الجمال هو البذخ بل إن النظافة النظام المدقق وانتقاء الأثاث والزهور وبعض النفائس والأعلاق في البيت تكفي في حمل الجمال إلى مسكننا ولأن تفتح لحياتنا اليومية على الدوام باباً يطل على عالم الخيال. والواجب أن يعنى بلباس الطفل على ما ينبغي على أسلوب لا ينافي الاقتصاد ولا الظرف. نحن لا نقول كما يقول الفيلسوف كارلايل أن اللباس يوجد النفس الإنسانية بل نقول بأنه يرتبها وينظمها. وعليه فالأحسن أن ينظر أيضاً في اختيار اللعب للطفل حتى لا يكون ممن تتقزز له النفس والأولى أن يعهد بصنع ألعاب الأطفال إلى أناس من أرباب الذوق والتفنن على ما كانت عليه الحال في القرن السابع عشر والثامن عشر. ويجب ألا تحرم المدرسة من مظاهر الجمال لأن الطفل يقضي فيها شطراً مهماً من أوقاته وغذ كان معظم الوالدين لا يستطيعون أن يجعلوا لأولادهم بيوتاً في الخلاء فالأجدر بالمدارس الثانوية أن تقيم مدارسها في الضواحي ليتيسر للأولاد أن يعودوا في المساء ليبيتوا في دور آبائهم. فقد كتب روسو أن البشر لم يخلقوا ليتجمعوا كما يتجمع النمل في القرية بل لينتشروا في الأرض التي يحرثونها فنفس الإنسان قتال لإخوانه. وهذه الحقيقة لا مجاز والمدن هوة الجنس البشري فعلك أن تبعث بالأولاد يجددون حياتهم بأنفسهم وينشطون قواهم وسط الحقول ويستعيضون عن تلك القوى التي يضيعونها في الهواء القذر من الأماكن المأهولة كثيراً.
وهكذا يجب أن تكون المدارس الابتدائية في القرى والمدن في أماكن يتخللها الهواء والنور وأن يستعاض عن الدهان التي تطلى بها جداران المدارس بالسواد عادة بألوان زاهية تزيل الوحشة عن قلب الطفل فيستفيد من ذلك عقله وقلبه. وأحر بأن تكون جدران المدرسة مزينة بمجاميع نفيسة ومفروشة حجرها أحسن فرش بحيث يكون الجمال عن إيمان الطفل وشماله وقدامه ووراءه ومن أجل هذا اختار بعض علماء التربية أن يربى الأطفال في حدائق خاصة بهم لينشئوا على التأمل في الكون والنظر في أسراره وبدائعه فالسماء تتعلم بالنظر فيها ولكنها لا تفيدنا بقدر ما نتعلم من الصغر والتأمل في عظمتها.
يقتضي أن يطلع الطفل منذ صغره على إبداع ما نقشه النقاشون وصاغه الصائغون وبناه البناءون وأن نبتعد عن تدريسه تاريخ الصناعة لأنهم لا يفهم منه شيئاً فيدخل الملل إلى قلبه بل الأولى أن نشرح له الجمال فقط ونشعره بوجوده. فعلم الطفل أن يكون هو متفنناً(56/63)
ى أن يكون كما قال روسكين أكثر خجلاً إذا لم يحسن الغناء مما إذا كان لا يعرف القراءة والكتابة لأنه من الممكن كل الإمكان أن يعيش المرء عيشة سعيدة ظريفة بدون كتب ولا حبر ولكن قلما يتأتى أن لا تميل النفس إلى الغناء إذا كان في يوم سعده. ولقد رأى اليونان هذا الرأي فكانوا يزعمون بأن تعليم الطفل الغناء يمدونه طول حياته بزاد ثمين من الحكمة والسرور دع عنك أن الغناء بالاشتراك مع الأصحاب هو آكد الطرق إلى تعلم التضامن. ثمك أنه من النافع تعويد الطفل أن يرسم بقلم الرصاص أو المنقش الأشكال والألوان الطبيعية فيتعلم بها الممارسة اللازمة للصناعات النفيسة ويعتاد النظام والتدقيق الذي يقود عواطفه بالطبع إلى التنسيق والذوق فإذا ربى الحس على هذا الطرز يستعد للتخلق بالفضائل بتقوية الإرادة وبدونها لا يتأتى قيام شيءٍ في عالم الفضيلة لأن الإرادة لا توجد الميول والرغائب تتخير منها وهذا الميل ناشئٌ مثل كثير من الميول عن الحس الذي يعمل كل العمل فمن اللازم اللازب تقوية ميول الطفل الحسنة بتثقيف إرادته بدون أن يشعر.
القدوة هي المربية في هذا الباب فهي تسلط على الرجال فما أجدرها أن تكون كذلك للأولاد يسيرون في أعمالهم بسيرتها وينهجون على الدهر نهجها فقد ذكروا أن فتاة أخذت في الشهر الخامس عشر من عمرها تقلد أباها في تقطيب حاجبه وتعتاد عادته في الغضب ولهجته في رفع صوته ثم تعلمت ألفاه في قلة الصبر والغضب وهكذا أصبحت تردد أفعال أبيها كلها بعد السنة الثالثة. وقانون القدوة الذي هو عمل من أعمال الاقتداء والمحيط يعمل عمله في الحس كما يعمل في الذكاء فقد قال مونتسكيو: من العادة أن يعلم الأب أولاده ما يعلم كما أن من العادة أن يورثهم شهواته. .
ولذا كان على الوالدين أن يراقبوا أنفسهم في كل ما يصدر عنهما بين أسرتهما وأمام أولادهما ويبتعدا عن كل ما شأنه أن يحدث في الولد تأثيراً سيئاً فيلا الأفعال والأقوال ونرى الناس لا يبالون أن يأتوا أمام الطفل ما يفسد أفعاله ومقاله ويعلمه الفاسد كلها قبل أن يعرف ماهيتها. فالغضب وكلمات الكبر والعجب واللذات الشهوانية والوقيعة والكذب تعرض كل يوم أمام عيني الطفل وأذنيه فتشوه حسه وتفسد نفسه ويعتذر الأبوان بأن ابنهما لا يأتيان أمامه وهو يدرك العيوب التي تتمثل أمامه على هذه الصورة ويتوهم بأن الواجب يقضي بذلك ويوشك أن يسوء نظره على الدهر.(56/64)
ويا سعد من لم يره أبواه لأنه في الأكثر يدللانه دلالاً يفسده فلا ينتهرانه لتربية نفسه خوفاً من بكاءه أو أن يفقدوا ابتسامة مؤقتة فتسوء تربية الطفل والطفلة بصنع أبويهما وإنالتهما كل رغائبهما وماذا يظنه الولد في نفسه متى رأى حواليه أناساً على أهبة تامة لسماع ما يقوله والإعجاب به وتدليله واستحسان كل ما يصدر من فمه أو يصفقون تصفيق السرور لكل ما يقوله مما يخالف الأدب. فلو كان رجلاً لما وسع عقله كل هذا التصفيق والاستحسان فما بالكح به وهو طفل.
ومن النسا من يسيرون على عكس هذه الخطة فيناكدون الطفل في أقواله وأفعاله ويغضبونه في عامة أحواله ويعلمونه الحسد بما يستعملونه معه من ضروب التهديد الشديد الدائم الذي يروقهم تكراره وهذا من مفاسد التربية أيضاً.
فعلى الوالدين أن يباعدا عن الطفل ما يرتكبه من المضرات في تربيته فلا يشتدان عليه ولا يرخيان له العنان بل تكون تربيتهما إلى القصد فلا يمنعانه من لذائذه بكل ما يطلب ويجيبانه من رغائبه إلى كل ما يشتهي فقد قيل من يحب كثيراً يعاقب كثيراً فتأنيب الطفل من أهم فروض الوالدين وأكبر مظهر من مظاهر عنايتهما. والأولاد كالأمم يعزون الصرامة ولا يحبون إلا ما يحترمون. كل هذا بدون أن يخلو ساعة من سرور ابنهما حتى يعيش ويكون تجليه سروراً طوال حياته.
قلنا أن الوالدين ينبغي أن يكونا خير قدوة لابنهما فهو لا يتأثر بالفضيلة إلا إذا رآها بالفعل مائلة أمامه منذ نعومة أظفاره وكم من الناس لا يتطالون إلى هذه الغاية لأنهم عاشوا في وسط غير متمدن ومنهم من يحفظون حطة نفس ينم علبيها تبذل أخلاقهم ومعلوم أن لهذه تأثير في القلب وهكذا الحال في كل الفضائل فإذا شاهدها الطفل اليوم بعد الآخر يتشربها وتطمح نفسه إلى أن يأتيها بذاته. فمن أبوين حرين ينشا طفل مخلص ومن أب محتشم يكون الولد عفيفاً ومن أسرة طاهرة يخلق الولد تقياً نقياًَ. فالعدوى في هذا الباب أشد فعلاً في الطفل من قانون الوراثة وإن للحركات والسكنات أفعالاً في خلقة الطفل وخلقته ولذلك وجب أن تصدر عن النفس دائمة لا متقطعة.
وكما يقضى على الأبوين أن يكونا خيبر قدوة لابنهما يجب عليهما أن يبذرا في نفسه البذور الصالحة وذلك بأن ينميا فيه حب الذات أو الإعجاب بأحسن ما فيه فليس أحسن في(56/65)
التربية من أن يشعر المربى من نفسه بخجل عما أتاه فليس الأولى البعد عن مكافحة حب الذات بل المناسب تنميته على النحو اللائق وتسييره إلى وجه الكمال فمن دواعي التربية وضع الثقة في نفس من تربيه فالأديان تدعو منتحليها إلى الإيمان فمن الضروري كما يقول بعض علماء الأخلاق أن يؤمن المرء بقوته الخاصة بمعزل عن معونة خارجية فأقل شك يطرأ علينا يبتلينا بالعقم وينضب مادتنا ويحول دون انبجاس إرادتنا القوية.
وكما تحافظ على حرمة الولد عليك أن تربيه على حرمة غيره وأن تعرفه بها بأن تضرب على العرق الحساس فيه إذا أحببت أن تلقنه معنى الإحساس فأعرض عليه مصائب الناس وقارنها بما يشعر به من هذا القبيل. وبغلط الوالدان اللذان يخفيان عن ابنهما شقاءهما كأنه رذيلة من الرذائل مع أن الفقر أحسن مدرسة لتعليم الطفل الذي ولد في الرفاهية حتى لا يعتبرها بأنها واجبة أو مضمونة وتنبه فيه الشعور بالشفقة. فمن النافع أن يعرف منذ طفوليته أن من الناس من خانهم سوء الطالع ليعتاد التحنن عليهم والإسراع إلى إغاثتهم.
وتحتاج في تربية الحس ليأتي بثمرات جنية إلى أن توقد جذوته بالتحميس ليعمل الأعمال العظيمة فالواجب أن يلقن الطفل بين العاشرة والحادية عشرة من سنة الولوع بغاية سامية أرقى مما يقع تحت نظره كل يوم وبذلك تتغذى روحه وينتفع بما لديه من القوى والمواد. وخير ما ينفع في هذا الشأن النظر في أنواع التعليم كالعلوم وتاريخ الفنون والآداب فالتعليم أعظم مهماز يربي ميول الطفل ويعده لأن يكون من كبار الرجال ويربأ به عن الانغماس في حمأة المصالح المبتذلة. فالتعليم لا يقوم بوظيفته إذا لم يكن فيه ما يوسع معارفنا بل يوقد شعلتها بتوجيهها نحو الحق والجمال والخير وأساس ذلك التحمس في الإنسان.
ولا يكتفى في تاريخ تعلم الصناعات والآداب بعرضها وتحليلها بل الواجب أن يعلمها الطفل في اللوحات وإليها كل والمصانع والشعر والقصص والخطب فهي لا تأخذ مكاناً من قلبه ويتحمس بها إلا بذلك. يعرض عليه ذلك بالعمل ويشرحه للمعلم فالتعليم الأدبي والصناعي مهما بلغ من غنائه لا يتيسر تلقينه بدون قطع تشرح السر فيه كالتشريح لا يستفيد منه المتعلم إذا لم يكن أمامه جثة. فعلينا أن نبتعد عن التحليلات التي لا مستند لها من الحقيقة لأنها بقطع النظر عما فيها من الضرر اللاحق بالذهن تعود المرء على العمل بالفارغ وهي خالية من تأثير في الحس فمن واجب الأستاذ أن يطلع تلميذه على مقاصد(56/66)
المؤلفين ويشرح لهم عواطفهم على صورة تتمثل فيها الحياة والشعور وتبعث في روحه احتذاء مثالهم وبذلك لا يكون من تعليم الفنون والآداب فتح السبل التي يفيض منها حس المتعلم بل إن حسه إذا تجمع على هذا النحو تزيد قوته وصفاؤه وتنبع منه ينابيع لا تجف طوال الحياة.
يقول بعضهم أن التربية العلمية الصرفة تجعل الذوق قاحلاً ولطكن ربما كان العلم يتطلب قوة في التحمس كما تتطلب الفنون والآداب من الصانع والكاتب فالبحث عن الحقيقة يستدعي إخلاصاً شديداً كالنظر في الجمال. والمرء كما يقول باسكال اقل سكراً باستحصال تركيب الطبيعة وما فيه من اللانهاية منه في إيجاد شيءٍ من تصوره. فالذين يصرفون حياتهم في البحث ليسوا أقل قوة ممن يخترعون أفكاراً من نفوسهم.
قال كلود برنارد: إن الرغبة الشديدة في المعرفة هي الباعث الوحيد الذي يجذب الباحث ويعضده في أعماله وهذه المعرفة هي التي يمسكها فتفر أمامه على الدوام وتكون في الوقت نفسه عذابه الوحيد وسعادته الوحيدة فمن لا يعرف كيف يقاسي المرء العذاب من أجل الحصول على مجهول لا يعرف الأفراح التي تصيبه عند اكتشاف الجديد وهي أفراح لا يدانيها شيءٌ في العالم للحقيقة كما للجمال بهاءٌ وجلال ولذلك كم فائدة تكون للحس ولارتقاء العلوم في المستقبل أن يكشف عنها القناع أمام أعين من يعلمهم إلا أنه يجب لإشراك التلامذة في البحث أن تكرر لهم تلك الحقائق ويطلب منهم أن يبحثوا بأنفسهم وأن يوفر لهم قسطهم من السرور باكتشافها فيطلعون على مقدمات العلوم والاكتشافات العظيمة ويشوقهم إلى احتذاء مثال من جاهدوا جهاد الأبطال امام قوى الطبيعة حتى تبطنوا أسرارها فإذا حمى وطيس البحث ينشأ فيهم حب الغاية المنشودة كما أن من يبدأ باللعب ويكون ضعيفاًُ لأول أمره لا يلبث أن تنبعث له همته ويزيد لبلوغ الغاية غرامه. وهذا يستدعي لتعليم الاداب أنم يجعل التلميذ مع اتصال بالحقيقة والطبيعة التي هي ميدان درس العالم بدلاً من حصره في مآزق تبعث نفسه على المقس والتأفف في حين كان يجب أن تذكي فيها شعلة حب العلم فقد قال الفيلسوف رنان: إننا نشبه بالقديسين والأبطال وكبار الرجال في كل عصر وجيل أهل الأخلاق العلمية الذين وقفوا أنفسهم خاصة للبحث عن الحقيقة غير مبالين بالملل بل ربما فاخروا بفقرهم وبسموا لما يقدم إليهم من التكريم وتساوى في نظرهم(56/67)
المدح والقدح وهم على ثقة فيما يعملون سعداء لأن لهم الحقيقة ولا سبيل إلى نشر ما تعبت به عقول نوابغ الأرض في العلم والآداب والصناعات إلا على أيدي أساتذة جهابذة وبغير ذلك لا يرتقي الحس.
والتعليم الديني نافع جداً في تربية الحس فقد قال جبرائيل كومبايري: باعد عن الجنس البشري الاعتقاد بعالم أخروي أرقى مما هو فيه فإنك تسلبه بطبيعة الحال جزءاً من القوى اللازمة للتخلق بالفضيلة فإذا لم يكن هذا العالم إلا خلاءً واسعاً يضيع فيه صوت الإنسانية في الفراغ بدون أدنى قوة عاملة تضمن للعدل نصرة أبدية فالإنسانية معرضة للسقوط في حياة سافلة لاستهوائها وافتتانها بالمفاسد وما يتسرب إليها من مغريات الملاذ المادية وسواء علم الناس التعليم الديني أو لم يعلموه فمن الثابت أن الخرافات تقوى بضعف الأديان ولقلة العناية يفسد الدين ولكنه لا يضمحل فالواجب تلقين الطفل لباب الدين لا الحشو ولا اللغو ليشب على المعقول والتشبث بأذيال الجوهر بعيداً عن التعصب وصغر العقل فقد قال فكتور هوغو: إن ما يخفف الألم ويغرس التقوى والقوة والعقل والصبر والطهر والحرية في الإنسان هو أن ينظر على الدوام على عالم أحسن مما هو فيه يلمع من خلال ظلمات هذه الحياة.(56/68)
العدد 57 - بتاريخ: 1 - 11 - 1910(/)
الدرر الكامنة
ليس أحسن من تراجم الرجال للوقوف على حال السياسة والاجتماع في عصر من العصور ففي جملة ما طبع من كتب التراجم والطبقات كتاب خلاصة الأثر في تراجم أهل القرن الحادي عشر للمحبي المتوفى سنة 1111 وسلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للمرادي المتوفى سنة 1232 ولم تطبع تراجم أعيان القرن الثامن والتاسع والعاشر وإن كان مثل السبكي في طبقاته والصلاح الكتبي في وفياته قد تعرضا لبعض المترجمين في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لحافظ عصره قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن علي حجر الكناني العسقلاني الأصل المصري والضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902 وإن لم يدركا من الرجال من جاء ممن ذكرهم صاحب الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة النجم الغزي المتوفى سنة 1061.
وها نحن نتكلم عن الدرر الكامنة وسنعقبه في الجزئين التاليين بالكلام على الضوء اللامع والكواكب السائرة.
جاء في كشف الظنون: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 اثنتين وخمسين وثمانمائة مجلد ضخم أوله الحمد لله الذي يحيي ويم يت الخ جيمع فيه تراجم من كان في المائة الثامنة من الأعيان مرتباً على الحروف ذكر في آخره أنه فرغ منه في شهور سنة 830 ثلاثين وثمانمائة ولم يكمل الغرض لبقايا من التراجم في الزوايا ثم اختصره جلال الدين السيوطي في مجلد ولابن المبرد أيضاً مختصره.
أما الكتاب الذي نحن بصدده فمنه في دمشق مخطوط قديم بخط إبراهيم البقاعي مهمل غير معجم وتعسر في الحايين قراءته وهو في مجلد ضخم من القطع الكبير قال في مقدمته: أما بعد فهذا تعليق مفيد جمعت فيه تراجم من كان في المائة الثامنة من الهجرة النبوية من ابتداء سنة إحدى وسبعمائة إلى آخر سنة ثماني مائة من الأعيان والعلماء والملوك والأمراء والوزراء والأدباء والشعراء وعنيت فيه برواية الحديث النبوي فذكرت من اطلعت على حاله واشرت إلى بعض مروياته إذ الكثير منهم شيوخ شيوخي وبعضهم أدركته ولم القه وبعضهم لقيته ولم أسمع منه وبعضهم قد سمعت منه واستمددت فيب هذا الكتاب من أعيان العصر لأبي الصفا الصفدي ومجاني العصر لشيخ شيوخنا أبي حيان ومذهبه وذهبة العصر(57/1)
لشهاب الدين أبي الفضل وتاريخ مصر لشيخ شيوخنا الحافظ قطب الدين الحلبي وذيل سير النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي وذيل ذيل المرآة للحافظ علم الدين البرزالي والوفيات للعلامة تقي الدين ابن رافع والذيل عليه للعلامة شهاب الدين ابن جحى وما جمعنا صاحبنا تقي الدين المقريزي في أخبار الديار المصرية وخططها ومعاجم كثير من شيوخنا والوفيات للحافظ أبي الحسين بن أسد الدمياطي والذيل عليه لشيخنا الحافظ أبي الفضل بن الحسين العراقي وتاريخ غرناطة للعلامة لسان الدين ابن الخطيب والتاريخ للقاضي ولي الدين ابن خلدون المالكي إلى غير ذلك وبالله الكريم عوني وإياه أسأل عن الخطأ صوني إنه قريب مجيب. .
وهذا المجلد في 267 ورقة مرتبة على حروف المعجم يميل فيه المؤلف إلى الاختصار وفيه من تراجم المشاهير ترجمة أبي جعفر ابن الزبير والشهاب الأذرعي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن فضل الله العمري وعماد الدين ابن كثير وابن الوردي وابن الشهاب محمود وابن المطهر الشيعي والصلاح الصفدي والعلائي والطوفي وابن خطيب داريا وابن عقيل وابن القيم وبرهان الدين القيراطي وابن هشام وابن رجب وابن جماعة والتاج السبكي والأردبيلي والتقي السبكي والسلطان محمود غاران والحافظ البرزالي وابن الأكفاني والحافظ اله1بي وشيخ الربوة ولسان الدين ابن الخطيب والخطيب القزويني والكمال ابن الزملكاني وابن دقيق العيد والبدر البلقيني وابن الوكيل وابن سيد الناس وابن نباتة وابن الحاج وابن المكرم والشمس القونوي وأبو حيان الأندلسي وقطب الدين الشيرازي والحافظ المزي وغيرهم ممن كانوا غرة ذاك القرن.
كما أن فيه من الخاملين ممن لا تسقط لهم على تراجم ولو مختصرة إلا في هذا السفر ومن أعظم ما يلفت نظرك في هذا الكتاب روح التعصب التي كانت مستحوذة في ذاك العصر أيام كان يقتل كل من يخالف الجمهور في فكر أو مذهب فتقرأ فيه صورة مكبرة من حال ذاك القرن الذي استولت فيه على هذه البلاد الجراكسة والتتار ممن أصبحوا ألعوبة في أيدي المتعصبة من رجال الدين هاك ما قاله في ترجمة إسمعيل بن سعيد الكردي المقري المصري تفقه وتمهر في القراآت والفقه والعربية وكان طلق العبارة سريع الجواب حسن التلاوة يدري الحاوي والحاجبية ويحفظ الكثير من التوراة والإنجيل رمي بالزندقة بسبب(57/2)
أنه كان كثير الهزل وحفظت منه كلمات قبيحة حتى صار يقال له إسمعيل الكافر وإسمعيل الزنديق وطلب إلى تقي الدين الأختاي وأدعي عليه فخلط في كلامه فسجن فجاءه شخص من الصالحين فأخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقال له قل: للأخناي يضرب رقبة إسمعيل فإنه سب أخي لوطاً فاستدعى به وأعد مجلساً وأقيمت عليه البينة بأمور معضلة فأمر به فقتل بحكم المالكي بين القصرين في السادس والعشرين من صفر سنة عشرين وسبعمائة نقلته من خط القطب وذكر أنه حضر ذلك وقال كان قد نظر في المنطق فدخل في كلام لا فائدة فيه فضبط عليه. وقرأت في تاريخ موسى بن محمد اليوسفي أنه كان مشهوراً بالعلم بين الفقهاء وله فضيلة مشهور في الأدب. . قلنا وأقبح بعصر يقتل فيه العالم عقيب رؤيا يراها أحد أرباب الخيال.
وممن ضربوا على الزندقة ناصر بن أبي الفضل بن إسمعيل المقري الصالحي ولد سنة 666 ونشأ جميلاً جداً وكان صوته مطرباً فكان يقرأ في الختم والترب وحفظ التنبيه ثم ركب الباجر يقي علي فصار يقع منه كلمات معضلة وسلك سبيل التزهد ودخل إلى بغداد مع ركب العراق فيقال أنهم نقموا عليه شيئاً وهموا به فتوجه إلى ماردين ثم فر منها إلى حلب فجرى على عادته في الشطح فأنكر عليه كمال الدين بن الزملكاني وهو يومئذ قاضي حلب فقبض عليه وأرسله مقيداً إلى دمشق فقامت عليه البينة عند القاضي شرف الدين المالكي فأعذر إليه فما أبدى عذراً بل تشهد وصلى ركعتين وجهر بتلاوة القرآن ثم ضربت عنقه وذلك في ربيع كالأول سنة 726 ويقال أنه أنشد حين قدم ليقتل:
إن كان سفك دمي اقصى مرادهم ... فما غلت نظرة منهم بسفك دمي
وقال ابن الحبيب قلت فيه لما قتل:
يا أيها الهيتي هيت إلى الردى ... كم تجتري بلسان خب هالك
أرسلت من حلب لجلق موثقاً ... ونقلت بعد الشافعي لمالك
وفي الحاشية بخط ابن حيان البقاعي: قال ابن كثير ضربت عنقه بسوق الخليل على كفره واستهتاره بآيات الله وشركه وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان والشمس محمد الباجريقي وابن العمار البغدادي قال الشيخ علم الدين: وحضر قتله العلماء والأكابر وأرباب الدولة وكان يوماً مشهوداً أعز الله فيه الإسلام (!) وأذل فيه الزنادقة وأهل البدع وقد شهد مهلكه(57/3)
وكان شيخنا ابن تيمية أيضاً حاضراً يومئذ وقن أنبه وقرعه على ما كان يصدر منه اهـ. .
وقال في ترجمة السكاكيني ما نصه: محمد بن أبي بكر بن ابي القاسم الهمداني ثم الدمشقي السكاكيني الشيعي ولد سنة 635 بدمشق طلب الحديث وتأدب وسمع وهو شاب ابن إسمعيل العراقي والرشيد بن مسلمة ومحمد بن علام في آخرين وتلا بالسبع روى عنه البرزالي والذهبي وآخروتن من آخرهم أبو بكر بن المحب وبالإجازة شيخنا برهان الدين التنوخي. وأقعد في صناعة السكاكين عند شيخ رافضي فافسد عقيدته فأخذ عن جماعة من الإمامية وله نظم وقصائد ورد على العفيف التلمساني في الاتحاد وأمَّ بقرية جسرين مدة وأمَّ بالمدينة النبوية وعند أميرها منصور بن جماز (؟) ولم يحفظ عنه سب في الصحابة بل له نظم في فضائلهم إلا أنه كان يناظر على القدر وينكر الجبر وعنده تعبد وسعة علم قال ابن تيمية: هو من يتسنن به الشيعي ويتشيع به السني. وقال الذهبي: كان حلو المجالسة ذكياً عالماً فيه اعتزال وينطوي على دين وإسلام وتعبد سمعنا منه وكان صديقاً لأبي وكان ينكر الجبر ويناظر على القدر ويقال أنه رجع في آخر عمره ونسخ صحيح البخاري ووجد بعد موته في سنة خمسين وسبعمائة بخط يشبه خطه كتاب يسمى الطرائف في معرفة الطوائف يتضمن الطعن على دين الإسلام وأورد فيه أحاديث مشكلة وتكلم على متونها تكلم عارف لما يقول إلا أن واضع الكتاب يدل على زندقة فيه وقال في آخره وكتبه مصنفة عبد الحميد بن داود المصري وشهد جماعة من أهل دمشق أنه خطه فأخذه تقي الدين السبكي عنده وقطعه في الليل وغسله بالماء ونسب إليه عماد الدين ابن كثير الأبيات التي أولها.
أيا معشر الإسلام ذمي دينكم الأبيات ومات السكاكيني في صفر سنة 731 وفي الحاشية وجزم ابن كثير أن الكتاب الدال على الزندقة خطه وقال: إن فيه انتصاراً لليهود وأهل الأديان الفاسدة قال ولما مات لم يشهد دفنه القاضي شمس الدين بن مسلم ودفن بسفح قاسيون وقتل ابنه فيما بعد على قذف أمهات المؤمنين عائشة وغيرها رضي الله عنهما.
وتراجم مثل السكاكيني تؤخذ على أمثال الحافظ الذهبي وكفاه فضلاً أن مثل الذهبي والبرزالي يعدان من مفاخرهما الأخذ عنه وآثار التعصب والحقيقة لا تخفى على قراء العبارة الأخيرة. وقال في ترجمة علي بن الحسن بن أبي الفضل بن جعفر بن محمد ابن(57/4)
كثير الحلبي الرافضي قدم دمشق وأقام بها سنوات فاتفق أنه شق الصفوف الناس في صلاة جنازة بالجامع الأموي وهو يعلن بسبب من ظلم آل محمد فنهره عماد الدين بن كثير وأغرى به العامة وقال أن هذا يسب الصحابة فحملوه إلى القاضي تقي الدين السبكي فاعترف بسب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعقدوا له مجلساً فحكم نائب المالكي بضرب عنقه تعزيزاً وزجراً بعد أن كررت عليه التوبة ثلاثة أيام فأصر فضربت عنقه بسوق الخليل وحرق العوام جسده وذلك في جمادى الأولى سنة سبعمائة وخمس وخمسين.
ومن أنعم النظر في تراجم من قتلوا يتضح له أنهم كانوا على جانب عظيم من العقل والعلم وأن أكثر ما روي عنهم متقول عليهم ليجدوا السبيل إلى إقناع العامة والحكام لإزهاق أرواجهم.
وفي الدرر عدة تراجم من هذا القبيل تدل على انحطاط في ذاك العصر وأن الناس كانوا يعمدون للتشفي ممن يحبون إلى استفتاء القاضي المالكي لأن مذهب مالك يقضي بأن يكون التعزيز بالقتل أو بالحبس أو بالتشهير كما وقع لأحمد بن محمد مري البعلي الحنبلي من أشياع بان تيمية فرفعوا أمره إلى القاضي المالكي بالقاهرة فضربه ضرباً مبرحاً بحضرته حتى أدماه ثم شهره على حمار أركبه مقلوباً ثم نودي عليه هذا جزاءُ من يتكلم في حق رسول الله صلي الله عليه وسلم فكادت العامة تقتله ثم أعيد إلى السجن.
ومثل ما وقع لأحمد بن محمد البققي المصري الأديب العالم فضربوا عنقه بأمر القاضي المالكي بالطبع لأنه بدت منه كما قيل أمور تنبئ بأنه مستهزئ بأمور الديانة وأنه منحل مستحل المحرمات.
ومثل ما وقع لأحمد بن محمد بن إسمعيل الحلبي الأديب المتصوف فضبطت عليه ألفاظ موبقة فرفع أمره إلى الحاكم بحلب فحكم القاضي المالكي صدر الدين الدميري بسفك دمه فقتل وهو القائل:
إذا نلت المنى بصديق صدق ... فكان وداده وفق المراد
فحاذر أن تعامله بقرض ... فإن القرض مقراض الوداد
ومثله إسمعيل الكردي وأحمد الروسي وعثمان الدكالي وفضل الله ابن اليهودي ومحمد الباجريقي وعلي بن الحسن الرافضي وغيرهم ممن ذهبوا شهداء قضاة المالكية والمتعصبة(57/5)
من العامة وبعضهم كانوا في مظهر علماءهم الذين أوصلوا الأمة إلى هذه الدرجة من الأفكار والتصور.
ومن الغريب أنهم كانوا يخوفون حتى من كان على رأيهم من الفقهاء والعلماء فقد ذكر ابن حجر في ترجمة العلاء ابن العطار أن الشيخ شمس الدين النقيب وغيره تكلم فتاوى تصدر من أبي الحسن ابن العطر وادعوا أن فيها تخبيطاً ومخالفة لمذهب القاضي واجتمعوا عند بعض الحكام فبادروا جماعة من محبي الشيخ علاء الدين فقالوا له إنهم هيأوا شهادات يشهدون عليك بها فخارت قوته وبادر إلى الحنفي وصدرت عليه دعوى فحكم بإسلامه وحقن دمائه وبقاءُ جهاته علية!!!
وها نحن أولاء ننقل ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية لأنها تصور لك مزية هذا الكتاب وهي خير ترجمة عثرنا عليها بل تصور لك ذاك العصر الذي كثر فيه تعذيب العلماء قال ابن حجر رحمه الله: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين ابن مجد الدين ولد سنة 661 وتحول به أبوه من حران سنة 67 فسمع من ابن أبي عبد الدائم والقاسم الأربلي والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتميز وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.
وأول ما أنكروا عليه في مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 فقام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية وبحثوا معه ومنع من الكلام ثم حضر مع القاضي إمام الديون القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال الدين: من قال شيئاً عن الشيخ تقي الدين عزرناه.
ثم طلب ثاني مرة سنة خمس وسبعمائة إلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار ثم آل أمره إلى أن حبسفي خزانة البنود مدة ثم نقل في صفر سنة تسع إلى الإسكندرية ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الإسكندرية.
ثم حضر الناصر من الكرك فأطلقه ووصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وكان السبب في(57/6)
هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما وقع إليه من أمور تنكر في ذلك فعقد له مجلس في سابع رجب فسئل عن عقيدته فأملى منها شيئاً ثم أحضروا العقيدة التي تعرف بالواسطية فقريء منها وبحثوا في مواضع ثم اجتمعوا في ثاني عشره وقرروا الصفي الهندي يبحث معه ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني ثم انفصل الأمر على أنه شهد على نفسه أنه شافعي المعتقد (كذا) فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه ورفع واحداً من أتباع ابن تيمية إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعززه وكذا فعل الحنفي باثنين منهم.
ثم في ثاني عشرين رجب قرأ المزيّ فصلاً من كتاب أفعال العباد للبخار يفي الجامع فسمعه بعض الشافعية فغصب وقال: نحن المقصودون بهذا ورفعه إلى القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيمية فتشاجرا بحضرة النائب فاشتظ اتبن تيمية على القاضي بكون نائبه جلال الدين آذى أصحابه في غيبة النائب فأمر النائب من ينادي: إن من تكلم في العقائد فعل به كذا. وقصد بذلك تسكين الفتنة.
ثم عقد له مجلس في سلخ رجب وجرى فيه بين ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال: ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية قليل حتى تكون أنت رئيسهم. فظن القاضي نجم الدين ابن صصري أنه عناه فعزل نفسه وقام فأعاده الأمراء وولاه النائب وحكم الحنفي بصحة الولاية ونفذها المالكي فرجع إلى منزله وعلم أن الولاية لم تصح فصمم على العزل فرسم النائب لنوائبه بالمباشرة إلى أن يرد أمر السلطان.
ثم وصل بريدي في أواخر شعبان بعوده ثم وصل بريدي في خامس رمضان يطلب القاضي والشيخ وأن أرسلوا بصورة ما جرى للشيخ في سنة 698 ثم وصل مملوك النائب وأخبر بأن الجاسنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على الشيخ وأن الأمر اشتد بمصر على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي والشيخ إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان وعقد مجلس في ثالث عشريه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال: هذا عدوي ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه فأقيم في المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس تتردد إليه فقال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر(57/7)
إلى الجب وعاد القاضي الشافعي على ولايته ونودي بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصاً الحنابلة. فنودي بذلك وقرئ المرسوم قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي (؟).
وذكر ولد الشيخ جمال الدين ابن الظاهري في كتاب كتبه لبعض معارفه بدمشق أن جميع من بمصر من القضاة والشيوخ والفقراء والعلماء والعوام يحطون على ابن تيمية إلا الحنفي فإنه يتعصب له وإلا الشافعي فإنه ساكت عنه وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتاباً يعاتبه على ذلك فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير. وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظمه.
وقام القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة. واتفق أن قاضي الحنابلة شرف الدين الحراني كان قليل البضاعة في العلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد وأسلموه خطه بذلك واتفق بأني قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيمية وكتب في خطه مخ0تصراً بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب منه بخطه ثلاثة عشر سطراً من جملتها: منذ ثلثمائة سنة ما رأى الناس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي ثم لم يلبث الأذرعي أن عزل في السنة المقبلة وتعصب سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أن يشترطون معه شرطاً وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع من الحضور إليهم واستمر.
لم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث والعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء وكتب عليه محضر بأنه قال: أنا أشعري ثم وجد خطه بما نصه: الذي اعتقد أن القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديم وهوليس مخلوق وليس بحرف ولا صوت وأن قوله الرحمن على العرش استوى ليس على ظاهره ولا أعلم كنه المراد بل لا يعلمه إلا الله والقول في النزول كالقول في الاستواء وكتبه أحمد ابن تيمية.(57/8)
ثم اشهدوا عليه أنه تاب مما ينافي ذلك مختاراً وذلك في خامس وعشرين ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم وسكن الحال وأفرج عنه وسكن القاهرة.
ثم اجتمع جمع من الصوفية عند تاج الدين ابن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريق وأنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فاقتضى الحال أن أمر بالمسير إلى الشام فتوجه على خيل البريد وكل ذلك والقاضي زيد الدين ابن مخلوف مشتغل بنفسه بالمرض وقد اشرف على الموت وقد بلغه سفر ابتن تيمية فراسل النائب فرده من بلبيس وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني وقيل ابن علاء الدين القونوي أيضاً شهد عليه فاعتقل بسجن حارة الديلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر سنة تسع وسبعين فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه وأنه يتكلم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الإسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر وكان سفره صحبة أمير مقدم لمك يمكن أحداً من جهته من السفر معه وحبس برج شرقي ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحاً فصار الناس يدخلون إليه ويقرأون عليه ويبحثون معه. قرأت ذلك في تاريخ البرزالي فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأمر المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان: قد تاب. وسكن بالقاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزاة في سنة 12 وذلك في شوال فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدة غيبته عنها أكثر من سبع سنين وتلقاه جمع كثير فرحاً بمقدمه وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة.
ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة 19 بسبب مسالة الطلاق وأكد عليه المنع من الفتيا ثم عقد له مجلس آخر في رجب ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة إحدى وعشرين ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة 26 بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة 827.
قال الصلاح الصفدي: كان كثيراً ما ينشدني:
تموت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عوادها ما بها(57/9)
وما أنصفت مهجة تشتكي ... أذاها إلى غير أحبابها
وكان ينشد كثيراً:
من لم يقد ويدس في خيشومه ... رهج الخميس فلن يعود خميسا
وأنشد له على لسان الفقراء:
والله ما فرقنا اختيار ... وإنام فرقنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى ... واكلنا ما له عيار
تسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار
وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عنه وكأبي حيان كذلك وغيرهما قال ورثاه محمود بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين ابن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين ابن غانم وشهاب الدين ابن فضل الله وزين الدين ابن الوردي وجمع جم وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة.
قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجح وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه قال: وما رأيت أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردوها منه ولا أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة وكان ىية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه وأما أصول الديانة ومعرفة أحوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه هذا مع ما كان عليه من المكارم والشجاعة والفراغ من ملاذ النفس ولعل فتاويه في النون وتبلغ ثلثمائة مجلد بل أكثر وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
قال: ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته بالله وكثرة توجهه وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشراً من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع كان كبارهم خاضعين لعلومه معترفين بشفوفه مقرين بندور خطائه وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له ولكن ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك.(57/10)
قال: وكان محافظاً على الصلاة والصوم معظماً للشرائع ظاهراً وباطناً ولا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط ولا من فقلة علمه فإنه بحر زخار ولا كان متلاعباً بالدين ولا ينفرد بمسائل بالتشهي ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن يناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر على خطائه وأجران على إصابته إلى أن قال:
تمرض أياماً بالقلعة تمرضاً جداً إلى أن مات لية الاثنين العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بجامع دمشق وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفاً.
قال الشهاب بن فضل الله لما قدم ابن تيمية على البريد إلى لاقاهرة في سنة سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد وأغلظ القول للسلطان والأمراء ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم ديناراً ومخفقة طعام فلم يقبل من ذلك وأرسل له السلطان بقجة قماش فردها قال ثم حضر عنده شيخنا ابو حيان فقال ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها:
لما أتاني تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وزر
على محياه من سيما الأولى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبراً ... حبر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... قام سيد تيم غذ عصت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طالت له شرر
كنا نحدث عن حبر يجيء فها ... أنت الإمام الذي قد كان ينتظر
قال ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلط ابن تيمية القول في سيبويه فنافره أبو حيان وقطعه بسببه ثم عاد ذاماً له وصير ذلك ذنباً لا يغفر قال: وحج ابن المحب سنة 734 فسمع من أبي حيان أناشيد فقرأ عليه هذه الأبيات فقال قد شتها من ديواني ولا أذكره فسأله عن السبب فقال: ناظرته في شيءٍ من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال ليس بشيءٍ قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب وبقال أن ابن تيمية قال له ما كان سيبويه نبي النحو ولا كان معصوماً بل أخطأ في أكثر من أربعين موضعاً وما تفهمها أنت فكان(57/11)
ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوءٍ وكذلك في مختصره النهر ورثاه شهاب الدين ابن فضل الله بقصيدة رئية مليحة وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى. ورثاه زين الدين ابن الوردي بقصيدة لطيفة طائية قال كمال الدين السومري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب فيطالعه مرة فينتقش في ذهنه وينقله من مصنفاته بلفظه ومعناه.
وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخرى وما من فن إلا وله فيه يد طولى وقلمه ولسانه متقاربان.
قال الطوفي: سنعته يقول: من سألني مستفيداً حققت له ومن سألني متعنتاً ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته وذكر تصانيفه وقال في كتابه أبطال الحيل عظيم النفع: وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث ويورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه فيأخذ منها ما يشاء ويذر. ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زها على أبناء جنسه واستشعر بأنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيءٍ فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر وقال في حق علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين. وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه بكلام قوي فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ.
واتفق أن السيخ نصراً المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي لأنه كان يعتقد بأنه مستقيم وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه فأرسل ينكر عليه فكتب إليه كتاباً طويلاً ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد فعظم ذلك عليهم وأعانه عيله قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد منكرة (؟) وقعت منه في مواعيده وفتاويه فذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا. فنسب إلى التجسيم(57/12)
ورده على من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم واستغاث فاشخص من دمشق في رمضان سنة خمس (بعد السبعمائة) فجرى عليه ما جرى وحبس مراراً فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصراً قام على الشيخ كريم الدين الأيلي شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه وعلى شمس الدين الحريري فأخرجه من تدريس الشريفية فيقال أن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يوماً فلم يخرج حتى زالت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وأطلق ابن تيمية إلى الشام.
وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستوي على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أن لا أسلم أن التحيز والانقسام منة خواص الأجسام فألزم بأنه يقول ثبت (؟) التحيز في ذات الله تعالى.
ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغاث له وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اشد الناس عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض المحاضرين: يغزز فقال البكري لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصاً يقتل وإن لم يكن لا يعزز.
ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة وأن عثمان كان يحب المال ولقوله أبو بكر أسلم شيخاً لا يدري ما يقول وعلي اسلم صبياً والصبي لا يصح إسلامه على قول ولكلامه في قصة خطبة ابنة أبي جهل وما فيها من الثناء على. . . وقصة أبي العاص بن الربيع وما يوجد من مفهومها فإنه مشنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم ولا يبغضك إلا منافق.
ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيداً قال: وكان من أذكياء العالم وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن أبي بكر السكاكيني عمل أبياتاً على لسان ذمي في إنكار القدر وأولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأعظم حجة(57/13)
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
فوقف عليها ابن تيمية فثنى إحدى رجله على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة واسعة عشر بيتاً أولها:
سؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم رب العرش باري البرية
وقال شيخ شيوخنا الحافظ ابن سيد الناس في ترجمة ابن تيمية وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين قال: فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكان يستوعب السنة والآثار حفظاً إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، بزر في كل فن على أبناء جنسه، فلم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحره العذب النمير، ويرتعون ممن ربع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد وألب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليهم من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً، أوسعوه بسببه ملاماً، وفوقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينسبون من الفقر إلى طريقه، ويزعمون أنه على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، وكشف تلك الطرائق، وذكر لها مراغم وموابق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعته، فأوصلوا إلى الأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا المحاضر، وألهبوا الرويبضة (؟) للسعي بها عند الأكابر وسعوا في نقله إلى حاضرة المملكة بالديار المصرية فنقل، وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من عامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وليس بالمجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المجامل وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كل من نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه(57/14)
ذلك إلى حيث ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله والى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهوداً ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتبركون بمشهده يوم تقوم الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.
وقال الذهبي مترجماً له في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه وتصانيفه نحو أربعة آلاف كراسة وأكثر.
وقال في موضع آخر وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير وفي موضع آخر وله باع طويل في معرفة أحوال السلف وقلَّ أن تذكر مسألة إلا ويذكر فيها المذاهب والأئمة وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده ومن بحفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر من يكون وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين.
وقال في موضع آخر: بصيراً بطريقة السلف واحتج له بأدلة وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحج عنها غيره حتى قام عليه خلق من العلماء بالمصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق اذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فجرى بينهم حملات جزئية ووقعات شامية ومصرية ورموه عن قوس واحدة ثم نجاه الله سبحانه وتعالى وكان دائم الاشتغال كثير الاستغاثة قوي التوكل رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها.
وكتب الذهبي إلى السكبي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية وفرط ذكاءه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره في نفسي أكثر من ذلك وأجل ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان بل من الزمان.(57/15)
وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين خليل العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسيدنا وإمامنا فيمت بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق السالك بمن اتبعه أحسن طريق ذي الفضائل المتكاثرة والحجج الباهرة التي أقرت الأمم كافة أن همها عن حصره قاصرة متعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة وهو الشيخ الإمام العالي الرباني والحبر البحر القطب النوراني إمام الأئمة بركة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين شيخ الإسلام حجة الأعلام تقي الدين. . . سيف المناظرين برح العلوم كنز المستفيدين ترجمان القرآن أعجوبة الزمان فريد العصر والأوان. . . حجة الله على العالمين اللاحق بالصالحين للماضين مفتي الفرق ناصر الحق علامة الهدى عمدة الحفاظ ركن الشريعة كنز المعاني والألفاظ ذي الفنون البديعة أبي العباس ابن تيمية اهـ.
هذه ترجمة نابغة الإسلام وأعجوب علماء القرون الوسطى ولو لم يكن في هذا الكتاب سوى ترجمته لكان كافياً في طبعه والكتاب نسخة نفيسة نادرة في بابها لأن ناسخه عالم محقق ويعتاد الإنسان قراءة خطه على إعجامه بعد قراءة بضع صفحات منه وقد طمست بعض سطوره من أوائل بعض الصفحات لماء أو رطوبة ولكن يسهل إثبات الصحة ولو بمراجعة بعض المظان المطبوعة وغيرها.
والكتاب كما تقدم بخط البرهان البقاعي المفسر قال في آخره: قال شيخنا شيخ الإسلام والحفاظ مصنفه ومن خطه نقلت النسخة التي نقلت منها هذه فرغ منه جامعه سوى ما ألحق فيه بعد تاريخ فراغه في شهور سنة ثلاثين وثماني مائة ثم ألحق فيه إلى سنة سبع وثلاثين ولم يكمل الغرض من الإلحاق لبقايا من تراجم في زوايا لم أستوعبها بعد أعان الله تعالى على استكمال ذلك بمنه وكرمه آمين. قلت (البقاعي) وكانت كتابتي فيه للنسخة الأولى في ربيع الآخر سنة 855 وعسر عليَّ قراءة كثير من النظم الذي في التراجم وغير ذلك ثم نقلته كذلك إلى هنا والمرجو من فضل الله تعالى من تحرير ذلك ومقابلته جميعه على الأصل المنقول منه أن تيسر وتحرر ذلك من أصوله إن شاء الله تعالى وكان فراغي من هذه في 17 شوال سنة 859 بمنزلي بحارة بهاء الدين في القاهرة اهـ.
أما ابن حجر العسقلاني فهو شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر نسبة إلى حجر(57/16)
قوم تسكن الجنوب العسقلاني الأصل المصري المو لد والمنشأ والدار والوفاة ولد سنة سبعمائة وثلاث وسبعين وتوفي سنة ثمانمائة واثنين وخمسين والمؤلف هذا معدود من أئمة الشافعية وله غير ذلك من الكتب منها تاريخ مرتب على السنين سماه أنباء الغمر في أبناء العمر وفي المكتبة الظاهرية مسودته بخط مؤلفه وهي لا تكاد تقرأ لما فيها من سقم الحروف والشطب والتعليق قال في مقدمته: وبعد فيقول العبد الضعيف أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمود بن أحمد بن حجر العسقلاني الأصل المصري المولد القاهري الدار هذا تعليق جمعت فيه حواذث الزمان منذ مولدي سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة وهلم جرا مفصلاً كل سنة أحوال الدول ووفيات الأعيان مستوعباً لرواة الحديث خصوصاً من لقيته أو أجاز لي إلى أن قال وسميته أنباء الغمر في أبناء العمر.
وهاك نموذجاً من تأليفه: سنة سبع وسبعين وسبع مائة: فيها في المحرم طهر السلطان أولاده وعمل لهم مهيا عظيماً أنفق فيه من الأموال ما لا يحصى وظهر فيه من الفواحش والقبائح ما لا مزيد عليه واستمر ذلك سبعة أيام. سنة أربع وسبعين وسبع مائة: وفيها كان الوباءُ بدمشق فدام مدة تسعة أشهر وبلغ العدد في كل يوم مائتي نفر. سنة أربع وتسعين وسبع مائة: هجم على النائب بدمشق خمسة أنفس فقتلوه وأخرجوا من الحبس من الميكاسه (؟) وهم نحو مائة نفر وملكوا القلعة لحاجبهم الحاجب في عسكر دمشق وضيق عليهم إلى أن غلبوا فأحرق عليهم الباب وأمسكوا الثائرين فلم يبقوا منهم إلا من هرب.
وقال في أول الجزء الثاني وهو يبتدئ بأول القرن التاسع من الهجرة ما نصه: دخلت سنة إحدى وثماني مائة وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الظاهر أبو سعيد برقوق وسلطان الروم أبو زيد عثمان وسلطان اليمن من نواحي تهامة الملك الأشرف ومن نواحي الجبال الإمام الزيدي الحسني وسلطان المغرب الأدنى أبو فارس عبد العزيز الحفصي وسلطان المغرب الأوسط المريني وسلطان المغرب الأدنى ابن الأحمر وصاحب البلاد الشرقية تيمور وكان المعروف باللنك وصاحب بغداد أحمد بن إدريس وأمير مكة حسن بن عجلان والخليفة العباسي أبو عبد الله المتوكل على الله ويدعى أمير المؤمنين وينازعه بهذا الاسم الإمام الزيدي وبع ملوك المغرب وصاحب اليمن.
وقد امتد الكتاب إلى سنة خمسين وثمانمائة وبدئ بعد سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة وقد(57/17)
ذكر صاحب كشف الظنون أذيلاً لأنباء الغمر فمن لنا بأن نظفر بالأصل والفرع ويطبعا كما يطبع الدرر الكامنة.
وأما ناسخ الكتاب فهو برهان البقاعي صاحب المناسبات ترجم له الضوء اللامع ترجمة مطولة وكلها مطاعن لأنهما تدارسا العلم في سن الطلب واستفاد كل منهما من الآخر على عادة الطلبة فمما قاله فيه إنه إبراهيم بن عمر البقاعي برهان الدين وكنى نفسه أبا الحسن الخرباوي البقاعي صاحب تلك العجائب والنوائب والقلاقل والمسائل المتعارضة المتناقضة ولد فيما زعم تقريباً سنة تسع وثمانمائة بقرية يقال لها خربة روحا من عمل البقاع ونشأ بها ثم تحول إلى دمشق ثم فارقها ودخل بيت المقدس ثم القاهرة قال ووقائعه كثيرة وأحواله شهيرة ودعاويه مستفيضة أهلكه التيه والعجب وحب الشرف والسمعة بحيث زعم أنه قيم العصرين بكتاب الله وسنة رسوله إلى غير ذلك من المطاعن التي وجهها إليه وظهرت فيها نواجذ الشر والعداوة على أنه من أهل العلم المذكورين في عصره والمعدودين من محاسن دهره ولو لم يكن له إلا تفسيره في تناسب الآيات والسور الذي لم يؤلف في الإسلام مثله لكفاه فضلاً ورحل في آخر أمره إلى دمشق واتخذها موطناً وتوفي في رجب سنة 885 ودفن في مقبرة الحمرية ظاهر الشويكة في دمشق الشام ويوجد في المكتبة الظاهرية من تفسيره المنوه به نسختان عورضت إحداهما على مؤلفها وبها خطه رحمه الله.(57/18)
المسلمون والبولونيون
في الغرب من مملكة روسيا وفي الجنوب من بروسيا وفي الشمال من النمسا بلاد متنائية الأطراف وساعة البقاع مخصبة الرباع كثيرة الأنهار والغابات والمناجم اسمها بولونيا أي السهل باللغة الصقلبية وهي المعروفة في تواريخ الأتراك باسم لهستان قضى عليها نكد الطالع أن تفقد استقلالها لاختلاف كلمة أمرائها وأبنائها منذ نحو قرن ونصف فتقاسمتها روسيا والنمسا وألمانيا وتبلغ مساحة بولونيا الروسية وفيها عاصمة البلاد القديمة فارسوفيا 127. 319 كيلومتراً مربعاً وسكانها 9. 456. 000 واذا أضنا إليهم سكان بولونيا النمسوية وبولونيا الألمانية يبلغ عددهم نحو عشرين مليوناً بحسب تقدير الجغرافيات الحديثة من أهل أوربا يدين نحو نصفهم بالكثلكة وباقيهم إسرائيليون وبرتستانت ومسلمون تاتار.
ومناخ هذه البلاد شديد ول
كنه معتدل في الجملة اذا قيس بمناخ روسيا وهو حار في الصيف بارد جداً في الشتاء وتقل فيها الثلوج وتجمد فيها الأنهار في الشتاء من شهرين ونصف إلى ثلاثة أشهر ونصف وقد انتشرت فيها الصناعات لكثرة ما فيها من الفحم الحجري فأصبحت أهم أقاليم روسيا من هذه الوجهة أما التجارة فتاد تكون محصورة في أيدي الإسرائيليين.
وتاريخ هذه الأمة قديم غامض أشبه بأساطير حتى القرن التاسع للميلاد وغاية ما يعلم أن هذه الأقطار الممتدة بين البحر الأسود وبحر البلطيق كان يسكنها في الأصل شعوب اسمها الأنتس والهنت والفاند ثم نزلها الصقالبة. وأول زعيم أنشأ مملكة بولونيا فلاح صالح اسمه بياست فحكمها إلى سنة 1333 ودخلت النصرانية إلى بولونيا على يد ميسيسلاس الأول (962_922) وانضمت بلاد ليتوانيا إلى بولونيا في القرن الرابع عشر بزواج هدويج ابنة كازمير الأول (1333_1370) من لاديسلاس جاجلون.
وفي أوائل القرن الخامس عشر أي وفي العهد الذي بدأت تنشأ في أوربا ممالك مطلقة الحكم مستبدة السلطان بدأ الفشل السياسي والفوضى الإدارية تدب في مملكة بولونيا مما عجل تقسيمها وحذفها من رقعة السياسة الأوربية وذلك لاختلاف مصالح البلادين ليتوانيا وبولونيا واختلاف لسانيهما فكانت مجالس النواب في الولايات متباينة المقاصد تعاكس الملك في أقل الأمور حتى في عزل الموظفين الذين كانوا يعينون بلا عزل مدة حياتهم(57/19)
وأقل صاحب رأي في الانتخاب يوقف عمل الأكثرية ويفسد عليها أمرها حتى انقلبت الحال بعهد أن كتب النصر لبولونيا على الهوسيين وفرسان حملة السيوف أن تبقى بلا حكومة ولا جيش ما خلا أيام أسرة جاجلون.
وقد بدأ انحطاط بولونيا على عهد سيجسموند فازا سنة 1618 فأصبحت المملكة بدون مالية ولا بيت ملك وطني بل كان ينتقل الملك من فرنسوي يعينه مجلس النواب إلى مجري هذا وليس للبلاد حدود طبيعية تحميها من هجمات المهاجمين.
ثم عادت إلى البلاد بعض حياتها على عهد يوحنا سوبيسكي (1674_1695) فأصبح لها بعض مجد بجيش لها نظمته فبالجيش البولوني أنقذت فيينا من أيدي العثمانيين الذين حاصروها ولكن لم تعد نجاة البولونيين للنمساويين بشيءٍ من الفائدة عليهم ولا على حكومتهم. وخلف المنتخب فريدرك أغطس في ساكس ملكها سوبيسكي فاستند إلى إمارته سكسونيا فاستقام له أمر بولونيا ثم خلع وتداخلت روسيا في أمره ثم نشأ خصام بين بيوت الملك في بولونيا يدعي كل منهم حق التملك على البلاد وفي سنة 1764 قضت إرادة كاثرينا الثانية صاحبة روسيا بتأييد ساتنيسلاس بونيانوفسكي على عرش السلطنة البولونية وفي وسط ذاك الاضطرابات كثرت الانقسامات الداخلية وجاءت الفتن الدينية التي كانت هادئة هناك فانضمت إلى المنافسات السياسية وذلك بما تخلل الأمر من عبث الأصابع الأجنبية فاستصرخ الأروام كاثرينا الثانية إمبراطورة روسيا واستنجد البرتستانت ماري تريز ملكة النمسا وفريدرك الثاني. وكان لروسيا نفوذ في مجلس نواب سنة 1766 فسعت إلى إطلاق حرية المذهب وألفت حرية الانتخاب فاستقام أمر الحكومة وكان الاضطراب عندما ألفت سنة 1768 اتحاد بار يضمن احترام الاستقلال الوطني ولكن كان قد سبق السيف العذل فتقرر بين روسيا والنمسا سنة 1772 تقسيم بولونيا ولم يقاوم في ذلك من الدول سوى الدولة العلية فتقاسمت النمسا وألمانيا وروسيا تلك المملكة العظمى وفي سنة 1795 قسمت البلاد نهائياً فوقعت العاصمة أي فارسوفيا من حصة روسيا وكراكوفيا وفيها كلية بولونيا العظمى من حظ النمسا ونالت بروسية بقية المملكة ثم نظم جزء منها مملكة جديدة ولكنها انتفضت وثارت سنة 1830 فدخل الروس إلى فارسوفيا بعد أن أبلى البولونيون بلاءً حسناً فانحلت مملكة فارسوفيا وأقفلت كلية فلينا البولونية وصادرت الأموال(57/20)
ونفت الرجال فأصبحت بولونيا ولاية روسية وقام البولونيون سنة 1863 ثانية وحملهم على الانتفاض وما رأوه من اشتغال روسيا في حرب الشرق فألف البولونيون منهم عسكراً لا يبقي ولا يذر بالنظر لقلة عدده تمكنت روسيا من قمع جماح الفتنة بعد سنة من نشوبها وما فتئ منذ ذاك العهد حال بولونيا في الولايات الروسية آيلا إلى نزع لغتها وإبدالها باللغة الروسية وتدريب أهلها على المناحي الروسية وكذلك حال ولايات بروسيا آخذة بالصبغة الألمانية الجرمانية.
هذا إجمال من تاريخ انقسام مملكة بولونيا أما حالتها الأدبية والعمرانية فإن لغتها من فروع اللغات السلافية الغربية وقريبة جداً من اللغة الكاسوبية واللغة البولابية.
وفي بولونيا عدة لهجات وقد نشأ من كلية كراكوفيا التي أنشأها كازمير الأكبر عدة رجال في الفلسفة والعلم منهم كوبرنيك الفلكي ونجحت اللغة البولونية على عهد ملوكها من أسرة جاجلون وذلك بفضل دعاة المذهب البرتستانتي الذين اختاروا نشر تعاليمهم بلغة الشعب وعلى يوحنا كوشانوفسكي سلم ذوق اللغة وتألفت على القواعد العلمية المألوفة لليونان والرومان ودام ذلك إلى القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر وهما قرنا الانحطاط لأن القوم شكغلوا بالفتن الداخلية فلم يعد أحد ينظر في الأدب وداهمت اللغة مفردات من اللغات الأجنبية.
وقد نشأ للآداب البولونية شعراء وكتاب كبار ومؤلفون ووعاظ وأثريون ومؤرخون وجغرافيون وقصصيون ودخل الشعر البولوني عل عهد الثورة سنة 1830 في طور جديد وأثر على عقول الناهضين من شبانهم أحوال الفتن وانطلقت ألسنتهم بالشعر الممزوج بعواطف النفوس المتألمة ودامت طبقة الشعر في ارتقاء إلى أواخر القرن التاسع عشر بما تنشأ لهم من الشعراء بل والشاعرات المجيدات الذين حركوا كوامن النفوس وهيأوها لمطلب الكمال والاستقلال وساعد القصصيون خاصة بما نشروه من الأساطير والروايات على ترقية اللغة البولونية وإدخال حياة جديدة فيها في العهد الأخير دع عنك من خرج من هذه الأمة من الفلاسفة والمؤرخين.
وإن ما بقي من الآثار القليلة والعاديات في تلك البلاد ليدل دلالة واضحة على أن قدماء الصقالبة كانوا يحبون الصناعات والفنون وكذلك كانت الحال في القرون الوسطى في(57/21)
بولونيا فإن ملوكها حموا حمى الصنائع النفيسة فكانوا يأتون من إيطاليا بالبنائين والنقاشين المصورين حتى جاراهم البولونيون ونافسوهم في هذه الأعمال بعد.
ولكن الفتن التي استطار شرارها في القرنين الأخيرين سلب من نفوس البولونيين قرارها فهاموا على وجوههم بعد فقد استقلالهم في طول أوربا وأميركا وعرضهما وكثر منهم المهاجرون ولاسيما إلى أميركا الشمالية حتى قيل أنهم بلغوا نحو مليوني بولوني يحافظون إلى اليوم على لغتهم وآدابهم وعاداتهم القومية.
وللبولونيين غرام فائق في احتفاظهم بلغتهم وبتناغيمهم بتاريخهم فتراهم كلما طال المطال على تمزق ملكهم يحنون لاسترجاعه وتقوى عزائمهم على المطالبة به ولكن أوربا أو الساسة من أهلها قد قدت قلوبهم من حجر فلا تسمع لباك ولا تؤحم كل شاك. على أن البولونيين لم يعتمدوا بعد التجارب الكثيرة إلا على أنفسهم فكانوا وما زالوا يستعدون في بلادهم وخارجها للتربية الحربية حتى لا تزول منهم ملكة الكر والفر وقد أنشأوا لغرض الاستقلال جمعيات بثوا دعاتها في بلادهم وفي أوربا وأميركا يجمعون المال إلى أيام الشدة وهاذ المال يحفظونه في الغالب في فروع جمعياتهم في سويسرا وقد صرفوها كلها في الفتن الأخيرة التي ثارت في بولونيا الروسية عقيب حرب روسيا مع اليابان فكانت تأتينا أخبار فارسوفيا بفظائع البولونيين وشدة حكومة روسيا في قطع دابر الفتنة. وفي سويسرا أيضاً حفظ البولونيون تاج آخر ملكهم وصولجانه ونموذجاً من ألبستهم جعلوها في متحف خاص.
ولما انتشر ت الحرية بعض الشيء في روسية تنفس خناق البولونيين وقاموا يعيدون أمجاد آبائهم بمدارسهم ولم تنل روسيا مأرباً من نزع لغتهم وتلقينهم لغتها بالقوة بل عادت اللغة البولونية أكثر انتشاراً مما كانت قبل انقسام بلادهم ومن الغريب أن التشتت الذي أصاب أهلها والسعي الحثيث في معاملة مدارسها بالشدة في ألمانيا وروسيا لم تسفر إلا عن اندماج كثير من اليهود الجرمانيين في الجنسية البولونية لأن البولونيين من أقدر الأمم على جلب غيرهم إليهم كأن من خواص شعبهم أن يأخذ ولا يعطي.
كانت النمسا وما زالت أرفق الدول الثلاث الكبرى التي تقاسمت بينها بولونيا بهذه الأمة ولغتها وآدابها وعاداتها ولذلك كان إخلاص البولونيين لها أكثر من إخلاصهم للألمان(57/22)
والروس لأنمها ساوتهم بسائر عناصرها فلم يستثقلوا ظلها ولا تبرموا بإدارتها.
ولكثرة اندماج الألمانيين والإسرائيليين بالبولونيين من حيث يشعرون ولا يشعرون زادت نفوس فارسوفيا زيادة هائلة حتى بلغت الآن ثمانمائة ألف وكانت أقل من خمسين ألفاً وعدت من عواصم بلاد أوربا وبالنظر لخصب البلاد وعراقتها في الصناعات والتجارات ونشاط أهلها أكثر مكن سائر العناصر السلافية بلغت مداخيل المصنوعات البولونية 420 مليون روبل وكانت أقل من ثلاثين وبلغت قيمة الثروة العامة في بولونيا الألمانية نحو ألف وثلاثمائة مليون مارك وكانت نحو أربعمائة مليون.
وهكذا تجد تجارتها واسعة باتساع غاباتها ومناجمها وخصب تربتها واقتدار أهلها على الصناعة والتقليد حتى حاكوا أعرق الأمم الغربية في الحضارة ويكفي أن كوري مخترع الراديوم هو وعقيلته من أهل بولونيا وإن فغي أهل أوربا كثير ممن نعرفهم الآن فرنسويون أو ألمانيين أو نمساويين أو إنكليزيين وهم في الحقيقة بولونيون لغة ومنشأ.
وبعد فيجدر وقد اتصل بنا نفس الكلام في هذا المبحث إلى هذا الحد أن نلم بطرف من تاريخ هذه الأمة وعلاقتها بالمسلمين ولاسيما آل عثمان فقد بدأت الصلات المهمة بين بولونيا والأمم الإسلامية على عهد لاديسلاس جاجلون والسلطان مراد الثاني وحاكم بلاد المجر على ذلك العهد يوحنا هونياد وهو تابع لبولونيا وكانت تحدث على الدوام مشاكل بين جيشه وجيش السلطان وبعد حروب وفتن كتب فيها النصرة تارة للعثمانيين وأخرى للمجريين سئمت نفوس الطرفين القتال فطلب السلطان مراد التوسط بالصلح إلى صاحب بولونيا فوقع على صكه في 14 ربيع الآخر سنة 848هـ (1444) لمدة عشر سنين على أن يعيد السلطان بلاد الصرب إلى ملكها وأن تضم بلاد الفلاخ إلى المجر ويفتدي السلطان صهره محمد الحلبي الذي أسر في وقعة كونوييرا بسبعين ألف دوكا (805. 000 فرنك).
واذا صادف أن السلطان مراد تنازل عن عرش الملك لابنه محمد طمعت أوربا في السلطنة ورأت الفرصة مناسبة للنيل منها وعلى عرش فتى لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره فطلب إلى صاحب بولونيا أن يشارك الدول في تحالفهن على العثمانيين فأبي للعهد الذي عقده مع سلطان العثمانيين فأرسل البابا إليه أوجين الرابع يصرح بنه لا خشية في بعض الأحوال من الحنث بالأيمان ومثل له بنفسه إذ أنه جهز ثماني سفن على نفقته وسمى نفسه(57/23)
رئيس العصبة فاضطر صاحب بولونيا أن يسير على الخطة التي رسمها إمام الأحبار فأنفذ بعوثه إلى إقليم تراسيا واشتبك القتال بين المجريين والبولونيين والفلاخيين من جهة والعثمانيين من جهة أخرى ونزل السلطان مراد بنفسه إلى ساحة الوغى بدل ابنه الذي خلفه فقتل أحد شيوخ العسكر العثماني واسمه خوجه خير ملك ملك بولونيا فدب الفشل في الجيش المتحزب كله وذلك في رجب سنة 848هـ (1444).
قال المؤرخ ليونارد شودزوكو: قال السلطان مراد بينا هو يطوف ساحة الوغى مع أمين سره أريب بك لما رأى صرعى الحرب من أعدائه: أليس من الغريب أن يكون كل هذا الجيش مؤلفاً من شبان وليس فيه شيخ واحد فأجابه أريب بك: لو كان فيه شيخ واحد لما ألقى بنفسه في مثل هذه الورطة المجنونة وقد فقد جيوش المحاربين في تلك الوقعة أشياء ثمينة ومنها سجلات ملك بولونيا فقدت مع ما فقد عند مصرعه وهي خسارة كبرى.
وفي سنة 1447 كان التاتار في بلاد القريم في حروب دائمة فأجمع رأيهم على أن يحكموا كازمير جاجلون ملك بولونيا ودوق ليتوانيا فيما شجر بينهم فنزل بعض المنكوبين من التاتار بلاد ليتوانيا على الرحب والسعة وأعطاهم صاحب بولونيا أراضي يتوفرون على زراعتها وأخلصوا له ودافعوا في مواقف القتال عن حوزة بلاده وأطلق لهم حريتهم الدينية حتى استمال بذلك قلوبهم وجاء الملك لاديسلاس الرابع وأيد امتيازاتهم فأنشأوا لهم جوامع ومنارات وبعد أن كانوا بادية رحالة أصبحوا مزارعين ساكنين وادعين وفي سنة 1494 جمع يوحنا البر ملك بولونيا بعض أمراء النصرانية في جواره وتحالفوا على قتال العثمانيين فساق السلطان بايزيد جيشاً مؤلفاً من أربعين ألف جندي اجتازوا نهر الطونة وانضموا إلى الفلاخيين وهجموا سنة 1894 على بلاد بولونيا وكان صدر الأمر السلطاني إلى والي سيلسترا على بعض مواقعها في وقعتين ظفروا فيهما ولكن داهم الجيش العثماني برد قارس وثلج وأعاصير فهلك منه لأربعون ألفاً ولم يسلم سوى عشرة آلاف جندي عادوا أدراجهم يجتازون نهر الطونة.
وإذ تحالف ملك بولونيا مع ملك المجر وملك ليتوانيا اضطر السلطان بايزيد أن يبعث إلى كراكوفيا سفراء لعقد الصلح. وفي سنة 1521 أرسل السلطان سليمان الأول إلى بلاد المجر سفيراً لم يجبه المجريون إلا بخنق سفيره فساق السلطان على المجر قوة من جيشه(57/24)
غلب بها المجر ولئن أمدهم صاحب بولونيا بستة آلاف جندي لكن قوة الدولة العلية كانت أعظم وعاد السلطان سليمان في ربيع سنة 1526 أيضاً في قوة من رجاله على بلاد المجر فأمد ملك بولونيا قوة الدولة العثمانية تغلبت فكتب النصر لأعلامها وهلك في المعركة لويز الثاني ملك المجر في خمسة وعشرين ألفاً من رجاله.
ثم سار سليمان إلى جهات المجر وأرجع البلاد إلى ملكها الشرعي وانقلبت الحال فتحالف سلطان العثمانيين مع ملكي بولونيا وفرنسا وتزوج السلطان سليمان بروكسلان من سبايا البولونيات فشغفته حباً واتخذها سلطانة شرعية وسماها خرّما وكانت على غاية من الجمال والأدب والذكاء ولكنها صرفت ذكاءها إلى الخبث فكانت القاضية على السلطان أن يعامل ابنه معاملة بربرية شهدت لها تواريخ العثمانيين فقتله بدسائسها.
وفي سنة 1572 أعانت بولونيا الدولة العلية عندما تداخلت هذه لإقرار الأمن في نصابه في إقليم مولادافيا وسعت الدولة العلية كل السعي أن يبقى التحالف مستحكماً بينها وبين فرنسا وبولونيا عوادي النمسا ولكن حكم بولونيا ملوك لم يعدوا لهذا الأمر عدته. وفي سنة 1576 تحالف السلطان مراد الثالث مع أتين باتوري أمير ترانسلفانيا وملك بولونيا وجددت المعاهدة سنة 1619.
ولكن أمير ترانسلفانيا واسمه بتلم كابور كان يطمع في الاستيلاء على المجر فحرض العثمانيين والتاتار على البولونيين فوقعت بين صاحبي بولونيا والعثمانية وقعة أخرى سنة 1620 كسر فيها البولونيون وفي سنة 1621 قام السلطان عثمان الثاني في مئة ألف من جنده قاصداً إلى بولونيا فدحر جيشه ولما رأى أنه فقد منه ستون ألفاً اضطر يوم 23 ذي القعدة 1030 إلى عقد صلح صدق عليه في الأستانة سنة 1623 سفير بولونيا.
ثم أن روسيا أهاجت خاطر السلطان مراد الرابع على بولونيا ولكن حكمة صاحب بولونيا قضت بحقن الدماء وإن كان أزمع السلطان العثماني أن يملأ بجيوشه السهل والوعر في بولونيا لكون السفير البولوني تلطف في السفارة وأغضى عما سمع من السلطان من إرادة هذا أن تدين بولونيا بالإسلام وتدك حصونها وتؤدي إليه الجزية فعقدت بين الدولة العثمانية وبولونيا معاهدة سنة 1634 كانت نافعة للبولونيين. وفي تلك السنة بدأت روسيا بحجة الدفاع عن مسيحيي الشرق تدس الدسائس.(57/25)
خدم نالي بك وهو بولوني واسمه الأصلي بوبوفسكي الباب العالي أعظم خدمة في القرن السابع عشر كما خدم البولونيين والليتوانيين فقد عينته الدولة مترجماً في الباب العالي وكان يحسن سبع عشرة لغة.
وفي سنة 1672 زادت الأخطار التي كانت تهدد بولونيا منذ سنة 1652 فكان قيصر الروس يدس الدسائس بين القوزاق والتاتار والأتراك ليحملهم على النيل من البولونيين حتى كان من السلطان محمد الرابع أن أعلن عليهم الحرب في نيسان سنة 1672 فاستولى على كاميليك بودولسكي وليوبول وعلى أهم المواقع الحصينة من إقليم روتينيا غاليسيا. فطلب صاحب بولونيا الصلح من السلطان وتخلت بولونيا للباب العالي عن بودولي وأوكرين وأن تدفع إليه جزية سنوية قدرها 220 ألف دوكا إلا أن الأمة البولونية لم ترض أن تدفع مثل هذه الجزية لما رأت فيها من العار عليها وآثرت أن تعود إلى الحرب تموت في ساحاتها من أن تقبل بشروط ارتضاها ملك لها مأفون الرأي ضعيف الحول والطول فعاد السلطان محمد الرابع إلى القتال وهاجم سوبيسكي جيوش العثمانيين في شوسيم على نهر دنيستر واستولى على المدينة ورجع العثمانيون على أعقابهم إلى بابا سوبيسكي إلى فارسوفيا للاشتراك في انتخاب ملك لبولونيا فقدر انتخابه ملكاً لها مكافأة له على الخدمة التي قدمها لأمته وعاد إلى قتال العثمانيين فهزمهم في بودوليا وأوكرانيا وفي 19 شعبان 1087 هـ عقد الصلح على أن لا تدفع بولونيا شيئاً ويبقى لها قسم من إقليم بودوليا ويحتفظ العثمانيون بكاميليك وأن تكون مفاتيح الأماكن المقدسة بيد بولونيا لأنها دولة تسامح لا تتعصب لكاثوليكي ولا لرومي ولا لبرتستانتي ولا لغيرهم من أهل الأديان وذلك على الرم من إرادة روسيا فصفت العلائق بين الدولة العثمانية وحكومة بولونيا.
ولما ساقت الدولة العثمانية على فينا مائة وخمسين ألف رجل وكادت تستولي عليها أنجد صاحب بولونيا صاحب النمسا فارتد العثمانيون عن عاصمة النمسا ثم اقتتل الجيش العثماني مع الجيش النمساوي سنة 1691 في سالانكم على نهر الطونة فغلب العثمانيون أولاً ثم انهزموا فاقدين ثلاثين ألفاً من رجالهم وفي سنة 1694 رد البولونيون العثمانيين من كامينيك برودولسكي.
ومال العثمانيون على عهد مصطفى الثاني عدة نصرات على جمهورية البنادقة واستولوا(57/26)
على الهرسك وأمدوها بالذخائر وجاز السلطان في جيشه الطونة ماراً بآق بنار (كارلسبرج) وتمسوار ولاغوس وقاتل النمساويين فقتل زعيمهم وقتل العثمانيون من الروس في أزوف ثلاثين ألفاً ثم فشل العثمانيون في غرة صفر 1108 في تسيا على يد النمساويين وكان العثمانيون يريدون إنقاذ بلاد المجر من النمسويين.
وفي خلال ذلك اجتمع ملوك أوربا للمرة الأولى لحل الاختلافات التي كانت بين الدولة العلية العثمانية وبين سبع دول من دول أوربا وبموجب ما تم من هذا الاجتماع أجعت الدلة العلية إلى بولونيا كامينيك وبودوليا وأوكرانيا وتخلت الأولى للثانية عن الخراج الذي كانت تتقاضاه منها ومنذ ذاك العهد تصافت بولونيا والعثمانية لأنهما أيقنا بدسائس حكومات أوربا التي يقصد بها إضعاف الفريقين فكانت أوربا تترك روسيا تعتدي على العثمانية وبولونيا والسويد بدون أن تطالبها بإحكام العدل والإنصاف ومراعاة حق الجوار نعم كانت تغضي عن روسيا لتنال قسطها من الأرض العثمانية والبولونية والسويدية.
نشبت حرب هائلة على عهد السلطان أحمد الثالث بين السويد وروسيا وبولونيا وسكسونيا دامت منذ سنة 1700 إلى 1709 فانهزم السويديون والبولونيون ولجئوا إلى الأرض العثمانية فنزلوا في بندر من إقليم بسرابيا فأكرمت العثمانية مثواهم إلا أن روسيا لحقت بالمنهزمين إلى الأرض العثمانية وفي خلال ذلك دخل الأسطول الروسي إلى الأستانة فاغتاظ السلطان وأعلن الحرب عاهداً بقيادتها العامة إلى الصدر محمد باشا البلطجي وحمي وطيس القتال بين عساكر الدولة يعضدها أنا من البولونيين وبين الروس في سهول هوسكب فأركب الله القائد العثماني أكتاف العدو ولكن على القائد العثماني عاد فارتشي من كاترينا الأولى ملكة روسيا وعقد بين دولته وبين الإمبراطورية الروسية معاهدة أجحفت بحقوق أمته فعزل السلطان ونفاه إلى جزيرة لمنوس وقتل خنقاً من ارتشوا معه من رجال الدولة إذ ذاك مثل وزير الداخلية ورئيس الكتاب وغيرهما وأعلن السلطان أن هذه المعاهدة بين الدولة العلية وروسية لاغية وعاد إلى إعلان الحرب على العدو سنة 1711 بقيادة يوسف باشا الصدر الأعظم فأوقفت الحرب بسعي الروس في الأستانة وعقدت معاهدة جديدة بين المتحاربين فوقع رجال روسيا على عهد الصلح ليشغلوا الدولة ويغنموا الوقت فلما أبلغوا مضمون المعاهدة للقيصر أبى الإقرار عليها فأعلن السلطان الحرب في شوال(57/27)
سنة 1124 ولم يظفر الروس في هذه الوقعة بالعثمانيين إلا أن وزارتي لندرا والهاي كوانتا تعضدانه على العثمانية وبولونيا والسويد وبمسعاهما أوقفت الدولة العلية الحروب ووقعت في أدرنة يوم 13 حزيران 1713 على معاهدة صلح إلى خمس وعشرين سنة ولم تراع فيها مصالح الدولة العلية وعادت روسيا فعقدت معاهدة أخرى مع الدولة العلية سنة 1720 من مقتضاها أنه يحق لها التدخل في شؤون بولونيا.
توفي السلطان أحمد الثالث سنة 1149 هـ وخلفه السلطان محمود الأول فحارب الفرس واضطر إلى التخلي عن تبريز وفي سنة 1149 وقع الفرس والعثمانيون على هدنة للتفرغ الدولة العثمانية لمقاومة اعتداء روسيا والنمسا. وأزمعت روسيا أن تجتاز بجيوشها بلاد بولونيا لتداهم الأرض العثمانية فاغتاظ لذلك السلطان محمود لأنه مخالف للعهد الموقع عليها ولم يسمع الروس لاحتجاج العثمانية فحاصروا مدينة أزوف واضطرت الحكومة العثمانية أن تسوق جيشاً في 6 صفر 1149 هـ (1736) وكانت قد سقطت المدينة قبل أن ينجدها الجيش العثماني واستولت روسيا على أوتشاكوف وكنبورن وعلى كوزلوف وبغجة وسراي وآق مسجد من بلاد القريم وأتى الروس من الفظائع في هذه الوقائع ما سطره لهم التاريخ بأحرف من نار حتى كتب المسيو كاستلنو في تاريخه الذي قدمه إلى القيصر اسكندر الأول بشأن هذه الوقائع ما تعريبه: إن الحملة لم تولي روسيا شرفاً فإن بلاد القريم أخرقت ودمرت وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر وتخريب أهم المصانع والآثار وتدمير المعابد وإبادة المدارس العامة وإدخال الظلام على العقول بإحراق خزائن كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعمة للنيران لا يقصد منه الحرب بل إهلاك شعب عن بكرة أبيه.
وتحالفت روسيا والنمسا محالفة دفاعية هجومية واحتالت الثانية لعقد مؤتمر مؤلف من مندوبها ومندوبي روسيا والدولة العثمانية فرأى الروس بموجب المعاهدة المبرمة أنم تلغى جميع المحالفات التي كانت أبرمت بين الدولة العلية وإمبراطورية روسيا وأن تسلم إلى هذه بلاد القريم وكوبان وجميع البلاد التي نزلها التتار ويغترف لمولدافيا وفلاخيا بأنهما إمارتان مستقلتان تحت رعاية روسيا ويعترف بأن ملوك الروس هم قياصرة وأن تدخل(57/28)
السفن الروسية حرة إلى البحر الأبيض بين خليجي البوسفور والدرندنيل فلم ترض الدولة بهذه الشروط المجحفة وعادت النمسا فاستجمعت قواها وحمي الوطيس في بلاد البلقان وهزم العثمانيون العدو حتى اضطر الروس إلى أن يحرقوا بأنفسهم أسطولهم في بحر أزوف لئلا يسقط في أيدي العثمانيين.
وفي سنة 1739 عقد الصلح بواسطة فرنسا بين الدولة العثمانية من جهة ودولتي روسيا والنمسا من أخرى وأعادت النمسا بلغراد وساباكزا وسونا وغيرها وأصبح نهر الطونة والساف تخوماً بينها وبين الدولة العثمانية وقضت المعاهدة الأخيرة على روسيا أن تهدم حصون أزوف وتاكانروج وتسحب سفنها من بحر أزوف والبحر الأسود ولا تتجر إلا على السفن الأجنبية وأن تظل القريم مستقلة وتنال لقاء ذلك حرية المذهب الأرثوذكسي في المملكة العثمانية وأن تقيم لها سفيراً دائماً في الأستانة ووعد السلطان أن يمنح لقب إمبراطورة للقيصرة حنة إيفانوفنا. ولم يجر في هذه المحالفة أي ذكر لبولونيا. وكان من نتائج هذه المعاهدة أن عرف الأرثوذكس على عهد السلطان عثمان الثالث سنة 1757 بأن روسيا تعضدهم في البلاد العثمانية فكان أول عمل لهم أن ينهبوا دير الكاثوليك في يافا وهجموا على الفرنسيسكانيين وغيرهم من الباباويين حتى في كنيسة القبر المقدس وكسروا المصابيح والآثار وغيرها وجردوا الرهبان مما كان لهم.
ولما أبى أغسطس الثالث ملك بولونيا أن يدخل مع أعداء الدولة العلية في محالفة ضدها اعترف به الباب العالي ملكاً وأرسل من قبله إلى فارسوفيا عاصمة البولونيين مندوباً سنة 1737 وذلك على عهد السلطان عثمان الثالث وكذلك أبلغ السلطان مصطفى الثالث بعد ثلاث سنين صاحب بولونيا بجلوسه على العرش وبدأت العلائق الحسنة بين الدولة العلية وحكومة بولونيا حتى كانت الدولة تصدر أوامرها المرة بعد المرة إلى عمالها في شوسيم وبندر والى خان القريم أن لا يكدروا صفو الصلات ينهم وبين بولونيا واذا نشأ على التخوم خلاف يحلونه بالحسنى.
وأدخلت روسيا في غضون ذلك جنداً لها إلى أرض بولونيا فاعترض الباب العالي عليها فأجابته بأنها تنوي إطفاء فتنة داخلية وأن العهود تقضي بأن لا تتدخل الدولة العثمانية في الشؤون البولونية ومع هذا أصر الباب العالي فاضطرت بولونيا أن تحسم الخلاف الذي(57/29)
حدث بين الشعب بداعي انتخاب ملك جديد فاتحدت بولونيا على أمر بينها تحت حماية الدولة العلية حتى أن السلطان مصطفى الثالث لما ذهب إلى جامع أيوب ليتقلد سيف عثمان الأول على العادة قدم له الجند كأس مشروب على نحو ما جرت العادة فأجابهم أنه يرجو في الربيع القادم أن يشرب معهم على أسوار بندر وضفاف دينبر.
ولقد كان جل رغائب روسيا في ذاك العهد أن تقسم بلاد السويد والدولة العثمانية وبولونيا فكانت تسعى إلى ذلك بكل حيلة وتحيد عن كل محالفة كما فعلت سنة 1767 بالاتفاق سراً مع ملك بروسيا وأدخلت جيوشها إلى بولونيا فاغتاظت الدولة العلية لذلك إذ عدت هذه مقدمة إلى جلب الدب الأكبر إلى جوارها وأعلن السلطان مصطفى الثالث الحرب على كاترينة الثانية سنة 1182 هـ.
وفي سنة 1769 أو 1770 حدثت بين الدولة العلية وروسيا وقائع كتب فيها الظفر للروس ولاسيما في الحرب البحرية التي هاجم فيها الأسطول الروسي الأسطول العثماني في نافارين وأحرق السفن العثمانية بقيادة ربان إنكليزي وأحرقت مدينة تشسما بالقرب من أزمير وسمع صوت القذائف إلى بعد خمسين فرسخاً إلى أزمير على بعد ستة فراسخ ودام الحريق من الساعة الواحدة والنصف بعد نصف الليل إلى الساعة السادسة صباحاً وكان ذلك في 3 ربيع الأول سنة 1183 هـ فخسر العثمانيون خمسة عشر سفينة في كل منها 74 إلى 100 مدفع وتسع سفن في كل واحدة منها من 15 إلى 30 وعدة مراكب واستاق الروس سفينة فيها ستون مدفعاً وخمسة زوارق ودامت الحرب بين لدولتين سنة 1771 و1772 واستولى الروس على القريم وأحبوا عقد الصلح إلا أن السلطان نشر في المحرم 1187 (1773) منشوراً يعلن فيه الحرب على روسيا فظفر الجيش العثماني عدة وقائع في سنتي 1773 و1774 وردوا الروس عن تجاوز نهر الطونة والى ما وراء سيلستر وبينا النصر كان حليف أعلامهم توفي السلطان مصطفى الثالث وكان قبيل وفاته أخذ منشوراً من حكومات بروسيا والنمسا وروسيا باتفاقهن على تقسيم بولونيا تقسيماً أولياً وذلك في سنة 1772.
وخلف عبد الحميد الأول أخاه مصطفى الثالث وفي أيامه اتفقت روسيا والنمسا على حرب الدولة العثمانية فاستوليا على أوتشاكوف سنة 1788 وفي خلال ذلك كانت ألمانيا تحاصر(57/30)
بلغراد فحزن السلطان لما نال ملكه حتى مات قهراً سنة 1789 وظل خلفه سليم الثالث يحارب تينك الدولتين ولكن ردت الجيوش العثمانية على أعقابها واستولى الظافرون على بندر وغيرها واستولى النمسويون على بلغراد وسائر مدن الطونة وفي خلال ذلك أحبت إنكلترا وبروسيا والنمسا أن تحمل روسيا على توقيف الحرب على العثمانيين لاشتغالهن بثورة فرنسا الأولى ولكن كاترينا صاحبة روسيا رأت الفرصة مناسبة لدوام الحرب وإتمام رغائبها بشأن العثمانية وبولونية إلا أن جيوش العثمانيين ظفروا في عدة مواقع بالجيش الروسي وذلك في البحر الأسود بالقرب من يكي قوله ثم بالقرب من آق ير (سباستبول) وانهزم أمير البحر الروسي في 18 أيلول سنة 1790 وتبدد أسطوله بعد خمس وستين سنة في 8 أيلول أي سنة 1855 سقطت سباستبول أيضاً وفي خلال ذلك حدثت لروسيا ما شغلها ببولونيا فعقدت الصلح مع الدولة العلية وفي سنة 1793 قسمت بولونيا تقسيماً ثانياً وفي سنة 1795 قسمت تقسماً ثالثاً بين الدول الثلاث ولم تفه دولة من الدول ببنت شفة في الاعتراض على هذا العمل إلا الدولة العلية التي اعترضت على نزع استقلال بولونيا بالقول والفعل ولكتن قدر فكان واستولت روسيا وبروسيا والنم سا على بلاد البولونيين بعد مذابح يبعث فيها الأرواح بيع المجان.
ولقد عزمت حكومات أوربا سنة 1815 أن تقيم في فينا مؤتمرا دولياً لتقرير حال السياسة وسعت روسيا أن لا يقبل مندوب من الدولة العلية فنجحت في مسعاها وكان من إثر ذلك أن أخذت روسيا تحرض اليونان والصرب والبلغار من رعايا الدولة العلية على نزع أيديهم من حكومتهم فقضي في دسائسها ألوف من هذه العناصر ومن المسلمين أيضاً.
وحدثت بين سنتي 1840 و1848 عدة فتن داخلية في البلاد العثمانية وكذلك في بلاد الفلاخ والمجر وتدخل الباب العالي في شؤون ولايات الطونة وأهم ذلك فتنة المجر ولو جرت الدولة العلية على تحالفها مع بولونيا والمجر وعنصراها من العناصر التي تحب العثمانيين كثيراً لنجحت هي وهم من غوائل سياسية كثيرة.
قلنا أن الجولة العلية ناهضت لحفظ استقلال بولونيا بالقول والفعل وذلك على عهد مصطفى الثالث الذي أعلن الحرب على كاترينا الثانية لمجرد الدفاع عن بولونيا فبعثت الدولة الصدر محمد أمين باشا إلى تخوم نهر الطونة ودنيستر سنة 1768 فحاولت كاترينا(57/31)
أن تدخل إليه السم فاكتشف المكيدة وشنق الأطباء ولكان عاد الصدر فتناول رشوة من روسيا هو وأمير موالدافيا وترجمان الباب العالي فلما اكتشف السلطان أمرهم أمر بإعدامهم في آب سنة 1769 وأرسل الباب العالي قائداً آخر ودام القتال بين البولونيين والعثمانيين من جهة وبين الروس من جهة أخرى إلى سنة 1770 وانتهى على ما مر بك آنفاً بتدمير الأسطول العثماني في تلك الوقعة المشؤومة.
فالمسلمون والبولونيون أصدقاء منذ عرفوا ما يكيد لهم أعداؤهم حتى أن بولونيا لم ترسل بجيش منها مع جيوش الصليبيين لما قام هؤلاء باستخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين. ويكفي في عناية الدولة بالبولونيين وعنايتها بالمجريين أيضاً أنها فتحت صدر بلادها لقبول المنكوبين منهم والعاملين على إنهاض بلادهم واسترجاع سلطانهم فأنزلت في أرضها على الرحب والسعة ووسدت إلى بعضهم المناصب واستعانت بهم على تقوية كلمتها الجندية والسياسية حتى أن الدولة لما أرسلت إلى مؤتمر بكرش الدولة مندوباً من قبلها في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر أعلنت بأن دول أوربا اذا رضيت بأن تعيد مملكة بولونيا إلى حالتها يعد الباب العالي علناً عن امتلاك ولاية الطونة ولذلك رأى عقلاء البولونيين أن تؤلف كتائب بولونية سنة 1854 تحت رعاية العثمانية فتألف عسكر القوزاق وكان من كتائب الدراغون التي جاءت إلى سورية أيام فتنة 1860 في جبل لبنان.
وكان من كتائب البولونيين في حرب القريم أن أبلوا مع العثمانيين بلاءاً حسناً ولما انتهت الحرب اقتطعتهم الدولة بعض القرى في ضواحي بروسة وأسسوا لهم بلدة في ضواحي الأستانة لا تزال إلى اليوم وقد دان بعض قوادهم بالإسلام مثل ميخائيل ساجوفسكي الذي سمي بعد محمد صادق باشا ولوبورد زاكي الذي لقب بمحمد حلمي وغيرهما من رجال البولونيين الذين أخلصوا الخدمة للدولة العثمانية. وابن محمد صادق باشا المشار إليه هو مظفر باشا متصرف جبل لبنان السابق.
وهكذا كان الأتراك والبولونيين يتحابان كلما طال المدى خصوصاً والعثمانيون يعلمون حسن معاملة البولونيين ايام استقلالهم للتار المسلمين النازلين في بلادهم ليتوانيا منذ سنة 1401 وكيف كانوا يعتمدون عليهم في الدفاع ويؤلفون منهم كتائب تغني غناءها في رد هجمات المهاجمين على بلادهم وكانت لهم حريتهم المذهبية والشخصية حتى كانت تسمح(57/32)
لرجالهم أن يتزوجوا من النساء البولونيات لقلة النساء عند التتار وأن يتبعن مذهب رجالهن وما قط تزوجت مسلمة من بولوني كما أنه لم يتزوج تتاري من يهودية.
وكانت بلاد بولونيا قديماً الطريق التجاري لبلاد الشرق إلى أوربا لأن بولونيا كانت أول بلاد المسلمين ولذلك ترى العادات والأذواق واحدة في البولونيين وأكثر العثمانيين وبين البلادين من لصلات التجارية شيءٌ كبير ولاسيما بعد أن زادت مدنية البولونيين ونما عددهم الذي بلغ كما قال مؤلف الكتاب الذي اعتمدنا عليه في تعريب هذه النبذة ثلاثين مليوناً وهم نازلون بحر البلطيق إلى البحر الأسود ومن نهر أودر إلى داوينا إلى دنيبر.
ذهب استقلال بولونيا منذ نحو قرن ونصف ودعاة استقلالها مازالوا منبثين في البلاد لم يدخل اليأس على نفوسهم والأب يلقن أباه والأم تلقن ولدها التناغي بالاستقلال ويعلمون أبناءهم تاريخ بلادهم وعظمتها وبطش الحكومات التي تقاسمتهم ولاسيما روسيا ويذكرون لها مذابحها وأفاعيلها فيهم فهل يوفق أولئك الدعاة الغيورون إلى ما قصدوا إليه ذات يوم أن يخضعون على الدهر لمن استصفوا أرضهم وديارهم.
إن انقضاء القرون في حياة الشعوب لا شأن له بقدر كر السنين في حياة الأفراد وما المئة سنة بالشيء الكثير على أمة تطلب التجديد ونزع ربقتها ممن يظلمها ولذلك يرجى الاستقلال لكل أمة كان لها ففقدته كالمصريين والجزائريين والهنديين وغيرهم ممن استعمرت بلادهم وأقرب الأمم باستقلال البولونيون الليتوانيون.(57/33)
الفصيح والعامي والعامي الفصيح
من مبحث لنعوم أفندي مكرزل صاحب جريدة الهدى اليومية في نيويورك.
ليس في اللغة العربية معجم واحد يستحق أن يدعى نجعة الرائد يوفر الشواهد وكثرة الفوائد وضبط الشوارد ولا في غير اللفظة ما يدل على إزالة الإبهام وكشف الغامض بإيراد أبيات فحول الشعراء وعبارات بلغاء المنشئين على صحة الكلمة والعبارة كما نرى في وبستر في الإنكليزية وليتره في الفرنساوية فترى أكثر الكتاب يتخرصون في ما لا يعذرون عليه ويتوهمون أن البيان في الدخيل والحوشيّ والبلاغة في العقيم والوحشيّ وأن كل من هرف عرف.
افللغة في حاجة إلى معجم تقام على كل حرف منه شواهد شعرية ون ثرية يسلم معها الذوق ويستقيم ويرد الكلام المدعو عامياً إلى أصله الفصيح ويعدل عن التقعر إلى السهل المقبول.
قد تهتأ ثوب اللغة حتى كاد يسقط من تقطعه فترى كل من تحيف بيانه عجمة وجدل عن ادعاء ومكابرة يتحف الفصيح ويستلب البليغ ويحرك خشاشه غضباً على كل ملك من اللغة عناناً وضبط لها بياناً ويكون لا يدري من أي الدهداء هو ولا يعرف له في عالم الأدب أصل أو فصل ولكنه يتوهم أن كل كلمة يقرأها ولا يفهم معناها تكون من الحوشيّ والوحشيّ!. وإن كل ما تداولته السنة العامة ساقط ي \ جب الترفع عنه وتكون الكلمة التي لا يفهمها من ابلغ ما جرت به أقلام المنشئين والشعراء إلا أنه لم يطالع ليعلم ولا تحرى ليفهم ويكون بعض ما تداولته السنة العامة من بقايا فصح اللغات العربية التي اعتورها التصحيف والتحريف وقليل من البحث يرجعها إلى أصلها ويقيم من اللسان مناداه على ما وقع من نحو خمسين عاماً أو اليوم إذ توكف المجتهدون أثر بلغاء العربية الأقدمين وتنشطوا للبحث والتنقيب وأقبلوا على التدقيق والتحقيق وقد ترجع مثابرتهم اللغة إلى رونقها الأول بعد خمسين عاماً تأتي.
وليس لنا حتى في مدارسنا الوطنية أثر للوطنية فترى في كل مدرسة سورية قد أوجبت على تلامذتها التخاطب بلغة غريبة عنهم حتى عند أول دخولهم بابها فيتسرب العقوق وشيءٌ من البله إلى قلوب وعقول هؤلاء الأولاد المساكين ويكون القائمون على تهذيبهم وتدريبهم من خونة الوطنية ومجرمي الآداب إذ كيف يعقل أن طالباً لا يفهم من الفرنساوية(57/34)
أو الإنكليزية أو الروسية أو الجرمنية كلمة يكلم رفيقه بإحداهن قبل انقضاء الأعوام عليه وكيف يقبل السوريون مثل هذه الشريعة الشريعة المدرسية الظالمة التي تكم فم التلميذ وتعوده الخيانة اضطراراً لقضاء حاجاته الضرورية وتنشئه على حب لغة غير لغته ووطن غير وطنه ولو أن المدارس السورية توجب التخاطب بلغة أجنبية في ساعة واحدة معينة للتلاميذ لكان إيجابها معذوراً وإن لم يكن له مثيل في أي مدارس أوروبا وأميركا وإنما هو الاحتقار يركب الطلاب! والمدرسة التي لا تصان فيها اللغة الوطنية تكون عدوة الشعب ولو كان منشؤها من الصرحاء.
إن البلاء ليس في الادعاء وحده بل في اختزال كل منا رأيه والتصرع والتصاغر للأجنبي والتمروء الظاهر تكلفه والتفوق البادي تحيفه مع الوطني وريح التخاذل حتى في اللغة تنجف كل ذروة باقية في جرفها وتحتمل كل درة كنا نعرفها قبل عصفها ولله في تدابيره شؤون.
وهناك آفة جديدة على اللغة من إهمال معاجمها المعروفة وعدم تنقيحها وتصحيحها وإدخال الموضوعات الحديثة إليها ففي أي معجم نرى تفسيراً عصرياً للمجهر والندي والرعاد والمنطاد مثلاً أو جمعاً لشتات ما أجمع على صحته المحققون أو توسعاً في الاشتقاق والنحت والقلب والإبدال والتركيب والإدغام مما لا غنى عنه في لغة حية بل نرى أن كل معجم يطبع حديثاً يجرد من الكثير من أصوله بدوى حفظ آداب الناشئة وصون أخلاقها. فليكن ذلك. ولكن بعد بذل شيءٍ من العناية لزيادة الضروري للكبار كإنقاص الضروري للصغار.
الفيلسوف اللغوي يجد في كل معجم لغوي حديث زيادة جديدة وشروحاً مفيدة إلا في العربية الباقية كالرسوم الدوارس مع تعداد المدارس. وترى المثقفين والمهذبين ينشرون صفحات الحريري والبديع ومجمع البحرين وأمثالهما لإشراب الطلبة روح المخادعة والمصانعة والجبانة والخيانة والحيلة والرذيلة على غير قصد منهم أو بقصد استظهار الشوارد والأوابد ويطوون صفحات كل كتاب يكون أفيد وأعود وأنفع وأرفع لأنهم لا يزالون كالفلاحين الشرقيين محافظين على المحاريث القديمة.
ومن عيوب العربية إيراد جموع لا مفرد لها وأفعال لا مصدر ولا ماضي لأحدها. فهل(57/35)
تقبل فلسفة اللغة شيئاً من هذا؟ وهل يعقل أن واضعي اللغة ينو كلاً من غير أجزءا؟ إننا لا ننسب هذا الخلل إلا إلى المدعي المحافظة على سلامة اللغة أو يكونون يحافظون على قديم عقيم لا يسلم به عقل سليم.
وفي اللغة عيوب كثيرة ألصقها بها غير الراسخين ونظن أنها أوان النهضة الأدبية قد آن وأنه يجب أن يعلن دستور اللغة كما أعلن دستور الحكومة.
أنا مورد الآن ما وردني من العامي الفصيح للغاية التي بسطتها في التوطئة:
تواً_اسأل عجوزاً أو شيخاً أن يدلك على بيت أو طريق في لبنان فيقول لك اذهب تواً ويشير بإصبعه والكلمة فصيحة من قولهم جاء تواً أي قاصداً لا يعرجه شيء.
بربص_يقال بربص الأرض إذا أرسل فيها الماء لتجود أو بقرها أو سقاها سقياً روياً وهو المعنى الذي تستعمل العامة كالكلمة له في بعض السواحل والقرى الغزيرة المياه أما في سائر لبنان فيفهمون البربصة رش الماء أمام البيوت والحوانيت وليس في المعنى شذوذ.
دعث_الدعث هو تدقيق الرجل التراب على وجه الأرض بالقدم.
ودعس_وقريب مه دعس الشيء إذا وطئه شديداً والغريب أن أكثر الصحافيين يعتبرون دعس عامية وأن الكتاب لا يستعملونها لزعمهم أن المعنى عامي غير تام أما دعث فلا يذكرها أحد منهم مع أن القرويين يستعملونها للرص ويقولون عن الأرض المدوسة مدعوثة وعن السطح التي تكف: يجب دعسها أو دعثها. فليتأمل القارئ.
دعك_كلمة فصيحة ويقال دعك: الثوب إذا ألان خشنته إلا أن متفرنجي اللغة لا يرون في الكلمة فصاحة فيستملون أخلق وهي لا تدل على شيءٍ من الدعك بل على البذ والإرثاث.
دعر_يقول العرب: عود دعر نخر للرديء الكثير الدخان ويفهمون الدعارة (بتشديد الراء) سوء الخلق ويقولون دعر العود إذا دخن ولم يتقد وتقول العامة رجل دعر إذا كان متصلباً جافياً وهو من المجاز الذي لا غنى عنه إلا من الناس من لا يريد أن يمتد نظره إلى أبعد من أرنبة أنفه.
دغري_في محيط المحيط أن الدغري تحريف الطوغري بالتركية ومعناه الصحيح والمستقيم فلماذا لا يرجع إلى الاشتقاق العربي فيكون معناه الاقتحام من غير تثبت وهو المعنى الذي يريده أكثر العامة إذ يقولون: اذهب دغري وذهب دغري إلى البيت وإذا وجد(57/36)
اختلاف فمما لا يعتد له.
الثغرة_يلفظ أكثر اللبنانيين الثاء بين لفظها الأصلي ولفظ التاء أو الطاء فيقولون انثغرت الثغرة ويستعملون الكلام الفصيح في المواضع التي لا يحسن كثير من الكتاب هذه الأيام استعماله فيها ولا عبرة باللفظ الذي يفسد المعنى_لو كان اللفظ يفسد معنى الكلمة لكانت اللغة الإنكليزية فاسدة في أكثر كلامها بين اللفظ الإنكليزي والأميركي والكندياني والأسترالي.
الثلم_خط المحراث ويريد البعض جعله غير فصيح من طريقة لفظه التي أشرنا إليها في الثغرة.
أحزك الحمل_شده جيداً والمكارون يستعملون هذه الكلمة الفصيحة التي لا ترضي البعض مع أن معنى حزكه عصبه وضغطه واحتزك بالثوب واحتزم.
بلصقي_اللبناني يقول: بلصقي أي بجنبي ولا يوجد أصح من هذا التعبير للمعنى المراد إلا أن استعمال العامة له جعله عند بعض الناس غير عربي كما جعل بعض الفضائل مستحى بها إلا أن أصحابنا هؤلاء ينظرون إلى الكلام نظرهم إلى المصنوعات الوطنية التي ليس لأنفسها وأدقها قيمة عندهم ولو استطاعوا أن يعاضوا عن هواء سورية العليل بهواء معل بشرط أن لا يكون وطنياً لما ترددوا.
مزعه_مزقه والكلمة عربية وعلى لسان كل لبناني.
شلخه_هبره بالسيف وجريمة العامة أنها تستعمل الشلخ للمدية والمنجل إلا أن المنتشرين على أطراف الجبل والمضطرين إلى منازلة ومقاتلة المغيرين والغزاة يقولون شلخه بالسيف.
حزّ_وعلى ذكر الشلخ نقول أن نصيب حز من (المتعصرين_ونريد بهم الذين يدعون نفوسهم عصريين بلغتنا العامية) ليس أفضل من نصيب شلخ. بقال:
حز الشيء قطعه وفي فقه اللغة للثعالبي أنه خاص بالحمم إلا أن العرب تقول حز الخشبة فرضها والعامة تقول: حزز المنشار جعل فيه أشراً ونقول أيضاً الحز للقطع والحز للقطعة ولا نرى ما يعاب به الاشتقاق.
