة التاسعة - يرسل من قبل الحكومة إلى محل الاجتماع مأمور أن يوجد في المحل الذي يعده مناسبا وله أن يفسخ الاجتماع إذا طلبت هيئة الإدارة ذلك أو وقعت منازعة ومجادلة تخل بالضبط والربط.
إيضاح - إذا قيل حكومة يجب أن يخطر على البال رؤساء الإدارة الملكية أي المختار والمدير والقائم مقام والمتصرف والوالي وناظر الداخلية والصدر الأعظم.
وإذا طلبت هيئة الإدارة فله أن يأمر البوليس والجند رمة فسخ الاجتماع.
قيل في المتن (منازعة ومجادلة) وهذان قسمان قولي وفعلي. فان كانت قولية فلا يسوغ له المداخلة بدون طلب من هيئة الإدارة وإذا حصل ما يخالف القانون فتوجه التبعة على هيئة الادراة والفاعلين. إما إذا كانت المنازعات والمجادلات فعليه أن يتدخل من نفسه ويفسخ الاجتماع. وهذا منبسط من قول القانون (منازعة ومجادلة مخلة بالضبط والربط) والإخلال بالضبط والربط لا يكون بالقول مطلقاً.(69/44)
إما إذا أتي احد المجتمعين بشيء يغاير الآداب أو تكلم بكلام يخل بالأمر فعلى الهيئة الإدارية أن تراجع المأمور الخاص وهو يمنع الرجل من عمله وكلامه وينظم ضبطا ويودعه للعدلية لأجل محاذاته بموجب المادة العاشرة. وان لم تراجع الهيئة الإدارية هو أيضا بقطع راتب شهر جزاء تهاونه. وفقا لقانون الجزاء لا لهذا القانون.
المادة العاشرة - يجازى من يخالف إحكام هذا القانون بالحبس من 24 ساعة إلى أسبوع أو بالتغريم بجزاء نقدي من 25 غرشاً إلى ليرة. بشرط أن لا تخل أحكام القوانين الأخرى بحق من يأتون بالجرائم الأخرى.
إيضاح - لو ضرب احد آخر إثناء الاجتماع فيجازى جزاء الضرب العادي المدرج في قانون الجزاء ولا يكتفي بهذا الجزاء الجزئي المحرر في هذه المادة. وهذا الجزاء خاص بمن يخالف هذا القانون المؤلف من إحدى عشرة مادة فقط فلو صرح مثلا احد المجتمعين إثناء الاجتماع يجازى بهذا الجزاء لأنه اخل بنظام الاجتماع. والحاصل أن هذا القانون لا يعارض قانون الجزاء العام بتاتاً.
المادة الحادية عشرة - ناظر الداخلية والعدلية مأموران بإجراء هذا القانون.
في جمادى الأولى 327 و27 أيار 325.
إيضاح - الداخلية والعدلية أبدا كحفظ الصحة والطب. فكما انه قبل المرض تراعى قواعد حفظ الصحة ولا يراجع الطبيب إلا بعد وقوع المرض فمأمور الداخلية والبوليس والجند رمة يتخذ كل أنواع الاحتياط ويتخذ جميع التدابير لأجل منع كل عمل يخالف هذا القانون. وإما إن حصل خلاف فهناك تبتدئُ وظيفة مأموري العدلية أي وظيفة العدلية تبدأ حيث تنتهي وظيفة رجال الداخلية.
هذا هو قانون الاجتماع متنا وشرحا وقد استندت في شرحي له على أربع مسائل أقوال علماء أصول الإدارة الملكية وعلى دلالة القوانين الأخرى وعلى الأوامر الصادرة من المراجع العليا أقوال علماء الفقه والمنطق. وأشرت إلى ذلك فيما رأيت لذلك داعياً؟
وبعد ترجمة المتن وشرحه كما مر أرى الحاجة ماسة لبيان أقوال علماء فن تدبير المملكة يحق الاجتماعات على طريق الإيجاز الرائد ليكون القارئ على بصيرة تامة واليك البيان:
يقول العلماء لهذه الاجتماعات العامة ويقسمونها إلى أقسام عديدة: اجتماع شامل واجتماع(69/45)
خاص دنيوي ديني مشروع وغير مشروع مهيأ غير مهيأ أو مشوش ونبحث ألان في تعريف كل قسم من هذه الأقسام على وجه الإيجاز.
الاجتماع الشامل - الذي يسوغ لكل الناس الاشتراك به سواء كان باجرة أو مجانا مثل الاشتراك لأجل سماع المحاضرات العلمية والسياسية والصناعية.
الاجتماع الخاص - الذي لا يسوغ لكل الناس الاشتراك به لغير المدعوين مثل الضيافات بأنواعها. وهذه حرة عندنا بدون قيد أو شرط.
الاجتماع الدنيوي - هذا الاجتماع بالجوامع والكنائس. لإقامة الشعائر واستماع النصائح. وهذه الاجتماعات أيضا غير تابعة بصور وشروط قانونية.
الاجتماع المشروع - ما كان موافقا للقوانين. وأما الغير المشروع الغير موافق للقوانين الأخرى.
الاجتماع المهيأ - الذي يكون مبنيا على نية معلومة وقصد محدود معين.
الاجتماع المشوش - هو الذي يكون من قبيل التصادف أو التشويق الوقتي.
فقانون الاجتماع الذي ترجمته وشرحته بهذا العدد من مقتبسنا يبحث عن الاجتماعات الشاملة والدينية والمشروعة والغير مشروعة والمرتبة. ولم يتدخل قد في الاجتماعات الخاصة والدينية والمشوشة قطعيا. ولابد أن تنتبه الحكومة لهذه الأقسام الثلاثة الأخيرة وتضع لها قوانين تبحث عنها أسوة بجميع الدول المتمدنة ووقاية لحال الأمة من تشويقات المشوقين الضالين المضلين ومن سوء تفسير رجال الإدارة صيغة الحظ والاتفاق. فان تسعة أعشار تذبذبنا الإداري ناشئ لعمر الحق من هؤلاء الضالين أرباب النفوذ ومن جهالة من يقال لهم آمرون.
بيروت // حسني عبد الهادي(69/46)
أخبار وأفكار
الإسفنج
لا يعرف العلماء حتى الآن إذا كان الإسفنج يعد من الحيوان مع انه أيضا مشترك مع النبات كما لا يعرفون كيف يغتذي فهو يتناول غذاؤه من منافذه ولكن ما هي ماهية هذا الغذاء الموزع على نصاب العدل وهذا من المجهولات أيضاً.
وإن الإسفنجة المعتدلة لتبلغ 18 سنتميتراً في أربع سنين واهم مصايد الإسفنج في سورية وبحر الادرياتيك وعلى شواطئ تونس. وقد أخذت أميركا ولا سيما شواطئ فلوريدا تخرج الإسفنج منذ مدة أيضا ويجيء هذا الصنف من كوبا وجزائر براهاما. واستخرج الإسفنج على صور مختلفة وأكثرها استعمالا ما يغوصون عليه في أعماق تختلف من 10 إلى 15 مترا فينزعون هذا الحيوان من الصخر الذي علق فيه ومنهم من يستعملون أجراس الغواصة فيتراكض كلاب البحر فلا يتقيها الغائص الإبان يتماوت فتكف عنه لأن كلب البحر لا يقترب من الجثث الهامدة. وقد عني الدكتور مور بزراعة الإسفنج بدون ساق وهو ابقي من غيره من الأنواع وطريقته أن يقطع الحيوان قطعا قدر كل واحدة خمس سنتيمترات مربعة ويركزها إلى أوتاد مغموسة بماء البحر فتكبر هذه القطع ويصبح وزنها خمسة وعشرين ضعفا عما كانت عليه وذلك خلال ثمانية عشرة شهراً.
العصر الحجري
لم تدثر أجناس البشر التي باتت معروفة في العصر الحجري الغريق في القدم فان قبائل أواسط واستراليا تمثل آخر بقاياه. فقد باد قدماه التاسمانيين الذين كانوا فرعا من تلك القبائل ولم يتحقق أصل قرصان أندمان (أرخبيل في خليج بنغالا) واحتفظ أهل واستراليا بسحناتهم وصفاتهم وهم قوم رحل مختلفة لهجاتهم بعيدون عن كل مدينة أحط خلق الله في المعارف وصحة الأجسام ينزلون رمالا لا ينبت فيها غير العوسج يعيش رجالهم بالصيد بالحراب والنساء يقلعن جذوعا ويبحثن عن الديدان يغتدين بها. وكلهم من آكلة البشر لا يعرفون الثياب يسترون عوراتهم بزنار بسيط وإذا أكلوا إنسانا من البيض الضالين في أصقاعهم يأخذون قبعته يجعلونها على رؤوسهم وأحذيته وجواربه في أرجلهم علامة على الكبرياء والعظمة. ومساكنهم عبارة عن أكواخ من الأغصان لا يعرفون المعادن إلا منذ زارهم(69/47)
بعض أرباب الرحلات وليس لهم آنية في مساكنهم ولا يحسبون إلا على أصابعهم إلى الصف الأول من الإعداد لا يتعدونها إلى أكثر ولكنهم ماهرون في رسم بعض الصور على الحجارة وفي تزيين أتراسهم بيد أن حذقهم في هذه الصناعة أحط من حذق آهل عصر الوعل في أوربا الغربية. ويقول العالم الأخصائي في أحوالهم أن سكان واستراليا الوسطى الأصليين جاؤوا من اختلاط بين زنوج بابوان وجنس من الخلق أرقى من الجنس القوقازي امتزج الجنسان معا منذ الزمن الأطول أيام كانت استراليا جزءا من قارة أسيت.
السمك الأحمر
كان الغربيون يتسلون بتربية السمك الأحمر كما نتسلى في سورية بجعله في بواطي وزجاجات وتغير مائه اليوم بعد اليوم وقد عدلوا عن تربيته ولم يتبق إلا جزيرة صقلية تالف تربيته فيجعلون فيها غدرانا مساحتها مئة متر مربع تفصل الواحدة عن أختها حواجز وسدود تفصلها بعضها عن بعض قليلا وهي قليلة العمق يجعلون ماء الأحواض على حرارة 50 درجة ولا يفتاون يغيرون عنها الماء ويلونونها أن يضعوا في الماء شيئا من الحديد والعطان (قشر البلوط المسحوق للدبغ) والعفص وطعامها من الهوام والدم المجمد وبقايا اللحوم والشعير به تنمو وتتكاثر ويكثرون في تلك الأحواض من الذكور أكثر من الإناث. ويقال أن السمك الأحمر قد يستغني عن الغذاء شهرا كاملا.
صناعة الفنادق
سبقت سويسرا غيرها من بلاد الغرب والشرق بان كانت أفضل البلاد بفنادقها ونزلها التي اجتلبت السياح بمئات الألوف كل سنة وتربح منهم الإرباح الطائلة وليس في هذا الشرق العربي اليوم من يحذو حذوها من البلاد غير جبل لبنان فإذا تم له ما ينبغي من دواعي الإصلاح وتوفرت في فنادقه وقصوره أسباب الراحة مع الاقتصاد وعدم الاشتطاط في الطلب وامتدت فيه كل الطرق المعبدة وعشرات من كيلومترات الخطوط الحديدية أيضا يصبح في آسيا بمثابة سويسرا في أوربا. وان بلد الفنادق أي سويسرا بل الفندق الأكبر في الغرب لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل العلم والمدارس وربما يعجب ابن الشرق إذا قلنا له أن صناعة الفنادق يتعلمونها هناك في المدارس تعليما نظريا وعمليا ولذلك سبقوا غيرهم من سائر أمم أوربا الذين لهم من بلادهم أيضا ارض طيبة ومناظر جميلة ولكن(69/48)
ليسلهم استعداد السويسريين في جلب قلوب السائحين ولا يكتفي اليوم في النزل أن يعرف صاحب الفندق تقديم الطعام الجيد الطبخ بواسطة طهاته ولا إن يحسن اللقاء والتشييع وببش في وجه نزيله بل عليه أمورا أخرى كثيرة تستدعيها المدينة ولا يتعلمها إلا من دخل مدارس سويسرا أو لاسيما مدرسة لوزان الفندقية.
فما أحرى احد أرباب الفنادق في سورية أن يبعث بأحد أولاده يتعلمون فيها ليطرس غيره على آثاره وتغنم البلاد فوائد كلية من دنانير السائحين والسائحات.
سجون النساء
نادت ليزابت فري في أوائل القرن الماضي بإصلاح سجون النساء فلم يتيسر في أميركا إجابة طلبها إلا في العهد الأخير فأنشأت بعض الولايات المتحدة سجونا تنفذ إليها الشمس مضاءة نقية طاهرة مستوفاة من حيث الصحة وجعلوا القائمات على السجينات من النساء يعنين بأمرهن كل العناية ويتحببن إليهن إذ رأت أميركا إن السجن وحده كاف في إصلاح النفوس فلا ينبغي إرهاق المسجون بل تعليمه بالقدوة والمطالعة ولذلك ترى العناية بصحتهن الأدبية وصحتهن الجسمية بالغة حدها من النيقة فيجتمع السجينات في أوقات الراحة في مكتبة حوت انفع الكتب لهن يطالعن ومما يصرفن فيه أوقاتهن زراعة البقول وغيرها فلا يخرجن من السجن ألا وقد تطهرت نفوسهن بالمطالعات وتعلمن تربية البقول والإزهار وبذلك تم للحكومة ما أرادت من انتشار صناعة الحدائق بفضل جودة التربة والتربية في تلك الولايات. فمتى يكون في هذا الشرق القريب سجون كهذه للرجال والنساء.
الكليات الروسية
تقول إحدى المجلات في روسيا أن حالة كلياتها اليوم أشبه بساحة وغى غداة القتال والنزال فان سيطرة الأساتذة أن لم تكن زالت فقد تضعضعت كثيرا والخلل مستحكم في صفوف الطلبة لأن للسياسة منذ زمن مقاما عظيما في حياة الكليات مما هو مضر بالغاية المطلوبة من هذه المعاهد. ومن العجب أن تساعد الكليات على نمو هذه الأفكار وإذ قد ضعفت سياسة التطرف في هاتيك المدارس أخذت الحكومة تدخل فيها سياسة حزب اليمين وذلك بإنشاء جمعيات تكون بحجة جمع شتات الطلبة آلة لبث الدعوة الارتجاعية أي العودة إلى سياسة(69/49)
الحكم المطلق قالوا يجب العدول عن الاعتصابات لأنها لم تثمر ثمرة لتلك البيوت العلمية ولطالما أضرت بمن يأتيها والحكومة تعمد إليها للتخلص من الأساتذة والتلاميذ الذين عرفوا باستقلال الإرادة والفكر. والخلاصة فان روسيا تنمو بكلياتها من حيث الفكر السياسي نحو تقديس الحكومة المطلقة وألمانيا تنمو بكلياتها نحو تقديس الحكم المقيد تحت رعاية الإمبراطور وشتان بين الإمبراطور والإمبراطوريتين.
الزحافات ذات العرف
كان علماء المطمورات يدعون بان أعظم الزحافات ذات العرف في ولاية داكوتا وغيرها من الولايات المجاورة في أميركا الشمالية ولكن البحث في مطمورات افريقية النباتية وغير ذلك إبان تقيض هذا الزعيم. فقد اكتشفت في الطبقات الجيولوجية في جنوب افريقية من سهل كارو العظيم في مستعمرة الرأس مطمورات لها شبه بآثار الزحافات الأميركية الأولى وأيد احد أساتذة ألمانيا هذا القول وقال أن في افريقية الشرقية الألمانية جبلا أخرجت من صدره بقايا حيوانات تشبه هذه. وكان كارنجي المثري الأمريكي أهدى متحف برلين حيوانا سموه ديبلودوكوس زعمهم انه اكبر زاحف في الأرض ولكن تبين في المستعمرة الألمانية الإفريقية ما هو أضخم منه جثة يبلغ طوله مترين و45 سنتيمترا على حين بلغ طول حيوان كارنجي أكثر من متر و82 سنتيمترا وطول أعظم فقرة من عظمه من ناحية عنقه 62 سنتيمترا في حين أن مثلها في الحيوان الإفريقي مت و81 سنتيمترا وعظم العضد في الأول 92 سنتيمترا وعظم العضد الثاني يتجاوز المترين ورأس الزحاف الإفريقي صغير بالنسبة لحجمه جسمه.
الهجرة الايطالية
لم يهاجر منذ سنة 1866 إلى 1908 اقل من 5813460 مهاجرا إيطاليا أي ما يعادل مجموع سكان الجمهورية الفضية أو سكان الجزائر وقد كان المهاجرون عرضة لتلاعب اللصوص والمحتالين عندما يغادرون بلادهم فيتلاعب المتلاعبون بعقولهم وأكثرهم من ضعاف العقول بالطبع فانتبهت الحكومة الايطالية والشعب الايطالي للأمر تألفت جمعيات كثيرة في أمهات مدن أميركا الشمالية والجنوبية لاستقبال مهاجري الطليان والسير بهم في الطرق الموصلة القريبة إلى احتياز المال والعيش الخصال وهكذا تم لهم ذلك. وللسوريين(69/50)
على ضعفهم ف تلك الأصقاع جمعيات من هذا القبيل وكانت ضئيلة ولكنها تخدم الهجرة والمهاجرة.
السرطان البحري
لما كان السرطان البحري في أميركا اكبر من السرطان الأوربي مرتين أصبح الطلب عليه كثيرا والرغبة فيه ولاسيما للتقليد أكثر مما يصاد منه. وقد عمدت أميركا إلى تنميته بالطرق الصناعية الكثيرة فلم تفلح وقضت بان يكف عن صيده ولو بضع سنين فلم يسمع لها خصوصا وأن كثيراً من الأسماك الكبيرة تسطو عليه عندما يكبر وإذا كان صغيرا فأبناء نوعه يأكلونه ولو لم يكن قليل الإمراض لفني منذ زمن طويل. وكان هذا النوع في أميركا ضعفي ما هو عليه اليوم ووزن الواحدة منه خمسة إلى ستة كيلو تباع بالواحدة إما اليوم فيباع بالوزن. ونوعه يقل كما يقل عندنا السمك البحري والنهري لأن الصيادين يصيدونه في الغالب بوضع قذائف من الديناميت تقتل كباره وصغاره والحكومة تمنع ذلك ولكن منعها حبر على ورق.
الاقتصاد في الوقت
من أعظم ما يشكو منه أرباب الصحف كثرة ما يرد عليهم من المقلات التافهة والعبارات الساقطة لا يعرف ذلك إلا من يعانيه ولذلك كثيرا ما يضطرهم الوقت إلى عدم إتمام قراءة ما يعرض عليهم فيدركون ضعفه لأول وهلة فيوفرون بذلك أرقاتهم. وقد شعر أرباب المطابع والمجلات والجرائد في أميركا بهذا الأمر فأصبحوا إذا لقيت إلى احد الطابعين رواية ليراها هل تصلح أم لا ينظرون إلى اسم مؤلفها فان كان ممن له شيء من الشهرة تدفع قصته إلى من يقرؤها وتكلف قراءة قصة مؤلفة من مئة إلف كلمة خمس ليرات فإذا جرى في كل قصة في إدارته نصف ريال فإذا كانت القصة من قلم من يجدر أن يقرا كتابة تدفع إلى أمين سر المحل وساعته تساوي اثني عشر فرنكا فتأمل.
الحمامات
عادة الاستحمام قديمة جدا ورد ذكرها في أساطير الأقدمين ويقال أن البطل هركول اليوناني بما استمتع به من القوة والعضلات المفتولة لاعتياده الاستحمام بالمياه فاشتهرت حماماته ودعي كثير منها باسمه وكذلك ديان وايزون المشهورتين في الأساطير اليونانية(69/51)
فأنهما حفظا صحتها بل جعلت لهما بالمياه قوة زادت عن القوة المعتادة عشرة أضعاف. ولقد كان القدماء يعتبرون الماء البارد دواء ينجع في كل الأدواء ذكرت ذلك التوراة وأشارت إليه في مواطن كثيرة. وكان للعبرانيين حمامات منذ العهد الأقدم وهي ولا جرم ضرورية لهم لحرارة الجو في البلاد التي نزلوها وقد فرض موسى الاستحمام ولاسيما على النساء وكان المصريون يرون الاستحمام من الواجب وكذلك الآشوريون على ما تراه إلى اليوم فيما اخرج من آثار بلادهم من بقايا الحمامات وجميع أمم الشرق ترى الوضوء فرضا دينيا ومنها ديانة ماني وزردشت والإسلام. وكانت الحمامات في يونان على اختلاف أنواعها بحرية أو نهرية عامة للكل يستحم فيها من يريد والرشاش من الأمور العادية في يونان وكان لرومية حمامات فاخرة فيها أنواع الراحة من حجر للتعريق وأخرى للتمسيد وغيرها للتبريد وأخرى للدلك والتغميز. وكانت هذه الحمامات وسيما حمامات أغربيا ودبوكلسين وكاراكالا تنفع جد النفع وكثير من الرومانيين والرومانيات كانوا يستحمون في نهري التبر وكانون وكثيرا ما كان حكام رومية يطلقون ألسنتهم في إنكار اختلاط الرجال بالنساء وكان في القرون الوسطى في الغرب حمامات على اختلاف أنواعها وفي القرون الحديثة أدخلت عليها تعديلات جسيمة هذا ما قالته إحدى الصحف الإفرنجية إما حمامات الشرق فقد اشتهرت شهرة فائقة ومن أحسنها اليوم حمامات دمشق فيما نحسب وان كانت تحتاج لشيء من مراعاة قواعد الصحة كان يرجع أربابها عن استعمال المغطس يغوص فيه مئات كل يوم وفي بعضهم من الإمراض الجلدية وغيرها ما تمكن سرايته وتغسل المناشف كل مرة فلا يعطى لزيد مانشف به بدن عمرو ففي ذلك من الضرر مالا يخفى على لبيب محله فقد صار من المثل عندهم أن الشيء الفلاني مبذول لفوطة الحمام من بدن إلى بدن.
المحاضرات والمسامرات
أصبحت المحاضرات والمسامرات في الغرب من الأمور الطبيعية الشائعة في مجتمعاته فالمحاضرون درجات وكذلك الحضور ومنهم الوسط ومنهم العاطل
والكل في الأغلب يصفق لهم تحسينا ويستمع لما يقولون استحسانا أو تصبرا أو تأدبا ويثنون عليهم في الجرائد. وهذا العلم يحتاج إلى قابلية لدنية وطبيعة كسبية ولا يجيد في(69/52)
المجيدون إلا بالتدريج والاستعداد للإجادة متوقف على معلومات منوعة وأدلة لم تعرف وتفاصيل عربية جديدة والارتجال يصعب فيها فالواجب أن تعين لها خطة وحجج تجعل على نظام خاص. ويختلف المدخل والمخرج والمخرج منها باختلاف الموضوعات والأحوال وعلى المحاضر أن يتبين استحسان سامعيه له من النظر إلى عيونهم فان رآهم فرحين عرف أن لكلامه تأثير فيهم. وفي فرنسا وألمانيا وانكلترا وإيطاليا تلقى المحاضرات بدون لاحق فإذا تكلم التكلم سمع السامع أما في اليابان فان المنابر جعلت على صورة يشخص فيها المحاضر محاضرته أو مسامرته تشخصا يلذ سامعيه ويضحكهم كأن تجعل نافذة تحت رجله فتفتح وتبتلعه فيختفي عن الأنظار ويأخذ الحضور يقهقهون وفي افريقية الوسطى يتبع الخطيب خطابه بحركات متتابعة ويقف على ساق واحدة ويده اليمنى مستندة إلى ركبته المنحنية واليسرى فوق رأسه وهذا من أدوات الإقناع والتأثير في ذهن السامعين من الزنوج وحالة الحضور اضحك لما فيها من التصفيق وإشارة اليدين وفتحة الأفواه والأشداق.
إصلاح اجتماعي
التام في مدينة الله آباد من مدن الهند مؤتمر مثل فيه كثير من أعضاء الجمعيات الراقية الهندية فقرر المؤتمر إبطال زواج الأولاد لأن الصبيان كثيرا ما يخطبون بعض أقاربهم وهم بين الثانية عشرة والرابعة عشرة فلا يلبثون أن يتزوجوا منهن فتجيء ذرياتهم ضعيفة لا تقدر على مقاومة الطاعون ولا القحط فحدد المؤتمر سن الزواج وجعلها 16 للبنات و25 للرجال وقرر أيضا إبطال الزواج إلا من طبقات مخصوصة لأن طبقات الهنود تعد بالمئات وكل طبقة يفرض عليها أن لا تتزوج إلا من أهل طبقتها فإذا وقع وهي من الممالك الهندية المستقلة يقضي أن لا تكون سن الزواج اقل من ثماني عشرة وسن الزوجة ست عشرة.
عمء العلم
قالت إحدى المجلات الإيطالية أن الحكومات تشابهت منذ أربعين سنة فإذا ما نظرنا إلى التعليم العالي في الأمم على اختلاف قاراتهم نراه ينبعث من 218 مدرسة كلية 189 مجمعا علميا جامعا و 434 مجمعا علميا غير جامع و 39 مجمعا علميا (أكاديمياً) و 1363جمعية(69/53)
علمية منتشرة في الأصقاع المختلفة ومنها واستراليا واسيا التي تهب من سباتها وافريقية التي تنتفض من قبور الظلمات. ولكي ندبر سرعة هذه الحركة يجب علينا أن نعتبر بان ألمانيا قد ارتقى عدد أساتذتها في المدارس العليا من سنة 1887 إلى 1908 من 2095 أستاذا إلى 3247 والنمسا من سنة 1885 - 1907 من 808 إلى 1308 وسائر البلاد تحذو هذا الحذو في ارتقائها وكذلك الحال في زيادة عدد المتعلمين وربما نما أكثر من عدد المعلمين فقد كان لفرنسا مثلا سنة 1907 - 781 طالبة في الأدب والفلسفة من الفرنسويات و 806 من الأجنبيات إما سائر الفروع فقد كان دارسوها في فرنسا 3160 طالبة منهن 1666من الفرنسيس والباقيات أجنبيات وكان لألمانيا في سنة 1908 (453) طالبة ألمانية و67 أجنبية في الفلسفة ومجموع الطاليات في الفروع الأخرى 1132 منهن 159 غير ألمانيات ولهولندا 506 طلبة ولرومانيا 440 وهكذا كثر الميل إلى التعليم العالي أكثر من زيادة عدد السكان.
الاستعمار الألماني
القي احد أساتذة كلية ميونيخ ومدير المدرسة التجارية العالية خطابا في سياسة الاستعمارية الألمانية قال فيه: أن ألمانيا دخلت ميدان الاستعمار منذ خمس وعشرين سنة في زمن تزايدت فيه الهجرة من بلادها أيام هاجر 540 ألفا بين سني 1880 - 1883 و875 ألفا بين سني 1881 - 1885 وكان قد مضى نصف قرن على ألمانيا وأبناؤها ينتشرون في الأرض. وادعى دعاة الاستعمار أنهم كانوا يستخدمون الهجرة بتحويل وجهة المهاجرين نحو البلاد التي يخفق عليها العلم الألماني. فقد ربحت ألمانيا من سنة 1884 - 1885 إلى سنة 1910 مليونين ونصف المليون كيلومتر مربع كان فيها سنة 1910 - 20074 رجلا من البيض يدخل فيهم الجند ورجال الشرطة وهم 13662 رجلاً و3337 امرأة و3075 ولدا فإذا اخرج منهم الأجانب بقي من هذا العدد 16000 ألماني فقط. وليس للألمان اليوم حاجة للأراضي الجديدة ينزلها الفائض من بينهم كما كانوا قبل خمس وعشرين سنة فقد زاد عدد سكان ألمانيا من 45 مليون سنة 1882 إلى 65 مليونا سنة 1910 وكان يبلغ معدل المهاجرين 171 ألفا سنة 1881 - 1885 فلم يتجاوز معدله سنة 1906 - 1909 أكثر من 26893 ويستدل على أن الألماني يجد ما يعمل اليوم في بلاده وان عدد العملة قد زاد(69/54)
في ربع قرن من أربعة ملايين إلى ثمانية ملايين وسدس وعدد عملة التجارة من 700 ألف إلى مليون وتسعمائة ألف وكان عدد الأجانب في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر 484423 فأصبح 1007179 سنة 1905.
ومناجم فستقاليا والإعمال الزراعية الكبرى وأعمال البناء كلها تحتاج إلى عاملين في ألمانيا فيجيئها العملة من النمسا ومن روسيا بحيث بلغ عدد العملة فيها من غير أبنائها 585000 في سنة واحدة. وألمانيا تستخرج من مستعمراتها المواد الأولى اللازمة لها في صناعتها التي يعمل في صناعة القطن وحدها ثلاثمائة ألف من الألمان ومع هذا فان ما تصدره مستعمراتها إليها البالغ في السنة الماضية 70 مليون مارك أي واحدا في المائة من مجموع الواردات الألمانية فلا تصدر مستعمراتها مثلا أكثر من 800 الف مارك من القطن في حين يساوي قطنها اللازم لها 532 مليونا وليست المستعمرات الألمانية كلها صالحة الآن لسكنى البيض فإذا حذفنا مستعمرات ألمانيا في الجنوب الغربي من افريقية بلغت مساحة مستعمراتها 1، 800، 000 مليون مربع منها 5661 فقط يعمل فيها 70 ألف زنجي ويشارك الأوربيون في استعمارها واستثمارها وسكان مستعمرات ألمانيا كلهم 14 مليونا يصيب كل فرد من أهلها خمسة ماركات من الصادرات في حين يصيب الفرد في جاماييك 48 ماركا وفي ترنيداد 175 ماركا. وقد أنشا الألمان في مستعمراتهم 3526 كيلو مترا من الخطوط الحديدية و 1468 كيلو مترا آخذون بإنشائها. والصعوبة في مستعمرات الألمان أن العيش على البيض متعذر ولذلك تراهم يضطرون إلى الزواج من بنات البلاد السود فيأتي أولادهم خلاسيين وقد يكون فيهم عيوب آبائهم هذا مع أن العامل الأوربي يقبض عمالته زهاء خمسة ماركات والعامل الوطني لا ينال نصف أجرته إلا بشق الأنفس. وقد أساءت ألمانيا بسياستها العسكرية التي جرت عليها مع الزنوج فأبادت الهر وروس العصاة عن بكرة أبيهم ليحل محلهم البيض هذا وافريقية قليلة بسكانها وأرضها محتاجة لاستخراج كنوزها إلى أيد عاملة قد يتعذر جلبها من أوربا لرداءة المناخ لأن واستراليا قد جلبت من انكلترا 760 ألف انكليزي أعطوا جوائز عن عملهم أراضي يستثمرونها فكانت باعثة لهم على التوطن في البلاد. وحيثما يكثر السكان في افريقية يكتفي الأوربيون بالتجار مع الوطنيين. والمدنية الأوربية تقرض الزنوج فقد بلغ عدد من يموت من العملة السود في(69/55)
الترنسفال 28 في المئة نصفهم بإمراض الكبد كما يهلك الكثير منهم ومن غيرهم بمرض النوام الذي يحاربه الغربيون ليتغلبوا على فتكاته بأدويتهم فيفيدوا الإنسانية والأمور الاقتصادية.
وقد تبين بالاختبار أن سياسة الاستعمار التي ترمي إلى ملاحظة مصالح الوطنيين وتعنى بتكثير سوادهم هي نافعة من حيث الوطنية ورابحة من حيث المالية فالعمل الإجباري لا ينتج وما قط كانت له ثمرات كالعمل الحر المطلق - انتهي عن مجلة الاقتصاد بين الفرنسوية.
نتائج الحروب
نشرت مجلة أدلة الترقي مبحثا قالت فيه أن الأفكار العامة في أوربا اليوم اختلفت كثيراً في تصور معنى الحرب والسلام عن سنة 1880 وكثر العاملون للسلام والقائلون به والداعون إليه إذا نظر إلى الصلات الاقتصادية بين الأمم نرى أن الحروب لا تدوم كثيرا لأن الغالب يخسر كالمغلوب أو أكثر. وما الباعث الرئيسي للنجاح في الشعوب الأوربية إلا كثرة السكان والشدة في تحصيل الرزق فالإنسان مصرف لأخيه الأخر ولذلك كان العيش في البلجيك وسويسرا اشق مما هو في جرمانيا لكثرة نفوس هذه. وما تاريخ القرون الغابرة إلا فتوح طويل بطيء لاستحصال الخبز وهو إلى الآن غير مضمون الحصول للناس كلهم. إننا نسكن كتلة من التراب الموحل مساحتها 126 مليون كيلو متر مربع وفيها نحو1500 مليون من البشر والأراضي إلى عهد قريب كانت موزعة توزيعا غير معقول على السكان. إنا نسكن على هذه الأرض ويسكن معنا أنواع من الحيوانات وما قط رأينا أبناء الجنس الواحد منا يأكل بعضها بعضا ويفترس احدها الآخر. وللإسراع بالانتفاع من هذه الأرض في حاجاتنا وجب أن يكون الشرط الأول فيها أن يتفق جمهور العاملين من البشر. أن العقل يرشدنا إلى أن جهادنا عبارة عن التغلب على المصاعب والمصائب الطبيعية لا أحداث أمور من مثلها طبيعية. علينا امن نحفر أقنية ونخرق جبلاً لا أن نقيم سدودا كسدود الصين. ولذا وجب أن تزال تلك الحدود المصنعة ليعيش الناس العاملون عملا عاما. والاستعباد العسكري واستغراق ميزانيات الدول في الإنفاق على الجيوش هما من اكبر دواعي الضعف فان المدينة الأوربية تنفق في السنة عشرين مليارا من الفرنكات في هذه(69/56)
السبيل فمنذ سنة 1870 انفق الغرب مبلغ خمسمائة مليار بلا طائل فلو أبطلت الحروب منذ أربعين سنة لاستطاع البشر كلهم أن يأكلوا كما يريدون اليوم.
أيظن الظانون أن البشر يرضون بعد أن يعمل المرء ساعة كل يوم زيادة حتى يقف الملوك ورؤساء الجمهوريات يستعرضون الجيوش أيام الأعياد الوطنية فقد أدرك الناس اليوم أن الحرب ليست لا جناية وهي حماقة ورقاعة. ليس الجهاد في الحياة بين الأخ وأخيه بل بين الإنسان والطبيعة يذللها كما يشاء ليكون مقامنا في هذه الأرض مقبولا محمودا. وللوصول إلى هذه الحياة يجب نزع فكر الحروب من العقول وذلك بوجوه كثيرة أولها تربية الأطفال والبالغين. فإذا فكر كل إنسان كما يفكر كاتب هذه المقالة تنقلب الحال عما قريب. على أن العالم سائرون الآن للسلام وان كان على طريقة مهمة فالسبيل إلى ذلك أن يحدد حمل السلاح بحيث يؤول ذلك إلى نزعه بالتدريج وان يتحد المتجانسون من الشعوب اتحادا سياسيا فيتحد سكان الغرب من أوربا أي الفرنسيس والانكليز وتتحد الممالك البلقانية وتتحد الممالك الوسطى أي النمسا وألمانيا وتعقد معاهدات التحكيم بكثرة. لا جرم أن الأمم اليوم يقترب بعضها من الآخر بما ينشؤن من العهود ويعقدون من الوفاقات ويجتمعون عليه من السباقات والمؤتمرات والزيارات ولكن الطريقة الناجعة في ذلك أن يكون لمحكمة لاهاي الصلحية يد اقوي في إيقاف كل امة عند حد معين من التسلح وذلك بان يقاطعها كل الأمم على السواد فإذا وقع خلاف بين ألمانيا وفرنسا وكانت الأولى معتدية يعلن عليها الدول كلهن المقاطعة فلا تلبث أن تعود إلى رشدها في ثماني وأربعين ساعة على الأكثر فقد قاطع الصينيون اليابانيين والأمريكيين وقاطع العثمانيون النمساويون بتدبير إفراد منهم فكم تكون المقاطعات الدولية عظيمة إذا صدرت عن الحكومات مباشرة.
طرابلس وبرقة
يصدر هذا الجزء والحرب البرية البحرية يتلظى أوارها بين جيوش الدولة العلية ودولة إيطاليا لاعتداء هذه على طرابلس الغرب العثمانية بدون مسوغ دولي معقول وبهذه المناسبة رأينا إن ننقل للقراء شيئا من وصف تلك البلاد وتاريخها فنقول:
طرابلس هي القسم الشرقي من بلاد البربر يحدها من الشمال البحر الرومي ومن الشرق لواء بنغازي ومصر ومن الجنوب الصحراء ومن الغرب الصحراء وتونس ومساحة(69/57)
طرابلس مع بنغازي 1200. 000 كيلو متر مربع في رواية أي قدر ولاية سورية 13 مرة أو ستة أضعاف مساحة تونس ونحو ثلاثة إضعاف ونصف مساحة إيطاليا - وسكانها زهاء مليونين وهواء السواحل منها من جهة سهول برقة وما جاورها معتدل. إما في جهة الجنوب أي في فزان فالحرارة تغلب عليها وأنهارها قليلة ليست سوى جداول لأن مياهها تتبخر بشدة الحرارة وتضيع في الرمال المحرقة وأكثر شرب أهلها من صهاريج تملأ بماء السماء كان ذلك قديما ولا يزال إلى اليوم. وسواحلها منبتة في الجملة ولا سيما جهات برقة فإنها تخرج أنواع الحبوب والبقول والثمار والزعفران والحلفا البرية والتمر والبرتقال والليمون والتين والزيتون ومن سواحلها يستخرج الإسفنج والمرجان وأنواع الأسماك.
ويقسم هذا الصقع بحسب التقسيم الإداري الأخير إلى ولاية ذات أربعة ألوية ولواء مستقل وهو بنغازي فلواء طرابلس يدخل فيه تسعة أفضية وهي قضاء طرابلس والنواحي الأربع وغربان وأورفلة وترهونة والزاوية وزوارة وعزيزية ويجيلات ولواء خمس وهو مؤلف من خمسة أقضية وهي القضاء ومصراطة وظلتين ومسلاطة وسرت ولواء الجبل وهو أربعة أقضية بفرين وغدامس ونالوت وفساطو ولواء قزان وهو أربعة أقضية مرزوق وسوكنة وشاطي وعات وفي هذه الولاية عشرون ناحية تنبع الأقضية وفي لواء بنغازي أربعة أقضية وهي بنغازي ودرنة ومرج وأوجلة وجابو وجداية وعشر نواح وبنغاري في المدخل الشرقي من السرت الكبرى وحاضرة برقة وتجارتها مع خانيا ومالطة ووادي في السودان الشرقي حسنة في الجملة وكان اسمها بيرنس
وأشهر مدن هذا القطر اليوم طرابلس الغرب أضافوا أليها الغرب تمييزاً لها عن طرابلس الشام سميت الولاية باسمها وكانت الولاية ولا سيما قسمها الشرقي نحو بنغاري تسمى برقة قديماً ومدينة حمس على الساحل وقصر بفرين ومرزق وغات وبنغاري على الساحل ودرنة وأوجلة وهما واحتان مشهورتان. وسكان طرابلس محو أربعين ألف نسمة وسكان بنغاري زهاء عشرين ألفاً.
وبرقة كما قال ياقوت اسم صقع كبير بشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وأفريقية (تونس) واسم مدينتها انطابلس وتفسيره الخمس مدن ولها ساحل يقال له أجية وساحل آخر يقال له طلموية وبين الإسكندرية وبرقة مسيرة شهر من الفسطاط (مصر) إلى برقة مائتان(69/58)
وعشرون فرسخاً وهي مما افتتح صلحاً على يد عمرو بن العاص سنة 23 برقة إلى القيروان (تونس) مائتان وخمسة عشر فرسخاً قال المقدسي ومن مدن برقة ذات الحمام. رمادة. اطرابلس. أجدابية. صبرة. قابس. غافق. وبرقة قصبة جليلة عامرة نفيسة كثيرة الفواكه والخيرات والأعسال مع يسار وهي ثغر قد أحاط بها جبال عامرة ذات مزارع على نصف مرحلة من البحر في هوة قد أحاط بها تربة خمراء شربهم من آبار وما يحوونه من أمطار في جبات وهي على جادة مصر يحسنون إلى الغرباء أهل خير وصلاح واطرابلس مدينة كبيرة على البحر مسورة بحجارة وجبل شربهم من آبار وماء المطر كثير الفواكه والإجاص والتفاح والألبان والعسل واسمها كبير. وأجدابية عامرة بنيانهم حجارة على البحر وشربهم من الأمطار وسرت كذلك ولهما بواد وشعاري. وصبرة في بادية وهي حصينة بها نخيل وتين شربهم من ماء المطر. وقابس أصغر من اطرابلس لهم واد جرار وبنيانهم من الحجارة والآجر كثيرة النخيل والأعناب والتفاح مسورة باديتها بربر. وغافق ناحية واسعة كثيرة القرى والأسواق على أيام الجمعة بحرية ومن الناس من ينسبها إلى إفريقية (تونس) وذات الحمام مدينة عمرت من قريب.
وكانت طرابلس من عمل تونس في القرون الأولى للإسلام ثم غلب اسمها على الكورة وأصبحت بنارة قصبتها وذلك بد ثورة برقة وغلبة الخراب عليها وقد وصف ابن حوقل الجغرافي هذه البلاد في القرن الثالث وقد زارها فقال:
إن برقة مدينة وسطة ليست بالكبيرة الفخمة ولا بالصغيرة الزربة. ولها كورة عامرة وغامرة وهي في بقعة فسيحة يكون مسيرتها يوما كبيراً في مثل ذلك ويحيط بالموضع جبل من سائر جهاتها وأرضها حمراء خلوقية التربة وثياب أهلها بالفسطاط من بين أهل الغرب بحمرة ثيابهم وتغيرها ويطوف بها من كل جانب بادية يسكنها الطوائف من البربر وهي برية بحرية جبلية ووجوه أموالها جمة وهي أول منبر ينزله القادم منت مصر إلى القيروان.
وبها من التجار وكثرة الغرباء في كل حين ووقت ملا ينقطع طلاباً فيها من التجارة وعبرواً عليها مغربين ومشرقين وذلك أنها تنفرد من التجارة التي ليست في كثرة من المغرب مثلها والجلود المجلوبة للدباغ والتمور الواصلة إليها من أوجلة ولها أسواق حارة(69/59)
من بيوع الصوف والفلفل والعسل والشمع والزيت وضروب المتاجر الصادرة من المشرق والواردة من المغرب وشرب أهلها من ماء المطر في مداجن تدخر وأسعارها في أكثر الأوقات فائضة بالرخص في جميع الأغذية.
ويليها أجابية مدينة على صحاح من حجر في مستوى بناؤها من طين وآجر وبعضها بحجارة ويطيف بها من أحياء البربر خلق كثير ولها زروع مباخس وليس بها ولا ببرقة ماء جار وبها نخيل حسب كفايتهم وبمقدار حاجتهم وواليها القائم لما عليها من وجوه أحوالها وصدقات بربرها وخراج زروعهم وتعثير خضرهم وبساتينهم هو لا ميرها وصاحب صلاتها ولها من وراء ذلك لوازم على القوافل الصادرة والواردة من بالد السودان وهي قريبة من البحر ترد عليها المركب بالمتاع والجهاز وتصدر عنها بضروب من التجارة وأكثر ما يخرج عنها الأكسية المغاربة وشقف الصوف وشرب أهلها من ماء السماء.
وأوجلة منها على أيام بين غربها وجنوبها وهي بلد ذات نخيل عظيمة وغلات لتحصل منها لأهلها جسيمة ومنها إلى ودان طريق قصد هذه ناحية ومدينة في جنوب مدينة سرت وهي جزيرة لا لقصر في رخص التمور وكثرتها وجودتهاعن أوجلة. وسرت مدينة ذات سور صالح كالمنيع من طين وبها قبائل من البربر ولهم مزارع وهي على البحر ترد عليها المراكب بالمتاع وتصدر به عنها من جهاز الصوف ما لا يقصر عن أجدابية وبرقة.
وأما طرابلس فكانت قديماً من عمل إفريقية وسمعت من يذكر أن عمل إفريقية لما كانت طرابلس مضافة إليها معروف معلوم وذلك أنه من صبرة وهي منزل من طرابلس على يوم وهي مدينة من الصخر الأبيض على ساحل ابحر خصبة حصينة كبيرة صالحة الأسواق واسعة الكورة كثيرة الضياع والبادية وارتفاعها دون برقة وبها من الفواكه الطيبة اللذيذة الجديدة الشبه بالمغرب وغيره كالفرسك والكثري اللذين لا شبه لهما في كثير من المواضع وبها الجهاز الكثير والصوف المرتفع وطيقان الأكسية الفاخرة الرزق النفوسية الرفيعة الثمينة إلى مراكب تحط عليها ليلاً ونهاراً وترد بالتجارة على مر الأوقات والساعات صباحاً ومساءً من بلد الرزم وأرض المغرب بضروب الأمتعة والمطاعم وأهلها قوم موقرون من بين من جاورهم متميزين بالتجمل في اللباس وحسن الصورة والقصد في(69/60)
المعاش إلى مروات ظاهرة وله عشرة حسنة ورحمة مستفيضة ونيات جميلة إلى مراء لا يفتر وعقول مستوية وصحة بنية ومعاملة محمودة ومذهب في طاعة السلطان سديد وراطات كثيرة ومحبة للغريب وثيرة ولهم في الخير مذهب من طريق العصبة لا يداينه أهل بلد. وأما قابس فإنها ذات مياه جارية وأشجار متهدلة وفواكه رخيصة ولها من التمر والزروع والضياع ما ليس جاورها من زيتون وزيت وغلات وعليها سور يحيط به خندق ولها أسواق وجهاز كثيرة ويعمل بها الحرير ويدبغ بها الجلود وينئابها التجار ولها صدقات وزكوات وضرائب وجوال على اليهود وسائمة كبيرة أه -.
وقال اليعقوبي في كتاب البلدان: وحوالي برقة أرباضص لها يسكنها الجند وغير الجند وفي دور المدينة والأرباض أخلاط من الناس وأكثر من بها جند قدم قد صار لهم الأولاد والأعقاب وبين مدينة برقة وبين ساحل البحر المالح ستة أميال وعلى ساحل البحر مدينة يقال لها أجية وساحل آخر يقال له طليمشة. وبرقة أقاليم كثيرة تسكنها بطون من البربر ولها المدن برنيق وهي على ساحل مدينة البحر المالح ولها مينا عجيب في الإتقان.
والجود تجوز فيه الراكب وأهلها قوم من أبنائ القدم الذين كانوا أهلها قديماً وقوم من البربر ومن مدينة أجدابية إلى مدينة سرت على ساحل البحر المالح خمس مراحل وآخر حد برقة على مرحلتين من مدينة سرت بموضع يقال له تورغة وخراج برقة قانون قائم كان الرشيد وجه بمولى يقال له بشار فوزع خراج الأرض بأربعة وعشرين ألف دينار على كل ضيعة شيء معلوم سوى الأعشار والجوالي خمسة عشر ألف دينار بما زاد وربما نقص والأعشار للمواضع التي لا زيتون بها ولا شجر ولا قرى مقراة. ولبرقة عمل يقال له أوجلة وهو في مغزة مغر لمن أراد الخروج إليها ينحرف إلى القبلة صم يضير إلى مدينتين يقال له لإحداهما جالو وللأخرى ودان وهذه من أعمال برقة المضافة ومن مدينة شرت إلى وادي مما يلي القبلة خمس مراحل ووراء ذلك بلد زويلة مما يلي القبلى وسكانها أباضية أي خوارج وفران جنس يعرق بقزان أخلاط من الناس لهم رئيس يطاع فيهم وبلد واسع ومدينة عظيمة وتسمى برقة انطابلس هذا اسمها القديم.
وبعد فهذا من أحسن ما وصفت به طرابلس وبرقة ومنه درجة عمرانها في القديم أما اليوم فقد قال واصفوهما فيهما بأنهما مختلفة أحوالهما باختلاف كورهما فسواحل الشمال من(69/61)
سرت مقفرة ومن الشرق خضراء نضرة وهي برقة ومن نحو فزان مصخرة. وبلاد طرابلس أشبه بالصحراء وفي الساحل مناجم الكبريت وفي بحيرة قزان المالحة النطرون وشجر الحلفا ببناء تجارة الإنكليسز والصناعات محصورة في المدن الكبرى مثل طرابلس وبنغاري واشتهر بالتجارة سكان وغدامس وكانت القوافل تسير من طرابلس إلى داخلية إفريقية تحمل الأقمشة والخردوات والأسلحة والزجاج والبارود وتعود منها بالعاج والجلد والصمغ والشمع وريش النعام والتبر.
وسكان طرابلس مزيج فالبربر ينزلون الجبال والعرب السهول ويكثر فيها الزنوج لأن سوق الرقيق قبل إبطاله كانت فيها رائجة وفيها نحو خمسة آلاف مالطي لقرب سواحلها من جزيرة مالطة وهم منتشرون في المدن الساحلية كما أن فيها زهاء ألف إيطالي ومحو خمسة آلاف يهودي أكثرهم في السواحل وليس في أخل البلاد مسيحيون أصليون وكانت طرابلس من أهم المدن التجارية ومنها كانت تسير القوافل المهمة إلى داخلية إفريقية فما برج الفرنسيس منذ استولوا على تونس يحاولون سلبها هذا المركز حتى فقدت مركزها التجاري وتحولت وجهة القوافل إلى تونس وخصوصاً بعد أن عمرت إنكلترا أعالي النيل والسودان الشرقي وفتحت الطرق الجديدة إلى بحيرة تشاد من النيجر والكنونغو فلم تعد برقة مركز الاتصال بين الساحل واواسط إفريقية.
وكان اليونان في القرن السابع بل الميلاد أشأوا مدينة برقة متخيرين لها لجودة هوائها وغناها وازهرت على أيامهم كما أزهرت قرطاجنة واغتنى أهل برقة بتجاراتهم الواسعة مع داخلية إفريقية إلا أنهم انصرفوا إلى اليذخ والرفاهية فاضمحل عمرانهم بعد أن أخرجت برقة مثل أرشيب الفيلسوف وكاليماك وأيراتوستين وخلف بنوها من الآثار التاريخية التي تدل على عظمتها اليوم خرائبها المدهشة.
وتاريخ طرابلس الغرب القديم غارق في ظلمات الخلفاء لا يعرف عنه إلا أن البربر بعض سكانها الحاليين كانوا فيها. وقبل المسيح ببضعة قرون كانت أنحاء طرابلس بيد الفينيقين وقسم منها للقرطاجيين أما جهة برقة فاتخذها اليونان مهجراً كما يهاجرون اليوم سواحل مصر وغيرها، ولقد أنشئت في جهات طرابلس ثلاثة بلاد (تربوليس) ومنها اشتق اسمها فقال العرب طرابلس وأنشأ اليونان في جهة برقة خمس قصبات سموها يندابوليس ثم صار(69/62)
حكم طرابلس إلى يد حكام البرب في توميديا بعد سقوط دولة القرطاجيين واستولى البطالسة المصريون على برقة ثم استولى الرومان على كل من إقليمي برقة وطرابلس ووسعوا تخوم حكومتهم إلى قزان وغدامس.
كانت طرابلس الغرب وجهات الشرق من تونس والجزائر معروفة عند الرومان باسم إفريقية وكذلك أطلق العرب على هذه الأصقاع اسم إفريقية. ولما تخلى الرومان عن هذه البلاد استولى عليها الروم اليزنطيين وفتحها عقبة بن رافع في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ثم استولى عليه الأمويين وبقيت مدة في يد بني الأغلب على عهد العباسيين ثم حكمها الفاطميون وكانت معقلاً من معاقل الخوارج ولذلك كانت فيها أيام مشهودة ولم يزل في بعض أنحائها بقايا منهم.
ولقد تألفت فيها عدة حكومات صغيرة وبعضها كان مهماً على عهد الإسلام وأكثر ما تكون طرابلس تابعة لتونس في حكومتها وعلى عهد السلطان سليان خان استولة على طرابلس طغورت باشا مسترداً لها من فرسان مالطة وكانوا استولوا عليها بعد أن سقطت الأندلس في أيدي الإسبان فالحها هذا القائد بالمملكة العثمانية ودامت تدار شؤنها دهراً على صورة أيالة صم أقطعت لأسرة فره مانلي فلم يلبث أن استحكم الخلاف بين أفرادها فأرسلت الدولة سنة 1208 أسطولا ووالياً من لدنها ضبط البلاد.
وفي سنة 1092 بعثت اسبانيا أسطولا إلى طرابلس فكادت تتغلب عليها لأن قلاعها يومئذ لم تكن فيها القوى الكافية فلما رأى الوالي عجزه عن المقاومة اتفق مع الأسطول على دفع غرامة حربية على عهد السلطان أحمد الثاني رفض الوالي الصلح الذي أبرمه سلفه مع حكومة اسبانيا فبعثت خمسة عشر مركباً بقصد احتلال طرابلس فاتفق الأهالي مع العساكر وتغلبوا على الأطول المذكور وفي سنة 1217 قدمت أساطيل أميركيا لطرابلس لأن أسطولها كان يعاكس مراكب أميركا التجارية ويغنم منها كثيراً فطلب قنصلها من يوسف باشا قره مانلي تعيين ضريبة تقدمها حكومة أميركا إلى حكومة طرابلس في كل سنة فعين ضريبة عدها القنصل خارجة عن الحد فطلب تخفيضها بواسطة والي الجزائر فرفض يوسف باشا وساطته وأصر على طلبه فمكث أسطول أميركا عشرين يوماً يرمي طرابلس بالقنابل وقلاعها ترميه ثم رجع بعد أن غنمت حكومة طرابلس جزءاً منه وفي كل هذه(69/63)
المواقع كانت تشترك الأهالي مع العساكر في الدفاع.
ثم انتقض أهلها فاستعاد الأمر يوسف باشا وحكن البلاد إلى سنة 1248 ثم اضطر لاستقالته من حكم فأصبحت البلاد في حال اضطراب وهاجمها بنو سلميان من القبائل المشهورة مرات ونهبوها ثم عاد الأهلون فطلبوا إنقاذهم من شرور الاختلاف فبعثت الحكومة أسطولاً فضبطت القلاع على أيسر سبيل ثم عينت لها والياً. وكانت قزان من القديم تتبع طرابلس وتتبع أحياناً حاكم السودان وأحياناً شرفاء مراكش وبعد أن ضبط طغورت باشا طرابلس ألحق قزام بها.
وهذه الولاية الواسعة أو المملكة العظسمة ليس فيها شيء من الطرق المعبدة ولا من السكك الحديدية ولا تعرف الخزانات ولا أسباب الري وتكثر الأشجار ولانبات وتربية الحيوانات. تحمل بضائعها على الجمال وتقصد قوافلها ولا سيما قبل أن يستأثر الفرنسيين بها لتونس من تمبوكتو في أقاصي بلاد السودان مارة بواحات غات ومرزوق وغدامس أما مواصلاتها البحرية فلا يرمي في موانيها في الولاية غير البواخر الأجنبية ونصفها أو أكثر يحمل الأعلام الإيطالية ثم يجيء الإنكليز والفرنسيين وسائر الدول بكثرة مراكبهم وتبلغ تجارة طرابلس السنوية زهاء مليون ليرة منها 550ألف للواردات و460ألف ليرة صادرات منها 23ألف صادرات للبلاد العثمانية و42ألف ليرة واردات منها ولإنكلترا المقام الأول بين الدول بوارداتها البالغة 57ألف ليرة وصادراتها التي تبلغ 88ألف ليرة ثم تجيء فرنسا فالولايات المتحدة فالنمسا وقد بلغت مداخيل الحكومة منها سنة 323أش 16. 600. 000غرش.
السكك الحديدية الصينية
تقيم الصين الآن سكة حديد من عاصمتها بكين إلى كالقان مارة ببلاد المغول التي اجتازها التاتار في غاراتهم ولا تزال تجتازها القوافل وسيلتقي هذا الخط بخط ما وراء سبيريا الروسي ويختصر المسافة بين أوربا والشرق الأقصى بضع مئات من الكيلومترات.
ومن الغرب أنه تم من هذا الخط حتى الآن زهاء مائتي كيلومتر وجميع العاملين فيه صينيون ونفقاته من دخل بعض الخطوط الصينية الأخرى وقد بدأ هذا المشروع يربح ولذا عزمت حكومة بكين أن لا تعهد لأجنبي مهما كان أن يمد لها خطوطاً من هذا النوع وبذلك(69/64)
يقصتد المتعهدون من أجور اليد العاملة اقتصاداً كبيراً لأن الصيني يرضى بأجر أقل من أجر الأوروبي والأمريكي ويتبارى أبناء البلاد في العمل مدفوعين إلى تجويده بعامل الوطنية والصينيون اليوم يستخرجون من أرضهم الفحم الحجري اللازم لخطوطهم وليسوا الآن في حاجة لغير القاطرات يستصنعونها في أميركا ولكن يستغنون عنها عما قريب بما تنتجه مصانعهم فمتى تكون البلاد العثمانية وهي صاحبة الحضارات القديمة والذكاء الخارق كذلك.
الهيتيون
قال المجلة: دخلت دراسة الحضارات القديمة في آسيا الصغرى في دور جديد فقد تألفت جمعية ووضع لها دخل للإنفاق عليها من أجل إجراء الحفر في بلاد الهيتين والبت بتاً عملياً في علاقتهم مع شعوب يونان القديمة وسكان سواحل بحر إيجه (الأرخبيل) فإن مسألة الهيتين تهم في الدرجة الأولى علم الآثار وأصول الشعوب والجتماع. وإن هذا الشعب البائد كان مدة قرون منتشراً في آسيا الصغرى وسورية كما يستدل من الكتابات ومع هذا لم يعرف إلا بما أشارت إليه التوراة من الإشارات. ومنذ ثلاثين سنة أبان بحث علماء الشرقيات بحثاً عملياً أمثال الأستاذ سايس والدكتور وبرغت أن شعباً معاصراً للفراعنة كان ينزل حوض قزل ايرمق والفرات استولى عليه الكلدانيون مذ الزمن الأطول فاقتبس منه بعض أوضاعه المدينة التي كانت لها صبغة إقطاعية وكان الهيتيون قبل المسيح بعشرين قرناً مختلفين مع بابل ويمدون تخوم بلادهم إلى جنوبي سورية وإلى تخوم مصر التي نشب بينهم وبينها حرب على عهد رعمسيس الثاني. وفي القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد استولوا على جزء عظيم من آسيا الصغرى. وكان الآشوريون يدعونهم خاتيس والعبرانيون حتى ختين - ودمروا في قرون ولم يبق منهم إلا تذكارهم أيام فتح الإسكندرية وامتزجت بقاياهم بالآراميين أو لجأوا إلى مضائق جبل طوروس.
وقد اكتشفت في خرائب مصانعهم القديمة ألواح كثيرة من الخزف كانت لهم بمثابة سجلات ولكن معظمها مما يصعب حله وليس للعلماء عنهم من المعلومات الحقيقية إلاى ما كان من الآثار المكتوبة بالخط الآشوري لتثبت عظمتهم أوائل الألف الأولى السابقة لمملكة الرومان بما كان من الأبحاث الحديثة فيهما حل مسألة تشغل العلم كثيراً ويعتبر الهيتيون اعتبارات(69/65)
بأنهم أقدم الشعوب المتمدنة.
إنكلترا والشاي
تكثر إنكلترا من تناول الشاي سنة بعد سنة ففي إحصاء سنة 1909 إنه يبلغ مشروبها منه 140مليون كيلو غرام يصيب الفرد منها ثلاثة كيلو غرامات ومعظم هذا الشاي تجلبه إنكلترا من بلاد الهند يبذل 160مليون فرنك يلزم لها ثلاثة ملايين ونصف من الفرنكات ثمن ورق ومقوى لوضع الشاي فيه لعدل قيمتها بثمانية ملايين فرنك.
فن تكثير السمك.
إن في تنمية الأسماك الجارية والغدران في البلاد تنمية ثروتها الاقتصادية بيد أن دخول الحضارة في كثير من الممالك زهد في تربية الأسماك وقليل في الأقطار ما عنيت عناية حقيقية بالأسماك واتخاذ الذرائع لتنميتها وأهم مصاب الأنهار لاستخراجها الأسماك في العالم في النيوات أحدى ولايات أميركا الشمالية وفيها مصب نهر المسببي العظيم وطوله من 500إلى 600كيلو متر ووضعه الجغرافي وأسبابه الطبيعية تجعله صالحاً لتكثير الأسماك وتتغذى جميع تلك الولاية من أسماكه ووزم ما يستخرج منه سنة عشرة سلايين كيلو تقدر بنحوا أربعة ملايين ويستخدم 1767 رجلاً في صيدها.(69/66)
العدد 70 - بتاريخ: 1 - 12 - 1911(/)
رسالة في أسماء الأضداد
بسم الله الرحمن الرحيم
حامداً لمن خلق الأشياء أضداد. . . ومصلياً على نبي نهى الناس عن اتخاذ لله أنذاراً وعلى عترتة وأسرته الممدين. امداداً. وبعد فلما اشتملت العربية على كلمات للدلالة علي الضدين وغفل عنها من أغفل تصفح اللغات ألتقطها حسب الاستطاعة. وجمعتها مرتبة ترتيب البضاعة. أستبضع بها في اكتساب الامتياز بين أولي النهي ورباب الدهى وتتبين الأشياء بأضدادها ومن الله العصمة عن الوصمة.
(مقدمة) قال الكيا المشترك يعق على ضدين كالجون للأبيض والأسود وعلى مختلفين كالعين وقال ابن فارس من رأب العرب تسمية الضدين باسم واحد نحو الجون وأنكر ذلك ناس وليس بشيء فإن الذين رووا أن العرب تسمي السيف مهنداً والفرس طرفاً هم الذين رووا أنهم يسمون المتضادين باسم واحد.
الهمزة: (ثاثاً) الإبل أرواها وعطشها وثأثأت الإبل عشطت ورويت ضد لازم ومنعد (جفا) الباب أغلقه وفتحه ضد (خجيءَ) بالحجمة استحي وتكلم بالفحش ضد (دارأته) دافعته ولاينته ضد (ناء) نهض بجهد ومشقة وبالجمل نهض مثقلاً وبه الحمل أثقله وأماله كإناء وفلان أثقل فسقط ضد.
الباء: (أترب) كثر ماله وقل ضد (أجلعب) الرجل اضطجع والإبل مضت جادة ضد (الحوشب) الثعلب الضامر والمنتفخ الجنبين ضد (خشب) في الصحاح خشب السيف أحكم عمله وصقله وخشبه لم يحكم عمله ولم بصقله وفي القاموس خشبة خلطة وانتقاه والسيف صقله وطبعه (أرتاب) شك وقال أبو علي تيقن ضد إذ يكون شكاً ويقيناً ذكره الطرطوشي في قوله تعالى إن أرتبتم فعدتهن الآية (الساقب) القريب والبعيد ضد (شرب) عطش وروي وأشرب سقى وعطش (شعب) الشيء أصلحه وأفسده ضد وأما شعب بمعنى افترق واجتمع فليس بضد بل كل حرف منهما لغة لقوم ومن شرط الأضداد اتحاد اللغة (الصقب) كلقب القرب والبعد ضد (أضب) صلح وتكلم وعَلَى ما نقل سكت ضد (الطب) الداء والدواء ضد في المثلث للبطليوسي (الطرب) محركة الفرح والحزن ضد في الأساس هو خفة من سروراهم (اطلب (في الأساس طلب مني فأطلبته فاسعفته وألبه الفقر أحوجه إلى الطلب(70/1)
(استعتبه) أعطاه العتبي كالعتبة وطلب إليه العتبى ضد (العجباء) هي التي يتعجب من حسنها ومن قبحها ضد (استعذبه) استحلاء وامتنع عنه كضد (الإعراب) الفحش وقبيح الكلام والدرء عن القبيح ضد (التاب) كغراب الجبل الأسود الصغير المستدير والطويل ضد (العنبان) محركة النشيط الخفيف والثقيل من الظباء ضد (التغريب) الإتيان بأبناء بيض وبأبناء سود ضد (المغلب) المغلوب مراراً والمحكوم له بالغلبة عَلَى أقرانه ضد (قرضب) اللحم جمعه في البرمة والشيء فرق ضد سيف (قشيب) مجلو وصدئ وثوب قشيب جديد وخلق ضد (قعب) له العطية أجزلها وقعب له فعبة أعطاه (ضد (قاب) هرب وقرب ضد (اللجبة) كوجبة وقصبة وخربة وعنبة الشاة القليلة واللبن والغزيرة ضد (أنجب) جاءَ بولد شجاع وجبان ضد (النخب) الموت والأجل كضد (نصب) الشيء وضعه ورفعه ضد (الوثب) القفز القعود بلغة كضد (الوغب) الضعيف البدن والجمل الضخم ضد (الهلوب) هي المقتربة من زوجها والتجنبة منه ضد (تهيب) الشيء ضد في المزهر.
التاء: (لامت) في القاموس هو المكان المرتفع والتلال الصغار والارتفاع والإنخفاض ضد (السبت) حلق الرأس وإرسال الشعر عن العقص.
الثاء: (أفعث) له العطية أجزلها وقعث له أعطاه قليلاً ضد (ألالوث) المسترخي والقوي ضد.
الجيم: (الزوج) الذكر والأنثى ضد (الفائج) الناقة الحامل والحائل ضد (الإفجيج) الوادي الواسع والضيق ضد.
الحاء: (جمح) أسرع وأبطأ ضد (الزوج) تقريق الإبل وجمعها ضد (السبح) النوم والسكون والتقلب والانتشار في الأرض ضد (الشحشح) من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر والذي يسيل من أدنى مطر ضد (المشيح) الجاد والحذر ضد (قرجان) من الأمر وقراحي خارج ومن لم يشهد الحرب كالقراي ومن مسته القروح ضد (كثح) الشيء جمعه وفرقة ضد (المسيح) المبارك والملعون ضد يعني بالمبارك مسيح الهدى والملعون مسيح الهدى عيسى عليه السلاح وبالملعون مسيح الضلال الدجال (النحاحة) السخاء والشح ضد (نشح) نشحاً ونشوحاً شرب دورن الري أو حتى امتلأ ضد (يج) الله عظمه شدده ورضضه ضد.
الخاء: (الصاروخ) المغيث والمستغيث ضد (الصريخ) صوت المستصرخ والمغيث ضد.(70/2)
الدال: أسد كفرح دهش عند رؤية الأسد صار كالأسد (أفد) كفرح أسرع وأبطأ ضد (بعد) يمعنى قبل في قوله تعالى من بعد الذكر (جعد) للكريم وإذا أضيف إلى البنان أو الأنامل أو الكف فلبخيل في الأساس وأما قولهم لكريم جعد فمن الكناية عن سخياً عربياً لأن العرب موصوفون بالجعودة (أساد) ولد سيداً وأسود ضد وأسود عَلَى الأصل مثله (سجد خضع وانتصب (صبرد) السهم أخطأ ونفذ حده ضد (صعد) في الجبل وعليه علاء وفي الودي انحدر ضد (صفد) العطاء والوثاق ضد (الصماريد) الننم السمان ولمهازيل ضد (الضد) خيار الغنم ورذالها وفي الزهر صالجة الغنم وطالحتها ضد (الصمود) الناقة الكثيرة اللبن والقيليلة (أده) داواه من الصيد وآذاه ضد (الضمد) ركب الشجر ويابسه ضد (المعبد) المذلل والمكرم ضد (العيد) واحد الأعياد وعادك عيبد أي نزل بك حرم كضد (غمدت) الركية كثر ماؤها وقل ضد (أفاد) بذل المال واستفاده ضد (القعدد) القريب الآباء من الجد الأكبر والبعيد والآباء منه ضد (أشحذ المطر أقلع ودام (الصد) شدة البرد ضد (انجادة) السخاء والتح ضد في المزهر (النجدة) القتال والشجاعة والشجاعة والهول والفزع الظاهر أنه ضد (الناشد) طالب الضالة ومعرفها ضد الغزيرات اللبن من الإبل والتي لها ضد جمع نكداء (وطد) الشيء أثبته وثقله ضد والشيء رسا وسار ضد (الهاجد) المصلي بالليل وأثائم ضد (تجهيد) نام واستيقظ ضد فلان (هد) قال اين الإعرابي هو الكريم الجواد وأما الجبان الضعيف فهو الهد شبه ضد (أهمد) بالمكان أقام وفي السير أسرع ضد.
الذال: (الحذاء) قصيدة فيها الحذذ وهو سقوط وتد مجموع من البحر الكامل من متفاعلن فينتقل إلى فعلن والقصيدة السائرة التي لا عيب فيها ضد (الخنذيذ) هو الفحل والخصي ضد (المخاوذة) هي المخالفة والموافقة ضد.
الراء: (الأرز) هو القوة والضعف ضد (أبتر) أعطي ومنع ضد (البشارة) مطلقة لا تكون إلا بالخير ومقيدة لا تكون إلا بالشر فيشرهم بعذاب أليم (البهيرة) هي السيدة الشريفة والصغيرة الخلق الضعيفة ضد (ثغر) كمنع ثلم والثلمة سدها ضد (أثغر) الغلام ألقي ثغره ونبت ثغره ضد (الجبر) الملك والعبد ضد (جعقر) هو النهر والصغير والكبير الواسع ضد (الحرور) هي الريح الحارة بالليل وقد تكون بالنهار (حزور) هو الغلام القوي والضعيف ضد (الأحمر) ما لونه الحمرة والأبيض ضد (خشر) أبقي عَلَى المائدة الخشارة ونفي(70/3)
الخشارة ضد (الخطر) كالشرف الأشرف عَلَى المكروه والقدر والمنزلة ضد (أم خنورة) النعمة والداهية ضد (الذفر) كل ريح ذكية من طيب أونتن ضد (المسجور) الموقد والساكن ضد (السادر) هو التحير ومن لا يبالي ضد (أسر) الشيء كتمه وأطهره ضد يقال ألقى عليه (شراشره) أي ثقله وحماه ضد (الصفرة) بالضم معروفة والسواد ضد (أعذر) أبدي عذراً وقصر ولم يبالغ وهو يري أنه مبالغ كضد (التعزيز) ضرب دون الحد والتوقير وتعزروه وتوقروه (غبر) مضي وبقي (القطرة كفرحة (؟) الناقة اللاحق والحائل ضد (قصر) الطعام قصوراً نما وغلا ونقص ورخص.
الزاي: (الحوز) هو السوق اللين والشديد ضد (عز) أن يفعل كذا وعز ضعف ضد (الفوز) النجاة والهلاك ومنه المفازة للمهلكة والمنجاة في القاموس فأزمات ومنه نجاوبه ظفر.
السين: (الرس) الإصلاح بين الناس والإفساد أيضاً ضد (عسعس) الليل أقبل ظلامه قال الفراء أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر_أمرس) مرس الجبل إذا وقع في أحد جنبي البكرة مرساً فإذا أعدته إلى مجراه قلت أمرسته وإذا أنشبته بين البكرة والقعو قلت أمرسته وهو ضد عن يعقوب (الميعاس) الأرض لم توطأ والطريق ضد (الويس) الفقر وما يريده الإنسان ضد.
الشين: (الرعشيش) بالكسر الجبان والسريع إلى القتالي ضد الرمشاء هي الربشاء أي الكثيرة العشب والجدية من صفات الأرض ضد الروش الأكل الكثير والأكل القليل ضد الفياش المتكبر المعجب والسيد المفضال ضد.
الصاد: قلص ماء البئر ارتفع بمعنى ذهب ومعنى تصعد لجومه انتهى فهو ضد.
الضاد: أرض أبطأ وثقل وعدا شديداً غرض الحوض ملؤه والنقصان عن الملء ضد.
الطاء: الأشراط الأرذال والأشراف قال يعقوب هذا الحرف ضد قسط جار وعدل حكى بان السكيت في الأضداد عن أبي عبيدة بالألف عدل لا غير هبط قا لالمفضل الهبوط الخروج عن البلد ودخولها أيضاً فهو من الأصل من قطف الأزهار للسيوطي.
العين: باع بعت الشيء شريته وبعته أيضاً اشتريته وفي الصحاح شريت أي بعت في بد (كذا) الثعلة ما ارتفع من الأرض وما انهبط عن أبي عبيدة خلع ثوبه وعليه أعطاه خلعة الزمعان مجركة خفة الأرنب وسرعتها والمشي البطيء وفعله كمنع ضد السيمع السامع(70/4)
والمسمع طلع عليهم غاب عنهم حتى لا يروه وأقبل عليهم حتى يروه فرع الجبل صعد وفي الجبل انحدر المفرع المصعد في الجبل والمنحدر الفزع الذعر والغوث ضد أفزع الإفزاع الإخافة والإغاثة أيضاً يقال إليه فأفزعني أي لجأت إليه من الفزع فأغاثني فزع فلاناً خوفه وعنه كشف عنه الخوف أقرع إلى الحق رجع وذل وامتنع القنوع هو السؤال والتذليل قال أهل العلم أن القنوع قد يكون بمعنى الرضى فهو من الأضداد الإفناع يكون رفعاً وخفضاً مقنعي رؤوسهم رافعيها من الأضداد أودع قال الكسائي لقول أودعته حجالاً دفعته إليه يكون وديعة عنده وأودعته أيضاً إذا دفع إليك مالاً يكون وديعة عندك وقبلتها وهو من الأضداد.
الفاء: الخلوف حي غيب والحضور المتخلفون خاف بمعنى توقع من قبلهم أخافأن يرسل السماء السدمة الظلمة والشرة عند بعضهم وبعضهم يجعلها الظلام والضوء كوقت مابين طلوع الفجر والإسفار الشف هو الفضل والنقصان ضد العرف الريح طيبة كانت أو منتنة يقال عرف المسك تنصف خدم وفلاناً استخدمته ضد توذف وهو الأسرع عن أبي عبيدة ومريتوذف إذا مر يقارب الخطو ويحرك منكبيه من الصحاح وفيه إبطاء اليهفوف الجبان ويقال لحديد القلب من الصحاح ضد.
القاف: المحاذيق الإبل الضمر والسمان ضد دهق الكأس ملأها وكأس دهاق والماء أفرغه ضد (سبقته بالتشديد أخذت منه أسبق وهو الذي يتراهن عليه المتسابقان وسبقته أيضاً أعطيه السبق قال الأزهري وهذا من الأضداد صفق الباب رده وأغلقه وفتحه المفرق كمحن القليل اللحم والسمين ضد فوق بمعنى دون بعوضة فما فوقها لمق الشيء لمقأ كتبه في لغة عقيل ومحاه في لغة أبي قيس ولعله لغة في نمق عَلَى أن اتحاد شرط في الأضداد.
الكاف: إليك هو التفرق والازدحام كأنه ضد.
اللام: (البسل) الحلال والحرام (الجلل) العظيم والصغير (حال) في متن فرسه وثب وعنه سقط واستوى على حال متنه (أزعله) نشطه ومن مكانه أزعجه (الشمل) ما جمع من الأمر فرق الله وما تشتت منه جمع الله شمله (الكل) بالضم اسم لجميع الأجزاء وقد جاء بمعنى يعض ضد (كلل) في الأمر جد وعن الأمر أحجم وجبن ضد (مثل) مثولاً قائماً وزال عن موضعه وتمثل مثله وفي الصحاح لعلي بالأرض وهو من الأضداد (تمهل) أتأد وتقدم النبل(70/5)
الكبار والصغار انتبل مات وقتل ضد النجل يطلق على الولد والوالد فهو من الأضداد من نواهد الأبكار للسيوطي مصل السهم إذا خرج منه النصل وإذا ثبت نصله فلم يخرج نصل بالتشديد نزع النصل وركبه الناهل الريان والعطشان ضد.
الميم: الجعشم كقنفذ وجندب القصير الغليظ والطويل الجسيم ضد الأدهمالأسود والجديد من الآثار والقديم ضد السلم ويطلق على اللديغ تفاؤلاً بسلامته سام البائع السلعة عرضها للبيع وسلمها المشتري شام السيف شيماً أغمده وسله وهو من الأضداد من إصلاح المنطق الصريمهو الليل المظلم والصبح الغريم الذي عليه الدين وقد يكون للذين له قامت السوق نفقت وركدت.
النون: (بين) للقطع والوصل ضد (الجون) الأبيض والأسود والجونة الشمسي قال تبادر الجونة أن تغيبا دون بمعنى فوق في الأساس هذا ذاك أي أخس منه ودونه خرط القتاد إلي أماه وجلس دونه إي تحته المنة القوة والضعف.
الواو: الرتو الشد والإرخاء الرهوة الارتفاع والانحدار الرجاء هو الأمل والخوف ألا قصر الشد واستطاع القفوة الخيرة والتهمة فلان قفزتي أي خيرتي وتهمتي عفا درس ومنه العفو وهو محو الجريمة وكثر حتى عفوا.
الهاء: النبه من الأضداد يقال للضائع نبه وللموجودين نبه.
الياء: الجادي السائل والمعطي أخفى الشيء كتمه وأظهره أكاد أخفيها الدواعي البواعث وصروف الدهر أرأى أرءاه صار ذا عقل وتبينت فيه الحماقة ضد الزبية هي المكان المرتفع وحفر الأسد جاءني سواؤه أي نفسه وغيره الشرى خيار المال ورذاله جمع شراة شرى الشيء باعه وشروه بثمن بخيس في الصحاح شريت أي بعت في برد (كذا) واشتراه أشكاه مله على الشكاية وأزال شكواه غبيت الكلام وغبي عني ليلة غاضية أي مظلمة ومضيئة أكرى زاد ونقص انتدى القوم وتنادوا اجتمعوا والشيء تفرق وراءه خلفه وقد يكون بمعنى قدام فهو من الأضداد وكان وراءهم ملك ولى أقبل وأدبر الونى كفتى التعب والفترة هوى من الجبل صعد والله أعلم وإليه يصعد الكلم الطيب.(70/6)
بين الفيحاء والشهباء
عمل حلب وحدودها
أجمع الجغرافيون من العرب والإفرنج أن حد الشام من عريش مصر إلى الفرات ومن البحر الرومي إلى جبال طي ولكن مما يشوش الذهن أن جميع أعمال حلب اليوم هل هي داخلة حدود سورية أم بعضها خارج عنها يعد من آسيا الصغرى فقد قال بوليه في معجمه الجغرافي التاريخي أن حد سورية شمالاً إلى آسيا الصغرى من خليج اسكندرونة إلى نهر الفرات وشرقاً نهر الفرات والبادية إلى بلاد العرب وجنوباً قسم من العربية يسمى بني إسرائيل إلى تخوم مصر وغرباً إلى البحر المتوسط على هذه التخوم من الشمال إلى الجنوب نحو سبعمائة كيلومتر وعرضها من الغرب إلى الشرق نحو أربعمائة وخمسين كيلومتراً وهذا التعريف يدل على عمل حلب الحقيقي خصوصاً ويؤيده قول صاحب الخربدة أو الرها (أورفة) معدودة من الجزيرة لا من حلب قال أبو زيد البلخي فشرقي الشام غربي الفرات وغربي السام ساحل الروم وشماله جبال الروم وجنوبه فلسطين والأردن وبعض البادية قال إبن حوقل وأما الشام فإن من غربيها بحر الروم وشرقيها البادية من أيلة إلى الفرات ثم من الفرات إلى حد الروم وشماليها بلاد الروم أيضاً وجنوبيها حد مص وتيه بني إسرائيل وآخر حدودها مما يلي مصر رفح ومما يلي الروم الثغور المعروفة كانت قديمة بالجزرية وهي ملطية وأذنة وطرسوس وقد جمعت الثغور إلى الشام وبعض الثغور يعرف بثغور الشام وبعضها يعرف بثغور الجزيرة وكلها من الشام وذلك أن كل ما كان وراء الفرات فمن الشام وإنما سمي من ملطية إلى مرعش ثغور الجزيرة لأن أهل الجزيرة بها كانوا يرابطون وغزون منها لأنها من الجزيرة وكور الشام هي جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرين والعواصم والثغور وبين الشام وثغور الجزيرة جبل اللكام وهو الفاصل بين الثغرين وجبل اللكام جبل داخل في بلد الروم ويقال أنه ينتهي إلى حد مائتي فرسخ ويظهر في الإسلام بين مرعش والهارونية وعين زربة فسمي اللكام إلى أن يجاوز اللاذقية ثم يسمى جبل بهراء وتنوح إلى حمص ثم يسمى جبل لبنان ثم يمتد على الشام حتى ينتهي بحر القلزم من جهة ويتصل بالمقطم من أخرى.
وقال أبو الفدا: حدود الشام على وجه دخل فيه بلاد الأرمن وهي المعروفة في زماننا ببلاد(70/7)
سيس والذي يحيط بالشام من جهة الغرب بحر الروم من طرسوس التي ببلاد الأرمن إلى رفح التي في أول الجفار بين مصر والشام ويحيط به من جهة الجنوب حد يمتد من رفح إلى حدوديته في إسرائيل إلى ما بين الشوبك وأبله إلى البلقاء ويحيط به من جهة الشرق حد يمتد من البلقان إلى مشاريق (لا مشارف) صرخد آخذاً على أطراف الغوطة إلى سلمية وإلى مشاريق حلب إلى بالس ويحيط به من جهة الشمال حد يمتد من بالس مخع الفراق إلى قلعة نجم إلى البيرة إلى قلعة الروم إلى سمياط إلى حصن منصور إلى بهنا إلى مرعش إلى بلاد سيس إلى طرسوس إلى بحر الروم ومن حيث ابتدأنا بعض هذه الحدود تقع شرقية عن بعض الشام وهي بعينها جنوبية عن بعض آخر في سمتها
وبعد فهذا امتنع تعريف لبلاد الشام وبه تبين البلاد تعد من أعمال حلب من حيث التقسيم الطبيعي الجغرافي والبلاد التي تعد من الروم أواسيا الوسطى وكان عمل حلب في الحكومة السالفة منذ عهد الإسلام تابعاً في تحوله للأحوال السياسية الطارئة وإليك الآن وصفها من مصادر ثلاثة مختلفة ولكن وقتها وهو بين القرن الثامن والعاشر قال شيخ الربوة: إن لحلب من البلاد ذوات الكور دون العواصم الخناصرة (يقال لها الخناصر الآن) وهي على سيف البرية وجبل بني القعقاع وكان يسمى قصر ابن الثانية وقنسرين وكانت هي القصبة قبل حلب وفي مدينة رزمية كان اسمها صوما وسمرين وهي في طرف جبل السماق (يسمى الآن جبل الزاوية أو النصيرية) وهذا الجبل معمور بطائفة تسمى النصيرية ومن جند حلب معرة النعمان وتعريف بذات القصرين ولها عمل من أحسن الأعمال وهو شعراء ممدون وعالب شجرها التين والفستق واللوز والمشمش والزيتون ولرمان والتفاح وكثير من الفواكه وسائرها يشرب من ماء السماء لا يعتني في فلاحته بأكثر من الحرث تحته وجبل السماق من أعمر الأرض وأعملها فلاحة من رآه ورأى الأندلس لم يفرق بين فلاحتها وفلاحة الأندلس والفوعة ولها عمل حسن وشغر وبكأس ومعرة صرمين (سرمين أو مصرين؟) وتيزين بلدة طيبة ولها عمل متسع وحارم كذلك وكان ثغراً حسناً وشيزر مدينة حصينة وبيئة يشرب أهلها وأرضها من النهر العاصي ولها قلعة طولها ظاهر يسمى عرف الديك محاطة من ثلاث جهات بالعاصي وحندراس وله جومة أي كورة فيها أجمة كبيرة البناء لا يعلم العالم من أين يجئ ماؤها ولا أين يذهب ودلوك ورعبان (؟) وكيسوم(70/8)
وفوارس؟ وكفر وفوذ؟ وفامية ويبرزية حصن منبع يضرب به المثل وتحته بالقرب بحيرة فامية بحيرة كبيرة بدخلها العاصي ويخرج منها ولها سكر سصاد فيها نوع من السمك شبيه بالحيات ويسمى إنكليس لحمه شبه بالألية المشوية وللنصارى فيه رغبة عظيمة يحمل في المراكب إليهم داخل البحر ضمانه في السنة نحو ثلاثين ألف درهم وعمورية بناها الرشيد على أثر عمارة قديمة رومية.
ولحلب من جهة الشمال والشرق عين تاب بلدة ولها حصن مليح وأهلها تركمان ولها نهر يسيح وعليه بستان وهو جار أعزاز قلعة في المسال الغربي من حلب وتسمى عند الإفرنج. . . . . . . . . . وهو حصن والباب وبزاعة وهما مدينتان وبينهما واد يعرف ببطنان ولها نهر يسمى الساجور يجري إليهما من عين تاب و (بالس) وهي مدينة قديمة على الفرات وفي حيزها صفين وورصافة هشام بن عبد الملك بناها لنفسه على أثر بناء قديم كنعاني ومنبج وهي على مرحلة من الفرات بناها كشرى وسماها متبه أي جود وفي عملها قلعة نجم وكانت تسمى منتج وتل باشر ولها نهر يجرب أليها من عين تاب وهو الساجور. وبجلب أيضاً مما داخل في أعمالها وجندها قلعة الروم يقيم بها خليفة الأرمن وبطركها ومرعش ولها بحيرة متسعة وينهسا حصن مليح والكختا وكركر وتل حمدون وقلعة نجموقلعة حميص والرواندن وكل هذه ثغون تجاه الأرمن والتتار والبيرة حصن منبع شرقي الفرات ومن الثغور الساحلية الجبلية ديركوش ودربساك وبغراس (بيلان) وحجر شعلان وواسكندرونة و (قصير) و (انطاكية) و (يغرا) ولها بحيرة حلوة من نهر الأسود بينها وبين نغراص وبين إنطاكية وهي قصبة السوحال كانت قبل ثغورها وكانت إحدى كراسي الروم ويسميها الروم تعظيماً لها مدينة الله ما تسمى الأرض المقدسة وإنطاكية من المدن القديمة ويحيط بها سور كبير محيط على أربعة جبال وشعاري ولها بساتين ولها فرضة تسمى السويدية على الساحل عند منصبالعاصي في البحر والهارونية بناها هارون الرشيد. ومن أعمال حلب أيضاً (النقدة) و (حلقة سرمدا) و (حلقة تيزين) و (أرتاح) و (الجبول) و (جبرون) و (ريحا) وكثير مثل ذلك والمذكور نحو شتين عملاً وكل عمل يحتوي على أعمال وكور وضياع عامرة. ورساتيق منها قائم وحصيد انتهى اقاله شيخ الربوة ووصفها ابن فضل الله العمري بأخصر من هذا فقال:(70/9)
وأما بلاد حلب فيحدها من القبلة المعرة وما وقع على سمتها إلى الدمنة والسلسة الرديشة ومجرى القناة القديمة الواقع ذلك كله بين الحيار والقرية المعروفة ملاعب ومن الشرق البر حيث يجد براً آخذاً على الثلج (؟) ونهر الخلاب على أطراف بالس إلى الفرات دائرة تحدها وبهذا القسم تكونم بلاد جعبر داخلة في حدودها ومن الشام بلاد الروم مما وراء بهنا وبلاد الأرمن مما وراء نهر جاهلن ومن الغرب ما أخذ مع بلاد الأرمن على البحر الشامي وبحلب قلاع وولايات فأما القلاع فهي البيرة وهي التي لا تماثل ولها عسكر ومنعه ولنائبها مكانة جليلة وقلعة المسلمين وهي المعروفة بقلعة الروم كانت مسكناً لخليفة الأرمن ولم يزل بها حتى افتتحها وسماها قلعة المسليمن وهي من جلائل القلاع والكخنا وهي ذات عمل متسع وعسكر متطوع مجتمع وكركر وبهسنا وهي الثغر المتاخم لبلاد الدروب والشتعل جمرة في الحروب بع عسكر من التركمان والأكراد ولا يزال لهم آثار في الجهاد ولنائبها مكانة جليلة وإن كان لا يتحلق بنائب البيرة وعينتاب وهي مدينة حسنة والرواندان والدربساك وبغراس وكانت تثر الإسلام في عز الأرمن حتى استضيفت إلى الفتوحات الجاهلية وبها الرصاص وهو عضو من أعضائها وجزء من أجزائها والقصير وهو لإنطاكية والشغر وهما كالشيء الواحد وحجر شعلان وأبو قبيس وشيزر فهذه جملة قلاعها وهي على هذا الترتيب وإن كانت عينتاب داخلة عن النطاق فإنها في موقعها بين ما ذكر وأما معها وجملة ولايات حلب كقرطاب وفامية وسرمين والجيول وجبل سمعان وعزاز وتل باشر غير ما في هذه القلاع مما له ولاية مضافة إليه ولمدينة حلب نفسها ولاية ما لدمشق فهذه جميلة البلاد الجبلية أه.
وعدد غرس الدين الظاهري بلاد المملكة الجبلية فقال أنها مملكة متسعة إلى الغاية تشمل على مدن وقلاع ومعاملات وقرى عديدة وأعظم مدنها حلب ثم ذكر مدن إنطاكيةو وجعبر والرحبة وسجير (شيزر) وسرمين والباب وبزاعة وكليس وعزاز وإقليم العمق والجزيرة ومدينة الحديدة وأياس (بياس) وسيس وطرسوس ومصيصة (مسيس) وأذنة والرمضانية والأوزازية وقيسارية وعين تاب وشيخ وقلعة المسلمين والبيرة والرها وكركر وقلعة خروس وكختا وحصن منصور وبهسنا ودارندة (فوق مرعش بأربعة أيام) ودوركي وعر بكير وبمعاملتها عشر قلاع وجمشكزك وبمعاملتها أربع وعشرون قلعة وخربوت وهذه(70/10)
المدينة وعر بكير وجمشكزك وقلاعها ومعاقلها كانت من ديار بكر فتحت في الأيام الأشرفية وأضيفت إلى المملكة الجلبية. وذكر أن لكل مدينة من هذه المدن إقليماً فيه عدة قرى وبعض هذه المدن اليوم من عمل ولاية شيواس والآخر من عمل ولاية ديار بكر والآخر من عمل معمورة العزيز والآخر من ولاية أطنة.
وقال ابن جبير وعدة جميع قلاع حلب وحصونها ثلاثة وعشرون عملاً وهي عمل شيزر وقلعة النجم وعمل الشغر وبكاس وهس قلعة وعمل القصير وهي قلعة ديركوش وعمل حارم وشيح الحديد وعمل إنطاكيا وعمل بغراص هي قلعة حصينة والدربساك وهي قلعة وعمل حجر شعلان وهي قلعة وعمل الراوندان وهي قلعة ومعها تل هران وبرج الرصاص وتل باشر وعمل عينتاب ولها قلعة ومعها وقوص ومعها وعمل بهنسا وكركر وكختا والبيرة وقلعة الروم ومنبج والجيول والباب وبزاعا وتيزين وأعزاز وكيسوم وسرمين والفوعة ومعرة مصرين ومرتجوان وبالس وصفقين والرصافة وخناصرة وحيار بني القعقاع وقنسرين وحاضر فنسرين.
وعلى الجملى فقد اختلفت تقسمات حلب فيما مضى وكانت في الأكثر ينتهي حدود عملها من جهة الشمال إلى دروب الروم وقد تكلم ابن شداد من بلاد حلب على بالس ولارصافة وخناصرة وحيار بني القعقاع وقنسرين وحاضرها وسرمين والفوعة ومعرة مصرين ومرتجوان وحارم والعمق وقال أنه كان في هذه النواحي ما يزيد على ثلاثين والياً يتصرفون من جهة من يكون نائباً عن السلطان بحارم. وذكر أيضاً ديركش وعزاز الرواندان وتل هرام ول باشر وعينتاب والرزبان وخروص والزرب وبهنسا والباب وبزاعا والشخر وذكر من الحصون التي استولى عليها الخراب حتى صارت قرى غير دافعة ولا مانعة حصن سلياب وحصن سلمان وحصن سويرك أويزريك وحصن تل رمان شمالي تكفالون وحصن باسوطا في المضيف وحصن عناقيب وحصن بابرك وسجح الحديد في الروج الشرقي وكفرميت في الروج الشرقي وحصن راشي وحصن هاب وسرفون غربي سرمدا في الحلقة وارتيا في بلدة الزاوية يقال لها الآن (في عهده) أرنبا وحصن أتب أو أنب وتل كشهان أوكشفان في الروج الغربي وحصن زردانافي بلد إدلب وحصن أزر قال والىن أزرعانن مقابل تل كشفان وبينهما العاصي وحصن عم وسلقين وتل عماد(70/11)
غربي سلقين وتل خالد وأرمناز وسلمان وحصون العواصم وسلعوس وزياد وهو خرت برت بين آمد وملطية والعيون وكانت أذنة والمصيصة وطوسوس من الثغور الرومية داخلة من جملة عمل حلب.
وقال ابن الشحنة وأعلم أن أعمال حلب قد زادت قبل الفتنة التيمرية وبعدها عما ذكره ابن شداد وعملها اليوم من جهة الروم بنتهي إلى دارندة وهي آخر عملها ومن جهة الغرب من الروم إلى البحر ومن الشرق إلى بعض أعمال الجزيرة كالرها والرقة وجعبر والبيرة وما والاها من جهة الشرق ومن جهة القبلة إلى قرب حماه وأما حماه فهي منفردة الآن (في عصر المؤلف) معمل وكانت من مضافات حلب.
وأما المسافات فمن حلب إلى قنسرين يوم - على قول ياقوت - والي المعرة يومان وإلى إنطاكيا ثلاثة أيام وإلى الرقة أربعة أيام وإلى الأثارب يوم وإلى توزين يوم وإلى منبج يومان وإلى بالس يومان وإلى خناصرة يومان وإلى حماه ثلاثة أيام وإلى حمص أربعة أيام وإلى حران خمسة أيام وإلى اللاذقية ثلاثة أيام وإلى جبلة ثلاثة أيام وإلىة طرابلس أربعة أيام وإلى دمشق تسعة أيام.
بلاد حلب وكورها وحصونها
أتينا في النبذة الماضية على مجمل البلاد التي كانت من عمل المملكة الحلبية قبل دخول الدولة العلية العثمانية وقد رأينا هنا أن نعززها بجملة ثانية فيها وصف كل مدينة وحدها في الجملة معتمدين في ذلك في الأكثر على معجم البلدان لياقون الحموي وتقويم البلدان لأبي الفاد صاحب حماه نذكرها بإيجاز ما أمكن لما يتخللها من الفوائد العمرانية والاجتماعية والأدبية ونذبلها غالباً بما يعرفها للقارئ، اليوم ثم تردفها بما كتبه ابن حوقل في وصف الديار الحلبية.
(الأثارب) قلعة معروفة بين حلب وإنطاكية بينها وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ وفيها يقول محمد بن نصر بن صغير القيسراني:
عرجاً بالأثارب ... كي أقضر مآربي
واسرقا نوم مقلتي ... من جفون الكواعب
واعجاً من ضلالتي ... بين عين وحاجب(70/12)
(الأحص وشبيث) ويقال الأولى الحص الآن بالقرب من مملحة جبول وهما موضعان والغالب أنهما بالقرب من قنسرين وأنشد الأصمعي في كتاب جزيرة العربلرجل من طيء يقال له الخليل بن قردة وكان ابن زافر وكان قد مات بالشام:
ولا آب ركب من دمشق وأهله ... ولا حمص إذ لم يأت في الكرب زافر
ولا من شبيث والأحص ومنتهى ال ... مطايا بقنسرين ين أو بخناصر
(الأرتيق) كورة من أعمال حلب ارتاح حصن منيع كان مر العواصم وهو أعمال حارم (ارفاد) قربة كبيرة من نواحي حلب ثم من نواحي عزاز يقال لها رفاد (أرمناز) بليدة قديمكة من نواحي حلب بينهما نحو خمسة فراسخ يعمل بها قدور وشربات جيدة حمر طيبة ولا تزال كذلك (أفونا) اسم حصن كان قرب معرة النعمان بالشام افتتحه محمود بن نصر الكلابي ويقال لبها اليوم (عصر ياقوت) سفوهن فيما بلغني (الأعماق) كورة قرب دابق بين حلب وإنطاكيا والعمق اليوم فيها نحو مائتي قرية (أفلاطنس) حصن عظيم عال مشرف جداً من أعمال جبل وهرا من عمل حلب الغربية ولعله الشهور اليوم بقصر البنات (أنب) حصن من أعمال عزاز يبعد عنها نحوأربع ساعات.
(إنطاكيا) لم تزل قصبة العواصم من الثغور الشامية وهي من أعيان البلاد وأمهاتها موصوفة بالنزاهة والحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء وكثرة الفواكه وسعة الخيرات زارها ابن بطلان في سنة نيف وأربعين وأربعمائة فقال إنالمسافة بينها وبين حلب يوم وليلة عامرة لا خراب فيها أصلاً ولكنها أرض تزرع الحمطة والشعير تحت شجر الزيتون قراها متصلة ولسورها ثلاثمائة وستون برجاً يطوف عليها أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية يضمنون حراسة البلد سنة ويستبدل بهم في السنة الثانية وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد مع الجبل إلى قلته فتتم دائرة وفي رأس الجبل داخل السور قلعة وفي وسط المدينة بيعة القسيان وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين وكان بدور الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة وهناك من الكنائس ما لا يحد كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزع وفي بيمارستان يراعى البطريك المضى فيه بنفسه ويدخل المذمين الحمام في كل سنة فيغسل شعورهم بيده ومثل ذلك يفعل الملك بلاضعفاء كل سنة ويعينة(70/13)
على خدمتهم الإجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع.
وقال ابن الفقيه ومن عجائب الجزيرة كنيسة الرها والروم تقل ما من بناء بالحجرة أبهى من كنيسة الرها ولا بناء بالخشب أبهى من كنيسة منبج لأنها بطاقاتمن خشب ولا بناء بالرخام أبهى من قسيان إنطاكيا ولا بناء بطاقات الحجارة أبهى من كنيسة حمص.
قال ياقوت وبين إنطاكيا والبحر نحو فرسخين وله مرسى في بليد يقال له السويدية ترسي فيه مراكب الإفرنج يرفعون منه أمتعتهم على الدواب إلى إنطاكيا واستمرت هذه المدينة في أيدي الإفرنج إلى أن استفذها منهم سليمان بن قتملش السجوقي جد ملوك آل سلجوق 477 وقد فتحها المسلمون مع حلب ملكها الروم سنة 252 وفي غربي الفرات مقابل قلعة جعبر أرض (صفين) التي بها كانت الوقعة ومن قلعة جعبر إلى الرقة سبعة فراسخ. (البارة) بليدة وكورة من نواحي حلب وفيها حصن وهي ذات بساتين ويسمونها زاوية البارة (بارين) والعامة لقول بعرين مدينة حسنة بين حلب وحماه من جهة الغرب وهي الآن خربة على طريق العرة (باعربايا) بلد من أعمال حلب من مضافات أفامية خراب فيها بعض بيوت شعر (بالس) بلدة بين حلب والرقة وكانت على ضفة الفرات الغربية فلم يزل الفرات يشرق عنها قليلاً حتى صار بينهما في أيامنا (ياقوت) هذه أربعة أميال.
قال أبو الفدا أن بالس كانت مسكونة وهي صغيرة على شط الفرات الغربي وذكر ابن حوقل أنها أول مدن الشام من العراق وهي فرضة لأهل الشام وفي شرقيها الرقة قال في العزيزي ومنها إلى قلعى دوشر المعورفة الآن بقلعة جعبر في شرقي الفرات حمشة فراسخ.
(براق) من قرى حلب بينهما نحو فرسخ وهي اليوم ناحية برق من أعمالها قضاء الباب من أعمالها نحو خمسين قرية (برج الرصاص) قلعة ولها رساتيق من أعمال حلب قرب إنطاكيا وإياها عنى أبو فراس بقوله:
فأوقع في جلباط بالروم وقعة ... بها العمق واللكام والربرج فاخر
(الرزمان) قلعة من العواصم من نواحي حلب (بسرفوت) حصن من أعمال حلب في جبل بني عليم (بزاعة) بلدة من أعمال حلب في وادي جاربة وأسواق حسنة وهي اليوم قرية.
وقال ابن جبير ف يوصفها بقعة طيبة الثرى واسعة الذرى تصفر عن المدن وتكبر عن(70/14)
القرى بها سوق تجمع بين المرافق السفرية والمتاجر الحضرية وفي أعلاها قلعة كبيرةحصينة رامها أحد ملوك الزمان فغاظته باستصعابها فأمر بلثم أبنائها حتى غادرها عورة منبوذة برعاها ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط يطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب هي بين بزاعة وحلب وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الإسماعيلين لا يحصي عددهم إلا الله فطار شرارهم وقطع هذه السبيل فسادهم وأضرارهم حتى دخلت أهل هذه البلاد العصبية رحكتهم الآنفة والحمية فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصلوهم عن آخرهم وعجلوا بقطع دابرهم وكومت بهذه البطحاء جماجمهم قال وسكانها اليوم قوم سنيون. وروى أبو الفدا: الباب بلدة صغيرة ذات سوق وحمام ومسجد وجامع ولها بساتين كثيرة نزهة وأما بزاعا فضويعة من أعمال حلب في الجهة الشمالية الشرقية وفي بساتينها يقول المنازي وقد اجتاز بها:
لقانا لفتحة الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت العميم
يصد الشمس إلى. . . . . . . . . ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذر ... فتلمس جانب العقد النظيم
ووجدنا هذا البيت في مكان آخر:
نزلنا دوحة فحنا علينا ... حنو الوالدات على الفطيم
وأرشفنا على ظماء زلالا ... ألذ من المدامة للنديم
(بغراس) مدينة في لحف جبل اللكام بينها وبين إنطاكيا أربعة فراسخ على يمين القاصد إلى إنطاكيا من حلب في البلاد المطلة على نواحي طوسوس قال البلاذري وكانت أرض بغرس لمسلمة بن عبد الملك ووقفها على سبيل البر وكانت بيد الفرنج ففتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 485 وقد ذكرها البحتري في شعر مدح به أحمد بن طولون.
سيوف لها من كل دار غادً درى ... وخيل لها من كل دار غداً نهب
علب فوق بغراس فضاقت بماجنت ... صدور رجال حين ضاق بها درب
قال يحيى بن سعدي ين يخيى الإنطاكي أن نقفور ملك الروم نزل على إنطاكية سنة 357 وأقام عليا يومين وفتح العرة وحماه وحمص وطرابلس وعرفة وجبلة واللاذقية وانطرسوس(70/15)
وخرب قرى كثيرة وبنى حصن بغراس مقابل إنطاكية في فم الدرب (إدلب).
بكاس قلعة من نواحي حلب على شاطئ العاصي ولها عين تخرج من تحتها وبينها وبين ثغور الصيصة مقابلتها قلعة أخرى يقال لها شغر بينمها واد كالخدق يقال له الشغر.
(بلاطنس) حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية من أعمال حلب (بياس) مدينة صغيرة في إنطاكية وغربي المصيصة (مسيس) بينهما قرية من البحر بينها وبين الإسكندرية فرسخان قريبة من جبل اللكام (أمانوس). (بيت لاها) حصن عال بين إنطاكيا وحلب على جبل ليون كان فيه ديدبان ينظر في أول النهار إنطاكية وفي آخره إلى حلب.