حش_قطع الحشيش أو طلبه وجمعه والكتاب يؤثرون استعمال قطع الحشيش على حشه مع(57/37)
أن الكلمة الأصلية لا يصح غيرها لمعناها.
القلت_النقرة في الصخر يجتمع فيها الماء واصلها لنقرة الجبل يستنقع فيها الماء ويستعملها الأولاد من العامة صحيحة دون أكثر الكتاب.
غطغط_غلب النوم عليه هذا هو المعنى الأعم عند العامة ويأتي بعده معنى غليان القدر فلو قام منشئ بليغ واستعمل الكلمة لقال المنعصرون عنه أنه يأتي بالوحشي والحوشي أو أن الكلمة دخيلة لأنهم هكذا يريدون أو هكذا يفهمون.
زلق_زلقت قدمه زلت. والزلقة الصخرة الملساء وبها سميت قرية في ساحل بيروت وفي التسمية دلالة على أن اللسان العربي كان في بلادنا فصيحاً ولا تزال الآثار تشهد له إلا أن من نكد الدنيا عليه أن عار فيه_بروحه لا بلفظه_غير كثار وأن جاهلية مع الإدعاء بمعرفته جيش جرار.
زحل_عن مكانه تنحى وتباعد.
زحلقه_دحرجة ومنه تزحلق الأولاد في مطاوعه.
شخر_صات من حلقه أو أنفه ولا نريب ما يجعل الكلمة غير فصيحة في استعمالها للغطيط.
قفقف_في معاجم اللغة: قفقف الرجل ارتعد من البرد وغيره واضطرب حنكاه واصطكت أسنانه وهو المعنى الذي تستعمله العامة له تماماً إلا أن هناك م عنى آخر لم نعثر عليه في المتون وإنما ورد رواية وإسناداً في لسان العرب: قفقت الدجاجة على بيضها حضنته واستعمال الكلمة شائع في لبنان للمعنيين فهل أغرب من هذا النقص في معاجم اللغة.
وخش_الشيء كان وخشاً أي رديئاً وهذا هو لمعنى الذي تريده العامة من الوخش ضد الناعم لأنهم لا يحصون الأشياء فقط به بل يتنازلون بمعناه رذائل الناس وخشارتهم ويصيبون بكل فصاحة.
طم=بالتراب دفن وغطى.
كب=أفرغ.
طرقه_طريق.
من الحاضر_من الجاهز.(57/38)
بتكه قطعه تشديد للمبالغة.
بت_الأمر أمضاه.
بربر=صاح وأجلب وتكلم بألفاظ وحشية.
قرقر=شقشق (حاجي تقرقر وتبربر).
وكل كلمة مما مر واجبة الاستعمال في موقعها إذ ليس ما يسد مسدها.
القز=في محيط المحيط إن العامة تستعمل القز لما غزل من الفيالج المبيضة فهل هي تستعملها إلا لما استعملها الشاعر القائل:
يرفلن في سرق الحرير وقزه؟.
راز وروز=يقال رازه جربه وامتحونه وقدره وراز الرجل اختبره قال الحريري:
لا تسال المر من أبوه ورز ... خلاله ثم صله أو فأصرم
وروز كرمه روأ في تقديره وترتيبه فمات قول المتفرنجين!
نتش_نتش اللحم جذبه قرصاً والشعر نتفه.
النتفة=ما تنتفه بأصابعك والفعل نتف بمعى نزع. يرى المتروي أن معنى العامة في محله وإن أنكر المنكرون وعلى هذا المثال ثفل وثفل.
نش=الغدير أخذ ماؤه في النضوب وهو المعنى المستعمل له النش عند العامة أكثر من الحلب والنز. والنز من العامي الفصيح وهو النجل أو الماء المتحلب من الأرض.
بقبق_من من السوريين لم يسع هذه الكلمة؟ تقول العامة فلان بقبق أي يهذر وفي المعاجم أن البقبقة تفريغ الكلام على الناس وربما كانت فلسفة الكلمة في المعنى العامي الذي يتناول معنى الهذر والشقشقة والغموض.
وهم يقولون أيضاً عند إنزالهم الجرة في حوض أو الدلو في بئر أن الماء يبقبق فليطلب الأدباء الأصل لتثبت لهم فصاحة الكلمة.
قرفة_يقال بنو فلان قرفتي أي هم الذين أظن عندهم طلبتي وسل بني فلان عن ناقتك فإنهم قرفة أي تجد خبرها عندهم والعامة تستعمل الكلمة كالقراف والمقارفة مصدري قارف أي قارب.
وقراف من لا يستفيق دعارة ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب(57/39)
إلا أن أصل المقارفة للأشياء الدنيئة وما لا شك فيه أن التعميم الذي جرت عليه العامة ناتج عن المخالطة المفسدة للغة إلا أن غرضي الآن هو إثبات صراحة أكثر الكلمات الدارجة وإذا وجد في بعضها خلل فذلك من جهل المدعين فوق ما هو من مخالطة الأعاجم أما ترون كيف تستدرك العامة المعنى بقولها: مقارفة التاجر الفلاني حسنة والآخر رديئة فروح اللغة لا تزال فيهم وهم أفيد لها من الذين لا يفهمون ولا يريدون تفهم معنى الكلام.
قرف_تقول العامة قرف قمعة الشجرة أي انتزعها والأصل القشر.
تـ هذا مثل التف عندي مثل وسخ وقد لا تكون العامة تفهم أن التف هو وسخ الظفر إلا أنها أنها شيءٌ لا يعبأ به وتستعمل الكلمة فصيحة.
تفه_أصل هذه الكلمة تفه وفساد لفظها لا يفسد معناها فهي فصيحة يجب استعمالها على حد ما تستعملها العامة بعد إقامة اللفظ فهي تقول: شيء تفه وأمر تفه وكلام تفه وقولها صحيح فصحى.
هبط_لازم متعد يقال هبط بمعنى سقط وهبطه بمعنى إنزاله وأكثر استعمال العامة للفظ مشدوداً فهم يقولون هبط الحائط فأين المأخذ؟
مسماك_المسماك عود يكون في الخباء يمسك به البيت أي يرفعه قال ذو الرمة الثقفي:
كأن رجليه مسماكان من عشر ... صقبان لم تتقسم عنهما النجب
والكلمة مستعملة عند القرويين بمعناها الوضعي إلا أنهم يستعملونها لرفع الكرم أيضاً ويظن البعض أنها لا تعود فصيحة فعلى هذا المذهب الغريب لا يجوز لنا أن نضع للجامحين شكيمة ولا أن نلقي إلى الأكفاء مقاليد الأمور.
إن بلية اللغة في أبناءها المقيدين لأنهم مقيدون ولما كنا نبحث في المسماك فلا بأس في استعمال الكلمة العامية الفصيحة من أن كل من لا يكون لطيفاً يكون بالطبع سميكاً.
هبج_هبجه بالعصا ضربه وهبجه ورمه وتهبج تورم وبما أن العامة تستعمل الفعل بمجرد ومزيده لم يعد عند المنشئين فصيحاً.
هبش وهمش_لينظر العارفون إذا كان معنى الجمع والالتقاط تاماً أو لا.
جرس_المنشئون يستعملون شهر والعامة تستعمل جرس للتسميع بالناس وإشهار عيوبهم ونوقائصهم والكلمة العامية أصح وأوقع.(57/40)
ما هذه الجرسة!.
هاش_لا تلفت يا قارئي إلى هوش الكلاب وتهويشهم فإن أبناء العربية آخذون بخناقها وإنما نذكر قول العامة: الناس هائشون وقولهم: هم في هوشة وكانوا يتهاوشون للدلالة على الهرج والهيج والفتنة والفساد والاختلاط وتذكر في الوقت نفسه أن الكلمة عربية فصيحة وأن الهوش والبوش من فصيح اللغة أيضاً وإنه لا ينقصنا إلا التحقيق.
الكلمات التالية كلها من فصيح العربية المحسوبة عامياً.
الشلشلة القطران والانتشار_التمشير للرفع والتقليص_قش الشيء جمعه والأولاد والنساء في لبنان يقولون: نحن ذاهبون إلى الحقل أو الحرج نقش الوقود_هارش واثب وخارش للناس والكلاب والشيء بالشيء يذكر فالعامة تقول رجل هرش للشيخ ولنا فعل هرش الرجل يهرش إذا ساء خلقه فإذا كانت كلمة هرش عربية فهرش مصحفة وهل أقدر الأئمة لا يلحنون؟ _لازق لاصق_ولصقي ولصق بيتي بجانبي وجانبه_الهتيكة الفضيحة وهي في لسان العرب دون الفروز ىبادي ومحيط المحيط_حاص حوله أي حام_نعر صوت بخيشومه وصاح: كفى تنعر وفلان ينعر_رزه غرزه والشيء في الشيء أثبته: رز الوتد ورز العدل والمد والجراب. صول الحنطة والكلس_عزوة الرجل_نتفةٌ ونتَفه ونتَّفه_الولفْ_خارت قوته أي ضعفت_عزره لأمه ووبخه_الولودية الصغر_خنخن لم يبين ك لامه أي أبدى خنه أو غنه في خياشيمه_خنفس على القوم. كرههم وعدل عنهم ومنه فلان مختنفس والولد مخنفس. تفاصح تكلف الفصاحة_فلتة لسان وفلت لسانه_السحت الكسب من مال الحرام_نكس رأسه طأطأه_تعوق تأخر وتريث_يسرها الله: سهلها_طعمه مز: فيه مزازة أو طعم بين الحلاوة والحموضة قال الحريري:
لا أبالي من أي كاس تفوق ... م ت ولا ما حلاوة من مزازة
همدت النار: ذهبت حرارتها أطفأت البتة_نصت وتنصت: سكت مستمعاً وتسمع_خبص الشيء بالشيء خلطه وخبصه للمبالغة_الخبتة: التواضع والخشوع_تزنتر: تبختر وهي فصيحة إلا أن العامة تكره التزنتر والتبختر. حت: حك وقشر_خبطه: ضربه ضرباً شديداً.
تبقط_تقول العامة: فلان يتبقط والمعنى انه يتناول الشيء قليلاً قليلا أو شيئاً شيئا إلا أن استهزاء جهلة المتعلمين بالعامة يجعل الكلام الفصيح غير فصيح عند الأغبياء دون سواهم.(57/41)
قرفص_من اين اتت القرفصاء التي هي أنت يجلس الرجل على إليته وبلزق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه إذا كان لا يوجد لها فعل بمعناها فإن قول العامة قرفص يدل على القرفصاء إلا أن المعاجم تنكر هذا المعنى مع وضوحه. أنشد أبو المهدي:
لو امطخت وبراً وضبتا ... ولم تنل غير الجمال كسبا
ثم جلست القرفصاء منكباً ... تحكي أعاريب فلاة هلبا
ثم اتخذت اللات فينا ربا ... ما كنت إلا نبطياً قلبا
إلا أن العربية في حاجة إلى التحقيق والتدقيق. انظر إلى فرع آخر من هذا الأصل فإنهم يدعون اللصوص المتجاهرين قرافصة لأنهم يقرفصون الأسير أي يشدون يديه تحت رجليه إلا أنهم لم يذكروا يا أخي للجمع مفرداً والجموع التي لا مفرد لها غير قليلة فهل هذا معقول؟!.
نبر_من معواني نبر المعنى الذي اتخذته العامة لرفع الصوت. أنشد اللحياني:
إني لأسمكع نبرة من قولها ... فيكاد أن يفغشى علي سرورا
فلماذا لا تكون الكلمة فصيحة. لا ندري!.
نهر_بالله يا ابناء العربية ما هذه الفوضى! تقولون نهر السائل وانتهره زجره والعامة تستعمل المعنى نفسه إلا بعضها للنداء عن توسع وما يثبت وجود معنى الزجر في نهر العامة أنها لا تستعمل الكلمة إلا عند الحدة والشدة فمفسدو اللغة هم اكثر حملة الأقلام لا العامة التي لا تزال محافظة على ما لا يحافظ عليه أكثر الدارسين. وقريب من نهر نده.
تحوج_متى ذهب الناس في طلب الحاجات يقولون نحن ذاهبون نتحوج وكذلك يقولون عند شراء حوائج العروس ومع ذلك تعتبر هذه الكلمة عامية عن غير تروِ إذ ما هي بضاعة التاجر غير حاجته وجهاز العروس غير حاجتها؟
خش_أهلاً وسهلاً خش. أي ادخل وخشت الحية في الحائط دخلت والكلمة من الفصيح.
هتَّ_بماذا هتني تعيرني وتحط مرتبتي ومنزلتي.
مقمق_يجب أن يكون لنا من معنى التكلم بأقصى الحلق هذا الفعل بدليل وجود اسم فاعل منه وهو المقامق إلا أن معاجم اللغة لا تشير إلى شيء من هذا أو أن النقص الظاهر فيها تكمله العامة بقولها: فلان يشقشق ويمقمق فليزجع المنقبون إلى المتون ويعتبروا.(57/42)
طاح_ذهب وتاه في الأرض ومنه الطائح عند العامة لفار من وجه الحكومة ولا يوجد كلمة أدل على المعنى فيجب استعمالها.
أنثم الجسم_قلنا أن بعض لفظ العامة غير صحيح إلا أن كلامهم فصيح ومن الشواهد أنثم الجسم أي ذاب وضعف وبعض الدروز في لبنان لا يزالون يلفظون الكلمة على حقها ولا يبدلون الثاء سيناً وشيء من العناية يرجع إلى اللغة رونقها ولو أن الحكومة تقيم الأئمة لإقامة الكلام واللفظ لكانت تخدم البلاد والعباد مازالت مدارسنا توجب على التلاميذ التخاطب بلغة أجنبية ولا توجب عليهم التخاطب ولو لساعة بفصيح لغتهم كأن التخاطب بفصيح العربية عار وبفصيح سائر اللغات فخار.
وقوق_من فصيح اللغة أن الوقواق المكثار الوقواقة المهذارة. قال أبو البدر المسلمي:
إن ابن ترنى أمته وقوافه ... تأتي تقول البوق والحماقة
إلا أن المعاجم لا تذكر الفعل إلا لنباح الكلب واخلاط صوت الطير وعندي أن الكلمة على ما تستعملها العامة صحيحة فصيحة إذ كيف يقولون وقواق ووقواقة ولا يقولون وقوق بمعناهما ثم أن العامة تستعمل القوقة في التهكم كأنها تقول أن فلاناً يخلط ويلت فإذا رفض اللغويون إلا التقيد بسلاسل التقليد البليد فلا أقل من التسليم بصحة المجاز.
لت_ثم أن اللت هو الخلط فلماذا يجوز لنا الخلط واعتبراه فصيحاً ولا يجوز لنا استعمال اللت وهو بمعناه. فكم أنت مظلومة ايتها العامة.
فقع_مات من شدة الحر والعامة تقول فقع ومات مع تخصيص المعنى بالهم والغم إلا أن المراد ظاهر حوادث الفقع في حمارة الصيف كثيرة في أمهات مدن الولايات ويجب استعمال الكلمة إلا من مفاقيع اللغة.
تصيع الرجل=ضل. من تصيع الماء اضطرب على وزجهه وفي الحرب معنى التفرق بتردد وتحير فلماذا لا نتوسع في اللغة كما توسع العرب قبلنا.
المداس=الحذاء الحذاء الذي يلبس في الرجل والمتفرنجون يفضلون الستيك والصباط والجزمة لأن المداس ستعمل من العامة فكأنهم يحاولون إظهار تفوقهم بنبذ أصح الكلمات العربية لا لحجة إلا أن الكلمة من غير زيهم الحديث.
حبك فلاناً=دلك حنكه والغريب أن الكلمة تعد عامية متى استعملت لدلك القابلة حلق الطفل(57/43)
قبل أن يرضع فإذا كان معنى الدلك موجوداً فأين العامية في الكلمة وهي على فصاحتها. ابعط في كلامه: لم يرسله على وجهه قال رؤبة:
وقلت أقوال امرئء لم يبعط ... أعرض عن الناس ولا تسخط
وأبعط في السوم تباعد وتجاوز القدر قال حسان:
ونجى أراهط ابعطوا ولو أنهم ... ثبتوا لما رجعوا إذاً بسلام
سفق_سفقه بالكف: لطمه قال أبو منصور سفقت الباب واسفقته أجفته وسفق وجه الرجل لطمه فاستعمال العامىة لسفق في محله. دمشق_الشيء زينه. قال أبو نخيلة:
دمشق ذاك الصخر المصخر
وهذا هو المعنى العامة: شاب مدمشق وقام مدمشقاً.
دلق_تروى في المعاني التالية، تد \ لق السيل عليه واندلق هجم واندفع_اندلق الشيء خرج من مكانه وكل ما ندر خارجاً فقد اندلق ويقال: طعنه فاندلقت اقناب بطنه أي خرجت أمعاءه ودلق وأدلق السيف أخرجه فأي جريمة لغوية في استعمال العامة للدلق والاندلاق بمعنى الصب والانصباب.
عثر_زل ومثر ساقط وزال والعامة تلفظ الثاء تاء.
خثر_جمد وتماسك ومخثر مجمد.
لز_الشيء شده والصقه والقوم اجتمعوا وتضاسيقوا والشيء بالشيء ألزمه به فليعتبر اللغويون.
زمك_عن ابن الأعرابي زمكت القربى وزمجتها إذا ملأتها والزمك إدخال الشيء بعضه في بعض والعامة تستعمل المجرد والمشدد استعمالاً صحيحاً.
زرك_زرك الغلام ساء خقهز هذا عند اللغويين فصيح ولكن ألا يجوز لنا أن نعامل زرك معاملة سئم فنقول اسأم وسأم وأزرك وزرك ولماذا؟! قد تكون العامة على صواب.
دعقه_في لسان العرب الدعق الدق ومحيط المحيط لا يذكر هذا المعنى الذي هو معنى العامة تماماً إلا إذا كان لا يجوز لنا استعمال الصب للبترول لأنه لم يكون عند العرب ولا لسائل آخر غير الماء والخمر.
حوشه_جمعه وانحاش عنه تقبض ونفر والحواشة ما يستحيا منه والعامة تستعمل كل ذلك(57/44)
دون حملة الأقلام.
لقلاق بقباق_مهذار كثير الكلام واللقلقة تقطيع الصوت والجلبة ولقلق وقلقل بمعنى واحد للتحريك والهز.
لاط_لاطه خلطه وعجنه وقد وردت في كلام الإمام علي.
الحدو_الحدو عند الموت من الفصيح.
سن_سن الأرض ملسها قال الشاعر:
ثم خاصرتها إلى القبة الخض ... راء ونمشي في مرمر مسنون
وهو المعنى الذي تستعمله القروية اللبنانية بعد أن تطين بيتها أو تمرحه وتسنه وتسن الحجرية.
شرم_شق وقطع فهو مشروم بكل فصاحة.
استملح_الشيء عده مليحاً.
سبرك سبري_تريد العامة بذلك أن عليك ما علي لأن أصلك كأصلي وهيئتك كهيئتي وليس من مغمز.
تعنفص_كان ذا صلف وخفة وخيلاء وادعى بما ليس فيه ولا يريد أن يكون له رباعي.
تغنجت: شكلت وتدللت.
تغجل: فلان على فلان بغى عليه وظلمه فو مغلج.
ثخنها: غلظها وصلبها.
حزر: الشيء قدره وضمنه وحزره القى عليه ما يحزره.
أقلعت الباخرة=في الجرائد والمجلات والكتب نقرأ هذه العبارة الواجب الإقلاع عنها_كانوا يقولون أقلعت السفينة أي نشرت شراعها أو قلوعها لتمخر شاقة الماء ولم يكن أيام كانوا يستعملون العبارة بخار أما اليوم فلا يجوز أن نقول أقلعت الباخرة بل مخرت أو جرت إلا إذا كان المركب غير بخاري وفي مثل هذه العبارة يظهر فضل اللغة العربية ويثبت لهؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً منها أننا بغنى عن تحدي الفرنجة الذين يقولون أقلعت الباخرة لفقر لغاتهم.
ضربت بكلامه عرض الحائط=مهما التمس المجازيون الأعذار لا أجد هذا التعبير عربياً(57/45)
فإننا لا نضرب عرض الحائط بالكلام لنهمله ونسقطه ونطرحه ونرميه. نحن نقول في العربية جاءني كتاب فلان فضربت به عرض الحائط وإنما لا نقول مثل هذا القول عن الكلام نفسه.
حررت له وارسلت له=أصعب ما في اللغة على الدارسين أنفسهم إحسان استعمال أحرف الجر وكا مدقق يتناول الجرائد والمجلات إلا العدد القليل منهن يضحك من كثرة السقطات التي لا يعذر منشئ عليها وفي مقدرته شراء معجم أو في رأسه قوة تمييز بين هذا وذاك المعنى فأنت لا تكتب لأحد إلا إذا استكتبك ولا ترسل له إلا إذا كلفك الإرسال أما إذا أردت أن تقول أنك تخاطب أحداً بالكتابة فيجب أن تستعمل إلى لا اللام وهكذا في الإرسال ثم التحرير ليس الكتابة ولا الكتاب أو الرسالة بل انقاذهما من عبودية السقط والخلل والغريب جداً أن منشئي الجرائد والمجلات يدعون الكاتب محرراً وهم يريدون المنشئ لا المصحح ولا المصلح ولا المهذب ليعذروا والأغرب من ذلك أن بعض جامعي بعض المعاجم العربية سقطوا فيما سقط فيه غير المتمكنين والمدققين وقالوا عن الكتاب والرسالة تحرير فأودوا ولم يقوموا.
غب افتقاد شريف الخاطر العاطر=هل على مثل البلادة في الإنشاء بلادة!
كل كلمة بنفسها فصيحة إلا أن مجموعها لا معنى له المسؤولية الحقيقية على المدارس والساتذة الذين يسقطون إلى الجاهلين ولا يرفعونهم إليهم بل إن الجري عل الطرائق القديمة يجعل أكثر الكتابات سقيمة عقيمة خالية من المعنى ولكن تفرقع.
إبقاء القديم على قدمه يجب أن يرجع على عهد بلغاء العربية لا إلى العهد المتأخر الذي اعتور اللغة فيه الخلل والفساد فما معنى العاطر والفاخر والشريف مع الخاطر ولماذا لا نكتب ونكاتب بفهم وسهولة وبساطة وسلامة؟
دام بقاؤه=طلب الدوام حماقة وحرام. أي بقاء يدوم! تدوم المادة بعد استحالة ولكن الذين يطلبون دوام البقاء أو يدجعون للناس به لا يريدون المادة بل البقاء في دار الفناء وخلود من أعدت لهم اللحود.
همى الدمع من عيونها_كم من العيون للمرأة وإن تكن العيون عليها كثيرة.
الملاحة الجوية_في طعم هذا الاصطلاح ملح فإنه من غير روح العربية ومن غير فقهها(57/46)
فإذا كنا نحن اصحاب الجرائد اليومية نلتمس الأعذار لضيق أوقاتنا عندما نلجأ إلى الحواضر فما هو عذر أساتذة المعاني في المدارس والكليات وما هو عذر أصحاب المجلات_المطير اصلح من الملاحة وإنما لا بد من اخيار كلمة اصلح.
الملظم والعامر_خرج من عالم الخرافة المظلم إلى بلاد الحرية العامرة.
الجرح يدمي_الجرح لا يدمي وإنما يدمى.
خذ أي كتاب أو مجلة أو جريدة واعتبر فلسفة كاتبها دون الألفاظ والمعاني دون المباني. تجد أننا_إلا عدداً قليللاً من حملبة الأقلام_نتعسف ونتكلف ولا نراعي المعاني والبيان لأن أكثر المنشئين متطفلون.
نحن ابعد أبناء اللغات الحية عن وضع الكلام في مواضعه وإقامته في مواقع لأننا لا ندرس فلسفة اللغة بل لأن أكثر أصحاب الجرائد والمجلات والمترجمين والمؤلفين من غير الأكفاء إلا بالتبجح والادعاء أو أن اللغة أمست واسطة للكسب والارتزاق حتى يعبث والنفاق وإليك بعض ما يخطر في خاطري الآن أجئ به وأكل إليك الحكم.
طارت نفسه شعاعاً_تخرصات اتلأوهام_يغيظه من النظام_هل يعتمد كلام السقيم في طعم الماء_رفع الابن باسطاً يديه إلى والدته_سقط عليه بالضرب حتى جلد به الأرض. الجالية والطارئة: دون تمييز بين الاستيطان والعود=يسير ويسري دون فرق بين سفر النهار والليل_رحلوا في القطار إلى المدينة والولاية الفلانية. زاره أخوه فأحسن قراه=ظعنوا من أصحابهم إلى واشنطون=شخص البياع إلى بوسطن=كانم الخواجا فلان يتدفق في خطابه كالسيل المنهمر إلا أنه اعتذر أنه غير خطيب وشكر الناس وجل دون أن يتكلم!.
ثم ما هي فائدة الحركات في اللغة إذا كنا لا نريد أن نصرف عن جعل الواو الثقيلة الد؟ في أولى وعمرو وحيوة وصلوة بجحة التمييز وإزالة اللبس وهلا يوجد غير هذه الكلمات في العربية بحاجة إلى الضبط؟ ثم ما هي فائدة الحركات إذا كنا نكتب إله ولا يجوز لنا أن نكتب مؤنثه إلهة؟ ثم كيف يعقل أن تكون جموع لا مفرد لها مثل شلقة ومخاطر ومحاسن وشماطيط وما جمعه الثعالبي وغيره وهل كان كل ما لا يكون سمعه بالجامع لا يكون وضعه الواضع جرياً على القياس؟ وكيف يمكن أن تكون المطاوعة في فعل ولا تكون في آخر مثله تماماً؟ وكيف تكون صيغة أفعل التفضيل في ما لا فعل له كقولهم هو اقلط منه؟(57/47)
أو كيف يكون مضارع لا ماضي له كقولهم لم يذر؟ أو مزيد لا مجرد له. والأمثلة متوفرة. وثمت منابت العربية بعد أن كانت مستحلسة. وتفاصح كل من لم يكن فصيحاً ولن يكون متفصحاً. فوجب أن يرجع الناس إلى فقه اللغة الذي لا أعني به كتاب أبي منصور الثعالبي بل فلسفة اللغة حتى لا يرسل كل من اغتر بقدرته الكلام على عواهنه ويحسب أن من جمع كلمة إلى كلمة كان شاعراً أو ناثراً أو إماماً وثقة يجب الإقلال من الترديد والمبهم الذي لا يزيد إلا اعتكالاً والاعتدال في تعليم القواعد بحسب كل مذهب التوثق في معاني البليغ من المنظوم والمنثور والاستكثار من حفظ الجيد ولاسيما ما يدعى السهل الممتنع ويجب أن تكون مجلاتنا وجرائدنا المدارس الحقيقية فترفض كل كتاب عليلة بالمعاني وينبه المغرور والشعرور إلى ما يفسد الذوق ويدعو إلى الهزأ ومن فقه اللغة أن نصطلح على ما يذلل لنا صعاب اللفظ عند الترجمة والاستشهاد أي أن يكون لنا ما نستطيع معه نقل الكلمة الأعجمية من نكرة وعلم إلى معناها الأصلي. وقد كان للعرب روم وأشمام فليكن لنا زيادة على مثالهما والله ولي التوفيق.(57/48)
تولستوي
فقدت الحكمة عضواً عاملاص من دعاتها وعمدة ثقة من أعز أنصارها ورعاتها وإنساناً كاملاً خدم الإنسانية بأفعاله وأقواله وأدهش اربا ابتقاليد بحسن مثاله وراع قلوب أهل السلطة بحظوته وإقباله ونعني به فيلسوف روسيا وأحد رجال الأخلاق في هذا العصر الكنت ليون نيكولايفتش تولستوي الذي هز نعيه أرجاء العالم المدني وأكبر رجال الإصلاح هول المصاب به.
ولد هذا الحكيم في اياسيانا بوليانا من أعمال ولاية تولا الروسية سنة 1828 فيتم منأمه وهو ابن سنة ونصف وفقد أباه في العشرة وهو من بيت وجاهة وغنى وكان جده سيء الإداترة يميل البى البذخ والإسراف ففقد ثروته حتى اضطر إلى التوظف فعينته روسيا والياً لقازان وجاء ابنه والد تولستوي ولم يكن على شيءٍ من العفاف حتى العشرين من سنه. ورزق ابناً من خادمة زوجه منها أهله ثم تخلى عن الوظائف وتزوج بوالدة تولستوي وكانت غنية تحسن الروسية كتابة وقراءة كما تحسن الإنكليزية والألمانية والإفرنسية والإيطالية والفنون والضرب على البيانو وكانت على جانب من حرية الفكر وسلامة الوجدان والسذاجة.
واشتغل والد تولستوي بالزراعة في الأملاك الواسعة التي ورثها عن أبيه واتصلت إليه من زوجه وكان يحب المطالعة واقتنى مكتبة فيها شيء كثير من آداب الفرنسيس وكان من عادته أن لا يقتني بكتاباً قبل أن يأتي على مطالعة ما اقتناه من قبل فنشأ ليون تولستوي على اللغة الإفرنسية وكان يفهم كتب الفيلسوفين الفرنسيين روسو وفولتير كم يفهم شعر بوشكين شاعر الروس وأخذ الإفرنسية عن أستاذ فرنساوي اسمه سان توما ولم يبلغ الخامسة عشرة حتى كان متشبعاً بآدابها.
ربي في المذهب الأرثوذكسي ولكن لم يكد يبلغ التاسعة عشرة من عمره حتى تجرد عن الاعتقاد بالكنيسة ولكنه عمد إلى التقية فلم يكن يظهر ما يضمر وكان وهو طالب يقوم بالفروض والواجبات وغادر سنة 1847 الكلية التي كان يدرس فيها ليلتحق بالفلاحين ويحسن إليهم إلا أنه لم يفلح وفي سنة 1851 سافر إلى قفقاسيا حيث عين ضابطاً في المدفعية واشتهر ببسالته في حصار سواستبول فعين قائد فرقة وكان خلال تلك المدة قد نشر باكورة كتبه موقعة بالحروف الأولى من اسمه واسم أسرته ثم أقام في بطرسبرج مدة(57/49)
فكتب عدة مصنفات وقصص له وساح سنة 1858 في ألمانيا وسويسرا وفرنسا وعاد إلى روسيا بعد تحرير الفلاحين فأنشضأ في بلده مدرسة نموذجية للفلاحين ومجلة في التربية والتعليم وعين قاضي صلح. وفي سنة 1862 تزوج وطابت نفسه وحسن سلوكه ولم يكن من قبل كما قال عن نفسه على حالة حسنة في آدابه وكانت كتبه التي كتبها لأول عهد زواجه أحسن ما خطته يده وأسلمها فكراً وفي سنة 1874 أخذ يتساءل عن مصير الحياة فصارت تبذر بوادر ذلك على أسلة قلمه ولسانه حتى إذا كانت سنة 1883 تعرف على فلاحين كانا أنشأ لهما مذهبين دينيين من مقتضاهما تر جيح العهد القديم على العد الجديد وأن إصلاح العالم لا يتم إلا بالعمل اليدوي والشخصي وبعد أن جاهد تولستوي نفسه تخلى في رواية عن بعض أملاكه فوزعها على الفلاحين وترك جزءاً منها لأسرته كان يعمل فيه بنفسه على نحو ما يعمل صغار الفلاحين بأيديهم ومنذ ذاك الحين لم يترك بلده وطفق يحرث الأرض كما يحرث الآداب ويبث الفضيلة وصار قصره مجمع العلماء والفضلاء وفي 24 شباط 1901 حرم المجحمع المقدسي الروسي تولتسوي لإلحاده وخروجه عن ربقة التقاليد الأرثوذكسية وتخوفت الحكومة الروسية عادية أفكاره فصارت تراقبه حتى كادت تنفيه مع ألوف من كانت تنفيهم إلى سيبيريا لولا أن لطف الله به ونفس خناق الحرية عن أمته بإنشاء مجلس الأمة.
ويعتب رتولستوي بأنه من أقجدر القصصيبن الذين نبغوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقد أجاد في ذكر الماضي من حياة أمته ووصف الروح الروسية والأخلاق الروسية بحسن مأتاه وجودة اختياره وتفصيله وتصويره فكان بما رزق من هذه الهبة يصور ابطاله كأنهم أحياء بل يصور الأشخاص من الدرجة الثانية والجمهور.
وهو قليل العناية بإنشاءه ولذلك لا نقرأ عليه مسحة التفنن وإذ قد نشأ تولستوي لاهوتياً تراه يحاول يقترب مما يراه بأنه النصرانية الأصلية. وتتطالبه الفلسفة الطبيعية بأنه أحد دعاتها والنمافخون في ضرامها وأن تولستوي ليبحث في كل مكان عن الطبيعة. والجوهر في قاعد حياته هي الطبيعة الصوفية وللأخلاق عنده المقام الأول وجماع القول في فلسفته أن لا يقاوم الشر بالشر. وقد ظهرت كتبه كلها باللغة الروسية في ثمانية عشر مجلداً وترجم معظمها إلى لغات أوربا الراقية وترجم بعضها إلى العربية ولاسيما قصصه.(57/50)
وهذا الدور الأخير في حياته هو الذي تمنى أن يموت عليه قال في ترجمته نفسه: لما ذكرت ما أوتيت منن خير وما تم على يدي من شر رايتني أقسم أدوار حياتي الطويلة بأسرها إلى أربعة أدوار: أولها ذاك الدور العجيب خصوصاص إذا قيس بالدور الذي يليه_البار البهج الشعري واعني به دور الطفولية. ثم الدور الثاني عشرون سنة كان فيه من الغشاء الغليظ والخدمة والطمع بالمعالي وخصوصاً في المكاسب ما كان. ثم جاء الدور الثالث وهو ثماني عشرة سنة أي منذ تزوجت إلى نشور الروح وهوالدور الذي يحق أن يدعى في نظر العالم دور الأخلاق بمعنى اني عشت في هذه البثماني عشرة سنة كما تعيش الأسرة بالاحشمة والنظام غير مستسلم لمفسدة ينبذها الناس ولكن جميع مصالحي كانت مقصورة على عنايتي عناية مقرونة بحب الذات ممزوجة بالأنانية وعلى زيادة ثروتي وعلى نجاحي الأدبي وعلى مختلف حظوظ تنالها نفسي والدور الرابع يرد إلى عشرين سنة التي أنا فيها الآن وأود أن أموت عليها وبها يتمثل لي ما فغي الحياة الماضية من عظيم الخطر وهو الدور الذي لا ابغي سواه ما خلا اعتيادي الشر الذي اندمج في روحي في الأدوار الأخيرة.
هذا مجمل من طفولية تولستوي وشبابه وكهولته وشيخوخته وقد نشأ فيه القيام على الظالمين ومجاهدة المستبدين من الرؤساء الدينيين والدنيويين مما ثقفه عن حالته تاتيانا ألكسندروفنا وكانت من نساء المتهذبات وعلمته الحب والميل إلى الوحدة والتأثر من المظالم كما علمه روسو وفولتير نزع ربقة التقاليد الموروثة. ولكن تولستوي لم يتحرر كل التحرير من رق العبودية للمحيط والمنشأ وبقيت فلسفته تربح من صبابات النصرانية ومدارها لا تقابل الشر بالشر. ولو سارت أوربا على هذه الفلسفة لما قام عمرانها وانبسط سلطانها على ما نرى. فلسان حال الغرب وجزاء سيئة سيئة مثلها فحكمة تولستوي ليست كحكمة معظم أنصار الحكمة في الغرب اليوم مادية صرفة بل هي روحية ممزوجة بطرف من آداب النصرانية تتخللها عقائد اشتراكية متطرفة فهو لا يرى أن يملك الأرض أحد لأنها لله بل تترك وشانها ينتفع بها عباها ويرى أن لا يعاقب المجرمون بالسجن بل أن يصفح عنهم الصفح الجميل ولا يعتقد بألوهية المسيح بل يرى أنه إنسان ذو مذهب هو خير المذاهب للناس ومن أفكاره الاشتراكية بل الفوضوية أن أحسن الطرق في الخلاص من ظلمك(57/51)
الحكومات أن يمتنع الناس عن الخدمة العسكرية وعن أداء الضرائب وبذلك تضطر الحكومات إلى إصلاح أمرها.
ومن تعاليم تولستوي الأدبية أن يبتعد المرء عن مغازلة النساء ويتحد بزوجه قلباص وقالباً لأن هجرها مفسدة واي مفسدة وأن الواجب أن لا يفرق افنسان بين مواطنيه والغرباء لأن الناس ابناء أب واحد وأم واحدة ويسعى كل امرء بإزالة عدم المساواة بين البشر حتى يعيشوا بسلام. وله آراء في المعاد بعضها مما لا يقرها عليه رجال الدين.
ولقد ضاق صدر تولستوي قبيل وفاته من شؤون بيته ويقال إن ما نشأ ذلك من مقاومة أسرته له في أمر خيري كان يريد أن يختم به حياته وهو أن يجعل ريع كتبه مادام الدهر وقفاً على أمته فلم يوافقه على هذا الفكر أهل بيته ولاسيما زوجته المشهورة ببخلها فقام تولستوي ذات يوم ورافق طبيبه على نية الهرب من بيته وركب في الدرجة الثالثة من القطار ليساوي الفقراء ولكن كانت المركبة مكتظة بالركاب حتى لم يكن فيها محل يجلس فيه الشيخ الحكيم فعرض موظف السكة الحديدية عليه أن ينتقل إلى الدرجة الأولى أو الثانية فأبى ونزل في إحدى المحطات وهي إسكابوفا وبصق دماً وزادت حرارته ثم اسلم الروح في غرفة مدير المحطة ويقال أن الفيلسوف كان ينوي أن يلحق بأحد الأديار لينضم إلى من فيه يعبد الله على مناحيهم وأنه قابل ابنة له راهبة في طريقه وفاوضها بضع ساعات كما خلا ساعات برئيس دار ثان.
والأقرب إلى الذهن أن تولستوي عزفت نفسه عن الدنيا وأحب التجرد عنها وعن الملاذ وعن الأبهة في قصره وعن عيشة المحفوف بالخدم والحشم شاء أم أبى وأراد أن يفعل الخير بوقفه مداخيل كتبه على المدة فعاكسته زوجته وكان منه أن هام على وجهه لا يدر يكيف يسير فوافاه حمامه وشق نعيه على أمته البالغة مئة وخمسين مليوناً من البشر وعلى كل من اطلع على طرف من أفكاره وفلسفته العملية من منوري الأرض ولا عجب إذا عدته أمته مفخراً من مفاخرها جاد به الزمان وعده أهل الأخلاق الحكمة والإصلاح من أعظم من عملوا لأب النفس وإصلاح المجتمع الإنساني.(57/52)
سير العلم والاجتماع
الصناعة في مصر
ألقى علي بك ثروت خط بة في الصناعة في المؤيمر الوطكني المصري جاء فيها ما ملخصه:
لم يخطئ من قال أن الصناعة أثر الذكاء الإنساني في استخدام وتصغير أشكالها والتأليف بين قواها المختلفة ولذلك كانت أقوى الأمم من بنى هيلك قوتها على أساس مكين من الصناعة.
وقد كانت أمتنا المصرية راقية في صنائعها منذ القدم. ولا تزال الآثار التاريخية شاهداً حياً على مبلغ رقيها الصناعي. وكفى بالدلالة عليه أن البلاد المصرية هي التي ثبتت فيها قوى الفراعنة ومدنيتهم وحفظت معها مدنية العرب.
وكان حظها من الصناعة في التاريخ الحديث وا فراً فإنه لما ولي محمد علي باشا والكبير الأريكة الخديوية افرغ جهده في الصناعة الأهلية وجلب لها من الخارج ما ينقصها من فنون الصناعة الأجنبية.
نظر إلى البلاد المصرية نظر حكيم فرأى أنها بطبيعة تكوينا زراعية صناعية فشمر عن ساعد الجد واخذ ينشئ المصانع المختلفة في كثير من بلاد الوجهين البحري والقبلي. أعانه على ذلك علماء فرنسا وبعض أساطين الصناعة فيها. ساعد أيضاً كثير من الإيطاليين والنمسويين. وقد جاوز عدد لمصانع المختلفة التي أنشأها مائة وخمسة وسبعين مصنعاً يصنع فيها الخزف والزجاج والجلد والجوخ والأنسجة المتنوعة والخيط بأنواعه والطرابيش والألبسة والأسلحة والبارود والمعادن والمدافع والسفن الحربية وجميع ما له بالمعيشة. فكان المصري يلبس ملابس أهلية تصنع في بلاده وكانت المدن الكبيرة والصغيرة والثغور وسائر البلاد العابرة حافلة بهذه المصانع والمعامل المتنوعة.
أرسل الإرساليات العديدة إلى كثير من العواصم الأوربية لإتقان الصناعة حتى إذا عادوا إلى بلادهم بعد ذلك آبوا واقفين على أسرار الفنون محيطين بدقائق الصناعات فحلوا محل أولئك المعلمين في المصانع المصرية.
أنشأ محمد علي مصانع أخرى لصنع الشمع وأحواضاً لصنع لوازم المراكب الحربية وداراً(57/53)
لضرب النقود في القلعة فكانت مصر في ذلك العهد أرقى كثيراًَ من اليابان.
أخذت الصناعة تنمو وتزدهر حتى بلغت من الانتشار والرقي مبلغاً عظيماً وبقيت كذلك حتى عهد الخديوي سعيد وقد أسس معملاً كبيراً كان يديره إفرنسي كبير هو أنجلو بك.
ثم أخذت الصناعة الأوربية تفد على مصر وعلى الأخص بعد إنشاء السكك الحديدية المصرية فألح قناصل الدول على سعيد باشا أن يبطل جميع المعامل فأبطلها ما عدا معامل الحربية فإنه أبقاها كما أنه أنشأ مدرسة الفنون والصنائع وقصر التعليم فيها على تعليم الرسم وفن العمارة وغيرها من الفنون الجميلة.
وقد وفدت على مصر في عهد الخديوي سعيد بعثة إفرنسية من المهندسين الجيولوجيين للبحث عن المعادن في بلادنا فأذن لهم الخديوي أن يعملوا وفي أثناء عملهم عثروا في السودان على صنف الفحم الحجري وحملوا منه كمية إلى مصر لتجربتها فجربت ووجدت نافعة وأقر على نفعها أنجلو بك ولكن قنصل إنكلترا في ذلك العهد لح على الخديوي أن لا يعنى بهذا المر بدعوى أنه يكلف الحكومة المصرية نفقات طائلة فضلاً عن أن الفحم من صنف غير جيد فأطاع الخديوي وفقدت مصر بذلك مرفقاً تجارياً مهماً.
وقد أنشئت في أوائل عهد إسماعيل مدرسة العمليات لكبرى في بولاق وكانت هذه المدرسة قائمة على نموذج مدارس الصنائع بفرنسا عين لها جيجيون بك الفرنسي ناظراً. قد بلغت من الرقي مبلغاً مدهشاً فكان المتخرجون فيها يؤدون عمل المهندس الميكانيكي والمهندس الرياضي معاً. وفي ذلك الوقت أنشئت المطبعة الأميرية في بولاق وأنشئ بجوارها معمل لعمل الورق على اختلاف أصنافه وأشكاله وكان ما يخرجه هذه المعمل كافياً لحاجة مصر. وقد بقيت على تلك الحال حتى هبط الاحتلال بلادها. وكذلك أنشئ الخديوي إسماعيل معامل السكر في الوجه القبلي والمدارس الصناعية في كل بلد من بلاد القطر فكان عهده من هذه الوجهة عهد حياة في الصناعة والصناع.
قضت سلطة الاحتلال سنة 1884 أن يلغي معدن المدافع النحاسية وتباع عددها الكبيرة فبيعت هذه العدد من شركة إنكليزية بثمن بخس كما قضى ببيع عدد ضرب النقود إلى شركة إنكليزية أخرى وكان من هذه العدد ما لم يستعمل بعد وما لم تفتح صناديقه إلا أيدي رجال هذه الشركة وصدر الأمر ببيع جميع عدد آلات مصنع الورق وذلك في سنة 1885(57/54)
وفي هذه السنة أيضاً باعوا آلات وعدد الورشة الكبرى التي كانت الخاصة الخديوية قد أنشأتها حين اشترت سراء الجيزة.
وفي سنة 1887 بيعت العدد والآلات التي كانت تدار بها مغازل اقطن وبيعت ورش القطن في الأقاليم واحدة بعد أخرى.
وفي عام 1898 بيعت جميع آلات دار الصناعة الترسانة الكبرى بالإسكندرية وبركت مراكب البوسنة الخديوية وأحواضها لشركة إنكليزية بمائة وخمسين ألف جنيه وهو لا يعادل نصف ثمن حوض واحد والأحواض كثيرة والمراكب أكثر أما مراكب بولاق وترسانتها فإن جزءاً عظيماً منها قد بيع.
أنشأ المرحوم علي باشا مبارك ناظر المعارف الأسبق مدرستين صناعيتين إحداهما في المنصورة الثانية في أسيوط ليكون منهما أبر ملجأ للتلاميذ الذين فصلوا من المدارس التجهيزية التي كانت في المديريات فألغاها الاحتلال أما مدرسة المنصورة فلم تبق طويلاً لأن الورشتين اللتين يملكهما بعض الإنكليز في تلك المدينة قضتا على حياتها. حتى إذا كانت سنة 1893 عادت إلى حالتها السابقة وأصبحت الآن ورشة بسيطة لا يتعلم فيها الطلاب إلا مبادئ القراءة والكتابة والهندسة والحساب والرسم العملي بعد أن كانت تعلم فيها العلوم الهندسية والميكانيكية العالية.
وليس ثمة دليل على عظيم الخطأ في رقي الصناعة في مصر أقطع ولا أنصع من الأقوال السديدة التي ذكرها المسيو (ليوبولد جوليين) المهندس الزراعي وأحد واضعي تقرير لجنة القطن الأخير فقد قال:
إن كل أمة يكثر فيها وجود المواد الأولية الضرورية للحياة يكثر فيها كذلك وجود المعامل لصنع تلك المواد فيها ومن أهمها القطن فإن كل الأمم التي تزرعه تنشئ بجواره معامل لغزله ونسجه والانتفاع به عدا مصر فإنها لا تزال فقيرة في معاملها خلواً على الأخص من هذا الصنف.
سعى الساعون في تأسيس معملين في نسج المنسوجات القطنية في سنة 1899 أحدهما في القاهرة والآخر في الإسكندرية. أما معمل القاهرة فقد أغلق. ولا يزال الآخر باقياً وفيه ثلاثون ألف مشط وأربعمائة نول.(57/55)
ولقد لقي مؤسسوه صعاباً جمة في تأسيسه أهمها وضع الحكومة المصرية على منسوجاته ضريبة قدرها ثمانية في المائة.
ثم رأت أن تنزل هذه الضريبة إلى ثلاثة في المائة لمدة خمس سنوات. فعسى أن تجعل الحكومة هذا الإعفاء دائماً حتى يتيسر لمروجي هذه الصناعة أن ينشروها في كل مكان.
على أن في البلاد المصرية نحو ستة آلاف وثلاثمائة نول للنسج وكلها للوطنيين وهي تستورد خيوط الغزل من الممالك الأوربية وقد استوردت في سنة 1908 من هذه الخيوط ما قيمته 229000ج.
على أن ما تستهلكه البلاد المصرية في عام من المنسوجات الأوربية بلغت فقيمته في عام 1908 4000000ج ولو كانت مصر تنسج منسوجاتها في معامل لحسابها لبقيت هذه الملايين في خزانتها ولم تنقل إلى خزائن المعامل الأوربية.
وقد فكر بعض ذوي النفوس العالية في الحال وفي مقدمتهم المرحوم مصطفى كامل باشا الذي اقترح على الأمة في سنة 1902 إنشاء معهد صناعي كبير يكون بمثابة تذكار لمرور مائة عام على تولية محمد باشا الكبير مؤسس البيت الخديوي فلبت جمعية العروة الوثقى بمدينة الإسكندرية نداؤه وأخذت في الاكتتاب لتأسيس مدرسة محمد علي الصناعية فوجدت من نفوس الأمة ارتياحاً وأقبل على الاكتتاب كثيرون وفي مقدمتهم الخديوي وأعضاء الأسرة الخديوية وكرماء الأوربيين القاطنين في مصر.
وما جاءت سنة 1908 حتى كان بناؤها عالياً ووضعها محكماً وهي اليوم تقدم للثغر أحسن الأعمال وتكفي الكثير من أبناءه ثم نحى أهل الخير هذا النحو فتأسست مدرسة أسيوط بهمة محمود باشا سليمان أحد كبار الأعيان وتأسست مدرسة في بني سويف وثالثة في الفيوم.
وقد عني الأمير حسين كامل باشا بالاكتتاب لمدرسة كبرى صناعية لمديرية البحيرة فلبى دعوته كثير من الأعيان الأغنياء وبلغ الاكتتاب نحو 30000 جنيه وظهرت هذه المدرسة في أجمل مظهر وهي تعمل الآن أعمالاً مفيدة.
وكذلك عنيت بطريركية الأقباط وأسست مدرسة صناعية كبرى في بولاق اكتتب لها كثير من أبناء هذه الطائفة بمبالغ طائلة وكذلك مدرسة طوخ الصناعية فإنها شيدت في هذه الأيام الأخيرة على أحسن طراز وغير ذلك من الورش الصغيرة.(57/56)
وأخيراً فكر يوسف كمال بك في أن يخدم أمته من طريق العلم والصناعة فأسس مدرسة لتعليم الفنون الجميلة ووقف عليها عقاراً يقدر بخمسين ألف جنيه وأخذ في تشييد دار كبيرة لها واختار لها مديراً إفرنسياً هو المسيو ليلاني النحات النابغة الشهير ووكيلاً هو فؤاد أفندي حسيب واختار أساتذتها من الأوربيين والمصريين المشهود لهم بعلو الكعب والتفوق في هذه الفنون الجليلة.
فأعاد الأمير بإنشاء هذه المدرسة إلى مصر روح النحت والنقش والظل وفن العمارة وغير ذلك من الفنون الجميلة الكبيرة التي تعود على مصر لا محالة بجليل الفوائد.
لحوم البشر.
إن عادة أكل اللحوم البشرية غير محصور في مكان ففي الكتب اليونانية القديمة أشارت إليها والإيرلنديون الأقدمون كانوا يأكلون موتاهم وفي مكسيكو وبيرو قبل فتوح إسبانيا كانت تشهر الحروب ليستحصلوا ذبائح من البشر لأعيادهم وولائمهم.
لكن بولنزيا لم تزل محافظة على هذه العادة إلى عصرنا الحاضر ومبتدعو تلك العادة في تلك الجزائر هم سكان جزائر الفيجي وهي عندهم من الفروض الدينية وهم مولعون بطعم لحوم البشر إلى درجة أن أحدهم كان يعيش مع امرأة له عيشة راضية فلا يكون منه إلا أن يقتلها ويقتات بلحمها كما رواه وليام في كتابه عن سكان الفيجي وهم لا يفضلون لحم الطفل على لحم الرجل والمرأة المسنة بل يأكلون ما تيسر بعد شيه.
من أفظع العقوبات عندهم أنهم يبترون أطراف المجرم وهو ينظر إليها تشوى وتؤكل.
ومن أفظع ما يروى أن رجلاً من أهل هذه الجزيرة كان يفاخر بأنه أكل مدة حياته 900 إنسان ومع ذلك يقري الضيف وليس عنده من الشراسة أكثر من باقي سكان الجزيرة ممن لم يأكلوا لحم بشر مدة حياتهم.
ويروى أن شيكا زعيم إحدى جزائر الفيجي أسر في ساحة الحرب ما يربو على مائتي مقاتل من عسكر العدو وفي صباح ذلك اليوم أولم وليمة دعا أهل الجزيرة إلى حضورها مشاركته بالتمتع بلحم الأسرى.
وفي غينا الجديدة عندما يشيخ الرجل ويصبح غير قادر على العمل يأخذه أهله ويربطونه إلى غصن شجرة ويجتمعون حوله ويرقصون ويغنون بقولهم الثمرة قد نضجت الثمرة قد(57/57)
نضجت ثم يهزون الغصن فيقع الشيخ على الأرض فيأكلونه.
وفي جزائر الهبرويز الجديدة يفضلون أكل لحوم السود على لحوم البيض وهذه العادة منتشرة أيضاً بين سكان كلدونيا الجديدة.
يقول المستر تيلور عن زيلندا الجديدة أن الطريقة المتبعة هي أنهم يرسلون سللاً مملوءة بلحوم البشر من طرف الزعيم إلى أعوانه فمن قبلها منهم يأتي إلى الموعد المضروب بجموعه للمساعدة وهم يعدون من لا يذهب إلى الحرب ويأكل من لحوم البشر غير مهذب وبعد انتهاء المعركة تجتمع جثث القتلى وتنزع لحومها عن العظا وترسل إلى بيوت الأنصار والحلفاء.
والمزبة الوحيدة في تلك العادة أن الذين يتولون تقطيع الفريسة وتعريق لحمها يصبحون على شيء من المعرفة في تركيب أعضاء الإنسان لذلك تراهم مرنين في رد خلع المفاصل. هذا وقد أخذت تخف وطأة هذه العادة منذ أخذت المدنية الحديثة تدخل إلى تلك الجزائر اهـ.
ملخصاً عن مجلة الأثري الأميركي.
الصور السمائية
تكلم أحمد بك زكي في محاضرته التي نشرتها مجلة المقتبس في الجزء السادس من المجلد الخامس تحت عنوان (الكتابة والكتب ودورها) على كتاب (الصور السيمائية) لعبد الرحمن ابن عمر بن محمد بن سهل الصوفي فقال عنه: وإذا بحثتم في أرض مصر من الشلالات إلى الأشاتيم ومن بادية العرب إلى صحراء لوبيا لا تجدون سوى الترجمة الفرنسوية وسوى الترجمة الفارسية في الدار الخديوية أما الأصل العربي فقد لبس طاقية الاختفاء وتطاير في الفضاء وهجر ديارنا ووصال غيرنا فيما وراء البحار ورحل عن أرض أهله هين بها إلى بلاد ظهرت قيمته بين أهلها بحيث أن العرب الذين صدر الكتاب بلغتهم إذا احتاجوا الآن لمراجعته واجب عليهم أن يتلقنو لإحدى هاتين اللغتين الفرنسية أو الفارسية أو أن يذهبوا إلى بطرسبرج وإن استبعدوها فإلى باريس وهنالك تجدون منه خمس نسخ استغفر الله بل ستاً لأن السادسة هي التي سأتكلم عليها الخ.
وسينما تلوت هذه العبارة هذه العبارة تذكرت أني رأيت هذا الكتاب منذ حو خمس سنين(57/58)
في المكتبة الأحمدية التي نوهت مجلة المقتبس في ذك الجزء بذكرها وذكرت بعضاً من نفائس كتبها فدعاني ذلك أن أستفتح المكتبة وأعيد النظر إلى هذا الكتاب وأكتب شيئاً عنه تبشيراً لعشاق العلم في هذه البلاد بلغة الناطقين بالضاد لعلهم يسعون في طبعه وتقتبسون من غر فوائده.
أوله بعد البسملة.
قال عبد الرحمن بن عمر المعروف بأبي الحسن الصوفي بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله المصطفى وآله (أما بعد) فأني رأيت كثيراً من الناس يخوضون في طلب معرفة الكواكب الثابتة في مواضعها من الفلك وصورها ووجدتهم على فرقتين إحداهما تسلك طريقة المنجمين ومعولها على كرات مصورة من عمل من لم يعرف الكواكب بأعينها وإنما عولوا على ما وجدوا في الكتب من أطوالها وعروضها فرسموها في الكرة من غير معرفة خطئها وصوابها فإذا تأمل بعض من يعرف فيها وجد بعضها مخالف ف النظم والتأليف لما في السماء أو على ما وجد من الزيجات وادعى المؤلف أنهم قد رصدوها ورفوا مواضعها وإنما عمدوا إلى الكواكب المشهورة التي يعرفها كثير من الخاص والعام مثل عين الثور وقلب الأسد والسماك الأعزل والثلثة التي في جبهة العقرب وقلب العقرب وهذه الكواكب هي التي ذكرها بطليموس أنه رصدها بأطوالها وعروضها وأثبتها في كتابه المعروف بالمجسطي لقربها من منطقة فلك البروج فرصدوها وأثبتوا مواضعها في وقت أرصادهم ثم قال بعد كلام طويل:
وأما الفرقة الأخرى فقد سلكت طريقة العرب في معرفة الأنواء ومنازل القمر ومعولهم على ما وجدت في الكتب المؤلفة في هذا المعنى ووجدناه في الأنواء كتباً كثيرة أتمها وأكملها في فنه كتاب أبي حنيفة الدينوري فإنه يدل على معرفة تامة بالأخبار الواردة عن العرب في ذلك وأشعارها وأسجاعها فوق معرفة غير ممن ألفوا الكتب في هذا ال فن ولا أدري كيف كانت معرفته بالكواكب على مذهب العرب عياناً فإنه يحكى عن ابن الإعرابي وابن كنانة وغيرهما أشياء كثيرة من أمر الكواكب يدل على قلة معرفتهم بها وأن أبا حنيفة لو عرف الكواكب لم يسند الخطأ إليهم ثم كل من عرف من الفرقتين إحدى الطريقتين لم يعرف الأخرى وألف في كتابه أشياء من غير الفن الي أخذ فيه نادى على نفسه بها بالخطأ وخفة(57/59)
البضاعة فيه منهم أبو حنيفة فإنه ذكر في كتابه أن البروج الاثنا عشر لم تسم بهذه الأسماء إلا لأن نظم كواكبها مشاكلة للصورة المسماة باسمها وأن الكواكب تنتقل عن أماكنها وأسماء البروج غير زائلة وإن زال نظم الكواكب ولم يعلم أن نظمها لا يزول ولا يتغير (إلى أن قال) وقد كنت أظن بأبي حنيفة أن له رياضة بعلم الهيئة والرصد فقد كنت بالدينور في سنة خمس وثلثين وثلثمائة من سني الهجرة في صحبة الأستاذ أبي الفضل محمد بن الحسين نازلاً في حجرته وحكى لي جماعة من المشايخ أنه كان رصد الكواكب على سطح هذه الحجرة سنين كثيرة فلما ظهر تأليفه وتأملت ما أودعه كتابه علمت أن الذي كان يراعيه إنما كان طلب الظاهر المشهور من الكواكب وما كان يجده في كتب الأنواء من ذكر المنازل وما أشبهها والناس كلهم متفقون على أن لهذه الكواكب حركة في توالي الأبراج.
ثم قال بعده كلام طويل:
ولما رأيت هؤلاء القوم مع ذكرهم في الآفاق وتقدمهم في الصناعة واقتداء الناس بهم واستعمالهم مؤلفاتهم قد \ تبع كل واحد منهم في تقدمه من غير تأمل لخطئه وصوابه بالعيان وبالنظر حتى ظن كل من نظر فغي مؤلفاتهم أن ذلك عن معرفة الكواكب ومواقعها ووجدت في كتبهم من التخلف ولاسيما في كتب الأنواء من حكاياتهم عن العرب والرواية عنهم اشياء من أمر المنازل وسائر الكواكب الظاهرة الفساد لو ذكرتها طال الكتاب بلا فائدة عزمت مرات كثيرة على إظهار ذلك وكشفه وكان يعتريني فتور في حال واشغال تصدني عن المراد في أخرى إلى أن شرفني الله بخدمة الملك عضد الدولة أبي شجاع بن ركن الدولة رحمه الله تعالى وأنعم الله عليَّ بإدخالي في جملة خو له وحشمه ووجدته من فنون العلم متمكناً وفي المعرفة بها منبسطاً وعلى عامة العلماء مقبلاً والى جميعهم محسناً ورأيته كثير الذكر لأحوال الكواكب مائلاً إلى امتحانها والوقوف على مواقعها من الصور ومواضعها من البروج والدرج بالرصد والعيان ولم أجد بحضرته من المنجمين من يعرف شيئاً من الصور الثماني والأربعين التي ذكرها بطليموس في كتابه المعروف بالمجسطي على حقيقتها ولا شيء من الكواكب التي في الصور على مذهب المنجمين ولا على مذهب العرب إلا اليسير الظاهر المشهور الذي يعرفه الخاص والعام ولم أجد لم تقدمني من العلماء(57/60)
أيضاً كتاب في أحد الفنين يوثق بمعرفة مؤلفه إلا كما تقدم ذكره ولا يمكن الرصد إلا بمعرفة الصور وكواكب كل صورة بالنظر والعيان فرايت أن أتقرب إليه بتأليف كتاب جامع يشتمل على وصف الصور الثماني والأربعين وعلى كواكب كل صورة منها وعددها ومواقعها من الصور ومواضعها من فلك البروج بأطوالها وعروضها وعدد كواكب الفلك كلها المرصودة التي من الصور والتي حوالى الصور وليست منها.
وبعد كلام طويل أخذ المؤلف يتكلم على الصور الثماني والأربعين صورة فصورة مع إثبات نفس الصورة ونقشها بحروف وأرقام عند موضع كل كوكب غير أن أربع عشرة صورة منها لبس على شيء من الحروف والأرقام وخالية من الإشارات إلى مواضع الكاوكب.
وبعد أن ينتهي من الكلام على كل صورة يذيله بجدول فيه أسماء الكواكب تلك الصورة وأرقام تدل على مواضع تلك الكواكب فيها والكتاب في 127 صفحة بقطع قريب من الكامل قال ناسخه في آخره: وافق الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة المسامة بكواكب الصوفي في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس بعد الألف وتحت ذلك ثلاثة أسطر أخر لم يقرأ منها سوى (المقري الموقت يومئذ بجامع حلب الشهباء الكبير عمره الله تعالى)
حلب:
محمد راغب طباخ.
المعادن المذخورة
نشر المؤتمر الجيولوجي الدولي الحادي عشر الذي التأم في استوكهلم خلاصة التقاير التي طلبها من علماء طبقات الأرض والمهندسين في مناجم العالم على اختلاف الأصقاع والديار بشأن مناجم الحديد في العالم بأسره وتقسمها فتبين منها ما يعرف الآن من المناجم في الدنيا يحوي على عشرة مليارات طن وربما لا يقل المذخور في بطون تلك المناجم عن خمسين ألف طن وما ينبغي للعام اليوم هو ستون ألف طن وكان يكتفى سنة 1871 بثلاثة عشر مليون طن وسنة 1891 بستة وعشرين مليون طن وسنة 1901 بأحد وأربعين مليون طن وإذا قدرنا ما يلزم العالم من الحديد اليوم وما يعرف من مناجمه المذخورة فلا يكفي الحديد(57/61)
سوى قرنين آخرين وإذا لم تتدارك الحال بالبحث عن مناجم جديدة يختل المعدل وإليك جدولاً بما هو مذخور من الحديد في القارات الخمس ومنه ما عرف ومنه ما يقدر تقديراً وهو بحساب مليون طن:
مناجم يرجى أن تكون مذخورةمناجم معروفةمذخورة
حديدحديد ممزوج بتراب حديدحديد ممزوج بتراب أوربا41829473212032
أميركا8182951549855
أستراليا 69 74136
آسيا0457 156260
أفريقية؟ 57125
وجاء في جدول ىخر ذكرت فيه المناجم المعروفة والتي يرجى كشفها في كل مملكة على حدتها من ممالك أوربا فكانت المملكة العثمانية كثيرة جداً بمناجمها إلا أنه لا يعرف مقدارها الآن وتبين أن فرنسا أكثر ممالك أوربا بمناجمها المعروفة.(57/62)
مخطوطات ومطبوعات
بدائع الصنائع
في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى
سنة 587هـ طبع بمصر سنة 1328.
اعتاد محمد أمين أفندي الخانجي صاحب المكتبة المشهورة في القاهرة والأستانة أن يطبع للأمة كل نافع من آثار السلف الصالح فأحيا بإقدامه مدة أمهات ومنها ذا الكتاب في الفقه الحنفي تعرض فيه مؤلفه الملقب بمالك العلماء لأقسام المسائل وفصولها وتخريجها على قواعدها وأصولها ليكن أسرع فهماً وأسهل ضبطاً وأيسر حفظاً وقد جمع جملاً من الفقه مر تبة بالترتيب الصناعي والتأليف الحكمي مع إيراد الدلائل الجلية والنكت القوية وهو في سبعة أجزاء تم الأول والثاني والخامس والسادس والسابع منها ويتم الجزءان الآخران وقد وقع في نحو 2500 صفحة بالقطع الكامل على ورق جيد وحروف مصرية ولا شك أن المشتغلين بفقه الإمام الأعظم يحلون هذا الكتاب محله من الاعتبار كما أحل المالكية المدونة الكبرى المنسوبة للإمام مالك والشافعية كتاب الأم للشافعي فيعد عندهم مرجعاً واسعاً.
الجولة الإسلامية أو ماضي الشرق وحاضره
تأليف الشيخ أحمد الصابوني الحموي طبع الجزء الأول في مطبعة
حماة سنة 1328 ص20.
كان الفاضل صاحب هذا الكتاب نشره مقالات متسلسلة في جريدته لسان الشرق فاستحسنها قراءها فأعاد طبعها مع زيادات على هذه الصورة فجاءت شاهدة بفضله وبعد نظره وكتابة التاريخ على هذا الأسلوب أوقع في النفوس وأعلق في الأذهان لأنها عبارة عن التدبر في أعمال الرجال. فقد تكلم على طائفة من الخلفاء الراشدين والملوك الأمويين والعباسيين فكان كلامه فلسفة على تاريخهم وبيان الحكمة من أعمالهم. ومما رواه المؤلف نقلاً عن ابن ربه أن عثمان حينما كبر وتقدم في السن شد أسنانه بالذهب وقال غيره أنه وضع سناً من الذهب ومعلوم أن تركيب السن من الذهب لا يكون إلا بمهارة في الصناعة وعلم بها عظيم. وعبارة المؤلف منسجمة وعساه يوفق إلى نشر بقية الأجزاء ليعم نفعه.(57/63)
السكا وكلونديك
تأليف جبرائيل أفندي عساف مرعي من دوما (لبنان) طبع بمطبعة
الحضارة بطرابلس الشام سنة 1909 ص228.
مؤلف هذا الكتاب ممن أقاموا زمناً طويلاً في بلاد الأسكا كلونديك بلاد الذهب فعنَّ له ون عماً فعل أن يكتب ما عرفه عن هذه البلاد وغناها ومدنها ومناجمها وركازها وزرعها وضرعها وصيدها وسكانها وحكوماتها وإدارتها وحالتها الطبيعية وما يتعلق بتلك البلاد من الفوائد الاجتماعية والاقتصادية التي تفيد الجالية العربية إلى تلك البلاد وأبناء العربية كافة في الاطلاع على عجائب صنع الله في أرضه وهذه البقعة الصغرى منها التي بلغت مساحتاه بحسب الإحصاء الأخير 590844 ميلاً مربعاً أي نحو خمس مساحة الولايات المتحدة ويناهز طول سواحلها البحرية 26 ألف ميل وهي كما قال المؤلف سعة بالغة تزيد عن محيط الأرض عند خط الاستواء. وبالجملة فإن هذا السفر نافع في بابه ويا حبذا لو تصدى كل من ينزل منا قطراً شاسعاً من أقطار الأرض فيصفه بما ينبغي من خدمة العلم ورجال المال والأعمال لنذكر لهم على الدهر مقرونة بالثناء الطيب والذكر العطر.
تقويم البشير
ظهر هذا التقويم الذي تصدره مطبعة الآباء اليسوعيين كل سنة وهذه هي السنة الرابعة والثلاثون لظهوره وهو تأليف الأب لويس معلوف وفيه حساب السنن على اختلاف أنواعها من شمسية وهجرية وقبطية وإسرائيلية وأعياد المسيحيين وأصوامهم وأسماء الرؤساء الروحيين فيها ومراكزهم من الدولة العثمانية والتقسيمات الإدارية في الدولة العثمانية ولاسيما في سورية وأسماء الجرائد والمجلات والمطابع في بيروت ولبنان وفيها نحو 57 جريدة ومجلة وبعض وصايا وفوائد علمية وبيتية ولطائف في 176 صفحة جيدة الطبع والحرف.(57/64)
العدد 58 - بتاريخ: 1 - 12 - 1910(/)
الضوءُ اللامع
من كتب التراجم الممتعة التي تجمع بين الفائدة واللذة هذا التاريخ لمؤلفه محمد بن عبد الرحمن الملقب بشمس الدين السخاوي الأصل القاهري تكلم فيه على رجال عصره بما اعتقده فيهم وأطلق لقلمه العنان أيما إطلاق حتى لتظنه لا يعرف غير الهجاء مذهباً وكشف عورات أهل جيله وقبيله مشرباً.
قال في كشف الظنون: الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع لشمس الدين محمد ابن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902 اثنتين وتسعين رتبه على الحروف وقد صنفه السيوطي في رده مقالة سماها الكاوي في تاريخ السخاوي وشنع عليه فيها وانتخبه الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي المتوفى سنة 936 ست وثلاثين وتسعمائة وسماه القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي والشهاب أحمد بن العز محمد الشهير بابن عبد السلام المتوفى سنة 931 إحدى وثلاثين وتسعمائة وسماه البدر الطالع من الضوء اللامع لأهل القرن التاسع واختصره الشيخ أحمد القسطلاني وسماه النور الساطع في مختصر الضوء اللامع.
وفي المكتبة الظاهرية بدمشق نسخة صحيحة من هذا الكتاب ربما كانت أصح نسخة في سورية ومصر وهي في نحو ثلاثة آلاف صفحة كبيرة بخط وسط وقعت في خمس مجلدات ضخام. والمؤلف عالم من علماء الحديث وغيره وله مصنفات أخر وترجم نفسه في كتبه وقد جرت عادة كثير من الأعلام أن يترجموا أنفسهم من غير نكير فمما قاله أنه أخذ عمن درب ودرج وذلك لأنه ارتحل من القاهرة على عادة العلماء لأن الرحلة ولاسيما للمحدثين والمؤرخين من لوازمهم وحج فمر على الينبوع وعقبة أيلة رابغ خليص ثم ارتحل إلى حلب ماراً ببلبيس وقطيا وغزة والمجدل والرملة وبيت المقدس والخليل ونابلس ودمشق وصالحيتها والزبداني وبعلبك وحمص وحماة وسرمين وحلب ومرّ أيضاً بطرابلس وبرزة كفر بطنا والمزة وداريا وصالحية مصر.
وله تصانيف كثيرة في الحديث ومنها تراجم من أخذ عنهم في ثلاثة مجلدات سماه بغية الراوي بمن أخذ عنه السخاوي وفهرست مروياته في أزيد من ثلاث مجلدات والتبر المسبوكفي الذيل على تاريخ المقريزي في نحو أربعة أسفار والضوء اللامع الذي نحن بصدد الكلام عليه ويكون ست مجلدات بحسب تقديره. والذيل على قضاة مصر نسخة في(58/1)
مجلدة والذيل على طبقات القراء لابن الجزري في مجلد على دول الإسلام للذهبي والوفيات في القرن التاسع وترجمة نفسه والتاريخ المحيط وهو في نحو ثلثمائة رزمة على حروف المعجم قال أنه لا يعلم من سبقه إليه. طبقات المالكية أربعة أسفار إلى غير ذلك من ال شروح والتلاخيص ولد سنة 831 وقد استغرقت ترجمته نفسه في كتابه هذا 11 ورقة ونصف ورقة ولم نر فيه أكبر منها.
وفي هذا الكتاب من المشاهير الناشري وإبراهيم بن ظهيرة والبقاعي والبرهان الطرابلسي وأحمد الكوراني وابن الهمام وابن الشحنة والمقريزي والحافظ ابن حجر وابن عربشاه وتيمورلنك والقاضي زكريا والحافظ العراقي وابن خلدون والجلال البلقيني والجلال السيوطي. وفيه من غير هذه الطبقة أيضاً طرف صالح جداً منهم من نسب إلى بلده ومسقط رأسه ومنهم من اشتهر بألقاب أخرى فتقع فيه على تراجم البعلبكي والعجلوني والطنبوني (نسبة لبلدة من إقليم المنوفية بمصر) والأدفوي والزنكلوني والمنوفي والأسنوي والقوصي والدمياطي والبوصيري والسمنودي والأسيوطي والسنباطي والشموني والملوي والمنفاوطي والفارسكوري والبنهاوي والبيجوري والمنشاوي والرشيدي والسكندري والأذرعي والعكاري والبقاعي والسقطي (من سقط الحنا في شرقية مصر أو سقط قليشا في البحيرة) والديروطي والفاقوسي والمحلي والدمنهوري والإخميني والأبشيهي والقليوبي والعاهري والمناوي والمحلاوي والكركي والشوبكي. والصعيدي والبلينائي والبلبيسي والبصروي والصيداوي والنووي والزفتاوي والبلقيني (نسبة لبلقينية في الغربية) والأسواني والجعبري (نسبة لقلعة جعبر من بلاد حلب) والحمصي والحموي وغير ذلك من الأعلام الذين نشأوا من قرى مصر والشام ومدنها في ذاك القرن.
بل وتجد فيه ما هو أغرب وأعجب من تراجم أمراء الجراكسة والمقدمين في الحكومة تلك الأيام أمثال قتيباي أحد ملوك مصر ترجمة في ست ورقات وقشتمر وقطباي وقطليك وقطلعوبغا وقطج وقمرقاس وقراجا وقراسنقر وقرا بلوك وقرا يوسف وقراقجا وقاتباي وقان ويرد وقانصوه وقانيك وقانم وكانور وكمشبغاواق سنقر ولاجين ومنكلي وبغا والطنبغا وأمثالهم ممن لا تعثر لهم على ذكر في غير هذا السفر الحاوي.
وترجم كثيراً من العامة وأرباب الأحوال والنساء وأورد بعض أشعارهن ومنها الجيد مثل(58/2)
شعر فاطمة ابنة القاضي كمال الدين محمد ابن شيرين الحنفي وقد كتبت إلى المؤلف بعد مجيء الخبر بموت أخويه من نظمها:
قفا واسمعا مني حديث أحبتي ... فأوصاف معناهم عن الحسن جلت
أناس أطاعوا الله نارت قلوبهم ... وأبصرت الأشياء من غير نبأة
وقد كوشفوا عن كل ما أضمر الفتى ... ونارت قلوبهم منهم وبصيرة
وهاك ما قاله السخاوي في مقدمة كتابه وفيها الغرض الذي يرمي إليه:
الحمد لله جامع الشتات ورافع من شاء في الحياة وبعد الممات ومقيل المقبل على الإكثار من الطاعات من ذوي إلهيات من بعد ما عمله صدر عنه من الزلات وقابل التوبة من أخلص ورجع عما اقترف من البليات سيما الصادرات في الصبا الغالب معه ترك النظر في العاقبات فضلاً عمن نشأ في الطاعات إلى أن قال: وبعد فهذا كتاب من أهم ما به يعتنى جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثماني مائة ختم بالحسنى وسائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء والخلفاء والملوك والأمراء والمباشرين والوزراء مصرياً كان أو شامياً حجازياً أو يمانياً رومياً أو هندياً مشرقياص أو مغربياً بل ذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة اقتفاء في أكثرهم (؟) لمن اضفتهم إليه في غزوه لأنه اجتمع لبي منهم الجم الغفير وارتفع عني اللبس في جمهورهم إلا اليسير مستوفياً من كان منهم في معجم شيخنا وأنباءه وتارخي العيني والمقريزي سيما في عوده الذي رتبها النجم ابن فهد مع أصله للفاسي والطبقات والوفيات المدونة والتراجم كشيوخ ابن فهد التقي وولده تخريجه وغيرها من المعاجم وما علقته من مجامع مفيدنا الزين رضوان أو رأيته في استدعاءات شيخنا ونحوه من الأعيان وسائر من ضبطته ممن أخذ عن شيخنا أو عني أو أخذت عنه ولو لم يكن خبيراً كبيراً عينا وربما أثبت لمن لا يذكر لبعض الأغراض التي لا يحسن معها الاعتراض وألحقت فغي إثباته كثيراً الموجودين رجاء انتفاع من لعله يسال عنهم من المستفيدين مع غلبة الظن الغني عن التوجيه ببقاء إن شاء الله منهم إلى القرن الذي يليه مرتباً له تسهيل الكشف على حروف المعجم الترتيب المعهود في الأسماء والآباء والأنساب والجدود مبتدءاص من الرجال بالأسماء ثم بالكنى ثم بالأنساب والألقاب وكذا المبهمات بعد الأبناء مراعياً في الترتيب(58/3)
لذلك كله حروف الكلمة المقصودة بحيث ابتدأ في الألف مثلاً بالهمزة الممدودة ثم بالهمزة التي بعدها موحدة وألف ثم بالتي بعدها على ما ألف مردوفاً ذلك بالنساء كذلك وكل ما أطلقت فيه شيخنا فمرادي به ابن حجر أستاذنا وكنت أردت إيراد شيءٍ مما لعله يكون عندي من حديث من نشاء الله من المترجمين فخشي التطويل سما أن حصل إيضاحه بالتبيين ولذا اقتصرت على الرضي والزكي والسراج والعضد والمحيوي ممن بلغت رضي الدين أو زكي الدين أو سراج الدين أو عضد الدين أو محي الدين ممن المصنف عليه محتوي أعرضت لذلك عن الإفصاح بالمعطوف عليه للعلم به فاقتصر على قولي مات سنة ثلاث مثلاً دون ثماني مائة وتوفي. . . . . . . ثم ليعلم أن الأغراض في الناس مختلفة والأعراض بدون التباس في المحظور مؤتلفة ولكنني لم آل في التحري جهداً ولا عدلت عن الاعتدال فيما أرجو قصداص ولذا لم يزل الأكابر يتلقون ما أبديه بالتسليم ويتوقون الاعتراض فضلاً عن الإعراض عما ألقيه والتأثيم حتى كان العز الحنبلي والبرهان بن ظهيرة المعتلي يقولان أنك منظور إليك في بما تقول مسطور كلامك المنعش للعقول وقال غير واحد ممن يعتقد بكلامه وتمتد إليه الأعناق في سفره ومقامه من زكيته فهو المعدل ومن مرضته فالضعيف المعلل إلى غيرها من الألفاظ الصادرة من الأئمة الإيقاظ بل كان بعض الفضلاء المعتبرين يصرح بتمني الموت في حياتي لأترجمه بما لعله يخفى عن الكثيرين نعم قد يشك من يعلم أنني لا أقيم له وزناً فمرق بل يختلف (كذا) ما يضمحل في وقته حساً ومعنى ويستفيد به التنبيه على نفسه فيتحقق منه ما كان حدساً أو ظناً والله أسأل أن يجنبنا الاعتساف المجانب للإنصاف وأن يرزقنا كلمة الحق في السخط والرضى ويصرفنا عما لا يرتضى ويقينا شر القضا وسميته الضوء اللامع لأهل القرن التاسع اهـ.
هذا هو أقل ما يقال في الضوء اللامع والأمل معقود بأن يمثل للطبع عما قريب على يد إحدى جمعيات المستشرقين في أوربا ولذا اكتفينا بإيراد ترجمتين منه لفاضلين أحدهما دمشقي والآخر مصري وإن كان شامي الأصل وذلك إنموذجاً لأسلوب المؤلف وإنشائه قال في ترجمة العالم المؤرخ الكاتب المشهور ابن عربشاه:
أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم ابن أبي نصر محمد ابن عربشاه ابن أبي بكر الأستاذ الشهاب أبو محمد ابن الشمس الدمشقي الأصل الرومي الحنفي والد التاج عبد(58/4)
الوهاب ويعرف بالعجمي وبابن عربشاه وهو الأكثر وليس بقريب لداود وصالح ابني محمد عربشاه الهمدانيين كالأصل الدمشقيين الحنفيين أيضاً. ولد في ليلة الجمعة منتصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ونشأ بها فقرأ القرآن على الزين عمر بن اللبان المقري ثم تحول في سنة ثلاث وثمانمائة في زمن الفتنة مع أخوانه وأمهم وابن اخته عبد الرحمن بن إبراهيم بن خولان إلى سمرقند ثم بمفرده إلى بلاد الخطا وأقام ببلاد ما وراء النهر مديماً بالاشتغال والأخذ عمن هناك من الأستاذين فكان منهم السيد محمد الجرجاني وابن الجزري وهما نزيلا سمرقند الأول بمدرسة أيدكوتمور والثاني بباغ خدا وعبد الأول وكعصام الدين ابن العلامة عبد الملك وهام من ذرية صاحب الهداية وأحمد الترمذي الواعظ وأحمد القصير وحسام الدين الواعظ أمام مسجد السيد الإمام محمد بخارى الزاهر ولقى في سمرقند في سنة تسعة وثمانمائة الشيخ عربان الأدهمي الذي استفيض هناك أنه ابن ثلثمائة سنة فالله أعلم وبرع في فنون واستفاد اللسان الفارسي والخط الموغولي وأتقنهما وجمع في بلاد الموغول بالبرهان الأيدكاني والتاخي جلال الدين السيرامي وأخذ عنه وقرأ النحو على حاجي تلميذ السيد ثم توجه إلى خوارزم فأخذ عن نور الله وأحمد بن شمس الأئمة السيرافي الواعظ وكان يقال له ملك الكلام الفارسي والتركي والعربي ثم إلى بلاد الدشت وسراي وحاجي خان وبها (البحر) الزاخر مولانا حافظ الدين محمد بن ناصر الدين محمد البزازي الكردي فأقام عنده نحو أربع سنين وأخذ عنه الفقه وأصوله ومما قرأ عليه المنظومة إلى القرم واجتمع بأحمد بيرق وشرف الدين شارح المنار ومحمود البلغاري ومحمد اللب أبي (؟) وعبد المجيد الشاعر الأديب.
ثم قطع بحر الروم إلى مملكة ابن عثمان فأقام بها نحو عشر سنين فترجم فيها للملك غياث الدين أبي الفتح محمد بن أبي يزيد ابن مراد بن عثمان كتاب جامع الحكايات ولامع الروايات من الفارسي إلى التركي في نحو (. .) مجلدات وتفسير أبي الليث السمرقندي القادري بالتركي نظماً وباشر عنده ديوان الإنشاء وكتب عنه إلى ملوك الأطراف عربياً وشامياً وتركياً فبالعجمي لقرا يوسف ونحوه بالتركي لآمر الدشت وسلطانها وبالموغولي لشاروخ وغيره وبالعربي للمؤيد الشيخ كل ذلك مع حرصه على الاستفادة بحيث قرأ المفتاح على البرهان حيدر الخوافي وأخذ عنه العربية أيضاً(58/5)
فلما مات ابن عثمان رجع إلى وطنه القديم فدخل حلب فأقام بها نحو ثلث سنة ثم الشام وكان دخوله لها في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين فجلس بحانوت مسجد القصب مع شهوده يسيراً ليكون معظم أوقاته الانعزال عن الناس وقرأ بها على القاضي شهاب الدين بن الحبال الحنبلي صحيح مسلم في سنة ثلاثين فلما قدم العلاء البخاري سنة اثنين وثلاثين مع الركب الشامي من الحجاز انقطع غليه ولازمه في الفقه والأصلين والمعاني والبيان والتصوف وغيرها وكان مما قرأ عليه الكافي في الفقه والبزدوي في أصوله وتقدم في غالب العلوم
وأنشأ النظم الفائق والنثر الرائق وصنف نظماً ونثراً مرآة الأدب في علم المعاني والبيان والبديع وسلك فيه أسلوباً بديعاً في التلخيص وعمل قصائد غزلية في كل باب منه قصيدة مفردة على قافية أشار إليه شيخنا بقوله وأوقفني على منظومة في المعاني والبيان وأجاد نظمها وجعل كل باب قصيدة مستقلة غزلاً يؤخذ منه مقصد ذلك الباب انتهى. ومقدمته في النحو. ومقود لنصيحة. والرسالة المسماة بعقد الفريد في التوحيد. ونثراً تاريخ تيمورلنك سماه عجائب المقدور في نوائب تيمور. وفاكهة الخلفا ومفاكهة الظرفا. وخطاب الأهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب. والترجمان المترجم الأرب في لغة الترك والعجم والعرب.
وأشير إليه بالتفنن
حتى كان ممن يجله ويعترف له بالفضيلة شيخنا واثنى على نظمه التلخيص كما قدمته بل كتب عنه نظمه لدخله في البلدانيات فقال أنشدني بمنزلة برزة بالقرب من قرية القابون التحتاني في سابع رمضان سنة ست وثلاثين لنفسه:
السيل يقلع ما يلقاه من شجر ... بين الجبال ومنه الأرض تنفطر
حتى يوافي عباب البحر ينظره ... قد اضمحل فلا يبقى له أثرا
مع حرص صاحب الترجمة حين كونه بالقاهرة على ملازمته والاستفادة منه بل امتدحه بقصيدة بديعة أتى فيها بالغار وتعامي وأهاجي وجناسات تلعب فيها بضروب الأدب أودعتها الجواهر والدرر سمعتها منه ومن لطيف أبياتها بيت جمع فيه حروف الهجاء وهو:
خض بحر فظ حديثه تغش العلا ... وأجزم بصدقك ناطقاً إذ تسند
وبيت عاطل هو(58/6)
العالم العالم الإمام لدى العلا ... العامل الحكم الهمام الأوحد
وبيت شطره الأول مما يستحيل الانعكاس وشكره الثاني عاطل مع كونه مما لا يستحيل أيضاً فالأول مركب من آمن والثاني من أحمد وهو:
نم آمناً من نمّ إنما آمن ... دم حامداً ما أمّ آدم أحمد
وكثر اجتماعهما وطرح شيخنا عليه من الأسئلة التي فيها الفكاهة والمداعبة مما لا تعرف منه الملاءة والقدرة على التخلص منه ما أودعته منه أشياء في الجواهر عند الكلام على قدرة شيخنا في التفسير وغيره رحمهما الله.
وكان أحد الأفراد في إجادة النظم باللغات الثلاث العربية والعجمية والتركية مجيد الخط جيد الإتقان والضبط عذب الكلام بديع المحاضرة مع كثرة التودد ومزيد التواضع وعظة النفس ووفور العقل والرزانة وحسن الثكالة والأبهة وسيماء الخير ولوائح الدين عليه ظاهرة وقد لقيته في القاهرة في الخانقاه الصلاحية سنة خمسين فكتبت عنه من نظمه أشياء وسمعت متن لفظه العقد الفريد وعقود النصيحة وكتبهما لي بخطه وبالغ في الأدب والتواضع ومات بالخانقاه المذكورة في يوم الاثنين منتصف رجب سنة أربع وخمسين ودفن بتربتها والناس مشغولون بالاستسقاء عند توقف النيل غريباً عن أهله ووطنه بعد أن امتحن على يد الظاهر جقمق وطلبه لشكوى حميد الدين عليه وأدخله سجن المجرمين فدام فيه خمسة أيام ثم أخرج واستمر مريضاً من القهر حتى مات بعد اثني عشر يوماً عوضه الله خيراً وترجمته محتملة للبسط فقد كان من محاسن الزمان وممن ترجمه المقريزي في عقوده ومما كتبه عنه لنفسه:
قميص من القطن من حله ... وشربة ماءٍ قراح وقوت
ينال به المرء ما يبتغي ... وهذا كثير على من يموت
ومنه معمياً:
وهك الزاهي كبدر فوق غصن طلعا ... واسمك الزاكي كمشكاة سناها لمعا
في بيوت أذن لها الله أن ترفعا ... عكسها صحفه تلقى فيه الحسن (؟) أجمعا
ومنه:
فعش ما شئت في الدنيا وأدرك ... بها ما شئت من صيت وصوت(58/7)
فحبل العيش موصول بقطع ... وخيط العمر معقود بموت
ومنه:
وما الدهر إلا سلم بقدر ما ... يكون صعود المرء فيها هبوطه
وهيهات ما في نزول وإنما ... شروط الذي يرقى إليه سقوطه
فمن صار أعلى كان أوفى تهشماً ... وفاءً بما قامت عليه شروطه
وترجمه بعضهم فقال: العلامة أحد أفراد الدهر في الفضل والسجع وعلم المعاني والبيان والبديع والنحو والصرف والنظم والنثر كان ممن أسرع مع اللنك (أي العرج تيبمورلنك) ونقل إلى سمرقند ثم خرج منها سنة إحدى عشرة وجال في بلاد الشرق ورجع إلى دمشق سنة خمس وعشرين وصنف عجائب المقدور في نوائب تيمور من ابتدائه إلى انتهائه أبان فيه عن فضل كبير وملكة للسجع وغزارة إطلاع بحيث لخصه المقريزي وترجم مؤلفه فقال: نثره سجعاً فعلا ورشحه بالأشعار فحلا. إلى أن قال: بأنه بحر بلاغة وفصاحة أنشدنا كثيراً من شعره وله معرفة بالفقه واللغة ولكن الغالب عليه الأدب وله نظم كثير منه مرآة الأدب يشتمل على المعاني والبيان والبديع وهو نظم بطريقة الغزل يكون نحو ألفي بيت وكتاب في علم النحو نظمه بطريقة الغزل أيضاً محو مائتي بيت وقصيدة غزلية في الصرف بديعة ماح بها بعض أعيان الدولة وقصيدة قي نحو مائتي بيت وشرحها في مجلد في مجلد وخضاب الأهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب بينه وبين البرهان الباعوني وحميد الدين القاضي أبان فيه عن حفظ كثير للغة وكثرة إطلاع وغزارة وفضل وسبب منعه أن الباعوني كتب له بستة أيام التزم فيها بانطا (؟) المسألة أولها:
أأحمد لم تكن والله فظاً ... ولكن لا أرى لي منك حظاً
واستوفى كثيراً من اللغة وكان قد وقع بينه وبين حميد الدين فحصل للشهاب سنة أخرى مثل نظره في كتاب اللغة وعملها في ستة أبيات التزم فيها الراء قبل الألف والراء بعدها:
من مجيري من ظلوم ... منه أُبعدت مزارا
واستوفى ما في الباب قال الشهاب فلم أجد له قافية فكتب على لسان حميد الدين قصيدة بغدادية أولها:
أي خدانود عجعبو ... عن موالاة التناغي(58/8)
فلم يقدر على الجواب بمثلها وكتب إليه يقول:
يا شهاب الدين يا أح ... مد يا ابن عربشاه
واستوفى القافية فظفرت بأشياء ترككها فقلت:
قد أتى الفضل عليه ... حلل اللطف موشاه
فتعجب من سعة دائرته وكثرة اطلاعه ثم قال له أنا والله ما عرفتك إلا الآن قال فقلت له والى الآن ما عرفتني وطال الجواب بينهما على هذا المنوال حتى ألف ذلك مجلداً فمن ذلك ما كتب به البرهان:
ابن عربشاه كف عني ... أو لا فخذ ما يجيك مني
واعلم بأني خصم ألد ... الشر دابي والمكر فني
خلفي رجال لهم مجال ... في الحرب لا يخلفون ظني
إلى آخرها ومن جملة المراسلات أن البرهان أرسل عليه بعشرة أبيات التزم فيها الباء والياء واستوفى ما في الصحاح أولها:
إن الذميم وأنت يا ... هذا ابن عين الخبير كذا
واستوفى القوافي وظن أني لم أجد قافية فأجبته وآخر الأمر توجه عبد الحميد إلى مص ر وشكاهما إلى السلطان وقال لبه البرهان هجاني فلم يرد عليه إلا بقوله يكتب له من اليوم بكفه عن هجائه فلما خرج قال السلطان للشمس الكاتب أن الباعوني رجل جيد لولا أنه عرف منه شيءٌ ما قاله وألغز إليه أبو اللطف الحصكفي فأجابه بعد أن أجاب شعر القاهرة (؟) بغير المراد ثم ألغز هو إليه وأجابه بما لم أطل بإيراده هنا وشعره كثير جداً وتصنيفه الماضي فاكهة الخلفا ومفاكهة الظرفا في مجلد ضخم فيه عجائب وغرائب على لسان الحيوانات من أواخر ما ألف.
ولما دخل مصر بعد الخمسين في الطاعون وجد غالب من ببيت الكمال ابن البزازي مات كزوجته وأخته فرثاهم بقصيدة طنانة على عدة قوافي وأظهر في مخالصها من كل قافية إلى الأخرى قوة كعجيبة وملكة للنظم لا ينهض غيره بشق غبارها من قافية اللام إلى قافية الألف إلى الهاء إلى غيرها تزيد عل سبعين بيتاً أولها:
إلى مَ يردى بالكمال ... ويودي بالردى أهل الكمال اه.(58/9)
وقال في ترجمة العلامة المقريزي: أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تيميم بن عبد الصمد بن أبي الحسين ابن عبد الصمد ابن تميم ال ثقفي أبو العباس ابن العلا ابن المحيوي لحسيني العبيدي البعلي الأصلي القاهري سبط ابن الصائغ ويعرف بابن المقريزي وهي نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة وكان أصله من بعلبك وجده من كبار المحدثين فتحول ولده إلى القاهرة وولي بعض الوظائف المتعلقة بالقضاة وكتب التوقيع في ديوان الإنشاء وأنجب صاحب الترجمة وكان مولده حسبما كان يخبر به ويكتبه بخطه بعد الستين وقال شيخنا: إنه رأى بخطه ما يدل على تعينه سنة ست وستين وذلك بالقاهرة ونشأ بها نشأظة حسنة فحفظ القرآن وسمع من جده لأمه ابن الصائغ الحنفي والبرهان الآمدي والعز ابن الكويك والنجم ابن رزين والشمس ابن الخشاب والتنوخي وابن أبي شيخة وابن أبي المجد والبلقيني والعراقي والهتيمي والفرسيسي وغيرهم بل كان يزعم أنه سمع المتسلسل على العماد ابن كثير ولا يكاد يصح. وحج فسمع بمكة من النشاوري والأميوطي والشمس ابن سكر وأبي الفضل النويري القاضي وسعد الدين الإسفراييني وأبي العباس ابن عبد المعطي وجماعة أجاز له الأسنوي والأذرعي وأبو البقا السبكي وعلى ابن اليوسف الرريدي (؟) وآخرون ومن الشام الحافظ أبو يكر ابن المحب وأبو العباس ابن العز وناصر الدين محمد ابن محمد بن داود وطائفة واشتغل كثيراً وطاف على الشيوخ ولقي الكبار وجالس الأئمة فأخذ عنهم وتفقه حنفياً على مذهب جده لأمه وحفظ مختصراً فيه ثم لما ترعرع وذلك بعد موت والده في سنة ست وثمانين وهو حينئذ قد جاز العشرين تحول شافعياً واستقر عليه أمره لكنه كان مائلاً إلى الظاهر ولذلك قال شيخنا أنه أحب الحديث فواظب على ذلك وكان يتهم بمذهب ابن حزم ولكنه كان لا يعرفه انتهى هذا مع كون والده وجده حنبليين ونظر في عدة فنون وشار في الفضائل وكتب بخط الكثير وأنقى وقال الشعر والنثر وحصل وأفاد وناب في الحكم وكتب التوقيع وولي الحسبة بالقاهرة غير مرة أولها في سنة إحدى وثماني مائة والخطابة بجامع عمرو وبمدرسة حسن الإمامة بجامع الحاكم ونظره وقرأ الحديث بالمؤيدية عوضاً عن لمحب ابن نصر الله حين استقراره في تدريس الحنابلة بها وغير ذلك وحمدت سيرته في مباشراته وكان قد اتصل بالظاهر برقوق ودخل دمشق مع ولده الناصر في سنة عشر وعاد معه(58/10)
وعرض عليه قضاؤها مراراً فأبى وصحب بشبك الداودار وقتاً ونالته منه دنيا بل يقال أنه أودع عنده نقداً وحج غير مرة وجاور.
وكذا دخل دمشق مراراً وتولى بها ونظر وقف القلانسي والبيمارستان النوري مع كون شرط نظره لقاضيها الشافعي وتدريس الأشرفية والإقبالية وغيرها ثم أعرض عن ذلك وأقام ببلده عاكفاً على الاشتغال بالتاريخ حتى اشتهر به ذكره وبعد فيه صيته وصارت له فيه جملة تصانيف كالخطط للقاهرة وهو مفيد كونه ظفر بمسودة الأوحدي كما سبق في ترجمته فأخذها وزادها زوائد غير طائلة ودرر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة ذكر فيه من عاصره وإمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع. وكان يجب أن يكتب بمكة ويحدث به فتيسر له ذلك. والمدخل له. وعقد جواهر الأسفاط في ملوك مصر والسفساط. والبيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب. والإلمام في تأخر من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام. والطرفة الغريبة في أخبار حضر موت العجيبة. ومعرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم. وإيقاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين والخلفا. والسلوك بمعرفة دول الملوك يشتمل على الحوادث إلى وفاته. والتاريخ الكبير المقفى وهو في ستة عشر مجلداً وكان يقول أنه لو كمل على ما يرومه لجاوز الثمانين. والأخبار عن الأعذار. والإشارة والكلام ببناء الكعبة البيت الحرام ومختصره وذكر من حج من الملوك والخلفاء والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم وشذور العقود وضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري والأوزان والأكيال الشرعية وإزالة العتب والعنا في معرفة الحال في العنا وحصول الأنعام والمير في سؤال خاتمة الخير. والمقاصد السنية في معرفة الأجسام المعدنية وتجريد التوحيد ومجمع الفرائد ومنبع الفوائد يشتمل على علمي العقل والنقل المحتوي على فني الجد والهزل بلغت مجلداته نحو المئة وما شاهده وسمعه مما لم ينقل في كتاب. وشاع النحاة الحق منها والإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء وهو ظريف وغير ذلك وقرض سيرة المؤيد لابن ناهض وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلدة كبار وإن شيوخه بلغت ستمائة نفس وكان حسن المذاكرة بالتاريخ لكنه قليل المعرفة بالمتقدمين ولذلك يكثر له فيهم وقوع التحريف والسقط وربما صحف في المتون.(58/11)
ومما رأيته في ذلك أن ابن بدر وهو بفتح الموحدة والدال المهملة فضبطه بخطه بالبدل وعلى ابن منصور الكرخي شيخ السلفي وهو بالجيم فضبطه بالخاء المعجمة وكثيراً ما يجعل عبد الله عبيد الله وعكسه بل وبلغني أنه جعل أبا طاهر ابن محمش راوي الحديث المسلسل بالأولية حين حدث به بالخاء المعجمة بدل المهملة وأما في المتأخرين فقد انفرد في تراجمهم بما لا يوافق عليه كقوله في ابن الملقن أنه كان يبني (؟) الصلاة جداً وكان مع ذلك يكثر الاعتماد عل من لا يوثق به من غير عزو إليه تى فعل ذلك في نسبه فإن مستنده يكون من العبيديين كونه دخل مع والده جامع الحاكم فقال له: يا ولدي هذا جامع جدك ولاسيما وما قاله ابن أرفع في نسبة عبد القادر جده أنصارياً يخدش في هذا وإن توقف صاحب الترجمة فيه لكنه مع ذلك لم يكن يتجاوز في تصانيفه في سياق نسبه عبد الصمد ابن تميم وإن أظهر زيادة على ذلك فلمن يثق به ثم رأيت ما يدل على أنه اعتمد في هذه النسبة العرياني لمشهور بالكذب فالله اعلم. ومن يصف من يكون كذلك بالحافظ مريداً الإصلاح فقد جازف وما أحسن قول بعضهم مما في بعضه توقف (كذا).
وكان كثيرا الاستحضار للوقائع القديمة في الجاهلية وغيرها وأما الوقائع الإسلامية ومعرفة الرجال وأسمائهم والجرح والتعديل والراتب والسير وغير ذلك من أسرار التاريخ ومحاسنه فغير ماهر فيه وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو وإطلاع على أقوال السلف وإلمام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه مع حسن الخبق وكرم العهد وكثرة التواضع وعلو الهمة لمن يقصده والمحبة في المذاكرة والمداومة على التمجد والأدوار وحسن الصلاة ومزيد الطمأنينة لبيته حتى أن بعض الرؤساء فيما بلغني عتب على انقطاعه عنه أنسد قول غيره:
قالت الأرنب للفوت كلاماً ... فيه ذكرى لتفهم الألباب
إنا جرى من الكلاب ولكن ... خير يومي أن لا تراني الكلاب
لكن أحسن و (له) الخبرة بالزايرجة والاصطرلاب والرمل والميقات بحيث أنه أخذ لابن خلدون طالعاً والتمس منه تعيين وقت ولا ينه فيقال أنه ين له يوماً فكان كذلك وعد من النوادر.
كل ذلك مع تبجيل الأكابر له إما مداراة له خوفاً من قلمه أو لحسن مذاكرته وقد حدث(58/12)
ببعض تصانيفه ومروباته بمكة والقاهرة سمع منه الفضلاء وأخبر أنه سمع فضل الخير للدمياطي على أبي طلحة الحراوي مرتين فاعتدوا أخباره بذلك وقرئ مرة بل كتب بخطه من قبيل موته بسنة أنه لا يعلم من شاركه في روايته ورأيت بخط صاحبنا النجم ابن فهد أنه حضره في الرابعة علي الحراوي وما علمت مستنده في ذلك.
وقد ترجمه شيخنا في معجمه بقوله وله النظم الفائق والنثر الرائق والتصانيف الباهرة خصوصاً في تاريخ القاهرة فإنه أحيا معالمها وأوضح مجاهلها وجدد مآثرها وترجم أعيانها ولكنه لم يبالغ في أنبائه لهذا الحد بل قال وأولع بالتاريخ فجمع منه شيئاً كثيراً وصنف فيه كتاباً وكان لكثرة ولعه به يحفظ كثيراً منه قال وكان حسن الصحبة حلو المحاضرة وقال العيني: كان مشتغلاً بكتابة التواريخ وبضرب الرمل وتولى الحسبة بالقاهرة في آخر أيام الظاهر يعني برقوق ثم عزل بمسطره ثم تولى مرة أخر في أيام الدوادار الكبير سودون ابن أخت الظاهر يعني برقوق عوضاً عن مسطره بحكم ابن مسطره وعزل نفسه بسبب ظلم سودون المذكور وقال ابن خطيب الناصرية في ترجمة جده وهو جد الإمام الفاضل المؤرخ تقي الدين وقال غيره: جمع كتاباً فيما شاهده وسمعه مما لم ينقله من كتاب ومن عجب ما فيه أنه كان في رمضان سنة إحدى وتسعين ماراً بين القصرين فسمع العوام يتحدثون أن الظاهر برقوق خرج من سجنه بالكرك واجتمع عليه الناس قال: فضبطت ذلك اليوم فكان كذلك ومن شعره في دمياط:
سقى عهد دمياط وحياه من عهد ... فقد زادني ذكراه وجداً على وجدي
ولا زالت الأنواء تسقي سحابها ... دياراً حكت من حبسها جنة الخلد
وهي اكثر من عشرين بيتاً مات في عصر يوم الخميس سادس عشرى من رمضان سنة خمس وأربعين بالقاهرة بعد مرض طويل وذلك على ما قاله شيخنا بتكملة ثمانين من عمره ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بحوش الصوفية البيبرسية رحمه الله وإيانا اهـ.
هذان نموذجان من الكتاب وكله فوائد جزيلة وهو مرآة صادقة لأحوال القرن التاسع وفيه دب الانحطاط على أشده في جسم الأمة الإسلامية.(58/13)
ميزان المقادير في تبيان التقادير
لعلامة الإمامية وسيخ الفرقة العلوية الشيخ رضي الدين محمد القزويني
وكان أحد أفاضل القرن الحادي عشر من أعيان قزوين.
عني بنشرها محمود شكري أفندي الآلوسي أحد كبار علماء العراق العاملين.
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد وبعد فيقول المفتقر بجهله بالعلم اليقيني رضي الدين محمد القزويني. كثيراً ما وقعت في الشريعة الحقة المصطفوية عليه وعلى آله ألفُ ألف تحية. أحكام مبتنية على مقادير مخصوصة ومسائل مشتملة على أوزان وأكيال ومسافات منصوصة. وجليلاً ما اتفقت من المتدينين من أهل الحساب. طوبى لهم وحسن مآب ضوابط متقنة بتقديرات معينة. وقواعد محكمة بتجديدات مبينة فتصفحت فما وصلت إلى رسالة مفصلة. موضوعة لشأنها وتتبعت فما أطلعت على مقالة محصلة متكلفة ببيانها. غير أنها مسطورة في صحف منتشرة ضبطها محلها للقريحة. ومذكورة في كتب متفرقة حفظها مخل للطبيعة. مع أن أكثرها وقعت موقعاً لاختلاف الآراء. وأجلها وردت مورد الافتراق الأهواء. فها أنا ألقي عليك لبيانها في طي هذه الرسالة نوعاً من بسط الكلام وأهدي إليك لتبيانها في أثناء تلك المقالة ضرباً من توضيح المرام قاصداً فيها تسهيلاً على الطلاب. راجياً منها شيئاً من الثواب فإنه غير مقصورة على من أكثر العمل ووفرة. لكريمة فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره.