(البيرة) (بيرة جيك) بلد قرب سيساط يسن حلب والثغور الرومية وهي قلعة حصينة ولها رستاق واسع وهي على حافة الفرات في البر الشرقي الشمالي لا ترام ولها يعرف بوادي الزيتون به أشجار وأعين وهي بلدة ذات سوق وعمل قال ابن سعيد وقلعتها على صخرة وهي اليوم ثغر الإسلام في وجوه النتر وهي فرضة على الفرات وهي في الشرق عن قلعة الروم على نحو مرحلة وفي الغرب عن قلعة نجم الجنوب والغرب عن سروج.
(البضاء) أمم لمدينة حلب لبياض تربتها (تاذف) قرية بين حلب وبينها أربعة فراسخ من وادي بطنان من ناحية بزاعة ذكرها أمرؤ القيس في شعره فقال:
ويا رب يوم صالح قد شهدته ... بتادف ذات التل من فوق طرطرا
ويقال لهذه البلدة اليوم تاتف وهي على نصف ساعة من الباب ولا يقل نفوسها عن خمسة آلاف نسمة وفيها اليوم كنيس لليهود وبضع أرسات منهم يسكنونها بنيت فيما يقال قبل 2200سنة وهي محل مبارك عند الإسرائيليين يقصدونه للزيارة وقد زرته وزرت ضاحية البلد غراف أبي طرطر وهو بئر ماء لذيذ يمتاح ماؤه على مدار يحركه بغلان فيسقي حدائق هناك وهذا طرطر الذي زاره أمرؤ القيس في الغالب ويرى الإسرائيليون في تلك الأنحاء أن من زار منهم كنيس تاتف وشرب من غراف أبي طرطر واغتسل من عين العزير على مقربة منها آتي عملاً صالحاً ينيله الزلفى من المولى. (تل باشر) قلعة حصينة وكورة واسعة في شمالي حلب بينها وبين حلب بومان وأهلها أرمن ولها ربض وأسواق وهي عامرة آهلة. (تل خالد) قلعة من نواحي حلب (تل السلطان) موضع بينه وبين حلب مرحلة نحو دمشق وفيه خان ومنزل للقوافل وهو العروف بالفنيدق كانت وقعة بين صلاح(70/16)
الدين يوسف بن أيوب وسيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل سنة 571 (تل منس) حصن قرب معرة النعمان وقيل من قرى حمص (توزين) ويقال تيزين كورة وبلدة بالعواصم من أرض حلب (جبل السماق) هو جبل عظيم من أعمال حلب الغربية بشتمل على مدن كثيرة وقرى وقلاع عاملتها للإسماعلية وفيه بساتين ومزارع كلها عذي والمياه الجارية به قليلة إلا ما كان من عيون ليست بالكثيرة في مواضع مخصوصة ولذلك تنبت فيه جميع أشجار الفواكه وغيرها حتى المشمش والقطن والسمسم وغير ذلك وقيل أنه سمي بذلك لكثرة ما ينبت فيه من السماق قال عيسى ين سعدان:
وقولها وشعاع الشمس منخرط ... حييت يا جبل السماق من جبل
ياحبذا التلعات الخضر من حلب ... وحبذا طلل بالفسح من طلل
يا ساكني البلد الأقصى عسى نفس ... من سفح جوش يطفي لاعج الغلل
طال المقام فوا شواقا إلى وطن ... بين الأحص وبين الصحيح الرمل
(الجبول) قرية كبيرة إلى جنب ملاحة حلب وفي الجيول يصل نهر بطنان وهو نهر الذهب ثم يجمد ملحاً فيمتار منه أكثر بلدان الشام وبعض الجزيرة ويضمن بمائة وعشرين ألف درهم في كل عام ويجتمع على هذه الملاحة أنواع كثيرة من الطير قبل جمودها وصفها حسن الساسكوني الحموي بقوله:
قد جبل الجيول من راحة ... فليس تعرو ساكنيها هموم
كأنما الماء وأطياره ... فيه سماء زينت بالنجوم
كأن سود الطير في بيضها ... خليط جيش بين زنج وروم
قال ياقوت في نهر الذهب أن أهل حلب يزعمون أن وادي بطنان الذي يمر ببزاعة وهو الذي يقال له عجائب الدنيا ثلاثة دير الكلب ونهر الذهب وقلعة حلب والعجب فيه أن أوله يباع بالميزان وآخراه بالكيل وتفسير ذلك أن أوله يزرع على الحصا كالقطن وسائر الحبوب ثم ينصب إلى بطيحة طولها نحو فرسخين في عرض مثل ذلك فيجمد فيصير ملحاً يمتار منه أكثر نواحي الشام ويباع بالكيل وطول الملاحة الآن نحو3كيلومترات وعرضها 18 كيلومتراً.
(الجرجومة) مدينة يقال لأهلها الجاجمة كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي عند معدن(70/17)
الزاج فيما بين بياس وبوقة قرب إنطاكية والجواجمة جيل كان من أمرهم في أيام استيلاء الروم أن خافوا على أنفسهم فلم ينتبه المسلمون لهم وولى أبو عبيدة إنطاكية حبيب بن مسلمة الفهري فغزا الجرجومة فصالحه أهلها على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيواً ومسالح في جبل اللكام وأن يؤخذوا بالجزية وأن يطلقوا أسلاب من بقتلونه من أعدء المسلمين إذا حضروا معهم حراً ودخل معهم في مدينتهم من تاجر وأجبر وتابع من الأنباط من أهل القرى ومن معهم في هذا الصلح فسموا الورادف لأنهم تلوهم وليسوا منهم ويقال أنهم جاؤوا إلى عسكر المسلمين وهم أرداف لهم فسموا روادف وكان الجراجمة يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى فيكاتبون الروم ويمالؤنهم على المسلمين ولما استقبل عبد الملك بن مروان محاربة مصعب بن الزبير خرج منهم إلى الشام مع ملك الروم فتفرقوا في نواحي الشام وقد استعان المسلمون بالجراجمة في مواطن كثيرة في أيام بني أمية وبني العباس وأجروا عليهم الجرايات وعرفوا منهم المناصحة. (جلباط) بجبل اللكام بين إنطاكية ومرعش كانت بها وقعة سبف الدولة ين حمدان بالروم.
(حارم) حصن حصين وكورة جبلية تجاه إنطاكية وهي الآن من أعمال حلب وفيها أشجار كثيرة ومياه وهي لذلك وبئة وهي فاعل من الحرمان أو من الحريم كأنها لحصانتها يحرمها العدو وتكون حرماً لمن فيها قال أبو الفدا وقد خص الذي يظهر باطنة من ظاهرة مع غدم العجم وكثرة المياه على مرحلتين من حلب في جهة الغرب وبين حارم وإنطاكية مرحلة.
(الحاضر) في كتاب الفتوح للبلاذي أنه كان يقرب حلب حاضر يدعى حاضر حلب يجمع أصنافاً من العرب من تنوح وغيرهم جاءه أبو عبيدة بعد فتح قنسرين فصالح أهله على الجزية ثم اسلموا بعد ذلك وكانوا مقيمين وأعقابهم به إلى بعيد وفاة أمير المؤمنين الرشيد ثم أن أهل ذلك الحاضر حاربوا أهل مدينة حلب وأرادوا إخراجهم عنها فكتب الهاشميون من أهلها إلى جميع من حولهم من قبائل العرب يستنجدونهم فسارعوا إلى إنجادهم وكان أسبقهم إلى ذلك العباس بن زفر الهلالي فلم يكن لأهل الحاضر بهم طاقة فاجلوهم عن حاضرهم وضربوه وذلك في فتنة الأمين الرشيد فانتقلوا إلى قنسرين فتلقاهم أهلها بالأطعمة والكسى فلما دخلوا أرادوا التغلب عليها فأخرجوهم عنها فتفرقوا في البلاد قال فمنهم قوم بتكريت وقد رأيتهم منهم قوم بأرمينية وفي بلدان كثيرة متباينة وفي رواية أخرى أن يعقوب بن(70/18)
صالح الهاشمي خرب الحاضر الذي كان إلى جانب حلب حتى ألصقه بالأرض وكان فيه عشرون ألف مقاتل فهو خراب اليوم.
(حصن منصور) قال في المشترك وحصن منصور بالقرب من سميساط قال هو منسوب إلى منصور بن جعونة العامري وكان تولى عمارته في أيام مروان الحمار آخر بني أمية قال ابن حوقل وحصن منصور حصن صغير فيه مبرز زرعه عذى أقول (أبو الفدا) وهو الآن خراب ولكنه مزدرع وهو في مستو من الأرض شمالي النهر الازرق وجنوبي الفرات وغربيها قريب م كل منها والجبل واقع في غربي حصن منصور بينه وبين ملطية وفيه الدربند إلى ملطية.
(حبيب) بلد من أعمال حلب بقال له بطنان حبيب (دانبت) بلد من أعمال حلب بين حلب وكفر طاب. (دركوش) حصن قرب إنطاكية من أعمال العواصم (دلوك) بليدة من نواحي حلب بالعواصم كانت بها وقعة لأبي فرا بن حمدان مع الروم قال بعضهم بذكرها:
وإني إن نزلت على دلوك ... تركتك غير متصل النظام
وقال عدي بن الرقاع:
أهم سرلي أم غار للغيث غاثر ... أم انثابها من آخر الليل زائر
ونحن بأرض قلا يجسم السرة ... بها العربيات الحسان الحرائر
كثير بها الأعداء يحسر دونها ... بريد الإمام المستحث المثابر
فقلت لها كيف أهتديت ودوننا ... دلوك وأشرف الجبال القواهر
وجيحان جيحان الجيوش وألس ... وحزم حزاز والشعوب القواسر
(الواندان) قلعة حصينة وكورة طيبة معشبة مشجرة من نواحي حلب قال أبو الفدا أنها قلعة حصينة عالية على جبل مرتفع أبيض ولها أعين وبساتين وفواكه وواد حسن ويمر تحتتها نهر عفرين وهي في الغرب والشمال عن حلب وبينهما نحو مرحلتين وهي في الشمال عن حارم ويجري من الشمال إلى الجنول على الروندان إلى عمق حارم في واد متسع بين جبال وبذلك الوادي قرى وزيتون طثيرة وهي كورة من بلاد حلب وتسمى الجومة بضم الجيم وسكون الواو وميم وهاء.
(سلوقية) اقطع الوليد ين عبد الملك جند إمطاكية أرض سلوقية عند الساحل وصير عليهم(70/19)
وهو بسيط من الأرض معلوم كالفدان والجريب بدينار ومدي قمح فغمرها وأجرى ذلك لهم وبنى حصن سلوقية (سمياط) قال في اللباب وسمياط من بلاد الشام قال ابن حوقل وأما سمياط فهي على الفرات وكذلك جسير منبج وهما مدينتان صغيرتان حصينتان لهما زروع سقي وغيره وماؤه من الفرات وسمياط في الغرب عن قلعة الروم وفي الشمال عن حصن منصور وكل واحدة على مسافة قريبة من الأخرى.
(سرمين) بلدة ذات أشجار كثيرة وزيتون وغيره وليس لها ماء إلا ما يجتمع من الأمطار في الصهاريج ولها ولاية وعمل متسع وهي ذات خصب وأسواق ومسجد جامع وليس لها سور وبين سرمين وبين حلب مسيرة يوم وحلب في شماليها وهي على منتصف الطريق بين المعرة وحلب.
(سروج) بلدة قريبة من حران من ديار مصر.
(رعبان) مدينة بالثغور بين حلب وسمياط قرب الفرات معدودة في العواصم وهي قلعة تحت جبل خربتها الزلزلة في سنة 340 فأنقذ سيف الدولة أبا فراس بن حمدان في قطعة من الجيش فأعاد عمارتها في سبعة وثلاثين يوماً.
(سات) بليدة بظاهر معرة النعمان وهي القديمة والمعرة اليوم محدثة اجتاز بها القاضي أبو يلعي عبد الباقي بن حصن العري والناس ينقضون بنيانها ليعمروا به موضعاً آخر فقال:
مررت برمم في سيات فراعني ... به زجل الأحجار تحت المعلول
تناولها عبل الذراع كأنما ... رمى الدهر فيما بينهم خرب وائل
انتقلها شلت يمينك خلها ... لمعتبر أو زائر أو مسائل
منازل قوم حدثتنا حديهم ... ولم أر أحلى من حديث المنازل
(الشغر) قلعة حصينة مقابلها أخرى يقال لها بكاس على رأس جبلين بينهما واد كالخندق لهما واحدة تناوح الأخرى وهما قرب إنطاكية قال أبو الفدا: الشغر وبكاس قلعتان حصينتان بينهما رمية سهم على جبل مستطيل وتحتهما نهر يجري ولهما بساتين وفواكه كثيرة ولها مسجد جامع ومنبر ورستاق وهما بين إنطاكية وفامية على قريب منتصف الطريق بينهما وفي شرقيها على شوط فرس جسر كشفهان وهو جسر النهر وهو مشهور وله سوق يجتمع فيه في كل أسبوع والشغر وبكاس في جهة الشرق والشمال عن صهيون وفي الجنوب عن(70/20)
إنطاكية وبينهما الجبال.
شقيف دركوش قلعة من نواحي حلب قلي حازم. شقيف دبين قلعة ضغيرة قرب إنطاكية ودبين ضعيفة طالربض لها عرض بلد في برية الشام يدخل في أعمال حلب وهو بين تدمر والرصافة الهشامية. (عزاز) بليدة فيها قلعة ولها رستاق شمالي حلب بينهما يوم وهي طيبة الهواء عذبة الماء. (عما) صقع في برية خساف بالس وحلب. العميق كورة بنواحي الشام وكان ألاً من نواحي إنطاكية. ومنه أكثر ميرة إنطاكية وإياه عنى أبو الطيب المتنبي حيث قال:
وما أخشى نبوك عن طرق ... وسف الدولة الماضي الصقيل
وكل شواة غطريف تمنى ... لسيرك أن مفرقها السبيل
ومثل العمق مملوء دماءً ... مشت بك في مجاريه الخيول
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأول ما يمر به الوحول
(عين تاب) قلعة حصينة ورستق بين حلب وإنطاكية وكانت تعرف بدلوك ودلوك رستاقها وهي الآن من أعمال حلب.
ويقول أبو الفدا أنها بلدة حسنة كبيرة ولها قلعة منقوبة في الصخر حصينة وهي كثيرة المياه والبساتين وهي قاعدة ناحيتها ولها أسواق جليلة وهي مقصودة للتجار والمسافرين وهي عن حلب في جهة الشمال على ثلث مراحل وبالقرب من عينتاب في جهة الجوب عن قلعة الروم على نحو ثلث مراحل أيضاً وكذلك بين عينتاب وبهسنا وعينتاب في جهة الشرق والجنوب عن بهسنا.
(فايا) كورة بين منبج وحلب كبيرة وهي من أعمال منبج في جهة قبلتها قرب وادي بطنان ولها قرى عامرة فيها بساتين ومساه جارية. (الفرزل) ناحية من نواحي معرة النعمان في العلاة والعلاة كورة من كورها. (الفنيدق) من أعمال حلب كانت به عدة وقعات وهو الذي يعرف اليوم بتل السلطان بينه وبين حلب خمسة فراسخ وبه كانت وقعات الفنيدق بين ناصر الدولة بن حمدان وبني كلاب من بني مرادس في سنة 452 فأسره بنو كلاب.
(قلعة جعبر) على الفرات مقابل صفين التي كانت فيها الواقعة بين معاوية وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت تعرف أولاً بدوسر فتملكها رجل من بني نمير(70/21)
يقال له جعبر بن مالك فغلب عليها فسميت به (قلعة الروم) قلعة حصينة في غربي الفرات مقابل البيرة بينها وبين سيساط بها مقام بطرك الأرمن ويقول أبو الفدا أن لها ربضاً وبساتين وقواكه ونهارً يعرف بمزربان يجئ من ناحية الجبل ويصب في الفرات تحت قلعة الروم والفرات تمر بذيل القلعة وهي من القلاع الحصينة التي لا ترام أنقذها من الأرمن السلطان الملك الأشرف اين السلطان الملك المنصور قلاوون وهي في البر الغربي الجنوبي من الفرات وهي عن البيرة في جهة الغرب على نحو مرحلة وهي في الشرق عن سميساط وهي في الجنوب من الرها وكل ذلك على الغرب منها.
(قلعة النجم) قلعة حصينة مطلة على الفرات على جبل تحتها ربض عامر وعندها جسر يعبر وهي معروفة بجسر منبج ويعبر على هذا الجسر القوافل من حران إلى الشام وبينها وبين منبج أربعة فراسخ (قورس) مدينة أزلية بها آثار قديمة وكورة من نواحي حلب وهي الآن خارب وبها آثار باقية (كرزين) قلعة من نواحي حلب بين نهر الجوز والبيرة لها عمل (كشفريد) بلد في جبال حلب تتمبأ فيه رجل في سنة 561 وانضم إليه جمع فخرج إليه عسكر الشام فقتل أصحابه كفردين حصن بنواحي إنطاكية (كفر روما) قرية من قرى معرة النعمان وكان حصناً مشهوراً خربه لؤلؤ الشيعي المعروف بالجراحي المتغلب على حلب بعد أبي الفضائل ابن سعد الدولة في سنة 393 (كفرسوت) من أعمال حلب الآن قرب بهنسا بلد فيه أسواق حسنة عامرة (كفرطاب) بلدة بين العرة ومدينة حلب في برية معطشة ليس لهم شرب إلا من مياهع الأمطار في الصهاريج وبلغني (ياقوت) أنهم حفروا نحو ثلثمائة ذراع فلم ينبط لهم ماء فيها يقول أبو عبد الله ين سنان الخفاجي:
بالله يا حادي المطايا ... بين حناك وارصنايا
عرج على أهل كفر طاب ... وحيها أحسن التحايا
وأهدلها الماء فهي ممن ... يفرح بالماء في الهدايا
وقال عبد الرحمن بن محسن المعري:
أقسمت بالرب الحرام ومن ... أهل معتمراً من حوله وسعى
آن الأوان بنواحي الغوطتين وآن ... شط المزاربهم يوماًُ وإن شسعا
أشهى إلى ناظري من كل ما نظرت ... عيني وفي مسمعي من كل ماسمعا(70/22)
ولا كفر طاب عندي بالجمة عوضاً ... نعم سقى الله سكان الحمى ورعا
قال أبو الفدا أنها بلد صغيرة كالقرية قليلة الماء يعمل فيها القدور الخزف وتجلب إلى غيرها وهي قاعدة ذات ولاية ولها عمل وهي على الطريق بين المعرة وشيزر قال في العزيزي ومدينة كفر طاب أخلاط من اليمن وبينهما وبين سيزر أثنا عشر ميلاً وكذلك بينهما وبين المعرة.
(كفر غما) صقع بين خساف والسن من نواحي حلب (كفر لاثا) بلدة ذات جامع ومنبر في سفح جبل عال من نواحي حلب بينهما يوم واحخد وهي ذات بساتين ومياه جارية نزهة طيبة وأهلها إسماعيلية (كلز) قرية ن نواحي عزاز بين حلب وإنطاكية (مرعش) مدينة في الثغور بين الشام وبلاد الروم لها سوران وخندق وفي وسطها حصن عليه سور يعرف بالمرواني ثم احدث بعده سائر المدينة وبها رابض يعرف بالهارونية وهو مما يلي باب الحدث وقد ذكرها شاعر الحماسة فقال:
فلو شهدت أم القديد طعاننا ... بمرعش خيل الأرمي أونت
عشية أرمى جمعهم بلبانه ... ونفسي قد وطنتها فأطمأنت
ولاحقة الآطال أسندت صفها ... إلى صف أخرى من عدة فاقشعرت
قال ابن حوقل: الحدث ومرعش مدينتان صغيرتان عامرتان فيهما مياه وزرع وأشجار وهما ثغران قال في العزيزي وبينهما وبين إنطاكية ثمانية وسبعون ميلاً وبينهما وبين مخاضة العلوي على نهر جيحان أثنا عشر ميلاً.
(معرة مصرين) بليدة وكورة بنواحي حلب ومن أعمالها بينهما نحو خمسة فراسخ قال حمدان بن عبد الرحيم يذكرها:
جادت معرة مصرين من الديم ... مثل الذي من دمعي لبينهم
وسألتها الليالي في تغيرها ... وصافحتها بد الآلاء والنعيم
ولا تناوحت الإعصار عاصفة ... بعرصتها كما هبت على آرم
حاكت يد القطر في أفنائها حللاً ... من كل نور شنيب الثغر مبتسم
إذا الصبا حركت أوارها اعتنقت ... ومثلت بعضها بعضاً فماً لفم
فطال ما نشرت كف الربيع بها ... بهار كسرى مليك العرب والعجم(70/23)
(معرة النعمان) مدينة كبيرة قديمة مشهورة من أعمال حمص بين حلب وحماه وماؤهم من الآبار وعندهم الزيتون الكثير والتين قال أبو العلاء المعري:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليها الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة ... تغيب بها ظمآن ليس بالي
ونقل أبو الفدا عن السمعاني أن النسبة إلى المعرة معرتي قال لأن معرتي معرة النعمان ومعرة نسرين فالنسبة إلى الأولى معرتي وإلى الثانية معرنسي غير أ، أكثر أهل العلم لا يعرف ذلك.
(منبج) قال ابن جبير بلدة فسيحة الأرجاء صحيحة الهواء يحف بها سور عتيق ممتد إلى الغاية والانتهاء جوها صقيل ومجتلاها جميل ونسيمها أرج النشر عليل نهارا يندى طله وليلها كما قيل سحر كله تحف بغربها وبشرقها بساتين ملتفة الأشجار مختلفة الثمار والماء يطرد فيها ويتخلل جميع نواحيها وخصص الله داخليا بآبار مغنية شهدية العذوبة سلسبيلية المذاق تكون منها البئر وأرضها كريمة تستنبط مياهاً كلها وأسواقها وسككها فسيحة متسعة وداكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن أنساقاً وكبراً وأعالي أسواقها مستقفة وعلى هذا الترتيب أسواق أكثر مدن هذه الجهات ولكن هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب حتى أخذ منه الخراب كانت من مدن الروم العتيقة ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنخار منها ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية وأهلها أهل فضل وخير سنيون وشافعيون.
قال أبو الفدا: منبج إحدى بلاد الشام بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام وسماها منبه وبن بها بيت نار ووكل به رجلاً يسمى ابن دينار من ولد أزدشير بن بلهك وهو جد سليمان بن مجالد الفقيه فغلب على سام الميدنة قال اين حوقل: وهي في برية الغالب على مزارعها الأعذاء وهي خصبة أقول (أبو الفدا) وهي كثيرة القني السارحة والبساتين وغالب شجرها التوت لأجل القز ودور سورها متسع كبير وغالب السور والبلد خراب.
(الهارونية) مدينة صغيرة قرب مرعش بالثغور الشامية في طرف السور والبلد خراب استحدثها هارون الرشيد وعليها سوران وأبواب حديد ثم خربها الروم فأرسل سيف الدولة غلامه غرقوية فأعاد عمارتها وفي اليوم من بلاد بني ليون الأرمني.(70/24)
هذا ما تيسر جمعه من أسماء المدن ووالكور والحصون بقيت هناك أسماء قرى ذكرها ياقوت فأضربنا عن ذكرها لتغيير أسمائها اليوم وطموس معالمها على الأكثر وقد وصف الرحالة ابن حوقل المملكة الحلبية بقوله: وقنسرين مدينة نسبت الكورة أليها وهي من أضيق تلك النواحي يناء وإن كانت نزهة الظاهر مغوثة في موضعها بما كان بها من الرخص ماكتسحثها الروم فأكنها لم تكن إلا بقايا من فديتها من دمن ومعرة النعمان مدينة هي وما حولها ن القرى أعذاء ليس بنواحيها ماء جار ولا عين وكذلك جميع قنسرين شربهم من السماء وهي مدنية كثيرة الخير والسعة والتين والفستق وما يأكل ذلك من الكروم وبينها وبين جبلة التي على ساحل البحر الرومي. . . وكانت جليلة يسكنها وزير الجبلين فافتتحها الروم وسبوا منها خمساً وثلاثين ألف امرأ وصبي ورجل بالغ وجزيرة قبرس تحاذي جبلة في وسط البحر الرومي وبينها وبين جبلة مجرى يوم وليلة وكانت للمسلمين والروم فأحتوت الروم عليها بتفريط المسلمين وخذلان وأما الخناصرة فهي حصن يحاذءي قنسرين إلأى ناحية البادية وعلى شفيرها وسيفها كان يسكنه عمر بن عبد العزيز صالحة في قدرها مغوثة للمجازين عليها في وقتنا هذا لأن الطريق انقطع من بطن الشام باتيان الروم عليه وهلاك ولاته فلجأ الناس إلأى رطيق البادية وبالأدلاء والخفراء.
والعوصم اسم الناحية وليس بمديمة تسمى بذلك وقصبها إنطاكية وهي دمشق أنزه بلد بالشام وعليها إلى هذه الغاية سور من صخر يحيط بها وبجبل مشرف عليها لهم فيه مزارع وأجنة وأرحية وما يستقل به أهلها من مرافقها ويقال أن دور سورها يوم تجري مياههم في أسواقهم ودورهم وسككهم ومسجد جامعهم وكان لهم ضياع وقرى ونواحي خصبة استولى عليها لاعدو فملكها وكانت قد اختلت قبيل افتتاحها في أيدي المسلمين وهي أيضاً في أيدي الروم أشد اختلالاً وفتحها الروم في أول سنة 359.
وميدنة بالسن مدينة على شط الفرات من غربيه وهي أول مدن الشام من العراق وكان الطريق إليها عامراً ومنها سابلاً وكانت فرضة لأهل الشام على الفرات فعمت آثارها ودرست قوافلها وتجارتها بعد سبف الدولة وهي مدينة عليها سور أزلي ولها بساتين فيما بينها وبين الفرات وأكثر غلاتها القمح والشعير ومن مشهول أخبارها أن المعروف بسيف الدولة على بن حمدان عند انصراعه عن لقاء صاحب مصر وقد هلك جميع جنده أنقذ إليه(70/25)
المعروف بأبي حصين القاضي فقبض من تجار كانوا بها معتقلين عن السفر ولم يطلق لهم نفوذ مع نالهم فأخرجهم عن إحما بن واطواف زيت إلى ما عدا ذلك من متاجر الشام في دفعيتن بينهما شهور قلائل وأيام يسيرة ألف ألف دينار وعلى الغرب منها مدينة منبج خصبة كثيرة الأسواق قديمة الآثار عظيمة الأسوار في برية الغالب عليها وعلى الأعذاء وهي حصينة عليها يور أزلي رومي وبقربها أيضاً مدينة سنجة وهي مدينة صغيرة بقربها قنطرة تعرف بقنطرة سننجة ليس في لاإسلام قنطرة أحسن منها ويقال أنها من عجائب الزمان.
ومدينة سميساط على لافرات وكذلك جسر منتبج وهما مدينتان صغيرتان حصينتان لهما زرع ومباخس وماؤها من الفرات وكانت ملطية مدينة كبيرة من أكبر الثغور وأكثرها سلاحاً ورجالاً دون جبل للكام إلى ما يلي الجزيرة ويحف بها جبال كثيرة فيها الجوز والكرم واللوز وسائر الثمار الشتوية والصيفية مباحة لا مالك لها وهي من أقوى بلاد الروم في هذا الوقت يسكنها الأرمن وفتحت في سنة 319.
وكانت المدينة المعروفة بحصن منصور صغيرة حصينة فيها منبر وبها رستاق وفيرى برسمها أعذاء فاستأثر بهلاكها على أيدي الروم ويني حمدان. والحدث ومرعش مدينتان صغيرتان افتتحهما الروم من قبل يومنا هذا فأعاد سيف الدولة على بن عبد الله وعاد الروم فانتزعوها من المسلمين ويجهادون ففسدت النيات وافتتحت الأعمال وارتفعت البركات وفسدت المذاهب ولج الملوك في الظلم والاستئثار بالأمول والعامة في الإصرار على المعاصي والطغيان فهلك العباد وتلاشت البالد وانقطع الجهاد وبذلك نطق الكتاب العزيز حيث يقول سبحانه وعز من قائل وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القوال فدمرناها تدميراً.
وكانت الهارونية من غربي جبل اللكام في بعض شعابه ضغيراً بناه هارون الرشيد أدركته عامراً حسناً فأهلكته الروم.
وكانت الاسكندرونة أيضاً حصناً على ساحل بحر الروم غذ نخيل وزرع كثير وغلة وخصب كثير فأتى عليه العدو وكذلك حصن الثينات حصن كان على شط البحر فيه مقطع لخشب الصنوبر الذي كان ينقل إلى الشام ومصر والثغور وكان فيه رجال فتاك أجلاد لهم(70/26)
علم بلد الروم ومعرفة بمخائضهم وكانت الكنيسة حصناً فيه منبر وهو ثغر في معزل من ساحل البحر يقارب حصن المثقب الذي استحدثه عمر بن عبد العزيز وعمره وكان فيه منبر ومصحفه بخطة وكان فيه قوم سواة من عبد شمس اعتزلوا الدنيا ورفضوا المكاسب وكان لهم ما يقيم بهم من المباح.
وكانت عين زربة بلداً يشبه مند الغور بها نخيل وخصب واسعة الثمار والزره والمرعى وهي المدينة التي كان فيها وصيف الخادم همَّ بالدخول منها إلى بلد الروم فأدركه المعتضد بها وكانت حسنة الداخل والخارج نزهة داخل سورها جليلة في جميع أمورها وكانت المصيصة مدنيتين أحداهما تسمى المصيصة والأخرى تسمى كفربيا على جانبي جيحان وبينهما قنطرة حجارة وكانتا حصينتين جداً على شرف من الأرض ينظر منها الجالس في مسجد جامعها نحو البحر أربعة فراسخ كالبقعة بين يديه خضرة نضرة جليلة الأهل نفيسة القدر كثيرة الأسواق حسنة الأحوال وجيحان نهر يخرج من بلد الروم وكان كثير الضياع وغزير الكراع.
وكانت أذنة مدينة كأحد جانبي المصيصة على نهر سيحان في غربي لنهر وسيحان دون جيحان في الكبر عليه قنطر عجيبة البناء طويلة جداً ويخرج هذا النهر من بلد الروم أيضاً وكانت جليلة الأهل حسنة المحل في كل أصل وفصل وعلى أصل طريق طرسوس.
فأما مديمة طرسوس فالمدينة المشهورة المستغنى بشهرتها عن تحديدها كبيرة عليها سوران من حجارة كانت تشمل على خيل ورجال وعدة وعتاد وكراع بينها وبين حد الروم جبل متشعبة من اللكام كالحاجز بين العملين.
ورأيت غير عاقل مميز وسيد حصيف مبرز يشار إليه بالدراية والفهم واليقظة والعلم يذكر بها مائة ألف فارس وكان ذلك عن قريب عهد من الأيام التي أدركتها وشاهدتها وكان السبب في ذلك أنه ليس من مدينة عظيمة من حد سجستان وكرمان وفارس وخوزستان والجبال وطبرستان والجزيرة والعراق والحجاز واليمن والشامات ومصر والمغرب إلا وبها دار ينزلها غزاة تلك البلدة ويربطون بها إذا وردوها وتكثر لديهم الصلات وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة الجسيمة إلى ما كان السلاطين يتكلفونه وأرباب النعم يعانونه وينفذون متطوعين متبرعين ولم يكن في ناحية ذكرتها رئيس ولا نفيس إلا وله عليها وقف(70/27)
من ضيعة ذات مزارع وغلات أو مسقف من فنادق فهلكوا فكأنهم لم يقطنوها وعفوا فكأنهم لم يسكنوها حتى لطننتهم كما قلا الله تعالى هل تحس منهم من أحد أو تسمع اهم ركزاً أولاس حصناً على ساحل البحر فيه قوم متعبدون حصين وكانت فيهم خضونة في ذات الله تعالى وكان في آخر ما على بحر الروم من العمارة فكانت مما بادية العداوة وبغراس كان فيه منبر على طريق الثغور وكانت فيها در ضيافة لزبيدة بالشام دار ضيافة غيرها كبيرة اه.
ولاية حلب ويكانها وحيواناتها
تبين من الأبحاث السالفة أن ولاية حلب أو مملكة حلب كانت تقسم بحسب الأزمان وقد يضاف إليها البعيد من البلدان ويتبع القريب منها غيرها. وتقسمات الولاية الحلبية بحسب التقسيم الأخير هي كما يلي نقلاً عن أصحاب المصادر التركية:
إن ولاية حلب عبارة عن شمالي سورية وجزء من البلاد الجنوبية في آسيا الصغرى ومنها مرعش أو مملكة ذو القدرية وكانت تدعى قديماً كبدوكية وقسم من الجزيرة وهو لواء أورفة (الرها) وهذا اللواء قد انفصل عن ولاية حلب في هذه السنة فأصبح من الألوية المستقلة يخابر الإستانة في شؤونه الإدارية مباشرة كالقدس والزمر وبيغا وأذميت وغيرها.
يحد الولاية بحسب تقسيمها قبل افصال لواء أوزفة من الجنوب ولاية سورية ومن الغرب البحر الأبيض وأطنة (أدنة) ومن الشمال ولايتا أنقرة وسيواس ومن الرق لواء الزور وولايتا ديار بكر ومعمورة العزيز وطولها من الشرق إلى الغرب 85 ساعة وعرضها 90 ساعة.
يقولون إن الأصل سكان هذه الولاية من نسل سام والجنس القافقاسي بدليل إنه سكنتها قبائل الكينا الوثنية وهم من أولاد سام ين نوح ثم الآراميون وبعد أن تناقل الحكم عليها قل المسيح بنحو ثلاثة آلاف سنة المصريون والىشوريون والفرس انتهب إلى أيدي المسلمين ففتحها من أقطاها كل من الفاتحين العظيمين أبو عبيدة بن الجراح وخالد ين الوليد. فسكان ولاية حلب اليوم من السلمين العرب والترك والتركمان والجركس والأكراد والنصيرية ومن المسيحين الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والأرمن والأرمن الكاثوليك والسريان والسريان الكاثوليك والموازنة والبرتستانت والكلدان واللاتين وفي المدن والبلدان زمر من(70/28)
اليهود. ويرد أنساب العرب النازلين في هذه الولاية على الاكثر إلى إبراهيم الخليل أما الأتراك فقد حلوا فيها على عهد الخلافة العباسية ونزلها التركمان أيام دولة بني مرداس والأكراد على عهد دولة بني أيوب وكثر الأتراك فيها على عهد الدولة السلجوقية التركية وعلى عهد الدولتين التركية والجركسية في مصر وزادت كبرى على عهد الدولة العلية. قال ابن جبران حلب مبنية بالحجر الأصفر الذي لا يوجد في البلاد مثله وهي أوسع الشام بلاداً وأوطاها أكنافاً ولها المرج الفسيح ولابر الممتد حاضرة وبادية وبها منازل عربان وأتراك وبها جند كثيف وأمم من طوائف العرب والتركمان وبلادها متصلة بسيس والروم وديار بكر وبرية العراق ويغلب السخاء والذكاء والمضاد على سكان هذه الولاية على اختلاف طبقاتهم.
هذا كلام موجز على أنسابها أم حيوانها فإنك تجد في أطراف الولاية كلها الغنم والماعز وترى في بعض أقيةى مرعض كثيراً من البقر الحلوب والجاموس وكذلك في أقضية حارم والمعرة والباب وجبل اسمعان ومنبج والرقة وبكثر الجبل عند عشائر الأكراد في لواء مرعش وعفي مدينة حلب جنس من البقر يقال لها الشامي يدر لبناً كثيراً وفي أقضية حلب والمعرة والباب ومنبج والرقة جنس من الخيول المطهمة والأفراس العربية وفي جميع أطراف الولاية تكثر الأبقار والثيرا والبغال والحمير.
وفي جبل بيلان (بغراس) والبلاد المجاورة لها وفي جبل باريشا من أعمال حارم وفي لواء مرعش والذئب والثعلب وابن آوى والخنزير والأيل والغزال والارنب والنمس وكلب الماء على أطراف الفرات تجد الأسد. ومن الطيور الدجاج الهندي والبط والسمن والشحرور والحجل والحمام والدجاج ودجاج الماء وأبو سعد والنسر واللقلق ومن الحشرات الحية والعقرب.
جبالها وأنهارها وبحيراتها وسواحلها
أهم جبال هذه الولاية جبل بركت وهو أعظم شعبة من سلاسل جبال طوروس - ومعناه جبل الثورة وهو سلسلة مشهورة بأسيا الصغرى وله في العربية أسماء كثيرة منها دوماوند وكورين - التي تنتهي بالبحر الرومي وهو الذي عرفه العرب بجبل اللكام وجبل سور والثغور القرمانية وهذا الجبل هو الحد الطبيعي بين سورية أوبر الشام وبين آسيا الصغرى(70/29)
ولعله هو المعروف بالأبواب الشامية وهو اسم يطلقه القدماء على مضائق في لجبال الفاصلة بين بلاد الشام وأرض كليكيا وكليكيا عبارة عن لواء أطنة اليوم أو أذنة فالبلاد الواقعة شرقي هذا الجبل حتى الجهة الغربية ويدخل فيها بر الشام تعد من آسيا الصغرى ففي هذا الجبل قصبة امسها ياربوز وفي سفوحه أقضية خاصة وإصلاحية وعثمانية وبولانق وبياس وتسمى كلها جبل بركت من أعمال ولاية أذنة وفي سفح هذا الجبل قضاء اسكندونة وقضاء بيلان من أعمال حلب وعلى ذلك تعد أقضية بيلان وخاصة وإصلاحية وبولانق من أرض سوريةوفي سمالي جبل برك مرعش وقوزان يفصلها نهر جيحان ويمتد إلى الجنوب حتى يصل إلى بيلان وأعلى قمة أكمة معر المشهورة ترتفع 2500 متر عن سطح البحر وتشاهد من نفس حلب ويكون الثلج في قننها صيفاً وشتاءَ وطول هذا الجبل ثلاثون ساعة وعرضه عشر ساعات وسكانه نحو مائة ألف نسمة تسعون في المئة منهم من أهل الإسلام.
ويخرج في هذا الجبل الصنوبر والسنديان والعفن والمصطكى والدردار والحور والصفصاف والدلب والأرز والعرعر وقزلجق ويوجد التفاح البري والإجاص البري بكثرة.
وإن منظر هذا الجبل بما ينجس منه من المياه الغزيرة النفيسة لحلو جداً من أنحاء حلب وأطنة فإذا صعد المرء القمة العليا وألقى بنظره إلى جهة حلب يرى الخضرة الزرمدية والسهول البديعة ويشهد نهر العاصي والنهر الأسود ونهر عفرين ويمتع النظر بصخور الجبال الصعبة التي يتخللها أشجار الزيتون والصنوبر التي تنبعث من الجبل الأعلى وجبل الأكراد وسهول إصلاحية وبازارجق وحلب وفي ذلك مصور بديع يصعب على أبلغ الكاتبين والمصورين وصفه ورسمه وإذا عطف الناظر بصره إلى ناحية بياس لا يشبع من النظر إلى أشجار البرتقال والليمون ففي البر القلعة وفي البحر بر جقوراوه ويقسمه نهر جيحان وأكمات سيس وسلسلة جبال طوروس الواصلة إلى قزوان ومنفرج جزيرة قبرص وهناك ألوف من الطيور تشدوا بأحلانها فتطرب الأسماع.
والمنظر الثاني الماطاغ الذي تزدان به سواحل بحر الروم وأودية أنطاكية ويفرق بين جبل طوروس وجبل لبنان. وهذا الجبل أي الما طاغ يتشعب من سلسلة جبال طوروس بإنفراج(70/30)
بيلان عن جبل بركت متصلاً بالجنوب الغربي ويكون معظم ارتفاعه في خليج اسكندرونة ويمتد إلى الجهة الغربية على خط عمودي وتبلغ أعلى قمم هذا الجبل 1500متر واسمه القديم أمانوس (اللكام) وبقال له الآن الجبل الأحمر (قزل طاغ) وجبال أردو والقصير وموسى وسمعان من جملة شعبه ويفصل بين هذا الجبل وبين لبنان سلسلة منفرجة بين طرابلس الشام وطرطوس.
وفي جبل أمانوس هذا علائم البراكين وفي سنة 1298 رومية بركان صغير بالقرب من فرضة أرسوز ويقال لجبال أردو الجبل الأقرع واسمه القديم كاسيوس وبالعبرانية جيل حلاق أو حالاق. ولقد أودى زلزال سنة 250 ق. م في إنطاكية بشطر من هذا الجبل وألقى به في البحر وانبعث منه دخان أسود كثيف وفي هذا الجبل من الأشجار الصنوبر والعفص والعرعر والدلب والقصب والبلوط بكثرة.
والجبل الثالث جبل أخور وهو المؤلف من جبال زيتون ومرعش وليس بجسامته كالجبلين السالفين. ومن الجبال الحرية بالذكر جبل نور الحق من أعمال قضاء البستان ولا تخلو قممه من الثولج صيفاً وشتاء وفي هذا الجبل بحيرة صغيرة متسعة وبنيت فيه نوع من الزهر العطر الرائحة الجميل المنظر وهناك جبال صغيرة مصل جبل الأكراد من أعمال كليس وجبل قره بيلقي (ذة الشارب الأسود) في قضاء عينتاب وجبل الزاوية وجبل سمعن في قضاء إدلب والجبل الأعلى في قضاء حارم.
أنهار حلب وبحيراتها
في الولاية الحلبية عدة أنهار أولها نهر الفرات ينبع قسم منه من جبل في جوار ديادين من أعمال لواء بايزسد في ولاية أرضروم (كردستان) والقسم الآخر من بحيرة الألف (بيك كولي) من أعمال الولاية المذكورة فالشطر الذي ينبجس من بحيرة الألف يقال له في تلك الأنحاء قره صو (النهر الأوسد) ونهر مراد وينضم هذان النهران أحدهما إلى الآخر في جوار معدن كبان ويسمى هناك الفرات ثم يجري إلى محال كثيرة ويمر أمام قصبة بيره جك (البيرة) ويجتاز مسكنه (بالس) والرقة والزور وعانة ويجتمع في الورنة بين البصرة فطول نهر الفرات 1800 كيلومتر. ويكون عرض الفرات في الشتاء 1200متر أمام بلدة البيرة وعمقه سبعة أمتار والفرات من أكبر أنهار آسيا وأحد الأنهار الأربعة الكبرى. لا(70/31)
جرم أن هذا النهر بالنسبة لجسامته إذ ظهر مجراه وعمقه يصلح لسير السفن ولذلك تغتنم الإدارة النهرية في بغداد فرصة فيضانه فترسل في لافرات إحدى بواخرها إلى مدينة مسكنة تقل الركاب والبضائع.
وروى المؤرخون أن أويدة الفرات كانت على عهد الآشوريين أي قبل أربعة آلاف سنة تزرع كلها وكانت تقتطع منه ترع وأقنية كثيرة حتى كان يجف أقصى بلاد بابل ولا يصل من مائه إلى الخليج البصرة شيء وكان تجار بابل يحملون بضائع الأناضول (الروم) من قفقاسيا في قوارب معمولة من جلود البقر إلى مدينة بابل. والنهر الثاني من أنهار هذه الولاية نهر العاصي وارنط الأرند) قال البحتري:
وكم نفست من حمص من متأسف ... غدا الموت منها آخذاً بالمخنق
وكم قطعت أرض الأرند إليهم ... كتائب تزجي فيلقاً بعد فيلق
وهو يخرج من عين اللبوة في جبل لبنان وبعد أن يجري إلى حمص وحماه ينتهي إلى سهل العمق ويجتاز قصبتي إنطاكية وجسر الشغر إلى أن يبلغ فرضة السويدية فيصب في البحر الرومي وكان يقال له في القديم الأورنت ثم أطلق عليه النهر الكبير ونهر المقلوب ونهر الميماس.
والنهر الثالث من أنهر الولاية الحلبية نهر جيحان ينبع بالقرب من قصبة البستان ويصب فيه نهر سودلي (نهر اللبن) وخرمن (البيدر) وغيرهما فيعظم جرمه وبعد أن يجتاز قضاء زيتون وجوار مرعش يجري إلى ولاية أطنة ويصب في البحر الأبيض وكان اسمه قديماص بيراموس.
والنهر الرابع نهر قره صو (الهر الأسود) يتبخس من جبل بركت فيسقي مزارع الأرز المقابلة لهذا الجبل وسهل العمق ويصب في بحيرة العمق ثم يجتمع إلى مياه العاصي ويسميهمؤخو العرب وجغرافيوهم بالنهر الأسود. والنهر الخامس من أنهار هذه الولاية نهر عفرين وهو يخرج من جبل الأكراد فيجتمع من عدة منابع وينضم إليه وادي صافي فيصبح نهراً مهماً وهو أيضاً يصب في بحيرة العمق كنهر الأسود ويختلط بالعاصي.
في ولاية حلب ثلاث بحيرات أولها بحيرة العمق في سهل العمق تحيط بها شعاب من جبال طوروس وأمانوس وقسم من صخور الجبل الاعلى وجبل سمعان وطولها 20 ميلاً في(70/32)
عرض سبعة أميال وماؤها عذب ويقال لها بحيرة إنطاكية ويقال لها اليحر الأبيض أيضاً يصب إليها من الشمال النهر الأسود ونهر عفرين وقسم من بحيرة يغرا المشهورة بكثرة أسماكها ومن الجنوب نهر بركت ويصب ماؤها بالقرب من الجسر الحديد في مجرى طبيعي إلى نهر العاصي. وفي هذه البحيرة البط والأوز وغيرهما من طيور الماء ويربي الفلاحون والتركمان في أطرافها أبقاراً كثيرة.
وتسمى هذه البحيرة بحيرة إنطاكية قال أبو الفدا في وصف بحيرة أنطاكية أنها بحيرة بين إنطاكية وبين بغراس وبين حارم في أرض مستوية تعرف تلك الأرض بالعمق وهي من معاملة حلب على مسيرة يومين عنها في جهة الغرب ويصب إلى هذه البحيرة ثلثة أنهر تأتي من الشمال فأحدها وهو الشرقي يقال له عفيرين والآخر وهو الغربي منها تحت دربساك ويقال له النهر الأسود والآخر في الوسط بين النهرين المذكورين ويقال له نهر يغرا ويغرا قرية على النهر المذكور وأهلها نصارى ودور هذه البحيرة نحو مسيرة يوم ويحيط بها الأقصاب وبها من الطير والسمك قريب مما في بحيرة أفامية وتجتمع هذه الأنهر الثلثة أعني النهر الأسود ويغرا وعفرين وتصير نهراً واحداً ويصب في البحيرة من شمالها ويخرج من سماليها نهر واحد ويتصل نهر الأرنط تحت جسر الحديد وفوق إنطاكية على ميل منها وهذه البحيرة في شمالي إنطاكية اه.
البحيرة الثانية من بحيرات الولاية بحيرة السمك وهي في سهل العمق أيضاً وكان يقال لها قديماً بحيرة يغرا وهي صغيرة الحجم تضمنها الحكومة لمن يصيد سمكها. والبحيرة الثالثة بحيرة المضيق في قضاء جسر الشغر وتكثر فيها لاأسماك فتضمنها الحكومة لمن يلتزم يستخرج أسماكها ويقال لهذه البحيرة بحيرة أفامية قال أبو الفدا في وصفها أنها عدة بطائح تفوت الحصر بين غابات من الأقصاب وأعظم تلك البطائح بحيراتان أحدهما جنوبية والأخرى شمالية وماؤها من نهر الأرنط هناك من جهة الجنوب فيصير منه تلك البطائح ثم يخرج النهر المذكور عند النهاية الشمالية لهذه البطائح والغابات والبحيرة الجنوبية من البحيرتين هي بحيرة أفامية وسعتها بالتقريب نحو نصف فرسخ وقعرها قريب دون قامة الإنسان وأرضها موحلة لا يقدر الإنسان على الوقوف فيها ويحيط بها القصب والصفصاف من كل جانب وفي وسطها جميم قصب وبردي ولذلك لا يكادان تنظر العين إلى جميعها(70/33)
لأن الجمم التي بها تحجب بعضها ويكون بها وبغيرها من البطائح المذكورة من أنواع الطير التمات والغريرات والبجعات والأصواغ والأوز ولاطيور التي تأكل الأسماك مثل الجلط والأبضات وغير ذلك من طير الماء ما لم يكن مثله في شيء من البحيرات التي بلغنا خبرها وفي أيام الربيع ينبت بهذه البحيرة المذكورة النيلوفر الأصفر حتى يغطي جميعها بحيث يستر الماء عن آخره بورقه وزهره وتبقى المراكب سائرة بين ذلك النيلوفر وأما البحيرة الثانية الشمالية فبينها وبين البحيرة المذكورة غاب قصب وفيه زقاق يخرج فيه الراكب من البحيرة الجنوبية إلى الشمالية والبحيرة المذكورة من عمل حصن برزية وتعرف بحيرة الناصرى لأن صيادي السمك السمك نصارى ولهم بيوت على الخوازيق في شمالي البحيرة المذكورة وتكون بقدر فامية أربع مرات ووسط بحيرة النصارى مكشوف وبنيت النيلوفر في طرفيها الجنوبي والشمالي وبها من الطير نحو ما تقدم ذكره وبها السمك المعروف بالإنكليس ولشهرة بحيرة أفامية وبطائحها اقتصرتا على هذا القدر من وصفها وهذه البطائح في الغرب بميله إلى الشمال عن أفامية وقريبة منها فعرضها وطولها مقارب لعرض أفامية وطولها أه.
موانيء حلب ومياهها المعدنية ومعادنها وملاحتها
إن سواحل هذه الولاية عبارة عن جون سكندرونة وفرضتها المعروفة عند قدماء الجغرافيين بسنيوس وأسيوس والمعدودة من أشهر موانيء البحر الأبيض وفرضة السويدية المعروفة قديماً بسندلوس وفرضة قاب آومن أعمال اشكندرونة وقره طوران من أعمال جسر الشغر وتتألف هذه الفرض والموانيء من الصخور التي تتخللها ومن رأس الخنزير المشهور. ومعطم السفن التي تجر بين سواحل سورية ترسي في مسناء الاسكندرونة أما السويدية فإن بعض المراكب التي ترسي فيها تجارية وأكثرها شراعية. أما فرضتها فاب أو وقره طوران فا ترسي فيها إلا المراكب الشراعية.
وبالقرب من السويدية في وسط البحر نبع ماء لذيذ كلفوارة وكانت هذه الفرضة قديماً مبينة بالحجر متينة للغاية قدكها الملك الظاهر ببيرس اليندقداري لما رأي من الحاجة إلى ذلك لإنقاذها من أيدي الصلبيين أيام استيلائهم على إنطاكية وجوارها في قضاء جسر الشغور حمامان معدنيان ماؤهما في الأمراض الجلدية وفي سهل العمق من أعمال حلب ماء كبيرتي(70/34)
تبلغ حرارتها الدرجة لثانية والأربعين وفي قضاء بيره جك على الفرات حمة أخرى وفي كل من قضاء مرعش وقضاء زيتون حمة أيضاً وفي قضاء البستان مياه معدنية ايمها أيجمه نافعة للأمراض المختلفة.
هذا وصف تقويم الحكومة لحمامات حلب ووصفها ابن شداد في القرن التاسع فقال إن الحمامات التي ينتفع بمائها في أعمال حلب خمسة بالسخنة ن أعمال قنسرين ماؤها في غابة الحرارة ينتفعون بها ن البلغم والريح والجرب ويناجيه العمق وبناحيةى أخرى ويكورة جومة من أعمال قنسرين عيون كبريتية تجري إلى الحمة والحمة قرية يقال لها حندراس لها بنيان عجيب معقود بالحجارة يأتيها الناس من كل الآفاق فيسبحون بها للعلل التي تصيبهم ولا يدري من أين يجيء ماؤها ولا أين يذهب.
أما معادن الولاية فإن في جوار من جهة الغرب الجنوبي معدن نحاس وعلى عشرين ساعة من شرقي حلب في محل اسمه أبو فياض فحج حجري وفي جوار حلب معدن رخام أثفر وفي قضاء حارم معدن زجاج وفي ناحية أرسوز من أعمال اسكندرونة ممعدن بترول وفي ذاك الأصقاع وأعمال إنطاكية معادن اميانت وبوراسيت ورصاص وأنتمون وكرون وفي جوار قرية دير الجمال من اعمل كليس معدن جيسن تلزم الحكوم لمن يريد وفي جبل بايشا من أعمال حارم معدن رخام أصفر وفي قرية جاربين من اعمال عينتاب معدن رخام أحمر وفي جبال مرعش مناجم ذهب وفضة وحديد ورخام اصفر ورخام أسود وفي قضاء زيتون معدنا حديد.
وفي ولاية حلب ملاحة واحدة وهي مملحة الجبول شرقي حلب من جهة البادية وهي عبارة عن عدة ملاحات وأعظمها ما كان في جوار قرية جبول على شكل مخروطي عظيم لاتطاف أطرافها في أقل من ثماني عشرة ساعة يجمد ماؤها في أيار إلىتشرين الثاني فيكون في هذه الفترة ملحاً تبيعه الحكومة كما تبيع الملح من ملاحة جيرود وملاحة حماة وملاحة الجليل هذه الملاحة جبل اسمه جبل الخاص وومن ورائه إلى لابادية سبع ملاحات واسمها الحمرا وخرايجة وعيتا وزرقة ورملة ورديهم ومراغة تبعد بعضها عن بعض من أربع إلى ست ساعات وتجمد في آن واحد وملحها كهلا جيد طيب ابيض قوي نظيف وفي لذاذته من أجمل ملح البلاد العثمانية.(70/35)
أقضية حلب وعمرانها
لحلب ثلاثة عشر قضاء هي من عملها مباشرة وهي: قضاء عينتاب أهم أقضية حلب يبعد عنها من شماليها 24 ساعة. ولم تكن عينتاب مشهورة بهذا الاسم حتر على عهد الصليبيين بل كانت مدينة دلوك إلى عينتاب في سنة 800كما فهم من سجلات المحكمة الشرعية هناك ومن هذا العهد ابتدأت شهرة عينتاب وهي اليوم بجسامتها وعمرانها تعد من المدن الثانية في هذه الولاية.
وكان في قضاء عينتاب بموجب إحصاء الحكومة منذ أربع سنين 12. 531داراً و4851 دكاناً و220 مسجداً و25 مدرسة 10 تكايا و 3 مستشفيات و60 فرناً و16 دباغة و4 دور كتب و2914 نولاً لصنع الألاجة والاقمشة والعباآت والبسط وفيه 352600 دونم من الأراضي المزروعة و112000 دونم من الأراضي غير لمزروعة وسكن القضاء 89994 نسمة وللقضاء ثماني نواحي وهي ناور. رشي. قزلحصار. تل بشار. هزل. جار بين. جكدة. قزين وفيها 207 قرى.
وفي الشرق الجنوبي من عينتاب على نحو ست ساعات منها خرائب تل بشار وتل خالد المشهورة في زمن الصليبيين وفي الغرب الجنوبي منها على مسافة ثلاث ساعات خرابة قلعة برج الرصاص. وعلى ثلاث ساعات من غربي عينتاب ينبع من مرزعة رأس الساجور نهر الساجور المشهور فيسقي عينتاب وبعض أراضيها ثميري إلى قضائي الباب ومنبج يسقي بعض زروعها ويصب في الفرات.
ويكثر في قضاء عينتاب الفستق والعنب والتين والزيتون وتصنع فها بسط وسجادات متينة جميلة وشغل الأبرة وفوط الحمام والعاباآت والجلد المدبوغ والأواني النحاسية والكراسي والقاعد الخشبية وغيرها ومنه ما يسافر إلى أميركا وأوربا ومنه إلى مصر وال، اضول والإستانة ولها تجارة واسعة مع حلب وأورفة وممرعش واسكندرونة.
قضاء كليس - هي في الجهة الشمالية من حلب علىمسافة 12 ساعة منها وفيالقضاء 4721 دارا و1955 دكاناً و37 جامعاً و14 مسجداً و24 تكية و28 مدرسة وخزانة كتب واحدة و74 معصرة زيت و50 خاناً و 31 فرناً وفيه 2272700 دونمات من الاراضي يزرع فيها الأرز والقطن وسائر الحبوب والفواكه وتكثر في هذا لاقضاء الكروم ولابساتين(70/36)
وزيت زيتونها يرجح على ما يخرج من جميع البلاد العثمانية وسكان القضاء 72206 فيه تسع نواح هي تركمان. فلاح منبج. موسيكلي. شقاغي. عميكي. أوقجي عزالدين. الشيوخ. جوم و469 قرية بحيث يجدر أن يكون لاية قائمة برأسها لأقضاء صغيرة ملحقاً بالولاية.
لا يعلم تاريخ بناء مدينة كليس وغاية ما عرف أنها كانت موجودة سنة 491هـ - يوم قدوم الصليبيين إلى هذه البلاد ومعروفة باسم كالجيس وكانت تابعة لمدينة عزاز فلما أخرب هذه تيمور لنك أخذ بعض أهليها يهاجرون إلى كليس فبدأت تكبر كما يشاهد من طرز أبنيتها ومعاهدها.
وفي هذاالقضاء قلعتا عزاز وراوندة المشهورتان على عهد الصليبين وفي ناحية جوم خرائب مدينة جنديرس في مزرعة صغيرة وفي ناحية العزية خرائب قلعتي جم جمه وخروز. ومرج دابق المشهور ولامعركتين العظيمتين اللتين وقعتا فيه هو أيضاً منأعمال كليس بين هذه ومدينة حلب على أربع ساعات من الأولى وست من الثانية وهاتان الوقعتان كانت أولاهما سنة 803 هـ بين تيمورلنك والملك الظاهر برقوق ملك مصر دولة الجراكسة وكان عسكر تيمورلنك فيما قيل خمسمائة ألف جندي ومثله عدد العساكر السلطان سليم العثماني والسلطان الغوري صاحب مصر والشام التي بفتح الدولة العثمانية لبلاد الشام ومصر.
قضاء اسكندرونة - هو على 105 كيلومترات من الغرب الشمالي عن حلب أو على 24ساعة واسكندرونة كانت من أهم سواحل سورية بتجارتها قبل فتح ترعة السويس لأنها ميناء ولايتي حلب وديار بكر والمنفذ الطبيعي للعراق إلى البحر الأبيض وفي قضائها 25550 دونماً من الاراضي وفي المركز 1199 داراً و446 دكاناً و5 معامل لعرق الوس وجامعان و5كنائس وأديار ومدرسة ودار كتب كتاتيب وفي القضاء 24قرية وناحية واحدة اسمها أرسوز وسكنه 193. 6 أنفس.
ويقال أن الاسكندرونة هي مدينة ميرباندروس الفينيقية ولما غلب الاسكندر المقدوني دارا ملك الفرس في أياس سمى اسكندرونة باسم الكساندرا وأراد الاسكندر أن يشير إلى غلبته هذه فأمر ببناء الاسكندرونة الحالية سنة 955 قبل الإسلام وأصيبت المدينة بزلزال شديد سنة 1238هـ - جعلت عاليها سافلها ثم ترجع إليها عمرانها مع الزمن وفي هذا القضاء(70/37)
ميناء أريسوس المشهور فيزمن الرومانيين ويقال لها اليوم أرسوز وكان يقال قديماً لخليج الاسكندرونة سينوس باللغة اللاتينة وأكبر دليل على ترقي الاسكندرونة تجفيف بعض بعض بطائحهاالتي كانت بصحة سكانها ويكثر في ارضها الليمون والبرتقال وقد رسا في مينائها مدة سنة 600 سفينة وباخرة محمولها أربعمائة ألف طن وكانت قيمة صادرها وواردها 3. 296. 774 ليرة عثمانية.
قضاء إنطاكية - مدينة إنطاكية غربي حلب وهي منها على مئة كيلومترات أو اربع عشرة ساعة وفغيها 135 مسجداً وجامعاً وزاوية وتكية و30 مدرسة و 5 دور كتب و15 كنيسة وبيعة و18 مكتباً للمسلمين ولغيرهم وفي القضاء كله 10281 داراً و2553 دكاناً و330 مخزناً و24 خاناً 123 طاحوناًَ و15 معمل صابون و30 معمل حرير و50 معمل زيت و1602 أنبار ومستودع و3110 كروم و255 حديقة و49. 521 حقلاً وفيه أربع نواح وهي قصير. سويد. قره مورطة. حربية. وعدد قراه 176 وسكانه 78701.
بنى إنطكية سلوقس نيكاتورا أكبر قواد الاسكندرونة المقدوني على اسم أبيه أنطيوخس قبل الهجرة ب - 882 سنة وأصبحت عاصمة المملكة السلوقية بعد وفاة هذا الفاتح وما برحت في ارتقاء وعمرانحتى سكنها سبعمائة ألف واستولى عليها سنة 723قبل الهجرة يوناتان اليهودي فقتل في يوم واحد مئة ألف نسسمة فيما يقال وقد وقعت فيها سنة 526 م زلازل هائلة هلك بها ربع مليون من البر ثم عاودتها الزلازل والحرائق في أوقات مختلفة حتى بلغ عددها عشرين زلزالاً وحريقاً ومثل ذلك من الحروب الطاحنة فخربت إنطاكية ولم يبق من عظمتها التاريخية سوى بعش جدار قلعتها القديمة والظاهر من هيئة الجسر الممتد على العاصي أنه من ابنية السلوقين ومن يدخل إنطاكية ويذكر فيها من القصور والدور والمعابد والهياككل اليونانية والحمامات الجسيمة والاقنية ودور التمثيل لايلبث أن يذرف دموع الاسى على بلد أنفقت العاهات السماوية والارضية على تخريبة ولقد قالو ان التمثيل أرتقى فيها حتى كانت تجلب الممثلين من صور وبيروت والمغننين من بعلبك ولا عجب فقد كانت في عصر الرومان ثالث عواصمهم بعد رومية والاسكندرية.
راجت العلوم في هذه العاصمة ونفقت اسواق الصناعات ولا سيما الفلك والالهاميات ولا تزال إلى اليوم على ضعفها تحتوي على شيئ من المصنوعات وزراعتها وحدائقها تغل(70/38)
كثيرا وميناء السويدية عنها على ست ساعات وهي فرضة ربة اليوم لا تطرقها السفن الا نادراً وكانت تعد من اهم مرافئ سورية واول فرضة منها عكا ثم صور وطرابلس والسويدية ولى ساعة من انطاكيا مدينة دفنة القديمة ويقال لها اليوم بيت الماء وكانت منتزهاً لإنطاكية على اعهد سلوقس نيكاتور وقد بنيت دفنة قبل إنطاكية وكان فيها الشوراع المتسعة ودور التثميل المهمة وفيها هيكل أبولون وغيره من الهياكل وأبولون هورب الصناعات والآداب واطب والشمس في إعتقاد قدماء اليوناننين وقد بقي هذا الهيكل 1188 سنة وعلى مقربة من دفنة كان ملعب الالعاب الأولمبية وقر خربت دفنة برمتها سنة 526 م بالزلزال ولم يبق منها اليوم سمى منماظرها الطبيعية المدهشة فقط.
وعلى ستة أميال من السويدية من عربيها علىسفح جبل موسى مدينة سلوقية القديمة ويقول بعض المؤرخين أن سلوقية كانت من مدن الفينيقين ويقال لها إيليا هيريا وفي رواية سلوقس نيكاتور بناها على سامه وغدت بعد ميناء إنطاكية وكان اسمها بياربا وهو من أسماء الجبل الأقرع وإذ كان تسع مدن تعرف بسلوقية في ذاك العصر أضافوا اسم الجبل إلى هذه تمييزاً لها عن غيرها. وفي رواية أخرى أن القيصر طيباريوس جدد سلوقية وفي قرل آخر أنه أنشأها إنشاءً وقد خربت سلوقية في زلازل سنة 526 - 528 ولما استولى عليها المسلمون لم يكن فيها غير الاسم لا الرسم وسميت هذه الميناء بميناء مار سمعان في القرن السادس للهجرة أيام جاء الصليبيون إلى هذه الديار ومالأهم الأرمن ونصارى إنطاكية وغيرها وخدموا جيوش اللبيين واتحدوا وأياهم على المسلمين كما كان اللبنانيون ولا سيما أهل كسروان أدلاء الصليبيين يدلونهم على عورات أهل البلاد الأصليين.
قضاء إدلب - قضاء إدلب في غربي حلب ييبعد عنها اثنتي عشرة ساعة وفي القصبة 37 مسجداً وجامعاً و3 مدارس و3 كتب و15 تكية وزاوية وكنيسة و17 كتاباً و10 حمامات و959 دكاناً و12 خاناً و56 معصرة و 2157 داراً ونفوسها 13230 وعلى ساعتين من إدلب مدنية ريحا وفيها 6جوامع ومساجد ومدرستان وثلاث تكايا وزايا وكثبين و14 كتابا وثلاثة حمامات و200 دكان و15 معصرة زيت و882 داراً و4868. وشاتهرت ريحا بجودة هوائها وهي في سفة جبلي الزاوية والأربعين وفي ظاهر ريحا عدة أبنية قديمة وعلى ثلاث ساعات منها خرابة البارة تكون في جسامتها بقدر مدينة حلب وفيها رسوم(70/39)
هياكل وآثار قديمة وخرائب قلعة وفيها من أحجار البناء ما يبلغ طوله المترين والثلاثة وعرضه 75 سينتمتراً وبرتعليها حروف يونانية وقد اشتهرت قلعتها زمان الصليبيين وقاومت صدماتهم. وفي جنوبي البارة على مسافة مزرعة اسمها السرجلية فيها آثار فحمة قديمة يحيط بأطرافها بناء شاهق يسمى الحمم زين سطحة بحصا في حجم البندقة ورسمت فيه صور بعض الحيوانات والأسماك فكانت من أجمل المناظر.
وشاتهرت أيضاً على عهد الصليبيين قرية زردنا وهي من عمل هذا القضاء. وفي ناحية ريحا خرائب رويحة وفيها أيضاً كثير من العاديات ولامصانع ومن عملها أيضاً قرية اسمها المنارة فيها مغارات وأحجار بديعة وقد زبرت صور حيوانات وغيرها في مدخل المغارات ونقشت أنواع النقش البديع. ومعرتمصرين ومن أعمال إدلب ساعتين منها وفيها 14مسجداً وجامعاً ومدرسة واحدة و15كتاباً و3 حمامات 201 دكاناً و7خانات و573 داراً و3261 نسمة من السكان وعلى ساعتين من إدلب سرمين وهي مدينة مشهورة خربت اليوم وفيها 8 جوامع ومساجد و3 تكايا و6كتاتيب و75 دكاناً و5 معاصر و367 داراً و 2054 نفساً. وفي الجوار سرمين على 11 ساعة من حلب قصبة من برية بنش وفيها 12 جامعاً ومسجداً و205 دكاناً و465 داراً و2722 نسمة.
وفي ناحية أريحا في سهل الروج ينبع نهر من محل اسمه عرى في سفح جبل البالعة يفيض بعضه ويكد ماء الآخر فتتألف منه بطائح ولا يستفاد منه في إرواء الأراضي ولا في غير ذلك وهناك بحيرة صغرى فيها علق وأراضي القضاء 126000 دونم يزرع هاء أربعة أخماسها وهي الزيتون منبته للغاية جيدة الهواء وفواكهها وبقولها عذي تروى يماء السماء فقط وأهم محصولاتها الزيتون ويقدر محوله سنوياً بثلاثة أرباع المليون ليرة وزراعة القطن وترتقي هناك عن سنة وتخرج إدلب الصابون والحصر الرفيعة اللطيفة وفي القضاء كله 117 قرية عامرة سكانها 50185 نسمة.
قضاء حارم - مركز هذا القضاء في قصبة كفر تخاريم في الجهة القريبة من حلب وعلى ست عشرة ساعة منها وفي القصبة جامع ومسجد وتكية و4كتاتيب للذكور و3 للإناث و672 داراً و106 دكاكينن و13 معصرة و3196 نسمة. وبلدة حارم على ساعتين ونصف من مركز القضاء وفيها جامع ومسجد وسكانها 1010 وعلى نصف ساعة من الركز بلدة(70/40)
ارمتاز وفيها معمل واحد للزجاج والقزاز و 5 جوامع ومساجد و10 معاصر زيت و3 مدابغ ونفوسها 1068 وعلى المزروعة وغير المزروعة ب - 661099 دونماً ونفوسه ب - 27482 وقراه ب - 172 قرية وفيه ناحية بارشا وناحية الريحانية وفي ناحية الريحانية - وهي 77 قرية ومزرعة وأهلها عشائر من الأتراك والتاتار والجاركسة على طريق اسكندرونة - حمام معدني في محل اسمه عمر آغاوآ ثار الطريق المعروف بالرصاف الذي كان يمتد قديماً من فرضة السويدية إلى الموصل وفي هذه الناحية نهر عفرين وفي ناحية باريشا 36 قرية كلها وفيها ثلاث قرى كبرى فيها المرافق اللازمة للمدن وفي ترمانين ودانا وقوقينا وفي دانا وحوار باريشا معابد قديمة وخرائب مخازن فخمة ومصانع مهمة. وفي ناحية حارم 67 قرية منها من يتكلم بالعربية ومنها بالتركية وفي هذه الناحية جبل الأعلى وجميع سكانه من عشائر الدروز. وفي هذا القضاء خمسة أعين غزيرة وهي عين الجديدة وبكي شهر عين الجوز وعين عبيدة وحارم كلها تجري إلى نهر عفرين ويختلط هذا بالعاصي ولا سيما أيام الشتاء.
ويفهم من الكتابات المزبورة على قلاع حارم وارتاح وسرمدا والحصن أنها من بناء سلوقس رممها الظاهر وقد اشتهرت من بين هذه القلاع في الأكثر على عهد الصلبيين قلعة ارتاح وكانت على عهد الفتح الإسلامي مدينة عظمى وشاتهرت تيزين من أعمال هذا القضاء على العهد العمري فكان لها شأ، وفيها أسواق وجوامع. وأكثر الحبوب تنبت في هذا القضاء ومن غلاته القطن والزيتون والأفيون.
قضاء بيلان - مركز هذا القضاء على 34 كيلومتراً من شرقي جنوبي اسكندرونة وفي الغرب الشمالي من حلب على 27 ساعة منها وهي بين جبل بغراس وجبل طوزوس سكانها 5040 وهي مشهورة بدبسها ومصيرها (صوجقها) وفيها 5 مساجد وجوامع وتكية ومدرسة و7 مكاتب وكنيسة للأرمن و675 داراً و130 دكاناً و7 دباغات وتعرف عند العرب بمضيق بغراس وبياب اسكندرونة وهي منتصف مضيق طوب الممتد ثلاث ساعات مطلة على سهل العمق من الشرق وعلى ميناء اسكندرونة من الغرب وهي على طريق القاصد من حلب إلى الاسكندرونة وممر لخمس أو ست ولايات محاطة بالأحجار ذات مكانة حربية مهمة وقد أقام فيها السلطان سليمان القانوني سنة 960 - 250 نفراً من(70/41)
الحراس وسماه دربند جبل بغراس واسكندورنة وأنشأ فيها جامعاً وحماماً وخاناً وبعد بضع سنين أمر هذا السلطان بترك القصبة وعلى مسيرة ساعة من جهاتها الأربع معفاة من العشر على أن تبقى رقبتها لبيت المال فهاجر إليها أناس فسميت مزرعة عين التل وزيد في عدد المهاجرين إليه سنة 1183 على عهد السلطان مصطفى الثالث وسنة 1217 صدر الأمر العالي بترك اسم مزرعة عين التل وأداله ببيلان ومعنى بيلان طريق بين جبلين شاهقين والألف والنون أداة التثنية بالعربية فصار الأصل تركيا والتركيب عربياً وفي هذا الاسم مطابقة للواقع والموقع.
وأصيب بيلان بزلزالين شديدين سنة 1280و1288هـ - فانحطت وقد بدأت بالنهوض منذ زهاء ثلاثين سنة، وفي مضيق بغراس في محل اسمه قسطلي انقاض سد عظيم يعرف بباب الباشا في عرض عشرة أذرع. وفي هذا القضاء قصبة بغراس وقلعتها اشتهرت فيزمن الأمويين بعمرانها ولطافتها وكذلك في عهد الصلبيين ومدينة دربساك القديمة كانت في هذا القضاء وفي إلى الشمال من بغراس على مسافة مرحلة منها وربما كانت دربساك هذه في جوار جسر مراد باشا وفي القضاء خرائب بلدة كوندوزلي وفيه قرية و1215 نسمة.
قضاء المعرة - هو على 84كيلومتراً من جنوبي حلب وعلى 18ساعة منها وفي القصبة 41 مسجداً وجامعاً و3تكايا وزوايا و5مدارس وخزائن كتب و3549 داراً و442 دكاناً و43 طاحوناًَ. وفي القضاء كله 44مزرعة (جفتلك أو أبعدية) و27 حديقة و3561كرماً و7302حقلاً و25978 عقاراً و1102799دونماً من الأراضي البائرة والصالحة وتكثر فيه الحيوانات لذلك تكثر السمون والأدهان والجبن والألبان كما أنه يخرج منه الخروع. وكانت المعرة معروفة على عهد الزرومان وسامها خالس وقد خربت قلعتها سنة 390 هـ بأيدي القرامطة الباطنية وجرت فيه بين عماد الدين زنكي والصليبين عدة وقائع فقدت معها المعرة عمرانها القديم. وفي قضاء المعرة محل كفر طاب الوارد في التوراة باسم كفر طوب وينزل في هذا القضاء عشائر الموالي والحديدي وبني خالد الجسيمة ويتوفرون على تربية الماشية ويبيعونها ونواتجها في حماه وحلب واللاذقية وبيروت وولاية سورية. وليس في المعرة من الفستق اليوم ما قاله اين بطوطة فيها وتصنع في بعض قرى القضاء العباآت(70/42)
والأقمشة وفيه 167 قرية سكانها 18188 وعدد عشيرة الوالي 3800 والموال 3000 وبني خالد 1500.
قضاء الباب - هو شرقي حلب على 37 كيلومتراً أو أربع ساعات في المركبة ومشهورة من القديم بباب بزاعة وفيه 15 جامعاً ومسجداً و6كتاتيب و4698 داراً و2910 دكاكين و30خاناً و19 طاحوناً و7معاصر وعلى نصف ساعة من الباب قصبة تاذف وفيها 52من اليهود ومعبد قديم بني بالحجارة الغليظة ويقال أنها مدينة ضوبا المذكورة في التوراتت ويقول اين حوقل أن مدينة صوبا في جوار الفرات تسمى كعب.
واشتهرت بزاعة وهي على نصف ساعة من الباب أيضاً زمن الحروب الصليبية وهي في وادي بطنان المشهور وفيها ينابيع كثيرة وخرج من بزاعة كثير من الأدباء. وعلى 15 دقيقة من شمالي الباب محل قلعة تل بطنان القديمة وكان خربها الرومانيون ويسقي بعض هذا القضاء نهر الذهب ويعمل فيها البسط وفراء جلد الخرفان وفيه 198قرية وناحية واحدة اسمها ايلبكلوا وسكان القضاء 268160 وتنزل فيه خمس عشرة عشيرة رحالة عدد نفوسها 15045 وهي الفردون، شمر، أبو خميس، أبو حمد، بنوزيد، كيار، بكارة، جبارين، مجازمة، دمالخة، نعيم، أبو بطوش، غنليم، بنو صعب، أبو ضاهر.
قضاء جسر الشغر - هو على مئة كيلومتر من حلب في الغرب الجنوبي أو على مسافة 21 ساعة على ضفة نهر العاصي يحد القصبة من الغرب لواء اللاذقية وقضاء صهيون ومن الجنوب حماه والمعرة وإدلب ومن الشمال حارم وإنطاكية وفي القضاء 20 مكتباً ابتدائياً إسلامياً و6مكاتب غير إسلامية و14جسراً على العاصي وفي المركز 225دكاناً و619 داراً و10 مطاحن.
وقد كانت قصبة جسر الشغر قبل أربعمائة سنة عبارة عن 15 كوخاً من أغصان التجر فأنشأ فيها محمد باش كو بريلي المشهور جامعاً وخاناً وحماماً وأصبحت تنشاً فيها الدور والمساكن بعد قزاد عمرانها.
وفي هذه القصبة تعمل سجوف الخيل من القطن والحرامات وستور الموائد وفي ناحية أردو من جهة الشرق على حدود اللاذقية بعض غابات ويخرج منها معد كروم والعاصي يسقي ناحية الغاب ويجتاز ناحية دركوش آخذاً إلى إنطاكية حيث يصب في البحر الرومي(70/43)
فتجد على أطرافه الحدائق والمطاحن.
ويخرج في هذا القضاء نهلا اسمه النهر الأبيض لذيذ الطعم خفيف على المعد ينبع من ناحية اردو بالقرب من قريتي قندونم ولقشون ويجتاز قريتي زورف وشغر القديمتين ويصب في العاصي على بعد نصف ساعة من مركز القضاء.
وفي هذا القضاء قرية شغر القديمة وفيها قلعة خربة وفي المحل المسمى بقلعة المضيق خرائب مدينة أفاميا من بناء سلوقس وقد كان اتخذها معسكراً له وأنشأ فيها مدرسة لتعليم الفرسان وجعل في المرعى الكائن في رأس المدينة عشرين ألف حصان مدربة للحرب وثلثمائة رأس جاموس.
وتعمل في هذه القلعة جواليق وخيام من الشعر وفي القضاء ماء معدني نافع اسمه حمام الشيخ عيسى يقصده المرضى في شهري نيسان وأيار وفي شهور الخريف للاغتسال بمائه. ويصاد سمك كثير من نهر العاصي في جهة الغاب ومن بحيرة المضيق وداليان تبيعها إدارة الديون العمومية بمئة وخمسين ألف قرش شنوياً ويحمل سمكها إلى حماه وحلب واسكندرونة واللاذقية وبيروت، وتبلغ أراضي القضاء 410000 دونم وكسراً وفيه أربع نواحي وفي قلعة المضيق وبداما ودركوش وأردو وعدد قراه 169ونفوسه 27901.
قضاء جبل سمعان - هو على قيد غلوة من حلب ومركزه في نفس حلب وهو 113 قرية سكانها 25001 نسمة وفيه 183 جامعاً ومسجداً وتكيتان و20 مدرسة ابتدائية و286 داراً و32 دكاناً و18 خاناً و262 كرماً و104 حدائق و52675 حقلاً و78067 دونماً مزروعاً وغير مزروع وأهل القضاء مسلمون كلهم وفيه من الآثار القديمة خرائب سمعان وخان طومان وأرحاب والحاضر وأثارب يقصدها سياح الإفرنج للزيارة. وفي قرية دارة العزى بالقرب من خرابة سمعان وهي مرتفعة جداً جيدة الهواء يصعد إلى ذروة جبلة في ساعتين وفي هذا القضاء أنواع البقول والحبوب تأخذ منها حلب حاجياتها كما تأخذ دمشق من غوطتها ويجتاز نهر قويق هذا القضاء وتعمل فيع بعض الأنسجة.
قضاء منبج - في الشرق الشمالي من حلب قصبة منبج على مسافة 110 كيلومترات أو 20 ساعة والطريق إليها في مستوى من الأرض يجتاز المسافر من حلب إلى الباب ومنها إلى منبج على طريق أورفة وهي مشرفة على البادية وفي قضائها 450 قرية ويقرب من(70/44)
نصفها من الأراضي الأميرية وكانت للسلطان المخلوع وسكانها 6950 نسمة من الزراع و 17000 من سكان غيث وأكثر أهالي عشائرهم أبرز، كيار، أبو خميس، لهيب، عناطسة، تويمات، أبو غيث وأكطثر أهالي القصبة من مهاجري الجركس وفيها قلعة قديمة وجامعان وتكية واحدة وكتبان ابتدائيان وحمسة كتاتيب و 310 دور و60 دكاناً وعلى ثلاثة ساعات من شمالي القصبة يجري الساجور الذي يصب في الفرات ويسقي أهالي الجوار بمائه زروعهم والصيفية وتحدث عنه منافع جمة منها تدوير بعض المطاحن. وطل قضاء منبج من أول نهر الساجور إلى حدود لواء حماه والصقع المعمة هو ناحيته الشمالية أما أنحاء جبل الخاص فزراعتها محدودة وأراضي القضاء مستوية لا شأن للجبال التي تجتازه إلا ما كان من بعض الروابي والآكام في جهات حمر وكان الخراب ولم يزل كثيراً في أراضيه فأخذ الآهلون يزرعون أطثر ما يجود من الغلات ويتوفرون على تربية التين والعنب.
منبج من المدن القديمة في سورية كانت تسمى هيرابوليس فتحها أبو عبيدة بن الجراح بعد فتح حلب وإنطاكية صلحاً والظاهي من عادياتها جميع أماكنها كانت قبل أن يتحيفها الخراب منتظمة للغاية وقائمة على عمد مزينة وفي هذه القصبة وجوارها نحو أربعة آلاف بئر تمناح منها المياه بالدلاء لسقيا المزروعات وفي جوار القصبة على عشر دقائق منها بناء جميل اسمه قصر البنات ويفهم من بقاياه أنه كان مصيفاً بهيجاً ولعله كان قصر أحد الملوك والأمراء.
كانت منبج معمورة للغاية على عهد الدولتين العباسية والأيوبية فخر بها تيمورلنك سنة 824 وبقيت منذ ذاك العهد خراباً وفي سنة 1295 نزلها مهاجروا الجراكسة وبنيت لهم فيها الدور والمساكن وتوفروا على عمرانها. ولا تزال اليوم آثار الجداول التي حفرها القدماء من الفرات إلى القصبة تحت الأرض مائلة ومن أعمال القضاء خرائب بالس المعروفة اليوم بمسكنة وخرائب قلعة النجم مشهورة على عهد الفتح الإسلامي والدولة الأتابكية ومدينة خناصرة وكانت هذه العاصمة الثانية التي ينزلها عمر بن عبد العزيز الأموي رضي الله عنه.
قضاء الرقة - الرقة شرقي حلب تبعد عنها 220 كيلومتراً أو40 ساعة وهي على الساحل الشرقي من الفرات وفي مركزها 228منزلاً و45دكانا وفي قضائها 56قرية و27مزرعة(70/45)
جميع سكانها بادية رحالة وإذا اعتبرنا عدد خيامهم كانوا عبارة عن 2164 داراً وأراضيهم 12295 دونماً عامراً و294000 دونم غامرة.
ومدينة الرقة قديمة جداً أنشأها الاسكندر الكبير وسماها نيكوفوريون وكانت مشهورة في سالف الأحقاب باسم البيضاء والفعة افتتحها سعد بن وقاص سنة17للهجرة صلحاً على يد عياض بن غنم فاتح الجزيرة.
وعلى مسافة ساعتين ونصف مقابل مدينة الرقة من جهة الشامية في سفح الجبل كانت وقعة صفين بين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان فقتل فيها من المسلمين والصحابة جمهور عظيم.
وكانت الرقة مركز ديار مضر وهي قسم مهم من الجزيرة وعلى مقربة من الرقة غربي الفرات كان مصيف هشام بن عبد الملك الذي يسمى الرقة أيضاً ولا تزال خرائبه باقية وقد أنشأ فيها هارون الرشيد معسكراً لموقعها من الثغور الإسلامية كما أنشأ فيها مرصداً فلكياً. وفي الرقة قاس بنو شاكر الجغرافيون الفلكيون طول العلم وعرضه. وفي قلعة جعبر من أعمال الرقة دفن السلطان شاه العثماني.
ولا يزال أهالي قضاء الرقة بادية لم تسجل نفوسهم ويقدرون بنحو ثلاثين ألفاً وعشائر القضاء يتوفرون على الضرع أكثر من الزرع ولو أرادوا لاستفادوا كثيراً من مياه نهر بليخ في زروعهم وهو ينبع من قضاء حران ويمر شرقي الرقة على نحو ساعتين منها ويصب في الفرات.
هذه نبذة من أقضية حلب وعمرانها بقي الكلام على لواءي أورفة ومرعش ولما كان أكثرها في الجهة الشرقية من سورية كان بعضها يحسب من بلاد الروم والآخر من بلاد الأكراد فمدينة البيرة (ييره جك) على 135 كيلومتراً من حلب هي على الفرات وما ندري إن كانت تحسب من سورية أم لا وكذلك قلعة الروم (روم قلعة) على ساحل الفرات.(70/46)
في القطار
من بيروت إلى زحلة
وناقلتي حيث يحلو في الهوى النقل ... يمشي به الدفعان الشوق والأمل
كأنه جبل يشمي على جبل ... يرسو إذا شاء طوراً ثم ينتقل
كأنه عند ما يجري على عجلٍ ... يجري على عجل يجري بها الأمل
كالطير ليس يزيد السهل سرعته ... ولا يؤخره في سيره جبل
لو سابق الأرض نحو الشمس ما اطلعت ... إلا وقد جازها في الغرب تغتسل
أو طارد الزهر في ألفلاكها غلساً ... ما حط إلا ومن أرتاله زحل
ما عاقه في السري برد ولا مطر ... كأن لعلم الحيا في وجهه قبل
لا أنس فيه ركوبي والحبيب وقد ... بنتا وكل بصهباء اللقا ثمل
قمنا عن (البور) والأفلاك قد غمضت ... منها وقد سهرت طول الدجى المقل
يمشي نحو الشآم المل مكتملاً ... إلا وجفن الضحى بالنور مكتحل
ينساب كالصل حرَّان الحشاشة حي ... ر وأنا كمن قطعت في وجهه السبل
طوراً تخف إلى استقباله قلل ... وتارة كما قطعت في وزجهه السبل
يمر كالسهم في الأنفاق مخترقاً ... حشاشة الأرض لا يلوي به الرجل
خلو من الحب لا ينفك منتحباً ... يشكو ويبكي وما في جسمه علل
مصعد زفرات كلما عصفت ... حسبتها طغمات الجن تنتقل
تلتقي على الأرض من أبوابه بصراً ... يرده فشل في الطرق لا كلل
لا يستقر على شيء لسرعته ... فلا ترى الأرض إلا عند ما يصل
حتى إذا ما إنجلى سهل البقاع لنا ... بحراً يرى كل بحر عنده وشل
أواجه الخضر بالأزهار مزبدة ... مثل الحلي إذا ازدانت بها الحلل
عدا ومن خلفه ما لاحت له عجلن ... كأننا في سفين مالها عجل
والكرم عن جانبيه مطرق خجل ... كالغيد خف إليها فارس بطل
ترى العناقيد من أعناقها برزت ... مثل ال. . . . . ود لكن درها عسل
حتى إذا الأرض من حر الهجير غدت ... كأنها كبد بالهجر تشتعل(70/47)
صرنا إلى زحلة فالبعض قد ركبوا ... منها وكنت أنا من بعض من نزولوا
يا من له هوس في كل ذي قدم ... هذا القطار فأين البغل والجمل؟!!
رشيد الخوري(70/48)
أخبار وأفكار
قصر بختنصر
اكتشفا البعثة الأثرية الألمانية في بابل عدة آثار من زمن عصور الثوراة ومنها خرائب قصر الملك بختنصر ومعبد البعل وباب ايستار وغير ذلك من العمارات المهمة وفي لنية الآن أن يعيد أولئك الأثريون تلك العاديات إلى الصورة التي كنت عليها على عهد عظمة بلاد الكلدان يستعملون لذلك الأدوات التامة ومنها آلات لجر الأثقال عظيمة هائلة معمولة من حديد والفولاذ وبها ينقلون تلك الأحجار الضخمة والأسود المجنحة ويجعلونها في محالها وكانت تنتقل قديماً بإنضمام أيدي العبيد والأسرى وقواهم المجتمعة. وقد جعل الأمبراطور غليوم الثاني هذا المشروع تحت حمايته وبذل الماليون لأولئك العلماء من النفقة في هذه السبيل ما يلزم. ومعلوم أن مدينة بابل على بضعة كيلومترات من بغداد وإلى هذه ينتهي الخط الحديدي الألماني فبابل والحالة هذه داخلية في منطقة نفوذ الألمان كما يقول كتاب السياسة وترميم قصر بختنصر مما يساعد كثيراً على توطيد هذا النفوذ.
وكل من قرأ التاريخ يعرف عهد بختنصر المجبد وما تبعه من الكوائن وقد بدأ انحطاط بابل على عهد خليفته بالتازار بعد فتح قورش الفارسي. أما القصر الذي يراد ترميمه الآن فهو على نشر من الأرض وفي جواره أراض متعسة للغاية وكان الرجالة يصعدون إليه على أدراج وكان ثمت طريق خاص بالمركبات والأسس معمولة بالحجر والحوائط من آجر لا يتفتت ولايذوب وواجهات البناء مزينة بالنقوش تمثل الصيد وقد لون الصيادون وما يصيدون بأنواع الأصباغ بالحمرة والزرقة والصفرة. والثيران المجنحة تحرس الأبواب المعمولة من النحاس وكن القصر نحو مائتي ردهة وغرفة ينزل في أكثرها نساء هذا الملك العظيم وفي الداخل ترى أنواع الطنافس والسجاد والزينات الفاخرة والأفاريز منقوشة عليها صور عزوات هذا الفاتح في مصر والقدس وصور. والغالب على الطن أن القائمين بترميم هذا القصر لا ينفكون بلذلك فقط بل يرممون أسوار المدينة وكان سمكها بضعة أمتار وهي ئاهقة العلو ولها أبراج حصينة يبلغ طولها زهاء 80متراً وسيرمم باب أيستار الربة الحامية لبابل مع ما كان عليه من الثيران والتنانين الحمر والرزق. وقد رأت البعثة موقع الحدائق المعلقة المنسوبة لسميراميس ملكة آشور وفي النية أيضاً إصلاحها.(70/49)
لفحة الشمس
كثرت ضربة الشمس في الصيف الماضي في بلاد الغرب فانتبه المختصون من العلماء للنظر في طرق الوقاية منها فرأى أحدهم في مونيج أن الجسم الإنساني لما كان مركباً من عناصر كيماوية فضربة الشمس ناشئة عن إضرابات كهربائية تحدث من فقدان الملح اللازم في تركيب الجسم فأبانت أبحاثه أن الأشخاص الذين يعرقون كثيراً ولا سيما من يعملون أعمالاًَ شاقة في اليوم الحار يفقدون جزءاً عظيماً من الملح الضروري لصحة الجسم واستنتج من ذلاك أن الجسم في هذه الحالة يضيع في اليوم من 30 إلى 40 غراماً من لملح الذي لا يعوضه في الأحوال العادية إلا الغذاء وشرب كمية من الماء لا يكون دواءً كافياً ونافعاً في هذه الحالة لأنه يحول دون جمود الدم وعنه ينشأ الدوار وهو أول أعراض الغثيان. ويعتقد العالم الألماني كل الاعتقادات أن ضربة الشمس تأتي بتعديل التراكيب الكيماوية في حياة الجسم تعديلاً سيئاً وذلك بحرمانه من الملح اللازم وذكر أن بعض السجون في ألمانيا كانت منذ أربعين سنة منعت من تمليح طعام السجناء بحجة أن الملح من الزوائد وهو دليل للرفاهية في التغذية فكان يحدث للسجناء مرض شبيه بالغثيان أو ضربة الشمس يقضون تحبهم معه. وقد تبين أيضاً أن السكيرين أ: ثر استعداداً من غيرهم للوقوع بضربة الشمس وذلك بأن الإلكحول إذا تناوله المرء فأفرط بالأغذية المالحة التي لا يستغني عنها الجسم وفي تقيه من الأخطار التي يتعرض لها كضربة الشمس ونحوها.
التربة السوداء
في كثير من أصقاع العالم أرض سوداء ولا سيما في مراكش وجنوبي روسيا واوتسراليا وغيرها فترى تربتها سواء فحمة وعي ومخصبة كل الخصب وتعطي غلاتها بدون أدنى سماد ويجود محصولها بضع سنين منوالية. ومن الغريب أن هذه التربة تكون كملها في السهول واطئة في الجملة معرضة للرطوبة والبيوسة في فصل المطر وفي أيام الجفاف تصلب وتتشقق. وقد نسب العارفون بطبائع التربة زمناً طويلاً سر هذا السواد والخصب في هذا الضرب من الأراضي إلى الكمية الوافرة من المواد المخصبة والمواد النباتية التي تغذي على رأيهم النباتات أثناء نوها ولكن أثبت البحث الدقيق أن هذه المادة النباتية تحتوي على كمية وافرة من البوتاس وحامض الفوسفور والنشاير بحيث أن المادة المخصبة هي(70/50)
السبب العارض في غنى النباتات وأخصب التربة السوداء في العالم تربة تربة استرالية ولذلك انصرفت وجوه المهاجرين من أقطار الأرض إليها وقصدوها التربة الأشجار والحيوانات كل ما يغرس ويعرش ويخور ويبغم ويثغو.
المطر الصناعي
اخترع أحد مهندسي الجمهورية الفضية طريقة سهلة عملية لإرواء الحدائق والحقول حتى في أيام الجفاف بواسطة الماء الموزع في أسلاك كهربائية وهذه الطريقة نافعة في الزراعة تأتي على الحشرات والحلمات الطفيلية المضرة فتهلكها ويجري إليها الماء من نهر أو بئر ارتوازي أو نبع ثم يجعل في حوض من الحديد منفرد يوصل في أنابيب وجاري ذات مضخة رشاشة ويمتلئ الحوض بالكهرباء بواسطة دنمو وتستعمل الكهرباء لبعض التغيرات الكيماوي التي تولد شيئا من الأكسجين والأوزون والهيدروجين وغيرها مما يجعل الماء قابلاً للشرب وبهذه الطريقة التي جربها المهندس لإرواء حديقة في عاصمة تلك الجمهورية خلال الصيف الماضي وكان الماء عزيزاً في تلك الأصقاع تيسر أن ينبت عشب كثر لتربية الخيول لا جرم أن المطر الصناعي سيكون نعمة حقيقية للزارعين ويستعمل المجرى الكهربائي في إنارة بعض أجزاء من المدينة.
أدب النشر
في جميع البلاد التي لها قانون للمطبوعات مواد مخصوصة للحكم على من يخالفون العرف في مسطورهم ومنشورهم فيحيدون عن شرعة الأدب وقد حكمت إحدى المحاكم الألمانية على كل من رئيس تحرير مجلة (بان) الألمانية وعلى مديرها بخمسين ماركاً غرامة لأنهما نشرا قطعة من مفكرات الفيلسوف فلوبر فحكمت المحاكم عليها بدعوى أن هذه المجلة مخلفة للآثار وكانت نشرة منذ ثلاث ين سنة فلم يختلف اثنان في أنها غير أدبية بل أن كاتبها كان في وصفها كالجراح يشرح جثة ولا يرى في عمله ما يعبث بالأدب وتحمر منه الوجوه ومن الغريب أن أحد النقاد ترجم إلى الألمانية قطعة من الشعر الغزل كتبت بالفرنسية في القربي من الثامن العاشر ولم يكن ينشرها حتى حكمت عله المحكمة بالسجن ثمانية أشهر.
التمثيل والمؤلفون(70/51)
بلغت واردات دور التمثيل في باريس سنة 1910 - 1911 (27730062) وحقوق المؤلفين ثلاثة ملايين ونصفاً من الفرنكات وعدد أعضاء جمعية المؤلفين 304 وعدد من يستعدون للإنخراط في سلكهم 4543.
الحرب العثمانية الإيطالية
قالت المجلة ما تعريبه لقد حزن كل الحزن جميع أنصار السلام لانتشار الحرب الإيطالية العثمانية فماذا كان يا ترى من أمر المادة الثانية والأربعين من قانون محكمة لاهاي القاضية بأن جميع الدول يقضي عليهن أن يعمدن إلى التحكيم قبل أن تقرقع السيفو وتلمع الأسلحة فقد جائتنا من كل مكان رسائل الاحتجاج على ما جرى بين الدولتين مما من شأنه أن يكدر صفو الإنسانية ويذهب كل ما بذل لنفعها أدراج الرياح فكل الجمعيات الإنكليزية التي تعنى بحركة السلم قليلاً أو كثيراً قد أقامت الحجة في لندرة وعزمت أن تبعث إلى الأستانة بمؤازرنا الثاني وصديقنا المستر ستيد حتى تقرر الحكومة العثمانية طلب لاتحكيم (وقد جاء الأستانة واقبل السلطان الأعظم) والرجاء معقود بأن الدولة العليا تطلب هذا المطلب وماذا يكون من شأن إيطاليا يا ترى لا جرم أن المستر كارنخجي الذي منح محكمة لاهاي خمسين مليون فرنك لستعين بها على نشر السلام ينوي أن يتدخل لدى الدول الموفعة على عهدة السلم وذلك ما يدعو إلى الرجاء في حركة سلمية ربما نجحت في إدخال الشعبين المتحابين فغي مضمون مبادئ حقوق الدول الأصلية.
عاهات الصناعة
تبين بالإحصاء أن عدد من يصابون من العملة في الولايات المتحدة بعوارض قالة قد بلغت سنة 1908 35 ألف رجل من أصل 36 مليون عامل ولا يدخل في ذلك مليون عامل يعملون موقئاً وعدد الهالكين في الصناعات يزيد كثيراً فقد دل الحدث الإحصاآت أن معدل من يهلك بسببها 50 ألف رجل ولا تقل الجروح والرضوض الغير القتالية عن إصابة ملوني عملية على الأقل. أما نحن فما ندري إن كان في أحيائنا ما يوازي قدرا أمواتهم من العاملين في الصناعات.
صحف العالم المتحضر(70/52)
دل الإحصاء الأخير الذي وضعه المجمع العلمي الدولي للكتب أن فرنس في مقدمة دول أوروبا بكثرة جرائدها ومجلاتها فيصدر فيها 8940 صحيفة ثم يجيء ألمانيا ويصدر فيها 8050 ثم إنكلترا ويصدر فيها 4339 ثم إيطاليا وفيها 3068 ثم البلجيك 2023 ثم روسيا1661 ثم إسبانيا 1350 ثم سويسرا 11332 ثم بلاد القاع (هولاندة) 1302. وأما نظن الجرائد والمجلات التي تصدر على صورة مطردة تحت السماء العثمانية والمصرية تناهز الثلثمائة صحيفة فتأمل.
العودة إلى الخلاء
في أوروبا كثير من العقلاء يدعون إلى التبدي أي سكنى البادية والعودة إلى الخلاء واستثمار الأرض ولكن الحال مازال في ازدياد وسكان القرى ينهالون على المدن أي انهيال فقد كان معدل سكان المدن بالنسبة للقرى في الولايات المتحدة 36 في المئة سنة 1890 فبلغ سنة 1910 - 46 وكسراً والمأمول أن يبلغ 50 في المئة 1920 بتعديل قليل يدخل على أسباب الحياة الحديثة ويختلف هذا المعدل بين ولاية وأخرى ففي الماشوست يبلغ سكان المدن 96 في المئة وفي ولاية داكاتو الشمالية والمسيسبي 11 في المئة وقد كان نمو السكان هاتين الولايتين أكثر من سكان الولاية الأولى ومع هذا فإن المدن تجذب السكان وغم أقوال الخطباء وتأثيرات الكتاب.
كليات أميركة
كان بدء كطليات الولايات المتحدة ككليات أوروبا عبارة عن مدارس دينية وأولها وأقدمها كليتا هارفودويال فهما الكليتان المشهورتان اللتان تبدلت دروسهما بالتدريج ومسحا عنهما صبغة اللاهوتية فقد أخلتا إلى برنامجهما تعليم فلاسفة الوثنيين وكبار الكتاب المحدثين والأقدمين وكانت العلوم الطبيعية بادئ بديء يتسامح بتعليمها فيها فأصبح لها المكانة الأولى ثم المقام الأعلى وتعليم الدروس الوسطى أعفي منه النساء إلا قليلاً وانصرف الناس إلى تعلم ما تظهر نتيجته في الحال وتمس فوائده عن أمم ومنذ منتصف القرن التاسع عشر قد أقبلوا في التعليم بالأساليب الألمانية. والمدارس العالية في الولايات الشرقية قد أنشئت بعطايات الأفراد أما مدارس الغرب والجنوب فقد أنشأتها الحكومة والمنافسة قائمة على ساق وقدم ولا تزال بين المدارس الأهلين ومدارس الحكومة وكل مدرسة تريد أن تطهر(70/53)
من تلاميذها النجابة والبلوغ وأن يكون لها أفضل المدرسين والباحثين وكليات الغرب غنية كثيراً في حين اشتهرت كليات الشرق بتأثرها الأخلاقي.
الجنسية في روسيا
لم تستطع روسيا على وسائط الشدة التي استعملتها في الجنوب الغربي من بلادها أن تنزع الدعوة إلى الجنسية والتناغي بحب القومية البولونية ففي كل مكان تبدو علائم النهضة والروسية لم تتأصل في مان وستزيد الدعوة إلى لاجنسية عندما تنشأ في تلك الولاية جرائد تدعو للاستقلال الإداري المحلي وعلى ما استعملت روسيا من الذرائع للقضاء على نفوذ كبار أرباب الأملاك البولونيين وحرمانهم من حقوقهم فإن الروسيين بل كبار المالكين منهم لا يكون لهم أدنى تأثير في تلك الجرائد التي هي ملك صغار المالكين وتصدر عن آرائهم. ولا جرم أن هؤلاء لحبهم لبلادهم ولغتهم وتقاليدهم يعملون على ما فيه نجاح كلمة الوطنية وستكوم مسألة اللغة أول مسألة تدخل فيها الحكومة مع الأهالي في أشكال فإذا توسعت الحكومة في اضطهادها يزداد الخرق بينها وبين المحكوم عليهم وتشتد العداوة والبغضاء. قالت إحدى المجلات الروسية ولا سبيل إلى حل هذه المعضلة إلا بأن تعمد الحكومة التي قضي بها العدل والحق فتجري عليها وهناك الراحة لها ولغيرها.
منتدى المعمرين
أنشيء في يابان منتدى لا يدخله إلا من بلغ مئة سنة من عمره سموه منتدى المئوييون ورئيسه الكونت أوكوما المشهور وجميع المشتركين معه متعهدون أن يحافظوا كل المحافظة على مبادئ الصحة الشديدة التي تضمن وتعد بطول الحياة وكلهم يودون أن يعيشوا أو يرغبون في أن يعيشوا مئة سنة أخرى على الأقل. قالت إحدى مجلات يابان وإن هذا العزم لا نفع جداً من أن يفزع المعمرون إلى المعابد ويستنزلوا رضا الأرباب لتطول شيخوخيتهم ومن مبدأ هذا المنتدى أن يبحث المرء ليكون نافعاً لإخوانه ما أمكنه ويتأتى له ذلك إذا عني بصحة الجسم كما يعني بصحة العقل وكل منهما نتيجة لأزمة أصحابه حتى أن رئيس هذا المنتدى يشترك مع القائلين بطول الحياة أن يعمر 185سنة!(70/54)
مخطوطات ومطبوعات
نظام القضاء والإدارة
تأليف أحمد بك قمحة طبع بمطبعة الجريدة في مصر سنة 1328هـ - 1910م ص343 لو كتب لمصر أن يرتقي فيها كل فرع من فروع العلم على نحو ما ارتقى القضاء لأصبحت كفرنسا لا تنقصها إلا أن أهل مصر ساميوةن عرب وأهل فرنسا توتونيون فرنسيس وأمامنا الآن هذا التأليف النفسي كتبه مرلفه من ألأساتذة القضاء بلسان سلسل وتنسيق بديع وضمنه النظامات القضائية والإدارية والمالية والسياسية في القطر المصري وطبع طبعاً نفسياً حتى جبب مطالعته والأخذ منه لكل من لا ميل عنده لمثل هذه الموضوعات وناهيك بمن يحتاجون إليها في بلاد الشرق ولا سيما العثمانية والمصرية. والناظر في هذا السفر يعرف مصر وطرفاً مهماً من تاريخها السياسي والإداري والقضائي. خذ مثالاً لذلك ما أورده في امتيازات الأجانب وتعليلها قال: وسبب ذلك أن الحكومات الإسلامية اعتادت من قديم الزمان أن تتساهل مع المسيحيين الذين في بالدهم فأجازت لهم عدم اتباع الأحكام المرعية وتركهم يتقاضون في أحوال مخصوصة بحسب قواعد دينهم وقوانينهم. فمع شدة الاختلاط وتمكين العلائع ومضي الزمن أصبحت هذه العادة بمثابة القانون وأضحى هذا التسامح حقاً لهم لا يحتمل النزاع. هذا ما نتج عن مجرد التساهل ومحض التسامح على أن هناك ما بني على المعاهدات فإنه توجد معاهدة عقدت بين سلطان مصر صلاح الدين بن أيوب وجمهورية بيزا مؤرخة في 15صفر سنة 569 (سنة 1172م) ستدل من عبارتها ومن المعادات التالية لها على أنه منح البيزانيين جملة امتيازات خاصة بالتقاضي والمملكة وقد حصل كذلك الفلونتيوم (الفلورنتيون والبيزانيون هم الطليان) من أبي النصر قائد باي سلطان مصر على عدة اتيازات قضائية بأمر أصدره في سنة 1488 جاء فيه ما يأتي: إذا حدث خلاف بين الفلورنتين أنفسهم ليس لحكامنا وقضائينا المسلمين أن يتدخلوا في مسائلهم ولكن الحكم في ذلك لقنصل الفلورنتين فيحكم في هذه الحالة بما يناسب القوانين الفلورنتية.
ومما يلاحظ أنه حصل التوسع في العمل بهذه المعاهدات حتى عمت جميع رعايا الدول المسيحية الواحدة بعد الأخرى وبقي الحال كذلك إلى أن حلت الدولة العلية المحل الأول من(70/55)
الدول الإسلامية فنسيت هذه المعاهدات النسيان ولكنها ما لبثت أن عادت بعودة الاختلاط ومقتضيات الأحوال فتعاقدت فرنسا على أرجاعها باتفاق جديد بصورة أنه معاهدة تجارية في سنة 1535 حررت بين السلطان سليمان الأول وفرنسوا الأول ملك فرنسا وكان مضمونها التأمين على أرواح الفرنسيين وتجارتهم. وقد ظل تجديد هذا التقاعد إلى أن عقدت معاهدة سنة 1740 بين السلطان محمود الأول ولويس الخامس عشر ملك فرنس وصارت هي صاحبة الشأن في حماية رعاياها وجميع الأجانب الذين يلتجئون إليها.، وقلدت فرنسا الدول الأخرى في عقد هذه المعاهدات المعروفة أيضاً باسم العهود نامات وأخذت الامتيازات تزداد شيئاً فشيئاً بمساعي الدول من جهة وبإهمال الحكومات الشرقية من جهة أخرى من طريق كونها أقرت بعض العادات وإن كانت خارجة عن نصوص المعاهدات في الواقع ونفس الأمر. ولا خلاف في كون جميع هذه العهود نامات نافذة على مصر كما تقدم لأنها جزء من ممالك الدولة العلية لا سيما أن الفرمان الصادر لمحمد على باشا في أول يونيه (حزيران) سنة 1840 اشترط فيه إعادة المعاهدات الموجودة والتي ستوجد فلا شك حينئذ في أن الأجانب متمتعون بالامتيازات في مصر أسوة بسائر بلاد الدولة العلية.
والخلاصة فإن هذا المصنف ممتع نافع كتب هذا النموذج فجاء ناطقاً بالثناء على أبي عذره دالاً على فضله بين الأساتذة وجميل ذكره.
تاريخ حرب فرنسا وألمانيا
سنة 1870 - 1871
لجرجي أفندي يني طبع على نفقة يوسف البستاني بمصر سنة 1911ص 216 مؤلف هذا الكتاب رصيفنا صاحب مجلة المباحث من المشهود لهم في فن التاريخ ألف تاريخ سورية في حداثته وهذا الكتاب نشره أيضاً في جريدة الجنان أيام صدورها في بيروت وقد كتب المؤلف عدة أبحاث تاريخية في بعض المجلات ولا سيما في المقتطف أبانت عن تضلعه من هذا الفن الجميل وتاريخه هذا من أنفع ما يكون لأبناء العربية في تلك الحرب ولذلك أحسن ناشره في تجريده ونشره للناس عل هذه الصورة فلمؤلفه الرصيف أحسن الثناء على هممه وحسن بلائه.(70/56)
مطبوعات مختلفة
القراءة العربية في المعلومات المدنية - عربه من التركية السيد عبد القادر المبارك وفيه ما يلزم كل عثماني من المعلومات عن حالة حكومته.
قانون أصول المحاكمات الحقيقية وذيله الجديد الذي صدرت الإرادة السنية آذنة بالعمل به بعد التصديق عليه من مجلس الأمة وقانون الجزاء الجديد وفيه القانون القديم والمواد والذيول الجديدة التي أضافها مجلس الأمة وبعض تعليقات معربة بقلم شاكر أفندي الحنبلي.
وهذا الكتابات والكتاب الأول معربان أحسن تعريب تشهد لمعبيهما وهما من فضلاء دمشق معروفين بالأدب وطول الباع فعساهما يتوفران على تعريب كل ما كان من هذا القبيل ليطلع العثمانيون العرب على ما يسن بالتركية من القوانين ويكتب من الكتب النافعة في تقوية الشورى في النفوس.
الجغرافيا الطبيعية - لجامعة عبد الله أفندي عمر التنير وهو يبحث في التربة والتلال والجبال والأودية والأنهار والبرك والبحيرات والأوقيانوس والهواء وغير ذلك من الأبحاث التي تنشئ التلميذ الصغير على حب العلوم والصناعات طبع في بيروت سنة 1329 في 116 صفحة مع بعض الرسوم.
تحريم نقل الجنائز - رسالة لمؤلفها السيد هبة الدين الشهرستاني صاحب مجلة العلم في النجف الأشرف في العراق ذكر فيها رأيه ونصوص علماء الشيعة في تحريم نقل الجنائز من مكان لآخر كما يفعل بعض العامة من الشيعة فيأتون إلى كربلاء واللغري بموتاهم من أطراف العراق وفارس يدفنوها هناك وقد أجاد الرصيف في التنفير وهذه العادة المضرة الملتبسة شعار الدين.
أسماء البنات - معانيها وعلاقتها التاريخية وأشهر نساءٍ دعين بها تأليف أمين أفندي والغريب صاحب جريدة الحارس البيروتية وفيه كلام نافع في فلسفة الأسماء ولا سيما الإفرنجية والقديمة.(70/57)
العدد 71 - بتاريخ: 1 - 1 - 1912(/)
أعداء الإصلاح
الطرق شتى وطرق الحق مفردة ... والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تدري مقاصدهم ... فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم ... فجلهم عن سبيل الحق رقاد
ما خلا عصر من عصور الإسلام من أعدء لكل جديد ومن جامدين ينكرون ما بلا يألفون. فقد لقي المعتزلة والفلاسفة والمتكلمون والنظار من أعداء العقل كل شدة في القرون الراقية وكان عقل الملوك هو الذي يحول على الأغلب بين الجامدين وبين ما يشتهون من الأعتداء على القائمين بتأييد سنن العقل والناصرين بأقوالهم وأفعالهم مذاهب السنة والنقل. ومن نظر نظرة مجردة عن الفرض في سيرة المناهضين للمصلحين على اختلاف الأعصار بجهدهم جروا على غير ما يعتقدون وطلبوا بمقاومة المصلحين إرضاءً العامة ونيل الحظوى لديهم واستتباع الجاهلين من الملوك والسلاطين وقليل جداً من كان الإخلاص رائدهم في أعمالهم ومآتيهم.
يقاوم في العادة الخامل النابه لتكون له مكانة كمكانته، ويتحامل الجاهل على العالم ليعرف بين قومه بأنه قسيمة في صناعته ومثيلته في فضيلته ويطعن الجامد الممخرق بمن يحب أن يعبد الله بعقل ويبحث في عالم الكون والفساد بروية ليتظاهر بأنه بعيد الغور شديد الغيرة وما أقواله الأرياء وما أفعاله إلا وساس وأهواء.
لقي المصلحون من الأهاويل في الأمة العربية مما لقيه أمثالهم في الأمم الأخرى فيما نحسب وخصوصاً بعد القرن السابع وقو توزعت بلاد الإسلام ملوك الطوائف وكان أكثرهم على جانب من الجهل والغباوة لا يهمهم الإرضاء المشعوذين بالدين ليحولوا العامة أليهم فيقوى بهم ضعفهم وستعينون بهم على تكبير رقعة ممالكهم وبسط ظل سلطانهم على النفوس فيستمتعون بشهواتهم وبذخهم ورفاهيتهم.
عجبت لمتاع الضلالة بالمدى ... ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
ساعد على الانتقام من العالمين العاملين ناس من أرباب المذاهب سرت أحكامهم بقوة أربابها فكان الحكم يجري على المبتدعة وأرباب الأهواء بزعمهم بموجب قوانين لهم سنوها ومنها المذهب المالكي الذي كان يحكم قاضيه بقتل أكبر عالم في الأمة - والقتل يعد(71/1)
من التعزيز في مذهب مالك - خالف المألوف من العادات التي اعتقدتها من أصل الدين وعد الخروج عنها كفراً وإلحاداً وما أسهلها صدور الحكم بهما من أعداء الإصلاح المماحكين.
سالت الدماء كالأودية في بغداد للفتن بين الحنابلة والشافعية مرات وسالت دماء كثير من الخاصة في كل قرن وعذبوا وأوذوا بواسطة أرباب المظاهر من المتنطعين ممن شق عليهم أن يروا كلمة الإصلاح الديني والدنيوي تفعل في الأرواح فعلها المطلوب فحدثتهم أنفسهم أن يتساوى المفكرون وغيرهم في نظر العامة أن يتمكنوا من إسقاطهم ليخلو لهم الجو ويقتصر في تقبيل الأيدي وطلب الدعوات وإلتماس البركات عليهم دون سائر المنتسبين للعلم والشريعة.
ومن غريب أسرار الله في خلقه أن جمع من قاوموا المخلصين من المصلحين دثروا وودثرت أسماؤهم وظلت أسماء من عادوهم وآذوهم تشهد بالجهل المركب على أعداء العقل السليم والتعاليم الصحيحة.
أين أعداء الغزالي والسهو وردي والآمدي وابن جرير وابن تيمية وابن رشد ذهبوا كلهم كأمس الدابر وبقيت الأمة تردد على وجه الدهر أسماء هؤلاء المصلحين العاملين وتتناقل ما خطته أناملهم من سطور الإصلاح فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض
لا يذكر التاريخ اليوم إلا أفراداً مم ناوأوا رجال العقل الرجيح والنقل الصحيح اشتهروا لاحتكاكهم بالحكام وموهوا على العامة بحسن حالهم لمظهر دنيوي وحطام من الدنيا تطالت نفوسهم لأن بقتنوه كأن يكون أحدهم قاضياً يخاف أن يشركه ذاك العالم المستنير في قضائه أو شيخ عامة حدثته نفسه بالاستئثار بهذا المظهر الذي يعتقده جماع فضال الدنيا والآخرة:
أمثال هؤلاء الممخرفين المنفقين بدلوا المعالم والتعاليم مرضاة لأرباب الرئاسات والزعامات وسجلوا على أنفسهم العار للبت فيما ينزل به السلطان وجازوا أحد الشرع وهم يتظاهرون بأنهم المئتمنون عليه ومنهم ومن أعمالهم يشكو ويئن كما تشكو المدينة والإنسانية.
نهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوءٍ ورهبانها(71/2)
إن من يتظاهرون بالدين واطنهم منه برئ أضر على الدين ممن يعقونه. ومن يدعو في الغالب إلى لاإصلاح ويتخذ التقية أمام العامة درعه يكون أقرب إلى ال، حلال والضلال منه إلى من لا يطنطنون بأنهم عاة الدين والقائمون عليه وعنهم يؤخذ وبهديهم يهتدي. وشر الناس من يسرون غير ما يظهرون وتلونون باللون الذي يرون أنه وافق لهم لجر مغنم وإحراز مظهر.
إن هؤلاء العامة ممن يتطالون إلى مقامات العلماء هم أفسد من العامة لأن شيطانهم يتكلم وشيطان هؤلاء أخرس لا يبدي ولا يعيد. هم سوس الفسادد في كيان اهذا المجتمع يدعون معرفة كل شيء وهم لم يتقنوا شيئاً على المحارم ولو بحثت عن أعمالهم لرأيتهم أول المجترئين على انتهاك حرمات الأديان والشرائع وهم يقدسونها بلسانهم والعابثين بحدودها وهم يدعون الناس إلى الوقوف عند مراسيمها والسعاية بالمصلحين ليفنوا في أعضادهم ويفسدون عليهم أمرهم ويأبى الله أن يتم نوره ولو كره أبالسة التدجيل والتضليل من علماء السوء.
لو كان أعدء المصلحين على شيء من التدين الحقيقي لكانوا اشتغلوا منذ قديم بإرشاد العامة وإنكار المنكرات المائلة في كل عصر أمامهم مثول الشمس في السماء رأد الضحى ولكن المتدلسة أمثالهم يتعلمون من قشور العلوم ما يستعينون به على الأخذ من أموال الحكومات والأغنياء والتعزيز بالعامة ولذلك كان أ: ثر اشتغال من سموا أنفسهم بالعلماء في كل عصر بالفقه لأنه سلم إلى ما يتطالون إليه من الجاه وحسن الحال قال حجة الإسلام الغزالي في الأحياء: أعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون وكانوا أئمة علماء بالله فقهاء في أحكامه وكاوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادراً في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة فيفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا بتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفيائهم في مجاري أحكامهم وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفوا الدين ومواظب على سمت علماء(71/3)
السلف فكانوا إذا طولبوا هربوا وأعرضوا فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتوليه القضاء والحكومات فرأي أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم فاشرأبوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم وطليوا الولايات والصلات منهم فنهم الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين وبعد أن طانوا أعزة بالأعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم الأمن وفقه الله في كل عصر من علماء دين الله وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها فعممت رغبته إلى الماتظر والمجادلة في الكلام فأكل الناس على علم الكلام وأ: ثروا فيه التصانيف ورتبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات وزعموا أن غرضهم النب عن دين الله والنضال عن السنة وفمع المبتدعة كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدين وتلقد أحكام المسلمين إشفاقاً على خلف الله ونصيحة لهم ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه لما كان قد تولد من فتح بابه من التصعبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص تساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد رعمهم الله تعالى وغيرهم وزعمواً أن غرضهم استناط دقائق الشرع وتقرير علل المذهب وتمهيد أصول الفتاوى وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون إلى الآن وليس ندري ما الذي يحدث فيما بعدنا من الأعصار فهذا هو الباعث على الأكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع أمام آخر من الأئمة أو علم آخر من العلوم لمالوا أيضاً معهم ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما ساتغلوا به علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين اه.
هذا موجز من تاريخ المتخلفين في الدين وصف به حجة الإسلام طغمتهم في عصره(71/4)
الخامس من أفضل عصور النول في الإسلام فما بالك بأمثالهم بعده وقد حدثت من الأحداث ما كان الجهل سداها ولحمتها والنيل من المخلصين مبدأها وغايتها وما أصدق ما قاله حجة الإسلام أيضاً في هؤلاء الطغام أعداء الإسلام والسلام في أول كتاله التفرقة بين الإسلام والزندقة قال: وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبوهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم،، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعباتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحلية لما تقتضيه حشمتهم فهؤلاء من أين لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان أبالهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن كدوبات الدنيا لقبولها أم بكمال عملي وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران وأمثالهم هيئات هذا المطلب أنفس وأعز من أن يدرك بالمنى أو ينال بالهوينا فاشتغل أنت بشأنك ولا تضيع فيهم بقية زمانك و (أعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم أن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى)
وبعد فإن في هذا العصر فئات في هذا الشرق ممن اسعاذ منهم المصلحون في كل عصر ولكنهم وياللأسف حثالة الحثالة، ومثال الجهالة والضلالة، إن قلت لهم تعاليم فلان، قالوا لك أونسيت تعاليم فلان فهي أحسن وأسلم، وإن حرضتهم على علم كذا قالوا علم كذا أفضل،، عن شرحت لهم أساليب المدينة، قالوا إننا من قبل ديننا فتركناه فصار حالنا إلى ما ترى، وإن حدثتهم بطرق الارتقاء قالوا إنه يدعونا إلى الانحلال كأنه ما كفانا ما نحن فيه من البدع، وإن دعوتهم إلى الأخذ بما صح من أحكام الحلال والحرام، أوردوا لك من أقوال شيوخهم وأقاصيص عجائزهم وأحلام حالميهم ومثبطات المترهدين والمتورعين منهم ما تسأل الله معه السلامة، وإن حببت إليهم المعروف قالوا لك ما أكثر المنكرات.
حملة أهواءٍ، لا حملة شريعة، وجعاب لغو وحشو لا قوام على ما يقوم العقل، سلاحهم المغلطة، ومجنهم السفسطة، رأس مالهم الثرثرة، وربحهم الغلبة بالباطل، والمهارة في المهاترة على غير طائل، مناهم، من دينهم ودنياهم، أن تفخم القابهم، وتملأ كراشيهم وعلبهم، وترفع بين الغاغة منازلهم، ويزيدوا بسطة في الجسم لا في العقل، وتكتب لهم في العالمين شهرة بعيدة بدون أن بعدوا لها أداة من أدواتها، ويصرفوا في التحصيل ساعة من(71/5)
أوقاتهم، دأبهم الحط من الفضلاء، وهجيراهم النيل من العظماء، يرقعون ويلفقون، ويراوغون ويماحكون، وأكسون ماكسون، مدلسون مولسون، يعادون ما يجهلون، يجمدون على ما يعرفون، يصانعون ولا يتلطفون، يفتون وهم لا يعلمون، يجتهدون ويخطئون، يهرفون يما لا يعرفون، يعدون علوم البشر ذرة من معارفهم، ويحتقرون ما بلغه مداركهم كأن فل الله محصور فيهم، وكأن من لا يجري على هواهم محروم من السعادة هالك، أولئك هم ثعالب الإنس يأكلون لحم أخوانهم بالغيبة والوشاية، ويمشون بين الناس بالنميمة والسابة، أسود ولكن على نحت أثلاث مخالفيهم، نمور ولكن لا يحسنون الوثب إلا على من لا يصلحون خدمة لهم. يفترون ويغرون، يغرون ولا يخافون، يخربون ولا يدرون، يخرفون ولا يستحون، يمخرقون ولا ينتهون، فهم أضر على الناس من قطاع السابلة، وأفسد في جسم المجتمع من الأدواء القتالة، يرجعون بالأمة القهقري، والدواعي تهيب بها إلى التقدم، ويزينون لها الفناء والعدم، والمصلحة قاضية بالتماسك والتعاون، ويملون لها الذل والصغار، وركوب متن العار، والحالة تدعو إلى تحكيم العقل في كل قول وعمل.
فألهم ثبت أقدام المصلحين وهيء لهم من الكفاءة ما يقوون به على رد غارات أعداء الأمة في إصلاحها فقد كفاها جهلاً وضلة بما كسبت أيدي المنافقين وما جلبوا عليها من الخزي المبين وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. . . . . والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا بالغو مروا كراماً(71/6)
بين الفيحاء والشهباء
المملكة الحموية
حماه كلمة سامية معناها الحصن المنيع الحمي. والحماة عاصمة مملكة لا يعرف اتساعها تختلف باختلاف الدول والأزمان وقد ذكر موسى اليهودي حماة الكبرى وذكر بعض الإفرتج أنه كان انطلوخيوس الرابع أبيفان هو الذي سماها ابفانيا وسماها مؤرخة النصرانية الأول كذلك. هذه رواية الإفرنج ولم يصرح جغرافيو العرب بأن فامية هي حماه بعينها بل قالوا أن فامية ويقال لها أفامية هي مدينة قديمة ويطلق هذا الاسم على كروتها أيضاً وكانت فامية عظيمة قديمة على نشر من الأرض لها بحيرة حلوة يشقها النهر المقلوب (العاصي) وقال ياقوت أن أفامية مدينة كبيرة وكورة من سواحل حمص وقد ياق للها أفامية قال عيسى ين سعدان الحلبي يذكرها:
يا دار علوة ما جيدي يمنعطف ... إلى سواك ولا قلبي بنجذب
ويا قرى الشام من ليلون لا نحلت ... على بلادكم هالة السحب
ما مر برقك مجتازاً على بصري ... إلا وذكرني الدارين من حلب
ليت العواصم من شرقي فامية ... أهدت إلي نسيم البان والغرب
ما كان أطيب أيامي بقربهم ... حتى رمتني عوادي الدهر من كثب
وهذا دليل على أن أفامية كانت من المدن العوفة غير حماة يؤيد ذلك أن حماة معروفة بهذا الاسم في الجهلية فكان الشاعر حرياً بأن يذكرها بلفظها التعارف.
افتتح حماة أبو عبيدة سنة 17 وكانت معروفة ف يالجاهلية بهذا الاسم وذكرها امرؤ القيس في شعره بقوله:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية رحنا من حماة وشيزرا
بسير يضج العود منه يمنه ... أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
قال ابن حوقل أن شيزر وحماة مدينتان صغيرتان نزهتان كثيرتا المياه والشجر والزروع والفواكه وقال ياقوت إن حماة كبيرة عظيمة كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار واسعة الرقعة حفلة الأسواق محكم وبظاهر السور حاصر كبير جداً فيه أسواق كثيرة وجامع مفرد مشرف على نهرها العروف بالعاصي عليه عدة نواعير وفي طرف الدينة قلعة عظيمة في(71/7)
حصانيتها واتقان عمارتها وحفر خندقها نحو مئة ذراع وأكثر للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. ولم تكن قديماً مثل ما كانت في القرن السادس من العظم بسلطان مفرد بل كانت من عمل حمص وسماها أحمد بن الطيب قرية سنة 271 وذلك فيما ذكره من البقاع التي شاهدها في سيره من بغداد.
واستولى الإسماعليون على حماة زمن الصليبين واستولى عليها تنكرد أحد ملوك سنة 1108م ثم استعادها طغتكين التركي من الإفرنج سنة 1110م وأصيبت بزلزال شديد سنة 552هـ - حتى ذكر المؤرخون أن أحد معلمي الكتانيب خرجد لحاجة وعاد وقد رقع السقف على رؤوس الأولاد كلهم قال ولم يحضر أحد من أوليائهم يسأل عن ابنه الهالك وذلك لأنهم هلكوا عن بكرة أبيهم. واستولى على حماة صلاح الدين يوسف اين أيوب.
وإن ما عرف من تاريخ هذه المدينة ليشهد بأن أيام صاحبها أبي الفدا إسماعيل كانت أسعد من غيرها وبها وبه اشتهرت ولا عجب فالبلاد قد تسعد برجل وتشقى برجل فكما سعدت دمشق بعهد نور الدين وصلاح الدين وسعدت بغداد بالرشيد والمأمون هكذا سعدت حماة بأبي الفدا الملك المؤيد صابح حماة والمعرة وبرزين. ولم تر بعده وهو ملك من أهلها ومن أسرة صلاح الدين يوماً يشبه ذلك الأيام في السعادة وبقي الخراب يتحيفها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه لهذا العهد من الإنحطاط. وأحر بها أن يقال لها اليوم قرية كبيرة لا لقلة نفوسها فإنهم خمسون ألفاً ولا لتغير معالمها وضعف زراعتها فإنا مازالت بحالها لقلة عمرانها وجهل سكانها إلا قليلاً.
لم يقل أبو الفدا في جغرافيته إلا أنها: مدينة أزلية ولها ذكر في كتب الإسرائيلين وهي من أنزه البلاد الشامية والعاصي يستدير على غالبها من شرقيها وشماليها ولها قلعة حسنة اليناء مرتفعة وفي داهلها الأرحية على الماء وبها نواعير على العاصي تستقي أكثر بساتينها ويدخل منها الماء إلى كثير من دورها وحماة بلدة قديمة مذكورة في التورات وهي وشيزر مخصوصتان بكثرة النواعير دون غيرهما من بلاد الشام.
وحدد ابن فضل الله حماة من القبلة الرستن وما سامته آخذاً ما بين سلمية وقبة ملاعب إلى حيث مجرى النهر والآثار القديمة ومن الشرق البر آخذاً على سلمية إلى ما استقبل عن قبة ملاعب ومن الشام آخر حد المعرة من أنقراتا (؟) ومن الغرب مضافات مصياف وقلاع(71/8)
الدعوة وليس لها نطاق يدور على غير ولاية برها الخاص بها نفسها وبارين والمعرة.
وقال شيخ الربوة في القرن الثامن أن الشام كانت لتنقسم على عهد الدولة التركية إلى ثمانية أقسام أو مماليك والمملكة الرابعة من الثمانية حماة ويها سلطان ملك ونائب مستقل وهي مدينة حسنة خصبة كثيرة الخير والأرزاق يحوطها النهر العاصي وبأتيها جارياً من جانبيها ويجتمع بين الجانبين قنطرة ومن أعمالها الكبار بعرين وتسمى بارين وهي قلعة منيعة وسلمية وهي على سيف البرية بناها عبد الله بن صالح وعلي اين عبد الله بن عباس ولها قناة كبيرة.
وذكر حماة غرس الدين الظاهري لفظ الملكة أيضاً وقال إنها متسعة على مدن وقلاع وأقاليم وقرى وأعظم مدنها حماة وإن قلعتها أخربها تيمورلنك وبها جوامع ومدارس ومساجد وأماكن ومزارات.
ووصف ياقوت قورون حماة العروفة إلى اليوم فقال إنهما ثلثان متاقبلتان وجبل يشرف عليها ونهرها العاصي وبين كل واحد وبين دمشق خمشة أيام للقوافل وبينهما وبين حلب أربعة أيام.
وحماة اليوم لواء في الشمال من ولاية سورية ومن أعماله سلمية وقسم من جبال الكلبية أو النصيرية وحمص وأكثر أراضيها هذا اللواء سهلية إلا ما كان من أنحاء جبل الكلبية ففيه ما في الجبال من سهول وآكام وتربة حسنة وما كان على مقربة من العاصي يستقي منه فينبت فيه القطن والقنب والحرير والبصل (النار) والخروع وأنواع البقول والأشجار وما كان بعيداً عنه يكون عذاً وخصوصاً في المحال التي يسمونها بالزوار فإنها على غاية من حسن التربة وقوة الإنبات بما يتوفر القائمون عليه من التسميد الذين يأتون بالسماد من القرى المجاورة بحيث يكون دخلهم منها يوازي دخلهم دخل أهل حدائق دمشق وبعض قراها مثل كفرسوسة والقابون وجوبر.
وموقع مدينة حماة والعاصي يشطرها والنواعير تئن عن أيمانها وشمائلها من أجمل المناظر ولا سيما في فصل الربيع ومن أجمل النزهات عندهم الركوب في قارب وقطع جانب من العاصي فيرى المتنزه ضفاف العاصي مخضلة بلاثمار اليابعة تعكس على المياه خضرته وليس في حماة ما يستحق الذكر من أنواع العمران إلا بقايا صناعات قديمة مثل(71/9)
حياكة الأقمشة للثياب والفوط والستائر والاعبشة والنزابيج (اللي) وغير ذلك من الأمور الحقيرة وليس فيها مدارس أهلية ولا خزائن كتب عامة ولا مطابع ولا صحف يومية أللهم إلا مطبعة واحدة وبعش صحف اسبوعية وشهرية ولا نسبة بينها وبين مكانة حماة القديمة.
أما آثارها القديمة فأهمها دار أسعد باشا العظيم أحد ولاة سورية في القرن الثاني عشر وصاحب حماة بني هذا القصر منذ نحو 170 سنة على أجمل طراز على مقربة من نهر العاصي وزين بأنواع النقوش والتصاوير ويظن أن صناعه كانوا من الفرس لأن نقوشهم كثيراً من النقو العجمية وبعض الأبيات الفارسية ومن أبدع ما رأيناه فيها قطعتان من الخشب جعلتا في حائط الغرفة الكبرى ف يالداء البرانية ونقشت عليهما صورة حماة في ذاك العهد يجوامعها ومدارسها ونواعيرها وقصورها والناظر إليها يتبين أن المرسوم هو حماة بعينها وأنها كانت إذ ذاك أعم مما هي عليه الآن والغالب أن الزلزال الأخير أخربها إلا قليلاًُ. ولايجملة فأن قصر ابن العظم في حماة حري بأن يزار كقصره في دمشق وهندسة القاعة هنا وفي حماة واحدة والغالب أن من بنوا هذه بنوا تلك وكذلك الناقشون والمزينون.
قلنا سكان خمسون ألفاً دع عنك من في ضاحيتها من أمها القرى وما تظن لواء حماة يقل عن أربعمائة ألف نسمة لأ بعض سكانها مكتوم في الإحصاء الرسمي ولاسيما سكان جبال الكلبية وهم نصيرية وإسماعلية بالنظر لما رأوا من الشغط والشدة في الأزمان الغابرة. وفي قضاء العمرانية حصن مصياف وفي قضاء المرقب القدموس وهما من الأماكن المعروفة عند الإسماعيلية ولها ذكر في التاريخ.
على قبر أبي الفدا صاحب حماة
حنانيك إسمعيل اجبني فدتك نفوس الملوك يا عالمهم وعادلهم وسيدهم. كنت في عصرك مثال العمل الصايح وها أنت لمن بعدك عبرة يعتبر.
زرت قبرك الشريف وذكرت سيرتك المثلى فبكيت على الإسلام والعرب وقابلت بما قرأته على ضريحك بين السذاجة الغالبة عليك وفخفخة الألقاب بعدك.
قرأت: هذا ضريح العبد الفقير إلى رحمة ربه الكريم اسماعيل بن علي بن محمود ابن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب عمر في شهور سنة سبع وعشرين وسبعمائة جملة لا(71/10)
يجوز نقضها على قر أحد العامة فأين أنت منها يا أبا الفدا في مفاخرك وسؤددك ومجدك الخالد والطارف.
حناتنيك اسماعيل كنت في حياتك قدوة الملوك العادلين تعلم الناس حب الخير وتعلم العلماء فيما توفروا عليه والفاتحين ما يفاخرون بمعرفته والحكماء ما هو أمجادهم وها أنت الىن رهين حفرة قد كاد ينسى بين قومك ذكرك فلا تبدي ولا تعيد وقومك نسوا دينهم فكيف لا ينسون رجالهم.
نشأت أيها السلطان العادل من بيت عز وملك فلم تأخذ الزخارف بلبك بل تخرجت في العلم وربيت على أدب النفس وأدب الدرس حتى جاء منك عالم بل معلم للعلماء وتفننه.
نشأت نشأة عالية في القرون الوسطى وغيرك من الملوك ولا سما بعدك نشأة جاهلية على الخمر والزمر والقمر لا يعرفون غير القصور والولدان ولاحور وغاية مفاخرهم أنههم يبطشون ولا يبالون يقتلون ولا يتأملون يتعاظمون ولا تواضعون فلا يراجعون يأمرون ولا يعدلون.
أضحت أحكام بعض الملوك بيدك ذوقية وأعماله على الأكثر استبدادية. اتخذوا الإسلام ديناً وهو منهم برئ وعبثوا بلارخض والعزائم ليس لهم وازع من أنفسهم ولا رادع من أممهم. أصبحوا جبابرة لا ملكواً وشياطين لا إنسا وإنعاماً لا يعرفون إلا ما فيه راحتهم وتوفير قسطهم من اللذائذ والبذخ والنعيم.
كنت أبا الفدا ملكاً بالأمم وملكاً بالفعل كنت شريفاً بماضيك وحاضرك أنت إلى يوم الناس هذا والي وإلى غد وما بعد غد شريف قي عامة أحوالك.
لم نعه دلك كما عهدنما للملوك قبلك وبعدك أن عددت الرعية كالسائمة التي تملك فيتصرف مالكها بدرها ووبرها وجلدها ولحمها وبعمل مطلقاً في الاستمتاع بها لا ينازعه منازع. بلى عهدناك تؤاسي الضعيف ولا تجور على الفقير وتحسن للعلماء وتفضل على الفقهاء والأدباء والشعراء وتصرف أفضل أوقاتك في التأليف والتصنيف ياثاني المأمون بعملك وعقلك وثاني صلاح الدين بعدلك وجهادك.
أباد الفدا إن قومك أغفلوك وسيرتك بل أهملوا صريحك ولو ذكروك لساروا ولو قليلاً على سنتك المحمودة فعلمت الملوك من بعدك بسيرتك الطاهرة كما كنت في عصرك خير معلم(71/11)
للملوك العادلين والعلماء العاملين.
أبا الفدا إن الملوك بعد عصرك جمعوا كثيراً وضاعوا كثيراً جمعوا فكان ملكك بجانب ماملكوا جزءاً صغيراً جداً وما خلفوا إلا ما تحمر وجههم خجلاً منه يوم يأتون في الآخرة وقد شهدت عليهم لا لهم أعمالهم وأنت سعتد يمن وليت عليهم وسعدوا بك فأبقيت ذكراً لا تمحوه الأيام.
أنت علمت الخلق بأن القليل مع العقل بستفاد منه أكثر من الجزيل بدونه وإن وفرة المال والعقار لا تكون من السعادة في شيء إذا لم تسبقها نفس مهذبة بالآداب والفيلة وعقل يحسن التصرف بما يملك.
من لي بنظرة منك لترى ما حل بالعرب اليوم من التمزق والفساد في المعاش والمعاد والجيل والمطبق وضعف العقول. رئم اخلاف من حكمت للمذلة وخنعوا للاستبداد وتفرقوا تحت كل كوكب فرثى لهم الصديق وشمت بهم العدو وهانهم الدهر وكل ذلك بما يفعله سفهاء الأحلام من أمرائهم وعلمائهم أنهم كانوا ظالمين.
قم وانظر فقد بدلت الأرض بعد عصرك. اخترع الأفرنج في زماننا البخار والكهرباء ووفروا مرافق الحياة وقربوا الأبعاد وحسنوا العيش أما قومك فليس لهم من مدينة القرون الأخيرة إلا النظر وزادوا على جهلهم فساداً في أخلاقهم بحيث لم يبق لهم من الأمجاد إلا أن يعود إلى صحيفة أجدادهم ويفاخرون بما تم على أيدي أمثالك كالقرعاء تفخر بشعر أمها أو العجوز الشوهاء لا تفتأ تذكر ماضي شبابها.
قالزا إن نظام الحكومات بعد أيامك أرتقى وإنكم كنتم في عصر تقل فيه القوانين الوضيعة وكان أكثر العمل بالقوانين السماوية فمن لنا بعصرك فإن القوانين الوضيعة ارتقت ولكن عند غيرنا من أهل الغرب والقوانين السماوية أرعضنا عنا إلا قليلاً فلم نحسن تقليد المقتنين المحدثين ولا احتفظنا بتراث الأقديمن فكنا كالعقعق أراد أن يمشي كالحجل فنسي ولم يمش مثله بل كنا من الأخسرين أعمالأً.
رحماك أبا الفدا إن أمثالك أنفقوا أموالهم وأموال الأمة في شهواتهم على المغنين والمغنيات والكواعب الغانيات وأنت أنفتها على العلم والعلماء إنهم إذا كانوا جهلة أغبياء فقد كنت العالم المؤرخ الجغرافي الطبيب الحكيم ومصنفاتك شاهدة لك على غابر الدهر بأنك عالم(71/12)
الملوك وملك العلماء. خلد اضرابك بسيرتهم صيت بطش وفتك وقطع وقت في العبث وأنت أقمت نصاب العدل علىمن وليت أمرهم فكانت أيامك رياض الأزمنة وبهجة العصور فجزاك الله عن أمتك أجزل ما يجازي ملكاً صالحاً عن رعيته وعالماً عاملاً يخدم الناس بعمله وفصيلته.
المملكة الحمصية
ربما يتسغرب البعض إطلاق لفظ مملكة على حمص فقد كانت عظيمة في الجاهلية والاسلام. كانت الشام على عهد الروم مقسومة أربعة أقسام قصبة دمشق وقسم قصبة طبرية وتسمى الأردن وقسم قصبة حمص وقسم قصبة إيليا (القدس) وتسمى فلسطين وكان لهم في كل عمل بطريق من البطارقة يحفظه وبعث الخليفة الأول لما أراد فتح الشام إلى كل عمل جنداً وأمر أميراً فعث إلى حمص أبا عبيدة بن الجراح وسيمت هذه الأعمال يومئذ إجناداً وكانت قنسرين مضافة إلى حمص ثم أفردت إلى حمص ثم صار الشام في خلافة الرشيد مقسوماً إلى ستة أجناد ثم قسم في الدولة التركية إلى تسعة أقسام منها قسم التناء والارمن والروم وانفصل عن الشام وسمي روماً.
وكانت أقاليم حمص عبارة عن إقليم شيزر وإقليم فامية وإقليم معرة النعمان وإقليم صوران وإقليم لطمين وإقليم بل منس وإقليم الغلاس وإقليم كفر طاب وإقليم جوسية وإقليم لبنان وإقليم السعرة وخمسة أقاليم التمة وإقليم البلعاس وإقليم البارة وإقليم الرستن وإقليم زمين وإقليم القسطل وإقليم سلمية وإقليم عقبرتا وإقليم الجليل وإقليم السويداء ورفنية وتدمر. وخراج حمص ثلثمائة ألف وأربعون ألف دينار.
وكان يحد عل حمص في القرن الثامن من القبلة قرية القصب المجاورة لقرية جوسية - وجوسية - من كور حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق بتم بها السكة الحديدة بين بعلبك وحمص وهي بين جبل لبنان وجبل سنير (قلمون) - آخذا هذا الحد إلى النبك إلى القريتين ومن الشرق السماوة إلأى لافرات ينتهي إلى مدينة سلمية ولها قلعة تقاربها تعرف بشمنش ومن الشام ما بين سلمية الرستن ومن الغرب نهر الأرنط وهو العاصي ومدينة هذه الصفقة حمص وهي دار ملك البيت الأسدي ولم يزل لملكها في الدولة الإسلامية سطوة تخاف وبأس يجذر وبها القلعة المصفحة ولا منعة لها ولها بناية جليلة وعسكر وتشتمل هذه(71/13)
الصفقة على ولاية قارا وهي قبلي حمص وولاية مدينة حمص نفسها وولاية تدمر وهي ما بين القريتين والرحبة.
هذه الدينة العظيمة التي كانت مملكة وولاية إلأى القرون الوسطى ضغفت في القرون الحديثة حتى أصبخت اليوم قضاء من عمل حماة وأما تاريخها قبل الإسلام فقد ورد ذكرها في مصنفات بلين الروماني باسم أميزا
وذكر الحمصيون قبل عهده في جملة سكان الخيام الذين قاتلهم الرومان ومن مشاهير حمص قل الإسلام هليو كابال روبا سانيوس الكاهن الأعظم في معبد الشمس (بعل) في حمص الذي بويع امبراطوراً رومانياًَ سنة 217 وقد استولى الصليبون على حمص سنة 1099م.
ولحمص وجند حمص ذكر كثير في كتب الفتوح منها أن أهلها صالحون أبا عبيدة على مائة ألف وسبعين ألف دينار وذلك لأن الحمصيين كانوا متخوفين لهرب هرقل عنهم وما كان يبلغهم من كيد المسلمين بأسهم وظفرهم فأمنهم الفاتح على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرحائهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد واشترط الخراج على من أقام منهم وقسمت حمص خططاً بين المسليمن حتى نزلوها وأكنهم عاملها السمط بين الأسود الكندي في كل مرفوض جلا أهله أو ساحة متوركة وكانت مدينة حمص مفروشة بالصخر فلما كانت أيام أحمد ين محمد بن أبي إسحاق المعتصم بالله ضغبوا على عاملهم الفضل بن قارن الطبري أخي ما يزديار بن قارن فأمر بقلع ذلك الفرش فقلع ثم أنهم أظهروا المعصية وأعادوا ذلك الفرش وحاربوا الفضل بن قارن حتى قدروا عليه ونهبوا ماله ونساءه وأخذوه فقتلوه وصلبوه فوجه أحمد ين محمد إليهم موسى بن بغا الكبير مولى أمير المؤمنين المعتصم بالله فحاربوه وفيهم خلق من نصارى المدينة ويهودها فقتل منهم البلازي وبحمص هري يرده قمح وزيت من السواحل وغيرها مم قوطع أهله عليه وسجلت لهم السجلات بمقاطعتهم.
وفرش طرق حمص بالصخر قديم جدد مرات قال اين حوقل إن جميع طرق حمص من أواقها وسككها مفروشة بالحجارة والبلاط وذكر الجغرافيون من حسن حمص أنه لا يوجد بها دار إلا وتحتها في الأرض مغارة أو مغارتان وماء ينبع للشرب وهي مدينة فرق مدينة(71/14)
وقال بعضهم إن مدينة حمص هي سوريا وكان بها مرصدان أشبه بالرصد الذي كان عند عين الهرمل وهو من مراصد الصابئة.
قلنا إن الفاتح صالح أهل حمص على ربع كنيستهم للمسجد وقد ظلت كذلك إلى لاقرن الرابع وبعض بيعتها المسجد الجامع وشطرها للنصارى فيه هيكلهم ومذبحهم وبيعتهم من أعظم بيعالشام. وقد دخلها الروم في الإسلام مرات وأخربوها وأتوا على سوادها وزاد اختلالها بعد دخول الروم إليها ثم قوماًُ استوطنوا ممن سلم من الروم فأتت البادية عليهم تأكل زروعهم كما كان يحدث ذلك لها إلى عهد غير بعيد حتى القرن الماضي.
سكان حمص والحثيون
الأجح أن سكان هذه البلاد مزيج من أمم مختلفة باختلاف الفاتيحن ففيهم دم من معظم الأجناس التي حكمت هذه البلاد وأهم عناصرها الحثيون والروم والعرب فما وقع في ديار كلب من القرى تدمر وسلمية والعاصمية وحمص وهي حميرية وخلفها مما يلي العراق حماة وشيزر وكفر طاب لكنانة من كلب وحمص كدمشق وما يليهما ديار غسان من آل جفنة وغيرهم.
أما الحثيون فهم جنوبيون وشماليون وكان الجنوبيون في جهات فلسطين والشماليون نزلوا أولاً جبل اللكام أمانوس ثم انشروا بكرور الأيام من الفرات إلى حماة وحمص ومن دمشق وبرية تدمر إلى كبدوكيا. ويطهر من الآثار البصرية أنه لم يكن لهم ملك واحد بل كان لكل فصيلة منهم ملك.
ولم يعرف شيء عن الحثيين الشماليين قبل أن يمر الرحالة بوكهات الإنكليزي بحماة سنة 1812 يرى على جدار ازقتها خطوطاً قديمة بالخط المسند المصري أي الهيوغليقي تختلف عن الآثار المصرية ثم جاء بعده بعض رحالة من الأميركان والإنكليز. وأخذ العلماء بالتنقيب عن أمثال هذه الآثار فعثروا على كثير منها في حماة وحمص وحلب ومرعش وكركميش (أيرابوليس) وفي كبادوكيا وفي محال أخرى من آسيا الصغرى وقد علم من هيئة وجوه الحثيين الشماليين على ما رسموا في الآثار المصرية أنهم قبل الحثيين أو في الورتانو (كذا تسمى الآثار المصرية شعباً كان يسكن سورية في الآثار الشمالية قبل الحثيين أوفي جانبهم) منهم إلى سكان فلسطين ولون وجوههم أبيض ضارب إلى الحمرة.(71/15)
قلنا أن أو محل احتلوه أودية جبل اللكام ثم أخذوا يبسطون ولايتهم شيئاً فشيئاً نحو الشرق والجنوب حتى اتصلوا شراقً إلى الفرات فاستحوذوا على كركميش وغراباً إلى وادي العاصي فاستولوا على حماة ثم على قادس في جانب حمص ثم غالبوا الآراميين في دمشق نفسها فحكموا فيها مدة وبسطوا سلطانهم في وقت غير معلوم إلى الشمال والشمال الغربي حتى ضبطوا آسيا الصغرى.
وقادس كانت في برية حمص وقد صورت على الآثار المصرية لأن رعمسيس الثاني أحد فراعنة مصر حاصرها أيام غزا فراعنة الدولة الثامنة عشرة سورية وبالد آشور مرات ثم ضعفت مصر في آخر أيام هذه الدولة فنبدت سورية وفلسطين طاعتها.
وكان الحثيون في هذه الأثناء تغلبوا على الروتان في شمالي سورية وأجلوهم من عقر دارهم وأنصفوا في مملكة واحدة فسيحة الأرجاء لنبسط من شاطئ الفرات إلى جبل طرطوس وإلى البحر المتوسط وتمتد جنوباً إلى قادس بل إلى دمشق أيضاً.
أخفق رعمسيس الأول في إعادة سورية إلى طاعته لأن خصومه فيها كانوا قد جمعوا شملهم وقد لاحظ مسبرو في تاريخ الشرق أن الفراعنة لم يكونوا إلى تلك الأيام يعتبرون ملوك سورية بمنزلة ملوك مساوين لهم أو يتنازلون لقد صلح معهم بل كانوا يسحسبون أمراء يكلمون بهم أو عصاة يجرون عقابهم وكانت نهاية الحروب معهم صاغرين دون شرط أو تدميرهم التام.
والظاهر من الآثار أن ساتي الأول ان عرمسيس أراد أن يستبيح حمى الحثيين فقاتلهم قرب العاصي على قلعة قادس وطالت الحرب الضروس وتعددت الواقع إلى أن افتتحها المصريون واستمات الحثيون في الدفاع حتى أصيو فرعون فاضطر أن يوقع على عهده صلح مع موتنار ملكهم عهدة ضمنت له سلامة ملكه حتى ردت عليهم قادس مدينتهم وبعد حروب طويلة على عهد رعمسيس الثاني مع الفينيقيين وقد كلت الأمتان المصرية والحثية من أهراق الدماء وعقدتا عهدة صلح وجدت صورته منقوشة على ظاهر جدار هيكل الكرنك بمصر انقطعت سائر الغزوات بين المصريين والحثيين مئة سنة وتزوج رعمسيس بابنة ملك فتوطدت دعائم الوفاق بين الشعبين.
ويتلخص من أخبار تغلب فلا زار الأول ملك نينوى وكان نحو سنة 1130ق. م أنه كان(71/16)
للحثيين في عهده صولة كبرى في شمالي سورية خاصة حتى كانت البلاد تسمى باسمهم لسلطانهم ولتسلط ولايتهم شمالاً إلى مدخل البحر الأسود فتوؤدي أليهم الجزية قبائل كباوكيا (في آسيا الصغرى) وكانت عاصمة الحثيين كركميش. وكانت هذه في محاربة الآشوريين للحثيين ما كانت قادس فيمحاربة المصريين لهم فكانت قادس حصناً منيعاً يخفر طريق آسيا في وادي العاصي وكركيش مثلها على الفرات وتفضلها بأنها كانت محطة تجارية أيضاً بين مغرب آسيا ومشرقها.
وقد اكتشفت مدينة كركميش سنة 1875 وكان اسمها عند العرب جرابيلس. ويسميها الأتراك جرابيس محرف هيرابولس أي المدينة المقدسة وموقعها على الفرات في الشمال من نهر الساغور المعروف الآن بالساجور وفي الشرق من حلمان أو حلفان وهي حلب ومن خرزاز املعروف الآن بأعزاز في قضاء كلس وفي الجنوب من بالد كمكوما المعروفة الآن بلقيس فهي نحو الشرق من حلب وأعزاز وعلى ضفة الفرات الغربية وعلى بعد ثلاث ساعات تحت الساجور وست ساعات من البيرة.
جدد شلمانصر ملك أشور حملات أبيه على الحثيين بل قضى أكثر مدة لملكه يحاربهم ومن جاورهم. وكان من عادة الحثيين أن يرسموا خطوطهم ناتئة لا محفورة فتطرق من الوراء على صفائح معدنية لتنتأ الحروف في جهتها الأخرى هكذا الأخرى هكذا كانت عهدتهم معغ مصر مكتوبة على صفيحة من فضة وتترأ هذه الحروف تارة من اليمين وتارة إلى الشمال وتارة بالعكس فإن كانت رؤوس الحيوانات المصورة بها متجهة إلى اليمين فتقرأ منها وكذلك إن كانت إلى الشمال وتقرأ أحياناً من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى. وأما اللغة المكتوبة فيها هذه الخطوط فيرجع أنها ليست من اللغات السامية فالإعلام المذكور في الآثار المصرية والآشورية قل فيها ما يمكن رده إلى أصل سامي.
واشتهر الحثيون بالبخت كما تشهد آثارهم الباقية ولا سيما في حصون بوغازكوي وأيوق في آسيا الصغرى واتقنوا فن تحصين الحصوة واستخراج المعادن وصناعة تحويل الحديد فولازاً وقد أخذ اليونان أشياء كثيرة في صناعتهم عن الحثين. قال سايس في كتب الحثين أن مصدر فلاح اليونان هو الحثيون الذين افتتحوا آسيا الصغرى من أقدم العصور ويظهر أن صناع الحثيين ألفوا من صناعة مصر ونينوى وبابل اسلوباً خاصاً بهم واخترعوا(71/17)
صوراً منها النسر ذو الرأس الذي صار بعد ذلك شعاراً للسلاطين السلجوقيين ولبعض ملوك أوربا أما ديانة الحثيين فيظهر أنهم اقتبسوا عن بابل وبثوها في سورية وآسيا الصغرى وتطرقت إلى بلاد اليونان المذكورة واحدة وإن اختلفت اسماً.
نبذة في عمران حمص
ليس في الايدي مصادر يعتمد عليها لإصدار حكم مسمط على عمران حمص في القرون المختلفة وغاية ما يفهم من روايات مؤرخي العرب وجغرافيهم أن حمص في الإسلام كانت عامرة وأن الزلازل أضرت كثيراً بعمرانها وأن مدينة الرستن من الشمال وجوسية من الجنوب والقريتين ومهين حوارين وتدمر من الشرق كانت من أهم عمالاتها قال أبو نخيلة يمدح بني العباس ويشير إلى أنهم دكوا آثاراً الأمويين في الشام:
وأمست الأنبار داراً تعمر ... وخربت من الشآم أدورُ
حمص وباب اليتن والموقر ... ودمرت بعد امتناع تدمر
والموقر حصن بالبلقان وكان ينزله الأمويين وكذلك حمص وباب التين وتدمر وإنا إذا أخضنا عياب معجم البلدان تقرأ فيه أساء مدن كثيرة أكثرها داثر اليوم فمنها مدينة المؤتفكة كانت بقر سليمة وعلى آثارها بنيت هذه وسليمة اليوم كحمص قضاءٌ من أعمل حماه ومنها مريمين وهي من قرى مص بين الرستن وحماه معروفة إلى اليوم ومرقية قلعة حصينة في سواحل حمص كانت خربت فجددها معاوية ورتب فيها الجند واقطعهم القطائع ولطمين كورة بحمص لها حصن وكفر نغد ولعلها كفرنان والقرشية قرية بسواحل حمص وهي آخر أعمالها وفوز من قرى حمص ولعلها محرفة عن فيروزة وغنثر واد بين حمص وسلمية والشام في قول أبي الطيب:
غطا بالغثر البيداء حتى ... تحيرت المتالي والعشار
وعقيربات ناحية بحمص لا تزال موجودة والطوبان وصوران اسم كورة بحمص وجبل وشيزر بينهما وبين حماة يوم كانت تعد في كورة حمص وسلمية كانت تعد من عمل حمص كذلك ورفينة كورة ومدينة من أعمال حمص يقال لها رفينة تدمر. والرستن قرية مشهورة قال ياقوت بليدة قديمة كانت على نهر الميماس وهذا النهر هر اليوم المعروف بالعاصي الذي يمر قدام حماه والرستن بين حماه وحمص في نصف الطريق بها آثار باقية(71/18)
إلى الآن تدل على جلالتها وهي خراب ليس بها ذومري وهي في علو على العاصي. ودير ميماس بين دمشق وحمص على نهر يقال له ميماس وإليه نسب وهو في موضع نزه ولعله المنتزه الذي يقال لها الميماس اليوم ظاهر حمص ودير مسحل بين حمص وبعلبك لا يعرف اليوم ولعله بعض الخرب التي لم تشتهر إلا عند سكانها.
ودير باعنتل غير معروفة وهي من جوسية على أقل من ميل جوسية من أعمال حمص على مرحلة منها على طريق دمشق وهو الدير على يسار القاصد لدمشق وفيه عجائب منها آزج أبواب فيها صور الأنبياء محفورة منقوشة فيها وهيكل مفروش بالرمر لا تستقر عليه القدم وصور مريم في حائط منتصبة كلما ملت إلى ناحية كانت عينها إليك ودنوة كانت من قرى حمص بها قبر عوف بن مالك الأشجعي من الصحابة سألت عنها فلم يعرفها أحد مع أن قبور الصحابة والصالحين معروفة في الأكثر ولعلها في الوعر فإن وعر حمص كبير فيه آثار مهمة وهو يمتد من حمص إلى قرب طرابلس وأكثره وعرة ومن حمص إلى قرب حماه فما بعد ودير إسحاق غير موجود وهو بين حمص وسلمية في أحسن موضع وأنزهه وبقربه ضيعة كبيرة يقال لها جدر التي ذكرها الأخطر فقال:
كأنني شارب يوم استبد بهم ... من قرقف ضمنتها حمص أو جدر
ولأهل القصف والشعراء فيه أشعار كثيرة.
وحوط قرية بحمص أو بجبلة من ساحل الشام غير معروفة والحص غير موجودة وهو موضع بنواحي حمص تنسب إليه الخمر قال أبو محجن الثقفي:
إذا مت فأدفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلا فإنني ... أخاف إذا ما مت لا أذوقها
وتروي بخمر الحص لحدي فإنني ... أسير لها من بعد ما قد أسوقها
وكانت أنطرطوس أول أعمال حمص وهي من سواحل بحر الشام وكذلك أفامية كورة من كور حمص على الساحل وأعناز بلد بين حمص والساحل. وعن ابن واضح معرة النعامان وتل منس وما والاها من إقليم حمص. والجبل كروة بخمص ويبرين من قرى حمص وبانياس كروة ومدينة ضغيرة وحصن بسواحل حمص على البحر. وبكسرائيل حصن من سواحل حمص مقابل جبلة هذه هي حمص وبعض ما عثرنا عليه من أسماء قراها وأعمالها(71/19)
أما أسماء قراها الأميرية فإليكها الآن وعددها 137 قرية ننقلها عن سجلات الحكومة:
أبو دالي. أمحارتين عتيق. أم شرشوح. أم القصب. أم حارتين يهودية. أبو همامة (الأصل أبو إمامة ونسبته إلى الصحابي المدفون بها) أكوم ومعيان. أم العظام. آبل. أكراد دياسنة. أعور. أم دولاب. بابا عمرو. بلقسة. برابو. بريح. بتيسه. بويضة شرقية. بوير. برج قعية. تلعمري. تلبيسة. تلدو. تلدهب. تارين تير معلة. تسنين. تلنبي. مندو. (تل النبي مندوقبلي حمص إلى الغرب عند مصب العاصي على البحيرة). تنونه (وقف جامع خالد بن الوليد) تليل. جرنايا. جوبانية. جوسية. (قبلي حمص منها خراب وعمار فالعمار من سكة الحديد للغرب والخراب في الشرق وهي البلدة الأصلية). جديدة شرقية. حفر. حمام. حلاموز. حوارين. حداثة. حيصة. حاويك. حديدة العاصي. حوز. حسية. حميدية. حميمة. خربة السودا. خربة حمام. خربة تين نور. خربة تين محمود. خربة غازي. دنحة. دبين. دير بعبة. دير فور. دمينة شرقية. دوير. دار الكبيرة. دلبوز. دمينة غربية. ستن. رام العنز. ريلة. ريان. ربيعة. رأس العين زور غربي العاصي. زور الموح. زعفرانة. زيتة وبويضة غربية. زراعة. زيدل. زور بقرايا. زيتا البحرة. سماقيا غربية. شماقيا شرقية. سمعيل. سكرة. سقرجة. شنشار. شمسين. شومرية. شيخ حميد. شرقلية. صيادية. صنون. صدد. حفر. طيبة. عين خاط. عين حسين. عز الدين. عامرية. عسيلة. عرقاية. عيصون وشلوح. عرجونم. غزيلة. غجرامير. غنثر وغنطو. غور. فرروزة. قطينة. قريتين. قناقيه. قزحل. قيرانية. وحوش السيد علي. قصير ميري. قره وشر (ولها اسم ثان وهو تل الفور) وكفر عايا. كفر موسى كفر لاها. كفر عهدي. كفرنان. كمام. لفتايا. مجيدل. مشرفية. مسكنة. مهين. مودان. مباركية. مرج القطا. مرج بولاد. منقطع. متعارض. معيصرة. مطيرية. نوحية. ناعم. أنقيرة. هرقل. هبوب الريح. هيت. وجه الحجر. بويت.
وهناك أراض كانت للسلطان المخلوع عبد الحميد ثم أيرت إلى الخرينة وهاك أسماءها قرية قصير ورمزون دبابية. خربة الضبعة. كوكران. دحيرج. هزة. مضابع. عباسية. صايد. فرقلس. برهانية. بلها. رقامة. منزول. شعيرات. وزاعية. حربية. عزيزية. حمرات. وهيب. دردغان. عاليان. فحيلة. تلة الناقة. خرابة قنية. فيضة. يسبة. حولاية. دويليب. مخرم فوقاني. مخرم تحتاني. تل الطويلة. سليمية. نوا. حميدية - أم العمد.(71/20)
شوكتية. جهنم. وريدة. جب عباس. تل الأغر القبلي. جوسة الخراب (قبلي الخط الحديد وغربيه). أم التين. سنكري شمالي. سنكري قبلي. أم العلب. تل الورد. دويعر شرقي. دويعر غربي. مسعودية. أم السرج شمالي. أم السرج قبلي. أم الجباب جنيات. حراقي. لثنان وأم قدوم. فطيم العنوقي. عيون حسين. مسيعيد مكسر الحصان. هبرة غربي. هبرة الشرقية (ولها اسم آخر مزرعة هنداوي). مزرعة جب الجراح. مزين البقر. تلول الهوا. رحم. مزرعة أم صهريج. مشيفرة. أم جامع.
هذه أسماء قرى حمص وخرائبها وبعضها ناءٍ جداً عن مركز الحكومة لعيث البادية فيه مثل القريتين مثلاً فلو جعلت قضاء مع ما يصاحبها من القرى والمزارع وكذلك جب الجراح لزاد العمران والسكن لا محالة وخصوصاً إذا باعت الحكومة مزارعها وخربها من الأهلين ببذل المثل إذاً لاشتراها الحمصيون أنفسهم لأن من أهلها من هو غني جداً يتساوى في ذلك مسلموهم ومسيحوهم فالزراعة بيد المسلمين والتجارة بيد المسيحين وكثيرة من الفريقين هاجروا إلى مصر وأميركا فاغتنزا وتأثلوا حتى أن أهل حمص سموا لهم مدينة باسمهم في الولايات المتحدة على نحو ما سمى جندهم مدينة باسمهم يوم فتحوا بلاد الأندلس.
قال ياقوت أن في حمص مدارس وقال ابن جبير أن بها مدرسة واحدة وليس بها مستشفى على رسم مدن هذه الجهات مثل حماه وغيرها أما اليوم فليس بها مدارس دينية مهمة فيما علمت سوى مدارس للعلوم الدنيوية مثل مدارس الروم والكاثوليك والبرتستان وبعض مدارس حديثة أهلية أنشئت للمسلمين وبها مدرسة رشدية أميرية وبها مطبعة اسمها حمص تطبع جريدة وجريدة حمص جادة لرشاء وغيرها. وثلث أهل حمص غير مسلمين والباقون مسلمون وكان أهلها كما قال ياقوت من أشد الناس على علي بن أبي طالب فلما انقضت تلك الحروب صاروا من غلاة الشيعة حتى أن في أهلها كثيرا ممن رأى مذهب النصيرية وأصلهم الإمامية أ / اما قاله طثير من المؤرخين والعمرانيين في أن البله يكثر في أهل حمص منذ القديم فهو مشهور عن عامتها لا عن خاصتها فقد اشتهر بذلك فصار يتناقل عنهم القرن بعد القرن وما خلا قرن فيها من خاصة فصلاء عقلاء ودليل عقلهم اليوم أنهم كانوا بعد الدستور أسبق البلدان السورية إلى ورود حياض المدينة وقد انتفعت بلدهم بمد السكة الحديدية العريضة الممتدة منها إلى طرابلس وكانت البضائع تصدر منها وترد على(71/21)
الجمال والبغال والمركبات والحوافل وسيزيد عمرانها يوم يمتد منها خط حديدة ضيقة إلى تدمر ويجيئها الساح بالألوف وتحمل أشعة المدينة والأمن إلى تلك الربوع في الداخلية وتعيد إلى تدمر وأرباضها عهد زنوبيا.
يوم في بحيرة قدس
من يزور حاضرة من الحواضر ولا يشهد ريفها وقراها تظل عنها قليلة ويظل مقلداً فيما يكتبه وما كان كالمقلد سواء في شؤون الدين والدنيا. دعاني صديقي وصفي أفندي الأتاسي إلى قريته قره وشر فركبت وإياه عربة حتى وصلنا في ساعة وهي في جوار بحيرة قدس فجمعنا بين ثلاثة أمور الرياضة في الخلاء والإطلاع على نموذج من قرى حمص وزيادة تلك البحيرة التي كان لها ذكر في تاريخ سورية القديم كما نسمع اليوم باسم خزان أسوان في مصر للتشابه بينهما فخزان حمص يسقي تلعات وادي العاصي وخزان أسوان يسقي تلعات وادي النيل.
وطول هذه البحيرة الصناعية ساعتان وعرضها ساعة وقد نسبت لقدس عاصمة الهيتين أوقد شو عاصمة الحثيين الثانية يجتازها العاصي وهي وهي مسدودة من مسافة كيلومترين وهناك برج قديم على الشاطئ الشرقي وعدة قرى.
وقد وصف جغرافيو العرب هذه البحيرة فقال شيخ الربوة أن بحيرة حمص وهي بقعة محفوفة ببناء جص محكم وفيها أسماك كثيرة كبار ثم يخرج منها الماء عكراً مثل ماء النيل ولا يصفوا بعد ذلك إلى أن يدخل أرض الروج ويصل إلى السويدية ويصب في البحر الرومي. وذكر ياقوت أن طولها أثنا عشر ميلاً في عرض أربعة أميال بين حمص وجبل لبنان تصب إليها مياه تلك الجبال ثم تخرج منها فتصير نهراً عظيماً.
وقلا أبو الفدا أن طولها من الشمال إلى الجنوب نحو ثلث مرحلة وسعتها طول السد وهي مصنوعة على نهر الأرنط فإنه قد صنع في طرف البحيرة الشمالي سد بالحجر من عمارة الأوائل وينسب إلى الإسكندر وعلى وسط السد المذكور برجان (الآن برج واحد) من الحجر الأسود وطول السد شرقاً وغرباً ألف ومائتان وسبعة وثمانون ذراعاً وعرضه ثمانية عشر ذراعاً ونصف ذراع وهو حابس لذلك الماء العظيم بحيث لو خرب السد سال الماء وعمت البحيرة وصارت نهراً وهي في أرض مستوية عن حمص بعض يوم في غربيها(71/22)
ويصار بها السمك اه.
أذكرتني هذه البحيرة أو السد أو الخزان بما في بلاد الشام من الأنهر والخلجان والبحيرات الكثيرة التي يذهب ماؤها بداداً ولا ينتفع به في السقيا وقد كان القدماء أعرف بما ينفع من هذا القبيل من أخلافهم شكان هذه الديار اليوم وذلك على قلة ما كان في عهدهم من الأدوات التي أحدثتها مدينة الغرب وتقدم فنون الحيل (الميكانيك) والهندسة والبناء. ولذلك رأينا أعمال أسلافنا شاهدة على الدهر بعظمتهم وأن عقولهم كانت أرقى من عقولنا وأعمالهم أفخم من أعمالنا.
في سورية أنهار كثيرة تجري ولا من ينتفع بها من سكان الجوار فلو وقع الانتفاع بمياه نهر الفرات والعاصي وإبارهيم والأردن والليطاني والأزرق كما بمياه نهر الكلب وبردى والأعوج مثلاً لا خصبت كثير من الأراضي التي تحرم من المياه اليوم وكان في المكنة أن تسقي سيحاً وتغرس فيها أنواع الأشجار.
ولا تشكو سورية في عمرانها قلة الأيدي العاملة ولا النفوس الذكية ولا قلة الخصب وسعة الرباع والأصقاع ووفرة الأمواه وجودة الأهوية بل إنها تشكو من قلة من يفكر في الانتفاع من ثروتها الطبيعية ولو كانت هذه الحكومة تفكر في عمران بلادها على الأقل على مستوى ما تفكر روسيا مثلاً من دول الأرض لاصبحت سورية في بضع سنيت من أعمر الأقطار تشبه ألمانيا والنمسا وفرنسا إن لم تفقها لاعتدل الفصول الأربعة فيها. ولكن جرت الأقدار بأن يتراجع عمراننا حتى بعد أن كانت سورية أنبار العالم في الجنوب ونحن تجلب الدقيق من روسيا وآسيا الصغرى وأميركا وفرنسا والحكومة ساهية لا هية لا يهمها إلا قبض الضرائب والعثور ولو أوشكت البلاد أن تبور في المثل الفرنسوي أن الأراضي تغل على نسبة اقتدار من يقوم عليها.
ولا عبرة في الثروة إلا بما استخرج من كنوز الأرض إلا بما كان مذخوراً في عالم القوة.
المملكة الطرابلسية
كانت طرابلس الشام أيضاً مملكة أيام حكومة الإقطاعات كما كانت صفد والكرك وحماه وغيرها من مدن سورية وكانت طرابلس أو اطرابلس ألف في أولها في رواية أعظم مدن هذه المملكة بل كانت طرابلس في القرن الرابع كما قلا المقدسي أجل من صيدا وبيروت(71/23)
وذكر الظاهري أن طرابلس مدينة حسنة بها جوامع ومدارس وأسواق وحمامات وعمائر حسنة وهي على شاطئ البحر يقال أنها مصرية لحسن هيئتا وكانت على عهده تشمل على عدة مدن وأقاليم وقلاع وقرى ومن جملة أعمالها قلعة صهيون في جبال الكلبية وقلعة المرقب وحصن الأكراد وقلعة قدموس واللاذقية وجبلة والكهف والردافة وما والاها من القرى وتشمل هذه المملكة الطرابلسة وتوابعها فيما قيل على قريب من ثلاثة آلاف قرية.
وسمي شيخ الربوة مملكة طرابلس بمملكة الساحل وكرسيها طرابلس المستجدة بعد فتح طرابلس الشام بجيش الملمين في مملكة الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قال: وبنيت هذه المستجدة في سفح ذيل من أذيال جبل لبنان بكورة من أكوار طرابلس بعدها عن طرابلس القديمة المخروبة نحو من خمسة أميال على شاطئ نهر يجري إلى البحر وهي سهلة جبلية بحرية يتخلل الماء في جوانبها ولها قنطرة على واد بين جبلين يمر عليها الماء من منبعه إليها في ارتفاع نحو سبعين ذراعاً وطول هذه القنطرة نحو من مائتي ذراع والنهر يجري من تحتها إلى سقي الأراضي ويصب في البحر الرومي ولا يكاد يوجد فيها دار بغير شجر لكثرة تخرق أرضها بالمياه وهذا النهر ينبعث من جبل لبنان.
وقد جمعت في بساتين طرابلس من الفواكه نا لا يوجد في سائر الأقاليم أصلاً قصب السكر والجمير والمحمضات الكثيرة الزائدة والتلقاس الذي لا يوجد مثله والثلج وسمك البحر الطري والطير الكثير ومجموعها لم يجمع في بلد غيرها ومن بلادها وأعمالها الساحلية البترون وهو حصن من فتوح الملك المنصور له عمل متسع وأنفة مدينة ساحلية محكمة البناء وأنطرسوس مدينة ساحلية.
وعدد من أعمال طرابلس حصن عرفا وحصن حلبا قال ولها عمل متسع به ولايات ومراكز ومن أعمالها جون ومنه رجلية (؟) والحصان خراب في عصره ومدينة مرقية (مرقب؟) وجومة عكار أي كورة عكار وجومة بشرية والكورة والحدث بأذيال لبنان ولها أعمال يزيد عددها على ألف قرية. وحصن عكار حصن منبع من بناء الإسلام وينصب إليه ماء من الجبل المطل عليه ويدخل إلى القرية وحصن الأكراد حصن منيع مشرف بين الشام والسواحل ينظر الناظر منه إلى الشام وقارئ والنبك وبعلبك وإلى البحر والساحل.
قال ومن أعمال طرابلس المستجدة قلاع الدعوة وهي التي ملكها راشد الدين محمد تلميذ(71/24)
علاء الدين علي صاحب الألموت في العجم وهو صاحب الدعوة الإسماعليلة والحصون هذه هي حصون الخوابي وحصن الكهف وحصن القدموس وحصن العليقة وحصن المنيقة (البقيعة؟) وحصن الرصافة بأذيال طراز من جهة الشام وحصن إبي قبيس وثغر مصياف وهو أهم الثغور في إظهار الدعوة وإرسال الرجال الفداوية إلى البلاد والأقاليم في قتل الملوك والأكابر وحصن بلاطنس حصن منيع جداً وله أحد عشر باباًَ كل باب فوقه باب وحصن المرقب ثغر منيع على رأس شاهق مطل على البحر كبير مثلث الشكل بناه الرشيد على أثر قديم ثم بناه الصارى ثم ملكه المسلمون في عصره وعمرو حصن صهيون حصن منيع عادي قديم البناء يقال أنه من بناء أغسطس ملك رومية الكبرى المسمى قيصر وليس هو أغسطس صاحب التاريخ اليوناني وهذا الحصن صعب المرتقى على قبة جبل وعليه خمسة أسوار وله فرضة فيالساحب في طرف دخلة من الأرض كالجزيرو من البحر.
وذكر أن اللاذقية محاطة بالبحر من جهاتها الثلاث وفي أشبه بالاسكندرية في بنائها وبأرضها معدن رخام أبيض وأخضر موثى وبها دير الفارس من أعجب اليناء في الديور ووله يوم في السنة تجتمع النصارى إليه والمينا الذي باللاذقية من أعجب المواني في البحر وأوسعها لا يزال حاملاً للسفن لاكبار وعليه سلسلة من حديد حاضرة لمراكبه مانعة من مراكب العدو وفرضة بالطنس مدينة جبلة بن الأيهم الغساني جددت باسمه في صدر الإسلام وكانت عادية بناها الصابئة وفيها آثار مقر الملك الذي كانوا اصطلحوا عليه في زمن نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام وكان له سرب يركب الراكب فيه تحت الأرض إلى ظهر السفينة بالبحر ويركب في السفينة إلى وسطه تحت الأرض محجوباً.
وعد من عمل طرابلس مدينة بانياس فقال أنها عبرانية يونانية رومية وبها أنهار اسبحة قريبة المنبع وبساتين كثيرة من أعجب بساتين الساحل وذلك أن حيكان البساتين متصلة بضرب موج البحر بغير حائل وبين بانياس وجبلة جزيرة صغيرة عند نهر غزير يسمى النهر الأبتر وسمي بذلك لقصر حريته وقلة الانتفاع فلا يتشعب من شعب ولا يتفرع فرع مع غزارته وقوته وعلى الجزية دمن حصن يقال له بلدة كان من أحسن الحصون بناء وخربه أهله بأيديهم دون غيرهم ودخلوا البحر من غيظهم وبغضهم على بعض وهذه الجزيرة من أعجب الجزائر شأناً بالماء وذلك أن البحر محيط بنصفها وأكثر والنهر محيط(71/25)
بالنصف الذي إلى البر والماآن مختلطان فالنصف ملح أجاج والنصف عذب فرات وهما في النظر ماء واحد محيط من سائرها. ومن أعمال طرابلس أيضاً البقيعة هي الحصن والناعم وجبال القصيرية نحو عشرين عملاً بين صهيون واللاذقية وإلى البترون العاقورة.
هذا وصف مملكة طرابلس وعملها في القرون الوسطى وحدها ابن فضل الله فقال من القبلة جبل لبنان ممتداً على مايليه من مرج الأسل. حيث يتمد نهر العاصي ومن الشرق نهر العاصي ومن الشمال قلاع الدعوة ومن الغرب البحر وبلاد طرابلس لاها قلاع وولايات فذكر من قلاعها حصن عكار وحصن الأكراد وكانت محل النيابة ومقر العسكر قبل فتح طرابلس وبلاطلس وصهيون ثم قلاع الدعوة وهي العليقة والمنقة والكهف والمرقب والقدموس والخوابي والرصافة ومصياف وهي القلاع الإسماعيلية ولها على قللها الرتب العلية وأما ولاياتها فهي أنطرسوس واللاذقية وجبة المنيطرة وبلاد الضنتين (الضنية) ومنها بشرية وجبلة وأنفة وجبيل وما لها في تلك مما له ولاية.
وبعض هذه البلاد اليوم تابعة للواء اللاذقية من أعمال ولاية بيروت والآخر من لواء حماه من عمل ولاية سورية وغيره من عمل متصرفية جبل لبنان وبعضه من عمل طرابلس كحصن الأكراد وعكار وصافيتا ونواحي وحذورة ونواحي المنية والقينة وطرطوس وأرواد وطرابلس هي أحد ألوية ولاية بيروت وهي اللاذقية وعكا ونابلس.
ويبدأ أول عمل لواء طرابلس من السفح الجنوبي من لبنان ومن السفح الشمالي من جبال النصيرية فهو بين منفسحي هذين الجبلين وتكثر أنهاره وأعظمها النهر الكبير في عطار ويسميه القدماء نهر أيلوتروس ومن ضفته الشمالية تبتدئ البقيعة وهي سهل فسيح أشبه بسهل البقاع في لبنان الشرقي.
سميت طرابلس بهذا الاسم أي البلاد الثلاثة (تريبوليس) لأن مهاجري ثلاث مدن فينقية وهي صور وصيدا وأرواد بنوها وكان كل حي من أحياء هؤلاء المهاجرين يفصله عن الآخر سور على أن اسم المدينة الفينيقي غير معروف على وجه الصحة وهذه التسمية أقرب إلى الرومية ولعل طرابلس لم تؤسس إلا قبل المسيح بسبعمائة سنة بعد تأسيس أرواد وقد جاء بعد بنائها من الصور بين والصيد وتبين والأرواديين دولة السلوقيينالرومية فأمتلكوها في جملة ما ملكوه منبلاد الشام صم الرومان فزينوها وأنشأوا فيها أبنية فخمة أتت(71/26)
عليها كلها الزلازل المريعة التي أصابتها في عصور مختلفة ولما جاء الصليبين إلى طرابلس كان حاكمها ابن عمار من الحكام المستقلين بها فبدأ الكونت ريموند سان جيل من ملوك الصليبين يحصارها سنو 1104م وذلك بإشنائه حصناً سماه الإفرنج مو وسماه المسلمون سان جيل أو صان جيل ولم تؤخذ المدينة إلا بعد خمس سنين وذلك بأحراقها ومن جملة ما ذهب في حريقها طعاماً للنار كتبة عربية مهمة كان فيها بعض الروايات مئة ألف مجلد وفي رواية أخرى أكثر من ذلك بكثير ودام الصليبين في طرابلس 180 سنة ارتقت في خلالها كما يقول مؤخوهك على الرغم مما كان يتخلل تلك المدة من المصائب والحروب الأهلية واستهادها منهم سنة 1289 السلطان قلاوون الصالحي سابع ملوك المماليك البحرية في مصر والشام وبناها في الداخل بعيدة عن الساحل كما مر آنفاً.
ودخلت طرابلس في الحكم العثماني على عهد السلطان سليم يوم فتح الشام وظلت مدة تعلو وتسفل بحكم الإقطاعات شأ، سائر المقاطعات والولايات وكانت مدة مركز أيالة ثم ألحقت بولاية سورية يوم تأسيس الولايت وكان حظها أ، تتبع بيروت يوم سلخت هذه عن دمشق وأصبحت ولايةبرأسها.
تحتوي طرابلس من السكان على نحو ثلاثين ألف نسمة وفي أعمالها زهاء 1500 ألفاً ومساحة قضائها 191كيلومتراً مربعاً ومساحة قضاء عكار 285 وقضاء الحصن 513 وقضاء صافيتا 414 كيلومتراً والعنصر الغلب فيها المسلمون ثم يجيء أهل الأديان الأخرى ويقال أن أصل سكان طرابلس من جالية العجم ول1ذذلك غلبت عليهم طباع أشبه بطباع الفرس من حيث الأبهة والتأنيق.
كان المأمول أن ترقى مدينة طرابلس الشام لاتصالها بخط حديدي عريض مع بلاد الداخلية طوله من طرابلس إلى حمص 105كيلومترات ولكننا رأيناها هذه المرة على تلك الصورة التي رأيناها عليها منذ نحو عشر سنين لم تكد تخطو خطوة تستحق أن تذكر ولولا شيء من الموبقات الجهرية التي زادت فيها بدخول الأجانب وانتشار الحرية وكان بعضها موجوداً من قبل على صورة سرية لقلنا طرابلس هي هي منذ بضع سنين.
ومن الغريب أن بعضهم لا حظ بأن نفوس سكانها لم تزد زيادة في العهد الأخير ومع أن أهلها ليسوا أكثر من سائر مدن سورية وقراها في حب الهجرة، لولا قليل من الصحف(71/27)
أنشئت فيها عقب الدستور كان يصح أن يقال أن الحكومة العلمية لم تزل بحالها أيضاً. وقد أثر هذه السنة ما شوهد من النقص في حاصلات البلاد الداخلية لراءة الاسم فخف إصدار الغلات من طرابلس وكانت بجالتها لاتي تنقل الحبوب إليها في السنين الغابرة من جهات عكار وصافيتا وحمص وحماه وسلمية أكثر حركة منها اليوم بسكتها الحديدية الجديدة ولكن هذه السنة لا تقاس عليها السنين ما منا موقنين بأن الإرتقاء بطئ الحصول كالإنحطاط ولا بد من قضاء دور الحضانة في الحضارة والسكك الحديدة إذا مدت في الأصقاع المقفرة أعمرتها فما بالك بقطر مخصب البقاع والرباع جيد التربة جيد ذكي الماء والهواء واسع المادة تجود فيه أكثر الغلات والثمرات.
اللهم إن طرابلس ستكون بعد بيروت أهم موانئ سورية بعد سنين إذا تعاضد أهولها على فيه المصلحة تعاضدهم يوم نالوا امتياز سكة حديد طرابلس - حمص وتركوا اشتغال بعضهم ببعض مما هو من شأن البلدان التي لا عمل لأهلها ينهضون به فلا يجدون تسلية لهم سوى الاغتياب والنميمة وأكل بعضهم بعضاً وتسفيه آرائهم فتكون عاقبة التخاذل والتفاشل وذريعة الانحطاط المهين.
تمثل لنا في طرابلس كل التمثيل أن العقلاء من المسيحيين أحسونا الانتفاع بالدستور أطثر من أخوانهم المسلمين فكان واسطة لنهوضهم إذ كانتلديهم مواد الارتقاء موفرة إلا قليلاً فلما جاء دور العمل بوا هبواً محموداً ولولا داء الهجرة الذي تفشى أكثر من غيرهم ولا سيما بسبب الجندية لبلغ أخواننا في الوطن مبلغاً تسحدهم عليه حتى الأمم الراقية. فعسانا نسمع عن هذا البلد الطيب كل ما يسر القلوب من دواعي الاتقاء فنقل وقائعها وحوادثها المزعجة وتكسد سوق الفسوق الرائجة يما ينهال عليها من أمول بعض أغنيائ عطار والحضن وصافيتا ممن يقصدون طرابلس ليفجروا فيها ويتخلون برضاهم عن ملاحظة زروعهم وعمران بلادهم.
وإذا صح ما يسعى إليه بعضهم اليوم من نيل امتياز سكة حديدية من حمص إلى تدمر والمسافة بينهما لا تقل عنمائتي كيلومتر تحمل القطارات إلى طرابلس بغلات الداخلية من شرقي سورية كما ينقل الخط الحلبي محاصيل البلاد الشمالية.
وبعد فقد اشتهرت طرابلس من القديم بمصنوعاتها الحريرية ولا سيما الزنابير الطرابلسية(71/28)
اللطيفة وكل صناعاتها قد نازعتها المصنوعات الأوروبية اليوم وتوشك أن تبزها برخص أسعارها وجمالها الظاهري ومهارة المتجرين بها في قاعدة العرض والطلب ولكن أوروبا لا تستطيع منازعة طرابلس ولا غيرها من هذه البلاد بمحصولات أراضيها وخصوصاً الثمار والبقول والغلات وفي طرابلس يجود البرتقال والليمون جودته في صيدا ويافا من بلاد الساحل وقد رأى أرباب الحدائق كيف ربحوا من أراضيهم منذ توفروا على زراعة هذه الشجرة المباركة.
خاتمة
هذا ما شاهدناه ولاحظناه في الرحلة بين دمشق الفيحاء وحلب الشهباء سطرناه بعد الرجوع إلى نصوص علماء التاريخ والجغرافيا من العرب خاصة وذلك بقدر ما سمحت الأحوال وقد استغرقت هذه الساحة عشرين يوماً ولو صرفنا أكثر من هذه الفترة والزمن وكنا بما نجمع تستغني بعض الشيء عن الغربيين فيما يتعلق على الأقل بتاريخ هذه البلاد وعمرانها وتقويمها والحمد لله في المبادئ والخواتيم.(71/29)
مخطوطات ومطبوعات
المسالك والممالك
نشر علماء المشرقيات مئات من كتب العرب وقلما نشروا شيئاًَ إلا وفيه فوائد جمة يتمم نقصاً في العلم ويسد ثملة في الآداب والفنون. وممن غنوا بنشر كتب الجغرافية التي ألفها علماء العرب الأستاذ دي غوي الهولاندي نشر في ليدن ثماني مجلدات لعلماء منوعين في صور بلاد الإسلام وسماها الكتبة الجغرافية العربية كما نشر مستشرقو الإسبان بضعة عشر مجلداً في تاريخ الإندلس وسموها المكتبة الاندلسية ومن جملة تلك المجلدات الثمانية كتاب المسالك والممالك لأبي القاسم محمد بن حوقل البغدادي من أهل القرن الرابع وقد اعتمد فيه على كتاب أبي القاسم محمد بن خرداذبة وقدامة بن جعفر الكاتب وأبي عثمان بن بحر الجاحظ وأفاض فيه بذكر المفاوز والمهالك والأقاليم والبلدان وطبائع أهلها وخواص البلدان في نفسها وذكر جباياتها وارجاتها ومستغلاتها وذكر الأنهار الكبار واتصالها بشطوط البحار وما على سواحل البحار من المدن والأمصار ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجارة مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار والنوادر والآثار.
هذا أقل من يقال في كتاب المسالك والممالك وأهم ما فيه أن مؤلفه رحمه الله كان في الجغرافيين كما كان المسعودي في المؤرخين ممن رحلوا من بلدهم وضروبوا في طول الأرض وعرضها ولذلك تكلم فيما تكلم عنه من البلاد عنم ذوق ونر واختيار فخرج من بلده وطاف كثراً من أقطار العراق والجزيرة وأرمينية وخرسان والجبال وفارس وما وراء النهر والسند والشام ومصر وبرقة وإفريقية والمغرب الأقصى وصقلية والأندلس وغيرها من بلاد الإسلام ولم يتعرض للكلام على سائر الأقطار إلا بحسب ما بلغه من الثقات عنها ولذلك جاء كتابه من أصح ما كتب في عصره لأنه ميز ين الحق والباطل والحالي والعاطل.
وللمؤلف طريقة في التأليف والتحرز من الوقوع فيما يقع فيه أغلب مؤلفي القرون الوسطى ما لا يكاد يداينه فيه كثيرين وكانت رحلته في التجارة على نحو ما كان شأ، ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان من أ: بر المساعدات له على إحراز هذه المملكة وإليك نموذجاً من احترازه خوف السقوط عند صيارفة النقد من بعد أن قال في كلام على اليمن:(71/30)
ويحكى عن بعض الغيلان بها ما لا استجيز حكايته لأن المنكر لما لا يعلم أعذر من المقر بما يجهل وهكذا تجدده إذا شك في الأخبار يقدم بين يدي نجواها قوله ويزعمون أو يقال أو يروى ليكون المطالع على بصيرة مما يقرأه.
وكتاب المسالك والممالك على صغر حجمه (406 ص من قطع الوسط) فيه عدا وصف البلدان ذكر خراجها وثروتها كما مر آنفاً فهو ليس كتاباً في جغرافية المماليك بل في جغرافيتها الاقتصادية والسياسية والطبيعية يدهش المطالع لتقريرها ويتراءى له أن المؤلف من أهل القرن التاسع عشر أو العشرين في أوروبا وأكثر ما ذكره من هذا القبيل مما حققه بنفسه من مصادر لأن رحلته وعمله وبعد نظره مكنته من الاجتماع بالطبقة العالية من الحكام في عصره فوقف على ارتفاع الملك وما تخرجه البلاد من الخيرات قال: وفي ذكر البلد ما يدل على ما كان عليه من العتاد ووصف ارتفاعه ما يعرب عن حاله ومكانه ويغني عن ذكر شرفه وشأنه وكذلك كل بلد ذكرته وأذكره فالعبرة بارتفاعه وجباياته هي التي تدل على قوته أهله إذ قوام الدنيا بالمال وهذه عبرة لجميع العقلاء ومرآة لسائر الفهماء وإن خرج بالخصوص عن بحر العموم في هذه القصية لم نحكم بهم وبم نلتفت إليهم.
وإذ كان المؤلف ممن يشتغلون بالمال وتنميته مع العلم والتأليف تراه يستدل أحياناً على ثروة قوم ينزل بينهم بالسفاتج والأوراق المالية التي لهم فمما ذكر من هذا القببيل أنه رأى في أيدي بعض التجار وسمى أسماءهم في صقلية والمغرب وغيرهما سفاتج كل سفتجة بأربعين ألف دينار وأكثر لصاحبها دين على آخر فإذا كان تاجر واحد له على آخر مثل القدر فكم تكون ثروته. وإليك هذه القصة التي رواها أهل سيراف ومنها تعلم عظم نفسه وصورة من سور أخلاقه قال: ولقد رأيت بالبصرى منهم (أهل سيراف) أبا بكر أحمد بن عمر السيرافي في سنة 305 وقد قدمت عليه بكتاب ممن يعز عليه في مهم له فأخذ الكتاب من حيث لم ينظر إلى فقرأ ثم وضعه من يده ولم يعرني لحظاً وسأله في الكتاب مخاطبتي على معاينة واستعلام ما عرض فيه من مخاطبته وما بينهما مما يحب وقوفه عليه من جهتي كالمستشهد بعلمي بعد تعريفه في الكتاب صورتي ومحلي منه ثم أقبل على بعض خدمه وذكر مراكبه وحاله فوثبت غيظاً وأنا لا أبصر ما بين يدي من شدة ما نالني وداخلي بإعراضه فكأنه لحظ مكاني فقال: ما فعل الرجل فقيل: ومن هو فقال: صاحب فلان فقيل(71/31)
له: وبصاحب فلان ما فعلت هذا الانقباض لقد خرج وهو لا يبصر ما بين يديه حنقاً فقال: على به فلحقني كتابه وقد بث جماعة في طلبي في الطريق التي قصدت له فقال إن الشيخ تألم من خروجك بغير إذنه وعرفناه ما ظهر لنا منك فأنفذها لردك فقلت: والله لقد رأيت ملوك الدنيا وأكثرهم ممن تحت أيديهم الآلاف من الناس على اختلاف أطوارهم وتباين أحوالهم وهم قطب الصلف فما رأيت رجلاً أكثر زهواً وبأواَ وأقبح صلفاً منه فقال: وحق له ذلك هذا رجل أعتل في سنة 48 على خفيف عليه منها فأوصى فبلغ ثلث ماله مع شيء واستزاده على الثلث لأنه لا وارث له بألف ألف دينار مركب قائم بنفسه وآلته ووكيل معلوم ما عنده وتحت يده بالحسابات الظاهرة والمقبوض المعروفة المعلومة من جهاتها وأوقاتها إلى بربها ومتاع من جوهر وعطر في خانباراته ومخازنه وقل مركب خطف له إلى ناحية من نواحي الهند أو الزنج أو الصين فكان له فيه شريك أو كري إلا على حسب التفضل على المحمول بغير أجره فافحمني قوله وعدت إليه فاعتذر مما كان وهذا وإن زاد على الثلث فلعله أوصى بنصف ماله فما سمعت أن أحداً من التجار ملك هذا المقدار ولا تصرف فيه ولا من وديعة سلطان لأنها حكاية إذا اعتبرت كالخرافات يستوحش من حكاها منها.
وكثيراً ما يتعرض المؤلف لخصائص سكان البلاد وعاداتهم ومن ذلك ما ذكر في فارس من أن الأكراد في عهده كانوا يحكمون ويجبون خراجها وأنهم تغلبوا على الجزيرة وأرمينية مما دل على أنهم هناك الآن منذ عهد ليس بطويل وأن معظمهم كانوا في بلاد فارس وما ندري ما طرأ من الأحوال حتى انتشروا في هذا القسم من البلاد العثمانية اليوم فقد قال المؤلف: وأما أحياء الأكراد بفارس فلاكورمانية ومدثر وحي محمد بن بشير والبقيلية والبندامهرية وحي محمد بن إسحاق والصباحية والإسحاقية والأدركانية والهركية والطماهنية والزبادية والشهروية والبندادقية والخسروية والزنجية والصفرية والشهارية والمهركية والإستامهرية والشاهونية والفراتية والسلمونية والصيرية والأزاددخثية والبرازدختية والمطلبية والممالية والشاهكانية والجليلة فهؤلاء المشهورون ولا يتهيأ تقصيهم إلا من ديوان الصدقات ويزيدون على خمسمائة ألف بيت ويخرج من الحي الواحد ألف فارس وأقل من ذلك وأكثرهم ينتجعون في الشتاء والصيف المراعي إلا القليل منهم(71/32)
على حدود الصرود وأما أهل الجروم فلا يزالون ولا ينقلبون بل يترددون فيها لهم من النواحي ولهم من العدة والبأس والقوة بالرجال والدواب والكراع ما يستصعب على السلطان أمرهم إذا أراد أن يخيفهم. ويزعم ابن دريد أنهم
من العرب وأنهم من لد كرد بن عمرو بن عامر في حماسته وأبو بكر محمد ابن الحسن بن دريد ممن يستنبط علوم العرب وأخبارها محتج به ومسلم له ما يدعيه وهم أصحاب أغنام ورماك والإبل فيهم قليلة وليس للأكراد خيل عتاق إلا عند المازنجان المقيمين بحديد أصفهان وأما دوابهم فبراذين ومهاري وهم على حسن حال ويسار ومذاهبهم في القني والنجعة مذاهب العرب ويقال أنهم يزيديون على مائة حي وذكرت نيفاً وثلاثين حياً.
وقال في فارس أيضاً: فأما زيهم ولباسهم وأحواله فالغالب على خلقهم النحافة وحفة الشعر وسمرة اللون وأهل الصرود أعبل أجساماً وأكثر شعوراً وأشد بياضاً ولهم ثلاثة ألسنة الفارسية التي يتكلمون بها. وجميع أهل فارس يفقهونها ويكلم بعضهم بعضاً بها إلا ألفاظاً تختلف لا تستعجم على عامتهم ولسانهم الذي به كتب العجم وأيامهم ومكاتبات المجوس فيما بينهم هو الفلهوية التي تحتاج إلى تفسير حتى الفارسي ولسان العربية الذي به مكاتبات والدواوين وعامة الناس وأما زيهم فكان السلطان زيه الأقبية وقد تلبس سلاطينهم الدراريع وإن كانوا فرساً ومن لبس الدراريع منهم أوسع فروجها وعرض جرباناتها وجيوب الكتاب والعمائم تحتها القلانس المرتفعة ويحملون السيوف بحمائل وفي أوساطهم المناطق وخفافهم عن خفاف أهل خرسان وقد تغير زي سلطانهم في وقتنا هذا لأن الغالب على أصحابه لبس الديلم وقضائهم يلبسون الدنيات وما أشبها من القلانس المشمرة عن الإذنين مع الطيالسة والقمص والجباب ولا يلبسون دراعة ولا خفاً بكسرة ولا قلنسوة حتى تغطي الإذنين وكتابهم يلبسون ملابس كتاب العراق ولا يستعملون القباء ولا الطيلسان وتناؤهم بين لبس كتاب والتجار من الطيالسة والأردية والأكسية التونسي والخز والعمائم والخف التي لا كير فيها والقمص والجباب والمبطنات ويتفاضلون في جودة الملابس والزي واحد كزي أهل العراق والغالب على أخلاق ملوكهم وخدمهم والبناء منهم والمخالطين للسلطان من عمال الدواوين والداخلين عليهم واستعمال المروة في أحولهم وإقامة الوظائف والطابخ وتحسين الموائد بالمطاعم وكثرة الطعام وإحضار الحلوى والفواكه قبل الموائد والنزاهة عما يقبح به(71/33)
الحديث من الأخلاق الدنية وترك المجاهرة بالفواحش والمبالغة في تحسين دورهم ولباسهم وموائدهم والمنافسة فيما بينهم في ذلك والآداب الظاهرة فيهم والعلم الشائع في جميعهم وأما تجارتهم بالغالب عليهم محلة الجمع للمال والحرس فوق من سواهم من أهل الأمطار.
وقال في كلامه على البلاد الشامية ما نصه: وطرابلس وهي كثيرة الخير والغلات والفواكه الجيدة بينه الخصب والرخص وهي قريبة من مدينة بيروت التي على ساحل بحر الروم وهي فرضتها وساحلها وبها يرابط أهل دمشق وسائر جندها وإليها ينفرون عند استنفارهم وليسوا كأهل دمشق في جفاء الأخلاق وغلطة الطباع وفيهم من إذا دعي إلى الخير أجاب وإذا أيقظه الداعي أناب، ولنفس دمشق خاصية بطابعها الجاري وضيائه وقل وصلقية وقال لا تصلح لسلاطينها ولا يستقيم سلاطينها بها وأكثر هذه المدن ولكن كيف كان الحال لم يخل كتابه من ذكر طبائع أهل البلاد أوردناه للدلالة على ذلك.
وقد أجاد المؤلف من وراء الغاية في وصف المسافات بين البلاد بحيث جاء كتابه في عصره بل وإلى اليوم أشبه بدليل سائح لما عرف من بلاد الشام وإن أورث ذلك بعض الفصول طولاً أحياناً ولكن المؤلفات لا تكون كلها سلسلة واحدة في الجودة والفائدة والتسلية. كما أجاد في وصف معادن وهوائه وذكر نبذة من تاريخ عمرانه بحيث جاز كتابه لا في الجغرافيا فقط بل في المنيرولجيا (علم الأحداث الجدية) والكرونولوجيا (التاريخ والسير) والمنيرولوجيا (علم المعادن) والإينتوغارفيا (علم خصائص الشعوب) والأركيولوجيا (علم الآثار) والنوميسماتيك (علم النقود) وهكذا حوى من كل فن خبراً ولكن مع الثبيت والتنفيح على الأغلب ومما ذكره في تاريخ بني حمدان أمراء الجزيرة وهم الذين خلد مجدهم أبو الطيب المتنبي بشعره لما أغدقه عليه مقدمهم سبف الدولة المشهور من المكارم فقال فيهم ما لم نذكر أننا أطلعنا عليه في شيء من كتب التاريخ ما نصه: ولم تزل (نصيبين) على ما ذكرته من أول الإسلام تضمن بمائة ألف دينار إلى سنة 360 فأكب عليها بنو حمدان أن بصنوف الجور وتجديد الكلف إلى أن حمل ذلك بني حبيب وهم بنو عم بني حمدان إلى أن خرجوا بذراريهم ومواشيهم وثقلهم في اثني عشر ألف فارس على فرس عتيق وسلاح شاك من درع وجوش مذهب ومغفر مدبج وسيف فارد ورمح خطي وآلة وعدة على بلد الروم مطلة فقمع بها شكوكهم وسيبوم بها ذراريهم ويخربون حصونهم(71/34)
ويخوضون ديارهم تقدمهم كهذه العدة من جنائب عتاق وبغال فره عليها الخدم والوالي فتنصروا بأجمعهم وأوثقوا ملك الروم من أنفسهم بعد أن أحسن لهم النظر في أنزالهم على كرائم الضياع ونفائس الحباء والمتاع وتخبيرهم في القروي والمواشي ورفدهم بلا نواحي والمواشي العوامل وعادوا إلى بلد الإسلام على بصيرة بحضارة وعلم بأسباب فاده وخبرة بطرقه ومعرفة بدقة وجله وقلوبهم تضطرم حقداً وضياعه فأطمعوهم فسما نالوه وعرفوه ما رجعوا إليه وجاؤوا فيه من قصد بلاد الإسلام واجتياحه واصطدم بقاعه ونواحيه وإن الملك أيدهم وقواهم وأنعم عليهم وآواهم فلحق به كثير من المخلفين عنهم وانتمى إليهم من لم بك منهم فشنوا الغارات على بلد الإسلام وافتتحوا حصن منصور وحصن زياد وصاروا إلى كفر توثا ودار فأتوا عليها بلا سبي والقتل وألحقوا أسوارها بالأرض وصارت لهم تلك عادة وديدناً يخرجون كل سنة عند آوان الحصاد إلى جزيرة ابن عمر فأهلكوا ظاهرها وسحقوا رأس عين وأعمالها وساروا إلى الرقة وبالس وعادوا إلى ميافارقين وأرزن فأخربوا قراها وضياعها وأحرقوا أشجارها وزروعها إلى أن جعلوها كالخاوية على عروشها وتزايدت ثقة الملك بهم والروم إلى أن جعلوا الأرزاق والأعطية وصاروا خاصة الملك وفتحوا له المضايق وتقدموا في المسالك وأطمعوه على مر الأيام وتعاقبت الأعوام وهلاك السلطان والإسلام في إنطاكية والمصيصة وحلب وطرسوس فدار لهم عليها ما كان القضاء قد سبق به والمقدار قد نفذ فيه وكان عمد المعروف بناصر الدولة الحسن بن عبد الله ين حمدان إلى نصيبين فاكتسح أشجاها وبذل ثمارها وغور أنهارها واستصفاها عمن دخل إلى بلد الروم واشترى من بعض قوم واغتصبت آخرين فملكها إلا قليل وجعل مكان الفواكه الغلات والحبوب كالقطن والسمسم والأرز فصار ارتفاعها أكثر مما كانت عليه وزادت ربوعها فسلمها إلى من بقي من أهلها ولم يمكنهم النهوض عنها وآثروا فطرة الإسلام ومحبة المنشأ حيث قضوا أيام الشباب على مقاسمة النصف من غلاتها على أي نوع كانت وعلى أن يقدر الدخل ويقومه عيناً إن شاء أو ورقاً ويعطي الجواب لمن وجب له حق القاسمة فيكون دون الخمس فلم يزالوا على ذلك معه إلى ألحقه الله لسلفه فما بك عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين وأهلها مع ولده في وقتنا هذا على أقبح ما كانوا عليه مع والده من تقدير يستغرق أكثر الغلة وتقويم ما يبقى من سهم الزارع بثمن يرونه(71/35)
ويحمل إلى مخازنهم وأرائهم إصابته فيقبض منه ما يحتاج لبذره ويرضخ له ما يقدر متمسكاً لرمقه وعيشه بالجهد.
إرشاد الخلق
إلى العمل بخبر البرق
تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي طبع بمطبعة المقتبس سنة 1329 ص104 كما تأملنا في حل المسلمين وما بلغه بعض مشايخ الجمود من الضعف العلمي والعقلي نحكم بأننا اليوم كأهل أوربا في القرن الثاني عشر والثالث عشر للميلاد نكابر في البديهيات ونحارب المصلحين ونود أن ندخل كل شيء في الدين ومن ذلك إن قوماً جعلوا العمل الاعتراض على كل شيء يقولون في مثل هذا العصر بتحريم التمثيل وينكرون العمل بالأنباء البرقية في إثبات الآهلة ولذلك ترى دعاة الإصلاح الديني أمثال مؤلفنا صاحب هذا الكتاب تضيق صدورهم من هذه المماحكات في المحسوسات فيتوفرون على رد شبههم وافتراءاتهم بالنقول على الدين الذي صوروه بما أوحت إليهم عقولهم القاصرة.
وقد أتى المؤلف بالنقول الصحيحة جاعلاً العقل رائده في حجاج المكابرين وذكر فتاوى بعض علماء العصر في جواز العمل بالتلغراف بما دل على نظره وتحريه في بحثه وكأنه أدرك أن بعض المماحكين يرمونه بالاجتهاد وهو بزعهم مسدود باب منذ قرون فقال مبيناً غرضه في جملة. قد يطن من لا خلاق له وبعض الطن أثن أن مراد دعاة الإصلاح العلمي الآن بالاجتهاد هو القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد والذوذ عن أقوال الأئمة والغض من كرامة من سلف (نعوذ بالله من الجهل وسوء الفهم) فإن من يفهم هذا لا ضل من الأنعام. وأي عاقل يدعو لتكثير الشيع والفر وزيادة الانقسام وإنما المراد إجهاض همم رواد العلم لتعرف المسائل بأدلتها والبحث عن مدركها ومآخذها والتنقيب عن كتب السلف والأئمة في الأصول والفروع وتعرف طرق التخريج والاستنباط وحجج الموافق والمخالف ثم توخي الأقوى فالأقوى دليلاً وتحري الأقوم فالأقوم قيلاً كما كان عليه السالف الصالح وثلة من الخلف الناجح والمتأخرين عيال على المتقدمين في جل علومهم وما ذخروه من كنوزهم وإنما التفاوت في إدراك القوي سلطانه الأصح برهانه وفي الوقوف على مقاصد الشريعة وأسرار التشريع ودرك اللباب من الحشو وتمييز الأصيل من الدخيل على أن(71/36)
التخالف في الأمور المجتهد فيها الغير المنصوص عليها سنة جرى عليها السلف ومنهج سلكه هذا العصر كبار الخلف فنثني الثناء الأطيب على الأستاذ المؤلف فهو يعلم قومه يعلم قومه بعلمه وعمله ودروسه وتصانيفه ومقالاته ولا يفتر عن الاجتهاد في خطته وأمثال من يذكرون أسس الخرافات والأوهام ويرفعون من شأن العلم والعقل بين أهل الإسلام.