وسميتها ميزان المقادير في تبيان التقادير. فجعلتها تيمناً لها. وتزييناً إياها. هدية لخزانة كتب الدستور الأعظم ملجأ الكبار والأمم. حاوي الرياستين الدينية والدنيوية جامع الفضيلتين العلمية والعملية. مقدر أحوال الأنام. بالفكر الرزين. مد بر ممالك الإسلام بالعقل المتين. ملاذ أعاظم الفضلاء في الآفاق. سلطان أفاخم العلماء بالاستحقاق. معير نقود أنظار الأولين والآخرين. خازن مكتوم أسرار السابقين والاحقين. فخر السايدة والنجابة والفضيلة والكمال. عين العظمة وشوكة الجلالة والإقبال. اعتضاد الحضرة المقدسة السلطانية. اعتماد الدولة العلية العالية الخاقانية. أبد الله تعالى ظلال دولته إلى يوم الدين. بحرمه جده سيد المرسلين. وآباءه الأئمة الطاهرين المعصومين. فاعلم أن المقادير المذكورة على ثلاثة(58/14)
أقسام. إما مقلدة بالوزن. أو بالك يل. وإما بالمساحة. والبحث عنها إما يكون على وجه كشف حقائقها. أو على سوق يظهر دقائقها فانتظمت الرسالة بتفصيلات افتتاحاً. وبتتميمات اختتاماً.
تفصيل فيه ذكر المقادير المقدرة بحسب الوزن
هذه المقادير ينتهي أكثر تقديراتها بل كلها إلى وزن الحبة من الشعير المتوسطة لقلة الاختلاف فيها. وسهولة تحصيلها وشيوعها في الأمكنة والأوقات فوزنها بين الوزان كالواحد بين الأعداد فكما ثبت للواحد كسورهم فكذلك قدرت لها أجزاء فأسس البيان بذكرها فيقال لسدس الشعيرة الخردل.
ولجزء من اثنين وسبعين جزءاً منها الفلس.
فهو نصف سدس الخردل. ولجزء من أربعمائة واثنين وثلاثين جزءاً منها الفتيل يقال له الفتيلة أيضاً فهو سدس الفلس.
ولجزء من ألفين وخمسمائة وتسعين جزءاً منها النقير فهو أيضاً سدس الفتيل.
ولجزء من عشرين ألفاً وسبعمائة وستة وثلاثين جزءاً منها القمطير فهو ثمن النقير.
ولجزء من مائتين وثمانية وأربعين ألفاً وثمانمائة واثنين وثلاثين جزءاً منها الذروة فهي نصف سدس القمطير.
ولجزء من ألف ألف وسبعمائة وأربعين ألفاً وثمانمائة وأربعة وعشرين جزءاً منها الهباء فهو سبع الذرة.
وبعد هذا التأسيس نفصل الوزان المشهورة المذكورة على الألسنة على ما وصل إلينا حسبما اقتضاها الترتيب.
الطسوج وهو قدر حبتين من شعيرتين متوسطتين وهو مشهور وبه فسره أهل اللغة أيضاً ولم أجد فيه خلافاً.
والقيراط وهو قيراطان قيراط الدرهم وقيراط الدينار. وهذا أيضاً مكي وعراقي فبالحقيقة ثلاثة أقسام:
أما قيراط الدرهم فهو أربع شعيرات يبلغ طسوجين في القاموس في م ك ك لقيراط طسوجان والطسوج حبتان يني شعيرتين كذا في الصحاح. وقيل هو ست شعيرات فيبلغ(58/15)
ثلاثة أساطيج يعني قيراط الدرهم.
وأما القيراط المكي للدينار فهو شعيرتان أو ستة أسباع شعيرة يبلغ سطوجاً وثلاثة أسباعه.
وأما القيراط العراقي فهو ثلاث شعيرات وثلاثة أسباع شعيرة يبلغ طسوجاً وخمسة أسباعه في القاموس القيراط والقرّاط يختلف وزنه بحسب البلاد فبمكة ربع سدس دينار وبالعراق نصف عشره انتهى فالتقدير موافق لما قدرناهما به كما ستعرف وهذا العراقي هو المعتبر في باب زكوة الذهب.
وأما القيراط الواقع في الحديث مع تفسيره بأنه مثل جبل أحد فمجاز.
والدانق وهو إذا أطلق فالمراد دانق الدرهم وقدره ثماني شعيرات يبلغ قيراطي الدرهم في القاموس م ك ك. والدانق قيراطان والقراط طسوجان والطسوج حبتان والحبة سدس من ثمن الدرهم وهو جزء من ثمانية أربعين جزءاً من درهم وهو بعينه عبارة الصحاح وفي د ن ق فسره بسدس الدرهم وهو أيضاً قيراطان كما ستعرف.
والدرهم وهو دراهم الدرهم البغلي وهو أربع وستون شعيرة يبلغ ثمانية دوانيق والدرهم الطبري وهو اثنتان وثلاثون شعيرة يبلغ أربعة دوانيق نصف البغلي في القاموس الطبري ثلثا الدرهم أراد به الدرهم الشرعي. والدرهم الشرعي وهو ثمان وأربعون شعيرة يبلغ ستة دوانيق متوسط بينهما وهذا الشرعي هو المعتبر في نصاب زكوة الفضة وأمثاله ويقال له الوربة أيضاً.
قال العلامة في التحرير الدراهم في صدر الإسلام كان صنفين بغلية وهي السود كل درهم ثمانية دوانيق وطبرية كل درهم أربعة دوانيق فجمعا في الإسلام وجعلا درهمين متساويين وزن كل درهم ستة دوانيق فصار وزن كل عشرة دراهم. سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسة وهو الدرهم الذي قدر به النبي من المقادير الشرعية في نصاب الزكوة والقطع ومقدار الديات والجزية وغير ذلك. والدانق ثماني حبات من أوسط حب الشعير انتهى.
والمثقال هو مثقالان المثقال الشرعي وهو المعبر عنه بالدينار بلا خلاف لكن الدينار كثر استعماله في المسكوك من الذهب كما أن أكثر استعمال الدرهم في المسكوك في الفضة قدره ثمان وستون شعيرة وأربعة أسباع شعيرة يبلغ درهماً وثلاثة أسباعه بالشرعي. في(58/16)
الصحاح وكذا في القاموس المثقال الدرهم وثلاثة أسباع ردهم والدرهم ستة دوانيق والدانق قيراطان الخ. وهو المعتبر في الأحكام الشرعية بلا خلاف يظهر من تتبع كلام الفقهاء. وما وقع في الحديث من أن المثقال من أن المثقال أربعة وعشرون قيراطاً أصغرها مثل حبل واحد وأكبرها ما بين السماء والأرض فمجاز. والمثقال الصيرفي وهو المعروف في زماننا ستة أربع وخمسين ألف في أكثر بلاد العجم قدره أربعة وثمانون شعيرة على ما وزنا ورعينا في وزنه كمال الاحتياط. والتدقيق يبلغ درهماً وثلاثة أرباع درهم بالشرعي.
والوافي وقدره ثمانون شعيرة يبلغ درهماً وثلثي درهم في القاموس الوافي درهم وأربعة دوانيق موافقاً لما قدرنا به.
والإستار بالكسر وقدره ثلثمائة وثماني شعيرات وأربعة أسباع شعيرة قدره ستة دراهم وثلاثة أسباع درهم بالشرعي يبلغ مثاقيل ونصف مثقال بالشرعي كذا في الصحاح. والقاموس وقيل هو ستة دراهم وثلث درهم أو أربعة مثاقيل نقلهما الشيخ في أواخر كتاب القانون.
والأوقية كالوقية بالضم وتشديد الياء وهي أوقيتان الأوقية الجديدة وهي على ما به فسرها الفقهاء. وجمهور أصحاب اللغة والأطباء خمسمائة وأربع عشرة وسبعان من الشعيرة قدر عشر دراهم وخمسة أسباع درهم يعني سبعة مثاقيل ونصفاً يبلغ إستاراً وثلثي إستار بالمعنى الأول. وعلى ما نقله الشيخ في أواخر القانون هي سبعة مثاقيل يكون عشرة دراهم وتبعة العلامة الشيرازي في شرح القانون وصاحب القانون في وق ي لكنه وافق في م ك ك الجمهور كما وافقهم صاحب الصحاح في الموضعين وصرح بأنها هي المعتبرة بين الأطباء وسننقل كلامه بعينه وعلى ما فسره بعض ما يعتد به هي اثنا عشر درهماً يعني ثمانية مثاقيل وخمسي مثقال فلها ثلاث تفسيرات والمعتمد المشهور هو الأول كما ذكرنا.
والأوقية القديمة هي ألف وتسعمائة وعشرون شعيرة قدر أربعين درهماً يعني ثمانية وعشرين مثقالاً تبلغ ثمانية إساتير وثمانية أتساع إستار بالمعنى الأول في الصحاح تصريح به وبما سبق منه في موضع آخر كما مر بقوله الأوقية في الحديث أربعون درهماً وكذلك كان فيما مضى فأما اليوم فيما يتعارفها الناس ويقدر عليه الأطباء فالأوقية عندهم وزن عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم وهو إستار وثلثا إستار انتهى وما وقع في الحديث من(58/17)
تفسير الأوقية بأعظم من جبل أحد فمجاز.
والنتس بالتشديد وهو تسعمائة وستون شعيرة قدر عشرين درهماً يعنى أربعة عشر مثقالاً يبلغ نصف أوقية قديمة كذا في الصحاح والقاموس ورووا كان صداق أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله اثنتي عشرة أوقية ونشاً أتدرون ما النس هو نصف أوقية وعشرون درهماً انتهى ذكر هذه الرواية العلامة في منتهى المطلب للاستدلال على أن الأوقية كانت أربعين درهماً.
والرطل هو أرطال الرطل العراقي ويقال له البغدادي أيضاً وهو المراد عند إطلاق الرطل في الأكثر وفي تفسيره خلاف فعند جمهور الخاصة والرافعي من العامة ستة آلاف ومائتان وأربعون شعيرة تبلغ اثنتي عشرة أوقية وثلثي خمسة بالجديدة على المعنى الأول وبعبارتين أخريين أحد وتسعون مثقالاً بالشرعي ومائة وثلاثون درهماً به وعند جمهور العامة والعلامة من الخاصة ستة آلاف ومائة وأحد وسبعون شعيرة وثلاثة أسباع شعيرة يبلغ اثنتي عشرة أوقية بالمعنى المذكور بلا زيادة ولا نقصان. وبعبارتين أخريين تسعون مثقالاً ومائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم وعلى هذا التفسير صاحب الصحاح والقاموس إذا فسراه باثنتي عشرة أوقية وهو الرطل المعتبر بين جمهور الأطباء أيضاً لكن على ما يظهر مما نقله الشيخ في أواخر القانون حيث فسره باثنتي عشرة أوقية والأوقية بسبعة مثاقيل كما مر يصير أربعة وثمانين مثقالاً ولم أجد من فسره به أصلاً والرطل المدني وهو رطل ونصف بالعراقي والرطل المكي وهو ضعف الرطل العراقي ويجري فيهما الاحتمالان الناشئان من تفسير الرطل العراقي ففي كل منهما مذهبان على النسبة المذكورة في الرطل العراقي.
والمن ويقال له المنا مقصوراً أو المشهور منه منان المن المصري والإنطاليقي وهو ثمانية آلاف ومائتان وثمانية وعشرون شعيرة قدر ست عشرة أوقية جديدة بالمعنى الأول يبلغ رطلاً وثلث رطل على تفسير العامة وفي القانون أيضاً ست عشرة أوقية والخلاف في تفسيرها كما مر. والمن الرومي وهو عشرة آلاف وثمانمائة وثماني شعيرات قدر إحدى وعشرين أوقية بالمعنى المذكور يبلغ رطلاً وثلاثة أرباع رطل وفي القانون عشرون أوقية يبلغ رطلاً وثلثي رطل بتفسيره.(58/18)
والمن الطبي وهو اثنا عشر ألفاً واثنان وأربعون شعيرة وستة أسباع شعيرة يبلغ رطلين وبعبارة أخرى أربع وعشرون أوقية ولا خلاف فيه إلا ما يقتضيه ما في القانون من تفسير الأوقية.
والمن التبريزي وهو خمسون ألفاً وأربعمائة شعيرة يبلغ ستمائة مثقال صيرفي كما هو المتعارف في زماننا. والمن الشاهي وهو مائة ألف وثمانمائة شعيرة يبلغ ألفاً ومائتي مثقال صيرفي ضعف المن التبريزي.
والكر بحسب الوزن إما المكيالي والمساحي منه فسيجيء تفسيرهما ويعتبر فيه كونه من الماء قدر بألف ومائتي رطل باتفاق فقهاءنا رضوان الله عليهم إلا القطب الراوندي وسنذكر ما ذهب إليه لكنهم اختلفوا في أن هذا الرطل هل هو مدني أو عراقي ذهب إلى الأول جماعة منهم ابن بابويه والسيد المرتضى رحمهما الله والى ال ثاني الشيخان والعلامة ومن تبعهم ففيه مذهبان يرجع بعد ملاحظة الاختلاف الواقع في قدر الرطل العراقي بين الجمهور والعلامة كما ذكرنا إلى ثلاثة مذاهب بحسب المآل فعلى مذهب ابن بابويه يصير مائتين وأربعة وثلاثين ألف درهم شرعي وعلى مذهب الشيخين مائة وستة وخمسين ألف درهم وعلى مذهب العلامة مائة وأربعة وخمسين ألف درهم وعلى مذهب العلامة مائة وأربعة وخمسين ألفاً ومائة وخمسة وثمانين درهماً وخمسة أسباع درهم.
ومما يلحق بالأوزان النواة وهي الأوقية من الذهب أو أربعة دنانير أو ما زنته خمسة دراهم أو ثلاثة ونصف من العدد عشرون أو عشرة هكذا في القاموس.
والربوة بالكسر وهي عشرة آلاف درهم كما في القاموس.
والبدرة وهي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار كما في القاموس وفي بعض كتب اللغة عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.
والقنطار بالكسر قيل مائة وعشرون رطلاً وفي القاموس وزن أربعين أوقية من ذهب أو ألف ومائتا درهم أو مائة رطل من ذهب أو من فضة إلى ألف أو ملأ مسك ثور ذهباً أو فضة انتهى.
وهذا الأخير هو الشائع وبعض المفسرين حمل ما في قوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا) وما وقع في الأحاديث مع تقديره في بعضها بألف ومائتي وقية والوقية بأعظم من جبل أحد(58/19)
وفي بعضها بخمسة عشر ألف مثقال من ذهب والمثقال بأربعة وعشرين قيراطاً أصغرها مثل جبل أحد وأكبرها ما بين السماء والأرض فمجاز.
تفصيل فيه ذكر المقادير المقدرة بحسب الكيل
هذه التقديرات ينتهي أكثرها إلى مكيال يقال له المد بالضم معياره تخميناً ملأ كف الإنسان المعتدل إذا ملأها ومد يده بهما قاله صاحب القاموس في م د د موافقاً لما نقله الدوادي بتقريب التفسير الصاع ثم قال وبه سمي مدا وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً انتهى ولتعسر ضبطه مع رجوع المقادير المكيلة إليه احتيج إلى تقديره بوزن معين سهولة للحفاظ وصوناً عن التغيير فقدر به فاختلفوا في قدره بحسب اختلاف الروايات عن المقدر فلا بد لنا مقدماً على سائر تلك المقادير تفسيره وتحقيق وزنه على ما وصل إلينا من المذاهب تأسيساً للأصل وتمهيداً للفصل فهذا القسم أيضاً في الحقيقة ينتهي في التقدير إلى أوسط حب الشعير وفي تقديره ستة أقوال الأول مائة واثنان وستون درهماً ونصف دورهم بالشرعي هو مائة وثلاثة عشر مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال بالشرعي يبلغ رطلاً وربعاً بالعراقي على تفسير جمهور الخاصة وهذا أحد احتمالي مذهب أبي نصير البزنطي من المحدثين إذ فسر برطل وربع ومذهبه في قدر الرطل غير معلوم فإن وافق الخاصة فذاك وإلا فمائة وستون درهماً وخمسة أسباع درهم هو مائة واثنا عشر مثقالاً ونصف مثقال يبلغ رطلاً وربعاً على تفسير العامة فهو الاحتمال الآخر لمذهبه. والثاني مائة وأحد وسبعون درهماً وثلاثة أسباع درهم هو مائة وعشرون مثقالاً يبلغ رطلاً وثلثا على تفسير العامة وإليه ذهب النووي من العامة واختاره صاحب القاموس في تفسير الصاع ونسبه صاحب الصحاح إلى أهل الحجاز. والثالث مائة وثلاث وسبعون درهماً وثلث درهم هو مائة وأحد وعشرون مثقالاً وثلث مثقال يبلغ رطلاً وثلثاً على تفسير الخاصة وإليه ذهب الرافعي من العامة ومن تبعه. والرابع مائتان وسبعة وخمسون درهماً وسبع درهم هو مائة وثمانون مثقالاً يبلغ رطلين على تفسير العامة نقله صاحب القاموس ونسبه صاحب الصحاح إلى أهل العراق. والخامس مائتان وتسعة وثمانون درهماً وسبعا درهم هو اثنان ومائتا مثقال ونصف مثقال يبلغ رطلين وربعاً على تفسير العامة. وإليه ذهب العلامة من الخاصة رحمة الله عليه. والسادس مائتان واثنان وتسعون درهماً ونصف درهم هو أربعة ومائتا مثقال(58/20)
وثلاثة أرباع مثقال يبلغ رطلين وربعاً على تفسير الخاصة وإليه ذهب جمهور فقهائنا رضوان اله عليهم أجمعين (والقسط) وهو مكيال يسع مدين بالمعنى الثاني على ما يستفاد من القاموس إذ فسره بما يسع نصف صاع والصاع بأربعة أمداد بذلك المعنى وقيل هو أربعة أرطال بتفسير العامة وحينئذ يبلغ مدين بالمعنى الرابع. ونقل الشيخ في أواخر القانون أن القسط عند الروم رطل ونصف وسدس فيكون عشرين أوقية والقسط الإنطاليقي رطل ونصف واعلم أنه قال يختلف باختلاف إضافته إلى بعض المائعات كما نقل الشيخ أيضاً عن بعضهم أن القسط من الزيت ثماني عشرة أوقية ومن الشراب ثمانون رطلاً ومن العسل مائة وثمانمائة أرطال ومن بعضهم أن قسط العسل رطلان ونصف وقد عرفت مراراً أن الرطل على ما نقله اثنتا عشرة أوقية كل منها سبعة مثاقيل وذكر بعضهم في تفسير قسط العسل رطلاً واحداً أيضاً (والصاع) وأعني به صاع النبي صلى الله عليه وآله وهو المدار عليه في زكوة الفطر وغيرها اتفقت أقوالهم على أن الصاع جميعاً على أن الصاع أربعة أمداد كيلا ولم أجد خلافاً فيه وأما بقديره بحسب الوزن فاختلفوا فيه بحسب اختلافهم في تقدير المد فمذهب كل في الصاع أربعة أمثال ما ذهب إليه في المد ففيه أيضاً ستة مذاهب وسبعة احتمالات فعلى أول احتمالي مذهب البزنطي هو خمسة أرطال على تفسير الخاصة وعلى آخر احتمالية خمسة أرطال على تفسير العامة وعلى مختار النووي وصاحب القاموس المنسوب إلى أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث رطل على تفسير العامة وعلى مختار الرافعي خمسة أرطال وثلث رطل على تفسير الخاصة وعلى ما أنسب إلى أهل العراق ثمانية أرطال على تفسير العامة وعلى مختار العلامة رحمه الله تسعة أرطال على تفسير العامة وعلى مختار جمهور فقهائنا رضوان اللهم عليهم تسعة أرطال على تفسير الخاصة.
والكيلجة وهي منّ وسبعة أثمان منّ بالطبي يبلغ ثلاثة أرطال وثلاثة أرباع رطل على تفسير العامة كذا في الصحاح والقاموس (والكوك) كتنور وهو كما في الصحاح ثلاث كيلجات يعني أحد عشر رطلاً وربع رطل كذا في القاموس.
والويبة بتقديم الياء المثناة التحتانية وهي اثنان أو أربعة وعشرون مداً كذا في القاموس فيجري فيها المذهب الثاني والرابع اللذان نقلهما في المد ففيها أربعة احتمالات.(58/21)
والفرق وهو مكيال يسع ستة عشر رطلاً عراقياً على تفسير العامة كما في الصحاح يبلغ ثمانية أمنان وتفسيره بما يسع ثلاثة أصوع لا يغاير هذا التفسير إذا كان المختار عند المفسرين به أن الصاع خمسة أرطال وثلث فالترديد في تفسيره بين ما يسع ثلاثة أصوع وما يسع ستة عشر رطلاً من صاحب القاموس كأنه لاختلاف التعبير مع كونه بعيداً جداً.
والقفيز المكيالي أما الأراضي منه فسيجيء تفسيره يختلف بحسب البلاد جداً والمنقول ثمانية مكاكيك أعني أربعة وعشرون كيلجة كذا في الصحاح والقاموس.
والأردب بكسر الهمزة وتشديد الباء وهو ستة وتسعون مداً يبلغ أربعة وعشرين صاعاً نقله صاحب القاموس وقد عرفت مختاره في الصاع.
الجريب المكيالي أما الأراضي منه فسيجيء تفسيره قال صاحب القاموس هو مكيال قدره أربعة أقفزة فيبلغ اثنين وثلاثين مكوكاً.
والوسق هو المعتبر في نصاب زكوة الغلات وهو مائتان وأربعون مداً يبلغ ستين صاعاً بالاتفاق نقله أهل اللغة وغيرهم ولم أجد خلافاً فيه فيختلف الآراء في وزنه بحسب اختلافها في المد والصاع ففيه أيضاً ستة مذاهب وسبعة احتمالات والتفريع ظاهر كما ذكرنا في المد والصاع.
والكر لمكيالي وهو ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعون مداً يبلغ أربعين أردباً نقله صاحب القاموس وله معنيان آخران نقلهما أيضاً بقوله بالضم مكيال العراق وستة أوقار حمار وهو ستون قفيزاً.
تفصيل فيه ذكر المقادير المقدرة بحسب المساحة
ينتهي تقدير هذا القسم أيضاً إلى قدرة الشعيرة المتوسطة لكن لا من حيث الوزن كما مر بل من حيث المساحة أي قدر عرض السطح الصغير منها يعني أحد جنبيها وبعضهم لم يقفوا في التقدير على عرض الشعيرة وتجاوزوا عنها وقدروا عرض الشعيرة أيضاً بعرض شعر البرذون ذبه كما قال صاحب البهائية أو عرفه كما صرح به صاحب القسطاس وقيل عرض كل شعيرة ست شعيرات منه وقيل سبع شعيرات فبعد هذا التأسيس اعلم أن هذا القسم من المقادير ينقسم إلى ثلاثة أقسام إما أن يعتبر فيه المساحة الخطية. وإما أن يعتبر فيها المساحة السطحية. أي مربع الخط. وإما أن يعتبر فيها المساحة الجسمية أي مكعبه(58/22)
فالقسم الأول الذي يعتبر فيه المساحة الخطية (الإصبع) وهي قدرت بست شعيرات متلاصقات بالسطح الكبر بحيث يكون ظهر كل منهما على بطن الآخر وبها قدرها صاحب الجغميني. وقيل سبع وبها قدرها شارح اللمعة ففيها أيضاً مذهبان وفي كل مهما يجري احتمالاً تقدير أربعة. الأول كونها ست شعيرات والشعيرة ست شعرات. والثاني. كونها سبع شعيرات والشعيرة سبع شعيرات. والثالث. كونها ست شعيرات والشعيرة سبع شعرات. والرابع. كونها سبع شعيرات والشعيرة ست شعرات عكس الثالث فن قل الأول صاحب البهائية والقسطاس. ونقل الثاني والثالث الشهيد الثاني في شرحه على لمعة الفقه. ولم أطلع على نقل على الرابع لكنه متحد في المآل مع الثالث إذ حاصل ضرب الستة في سبعة وبالعكس واحد فالمذاهب الواقعة المختلفة في المآل في تقدير الإصبع ثلاثة موجب الأول أن يكون ستاً وثلاثين شعيرة والثاني أن يكون تشعاً وأربعين منها والثالث أن يكون اثنتين وأربعين منها فيجري هذا الاختلاف في جميع المقادير الآتية الراجع تقديرها إلى الإصبع فكل واحد من التقديرات التي تنتقل بعد على ذلك الوجه منفلق عن ثلاثة احتمالات بحسب المآل.
والقبضة قدرت بأربع أصابع مضمومة يبلغ ثمان وعشرين أو أربع وعشرين شعيرة ينتهي إلى مائة وست وت سعين أو مائة وثمان وستين أو مائة وأربعين شعيرة.
والشبر والمعتبر منه شبر المستوي خلقه وهو المقياس لاستعلام الكر من الماء يمكن تقديره تخميناً بالقبضة والإصبع بأن يقال هو ثلاث قبضات أو اثنتا عشرة إصبعاً ولكن لم يقدروه بشيءٍ اعتماداً على قلة تفاوته مع فقيد المستوي ومن أراد التحديد فيمكن أن ينضبط بما قدرناه ويكاد أن لا يختلف عند التتبع.
والقدوم وهي المعتبرة في الظل وليس لها قدر معين قدرت بسبع القامة من أي شيءٍ كان من الشواخص سواء كان قامة الإنسان أو غيره فيختلف بحسب اختلاف اعتبار القامة.
والخطوة والقامة من الإنسان والمعتبر منهما هو المتعارف الوسط ولم يقدرا بشيءٍ معين.
والذراع وهي ثلاث الذراع الشرعية ويقال لها القائم وهي ذراع المحدثين وللأصل فيها من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى أو الساعد قدرت بأربع وعشرين إصبعاً يبلغ ست قبضات والذراع الحديد ويقال لها السوداء قدرت بسبع وعشرين إصبعاً يبلغ سبع(58/23)
قبضات إلا إصبعاً والذراع الهاشمية وهي ذراع القدماء قدرت باثنين وثلاثين إصبعاً يبلغ ثماني قبضات هذه الثلاثة هي المنقول والأذرع المتداولة في زماننا بحسب البلاد في زماننا غير محدود.
والقصبة وهي ست أذرع بالهما شمية وسبع وتسع بالحديد وثماني بالشرعية.
والأشل بالتخفيف وهو عبارة عن حبل طوله ستون ذراعاً بالهاشمية يبلغ عشر قصبات.
والميل وهو الميل الهاشمي والأصل فيه مدى البصر قدرت بستة وسبعين ألف إصبع يبلغ أربعة آلاف بالشرعية هذا هو المشهور في تقديره وروي ثلاثة آلاف وخمسمائة هذه الذراع نقله الشهيد الأول رحمه الله في البيان ففيه مذهبان.
والفرسخ وهو ثلاثة أميال عند الأكثر فيختلف باختلاف تقدير الميل فهو إما اثنا عشر ألف ذراع بالشرعية يبلغ تسعة آلاف بالهاشمية ونقل صاحب القاموس في تفسيره شعرة آلاف أيضاً وظاهره الشرعي ففيه ثلاثة احتمالات وقول صاحب القاموس في الميل أنه ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثنا عشر ألف ذراع بذراع المحدثين انتهى إشارة إلى الأول إلى قولين مختلفين فيه وإن كانت عبارته موهمة لخلاف المراد معناها إنه إن اعتبرت في تقدير الفرسخ ذراع القدماء أي الهاشمية وقدر بتسعة آلاف منها فالميل ال1ي يكون ثلث الفرسخ عبارة عن ثلاثة آلاف بهذه الذراع وإن اعتبرت فيه ذراع المحدثين أي الشرعية وقدر باثني عشر ألف منها فالميل عبارة عن ثلاثة أيضاً يعني أربعة آلاف بتلك الذراع وإن اعتبرت فيه ذراع المحدثين أي الشرعية وقدر باثني عشر ألف منها فالميل عبارة عن ثلاثة أيضاً يعني أربعة آلاف بتلك الذراع ولا تفاوت بالتقدير إلا بالاعتبار كما أشار إليه المبيدي في حاشيته على شرح الجغميني بقوله هو ثلاثة أميال بالاتفاق وذراعان الميل أربعة آلاف كل اثنان وثلاثون عند المتقدمين وعلى التقديرين الميل ستة وتسعون ألف إصبع انتهى هذا ولكن دعوى الاتفاق في كون الفرسخ ثلاثة أميال مزيفة بما نقلناه عن صاحب القاموس في تفسيره يعني عشرة آلاف ذراع ولم ينقل أحد تفسير الميل بما يطابق ثلثه.
والبريد وهو عبارة عن اثني عشرة ميلاً يبلغ أربعة فراسخ وهو المشهور ونقل صاحب القاموس في تقديره فرسخين.(58/24)
والمسافة وهي التي شرع عند القصد إليها مع شروطه القصر في الصلوة والصوم اختلف فيها فقيل أربعة فراسخ يبلغ بريداً بالمعنى المشهور وقيل ثمانية فراسخ يبلغ بريدين بهذا المعنى ففيه مذهبان ويجري في كل واحد الاحتمالات المذكورة في الفرسخ ففيها ستة احتمالات يصير في المآل عند ملاحظة المذاهب الثلاثة في الإصبع ثمانية عشر احتمالاً.
والقسم الثاني الذي يعتبر فيه المساحة السطحية سعة الدرهم البغلي
وهي المعبرة في عفو الدم في الصلوة إذا كان ناقصاً أو مساوياً لها قدراً فقدره بعض فقهائنا ك ابن الجنيد رحمه الله بسعة عقد الإبهام الأعلى وبعضهم كابن إدريس رحمه الله بما يقرب من أخمص الراحة.
والعشير وهو ست وثلاثون ذراعاً هاشمية مسطحة مضروب القصبة في نفسها ويقال لعشر كل شيءٍ أيضاً عشيراً وكأنه هنا أيضاً بذلك الاعتبار لكونه القفيز.
والقفيز الأرضي وهو ثلاثمائة وستون بهذه الذراع حاصل ضرب القصبة في الأشل وقدره صاحب القاموس بمائة وأربعين ذراعاً.
والجريب الأرضي وهو ثلاثة آلاف وستمائة ذراع بها مضروب الأشل في نفسه وما ذكرنا في القفيز والجريب هو المنقول وربما يختلف بحسب اختلاف اعتبارات البلاد.
الباقي للآتي.(58/25)
علماؤنا
وكيف ينشئون أبناءهم
إن العالم الذي أصفه في مقالي هذا ليس مما أنبتته بلدتنا طرابلس الشام وحدها.
بل يوشك أن يكون من مستنبتات كل بلدة من بلادنا الأخرى.
قضى هذا الفاضل حياته في خدمة العلم وتحقيق مسائله والتأليف فيه. وقد ورث هذا الميل من آبائه فأحبّ أن يورثه أبناً له في السابعة عشرة من عمره فلم يفلح.
وكلما ذكر علماء الطبيعيّات في كتبهم أن الأجسام أو المواد قسمان موصل ردي وموصل جيد يعنون بالأول ما تنتقل فيه الحرارة ببطء. وبالآخر ما تنتقل فيه بسرعة_كذلك الحال في بعض الأشخاص: فإن منهم من ينقل ملكات آبائه واستعدادهم العلمي إلى أبنائه ومنهم من لا ينقل. والأول يصح أن نسميه موصل جيد والثاني موصل ردي
وصاحبنا الذي نحكي عنه هو على ما يبدو من قبيل القسم الأخير: فإنه مع ما أُوتيه من سعة العلم والرغبة في تحصيل فنونه_لم يورث ابنه هذا الميل والاستعداد. فكان كسولاً. فاتر الهمة. منطفئ نار العزيمة. وهل أن ضعف الميل في ذلك الفتى أمر جيليّ فيه أو أنه عرض له بسبب الأسلوب الذي جرى عليه أبوه في تربيته وتثقيفه؟ لا أعلم.
وربما كان القارئ أشدّ علما مني به إذا أطال روحه وأصغى لإتمام الحديث:
قيل للوالد: نراك توبّخ ابنك لأقل هفوة. وتنتهره على ملأ من الناس. وقد بلغ الشابّ فيحسن بك أن تخاطبه بما يخاطب به عادة من كان في مثل سنّه.
فقال: انه يعرف هذا. ويعرف مبلغ تأثير التوبيخ العلني في تشويه أخلاق الناشئين. ولكن هناك ضرورة تستدعي العدول عن هذا الأصل في التربية أصل آخر أجلّ وأسمى.
ولما استوضح الأمر منه قال: أنه كان يؤنّب ابنه على سوء عمله في السرّ.
فكان لا يرعري ولا يزدجر. ثم أخذ يوبخه جهرة صار الولد يحاسب نفسه ويصلح سيرته.
قالوا: ولكنك تشتمه لأمر تافه لا علاقة له بما تقول. فقد سمعناك توبخه مذ وضع الكرسيّ في غير الموضع الذي تريد أن يضعه فيه. وهذا لا يحسن بحال من الأحوال أن يوبّخ عليه. لاسيما وهو لا يعلم الغيب الذي وقر في نفسك من لزوم وضع الكرسيّ في هذا(58/26)
المكان دون ذاك.
فتخلص الأستاذ من الجواب على هذا الاعتراض إلى وصف ذكاء ابنه. وصفاء ذهنه. وأنه يفهم ويحفظ ما يلقى عليه بسرعة. وقد حفظ مرة كتابا صغيرا في قواعد اللغة الفارسية وحذق جميع مسائله في وقت قصير. ثم قال: لكن ابني مع هذا الذكاء النادر كسول لا يهتم بحفظ دروسه. ولا يصبر على المطالعة. ولو فعل لكان من النابغين الأولين. وعد في مقدمة الطلاب الناجحين.
ثم قال: وإنني لا أطيق أن أرى ابني جاهلا وأن أعيش أنا وإياه تحت سقف واحد. وقد أعيتني الحيلة في تعليمه. ويخطر لي أنه إذا وصل إلى سن العشرين وبقي على ما هو عليه من الكسل والجهل أسلمته إلى الجندية. وضننت بدفع البدل النقديّ عنه. أو أنني أرسله إلى مكاتب الأستانة. حيث يعفى التلامذة من الخدمة العسكرية. وأخذ يصف ما يقاسي من عناء هذا الأمر وأن ابنه نغّص عليه طيب عيشه. ولذيذ حياته. قال الراوي: فخشعت نفسي لقول الأستاذ. ورثيت لحاله. وقلت أرى يا سيدي أن حياتك أثمن من أن تكدر صفوها بمثل هذا. وأن ابنك إذا لم يكن فيه استعداد وميل لطلب العلم. فاختبر ميوله الأخرى لشؤون الحياة ودعه يشتغل في العمل الذي يحسنه ويميل إليه بطبعه. فإذا كان يميل إلى التجارة والكسب فنشّطه لسلوك هذا السبيل. وإذا رأيته يميل للدخول في سلك موظّفي الحكومة فليفعل. فإن ذلك أجدى من أن تحمّله ما لا طاقة له به من التحصيل.
فارْبَدَّ وجه الأستاذ من سماع هذا الكلام. وقال: إن جميع ما تعلمه أنت أعلمه أنا وإنك للآن لم تدرك ما أقول: أما قلت لك أن ابني على جانب عظيم من الاستعداد والذكاء وإنه يحفظ ويفهم ما يلقى عليه بسهولة وإنه في ساعة واحدة حذق مسائل اللغة الفارسية التي لا يدركها غيره في بضعة أيام.
قال الراوي: قلت بلى يا سيدي الأستاذ فهمت كل ما تقول ولكنك أنت لم تفهم بعضاً مما أقول:
إن قوة الذكاء والفهم غير قوة الميل والرغبة. فما لم تتوفر في الطالب هاتان القوتان لا يقال عنه أنه مستعد للطلب. ولا ذو قابلية للعلم. وإن ابنك ذكي سريع الفهم. لكنه كسول ضعيف الميل. فهو إذن قد توفرت فيه قوة دون قوة. ألا ترى أن كثيرين من الطلاب هم(58/27)
على العكس من ابنك: ترى الواحد منهم كثير الرغبة والميل لتحصيل العلم متوفراً على الدرس والمطالعة جهده. لكنه ينقصه قوة الذكاء والفهم المتوفرة في ابنك. فيضيع عمره ولا يستفيد شيئاً من العلم. وإلا ليلق بمن كان كذلك_أي كان ذكياً لكنه كسول أو مجتهداً لكنه بليد_أن يدع طلب العلم ويأخذ عملاً آخر ينتفع به.
فامتعض الأستاذ وقال: من أين أتيت بهذه الفلسفة؟ يريد أنني تكلمت بكلام غير مفهوم. وهو ما يريدون بكلمة الفلسفة أحياناً. ثم عاد الأستاذ فشرح ما أوتيه ابنه من ذكاء وقوة حافظة وغير ذلك من المواهب والمزايا. هذا ما قصه الراوي علينا. وموضع العبرة فيه أن الأستاذ قد درس على زعمه علوم الأولين والآخرين ولكنه نسي علماً واحداً لم يوفق لدرسه مع أنه في أشد الحاجة إليه. ذلك العلم الذي هو علم التربية الذي هو فرض عين على كل أب عائلة. ومعلم مدرسة. وإذا زعم الأستاذ أن هذا العلم درسه في جملة ما درس. نقول له ولكنك لم تكن ذا استعداد وقابلية للانتفاع به. فيرد علينا بأنه على استعداد وقابلية لأنه ذكي وسريع الفهم. فنضطرب حينئذ إلى السكوت والصبر.
ومثل الأستاذ كثيرون يريدون أن يلزموا أولادهم بالتحصيل. ويكونون ضعيفي الميل والرغبة فلا يعتمون أن تمضي أعمارهم سبهللا. ويكون من جهة ثانية قد فات الوقت الذي يمكنهم فيه التدرب على الكسب وتوفير الثروة فيقضون حياتهم في البطالة والخمول وضيق ذات اليد.
ولو فطن أولياؤهم لحالهم من أول الأمر لربأوا بهم عن مثل هذا الموقف. وتخطوا بهم ما لا يطيقون من العلم إلى ما يطيقون من العمل. وأعانوا على الانتفاع بميولهم الخاصة. واستثمار مواهبهم الفطرية.
وأكثر ما يكون هذا الإغفال في بيوت العلم القديمة فإن الآباء فيها يحرصون على تنشئة بنيهم في العلم. وتعويدهم التحصيل منذ الطفولة. ويلزمونهم إياه بكل وسيلة. ولا يكون في كثير منهم ميل إليه. واستعداد له. فيقضون أعمارهم فيه. من غير أن يكون لهم نصيب منه. سوى القيافة الخاصة. عمامة وطيلسان. وجبة واسعة الأردان.
وهناك سبب آخر يحمل الآخرين على الاشتغال بطلب العمر من دون أن تتوفر فيهم القابلية له فلا ينالون حظاً منه: أولئك يريدون الفرار من الخدمة العسكرية وتضيق ذات(58/28)
يدهم في الغالب عن البدل النقدي فيشتغلون في التحصيل لهذا الغرض.
وقد ينبع بين هؤلاء أفراد يصبحون فخراً لقومهم. ونبراس هدى في وطنهم. أما الآخرون وهم معظم الطلاب فيحذقون من العلم القدر الذي ينجيهم من الخدمة العسكرية ثم لا يلبثون أن يستغلوا عنه فينسوه رويداً رويدا. ويكونون إلى سن صعب معها مزاولة عمل أو صناعة فيعيشون كلاً على أهليهم. يرمقون الرزق ترميقاً. ولو أنصف هؤلاء أن فسهم لما اشتغل بتحصيل العلم منهم إلا من أوتي نصيباً من ميل واستعداد للطلب. ورزقاً بكيفية مؤونة الحاجة. وإلا فخير للمرء منهم أن يتعاطى عملاً يرفه به عيشه. وينقذه من عار البطالة. ويمكنه من أداء البدل العسكري. أو أنه يقوم بهذه الوظيفة المقدسة. فإنها من أشرف الأعمال لاسيما في وقتنا هذا. وقد أصبحت الحكومة دستورية. والجندي فيها مرفه في معيشته. موفر الحرمة في أداء خدمته.
ولو بلغ طلاب العلوم الإسلامية في إحدى المدن مائة طالب مثلاً لكان منهم عشرة يشغلون المناصب الدينية: مثل مفتي. وموظف محكمة. وكاتب صكوك. وعشرة آخرون أغنياء عن الكسب بغنى والديهم. وعشرة سواهم أقدموا على الكسب بقوة من أرادتهم وهمة من نفوسهم. أما السبعون الباقون فيغذون ويروحون في قومهم على غير الحالة اللائقة بحرمة العلم وكرامة أهله وقد تقود البطالة بعض هؤلاء إلى انتياب أماكن اللهو. وينزل الحال بآخرين إلى تناول الصدقات. والسقوط على طعام الأموات.
وإنا لنود أن يكثر هذا العنصر فينا معشر المسلمين: عنصر الدين ولكنا نود لهم قبل كل شيء أن يكونوا موضع احترام العامة وإجلال الخاصة ليكون ذلك أدعى للانتفاع بهم. والتلقي عنهم. وأن يكون لهم من خزينة الأوقاف ومال الأمة رواتب تساعدهم على أداء وظائفهم. والظهور في مظهر التجمل بين أبناء قومهم. ثم يكون وراء ذلك من قبل الحكومة أو من قبل الرأي العام عيون تراقبهم. وتناقشهم لحساب أعمالهم. حتى إذا اقترف أحدهم ما لا يلاءم الآداب صنفه. وكرامة دينه. أكره على التجرد من زيه العلمي. ثم ليختر لنفسه صناعة أخرى أو يبقى متشرداً كما يريد. وإلا فإن ظهور أهل الدين في مظهر يزري بهم ويحط من قدرهم ويدعو إلى النفر منهم وترفع أبناء الخاصة عن الدخول في سلكهم. فلا يعود ينضم إليهم سوى الحثالة. من أهل الجهالة. وذوي البطالة.(58/29)
طرابلس الشام:
المغربي.(58/30)
صحافتنا وصحافتهم
يا أمتنا إذا أردت أن يكون لك حول وطول وكلمة عالية مسموعة ومنزلة مهمة عند دولتك وسائر دول الأرض فاقبلي على صحافتك الوطنية إقبال الشعب الأميركي على صحافته.
صحافة الولايات المتحدة وصحافتنا
عدد سكان ولاية ميسوري 3166665 عدد صحافتها 1048
=== أوهايو 4157545== 1189
=== إبلنيز 4821== 1746
=== بنسلفانيا 6302115== 1524
=== أيوي 2231883== 1132
=== مشغن 2420952== 810
=== انديانا 2516462== 851
=== مستشوستس 2805346== 654
=== تكسس 3048710== 851
=== كرولينا الشمالية 1893810== 266
=== تنسى 2020616== 298
=== ويسكنسن 2206904== 732
=== كنتكي 2147174== 338
=== جورجيا 2216331== 395
=== مسيسبي 1551270== 251
=== منسوتا 1751394== 770
=== الاباما 1828697== 230
=== فرجينا 1854184== 249
=== نيوجرسي 1883669== 390
=== اركنسس 1311564== 289
=== كرولينا الجنوبية 1340316== 156(58/31)
=== لوزيانا 1381625== 736
=== كلفورنيا 1485053== 738
=== فلوريدو528542== 183
=== ماين 539700== 158
=== كولبوريدو 694466== 374
=== كنتكتت 908420== 173
=== غربي فرجينيا 958800== 217
=== نبراسكا 1066300== 659
=== ماريلند 11880440== 206
=== اوكلاهوما 3988331== 303
=== داكوتا الجنوبية 401570== 393
=== نيو همشر 411588== 94
=== اورغن 413536== 240
=== روداليند 228556== 59
=== واشنطن 518103== 99
=== يوفا 276749== 83
=== مقاطعة كولمبيا 275718== 82
=== داكوتا الشمالية 4191646== 233
=== فزيمونت 343641== 76
=== مقاطعة الهنود 392060== 164
=== نفادا 42335== 35
=== الاسكا 63592== 45
=== اريزونا 122931== 66
=== ايدهو 161772== 99
=== دلوار 184735== 140(58/32)
=== نيو ميكسيكو 195310== 63
يظهر من مطالعة هذا الجدول الذي جمعته بعد بذل الوقت الطويل أن نفادا أصغر ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية بعدد سكانها. فهم يبلغون 42335 نفساً وعدد جرائدهم ومجلاتهم كما ترى يبلغ 35 جريدة ومجلّة أي أنّه يصيب كل 1209 أنفس منهم جريدة واحدة. هذا ما يرد عليهم من جرائد سائر الولايات المتحدة ومجلاتها
وولاية الاسكا تجيء فوق نفادا في عدد السكان. دع عنك عدم استبحارها في الحضارة والعمران بداعي إقليمها البارد جدّا ومع تقصيرها بذرائع الرقيّ عن شقيقاتها تقرأ أن لسكانها البالغ عددهم 63592 نفساً 45 جريدة ومجلّة أي أنه يصيب كل 1412 نفساً منهم جريدة
وقس على نفادا والاسكا بقية الولايات وقابل بين عدد السكان كل منها وعدد جرائدها ومجلاتها ولاسيما أحطّ مقاطعة في الجمهورية بمعارفها وعلومها وأسباب تقدمها ألا وهي مقاطعة بقايا ذلك الشعب القديم شعب سكان أميركا الأصليين الهنود الذين ما زال أكثرهم عائشا عيشة الهمجية_قابل تجد أن لكل 2451 نفساً منهم جريدة فعددهم 392060 نفساً وعدد جرائدهم 164 جريدة ومجلّة ثم قابل بين عدد سكان الجمهورية الأمريكية وعدد جرائدها وبين عدد سكان البلاد العثمانية وجرائدها وتأمّل في الفرق واعتبر وانج باللائمة على مسببّي تأخرنا وتقهقرنا
صحافتنا
لا أعلم وأنا سحيق الدار كم هو عدد صحافة ولاية سوريا. إلا أنني لا أخالها تتجاوز عدد الأصابع فقد اتصل بي أن غير جريدة منها دبت فيها الحياة ردحا من الزمن لمدعو بزمن الدستور ثم تمارضت أو مرضت ومضت لملاقاة ربها وأنه لم يبق غير المقتبسين والعصر الجديد والراوي وحط بالخرج في دمشق والإخاء في حماة وحمص في حمص واثنتان أو ثلاث لم أقف على أسمائها
في أعظم مدن العربيّة
في القرن العشرين الذي اتصلت فيه بلاد العالم بعضها ببعض اتصال شرايين الجسم واختلطت شعوبها اختلاط الحابل بالنابل_في القرن العشرين الذي قويت فيه شوكة العلم_في(58/33)
القرن الذي كثرت فيه الثّورات والنهضات وظهرت الاختراعات والاكتشافات ألا يوجد في أعظم مدينة في البلاد العربيّة_في مدينة من أعرق مدن الدنيا بقدمها_في بقعة من أفضل بقاع المعمورة بأرضها وسمائها وإقليمها وخيراتها_في دمشق أكثر من خمس أو ست جرائد تستحق أن تسمّى جرائد؟
كثرة قرّائهم وقلّة قرّائنا
عدد سكان ولاية نفادا في أمريكا يقل عن سكان صالحيّة الشام على ما أرجح ولا يزيد كثيرا عن سكان حي نصارى دمشق ولأولئك 35 جريدة وللدمشقيين البالغين ثلاثمائة ألف نفس ونيف خمس أو ست جرائد أو لكل ستين ألفا منهم جريدة وقراء الصحف منهم لا يزيدون عن خمسة بالألف على ما أقدّر وأظن أن تقديري هذا في محله. فالطامة الكبرى ليست فقط بقلة جرائد دمشق بل بقلّة عدد مشتركيها. فلجريدة حقيرة في الجمهورية الأمريكية العظمى مشتركون وقارئون أكثر من أكبر وأقدر وأشهر جريدة في دمشق
مكانة المقتبس من جريدة أميركية كبرى تطبع ستين ألف نسخة يوميّا هذا المقتبس على شهرته الواسعة ومقدرة صاحبه المشهورة بين الناطقين بالضاد في مشرق الأرض ومغربها وبين الكثيرين من الأميركيين في غربي الولايات يقال أنه لا يطبع يوميا أكثر من ثلاثة آلاف نسخة يوزع منها ألفين وخمسمائة نسخة على المشتركين والقارئين وخمسمائة نسخة على رصفائه ومكاتبيه في الجهات في حين أن مكانة المقتبس المعنوية لا تنقص مكانة عن مكانة صحيفة أميركية كبرى تطبع يوميا ستين ألف نسخة كبيرة.
مقابلة وانتقاد
في عاصمة نبراسكا البالغ عدد سكانها 65 ألفا عدة جرائد ومجلات ناجحة منها جريدتان عظيمتان سبق ذكرهما تشغل كل منهما بناية عظيمة ومعدل ما تبعه إحداهما يوميا خمسون ألف نسخة وما تطبعه الأخرى أربعون ألف نسخة وبكل حريّة أقول معنويات تينك الجريدتين الخطيرتين لا تفوق معنويات المقتبس وإنما تفوق بما لا يقاس بكثرة القارئين والمشتركين وتعدد الصفحات وكبر الحجم وبشيء معنوي هو أنك تقرأ عنوانا لكل كتابة أو خبر في تينك الجريدتين تفهم منه ما يرمي إليه الكاتب قبل أن تطالع الكتابة أو المقالة أو الرسالة وترى الصور الكثيرة المهمة في كل عدد منهما كل يوم ولاسيما عدد الأحد(58/34)
الكبير البالغ أربعا وعشرين صفحة كبيرة تقرأ فيه مقالات مشاهير وشهيرات الكُتّاب والكاتبات في أوروبا وأميركا.
وأما المقتبس فإنك لا تستطيع أن تفهم الكثير من مقالاته ورسائله وأخباره إلا بعد أن تقرأ الكتابة كلها وإذا كانت طويلة فنضطر أحيانا إلى قراءة العمود أو العمودين أو الثلاثة الأعمدة منه لتلم أو لتقف على مغزاه ومرماه ومن حين صدور أول عدد منه إلى يومنا هذا لم أر ولم ير غيري صورة فيه قطعيّاً. فإذا كان الداعي إلى ذلك هو قلّة واردات المقتبس الماديّة فيعذر وإذا كان الداعي هو أن الدين الإسلامي ينهي عن نشر الصور فهل لصاحب المقتبس أو لغيره من أئمّة الدين أن ينشروا بياناً شافياً بهذا الباب لعلنا نعذر ونقنع. إن الدين الإسلامي الكريم كتبت شرائعه ونشرت في زمان هو غير زمان القرن العشرين وما انطبق على ذلك الزمان لا ينطبق على هذا الزمان ولكل عصر حاجات لا توافق حاجات العصور التي سبقته وإذا كانت الصور من بقايا آثار الوثنية التي كانت في أوج مجدها وعزها في أول عهد ظهور الإسلام فعلم القرن العشرين قد محا تلك الآثار أو كاد وصار يفهم العالم والجاهل اليوم إن الغرض من نشر الصور هو للإفادة التي تتقاضاها اليوم حاجة عصر النور ولا للعبادة التي كانت تتقاضاها حاجة عصر الظلمة في القرون المتوسطة.
صحف العرب في أميركا
قراء الصحف العربية في ولايات الاتحاد معدودون ومحدودون فعدد الناطقين بلغة قريش فيها لا ينقصون عن مئة وخمسين ألف نفس ومع ذلك ترى صحافتهم أكثر عددا وأكبر حجما وأحسن تبويبا وأنظف ورقا من صحافة ولاية سورية بل أرق بمادياتها. وشاهدي أو دليلي على ذلك هو جريدة الهدى اليومية الصادرة في نيويورك فإنها مع كونها في بلاد غريبة نائية عن مواطن اللغة العربية فهي تطبع نحو خمسة آلاف نسخة كل يوم ذات ثماني صفحات كبيرة حافلة بالمقالات المحبرة والأخبار المهمة ومزينة بالرسوم الرامية إلى أغراض نافعة وإذا حققت وجدت أن ما تطبعه الهدى وحدها كل صباح لا يقل عما تطبعه جرائد ولاية سورية مجموعة.
لرم وعتاب(58/35)
لا أُريد أني أُنسب إلى أني أحرق الأُرّم وأُؤرث نيران المناظرة لغاية أو نكاية بين المستصغرين منزلة المهاجرين من المتخلفين والنابين عن حياض المهاجرين فلهؤلاء مكانة سامية أبدعها جدهم وكدهم ولأولئك بتعريضهم عيون لا تبصر وأجسام لا تشعر وأغراض كلها أمراض وإنما ألوم بل أعتب على ولاية رجالها ونساؤها وأولادها لا يقل عددهم عن مليون نفس هم عرب في عرب_على ولاية شرقها وجنوبها وشمالها وسماؤها وأرضها وأطوارها ووهادها وسهولها وهضابها وأشجارها وأثمارها وأنهارها عمرت بالعرب وتخص العرب وليس لهم أو لها على الأقل جريدة تطبع ما تطبعه جريدة عربية في ديار أعجمية.
كيف يأتي الإصلاح
الإصلاح جاء ويجيء وسيجيء من طريقين إما من طريق الحكومة وإما من طريق الشعب ومثال الأول جمهورية يابان ومثال الثاني الجمهورية الفرنسية والجمهورية الأميركية والانقلاب العثماني لم يأت من طريق الحكومة ولا من طريق الشعب من حيث مجموعه بل من طريق الجيش. أما والحكومة العثمانية منصرفة قواها جملة إلى حل مسائلها ومشاكلها وقد بدا حتى الآن أنها لا تكترث أو لا تريد أن تكترث بالعربية حييت أم ماتت فقد تحتم على أبنائها أنو يعلوا منارها ويحموا ذمارها ويحملوا لواءها وهذا لا يكون بالاحتفاظ فقط ببقايا تلك الكتب العتيقة الباحثة في مذاهب سيبويه ونفطويه وإضرابهما مثلا بل يكون في نشر الصحافة الحرة بكثرة في المدائن وفي القصبات وفي المديريات وفي الضواحي والنواحي فالصحافة الحرة الصادقة بلا مدافع أكبر كلية للدولة وأكبر مدرسة للأمة وأكبر جامعة للثورات الأدبية المحطمة قيود الجهل والظلم وللنهضات الجالبة رفعة القدر ووفرة الفخر ويقاس رقي الأمم برقي صحافتها فكل أمة لها صحافة راقية لها منزلة راقية في السياسة والاجتماع والآداب والعمران والعرفان
صحافة هذا الدور هي غيرها في الماضي
لم تكن الصحافة موجودة بعرفي في دور نيرون القرن العشرين. فتلك التي كان العبيد المستعبدون يدعونها صحافة لم يكن أكثرها إلا وريقات أو نشرات لنشر آيات التقديس والتدليس والتدنيس بل لإذاعة المين كل المين والتمويه كل التمويه والتجهيل كل التجهيل(58/36)
والتضليل كل التضليل وكان الاستذلال والاستعباد يقضيان بدفن الحقائق واستحياء المخارق. أما وقد أدت إلى الشعب بعض حقوقه المعطاة له من الله فمن الغضاضة على الصحافة أن تستر العيوب والعورات وكل صحافة لا تدل الدولة والأمة على حسناتهما وسيئاتهما لبك ما في كلمة الحرية من معنى الحرية لا تدعى صحافة ولا يرجى لأمتها وحكومتها صلاح وإصلاح.
الذنب ذنب الشعب
نعم إن مضمار الانتقاد أوسع في أميركا منه في الدولة العلية بداعي تقييد الصحافة العثمانية وإطلاق حرية أميركا غير أن الذنب على الشعب. فشعب أميركا مطالب وناهض وقائم والشعب العثماني قاعد وجامد ونائم. النواب هم الذين قيدوا حرية الصحافة وهم ضيقوا الخناق عليها والشعب هو الذي انتخب أولئك النواب وأرسلهم إلى عاصمته وهو الذي يدفع مرتباتهم ونفقاتهم فالشعب هو سيد النواب والنواب خدامه ولم أسمع ولم يسمع غيري أن 250 خادما يستطيعون أن يستبدوا بثلاثين مليون (سيد) فيا أيها الشعب مر نوابك بتعديل قانون صحافتك واحملهم على تلبية أمرك فإن لبوه كان ما تريد وإلا فاقلب لهم ظهر المجن في الانتخاب المقبل وانتخب الأصلح فالأصلح حتى تبلغ ضالتك وتعمل عمل البلاد الشعبية. فهل من سامع أو مجيب لهذا الصوت الضعيف.
أميركا:
يوسف جرجس
زخم
(المقتبس) إن أعظم عائق يحول بيننا في هذه المجلة وفي جريدة المقتبس وبين وضع الصور القليلة اللازمة في بادئ الأمر هو عدم اضطلاعنا بهذا الأمر وعدم وجود مصور ماهر هنا يحسن حفظ صور على المناحي المطلوبة. والإسلام لا يمنع من التصوير إلا المجسم والمنع تحت شروط أيضا.
ثم إن قلة روج بضاعة العلم والأدب من أكبر الدواعي في تخلف صحافتنا العلمية والسياسية كما قال صديقنا صاحب المقالة فمجلة المقتبس على شهرتها لا تطبع سوى ألف نسخة في الشهر وجريدة المقتبس على سعة انتشارها لا تبيع أكثر من ألفي نسخة في اليوم(58/37)
فمن لنا يوم تطبع فيه صحفنا عشرة آلاف فقط لنقلد الصحافة الغربية حذو القذة بالقذة ومكانة الجرائد بمكانة قرائها والمحيط العامل الأعظم في رقيها.(58/38)
عمران الكرك
لم تكن الحال في حوران تستقر على ما يجب بعد أن أدبت الجملة العسكرية أشقياء الدروز في جبل حوران حتى أرادت الحكومة أن تحصي عدد سكان لواء الكرك كما أحصت عدد سكان لواء حوران فنشز السكان وانتقضوا على الحكومة وصادف أن قطعت مرتبات بدو بني صخر والخرشان وغيرهم ممن كانوا يتقاضون أنعاما من السلطنة منذ القديم لحراسة الطرق فتكونت هذه الأسباب وقام البدو الذين حرموا من رواتبهم وهي أربعة آلاف ليرة في السنة وسطوا على بعض المحطات من السكة الحديدية الحجازية واقعة على طولا زهاء مائتي كيلومتر في أراضي اللواء وخربوا بعض القضبان الحديدية ونهبوا أحد القطارات التي كانت قادمة من المدينة وسلبوا ما كان مع ركابها من مال ومتاع مما لا يقل ثمنه عم عشرين ألف ليرة وقتلوا وجرحوا بعض موظفي الخط الحديدي وكان ذلك على بضع ساعات من مركز لواء الكرك وقام الكركيون باديهم وحاضرهم وأطالوا يد الاعتداء على التجار والموظفين والحامية ولو لم يلجأ الموظفون إلى قلعة الكرك الحصينة وبقوا فيها عشرة أيام ريثما وافاهم المدد لقضت الثورة عليهم ولا يعلم إلى الآن عدد من هلك في الفتنة من التجار والضباط والموظفين والجند ممكن كانوا يتجولون في الأرباض لإتمام أعمالهم وقد حرقت نيران الفتنة الأماكن الأميرية كلها ونهبت نقود الخزينة ونقود إدارة حصر الدخان ونهبت دور الموظفين واحرق قسم منها وخرب قسم عظيم من المدينة بإطلاق القلعة المدافع عليها وقطع العصاة الأسلاك البرقية وهاموا على وجوههم في البراري والجنود بتأثرونهم الآن في السهل والوعر.
وقد نوى أهالي الطفيلة وأهالي معان القيام بمثل هذه الفظائع في الوقت الذي قام فيه الكركيون بثورتهم ولم يؤثر عنهم شيء مضر.
وإذا كان النزاع الآن قائما في ذلك الصقع بين الحكومة والسكان وبعبارة أخرى بين المدينة والهمجية رأينا أن نلم بعمرانه وتاريخه وجغرافيته واقتصاده واستعداده للارتقاء فنقول نقلا عن مصادر عربية وإفرنجية وتركية كثيرة: يمتد هذا اللواء من وراء قصر الزرقاء في الحد الجنوبيّ من لواء حوران إلى مدائن صالح جنوبا وهي مسافة يقطعها راكب المطايا في العادة في نحو خمسة عشر يوماً أما عرضه فمن الغرب نهر الأردن (الشريعة) وبحيرة لوط (البحيرة المنتنة أو البحر الميت) ووادي العاربة والوجه والعقبة الفاصلة بينه وبين(58/39)
فلسطين إلى بادية الشام شرقاً فالجوف فنجد وهذه المسافة لا تقل عن خمسة أيام وهي تبلغ أكثر إذا تجاوزنا البادية إلى وادي السرحان في الشرق.
وأرضه سهلية جبلية وجباله لا ترتفع كثيرا عن سطح البحر وتدعى بأسماء البلاد التي بقربها الآن وأشهر أنهار اللواء وادي الزرقاء ينبع من رأس عمان قال ياقوت: الزرقاء موضع بالشام بناحية عمان وهو نهر عظيم في شعار ودحال كثيرة وهي أرض شبيب التبعي الحميري وفيه سباع كثيرة مذكورة بالضراوة وهو نهر يصب في الغور. ووادي الصلت وهو ينبجس من قصبة الصلت ووادي السير ينبعث من قرية وادي السير ووادي حسبان ينبض من محل اسمه حسبان ونهر زرقا معين ووادي الوالا ينبع بالقرب من أم الرصاص وينضم إليه وادي الموجب وهذا الوادي يتألف من اللجون الواقع في منتصف الطريق بين القطرانة والكرك وجميع هذه الأودية أو الأنهار تصب في نهر الأردن أو الشريعة ومن أنهار هذه البلاد وادي الكرك ينبع في قصبة الكرك ويصب في بحيرة لوط ووادي الحسا تجتمع إليه مياه الشراة ومياه وادي موسى وينابيع شتى فيصب في بحيرة لوط. وهذه الأنهار تفيض كعادة معظم الأنهار شتاءً بما ينهال إليها من السيول وتجف قليلا في الصيف. ومن الأنهار مالا يجري إلا في الشتاء مثل نهر الثمد ولا ينتفع بهذه المياه في السقيا حتى إن نهر الزرقاء الذي يعد من الأنهار المتوسطة لا يسقي أكثر الأراضي التي حفافيه بل هي تشرب بماء المطر وكذلك حال أراضي البلاد كلها ماخلا بعض الحدائق القليلة في وادي موسى والصلت.
ووادي الموجب ووادي الحسا من أعمق أودية سورية قد ينزل الراكب من ذروتهما إلى قرارتهما في ساعة ونصف ويصعد إليهما في أكثر من ذلك.
وفي هذا اللواء مناجم كثيرة فبالقرب من زرقا معين على ساعتين من مادبا جبال ملونة ففيها جبل أصفر وآخر أحمر وبالقرب من بحيرة لوط وحمة عفرة من أعمال الطفيلة معادن الكبريت والقصدير والبترول والنحاس. وزرقا معين هذه من الحمامات البخارية أشبه بحمام أبي رباح بالقرب من تدمر. وهي ثلاث حمامات يستحم المستحمون ببخارها ولا يجسر أحد أن يمد يده إليها.
ويقصدها سياح الإفرنج كما يقصدون حمة عفرة من بحيرة لوط حتى إذا بلغوا شاطئها(58/40)
يركبون على الدواب ثلاث ساعات.
وتقل الحراج في هذا اللواء وأهمها ما كان بالقرب من بلدة الصلت وفي أرض بني حميدة وهي تبعد عن قصبة الكرك خمس ساعات ويمتد هذا الحرج من الزرقاء قرب معين إلى وادي بني حماد وطوله نحو عشر ساعات وفي قضاء الطفيلة حراج واسعة يمشي الإنسان بظل لزابها وسنديانها طويلاً ولاسيما فيس جنوبه قرب قرية ضانا.
وأكثر الأشجار المثمرة في اللواء التين والعنبي والزيتون وأكثره في الصلت والطفيلة والكرك والعراق وخنزيرة. وأهم الحبوب التي يستنبطونها الحنطة والشعير والذرة والعدس والحمص يصدرونها إلى فلسطين وإلى دمشق وتباع بعشرات الألوف من الليرات وقبل أن تخترق السكة الحجازية هذا اللواء كانت صادرات بلاد الكرك تباع في فلسطين أو تبقى في أراضيها لبعد المسافة بينها وبين دمشق وأقربها لا يقل عن خمسة أيام على الجمال.
ومعظم سكان هذا اللواء بادية رحالة ولا تجد ساكنين في لبيوت إلا في الكرك والصلت والشوبك ومعان والطفيلة وعيمة وصتفحة وبصيرة وضانا وخنزيرة والعراق وكثرربة ومادبا وأم الرمان وعمان والفحيص ووادي السير وناعور وعين صويلح ورصيفة وياجوز وعيون الحمر ويادودة ولبن وأم العمد وزيزاء.
ويخمن الناس نفوس الأهالي بمئة وخمسين ألفاً نحو خمسهم حضر والباقي بادية ينزلون في بيوت شعر عشائر وقبائل وأفخاذاً ولكل عشيرة موقع خربة يتخذون من الآبار أنابير يخزنون فيها حبوبهم وهم ينتجعون الكلأ. وفي قضاء اللواء أي الكرك ثلاثون ألف ساكن منهم أربعمائة بيت مسيحيون والباقي مسلمون وفي قصبة الصلت عشرة آلاف منهم ألفان من المسيحيين وليس بين العرب الرحالة أناس من المسيحيين وأهل مادبا كلهم مسيحيون.
قال القرماني في (معان) أنها مدينة صغيرة تقع على طريق الركب الشامي وهي على عشر مراحل من دمشق كان غالب ألها نصارى.
والآن ليس فيها أحد منهم ولقد نظمت الحكومة إدارة هذه البلاد سنة 1310 على الحساب الهجري وكانت حكومتها من قبل بيد المشايخ والزعماء فجعلت الكرك مركز اللواء وسمت سائر اللواء باسمه وقسمته إلى أربعة أقضية وهي قضاء المركز وقضاء الصلت وقضاء الطفيلة وقضاء معان وإلى سبع نواح وهي عمان وديبان ومادبا وزيزاء (جيزة) وتبوك(58/41)
وخنزيرة والشوبك.
وديبان هي شمالي ضفة أرنون (الموجب) على نحو 4 أميال من مصبه في بحيرة لوط و16 ميلا شمالي الكرك وهي المعروفة في الكتب المقدسة باسم ديبون وأديمون وكانت إحدى منازل بني إسرائيل واشتهرت ديبان بالحجر الموآبي الذي وجد فيها سنة 1868 وهو حجر أسود طوله أكثر من ثلاثة أقدام عرضه نحو قدمين وسمكه نحو قدم وفيه 34 سطراً من الكتابة الفينيقية العبرانية قرئت كلها وهي من ميشع بن خموسا ملك موآب ملخصها أنه بنى هذا المقدس لكموش لأنه خلصه معتد وجعله ينظر بازدراء إلى أعدائه كلهم قال قد ضايق ملك إسرائيل موآب أياماً عديدة. ملك أرض ميدبا وسكن هناك هو وابنه 40 سنة اهلكه كموش على عهدي حينئذ بنيت بعل معون ورممت قريتايم.
بنى ملك إسرائيل عطاروت فهاجمت المدينة وأخذتها وقتلت كل سكانها قال لي كموش اذهب خذ كموش من إسرائيل فذهبت وحاربتها من الفجر إلى نصف النهار فأخذتها وقتلت سبعة آلاف رجل وجررت آنية يهوه على الأرض أمام كموش وأقام ملك إسرائيل مدة حربه معي في ياهط فطرده كموش من أمامي. أنا هو الذي بنى عر وعير (عراعر) وعمل طريق أرنون أنا هو الذي بنى بيت باموت التي أُخربت أنا هو الذي بنى نبوسوروديبون وبيت دبلتايم وبيت بعل معون وقال لي انزل وحارب حور ونايم وخذها أه.
أما مدينة ميدبا ويقال لها الآن مادبا فقد تعاقبت عليها بنو إسرائيل وموآب وعمون مراراً وهي على مسافة 6 أميال من حشبون بين الشرق والجنوب الشرقي و14 ميلا شرقي بحر لوط وكانت في القرون الأولى مركزا مهما للدين المسيحي ومن آثارها الآن كنيسة قديمة قيل هي من القرن الخامس وقد وجدت بها سنة 1897 خارطة الأرض المقدسة مرسومة بالفسيفساء رسماً متقناً يظهر فيه نهر الأردن وكثير من المدن الرئيسية وكانت مادبا في الأصل مدينة ويؤخذ من الكتابة التي أُثرت من الملك ميزا من القرن الحادي عشر ق م أنها أعيدت إلى الموآبيين لتصير بعد ذلك تحت حكم النبطيين أي العرب وكانت على عهد المكابيين قلعة مهمة استولى عليها هيركان وأصبحت على عهد الرومان جزءا من العربية الصخرية. والخارطة تنزل في خريطة الروم هناك.
وعمان كما قال القرماني مدينة قديمة خربت قبل الإسلام ولها ذكر في تاريخ الإسرائيليين(58/42)
وهي رسم كبير ويمر بجنبها نهر الزرقاء الذي على طريق الحاج الشامي وهي من أعمال البلقاء وهي من بناء لوط.
وأخصب أرض في هذا اللواء هي أرض البلقاء وهي واقعة بين الأردن والبرية ووادي الموجب والزرقاء وتمتد من الصلت إلى مادبا على مسيرة تسع ساعات وهي تزرع في الجملة قال القرماني: البلقاء كورة بين الشام ووادي القرى بها قرية الجبارين ومدينة الشراة وبها الرقيم المذكور في القرآن فيما زعم بعضهم وفيها مدن عظيمة وقرى كثيرة إلا أنها دثرت وخربت فليس فيها ديار ولا نافخ نار. والقرماني كتب في القرن الحادي عشر وأرض الصلت وهي عبارة عن مركزه وناحيتي عمان ومادبا هي كما قال القرماني بلدة هي من أعمال الأردن بها قلعة يسكنها من يحفظها من قبل ملوك العثمانية وينبع من تحت قلعتها عيون كثيرة وتدخل البلد وبها بساتين كثيرة يجلب منها حب الرمان إلى البلاد. ومن أراضي اللواء البائرة الجيدة التربة الشاغرة أرض الشراة المشهورة قديماً وهي تمتد من حصن الشوبك إلى وادي موسى وفيها كلها مياه غزيرة وهي ذات تربة حسنة وكلها خراب اليوم. والشوبك على 19 ساعة عن الكرك كما أن وادي موسى على 25 ساعة عن الكرك.
ولهذه البلاد تاريخ مجيد قبل الإسلام وبعده ويكفي أن من أعمالها وادي موسى_على 64 ميلا من جنوبي الكرك و54 ميلا عن الجنوب الشرقي من بحيرة لوط_المعروف عند الإفرنج ببترا أي العربية الصخرية أو سلع ومن أعمالها بلاد مآب (موآب) المشهورة في تاريخ النصرانية والظاهر أن سلع هي غير بترا وليست مرادفة لها ولا يعرف اليوم اسم بترا الأصليّ ولا تاريخها كما ينبغي ويظهر من النواويس القديمة فيها أن تاريخها يرد إلى القرن السادس ق. م ولم يجر ذكر للنبطيين أي العرب الذين استولوا على البلاد بعد الأدوميين إلا في سنة 312 ق. م أي أيام أرسل الملك أنتيغونس قائده أتني ثم جاء القائد ديمتربوس ليستولي على بترا عاصمة البلاد فأخفق القائدان في فتحها وكانت المدينة في الغالب صغيرة وهي حيث وجدت النواويس القديمة ومعظمها على أكمة هناك لا تمتد إلى الوادي.
حازت هذه المدينة مكانة كبرى لحصانتها ومناعتها أمام غارات سكان البادية فكانت مخزن القوافل النبطية لوقوعها على طريق على طريق البحر الأحمر أي القلزم ومصر وغزة(58/43)
ودمشق وتدمر.
وأول أمير نبطي ذكره التاريخ اسمه ارتياس الأول. وامتد سلطان النبط على عهد المكابيين الأولين إلى شرقي الأردن ولما ضعفت دولة البلاطة والسلوقيين عاد النبط فقوي سلطانهم بسرعة في القرن الثاني قبل الميلاد. وكانت حدود هذه الملكة على عهد ارتياس الثالث نحو سنة 85 تمتد إلى دمشق ولقب ملكها إذ ذاك عجب اليونان ويستدل على أن المدينة اليونانية كانت قد استحكمت أواصرها في أرض النبط من المصانع والنواويس التي عثرت عليها وهي تنم بأجلى بيان عن مدينة يونان وفي أيام هذا الملك حدث المصاف الأول بينه وبين الرومان فاضطر أرتياس أن يؤدي الجزية إليهم. واضطر النبطيون على عهد الإمبراطور بومبي وأخلافه أن يقدموا منهم الحين بعد الآخر جنوداً مساعدين للرومانيين ولكن ظلت مملكتهم حرة قوية وانضمت على عهد أرتياس الرابع إلى مملكة دمشق. وفي سنة 106 للميلاد جعلت بترا وأعمالها كلها أي العربية الصخرية ولاية رومانية وقد أنشأ الإمبراطور تراجان طريقا عظيما وصل فيه بين سورية والبحر الأحمر. وبعد ذلك انقسمت هذه الولاية.
وفي نحو 358 اصبحت بترا ولاية مستقلة برأسها تحت اسم مملكة فلسطين أو فلسطين المسالمة. وإن المصانع والعاديات الرومانية التي لم تبرح محفوظة إلى اليوم لتدل بأن بترا كانت على عهد الحكم الروماني قد بلغت شوطا عاليا من العظمة والارتقاء ولم تبدأ بالسقوط عن مكانتها إلا في نحو منتصف القرن الثالث للمسيح لارتقاء مملكة فارس ومملكة تدمر اللتين نازعتاها في التجارة بل لان الفرس وفقوا إلى تحويل التجارة عن مصارفها القديمة إلى أصقاع الفرات والخليج الفارسي.
ولما فتح العرب هذه البلاد كان قد محي اسم بترا أو كاد. وزعم الصليبيون لما جاؤوا سورية فاتحين أن جبل هارون على مقربة من بترا هو جبل طورسينا فأنشأوا فيها قصرا فخما في ذروته المقدسة ومنذ ذال العهد سقطت المدينة في تيه العدم إلى أن كان القرن التاسع عشر وقد اكتشف سياح الإفرنج ما فيها من العاديات وفيها 750 ناووسا مهما وهي أهم تلك المصانع ومن العاديات هنا ما يعد من أغرب ما صنع خزانة فرعون وهي هيكل علوّه 85 قدماً وأسفله دار مربعة قطرها 36 قدم وعلوها 25.(58/44)
وقال مؤرخو الفرنجة أن معنى سلع في اللغة العبرانية صخر فدعا اليونان والرومان هذه البلاد بترا أي صخراً ودعاها العرب الحجر وقالوا أنها مدينة ثمود وأن الفرجة الصخرية الواقعة فيها المدينة هي صدع الصخرة الذي خرجت منه ناقة صالح. والحقيقة أن سلع بفتح السين وكسرها والجمع السلوع اسم عربي ومعناه الشقوق في الجبال قال أبو زياد الأسلاع طرق في الجبال يسمى الواحد منها سلعاً وهو أن يصعد الإنسان فقي الشعب وهو بين الجبلين يبلغ أعلى الوادي ثم يمضي فيسند في الجبل حتى يطلع فيشرف على واد آخر يفصل بينهما هذا المسند الذي سند فيه ثم ينحدر حينئذٍ في الوادي الآخر حتى يخرج من الجبل منحدرا في فضاء الأرض فذاك الرأس الذي أشرف من الواديين السلع ولا يعلوه إلا راجل.
قال ياقوت: وسلع حصن بوادي موسى بقرب بيت المقدس وبهذا لا يصح أن يطلع سلع على وادي موسى بأجمعه كما توهمك بعضهم. والحجر كما قال ياقوت. اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام قال الاصطخري: الحجر قرية صغيرة قليلة السكان وهو بوادي القرى على يوم بين جبال وبها كانت منازل ثمود. قال تعالى (وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين) قال ورأيتها بيوتاً مثل بيوتنا في أضعاف جبال وتسمى تلك الجبال الأثالث وهي جبال إذا رآها الرائي ظنها متصلة فإذا توسطها رآها كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف وحواليها الرمل لا يكاد يرتقي كل قطعة منها قائمة بنفسها لا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة وبها بئر ثمود التي قال الله فيها وفي الناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم قال جميل:
أقول لداعي الحب والحجر بيننا ... ووادي القرى لبيك لما دعانيا
فما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلواً ولا أطول اجتماع تقاليا
أما بلاد موآب أو مآب فهي جزء من العربية السعيدة أو الصخرية بين بحيرة لوط فيما وراء عبر الأردن والبادية على ضفتي نهر أرنون وكانت عاصمة الموآبيين قلعة رباط موآب. والموآبيين هم أبناء لوط لا يعلم من تاريخهم إلا أنهم كانوا أولي بأس شديد يخاف اليهود عاديتهم لغزوهم إياهم الحين بعد الآخر واستولى الموآبيون على الإسرائيليين ثماني عشرة سنة (1332 ـــ 1314) على عهد حكومة القضاة وقد غلب شارول (جالوت)(58/45)
الموآبيين وخضعوا لسلطان داود مؤقتاً ثم استعبدهم الفرس فالمصريون فالسوريون فالاسكندر فالرومانيون وعلى عهد العرب امتزجوا بهم وفنوا فيهم كما فنيت شعوب كثيرة في الفاتحين مع الزمن وآثروا الانضمام إليهم بسائق الدين والمصلحة الدنيوية. أما مدينة الكرك فكانت هي عاصمة الموآبيين على ما يقول بعض الجغرافيين وكان اسمها كرك موآب.
وكان مقام الموآبيين جنوبي أرنون وامتدوا جنوبا إلى أدوم وهم من نسل لوط اتحدوا على إخوتهم بني عمون وطردوا الرفائيين وسكنوا مكانهم حاربهم شاول وانتصر بهم بحسب رواية التوراة وعند ملك موآب أودع داود ولديه من وجه شاول وقيل أن ملك موآب قتلهما فقتل داود منهم ثلاثين ألفا ووضع الباقين تحت الجزية وقد ساعدوا بخننصر في حصار أورشليم واسترجعوا بعد السبي أملاكهم القديمة.
وعدّ ياقوت بلاد مآب مدينة واحدة فقال وهي على طرف الشام من نواحي البلقاء قال أحمد بن محمد بن جابر توّجه أبو عبيدة بن الجراح في خلافة أبي بكر في سنة 13 بعد فتح بصرى بالشام إلى مآب من أرض البلقاء وبها جمع العدد فافتتحها على مثل صلح بصرى وقيل أن فتح مآب قبل فتح بصرى وينسب إليها الخمر قال حاتم طي:
سقى الله رب الناس سحاً وديمة ... جنوب الشراة من مآب إلى زغر
بلاد امريء لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي ولا يعرف الكدر
وقال عبد الله بن رواحة الأنصاريّ:
فلا وأبي مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم
ولم يقل ياقوت أن الكرك عاصمة بلاد مآب بل قال أنها قلعة حصينة جدا في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها بين أيلة وبحر القلزم والبيت المقدس وهي على سن جبل عال تحيط به أودية إلا من جهة الربض.
وفي المرآة الوضية وإلى جنوبي نهر الزرقاء إلى نهر الموجب البلقاء وشماليها جبل الصلت وليس فيهما موضع مسكون إلا قرية الصلت ومن مواضعها القديمة جلعاد وعمون وهي الآن عمان وحشبون وهي الآن حسبان والعال ونبا وماعين وعراعر وديبان وفي جنوب هذه المقاطعة كانت قديما أرض بني عمون وإلى جنوبي النهر الموجب وهو نهر(58/46)
أرنون أيضا وإلى الإحساء أرض الكرك وهي أرض موآب أو أرض قوم لوط ومن قراها الكرك وهي كير موآب وربة هي رابة موآب وزعراء ويقال أنها صاغر التي هرب إليها لوط لما نجا من سادوم.
وقال ياقوت أن البلقاء كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى قصبتها عمان وفيها قرى كثيرة ومزارع واسعة وبجودة حنطتها يضرب المثل ومن البلقاء قرية الجبارين التي أرادها الله تعالى بقوله: إن فيها قوما جبارين والبلقاء مدينة الشراة شراة الشام وهي أرض معروفة ونبس إليها عدد من الرواة والنسبة إليها بلقاوي. وقال أن الشراة صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة التي كان يسكنها ولد علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في أيام بني مروان ونبس إليها بعض الشراة والنسبة إليها شروي.
وذكر ياقوت أيضا أن عمان بلد في طرف الشام وكانت قصبة أرض البلقاء وروى عن أبي عبد الله محمد بن أحمد البشاري عمان على سيف البادية ذات قرى ومزارع ورستاقها البلقاء وهي معدن الحبوب والأنعام بها عدة أنهار وأرحية يديرها الماء ولها جامع ظريف في طرف السوق مسقف الصحن شبيه مكة وقصر جالوت على جبل يطل عليها وبها قبر أورياء النبي عليه السلام وعليه مسجد وملعب سليمان بن داود عليه السلام وهي رخيصة الأسعار كثيرة الفواكه غير أن أهلها جهال والطريق إليها صعبة قال الأحوض بن محمد الأنصاري:
أقول بعمان وهل طربي به ... إلى أهل سلع أن تشوقت نافع
أصاح ألم يحزنك ريح مريضة ... وبرق تلالا بالعقيقين لامع
وأن غريب الدار مما يشوقه ... نسيم الرياح والبروق اللوامع
وكيف اشتياق المرء يبكي صبابة ... إلى من نأى عن داره وهو طامع
وقد كنت أخشى والنوى مطمئنة ... بنا وبكم من علم ما الله صانع
أريد لأنسى ذكرها فيشوقني ... رفاق إلى أرض الحجاز رواجع
وقال الخطيم العكلي اللص يذكر عمان (بفتح العين)
أعوذ بربي أن أرى الشام بعدها ... وعمان ما غنى الحمام وغرد(58/47)
فذاك الذي استنكرت يا أم مالك ... فأصبحت منه شاحب اللون أسودا
وأن لماضي العزم لو تعلمينه ... وركاب أهوال يخاف بها الردى
ونسب إليها بعض الرواة والنسبة عماني.
هذا ما قاله صاحب معجم البلدان وفي كلامه على بلاد مآب والبلقان وأي المدائن كانت عاصمة تلك الكورة كلام لا يمكن للمرء أن يجزم بأن البلدة الفلانية كانت قاعدة البلاد والغالب أن الحكومة الإسلامية كانت تنتقل في هذه المدن فتارة في عمان وأخرى في الكرك والمفهوم من النصوص الآنفة الذكر أن تلك البلاد كانت قبيل الإسلام وبعده بقرون عامرة بالسكان وفيها قرى ومزارع كثيرة.
وتاريخ هذه البلاد مبعثر جدا قبل الإسلام وبعده وليس لدينا من النصوص التي من الممكن أن يستأنس بها إلا ما رواه ياقوت في معجمه من أسماء قرى كانت في وادي موسى وموآب والبلقاء قال: (مؤتة) قرية من قرى البلقاء في حدود الشام وقيل موتة من مشارف الشام وبها كانت تطبع السيوف وإليها تنسب المشرفية من السيوف قال ابن السكيت في تفسير قول كثير
إذا الناس ساموكم من الأمر خطة ... لها خطة فيها السهام الممثل
أبى الله للشم الأنوف كأنهم ... صوارم يجولها بمؤتة صيقل
قال المهلبي مآب وإذرح مدينتنا الشراة على اثني عشر ميلا من إذرح ضيعة تعرف بمؤتة بها قبر جعفر بن أبي طالب بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها جيشاً في سنة ثمان وأمر عليهم زيد بن حارثة مولاه وقال أن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب الأمير وأن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ثم دنا العدوّ وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها موتة فالتقى الناس عندها فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقاتل زيد حتى قتل فأخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل فأخذ الراية عبد الله بن روحة فكانت تلك حاله فاجتمع المسلمون إلى خالد بن الوليد فانحاز بهم حتى قدم المدينة فجعل الصبيان يحثون عليهم التراب ويقولون يا فرار فررتم في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار لكنهم الكرار إن شاء الله وقال حسان بن ثابت:(58/48)
فلا يعدن الله قتلى تتابعوا ... بموته منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله هم خير عصبة ... تواصوا وأسباب المنية تنظر
وقال: (الموجب) بلد بالشام بين المقدس والبلقاء
وقال: في (أبنى) بالضم ثم السكون وفتح النون والقصر بوزن حبلى موضع الشام من جهة البلقاء جاء ذكره في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حيث أمره بالمسير إلى الشام وشهر الغارة على أبنى وفي كتاب نصر أبنى قرية بمؤتة.
وقال: (اذرح) أهم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. وبين اذرح والجرباء ثلاثة أيام وقيل ميل واحد (والثاني أصحّ) وأقل لأن الواقف في هذه ينظر هذه (والجرباء) موضع من أعمال معان بالبلقاء من أرض الشام قرب جبل الشراة من ناحية الحجاز وهي قرية من اذرح وبينهما كان أمر الحكمين بين عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري.
وقال: (زيزاء) من قرى البلقاء كبيرة يطوءها الحاج ويقام بها لهم سوق وفيها بركة عظيمة واصلة في اللغة المكان المرتفع ولذلك قال ذو الرمة:
تحدر عن زيزائه القف وارتقى ... عن الرمل وانقادت إليه الموارد
وقال مليح:
تذكرت ليلى يوم أصبحت قافلا ... بزيزاء والذكرى تشوق وتشغف
غداة ترد الدمع عين مريضة ... بليلى وتارات تفيض وتذرف
ومن دون ذكراها التي مطرت لنا ... بشرقي عمان الشرى والمعرف
وأعملت من طود الحجاز جنوده ... إلى الغور ما اجتاز الفقير ولفلف
وقال: (السواد) نواحي قرب البلقاء وسميت بذلك لسواد حجارتها فيما احسب
وقال: (شتار) نقب شتار بكسر الشين نقب من جبل من جبال الشراة بين أرض البلقاء والمدينة على شرقي طريق الحاج يفضي إلى أرض واسعة معشبة يشرف عليها جبال فاران وهي في قبلي الكرك.
وقال: (صرفة) قرية من نواحي مآب قرب البلقاء يقال بها فبر يوشع بن نون.
وقال: (الصمان) من نواحي الشام بظاهر البلقاء قال حسان بن ثابت:(58/49)
لمن الدار أقفرت بمعان ... بين شاطي اليرموك فالصمان
فالقريات من بلاس فدا ... ريا فسكاء فالقصور الدواني
وقال: (علعال) جبل بالشام مشرف على البثينة بين الغور وجبال الشراة.
وقال: (طفيل) تصغير طفل وادي طفيل بين تهامة واليمن عن نصر وبوادي موسى قرب البيت المقدس قلعة يقال لها طفيل عرندل قرية من أرض الشراة من الشام فتحت في أيام عمر بن الخطاب بعد اليرموك.
وقال: (جادية) قرية من عمل البلقاء من أرض الشام عن أبي سعيد الضرير وإليها ينسب الجادي وهو الزعفران قال: ويشرق جادي بهن مديف. أي مدوف.
وقال: (جبال) من قرى وادي موسى من جبال الشراة قرب الكرك بالشام منها يوسف بن إبراهيم بن مرزوق بن حمدان أبو يعقوب الصهيبي الحبالي والحافظ أبو القاسم.
وقال: (الرّبة) بلفظ واحدة الرباب عين الربة قرية في طرف الغور بين أرض الأردن والبلقاء.
وقال: (زغر) قرية بمشارف الشام وإياها عنى أبو دؤاد الايادي حيث قال:
ككتابة الزغري زي ... نها من الذهب الدلامص
قال وقيل زغر سام بنت لوط عليه السلام نزلت بهذه القرية فسميت باسمها وقال حاتم الطائيّ:
سقى الله رب الناس سحا وديمة ... جنوب الشراة من مآب إلى زغر
بلاد امرئ لا يعرف الذم بيته ... له المشرب الصافي ولا يطعم الكدر
وقال: (المشارف) جمع مشرف قرى قرب حوران منها بصرى من الشام ثم من دمشق إليها تنسب السيوف المشرفية رد إلى واحده ثم نسب إليه. وفي مغازي ابن إسحاق في حديث موته ثم مضى الناس حتى إذا كانوا في تخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها المشارف.
وقال: (معان) بالفتح وآخره نون والمحدثون يقولون بالضم وإياه عنى أهل اللغة منهم الحسن بن علي بن عيسى أبو عبيد المعني الأزدي المعاني من أهل معان البلقاء والمعان المنزل يقال الكوفة معاني أي منزلي قال الأزهري: وميمه ميم مفعل وهي مدينة في طرف(58/50)
بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى موتة فيه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فساروا حتى بلغوا معان فأقاموا بها وأرادوا أن يكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمن تجمع من الجيوش وقيل قد اجتمع من الروم والعرب نحو مائتي ألف فنهاهم عبد الله بن رواحة وقال إنما هي الشهادة أو الظعن ثم قال:
جلبنا الخيل من أجاءٍ وفرع ... تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناهم من الصوان سبتاً ... أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين من معان ... فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مومسات ... تنفس من مناخرها السموم
فلا وأبي مآب لأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيها ... إذا برزت قوانسها النجوم
وروى يا قوت عن أبي محمد الأعرابي في قول الزاجر:
يا عمرو قارب بينها تقرب ... وارفع لها صوت قوي صلب
واعص عليها بالقطيع تغضب ... ألا ترى ما حال دون المقرب
من نعف فلا فدباب المعتب
قال_فلا_من دون الشام والمعتب واد من مآب بالشام ومآب كورة من كور الشام ودباب ثنايا يأخذها الطريق.
وقال: (تنهج) اسم قرية فيها حصن من مشارف البلقاء من أرض دمشق سكنها شاعر يقال له خالد بن عباد ويعرف بابن أبي سفيان ذكره الحافظ أبو القاسم.
وقال: (التيه) الموضع الذي صل فيه موسى بن عمران عليه السلام وقومه وهي أرض بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال الشراة من ارض الشام يقال أنها أربعون فرسخاً في مثلها وقيل اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ وإياه أراد المتنبي بقوله:
ضربت بها التيه ضرب القما ... ر أما لهذا وإما لذا
وقال: (الحميمة) بلد من أرض الشراة من أعمال عمان في أطراف الشام كان منزل بني(58/51)
العباس.
وقال: (نقنس) بكسر أوله وثانيه ونونه مشددة من قرى البلقاء من أرض الشام كانت لأبي سفيان بن حرب أيام كان يتجر إلى الشام ثم كانت لولده وبعده.
وقال: (النقيب) بالضم وهو تصغير نقب وهو معروف موضع في بلادهم بالشام بين تبوك ومعان على طريق حاج الشام.
وقال: (وسادة) موضع في طريق المدينة من الشام آخر جبال حوران ما بين يرفع وقراقر.
وقال: (الوعيرة) كأنه تصغير الوعرة حصن من جبال الشراة قرب وادي موسى. هذا ما تيسر تلقفه من معجم البلدان وليس من أسماء هذه البلاد شيءٌ يعرف الآن فيما نحسب إلا قرية أو قريتان مثل عمان ومعان وما عدا ذلك فقد دثر وأصبح خراباً يباباً تدل آثاره عليه وقد بدأ الخراب الحقيقي في هذه البلاد على عهد الصليبيين وكان أشهر حصونها الكرك والشوبك فقد أخذ بغودين من ملوك الصليبيين الشوبك وعمره في سنة تسع وخمسمائة وكان قد خرب من تقادم السنين والشوبك هي في رواية مسريقة وقال القرماني: شوبك بلدة صغيرة كثيرة البساتين من أعمال الشام غالب أهلها نصارى وهي شرقي الغور على طرف الشام من جهة الحجاز وينبع من تحت قلعتها عينان وقلعتها على تل مرتفع مطل على الغور.
وفي الأنس الجليل أن السلطان صلاح الدين لما كان في بلاد أنطاكية ولم يزل الحصار على الكرك وكان أخوه الملك العادل عين معه على حفظ البلاد وكان صهره سعد الدين كمشه بالكرك موكلاً بحصاره فراسل الإفرنج الملك العادل في الأمان فامتنع ثم صالحهم وسلموا الحصن. ولم يكن للكر ك شأن كبير قبيل الحروب الصليبية ثم غدت عاصمة مملكة يعرف صاحبها بملك الكرك أو صاحب الكرك على عهد صلاح الدين ومن بعده عهد الجراكسة والغالب أن موقعها الحربي المهم وتوسطها تقريباً بين مصر والشام وكان إذ ذاك حكومتهما واحدة هيأ لها ذلك.
قال القرماني: كرك بليدة مشهورة وبها حصن عال على قلعة جبل يقال أنه كان دير الروم وجعله المسلمون حصناً فيها قبر جعفر الطيار وأصحابه وفي أسفله وادٍ في حمام وبساتين كثيرة وكان من دأب ملوك الترك والجراكسة كلما خلعوا سلطاناً أرسلوه إلى الكرك.(58/52)
أما الكرك أو قلعتها فهي كانت وما زالت من أعظم حصون سورية ولذلكم احتلها الصليبيون وحرص صلاح الدين وأسرته أن يسترجعوها منهم لأنها مفتاح القطرين بل القطر المصري والشامي والحجازي ولذلك تجد ذكرها يتردد كثيراً في التاريخ منذ استولى على الإفرنج إلى أن انقضت دولة الجراكسة في مصر والشام على يد السلطان سليم العثماني سنة 922 هـ.
ولطالما كانت الكرك موعداً للقاء وميداناً لإرهاق الدماء وتكافح الناس في جوارها على امتلاكها كفاحاً وأي كفاح بيعت فيه إلى الأرواح والأشباح بيع السماح وهاك الآن مثالاً من صحف التاريخ المنسية تعتبر بها وتزدجر.
قال أبو الفدا في حوادث سنة ثمان وستين وخمسمائة وفيها سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك وسار نور الدين من دمشق إلى أن وصل إلى الرقيم وهو بالقرب من الكرك. والرقيم هو كما قال ياقوت أيضاً بقرب البلقاء من أطراف الشام عنها كثيراً بقوله وكان يزيد بن عبد الملك ينزله وقد ذكره الشعراء:
أمير المؤمنين إليك نهوي ... على البخت الصلادم والعجوم
إذا اتخذت وجوه القوم نصباً ... أجيج الواهجات من السموم
فكم غادرن دونك من جهيض ... ومن نعل طرحة جذيم
يزرن على تنائيه يزيداً ... بأكناف الموقر والرقيم
تهنئة الوفود إذا أتوه ... بنصر الله والملك العظيم
والموقر حصن بالبلقاء قال فيه ياقوت أنه اسم موضع بنواحي البلقاء من نواحي دمشق وكان يزيد بن عبد الملك ينزله قال جرير:
ما شاعت قريش للفرزدق خزية ... وتلك الوفود الناديون الموقرا
عشية لاقى القين قين مجاشع ... هزيراً أبا شبلين في الفيل قسوراً
وقال كثير:
سقى الله حياً بالموقر دارهم ... إلى قسطل البلقاء ذات المحارب
وقد نشأ من الموقر جملة من المحدثين والنسبة إليها موقري وصرح الشاعر بأن الموقر من(58/53)
أرض الشام فقال:
أذنت علي اليوم إذ قلت أنني ... أحب من أهل الشام أهل الموقر
بها ليل شم عصمة الناس كلهم ... إذا الناس جالوا جولة المتحير
وقال كثير عزة:
أقول إذا الحيان كعب وعامر ... تلاقوا ولقتنا هناك المناسك
جزى الله حياً بالموقر نضرة ... وجادت عليه الرائحات الهواتك
يكل حثيث الوبل زهر غمامه ... له درر بالقسطلين مواشك
وفي حوادث سنة ثمان وسبعين وخمسمائة أن البرنس صاحب الكرك عمل أسطولاً في بحر أيلة (وهي مدينة على ساحل بحر القلزم أو الأحمر مما يلي الشام) وساروا في البحر فرقتين فرقة أقامت على حصن ايلة يحصرونه وفقة نحو عيذاب يفسدون في السواحل ويفنون المسلمين في تلك النواحي فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجاً قط فعمر الملك العادل أبو بكر أيوب أسطولاً في بحر عيذاب وأرسله مع حسام الدين الحاجب لؤلؤ وهو متولي الأسطول بديار مصر فأوقع الذين يحاصرون أيلة فقتلهم وأسرهم ثم سار في طلب الفرقة الثانية وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز ومكة والمدينة وسار لؤلؤ يقفوا أثرهم فبلغ رابغ فأدركهم بساحل الحورا وتقاتلوا أشد قتال فظفر بهم وقتل أكثرهم وأخذ الباقين أسرى وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها وعاد بالباقين إلى مصر فقتلوا عن آخرهم.
وفي السنة التالية سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزوة وكتب إلى مصر فسارت عساكرها إليه ونازل الكرك وحصره وضيق على من به ملك ربض الكرك وبقيت القلعة وليس بينها وبين الربض غير خندق خشب وقصد السلطان صلاح الدين طمه فلم يقدر لكثرة المقاتلة فجمعت الفرنج فارسها وراجلها فقصدوه فلم يكن للسلطان إلا الرحيل فرحل عن الكرك وسار إليهم فأقام في أماكن وعرة وأقام السلطان قبالتهم وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك فعلم بامتناعه عليه فرحل عنه.
وبعد وقعة حطين كان السلطان صلاح الدين بعد أن سار إلى البلاد الشمالية قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها وخلى أخاه الملك العادل في تلك الجهات يباشر ذلك فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فأمر الملك العادل المباشرين بحصارها بتسلمها فتسلموا الكرك(58/54)
والشوبك وما بتلك الجهات من البلاد.
قال ياقوت في الشوبك إنها قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وإيلة والقلزم قرب الكرك وذكر يحيى بن علي التنوخي في تاريخه أن يقدور الذي ملك الفرس سار في سنة 905 إلى بلاد ربيعة من طيء وهي باق والشراة والبلقاء والجبال ووادي موسى ونزل على حصن قديم خراب يعرف بالشوبك بقرب وادي موسى فعمره ورتب فيه رجاله وبطل السفر من مصر إلى الشام بطريق البرية مع العرب بعمارة هذا الحصن. وبعد وفاة صلاح الدين ظلت الكرك والشوبك والبلاد الشرقية بيد الملك العادل سيف الدين أبو بكر ابن أيوب.
تقدم أن حصن الشوبك كان من جلة الحصون التي يتنافس فيها الفاتحون في هذه الديار وهو على 19 ساعة من الكرك يؤيد ذلك ما رواه أبو الفدا في حوادث سنة 625 هـ من أن الملك الكامل صاحب مصر أرسل بطلب ابن أخيه الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب دمشق حصن الشوبك فلم يعطه إياه ولا أجابه إليه فسار الملك الكامل من مصر إلى الشام بقصد استخلاص الشوبك وغيره.
وفي حوادث سنة 629 إن الملك الكامل سار من دمشق إلى الشوبك واحتفل له الملك الناصر داود بن المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب احتفالاً عظيماً بالضيافات والإقامات والتقادم وحصل بينهما الاتحاد العام وكان نزول الملك الكامل باللجون قرب الكرك وهي منزلة الحجاج. وفي سنة 633 فترت العلائق بين الملك الناصر داود صاحب الكرك وبين عمه الملك الكامل صاحب مصر فسار الأول إلى بغداد ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر لما حصل عنده من الخوف فأصلح الخليفة بينهما وعاد الناصر إلى الكرك وفي سنة 635 جرى بين الملك الناصر داود صاحب الكرك وبين الملك الجواد يونس المتولي على دمشق مصاف بين جنين ونابلس انتصر فيه الملك الجواد يونس وانهزم الملك الناصر هزيمة قبيحة ونهب عسكره وأثقاله وللناصر هذا وقائع مع أسرته وغيرهم ولكن بني أيوب ومن بعدهم على تنافسهم في الملك كانوا يداً واحدة على أعدائهم الصليبيين حين الحاجة لأن هؤلاء لم تكن انقطعت شأفتهم كلها من بلاد الشام.
وفي سنة 644 سار الأمير فخر الدين يوسف ابن الشيخ من قبل الملك الصالح إلى حرب(58/55)
الملك الناصر داود صاحب الكرك فاستولى على جميع بلاد الملك الناصر وولي عليها وسار إلى الكرك وحاصرها وخرب ضياعها وضعف الملك الناصر ضعفاً بالغاً ولم يبق بيده غير الكرك وحدها.
وفي سنة 647 استولى لملك الصالح أيوب صاحب الديار المصرية على الكرك وفي السنة التالية ملك القلعتين الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين وكان اعتقله الملك المعظم تورانشاه في الشوبك فلما قتل هذا بادر النائب عليهما وهو بدر الدين الصوابي الصالحي فأفرج عن الملك المغيث وملك الحصنين وفي سنة 656 انضمت البحرية إلى المغيث صاحب الكرك والتتر مع عسكر مصر في غزة فكانت الكسرة على المغيث ومن معه فولى منهزماً إلى الكرك في أسوء حال ونهبت أثقاله ودهليزه. وفي سنة 657 حاصر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق والملك المنصور صاحب حماة الملك المغيث صاحب الكرك بسبب حمايته البحرية وأقاموا على بركة زيزاء (التي يحرفها العامة بجيزة اليوم) ما يزيد على شهرين وفي سنة 660 قتل الملك المغيث صاحب الكرك قتله الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر لأنه كتب أجوبة على مكاتبات من التتر إلى الملك المغيث في أطماعهم في ملك مصر والشام ورتب الظاهر أمور الكرك وعاد إلى مصر.
وفي سنة 680 استقر الصلح بين السلطان الملك المنصور قلاوون وبين الملك خضر ابن الملك الظاهر بيبرس صاحب الكرك. وفي سنة 708 سار الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية متوجهاً إلى الحجاز فسار إلى الكرك وكان النائب بها جمال الدين أقوش الأشرفي فعمل سماطاً واحتفل بع وعبر السلطان إلى المدينة ثم إلى القلعة ولما عبر السلطان على الجسر إلى القلعة والأمراء ماشون بين يديه والمماليك حول فرسه وخلفه سقط بهم جسر قلعة الكرك وقد حصلت يد فرس السلطان وهو راكبه داخل عتبة الباب فلما أحس الفرس بسقوط الجسر أسرع حتى كاد أن يدوس الأمراء الماشين بين يدزيه وسقط من مماليك السلطان خمسة وثلاثون إلى الخندق وسقط غيرهم من أهل الكرك ولم يهلك من المماليك غير شخص واحد لم يكن من الخواص ونزل في الوقت السلطان عند الباب وأحضر الجنوبات والحبال ورفع الذين وقعوا عن آخرهم وأمر بمداواتهم وعادوا إلى ما كانوا عليه وكان ارتفاع الجسر الذي سقطوا منه إلى الخندق يقارب خمسين ذراعاً.(58/56)
ولما تولى الملك الناصر أحمد بن الملك الناصر بن محمد بن قلاوون في الكرك أقام فيها أياماً في لهو ولعب فأنكروا عليه أموراً لا تليق بالسلطنة فاتفق أهل الشام على خلعه وأرسلوا إلى المصريين في ذلك فأجابوهم وسلطنوا أخاه الصالح إسماعيل ووردت المراسيم إلى جميع ولايات الأعمال الشامية بتجريد العشرات وغيرهم إلى الكرك وعينوا على معاملتي صيداء وبيروت خمسماءة راجل فذهبوا إليها سنة 743 ووجدوا في القلعة ومع السلطان أحمد خلقاً كثيراً وقد نصبوا على القلعة في أعلاها خمسة مجانيق ومدافع كثيرة وكان الكركيون يظهرون من باب القلعة ويقاتلون أحياناً كثيرة وكان الحصار والزحف مستمراً ونصب المحاصرن على القلعة منجنيقاً يرمي بحجارة وزنها خمسة وثلاثون رطلاً.
وكان يحكى عن السلطان أحمد أنه كان شاباً حسن الشكل عبل البدن وكان يلبس ملبوس العرب ووسع أكمامه على زي الكركيين وكان يظهر لهم أنه لبس هذا الزي محبة فيهم.
وكان يجلس كل يوم بين شراريف القلعة ويرمي سبعة سهام صيغت لها نصولها من فضة موشاة بذهب كانت تدل على قوة قوسه وكان إذا أراد أن يرمي السهم رفع يده التي فيها القوس فيسقط كمه من سعته إلى كتفه حتى يبان شعر إبطه وكان غليظ الذراع أبيض اللون ورأوا له سهماً في حصار الكرك وقد نقش عليه هذان البيتان:
ومن جودنا نرمي العداة بأسهم ... من الذهب الإبريز صيغت نصولها
يداوي بها المجروح منها جراحه ... ويشري بها الأكفان منها قتيلها
وهما للأمين بن هرون الرشيد وكان لما حضره عبد الله بن طاهر في بغداد بعساكر أخيه المأمون صنع نصول النشاب من خالص الذهب ونقش عليها هذين البيتين.
ولما دخلت سنة أربع وأربعين ضعفت حالة السلطان أحمد والكركيين وكان زرعهم قد رعي رعاه التركمان والعربان وكان أكثر دورابهم قد نهبت وانقطع عنهم الجلب وحالهم في ضعف وأخذت قلعة الكرك سنة خمس وأربعين وسبعمائة وأخذ سلطانها وقتل وذلك بعد أن تجمعت عساكر الشام على حصارها زهاء سنتين.
وبعد فليس في التاريخ ولاسيما من بعد دخول الدولة العلية إلى هذه البلاد شيءٌ ينقل ليفيد في حالة بلاد الكرك اللهم ما كان من انتقاض أهالي هذه البلاد على إبراهيم باشا المصري لما فتحها أيام دخوله إلى سورية في أوائل القرن الماضي ونظم إدارتها وجعل لها حامية(58/57)
من جنده فلم يمض إلا قليل حتى تمرد السكان وقاموا فذبحوا الحامية والموظفين عن بكرة أبيهم حتى أنهم قتلوا كتيبة من جنده كانت آيبة إلى مصر فضللوها في الطريق وأهلكوها إلا قليلاً كما ارتكبوا مثل هذا المنكر هذه المرة ولم يفلحوا.
ويؤخذ بالقرينة أن معظم البلاد أصبحت بادية بعد هذه الوقعة لغلبة الجهل واختلال الإدارة وظلم العمال وكذلك حال القرى يعرف ذلك كل من طاف في أقضية اللواء الأربعة فإنه يشاهد خرباً ومياهاً سائبة فقد كان في قضاء الصلت وارض بني صخر وأرض بني صخر نحو ثلثمائة قرية وعدة مدن عامرة وليس فيها اليوم سوى خمس عشرة قرية عامرة بعض الشيء.
وبعض الخرب في اللواء بيد العرب المزارعين وبعضها شاغرة ملك للحكومة. وبدو الكرك كثيرون فمنهم في قضاء الصلت الدعجة والأيديات وأبي نعيم والشوايكة والأبووندي والعجارمة والميطرون والحرافيش وأراسفة والمشالخة والفاعور والربيع وبنو صخر وهم يقسمون إلى الزبن والهكيش والحفير والقبعين والفايز ومجموع بيوتهم نحو 4500 بيت وأشهرها بنو صخر وهي 700 بيت والعدوان وهي 500 والعباد 800 والأرض التي تنزلها هذه القبائل شرقي نهر الشريعة وغربي البادية وشمالاً وادي الوالا ووادي الثمد وجنوباً ماء الزرقاء والحدود الفاصلة بين عجلون والصلت وسكان القضاء كله نحو أربعين ألفاً وهو أعمر أقضية الكرك.
وفي قضاء الطفيلة نحو عشرين ألفاً من النفوس وهذه أسماء عشائرهم: الحميدات وهي أعظمها مؤلفة من خمسمائة بيت وعبيدين ثقرب نفوسها من الحميدات والبحارات مثلها أيضاً والكلالدة والوهيبات والهلالات وعشيرة المناعين وهي رحالة تقضي أكثر أيامها في الجوف بالقرب من نجد وتنزل القضاء بعد اشهر بين محطة الجروف ومدينة الطفيلة وفي هذه المدينة 12 ألفاً من السكان الحضر.
وفي قضاء معان عشائر وأفخاذ وأهمها الحويطات ومنها الدمانية وأبوتاية والمطالقة ومنها البدول والشوبك والنعيمات والدبابات والعمامرة والمراعية والدرواشة والعطون والزوايدة والطقاطقة والعمارين والرشايدة والسعيديين والراجفة. وفي قضاء معان أيضاً ينزل بنو عطية وهم يقسمون سبعة أقسام منهم المزايدة والخضرة والشبوت والهرامسة ومنازلهم من(58/58)
المدورة إلى تبوك.
أما عشائر قضاء الكرك فكثيرة وهي أغوات. اللصايمة. بنو حميدة. بياضة. جلامدة. حباشنة. خرشة. خنزيرة. دنيبات. كفاوين. ضمور. حجايا. سليط. شمايلة. صرايرة. صعوب. طراونة. العمرو. عراق. عكشة وحجازين. غور الصافي. غور المزرعة. فقرا. قطاونة. قضاء. كثر ربة. معايطة. مجالي. مبيضين. مصاروة. مدانات. بقاعين. نوايسة. نعيمات. هلسة.
هذه فرق عشائر الكرك وأهمها وأكثرها عدداً بنو حميدة. سليط. حجايا حباشنة. ضمور. صرايرة. طراونة. كثرربة. معايطة. وتقسم عشيرة بني حميدة إلى ثلاث فرق (حمولات) وهي أبو بريز وابن طريف وأبو ربيحة. وينقسم ابو بريز إلى فرقتين وهما الفواصلة والتوايهة. وكل منها يقسم إلى أربع جماعات لكل جماعة شيخ. وتنقسم عشيرة ابن طريف إلى ست فرق وهي ابن طريف. رواحلنة. الحيصة. الضرابعة. الشخامية. شقور وحمادين. بصيرة وتنقسم عغشيرة أبي ربيحة إلى اربع فرق. وهي الشراونة وحواتمة. هواوشة. اللوانسي. قواسمة. وتنقسم عشيرة سليط إلى فرقتين بحارات ورجيلات. وتتألف عشيرة الحباشنة من العرود والجعافرة. وتتألف الضمور من محمود وسحميات والطراونة من عيال جبرين وعيال جبران. ومجامعة وعيال عودة.
أما كثرربة فهي قرية يسكنها فرقتان وهما القراللة والرماضنة. ويتألف القراللة من زعيسلات سالم وزعيلات سعيد وسلامات ومهاينة ومخاترة. ويتألف الرماضنة من الرواشدة والخثاتنة وشواورة وكساسبة ومطارنة وجوازنة. وتتألف عشيرة المعايطة من فرقة ساهر ويوسف. ويتألف النعيمات من العبادلة والجعافرة والأحامدة ويتألف الحجايا من محموديين وهدايات وهؤلاء الحجايا لا يزرعون ولا يفلحون بل هم بادية.
والعشائر التي لها شأن عند الحكومة هي. المجالي. طراونة. ضمور. معايطة. صرايرة. مدانات. هلسة. أما العشائر التي لها نفوذ على العشائر نفسها فهي المجالي. سليط. حجايا. طراونة. بنو حميدة.
هذه اسماء العشائر وفرقها ومكانتها أما أماكن نزولها فإن فرق أبي ربيحة. أبي بريز. شخامية. الحيصة. الرواحنة من عشيرة بني حميدة وسليط وكعابنة والفقراء كلهم ينزلون(58/59)
تحت الخيام في ناحية ديبان من أعمال مركز اللواء. وحدود بيان هذه من القبلة نهو الموجب ومن الشمال اللب ومن الغرب بحر لوط ومن الشرق أم الرصاص في بقعة من الأرض سهلية جبلية يبلغ عرضها أربع ساعات وطولها سبع ساعات. ولا تجد شرقي أم الرصاص أرضاً تزرع ومركز ناحية ديبان وادي الوالا وهو على أحد عشرة ساعة عن مركز اللواء.
إليك على جملة أسماء العشائر المزارعة وهي معدودة بادية رحالة في هذا اللواء والحكومة تستوفي منها إلى اليوم عشراً مقطوعاً وخراجاً مقطوعاً وودياً (تعداد الجمال وتعداد الغنم) مقطوعاً أي أنها تفرض على كل حمولة أو عشيرة قدراً من المال وتطالب به من وجدتهم منهم فيكون بذلك مجال لظلم الضعاف من هذه القبائل يرهقهم مشايخهم منزله وقد يأخذونه بجريرة جاره أو أخيه فإن بعض أولئك البدو قد يهربون في بعض سني المحل أو لغرض آخر فلا يلبث عمال الدولة أن يستوفوا من أبناء تلك القبيلة ما هو في ذمة الهاربين وكثيراً ما تقاضت الحكومة من واحد يفرض على خمسة من عشيرته.
مثال ذلك أن العمامرة من الحويطات كانوا أغنياء على عهد تأسيس اللواء أي منذ سبع عشرة سنة فلم تمض بضع سنين حتى أصبحوا أفقر الفقراء يتلك القاعدة السخيفة في الإدارة وتفرقوا تحت كل كوكب ومنهم من انقلب إلى حسمه وغزة أو أوغل في البادية إلى نجد والشرق.
نعم إن الحكومة حتى الآن لم تعمل لعمران اللواء من شأنه رفع الحيف وكشف الظلامات لتعمر البلاد بل على العكس أتت ما خرب به عمرانها وابذعرّ سكانها فبدلاً من أن ترسل لهم واعظاً يعلمونهم بلغتهم بعثوا إليهم في الدور البائد تسعة من الأتراك تحت اسم وعاظ لا يعلمون العربية فاشتغلوا سنين بالتجسس وبث المفاسد وبهذا تأصلت النفرة في قلوب القوم بدلاً من تأليف شاردهم وساعد على ذلك في الأكثر انحطاط طبقة اكثر الموظفين الذين يعينون في أمور الإدارة وبذلك زاد الأهلون مراناًَ على الاحتيال تخلصاً بزعمهم من فساد الحال وركنوا إلى شيخوهم على ظلم فيهم أكثر من حكومتهم التي تريد الخير بهم على الجملة وإن كانت لم تهتد إلى الطريق حتى الآن في اختيار الجياد من العمال.
كان الرجاء معقوداً بتأسيس حكومة الكرك أن تغدو عمالتها كلها بعد هذينم العقدين من(58/60)
السنين جنة لما خصتها به الفطرة من المواهب وتنقلب تلك الخيام السوداء كما قال أحد العرافين دوراً قوراء فأصبحت بسوء الإدارة بيوت ارزاء ولأواء.
كاد أولئك البادية يضعون ثقتهم بالحكومة يوم تولى أمرهم إداري يقيم نصاب العدل ويرفع عن عاتقهم عدوان زعمائهم الجاهلين ولكن جرى الأمر على عكس ذلك فأخذ السكان يستضعفون حكومتهم خصوصاً بعد أن قاموا منذ زهاء سنتين وهجموا على دار الحكومة وكان بلغهم أنها تريد إحصاء نفوسهم والحقيقة أنها كانت في صدد انتخاب نائب منهم يمثلهم في مجلس الأمة. ولو أحسن متصرفهم إذ ذاك التصرف صحت عزيمة الحكومة على إنزال العقوبة الشديدة بمن شقوا عصا الطاعة لما حدث اليوم أحدث فخرب العامر والغامر وتضرر الحاكم والمحكوم عليه.
فإن يوماً في فتنة يخرب ما لا يعمر في سنين. وعدل ساعة يحيي الأرض أكثر من كل قوة في غير محلها. فوا أسفاه لبلاد مثل هذه تؤوي الملايين من البشر يعيشون من تربتها سعداء وهي اليوم لا ينولها سوى ألوف لا يستفيدون منها ولا يفيدون وها قد زادت اليوم فوق خرابها خراباً. وكانت بالأمس مملكة ذات منعة وهي الآن بما تحيفها من الدمار عبرة لمن اعتبر فسبحان من يشقي ويسعد ويغني ويفقر.(58/61)
رثاء تولستوي
(تولستوي) تجري آية العلم دمعها ... عليك ويبكي بائس وفقير
وشعب ضعيف الركن زال نصيره ... وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم ... وأنت سراج غيبوه منير
يعانون في الأكواخ ظلماً وظلمة ... ولا يملكون البث وهو يسير
تطوف كعيسى بالحنان وبالرضى ... عليهم وتغشي دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه ... وللخادميه الناقمين قشور
أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه ... أناجيل منها نذر وبشير
وتبكيك ألف فوق (ليلى) ندامة ... غداة مشى (بالعامري) سرير
تناول ناعيك البلاد كأنه ... يراع له في راحتيك صرير
وقيل تولى (الشيخ) في الأرض هائماً ... وقيل (بدير) الراهبات أسير
وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه ... وللطب من بطش القضاء عذير
* * *
إذا أنت جاورت (المعريّ) في الثرى ... وجاور (رضوى) في التراب (ثبير)
أو أقبل جميع الخالدين عليكما ... وغالى بمقدار النظير نظير
جماجم تحت الأرض عطرنها شذى ... جناهن مسك فوقها وعبير
بهن تباهى بطن (حواء) واحتوى ... عليهن بطن الأرض فهو فخور
فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى ... فأنت عليم بالأمور خبير
أحطت من الموتى قديماً وحادثاً ... بما لم يحصل منكر ونكير
طوانا الذي يطوي السموات في غد ... وينشر بعد الطي وهو قدير
تقادم عهدانا على الموت واستوى ... طويل زمان في البلى وقصير
كأن لم تضق بالأمس عني كنيسة ... ولم يؤوني دير هناك طهور
أرى راحة بين الجنادل والحصى ... وكل فراش قد أراح وثير
نظرنا بنور الموت كل حقيقة ... وكنا كلانا في الحياة ضرير
إليك اعترافي لا لقس وكاهن ... ونجواي بعد الله وهو غفور
فزهدك لم ينكره في الأرض عارف ... ولا متعال في السماء كبير(58/62)
بيان يشم الوحي من نفحاته ... وعلم كعلم الأنبياء غزير
سلكت سبيل المترفين ولذني ... بنون ومال والحياة غرور
أداة شتائي الدفء في ظل شاهقداة شتائي الدفء أ ... وعدة صيفي جنة وغدير
ومتعت بالدنيا ثمانين حجة ... ونضر أيامي غني وحبور
وذكر كضوء الشمس في كل بلدة ... ولا حظَّ مثل الشمس حين تسير
فما راعني إلا عذارى أجرنني ... ورب ضعيف تحتمي فيجبر
أردت جوار الله والعمر منقض ... وجاورته في العمر وهو نضير
صباً ونعيم بين أهل وموطن ... ولذات دنيا كل ذاك نذور
بهن وما يدرين ما الذنب خشية ... ومن عجب تخشى الخطيئة حور
أوانس في داج من الدير موحش ... ولله أنس في القلوب ونور
وأشبه طهر في النساء بمريم ... فتاة على نهج المسيح تسير
* * *
تسائلني هل غير الناس ما بهم ... وهل حدثت غير الأمور أمورا
وهل آثر الإحسان الرفق عالم ... دواعي الأذى والشر فيه كثير
وهل سلكوا سبل المحبة بينهم ... كما يتصافى أسرة وعشير
وهل آن من أهل الكتاب تسامح ... خليق بآداب الكتاب جدير
وهل عالج الأحياء بؤساً وشقوة ... وقل فساد بينهم وشرور
قم انظر وأنت مالئ الأرض حكمة ... أأجدى نظيم أم أفاد تثير
أناس كما تدري ودنيا بحالها ... ودهر رخيٌّ تارة وعسير
وأحوال خلق غابر متجدد ... تشابه فيها أول وأخير
تمر تباعاً في الحياة كأنها ... ملاعب لا ترخى لهن ستور
وحرص على الدنيا وميل مع الهوى ... وغش وأفك في الحياة وزور
وقام مقام الفرد في كل أمة ... على الحكم جم يستبد غفير
وحوّر قول الناس مولى وعبده ... إلى قولهم مستأجر وأجير
وأضحى نفاذ المال لا أمر في الورى ... ولا نهي إلا ما يرى ويشير(58/63)
نساس حكومات به وممالك ... ويذعن أقيال له وصدور
وعصر بنوه في السلاح وحرصه ... على السلم يجري ذكرها ويسيل
ومن عجب في ظلها وهو وارف ... يصادف شعباً آمناً فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه ... ويؤوي جيوشاً كالحصى ويمير
ولما استقل البر والبحر مذهباً ... تعلق أسباب السماء يطير
أحمد شوقي.
رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى ... لمدحك من كتاب مصر كبير
ولست أبالي حين أرثيك بعده ... إذا قيل عني قد رثاه صغير
فقد كنت عوناً للضعيف وأنني ... ضعيف وما لي في الحياة نصير
ولست أبالي حين أبكيك للورى ... حوتك جنان أو حواك سعير
فإني أحب النابغين لعلمهم ... وأعشق روض الفكر وهو نضير
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس ... وهز لها عرش وماد لها سرير
وقال أناس إنه قول ملحد ... وقال أناس إنه لبشير
ولولا حطا لرد عنك كيادهم ... لضقت به ذرعاً وساء مصير
ولكن حماك العلم والرأي والحجى ... ومال إذ جد النزال وفير
إذا زرت رهن المحبسين بحفرة ... بها الزهد ثاو والذكاء ستير
وأبصرت أنس الزهد في وحشة البلى ... وشاهدت وجه الشيخ وهو منير
وأيقنت أن الدين لله وحده ... وأن قبور الزاهدين قصور
فقف ثم سلم واحتشم إن شيخنا ... مهيب على رغم الفناء وقور
وسائله عما غاب عنك فأنه ... عليم بأسرار الحياة بصير
يخبرك الأعمى وإن كنت مبصراً ... بما لم تخبر أحرف وسطور
كأني بسمع الغيب أسمع كل ما ... يجيب به أستاذنا ويحير
يناديك أهلاً بالذي عاش عيشنا ... ومات ولم يدرج إليه غرور
قضيت حياة ملؤها البر والتقى ... فأنت بأجر المتقين جدير
وسموك فيهم فيلسوفاً وأمسكوا ... وما أنت إلا محسن ومجير(58/64)
وما أنت إلا زاهد صاح صيحة ... يرن صداها ساعة ويطير
سلوت عن الدنيا ولكنهم صبوا ... إليها بما تعطيهم وتمير
حياة الورى حرب أنت تريدها ... سلام وأسباب الكفاح كثير
أبت سنة العمران إلا تناحراً ... وكدحاً ولو أن البقاء يسير
تحاول رفع الشر والشر واقع ... وتطلب محض الخير وهو عسير
ولولا امتزج الشر بالخير لم يقم ... دليل على أن الإله قدير
ولم يبعث الله النبيين للهدى ... ولم يتطلع للسرير أمير
ولم يعشق العلياء حر ولم يسد ... كريم ولم يرجو الثراء فقير
ولو كنت الخير فينا محضاً ما دعا ... إلى الله داع أن تبلج نور
ولا قيل هذا فيلسوف موفق ... ولا قيل هذا عالم وخبير
فكم من طريق الشر خير ونعمة ... وكم في طريق الطيبات شرور
ألم تر أني قمت قبلك داعياً ... إلى الزهد لا يأوي إليَّ ظهير
أطاعوا أبيكيراً وسقراط قبله ... وخولفت فيما أرتئي وأشير
ومت وماتت مطامع طامع ... عليها ولا ألقى القياد ضمير
إذا هدمت للظلم دور تشيدت ... له فوق أكتاف الكواكب دور
أفاض كلانا في النصيحة جاهداً ... ومات كلانا والقلوب صخور
فكم قيل عن كهف المساكين باطل ... وكم قيل عن شيخ المعرة زور
وما صدر عن فعل الأذى قول مرسل ... ولا راع مفتون الحياة نذير
حافظ إبراهيم.(58/65)
العدد 59 - بتاريخ: 1 - 1 - 1911(/)
الكواكب السائرة
من المخطوطات في التراجم التي تتصل بطبعها سلسلة تواريخ القرون كتاب الكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرة للنجم الغزي ومنه نسخة جيدة في الخزانة الظاهرية بدمشق دخلت في ثلاثة أجزاء وبلغ عدد أوراقها 164 بالقطع الكامل وفي آخرها جزء رابع جعله المؤلف ذيلاً على كتابه هذا وهو خمسون ورقة قال فيه أنه ألفه لتمام سنة ثلاث وثلاثين بعد الألف وهي السنة التي جاءت بكل عجائب قال وسميته لطيف السمر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر. وقد كتب الأصل والفرع في سنة اثنتين وستين ومئة وألف قال المؤلف بعد مقدمة طويلة: وإني طالما كنت أتشوق إلى تأليف كتاب يجمع التراجم المتأخرين من أهل المئة العاشرة من العلماء الأنجاب فلم أجد من تعرض لهذا المعنى أو دخل في هذا الباب غير أن الشيخ المحدث النحوي شمس الدين محمد بن طولون الحنفي ألف كتاباً جمع فيه تراجم أواخر المئة التاسعة وأوائل المئة العاشرة سماها بالتمتع بالأقران ولم اقف على مجموع هذا الكتاب وإنما وقفت على نحو كراسة منه فاستدللت بالصبابة على العباب ووقفت له أيضاً على الجزء الثاني من تاريخه الذي جعله لحوادث الزمان وسماه بمفاكهة الأخوان وأوله من مستهل سنة سبع وعشرين وتسعمائة إلى ختام سنة إحدى وخمسين فرأيته ذكر فيه وفيات من بلغه وفياتهم في تلك المدة لكنه لم يخرج فيه لتراجمه من عهده ذم وقفت بعد على الجزء الأول منه فرأيته ابتدأ فيه من أول سنة ثمانين وثمانمائة وهي سنة ميلاده وانتهى فيه إلى سنة ست وعشرين وتسعمائة وكنت قد وقفت قبل ذلك على قطعة من تاريخ كتاب الحافظ العلامة بدر الدين العلائي الحنفي في حوادث القاهرة من سنة سبع عشرة وتسعمائة إلى أواخر سنة أربع وثلاثين ثم وقفت على تعلقه بخط والده شخنا الشيخ الإمام الفقيه أبو الندى شرف الدين يونس العيثاوي الشافعي رحمه الله تعالى علق فيها وفيات شيوخه وبعض أقرانه وترجم أكثرهم فذكر من مآثرهم كل مترجم ما يليق بمقامه ومكانه ثم وقفت على قطعة صالحة من تاريخ العلامة شهاب الدين أحمد الحمصي الخطيب الشافعي الذي ضمنه من مهمات الحوادث والوفيات فإذا هو تاريخ عجيب فيه من تراجم القوم ما يغلو في السوم ويحسن له الانتخاب وتحريت فيه بقدر الطاقة والإمكان وجه الحق والصواب وسلكت بين طريقتي الإيجاز والأطناب لأنه أقرب لتناول المقتصدين وأنفع لمن يريد الكشف من أحوال(59/1)
المترجمين معتمداً فيما أنقله على خطوط هؤلاء المشايخ أو على خط من يوثق به من كل ذي قدر في العلم شامخ وقدم في الفضل راسخ أو على ما تلتقيه من أفواه المعتبرين وأخذته عن الفضلاء البارعين مما يدخل في تراجم الأعيان أو تاريخ مواليدهم أو وفياتهم بحسب الإمكان من أهل القرن المذكور من العلماء الأعلام بدمشق المحروسة وحلب وغيرها وبلاد الشام وعلماء القاهرة والحرمين الشريفين حسبما تيسر لنا مع التحري والاجتهاد في كل مقام وضممت إلى ذلك نبذة من تراجم أعيان التخت العثماني ووفيات أعيان الملك السلطاني ممن اتفقت وفياتهم فيما حدث من الزمان منتخباً لذلك من الشقائق النعمانية ومن رحلة والدي المسماة بالمطالع البدرية ومن غيرهما مما بلغني وتحققته وتلقيته عن الثقات وتلقنته وأضفت إلى ذلك أيضاً من تراجم سلاطين القرن المذكور وملوكه ليتم نظم الكتاب في قلائد عقاينه وسلوكه معتمداً في هذا النوع على كتاب الأعلام بما في مكة من الأعلام للشيخ العلامة المبرز عن الأقران القطب الحنفي المكي عرف بابن قاضي خان وعلى غيره أيضاً مما تيسر لنا الإطلاع عليه في هذا الشأن ثم اني وقفت بعد ذلك على تاريخ العلامة رضي الدين ابن الحنبلي الحلبي الحنفي المسمى بدر الحبيب في تاريخ أعيان حلب وهو كتاب مجلد ضخم ثخين مشتمل على الغث والسمين والتافه والثمين وربما فيه بعض التراجم بما لا يتعلق بالمرام وليس له بفن التاريخ التئام وربما أكمل الأسماء لئلا يخلو الحرف من التراجم بنقاش أو تاجر أو مغن أو مطنبر وعاشق أو معمار أو غيرهم من العوام فانتخبت منه تراجم بعض أعيان كتابه وضممتها إلى كتابي وأعرضت عما لم يقع اختياري عليه مما أتى به وليس في بابه حسبما قضى به تمييزي وانتخابي لأني وضعت هذا الكتاب على أسلوب أهل الحديث والإتقان ولم أرسمه كيف اتفق لا على أي وضع كان ثم وقفت على تاريخ مختصر للإمام المحدث المسند المعتبر ابي المفاخر عبد القادر المحيوي ابن النعيمي الشافعي سماه بالعنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان وقد ذيل عليه ولده العلامة المحيوي محي الدين فانتقيت منه الأغنى لكتابنا عنه ثم وقفت على طبقات الأولياء الكبرى والوسطى وكلاهما للشيخ القدوة الشعراني عبد الوهاب فانتقيت منه ما دخل في شرط كتابي من تراجم الصالحين الأنجاب مع ذكر من ذكرهم الشيخ العلامة الولي المحدث شرف الدين الكناوي من الصالحين ممن يدخل في شروط من تراجم(59/2)
المتعينين في شرح منظومته التي جعلها في تقييد منظومته التي جعلها في تقييد أسماء مشاهير الأولياء والعارفين ومع ذكر تراجم أعيان من أخذ عن شيخ الإسلام الوالد على العلماء والصالحين والبارعين ممن يدخل في شرك الكتاب أيضاً ملخصاً لذلك من جزء له كتب فيه تراجم جماعة من طلبته والملازمين فكان كتاباً جامعاً لزبد هذه الأمهات ملخصاً لمقاصد جامعيها من العلماء الأثبات وكل ذلك مع توفير القرائن وتهيئة الأسباب وتيسر الجمع والتأليف من قبل الكريم الوهاب وسمته بالكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرةوقد وقع الاختيار فيه بعد تقديم أسماء المحمديين على ترتيب حروف المعجم الواقعة في أوائل أسماء المترجمين وعلى تقسيمه إلى ثلاث طبقات الطبقة الأولى فيمن وقعت وفاته من أوائل القرن إلى ختام سنة ثلاث وثلاثين والطبقة الثانية فيمن وقعت وفاته من أول سنة أربع وثلاثين إلى ختام سنة ست وستين والطبقة الثالثة فيمن وقعت وفاته من أول سنة سبع وستين إلى نهاية سنة ألف اهـ.
وترجم صاحب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر المؤلف الغزي في ست ورقات ويؤخذ منها أنه ولد سنة 977 ونشأ على شيءٍ من الطلب وله مؤلفات منها هذا التاريخ ومنها شرحه على ألفية التصوف لجده وله كتاب في ترجمة والده. وله كتاب التنبيه في التشبيه قال فيه المحبي إنه كتاب بديع في سبع مجلدات لم يسبق إلى تأليفه وهو أن يذكر ما ينبغي للإنسان ما يتشبه به من أفعلا الأنبياء والملائكة والحيوانات المحمودة وما يتشبه من اجتناب ما يلزم فعله. وقال أنه خاتمة حفاظ الشام وكانت وفاته سنة 1061 عن ثلاث وثمانين سنة وعشرة أشهر وانتفع به أناس كثيرون وتلقوا العلم عنه.
إليك زبدة ترجمة المؤلف وعصره كما ترى ليس من العصور الراقية في الإسلام ولذلك تراه على فضل فيه مأخوذاً بمؤثرات عصره يخلط الجيد بالرديء أو يشوب الجيد الكثير بهنات لا تليق بمن كان مثله ولكن هو المحيط يعمل في عقل المرء ما لا يعمله كل تعليم وإرشاد.
خذ مثالاً لذلك ما رواه المؤلف في تراجم لأناس تستحي أن تعدهم من العامة لأن العامة أرقى منهم عقلاً وديناً ولعمري أي دخل لكتاب في تراجم أعيان قرن أن يدس في جملتهم أناس لأخلاق لهم خرقوا حدود الشريعة بدعواهم خرق العادات وعبثوا بعقول العامة فسرت(59/3)
بدعهم إلى الخاصة. قل لنا بأبيك أي داع للمؤلف أن يترجم أناساً من البله السخفاء أرباب الجذب مثل أبي بكر اليمني المجذوب وعبد الله الكردي المجذوب وشعبان المجذوب ومحمد المجذوب وعمر العقيبي المجذوب وابي بكر بن المجنون ومروان المجذوب وذي النون الكملاني المجذوب وأحمد أبو طاقية وفرج المصري المجذوب وخميس المجذوب وسويد ابن المجذوب وسويد المجذوب إلى غيرهم من المجاذيب والمجانين الذين هم أحرى بأن يجعلوا في دور المعتوهين من أن يحشروا في عداد العلماء العاملين أمثال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري والشيخ حسن البوريني والجلال السيوطي والسيدة عائشة الباعونية وغيرهم ممن كانوا منار الأمة في ذاك القرن.
تالله أن شيخ الإسلام زكريا والسيدة الباعونية لا يرضيان أن يذكر اسمهما مع أسماء أولئك الذين قضي عليهم باختلال تراكيب أدمغتهم وقضي على الأمة بصنع علماءها أن يقدسوهم ويتباركوا بهم فقابلوا ضعف العقول بضعف مثله والخلل بما هو أشد منه عاراً.
ما نظن عاقلاً يرضى بأن يعد في الأولياء سويد المجذوب وهو بإقرار المؤلف يتناول الحشيش فيغيب ويهذي ومثله تلك الطبقة من المجاذيب والمجانين وشيخنا المؤلف يقول للناظرين في كتابه اعتقدوا كما اعتقد بهؤلاء السخفاء.
وعلى ذلك فالكتاب ليس من الكتب المنقحة لأن المؤلف لم يشتغل بعلم التاريخ اشتغاله مثلاً بعلم الحديث ولذلك كان كحاطب ليل في بعض صفحات كتابه. وماذا تفيد الأمة ترجمة محمد بن مبارك القابوني مثلاً الذي ترجمه بأنه كان رئيساً في عمل الموالد! ندي الصوت حسنه بعيد النفس عارفاً بالموسيقى إلا أنه كان عامياً يلحن وكان أحد المؤذنين المشهورين بالجامع الأموي ورئيس المؤذنين بالدرويشية والسبائية.
إن نفس القارئ ثلج إذا قرأت ترجمة علي بن ميمون مثلاً وكان بعض أهل عصره يعتقدون فيه الخير والصلاح وهو على جانب من العلم فماذا يصر مؤلفنا لو كان اقتصر التعريف بمثله وبغيره من العلماء وأطرح من عداهم ممن لا غناء فيهم إلا تكبير حجم الكتاب وتلويثه بتلك الهنات ربما لا يقع كلامنا هذا الموقع المقبول من قلوب بعض من يحبون أن يحسنوا ظنهم بعباد الله أما المؤرخ والاجتماعي فلا يقنعه من الخلق أن يذكروا كلهم بالحمدة على قاعدة التساوي فيختلط صالحهم بطالحهم وعاقلهم بمجنونهم بل لا يرضى(59/4)
إلا أن يقدر كل واحد وما يعمل فقد قيل في بعض الآثار اذكروا الفاسق بما فيه وقيمة كل امرئ ما يحسنه.
إن ال قول بخرق العادة وتعدي نظام الطبيعة ليس هذا محل الجدال فيه وعلماء الإسلام أنفسهم على اختلاف بينهم فيه ومنهم من تكلم مجمجماً ومنهم من آثر السكوت والسكوت قد يضر في مثل هذا الموطن. أما كرامات الأولياء التي ينسبها بعض أحبابهم لهم وهم لا دعونها على الأغلب على نحو ما نسبوا أموراً للجيلي والرفاعي وغيرهما من العلماء فإنها تدخل في باب خرق العادة وهذه لا ينقل أخبارها إلا من يحملون بها في منامهم أو يقظتهم فإذا كان البشر نسبوا إلى أناس عرفت ترجمتهم على ما يجب أموراً لم يأتوا بها ولا قالوها أفما هم أحرياء أن يلبسوا مع ضعف المدارك على بعض الصالحين كرامات لم تخطر لهم في بال وهاك الآن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى فهو أصرح ما قرأناه وعساه يقف عنده المعتقدون ولا يفوتهم أن كل من قرأ قوانين الوجود وزكن معنى خرق العادة يستحيل عليه أن يؤمن بما نفاه علماء الإسلام حتى في القرون الوسطى قال ابن تيمية:
ومن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم بل قد أتى بما يناقض ذلك لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي الله فإن هذا إن لم يكن مجنوناً بل كان متولهاً من غير جنون أو كان يغيب عقله بالجنون تارةً ويفيق أخرى وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن كان مجنوناً باطناً وظاهراً قد ارتفع عنه القلم. وقال نقلاً عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة وقال أبي القاسم الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال لا يقتدى به وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول في كتابه القديم وإن تطيعوه تهتدوا.
وقال: نجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد أصدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشي على الماء أحياناً أو يملأ إبريقاً من الهواء أو ينفق(59/5)
بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته أو يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور وليس في شيءٍ من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيءٌ من هذه الأمور أنه ولي لله أن يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة مثال ذلك أن هذه المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة بل يكون ملابساً للنجاسات معاشراًَ للكلاب يأوي إلى الحمامات والمقامين والمقابر والمزابل رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف الخ.
وبعد هذا ننقل للقارئ نموذجاً من ترجمة المؤلف لرجل جليل في عصره وهو علي بن ميمون دفين مجدل معوش من أعمال شوف لبنان نورده بدون تذييل عليه ليستنتج القارئ لنفسه أن تلك الكرامات التي ينسبها المؤلف للمترجم لم يقل هو بها بل ادعاه له أحبابه ومريديه ومعظمهم قد يكونون مأخوذين بحبه لا ينظرون إلى الواقع إلا من وجه واحد قالالمؤلف ما نصه:
علي بن ميمون بن أبي بكر بن ميمون بن أبي بكر بن يوسف بن إسمعيل بن أبي بكر بن عطاء الله بن ميمون بن سليمان بن يحيى بن نصر بن يوسف بن عبد الحميد بن بلتززواز روق (؟) بن وسكرن بن عربه بن هلال بن محمد بن إدريس بن عبد الله ابن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم كذا في باقي النسب لترجمته ابن طولون الشيخ المرشد المربي القدوة الحجة ولي الله تعالى العارف به السيد الشريف الحسيب النسيب أبو الحسن ابن ميمون الهاشمي القرشي المغربي الغماري الفاسي أصله(59/6)
كما قال ابن طولون من جبل غارا بالغين المعجمة في معاملة فاس. وقال الشيخ موسى الكنناوي أصله من غمارة وسكن مدينة فاس واشتغل بالعلم ودرس ثم تولى القضاء ثم ترك ذلك ولازم الغزو على السواحل وكان رأس العسكر ثم ترك ذاك أيضاً وصحب مشايخ الصوفية ومنهم الشيخ عرفة القيرواني فأرسل الشيخ عرفة إلى أبي العباس أحمد التوزي الدباسي بالتاء ومن عنده توجه إلى المشرق قال الشيخ موسى فدخل بيروت في أول القرن العاشر وكان اجتماع سيدي محمد بن عراق به أولاً هناك ولما دخل بيروت مكث ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً فاتفق أن ابن عمران كان هناك وأتى بطعام فقال لبعض جماعته ادع لي ذلك الفقير فقام السيد علي بن ميمون وأكل وقال ابن عراق لأصحابه قوموا بنا نزور الإمام الأوزاعي فصحبهم ابن ميمون لزيارته ففي أثناء الطريق لعب ابن العراق على جواده كعادة الفرسان فعاب عليه السيد علي ابن ميمون فقال له أتحسن لعب الخيل أكثر مني قال نعم فنزل ابن عراق عن فرسه فتقدم إليها سيدي علي فحل الحزام وشده كما يعرف وركب ولعب على الجواد فعرفوا مقداره في ذلك ثم انفتح الأمر بينهما إلى أن أشهر الله تعالى الشيخ علي بن ميمون وصار من أمره ما صار.
قال الشيخ موسى كذا أخبرني علي الغرباني المغربي عن شيخه علي الكيزواني عن سيدي محمد بن عراق وقال في الشقائق أنه دخل القاهرة وحج مكنها ثم دخل البلاد الشامية وربى كثيراً من الناس ثم توطن بمدينة بروسا ثم رجع إلى البلاد الشامية وتوفي بها وقال كان لا يخالف السنة حتى نقل عنه أنه قال: لو أتاني السلطان أبو يزيد بن عثمان يفرش له جلدة شاة تعظيماً له وكان قوالاً بالحق لا يخاف في الله تعالى لومة لائم وكان له غضب شديد إذا رأى في المريدين منكراً يضربهم بالعصا قال وكان لا يقبل وظيفة ولا هدايا الأمراء والسلاطين وكان مع ذلك يطعم كل يوم عشرين نفساً من المريدين وله أحوال كثيرة ومناقب عظيمة انتهى.
وكان من طريقته ما حكاه عنه سيدي محمد بن عراق في كتاب السفينة إنه لا يرى لبس الخرقة ولا إلباسها وذكر الشيخ علوان رضي الله تعالى عنه أنه كان لا يرى الخلوة ولا يقول بها وكان إذا بلغه أن أحداً سبه أو ذمه ونسبه إلى جهل أو فسق أو بدعة يتأول ما يتأول عنه وكان بقال عنه كناز وكيماوي فيقول: نعم أنا كناز وعندي كنز عظيم ولكن لا(59/7)
يطلبونه ولا يسألوني عنه وأنا كيماوي ولكن لا يطلبون مت عندي من الكيميا وأنا مطالبي وعند مطلب نفسي مزهود فيه ويشير إلى كنز العلم ومطلب المعرفة وكيمياء الحقيقة وكان كثيراً ما يقول جواب الزفوت السكوت.
ومن وصاياه اجعل تسعة أعشارك صمتاً وعشرك كلاماً. وكان يقول الشيطان لأوحي وفيض فلا تغتروا بما يجري بنفوسكم وعلى ألسنتكم من الكلام في التوحيد والحقائق حتى تشهدوا من قلوبكم. وكان إذا أتاه متظلم من الحكام يقول: له أصلح حالك مع الله فمن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين خلقه وكان ينهى أصحابه عن الدخول بين العوام وبين الحكام ويقول ما رأيت لهم مثلاً إلا الفار والحيات فإن كلاً منهما مفسد في الأرض فالحيات مسلطة على الفار والفار مسلطة على الناس وكذلك العوام مسلط بعضهم على بعض فسلط الله تعالى الحكام عليهم وكما أنه لا بد أن يسلط على الحية قاتلاً يقتلها أو يأتيها أجلها سلط على الظالم ظلماً آخر وكان شديد الإنكار على علماء عصره وكان يسمي القضاة القصاة والمشايخ المسايخ والفقيه الفقيع من فقع اللبن إذا فسد. وكان من كلامه لا ينفع الدار إلا ما فيها وكان يقول أيضاً لا تشتغل بعد أموال التجار وأنت مفلس. وكان يقول اسلك ما سلكوا تدرك ما أدركوا. وكان يقول لا تخلطوا الحقائق ويستند بقوله تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل وكان يقول عجبت لمن كان يقع عليه نظر المفلح كيف لا يفلح. قلت وهو منقول عن سيدي أحمد بن الرفاعي رضي الله تعالى عنه.
وكان يقول يبصر أحمدكم القذاة في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه قلت هو حديث رواه الإمام أحمد من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه يبصر أحدكم القذى في ين أخيه وينسى الجذع وكان يقول كنزك تحت جدارك وأنت تطلبه من عند جارك.
وله كلام غير هذا وله من المؤلفات شرح الأجرومية على طريقة الصوفية وكتاب غرية الإسلام في مصر والشام وما والاهما من بلاد الروم والأعجام ورسائل عدة منها بيان فضل خيار الناس والكشف عن مكر الوسواس ورسالة الأخوان من أهل الفقه وحملة القرآن وكشف الإفادة في حق السيادة ومواهب الرحمن وكشف عورات الشيطان وتذكرة السالكين وتذكرة المنيب بأخلاق أصحاب الحبيب كذا في ترجمته لا بن طولون ومنها رسالة لطيفة سماها تنزيه الصديق عن وصف الزنديق ترجم فيها الشيخ محي الدين بن العربي وذكر في(59/8)
أولها أن سبب تأليفها أنه دخل دمشق في سنة أربع وتسعين وثمانمائة فسمع عن بعض أهلها استنقاص الشيخ محي الدين بعد أن زار الشيخ عبد القادر بن حبيب الصفدي بها في شعبان من هذه السنة وهوالذي عرفه بابن عربي ومقامه في الصالحية قال وكنت أسمع به في المغرب ولا أدري من حاله سوى أنه من أهل العلم والخير فقصدت زيارته فانتهيت إلى حمام يقال له حمام الجورة فسألت من الحمامي أن يفتح لي باب المقام فصعد من بعض جدرانه وفتح لي باب مقامه فوجدته ليس فيه أثر العواد وفيه عشب يابس يدل أن أحداً لا يأتيه إلى أن قال ثم قعدت عند قدميه الكريمتين كما ينبغي بل أقول قعدت على سوء الأدب إذ هو أن أقف خارج المقام بالكلية في مقام السائل المقتر لكن أخطأت واسأل الله تعالى بلطفه أن يتوب عليَّ من ذلك قال رأيت في مشهده قبره عند رأسه حجراً مكتوباً فيه قوله تعالى ادع إلى سبيل ربك الآية فعند ذلك قوي نور اعتقادي في الشيخ وتزايد نوراً على نور حتى ملأ ظاهري وباطني وكنت قصدت بلاد ابن عثمان رجاء الجواز من هناك إلى المغرب فدخلت برصة غرة المحرم سنة خمس وتسعين فلما كانت سنة تسع وتسعمائة خطر بنا إلى تقييد بعض كلمات في إظهار شيءٍ من محمود صفاته.
ثم ذكر رحمه الله ترجمة الشيخ ابن العربي رضي الله عنه ودل هذا الكلام منه على أنه كلن له اعتقاد زائد في ابن العربي وهو ما عليه أعيان المتأخرين من العلماء المحققين والصوفية المتعمقين رضي الله تعالى عنهم أجمعين ودل هذا الكلام منه أيضاً أنه رضي الله تعالى عنه في كتاب السفينة أن سيدي علي بن ميمون دخل دمشق سنة أربع وتسعمائة وذكر ابن طولون في كتابه مفاكهة الأخوان أن سيدي علي بن ميمون أول ما دخل دمشق دخل في أواخر سنة اثنتي عشرة وتسعمائة فهرع الناس إليه للتبرك به ونزل بحارة السكة الصالحية وصار بعمل بها ميعاداً ويرشد الناس.
وممن صعد إليه للأخذ عنه الشيخ عبد النبي شيخ المالكية والشيخ شمس الدين بن رمضان شيخ الحنفية وسلكا على يديه وخلف انتهى ولا تنافى بين هذا وبين ما تقدم لأن ما ذكره ابن طولون هو مبلغ علمه إذ لم يعلم بقدمة ابن ميمون الأولى والثانية حتى ذكر هذا الكلام وايضاً فإن سيدي علي بن ميمون لم يشتهر في بلاد المغرب بالعلم والمشيخة والإرشاد إلا بعد رجوعه من الروم إلى حماة سنة إحدى عشرة ومكث بهامدة طويلة ثم قدم منها إلى(59/9)
دمشق في سابع عشرى رجب سنة إحدى عشرة وتسعمائة كما ذكره سيدي محمد ابن عراق في سفيتنه وتقدم في ترجمة ابن عراق من هذا الكتاب.
قال ابن عراق وأقام يعني شيخه ابن ميمون في قدمته هذه ثلاث سنوات وخمسة اشهر وأربعة عشر يوماً يربي ويرشد ويسلك ويدعو إلى الله تعالى (كذا) سيدي الشيخ عبد النبي مفتي المالكية وسيدي محمد بن رمضان مفتي الحنفية وسيدي أحمد بن سلطان كذلك وسيدي عبد الرحمن الحموي مفتي الشافعية وسيدي إسماعيل الدنابي خطيب جامع الحنابلة وأبو عبد الرحمن قيم الجامع وسيدي عيسى القباقبي المصري وسيدي أحمد بن الشيخ حسن وجاره حسن الصواف وسيدي الشيخ داود العجمي انتهى.
قلت وكان ممن اصطحب منه شيخ الإسلام الجد رضي الله تعالى عنه وكان يحضر سيدي علي بن ميمون درسه ومجالسه فكان الجد رضي الله تعالى عنه يقول لا بن ميمون حين يحضر عنده يا سيدي علي أمسك لي قلبي أمسك لي قلبي.
وممن اجتمع به شيخ الإسلام الوالد وكان يومئذ في سن الثمان أو التسع لكنني لم أتحقق عنه أنه أخذ شيئاً أو لم يأخذ عنه وكان شيخنا الشيخ حسن الصلتي المقري يذكر أنه رأى سيدي علي ابن ميمون وحضر مجالسه فعلى هذا يكون بحمد الله قد صحبنا في طريق الله تعالى من صحبه.
ومن كراماته أنه حصلت بين رجلين من الفقراء المتجردين عنده منافرة فخرج أحدهما على وجهه فسمع الشيخ بذلك فقال لمن كان السبب في ذلك إما أن تأتي به وإما أن تذهب عني فلم يلبث يسيراً إلا والذي خرج على وجهه دخل على الشيخ وهو يبكي وذكر أن الشيخ تشكل له في صورة أسد وكان كلما توجه إلى طريق منعه من سلوكها.
ومن كراماته أن المطر حبس في دمشق في سنة ثلاثة عشر وتسعمائة فكتب سيدي علي بخطه درجاً إلى نائب دمشق سيباي فحضر النائب بالدرج إلى الجامع الأموي في يوم الجمعة رابع رمضان فقرأه على مفتي دار العدل السيد كمال الدين بن حمزة وقضاة القضاة الثلاثة الشافعي ابن فرفور والمالكي خير الدين والحنبلي نجم الدين بن مفلح فإذا فيه آيات من القرآن العظيم وأحاديث من السنة في التحذير من الظلم ثم انتقل إلى الفقهاء والقضاة فحذرهم من أكل مال الأوقاف ثم حث على الاستغفار وذكر ما يتعلق بذلك ومن نقل ذلك(59/10)
من السلف بحيث أن سيباي ذرف دمعه فهم فغي أثناء قراءة الدرج وقع المطر وجاء الله تعالى بالغيث كذلك ذكر هذه الواقعة ابن طولون وأنا لا أشك في أنها كرامة ظاهرة وانتقد ابن طولون على الدرج المذكور أن صاحب الترجمة تعرض فيه لذكر الشيخ تقي الدين بن قاضي عجلون ولذكر غيره ولامهم فيه على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنا أقول لا انتقاد عليه في ذلك أصلاً فإنه أراد النتيجة فأعلن أن الفتنة التي وقعت بين التقوي ابن قاضي عجلون وابن أخته السيد كمال الدين وبقية أعيان دمشق بسب هدم التربة كما تقدم شرحها في ترجمة السيد وغيرها أيضاً إنما كانت بسبب توجه سيدي علي بن ميمون بقلبه عليهم وتكدر خاطره ويؤيد ذلك أن هدم التربة المذكورة كان في ثالث رمضان المذكور ثم استفتي الشيخ تقي الدين في هذه الأيام في هذه الوقعة وأفتى بعدم الهدم ثم هاجت الفتنة بعد ذلك وانتشر شرها وتطاير شررها حتى طلب الشيخ تقي الدين وابن أخته قاصرون إلى السلطان الغوري بمصر وصودر بأموال كثيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم رأت ابن طولون ترجم سيدي علي بن ميمون في التمتع باقران وذكر من مصنفاته بيان فضل خيار الناس والكشف عن منكر الوسواس والرسالة الميمونية في توحيد الجرومية وبيان غربة الإسلام ورسالة الإخوان من أهل الفقه وحملة القرآن وكشف الإفادة في حسن السيادة ومواهب الرحمن في كشف عورات الشيطان وغير ذلك وقال قدم دمشق فلقاه الشيخ عبد النبي وأنزله حارة السكة بالصالحية وهرع الناس للسلام عليه طلبة العلم والفضلاء والعلماء والقضاة والأمراء وصار يسأل كلاً عن اسمه وينهاه عن ذكر اللقب إن ذكره ثم عن حرفته ويوصيه بتقوى الله تعالى ثم يوجه نفسه إلى القبلة ويرفع يديه إلى وجهه ويقرأ له الفاتحة ويدعو له ويصرفه وإن راى في ملبسه شيئاً منكراً ذكره.
قال ثم عقد للتسليك مجلساً في منزله فتلمذ له خلق من المذاهب الأربعة كالشيخ عبد النبي من المالكية والشمس بن رمضان من الحنفية والشهاب ابن مفلح من الحنابلة والزين الحموري من الشافعية وآخر من تسلك على يديه منهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عراق وشاع ذكره وبعد صيته وصار كلامه مسموعاً عند الأمراء خصوصاً نائب الشام سيباي ولهم فيه اعتقاد زائد.
ثم قال ابن طولون اجتمعت به وسلمت عليه ثم ترددت إلى مجلسه فما رأت عيني أعظم(59/11)
شأناً منه لكنه كان يستنقص الناس وقال احياناً ما رأيت في هذه المملكة اعلم من ابن حبيب الصفدي قال وكان ابن حبيب مشهوراً بمحبة ابن العربي وتبجح بها انتهى.
ومن كرامات ابن ميمون رضي الله تعالى عنه ما ذكره الشيخ علوان في شرح تائية ابن حبيب أن رجلاً من أعيان دمشق وفضلائها في العلم والتدريس قال بلغني أنه تفرس فيه أن لا يكون منه نتيجة وكان ذلك بعد أن تجرد ذلك الرجل وارتكب أنواعاً من الرياضة والمجاهدات وحكى السيد محمد بن سيدي علوان في تحفته قال أخبرني شفاهاً جمع ممن سكن قرية مجدل معوش التي هي قرية الشيخ وقبره فيها أنه كان في جوارهم وفي قريتهم كروم وقد يبست أغصانها وفسدت عروقها وتعطلت بالك لية فمذ دخل الشيخ المذكور تلك الأراضي عادت الأراضي المجدبة مخصبة وعادت أشجار العنب المذكورة أيضاً إلى أسحن ما يكون وأينعت ثمارها قال وهي مستمرة من ذلك إلى الآن إلى هذا الزمان ولم يعرف ذلك إلا من بركته.
وذكر أيضاً أن بعض أهل العلم حكى له وقد توجه لزيارة قبر سيدي علي بن ميمون رضي الله تعالى عنه في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة فقال أن من الغريب كرامات من أنتم متوجهون لزيارته ما شاهدته بعيني ذلك أن رجلاً من الأجناد أرسل كلباً قال أو صقراً على غزال فركضت الغزال حتى جاءت إلى الأرض التي هو مدفون فيها فدخلها واجتمعت في ظل الشيخ فقال للجندي دعها فإنها قد فعلت فعل العائذ بقبر الشيخ فلم يلتفت إلى مقالتهم وهي قائمة فلم تبرح من مكانها حتى أمسكها الجندي بيده وذبحها وأكل من لحمها فلما فرغ من أكله أخذه وجع في بطنه واستمر حتى مات من ليلته فلما غسل كان لحمه على المغسل مقطعاً قطعاً حتى كأنه أكل شيئاً مسموماً قالت فعلمت أنا وغيري أن ذلك كله من بركة الشيخ انتهى.
وكان سبب انتقال سيدي علي بن ميمون من دمشق إلى مجدل معوش وهي قرية من معاملة بيروت أنه دخل عليه وهو بصالحية دمشق قبض واستمر ملازماً له حتى ترك مجلس التأديب وأخذ يستفسر عن الأماكن التي في بطون الأودية ورؤوس الجبال حتى ذكر له سيدي محمد بن عراق مجدل المعوش فهاجر إليها في ثاني عشر المحرم سنة سبع عشرة وتسعمائة قال سيدي محمد بن عراق ولم يصحب غيري والولد علي وكان سنه عشر سنين(59/12)
وشخصاً آخر عملاً بالسنة وأقمت معه خمسة أشهر وخمسة عشر يوماً وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر جمادى الآخرة ودفن بها في أرض موات بشاهق جبل حسبما أوصى به قال ودفن بعده في خارج حضرته المشرفة رجلان وصبيان وامرأتان وأيضاً امرأتان وبنتان الرجلان محمد المكناسي وعمر الأندلسي والصبيان عبد الله وكان عمره ثلاث سنين وموسى بن عبد الله التركماني وامرأتان أم إبراهيم وابنتها عائشة زوجة الذعري والمرأتان الآخرتان مريم القدسية وفاطمة الحموية وسألته عند وفاته عن أمور منها أين أجعل دار هجرتي فقال: مكان يسلم فيه دينك ودنياك ثم تلا قوله تعالى إن الذين توفاهم الملائكة الآية وقال ابن طولون في حوادث سنة سبع عشرة وتسعمائة من تاريخه ويوم الجمعة تاسع عشريه يعني جمادى الآخرة بعد صلاتها بالجامع الأموي نودي بالسدة بالصلاة غائبة على الشيخ العالم السيد علاء الدين علي بن ميمون المغربي. قال وقد صح أنه توفي في ليلة الخميس حادي عشره بتل بالقرب من مجدل معوش وبه دفن انتهى. ولم يختلف قول سيدي محمد بن عراق في السفينة وقول ابن طولون والشيخ موسى الكناوي أن سيدي علي بن ميمون توفي في ليلة الحادي عشر من جمادى الآخرة غير أن في كلام ابن طولون أنه كان يوم الخميس وتقدم أنه كان يوم الاثنين وقول ابن طولون أصح لأنه أرخ وهو الحمصي وغيرهما مستهل جمادى المذكورة أنه كان يوم الاثنين فيكون حادي عشرة يوم الخميس بلا شك رحمه الله تعالى اهـ.(59/13)
ميزان المقادير في تبيان التقادير
تتمة ما ورد في الجزء الماضي
والقسم الثالث الذي يعتبر فيه المساحة الجسمية الكر المساحي من الماء
فهو كام أنه مقدر بالوزن كا مر مقدر بالمساحة أيضاً وأقول فقهاءنا رضوان الله عليهم فيه الأربعة. الأول سبعة وعشرون شبراً مكعباً حاصل ضرب ثلاثة عرضاً في ثلاثة طولاً في ثلاثة عمقاً وإليه ذهب الصدوقان وباقي القميين وهو ظاهر بن طاوس وصريح العلامة في المختلف وإليه مال بعض المتأخرين أيضاً كالشيخ علي رحمه الله في حاشية المختلف والثاني اثنان وأربعون شبراً وسبعة أثمان شبر حاصل ضرب ثلاثة ونصف عرضاً في ثلاثة ونصف طولاً في ثلاثة ونصف عمقاً وإليه ذهب الأكثر وهو المشهور والثالث نحو مائة شبر وإليه ذهب ابن الجنيد والمراد في هذه الثلاثة بلوغه المقادير المذكورة إذا ضرب بعض الأبعاد في بعض ومثلوا بالمكعب لتسهيل الفهم والرابع ما بلغ مجموع أبعاده عشراً ونصفاً. وليس المراد الضرب وإليه ذهب القطب الراوندي وعلى هذا القول ليس له قدر معين لا بحسب المساحة ولا بحسب الوزن ويكون له أفراد مختلفة غير متناهية بعضها منطبقة على بعض المذاهب الباقية وزناً أو مساحة ونسبوا إلى القولين الأخيرين في تكرير الكر الشذوذ ولزم على الأخيرين في تقدير الكر الشذوذ ولزم على الأخير أن يكون كف من الماء بل أقل إذا انبسط فيما يبلغ طوله وعرضه عشرة أشبار ونصف زائداً على الكر. وحوض مربع كل من أبعاده ثلاثة أشبار ناقصاً عنه وهذا بعيد جداً هذا ما أردنا إيراده من التفصيلات والآن نسوق الكلام في التتمات وبالله التوفيق.
(تتميم) اعلم أن الشيخ في آخر القانون ذكر بعض الأكيال والأوزان المعروفة في اليونانية ناقلاً بعضها من كناش ساهر وبعضها من كناش ابن سرابيون وقد نقلنا عنه في هذه الرسالة ما يحتاج إليه في الجملة حسب اقتضاه التعريف وطرحنا أكثرها لوجوه الأول أنها كانت على اللغة اليونانية الغير معروفة في هذه الأزمان ولا فائدة من تطويل الرسالة بذكرها إلا لفهم بعض ما في الكتب الطيبة مما نقل بعينه عن اليونانية وكذا بالفصل الذي ذكره في آخر القانون لتلك الفائدة ومعه لا يكون لذكرها في تلك الرسالة كثير فائدة والثاني أن نسخ القانون كانت مختلفة في أكثرها وفي تحقيق اللغات اليونانية مفيد. الثالث أم(59/14)
بعضها مما ذكره تأصيلاً متناقضة وفروع كثيراً منها على ذلك البعض فصارت أكثرها مضطربة غير محصلة وكان الشيخ نقلها من أصلها من غير تأمل وحساب فعرى كلها عن الفائدة لعدم الاعتماد.
ومن جملة الشواهد على ما ذكرنا أنه قال في موضع القسط الإنطاليقي رطل ونصف الرطل اثنتا عشرة أوقية انتهى في موضع آخر بعده بسطر والمن يكون أربعين أستاراً والرطل عشرين أستاراً. والأستار ستة دراهم ودانقان أو أربعة مثاقيل انتهى ففسر الرطل أولاً باثنتي عشرة أوقية في موضعها بسبعة مثاقيل فبلغ الرطل أربعة وثمانين مثقالاً. وفسره ثانياً بعشرين أستاراً أما بستة دراهم ودانقين فبلغ ثمانية وثمانين مثقالاً وكسراً وأما أربعة مثاقيل فيبلغ ثمانين مثقالاً فيضطرب قدر الرطل في كلامه بين كونه أربعة وثمانين مثقالاً وكونه ثمانية وثمانين مثقالاً وكسراً ومع ذلك لا ينطبق شيء من هذه الثلاثة على شيءٍ من تفاسيره المشهورة على ما ذكرنا في موضعه.
تتميم قد عرفت مما تقدم أن الدانق حقيقة هو سدس الدرهم الشرعي الذي هو عبارة عن شعيرتين فاعرف الآن أن الدانق والطسوج يطلقان مجازاً على سدس كل شيءٍ وربع سدسه مما اعتبر فيه الوزن أم لا كما هو المتعارف الشائع في زماننا فعلى هذا لما كان المثقال المعبر عنه بالدينار بارتفاق عبارة عن ثماني وستين شعيرة وأربعة أسباع شعيرة فيجب أن يكون دانقه هو سدسه الذي عبارة عن إحدى عشرة شعيرة وثلاثة أسباع شعيرة وطسوجه هو ربع هذا السدس الذي هو عبارة عن شعيرتين وستة أسباع شعيرة فتبين خطأ من قال أن الدانق المثقال اثنتا عشرة حبة وطسوجه ثلاث حبات إذا يلزم أن يكون المثقال اثنتين وسبعين شعيرة وقد عرفت أنه ثماني وستون شعيرة وأربع أسباعهم اللهم إلا أن يكون في المثقال اصطلاح آخر لم ينقل إلينا وكذلك تبين خطأ صاحب الشمسية في الحساب حيث توهم أن طسوج الدينار أربع شعيرات.
وقال يجب أن يعلم أن الدوانيق مخرجها من الدينار ستة والطساسج مخرجها من الدوانق أربعة ثم بسط الكلام في المثال وتحوير الكسر من مخرج إلى مخرج على هذا الحساب وهذا فاحش جداً إذا يلزم حينئذ أن يكون الدينار ستار وتسعين شعيرة ضعف الدرهم الشرعي وحكاية كون الدينار درهماً وثلاثة أسباع درهم وكون عشرة دراهم سبعة دنانير(59/15)
أشهر وأشيع من أن يحتاج إلى نقل الأسناد وتفصيل عبارات الأقوام وقد مر بعضها وكأن هذا الغلط صار مغلطة ليعض الحسابين أيضاً كصاحب قسطاس المستقيم حيث وافقه في ذلك واقتفى أثره بعض الناظمين أيضاً حيث نظم في بيان أجزاء الدينار شعراً:
هست شش دانك قدر ديناري ... ليك هردانك إذ طوسج جهار
هو طوسجي جهار جوهرجو ... شش خردل بود بوقت شمار
مع أن هذا الناظم قد نظم ما هو الحق أيضاً في بيان وزن الأستار وأجزائه فقال:
جار مثقال ونيم أسنادي ... هفت مثقال وده درم أي يار
درهمي وسه سبع بكمثقال ... حامش أكنون كه شد سخن بسيار
ولا يتوهم أن مناط ذلك الاختلاف ربما يكون قدر الدرهم ولعل فيه خلافاً تفرغ عليه ما وقعوا فيه إذ لا مجال لذلك التوهم لمن تتبع الآثار والأخبار وشيوع كونه ثماني وأربعين شعيرة قد جاوز حد التواتر حتى نظم ذلك النظم أيضاً ونقله صاحب القسطاس:
شش دان بود قدر درم يادت باد ... دانكيست دو قيراط جنين كفت أستار
قيراط وطسوج جه جون دانستي ... هربك ونها بعد يود بادت باد
وقد أخطأت أيضاً صاحب البهائية في الحساب هنا من جهة أخرى وزعم أن الدينار ستون حبة حيث قال في تعليل حفظ نسبة الستين لكون الدينار ستين حبة وكون الدرجة ستين دقيقة وكون الكرستين قفيزاً وكون الدرهم ستين عشيراً انتهى ثم كان مراده بالعشير عشر الدانق من حيث إطلاقه على عشر كل شيءٍ كما مر وإلا لم ينقل تفسير العشير بخصوص ذلك وظني أن منشأ هذه الأغلاط قلة تتبع الآثار والكسل في تصفح الأخبار والأخذ بكلام مجهول والاعتماد على خبر غير منقول.
تتميم قد ذكرنا أن الدراهم المشهورة المنقولة هي الدراهم الثلاثة البغلي والشرعي والطبري وذكرنا أن مورد الأحكام الشرعية منها هو الشرعي الذي وزنه ستة دوانيق وهو المدار عليه في باب زكوة الفضة وغيره المضبوط بالقراريط والطساسيج فكل ما وقعت من الدراهم المختلفة المغايرة له وزناً بحسب الأزمنة يقاس عليه بالحساب فأول نصاب زكوة الفضة مائتان من تلك الدراهم التي واحدها ستة دوانيق وزكاتها خمسة منها قد ربع عشرها الذي عبارة عن ثلاثين دانقاً فإذا فرض وزن الدرهم في ثلاثين دانقاً إلى ستة منها وإذا(59/16)
فرض في زمان أربعة دوانيق وسبعا دانق مثلاً يصير أول مراتب الزكوة حينئذ سبعة منها وهو ظاهر مما قلنا وعلى هذا القياس وكأنه قد كانت الدراهم في بعض الأزمنة السابقة على هذين القدرين اللذين ذكرناهما تمثيلاً يستفاد مما رو ى الشيخ الجليل رحمه الله في الكافي في باب العلة في وضع الزكوة على ما وضع على حبيب الخثعمي قال أبو جعفر المنصور إلى محمد ابن خالد وكان عامله على المدينة أن يسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزكوة من المائتين كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يسأل فيمن يسأل عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد عليهما السلام قال فسال أهل المدينة فقالوا أدركنا من قال قبلنا على هذا فبعث إلى أبي عبد الله بن الحسن فقال كما قال المستفتون من أهل المدينة قال: فقال ما تقول يا أبا عبد الله فقال: إن رسول الله صلى الله علبيه وعلى آله جعل في كل أربعين أوقية أوقيةً فإذا حسبت كل ذلك على سبعة وقد كان وزن ستة كانت الدراهم خمسة دوانيق قال حبيب: حسبناه فوجدناه كما قال فأقبل عليه عبد الله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا فقال: قرأت في كتاب أمك فاطمة عليها السلام قال: ثم انصرفت فبعث إليه محمد بن خالد ابعث لي بكتاب فاطمة عليها السلام فأرسل إليه أبو عبد الله عليه السلام إني إنما أخبرتك أني قرأته ولم خبرك أنه عندي قال حبيب فجعل محمد بن خالد يقول لي أرأيت قط مثل ذلك الحديث.
توضيحه أن السائل توهم أن المعبر في الزكوة هو العدد لا الوزن لما رأى من كثرة إطلاق الدرهم على المسكوك من الفضة من حيث العدد كما مر وهذا توهم شائع نقله العلامة في منتهى الطلب واستدل على خلافه بقوله وحكى عن بعض أهل الظاهر اعتبار العدد وهو خطأ للإجماع ولما روى أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواق من الوزن صدقة انتهى فبعثه هذا التوهم إلى أن يفتش عن كيفية شيوع سبعة دراهم في زمانه لأول مراتب الزكوة مع أنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خمسة دراهم غافلاً لا عن أن المعتبر في الزكوة هو الوزن لا العدد وأن دراهم زمانه مختلفة وزناً بالنسبة إلى دراهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأجابه أبو عبيد جعفر بن محمد عليهما السلام بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعل في كل أربعين أوقية يعني أن المعتبر في الزكوة ربع العشر بحسب الوزن لا بحسب العدد وذكر(59/17)
الأوقية تنصيصاً على ذلك إذ هي صريحة في الوزن لا يجري فيها توهم العدد فقال عليه السلام فإذا حسبت ذلك كان على وزن سبعة أي إذا اعتبرت ربع الشعر من حيث الوزن فيصير أول مراتب الزكوة وزن سبعة من دراهم هذا الزمان التي وزنها أربعة دوانيق وسبعا دانق ثم أوضح عليه السلام ذلك بنظير له من الدراهم التي كانت قبل زمانه فقال: وقد كانت وزن ستة دراهم خمسة دوانيق يعني وعلى هذا الحساب يصير أول مراتب الزكوة وزن ستة دراهم منذ كانت الدراهم خمسة دوانيق بحسب الوزن فلا اعتبار بالعدد والمعتبر هو الوزن فعدد الدراهم على أي وزن كان يحسب ويقاس على ما جعل رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم أصلاً في ذلك أي الدرهم التي كانت وزنها ستة دوانيق فأفهم.
تتميم من الأوزان الشائعة في زماننا المرجعة للباقية المثقال الصيرفي الذي عليه مدار المسكوكتين المحمدية والعباسية الرائجتين في هذه الأيام ينسب إليه المحمدية بخمسة دوانيق والعباسية التي ضعفها بمثله وثلثي مثله وعليه أيضاً مدار المنين التبريزي والشاهي المشهورين بين الأنام يكون التبريزي في زماننا ستمائة منه والشاهي الذي ضعفه ألفاً ومائتين وهذا المثقال مع أنه في هذا الزمان مرجع المقادير المذكورة ومقياس الأوزان المشهورة لم يضبط بالشعيرة وأمثالها ضبطاً مشاراً إليه ولم يحفظ حفظاً مداراً عليه فبعضهم كالعلامة رحمه الله كأنه ضبط بمائة وثلث شعيرة وألفين وثمانمائة وخمسة وثمانين جزءاً من خمسة وخمسة آلاف أجزءا شعيرة يستفاد من ضبطه الصاع صريحاً بخمسمائة وست وثلاثين مثقالاً وربع مثقال بالصيرفي فالرطل العراقي الذي يكون عنده وعند الجمهور من الخاصة تسعا من الصاع مضبوطاً حينئذ بتسعة وخمسين مثقالاً ونصف مثقال وثلث وربع مثقال.
ومعلوم مما مر أن الرطل العراقي عنده عبارة عن تسعين مثقالاً شرعياً ينتهي إلى ستة آلاف ومائة وإحدى وسبعين شعيرة وثلث سبع شعيرة فوجب أن تكون المثاقيل الصيرفية المذكورة التي ضبط بها ضبط الرطل عبارة عن تلك العشيرات فبالنسبة مثقال واحد صيرفي يلزم أن يكون عنده مائة وثلث شعيرة وألفين وثمانمائة وخمسة وثمانين جزءاً من خمسة وخمسة آلاف أجزاء شعيرة كما قررنا وبعضهم كالشيخ علي رحمه الله كأنه ضبط بمائة وأربع شعيرات وخمسمائة وخمسة وسبعين جزءاً من سبعمائة وسبعين جزءاً من(59/18)
شعيرة يستفاد من ضبطه الصاع والرطل صريحاً بمثل ما ضبط به العلامة مع تصريح بأن الرطل عبارة عن إحدى وتسعين مثقالاً شرعياً موافقاً الجمهور فينتهي إلى ستة آلاف ومائتين وأربعين شعيرة زائدة على عدد شعيرات رطل العلامة بثمانية وستين شعيرة وأربعة أسباعها قدر مثقال واحد شرعي هو تفاوت ما بين الرطلين فحينئذ وجب أن تكون المثاقيل الصيرفية التي بها ضبط الرطل عبارة عن هذه الشعيرات الزائدة على شعيرات رطل العلامة بما ذكرنا فبالنسبة مثقال واحد صيرفي يلزم أن يكون عبارة عن هذه الشعيرات الزائدة على شعيرات رطل العلامة بما ذكرنا فبالنسبة مثقال واحد صيرفي يلزم أن يكون عنده عبارة عن مائة وأربع شعيرات وخمسمائة وخمسة وسبعين جزءاً من سبعمائة وسبعين جزءاً من شعيرة كما قلنا ثم لا يخفى أن الشيخ رحمه الله أن لم يقتف في ذلك أثر العلامة وضبط ما صح عند فاتفاقهما صورة في قدر الصاع والرطل بالنسبة إلى المثقال الصيرفي مع ذلك الاختلاف معنى من غرائب الاتفاقات وأغرب من ذلك أن اقتفى أثره واعتمد على تصحيحه وظن نفسه متبعاً موافقاً له في ذلك وغفل عن تلك الدقيقة الموجبة للاختلاف وعدم الموافقة وبعضهم
من فضلاء العصر ضبطه صريحاً بست وتسعين شعيرة وبعضهم ضبطه بخلاف هذه المذكورات مما يوجب نقل التطويل.
وبالجملة لما رأيت هذه الاختلافات حاولت أن اضبطه بنظر دقيق وقصدت أن أحفظه بتأمل حقيق فتحقق عندي بتصحيحات قويمة وتفتيشات مستقيمة أن المثقال الصيرفي المتعارف في زماننا عبارة عن أربع وثمانين شعيرة قدر درهم وثلاثة أرباع درهم بالشرعي ولا تظنني مخطئاً إياهم ومصوباً رأيي أن في بعض الظن إثم حاشا أن أكون أهلاً لذلك ولكن اثبت ما ثبت لدى همة فكري القاصر وأديت ما وجب على ذمة ذهني الفاتر هذا مع أنه يجوز أن يكون في زمن العلامة والشيخ علي رحمهما الله قدر المثقال الصيرفي زائداً على قدره في زماننا بمقدار التفاوت الواقع في الضبطين وذكا الكلام في التفاوت القليل الواقع بينهما رحمهما الله بحسب زمانيهما وأمثال ذلك قد يكون متفاوتة في الأزمنة والأعصار ويؤيد ما قلت التفاوت الواقع في المن التبريزي في الزمانين حيث ضبط الشيخ علي رحمه الله المن التبريزي بخمسمائة مثقال صيرفي واليوم ولا شك ستمائة(59/19)
منه ويمكن أن يكون هذا التفاوت الواقع في المن بعينه مناطاً للتفاوت في المثقال بحسب الزمانين إذ خمسمائة من المثقال الذي ضبطه الشيخ قريب جداً من ستمائة من مثقال زماننا وحسبما ضبطناه وما يبقى من التفاوت قليل يمكن استناده إلى الميزان أو الشعير أو التسامح أو أمثالها.
تتميم اعلم أن أنواع الأجسام كما كانت المتساوية فيها وزناً قد تخالفت حيزاً فرطل من الماء مثلارً لا يملاً نصف مكان رطل من الشعير كذلك المتساوية منها بحسب الحيز تكون مختلفة بحسب الوزن فوزن صاع من الشعير مثلاً لا يبلغ نصف وزن صاع الماء وعلى هذا القياس سائر الأجسام حسبما اقتضت صورته النوعية من التخلخل والتكاثف والخفة والثقل وتحقيقه كما تقرر في موضعه أن نسبة وزن الخفيف إلى وزن الثقيل يكون كنسبة مكان الثقيل إلى مكان الخفيف بل قد يكون نوع واحد من الأجسام يختلف أشخاصه في ذلك بحسب المكنة والعوارض المختلفة كما لا يخفى فإن تقدير كل معين بوزن معين لا يتصور إلا بنوع من التخمين وضرب من التسامح فما قاله العلامة رحمه الله في التحرير الوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد والمد رطلان وربع بالعراقي إلى قوله وهذا التقدير تحقيق لا تقريب انتهى محل تأمل إذ تقدير المد عبارة عن كيل مخصوص بالرطل الذي هو وزن مخصوص لا يمكن بدون تقريب إلا أن يحمل على أن ما كانت هذه التقادير مستندة إلى الشارع فتكون بمنزلة التحقيق وإلا فمعلوم أن المد المعتبر في الوضوء لا يوافق المد في أجناس أخر كالحنطة والشعير وأمثالها المعتبر في الكفارات بحسب الوزن حتى يقدرا بشيءٍ واحد تحقيقاً فكأنه أراد الشارع توسعة وجعل ذلك الكيل المخصوص والوزن المخصوص في تلك الأحكام بمنزلة الواجبات التخييرية بأيهما أخذ المكلف برئ ذمته وإن اختلفا فاحشاً وإليه قول بعض الفقهاء في قدر زكوة الفطر هي بالكيل صاع وبالوزن ألف ومائة وسبعون درهماً انتهى.
فأشكاله بعد ذلك في صورة بلوغه كيلاً لا وزناً أو بالعكس للخفة والثقل كأنه مبني على الاحتياط هذا مع أن الروايات في التقادير مختلفة لا تأبى الجمع بينها بحمل كل منها عل جنس مناسب لكن لم ينقل من الفقهاء هذه الطريقة بل جمعوها من جهات أخر أو طرحوا بعضها لضعف السند وغيره على حسب اقتضاء قواعد الأصول حتى انتهى إلى(59/20)
الاختلافات بينهم متفرعاً على اختلافات أصولهم فاتخذ كل مذهب كما قلنا عنهم في التفصيلات.
تتميم المقادير الموزونة والمكيلة التي قدمناها مفصلة على قسمين قسم معتبر بخصوصه في الشرع مذكور في الأحاديث دائر على ألسنة الفقهاء وقسم ليس كذلك بل متداول بين الحسابين وعامة الناس والقسم الأول أيضاً على قسمين قسم معتبر عندهم على سبيل الأصالة كونه متعلق للأحكام وقسم ليس كذلك بل مذكور على سبيل التبعية وكونه مقياساً لشيءٍ آخر ومحدداً له فبالحقيقة ينتهي إلى ثلاثة أقسام. ولما كان القسم الأول منها أي المعتبر في الشرع أصالة مما اشتد \ ت حاجة المكلفين إليه من حيث ابتناء فتاوى فقهاءنا رضوان الله عليهم حولنا تسهيلاً عليهم تقويم ضابطة لبيان تلك المقادير خاصة متضمنة لكيفية نسبتها واحداً واحدا من الأوزان المعروفة في زماننا أعني المن التبريزي والمثقال الصيرفي والشعيرة وأجزاءها على ما وصفناه قبل فوضعنا جدولاً وأثبتنا فيه المقادير المعتبرة المذكورة وبينا أن كلاً منها كم يكون من المن ثم ما نقص عنه من المثقال ثم ما كسر عنه من الشعيرة وعلى هذا المقياس. وعلمان ما كان مجاوزاً عن بعض بعلامة البياض. وما كان مطفراًِ وغير بالغ إلى البعض بعلامة الصفر إيضاحاً للمقصود.
وهذا هو الجدول.
المن التبريزيالمثقال الصيرفيالشعيرةالخردلالفلسالفتيلالتعشيرالقطميرالذرةالهباءالدرهم المعتبر في زكوة الفضة وغيرها بالاتفاق0048الدينار المعتبر في زكة الذهب وغيرها بالاتفاق00683505115الكر المعتبر في باب الطنهارةعلى مذهب ابن بابويه222
148
146514
342
56324
72
53على مذهب الشيخينعلى مذهب العلامةالمد المعتبر في بعض الكفارات وغيرهاعلى أحد احتمالي مذهب البزنطي0(59/21)
0
0
0
092
91
165
167
37172
7
25
12
36
1
4
8
3
3
2
2
3
4
3
6
5
6(59/22)
1على أحد احتمالي مذهبهعلى مذهب العلامةعلى مذهب الجمهورعلى أحد احتمالي مذهب البزنطي
الصراع المعتبر في زكوة الفطور وغيرهاعلى أحد احتمالي مذ هبه0
1
1
37344
61
68
8529
18
48
600
510
11
44
12
53
83
4على مذهب العلامةعلى مذهب الجمهورعلى أحد احتمالي مذهب البزنطيالوسق المعتبر في نصاب زكور الغلاتعلى أحد احتمالي مذهبه36
66
66240
73
15466
39(59/23)
243
25
60
551
61
105
2على مذهب العلامةعلى مذهب الجمهورتتميم بظهر مما مر من التفصيلات إن الاختلافات الواقعة بين فقهاءنا رضوان الله عليهم قدر المد والصاع والوسق كلها مبنية على خلافين أحدهما قد قدر الرطل العراقي هل هو تسعون مثقالاً أو واحد وتسعون مثقالاً وهذا الخلاف قائم بين العلامة والجمهور وثانيهما هل في قدر المد هل رطل وربع أو رطلان وربع بالعراقي وهذا الخلاف قائم بين أبي نصر البزنطي وغيره من الفقهاء وهم يسندون إلى قوله الضعف والشذوذ قال العلاء: في التحرير وقول ابي نصر المد رطل وربع تعويل على رواية ضعيفة انتهى وقال الشهيد في البيان وشذ قول البزنطي أن المد رطل وربع فكون المد رطلين وربعاً بالعراقي هو رطل ونصف بالمدني مجملاً مع قطع النظر عن الاختلاف الواقع كالمجمع عليه بين فقهاءنا والروايات متضافرة على هذا المعنى دالة أكثرها أيضاً على ما ذهب إليه الجمهور في قدر الرطل روى الصدوق رحمه الله فيما لا يحضره الفقيه في باب الزكوة عن السكوني وليس على الحنطة والشعير شيء حتى يبلغ خمسمائة أوساق والصاع أربعة أمداد الاستبصار في أنه وزن مائتين واثنين وتسعين درهماً ونصف وروى الشيخح رحمه الله في الاستبصار في بابا ما هي زكوة الفطر عن إبراهيم ابن محمد الهمذاني اختلفت الروايات في الفطرة فكتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام أساله عن ذلك فكتب أن الفطرة صاع من قوت بلادك الخ وفي آخر الحديث ترفعه وزناً ستة أرطال برطل المدينة والرطل مائة وخمسة وتسعون درهماً ويكون الفطرة ألف ومائة وسبعين درهماً الحديث في باب مقدار الصاع فيه عن جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمذاني قال كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام على يدي أبي جعلت فداك أن أصحابنا اختلفوا في الصاع بعضهم يقول الفطرة بصاع المدني وبعضهم يقول بالعراقي(59/24)
فقال كتبت إلى الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة أرطال بالعراقي قال وأخبرني أن يكون بالوزن ألف ومائة وسبعون وزنة عن علي بن بلال في هذا الباب قال كتبت إلى الرجل اسأله عن الفطرة وكم يدفع قال فكتبت ستة أرطال من تمر بالمدني وذلك تسعة أرطال بالبغدادي. وفي باب مقدار الماء الذي يجري في غسل الجنابة والوضوء عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمد ويغتسل بصاع والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال وأما ما روي في هذا الباب من روايتين ظاهر هما خلاف ما ظهر من هذه الروايات فقد ذكر الشيخ رحمه الله هنالك مجه التوفيق فيهما فالأولى عن سليمان بن حفص المروزي قال قال أبو الحسن عليه السلام الغسل بصاعٍ من ماء وصاع النبي صلى الله عليه وعلى آله خمسة أمداد والمد مائتان وثمانون درهماً والدرهم ستة دوانيق والدانق وزن ست حبات والحبة وزن حبة شعير مكن أوساط الحب لا من صغاره ولا من كباره والثانية عن سماعه قال: سألته عن الذي يجزى من الماء للغسل فقال اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع وتوضأ بمد وكان الصاع على عهده خمسة أمداد وكان المد قدر رطل وثلاث أواق الحديث فقال الشيخ رحمه الله (الله لا يرحمو) في وجه التوفيق قوله في هذا الخبر الصاع خمسة أمداد وتفسير المد برطل وثلاث أواق مطابق للخبر الذي رواه زرارة لأنه فسر برطل ونصف فالصاع يكون ستة أرطال وذلك مطابق لذلك القدر فأما تفسير سليمان المزوري المد بمائتين وثمانين درهماً فمطابق للخبرين لأنه يكون مقداره ستة أرطال بالمدني ويكون قوله خمسة أمداد وهما من الراوي لأن المشهور من هذه الرواية الرابعة أمداد ويجوز أن يكون ذلك أخباراً عما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله اذا شارك في الاغتسال بعض أزواجه يدل على ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما قال سألته عن وقت غسل الجنابة كم يجزى من الماء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بخمسة أمداد بينه وبين صاحبته ويغتسلان جميعاً من إناء واحد انتهى فتوضيح توفيق الرواية الأولى على ما ذكره رحمه الله أنه في هذه الرواية الصاع خمسة أمداد على وهم الراوي لأن المشهور منها أربعة بدل خمسة فاذا كان الخمسة 761.(59/25)
السوريون في أميركا
لا يصح إطلاق اسم المهاجرين على السوريين الذين سافروا من بلادهم إلى أميركا لكونهم لم يهاجروا ديارهم كما هو المفهوم في معنى الهجرة وإنما يصح إطلاق لسم المسافرين عليهم لأنهم سافروا إلى أميركا للتجارة ولا للإقامة أو لمغادرة أوطانهم بتاتاً أو لجعل أميركا وطناً جديداً لهم أبداً.
وجعلهم طريق أميركا طريقهم المطروق ذهاباً وإياباً مما يثبت ذلك. وسل أياً كان من السوريين في أميركا الشمالية والجنوبية هل هجرت سورية. يقل كلا ما هجرتها إما غادرتها إلى حين_نزحت عنها طلباً للاكتساب وللإتجار ومتى نجحت ووصلت إلى غرضي عدت إلى وطني.
وأما أولئك الذين اشتروا الدور والأملاك في أميركا الشمالية فلم يشتروها لكي يقيموا في أميركا وإنما اشتروها ليتجروا بها ويكسبوا فالاتجار في الأراضي والعقار كثيراً ما يفيض على صاحبه ينابيع اللجين والنضار. وسل أياً كان من الملاكين السوريين في أميركا ألا تريد أن ترجع إلى أرض آبائك وأجدادك إذا تمكنت من بيع أملاكك بالربح يقل بلى أريد من قلبي ولكن دور العودة لم يأن بعد. وما يقوله الملاكون بهذا الباب يقول التجار والعمال والأطباء والصحافيون السوريون في أميركا.
وحجتهم على ذلك هي هذه الأمور (1) قلة العلة في الوطن (2) عدم المساواة (3) شدة التضييق والضغط (4) عدم وجود الأمن في أراضي سورية المهجورة وغير المهجورة (5) عدم وجود المعامل المهمة وقلة أبواب الرزق (6) كثيرة التثبيط وقلة التنشيط (7) كثرة القول وقلة العمل (8) الإبطاء الطويل والمماطلة في المعاملات.
هذه هي حججهم الرئيسية وحقهم أن يحتجوا بها. فإذا كانوا قاسوا مشاق الأخطار والأسفار حتى وصلوا إلى ديار اتسعت أبواب رزقها وكسبها وكثر عدلها وساد أمنها وعمت مساواتها وحريتها وسبق عملها قولها وكثير تنشيطها وقل تثبيطها_إذا كانت هذه حالة البلاد التي وطئتها قدم السوريين فحري بعقلائهم أن يغتنموا فرصة الانتفاع منها والعاقل العاقل من وجد الفرص فانتهزها والجاهل الجاهل من أظفرته بنفسها ولم يغتنمها.
السوريون المتخلفون منقسمون إلى أربع طوائف في هذا الموضوع. طائفة راضية عن سوريي أميركا. وطائفة غير مبالية بهم. وطائفة غير راضية عنهم وهي غير مخلصة.(59/26)
وطائفة غير راضية إلا أنها مخلصة.
أما الأولى فهي عامة الشعب وهي الأكثر عدداً وأما الثانية فهي التي لا يهمها عمرت البلاد أو خربت وأما الثالثة فهي التي يليق بها بأن تسمى بالطائفة المتعنتة لأنه لا يرضيها شيءٌ فهي أبداً تتذمر وتتأفف وتتفاخر وتباهي بأقدارها وتستصغر أقدار سواها كأنها خلقت من طينة سماوية وغيرها خلق من طينة أرضية.
وأما الرابعة فهي الطائفة المخلصة الغيورة على وطنها وهي القائلة بضرر سفر المهاجرين إلى أميركا بعرفي أو بضرر مهاجرتهم بعرفها، وعرف يرها.
والطائفة القائلة بفائدته هي عامة الأمة السورية فأيتهما أحق بقولها دعواها أتلك أم هذه؟
لا جرم أن دعوى الطائفة الراضية هي الأظهر والأحق وإليك البراهين.
غادر السوريون نزلاء أميركا اليوم القطر السوري جاهلين القراءة والكتابة فصاروا في أميركا يقرأون ويكتبون.
غادروها جاهلين كثيراً من آداب السلوك فصاروا في أميركا في آداب سلوكهم من الطبقة الأولى.
غادروها جاهلين السياسة الوطنية والأجنبية فصاروا في أميركا من أهل الإلمام بها وصاروا يفهمون معناها ومبناها ومغزاها ومرماها.
غادروها عديمي المعارف العمومية تقريباً فصاروا في أميركا ملمين بكثير من تلك المعارف.
غادروها جاهلين بأساليب التجارة فصاروا في أميركا من أهل التجارة.
غادروها جاهلين الصناعات العصرية فصاروا في أميركا عاملين بكثير منها.
غادروها جامدين خاملين فصاروا في أميركا ناهضين.
غادروها ونفوسهم صغيرة فصاروا في أميركا من أهل النفوس الكبيرة.
غادروها أذلاء فصاروا في أميركا أعزاء.
غادروها منقادين لأهل الاستبداد انقياداً أعمى فصاروا في أميركا منورين من دعاة الاستقلال الشخصي.
غادروها ولا صحافة لهم فصارت صحافتهم في أميركا أرقى الصحافات العربية في العالم(59/27)
العربي.
غادروها فقراء فصاروا في أميركا من أهل اليسار.
غادروها ولا مقام لهم فصاروا في أميركا من أهل المقامات.
غادروها ضعفاء العمة والعزيمة فصاروا في أميركا من أهل العزائم والهمم.
وهذا ليس ما كانوا عليه في سورية وبعض ما صاروا إليه في أميركا وأما ما أرسلوه من المال إلى سورية فهو أكثر من عشرة ملايين دولار أو مليوني ليرة إنكليزية ومن كان مشككاً بذلك فعليه بمراجعة مصرف لندن والمصرف العثماني في بيروت على الأخص.
منذ عامين سألت أحد العمال في مصرف أوهاما نبرسكا الأول وهو المستر نيسي الذي لا يزال حياً يرزق عن قيمة الدراهم التي أرسلها سوريو ولاية نبراسكا إلى سورية على يده من ذلك المصرف فقال: إن ما أرسلوه في شهر واحد بلغ ستين ألف دولار أميركي أي اثنتي عشرة ألف ليرة إنكليزية. فإذا كان هذا أرسله فريق من سوريي ولاية نبراسكا في شهر واحد فكم هي قيمة المبالغ التي أرسلها ويرسلها في غيره ولايات؟
وآثار ذلك المبلغ الكبير بادية لذي عينين في لبنان وغير ولايات سورية.
لما كنت في سورية كنت أرى بأم عيني المبالغ التي كانت ترد على أهالي راشيا الوادي وقراها فكانت تلك المبالغ وحدها تختلف في كل أسبوع بين الخمسمائة ليرة والألف بيرة حتى كثر المال في ذلك القضاء بين الأيدي وكثر الأخذ والعطاء وصار ربا الليرة في الشهر عشر بارات وعشرين بارة بعد أن كان قبل عهد السفر إلى أميركا لا يقل عن غرشين أو ثلاثة غروش.
والدور الجميلة التي يشاهدها الناس اليوم في الأقاليم والولايات والألوية والمديريات والأقضية التي لها علاقة بسوريي أميركا قد بنيت بمال هؤلاء ولولا هذا المال لبقيت بلدان وضياعكثيرة أقرب إلى الخراب منه إلى العمران ولولاه لما كانت قدرت الرعية على تأدية الأموال الأميرية لأن البلاد السورية ولاسيما في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين كانت بحاجة شديدة إلى المال. فالأشغال في ذلك العهد المظلم أمست في خبر كان. وكان الحكام والموظفون وأهل السلطة والسيادة قد اغتصبوا البقية الباقية من مال الأمة. ولم يبقوا لها إلا الموت ذلاً وفقراً وجوعاً وقهراً.(59/28)
وأما دعوى القائلين بأن ما ربحته سورية مالياً من طريق أميركا لا يوازي عشر معشار ما خسرته من شبانها ورجالها الذين ذهبوا فدية الغربة فأقول لهم أنه من البديهي أن من يموت في سورية يموت في أميركا. فالموت موجود في هذه الأمور كما هو موجود في تلك خلّ عنك أنه أقل بطشاً منه في سورية بدليل وفرة الوسائط الصحية في أميركا وقلتها في سورية والسوريون في أميركا محافظون عل صحة أجسامهم أكثر بكثير من محافظتهم عليها في سورية.
وأما القول بأن المال الذي فارق السوريون آباءهم وأمهاتهم وأقرانهم من أله لا يساوي لوعة أم على فراقة فلذة كبدها فهو قول أعده من تلك الأقوال العتيقة البالية التي كانت ومازالت من أسباب انحطاط الشرق والشرقيين.
اجتماع الولد بأمه وأبيه وأهله دائماً حسن وجميل ولكن هذا الاجتماع لا يصيّر الولد رجلاً ولهذا ترى رجال الشرق الذين يصح أن يقال فيهم أنهم رجال قلائل جداً بل لهذا السبب أصيب الشرق بقحط الرجال.
الأميركي يربي ولده ويعلمه وحينما يبلغ رشده يقول له واذهب إلى العالم وعاركه ودعه يعاركك وأما الشرقي فلا يعلم ولده ويلا يربيه تربية الأميركي ولا يعلمه تعليمه وإنما يخاف عليه إذا فارق بيته ولو إلى بضعة أميال وهو يعتقد بأن بعمله هذا يحبه ويغار على مصلحته وخير مستقبله وإن هذا هو أهم ما يطلب منه ولكن قد فاته أن هذا الخوف وعدم هذا الخوف يتوقف سقوط أمم وارتفاع أمم وإذا لم ينتفع سوريو أميركا غير هذا من أميركا فكفيهم لأنهم على هذا المبدأ يستطيعون أن يشيدوا بناء أمة عالية.
وأما الذاهبون إلى أن بقاعاً جمة من بقاع سورية قد خربت بسبب مهاجرة سوريي أميركا وأنهم لو ظلوا في بلادهم يتعهدون زرعها وضرعها وتعميرها لكانت درت عليهم وعلى سورية أنهار الثروة وكانت هذه الثروة أكبر بكثير من ثروتهم التي حصلوها في أميركا ولكانت تلك البقاع زاهية بالحضارة زاهرة بالعمران فهو مذهب فاسد من وجوه جمة.
هو مذهب فاسد لأن الطور الذي زايلوا فيه وطنهم كان طور الخراب. فكانت سماؤه وأرضه خرباً في خراب وجهاته الأربع خراباً بخراب ولم يستطع في أيامه سوريو أميركا وغير سوريي أميركا أن يثروا ولا أن يعيشوا على الأقل عيشة خالية من ضغط الظالمين(59/29)
وجورهم وتعدي الحاكمين واستبدادهم ولا أن ينسبوا كلمة في الإصلاح والعمران.
أما كان الفلاح يهجر أرضه ويقطع غرسه ويهمل ضرعه تخلصاً من الظلم؟ أما كان يترك داره تنعي من بناها كرهاً لا طوعاً لأن صبره قد عيل في تلك الأيام السوداء ولم يبق في وسعه أن يحتمل فوق ما احتمل بصعوبة لا يستطيع وحش بشري ولا وحش بري أن يطيقهما. لما هجرتم أوطانكم وخلانكم وأخدانكم وأخوانكم وأعز الناس لديكم وأحبهم إليكم يا أيها الأحرار؟ أهو لكونكم لم تقدروا على إطاقة ما لا يطاق أم لا؟ كنا نتوقع أن تكونوا عادلين في كتاباتكم عنا في أرض غربتنا. كنا ننتظر إنصافاً لا إجحافاً ولكن شئتم ومرؤتهم وغيرتهم كبار الآمال بل قضت الأقدار أن يظلمان حتى حماة العدل وكماة الفضل إلا أن الأيام بيننا وبينهم ولكل عصر أحكام.
والخلاصة أن سوريي أميركا لم يخربوا وإنما عمروا ودواعي الخراب المشهور في سورية عائدة إلى تلك الحكومة المشهورة أمرها وإن صح أن الذنب كله أو جله راجع على سوريي أميركا فلماذا فررتم أنتم من وجه الحكومة الجائرة قبل سوريي أميركا أو بعدهم ولم تبقوا في سورية لتصلحوا ما أفسده سواكم أو لتعمروا لا لتساعدوا على ازدياد الخراب.
أشاع والي بيروت وكثيرون غيره إشاعات عن سوريي أميركا لم نسمع بها إلا منه ومنهم ولعل الغيرة على مصلحة الدولة دعتهم إلى تلك الإشاعات. فإذا افترضنا وجود افتقار بعض السوريين في أميركا إلى القوت الضروري فإنه من المؤكد والمحقق وجود كثيرين من السوريين الغير (بضم الغين والياء) الذي يعنون بذلك البعض ويطمعونه ويسدون حاجاته وإن افترضنا أن السوريين لم يكترثوا بأخيهم الجائع فحكومات هذه البلاد الرحومة الشفوقة تعنى به وإن افترضنا أنها لا تعنى به فهناك جمعيات في كل ناحية من نواحي هذه الديار غرضها الاعتناء بالفقراء والمعوزين على أنني لم أسمع ولم يسمع غيري أن سورياً مات جوعاً من أول عهد السفر حتى يومنا هذا وكيف يموت السوري جوعاً وقلما فرغ كيسه من المال مهما تكن حالته وحرفته من أرض غربته. وأما القول بأن هذه الإشاعات هي نتيجة تقارير معتمدي الدولة العثمانية في أميركا فإننا لا ندري كيف أن هؤلاء المعتمدين يبعثون بتلك التقارير وهم لا يعرفون عن سوريي أميركا من حيث مجموعهم شيئاً تقريباً ولا يعرف السوريون عنهم سوى وجودهم في أميركا.(59/30)
أنا أكتب عهن السوريين لا عن سواهم من العثمانيين في أميركا وإذا كان هنالك جمهور من مهاجري أتراك سلانيك وأزمير وسواهما لم يفهموا كيفية التماس الرزق في أميركا من أبوابه وكان معتمدو الدولة في أميركا يعنون بإخوانهم الأتراك المهاجرين (؟) لأنهم أتراك ويهملون سواهم نهم غير أتراك ويرسلون في أحوالهم التقارير حباً بمصلحتهم وغيرة عليهم_فليس المعنى أن السوريين العرب في أميركا صاروا أتراكاً حتى يصح عليهم ما أذاعه عنهم والي بيروت اعتماداً على ما أرسله معتمدو الدولة في أميركا بهذا الباب.
أميركا:
يوسف جرجس زخم.(59/31)
مقابر المصريين وجنائزهم
في المقابر المنفية
ابتدأت المقابر بلحود تحت الثرى تدفن فيها الأموات بعد درجها في لفائف الأكفان إما مباشرة في جوف الأرض أو في جرار كبيرة من الخزف ويظن أنه سرى لهم ذلك اقتداءً بقابيل حين قتل أخاه هابيل وعجز عن مواراة سوأته فبعث الله غراباً لبرية كيف يواري سوأة أخيه ففعلوا مثله.
وأقدم الجثث ما وجد مقرفصاً على الهيئة التي خلقت بها في أحشاء الأمهات سولا الرأس فإنه يبقى منتصباً لا منطوياً بين الرجلين وقد وجد منها العدد الكثير في وادي القطار بجوار أطفيح من الجهة القبلية الشرقية وفي جهة أبي صير التابعة لمديرية الفيوم وفي نقاده والكوامل وأم الجعاب وجبل السلسلة.
ثم استعمرت اللحود لدفن الفقراء على تمادي الزمن وكان للموميات في بادئ الأمر ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى_يكون هيكل المومية مجتمعاً فترى فيه الركب منضمة إلى الصدر وموضوعة فوق الوجه وتلحد في القبر على جنبها الأيسر متجهة حو الجهة القبلية.
الحالة الثانية_يجمعون عظام الميت بعد تجريدها عن اللحم ويفصلون الرأس عن العنق بتحنيط الرأس وحفظه سليماً وذلك في بعض الموميات.
الحالة الثالثة_حرق بعض شيءٍ من الجثة أو حرقها كلها مع بعض الأثاث الذي يتهيأ لوضعه في القبر معها ثم يؤخذ رماد ذلك المحروق ويوضع في قدر.
وقد خالف الفقراء في صناعة اللحود ولو الثروة والأعيان فاتخذوا مقابرهم منحوتة في صميم الجبال وعلى الأخص في جبل لويه كالمقابر التي نراها الآن في جوار الأهرام في مديرية الجيزة فإنها آبار تبتدئ فوق صخر الجبل ثم بعد عمق يختلف بعداً وطولاً حسبما يشاؤن تنتهي بمنامة مستطيلة يوضع فيها تابوت الميت فهي بهذه الصفة لا تختلف عن مقابرنا الآن إلا بعمق الآبار وقد تكون البئر شبه منزل للمنامة غير ضيق فينحتوها في سفح الجبل ويتركون وجهتها الغربية عالية ويجعلون في آخرها منامة مربعة لدفن الميت فيها ويصورون في الجزء الأعلى الذي ترك فوق السطح على حافة البئر صورة الميت(59/32)
وبجانبه باب وهمي لإرشاد الروح (كما كانوا يعتقدون) عند نزولها من السماء إلى جثتها حيث ترى شبه صاحبها أمامها وباباً معداً لها فلا تضل الوصول إليها ويجعلون تحت هذا الباب الصوري مائدة من الحجر ينصب بجانبها مسلتان صغيرتان وقد كان يوضع فوقها الخبز المقدس والشراب ولحم الطيور مما هو مبين بقلم النقش على جدران القبر.
وإن كان الميت من أعيان الدولة أو من سراة القوم شادوا له مسطبة وهي بناء جسيم مرتفع كالهرم الناقص شكلاً أو كالهرم لمدرج الناقص ويجعلون فيها بئراً منحوتة في صخر الجبل يوصل إلى سرداب طويل يفضي إلى منامة معدة لمواراة جثة الميت فتكون المسطبة عبارة عن تركيب القبر ثم يرسمون في طول وجهتها من الأعلى نقوشاً تتضمن عنوان صاحب القبر ويكون تحت هذه النقوش المستطيلة عنوان باب المكقبرة محلى بالنقوش والصور الدالة على الميت وعلى أهله وذويه وتكسى ظاهر تلك المصاطب بنحيت الأحجار أو يبيتونها باللبن_وفي بعض الأحيان يجعلون لبعض المقابر المنحوتة في صخور الجبال قاعات بطرق متواصلة وعلى جدرانها دعوات وصلوات وصور مرسومة بالألوان كما ترى في مقابر سقارة فيستدل من تلك النقوش والصور على عقائدهم الدينية وعلى نسب الميت وسلسله حسب مرتبته في ألواح ترتيباً حسناً من قبيل الحلية والزينة للمكان وفي بعض الأحيان يجعلون أمام القبر أيماناً يعمل فيه مدخل يفضي فيه إلى المنامة_وأما الملوك فإنهم ميزوا مدافنهم عن مدافن الرعية بأن جعلوا تحتها أو في حجمها الأماكن اللازمة للجثة أو للأثاث والقرابين والصلوات وشحنوا في بعض الأحيان جداران هذه الأماكن الداخلية بالنقوش الدينية الصعبة المعنى وإليها الآن وجه الأثريون مباحثهم ورعايتهم لإيضاحها وحل مغمضاتها_وتبنى الأهرام بطريقة بسيطة جداً وهي أنهم يتفقون أولاً على الرسم المراد إيجاده من البيوت الداخلية وعلى ارتفاع الهرم وطول قاعدته وعرضها ثم يسلمون هذا الرسم الظاهر البيان إلى المهندس المعماري وهو يقوم بالعمل بقاً للأوامر الصادرة إليه فإذا أنجز الأشغال اللازمة في صخر الجبل من نحت وتفريغ شرع في البناء فيكسوا الأماكن الداخلية المراد كتابتها بالأحجار الملساء ثم يرتفع فوقها البناء فإذا ما علا فوق الأرض جعل البناء على هيئة المسطبة المائلة الأجناب أو المستقيم بحيث يجعلها ناقصة عن المقياس المطلوب بمقدار الكسوة الظاهرة التي يغطي بها الهرم بعد بناءه ومتى أتم(59/33)
المصطبة الأولى وأراد الشروع في الارتفاع بنى مسطبة ثانية فوقها أقل حجماً منها بحيث يجعل في الفضاء الذي ترك في المسطبة الأولى زلاقة للعمال توصل إلى المسطبة الثانية وهذه الزلاقة تقام بدون مونة وتملأ بالرمل والحصا ويستمر العمل من الزلاقة التي فوق الأرض إلى الزلاقة الثانية التي فوق المسطبة الأولى حتى تنتهي المسطبة الثانية ثم يشرعون في المسطبة الثالثة يجعلونها أقل حجماً من الثانية ويقيمون لها زلاقة بالكيفية السابقة وهكذا يستمر البناء في إقامة مسطبة بعد أخرى حتى ينتهي العمل بأخر مسطبة فتكون المساطب مدرجة بعضها فوق بعض ثم يهرمون المسطبة العليا ثم الثانية لها وهكذا يستمرون في ملئ الفوارغ الموجودة بين المساطب وبعضها متتبعين بعض الكسوة الحجرية من القمة إلى القاعدة حتى يتم الهرم أما الأهرام الباقية المقامة باللبن فإنها كالأهرام المقامة بالأحجار من حيث الوضع والرسم والأماكن السفلى ولا تختلف عنها إلا بالمادة لأنها تقام بوضع اللبن المصنوع بالطين وخلط القش بهيئة مدامك بعضها فوق بعض ويكون بين المدماك والآخر طبقة خفيفة من الرمل في مقام المونة لتثبيت اللبن فلا تدركه زلازل الأرض ولا تزعزعه الزوابع العواصف.
مقابر طيبة
هذه المقابر منحوتة في جوانب الجبل بوادي يعرف الآن ببيبان الملوك وبآخر يعرف ببيبان الحريم وغالب هذه المقابر يشتمل على طرقات وبيوت بعمد وفيها نقوش بألوان وبدون حفر تتضمن تقديم القرابين وإقامة الصلوات بناءً على ما هو مدون في كتاب الموتى المنقوش صورته على حيطان الأهرام.
ولا بد لكل قبر من الباب الوهمي لكونه يقوم مقام الإيوان الذي شاد أمام المقابر مشحوناً بالرسوم والنقوش وينقشون على هذا الباب توسلاً إلى أسوريس أو إلى (خونومو) أو مينو أو أمون أو بيتاح أو أتومو أو (رع) أي إلى معبودات منف وعين شمس التي عمت عبادتها في المدن والقرى في بعض الأقسام بعد أن كانت معبودات للحاضرات الشهيرة تلك هي أوصاف المقابر على وجه عام.
تشييع الجنازة
إذا حضر أحدهم الموت جهزوه مدة سبعين يوماً وهي المقررة عندهم للتحنيط ثم وضعوه(59/34)
فوق سرير جميل كالموجود منه بعض نماذج في المتحف المصري ووضعوا تحت هذا السرير أربعة قدور فيها أحشاؤه التي نزعت من جوفه وقت التحنيط ولكل قدر غطاء له صورة مخطوطة إما كرأس إنسان أو كرأس ابن آوى أو كرأس الباشق أو كرأس القود أي أنها تمثل أولاد حوريس الأربعة وهم (حور) و (أسيت) و (قبح سنو) و (ديوموتف) لمعهود لهم حفظ الأحشاء الضرورية للحياة وفي هذه الأثناء يكون القبر قد تهيأ واستعد للميت ويكون نعيه قد بلغ أحبابه ومعارفه حتى إذا أصبح الصباح وحان الوقت (أخفا رأسه في وادي الموتى واجتماعه بالأرض) حسب تعريفهم هنالك تحضر وفود الناس ويرفعون النعش فتقوم زوجته وخادماتها ويتعلقن بالنعش ويمنعن خروجه من البيت وتأخذهن عبرات الحزن فيبكين وينحن ويولولن فتجتهد الرجال في خلاص النعش ويخرجونه عنوة من باب داره ثم يسيرون به إلى القبر فتبتدئ الجنازة بطائفة من العبيد والخدم ومعهم القرابين وهي فطير وأزهار وجرار ماء وقارورات فيها شراب ونوافح عطر وطيور مجهزة فوق سلال وعجل يسحبه رجل ليضحي بكفارة للميت وعلب في بعضها مأكولات وفي بعض تماثيل صغيرة لازمة لروح الميت_ومعهم أيضاً صوان فيها صحاف فيها فاكهة حولها جريدة النخل الأخضر.