كتاب القضاة
الذين ولوا قضاء مصر
تأليف أبي محمد ين يوسف ين يعقوب الكندي وذيله لأبي الحسن أحمد ين عبد الرحمن ابن برد نشره الأستاذ ريشارد غوتهل من جامعة كولمبيا في نيويورك وطبعه بول كوتنر في باريز في مدينة رومية العظمى سنة 1908م ص167
كان البحث في أحوال الشرق من خصائص علماء المشرقيات من الأوربيين وها قد أصبحنا نرى من الأميركيين ميلاً إلى الإطلاع على أحوال الشرق والنظر في علومه وآدابه وهذا الكتاب شاهد بذلك فقد طبع طبعة جيدة بحروفها وورقها وكنا نود أن يوفق ناشره إلى تعريته من أغلاط الرسم والتحريف وأكثره من الأصل بالطبع قضت الأمانة على المؤلف أن يبقي ما رآه على حاله ولكن غلط الناسخ لا يبرر الناشر والطابع كما أن الكاتب لا يرحم القارئ وعلى كل فقد ظهر هذا الكتاب على الأسلوب المتعارف في طبع الغربيين لكتبا محلى بتعليقات بالإنكليزية والفارسية والرواة وأسماء الواضع والقبائل والأمم الواردة في متن الكتاب.
وأسلوب المؤلف على سبيل الرواية كالمحدثين حسن الأداء يستفيد المطالع منه أموراً كثيرة ولا سيما في الأقضية الغربية التي صدرت عن حكام مصر وغير ذلك من الحالة الاجتماعية في القرون الأربعة الأولى في مصر وقد قسم المؤلف كتابه إلى سبعة أجزاء دخل كل واحد منها في بضع ورقات والذيل فيه في جزء واحد والأصل المنقول كان في دمشق نقل في الخامس من صفر سنة أربع وعشرين وستمائة للهجرة وعجيب حال الكتب في تنقلها: كتاب عربي يؤلف في مصر فينقل من دمشق ويعثر عليه أميركاني فيلتزم طبعه فرنساوي وتطبعه مطبعة طليانية.
وإليك أنموذجات تستدل بها على أسلوب المؤلف قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثني(71/37)
انب أبي معاوية حدثني خلف عن أبيه عن جده أن أبا عون عبد الملك بن يزيد عزل عبد الرحمن بن سالم عن القضاء وولاه الديوان. وحدثنا محمد ين موسى الخضرمي قال حدثنا ياسين عن يحيى بن بكير قال أهل أبي سالم الجيشاني يقولون أنهم من معافر وفيما وجدت في ديوان بني أمية براءة زمن مروان ين محمد فيها بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزان بيت المال فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلثين ومائة عشرين ديناراً واكتبوا بذلك البراءة وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلثين ومائة وقال في مكان آخر: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا أحمد بن داوود ابن صالح قال حدثني محمد بن أبي المغيرة عن ابن وزير عن أبي زين كيدان عبد الأعلى ابن سعيد الجيشاني تزوج امرأة من بني عبد كلال فقام بعض أوليائها في ذلك وأنكروه وترافعوا إلى أبي خزيمة فقال ما أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله إذا زوجها ولي فالنكاح ماض فارتفعوا إلى يزيد بن حاتم وهو الأمير يومئذٍ فقال يزيد ليس عبد الأعلى من أكفائها وأمر أبا خزيمة بسفخ نكاحها فامتنع أبو خزيمة من ذلك وفرق بينهما يزيد ابن حاتم حدثنا محمد بن يوسف قال حدثني أبن قديد عن عبيد الله عن أبيه قال، قال عبد الأعلى بن سعيد الجيشاني لما فرق يزيد بين الكلالية وبينه:
وأعلنت الفواحش في البوادي ... وصار الناس أعوان المريب
إذا ما عبتهم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب
وودوا لو كفرنا فاستوينا ... وصار الناس كالشيء المشوب
وكنا نستطيب إذا مرضنا ... فصار هلاكنا بيد الطبيب
وذكر المؤلف في ترجمة عبد الرحمن العمري الذي ولي قضاء مصر من قبل هارون الرشيد سنة خمس وثمانين ومائة أنه كان لا يشدد بأطراف الغناء على مغاني أهل المدينة ويبرز كثيراً في مجالسه ولا يتحاشى أن يقول هذا غناء ابن سرح وهذا به الدلال وهذا من جيد غناء العريض ولم يكن بمصر مستمعه (لعلها مسمعة) إلا ركب إليها يسمع غناءها وربما قوَّم ما انكسر من غناءها ويرى ذلك من الدين.
ومما كتب عن هذا القاضي العمري من القضايا في مسجد رث واستهدم فأمر ببنائه قوله:(71/38)
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمر به القاضي عبد الرحمن بن عبد الله وهو يومئذ يلي القضاء بين أهل مصر في صفر سنة ثماني وثمانين ومائة بما ثبت عنده في المسجد الذي يقال له مسجد عبد الله الذي بالظاهر قبلة الطريق الأعظم إلى المسجد الجامع ويحويه الطريق الذي يسلك إلى سوق بربر وشرقيه السويقة التي يقال لها سويقة مسجد عبد الله على طريق الموقف وغربيه الطريق الذي يسلك منه على الجب الذي يقال له جب عبد الله حين رفع إلى القاضي عبد الرحمن بن عبد الله نفر من جيرة هذا المسجد أن هذا المسجد قد رثَّ وخيف عليه لانكسار خشبه وسقفه واحتاج إلى العمارة والمرمة وأنهم قد وجدوا من احتسب في إصلاحه وبنائه وتصيير حوانيت تحته في حقوقه ليكون غلتها مرمة لما استهدم منه وفي زيته وحصره وأجر مؤذنه وشأنه كله. فسألوا القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن يأذن لهم في ذلك فدعاهم بالبينة على ما ذكروا وأقاموا بينه وعدلوا وقبل شهادتهم فشهدوا عند القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في صدر هذا الكتاب خيف على سقفه من قبل خشبه واحتاج إلى العمارة والمرمة في جدره وأن أجنحته التي حوله وما تحت هذا المسجد ليس لأحد فيه حق وأن الذي طلب عمارته وبناءه وإصلاحه وتصيير حوانيت تحته في حقوقه ومرمة ما استرم منه وفي زيته وحصره وأجر مؤذنه وغير ذلك من نوائبه منفعة للمسلمين ممن صلى فيه وأن ذلك ليس بضرر على أحد وبعث القاضي عبد الرحمن بن عبد الله نفراً مكمن يثق بهم فنظروا إلى المسجد الموصوف في هذا الكتاب فرفعوا إليه مثل الذي شهد من الشهود في هذا الكتاب فلما ثبت عند القاضي ذلك رأى أن يأذن في عمارة هذا المسجد الذي وصف في هذا الكتاب وبنيانه وإصلاحه وتصيير الحوانيت التي أرادوها تحته في حقوقه ليكون غلتها في مرمة إن احتاج إليها ولما يصلحه في زيته وحصره وأجر مؤذنه وغير ذلك من شأنه ويكون فضلاً (؟) إن فضل من غلتها في وجوه الخير. ورفع إلى القاضي عبد الرحمن ابن عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب قد أصلح وفرغ من بنيانه وحوانيته وأتوا بشهود يقال لهم عبد الصمد بن سعيد وعمرو ابن عمر الابلي ومحمد بن سليمان بن محمد فشهدوا عند القاضي ين عبد الله أن هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب كان أخاف سقفه من قبل خشبه واحتاج إلى العمارة والمرمة في جدره وإن كل ما كان تحت هذا المسجد وما فوقه والثلاثة(71/39)
الأجنحة التي كانت حوله ملصقة به إن ذلك كله من حق هذا المسجد وحدوده ليس لأحد فيه حق ولا دعوى ولا طلبة بوجه من الوجوه وأن المجالس التي كانت حول المسجد خارجة منه كان يؤدي من يجلس فيها الكرى إلى من يقوم بأمر هذا المسجد إنها على حالها لم تدخل في السجد ولا في حوانيته وعدل الشهود عند القاضي عبد الرحمن بن عبد الله فقبل شهادتهم وسأل القاضي عبد الرحمن بن عبد الله من حضره من جيرة هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب أن يكتب لهم ما ثبت عنده فيه كتباً يضعها عند من يرى يكون ذلك حجة وقوة وأن يولي القيام به رجل من أهل الثقة فولى القاضي عبد الرحمن بن عبد الله السكن ين أبي السكن القرشي القيام بأمر هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب وإكراء حوانيته وإن ينفق من كرائها ما رأى من زينه وحصره وأجر مؤذنه ما يحتاج إليه في أمره كله وينفق بقية إن بقيت من كرائه حيث رأى من وجوه الخير وجعله في ذلك أميناً وأمره بتقوى الله وطاعته والعمل في ذلك بحق الله عليه وأنفذ القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أن يكتب هذا الكتاب نسخاً تكون وثيقة في هذا المسجد الموصوف في هذا الكتاب فكتب ودفع منها كتاباً إلى عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي وكتاباً إلى حجاج بن سليمان الحميري وكتاباً إلى ربيعة بن الوليد الخضرمي وكتاباً إلى شعيب بن الليث بن سعد الفهم وكتاباً إلى أبي رجب العلاء بن عاصم الخولاني وكتاباً إلى عمرو بن يزيد الفارسي وكتاباً إلى أبي زرارة الليث بن عاصم القتباني وكتاباً إلى عبد الصمد بن سعيد الأنصاري وكتاباً إلى محمد بن سليمان بن فليح وكتاباً إلى الأشقر عبد الملك بن سالم وكتاباً إلى السكن بن السكن المقيم بهذا المسجد وكتاباً إلى محمد ين سليمان بن محمد بن عبيد وكتاباً في ديوان القاضي عبد الرحمن بن عبد الله أشهد القاضي عبد الرحمن بن عبد الله الشهود المسمين في هذا التاب أنه ثبت عنده مت في هذا الكتاب وأمر به وأنفذه على ما سمي وفسر وذلك في صفر سنة ثماني وثمانين ومائة أه.
ومن نكت الكتاب قوله: أخبرني أبو سلمة وابن قديد عن عيسى عثمان قال كان زي أهل مصر وجمال شيوخهم وأهل الفقه والعدالة منهم لباس القلانس الطوال كاوا يبالغون فيها فأمرهم ابن أبي الليث بتركها ومنعهم لباسها وأن يشبهوا بلباس القاضي وزيه فلم ينتهوا قال ابن عثمان فجلس ابن أبي الليث في مجلس حكمه في المسجد واجتمع أولئك الشيوخ(71/40)
عليهم القلانس فاقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضرب رؤوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم قال وأخبرني محمد بن أبي الحديد حدثني عتبة بن بسطام قال رأيت قلانس الشيوخ يومئذ في أيدي الصبيان والرعاع يلعبون بها وكانوا بعد ذلك لا يدخلون إلى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه في قلنسوة. وانتدبنا اسمعيل بن اسحق بن إبراهيم تميم للجمل
وأخفت أيام الطوال وأهلها ... فرموا بكل طويلة لم تقصر
ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم ... والمشي نحوك بالرؤوس الحسر
حتى تركتهم برون لباسهم ... بعد الجمال خطيئة لم تغفر
يتفرعون بكل قطعة خرقة ... يجدونها من أعين ومخبر
فإذا خلا بهم المكان مشوا بها ... وتأبطوها في المكان الأعمر
فلئن ذعرت طوالهم فطال ما ... ذعرت ومن مرا بها لم يذعر
كانوا إذا ألفوا بهن لفضل ... أمضي عليه من الوشيح الأسمر
كم موسر أفقرته كم مفقر ... أغنيته من بعد جهد مفقر
ما أن عليك لقيت منهم واحداً ... أو في العجاج مدججاً في مغفر
لبسوا الطوال لكل يوم شهادة ... ولقوا القضاة بمشية بتبختر
مالي أراهم مطرقين كأنهما ... دمغت رؤوسهم بحمى خيبر(71/41)
أخبار وأفكار
طول الحياة
نعرب للقراء في الموضوعات المعضلة كل ما نعثر عليه في المجلات الإفرنجية وأكثرها لا نعيد فيه ولا نبدي وآخر ما قرأناه للدكتور نوفيل في المجلة الباريزية القالة التالية: لما نشر خويستوف هوفلاند الطبيب سنة 1796 في أينا أول طبعة من كتابه علم إطالة الحياة الإنسانية ترجم كتابه إلى جميع اللغات حتى العبرانية فهبت على الأمم نسمات من روح الرجاء في هذا الباب. فقد كان العلم يبحث عبثاً منذ القدم عن حل لهذه المسألة في الحياة وإنقاذ الجسم من ضربات الأمراض والهلاك إن لم يكن إنقاذاً أبدياً فلا أقل إلى أجل معين وإبعاد المسافة بين المهد واللحد على الجملة. وكم من أحلام تصورتها عقول علماء منافع الأعضاء في القرن الماضي فذهبت تصوراتهم أدراج الرياح وظل البشر لا يعرفون ما يخبؤوه لهم الغد من الأقدار على الحياة. بيد أن هوفلاند فتح للدروس الحياتية مهباً جديداً بإثباته ضرورة الجري في الحياة على قواعد مقررة ف يعلم الصحة الطبيعية والأخلاقية التي أبان حقائقها ومن طرائقها على أنه لم يبد إلا قوانين نظرية استند فيها إلى معلومات مختلف في نتائجها ن حيث الأسباب الحقيقية في الموت والمبادئ الأولى في علم الأمراض وطبائعها وعللها الباثولوجيا ولم تكن الطرق التجريبية قد أحدثت وكانت أعمال العامل الكيماوية محصورة في نطاق ضيق وعلم الجراثيم غير معروف.
جاء لوانهوك في القرن الماضي وقال إن في أحشاء الإنسان والحيوانات أحياء دقيقة اكتشفها بعض الاكتشاف بواسطة عدسة مكبرة ثم قال معاصر هوفلاند من رجال الدانيمرك الطبيعي موللر واستخدم المجهر الذي ترى به هذه الأحياء الضارة على جليتها وأتم أهر نرغ سنة 1833هذه الأبحاث وأبان بعض خصائص النقاعيات على اختلاف ضروبها ولكن كل ما عرف إلى ذاك العهد لم يكن شيئاً مذكوراً بالنسبة للارتقاء الذي ارتقاه علم الجراثيم.
فكان باستور مبدأ الدور الحقيقي لعلم الجراثيم الذي كان هوفلاند وأترابه أوضحوا مقدماته فقرر أن ليس للحياة إلا عدو حقيقي واحد شديد العداوة مخادع مهلك بحيث لا يكاد يقع تحت اليد ونعني به تلك الحملة الطفيلية التي تبعث بالمرضى على اختلاف ضروبه وتتعهد(71/42)
على الدوام بإرسال رسل الحمام إلى الأجسام بحيث بات يرجى أن يتوصل البشر ذات يوم بالقواعد التي سنها العلم أن يتيسر للناس اتقاء الأوجاع خفيفها وشديدها. وهذه الأماني قد تحققت منذ نحو نصف قرن قليلاً قليلاً حتى لقد طال معدل الحياة الإنسانية حمس سنين في الذكور وستاً في الإناث.
ففي الجداول التي أخذت من الإحصائيات الأكيدة في العلم القديم والحديث أن في كل 100وفات 42لم تكد تحدث لو عمد أربابها إلى المداواة في الزمن اللازم لها وإن نصف الأمراض لا تنشأ إلى من جهل المصابين بها وعدم حيطتهم وقلة المعرفة في تطبيبهم أو الإهمال الذي يتحيفهم. ولو كتب لل - 42 وفاة في المئة أن ينجوا من أمراضهم لطال معدل الحياة في الجنسين خمس عشرة سنة. وهذا التقرير لا يدخل فيه التعديل الذي وقع في أسباب التطهير وإن كان مختلاً في بعض الأحوال ولكن نشأ عنه من عدة وجوه منافع عظيمة ويجب النظر إلى الأمراض التي يظن أنها عضالة اليوم وربما كانت في المستقبل مما يمكن تلافيه قبل الوقوع فيه ثم أن سن الثمانين التي يصاب صاحبها بالضعف لا محالة ويصبح في انتظار القضاء الإلهي عليه قد خف تأثيرها يما قرره منشنكوف من أن الشيخ مريض يستطيع أن يحتفل جذلاً بمرور المئة سنة على ولادته ولذلك أمثال كثيرة.
قال الدكتور فيشر من كلية بال أن طول الحياة في أهم عواصم أوربا كما يلي: طالت الحياة في إنكلترا من سنة 1881 - 1900 - 14 سنة في الذكور و16 في الإناث وفي فرنسا كان معدل طولها من سنة 1881 - 1903 - 10 في الذكور و11 في الإناث وفي ألمانيا من سنة 1877 - 1900 كانت الزيادة 25سنة للذكور و29 للإناث وفي الدانيمرك كال معدل الحياة في مدة 57 سنة 13 سنة في الرجال و15 في النساء وفي السويد طال المعدل 17 في الرجال و15 في النساء خلال 67 سنة. وظلت مدة الحياة خلال ثلاثين سنة في بلاد الهند على وتيرة واحدة وهذه النتائج هي ولا جرم ابنة علم الصحة وقد رقي هذا العلم جداً في ألمانيا وفرنس وإنكلترا وهو من أدنى ما يكون في بلاد الهند. واستنتج الدكتور فيشر من ذلك أن ابن اليوم يعيش أكثر من أجداده على الرغم من كثرة عمله وشدائده فقد كان معدل الحياة في القرة السادس عشر 12. 2 والقرن السابع عشر 25. 1 في القرن الثامن عشر 33. 6 وفي القرن التاسع عشر 39. 7 ولم يزد في هذا القرن العشرين.(71/43)
وهذا التقرير قد قدم إلى للجنة التي عينها مجلس النواب في الولايات المتحدة فهو بمثابة مستند رسمي مهم للغاية وعلى ما في إحصاءاته من النظر بعض الأحايين فإن المقابلات بين الحالة الماضية والحاضرة التي حوته تجعل له مقاماً وأحل السويد أطول البلاد أعماراً وأقصرها الهند وبعبارة أخرى معدل الحياة فيها وهاك جدولاً آخر في طول الحياة عن الأمم المختلفة.
المملكةإحصاءذكورإناثالسويد1891 - 190050. 953. 6الداينمرك1895 - 190050. 253. 2فرنسا1898 - 190345. 749. 1بريطانيا العظمى1891 - 190044. 147. 7الولايات المتحدة1893 - 189744. 146. 6إيطاليا1892 - 190242. 843. 1ألمانيا1899 - 190041. 044. 5الهند190123. 024. 0وهذه الأرقام تختلف باختلاف الحالة الجوية والاجتماعية إن كانت عبارة عن تقديرات أخذت في أوقات تكاد متقاربة ويختف معدل الحياة أيضاً إذا نظرنا إلى البلاد التي يهاجر منها أهلها أو يهاجرون إليها فأنه يطول ويقصر على نسبة الاختلاف الذي يعرض لصحة المنتقلين من الآدميين ويقول فيشر أن الراحة والسعادة تطيل حبال الآجال لا جرم أن من بلغوا المئة من الناس لم يكونوا كلهم أغنياء ولكن من لم يحرموا شيئاً من أسباب الراحة هم أقرب إلى طول الأعمار من الفقراء فترى الموت أقل حركة في أحياء الأغنياء في باريز منه في أحياء الشقاء والفاقة.
ولا يخفى أن الرجل أو المرأة الذي هو بمأمن من الحاجة يطعم الطعام الجيد ويلبس اللباس الحسن وينزل المسكن الصحي ويمتنع عن كل ما يؤذي صحته هو أقل عرضة للأمراض من التعس الذي لا يجري على نظام مطرد في معيشته ولا يكتسي كساء واقياً ولا يتناول الطعام الذي يسد جوعته وينزل على الدوام في منازل قذرة غير طاهرة. والأمثلة على ذلك كثيرة في المدن الكبرى لأن عملة المعامل بالقرب من الطبقة العليا والوسطى حيث الرفاهية.
وإنك لترى أكفان الموتى تخرج من بيوت المحاويج في غلاسكوا أكثر مما تخرج من بيرت سادت فيها الدعة والغبطة. ويكون الهالكون في نيويورك وسائر المدن الصناعية الآهلة بالسكان على نسبة ما يتعاطون من الصناعات ويكون طرز معيشتهم فيموت من(71/44)
التجار وأرباب الصناعات 12. 1 في الألف ومن الصناعات ما يهلك به أربابها كثيراً كالصناعات التي ينبعث عنها غبار متواصل أو روائح تتقزز منها النفوس وإن الدوام المتواصل على تطهير الأماكن والمدن قد أدخل الصحة إلى حيث كانت مفقودة إلا قليلاً فنشأ من ذلك أن الأرقام التي يوردونها بالقياس إلى زمن تتغير كثيراً في كل إحصاء يقع في الخمسين سنة.
وهكذا نرى أن معدل الموت في خمس وعشرين سنة نزل في برلين من 33في الألف إلى 16وفي مونيخ من 41إلى 18 وفي واشنطون من 28إلى 19 وفي نيويورك من 25. 4 إلى 18. 6 وفي الهافان حيث لا يجري إحصاء إلى في كل قرن كان معدل الموت 45 في الألف فأخذ يختلف بين 20. 5و32. 6 وبديهي أن العوارض والحوادث التي تصيب الحياة فينشأ عنها هلاك كثيرين كالحروب والمصائب والغرق وغير ذلك قد يكثر معدل الموت ولكن ذلك لا يضر في هذه الإحصاءات لأن الربح أكثر من الخسارة.
والربح نشأ بالعلم لأن الأولاد كانوا في الماضي يموتون كثيراً فبفضل الوسائط الصحية الحديثة صاروا يرجون البقاء أكثر من أجدادهم ولطالما كان الخناق والحميراء والتواء الأعصاب والسعال وغير ذلك من أمراض الطفولية تهلك الأولاد فلما اخترع المصل. والتطعيم وطرق التداوي المختلفة وارتقت الجراحة وكثر استعمال الكوكايين والديجيتالين ومضادات السميات ومضادات الفساد والمورفين خلصت نفوس كثيرة من لموت.
وكان السل في الدهر الغابر يعتبر من الأمراض العضالة فأصبح وإن كان يهلك به كثيرون إلى اليوم من الأمراض التي يتأتى التفي في ها ومنا برح يعصي على العلم ويقضي على أكثر السحايا وإذا ضوعفت العناية بالصحة يرجى أن يقل عدد الهالكين بالسل 75 في المئة لا سيما في مسائل العدوى منه والنجاة منها وهكذا الحال في ذات الرئة التي تكثر بكثرة تناول المشروبات فيهلك له 11 في المئة من الناس وإذا ترك أسبابه ينزل معدل الهالكين به كثيراً والحمى التيفوئيدية قد قل الهالكون بها منذ عشر سنين ومتى عرف الناس كيف يتحامون الماء الملوث ويبتعدون عن لسع الذباب لبشراتهم لا يبقى له أثر في الوجود. وسيكون كذلك نصيب الحمى القرمزية التي كادت تكشف جراثيمها ومثل ذلك الجدري متى وقع تطعيم الناس كلهم وقد كان الناس في القرن الثامن عشر يموتون به قبيل جنر (طبيب(71/45)
إنكليزي اخترع التطعيم) كثيراً بحيث لا يقل الهالكون عن 50 مليوناً ولا يزال يموت به القلائل جداً. وبذلك عرفت أن بعض الأمراض العادية يمكن اتقاؤها يتاتاً وإن غيرهم يقل الرجاء في شفائها مثل التهاب البريتون والسرطان وربما اخترع العلم لها أدوية تستأصل من الفتك بالبشر كما استأصل غيرها من الأوصاب والأوجاع.
وقال جان فينو في كتابه فلسفة طول العمر إن الخوف من الموت كثيراً ما يهلك المرء قبل الأوان فإن المرء إذا بلغ قدراً من العمر يأخذ يتوقع الحمام كل ساعة ويزهد في الحياة فتسوء تغذيته ونومه ويجلب بيده رسل الهلاك فلو هزأ بالسبعين ولثمانين لبلغ المئة لا محالة وقد جرى كثير من الشيوخ على هذا النمط في الحياة فكانت النتيجة أن يبلغوا المئة بصحة ونشاط ومن أرهبه تصور الموت يموت فيكون قد أضاع على أمته شيئاً م حقوقها فيه وأضر بها ضرراً اقتصادياً ففي مليون ونصف من الموتى كل سنة يمرض ثلاثة ملايين ينقطعون عن الأعمال فيضرون بلادهم وذويهم مثال ذلك إنك تجد في الولايات المتحدة 500000 مصاب بالسل نصفهم لا يعملون عملاً أصلاً والنصف الآخر يعمل نصف عمل وهذه الولايات أيضاً نحو هذا القدر من المصابين بعوارض في أجسامهم أتتهم من الأعمال التي تعاطونها والرجل الصحيح في الجملة عن العمل خمسة أيام في السنة لوقوعه في أمراض عادية كالصداع ووجع الضرس والزكام فيضر بذلك الحالة الاقتصادية فلو عرف كل امرئ واجباته نحو المجتمع لما أتى ما يضر بصحته بتاتاً ورأي بذلك من فروضه الأدبية والحكومات والبلديات والمشرعون مسؤولون عن كثير من الأمراض التي تحدث من المسكرات والدخان لأن الإفراط كثيراً ما يؤدي بصاحبه إلى القبر والحكومات في الغالب تنشط هذه الأصناف من المكيفات مخافة أن تصاب ميزانياتها في الديون العمومية أو انحصار الدخان.
ولم ينتظر أساليب العمل في المعامل والمصانع إلا منذ زمن قريب وكذلك لم تحدد أعمار العاملين والعاملات من البنين والبنات ولم ينظر في تقليل ساعات العمل والراحة الأسبوعية وبعض الامتيازات إلى في بعض البلاد حصلت عليها نقابات العمال من المجالس النيابية بالوسائط الكثيرة.
وإنهاك القوى وعدم توفر أسباب الراحة والصحة في المدارس وغير ذلك من أسباب طول(71/46)
الحياة لم ينظر فيها وزراء الأمم ومجالس معارفها إلا منذ عهد قريب وكذلك كل ما يوفر على البالغين قوتهم فقد أطلقت الحرية المفرطة للناس يعملون ما يشاؤون حتى أمد الدكتور فيشر أن 50 في المئة يفقدون 10 في المئة من قوتهم الحيوية لأنهم يسيئون استعمالها ولا يقتصدون فيها فإن هذا الإفراط يورث صاحبه أولاً اضطرابات عضوية ثم ينتهي بأمراض عضالية يعقبها الموت لا محالة.
وبعد فإن الواجب لإطالة الحياة أن تراعى قواعد الصحة كل المراعاة فلتطويل حبل الأجل ينبغي اتقاء الأمراض على اختلاف ضروبها وعدم التعرض لأقل الأوجاع إذ ربما كانت مقدمة للعظيم منها والحياة أشبه بسفينة لا تنجو من تأثير الأنواء إلا إذا كانت متينة من الأساس إلى الرأس فالواجب على الأبوين والمجتمع أن يعتنيا بصحة الطفل منذ الولادة على الأصول الصحية وإن لا يسمحوا بزواج المجانين والمدمنين كما يفعلون في ولاية أنديانا في الحكومة تحظر هناك كل الحظر زواج المعتوهين وقدماء السكيرين وكل من نخشى أن يكون نسلهم ضعيفاً هزيلاً وتشدد في ذلك كل التشديد ولا عفو في ذلك عن أحد ليس معنى هذا أن يسن قانون يسمح به للوالدين أن يقتلوا من أولادهم كل من لا يرجى فيه أن يعيش بقوة كما كانت الحال عند بعض القدماء ولكن العناية يجب أن تصرف بحيث يقوى بالأساليب المختلفة كل طفل ضعيف ويأتي منه معمر حسن البنية نافع في المجتمع.
لمعدل الحياة دوران الأول الطفولية والثاني الشيخوخة فالأولاد قد يعتني بصحتهم في السنين الأولى من حياتهم أكثر مما يعتني الشيوخ فلو طبق هؤلاء على أنفسهم نظام الصحة وطردوا من رؤوسهم الأوهام لطالت أعمارهم ورجي لها الهناء كما يرجى للأولاد وأحسن ما يجب في هذا الباب الرياضة الجسمية والحياة في الخلاء والابتعاد عما يهلك القوى.
والموت يرصد الأقوياء والضعفاء على السواء وكل سبب صحي ينفع الأولاد ينفع الشيوخ لا محالة. حقيقة يجب أن تتمثلها جميع العقول أبداً وإن تذكر في البيوت أمام الصغار والكبار ويأخذ كل فرد نفسه بمراعاتها ولن تعرف حسنات المدينة إلا متى رأى كل إنسان من واجبه أن يعين على إبطال مقاومات الحياة في كل صقع وناد. ويعلم الناس أجمع أن الحياة مستودع سلمته الطبيعة فالشاب الكهل فالشيخ فالهرم في الاقتصاد هي هكذا:
سنقيمته الاقتصاديةمن الولادة إلى سن الخامسة450 فرنكاًمن 5 إلى 104500 فمن 10(71/47)
إلى 2010000 فمن 30 إلى 5020 إلى 30 ألف فمن 50 إلى 8015 ألف ف فنازلاًمن 80 إلى 1003500 فرنك فنازلاًبمعنى أنه كلما زادت سنة في حياة الفرد وأشهر تزيد ثروة المجموع وسعادته وهناؤه والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
أشجار الغابات
نشر في أميركا كتاب مهم للغاية يخدم دروس تربية أشجار الغابات خدمة عظيمة وصف فيه مؤلفه المستر دوير بجلاءٍ تام جميع عطور العالم منسقاً لها أحسن تنسيق وقد صرف المؤلف خمس عشرة سنة متوالية في تأليف مصنفه فزار الحدائق والمغارس وغابات العالم بأسره وبحث في خزائن الكتب عامة مثل مكتبة باريز ولندن وبرلين وبطرسبورج وليدن ومدريد وفلورنسة وعشرين غيرها. وسيكون تأليفه خمس مجلدات ظهر الأول منها وسيكون الأخير فهرساً عاماً وتكتب الاصطلاحات بعدة لغات ومنها اليابانية والإفادات التي حواها الكتاب قد استلزمت أبحاثاً عظيمة بذل الجهد الجهيد في الحصول عليها فأنك تسقك في هذا المصنف على ما لا يخطر لك ببال من الاستعلامات ومنه تدرك مثلاً أن في إيطاليا 250 حديقة للنبات وإن النباتات التي وصفها هوميروس وفرجيل صالحة وإن دانتي وسرفانتس وشكسبير قد عبروا حسن تعبير عن عامة الزهور التي تكلموا عليها وكان للشعراء أشجار يستحسنونها وذكر ما كان يستحبة منها كيتس وشيلر وفيكستور هوغو لامارتين وغيرهم من كتاب الأمم. وفي هذا السفر أفادت مهمة عن رموز الغابات ولغة الأشجار المشهورة.
البلاط الصناعي
جربوا في همبورغ بلاطاً جديداً صناعياً وهو يحتوي على محلول كلور المغنيسيا أضيف إليه مسحوق المغنيسيا أيضاً ونشارة الخشب يجفف فتأتي منه طبقة غليظة للغاية ومتينة كالحجر تحفظ الحرارة أكثر من البلاط الطبيعي ومنظره يشبه الفسيفساء.
المدفع الهائل
أنشأت إنكلترا مدفعاً بحرياً جديداً قطره 406 أمتار مربعة ويقذف 1080 كيلومتراً منها 63 كيلو من المواد الملتهبة إلى مسافة 26 كيلومتراً وقذائفه تخرق أعظم بوارج دريدنوت المصفحة. ويعمل الأميركان مدفعاً يقذف مقذوفاته إلى بعد 26 كيلومتراً وقذائفه 1200(71/48)
كيلو فيها 70 كيلو مواد منفجرة.
السنور
كان للسنور في كل زمان شأن وأي شأن فكان العامة يكتسون بفروه في القرون الوسطى بالغرب وأصبح فروه بجودة تحضيره العلمي من أحسن ما يلبس وقد أخذ لهذا العهد فرو الكلب ينافس الثعلب في أسواق التجارة. ويرغب الصيادلة في فرنسا وفي الغابة السوداء في اقتناء فرو السنانير البرية ليتداوى بها المصابون بداء المفاصل. وكان للقطط قديماً موقع مهم في أعياد الشعب يستعملونها في ملاهيهم فيعلقونها على الناي وينظرون إلى ألمها وهو يتحترق وكان بعض الأمم يعتقدون أن دفن قطط حية في أساس بناية تعرف بها متانة البناء. وكان ينظر إلى القطة السوداء عندهم بأن فيها سراً من السحر. وكان المصريون ينظرون إلى القطط بأنها حيوان مقدس والمسلمون والهنود يحترمونها كل الاحترام. وقد صورها المصورون في كل عصر وعنوا بإخراج مناظرها المختلفة وللقطط منافع عظيمة في قتلها الجرزان والظاهر أنها تتنبأ بالمطر يعرف ذلك ضمن انتفاشها وتنظيفها ووبرها ووضعها رجلها على أذنها.
المدن العظمى
ليست الحواضر والعواصم ابنة اليوم وتأسي ساعة فقد تنبأت العصور السالفة سيكون من شأن المدن العظمى فكانت بابل متسعة وعدد سكان رومية في القرن الثاني مليون نسمة وكان في قرطاجة دور ذات سبع أو ثماني طبقات وقد سن قانون في رؤيته على عهد فتروف لمنع تغطية الجو بالأبنية وكان سكان ميلان في القرن الثالث عشر 250ألفاً فضاقت المنازل وبسكانها فأخذوا يفكرون في الخلاص مما صارت إليه حالتهم وكان معظم الشعب يسكن في ثكن عظيمة.
لا جرم أن سهولة المواصلات الحديثة واختراع السكة الحديدية قد دعت إلى هجرة الناس من الأرياف والمزارع إلى المدن والعواصم وكلما كبر حجم مدينة زادت أقدام المهاجرين إليها ففي ألمانيا زادت القصبات المحتوية على ألف نسمة من سنة 1875 - 1905مرة ونصفاً في المئة والمدن المتوسطة التي في 20إلى 100000 زادت 134 في المئة والمدن العظمة التي فيها ثلثمائة ألف 300 ضعف في المئة وأكثر ولأميركا القدح المعلى في إنشاء(71/49)
المدن الحديثة فلم يكن في شيكاغو سنة 1831 سوى 100 ساكن وها هي الآن وفيها ملونا ساكن. وفي المدن في القرون الوسطى ذات زوايا بخططها وشكلها اليوم على شكل النجم ويصل كل يوم إلى مدينة لندرا أربعمائة ألف إنسان من الضاحية ولها خمسون كيلومتراً من الخطوط الحديدية للضاحية فقط ومدينة نيويورك مثال نقاط الاتصال في المدن فإن محطة خطوط هودسون بناية ذات 22طبقة فيها 5000 نافذة واتساع رقعة المساكن وازدياد عد السكان في المدن العظمة ينمو نمواً بنمو المواصلات وتسهيلها.
الصحافيون والأدباء
لم يكن اصحافيون في أوربا أصحاب اعتبار عن رجال الأدب في أوائل القرن الثامن عشر ولطالما كان الفيلسوف روسو وديدرو يشتدان عليهم وكان الشاعر فافر إذا جرى ذكر الصحفيين يغتاظ ويشتم ولقد تردد بريسو كثيراً قبل أن يدخل ملك الصحافة المنحط وما العلة في مقت الصحافة إذ ذاك إلا لأنها كانت توسع مجالاً كبيراً لنفذ الكتب الحديثة وكان الصحافيون نقاداً لا يبينون حسنات الكتب المؤلفة بل يكتفون بإيراد سيئاتها وإذا حدث أن أثنوا على كتاب فلا يلفتون نظر الناس إلى تلاوة ثم إن كتاب الصحف لم يكونوا من الطراز الأول بقرائحهم حتى أن جريدة العلماء في فرنسا التي كانت إلى الجد والفائدة أميل لم يكن بين مؤازريها من امتاز في العلم ولكن صحافة فرنسا خصوصاً دخلت عليها بعض تعديلات من سنة 1750 إلى 1780 ولما عمت أصول الدعوة ونشر الأفكار رأى الصحافيون أن جرائدهم أحسن الوسائط للتأثير في نفوس الأمة وهكذا اتسع أفق الصحافة حتى غدا يعزها اليوم مكان يتقرر منها أمس وأصبح مؤازروها في الغرب يتأهلون بمقالاتهم فيها لأعلى المناصب العلمية والسياسية.
النفس الإسبانية
كتب أحد من أقاموا طويلاً في إسبانيا مقالة في المجلة الفرنسوية وصف بها أخلاق الإسبانيين فقال إنهم أقاموا بينهم وبين أوروبا سداً كسد الصين عاشوا وراءه بمعزل عن معظم ما في ديار الغرب من مرافق الحياة وأسباب الدنية وهم يفخرون باعتزالهم هذا وقل أن ساح أحدهم إلى فرنسا أو إنكلترا أو إيطاليا اللهم إلا إذا كان من الإسبانيين نزلاء بونس أيرس عاصمة الجمهورية الفضية وأنه للجهل الذي عم الطبقات هناك إلا قليلاً تروي(71/50)
جرائد إسبانيا عن ممالك أوربا أوهاماً وخرافات أشبه بما يروى عن بلاد الواق واق ويأجوج ومأجوج ولذا ترى صحفهم حتى الراقية منها مملوءة بالمطاعن فيمن يدعو قومه إلى الأخذ عن الفرنسيس أو عن الإنكليز في الضارة لأن الإسبانيين موقنون بأن عندهم كل شيء.
دلَّ التاريخ على أن إسبانيا نزلتها أمم مختلفة منهم التاتاريون واللوزيتانيون والإيبريون والسلتيون والقرطاجنيون والرومانيون والويزعوتيون والعرب والجيتانيون وإن كل هذه العناصر بقت شيئاَ من أخلاقها وعاداتها لم تستطع إسبانيا الحالية أن تمزجها بعضها إلى بعض (كما حدث في الممالك العثمانية وعناصرها) لاعتزال كل فريق في صقع من أصقاع البلاد لا يخالط غيره ويرى الفخر له في عزلته. ويقال على الجملة أن أهل إسبانيا من حيث التركيب الطبيعي ولاأخلاقي يقسمون إلى أربعة أقسام وهم الباسكيون في الشمال والقشتاليون والأراغونيون في الوسط والكاتالانيون في الشرق والأندلسيون في الجنوب. والأندلسيون من أجمل الأجناس وأطولها وأحسنها تراكيب ولا سيما سكان الوادي الكبير الذي كان شأن على عهد العرب وفي سيرانيفادا تغلب النحافة على السكان وتظهر فيهم الحسنات العربية كل الظهور. وفي هل الأندلس من الإفراط في الحرية والتساهل في الأخلاق مالا تجد له مثيلاً في الأصقاع حتى لقد يكثر فيهم الفحش وأولاد النغول ويقل فيهم الزواج وإقليم كاتالونيا هو الإقليم الوحيد في إسبانيا الذي دخل في الحياة الجديدة وتوفر أهله على الزراعة والصناعة والتجارة معاً ومن يذهب من قشتالة أو الأندلس إلى كاتالونيا فكأنه فاق الموت ودخل في طور الحياة وسينهض الكاتالانيون غداً بإسبانيا كما نهض البيونيون أمس بإيطاليا.
وذكر الكاتب الشحاذة في إسبانيا شائعة أكثر من جميع بلاد أوروبا وإن الشحاذين والشحاذات يطلبون الصدقات بسلاطة وقد يدعون على من لا يعطيهم كأن لهم جعلاً يتقاضونه من الغريب خاصة وربما رشق بعض الفتيات من لم يعطيهم شيئاً بالحجارة. وتشكو الصحف الكاثوليكية من ضعف الاعتقاد في الأفراد ولا سيما في الرجال ويسيء الأسبانيون معاملة الحيوانات لقلة تربيتهم لا لشراسة في طباعهم الأصلية فإنهم من أخضع الناس للقوة والأحكام يؤدون الأتاوات والخراج على صورة فاحشة ولا ينسبون ببنت شفة(71/51)
وقلما تعهد لهم ثورة على الحكومة إلى في كل قرن والمرأة غير موقرة كثيراً في إسبانيا كما هي في سائر أصقاع الغرب. قلنا ومعظم هذه الأوصاف تنطبق على بلادنا العثمانية ولا عجب بعد هذا إذا رأينا مراكش لم تتأثر بالمدينة الغربية على قربها من جوار أوروبا فإن إسبانيا وهي قطعة من هذه القارة كانت لصلة الدين واللغة والجنس أولى بالتشبيه بالأوروبيين.
اردياء النوم
كتب أحد نطس الأطباء في مجلة الصحة يقول الظاهر أن الحالة المعدة دخلا كبيراً في النوم ومن المعلوم أنه يحدث أرق بعد الهضم المتعذر أو نوم ثقيل قليل الراحة فإن لحركة وظائف الأحشاء دخلاً مهماً في اضطرابات النوم فالواجب أن تمنع عمن أصيبوا بالأرق المشروبات المخمرة وفي كثير من الأحوال يمنع عنهم الشاي والقهوة على أن استعمال هذين المنشطين أوائل النهار لا يضر بالصحة. أما المرضى المصابون بفقر الدم فإنهم يشفون من الأرق بجلب النعاس إلى جفونهم بأن يقيلوا وقت الظهر فتساعدهم قيلولة النهار على النوم نوماً هنيئاً في الليل وتجب العناية بغرف النوم فإن من اعتادوا أن يناموا في كل فصل والنوافذ مفتحة يؤكدون أنهم ينامون نوماً جيداً يعوض ما فقدته في أتعاب النهار. والاستهواء من أنفع ما يجلب الكرى إلى عيون المؤرقين والمصابون ببعض الأمراض العصبية وهم عرضة للأرق يكون لهم من العمل العقلي المنظم بعد راحة مطلقة قليلة نتائج حسنة فينامون نوماً هادئاً مقوياً تحتاج إليه أجسامهم.
باريز ومستقبلها
نشر أحدهم في المجلة مقالة في هذا الشأن جاء فيها أن باريز كانت بعدد سكانها في سنة 1800 ثاني عاصمة في العالم فكان سكانها نصف مليون ولم تفقها غير لندرا وسكانها مليون واحد ثم تجئ بعد باريز موسكو وما زالت أحوال العمران تزيد وينبسط ظله حتى أصبحت في العهد الأخير مدينة لندرا وسكانها سبعة ملايين ومدينة نيويورك 4766883 ثم تجئ برلين وفينا وطوكيو وغيرها من المدن ليس لها شأن في القديم يذكر فقد كانت في أوائل القرن الماضي أكثر مدن أميركا سكاناً مدينة فيلادليفا وسكانها لا يتجاوزون 8911 ألفاً وهكذا زادت العواصم كلها بسكانها زيادة خارقة وباريز لم تتجاوز الثلاثة ملايين في(71/52)
حين كان اللائق بها أن تكون ثاني مدينة بعد لندرا فإذا ظلت العناية بها فاترة لا تعتم أن تمسي بعد عقود من السنين من أصغر العواصم فتقل رغبات أهل الأرض في قصدها ولا تعود بلد النور وتنازعها في ثروتها التي يجلبها إليها السياح من القارات الخمس غيرها من العواصم الكبرى فستميل إلى النزول فيها علماء باريز والمغنيين من أبنائها لكثرة ما تبذله لهم من المال وعندها تسقط هذه العاصمة سقوطاً مريعاً.
ويرى بعضهم أن قلة الرغبة في نزول الحواضر واعتزال الناس على الاشتغال بأعمالهم الزراعية في القرى والدساكر هو خير للبلاد وأبقى لأن كثرة ازدحام الأقدام والأنفاس مضرة بالصحة العامة والأحسن أن يتباعدوا ولكن هذه النظرية تعالج بشيء واحد وهو أن تبذل العناية بأمور الصحة أ: ثر مما تبذل الآن ويضاف إلى باريز ما في ظاهرها من القرى والمدن بحيث تعد منها وحكومتها حكومتها لا بدفع أبناؤها رسوماً (عوائد) ولا غيرها فتدخل في باريز تلك الحقول الواسعة والحراج الغياء في الضاحية ويساعد ذلك على تكبير ساحاتها العامة المفيدة في صحة السكان وبذلك تحفظ باريز مكانها في أقطار العالم المتحضر لأن ما تعده إنكلترا من العدد لمستقبل لندرا من أعجب ما سمع ومن ذلك جر المياه إليها فإنها ستكون كفيلة سنة 1940 بإرواء ستة عشر مليوناً من السكان وكذلك ترى نيويورك أن سكانها سيتجاوزون سنة 1940 أحد عشر مليوناً. وهكذا ترى الإفرنج يفكرون إلى ما بعد عشرات من السنين ونحن نقول ولك الساعة التي أنت فيها.
مدارس المؤوفين
إذا عرض لأحد العملة عارض أثناء عمله كأن يفقد عضواً من أعضائه أو يداً أو ساقاً أو عيناً فإن بلاد الغرب تكفلت لمن أصيبوا بهذه العاهات أن تعلمهم صناعات يكسبون بها رزقهم ففي البلجيك أنشئت عدة مدارس لهذه الغاية يفضل مال جاد به أحد محسنيها واسمه باستور من أعضاء مجلسها النيابي فيعلمون من نكبوا من العملة لفقد أحد أعضائهم في زمن قصير صناعة تقوم بعشهم كالتجليد والمقوى والمنافض (الفرشايات) ومماسح الأرجل مما يعمل على أيسر وجه بدون أن يكون عامله تام الأعضاء فيوزع الجدع لمبتورة أعضاؤهم بحسب قابليتهم على فروع مختلفة فمنهم من يستخدم في صنع السروج أو منهم في الأحذية وآخر يعين نوع العمل ويراقبه ويدفع أجوره بعد الثلاثة الأشهر الأولى من التعلم وتطول(71/53)
مدة تعلم الأجذم أو الأكتع بقدر ما يستطيع استخدام أصابعه أو بعضها فقط فإن من فقد السبابة (الشاهدة) يتعذر عليه العمل بسرعة منافض للثياب وغيرها مما يشابهها وفي مونيخ وبونسدام وهمبورغ من بلاد ألمانية مدارس كثيرة للمؤوفين وانتشر هذا النوع من المدارس في الدانيمرك ويرد عهد إنشائها إلى سنة 1874 وقد بلغ عدد من أنقذتهم من العملة بتعليمهم ما يلزمهم نحو ستة آلاف فمنهم من جعلت له أيد صناعية وآخر أذرعة والنساء في مدراس المؤوفين في فرنسا يعملن علباً وكوات (أباجور) وتيجاناً.
الزنوج
تبين من إحصاء وقع في الولايات المتحدة سنة 1910 أن فيها نوعاً عجيباً من الزنوج تكون بشرته سوداء على اختلاط دمه بالدم الأبيض فقد كانوا فيما مضى يقسمون الزنوج إلى أربعة أنواع أكتورن وربع زنجي وخلامي وأسود وتكاد هذه المميزات الآن تفقد بتة ويخلفها جنس يشبهها ليس هو الجنس الزنجي الخالص السليم بل مؤلف تأليفاً آخر يدخل في دمه الثلث من دم أبيض ولكن لونه لا يشاهد محسوساً ويوصف هذا النوع من الزنوج بظهور لون جلده. وإن لون الزنجي في لوزيانا وأودليان الجديدة لمشرب مشبع أكثر مما كان عليه لون أجداده قبل حرب إلغاء الرقيق أو من الزنوج الواردين من إفريقية وسواده يلمع أكثر من زنوج الكونغو وسيماؤه إفريقية ظاهرة بعض الظهور وأشداقه كبيرة وشعره أقل صوفاً. ويصعب تعيين أسباب هذه الخصائص ولكن معظمها ناشئ من تغيير شروط الحياة. والزنجي الأميركي هو في العادة أقل قوة من الزنجي إنه ربما لا يوجد في شمالي أميركا زنجي واحد يون دمه خالصاً وإن الزنوج ليسوا زنوجاً حقيقية وإن جمع السود قد تبدلت دماؤهم وسحناتهم. ومنذ تحرير العبيد ألغيت الطريقة التي كانت متبعة في الزواج بأنه لا يسمح إلا بزواج المتناسبين في القوة ولذلك ضعفت تراكيب الزنوج الطبيعية. وشعر الزنوج أنفسهم بذلك حتى قل تزاوجهم بالبيض أو الهنود ولكن هذا النوع من السود قد تغلب اليوم ويرجى أن يعود بالتحسن مع الزمن إلى سابق قوته ورجوليته.
كانون التبريد
اكتشفت كراهام بل مخترع التلفون ومصلح أمور كثيرة في الطيارات السماوية اكتشافاً حديثاً يتبرد به الإنسان في شهور القيظ وهو داخل حجرته فصنع ما سماه كانون التبريد(71/54)
والجليد فكان يتبرد بها في شهر آب الماضي في مدينة واشنطون بينما كان الناس يضيقون من الحرارة ذرعاً وذلك بأن صنع آلة عجيبة سهلة يتأتى لكل امرئ أن يعملها بدون كلفة وذلك لأن المخترع أذاع سرها ولم يأخذ بها امتياز كسائر المخترعات وهو أنه وضع على إطار نافذة الغرفة مروحة على شكل المراوح المتعارفة تتحرك على الدوام بمجرى كهربائي ويتأتى أخذ المجرى من آلة المصباح الكهربائي فيحدث من ذلك ريح بليل تحكم جريانه إلى أنبوب واسع دخل منه إلى صندوق متسع بعض السعة تجعل فيه كتلة من الجليد ويخرق الصندوق خرقين يجري فيهما المجرى الجليدي الذي ينشر في الغرفة التي تكون مقفلة ويكون من الهواء البليل الناشئ من المروحة والمار على الجليد رطوبة غريبة تنشط النفس وتقوي الحس. وتقام هذه الآلة بنفقة قليلة ولا تطلب من أنواع الاحتياط إلا أن يغير جليدها كل يوم. وسيتوفر الأستاذ المخترع على بسط اختراعه أكثر من ذلك وإدخال تعديلات عليه ليتمكن معها كل إنسان من استعماله ويكون للفنادق ومحال القهوة حظ كبير من هذه الآلة الجديدة يبردون بهاز بنهم وضيوفهم.
دروس السيسمولوجيا
السيسمولوجيا علم حديث النشأة فما من أحد يعلم أسباب الزلازل وكيفية انتشارها على سطح الكرة والإشارات التي يتأتى الانتباه بها للزلازل قبل وقوعها وهذه الأبحاث لا تهم من تصاب بلادهم بالزلازل تغديها هذه الأحداث الجيولوجية وتروحها بل تهم الإنسانية لأنها تقاسي منها الأهاويل ولذا أخذ العلماء منذ ربع قرن يبحثون في أسرار الزلازل وآخر مؤتمر عقد في منشيترناب فيه كثير من أهل هذا الشأن في الأمم ولا سيما من الممالك التي يكثر مصابها بهزات أرضية فشرح أحد الأمريكان أسباب زلزال سان فرنسيسكو وشرح أحد اليابان أسباب زلازل بلاده فتبين على الجملة الآن أن الأرض تهتز في أي نقطة كانت كل نصف ساعة على الأقل وتتجلى هذه الهزات غالياً في مناطق معينة فقد حدث في يابان منذ سبع سنين 8331 زلزالاً هذه الهزات غالياً في كل عام وهي تحدث في محيط من الأرض لا يتجاوز وضع مئات من الكيلومترات المربعة ولكن يوكوهاما في شباط سنة 1880 أجمع رأي العلماء على ضرورة إنشاء جمعية دولية تبحث في سر الزلازل واتقائها فهم عامة من الأمم إلى الاشتراك وفي المقدمة روسيا وإيطاليا. وقد اقترح أحد أساتذة(71/55)
ستراسبورغ (ألمانيا) أن يقام مكتب للزلازل يعمل بمعاونة ثلاثة وثلاثين قطراً مختلفاً على تبادل الملاحظات وينشر كل سنة فهارس بالزلازل ويعني بوضع مصورات للزلازل تكون مستنداً نافعاً جداً لوضع الأسلاك البحرية وإنشاء البيوت فتعين فيها النقط التي تخلو من خطر الزلزال وبفضل هذا العمل المشترك يطن بأنه بات يرجى عما قريب أن يتنبأ بالزلازل قبل وقوعها ويتحامى ما ينشأ عنها من المضار.
الأسرة في أميركا
ظهر بالبحث والاستقراء أن نساء الولايات المتحدة ولا سيما من كان منهم من الأميركيات الأولى هن أقل النساء تناسلاً وإن غير الأميركيات من نزيلات الولايات المتحدة هن أكثر نسلاً وفي مقدمتهن المرأة البولونية فإن معدل أولادها 6. 2 وعدل الأميركيات البيض 2. 7 ويجئ بالكثرة بعد البولونيات نساء التشيك ثم الألمان ثم الإنكليز.
إبادة الجرذان
معلوم أن الجرذان تضر بالحقول في سنتي الجدب خاصة وتأكل الحبوب والنباتات وقد كان معول أرباب الزراعة على النمس يربونه ويدربونه على التهام الجرذان ولكن النمس يسطو أيضاً على الطيور وغيرها من الهوام النافعة وربما كانت القطط والكلاب أ، فع في إبادة الجرذان خصوصاً إذا كانت هذه قريبة من تلك لصيدها على أيسر سبيل.
وقد اعتمد بعضهم على كربونات الباريوم في تسميم الجرذ وآخرون على سم دانيس وهذا السم يسري من المسمم به إلى غيره من الجرذ السليم قلا تلبث أن تهلك عن آخرها خصوصاً إذا وقع تحضيره في الأماكن التي يجري بها لأنه ظهر أ، هـ يفسد بعد شهرين من عمله فإذا حمل إلى القاصية ضاعت فائدته وهم الآن يبحثون في أقرب الطرق للانتفاع به فإذا ضحت تخدم الزراعة والنبات خدمة مهمة.
النساء العاملات
أنشأوا في الغرب منازل للفقراء من العملة يستأجرونها بثمن بخس جداً وفيها مرافق الحياة وأسباب الراحة وقد كانت إنكلترا سابقة غيرها في هذا السبيل فأنشأت بلديتا منشستر وغلاسكو فنادق للعاملات فيها مئات من الغرف تكري الواحد منها في الليلة من 7 إلى 12 فلساً وتربح البلدية أربعة بالمئة من ريع هذه الفنادق كما سبق لها أن أنشأت وأنشأ الأفراد(71/56)
بيوتاً رخيصة.
إحصاء الجنسين
تبين من الإحصاءات الأخيرة أن عدد النساء لا يزيد كثيراً عن عدد الرجال في ألمانيا والزيادة ثمانمائة ألف امرأة فقط وما قيل من قلة الزواج لم يصح لأن 90في المئة من النساء يتزوجن ولكن العجيب أن بلد في العادة أولاد ذكور أكثر من الإناث وموت المرضعات يؤدي أبداً إلى نقص الذكور من الأطفال.
شرب الشفة
ما برحت الشعوب المتحضرة تبحث منذ الأزمان المغلة بالقدم في الطرق القريبة لجلب المياه إلى المدن فقد كان حمورابي يوزع المياه على بلابل من أحواض جعلها وسط هذه المدينة وعيون المياه في صور وأحواضها في القدس كانت من أهم ما عرفه القدماء في توزيع المياه لشفة وأن مجرى الماء الذي أنشئ في جزيرة ساموس هو اليوم من أجمل أعمال الصناعة في هذا الباب وكان الرومان يتفننون في جر المياه وما شوهد من آثارهم والمجاري التي أقاموها في كثير من أنحاء مملكتهم تدل على براعة زائدة. ولطالما كان إبقراط أبو الطب يحذر معاصريه من أخطار المياه القذرة الملوثة وتابعه على رأيه طثير من الأطباء وقد كانوا في أوروبا خلال القرون الوسطى يحظرون إلقاء القذر في الينابيغ العامة والآبار وكان معدل ما يلزم الرجل كل يوم في المدن من الماء 114 لتراً في رومية في حين أن الباريزي اليوم يصرف 200لتر والهندي 180 والفيناني 100لتر والماء الذي يستعمل في الصناعات غير محتاج إلى التصفية والتطهير بالنفقات الباهظة ولذا ينصح علماء الصحة أن يجري الماء على العواصم الكبرى في مجريين مختلفين على الأقل أحدهما لشرب الشفة يكون طاهراً نقياً والآخر للصناعات والسقيا والرش يكون ماؤها عادياً.
الحرف والحياة
تبين من إحصاء جرى في بلاد الإنكليز أن رجال الكنيسة أقل موتاً من جميع أبناء الحرف والمهن وأكثر الناس موتاً العملة الذين لم يتعلمون مهنهم على الأصول وبعد الكهنة والقسس يجئ أرباب الحدائق والمزارعون بطول أمارهم وقلة زيارة الحمام لهم وبعد ذلك يكون(71/57)
دور الميكانيكيين والوقادين في الخطوط الحديدية. وتطول أعمار أرباب الصناعات النظيفة الذين يتعاونون فيها المعلمون. وأهل الصناعات تستلزم قوة كثيرة ويتعرض أصحابها للمخاطر هم مستخرجو الحطب من الغابات والبحرية فإنهم يموتون أكثر من غيرهم ومثل ذلك يصيب أرباب الصناعات التي تؤدي إلى السكر طباعة الخمور وتجارها.
الهلام النباتي
الهلام أو الجلاتين نوعان منه ما يستخرج من الحيوان ومنه ما يستخرج من النبات فالأول يكون بإغلاء جلود الحيوانات والعظام والأوتار والغضاريف في الماء الحار والثاني يستخرج من مواد منوعة نباتية بطريقة مشابهة لتلك وتصدر نزوج اليوم هلاماً من بنات لا يستعمل غذاءً بل يدخل في استعمالات أخرى فإذا صفي وبيض يستعمل في صقل الجوخ وفي بعض استحضارات أخرى ويستخرجونه من الخث (نبات الماء) الذي يكثر على شواطئ نروج فإذا حل جزء من عشرين جزءاً من هذا الهلام يكون منه هلام جيد وبياع حبوباً صغيرة لونها أسمة تصفر وتبيض فإذا حلت بالماء تنتفخ الحبات وكثير من أنواع الخث الحلوة الطعم تحتوي على هلام يستعمله الفقراء في أوروبا غذاء ويعملون منه رباً وهو منتشر كثيراً في بلاد يابان ويصدرون منه خارج بلادهم ويزرع الخث في أرخبيل يابان واشتهرت جزيرة يزو بهلامها ويمزج الجلاتين الياباني في الحساء الصيني المعمول بالسنونو ويباع منه في يابان بما قيمته مليونان ونصف من الفرنكات.
متوسطو القرائح
كتب ماكس نوردو من علماء الإسرائيليين مقالة في المجلة الباريزية تحت هذا العنوان فقال ما محصله: أحسن ما تهبه الفطرة لطفل منذ يوم ولادته أن تجعل له قريحة رائقة فهي أجمل الهبات بل أكد التعاويذ في نيل سعادة الحياة من الغناء والثروة.
لا جرم أن القريحة تزين مشاهد العالم أكثر مما يزينها شرف المولد وجلالة المراتب فيها تستميل العواطف العادية في تصور الحقيقة إلى عواطف أنس وهوى وبها تتسع الثقة في القوة العاملة في شخصية المرء.
ولك أن تحكم على قدر القرائح وتأثيراتها بما يصيب العظماء وأرباب المكانة في هذا العالم من المرح والحب فيتوفرون عليها إذا أحسنت بها إليهم الفطرة فقد كانت الملكة فيكتوريا(71/58)
صاحبة إنكلترا تجد سبيلاً بين مشاغلها الكثيرة من تولي أمر 350 مليوناً من البشر أن ترسم على الورق والمقوى الرسم الملون وكان اين عمها ملك البرتغال يصور الأقمسشة والأقمشة التي تخرج من مناقشه إذا عرضت في المعارض تعرف من بين غيرها ويدرك الناقدون أن يداً تخلت عن الصولجان ساعات لتمسك المنقش. وترى الإمبراطور غليوم يرسم ويصور وينظم بعض الأناشيد والأغاني في آونة الفراغ وخال والدته الدوق أرنست الثاني ساكس كوبرع قد ألف قصة بأناشيد أبرزها للناس في دار التمثيل بقصره باسم مستعار وكان يجد لذة بين مشاغله أن يمثل التمثيل المضحك. وكان ماكسيمليان امبراطور المكسيك التعس الحظ شاعراً وقصائده الغنائية تشهد له بالغيرة وباحقية جهاده. وأصدرت الأرشيدوقة لويزدي توسقان مجلداً في الشعر يدل على أنه كان في رأسها الأصهب مكان للأوزان والقوافي الشعرية.
وإذا نزلنا قليلاً في درجات أراب العروش ونظرنا إلى أهل الطبقة الأولى في المجتمع نجد غواة البدائع والفنون كثيراً عديدهم فإن الكونت بوست الذي يعزو إلى نفسه المشكلة النمساوية المجرية كان يكتب بالفرنسوية قصائد رقيقة تنبي عن أغرض عالية والدوقة ولية العهد دوزيس تعمل نصباً وهياكل حسنة.
وللعقائل الكبريات في باريز منذ بضع سنين ردهة سنوية يسقط الناظر في قائمتها على جميع أسماء النبيلات ونساء الكبراء ولا يقبل فيها غير رسوم رسمتها أناملهن ويتبارين الإشراف مبتهجين أمام ما صنعته أيدي أزواجهن البيضاء.
ولجميع الأعمال الحرة أيضاً مجتمعات فترى المحامين والقضاة والأطباء والممثلين والصحافيين يعرضون فيها ثمرات حبهم للصنائع النفسية من نقش ورسم وحفر ومنها يستدل على مبلغ ولوعهم بالرياضات البدنية ولوعهم بتشغيل عقولهم. لا جرم أن جميع غواة الشعر والموسيقى والفنون ينظرون انصراف أذهانهم إلى هذه الصناعات الجميلة خارجاً عن عملهم يتلهون بها فقط زيادة على ما أخذوا أنفسهم به من الأعمال مما دل على أن القريحة الصغيرة أو النصف القريحة تعد من البركات إذا نميت لذاتها فقط ولما فيها من النفع ولما لها من الوقع. ولكن إذا أضاف أمثال هذه الطبقة إلى عملهم طمعاً وطبعاً جاء منهم أناس يغضبون وييأسون لأنهم لم ينجحوا فيما هم بسبيله نجاح من استعدوا لهذه(71/59)
الصناعات بالفطرة وبرزوا فيها فأقبل الناس عليهم وأعجبوا بما ترسمه يدهم الصناع. القريحة كائن يقوم به من العمل في العادة أحسن من السواد الأعظم الذي يحاول الحصول على ذلك الاستعداد. والمادة الأصلية في القريحة القدوة والتقليد ويتأتي للقريحة أن تعلم إلى حد محدود وفي مكنة كل رجل اعتيادي أن يجعل له قريحة وما القريحة إلا بتعهدها وهي صورة حية من آثار النظر فيها والقريحة تتعهد في عهدنا بحيث يأتي من كل اثنين واحد ذو قريحة ولكن الانتفاع من ثمراتها انتفاعاً مادياً غير مضمون بل يتعلمها كما يتعلم الناس ما يؤهلهم لأخذ الشهادة العالية في مبادئ العلوم فينال الشهادة المتعلمون ولكن لا يضمن لهم رزقهم منا بل هي أداة لتمدينهم.
ويجب أن لا يعتقد من يستطيع نظم بيت أنه شاعر ولا من يمس القلم والريشة أنه مصور أن نقاش فإن هذا الاعتقاد حمل كثيرين على اعتقاد الكفاءات في أنفسهم وعتبوا على الدهر لأنه لم يعطهم حقهم من النجاح ووهموا بأنه يستحيل عليهم أن يرزقوا مما لم يتقنوه إتقان النابغين له ولا يقدر قدر ذلك إلا من يدخل المخازن وقاعات الصناعات فيرى أدعياء هذه الصناعات يعرضون ما خطوا ورسموا وبئس ما يريدون أن يشتروا به ثمناً ولو قليلاً ويحشرون أنفسهم في عداد العالمين والنابغين. وليت أولئك الأدعياء علم ما لا يعلمون التمسوا رزقهم من خدمة محال القهوة أو صنع الأحذية إذاً لرفعوا رؤوسهم في صناعاتهم بدون أن يوهموا أنفسهم بأن لهم قريحة حسنة ويداً صناعاً.
وترى الدعوة أيضاً أكثر شيوعاً في الأدب فإن عشرين ألفاً من الناس يدعون الشعر والكتابة وقليل منهم من لم بكتب وينظم قصة ويؤلف قصة أو قصيدة وهم متوسطون فيما يخطون ويبقى تسعة أعشارهم خاملين لا شهرة لهم إلا في دائرتهم الضيقة وكم يقاسون من الألم يوم يحكم الناس على المجيدين منهم ويشهدون الكتبيين وإعلانات دور التمثيل والجرائد والمجلات لا تذكر إلا غيرهم من النابهين النابغين وهم قلائل يواتيهم الحظ ويخمل جمهوراً كبيراً من الغراب الأعصم والكبريت الأحمر.
وبعد فاطلب لكل من تريد له الخير أن تعرى نفسه كل التعرية من القريحة كلها فذلك خير له من أن تكون له قريحة تافهة يرافقها طمع فيه وهو طمع بالنابغين الآخرين من الحاملين.
الفيل في الكونغو(71/60)
يقدرن عدد الفيلة في إفريقية من ثلثمائة إلى أربعمائة ألف فيل يقتل منها كل سنة نحو خمسين ألفاً لأخذ العاج منها وقد أخذت أساليب كثيرة لوقايتها مخافة أن ينقرض نسلها فحظرت بعض الحكومات إفريقية من الأوروبيين صيدها بالنار أو بشراك وأن يقتل إناثها وصغارها التي يكون نابها أقل في خمسة كيلوغرامات وعلى الفيلة في معظم أصقاع إفريقية يحمل الناس أثقالهم فيحمل الواحد منها ما لا يحمله ثلاثون أو أربعون زنجياً والفيل في إفريقية كما هو في الهند مورد ربح لصاحبه يساوي الواحد 250 ليرة ودخله من 15 إلى 20 ليرة وهو يحرث الأرض ويفتح الطرق وله غير ذلك من الفوائد.
صناعات النساء
تزداد الصناعات التي ينصرف إليها النساء في بلاد الغرب اليوم بعد اليوم ويقبلن خاصة في الصناعات الاجتماعية. ولقد أبرزن في هذا الباب صفات فائقة وكانت جذوة هذا النور منبعثة من ألمانيا والنمسا. فقد عهدت بعض مدن النمسا مثل فينا وغراز وبراغ ولمبرغ وبروم إلى النساء مناظرة العمل في الصناعات التي يشتغل بها العاملات من بنات جنسهن خاصة وأنشأ مجلس ولاية بومرانيا في ألمانيا مهنة جديدة للنساء يعهد إليهن أن ينشرن بين سكان الحقول مبادئ تربية الأولاد والاقتصاد الأهلي وحفظ الصحة والعمل اليدوي وغير ذلك. وعينت مدينة أونابروك في ألمانيا امرأة للعناية بالفقراء والنظر في أحوالهن ورأت بلدية كيال في ألمانيا أن تعتمد على النساء لمقاومة الكحول وإنقاذ من أصيبوا تعاطيها فعينت عشر نساء لمعونة المدمنين والتأثير فيهم فأسفر عملهن عن أحسن النتائج. وعينت حكومة الدانيمرك إحدى الأوانس مفتشة على مطاعم المدارس في القرى.
ويزداد تعيين النساء في الشرطة بضفة مساعدات وقد أشأت فنلاندا - وهي مرتقية جداً من حيث الإصلاحات الاجتماعية وإن كانت مضطهدة من حيث أحكامها - سنة 1907 ثماني وظائف لمعاونة رجال الشرطة تولاها النساء وهن يقبضن رواتب كرواتب الرجال وأهم ما يعهد إليهن إنقاذ النساء والنبات مما يطرأ على أخلاقهن وإرجاعهن إلى حظيرة العمل الشريف ومحاربة الاتجار بالرقيق الأبيض وأن يجعلن العجوزات والأولاد الذين لم يرزقن حظاً من التأديب في أماكن لائقة وقد ظهرت فوائد ذلك كله حتى الزراعية للبنات تتكاثر في معظم بلاد الغرب وبها تهيأت مهن جديدة لهن فإن الجمعية الزراعية في جنوب إقليم(71/61)
سواب من ألمانيا قد أنشأت مزرعة لتربية الطيور على الأصول الحديثة عهدت بإدارتها إلى امرأة وتقام فيها دروس خاصة بالنساء فقط وأحدثت نظارة التجارة في إنكلترا عدة وظائف مديرات لمكاتب وسطى لاستخدام عملة للزراعة. وشعرت بعض البلاد الألمانية بأن النساء يقتضي عليهن العوم والسباحة ولكن قلة الأساتذة من بنات جنسهن منعهن عن هذه الرياضة الجسدية المهمة فأنشأت جمعية هناك تعلم الفتيات اللاتي عقدن العزم في ألمانيا على تعلم السباحة وبعد أن يفحصن شهادات مؤذنة بكفاءتهن. وللنساء في ألمانيا شأن كبير في بيع الكتب فإن عددهن فيها يبلغ 12000 أي أكثر من ربع من يشتغلون بهذه التجارة. وقد أخذ النساء في ألمانيا في العهد الأخير يحترفن بالتجارة وصنع الجعة والنقش والتجليد والحلاقة والخياطة وعلى كثرة من كن منذ زمن يتعاطين الصناعتين الأخيرتين كان من المتعذر عليهن في ألمانيا أن يعملن بحسابهن أما الآن فهن في حل مما يردن.
وفي فينا نساء يصنعن الزجاج وينلن بصناعته شهادات تؤذن بكفاءتهن ومن النساء من يتعلم صناعات الساعات. ومن النساء النبيلات في إنكلترا من اقتحمن أوهام محيطهن وقمن لإدارة المشروعات الاقتصادية وكثيرات منهن الآن مديرات لفنادق كبرى ولبعضهن محال لقض الشعور والغسيل وعمل المربيات. وقد أحدث النساء في أميركا حرفة جديدة وهي تنظيم السهرات فيعهد إلى بعضهن أن يقمن بلوازم ليالي الأنس والفرح. وكثير عدد النساء المستخدمات في السكك الحديدية وإدارات البريد حتى عمدت بروسيا مؤخراً أن تقبل باستخدام النساء في بعض الخطوط على شرط أن تكون ساعات عملهن مساوية لعمل الرجال ولكنهن يقبضن نصف الأجور التي يتقاضونها. وفي هولاندة قامت مؤلفة للأناشيد الوطنية فأصبحت مديرة جوقة مشهورة وبزت الرجال في هذا الشأن. وهكذا يعمل الغربيون رجالهم ونساؤهم كل بحسب قوته وغنائه فمتى يطرس الشرقيون على آثارهم في النافع من هذه المدينة المدهشة.
الحس في النبات
يظن بعضهم أن النبات لا إحساس له للأحياء وذلك لأنهم ينظرون إليه بالعين المجردة فيقع في نفوسهم أنها أحط في الإحساس من نباتات البحر إذا عمدت إلى جذوع ونزعت الإلودة الكاناداي الذي يطلع في المياه العذبة وبتأتي له أن يعيش بدون جذوع ونزعت منه ورقة(71/62)
بمقص وقصصتها بالمجهر ووضعتها في صفحة فيها نقاط ماء لا تلبث أن ترى فيها خلايا مستطيلة قليلاً فيها عدة أجسام مدورة خضرة وحبوب الكلورفيل كل ذلك ساكن لا يتحرك حتى إذا مضت خمس دقائق أو عشر أو خمس عشرة دقيقة هكذا تدور في كل خلية ومنها ما يذهب ذات اليمين وذات الشمال ومنها ما يسري لسرعة ومنها ببطء كل هذا ما يدل على وجود الحس في النباتات وأعظم تلك الجوارح النظر الذي به ترى النور ولا يتميز المرئيات كما هو الحال في ديدان الأرض والمرجان وغيرها التي ليس لها حاسة النظر ولكنها تشعر بالاحتكاك ومن السهل أن نبين تأثير النور في النباتات وذلك بأن نغرس نبتة في مكان ليس له سوى نافذة واحدة من جهة واحدة ويهرب منه شأن من قوت هذه الحاسة فإنهم يستغلون من الشمس عندما تحمى جمراتها وأراق نباتات لتعرض للريح في النهار وهي تنام الليل فتغير حركتها ومن الثبات ما يرى فيها ذلك محسوساً أكثر من زهر العسل وعصفيرة والحت أو نبات لماء يسهل أن يدرس فيه تأثير الماء واللمس هو من الحواس المشهودة في النباتات وترى المستحيل لأن اللمس يترك وريقاتها بعضها فوق بعض ويعلق أوراقها نحو الأسفل وقد عللوا ذلك بأن هذا النبات متى مس يغادر وهناك نبات آخر اسمه طراد الذباب هو من النبات التي تلحق الأجسام المجاورة مثل الكرم والبطيخ فإنه إذ لم يجد في جواره ما يعرش عليه يخرج مستقيما فسبحان من خلق في خلقه إناس يفكرون الليل والنهار في تعليل هذه الكائنات وزهدنا في كل نافع فاحتقرنا كل علم.
الجنس الأبيض
البحث في أجناس البشر من أهم المباحث المحاضرة ويقولون أن الجنس الأبيض يسعى ليكون حاكماً على بقية الأجناس وأن يكونوا تحت سلطته وحكمه الجنس الأبيض من الأبحاث الاستعمارية فكل جنس من الأبيض يطلب هؤلاء وهذا ما حدا بالمسيو جونستون أن يتجشم الصعوبات والأسفار الشاسعة ليوفق إلى حل هذه المشكلة العظيمة. قال بعد تطوأه لهذا البحث هل في وسع الجنس الأبيض أن يسكن البلاد القبطية والأبيض قليل النسل بالسبة إلى هؤلاء وكذلك يستحيل على الأبيض أن يقوم بالأعمال الفادحة في البلاد الحارة.
يفوق الأوروبي أهل هذه الأجناس باعتنائه بصحته والتوقي من الأمراض ولكنه لا يمكن(71/63)
أن يعيش في إقليمهم ونحكم عله بالنقص في جسده وعقلهم إذ ربما فاق الأبيض فهذه الأمة الصينية واليابانية هي اليوم وغيرها بالأمس وكذل الزنوج لا يطول أمرهم وهم على هذه الحال من التأخر.
إن هؤلاء يتأثرون في صدورهم البغضاء عندما يقرؤون في جرائدنا وكتبنا الحملات الفادحة إذ الإنسانية تقضي علينا أن نعامل المخلوقات باحترام ورفق لأجل احترام هذا المبدأ يجب أن نبحث ونتدين بدينٍ يكون عاماً للبشر كما في مراكش والكونغو وغيرهما من البلاد.
الفنادق في سويسرا
كان عدد الفنادق في سويسرا سنة 1889 - 1000 فندق تحتوي على ثمانية وخمسين ألف سرير وتشغل في عرصاتها 34 ألف عامل منهم 4000 يدأبون في العمل طوال السنة رأس مال هذه الفنادق 800 مليون فرنك منها 500 لأجل تشييد البناء فإذا اعتبرنا هذا الرأس المال مأخوذاً بالفائدة تكون الخسارة 5 في المئة بالنسبة للواردات.(71/64)
خاتمة السنة السادسة
يختم المقتبس اليوم عامه السادس لإنشائه في القاهرة والثالث لصدوره في دمشق ويحمد الله على أن يجعل أعوامه الثلاثة في ربوع دمشق التي لا تقل عن أعوامه الثلاثة الأولى في ربوع مصر ونقل أوضاع الغربيين الشرقيين المحدثين منهم التي لا يغيرها تبدل أو نزاعات المذهبية والأهواء الحزبية أو الشعوبية والاستعمارية وهنا نعاهد القراء على بذل الطاقة في هذه الخدمة الشريفة مستعينين بالله وبمؤازرينا الكرام الذين جعلوا في هذه المجلة حديقة يانعة بثمار دروسهم وأبحاثهم وقد زدنا منذ السنة القادمة في صفحات مجلة السنة 160 صفحة فيدخل المجلد في السنة المقبلة في 960 صفحة بدلاً من 800 بحيث يصيب كل جزء 80 صفحة ولله نسأل المعونة والهداية والعفو عما طغى به القلم من الخطيئات والهفوات.(71/65)
العدد 72 - بتاريخ: 1 - 2 - 1912(/)
بسم الله وبه ثقتي
نحمدهُ تعالى عَلَى أن يسر لنا الوفاء بما وعدنا به يوم إنشاء هذه المجلة من إرادة التحسين في موضوعاتها وتكثير موادها وتكبير حجمها وتجميل مظهرها بحسب سنة النمو الطبيعي. وها نحن أولاء نبدأ الآن بنشر السنة السابعة بزيادة عدد صفحات مجلد السنة بحيث يقع المجلد في 960 صفحة وكان كل مجلد في السنين الأربع الأخيرة يصدر في 800 وفي السنتين الأوليين في 672 وتوسيع الحجم يقتضي ولا جرم التوسع في الأبحاث وإشباعها نظراً وتدقيقاً.
لم نتفرغ كل التفرغ في السنين الماضية إلى الانقطاع لما نحب المبالغة في البحث فيه لتجويد تأليف هذه الصحيفة لأن العمل في الصحف السياسية أضاع علينا جانباً من أوقاتنا بحكم الضرورة بيد أننا لم نغفل يوماً ونحن وسط ذاك العراك الشديد عن اقتباس كل ما نعتقد فيه الغناء لفائدة القراء الأعزاء.
أضف إلى هذا أن السنين الثلاث الماضية من سني الدستور العثماني كانت ومازالت أيام اضطراب وفتن وبلاءٍ ومحن وفي مثل هذه الحال يصعب عَلَى من يعمل بعقله أن يصرف قواه كلها إلى تعزيز كلمة العلوم والآداب وهي لا تنمو إلا في ظل الأمن والراحة والقائمون بخدمتها أحوج الناس إلى السكون والانقطاع للتدبر والتفكر ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
فرجاؤنا أن يكون جو الأعوام المقبلة أكثر صفاءً لنحسن الاضطلاع بأعباء هذه الخدمة الشريفة ونبلي البلاء الحسن في نشر النافع في النهضة الفكرية في الديار العربية إذ كل سعي ضائع بدون لأن يسبقه نهوض علمي واقتصادي وأدبي والله ولي التوفيق.(72/1)
ملقى السبيل
سانحة
المعري وشبنهاور
من عهد بعيد بحث كتاب الشرق والغرب عن حياة الشاعر الحكيم أبي العلاء المعري وتآليفه وعرفوه بما يستحقه من الإجلال والتعظيم فلا حاجة لإيراد ترجمته هنا.
إلا أنّا لم نر أحداً أشار إلى المشابهة الغريبة الموجودة بين فلسفة المعري ومذهب شبنهاور الحكيم الجرماني.
ولد أرثور شبنهاور بمدينة دنتسيغ بألمانيا سنة 1788 فاعتنت أمه بتثقيفه وكانت من مشاهير قصصي ذلك القرن فأحسنت تربيته.
وبعد أن تلقى العلوم بجامعة برلين وحصل عَلَى أعلا شهاداتها أخذ يدون آراءه الفلسفية فألف عدة كتب أهمها (الإرادة في الطبيعة) و (أساس الحكمة) وأشهرها (حقائق تتعلق بالحكمة في الحياة) وفيه جمع شبنهاور حكمه في أقوال موجزة وفصول قصار وصف فيها أتعاب الحياة وآلام البشر بكيفية تؤلم القارئ لانطباقها في الغالي عَلَى الواقع. ومذهب شبنهاور مركوز عَلَى قاعدة أن جميع مشاق الإنسان وأتعابه الدنياوية الأصل فيما يسميه إرادة البشر يعني شهوات طبيعتنا وحبنا التمتع والتلذذ بالحياة.
أوليس هذا رأي المعري عندما يقول: إنك إلى الدنيا مصغ. وحبها للبشر مطغ. لو أنك لشأنها ملغ. أبغاك ما تأمله مبغ؟ ولولا خوف الإطالة لأوردنا شيئاً كثيراً من تشابه أقوال الحكيمين.
وتوفي أرثور شبنهاور بفرنكفورت عام 1860.
ومن اطلع عَلَى طريقة هذا الفيلسوف الألماني تيقن أن معتقده ويأسه من الحياة وتشاؤمه المستمر يطابق كثيراً مذهب المعري خصوصاً في فحصه أتعاب البشر وآلامهم وجسه أسقام الإنسان كالباحث الماهر والطبيب العارف من غير حنان ولا شفقة عَلَى هذا النوع الإنساني وبدون أن يبين في وصف الأدوية التي ينبغي اتخاذها واستعمالها للاتقاء وتسلية تلك المواجع.
وهناك علاقة وتشابه آخر بين أبي العلاء وشبنهاور وهو كونهما لم يتزوجا وعاشا في(72/2)
عزوبة مستمرة وعزلة وانقطاع مما أثر في طبيعتهما وجعلهما يتشاءمان وينتقدان الهيئة الاجتماعية ويتناولان أهل الدين وأرباب العشائر والنساء والاعتقاد ويسيئان الظن بالدنيا وساكنيها.
والفرق بين العالمين هو كون شبنهاور استقل في علم الفلسفة ودراستها والتدوين فيها بخلاف المعري الذي لم يشتغل بالفلسفة من حيث هي علم وإنما كان يبحث عن أسباب الأشياء وتعليل وجودها فتخطر له خطرات حكمية تستحوذ عَلَى مخيلته وذهنه الحاد فتسبكها قريحته الشعرية في تلك القوالب لعجيبة التي تظهر من قصائده.
بقي أن نتكلم عن رسالة ملقى السبيل التي نقدمها اليوم إلى محبي الآثار العربية والمولعين بنثر شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ونظمه.
يظهر من هيئة هاته الرسالة وإنشاءها أن المعري ألفها في الدور الأخير من حياته زمن عزلته وانقطاعه (حوالي سنة 430 هـ) وقد زهد في الدنيا لكبره واقتراب أجله. فكأنه أراد الرجوع للمبادئ الدينية وسلك طريقة الوعظ والنسك وتمسك بالاعتقاد. وأين قوله زمن صغره لما كان في غزارة قواه وعنفوان شبابه:
ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةٌ ... وحق لسكانِ البسيطةِ أن يبكوا
تحطمنا الأيامُ حتى كأننا ... زجاجٌ ولكن لا يُعاد لنا سبك
ومن اعترافه بالبعث والمعاد في هاته الرسالة كقوله وفي الآخرة يكون المجمع وقوله وعند الباري تكون الزلف وهلم جرا.
أما أسلوب هذه الرسالة في مجمله فهو يشابه كثيراً لهجة الخطب البليغة ذات الفصول القصار التي كان يلقيها خطباء العرب كسحبان وائل الباهلي وقس بن ساعدة وعامر بن الطفيل وأمثالهم بأسواق الجاهلية. وإليك نموذجاً من كلام قس بن ساعدة خطيب بني إياد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم رأيته بسوق عكاظ عَلَى جمل أحكر يقول: أيها الناس اجتمعوا فاسمعوا وعوا. من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آتٍ آت. في هذه آيات محكمات. مطر ونبات. وآباءٌ وأمهات. وذاهب وآت. ونجوم تمور. وبحور لا تغور. وسقف مرفوع. ومهاد موضوع. وليل داج. وسماء ذات أبراج. مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون. أرضوا فأقاموا. أم حبسوا فناموا. يا معشر إياد. أين ثمود وعاد.(72/3)
وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي يشكر. والظلم الذي لم ينكر:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لامحا ... لة حيث صار القوم صائر
وسوف يرى القارئُ ما بين الكلام المتقدم وحل المعري وعقده في ملقى السبيل من مطابقة المعنى ومشابهة اللهجة.
أما النسخة التي اعتمدنا عليها في النقل فهي محفوظة بمكتبة الأسكوريال من بلاد الأندلس تحت نمرة 467 وهي بخط الراوي لها القاضي الإمام الشريف أبي محمد عبد الله ابن القاضي أبي الفضل عبد الرحمن بن يحيى الديباجي العثماني رسمها بالإسكندرية أوائل القرن السادس وقد اعتنى برسمها وضبط جملها بطريقة ثابتة مدققة وهي فيما اعتقده أقدم نسخة لملقى السبيل ولا يبعد أن تكون هي التي عول عليها أدباء الأندلس في معارضتهم لها فقد جاء في نفح الطيب أن الحافظ أبا الربيع الكلاعي الأندلسي المتوفى بالجهاد سنة 634 هـ. عارض هذه الرسالة بتأليف سماه مفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقى السبيل. كما تحتوي مكتبة الأسكوريال نفسها عَلَى كتب (نمرة 519) من وضع الكاتب الشهير أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وزير يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين عارض به ملقى السبيل أيضاً. ومن جهة أخرى يوجد بمقدمة النسخة التي لدينا وهي كما قدمنا صورة فوتوغرافية من الأصل الأندلسي كثير من الإجازات تنبئ بقراءَة هذه الرسالة عَلَى أساتذة متضلعين تلتحق رواياتهم بالراسم الأول نعني عبد الله الديباجي. وأقد توقيع من هذا النمط مؤرخ سنة 562 وهو مما يستدل به أيضاً عَلَى اهتمام الأندلسيين بتآليف المعري.
وعسى أن ننشر فيما بعد رسائل أخرى من وضع هذا الفيلسوف الشاعر والله ولي التوفيق.
تونس 10 ربيع الأنور 1329
ح. ح. عبد الوهاب(72/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرني بملقى السبيل هذه الشيخ أبو المظفر سعد بن أحمد بن حماد المعري رحمه الله عن أبيه أبي العلاء ناظمها وكتب عبد الله بن عبد الرحمن العثماني.
قال الشيخ الإمام أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري رهين المحبسين
الهمزة
كم يجني الرجل ويخطئ، ويعلم أن حتفه لا يبطئ،
نظمه (مخلع البسيط)
إن الأنام ليخطئوا ... ن ويغفر الله الخطيئة
كم يبطئون عن الجمي ... ل وما مناياهم بطيئة
الألف
ابن آدم في سير وسُرى. يهجر بحصره الكرى. وطال ما كذب وافترى.
ليصل إلى خسيس القرى. وإنما يحصل عَلَى الثرى. كأنه لا يسمع ولا يرى.
نظمه (سريع)
أما يفيق المرء من سكره ... مجتهداً في سيره والسرى
نمت عن الأخرى فلم تنتبه ... وفي سوى الدين هجرت الكرى
كم قائل راح إلى معشر ... أبطل فيما قاله وافترى
عَلَى القرا يحمل أثقاله ... وإنما يأمل نزرِ القرى
يفتقر الحي ويثري وما ... يصير الأُجثوةِ في الثرى
اسمع فهذا قائل صادق ... أراك عقباك فهلا ترى
الباء
يفتقر إلى الله الأرباب. وبالكافر يحل التباب. وتنقطع بالموت الأسباب. وفي الخالق تحار الألباب.
نظمه (رجز)
دانت لرب الفلك الأرباب ... وبالكفور يلحق التباب(72/5)
كم قطعت لميتة أسباب ... واقترفت برغمها الأسباب
التاء
النفس تصرفت وانصرفت. والأمضاء تألفت ثم تلفت. والأقضية بحق هتفت. ما أُعفيت المحلة لكن عفت. كم شفيت المدنفة فما اشتفت.
نظمه (مجزو الرجز)
نفس الفتي في دهره ... تصرفت وانصرفت
تألفت عضاؤه ... وافترقت إذ تلفت
أقضية الله دعت ... فأسمعت إذ هتفت
ما أُعفيت ديارهم ... من الرزايا بل عفت
كم شفيت مريضة ... من مرض فما اشتفت
الثاء
من أعظم الحدث. سكنى الجدث.
نظمه (متقارب)
يدوم القديم إلاه السماء ... ويفنى بأقداره ما حدث
وما أرغب المرء في عيشه ... ولكن قصاراه سكنى الجدث
الجيم
العجب بجاهل مداج. يأسف لبين الأحداج. ويعصي الملك والليل داج. وما هو من الحنف بناج.
نظمه (مخلع البسيط)
يا أيها العاقل المداجي ... ليله بالسفاه داجي
كأنه عينه إذا ما ... تحمل الحي في زجاج
كم أعمل الناجيات حرصاً ... وليس من حتفه بناج
رجا أُموراً فلم تقدر ... وكل من في الحي الحياة راجي
الحاء(72/6)
إن ابن آدم لشحيح. سوف يمرض من القوم صحيح. تعصف بعقله ريح. فإذا هو لقيَ طريح. ثم يحفر له ضريح. أن ذلك هو التبريح.
نظمه (مخلع البسيط)
يا أيها الممسك الشحيح ... سيمرض السالم الصحيح
مالك لم تنتفع بعقل ... هل عصفت بالعقول ريح
إن شيد القصر في سرور ... فبعده يحفر الضريح
يطرح الهم بالمنايا ... من جسمه في الثرى طريح
الخاء
بكى عَلَى الميت مواخ. كان أجاء في تراخ. فلتنه الصارخة عن الصراخ.
نظمه (مخلع البسيط)
في الله آخى فتىً لبيب ... وأسلم الهالك المواخي
بكى عليه فهل تراه ... في أجل دائم التراخي
اعتقد الحق واعتمده ... لا تزرع الحب في السباخ
الدال
أما بصرك فحديد. وأما ثوبك فجديد. وظلك بقضاء الله مديد. وحولك العدد والعديد. ولكنك سواك السديد. طرقك وعد ووعيد. فهل تبديء وهل تعيد. أم غريك هو السعيد.
نظمه (وافر)
أرى ملكاً تحف به موال ... له نظر إلى الدنيا حديد
ضفا برد الشباب عليه حتى ... مضت حقب وملبسه جديد
يزول القيظ في صيف ومشتى ... ويستر شخصه ظل مديد
وفت عُدد لديه فمن دروع ... وأسياف ينوء بها عديد
وكان السعد صاحبه زماناً ... ولكن طال ما شقي السعيد
بدا شخص المنون لناظريه ... وقيل له أتبدي أن تعيد
تصعد في المرتب غير وإن ... وأحرزه عَلَى الرغم الصعيد
تفرقت الجيود فما حمته ... وأبطلت المواعيد والوعيد(72/7)
الذال
أما العيش فيلذ. ولكن سببه يجذ.
نظمه (متقارب)
يلذ الفتى غفلات الحياة ... وليس بمتصل ما يلذ
يمد له الظن آماله ... ولكنها عن قليل تجذ
. . .
العاجلة سبيل منفوذة. وهي عند أهل الرشد منبوذة. والأنفس بحق مأخوذة. لا الدرع تنفع ولا الخوذة.
نظمه (سريع)
أنفذ من الدنيا ولا تلتفت ... فأنها بالعنف منفوذة
حازتك فانبذها إلى أهلها ... فهي لدى ألخيار منبوذة
ولا تمسك بحبال لها ... تصبح من كفيك محذوذة
مأخوذة مانعة في الورى ... نفس بحكم الله مأخوذة
لا سقية أغنت ولا رقية ... ولا تميمات ولا عوذه
الراء
لقد هجرت الخدور. وغدر بها الزمان الغدور. فإذا الخدر عوضه قبر. هل ينفعك جزع أو صبر. من بارئك يجري المقدور. وتفنى الشهب والبدور.
نظمه (مخلع البسيط)
تظهر أسرارها الخدور ... بما قضى الواحد القدير
كم دار في خاطر ضمير ... من فلك دائب يدور
وضاق صدر بمشكلات ... تضيق عن مثلها الصدور
يثبت فرد بلا قرين ... وتهلك الشهب والبدور
الزاي
لا تبرزي يا غانية. فإنها الدنيا فانية. سترك بكلة والداك. فتمسك بالنسك بداك. الورع ذهب إبريز. والجدث حرز حريز. قد تهلك فتاة رود. وتلبث مسنة ترود.(72/8)
نظمه (مخلع البسيط)
يموت قوم وراء قوم ... ويثبت الأول العزيز
كم هلكت غادة كعاب ... وعمرت أمها العجوز
أحرزها الوالدان خوفاً ... والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد في الدهر لا يجوز
السين
يا ابن آدم كم تحرس وتحترس. والموت أسد يفترس. إن كنت بجبل أو واد. فإن الأودية مثل الأطواد. يسمعها من الله داع. جل رب العظمة والابتداع.
نظمه (متقارب)
أيحترس المرء من حتفه ... وما حاد عن يومه المحترس
هل الناس إلا نظير السوا ... م وآجالهم أسد يفترس
يحل الربا ويحل الوهود ... ولا بد للربع أن يندرس
الشين
لا تك ذا يش. وأعجب لما وهب من العيش. ما فعل آدم وبنوه. كم أدرك الثمر مجتنوه. يبدي التوفر أخو المعيشة. والجبل مثل الريشة. المنزل لأمر معروش. وبالقدر تثل العروش.
نظمه (مخلع بسيط)
أين مضى آدم وشيث ... وأين من بعده أنوش
مر أبي تابعاً أباه ... ومد وقت فكم أعيش
لا ملك إلا لرب عرش ... تُثل عن أمره العروش
خف من الخوف كل طود ... حتى كأن الجبال ريش
تطيش نبل الرماة منا ... وأسهم الحتف لا تطيش
ولم يزل للمنون جيش ... تفل من ذكره الجيوش
يحث بالنعش حاملوه ... وشد ما سارت النعوش
لا حبذا الأنس والخطايا ... وحبذا النسك والوحوش(72/9)
الصاد
المرء عما وجب ناكص. والشخص للحدث شاخص. إن ظل الفانية لقالص. فهل خلص إلى الله خالص. إن دينك لرديعة في المحار. إنما يدرك بغوص البحار. وعُدِمَ دين في الأنام. وكان كالحلم في المنام.
نظمه (سريع)
من ادعى النسك عَلَى غرة ... فقل له ما صدق الخارص
والنسك مثل النجم في بعده ... والخلق إن يبلغه ناكص
كالدرة العذراء ما نالها ... إلا امروءٌ في بحرها غائص
في لجة قامصة سفنها ... ويصرع المستمسك القامص
تلعب بالألواح أمواجها ... كأَنما مركبها راقص
نحن كنبت عامه مجدب ... وماؤُه مستنكر ناقص
الضاد
دينك عناه المرض. ضاعت النافلة والمفترض. وخدعك هذا العرض. وجسمك ضعيف حرض. لقد بعد منك الغرض. وسوف يطلب المقترض.
نظمه (منسرح)
دينك مضنىً أصابه سقم ... والخسر في أن يميته المرض
وهل ترجى لديك نافلة ... من بعدها ضاع منك مفترض
غرضت من هذه الحياة فهل ... غرك فيما ترومه غرض
تميل من جوهر إلى عرض ... والروح في جوهرها عارض
حرضك الشيب أن تنوب فما ... تبت فهلا تذكر الحرض
أقرضت عمراً فما صنعت به ... سوف يرد الأنام ما اقترضوا
الطاء
فودك علاه الشمط. والمرء ينقص ويغمط. كالطفل كهلك فهلا يقمط. لقد عرف هذا النمط. والنفس تطعن ولا تضبط. وأَجر من كفر يحبط. أيبن موقف لا يغلط. والموت في العالم مسلط. وعائد الملك لا يقنط.(72/10)
نظمه (هزج)
إلا أحرص والرغبة في أشيب كالأشمط
وكالطفل إذا الكهل ... فما للكهل يقمط
ولا يغضب أخو الريبة ... أن ينقص أو يغمط
فما الخاسر إلا كا ... فر أعماله تحبطك
بني آدم إن تعصوا ... فما اخسر من يقنط
غبطتم صاحب الثرو ... ة والزاهد لا يغبط
أما تعنط في الدهر ... بأن توجد لا تغلط
الظاء
أنا دينك فمتشظ. وأنت عَلَى الفانية مقلظ. متقرب بالمين متحظ
نظمه (مخلع البسيط)
أصبحت في غمرة ولهو ... تجئُ بالمين كي تحظى
احذر عَلَى الدين من تشظ ... فالدر ملقى إذ تشظى
لو هاب حر اللظى مسبيء ... ما اهتاج حرصاً ولا تلظى
فأبد للسائلين ليناً ... ولا تكن في الجواب فظاً
العين
المرء خدعه الطمع. مرأى في الزمن أو مسمع. يدأب الرجل ويجمع. خلب وميض يلمع. والعين للحذر تدمع. والسحب بالأقضية همع. وفي الآخرة يكون المجمع.
نظمه (السريع)
غرك ما يخدع من زخرف الدنيا فزاد الحرص والطمع
علمت أن الدهر في صرفه ... مفرق عنك الذي تجمع
سمعت بالخطب وعاينت هل ... كفك ما تبصر أو تسمع
تدمع جفناك عَلَى زائل ... والعين للرهبة لا تدمع
كم أومض البارق في عارض ... فألفي الكاذب إذ يلمع
سحب تجلى خالياً دجنها ... عنكم وسحب بعدها همع(72/11)
الغين
إنك إلى الدنيا مصغ. وحبها للبشر مطغ. لو أنك لشأنها ملغ. أبغاك ما تأمله مبغ.
نظمه (خفيف)
صاغك الله للجمال بقلب ... معرض عن نصيحة ليس يصغي
تكثر اللغو في المقال ولو وفقت ما كنت للديانة ملغي
لم تزل تزجر الطغاة فلا تطغ فحب الدنيا لمثلك مطغي
لو بغيت الذي أراد بك الله لأعطاك فوق ما أنت تبغي
الفاء
طال والكلف فأين الخلف والسلف. إن العافية هي التلف. وعند البارئ تكون الزلف. إلا تكذب وتحلف. وللإثم لو ظهر أَكلف.
نظمه (متقارب)
كلفت بدنياك شر الكلف ... فجاَءتك مما صنعت الكلف
تبعت الغواة وما أسلفوا ... فهلا أخذت بقول السلف
وصدقت نفسك في ظنها ... وكم قال مان لما حلف
تخلف مالك للوارثين ... وكانوا بعلمك بئس الخلف
ترجي الحياة وأسبابها ... وتطلب عند المليك الزلف
ولو ظهر الأثم للناظرين ... لراعك في الوجه منه كلف
نصحتك فأذن إلى من يقول ... تلاف أمورك قبل التلف
القاف
قلبك معنى يخفق. يخاف من عاجلتك ويشفق. وبارئك هو المرفق. أصبحت من عمرك تنفق. ترفع العذر وتلفق. وأنت في مطلبك مخفق. يطول تعبك فلا ترفق.
نظمه (سريع)
إن خفق البارق في عارض ... فالقلب من روعته يخفق
تأسف إن أنفقت مالاً ولا ... تأسف من عمرك إذ تنفق
تظل من فقد الغنا مشفقاً ... ومن قبيح الإثم لا تشفق(72/12)
مرتفقاً في وطن حافظاً ... تسأل ما هان فلا ترفق
يعود عن غيمك من شامه ... وهو شديد ظمؤُه مخفق
الكاف
سبح إِلهنا الفلك. وقدس البشر والملك. والجسم في العفر يستهلك. والمرءُ بالعارفة يملك. والنهج للآخرة يسلك.
نظمه (مجزو الرجز)
سبح مع الشهب كما ... سبح من قبل الفلك
قدس إنسان عَلَى ال ... أرض وفي الجو ملك
لا تبك للميت فكم ... مات كريم وهلك
ما خبر الغابر عن ... دفينه أين سلك
مالك شيءٌ وإذا أطعت فالرحمة لك
اللام
غرك تفصيل وجمل. والحي خدعه الأمل. سعيك فسد والعمل. ما نفعك هج ولا رمل. كأَنك بين الجهل همل.
نظمه (سريع)
مازلت مشغولاً بلا خشية ... يغرك التفصيل بعد الجمل
تحملك الأرض عَلَى ظهرها ... وأنت سار فوق ظهر الأمل
مالي أرى عينيك لم تهملا ... كأَنما أنت مخلى همل
ما يشفع لحسن لأصحابه ... إن حسن الوجه وساء العمل
رملت في مكة تبغي الهدى ... فهل نهاك السعي بعد الرمل
الميم
أفي مسمعك حل الصمم. أم لبك أصاب اللمم. وتحسن للأنيس الهمم. وفي التراب تطوى الرمم. وفي الباطن تخاف الذمم. عَلَى ذلك تمر الأمم.
نظمه (سريع)
مالك لم تصغ إلى عاذل ... أحل في المسمع منك الصمم(72/13)
أجاهل أنت فتلحى عَلَى العصيان أم مس حجاك اللمم
همتك العليا هوت في الثرى ... وشيمة الزاكي علو الهمم
لم تف بالذمة للحر والحر مراع وافيات الذمم
والذكر يبقى للفتى برهة ... وإن توارت في التراب الرمم
تيمم الخير ولا ترهب الموت فللموت تصير الأمم
النون
لله الكرم والمنن. وعن بارئك تزول الظنن. ولا يسترك من الموت الجنن. وبالعاصف يراع الفنن. ولا تعصمك تلك القنن.
نظمه (سريع)
ويحك لا تمنن عَلَى منعم ... عليه فالخالق رب المنن
فظن خيراً بالإخلاء وإلا فالخير يخفو الظنن
يجنك القبر فلا تلف كالمجنون يبغي واقيات الجنن
وافتن في خوفك رب العلا ... وأنت في سرحك مثل الفنن
إنك قن لمليك حوى الملك فلا تعصم منه القنن
لتفرغ السن غداً نادماً ... إن كنت ضيعت جميل السنن
الهاء
المرءُ نهي فما انتهى. مازال في العاجلة يزدهى. إن قبل ما أحسن وما أبهى. فأَيتن صاحبك لما وهى. وطال ما نعم ولها. ونال في العمر ما اشتهى. ما بين غزلان ومهى. دهاه الزمن فيمن دها. والله عمر باللهى. مصور القمر والسها.
نظمه (السريع)
المرء معتوب عَلَى فعله ... كم سمع النهي فألا انتهى
زايله اللهو وزار البلا ... وطال ما عاينته مزدهى
باهى زماناً بالذي ناله ... ثم أتى الموت فأين البهى
وهت عقود كانفي عصره ... أحكمها لا عاقد ما وهى
ما شهوات الحي إلا أذى ... إن نال من مدته ما اشتهى(72/14)
كأن يرى في غزل دائماً ... ما بين غزلان له أو مهى
دهاه بالمقدور لم يدفع الخطب عن مهجته إذ دهى
سها عن الواجب فاغتاله ... مصور البدر ورب السها
الواو
أما صحبك فقد غووا. عبوا في المورد فما ارتووا. أبادتهم الأقضية حتى تووا. خلوا للوارث ما احتووا. طواهم القدر فانطووا. ولاقتهم الآخرة بما نووا.
نظمه (سريع)
لا تغو في دنياك مستهتراً ... فإن أصحابك فيها غووا
عزلهم في سربهم مورد ... لو كان يروي مثله لارتووا
نادتهم الأقدار يا ساكني الأرض ألا تنوون حتى تووا
خلو أحاديثهم واحتوى ... آخذ ميراث عَلَى ما حووا
انتشروا في عيشهم أعصراً ... ثم طواهم قدر فانطووا
فلتحسن النية من بعدهم ... فالناس يجزون عَلَى ما نووا
اللام والألف
كل غدا يخدم أملاً. يسيءُ في ما بطن عملاً. يصبح بسيفه مشتملاً. لا يطلب رزقه محتفلاً. والرزق ولا يترك متوكلاً. لم يرد في العالم حيلاً.
نظمه (بسيط)
ما في البسيطة من عبد ولا ملك ... إلا حليف عناءٍ يخدم الأملا
يحث نفساً عن الإحسان عاجزة ... وقد أساء بعلم الواحد عملاً
فهل ترى الدهر أنثى أو ترى ذكراً ... يشابه امرأَة في الخلق أو رجلاً
يروم بالسيف رزقاً جاء في عنف ... ما كان يخطوه في خفض لو اتكلا
يبغي المعالي في أوفى مجاهدة ... فإن تخلف عنها لطف الحيلا
يا ساكني التراب ما عندي لكم خبر ... فليت شعري عن المقبور ما فعلا
لم تأتنا منكم رسل مخبرة ... ولا كتاب إلينا منكم وصلا
الياء(72/15)
الحي بعد العيشة رديء. وجاءه القدر فيما فدي. وشخصه بالقاضية ردي. لم يرزق النهل إن صدي. لكنه عن ذلك عدي. أظلته العاجلة فما هدي. وجادته الاسمية فما ندي. وقتلته الحادثات فما ودي.
نظمه (سريع)
المرء في أردية لونت ... ماش ولكن بعد هذا ردي
فدى الأسارى زمناً ذاهباً ... وجاءه الموت فألا فدي
فيا ردي العقل إن الفتى ... لم يدفع المقدور حتى ردي
ظل صداه في الثرى ساكناً ... ولم يصادف منهلاً إذ صدي
رنت له الأعداء إن عاينت ... صاحبها عن كل خير عدي
كان الهدى يهدى إلى قلبه ... من سمعه لو أنه يهتدي
جادت له اسمية برهة ... وعاد يبساً غصنه ما ندي
لا يطلب الثأر لميت ولا ... بودي لعمر الله فيمن ودى
نجزت والحمد لله وحده.(72/16)
هل تسترد اللغة مجدها القديم
يستطيع التاريخ الأدبي أن يبين حدود النشأة الحقيقية لكثير من اللغات الميتة والحية ولكنه لا يستطيع أو عَلَى الأقل لم يستطع إلى الآن أن يبين شيئاً من ذلك بالقياس إلى اللغة العربية التي ينطق بها من أهل الشرق الخلق الكثير.
ولا شك في أني قد خصصت جزءاً من هذه المحاضرة للإشارة الموجزة إلى تكلم الظلمات الكثيفة التي حجبت لغتنا الشريفة عما يشرف به التاريخ عَلَى الأشياء من بصيرة ثاقبة ونظر بعيد ولكنني لم أستطع أن أخصص جزءاً منها لإيراد الأعاجيب والمضحكات التي يوردها أكثر الخطباء في خطبهم لأني لا أطمع فيما يطمعون فيه من التصفيق الحاد والإعجاب الشديد فإليكم أتقدم بالمعذرة ومنكم ألتمس المغفرة وأظنكم لم تجتمعوا في هذا النادي لتضحكوا أو تصفقوا فإني لم أر بلداً أهله أحوج إلى قلة الضحك وكثرة البكاء من هذا البلد. . . ولولا ثقتي بأنكم تعلمون من الأمر ما أعلم وتشعرون بالواجب كما أشعر لقلت لكم مقالة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض خطبه لو تعلموا ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
أجل إنا قد أسرفنا في الهزل والمجون وقصرنا في الجد والعمل وكان حقاً علينا لو أنصفنا أنفسنا أن نقتصد من الهزل ما ننفقه في الجد ومن الفراغ ما نستعين به عَلَى العمل قبل أن يعضل الداء ويمتنع الدواء ونقضي ضحايا التقصير واللهو الكثير وهنالك لا ينفعنا الندم ولا يعذرنا التاريخ.
قدم عهد اللغة العربية
نشأت لغتكم أيها السادة والإنسان طريف عهد بالوجود لم يبلغ أشده ولم يستكمل قوته بل كان طفلاً ناشئاً حديث السن ضيق الفكر صغير العقل ولست أقول هذا القول يدبيجاً للفظ أو مبالغة فيه وإنما هي الحقيقة الثابتة التي ليس فيها مجال لشك ولا جدال فإن هذه اللغة هي أول غصن نبت من لغة سام بن نوح عليهما السلام وقد قطعت مع الإنسان هذا القدر من الزمان وعمرت معه منذ كان طفلاً إلى أن صار كهلاً وها أنتم أولاء تسمعونها مني فتشعرون بأنها لا تزال حية قوية تثبت بأجلى بيان أنها أطول اللغات عمراً وأشدها أسراً وأعظماه قوة عَلَى الخطوب وصبراً عَلَى الأحداث.(72/17)
فكم ماتت اللغات وهي حية وفنيت اللهجات وهي باقية وكم حاربها الدهر فحربته وغالبها فغلبته ورامها بالسوء فامتنعت عليه.
وقد أدركت هذه اللغة نضرة اللغات وذبولها وإشراقها وأفولها وشهدت مصارع أخوتها الساميات وهن يتفانين سراعاً ويتهاوين تباعاً حتى عمهن الموت وشملهن الفناء هنالك عاشت فذة فريدة تتمثل قول شاعر أبناءها المجيدين
ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيوف فردا
أجل وقد أدركت هذه اللغة هوي الأمم الهاوية ورقي الشعوب الراقية فشهدت عظمة بابل وآشور ومصر وأشرفت عَلَى نهضة إسرائيل ورأت مجد اليونان والرومان والفرس والهند وكانت خليقة بعد هذا كله أن تروي لنا التاريخ العام لمثل رواية وتحدثنا عنه اصدق حديث لولا جهل السالفين وضعف الخالفين من أبنائها فما أقدر هذه اللغة عَلَى الحياة وما أصبرها عَلَى الخطوب.
صعوبة البحث التاريخي عن نشأة اللغة العربية
ذلكم أيها السادة أول عهد اللغة بالحياة ولكن في أي قرن ابتدأ هذا العهد. .؟ وكيف كان ابتداؤه. .؟ وما هي الأصول الحقيقية للغة السامية التي اقتطعت منها هذه اللغة وكيف كان اقتطاعها.؟ هذا ما لم يعرفه التاريخ إلى الآن وقبل أن أُشير كما وعدت عَلَى أسباب ذلك يجب عَليَ أن أبطل مذهباً يلهج به بعض الكتاب الذين كثير عليهم العلم حتى ضاقت به صدورهم فأخذوا يقذفونه في الصحف من غير حساب ويبيعونه عَلَى الناس من غير ثمن وينتحلون به لأنفسم ألقاب العلماء والمؤلفين. .؟!
زعموا أن اللغة العربية نشأت كما تنشأ لغة الطفل فكانت في أول أمرها أصواتاً أحادية المقطع لا يزيد اللفظ منها عَلَى حرف متحرك كباء الجر ولامه وكاف التشبيه وأحرف القسم وهمزة الاستفهام.
ثم تركت هذه الألفاظ بتركب معانيها ومرونة الألسنة عَلَى النطق والحركة فبلغت مقطعين وثلاثة إلى أن استقرت في نصابها المعروف فلم تنقص في الاسم والفعل عن ثلاثة أحرف أصول لم تزد في الأول عن خمسة وفي الثاني عن أربعة إلا بحروف غير لازمة وهي الزوائد عَلَى أن هذه الحروف لم تستطع أن تبلغ بالفعل أكثر من ستة وبالاسم أكثر من(72/18)
سبعة غير الحركات التي لا تحسب عند العرب حروفاً كما تحسب عند غيرهم من الفرنج. .
والحقيقة أن هذا المذهب لا يصح إلا إذا قلنا أن العرب ليسوا من بني آدم أبي البشر وإنما هم أبناء رجل آخر نشأ في جزيرة العرب من غير أم ولا أب ونشأت منه زوجة واستقر نسلهما في الجزيرة لا يخالط الناس حتى تكونت لغته وضمنت لنفسها عدم التأثر بالأجنبي والدخيل.
أما والعرب من أبناء سام بن نوح وبعبارة أوضح من أبناء آدم فليس لهذا المذهب من الصحة نصيب قليل ولا كثير.
إنما تنشأُ اللغة هذه النشأة إذا اقتطعت من الطبيعة مباشرة من غير أن يكون لها مثال تحتذيه أو منوال تنسج عليه فأما اللغة التي لها أصل ثابت معروف كاللغة العربية فليس من المعقول أن يطرد فيها هذا المذهب وعَلَى هذا نستطيع أن نقول أن هذا المذهب يصح بالقياس إلى لغة واحدة وهي لغة الإنسان الأول التي اقتطعها من أصوات طبيعية وكما أن أُسرة الإنسان الأول قد تفرعت إلى أسر مختلفة ثم كانت منها أُمم وشعوب فإن لغتها الأولى قد تفرعت إلى لهجات متباعدة ثم كانت لغات متباينة وعَلَى هذه القاعدة استطاع الفرنج أن يترجموا كثيراً من اللغات الدارسة.
أما الأسباب الحقيقية التي نشأت عنها صعوبة البحث التاريخي عن اللغة العربية حتى عميت علينا أسرارها وأسدلت دوننا أسرارها فوقفنا موقف الحائرين الذاهلين بغزاء كثير من ألفاظها لا نعرف لها أصلاً ولا نتميز لها اشتقاقاً فهي كثيرة أكتفي بالإشارة إلى ثلاثة منها الآن.
الأول أن معرفة النشأة الحقيقية للغة رهينة بمعرفة أصلها الذي اقتطعت منه فما كنا لنعرف نشأَة اللغة الفرنسية لو لم نعرف اللغة اللاتينية.
كذلك لا نستطيع معرفة نشأة اللغة العربية حتى نعرف اللغة السامية الأولى التي هي أصلها ولكنها مع الأسف قد بادت واندمجت في بناتها قبل التاريخ فلم يبق لنا إليها من سبيل.
الثاني أن ضياع الأصل لا يقطع الرجاء في الوصول إلى بعض حقائق اللغة في نشأتها إذ استطعنا أن نستعين عَلَى البحث بالمقابلة بينها وبين أخواتها من اللغات الأخرى ولكنا مع(72/19)
الأسف لم نفعل شيئاً من ذلك ولم نفكر فيه فقد كان أئمة اللغة رحمهم الله في عصر يمكنهم من ذلك لأن كثيراً من اللغات السامية كانت لا تزال حية عَلَى عهدهم ولكنهم قد عكفوا عَلَى جمع اللغة وتدوينها من غير أن يفكروا في البحث عن أصلها وقد أخذت تلك البقية الباقية تندمج في اللغة العربية بحكم القهر والتغلب الفطري حتى لم يبق لها من الأثر إلا قليل.
ومن الغريب أيها السادة أن علماءنا رحمهم الله بدل أن يبحثوا عن اللغة السريانية من حيث علاقتها باللغة العربية بحثوا عنها من حيث أنها ستكون لغة الأروام وسيكون وأظنكم تضحكون إذا سمعتم قول بعض العلماء
(ومن غريب ما تري العينان ... أن سؤال القبر بالسريان)
(أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... ولم أره لغيره بعيني)
هذان بيتان يمثلان ضعف السليقة العربية وفسادها قبل كل شيء أقبح تمثيل ويمثلان سقوط الهمة وانحطاط النفس لأنها قد تركت النافع وبحثت عد ما لا خير فيه.
وأي ضعف للسليقة العربية أكثر من جعل الأقوال التي تسمع بالآذن مرئية للعيون وأي انحطاط للنفس أكثر من أن تترك الحياة وتبحث عن الموت.
ولو أني وكلت بإصلاح هذين البيتين لقلت
(ومن سخيف ما تعي الأذنان ... إن سوءال القبر بالسرياني)
(أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... وهو حديث كذب ومين)
عَلَى أن المستشرقين من علماء الفرنج قد بحثوا هذا البحث الذي تركناه وسلكوا تلكم الطريقة التي أغفلناها فاهتدوا إلى حقائق في تاريخ اللغة العربية لا بأس بها وليس هذا موضع تفصيلها الآن فليس علينا إلا أن نتأثرهم في هذه الطريق فإنهم ليسوا أحق منا بالبحث عن لغتنا والتنقيب عليها.
السبب الثالث أن العرب ولاسيما أهل الحجاز الذين نبحث عن لغتهم الآن قد كانوا أمة بادية لم تشترك مع غيرها من الأمم في تكوين الحضارة الإنسانية اشتركاً حقيقياً إلا بعد ظهور الإسلام فكانت في جاهليتها محتجبة عن التاريخ ولذلك لم يحفظ عنها إلا أساطير حظ الظن منها أكبر من حظ اليقين.
اللغة العربية في الجاهلية(72/20)
نشأت هذه اللغة وتكونت ألفاظها وأساليبها وهي بمعزل عن الناس قد جعلت البداوة بينها وبين التاريخ حجاباً مستوراً وكأنها قد سئمت الخفاء والاحتجاب ورغبت في الظهور ومجاراة اللغات الحية وظهرت للتاريخ في القرن الخامس لميلاد المسيح ومنتصف القرن الثاني قبل الهجرة فإذا لغة ضخمة الألفاظ فخمة المعاني متينة الأساليب رصينة التراكيب قد تم خلقها وكملت قواها فأصبحت قادرة عَلَى البقاء مستعدة للنماء وقد سلكت في الآداب الوجدانية كل مسلك فمدحت الخير والفضيلة وذمت الشر والرذيلة وأخذت بنصيب موفور من المدح والهجاء والوصف والرثاء والتشبيب بالنساءِ والفخر بشرف المناسب وكرم المناقب واشتملت عَلَى الجم الكثير من الحكم البالغة والأمثال السائرة ومن الخطب الرائعة والأسجاع البارعة ولم تدع فناً من فنون الأدب الوجداني إلا ضربت فيه بسهم وفازت منه بنصيب.
إذ صح ما يقولون من أن مقاييس الرقي الأدبي لكل أمة من الأمم هي أشعارها وأمثالها وأغانيها لأن الأشعار مرآة النفس والأمثال صور الفكر والأغاني لغة القلوب.
أقول إذا صحت هذه القاعدة وقسنا رقي العرب في جاهليتهم بهذه المقاييس الثلاثة كانت النتيجة مؤلمة جداً لأننا لا نستطيع أن نتردد لحظة واحدة في الحكم بأن العرب الجاهليين الذين لم يؤدبهم أستاذ ولم يثقفهم كتاب ولم يصلح أخلاقهم دين أرقى منا أنفساً وأذكى قلوباً وأبعد منا هماً وأصدق عزماً والدليل عَلَى ذلك سهل ميسور تعالوا نقارن بين أشعارنا وأشعارهم وأمثالنا وأمثالهم وغنائنا وغنائهم ثم نستخلص من هذه المقارنة نتيجة الحكم فأي الفريقين كانت له النتيجة فهو صاحب الغلب والفوز.
غير أني أيها السادة أستحي أن أقارن بين قول امرئ القيس في التوصل عَلَى حبيبته
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً عَلَى حال
فقالت حبالك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها ... عليه القثام سيء الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرءُ ليس بقتال
أيقتلني والمشر في مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال(72/21)
أستحي أن أقارن هذا الشعر الفخم الذي يمثل القوة والعزم ويظهر قائله مظهر المتسلط القاهر وبين ذلكم الغناء المصري القائل - يالموني يالموني ياللي في حبك ظلموني - يالموني وأنا أحب الخص يالموني ولا آكل الخص يالموني وحبيبي في مصر يالموني عَلَى مين يجيبولي. . .
قفوا أنفسكم أيها السادة موقف الحاكم الفاصل بين الحق والباطل وحدثوني أي معنى لنداء الليمون في هذا الغناء وهو الذي ظلم هذا العاشق في حبه وما هي العلاقة بين أكل الخص وبين الحب ومن ذا الذي يستطيع أن يكون قواداً لهذا العاشق بعد أن قعد به العجز وضعف الهمة عن أن يصل إلى حب حبيبه إليه وأكرم كريم عليه.
لندع ذلكم الشعر والغناء ولننتقل إلى شعر وغناء آخرين.
هل تستطيعون أن تقارنوا بين قولكم ذلكم الشعر الجاهلي في عتاب حبيبته
فإني لو تختلفني شمالي ... خلافت ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني
وبين هذا الغناء المصري القائل
ارحم متيم له أحوال لما رآك تهدى خلافه صعبان عليه. . .
حدثوني أيها السادة عن مقدار الفرق الكبير بين ذلكم الشاعر الجاهلي الذي يخاطب حبيبته بهذه اللهجة القاسية وهذا الشاعر المصري الذي عرف أن حبيبه قد هجره واستبدل به غيره فلم يستطع أن يعانيه بأكثر من قوله أن هذا صعب عليه بل إنه لم يستطع أن يقول هذه الكلمة إلا بعد أن قدم بين يديها مقدمة طويلة في الشكوى والاستعطاف.
ستقولون أن هذا الفرق بين الشاعرين أثر من آثار الفرق بين البداوة والحضارة فذلك شاعر هيأت له بداوته أن يخاطب حبيبته بذلك الجفاء وتلك الغلظة وهذا شاعر هيأت له الحضارة أن يعاتب حبيبته بهذا الرفق واللين.
كلا أيها السادة ليس تأثير الحضارة والبداوة في هذا الأمر كبيراً فإن الحضارة الصالحة لا تقتل عاطفة الغيرة من قلب الإنسان ولعلكم سمعتم خبر ذلكم الشاعر العباسي الناشئ في الحضارة إذا اشتدت به الغيرة عَلَى حبيبته حتى أشفق عليها من الهواء فقتلها وقال يرثيها
يا طلعة الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الردى بيديها(72/22)
حكمت سيفي في مجال وشاحها ... ومدامعي تجري عَلَى خديها
رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
فوحق نعليها ما وطئ الثرى ... شيءٌ أعز علي من نعليها
كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن ضنت عَلَى العيون بحسنها ... وأنفت من نظر الحسود إليها
نعم إني لا أريد أن يكون الناس غلاة في الغيرة كهذا الشاعر ولكني أُريد أن أبين لكم أن هذا الفرق بين الشاعرين ليس من آثار البداوة والحضارة وإنما هو من آثار الفرق بين العزة والذلة فلكم شاعر أبي النفس حمي الأنف لا يقبل الضيم ولا يرضى العار وهذا عاشق ضعيف مستكين قد رضي بالدون وقنع بالقليل واطمأن إلى الهوان.
ستقولون مالك تقارن بين الجيد من الشعر العربي والرديء من الكلام البلدي وتترك الشعر والنوابغ الأفذاذ والشعراء المفلقين أمثال شوقي وحافظ صبري.
والحقيقة أيها السادة أن هذا الاعتراض محرج جداً لأنه يتعجلني في الحكم عَلَى هؤلاء الشعراء وقد لا أستطيع أن أرضيكم بهذا الحكم ولكني أقول أن هؤلاء الشعراء ليسوا في الحقيقة شعراء مصر وإنما هم بين رجلين رجل نهج منهج الفرنج فهو يعبر عن أذواقهم وأخلاقهم وعَلَى مناهجهم وأساليبهم وهذا لا ينبغي أن يحب عَلَى مصر وإنما يجب أن يلحق بأوربا ورجل نهج مناهج العرب القدماء فهو يكرر ما قالوه ويردد ما نطقوا به مع قليل من التغيير في اللفظ فهو يشبه القطا والظليم وهذا لا ينبغي أن يكون من شعراء مصر وإنما ينبغي أن يكون من شعراء القبور.
لندع الشعر والغناء الآن فهذا مقدار يكفي للمقارنة بينهما ولنتقل إلى الأمثال فهل تستطيعون أن تقاربوا بين ذلكم المثل العربي القائل كل فتاة بأبيها معجبة.
وهذا المثل المصري القائل الخنفسة عند أمها عطارة والقرد عند أمه غزال.
كفى كفى أيها السادة فقد أثبتت المقارنة بالدليل والبرهان إنا لم نصل من الرقي الأدبي إلى ما وصل إليه أولئكم الأعراب وإن كنا أولي حضارة ومدنية وأصحاب علوم وآداب وذوي شريعة ودين.
آداب اللغة العربية ومادتها في الجاهلية(72/23)
ارتقت آداب اللغة العربية في السادس لميلاد المسيح بمخالطة العرب لأهل العراق والشام فقد أخذوا عنهم يهودية موسى ونصرانية المسيح وربما انتقلت إليهم بعض الآراء الفلسفية التي أدخلها القسيسون في الديانة المسيحية كما في قول الأعشى
استأثر الله بالبقاء والعد ... ل وولى الملامة الرجل
وكذلك أخذوا عنهم عقائد الصابئة وشيئاً من مذاهب المجوس ونقلوا عن حضارة الروم والفرس كثيراً من الأدوات التي لم يكن لهم بها عهد من قبل وتبع ذلك نقل كثير من الألفاظ الفارسية والروسية ولاسيما فيما يتعلق بالنبات والسلاح وأدوات اللهو والطرب وأنواع الدواء والعقاقير وفي أثناء ذلك كان الجيش قد احتلوا بلاد اليمن فأدخلوا فيها كثيراً من لغتهم وكانت التجارة بين الهند واليمن فاستتبع ذلك انتقال كثير من الألفاظ السنسكريتية إلى لغتها ولاسيما فيما يتعلق بأنواع التجارة وأظن هذا المقدار من الوصف قد مثل لكم اللغة العربية تمثيلاً حسناً فأنتم ترونها الآن جميلة رشيقة ولكن صدق المثل العربي القائل لا تعدم الحسناءُ ذماً.
فإن تلك الجميلة الحسناء لم تخلُ من عيوبٍ فقد كانت لغة قوم متوحشين يزعقون الأنفس ويهدرون الدماء ويعيشون من النهب والسلب ويستبيحون لأنفسهم بيع السير والعبث بأعراض العدو والتمثيل بالمغلوب حتى أن أحدهم لينحصف نعله بإذن عدوه إن ظفر به أو قدر عليه.
وهم عَلَى ذلك أولو شظف بالعيش وخشونة في الحال يسكنون الجبال والرمال وربما أكلوا الخنافس والضباب وغذوا أنفسهم بدماء الإبل وأوبارها فنشأ من ذلك في لغتهم حوشية الألفاظ وتنافرها وجفوة المعاني وتعقيدها وقد كانوا فوق ذلك متنافرين متدابرين قلما تطمئن قبيلة منهم إلى الأخرى فلم يكن من سبيل بينهم إلى التعارف وبعبارة واضحة لم يكن من سبيل إلى اتفاقهم في المنطق فقد تباعدت اللغات واختلفت اللهجات لتعدد الأوضاع وتباعدت الأصقاع حتى أنهم كانوا لا يفهم بعضهم بعضاً.
وقد وفد أعرابي عَلَى ملك من ملوك حمير فقال له الملك ثب يريد الجلوس فظن الأعرابي أنه يأمره بالقفز كما هي لغة الحجاز فوثب من أعَلَى الجبل حتى تردى في أسفله فلما سأل الملك عن ذلك واطلع طلع الرجل قال من دخل ظفار حمر. . .(72/24)
وقد أحس العرب من أنفسهم هذا الداء في أواخر القرن السادس لميلاد المسيح فأخذوا يطبون له وبعبارة جلية أخذوا يتهيئون لنهضتهم الجديدة في اللغة والدين والاجتماع فماذا صنعوا. .؟
مقدمات النهضة العربية
أقاموا بالقرب من مكة أسواق ثلاثاً كانوا يقضون فيها كل عام شهراً كاملاً من الأشهر الحرم وهو ذو القعدة ولم يكن لقبيلة أن تتخلف عن هذا الاجتماع فكانوا يبيعون ويشترون ويتقاضون ويتخاصمون ويتنافرون ويتناشدون حسان القصائد ويتبادلون متان الخطب وكان يجلس لهم قضاة يفصلون الخصومة فربما أعلن قوم الحرب عَلَى آخرين فردهم القضاة إلى السلم وربما ظفر الرجل بقاتل أخيه أو أبيه فألزمه القاضي أن يطلقه ويقبل منه الفداءَ وكان يجلس للشعراءِ خاصة قضاة ناقدون يفضلون بعضاً عَلَى بعض ورئيس هذه الطائفة من القضاة هو نابغة بني ذبيان.
وقد نتج من هذه الأسواق الثلاثة نتائج كبرى: الأولى - شعور العرب بحاجتهم إلى السلم واتفاق الكلمة واجتماع الرأي وائتلاف القلوب ولعلكم ترون ذلك ظاهراً في معلقة بن أبي سلمى حين يدعوا عبساً وفزارة إلى الصلح.
الثانية - تهيؤُ قلوبهم لقبول الوعظ والدين واستعداد نفوسهم للبحث النظري عما اشتمل عليه هذا العالم من نظام بديع ولعلكم تجدون ذلك جلياً في شعر زهير وخطب قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي وفي شعر لبيد بن ربيعة الذي قاله في الجاهلية.
الثالثة - تقارب اللغات المتباعدة وائتلاف اللهجات المختلفة وتغلب لغة قريش عَلَى اللغات الأخرى.
وإذا كانت الحوادث في هذا العالم إنما تحدث متوالية متتابعة وينتج بعضها من بعض كان حقاً علينا أن ندع هذه النتائج الآن حتى نصل عملها في الوجود لنجني ثمرها بعد حين.
الشعر
في ذلك العصر التهبت جذوة الشعر واستطار شرره فالتهم كل شيءٍ واحتكم في كل إنسان ولم تكن حكمة الإله ولا رأي الاع + ولا اعتماد إلا عليه وكان يكفي للشاعر أن يمدح الوضيع فيرفعه أو يذم الرفيع فيضعه أو يغري بالحرب فتتهالك النفوس وتتفانى القوى أو(72/25)
يدعوا إلى السلم فتصبح الضغائن والأحقاد نسياً منسياً.
اختلفت قبيلتان من قبائل العرب عَلَى بئر من الآبار حتى ذكت بينهما نار الحرب فلم يكن إلا أن وقف شاعر أحدهما وقال:
كلا أخو بنا أن يرع يدع قومه ... ذوي جامل دثر وجيش عرمرم
فما الرشد في أن تشتروا بنعيمكم ... بئيساً ولا أن تشربوا الماء بالدم
هنالك ردت النفوس إلى أغمادها والسهام إلى كنائنها وأصبح القوم صديقاً متحابين بعد أن كانوا عدواً متباغضين.
كان لعمرو بن عدي كرب الزبيدي أخت يقال لها كبشة وكانت متزوجة في بني مازن وكان لهما أخ يقال له عبد الله فزار عبد الله أخته ذات يوم فبينما هو جالس مع بني مازن يشاربهم الخمر وثبوا عليه فقتلوه ثم أفاقوا من سكرهم فاستشعروا الندم وذهبوا إلى عمرو بالدية معتذرين فعفا عمرو وقال: إحدى يدي أصابتني ولم ترد.
فلما بلغ الخبر كبشة صبرت إلى يوم عيد من أعيادهم ثم خرجت وقد شقت ثيابها ولطختها بالدم وهي تقول:
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
ولا تقبلوا منهم أنالاً وأبكراً ... وارتك في بيت بصعدة مظلم
ودع عنك عمرواً إن عمر مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
فلما سمع عمرو الأبيات ثارت في رأسه الحمية فغزا بني مازن وقتل منهم خلقاً كثيراً.
ولقد كان للشعر عند اليونان إله معروف هو أبولون وأما العرب فقد كان للشعر عندهم شياطين لا تحصى وكان لكل شاعر منهم شيطان عَلَى الأقل وربما كان له أكثر من ذلك ولم تذهب هذه الخرافة بظهور الإسلام بل بقيت بعده وأيدها علماء المسلمين في القرن الرابع للهجرة وقد حدث صاحب الأغاني في كتابه أن بشر بن مروان كان يحب الإفساد بين الشعراء فلما ولي العراق أمر سراقة البارقي أن يهجو جريراً ويفضل عليه الفرزدق فقال أبياتاً منها:
إن الفرزدق برزت أحسابه ... عفواً وغودر في الغبار جرير
فأمر بشر أن تكتب هذه البيات إلى جرير وأن يؤخذ بالإجابة عليها فلما وصلت الأبيات(72/26)
إلى جرير خلا إلى نفسه سواد الليل فلم يصنع شيئاً فلما كاد يأخذه اليأس سمع قائلاً يقول في زاوية من زوايا البيت ويحك يا جرير غبت عنك ليلة فلم تصنع شيئاً هلا قلت
يا بشر حقاً لوجهك التبشير ... هلا انتصرت لنا وأنت أمير
فقال له جرير حسبك حسبك ثم أتم القصيدة والآن أظنكم قد عرفتم مقدار ما كان للشعر في جاهلية العرب من مكانة سلمية ومنزلة عالية ومن استئثار بالقلوب واقتدار عَلَى الألباب ولم تكن الخطابة بأقل منه وحسبكم أن تعلموا أن القبيلة كانت لا تشرف ولا ينبه ذكرها إلا إذا كان لها شاعر وخطيب. الباقي للآتي(72/27)
النهضة الفكرية في سورية
الإقبال عَلَى الآداب منظومها ومنشورها أول ما تنصرف إليه وجوه الأمم الآخذة بالنهوض ثم تنبعث الرغبة في الفنون والعلوم بحسب الحاجة والدواعي. وبعد أن اضمحلت الآداب في سورية فبلغت حداً غريباً من الابتذال في القرن الثاني عشر للهجرة وآنت أدبيات أهل الطبقة الراقية في ذاك العصر تافهة بشعة لا شأن لها ولا ذوق فيها عادت فأخذت تسير نحو الحياة في منتصف القرن الثالث عشر بما هب عليها من نسمات التجديد السارية من عقول المنورين المتأدبين من السوريين والمصريين والتونسيين.
فنشأ للغة كتاب وشعراءٌ من مصر والشام ومنهم أخذوا يعودون بمنظوماتهم ومنشوراتهم إلى سالف نضرة اللغة من الرصانة ويقلدون أدباء الإفرنج في تصوراتهم. وكان لمصر في هذا الشأن يد طولى أسداها إلى الآداب العربية جد البيت الخديوي الأول فعمت المعارف في مصر ومنها انتشرت إلى سائر الأقطار. وإن كان بعض من يريدون أن يحصروا الفضل كله في سورية ولاسيما في المدارس الأجنبية يتكررون هذه الحقيقة التاريخية المدركة.
لا جدال في أن المدارس الأجنبية قد أحسنت عَلَى عهد نشأتها في بلاد الشام واهتمت بخدمة الآداب العربية اهتمامها بخدمة آداب لغتها الأصلية وإن بذلك كثرت صلاتنا التجارية والعلمية مع أوربا وأميركا وصار الإفرنج يطوفون أو يسكنون ديارنا وأمسينا لا نفزع من نزول ديارهم أو الرحلة إليها.
وعَلَى هذه الصورة أخذنا ندرك اليوم بعد اليوم نقصنا بالقياس إلى الغربيين فيسعى المنورون منا إلى بث أنوار المعارف والفضيلة ويشعرون بالمصلحة العامة ويتوفرون عَلَى إصلاح الأفكار السقيمة.
النهضة الفكرية في سورية متلونة كأبي براقش بتلون الأوعية التي تخرج منها فنهضة المسلمين مثلاً آتية من مدارس الحكومة عَلَى الأغلب عَلَى يد أُناس من العرب تعلموا التركية في المدارس الملكية والعسكرية في الولايات السورية أو في الآستانة وهؤلاء في الأكثر تعلموا ما تعلموا ليصبحوا موظفين وغايتهم أن يتدرجوا في سلك المراتب والمناصب ليعيشوا عيش الراحة والاتكال. ولولا نفر منهم تداركوا أمرهم بعد نيل الشهادات المؤُذنة بكفاءاتهم من المدارس الأميرية فأخذوا يحاولون أن يكتبوا بلغتهم(72/28)
ويتذوقوا أدبياتها ليلموا عَلَى أمتهم بعض ما غلب عليهم من المعارف الجديدة لقلنا أن تلك المدارس لم تأتنا بخير إلا بكونها صاغت من سورية موظفين آخرين فزادت الدولة بهم عبثاً فوق عبثها الثقيل من الأتراك الذين جعلوا وظائف الحكومة أقصى ما يبلغونه من درجات الكمال وسعادة الحال والمآل.
ثم أن طبقة الموظفين في جميع الأمم التي تسير عَلَى نظام الأوربيين لا يأتي في الغالب منها كبير أمر لأن الاستخدام مبني عَلَى الطاعة وارتقاء الموظفين مناط باعتزالهم وأحسن أعمالهم الخضوع لإرادة الرؤساء مهما كانت وهناك الارتقاء مضمون ولذلك قلما أثر موظف في نهضة الأمة الفكرية خلا أفراداً في مصر عرفوا منذ زهاء سبعين سنة إلى اليوم كيف يستخدمون أوقاتهم وحريتهم ليجعلوا لكل من حكومتهم وأنفسهم وأمتهم حظاً وتكون أعمالهم سلسلة نافعة من كل وجه.
أما في سورية فإننا نجد من تذوقوا شيئاً من الأدب وحبسوا أنفسهم عَلَى التوظيف لم يأتوا بما نفع في النهوض اللهم إلا إذا كانوا يروون تلك الدواوين الشعرية والأماديح النثرية التي يرسلونها في تمجيد الحاكمين عَلَى اختلاف درجاتهم تعد من الآداب في شيءٍ ولا يحضرنا الآن اسم بضعة من الموظفين يصح أن نوردهم مثالاً صحيحاً نحتج به عَلَى من يوقن كل الإيقان أن الموظفين مهما بلغوا من التربية والتعليم فلا يرجى أن ينتفع بهم إلا في الفروع التي تمحضوا لها من خدمة الحكومة.
وإذا كانت الشام واقفة عند حد الاعتماد عَلَى مدارس الحكومة والحكومة لا تعلم إلا ما ينفعها ومدارس الأجانب لا تعنى إلا بالعرض بما نفع البلاد بقيت النهضة الفكرية مذبذبة لا تركية ولا عربية ولا إفرنسية ولا أميركانية ولا إنكليزية ولا ألمانية ولا روسية ولا يونانية ولا إيطالية. كما أنها ليست إسلامية سنية ولا شيعية ولا باباوية كاثوليكية ولا مارونية ولا أرثوذوكسية ولا برتستانتية ولا إسرائيلية ولا درزية وبهذا صح أن نقول أن سورية بابل اللغات واللهجات كما هي بابل الأديان والمذاهب وإن النهضة في أصقاعها كأجوائها في التلون وأغوارها في الحرارة ونجادها في البرودة.
لم تنشأ في البلاد مدارس أهلية إلا في دمشق وبيروت وحمص وطرابلس وصيدا مثلاً منذ عهد قريب وهي لم تطل أعمارها بعد حتى يتخرج منها تلاميذ يكون واحدهم بألف في(72/29)
غنائه وكفاءته ويبذ المتعلمين في مدارس الأجانب ومدارس الحكومة معاً ويتلقن في مدرسته أن المقصود من العلم إنارة المتعلم نفسه وذويه ونفع قومه ولغته وأمته.
وممن يساعدون اليوم عَلَى ترقية الأفكار وإزالة غشاوة الأوهام بعض الصحف وفئة من ناشئة الشام تتلقى العلوم المختلفة من مدارس الغرب ولاسيما في فرنسا وسويسرا وإنكلترا وألمانيا وأُناس من وجوه البلاد أخذوا يغشون ديار الغرب للزيارة وهم عَلَى قلتهم يفيدون فيم يتصونه عَلَى قومهم من مشاهداتهم وإعجابهم بأوضاع المدنية الحديثة وقصور سورية بالنسبة إلى ذاك التقدم المدهش.
هذه العوامل الثلاثة في ارتقاء سورية وهي الصحف والمتعلمون في مدارس الغرب والسائحون في ديارهم إذا حسنت أكثر من الآن وقويت وكثر عديد الشاعرين بها تنهض بالبلاد ولاسيما مدن الداخلية كما أفادت هجرة اللبنانيين خاصة في تمدين لبنان فعد من سورية بمثابة باريز من ولاياتها أو القاهرة من بلاد أقاليم مصر ولذلك كانت الحركة الفكرية في لبنان وبيروت أرقى منها الآن في دمشق وحلب إذ التعلم فيهما أكثر من هاتين القاعدتين وحركة لبنان وبيروت في الفكر مادية ولذلك قلما ترى الرغبة اليوم في مدارس بيروت والجبل منصرفة عَلَى العلوم الأدبية والفنون بقدر انصرافها إلى إتقان اللغات الأجنبية ولاسيما الإنكليزية والإفرنسية يستخدمونهما في التجارة ويتسلحون بهما للاستعانة عَلَى الهجرة إلى أميركا الشمالية وأوستراليا وكندا وجنوبي أفريقية ومصر والسودان.
وبعد فإن حال النهضة غريب في هذا القطر فكما كان العمران في السهوب والوهاد في كور محدودة معروفة هكذا تجد النهضة الفكرية في انتشارها موزعة عَلَى المدن الآن وبعضا لا حظ لها منها إلا بقدر حظ الدساكر والقرى فترى اللاذقية وعكا مثلاً بنهضتها الفكرية دون حيفا ويافا مثلاً مع أن للمدينتين الأوليين تاريخاً مجيداً مهماً ونابلس وحماة متشابهتان وإن كانت الأولى تفوق الثانية بكثرة الناهضين للتعليم من أبنائها وحمص تشبه طرابلس والصلت تشبه بعلبك ولكن هناك نحو مئة بلدة لا تقل نفوس الواحدة منها عَلَى بضعة ألوف من السكان وهي لا تخرج في نهوضها الفكري عن أحقر المزارع وذلك مثل دومة وجوبر وعربيل وداريا في غوطة دمشق ويبرود وجيرود ودير عطية والنبك في جبل سنير (قلمون) وحاصبيا وراشيا في وادي التيم والسويداء والرمتا ودرعا ونوى(72/30)
وبصرى في حوران وغيرها من أُمهات القصبات في ولايات سورية وحلب وبيروت ومتصرفيات لبنان والقدس والزور وهي جماع أقاليم بلاد الشام.
قلنا أن نهضة سورية ذات ألوان كثيرة وذلك لاختلاف مصالح الأمم الغربية في هذه الديار وللسياسة والدين تأثير شديد في هذه الحركة ولولاهما ما رأينا تلك المدارس المبثوثة في القدس والناصرة وبيروت ولبنان ودمشق وحلب ومرعش. بل في بعض القرى والقصبات. وبينا تجد الدولة تجدّ ولاسيما في العهد الأخير بنشر لغتها وكادت ولاية حلب تعد من الولايات التركية نجد الأرض المقدسة ولاسيما طبريا وحيفا ويافا والقدس توشك أن تعد ولاية إسرائيلية وذلك لكثرة المهاجرين في العشرين سنة الأخيرة من الإسرائيليين الروسيين والنمساويين والألمان وغيرهم ومنهم دعاة الصهيونية يريدون أن ينشئوا مع الزمن في فلسطين مملكة تكون سداها ولحمتها بيد أبناء إسرائيل من أجل هذا تراهم في مدارسهم لا يعلمون العربية ويجعلون اللغة العبرية لغة التعليم والتخاطب ولهم في فلسطين جرائدهم ومطبوعاتهم ينشرونها عَلَى مناحيهم بمأمن من مراقبة الحكومة وتوفيق الخطة عَلَى ما يلاءم مصلحة البلاد ولذا تشهد في مدن فلسطين ولاسيما في القدس ويافا وحيفا غرائب الألسن فتظنك في بور سعيد اليوم تشمع بضع لغات والبلاد عربية ولكن بالاسم فقط.
ومهما يكن من صيغة النهضة في قواعد البلاد ومدنها فإن أعمالها من بلاد الأقاليم كالقرى والدساكر لا تزال بمعزل عن كل نهضة وحسبك أنك تمر إلى اليوم في بضع قرى ولا تجد من يستطيع أن يقرأ القراءة البسيطة فضلاً عن كتابة سطرين وهذا شان الأقاليم التي لم تدخل إليها الإفرنج أو دعاة البرتستانتية عَلَى القل مثل الصلت والكرك وتنشئُ المدارس لبث دعوتها كمعظم ألوية حوران والكرك واللاذقية والزور.
نعم تسير الأيام الطويلة ولا تشهد السكان إلا كما كانوا منذ بضعة قرون تجتاز تدمر وجرش وبلاد موآب وأرض الشراة والبلقاء وارض منبج وحران والرقة وبلاد الجولان وارض الصفا واللجاة وغيرها فلا تكاد ترى مدرسة أهلية تذكر ماضي هذه الأقاليم فلا تلبث أن تنهل عبراتك عَلَى بلاد نام عليها رعاتها وأقاليم كل منها بمساحته وخصبه وذكاء أهله ومضائهم لا يقل عن أحسن أقاليم قارتي أوربا وأميركا.(72/31)
ربما توهم واهم أن الحرية العثمانية أبرزت من القوى ما كان كامناً في النفوس ولكننا لم نشهد من علائمها شيئاً يستحق الذكر اللهم إلا أولئك النفر من المتأدبين الذين جربوا أنفسهم في نشر الصحف والمجلات وتأليف الأسفار والمترجمات يحاولون منها الرزق أولاً فخسر أكثرهم عَلَى أن معظم ما نشر في السنين الأربع الأخيرة من المصنفات والمقالات يدل عَلَى أن الأمة هنا لم تزل في دور التجارب وهيهات أن تعد في مصاف الأمة المصرية حتى بعد ربع قرن فالأسماء هنا أكثر من المسميات وإن تكن الهمم عالية أكثر من مصر في الجملة ولكن أين نحن من نضوج العلم في وادي النيل وتلك الفئة الرشيدة من العلماء والكتاب والمفكرين والسياسيين والخطباء الواعظين.
يقولون أن الكليتين الأميركية واليسوعية في بيروت تخرجان رجالاً أكفاءً فأين آثارهم نستدل بها عَلَى فضلهم ووطنيتهم وما نخالهم يستطيعون أن يأتونا بغير مقالات خيالية أو قصص غرامية مسلوخة أو ممسوخة من اللغات الأجنبية. وكان في مقدرة أولئك المتعلمين عَلَى التواءٍ في نظام تعليمهم أن يأتوا وهم متوفرون عَلَى أعمالهم المادية بشيءٍ من المعارف لوطنهم يخدمونه بها ولكن القوم بلغت بهم الأثرة وحب الماديات حتى صاروا لا يتعلمون العلوم إلا إذا كانت تنفعهم لجلب الرزق وما عدا ذلك فليس له حظ من الأعراب في جملة حالهم.
وهذا من آكد الأسباب التي دعت فئة من المتعلمين ولاسيما في لبنان والساحل أن يعرضوا عن درس اللغة العربية ويستعيضوا عنها بالانصراف إلى تعلم إحدى اللغات الأجنبية لأن هذه بزعمهم تعود عليهم بجماع الفضائل والمحامد والغنى وتلك لا تفيدهم في مادياتهم ولا في أدبياتهم ولكن فات هذا الفريق من المتعلمين إنهم مهما بلغوا من أحكام ملكة اللغات الأجنبية لا يتعدون فيها قدر الترجمان البسيط وإن من جميع من اشتهروا بإتقان اللغة الإنكليزية أو الإفرنسية حتى الآن من أبناء سورية لا نعرف بضعة أشخاص يستحقون أن تنشر مكتوباتهم في مطابع الغرب إلا بعد أن ينظر فيها أبناء تلك اللغة وينمقونها ويتعاورونها بالحذف والإثبات.
وبعد فإن النهضة الفكرية لا تكون عَلَى أتمها إلا بالتعليم وهذا التعليم مفقود من سورية اللهم إلا علة مناحي الفرنسيس والأميركان وغيرهم ولذلك كانت النهضة السورية أشبه بجنين لم(72/32)
تظهر سحنته وتتم خلقته. وما دام التفرنج من جهة والتترك من أخرى يستحيل عَلَى بلاد الشام أن تدعي بأن فيها نهضة فكرية عربية ولا يفعل أكثر من يتعلمون إلا أنهم ينقلون أنفسهم إلى أبناء اللغة التي يتعلمونها وينسلخون من قوميتهم.
وربما يقول بعضهم ما هذا الغلو في تقدير هذا الخطر المداهم والمتعلمون أفراد والسواد الأعظم لا في العير ولا في النفير لم يبرحوا عَلَى الفطرة وسيتعلمون ما سيكتب لهم فالجواب أن الأفراد هم العمدة والفرد المتعلم اقدر عَلَى معرفة المدخل والمخرج من عشرة آلاف أُمي ولو كانت كثرة العدد تنفع كل حين لما رأينا سكان الهند يخضعون للإنكليز وجزائر الملايو أو جاوة يخضعون للهولانديين وغيرهم من الأمم الشرقية الضعيفة يخضعون لغيرهم من الأمم الغربية القوية. وعَلَى الجملة فإن نهضة سورية عَلَى غير ما تقتضي الحاجة الوطنية فهي لا شرقية ولا غربية بل هي من كل البلدان وثمرة كل الشعوب والناس قد شعروا بنقصهم ويسعون عَلَى تعليم أبنائهم في معظم الأقاليم والشعور بالنقص أول درجات الكمال كما أن ميل الناس إلى المشاركة في المسائل العمومية دعا إلى ترقية المحيط والتجافي عن تافه الأحاديث فعسى أن تنمو هذه الجراثيم وتنتقل من دور الحضانة إلى دور الطفولة والفتوة في قليل من السنين.(72/33)
اليمن وسكانها
(1)
كيف عرفها وعرفهم علماء العرب
مضى معظم السنة الماضية والدولة العلية تسير إلى اليمن الحملة تلو الحملة لإخضاع المتنقضين الثائرين من رجال الشيخ أحمد الإدريسي الشافعي في جهات عسير والإمام يحيى بن حميد الدين الزيدي في جهات صنعاءَ وقد أُغمدت السيوف الآن بعد أن هلك من جيش الدولة وعصابات المحاربين لها أُلوف ولا يزال يقتل في اليمن من العساكر العثمانية كل سنة نحو عشرة آلاف نسمة بعضهم في المناوشات والآخر باختلاف الأهوية وقلة الغذاء المناسب وذلك منذ أربعين سنة ومن قتل ومات من الجند والرعية لا يقلُّ فيما نحسب عن رجال مملكة صغرى من ممالك أوربا كسويسرا أو الدانيمرك أو السويد.
والدولة الآن في صدد إعطاء بعض الامتيازات لليمانيين وربما صدر هذا الجزءُ ومجلس النواب العثماني يتناقش في لائحة الإصلاحات اليمانية وسيقسمون عَلَى الأغلب ما وقع تحت حكم الدولة مباشرة من البلاد إلى ثلاثة ولايات ولاية صعدة وولاية صنعاء وولاية عسير وقد جربت الدولة في السنة الماضية فسلخت لواء عسير فجعلته متصرفية قائمة برأسها تخاطب الآستانة مباشرة في أمورها كلواء القدس والزور فأتى ذلك بنتائج حسنة ولا عجب إذا أكثرت الدولة من مراكز الحكومات فمن الأقضية هناك ما تسير فيها أياماً وفيه من القرى ما لا تجد مثله في ولاية من الولايات العامرة في الدولة وإن عدد القرى الداخلة تحت حكم العثمانيين مباشرة يبلغ 8692 قرية و289 عزلة و227 قبيلة وكل هذا القدر العظيم المنقول عن تقويم الدولة الرسمي يحكمه 28 قضاء و56 ناحية ومن الغريب أن الأمية تكاد تكون مفقودة في اليمن بالنسبة لسائر البلاد العثمانية وأهلها مع كل ما ابتلوا به من الفتن التي جرتها عليهم تلاعب رؤسائهم ورداءة العمال ولا يزالون يعلمون أبناءهم القراءة والكتابة ويقدرون اليوم نفوس اليمن بنحو خمسة ملايين لو ارتقوا وعلموا لأتي منهم أعظم جيش محارب محضر نافع. وإليك الآن كيف عرفهم وعرف بلادهم علماء العرب اقرأه وأعجب في سر ما صارت إليه أرضهم من الانحطاط:
صفة اليمن(72/34)
قال الهمذاني سميت اليمن الخضراء لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها والبحر بها من المشرق إلى الجنوب فراجعاً إلى المغرب ويفصل بينها وبين باقي جزيرة العرب خط واحد من حدود عمان ويبرين إلى حد ما بين اليمن واليمامة إلى حدود الهجيرة وتثليث وأنهار جُرش وكتنة منحدراً في السراة عَلَى شعف عنز إلى تهامة عَلَى أم جحدم إلى البحر حذاء جبل يقال كدمل بالقرب من حمضة وذلك حد ما بين بلد كنانة واليمن من بطن تهامة. وأول إحاطة البحر باليمن من ناحية دما فطنوى فالجمحة فرأس الفرتك فأطراف جبال اليحمد وما سقط منها إلى ناحية الشحر فالشحر فغبُّ الخيس فغب الغيث بطن من مهرة فغب القمر زنة قمر السماء فغب العقار بطن من مهرة فالخيرج والإسعاء وفي المنتصف من هذا الساحل شرقاً بين عمان وعدن ريسوت وهو موئل كالقلعة بل قلعة مبنية بنياناً عَلَى جبل والبحر محيط بها الأمن جانب واحد فالبر فمن أراد عدن فطريقه عليها فإن أراد أن يدخل دخل وإن أراد أن جاز الطريق ولم يلو عليها وبي الطريق الذي يفرق إليها والطريق المسلوك إلى عمان مقدار ميل. ثم ينعطف البحر عَلَى اليمن مغرباً وشمالاً من عدن فيمر بساحل الحج وأبين وكثيب برامس وهو رباط وسواحل بني محيد من المندب فساحل العميرة والعارة فإلى غلافقة ساحل زبيد فكمران فعطيفة فالحردة إلى منفهق جابر وهو رأس غرير كثير الرياح حديدها إلى الشرجة ساحل بلد حكم فباحة جازان إلى عثر فرأس عثر وهو كثير الموج إلى ساحل حمضة فهذا ما يحيط باليمن من البحر.
وأصرح من هذا ما قاله المسعودي: وبلد اليمن طويل عريض حده مما يلي مكة الموضع المعروف بلجة الملك سبع مراحل إلى صنعاء ومن صنعاء إلى عمان وهو آخر عمل اليمن تسع مراحل والمرحلة من خمس فراسخ إلى ستة والحد الثاني من حكم ورحاء إلى ما بين مفاوز وحضر موت وعمان عشرون مرحلة ويلي الوجه الثالث بحر اليمن فجميع ذلك عشرون مرحلة في ستة عشرة مرحلة وأسماءُ ملوك اليمن كذي يزن وذي نواس وذي منار وغير ذلك مضافة إلى مواضع وإلى أفعال لهم وسير وحروب وغيرها من سمات لهم تميزهم عن غيرهم.
فاليمن كما قال ابن خلدون صقع جليل ومملكةٌ عظيمة يشتمل عَلَى أربعة وعشرين مخلافاً (وفي رواية أربعة وثمانون عَلَى ما يجيءُ) والمخاليف الكور وكان اليمن في صدر الإسلام(72/35)
عَلَى ثلاثة أقسام كل قسم منها في يد ملك أحد الأقسام قصبته صنعاء والآخر قصبته الجند والآخر قصبته ظفار والذي يعطيه التحديد أنه ينقسم عَلَى قسمين أحدهما تهامية والأخرى نجدية فالتهامية قصبتها زبيد وبها يكون السلطان والجبد وهي مدينة مسورة وعليها سبعة خنادق ولها نهر يجري إليها من الجبال وساحل يسمى علافقة ومن البلاد التهامية قحمة ولها نهر يأتيها من جبل يسمى فرع والكدرا ولها واد يجري إليها من السيول والمهجم وهي مدينة كثيرة الفواكه ولاسيما الموز ولها نهر يأتيها من النوب يسمى سرود والمجال ولها نهر يأتيها من جبال حور وحوض ولها نهر يأتيها بلاد دخولان والراحة ولها نهر يأتيها من نجد وأما البلاد النجدية وتسمى بلاد الجبال والنجد في اللغة قفار الأرض وما غلظ منها واشرف عَلَى الأرض فأعلاها تهامة واليمن وأسفلها العراق والشام وهو ممتد من بلاد مهرة عَلَى بلاد الحجاز ومسافة ذلك عشرون فرسخاً وقصبته عدن وتعرف بعدن + + + وبقعتها عَلَى البحر يدخل إليها من باب قد فتح في جبل كأنما يدخل إلى الكرك بالشام وهي فرضة لما يرد من كراكب الصين والهند وكرمان وفارس وعمان ويشرب منها مدينة أَبين ولها عَلَى ساحل البحر فرضة تسمى المحل ينزل الناس منه في اختصاص ولها كورة تشتمل عَلَى عدة قرى ومن بلاد ومن بلاد الجبل صنعاء وكانت القصبة لبلاد اليمن بأسرها وهي وبية كثيرة الفواكه ولها نهر يشقها يسمى السرار ويصب في سنوان فيكون منه بحيرة تمده الأمطار في الصيف.
وحكي أن ظفار مدينة التبابعة ومن بلاد الجبل تعز وهي قلعة حصينة وبها السلطان في عصرنا (ابن خلدون) وهي بين مدينتين إحداهما المعزية والأخرى عدنة ينزل إليها واد من جبل صبر وهذا الجبل فيه قرى كثيرة قصبتها مدينة تسمى لاعة المرتقى إليه مسيرة يوم وصوله أربعة وعشرون فرسخاً ومدينة الجند مشهورة ومدينة جبلة وتسمى مدينة النهرين لأنها بين نهرين ومدينة الدحلوة وهي قلعة عَلَى ذرى شامخ وعر وقد امتلأت من أموال ملوك يمن وكبرائها تبراً ولجيناً يجمع المال بها والمدينة كالربض وتسمى أيضاً الجرد ومن حصون السلطان أيضاً باليمن أيضاً قلعة أنور وهي في ناحية تسمى وادي السيول يشتمل عَلَى قرى مشتبكة العمائر وقلعة مثوة وهي في ناحية زبيد كثيرة القرى وقلعة العروسين وهي في ناحية تعرف بعلوان الكردي كثيرة القرى ومن بلاد اليمن ذمار وهي مدينة مسورة(72/36)
لها عيون وبساتين ومدينة صعدة وخيوان بها خانات وحمامات وأماكن وعمائر ومدينة مأرب بها عرش بلقيس وهي أساطين في غاية الغلظ والارتفاع ولها كورة بين صنعاء وحضر موت وبالقرب منها جبل شق عليه سد تجتمع إليه مياه الأمطار والعيون وإذا أرادوا سقي القرى فتحوا منه بقدر حاجتهم ثم يسدونه بآلات لهم أحكموا ومن بلاد الجبل أيضاً السروان أحدهما سرو جبل لبن والآخر سرو ميل وهما مختلطان ولهما قصور كالقرى وأسماؤها العجر والبيضاء وقرن وذوقيام ودوتق وهذان السروان يمتدان من جنوب اليمن إلى شمال الحجاز وسكانها فصحاء العربُ. ومن أقسام اليمن حضر موت وفيها تريم وشبام والشحر والأحقاف ومنها بلاد مهرة وغيرها.
قال البلخي وكان أعمال اليمن مقسومة عَلَى ثلاث ولاة وال عَلَى الحرم ومخاليفها ووال عَلَى حضر موت ومخاليفها وهي أوسطها وأطيب بلادها وأبردها وأكثر ما ارتفع من أموالها ما جباه بعض عمال بني العباس ستمائة ألف دينار وأهلها قوم فيهم جهل وغباوة وسلامة صدر وضعف حال وأكثر فواكههم الموز وعامة لحومهم لحم البقر وفي مشارق سواحلهم صحار ومسقط وسوقطرا وشحر محلب ومن عندهم اللبان والصبر وهم ضعاف الحال سيئو العيش قليلو الحيل والصناعات ولهم لغة لا يفهمها غيرهم وتليهم الإحساءُ وهي من أرض العرب وقد استوطنها القرامطة في القرن الثالث.
واليمن عَلَى رواية المقدسي قسمان ما كان نحو البحر فهو غور واسمه تهامة قصبته زبيد ومن مدنه معقر وكدرة ومور عطنة الشرجة دؤيمة الحمضة غلافقةُ مخا كمران الحردة اللسعة شرمة العشيرة رنقة الخصوف الساعد المهجم وغيرهن ناحية أَبين مدنها عدن لهج (لحج) وناحية عثر مدنها حلي السرين وناحيته السروات وأما ما كان من ناحية الجبال فهو بلاد باردة تسمى نجداً قصبتها صنعاء ومن مدنها صعدة نجران جُرش العرف جبلان الجند ذمار نسقان يحصب السحول المذيخرة.
فزبيد قصبة تهامة وهو أحد المصرين لأنه مستقر ملوك اليمن بلد جليل حسن البنيان يسمونه بغداد اليمن لهم اذنى ظرف وبه تجار وكبار وعلماء وأدباء مفيد لمن دخله مبارك عَلَى من سكنه آبارهم حلوة وحماماتهم نظيفة عليه حصن من الطين بأربعة أبواب وحولها قرى ومزارع أعمر من مكة واكبر وارفق وأكثر بنيانهم الآجر ومنازلهم فسيحة طيبة وهو(72/37)
بلد نفيس ليس باليمن مثله غير أن أسواقه ضيقة والأسعار بها غالية والثمار قليلة. ومعقر عَلَى جادة عدن وكذلك عبرة وعارة والمخنف وكلهن صغار وعدن بلد جليل عامر آهل حصين خفيف دهليز الصين وفرضة اليمن وخزانة المغرب معدن التجارات كثير القصر مبارك عَلَى من دخله مثر لمن سكنه مساجد حسان ومعايش واسعة وأخلاق طاهرة ونعم ظاهرة قد أحاط به جبل بما يدور إلى البحر ودار خلف الجبل لسان من البحر فلا يدخل إليه إلا أن يخاض ذلك اللسان فيصل إلى الجبل وقد شق فيه طريق في الصخر عجيب وعليه باب حديد من نحو البحر حائطاً من الجبل إلى الجبل وفيه خمسة أبواب ناءٍ عن الأسواق إلا أنها يابسة عابسة لا زرع ولا ضرع ولا شجر ولا ثمر ولا ماء ولا كلاء كثيرة الحريق والوكف.
أَبين هي أقدم من عدن وإليها تنسب عدن لأن بُرَّهم وفواكههم وخضرهم منها لكثرة القرى والمزارع بها وكذلك لهج ومندم عَلَى البحر عامرة. ومُخا مدينة لزبيد عامرة كثيرة السليط وغلافقة فرضة زبيد عامرة آهلة بها نخيل ونارجيل وآبار حلوة إلا أنها وبية قاتلة للغرباء. والشرجة والحردة وعطنة مدن عَلَى الساحل بهن خزائن الذرة تحمل إلى عدن. وجدة بلد اللبن يحمل إليهم الماء من بعد وجوامعهم عَلَى الساحل وناحية عثر ناحية جليلة عليها سلطان برأسه ومدنها نفيسة وعثر مدينة كبيرة طيبة مذكورة أنها قصبة الناحية وفرضة صنعاءَ وصعدة بها سوق حسن وجامع عامر يحمل إليهم الماء من بعد وحمامهم وضر.
وبيش أطيب هواء منها وأعذب ماءً بها ينزل السلطان. والجريب بلد الموز وهو أرخى مدن الناحية وأعجبها. وحلي مدينة ساحلية عامرة سرية رفقة. والسرين بلد صغير له حصن. مصنعة وهو فرضة السروات والسروات معدن الحبوب والخيرات. صنعاء هي قصبة نجد اليمن وقد كانت أجلّ من زبيد وأعمر وكان الاسم لها وأما اليوم فقد اختلت غير أن بها مشايخ لم أر بجميع اليمن مثلهم هيئة وعقلاً. ثم بلد رحب كثير الفواكه رخيص الأسعار. أخباز حسنة وتجارات مفيدة أكبر من زبيد ولا تسل عن طيب الهواء فإنه عجب ومع ذلك رفق معف. وصعدة أصغر من صنعاء عامرة في الجبال بها تصنع الركاء الجيدة والأنطاع الحسنة ومناه يرتفع ادم الجلد وهي مدينة العلوية وعملهم. وجُرش مدينة وسطة ذات نخل واليمن ليس ببلد النخيل ونجران مثل جُرش وهما دون صعدة وأكثر ما ترى من(72/38)
الإدم فمن هذه المدن. والحميري هو بلد قحطان بن زبيد وصنعاء كثير القرى وسبأ بلد خلف هذه النواحي عامر المدينة خرب العمل.
هذا وصف بلاد اليمن وفي رواية أن مساحتها السطحية 256 ألف كيلومتر مربع أما المسافات عَلَى تقدير العرب فهي من صنعاء إلى صداء 42 فرسخاً من صنعاء إلى حضر موت 74 فرسخاً ومن صنعاء إلى ذمار 16 فرسخاً ثم إلى نسفان وكحلان مرحلة ثم إلى حجر وبدر 20 فرسخاً ثم إلى عدن 64 فرسخاً ومن ذمار إلى يحصب مرحلة ثم إلى السحول مرحلة ثم إلى النجة مثلها ثم إلى الجند مثلها ومن صنعاء إلى الجند 48 فرسخاً ومن صنعاء إلى العرف مرحلة ثم إلى الهان 10 فراسخ ثم إلى جبلان 14 ثم إلى زبيد 12 ومن صنعاء إلى شبام مرحلة ومن صنعاء إلى عثر 10 مراحل ومن عدن إلى أَبين 3 فراسخ.
مخالبف اليمن
كور بلاد اليمن تسمى مخاليف وهي أربعة وثمانون في رواية وفي رواية أربعة وعشرون قال ابن خرداذبة مخلاف صنعاء والخشب ورحابة ومرمل وبصنعاء كان غمدان مسكن سيف بن ذي يزن الحميري وفيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالاً
ومخلاف صعدة فمن صنعاء إلى خيوان أربعة وعشرون فرسخا ومن خيوان إلى صعدة ستى عشر فرسخاً ومن صعدة إلى المهجرة وهي تحت عقبة المنضح عند طلحة الملك التي هي أول عمل اليمن عشرون فرسخاً فبين المهجرة وصنعاء ستون فرسخاً. ومخلاف البون وفيه ريدة وبها البئر المعطلة والقصر المشيد التي ذكر الله تبارك وتعإلى ومخلاف خيوان ومخلاف نجدي خولان ذي شحيم وغوريها وفيها ريام النار التي كان يعبدها أهل اليمن. وعَلَى اليمين من صنعاء مخلاف شاكر ووداعة ويام وأَرحب ومخلاف الحردة وهمدان ومخلاف جوف همدان ومخلاف جوف مراد ومخلاف شنوءة وصدى وجعفي ومخلاف الجسرة ومخلاف المشرق وبوشان وغدر وفيه ناعط ومخلاف أعلا وأنعم والمصنعتين وبني غطيف وقرية مأرب قال النابغة الجعدي
أو سبأَ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دونه سيله العرما(72/39)
وبمأرب قصر سليمان والقشيب وقصر بلقيس قال ابن ذي جدن:
أتغر من أهله القشيب ... وبان من رأيه الحبيب
وصرواح والسد وهو العرم.
ومن صنعاء إلى صدى وجعفي وشنوبرة اثنان وأربعون فرسخاً ومخلاف حضر موت وبينها وبين البحر رمال ومن صدى إليها ثلثون فرسخاً فمن صنعاء إلى حضر موت اثنان وسبعون فرسخاً. ومخلاف خولان رداع وفيه وادي النمل ومخلاف أحور ومخلاف الحقل وذمار عَلَى ستة عشر فرسخاً من صنعاء ومخلاف بني عامر وثات ورداع ومخلاف دثينة ومخلاف السرو وبحذائه مرسى الخيرج ومخلاف عنس ومخلاف رُعَين ونسفان وكحلان وفيه بحيرة يبنون قلل امرؤُ القيس بن حجر:
ودر بني سواسة في رعين ... يجن عَلَى جوانبه الرجال
ومخلاف ضنكان وذبحان ومخلاف نافع ومصحى ومخلاف حُجر وبدر وأَخلة والصهيب ومخلاف لحج ومخلاف أَبين وفيه عدن ومخلاف بعدان وريمان ور الثجة والمزرع ومخلاف ذي مكارب والأملون.
ومن صنعاء إلى ذمار ستة عشر فرسخاً ومن ذمار إلى نسفان وكحلان ثمانية فراسخ ومن نسفان إلى حجر وبدر عشرون فرسخاً ومن حجر وبدر إلى قرية عدن وهي مخلاف أَبين أربعة وعشرون فرسخاً فمن صنعاء إلى عدن ثمانية وستون فرسخاً.
ومخلاف السلف والأدم ومخلاف نجلان ومخلاف الجند ومخلاف السكاسك ويحصب مدينة ظفار وقصرها ريدان قال امرؤُ القيس
تمكسن قائماً وبنى طمراً ... عَلَى ريدان أعيط لا ينال
وبظفار كانت تنزل ملوك اليمن ومن علو يحصب إلى السحول ثمانية فراسخ ومن السحول إلى الثجة ثمانية فراسخ ومن الثجة إلى الجند ثمانية فراسخ فمن صنعاء إلى الجند ثمانية وأربعون فرسخاً. وذات الشمال راجعاً إلى صنعاء مخلاف ذي شعبين ومخلاف الزيادي ومخلاف المعافر ومخلاف بني محيد وفيه البقراني الجيد ومخلاف الكرب ومخلاف صلب ونفد والإيغار ومخلاف المناخيين وفيه المذيخرة قلعة حصينة يسكنها آل ذي مناخ وفيها منزل ابن أبي جعفر المناخي من حمير ومخلاف حمل ودمث وشرعب ومخلاف عنة(72/40)
وعنابة ورجيع ومخلاف السحول وبني صعب ومخلاف حاظة ومخلاف سفل يحصب ومخلاف علو يحصب ومخلاف القفاعة والوزيرة والحجر ومخلاف زبيد وبغزائه ساحل غلافقة وساحل المندب ومخلاف رفع ومخلاف مقري ومخلاف أَلهان ومخلاف جبلان وفيه الجبلان من آل ذي شرح وجبلان ضقان شق الطاعة وشق المعصية ومخلاف ذي جرَة ومخلاف الحقلين ومخلاف العرف والأخروت.
فمن صنعاء إلى العرف ثمانية فراسخ ومن العرف إلى أَلهان عشرة فراسخ ومن أَلهان إلى جبلان أربعة عشر فرسخاً فمن صنعاء إلى جبلان اثنان وثلثون فرسخاً ومن جبلان إلى زبيد ورمع اثنا عشر فرسخاً.
ومخلاف خولان في ظاهر صنعاءَ ومخلاف جدد وحوشب ومخلاف عك بحذائه مرسى دهلك ومخلاف مهاع ومخلاف حراز وهوزن ومخلاف الأخروج ومجنح ومخلاف حضور ومخلاف مأذن وحملان وفيه مدينة ضير مخلاف شاكر وشبام وبيت أَقيان والمصانع يسكنها آل ذي حوال وهم ولد ذي مقار ومنهم يعفر بن عبد الرحمن بن كريب الحوالي قال امرؤُ القيس
والحق بيت أَقيان وحجر ... ولم ينفعهم عدد ومال
وقال أيضاً:
أزال من المصانع ذا أَراس ... وقد ملك السهولة والجبال
ومخلاف واضع والمعلل وهو بين صنعاء وشبام ومن صنعاء إلى شبام ثمانية فراسخ قال الشاعر:
مازال ذا الزمن الخبيث يديرني ... حتى بقي لي خزيمة بشبام
ومخلاف الصغر ومخلاف خناش وملحان ور حكم وجازان ومرس والشرجة ومخلاف حجور والمغرب ور قدم وهو يحاذي قرية مهجرة ومخلاف حية والكوذن ومخلاف مسح ومخلاف كندة والسكون وهي حضر موت عَلَى الإبل تسع سكك.
مدن اليمن تهامية ونجدية عدن كما قال الهمداني جنوبي تهامية وهي أقدم أسواق العرب وهي ساحل يحيط به جبل لم يكن فيه طريق فقطع في الجبل باب بزُبر الحديد وصار لها طريقاً إلى البر ودرباً سكنياً المرَبون والحماحميون والملاحيون. ولحج وأَبين وبها مدينة(72/41)
خنفر والروَّاغ وموزع والشقاق والمندب والحصيب وهي قرية زبيد وقرى بواديها حيس والقحمة والكدراءُ ثم المهجم وهي مدينة سرود ومور وبه مدينة تسمى بلحة ثم الساعد والسقيقتان والهجر قرية ضمد وجازان وفي بلد حكم قرى كثيرة يقال لها المخازف وصبيا ثم يبش وساحله عثر وهو سوق عظيم شأنها وقد تثقله العرب فيقولون عثر وأُم جحدم قرية بين كنانة والأزد وهي حد اليمن.
وأول مدن اليمن عَلَى سمت نجدها الجند من أرض السكاسك وجبا مدينة المعافر وجيشان وبالقرب منها قرى لها بواد تنسب إليها مثل حجر وبدر والصهيب ثم منكث مدينة السخطيين ثم ذمار ورداع وهي بين نجد حمير الذي عليه مصانع رعين وبين نجد مدحج الذي عليه ردمان وقزن وفي جنوبيها مدينة حصى وبثرى والحنق من أرض السرو ثم مدينة صنعاء وهي أُم اليمن وقطبها لأنها في الوسط منها ما بينها وبين عدن كما بينها وبين حد اليمن من أرض نجد وحجاز وكان اسمها في الجاهلية أزال ويسميها أهل الشام صنعاء القصبة وتقول العرب لا بد من صنعاء لو طال السفر وينسب إلى صنعاء صنعاني وعَلَى كل واد من هذه الأودية ما لا يوقف عليه من القرى الصغار والأبيات وكل واد منها مخلاف يكون فيه سلطان يقوم به عوائده.
قال الأصمعي اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمان إلى نجران ثم يلتوي عَلَى بحر العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عمان فينقطع من بينونة وبينونة بين عمان والبحرين وليست بينونة من اليمن قال ياقوت وقيل حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء وما قاربها إلى حضر موت والشحر وعمان إلى عدن أَبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود واليمن تجمع ذلك كله.
والسبب في قسمة اليمن إلى مخاليف أي كور ورسايق ما قاله ياقوت من أن ولد قحطان لما اتخذوا أرض اليمن مسكناً وكثروا فيها لم يسعهم المقام في موضع واحد فجمعوا رأيهم عَلَى أن يسيروا في نواحي اليمن ليختار كل بني أب موضعاً يعمرونه ويسكنونه وكانوا إذا ساروا إلى ناحية اختارها بعضهم تختلف بها عن سائر القبائل وسماها باسم أبي تلك القبيلة المتخلفة فيه فسموها مخلافاً لتخلف بعضهم عن بعض فيها ألا تراهم سوها مخلاف زبيد ومخلاف سنحان ومخلاف همدان لا بد من إضافته إلى قبيلة.(72/42)
بعض معاهد بيروت
الصحافة البيروتية
سبقت بيروت غيرها من مدمن الشام بإصدار الجرائد ففيها صدرت سنة 1858م أول صحيفة عربية في هذه الديار باسم حديقة الأخبار ثم صدرت جرائد ومجلات أُخرى عَلَى عهد السلطان عبد العزيز وأوائل عهد السلطان عبد الحميد المخلوع ومناه ما كتبه الأكفاء أمثال البستاني والأحدب وبوست وصروف ونمر واليازجي والحوراني وغيرهم. ولما قويت شأَفة المراقبة عَلَى المطبوعات ولاسيما في الثلث الأخير من عهد المخلوع تراجعت الصحافة البيروتية وكان بعضها قد أقفل وبعضها نقل إلى قطر آخر وبعضها ثبت ولكن عَلَى مضدد وضعف لا يكاد يوصف.
حتى إذا انتشرت الحرية كثرت الصحافة حتى بلغ ما صدر منها مجدداً 56 جريدة ومجلة أكثر من نصفها لم يزل ينشر وبها بلغ عدد الجرائد البيروتية 25 جريدة ومنها ثماني ويومية والباقيات أسبوعية ونصف أسبوعيات وبلغ عدد المجلات 12 مجلة حية وهو عدد كثير عَلَى سكان مدينة لا يتجاوزون المئة وخمسين ألفاً عَلَى حين لا يصدر في جميع بلاد الشام وبيروت في الجملة أكثر من مئة صحيفة بين يومية وأسبوعية ومجلة شهرية ونصف شهرية أو مرة في الشهرين عَلَى اختلاف النزعات ومنها الجدي الخباري ومنها الفكاهي الهزلي.
إن هذه الهمة التي تبدت مظاهرها من أدباء بيروت ولبنان حرية بالثناء لو لاحظوا في نشر صحفهم حاجة البلاد أولاً ثم نظروا في أنفسهم وحكموا عليها أو لها من حيث الكفاءة والاستعداد بيد أنه لم تمض بضعة أشهر عَلَى نشر القانون الأساسي وقد بردت حماسة القوم للحرية وانفثأت صورة الغضب من أنصار الظلم والاستبداد حتى أذخ الزمان يمحص الصحف فيشعر بعض من تهجموا عليها عَلَى غير استعداد مادي وأدبي أنهم كانوا في غرور بأقدامهم عَلَى بث أفكارهم عَلَى رؤُوس الأشهاد واقتحامهم المنافسة مع الأكفاء بحث أضروا بهم وبأنفسهم معاً وستدعو الحاجة بعد إلى تراجع بعض هذه الصحف فيبقى منها الأصلح بحسب سنة الكون في الأعمال.
نقول الحاجة لأن قراء الصحف في سورية محدود عددهم وقد أَصبحوا يجبهون ليشتركوا(72/44)
حتى اضطر كثر من أرباب المظاهر أن يتناولوا عَلَى الرغم منهم عدة صحف في آن واحد ومعظمها متحد النزعة والمعنى تكفي منها الواحدة والثنتان وما زاد عن ذلك فضول وإضاعة وقت. ووطد معظم المشتركين أنفسهم عَلَى قطع اشتراكاتهم السنة بعد الأخرى فكان الوارد عَلَى إرادات الصحف لا يسد نفقات الطبع ويعول القائمين بها في الجملة فاضطرت إلى الاقتصاد غير المحمود حتى أصبحت لفترة في أجرة المترجم والمراسل وأثمان البرقيات وغيرها قصارى أكثرها أن تجيد النقل والاقتباس وتلفق مما حضر لديها من الأخبار أفاد القراء أو لم يفدهم خدم البلاد أو أضرَّ بها.
إن صدور ثماني صحف يومية في ثغر صغير كبيروت دليل الإقدام وهذا العدد لا يصدر مثله من بلاد العرب إلا في مدينة القاهرة ولكن أين مكانة تلك العاصمة من بيروت وهل في مكنة بيروت أن يكون لها قراء كالمصريين استنارة عقولهم وكثرة غناهم وتشاجر الأغراض السياسية في بلادهم. ولولا أن معظم الجرائد الكبرى في نصر أصبحت تصدرها شركات وجمعيات كما هي الحال في الغرب لما عاش أكثرها ولما استطاع القسم الآخر أن يظهر بهذا المظهر من القوة والغناءِ.
ومن أجل هذا فكر بعض أرباب الصحف اليومية هنا أن يتحدوا ويصدروا جريدة واحدة كبرى عَلَى مثال الصحف الرسمية الراقية وفيها ما في تلك من إمارات التحسين والفائدة ولو وفقوا لإتمام هذا المشروع الجليل ونجحوا فيه لخدموا البلاد خدمة تؤثر ووفروا من عنائهم وعناء القراء الفقراء وزاد مع الأيام ربحهم واثبتوا لأهل الشام أن بعض قادة الأفكار من دعاة الاتحاد والوئام علموا الناس بالمثال الحي أن صحافتهم ثرت عَلَى أقدام صحافة الغرب وأن ما يعجز الأفراد عَلَى الاضطلاع به لم يعجز الجماعة. ومتى تمت هذه المنية في الصحف السياسية يسهل تقليدها في المجلات العلمية فتدخل مطبوعاتنا في دور جديد يصح أن يلحق بالراقي من مطبوعات الأوربيين والأميركيين.
إن بيروت التي اعتادت أن تصرف جرائدها في أقطار الشام لا تلبث إذا كانت لها صحافة راقية أن يقبل الناس عليها في جميع بلاد القطر وإلا فتظل كل ولاية بل كل لواء بل كل قضاء مكتفية بصحفها كما هو المشهد الآن في القدس ويافا وحيفا وصيدا وبعبدا وعاليه وجزين وطرابلس واللاذقية وحلب وحماة وحمص ومرج عيون والقنيطرة وزحلة ودمشق(72/45)
فتكاد لا تبع فيها الصحف الراقية إلا أعداداً معينة سيتناقص عددها مع الزمن وصدور الأحسن فالأحسن.
ولا مشاحة في أن الصحافة مثال من أمثلة ارتقاءِ الأمة وانحطاطها وإن صحافتنا يجب أن تقود إليها الناس بالحق والصدق لا أن تنقاد إلى أهواء الناس والعامة منهم الخاصة فإن بعض الصحف جارت العامة مثلاً عَلَى ما يريدون في نقل أخبار هذه الحرب الناشبة الآن في طرابلس الغرب بين العثمانيين والإيطاليين فراجت بعض الشيء ولكن هذه الهبة لا تدل عَلَى ارتقاءٍ في العقول ولا عَلَى إقبال حقيقي وكان أولى أن تنقل للقوم الأنباء بدون زيادة ولا نقص مع مراعاة السياسة المتبعة من تقوية القلوب والتفاؤل بالخير للمستقبل فإن من أبشع المظاهر أن يستتبع العامة الخاصة وما طرأ الفساد عَلَى أحوالنا الدينية والدنيوية إلا لمجاراة الخواص للعوام في أُمور كثيرة.
وأي ارتقاء الآن والأمة نراها تقبل عَلَى الصحف الهزلية أكثر من إقبالها عَلَى الصحف الجدية وإن كان من جرائد الهزل ما هو سلوى النفس وأحماض القلب ولكن كثرة الإقبال عليها أكبر دليل عَلَى أن الأمة أميل إلى الخيال منها إلى الحقائق وأنها أمة كسل لا أمة عمل.
هذا ولجرائد بيوت الفضل الأكبر في بث ملكة المطالعة في الناس وتعويدهم الفصيح من الكلام والصحيح من الآراء ولذلك تجد مجموع البيروتيين أرقى من مجمع غيرهم من سكان قواعد هذه الديار لكثرة توفر عامتهم وخاصتهم عَلَى مطالعة الجرائد والانتفاع بما تنشره من طريف المعارف والمبادئ والتكرار يؤثر في الأحجار وربك يفعل ما يشاء ويختار.
مدرستان إسلاميتان
إذا كانت بيروت تعد اكبر معاهدها العلمية المسيحية كلية الأميركان وكلية اليسوعيين فإن من الواجب أن تعد اكبر المدارس الإسلامية فيها الكلية العثمانية الإسلامية ودار العلوم والميزة بين المعهدين الأولين والمعهدين الآخرين أن الغرض في الأولين خدمة فكر خاص أقل ما يقال فيه تزهيد نفوس أكثر المتخرجين منهما في خدمة بلادهم وإضعاف الشعور الوطني أما الحالة في المدرستين الناجحتين فهي عَلَى خلاف ذلك تنمي العاطفة الوطنية(72/46)
وتهيئُ رجالاً يبقون في بلادهم يخدمونها بما تصل إليهم طاقتهم. وهذا من أعظم ما تمدح عليه المدرستان الإسلاميتان.
نشأت الكلية العثمانية منذ سبع عشرة سنة بهمة رجل أزهري لقي الأمرّين في سبيل مشروعه وقاومه أعداء الإصلاح والتجديد وأنصار المنافسة والحسد ما وسعتهم المقاومة فكان بثباته معلماً للمعلمين كيف يكون الصبر عَلَى ما أخذوا النفس به. ولا عجب فصبر المعلمين يجب أن يتعلموه من سيرة الأنبياء والمرسلين خصوصاً والمعلمون لا يخرجون عن كونهم مبشرين ومنذرين ولكن يوحي غيرهم وسيرة من تبعوهم من الحكماء والأنبياء.
هذا الأزهري هو الشيخ هو الشيخ أحمد عباس أحد أساتذة بيروت ورئيس هذا المعهد النافع قام بقوته إلا ما كان من معاضدة بعض المستنيرين في هذا الثغر لعمله وخصوصاً من تألفت منهم عمدة المدرسة مؤخراً من رجال بيروت وبعض قادة الأفكار فيها فوفق حتى اليوم إلى تخريج زمرة من الشبان المنورين ومنهم التاجر والصحافي والطبيب والحقوقي وقد كان في كل دوار مدرسته يستعين بالأساتذة الأكفاء من أي مذهب كانوا يعلم تلامذته بذلك التسامح المحمود والأخذ عن المخالف فيما لا يخدم رأيه ومبدأه.
زرنا مدرسته وقد زرناها عدة مرات في الأعوام الماضية فشهدنا النضوج آخذاً بتعاليمها والكمال قريباً منها والثبات متمثلاً في أرجائها والعناية بتربية جسم الطفل وعقله غايتها فهي في أجمل بقعة وأعلاها من أحياء بيروت (برج أبو حيدر) تطل عَلَى لبنان وقراه وبيروت وحدائقها الغناء لو تم لها ما يريده لها أحبابها أن تملك البنايات التي قامت فيها وأوى إليها أساتذتها لكانت كاملة في مادياتها كما كملت أو كادت بمعنوياتها.
نعم لو كانت لها دار قوراءُ وقصور تؤوي الداخليين والخارجيين من تلامذتها لبلغ تلاميذها ضعف ما هم الآن (370) منهم (140) داخلياً من أبناء بيروت وأنحاء سورية وغيرهم ولكن المسلمين ليسوا من القوة عَلَى الأعمال بحيث يهتمون لمشروعاتهم العملية اهتمام الغربيين لها وليس الفقر وحده هو الذي يقعد بهم عن مجاراة الأمم الحية وإلا فإننا نرى أضعف منهم بما لا يقاس يهتمون لمثل هذه الأمور أكثر منهم عَلَى أن كثيراً في رجال نهضتنا يودون عَلَى الأقل لو سكت عنهم قومهم وخلصوا من أعمالهم لا عليهم ولا لهم لا تنشيط ولا تثبيط وهذا سر من أسرار انحطاطنا العجيب.(72/47)
في الكلية العثمانية اليوم 30 أستاذاً فيهم العربي والتركي والإفرنجي و30 موظفاً في أعمالها المختلفة وتقسم مدة التعليم فيها إلى ثلاثة أقسام القسم الابتدائي ومدته سنتان والقسم الاستعدادي ومدته أربع سنين والقسم العلمي ومدته أربع سنين أيضاً وفيها قسم للصغار من سن الخامسة إلى العاشرة يبلغ عددهم 3 طفلاً تقوم عَلَى تربيتهم معلمة مسيحية ومربية (قهرمانة) أخرى تنام معهم وتعنى بشؤونهم كما تعنى الأم بشؤون أطفالها.
ينال المتخرجون من هذه الديار شهادة تعادل شهادة البكلوريا في المدارس الأخرى العالية وأهم ما يتعلم فيها من المعارف والعلوم واللغات وتعليم النافع من الآداب الدينية العالية وإعداد أذهان المتعلمين إلى قبول النور الجديد ممزوجاً بالنور القديم وتخريجهم في مضمار الارتقاء.
وفي بيروت مدرسة ثانية ناجحة نشأت منذ ثلاث سنين لهمة رجل هندي محمد عبد الجبار أفندي خيري وهو رجل درس في كلية عليكر الإسلامية ثم جاءَ بيروت وتخرج في كلية الأميركان حتى أحزر هو وشقيقه محمد عبد الستار أفندي خيري شهادة معلم في العلوم فحدثتهما نفسهما أن يخدما هذه البلاد خصوصاً بعد أن درسا أحوال مرسلي الأميركان واطلعا عَلَى مقاصدهم وقام في ذهنهما أن يبشرا بالإسلام كما يبشر أولئك بالنصرانية فأنشآ هذه المدرسة بمعاضدة فئة فاضلة من شبان بيروت وتجارها فقاما بعملهما وإنكار النفس مبدأهما والغيرة الدينية دافعتهما وقد تشبعا بتعاليم الغربيين ولاسيما السكسونيين وعرفا بالخبر والخبر كيف تنجح الأعمال وتنضج وأي الأساليب أولى بالإتباع في التعليم.
يدهش المرء من تقلل هذين الأستاذين ومن تقشفهما وصبرهما واستنارة عقلهما وتوقد الذهن والغيرة في نفسهما ويعجب أكثر إذا رأى الرئيس أحدهما يرحل في السنة الماضية إلى أوربا يدرس في فرنسا وإيطاليا وسويسرا وألمانيا وإنكلترا طرق التعليم في مدارسها وكلياتها ويؤوب إلى هذا الثغر المسعود بخدمة المهاجرين إليه يطبق فيه عَلَى الطريقة الإسلامية ما يلائمنا من أوضاع الغرب.
لا أعلم مدرسة إسلامية في سورية تعلم صغار الطلبة المبادئ العلمية بالعمل مثل دار العلوم فطريقتها في تعليمهم طريقة السكسونيين في حدائق الأطفال (كندر جاردين) تترك التلميذ يختار له بقعة من حديقة المدرسة يحرثها ويزرعها ويسقيها بنفسه وينظر فيما يلائم(72/48)
مغروساته ومستنبتاته ثم يعلم مبادئ الجغرافيا والطبيعيات والرياضيات بالعمل دون النظر ومنه يتطرق إلى النظريات.
كان يبلغنا من نجاح صغار الأولاد في القديم والحديث أمور كثيرة وها نحن رأينا اليوم صورة من صور الارتقاء المهم في تثقيف عقول الأطفال بحيث لا نغالي إذا قلنا أن صغار أبناء دار العلوم يعرفون من مبادئ الأشياء وحوادث الكون الصحيحة ما لا يعرف بمثله من الصحة والمكانة شيوخ هذا الزمان. والاستظهار لا حظ له في هذه الدار كما له في الكلية العثمانية وطريقة هذه أقرب إلى النواحي الإفرنسية وطريقة تلك إلى الطرق الإنكليزية السكسونية.
لم نر في دار العلوم أسماء الخطط الكثيرة والمواد المنوعة التي تورد في برامج التدريس من قبيل الإعلان عن المدرسة وتنوع فنونها عادة بل وجدنا فيها العمل أكثر من القول والتأني رائد العمل والإخلاص لحمته وسداه رأينا فيها القليل رأينا فيها القليل الملقن والقليل من المسائل مع النظر البليغ فيها أفضل من حشو الذهن بالمواد النظرية ولو اقتصر من تعليم اللغات عَلَى العربية والتركية والإنكليزية أو الإفرنسية فيها لانطبقت عليها هذه النظرية كل الانطباق وذلك لأن اللغة العربية لغة البلاد والدين والتركية لغة السياسة والدولة ولغة واحدة من لغات أوربا تكفي فيما نحسب اللهم إذا جعل تعليم أكثر من لغة اختياراً وإلا فالعمر يضيق عن درس اللغات وإتقانها واللغات آلة لا غاية.
مدرسة دار العلوم الخارجية والسعي لها متواصل لابتياع أرض لها واسعة تقام عليها بناية المدرسة ومما أعجبني فيها فتاتان مسلمتان تتعلمان بجانب الفتيان وبهما وبما رأيته من نجاحهما ذكرت طريقة الأميركان في التربية المشتركة فعسى أن تكون الفتاتان مقدمة لهذه الطريقة التي ثبت غناؤها في ديار الغرب فيذكرنا بما كان من دروس المحدثات والقارئات في عصور ارتقاء المسلمين في المساجد والجوامع وإنا لنرجو أن يزيد عدد طالبيها بمرور الزمن وعددهم الآن 170 طالباً يتخرجون عَلَى أدب النفس وأدب الدرس.
ربما يتبادر للذهن شيء من قصور معنى الكلية الإسلامية وليس أحسن في الجواب عَلَى ذلك من نقل ما تقوله هذه الدار عن نفسها في بيانها السنوي سنة 1223 - 1911 قالت:
نعني بالكلية العثمانية الإسلامية معهداً علمياً راقياً يدرس جميع العلوم والفنون التي تخول(72/49)
المتخرج منه أن يكون حاصلاً عَلَى شهادة البكلوريا - أن يكون رجلاً تام الأدوات علماً وأدباً - وأن يكون ذلك الرجل الذي تحتاجه هذه البلاد بعلم راسخ وحقائق راهنة متزوداً حسن الخلق بعرى الوطنية متسلحاً بسلاح العلم والمعرفة.
هذه غاية العمدة. وهذه هي الإصلاحات التي أدخلت إلى المدرسة
(1) إصلاح التدريس الابتدائي وجعله سنتين مفردتين عن التدريس الاستعدادي والعلمي - ثم إتباع طريقة المشاهدة والحس في التعليم فيه - وتقوية مفكرة الشباب وتعويده عَلَى الاستنتاج - وأن يكون أغلب التعليم في هذا القسم باللغة العربية كما سيظهره بروغرام التدريس المفصل.
(2) يجب أن يرقى التعليم الاستعدادي وأن تفصل إدارته ثم أن ينظر في الكتب التدريسية وخصوصاً العربية وأن تتبع لأساتذة الطرق الحديثة في التربية والتعليم - وقد سافر الأستاذ الرئيس إلى مصر وزار معظم مدارسها الميرية والأهلية من ابتدائية وثانوية وعالية وشاهد طرقهم في التعليم وبحث في الكتب المدرسية في اللغة والفنون واستصحب معه كتباً جمة تفي بالحاجة وتقوم بالمطلوب.
(3) السعي الحثيث في أن يكون تدريس العلوم باللغة العربية مستعملة لذلك الكتب المؤلفة أما الموضوعات التي يؤلف فيها حتى الآن فإن الكلية ستقوم بها وتستعمل الأساتذة طريقة إلقاء المحاضرات وطبعها في مطابع جلاتينية تسهيلاً للتلامذة وحفظاً لتلك المحاضرات.
(4) أوقات التعليم لا تزيد عن خمس ساعات يومياً مع زيادة الاعتناء في الرياضة البدنية والحركات الجمبازية التي تدرس تدريساً خاصاً.
(5) تعين الكلية قهرمانة للاعتناء بالتلامذة الصغار في القسم الابتدائي وملاحظة ثيابهم ونظافتهم.
(6) العلوم والفنون والموضوعات التي زيدت: الفلسفة الأدبية والأخلاق الدينية. المطالعة العربية لعامة الصفوف في الأقسام الثلاثة. تاريخ الآداب العربي. النقد التاريخي. علم المثلثات. علم الفلك. الفلسفة العقلية. علم الرسم. أصول التجارة والمراسلات فيها وجغرافيتها.
(7) زيادة أوقات التعليم العملي في الكيميا والطبيعيات. وجلب الأدوات اللازمة لذلك.(72/50)
(8) يجب أن يكون التدريس والكلام سواء من الأساتذة أو التلاميذ بالعربية الفصحى.
(9) تخصيص قطعة من الأرض لبعض التجارب النباتية والزراعية.
اللغة العربية: هي الأساسية في الكلية يدرسها التلميذ في كل صف من صفوفها في الاستعدادية والعلمية عَلَى أن التعليم الابتدائي إن لم يكن كله فجله فيها وذلك لأن اللغة العربية هي اللغة الأساسية الأصلية فإذا تمكن الشاب من لغته الأصلية يمكنه أن يتفرغ بعد ذلك إلى بقية اللغات الأجنبية - فتعين لها الكلية الأوقات اللازمة لإتقان الصرف والنحو وعلوم البلاغة (المعاني البيان البديع) واللغة والعروض وقرض الشعر والإنشاء والتعريب بحيث يتخرج الشاب ضليعاًَ في لغته عربي الأسلوب فصيح البيان كتابة وخطابة. والكلية تنشط همم الأساتذة عَلَى نقل العلوم الحديثة إلى العربية لتدريسها فيها لأن بذلك خدمة اللغة والأمة العربية.
اللغة التركية - تبذل الكلية العثمانية جل جهدها لأن يكون ابن العثمانية متقناً لغة دولته الرسمية قراءة وكتابة وإنشاء وهي تخصص لها في الدائرتين الاستعدادية والعملية الأوقات اللازمة لإتقان فروعها من مكالمات ومفردات وصرف ونحو وبلاغة وإنشاء وأدبيات وترجمة.
اللغة الإفرنسية - هي اللغة الأجنبية التي اختارتها عمدة الكلية لتدريسها درساً متقناً والاعتناء بتعليمها اعتناءً تاماً ليطلع التلميذ عَلَى كنه أسرارها وحتى يمكنه التبحر في مختلف الفنون الحديثة والعلوم العصرية.
أما مواد تعليم هذه اللغة فهي الصرف والنحو والبلاغة والبيان والنقد البياني والإنشاء والمراسلات التجارية. والترجمة وتاريخ علم الأدب الإفرنسي.
إن ما سبق ذكره من اللغات هي إجبارية في المدرسة واللغة الاختيارية هي الإنكليزية أو الألمانية فتعلم منها الصرف والنحو والترجمة والإنشاء والمراسلات.
وعلوم الكلية (1) العلوم الدينية. القرآن الشريف. التوحيد. الفقه. عملاً وعلماً من عبادات وفرائض ومعاملات (مجلة الأحكام الشرعية) وعلم أصول الفقه. والفلسفة الأدبية من القرآن الكريم والحديث الشريف.
(2) التاريخ من قديم وأجيال متوسطة وحديث وحاضر. والسيرة النبوية. وتاريخ العرب.(72/51)
(3) الجغرافيا. الرسم الجغرافي. الجغرافيا التجارية. والجغرافيا الاقتصادية سيما كل ما يتعلق بالمملكة العثمانية والدول الشرقية.
(4) الرياضيات. الحساب. الجبر. الهندسة. علم الفلك. المثلثات. مسك الدفاتر.
(5) العلوم الطبيعية من مواليد ثلاثة (حيوان نبات جماد) علم خواص الطبيعة. الكيمياء. حفظ الصحة.
(6) الرسم. حسن الخط. الموسيقى.
(7) المنطق. الفلسفة. الاقتصاد السياسي. علم الأخلاق.
(8) تاريخ الأدب العربي. خطب في روح الاجتماع والعمران. فن الخطابة والإلقاء.
أما دار العلوم فلها الآن أربعُ مدارس: (1) المدرسة التأسيسية (2) المدرسة الابتدائية (3) المدرسة الاستعدادية (4) المدرسة الصيفية.
(1) المدرسة التأسيسية - يراجع الرئيس بشأن هذه المدرسة.
(2) المدرسة الابتدائية - هذه تؤهل طلبتها للمدرسة الاستعدادية.
فهي تعلمهم الدروس الأولية في الموضوعات الآتية: - (1) القرآن الكريم والتعليم الديني (2) اللغات - العربية والتركية والإنكليزية والإفرنسية مع علم آدابها وفن الخطابة (3) الرياضيات - الحساب وأشكال هندسية بسيطة (4) الجغرافيا الوطنية والطبيعية (5) التاريخ - حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص وتاريخ حياة بعض عظماء الرجال والنساء. (6) علوم عصرية - مبادئ في معرفة المحيط القريب. إشارات في الموضوعات الأساسية من علم الحيوان والنبات وطبقات الأرض والأتربة والمعادن والكيمياء والحكمة الطبيعية والفلك ومنافع أعضاء الإنسان وحفظ الصحة والهيئة الاجتماعية الخ. (7) الرسم (8) التمرين العسكري العثماني وألعاب رياضية. وهذه المدرسة تستغرق أربع سنين مدرسية ولغة التعليم فيها هي العربية فقط.
(3) المدرسة الاستعدادية - يقصد بها تهيئة طلبتها لدخول المدارس العالية والكليات في الوطن وفي الخارج فهي تتقن الدروس الابتدائية في الموضوعات المشروع بها في المدرسة الابتدائية مع زيادة تفصيل ودقة وترتيب وتزيد عليها كما هو مبين أدناه: (1) التفسير والحديث وعلم الأديان وعلم الأخلاق ومبادئ أساسية من حكمة الإسلام. (2)(72/52)
دروس أعَلَى في اللغات وعلم آدابها وممارسة أكثر في الإنشاء والخطابة (3) مراجعة الحساب ودروس في مبادئ الجبر والهندسة (4) جغرافيا المملكة العثمانية المفصلة والجغرافيا السياسية العامة. (5) تاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ الإسلام والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وتاريخ المملكة العثمانية ومختصر تاريخ أوروبا القديم والحديث. علوم عصرية - حث عَلَى إمعان النظر في الطبيعة والمحيط القريب وإيضاحات في الموضوعات الأساسية من علم الحيوان والنبات وطبقات الأرض والأتربة والمعادن والكيمياء (6) والحكمة الطبيعية والفلك ومنافع أعضاء الإنسان وحفظ الصحة والهيئة الاجتماعية البسيطة (7) الرسم بالألوان (8) إتقان التمرين والتهذيب العسكري العثماني وبالاختصار يربى الطالب من كل الوجوه.
وهذه المدرسة تستغرق سنتين مدرسية. أما لغة التعليم فتكون غالباً اللغة العربية إلا في العلوم العصرية وغيرها من الموضوعات التي لم تترق بعد في العربية والتركية.
(4) المدرسة الصيفية - هذه أنشئت خصوصاً للطلبة المقصرين الذين يرغبون في تعويض ما نقصهم والتخلص من جزاء لتقصيرهم ليرتقوا صفوفاً أعَلَى وأيضاً للطلبة الذين ليس لهم عند أهلهم أشغال نافعة ويرغبون في تقوية أنفسهم لدروس السنة الآتية.
العربية في الكلية
كان المأمول من الكلية السورية الإنجيلية الأميركية أن تكون في مقدمة معاهد التعليم في هذه الديار في العناية بآداب العربية وإحياء مدنية البلاد وإدخال المدنية الحديثة إليها بحيث يأتي من تعليم المدنية العربية ممزوجة بالمدنية الغربية نوع من هذه المدنية النافعة. هكذا بدأَت تلك الدار ولكن عمدتها رأَوا أن يجعلوا سنين التقدم للغة الإنكليزية بدعوى أن العربية يضيق صدرها عن الإفصاح عن العلوم الحديثة ولا يتيسر لها أن تسير مع المستحدثات العصرية جنباً إلى جنب.
وهذا الخلاف هو الذي حمل فقيدي العلم والآداب الدكتورين كرنيليوس فانديك ويوحنا ورتبات عَلَى مغادرة منابر التدريس في صفوف الكلية وكانا من أعظم عمدتها العاملين لأنهما أيقنا أن التعليم بالإنكليزية مؤخر لنشر العلم في هذه البلاد وداع إلى تراجع الكلية عَلَى ما هو المشاهد اليوم وإذا قل النافعون النابغون في المتخرجين من هذا المعهد العلمي(72/53)
العظيم وانصرفت وجهة نظر المعلمين إلى الاستخدام في مصر والسودان وأميركا فهاجر إليها خيار أبنائنا كانت الكلية معهم أشبه بمحطة توضع فيها البضائع أياماً تنقل إلى قطر آخر فليس لبيروت بل لسورية من هذه الكلية إلا أنها موطن لتعليم أولادنا عَلَى الطريقة التي تريدها تلك الكلية ثم الرحلة بهم إلى حيث تروج بضائعهم رحلة أبدية ووقتية.
فإذا كان لهذه الكلية التي ما دخلناها مرة إلا ورأينا فيها مثال العظمة الأميركية وقوة المتحمسين الأميركان لبث دعوتهم الدينية ثم المدنية - هذا الامتياز وتلك القوة العلمية والمادية أليست حرية بأن تنفع البلاد التي أُسست فيها وعاهدت النفس عَلَى خدمتها أكثر مما نفعتها: وذلك بعنايتها بتدريس اللغة العربية تدريساً يحمد أثره ويطيب خبره ومخبره. وهذا لا يكون إلا بانتقاء خيرة الأساتذة لتدريسها كما يختار للإنكليزية عَلَى الأقل ونشر الأسفار في العلوم الحديثة والقديمة وإلقاء المحاضرات والخطب عَلَى الدوام بالعربية كما تلقى بالإنكليزية.
ربما شق هذا القول عَلَى غير المنصفين من تلامذة الكلية وأساتذتها ولاسيما من رأَوا نيل شهادة البكلوريا منها هي غاية علم الأولين والآخرين وأن شهادة الطب أو الصيدلة أو التجارة منها هي جماع المعرفة والنجاح العالمي وأن من لم يسعده الحظ بالدخول إلى أبواب الكلية والجلوس عَلَى دكات صفوفها يستحيل عليه أن يتعلم تعليماً نافعاً إلى غير ذلك من الدعاوي التي طالما تجلت في أقوال كثرة من المتخرجين في الكلية وأفعالهم أو في نفوس من وقفوا أنفسهم عَلَى خدمة الكلية بما تريد ليعدوا في جملة معلميها وإن كانت عمدة الكلية لا تحسب أبناء العرب بل أرقاهم كعباً بمثابة أصغر معلم أميركي فيها مهما صانعوا أو تلطفوا مع الأميركان.
ومن الغريب أن بعضهم كان يشكو من سلب إرادة المرؤوسين من الرهبان الباباويين وفناء إراداتهم في إرادة رؤسائهم فلما رأينا أساتذة العربية في الكلية الأميركية ثبت لنا أن مرسلي البرتستانت ليسوا أقل سطوة عَلَى نفوس مرؤوسيهم من أولئك الرهابين وما نظن أن معلمي العربية متى أيقنوا أن المدرسة محتاجة إليهم أكثر من احتياجهم إليها تعاكسهم في إصلاح طريق تعليم العربية وإحكام ملكتها بالصحف والكتب والخطب والدروس.
ومن الأسف أن تكون الكتب المخطوطة والمطبوعات العربية في مكتبة الكلية أقل من(72/54)
عشر المطبوعات الإنكليزية بل لا تكاد تبلغ بمكانتها جزءاً من عشرين جزءاً من مكانة الكتب الإفرنجية وإن ما في مكتبة الكلية من قمطر الكتب أدنى إلى أن يكون مكتبة فرد صغيرة منه إلى أن يكون مكتبة جمعية كبرى لها في المصارف المالية نحو أربعمائة ألف ليرة تتقاضى يعها السنوي.
نعم إن مكتبة الكلية لا تفي بحاجة مشتغل واحد بالعلم فكيف تكفي في سد حاجة مئات المشتغلين وكذلك الحال في مجلة الكلية التي تصدرها عمدة المدرسة باللغة الإنكليزية والعربية وتجعل موضوعاتها الإنكليزية أمتع وأوسع والعربية تافهة عَلَى الأغلب.
هذه الملاحظة التي نلاحظها عَلَى كلية الأميركان نلاحظها أيضاً عَلَى كلية القديس يوسف الكاثوليكية في بيروت فإن القول الفصل للغة الإفرنسية فيها يتضلع منها المتخرجون فيها أكثر من تضلعهم من الآداب العربية وما رأينا نابغة بالإنشاء العربي مثلاً تخرج عَلَى أساتذتها عَلَى كثرة من يعد القائمون بأعبائها من أسماء المؤلفين والمترجمين والتجار الذين درسوا في الكلية اليسوعية اللهم إلا إذا كان ممن لم نعرفهم ولكن ما يشفع لهذه الدار أن عمدتها جمعوا لهم مكتبة شرقية منقطعة القرين في هذه الديار وسمحوا للمنقطعين للتأليف والبحث من قسيسهم المتعلمين أن ينشروا ما طاب لهم من الأسفار العربية خصوصاً ما وافق غرضهم الديني وخدم أفكارهم ولو بالواسطة فكان من أثر ذلك أن نشرت المطبعة الكاثوليكية الملاصقة لهذه الكلية الكاثوليكية نحو مئة كتاب عربي وبعضه خلا من المسخ والحذف وإن نشروا في مجلة المشرق عدة رسائل نافعة في جنب ما ينشرونه من المقالات الدينية.