والطائفة الثانية تحمل الأثاث المعتاد كصناديق الملابس والأرائك التي تفتح وتغلق أو ذات المخادع والسرر الجميلة اللازمة للميت تليهم خدمة الإصطبل يقلون ربة كاملة الأدوات فيها الجعب والسهام ثم المبراخور يقود عربة يسحبها اثنان متن جياد الخيل. والطائفة الثالثة وهي أكثر عدداً من الطائفتين الأولى والثانية تقل القناني وصندوقاً لقدور الأحشاء ثم قدور الأحشاء نفسها فالوجه المستعار المصنوع من القوى والمصبوغ باللون الأزرق والمموه بالذهب ثم الأسلحة والقضبان وعصي الإدارة والقلائد والعجلان والنسور المبسوطة الأجنحة على هيئة الدائرة لوضعها فوق صدر الميت من قبيل الزينة ايام الأعياد ثم السلال والتماثيل الصغيرة وباشقاً برأس إنسان يرمز إلى الروح وقد يكون بعض هذه الأشياء من الذهب المصبوب والبعض الآخر مموه بالذهب حتى أن كل من رآها مارة أمامه أخذت ببصره لكثرة بهجها وبريقها.
والطائفة الرابعة فيهن النائحات يسرن بضجة وغواش وعبد يصب فوق الأرض من وقت(59/35)
لآخر بعض نقط من اللبن كأنه يشير إلى إرقاد التراب الثائرة ثم يعقبه قسيس متشح بجلد النمر ينثر بملعقة من الذهب العطر على جموع الخلق_ومن خلفه يأتي النعش وهو على شكل سفينة أسورس فيها نائحتا أسيس ونفتيس وفي مقعدها المحكم الوضع قد وضعت جثة الميت محجوبة عن العيون وحولها زوجته وأولاده يليهم أحبابه بأفخر الملابس وبيد كل واحد عصا يتوكأ عليها ثم يأتي جيران الميت سائرين بدون نظام وعلى هذا الترتيب تمر الجنازة في الطرقات المعوجة بنظام تام وفيها سفينة النعش فوق السحافة تسحبها الثيران وتسير الهوينا مستمرة على ذلك مدة ساعات.
فيما يحصل أثناء تشييع الجنازة
متى خرج النعش من بيت الميت كثر البكاء والنحيب وضجت النائحات المأجورة بالصراخ فيصحن ويقطعن شعورهن ويبدين من الأمور ما استوجب الزافرات والحسرات والأسف الزائد وهذا خلاف ما يحصل من أهل الميت وأحبابه فتراهم في صراخ وأنين وبكاء وعويل بالنساء نهم يتناوبن الرثاء والتأبين طائفة بعد أخرى ويقلن ما معناه:
إلى المغرب مسكن أسوريس. إلى المغرب أنت الذي كنت أحسن الناس وكنت تبغض الرياء فتجبن النائحات ويقلن المعبودات نفسها تنعيك لأنك ذاهب أيها الرئيس إلى المغرب.
هذا ما يحصل من طوائف النساء وأما ما يحصل من سائق الثيران التي تسحب النعش فوق الأرض فإنه يحث هذه الثيران ويقول لها:
إلى المغرب أيها الثيران السابحة للنعش إلى المغرب (إلا ثرى) أن سيدكم آت خلفكم فتجيبه الأحباب قائلين:
لقد أفل طالع الرجل العظيم الذي طالما أحب الصدق وكره الكذب اهـ.
ثم تستمر الجنازة بعد ذلك في سكوت تام برهة من الزمن وبعدها تصيح إحدى النائحات بالرثاء والندب فيجيبها النسوة بما يناسب ندبها وهكذا تسير الجنازة بين نعي ونحيب كما هو حاصل الآن في الجنازة وعلى الخصوص في الوجه القبلي وكل من سمع بالجنازة وجب عليه الإسراع بها مراعاة لخاطر أهل الميت ووفاءً بما تقضيه عادات البلاد وكذا كل من حضر قدم واجب التعزية والسلوان قائلاً إلى المغرب مضيفاً إليها_بعض عبارات تشف عن حسن خصال الميت وفضائله ومحاسن أعماله المبرورة وعما ناله من الرقي والشرف(59/36)
في دار دنياه. وقد يدرجون في تعازيهم ما يشير إلى فناء هذه الدنيا والى بقاء الآخرة والى التحفظ والوقاية من هول يوم القيامة. ومتى أقبلت الجنازة على شاطئ النيل نزلت حملة القرابين في السفن المعدة لهم ونزلت النائحات وعائلة الميت في سفن أخرى ويضعون النعش في مقعد السفينة بعد كساء ظاهره إما بالأنسجة المزركشة المدبجة بأنواع الألوان أو بستار من الجلد المصبوغ بالألوان والمصنوعة صناعة جميلة تشهد لصانعها بالفضل والذوقالسليم وفي أثناء جواز النيل يكون الناس وقوفاً في السفن ووجوههم نحو النعش وفيما أسلفنا القول أن هذا النعش صنع على النمط الفلكي السري الذي أعد للمعبود أسوريس وأقيمت له عبادة في مدينة العرابة ويعرف عندهم باسم نشميت أي مبرقش بنقط سود ونقط بيض أو المرفوع الذكر. وهو رقيق الجسم خفيفة وشكله مستطيل وفي مقدمته ومؤخره زينته من المعدن على هيئة زهرة اللوتس وكلاهما مائلاً ميلاً خفيفاً إلى الأمام يخالهما الرائي أنهما ينوءان لثقل ما في السفينة وما في وسط هذا الفلك مقعد مزين بباقات من جريدة التنخل الأخضر فتطوف حوله زوجة المتوفى وأولادها نائمة ويكون معها قسيسان عليهما لباس وعصابات كزي المعبودتين لاسيس وتفتيس ومحلهما خل ف النعش لوقايته وي قف القسيس المترئس على الجنازة أمام النعش وبيده مبخرة يحرق فيها البخور وتكون سفينة النائحات خلف سفينة النعش.
أما باقي السفن فإنها تسبح على مقربة منها بقوة المجاديف وقوة الرجال وهذا التشييع يعرف عندهم بالرحلة أو الانتقال إلى الدار الاخرة فإذا ما رسا النعش على الشاطئ استقبله جموع الناس بالتبجيل والإكرام مودعين له قائلين:
لقد حان لك الدخول بسلام في القبر فعليك منا السلام فاذهب بسلام إلى العرابة واهبط بسلام نحوها ونحو الغرب اهـ
ولقد لكان لجواز النيل عندهم شأن عظيم لأن الانتقال من هذه الدنيا إلى دار الآخرة تختلف أحواله عند الأمم أما المصريون فقد عرفوا المكان الذي تذهب منه الأرواح لدخولها في دار البقاء وهو عبارة عن فجوة في الجبل الواقع غربي العرابة المدفونة ولا يتأتى للأرواح العبور منه في سفينة أسوريس ومن ثم كان عبور الميت للنيل هو استعاد روحه وتأهبها لتوجهها نحو الفجوة الآنفة الذكر وهناك تترقب مجيء الشمس في سفينتها فمتى أقبلت بما(59/37)
فيها من طائفة المعبودات نزلت فيها وسبحت في السماء مخترقة باللجة السماوية برسومها في أثناء ذلك أما حالة في جثتها ومحلاة بملابسها المعتادة كأنها حية في دار دنياها أو يجعلها نائمة في نعش حوله النائحات والقسوس ومن خلفها سفن مشحونة بالقرابين ولقد ذهب اليونان بناءً على ما بلغهم من الروايات إلى أن أغنياء المصريين كانوا يفضلون دفنهم في العرابة بجانب أسوريس هي البقعة المباركة عندهم ولكن علمنا من بعض جثث أولئك الأعيان الذين قيل بدفنهم في العرابة أنهم ملحودون في مقابرهم التي أقاموها في ثمنف أو في بني حسن أو في طبيعة فاتضح أن الرحلة المنصوص عنها في النقوش المصرية القديمة سهي للروح لا للجسد - ولنرجع إلى أمر الجنازة فنقول أن جموع العالم تصيح أثناء تشييع الجنازة وتقول: إلى المغرب إلى المغرب دار الحق لقد نعاك وبكاك الملكان الذي كنت تهواه وتقول النائحات بسلام بسلام اذهب بسلام أيها الممدوح إلى المغرب سنراك إن شاء الله يوم الحشر لأنك ستذهب الآن إلى الأرض التي تمزج الناس بعضها ببعض.
ثم تصيح الزوجة قائلة يا بعلي يا أخي يا حبيبي قف واستقر في مكانك ولا تبتعد عن المكان الدنيوي الذي انت فيه واوجيعتاه مالي أراك ذاهباً إلى السفينة لتجتاز النهر - يا أيها الملاحون لا تسرعوا به بل دعوه لأنكم ستعودون إلى منازلكم أما هو فراحل إلى دار الخلود_لماذا أتي أيتها السفينة الأسورسية ونزعت مني هذا الذي يفارقني؟؟
أما الرملاحون فلا يعبأون بهذه العبارات المحزنة ولا يعيرون لها أذناً واعية بل يقولون كن ثابتاً فوق سطح السفينة لأنا اقتربنا إلى الشاطئ.
ومتى أقبلت السفينة المقلة للنعش بقوة وتصادمت بالشاطئ ربما يقع منها بعض الرجال في النهر وذلك لما تأتي باقي السفن وترسو بجانبها يتساقط منها في لجة النيل بعض القرابين لشدة تلاطمها بالشاطئ لكن لا يفلت أحد لذلك بل يستمر الأحباب في تأبينهم ورثائهم قائلين
ما أسعد هذا الممدوح حيث ساعده الحظ فتوجه إلى الراحة في قبره الذي أعده لنسه وسينال من المعبود الرحمة الواسعة فيسمح له بالذهاب إلى المغرب محفوفاً بالخدم من جيل لآخر_وهذا الرثاء لا يمنعه عن البكاء والعويل.
ثم إنهم يخرجون الموميا من السفينة ويضعونها ثانياً فوق السحافة وتنتظم الجنازة في سلكها(59/38)
الأول وتسير في هذا النظام إلى سفح الجبل وهناك يتعذر على الثيران سحب النعش فتحمله الرجال فوق أعناقهم ويسيرون به الهوينا إلى باب بالقبر المعد لدفنه حيث يجدون هناك نوع مسطبة يوضع النعش عليها فينصبون صندوق الميت فوق كثيب من الرمل ويجعلون وجهه نو جموع العالم كأنه حلبيته الجديد صحبة أحبابه وكبأنه قد تأهب لوداعهم للدخول في سكنه الجديد هنالك يتجدد البكاء والعويل وتعلو الأصوات بالنحيب والأنين ويرتفع الصياح والصراخ ويأتي أهل الميت بالأزهار فيضعونها فوق صندوقه ثم يعانقونه ويوعونه فتقول الزوجة:
أنا أختك أيها العظيم فلا تتركني فهل تقصد حقيقة أيها الأب العزيز أن أتباعد عنك؟ متى فارقتك صرت وحيداً فهل لك من أنيس يرافقك - أنا أخاطبك أنت الذي كنت تود المزاح معي مالي أراك ساكبتاً لا تتكلم اهـ
تكون جاريها في هذا الوقت جاثية خلفها فتقول:
ها قد أخذ سيدي مني وترك خدمه
ثم تقول النائحات
نوحوا عليه نوحوا وابكوه بلا انقطاع وصيحوا بأعلى أصواتكم (وقولوا) أيها الحالة العظيم المتوجه إلى أرض الخلود لقد نزعت منا فالآن نخاطبك أنت الذي كنت تحب حراك رجليك للمشي مالنا نراك مغلولاً مقيداً مكفناً أنت الذي كان لك الكثير من الملابس الفاخرة وكنت تحب القماش الأبيض مالنا نراك الآن راقداً في ثيابك (التي كانت عليك) بالأمس
لقد أصبح الذي يبكيك (كأنه) يتيم الإمام والقلب محترقاً عليك لما أصابه من الحزن وحائماً حول جثتك
وفي أثناءالبكاء والعويل على الميت يحرق القسيس البخور ويهرق التراب ويقول (هذا) لجثتك أيها المتوفى فلان الصادق القول لدى بالمعبود العظيم عند ذلك تختف الموميا في جدثها وتستقر في ظلمات القبر إلى دهر الداهرين
ولما كان القبر مسكناً للميت كمساكن الدنيا للأحياء رأوا أن يجعلوا سفيه أماكن للزينة ومصلى يأتي فيها أهل الميت بالقرابين والضحايا في كل يوم عيد وفيه أماكن خصوصية لا يدخلها سوى جثة الميت ويزينون داخل تلك الأماكن بالرسوم والكتابة بعد تمليطها ملاطاً(59/39)
لطيفاً يظهر محاسنها ويجعلون تلك الرسوم ألواحاً متعاقبة يعلو بعضها بعضاً بهندام ونظام حتى تصل إلى السقف فيصورون حرث الأرض والزراعة والحصيد وتخزين الغلال وتربية الحيوانات وصيد البر والبحر ومعامل النجارين وصناع العربات والنقاشين والصناعة والزجاجين والخبازين وتحضير الطعام واستعاد الموائد مرفقة بالأغاني ورقص العوالم ول ذلك طلاسم يعتقدون أنها تتحول إلى حقائق بسر صيغ يتلونها ليتمتع به الميت في قبره فإن اشتهى شيئاً يتغذى فما عليه إلا أن يختار ما شاء من الأبقار أو الأشياء الأخرى المرسومة في قبره ومتى وقع نظره عليها تحولت إلى حقيقة وتلذذ بها كما كان يتلذذ في دار دنياه تلك هي عقائدهم التي ساقتهم إلى زخرف المقابر ولذلك ترى في رسومهم صورة صاحب القبر قد أخذت فخذ الثور من يد خادمها وتغذت منه هذا بما تفعله أموات فقرائهم.
أما أموات الأغنياء وأرباب المظاهر فإنهم لا يحتاجون غالب الأحيان في أوائل موتهم إلى شيء من المرسوم على جدران القبور لأن أهلهم وذويهم يقدمون لهم في المواسم وغيرها ما تشتهيه أنفسهم من المآكل والمشارب فيذبحون الضحايا من بقر وإوز ويقدمون بالنبيذ والجعة وغيرهما إلى أمون أو سوريس أو فتاح أوخونسو فيأخذ المعبود شيئاً منها لنفسه ويرسل الباقي إلى الميت المراد تلك القرابين ومن ثم وجدت الأوقاف على الموات وبنوها على شروط كانوا يبرمونها مع قسوس المعابد هؤلاء يقدمون ما هو موقوف للقبر من الأشياء ويقومون بالصلوات والدعوات في الأوقات المعينة وعليه كانت العنابية بإحياء ذكر الأموات من الأمور المهمة عندهم لكن مع وجود هذه العناية ومرور المدد الطويلة على الأوقاف كان ينتهي أمرها بالانقطاع إما لانقراض العائلة واندراسها أو تبديد الأوقاف عقب الانقلابات الكبيرة وبذلك ينقطع الوارد عن الميت فعندئذٍ لا يجد أمامه إلا ما هو مرسوم فوق جدران قبره لكن كيف يتسنى للميت لقيام والقعود واستمرار الحركة مع أن الموت أفقد ذلك والتبصير حول جثته إلى جسم حراك له ولا قدرة فلا يستطيع المشي ولا بالتكلم ولا النظر ولا تأدية شيء من الوظائف التي عليها مدار الوجود فلأجل خلاص الجثة من هذه المقيدات المعطلة لعامة حركات الجسم أوجدوا طريق يسمونها (فتح الفم) وهي أن رئيس القسوس وأعوانه وهم أولاد حوربس يوقفون الجثة المحنطة فوق كثيب من الرمل في آخر(59/40)
المصلى المعدة لها ويقرأون عليها الصيغة المقدسة السرية التي تلاها حوريس على جثة أسوريس ثم يطهرونها بالماء القراح وبالماء الأحمر ويبخرون الجنوب وبالشب الوارد من الوجه البحري كما يفعل لتمايل المعبودات عند الشروع في تقديم الضحايا لهم ثم يعملون له العمل اللازم لإيقاظه من السبات والأمانة ولخلاصه من لفائف الأكفان ويرجعون له الظل الذي تقلص منه وقت خروج روحه ويبردون إليه جميع حركاته فيصير جسمه المحنط حياً في عقيدتهم فيتغذى ويتنعم في ديار دنياه فإذا كان الجزارون يذبحون ثور الجنوب ويقطعونه بعد دفن الميت أسرع القسيس بتناول فخذ الثور وبتقديمه لفم الوجه المستعار الموضوع فوق رأس الجثة المحنطة لاعتقاده أنها حية وأنها تتناول شيئاً من ذلك ولما يجد عدم الفائدة يأخذ ألة من خشب لها أنصال من حديد ويشير بها على فمخ الجثة مريداً بذلك فتح فمها ثم يتلو صيغة على الموميا فيصبح في استطاعتها حسب عقيدتهم الذهاب والإياب والسمع والكلام وتناول شيءٍ من القرابين التي تقدم لها بل تستطيع أن تدعو كل من رافقها في يوم الجنازة إلى أول وليمة تقدم لها في قبرها بعد الدفن وذلك أنهم متى وضعوا تابوت الجثة في منامتها أتت العبيد بالقرابين وبالقدور الأربعة التي فيها أحشاء الميت والصناديق والأثاث والمأكولات التي أحضروها مع الجنازة فيتلو عليها القسيس صلاة معلومة عندهم بعد وضعها في القبر ثم يخرج من عندها ويقيم عليها البناؤون سداً محكماً في نور المشاعل وبعد تنجيز هذا العمل تقدم العبيد مائدة للحاضرين أمام القبر أو في المص لى فيحضر في هذه الوليمة تمثال الميت المرسوم رسماً بارزاً في آخر القاعة الثانية ويتوهمون أنه يتناول ما يخصه من هذه الوليمة حسب عقيدتهم القاضية بأن للأشياء روحاً وشبحاً كما للإنسان والحيوان فمتى ذهبت الموميا إلى قبرها تلبسها الحياة وتتمتع بفضائلها كما كانت في دار دنياها فالشيخ الموهوم للكرسي أو للسرير هو كرسي وسرير حقيقي لجثة الإنسان المدفونة فيتمتع بهما ويتلذذ بما يقدم من الشراب واللحوم لعالم الجنازة كما كأنها حية معهم وبينما يكونون مغمورين في ملاذ المطاعم تشتغل النساء بالرقص والقصف ويشرن في أغانيبهن تارة إلى الميت وطوراً إلى الأحياء مع مراعاة السجع فيقلن:
اكتسب حظ يومك ما الحياة إلا لحظة اكتسب حظ يومك لأنك متى دخلت قبرك مكثت فيه مكوثاً أزلياً إلى دهر الداهرين.(59/41)
فإذا انقضت هذه الوليمة تأهب الجموع للرحيل فعندئذ يقوم العواد أمام بيت التمثال وبيده العود ويشرع في نشيد الأغاني القديمة فيقول ما معناه:
الدنيا دار انقلاب وتجدد مستمر إذ الأمر الذي قضى به أسوريس المعبود الكبير من الغرابة بمكان وهو أنه من حسن القضاء (والقدر) إنه كلما فني جسم وانقضى حل غيره مكانه وهذا معروف من قديم الزمان (كيف لا) وأن الفراعنة الأول الذين كانوا يعبدون ودفنوا في أهرامهم ودفنوا معهم في تلك الأهرام جثثهم وأشباحهم تركوا ما كان لهم من مقاعد القصور التي شيدوها فانقضى نحبهم فلا تيأس (أيها الحي) بل اتبع شهواتك وسرورك قدر ما تستطيع وطول ما تعيش في هذه الدنيا فلا تضني نفسك إلى أن يأتيك اليوم الذي يتوسل فيه الإنسان إلى أسوريس صاحب القلب الثابت فلا يسمع له_كل بكاء الناس لا يفيد الميت الذي في قبره فاكتسب حظ يومك ولا تهمل ما فيه مسرتك فلم يستطع أحد أخذ شيءٍ من أمواله إلى دار آخرته ولا أحد ذهب إليها وعاد اهـ.
أما اعتقادهم في الجثة فبعضوهم يقول أنها تبقى في القبر مرتابة الوجود قليلة التحمس بنفسها فلا تبرحه إلا إذا انقطع عنها وارد المؤونة أي القرابين التي تقدم لها من لدن أهلها واعتراها الجوع ويحكون نهم يرونها هائمة في القرى وتلقي بنفسها بشراهة على البقايا الموجودة فوق الأرض وعلى أقبح القاذورات ويحدث عندها القحط عوامل الغيظ وحب الانتقام من الأحياء الذين أهملوا أمرها فتهجم عليهم وتعنفهم وتجدد فيهم الأمراض_ويحكون أيضاً أن بعض الجثث أو أشباحها مع تقديم القرابين لها والقيام بما يلزمها فإنها شرسة الطبع فتحملها شراستها على اضطهاد أقرب أهلها فقد جاء عنهم في الآثار أن رجلاً أحسن معاشرة زوجته واقام لها جنازة فاخرة يوم وفاتها وأوقف لها أشياء كثيرة إلا أنها تقصده بالأذى فكانت تأتيه كل يوم بهيئات فظيعة ولم يتيسر له الخلاص من سوء أعمالها فلما فرغت جعبة صبره ولم يستطع تكبد هذا التعنيف المستمر كتب لها جواباً ذكر لها فيها حسن المعاشرة والتودد الذي كان بينهما وسألها عن الأسباب التي دعتها إلى هذه الأعمال السيئة فقال لها ما تعريبه:
منذ صرت زوجاً لك إلى هذا اليوم ما الذي فعلته نكاية فيك وأخفيه عنك ماذا تفعلين حينما أعترف (أمام الرب) بما فعلته لك يوم عرضنا عليه أمام مجلسه حينما أدافع بنفسي عن(59/42)
مظلمتي أمام معبودات الآخرة ويحكم عليك بناء على ما أحرره لهم في مظلمتي من مساويك (أخبريني) ماذا تفعلين اهـ.
ثم أنه علق هذه الكتابة في تمثال من خشب على هيئة المرأة ووضعه في قبر زوجته فلما وصلها هذا الجواب خافت من لقاء ربها ومحاسبتها أراحته من تعنيفها_وكثير منهم يقول أن الروح تغادر قبرها وتهاجر إلى أرض أخرى كائنة خلف الفجوة الآنفة الذكر وهي الواقعة في جبل العرابة وفي تلك الأرض ممالك حقيقية للأموات كل مملكة تحت رعاية معبود مثل خنتامنمتي وبتاح سكري وأسوريس وهذه المعبودات تقتبل أرواح المصريين الذين عبودهم في دار دنياهم فكل من توسل مثلاً إلى أسوريس كان تابعاً له وفي ملكته وكل من انتمى إلى بتاح سكري كان من أتباعه وفي مملكته وسمى وميق أسوريس أو وميق ختيامتي_وأمر تلك الممالك وأكثرها سكاناً مملكة أسوريس وهي عبارة عن جملة جزر نرى من هذه الدنيا أكتافها الظاهرة فجهتها البحرية الشرقية السماء ووجهتها الشرقية المجرة وزهي الشهيرة بآم النجوم. ولا يمكن الوصول إليها إلا بعد سفر دونه مشاق وأخطار فمتى غادرت الروح جدثها جعلت ظهرها نحو الوادي وزجت بكل جسارة وجرأة في أغوار الصحراء فتصادفها إحدى الجميزات الباسقات هناك في وسط الرمال وتعرف عند فلاحيهم بالشجرة المسحورة فتشاهد بين أفنانها أما المعبودة (نيت) أو (حاتحور) أو (نوت) فتقدم لها هذه المعبودة صفحة بها خبز وأخرى بها ماء فكل روح قبلت هذه العطية كانت من أتباع هذه المعبودة ولا يمكنها الخروج من مملكتها إلا بإذنها ورضاها ويوجد فيما وراء الجميزة بلاد محفوف بالمخاوف مشحونة بالثعابين والحيوانات الضارية وفيها سهول فيها حميم وأباطح تسكنها نسانيس كبيرة تصطاد \ الرواح بالحبائل يحكون أن كثيراً من الأرواح وقعت في تلك المخاطر فهلكت أما ما يكون منها محصناً بالتمامئم والتعاويذ متوقياً بسر الطلاسم السحرية القوية فإنها تقتحم الأخطار وتنجو منها حتى تصل إلى شاطئ بحيرة تسمى (خا) فتشاهد هناك الجزائر السعيدة فيأتيها بحوت على شكل طائر أبيس المعروف (بأبي نحس) ويأخذها على جناحه أو يأتيها الملاح المقدس ويأخذها في سفينته إلى أن يأتي بها إلى أسوريس فيسألها هذا المعبود أمام أعضاءه وهم اثنان وأربعون قاضياً عن أعمالها في دار دنياها ويناقشها الحساب ويزن قلبها تحوت في كفة ميزانه وحينئذ تأتيها معبودة(59/43)
يقال لها (معيت) أي العدالة فتلقنها الاعترافات السلبية لتتبرأ كم كل تهمة توجهت إليها ثم تدخل بعدئذ في رياض يقال له (سخيت أيالو) في زمرة الأرواح السعيدة وهي أراض طيبة الخصوبة يعلو فيها القمح إلى سبعة أذرع بما في ذلك السنابل التي تبلغ ارتفاع الواحدة منها ذراعين.
والموتى هم المكلفون بزراعته وجمع محصولاته وتخزين الغلال وقد ينوب عنهم في هذا العمل الشاق تماثيل صغيرة توضع بجانب جثثهم في القبور ويقال لها (شبتى) أي المجيبة وقت نداء صاحبها لمباشرة أعمال الفلاحة في حقل (أيالو) المذكور في الأوقات المعينة أما باقي أوقاتها فتكون في ولائم مستمرة وفي أغاني ومسامرات ومسرات لا نهاية لها.
وكثير منهم يقول ببطلان هذه العقيدة وفسادها لما فيها من الخشونة والفظاعة وهؤلاء كانوا يجتهدون في الوقوف على الحقائق وينسبون للأرواح درجة أشرف وأرقى من ذلك.
وكان لكهنته (أمونرع) مذاهب في حقيقة ما تؤول إليه الروح وكلها ضروب من تخمين اللاهوتيين لا دخل لأفراد الشعب فيها ومضمونها أن الإنسان سيبعث بعد موته ولا يعلم سر ذلك إلا الله الخفي اهـ.(59/44)
الرأي الصريح
في مقال الفصيح العامي والعامي الفصيح.
قرأت في الجزء العاشر من مجلة المقتبس مقالاً بعنوان الفصيح العامي والعامي الفصيح لحضرة الفاضل نعوم أفندي مكرزل صاحب جريدة الهدى التي تصدر في نيويورك. قرأته بلهف شديد لأني أميل بسائق من طبعي إلى المباحث اللغوية نقد كلام البلغاء وتميز القول الفصيح من الغث الركيك. ليكون لي من ذلك مادة استعين بها. وقاعدة أحتذي مثالها: أقدمت على تصفح هذه المقالة وأنا معجب بأولئك النفر من أخواننا العرب المسيحيين الذين هاجروا وطنهم ولكنهم لم يهجروا لغتهم. ولم يذلوها في غربتها. بل رفعوا شأنها وحفظوا كرامتها. بما نشروه من الجرائد. وبجوه من الرسائل والكتابات المفيدة. وحضرة نعوم أفند=ي من هؤلاء الأفاضل الذين خدموا لغتنا العربية بما نشروه في جريدة (الهدى) التي لم أك من قراءها وإنما كنت أقرأ أحياناً نبذاً منها في صحافتنا العربية أما مقال (الفصيح العامي) الذي قرأته أخيراص في مجلة المقتبس فقد رأيته أقل قدراً من أن يعزى إلى صاحب جريدة (الهدى).
ولاحظت فيه ركاكة في التعبير. وضعفاً في الأسلوب. ومواضع للنقد والمناقشة بلغت من الكثرة مبلغاً جعلتني استبعد أن تكون فرطت من قلم كاتب المقالة وإنما هو الذهول غلب على مصحح أصولها في إدارة المقتبس فجاءت هذا مشوهة المحاسن. طامسة المعالم. وإن لم يكن الأمر كما ذكرت فيكون الوسط الأعجمي الذي يعيش فيه أخواننا المهاجرون أثرت رطانته في صراحة لغتهم. وبدلت عجمته من عروبة ألسنتهم. وإلا فكيف قرأ مقالاً لواحد من أشهر كتابهم في نقد لغة الكتاب وتعداد أغلاطهم في أساليبهم وتراكيب كلامهم. وإرشادهم إلى الطريقة المثلى في التعبير والتحبير. ثم بعد هذا كله نسمع في المقال نفسه من الركاكة والغموض والعسلطة ما لا يتفق وجوده في عشرات المقالات. ألا يكون هذا من الغرائب؟
لو اقتصر الكاتب على الموضوع الأهم من مقالته: وهو سرد الكلمات العامية التي يحتسبها الكتاب دخيلة وهي عربية فصيحة ثم حضهم على استعمالها لكان أجاد وأفاد. لكنه ذهب في أفانين القول كل مذهب وتعرض لنصح المنشئين والزراية عليهم والإنشاء العالي فسقط في(59/45)
هذا التعرض من عل وأتى بأشد مما نهاهم عنه. وحذرهم منه. ولامهم عليه.
ولا يكون من الإنصاف بعد هذا أن لا نذكر نموذجاً مما نؤاخذ الكاتب فيه. ثم نلفت أنظار القارئ إلى:
أول ما يؤخذ عليه قوله في العنوان (الفصيح العامي والعامي الفصيح) فإنه تكرار لأحسن فيه. ولا داعي له: إن كلمتي (العامي) و (الفصيح) في هذا التركيب وقعتا صفة لمحذوف كأنه يقول (اللفظ الفصيح في أصله العامي في استعماله) ولما عكس وضع الكلمتين كان المعنى (اللفظ العامي في استعماله الفصيح في أصله) وه نفس المعنى المستفاد من التركيب الأول فكان ذكره زيادة مستغنى عنها. وليس تغليب الكلمتين هنا كما هو في قلوهم (كلام الملوك ملوك الكلام) فإن هذا القول له معنى خاص لا يستفاد إلا بمجموع التركيبين وقد حمل أحدهما على الآخر. أي أن لكلام الملوك ميزة على سائر كلام الناس كما أن للملوك ميزة على الناس أنفسهم. فالمعنى المستفاد من الموضوع والمحمول حسن في ذاته. وزاده حسناً قلب التركيب وعكس الألفاظ حتى استحق بذلك أن يعد في جملة أنواع البديع.
ثم بعد هذا العنوان أراد الكاتب أن يبين مبلغ حاجتنا إلى معجم لغوي يجري في تحليل الألفاظ مجرى معاجم اللغات الأوربية فافتتح الكلام بقوله: (ليس في اللغة العربية معجم واحد يستحق أن يدعى نجعة الرائد يوفر الشواهد وكثرة الفوائد وضبط الشوارد ولا في غير اللفظة ما يدل على إزالة الإبهام الخ) فقوله (ولا في غير اللفظة) غامض في اتصاله بما قبله مبهم في تعيين المراد منه.
ثم قال: (فترى أكثر الكتاب يتخرصون فيما لا يعذرون عليه ويتوهمون أن البيان في الدخيل والحوشي والبلاغة في العقيم والوحشي وأن كل من هرف عرف).
الكاتب الذي خط قلمه هذه العبارة هو الذي قال بعد سطرين (قد تهتأ ثوب اللغة حتى كاد يسقط من تقطعه فترى كل من تحيف بيانه عجمة وجدل عن ادعاء ومكابرة يتحف الفصيح ويستلب البليغ ويحرك خشاشه غضباً على كل ملك من اللغة عناناً وضبط لها بياناً ويكون لا يدري من أي الدهداء هو الخ) إذا سالت معاجم اللغة عن معنى ما ورد في هذه الجملة قد تجد أن معنى (تهتأ) تقطع وبلى. لكنك إذا سالت نفسك عما فهمته منها تجدها لا تحير جواباً. ولا تملك خطاباً. وإذا ألحقت عليها بالسؤال تقول لك يلوح لي أن الكاتب الفاضل(59/46)
يريد أن يوبخ أدعياء اللغة والإنشاء الذين ينتقصون غيرهم. ويعمون عن عيوب أنفسهم.
إذا قلنا أن المصحح سها عن تصحيح كلمتين أو ثلاث فهل يعقل أن يكون ركبه السهو في كل جمل المقالة فحرفها تلعب بها. ودونك هذه الجملة الأخرى: وقليل من البحث يرجعها_أي الكلمات العامية_إلى أصلها. ويقيم مكن اللسان مناداه. على ما وقع من نحو خمسين عاماً إلى اليوم إذ توكف المجتهدون أثر بلغاء العربية الأقدمين وتنشطوا للبحث والتنقيب وأقبلوا على التدقيق والتحقيق وقد ترجع مثابرتهم اللغة إلى رونقها الأول بعد خمسين عاماً تأتي الجملة بمجموعها ركيكة ظاهر عليها التكلف. ولعله يريد بقوله توكف المجتهدون أثر البلغاء_تتبعوا. فيقال فلان توكف لآل فلان اذا تعهدهم بالصلات والعطايا. وفلان يتوكف للأمير أي يتعرض لها حتى يلقاه. وقوله: مثابرة اللغة وصوابه على اللغة لأن لمثابرة معناها المواظبة. وهما يتعديان بعلى يقال: ثابرت على الأمر وواظبت عليه. على أن المعهود في مثل ما يريده الكاتب أن يقال المثابرة على خدمة اللغة أو دراسة اللغة لا المثابرة على اللغة. ثم انحنى الكاتب باللائمة على المدارس الأجنبية التي توجب على تلاميذها التخاطب بلغتها وقال وبذلك بتسرب العقوق وشيءٍ من البله إلى قلوب وعقول هؤلاء الأولاد المساكين قد نجد لتسرب العقوق إلى العقول معنى لكننا لا نجد أبداً لتسرب البله إلى عقولهم معنى ولا شبه معنى بسبب التخاطب باللغات الأجنبية.
ثم قال الكاتب إن البلاء ليس في الإدعاء وحده بل في اختزال كل منا برأيه. والتصرع والتصاغر للأجنبي والتمرؤ الظاهر تكلفه والتفوق البادي تحيفه مع الوطني وريح التخاذل حتى في اللغة تنجف كل ذروة باقثية في جرفها وتحتمل كل درة كنا نعرفها قبل عصفها. ولله في تدابيره شؤون. .
وأغرب من ذلك أن حضرة الكاتب أراد أن يذكر عيوباً للغة فقد منها عيباً يعده قوم مزية من مزايا اللغة ويحسبه الآخرون أمراً طبيعياً لا تخلو منه لغة من.
(ومن عيوب العربية إيراد جموع لا مفرد لها وأفعال لا مصدر ولا ماضي لأحدها. فهل تقبل فلسفة اللغة شيئاً من هذا؟ وهل يعقل أن واضعي اللغة ينو كلاً من غير أجزءا؟ إننا لا ننسب هذا الخلل إلا إلى المدعي المحافظة على سلامة اللغة أو يكونون يحافظون على قديم عقيم لا يسلم به عقل سليم).(59/47)
لا نرى علاقة بين فلسفة اللغة وبين أن يكون في العربية موع لا مفرد لها: عدد أهل اللغة طائفة من الجموع لم يعرف منها مفرد: مثل محاسن ومذاكير وتجاليد. فذهب بعضهم إلى أنها لا مفرد لها. وحقق آخرون أن لها مفردات أهملت في الاستعمال. وربما كان المراد من قول الأولين (لا مفرد لها) أي في الاستعمال لا الوضع فلا يكون بين الفريقين خلاف.
ولا بد من داع دعا أهل اللغة إلى إهمال تلك المفردات. وقد قالوا أن جمع كلمة (لب) (ألباب) لكنهم لما رأوا الجمع أرشق في اللفظ وأخف على السمع أكثروا من استعمال الجمع وإهمال مفرده وهكذا كان دأب القرآن الكريم في استعمال الجمع دون المفرد.
ومثل هذا يقال في الفعل الذي لم يستعمل مصدره أو لم يستعمل ماضيه.
فليست المسألة إذن من مسائل الفلسفة. وإنما هي مسائل تخير أرشق كلمات اللغة للتخاطب والتفاهم.
وفلسفة اللغة لا يصح أن يكون التعمق فيها مدعاة للإجادة في المنظوم والمنثور. كما كرره الكاتب في مقاله: فإن تلك الفلسفة علم نظري أكثر مما هو عملي. وله ثمرة خاصة به غير تجويد الإنشاء وتحبير الكلام الذي يتوقف على استظهار كثير من كلام البلغاء وإطالة النظر في أساليبهم والتفطن لمناحي كلامهم. هذا هو الطريق لتحصيل ملكة الإنشاء. أما فلسفة اللغة فلا يكون من أثرها ذلك بل كان ربما للاشتغال بها اسوا الأثر في ضعف تلك الملكة والعجز عن تحدي الكلام البليغ.
وقد غلا حضرة الكاتب في الرفع من شأن فلسفة اللغة والحط من قدر زملاءه الكتاب الذين لم ينالوا حظاً من تلك الفلسفة حتى قال:
(نحن ابعد أبناء اللغات الحية عن وضع الكلام في مواضعه وإقامته في مواضعه لأننا لا ندرس فلسفة اللغة بل لأن أكثر أصحاب الجرائد والمجلات والمترجمين والمؤلفين من غير الأكفاء إلا بالتبجح والادعاء. أو أن اللغة أمست واسطة للكسب والارتزاق حتى بالعبث والنفاق).
فقد جعل حضرته علة تقصير أخوانه في وضع الكلام مواضعه جهلهم فلسفة اللغة. فهل هذا حق؟.
ومما انتقده الكاتب قولهم (دام بقاؤه) فقال (إن طلب الدوام. حماقة وحرام) وأنهم في مثل(59/48)
هذا القول قد طلبوا (البقاء في دار الفناء وخلود من أعدت لهم اللحود). وذا ذهول من حضرة الكاتب: لأن أصل الدوام في اللغة السكون ومنه (ماء دائم). ويستعمل أيضاً في طول البقاء وامتداد المدة. ومنه (ديمة) للمطر الذي يستمر تهطاله بضعة أيام. ومنه أيضاً استعمال (مادام): فاذا قلت اجتمع بك مادمت في هذه البلدة كان المعنى مدة بقائك فيها. فقول الكاتب دام بقاؤه في الدعاء بمثابة أطال الله بقاءه. نعم قد يرد بالدوام والخلود كما في القرآن الكريم (أكلها دائم وظلها) والضمير يرجع إلى الجنة كما أن الخلود نفسه يراد به طول المدة أحياناً كما ورد في القرآن الكريم عن أناس لا يكونون كافرين ومع هذا خبر عنهم بأنهم يدخلون النار خالدين فيها ففسروا الخلود بأنه طول المكث لا المكث الأبدي.
ومما انتقده أيضاً عليه فيه قولهم (همى الدمع من عيونها) قال كم من عيون لها يشير إلى أن صوابه أن يقال من عينيها. لكن أهل اللغة يجوزون استعمال صيغة المثنى في الجمع والجمع في المثنى بل يجوزون أحياناً استعمال المفرد في الجمع والجمع في المفرد. ومثلوا لكل ذلك. وذكروا له أسباباً معتبرة عند أصحاب اللغة. ففي القرآن الكريم فقد صغت قلوبكما. كان الظاهر أن يقال قلبا كما لأن المخاطبين اثنان. ولهما قلبان لا قلوب. لكنهم هرعوا اجتماع علامتي تثنية في لفظ واحد. أما مثل همى الدمع من عيونها فيؤولونه بإرادة المبالغة وأن المرأة كانت كأنها تبكي بعيون كثيرة. لفرط ما استبلته من الدموع الغزيرة. وأكبر ما يؤاخذ به الكاتب أنه عاب أخوانه الصحافيين في أمر تكاد ترى مثله ماثلاً أمام عينيك وملموساً تحت يديك في كل جملة من جمل مقاله. مثال ذلك أنه آخذهم في قولهم أرسلت له وصوابه أرسلت إليه. وانتقاده صحيح ولكن الرصفاء لا يستحقون عليه كل هذا الأزراء والتوبيخ فقد قال في هذا الصدد:
(أصعب ما في اللغة على الدارسين أنفسهم استعمال حروف الجر وكل مدقق يتناول الجرائد والمجلات إلا العدد القليل منهن يضحك من كثرة السقطات التي لا يعذر منشئ عليها وفي مقدرته شراء معجم أو في رأسه قوة تميز بين هذا وذاك المعنى الخ).
ولكن هل تحسب حضرة الكاتب في منجاة من كل ما تنقص به زملاءه. وهل تراه أحسن استعمال حروف الجر ووضعها مواضعها اللائقة بها؟
قال في هجو أولئك الزملاء المساكين: (فترى أكثر الكتاب يتخرصون فيما لا يعذرون(59/49)
عليه) أخطأ الكاتب في استعمال الحرفين_في وعلى في جملة واحدة قصيرة. يقال تخرص عليه أي كذب وافترى. ولا يقال تخرص فيه. ويقال عذره في فعله. ولا يقال عذره على فعله: فكان الواجب على الكاتب أن يقول (يتخرصون على ما لا يعذرون فيه). على أن هذه الجملة برمتها لا معنى لها أو لا معنى لاستعمال التخرص في هذا المقام.
ومما قاله في صدد التهكم بالكتاب والمنشئين: ولماذا لا نكتب ونكاتب بفهم وسهولة وبساطة وسلامة وحقاً إن حضرته أشفق على القراء مكن أذى ما ينالهم من كد الذهن اذا قرأوا كثيراً مما يخطه الكاتبون لكنه لم شفق هو عليهم في مقاله هذا بل ضربهم بثالثة الأثافي مذ قال في خامتة المقال. وإنا لمعيدوه على أسماع القراء وإن طال: ثم ما هي فائدة الحركات في اللغة اذا كنا لا نريد أن نصرف عن جعل الواو الثقيلة الد؟ في أولى وعمرو وحيوة وصلوة بجحة التمييز وإزالة اللبس وهلا يوجد غير هذه الكلمات في العربية بحاجة إلى الضبط؟ ثم ما هي فائدة الحركات اذا كنا نكتب إله ولا يجوز لنا أن نكتب مؤنثه إلهة؟ ثم كيف يعقل أن تكون جموع لا مفرد لها مثل شلقة ومخاطر ومحاسن وشماطيط وما جمعه الثعالبي وغيره وهل كان كل ما لا يكون سمعه بالجامع لا يكون وضعه الواضع جرياً على القياس؟ وكيف يمكن أن تكون المطاوعة في فعل ولا تكون في آخر مثله تماماً؟ وكيف تكون صيغة أفعل التفضيل في ما لا فعل له كقولهم هو اقلط منه؟ أو كيف يكون مضارع لا ماضي له كقولهم لم يذر؟ أو مزيد لا مجرد له. والأمثلة متوفرة. وثمت منابت العربية بعد أن كانت مستحلسة. وتفاصح كل من لم يكن فصيحاً ولن يكون متفصحاً. فوجب أن يرجع الناس إلى فقه اللغة الذي لا أعني به كتاب أبي منصور الثعالبي بل فلسفة اللغة حتى لا يرسل كل من اغتر بقدرته الكلام على عواهنه ويحسب أن من جمع كلمة إلى كلمة كان شاعراً أو ناثراً أو إماماً وثقة يجب الإقلال من الترديد والمبهم الذي لا يزيد إلا اعتكالاً والاعتدال في تعليم القواعد بحسب كل مذهب التوثق في معاني البليغ من المنظوم والمنثور والاستكثار من حفظ الجيد ولاسيما ما يدعى السهل الممتنع ويجب أن تكون مجلاتنا وجرائدنا المدارس الحقيقية فترفض كل كتاب عليلة بالمعاني وينبه المغرور والشعرور إلى ما يفسد الذوق ويدعو إلى الهزأ ومن فقه اللغة أن نصطلح على ما يذلل لنا صعاب اللفظ عند الترجمة والاستشهاد أي أن يكون لنا ما نستطيع معه نقل الكلمة الأعجمية(59/50)
من نكرة وعلم إلى معناها الأصلي. وقد كان للعرب روم وأشمام فليكن لنا زيادة على مثالهما والله ولي التوفيق اهـ.
هذا ما نؤاخذه أو نعاتب به الكاتب الفاضل. ولم نقدم عليه إلا عندما آنسنا منه في مقاله غراماً في اللغة العربية. ورغبة في أن تكون مصونة من عبث العابثين بها. وكيد العاملين على أمانتها: فقد أعرب حفظه الله في غير ما موضع من مقاله المذكور عن غيرة شديدة. وعزمه في إصلاح اللغة أكيدة. من ذلك قوله: ولو أن الحكومة تقيم الأئمة لإقامة الكلام واللفظ لكانت تخدم البلاد والعباد ومازالت مدارستنا توجب على التلاميذ التخاطب بلغة أجنبية ولا توجب عليهم التخاطب_ولو ساعة_بفصيح لغتهم كأن التخاطب بفصيح العربية عار وبفصيح اللغات الأخرى فخار فلا جرم أن هذه الغيرة من حضرته منقبة يحمد عليها ومأثرة يجب علينا أن نقتدي به فيها.
طرابلس الشام:
المغربي.(59/51)
سير العلم والاجتماع
الآداب العربية
وفق أحمد بك زكي بعد عناية عشرين سنة إلى جمع طائفة من مخطوطات السلف في علوم مختلفة فعرض على حكومة مصر أن تساعده على تمثيلها بالطبع فعنيت لذلك ألف جنيه في ميزانيتهم هذه السنة ووقفت المال الاحتياطي الموجود في دار الكتب المصرية لطبع ما يجب طبعه وإليك المجموعة النفيسة التي جمعها صديقنا العالم ويشرع بطبع الكتابين الأولين منها قبل كل شيءٍ وهي بشرى بل بشريان للأمة العربية بل ولكل من تهمه مدنية العرب الراقية:
الموسوعات
نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويري.
مسالك الأمصار في ممالك الأبصار لابن فضل الله العمري.
جوامع اتلعلوم لفريعين تلميذ أبي زيد أحمد بن سهل البلخي.
أدب وبلاغة وإنشاء.
الفاخر للمفضل الضبي.
ديوان الحماسة الصغرى المعروف بالوحشيات لأبي تمام.
التسهيل بالتمثيل وهو المعروف بتسهيل السبيل إلى الترسيل للحميدي.
رسائل وخطب وأشعار السلطان الملك الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي من جمع حفيده.
مجموعة ترسل القاضي الفاضل عبد الرحيم البستاني.
حديث.
فنون العجائب.
إكرام الضيف.
آداب الملوك.
كتاب التاج للجاحظ.(59/52)
محاسن الملوك.
رسائل الملوك ومن يصلح للسفارة ومكن أمر بإرسال رسول ومن نهى عن ذلك وكيف ينبغي لمن أرسل إلى ملك أن يعمل في الاحتياط لنفسه
ولمن أرسله ومن ذم من الرسل ومن حمد لأبي علي الحسن المعروف بابن الفراء.
كتاب تنبيه الملوك (وسياساتهم في تدبير الأمم والممالك).
التراجم.
إنباه الرواة على أنباه النحاة للقاضي الأكرم الوزير القفطي.
نزهة الألباب في الألقاب لابن حجر.
التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر القائم بنصرة الحق أي سعيد جقمق لا بتن عربشاه.
هدية العبد القاصر إلى الملك الناصر أبي السعادات محمد بن السلطان الملك الأشرف لعبد الصمد الصالحي.
سبك النضار وكسب المفاخر ونثر الدر ونظم الجوهر من سيرة المقر الأشرفي السيفي اقباي الأسد الظافر كافل المملكة الغزية (في أيام قتباي) لعبد الله بن محمد بن عبد الله الزكي الغزي الحنبلي.
التاريخ.
كتاب المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام لمحمد بن حبيب.
ذيل تجارب الأمم وتعاقب الهمم في وقائع العرب والعجم لابن مسكويه تأليف أبي شجاع أحد وزراء الدولة العباسية.
درر التيجان وغرر تواريخ الأزمان لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري المصري كنز الدرر وجامع الغرر له أيضاً.
النسب.
شجرة النسب النبوي الشريف تأليف السلطان الملك الأشرف أبي النصر قانصوه الغوري.
الجغرافيا.
صور الأقاليم الإسلامية لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي (بالخرائط).(59/53)
صرة الأرض وصفة أشكالها ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان ومحل الغامر منها والعمران من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها وتقسيم ما تفرد بالأعمال المجموعة إليها (بالخرائط).
هيئة أشكال الأرض ومقدار صورها في الطول والعرض (بالخرائط).
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق المعروف بكتاب رجار للشريف الإدريسي (بالخرائط).
علوم طبيعية وميكانيكية.
سرور النفس بمدارك الحواس الخمس لابن المكرم صاحب لسان العرب.
الباهر في علم الحيل.
الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل (بالأشكال والصور).
رحلة.
تاريخ الأمير يشبك الظاهري (وهو رحلة الجنود المصرية وفتوحاتهم في آسيا الصغرى في أيام السلطان الملك الشرف قابتباي).
علم حفظ الصحة.
كمال الفرحة في دفع السموم وحفظ الصحة للقوصوني الطبيب في عصر السلطان قانصوه الغوري.
علم الحيوانات.
الدر المطابق في علم السوابق (في طب الخيل وقد ظفر به ملك الأرمن في خزائن العباسيين عندما هاجمها مع التتر فنقله إلى بلاده وأمر بترجمته ثم ضاعت النسخة العربية الأصلية وقد ظفر جنود مصر بالترجمة في بلاد الأرمن حينما فتحوها فترجمه إلى العربية ابن الخليفة العباسي بمصر بمساعدة بعض الأسرى من الأرمن).
طب الطيور (مستخرج من خزانة الرشيد).
علم المعادن.
الجماهر في الجواهر لفيلسوف الإسلام بالهند أبي الريحان البيروني.(59/54)
أزهار الأفكار في جواهر الأحجار للتيفاشي.
علم الفلك.
التفهيم لصناعة التنجيم لأبي ريحان البيروني.
علم الساعات والعمل بها لرضوان بن محمد الخراساني بخط بيلك بن عبد الله القبجافي.
علم الموسيقى.
كتاب العود والملاهي للمفضل الضبي.
كشف الغموم والكرب بشرح آلة الطرب (بالصور والأشكال).
علم الحرب.
العز والمنافع للمجاهدين بآلات البارود ولمدافع لابن غانم الأندلسي (بالأشكال).
الأنيق في المجانيق (بالصور والأشكال).
التذكرة الهروية في الحيل الحربية للسائح الهروي.
ديانات قديمة.
فلسفة الوثنيين (وهو قطعة بقيت من كتاب ثمسطس الذي أحرقه بعضهم وترجمها أحد المسلمين مع شرح الأناشيد والألحان الموسيقية الخاصة بديانة الوثنيين وبديانة المجوس).
كتاب الأصنام لابن الكلبي.
فنون متنوعة.
لطائف المعارف للنيسابوري.
عين السبع مختصر طرد السبع للصرح الصفدي.
الإلمام بآداب دخول الحمام.
الكوكب الدري في أجوبة السلطان الغوري.
نفائس المجالس السلطانية في حقائق الأسرار القرآنية لجمعية من علماء في عصر السلطان الغوري وهو في جملتهم.
الترقق في العطر للفيلسوف الكندي.(59/55)
كتاب الأطعمة المستعملة في مصر على عهد سلاطين ومماليك.
الوصلة إلى الحبيب في وصفات الطيبات والطيب.
بسط الشرق
من أهم ما لفت أنظار الغربيين في معرض الصناعات الإسلامية في مونيخ في العهد الأخير قسم البسط والسجادات الشرقية فقد قدروا ما فيها من الكمال المدهش من حيث الألوان والنقوش والتراكيب وهيهات أن تعبر الألفاظ عن جمال تقطيعها وظرفها وتنوع وضعها وجماع صنعها وانضمام أشكالها وترصيعها وتوزيع زينتها السالمة من كل خلل. قالت إحدى المجلات العلمية ومن أهم هذه القطع سجادة اسمها ربيع كسرى يرد عهدها إلى الدولة الساسانية التي قضت عليها دولة العرب في القرن السابع للميلاد وقد تمازج فيها الذهب بالأحجار الكريمة وفيها صور ينابيع وأشجار وأطيار وأصقاع بديعة تأخذ بمجامع القلب. ولقد نسج البسط بسطاًَ من هذا النوع المسماة ببسط الحدائق قبل قيام دولة الأكاسرة بألف سنة فكانوا يصورون فيها غدراناً فيها أسماك وأشجار اللوز مثمرة تتسلق عليها الهوام. ولم تكن تجعل هذه السجادات التي لا تجوس عليها الأرجل إلا متلطفة على الجدر كما هو الحال في اوربا اليوم بل كانت تبسط على الأرض.
وهي من عهد ارتقاء الصناعات الفارسية أي من القرن السادس عشر وكانت تباع منذ عشرين سنة ببضع مئات من الفرنكات أما اليوم فتباع بما يوازي ثقلها ذهباً. ومما عرض في هذا المعرض بساط اسمه بساط الصيد وهو ملك بلاط النمسا ولم يكن إمبراطورها فرنسيس يوسف عارفاً بقيمة هذا الكنز الذي يحويه في قصره من قبل وهو معمول في القرن السادس عشر أيضاً وفيه صورة وعلة يصطادها أسد وهذه الصورة في بلاد الصين رمز إلى طول الحياة وكثيراً ما كانت الصناعة الفارسية تنقل عن الصين وتقلدها في مناحيها.
معجم إنكليزي
بدأت إحدى بيوت المطابع في أكسفورد من بلاد الإنكليز بطبع معجم للغة الإنكليزية منذ سبع وعشرين سنة برئاسة السير جايمس موري وهو أرقى بموضوعه من المعاجم الكبرى في اللغة الإفرنسية مثل لتره والإنكليزية مثل وبستر والألمانية مثل كريم. فيذكر هذا(59/56)
المعجم تاريخ كل مفردة وما توالى عليها من النشوء مع إيراد الشواهد لذلك ويقوم بتأليف ألف ومائتا لغوي انتخبوا من مشاهير علماء اللغة الإنكليزية. وقد بلغ مجموع عناوين الكتب في مكتبة تأليفه عدة ملايين تتألف منها خزانة هائلة اقتضت أن ينشئوا لها بناية من الحديد مخافة أن تسري إليها النيران وهذا المعجم يصدر في أوقات غير معينة وقد بلغوا إلى حرف ت.
ويقدرون بأنه ينتهي سنة 1913 أما ثمنه فغال ولكن نفقاته قد جمعت مقدماً باشتراك بعض الكتبة به. فأنعم وأكرم بأمة فيها هذا القدر من العلماء في لغتها على من لم يقع عليهم الاختيار وببلاد يطبع فيها مثل هذا المعجم الهائل الذي ربما تجاوز ثلاثين مجلداً وشركته تربح به من أول يوم.
بردي قديم
أوصى أحد المحسنين للقسم المصري في المتحف البريطاني بأعظم ورقة من ورق البردي عرفت حتى الآن طولها 41 سنتيمتراً وعرضها 50 سنتيمتراً وقد حفظ ت حروفها ورسومها سالمة من كل سوءٍ. ويرد تاريخها إلى ما قبل 30 قرناً وهي عبارة عن صورة ثيبية من كتاب الأموات مشفوعة بابتهال إلى الرب عمون أهم معبود في ثيبية وقد كتبت هذه الورقة قبل ألف سنة من التاريخ المسيحي لابنة الملك نيزي حانسو هي ذات شأن عظيم في تاريخ الأديان.
صناعات الأمراء
تناقلت الصحف أن السلطان عبد الحميد سجين قصر الأتيني في سلانيك يصرف بعض أوقاته في النجارة بعد أن أنزل عن عرش السلطنة. والعادة في الملوك والأمراء أن يعنوا بصناعة من الصناعات النفيسة في الغالب أو عمل من الأعمال اليدوية يرضون بها أنفسهم وحواسهم وكانت هذه العادة شائعة كل الشيوع في فارس وبخارى وأفغانستان وبلوخستان وغيرها من الأصقاع الواقعة في النصف الشرقي من قارة آسيا ولكن ما كان من مميزات الآسياويين أيام حضاراتهم أصبح الآن من مميزات الأوربيين في استبحار عمرانهم فمن أمرائهم من ينصرف إلى علم أو فن أو صناعة يدوية وقد يصرفون فيها شطراً صالحاً من أوقاتهم خصوصاً أولئك الذين ليس لهم عمل حقيقي من الأمراء والملوك. فقد كان الدوق(59/57)
كارل تيودور البافاري عالماً بطب العيون وممتازاً فيه. وكانت الملكة إيملي ملكة البرتقال منصرفة إلى دراسة السل الرئوي. وسجل الأمير هنري دي بروس الألماني اكتشافه طريقة لتنظيف زجاج السيارات. وعرف ملك بلغاريا بامتيازه في علم الحيل (الميكانيك) وهو الذي يسوق قاطرة القطار الملكي بنفسه. ويخصص ملك نابولي شطراً مهماً من وقته في عمل المعادن. واخترع دوق دولاندبورغ آلة دافعة جديدة للسفن. وأخصى الأمير جواشيم في الحدادة. وكان الأمير فريدريك سيجموند معلماً في النجارة. أما إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني فقريحته متسعة فهو شاعر ومؤلف قصص فاجعات ومصور بل هو يتوفر أيضاً على تربية المواشي والنباتات وصنع الخزف والفخار. وملكة رومانيا كاتبة من الطراز الأول. والأمير أوجين السويدي مصور المناظر الطبيعية. ودوقة دارجيل ناقشة ماهرة. وكان الملك إدوارد السابع يصرف جزءاً عظيماً من وقته في تربية الحيوانات.
أعظم البوارج
أنشأت شركة ويت ستار الإنكليزية بارجتين للسفر بين سوسامبتون إحدى مواني إنكلترا ونيويورك في أميركا وهي أضخم ما عرف حتى الآن دعتهما (أولمبيك) و (تيتانيك) وقد أنزلت الأولى إلى البحر وقريباً تنزل الثانية وطول كل واحدة منهما 259 متراً وعمقها 28 متراً و21 سنتمتراً ومحمولها خمسون ألف طن ولها ثلاث آلات دافعة وتقطع 21 عقدة في السعة وهي بقوة 46 ألف حصان.
حكم إفرنجية
اذا تولى بعض المناصب يؤثرون أن يعملوا أعمالاً سخيفة على أن يبقوا بلا عمل (أرسين هوساي).
للمرء بعض الآمال الخيالية التي قد يتعذر الحصول عليها والتعلق بأهداب المحال وطلب الأبلق العقوق أو الصعود إلى العيوق (عمانويل أرين).
لا تعمل الحكمة شيئاً مع إحساس الضمير العام (كيزو).
الاقتناع هو الإرادة الإنسانية البالغة أبعد مراقيها (بالزاك).
أبداً يظل المرء غير راضٍ عن حالته اذا قاسه بأحس منه (لافيس).
إياك والتساهل في النفقات الصغيرة فإن ثقباً صغيراً يجري فيه الماء تغرق منه سفينة(59/58)
كبرى فرانكلين.
إن العلائم الظاهرة للحزن الكبير تأتي على الأحياء كما تكون القباب بلية على الأموات فإنها كثيراً ما تكون علامة الكبرياء أكثر مما تكون علامة الحزن والفضيلة شاتوبريان.
كلنا محكوم علينا ن نموت وما الولادة إلا مبدأ الموت غوتيه.
إن الإكثار من الكلمات للتعبير عن أثر مشهور أشبه بقطعة من ذهب تبدلها بنقود زائفة بومارشيه.
الأموات غير مرئيين ولكنهم غير غائبين هوغو.
للقلب عقل لا يعرفه العقل نفسه باسكال.
اذا سار المرء على خطأٍ يستحيل أن يصل إلى الحقيقة جوي.
لا يجني خريف الحياة إلا ما غرسه كل يوم منها كراتري.
الإنسانية تأمرني أن أظن خيراً أكثر مما أظن شراً بوسويه.
من عاقب وهو في حال الغضب فلا يريد من عاقبه الإصلاح بل الانتقام مونتين.
إن مما يصعب علينا أن لا نكون على اتفاق مع حبنا ذاتنا أسيل.
كلما وقع في نفس الإنسان إن ليس شيءٌ مستحيلاً يقوم بأعمال أكبر مما كان يظن مالريب.
من الأمراض أن يتطلب الموت وأعظم منها مرضاً أن يخاف الموت.
الشهوات كأنواع الأطعمة أبسطها هي التي لا تقزز منها النفس.
على المرء أن يطيل النظر في نفسه قبل أن يفكر في الحكم عليه.
الطاعة أعظم فرحة للمرأة بعد الحب.
على المرء أن يجيب بنفسه لأن البشر لا يعدلون إلا مع من يحبون.
كانت الضرورات في المجتمعات القديمة هي الزوائد أما في المجتمعات الحديثة فإن الزوائد هي الضرورية.
اذا أردت أن يظن بك خيراً فلا تذكر أنت ذلك (باسكال).
نحب العدل كثيراً وقلما نحب العادلين.
الواجب عليَّ أن أقوم بما تفرضه عليَّ الحياة من الواجبات على أي صورة وكيفية ولكن الواجب القيام بها.(59/59)
الكسلان الصحيح الجسم أردأ من المريض لأنه يأكل ضعفين ولا يعمل عملاً.
إن من يهتمون أبداً لصحتهم هم كالبخلاء يجمعون الكنوز بدون أن يستمتعوا بها.
إن قلباً مفطوراً على الاستقامة التامة لا يرضى عن الترقيع في الأخلاق كالأذن الصحيحة السمع لا ترضى عن الموسيقى الرديئة.
إن من يعتقدون من أنفسهم الذكاء أكثر من غيرهم هم أقرب إلى الانخداع غالباً.
الديانة أم يتخلى عنها الإنسان عندما ينادي داعي سعده وهي تنتظرك يوم تصيبك البوائق (دي ليفي).
إن إصلاح نفوس أغلب الناس عبارة عن إدخال القلب والإبدال عن رذائلهم.
الأفكار رأس مال لا تأتي بفائدة إلا في ايدي من رزقوا القرائح والعقول.
تأتي على المرء أحوال يكثر فيها غمه أكثر من الباكين ويتمنى الدموع أن تجري في مآفيه فلا يجدها.
السكك العثمانية
أصدر المسيو ألكسيس راي كتابه الرابع عشر في إحصاءات السكك الحديدية العثمانية وحساباتها في السنة الماضية جاء فيه أن دخل السكك الحديدية في آسيا كان متوسطاً أما مجموع الدخل في السلطنة فقد زاد عن السنة السابقة اذا حسبنا ما نقص من سكة الرومللي من جهة بلغاريا منذ أعلنت استقلالها وقدر النقص بـ 310 كيلومترات.
وقد نقصت الضمانات الكيلومترية في السلطنة 579 ألف وتنقص كثيراً في ميزانية 1910. أما السكة الحجازية فقد بلغ طولها 1500 كيلومتر ودخلها 3 ملايين و800 ألف فرنك. وهاك ما أعطته الحكومة العثمانية من الامتيازات الجديدة: 1ً تمديد سكة بغداد يقدر بخط يبلغ طوله 820 كيلومتراً وقد بدأت الأشغال في نقط مختلفة منه ومما تقرر أيضاً مد هذا الخط إلى حلب. 2ً تمديد خط حمص_طرابلس وطوله 102 كيلومتراً وصار على أهبة النجاز 3ً امتياز فرع من باندرما إلى صوما وطوله 190 كيلومتراً ويتصل بأزمير وبحر مرمرة وبذلك تقرب المسافة بين أزمير والأستانة. 4ً امتياز فرع من بابا إلى إسكي كليسا وطوله 40 كيلومتراً وهو لشركة الرومللي والخطوط الثلاثة الخيرة لا ضمانة كيلومترية لها ومجموع الخطوط الأربعة الجاري العمل بها يبلغ طولها 1152 كيلومتراً(59/60)
منها 1112 كيلومتراً في ىسيا و40 في اوربا وهذا بيان توزيعها على الأمم.
820 كيلومتراً للألمان و293 للفرنسيين و40 للنمساويين.
وهذا بيان ما تستثمره الأمم حالاً من السكك جمعاء في السلطنة.
1697 كيلومتراً للفرنسيين و1519 للألمان و1500 للعثمانيين و955 للنمسويين و909 للإنكليز و41 لأمم مختلفة.
ويتبين من ذلك أن الألمان اذا أتموا مد الخطوط المعهودة إليهم يصبحون في مقدمة الجميع إذ يبلغ مجموع خطوطهم 2339 كيلومتراً ويتلوهم الفرنسيون بخطوط مجموعها 1989 كيلومتراً.(59/61)
مخطوطات ومطبوعات
الدروس العربية
تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة
1328 ص88
اعتاد صديقنا صاحب هذا الكتاب أن ينشر من قلمه كل ما فيه تصحيح الأفكار وبث اللغة وشفره هذا في النحو من سلسلة كتب في النحو والصرف وفنون البلاغة والإنشاء وقرظ الشعر والأدبيات واللغة كتبه بعبارة سهلة يفهمها التلميذ وشفعه بتمارين نثرية وشعرية تفيد في إحكام ملكة الإعراب فنشكره على غيرته على الآداب ونرجو له إتمام هذه السلسلة.
الطريقة القدسية
أو طريقة جديدة للقيودات المزدوجة لواضعها إلياس بك القدسي طبع بالمطبعة
الأهلية البطريركية الأرثوذكسية بدمشق ص32.
أجاد صديقنا في وضع هذا الكتاب في علم الدوبيا أو طريقة القيود المزدوجة وقد قال في مقدمته أن الإيطاليين كانوا أسبق الأمم إلى استعمال تلك الطريقة في منتصف القرن الرابع عشر وكان أول كتاب ظهر في إنكلترا من نوعه سنة 1569 سماه مؤلفه فن الحسابات التجار الطليان أو مسك الدفاتر بالقيودات المزدوجة وقد وجد في مدينة جنوة سجل أمين صندوق البلدية مؤرخاً في سنة 1348 وفيه الحسابات المدونة على هذه الكيفية ولكن هذه الطريقة لم تشع في أوربا إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر قال ولم تدخل هذه الطريقة إلى بلادنا إلا نحو سنة 1865 إذ قام المعلم سليم غالية الدمشقي وطبع كتابه البدر المنير في أصول الزنجير وألف بعده المعلم ظاهر خير الله الشويري كتابه لمحة الناظر في مسك الدفاتر ورسالة ترويض المباشر في مسك الدفاتر وتبعه آخرون وضعوا كتاباً على الطريقة الإيطالية وقد شرح المؤلف طريقته الجديدة المبتكرة أحسن شرح يفهمه طالب هذا العلم النافع فله منا الثناء على غيرته وفضله.
ديوان سلام بن جندل
رواية أبي سعيد الأصمعي نشره الأب لويس شيخو طبع في المطبعة الكاثوليكية(59/62)
في بيروت سنة 1910 ص49.
نشر هذا الديوان في مجلة الشرق أولاً عن نسختي الأستانة والإسكندرية وعلق عليها منشئها الباحث ملحوظات واصطلاحات وعد سلامة في شعراء النصرانية بالطبع. وشعر العرب العرباء كله مما يقتنى فللناشر الأديب الشكر على عنايته بنشر آثار العرب في أي مظهر إظهار
كتب متفرقة
الأحكام السلطانية_هذا الكتاب للماوردي المتوفى سنة 540 مشهور متداول وقد أعيد طبعه الآن وعني بتصحيحه السيد محمد بدر النعساني ويطلب من محل محمد أمين أفندي الخانجي في مصر والأستانة.
دروس التاريخ الإسلامي_للشيخ محي الدين الخياط وقع في 96 صفحة وهو القسم الثالث منه يشتمل على مجمل تاريخ بني أمية في الشرق وخريطة الدول العربية والإسلامية ويطلب من المكتبة الأهلية ببيروت.
الخراج في الشرع الإسلامي_كراسة للمسيو كولوزيو طبعت في تونس باللغة الإفرنسية ذكر فيها تاريخ الخراج في 16 صفحة.
هل اللغة العربية ميتة_كراسة للمسيو كاموسي قدمها للمجمع العلمي القرطاجني في 17 صفحة قال فيها أن العربية لا تشبه الفرنسية فقد ظلت زاهرة ألف سنة ومنذ ثلاثمائة سنة وقفت عن النمو أما الإفرنسية فقد مضى عليها ألف سنة وهي في حال التنبت وأخذت تنمو منذ ثلثمائة سنة وليس القرآن هو السبب في وقوف العربية بل أبناؤها وميلهم إلى العلم.
وقاية الشبان من المرض الإفرنجي والسيلان_هو كتاب وضعه الدكتور سعيد أبو جمرة صاحب الأفكار البرازيلية منذ بضع سنين ونفذت طبعته الأولى فأعاد طبعه الآن واصفاً هذه الأمراض المدهشة وعلاجها وطرق التوقي منها بلسان علمي وقد وقع في 172 صفحة من قطع الوسط وهو يعد من الأمهات في هذا الباب.
مجلتان جديدتان
الورقاء_مجلة علمية أدبية صناعية لمنشئها الخور فسقفوس جرجس شلحت تصدر في حلب مرة كل شهرين في 76 صفحة وقيمة اشتراكها ريال في حلب وخمس فرنكات في(59/63)
غيرها.
سمير الصبا_مجلة أدبية فنية فكاهية تصدر في حمص مرة في الشهر لصاحبها شكري أفندي فارس لوقا في 16 صفحة وقيمة اشتراكها 14 غرشاً في حمص و15 في غيرها أو 3 فرنكات وربع في الخارج.(59/64)
خاتمة السنة الخامسة
نحمدك اللهم أنك يسرت لنا ختام هذه السنة من المقتبس على النحو الذي نحوناه منذ أول تأسيسه. وبعد فقد اضطرتنا الحال إلى التعجل في إصدار أجزاء هذه السنة لتعود إلى اعتبار المحرم أول سنة المجلة ونجبر المدة التي انقطعت فيها عن الصدور أشهراً في العام الفائت فأصدرنا أجزاء اثنتي عشر شهراً في نحو ستة أشهر وألفناها كذلك حتى جاء بفضل الله وبيض أيادي مؤازرينا من أهل البحث والعلم لا تقل في تجويد الموضوعات عن السنين السالفة إن لم نقل أنها أحسن على كثرة ما انتاب مجرى العمل من العوارض. وفي مأمولنا أن تبدو هذه الصحيفة في سنتها السادسة في مظهر أرقى يكون لائقاً بشأن العصر ونهوض البلاد بكثرة سواد الراغبين في العلم والتعلم اليوم بعد اليوم والله نسأل هدايتنا وتسديدنا والتجاوز عن هفواتنا وسيئاتنا وهذا جهد المقل وما على من يبذل جهده من حرج والسلام.(59/65)
العدد 60 - بتاريخ: 1 - 2 - 1911(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة السنة السادسة
يفتتح المقتبس سنته السادسة بحمده تعالى أن يسر له قطع شوط يصح عده شيئاً في عمر المجلات، ويغتبط اليوم أن يرى له موقعاً من نفوس العلماء والأدباء ومكانة من مجامعهم وأنديتهم وسبيلاً إلى الانتشار بين الخاصة في كل بلد يتكلم أهلها باللغة العربية أو يرغبون في تلقفها، ويعود فيعاهد قراءه على أن يتعاهدهم كل شهر كما عودهم بنشر الأبحاث النضيجة مشبعاً إياها درساً وتمحيصاً ما ساعدته بيئته ومادته فينقل للشرقيين ما تبرزه عقول الغربيين ويمثل للغربيين ما أنتجته قرائح الشرقيين من الأقدمين والمحدثين ويعنى من المباحث عناية خاصة بعلوم التربية والتعليم والاجتماع والاقتصاد واللغة والأدب والتاريخ والآثار وتدبير المنزل والصحة والكتب وحضارة العرب وحضارة الغرب ولا يتعرض للعلوم الأخرى إلا بقدر ماله علاقة بالموضوع ويتجافى عن مس العواطف الدينية والمنازع السياسية عملاً بالخطة التي رسمها في أول جزء صدر منه على ضفاف النيل.
ولقد هيأ الزمان لهذه المجلة طائفة من العلماء الباحثين والكاتبين المفكرين أخذوا على أنفسهم كما فعلوا في السنين الغابرة أن يوافوها أثابهم الله الشهر بعد الشهر بخلاصة أبحاثهم ويعلموا الناس مما علموا وزكنوا وهذا مما يزيد الثقة بهذا العمل العلمي وعمل الجماعة أمتع وأنفع وعمل الفرد لا يخلو من ضعف وضؤولة، وهاك أسماءهم إقراراً بأفضالهم على العلوم والآداب:
أحمد بك تيمور (القاهرة) أحمد بك زكي (القاهرة) أمين أفندي ريحاني (نيويورك) الشيخ جمال الدين القاسمي دمشق جرجي أفندي الحداد دمشق خليل أفندي رفعت دمشق خليل بك سعد بيروت رشيد أفندي بقدونس سلانيك رفيق بك العظم القاهرة زكي أفندي الخطيب سنجار صلاح الدين أفندي القاسمي دمشق ساتسنا بغداد سليم أفندي البخاري دمشق شكري أفندي العلي دمشق الشيخ طاهر الجزائري القاهرة الدكتور عبد الرحمن شهبندر دمشق عبد القادر أفندي المغربي طرابلس الشام عبد الله أفندي مخلص حيفا عبد الوهاب أفندي الإنكليزي الباب عيسى أفندي اسكندر معلوف زحلة فارس أفندي الخوري دمشق فارس أفندي فياض دمشق محمود شكري أفندي الآلوسي بغداد يوسف أفندي جرجس زخم(60/1)
نبراسكا.(60/2)
كتاب البئر
من مصنفات إمام أئمة اللغة والأدب أبي عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي توفي سنة ثلاثين ومائتين رحمة الله عليه
ترجمته في ص 207 من كتاب نزهة الأدباء
عني بنشره وتعليق حواشيه السيد محمود شكري الآلوسي
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب النحوي قراءة عليها وأنا أسمع بجامع القصر من مدينة السلام يوم الجمعة ثالث عشري شهر الله الأصب من سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن محمد بن الحسين الفراء قال أنبأنا الشيخ أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري، قال أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الحزاز قراءة عليها في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
قال قرأ هذا الكتاب أبو الحسن الرزاز علي بن عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وأنا حاضر أسمع قال حدثنا أبو العباس أحمد يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي قال وقرأه الرزاز أيضاً على أبي عمر محمد بن عبد الواحد غلام ثعلب على معنى التصحيح قال: صفة البئر عن ابن الأعرابي.
قال وأخبرني أيضاً الشيخ الإمام المهذب أبو الحسن علي بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الملك بن إبراهيم بن عبد الملك السلمي الرقي قراءة عليه بمدينة السلام في منزله في شعبان من سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وسمعته أيضاً من قراءته قال: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو الفضل محمد بن الناصر بن محمد بن علي بن عمر السلامي والفقيه أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصار في قراءة عليهما في صفر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة فأقر به قال: أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي قراءة عليه في يوم الجمعة خامس عشر صفر من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة فأقر به قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري قراءة عليه وأنا أسمع في المحرم سنة إحدى وخمسين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن زكريا ابن حيويه(60/3)
الحزاز قراءة عليه في يوم الأربعاء النصف من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال: قرأ أبو الحسن الرزاز رحمة الله تعلى على أبي عبيد الله محمد ابن أحمد الحكيمي سنة أربع وثلاثين وأنا حاضر أسمع، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي وقرأه الرزاز وأنا حاضر أسمع على أبي عمر محمد بن عبد الواحد غلام ثعلب على معنى التصحيح قال:
صفة البئر
عن ابن الأعرابي قراءة على أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي عن أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي قال: يقال للأرض إذا لم يكن فيها حفر فحفر فيها أرض مظلومة قال الشماخ:
وأس رماد كالحمامة ماثل ... ونؤيان في مظلومتين كلاهما
ويقال إذا حفر قعدة الرجل أو قعدتين قيل حفراوقة أو اوفتين قال الشاعر:
وانغمس الرامي لها بين الأوق
قال أبو عمر: هو أوقة بالفتح وجمعها أوق كذا سماعي من ثعلب قال أبو العباس: الأوقة بئر الصائد التي يستتر فيها من الوحش فإذا ابتدأ حفر البئر فهي بدء فإذا حفر إلى أسفل قيل قد اعتمق وامتعق وحفر معيق وعميق وإذا أخذ جانبها قيل قد لجف قال الشاعر:
إذا انتحى معتمقاً أو لجفا
ويقال لجانب البئر الجال والجول وأنه لغير ذي جول أي أنه قليل العقل وأنه لغير متماسك الجول يقال ذلك للرجل إذا كان يحمق فغذا حفرها حتى يبلغ الماء قيل قد أنبطها والماء هو النبط وفطرها إذا كان هو ابتدأها
واختصم إلى ابن عباس رضي الله عنهما رجلان في بئر فقال أحدهما بئري أنا فطرتها أي ابتدأتها واستخرجتها.
فإذا أنفذتها في الجبل قيل بئر خسيف وهي التي خسف جبلها قال الشماخ:
من الكلى في خسف رويات
ويقال حفر حتى أعان وأعين أي حتى استخرج الماء وحفر حتى أصلد إذا وقع موضع صلب أو على حجر وكذلك اكدى قال أبو زبيد:(60/4)
يا عثم أدركني فإن ركيتي ... صلدت فأعيت أن تبض بمائها
وحفر فاجبل وقع على جبل وأسهب وقع على رمل أو تراب يغلبه.
ويقال لتراب البئر البغيثة والنبيثة والنثيلة والثلة والسفاة قال الهذلي:
وقد أرسلوا فراطهم فتأثلوا ... قليبا سفاها كالاماء القواعد
ويقال ماء نمير إذا كان يوافق الشاربة وينجع في جلودها وأجسامها عذبا كان أو غير ذلك قال حاتم:
قد جعلت والحمد لله تقر ... من ماء عد في جلودها نمر
قال أبو عمر: تقر تسكن من قولك وقر يقر إذا سكن ويقال ماء شريب عذب وشريب أيضاً ثقيل وماء مأج وقد مؤج يمؤج مؤجة ومياه مائجة.
وأسماء البئر
الركية والجمع ركايا، والقليب والجمع قلب، والفقير وهي التلي فقر جبلها فاتخذت حديثاً، والطوي والجمع أطواء، والبدني وهي الجديدة الحفر وهي الواسعة الرأس لأنها ربما تقوضت واتسع رأسها وربما كانت غير بعيدة القعر، والبدي حي تبتدأ وهي القريح وقال بعض الأعراب البدي يحفر للغرس يريد الغسيل والماتح يضع رجلاً على هذا الجانب ورجلاً على هذا الجانب الآخر.
والبدي مربعة وهو يمنح منها بيده بغير قامة فإذا دور رأسها فهي القليب ويقال لفم البئر شحوتها وجرابها جوفها من أعلاها إلى أسفلها ويقال بئر شديدة الجراب إذا لم تحتج أن تطوى والبئر والركية انثيان والقليب والعلوي ذكران قال أبو عمر: القليب والطوي يذكران ويؤنثان والشطون من الركايا التي في جوانبها عوج لا يخرج دلوها إلا بحبلين.
فإذا طويت بخشب فهي معروشة وقد عرشت تعرش عرشا والمزبيرة المطوية بالحجارة وغير الحجارة يقال زبرئها زبرا وضرستها اضرسها ضرسا طويتها بالحجارة وإذا استقي بالدلو من البئر باليد قيل بئر متوح وإذا كانت على بكرة بنزع باليد نزعا قيل نزوع ونشوط التي إنما حبلها نشطة واحدة وبئر أنشاط إذا خرج دلوها بجذبة واحدة قال أبو عمر: إنما هو أنشاط بالفتح جمع نشوط قال أبو محمد يوسف بن الحسن: روى الطوسي وغيره إنشاط بالكسر ويجوز أنشاط بالفتح جميعا ويقال ماء رفق وهو القريب الغشا(60/5)
القصير الرشا وماء عضوض بعيد القعر وأنشدنا:
أبيت على الماء العضوض كأنني ... رقوب وما ذو سبعة برقوب
وماء مدرع قريب من المرعى قال أبو عمر: إنما هو مدرع بفتح الراء وباسط بعيد وماء مطلب إذا أبى أن يطلب وبئر نضوض وبروض ورشوح الأصل رشوج بالجيم قال أبو عمر إنما رشوخ بخاء معجمة ومكول هي التي يجتمع ماؤها قليلا يقال قد اجتمعت فيها مكلة وإذا كانت لا يؤخذ ماؤها إلا غرفاً فهي قدوح ويقال قدحتها أقدحها قدحا وإذا كانت بأتي ماؤها مرة ويذهب أخرى فهي الظنون وإذا كانت إذا استقي ماؤها جمت بماء آخر قيل بئر جموم وإذا كانت إذا قلت الأمطار قل ماؤها قيل بئر قطوع وأصابت الناس قطعة إذا غار ماؤهم واقطع الماء وهو مقطع وقاطع وقد قطع.
وإذا كانت البئر حبلها عن لعوج في جرابها قيل بئر يون وبئر زوراء ودحول إذا كان في خلقها عوج وإذا كانت البئر إلى جنبها بئر أخرى تضر بها قيل بئر ضنيط وبئر مأطورة مثلها وبئر سك إذا كانت ضيقة وأنشدنا:
صبحن من وشجى قليبا سكا
قال أبو عمر: وشجى محركة ويقال بئر ذمة قليلة الماء وبئر فراط وهي التي من سبق إليها ليس لأحد أن يمنعه وبئر جموم سريعة رجوع الماء ويقال للماء إذا خرج من عيونه فارتفع في البئر جم يجم جما والماء نف الجم ويقال استق من جم بئرك وقال الغنوي: وسئل ما مالك فقال ساحات فيح وعين هزهز قريبة مرتكض المجم أي يجم ماؤها سريعاً وهزهز يهتز بالماء الصواب هزهز قال أبو عمر: سألت أبا العباس عن هذا الحرف مراراً فقال هزهز على لفظ هديد قال وإذا كان يغرف منها باليد قيل بئر غروف وإذا دام ماؤها في المطر والقيظ قيل بئر واتنة وقد وتنت تتن وتونا وإذا كانت كثيرة الماء قيل بئر قليذم وأنشد:
إن لنا قليذما هموما ... يزيدها مخض الدلا جموما
وإذا لم ينزح ماؤها قيل بحرها لا ينكف ولا ينكش ولا يوبى ولا يغضغض ولا يفرض ولا يفثخ وبئر سعبر والخضرم والعليم الغزيرة وبئر ماهة وبئر مئة كثيرة الماء وبئر نبط التي يخرج ماؤها من عرضها ويقال للبئر إذا قل ماؤها غار يغور غورا وغؤرا وقد نكزت(60/6)
أيضاً قال:
فظلت بأعراف كأن عيونها ... إلى الشمس بل تدنو ركين واكز
أنكزت تنكز نكوزاً وهي ناكز وإذا اندفنت ثم أخرج ترابها وليس بجديد قيل بئر نثول والجمع نثل وإذا اندفنت قيل بئر دفن ودفان وإذا عطلت حتى تخرب قيل بئر سدم والجمع اسدام فإذا كانت عادية فالتقطت والتقاطهم إياها وقوعهم عليها قيل بئر لقيط وبئر خفية مثلا وكانت قديمة لأمة من الأمم فالتقطت وعد ما كان نبضه من الأرض يجم عشر قيم إلى ثلاثين قامة وإذا كان في طي البئر حجر نادر فهو العقاب يقال لصلح عقاب بئرك فيخرج حجراً في الطي فيقدم ليقوم عليه قال والثعلبة أن يجذب الحيل عن حجر ناتئ في جانب البئر قال:
لو أن سلمى شهدت مطلي ... تمتح أو تدلج أو تعلي
إذاً لراحت غير ذات دل
وقال آخر:
أكل يوم قائل أبن أبن ... دلوك عن حد الصفيح واللبن
والثمت أن تكون كالبئر إلا أنه لا تكون من عيون إذا انقطع حفر ذراعان أو قامة فيخرج فيشرب أياماً ثم ينقطع والحسى دائم لا ينقطع والجمع احساء وحساء، والحسى يسمى الكر وإذا تغير الماء في القليب قيل قد عرمض وسجس الماء في القليب وهو الصرى والصرى مقصوران يقال ماؤها صرى فاستق من غيرها ويقال أجن وأسن يأجن وبأسن اسنا واجونا وأسن أسنا وإذا علته جليدة من طول الترك قيل دوى يدوي تدوية وماء داو كما ترى فإذا علنها خضرة قيل قد طحلب وعرمض وغلفق ويقال بئر ذات طاق إذا كان فيها دور وهي حروف نادرة وعرش البئرة خثبلتها التي يستظل بها عليها يطرح الثمام قال الراجز:
أكل يوم عرشها مقيلي ... حتى ترى المئزر ذا الفضول
مثل جناح السيد الغسيل
ويقال محشوشة وحشوا بئركم أي اكسوها وبئر مجهودة إذا نقيت حتى حمأتها ويظهر حر طينها فقد جهرت تجهر جهراً والاذاء حجر يجعل في مصب الدوا لئلا يخرق الماء الحوض وهو في بئر الماشية والإبل وفي بئر الذرع والقف والدعامة مقام الساقي في أعلى(60/7)
البئر وإنما سميت دعامة لأنه يدعم بها طي البئر فيضغطه وهما شجرتان يدعمان طي البئر قال الشاعر:
لما رأيت أنها لإقامه ... واتني ساق على سامه
جذبت جذبا زعزع الدعامة
والمثابة مقام الساقي أنشد أبو الجراح:
يا عين بكي عامراً يوم النهل ... قام على مثابة زلج فزل
والشجار خشبتان على جانبي البئر عليهما عارضة ودون العارضة بقدر ذراع أو ذراعين عارضة أخرى والنعامتان خشبتان فيما بين العارضتين في كل جنب واحدة فتانك النعامتان وفيها المحور والمحور مشدود بحبل إلى العارضة وأنشد:
لولا الزمام اقتحم الاجاردا ... بالغرب أو دق النعام الساجدا
وإذا كانت عارضتا البكرة وعضدها من حديد كان أو خشب الوالج فيها والبكرة إذا كانت على ركية جرود فهي محالة الإبل واذا قالوا تعوب فهو خشبة مدورة عظيمة لها أسنان فيها كأسنان الرحى قال الشاعر:
كأن صوت نابه الاذب ... صريف خطاف بقعوقب
ويقال للذي يجري عليه الحبل من البكرة الحرث واذا كان الشجاران من بناء طين أو حجارة فهما الزرنوقان والقرنان قال الشاعر:
تأمل القرنين فانظر ماهما ... احجرا ام مدرا تراهما
فإذا وقع الحبل من البكرة وعضد بها قيل مرس الحبل وامرسته انا فيقال امرسه اي أخرجه قال الشاعر:
بئس مقام الشيخ امرس امرس ... اما علي قعو واما اقعلسس
والمرس اسم الحبل قال أبو العباس امرسه القاه بين الخد والبكرة وامرسه اخرجه وقد مرس الحبل نفسه قال الشاعر:
ولا تلمسوا لي الأرض فيا فإنني ... اخاف عليكم قامتى حين تمرس
في نوادر ابن الأعرابي وليس من الكتاب:
ولا يلمسوا لي الأرض فيا فإنني ... اخاف عليكم حيتي حين تلمس(60/8)
في أرض الجليل
من دمشق ركبنا قطار السكة الحجازية قاصدين إلى بلاد الجليل فاجتار بنا سهول حوران وجزءاً من وادي الأردن والغور ومعظم البلاد التي مررنا بها تبعث النفس على النظر والعين على التحديق والفكرة على التأمل لما جرى فيها من الوقائع والحوادث في سالف الأعصار.
وإن أرضاً أخرجت رسولاً كالسيد المسي عليه الصلاة والسلام فكانت مهوى افئدة اهل النصرانية في العالم على اختلاف الأعصار والأقطار لحرية بأن تزار مهما شظت بقاصدها الديار فما بالك وهي الآن منا بضع ساعات في قطار البخار، وإن بلاداً مضى على أبناء إسرائيل ألوف من السنين وهم لم ييأسوا من استرجاعها لجديرة أن يخف إليها كل من يروم البحث في اجتماع الأمم وافتراقها.
يحد بلاد الجليل شرقاً الأردن وجنوباً الكرمل وجبال افرايم وغرباً بحر الروم وشمالاً فينيفية ولبنان وتسمى هذه البلاد جليل الأمم لكثرة الأمم فيها وفي الجليل تربى يسوع وفيها صرف أكثر مدة خدمته جهراً فدعي جليلياً وكان تلاميذه جليليين ماعدا يهوذا الاسخريوطي واشتهر الجليليون بشدة البأس فقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي الذي كان هو نفسه جليلياً أنهم كانوا يتمرنون على استعمال كل أنواع الأسلحة منذ الصغر، وقد اشتهروا بشدة مقاومتهم للرومانيين وآل خراب اورشليم إلى نجاح الجليل فأصبحت دار العلوم اليهودية ونقل إليها السنهدريم مجمع الأمة العظيم فجعل اولا في اوشته وهي الآن خربة هوشته قرب شفا عمرو ثم نقل إلى شفرام وهي الآن شفا عمرو ثم إلى بيت شعرايم وصفوري وطبرية وكانت الجليل مقسومة إلى قسمين الجليل السفلى وطولها من طبرية إلى زبولون قرب عكا وعرضها من قرية كسالوت قرب تايور إلى بيرسبع (غير بير سبع في الجنوب) وكان فيها على رواية بوسيفوس 240 قرية وفي أصغرها 15000من السكان والجليل العليا طولها من ميلون غرباً إلى طلة قرب الأردن شرقاً وعرضها من بير سبع جنوباً إلى بقعة على حدود أرض صور شمالاً.
ومعنى الجليل بالعبرانية الدائرة أو المقاطعة وكانت تطلق خاصة على القطر الشمالي من أرض الموعد وفيها عشرون مدينة أعطاها سليمان إلى ملك صور لقاء خدمه في عمارة المعبد في القدس وكان يسكن هذه البلاد جمهور من الوثنيين ومن هنا اشتق اسمها جليل(60/10)
الأمم وكانت بلاد الجليل تمتد على عهد عيسو إلى ضفاف بحيرة طبرية ثم دخل فيها سهل يزرعيل مرج ابن عامروعلى عهد السيد المسيح كانت عبارة عن أرض عازر ونفتالي وزبولون وازياخار وظلت مقتسمة إلى جليل أعلى وجليل أسفل الأول يمتد إلى شمالي الخط الممتد من عكا إلى كفر ناحوم والثاني يدخل فيه القسم الجنوبي.
ويمكن على الجملة أن يقال أن أرض الجليل واقعة اليوم في الجهة الشمالية من بلاد فلسطين بين لواءي عكا ونابلس وفي الجهة الغربية من نهر الأردن ويدخل فيها قضاء صفد وقضاء طبرية وقضاء الناصرة وبعض قضاء جنين ومن أعمالها مرج ابن عامر وكانت أهم مدن الجليل بطلومايس التي أصبحت فيما بعد عكا وصفورية والناصرة وكفركنة وبتولي وكفر ناحوم وسكانها كما هم الآن مزيج من أمم مختلفة وأهم عناصرهم اليهود والآشوريون وكان هذا الاقليم على عهد ظهور النصرانية عامراً جداً بالسكان غنياً مزهراً وله حياة سياسية كما له حياة دينية وجميع أنواع العبادات والمذاهب تجري فيه حرة مطلقة لا شيء ينغص عليها أمرها وتكثر فيه النباتات والزهور من كل نوع وفيه غابات كثيرة كان يستخرج منها خشب السفن.
وعرف العرب أرض الجليل بجبل الجليل فقال ياقوت أن جبل الجليل في ساحل الشام ممتد إلى قرب حمص كذا كان معاوية يحبس في موضع منه من يظفر به ممن ينبز بقتل عثمان وقال ابن الفقيه وكان منزل نوح عليه السلام في جبل الجليل بالقرب من حمص في قرية تدعى سحر ويقال أن بها فار التنور قال وجبل الجليل بالقرب من دمشق أيضاً وهو جبل يقبل من الحجاز فما كان بفلسطين منه فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل وهو بدمشق لبنان وبحمص سنير، وهذا التعريف أقرب إلى الجلاء من غيره، وقال ابن عساكر أن جبل الجليل من أعمال صيداء وبيروت من ساحل دمشق، وهو تعريف حسن في الجملة قال أبو قيس بن الاسات:
فلولا ربنا كنا يهوداً ... وما دين اليهود بذي شكول
ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذا خلقنا ... حنيف ديننا عن كل جيل
قلنا إن أرض الجليل كانت معترك الأمم والأديان من قديم الزمان ولقد جاء عليها عهد أيام(60/11)
الرومان كانت فيه الأديار والبيع والمعابد مبثوثة في كل بقعة من بقاعه وقرية من قراه ولما فتحها المسلمون عاملوا أهلها بالرفق وأقروهم على عبادتهم شأنهم في فتوحاتهم ولكن دالت الدول وكرت الأعصار وجيشت ملوك أوروبا على الشرق جيوشها في القرون الوسطى وكانت الحرب الصليبية سجالا بين المسلمين والصليبيين في هذه الارض مدة قرنين فلا عجب إذا شهدنا أسوار المدن مهدمة وآثار البيع والاديار معفاة داثرة وأشجار ذاك الصقع وغاباته مدمرة وكثيراً من مدنه قرى صغيرة أو مزارع بائرة.
خربت هذه الديار بأدوار اتت عليها كان القول الفصل في سياسة حكومات الأرض لرجال الدين وكان أهل الصليب من أمم أوروبا كلما أرادوا أن يرجعوا أدراجهم ويتخلوا عن هذه الأرض يحفز أرواحهم حافز من القساوسة والشمامسة ومن لف لفهم من حملة الدين فيلقون بأنفسهم في مآزق صعبة ويركبون إلى نيل اوطارهم كل ذلول وصعبة فتردهم جيوش المسلمين عن استباحة حمى الإسلام لأن فلسطين أوسورية إذا ملكها الافرنج يضيع الإسلام المسجد الاقصى ويوشك أن يكون الخطر محدقاً بالحرمين الشريفين مبعث الوحي والرسالة ومحج أهل الإسلام من العالمين ولذلك هاجم الصليبيون هذه الديار بسائق الدين ودافع عنها المسلمون بسائق الدنيا والدين فكتبت الغلبة لأهل هذه البلاد وقلما ظفر مهاجم ورجع الدخلاء عنها مدحورين ولكن بعد أن خرب العامر والغامر وأصبحت نفراء جرداء لا تجد فيها خضراء ولا غضراء.
ولقد كانت طبرية عاصمة الجليل ولها شأن مذكور بين مدن تلك الأرباض أسست عام 17 للمسيح على يد هيرود انتيباس حاكم الجليل الذي جعلها عاصمته وسماها بالاسم الذي عرفت به إلى اليوم إكراماً لحاميه الامبراطور طيباريوس الروماني وكانت المدينة جنوبي موقع المدينة الحالية اولا اي حوالي الحمامات المعدنية ويسمى اليوم ذاك المكان بخربة الحمام وذلك لأنه اكتشفت مدافن وقبور في مكان المدينة القديمة فأبى اليهود أن يسكنوها لان خرق حرمة المدافن يعد عندهم من الكبائر، ولم يستطع هيرود أن يسكن طبرية لاول انشائها الا باناس من طبقة واطئة انعم عليهم بأنواع الاحسان وأغدق عليهم الأعطيات ترغيباً لهم ولما توفي عاملها عهد الامبراطور نيرون إلى اغريبا الفنى بالولاية عليها سنة 41 فلم يكن منه إلا أنه أسقط طبرية عن مكانتها واختار صفورية لتكون عاصمة الجليل.(60/12)
ولما انتفض اليهود على الرومانيين عهد إلى المؤرخ يوسيفوس أن يكون والياً على الجليل الاسفل والأعلى فحصن طبرية وكانت ينتابها ليؤيد نفوذ الدولة على الشاغرين من أهلها، واستسلم أهل طبرية لفباسيان وفتحوا له أبوابها لما داهم الجليل بجيشه فكان ذلك سبب أنعام الرومانيين عليهم بضروب الاحسان بعد خراب بيت المقدس.
ولئن سحق الامبراطور ادريانوس الامة الاسرائيلية وأنشأ له معبداً في طبرية لعبادة الأوثان فقط ظل نفوذ اليهود مستحكماً بعده، وإن عد اليهود طبرية بموجب شريعة اسرائيل من المدن القذرة فإن لربانيين منهم اختاروها واتخذوها بلدهم المقدسة وجعلوها محجهم الجديد وفي أواخر القرن الثاني انتقل من صفورية إلى طبرية كبار رجال التلمود عندهم ونشأ منهم ربابنة عظماء يقدسونهم ويمجدونهم ومنهم الذين جمعوا المبعثر من شريعة اسرائيل ودخلت النصرانية في القرن الرابع إلى طبرية.
فتحت طبرية على يد شرحبيل بن حسنة في سنة 31 هـ صلحاً على أنصاف منازلهم وكنائسهم وقيل أنه حاصرها أياماً ثم صالح أهلها عل انفسهم وأموالهم وكنائسهم إلا ما جلوا عنه وخلوه واستثنى لمسجد المسلمين موضعاً ثم نقضوا في خلافة عمر رضي الله عنه واجتمع إليهم قوم من شواذ الروم فير أبو عبيدة إليهم عمرو بن العاصي في اربعة آلاف وفتحها على مثل صلح شرحبيل وفتح جميع الأردن على مثل هذا الصلح بغير قتال قال ياقوت: وهي بليدة مطلة على البحيرة المعروفة ببحيرة طبرية وهي في طرف جبل وجبل الطور مطل عليها وهي من أعمال الأردن في طور الغور بينها وبين دمشق ثلاثة أيام وكذلك بينها وبين بيت المقدس وبينها وبين عكا يومان هي مستطيلة على البحيرة وعرضها قليل حتى تنتهي إلى جبل صغير فعنده آخر العمارة.
ولما فتح الصليبيون بيت المقدس اقطع ملكها غود نرى دي بوليون ولاية الجليل إلى تنكر يد فجعل عاصمتها طبرية فأنشئت مدينة حديثة شمالي القديمة وهي الموجودة اليوم وفي سنة 1187 قبيل وقعة حطين كان يملك طبرية ريمون الثالث كونت طرابلس فسقطت المدينة بيد صلاح الدين إلا القلعة وكان فيها امرأته وأولاده فطلبت الأمان من صلاح الدين فأمنها وانصرفت عنها تلحق بزوجها وغدت طبرية في سنة 1239 ملكاً لاود دي مو بيلارد بموجب معاهدة عقدت بين الملك الصالح أيوب سلطان دمشق ضد ملك مصر(60/13)
فاستعادها هذا بعد خمس سنين وذبح الحامية والنصارى فيما يقول الافرنج وأخذت هذه المدينة بالانحطاط حتى أن الرحالة كارسيموس لما زارها سنة 1620 لم يرقيها أحداً من اليهود ووجد سكانها كلهم من المسلمين.
وحكم طبرية ظاهر العمر حاكم عكا وهو الذي بنى سورها المتهدم الحالي سنة 1738 وجدده ابراهيم باشا المصري سنة 1833 ولكن أصيبت بعد أربع سنين من هذا التاريخ بزلزال لم يبق منها ولم يذر هلك فيه سبعمائة شخص وقوضت أركان أبنيتها كافة وقل سكانها المسلمون ونزلها يهود من أطراف الأرض وهم اليوم أكثر من ثلاثة أرباع سكانها لا يقلون عن سبعة آلاف فيهم النمساوي والبولوني والروسي وغيرهم.
وأهم ما في طبرية حماماتها وبحيرتها قال علي بن أبي بكر الهروي: أما حمامات طبرية التي يقال أنها من عجائب الدنيا فليست هذه التي على باب طبرية على جانب البحيرة (المعروفة اليوم) فإن مثل هذه كثيراً ما رأينا في الدنيا وأما التي من عجائب الدنيا فهو موضع من أعمال طبرية شرقي قرية يقال لها الحسينية في واد وهي عمارة قديمة يقال أنها من عمارة سليمان بن داود وهو هيكل يخرج الماء من صدره وقد كان يخرج من اثنتي عشرة عيناً كل عين مخصوصة بمرض إذا اغتسل فيها صاحب ذلك المرض برئ بإذن الله تعالى والماء شديد الحرارة جداً صاف عذب طيب الرائحة ويقصده المرضى يستشفون به وعيون تصب في موضع كبير حر يسبح الناس فيه ومنفعته ظاهرة وما رأينا ما يشابهه إلا الشرميا.
قلنا وإن ما يشير إليه من الحمامات بأنه في واد بعيد عن طبرية وهو من عجائب الدنيا يشير فيما نحب إلى الحمة الواقعة في وادي اليرموك على طريق الخط الحديدي عند الكيلومتر 93 و 95 قال أبو القاسم في وصف حمة طبرية وفيها عيون ملحة حارة وقد بنيت عليها حمامات فهي لا تحتاج إلى الوقود تجري ليلا ونهاراً حارة وبقربها حمة يغتمس فيها الجرب وبها مما يلي الغور بينها وبين بيسان حمة سليمان بن داود عليه السلام ويزعمون أنها نافعة من كل داء.
وهذه الحمة الأخيرة أي حمة سليمان لا تزال إلى اليوم معروفة بحمام سيدي سليمان وهي إحدى الحمامات الكائنة في جنوب طبرية على نحو كيلومترين منها ويجري الماء إلى(60/14)
الحمامات من أربع عيون حارة وأهمها ما بناه ابراهيم باشا وهو في الشمال ويعرف باسمه وهو عبارة عن حوض كبير تحيط به عمد قديمة من الرخام وعليه قبة عظمى وهي مثقوبة بثقوب اسطوانية يخرج منها البخار ودرجة حرارة الماء 62 بالميزان المئوي وهو صاف براق في الجملة ملح الطعم مر مهوع وتنبعث منه رائحة شديدة من حامض الكبريت أو رائحة بيض فاسد، وهذه الحمات ملك الحكومة تؤجرها ممن تريد لقاء ألف ليرة في السنة وفيها مغاطس في مكان آخر قد يغير صاحب الحمام مياهها في الاحايين ولكنها كسائر أقسام الحمامات الأربعة غير صحية لان أناساً كثيرين من أرباب الأمراض المختلفة ينزلونها في وقت واحد ويخشى أن تسري جراثيم بعض الأمراض إلى جسم من كان منها سليماً فيخسر بانغماسه في هذا الماء من حيث يريد الربح ولو رتبت هذه الحمامات ترتيباً صحياً كما هو الحال في حمامات مارينباد في النمسا وبورصة في الاناضول وحلوان في مصر وأنشئت هناك كما هو رأي بعض المفكرين في عمران هذه الديار للانتفاع بخصائصها الطبيعية فنادق وحدائق وأماكن تتوفر فيها شروط الراحة ومرافق الحياة لجلبت المستحمين في هذه الحمة من اقطار الأرض كما تجلب حمامات بورصة وحلوان ومارينباد وباد.
وموسم الاستحمام بهذه الحمامات من اول كانون الثاني إلى آخر حزيران وتختلف الحرارة في الصيف في طبرية من 25 إلى 42 ولكن الهواء حسن في الجملة فلا يؤثر في سكانها الأصليين كثيراً بقدر تأثيره في الغرباء ولذلك صدق ما قاله فيها أبو عبد الله ابن البناء: طبرية قصبة الأردن بلد وادي كنعان موضوعة بين الجبل والبحيرة فهي ضيقة كربة في الصيف وخمة وبئة وطولها نحو من فرسخ بلا عرض وسوقها من الدرب إلى الدرب والمقابر على الجبل بها ثمان حمامات بلا وقيد حارة الماء والجامع في السوق كبير حسن فرشه مرفوع بالحصى على اساطين حجارة موصولة ويقال أن أهل طبرية شهرين يرقصون من كثرة البراغيث وشهرين يلوكون يعني البق فإنه كثير عندهم وشهرين شاقفون يعني بإيديهم العصي يطردون الزنابير عن طعومهم وحلاوتهم وشهرين عراة يعني من شدة الحر وشهرين يزمرون يعني يمصون قصب السكر وشهرين يخوضون من كثرة الوحل في أرضهم قال وأسفل طبرية جسر عظيم عليه طريق دمشق وشربهم من البحيرة وحول(60/15)
البحيرة كله قرى متصلة ونخيل فيها سفن كثيرة وهي كثيرة الأسماك لا تطيب لغير أهلها والجبل مطل على البلد وماؤها عذب ليس بحلو.
ويرى أطباء العصر أن مياه طبرية الحارة تنفع النساء في وظائفهن التناسلية وتشفي كل الشفاء من الأوجاع العصبية الحادة والمزمنة ومن أمراض الرثية الروماتيزم ومن ضعف المجموع العصبي ومن داء النقرس ومن البول السكري ومن المرة السوداء لابوخندريا ومن أمراض أعضاء التناسل ومن الأورام المفصلية التي هي في حال الوقوف كما قد تنفع في التهاب قصبة الرئة برونشيت المزمن وبعض أمراض الأنف والحنجرة المزمنة والأمراض الجلدية وعدم انتظام حركة سلسلة الفقار واختناق الرحم والبول الزلالي والتدرن الرئوي وغيرها.