هذا ما نراه في الكليتين العظيمتين القديمتين الأميركية والإفرنسية ولغة التعليم فيهما وما نشأّ لهما من الآثار وما يرجى لهما منها إذا عنيا أكثر من الآن بلغة البلاد فعسى أن يحل من نفوس القائمين عليهما المحل المطلوب وينزل منزلته من الإخلاص وإرادة الخير حتى يكون في سلبهما أبناءَنا بتعليمهم لغات الأجانب بعض التعزية في تعلميهم لغة أمهاتهم وآبائهم ليقووا عَلَى بث الفكر المقصود بين أهل جيلهم وقبيلهم.
معامل السيوفي
كما تأَمل الناظر في الأعمال الكبرى التي قامت بهمم الأفراد في هذه البلاد لا يراها تخرج(72/55)
عن القاعدة التي جرت عليها عند أهل الحضارة الحديثة والقديمة فينجح في العادة من تمرنوا سنين عَلَى العمل الذي يريدون أن يتمحضوا له وعرفوه بدقيقه وجليله وفروعه وأصوله. فالناجح في أرباب المطابع هو الذي سبق له وتعلم في صباه صناعة تنضيد الحروف واستعمال الأدوات والكتابة عَلَى الحجر. والناجح في زراعته هو الذي يحسن معرفة الحرث والكرث بيده ويجيد البذر والتسميد والتشذيب والعزق والسقي والتعشيب وأنواع البذار وما يجود منه وأجناس التربة وما يصلحها وتربية الأشجار والنباتات والقيام عَلَى المواشي والناجح بعمل الأقمشة هو الذي يلم إلماماً مهماً بكيفية نسجها وحياكتها وضروب الحرير والكتان والغزل والصوف. بل والناجح ففي كل فروع الأعمال الاقتصادية والصناعية والتجارية هو الذي مشى في عمله عَلَى سنة الكون فبدأ صغيراً ونمت معارفه بتقدمه في السن فينال من النجاح بقدر جهاده وملاءمة الأحوال له وحالة محبطة وأسبابه ورأس ماله المادي والمعنوي.
هذه المقدمة تنطبق كل الانطباق عَلَى إلياس أفندي جرجي السيوفي صاحب المعامل المشهورة به للتجارة والفرش في بيروت. كتبت لي زيارتها هذه المرة فرأيت صورة مصغرة من صور الغرب في بلاد الشرق وتمثل لي فضل الذكاء العربي وأنه وإن لم يفق الغربي فليس دون وإن يد أبنائنا صناع في الأعمال لا يفوقها ابن فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا إلا بأن الإفرنج يرجعون إلى أساليب في العمل تنقصنا أو تكاد في أكثر البلاد لا تجد لها أثراً بيننا وهي ترجع إلى أسباب رئيسية مهمة أولها الصبر عَلَى العمل وثانيها تجويد العمل وثالثها القدر اللازم للعمل من المال والمعرفة ورابعها الاقتصاد في الوقت والأيدي العاملة وخامسها تنشيبط الآهلين والحكومات للمصنوعات الوطنية وحماية التجارة الداخلية بقوانين تنفذ عَلَى الصادر والوارد وسادسها وجود المواد الأولية التي يمكن بها الاستغناء عن البلاد الخارجية في الجملة.
دلت معامل السيوفي أن الشرقي بمفرده أمة وأن الأمة بمجموعها ضعيفة بمعنى أن الشرقي يعمل مفرداً أحسن من عمله مجتمعاً وذلك لفقد التربية المشتركة بين المشارقة يرجعون إليها وتضم عراهم. فلو كان معمل الغزل في دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خيره وعليه شره لما اضمحل هذا الاضمحلال الذي نراه عليه اليوم ولو كانت معامل السيوفي في(72/56)
بيروت لشركة لما رأينا فيها هذا النظام والنجاح وبذلك صح لنا إثبات ما قدمناه من أن الشرقي أمة بمفرده والأمة ضعيفة بمجموعها وأن لا سبيل إلى قيام الأعمال الكبرى في بلادنا وإن نقدر لها النجح المطلوب إلا إذا اتحدت مناحينا وتعلمنا تعليماً وطنياً اقتصادياً واحداً.
وأي دليل عَلَى ذلك أفضل من أن نقول بأن صاحب هذا المعمل بدأ منذ 24 سنة وهو في الثالثة عشرة من عمره لا يملك غير ثمانمائة قرش ومعلومات جزئية في التجارة تعلمها في الممارسة ومنها ما أحرزه بقانون الوراثة لأن والده كان يعمل بالحرير وجده دمشقي يجلو السيوف في دمشق إن صح أن تؤثر الوراثة في الميل إلى الصناعة. ولا شك أن هذا الميل نما فيه مع الزمن وزيارة أوربا وما فيها من آثار العاملين والمفنيين فكان يتوسع في معمله بحسب سنة النمو التدريجي حتى بلغ اليوم مبلغاً يعد به مفخراً من مفاخر سورية الصناعية ونموذجاً من أنموذجات الذكاء الشرقي الذي يبدع ويجيد إذا تهيأت له الأسباب وحملته الدواعي عَلَى العمل.
عَلَى هضبة من هضاب بيروت الجميلة في حي الأشرفية في مكان بعيد عن مركز حركة هذا الثغر يطل عَلَى سفوح لبنان وبيروت من جهة وإلى البحر الرومي من أخرى قامت هذه المعامل البديعة في بقعة فسيحة من الأرض تدخلها فتخل نفسك في إحدى معامل الغرب الكبرى وأول ما يبدأوك بعد الدخول من الرتاج ساعتان عن اليمين والشمال بجانبهما صندوقان معلقان مقسومان إلى بيوت صغيرة وفي كل بيت مقواة كتب عليها اسم أحد العملة وطبع عليها ساعات الغدو والغداء والرواح فمتى وصل العامل بعد الفجر وقبل الإشراق في الشتاء مثلاً يضع مقواته في بيتها فلا تلبث أن تكتب عليها ساعة مجيئه والدقيقة التي جاءَ فيها بحروف عربية وفي آخر اليوم أو الأسبوع يرجع إليها مدير العمل ويحسب المتأخر من المتقدم ويحسبون ذلك بموجب نظام خاص لم جروا فيه عَلَى مثال نظام العمال في سويسرا والبلجيك والنمسا وألمانيا ومن قوانين العملة في هذه الممالك اختار مؤسس المعمل أحسن ما يلاءم هذه البلاد وينفع في نجاح عملته ويعود عليه وعليهم بالربح واقتصاد الوقت.
وهذه الساعة من أنفع ما يجب استخدامه في معاملنا ومطابعنا ودواوين أعمالنا وبيوتنا(72/57)
التجارية والمالية ودوائرنا العسكرية والملكة ليتعلم قومنا مراعاة الوقت والتدقيق في حسابه حتى يبارك لهم بساعات العمل وأيام الحياة ويتعلموا أن التدقيق في المواعيد أحد دعائم التنظيم في فروع الأعمال ومن أهم أساليب النجاح الذي غفل عنه معظم سكان هذه الديار وعدوا من ينظم أوقاته ويدقق في وعوده واستقبال خاصته ومن لهم علاقة به في ساعات محددة متكبراً أو مهوساً.
يباكر العملة في معامل السيوفي في الصيف والشتاء والخريف والربيع عَلَى السواء وينقطعون ساعات وقت الظهر ثم يعاودون العمل الي قبيل الغروب أو إلى بعده بقليل بحيث لا يتجاوز معدل ساعات العمل في اليوم تسعاً بخلاف عملة أوربا فإنهم يعملون في بعض البلاد كبلجيكا مثلاً زهاء اثنتي عشر ساعة ولكن للمحيط وكثرة الأيدي العاملة والعادة والإقليم دخلاً كبيراً في هذا الاصطلاح ولو لم تكثر هجرة المسيحيين بعد الدستور لوجوب الخدمة في الجندية عليهم وجوباً عَلَى إخوانهم المسلمين فانسل معظم من هم في سن العسكرية إلى أميركا أو غيرها من أبناء الطبقة الدنيا خصوصاً لما قلَّ بذلك عدد العملة في معامل السيوفي فليس فيها اليوم في حي الشرفية وداخل المدينة أكثر من 280 عاملاً مع أن الأدوات والأعمال التي اقتناها صاحبنا تشغل ضعفي هذا العدد فيستفيدون ويفيدون.
أكثر ما يعمل في هذه المعامل منجورات الدور الخشبية وأنواع الفرش وأثاث البيوت ففيها تعمل كما تعمل في الغرب فتتأنق الأيدي والعيون في تجويدها وتساعدها الأدوات التي تدار بالفحم الحجري وتبلغ نحو الستين آلة ومناه لقطع الخشب وصقله وحفره وتقويره وتنشيفه فترى في خشب الجوز والزان من واردات الروم - (أناضول) والأكاجو من كوبا وشوح النمسا وسنديان أميركا والخشب البياسي من قيلقية (أطنة) تعمل في تلك الأدوات الحجرية وتحركها تلك المحركات والآلات كأنها العجين في يد خبازه أو الملاط بيد البناء الحاذق.
قال لنا صاحب المعمل أن الآلة الكبرى المحركة في معمله هي بقوة مئة حصان تنفق في النهار 13 فرنكاً من الفحم وكانت الآلات التي هي أصغر منها تصرف من قبل أكثر منذ ذلك وبهذا يستدل أيضاً أن نفقات المعامل الكبيرة أدنى إلى الاقتصاد وأعمالها أقرب إلى الجودة من مصنوعات المعامل الصغيرة لاسيما والمعامل الكبرى تتجلى فيها قاعدة تقسيم الأعمال فنجد العملة في معامل السيوفي مقسومين إلى عدة أقسام قسم الأدوات وله وكيلان(72/58)
وقسم النجارة وله وكيلان وقسم الحفر وله وكيل وقسم البرداخ وله وكيل وفي هذا القسم نحو أربعين ابنة تعمل فيه وللمحل رسام خاص وكلهم من أبناء العرب ليس بينهم إفرنجي حتى الأدوات قد جعلت في مواضعها بمعرفة صاحب المعمل دون الاستعانة بأحد من غير أبناء وطنه.
تختلف أجرة العامل في اليوم من ستين بارة إلى ستين قرشاً ويحاسب عن أجرته كل يوم سبت من كل أسبوعين في الشتاء ويحاسب في الصيف كل سبت قبل الظهر ليتيسر له الخروج إن أحب إلى الجبل يصرف ليل الأحد وليل الاثنين فيه للنزهة ويقضي عَلَى كل عامل أن يعمل ستة أشهر تحت التجربة. أولاً ثم تحسم من مياومته أجرة أسبوعين تجعل في صندوق المحل حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من المعمل كل يوم أو كل أسبوع كما يفعل بعض العملة في المعامل ويتركون أصاحبها معطلين.
ومن جملة ما شهدته من النظام داخل المعمل قاعة كبرى وموائد يتناول عليها العملة طعام الظهر وآلة تضغط النشارة عندما توضع فيها وهي من اختراع أحد العمال هنا وتلقي بها إلى مكان بعيد خارج بناية العمل ومن هناك يبتاعها أرباب القمامين ومما رايته خارج المعمل من النظام رصف الطريق الموصلة إليه عَلَى نفقة صاحب المعمل وغرس بعض الأشجار عَلَى جانبيها ويبلغ طولها نحو كيلومترين.
هذا ما رأيته في معامل السيوفي من النظام الذي لا أبالغ بأني قلما رأيته في معمل يرأسه شرقي ولذلك بصفق لصاحبه لأنه بدأ به صغيراً سنة 1888 في مدينة بيروت وكبره سنة 1908 في حي الأشرفية عَلَى الصورة التي رأيناها اليوم ونفقة عمارته وأرضه وأدواته تساوي خمسة وعشرين ألف ليرة ولكن لا يتيسر لمن معه مئة ألف ليرة أن يقيم مثله بأدواته ونظامه إذا لم تسبق له معرفة كمعرفة السيوفي ولم يقض سنين مثله في النجارة ويحيط بما جل وقل من أساليب العمل وتجويده فليت كل أعمالنا تجري عَلَى هذا المثال من النظام البليغ والنجاح الأكيد.(72/59)
جنون الاستعمار
إذا قيل أن السياسة لا قلب لها فيقال أن جنون الاستعمار فنون فقد ساق الغرور دولة إيطاليا إلى أن تخرق العهود وقوانين الدول وتبعث إلى طرابلس الغرب وبرقة بمدرعاتها وجيوشها للاستيلاء بدون مسوغ قانوني عَلَى بلاد طرابلس وبرقة من يد صاحبتها الشرعية دولتنا العثمانية ولو أتت دولة شرقية مع دولة غربية ما أتته إيطاليا مع العثمانية لقامت الدول الكبرى يداً واحدة والله أعلم أي تعريض كن يقضين عَلَى المعتدية به ولكن السياسة لا قلب لها وجنون الاستعمار فنون.
قال الرحالة روهلفس الألماني وقد زار صحراء أفريقية مرة ثانية سنة 1877: إن طرابلس الغرب مفتاح أفريقية فمن يملكها يملك السودان كله وفي الواقع أن البحر المتوسط يكاد يمس الصحراء من طرابلس وإليها تنتهي ثلاثة أو أربعة طرق من الطرق المهمة في الصحراء فمن طريق غدامس يوصل إلى السودان الغربي ماراً ببلاد توات وتومبكتو ومن طريق مرزوق وغات ينتهي الطريق إلى بحيرة تشاد وطريق بنغازي (برقة) يؤدي إلى النيل ودارفور ولكن هذه الطرق لا أمن فيها وخصوصاً في جهات فزان من الجنوب حيث ال + + ة والجياع من الطوارق قد يمدون أيديهم بالأذى إلى أبناء السبيل ولاسيما أيام المجاعات وما أكثرها في طرابلس وبرقة.
وهذا ما منع فرنسا وغيرها من دول الاستعمار من قطع المطامع من طرابلس لأنها متنائية الأطراف وعمران الصحراء هو والعدم سواء وبلاد هذا حالها من الفقر الطبيعي يستحيل عَلَى شركة عاقلة في الغرب أن تقد عَلَى إنشاء خط حديدي يرابط أدناها بأقصاها عَلَى الأقل ولذلك كانت نقاط اتصال الصحراء بالبحر من البحر الأتلانتيكي وخليج غينية والبحر الأحمر يفضلها التجار وأكثر طرقها لا ماء فيه أربعة أو خمسة أيام عَلَى الوصول إلى البحر المتوسط من إحدى موانئ هذا الإقليم طرابلس ودرنة وبرقة وطبروق والسلوم.
بيد أن إيطاليا تحلم بالاستيلاء عَلَى طرابلس قبل أن تؤلف وحدتها لتكون لها مركزاً تعتمد عليه بين جزيرة كورس الفرنسوية وثغر برزت التونسي وجزيرة مالطة الإنكليزية وثغر تريسته النمسوي فتجعل طبروق من إقليم برقة مرفأً حربياً في نقطة وسطى بين تلك الجزائر والثغور. ويقول أنصار إيطاليا أنهم إذا تم لهم ما تريد فإنها تنتفع من الوجهة الاقتصادية من برقة عَلَى الخصوص لأنها تشبه تونس بعمرانها وقد غرس اليونان الكرم(72/60)
والزيتون في أرضها وفيها من غلات الإسفنج شيء كثير فتصرف فيها وفي غيرها مصنوعات معامل بيمون ولومبارديا وبالنظر لقرب طرابلس وبرقة من جزيرة صقلية الإيطالية ولكثرة سكان هذه الجزيرة يجيء بعض أهلها يستنبتون الحقول ويستثمرون المعادن في طرابلس.
ولكن فات أولئك الباعثين أن ذاك الحلم عَلَى فرض تحقيقه والرجاء أن يخيب أن إيطاليا كانت تستطيع الوصول إلى هذا الغرض من إفادة بعض أبنائها من خيرات هذا الإقليم العثماني بأن تبذر في مشروعاته النافعة جانباً من أموالها فتنال ما تريد بحكم المنافسة بين أرباب الأموال والأعمال ولاسيما الأوربيين منهم كما هو الحال في معظم أصقاع المملكة العثمانية.
فقد رأينا فرنسا وضعت ملايين من أموالها في شركات السكك الحديدية في المملكة العثمانية فحفظت بذلك نفوذها ونفعت تجارتها ومعالمها فكان عَلَى إيطاليا لو أحبت الانتفاع بسلام أن تجرى عَلَى آثار الفرنسيس جيرانها وبذبك يتوفر لها من النفقة كل يوم عَلَى بريتها وبحريتها منذ نحو ثلاثة أشهر بمئة ألف جنيه وهذا مبلغ جسيم بالنسبة لمملكة تطبق مفاصل ميزانيتها بضرب الضرائب الفادحة عَلَى رعاياها حتى هاجر منهم إلى أقطار الأرض حتى الآن زهاء ستة ملايين رجل.
قضت إيطاليا بنظامها الجائر في التملك أن يترك الناس بلادهم تنعي من بناها وكان أهل صقلية أقاليم جنوب إيطاليا أكثر البلاد هجرة حتى أن بعض القرى خلت من السكان جملة وأكثرها هجرة ثلثا ساكنيه وأصبحت الحال هناك في شقاء ليس بعده شقاء وفقر وعهر لا يدرك غورهما فكر وناهيك ببلاد يهجرها رجالها ولا يبقى فيها إلا البنون والبنات والعاجزون والعاجزات.
لمثل هؤلاء القوم يستعد الخاصة من الطليان كما تقول إحدى مجلاتهم منذ الزمن الأطول للسياسة الاستعمارية ومعظم الشعب الإيطالي لا يهتم بتاتاً بمستقبل المستعمرات الإيطالية كأرتيرة والصومال بل يتجشمون البحار إلى أميركا الشمالية والجنوبية هناك يعملون ويرتزقون. فقد بدأ الخاصة سنة 1905 يلقون محاضرات عَلَى الاستعمار وبعد سنتين أنشئ ديوان الزراعة الاستعمارية الإيطالي وغايته أن يوجه الإيطاليون وجهتهم إلى(72/61)
المستعمرات الإيطالية ويتخلون عن قصد أميركا وغيرها من ديار الأجانب فأُنشئت لذلك حدائق للنبات الاستعماري في مدينتي رومية وبلرمة وهذا الديوان يتلقى من المصادر المختلفة معلومات عن زراعة البلاد التي يراد استعمارها وحيواناتها وموادها ومناخها ومقدار المطار التي تهطل فيها ويقوم بأبحاث جيولوجية من حيث مساحة الأراضي وخصائص شعوبها وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية وفيه تلقى محاضرات في زراعة المستعمرات وحفظ الصحة في الاستعمارية وهو يؤسس مدارس إعدادية للاستعمار وينشر مجلات وكتباً في هذه الموضوعات.
وهذه النظريات لم تستطع إيطاليا حتى اليوم أن تطبقها عَلَى العمل إلا في بلادها الأصلية العامرة بطبيعتها مثل الولايات الشمالية وعَلَى كثرة ما يؤلفون من الشركات والجمعيات لإنهاض شأن المهاجرين الإيطاليين في أميركا فإن الإسرائيليين هناك كما أكد محققوهم أنفسهم أقدر منهم عَلَى الأعمال فإن قسماً مهماً من التجارة الصغيرة والعظيمة بأيدي الإسرائيليين وكذلك المصارف الكبرى والحكومة والوظائف العامة وعَلَى قلة عددهم لهم مكانة دونها مكانة الإيطاليين الذين يدعون أنهم من نسل غاريبالدي ومازيني وميكل آنجل وليونارد دي فنسي ورافاييل سانتريو وأمثالهم من أرباب الصناعات النفسية ورجال الإدارة والسياسة.
نحن نعلم أن الطليان كثير نسلهم يباكرون إلى الزوج رجالاً ونساءً وإن نسبة السكان منهم إلى كل كيلومتر مربع أكثر من نسبتها في ألمانية ففي الكيلو متر المربع في إيطاليا 117 ساكناً وفي ألمانيا 104 أشخاص وقد ارتقت التجارة الإيطالية ارتقاء مهماً ولاسيما بعد أن توطدت أركان الوحدة الإيطالية وتألفت من تلك الممالك الصغرى البندقية وطوسكانيا وجنوة وغيرها هذه المملكة الكبيرة وإن دين إيطاليا قليل بالنسبة لسائر الممالك الممدنة ولكن كل هذه الصفات لا تبرر عملها عند العقلاء وسوف تعلم أنها لو صرفت نصف ما صرفته حتى الآن من المال والرجال في الأعمال العمرانية سواءٌ كان في بلادها أو خارجها لكان أحسن لها وأبقى.
وما نظن أن إيطاليا تستطيعان تنزع من أرباب الأملاك أملاكهم في طرابلس مهما نوعت أساليب الحيل ففرنسا بعد استعمار الجزائر منذ سنة 1830 عَلَى شدتها في استعمارها لم(72/62)
تتمكن من الاستيلاء عَلَى ما تحب من الأراضي كما يفعل الرومانيون في البلاد التي يفتحونها وينزعون من المالكين ويستعمرونها بأبنائهم غالباً والرومانيون أجداد الإيطاليون الأول وإلى اليوم لم تربح حكومة فرنسا من الجزائر بل هي تخسر عليها.
فهل يعقل أن تتحقق أماني إيطاليا في طرابلس والخصب فيها في أماكن معينة وعي ملك لأهلها ولطالما دافعوا عنها دفاعهم اليوم من اعتداء الفاتحين وطردوهم من عقر دارهم. فإذا كانت إيطاليا تقصد الإثراء ونفع أبنائها فهذه الطريقة من أعقم ما لجأت إليه دولة مستعمرة من دول المدنية الحديثة فإن ثروة الناس لا تزيد باتساع ممالكهم فالصيني ليس أغنى من الفرنسوي مع أن سكان الصين عشرة أضعاف سكان فرنسا والألماني ليس أغنى من البلجيكي من أن سكان ألمانيا عشرة أضعاف سكان بلجكا وقد تضيق أرض بسكانها حتى يقل الرزق عليهم فيها فتضطر حكوماتهم أن تمتلك بلاداً أخرى كثيرة الخيرات قليلة السكان حتى تسهل عَلَى الفاضل من أهاليها المهاجرة إلى تلك البلاد والارتزاق فيها كما فعلت إنكلترا وهولاندا وجرت فرنسا وألمانيا مجراهما. ولكن إيطاليا لم تعمر كل بلادها حتى الآن فليس بها حاجة إلى فتح بلدان أخرى وتعميرها للارتزاق منها فإن عندها جزيرة سردينيا مساحتها أكثر من 9300 ميل مربع وليس فيها من السكان سوى 810000 نفس مع أن صقليا تماثلها مساحة وسكانها أكثر من ثلاثة ملايين ونصف وعندها مستعمرة ارتريا في أفريقية عَلَى حدود السودان ومساحتها 45800 ميل مربع أي نحو نصف مساحة إيطاليا كلها وهي من أغنى بلاد الدنيا بالمناجم والحراج وليس فيها من السكان نصف مليون نفس وعندها بلاد الصومال ومساحتها نحو 140000 ميل مربع أي أكثر من مساحة إيطاليا بنحو ثلاثين في المئة وسكانها نحو 400000 نفس وهي بلاد زراعية كثيرة الخيرات فعَلَى م لا يهاجر الإيطاليون إلى هذين البلادين ويعمرونها إن كانت بلادهم قد ضاقت عليهم.
وهب أن إيطاليا اهتمت بإصلاح طرابلس الغرب واستثمار خيراتها فهي إما أن تستأثر بذلك لتنحصر الفائدة فيها وفي سكان طرابلس فتكون قد جرت مجرى إسبانيا والبرتغال في استعمارهما فتفشل فشلهما لأنهما فشلتا فشلاً تاماً في كل البلدان التي امتلكتاها وحاولتا استعمارها ومنعتا غيرهما من مشاركتهما في النفع وأما أن تجري مجرى إنكلترا وهو فتح(72/63)
أبواب مستعمراتها لتجارات كل الأمم وحينئذ لا يكون السبق للإيطاليين بل للإنكليز والألمان لأن السبق في المناظرة التجارية للأغنى مالاً والأوفر علماً والأمهر صناعة. وهيهات أن تعيش إيطاليا في طرابلس الغرب بتعب غيرها وإعنات أهلها فإذا فعلت يحل بها الخراب كما حل برومية في أيامها الخالية.
يحل بها الخراب لأن فكرة العظمة الرومانية يضيق عَلَى إيطاليا الحديثة خناقها ويحرج صدرها فهي تريد أن ترجع إلى أصولها البعيدة وتطمع في غير مطمع ولا تتنازل عن عجبها. تريد بالتهور في الاستعمار أن تغتني وتعيد إلى رومية الثالثة مجداً أضاعته الأيام وفساد الأخلاق والنظام بل تطمع بأن تجعل ممالك أوربا حافات من حول عرشها تسبح بحمدها وتفاخر بمجدها كما طمع نابليون الأول فكان في ذلك إضعاف أمته بأسرها فأهرق دماءها ودماء غيرها وأفقرها وأفقر جيرانها وكان مصيره أسوأ حال.
تحاول إيطاليا اليوم الدعوة إلى إعادة مجد الرومان بجميع أساليب الدعوة من نشر الصحف وإلقاء الخطب وإنشاء المدارس حتى أن الكتب المدرسية التي تعلمها للأولاد تعد فيها نيس وكورس وترانتن من بلادها مع أنها للفرنسيس تسير في ذلك عَلَى سيرة إحياء الشعور الوطني كما كانت تفعل الحكومة عندنا في كتب الجغرافيا التركية فتذكر فيها من أملاكنا ما فقدناه من نحو مئة سنة ولم يبق لنا حق من الحقوق الدولية والشرعية فيه.
تظن إيطاليا أنها تحمل المهاجرين من أبنائها بمئات الألوف إلى طرابلس وفاتها أن هذه البلاد حتى اليوم عَلَى قربها من أوربا ليس فيها سوى 2200 مالطي و1000 إيطالي و700 فرنسوي و600 إنكليزي و150 إسبانيولياً وبعض الهولانديين والنمساويين واليونان والألمان والأميركان لا يبلغ مجموعهم كلهم خمسة آلاف نسمة وإن أكفأ الناس في التجارة والصناعة والزراعة واقدر الأمم بالملل والرجال هم يستثمرون الأرض فأين هم من الألمان فقد بلغ من حذقهم أن استولوا عَلَى كثير من أعمال التجارة في لندن ونيويورك بل في باريز نفسها وناهيك بكره الفرنسيس لأعدائهم الألمان ولقد قدروا مؤخراً عدد الألمان في باريز وضاحيتها بمئة وأربعين ألفا يتجرون في نفس عاصمة الفرنسيس بجميع أنواع التجارة وينافسون الفرنسويين في أرباحهم فتجد منهم الكتبيين والخياطين والجوهريين والفرائين وشركات الضمان والصيارف وغير ذلك من فروع العمل فلو تدبرت إيطاليا أو(72/64)
خاصتها المفكرة لعلمت أنها قادمة عَلَى معترك شديد في طرابلس وبرقة ولو سلم لها ما تنويه من الغوائل الأهلية ولو سلم من كل ذلك لكانت العاقبة في الاستعمار لأرقى الأمم في مذاهب المعاش وأعرفها بطرق الانتفاع والنفع ولكن هو فساد الإدارة وجنون الاستعمار تركب الأمم في سبيلهما العار وتهوي في مهاوي الدمار والبوار.(72/65)
مخطوطات ومطبوعات
طبقات الأمم
عرف الأب لويس شيخو اليسوعي مدير مجلة المشرق بما نشره من كتب العرب في اللغة والتاريخ والأدب دع عنك ما خدم به طائفته وجمعيته وآخر ما أظهر إلى الوجود كتاب طبقات المم لأبي القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462 ظفر بنسخة منه عند أحد الوراقين بدمشق والتحريف غالب عليها لأن ناسخها الأصلي منذ نحو مائتي سنة عامي لا يحسن النقل فعارض الناشر أكثر فصولها وردها إلى أصولها عَلَى كتب عربية من مطبوعات علماء المشرقيات مثل الفهرست لابن نديم وتاريخ الحكماء لابن القفطي وطبقات الحكماء لابن أبي أُصبعة ووعد في آخر جزء من المشرق أن ينشر الكتاب عَلَى حدة مع الفهارس اللازمة له.
وقد رأينا أن نلفت نظر الناشر الباحث إلى أغلاط وقعت له أو للناسخ الأصلي ولم يعمل الناشر في نظره فيها فجاءت مشوهة لطلعة هذا الكتاب النفيس عله يتداركها فيلحق بها جدولاً في آخر الكتاب فيستحق شكر المعارف والآداب.
فقد ضبط (ص 567 - 862) المرية بكسر الميم وسكون الراء وفتح الياء والصواب بفتح الميم ثم الكسر وتشديد الياء بنقطتين من تحتها وهي مدينة كبيرة من كورة البيرة من أعمال الأندلس وكانت كما قال ياقوت هي وبجانة بأبي الشرق منها يركب التجار وفيها تحل مراكبهم قال القسطلي:
متى تلحظوا قصر المرية تظفروا ... لبحر ندى ميناه در مرجان
وتستبدلوا من موج بحر شجاكم ... ببحر لكم منه لجين وعقيان
وقال ابن الحداد:
أخفي اشتياقي وما أطويه من أسف ... عَلَى المرية والأنفاس تظهره
والمرية بالكسر (والضم أيضاً) الشك والجدال.
وفي (ص 568) الشابران وقد وضع عليها علامة استفهام إشارة إلى أنه هكذا وجدها وهي من مدن أرمينية والران وأذربيجان ذكرها الاصطخري في المسالك والممالك (طبعة ليدن) ونيشابور والصواب نيسابور. (ص 569) يتجستان والصواب سجستان كما قال في(72/66)
الحاشية وقعت ألفاظ من مثل هذه في هذا السفر أثبت الناشر الرواية الضعيفة في المتن وترك الرواية الصحيحة للحاشية وكان الأولى أن يعكس ليصب.
(570) خ بحر أقيابس ص أقيانس خ ولا رؤيت بها ص رؤيت لها.
(571) خ يدور فيها مناجم الأمم ص مماجد أو محامد (572) خ وخلقه إلى نهاية المعمورة ص وخلفه خ السمت (بضم السين) ص فتح السين وهو الطريق خ لأنهم أجمعين مشتركون لأنهم أجمعون. ولا معنى لجملة: هذا التأليف الأليف العقل.
(573) خ السباع التي تغاضي الإنسان أقدامها ص تقاضي خ وكذلك قالت العرب ص ولذلك (584) خ ولأنها حازت عَلَى الملوك وسط ص ولأنها فازت عَلَى. خ وأشدهم أسرا ص وأشدهم أشراً والأَشر البطر والنشاط.
(575) ليستحبوا بذلك قواها ص ليستجلبوا أو ليسحبوا (576) في الفرقتين الأولتين (كذا) ص الأوليين وكان عليه أن يثبت الصواب وقد تكرر رسم الأولتين في مكان آخر (670) خفي المقالتين الأولتين ص الأوليين خ في المقالتين الآخرتين ص الآخريين.
(577) خ أوجز حساب واحضره ص وأخصره خ ي حسن التواليد ص حسن التوليد خ في تقدمة المعرفة ص تقدم المعرفة (578) خ وتحملهم (بتشديد الميم) من الأمور ص وتحملهم بكسر الميم بدن تمديد خ وأحسن التئام ص حسن التئام خ أول ملوك بني إسرائيل ص أول ملوك بني سامان أو ساسان (579) خ يزدجرو بن شهريار ص يزدجرد بن شهريار خ وجود التدبير ص وجودة التدبير (581) خ وكان عرضه ألف وخمسمائة ذراع ص وكان عرضه ألفاً خ وكان بعد الطوفان عدة منهم عدة ذوو معرفة ص وكان بعد الطوفان (665) خ الثغور الخزروية ص الثغور الخزرية (668) خ طيماوش الروحاني ص طيماوس ومثلها نيقوماخوش والصواب نيقوماخوس (669) خ وجعها آلة ص وجعلها آلة.
(671) خ مثبتة أساسها مزمومة قواعدها وثيق بنيانها ص مدعومة قواعدها خ اليد الحليلة ص اليد الجليلة.
(672) خ ومنها رسالته جاوبه بها ص ومنها رسالته التي جاوبه بها خ الذي كان فيه البدرة (وقال في الحاشية لعله أراد البودة) والبودة متعين خ أقصدهم بكتب الفلسفة ص(72/67)
أقعدهم.
(673) خ وراد عليهم آراءهم بالحجاج (كذا) الصحيحة ص بالحجاج الصحيح أو بالحجج الصحيحة (675) خ أوعشطش ص أوغسطس (676) في غاية العلماء من بعده التي يحيرون. إليها وضع الناشر في الحاشية يجرون إليها مع أداة استفهام مع أن يجرون متحتم أو يقال يصيرون خ إلا ما لا خطب له ص خطر له خ اشتقت لها من سبعة أشياء ص من سبعة أسماء.
(678) خ ونحل مذاهب الحكماء ص ونخل بالأعجام خ بأن يجمع العالم في واحد ص أن يجمع (680) خ في عدد اليونانيين ص في عداد.
(754) خ فإن كان ذلك حق عنهم في أبعدهم في هذا الرأي من نظام الحكمة ص فإن كان ذلك حقاً فما أبعدهم (758) خ فلا يزالون في حل وترحال ص في حال وترحال.
(759) خ وآراء الفرق مع أن عبدة الأوثان ص من أن عبدة الأوثان خ ولا واربة صاحب العقل ص ور دان به صاحب العقل. خ ما تعبدهم (بضم الباء وتشديدها) إلا ليقربونا إلى الله زلفى ص ما نعبدهم (760) خ والعرب أصحاب حفظة ورواية ص حفظ ورواية (762) رؤبت إلى أقاصي الأرض فأريت مشارقها وسيبلغ ملك أمتي مارؤي لي منها ص زويت لي أقاصي الأرض. . . . مازوي. وفي النهاية لابن الأثير (طبعة مصر) زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها أي جمعت يقال زويته أزويه زوياً. خ حكم من الله ماضياً وقضاه منه نافذاً ص حكمً من الله تعالى ماضياً وقضاء منه نافذاً.
(763) خ من أحصائه لمنتحليها ص أخصائه (767) وقلما يشفع بها في العلوم ص ينتفع بها (768) خ ودنا أقواماً ص دانى أقواماً (769) خ وكان أبو نصر الفارابي معاصراً لأبي بشر متى بن يونس في علم المنطق تعديل العلماء ص لأبي متى بشر بن يونس وعَلَى تأليفه في علم المنطق تعديل العلماء.
(846) خ عبد الله المرورزي ص لعله المروَزي أو المروُّذي كما في المشتبه في أسماء الرجال للذهبي (طبعة ليدن) (847) خ وكان ذلك (صبياً؟) إلى التمرس بها ص سبباً إلى التمرس بها (848) خ ذي نؤاس ص ذي نواس ومثلها التي بعدها بسطر (849) خ المرآي المحرقة ص المرائي المحرقة. خ وكان (مذهب منه إلى مذاهب ص وكان يذهب(72/68)
فيه مذاهب. خ والجماعة سواهم ص وجماعة.
(852) خ واتخذ القوط مدينة طليطلة مدائنها العتيقة قاعدة لملكهم ص من مدائنها خ ولم تزل مركز الملك المسلمين ص ولم تزل مركزاً لملك. خ عظيم ملوك الأندلس. وأهل بلاد الأندلس عرض المدينة المعروفة الجزيرة الخضراء ص عظيم ملوك الأندلس وأهل بلاد الأندلس. عرض الخ أي بدون نقطة بين ملوك الأندلس وأهل بلاد الأندلس وعرض المدينة الخ راجع إلى ما قبل أربعة أسطر وعرضها (طليطلة) 39 درجة الخ.
(853) خ وكان عالماً لحركات الكواكب ص بحركات خ وبمصر من الزني (كذا) والربيع بن سليمان ص المزني وهو من الأئمة المجتهدين في مصر توفي سنة 264 واسمه أبو إبراهيم إسمعيل بن يحيى (راجع ترجمته في حسن المحاضرة للسيوطي طبعة مصر).
(854) خ أنا كفرت بما قالا وما فعلا ص أني كفرت الخ خ وذلك في أيام أبيه إلى الغاية بالعلوم وإلى الثبار أهليها ص لم نفهم معنى الثبار وفي الجملة تشويش ومثله في (856) فداول عناية الحكم ذلك لم يظهر لنا فليحرر (861) خ كان بصيراً بالهندسة في النجوم متقدماً في اللغة ص كان بصيراً بالهندسة نافذاً في النجوم أو ما في معناها خ وولي القضاء الزتية آخر دولة زهيرة العامري ص وولي قضاء المرية آخر دولة زهير العامري. وذلك لأن زهير العامري تغلب عَلَى المرية وأعمالها وذاك الرسم المحرف أدنى إلى أن يكون المرية (راجع المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي طبعة ليدن مصر).
(862) خ بعلوم البرهان واللسان والمسائلة. ص ومسائله خ نال هناك دنيساً عريضه ص نال هناك دنيا عريضة (863) خ له مع ذلك نقود في العربية ص نفوذ في العربية خ كانوا مشهورين بأسمائهم عندنا بالأندلس إلى هنا وفي وزماننا ص (إلى هنا) زائدة زادها منضد الحروف كما كرر سطراً بعد ذلك (924) خ أفراد من الأحداث متندبون بعلم الفلسفة ص أفراد من الأحداث مبتدئون بعلم الفلسفة لا منتدبون ولا متندبون (952) خ وصنف في مصنفات كثيرة ص وصنف فيها (العلوم الشرعية) (926) خ ولأبي محمد بن حزم بعد تصنيف وافر في علم النحو ص نصيب وافر (928) خ تمكنه في العلم وتحققه مذاهب للقدماء ص تحققه في مذاهب (930) خ ودخل البصرة ومصر ودبر مارستانهما ص ودبر(72/69)
مارستانيهما. خ وكان في زمان ابن عبدون وبعده إلى آخر الدولة العامرة ص الدولة العامرية. وهي إحدى حكومات الطوائف بالأندلس جدها عامر الداخل إلى الأندلس مع طارق وجاور الخلفاء منهم بقرطبة جماعة أحدهم أبو عامر محمد بن الوليد الذي عرف آل عامر طراً به وساد بعده ولده عامر (راجع أخبارهم في البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى المراكشي طبعة ليدن).
(931) خ حسن التوليد والتنتيج ص ولعله الاستنتاج. خ ولم يكن أحد بعد محمد ابن عبدون أبوزي أبا العرب ص يوازي أبا العرب (934) خ تطريقه للفضول وتطريفه لما غلظ ص تطريته للفضول (936) خ أعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدء الخليفة ص بدء الخليقة. خ يسمون كل تسعة عشر سنة ص كل تسع عشرة سنة خ الحادية عشر والرابعة عشر والسابعة عشر والتاسعة عشر ص الحادية عشرة بإثبات تاء التأنيث فيها كلها لأن الضمير يعود إلى السنة.
(937) خ تفرقوا في البلاد ودخلوا الأمم ص وداخلوا الأمم خ لطيف الذهن حسن النظر أخفر ص لعله اضر لأن أخفر لا معنى لها هنا خ واتصلت به العناية فسيوفي علي صناعة الفلسفة ويستوجب فنون الحكمة ص فسيوفي لا معنى لها والأولى يستوعب بدل يستوجب لمطابقته للمعنى خ والتعريف بنبذ من تواليفهم ص والتعريف بنبذة بفتح النون وضمها ولا تجمع ويغلط فيها كثيرون.
هذا ما أمكن الوقت رده إلى الصحة من غلطات هذا الكتاب ومناه ما تركنا الإشارة إليه عمداً ولعل ناشره أو غيره من المدققين ينظرون فيه نظره أبلغ فيبرزون الكتاب منقحاً في الجملة عَلَى ما يجب ويحبه الراغبون في إحياء آثار السلف.
المعارف
(الكتاب الأول في علم الفلك)
تأليف عبد الوهاب أفندي سليم التنير ومحمد طاهر أفندي التنير طبع في المطبعة الأهلية في بيروت سنة 1329 ص 82
لمؤَلفي هذا الكتاب يد طولى في العلوم واضطلاع بالنقل عن الإفرنج في الموضوعات التي تهم هذه الديار وتفيدها وفد أَلفا الآن مختصرات في علم الفلك والطبيعيات والكيمياء(72/70)
والظواهر الجوية والجغرافية الطبيعية والحيوان والنبات ونشرا القسم الأول والغرض منها إحياء قو التصور في الولد لمعرفة قدرة الله تعالى وتنبيه إلى ما قد سخر الله تعالى من الأشياء المفيدة فلا يشب حتى يشمر عن ساعد الجد فينقب عن الكثير منها مما لا يزال مجهولاً فيكتشف فينفع الخلق وتنبيه إلى النظر والملاحظة إذ بذلك يزداد إدراكه فيرى حقيقة قدرة الله تعالى بما خص الكون من العجائب.
وقد اعتمد المؤلفان عَلَى تأليف هولدن في المعارف وهو يعلم في أكثر مدارس الولايات المتحدة وكندا وإنكلترا وحذوا حذوه في نسقه واعتمدا عَلَى بعض الكتب العربية العلمية القديمة لوضع الاصطلاحات العلمية. والكتاب عَلَى طريقة محاورة بين أخوات وأبناء عم كانوا في الجبل فرأوا أقمار السماء فحدثهم كبيرهم بمعلوماته مختصرة يتشربها الصغير بل كل من لا عهد لها بهذا العلم الجميل.
وقد عدلا في التأليف الأصلي ما جعله كأنه أُلف بلساننا مباشرة يستشهدان بآيات الكتاب العزيز عند الاقتضاء ويقولان أن العرب ولاسيما في الأندلس كانوا كأهل الغرب اليوم يعلمون الأولاد مبادئ العلوم العالية كعلم الفلك والطبيعيات وطبقات الأرض وغير ذلك من العلوم بأسلوب سهل وأن أهم علماء الفلك من القدماء هم العرب وقد اكتشفوا أشياء كثيرة في علم الفلك ولذلك ترون أن أكثر أسماء النجوم والكواكب هي عربية وقد أوضحا الكتاب بما حلياه من الرسوم فجاء علمياً عمياً ككتب الغربيين العلمية جدير بأن يطالعه من لهم ولوع بعلم الهيئة القديمة ومن تتسرب الخرافات إلى نفوسهم فيحكون عن صور الأفلاك أموراً لم تكن ففي جلسة يطالع المطالع هذه الحلقة الأولى من تلك السلسلة النافعة وإذا أراد الإمعان لا الاستظهار - لأن المؤلفين لا يقولان به بل يريان الاكتفاء بالقراءة والفهم فقط - يحتاج إلى بعض جلسات عَلَى الأكثر فيكون أخذ ما ينبغي له من هذا العلم بل ينبغي لمن أراد الاخصاء فيه أن يرجع إلى المطولات والمتوسطات وما أكثرها في كل علم وكل لغة من لغات الغرب. فللمؤلفين الفاضلين جزيل الشكر من خدمة العلوم بالعربية لثم معرفتها أهلها وكنا نود لو انتبهنا قليلاً لبعض الأغلاط النحوية والصرفية والبيانية التي وقعت في الكتاب ونود تصحيحها في الطبعة الثانية كما نرجو أن تكون تتمة السلسلة خالية من مثل ذلك ليكون العمل تاماً من كل وجه عَلَى أن مثل ذلك لا يقدح في نفعه ولكن ما ينشر ينبغي(72/71)
أن يكون إلى الصحة ما أمكن حتى لا يعتاد أولادنا غير الفصيح فتكون كتب العلم من جملة المساعدات عَلَى إحكام ملكة البيان أيضاً.
تقويم البشير
تأليف الأب لويس معلوف اليسوعي طبع بمطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت سنة
1911 ض204
اعتادت هذه المطبعة في بيروت منذ خمس وثلاثين سنة أن تصدر تقويماً سنوياً يعنى بتأليفه أحد الآباء اليسوعيين فجاء تقويمها هذه السنة حافلاً بالفوائد ونحو ثلثه ينفع المسيحيين خاصة والكاثوليك عَلَى الأخص كتقويم السنين والأعياد والأصوام والإقطاعات وذكر الرؤساء الروحيين ومجامعهم ودواوينهم وجداول في السنة الشمسية والقمرية والمالية وتحويل النقود ثم مختصر في التقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية وقد أطلق عَلَى الروم إيلي (تركية أوربة) وهو اصطلاح إفرنجي سقيم لا يجوز أن يطلق عَلَى بلاد الدولة العلية لأن المملكة ليست للأتراك وحدهم بل هي لاثني عشر عنصراً ومنهم العرب نصف هذه العناصر فالأولى أن يقال لها روم إيلي تركية آسيا الأناضول أو آسيا الصغرى كما قال المؤَلف وقد تابع تقويم غوتا في إحصاء سكان الولايات ومساحتها ونظن بعضه مبالغاً فيه وبعضه دون الواقع كقوله أن سكان مدينة دمشق 200 ألف وسكان بيروت 85 ألفاً وسكان حلب 35 ألفاً فإذا اعتبرنا الإحصاء الرسمي في دمشق مثلاً نراها أكثر من ذلك وهي لا تقل في الحقيقة عن ربع مليون وبيروت لا تبلغ في الإحصاء الرسمي هذا القدر. وتوسع في الكلام عَلَى لبنان وبيروت وإدارتهما وحكومتها حتى ذكر بجانب اسم كل موظف لبناني دينه وأفرد جدولاً بأسماء جرائد سورية ومجلاتها الباقية والزائلة وأسماء قناصل الدول في المملكة العثمانية وأماكنهم وفوائد وأمثالاً وبعض قوانين جديدة مثل قانون المطبوعات والمطابع والجمعيات وغير ذلك من الفوائد فنثني عَلَى مؤلفه ونرجو أن يزيده فوائد تاريخية وأثرية عن سورية ليسد في السنين المقبلة بعض الحاجة ويغني عن التقاويم الرسمية (سالنامات) التي كانت تصدرها ولايات بيروت وحلب وسورية قبل حرية المطبوعات الأخيرة وتضمنها من المواد ما يستفاد من أكثره ولاسيما ما يتعلق بالحركة العمرانية في البلاد أما الأخذ عن تقويم غوتا فلا يبرر العمل في اقتباس مواد هي منا عَلَى(72/72)
طرف الثمام لا تحتاج إلا إلى قليل من البحث والعناية.
كتب ورسائل مختلفة
سلم الدروس العربية للمكاتب الابتدائية وهو الحلقة الأولى من كتاب الدروس العربي يشتمل عَلَى الأهم من أصول الصرف والنحو مع الأمثلة والتمرينات ويليه الحلقة الثانية وقد طبعت بعنوان القسم التمهيدي تأليف الشيخ مصطفى الغلايني طبع في المطبع الأهلية في بيروت عدد صفحاته 64.
بشرى العالم بترك المحاربات واتفاق الأمم - تتضمن البشارات الإلهية والبراهين العقلية بقرب حصول السلام بين الأنام تأليف فرج الله أفندي زكي الكردي طبع بمطبعة كردستان العلمية بمصر سنة 1329 هـ ص 111.
الإنجيل الشريف - بحث نظري تاريخي نقدي للأب أنطوان رباط اليسوعي طبع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1912.
باكورة الكرم - خطابان وقصيدة تليت في احتفال غرف القراءة الوطنية في بحمدون (لبنان) طبعة بمطبعة الحسناء في بيروت.
الجامعة المصرية - كراسة باللغة الإفرنسية ذكر فيها رئيس لجامعة المصرية الأمير أحمد فؤاد باشا خلاصة أعمال هذه الكلية العربية الجامعة مدة ثلاث سنين طبعت بالقاهرة.
رسالة تسهيل المنطق - تأليف الشيخ أحمد الصابوني طبعت بمطبعة حماة سنة 1329.
خليل الخوري - سيرة هذا الشاعر جمعت باهتمام إدارة حديقة الأخبار في بيروت وطبعت في مطبعتها سنة 1910.(72/73)
أخبار وأفكار
بحر الصحراء
اقترح بعض العلماء منذ 29 سنة أن يسعى بتحويل صحراء أفريقية إلى بحر داخلي قائلاً أن هذه الصحراء الرملية ليست سوى سطح قديم من بحر جف وهو عَلَى طول ألفي كيلومتر فوق مستوى المحيط الأتلانتيكي وقد زيف بعضهم هذا الاقتراح وعده رابع المستحيلات إلا أن أحد العلماء عاد فجدد اليوم هذه النغمة مبيناً منافع هذا المشروع وأن الوصول إليه لا يقتضي له صعوبات ميكانيكية مهمة فتمتد بذلك المياه عَلَى محيط من الأرض يوازي نصف مساحة البحر المتوسط فتخصب بالبحر وهوائه تلك الأصقاع الأفريقية الواسعة لأن إجدابها ناشئٌ من قلة المياه ويسقط ألوف من البشر عَلَى ما يتبلغون به في أرض ليس فيها اليوم إلا الشقاء والجوع ويجود هواء البلاد الواقعة في شمالي أفريقية فتصبح مثل بلاد الناتال من هذه الوجهة. وقد ردوا هذا الفكر في العالم العلمي قائلين أن التغيير في مناخ أفريقية يؤثر في مناخ شمالي أوربا الذي يوشك أن يكون كمناخ القطب الشمالي وبذلك تتعذر الحياة فيه وتغرق إنكلترا وبلجيكا والدانيمرك في الثلوج أشهراً وربما حدثت من ذلك كوائن وأحداث جوية وأرضية ليست في البال. فحتام تحيل مدينة الغرب البحر براً والبر بحراً.
المحسن كارنيجي
ضاقت الولايات المتحدة عَلَى رحبها عن استيعاب حسنات المحسنين من أبنائها عَلَى العلم والإنسانية وأخر ما جادت به يد المستر كارنيجي المثري الشهير 125 مليون فرنك لنشر التعليم في الولايات المتحدة هذا عَلَى حين كان حتى اليوم الباسط يده بالعطاء عَلَى كل مشروع خيري وعلمي حتى بلغت عطاياه 1129 مليوناً في حين بلغت هبات روكفلر الغني الأميركي 813 مليون فرنك فقط ومازال كارنيجي يتوسل بكل ما يمكن من الذرائع ليرد للأمة ما كسبه من خيرها ويود لو قضى نحبه وهو لا يملك ريالاً واحداً قائلاً: من أعظم الجنايات أن يموت المرء غنياً.
آثار في السامرة
تتوفر في كلية هارفرد الأميركية عَلَى الحفر في فلسطين برئاسة الأستاذ ليون للبحث عن(72/74)
الآثار وآخر ما ظفر به أحد أساتذة هذه البعثة الأثرية نموذجات من الخط العبراني أقدم كثيراً مما عرف من نوعها حتى الآن وهي عبارة عن 75 قطعة تشير كل منها إلى جودة الخمر والزيت المحفوظ في أوان منوعة الحجم ويرد تاريخها إلى ستة قرون قبل المسيح وقد وجدت في قصر الملك أشاب من بلاد السامرة (نابلس) والخط المرسوم بالحمرة وبالقلم هو فينيقي ويختلف كل الاختلاف عن الحروف المربعة المعروفة في النسخ الخطية من التوراة. ويرى رئيس هذه البعثة أن هذا النموذج مستند مهم في حل المسألة التي طالما جرى الجدال فيها في أصل اللف باء العبرية وأصلها الفينيقي.
الأولاد المهملون
عرفت أميركا منذ زمن طويل أن الشبيبة وقوة الشعب من أكبر العوامل في الغنى المادي إن لم تكن أكبرها وغنه ليس أصعب من فقد قوى الشباب بإهمال آداب الأولاد إهمالاً كثيراً ما يجئ به منهم مجرمون جانون ولذلك أنشأَت دوراً لإصلاح النفوس بحسب قواعد علم النفس الحديث.
فقد دلت سجلات دار الإصلاح في ميشلفيل من ولاية أيوفا وما وضعته من إحصاء أعمالها أن عدداً عظيماً من البنات نكبن منذ حداثتهن باجتراح الرذيلة وكن لولا دخولهن تلك الدار من أليفات السجون فأصبحن بعد مغادرتهن هذا المعهد ينظمن حياتهن فيكون منها فائدة حسنة فقد ذكرت إحداهن أن أباها كان شريباً خميراً اعتاد أن ينزع عنها ثيابها ويجعلها عَلَى منضدة ليرقصها أمام رفاقه في السكر ويسقها ويسليها فتخلقت بالطبع بأخلاق محيطها وبدت فيها هذه الأخلاق عَلَى أتمها عندما تبنتها إحدى السر الشريفة فلم يروا أبداً من وضعها في الدار الإصلاح تقضي فيها سنتين اعتدلت في خلالها أخلاقها وميولها بحيث استطاعت بعد خروجها من هناك وعمرها خمس عشر سنة أن تجد لها عملاً شريفاً فتعلمت الاستملاءَ السريع وهاهي اليوم امرأة شريفة متزوجة.
وقصة فتاة زنجية قصة فقالت أن نفسها كانت حدثتها أن تقتل من تبنوها ونزعت من قلبها كل خلق شريف وبعد بضع سنين من دخولها دار الإصلاح تغيرت بالمرة ولما غادرتها ذهبت تدرس في كلية العبيد وهاهي اليوم تخص حياتها وفكرها لنشر الدعوة إلى المدنية بين بنات جنسها.(72/75)
وقد وردت في هذه الدار جملة تلامذتها القدماء رئيسة أمينات المال في إحدى المصارف الكبرى ومحامية مشهورة بأنها من نساء السياسة المنظورين إليهن ولولا دخولها في هذا المعهد لما استطاعت تلك الأمينة ولا تلك المحامية أن تتوقيا محيط اجتراح الجرائم الذي قضتا فيه شبيهتهما ولكانت كلتاهما سقطتا في الطبقة السافلة من ساكنات المدن العظمى.
وطريقة هذه الدار مبهمة معقدة للغاية لا تستند إلى تعليم خاص ساذج ولا إلى عمل خاص معين بل هي عبارة عن تغيير عادات الطفل وخلقه بالطرق المنظمة العلمية ويتوخى هذا المعهد في فرقة البنات أن يثير فيهن حاسة الزينة لينبه فيهن الشعور الشريف فيعلمهن أن يكن معجبات بألبستهن وأن يخترن النظافة فيها وأن يقمعن أنفسهن ويكن لائقات أديبات وترعي في ذلك الأذواق الخاصة فتمنى فيهن ويعنى بها.
كل يوم يقرع جرس هذه الدار عند الساعة الخامسة صباحاً تستيقظ البنات في الساعة السادسة يقضى عليهن أن يجتمعن لابسات لباساً نظيفاً ليتناولن طعام الفطور ثم يعمدون إلى سررهن فيرتبنها بأيديهن وفي الساعة السابعة بعد إنشاد أنشودتين لطيفتين يبدأ الدرس العام فينقسمن إذ ذاك إلى قسمين منهن يدرس دروساً نظرية والآخر يتعلم دروساً عملية من مثل الطبخ والغسيل في الحديقة ومعمل النجارة وتتبدل حقل التعليم بعد الظهر وتناول طعام العشاء الساعة الخامسة إلا ربعاً وفي الصيف يتنزهن في الخلاء زفي الشتاء يخصصن ساعات من وقت الدرس والتلميذات تطلق لهن حريتهن من الساعة السابعة إلى الساعة الثامنة فيعملن ما أردن وفي الساعة الثامنة يذهبن للنوم وفي كل قبة من القباب التي تتألف منها أبنية المدرسة يكون خمسون ابنة تحت إدارة امرأة يدعونها بأُمهن وتكون بمساكنهن أشبه بمنازل الأسرات لا بمساكن مدارس وإن تلك المعاهد ما حوت من اللطف والسذاجة الساكنة لتبتعد جداً عن الشبه بالسجون ولا يفارق الأولاد هذه الدار قبل سن الحادية والعشرين إلا البنات بحيث يؤمن عليهن بما يتهيأ لهن من الدرس ولاسيما بما لقن من حسن السيرة والأخرق والنظام أن يجرين في المستقبل عَلَى حياة منظمة وكثيرات منهم بعد تخرجهن في هذه الدار يستخدمن خادمات في بيوت خاصة وكثيرات يستخدمن في محال تجارية ويكن مربيات ومشتغلات بالفنون النفيسة. وشعار هذه الدار أن تنبه في تلميذاتها العواطف الشريفة التي كانت أطفئت جذوتها بالإهمال الذي كان أَليفهن بين ذويهن.(72/76)
أولادهم أولادنا
ولو كلن الغرب يكيل لأبنائه بمثل الكيل الذي يكيل به لأبنائنا في الشرق لقلت الفروق ومشى البشر خطوات مهمة نحو الإخاء العام والسلام الشامل هكذا شان مرسليهم في مدارسهم في الشرق وهكذا شان حكوماتهم في البلاد التي امتلكوها في آسيا وافريقية وجزر المحيطين. وإنا لنلوم الكلية الأميركية في بيروت كلما توفر العناية بأبناء البلاد فقد عزلتهم في مكان خاص ووضعت لهم أساتذة خصوصيين يعلمونهم غير التعالم التي يعلمونها أبناء البلاد كان العلم كالطعام في بيت شحيح يطعم من أنواعه ما طاب له ويمنع عن خدمته وإجراءه الأطايب ويقتصر فيه عَلَى الرخيص نفعهم أو لم ينفعهم وهكذا رأينا إنكلترا التي تحكم الهند منذ نحو قرنين وحياتها متوقفة عَلَى غنى تلك البلاد وتعليم أبنائها لا تفكر في تعليمهم وترقيتهم كما تفكر في ترقية اقل إنكليزي ولو كان خلاسياً أي دمه من هنود وبريطانيين فقد قدروا أن في بلاد الهند 300 ألف من عرق إنكليزي أو أوربي ليس بينهم سوى عشرة في المئة خرجوا من درجة الأمية فهل من اللائق أن يتركوا بدون تعليم كما يترك الوطنيون أم كيف السبيل؟ وإبذ قد لاحظوا أن الكاثوليك وهؤلاء الأوربيين يعلمهم مرسلوهم ولكن البرتستانت محرومون ممن يسهر عَلَى تربية أبنائهم فرأت الكنائس البرتستانتية أن تجمع ربع مليون جنيه لإقامة مدارس خاصة بأبناء البرتستانت من الإنكليز الهنود وتعيين أساتذة أكفاء بحيث يكون أبناؤهم مثال التربية الإنكليزية ويصبحون مادة قوة مهمة لإنكلترا في بلاد هي خمس العالم بسكانها.
العقوبة الجسمية
من أغرب الأمم في عاداتها وأخلاقها الأمة الإنكليزية فهي عَلَى ما بلغته من درجات الحضارة لا تفتأُ أن تحافظ عَلَى عاداتها الضارة في القرون الوسطى وتسعى إلى تعديلها وإصلاحها مع الزمن من ذلك أن لعقوبات الجسدية في مدارس لندِرا لا تزال مستعملة حتى اليوم فحذفت هذه العادة المضرة من مدارس أوربا ولكن مدارس لندرا حسنتها حتى أن لبعض المدارس الراقية هناك أسواطاً ميكانيكية تضرب المذنب بشدة أو بغير شدة بحسب الذنب الذي اجترحه. ويضيفون إلى هذا السوط الضارب آلة فوتوغراف تردد بعض آيات من التوراة وبعض النصائح الأدبية بصوت عال وذلك ليعلموا المضروب ويخفوا صراخه(72/77)
من آلامه.
حصاد البشر
بينا نسمع علماء الاجتماع ينادون بمضار الحروب وينددون بها نشاهد رجال السياسة يصمون آذانهم عن سماع أقوالهم ويرسلون إلى ساحات القتال بأقوى الرجال وأنشطهم يهلكون بعضهم بأيدي الآخر. وآخر ما ذكرته مجلة الاجتماع الدولية قولها من مقالة أن فكر الحرية وحده تجعل الشعوب ولية أمرها فقط ولما فنيت رومية في فكر الاستيلاء والغلبة أضاعت عظمتها فامتد ظل الحروب المشئومة عَلَى الإنسانية وأصبح القحط في الرجال وذلك لأن حصاد البشر كان رديئاً. وضعف رومية بالحروب كان الحجة الأولى لغارات البربر. ومن العادات أن أحسن الرجال إذا أرسلوا إلى الموت يخلفهم المتوسطون الفاسدون. ومهما كانت الأسباب الداعية إلى الحرب فإن نتائجها تبذير في البشر فإن ماجنتا وورث وسيدان واينا وليبتسيك وواترلو التي جرت فيها تلك المعارك التي تشيب لها نواصي الأطفال ليست إلا مجموع عظام إنساني. وليت شعري من يعيد علينا أولئك الشبان والرجال الذين استوفوا نصيباً وافراً من الجمال فقضوا في ساحات النزال. وأنت خبير بما يقتضي قتل المرء أخاه من العدد والنفقة حتى قال فرانكين أن نفقات الحرب لا تؤدى خلال الحرب بل بعد أن تغمد السيوف في أغمادها. وإنا لنرى الأقوياء وأرباب النشاط من الناس في جهاد الحياة السلمي يتدبرون ويعملون وليسوا لتحصيل القوت في حاجة إلى الحرب يؤرثون نيرانها. وإنا لنرى إنكلترا التي بذلت في خارج بلادها قواها لا تستطيع أن تشاهد نصف أبنائها إذ قد سقطوا كلهم في الهند وزولولاند وكمبودج والترنسفال وغيرها وقد أفنت المستعمرات جميع أبناء الطيبين من الفلاحين وأهل الطبقة الوسطى أي العنصر القوي في الأمة. أما أميركا فلم تقو إلا في ظل السلم. وبعد فإن الحرب مهما كان من أسبابها المشروعة فنتائجها سيئة دع عنك إنها تثير في العالم الهواء الشريرة ولا يجب أن يعمد إلى الحرب إلا في أحوال خاصة لا مناص منها.
الفحم الحجري
يقول أحد رجال الإنكليز أن إسراف إنكلترا في الفحم الحجري من بلادها يدعو إلى نفاذه بعد 175 سنة. وقالت إحدى المجلات الألمانية أن أميركا التي تصدر ما يربو عَلَى نصف(72/78)
مليون طن من الفحم الحجري قد بدأت تشعر بنقص ولا بد أن يكون حظها كحظ إنكلترا بعد قرنين وكذلك الحال في شمالي إنكلترا فإن آبار الفحم الحجري ستغلق هناك في سنة 2100م كما أنه ينفذ في أواسط فرنسا وبوهيميا نحو نصف القرن الحادي والعشرين وسيدوم استخراج الفحم الحجري من شمال فرنسا وحوض سارابروك في ألمانيا ما بعد 400 أو 500 سنة وسيكون حظ البلجيك ووستفاليا وسيلزيا العليا أحسن من ذلك فسيطول تعدين فحمها أكثر وسيطول عمر معدن سيلزيا البروسي ألف سنة أخرى فلا خوف عَلَى المدنية من ثم اليوم بنضوب الفحم الحجري ولعل العلم يوصل إلى اختراع مادة تقوم مقامه في إجماء المداخن في المعامل والسفن والبيوت وغير ذلك.
زراعة اللؤلؤ
يزرع اليابانيون وبعبارة أخرى اليابانيات اللؤلؤ في جون آغو من بلادهم فتنمو أصدافه في خلال بضع سنين ويعنى بها المربيات عناية خاصة فيدخلن في الصدفة لؤلؤات صغيرة من البحر أو عرق اللؤلؤ تكون بمثابة بزرة للؤلؤة التي يراد استنباتها وما يزرع من اللؤلؤ عَلَى هذه الصورية يشبه من حيث اللون والصفا اللؤلؤ الطبيعي الذي يأتي من ذوات الأصداف.
قطران الطرق
بدأَت أميركا تدهن بعض طرقها بالقطران فشاعت هذه الطريقة في أوربا ومنها انتقلت إلى مصر وقد ثبت مؤخراً أن هذا القطران يضع الأشجار المغروسة بجانبه بما ينبعث منه من الغبار فجربوا فعل الغبار بشجر الدردار والجوز فاحترقت أوراقها وورق الجميز (جرمشق) انتفخ وتشقق وضعف ورق الاس والرند والورد.
الخطر السود
تحاذر أوربا وأميركا من الخطر الأصفر أي نهضة الصين واليابان وزحفهما عَلَى بلاد الغرب لفتحها كما فعل المغول ودمروا المدنية في هذا الشرق الأقرب وفي الشرق الأوسط. وتحاذر ألمانيا اليوم من الخطر الأسود وهو أن فرنسا التي تقل نفوسها وألمانيا التي يتناسل أبنائها كثيراً لا بد أن تنتبه ذات يوم وتجند من أبناء مستعمراتها في شمالي أفريقية أناساً خلقوا للطعان أكثر مما خلقوا للعيش من زراعتهم وكدحهم فتستطيع فرنسا أن تجند من(72/79)
السنغاليين وغيرهم مليون جندي وتسوقهم بما تنشئه من الخطوط الحديدية العسكرية ثم تقلهم في بواخرها إلى مرسيليا أو بوردو في مدة لا تتجاوز الأسبوع فإذا فعلت فرنسا ذلك أوجست ألمانيا خفية من جارتها أكثر مما توجس هذه من تلك وقد جربت فرنسا عَلَى عهد نابوليون وغيره استخدام طوابير من الجند الأسود في حروبها.
الصحافة الألمانية
اشتهرت الصحافة الإنكليزية بوفرة أخبارها واتساع مادتها وتحريها الصدق في الجملة في مرواياتها وقد نشر أحدهم في المجلة الكبرى الأفرنسية مقالة في وصف الصحافة الألمانية قال فيها أنها عَلَى وجه العام محتشمة كثيرة موارد الأخبار نافعة للصناعة والمالية بما تنشره من الأخبار الاقتصادية الدقيقة ويبلغ عدد الصحف التي تصدرها ألمانيا اليوم 4000 صحيفة كان فيها سنة 1905 - 2159 محلاً للطبع منها 1307 لها صحيفة خاصة والصحافة الألمانية تامة الأدوات من حيث الأمور النافعة في الصناعة وافرة الأخبار بحيث فيها 200 شركة تقدم للصحف ما يلزمها من المقالات الافتتاحية والأخبار والانتقادات والحوادث والنكات. وللإعلانات في الصحافة الألمانية مكان رفيع كما لها في فرنسا.
والصحافي الألماني أقل اعتباراً في قومه من الصحافي الإنكليزي أو الإفرنسي وكم نشأ في إنكلترا وفرنسا كبار رجال السياسة من مقاعد التحرير أما ألمانيا فلا تجوَّز أن يكون النائب مثلاً صحافياً وإذا كانت مقالات الصحف تنشر مغفلة من التواقيع مثل الصحافة الإنكليزية وخلافاً للصحافة الإفرنسية امتنع كثير من أرباب الأقدار في السياسة أن يستخدموا الصحافة في مآربهم ومع هذا لا يمنع أن يكون للصحافة الألمانية مكانة مهمة في حياة الأمة أما الحكومة فلا تنظر إلى الصحافة إلا بأنها ضرر لا بد منه وتحاول أن تنال معاضدتها ولاسيما في المسائل السياسية الخارجية وإذا لم تكن الصحافة الألمانية معادية للحكومة فهي تحرص عَلَى رضاها لتعطيها هذه الأخبار بسرعة ولئن كانت جريدة نوردتش ألمان زيتونغ هي لسان حال ألمانيا فإن كثيراً من الصحف الألمان تنطق أيضاً بلسان حكومتها من هذا القبيل.
المستشفيات
في ظل المعابد قامت عَلَى أوائل الأُسرات الأولى من فراعنة مصر بعض الملاجئ ليأوي(72/80)
إليها المرضى يطبهم الكهنة بالعزائم والرقى وهذه كانت المستشفيات الأولى التي عرفت فأصبحت هذه الأماكن المقدسة مدارس حقيقية للتداوي ثم أضيفت إليها حجر لتكون مستوصفات وقد كان معبد سيرابيس في منفيس مشهوراً من هذه الوجهة وزاره اسكندر الكبير لاستشارة أطبائه. وكان في أرض يونان لكل بيت غني غرفة أو غرفتان تحوي ما يلزم لمعالجة الأحباب من العقاقير وكان في يونان أيضاً مستشفيات تطب الغرباء ويهرع إليها الناس من القاصية يستشفون وكذلك كان في رومية مستشفيات وكان الأطباء يطبون الأغنياء بالاشتراك السنوي كما كان في رومية مستشفيات للجند فدثرت عندما غار برابرة الشمال عَلَى بلادهم ولم تعد إلى الانتفاع منها إلا بعد انتشار النصرانية فأُنشئت رهبنات تعنى بشفاء المرضى وتمريضهم ومن أقدم المستشفيات مستشفى سالرن في إيطاليا ومستشفى مونبليه في فرنسا الذي أنشئ سنة 1195 - قالته إحدى المجلات الإيطالية.
رمال تتغنى
للرمل في جزيرة كاياواي من أرخبيل هاواي وفي صحراء كولورادو خاصية غريبة إذا أثاره الريح فإنك تسمع له صوتاً يتغنى أو يطن وإذا قبضت عَلَى حفنة من الرمل وعركته بين يديك تسمع له صوتاً كصوت البومة وإذا وضعت منه في كيس وهززته بقوة تسمع له عواء كعواء الكلب وإذا فحصت الرمل بالنظارة المكبرة تجده مدوراً وهو يجري واحدة عَلَى الأخرى بأقل مس وبهذه الخاصية يمكننا أن نفسر السهولة التي تقذف بها إلى بعيد وتطوف المسافات. وينسبون الأصوات التي تنشأ عن هذه الرمال إلى قشرة رقيقة من النار تغطي وجه الرملة فإذا نقل هذا الرمل من هذه الصحراء يبطل صداه وغناؤُه.
وقاية الخشب
اخترع مهندس من بودابست طريقة لمنع العفن من أن يلحق عمد التلغراف وخشب السكك الحديدية وخشب الحوائط وبالجملة كل خشب يمس الأرض دائماً وسماها وهذا الاختراع عبارة عن تحضير التربة عَلَى طريقة كيماوية بحيث تسلم كل السلامة من المواد الضارة بالخشب فيصب في الثقب أو المنفذ سائل معقم يهلك الحشرات والحلمات الطفيلية وبهذه الطريقة يستغنى في الخشب عن طليه بالقطران.(72/81)
العدد 73 - بتاريخ: 1 - 3 - 1912(/)
اليمن وسكانها
- 2 -
نسب اليمانيين وتفرقهم
لا خلاف في أن عرب اليمن من بني قحطان ويعدون من العرب العاربة وأكثر قبائل العرب من اليمن كما قال البلخي فمنهم السكون وخولان والأزد ومازن بن الأزد وميدعان بن الأزد ومارد بن سلامان ومنهم آل العنقاء والفراهيد وقساحل وبلادس وثهلان وحرحنة وبطون كثيرة قد دونت في كتب الأنساب حتى ما تسقط قبيلة ولا فخذ ولا رهط ولا بطن وأصل ملوك غسان بالشام من عرب اليمن.
قالوا ربما أغار اليمانيون عَلَى البلدان فيرجعون إلى بلادهم. واليمن قبائل كثيرة إذا دخلت فيهم قضاعة وجذام ولخم وبجيلة وخثعم كان أول من ذكر اسمه وعرف قدره سبأُ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان فمن ولده كهلان بن سبأُ وحمير بن سبأُ وقضاعة من قبائل حمير تفرقت بعض هذه القبائل في البلاد فنزلت أزد شنوءة أرض الشراة وما حولها في الشام وسارت غسان إلى الشام حتى نزلت بأرض البلقاء وتنصروا وأقاموا مملكين بالشام من قبل صاحب الروم وسار من ولد حوالة بن الهنو بن الأزد إلى الموصل وقدم مالك بن فهم بن غنم بن دوس حتى نزل أرض العراق فانشأ ملكاً بالحيرة.
قال بعض آل أسعد بن ملكيكرب (كليكرب؟) تبع ذاكراً منازل من خرج من اليمن في سائر جزيرة العرب وغيرها
وقد فراقت منا ملوك بلادها ... فصاروا بأرض ذات مبدى ومحضر
وقد نزلت منا خزاعة منزلاً ... كريماً لدى البيت العتيق المستر
وفي يثرب منا قبائل إن دعوا ... أتوا سرباً من دارعين وحسر
هم طردوا عنها اليهود فأصبحوا ... عَلَى معزل منها بساحة خيبر
وغسان حيٌ فعزهم في سيوفهم ... كرام المساعي قد حووا أرض قيصر
وقد نزلت منا قضاعة منزلاً ... بعيداً فأمست في بلاد الصنوبر
وكلب لها ما بين رملة عالج ... إلى الحرة الرجلاء من أرض تدمر
ولخم فكانت بالعراق ملوكها ... وقد طحرت عدنان في كل مطحر(73/1)
وحلت جذام حيث حلت وشاركت ... هنالك لخماً في العلا والتجبر
وأَزد لها البحران والسيف كله ... وأرض عمان بعد أرض المشقر
ومنا بأرض الغرب جند تعلقوا ... إلى بربر حتى أتوا أرض بربر
هكذا ذكروا تفرق أهل اليمانيين وأصولهم أما مدنيتهم التي حملوها فقد أكد أحد علماء الآثار أن اليمن سبقت بتمدنها بابل ومصر ومنها هاجر أجداد الفراعنة ومنها كان أجداد البابليين والآشوريين وإلى مصر وبابل وآشور حمل اليمانيون الصناعات والعلوم والتجارة وتوغل بعضهم حتى استنبط بعض اليمانيين أو الحميريين هم الذين مدنوا شواطئ آسيا وأفريقية وأوربا وقالوا أنهم كانوا أميل إلى التجارة لا إلى الغزو والغارة ولذلك كان معظم الأذواء يتجرون فإذا كانت لرجل منهم مطامع في السيادة تغلب عَلَى البلاد.
والأذواء كثيرون منهم ذو الجناح وذو المنار وذو رعين وذو نواس وذو مجن وذو الكلاع سيف بن ذي يزن وقد استولى الحبشة بعد ذي نواس عَلَى اليمن فلم يدعوا رجلاً إلا قتلوه ولا بناء إلا هدموه ورئيسهم أبرهة الأشرم فخربوا المدن والخراب من عهدهم بدأ في الغالب وملك الفرس اليمن إلى عهد الإسلام وكان أراد كسرى أنوشروان عَلَى فتحها ابن ذي يزن يستنجده ويستعينه عَلَى السودان وامتدحه بالحميرية فأعجب كسرى بقصيدته لما ترجمت.
ومن الأذواء علس ذو جدن كان كما في الأغاني ملكاً من ملوك حمير ولقب ذا جدن لحسن صوته والجدن الصوت بلغتهم ويقال أنه أول من تغنى باليمن. رووا أنهم حفروا حفراً في زمن مروان فوقفوا عَلَى أزج له باب فإذا هم برجل عَلَى سرير كأعظم ما يكون من الرجال عليه خاتم من ذهب وعصابة من ذهب وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه أنا علس ذو جدن القبل لخليلي مني النيل ولعدوي مني الويل طلبت فأدركت وأنا ابن مئة سنة من عمري وكانت الوحش تأذن لصوتي وهذا سيفي ذو الكف عندي ودرعي ذات الفروج ورمحي الهزيري وقومي الفجواء وقرني ذات الشر فيها ثلاث مائة حشر من صنعة ذي نمر أعددت ذلك لدفع الموت عني فخانني قال الراوي فنظرنا فإذا جميع ذلك عنده.
ولما سار حسان بن تبان أسعد أبو كرب بأهل اليمن يريد أن يطالبهم أرض العرب وأرض العجم كما كانت التبابعة قبله تفعل حتى إذا كان ببعض أرض العراق عَلَى رواية الطبري(73/2)
كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم فكلموا أخاه أن يقتله ليخلفوه عليهم فقتله ومرج أمر حمير عند ذلك تفرقوا فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم يقال لخيعة ينوف ذو شناتر فملكهم وقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة فقال قائل من حمير يذكر ما ضيعت حمير في أمرها وفرقت جماعتها ونفت من خيارها
تقتل ابناها وتنفي سراتها ... وتبني بأيديهم لها الذل حمير
تدمر دنياها بطيش حلومها ... وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون قبل ذاك بظلمها ... وإسرافها تأتي الشرور فتخسر
ثم تهودت حمير وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى عَلَى الإنجيل أهل فضل واستقامة لهم من أهل دينهم رأس يقال له عبد الله بن تامر وكان موقع أصل ذلك الين بنجران وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها ثم أن رجلاً من بقايا أهل ذلك الدين وقع بين أظهرهم يقال له فيميون فحملهم عليه فدانوا به قال هشام زرعة ذو نواس فلما تهود سمي يوسف وهو الذي خد الأخدود بنجران وقتل النصارى وكانوا قريباً من عشرين ألفاً افلت منهم رجل وقدم عَلَى ملك الحبشة فأعلمه ما ركبوا به وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه فانجده برجال كما بعث إلى قيصر أن ينجده بالسفن والأخدود هو المذكور في القرآن قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود فجاء جيش النجاشي ورأسه أرياط فقتل ثلث اليمن وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها وقد أخرب مع ما أخرب من ارض اليمن سلحين وبينون وغمدان حصوناً لم يكم في الناس مثلها فقال:
هونك ليس يرد الدمع ما فاتا ... لا تهلكي أسفاً في ذكر ماتا
أبعد بينون لا عين ولا أثر ... وبعد سلحين يبني الناس أبياتاً
وقد ساق أبو الفرج الأصفهاني كيفية مقتل حسان بن تبع عَلَى يد عمرو أخيه وكيف تشتت أمر حمير حين قتل أشرافها والتفت عليه حتى وثب عَلَى عمرو خيعة تنوف ولم يكن من أهل بيت المملكة فقتله واستولى عَلَى ملكه وكان يقال له ذو شناتر الحميري وكيف نشأ زرعة ذو نواس وكانت له ذؤابة وبه سمي ذا نواس وهو الذي تهود وتسمى يوسف كما مر(73/3)
وهو صاحب الأخدود بنجران وكانوا نصارى فخوفهم وحرق الإنجيل وهدم الكنائس ومن أجله غزت الحبشة اليمن لأنهم نصارى كما ساق كيفية خروج سيف بن ذي يزن إلى كسرى يستنجده عَلَى الحبشة بسبب غزو ذي نواس أهل نجران وكانوا نصارى فحصرهم ثم ظفر بهم فحدد لهم الأخاديد وعرضهم عَلَى اليهودية فامتنعوا من ذلك فحرقهم بالنار وحرق الإنجيل وهدم بيعتهم.
ملوك اليمن وعمرانهم
قال ابن حوقل: كانت اليمن عظيمة خطيرة الملوك فمنهم من ملك أكثر الأرض في سالف الزمن كتبع الذي مدن مدينة صنعاء وسمرقند وكان يقيم بهذه حولاً وبهذه آخر ولم يكن فيما سلف من الزمان ومرر الدهور والأيام ممن علت كلمته واتسعت مملكته واستفحلت جبايته كفرعون وذي القرنين وتبع ممن ثبت الملك فيه وفي عقبه فأما أموالها في وقتنا (القرن الرابع) الواصلة إلى سلاطينها وملوكها وأربابها وأصحاب أطرافها فمن جلتها أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم بن زيادة بعد أهل البحرين كانوا بموالينا والذي تحت يده فمن الشرجة إلى عدن طولاً عَلَى ساحل البحر وارض تهامة اليمن ويكون مقدار ذلك اثنتي عشرة مرحلة وعرضه من الجبال إلى ساح اليمن من عمل غلافقه ويكون مقداره مسيرة أربع مراحل وأكثر أمواله المقبوضة من العثور وهي ما ينيف عَلَى خمس مائة دينار عثرية ومن قبالات زبيد هن جميع ما يدخلها ويخرج عنها وتشتمل عليه من وجوه الأموال مائتا ألف دينار عثرية وأكثر ملوك الجبال يخطبون له عَلَى منابرهم في وقتنا هذا ويصل إليه من جباية عدن عَلَى المراكب العثرية مما لا يقع بموافقة ولا ضمان ويعمل بالأمانات لربما زادت المراكب ونقصت وقد يرتفع له في السنة عن هذا المكان مائتا ألف دينار عثرية زائداً أو ناقصاً ويؤخذ العنبر بسواحل عدن وما يليها وله عَلَى ذلك ضريبة تصل إليه عَلَى صاحب جزائر هلك موافقة من هدايا ترد عليه فيها عبيد وعنبر وغير ذلك وملكة الحبشة تهاديه ولا تقطع مبرته ومواصلته ويتلوه في المكنة والمقدرة ابن طرف صاحب عثر وملكه يشتمل عَلَى وجوه من الأموال وضروب من الجبايات ويكون الواصل إليها كنصف الواصل إلى أبي الجيش من المال ويتلوه الخزامي صاحب حلي وهو دون ابن طرف في المكنة والسلطان والجباية. وهؤلاء الثلاثة ملوك تهامة اليمن وابن طرف والخزامي جميعاً(73/4)
في طاعة ابن زياد في وقتنا هذا ويخطبون عَلَى اسمه.
وملوك تهامة اليمن المعروفون بملوك الجبال كثيرة واجلهم ولد أسعد بن أبي يعفر وهو عَلَى الحجبة هو ملك صنعاء يخطب لأبي الجيش ويضرب دراهمه عَلَى اسمه وليس ينفذ إليه ميرة ولا هدية وجميع وجوه أمواله أربعمائة ألف دينار فتصرف في مروته وإلى أضيافه وقاصديه وهو من سلالة التبابعة ومن بالجبال من ملوكها فجبايته دون هذه العدة من المال ومرافقه بقدر كفايته.
وأما الحسنيُّ صاحب صعدة فله جباية كثيرة ومستغلات من المدابغ وضرائب من القوافل كثيرة تضاهي ارتفاع ابن طرف وربما زادت ونقصت وصاحب السرين فما يصل إليه قوم به وبأهله ولسيت بحال تذكر وله عَلَى المراكب الصاعدة والنازلة من اليمن رسم يأخذه من الرقيق والمتاع الوارد مع التجار.
إليك ملوك اليمن في القرن الرابع وما كانوا يتقاضونه من وجوه الارتفاعات مما تستدل منه عَلَى ثروة اليمن الغريب واتساع أقاليمها ومخاليفا وكثرة قراها ومزارعها وقد وصف ابن حوقل أيضاً المسافات بين بلادها فقال: وأما تهامة فإنها قطعة من اليمن جبال مشتبكة أولها مشرف عَلَى بحر القلزم (الأحمر) مما يلي غربيها وشرقيها بناحية صعدة وجرش ونجران وشماليها حدود مكة وجنوبها من صنعاء عَلَى نحو عشر مراحل وبلاد خولان تشتمل عَلَى قرى ومزارع ومياه معمورة بأهلها وهي مفترشة وبها أصناف من قبائل اليمن ونجران وجرش مدينتان متقاربان في الكبر بهما نخيل ويشتملان عَلَى أحياء من اليمن كثيرة وصعدة أكبر وأعمر منهما ويتخذ بها ما كان يتخذ بها ما كان يتخذ بصنعاء من الأدم ويتخذ بنجران وجرش والطائف أدم كثير وأكثره من صعدة وبها كان يجتمع التجار وليس باليمن جميعاً بلداً أكبر ولا أكثر مرافق وأهلاً من صنعاء وهو بلد في خط الاستواء وهو من اعتدال الهواء بحيث لا يتحول الإنسان عن مكان واحد شتاءً ولا صيفاً وتتقارب ساعات الصيف والشتاء والجذام به ظاهر لقلة سطوة الشمس به وفيه كانت تسكن ملوك اليمن فيما تقدم وبها بناءٌ عظيم قد خرب فهو تل كبير يُعرف بغمدان وكان قصراً لملوك اليمن وليس باليمن بناءٌ أرفع منه.
والمذيخرة جبلٌ أعلاه نحو عشرين فرسخاً فيها مزارع ومياه وفيه ينبت الورث وهو نبات(73/5)
أحمر في معنى الزعفران يصبغ فيه ولا يسلك إلا من طريق واحدة. وشبام جبل منيع جداً فيه قرى ومزارع وسكان كثيرة وفيه جامع ويرتفع منه الجسمت والعقيق والجزع حجارة تعمل فإذا عملت ظهر جوهرها لأن وجوه هذه الحجارة مغشاة وبلغني أنها تكون في صحاري فيها حصى ملون تلقط من بينها. وعدن مدينة صغيرة وشهرتها لأنها فرضة عَلَى البحر ينزلها السائرون في البحر وباليمن مدن أكبر منها ليست كشهرتها.
وبلاد الإباضية بقرب حمدان وخولان وخيوان وهي أعمر بلاد بتلك النواحي مخاليف ومزارع وأغزرها مياهاً. قال وبأرض سبأ من اليمن طوائف من حمير وبحضر موت أيضاً وأما ديار همدان وأشعر وكندة وخولان فإنها مفترشة في أعراض اليمن وفي أصفافها مخاليف وزروع وبها بوادٍ وقراى تشتمل عَلَى تهامة وبعض نجد ونجد اليمن غير نجد الحجاز غير أن جنوبي نجد الحجاز يتصل بشمالي نجد اليمن وبين النجدين وعمان برية ممتنعة قال وباليمن قرود كثيرة بلغني أنها تكثر حتى أنها لا تطاق إلا بجمع كثير وإذا اجتمعوا كان لهم كبير يعظمونه ويتبعونه كاليعسوب للنمل وبها دابة تسمى العدار بلغني أنها تطلب الإنسان فتقع عليه فإذا أصابت منه تلك الدابة جرحاً تدود جوف الإنسان فانشق ويحكى عن بعض الغيلان بها ما لا أستجيز حكايته لأن المنكر لمن لا يعلم أعذر من المقر بما يجهل.
وذكر ياقوت أن المذيخرة قلعة حصينة في رأس جبل صبر وفيها عين في رأس الجبل يصير منها نهر يسقي عدة قرى باليمن وهي قريبة من عدن يسكنها آل ذي مناخ وبها كان منزل أبي جعفر المناخي من حمير. قال عمارة اليمني: المذيخرة من أعمال صنعاء أن أعلاه نحو عشرين فرسخاً فيه المزارع والمياه ونبت الورث وفي شفيره الزعفران ولا يسلك إلا من طريق واحد وهو في مخلاف السحول ولما ملك الزيادي اليمن واختط زبيد وحج من اليمن جعفر مولى زياد بمال وهدايا بسنة 205 وسار إلى العراق وصادف المأمون بها وعاد جعفر هذا بسنة 206 إلى زيد ومعه ألف فارس فيها مسودة خراسان سبعمائة فعظم أمر ابن زياد وتقلد إقليم اليمن بأسره الجبال والتهائم وتقلد جعفر هذا الجبل واختط به مدينة يقال لها المذيخرة ذات انهار ورياض واسعة والبلاد التي كانت لجعفر تسمى اليوم (القرن السادس) مخلاف جعفر والمخلاف عند أهل اليمن عبارة عن قطر(73/6)
واسع وكان جعفر هذا من الدهاة الكفاة وبه تمت دولة بني زياد ولذلك يقولون ابن زياد وجعفر.
وذكر ياقوت في شبام أنه جبل عظيم فيه شجر وعيون وشرب صنعاء منه وبينه يوم وليلة وهو جبل صعب المرتقى ليس إليه إلا طريق واحد وفيه غيران وكهوف عظيمة جداً ويسكنه ولد يعفر وله فيه حصون عجيبة هائلة وذروته واسعة فيها ضياع كثيرة وكروم ونخيل والطريق إلى تلك الضياع عَلَى دار الملك وللجبل باب واحد مفتاحه عند الملك فمن أراد النزول إلى السهل في حاجه دخل عَلَى الملك فاعلمه ذلك فيأمر بفتح الباب وحول الضياع والكروم جبال شاهقة لا مسلك فيها ولا يعلم أحد ما ورائها ومياه هذا الجبل تصب إلى سد هناك فإذا امتلأ السد ما أن فتح فيجري إلى صنعاء ومخاليفها وبينه وبين صنعاء ثمانية فراسخ. قال عمارة اليمني في تاريخيه وكان حسين ابن أبي سلامة وهو عبد نوبي وزرلابي الحبشي بن زياد صاحب اليمن أنشأ الجوامع الكبار والمنائر الطوال من حضر موت إلى مكة وطول المسافة التي بني فيها ستون يوماً وحفر الآبار الروية والقلب العادية فأولها شبام وتريم مدينة حضر موت واتصلت عمارة الجوامع منها إلى عدن والمسافة عشرون مرحلة في كل مرحلة منها جامع ومئذنة وبئر ويقي مستولياً عَلَى اليمن ثلاثين سنة ومات سنة 432 وذكر له فضائل وجوامع في كل بلدة من اليمن.
وذكر أبو الفدا من بلاد اليمن حصن تعز فقال هي في زماننا مقر ملوك اليمن وهي حصن في الجبال مطل عَلَى التهائم وأراضي زبيد وفوق تعز منتزه يقال له صهلة قد ساق صاحب اليمن المياه من الجبال التي فوقها وبني فيها أبنية عظيمة في غاية الحسن في وسط بستان هناك. وذكر حصن الدملوة وقال أنها خزانة صاحب اليمن قال ابن سعيد وهي عَلَى الجبل الممتد من الجنوب إلى الشمال ويضرب بامتناعها وحصانتها المثل في شمالييها تقع الجوة وهي بليدة مشهورة في جادة طريق الجبال وذكر الشرجة وجبلة وهذه بين عدن وصنعاء والجند شمالي تعز وذمار وحلى وظفار ونجران وعدن أَبين وصنعاء وصعدة وبلاد خيوان وجرش (غير جرش سورية) ومأرب يقال لها سبأ وشبام وقبة حضر موت ومرباط.
وفي أحسن التقاسيم أن ولايات هذا الإقليم متقطعة فاليمن لآل زياد وأصلهم من همدوان(73/7)
وابن طرف لع عثر وعَلَى صنعاء أمير غير أن ابن زياد يحمل إليه الأموال ليخطب إليه وربما أخرجت عدن عن أبديهم وآل قحطان في الجبال وهم أقدم ملوك اليمن والعلوية عَلَى صعدة يخطبون لآل زياد وهم أعدل الناس وعمان للديلم وهجر للقرامطة وعَلَى الأحقاف أمير منهم قال وصاحب صعدة لا يأخذ ضريبة من أحد وإنما يأخذ ربع العشر من التجار.
في القرن السادس كان صاحب اليمن الملك المجاهد سيف الدين علي ابن الملك المؤيد هزير الدين داوود من بيت رسول وكان جدهم هذا رسول أميراً آخر للملك الكامل ناصر الدين محمد عادل أبي بكر بن أيوب فلما بعث الملك الكامل ولده المسعود أطسن وهو الذي تسميه العامة أقسيس بعث معه أميراًَ آخر في جملة من بعوثه معه ثم تنقلت الأحوال حتى استقل رسول بملك اليمن وصار الملك من عقبه.
عجائب اليمن
ذكر الهمداني منها باب عدن وهو شصر مقطوع في جبل كان محيطاً بموضع عدن من الساحل فلم يكن لها طريق إلى البر إلا للرجل لمن ركب ظهر الجبل فقطع في الجبل باب مبلغ عرض الجبل حتى سلكه الدواب والحمائل والمحامل والجفان. وقطع بينون جبل قطعه بعض ملوك حمير حتى خرج فيه سيلان وراءه إلى أرض بينون. وقلعة الجوة لأبي المغلس في أرض المعاقر هي تطلع بسلم فإذا قلع لم تطلع. ومنها جبل تخلى وهو جبل واسع الرأس ذو عرقة مطيفة به تنزل الوبر والقرد وتحت العرقة عرقة وفي مواضع منه عرق مترادفة وليس تعم جميعه إلا العرقة العليا والتي تحتها ورأسه واسع جداً فيه ثلاث قلاع حصون فأولها بيت فائس وهو من أرفع ما فيه وفيها مسجد قائم كان الناس يزورونه والمذمار مثلها في الرفعة وبيت ريب حصن ذو عرق منقطعة عليها قصور آل المنصور وحرمهم وأموالهم لا مسلك لها غير باب واحد والأراس حصن بينها وبين بيت فائس وهو حصن واسع وبعد أن ذكر أبوابها قال وتغلق هذه الأبواب عَلَى هذه الحصون وهذه الحصون وهذه القرى عَلَى ضياع تؤدي خمسة آلاف ذهب براً وشعيراً ليكون سبعة آلاف وخمسمائة قفيز وتغلق عَلَى ميدانه وأنوباته ومجزرته ومساجده ومراعيه وأغنامه وبقره وخيله ما خلا الإبل فإنها لا تطلعه وفي معظم حصونها زروع أعقار فيها ماؤها ومرعاها وجميع مرافقها ومدينة خولان العظمى صعدة وهي بلد الدباغ في الجاهلية الجهلاء وهي في(73/8)
موسط بلد القرظ ربما وقع فيها القرظ من ألف رطل إلى خمسمائة بدينار مطوق عَلَى وزن الدجرهم القفلة وأما ظاهر خولان فهو أسل وفيه قرى زروع واعناب دافقين وجبل أبذر وأبذر مثل جبل ذخار من الجبال التي في رؤوسها الماء والمرعى والزرع والقرى.
ويشتد في صنعاء البرد لايتحول الإنسان الشتاء والصيف من مكانه فإذا اشتد بها الصيف وحر فدخل الرجل يقيل عَلَى فراشه لم يكن له بد من أن يتدثر لأن بيوتها في الصيف باردة لأجل قصة الجير المسيع بها بواطن البيوت فيدخل في المخدع عَلَى فراشه ويطبق عليه الباب ويسبل السترين والسجف فلا يتغير ضياء البيت لأجل الرخام الذي يكون في الجدران والسقف بل إذا كان في السقف رخامة صافية نظر عوم الطائر بظله عليها إذا حاذاها وتؤدي الرخامة لمعان الشمس إلى القصة فتقبلها بجوهرها وبريقها.
وأعشاب اليمن وحبوبها غريبة في بابها ومنها الورث واللبان اللذان لا يكونان في غير اليمن ويصيران في جميع الأرض.
ومن الابار العجيبة البئر المطلة بريدة ومنها بئر سراقة لمراد في أسفل الجوف وطولها خمسون باعاً وماؤها عذب فرات لا يكدرها الدلاء وبئر سام بن نوح بصنعاء وكهالة بئر ذي يزن بين زبيد وعدن وبئر هوت بسفل حضر موت وبئر ميمون المذكورة في القرآن. أما معادن الفضة بالرضراض فما لا نظير له وبها معادن الحديد غير معمولة مثل نقم وغمدان وبها فصوص البقران ويبلغ الثلث بها مالاً وهو أن يكون وجهه أحمر فوق عرق أبيض فوق عرق أسود والبقران ألوان ومعدنه بجبل أنس وهو ينسب بن ألهان بن مالك والسعواني من سعوان وادٍ إلى جنب صنعاء وهو فص أسود فيه عرق أبيض ومعدنه بشهارة وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم وظليمة والجمش من شرف همدان والعشاري وهو الحجر السماوي من عشار بالقرب من صنعاء والبلور يوجد في مواضع منها والمسني الذي يعمل منه نصب السكاكين يوجحد في مواضع منها والعقيق الأحمر والعقيق الصفر العتيقان من الهان وبها الجزع الموشى والمسير وفي مواضع منها منه النقعي وهو فحل العرف والسعواني والضهري منه أجنس والخولاني والجردي من غديقة والشزب يعمل منه الواح وصفائح وقوائم سيوف ونصب سكاكين ومداهن وقحفة وغير ذلك وليس سواه إلا في بلد الهند والهندي عرق واحد.(73/9)
ومحافد اليمن وقصورها القديمة التي ذكرتها العرب في الشعر والمثل كثيرة فأولها وأقدمها غمدان ثم تلغم وناعط وصروح وسحين بمأرب وظفار وهكر وضهر وشباء وغيمان وبيون وريام وبراقش ومعين وروثان وأرياب وهند وهنيدة وعمران والنجير بحضرموت.
وغمدان قصر عجيب قد بني ثلاثة أوجه ووجه بالجروب الأبيض ووجه بالجروب الأصفر ووجه بالجروب الأحمر ووجه بالجروب الأخضر ولجروب الحجارة وابتني في داخله عَلَى ما التقن من أساسه قصراً عَلَى سبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً وسقفه من رخامة واحدة وجعل عَلَى ركن تمثال أسد من شبه كعظم ما يون من الأسد فكانت الريح إذا هبت من ناحية تمثال من تلك التماثيل دخلت جوفه من دبره ثم خرجت من فيه فيسمع له زئير كزئير الأسد وكان يأمر بالمصابيح فتسر في بيوت الرخام إلى الصبح فكأن القصر يلمع من ظاهره كلمع البرق فإذا أشرف الإنسان ليلاً قال أرى بصنعاء برقاً شديداً أو مراً كثيراً ولا يعلم أن ذلك من ضوء السرج فكان كذلك حتى أحرق.
قال ياقوت أن غمدان كان حصن كان ينزله الملك الذي يكون عَلَى اليمن وكان أعجمياً فلما ملكت الحبشة اليمن أخربته إلا بقايا هدمها عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في الإسلام وقال ينبغي لمآثر الجاهلية أن تمحى وأن في الحصن مصنعة عليها قبة منطلق. وفيها يقول خلف الأحمر
ومصنعة الطلق أودى بها ... عوادي الأحاديش بالصيدن
وفيها يقول قدامة حكيم المشرق وكان صاحب كيمياء
فارقد فيها نارة ولو أنها ... أقامت كعمر الدهر لم تنضرم
لأن الطلق لو أوقد عليه ألف عام لم يسخن وبه يتطلى النفاطون إذا أرادوا الدخول في النار.
وبنى أبرهة بن الصباح بصنعاء القيلسة وهي كنيسة بناها لصاحب الحبشة لم ير الناس أحسن منها ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر وجعل خشباً له رؤُوس كرؤُوس الناس ولكنها بأنواع الأصباغ وجعل لخارج القبة برنساً فإذا أن يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها حتى تكاد تلم البصر وسماها القليس (بضم القاف وتشديد اللام).(73/10)
ون قصور اليمن قصر شوحطان وقصر كوكبان وأكثرها من عجيب البناء وقيل أن هذا القصر الأخير كان مبنياً بالفضة والحجارة وداخله بالياقوت والجواهر.
ومن أعظم عجائب اليمن السد الذي كان باليمن عَلَى مثال سد أسوان في مصر اليوم ومأرب كما قال السهيلي أمم قصر كان لهم وقيل هو اسم لكل ملك كان يلي سبأ كما أن تبعاً اسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضرموت وهذا السد عَلَى ما قال المسعودي من بناء سبأ بن يشجب بن يعرب وكان سافله سبي وادياً ومات قبل أن يستتمه فأتمته ملوك حمير بعده وقال المسعودي أيضاً بأن بانيه لقمان بن عاد وجعله فرسخاً في فرسخ وجعل له ثلاثين شعباً. ومأرب بين حضرموت وصنعاء وبينها وبين صنعاء أربعة أيام وهي قرية ليس بها عامر في القرن السابع إلا ثلاث قرى يقال لا الدروب إلى قبيلة من اليمن فالأول من ناحية صنعاء درب آل الغشيب ثم درب كهلان ثم درب الحرمة وكل واحد من هذه الدروب كاسمه درب طويل لا عرض مله طوله حو الميل كل دار إلى جانب الأخرى طولاً وبين كل درب نحو فرسخين أو ثلاثة وهم يزرعون عَلَى ماء جار يجيء من ناحية السد فيسقون أرضهم سقية واحدة فيزرعون عليه ثلاث مرات وفي كل عام ويكون بين بزر الشعير وحصاده في ذلك الموضع نحو شهرين. وسد مأرب بين ثلاثة جبال يصب ماء السيل إلى موضع واحد وليس لذلك الماء مخرج إلا من جهة واحدة فكأن الأوائل قد سدوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص فيجتمع فيه ماء عيون هناك مع ما يجتمع من ماء السيول فيصير خلف السد كالبحر فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا ذلك السد بقدر حاجتهم بأبواب محكمة وحركات مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه إذا أرادوا. قال ابن حوقل ومجتمع الماء الذي بأرض اليمن في ديار سبأ إنما كان موضع مسيل ماء فبني عَلَى وجهه سد فكان يجتمع فيه مياه كثيرة يستعملونها في القرى والمزارع حتى كفروا النعمة بعد أن كان الله تعالى قد جعل لهم عمارات قرى متصلة إلى الشام فسلط عَلَى ذلك المكان آفة فكان لا يمسك ماء وهو قوله تعالى وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها إلى قوله ومزقناهم كل ممزق فبطل ذلك الماء إلى يومنا هذا.
أما سيل العرم الوارد ذكره في الكتاب العزيز بقوله فأرسلنا عيهم سيل العرم فإنه كان عَلَى رواية في أيام ملك حبشان فأخرب الأمكنة المعمورة في أرض اليمن وكان أكثر ما أخرب(73/11)
بلاد كهلان وعامة بلاد حمير وولد حمير وكهلان هم سادة اليمن في ذلك الوقت خربها حتى لم يبقى من جميع الأرضين والكروم إلا ما كان في رؤوس الجبال والأمكنة البعيدة مثل ذمار وحضرموت وعدن ودهيت الضياع والحدائق والجنان والقصور والدور وجاء السيل بالرمل وطمها عَلَى ذلك إلى القرن السابع.
ومعنى العرم (بفتح أوله وكسر ثانيه) لسكر والمسناة التي تسد فيها المياه وتقطع وهي تلك المسناة التي كانت قد أحكمت لتكون حاجزاً ين ضياعهم وحدائقهم وبين السيل. وقيل العرم الماء الأحمر واسم واد بعينه أو اسم للجرذ لذي نقب السكر عليهم هو الذي يقال له الخلد وقيل العرم المطر الشديد قال المثلم بن قرط البلوي
ألم تر أن الحي كانوا بغبطة ... بمأرب إذ كانوا يحلونها معا
وقال الأعشى
ففي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب عفا عليها العرم
رخام بنته لهم حمير ... إذا ما نأى ماؤهم لم يرم
فأرى الحروث بأغنامها ... عَلَى ساعة ماؤهم إن قسم
وطار الفيول وفيالهم ... بيهماء فيها سراب لم يلم
فكانوا بذلكم حقبة ... فمال بهم جارف منهدم
وقال جهم بن خلف:
ولم تدفع الإحسان عن رب مأرب ... منيته وما حواليه من قصر
ترق إليهم تارة بعد هجعة ... بأمراس كتان أمرات عَلَى شزر
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات:
يا دبار الحبائب ... بين صنعا ومأرب=جاءك السعد غدوة=والثريا بصائب
من حريم كأنما ... يرتمي بالقواضب=في اصطفاق ورنة=واعتدال المواكب(73/12)
هل تسترد اللغة العربية أمجادها
(تتمة ما في الجزء الأول)
نهضة العرب في الإسلام
لندع جزيرة العرب الآن إلى ثلث القرن السابع الميلادي لميلاد المسيح ثم لنعد إليها بعد ذلكم ولنحدث عما نرى
أمة متفقة الكلمة مجتمعة الرأي متحدة اللغة والدين قد قوي اجتماعها واشتد أسره حتى صار كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وقد كفوا سيوفهم عن أنفسهم وشهروها في وجوه عدوهم من الفرس والروم فطردوا كسرى من المدائن وأجلوا قيصر عن الشام.
سلوني أين ذهب ما كانت توصف به الأمة من تفرق الكلمة وتشعب الرأي ومن تعدد الدين وتنوع اللهجات. .؟
أين شريعة موسى وتعليم عيسى. .؟
أين الوثنية وعقائد الصابئة والمجوس. .؟
أين حمية الجاهلية وعصبيتها. .؟
أين تلكم الضغائن التي كانت تثير الحفائظ وتأكل القلوب. .؟
كل ذلكم قد ذهب به الإسلام أيها السادة فلم يبق له في الجزيرة العربية أثراً ولست أريد أن ابحث عن مصدر ذلكم لأني إنما أحاضر في تاريخ اللغة لا في تاريخ الشعب.
القرآن
كان القرآن للعرب شمساً نسخت عنهم ظل الجاهلية وأضاءت منهم ظلمة النفوس ونقلت اجتماعهم من حال إلى حال فقد جاءهم بضروب من القول لم يعهدوها وفنون من الكلام لم يعرفوها مشتملة عَلَى أمتن قواعد الاجتماع وأصح أصول التشريع ممتلئة بنافع الحكم ونابغ الكلم وجيد الوصف والتشبيه وصادق القصص والتاريخ وقد أنكروه إذ سمعوا بادئة الأمر ولكنهم لم يلبثوا أن خضعوا له وأذعنوا لسلطانه طوعاً أو كرهاً بعد أن بهرهم جماله وسحرتهم روعته واصبحت قلوبهم حكمته وهذبت نفوسهم آدابه وظهر لهم الحق من ثناياه جميل الصورة وطلق المحيا يفتن رواؤه القلوب ويخلب الألباب ولست أريد أن أطيل في وصف القرآن لأن ذلك يحتاج إلى محاضرة خاصة وغنما أقول أنه قد غير العرب تغييراً(73/13)
تاماً فلم يات عليه خمس وعشرون سنة إلا وقد أَلان من القوم قلوباً قاسية وصفى طباعاً جافية وأَرق كباداً غليظة وهذا ألفاظاً فجة ونقل الأمة من البداوة إلى الحضارة ومكن لا في الأرض وهيأها للفتح والتغلب عَلَى الجملة أنشأ من العرب خلقاً جديداً.
هنالك خضعت اللغة لمؤثرين كبيرين أحدهما الإسلام والثاني الفتح.
فأما الإسلام فقد صنع بالقوم ما عرفتم فحسنت لغتهم ورقت ألفاظهم وظهرت عليها بشاشة الدين وطهارة النفوس.
وأما الفتح فقد استأثر عواطف القوم بعد كمونها وأطلق ألسنتهم بالخطب الرائعة والشعر الجميل نصراً للحق وزوداً عنه.
مذهبٌ باطل
وهنا يجب علي أيها السادة أن أبطل مذهباً اجمع عليه كافة المؤلفين في آداب اللغة من المحدثين يتبعون فيه رأي المؤرخ ابن خلدون رحمه الله.
زعموا أن الآداب العربية ولاسيما الشعر قد وقفت أيام النبي والخلفاء الراشدين لأن العرب قد شغلوا عنها بالدين والفتح وتأسيس الملك فلما استقر الأمر لبني أمية نهضت الآداب من كبوتها واستيقظت من غفوتها إلى آخر ما يقولون.
خطأ جداً هذا المذهب أيها السادة لأنه لا يستند عَلَى حجة ولا يعتمد عَلَى دليل.
نعم إنهم لم يجدوا عَلَى ذلكم برهاناً إلا شيئين اثنين الأول أن لبيد بن ربيعو وهو من فحول الشعراء المخضرمين قد ترك الشعر في الإسلام اعتداداً بالقرآن واحتفالاً به وقد بعث عمر بن الخطاب إلى عامله عَلَى الكوفة استنشد من قبلك من الشعراء وابعث إلي بشعرهم فدعا العامل لبيداً وأبا النجم وأبلغهما أمر عمر فأما أبو النجم فقال
أرجزاً تريد أم قصيدة ... طلبت شيئاً عندنا موجودا
وأما لبيد فقد رجع إلى بيته ثم غدا عَلَى الأمير بلوح قد كتب فيه سورة البقرة وقال هذا شعري.
الثاني أن محمد بن سلام وهو من علماء القرن الثالث للهجرة قال في كتابه طبقات الشعراء أن العرب في صدر الإسلام قد شغلوا بتأسيس الملك عن قول الشعر وروايته.
والحقيقة أيها السادة أن ترك لبيد للشعر لا ينهض حجة عَلَى العرب كافة قد تركوه أو(73/14)
قصروا فيه وإن ابن سلام رحمه الله قد أخطأَ في الأولى وأصاب في الثانية فإن العرب قد شغلوا عن رواية شعر الجاهلية في أيام الفتح والفتن ولكنهم لم يشغلوا عن قوله يوماً ما ولذلكم ضاع كثير من شعر الجاهليين بل من شعر المخضرمين لكثرة من استشهد من الرواة في أيام الردة والفتح وأيام الفتن السياسية الكبرى.
وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه قد أشفق عَلَى القرآن الكريم أن يضيع بعد أن قتل من المسلمين خلق كثير في حروب الردة فكيف يكون حال الشعر. .؟
وكيف يشغل العرب عن قول الشعر والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه ويدعو إليه ويأمر شعراءه أن يدفعوا عنه بقصائدهم وأشعارهم والخلفاء الراشدون كانوا يكثرون استشهاده والبحث عنهم والقول فيه بل كيف يشغلون عن قول الشعر ومصادره الحقيقية قد كانت كثيرة موفورة فإن صدر الإسلام لم يخل من حروب ينشد فيها الشعراء قصائد المدح للقواد المنتصرين والرثاء للشجعان المستشهدين وتحريض الأولياء وهجاء العداء والفخر بحسن البلاء ولو أن هؤلاء المؤلفين قرأوا التاريخ في كتبه المطولة المبسوطة واستظهروا ما تشتمل عليه سيرة النبي وتاريخ الخلفاء من متان القصائد وجياد الأراجيز في فنون الشعر المختلفة ما استطاعوا أن يسجلوا عَلَى أنفسهم هذا القول ولا أن يصموا القرآن الكريم بأنه قد كان سبباً لانحطاط الآداب العربية يوماً ما.
الخطابة
كان شأن الخطابة في صدر الإسلام أرقى بكثير من شأنها في الجاهلية لأنها كانت صناعة الخلفاء والأمراء وحرفة الجيش والذادة عن الثغور فقد سن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين صلاة الجماعة وجعلها من حق الخليفة يقيمها في حاضرة الدولة ويستخلف عليها الأمراء في الولايات فكان يجب عَلَى الخليفة والأمراء أن يخطبوا المسلمين يوم الجمعة من كل أسبوع ولم تكن هذه الخطبة مقصورة عَلَى الوعظ والدين كما هي الآن بل كانت تتناولهما وتتناول الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فكان اجتماع المسلمين في مساجدهم يوم الجمعة أشبه شيء باجتماع المجالس النيابية الآن إلا أن مجامعهم كان يرأسها الخليفة المسئول أمام الصغير والكبير ولم يكن يكره الخليفة أن يقوم له الرجل من أطراف المسجد فيرد رأيه أو ينافس خطبته بل كان ذلك لهم مصدر سرور وإعجاب.(73/15)
وكما أنكم ترون الآن وزارات المم الراقية لا تستطيع أن تنهض بعملها إلا بعد أن تعرض خطتها السياسية عَلَى مجلس النواب كذلك كان الخلفاء الراشدون لا يستطيع أحدهم أن ينهض بأعباء الخلافة حتى يجمع المسلمين ويخطبهم خطبة يبين فيها نموذجاً لسياسته التي سيتبعها في أيام خلافته عَلَى أن حادثاً كبيراً قد حدث للعرب فاثر في أخلاقهم وآداب لغتهم ولاسيما الشعر والخطابة وهذا الحادث هو الفتنة التي ابتدأت بقتل عثمان ولم تنته آثارها إلى الآن.
منشأ الفتن الإسلامية
منشأ الفتن الإسلامية أيها السادة شيء واحد هو النزاع بين الملكية والجمهورية وقد بدئ هذا النزاع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فكان بنو هاشم يرون الملكية الشورية ويعدون أنهم أحق الناس بوراثة الملك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولسان هذا الحزب علي والعباس وكان أبو بكر وعمر وعامة الصحابة يرون الجمهورية عَلَى أن تنحصر في قريش لأن القرآن لم يجئ بوراثة الملك ولأن النبي قد قال الأئمة من قريش وقد انتصر هذا الحزب عَلَى جماعة الأنصار الذين كانوا يريدون أن يكون منهم أمير كما انتصر عَلَى بني هاشم أيضاً فبويع لأبي بكر وعمر ومن بعده لم يتخلف عن البيعة بنو هاشم لأنهم كانوا يرجون أن يؤول الأمر إليهم بعد موت هذين الرجلين ولما وضع عمر قاعدة الشورى بويع عثمان وجد بنو هاشم في أنفسهم وبايعوا مكرهين لأن بني أمية وهم رهط عثمان كانوا أكثر قريش عصبية وأشدها قوة وكان يخشى منهم أن ينهضوا فيثبتوا الملك لأنفسهم بالسيف ولذلك لم تمض عَلَى بيعة عثمان أعوام حتى ثارت أطراف الدولة عَلَى الولاة وكثر الطعن في الخليفة والنعي عليه ثم أقبلت وفود العراق ومصر إلى المدينة وقد اضمروا الشر واستشعروه فحصروا دار عثمان ولم يتركوها حتى قتلوه وبايعوا علياً وكان هذا أول عهد الإسلام بالفتنة ولما قتل عثمان وبويع علي خرج عليه طلحة والزبير وعائشة يطالبون بدم عثمان فكانت بينه وبينهم موقعة الجمل ولم تكد تخمد هذه الثورة حتى خرج عليه معاوية وأهل الشام يخلعونه ويطلبون قتلة عثمان ويردون الأمر شورى بين المسلمين فكانت بينه وبينهم مواقع صفين ولما التحم القتال بينهما ولجأوا إلى التحكيم خرج طائفة يقولون أن علياً ومعاوية ومن تبعهما قد كفروا بالله ومرقوا من الدين فحلت لنا أموالهم وأنفسهم(73/16)
ونساؤهم وهكذا انقسم المسلمون أقساماً وتحزبوا أحزاباً.
تفرقوا شيعاً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
قتل علي وتم الأمر لمعاوية ولكنه لم يمت حتى عاد الانقسام إلى المسلمين أشد مما كان ونشات فتن تمزقت لها وحدة الأمة وتفانت من أجلها القوى ولست أريد أن أذكر الفتن وأخبارها ولا أن أشرح غوامضها وأسرارها بل يكفي أن أذكر لكم الأحزاب التي أوجدتها هذه الفتن فأولها حزب الشيعة وهم أنصار بني هاشم وهؤلاء انقسموا قسمين كبيرين فمنهم من دعا إلى بني علي ومنهم من دعا إلى بني العباس - الثاني حزب الأمويين وهؤلاء انقسموا قسمين أيضاً فمنهم من دعا إلى بني ومعاوية ومنهم من دعا إلى بني مروان - الثالث حزب الزبيرية وهم أنصار عبد الله بن الزبير وكل هؤلاء يطلبون الملك ويطمعون فيه. الرابع حزب الخوارج وهؤلاء قد انقسموا اقساماً كثيرة ولكنهم يطلبون الجمهورية - الخامس حزب المرجئة ومه جماعة لم يظهروا الميل إلى حزب من الأحزاب ولم يحكموا عَلَى أحد بكفر ولا بإيمان وغنما تركوا ذلك لله وقد أظهروا الطاعة لكل ملك عادل من أي حزب كان. . . وكل هؤلاء الأحزاب كانت تحتكم إلى السيف والقوة وتدافع عن آرائها بالشعر والخطابة وقد سلكوا بالشعر في تلكم الأيام مسلك الصحف السياسية الآن وأنا أترك لكم تقدير ما ينال الشعر والخطابة في اثر ذلكم الاختلاف من علو المنزلة وسمو المكانة ولكني أقول أن الخطب قد طالت وتنوعت مناحيها وسلك بها الخطباء طرقاً جمة في الجدال وقد رقت ألفاظها واستعارت من القرآن الكريم شيئاص من رشاقة الأسلوب ومتانته ولم تكن تحسب الخطبة إلا إذا رصعت بشيء من آي الذكر الحكيم عَلَى طريقة الاقتباس وقد اختصت الخطابة في هذا العصر بوجوب ابتدائها بحمد الله والصلاة عَلَى نبيه فإذا لم تبدأ بالحمد فهي بتراء وإذا خلت من الصلاة فهي شوهاء وهذه هي المعذرة التي حملتني عَلَى أن أخالف في هذه الخطبة عادة العصر الجديد.
الآداب العربية في أيام بني أمية
تمالملك لبني أمية آخرة الأمر وقد ورث العرب أرض الفرس والروم وتهيأت لهم أسباب الثروة والغنى فسكنوا القصور الشامخة واتخذوا نضائد الحرير وسطور الديباج وطعموا في آنية الذهب والفضة وصحت فيهم نبوة أبي بكر رضي الله عنه حين قال لعبد الرحمن بن(73/17)
عوف والله لتتخذن نضائد الحرير وستور الديباج ولتألمن النوم عَلَى الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم عَلَى حسك السعدان فلم يكن لأنفسهم بد من أن تتأثر بهذه الحضارة ولم يكن لألسنتهم مندوحة عن أن تخضع لهذا التأثر فرقت الألفاظ والمعاني ورشقت الأساليب والتراكيب وقد أعرب القوم عن أهواء أنفسهم وعواطف قلوبهم بالغناء ونشأت فيهم طبقة من الشعراء لم تحسن إلا ذكر النساء والتشبيب بهن وطبقة أخرى لم تجد إلا وصف الخمر والإشادة بمحاسنها وآخرون نبغوا في المدح والهجاء والوصف والرثاء والفخر والوعظ وغيرها من فنون الشعر وقد ظهر ميل القوم إلى العلم فأخذوا يبحثون عنه ويسعون إليه وبدأوا يضعون علوم الدين واستعاروا كثيراً من الألفاظ الأجنبية لكثير من المعاني المحدثة ولكن خطراً كبيراً قددهم اللغة ولم يكن إلى اتقائه من سبيل فلندع العرب الآن في جزيرتهم ولنقف آثار اللغة في مواطنها الجديدة لتعرف هذا الخطر من مصدره ونتبين ما أعدوه له من الدواء.
كيف انتشرت اللغة العربية
خرجت اللغة العربية من جزيرة العرب مع جيش المسلمين فصادفت لغة الفرس والروم في الشام والعراق فطردتهما ثم انتقلت إلى مصر فصادفت لغة الروم والقبط فطردت الأولى ومحت الثانية ثم أخذت طريقها في شمال أفريقية فلقيت لغات البربر فحصرتهن في رؤوس جبال الأطلس ثم جاوزت إلى الأندلس فالتقت باللاتينية والغوطية فحصرتهما في الكنيسة وبيوت المسيحيين.
كل ذلك في مدة لا تتجاوز خمسة وثمانين عاماً فمن أين لها هذه القوة وذلكم البأس الشديد. .؟
هنا يجب أن نسير في البحث عَلَى مهل وأناة لأننا بإزاء شبهة عصرية ترد عَلَى الدين واللغة معاً.
قالوا أن دين العرب ولغتهم لم يسودا إلا بالقوة والسيف ولست أريد الآن أن أذود عن الدين فربما أديت هذا الواجب في محاضرة أخرى وغنما أريدأن أدافع عن اللغة التي هي موضوع بحثنا الآن.
اعتذر بعض القديسين من ظلم الكنيسة في القرون الوسطى فقال يضطهد الأشرار من(73/18)
يكرهون ولكن الكنيسة تضطهد من تحب.
أما أنا فأقول أيها السادة أن الإسلام لم يضطهد حبيباً ولا عدواً وإذا كانت حضارة الفرنج ومدنيتهم قد أباحتا لهم أن ينشروا لغتهم وهمجيتهم وعلومهم وآدابهم بالقوة والبأس فإن بداوة العرب وهمجيتهم لم تبيحا لهم شيئاً من ذلك في صدر الإسلام وكذب من يزعم أن في التاريخ العربي الجميل إشارة ما إلى أن اللغة العربية قد التجأت في سؤددها إلى القوة أو اعتمدت عَلَى السيف.
وكيف لا يكذب ودواوين الحكومة الإسلامية في الشام والعراق ومصر بقيت أعجمية إلى عصر عبد الملك بن مروان أي إلى الزمن الذي استعربت فيه الناس وأصبح من خطل الرأي وسوءا السياسة معاملتهم بغير اللغة التي يفهمونها.
إذاً فما هي الأسباب الحقيقية التي نشأ عنها انتشار اللغة وسؤددها. .؟
إن لبعض الأمم قوة طبيعية تمكنها من القهر والتغلب ومن الفوز والانتصار المادي والأدبي أَنى وجدت وإذا أردت لهذا النوع من المم فلن أجد له مثالاً الآن أصدق من الإنكليز في أمريكا.
أولئك الذين يسحقون شخصية الأمم ويمحقون جنسيتها في أميركا ويغلبون عليهما جنسيتهم ولغتهم ودينهم من غير اعتماد عَلَى قوة ولا اعتداد بسلاح وقد كان العرب من هذا النوع فتمكنوا من التغلب الأدبي ولولا أن لغتهم صادفت من أهل الفرس عداءً وحقداً ومن لغتهم قوة وشدة لأتت عليها في وقت قريب.
وهناك سبب آخر لانتشار اللغة العربية وهو الدين العربي الذي يأخذ كل مسلم بالصلاة ومعنى ذلكم أنه يأخذ كل مسلم بحفظ شيء من القرآن الكريم وليس عَلَى الدين من ذلك بأس فإن الله لم ينزله إلا ليجعل الناس أمة واحدة كما أنه لم يسد بالقوة ولم ينشر بالإكراه.
ولقد نشأ عن اختلاط العرب بالعجم ومصاهرتهم شيء من فساد الألسنة واعوجاجها وظهر اللحن في اللغة من لمولدين والمستعربين وهذا هو الخطر الذي أشرنا إليه آنفاً ولما أحسه العرب في القرن الأول للهجرة نهضوا لإصلاح رسم المصحف ووضع النحو والصرف وجمع اللغة وتدوينها ولكن انقضت الدولة الأموية ولما يحصلوا من ذلك عَلَى شيءٍ كثير.
الآداب العربية في أيام بني العباس(73/19)
نهضت دولة بني العباس والعرب قد سئموا الغزو وزهدوا فيه لطول ما قاتلوا في الفت والفتوح فمالوا إلى الخفض والدعة واطمأنوا إلى الترف والتعليم.
وقد نضج العقل العربي فنزع إلى البحث والتفكير ورغب في النظر في أنواع الموجود فانقسمت الأمة إلى قسمين كبيرين قسم ينل الحضارة ويهذبها وقسم يترجم العلم ويزيد فيه والخلفاء يشاركونهم في كل ذلكم ويشجعونهم عليه فلم يأت عصر المأمون رحمه الله حتى بلغت العرب من العلم والحضارة ما لم تبلغه الأمم ولم تصل إليه الشعوب.
الخطابة
ولعلكم لم تنسوا تلك الأحزاب السياسية التي أوجدتها الفتن الإسلامية واشرنا إليها آنفاً فقد أضعفت قوة العباسيين أمرها بالمشرق وفلت عزمها فاستحالت إلى احزاب دينية خالصة وقد تركت السيف والسنان ولجأت إلى القلم واللسان واعتمدت عَلَى الجدل والمناظرة معتدة بالعدل والحكمة معتزة بالفلسفة والمنطق فكان للخطابة من ذلكم جمال وروعة لم يكونا لها من قبل ولاسيما بعد أن عرفوا أصول الخطابة عند اليونان بما ترجموه من كتب أرسطوطاليس. . وقد أصبحت الخطابة في أيام بني العباس صناعة تعلم وقد انفرد لدرسها جماعة أشهرهم إبراهيم بن مخزنة السكوني وبشر بن المعشمر وقد وضعوا لها أدباً وشرائط خاصة دون بقية انواع القول واشتد حرصهم عَلَى مراعاة الآداب والشرائط ولكن ذلك كله قد تهيأت له الأسباب في أواخر أيام بني أمية كما هي القاعدة الفطرية فإن تغير الأحوال الأدبية وغيرها لا يحدث بقيام دولة وسقوط أخرى وإنما هو نتيجة تغير خفي في أفكار الأمة وعقائدها ومكوناتها.
وهذا التغير الخفي هو المؤثر الحقيقي في جميع ما يحدث للأمة من الاستحالات الأدبية والسياسية الخلقية.
وقد انحصرت الخطابة لذلك العهد في تلكم الأحزاب السياسية التي استحالت إلى دينية وسميت بالمتكلمين ولاسيما بعد أن استهان الخلفاء بصلاة الجماعة والخطابة وقد بدأت هذه الخصلة في أيام بني أمية وأول من أحدث ذلك فيما أعلم هو الوليد بن عبد الملك الذي أهمل أول أدب من آداب الخطابة فخطب جالساً عَلَى المنبر ولم يكن للناس بذلكم عهداً وكثيراً ما لها الخلفاء بجواريهم عن صلاة الجمعة وأنابوا عليها القواد ورجال الحاشية وقد(73/20)
تحدث صاحب الأغاني أن الوليد بن يزيد اصطبح يوم الجمعة فلما نودي للصلاة كره أن يفارق الكأس فبعث إلى الناس في المسجد الجامع بجارية تؤمهم في الصلاة.
ومما أبدع الوليد في الخطابة أنه شرب في يوم الجمعة فلما أردا الصلاة قال لندمائه والله لأخطبن الناس شعراً ثم صعد إلى المنبر فقال
الحمد لله ولي الحمد ... نحمده في يسرنا والجهد
ثم استمر في أرجوزته حتى أتمها.
لذلكم فقدت الخطابة منزلتاه السياسية وعظم شأنها الديني عند المتكلمين فتنبغ فيها واصل بن عطاء وغيره وقد أدخل المتكلمون في الخطابة كلمات خصها العلماء بهم وحظروها عَلَى غيرهم فقالوا أليس وليس يريدون الإثبات والنفي وقالوا لاشى المادة يريدون جعلها لا شيء وقالوا ماهية الحيوان يريدون حقيقته وقالوا كيفية الجسم يريدون شكله وصورته إلى غير ذلكم مما يخطئ في كتابنا حفظهم الله يستعملونه بغير حق وما هم في استعماله إلا ظالمون وقد تحدث الجاحظ رحمه الله أن بعض المتكلمين سمع في مجلس بعض الخلفاء رجلاً يتكلم ويقول أليس وليس فكاد يطير فرحاً ويتقد غيظاً فأما الفرح فلأنه سمع كلمته الاصطلاحية وأما الغيظ لأنه سمعها من غير متكلم أي من غاصب لها معتد عليها ولم يأت عصر المعتصم بن الرشيد حتى اعتمد العلماء عَلَى الكتابة وأخذ ظل الخطابة في الزوال وربما كان آخر الخلفاء الذين خطبوا الناس من بني العباس هو المتوكل بن المعتصم.
نستفيد ذلك من قول البحتري في تهنئته بالعيد. .
ووقفت في برد النبي مذكراً ... بالله تنذر مرة وتبشر
الشعر
أما الشعر فقد رقي في أيام بني العباس حتى كاد يفنى حسناً ولطفاً وقد تصرف في أنواع من القول وتعددت مذاهبه ومناحيه باتساع الحضارة واستفحال العمران وكبر العقول والمدارك وأظنكم تفهمون مقدار الفرق الكبير بين الشعر العباسي وغره من أنواع الشعر العربي إذا سمعتم قول بشار في الشورى
إذا بلغ الرأي المشهورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم(73/21)
أو قوله في المدح
إذا أيقظتك خطوب الزما ... ن فنبه لها عمراً ثم تم
أو قول أبي نواس في الغزل
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب عَلَى الخد الثيل
ذرفت في ساعة الب ... ين من الطرف الكحيل
إنما يفتضح العشا ... ق في وقت الرحيل
أو قول البحتري في الاستعطاف
سيدي أَنت ما تعمدت ذنباً ... فأجازى به ولا خنت عهداً
أتراني مستبدلاً بك ما عث ... ت بديلاً أو واجداً منك ندا
حاش لله أنت لتن ألفا ... ظاً وأحلى شكلاً وأصلح قدا
أو قوله في وصف عواطف الحب والبغض
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
عَلَى أن القرن الثالث للهجرة لم يكد ينصرم حتى ذهب معه جمال الشعر العربي وأخذ الشعر يبدو في منظر سمج ومعرض رث.
الكتابة
بقيت صناعة من صناعات الآداب العربي لم نتكلم عنها في الجاهلية ولا في جميع الأعصر العربية إلى الآن وهي الكتابة وأظنكم تعلمون أن الجاهليين لم يكونوا عَلَى شيء منها لمكانهم من الأمية فأما في صدر الإسلام وأيام بني أمية فقد كانت الكتابة موجزة مجزاة إلى أن جاء عبد الحميد كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء من بني أمية فأطال فيها وترسل قفى أثره كتاب العباسيين ولكنهم بالغوا في الأطناب وأغرقوا في الترسل وظهرت في رسائلهم صبغة الفلسفة التي اصطبغت بها عقولهم وقد أخذوا عن اللغات الأخرى كثيراً من الأساليب الجديدة ونبغ فيهم أمثال ابن المقفع والجاحظ وابن وهب ولم يأت القرن الرابع للهجرة حتى أخذت الكتابة العربية في الانحطاط وأخذ التكلف والمحاولة مكان الترسل والسهولة الفطرية.(73/22)
العلوم في أيام بني العباس
اشرنا في أيم بني أمية إلى ما أصاب اللغة من اللحن والتحريف وقلنا أن العرب أشفقوا عَلَى اللغة أن تفسد وعَلَى الكتاب أن تعبث به الألسنة فنهضوا لوضع النحو والصرف وجميع اللغة وتدوينها ولكن ذلك لم يتم الا في أيام بني العباس إذ نهض ائمة البصرة والكوفة فأخذوا اللغة عن قبائل العرب الخلص الذين وثقوا منهم بعد مخالطة الهند والفرس والروم والحبش والقبط ثم دونوها في الكتب فاستنبطوا منها قواعد الألفاظ من نحو وصرف واشتقاق ووضع الخليل بن أحمد علم العروض والقافية وأصلح الخط ووضع شكله المعروف إلى الآن مقتطفاً الفتحة من اللف والكسرة من الياء والضمة من الواو كما يظهر ذلكم في مقابلة هذه الحركات إلى تلكم الحروف وقد توسع سيبويه في النحو والصرف فألف كتابه المعروف الشائع إلى الآن وألف الخليل بن أحمد أول معجم لغوي وهو كتاب العين وأخذ العلماء يصنفون الكتب الأدبية يجمعون فيها أطرافاً من جيد الشعر وبارع النثر ليستظهرها الطلاب فيستعينوا بها عَلَى تقوية الملكة العربية وتقويم الألسنة وتفرغ قوم لرواية الحديث وآخرون لرواية المغازي والتاريخ وأيام العرب وغيرهم من الأمم وانفردت طائفة لاستنباط الحكام وتشريع القوانين وتدوينها وآخرون لرواية القرآن وعام القراآت واختصت جماعة بنقل الكتب الفلسفية في العلوم المتنوعة عن المم المختلفة وشرحها والزيادة عليها وعَلَى الجملة لم تجد اللغة العربية عصراً كهذا العصر أصبحت فيه لغة العقل واللسان والوجدان والدين ولكن ما ينفعها ذلكم وقد أصابتها الخطر الداهم الذي لا دافع له ولا مندوحة عنه فقد أصبح فساد الألسنة عاماً وأصبحت اللغة الفصحى في الحواضر مقصورة عَلَى العلماء والخاصة وأما عامة الناس فأخذوا يتكلمون بلغة سيئة اللهجة فاسدة التركيب سوقية الأسلوب وظهر إن ذلكم الدواء الذي التجأ إليه العرب لم ينفع إلا في حفظ اللغة والكتاب من الفساد فأما تقويم اللسنة وتهذيب المنطق فلم يكن قادراً عليهما قد أخذ العامة يخترعون لهم فنوناً خاصة من الشعر لا يزال كثير منها باقياً إلى الآن وهو الذي يدور عَلَى السنة العامة والمغنين ولم يأت القرن الرابع حتى بدأ عصر الانحطاط.
سقوط اللغة العربية
ففي ذلكم القرن بدت بوادر العلة عَلَى اللغة فذهبت نضرتها وتصوت زهرتها ومال الكتاب(73/23)
إلى السجع البارد والازدواج الفاتر والتكلف الممقوت وأخذ العلماء يستنبطون علوم الأساليب كالبيان والمعاني فلهوا بالقديم من جيد الكلام عن أحداث الجديد من أمثاله وقد اخذ الشعراء يتعلقون بأهداب البديع ويتشبشون بمحسنات اللفظ ويغلون في المجاز والاستعارة حتى صار لشعرهم معرض رث ومنظر سمج ولعل لآخر من أجاد من الشعراء في هذا القرن عَلَى الطريقة الفنية الصحيحة المبرأة من العيب والنقد هو الشريف الرضي رحمه الله فأما المتنبي وأبو العلاء فقد عنيا بالمعاني أكثر مما عنيا بالألفاظ عَلَى أنهما كانا يحاولان الإجادة اللفظية فيقعان في التكلف الممقوت ليظهرا أنهما قادران عَلَى اللغة ومحيطان بها وحسبكم من ذلكم لزوميات أبي العلاء وما فيها من اصطناع الحواشي واتخاذ الطرق الوعرة.
فأما المتنبي فلا أَستطيع أن أحصي سرقاته واستعاراته الباردة وتكلفه الممقوت وشغفه بالمحسنات اللفظية ولقد أحفظ من شعره ما لو أنشدتكم إياه الآن لظننتموه لغة فارسية أو هندية عَلَى أن كل ذلكم لا يغض من
قدر الرجلين في الحكمة والفلسفة أما الخطابة فلم يبق لها أثر في ذلكم العصر وأما الكتابة فقد كثر فيها السجع والتكلف وكما قلنا وقد الفت كتب كلها عَلَى طريقة السجع وقد استعجمت الألفاظ ونشا في هذا العصر نوع من الكتابة ليس له نتيجة إلا الدلالة عَلَى المقدرة اللغوية كمقامات الحريري التي لا أريد أن أُصفها إلا بان كلام الجاهلين اقرب منها فهماً وأسوغ منها مذاقاً وأحسن في الإسماع وأدنى في الانطباع ولم يأت القرن السادس حتى لزمت اللغة العربية كلها وأخذت في الاحتضار وهنا يصعب علي أيها السادة أن أرافق اللغة وهي تحتضر فلأدعها الآن ولبحث عن أسباب نموها وسقوطها.
أسباب نمو اللغة العربية
في اللغة العربية مزايا ثلاث هن أسباب نموها وارتقائها وهن الاشتقاق والمجاز والتعريب.
فأما الاشتقاق فهو تغيير مادة الكلمة تغييراً قريباً أو بعيداً أو أبعد إلى صور مختلفة للدلالة عَلَى معان متنوعة فكلمة الرفع مثلاً تدل عَلَى العلو فإذا غيرت إلى الفرع دلت عَلَى الغصن وإذا غيرت إلى العرف دلت عَلَى الطيب وإذا غيرت إلى العفر دلت عَلَى التراب ثم لنا أن نأخذ منها رفع بالتحريك للدلالة عَلَى الماضي وكذلكم يرفع ورافع ومرفوع الخ.(73/24)
وأما المجاز فهو إطلاق الكلمة عَلَى غير معناها لعلاقة بين الجديد والقديم مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأول فنستطيع أن نطلق الغيث عَلَى النبات لأنه سببه وأن نطلق النبات عَلَى الغيث لأنه مسبب عنه وأن نطلق العين عَلَى الرجل لأنها جزء منه وأن نطلق الأسد والبدر عَلَى الشجاع والجميل لن بينهما مشابهة ومشاكلة وأما التعريب فهو نقل كلمة أجنبية إلى اللغة العربية واصطلاحها حتى تصير عَلَى الوزان المقبسة المعروفة وهذا النوع كثير في كلام الجاهليين وفي القرآن الكريم وكثرته في عصر الأمويين والعباسيين مدهشة. . . فهذه المزايا الثلاث التي توجد في اللغة العربية أكثر مما توجد في اللغات الأخرى وقد جعلت اللغة مستعدة للنماء والارتقاء قابلة لكل جديد مرحبة بكل طريف لا تضيق بها مهما كان أمره ولذلك استطاعت أن تسع حضارة الفرس والروم وأن تحيط بأنواع العلوم عَلَى اختلافها من غير أن تشكو فقراً وتظهر احتياجاً.
وفي اللغة العربية عيبان عارضان وهما كثرة الترادف والإغراق في الاشتراك أما الترادف فهو دلالة الألفاظ الكثيرة عَلَى معنى واحد وأما الاشتراك فهو دلالة اللفظ الواحد عَلَى معان كثيرة.
الترادف والاشتراك طبيعيان في كل لغة ومصدرهما اختلاف الأذواق وتباين المشارب في الواصفين وهما من أقوى الأدلة عَلَى أن اللغة من وضع الإنسان فهما ليسا من عيوب اللغة وإنما كثرتهما هي العيب وقد وجدت هذه الكثرة في اللغة العربية وبلغت حداً فاحشاً حتى أن بعض المعاني ليدل عليه المئات الكثيرة كما أن بعض الألفاظ بما دل عَلَى عشرات المعاني.
ومع السرور أيها السادة أقول أن هذا العيب ليس طبيعياً في اللغة العربية وإنما هو عارض محدث وأول عهد الناس به بني أمية وبني العباس فقد علمنا أن العرب كانوا ذي لهجات متباينة ولغات متباعدة في الجاهلية ثم غلبت لغة قريش عَلَى اللغات بواسطة السواق وظهور الإسلام فلما نهض الأئمة لجمع اللغة وتدوينها اخذوا لغات القبائل الصريحة عَلَى علاتها وخلطوها من غير تفريق ولا تمييز فنشأ من ذلك كثيرة المعاني للفظ الواحد وكثرة الألفاظ للمعنى الواحد وهذان هما الترادف والاشتراك.
هذه هي أسباب نمو اللغة العربية وثروتها وأنتم ترون بأنها كافية بان تجعل اللغة العربية(73/25)
من أقوى اللغات وأقدرها عَلَى الحياة كما أنها قد جعلت في اللغة كثيراً مما لا حاجة إليه.
أسباب سقوط اللغة
أما سقوط اللغة فلم يكن عن ضعف فيها أو فتور في طبيعتها وغنما هو نتيجة سبب لا أعرف غيره وهو تغلب العجم عَلَى العرب وتعمدها إشهار الحرب عَلَى اللغة والدين والجنسية العربية حتى أتوا عليها جميعاً فأنتم تعلمون أن طبيعة الإنسان وتوجب عَلَى الأمة الغالبة أن تبذل قوتها في أن تجمع السيادة للغتها ودينها وآدابها ومن حسن حظ الإسلام أن الأمم التي تغلبت عَلَى العرب لمتلبث أن دانت به واتخذته ديناً ولولا ذلك لحاربته وناوأته كما حصل ذلكم في بلاد الأندلس أيام تغلب الفرنج عَلَى المسلمين فقد استحالت المساجد فيها إلى كنائس ولم يبق للإسلام بها أثر قليل ولا كثير ومن حسن حظ اللغة العربية أن الإسلام لا يستطيع أن يستغني عنها لأن القرآن عربي والسنة عربية والفقه القديم عربي ولولا ذلكم للحقت اللغة العربية بأخواتها القديمة الدارسة أو لأصبحت لغة صناعية كاللاتينية واليونانية القديمتين.
نهضة اللغة العربية في العصر الجديد
اقبل هذا العصر الجديد وقد أتت لغة الترك عَلَى اللغة العربية في الشام والعراق وبلاد العرب وطردتها فارس من بلاد الفرس فظلت لغة الدين في بلاد الدولة العلية وبها حديث العامة مع تحريف قبيح بلهجات سيئة يمقتها المصري وإن كانت لغته وقد أصابها من التحريف شيء كثير أنا الفرس فينطقون بها القرآن الكريم عَلَى غير ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم يفخمون حروفاً ويرققون أخرى وربما لم يتيسر لهم الإعراب في التلاوة وقد ناهضت لغات الإفرنج والبربر عربية المغرب في شمال أفريقية فشوهت محاسنها وجعلتها بحيث لا تكاد تفهم.
نعم إنها لا تزال لغة المساجد والدين ولسان العامة ولكن الفرنج قد أتوها من ناحية لا تأمن معها الفناء فأخذوا يعلمون لغتهم للأحداث ويهملون تعليمهم اللغة العربية حتى ينشأ أحدهم وهو لا يعرف من لغته إلا الرطانة السوقية التي يصطنعها العامة في أحاديثهم وهي خليط من العربية والبربرية والفرنسية والإسبانيولية فقد ظهرت نتيجة هذه الحرب الضروس فكره شبان الجزائر لغتهم وزهدوا فيها حتى أن كتب الدين الإسلامي ربما ألفت لهم(73/26)
بالفرنسية.
أما في مصر فلم يكن نصيب اللغة من الفساد قليلاً بل كان كثيراً غالباً في الكثرة وحسبكم أن من العسير جداً أن تجدوا كاتباً مصرياً يجيد الإعراب في هذه العصور الأخيرة التي تنتهي قبل الآن بأقل من نصف قرن غير أن الأحوال قد تغيرت في مصر والسام تغيراً غير قليل في هذه الأيام فنهض من القطرين رجال حاولوا إتقان اللغة والنبوغ في فنونها فأدركوا من ذلكم نصيباً موفوراً ثم عكفوا عَلَى إحياء اللغة بنفس الطريقة التي اصطنعت أيام بني العباس وهي طريقة النقل والترجمة وليس من السهل ولا من المفيد أن نبحث عن أي القطرين كان أسبق إلى ذلكم وأحرص عليه ولكن يكفي أن نشير إلى أسباب النهضة ومقدماتها وذلكم غير عسير.
للنهضة اللغوية في نمصر زعيمان لكن منهما ركن يأوي إليه ويعتز به أما أولهما فالمرحوم رفاعة باشا نهض لإحياء اللغة بفضل الأمير الجليل رأس الأسرة المالكة في مصر فقد أتقن العلم باللغة ونبغ في كثير من الفنون واخذ يترجم ويأمر أقرانه وتلاميذه بالترجمة ويصلح كثيراً من راجمه حتى وجد في اللغة العربية كثير من الكتب المختلفة في أنواع العلوم وكل ذلك يرجع الفضل فيه إلى الوفود العلمية التي كان يبعثها ذلكم الأمير الجليل إلى بلاد الفرنج لتدريس العلم وتعود إلى مصر فتنقله إليها بلسان عربي مبين.
نعم عن ذلكم لن يتيسر كل التيسر فإن كثيراً من تلكم الكتب يشينها سوء السبارة وغموضها وسوقية اللفظ وسقوطه ولكن صدق المثل القائل ماش خير من لاش عَلَى أن هذه النهضة لم تكن إلا مقدمة فمن الخطأ أن نتمنى لو كانت راقية كل الرقي أو بالغة الكمال.
أما الثاني فهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه ومعينه هو الوزير الخطير المرحوم مصطفى رياض باشا فقد نشا الأستاذ رحمه الله محباً للعلم عاكفاً عليه وكان كما تعلمون ذكي القلب ثاقب البصيرة ماضي العزم شديد الصريمة فلم يلبث أن نبغ في كثير من الفنون وبلغ ما لم يبلغه مصري قبله ولا بعده وعلي لا أغلي إذا قلت في جميع أيام التاريخ حتى الآن.
وقد أتقن رحمه الله اللغة الفرنسية وعرف ما تشتمل عليه من العلوم فاخذ يحث مريديه عَلَى ترجمة الكتب النافعة ويشجعهم ويعمل هو لذلك بقد رما يستطيع وأخذ يجد أيضاً في(73/27)
إحياء كثير من الكتب العربية القديمة وحسبكم أن كتاب المخصص في اللغة الذي ألفه ابن سيدة الأندلسي إلا أثراً من آثاره مساعديه من رجال الإصلاح المخلصين وقد مات رحمه الله وله عَلَى اللغة فضل كثير وقد أصلح من لسان الحكومة غير قليل فحل منه عقدة كان معها أعجم لا يبين.
أما الآن فقد أصبحت نهضة اللغة في مصر فوضى ليس لها من زعيم ولذلكم كثر التخليط في الألفاظ والأساليب فالشعراء والكتاب يسترسلون في التعبير عن ضمائرهم غير جارين عَلَى قاعدة ولا معتمدين عَلَى قياس في كثير من الأحيان.
الأزهر
أجمع المؤلفون في تاريخ الآداب العربية من أبناء هذا العصر عَلَى أن الأزهر الشريف كان هو المعقل المنيع والحصن الحصين الذي احتمت فيه اللغة العربية من إغارة اللغات الأخرى عليها.
واسمحوا لي أيها السادة بان هذا خطأ ليس له من الحق نصيب ولست أريد أن أستدل عَلَى ذلكم بل يكفي أن ترجعوا إلى كتاب المحاماة الذي ألفه الأستاذ الجليل فتحي زغلول باشا فإنكم ستجدون فيه من كلام العلماء وفيهم الأدباء المنشئون ما يضحك الثكلى ويسلي هم الحزين فإن أعياكم هذا الكتاب فارجعوا إلى كتب الأزهر بين انسهم فإنها تستطيع وحدها أن تبرهن عَلَى ما أدعيه فإن أعياكم فهم هذه الكتب فكتاب صغير يباع بثمن قليل اسمه إنشاء العطار أرجوا أن ترجعوا إليه فإنكم ستجدون فيه أحسن فكاهة لكم في أوقات الفراغ ولا تزال لغة الأزهر الشريف إلى الآن مع الأسف متأخرة عن لغة غيره من المدارس ومعاهد العلم وحسبكم دليلاً عَلَى ظلم الأزهر للغة العربية أن كتاباً واحداً من كتب الدب واللغة لم يكن يدرس فيه فلم جاء الأستاذ الإمام أنر أن يقرأ فيه كتاب الكامل للمبرود ولكنه لم يكد يخرج من الأزهر حتى ألغيت قراءة الكتاب إلى أن جاء شيخ الأزهر الحالي فارجع الأمر كما كان.
والنظام الجديد هو الذي أدخل في الأزهر آداب اللغة كما أدخل غيره من العلوم الحديثة.
المدارس
نخطئُ كل الخطأ إذا اعتمدنا عَلَى المدارس في تقويم الألسنة وإصلاح المنطق فإن هذه(73/28)
لمدارس لا تزيد عَلَى تلقن الطلاب شيئاً من قواعد النحو والصرف والبلاغة وليس ذلك بمغن عنا شيئاً وإنما السبيل والواضحة إلى ما نريد هي تمرين الطلبة عَلَى الإصابة في القول والإعراب في النطق مع درسهم مادة اللغة وأساليبها واستظهارهم الكثير الجيد من آداب القدماء وقد سلكت مدرسة القضاء شيئاً من هذا في أول أمرها فحظرت عَلَى الطلاب أن يتكلموا فيها إلا باللغة الفصحى وقال الأستاذ الجليل عاطف بك بركات فيما كتبه عن المدرسة في سنتها الأولى أنها إذا استمرت عَلَى السير في هذه الطريقة لم تلبث أن تصير قطعة من الحجاز في صدر الإسلام ولكن يظهر أنها قد أخطأت الطريق وجرت مع غيرها من المدارس في مضمار واحد.
نهضة اللغة في العصر الجديد
الصحف
ولقد نخطئ خطأ كبيراً إذا جحدنا فضل الصحف عَلَى اللغة فقد جاهدت في ترقية اللغة وإصلاحها بما تخيرت من شريف الألفاظ والأساليب عَلَى انها لم تلبث أن التجأت كارهة إلى إدخال كثير من الأعجمي فيها وكثيراً ما تتعلق بالسجع وتتمسك بأهداب البديع حتى صار كثير مما ينشر فيها نوعاً من الأوابد والألغاز عَلَى أن المجيدين من كتابها قليلون.
الصحف الرسمية
يسوءني أيها السادة أن اقرأ في صدر الجريدة الرسمية الأمر العالي يختم باسم مليك مصر وارى في المجموعة الرسمية حكم القاضي مصدراً بهذا الاسم الكريم ثم أنظر في ألفاظهما فلا أرى من الفرق بينها وبين ألفاظ العامة إلا قليلاً ويسوءني أيضاً أن اقرأ في الصحف الرسمية رسائل الحكومة وقراراتها ثم أقران بينها وبين ما كان يصدر عن الحكومية العباسية والأموية من رسائل الصابئ وعبد الحميد فأرى الفرق بينهما كالبعد بين الأرض والسماء ولئن حق الاعتذار عن الحكومة في الأيام الماضية فإني لا أجد ما اعتذر به عنها الآن فقد أصلح الأستاذ الإمام رحمه الله جريدتها الرسمية وحلاها بمثير من الفصول النافعة ولكنه لم يكد يتركها حتى اقتطع نصفها وعادت إلى ما كانت عليه فيه من سوء اللهجة وفساد العبارة.(73/29)
وإنه ليحسن بالحكومة التي تعمل عَلَى إصلاح اللغة في البلاد أن تصلح لغتها قبل كل شيء حتى يثق الناس أنها إنما تعمل ذلك في بنية صادقة وعزم صحيح.
الشعر
لم يكن للشعر العربي أن يرقى بعد فساد السليقة اعوجاج الألسنة لذلكم انحط في الأيام الماضية حتى يكاد ينسى ولكنه الآن قد ارتقى بعض الشيء عَلَى أنه لا يزال منحطاً بالقياس إلى الشعر العربي القديم وإلى رقي الإنسان في هذا العصر وإن كان بالقياس إلى شعر القرن الماضي في أرقى الدرجات عَلَى أن العامة قد سلكوا في التعبير عن شعورهم مسلك الإسجال والأوزان البلدية وانقطعت العلاقة بينهم وبين الشعراء الذين اصطنعوا اللغة الفصحى كما قلت في أول المحاضرة.
الخطابة
أما الخطابة فهي الآن قسمان أحدهما خطابة المسجد وهي عبارة عن ألفاظ فارغة قد ملئت بها كتب كثيرة يحفظها أئمة المساجد ويتلونها عَلَى الناس من غير أن يكون لها أثر محمود وأنا أترك لكم تقدير نكبة المنابر الإسلامية بهؤلاء الخطباء بعد أولئكم المصاقع المناطيق.
ومن المضحكات أن القاعدة في صدر الإسلام هي اعتماد الخطباء عَلَى السيوف في البلاد التي فتحت عنوة وعَلَى العصي في البلاد التي افتتحت صلحاً فلما خلف هذا الحلف أصبح أئمتنا يعتمدن الآن عَلَى سيوف من خشب عَلَى نحو من التقليد الممقوت.
الثاني خطابة الأندية والجماعات عَلَى حد سواء كانت سياسية أو علمية أو أدبية وهذا النوع كثيراً ما يشتمل عَلَى المباحث المفيدة ولكن آداب الخطابة العربية قد تنوسيت فيه واستبدلت منها آداب جديدة بين العامية والإفرنجية وقد استباح الخطباء لأنفسهم في الخطابة أشياء لم تكن مستباحة من قبل بل كانت محظورة عَلَى الخطباء كالسعال وشرب الماء وغيرها أما لغة الخطابة فليست بتلكم اللغة الراقية وإنما هي عامية في كثير من الأحيان وبما يخلط الخطيب بين اللحن والإعراب ومصدر ذلكم أنه لم يحسن درس اللغة حين بدأ في تعلمها.
طريقة الإصلاح
لا اعرف في إصلاح اللغة إلا طرقاً ثلاث قديمة غير جديدة أي أني لست مبتدعاً لها بل قد(73/30)
سبقني لها المصلحون الأولى نشر الآثار القديمة للعرب وإحياء ما ألفوه من كتب العلوم والآداب ليقراها الناس فيحصلوا عَلَى نتيجتين لازمتين إحداهما معرفة الأساليب العربية الصحيحة واستظهار الألفاظ المتخيرة والوقوف عَلَى مبلغ ما كان للقوم من سعة المدارك والعقول - الثانية شعور القراء بفخامة ذلكم المجد الضائع والشرف المفقود شعوراً يدفعهم إلى النهوض لاسترداده وإعادة ما كان له من منزلة سياسية ومكان رفيع ويلحق بهذه الطريقة ترجمة الكتب النافعة مما ألفه الفرنج لنتسع بها العقول وترقى النفوس وقد جرى الأستاذ الإمام رضي الله عنه في هذه الطريق شأواً بعيداً فألف جماعة إحياء الكتب العربية التي نشرت المخصص وغيره من الكتب فلم يمت رحمه الله حتى نقض عقدها ولم يبق لها أَثر في الوجود وقد قرأت للحكومة في السنة الماضية قراراً في هذا الموضوع بفضل أستاذي الجليل أحمد زكي باشا وكن مضى عليه العام ولم تظهر له نتيجة أو أني لأخشى أن يكون قد لحق بأمس الدابر - الثانية تأليف جماعة من أُولي العلم باللغة والبصر بمادتها وأساليبها تقوم بما يحتاج إليه هذا العصر من تنمية المحدثات عَلَى إحدى الطرق التي أرت إليها آنفاً وهي الاشتقاق والمجاز والتعريب وتعمل عَلَى استبدال كثير من الألفاظ العامية بمرادفاتها من اللغة الفصحى وتشرف عَلَى أساليب الكتابة والشعر والخطابة فتذود عنها ما يدخله عليها الواغلون من أدعياء الشعراء والكتاب وإنما احتجنا إلى هذه الجماعة الآن لما تعلمون من أن اللغة الفصحى قد أصبحت الآن صناعية فلن تبلغ مكانتها الأولى إلا إذا وجدت لها من أهل السلم أطباء حاذقين يحسنون الطب لدائها والتلمس لدوائها وقد وجدت منذ سنين لسيء من هذا العرض في نادي المعلمين فاستبشرنا ورجونا الخير فاستقبلتها الصحف بالحمد والإغراق في الثناء ولكنها لم تلبث أن غطت في نوم عميق وأملها الآن تحلم بحسن الظفر وتحقيق الآمال.
الثالثة تعويد الأطفال من أول عهدهم الإصابة وتخير الجيد من القول عَلَى الطريقة الممكنة حتى يشبوا وقد قويت السليقة العربية قلم يحتاجوا إلى القواعد إلا من حيث أنها نوع من الفلسفة اللغوية كما هو عملها الحقيقي ولست أرى لأكفأ لهذا العمل ولا أقدر عليه من الأستاذ أحمد أفندي القطان في بستانها الصغير الذي خطبكم فيه منذ أيام فإذا استطاع هذا الأستاذ أن يعدني بأنه سينشئ اللغة الفصحى في هذا البستان كما ينشئ الخلاق والعقول فقد(73/31)
حق له عليّ الثناء الجميل وقد حق علينا جميعاً أن ننهض ونبذل ما نستطيع لإيجاد هذا البستان وأمثاله وبهذه الطرق الثلاث التي فصلتها الآن تفصيلاً نستطيع أن نضمن للغة استرداد مجدها القديم.
طه حسين(73/32)
الاشتيام أو الاستيام
والمتلمظة أو المتملطة
معنى الاشتيام (بالشين وبالسين) عَلَى ما أثبته اللغويون وصحة ورود اللفظة بلغتين وجمعها.
ما معنى الاشتيام بالشين المثلثة النقط والاستيام بالسين المهملة؟ هذه اللفظة لم ترد في محيط المحيط لا في مادة ش ت م ولا في مادة س ت م بل ولا في اش ت م أو اس ت م وقد وردت في ذيل اقرب المورد نقلاً عن اللسان قال في مادة ش ت م: الاشتيام بالكسر: رئيس الركاب (اللسان) ولم يزد عَلَى هذا القدر. وأما أصحاب الصحاح والمصباح والأساس والقاموس والإقيانوس والبابوس ومطلع النيرين وابن الأثير والسيوطي وغيرهم فلم يتعرضوا لها. وقد ذكرها السيد المرتضى في مستدرك مادة ش ت م إذ قال: الاشتيام: رئيس الركاب. عن ابن برّي. ولم يفدنا عن أصلها ولم يذكر شرحها أكثر من هذا القدر. وأما الإفرنج من علماء اللغة العربية فلم يذكروها وقد نسبها غوليوس وفريتاغ وقزميركسي ودوزي. وقد ذكرها لين في معجمه مد القاموس قال: الاشتيام بالكسر (والظاهر من قوله (أي من قول صاحب تاج العروس) بالكسر أي أن يقال الاشتيام) وهو رئيس الركاب عَلَى ما فسره ابن برّي. (والظاهر من قوله: رئيس الركاب أي ركبان الخيل (كذا) لكن من أين أتت هذه اللفظة. ذلك ما لا أعلمه. اللهم إلا أن تكون معربة عن الفارسية استايام إن وجد عند الفرس مثل هذه اللفظ. ومعناها رئيس خيل البريد). أهـ قلت: هذا كله كلام لين اللغوي الإنكليزي العارف بأصول العربية إلا قولي: (أي من قول صاحب تاج العروس) وقولي: (كذا) فهي مني زدتها لفتاً للنظر. وهو في كلامه هذا بعيد بعد الثريا عن الثرى. ولعل البعض يرميني بسوء النقل أو الترجمة فماءنذا أورد هنا كلامه بنصه وحرفه الإنكليزي. قال:
الاشتيام الاشتيام رئيس الركاب رئيس الركاب أستايام
وليس هذا الغلط هو أول غلط وقع فيه هاويته هذا اللغوي الإنكليزي ولا هو الأخير ففي(73/33)
معجمه من الأغلاط لو تجسمت لقامت بين يديك كالجبال الشامخة. وليس هنا موطن ذكرها. هذا فضلاً عن أنه فاته ألفاظ ومواد كثيرة جاءت في القاموس أو تاج العروس بل في أصغر معاجم اللغة ودواوينها وهي لا توجد فيه ولا ذكر لها أو لمادتها أو أصلها في ديوانه.
قلت: والمراد من كلام ابن برّي: رئيس الركاب هم ركاب السفينة لا غير كما يتضح تبيانه في ما يلي من الكلام وإيراد النصوص وكما يظهر معناه لأول وهلة. وأما الاستيام بالسين فقد وردت في تاج العروس. قال في لسان العرب مصحح طبعه في هامش مادة م ل ط: قوله والمتملطة الخ كذا بالأصل هنا (أي الاشتيام بالشين) وشرح القاموس قال: وسيأتي في ل م ظ وقد ذكر الاستيام هناك بالستين المهملة وعزاه للتكملة. وحرر كتبه مصححه. أهـ قلت أنا: والاستيام وردت كثيراً من نسخ كتب التاريخ كمؤلفات الطبري والمقدسي لا بل وقد قال الجواليقي 154) أن اللفظ الفصيح الصحيح هو الاستيام بالسين وشرحها هناك بمعنى: صاحب المتاع مع أن الكاتب نفسه ذكرها في كتابه المعرَّب باشين وإن وردت في بعض نسخ كتابه القديمة بالسين إذ يقول: السبيحي والجمع السيابحة: قوم من السند يكونون مع اشتيام السفينة البحرية وهو رأس الملاحين أهـ. ولم يذكرها الخفاجي في كتابه شفاء العليل.
والظاهر أن لغتها بالسين أي الاستيام أفصح من الاشتيام بالشين المعجمة. لأن بعض أهل الجزائر يقولون إلى عهدنا هذا: ستم السفينة أوقفها في المرسى أو أرساها هنيهة من الزمان. وقد تلقى دوزي هذه الكلمة من الكتب ورىها هناك مكتوبة بالميم الممتدة لا بالميم الطويلة والملم الممتدة تشبه الراء أي أنه رىها مخطوطة: ستم فقرأوها ستمر واثبتها في معجهمطه ستمر قال: معناها أي ستمر (وهو لم يضبطها بل وضع بجانبها الرقم الروماني للدلالة عَلَى أنها من وزن الأول من الرباعي أي ستمر وعزاها في الآخر إلى أي نقلاً عنه. فانظر إلى هذا النقل وإلى هذا الإسناد. وقد وقع مثل هذا الغلط المتولد من سوء قراءة الميم لطابع كتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني وهو العلامة ذي خوي في الصفحة 9 قال: فيه (أي في البحر) سمكة يقال لها الأطمر (هكذا وردت مضبوطة بالوجهين أي عَلَى وزن دغفل وزيرج) وما هي إلا كلمة أطم كتبت ميمها الأخيرة ممدودة(73/34)
بشكل راء أي هكذا أطمفظنها القارئ أو الناسخ أو الطابع أو من تشاء ميماً وراء. فصارت أطمر ونفس الكلمة أطم مصفحة عن أطوم. فانظر إلى هذه اللفظة التي تطورت أطواراً بيد الكتاب وقالوا فيها أيضاً لطوم. وظلوم ولطم. ولظوم ولطيم وغير هذه التصحيفات إلى ما شاءت أهواء النساخ والقراء.
وممكن ذكر الاستيام بالسين المهملة غير الصاغاني في التكملة التاج في م ل ط ومصحح اللسان في م ل ط أيضاً والجواليقي وهو أبو القاسم في كلامه عن لغة الملاحين.
وأما جمع اللفظة فلم يرد في كتب اللغة إلا أنه ورد مكسراً أو صحيحاً في كتب المؤرخين وأصحاب وصف البلدان. فقد جاءت اللفظة مكسرة في كتاب المقدسي المسمى بأحسن التقاسيم ص 10 قال وصاحبت مشايخ فيه ولدوا (أي في المحيط الهندي) ونشأوا من ربانيين وأشايمة أو في رواية وأسلمه (هكذا مكتوبة بدون نقط) وقد جاءت مجموعة جمعاً سالماً في تاريخ الطبري في عدة مواطن منها في قوله: حتى إذا استمرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير. . . ومنها في قوله الآخر: فصكت الشذوات بعضها بعضاً حتى لم يكن للاستيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل فاحفظ الجمعين تصب إن شاء الله تعالى.
2 - معنى اللفظة عَلَى التحقيق
يتحصل هذا المعنى من كتاب تاريخ الطبري. قال في حوادث سنة 251هـ ... 865م ما
قد مر بك أن لغويي العرب قالوا في معنى الاشتيام والاستيام: رئيس الركاب والملاحين ولم يخرجوا عن حيز هذا المعنى. إلا أن المعنى الأصلي كان لرئيس الملاحين أو لرئيس السفن البحرية الذي بيده الأمر والنهي وكل ما يتعلق بسير السفينة أو إيقافها إلى غير ذلك. نصه: ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة (إلى بغداد) عشر سفائن حربية تسمى البوارج. في كل سفينة اشتيام وثلثه نفاطين ونجار وخباز وثلثون رجلاً من الجذافين والمقاتلة ومن هذا النص يؤخذ أن الاشتيام (وفي نسخة الاستيام) هو كبير البارجة البحرية ويقابله بالفرنسية '
وقال في حوادث سنة 265هـ ... 878م: واستخلف (الجبائي) عَلَى الشذوات الاشتيام الذي
يقال له الزنجي بن مهربان فهنا المراد بالاشتيام أمير الشذوات كلها (وهي ضرب من(73/35)
السفن البحرية والنهرية التي تتخذ في الحروب) فيكون معناها بالفرنساوية
وذكر في حوادث 267هـ ... 880م. محمد بن شعيب الاشتيام والمراد به رئيس المراكب
البحرية الحربية لأنه يقول بعد ذلك: خرج الجبائي وسليمان في الشذوات والسميريات وقد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه فأمر نصيراً المعروف بابن حمزة أن يبرز للقوم في شذواته ونزل أبو العباس عن فرس كان ركبه ودعا بشذاة من شذواته قد كان سماها الغزال وأمر اشتيامه محمد بن شعيب باختيار الجذافين لهذه الشذاة وركبها إلى آخر الرواية مما يدل عَلَى أن محمداً هذا كان تحت إمرته عدة شذوات وسميريات.
ومما يزيدنا ثباتاً في هذا الرأي كلام ابن صاحب الصلاة إذ يقول: تقلد الحكم عليها (السفينة) اشتيام ذو تيقظ واستبصار. وعليه فكلمة الاشتيام تدل عَلَى ما يقابله بالفرنسية
هذا هو المعنى الأصلي عَلَى التحقيق في عهدالعباسيين. لكن لما انقطع العهد بالمحاربة عَلَى الشذوات والسميريات وبقي القوم يركبون السفن المذكورة لغاية التجارة والسفر أصبح الاشتيام بمعنى رئيس الركاب والملاحين معاً وله محل خاص كما في السابق لا يجلس فيه غيره وسموا هذا المقعد المتلمظة أو الملمطة كما سيجئ ذكرها. ولا يمكن أن يتصور الواحد أن يكون مقعد خصوصي لغير كبير السفينة. مثلاً أن يكون لخازن أمتعتها أو لخازن أطعمتها أو كما تخيله بعضهم فالمقعد الخاص هو للرجل الممتاز بين الجماعة والمتقدم فيهم لا غير.
3 - الاشتيام والاستيام من أصل يوناني لا من أصل فارسي أو إرمي
قد مر بك أن لين العلامة الإنكليزي قال أن اللفظة من الفارسية وهي فيها أستايام أي رئيس خيل البريد والجال هذه اللفظة غير موجودة في لغة الفرس لا بالمعنى الذي ذكره لين ولا بمعنى آخر.
وأما العرب فقد رايت أنهم يشيروا إلى عجمة اللفظة وكل مرة ذكروها اعتبروها كأنها عربية محضة مع أنها لا مناسبة بينها وبين مادة ش ت م أو س ت م وعليه فمن المحال أن تكون عربية المنبت.
بقي علينا أن نقول إما أنها من أصل إرمي وإما من أصل يوناني. وزقد ذهب المستشرقون(73/36)
إلى أنها من أصل إرمي فقد قال فرنكل وذي هوي وباين سمث ولاوي وبكسترف وكل من تلا تلوهم أنها من إشتياما أي الاشتيام مبنىً ومعنىً وفسروها بالخاتم أي الذي يضع الختم عَلَى الشيء بعد أن يسده أو يغلقه. وقالوا أن معناها كما ذكره بابن سمث صاحب المتاع المحمول في السفينة أي يقابلها بالفرنسية وهي مشتقة من ش ت م: الإرمية أي سد وختم وسدم وسطم.
قلت: إني لا أنكر أن كون اللفظة جاءت أيضاً بمعنى صاحب الأمتعة المحمولة في السفينة. إلا أن هذا المعنى فرعي وأقدم معنى وصل إلينا هو المعنى الأول: أي رئيس الملاحين الموجودين في سفينة واحدة وفي عدة سفينة بحرية كانت أو نهرية. حربية أو تجارية ثم إن فعل شتم أو ستم الإرمي لم يرد إلا قليلاً وزلم يأت في كتب الإرميين بالمعنى المذكور فالذي جاء في معجم ابن بهلول في معنى اشتياما: هو صاحب المتاع المحمول في السفينة كما نقله عنه باين سميث. ولم يذكر الفعل شتم أو ستم الإرمي. وجاء في كتاب دليل الراغبين في لغة الآراميين ص44 اشتياما: صاحب وسق السفينة أيضاً: خليفة تاجر الصحراء ووكيله ويحمل له الأثمار إلى الأهرآء لوقت الغلاة بأجرة معلومة اهـ. ولم يذكر كلمة الاشتيام العربية كما لم يذكر في كتابه الفعل شتم أو ستم. مع أتن هذا الفعل قريب إلى العربية وهو فيها سدم الباب وسطمه بمعنى سده. وفسر الأب برون اليسوعي اشتيامابما معناه: الساد أو السادم ومنه: واضع الأمتعة في مكان مغلق ولاسيما أمتعة السفينة وعندي أن الاشتيام إذا كانت مأخوذة من الإرمية فالإرمية غير مشتقة من فعل شتم أو ستم بل من اليونانية وهو اسم فاعل من فعل أي أوقف وأرسى وهذه تقال عن السفينة كما تقال تلك الرجل بل عن كل شيء. ومنه الفعل العربي المعروف عند هل الجزائر أي ستم بمعنى اوقف السفينة وأرساها. ولهذا السبب أيضاً قال الجواليقي أن الاستيام أفصح من الاشتيام. كما أن الاستيام وردت في التكملة ولم ترد فيها الاشتيام. فالسين فيها تبعاً للأصل اليوناني والشين لغة فيها. زكثيراً ما يقلب العرب السين المهملة شيناً ولاسيما إذا جاورت التاء كما يفعل الألمانيون في لغتهم. فقد جاء في العربية: جاحشته في جاحسته: إذا زاحمته. (عن ابن السكيت) وشمرت السفينة سمرتها: إذا أرسلتها (وهنا السين لم تجاور التاء) وقالوا: أنشفت لونه وانتشفت بمعنى واحد (عن أمالي تغلب) إلى غير ذلك. واللفظة اليونانية توافق(73/37)
كل الموافقة لمعنى الاشتيام لأن برئيس المركب أو المراكب يناط إيقافها وإجراؤها وتدبير أمرها كما يتضح لأدنى تأمل.
4 - المتلمظة أو المتلمطة والسلوقية
لو كان معنى الاشتيام في الأصل صاحب الأمتعة المحمولة في السفينة لما أفردوا لبها محلاً خاصاً به كما بينا ذلك قبيل هذا. لأن مثل هذا الرجل يجلس عَلَى أمتعته أو بجانبها لا في موطن ينفرد فيه والحال إننا نعلم أن للاشتيام موطناً خاصاً به ومقعداً يقصد فيه هو ولا يقعد فيه غيره يسمون المتلمظة قال في تاج العروس في ل م ظ: الملمظة (وهو لم يضبطها لا بالقلم ولا بالنص) مقعد الاستيام (هكذا بالسين المهملة) وهو رئيس الركاب والملاحين كما في التكملة. وسبق مثل ذلك في م ل ط (أي المتلمطة بتقديم الميم عَلَى اللام) ولا أدري أيها أصح. اهـ كلام التاج. وما بين هلالين هو من كلامنا. قلت: الأصل هو المتلمظة بتقديم اللام عَلَى الميم وهي مشتوقة من تلميظ الحية يقال: تلمظت الحية: إذا أخرجت لسانها. لأن الاشتيام يكون في مكان عال مشرف منه عَلَى البحر لينظر إلى يمينه ويساره وإلى أمامه وورائه متلفتاً تلفت لسان الحية ليتمكن من تسيير سفينته وحفظها من الخطر وإجرائها في محل أمين. كما هو معلوم عن محل الأشاتمة في يومنا هذا. ويفردون له محلاً خاصاً لكي لا يلهو بأحاديث الناس أو بما يحدث حواليه فينصرف ذهنه إلى ما لا يهمه ويقابله بالفرنساوية
'
واللسان لم يذكرها في (ل م ظ) إلا أنه ذكرها في مادة ر ب ع قال في الصفحة 456 في السطر 17: والمتلمظة (وقد ضبطها بضم الميم وفتح التاء واللام وكسر الميم المشدودة والظاء المنقوطة المفتوحة وبهاء في الآخر) مقعد الاشتيام وهو رئيس الركاب. أما صاحب التاج فقد ذكرها في كلتا المادتين (م ل ط) و (ل م ظ) وقد ذكرها اللسان في م ل ط المتلمطة (ولم يضبط حركة اللام المشدودة): مقعد الاشتيام. والاشتيام: رئيس الركاب اهـ. قلت: والمتلمطة تصحيف المتلمظة ولم يذكر هاتين اللفظتين لا القاموس ولا محيط المحيط ولا أقرب الموارد ولا مد القاموس تأليف لين ولا دوزي ولا الجوهري ولا الفيومي ولا صاحب الباروس ولا صاحب الأوقانيوس ولا سائر المعاجم الإفرنجية كغوليوس وفريتاغ(73/38)
وقزميرسكي. فيا له من إغفال وقع فيه أغلب اللغويين.
هذا وأنت ترى مما تقدم أن العربية تحتاج إلى معاجم تجمع جميع الألفاظ العربية المذكورة في دواوين اللغة الواردة في محلها أو في غير مظنتها. وأن يثبت فيها المعاني عَلَى اختلاف ما وردت في الأعصار ليكون ذلك المعجم مورداً ينتابه اللغوي كلما احتاج إليه ويجد فيه كل ما يحتاج إليه. إذ قد رأيت مما مر بك من الألفاظ ومباني لم تكن تظن أنها وجدت عند العرب لأنهم لم يكونوا من المشهورين بالملاحة والبحارة. ومع ذلك فقد تحققت وجود ألفاظ لا تجد لها حرفاً واحداً مقابلاً لها في لغة الأعاجم الحاليين مع تبحرهم في المدنية والعمران ومع تبسطهم في وضع الألفاظ لأدنى اختلاف في المعنى المرادف أو لأدنى تفاوت في معناه. فيا لها من لغة جمعت فأوعت ومدت سماطاً فأشبعت. وإن نسب إليها القصور بعض المتهوسين للغات الأجنبية وبهذا القدر كفاية ستبصر.
ومثل المتلمظة: السلوقية: قال ابن عباد في كتابه المحيط ونقل نصه الصاغاني في العباب وأورده أيضاً الفيروز أبادي في القاموس: السلوقية: مقعد الربان من السفينة اهـ ولم يزيدوا عَلَى هذا القدر ولم يذكروا أصل اللفظة وعندي أنها آرامية الأصل من فعل سلق الذي اسم مصدره سلاقاً ومعناه الارتفاع والعلو. لأن الربان يكون في أعَلَى موضع من سفينته ليرقب ما حواليه من متسع البحر ويقابله بالفرنساوية وهي مشتقة من بل هي مصغرها ومعناها الكثيب تصغير كثيب وهو تل الرمل كأن السلوقية تكون بعلو الكثيب ليشرف منها الربان عَلَى البحر.
(الخلاصة) يتحصل مما تقدم ذكره وشرحه أن الاشتيام والاستيام من باب الإطلاق والتغليب هو ' ' وإذا أريد به رئيس الملاحين فهو ' وإن جاء بمعنى رئيس الركاب فهو وإن عنيت به صاحب الأمتعة فهو ناظر المتعة أي وأما المتلمظة والمتلمطةفهو مقعد الاشتيام أي المقعد الذي يقوم بإجراء السفينة في نوبته لأن الأشاتمة يتناوبون في تدبير أمر السفينة ويقابله بالفرنسوية وأما السلوقية فهو أرفع مكان يكون في السفينة ويكون مقعداً للربان وهو بالفرنسوية.
فقد جاء عندهم في شرحهم هذه اللفظة ما معناه: هي ما يبني بناية خفيفة فوق الجسر الأعَلَى من مؤخر السفينة وهو عبارة عن ربع طول المركب ويعلوا نحواً من مترين(73/39)
ويشرف عَلَى عشر المؤخر كما تشرف المنظرة عَلَى ساحة المدينة. ويكون عليه الاشتيام عند قيامه بوظيفته لأنه يتمكن من ذلك الموضع من أن يرقب ما حواليه في البحر. اهـ.
بغداد:
ساتسنا(73/40)
استرداد المجرمين
في البلاد الأجنبية
لا مراء في أن الردع لكثير من المخلوقات عن ارتكاب المنكرات الشخصية والاجتماعية والسياسية هو الخوف من العقوبة لا الخوف من الضمير. ولذلك نرى من الأخلاق لهم يرتكبون أفضح المنكرات إذا وجدوا للفرار والخلاص من وجه القانون سبيلاً.
لا ترجع النفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
والخلاص من أحكام القانون يكون بوجوه كثيرة منها (1) الرشوة (2) شهود الزور (3) إغضاء المأمورين لأجل تطبيق قاعدة إدارة المصلحة (4) بلاهة بعض الحكام (الحاكم مأمور العدلية فقط). والدواء الوحيد لهذا الداء القتال تعميم العلم وتهذيب الأخلاق وتعريف الإنسان معنى الإنسانية. أي أنه خلق ليخدم أبناء قومه لا ليأكل ويشرب وينافق وينام كبهيمة الأنعام إذ لا ضرر من الأنعام إن لم يتحرش المرء بها، وأما هؤلاء فإنهم يمقتون من كان ذا مزية سواء وافقت أهواءهم أو لم توافق. لأن جل مراسمهم محق الحق والعدل والفضيلة ليس إلا. وأقوى سلاح يتخذونه هو الكذب والافتراء وغاب عنهم أن حبل الافتراء قصير.
(5) فرار المجرم من بلاد دولة إلى بلاد أخرى. وهذا موضوع بحثنا هذا.
لا يحق لدولة من الدول أن تكره مأموري دولة أخرى عَلَى تطبيق أحكام قوانينها مطلقاً. لأن حق القضاء محدود داخل المملكة ولا مساغ لتعديه حدود غيرها. فعدَّ من لا خلاق لهم من أرباب القلوب الصلبة والضمائر الميتة هذه القاعدة نعمة كبرى وأخذوا يفرون إلى الممالك الأجنبية ليتخلصوا من الجزاء وهكذا كان.
بيد أن هنا مضرات عديدة اجتماعية لفتت نظر رجال الدول فطفقوا يفكرون بتدبير مؤتم يمنع هذا الفرار لأجل استعادة المجرمين. لماذا؟
لا شك أن المجرم إذا ترك بلا جزاء يكون سبباً داعياً لكثرة الجرائم واختلال الأمن العام مما ثبت تاريخياً فإنه من أعدى الأمراض وإنه سريع الانتقال من مملكة إلى أخرى. وهذا هو السر الذي يدعو الدولة أن تطلب المجرم الفار من بلادها.
عَلَى أن المجرب إذا حل مريض بين أصحاب مرضهم أو فاسد بين أدباء أفسدهم فخوفاً من(73/41)
هذا شعرت الدول التي يلتجئُ إليها أحد الفارين بلزوم طرد هذا المجرم الفار من وجه العدل أو تسليمه عَلَى الأقل لكي تطهر بلادها منه.
ولهذه الأسباب نرى الدول في عهدنا تتهافت وأي تهافت لعقد المعاهدات التي تؤدي إلى استرداد المجرمين الفارين. وإليك القواعد العلمية:
لا يجوز طلب استرداد المجرم إلا إذا كان للدولة الطالبة أي التي وقع الجرم في بلادها حق القضاء عَلَى المجرم الفار. ولما كان حق القضاء محصوراً داخل الحدود الملكية أراني مضطراً لبيان هذه الحدود ومحل تطبيق هذه السلطة ولهذا يجب قبل كل شيء تعريف أقسام ممالك الدول
1 - البلاد الواقعة ضمن الحدود الجغرافية.
2 - البحور الداخلية أي التي تحاط بممالك خاضعة لدولة واحدة والأنهر والمضايق البحرية والترع.
3 - المياه الساحلية أي ما يبعد عن الساحل ثلاثة أميا من البحر (الميل 1852 متراً) أو إلى وصول مرمى أحسن مدفع. وهذا يعد من بلاد الدولة المجاورة وما عداه فهو عام.
4 - البلاد المحتلة عسكرياً سواء كان بحال الصلح أو بحال الحرب.
5 - السفن التجارية وسفن النزه.
فحق القضاء يشمل كل جرم وقع في هذه الأقسام المصرح بها أعلاه. ويحق لكل دولة طلب المجرم لمجازاته إذا ارتكب جرماً بها وفر إلى البلاد الأجنبية. وهذه مسألة من مسائل حقوق الدول تحل بواسطة السفراء ونظارات الخارجية وفقاً للمعاهدات أو العرف والعادة.
ستلزم الجنايات العامة وبض الجنح المهمة الرد وأما ارتكبوا القبائح فلا يطلبون ولا يرددون.
القاعدة العلمية في إعادة المجرمين -. أن يكون الجرم محظوراً بقانون كلتا الدولتين أي الفار منها والملتجأ إليها. مثلاً: تعدد الزوجات ممنوع عند الدولة الفرنساوية ومباح عند الدولة العثمانية. وعليه يعد جرماً بفرنسا ومندوباً بالمملكة العثمانية. فإذا فر فرنساوي والتجأ إلى الدولة العثمانية لارتكابه هذا الجرم هل يجوز تسليمه؟ لا يجوز قطعاً لأن الشرط يكون ممنوعاً عند الدولتين. أما لو كان جرمه جرم سرقة وجبت إعادته عَلَى شرط(73/42)
أن يكون بين الدولتين معاهدة أو تعامل.
أما لو التجأ أحد قرصان البحر إلى بلاد سويسرا وكان هذا فرنسوياً (من قبيل الافتراض) فهل يحق لسويسرا أن تمتنع عن تسليمه بحجة أن لا صراحة في قوانينها لهذه المسألة؟ كلا:
لأن عدم الصراحة في قانون سويسرا لم ينجم عن افتراضها القرصانية أمراً مشروعاً بل من عدم وجود سبب لدرج أمثال هذا القيد بقوانينها وذلك لفقدان السواحل عندها هذه هي القاعدة العملية بخصوص إعادة المجرم فلنبحث الآن عن مستثنياتها.
إن لهذه القاعدة استثنائين أحدهما يتعلق بالجرم والآخر بالمجرم فالذي يتعلق بالشخص هو كون الملتجئ من تبعة الدولة الملتجئ إليها. فلو أن ألمانياً مثلاً ارتكب جرماً في فرنسا ففر منها وأتى ألمانيا فلها الحق بأن تنتع عن تسليمه. وهذه قاعدة كلية سارية بين جميع الدول. إذ كيف يقبل قوم بخضوع فرد منهم لقانون قوم آخر؟
وأما الاستثناء الذي يتعلق بالجرم فهو أن يكون الجرم عسكرياً أو سياسياً فأرباب هذه الجرائم أيضاً لا تعاد بتة.
وسبب ذلك أن الدولة لا تقبل الجندي الفار ولو أعيد لها لأنها لا تؤمل منه خيراً بل تعده كالغصن الفاسد فتقطعه من شجرتها وتلقي به عَلَى الأرض خوفاً من أن يفسد مجاوريه. إلا إذا كان ضابطاً في سفينة ونزل إلى البر وامتنع من الرجوع إليها. فيعاد خوفاً من تعطيل السفينة.
وأما سبب عدم إعادة أرباب الجرائم السياسية فهو سر غامض وأمر مهم. لأن التاريخ يدل عَلَى أن أكثر الفارين من هذا القبيل كانوا عَلَى حق وإن سبب اضطهادهم وفرارهم لم يكن إلا من علو أفكارهم التي تعجز حوصلة العامة أو رجال الأمر والنهي عن إدراكها فيعدونه مخطئاً فيضطهدونه ويحكمون عليه حكماً جائراً ويخنقون فكرته. فلا جل الاستفادة من أفكاره في الحال والمستقبل لا تجوز إعادته بل إنهم يجلونه ويكرمونه.
وهناك شرط آخر للاستعادة وهو عدم سقوط الجرم بمرور الزمان القانوني عَلَى حسب قوانين الدولتين.
قد يمكن أن يطلب المجرم من قبل دول متعددة في آن واحد فالواجب حينئذ تسليمه إلى(73/43)
الدولة التي وقع الجرم في بلادها. فإذا ارتكب ألماني مثلاً جرماً في فرنسا وهرب إلى بلجيكا وطلب من الدولتين في آن واحد، يجب تسليمه لفرنسا لا لدولة ألمانيا. أما لو ارتكب جرماً في ألمانيا دولته وفي فرنسا يسلم لدولته ألمانيا. وإن كانت جرائمه عديدة وفي بلاد مختلفة وطلبتهن كلهن بآن واحد ينظر: أي الجرائم أشد فيسلم التي وقع فيها ذلك الجرم الشديد. وإن كانت درجة الجرائم متساوية يسلم للتي تطلبه أولاً. أما إذا وجد بين دولة معاهدة فيسلم لربة المعاهدة دون أن يلتفت لأحد غيرها.
والخلاصة فإن معاهدات إعادة المجرمين تبحث دائماً في مسائل أربع:
1 - لا تعيد دولة من الدول ملتجئاً إليها إذا كان من تبعتها.
2 - أرباب الجرائم السياسية لا يعادون.
3 - أن يكون الجرم ممنوعاً بقانون الدولتين.
4 - أن لا يحاكم إلا من أجل الجرم الذي كان سبباً لفراره بغض النظر عما عداه.
ولا يذهلن عن نظرك أيها القارئ الكريم أن إعادة المجرمين ليست أمراً محتماً. فإن كانت الدولتان متعاهدتين فالإعادة ضرورية وإلا فلا.
ومن الأسف أن الدولة العثمانية لم تتعاهد بهذا الباب مع إحدى الدول بتاتاً وقد مضى ردح من الزمن والدولة العثمانية تعيد لروسيا من يفر من بلادها لولايتي طرابزون وارض روم كما أن روسيا كانت تعيد من يفر من العثمانيين إلى قفقاسيا. إلا أن هذا الوفاق لم يدم كثيراً.
وكان قد تقرر مع دولة الصرب إعادة مجرمي الطرفين مؤقتاً ريثما تعقد معاهدة بين الدولتين. وبعد أن أعيد كثير من الجهتين فسخ هذا التعهد الشفاهي لامتناع حكومة الصرب عن الإعادة.
وأما المعاهدة التي عقدت في أيام عارفي باشا مع حكومة أميركا فلم توضع موضع الإجراء قط.
وأما الآن فمن المقرر عقد معاهدة مع دولة اليونان حسبما يقتضيه الجوار ولاحتياج الطرفين لها.
وأغرب ما يتصور أن الإدارة السابقة كانت تعيد كل مجرم التجأ إليها دون مقابل ولا(73/44)
معاهدة حتى أن المجرم العثماني المحكوم بخمس عشرة سنة كان يفر إلى بلاد النمسا وبعد فوات الزمن يعود فرحاً فخوراً. أما المجرم النمساوي فكزان يعاد بمجرد وصوله إلى بلاد الدولة العثمانية. وما سبب هذه المسامحة والغفلة السياسية إلا الخوف من تعكير جو الرفاهية عَلَى زعمهم كأنه من الممكن اجتماع الشرف والتغافل السياسي!
نابلس
حسن عبد الهادي(73/45)
الجنسية
تأليف ماكس نوردو العالم الإسرائيلي الشهير نقلها إلى العربية. م ع ج
كلمة للمعرب
كل مطلع عَلَى مجرى الأفكار العصرية في الغرب يرى مسألة الجنسيات أو القوميات الشغل الشاغل لكبار الساسة وأعاظم الكتبة وفحول العلماء ويكفي المرء أن يتصفح بعض الجرائد والمجلات الأوربية ليرى فيها ذكراً لهذه المعضلة الكبرى ووسائل كثيرة لحلها. وقد لقب الكتاب والمؤلفون عصرنا هذا بعصر الجنسيات لكثرة ما حدث ويحدث في أيامنا هذه من الجدال والمناقشة بشأنها حتى تعدت إلى المشاكل والمشاحنات وكادت تجر إلى الحروب. فهي إذن مشكلة اليوم وكارثة الغد. لذلك رأيت من اللازم إطلاع بني قومي عَلَى مجمل ما وصلت إليه الآراء بخصوصها فلم أجد بحثاً أدق وأتم من رسالة وضعها بالألمانية العالم الاجتماعي الشهير ماكس نوردو وصف بها هذه المسألة في جميع أدوارها وأبدى من آرائه فيها ما هو جدير بالاهتمام فبادرت إلى نقلها للعربية علها تفيدنا ولو بعض الإفادة في أحوالنا الحاضرة.
وماكس نوردو هو أحد نعلماء العصر المشار إليهم بالبنان، إسرائيلي الأصل ألماني المنشأ اشتهر بمؤلفاته العديدة ورسائله الجمة التي امتاز فيها بالجد والدقة في البحث وبعد النظر والصراحة. منه كتابه معنى التاريخ الذي أحدث ضجة كبرى عند ظهوره وقد أنجى فيه عَلَى الحقائق التاريخية والمؤرخين؟ و (السقوط البشري) وهو مجموع أبحاث فلسفية اجتماعية عصرية مثل: (الفلسفة الروحية) و (مذهب النانيين) و (آخر القرن) و (القرن العشرين) ومنها كتابه المسمى (أكاذيب مدينتنا المغنى عليها) و (مناقضات الاجتماع) و (مناقضات علم النفس) ومن أمهات كتبه العلمية (روح وفيسيولوجيا العبقرية والنبوغ) وعليه المعول في تدريس هذه المسائل. اهـ وإليك الآن رسالته في الجنسية قال:
الجنسية
إذا كنا لا تندري كيف تستحوذ المعتقدات الباطلة عَلَى أفكارنا، وكيف تحول صورة مغلوطة تخيلناها لحادث ما بيننا وبين إدارك حقيقة ذلك الحادث، حتى لا تقوى عَلَى تمييز الاختلاف الحاصل بين بين الصورة وبين الحادث نفسه، وبالاختصار إذا كنا لا نعرف(73/46)
الخطأ الشائع أشد رسوخاً من الحكم العقلي وإن الخرافة أقوى أثراً من الحقيقة، فلا يمكننا أن نسلم بوجود نفر يعتقدون بان مسألة الجنسيات خطأ وقتي أو حاجة من حاجات البدئ (المودة) يصفونها بأنها قضية روحية استهوت كثيراً من العقول الكبيرة لكنها لا تلبث أن تتلاشى. وفي الواقع أن هناك فئة من الناس يدعون سياسيين يدعون أنهم يريدون مستقبل الأمم وهم يزعمون أن مسألة الجنسيات إنما اخترعها نابليون الثالث لإيجاد الصعوبات في داخلية الحكومات الأخرى فيكون له منها نصراء يظاهرونه في سياسته، سياسة التطوح. وما أحق أولئك الأدعياء من الساسة بنعوت الحماقة والبله لولا اعتبار أنهم مرتبط بشعب تنبه الشعور الجنسي فيما يعد خطراً عَلَى وحدتها، فتصدهم أطماعهم، وخوفهم عَلَى مستقبلهم، وبغضهم رقي الأمم، والحنق الذي يستولي عليهم بدنو فقد امتيازاتهم المغتصبة عن ملاحظة الحوادث ودرسها. مثل هؤلاء الساة نجده في فرنسا الذي أضاع سلطانها في أوربا تكون الوحدتين الألمانية والإيطالية، وفي النمسا حيث الأمم المغلوبة عَلَى أمرها تطالب الأمم الغالبة بحقوقها، وفي بلجيكا حيث ينتاش الفلمنكيون حريتهم من أيدي الوالونيين. وأما الذين لا تعمي بصيرتهم الأغراض الشخصية فيعترفون بأنه تنبه الشعور الجنسي حادثة طبيعية تظهر ضرورة عند حد محدود من النشوء البشري لا يمكن إعاقتها أو منعها إلا إذا أمكن إعاقة مد البحر وجزره أو منع حرارة الشمس من أن تصل إلينا إبان الصيف. فالذين يقولون بان الأمم ستنبذ جنسيتها فلا تعد تذكرها ليسوا أكبر عقلاً من ذلك الغلام الذي قال لأمه وهي تضمه: (متى أصبحت طفلاً صغيراً مثلي فانا أيضاً أحملك!).
وما هو أساس الجنسية، وما هي علامتها الفارقة؟ لقد كثر البحث في هذه المسألة واختلفت فيها الآراء. فقال بعضهم بالجنس يعني الأصل الفطري. والخطأ في هذا القول محسوس بحيث يوجب الأنفة من الرد عليه. أنا لا أعتقد بوجود الجنس البشري وإنما الشعوب المختلفة أنواع ثانوية لجنسنا، والاختلافات الشكلية واللونية لم تنشا عن تغير الجنس الواحد بسبب تأثير الإقليم بل منشئوها الحقيقي تعدد الجنس، يظهر لي أن السبب بين الأبيض والحبشي أو بين البابو والهندي ليس أعظم من النسب بين الفيل الأفريقي والفيل الهندي أو بين الثور وبين الجاموس الأميركي. ولكننا قلما نجد في جنس واحد كالأبيض مثلاً من الاختلافات المهمة ما يسمح لنا بوضع ميزة فارقة وحدود بين أشكال الجنسيات المتنوعة.(73/47)
ويوجد في كل شعب أبيض أفراد ذوو قامات كبيرة أو صغيرة وشعور زاهية أو قائمة وعيون زرقاء أو سوداء وهامات مستطيلة أو عريضة وأمزجة باردة أو حادة وبينا نرى بعض هذه الصفات متغلباً في شعب وغير متغلب في شعب آخر لا نجده في الصفات الطبيعية أو العقلية أقل معنى فيتمييز الفرد ونسبته نسب محدود مثلما نجد في البشرة السوداء وشكل الوجه وتجعيد الشعر من تمييز الحبشي ونسبته لجنس محدود.
إن جميع التجارب التي جرت لإيجاد (شكل متوسط) خاص لكل شعب لم تجد اقل فائدة علمية. ولقد نكون قراءَة أوصاف هنا الشكل المتوسط لذيذة تهيج فينا عاطفة حب الذات لكنها في الواقع لم تخرج عن حد التخيل. عَلَى أن خطوط ذلك الشكل لو كانت غير خيالية ليست سوى رسوم ظاهرية في المرء - لا صلة بينها وبين حياته الداخلية - طبعت عَلَى بشرته ويمكن أن تمحى عنها متى تقدم في العمر، إنها لا ترسم عليه إذا نقل وهو طفل إلى بيئة غير التي ولد فيها وعرض لتأثيرات جنسية غريبة. إن (شاميسو) مؤلف كتاب بطرس شليمهل أو الإنسان الذي أضاعه ظله كان غلاماً متأدباً أيام لم يكن يعرف من الألمانية حرفاً فأصبح بعد ذلك شاعراً ألمانيا يضاهي أكبر الشعراء الألمان الذين يزعمون أن دم الجرمان القدماء (ضيوف تاسيت) يجري في عروقهم والمؤرخ (ميشليه) ولا أعني ذاك الإفرنسي المتحمس بل الفيلسوف (الألماني) بما ظهر عليه من الصفات العقلية التي عدها علماء الإنسان من ميزات الجرمان: كالحصافة، والجد الأدبي، حتى التعقيد في الإنشاء! والمفكر جول دوبوك العريق في إفرنسيه - كان أبواه يفتخران أن بدمهما الإفرنسي الخالص - وهو الذي اشتهر بكتاباته بالطريقة الأيديالسنيه الألمانية خاصة، ودوبواريموند الإفرنسي الذي أصبح المثل الأعَلَى للعالم الألماني، أما تيودور كونتان فإنه لم يكن ألمانياً فقط بل ألمانياً شمالياً بتأملاته الطبيعية وتحليله للنفوس. . . الخ الخ وهكذا قل عن أي شعب أوربي شئت فإنك تجد فيه مثل هذه الحوادث شيئاً.
من ذا الذي قرأ مؤلفات لوثر أولباخ وجين موللر - مؤلفة رواية - وشوللر وديتز ولا يعتقد أنهم إفرنسيون أقحاح؟ بل من ذا الذي لا يرى في مؤلفات هرتزنبوخ وبيكر صفات الشعراء الأسبان؟ أو من يرى في دانتي شيئاً غير إنكليزي حاشا اسمه قد يكفي أن يعيش المرء في أمة ليقتبس عاداتها وأخلاقها الحميدة والذميمة دون أن يكون بينه وبينها صلة(73/48)
رحم وإن ظهر لنا ما يناقض هذه الحقيقة في شخص بعض الكتاب وأرباب الفنون فيجب علينا إذن أن نبحث عما إذا كانوا أو كنا نحن متأثرين بأحد مصدرين للخطأ يصعب اجتنابهما.
من البديهي أن نميل إلى البحث في شاميسو مثلاً عن صفات نلصقها بالإفرنسيين ظلماً فنجدها فيه والسبب في ذلك سرعة تغير صور الحوادث في أذهاننا فتتطور طبقاً لما علق في أفكارنا من الصور المغلطة، ومن جهة أخرى نرى أن من المألوف عند الشاعر أو صاحب الفن العائش في إنكلترا أن يبقي في رأسه فكرة وطن أجداده فيخيل إليه أنه من الواجب عليه أن يكون ذا أطوار تذكره بذلك الوطن وبسبب الاستهواء الناتج عن تلك الفكرة نراه لا يفتأ يغير في طباعه - من غير أن يشعر - ويألف أطواراً أخرى صناعية حتى يكون مماثلاً لمواطنيه الأصليين، والمضحك في هذا الأمر أن لا يظهر في صفات بني وطنه الحقيقية بل يلتبس الصفات التي ينسبها الإنكليز عادة لمواطنيه خطأً.
فالجنس إذن لا يمنح حقاً في جنسية محدودة وها إن ابناء الهوهكنوت الذين هاجروا إلى مقاطعة (برادنبرخ) أصبحوا اليوم من أحسن الألمان وأبناء مستعمري أمستردام الجديدة من الهولانديين هم الآن أميركيون شماليون لا يختلفون عن الأميركان الأصليين في شيء. فالحروب وكثرة المهاجرة مع حركة الأفراد وتنقلهم جمعت بين العناصر المختلفة في بادئ الأمر ومزجتها مزجاً غير قابل للانحلال، وجميع شرائع الأمم الممدنة ظهر عدم الاهتمام بصلة الدم بما تبدي من ضرورة التساهل في قبول الأجانب في تابعيتها وتجنيسهم بجنسيتها بحيث يكون لهم من الحقوق والواجبات ما لرعاياها الأصليين.
ولما كان أساس الجنسية المبني عَلَى الأنتروبولوجيا (علم الإنسان) غير كاف، حاولوا أن يخترعوا لها أساساً تاريخاً قانونياً فقالوا: إن ما يكون الأمة هو ماض عام ومستقبل عام هو الحياة العامة في ظل حكومة واحدة وشرائع واحدة، وهو ذكرى أفراح وأتراح تقاسمها أفراد الأمة سواءً. هذه القضية عَلَى ما بها من الزخرف الخطابي إن هي إلا سفسطة يرفضها العقل مؤيداً بالحوادث. سل من شئت من الروثانيين - أهل غاليسيا - عما إذا كان يشعر بأنه بولوني بالرغم من مشاطرة الروثانيين والبولونيين، منذ نيف وألف عام في حياتهم وشرائعهم وحكومتهم السياسية. واسأل أي (فيني) أو (سيومي) - كذا يلقبون أنفسهم - هل(73/49)
يتعبر نفسه أسوجياً فنلندياً مع أنه يساكنه ويعيش معه تحت ظل حكومة واحدة منذ أكثر من ألف عام أيضاً. نعم عن اتحادهما في الشرائع وفي الحكومة ولاسيما في العادات وفي الأخلاق مما يستلزم تآلفهما وينبه فيهما عاطفة التضامن والتكافل. وعَلَى عكس ما يجري مع اليهود فإنهم قلما تعتبرهم المم يعيشون في حضنها جزءاً منها. وذلك بأنهم لا يزالون متعلقين تعلقاً أعمى لعادات أجدادهم - كاستعمالهم الميقات، وتعظيمهم أيام الأعياد والبطالة، واحترامهم الشريعة الخاصة بالمآكل واتخاذهم السكنى. . . الخ - التي تخالف كل مخالفة قواعد مواطنيهم المسحيين والتي من شأنها أن تنبه في هؤلاء عاطفة الاستقلال والافتراق عنهم. فمثل هذا الاتحاد قد لا يكفي لأن يؤلف من شعوب شتى شعباً واحداً ذا جنسية واحدة.
كلا إن هذا إلا تمويه لا تلبث الحقيقة أن تبدده، وما أندر أن يظهر منشأ الإنسان الطبيعي مرسوماً عَلَى محياه إذ القاعدة العامة تنكره ولن تقوى عَلَى إثباته. إنه لا يشعر به في نفسه، وكل ما قيل في حق (صوت الدم) ليس إلا سفاسف يبني عليها القصصيون خيالاتهم، وليس للشرائع والإدارات السياسية وحدها من القوة ما يكفي لتحديد الجنسية عَلَى مالها في من التأثير في تهذيب أخلاق المرء. وما يحدد الجنسية في الحقيقة إلا اللغة. فيها وحدها يصبح الإنسان عضواً في جسم الأمة وهي وحدها تخوله الجنسية. فلنتمثل حق التمثيل مكانة اللغة للفرد وحظها في تكوين وجوده وفكره وشعوره ومظهره الإنساني.
باللغة يتكيف نظر الإنسان حسب نظر الشعب الذي هذبه ورقاه وأودع فيه وفي تركيبه أدق حركاته الفكرية وارق خصائص عالم تصوراته، باللغة يصبح الإنسان ابن الشعب ووارث مفكريه وشعراءه ومؤدبيه وقادته، باللغة يخفض المرء جناحه لأدبيات الشعب وتاريخيه بفضل ما يؤثران في جميع أفراد ذلك الشعب فيجعلانهم سواء في الشعور والعمل. حقاً إن اللغة لهي الإنسان نفسه. بها يدرك صفات الحوادث الكوني العامة، وبها يؤثر في العالم الخارجي، إلا وأن فرداً واحداً من ملايين الخلق يفكر بذاته ويلبس تأثيرات الحواس عليه صوراً شخصية وسائر الملايين من الخلق تتبع ذلك الفرد عن بعد أو عن كثب، في أفكاره بما وصل إليهم منها بواسطة اللغة. كما أن فرداً واحداً يعمل، ويبث مدركاته في الناس والوجود بأعماله الآمرة، بينا ملايين الخلق تنحصر أقوالها في إظهار ما وصلت إليه(73/50)
عقولها من الرقي. فاللغة هي أقوى صلة تجمع بين الناس. وأخوان شقيقان لا يتفاهمان بلغة واحدة تلقاهما غريبين أحدهما عن الآخر أكثر من شخصين غريبين التقا لأول وهلة فتبادلا التحية بلغة واحدة.
وقد رأينا الإنكليز وأميركيي الشمال يتشجارون فيما بينهم لاختلاف المصالح ولكنهم سرعان ما يتحدون قلباً وقالباً أمام غير الإنكليز ويشعرون حينئذ بأنهم ابناء أبناء أم واحدة هي (بريطانيا العظمى) ولقد اشتعلت نار الحرب واشتد سعيرها بين الهولنديين والفلمنكيين عام (1831) وهم اليوم عَلَى وشك عقد اتحاد إخائي كبير. ولما حارب البوير الإنكليز أو لما دافع البوير عن أنفسهم من مطامع إنكلترا السياسية كان قلب الهولانديين يخفق لهم الماص وفرحاً بينما كانت العلائق بين هولاندة وحكومة الرأس (الكاب) قد انقطعت باتاً منذ قرن تقريباً. فلم يمنع استلاف الشرائع والعادات والأخلاق وذكر التاريخ من اشتراك بلجيكا وسويسرا الفرنساويتين (لغة) في الدفاع عن فرنسا في حرب السبعين. وعَلَى الرغم من كره النرويجيين الاحتلال الدنماركي الذي توصلوا إلى التخلص منه أخيراً وبقاء شيءٍ من ذلك الكره إلى أيامنا هذه فقد رأينا النرويجيين إبانوحرب (سلسويك - هولستاين) يتسابقون بحماسة إلى نصرة من لا تجمعهم بهم سوى رابطة صغيرة هي اللغة، وأعظم بها من رابطة.
وقد اتى عَلَى اللغة حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وذلك حين كان الشعب في درك الانحطاط لا وظيفة له غير السخرة وتأدية الضرائب بينما كان الأمر والنهي في ايدي فئة قليلة منالمتسلطين. وكان يومئذ رجل الشعب لا حاجة له باللغة. وماذا تفيده اللغة، الأنين وصب اللعنات أو كتابة مزحات غليظة داخل مغارته؟ إنه لم يكن يختلط بغير رفقائه في القرية وهؤلاء لم يكونوا يعرفوا في اللغة أكثر منه.
أما السياحة والاغتراب ورؤية الغرباء فأمر غير معهود. وما كانت حكومة ذاك الوقت تستعمل غير السوط تكلمهم به دون أن تعمد إلى النحو أو معجمات اللغة. وكانت الديار إذ ذاك بلقعاً خالية من المدارس. وكان رجل الشعب المطالب بحق من حقوقه في المحاكم لا يستطيع الإفصاح عما يكنه صدره أمام القاضي فلا يرى ثمة وسيلة غير الاستعانة بمحام يدافع عنه وما كان مأمورو الإدارة ليسفوا إلى مبادلة الشعب الحديث أو مطارحته الشؤون(73/51)
وكان الشعب في الكنائس يطفح قلبه بالعواطف التعبدية فلا يقدر عَلَى الإفصاح عنها وذلك لأن الكثلكة كانت تمثل له الإله كسيد كبير أجنبي لا يعبد إلا بلغة أجنبية - اللاتينية - بواسطة قساوسة علماء في تلك اللغة فلم يكن في حاجة للفرد ولا في وسعه أن يخرج من مأزق الحالة الوراثية التي نشأ عليها إلى محيط أفسح مستعيناً بالكلام. وعندما ظهر شيء من الاستقلال في بعض المدن والدساكر أخذ السكان يجتمعون فيتحاورون ويتناقشون في أمورهم وهناك كان للغة دور مهم إذ تفرق الناس شعوباً وقبائل بحسب اختلاف لغاتهم متنازعين فيما بينهم عَلَى السيادة والإمارة.
أما طبقة الأشراف فما كانت لتهتم باللغة لأسباب منها أن حقوقهم في السلطة كانت مضمونة لهم منذ ميلادهم. فكانوا سادة امراء دون أن يفتح الواحد منهم فمه أو يجر قلمه. اعتبر ما حصل في ايامنا في إنكلترا التي لا تخلو تقاليد حكومتها الحالية من بعض عادات القرون الوسطى، إذ أن هولاندياً من سلالة (أيقوسي) - اللوردراي - أصبح فجاة سيداً من أشراف إنكلترا أو عضواً في مجلس اللوردات وذلك لخلو عائلته من وارث إنكليزي ذكر يرث هذا اللقب العظيم. . . بمعتنى أنه أصبح ذا حق في الحكم التشريعي في المملكة البريطانية دون أن يكون مواطناً إنكليزياً أو أن يعرف كلمة واحدة من اللغة الإنكليزية!!! ولما كانت بعض الأحوال العامة تضطر الشريف إلى الظهور كان هذا السيد يتكلم باللاتينية أو ينيب عنه أمير سره باستعمالها.
في مثل هاتيك الأحوال كانت الجنسيات محدودة لأن اللغة نفسها كانت محدودة أما في أيامنا هذه فقد سارت الأمم شوطاً بعيداً حتى في روسيا والعثمانية فالفرد اليوم حر وله حق - مهما كانت منزلته - إن يرقى ويعلو المنزلة التي شاءت الاقتدار أن يولد فيها. أصبح العدل شفهياً والإدارة مفتحة الأبواب لكل الناس تقبلهم في أحضانها وتساندهم بتعليماتها، وكذا المدرسة والجيش. وقد سهلت البرتستنتية عَلَى الشعب عبادة ربه بلغته واستماع التعاليم والمواعظ الدينية بها. فصارت مزاولة الكلام لازمة لكل حرفة ومهنة حتى اضطر أعاظم رجال الدولة بل الملوك أنفسهم إلى تعود سهولة النطق وارتجال الخطب. وهكذا اكتسبت اللغة مكانة عظمى حتى أن كل عقبة توضع في سبيل استعمالها أو كل ضغط يسهل استعمال غيرها من اللغات الأجنبية يشعر به الفرد كعار ألحق به وامتهان بشرفه.(73/52)
إن من يعيش بسكينة بين مواطنيه في دولة يرتبط جميع أعضائها بجنسية واحدة والذي لم يقع له أن خجل من لغته أو أنكرها لا يقدر قيمة تلك الجنسية مثله كمثل الذي لم يشعر بمرض هل تكفي قراءة الأوصاف والأعراض أو قص أنواع الآلام والعذاب عليه لكي يشعر بها ويقدر مكانتها؟. . . أما من عاش في بلد مضطهدة فيه جنسيته ولغته غير لغة الحكومة ويرى نفسه مضطراً لتعلم لغة أجنبية لا يستعملها إلا كأجنبي - هذا إذا لم يشأ أن ينبذ شخصيته أو رفض الوظائف المالية أو التمتع بحقوقه المدنية في تلك الدولة ليعيش كأحد عبيد القرون الوسطى أو كأحد المجرمين المحكوم عليهم بالخروج من حقوقهم المدنية والإنسانية. . . هذا الذي يضطر للخنوع وتعفير الرأس أمام جنسية أجنبية، يقدر مزايا الجنسية الخاصة ويشعر بها! ليس الحرمان من حقوق الشرف التي تحكم بها بعض القوانين بشيء مذكور في جانب الحرمان من استعمال اللغة! ليس تصفيد الأيدي والأرجل بالأغلال بأشد من عقد اللسان! هناك يحاول المرء أن يخرج من سجن نفسه فلا يستطيعّ وتأكد أن في إمكانه أن يكون بليغاً فيرى نفسه مضطراً إلى أن يرطن بلسان أعجمي. بل يرى نفسه محروماً من أقوى الوسائل الفعالة في التأثير في الغير فيشعر بأنه مفلوج مقطع الأوصال!