أما بحيرة طبرية فقد قال فيها واصفوها من الافرنج أنها الحوض الثاني الذي يملؤه نهر الأردن في طريقه عند انحداره من قيسارية إلى بحيرة لوط وسطح مائها على 308 أمتار تحت سطح البحر المتوسط وعمق البحيرة 45 متراً في وسطها ولكنه يبلغ 250 متراً في اللجج المجاورة للشاطئ الجنوبي من البحيرة اي قرب سمخ التي يركب منها إلى طبرية في قارب في البحيرة ساعة أو يركب في مركبة على اليابسة ساعة ونصفاً.
وطول البحيرة 21 كيلو متراً من الشمال إلى الجنوب وعرضها تسعة كيلومترات ونصف أي أن مساحتها السطحية 170 كيلومتراً مربعاً ومياهها قابلة للشرب في الفصول الأربعة وفيها كثير من السمك الجيد والجبال التي تحيط بالبحيرة في الجنوب الغربي تنفرج عنها في الشمال الغربي فيتالف منها نصف دائرة متسعة وفيها يكون سهل النويز الخصيب وعلى ثمانمائة متر من البحيرة إلى الأعالي عدة قرى وبينها مدينة صفد القديمة وفي الشمال من البحيرة سهل مموش يشعر بمصب الأردن وفوق السهل المتوج الذي يفصل بحيرة طبرية عن بحيرة الحولة أو مياه ميروم تنظر إلى قنن جبل حرمون (الشيخ) المكللة بالثلوج ويحد البحيرة من الشرق والجنوب الشرقي صخور عالية هائلة يبلغ علوها نحو ثلاثمائة متر وهي تحمل سطح الجولان وفي الجنوب ينفرج الغور ثانية فيجتازه الأردن ويتلون فيؤلف أضواجاً عديدة.
وكان اسم هذه البحيرة في القديم كنريت اشارة إلى شكلها البيضي الذي يشبه عود الطرب(60/16)
واسمه بالعبرانية كنور على أن هذا الشكل هو عام في جميع البحيرات التي تحيط بها الجبال ويجتازها نهر وكانت كنريت معروفة قبل العبرانيين من مدن الكنعانيين وبعد سبي بابل دعيت البحيرة بحيرة الغوير أخذاً من اسم السهل الخصيب الذي يصل إلى شواطئها من الشمال الغربي وسميت في العهد الجديد ببحيرة الجليل وببحيرة طبرية وهذا الاسم هو الذي أطلقه عليها العرب.
ولم يخل هذا البلد على حرارته من رجال في الإسلام ولدوا ونشأوا وكانت لهم يد في خدمة المسلمين مثل الامام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير أبي القاسم الطبراني أحد الأئمة المعروفين والحفاظ المكثرين والطلاب الرحالين الجوالين والمشايخ المعمرين المصنفين المحدثين والثقات الاثبات المعدلين وغيرهم ممن يفنى الدهر والخلف يتناقل عن السلف أعمالهم.
وكان الأردن على عهد الفتح الاسلامي أحد أجناد الشام الخمسة وهي كورة واسعة منها الغور وطبرية وصور وعكا وما بين ذلك قال أحمد بن الطيب المرخسي الفيلسوف هما أردنان أردن الكبير وأردن الصغير فأما الكبير فهو نهر يصب إلى بحيرة طبرية بينه وبين طبرية لمن عبر البحيرة في زورق اثنا عشر ميلا تجتمع فيه المياه من جبال وعيون فتجري في هذا النهر فتسقي اكثر ضياع جند الاردن مما يلي ساحل الشام وطريق صور ثم تنصب تلك المياه إلى البحيرة التي عند طبرية وطبرية على طرف جبل يشرف على هذه البحيرة فهذا النهر في الأردن الكبير بينه وبين طبرية البحيرة وأنا الاردن الصغير فهو نهر يأخذ من بحيرة طبرية ويمر نحو الجنوب في وسط الغور فيسقي ضياع الغور وأكثر مستغلهم السكر ومنها يحمل إلى سائر بلاد الشرق وعليه قرى كثيرة منها بيسان وقرارا واريحا والعوجاء وغير ذلك وعلى هذا النهر قرب طبرية قنطرة عظيمة ذات طاقات كثيرة تزيد على العشرين ويجتمع هذا النهر ونهر اليرموك فيصيران نهراً واحداً فيسقي ضياع الغور وضياع البثنية ثم يمر حتى يصب في البحيرة المنتنة في طرف الغور الغربي وللأردن عدة كور منها كورة طبرية وكورة بيسان وكورة بيت رأس وكورة جدر وكورة عفورية وكورة صور وكورة عكا وغير ذلك، وقد فتح طبرية لما انتقضت عمرو بن العاص كما قلنا فتحها على مثل صلح شرحبيل وكذلك جميع مدن الأردن وحصونها ففتح(60/17)
بيسان وافيق وجرش وبيت رأس وقدس والجولان وعكا وصور وصفورية وغلب على سواد الأردن وجميع أرضها.
في وادي الأردن بين قرية لوبية وطبرية في سهل قرية حطين وقعت الوقعة الهائلة بين جيوش الصليبيين وجيوش المسلمين ورأسهم صلاح الدين التي قال فيها مؤرخو الصليبيين أنها كانت في الرابع من تموز سنة 1187م وكان جيش الافرنج مؤلفاً من ألفي فارس وخمسين ألف راجل اشتد بهم العطش لقلة الماء هناك وبرحت بهم تباريحه قبل الوقعة بيومين وهبت عليهم ريح شرقية وهي المعروفة بالخماسين فمن لم يسلم الروح ظلماً اسلمها للسيف وانهزم الكنت ريموند صاحب طرابلس فاستولى صلاح الدين على الاكمة وقتل من ملوكهم صاحب الكرك رنودي شاتليون الذي كان غزا الحجاز واحب فتح الحرمين فنذر صلاح الدين أن هو ظفر به أن يقتله بيده وكذلك كان واستسلمت سائر المواقع لإرادة الجيش الصلاحي.
وكان صلاح الدين قد نازل طبرية ونقب بعض ابراجها ونهب المدينة وأحرقها فلما سمع الفرنج بذلك اجتمعوا للمشورة فأجمعوا على التقدم فركبوا واشتد القتال وصبر الفريقان ورمي جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر والافرنج يقاتلون سائرين نحو طبرية لعلهم يردون الماء فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عنه وكان بعض المنطوعة قد ألقى في تلك الأرض ناراً وكان الحشيش كثيراً فاحترق وكانت الريح فحملت حر النار والدخان إليهم فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار والدخان وحر القتال فلما انهزم القمص (الكنت) سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ثم علموا انهم لا ينجيهم من الموت إلا الاقدام عليه فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون المسلمين على كثرتهم عن مواقفهم إلا أن الافرنج لا يحملون حملة فيرجعون لا وقد قتل منهم فوهنوا لذلك وهناً فارتفع من بقي منهم إلى تل بناحية حطين وأرادوا أن ينصبوا خيامهم هناك فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات واخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت ويذكرون أن فيه قطعة من الخشب التي صلب عليها المسيح عليه السلام فيما يقال فكان أخذه من أعظم المصائب إلى أن أسر المسلمون من نجا من حد السيف وفيهم الملك وأخوه والبرنس ارنلط (ارنولد) صاحب الكرك ولم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين وأسروا أيضاً صاحب(60/18)
جبيل وابن هنفري ومقدم الداوية وكان من أعظم الفرنج شأناً وأسروا أيضاً جماعة من الداوية وجماعة من الاسبتارية (الاسبتالية) وكثر القتل والااسر فيهم فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحداً وما أصيب الفرنج منذ خرجوا إلى الساحل وهو سنة إحدى وتسعين واربعمائة إلى الآن (583) بمثل هذه الوقعة قال ابن الأثير: ولقد اجتزت بموضع الوقعة بعدها بنحو سنة فرأيت الأرض ملأى من عظامهم تبين على البعد منها المجتمع بعضه على بعض ومنها المفترق هذا سوى ما جحفته السيول وأخذته السباع في تلك الآكام والوهاد.
واختلفت الروايات في مقدار عسكر صلاح الدين والصحيح على أنه كان نحو جيش الصليبيين أي يزيد عن خمسين ألف مقاتل إلا أنه كان يزداد كل يوم حتى صار معه في طبرية ثمانون ألف مقاتل واجتمع عسكر الصليبيين في الجليل في صحراء صفورية أولاً إلى أن كانت هذه الوقعة التي لم تقم لهم بعدها قائمة وسقطت مدن الجليل بيد الجيش الصلاحي واحدة بعد أخرى مثل عكا والناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا قال العماد الاصفهارني: وكانت الفولة أحسن قلعة وأحصنها واملأها بالرجال والعدد واشحنها وهي للداوية حصن حصين ومكان مكين وركن ركين ولهم بها منبع منيع ومربع مريع ومسند مشيد ومهاد مهيد وفيها مشتاهم ومصيفهم ومقراهم ومضيفهم ومربط خيولهم ومجر ذيولهم ومجرى سيولهم ومجمع اخوانهم ومشرع شياطينهم وموضع صلبانهم ومورد جمتهم وموقد جمرتهم فلما اتفق يوم المصاف خرجوا باجمعهم إلى مصرعهم واثقين بأن الكدر لا يتمكن من صفو مشرعهم فلما كسروا وأسروا وخسروا وتحسروا ظلت ظلول انفولة بحدود اهلها المفلولة ودماء داويتها المطلولة ولم يجتمع شمل غمودها بالسيوف المسلولة ولم يبق بها إلا رعايا رعاع وغلمان وأتباع واشياع شعاع فعدموا امكان حماية المكان ووجدوا امنهم في الاستئمان فسلموا الحصن بما فيه إلى السكان وكانت فيه اخاير الذخائر ونفائس الاعلاق فوثقوا بما أحكموه من الميثاق وخرجوا ناجين ودخلوا في الزمام لاجين وللسلامة راجين وتسلم جميع ما كان في تلك الناحية من البلاد مثل دبورية وجينين وزرعين والطور والمجون وبيسان والقيمون وجميع مالطبرية وعكا من الولايات والزيب ومعليا والبعنة واسكندرونة ومنوات.(60/19)
هذه هي عاصمة الجليل وهذا طرف من تاريخها وعمرانها في القديم أما اليوم فحالها حال قرية حقيرة لا نكاد تجد فيها شجرة مع اشتهارها قديماً بكثرة الاشجار بلا أن النخيل الذي كان يكثر فيها لا تجد له إلا أثراً ضئيلاً جداً كما كاد يفقد من أرض الجليل اللهم إلا بعض سواحل البحر ولذلك تجد طبرية باهتة مكمدة ولو حفت المراف البحيرة بالأشجار لطاب مناخها واعتدل هواؤها وراق للنواظر منظرها وأصبحت مصيفاً ومشتى على حد سواء ولكل الأهالي كالى والحكومة لا يهمها إلا أخذ ما تيسر من الضرائب والعثور.
قال لنا أحد أصدقائنا من علماء دمشق في الاقتصاد والعمران زرت طبرية منذ اثنتين وخمسين سنة وزرتها منذ سنتين فلم أشهد فرقاً في عمرانها بل رأيتها جامدة لم تتحرك ولولا فندق لالماني ومستشفى للانكليز لرسمت لطبرية نفس تلك الصورة التي علقت في ذهني منذ نصف قرن ومع ما نشكه من بطء بلادنا في نهوضها وعمرانها نجد القرى في هذه الحقبة من الزمن قد تغيرت صورتها وانبسطت رقعتها وحسنت ولو بعض الشيء بقعتها أما طبرية فهي الجمود بعينه ولم يزدها الاجالية من يهود الغرب نزلوها مهاجرين فكان المسكن الذي ينزله خمسة أنفس يؤوي الآن عشرين فتضايق السكان وفسد الهواء واستوبل الماء وافتقر أهل البلاد الأصليين لأن لسان حال الاسرائيليين والصهيونيين خاصة مع جميع الشعوب كما قال ذلك السامري لامساس.
كان من حق الناصرة أن يسبق الكلام عليها لانها اليوم أعمر بلاد الجليل ومهبط أفئدة أمم النصرانية ولكنها بلد حديث بالنسبة لبلاد الجليل بدأ مجدها بأنها كانت موطن مريم العذراء عليها السلام وفيها عاش المسيح إلى الثلاثين من عمره ولم ير لها ذكر في كلام قدماء المؤرخين ومعنى الناصرة الفرع أو الزهرة وهي على ثلاثة عشر ميلاً من طبرية ممتدة على شكل نصف دائرة في سفح دائرة من الآكام العالية وبيوتها بيضاء نظيفة تحيط بها أشجار الزيتون والتين والصبار وبذلك تألف منها صورة مليها لا تتعب العين من النظر إليها.
قال رنان: كانت الناصرة بلدة صغيرة قائمة في طية أرض منبسطة على متن بعض الجبال أما سكانها فإنهم يبلغون اليوم أربعة آلاف نسمة فكأنها الناصرة القديمة لأن المؤرخ يوسيفوس يقول أن أصغر قرى الجليل كان عدد نفوسها خمسة آلاف نسمة وإن كان هذا(60/20)
القول لا يخلو من مبالغة، والبرد في الناصرة شديدة في زمن الشتاء ولكن الهواء جيد جداً وكانت الناصرة في ذلك الزمن شبيهة بكل قرى اليهود يومئذ أي أنها كانت مؤلفة من منازل مبنية من غير هندسة ولا نظام ومنظرها شبيه بمنظر القرى الآسيوية وربما لم تكن منازل الناصرة تختلف عن المنازل الحجرية المربعة القائمة في جهات لبنان العامرة والتي إذا أضيفت إليها أشجار الكرمة والتين المغروسة بجانبها كان لها منها منظر رائق.
أما المكان الذي بنيت فيه الناصرة فإنه مكان شائق وليس في الدنيا كلها مكان أفضل منه للأمل في السعادة والراحة، ولا تزال هذه المدينة إلى اليوم مقاماً جميلاً، أما سكانها فهم قوم ألفوا اللطف والبشاشة وحدائقها باردة خضراء، وقد وصف انطونين مارتير الناصرة في أواخر القرن السادس عشر فشبه أرضها بأرض الجنة من فرط خصبها، ولا يزال في غربي المدينة أودية خصيبة ينطبق عليها وصفه.
أما العين التي كانت مركز الحركة في هذه المدينة وكان حولها السرور شاملاً فقد هدمت ولا يجري الآن من نبعها سوى ماء كدر وأما جمال النساء الناصريات اللواتي يجتمعن حولها في المساء من ذلك الجمال الذي كان مشهوراً عنه في القرن السادس عشر أن هبة للناصريات من مريم العذراء فإنه لا يزال يترقرق في وجوههن فهناك الشكل السوري الجميل في أتم خلقه.
ولا شبهة في أن العذراء كانت تقف في صباها بين أولئك النساء حول العين ومعها إناء الماء لتستقي منها، وقد قال انطونين مارتير أن نساء اليهود يكرمن المسيحيين في هذا المكان مع أنهن يكرهنهم كرهاً شديداً في غيره، فكأن هواء وطن السيد لطف أخلاقهن، وإذا نظرت في البغض الديني وجدته في هذا المكان أخف منه في سائر الأمكنة.
وأما منظر الأفق من المدينة فإنه قصير ضيق ولكنك إذا صعدت إلى الآكام المشرفة عليها انبسط أمامك منظر جميل يسحر الألباب، فإنه من الجهة الغربية يظهر لك جبل الكرمل ممتداً إلى البحر وداخلاً فيه ويليه غيره من الجبال بينها وادي الأردن وسهول بيريا المرتفعة، أما في جهة الشمال فإنك ترى جبال صفد متجهة نحو البحر وهي تستر عنك عكا وتظهر لك خليج حيفا.
مذ كان أفق يسوع، هذا كان في صباه المنظر الدائم أمام عينيه، هذا هو مهد ملكوت الله(60/21)
وسرير الديانة المسيحية، فإذا بقي العالم مسيحياً في مستقبل الزمان وصار أكثر احتراماً لأصول الدين وأشد رغبة في استبدال الأماكن المقدسة المشكوك فيها بأماكن حقيقية فما عليه إلا أن يبني كنيسة على هذه الآكام التي كان يسوع يجلس عليها ويشاهد العالم بها، هناك يجب أن تقام الكنيسة الكبرى التي يجب أن يحج إليها المسيحيون من جميع أقطار العالم، هناك حيث يرقد يوسف النجار وألوف من أبناء الناصرة المنسيين يحق للفيلسوف أن يقف ويتأمل في مجرى حوادث العالم ليعزي نفسه عما يصادفه الانسان في هذه الحياة من الفشل والخيبة في أعز ما يكون لديه ولكي يتحقق أن العالم سائر إلى غرض إلهي لا يصرفه شيء عنه مهما قام في سبيله من المصاعب والعثرات.
هذا ماوصف به فيلسوف الفرنسيس الناصرة بلد يسوع الناصري كما كان يقال له والتي منها اشتق اسم النصارى وهو وصف ينطبق كل الانطباق على حالتها اللهم إلا ما جاء عفو الخاطر فكان أشبه بتشبيه شاعر مثل قوله في مكان الناصرة أنه ليس في الدنيا كلها مكان أفضل منه للتأمل في السعادة والراحة ونظن مثل هذا القول يصح إطلاقه على جبال سورية عامة بل جبال الأرض كافة فهي كلها تبعث الروح على التأمل لفراغ الذهن فيها من كدورات المدن وازدحام الأنفاس ولما تقع عليه العيون من المناظر الشائنة في هذا الوجود الغريب وكيف كانت الحال فالفيلسوف يعذر على ما قال لنشأته وتربيته التي قلما يتجرد منها إنسان مهما نزع ربقة القيود والتقاليد ولكن هذا الغلو لا يقدح في جمال هذا البلد الطيب وأي بلاد لا تطيب لأهلها.
أما تاريخ الناصرة فله ارتباط كلي بتاريخ الجليل وبعد فلم تداهم جيوش كبرى وهولاكو وتيمور هذا الإقليم فلم من غاراتهم وتخريبهم ولقد قال بعض مؤرخي الافرنج أن التسامح الذي أسداه المسلمون للمسيحيين لم يدم زمنه طويلاً حتى أن ويلبالد لما وصل إلى الناصرة سنة 725 م لم يجد فيها كنيسة قائمة ومع هذا ذكروا بأنه كان فيها سنة 808 ثمانية عشر راهباً.
وتغلب الامبراطور يوحنا سيميسيس على العرب واستولى على سورية وفلسطين واحتل طبرية عام 975 م وجبل تابور والناصرة ولكن ادخل عليه خصيانه السم فعادت الولايات التي افتتحها فسقطت في أيدي العرب، وقد قال ساولف أن تنكرد لما فوضت إليه بعد فتح(60/22)
القدس بلاد الجليل سنة 1100 م كانت معاهد الناصرة قد خربها العرب ولم يبق إلا بعضها فأعاد الصليبيون بناءها واتخذوها كنيسة جامعة لهم، ولما سقطت أرض الجليل بيد صلاح الدين بعد وقعة حطين آضت الناصرة أيضاً إليها فعطف على أهلها وفي خلال هدنة العشر سنين المعقودة بين الصليبيين وصاحب مصر في 20 شباط 1229 أصبح فريدريك الثاني امبراطور ألمانيا الحاكم المتحكم بالطريق من عكا إلى الناصرة فرمم هذه المدينة على أنها ما كانت قط حصناً منيعاً.
وفي شهر آذار 1263 قدم من مصر في جيش هائل صحبها الظاهر بيبرس البندقداري وعسكر في منحدر جبل تابور وبعث كما قال القس مسترمان برجاله يخربون البيع والادبار واطلق الحرية للمسيحيين على أن يدينوا بالاسلام لكنهم أبوا ووقعت فيها وقعة هائلة قتلوا عن آخرهم، ولمؤرخي الادبار أخبار يتلونها وأحاديث يقصونها عما لقيها القسيسون والرهبان من المظالم إلى القرن الماضي أيام تنفس خناقهم بتولي الظاهر عمر امر الجليل فأصبحوا أحراراً في كنائسهم وعباداتهم آمنين من عيث البدو الذي وقع مرتين على الناصرة فغزوا أهلها في عقر دارهم.
وتاريخ الناصرة هو في الحقيقة تاريخ الادبار والمعابد فيها وفد قوي سلطانها منذ جاءه بونابرت وحاصر عكا سنة 1799 وبعث بأحد قواده يعسكر في الناصرة الاحسانات على الاديار من أمم النصرانية في الغرب على اختلاف لغاتهم ومذاهبهم وما منهم إلا من أنشأ بيعة حتى بلغت أربع عشرة بيعة وكنيسة ومعظمها من ضخامة البناء وحسن الهندام ما يذكر بقصور الملوك ومنازل المترفين والفرنسيسكان أقدم الرهينات وأرسخهم قدماً في الناصرة وكنيستهم مما يزار لبعض الآثار التاريخية فيها ويكفي أنها أثر من آثار الكنائس في القرون الوسطى.
وفي الناصرة يشتد التنافس بين أهل المذاهب المختلفة من المسيحيين يعلمون الذكور والإناث ويلقنونهم ما يشاؤون ويطبون المرضى ويعطونهم العقاقير بلا مقابل من أي نحلة كانوا على شرط أن يستمعوا لبعض الواعظين ونصائح دعاة الدين ولذلك قل في هذه البلدة أميون وجاهلون، والقارئون الكاتبون من أهلها من الجنسين أكثر من كل بلد سواها في سورية يعيشون بصدقات المحسنين ويتمتعون بما تجود بهم أيدي أتقياء الغربيين.(60/23)
ولو اتصلت الناصرة اليوم بالسكة الحديدية مع خط حيفا على الأقل أو لو مد منها خط إلى القدس لما حج حاج من النصارى إلا ونزل الناصرة يزور ويتبرك ولكان من ذلك للحكومة والأمة فائدة مادية مهمة فمن مدن سويسرا ما يعيش طول سننه مما ينفته الزوار في مصايفها أفلا يجدر ببلد السيد المسيح أن يعيش أهلها من ريع يأتيهم به عشرات الألوف من جمهور المؤمنين من المسيحيين.(60/24)
غابات سورية
تشجير أراضي السلطنة من أهم المسائل الاقتصادية المهمة التي يجب أن تصرف لها عناية العثمانيين وحكومتهم فقد جهل الناس منافع الغابات ولم تعن الحكومة بالهيمنة عليها حتى أتى السكان أو كادوا في أكثر الأقاليم على ما لقى لهم الأجداد من الغابات الغبياء فكاد الخطر يحدق بحياة البلاد الاقتصادية ويوشك أن يستفحل الخطب لهذا الإهمال.
قال العارفون أن في المحافظة على الغابات نجاح الزراعة والتجارة والمعامل والصناعات والملاحة البحرية والنهرية والمناجم وجميع أسباب الراحة في الحياة بل وحياتنا أيضاً، ودعا المحدثون من الاقتصاديين والمفكرين في الغرب إلى حفظ الغابات قائلين أن حفظها من أول مصالح المجتمعات وحفظها أول الواجبات على الحكومات وأثبتوا أنه كلما قطعت من بلد أشجاره يمسي فقيراً لأن في قطع الأشجار التي تغشى منحدرات الجبال وقتها ثلاثة مصائب لأبناء الأجيال المقبلة: قلة الوقود وقلة المياه واعداد البلاد الفيضانات المخربة فحياة البشر مناطة بالاشجار، والأمم التي تحب الغابات هي من الأمم العاملة التي تحسب للمستقبل حسابه وبقدر عراقة الأفراد في الأخلاق والتقاليد يجعلون لهم منها رؤوس أموال فيفلحون بها ويرتاشون.
إبادة الأشجار جائحة من جوائح الانسان ونذير اضمحلال الأمم فالاحتفاظ بالغابات والآجام هو تطبيق لمبدأ الدين الاجتماعي وقانون التكافل الذي يربط الأجيال بعضها ببعض قال الوزير كولبر الفرنسوي ذات يوم وقد رأى قلة عناية أمته بغاباتها: أن فرنسا ستهلك من قلة الحراج.
وليس معنى إبادة الغابات حرمان بلادنا من أجمل حليها بل انضاب ينابيع الأنهار وإخلال نظامها إخلالا فيه الهلاك والتخريب والإضرار بالصحة العامة وتغيير وضع الأرض التي تحملنا فتتآكل التربة الصالحة منها على الزمن بهجوم المياه عليها دفعة واحدة وهو من أعظم الأخطار على التربة المنحدرة، ومتى عري الجبل من أشجاره يهلك الزرع والضرع معاً فتجري السيول على التربة الجرداء تحمل معها أولاً التربة الصالحة للزراعة ثم تفرج ما بين الصخور وتجعل الأحجار ركاماً مشرفاً على الأودية ويصبح النهر مسيلاً تكثر مياهه فتفيض أيام الأمطار وتنهال بدون نظام مودية بكل مافي طريقها وتتزايد زيادة هائلة فيفيض في السهل وهناك الفيضان والطوفان وتقطع الأمواج بتيارها الأشجار والصخور(60/25)
وتخرب السدود وتودي بالدور والقصور وتدك المدن من أسسها، تجري مياه الأمطار على الصخر القاحل كأنها تمشي على سطح دار وتخرب المراعي وتفيض الأنهار حاملة تربة الجبال وحصاها وأحجارها فتطفح بها مجاري المياه وتسد مصابها وبعد أن تفيض المسايل كثيراً تصبح ولا ماء فيها ويختل نظام الاهوية ويكون من ذلك خراب رعاة الجبل وزراع السهل وتجار الثغور والمدن وصناعها، من أجل هذا ساغ لنا أن نقول أنهم كلهم متضامنون في منع جرد الأشجار وتعرية الجبال.
ولقد نشأت في كل عصر مضار كثيرة من جرد الجبال من أشجارها وغاباتها قال أحدهم: كانت صقلية وإفريقية الشمالية والمغرب الأقصى انبار رومية في القديم فأصبحت قاحلة ماحلة بما تواتر عليها من غارات الفندال والمغرب التي انتهت بتحطيم الغابات وكل ما يشاهد من الخرائب العظيمة في تونس والجزائر وبعض أعمال قسنطينة وفي غيرها شاهدة ناطقة بأن هذه الأقاليم القاحلة اليوم كانت زاهرة أمس وفيها المدن العامرة عراها السقوط كما عرا إسبانيا من إبادة أشجارها وكم من خرائب حفر فيها وهي رمال أو أنقاض فشوهدت تحتها مدن كانت عامرة بمياهها المطردة وحدائقها الغبياء وغاباتها الغناء فلم تؤت إلا من قطع غاباتها ونسفت الرياح الرمال على تلك المدن فأصبحت كأن لم تغن بالأمس.
ولقد ثبت أن فقر البلاد ولا سيما الجبلية منها ناشئ من قطعها الأشجار خاصة وكلما توغل المرء في دراسة التاريخ يجد الشواهد الكثيرة على تأثير الغابات في تكثير السكان فقد كان لبلاد اليونان وهي اليوم فقيرة قليلة السكان غابات وأنهار وإن اجداب الحقول الرومانية وخرابها ناشئان من تجرد جبال الابنين من أشجارها، وجبال الابنين تقطع ايطاليا إلى شطرين، وقد ناب اسبانيا انحطاط سريع من هذا الشأن فبعد أن كانت في القرن السادس عشر على عهد شارلكان وفيليب الثاني عامرة غنية محترمة انحط عمرانها في القرن السابع عشر من دون أن يضربها عدو أو تستبيح حماها أمة غازية فلم يمض عليها قرن إلا وقد رأت جميع علامات الانحطاط وقل سكانها على صورة مدهشة فنزل سكان مدريد من أربعمائة ألف إلى مائتي ألف في أوائل القرن الثامن عشر والسبب في نزوح السكان تلك المجاعة التي حدثت من الجفاف الذي دعا إليه تعرية البلاد من غاباتها تعرية أخلت بنظام الري، حتى أن نهر المانزاريس كان في القرن السادس عشر قابلاً لسير السفن في(60/26)
على مقربة من مدريد فأصبح اليوم جافاً، وأنهم ليمزجون في إقليم اراغون الرمل بالخمر بدل الماء عندما يريدون أن يجبلوا الطين، فنفوس البلاد وعظمتها على نسبة غناها بغاباتها، وبلاد روسيا أكثر أوروبا غابات فإن أربعين في المئة من أراضيها مغشى بالأشجار و16 في المئة من أرض فرنسا وأرض إيطاليا مغشاة بالأشجار و 24 في المئة من ارض المانيا و6 في المئة من أرض البرتغال و5 في المئة من أرض فارس و3 في المئة من ارض إسبانيا وبلاد اليابان أكثر بلاد الدنيا غابات، وتبلغ مساحة الغابات في الولايات المتحدة خمسة أضعاف مساحة فرنسا ويحرق منها ي السنة نحو ثلثمائة هكتار وكثيراً ما يلتهم قسم من غابة فتبقى الأيام مشتعلة وربما حرقت فيها قرى بسكانها كما حدث في حريق البحيرة العالية وحدث هذه السنة فدام الحريق أياماً ذهبت فيه مئات الألوف من الليرات.
ليس من جميع النباتات التي تنبتها الأرض ماعدا الحنطة التي هي أول المواد اللازمة لغذائنا نبات ضروري لنا كالغابات نافع يحمد اثره: فللشجرة منافع كثيرة وتأثير عظيم في الأنواء والحوادث الجوية في كل قطر فهي تصفي مياه الامطار وتعيدها ببطء إلى الينابيع والهواء وتحول بورقها وجذوعها دون جريتها سريعاً فالاشجار لا تمسك الماء فقط بل تجذبه ثم تنظم هطول الأمطار وتقلل من الفيضان وتبقى التربة في ظل الأشجار ندية خلال أيام القيظ، ونظام الغابات نظام للاهوية، فالشجرة تقي التربة من صدمات قطرات المطر والبرد فيكثر في الشتاء الثلج على قمم الجبال وتحول جذوع الأشجار وأغصانها دون سقوطها وتطيل مدتها وتذوب ببطء وتغسل القشرة الرقيقة تحت سطح الأرض وتمد الينابيع وتعطي مزروعات الأودية الرطوبة اللازمة لها، وإن جذوع الأشجار في العقاب والتلعات لتمسك التربة عن الانهيال وتقبض الصخور المفككة وتحول دون انهيار التراب.
وكم من أشجار هي مأوى الماشية منذ قرون وحامية حياة الإنسان كما هي حامية الهوام والحيوان وكثيراً ما تنبت الرياحين والورود في أطرافها كما أن الأشجار تمسك الحميات وتمتص رطوبة المستنقعات وتطهر هواء الاقليم بفضل حفيفها المنبعث من اكتظاظ الصخور الشجراء، ولقد صدق من قال من عشاق الأشجار تأتينا الشجرة بالماء ومن الماء يصير مرج والمرج يغذي الماشية ومن الماشية ينشأ السماد ومن السماد الحنطة.(60/27)
لا جرم أن كل من جال جولة في أوروبا وأميركا يعرف مقدار حرص الفرنجة على الانتفاع بالغابات، فقد قامت الجرائد والجمعيات في فرنسا منذ مدة تدعو إلى تشجير الأراضي الوعرة أو غير الصالحة للمراعي وإلى تخضير الأراضي المنحدرة انحداراً قليلاً ولسان حالها ينادي أننا نرمي إلى إنقاذ أرض الوطن والمحافظة على ارث ثروتنا وبدائعنا الطبيعية ونريد تربية فكر الطفل منذ صغره على قدر حسنات الغابات قدرها فبهوائها يحسن الجو وتطرد مجاري الأنهار ويخضل العشب ويكثر غذاؤه للماشية والسائمة والجبال أجمل منظراً والسهول أكثر ابتساماً، وأقبلت الجمعيات وغيرها تنشر منشورات في فوائد التشجير وتوزعها على الفلاحين واشتغل مجلس النواب ومجلس الشيوخ بذلك مدة طويلة.
وقامت انكلترا تريد تشجير كل ما يمكنها تشجيره من ارضها ولا سيما في السواحل البحرية التي تسطو عليها مياه البحر تريد بذلك أن تجد عملاً للبطالين وقدرت اللجنة التي عهد إليها النظر في سطح الأرض التي تعطي إذا شجرت أكثر مما تعطي الآن من الدخل فكانت 3600000 هكتار من ثمانية ملايين بدون أن يمس السطح المغروس من الجزائر البريطانية وايرلاندا وتبين لهم أن غابات انكلترا أقل من غيرها من غابات البلاد الأوروبية وأن الحكومة لا تموت بتاتاً ولذلك يتيسر لها أن تكمل ما بدأت به من الأعمال إلى الغاية المطلوبة على خلاف الأفراد فإن الفرد يصعب عليه أن يصرف شيئاً ربما لا يأتيه في حياته فمن ثم كانت الحكومة أقدر على تشجير الغابات واستثمارها بعد سنين طويلة خصوصاً وأن بيع الأخشاب والأحطاب لا يصعب على حكومة وقد رأوا أن ما تصرفه الحكومة من المال وتنتظر الحصول عليه يأتيها من الواردات بفائدته مضاعفة وأنه ليس من العدل أن يصرف أبناء هذا الجيل ما يقتطف ثمرته أبناء الجيل القادم أي بعد ثمانين سنة وهي المدة التي لا يتأتى الانتفاع بالغابات في أقل منها فإذا شجرت الحكومة كل سنة ثلاثين ألف هكتار تدفع في السنة الأولى 1125000 فرنك وتكثر النفقة سنة عن سنة حتى السنة الأربعين فيكون قد بلغ ما صرفته 39 مليون فرنك وتعادل النفقات الدخل بعد هذه السنة إلى السنة السبعين وبعدها يزيد الدخل على الخرج فيبلغ الدخل الصافي نحو أربعة في المئة فتكون إذ ذاك 248 مليون فرنك وتساوي أملاك الحكومة من الغابات ثمانية مليارات فرنك أي أنها تبلغ ملياراً ونصفاً زيادة على كلفتها، وكل هذه النفقات والمداخيل(60/28)
محسوبة بأسعارها الحاضرة ولم ينظر فيها إلى غلاء أجور العملة وارتفاع أسعار المحاصيل ورأوا أن ما يعرض للغابات من التخريب الناشئ عن الحريق والحشرات والثلج والعواصف وغير ذلك يعادل ما تربحه الحكومة من ارتفاع الأسعار لأن ما ينفق من الغابات يزيد على ما يخرج منها الآن في البلاد المتمدنة، وهذا التشجير يشغل تسعين ألف رجل طول السنة عدا من يستخدمهم من أرباب الحقول مؤقتاً.
نعم إن تأثير الغابات في المناخ وأنباط المياه وتحسين الأرض وتطهيرها وجمالها وفائدتها الاقتصادية والوطنية لا ينكرها إلا أعمى البصر والبصيرة، ومما ذكروه من منافع الغابات للوطن إن غابة هو سنين وهي غابة صنوبر تمتد بين نهري الرين والفتول قد صدت كتائب الرومانيين عن التقدم، وهكذا حلت انكلترا مسألة الغابات وهي موطن الاستقلال الشخصي واحترام الأملاك الخاصة وتقسيم الادارة المركزية لعلمها بأن الأفراد في هذه المسائل لا صبر لهم بقدر الحكومة ولا عجب فهي الحكومة التي تغرس الغرسة اليوم وتنتظر جني ثمرها بعد قرن أو قرنين هذا في البلاد القاصية فما بالك بها في عقر دارها.
إليك أقل ما يجب أن يقال في وصف منافع الغابات والتشجير ويدل على مبلغ عناية الافرنج بها وهم أعرف الخلق بالانتفاع من هذا الوجود، وأن من يطوف المعالم والمجاهل من بلاد سورية ليستنتج أن عناية أجدادنا بالغابات لم تكن دون عناية الغربيين بها اليوم وإن كانت البقية الباقية منها لا تسد خلة ولا تغني أهلها، وإذا كانت الحكومة في القرون الأخيرة لا تهتم إلا لتكثير الجباية والعشر ولو باستنزاف دماء الفلاحين وكان الأمن إذا ارتفعت أعلامه في بعض الأقاليم فإنما يرتفع بالقرب من الحواضر والقصبات والدساكر كانت الغابات في الغالب نهب الناهبين وغرضاً لاسنان القطعان وفؤوس الحطابين ولم تؤسس في الدولة نظارة للغابات إلا منذ سنين قليلة وكأنها لم تكن إلا لتأتي أيضاً على ما أبقته طوارق الحدثان من غاباتنا الجميلة لأن عمالها يساعدون على تقليلها وكان الواجب عليهم أن يساعدوا على تكثيرها.
وكم من جبل في سورية اجرد امرد لا شجرة فيه كجبل قلمون الذي تمشي فيه ساعات ولا تجد أثراً للزرع ولا للشجر حتى قال أحد الأجانب ممن زاروه مؤخراً: كنت أتمنى في حياتي أن أشاهد جبلاً أجرد من الكلاء والشجر فيها قد قرت عيني في قلمون بمشاهدة ما(60/29)
كنت أريده من الجبال الجرداء.
وأكثر جبال سورية غابات فيما احسب جبل لبنان ففيه من الأشجار غير المثمرة الزان والسنديان والسرو والأرز، والأرز أهمها ومنه غابة بالقرب من قرية بشري قديمة والغالب هي التي كان يحمل من خشبها أيام الفراعنة إلى مصر لبناء سفنها والمعابد وغيرها فيؤتى به إلى جبيل أو إلى طرابلس ومنهما يحمل في سفن شراعية، ولعل غابات دير القمر والباروك وعين زحلتا كانت تحمل إلى صيدا ومنها تقل في المراكب، قالوا أن الحكومة في لبنان كانت تحتكر أربعة أشكال من الشجر تستثمرها لخزينتها وهي السرو والعرعر والأرز والصنوبر وتسمح بقطع غيرها واحتطابه، وقلت الغابات في لبنان منذ نحو خمسة قرون لاحتياج السكان إلى الاحتطاب وأخذ القوم يقلعون الغابات ويغرسون بدلاً منها أشجار التوت والكرم، وشجر الأرز مما تفرد به جبل لبنان من دون سائر جبال سورية ولا وجود له إلا في أعالي سير ببلاد الضنية في وادي النجاص ففيه كثير من شجر الأرز وبين سير ونبع السكر وفي الغابة الواقعة خلف وادي جهنم ويسمى تنوب.
ويكثر شجر الشوح في جرود الهرمل وعكار وهي في الغالب من الأملاك الأميرية ينتفع بها الأهلون خفية أو يدفعون ثمناً قليلاً للاحتطاب منها كما هو الحال في جبال عجلون، وفي جرود الهرمل وعكار صنوبر وسنديان وأنك لتمر في جبال طويلة عريضة لا ترى إلا السنديان وكذلك جرود الضنية وعكار من أعمال طرابلس كلها حراج تضمنها الحكومة.
وعلى مسيرة يوم من شرقي حماة غابات من شجر البطم وهي الفستق البري بعينه تسمى الثومرية والبلعاس وهي منازل للعربان يقطعون منها ما شاؤوا ويرعون فيها ماشيتهم وقد أضيفت إلى الأراضي المدورة أي الأراضي السنية فما زادت إلا خراباً على خلاف بعض الأراضي التي ضمت إلى الأراضي المدورة في العهد الحميدي فكان من حظها أنها عمرت وارتفع فيها علم الأمن.
وأخبرنا أحد أصحابنا أن في قرية حرمل من جبال النصيرية وسكانها تركمان غابة زرعها أهل تلك القرية منذ زهاء عشرين سنة فطالت كالرماح وحسن طلعها بعد ثلاث سنين من غرسها مما دل على أن جبال النصيرية كانت إلا قليلاً مغشاة بالغابات التي لم يبق منها اليوم إلا أثر ضئيل ورسم محيل، ولو توفرت عناية الأهلين في الجرود والجبال لغرسوا(60/30)
من الغابات ما يكون منه لأبنائهم وأحفادهم خير ثروة يخلفونها كما فعل أهالي الزبداني فغرسوا شجر البلوط في مكان يدعى قلعة السنديان في الجهة الغربية من الزبداني وإذا امتدت هذه الاغابات في سلسلة ذاك الجبل حتى تصل إلى نبع بردى تأتي منها فوائد كثيرة لوادي الزبداني ووادي بردى ثم لدمشق وغوطتها إذ تكثر بذلك الأمطار وتخزن المياه لنبع بردى المجاور لتلك الجبال ومن ورائها وادي القرن والحرير وفيها بعض الأشجار القليلة وهي ملك أصحابها لا الحكومة.
وفي الجبل الشرقي أي في بلاد حاصيا وراشيا غابات قليلة كما أنه تقل الغابات في جبال فلسطين وفي بلاد الصلت غابات غير قليلة ما برحت إلى الانقراض ومنها غابة قرب القصبة اقتلعها الأهلون وغرسوا منها كرماً يأتيهم بالعنب الجيد بلا بر كعنب ازمير إلا أنه بقي أثر منها دلالة على عظمة تلك الغابة العظيمة، وتقل الغابات في بلاد حوران واحسنها ما كان في جبل الدروز ولذلك كثرت مياهه أكثر من غيره من الأقاليم ومثل ذلك يقال عن غابة عجلون التي تبلغ مساحة المستعمل منها خمس ساعات طولاً وثلاث ساعات عرضاً ولا يأتي عليها عشر سنين إلا وتنقرض عن آخرها.
وبعد كتابة ما تقدم رأينا أن نأتي على ذكر الغابات من المصادر الرسمية فعلمنا أن غابات ولاية سورية كثيرة وأهمها في قضاء بعلبك وتبلغ مساحتها عشرين ألف جريب، والجريب يقرب من عشرة دونمات، وشجرة من السنديان والعرعر ويقل فيه الصنوبر وأشجاره غير صالحة للأخشاب وهي معرضة للاحتطاب منها على الدوام فلم تتيسر لإدارة الغابات حراسته على ما تقضي به المادة الخامسة من نظام الحراج لقلة الموظفين وصارت إلى حالة مؤلمة وبعض هذه الغابات تدعي الأهالي ملكيته وإدارة الغابات تدافعهم في دعواهم، وأهم هذه الغابات غابة حلبئا ووادي نيرة وما عداهما فمتسلسل منهما وليس في قضاء البقاع غابات مهمة بل أن الأهلين يحنبطون من غابات الهرمل التابعة لمتصرفية جبل لبنان وهناك بعض غابات مهمة بل أن الأهلين يحنبطون من غابات الهرمل التابعة لمتصرفية جبل لبنان وهناك بعض غابات في سفوح لبنان بعضها مشترك بين البقاعيين واللبنانيين.
وحراج وادي العجم متفرقة وتبلغ مساحتها نحو ثلاثة آلاف هكتار وحراج اقضية حاصبيا(60/31)
وراشيا والقنيطرة مثل حراج بعلبك تسمى بأسماء القرى المجاورة لها وتقدر مساحتها بثلاثة آلاف جريب تكاد لا تكفي لاحتطاب السكان إلا على صورة ضئيلة، وليس في قضاء الزبداني حرج جدير بالذكر سوى حرج صغير أصيب بما أصيبت به سائر الحراج ولا سيما في وادي القرن ووادي الحرير فأصبح أكثره غير صالح للاحتطاب، وليس في قضاءي دوما والنبك ما يصح أن يسمى غابات سوى بعض أشجار من السنديان والبلوط متفرقة في الأودية والقمم من جبال قلمون هي ملك الأهالي يحتطبون منها فتقل سنة عن سنة.
هذا في الاقضية التسعة التي هي من عمل الولاية أو لوائها وفي لواء حوران أهم غابات في ولاية سورية وهي من عمل قضاء عجلون طولها 26 ساعة وعرضها 23 ساعة وفيها 23 قرية و1375 بيتاً ومزرعتان ومساحته من 30 إلى40 ألف جريب ونصفها اليوم غير صالح للقطع يحتاج للحراسة كل الاحتياج والنصف الآخر يصلح للاحتطاب منه وعمل الفحم إلا أنه بعيد في نجاد وعرة ولقلة العملة الذين يتوفرون على عمل الفحم منه أصبح كأنه لم يمس، ومدينتنا دمشق يأتيها الفحم اللازم لدفئها ووقودها من غابات عجلون وإذا لم تبذل العناية بوقاية الغابات مما يلحقها من المضار توشك أن تحترم بعد سنتين من الفحم فيباع قنطاره الذي يباع الآن بمئة وخمسين في الشتاء بثلاثة أضعاف ثمنه، فبسوء إدارة الحكومة لزمت قطعة من هذه الغابات لا يقل المستخرج منها عن خمسين ألف قنطار بيعت بالوسائط على أنه ليس فيها سوى ستة آلاف قنطار، وأشجار هذه الغابة لا تصلح للخشب والدفء وإن كان الفلاحون هناك يعتمدون عليه في سقوف بيوتهم فمنها الصنوبر والسنديان القطلب وفي غابات عجلون نوع من شجر الزيتون البري، هذا في غرب إقليم حوران وفي شرقه أي في جبل الدروز غابات قليلة للأهالي ينتفعون بها في وقودهم.
وفي لواء الكرك بعض الغابات وأهمها ما كان في الصلت ومساحتها نحو ستة آلاف جريب تحتاج للترك الآن والمحافظة عليها لكثرة ما لعبت فيها فأس الحطاب والفحام وفي قضاء الطفيلة غابات ولبعدها عن العمران لا يرغب في الاحتطاب منها فلا يستفيد منها القريبيون ولا البعيدون وجنسها من العرعر وفي بني حميدة من أعمال قضاء الكرك غابات جياد هي ملك بني حميدة.(60/32)
إليك ما في لواءي حوران والكرك على الجملة أما لواء حماة فليس في مركزه ولا في حمص حراج والأهالي يجلبون أحطابهم وفحومهم من حراج الهرمل في لبنان ومن غابات بعلبك ومن حراج البلعاس التي كانت من أملاك السلطان السابق فأصبحت علامة.
وفي قضاء العمرانية حراج متفرقة تسمى بأسماء القرى المجاورة لها وكذلك الحال في غابات سلمية.
وقد بلغت واردات الغابات الأميرية سنة 322 شرقية 484، 481 غرشاً صحيحاً وسنة 1323 - 700189 وسنة 1324 - 650460 وسنة 1325 - 666989 وبلغت سنة 1326 إلى آخر شهر تشرين الثاني 648، 881 غرشاً.
هذا في ولاية سورية أما ولاية بيروت فالحراج موفورة في أكثر ألويتها وأقضيتها على ضيق مساحتها ففيها بعض الغابات الصغيرة وأكثرها فائدة في الانتفاع والاحتطاب ما كان منها داخل لواءي اللاذقية وطرابلس الشام ففي الجهة الجنوبية من مدينة بيروت في الرمل غابة من الصنوبر تقدر بألفي دونم وطول أشجارها نحو خمسة أو ستة أمتار ومحيطها من 40 إلى 50 سنتيماً ويعنى كل العناية بحفظها وقد ذكر التاريخ أن هذه الغابة غرست قبل سنة 767هـ - وقد خيف من انهيال الرمال على الأراضي الزراعية، وفي قضاءي صيدا ومرجعيون عدة غابات مبعثرة ينتفع بها السكان فقط.
وعلى ثماني ساعات من صور غابات في وادي النصارى وساحل علما ووادي الخنازير وهي واسعة في الجملة وشجرها من السنديان ومحيط أكبرها متر واحد وطولها خمسة أمتار لا تكفي للبناء بل تنفع في الحطب والفحم وقد جرى أهلها في اقتطاعها على الأصول فلم تقل أنواعها وكذلك تجد في الجهة الجنوبية من القضا غابات في وادي كركر ووادي البالون ووادي التهور.
وفي لواء عكا عدة غابات منها واحدة في الجهة الشمالية من ناحية شفا عمرو وهي على نحو خمس ساعات من المواني المجاورة وهي معروفة باسم الغربي ومرج وعاد والهوني والزيب وتقدر مساحتها بنحو أربعين ألف دونم وجميع أشجارها من السنديان ومعدل طولها من 4 إلى 6 أمتار ومعدل محيطها من خمسين سنتيمتراً إلى متر وإذ كانت هذه الأشجار لا تكفي الصناعات والبناء جعلها أهلها للاحتطاب وأخذوا يبعثون ببعضها إلى الخارج، وفي(60/33)
قضاء حيفا على أربعمائة أو خمسمائة متر عن سطح البحر غابات في جبل الكرمل ووادي العسل والعضامة والحاري والباخور تبلغ مساحة أرضها نحو 42 ألف دونم وهي قصيرة الطول والجسامة وهي كغابات صيدا وصور لا تنفع لغير الاحتطاب.
وأهم الغابات الموجودة في لواء طرابلس في عكار والضنية تقدر مساحتها بزهاء مئة وخمسين ألف دونم تمتد من قريتي غابات وتحفت إلى آخر حدود ناحية الضنية وهي منبثة على سطوح مائلة ويقدر معدل ارتفاعها بسبعة آلاف متر وأهمها القبايات وعنفت وارمون وعرض والحريق وروبر وجورديرين ووادي جهنم وقاطر وفريم والضنية وهذه الأشجار تنمو في سفوح الجبل والساحل وهي لا تطول وتنفع لخشب البناء وهي من نوع السنديان والصنوبر وشرابة الراعي والعرعر وعدا هذا تجد أشجار الصنوبر والشوح منبثة على خط مستقيم بين مسيل المياه والروابي تعلو من خمسة إلى عشرة أمتار ومحيطها من متر إلى متر ونصف وينتفع بأخشابها في جميع أنواع الصناعات وفي كل هكتار أي على حساب عشرة أمتار مكعبة تجد أشجاراً صالحة للبناء تعادل 136 ألف متر مكعب كما يوجد في كل هكتار من الأرض باعتبار عشرين متراً مكعباً وهي تعادل 660 ألف متر مكعب من سائر الأشجار والخشب الذي يقطع من هذه الغابات يحمل إلى حماة وحمص وطرابلس وأعمالها من القرى والدساكر.
والغابات الموجودة في لواء اللاذقية هي في أقضية جبلة والمرقب وصهيون وناحيتي باير وبوجاق وهي من الساحل على ساعة إلى إحدى عشرة ساعة وأهمها في باير وبوجاق وبوغده إلى نيقه وجبل حسن ايبت وجبل الملك وقزل حالتي وجورتلسم وبتالي ودربوي تبلغ مساحتها 170 ألف دونم والأشجار القريبة من الساحل يبلغ محيطها من ثلاثين سنتمتراً إلى متر وطولها من ثلاثة أمتار إلى أربعة ومنها يستخرج خشب للبناء ولصنع القوارب الصغيرة والصنوبر الأحمر والأبيض يستخدم في بعض المحال في الأبنية وأهم ما تقدم من الغابات غابات ناحيتي باير وبوجاق تقرب مساحتها من 32 كيلومتراً مربعاً والقسم الأعظم من أشجارها أي 90 في المئة منها يختلف محيطه بين 30 إلى 60 سنتمتراً وطولها أربعة أو خمسة أمتار، وندرت الادواح العظيمة وفي الاطراف والبلاد المجاورة تجد بعض الغابات يمكن تقديرها بثلاثة آلاف شجرة صنوبر أسود أكثرها يحتطب منه(60/34)
أهالي القرى ويحمل بعضه إلى بيروت وفي وسط هذه الغابات على تخوم اسكندرونة غابة اسمها قوز تحيط بها أشجار الصنوبر وتقدر مساحتها بألف هكتار من السنديان وقد بلغت مداخيل غابات ولاية بيروت 150600 غرش بيع منها 190000 اوقة من الفحم و9000 اوقة من الخشب وأكثر ما بيع منها في بيروت وجوارها وسواحل مصر.
هذا ما لقفناه من مصادر متنوعة ونختم هذا الفصل بتعريب ما كتبه شاكر بك مفتش غابات ولاية سورية السابق وقد سألناه أن ينشئ لنا شيئاً في حالتنا مع غاباتنا فكتب إلينا ما نعربه بما يأتي وهو يصدق على غابات سورية بأجمعها أي ولايات حلب وبيروت وسورية والوية القدس ولبنان والزور قال: الغابات إحدى منابع الثروة الطبيعية للدولة والأمة وربما كانت الأولى في بابها وما من ينكر استغناء أحد عما تأتي به من الحطب والفحم والخشب وغيره ولا سيما في ولاية سورية حيث تكثر حاجات الأهالي إلى الغابات أكثر من غيرها ومع هذا فلا نرى من يلتفت إلى هذا الشأن ويبحث في أسباب دفع هذه الحاجة مما يوجب الأسف الشديد.
ليس من ينكر أن الغابات تنقي الهواء وتجلب الأمطار وتمنع التربة الواقعة في الحقول المسطحة من الانهيار وفيها من المنافع العامة ما ينفع في رعية الأغنام والمواشي وغيرها وكلنا نسلم بأننا نطبخ كل حين طعامنا ونغسل ثيابنا وندفئ غرفنا بالفحم والحطب.
ولئن رأينا اليوم مواقد تحمى بالبترول ويستفاد منها بعض الشيء إلا أن هذا الطباخ لا يقوم في وقت من الأوقات بدل المنقل وكوانين المطبخ على الطرز القديم وذلك لأن الطعام إذا طبخ والغسيل متى غسل تطفأ تلك الموقدة وإذا فرضنا أننا أوقدناه مدة طويلة فمن البديهي أنه لا ينشر حرارة تشبه حرارة المنقل ولا الكانون بحال من الأحوال، ثم إن من وسائط التدفئة والتسخين أن نرى بعض المواقد التي يستعمل فيها زيت البترول وهذه لا تزيد الحرارة الطبيعية في الغرفة إلى أكثر من درجة إلى درجتين في الأكثر.
أما أخشاب البناء فإنه يؤتى بها إلى هنا من غابات اطنه وقونيه وآيدين فتباع بثلاث ليرات وأحياناً بأكثر من ذلك في حين أنه من الممكن زرع شجر الصنوبر والسنديان في هذه الديار من أجود الأجناس وكل من يشتغل بالزراعة يوافق على هذا الرأي.
ومع أن قنطار حطب الزيتون والمشمش يباع من خمسة وأربعين إلى خمسين قرشاً فقد(60/35)
كانت ترتفع أسعار قنطاره إلى نحو ليرة ونصف لو كان المعول في احماء الحمامات والأفران عليه.
وهنا لا أرى حاجة لبيان فوائد الغابات بل أقول على سبيل المثال أن ما حرق من الفحم من جزء صغير من غابات عجلون قد بلغ سنة 1324 (شرقية) 4132000 كيلو أخذ عنها رسم 514204 غروش صحيحة أو 672321 غرشاً بمعاملة دمشق الرائجة المتداولة.
ولو عني الفلاحون وفقيرهم قد يملك من ثلاثين إلى أربعين دونماً من الأرض وهو يتلكأ معظم السنين في استثمارها كلها بحجة أن ليس لديه بقر أو سكة أو بذار ويترك قسماً منها بوراً لو عني بزرع شطر من أرضه أو على حدودها ومجاري المياه إليها أشجاراً وحراجاً لاظلته ومواشيه وأبناء السبيل بظلها واستخرج من أغصانها ومن اليابس منها حطباً لدفئه ولو أكثر منها زيادة لاستطاع أن تخرج له خشباً وفحماً فيغنى بها بعض الشيء، وبالجملة فإن كل امرئ إذا ربى غابة فكأنه أسس لنفسه مصرفاً (بنكاً) دائمياً لأن الغابات رأس مال لا ينفد في الحقيقة.
بيد أن أهل القرى لا يفكرون في هذا الأمر ولا يلتفتون إلى ما ينصح لهم به من قطع الأشجار بل يقطعونها من أصولها وهناك الضرر الذي لا ينكره العقلاء.
ولقد جرت المداولة بشأن الحراج والغابات في المجلس العمومي هذه السنة والتي قبلها وتعهدت الحكومة أن تأتي الفلاحين ببذور الغابات لمساعدتهم ولكن لم يراجعها أحد في هذا الشأن والحكومة متكفلة بالقيام بكل أنواع المعونات، ورجائي أن يعمد الاهاون بدلاً من تخريب الغابات واستئصالها إلى إحيائها وتعهدها وبذلك يحفظون منافعهم ويحفظون على حقوق الخزينة والله الموفق.(60/36)
النفس الانكليزية
لم تبلغ أمة من الدهاء ما بلغه الانكليز فيه وكأنه خلق استحكم فيهم مع الزمن وتوارثه الاخلاف عن الاسلاف وتسلسل فيهم حتى أتى بالعجائب ومن درس تاريخ هذه الأمة يراها تصبر وتصابر لأول وهلة وقلما طاش لها سهم فإذا رأت الفرصة وثبت ومتى انفسح لها المجال جالت.
تثبت هذه المقدمة من مسألتين تجلى فيهما دهاء الانكليز في التاريخ وهو أن الحروب الصليبية التي دامت في سورية نحو قرنين وأهرقت فيها الدماء سيولاً لم تنته وترجع دول النصرانية عن حرب دولة الإسلام إلا بتدخل ريشاردس قلب الأسد صاحب انكلترا إذ ذاك في الأمر فعرض سراً أن يزوج أخته من أبي بكر بن أيوب شقيق الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب ولو رضي القوس لما تأخر صاحب انكلترا عن إجراء هذا العقد فانظر إلى دهاء هذا الرجل وهو في القرون الوسطى وفي صدد حرب دينية كيف يتسامح بزواج أخته من غير ابن نحلته حرصاً على مصلحته، قال أبو الفدا في حوادث سنة سبع وثمانين وخمسمائة: تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الانكتار ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال.
هذا هو الباب الأول الذي طرقه ملك الانكليز فلم يفلح لتعصب قومه وكان قد رأى أن ملك الألمان جاء عن طريق الاستانة براً إلى فلسطين في مئة ألف من رجاله فهلك معظمهم في بلاد الأرمن ولم يصل منهم على ما قال المؤرخون سوى ألف نسمة حتى أن ملكهم هلك غرقاً في نهر في الأناضول كان انغمس فيه ليستحم فأيقن ريشاردس أن أمر هذه الفتن يطول وأن الغنيمة التي دعا إليها بطرس الراهب أي استخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين لا توازي هذا القدر من العناء فطرق باباً ثانياً فجاء بعد أن شاهد جبل الصليبيين قد اضطرب وطلب الصلح بعد أن يئست الرسل في عقده وعجل بمخابرة صلاح الدين في معنى الصلح فبعث في إحدى تلك السفارات يقول لصلاح الدين لا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم قال القاضي ابن شداد بعد أن ذكر ما عرضه ملكهم من شروط الصلح العجيبة: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة وبالخشونة أخرى وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله(60/37)
المسؤول في أن يكفي المسلمين مكره فما بلوا بأعظم حيلة ولا أشد إقداماً منه، ولقد كان ملك انكلترا صادق جماعة من مماليك صلاح الدين ودخل معهم دخولا عظيماً بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات متعددة وكان في كل هذا يخلط الجد بالهزل حتى يتوصل إلى مأربه ألا وهو استرجاع بيت المقدس الذي استخلصه صلاح الدين منهم.
ثم تذرع ذاك الداهية إلى إنقاذ أهل نحلته من شر الفتنة كان المسلمون قد ضاقوا ذرعاً بمدافعتهم وزحزحتهم عن تلك الديار فبادر صاحب انكلترا إلى عقد الصلح سنة 588هـ - وسبب ذلك كما قال أبو الفدا أن ملك الانكليز مرض وطال عليه البيكار فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح فلم يجبهم السلطان إلى ذلك ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيطار وضجر العسكر ونفدت نفقاتهم فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة ولم يحلف ملك الانكتار بل أخذوا يده وعاهدوه واعتذر بأن الملوك لا يحلفون وقنع السلطان بذلك وحلف الكندهري ابن أخيه وخليفته في الساحل وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج ووصل ابن الهنفري باليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين وأخذوا يد السلطان على الصلح واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان والملك الأفضل والظاهر ابني السلطان والملك المنصور صاحب حماة محمد بن تقي الدين عمر والملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص والملك الأمجد بهرام شاء ابن فرخشاه صاحب بعلبك والأمير بدر الدين بلدرم الياروقي صاحب تل باشر والأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وغيرهم من المقدمين الكبار.
هذه هي المسألة الأولى التي تجلى فيها الدهاء الانكليزي في أجلى مظاهره والمسألة الثانية وهي أحدث من الأولى عهداً ولكن يتخللها مئات من المسائل كلها سلسلة دهاء هي مسألة الاستعمار فإن الانكليز لم تفتح أمامهم مصارف جديدة للتجارة إلا لما اكتشف خريستوف كولمبس أميركا ولقد تقدمت البرتقال غيرها من الدول لاستعمار الأرض وتلتها اسبانيا ثم هولندة وقد بلغت هذه الدولات الثلاث أوج مجدهن الاستعماري في النصف الثاني من القرن السادس عشر أيام كانت انكلترا لم تظهر بعد على ملعب الاستعمار ثم جاءت فرنسا فانكلترا ولكن هذه الدولة بزت الدول الأربع الأول. وأثبتت أنها دولة بحرية عظمى في(60/38)
صلح اوترخت سنة 1713 وتطمح إلى الاستيلاء على البحار ولكن هذا الدهاء في تأخر الانكليز عن دخول معمعان الاستعمار قد هيأ لانكلترا الاستئثار بالاتجار مع أميركا. وانكلترا أقرب الدول إلى العالم الجديد وشطوطها وهي تمتد على مسافة 7900 كيلومتر أي ضعفي شطوط فرنسا وأكثر الدول البحرية الأربع قرباً إلى شطوط بحر الظلمات من سيفه الآخر فقبل سنة 1600 ميلادية لم يكن لانكلترا مستعمرات خارج أوربا وبالدهاء السياسي افتتحت انكلترا الجديدة وفيرجينيا وأخذ شارلس الثاني سنة 1661 مملكة الهند وكانت سبب غنى انكلترا وعظمتها هيأ أخذها أناس من تجار الانكليز دخلوا مع الهنود دخول السل في جسم العليل وكان من أمرهم ما كان.
وهكذا لو تقصينا التاريخ لشاهدنا أمثلة كثيرة في الدهاء الانكليزي الذي لا يشبهه دهاء في الأمم وأيقنا أن الثبات والصبر والتأني والسكون الذي خص به هذا العنصر هو الذي كان سبب نجاحه في أعماله فاشتهرت بجودتها على قلتها وندرتها وسياسته اشتهرت بحذقها على جفائها والتاريخ أعظم ترجم عن الأمراء والأمم وبه تكشف حقائق البشر وخصائص الشعوب.
ولهذا الدهاء والتأني والصبر أسباب طبيعية وصنعية في انكلترا بحث فيها علماء الاجتماع8 والنفس فما قاله اميل بوتمي من كبار علماء فرنسا أن القوى الطبيعية هي من جملة الأسباب التي تؤثر في تربية الشعب وهذه القوى هي صورة الأرض الظاهرة وجبالها وأنهارها وبرها وبحرها وقسوة مناخها أو لطافته ووفرة ثمارها الأرضية أو ندرتها. فإن تأثيرها قديم كالإنسان ولا سبيل إلى أن نجد في التاريخ دوراً لم تؤثر هذه الحالات في البشر وإذا كان عرض للإنسان قلب وإبدال فذلك ناشئ من مجموع أسباب وهذه الأسباب هي التي سماها تين العالم الفرنسوي (المحيط) أو البيئة والعادات والقوانين المزبورة على الحجر والمذاهب الدينية والأشعار القصصية وغيرها كانت لأول الأمر نتيجة المحيط الطبيعي فأصبحت مع الزمن ذات تماسك وحياة خاصة وصارت تولد بذاتها شعوراً وتتسرب إلى الأسباب الطبيعية العظمى ولكن هذه الأسباب الرئيسة ما برحت تغشى هذه الجمعية البشرية التي كانت هي الباعثة إليها ولها اليوم تأثير كبير حتى أنها لتأتي على الأخلاق الراسخة والمواهب الإرثية فتغيرها وتفعل فيها ما فعلته في أهل(60/39)
الأجيال الأولى.
انكلترا من بلاد الشمال ولها بين بلاد الشمال مركز امتازت به فليس لإقليمها ما يعادله بين الأقاليم لأنها تتمتع بمناخ يكاد لا يختلف طوره فلا ترى في الشتاء تبدلاً في الهواء من شمالي انكلترا إلى جنوبيها على مسافة تسعمائة كيلو متر فيستطيع سكان بريطانيا أن يتنقلوا من ناحية إلى أخرى بدون أن تتأثر أجسامهم من هذا التنقل وتختلف انكلترا عن سائر بلاد الشمال بتعرج شطوطها وخصب تربتها في حين يضعف الهواء المرء في أواسط بلاد روسيا أو في شمالي بروسيا فيكتفي الروسي بما حضر لديه من حاجاته ولذلك يقل فيه فكر الإقدام على الأعمال أما الطبيعة في بلاد الانكليز فتنادي ساكنها بقولها إنك يا هذا تهلك إذا تراخيت وتستمتع إذا جددت. فالهواء في بلاد الانكليز رطب ولكنه صحي وثقيل بحيث يكاد يصعب استنشاقه أحياناً والجسم يهزل فيه إذا لم يتغلب عليه بحركات كثيرة. وإن انكلترا لتطفح بطوال القامات ضخام الأجسام أشداء البنية وفيها من المعمرين الشيوخ أكثر من كل بلد من بلاد أوربا والأرض الانكليزية بما تترطب به من الضباب أو يغمرها من هطول الأمطار تحتاج على الدوام إلى التجفيف بالقساطر حتى لا تغدو بطائح أو غابات وهي بفضل تعهدها خصبة ممرعة. ومناخ انكلترا يحتاج إلى الغذاء الكثير ولاسيما اللحوم وأرضها مستعدة كل الاستعداد لتربية المائية والبحر بما ضم بطنه من الأسماك يدخل في مضايق إلى أرض بريطانيا العظمى فيصبح الصيد على طرف الثمام.
وبالنظر لرطوبة الهواء على الدوام واصفرار الشمس بما يداهمها من الضباب الذي ينخل أشعة الشمس نخلا لا تزال الظلمة سائدة شطرا من النهار يضطر معه ابن تلك البلاد أن يحسن لباسه ومنامه ودفئه ويبحث عن الأعمال التي تحتاج إلى كدح وكد فهو في حاجة إلى جوخ لثيابه وإلى جدان غليظة لمسكنه فتراه يصرف حزما منهما من وقته في النسيج والتقطير واستخراج الفحم أو تراب النفط للوقيد خلافا لابن جنوبي أوربا فإنه لا يحتاج إلى مثل تلك العدة ليعيش والانكليزي إذا لم يجد عامة حاجاته في أرضها يجلبها من الخارج بواسطة المقايضة مع ما ضمته أحشاء بلاده من المعادن والمناجم ويسهل عليه تناول ذلك بما له من وسائل النقل السريعة الرخيصة الأجور.
ولذا كانت الطبيعة الخارجية للأمة الانكليزية مدرسة إبداع ونشاط وحذر وتدبر فنشأت هذه(60/40)
الفضائل من أسباب جلب المصالح درء المضار وكانت من كماليات الأخلاق في هذا الجنس ودعا الجهاد للحياة وهو هنا أصعب منه في كل بقعة إلى أن ينسلخ عنه بالانتخاب الطبيعي كل من لم يرزقوا هذه الصفات اللازمة كالمرضى والجامدين والجبناء والعطلين ولم يبق من هذا العنصر غير الأقوياء أهل الدراية العاملين وتأصل ذوق العمل بنشاط دائم فعال في النفوس حتى صار كأنه ارثي فيها.
قالوا إن الشعب الانكليزي شعب انتفاعي وهذا يصدق على كثير من الشعوب ولكن العامل الأكبر اليوم في هذه الأمة الهوى في العمل للعمل والميل إليه حبا به. وما الحياة السياسية في انكلترا إلا ناشئة من الميل إلى تمرين القوة والبذل منها بطائل وبدون طائل ومن يجتاز البلاد الانكليزية يشعر بحاجة الأمة إلى هذا التمرين وإلى هذا الصرف من القوة بما يراه من الحركة على السيارات واشتغال قوم بالألعاب الشاقة فيوقن بأن الرياضات البدنية الشديدة ليست في انكلترا مدعاة للتسلية بل هي ضرورية لدفع حاجة طبيعية لا تقل في مسيس الحاجة إليها عن الجوع والعطش.
وكل من زار لندرا يشهد الرجال من الانكليز يركضون في الشوارع عدوا كأنهم في سبيل مهم جداً يوشك أن يذهب إذا أبطئوا عليه فيركضون نحوه بدون أن ينظروا ذات اليمين وذات الشمال للتخلية والتسلية فهم لا يضعون نصب أعينهم غير الغاية العملية التي هي هدفهم ومنتجعهم حتى إذا وصل العامل إلى مكتبه أو عمله ينصرف إليه بجملته ولا يدخل فيه غيره ولا يلتفت إلى ما يصده أو يخطر بباله في غير ما هون بسبيله فتراه لا ينقطع دقيقة عما هو مأخوذ به ولا يني في مهمته ولذلك كانت أجرة العامل الانكليزي أرقى من أجور عملة الأمم الأخرى لأنه لا يلهيه شيء أثناء العمل ويعمل نحو ضعف ما يعمله الايرلاندي أو الألماني مثلا. وهذا المزاج الخاص يولد في جميع الفروع عملا مدهشا.
وإنك لترى نساء الانكليز لا يستنكفون من عمل يتعاطينه لتكون لحياتهن غاية فينصرفن إلى تأسيس جمعيات الإحسان ويخدمن في المستشفيات ويعملن أعمالاً قد تعدها بعض الأمم المتمدنة من الأعمال الوضيعة ولكنها تكون لخدمة الإنسانية ولذا دخل خمسون ألف امرأة في الحزب الحر في انكلترا وشاركن الرجال ومنهن المطالبات بحقوق الانتخاب والمؤمنون من الانكليز بالدين لا يؤمنون به وينصرفون عن كل شيء بل يعملون باسمين ويجتهدون(60/41)
في الحياة لا يصدهم ما أخذوا أنفسهم به من الغابة عن النظر في دنياهم.
وبعد فإن الذوق واعتياد العمل يجب أن ينظر إليهما كأنهما خاصة جوهرية وصفة لازمة اختيارية لهذا الجنس فهما يصحبان الانكليزي حيث يذهب تشفعهما الأسباب المكتومة من نياته وهما مفتاح أسبابه وأن الدواعي التي أدخلت ضرورة العمل في هذه الجنس قد أضاعت اليوم من شأنها وذلك لأن كثرة الغنى العقلي والمادي قد زاد عدد الأغنياء وأضعف على التدريج في جزء من سواد الأمة الانكليزية الغريزة الإرثية التي بها يعترف الإنسان بقانون العمل ويقبل به. فأصبح الكسالى والضعاف في هذا المحيط الجديد أكثر حظاً في البقاء فتألف منهم عنصر خاص تحرص حكومته على جلب المنافع إليه وأهل السعة من الانكليز يبذلون الفضل من أموالهم له وكل هذا على الجملة لا يضر الصفات التي ورثها الانكليز وتأصلت فيهم مدة قرون.
للإقليم في انكلترا تأثير مهم في الشعور والمدارك فهي البلاد التي يجف هواؤها وتكثر كهربائيتها التي تقوي الألياف وتمتن الأنسجة ويكون الإحساس في أهلها أسرع.
ومثل الحس يكون التصور الطبيعي أي حاسة تمثل المحسوسات فإنها في الانكليزي تتأخر ولذلك نرى الأعمال الجراحية تكون أقرب إلى النجاح في الانكليزي منها في الايطالي مثلا لأن الأول قلما يضطرب كالثاني. وقد شاهد خصوم الانكليز من عسكرهم في حروب اسبانيا وواترلو وانكرمان عجبا إذ لم يكونوا يتأثرون للأعضاء تبتر والقذائف تنفجر والعظم بكسر وحشرجة الأرواح تتصاعد.
إن أرض انكلترا على ما خصت به من العبوسة والأمطار الغزيرة والضباب المتواصل والطبيعة الساكنة قد أثرت في نفوس بنيها حتى لم يجدوا في الوجود ما يشغلهم ولذا شغلوا بخاصة أنفسهم وقل كلامهم كما قل شعورهم بما يأتيه من خارج والكلام كالشعور والفكر يرتقي ويصفو بالرفاهية وخضال العيش وهو أثر من آثار الثروة العامة والفراغ. ولقد وصف الفيلسوف تين الشعب البريطاني بقوله من السرور الذي يشفعه السكوت وهو من أعظم ما تطمح إليه نفس كل انكليزي أن يجاهد في أمر ويتحمل المشاق ولا يتنازل عما نوى. وقد أعرب شاعرهم تنسون عن مثل هذا الفكر شعرا جاء معناه: ما أعظم على النفوس أن تقف دون غاية وتجعل لقواها حدا وأن تصدأ كالسيف يعلق على الحائط بدلا(60/42)
من أن يلمع في يد حامله ويصفو بالاستعمال. ليس استنشاق الهواء هو الحياة بل إننا إذا فقدنا كثيرا فقد بقي علينا كثير فما كنا عليه ما برحنا فيه: قلوب أبطال شأنها التساوي بأنفسها أصبحت على الزمن وبيد القدر نهب الضعف ولكنها مسلحة بإرادة شديدة في مضائها وبحثها وإيجادها وأن لا تلين قناتها أبداً.
تقل في العنصر الانكليزي على الجملة الكفاءة لتصور الأفكار العامة ويكره النظريات المجردة كما يكره المذاهب المقررة فليس للانكليزي شيء من المجردات يشغله بل تراه على الدوام مأخوذا بضرورة العمل أليس معنى هذا أن حاسة العموميات ضعيف تركيبها في انكلترا بل أن العقل عملي لا يقبل إلا ما يلزمه وينفعه يعرف كيف يضبط نفسه ويحدد حدوده حتى إذا سار بنفسه سار سيرا نافعا لا سيرا نكرا فعقله لا يشبه قائده في جيش يفكر في وضع خطط الهجوم والقتال بل عقله يشبه ضابطا يقود بعيدا عن معمعان الحرب قسما من الجند الاحتياطي المساعد فلا ترى في هذا الضابط قابلية لأن يكون في الطليعة ولكنه يجيد في اتخاذ مركز له في النقط التي تجاوزها الجيش المهاجم وينظم فيها المقاومة
لا شيء يقع على عقل الانكليزي من الغرابة أكثر من إنكاره القوة الطبيعية والنظريات في الإلهيات والمعقولات بل يرى أن أجنحة الفكر لم تبرح في نمو ولذلك لم تستعد للطيران مسافات طويلة بل هي تساعده فقط على السير فإذا ارتفع هنيهة وحلق في الجو فذلك ليعود إلى الأرض بعد مدة قليلة وهذا ما دعاه يفكر في الأمور القريبة التي أكثر ما تكون مساسا به مباشرة وله من مشاغله في تحصيل ثروته وتحسين زراعته ما يصده عن الحق ولا يفرغ ذهنه إلى النظر إلى الأشباح الفارغة فهي بعيدة من الأرض جدا غريبة عن الحياة الدنيا غير ملتئمة مع شروطها وضرورياتها ولذا ترى الانكليزي في مسائل الدين لا يتعدى أفق العالم المدقق بأحوال الأنفس والأخلاقي الذي يبحث في المرئيات وليس هو صوفيا أو منكرا ولا موحدا وهو لا ينظر إلى القواعد الموضوعة والألفاظ بل ينظر إلى الغاية من التدين أكثر من الواسطة وهكذا هو في السياسة فلا تقوم حريته فقط على الدستور الذي يمنح الحرية على التقاليد الموروثة التي تحمي حمى الحرية القديمة المتأصلة فيه.
من غريب حال الانكليز أن كثيرين من حملة العلم فيهم لم يتعلموا العلوم اللازمة للإلمام بالتربية العامة فهم أخصائيون لا تشوبهم شائبة وأن من يحاول في انكلترا أن يحدث(60/43)
علمائهم في العلم المجرد لا يجد من يستمع لكلامه فالعالم الطبيعي عندهم هو الذي يعرف كيف يصنع نموذجا ميكانيكيا يطبق فيه العلم على العمل فقط حتى إنك لا ترى في كتبهم في الكهربائية إلا حبالا مرسومة تعلق وتمتد ومواسير يقطر منها ماء وغيرها ينتفخ وآخر ينقبض وهكذا انكلترا في صناعاتها فلا يصدر منها إلا ما يقع تحت حسها ولا تقص في قصصها إلا ما يماثل حالتها الطبيعية وكذلك تاريخها ورواياتها التشخيصية وفلسفتها فإن فلسفة اوغست كونت الحية ومخترعها فرنسوي وجدت لها أعواناً في انكلترا أكثر مما وجدت في فرنسا لأنها صادفت هوى في أفئدة القوم.
فهذا هو الشعب الذي قدر له أن ينشر البرتستانتية بثباته ويخرج من الكنيسة والكثلكة إذ كانت دين سلطة قادرة روحية تقنن وتحظر وتعاقب والناس معها مكرهون على القيام بتعاليمها أما المذهب البرتستنتي فهو دين الحكومة الذاتية الوجداني فالأول موجد النظام والقاعدة والآخر محافظ النشاط ومبدعه وهذا هو الدين الذي يناسب أمة خلقت لتعمل.
إن تأخر سن البلوغ في شبان الانكليز وعفة النساء الانكليزيات وتعدد الأسر والبيوت كل ذلك من أخلاق الانكليزي الحديث كما كان قديما من خصائص أخلاق الجرمانيين سكان انكلترا الأصليين. وامتازت الأمة الانكليزية من بين الأمم بأنها ظلت متجانسة ولم تمتزج بغيرها فالانكليز وهم أهم عنصر تتألف منه انكلترا هم جرمانيون من بلاد الشمال ومن أجداد الجرمانيين انكليز وجوت وسكسونيون وكلهم من عنصر ألماني والذين جاؤوا بعد لاستيطان انكلترا مثل الدانيماركيين والنورمانديين هم فروع تشعبت من نفس تلك الدوحة
وإن ما يرى من شدة بأس الانكليز وقوة عضلاتهم يذكرنا بما قاله اميرسون فيلسوف اميركا (قالت الطبيعة: قد أفنى الزمان الرومانيين ومحا اسمهم من سجل الوجود وإني أريد أن أؤسس مملكة جديدة وسأختار عنصرا شديد الشكيمة كلهم ذكور ولكنهم بأجمعهم ذوو قوة وحشية فمن ثم لا أعارض فيما أرى من المنافسة بين الذكور القساة المتبربرين الا فليدخل الجاموس قرنه في رأس الجاموس الآخر فيبقى المرعى لأكثرها قوة فأنا لي عمل أريد إتمامه يحتاج إلى إرادة وعضلات). وهؤلاء هم الانكليز الذين لا يمتزجون خارج بلادهم بغيرهم من الأمم ولكنهم في أرضهم أكثر الأمم حرية وأكثرها إكراماً وأيسرهم لقبول الغرباء ليست انكلترا جزيرة بل هي قارة فما من أمة اشتبهت في أفكار ومنازع تأتيها من(60/44)
أوربا نفسها سوى انكلترا ولطالما اقتدت بالبلاد الأخرى ولكن كان اقتداء موقتاً كأنه للتسلية أو هو سطحي كأنه زي من الأزياء أما سواد الشعب فلم يمس بشيء في منازغه بل ظل مخلصا لأخلاقه الأولية وبالجملة فقد كانت دواعي الاختلاط قليلة جداً بين الانكليز وغيرهم ولاسيما عامة الأمة فالانكليزي أشبه بساكن الولايات في أوربا وفكره كالشراب بقي زمنا في مأمن من الاهتزاز فخثر وكثف ولم تعد له تلك الميوعة التي تؤهله إلى الاختلاط بشراب آخر.
وكان لهذه الصيغة الخاصة وقلة الرقة في الأخلاق الانكليزية نتيجة مهمة شوهدت في كيفية الاستعمار البريطاني ونتائجه. فما قط تمازج العنصر الانكليزي بغيره من العناصر في البلاد التي أخضعها لسلطانه فهو كالمعدن البعيد جداً عن نقطة التذويب فلا يتأتى أن يجعل منه أدنى مزج وما قط ساووا بأنفسهم تلك الشعوب التي افتتحوا بلادها وما تلطفوا في استمالة قلوبهم فلم يعرفوا إلا أن يظلموهم ويستنزفوا مادتهم ويدوسوهم أو يفنوهم.
أبان الانكليز أيضا عن عدم كفاءة في فهم مناحي العناصر المنحطة وأن يتقربوا إليها ليأخذوا بأيديها ويقوموا ناهضين وإياها بما عاملوا به ايرلندا من المعاملة السوأى ومثل ذلك يتجلى في إدارتهم الهند ومصر. فالانكليز يأتون تلك الشعوب بثروة مادية ونظام وأمن وغنى فترى سلطتهم في بلاد الهند مثلا على أحسن طريقة ونظام مدقق قوامه الحشمة والأدب وهم فيها بعد قرن من الزمن لم يخرجوا عن كونهم أناساً جفاة لا يألفون ولا يؤلفون وكلما طال العهد عليهم تراهم في أرضها غرباء والأصوات تعلو للخلاص من ربقتهم. وإن يوماً يغادرون فيه البلاد المستعبدة لعزيز على نفوس أهليها ولو ذهبت بذهابهم الرفاهية والسلام.
فحكم الانكليزي منهك لقوى العناصر المنحطة وهو استبدادي وكثيراً ما يكون قتالاً في البلاد التي يكون فيها للأهلين مجال معهم ولا يدانوهم بنشاطهم وإراداتهم لأن هؤلاء الفاتحين لم يرزقوا حظاً من تليين وصابتهم وتطبيقها على الصغار والضعاف بل لا يتمثلون ولا يعنون بغير إخوانهم والمساوين لهم.
نعم الانكليزي أكثر الأمم إغراقاً في الابتعاد عن الناس والعزوف عن مجتمعاتهم فهو يشعر بأنه أقل من غيره علاقة بالمجتمع البشري وقلما يقتبس من صلاته مع غيره شيئاً يستفيد(60/45)
به في تركيب أخلاقه وقلما يبحث عما يفكرون به وإذا بحث فبحثه مجرد لا يدخل نتيجة في عواطفه وأعماله هو ناسك بعيد عن العالم وعن غيره من الأمم بل هو بعيد عن جاره الذي يساكنه في حي واحد والمحيط الذي يعيش فيه وما يشعر فيه بنفسه قلما يكون نسخة بسيطة مما يراه في الخارج فخلقه هو مثل ثمرة كبرت تحت القشرة في نوع من الصدف فهو لا يثمر كقشرة الخوخة وما يمر عليها من مجرى الشمس لا يزيدها اصفراراً ولا احمراراً.
الانكليزي لا يشعر بأقل ضجر من العيش وحده ولا يجد حاجة أن يقص ما عمله على غيره ولا يسوقه سائق نفسي أن يقف على ما يعمله غيره فهو فيما خلا الشؤون التي تمسه مباشرة لا يهتم إلا بما له علاقة بالمسائل الوطنية العامة التي تمسه ولكن لا مباشرة بل من طريق وطنيته، يقول إميرسون: إنك تحسب الانكليزي إذا اجتمع مع الأجانب أخرس فهو لا يصافحك ولا يتركك تنظر ما في عينيه في الفندق ويلفظ اسمه بحيث لا يسمع فكل واحد من هؤلاء الجزائريين جزيرة بعينها ويقول مونتسكيو: يصعب على الفرنسيس أن يكون لهم أحباب في انكلترا وكيف يحب الانكليز الغرباء عنهم وهم لا يحبون أنفسهم وانى يعطوننا ما نأكل وهم لا يتواكلون، يجب أن نجري على خطتهم فلا نهتم بأحد ولا نحب أحداً ولا نعتمد على أحد.
ومن الغريب أن هذه الأمة العازفة عن العشرة البعيدة عن الاختلاط تراها في أمورها الداخلية من أكثر الأمم ميلاً إلى الاشتراك وما حديث أنديتها ومجامعها وشركاتها المالية بخاف عن أحد، وقد شرح فولني العالم الفرنسوي سر نجاح الانكليز في الزراعة والتجارة والصناعة بقوله: إنهم بالسكوت يجمعون أفكارهم ويتفرغون إلى التدبير والتقدير على ما ينبغي ويحسبون دخلهم وخرجهم وبصفو فكرهم أكثر وينبعث كلامهم جلياً ومن هنا كان التدقيق والرواء رائد جميع أعمالهم العامة والخاصة وقال كارلايل الفيلسوف الانكليزي: الانكليز شعب أخرس، ثم شرح هذه العبارة بقوله: إن السكوت يزيد في علاقتهم ونظامهم مع ما يبين عنه اللسان، الانكليزي يميل إلى الاختفاء ولا يهمه الظهور يهمه تجويد العمل من حيث هو عمل نافع ولذلك ترى جرائد انكلترا لا يوقع كتابها على مقالاتها وهي مع هذا أرقى من جرائد فرنسا التي يوقع كتابها على مقالاتهم ليقال عنهم أنهم كتبوا ومن آثر(60/46)
الاختفاء من هؤلاء لا يلبث أن يظهر اسمه بصنعه.
إن كان من خلق الانكليزي الإقدام على العظائم فإن حب الجديد والذوق في المجهول ليس فيه إلا على ضعف أيضاً فالانكليزي يبقى انكليزياً ويعيش عيشاً انكليزياً حيثما ينزل، والانكليزي أقل من الفرنساوي والايطالي في اليأس من النجاح وأكثر منهما هزؤاً بالمتاعب والمخاطر لعلمه بأن لها حداً تقف عنده ولا بد من حل مشكلاتها وقلما تراه يحسب حساباً لنكد الطالع فترى الشاب يتزوج من فتاة وهو في مقتبل العمر ولا يطالبها ببائنة (دوطة) بل يقترن بها بلا مهر ويقدم على تأسيس أسرة فيزيد نفقاته ثلاثة أضعاف ماكانت عليه والصانع يقدم على إدخال إصلاح في عمله بجرأة ويتخذ وسائط النجح وهو يعلم أنه لا يلبث أن يتم إصلاح مصنعه حتى يقوم صانع آخر ينافسه ولكنه يكون استفاد من الفترة بين إصلاحه وإصلاح منافسه وترى المهاجر منهم لا سبد له ولا لبد ومع هذا ينزح ويرزح تحت أثقال المتاعب وهناك سبب آخر وأعني به الهوى في العمل أوالتجنن فيه وفي الحركة والذوق في العمل من أجل أنه عمل وكل ذلك مما تقتضيه حالته الطبيعية، وإنا لنرى المرسلين منهم يتغربون في الأرض ولا يخافون بل يتعزون بما يتم على أيديهم في الأقاصي وينامون ملء جفونهم شاكرين ويعملون أعمالاً في السر ابتغاء وجه الله.
ومن خلق الانكليزي أنه متشدد في الاحتفاظ بالحالة الحاضرة فأرباب العقول الغربية في تصورها كثيرون ولكنك لا ترى فيهم أحداً يميل إلى الثورة وقد اشتهرت انكلترا بأنها بلد التقليد المستعصية حتى على التبديل اللازم وثلاثة أرباع سكانها لا يشعرون بالحاجة إلى إدخال تعديل في القوانين والأخلاق والربع الآخر يقبل بالتبديل في بعض أحوال مخصوصة ويتعلق بها ويلاحقها بنشاط ولذا رأينا الشعب الانكليزي قد جالد لأول وهلة ريثما أدخلت عليه أساليب الارتقاء حتى المادي منه فلما دخله صار في لحمه وعظمه وهكذا شأن الأمة العظيمة تتشدد في تقاليدها وتستنكف في الغالب عن قبول كل جديد إلا إذا ثبت لها ما ينقضه ثبوت الشمس والقمر.
مهما بلغ من انحطاط مكانة الرجل الانكليزي في المجتمع ومهما بلغت حرفته من الامتهان لا يحسد من كان أعلى منه منزلة وله من عمله الذي يستمتع بمدافعه أعظم سلوى ولذلك قل إن مالت الطبقة العاملة في انكلترا إلى تغيير نظام الإشراف في المجتمع وذلك لاعتقادها(60/47)
بأن الأعمال مقسمة لأن الحظوط متباينة، وبينا ترى فرنسا تقول للوزير كن فكان مهما كان وضيعاً وللنائب كن نائباً فكان مهما كان منحطاً في أصله وللشريف كن شريفاً فيكون تجد انكلترا لا تسمح لوضيع أن يعد في جملة العظماء إلا بعد ثلاثة أجيال وذلك على نظام وترتيب تدريجي لعلم القوم بأن الطبيعة في انكلترا لتأخر في كل شيء ولذلك اقتضى أن يكون ارتقاء الناس كذلك.
من خصائص الانكليزي أنه يشبه ميكانيكياً تعلم علم الحيل (الميكانيك) بالتجربة لا بالنظر فتراه مهتماً أن ينتج بما له من آلة ما أمكن من النتائج ولا يحرص على تبديل محركها وأدواتها لعلمه بأنه إذا فعل ذلك اقتضى عليه أن يوقف العمل وأن يبذل بلا نتيجة وقتاً واهتماماً من رأس ماله المحدود وهو يدرك بأنه إذا حدث للآلة ما يضر سيرها تقف حيناً وتنقطع فائدته وفائدتها ولذلك يجد من نفسه داعياً إلى القبول بتعديل آلة على أن يغير أدواتها القديمة بأدوات جديدة ولكن بدون أن يوقف الآلة ويقلل من مغلها.
يعتقد الانكليز بالضعف البشري ويشعرون بضرورة أخذ الأمور بالتدريج والبداءة بها من الصغير للوصول إلى الكبير حتى لا تقف القاطرة في هذا الجهاد وتتهور في منحدر لا تقوم منه فهم في شرائعهم يكتفون بتعديلها وإصلاحها مع الزمن وما قط حدثتهم أنفسهم أن يضربوا بما لديهم عرض الحائط ويضعوا غيرها من عند أنفسهم، ولكن الانكليزي مع هذا إذا رأى الخير في تعديل قانونه يصر عليه فقد رأينا أصحاب الصحف على عهد الإصلاح البرلماني الكبير قد صعب عليهم أن يصدروا منشوراتهم النفعة لأنه قضي عليهم أن يدفعوا عن كل نشرة طابعاً فاجمعوا أمرهم على أن يصدروها بدون طوابع فغرمتهم الحكومة وحبستهم ولكن جرائدهم ومنشوراتهم ظلت تصدر على عادتها بدون طوابع وأصروا الا برفعها فمضت أربع سنين على هذه المسألة وقد حبس لأجلها زهاء خمسمائة رجل ثم اضطرت دار الندوة أن تجيب الطلب وإن كانت الحكومة تضررت من هذا القسم المهم في الميزانية.
يعمل الانكليزي حباً بالعمل نفسه على حين يعمل غيره من الأمم لإحراز الثمرة التي تعقب الشرف أو الراحة أو الرفاهية والدليل على ذلك ما نراه في أهل الطبقة العالية منهم ممن لهم من ثروتهم ما يعفيهم من تعاطي أي عمل كان، نراهم يصرفون نصف أيامهم في(60/48)
الألعاب الرياضية الشديدة ولا يبالون فكأن الرياضيات لهم كالفطرة المستحكمة كما كانت الألعاب الأولمبية في يونان أيام عزهم ثم إنك لا تجد غنياً لا يصرف شطراً من وقته في النظر في شؤون مقاطعته وابرشيته وكثيراً ما يهلك قواه في هذا السبيل على حين تجد ابنه في استراليا أو مانيتوبا يعيش مع رعاة الغنم في تلك البلاد القاصية المنفردة وابنه الآخر من المرسلين في جنوبي إفريقية يعمل شاق الأعمال.
وبينما نرى الانكليزي أكثر الأمم تحاشياً مما فيه عبودية واحرص الناس على التناغي بالحرية الشخصية والحرية المدنية كحرية الاجتماع وحرية التكلم وحرية القول نراه في نظام أسرته قد احتفظ حتى الآن بنظام الحكم المطلق فنرى الابنة تأتي زوجها بدون أن يعطيها والدها بائنة لأن العادة جرت بين الأغنياء وأرباب اليسار أن يحفظوا لبكر الأولاد العقارات ويقسموا الأشياء المنقولة بينه وبين أخيه الأصغر منه سناً وتنال الابنة حصة من ذلك ويكون في الأغلب دخلاً قليلاً تناله من واردات أبيها، حرمت من ذلك حتى لا تجيء دار زوجها بما يرفع رأسها عليه لأن الرجال يريدون أن تكون لهم السلطة التامة في بيوتهم حتى أنه إذا اتفق أن أزواجهم جاؤهن بشيء من المال يضيفونه إلى ثروتهم ويحرمونهن حتى من الوصاية على أولادهن ومن التصرف بأموالهن.
عادات قديمة ورثوها فحافظوا عليها وإذ كان أبطال القرون الوسطى في أوروبا قد لطفوا من شأن المرأة لأن من عادتهم الأخذ بأيدي الضعفاء والعاثرين فإن انكلترا لم يدخل عليها هذا التلطف والزوجة مع زوجها وما يختار لا ما تختار هي، وترى الوالد والوالدة يربيان ابنهما بعيداً عنهما ولا تأخذهما شفقة في ذلك والولد إذا غاب عن والديه ينساهن وإذا مثل بين أيديهما يحترمهما.
هذه بعض صفات الانكليز ومنها انبعث ارتقاؤهم المادي والمعنوي فسبحان المعز المذل القابض الباسط رافع الأمم وخافضها ومشقيها ومسعدها.(60/49)
الأمة تحبو
نريد بالأمة هنا الأمة العربية أو الشعوب العربية وإن كان لكل قطر بل لكل كورة من أقطار بلادها وكورها حالة خاصة بها وفلسفة روحية تختلف عن جارتها وتستدعي بحثاً على حدثها ولكن ما يتعذر على التفصيل يجدر أن يذكر على الاجمال، ننظر نظرة عامة في حال العرب ليتجلى لنا أن كانوا ناهضين نحو الرقي أم هم يسرون سيراً متثاقلاً لا يعرفون الغاية ولا يهتدون إلى وجد الحق سبيلاً.
إذا بدأنا بمراكش وهي أقصى حدود البلاد العربية نجدها لم تبرح على ما يبلغنا من أمرها أمة أمية كما كانت في أواخر القرون الوسطى وهي على استقلالها وقربها من أوروبا لم تتأثر بالمدينة الغربية وما فتئ أهلها يعيشون في حال التنبت يأكل كبيرهم صغيرهم ويعبث خاصتهم بعامتهم يرون السعادة كل السعادة ما هم فيه ولا تحدثهم أنفسهم أن يغيروا منه بأن يبحثوا عن سر تفاشلهم وتقاتلهم وجاهليتهم.
فأهل مراكش في تقاليد مدينتهم كالذين ينتحلون الفتشية أي عبادة الأصنام في إفريقية بالنسبة لأهل الأديان السماوية الراقية ما زالوا على الفطرة الأصلية وليس عندهم من دواعي البقاء إلا ما لا غنية عنه لكل قبيل مهما انحطت درجة مجتمعه وهيهات أن تتوحد كلمة المراكشيين على تباين أقطارهم وأمصارهم ما دامت القبائل تتعادى والحكومة كل يوم في شأن وليس بين قبائل البربر في القاصية وبين أهل فاس وطنجة صلة كأنهم من عالم آخر، أما من يسوغ أن يقال عنهم بأن لهم شيئاً مما يطلق عليه اسم مدينة من باب التجوز وهم سكان الأمصار فالخاصة منهم لا يعرفون إلا بعض المسائل الدينية والتاريخية وتقف معارفهم عند هذا الحد ومن المتعذر جداً أن ترى مراكشياً قلد الغربيين في ملبسه وعيشه ومناحيه وتصور معنى المدينة الفاضلة.
وهكذا إذا جئت تبحث في حال بوادي المغرب الأوسط أي الجزائر ولولا مبادئ من الافرنسية يلقنها بعض الجزائريين طوعاً أو كرهاً لما رأيتهم الاكبادية مراكش حذو القذة بالقذة، أما مدن الجزائر فسائرة نحو التطبع بطابع المدنية الغربية على تشدد السكان الأصليين واستنكافهم من الأخذ بها والتحامي من الايغال في تلقف ما يضر بكيانهم من قبول تلك المدنية التي تنتهي إذا فتحت لها السبل كلها بصيرورتهم فرنسيساً كما هي إرادة الحكومة والقوم مهما أبدوا من المتانة في مجافاة الأوضاع الافرنسية تضطرهم بقوة ولو بعد(60/50)
نصف قرن أن يقبلوا بكل ما تعرضه حكومتهم عليهم من الأوضاع والمنازع التي لا ترى لها ولهم سعادة بدونها، والجزائريون لا يستطيعون على تلك الحال أن يدرسوا وحكمهم استعماري حتى ولا مبادئ لغتهم لما يحول دون أمانيهم من العوائق على ما يقال، وكأنا بالجزائر إذا دام أمر المسلمين فيها في تراجع وقد أصبحت فرنسوية في كل حال من أحوالها وأنك لترى بعض أهلها يهاجرون منذ سنين ويتخلون بطبيعة الهجرة عن عروضهم وعقارهم وينزل مكانهم أناس من الفرنسيس والطليان والإسبان وغيرهم يستعمرون الأرض ويتملكون الدور والعقار ويقبضون على أزمة التجارة، وقسم من الأهلين يقلد الافرنج فيتعلم على طريقتهم ويحسن لغتهم وينسى لغته وتضعف وطنيته وجنسيته وعقيدته فهذا وأولاده من بعده يصبحون إفرنجاً صرفاً إن لم يكن في الجيل الثاني ففي الثالث والقسم الآخر من السكان وهو المهم الآن وفيه كثير من أرباب الغنى والفكر يجمعون إلا قليلاً بين الأخذ بمذاهب المدنية الحديثة مع المحافظة على تقاليدهم وأوضاعهم وهؤلاء خير طبقة يرجى منها النفع الآجل والعاجل وهناك قسم آخر يجرفهم سيل المدنية الحديثة فيقبلونها رضوا أم لم يرضوا.
وإنا إذا حسبنا من تعلموا الافرنسية اليوم من الجزائريين ولم يتعلموا لغتهم مائتي ألف نسمة من أصل نحو خمسة ملايين بعد أن حكمت فرنسا هذا القطر زهاء سبعين سنة فسنرى عددهم يربو على ذلك أضعافاً بعد نصف هذه الحقبة من الزمن، إذ أن الدعوات الدينية والمدنية تكون ضئيلة في الغالب لأول أمرها ثم تقوى كالنار أصلها من شرارة ثم يمتد لهيبها ولتهم البعيد والقريب منها، ويخشى أن يكون حال الجزائر مع من يهاجرونها من أبنائها حال الجو في إنكلترا مع سكانها فقضى بقاعدة الانتخاب الطبيعي وقانون الوراثة على العاجزين والخاملين وبقي الشعب على الجملة من الأقوياء الأشداء العاملين الناهضين، نعم نحاذر أن تقذف الجزائر بالخاملين الذين سدت في وجوههم مذاهب المعاش وأن تستعيض عنهم بالعاملين من الغربيين أو من الجزائر بين أنفسهم الآخذين بمذاهب الحياة أخذ الأوروبيين.
من أجل هذا ساغ لنا أن نقول أن مستقبل الجزائر إن دام على هذا المنوال مظلم محزن ومثلها تونس وإن كان الأمل بنهوض هذا القطر أقرب من بعض الوجوه لأن طرز حكومة(60/51)
الحماية يختلف بعض الشيء عن طرز حكومة المستعمرة لوجود حاكم من أبناء البلاد في الصورة ولأن بعض المنورين من أهلها لم يسعهم بعد طول الروية إلا التشبث إلى الرقي بأسبابه المنتجة ولو بعد زمن طويل ونعني بذلك التعلم على المناحي الأوروبية وعدم إغفال التعاليم القومية والمذهبية، وهذه البزرة على صغرها لا بد أن يأتي يوم عليها تكبر فيه دوحتها وتثمر في أرض قرطاجنة.
أما إقليم برقة أو ولاية طرابلس الغرب فشأنها على اتساع رقعتها وكثرة سكانها شأن البلاد المتأخرة جداً وجمودها في الأخذ بمذاهب الحضارة جمود المغاربة المراكشيين وبلادهم حتى الحواضر منها بادية أكثر منها متحضرة وقلما تجد نهوضاً إلى التعلم الحقيقي فيهم والنبهاء منهم يرون الاكتفاء بأن يتلقوا مبادئ العلوم في مدارس الحكومة للتوظف في خدمتها أما سائر مذاهب المدنية فقد أغفلوه ولذلك يصعب أن نقول عنهم أنهم كالطفل يقوم ويقعد أو يحبو ويدب.
جئنا إلى مصر ومصر معقد الآمال في مستقبل هذه الأمة لأن توسطها من الأقطار العربية ومركزها التجاري المهم الداعي إلى اختلاطها بالأمم الأخرى كثيراً وخصب تربتها وغناها وكثرة سكانها كثرة قلما يتأتى لواد كوادي النيل أن يحوي مثله نفوساً يوفر لهم مرافق العيش وانتظام حكومتها بعد الإسلام على اختلاف الدول التي حكمتها ومدنيتها القديمة ونظامها الذي عم أريافها كما عم أمصارها وتسلسل الميل في أبنائها للأخذ بمذاهب الحضارة الغربية وتأسيس أوضاعها والعناية بما يبقي عليها جنسيتها ونحلتها كل هذا مما يرجى منه أن يكون حضارة عربية غربية تأخذ إن شاء الله من الحضارتين أطايبهما على نحو ما فعلت يابان يوم عزمت أن تنشأ نشأة راقية تضاهي بها دول المنعة والمدنية الحديثة فلم تتخل عن شعائرها ولم تتناول كل ما وقعت أبصارها عليه من أسباب الحضارة الغربية فجاءت بمدنية لا شرقية ولا غربية يكاد سنا ضوئها يأخذ بالأبصار.
ولقد خط الزمان لمصر خطة منظمة في الارتقاء وفيها الذين قلدوا الراقين من الغربيين بعيشهم ومناحيهم وإدلالهم بوطنيتهم وأرومتهم وعندها ما يلزم لأمة من أدوات الرقي على أتمه إلا قليلا، وإذا نشأت لبعض أبنائها رغبة في تلقف العلوم الطبيعية والصناعية كما أولعوا بالعلوم الأدبية والسياسية تصبح بعد بضع وعشرين سنة كأمة أوروبية راقية وربما(60/52)
فاقت الآن وهي بعلمها وارتقائها في قارة إفريقية بمنزلة ألمانيا وفرنسا في قارة أوروبا كثيراً من الشعوب المنحطة في جنوبي أوروبا.
أما سورية فقد أنشأت لها مدنية خاصة إن صح أن نسميها كذلك ولكنها متلونة بتلون مصادرها مختلفة اختلاف اهويتها وعناصر سكانها فالأتراك يلقنونها لغتهم منذ استيلاء الدولة العلية عليها ولكنهم لم يوقنوا إلا بتعليم أفراد في بعض البلاد قضت عليهم مصلحتها التجارية كأهل حلب وما جاورها مثلاً بتعلمها أو غرامهم بالوظائف العلمية والعسكرية والملكية كأهل دمشق وطرابلس وبيروت أن يتلقفونها أما الذين تأثروا من أبنائها بالمدنية الغربية المنبعثة من المدارس الفرنسوية والاميركانية والانكليزية والروسية وغيرها فأوفر عدداً وإن لم تكن المدارس أقدم زمناً وأرسخ قدماً في كل الأقطار فهي في فلسطين أي في جنوبي سورية أقوى منها في شماليها وفي غربيها أكثر مما هي في شرقيها فنجد الناشئة الجديدة على المناحي الغربية في القدس ويافا وحيفا وعكا والناصرة وصور وصيدا وبيروت ولبنان وطرابلس والاسكندرونة أكثر مما تجد منهم في نابلس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب واللاذقية، وكلما كثر في بلد سواد المسلمين كان البعد عن الأخذ بمدينة الغرب أكثر من غيره من المدن المحنسة بأديانها وتباين أغراض المعلمين فيها.
وعندنا أن الحكومة تحسن صنعاً إذا نشطت في هذا القطر اللغة العربية أكثر من اللغة التركية أو على الأقل جعلتها مثلها ليكون لها من أبنائها أكفاء في صد تيار المدارس الأجنبية التي تعد الناس للهجرة أكثر من تحبيب بلادهم في أعينهم أما السعي في تتريك العرب في سورية وفي غيرها من الأقاليم العربية كاليمن والحجاز والعراق والجزيرة فسعي باطل ليس في خير للبلاد ولا للدولة لأن تعليمهم بغير لسانهم يطول معه زمان نهوضهم الحقيقي والأتراك ليسوا بمدنيتهم على مستوى الفرنسيس والانكليز في الرقي ومعرفة المدخل والمخرج مثلاً حتى يفيضوا من عملهم على العناصر الأخرى ولذلك كان عمل الحكومة عقيماً في نشر التركية فقط في البلاد العربية والدليل على ذلك أن الولايات التركية أحط بكثير من الولايات العربية فولايتا سورية وبيروت أرقى ولا شك من ادرنة وبورصة كما يؤكد ذلك من طافوا هذه الولايات الأربع وخبروا قراها كما خبروا مدنها أما درجة التهذيب والتعليم في سورية فأرقى من بلاد الأكراد وأرمينية وولايات آسيا الصغرى(60/53)
أي الأناضول ولذلك جاز لنا هنا أن ندعي أن السوريين كالطفل بدأ يحبو نحو المدنية إلا أنه لم يعين له خطة معينة حتى الآن وحالته مناط بفناء نوابه بل نواب العرب وكفاءتهم في مجلس النواب وإذا حسنوا النيابة نالت هذه البلاد حقوقها الإدارية والعلمية والعمرانية وإلا فتبقى في حالة التذبذب.