إن المرؤ الذي يعرف نفسه لا يرضى لها مثل تلك الأحوال. ومن ذا الذي يقوى عَلَى إنكار ذاتيته طائعاً مختاراً؟ بل من ذا الذي يرضى بأن يعيش عيشة خالية من أفضل المزايا وأعظمها: وهي استطاعة إبداء مظهري رقية النفساني الشعور والفكر؟ نحن عَلَى يقين بأن الهندي الوثني المعتقد يطرح بنفسه تحت عجلات مركبة (جاغزنات) طمعاً في أن يحيا حياة أخرى أنعم وأسعد من الأولى، نعلم علم اليقين أن (الفقير) يأبى استخدام بعض أعضائه ويعيش سنين عديدة كنصف إنسان أو كإنسان متنبت وذلك لأنه يجد من نفسه دافعاً ومن النعيم الموعود به مشجعاً إن هم قدم حياته لله قرباناً ولكنا لا نقدر أن نتصور أولئك الذين يولون لجنسيتهم الأدبار ويرضون باستعمال لغة أجنبية يرطنون بها طوال حياتهم بين استهزاء الآخرين بهم وخجلهم الدائم من أنفسهم وأما الذين يأتون بضحية مثل هذه جنباً أو عجزاً أو عن حماقة فعندي غنهم يستحقون الشفقة إلا الذين ينبذون لغتهم أي - أنانيتهم - وذاتيتهم المفكرة ويتسربون إلى أهاب أجنبي طمعاً بنيل بعض المآرب فأولئك هم(73/53)
المذمومون الممقوتون بل هم أذل (السكويزي) الروسيين الذين يخصون أنفسهم لاعتقاد ديني أما الأولون فيخصون أنفسهم عقلياً طمعاً بمال أو بما يوازيه. . حقاً إننا لا نجد كلمة تقوم بوصف هذا الانحطاط الأخلاقي.
ومن حسن حظ الإنسانية وشرفها أن أولئك الأنذال هم الأقلون. إذ الأكثرية تتمسك بلغتها وتذب عن جنسيتها كما تذب عن حياتها. إن للشعب المتسلط أن يشرع قانوناً يجعل به لغته لغة الدول ويسقط لغة المغلوبين عَلَى أمرهم حتى تصبح خليطاً عامياً للسوقة لا يدخل المدارس ولا الكنائس ولا المحاكم ولا المجالس. فإن كانت هذه اللغة راقية أو منتشرة في بلاد أخرى، ذات أدبيات وحظ واف في التعبير عن مظاهر الفكر سواء في السياسة أو في العلم فإنها لن تخضع لهذا العار. إذ تصبح الجنسية المضطهدة عدوة الشعب المضطهد تعض كغه الذي يحاول أن يكمها به وتصيح مستصرخة تريد التكلم الذي يأباه عليه غاصبها وبعد اليأس تحاول أن تهدم بنياناً سياسياً كان سجنها عوضاً عن أن يكون ملجأها.
قال أحد الهزليين الفرنسيس: لا وسيلة في الدنيا تقنع رجلاً تام العقل باون يسلمك رأسه لتخز بالمصقلة (الغيلوتين) ونحن نقول بانه لا شريعة في الدنيا تقوى عَلَى إقناع أو إرغام شعب راق يشعر بوجوده أن يتنزل عن لغته وعبقريته. والدولة المؤلفة من جنسيات شتى لا بدأن تقع في منازعات وحروب داخلية لا تستأصل إلا بوسائل راديكالية أي إصلاحية مطلقة أهمها (اللامركزية) المطلقة بأوسع معانيها. لكنها ويا للأسف لم تخرج عن نظرية معقولة تخيلها بعض الساسة ولا يمكن تطبيقها عَلَى مجرى الأحوال. وليتصور القارئ إلى أي درجة يجب أن تصل اللامركزية، لكي ترضي جميع الجنسيات في دولة واحدة ويلزمنا أن نعرض لكل فرد الحق بتقلد الوظائف العامة في جميعه جهات الوطن وأن يشترك في الحقوق المسماة (بحقوق الإنسان وحقوق الوطني) دون أن يضطر إلى استعمال لغة غير لغة آبائه وأجداده فيجب والحالة هذه أن تستعمل في المصالح الإدارية - من مكتب البريد في القرية إلى النظارة - والعدلية - من قاضي الصلح إلى محكمة التمييز - جميع اللغات المتكلم بها في تلك الدولة وهكذا يجب استعمال جميع هذه اللغات في المجالس النيابية - سواء في ذلك القرى والأقضية والولايات - كما يجب أيضاً تأسيس مدارس ابتدائية وثانوية وعالية لكل شعب وبالاختصار ألا يضطر أحد لتعلم لغة غير لغته لنيل ما يناله(73/54)
مواطنوه الآخرون فهل يمكن القيام بكل هذه الواجبات؟
اللهم هذا الأمر مما يستلزم تقسيم الدول إلىأجزاء صغيرة ليس بينها أقل رابطة محسوسة، إن مساواة تامة كهذه بين شعوب مختلفة في ظل دولة واحدة ليست ممكنة إلا بين أمتين فقط، متساويتين قوة كما هو الحال في بلجيكا حيث يوجد عشر أو اثنتا عشر أمة كما هو الحال في دو لة النمسا والمجر - مختلفات في اللغة وفي العدد وفي المعارف لا صلة بينها، متداخلة بعضها في بعض إذ ترى في القرية الواحدة ثلاث أو أربع أجناس ولغات وفي الولاية أكثر من ذلك. ولا بد لدولة كهذه من لغة رسمية والشعب الذي تكون لغته هي الرسمية يصبح وحده حاكم البلاد. وهكذا تعدم المساواة التامة وتمتهن الشعوب الأخرى فتعيش عيشة منحطة. هناك ترى بين الأفراد الوطني التام ونصف الوطني ذاك تطلق الشريعة لسانه وهذا تقضي عليه نفس الشرعة بالبكم. ومن يذكر تلك الأسطورة الألمانية (خرافة الغرايب السبعة) التي جاء فيها أن ابنة منعت من التكلم مدة سبع سنوات وأن شعباً كاملاً حرم من أبسط حقوق الإنسانية وأعلاها يجد أن هذه الخرافة أصبحت إدارة سياسية في أحوال لا تطاق كالتي وصفناها.
يعتقد بعض الخياليين من رجال السياسة أنه سيأتي عَلَى الإنسانية المتمدنة يوم لا ترى فيه من حاجة إلى الأوضاع الدولية الكبرى إذ لا حرب ولا أمور خارجية: هناك يؤلف الناس جماعات كبرى أشبه بعائلات كبيرة أو جمعيات محدودة يتمتع فيها الفرد بحريته لترقية نفسه ويتكفل جميع أعضائها بالمساعدة الأدبية والمادية الضرورية لحياة الإنسان ويكون كل جماعة مستقلين عن الآخرين إلا في المشاريع النافعة واللازمة لجماعات متعددة والتي لا يستطيع القيام بها منفردات فتتفق إذ ذاك تلك الجماعات اتفاقاً وقتياً خاصاً بالعرض والطلب. وحينئذ تلغى الجنسيات لأن الجماعات المستقلة تكون صغيرة جداً ومؤلفة خاصة من أفراد يتفاهمون بلغة واحدة. وقبل أن أقتنع بإمكان تطبيق هذه النظرية في المستقبل فأنا أفضل نظرية أخرى وهي أن البشر ماداموا سائرين في طريق النشوء العضوي لا بد أن يستغنوا ذات يوم عن اللغة وعن الحركات الرمزية للإفصاح عن مشاعرهم فتقوم مقامها حركة ذات الرؤوس التي ستخاطب الأرؤس الأخرى مباشرة بنوع من الإشعاع أو التنقل المستمر! إني لأضع هذا النشوء الروحاني و1اك التقهقر الدولي في مستو واحد من حيث(73/55)
جواز الوقوع ولئن سلمنا جدلاً بإمكان حصول أحد هذين الحلين فهل نسلم بان الزمن اللازم لذلك قريب كما يدعون؟ كلا إنه لأبعد مما يتوهمون ولا جرم بأن الأمم المضغوط عليها لن تقتنع بهذا كما أنها لن تسلم باستعمال لغة عامة. قد يمكن أن يستعمل بعض العلماء الراقين في الإنسانية جمعاء لغة واحدة عامة لتبادل الأفكار فيما بينهم. ولكن من الصعب التصديق لان أقواماً متفرقين يتحدون عَلَى تعليم هذه (اللغة المدرسية) لغة العلم ويخنعون لحكمها وسلطانها إذا أراد الراقون في أمته أن يلقنوا الشبيبة أسرار العلم أو يريدوهم عَلَى أمر خطير أو يبدوا لهم ما توحيه ضمائرهم من تحليل أو تحريم فلا يلجئون قط إلى إلباس أفكارهم ثوب تلك اللغة الأجنبية التي تحرف أوضاعها، وتغير شكلها، وتضيق عليهم نطاق حريتهم.
بقي أمامنا دحض ما تقدم وسيلة واحدة من الوسائل الراديكالية الآنفة الذكر ألا وهي استعمال الشدة: إن أعمال التذبذب والتجارب الناقصة والضغط الضعيف قلما تفيد شيئاً في هذا الباب. لاسيما إذا كان المقصود اغتصاب ملك أسياسي قديم يحتوي عَلَى جزء جوهري من الذاتي كاللغة فالتنازع لأجل اللغة ليس إلا شكلاً آخر لتنازع البقاء فيجب أن يعتبر مثله: غما أن تقتل عدوك وإما تقتل أو أن تنهزم! وتنازع الجنسيات ليس إلا تكملة لحادث ظهر منذ قرون بل منذ ألوف السنين ثم سكنت ثائرته مدة فقام اليوم من رقدته ومشى مشية سريعة نحو الختام. ولسائل أن يسأل كيف اختلطت الجنسيات المختلفة وتدخلت بعضها في بعض؟ وهناك الجواب: دخل شعب غازياً بلاد شعب آخر فلم يطرده منه بتاتاً بل بقيت فئات من الشعب المغلوب بين الشعب الغالب، أو أن الشعب الغالب كان أقل عدداً من الشعب المغلوب فلم يبق منه إلا فئة قليلة. هنالك يشتد التنازع بعد أن كان ساكناً فيضطر الشعب الغالب لأن يستجمع آخر قواه ليدفع عنه الشعب المقهور أو أن يعدمه ادبياً بحرمانه من لغته بالقوة الوحشية اللهم إلا إذا نهض الشعب المغزو فجأة مدافعاً عن نفسه فيطرد الغازين خارج بلاده أو يضطرهم إلى نبذ جنسيتهم.
ولقد تأتي الحوادث عَلَى صورة أخرى كان ينزح فريق من شعب عن ديارهم لأنها لا تكفي لعيشهم فيقطنون دياراً غيرها. فإن كانت هذه الديار خالية في الماضي ثم شاركهم في احتلالها مهاجرون من شعوب أخرى فللمحتلين الأولين أو يعتبروا الجهاد في سبيل لغتهم(73/56)
جزءاً من جهادهم في تمهيد العقبات الطبيعية إذ أرادوا إنشاء دولة تكون لهم ملجأً حصيناً ويجب عليهم حينئذ أن يدافعوا عن أنفسهم خصومهم كما يفعلوا بالمستنقعات والسيول والثلوج والمنحدرات والحمر والوحوش الضارية والجوع والبرد وأن يعتبروا المعيشة الطيبة التي لم يظفروا بها في بلادهم والتي صادفوها في غير وطنهم كثمرة لتغلبهم عَلَى جميع العقبات الطبيعية البشرية بعد أن عرضوا في سبيلها حياتهم. أما إذا كانت البلاد التي استوطنوها آهلة من قبل فيجب عليهم أن يعرفوا الشروط التي بها نالوا الضيافة. فإن كزان من تلك الشروط أن ينبذوا جنسيتهم وكانوا قد رضوا بذلك فضعفهم وجبنهم لا يستحقان الشفقة. ولمضيفيهم أن يرغموهم عَلَى التنازل عن لغتهم وذاتيتهم لقاء الخبز الذي يجودون به عليهم. وغ1ذا كانوا قد احتلوا جزءاً من بلاد أجنبية دون أن يؤدوا ثمناً شائناً لها الاحتلال فيقتضي أن يكون عندهم الآن من الإدارة والقوة ما يمكنهم مما كان يجب عليهم فعله في بدء احتلالهم لو قوبلوا بالعداء فأما أن يبرحوا الأرض حالاً وأما أن يغتصبوا بحد السيف قطعة من البلاد أو أن يقعوا في تيهور كانوا عاجزين عن الخروج منه.
عَلَى هذه الصورة تتمثل أمامي مسالة الجنسيات فهي كالفصل الخامس الأخير لقصص تاريخية محزنة بجا بعضها من زمن هجرة الشعوب وأكثرها بعد ذلك بكثير وقد طالت فترة ما بين الفصول لكنها لن تدوم، فالستار ارتفع والكارثة عَلَى وشك الوقوع، إنها ستكون شديدة قاسية وكذا تكون مقادير كل كائن حي إذ الحياة جهاد لا رحمة فيه. وليست هذه مسالة حقوق بل مسالة قوة في أعَلَى وأعظم معانيها. وما من حق يضطر الكائن الحي للتنازل عن الأسباب الضرورية لحياته، ولا يمكن ذلك إلا بالقوة، والقوة تسبب الدفاع والممانعة. وهل يطلب من الأسد أن يبرز صكاً يخوله الحق في افتراس الحمل. السد يغتصب الحمل اضطراراً وهذا مبدأ حقه في افتراسه. لا جرم أن للحمل الحق بقتل الأسد إن قدر عليه. . . وحيثما تكون الحياة أو يماثلها معرضة للخطر يتساوى الحق بالقوة وهذا ظاهر حتى أن الشرائع البشرية جميعها تبيح للفرد الدفاع عن نفسه أي أنها تسمح له في بعض الأحوال أن يستعمل القوة في الدفاع عن حقه. أوليست الحرب حالة من حالات الدفاع عن النفس بين الشعوب لا بين الأفراد؟ إذ رأى الشعب ما هو ضروري له مد يده لامتلاكه وحقه في هذا الشيء هو عين الحق الذي للسد في افتراس الحمل. فإذا شاء شعب(73/57)
آخر منعه فيجب عليه إذن أن يعارضه بالقوة بنفس الحق الذي له أيضاً. ولا وجه للمغلوب بالتشكي مادام له الحق بإعادة الكرة مرة أخرى. فإن قهر نهائياً وأضاع الأمل بالقوة في المستقبل وجب عليه أن عن القضاء قائلاً: خلقت حملاً فيجب أن أعيش عيش الحمل، حبذا لو كنت أسداً! ولكن من الحمق مشاكسة الفطرة لأنها لم تخلقني أسداً.
إن الشعب الذي يراد نزع لسانه لهو في حال الدفاع الشرعي ذو حق في المناضلة عن أثمن ملك لديه. لكن إذا لم يك قادراً عَلَى الدفاع فلا يحق له التذمر والشكوى. كما أن للشعب المتسلط أن لا يدع الضعف يتطرق إلى لغته بوجود لغة أخرى في البلاد وأن لا يسمح بما من شأنه أن يقلق راحته في المستقبل. فإن لم يقدر عَلَى خحفظ حقه بالقوة فعليه أن يعترف للشعب الآخر بتساوي الحقوق فيما بينهما وأن يهبط عن تلك المنزلة العليا منزلة الشعب المتحكم، وإن كان تحكمه شرطاً من شروط حياته فاحكم عليه بالهلاك. وغني لأطبق هذا الحكم بدون تحيز عَلَى جميع الجنسيات المتنازعة كالألمان في هنغاريا وبوهيميا وكالدنماركيين في مقاطعة شلسويك الشمالية وكالبولونيين في بوزن وكالرومانيين في ترانسلفانيا وكالإيطاليين في طارانت. للخمسة ملايين من المجر في هنغارايا الحق بصبغ الحد عشر مليوناً من الشعوب الأخرى بصبغة المجرية، فهم يتمون الفتح الذي بدئ به سنة 884 من عهد (إرباد) ولكن للألمانيين والسلافيين والرومانيين في هنغارايا نفس الحق في الدفاع عن أنفسهم وإن قووا يوماً عَلَى المجر ونزعوا عنهم جنسيتهم فليس لهؤلاء إلا أن يقبلوا ما كخبأ لهم القدر الذي قادهم منذ ألف عام إلى النزول عَلَى بلاد أجنبية كادوا يخسرون فيها حياتهم. وللتشيك أيضاً الحق بتأليف دولة مستقلة لا يقبلون فيها أحداً من الألمان وهكذا يستعيدون عهد الوقاع الدامية التي حدثت في مارش وفي الجبال البيضاء وللألمان الحق بأن يقاوموا بقوى أشد من أقوى التشيك ويصلوهم حرباً ثالثة تبرهن لهم أنهم ليسوا أقوياء عَلَى فتح بلاد خلوها منذ اثني عشر قرناً دون مقاومة.
لا بد لوربا أن ترى مرجل الجنسيات ينفجر انفجاراً عظيماً هائلاً عندما يأتي دور تصفية الحساب والفرق المتبعثرة من كل شعب إما أن ترجع إلى أصلها فلتف حوله وإما أن تستصرخه وتستنجده فتنتصر بمعونته عَلَى الشعوب التي تستبد بها. ومصير الشعوب الصغيرة التي اكتسحت بلاداً بالاشتراك مع غيرها إلى الزوال إن لم يكن لها من قومها(73/58)
عضد قوي يساعدها عَلَى الثبات أمام جيرانها الأقوياء. هناك لا تثبت إلا الأمم الكبرى، ومن الأمم الصغرى من تستطيع تاسيس دولة مستقلة بطرد أو محو سائر العناصر الأجنبية التي تعيش بينها.
وقد لا يمضي القرن العشرون قبل أن يشاهد ختام هذا المشهد التاريخي. بل سترى أوروبا منذ الآن إلى ذلك اليوم العصيب شروراً كثيرة ودماءً مهدورة ومظالم عديدة وقساوة بربرية فستمحى شعوب وتمحى أقوام بدون رحمة ولا شفقة. وتبدوا أمام هذا التسفل البشري مظاهر شجاعة عالية: هنا شراذم أنذال يخضعون أدبياً بدون مقاومة وهناك أبطال يشربون كاس الردى ممزوجة بالعز والشرف. وبعد كل ذلك تتمتع الأمم الباقية بحقوقها الوطنية لا يرون فيها غير أنفسهم. إنها لنظرات مرعبة تتراءى لنا لكنها قلما تخيف من استعد لتحمل قساوة ناموس الحياة العام: الحياة جهاد وقوة الحياة تكسب الحق فيها. وهذا الناموس سار عَلَى الشموس في الأفلاك كما هو سار عَلَى المكروبات في مياه المستنقعات وهو جار أيضاً عَلَى الشعوب يدير مقاديرها إدارة لا تقوى عَلَى تغييرها شريعة غاشة ولا سياسة قادرة ولا مصلحة ملكية ولا خبث أنذال ولا تلاعب لؤماء.
ولقد تدمع عين ذي العاطفة حينما يرى شعباً يجود بنفسه. أما ذو العقل فيعترف بأن هذا الشعب هلك لأنه لم يكن ذا قوة تكفيه للحياة ثم يضع هذا الشعب بين الأشكال البيولوجية (الحيوية) المغلوبة عَلَى أمرها والتي مر عليها نشوء الكون.(73/59)
نقد كتاب البنين
لا تتجاوز عدد الكتب التي عربت في سورية منذ انتشار حرية المطبوعات عدد الأنامل وكتاب البنين تأليف بول دومر من رجال السياسة الفرنسوية هو من أنفع الكتب ولذلك أحسن عبد الغني أفندي العريسي أحد صاحبي جريدة المفيدة في نقله إلى هذا اللسان العربي وقد قدمه إلى رفيق بك العظم فقدم له صديقنا هذا مقدمة في علم الأخلاق عند العرب وذكر ما كتب فيه علماؤهم وعرب فيه حديثاً إلى لغتهم أجاد فيه كل الإجادة.
والكتاب تأليف رجل جرب الأمور فقال عن تجربة أكثر مما يقول عن علم نظري قسمه إلى أبواب الباب الأول في الإدارة والملكة والواجب والإقدام والسعي والعمل وتهذيب الأخلاق والعدل والإخاء والحرية والتسامح وتهذيب العقل وتأثير الأخلاق في الجسم الباب الثاني في ذوي القربى والأرحام والمحبة والوداد والزواج والبنين والسعادة والثراء ونقص الأنفس الباب الثالث في الديمقراطية والدستور والواجبات الوطنية والمساواة في الحقوق وأنواع الحرية والتعليم والتعاون وتدارك البؤس الباب الرابع في حب الوطن والسفسطائيين وهذه الأمة وقوى الوطن والحرب والجنس البشري.
لا نعلم الطريقة التي جرى عليها المعرب لأن الكتاب الأصلي غير موجود لدينا لنقابل بين الأصل والفرع ولم نره منذ أن عربنا عنه يوم صدور مقالة في السنة الأولى للمقتبس عَلَى سبيل النموذج ثم رأينا مجلة أنيس الجليس في الإسكندرية قد عربته أو أكثره ونشرته تباعاً والغالب أنها لم تنشره عَلَى حدة وقد لاحظنا المعرب قد التزم التعريب بالمعنى إلا في مواطن اضطر فيها إلى متابعة الأصل فجاء عَلَى تعريبه بعض الجمل شيء من الاضطراب.
مثال ذلك تعريبه (ص135) لأبيات فيكتور هوغو يقوله:
عهدنا إ لو ضمنا عمرنا ... ما حبا العمر لسن الأربعين
عهدنا إذ يبسم الدهر لنا ... عن ثغور ملؤها عطف ولين
عهد أيام كان بها الشتا ... ء علينا كربيع الياسمين
وكذلك تعريبه أبيات هوغو أيضاً (ص141)
إلهي لا تصب جسمي بسوء ... ولا قومي بشر مستطير
ومنّ عَلَى أحبائي بلطفٍ ... وآبائي وإخواني بخير(73/60)
ولا ترزأ بمكروه عدوي ... ولو أنحي بمكروه عسير
ولا تجعل بلا زهر ربيعاً ... ولا قفص الطيور بلا طيور
ولا تدع الفقير بغير نحل ... ولا بيت الفتاة بلا صغير
وأسقم من هذا تعريب بيتين لنادو (ص122)
ألا أيها الطفل الودود ألا ارحل ... فأنت من الأوهام حلم تلذ لي
زعمت بحب للأميمة صادقاً ... وما حبكم للأمهات بأمثل
ومثله في (ص58)
خدموا بني أوطانهم فقضوا ... شهداء فيها للوفاء وحبا
فذروا الزهور عَلَى رموسهم ... فلقد حكوا بوفاهم العربا
وأنت ترى الضعف بادياً في هذه الأبيات وكان عَلَى المعرب أن يعرب المعنى ويكتفي به أو يدفع المعرّب بالحرف إلى شاعر كبير يعربه له بنظم سلس لا غبار عليه فإن الشعر كالموسيقى والخطاب العام والتصوير لا يستحب فيه إلا المفرط في الإجادة كما قال لابروبير العالم الفرنسوي في مقدمة كتاب الأخلاق.
ثم أن المعرب أقحم عبارات في متن الكتاب ليست منه كما فعل في صفحة 101 فوقف موقف المؤلف وعدد الكتب التي يجدر بالفتى العربي أن يتلمسها ثم أقحم جملة فيمن وقع اختياره عليهم من رجال العصر الحاضر ومن الشعراء الغابرين والمعاصرين ومن المؤرخين القدماء والمحدثين فهذا الإقحام غير محمود خصوصاً والقارئ يجب أن يرى ما يقول المؤلف فقط أما المعرب فإذا كان له فكر خاص فما عليه إلا أن يؤلف رسالة خاصة في الموضوع تكون أوقع في النفس لأنها تعرب عما خصصت له إذ ربما تغير حكمه الذي أصدره اليوم غداً أو بعد غدٍ وهذا لا يجوز في كتاب الخلاق يتداوله الناس الجيل بعد الجيل.
وقد رأينا الكلام مخطوماً (ص262) عند كلام المؤلف عَلَى العرب ودنيتهم اكتفى المترجم بوضع بعض أصفار دلالة فيما نحسب عَلَى أن هناك جُملاً لم ينقلها وكان الأولى أن تعرب بالحرف ليطلع عليها القارئ وإذا رأى المعرب أن المؤلف خرج حقيقة عن الصدد يذيل عليه مما يعلم في أسفل الصحيفة فإنة الأمانة تقتضي بأن ننقل الكتاب برمته وإلا فيسمى(73/61)
تعريباًَ له مسخاً أو كما يسميه الإفرنج.
وقد رأيانا المعرب يتوكأ عَلَى العويص في الأحايين فيستعمل الفصح الجديرة بالاستعمال لتتلقفها ألسنة الطلاب وأقلامهم فيدمجوها في تضاعيف منشآتهم ولذلك جعل في آخر الكتاب جدولاً للألفاظ اللغوية وتفسيرها بما يرادفها. ومع حرصنا عَلَى نشر الفصح كنا نفضل لو عري هذا المعرَّب من كل ما يشوش ذهن القارئ ويحصره في الاستفادة من الفكر الجديد.
فبدلاً من أن يعمد الفتى أو الفتاة إلى المعجم ليرى فيه تفسير ما ورد (ص157) من معنى جلجلان القلب يكتفي المعرب بأن يقول حبة القلب أو سويداؤه وما نخال أحداً من البلغاء القدماء استعمل هذه اللفظة المتنافرة الحروف مثل مشمخر ومستشزرات وسجنجل التي نص عليها علماء البيان وحرضوا عَلَى إطراحها في الاستعمال لمنافاتها الفصاحة ولأن في اللغة ما يقوم مقامها.
وقد وقعت للمعرب ألفاظ كررها في الاستعمال مثل تلابيب جمع تلبيب وهو جمع الثياب فاستعملها في استعارة غير لطيفة كقوله (ص30) (التي كتب لمن أخذ بتلابيبها السعادة) وقوله (ص204) قائم بين أسرته بتلابيب التهذيب والعلم) وص237 (أخذت بتلابيب الترقي).
وسقط المعرب عَلَى بعض الاستعمالات البعيدة أو المنافية لروح الفصاحة واللغة مثل قوله (ص32): (لا تجدي لأعصابك) والأحسن تجدي أعصابك. وفي (ص33) (فلا يدع في أعماله للصدفة محالاً) والأولى أن يقال للاتفاق لأن الصدفة لم يرد بهذا المعنى ولذلك خطأوا من قال: في صدف الدهر صدف الدر وفي ص34 لكان بوسعها والأولى أن يقال لكان في وسعها وقد ورد هذا الاستعمال في عدة محال من الكتاب وفي الصفحة نفسها (يفضي إلى فتن مستطيرة ومحن معقودة) وما نظن الصفة الثانية مما سبق استعماله وفي ص37 (تمسك منه مواس الخير) (عمل يخلص عنك لمنفعة الناس) (يدأبون فيها ويلوون عليها) (فيسعى في مصلحة ذرارية) ولفظ مصلحة وقعت للكاتب غير ما مرة وهي من استعمالات جرائد مصر.
وفي ص38 (أصبحوا بمكان الظنة والتهمة) ولعله يريد الظنة (لا يحرجون أن يحرجوا في أمرهم ويبرم بهم) (فعَلَى المرءِ متى جبه الواجب مصلحته أن ينأى عنها) 48 (حبابه أن(73/62)
يستنيم له الوجدان) 50 (فإن الواجبات تتضارب كثيراً مع بعضها) والأولى بعضها مع بعض 51 (فمن كان يستمسك بحذافيره يستمسك بالأثرة الحسنة) 54 (أي رجل كب عَلَى عمله) الأولى أكبَّ ولعله من غلط الطبع الذي وقع كثيراً في الرسم والحركات مثل تشرأب إليها النفوس) والأولى تشرئب ومنها (أن يناوئ كل مكروه ومرزئية ومخوفة) 56 (أخذه رابط الروع) 58 (يجدر أن يكتب عَلَى صفائح ضرائحهم) 65 (فقد أربي فيها رجال القول وأصبحوا بمكان ثقة من البلاغة حتى امتدحوا منذ قرون مدحاً عرفوا كنهه أيام الخور) 66 (لا تدخله سآمة من دؤُب ولا إعياء من لغوب) والإعياء واللغوب يكاد يكون واحداً وإن كان اللغوب أشد الإعياء وفي الصحيح اللغوب التعب والإعياء ومثله في النهاية والغريبين وما ساق اليها إلا التقفية ومثله (بدرت منه بادرت نزاع إلى البطالة) ومثله 124 (فتق بعائدة من عطف وإحسان من رحمة) 96 (حتى يساهمه بديئة بدءٍ) لعله بادئ بدءٍ أو بدأة ذي بدءٍ 70 (لعملوا وأقدموا حزماً. فإن طيب الحياة ورغد العيش ليس لمن كان غنياً منكم. . . فاعملوا كداً كداً لأنفسيكم ولذويكم ولأمتكم فتروحوا النفس وتسروا الخاطر) جميل ركيكة ولاسيما أقدموا حزباً واعملوا كداً كداً.
71 (ومن ثم تطمئن نفسه فلا يستشير ميازين الجو) 72 (وهكذا الحال في النهامة) 78 (فإلى من نزغته نفسه إلى أن يتزيى بما هو ليس من أهله) 80 (ومن الضرورة أن تلحق بهذه المعالي مداني نستنكف منها ونعرض عنها إلا وهي الخلاطة والخلاعة. . .) (فعَلَى الفتيان أن يجزموا فيحترسوا من الخلود إلى هذه الملذات) (لأن من اعتار أن يأكل مطاعم توابلت لا يستلذ بعدها بمطاعم غيرها) 83 (لكنها رواحة للنفس) 87 (واتخذ كل عضوٍ من بني الإنسان أخاً لك توده عَلَى السواء فلا تضمر لأحد منهم وحراً ولا لأية أمة وغراً ولا داعي له ولا سبباً).
88 (نارت نائرتها فحاصت ولا بت حول الأمم) 96 (فالعقيدة أمر خاص بالوجدان يجرح ولو بخفيف المسيس) 99 (ويقدموا بيقظة انتبهاهم عَلَى مستقبلهم) 100 (ينبغي للمرء أن ينظر فيها نعماً حتى يتشرب عقله بها) 103 (إن العمل خير علاج لكرائه الحياة) 108 (فالرياضة واجبة لسداد الجسم نسعى إليها بهمة لا تفتر ولا تستنحر).
110 (ةالممرضات اللاتي يلازمن المصاح فإنهم يتعرضون للأمراض المعدية والأوبئة(73/63)
المشؤومة ولا تلحق بهم أذية. . . فمن لم يفتأ عن أن يتداعى المرض ويتوجع نحو إلى المصائب وحواضر النوائب ويحاذر من طوارئ الخطار) 115 (غاب عني هذا الرجل بضعة سنين) 117 (فالأمم العظام والملل الشداد).
119 (يطالب اليوم بعبادة الناس الذي نسل منهم. . . ولم يسلسل آباءه إلى أجداده) 121 (واجب يتحتم علينا منذ نستمد الحياة منها) (وتكآدا (كابدا) الخطار لدواعي صحتك وصليا بالشاق في شؤون تربيتك) 122 (المودة تضمد جروحات المصائب) الأولى جراح أو جروح.
123 (سلاماً ورحمة أيها الأبوين! فقد قضيتما الحياة عَلَى القناعة في بيت حقير) (أما داخليني حماسك) حماستك.
125 (ولا ترأفن بنفسك عن محامد) لعله تربأن 126 (دينوا أبويكم أيها الناشئون كما داناكم بحب خالص) (سنة مطلق حكمها شديد وطأها (وطؤُها) وودوا فإن الوداد سحية رقيقة الجانب يوقع بها كل ناشئٍ ويواقع أمرها).
129 (فيحدوا عنه أكاذيب العواطف) (فإن الصبر ليأزر وإن الكراهة مع تداول الأيام لتزول) 130 (وليكن من الود والعقل إتحاد يسبلك أيها الفتى جنبات الصواب).
131 (عَلَى الرجل أن يأوي يؤوي المرأة تحت جناحه) 132 (وليس بقصد من إبداع الحياة إيجاد بنين فقط بل تربيتهم وتمكينهم من القيام حقه في شؤون الحياة وجعلهم رجالاً رجالاً).
132 (إن المرء لا يصدر عن الزواج إلا رجاءَ أن يلقى عن أكتاده مهام الأسرة) 137 (لم يكن أمهات أو كن إلا أنهن اضطررنا إلى. . . انحطت انحطاطاً ليس بعده من انحطاط) 138 (وعَلَى المرأة الفرنسية) (إلا وأن الانتظام بين المصاريف (النفقات) والأرباح لأمر تطلبه رفاهية الحياة) 139 (فتصبح مثل سافل أمرها عرضة لكل المثالب والمعايب).
143 (أحاجتهم للسعي أشحذوا وأحضأوا نيران شجاعتهم) 147 (لو لم يثبت ذلك بالبرهان أو بدءٍ) (نوجع أعلاق قلوبهم إلى أمهاتهم ونجعل كعبة ثقتهن فيهن لأن للام تأثيراً عليهم أقوى من تأثيرنا لرقة عواطفها) 148 (وإن في البنين زروح عظمة تناصب النساء مناصبة تفيدهم وتروضهم عَلَى أعمال الإرادة تحت ظل الأم بدون أن يتفيل حزمهم) 149(73/64)
(وتأهل فأبا البنين يودهم وليس للثراء ولا للفقر يد عَلَى السعادة) (فإن قلت ذات يده عن حوز طيب الحياة فقد شقت عليه حياته وتعاظمته أوقاته. . . لأنه ما دام قاصراً عَلَى تنمية مورده مادام الفقر يدقعه ويذهب من جميل أنسه بأسرته).
150 (بيد أن الثراء وإن لم تكن به السعادة أداة ذات بال للسعي ببغيته، ولا بدع، سواد الناس، لأن من الحكمة أن يدأب المرء) (إن لا سعي له ولا عمل للحصول عَلَى المال مساق (مسوق) بالطبع مع الذين) 151 (بل عليه أن يكون في كل الأحوال بسيطاً في حياته قائماً (؟) أسرته) (يقنع بما بين يديه ويوافق مورده ومعاشه عَلَى الدقة وتقدير المنزلة فإن من كان مورده مساناة (مسانهة) خمسة آلاف ليرة ومصرفه (نفقته) خمسة آلاف ومئتين وخمسين ليرة كان فقيراً يتدرج إلى السآمة والمشكلات).
152 (إن من يقطع عن الناس شوابك العلاق علائق الذات والأسرة) 153 (واعلم أن للعلائق والتعارف مع الناس سيئات أكثر من حسنات) (واقتلوا أوقات فراغكم في المنزل) من التعبيرات الإفرنجية الأولى إبدالها باصرفوا واقطعوا وما شكل ذلك 154 (ولا تهاملوا في زخرفة الأثاث فيقولن أحدكم إني معيل لا قدرة لي عليه ففي سعة (وسع) كل الناس فقيرهم أو غنيهم أن) (أو تكلف في زينتها أو تماجن في صنعتها).
155 (تزبد المشرة وتزن الجسم والأخلاق) لعلها تعدل الجسم.
158 (إذا ضربنا صفحاً عن بلاد الروس المختلفة أصولها المجهولة سكانها في ذلكم العهد) (مضى عَلَى ذلك التاريخ ثلاثون ربيعاً) الأولى سنة لأن الربيع بهذا المعنى لم يرد في شيء من كلام العرب (بيد أن الأنفس فيها مازالت تزداد بذلك الحين ولكن في التناقض عن بقية الأمم) (ثم دهي الأمة الفرنسوية سنة 1871 فقد ولايتين الإلزاس واللورين تبلغ مساحتهما 15 مليوناً ونصفاً من الكيلومتر المربع) الصواب 14 ألفاً وخمسمائة كيلومتر مربع 160 (الأنفس تزداد لدى جميع الأمم ودمنا عَلَى موقف الجمود) (والإنكليز الذين لم يكن لهم في ذلك العهد إلا ثلثي ما للأمة من الأنفس).
161 (هذا إذا أخذنا بلاد الغال والإيقوس (إيكوسيا) وتركنا بلاد إيرلاندة عَلَى معزل) 163 (نقطع دابر الأمل من) استعارة غير حسنة (عرضة للاحتقار وموضع الصغار) (لا مرية إن ستلهم مادتنا الشعوب وتستلحم عنصرنا شعوب) 164 (ولقد كان في استطاعتهم ألا(73/65)
يجيبوا سنة الوجود) (وأظن إن كان في الأعصر الخالية قبل وضع التاريخ رجال سفسطة).
165 (إلا أن هذا لا يكون طباب (ما يطبب به) لقص الأنفس فإن طبابه في الحمية الوطنية) (زُلقت عَلَى أحادير الانحطاط وأشفاءِ الموت).
168 (مبادئ لا يجوز لأحد أن ينكر عليها) 170 (تنقل هذه الصلاحية إلى أحد) والصلاحية كلمة لم يسبق للبلغاء استعمالها وهي من مواضع الأتراك تسربت إلينا من المترجمات والصحف والأولى استعمال اختصاص أو سلطة (فالديمقراطية والأريستوقراطية عرقنا في قلوب العالم) (كبرياء المتنفذين) ليس في اللغة تنفذ 171 (إن كل المظالم ثقيلة عَلَى النفس مكروهة لدى النفس) 173 (فاستدعى ذلك إلى توحيد القوى) والأولى دعا ذلك ومثله ص262 (يستنفع منها أكثر من ذلك) والصواب ينتفع فإن السين الطلب غير مقبولة كل حين.
174 (كما وأنه لا يخلو) كما أنه (عَلَى ما يظن البعض بل سارت في بلاد أوربة أبعد من ذلك فازدادت المصلحة العامة إلى درجة ألزمت الحكومة لتكثير الدوائر. . . مما يعود بالنفع عَلَى عموم أبناء الوطن والأحسن) بعضهم بدل البعض واضطرت الحكومة إلى تكثير بدلاً من ألزمت ويعود بالنفع عَلَى عامة أبناء الوطن بدلاً من عموم.
176 (لا تكون فيه الحقوق مضمونة مصانة) مصونة.
177 (فحكومتنا أصبحت بالتالي حكومة ديموقراطية) فبالتالي استعمال إفرنجي (فهي لا تضرب خناقاً عَلَى الحياة ولا تقف دون ترقي الأمة) 180 (جرحات الديموغجية) والأولى تعريبها هكذا نضار مماشاة العامة عَلَى أهوائهم أو خدمة العامة أو ما شاكل ذلك 181 (يتحمل تبعات أعمالها ودركات أمورها ويسئل عن مصيرها) (فيقرع صفاتهن أن تواقعوا إلى الوهدة ويشنع عَلَى زكمة السوء) فسر زكمة السوء بأبناء غير صالحين ويقرع صفاتهم ينتقصهم ويعيبهم وتواقعوا إلى وقعوا وراء بعضهم والجملة بدون شرح لا يفهمها إلا الحريري والمعري عَلَى تكلف في وصفها.
186 (رضاء مجلس الأعيان) والصواب بدون همز 187 (ومن ثم يصح لهم أن يحلوا غويص عويص الأمور السياسية بسكينة روع ويهتموا قبل كل أمر في مصلحة بلادهم(73/66)
حتى إذا حفظت هذه المصلحة التفت كل منهم إلى مصلحة حزبه وقد ينبغي حتى في مصلحة الحزب أن يكون. .) (فالواجب في الأمور السياسية مهما كان صلباً متلبساً متضارباً).
190 لأن الوائف والمناصب هيكل لجسم هذه الأمة المتمدنة الممدنة أو المتحضرة (فإذا عرض له قرح طرأَ الداء).
191 (في مسألة تعيين أولياء الأمر وأن يقبلوا عَلَى وجدناهم يستشيرون بتلك القضية قبل العزيمة).
197 (لأن في ذلك مسيساً لحرية السعي) 198 (حجز النساء عن التعاطي في المعامل) 204 (أخذت من قلوبهم شطراً كبيراً يعلق في حبها).
215 (أتى عَلَى حاضر تكدر صفوه وجابه مستقبلاً خفي كنهه) 220 (رجعوا فيها ودايموا النظر ولا تخثروا) (ولو كانت ملؤ ألفاظة خشونة وأعمالها غلطة) 222 (ناقع القلب من أقدامهم مبرود الغليل من شجاعتهم) 224 (متى اعتقد الأغيار) جمع غير هي من استعمالات الأعاجم فيقولون بار أي المحب وأغيار أي العدو ومنهم سرت إلى بعض كتابنا (فاستفرغ العقل وهز القلب ورق دمك ولا تضن بقطرة منه صيانة لحياة الأمة وتعهداً لمصلحة الوطن) 225 (وكلما كان الاستمساك شديداً متراصاً كانت الأمة عَلَى عظمة وسؤدد) 226 (من جري ما بث به السفسطائيون) (فأدودا بهم تحت أيدي البرابرة أيداءَ هود اليم منحيهم الله أكتافهم فألبسوهم قناع القهر وطوقوهم طوق الذال وتوطوءهم بحر القتل) (نستدفع ما يقعر العنصر فإنا لا تزال أمة مستبصرة باقية النسيم غير نازعة إلى الموت).
230 (مرارة سخريته من هؤلاء السفسطائيين) والمرارة هنا مثل عقاب مر لم تألفها لغة العرب العذبة (في الأجيال الآتية) أي القرون والجيل غير القرن (الأوان خير أمة أخرجت للناس أمة تشربت الوطنية حتى الكفاف) 231 (بغير تشدق ولا جدل ولا حلجة إذا نادهم منادي الوطن) 223 (إقليم مرمعمعان تنازع يوآزر العزيمة ويستنب خفض العيش ورغد الحياة) 234 (ثم لاحت بين ظلامة هذه الأعصر بارقة عقل وشارقة عدل) (ثم تماسكت الأمة فرتقت الفتق ورأفت الخرق) 235 (لكن النائرة قد نارت والفائرة قد فارت).(73/67)
238 (فأصبحت والألمان يفوقها بعشرين مليوناً عَلَى حين أن أرض الأمتين متساوية في المساحة والإنكليز بثلاثة ملايين عَلَى أن ربوعهم لا تكاد تعادل نصف ربوعنا).
240 (يدفعانها إلى أن تنهض من أغمض الهوات إلى أعَلَى الدرجات) (وادأبوا أيها البنون في مصلحة الوطن ومجد الأمة).
241 (قلبوا الطرف أيها الفتيان عَلَى موقع أمتكم من الأرض تجدونها عَلَى أجمل بقعة وأخطر قطعة) (بحيث أصبح من الواجب أن تضطلع لعبئهم وتحفظ الموازنة بينهم).
243 (تبذل النكيثة النفس والقوة حتى تصير قوة الجيش في البر إلى تناهيها) (عظيم الإجلاد عظيم التجاليد) فسرها بالضخم القوي (فإن من الضرورة أن يعتزم المرء عَلَى أمر الجندية فيرتاض عليها قبل أن يسلك في نظمها) (عن طيبة نفس وبسطة ذراع).
244 (إنه لقسم لو تعلمون جميل فينبغي لكل عضو في الأمة أن يؤلي عَلَى نفسه ذلك الإيلاء حين ينخرط في سلك الجندية) والإيلاء والانخراط هنا من أبشع الألفاظ 245 (الأنشودة التي تردد نأمتها في الفضاء) النأمة النغمة والصوت ويقولون أسكت الله تعالى نأمته أي أماته فالأولى عدم استعمالها في هذا المقام (تغرورق عيناه وتصطك شفتاه) وفسر شظاياه بعظام سافه 246 (ولا تذهلن إن الوطن أُمك) والأحرى أن يقول أبوك لأن الوطن مؤنث بالإفرنسية مذكر بالعربية.
247 (كونوا جنداً غلاظاً مستبسلين) والجمل شداداً بدل غلاظاً.
249 (بثبات قلب ورسوخه وطمأنينة) 250 (وبعد فقد وجبت عَلَى الأمة وراء أن تسعى أقصى مجهودها وراء أن تجعل الوطن عَلَى قوة وهمة).
251 (فكان ذلك مثلاً مراً استفادت منه حق الاستفادة) (حاجة الأمم الاقتحام عَلَى الحروب العادلة فبرهن بحجج عديدة وأمثلة كثيرة عَلَى وجوبها).
253 (ذلك مثل يجب عَلَى كل امرئ أن يحذو حذوه ويتحكك تحككه أيام الفت والمشاغب).
254 (والسعي وراء منفعتهم كما يفعل المرء وراء أن يجعل أمته) ولفظة الوراء هنا من استعمالات المولدة المبتذلة لا يريدها من يحب تقدم اللغة إلى الأمام.
256 (تسكن وسط أفريقية وجبال آسيا من كان عليه من سكان الأميركان) (تمدن الشرق الأدنى الذي ناهض تمدن اليونان والرومان زمناً طويلاً عَلَى الجهد وامتد من جنوب آسيا(73/68)
وغربها إلى ردم سد حملايا المصمت ما لا فرجة فيه) 257 (فاعتراها ما اعتراها لما تحك بها تمدن آخر أكثر كمالاً من تمدنها).
258 (وكان حب الوطن والإقدام مزدرعين عَلَى حد السواء في قلوب الذين ينهضون بأمتهم) جملة لم تشم ريح العربية 259 (لاسيما قد بينت العلماء ذلك التاريخ في هذه الأيام عَلَى أحسن بيان) أي أَحسن بيان.
261 (حتى ماتت تلك الأمة المجيدة القوية في الهون) 264 (حتى كاد العنصر الأسود في أفريقية وعنصر الزنوج في أمريكا لا يبلان من عَلَى الانحطاط).
هذا ما علقناه من هفوات الكتاب وهناك بعض أمور طفيفة لا يكاد ينجو منها كاتب في هذا العصر والعصمة لله وحده بيد أن هذه الهنات لا تقدح في فائدة هذا السفر البديع ولا تحط من مكانته فهو حري بالكبار والصغار أن يقتنوه ويتدارسوه ويتدبروا معانيه ومغازيه. ونثني عَلَى حمية صديقنا المعرب الذي أَخرج بتعريبه كتاب دومر زكاة فضله في وقت قل فيه جداً من يخرجون زكوات عقولهم كما ندر من يخرجون زكوات أموالهم.(73/69)
مخطوطات ومطبوعات
الأبطال
تأليف توماس كارليل وتعريب محمد أفندي السباعي وفي ذيله تاريخ الثورة الإنكليزية.
طبع بمطبعة البيان بمصر سنة 1329 ص245
مؤلف هذا الكتاب أحد فلاسفة إنكلترا في القرن الماضي (المتقتبس م اص57) هو من الرجال الذين اثروا أثاراً مهماً في نهضة أمته لسعة عقله وعمله وخلوص نيته وإنسانيتهوكتابه هذا اشتهر في المشارق والمغارب ولذلك أحسن للعربية مترجمه بنقله إليها بلغة قل أن نقل كتاب إلى لساننا بما يدانيها فصاحة وبياناً.
وموضوع الكتاب الكلام عن عظماء الرجال فذكر البطل في صورة إله ومثل ذلك بوثنية أهل الشمال واعتقادهم بإلوهية أودين في الأزمان القديمة ثم البطل في صورة رسول وأورد لذلك سيرة محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى لصورة لم يكتب لغربي فيما نحسب أن كتب بقوته فجسم سيرته الشريفة في 42 صفحة بعبارات تشف عن إنصاف ليس بعده غاية. قال: لقد أصبح من أكبر العار عَلَى أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وأن محمد خداع مزور وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولو أن الكذب والغش يروحان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان مثل ذلك التصديق والقبول فما الناس إلا بله مجانين وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى بها ألا تخلق.
فوا أسفاه ما أسوأ هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة وبعد فعلي ما أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئاً البتة من أقوال أولئك السفهاء، فإنها نتائج جيل كفر وجحود وإلحاد وهي دليل عَلَى خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان ولعل العالم لم ير قط رأياً أكفر من هذا وألأم وهل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره عجباً والله أن الرجل الكاذب(73/70)
لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب! فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير والجص والتراب وما شكل ذلك فما ذلك أن يبنيه ببيت وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد نعم وليس جديراص أن يبقى عَلَى دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائة مليون من الأنفس ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن وإني لأعلم أنه عَلَى المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته وتعطيه بغيته. كذب الله ما يذيعه أولئك الكفار أن زخرفوه حتى خيلوه حقاً وزر باطل وإن زينوه حتى أوهموه صدقاً ومحنة الله ومصاب أن ينخدع الناس شعوباً وأمماً بهذه الأضاليل وتسود الكذبة وتقود بهاتيك الأباطيل وإنما هو كما ذكرت لكم من قبيل الأوراق المالية المزورة يحتال لها الكذاب حتى يخرجوها من كفة الأثيمة ويحيق مصابها بالغير لا به.
وهكذا أخذ المؤلف يسرد حالة العرب في الجاهلية وفي الإسلام وكيف قام الرسول وما عمله بعبارات تشف عن روح عالية ولا غزو فهي الفلسفة ومحال أن تنطلي عَلَى فيلسوف عارف مثل هذه الحقائق. ثم ذكر البطل في صورة شاعر واستشهد بدانتي شاعر الطليان وشاكسبير شاعر الإنكليز ثم ذكر البطل في صورة قسيس فذكر لوثير البرنستانتية ونوكس البيوريتانية ثم أورد البطل في صورة كاتب ومثل ذلك بجونسون وروسو وبارنز ذم ذكر البطل في صورة ملك ومثل لها بكرومويل ونابليون والثورة الإنكليزية.
كل ذلك نقله المعرب كأنك تقرأوه بلغته مع الاحتفاظ بالسلاسة واستشهد أحياناً بأبيات من الشواهد العربية أدمجها بالمناسبات وتكاد الألفاظ غير الفصيحة التي وقع فيها المترجم تعد عَلَى الأصابع وهي مما عمت البلوى ونحب أن تكون مثل كتابة السباعي عارية منه وإن كانت كالوشم في الوجه أو الخال في الخد وذلك مثل قوله ص62 نوايا والصحيح نيات وفي الحديث إنما الأعمال بالنيات 66 تضحية النفس الأولى المفاداة 68 لأربعين من قرابته من ذوي قرابته 73 النقطة الهامة المهمة وص2 أوعرت فيه تلك السبيل وأوعشت وقامت فيها القحم والعقبات والموارط والهلكات. . . وأزمت الكروب وتشنعت المحن 39 بعقوبة صارمة والأولى شديدة 84 وأساليب وعوائد الأولى عادات.
وقد صدر الكتاب برسم مؤَلفه كارليل وطبع أجود طبع فنثني الثناء الأوفر عَلَى معربه وناشره ونستمطر شآبيب الرحمة عَلَى مؤلفه.(73/71)
فتح العالم الإسلامي
اعتادت رصيفتنا مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية أن تصدر الحين بعد الآخر جزءاً كبيراً من أجزائها الشهرية تخوصه بموضوع خاص من الموضوعات التي تخوض عبابها وقد نشرت في تشرين الثاني مبحثاً في 327 صفحة تحت عنوان فتح البلاد الإسلامية توسعت فيه عمل البعثات الإنجيلية والسكسونية والجرمانية في بلاد الشرق فقدم له صديقنا المسيو لشاتليه مدير تلك المجلة وأستاذ عَلَى الاجتماع الإسلامي في كوليج دي فرانس بباريز مقدمة أبان فيها أن الإسلام ينهزم أمام تعاليم تلك المدارس التي يرى بعض القائمين بها أن كثيراً من المسلمين دانوا بالنصرانية لكثرة ما تلقنهم إياه تلك المدارس الإنجيلية ويرى المسيو لشاتليه أن المسلمين لا يدينون بدين آخر بل تتزعزع عقائدهم بما يلقنونه من الأفكار التي تصحب اللغات الأوربية وذلك بواسطة اللغة الإنكليزية والألمانية والهولاندية والإفرنسية فتجعل تلك البعثات احتكاكاًَ بين الإسلام والصحافة الأوربية وتسهل النجاح المادي في العالم الإسلامي وهكذا تصل تلك البعثات إلى العبث بالفكر الديني الذي كان قوته بعزلته. ثم قال أن تقسيم الإسلام (أي بلاد الإسلام) السياسي سيظهر في أتم مظاهره ويسهل أعمال التمدين الأوربي عَلَى أن الإسلام يزول سياسياً ولن تكون حاله إلا حال مدنية باقية في وسط التغلب الغربي ولا سبيل إلى نشل الدولة العلية بعد أن ضل أحرار العثمانيين سبيل إنهاضها إلا بتأليف ولايات متحدة إسلامية وإلا فإن تقسيم البلاد لا مناص منه. وبعد أن أفاض في أوضاع جمعيات التبشير وأعمالها العلمية والخيرية والدينية في بلاد لمسلمين وما تعده من الأسباب للقضاء عَلَى الإسلام قال الناشر في النتيجة: كان يرجى غداة الانقلاب العثماني أن يكون للإسلام دور نهضة اجتماعية ولكن زعماء حزب الإتحاد والترقي نسوا برنامجهم عندما استلموا زمام الأمر فدعت الغلاط التي ارتكبت في الآستانة وسلافيك وطهران وطوريس إلى أن تعرف أوربا أن دور السياسة انتهى وجاء دور العمل. إن هذه الكتلة البشرية الموزعة في آسيا وأفريقية من بحار الصين إلى المحيط الأتلانتيكي ستفقد موازنتها التقليدية بزوال الخلافة (والعياذ بالله) عما قريب وانقصام عرى الممالك المستقلة فماذا يكون والحال هذه مصير المدنية الإسلامية إذا نظرنا إليها بأنها جزء من المجتمعات البشرية وإلى أي وجهة يتجه نشوء الإسلام؟ إننا بما نراه من كثرة انتشار(73/72)
الصحافة الإسلامية ووفرة طرق المواصلات وتأييد الروابط الإسلامية كل ذلك سيزيد في احتكاك الشعوب الإسلامية بعضهم ببعض ولذلك يرجى أن يعظم مركز المسلمين الاقتصادي في ظل الحكومات الأوربية بفضل السهولة التي تنشأ بينهم من وحدة الأوضاع الاجتماعية في الجملة ومن استعمال لغة أدبية دينية واحدة ولذلك كان عَلَى أمم أوربا أن تعمد إلى سياسة التعليم والتربية مع الشرق وستكون صلات مائتي مليون في البلاد الإسلامية بحسب تأثير التربية العقلية التي يربونها.
هذا ما قاله صديقنا عربناه عَلَى ما بعض جمجمة فيه وخلاصته أن الحكومات الإسلامية تنقرض والعياذ بالله ولن يبقى للمسلمين إلا العمل بالمسائل الاقتصادية أي يبقون كالإسرائيليين بدون حكومة تحكمهم. كلام مر ولكن عَلَى رجال الإسلام أن يتدبروه ملياً وفي هذا البحث أسرار مهمة فيما تدخره السياسة الغربية لاكتساح الشرق ونزع دينه وسياسته وعاداته كما بدرت بوادر ذلك الآن باستيلاء فرنسا عَلَى بلاد المغرب الأقصى وإيطاليا عَلَى طرابلس وبرقة وروسيا عَلَى وإنكلترا عَلَى نزع استقلال إيران بحيث صح أن نقول أن بلاد الإسلام في صدد حرب صليبية ولكنها غير دينية كحروب القرون الوسطى بل مدنية للفتح وسلمية ببث الأفكار والتعاليم الغربية.
الريحاني
تأليف أمير أفندي ريحاني الجزء الثاني طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1910 ص232
اعتاد صاحب الريحانيات وهو من نوابغ المفكرين في سورية اخذ بحظ وافر من المدنية الغربية وحظ وافر من المدنية الشرقية أن يتحف عالم الأدب الحين بعد الآخر بنفثاته النافعة وأكثر ما في هذا الجزء هو مما كتبه في سورية وأكثر ما في الجزء الأول مما كتبه في الولايات المتحدة الأميركية والجزء الذي امامنا الآن هو مجموعة مقالات وخطب وشعر منثور والشعر المنثور هو كما قال عنه: يدعى هذا النوع من الشعر الجديد بالإفرنسية وبالإنكليزية أي الشعر الحر أو بالحري المطلق وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج وبالأخص عند الأميركيين والإنكليز فملتن وشكسبير أطلقا الشعر الإنكليزي من قيود القافية وولت وتمن الأميركي أطلقه من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية(73/73)
والأبحر العرفية. عَلَى أن لهذا الشعر المطلق وزناً جديداً مخصوصاً وقد تجيء القصيدة منه من أبحر عديدة متنوعة. وولت وتمن هو مخترع هذه الطريقة وحامل لوائها وقد انضم تحت اللواء بعد موته كثير من شعراء أوربا العصريين وفي الولايات المتحدة اليوم جمعيات وتمنية ينضم إليها فريق كبير من الأدباء المغالين بمحاسن شعره الجليلة المتخلقين بأخلاق الديمقراطية المتشبعين بفلسفته الأميركية. إذ أن شعره لا ينحصر مزاياه بقالبه الغريب الجديد فقط بل فيه من الفلسفة والتصور ما هو أغرب وأجد.
ولا نقول في هذا الجزء إلا كما قلنا في الجزء الأول (م50 ص220) تتدفق حرية الفكر من أطراف ورقة الإحساس منت سطوره وبعد النظر من مراميه ومعانيه وكله معان فلسفية في قوالب عصرية وروح شفافة في شعور جديد فقد قل في أرباب الأفكار مثل هذا النفس في إصلاح الأفكار والتلطف في بلاغ العقول الجامدة محاسن الحضارة المدهشة والتجديد المفيد.
وقلما شاهدنا أثر المحيط في كتابة كاتب كما شاهدناها في صديقنا الريحاني فكتابته يوم كان في أميركا تذكر سيئات المدنية الغربية التي لا تعرف إلهاً غير الماديات حتى إذا عاد إلى الفريكة مسقط رأسه في لبنان عاد يحبب العزلة وينفر من تلك المدنية المادية ولكنه يدعو إلى فك العقول من قيودها والأخذ بما ينفع من مدنية لا تكون شرقية ولا غربية كتلك الشجرة المباركة ولكنه كان في كل موضوع يخوضه يجعل للحرية المطلقة نسيباً وافراً من أقواله ولذلك نقم عليه أعداء العقل وعبيد القيود من المتنطعين من رجال الدين وحاربوه حرباً لم يكد يحاربه سوري ولكن إخلاصه شفع فيه فلم ينل بأذى وهو اليوم شعلة الذكاء الشرقي في بلاد الغرب وعنوان الهمة العالية أمام المشارقة.
يعلم المؤلف جد العلم أن من يصرح بما يصرح به يحارب ويطعن فيه الطعن المبرح في بلاد لم يزل لأوهام المتنطعين شدة وعرامة وهم لا يرون إلى النيل منه أكثر من رميه بالإلحاد وإنكار الصانع ولكن من يقول (ص10) إنا للطبيعة وإنا إليها راجعون وشكرت الله شكراً جزيلاً لا يدل عَلَى أنه ملحد بالمعنى الذي يصورونه بل هو ملحد في التقاليد الضارة حر في إفصاحه عن رأيه عَلَى أساليب لم يألفها غير المنورين من سكان هذا الشرق الأقرب.(73/74)
قال (ص13) إن الفرق بين الأولياء والأطباء قليل لا يستحث الذكر فكم من طبيب فاضل يستحق أن يطوب قديساً أو يدعى ولياً بعد موته فقد تعرفت بفضل آلامي العصبية بعدد وافر من هؤلاء الأفاضل وبان لي بالاختبار ما كنت أجهله. تحققت أن الفرق بين الطبيب والكاهن كالفرق بين الكاهن والمحامي كلهم نفعنا الله بعلمهم وبرهم يتعاطون الجربزة. كلهم يتاجرون بشيء من الحقيقة وكثير من الخزعبلات والأوهام عَلَى أن الطبيب أرفع درجة من الكاهن والكاهن أرفع درجة من المحامي.
وصرح في (ص27 و29) بعيوب الإكليروس وتهاونه لا لمجرد الطعن بل للإصلاح لأنه لا يريد أن تظل آدابنا (48) تحت سيطرة المتدينين والمتنطعين (ولو قال المتنطعين من المتدينين لخلص من اللوم) وأنفسنا من ربقة رجال الدين وإن لم نتجرد من هذا الاستبداد الديني أو بالحري السفسطي كما تجردنا من الاستبداد السياسي تظل آدابنا مبتذلة جامدة خاسئة.
هو يقول (51): عَلَى تقريرات رجال الدين وخزعبلات العبادات قام عبد الوهاب في نجد ولوثيروس في وتنبورغ وجون نكسن في إنكلترا وغيرهم في البلاد كثيرون فما ضرنا ولا استغنينا عن المتكهنين المدلسين وتفلتنا من ربقتهم واعتصمنا بدين الله وبأنبياء الله ثم قال: إني أحترم العاطفة الدينية التي تكاد تكون فطرية في الإنسان ولكني لا أجد في خزعبلات هؤلاء الناس وفي تنطعهم - وقد قيل هلك المتنطعون - ما يساوي ذرة من نفس امرئٍ راقية.
ومن يقول فكرة بهذه الصراحة لا يرمى بالإلحاد والمروق ولكن المؤلف ينحي كثيراً عَلَى رجال الدين في قومه يريد بالقوارص التي يوجهها إصلاحهم ودعوتهم الوطنية لئلا تفرقهم المذاهب (131) فإن عدوا عليه مثل هذه الهنات وربما أتى بعضها من كونها لم يرزق كل حين حظاً من جمال التعبير أو أنه بين ولم يجمجم والجمجمة كالتقية لا بأس بها بين القوم المخالفين إذا خشيت الفتنة فقد أتى بحسنات لا ينكرها عليه أشد الناس حطاً من خصومهم قال (ص45):
نحن اليوم واقفون بين هاتين المدنيتين بين مدنية غازية منتصرة وأخرى مدبرة فعلينا أن لا نخضع عَلَى الإطلاق لهذا الفاتح القوي وأن نمسك بما في مدنيتنا من الخير الروحي ولا(73/75)
ينجينا من استبداد هذه المدنية الفاتحة القاهرة ويحفظ لنا حسنات تلك المدبرة سوى الآداب. ولا أريد بالآداب الكتب فقط بل أريد منها آداب النفس أولاً والأخلاق. إن الدين هو أبو مدنية الشرق يرفض بتاتاً مدنية الغرب والعلم المادي هو مدنية الغرب يرفض بتاتاً مدنية الشرق فالدين والعلم في هذا الموقف متغرضان كل لقومه ولا ينفعنا الواحد منهما دون الآخر. وإني لأجد في كل قوى الفكر والنفس وثمارهما أصلح وأنجع من الآداب تجمع بين الاثنين فينشأ عن ذلك مدنية جديدة قوامها الصنائع والفنون وشعارها الإخاء العام. واعلموا أن الفنون السامية الجميلة هي التي تتغذى من العلم والدين معاً والأمة التي تجعل مثل هذه الفنون أساس حياتها الاجتماعية تكون ولا غرو مجد المستقبل وأم الأمم. عَلَى شطوط البحرين وفي أودية الرافدين أحب أن أشاهد مثل هذه المدنية الجامعة بين محاسن المدنيتين. أحب أن أرى في قلب العالم جمال روح العالم وكمالها. أحب أن أرى في بلاد الشام وبلاد العرب ثمار الأنبياء وثمار العلماء عَلَى شجرة واحدة. أحب أن تزرع بساتين هذه الأرض المقدسة من تلك الشجرة المباركة شجرة لا غربية ولا شرقية.
وقال في التساهل الديني وإنه موجود بين الدول في معاملاتهن إحداهن للأخرى ولكنه غير موجود بين الأوربيين ومن يدعونهم بالمتوحشين فالدول (123) لا تتساهل مع هؤلاء المساكين الضعفاء بل تتساهل بعضها مع بعض لأنها تضطر إلى ذلك وليس حباً بالمبدأ الشريف وكثيراً ما نراها تشهر الحروب عَلَى القبائل الضعيفة وتدعوها حروب الإنجيل وذلك لكي يدين البرابرة بالدين المسيحي كرهاً وجبراً. وهذا هو التعصب الدولي الديني هذي هي الاضطهادات التي تمارسها ضد البرابرة كما تزعم والبرابرة قوم يشعرون وهم يريدون مثلنا. هذه هي حروب شارلمان وحروب الملكة حنة الإنكليزية والملك كارلوس الإفرنسي هذه مذبحة ليلة القديس برتلماوس فعوضاً عن حدوثها في باريز وفي القرن السابع عشر تحدث الآن في صحاري أفريقية وفيافي آسيا وتلول السودان وفي أواخر القرن التاسع عشر. يا للعار ويا للشنار! عبثاً يكتب العلماء ويندد المصلحون ويبحث الفلاسفة عبثاً أتى المسيح إلى الأرض لمثل هؤلاء القوم.
وبالجملة فالريحانية كلها آية في الحرية داعية إلى التساهل الديني محببة بالمدنية المعقولة المحبوبة مقربة بين القلوب جارياً عَلَى حد قوله الكتب المقدسة تصلح الحياة ولكنها لا تعمر(73/76)
البلاد والعلوم المادية تعمر البلاد ولكنها لا تصلح الحياة إذن كتبكم المقدسة احفظوها وكتب العلم عززوها.
كتب ورسائل مختلفة
تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب للشيخ جمال الدين القاسمي طبعت في مطبعة مدرسة والدة عباس الأول بمصر سنة 1326 - 1908.
رسائل الانتقاد - هي الرسائل التي أحياها بالنشر السيد حسن حسني عبد الوهاب تفي مجلة السنة الماضية من المقتبس تأليف عبد الله محمد أبي سعيد بن شرف القيرواني المتوفي سنة 460 هـ. طبعت في مطبعة المقتبس في 24 صفحة.
ملقى السبيل - رسالة في الوعظ والحكم نشرت في الجزء الماضي من المقتبس بعناية السيد حسن حسني عبد الوهاب التونسي وهي لأبي العلاء المعري وقد علق عليها الناشر حواشي نافعة كما هي عادته وهي في 17 صفحة طبعت بمطبعة المقتبس.
تمرينلى وإعرابلى لساتن عربي صرف قمى - هو كتاب في صرف اللغة العربية بالتركية لمحمد شاكر أفندي الحنبلي جعله مع التمارين والإعراب في 210 صفحة طبع بمطبعة رشادية في الآستانة 1329 هـ - 1327 ش.
العقود اللؤلؤية في طريق السعادة المولوية - للشيخ عبد الغني النابلسي طبع عَلَى نفقة الشيخ محمد سعيد أفندي شيخ تكية المولوية بدمشق في مطبعة المقتبس سنة 1329 عدد صفحاته 32.
مطول في إنشاء المكاتيب - تأليف أمين أفندي الخوري طبعة عاشرة في مطبعة الاقتصاد ببيروت سنة 1911 ص320.
قصائد أحمدية من الميرزا غلام أحمد (المسيح الموعود والمهدي المعهود) طبعت عَلَى نفقة الجمعية الكبرى الأحمدية بمطبعة الميزكين بقاديان الهند ص158.
نسمات الصبا في منظومات الصبا لجرجي أفندي شاهين عطية طبعت بالمطبعة العثمانية في لبنان سنة 1904.
جدول في المنطق للشماس توما ديبو المعلوف طبع بالمطبعة البطريركية الأرثوذكسية بدمشق سنة 1911.(73/77)
اثر حسن - مجموع مراثي الدكتور سليمان الخوري الحمصي جمعه رزقه الله أفندي نعمة الله عبود طبع بالمطبعة الأدبية في بيروت سنة 1904 ص288.
البيان - مجلة دينية عمرانية تاريخية أدبية لمنشئيها مصطفى وهيب أفندي البارودي وجميل أفندي عبد القادر عدرة في طرابلس الغرب تصدر مرة في الشهر في 32 صفحة وقيمة اشتراكها في البلاد العثمانية مجيدي وربع وفي الأقطار الأجنبية سبعة فرنكات.(73/78)
أخبار وأفكار
تاريخ بيروت
ألقى الدكتور بورتو مدرس التاريخ في كلية الأميركان في بيروت محاضرة في تاريخ هذه المدينة فقال:
بيروت إحدى المدن الفينيقية القديمة أنشئت بعد دمشق وأقدم مدن فينيقية صيدا وبيروت وجبيل. ونحن لا نعرف بالتحقيق زمن إنشائها ولكن يوسيفوس المؤرخ العبراني ذكر اسم رجل فينيقي وقال أن موطنه بيروت وذلك دليل عَلَى قدمها. وفي أساطير الأولين أن ابنة إله جبيل تزوجت من ملك وكان اسمها بيروت فسميت زوجها بيروت باسمها. ونعرف طرفاً من تاريخ بيروت في القرن الخامس عشر قبل المسيح من الآثار المصرية وذلك أن توتميس الثالث جرد جيشاً عَلَى سورية وامتلكها ولما اشتد ساعد الحثيين والأموريين في الشمال أخذوا يطردون المصريين شيئاً فشيئاً وكان عمال المصريين في سورية يكتبون ويستنجدون فرعون لإغاثتهم. وقد اكتشف منذ عشرين سنة بعض هذه المكاتيب المحفورة عَلَى قوالب الآجر ومن جملتها مكتوب من حاكم بيروت إلى فرعون مصر يخبره فيه بحالته مع الحثيين والأموريين وتاريخ المكتوب في القرن الرابع عشر قبل المسيح. ومما يترجح أن بيروت مأخوذة من كلمة (بئر) وأظنها مأخوذة من اللغة الفينيقية لأن لفظ بيروت يقابل جمع كلمة بئر في اللغة الفينيقية. ومما يؤيد ذلك عندي أنني لما أتيت إلى هذه البلدة منذ أربعين سنة وكان في ذلك الحين لم يجلب ماء نهر الكلب كنت أينما اتجهت أرى آباراً والآن كثير منها ردم فيصح أن يقال أنها سميت بيروت أو مدينة الآبار لكثرة آبارها.
وبيروت كانت منذ القديم عظيمة بتجارتها ويظن أن مركزها اليوم غير مركزها في العصور الخالية والمرجح أنه كان جنوبي مركزها الآن وذلك عند نهر الغدير وقد اكتشفت آثار بناء هناك وكما هو معروف أن الشاطئ هناك مرمل لا يصلح لميناء ولكننا لو نظرنا إلى حالة الفينيقيين البحرية نجد أن سفنهم كانت شراعية صغيرة لا تستطيع السفر وقت الشتاء وكانوا يخرجونها إلى البر وينقطعون عن الأسفار فلذلك يجب أن يكون الشاطئ رملياً إذ يسهل إخراج المركب إليه. ولما لم تأت نجدة من مصر سقطت بيروت في أيدي الحثيين ثم جرد رعمسيس الثاني عَلَى سورية حملة حارب الحثيين فيها فكسرهم وأخذ(73/79)
بيروت ثم اقتسموا البلاد بينهم ولرعمسيس اثر عَلَى صخر عند مدخل وادي نهر الكلب. وهكذا ظلت البلاد تحت حكم المصريين والحثيين إلى أن قامت دولة آشور وقد وضع بختنصر (نبوخذ نصر) تاريخ هذه الحملة أيضاً عند نهر الكلب ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع قبل المسيح ولما قامت دولة الفرس أخذت بيروت كما أخذ أخوتها من مدن سورية ولكنها لم تذكر في التاريخ كما ذكرت صيدا وغيرها. وامتلك بيروت الاسكندر الكبير كما امتلك سائر مدن سورية بدون مقاومة إلا مدينة عكا. وقد حكم سورية بعد الاسكندر البطالسة وفي سنة 192 احتل السلوقيون سورية وفي سنة 140 قبل المسيح خربت بيروت بسبب حرب أهلية وفي سنة 64 احتل الرومانيون سورية وكان القائد عَلَى حملتهم بومبي. وأضحت بيروت في أيام أغسطس مستعمرة رومانية. والمستعمرات الرومانية كانت تؤسس في إيطاليا لإسكان العساكر الرومانيين الذين خدموا الرومان خدمة تذكر ولما اتسع ملك الرومان لم يبق أرض لإسكان هؤلاء العساكر فأخذوا يسكنونهم في أملاكهم خارج إيطاليا. ثم أصبحت بيروت مركز الفيلق الخامس والثامن من الجيش الروماني وعمرت بيروت عَلَى عهد الرومانيين وآثارهم فيها موجودة بكثرة. ولما أتيت بيروت رأيت كثيراً من العمدة القديمة عند إدارة الرسومات وقد ردمت هذه الأعمدة عندما بنيت الميناء الجديدة ولما قطعوا الطريق الجديدة في بيروت وجد كثير من الآثار الرومانية وقد أسس الرومان في بيروت مدرسة لدراسة الحقوق وسائر العلوم المعروفة في ذلك العصر وبجانب هذه المدرسة أهم مدارس الرومانيين في الشرق وعندما انتشرت المسيحية تنصر كثير من تلامذة هذه المدرسة وكانوا عرضة للاضطهاد وعند ظهور الإسلام احتل المسلمون سورية وخضعت بيروت لهم في خلافة يزيد. وبعد قطرن من خضوعها ظهر في بيروت الإمام الأوزاعي ويقول أبو الفدا أن مولده كان في بعلبك ومات قرب بيروت وأظن أن المقام المعروف بالأوزاعي الآن هو قبره ولما تراجعت قوة الأمويين وانتشرت سلطة الفاطميين خضعت بيروت لهم وذلك في خلافة الحاكم بأمر الله مؤسس الديانة الدرزية وكانت بيروت في عهد الصليبيين تختلف بين حكم المسلمين والإفرنج. وخربت بيروت الزلزال سنة 550 م وسنة 1511 أخذها السلطان سليم العثماني مع باقي مدن سورية ومنذ ذلك الحين لا تزال مدينة عثمانية اهـ.(73/80)
الزراعة في روسيا
تبين من الإحصاء الأخير الذي وقع في خمسين ولاية من ولايات روسيا في أوربا وعشر ولايات من مملكة بولونيا التابعة لها أن توزيع الأراضي عَلَى هذا النحو وذلك بمقياس ألف آكر تسمى مستعمرة الآكر يساوي 40 آراً 4671. فظهر أن مملكة روسيا والأسرة المالكة فيها والشركات الزراعية تملك 417618 مستعمرة زراعية أو 36 من المئة والمالكين ملكاً خاصاً 274656 أي 23 في المئة وفي البلاد 92456 مستعمرة أو 8 في المئة غير قابلة للزراعة أو تملك الحكومة والإمبراطور والمدن من مملكة بولونيا 2184 مستعمرة أي 74 في المئة وللفلاحين 12233 أو 41. 6 في المئة غير صالح للزراعة. ويكون في روسيا أوربا 34. 6 في المئة من الأراضي والحقول و16. 5 من الحدائق أو المروج و40. 9 غابات و8 في المئة بور وتبلغ الأرض القابلة للزراع في بولونيا 55. 6 في المئة والحدائق والمروج تكون 19 في المئة والغابات 21 في المئة من مجموع الراضي والأراضي البائرة 4. 4 في المئة فقط. وأهم مزروعات روسيا الحنطة والجاودار والزوان والشعير والبطاطا والعلف والكتان والقنب والتبغ. ويهتمون بتربية الخيل والبقر والغنم والعنز والخنازير وكان في البلاد الروسية سنة 1909 - 32114000 حصان و48491000 رأس من الماشية و80000000 غنم وماعز
القهوة ومحالها
كتبت مجموعة أبو الضيا التركية مقالة في القهوة ومحالها قالت فيها ادعى الدكتور لاند الألماني أن أول محل للقهوة أنشئ في الآستانة سنة 1551 كما أنشئ أول محل لها في إيطاليا سنة 1645 وفي إنكلترا سنة 1652 وفي فرنسا سنة 1659 وفي فرنكفورت وآم ماين سنة 1675 وفي وارسوفيا سنة 1681 وفي فينا سنة 1685 والغالب أن الكاتب ارتكب هذا الغلط لما علم من تاريخ انتشار القهوة وذلك أنه جيء بها من اليمن عَلَى يد السلطان سليمان القانوني سنة 958 فأخرجت فتوى بإغراق السفن التي تحملها مع حمولتها فأغرقت أمام دار المدفعية (طوبخانة) بالقسطنطينية وقد سرد كاتب جلبي أسباب ذلك في كتابه ميزان الحق في اختيار الحق ولقد دهخل الدخان إلى الممالك العثمانية عَلَى عهد السلطان أحمد الأول سنة 1012 وجرى استعماله في الآستانة سنة 1022 واسست محال(73/81)
القهوة سنة 1024 في زاوية من زوايا خاليجير وفي سنة 1043 أحرقت في الحريق المشهور جميع محال القهوة وذلك عَلَى عهد السلطان مراد الرابع وعندها صدر الأمر بمنع التدخين وكل من رؤي بأنه شربه أو خبر عنه بانه شربه يقتل في الحال وهذه الشدة في المنع اتخذت إذ ذاك حجة سياسية وذلك لن السلطان مراد الرابع أراد أن ينتقم للسلطان العثماني الذي قتله أرباب الفتوة من اليكجرية (الإنكشارية).
فكان عَلَى هذه الصورة ينكل ببغاتهم فتوضع عَلَى من يراد إعدامه منهم لأنه شرب الدخان علامة فارقة وهي عبارة عن مشعل ينيطونه به يبقى عليه إلى المساء موقداً وقد رأى ذات يوم السلطان مراد في إحدى الساحات رجلاً من الإنكشارية يتقدم إلى آخر من إخوانه مصلوب لأنه شرب الدخان فأخرج غليونه من جيبه وشعله من المشعل فعجب الناس من هذه الجرأة ولم يسع ذاك السلطان المستبد إلا أن أصدر أمره عَلَى لسان الدلالين يبيح استعمال الدخان كما كان سابقاً والغالب بان السلطان ظن بأن جرأة هذا الإنكشاري ناتجة عن تحرش بفتنة يدبرها إخوانه. أما استعمال السعوط في الآستانة فكان سنة 1050 ومن حسن الطالع أنه لم يشع استعماله قبل سنة 1049 وغلا لكان السلطان مراد قضى يجدع انف من يستعمله جزاء وفاقا.
التعليم في روسيا
يرجع أمر معظم المدارس الروسية إلى نظارة المعرف العمومية وقد قسمت بلاد هذه الإمبراطورية إلى خمس عشرة منطقة من حيث المعارف وهناك عدة مدارس خاصة تشرف عليها بعض النظارت الأخرى كنظارة الزراعة والأشغال وغيرهما. وكان عدد الكليات في روسيا سنة 1909 تسعاً وهي كليات بطرسبرج، موسكو، خاركوف، كيف، قازان، أودسا، دوربال، تومزسك، وأرسوفيا وقد أغلقت الكلية الأخيرة مؤقتاً ويبلغ عدد تلامذة هذه الكليات المستمعين فيها 39494. وافتتحت كلبية جديدة سنة 1909 في مدينة ساراتوف. ومنذ 1908 أنشئت في موسكو كلية للشعب أسسها القائد شاتفسكي وانفق عليها من ماله وسماها باسمه في كثير من المدن والحواضر مدارس للتعليم العالي وفي كيف وموسكو وبطرسبرج وقازان مجامع علمية لاهوتية وفي إشميازين من بلاد القوقاز (القافقاس) مدرسة لاهوت للأرمن وفي بطرسبرج مدرسة الكاثوليك. ولكل من بطرسبرج(73/82)
وموسكو وخاركوف مدارس طبية ملكية وعسكرية.
ثم أن المجامع العلمية ومدارس الهندسة والمعادن واللغة والغابات والصناعات النفسية وغيرها كثيرة جداً في المدن الكبرى في المملكة الروسية ولدوقية فنلاندة الكبرى كلية خاصة في هلنسكفور تضم حجرها سنة 1909 - 2000 طالب.
وعدد الطلبة الذين يتعلمون في روسيا مجاناً أو عَلَى نفقة المحسنين نحو أربعة آلاف. وعدد المدارس الابتدائية 92501 منتشرة في طول البلاد وعرضها ونصفها لنظارة المعارف أو للمجمع المقدس (سينود) وفيها 170894 أستاذاً ومعلماً و5738289 تلميذاً وفي روسيا 10825 مدرسة من كل صنف من أصناف التعليم فيها 6164913 طالباً وتلميذاً ولا يدخل في هذا العدد 404171 تلميذاً يتعلمون في مدارس خاصة ومع كل ما تبذله الحكومة الروسية في سبيل نشر المعارف فإن عدد الأُميين من بينها مما يرتعش له فإن 77 في المئة أُميون في روسيا أوربا و87 في سيبيريا و94 في آسيا الوسطى. وفي الولايات المتقدمة جداً في روسيا مثل ولاية أُستونيا لا ينزل عدد الأُميين عن 20 في المئة وفي بطرسبرج عن 45 في المئة وفي غير ذلك من الولايات التي تعد راقية لا ينحط عن 50 في المئة.
وقد بلغ ما أنفقته نظارة المعارف الروسية سنة 1910 والنظارات والمجمع المقدس عَلَى المدارس والتعلم 113. 595. 002 من الروبلات والروبل فرنكان و66 سنتيماً.
الورق المعدني
يؤكدون أنه لا يمضي أربعون سنة حتى تاتي المطابع عَلَى ما في الولايات المتحدة وكندا من الغابات بما تستنفذه كل يوم من أشجارها لصنع الورق اللازم للصحف والكتب ولكن اديسون مخترع التلفون هوّن الأمر عَلَى سائل سأله في هذا الشأن رأيه قائلاً أن الورق يعمل إذ ذاك من الفولاذ أو النحاس أو النيكل فيمتص الحبر كالورق المعمول من الخشب والخرق البالية اليوم وتكون سماكته واحداً وعشرين ألفاً من القيراط وهي أصلب وألين وأرخص من الورق المعروف.(73/83)
العدد 74 - بتاريخ: 1 - 4 - 1912(/)
أوروبا في سورية
حياة المرء سلسلة تختلف حلقاتها بين سوداء وبيضاء يحكم قبل أن يستامن لبيض الليالي يتوقى سودها فيذخر قوة ومنعة ولا يقف إذ ذاك حائراً أمام الشداد قانطاً متذمراً بل متسلحاً أبداً ومتأهباً للمكافحة والنضال.
وناموس الأفراد يشمل الأمم والمالك كبيرها وصغيرها فما من دولة إلا وكان لها من دهرها يومان يوم لها ويوم عليها. هذه صيرت فاعتبرت وفازت وتلك لم ترعو فتلاشت فخلفها من هو أقوى منها سنة الله في خلقه.
اعتبر ذلك بدولتنا العلية التي اجتاحت الممالك ودوخت الأمصار فاستنامت واستأمنت ولم تتأهب لمقاومة غدرات الزمان فقامت في وجهها الأمم التي كانت خاضعة لها وكانت صدمة بل صدمات بين الشرق والغرب آلت إلى تقهقرنا وما كنا قبل لنعرف للتقهقر معنى وفقدنا القريم وملدفيا والفلاخ وبسرابيا في عهد السلطان سليم الثالث واضطر محمود الثاني للتسليم بمصر لمحمد علي. وكانت أيام عبد العزيز فتضعضعت الدولة بتداخل الأوربيين وشق البلغار عصا الطاعة وفازوا باستقلالهم. وكان ما كان في أيام عبد الحميد من احتلال الدول لهذه الجزيرة وتلك الولاية واستقلال هذه الإمارة وانسلاخ تلك حتى لم يبق من مملكة سليمان كبير سوى شبح حاول الأحرار أن يجسموه فاقتلعوا الدستور من أعين طاغية آخر القرن التاسع عشر وعمدوا إلى الاحتفاظ به متخذين من الاتحاد الثلاثي سنداً وعوناً ففاجأتهم إحدى الصديقات بسلخ البوسنة والهرسك فصاحوا وزمجروا ولكن لم يتعبروا فداهمتهم الصديقة الثانية باحتلال طرابلس الغرب لاعتقادها أن الدولة العلية لم تتجاوز مع النمسا حد الجعجعة وهي قريبة منها فما عساها تفعل الآن مع إيطاليا وهي بعيدة عنها. كل ذلك وساسة البلاد لا يعتبرون بل لم يزالوا ينتظرون حدوث عجيبة لاعتقادهم أن من أقسم عَلَى ضريح صلاح الدين لا يلبث أن يمتشق حسامه ويضرب به أعداء الإسلام الضربة القاضية.
وكأني بهم أمام المحنة الأخيرة واقفين مستأمنين لا يحسبون للآتي حساباً متوهمين أن أزمة طرابلس الغرب هي آخر حلقة من سلسلة حياة الدولة فيحلون هذه العقدة ثم يستأمنون للدهر متعامين عن فلتات سياسة أوروبا القائمة بناموس بقاء الأفضل تاركين البلاد عرضة للمحن باختلال أحوالها وجهل أهلها وفقد الأمن منها.(74/1)
قلب صفحات التاريخ لا تجد بلاداً اجتاحتها صروف الدهر ونابتها خطوب الزمان وكانت ميدان احتكاك المصالح فيها مثل بلاد الشرق. ولنضرب صفحاً عن العقد الكثيرة التي لم تحل فيها به كألبانيا ومكدونية والعربية ولننعم النظر فيما هو أقرب إلينا أي سورية وفلسطين ففيهما من مصالح الدول ما لا يوجد في غيرها من الولايات وبياناً لذلك نقول:
كان نفوذ الدول الأوربية في سورية قليل جداً قبل أواسط القرن الغابر. وأبرمت معاهدة لندن سنة 1840 فانفتح باب واسع لذلك النفوذ وكانت الجمعيات الدينية في ذلك العهد تنقل إلى الشرق مدنية الغربيين فتحينت فرصة ملائمة وغمرت سورية وفلسطين بعمالها المتسترين برداء التبشير الديني. وكانت فرنسا السابقة في هذا المضمار فغمرت بلادنا بالمعاهد الخيرية والتهذيبية بمهمة جمعية أخوية المدارس المسيحية وجمعية راهبات المحبة ولا عجب فقد وثقت علائقها مع الشرق منذ القرن السادس عشر بحمايتها فيه كاثوليك أوربا جمعاء وزكان مبشروها ينزلون ربوع سورية بالرغم مما قام في سبيلهم من المصاعب والمشقات. ولم تغفل عن تأييد مصالحها في الشرق بكل الوسائل الفعالة عَلَى اختلاف الأحوال حتى في أيام حكومة الكونفاسيون والدريكتوار والاضطرابات الداخلية قائمة عَلَى قدم وساق ولم يحد نابليون عن سياسة فرنسا التقليدية في الشرق فأسرع بعد إبرام الصلح مع الدولة العلية سنة 1802 إلى تجديد الامتيازات والمحالفات القديمة وأمر سفيره في الآستانة أن يبسط حمايته عَلَى كل كاثوليك سورية وفلسطين ولاسيما قوافل الزوار القاصدين إلى الأماكن المقدسة.
ولما كان يقتضي لهذا الأمر مبالغ وافرة من المال أخذت الحكومة الإفرنسية تمد عمالها بالمال المطلوب. ولا نعلم ما كان ينفق في سبيل ذلك قبل الإمبراطورية الثانية عَلَى أن الحكومة أدخلت في ميزانية وزارة خارجيتها كمية تنفق سنوياً عَلَى الأعمال الخيرية والتهذيبية تبلغ قيمتها 300000 فرنك فأصبحت سنة 1883 خمسمائة ألف وسنة 1892 سبعمائة ألف وسنة 1900 ثمانمائة ألف.
عَلَى أن الحكومة لا تشتغل وحدها في إنشاء المدارس وتنظيمها فهناك جمعيات أخرى قامت للغاية نفسها. ففي سنة 1856 أسست جمعية أعمال مدارس الشرق ' ' وأخذت تجمع مبالغ وافرة وتوزعها عَلَى المعاهد الخيرية ومدارس الرهبنات في الشرق تبلغ قيمتها(74/2)
300000 فرنك. ثم أخذ الميل ينمو في فرنسا لتوسيع نطاق أعمالها وتعزيز مكانتها فأسس إثر ذلك الاتحاد الإسرائيلي ' الذي يوزع عَلَى المدارس السورية عَلَى اختلاف أصبغتها أربعين ألف فرنك.
ولم يكن لفصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا أدنى تأثير في حال المدارس السورية لأن الأحرار والمحافظين لم يختلفوا في أمر الاحتفاظ بمعاهد فرنسا الخيرية والعلمية في الشرق بل رأينا الأحرار كثيراً ما يوجهون إلى الحكومة الإفرنسية قوارص الكلام في مجلس الأمة لتخلفها عن خصومها في الشرق أي ألمانيا وإيطاليا.
وفي سنة 1900 تحسنت ميزانية هذه المدارس إذ جعلها مجلس النواب بأكثرية الأصوات 850000 فرنك ما عدا نفقات مدارس الرهبات الإفرنسية التي لا تزال في نظره تافهة لمصالح الدولة وقرر بذل المجهود لنشر التعليم المدني وتقويته في أملاك الدولة العلية.
عَلَى أن نجاح ألمانيا وإيطاليا الباهر في الشرق وسرعة انتشار نفوذهما حملا الحكومة الإفرنسية عَلَى انتهاج خطة أكثر حزماً وثباتاً مع توسيع ميزانية المدارس الشرقية بصورة قانونية بحيث لا تبقى عرضة للأخطار والتضعضع فحولت تلك الميزانية العرضية إلى بند خصوصي أدخلته في ميزانية نظارة خارجيتها لسنة 1911 تحت نمرة 22 بموجب هذا البند ينفق مليون فرنك عَلَى المعاهدة الإفرنسية في سورية وفلسطين ليوزع عَلَى الطريقة الآتية:
450000 فرنك لمدارس الرهبنات منها 30000 للمدارس العليا و60000 للمدارس الوسطى و360000 للمدارس الابتدائية.
و383000 فرنك للمدارس المدنية منها 157000 للمدارس العليا و131000 للمدارس المتوسطة و95000 للمدارس الابتدائية.
و45000 فرنك تنفق عَلَى مدارس مختلفة و122000 عَلَى المعاهد الطبية وتأخذ المعاهد المدنية علاوة عَلَى ذلك 170000 فرنك مساعدة من جمعية البعثة اللادينية (العلمانية) التي أسست سنة 1902.
فما ذكر يبدو للعيان أن فرنسا تسعى سعياً حثيثاً في تحسين مركزها في سورية ولا تبخل بالمال في سبيل ذلك. ونعتقد أنها قد لا تكتفي بمليون فرنك لازدياد نفوذ ألمانيا وإيطاليا(74/3)
اللتين تمدان يديهما إلى اقتلاع حماية الكاثوليك في الشرق الأدنى من يدها. ولا شك أنها لا تتوقف عن كل ما من شأنه المحافظة عَلَى اسم الجمهورية وشرفها.
أما إنكلترا فإنها قد رافقت فرنسا في عمل نقل المدنية الغربية إلى سورية وفلسطين. وكان المبشرون من الإنكليز ينشرون في المدن الكبرى وفي ربوع لبنان حتى أقصاها وينشئون المدارس والكنائس والمستشفيات للمرضى فعمت اللغة الإنكليزية وراجت تجارة إنكلترا وعظمت المنافسة بين النفوذ الإنكليزي والفرنساوي. عَلَى أنا لا ندري ما تنفقه الحكومة الإنكليزية عَلَى مدارسها ومعاهدها الخيرية في سورية أما فلسطين فقد عرفنا من أوثق المصادر أنه ينفق عليها أربعمائة ألف فرنك ولإنكلترا في سورية أضعاف ما لها في فلسطين من المعاهد الخيرية وغيرها.
ودخلت النمسا سورية بعد إنكلترا وفرنسا لاشتغالها عنها بالبلقان حيث كانت تسعى جهدها بتعزيز مركزها والبلقان مركز نفوذها دينياً وسياسياً. غير أنه لما رأت ما أحرزته إنكلترا وفرنسا من النجاح الباهر في سورية نوت من مناوأتهما لتفتح لتجارتها سوقاً جديدة وفازت بذلك بهمة جمعية الفرنسيسكان الغنية التي تنشر النفوذ النمساوي بهمة لا تبارى فتنشئ المدارس والمستشفيات للمرضى وبيوت العجزة وتجري الحفريات الأثرية وتبتاع الأماكن الثمينة بالنظر إلى تاريخها المقدس.
ولم نتمكن من الوقوف عَلَى كمية المبالغ التي تنفقها الحكومة النمساوية في سورية وفلسطين عَلَى مدارسها ومعاهدها الخيرية لإبقائها ذلك في طي الكتمان إنما نترك للقارئ تقدير ذلك متى علم أن النمسا تنفق عَلَى دار الغرباء وحدها في القدس 12000 كرون وذلك بموجب ميزانية وزارة خارجيتها وأضف إلى ذلك الإعانات العديدة التي يمد بها الأهالي جمعية الفرنسيسكان وما يدفعه الإمبراطور فرنسيس يوسف من ماله الخاص. وهذا ما لا يمكن معرفة حقيقته.
أما إيطاليا فإنها بعد اتحادها سنة 1861 فقد وجهت أنظارها إلى الشرق أسوة بغيرها من الدول الأوربية. وكانت الحكومة إذ ذاك فقيرة فخصصت في ميزانيتها اعتماداً زهيداً لا يتجاوز أربعين ألف فرنك إعانة لكل المدارس الإيطالية في الشرق.
وفي سنة 1870 تضعضعت فرنسا في حربها مع بروسيا فطلبت إيطاليا أن تأخذ عَلَى(74/4)
عاتقها حماية الكاثوليك فلم تقبل فرنسا أن تتنازل عن حقوقها. وبلغت المنافسة من هذا الوجه معظمها سنة 1883 فكانت إيطاليا تلج بطلب حماية المبشرين الإيطاليين وفرنسا تعارضها لاعتقاد الاثنتين أن في هذه الحماية ما يجعل لهما شأناً عظيماً في هذه البلاد.
ولما كانت إيطاليا تبغي إيصال نفوذها إلى أقصى درجاته فتحت اعتماداً في ميزانيتها للدارس الشرقية لسنة 1883 - 1884 قدره ثمانون ألف ليرة. وما كان هذا المبلغ ليحسب عظيماً لو لم تكن ماليتها إذ ذاك في حالة يرثى لها. لكنها لم يتسنى لها مع ذلك حماية المبشرين الإيطاليين فقررت إنشاء عدد كبير من المدارس المدنية وخصصت لهذه الغاية سنة 1887 إعانة سنوية قدرها مليون ونصف من الفرنكات. غير أنها لم تفلح في هذا المسعى لما يقتضيه التعليم المدني من النفقات الباهظة ولعدم تمكنها من إيجاد معلمين لهم خبرة كافية للقيام بمثل هذا العمل. فعادت تحاول سلب حقوق فرنسا بحماية الكاثوليك وأَسست لهذه الغاية في فلورنسا جمعية جنسية لحماية المبشرين الطليان فاضطرت فرنسا أن تتنازل عن بعض حقوقها واتفقت مع إيطاليا في سنة 1905 عَلَى أن المعاهد وكان لهذا الفوز السياسي الباهر تأثير سيء في فرنسا اضطرب له الرأي العام أيما اضطراب.
ولم تكن إيطاليا بعد فوزها عَلَى فرنسا لتكتفي بالمليون والنصف من الفرنكات لأجل مدارسها فجعلت كل سنة تخصص مبالغ أخرى لمدارس الحكومة ومدارس الرهبنات التي أنشأها الإكليريكيون المطرودون من إيطاليا بأمر الحكومة. وفي الخامس من تموز سنة 1905 صادق مجلس النواب عَلَى زيادة ميزانية المدارس السورية أربعمائة ألف فرنك فأصبحت نحو مليونين ادخل منها في ميزانية نظارة الخارجية 1350000 فرنك وفي ميزانية لجنة الاستعمار 550000 وتقرر توزيع المبلغ من قبل نظارة الخارجية بمعرفة نظارة المعارف.
ولما التفتت ألمانيا إلى الشرق كانت الدول قد رسخت أقدامها في سورية وفلسطين. عَلَى أن ذلك لم يمنعها من بسط نفوذها ونشر لغتها بسرعة لا توصف شأنها في كل حالاتها مع الدولة العلية. وجعلت تخطو إلى الأمام بقدم ثابتة زاعمة أنها مدعوة للقيام بعمل حيوي لأن الحياة والتاريخ يدعوانها لتكون صلة التواصل بين الشرق والغرب ومرشدة روحية للشرقيين. وما من ينكر عليها أنها تقوم بهذا العمل أحسن قيام فما برحت تنقل إلى الشرق(74/5)
ما اكتسبته من الغرب ومن المدنية بواسطة عمال ملكيين وعسكريين وعلماء وأساتذة ومعلمين ومهذبين الخ.
ولم يفتها أن حماية الكاثوليك في الشرق كانت أعظم الأسباب الآيلة إلى تعزيز مركز فرنسا فأخذت تسعى للحصول عَلَى حقوق حماية الكاثوليك الألمانيين وأول عمل قامت به لنيل مآربها تأسيس جمعية فلسطين وعهدت إليها بإدارة المعاهد الألمانية الشرقية. وكانت بعد ذلك سياحة الإمبراطور في بلاد الشرق فقال وزير خارجية ألمانيا في مجلي الأمة نحن بعيدون عن فكرة حماية كل المسيحيين في الشرق لكن حماية الكاثوليك الألمان من حقوق الإمبراطور دون منازع. ولم تعارض فرنسا بل تنازلت عن حقوقها لألمانيا. . .
وفي هذه السنين الخيرة نمت أعمال ألمانيا نمواً غريباً إذ أَسست كيراً من المدارس الابتدائية وعدة مدارس عالية ومدرسة إكليريكية في القدس وغيرها من صناعية ومستشفيات وهياكل معتمدة في كل ذلك عَلَى الجمعيات الكاثوليكية والإنجيلية الألمانية وعَلَى اللجان الجنسية التي تستمد قوتها من الاتحاد النمساوي العام. وحذت الحكومة حذو إمبراطورها الحكيم فقدمت الإعانات للجمعية عَلَى اختلاف المذهب لتبعد عنها روح المنافسة المضرة بالمصالح الوطنية. وما عدا ذلك فقد فتحت اعتماداً في ميزانيتها قدره 850000 مارك ينفق عَلَى معاهدها في سورية وفلسطين بمعرفة وزارة خارجيتها.
ولم تغفل روسيا عن مساعي الدول الأوربية في سورية وفلسطين ونجاح الجمعيات التبشيرية. ومكان الشرق الأرثوذكسي قد اعتاد من القديم أن يعتبر روسيا حامية له في أيام المحن. واعترفت لها الدول بذلك بواسطة معاهدات دولية كانت نتيجة حروب كثيرة سالت فيها الدماء أنهاراً. فلم يسعها إلا الإقدام عَلَى مباراة الدول الأوربية بتأييدها مركزها في الشرق. فأسست لهذه الغاية سفارة روحية في القدس ما لبثت أن باشرت سنة 1847 بفتح المدارس وإنشاء المعاهد الخيرية وفي سنة 1858 بعد انتباه حرب القريم أقامت في المدينة نفسها أقامت في المدينة نفسها قنصلاً لها.
عَلَى أن السفارتين لم يكن في وسعهما مباراة الجمعيات الأجنبية بالنظر لحرج المركز الذي لا يسمح لممثلي الحكومة أن يتوسعوا في العمل وأدت الحاجة إلى تأسيس جمعية خصوصية غير مقيدة بمركز رسمي نظير الإرساليات الأوربية تطلق يدها في العمل بدون(74/6)
خوف وهكذا كان.
ففي سنة 1882 وضع الأساس لجمعية فلسطين الأرثوذكسية التي أُطلق عليها سنة 1889 إمبراطورية ليتسنى لها جمع الإحسان من الشعب الروسي الذي يعتقد أن الإمبراطور لا يهب اسمه إلا لما فيه المنفعة للوطن. وباشرت الجمعية بإنشاء المدارس وصادفت صعوبات شتى لم تلق مثلها الجمعيات الأوربية لأن المعاكسات بدت من حيث لم ينتظرها أحد أي من الإكليروس اليوناني الذي يكره الروسيين فسهلت لهم سبل الوصول إلى الأراضي المقدسة وأقامت لهم الأبنية في القدس الشريف وغيرها وأنشأت عدة مستوصفات لهم ولتلاميذ مدارسها كل ذلك والخزينة الروسية لم تنفق بارة واحدة بل كان الشعب الروسي الساذج مصدر هذه النفقات الوحيد.
وفي سنة 1892 فحصت كل أعمال الجمعية وما أنتجته خلال العشر سنوات التي مضت عَلَى تأسيسها فثبت أنها نجحت وأفادت الزوار كثيراً وآوت بعض اولاد الأرثوذكسيين وأمدتهم بالمساعدات الطبية وحق لها أن تكسب ثقة الحكومة الروسية ولما كان عدد الزوار يزداد من سنة إلى سنة والمدارس لم تسد كل الحاجة والإحسانات لا تقوم بكل ما تطلبه التحسينات الحيوية من النفقات طلبت الجمعية من الحكومة إعانة قدرها 600000 روبل أي 80000 ليرة وأيد طلبها رئيسها الغرندوق سرجيون وقد للحكومة ضمانة لهذا الدين كل ما تملكه الجمعية من عقار وغيره ما تبلغ قيمته مليوني روبل. فرفض وزير المالية (فيت) طلبه لتضعضع المالية في ذلك الحين. ولم يبق للجمعية إلا أن تتابع عملها متكيفة بالإحسان من الشعب الروسي ولكنها عادت سنة 1895 فطلبت من الحكومة أن تقرضها أربعة آلاف ليرة لتنفقها عَلَى المدارس السورية التي أنشأتها بطلب من البطريرك الأنطاكي سبيريدون ففتحت لها الحكومة اعتماداً بالقيمة المذكورة وأدخلته في ميزانية المجمع المقدس عَلَى أن تنفقه عَلَى السفارة الروحية في القدس.
ولما لم يكن في الإمكان متابعة العمل حسبما تقتضيه الأحوال بدون مساعدة كبيرة طلبت من الحكومة ثمانين ألف ليرة تقبضها دفعة واحدة لتحسن أمورها وتستوفي من الاعتماد المذكور أعلاه في مدة عشرين سنة. فقبلت الحكومة بذلك وتكون الجمعية لم يحصل عَلَى مطلوبها إلا بعد سعي عشر سنوات وبشرط إيفاء المبلغ أقساطاً سنوية.(74/7)