أما سائر الأقطار العربية فلا يسوغ لنا أن نقول أنها أخذت تحبو ما دامت الفتن تنهك قواها وذلك مثل بعض أنحاء العراق ونجد واليمن فإن الأمن لم يكد يتقرر في نصابه في قطر من أقطارها مدة طويلة ومنذ نحو أربعين سنة لا تخلو سنة إلا وتنتشر الفتن في بقعة من بقاع اليمن وكذلك جنوبي سورية ونجد والعراق ولولا بقايا مدنية تقذفها الهند على خليج فارس فينال منها البصرة وبغداد شيء قليل أو تلك الآثار الضئيلة التي يلقيها الراحلون إلى الشرق من أهل الغرب على بعض موانئ البحر من جهة الجزيرة العربية لقلنا أن هذه لم تختلف حالتها عن بضعة قرون إلا ما كان من خلل الأمن فيها.
وبعد فإن حال هؤلاء الملايين في اليمن والحجاز والبصرة وبغداد والجزيرة والشام وطرابلس الغرب يدل على أن الانتفاع من قليل منظم خير من كثير مشتت وأن أهل سويسرا وهم ليسوا سوى جزء من عشرين جزءاً من العرب المنبعثين من شواطئ بح الظلمات إلى شواطئ المحيط الهندي أكثر أثراً في المدينة من العرب اليوم وهم لا يقلون عن ستين مليوناً وما ذلك إلا لبعد أقطارهم واختلاف الأغراض في حكوماتهم فتجدها إما إلى اليقظة الغربية أو إلى الإهمال المدهش، إفراط أو تفريط وكلا هذين إن زاد قتل.
أما سائر البلاد العربية كزنجبار والسودان وأواسط إفريقية فحالها تبع للأقدار وهي أقرب إلى الانصباغ بصبغة الحاكمين عليها لأن أهلها على الأغلب ليست لهم في الأصل مدنية راقية زالت ثم بدأت تعود ولأن أقاليمهم الحارة تفعل في عقولهم فتخملها كما تفعل الأقاليم الباردة في عقول الساكنين فيها فتنشطها وتبعث منهم قوة الإرادة والثبات وتطلب منهم مطالب كثيرة تضطرهم إلى تنويع أساليب العمل.
وبعد فليس كمصر بين البلاد في رقيها فهي أم الأقطار العربية وسوف تعلم غيرها كما تعلمت فترسل أشعة أنوارها إلى الأقطار ولا سيما إذا نالت استقلالها الإداري وأصبحت ذات دستور يحل شؤونها ونهوض البلاد بحسب طبائع الحكومات التي تتولاها.(60/54)
والمدنية كتيار قوي لا تقف في وجهه سدود الحكومات، مهما ضغطت، ورابطة اللغة والدين أقوى الروابط لا تنزعها القوانين اليوم مهما جارت والأمة الآن تحبو وتوشك أن تمشي مشية الشاب القوي العضلات التام الأدوات والصفات، خصوصاً إذا تعاطفت وتعارفت أكثر مما تتعاطف الآن وتتعارف وعندنا أن الصلات الاقتصادية أي التجارية إذا قويت بين هذه البلاد أكثر مما هي الآن ورحل التاجر الراقي من العراق إلى تونس وجاء المراكشي إلى الشام ونهض اليماني نحو مصر وكثرت الصلات والمواصلات واشتركت المنافع واتحدت يتأتى أن نقول ولو بعد قرن أو قرنين (والقرن والقرنان لا يعدان شيئاً في حياة الأمم) أن هناك أمة عربية ذات كيان يذكر لا يقل عن كيان الطليان والألمان واليابان والأميركان والعصر عصر تكوين الوطنيات باللغات وإحياء ما اندثر من القوات بضم شملها بعد الشتات ولا سبيل إلى النهوض إلا بإحياء اللغة والآداب وتذكير الأبناء بما فعل الآباء وإلا فتبقى هذه الأمة الكثيرة الحصا الوافرة البقاع والأصقاع أمام المدنية الغربية أقرب إلى الاضمحلال منها إلى البقاء ومتى أزمن مرضها يتعذر برؤها، سبحان من يحيي العظام وهي رميم.(60/55)
العفة
وتمدح العرب بها
العفة خلق يعصم صاحبه عن تناول ما لا يحل: فإذا عرض له ملذوذ محرم، أو سنحت له شهوة محظورة حال هذا الخلق الكريم بينه وبين التلوث بها، وقد غلب استعمال كلمة العفة في تجنب قاذورة الزنا، ومن أكرم نفسه عن هذه القاذورة كان في منجاة من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، ويكفي الزاني خزياً في دنياه أن يكون محتقراً في ذويه معرضاً للعاهات والأمراض الخبيثة، وأن يصبح قدوة سيئة لأهله وولده في سلوك هذا الطريق المشؤوم، وإني أعرف رجلاً ابتلي بهذه الرذيلة فكان له في كل يوم خليلة يختلف إليها، وينفق من رزق عياله عليها، وكان له زوجة وأولاد: فلم يكن أمره ليخفى عليهم مهما بالغ في التكتم، ولما بلغ أكبر أولاده من الرشد مال إلى هذا المنكر ونما في نفسه حب الفاحشة، فجعل يسافر من بلد إلى بلد في تطلب الفتيات، وتصيبهن، والإنفاق عليهن وكيف يكون موقف الأب إزاء عمل ابنه هذا؟ أتراه يقدر على كبح جماحه وإرجاعه عن غيه، وإقناعه بأن ما هو فيه يؤدي إلى قبح الأحدوثة، وضياع الشرف، وخسارة الصحة وعذاب الآخرة فإذا نصح له أبوه بمثل هذا القول ماذا يكون جواب ابنه له يا ترى؟ وفي مثل هذه القصة قال الشاعر في المثل السائر:
إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً ... فلا تلم الصبيان فيه على الرقص
وقديماً ما تمدح العرب بالتخلق بالعفة، والابتعاد عن التلوث بقاذورة العهر، بل تجنب كل ما يلحق بهم ريبة، أو يدعو إلى سوء ظنه، فكان أحدهم لا يزور امرأة جاره في غيبة زوجها تأثماً وتكرماً.
وإذا كان جواداً مثل حاتم الطائي، وكان له جار بادي الخصاصة، احتال في إرفاد زوجته أثناء غيبته من دون أن يلم بها، أو يدخل بيتها وقد دل حاتم على خلقه هذا في قوله:
وما تشتكيني جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها ... إليها ولم تسبل علي ستورها
قوله وما (وماتشتكيني) أي لا يمكنها أن تشكوني إلى نساء الحي فتقول: إن حاتماً بخل علي، ومنع عني معروفه، في غياب زوجي، لا تقول ذلك لما أني كنت لا أقصر في فعل(60/56)
كل ماينعم عيشها، ويكفي حاجتها، إلا الزيارة فإني كنت أدعها مدة غياب زوجها، وقوله (سيبلغها خيري) أي يصل إليها معروفي ورفدي وأزال كذلك حتى يرجع زوجها من دون أن أدخل خدرها وتسبل علي سترها.
وقال حاتم أيضاً في هذا المعنى:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
يقول أن جاري لا يضرم ناراً لنفسه وإنما تكون ناري له ناراً فيأكل هو وعائلته مما يطبخ عليها، بل إن القدر تنزل عن النار وتقدم إليه ليتناول منها حاجته قبلي
ما ضرني جارا جاوره ... أن لا يكون لبابه ستر
لا أبالي أن لا تكون ستارة على باب بيت جاري، وذلك لأني عفيف العين فلا أخشى على نفسي التطلع إلى داخل البيت، والنظر إلى النساء اللائي فيه.
أعشو إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر
هذا البيت كأنه جواب لسؤال يوجه إلى حاتم: فيقال له أحسنت إذ لم ترسل نظراتك الخائنة من خلال الستور إلى نساء جارك ولكن كيف تصنع إذا برزت الجارة من خدرها وتمشت بين المضارب والبيوت، فقال إني إذ ذاك (أعشو) أي أغض عيني وأغمضهما فلا أعود أبصرها حتى تدخل خدرها، وتتوارى فيه، واصل (العشى) مقصور من دون همزة، أن يضعف بصر المرء فلا يعود يبصر في الليل، وإن كان يقدر على الإبصار في النهار، والوصف منه أعشى، وبه سمي الشاعر المشهور والناقة العشواء التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء يعترضها، وتعتسف الطرق على غير هدى، ومنه المثل فلان يخبط خبط عشواء.
وقد تجوز حاتم فاستعمل العشى هنا بمعنى غض العين، أو تخزير الجفن بحيث لا يعود يبصر إلا كما يبصر الأعشى الضعيف البصر.
وقد أعطانا هذا العربي الكريم في شعره درساً جليلاً في الأخلاق وفي آداب معاملة النساء يجدر بنا أن نحفظه، ونحتذي مثاله، فلا نتعرض إلى النساء الأجنبيات، ولا نسارقهن النظرات الخائنات.
وقد افتخر حميد بن ثور الهلالي بما افتخر به حاتم فقال:(60/57)
وإني لعف عن زيارة جارتي ... وإني لمشنوء إلي اغتيالها
(مشنوء) مبغض مكروه، يقول أنه يكره أن يزورها لئلا يساء به الظن فيهان، كما يكره أن يغتابها لئلا يقال أنه تنزل لمنافسة النسوان.
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها ... زواراً ولم تنبح علي كلابها
زوار على وزن غراب بمعنى كثير الزيارة ومن مادة الزيارة سمي الرجل الذي يكثر من زيارة النساء وغشيانهن ومجالستهن زير وبه سمي المهلهل أخو كليب الزير ويقال فلان زير نساء إذا كان مولعاً بمجالستهن وتصبيهن.
وما أنا بالداري أحاديث بيتها ... ولا عالم من أي حوك ثيابها
حوك مصدر حاك الثوب حياكة وزير النساء يعمل على تعرف أحوالهن وتسقط أخبارهن فيدري إذا جرى بينها وبين جارتها أو خادمتها وماذا رأت أو سمعت في العرس أو المأتم الذي ذهبت إليه، وقد يستخبر منها عن نسيج ثوبها، ومن أي صنف أو جنس هو، ومن أين اشترته، وعند أي خياطة خاطته كل هذه الأسئلة لأجل أن يكون له مادة للحديث يشغلها به حينما يزورها أو يصادفها، فشاعرنا العربي لم يقصر في درس طباع هؤلاء الأزيار جمع زير ومعرفة غريب حيلهم، فهو ينفي عن نفسه أن يكون فاسقاً مثلهم أو يشتغل بالنساء اشتغالهم.
ومثله في ذلك عقيل بن علفة المري الذي يقول من أبيات:
ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم حضور
(غياب) جمع غائب، وقوله (رجالك) أصله (رجالكن) بالنون لأن الخطاب للجارات وهن جمع، قالوا إن هذا الحذف أو الخطاب بالمفرد جائز في الشعر فقط:
يقول: إنه لا يسألهن هذا السؤال ليتوصل به إلى محادثتهن، أو أنه لا يسألهن إياه إرادة الدخول عليهن، وقضاء لبانة منهن.
ولست بصادر عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود
(العير) حمار الوحش ووروده مجيئه الماء يريد الشرب وصدوره رجوعه عنه بعد شربه منه، و (غمره) بتشديد الميم من التغمير، وهو أن يرد حمار الوحش الماء فيشرب أول الشرب ثم يحس بالصائد الكامن له على الماء فيرجع نافراً غير متلبث وبه إلى الماء حاجة(60/58)
ونفسه تدعوه إلى العودة.
فالشاعر يقول إني لا أدخل بيت جاري ابتغاء الريبة، وارده كما يرد عير الوحش منهل الماء، حتى إذا علمت بأن الجار في البيت صدرت ورجعت مسرعاً كما يفعل عير الوحش متى أحس بالصائد القانص إذ ينقلب عن المنهل مغمراً وتغميراً، وهو شديد الظمأ إليه.
ولا ملق لذي الودعات سوطي ... ألاعبه وربته أريد
(ذو الودعات) هو الصبي الصغير الذي يعلقون عليه الودع خشية العين ومسيس الجن، وقوله (ربته) تأنيث (رب) وضميره يرجع لذي الودعات، ويعني بربته أمه: لأنها تربيه وتملك أمره وتصلح من شأنه، حتى يبلغ كماله، والتربية مأخوذة من هذه المادة.
وقد زاد الشاعر هنا معنى لم يقله زميله الشاعر السابق: فهو يقول أنه ليس بالوقح الذي يتوصل إلى مغازلة النساء ومحادثتهن بمناغاة أطفالهن وملاعبتهم، فإذا رأى طفلاً مع امرأة حسناء أو خادمة وسيمة ألقى إلى طفلها سوطه أو سبحته أو فم سيكارته يظهر من نفسه الرحمة بالأطفال وشدة العطف عليهم، والأمر ليس كذلك وإنما هو فاسق يريد صاحبة الطفل، ويبغي بها السوء.
وأسلوب هذه الأبيات يعطي أن قائلها يريد التعريض بعدو منافس له: كأنه يقول أني لا أتنزل لأمثال هذه الشناعات وإنما ذاك خصمي فلان هو الذي اعتاد فعل ذلك.
ومثل قوله الأخير قول الآخر:
لا آخذ الصبيان ألثمهم ... والأمر قد يغزى به الأمر
(يغزى) من غزا قصد، ومن غزو العدو، لأن الغازي يقصدهم في موضعهم، ومنه أيضاً (مغزى) الكلام، و (مغزى) القصة أي المعنى المقصود منها، فلثم الصبيان هنا ليس مقصوداً لذاته وإنما هو أمر قصد به أمر آخر، وهو تجميش المرأة والتفكه بحسنها وجمالها، وشكلها ودلالها.
ولا أريد بالشكل هنا الهيئة والصورة وإنما هو بمعنى الغنج والدلال وشينها تفتح وتكسر، شكلت المرأة كفرحت فهي شكلة.
أما التجميش فلا أبيح لنفسي التصريح بأصل اشتقاقه، وإنما أكتفي بتفسيره بالمغازلة.
وخطر لي الآن أن المغازلة، ويراد بها محادثة النساء بكلام الحب، مشتقة من غزل القطن(60/59)
والصوف، وإنما سميت هذه المحادثة بهذا الاسم، لأن الزير يجلس إلى المرأة وهي تغزل فقد يساعدها بالغزل أو يحل الخيوط المعقدة أو يسألها عن غزلها وما تريد أن تنسج به مثلاً ويكون الزير بصنيعه هذا كأنه شاركها في الغزل، ولذلك جاء فعله (مغازلة) على بناء المشاركة، ثم يتوصل الزير بهذه المشاركة إلى أحاديث أخرى يعلمها الأزيار، ومن لطائف المتأخرين قول بعضهم:
وزان بحب الزنا مغرم ... اماط رادء الحيا واطرح
يقبل أولادهن الصغا ... ر ومن عشق الدن باس القدح
المغربي(60/60)
أخبار وأفكار
الجمعية الخلدونية
في الشام ومصر وتونس جمعيات إسلامية كثيرة غايتها تعليم ناشئة الأمة وبث روح العلم والفضيلة في النفوس وأهما فيما نرى جمعية مآثر التربية والمقاصد الخيرية في بيروت والجمعية الخيرية في القاهرة وجمعية العروة الوثقى في الاسكندرية والجمعية الخلدونية في تونس، وأمامنا الآن الخطاب السنوي لرئيس الخلدونية ألقاه في الاجتماع السنوي لانتخاب رئيس وأحد عشر عضواً كما يقضي بذلك نظامها قال فيه أنه لا تسمو كلمة الأمة ولا يتقدم لها شأن إلا باشتراكها في السعي والعمل والقول والفكر وأنه من أجل هذا تألفت في العالم المتمدن الشركات والجمعيات الأدبية والعلمية واتحدت أفراداً أعلى شعوراً وإحساساً، فالرغبة في الحصول على هذه الغاية الشريفة سعى نخبة من فضلاء الأمة التونسية فوقفوا لتأسيس الجمعية الخلدونية العلمية التي مضى عليها الآن مدة تناهز أربعة عشر عاماً لم تزل في غضونها دائبة على القيام بوظيفتها من توسيع نطاق المعارف ونشر العلوم العصرية بين الشبيبة التونسية عامة وتلامذة الجامع الأعظم خاصة لاعتبار هذا المعهد العلمي كفرع للكلية الزيتونية.
ومع قيامها بتلك الوظيفة السامية لم تزل أيضاً تبحث عن الوسائل الموصلة لاستكمال ذلك وترتب الدروس في الفنون غير المزاولة بالجامع الأعظم زيادة على التاريخ والجغرافيا والحساب والهندسة من بقية العلوم الرياضية والطبيعية التي لا يحسن الجهل بها في الأوقات الحالية.
وقال: إن مادة بقاء الجمعية هي إعانة المشتركين من ذوي الغيرة والمروءة الذين قدروا المشروع حق قدره واستمروا على مساعدته بمالهم وعملهم، وعناية أعضاء لجنة إدارتها ورؤسائها الفضلاء السابقين الذين يحق للجمعية أن تفتخر بحزمهم وسعيهم في ترقية الجمعية وتصييرها من أرقى الجمعيات العلمية في شمالي إفريقية وخص من بينهم بالذكر سيدي محمد الاصرم الذي بذل جهده في هذا السبيل وأنفق وقتاً ثميناً من حياته لتحسين تراتيبها وأساليب تعليمها، ثم اهتمام السادة المدرسين الذين قاموا بما نيط بهم أحسن قيام وساعدوا الجمعية على نشر العلوم التي كانت مفقودة في تونس وترجمتها من اللغات(60/61)
الأجنبية إلى لغتنا العربية ونذكر في مقدمتهم سيدي البشير صفر والسيد حسن عبد الوهاب والسيد صادق التلاتلي والسيد عبد الرزاق الغطاس وغيرهم.
وقال: إن أهم نتيجة لعمل اللجنة في السنة السالفة مضاعفة الإعانة المالية المخصصة للجمعية من إدارة الأوقاف وما قررته بموافقة الجلسة العامة من تغيير مدة التعليم وتصييرها عامين بعد أن كانت عاماً واحداً حرصاً على أن يكون المتخرجون من مدرسة الجمعية أكثر علماً وأوفر استعداداً لتلقي الدروس العالية أو مباشرة الخدم المعاشية ومن تنظيم نظام التعليم بما يشمل بعض فنون عصرية كالحكمة والكيمياء وحياة الحيوان والإنشاء العربي ومبادئ اللغة الفرنسوية الخ.
هذا أهم ما ورد في خطاب الرئيس ولعل بعض قرائنا يودون الاطلاع على الغرض الحقيقي من تأسيس هذه الجمعية الراقية فنقول لهم نقلاً عن تقريرها سنة 1956 وهو يصدر باللغة الافرنسية أن أول من اقترح تأسيسها المسيو ريبيليه الملحق العسكري بالمقيم العام في تونس وكان من المتبحرين في المسائل الإسلامية والواقفين على حركة النهضة المصرية فوقع في نفسه أن في مكنة شبان تونس المتعلمين في المدارس الفرنسوية أن ينشروا في القطر التونسي الأساليب الحديثة المتبعة في بعض بلاد الشرق ويصلحوا جامع الزيتونة على ما يناسب حال النهضة العلمية الحديثة فإذا صلحت حال هذا الجامع الأعظم يصبح كما كان مبعثاً للنور في العالم الإسلامي ولا سيما في شمالي إفريقية، وهكذا سعى إلى تأسيس هذه الجمعية فأنشأها زمرة من الفضلاء والمفكرين ودعوها بالخلدونية نسبة إلى ابن خلدون المؤرخ الفيلسوف الذي وضع في مقدمته أصول التعليم والإصلاح العلمي.
ومن نظامها فتح دروس وإلقاء محاضرات في التاريخ والجغرافيا واللغة الافرنسية والاقتصاد السياسي وحفظ الصحة والطبيعة والكيمياء خاصة وأن تسهل على من فيهم استعداد لسلوك سبل الارتقاء في العلم وتنشط على أحداث خزائن كتب وأن تنشئ مجلة بالعربية والافرنسية تعرف العرب بالمدنية الفرنسوية والفرنسيس بالحضارة العربية.
وبعد تأسيسها بمدة أعطيت مدرسة من المدارس القديمة جعلتها محلاً لصفوفها ومسامراتها ومكتبتها التي كانت تحتوي سنة 1906 على 690 مصنفاً بالعربية والافرنسية وقعت في 1153 مجلداً وفيها الامهات الممتعة ولا سيما ما يتعلق بتاريخ تونس وعمرانها ومدنية(60/62)
الإسلام.
وقد لقي هذا المشروع معاكسات قوية بادئ بدء وكثرت فيه الظنون والتخرصات على نحو ما يلقى في العادة كل مشروع في الشرق ولكن عرف القوم بعد حين سلامة قصد القائمين وسكتت الألسن عن تناول الخلدونيين بسوء خصوصاً لما يرون من حماية سمو الباي والدولة المستعمرة لجمعيتهم ولأن المتخرجين في مدرستها إذا كانت بأيديهم شهادة يفضلون على غيرهم في الوظائف.
والدروس والمحاضرات التي تلقى في تلك المدرسة هي الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا والطبيعة والكيمياء وقد أقاموا معملاً كيماوياً في مكتبة المدرسة ليطبقوا العلم على العمل ثم أضافوا إلى هذه الدروس علم المساحة ورسم الأراضي (الطبوغرافيا) والرسم والجبر، وأهم ما تدور عليه المحاضرات تدبير الصحة العلمية والنظام القضائي في تونس وقانون العقارات وعلم الحقوق الإسلامي والفرنسوي والاقتصاد السياسي والاقتصاد الزراعي يلقيها في الغالب أعضاء الجمعية وفيهم العلماء والكاتبون والباحثون باللغة العربية وكان المستمعون قلائل جداً بادئ الرأي قلما ثبتت الجمعية ارتقوا من العشرات إلى المئة والمئتين وكانت واردات الجمعية سنة 1906 - 6889 فرنكاً ونفقاتها كذلك ولا شك أنها زادت الآن بحسب حاجة العصر وارتقاء مدارك أهله، وقد انتخب لرئاسة الخلدونيين هذه السنة السيد عبد الجليل الزاوش من علماء تونس وأرباب الأفكار فيها.
بلغ مجموع إيراد هذه الجمعية الخيرية في سنة 1910 - 22340 جنيهاً و 76 مليماً منها 997 ج و 200 م اشتراكات و7172 ج 225 م إيجار أطيان و 2917 ج و 891 م للاحتفال السنوي منه مبلغ 2237 ج و 376 م لسنة 1909 و 524ج و 672 م تبرعات و 203 ج إيجار مباني الجمعية بيتي مزار وطنطا و75ج مرتبات خيرية وجنيه ومائة مليم إيرادات متنوعة عمومية و 6773ج و 500م أجور تعليم و1378ج و 561م ثمن كتب وأدوات مبيعة و1450ج مرتبات خيرية و 82ج و375م إيراد وقف المرحوم أحمد أفندي شاكر و663ج 78م تبرعات و 45ج جائزتا المرحوم علي باشا مبارك وحضرة عبد الرحمن بك رضا 55ج و765مليماً، وبلغ إجمالي المصروفات 18552 ج و 648م وبلغ الباقي بعد نفقات سنة 1910وهي نفقات التعليم والإعانة والصدقة الخصوصية والنفقات(60/63)
العامة 11034 جنيهاً و 328 مليماً.
التعليم الدنيوي
نشر المسيو كومبايري من علماء الفرنسيس مقالة في مجلة المجلات الباريزية بشأن التعليم الدنيوي (العلماني) في فرنسا وحاضره ومستقبله جاء فيها أن حكومة الجمهورية تصرف كل سنة 120 مليون فرنك على المعلمين والمعلمات عدا ما تنفقه على بناء البيوت لمعلمي المدارس ومعلماتها وأن عددهم يبلغ 53276 معلماً و 59315 معلمة بحسب إحصاء سنة 1905 يتخرجون ويتخرجن من 175 داراً للمعلمين يتقنون فيها ما يلزمهم تخريج الصبيان والبنات وكان عدد المتعلمين سنة 1907 في مدارس الحكومة الدنيوية 4، 542، 631 فتى وفتاة ما عدا 522947 ولداً في مدارس الأمهات العامة و 811231 تلميذاً في المدارس الخاصة و 228213 في مدارس الرهبنات وهكذا زادت فرنسا مدارسها في الثلاثين سنة الأخيرة فكثرت فيها كما كثرت كنائسها في القرون الوسطى وانتشرت المدارس حتى في القرى البعيدة فكان عدد مدارس القرى أو مدارس الشعب سنة 1843 بلغت 3800 مدرسة فأصبحت سنة 1907 - 68128 مدرسة.
ومع ما بذل من العناية لم توفق فرنسا إلى إخراج الأمة كلها من ظلمات الأمية فكان عدد الأميين من الجنود الذين كانوا تحت السلاح سنة 1908 - 9853 لا يقرأون ولا يكتبون و 4175 يقرأون فقط على حين كان في الجند العامل سنة 1872 - 56000 أمي وفرنسا مع كل ذلك لم تبلغ مبلغ جاراتها في قلة عدد الأميين في أبنائها، فإن في الجيش السويسري العامل وقدره 28 ألفاً عشرين أمياً فقط وفي الجيش الألماني واحد في الألف يعد في الأميين والسبب في كثرة الأميين في فرنسا بالنسبة لغيرها جهل بعض الآباء وإهمال الأولاد على كثرة تشديد المعارف والبلديات على أولياء الأولاد الذين يهملون إرسال أولادهم إلى المدارس الابتدائية يتعلمون ثلاث سنين ما يخرجهم عن حد الأمية، والسبب الاجتماعي الذي يدعو في الغالب إلى تخلف الأولاد عن دخول المدارس قلة ذات أيدي آبائهم فلا يستطيعون أن يظهروا في بزة تناسب حالهم بين أترابهم ولكن الحكومة تداركت الأمر وأنشأت منذ مدة صناديق للمدارس يضع فيها المحسنون صدقاتهم ومنها ينفق على الأولاد المحاويج ما يلزمهم من كسوة وطعام مغذ في الشتاء ولكن لم تعم هذه الطريقة أقطار(60/64)
فرنسا كلها وبلغ عدد الصناديق المدرسية 17 ألف صندوق 371 ألف مديرية أو مقاطعة.
وبعد أن قال أن الفقر هو من الدواعي الكبرى التي تحول بين أولاد الفلاحين والاختلاف إلى المدارس ذكر أن بعض الذكور يحتاجون أن يعملوا ليطعموا بعض أسرتهم ومن الإناث من يقمن على تربية أخواتهن وإخوتهن مدة تغيب والداتهن في الحقول وإن أولاد الفلاحين ينقطعون عن المدرسة لأنك تراهم معظم السنة يشتغلون بحش الحشيش أو الزرع أو الحصاد أو قطف الكروم.
ومن أعظم ما يحول دون تعميم المدارس الدنيوية طغمة رجال الدين فإنهم حرموا في فرنسا من يختلف إلى مدارس الحكومة لأنها لا تعلم الدين وطردوا أولاداً لم يرقهم أمرهم ومنعوا تلاوة كتب لم تؤلف على هواهم فالتعليم الدنيوي لم ينجح على ما يجب بعد لضعف الوازع الأخلاقي ولأنه من الصعب أن تعلم أمة بأسرها تعاليم العقل وتطبق نفسها على نظامه وإشراب التعليم الأخلاقي الآن لفتيان صغار في عقولهم لا يتأتى لهم أن يقدروا نتائجها حق قدرها.
ومن الطرق التي ارتآها بعض الأساتذة في إصلاح هذا الحال أن يعلم الكبار الذين لم يسعدهم الحظ بدخول المدرسة في صغرهم كما تفعل ألمانيا في تعليم جندها الأمي حتى يكون القرن العشرون قرن العناية بالشبان كما كان القرن التاسع عشر عصر العطف على الأطفال.
ويرون أن خطط الدروس الابتدائية كثيرة المواد يختلط بها ذهن التلميذ فالأولى الإقلال منها ما أمكن وطبع صورة إجمالية في ذهن التلميذ تعده فقط لمادئ طفيفة لا يتعب بها ذهنه وتكون برزخاً له إلى الانتقال إلى تعلم الصناعات المفيدة والتعليم الثانوي فالعالي.
وقد نصح الكاتب للأساتذة أن لا يدخلوا غمار السياسة ولا يسمعوا لكلام من ساءهم فصل الحكومة عن الكنيسة ويطمحون إلى أن ترفع الحكومة يدها من التعليم وتمنح المعارف استقلالاً حتى تكون للأمة مباشرة يريدون بذلك أن يجعلوا حكومة في حكومة فقال لهم ما قاله جول فري مؤسس التعليم الدنيوي لبعض الأساتذة: إياكم أن تأملوا أن يكون منكم رجال سياسة فخير لكم أن تنشئوا عشرين وطنياً صالحاً من أن تساعدوا على انتخاب نائب في مجلس الأمة.(60/65)
وليس معنى المدارس الدنيوية أنها ضد الأديان بل معناه أنها على الحيدة لا يحب القائمون بأمر الأمة أن يلقي المعلم في المدرسة رأياً خاصاً له أو رأياً من الآراء التي تروج في الشوارع والأزقة بل تريده على أن يترك من وكل إليه تعليمهم أن يفكروا كما يشاؤون فإذا خالف ذلك وأورد لهم مبدأ دينياً يخون وطنه وأمته فالمدارس الدنيوية ليست مدارس الحاد فإذا كانت لا يذكر فيها اسم الله فليس الغرض منها أنها تخالف الله.
البعثة العلمانية
أصدرت البعثة العلمانية أو الدنيوية في بيروت مجلة يكون لسان حالها باللغات الثلاث العربية والتركية والافرنسية سمتها الرابطة وكل قسم من أقسامها منفصل عن الآخر فقرأنا فيها مطالب هذه البعثة في الشرق وقد أسست لتنفيذها مدارس في القاهرة والاسكندرية وسلانيك وبيروت وغيرها من البلاد والحواضر، وهي ترجو أن تتعدد في هذه البلاد التي فرقها التعصب دهراً طويلاً المدارس العلمانية مدارس التساهل والاتحاد والسلم التي يجتمع على مقاعدها الموسوي والعيسوي والمحمدي جنباً إلى جنب فيتعلمون كيف يحب بعضهم بعضاً ويخادع بعضهم بعضاً ويتضارسون؟!
وقد جاء في هذه النشرة أن البعثة العلمانية الافرنسية أنشئت لنشر التعليم اللاديني في غير فرنسا سنة 1902 وعدد أعضائها من الفرنسيس اليوم نحو عشرة آلاف يقسمون إلى عدة فروع منهم من يدفع فرنكين في السنة ومنهم من يدفع خمسة ومنهم من يدفع عشرة ومنهم عشرين والغرض من ذلك بث التساهل لا الطعن بالأديان وتعلم الحضارة الافرنسية والحضارة الشرقية بحسب حالة البلاد وأن عملها إنساني تقصد به تحسين حالة الناشئة في الماديات والمعنويات وتكميل الإنسانية في المعقولات والاجتماعيات، وذكرت كلاماً للفيلسوف ادغار كينه (1803 - 1874) أحد المبشرين الأول بالتعليم العلماني قال في الجمعية العلمانية: أنها تعيش بمبدأ حب الوطنيين بعضهم بعضاً بقطع النظر عن معتقداتهم فعسى أن تكون كما قال وأكده مئات بعده من أنصار الجمهورية وأحباب الاستعمار وبث الأفكار.
فلسفة أديسون
خالف هذه المرة أديسون الأميركاني مخترع الكهربائية جميع الفلاسفة الإلهيين في الاعتقاد(60/66)
بخلود النفس فصرح ولم يجمجم باعتقاده المادي وأنكر الخلود محاولاً أن يورد حجة على دعواه في حوار له مع أحدهم فقال: ليس الإنسان إنساناً بذاته بل هو بالخلايا التي فيه فالدماغ الإنساني هو كآلة فلا سبيل لنا من ثم إلى الاعتقاد بخلود الروح كما لا سبيل إلى الاعتقاد بخلود اسطوانة من اسطوانات آلتي الفوتوغرافية على أننا لم نجد حتى الآن أحداً قال بخلود الاسطوانة فلماذا نطالب به للأدمغة أو للقوة التي فيها، لا جرم أن ذلك ناشئ من كوننا لا نعرف هذه القوة التي نعتقد بخلودها إذاً فلنحكم بأن الكهربائية خالدة أيضاً لأنها قوة نجهلها.
هذا ما قاله الفيلسوف بالحرف وقد أحدثت تصريحاته اضطراباً شديداً في الولايات المتحدة وانطلقت الألسن في شرح أقواله في الأندية وقد صرح أديسون في خلال مقالاته أن خصومه يعثرون على حجج تؤيد ما ادعاه في كتاب من تأليف الدكتور طومسون اسمه الدماغ والشخصية إلا أن مصنف هذا الكتاب نفسه سئل عن رأيه في هذا الشأن فأجاب جواباً لم يكن ينتظر منه فقال: إن آراء أديسون مخالفة للعلم فالأمة التي لا تعتقد بخلود النفس يختل أمرها وقد رد بعض القسيسين على أديسون في معنى الخلود بقولهم إذا كان الإنسان كما يدعي أديسون مجموع مواد مختلفة متلاحمة من الخلايا فلا يكون أديسون مخترع الفوتوغراف بل مجموع خلايا فقط.
الفقراء في ألمانيا
نشأ عن كثرة الولادات وقلة الوفيات في ألمانيا أن كانت هذه الامبراطورية سنة 1870 أربعين مليوناً فأصبحت الآن أربعة وستين مليوناً وتزيد الولادات عن الوفيات تسعمائة ألف في السنة ولذلك نرى الفقراء كثاراً فيها وكذلك الاشتراكيون لأن معامل البلاد وصناعاتها وزراعتها لا تعول سوى أربعين مليوناً فقط ولذا يتوسل الألمان بجميع مالهم من الأسباب أن يقللوا من الشقاء في المدن والقرى فما تقوم به ألمانيا في برلين مثلاً لتخفيف شقاء الفقراء إنها افتتحت أربعة أسواق لا تباع فيها اللحوم إلا من الفقراء ويحظر رجال الشرطة والصحة دخولها على غيرهم من أهل السعة، والسبب في هذا الحظر هو أن اللحوم كلها سواء كانت لحم بقر أو عجل أو خروف أو خنزير لا تخلو من شبهة ولذلك لا يسمح ببيعها من الفقراء إلا إذا جعلت في معمل كيماوي يعقمها التعقيم العلمي فيقتل منها(60/67)
الجراثيم الضارة، وهذه الرخصة بالسماح ببيع اللحوم الملوثة قد لا يسمح بها في البلاد الراقية ولكن الألمان بالعلم أقسموا أن ينتفعوا حتى مما يضر ولا يطرحون شيئاً مهما بلغ من تفاهته وبذلك ينتفع جماهير المحاويج بتناول اللحوم اللازمة لهم في جهاد الحياة هناك.
تعلم اللغات
أقرب طريقة لدرس لغة من اللغات أن يتلقفها الطالب من أفواه أبنائها أو ممن يحسنها كأحدهم ولما كان هذا متعذراً على بعض الأشخاص ممن لم يسعفهم الحظ بوجود معلم ليدرسهم اللغة التي يطلبونها في بلدهم اخترع أحد الأميركيين آلة على نسق الحاكي يستطيع أن يدرس ابن أميركا اللغة الافرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية بواسطتها مع قليل من الكتب دون أن يتكبد نفقات الأستاذ أو عناء السفر إلى تلك البلاد ليدرس لغاتها.
أصل التصوير الشمسي
اخترع روجر باكون سنة 1297 م الغرفة السوداء المستعملة للتصوير الشمسي وفي سنة 1556 لاحظة بعض الكيماويين تأثير النور في الفضة وقام بروغام بعد حين وادعى إمكان حصول التأثير في العاج الحساس وذلك بمحلول الفضة.
والذي اخترع اكتشاف التصوير الشمسي في الحقيقة هما رجلان فرنسويان اسمهما نيبس وداكرونالا جائزة من حكومة فرنسا جزاء نشرهما طريقتهما وأقدم الصور الفوتوغرافية محفوظ في متحف شالون سورسون في فرنسا مسقط رأس نيبس وكان دوروتي درابر أول شخص رسم بالتصوير الشمسي وكذلك شقيقه رسم سنة 1829، وظل التصوير الشمسي يرتقي إلى أيامنا هذه حتى أعلنوا مؤخراً اختراع طريقتين جديدتين للتصوير البارز الناتئ وأنهما نجحتا وأعلنوا خبر اختراع التصوير الملون وهكذا لا ينتهي الاكتشاف والاختراع ما دام العقل البشري يعمل ويفكر.
أسباب الهجرة النبوية
أيها السادة:
كلمتي إليكم اليوم في أسباب الهجرة النبوية ونتائجها الأدبية
تعلمون أن كل مصلح قام في العالم سواء كان من الأنبياء الكرام أو العلماء الأعلام ناله من قومه اضطهاد ولاقت دعوته في بادئ الأمر صداً وإعراضاً والكتب الإلهية والتواريخ(60/68)
الاجتماعية شاهد حق على ما نقول.
إن أمام المصلحين وخاتم النبيين الذي نحتفل بعيد هجرته الشريفة اليوم لاقى كذلك فوق ما يلاقيه كل مصلح للهيئة الاجتماعية وعانى من أهل الحسد والبغضاء من بني عمه وغيرهم ما لم يعانيه نبي من قبل ومع هذا فقد كان منذ بعث إلى أن هاجر صابراً على الأذى لا يفتأ يدعو قومه إلى الإسلام ويعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج ويدعوهم إلى دينه وحمايته من حسد قومه ليتمكن بعد المنعة من بث الدعوة ونشر دين الهدى والحق ووضع قواعد الترقي الاجتماعي على أساس مكين.
لكن الذين يريدون الحقيقة نفسها ويقبلون الحق لأنه حق قليلون في البشر لا سيما في ذلك العصر وفي قوم حالهم من الجهالة معروف لذا لم تصادف دعوته قبولاً إلا من جماعة قليلين من قريش وغيرهم إلا أنه كان فيمن اتبعه من قريش مفر من وجوههم وأهل المكانة والعقل فيهم مثل أبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأشباههم من السابقين الأولين وصناديد قريش الذين أيدوا الدعوة المحمدية ورفعوا بعد ذلك شأن الأمة العربية بل شأن الشرق كله على وجه بهر أنظار العالم وقلب نظام الاجتماع في كثير من أنحاء الأرض على ما تعلمون.
كان في إسلام هؤلاء ما يكفي أن يثير غيظ قريش وغضبهم وخوفهم على أوثانهم فاشتدوا في اضطهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فألجأوه في نهاية الأمر للهجرة إلى المدينة مع ذلك النفر من المؤمنين.
وذلك بعد أن دعا جماعة من الأوس والخزرج من سكان المدينة إلى الإسلام في أحد المواسم سنة عشر للبعثة وجاءه في السنة القابلة والتي بعدها جماعة منهم ببيعة قومهم فبايعوه بيعة العقبة الثالثة وقيل هي الثانية واستوثق له منهم عمه العباس بن عبد المطلب فأقسموا على نصرته وعاهدوه على تأييد دعوته ثم نصروه بالقول والفعل وسموا بعد ذلك أنصاراً ونعم هذا الاسم وحبذا الفخر بنصرة الحق والحقيقة والعدل.
أمر بعد ذلك أصحابه بالهجرة إلى المدينة فأخذوا يهاجرون ارسالا إلى جماعات مستخفين إلا بطل قريش وأشجع شجعانهم المهاجر بدعوة الحق رغماً عن أنوف المكابرين فخر الأمة الإسلامية بل فخر التاريخ عامة عمر بن الخطاب فإنه أعلن هجرته وخرج مهاجراً على(60/69)
ملاء جبابرة قريش فلم يسعهم منعه أو الوصول إليه بسوء.
اتصل بعد ذلك بالنبي خبر تآمر قريش على قتله فاتفق مع صاحبه أبي بكر على الخروج في نفس تلك الليلة التي عينوها لقتله وترك على فراشه علياً ابن عمه وخرج والقوم يرصدونه فزاغت أبصارهم عنه وأنقذه الله منهم رحمة بالإنسانية وإنقاذاً لكثير من الأمم من ظلمات الشرور.
وكان خروجه عليه السلام في مثل هذا اليوم المبارك ومن جميل المصادفات أنه كان يوم الاثنين كيومنا هذا الذي نحتفل فيه وذلك سنة ثلاث عشرة للبعثة فسلمه الله وصاحبه من كيدهم وبلغ مأمنه بسلام في قصة طويلة معروفة في التاريخ.
هذه أسباب الهجرة فما هي نتائجها الأدبية؟
عجيب أيها السادة أمر هذا الإنسان القوي الضعيف بينما يتطال أحياناً إلى أن يتناول بمداركه كل ما تحت السماء ينحط حيناً حيناً آخر إلى حضيض الغبراء، فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما كان يريد حياة هؤلاء القوم ولكنهم كانوا يريدون قتله فما هذا التباين العظيم وكيف بلغت بهم قوة التمييز من الضعف هذا الحد؟
أريد حياته ويريد قتلي ... ولو علم الحقيقة ما أرادا
نعم جهلوا حقيقة النبي لا لنقص في ذكائهم الفطري واستعدادهم لقبول الفضيلة لأن ما ظهر منهم بعد بضع سنين من ذلك التاريخ يؤيد أنهم كانوا أذكى الشعوب وأعظمها قابلية للخير والفضيلة لكن الانصراف لعبادة الأوثان يدعو من طبعه للانصراف عن التفكر في خالق الوجود ويوجد الكمال في الطبيعة فيقف بالفكر عند حد محدود من التصور ويصده عن درك كثير من الحقائق عند عرضها عليه أو مفاجأته بما لم يألفه منها وهكذا كان شأن قريش والعرب عامة مع النبي صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر.
ولقد تحقق بعد لقريش وللعرب والناس كافة أن سلامة النبي من غائلة قريش في ذلك اليوم واستقرار الدعوة في مدينة يثرب هو مبدأ سعادة قريش أنفسها وسعادة مئات الملايين من البشر ونهاية القضاء في قسم عظيم من الأرض على عبادة الأوثان وعلى سلطة أفراد من سدنة الهياكل وكهنتها، سلطة لا حد لها لا على النفوس فقط بل على الضمائر والعقول أيضاً، أقول على الضمائر والعقول لأن احتكار العلم الذي يراد به احتكار السيادة الدينية ما(60/70)
عرف إلا بين جدران الهياكل حيث كانت تقيم طائفة من الناس تزعم أنها وارثة ايزيس واوزيريس وبعل وجوبيتر واللات والعزى وما لا يعد من الآلهة تسحر هذه الطائفة بما احتكرته من العلم عقول الشعب فتقوده حيث تشاء ولا تعطيه منه إلا بمقدار ما يستطيع مئات الألوف من البشر أن يبنوا هيكلاً للشمس أو قبراً لابن الشمس مكرهين مسخرين.
إن أطلال تلك الهياكل الفخمة وبقايا تلك القبور الهائلة الماثلة إلى اليوم تدل على أن ذلك النور الضئيل الذي كان ينبعث من وراء جدران الهياكل إنما كان من أجل الهياكل لا من أجل الشعب ولا أبالغ إن قلت أن بعض المدنيات القديمة للأمم البائدة احر بها أن تسمى مدنيات الهياكل بفضل أولئك السدنة الذين كانوا يحجبون عن العقول نور العلم الصحيح ونور الحقيقة الإلهية استعباداً للنفوس والأرواح وقد أخبرتنا الكتب المقدسة وأخبرنا التاريخ من أحاديث أولئك الطائفة من الناس بما يغني عن طول الشرح.
هذا هو السر في أن قريشاً وهي سدنة البيت العتيق اهتزت أعصابها واستشعرت الخطر على سيادتها الدينية لأول دعاء دعا به النبي وهو التوحيد أي قول لا إله إلا الله ولا عبودية لأحد سواه فأظهروا له العداوة والبغضاء وما زالوا به حتى ألجأوه وأتباعه إلى الهجرة عنهم ولو علموا أن هذه الدعوة مخبوء لهم تحتها فوق ما يزعمون من السيادة الوهمية وهي سيادة العلم والمدنية والسلطان العظيم في الأرض بما سيكون إليهم من ميراث الأمم لما فعلوا معه ما فعلوه ولكن أكثر الناس أعداء ما جهلوه.
ومهما كان الحال فقد كانت هجرته الشريفة خيراً لقريش وللعرب والانسانية جمعاء إذ تمكن بعد امتناعه بالأنصار من جمع كلمة العرب ووضع قواعد شريعته الغراء التي قيدت قيود عبودية البشر للبشر وفسحت للعقل مجال النظر في الكائنات فجعلت العلم مشاعاً بين بني الإنسان من الطبقات فندبت عامة الناس إلى تعلم العلم وتعلم اللغات والاستفادة من قواميس الكون وأسرار الطبيعة وجعلت قاعدة التفاضل بين المسلمين التقوى والعلم فلا يفضل عالم جاهلاً إلا بعمله، ولا يفضل تقي شقياً إلا بعمله.
فكان من هذا نذير عظيم بالتبدل العتيد لشكل المدنية القديمة والعلم الناقص انتفض له جسم الإنسانية الهامد تحت ضغط الخرافات الوثنية التي شيبت به علوم الأقدمين ونشطت النفوس إلى تناول حقها الطبيعي من هذا الوجود بما قرره الإسلام من مبادئ الاشتراكية(60/71)
العامة الصحيحة التي مبناها أن العقل رأس مال كل فرد فمن حق كل فرد أن يتناول من العلم ما استطاع ليتساوى مع أخيه في الاشتراك بمرافق الحياة.
وهذا هو السر في أن المدنية العربية كانت أرقى مدنية سبقتها وأن العرب فعلوا في قرنين ما لم يفعله غيرهم في قرون وكانوا أسرع الأمم سيراً في سبيل المدنية وتبسطا في الحضارة فما لبثوا بفضل الإسلام جيلاً وبعض جيل آخر حتى نشروا سيادتهم ودينهم ولغتهم في أحسن أجزاء المعمور ولما توطدت لهم دعائم على عهد الدولتين دولة الخلفاء الراشدين ودولة الأمويين وقبضوا على زمام السيادة السياسية في معظم الممالك القديمة صرفوا عنايتهم للأخذ بأزمة السيادة العلمية فلم يكفهم ما كتبوه واشتغلوا به من علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ وسائر فنون العربية بل اهتموا بترجمة كتب اليونان في الفلسفة والفلك والهندسة والكيمياء والطبيعة وغيرها فكان اهتمام عامتهم بنقل هذه العلوم إلى اللغة العربية كاهتمام خاصتهم وخلفائهم ووزرائهم فكما كان الخليفة المأمون يعطي حنين بن اسحق المترجم عن كل كتاب ينقله إلى العربية زنته ذهباً مثلاً بمثل ما كان بنو موسى بن شاكر المهندسون وهم من عامة الشعب يعطونه كل شهر خمسمائة دينار من أجل الترجمة هذا فضلاً عما كانوا ينفقونه من الأموال على الكتب التي كانوا ينفذون في طلبها من بلاد الروم والأصقاع البعيدة بالثمن الباهظ.
وكما كان كذلك محمد بن عبد الملك الزيات الوزير ينفق على المترجمين من ماله الخاص نحو ألفي دينار في الشهر وكثيرون غير هؤلاء من الخلفاء والوزراء والعلماء من كانوا ينفقون على استحضار كتب العلم وترجمتها.
لم يقف بهم الأمر عند هذا الحد من تعلم العلم وتعليمه ونشره عملاً بأوامر صاحب الهجرة وواضع أساس المدنية الصحيحة عليه الصلاة والسلام بل عمدوا إلى تأسيس المدارس فأنشأ العباسيون أول كلية جامعة في بغداد على عهد الرشيد والمأمون سميت دار الحكمة وكانت تدرس فيها سائر العلوم الحكمية كالفلسفة والطب والكيمياء والهندسة والفلك وغيره ثم المدرسة النظامية ثم المستنصرية في بغداد أيضاً وحذا حذوهم في ذلك الأمويون في الأندلس والفاطميون في مصر حتى وصلوا سلسلة المدنية المنقطعة من عهد سقوط دولة الرومان بحلقة من المدنية العربية كان لها الفضل العظيم على العالم المتمدن لهذا العهد(60/72)
لأنها كانت الصلة المتممة لترقي الإنسان وترقي المدنية بما مهدته لعلماء أوروبا من سبل المدنية الحديثة.
عجيب أمر هذه الأمة أيها السادة ولقد يكاد يظن القارئ لإخبارها أن رقيها السريع من الخوارق وما هو كذلك بل هو نتيجة الإفراج عن العلم وإخراجه من بين أسوار الهياكل وجعله مشاعاً مشتركاً بين الناس يتناول عقل كل فرد نصيبه منه وحقه أن يتناول ذلك ما دام العلم ثمرة من ثمرات العقل.
عرف المسلمون في إبان مجدهم ومدنيتهم هذه القاعدة وحرصوا على مبدأ الاشتراكية العامة فلكي لا يكون العلم محتكراً لطائفة أو قاصراً على فريق دون فريق تغالوا في إنشاء المدارس المتنوعة بتنوع المشارب والعلوم تغالياً لم تجارهم في أمة من قبل فجعلوا مدارس لتلقي علم الحديث سموها دور الحديث ومدارس لفروع الشريعة على عدد المذاهب فمدارس الشافعية غير مدارس الحنفية ومدارس المالكية غير مدارس الحنابلة ثم مدارس الحكمة التي يدرس فيها الطب والفلسفة والرياضيات والفلك وغيره من العلوم الحكمية وكانت أكثر هذه المدارس داخلية ذات غرف يأوي إليها الطلبة ولم يكن التعليم فيها مجاناً فقط بل كان للطلبة فوق ذلك جرايات ومرتبات تغنيهم عن العمل لغير العلم.
ومن أدلة تغالي هذه الأمة في إنشاء أمثال هذه المدارس كتاب خطي موجود في مكتبتي اليوم في نحو ألف صفحة وهو خاص بمدارس دمشق وحدها من القرن الخامس إلى التاسع وفيه تاريخ مائتي مدرسة أو تزيد على ذلك منها ثلاث مدارس طبية أنشئت في عصر واحد في مدينة واحدة من المدن الكبرى الإسلامية كحلب والموصل وبغداد وسمرقند والقاهرة وتونس ومراكش وطليطلة وإشبيلية وغرناطة وغيرها من المدن الشهيرة التي كانت تفيض أنوار العلم والمدنية على الشرق والغرب.
أما تأثير هذه المدارس وعلوم العرب وآدابهم التي كانت تدرس فيها في أهل الغرب وعلوم المدنية الحديثة فمما لا يتسع لذكره هذا المقام ويكفي فيه شهادة علماء الافرنج أنفسهم فإذا سمحتم لي أتلو عليكم شيئاً من شهادة عالم محقق كبير من علماء أوروبا فيما للعرب من الفضل على المدنية وهو العلامة سديو صاحب تاريخ العرب.
قال هذا النصف المحقق في مقدمة كتابه المذكور بعد أن أثنى على أخلاق نبينا وعمله(60/73)
الجليل في جمع كلمة العرب: وأما تواريخ الخلفاء الراشدين وكذا الأموية في دمشق وقرطبة والعباسية في بغداد والفاطمية في مصر ووصف تمزيق الممالك الإسلامية التي أغار عليها المغول فدونها الافرنج تدويناً حسناً وأضفنا إليها ما تركوه من أصولها وهو وصف المدنية العربية التي تمكنت أصولها في آفاق الدنيا القديمة أقوى تمكن ولا نزال إلى الآن نرى آثاره حين نبحث عن مستمد مبادئ ما نحن عليه من المعارف الأوروبية فإن العرب في غاية القرن الثامن من الميلاد تركوا صفاتهم الحربية وشغفوا بنيل المعارف حتى أخذت عما قليل مدائن قرطبة وطليطلة والقاهرة وفاس ومراكش والرقة وأصفهان وسمرقند تفاخر بغداد في حيازة العلوم والمعارف وقرئ ما ترجم إلى العربية من كتب اليونان في المدارس الإسلامية وبذل العرب همتهم في الاشتغال بجميع ما ابتكرته الافهام البشرية من العلوم والفنون، وشهروا في غالب البلاد خصوصاً البلاد النصرانية من أوروبا ابتكارات تدل على أنهم أئمتنا في المعارف.
ولنا شاهداً صدق على علو شأنهم الذي يجهله الافرنج من أزمان مديدة الأول ما أثر عنهم من تواريخ القرون المتوسطة وأخبار الرحل والأسفار والقواميس ما اشتهر من الأمكنة والرجال والمجاميع الشاملة لكثير من الفنون الفاخرة، والثاني ما كان لديهم من الصناعات الفائقة والمباني الفاخرة والاستكشافات المهمة في الفنون وما أوسعوا دائرته من علوم الطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء الصحيحة والفلاحة والعلوم الصحية التي مارسوها بغاية النشاط من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر من الميلاد أي من القرن الثالث إلى القرن العاشر الهجري.
إلى أن قال بعد تخطئة بعض علماء الافرنج الذين قالوا أن الهنود والصينيين أعلم من العرب:
وأما المدرسة البغدادية المدونة للعلوم التمدنية في الفترة التي بين عصر يونان الاسكندرية والأعصر الأخيرة فكانت مساعدة على استيقاظ أهل أوروبا من رقدة الجهالة ونشر أنوار المعارف في جميع ممالك آسيا.
وبعد أن ذكر كيفية انتقال العلوم من العرب أو بواسطتهم إلى ممالك آسيا، الصين، والهند، والتركستان وغيرها قال:(60/74)
ثم اطلع أهل الغرب من أوروبا على أسرار تلك العلوم فأخذوا يشتغلون بها حتى جددوا في البلاد الافرنجية المدنية واللغة العربية وفنونها الأدبية التي أخذت كل يوم في زيادة الانتشار بين الافرنج وما زلنا إلى الآن نستكشف أموراً مهمة (يريد من القضايا العلمية) من الكتب العربية القديمة وأن عزي ابتكارها زوراً إلى بعض المتأخرين من الإفرنج.
هذه شهادة عالم أجنبي عن أوطاننا ولغتنا وديننا تشعر أن المدنية العربية وآدابها عمت منافعها الشرق والغرب وأن العرب كانوا أساتذة العالم بلا نزاع وبالتالي كان لهم الفضل على العالم أجمع وقد شهد كثير من علماء أوروبا ومحققيها مثل هذه الشهادة كالعالم دساسي والعالم دربي والعالم كوستاف ليون وغيرهم ولمن كان الفضل في هذا كله؟ كان لصاحب الشريعة الإسلامية الذي نحتفل بعيد هجرته اليوم ولأمته النجيبة التي خدمت العلم والمدنية والإنسانية جمعاء خدمة لا ينكرها إلا العوام الجاهلون الذين في قلوبهم مرض وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون.
فسلام على يثرب وسلام على ساكنها العظيم وسلام على أمته النجيبة وعليكم أجمعين.
رأس السنة الهجرية
هل الهلال فحيوا طالع العيد ... حيوا البشير بتحقيق المواعيد
يا حرف شك ستلقانا على ثقة ... وقد عقدنا المنى في نون توكيد
كأن حسنك هذا وهو رائعنا ... حسن لبكر من الأقمار مولود
لله في الخلق آيات وأعجبها ... تجديد روعتها في كل تجديد
* * *
فتيان مصر وما ادعو بدعوتكم ... سوى مجيبين أحرار مناجيد
سوى الأهلة من علم ومن أدب ... مؤملين لفضل غير مجحود
المستسر شعار المقتدين به ... العاملين بمغزى منه مقصود
في العين رمز لميقات يحد به ... وفي النهى رمز جد غير محدود
ما زال من مبدأ الدنيا ينبئنا ... أن التمام بمسعاة ومجهود
فإن تسيروا إلى الغايات سيرته ... إلى الكمال فقد فزتم بمنشود
* * *(60/75)
اليوم عيد به معنى السرور لكم ... ولم يكن بدؤه يوماً لتعييد
رسالة الله لا تنهى بلا نصب ... يشقى الأمين وتغريب وتنكيد
رسالة الله لو حلت على جبل ... لاندك منها وأضحى بطن أخدود
ولو تحملها بحر لشب لظى ... وجف وانهال فيه كل جلمود
فليس بدعاً إذا ناء الصفي بها ... وبات في ألم منها وتسهيد
ينوي الترحل عن أهل وعن وطن ... جاراً عليه بقلب منه مكمود
يكاد يمكث لولا أن تداركه ... أمر الإله لأمر منه موعود
* * *
فإذا غلا القوم في إيذائه خطلا ... وشردوا تابعيه كل تشريد
دعا الموالين إزماعاً لهجرته ... فلم يجبه سوى الرهط الصناديد
مضى هو البدء والصديق يصحبه ... يغامر الحزن في قفراء صيخود
مولياً وجهه شطر المدينة في ... ليل أغر على الأدهار مشهود
حتى إذا اتخذ الغار الأمين حمى ... ونام بين صفاء نوم مجهود
حنا عليه فما مثواه منه سوى ... مثوى الجنين من البكرية الرود
ياللعقيدة والصديق في سهر ... تؤذيه أفعى ويبكي غير منجود
إن العقيدة إن صحت ولزلزها ... مفني القرى فهي حصن غير مهدود
أما الذين بقوا من صحبه فتلوا ... سارين في كل مسرى غير مرصود
ماجند قيصرا وكسرى إذا افتخروا ... كهؤلاء الأعزاء المطاريد
كأنهم في الدجى والنجم شاهدهم ... فرسان رؤيا لشأن غير معهود
في حيطة الله ما شعت اسنتهم ... فوق الظلال على المهرية القود
* * *
عانى محمد ما عانى بهجرته ... لمأرب في سبيل الله محمود
وكم غزاة وكم حرب تجشمها ... حتى يعود بتمكين وتأييد
كذا الحياة جهاد والجهاد على ... قدر الحياة ومن فادى بها فودي
أدنى الكفاح كفاح المرء عن سفه ... للاحتفاظ بعمر رهن تحديد(60/76)
وضل زاعم سوء لا اضطلاع له ... فالمجد إذ قال من يخلق فقد عودي
ليغنم العيش طلقاً كل مقتحم ... وليبغ في الأرض شقا كل رعديد
ومن عدا الأجل المحتوم مطلبه ... عدا الفناء بذكر غير ملحود
* * *
لقد علمتم وما مثلي ينبئكم ... لكن صوتي فيكم صوت ترديد
ما أنتجت هجرة الهادي لأمته ... من صالحات أعدتها لتخليد
وسودتها على الدنيا بأجمعها ... طوال ما خلقت فيها بتسويد
بدا وللشرك أشياع توطده ... في كل مسرح باد كل توطيد
والجاهليون لا يرضون خالقهم ... إلا كعبد لهم في شكل معبود
مؤلهون عليهم من صنائعهم ... بعض المعادن أو بعض الجلاميد
مستكبرون أباة الضيم غر حجى ... ثقال بطش لدان كالأماليد
لا ينزل الرأي منهم في تمزقهم ... إلا منازل تشتيت وتبديد
ولا يضم دعاءً من اوابدهم ... إلا كما صيح في عقر ابابيد
ولا يطيقون حكماً غير ما عقدوا ... للذي لواء على الأهواء معقود
بأي حلم مبيد الجهل مرهقه ... وأي عزم مذل القادة الصيد
أعاد ذاك الفتى الأمي أمته ... شملاً جميعاً من الغر الأماجيد
لتلك تالية الفرقان في عجب ... بل آية الحق إذ يبغي بتأكيد
صعبان راضهما توحيد معشرهم ... وأخذهم بعد إشراك بتوحيد
وزاد في الأرض تمهيداً لدعوته ... بعهده للمسيحيين واليهود
وبدئه الحكم بالشورى يتم به ... ماشاءه الله عن عدل وعن جود
هذا هو الحق والإجماع أيده ... فمن بفنده أولى بتفنيد
أي مسلمي مصر دين الجد دينكم ... وبئس ما قيل شعب غير مجدود
طال التقاعس والأعوام عاجلة ... والعام ليس إذا ولى بمردود
هبوا إلى عمل يجدي البلاد فما ... يفيدها قائل يا أمتي سودي
سعياً وحزماً فود العدل ودكم ... وإن رأى العدل قوم غير مودود(60/77)
لا تتعبوا لا تملوا إن ظمأتم ... إلى غدير من الأقوام مورود
تعلموا كل علم وانبغوا وخذوا ... بكل خلق نبيه أخذ تشديد
فكوا العقول من التصفيد تنطلقوا ... وما تبالون اقداماً بتصفيد
مصر الفؤاد فإن تبغوا سلامتها ... فالشرق ليث وقد صحت بمفؤد
الشرق نصف من الدنيا بلا عمل ... سوى المتاع بما يضني وما يودي
الغرب يرقى وما بالشرق من همم ... سوى التفات إلى الماضي وتعديد
تشكو الحضارة من جسم أشل به ... شطر بعد وشطر غير معدود
* * *
أبناء مصر عليكم واجب جلل ... لبعث مجد قديم العهد مفقود
فليرجع الشرق مرفوع المقام بكم ... ولتزه مصر بكم مرفوعة الجيد
ما أجمل الدهر إذ يأتي وأربعنا ... حقيقة الفعل والذكرى بتمجيد
والشرق والغرب معوانان قد خلصوا ... من حاسد كائد كيداً لمحسود
صنوان بران في علم وفي عمل ... حران من كل تقييد وتعبيد
لا فعل يخطئ فيه الخير بعضهما ... إلا تداركه الثاني بتسديد
ولا خصومة إلا في استباقهما ... لما يعم بنفع كل موجود
* * *
هذي الثمار التي يرجو الأنام لها ... من روضكم كل نام ناضر العود
لمصر والشرق بل للخافقين معاً ... دع زعم كل عدو الحق مريد
جوزوا على بركات الله عامكم ... فقد تبدل منحوس بمسعود
رجاؤكم أبداً ملء النفوس فما ... ينفى بحسنى ولا يوهى بتهديد
بدا الفلاح وفي هذا الهلال لكم ... بشرى التمام لوقت غير ممدود
غداً نرى البدر في طرس السماء محا ... بخاتم النور زلات الدجى السود
الصيد في انكلترا
لا يخفى ما في الصيد من المنافع الاقتصادية فإن بعض الأقطار تتوقف حياتها على الإكثار منه فإن في إنكلترا مثلاً 456 سرب كلاب وتكلف النفقة على كل واحد منها 25 ألف(60/78)
فرنك في السنة وبقدر ما يصطادون من المرات في الأسبوع، فإذا صادوا أربع مرات في الأسبوع مثلاً يكلف في السنة مئة ألف فرنك كل سرب من الكلاب ومجموع ما تنفقه إنكلترا على كلابها 18، 250، 000 فرنك ويلزمها مائتا ألف حصان للصيد وثمن كل واحد منها تعدل قيمته بألف وخمسمائة فرنك فمجموع قيمتها إذاً اثنا عشر مليون فرنك وتكلف نفقة كل حصان في السنة ألف فرنك أي ثمانية ملايين فرنك من حيث المجموع ويقدرون ما يأتي من أرباح الصيد في إنكلترا للتجار وأرباب المزارع وغيرها بخمسين مليون فرنك يستفيد منها الفلاحون وتجار الخيل والسياس والسروجيون والخياطون وسكك الحديد والحوذيون وأرباب الفنادق والقصابون والحراس وغيرهم وإذا بطل الصيد يفقد هؤلاء ملايين من الفرنكات ينتفعون بها لقوام حياتهم.
طلبة السوريين
بلغ عدد طلاب سورية الذين يتلقون العلوم المختلفة في مدارس أوروبا ولا سيما في فرنسا خمسين طالباً أكثرهم من دمشق وبيروت.
تبدل الاهوية
لا يزال الشيوخ في بلاد الشام يذكرون أن الأمطار والثلوج كانت تتصل سلسلتها منذ خمسين عاماً أياماً وليالي تمنع الناس عن الخروج في الأسواق في المدن والفلاحين عن تعهد حقولهم وحدائقهم في القرى مدة طويلة وقد بطل ذلك اليوم فتبدلت تلك الثلوج والأمطار الغزيرة ببرد وجليد يدوم أسابيع فيهلك الزرع والضرع كما حدث في الشهر الماضي فدام الجليد المضني زهاء شهر ونزلت درجة الحرارة إلى سبعة تحت الصفر في المحال المعتدلة كدمشق مثلاً وذلك بالميزان المئوي وهلك نحو ثلث الماشية في بعض أنحاء سورية لقلة المراعي وتضررت المزروعات الشتوية والأشجار المثمرة بالجليد المتصل وقلة الأمطار المنعشة وإذا دام الحال في احتطاب الغابات على هذا المنوال تصبح سورية جرداء مرداء على ما ورد في مبحث غابات سورية من هذا الجزء، وهناك الضرر العظيم في قلة المياه في الصيف فتجف الجداول والأنهار وتصبح أكثر الأصقاع المخصبة قاحلة كل هذا والحكام غافلون أو متغافلون والسكان جاهلون أو متجاهلون.
شجرة الماء(60/79)
بحث بعض العلماء في أميركا هذه الآونة في شجرة الماء التي يكثر وجودها في الأصقاع القطبية من أميركا وذكرها كثير من أرباب الرحلات في سياحتهم وهي شجر كالصبار يحتوي جذعه كمية مهمة من الماء الذي يشرب وأشهر هذه الأشجار شجرة البيزناكا وفيها عصير مائي بكثرة ويستخرج الماء منها بأداة حادة من مدية أو فأس تقطع بها رأس الشجرة وإذا لم يجد السائح أداة قاطعة بكسر الأشواك منها ثم يحطم رأسها بحجر كبير وبهذا ترفع طبقة غلظها من 15 إلى 20 سنتمتراً فينزع لباً مغشى في ثقب يحوي نحو عشرة لترات من الماء فيسحقون اللب باليدين فيخرج منه سائل لذيذ يروي الظمأ وهو أرق من الهواء، وفي كل صبارة لتراً إلى ثلاثة لترات من الماء ويتخذ هنود أميركا من هذا الشجر ما يروون به ظمأهم بعض أشهر السنة ويفضلون ماءها على كل ماء ويستعملونه لطبخ البط وغيره من الطيور التي يصيدونها في تنقلاتهم، ومن هذا الشجر نوع اسمه ساكوارو له مثل خاصية الشجر المتقدم ذكره ولكن يمازج ماءه شيء من المواد المرة، قالت المجلة التي ننقل عنها وقد دلت التجارب أن السياح لو كان معهم إنبيق أو آلة للتقطير لما صادفوا في سبيلهم صعوبة في اختيار الماء الجيد وقد صنع أحدهم آلة تحمل مع السائح تفي بهذا الغرض فيقطر بها في الحال من ثلاثين إلى أربعين لتراً من الماء المقطر السالم من مضار الماء الملوث في مثل هذه الواحات.
هجرة الأوروبيين
الظاهر أن قد اكتفت الولايات المتحدة الأميركية بمن نزلها من الأوربيين مهاجرين إليها منذ قرن إذ قد خف معدل قاصديها من أهم الممالك الأوربية، فقد كان عدد من هاجر إليها من النمسا والمجر سنة 1907 - 300 ألف فأصبح سنة 1909 - 170ألفاً وكان عدد المهاجرين من إيطاليا 285 ألفاً تلك السنة فنزل إلى 183 ألفاً وكان المهاجرون الروسيون 258ألفاً فتناقص إلى 130ألفاً والانكليز من 56 ألفاً إلى 32 والفرنسيس من 9700 إلى 6700 وسكان جنوبي أوروبا يقصدون في الغالب الجمهورية الفضية في جنوبي أميركا ففي تلك الجمهورية نصف مليون من الاسبانيول وثمانمائة ألف من الطليان في حين أن سكانها لا يتجاوزون السبعة ملايين منهم خمسة ملايين من الأهالي الأصليين.
مدرسة الفنادق(60/80)
عزمت باريزان تنشئ لها مدرسة لتعليم أرباب الفنادق وليست باريز هي التي ابتكرت هذا الفكر بل سبقتها إليه سويسرا وألمانيا وإيطاليا يعلمونهم كيف يرفهون السائحين والنازلين ويستجمعون صفات الراحة والهناء وفيها تلقى دروس نظرية وعملية يفهمها كل سامع فيتعلم فيها الطلبة علم سرعة الاستملاء والحساب والجغرافيا الوصيفية وبعد دراسة ثمانية أشهر يطبقون ما تعلمونه بالنظر على العمل تحت نظارة العارفين والفاضلين.
البساط المدفئ
اخترعوا بساطاً من نسيج أسلاك الحديد أشبه بشعرية معدنية ذات حلق مسردة يمد على أرض الغرفة التي يراد تدفئة أرجل الجلوس فيها خصوصاً الزوار الذين يدخلون مخدع الضيوف وأرجلهم ترتجف من البرد، وهذا البساط يمس المجرى الكهربائي بوساطة آلات التنوير أو الجرس الكهربائي، وهذه الآلة مغشاة بنسيج ملطف يمنع المعدن مما يضربه، ونفقة هذا البساط في الساعة لا تتجاوز الخمسة سنتيمات، وهكذا لم يكتف أهل الغرب بما لديهم من أدوات الدفء من المواقد المنوعة ومنها بالكهرباء وأخرى بالغاز وبعضها بالبترول وأخرى بالفحم الحجري أو بالحطب بل رأوا أن تدفأ الأرجل أيضاً في الحال وما ندري ماذا يهديهم إليه البحث بعد ذلك للرفاهية والراحة.
المعارف في يابان
بلغ عدد المدارس الابتدائية في يابان 28 ألف مدرسة وعدد مدارس المعلمين للقسم الابتدائي 64 وعدد المدارس الثانوية 370 و 3 مدارس عالية لتخريج معلمي المدارس الابتدائية والثانوية و 8 مدارس عالية للطلبة الذين لا يريدون الدخول إلى كليتي طوكيو وكيوتو اللتين تحتويان على 12 مدرسة عالية، هذا عدا 49 مدرسة عالية للبحرية والحربية والطب والصناعات المختلفة، وعدد المدرسين في هذه المدارس كلها 125 ألف مدرس وعدد الطلبة 5، 565، 495 طالباً منهم 5، 144، 000 في المدارس الابتدائية الإجبارية، ولا يعلم الدين في مدارس الحكومة.
تدبير الغذاء
الصحة هي الثروة الأولى التي يجب الدفاع عنها ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتدقيق في(60/81)
تدبيرها بالتغذية المعقولة والسير في العمل والراحة على ما يقتضيه تركيبنا وما خص به الخالق بني البشر من القوى الطبيعية والعقلية، فنحن لا نحسن استنشاق الهواء ولا السير على الأقدام ولا المنام للراحة ونهمل أمر عضلاتنا ونسيء استعمال أعصابنا فنفتح بصنعنا الباب للجراثيم الضارة فتهاجمنا وتحيط بنا خصوصاً وهي مستعدة إلى التسرب على الدوام إلى خلايانا لتعبث بها وتعيث، ولكن إذا أحسنا الغذاء والعمل والراحة والنزهة والنوم وكانت لنا إرادة قوية يكون لنا من الصحة ما نتغلب به في معترك هذه الحياة الاجتماعية.
فقد قال الحكيم اليوناني: اعرف نفسك فإذا عرفت نفسك وعرفت مزاجك تضع لها تدبيراً صحياً من الغذاء والرياضة ينفعها، ومعلوم أن أمزجة الناس أربعة المزاج اللمفاوي أو البلغمي والمزاج الدموي والمزاج العصبي والمزاج الصفراوي، ومن النادر أن يخرج الإنسان عن أحد هذه الأمزجة الأربعة بل يكون مزاجه مؤلفاً من اثنين أو ثلاثة منها ويكون أحدهما متغلباً على الآخر وهذا هو الذي تجب مراعاته في تدبير الغذاء والأعمال، والجهل بالمادة الغذائية من كل طعام من الأمور التي لا تحتقر ومعرفتها أهم في قوام البنية مما يتوهم بعض العامة وذلك من الوجهتين الصحية والمنزلية.
وما المعدة إلا بيت نار وقوده الأطعمة وعملها الكيماوي مع استنشاق الهواء يحدث الحرارة اللازمة لبقاء الجسم وتحويل ما يدخل فيه وما يخرج منه بقدر ما يتناوله من الغذاء، وقد حسب علماء منافع الأعضاء هذه الحرارة بحساب الكالوري فهم يقدرون معدل ما يلزم لرجل بالغ أشده من 2800 إلى 3000 من الكالوري أو قياس الحرارة، وإليك الآن كميات الكالوري التي تنشأ من الطعام الأكثر استعمالاً وهي مقدرة بمئة غرام أي أنك إذا تناولت 100 غرام من السمك تحصل على 113 من الكالوري: ففي السلطة 12 من الكالوري وفي الملفوف 27 وفي الثمار اليابسة 31 وفي البقول الخضرة 37 وفي اللبن (الحليب) 62 وفي البطاطا 83 وفي اللحم 94 وفي البيض 153 وفي الخبز 255 وفي الأرز 345 وفي البقول اليابسة 362 وفي السكر 380 وفي الشوكولاتا 415 وفي الجبن 466 وفي الزبدة 751.
فلك أن تحصل على 2800 من الكالوري إذا تناولت 600 غرام من الخبز والمعجنات يكون منها (1530) من الكالوري و 280 غراماً من اللحم منها 363 و 50 غراماً من(60/82)
السمك و 30 من البيض و 200من البقول الطرية و50 من البطاطا و40 من البقول النشوية و40 من الثمار و20 من الزبدة و10 من الجبن و20 من السكر الخ أي نحو كيلوغرامين من الغذاء كل يوم وهو ما يلزم المرء في الأربع وعشرين ساعة.
ويستثنى من هذا التدبير من يعمل وهو جالس فإن تناول هذا القدر ضار به بل يلزمه 350 غراماً من الخبز و 150من اللحم و 100من البقول الطرية و200 من البطاطا و 250 من اللبن و40 من السكر و25 من الزبدة و 15 من الأرز و100 من الثمار أي ما يكون منه 2100 كالوري وعلى العكس فمن يعمل أعمالاً تحتاج إلى أتعاب الجسم فإنه يحتاج أن يرفع درجة الكالوري من 3200 إلى 3600 لا بزيادة ما يتناوله من اللحم فإنه لا يحصل منه سوى عشرة في المئة مما يجب لقوام بنيتنا من الدهن والكربون والزلال بل يتناول الخبز واللبن والبيض واللوبياء والعدس والفواكه والسكر وفيها 23 في المئة مما يجب لنا، وإن كيلوغراماً واحداً من البقول كالباقلاء واللوبيا والعدس والحمص لتساوي ثلاث لبرات ونصفاً من اللحم واللبرة خمسمائة غرام.
ويحتوي الخبز واللبن والبيض على جميع المواد اللازمة للتغذية في غذاء تام ثم يجيء الأرز واللحم على اختلاف أنواعه والبقول الطرية وهي أقل في التغذية من الأصناف الثلاثة الأولى والسكر غذاء العامل ومولد القوة والمعوض عما فقده الجسم من التعب والسمك نافع في التغذية لما فيه من الفوسفور وللفوسفور دخل في تركيب بنيتنا وأعصابنا فمن كانت أشغالهم عقلية أو من كانوا في سن الطفولة من الأولاد ينبغي لهم أن يتناولوا من السمك أكثر من غيرهم ليساعد ذلك على نموهم، ويقول الدكتور متشنكوف الشهير أن من يشرب مصل الحليب كل يوم يطول عمره ولا يهرم بالشيخوخة لأن فيه باشلساً أو جراثيم صغيرة تهلك الجراثيم المضرة التي يعيش منها ملايين في الأحشاء.
والحرشف (الأرضي شوكي) تكثر فيه المادة القابضة وهو مقو يمنع الإسهال ومدر للبول، والملفوف صعب الهضم لا يلائم المعد الضعيفة، والسبانخ ملين للبطن ويسميه الافرنج مكسنة الأحشاء ومن خصائصه هو والكراث أنهما يصفيان اللون، والبقلة الحامضة (الحميض) تسهل الهضم ومن كان فيهم استعداد لمرض الحصاة ينبغي لهم الامتناع عنها بالكلية، والبندورة مقبلة ومرطبة وعلى المصابين بالنقرس والحصاة والرثية (داء المفاصل)(60/83)
أن يمتنعوا عن تناولها، والكرفس النيء عسر الهضم والأخذ منه باعتدال يقوي من ضعفت أعصابهم وإذا تناول منه المصاب بالنقرس يكون له كالتوابل اللطيفة، والهليون مدر للبول ويجب تناوله طرياً، والبطاطا نافعة لأرباب المعد القوية وأرباب المعد المتعبة ينبغي لهم تناولها ممروثة، والخس مرطب ونافع لالتهاب الأحشاء وأمراض الكلى، والبقدونس فهو مهيج معرق مدر للبول قاتل للديدان دافع للحمى يقوي الشهوة للطعام ويسهل الهضم، وإياك أن تسلق البقول بالماء الغالي جداً لئلا تفقد أملاحها وموادها الآزوتية المركبة منها وفي التوت الافرنجي (الفريز) كمية من حامض الساليسيليك ينفع المصابين بضعف المجموع العصبي وداء المفاصل، ومنقوع التوت الافرنجي من أحسن المقويات للأعصاب وهو من أفيد ما يكون لمن أنهكتهم الأشغال العقلية، والتوت الشوكي كالتوت الافرنجي وهو أيسر على الهضم، والكرز نافع للمصابين بالسويداء (هيستيريا) ومقاوم للرثية، والخوخ نافع للمصابين بالبول السكري وللمصابين بقروح بالمعدة، والتفاح نافع في تشنج الأعصاب ومعرق، ويكثر في التين الأصل المهضم (البيسين) وهو نافع للمصدورين والإجاص تغلب عليه البرودة فيضر ببعض المعد، والليمون يقي من الحمى وإذا أضيف للقهوة ينفع كما تنفع الكينا، وهو أحسن علاج لفساد الدم، والبرتقال أخف الفواكه على المعدة، واللوز اليابس مغذ جداً وهو غذاء طبيعي نادر المثال، ويرى الدكتور اوندرهيل أن لب العنب يؤكل وحده إذا كانت صحة المرء حسنة فوهو أحسن علاج لفساد الدم، والبرتقال أخف الفواكه على المعدة، واللوز اليابس مغذ جداً وهو غذاء طبيعي نادر المثال، ويرى الدكتور اوندرهيل أن لب العنب يؤكل وحده إذا كانت صحة المرء حسنة فإذا كان في البطن اطلاق يؤخذ اللب مع القشر ويطرح البزر وإذا كانت المعدة منقبضة ويراد به تسهيل الطبيعة يتناول اللب والبزر ويطرح القشر وبهذه الواسطة يكون العنب دواء وفاكهة لا نظير لها.
والقهوة تورث الجسم قوة فهي من مضادات السموم ومقوية للقلب والشاي في الصباح يقوي ويورث نشاطاً ويسهل التنفس وإذا شرب بعد المشي أو عمل متعب يورث راحة سريعة وينبه النشاط والأقدام، وأرباب الأمزجة البلغمية يتطلبون مواد مقوية تصلح أجسامهم فعليهم بلحم البقر والغنم مشوياً ولحوم الأرانب والحمل والتدرج (الديك البري) وأن يتناولوا الخبز ناضجاً جداً بكمية وافرة وبقولاً مرة مسهلة ويقللون من المواد النشائية وتضر بهم الأطعمة(60/84)
غير الناضجة والخس والهندباء والسبانخ والجزر وجميع البقول المرطبة والمسهلة.
وعلى أرباب الأمزجة الدموية أن يعتدلوا في مآكلهم ويتقشفوا بحيث لا يزيدون الكريات الحمراء في دمهم ويتناولون من اللحوم لحم العجل والفراخ والأرنب واللبن ويكثرون من البقول والثمار المرة وتنفعهم القهوة الخفيفة ويتخلون عن الأبازير والتوابل، وكل ما يورث الحرارة في الجسم وإذا كانوا مستعبدين للعرق فالأولى أن لا يأتوا عملاً من شأته منعه.
وعلى أرباب الأمزجة العصبية أن يستعملوا المواد اللطيفة اللذيذة لغذائهم مثل البيض والفراخ واللبن المطبوخ وأسماك الأنهار ويمتنعوا عن المهيجات مثل القهوة والشاي وغيرهما والخس والكرفس من أنفع البقول لهم فإن في عصير الخس مسكناً لأعصابهم وفي الكرفس النيء وقاية لهم من الاضطرابات فهو يقوي الأعصاب وربما نفع في ضربات القلب، وعليهم أن يقللوا من تناول الطعام أي يعتدلون جداً ولا يأخذون ما لا يوافق أذواقهم من الطعام بتة.
وعلى أرباب الأمزجة الصفراوية أن يفضلوا الأطعمة الغليظة ويمتنعوا عن المواد الدهنية والنشائية ويتناولوا من البقول والأرز ولا يتناولون القهوة، والثمار الناضجة اللذيذة توافق أمزجتهم، والخس والبندورة نافعان لهم والبندورة محسنة الكبد.
والأجدر بسكان البلاد الحارة أن يكثروا من البقول وبسكان البلاد الباردة أن يكثروا من اللحوم والمواد الدسمة نافعة لهم أيضاً.
والخبز الطري غير نافع للصحة لأنه لا يجود علكه فيعسر على المعدة هضمه وربما أحدث مع الزمن اضطراباً في الدورة الدموية أو أوجاعاً في الرأس وآلاماً في المعدة وسوء هضم، والخبز السخن الذي يتناوله بعضهم في الصباح وعليه شيء من الزبدة سم ناقع.
ومن المشهيات للطعام الثريد البارد الخالي من الدهن يتناول قبل الأكل بساعة فيكثر به سيلان اللعاب في المعدة فتستدعي الطعام ورأى بعض العلماء أن أحسن مقبل ما يعمل من منقوع ملعقتين من بزر الجزر في نصف لتر من الماء الغالي يؤخذ بين الطعام والطعام محلى بالعسل فيجود الهضم وتزيد الشهوة للطعام.
وإذا ساء الهضم معك فخير دواء سريع قريب أن تشرب شراباً حاراً، فقد قالت إحدى المجلات الطبية أن من خصائص المشروبات الحارة أن تسكن الغشاء المخاطي في المعدة(60/85)
وتعدل أحياناً التأثيرات المؤلمة التي يشعر بها بعد الأكل فهي تقوي الوظائف المعدية، والظاهر أن اليابانيين بلغوا ما يبلغوه من الصبر وجودة الصحة باستعمالهم الأشربة الحارة لأنهم يتناولون في كل المواسم ماءً حاراً أو شراباً حاراً ويقولون أن الماء البارد يشد الأطراف والرعامى (فص الكبد) والرئة ويحدث السعال ويطفئ الحرارة الطبيعية التي تديم الحياة.
وعليك يا هذا أن تنظم أوقات طعامك فبذلك يسهل على الحواس أن تأخذ حظها من الطعام والهضم وتعمل عملها وتستعد لقبول غيره إذا وقت لها وقتاً وعليك أن لا تسرع في هضم طعامك وقضمه بل أن تمضغ كثيراً حتى لا تضطر المعدة أن تعمل ما كان من شأن أسنانك أن تعمله من طحن الطعام، ومن الضروري أن تقلب أسنانك على اللقمة عشرين مرة وكل طعام علك جيداً كان أكثر في التغذية من طعام ازدرد ازدراداً سريعاً فقد ورد في الأمثال الافرنجية من تأنى في أكله طال عمره وهاك الآن معدل الساعات اللازمة لهضم أنواع الطعام الأكثر استعمالاً.
دقيقة ساعة
1 الأرز
30 1 البيض النيء، السمك المنقوش وسمك سليمان
45 1 النخاع المسلوق
30 2 اللوبيا والبطاطا المقلوة، الدجاج الهندي والبط المشوي
45 2 البيض المسلوق والفراخ المحمصة
3 اللبن المطبوخ ولحم الضأن المشوي والبفتيك
15 3 النقانق الباردة
30 3 السمك المقلي ولحم البقر المشوي
30 3 الخبز الطري والبيض المقلي والجبن
ولحم الصيد ماعدا الطيور ثقيل على الهضم يحتاج من 4 إلى 5 ساعات، هذا ما لقفناه من أقوال أحدث علماء الصحة من الغربيين وعلى المرء أن يكون حكيم نفسه في تحميل معدته ومزاجه ما يطيق وأن يراقب خروج الطبيعة مراقبة تامة فإن أمراض التهاب الكلى وسوء(60/86)
الهضم والتهاب الأمعاء والزائدة الدودية كلها تنشأ من القبض وإذا رأى الخروج قد أبطأ في الصباح فعليه أن يستعمل التمسيد قبل أن يقوم من سريره وذلك بأن يضع رجليه تحت ظهره ويضغط بيده على بطنه فيبدأ بغمز الموضع القريب من السرة ثم يصل إلى الحالب فيمر يده على صورة قوس حتى ينتهي إلى الحالب الأيسر.
وهنا أمر يجب التنبه له لأنه داخل في صحة الجسم وهو أن المسكرات على اختلاف أنواعها ضارة بالصحة بحسب رأي علماء أوروبا أنفسهم يضل قليلها وكثيرها خلافاً لمن يهرفون بما لا يعرفون ويقلدون على العميا وهم جاهلون ولا سيما في هذه البلاد المعتدلة الجيدة المياه القليلة الغش في المأكولات على الجملة.(60/87)
مخطوطات ومطبوعات
المنهج الأحمد
ألف العرب يوم كان علماؤهم يحسنون التأليف طبقات لرجال كل فن وعلم ذكر منهم صاحب كشف الظنون طبقات الأدباء (مطبوع) لابن الأنباري المتوفى سنة 577 وطبقات الاصبهانية لابن حيان البستي (354) وطبقات الأصوليين للسيوطي (911) وطبقات الأطباء (مطبوع) لابن أبي أصيبعة (668) وطبقات الأمم لصاعد ولابن سعيد المغربي وطبقات الأولياء لابن الملقن (804) وطبقات البيانيين للسيوطي وطبقات التابعين لابن النجار (643) وطبقات الثعلبي الموسوي والطبقات الجلالية للجلال الدواني (908) وطبقات الجنان وطبقات الحفاظ (مطبوع) للذهبي (748) وطبقات الحكماء لابن صاعد (548) وطبقات الحكماء (مطبوع) للقفطي (646) وطبقات الحنبلية وذيولها وطبقات الحنفية وذيولها وطبقات الخطاطين للسيوطي وطبقات الخواص للزبيدي (793) وطبقات الرواة خليفة بن خياط ومسلم بن حجاج والطبقات السنية في تراجم الحنفية للتميمي الغزي (1005) وطبقات الشافعية للسبكي (طبع) وذيوله وطبقات الشافعية للخيضري (894) وطبقات الشعراء لابن قتيبة (296) ويدخل فيها كتب كثيرة مثل شعراء الزمان وقلائد العقيان (مطبوع) وعقود الجمان والإشارة والإماء الشواعر وكتاب النساء الشواعر وأصداف الأوصاف وطرف الأدباء ومروج الزمان والباهر والنموذج الشعراء وجنى الجنان والغرة الطالعة والدرر الناصعة ومعجم الشعراء وشعراء الأندلس والكتب المؤلفة في الشعراء كثيرة منها يتيمة الدهر (مطبوع) للثعالبي ودمية القصر (مطبوع) للباخرزي وزينة الدهر في لطائف شعراء العصر للخيضري وفريدة القصر للأصفهاني والملح العصرية لابن القطاع والانموذج في شعراء القيروان لابن رشيق والحديقة لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز وسر السرور للغزنوي وكتاب عمارة اليمني في شعراء عصره والمختار في النظم والنثر لابن بشرون الصقلي وطبقات الشعراء بالأندلس لابن ربيعة (310) والبارع واليتيمة والخريدة ومتعلقاتها وخبايا الزوايا والباهر وفحول الشعراء والدرر والغرر والحديقة وطبقات الصحابة والتابعين للبصري (230) وطبقاتهم لابن مندة (395) وأسد الغابة (مطبوع) وطبقات ابن سعد (مطبوع) والطبقات الصدرية وطبقات الصوفية(60/88)
للنيسابوري (412) وطبقات الطالبين للحسيني (588) وطبقات العلماء لابن الحميدة (630) وطبقات العلوم للأبيوردي (507) وطبقات عماد الدين بن كثير 774 وطبقات الفرسان لابن مثنى 210 وطبقات الفرضيين للسيوطي وطبقات الفقهاء للهمداني 521 ومثله لابن حبيب المالكي 240 وطبقات الفقهاء والمحدثين للهيثم بن عدي 207 وطبقات فقهاء ورؤساء الزمن لابن سمرة الجعدي 586 وطبقات القراء للداني 444 وصنف فيها الجزري 733 أجمع كتاب في هذا النوع والذهبي 748 وذيله غيرهم وطبقات الكتاب للسيوطي وطبقات اللغويين والنحاة له مطبوع وآخر للإشبيلي 379 وطبقات الفقيه للسكسكي وطبقات القاضي وطبقات المالكية لابن فرحون مطبوع 799 وطبقات المتكلمين لابن فورك 406 وللقاضي عياض بن موسى اليحصبي سماه ترتيب المدارك وللمرزباني أخبار المتكلمين وطبقات المجتهدين لابن كمال باشا 940 وطبقات المحدثين لابن الملقن 408 وطبقات المعبرين لابن الخلال وطبقات المعتزلة طبقت قطعة منه للقاضي عبد الجبار وطبقات المفسرين للسيوطي وغيره وطبقات النحاة للمبرد 284 وطبقات النسابين للحسيني 588 وطبقات النساك لابن الأعرابي 340 وطبقات همدان لابن الأنماطي وغير ذلك مما هو مطبوع مثل وفيات الأعيان لابن خلكان وذيله للصلاح الكتبي.
وفي خزانة الكتب الظاهرية بدمشق كتاب طبقات الحنابلة لابن رجب قال كاتب حلبي: طبقات الحنبلية لأبي الحسين محمد بن محمد بن الحسين أبي يعلى الحنبلي الفراء الشهيد سنة 516 صاحب المجرد في مناقب الإمام أحمد وقد جعل هذه الطبقات على سير الطبقات الأولى والثانية على حرف المعجم وما بعدهما على تقديم العمر والوفاة وانتهى فيه إلى سنة 512 ثم ذيله الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 وصل فيه إلى سنة 750 ثم ذيله العلامة يوسف بن حسن بن أحمد الحنبلي المقدسي مرتباً على الحروف فرغ من تأليف سنة 871 وذيله أيضاً الشيخ تقي الدين مفلح.
والغالب أن عبد الرحمن بن محمد العمري العليمي الحنبلي من أهل القرن العاشر ذيل على ما ذيله ابن مفلح في مجلد ضخم سماه المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد ونحن الآن نتكلم عليه وسنتكلم في فرصة أخرى على طبقات ابن رجب، قال العليمي في مقدمة كتابه بعد البسملة والحمدلة: أما بعد فهذا مختصر استخرت الله تعالى في جمعه وترتيبه(60/89)
وسألته المعونة لي بفضله وتهذيبه يتضمن نبذة من ترجمة أمامنا المبجل والحبر المفضل الرباني أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أمام أهل السنة، وآخر المجتهدين من الأئمة رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه وأحواله ومناقبه وذكرمحنته وتاريخ مولده ووفاته وتراجم أصحابه رحمة الله عليهم فاذكر أولاً ما تيسر من مناقب الإمام رضي الله عنه ثم اذكر أصحابه الذين عاصروه فأبتدئ بذكر من توفي منهم قبله ثم اذكر من توفي بعده ثم اذكر من لم تؤرخ وفاته وعند انتهاء أسماء الأصحاب من الطبقة الأولى أبين منهم من اشتهر من أعيان أصحابه من الفقهاء الذين كانوا على مذهبه في الأصول والفروع ونقلوا عنه الفقه ونقل عنهم إلى من بعدهم إلى أن وصل إلينا وأسرد أسماءهم متوالية ليتميزوا عن غيرهم من أصحابه الذين قرؤوا عليه الحديث وغيره ورووا عنه من غير المشهورين بالتمذهب بمذهبه في فروع الفقه ثم ذكر أسماء الأصحاب من بعد الطبقة الأولى مرتباً على الطبقات والوفيات ومن لم اطلع على تاريخ وفاته ذكرت اسمه وما وقفت عليه من ترجمته والعصر الذي كان موجوداً فيه أن علمته وأوجزت لفظه حسب الإمكان وحذفت الأسانيد مما رويته فيه من الأحاديث الشريفة في بعض التراجم طلباً للاختصار وسميته بالمنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد.
وقد وقع هذا الكتاب في زهاء 850 صفحة من قطع الوسط وكان الفراغ من نسخة سنة 1195 على يد عبد الفتاح شطي البغدادي، وعليه خطوط بعض بني الشطي وقد قال المؤلف في آخره: وهذا آخر ما تيسر ذكره من فقهاء الحنابلة رحمة الله تعالى عليهم أجمعين ولم أترك ذكر أحد ممن يصلح أن يذكر في الطبقات إلا من لم اطلع على أمره فقد ذكرت في هذا المختصر جماعة من المتقدمين لم يذكرهم القاضي أبو الحسين وجماعة من المتوسطين لم يذكرهم الحافظ ابن رجب وجماعة من المتأخرين لم يذكرهم قاضي القضاة برهان الدين بن مفلح.
وهذا الكتاب مجموعة نفيسة لعلماء هذا المذهب في ألف سنة وفيه تراجم كثير من المشاهير ففيه عدا ترجمة الإمام أحمد ترجمة ابن الجوزي وابن قيم الجوزية وابن تيمية والقاضي أبي يعلي والقاضي يحيى بن أكثم والوزير ابن هبيرة وعشرات غيرهم ممن كانوا مخفر فقه أحمد بن حنبل وعنوان التقى والعلم وسعة التأليف والوعظ والإرشاد،(60/90)
وتراجم من لقوا الألاقي في سبيل تأييد مذهبهم ولا سيما في الامتناع عن القول بخلق القرآن وهي المسألة المختلف فيها بين العلماء على عهد المأمون الخليفة العباسي ومن بعده وذلك مثل أحمد بن نصر الذي قتل في خلافة الواثق لامتناعه عن القول بخلق القرآن أخذه الواثق فقال له ما تقول في القرآن قال: كلام الله قال: افترى ربك في القيامة، قال: كذا جاءت الرواية وأغلظ على الواثق في الخطاب وقال له: مه يا صبي، فدعا الواثق بالصمصامة وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً ولا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ثم أمر بالنطع فاجلس عليه وهو مقيد وأمر بشد رأسه بحبل وأمرهم أن يمدوه ومشى إليه حتى ضربت عنقه وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً.
وفيه أمثلة من الشدة عومل بها الحنابلة وعاملوا بها في قرون مختلفة ولا سيما في القرون التي أثار ثائرها التعصب المذهبي وأمثلة من معتقد رؤساء المترجمين في المسائل المختلف فيها مثل قول أبي بكر بن أبي داود السجستاني من قصيدة:
وقل غير مخوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وافصحوا
ولا تغل في القرآن بالوقف قائلاً ... كما قال أتباع لهم واسجحوا
إلى من يقول بعد إيراد ما يجب الاعتقاد به
ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح
ولا تعتقد رأي الخوارج أنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح
ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ... إلا أنما المرجي بالدين يمرح
ومثل ذلك قول أبي الخطاب الكلواذني من قصيدة:
قالوا فهل لله عندك مشبه ... قلت المشبه في الجحيم الموصد
قالوا فهل هو في الأماكن كلها ... قلت الأماكن لا تحيط بسيدي
قالوا فتزعم إن على العرش استوى ... قلت الصواب كذاك خبر سيدي
قالوا فما معنى استواه ابن لنا ... فأجبتهم هذا سؤال المعتدي
قالوا فأنت تراه جسماً قل لنا ... قلت المجسم عندنا كالملحد
وممن أطال في ترجمتهم الوزير ابن هبيرة العالم الذي صنف في وزارته كتاباً في ذكر(60/91)
مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين وجمع عليه أئمة المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله بحيث أنه أنفق على ذلك مائة ألف دينار وثلاثة عشر ألف دينار وحدث به فجمع الخلق العظيم لسماعه عليه وكتب به نسخة لخزانة المستنجد وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها فاستنسخوه نسخاً ونقلوها إليهم حتى السلطان نور الدين الشهيد واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم يدرسون منه في المدارس والمساجد.
هذا بعض ما حواه الكتاب من الفوائد وحبذا لو صحت همة الحنابلة على طبعه بعد أن طبع الشافعية والمالكية والحنفية والإمامية طبقات رجالهم فكتب الطبقات مفيدة من عدة وجوه وليس أحسن في تصور حال زمن من الرجوع إلى سير رجاله وما قالوه وفعلوه وحدث لهم وأحدثوه.
عبر الأردن
ظهرت في عالم المطبوعات في ألمانيا ثلاث مجلدات للرحالتين الألمانيين برونو ودمانسكي في وصف أصقاع عبر الأردن فجاءت متممة للرحلات التي كتبها الأوروبيون على فلسطين وما والاها وقد وصفا الصقع الواقع في لواء الكرك اليوم وهو من نهر الزرقا إلى بترا أي وادي موسى وصفاً جغرافياً مدققاً والطريق الروماني من مادبا إلى وادي موسى والطرق المتشعبة منه ووصفا وادي موسى وإذرح والطريق الروماني من اذرح إلى عين صدقة والعقبة، ومن الخرائب الرومانية واليونانية والعربية والنبطية مالم يشر إليه السائحون في تلك الأرباض من قبل، ومن الآثار التي وصفت مع صورها محطة الحج وهو حصن روماني قديم وكثر ربة وذات رأس وطوان واذرح وفي هذه معسكر روماني وكنيسة يونانية وقد استغرق الكلام على وصف وادي موسى زهاء ثلثمائة صفحة وفي المناظر التي أوردها السائحان في كتابهما تتمثل للقارئ الأربع صخور الرئيسة المطلة على الوادي ثم وصفا أشكال النواويس المحفورة في الصخر وصفاً تاريخياً والأبراج المحفورة هناك في بيوت كان يسكنها سكان وادي موسى، ومعظم القبور التي حفرت على مثال قبور الحجر يرد عهدها إلى الملك أرتياس الرابع (أي 9 و 30 سنة قبل المسيح وبعده) وليس في وادي موسى أعمدة من قبل الحكم الروماني عليها، ووصفا قصر فرعون(60/92)
وخزنة فرعون ورجحا بما رأياه من صور أبي الهول وإيزيس ورؤوس الحملان أن تلك البلاد تأثرت بالمدنية المصرية والمسلتان الموجودتان في النجر تمثلان ربي النبطيين دوزارس واللات ويستدل منها أنها كانت مركز عبادة النبط قبل العهد اليوناني بستة قرون على الأقل، وقد دخلت المدينة اليونانية إلى وادي موسى على عهد البطالة وبذلك يستدل على اختلاط العنصرين المصري والسوري، ولم تستقل مملكة النبط هذه إلا في أواخر القرن الثاني عندما انحطت دولة البطالة والسلوقيين وظل القول الفصل فيها للمدنية اليونانية إلى عهد أرتياس الرابع (85 - 60 ق م) ولما تجزأت المملكة النبطية إلى ولايات رومانية بقيت محتفظة بمكانتها، وفي أواخر القرن الثالث للمسيح عاد إلى وادي موسى استقلاله، والغالب أن غارات الساسانيين الفرس على هذه البلاد اضطر بترا أن تنقطع عن إنشاء القبور وصك النقود، وقد وصف المؤلفان 851 مصنعاً من مصانع بترا من مثل القبور والمعابد والمذابح وأجادا في وصف جبل هرون ووادي صبرة والحدود الشرقية من هذه الولاية العربية من معان في الجنوب الشرقي من بترا إلى بصرى وأطلقا عنان القلم لوصف ما وقعت أنظارهما عليه من العاديات والمصانع ووصفا بلاد حوران ولا سيما درعا والسويداء واتيل وقنوات وقرى اللجاة وما فيها من الآثار مع بيان المسافات وطبائع البلاد ورسمها وتقاويمها بالصور والمصورات وشفعا كتابهما ببيان تخوم البلاد العربية وتقسيم مدن سورية وفلسطين وفينيقية والعربية كما كانت في عصور مختلفة كل ذلك مع أسماء الملوك الأقدمين الذين حكموا البلاد.(60/93)
العدد 61 - بتاريخ: 1 - 3 - 1911(/)
الفتوى في الإسلام
هذا بحث علمي أدبي، تاريخي اجتماعي، يهم كل نبيه درايته، كما يجب على كل فقيه معرفته ودراسته، لا سيما من يتولى منصب القضاء، أو وظيفة الافتاء، فإن هذا البحث من أهم ما يحتاج إليه، وأعظم ما يضطر للوقوف عليه، كيف لا ومنه يعرف شعائر الحق في الأقضية والأحكام، ويتوصل به إلى فيصل الأمور بالعدل في نوازل الأنام، فهو على التحقيق لباب الفقه في الدين، وسر الأصعاد إلى ذروة الاجتهاد في مقاصد الشرع المتين.
لا نريد أن نبحث في الفتوى من حيث يعرفها الناس أنها وظيفة من الوظائف ومنصب من المناصب يتولاه من يوظفه من الاستانة شيخ الإسلام، ليعول على فتواه عند توقف الحكام، لا نقصد هذا لأن سبيلها المذكور معروف معلوم، لا حاجة إلى أن يكتب فيه ما كان يكتب أيام استئجار العلوم، وإنما نروم الكشف عن منشأ الفتوى في الإسلام، وكيف كانت في القرون الثلاثة العظام، ثم فيما بعدها إلى العصور الوسطى ومن كان يتولاها أيام استفحال العلم واتساع مناحيه، ووفرة رجال الفضل وأئمة الاجتهاد فيه، ثم ما اشترط في أولي الفتوى وما ذكر من آدابهم وآدابها، وآداب من يستفتى ويرجع إلى أربابها.
يتبع هذا مباحث منوعة ضافية الذيول، وافرة النقول، ربما يقل في سبرها مجلدات، ولا كثرة في العلم كما لا إسراف في الخيرات، بيد أنا نقتصر من هذا المبحث على اللباب، ليكون نموذجاً ومدخلاً لنجباء الطلاب.
مما يدهش المنقب على أصول الفتوى ما بلغته من عناية الأئمة في مطالبها ومقاصدها وما تفننوا به من استنباط واجباتها واستثمار فوائدها، فيعجب مما كانت في العصور الأولى عليه وما آلت بعد إليه، ولئن كان لضعف العلم في القرون الأخيرة مدخل في هذا التباين إلا أن اليد العاملة فيه اختلاف سياسة الدول في الأخذ بالعلوم النافعة وإنهاض رجالها، ونشر التعليم المفيد والتهذيب وتوسيد الأمور إلى حكمائها وإبطالها، فقد تختلف السابقة عن اللاحقة في هذا المضمار، وتخلف أمة غيرها فتقودها بعاداتها وتأخذها بنظامها فتستلب منها الأفهام والأفكار، ويرجع هذا إلى فناء طريقة تائدة في طريقة طريفة، كما تفنى في أمة غالبة قوية أمة مغلوبة ضعيفة، فتدرس آثارها وعلومها، وتمحو عادتها ورسومها ولاختلاف الدول وتعاقبها على الممالك، مدخل عظيم في اختلاف قوانين العلم والعلماء في جميع المسالك.(61/1)
ما سنذكره من أحوال الفتوى لا يدريه إلا نقابة في التاريخ دراكة في علوم الاجتماع بصير بالماضي والحاضر، خبير بالحديث والغابر.
ومن المؤسف أن تنبذ هذه المعارف ظهرياً، وتصبح في هذا الجيل نسياً منسياً، فكم في بحر الأوهام من غاد ورائج، ويزعم أن هذه الحالة هي في عهد السلف الصالح، فلا يدري شيئاً من تأثير الدول، ولا يعرف أمراً من آثار الأول.
إن الباحث عن الموازنة بين السلف والخلف في شؤون الاجتماع وطبيعة العمران يعتوره من مصاعب التنقيب ومتاعب العمل وإجهاد الفكر ما لا يدريه إلا من عانى ما عاناه، وأنفق من دم قلبه وقوة عقله ما ماثله أو داناه، ولذا سيعد ما كتبناه في هذا البحث من أعظم الدروس التي ألقيت على عالم العلم في هذا العصر، يذكر ما سلف لهذا الموضوع من جليل الشأن في كل قطر ومصر. ويعرفهم ما ترك الأول للآخر، وما حفظته لنا من الكنوز ذخائر قدماء الأكابر، فرحمة الله على السلف الناصحين، وأيد الله من تبعهم بإحسان من المصلحين.
ولنشرع في البحث مفصلاً ومبوباً، ومعنوناً جملاً جملا ومرتباً، والمستعان بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أول من قام بمنصب الفتوى في الإسلام
قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلاً في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمخل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف لا وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) وكفى بما تولاه الله بنفسه تعالى شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه يستفتونك قل الله(61/2)
يفتيكم في الكلالة وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله.
وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين فكانت فتاويه عليه السلام جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب أتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلاً وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا.
كتابة الفتوى من العهد النبوي
عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الخطبة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قال فقام رجل من اليمن يقال له أبو شاه فقال يا رسول الله اكتبوا لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه: يعني الخطبة، وعن أبي هريرة قال: لم يكن أحد من أصحاب محمد أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كتب ولم أكتب، وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.
أخرجها الحافظ ابن عبد البر في كتاب جامع العلم في باب الرخصة في كتاب العلم وعززها بآثار عدة منها عن سعد بن ابراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً.
المفتون من الصحابة وطبقاتهم في الفتيا
قام بالفتوى بعد النبي صلى الله عليه وسلم علماء الصحابة رضوان الله عليهم قال ابن القيم: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف(61/3)
وثلاثون نفساً ما بين رجل وامرأة.
وكان المكثرون منهم سبعة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر.
قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتاباً، وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، (قال ابن حزم) فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جداً ويضاف إليهم طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان.
والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث.
حالة الفتوى في عهد التابعين وتابعيهم
كان المرجع بعد الصحابة في الفتيا إلى كبار التابعين وكانوا منتشرين في البلاد التي عمرها المسلمون بفتوحاتهم، وقد عد الإمام ابن القيم في أوائل أعلام الموقعين عدداً عديداً منهم كما أن كثيراً من الحفاظ ألف في طبقاتهم أجزاء ومجلدات.
وأما حالة الفتيا في عهدهم فقد نبه عليها ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة بما مثاله: اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وابراهيم والزهري وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بداً، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عبد الله بن مسعود عن شيء فقال: إني لأكره أن أحل لك شيئاً حرمه الله عليك أو أحرم ما أحله الله لك، وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سرد، وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود(61/4)
في كراهة التكلم فيما لم ينزل وقال ابن عمر لجابر بن زيد: إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.
وقال الإمام الدهلوي أيضاً بعد أن مهد ضروب الاختلاف بين الصحابة في بعض الفتاوى ما مثاله:
فاختلفت مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهم التابعون كذلك كل واحد ما تيسر له فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له ورجع بعض الأقوال على بعض واضمحل في نظرهم بعض الأقوال فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله.
فانتصب في كل بلد إمام مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة وبعدهما الزهري والقاضي يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها وعطاء بن أبي رباح بمكة وابراهيم النخعي والشعبي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة وطاوس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام فأظمأ الله أكباداً إلى علومهم فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم واستفتى منهم المستفتون ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية.
وكان سعيد بن المسيب وابراهيم وأمثالهما جمعوا أبواب الفقه أجمعها وكان لهم في كل باب أصول تلقوها من السلف: وللبحث تتمة بديعة فانظرها.
وجل فتاوى الصحب والتابعين مروية في المواطآت والمسندات والسنن من كتب الحديث التي لم تشترط تخريج المرفوع وحده من الأحاديث النبوية عدا ما جمع على حدة منها.
المفتون بالشام من التابعين
قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: وكان من المفتين بالشام أبو ادريس الخولاني وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وحبان بن أمية وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عميرة الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وجبير بن نفير ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة:
وفيه استقصاء التابعين المفتين من معظم البلاد فانظره وقد استقرأت في كتابي (تعطير(61/5)
الشام بمآثر دمشق الشام) كل صحابي وتابعي نزل دمشق من المشاهير وآثرته عمن جمع في هذا الشأن من الحفاظ عليهم الرحمة وكثير منهم حفظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً برأيه وقائماً على الأصول فيما لم يجد فيه نصاً.
حالة الناس في الفتيا قبل المائة الرابعة وبعدها
قال الإمام ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة تحت هذا العنوان ما مثاله:
أعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: إن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس واتخاذ قوله والحكاية له من كل شيء والتفقه على مذهبه لم يكن الناس قديماً على ذلك في القرنين الأول والثاني انتهى.
قال الدهلوي وبعد القرنين حدث فيهم شيء من التخريج غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع بل كان فيهم العلماء والعامة.
وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الاجتماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع وكانوا يتعلمون صفة الوضوء أو الغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم فيمشون حسب ذلك وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب.
وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث فيخلص إليهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء ولا عذر لتارك العمل به أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين مما لا يحسن مخالفتها.
فإن لم يجد أحدهم في المسألة ما يطمئن به قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء فإن وجد قولين اختار أوثقها سواء كان من أهل المدينة أو من أهل الكوفة.
وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحاً ويجتهدون في المذهب وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم فيقال فلان شافعي وفلان حنفي وكان صاحب الحديث(61/6)
قد ينسب أيضاً إلى أحد المذاهب لكثرة موافقته له كالنسائي والبيهقي ينسبان إلى الشافعي.
فكان لا يتولى القضاء ولا الافتاء إلا مجتهد ولا يسمى الفقيه إلا مجتهداً.
ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يميناً وشمالاً وحدث فيهم أمور (منها) الجدل والخلاف في علم الفقه (ومنها) أنهم اطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم فإنهم لما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه فلم ينقطع الكلام إلا بمسير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة (وأيضاً) جور القضاة فإن القضاة لما جار أكثرهم ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه ويكون شيئاً قد قيل من قبل (وأيضاً) جهل رؤوس الناس واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهراً في أكثر المتأخرين وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهاً.
(ومنها) أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ثم خرج من ذلك إلى التاريخ قديمه وحديثه ومنهم من تفحص عن نوادر الأخبار وغرائبها وإن دخلت في حد الموضوع، ومنهم من كثر القيل والقال في أصول الفقه واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية فأورد فاستقصى، وأجاب وتقصى، وعرف وقسم فحرر، طول الكلام تارة وتارة أخرى اختصر ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصور المستبعدة التي من حقها أن لا يتعرض لها عاقل وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرجين فمن دونهم مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل.
وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك وانتصر كل رجل لصاحبه فكما أعقبت تلك ملكا عضوضاً ووقائع صماء عمياء، فكذلك أعقبت هذه جهلاً واختلاطاً وشكوكاً ووهماً مالها من أرجاء.
فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل عن الاستنباط فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقوال الفقهاء قويها وضعيفها من غير تمييز وسردها بشقشقة شدقيه والمحدث من عد الأحاديث صحيحها وسقيمها وهذها كهذ الاسمار بقوة لحييه.(61/7)
ولا أقول ذلك كلياً مطرداً فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم وهم حجة الله في أرضه وإن قلوا ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليداً وأشد انتزاعاً للأمانة من صدور الرجال حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين وبأن يقولوا إن وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون وإلى الله المشتكى وهو المستعان وبه الثقة وعليه التكلان انتهى كلام ولي الله الدهلوي.
ماروي من تهيب السلف للفتيا
قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: أعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطاء ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى: وروينا عن ابن المنكدر قال: العالم بين الله وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياءً كثيرة معروفة نذكر منها أحرفاً روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترفع إلى الأول وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث الآود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء الأود أن أخاه كفاه الفتيا وعن الشعبي والحسن وأبي حصين (بفتح الحاء) رحمهم الله قالوا: إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر وعن سفيان بن عيينة وسحنون: اجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً: وعن الشافعي رضي الله عنه وقد سئل عن مسألة فلم يجب فقيل له فقال حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يكثر أن يقول: لا أدري: وذلك مما عرف الأقاويل فيه وعن الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكاً سئل عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري وعن مالك أيضاً رحمه الله: ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول: من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب وقال أبو حنيفة رحمه الله: لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما افتيت يكون لهم المهنأ وعلي الوزر وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.(61/8)
وقال الصيمري والخطيب: قل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره وإذا كان كارهاً لذلك غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعرفة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أغلب واستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: لا تسأل الأمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها.
معنى الفتوى اللغوي
قال الراغب: الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام ويقال استفتيت فأفتاني بكذا قال: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن فاستفتهم افتوني في رؤياي.
وفي (النهاية): يقال أفتاه في المسألة بفتيه إذا أجابه والاسم الفتوى، وفي الحديث: أن أربعة تفاتوا إليه عليه السلام: أي تحاكموا من الفتوى ومنه الحديث: الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس عنه وأفتوك: أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازاً.
وفي (المصباح): الفتوى بالواو بفتح الفاء وبالياء فتضم اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم ويقال أصله من الفتى وهو الشاب القوي والجمع الفتاوي بكسر الواو على الأصل وقيل يجوز الفتح للتخفيف انتهى وعبارته تفيد أن الفتوى بالفتح لا غير خلافاً لما يقتضيه كلام القاموس من جواز الضم والفتح فقد نوقش فيه ولذا قال شارحه العلامة الفاسي: المصرح به في أمهات اللغة وأكثر مصنفات الصرف أن الفتيا بالياء لا تكون إلا مضمومة وأن الفتوى بالواو لا تكون إلا مفتوحة: وفي (أساس البلاغة): وفلان من أهل الفتوى والفتيا وتعالوا ففاتونا وتفاتوا إليه تحاكموا قال الطرماح:
هلم إلى قضاة الغوث فاسأل ... برهطك والبيان لدى القضاة
انخ بفناء أشدق من عدي ... ومن جرم وهم أهل التفاتي
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فبت أفاتيها فلا هي ترعوي ... بجود ولا تبدي إباءً فتبخلا
أي أسائلها:
وراثة المفتي للمقام النبوي
قال الإمام أبو اسحق الشاطبي المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم والدليل(61/9)
على ذلك أمور (أحدها) النقل الشرعي في الحديث أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم: وفي الصحيح: بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أن لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم: وهو في معنى الميراث وبعث النبي صلى الله عليه وسلم نذيراً لقوله تعالى: إنما أنت نذير وقال في العلماء: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية وأشباه ذلك (والثاني) أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام لقوله: ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب: وقال بلغوا عني ولو آية وقال: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم: وإذا كان ذلك فهو معنى كونه قائماً مقام النبي (والثالث) أن المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول فالأول يكون فيه مبلغاً والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع فإذا كان المجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب إتباعه والعمل على وفق ما قاله وهذه هي الخلافة على التحقيق بل القسم الذي هو مبلغ فيه لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام وكلا الأمرين راجع إليه فيها فقد قام مقام الشارع أيضاً في هذا المعنى وقد جاء في الحديث: أن من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه: وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولي الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
بيان أن المفتي والعالم والمجتهد والفقيه ألفاظ مترادفة في الأصول
قال الشهاب ابن قاسم العبادي في شرح قول إمام الحرمين في الورقات: وصفة المفتي الخ: والمجتهد والمفتي واحد، وقال في شرح قوله: وليس للعالم أن يقلد أي المجتهد المطلق فإنه المراد من العالم كالمفتي حيث أطلق في الأصول.
وقال أيضاً في شرح قول المحلي: والمفتي هو المجتهد: يحتمل إرادة اتحادهما مفهوماً وإرادة اتحادهما ما صدقا ولعل الثاني أقرب انتهى.(61/10)
وقال السبكي: في جمع الجوامع والمجتهد الفقيه: قال المحلي: كما قال فيما تقدم نقله عنه في أوائل الكتاب: والفقيه المجتهد لأن كلاً منهما يصدق على ما يصدق عليه الآخر، قال العطار أي فهو ليس من قبيل التعريف وإنما هو من قبيل بيان الما صدق فتساوى الأفراد واختلف المفهوم.
وفي فتح القدير لابن الهمام: قد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له فيه سند إليه أو يأخذه عن كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور.
ما اشترطه الأصوليون في المفتي
قال الإمام الصيرفي: موضوع هذا الاسم يعني المفتي لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط ولم يوضح لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ومن استحقه أفتى فيما استفتي.
وقال ابن السمعاني: المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل.
وقال الإمام الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال والدليل على هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ومقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين وقد رد عليه السلام التبتل وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: افتان أنت يا معاذ: وقال: إن منكم منفرين، وقال: عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وقال أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا وأيضاً فإن(61/11)
الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ولا تقوم به مصلحة الخلق أما في طرف التشديد فإنه مهلكة وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة.
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطاً وهذا غلط والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي بناءً منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة وهذا قلب المعنى المقصود في الشريعة فإن أتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها وإن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى وإن الشريعة حمل على التوسط لأعلى مطلق التخفيف - والإلزام ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه انتهى.
وقال الإمام أبو اسحق الشيرازي في اللمع في باب صفة المفتي والمستفتي، وينبغي أن يكون المفتي عارفاً بطرق الأحكام وهي الكتاب والذي يجب أن يعرف من ذلك ما يتعلق بذكر الأحكام والحلال والحرام دون ما فيه من القصص والأمثال والمواعظ والأخبار ويحيط بالسنن المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام ويعرف الطرق التي يعرف بها ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة من أحكام الخطاب وموارد الكلام ومصادره من الحقيقة والمجاز والعام والخاص والمجمل والمفصل والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم ويعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما ويعرف أحكام أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تقتضيه ويعرف الناسخ من ذلك والمنسوخ وأحكام النسخ وما يتعلق به ويعرف أجماع(61/12)
السلف وخلافهم ويعرف ما يعتد به من ذلك وما لا يعتد به ويعرف القياس والاجتهاد والأصول التي يجوز تعليلها وما لا يجوز والأوصاف التي يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز وكيفية انتزاع العلل ويعرف ترتيب الأدلة بعضها على بعض وتقديم الأولى منها ووجوه الترجيح ويجب أن يكون ثقة مأمونا لا يتساهل في أمر الدين انتهى.
وقال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهوراً بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة (ثم قال): شرط المفتي كونه ثقة مأموناً منزهاً عن الفسق وخوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر صحيح النظر والاستنباط متيقظاً سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة وجر نفع ودفع ضر ولأن المفتي في حكم مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص فكان كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي.
(قال): وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً معانداً فترد فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه إذا وقت انتهى.
فتوى الفاسق والمستور وأهل الأهواء والخوارج
قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: نقل الخطيب البغدادي أجماع المسلمين على أن الفاسق لا تصح فتواه (لغيره) وأنه يجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه.
وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطناً ففيه وجهان أصحهما جواز فتواه لأن العدالة الباطنة يعتبر معرفتها على غير القضاة والثاني لا تجوز كالشهادة.
قال الصميري: وتصح فتوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه.
بحث الفتوى للقاضي
قال الإمام النووي: والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة هذا هو الصحيح وقيل له الفتوى في العبادات وما لا يتعلق بالقضاء وفي القضاء وجهان لأصحابنا أحدهما الجواز لأنه أهل والثاني لا لأنه موضع تهمة وقال ابن المنذر تكره الفتوى في مسائل الأحكام وقال شريح أنا أقضي ولا أفتي.
تقسيم المتأخرين المفتي إلى مستقل وغير مستقل(61/13)
قال الإمام النووي قال أبو عمرو - ابن الصلاح - المفتون قسمان مستقل وغيره فالمستقل شرطه مع ما ذكرناه أن يكون فقيهاً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وقد فصلت في كتب الفقه فيسرت وأن يكون عالماً بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها وبكيفية اقتباس الأحكام منها وهذا مستفاد من أصول الفقه، وعارفاً من علوم القرآن والحديث والناسخ والمنسوخ والنحو واللغة والصرف واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية وهو المجتهد المطلق المستقل لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد.
قال أبو عمرو: وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثير من الكتب المشهورات لكونه ليس شرطاً لمنصب الاجتهاد لأن الفقه ثمرته فيتأخر عنه وشرط الشيء لا يتأخر عنه وشرطه الأستاذ أبو اسحق الاسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي وغيرهما واشتراطه في المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقل.
ثم لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفيه كونه حافظاً لمعظمها متمكناً من إدراك الباقي على قرب.
وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية حكى أبو اسحق وأبو منصور فيه خلافاً لأصحابنا والأصح اشتراطه.
ثم إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في مفت مطلق في جميع أبواب الشرع وأما مفت في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزالي وصاحبه ابن برهان (بفتح الباء) وغيرهما ومنهم من منعه مطلقاً وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة والأصح جوازه مطلقاً.
(القسم الثاني المفتي الذي ليس بمستقل) ومن دهر طويل عدم المفتي المستقل وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة.
وللمفتي المنتسب حالات إحداها أن لا يكون مقلداً لأمامه لا في المذهب ولا في دليله(61/14)
لاتصافه بصفة المستقل وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد وادعى أبو اسحق هذه الصفة لأصحابنا وحكي عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليداً لهم.
والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه وطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي قال النووي قلت هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله: مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره.
ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية أن يكون مجتهداً مقلداً في مذهب إمامه مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدائه أصول إمامة وقواعده وشرطه كونه عالماً بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلاً - بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني - تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله إلى أن قال النووي ثم ظاهر كلام الأصحاب أن من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية.
ثم قد يستقل المقلد في مسألة أو باب خاص كما تقدم وله أن يفتي فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله وهو الذي عليه العمل وإليه يفزع المفتون من مدد طويلة ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي قال الشيخ أبو عمرو: ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو اسحق الشيرازي وغيره أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي رحمه الله والأصح أنه لا ينسب إليه.
ثم ذكر النووي بقية حالات المفتي المنتسب أضربنا عنها لقلة جدواها ولأنها فرعت لزمن غير هذا الزمن.
وقال العلامة الفناري في فصول البدائع في مسائل الفتاوي: يجوز الإفتاء للمجتهد اتفاقاً ولحاكي قول مجتهد حي سمعه منه مشافهة لأن علياً رضي الله عنه أخذ بقول المقداد عن(61/15)
النبي عليه السلام في المذي ولذا يجوز للمرأة أن تعمل في حيضها بنقل زوجها عن المفتي.
أما - الإفتاء - لحاكي قول ميت فمنعه الأكثرون إذ لا قول للميت لانعقاد الإجماع مع خلافه وإنما صنفت كتب الفقه لاستفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم ومعرفة المتفق عليه والمختلف فيه قال في المحصول: والأصح عند المتأخرين جوازه لوجهين الأول انعقاد الإجماع على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى وله معنيان 1 أن أحكام الشريعة المحمدية باقية إلى آخر الزمان لكونه خاتم النبيين وكل من المجتهدين يثبت الحكم على أنه كذلك فهم وإن اختلفوا في تعيين الحكم مجمعون ضمناً على بقائه وجواز تقليد من بعدهم 2 أن المجتهدين السابقين المختلفين أجمعوا صريحاً على أن من بعدهم إذا اضطروا إلى تقليد الميت لعدم الاجتهاد جاز لهم ذلك الثاني إذا كان المجتهد الميت ثقة عالماً والحاكي عنه ثقة فاهماً معنى كلامه حصل عند العامي ظن أن حكم الله تعالى ما حكاه والظن حجة حتى لو رجع إلى كتاب موثوق به جاز أيضاً كذا في التحصيل.
قال في فتاوى العصر في أصول الفقه لأبي بكر الرازي رحمه الله فأما ما يوجد من كلام رجل ومذهبه في كتاب معروف به قد تداولته النسخ يجوز لمن نظر فيه أن يقول قال فلان كذا وإن لم يسمعه من أحد نحو كتب محمد بن الحسن وموطأ مالك لأن وجودها على هذا الوصف بمنزلة خبر المتواتر ولاستفاضة لا يحتاج مثله إلى إسناد.
وتوفية الكلام فيه أن لغير المجتهد أن يفتي بمذهب مجتهد أن كان أهلاً للنظر والاستنباط مطلعاً على المآخذ في أقوال إمامه أي مجتهداً في ذلك المذهب ومعنى الإفتاء الاستنباط بمقتضى قواعده لا الحكاية وقيل يجوز مطلقاً ومعنى الإفتاء أعم من الاستنباط والحكاية وهو المنقول عن المحصول آنفاً وقال أبو الحسين لا يجوز مطلقاً لنا تكرر إفتاء العلماء غير المجتهدين في جميع الأعصار من غير إنكار للمجوز أنه ناقل فلا فرق فيه بين العالم وغيره كالأحاديث قلنا جواز النقل متفق عليه والنزاع فيما هو المعتاد من تخريجه على أنه مذهب أبي حنيفة أو الشافعي رحمه الله كذا في المختصر والمفهوم من غيره أن في الحاكي عن الميت خلافاً للمانع لو جاز لجاز للعامي لأنهما في النقل سواء قلنا الدليل هو الإجماع وقد يجوز للعائدون العامي والفارق علم المأخذ وأهلية النظر.(61/16)
ثم عن أصحابنا في ذلك روايات ذكر في التجنيس سئل محمد بن الحسن رحمه الله: متى كان للرجل أن يفتي: قال إذا كان صوابه أكثر من خطاءه وقال ظهير الدين التمرتاشي رحمه الله: لا يجوز للمفتي أن يفتي حتى يعلم من أين قلنا فقلنا هل يحتاج إلى هذا في زماننا أم يكفيه الحفظ قال يكفي الحفظ نقلاً عن الكتب المنقحة وقال نجم الأئمة البخاري رحمه الله: الحفظ لا يكفي ولا بد من ذلك الشرط.
وفي عيون الفتاوى: قال عصام بن يوسف رحمه الله، كنت في مأتم قد اجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة زفر وأبو يوسف وعافية وقاسم بن معن فأجمعوا على أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا كلام الفناري.
حكم المقلد يفتي بما هو مقلد فيه
قال النووي: فإن قيل هل لمقلدان يفتي بما هو مقلد فيه قلنا قطع أبو عبد الله الحليمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الروياني وغيرهم بتحريمه وقال القفال المروزي يجوز: قال أبو عمرو: قول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه.
بل يضيفه إلى أمامه الذي قلده قال فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا بمفتين حقيقة لكن قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلاً من مذهب الشافعي كذا ونحو هذا ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح ولا بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوي في الكافي: إذا عرف حكم حادثة بني على دليلها ثلاثة أوجه أحدها يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده لأنه وصل إلى علمه كوصول العالم والثاني يجوز أن كان دليلها كتاباً أو سنة ولا يجوز أن كان غيرهما والثالث لا يجوز مطلقاً وهو الأصح هذا ما قاله أئمة الشافعية وتقدم وتقدم عن الفناري ما للحنفية.
أحكام المفتين
الأول
قال النووي: الإفتاء فرض كفاية فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب فإن كان فيها غيره وحضر فالجواب في حقهما فرض كفاية وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما لا يتعين والثاني يتعين وهما كالوجهين في مثله في الشهادة ولو سأل عامي عما لم(61/17)
يجب - لم يجب جوابه.
الثاني
إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن أعلم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو واتفقوا عليه ولا أعلم خلافه ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل وكذا بعده حيث يجب النقض وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وأنه خالف القاطع فعن الاستاذ أبي اسحق أنه يضمن أن كان أهلاً للفتوى ولا يضمن إن لم يكن أهلاً لأن المستفتي قصر كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه وهو مشكل وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروفين في باب الغصب والنكاح وغيرهما أو يقطع بعدم الضمان إذ ليس في الفتيا إلزام ولا إلجاء.
(الثالث)
يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه فمن التساهل أن لا يتثبت ويشرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنها فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة طلباً للترخص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ليخلص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل عليه يحمل ما جاء عن السلف من نحو هذا كقول سفيان (إنما العلم الرخصة من ثقة) وأما التشديد فيحسنه كل أحد ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها الحيلة في سد باب الطلاق.
(الرابع)
ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه وشغل قلبه بما يمنعه التأمل كغضب وجوع وحزن وفرح غالب ونعاس أو ملل أو حر مزعج أو مرض مؤلم أو مدافعة حدث وكل حال شغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطراً فيها.(61/18)
(الخامس)
المختار للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال إلا أن يتعين عليه وله كفاية فيحرم على الصحيح.
ثم إن كان له رزق لم يجز أخذ أجرة وإن لم يكن له رزق فليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه على الأصح كالحاكم.
واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني من أصحابنا فقال له أن يقول يلزمني أن أفتيك قولاً وأما كتابة الخط فلا فإن استأجره على كتابة الخط جاز.
قال الصيمري: لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز.
(وأما الهدبة) فقال أبو المظفر السمعاني له قبولها بخلاف الحاكم فإنه يلزمهم حكمه قال أبو عمرو: ينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض.
قال الخطيب: وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من بيت المال ثم روى إسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة.
(السادس)
لا يجوز أن يفتي في الإيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ أو منزلاً منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها انتهى كلام النووي، وهكذا نقل ابن فرحون في التبصرة عن القرافي أنه ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلد الذي فيه المفتي أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف في ذلك اللفظ اللغوي أم لا وإن كان اللفظ عرفياً فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا وهذا أمر متيقن واجب لا يختلف فيه العلماء وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليسا سواءً أن حكمهما ليس سواءً إنما اختلف العلماء في العرف واللغة هل يقدم العرف على اللغة أم لا والصحيح تقديمه لأنه ناسخ والناسخ مقدم على المنسوخ إجماعاً فكذا هنا انتهى.
(السابع)(61/19)
لا يجوز لمن كان فتواه نقلاً لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته وبأنه مذهب ذلك الإمام فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم يلق هذه النسخة معتمدة فليستظهر بنسخ منه متفقة.
(قال النووي) قلت: لا يجوز لمفت إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف أو مصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والتخريج.
(الثامن)
إذا أفتى في حادثة ثم حدث مثلها فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع أن كان مستقلاً أو إلى مذهبه منتسباً أفتى بذلك بلا نظر وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه فقيل له أن يفتي بذلك والأصح وجوب تجديد النظر ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة وكذا تجديد الطلب في التميم والاجتهاد في القبلة وفيهما الوجهان.
قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة: وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعت له فيلزمه السؤال ثانية - يعني على الأصح - إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفي السؤال الأول.
(التاسع)
ينبغي أن لا يقتصر على قوله في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو روايتان أو ترجع إلى رأي القاضي أو نحو ذلك وهذا ليس بجواب ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الفتيا كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون عن الإفتاء.
هذا ما نقله النووي في شرح المهذب.
آداب الفتوى
(الأول)
قال النووي: يلزم المفتي أن يبين الجواب بياناً يزيل الإشكال ثم له الاقتصار على الجواب شفاها فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد لأنه خبر وله الجواب كتابة وإن كانت الكتابة على خطر وكان القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الرقاع.(61/20)
قال الصيمري: وليس من الأدب كون السؤال بخط المفتي فإما بإملائه وتهذيبه فواقع وكان الشيخ أبو اسحق الشيرازي يكتب السؤال على ورق له ثم يكتب الجواب.
وإذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ولو ترك الترتيب فلا بأس.
وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ ثم له أن يستفصل السائل أن حضر ويكتب السؤال في رقعة أخرى ثم يجيب وهذا أولى واسلم وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل ثم يقول هذا إذا كان الأمر كذا وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم لكن هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية وغيره وقالوا: هذا تعليم للناس الفجور وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصل الأقسام واجتهد في بيانها واستيعابها.
(الثاني)
ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له بل يكتب جواب ما في الرقعة فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل إن كان الأمر كذا وكذا فجوابه كذا واستحب العلماء أن يزيد على ما في الرقعة بما له تعلق بها مما يحتاج إليه السائل لحديث: هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
(الثالث)
إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه فإن ثوابه جزيل.
(الرابع)
ليتأمل الرقعة تأملاً شافياً وآخرها آكد فإن السؤال في آخرها وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويغفل عنها.
قال الصيمري: وقال بعض العلماء ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده وكان محمد بن الحسن يفعله.
وإذا وجد كلمة مشبهة سأل المستفتي عنها ونقطها وشكلها وكذا أن وجد لحناً فاحشاً أو خطأ يحيل المعنى أصلحه وإن رأى بياضاً في أثناء السطر أو آخره خط عليه أو شغله لأنه(61/21)
ربما قصد المفتي بالإيذاء فكتب في البياض ما يفسدها كما يلي به القاضي أبو حامد المرزوي.
الخامس
يستحب أن يقرأها على حاضر به ممن هو أهل لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفق وإنصاف وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسلف ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه إلا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه أو يؤثر السائل كتمانه أو في إشاعته مفسدة.
(السادس)
ليكتب الجواب بخط واضح وسط لا دقيق خاف ولا غليظ جاف ويتوسط في سطورها بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارته واضحة صحيحة يفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة واستحب بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطه خوفاً من التزوير ولئلا يشتبه خطه.
قال الصيمري: وقل ما وجد التزوير عن المفتي لأن الله تعالى حرس أمر الدين وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه خوفاً من اختلال وقع فيه وإخلال ببعض المسئول عنه.
(السابع)
إذا كان هو المبتدئ فالعادة قديماً وحديثاً أن يكتب في الناحية اليسرى من الورقة قال الصيمري وغيره: وإن كتب من وسط الرقعة أو من حاشيتها فلا عيب عليه ولا يكتب فوق البسملة بحال وأن يدعو إذا أراد الإفتاء وجاء عن مكحول ومالك رحمهما الله الاستعاذة من الشيطان ويسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل رب اشرح لي صدري الآية ونحو ذلك.
قال الصيمري: وعادة كثيرين أن يبدؤوا فتاويهم: الجواب وبالله التوفيق، وحذف آخرون قال النووي المختار قول ذلك مطلقاً وأحسنه الابتداء بقوله الحمدلله لحديث: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه.
قال الصيمري: ولا يدع ختم جوابه بقوله وبالله التوفيق أو والله أعلم أو والله الموفق (قال) ولا يقبح قوله: الجواب عندنا أو الذي عندنا أو الذي نقول به أو نذهب إليه أو نراه كذا لأنه من أهل ذلك (قال) وإذا أغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الفتوى الحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به.(61/22)
قال النووي: وإذا ختم الجواب بقوله والله أعلم ونحوه مما سبق فليكتب بعده: كتبه فلان أو فلان بن فلان الفلاني فينسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلدة أو صفة فإن كان مشهوراً بالاسم أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه.
قال الصيمري وينبغي إذا تعلقت الفتوى بالسلطان أن يدعو له فيقول: وعلى ولي الأمر والسلطان أصلحه الله أو سدده أو قوى الله عزمه وأصلح به أو شد الله أزره ولا يقال أطال الله بقاءه فليست من ألفاظ السلف.
(قال النووي): نقل أبو جعفر النحاس وغيره اتفاق العلماء على كراهة قول أطال الله بقاك وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله عنها إشارة إلى أن الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه.
(الثامن)
ليختصر جوابه ويكون بحيث يفهمه العامة قال صاحب الحاوي: يقول يجوز أو لا يجوز أو حق أو باطل وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد أنه كان يختصر غاية ما يمكنه واستفتي في مسألة آخرها يجوز أم لا فكتب لا وبالله التوفيق انتهى.
قلت استحباب الاختصار ليس على إطلاقه بل هو في أمر جلى لا حاجة إلى الإطناب فيه أو في جواب لعامي وهو ما تغلب فيه الفتاوي وإما الفتاوي في المسائل المهمة فلا يستكثر فيها مجلد إلا أن البحث هنا ليس في أمثالها.
(التاسع)
قال الصيمري والخطيب: إذا سئل عمن قال: أنا أصدق من محمد بن عبد الله أو الصلاة لعب وشبه ذلك: فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم أو عليه القتل بل يقول إن صح هذا بإقراراه أو بالبينة استنابه السلطان فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب فعل به كذا وكذا وبالغ في ذلك وأشبعه.
(قال) وإن تكلم بشيء يحتمل وجوهاً يكفر ببعضها دون بعض قال يسأل هذا القائل فإن قال: أردت كذا فالجواب كذا.
(العاشر)
ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعة أخرى خوفاً من الحيلة ولهذا قالوا(61/23)
يصل جوابه بآخر سطر ولا يدع فرجة لئلا يزيد السائل شيئاً يفسدها وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الإلصاق.
(الحادي عشر)
إذا ظهر للمفتي أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب.
وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما هو عليه.
وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال: بأي شيء يندفع كذا وكذا لم يجبه كيلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع.
(قال الصيمري): وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقاً يرشده إليه أو ينبهه عليه: يعني ما لم يضر غيره ضرراً بغير حق (قال) كمن حلف لا ينفق على زوجته شهراً يقول تعطيها من صداقها أو قرضاً أو بيعاً ثم تبرئها وكما حكي أن رجلاً قال لأبي حنيفة رحمه الله: حلفت أني أطأ امرأتي في شهر رمضان ولا أكفر ولا أعصي: فقال: سافر بها.
(الثاني عشر)
قال الصيمري: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجراً له ولا مثاله ممن قل دينه ومروءته.
(الثالث عشر)
يجب على المفتي عند اجتماع الوقائع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق كما يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الإفتاء فإن تساووا أو جهل السابق قدم بالقرعة والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته ونحو ذلك على من سبقهما إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضرر كثير فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة.
قال الصيمري وأبو عمرو: إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها من موانع الميراث بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا(61/24)
أطلق الأخوة والأخوات والأعمام فلا بد أن يقول في الأخوات من أب وأم أو من أب أو من أم.
وإذا كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال: وسقط فلان وإن كان سقوطه في حال دون حال قال وسقط فلان في هذه الصورة أو نحو ذلك لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال.
قال الصيمري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا.
(الخامس عشر)
إذا رأى المفتي في رقعة الاستفتاء خط غيره ممن هو أهل للفتوى وخطه فيها صحيح موافق لما عنده قال الخطيب وغيره: كتب تحت خطه هذا جواب صحيح وبه أقول أو يكتب جوابي مثل هذا وإن شاء ذكر الحكم بعبارة الخص من عبارة الذي كتب وأما إذا رأى فيها خط من ليس أهلاً للفتوى فقال الصيمري: لا يفتي معه لأن في ذلك تقرير المنكر بل يضرب على ذلك بأمر صاحب الرقعة وله انتهار السائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وأنه كان واجباً عليه البحث عن أهل الفتوى وطلب من هو أهل لذلك (قال) والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بأبدالها فإن أبى ذلك أجابه شفاها (قال أبو عمرو): إذا خاف فتنة من الضرب على فتيا العادم الأهلية ولم تكن خطأ عدل إلى الامتناع من الفتيا معه فإن غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه أو تلبيس أو غير ذلك بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا ضاراً بالمستفتي فليفت فإن ذلك أهون الضررين وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله.
أما إذا وجد فتيا من أهل وهي خطأ مطلقاً لمخالفتها القاطع أو خطأ على مذهب من يفتي ذلك المفتي على مذهبه قطعاً فلا يجوز له الامتناع من الفتيا تاركاً للتنبيه على خطاءها إذا لم يلق ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره والإبدال أو تقطيع الرقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطاء ثم إن كان المخطئ أهلاً للفتيا فحسن أن يعاد إليه بإذن صاحبها أما إذا وجد فيها فتيا أهل الفتوى وهي على خلاف ما يراه هو غير أنه لا يقطع بخطاءها فليقتصر على جواب نفسه(61/25)
ولا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض قال صاحب الحاوي: لا يسوغ لمفت إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة.
(السادس عشر)
إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلاً ولم يحضر صاحب الواقعة قال الصيمري كتب: يزاد في الشرح لنجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب (قال) وقال بعضهم لا يكتب شيئاً أصلاً (قال) ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السائل لنخاطبه شفاها.
قال الخطيب: ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفت آخر أن كان وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب.
قال الصيمري: وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كله ولم يرد الجواب في بعضها أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة أجاب عما أراد وسكت عن الباقي.
(السابع عشر)
ليس ينكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحاً قال الصيمري: لا يذكر الحجة أن أفتى عامياً ويذكرها أن أفتى فقيهاً (قال) ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ووجه القياس والاستدلال إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوح بالنكتة وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلط فيفعل ذلك أو ينبه على ما ذهب إليه.
وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافاً أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة ويوجبه الحال.
(الثامن عشر)
قال الشيخ أبو عمرو: ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتى بالتفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض كان الجواب تفصيلاً وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السلف من الفتوى في بعض المسائل الكلامية وذكر إمام الحرمين في كتابه الغياثي أن(61/26)
الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك.
جمال الدين القاسمي.(61/27)
في أرض الجليل
تتمة ما ورد في الجزء الأول
جبلان في هذا الصقع يقدسهما المسيحيون لما لهما من الشأن في تاريخ الدين وهما من أجمل الجبال يبعثان النفوس إلى عبادة الخالق تعالى وتوحيده ونعني بهما جبل الطور وجبل الكرمل، فالأول على مقربة من الناصرة قائم في الجو وسط سهل يزرعيل يعلو عنه خمسمائة متر ويعلو عن سطح البحر 602 مترين وهو جميل المنظر ومحله عجيب في إنباته وروائه وتجد في منحدراته شجر السنديان والخروب والبطم والمصطكى وغير ذلك، وقد ذكر بعض سياح الافرنج الذين زاروا هذه الديار في القرن التاسع للميلاد أنه كان يصعد إلى قمة الجبل من سلم طوله 4340 درجة والطريق إلى القنة يدل على ذلك ومسطح القنة 1200 متر طولاً و 400 متر عرضاً وفي أحد سفوح الجبل آثار مدينة عبرانية قديمة تسمى الدبورة أو أبو عمود وكانت مطلة على الوادي الذي كان طريق الزوار والجيوش المصرية قديماً فموقعه من أحسن المواقع الحربية وفي سفح جبل تابور وفي سنة 53 م حدثت ملحمة كبرى بين اسكندر بن اريستوبول وأوليسوس كابينوس أحد قواد بومبينوس الامبراطور الروماني وبعد قرن عندما انتقض اليهود على الرومانيين أحدث يوسفوس قلعة على قمة الجبل وكذلك فعل المسلمون في القرن الثالث عشر للميلاد فأقاموا حصناً منيعاً تجد اليوم بعض آثاره وقد تقاسم الروم واللاتين لعهدنا سطح الجبل وجعلوه أدياراً.
كان جبل الطور ذا شأن عظيم على عهد الصليبيين لإشرافه على بلاد الأردن، قال ياقوت: والطور جبل بعينه مطل على طبرية الأردن بينهما أربعة فراسخ على رأسه بيعة واسعة محكمة البناء موثقة الأرجاء يجتمع في كل عام بحضرتها سوق ثم بنى هنالك الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب قلعة حصينة وأنفق عليها الأموال الجمة وأحكمها غاية الإحكام فما كان في سنة 615 هـ وخرج الافرنج من وراء البحر طالبين للبيت المقدس أمر بخرابها حتى تركها كأمس الدابر.
ويقول مؤرخو الصليبيين أن الذين خرجوا من وراء البحر من الافرنج طالبين للقدس سنة 1217 م كانوا اندراوس الثاني صاحب المجر وليوبولد دوق النمسا وغليوم كونت فلاندر(61/28)
ولويس البافاري ويوحنا دي بريان ملك القدس وهوج دي لوزنيان صاحب قبرص جاؤوا في خمسة عشر ألفاً من رجالهم وحاولوا مرتين فتح قلعة الطور فارتدوا عنها خائبين فرأى الملك العادل قطعاً لأطماعهم وحرصاً على السلام أن يدك ذاك الحصن بعد خمس سنين من بنائه وفي سنة 1263 جاء الظاهر بيبرس البندقداري من مصر في جيش ضخم وعسكر في منحدر جبل الطور وخرب فيما قيل الأماكن الدينية التي كانت فيه وجعل عاليها سافلها وفي سنة 1631 نال قنصل دوقية طوسكانيا في صيدا من الأمير فخر الدين المعني رخصة تجيز لرهبنة الأخوات القاصرين أن يقيموا في جبل الطور ومنذ ذاك العهد أصبح هذا الجبيل معاهد للعبادة والنسك.
هذه لمعة من تاريخ الطور ويقال له جبل التجلي كما يقال له جبل تابور، أما الكرمل فهو أيضاً من الحصون المهمة قال ياقوت: كرمل بالكسر ثم السكون وكسر الميم ولام هو حصن على الجبل المشرف على حيفا بسواحل بحر الشام وكان قديماً في الإسلام يعرف بمسجد سعد الدولة، ولذا يغلط الناس اليوم في فتحهم كاف الكرمل والصحيح كسرها وهذا الجبل أطول من الطور يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي على طول 34 كيلو متراً ويختلف عرضه من 5 إلى 8 كيلومترات ولا يبلغ علوه في الشمال الغربي أكثر من ثلثمائة متر على حين يبلغ في الوسط 540 متراً وهو مشرف عل البحر من جهة وعلى سهل يزرعيل الفسيح من جهة أخرى.
ومعنى كرمل بالعبرانية الحديقة ورد ذكره في التوراة إشارة إلى الجمال والخصب وهو من أشهر جبال غربي الأردن يبتدئ من رأس قرب حيفا وينتهي بوادي الملح مقابل يتنعام طوله نحو 12 ميلاً وأعلى رؤوسه عند عسفيا نحو 1729 ويعرف هذا الجبل بجبل النبي الياس لأنه أقام فيه وكان الكرمل في كل عصر موطن التفكر والعزوف عن الدنيا وذلك في أيام الوثنية والنصرانية حتى أن الفيلسوف فيثاغورس اليوناني كثيراً ما كان يذهب للتدبر والتفكر في الكرمل المقدس وفي عهد دارا بن يستاسب ملك الفرس (521 - 485 ق. م) كان يعبد في الكرمل كوكب المشتري وقال بعض مؤرخي الرومان أن الكرمل نفسه كان يعبد فلم يكن فيه معبد ولا هيكل بل ليس فيه إلا مذبح وعباد يتعبدون وكان في النصرانية معبداً لرجالها حتى نشأت في القرون الوسطى فيه رهبنة الكرمليين المشهورة في المشرق(61/29)
والمغرب وهو اليوم مقسم بين أهل المذاهب المختلفة من المسيحيين أقاموا فيه الأديار وغرسوه بأنواع الأشجار واستقلوا به حتى لا يطرقه طارق ألا بجعل أو إذن وهو مطل على حيفا وعكا ناظر إلى بلاد الجليل ولا سيما سهل يزرعيل أو مرج ابن عامر المعروف في التوراة ببقعة مجدو وبقعة مجدون ووادي يزرعيل وهو مرج واسع واقع بين جبال الجليل وجبال السامرة طوله من الشرق إلى الغرب 24 ميلاً وعرضه من ميلين إلى 12 ميلاً وهو مثلث الشكل وقاعدة هذا المثلث ضلعه الشرقي وهو خط يمتد من جبل جلبوع والدحي وتابور إلى جبال الجليل أو الناصرة ومن هذه القاعدة يتفرع ثلاثة فروع نحو الشرق فرع بين جلبوع والدحي وفرع بين الدحي وتابور وهو الأخصب والأشهر وفرع بين تابور وجبال الناصرة وعند هذه القاعدة ترتفع الأرض فيتحول مجرى الماء إلى الشرق والغرب ويشق هذا السهل من الشرق إلى الغرب نهر قيشون المسمى الآن المقطع ومع كل ما هو عليه من الإهمال الآن لا يزال هذا السهل في غاية الخصب وكان أعظم ساحة حرب في هذه البلاد.
نعم إن العناية بهذا السهل قليلة لأن أصحابه أغنياء كانوا ابتاعوه فيما بلغنا بحيلة ورشوة وذلك أن قراه كانت لا ناس من الفلاحين ضعاف أرادت الحكومة منذ نحو أربعين سنة أن تسجل قراهم للتقاضى منها ضرائب وكان الفلاح يرتعش من سماع الضرائب ويخاف أن يعرف بأنه مالك أرض فأبوا أن يسجلوها بأسمائهم تفادياً من الظلم الذي كان ينال الفلاح يومئذ فازمع والي سورية إذ ذاك أن يبيع تلك القرى أو سهل يزرعيل برمته باعتباره من الأراضي الأميرية المحلولة فما كان من أولئك الأغنياء إلا أن احتالوا لتباع كلها صفقة واحدة وهي ثماني عشرة قرية لا يقطعها الفارس في أقل من ثماني ساعات وذلك حتى لا يتيسر لأحد الأهالي أن يشتريها فرشوا الوالي فيما قبل بثلاثة آلاف ليرة وابتاعوها بأقل من خمسة عشر ألف ليرة وجلسوا يلعبون بالميسر مع الوالي في دارهم ولم يمض الهزيعان الأولان من الليل إلا وقد خرج الوالي كما دخل صفر اليدين من المال الذي ناله من طريق الرشوة فأضر بالأمة والدولة معاً لأن أولئك الأغنياء خسروه في القمار ليلاً ما كان ناله منهم رشوة في النهار، وهكذا حرم أصحاب هذه القرى الحقيقيون منها بجهلهم وسوء إدارة الحكومة إذ ذاك وتشتتوا في البلاد وبعضهم استخدموا إجراء في قرى الأغنياء وكانوا من(61/30)
قبل في نعمة ولكن من يأخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليمها فإن أولئك المالكين زهدوا فيما ملكوا لأنهم بعيدون عنها والأرض لمن يقوم على تعهدها فهو هو مالكها الحقيقي لا من يكتفي من ريعها بما حصل، فأباع بعض أولاد أولئك الأغنياء ما ورثوه من آبائهم وأكثرها انتقلت إلى أيدي الجمعية الصهيونية ويوشك أن يباع ما بقي ولكن بمئات الألوف من الليرات لارتقاء الأسعار ولأن الصهيونيين آلوا على أنفسهم أن يملكوا فلسطين وأرض الميعاد، ويبذلوا فيها مهما كلفتهم.
ولا بأس هنا من الإشارة إلى الجمعيات الاسرائيلية وما ترمي إليه من المقاصد فهي عدة جمعيات منها جمعية أحباء فلسطين وهي منتشرة في عامة الأطراف ومنها تتفرع جمعية معاونة فلاحي اليهود وصناعهم في فلسطين وسورية وهذه الجمعية روسية ولهاتين الجمعيتين فروع كثيرة في القدس ويافا وأعمالها وحيفا وأعمالها وصفد وبلاد بشارة وحوران وعبر الأردن ويقدر الخبيرون عدد أفرادها بمئة وخمسين ألف نسمة يزيد عددهم كثيراً بما ينضم إليهم كل شهر من إخوانهم الأوروبيين الذين يرحلون بدينهم من أوروبا إلى الأرض المقدسة، وعدا هاتين الجمعيتين فإن للإسرائيليين أناساً من مشهوري أغنيائهم مثل روتشيلد وبركم وفليرو وفتيفيوري وغيرهم ممن ابتاعوا الأراضي لابناء نحلتهم وأمدوهم بالمال ليتوفروا على استثمارها على نحو ما تشاهد في زمارين مما يدل بلسان حاله أن الصهيونيين سيعيدون مجد آبائهم في فلسطين ويستولون عليها وهاك ما يقوله العارفون بهذه المسألة التي يهتم لها كل من يعرف تاريخ السياسة ويغار على مصلحة البلاد فقد قال أحدهم أن آمال اليهود في استرداد فلسطين بلاد آبائهم وأجدادهم وإعادة مجدهم وملكهم إليها قديم يعود إلى عهد الرومان وتؤيده حروبهم العديدة مع المملكة الرومانية وفي كل واقعة منها في حروب اليهود ليوسيفوس آيات بينات على ذلك ولكن هذه الآمال غاضت بعد أن شتتهم في الأرض أدريانوس في القرن الثاني بعد المسيح وفرق جامعتهم وأبعدهم عن صهيون أو أورشليم أو القدس عاصمة مملكتهم القديمة ومدينة هيكلهم العظيم ولكنها ما لبثت أن ظهرت في صورة التمني في عهد قسطنطين الذي أذن لهم بالدنو مرة في السنة من أسوار بيت المقدس ليندبوا مجدهم الزائل وما زالوا إلى يومنا هذا يدنون من حائط الحرم الشريف الخارجي المسمى بالبراق ويتذكرون مجد ملوكهم وعظمة هيكلهم ومدينتهم(61/31)
ويطلبون من الله أن يعيد ما خسروه.
ولكن رجال النهضة منهم لم يقفوا عند حد التمني فألف الدكتور هارتشل الجمعية الصهيونية التي جعلت همها الوحيد جمع المال وتوحيد كلمة اليهود على اختلاف لغاتهم وبلدانهم وجمعهم في بلد واحد أمين يحصنونه أعظم تحصين بحيث لا يستطيع أحد مهاجمتهم وفاوض الدكتور المذكور حكومة عبد الحميد في ذلك ولم ينجح فعهدت الجمعية الصهيونية إلى الايكا بالاستعمار التدريجي كما عهد إلى جمعية الاتحاد الاسرائيلي (اليانس اسرائيليت) بالتهذيب والتعليم وبقيت تعمل على جمع المال وتوحيد كلمة اليهود وإقناع رجال الحكومة الدستورية بحسن مقاصدها.
نعم إن الجمعية الصهيونية اليهودية ورفيقاتها جمعيات ايكا وفاعوليم واليانس وغيرها ساعيات في استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من ارميا من الكتاب المقدس الباحث عن أسر بابل لليهود والذاكر وعد الرب برجوعهم إلى فلسطين بقوله في آخره:
يشترون الحقول بفضة ويكتبون ذلك في صكوك ويختمون ويشهدون شهوداً في أرض بنيامين وحوالي أورشليم وفي مدن يهودا ومدن الجبل ومدن السهل مدن الجنوب لاني أرد سبيهم يقول الرب وذلك بعد ما سبتهم حكومة الكلدان على أنهم لم يستطيعوا البقاء من بعد ذلك لأنهم أصبحوا محل التنازع بين حكومة الرومان في مصر وحكومة الرومان في أنطاكية ثم انقرضوا ولم يبق لهم ملك ولا دولة والآن عملاً بهذه الآية يشترون الأراضي في فلسطين على حساب الفضة ويشرطون البيع على أن يكون الثمن فضة ويكتبون الصكوك ويشهدون وهكذا تراهم لا يفتررن طرفة عين وهم يتجسسون الأخبار عن الذين تأخرت حالتهم المالية من أهل هذه البلاد وهي عبارة عن لواء عكاء بأجمعه ولواء القدس ولواء نابلس وقسم من لواء الكرك وبعض من قضاء عجلون ويطمعون البائع بالثمن الفاحش ويكتبون الصكوك ويشهدون عليها ويسجلونها عند محرر المقاولات وعند بعض القنصليات وكانت الحكومة قبلاً منعت استعمارهم ولكن بما بذلوه من الدنانير التي تسحر الباب الخائنين من الحكام والمستخدمين استطاعوا أن يستولوا على ثلاثة أرباع قضاء طبرية ونصف قضاء صفد وأكثر من نصف قضاء يافا والقدس والقسم المهم من نفس حيفا(61/32)
وبعض قراها واليوم يسعون للدخول إلى قضاء الناصرة ليستولوا على سهل شارون ويزرعيل المذكور بالتوراة والمعروف اليوم بمرج بني عامر الذي يشقه الخط الحجازي من الغرب إلى الشرق وكل ذلك بأسماء العثمانيين وبدلالة سماسرتهم الخائنين الذين يعدون أنفسهم من سراة القوم وأمجاد البلاد وهكذا اشتروا الكثير من القرى واستولوا عليها وهم لا يخالطون العثمانيين ولا يشترون منهم شيئاً ولهم بنك أنغلو فلسطين بقرضهم بفائدة لا تتجاوز الواحد في المائة في السنة وقد جعلوا كل قرية إدارة فيها مدرسة وكل قضاء مديرية ولكل جهة مدير عام ولهم راية لونها أزرق وفي وسطها خاتم سليمان وتحته كلمة عبرانية معناها صهيون لأنه جاء في التوراة أن أورشليم ابنة صهيون ويرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم ويترنمون بالنشيد الصهيوني وقد احتالوا على الحكومة فقيدوا أنفسهم عثمانيين في سجل النفوس كذباً وبهتاناً وهم لا يزالون حاملين الجوازات الأجنبية التي تحميهم وعندما يصيرون إلى المحاكم العثمانية يظهرون جوازاتهم ويدعون الحماية الأجنبية ويحلون دعاويهم واختلافاتهم فيما بينهم بمعرفة المدير ولا يراجعون الحكومة ويعلمون أبناءهم الرياضة البدنية واستعمال السلاح وترى بيوتهم طافحة بالأسلحة وفيها كثير من المارتين ولهم بريد خاص وطوابع خاصة وغير ذلك مما يبرهن على أنهم بدأوا بتأسيس مقاصدهم السياسية وتأليف حكومتهم الخيالية فإذا لم تضع الحكومة حداً لهذا السيل الجارف لا يمضي على فلسطين زمن إلا وتراها أصبحت ملكاً للجمعية الصهيونية ورفيقاتها أو شعبها المذكورة.
إليك بعض ما يقال في الاستعمار الصهيوني وعواقبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهو مضر باتفاق العقلاء المجردة نفوسهم عن الأغراض وهناك استعمار آخر في فلسطين والجليل وهو أقل منه خطراً ونعني به قدوم الجالية من الأوروبيين ليتخذوا هذه البلاد موطناً لهم على أن لا ينسوا مساقط رؤوسهم ويظلوا من تبعة دولهم كالألمان في يافا وحيفا مثلاً.
فقد أتت عشرات من الأسرات الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونزلت في ذيلك البلدين فارة بدينها من ألمانيا إلى هذه الأرض المقدسة وهي من طائفة حرة اسمها شيعة الهيكليين أو أحباب أورشليم أنشئت سنة 1862 في إمارة ورتمبرغ في ألمانيا عقيب(61/33)
الحركة الدينية التي أحدثها هوفمان الذي ذهب إلى أن الرأي الحالي في دين النصرانية لا يكون سبيلاً إلى أن يحيا المتدينون بها حياة مسيحية حقيقية فأخذ أشياعه على أنفسهم أن يقيموا ملكوت الله في الأرض بأن يبدؤوا بذلك من أرض الوعد ومنها ينبثون في أوروبا ليجددوا حياة الكنيسة والمجتمع وهم يفسرون نبوات العهد القديم تفسيراً حسناً فشرعوا سنة 1868 بإنشاء مستعمرة في حيفا وفي الوقت نفسه أنشأوا مستعمرة لهم في يافا ولهذه الطائفة الآن أربع مستعمرات يناهز سكانها 1300 وقد ساعدت على استعمار البلاد وفتحت للألمان باب التدخل في شؤوننا أحياناً.
ولو عقل من يساكنون هؤلاء الألمان من أهل حيفا ويافا لقلدوهم في نشاطهم وتنظيم بيوتهم وحدائقهم، زر حي الألمان أو مستعمرتهم في الشمال الغربي من حيفا وألق عليها نظر المتدبر تجدهم لا يزيدون عن سبعمائة نسمة ولهم مدرستان ومعبدان، سرح رائد الطرف في تلك الطرق المعبدة المنسقة والبيوت القائمة على نظام واحد تحيط بها الحدائق الصغرى الغاصة بكل غض ويانع المستوفية شروط المرافق والمنافع وتعال معي بعدها ننظر إلى ما في جوارها من بيوت الوطنيين وأحيائهم فماذا تجد؟ تجدها بؤرة الأوساخ ومثال الخلل ونموذج الاتكال وراموز الجمود والخمود، طف واعتبر بيناتهم العاملات وبناتنا الخاملات ثم أنصفنا وأنصفهم منا، هل نرى رجالنا في اقتدارهم على مستوى بناتهم في تربيتهن ونشاطهن، أما التنظير بين رجالنا ورجالهم فهذا لا يقول به حتى أضيق الناس عقلاً.
شرذمة من المطرودين من بلادهم نزلوا بلادنا فقراء معدمين لا يملكون غير مضائهم وبعض حرف يحسنونها فساعدهم بعض موسريهم على ابتياع عشرات من الأفدنة من أرض بلادنا فعمروها كما ترى على النسق الألماني ولم تمض بضع سنين حتى وفوا بنشاطهم ديونهم وأثروا ولا إثراء ابن البلاد الذي ورث مئات الأفدنة وأصبحوا يغبطون حتى من كبار أغنيائنا ونحن من أمرهم حائرون باهتون لا نعمل ولا نتحرك كأن الفتور قد كتب علينا والغرور مسجل في صحائف حياتنا وكأنهم خلقوا من طينة غير طينتنا وعقل يستحيل علينا أن نلحق شأوه.
ولا ننس تلك الحديقة التي زرناها في المستعمرة الألمانية في حيفا وقد تجلى لنا فيها المضاء الغربي في أجلى مظاهره حتى لظننتنا في حديقة من حدائق فرنسا أو ألمانيا،(61/34)
حديقة لا تبلغ مساحتها فداناً دمشقياً وفيها معظم ما يجود في الأرض الحارة من صنوف البقول والأشجار جعلت مساكب وقسمت طرقاً وقد قيل لنا أن دخل صاحبها منها لا يقل عن خمسين ألف قرش في السنة فلم يسعنا إلا أن نقول سبحان الله السر في السكان لا في المكان، نعم السر في السكان ولا عجب إذا رأينا الألمان في مقدمة دول الأرض بعلومهم وصناعتهم وإحصائهم في الفنون وعندهم مثل هذا الشعب النشيط الذي يعلم بعمله أهل النشاط من الأمم دروساً سامية فما بالك به مع الخاملين.
وعلى ذكر حيفا لا بأس بإيراد نبذة موجزة من تاريخها لنسلسله إلى حالتها اليوم فنقول:
كانت حيفا قديماً تسمى قلمون وليس لها ذكر في التوراة وتاريخها القديم غامض لا شأن له، ولقد كان الساحل من نصيب قبيلة عازر ولما وصل الاسرائيليون إلى هذه البلاد لم يستطيعوا أن يستولوا على مدينة من المدن الساحلية ومن جملة الملوك الذين غلبهم جوزوي في شمالي فلسطين كان الملك جوشانان ملك الكرمل والكرمل كانت كما يقول المؤرخ بلين على الجبل المسمى باسمها وكان اسمها قديماً اكباتان وكان في جوار حيفا أو قلمون مدينة اسمها سيكامينوس أي مدينة الصبار لكثرة هذا الشجر في أرضها فكانت قلمون وسيكامينوس مدينتين متنافستين تعمر الأولى وتخرب الثانية وهكذا كانت المنافسة بينهما سجالاً إلى القرون الوسطى وقد زالت سيكامينوس من لوح الوجود أبد الدهر، فتاريخ المدينتين كما قال برنابه ميسترمان ممزوج بعضه في الآخر، ولقد روى التاريخ أن بطليموس لا يثر حاكم جزيرة قبرص بعد أن طردته أمه كليوباترا من مصر جاء سنة 104 ق. م لنجدة عكا وكان يحاصرها إذ ذاك اسكندر جانى ملك يهودا فأنزل جنده وكان ثلاثين ألفاً في مدينة سيكامينوس وفي أوائل التاريخ المسيحي لم تكن سيكامينوس ذات شأن هي وسائر المدن المجاورة لها وكانت مدينة عكا على رأي سترابون أرقى تلك البلاد وتجيء بعدها قيسارية.
وكثيراً ما يذكر اسم الكرمل وبعض المدن مثل سيكامينوبوليس وبوكولوبوليس وكروكوديبوبوليس وغيرها وذكر المؤرخ بلين أموراً كهذه، وقد ازدهرت مدينة سيكامينوس ومدينة قلمون في القرن السادس للميلاد.
ومعنى حيفا بالعبرانية الرأس أو الأرض الداخلة في البحر لأنها أنشئت في جوار الكرمل(61/35)
وهو لها معتصم وملجأ وحيفا القديمة كانت في مكان لا يبعد كثيراً عن حيفا الجديدة عرفت آثاره كما أن مدينة سيكامينوس تبين أنها على أربعة كيلومترات من حيفا القديمة وقد اكتشفت بعض آثارها وعادياتها وهي رومانية يونانية.
ولقد كانت حيفا في الإسلام من جملة الحصون المشرفة على البحر الرومي لا سيما وأنها موازية لجزيرة قبرص ولم تزل في أيدي المسلمين إلى أن تغلب عليها كوفرى الذي ملك بيت المقدس سنة 494 وبقيت في أيديهم إلى أن فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 573 (1187) وكانت حيفا من نصيب الملك تنكرد الذي أصبح أميراً على بلاد الجليل من طبرية إلى حيفا ولما سقطت عكا في أيدي الافرنج سنة 1191 خرب صلاح الدين حيفا نكاية بالصليبيين حتى لا ينالهم منها إلى الخراب، ولكن هؤلاء جددوا بنيانها ولما غادروا سورية سنة 1292 ظلت حيفا خاملة الذكر إلى أن كان القرن الثامن فاستولى عليها الشيخ ظاهر العمر كما استولى على أرض الجليل ودكها فجعل عليها سافلها ثم أعاد بناءها وبنى عليها سوراً وأنشأ له قصراً من جنوبها يطل عليها.
والظاهر عمر هذا كان من أرة بدوية اسمها بني الزيادنة ورث من أبيه الحكم على مدينة صفد واستولى على طبرية سنة 1738 وعلى عكا سنة 1749 فأصبح شيخاً على أعمال الجليل كلها وكان يميل إلى العمران بحيث يشبه بأعماله الأمير فخر الدين المعني أمير الدروز في القرن الحادي عشر للهجرة وقد تقاتل الشيخ ظاهر العمر مع أبنائه أنفسهم ثم غدر به أحد رجاله أحمد باشا الجزار واستولى على الحكومة دونه، واستولى بونابرت على حيفا سنة 1799 وبعد بضعة أيام ضربه الاسطول الانكليزي ضربة قاضية وفي سنة 1837 احتلت عساكر ابراهيم باشا المصري مدينة حيفا وفي سنة 1840 أصيبت حيفا ولا سيما حصنها بأضرار جسيمة من قذائف الأساطيل الانكليزية والنمساوية والعثمانية ومنذ غادرها الجيش المصري ظلت بلا حامية إلى المدة الأخيرة وقد جعلت قضاءً وأخذت بعض السفن التجارية ترسو فيها قليلاً فتنقل إليها البريد والبضائع وتحمل منها حبوب حوران وحاصلات الجليل وقد زادت مكانة بجعلها سنة 1320 مبدأ للسكة الحديدية الحجازية فأنشئت في ضاحيتها محطة مهمة ومعامل وأنابير فأخذت المدينة تعمر بذلك حتى كادت بما بلغته تنسي ذكر الموانئ المجاورة لها، ويقدر سكانها الآن بنحو عشرين ألف نسمة نحو(61/36)
نصفهم اسرائيليون مهاجرون لم يقيدوا في دفاتر الحكومة سوى ستمائة منهم والباقون مسلمون ومسيحيون ويقف عليها مدى السنة زهاء 300 باخرة و700 مركب ويحمل منها زهاء عشرين ألف طن من الحبوب والدرة والسمسم والزيت ويصدر إليها ما تبلغ حمولته عشرة آلاف طن من البضائع.
وماء البلد من آبار فيه بعض الملوحة وقد كان يمكنها الاستقاء من ينابيع بقربها ولا سيما من نهر المقطع أو قاديشا الفاصل بين أرض الجليل وفينيقية أو بين أرضها وأرض عكا لو صحت العزيمة على ذلك، وهواؤها جيد ومناظرها الطبيعية رائقة ويكثر فيها النخيل.
أما عكا وهي الآن مركز اللواء وقضاء طبرية وقضاء صفد وقضاء الناصرة من أعمالها وبعبارة ثانية هي قاعدة بلاد الجليل على ما أصابها من الانحطاط الشديد، ويؤخذ مما ورد في سفر القضاة أن عكو أي عكا لم تكن مدينة اسرائيلية ولم تصبح مستعمرة يهودية إلا بعد أزمان طويلة، وكان اليونان يربطون عكا بفلسطين ثم دعيت بعد باسم بطولمايس نسبة إلى أحد بطالسة مصر وربما كان بطليموس ابن لاغوس وذكر مؤلفو الرومان والنقود التي عثر عليها من عهدهم أن عكا كانت مستعمرة للامبراطور كلوديوس وكانت ذات منعة من حيث هي مدينة بحرية واستولى عليها العرب سنة 638 ففقدت إذ ذاك اسمها اليوناني.
قال ياقوت العكة الرملة حميت عليها الشمس وعكة اسم بلد على ساحل بحر الشام من عمل الأردن وهي من أحسن بلاد الساحل في أيامنا هذه وأعمرها قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري: عكة مدينة حصينة كبيرة الجامع فيه غابة زيتون يقوم بسرجه وزيادة ولم تكن على هذه الحصانة حتى قدمها ابن طولون وكان قد رأى صور واستدارة الحائط على ميناها فأحب أن يتخذ لعكة مثل تلك المينا فجمع صناع الكور وعرض عليهم ذلك فقيل له لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان ثم ذكر له جدنا أبو بكر البناء وقيل له أن كان عند أحد فيه علم فهو عنده فكتب إليه وأتي به من القدس وعرض عليه ذلك فاستهان به والتمس منهم احضار فلق من خشب الجميز غليظة فلما حضرت عمد يصفها على وجه الماء بقدر الحصن البري وضم بعضها إلى بعض وجعل لها باباً عظيماً من ناحية الغرب ثم بنى عليها الحجارة والشيد وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء وجعلت الفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد استقرت على الرمل(61/37)
تركها حولاً كاملاً حتى أخذت قرارها ثم عاد فبنى من حيث ترك وكلما بلغ البناء إلى الحائط الذي قبله أدخله فيه وحنطه به ثم جعل على الباب قنطرة والمراكب كل ليلة تدخل البناء وتجر سلسلة بينها وبين البحر الأعظم مثل صور قال فدفع إليه ألف دينار سوى الخلع والمركوب واسمه عليه مكتوب إلى اليوم قال وكان العدو قبل ذلك يغير على المراكب.
وفتحت عكا في حدود سنة 15 على يد عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وكان لمعاوية في فتحها وفتح السواحل أثر جميل ولما ركب منها إلى غزوة قبرص رمها وأعاد ما تشعث منها وكذلك فعل بصور ثم خربت فجددها هشام بن عبد الملك وكانت فيها صناعة بلاد الأردن وهي محسوبة من حدود الأردن ثم نقل هشام الصناعة منها إلى صور فبقيت على ذلك إلى قرابة أيام الإمام المقتدر ثم اختلفت أيدي المتغلبين عليها وعمرت عكة أحسن عمارة وصارت بها الصناعة إلى يومنا ذا وهي للافرنج قال ياقوت: وكانت قديماً بيد المسلمين حتى أخذها الافرنج ومقدمهم بغدوين صاحب بيت المقدس من زهر الدولة بن أمير الجيوش منسوب إلى أمير الجيوش بدر الجمالي أو ابنه وكان فيها من قبل المصريين فقصدها الافرنج براً وبحراً في سنة 497 فقاتلهم أهل عكة حتى عجزوا عنهم لقصور المادة بهم وكان اهل مصر لا يمدونهم بشيء فسلموها إليهم وقتلوا منها خلقاً كثيراً وسبوا جماعة أخرى حملوهم إلى خلف البحر وخرج زهر الدولة حتى وصل إلى دمشق ثم عاد إلى مصر ولم تزل في أيديهم حتى افتتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الأول سنة 583 وشحنها بالرجال والعدد والميرة فعاد الافرنج ونزلوا عليها وخندقوا دونهم خندقاً وجاءهم صلاح الدين ونزل دونهم وأقام حولهم ثلاث سنين حتى استعادها الافرنج من المسلمين عنوة في سابع جمادى الآخرة سنة 587 وأحضروا أسارى المسلمين وكانوا نحو ثلاثة آلاف وحملوا عليهم حملة واحدة فقتلوهم عن آخرهم، والنسبة إليها عكي وقد نسب إليها قوم وقد رسمها عماد الدين الأصفهاني في الفتح القبسي بالألف المقصورة تارة عكا وبالألف الممدودة أخرى.
وقد استولى بودوين الأول على عكا سنة 1104 م بمعونة اسطول جنوي له وجعلها الصليبيون ميناءً مهمة لا لإنزال جيوشهم بل ميناءً تجارية فكانت ترسو فيها سفن الجنويين(61/38)
والبنادقة والبيزانيين وبعد وقعة حطين سقطت عكا بيد صلاح الدين وفي سنة 1189 حاصرها من البر الملك كي دي لوزنيان ومن البحر اسطول بيزاني واستولى عليها ريشاردس قلب الأسد ملك الانكليز سنة 1191 م فأصبحت من ذاك الحين الجادة العظمى للنصرانية في فلسطين وكانت معسكر الفرسان ودعوها باسم إحدى فرقهم وكانت تدعى القديس يوحنا فقالوا عنها وفي سنة 1291 استولى عليها الملك الأشرف بعد مقاومة شديدة فقضى بالاستيلاء عليها على سلطة الافرنج من هذه البلاد، فبقيت عكا أهم ميناء ينزل فيه حجاج الغربيين إلى الأرض المقدسة وفي حوالي منتصف القرن الثامن عشر استولى الشيخ ظاهر العمر على الجليل الأسفل وعلى جزء عظيم من الجليل الأعلى واتخذ عكا مقر إمارته فعادت إليها نضرتها وخلفه في الإمارة أحمد باشا الجزار الذي وسع حدود إمارته فامتدت شمالاً إلى نهر الكلب وبعلبك وجنوباً إلى قيسارية واشتهر بمبانيه التي جلب لها المواد من عسقلان وقيسارية وغيرهما، وبدأ الفرنسيس سنة 1799 يحاصرون عكا وبعد ثماني وقائع سألت فيها الدماء إلى الأباطح اضطر نابوليون أن يرجع عنها واستولى ابراهيم باشا سنة 1832 على المدينة فنهبت وخربت ولكنها عادت فنهضت من كبوتها وفي سنة 1840 خربت الأساطيل الانكليزية والنمساوية ثغر عكا فخرب بذلك كل أثر من آثارها القديمة ثم تعاقب الخراب الاقتصادي عليها فكانت تجارتها رائجة لأنها كانت سوق الحبوب التي ترد إليها من الداخلية ولا سيما من حوران فسقطت من هذه الوجهة خصوصاً لما قامت بعد موانئ سورية مثل بيروت وطرابلس وحيفا ويافا تنازعها في مكانتها وأنشئت سكك حديدية ربطت معظم هذه الموانئ بالمدن الداخلية وبقيت عكا في نجوة من الأرض ضعيفة في تجارتها وهاجرها كثير من أهلها ومنهم أناس من كبار تجارها وأرباب الأملاك بها.
وقفنا على سورها نطل على ثغر عكا الذي اهرقت في سبيل الاستيلاء عليها دماء غزيرة ذاك السور الذي أعجز بمناعته صلاح الدين وجيوشه وتدبيره فارتد عنها غير ما مرة وأهرق الصليبيون دماءهم في بسط أيديهم عليها ثم زحزحوا عنها بعد وقائع تشيب لهولها الرؤوس وهكذا طمح فيها الفاتحون لأنهم كانوا يعتبرونها مفتاح سورية، ولطالما كانت عكا ترمي من برها وبحرها بالقذائف والنيران وكانت مجزرة يهلك فيها الإنسان.(61/39)
وقفنا على أسوارها ننظر إلى المدينة التي أعجزت الملك الناصر والملك الظاهر بونابرت ونتأمل في أرباضها القاحلة اليوم وكم جثة دفنت فيها وفي بحرها وهو يحدجها بعينه الزرقاء كم ابتلع من أسطول بما فيه، وقفنا وفكرنا ملياً في حال البشر يقتتلون على بسط سلطانهم وتكبير رقعة بلدانهم ويرتكبون كل منكر في سبيل المجد والفخار رأيناهم في القديم يقتتلون بحجة دينية واليوم هم كذلك ولكن حجتهم مدنية وإنسانية وما المقصود في الواقع ونفس الأمر إلا الاستيلاء والتغلب وتوسيع نطاق الحكم والسلطان.
فوقفنا على أسوار عكا نندب في نفسنا الضعف البشري وقد استولى على النفس جلال ذلك البلد وذكرنا أرواح الخلق تباع في كل عصر بيع السماح ولو أردنا أن نأتي هنا على لمعة من تاريخه لاقتضى له مجلد برأسه، وهاك الآن نموذجاً واحداً بما جرى لأجلها في القرون الوسطى قاله أبو الفدا حاضرها بنفسه: إن السلطان الملك الأشرف سار بالعساكر المصرية إلى عكا وأرسل إلى العساكر الشامية وأمرهم بالحضور وأن يحضروا صحبتهم المجانيق فتوجه الملك المظفر صاحب حماة وعمه الملك الأفضل وسائر عسكر حماة صحبته إلى حصن الأكراد وتسلمنا منه منجنيقاً عظيماً يسمى المنصوري حمل مائة عجلة ففرقت في العسكر الحموي وكان المسلم إلي منه عجلة واحدة لأني كنت إذ ذاك أمير عشرة وكان مسيرنا بالعجل في أواخر فصل الشتاء فاتفق وقوع الأمار والثلوج علينا بين حصن الأكراد ودمشق فقاسينا من ذلك بسبب جر العجل وضعف البقر وموتها بسبب البرد شدة عظيمة وسرنا بسبب العجل من حصن الأكراد إلى عكا شهراً وذلك مسير نحو ثمانية أيام للخيل على العادة وكذلك أمر السلطان الملك الأشرف بحر المجانيق الكبار والصغار ما لم يجتمع على غيرها واشتد عليها القتال ولم يغلق الافرنج غالب أبوابها بل كانت مفتحة وهم يقاتلون فيها وكان يحضر إلينا مراكب مقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس وكانوا يرموننا بالنشاب والجروخ وما زالوا بها حتى فتحت وكان في داخل البلد عدة أبرجة عاصية بمنزلة قلاع دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها وقتل المسلمون وغنموا من عكا شيئاً يفوق الحصر من كثرته ثم استنزل السلطان جميع من عصى بالأبرجة ولم يتأخر منهم أحد فأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكا ثم أمر بمدينة عكا فهدمت إلى الأرض ودكت دكا ومن عجائب الاتفاق أن الفرند استولوا على عكا وأخذوها من صلاح(61/40)
الدين ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة واستولوا على من بها من المسلمين ثم قتلوهم فقدر الله عز وجل في سابق عمله أنها تفتح في هذه السنة (690) في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة على يد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين فكان فتوحها مثل اليوم الذي ملكها الفرنج فيه وكذلك لقب السلطانيين.
وهذا القول ينبئك بمكانة عكا واغتباط المؤرخ باستخلاصها من الأعداء، ومن مدن الجليل صفد ولم يتيسر لنا زيارتها للأمطار المتهاطلة ولموقها في قمة جبل وهي ترى من طبرية وعلى بضع ساعات منها ومعظم سكانها يهود وبعض المسلمين من مهاجرة الجزائر وليس في أهلها العريق فيها للسبب الذي أورده أبو الفدا في حوادث سنة 664 قال وفي هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية وسار إلى الشام، وجهز عسكراً إلى ساحل طرابلس ففتحوا القليعات وحلبا وعرقا ونزل الملك الظاهر على صفد ثامن شعبان وضايقها بالزحف وآلات الحصار وقدم إليه وهو على صفد الملك المنصور صاحب حماة ولاصق الجند القلعة وكثر القتل والجراح في المسلمين وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان ثم قتل أهلها عن آخرهم.
ولقد كانت صفد في القرن السابع مملكة يقال لها مملكة صفد ومضافاتها وصفد حصن بقبة جبل كنعان في أرض الجرمق كان قرية فبني مكانها حصن سميت صفت ثم قيل صفد وهو حصن منيع وكان بها طائفة من الفرنج يقال لهم الداوية فحصرهم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي وفتحها وقتل كل من فيها على رأس تل بالقرب منها ثم رممها وبنى في وسطها برجاً مدوراً سماه قلة ارتفاعه في السماء مائة وعشرون ذراعاً وقطره سبعون ذراعاً وإلى سطحه طريقان يصعد في الطريق إلى أعلاه خمسة أفراس صفاً بلا درج في ممشى حلزوني وهو ثلاث طبقات أبنية ومنافع وقاعات ومخازن وتحته كله بئر للماء من الشتاء يكفي لأهل الحصن من الحول إلى الحول أشبه بمنارة اسكندرية وبهذا الحصن بئر تسمى الساقورة وعمقها مائة وعشرة أذرع في ستة أذرع بذراع النجار والدلاء التي لها بتاتي من الخشب تسع البتية نحو قلة من الماء وهم بتيتان في حبل واحد يسمى سرباق كغلظ زند الإنسان وكلما وصلت بتية إلى الماء وصلت الأخرى إلى رأس البئر وكلما وصلت واحدة إلى رأس البئر وصلت الأخرى إلى الماء وعلى رأس البئر ساعدان من(61/41)
حديد بكفين وأصابع تتعلق الأصابع في حافة البتية الملآنة وتجذبها الكفان فينصب الماء في حوض يجري فيه إلى مقر، فإذا انصب الماء من البتية حصل القصد والجاذب لهاتين البتيتين مرمة هندسية بقسي ودوائر وحركات ولا يزال ذلك السرباق راكباً على بكرته طرداً وعكساً يمنة ويسرة وحول المرمة بغال معلمات تدور بذلك فإذا سمع البغل الدائر خرير الماء وجر السلسلة انقلب راجعاً على عقبه ودار يمشي في مرتبته بخلاف ما كان يمشي إلى أن يسمع خرير الماء وجر السلسلة فينقلب دائراً على خلاف دورته كذلك وهي من أعاجيب الدنيا فإذا وقف واقف وتكلم كلمة واحدة في رأس البئر سمع رجع صوته بتلك الكلمة نازلاً نحو لحظة جيدة حتى يبلغ الماء ثم يعود إليه فيسمعه كما قالها فإن صاح وغلب سمع دوياً واضطراباً بذلك الصياح كالرعود لبعد الماء وعمقه، ومن أعمال صفد مرج عيون وأرض الجرمق وهي مدينة قديمة عادية كانت بها طائفة من العبرانية ينسبون إليها يقال لهم الجرامقة والكنعانيون بوادي كنعان ابن نوح ومن عملها جبل بقيعة وبه قرية يقال لها البقيعة لها أمواه جارية ولها سفرجل مليح وبه قرى كثيرة الزيتون والفواكه والكرم وجبل الزابود مشرف على صفد والزابود قرية وبها أيضاً قرى كثيرة.
وفي بلاد الجليل أو عمل الأردن قرى دائرة ذكر بعضها ياقوت في معجمه مثل (كفرسبت) وهي قرية عند عقبة طبرية و (كفرعائب) وهي قرية على بحيرة طبرية من أعمال الأردن ذكرها المتنبي فقال:
أتاني وعيد الأدعياء وإنهم ... أعدوا لي السودان في كفر عاقب
ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم ... فهل في حدي قولهم غير كاذب
ومثل (كفرمندة) قرية بين عكا وطبرية بالأردن يقال لها مدين المذكورة في القرآن والمشهور أن مدين في شرقي الطور وفي كفرمندة قبر صفوراء زوجة موسى عليه السلام وبه الجب الذي قلع الصخرة من عليه وسقى لهما والصخرة باقية هناك إلى الآن (عصرياقوت) وفيه ولدان ليعقوب يقال لهما أشير ونفتالي
و (دبورية) بليد قرب طبرية من أعمال الأردن قال أحمد بن منير
لئن كنت في حلب ثاوياً ... فنجني الغبير بدبورية
و (ديرالتجلي) على الطور زعموا أن عيسى عليه السلام علا عليهم فيه و (خيارة) قرية(61/42)
قرب طبرية من جهة عكا قرب حطين بها قبر شعيب النبي عليه السلام عن الكمال بن العجمي و (عفربلا) بلد بغور الأردن قرب بيسان وطبرية و (الصنبرة) موضع بالأردن مقابل لعقبة أفيق بينه وبين طبرية ثلاثة أميال كان معاوية يشتو بها و (أربد) بالفتح ثم السكون والباء الموحدة قرية بالأردن قرب طبرية عن يمين طريق المغرب بها قبر أم موسى بن عمران عليه السلام وقبور أربعة من أولاد يعقوب عليه السلام وهم وإن وايسا جار وزبولون وكاد فيما زعموا و (اسكندرونة) قال ياقوت وجدت في بعض تواريخ الشام أن اسكندرونة بين عكا وصور و (اكسال) قرية من قرى الأردن بينها وبين طبرية خمسة فراسخ من جهة الرملة ونهر أبي خطرس لها ذكر في بعض الأخبار كانت بها وقعة مشهورة بين أصحاب سيف الدولة بن حمدان وكافور الإخشيدي فقتل أصحاب سيف الدولة كل مقتلة و (معليا) من نواحي الأردن بالشام و (الزيب) قرية كبيرة على ساحل بحر الشام قرب عكا و (صفورية) كورة وبلدة من نواحي الأردن بالشام وهي قرب طبرية و (الأقحوانة) موضع بالأردن من أرض دمشق على شاطئ بحيرة طبرية حدث هشام بن الوليد عن أبيه قال خرج قوم من مكة نحو الشام وكنت قيمهم فبينما نحن نسير في بلاد الأردن من أرض الشام إذ رفع لنا قصر فقال بعضنا لبعض لو ملنا إلى هذا القصر فأقمنا بفنائه حتى نستريح ففعلنا فبينما نحن كذلك إذ انفتح باب القصر وانفرج عن امرأة مثل الغزال العطشان فرمقها كل منا بعين وامق وقلب عاشق فقالت: من أي القبائل أنتم ومن أي البلاد قلنا: نحن أضاميم من هنا وهناك فقالت أفيكم من أهل مكة قلنا: نعم، فأنشأت تقول:
من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن
وإن قصري هذا ما به وطني ... لكن بمكة أمسى الأهل والوطن
إذ نلبس العيش صفواً ما يكدره ... قول الوشاة وما ينبو به الزمن
من كان ذا شجن بالشام ينزله ... فبالأباطح أمسى الهم والحزن
ثم شهقت شهقة وخرت مغشية عليها فخرجت عجوزة من القصر فنفخت الماء على وجهها وجعلت تقول في كل يوم لك مثل هذا مرات تالله للموت خير لك من الحياة فقلنا أيتها العجوز ما قصتها فقالت: كانت لرجل من أهل مكة فباعها فهي لا تزال تنزع إليه حنينا وشوقاً.(61/43)
هذا ما تيسر نقله مما تأثرت به النفس في رحلة قصيرة إلى تلك الكورة في الشهر الماضي، ولو وفق أهالي عكا إلى تحقيق ما يفكرون به ويلتمسونه من الحكومة من إلحاق لوائهم بولاية سورية لأصبحت مدينتهم أو حيفا ميناءً مهمة لدمشق ومورد التجارات من أوروبا ومصدر الغلات من بلادنا ولعاد لبلاد الجليل بهاؤها القديم ولما أضر ذلك بعمران بيروت وطرابلس ضرراً يذكر إذ كل بلد ينال إذ ذاك حظه من الرقي، وقد كان الفكر الشائع يوم بوشر بمد شعبة من السكة الحجازية من حيفا أن تسقط بيروت عن مكانتها التجارية فرأيناها بعد أن تم ذلك الخط قد زادت بيروت مكانة ولم يغادرها من التجار إلا أفراد قلائل وعمرت حيفا بعض الشيء وإذا جعلت لهذه ميناء ترسو فيها السفن آمنة كما هي الحال في بيروت ترتقي أيضاً زيادة ولا تضر بغيرها.
والعمران كالثروة لا يحلو وينفع إلا إذا كان موزعا بين البلاد على التساوي وحبذا يوم يكون فيه لكل ميناء من موانئ سورية صغيرة كانت أو كبيرة مرفأ أمين للسفن وخط حديدي يصلها بالبلاد الداخلية ولو بخطوط زراعية ضيقة يومئذ يقال أن سورية دخلت في دور العمران.(61/44)
أخبار وأفكار
اللبن الرائب
كتب الأستاذ متشنكوف بحثاً في مجلة من المجلات الفرنسوية أبان فيه مزايا اللبن الرائب أو الحامض في معالجة بعض الأمراض افتتحها بقوله إن الناس كانوا يفزعون من الهواء الأصفر ويموتون منه ألوفاً أيام لم يكن كوخ قد اكتشف ميكروباته فلما اكتشفها سهلت على الناس الوقاية فصاروا يتخيرون المياه الجيدة فينجون منه ومن لم تساعدهم الحال على استجادة المياه كأهالي بطرسبرج عمدوا إلى غلي الماء فنجوا من فتكات هذا المرض الوبيل ومثل ذلك يقال في جراثيم الطاعون والحمى وغيرها من الأمراض فغنها لما ظهر السبب فيها بطل العجب وذكر أنه جرب وجرب كثيرون فوائد اللبن الرائب للمصابين ببعض أمراض المعدة فثبتت فائدتها كل الثبوت في المستشفيات والمصاح ونفع في الحمى التيفوئيدية أيضاً وقال أن في أحشائنا جراثيم سامة لا يقتلها إلا حامض اللبن وأنه جرب ذلك منذ 12 سنة في نفسه وكان في الثالثة والخمسين من عمره فامتنع عن جميع المشروبات الروحية واقتصر على الماء واللبن الرائب والشاي الخفيف والطعام المطبوخ وامتنع عن كل ما هو نيء فجادت صحته على كثرة مشاغله وبعدت همته بحيث يعمل ساعات طويلة عملاً متواصلاً بدون أن يعروه ملل بذلك فهو يوصي الشبان أن يجروا على طريقته في تناول الألبان الحامضة إذ تساعدهم سنهم على الانتفاع منها وربما أطالت حبل آجالهم كما وقع لحائك عمره مئة وثلاث سنين بحثوا عن معيشته فرأوه على اقتصاده في مأكله يتناول بكثرة الملفوف المختمر وفيه شيء من الحامض اللبني والخلاصة فإن الأستاذ المشار إليه يضرب منذ سنين على هذا الوتر من بيان منافع اللبن وقد وافقه الآن على رأيه بعد التجارب الطويلة كثير من أطباء الروس والبولونيين والألمانيين والفرنسويين وغيرهم ولا يبعد أن يؤثر صوته فيدخل اللبن الرائب على الطريقة العربية والتركية والمصرية والبلغارية إلى بلاد لم يكن يدخلها من قبل بفضل هذا التنويه به.
الطباعة
كانت البعثة الأثرية الإيطالية عثرت في جزيرة كريت منذ سنين على إطار من التراب مكتوب عليه كتابة مدورة فثبت لها أن تاريخها يرد إلى سنة 1600 قبل المسيح وقد(61/45)
توصل العلماء الآن إلى حلها بعض الشيء فتبين لهم أنها تقرأ من اليمين إلى الشمال وهي عبارة عن نشيد للصلاة وأنها أشبه بالخط الهيروغليفي أو المسند المصري وأنها أول أثر مطبوع ظفر به مما دل أن الطباعة في شواطئ البحر الرومي قديمة كما كانت في الصين.
الرهبنات
روت المجلة الباريزية أن عدد الرهبنات الدينية التي وقفت أنفسها على بذل الإحسان ومعاونة البائس من نوع الإنسان ما برحت آخذة بالانتشار في ألمانيا وقل عدد البرتستنتية منها فلرهبنة الدياكوني أو الشماسية 84 ملجأ منها 54 في ألمانيا والباقي في غيرها وهي مؤلفة من 2500 أخ و25000 أخت إلا أنه قل في العهد الأخير انخراط النساء في هذا السلك لأنه قل الاعتماد عليهن في المستشفيات كما كان سابقاً ولكن يزيد عدد من يمرضن المرضى في بيوتهم عن ذي قبل والرهبنات الكاثوليكية تنمو أكثر من غيرها فقد كان في بروسيا منذ 25 سنة 746 ملجأ فيها 7000 أخ وأخت فغدت سنة 1907 2113 ملجأ أعضاؤها ثلاثون ألفاً منهم أربعة آلاف أخ وستة وعشرون ألف أخت أي أن الرهبنات الكاثوليكية قد زاد عددها أربعة أضعاف.
قتلى الالكحول
أعظم المسائل الاجتماعية التي يتعاورها أرباب البحث والنظر في الغرب مسألة انتشار الالكحول بين الجمهور حتى أنهم حسبوا ما عند فرنسا من أماكن لبيعها فبلغت 477000 يصيب كل ثمانين نسمة منها محل واحد أو محل لكل ثلاثين بالغاً ومعظمها من الخمور القتالة المزورة وكل يوم يفتح في فرنسا ستة أماكن للبيع بحيث تهلك هذه الأمة عما قريب إذا لم تنظر في أمرها وبذلك تشوهت الخلق وضعفت الأجسام حتى اضطرت الحكومة أن تترك كثيراً من الذين دعتهم لحمل السلاح لعدم اقتدارهم عليه وكثر عدد المنتحرين فزاد عددهم أربعة أضعاف ما كان عليه قبل أربعين سنة وكذلك عدد المجانين وزادت الجرائم حتى قدروا أن ثلثي المجرمين هم من السكيرين أو من أبناء السكيرين، والأمة هناك تحارب الالكحول كما تحارب الأعداء بماتتوفر على نشره من الكتب والرسائل والنشرات والمجلات والجرائد والمحاضرات والخطب ولا بد أن توفق إلى تقليل وطأتها كما وفقت سويسرا وغيرها من الممالك الصغرى.(61/46)
آثار مصرية
اكتشفت بعثة ألمانية في مصر الوسطى في الحفريات التي قامت بها في مكان اسمه أبو صير الملك كثيراً من الأواني والمدى المعمولة من الصوان والعظام والعاج المنحوت وتاريخ هذه الذخائر يرد إلى زمن عرف فيه التاريخ أي سنة 2500 قبل الميلاد.
الآداب الانكليزية
منح أحد نبلاء بريطانيا عشرين ألف جنيه لكلية كمبردج في انكلترا لتؤسس بها درساً في الآداب الانكليزية تسميه درس الملك ادوارد السابع، وأنشأوا في انكلترا جمعية دخلها الناس في كل البلاد التي يتكلم فيها بالانكليزية غايتها إشراب القلوب حب الشعر إذ ثبت أن المدنية المادية الحالية لا تحلو إلا إذا احتفظ الناس فيها بالخيال في الحياة.
معهد كارنيجي
أفاد لسان البرق أن المستر كارنيجي الغني الأميركي الشهير قد تبرع بعشرة ملايين دولار أخرى للمعهد الذي أنشأه على اسمه في نيويورك فبلغ مجموع ما تبرع به من ماله خمسة وعشرين مليون ريال اميركي فأكرم بامة فيها مثل هذا الكريم وببلاد تخرج مثل هذا الغني الذي لا يكاد يصدقه ابن الشرق لولا صدوره عن قوم لا يتكلمون إلا عن عقل ولا يميلون لغير المحسوسات، أما هذا المعهد الذي احتفل مؤخراً بافتتاحه فليس له نظير في العالم وسيكون له شأن كالمجمع العلمي الذي أنشأه باستور على اسمه في مدينة باريز، ومعمل باستور يعني خاصة بعلم الجراثيم (بكتريولوجي) والمعالجة بالمصل والكيمياء الحيوية والأمراض السارية أما معهد كارنيجي فهو ضرب من ضروب المستشفيات العجيبة لا يقبل فيه إلا المرضى الذين تخلى عن طبهم الأطباء وقطعوا بأنهم أقرب إلى الموت منهم إلى الشفاء وهو قصر عظيم جداً يذكر بأعظم قصور ملوك الشرق الأقدمين وفيه من مظاهر الرفاهية والراحة والجمال أحسن ما أبرزته عقول الغربيين وهو يطل على نهر فتشرف النفوس من ورائه على مناظر تأخذ بمجامع القلوب وهو مؤلف من إحدى عشرة طبقة يصعد إليها بمصاعد وأدراج واسعة وفيها ردهات وغرف وحجر فسيحة، وليس طول الغرف الخاصة بالمرضى أكثر من 16 متراً وعرضها 8 أمتار وفي كل واحدة منها سبع سرر فقط وليس للغرف زوايا وقرن بل هي أبنية مدورة ذات قباب وذلك حتى لا يعلق(61/47)
الغبار زواياها على أن العناية في النظافة ليس وراءها غاية فالبيوت تفتح من تلقاء نفسها بمجرد مس الذراع أو الرجل أو الركبة لها مساً خفيفاً وبذلك لا ينال الأيدي شيء من الجراثيم وهناك محل عظيم لمداواة المرضى بالماء البارد والتغير الجسماني وآخر للتصوير الشمسي ورابع للراديوم وللمستشفى خزانة كتب عظيمة جعلت تحت أمر أطباء المحل وتلامذتهم وله أناس موظفون للخدمة والإشراف على الأعمال وكلهم من خيرة القوم وسيأتي على هذا المعهد العلمي الإنساني يوم نسمع بالاختراعات والاكتشافات التي تتم فيه بفضل تلك العقول الراجحة التي اجتمعت تحته وانقطعت إلى خدمة الإنسانية فيه بفضل المحسن الأميركي وبيض أياديه.
قراءة الدماغ
بعد أن أتقن الغربيون علم قراءة الأفكار بالتنويم المغناطيسي قام اليوم أحد علماء الانكليز بعد البحث الطويل يكتشف تركيب الدماغ الانساني ومميزاته وذلك بقياس الذهن بطرق وحسابات لا تخطئ فيمكنه أن يعرف طبقة عمل الدماغ معرفة أكيدة بالوقوف على درجة المقاومة في المجرى العصبي وذلك في الجزء الأسفل من مجموع الدماغ.
المداواة بالراديوم
أكد أحد جراحي الانكليز أنه شفى بعنصر الراديوم الذي اكتشفت منذ اثنتي عشرة سنة بعض الأمراض مثل فالج الوجه والآلام العصبية والرثية وأمراض الجلد والسرطان والصلع، وادعى طبيبان من كلية كنغبسرغ أن الراديوم يشفي من الهواء الأصفر والخناق.
وأكد أحد أطباء الروس أن الراديوم يشفي الأكمه والأعمى، وإذا تم ذلك فلا يبقى على العلم إلا اختراع دواء لإحياء الموتى تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
برابرة بوليفيا
بوليفيا أو بيرو العليا إحدى جمهوريات أميركا الجنوبية بلاد واسعة البقاع تبلغ مساحتها 1222280 كيلومتراً مع أن سكانها لا يتجاوزون 2159000 وما برحت بعض أصقاعها على حالتها من الهمجية الأولى ومن السكان الذين رآهم الرحالة هرزوك في بوليفيا الشرقية وثبت له من أخلاقهم أنهم من عنصر واحد هم وكوارايوس قبائل السيريانوس فإن هؤلاء الهمج لم يرتقوا درجة واحدة في الحضارة منذ العصر الحجري فهم يستعملون الحديد(61/48)
وأدواتهم القاطعة هي من الصدف الذي تقذف به الشواطئ وبها يقطعون وينحتون يعيشون عيش البادية في الغابات وتمتد الأصقاع التي ينزلونها إلى ريوغراند وسان ميكل إلى الشرق مما وراء ريوبلانكو، وهم لا يلبسون ثياباً وزينتهم الوحيدة عبارة عن عقد يتخذونه من أسنان القرود ومن حبوب يسلكونها في أسلاك بدون أن يخرقوها بآلة ما، وأكواخهم وقلما يأوون إليها مؤلفة من أغصان النخيل وأوراقه يدعمها جذع من الشجر وليس لهم من السلاح غير أقواس من خشب النخل طولها متران وسهام منه أيضاً طولها ثلاثة أمتار ورأسها محدد، ولا يعرف أصل هذا الشعب معرفة أكيدة.
ألمانيا وكلياتها
كان للكليات في ألمانيا خلال النصف الأول من القرن الماضي عمل عظيم في حياة تلك الأمة العقلية والأخلاقية والسياسية ففي سنة 1810 رأى فريدريك غليوم الثالث صاحب بروسيا أن تستعيض ألمانيا عن القوى المادية التي أفقدها إياها نابوليون بقوى أدبية فأسس كلية برلين ليلقي في قلوب ناشئة الأمة فكراً علمياً سليماً وبعلمهم بالكلام والمثال أن يخصوا أرواحهم للعلم وقلوبهم للوطن، ومن مجتمعات الطلبة نشأت الدعوة إلى الوحدة الألمانية وكانت ألمانيا إلى ذاك العهد مقسمة إلى إمارات مشتتة الكلمة ضعيفة السلطان تفادى الطلاب في هذا السبيل بكل عزيز ولطالما جنحوا إلى الثورات وقتلوا وقتل منهم في سبيل تأييد دعوتهم، فمن الكليات نشأت الانقلابات الكبرى في الفلسفة والدين والعلم وكان الألمان إلى ذاك العهد أمة فكر وشعر يقولون في أنفسهم أنهم تركوا البر لجارتهم (فرنسا) تنصرف فيه على ما تشاء والبحر لأخرى (انكلترا) تعمل ما تريد ولم يبق لهم إلا الاحتفاظ بالسماء وهي منزل العقل، وهذه الوحدة السياسية التي كان يراها بعضهم من الخيال قد تحققت في العلم والعمل بفضل الكليات التي كانت مركز الحياة الوطنية، وأنا إذا صرفنا النظر عن أهل الأدب والصناعات نجد جميع كبار الرجال في ألمانيا من أساتذة تلك الكليات، ولما نضجت الأفكار على تلك الصورة قام بسمرك قبيل الحرب الألمانية الفرنسوية ووحد بين تلك الإمارات وعلم أولئك العاملين أن النشرات والدعوات تعمل إلى حد محدود ولا بد لتحقيق الغرض بعد ذلك من النار والبتار، انتهى عمل الكليات السياسي سنة 1870 ولكنها ظلت صاحبة الحق في حفظ تراث الأجداد وقديم الأمجاد فهي التي تعلم الناس التجديد ولكن(61/49)
مع النظر إلى القديم أبداً.
كان في أواخر القرن التاسع عشر ثلاثة أنواع من الكليات في أوروبا الكلية الانكليزية التي هي أصل الكلية الاميركية والكلية الفرنسوية والكلية الألمانية التي اقتبست أسلوبها بلاد السكندياويين أو الدنمارك وأسوج ونروج وروسيا إلا قليلاً.
فالكلية الانكليزية تقرب من نسق القرون الوسطى لا علاقة لها مع الحكومة بل هي مستقلة في إدارة شؤونها ومداخيلها وأساتذتها وتقصد إلى التربية العلمية بل إلى التهذيب العام الذي يجب للمهذب أن يكون له منه نصيب، أما الكلية الفرنسوية فهي تابعة للحكومة مباشرة على نحو ما أراد معدل نظامها نابوليون الأول وغايتها إعداد الطلبة لأن يتعلموا ما ينفعهم في ميدان الحياة الاستقلالية والكلية الألمانية نشأت بين الكليتين الانكليزية والفرنسوية فأخذت من هذه ومن تلك.
والغاية منها أن لا تخرج علماء صرفاً ولا رجال صناعات ممتازين بل أن تهذب طلابها تهذيباً يتيسر لهم معه أن يستعدوا لدخول المجتمع والتصدر فيه فليست الغاية إذاً أن تخرج تلك الكليات أساتذة وحكاماً ورجال دين للحكومة ولا أن تعد محامين وأطباء للأمة بل أن تعلمهم تعليماً علمياً وتلقنهم الخطة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها وتطلعهم على أساليب البحث والنقد والتقوى فيهم أخلاق العلماء كالعفة وخلو الغرض وسعة الفكر وتلقنهم شيئاً من العلوم المساعدة وأن ينظروا نظرة إجمالية في الميدان الذي يجب عليهم أن يجروا فيه وبالجملة تؤهلهم إلى أن يتموا هم بأنفسهم ما بدأ به أسلافهم، فالطالب المتخرج من كلية ألمانية يتعلم ما هو العلم إذا اقترن بعلم خاص فلا يكتفي بشهادة ينالها فيحق له بها أن يقضي أو يشفي أو يعلم أو يلقن الذين لمواطنيه بل يقضى عليه أن يتمرن سنة في الفرع الذي يريد الإخصاء فيه ثم يقدم فحصاً بعد أن تكون المدرسة قد أعدته للنظر الإجمالي في الحياة العلمية، ولرجال الدين والأساتذة والمحامين والقضاة والموظفين والأطباء في ألمانيا الذين يتخرجون من الكليات طبقة خاصة ومنزلة سامية بين قومهم لا ينالها إلا الضباط لأسباب خاصة ولكن الصيارف والتجار وأرباب الصناعات والأملاك مهما بلغوا من الغنى والذكاء والاعتبار وخدموا المصلحة العامة فهم دون أولئك الذين تخرجوا من الكليات بمنزلتهم، وتناغي القوم في الأعمال الحرة علم طبقات الأمة الألمانية أن أرباب الصناعات(61/50)
والتجارات وغيرهم من طلاب المال والغنى لا يعيشون مهما بلغوا من الذكاء إلا للثروة ولذلك تكون منزلتهم في الأنظار دون العاملين بأفكارهم وعقولهم.
يقولون أن العلم لا ينجح إلا بإطلاق الحرية للمتعلم يتعلم على ما يشاء وللمعلم يعلم كما يشاء وهذا موجود في الجملة في الكليات الألمانية فإن الأستاذ وإن كان أمر تعيينه يرجع إلى الحكومة وتتحكم هذه في اختيار من يعرضون عليها فهو لا يعيش من رواتب تؤديها إليه الحكومة بل أنها تدفع له جزءاً صغيراً والباقي يتكفل به الطلبة فيدفعون أجور الدروس التي يحضرونها والطلبة لا يفحصون آخر السنة بل هم أحرار وعمدة الكليات مستقلة تدبر شؤونها بذاتها وينظر في انتخاب الأستاذ إلى قيمة ما يحسنه من العلم لا إلى ما يمتاز به من صفات التعليم مثل جودة الإلقاء وسهولته والمعلم لا يتعب في إلقاء دروسه لأنه يعلم تلاميذه بالعلم أكثر من النظر.
وفي ألمانيا طبقة من الأساتذة مستقلة عن الحكومة كل الاستقلال ولهم الحق أن يدرسوا في الكلية التي يريدونها ويقبضوا من طلبتهم أجور دروسهم ويختاروا موضوعات مسامراتهم ومحاضراتهم ويشرعون وينتهون من دروسهم في الأوقات التي يختارونها وترى الطالب في الكلية لا يحتاج لشيء سوى أن يدفع المخصص لها وسواء حضر أم لم يحضر تعلم أم لم يتعلم لا يسأل عن عمله ويكاد لا يفحص إلا في بعض المواد القليلة كما أنه حر في الدروس التي يختارها.
يعلم الألمان أن إطلاق الحرية للطالب على هذا النحو لا يخلو من حمله على الكسل ولكن يرون أن لها فوائد أخرى فإن الطالب يكون قد قضى في المدارس الابتدائية والوسطى نحو عشر سنين تابعاً لنظامها المدقق حتى إذا بلغ العشرين أو نحوها كان حرياً في الحلية أن يتعلم كيف يعمل بنفسه ويحبب إليه عمله بدون سائق يسوقه وكيف يوجه وجهته ويحدد رغبته في التعلم فيعمل على ذوقه برضاه لا مدفوعاً بسائق فحص يجب عليه أن يتخطاه، فالكلية الألمانية تضمن للطالب فيها تهذيب العقل من جهة وتربية الإرادة والخلق من جهة أخرى وذلك بإطلاقها حرية طالبها فنعامله معاملة رجل حر عاقل له حق التصرف بأحواله ولسان حالها اعمل ما يروقك واعلم فقط أنك ستجني ما زرعت.
كثير في الأغاني الألمانية ما يشير إلى أن حرية الطالب أثمن شيء وأنها من أوصافه(61/51)
الخاصة به فالفتى لا يحضر دروس الكلية للحصول على معارف تنفعه للقيام بحرفة ما في المستقبل وما هذا المطلب إلا ثانوي بل أن الغاية التي يسعى وراءها في سنيه الثلاث في الكلية هو أن يصبح رجلاً وتكون له شخصية، يعينه على ذلك أساتذته وأترابه ومن هنا نشأت فائدة جمعيات الطلبة لأن الطالب يتعلم فيها أمرين مهمين الطاعة واحترام الناس له، والطلبة المتقدمون يطبعون على ذلك الطلبة المتأخرين أو المحدثين بمحافظتهم على قواعد لهم يسنونها وبالمحافظة عليها ينبعث في الطالب شعور الشرف وعزة النفس في الحياة المشتركة وتقوى إرادته على الصدمات فهو إذا خلص من سلطته في منزله بين أبويه يكون لتلك الجمعيات عليه شيء من السلطة الأدبية فبالكلية لا يصبح رجلاً عالماً ومهذباً فقط بل صاحب أخلاق، ولقد صدق أحد من وصف الكليات في الغرب فقال أن الكليات الفرنسوية تنقصها الحرية والكليات الانكليزية يعوزها العلم وفي الكليات الألمانية لا ينقص هذا ولا ذاك.
قام مجد ألمانيا قديماً بمن نبغ فيها من الفلاسفة ثم بمن نبغ فيها من القواد والجند ومجدها اليوم مناط إلا قليلا بأرباب الصناعة والتجارة من أبنائها، ومعلوم أن حاجة المدنية الحديثة ماسة للإخصاء في العلوم والتفرد في الصناعات وألمانيا لا تجهل أن قوتها في جهاد الأمم السلمي بمن لديها من الاخصائيين الكثيرين كثرة لا نظير لها عند الأمم الأخرى ولذا بذلت العناية للمدارس الفنية والاخصائية حيث يتعلم الشبان علوماً توجد لهم مراكز في الصناعة وإذ جعلوا في أواخر القرن الماضي من حق هذه المدارس أن تمنح لقب دكتور للمتخرج بها كما تمنح الكليات فقدت هذه بعض الإقبال عليها إن لم يزد كما هو المأمول.
وبعد فما برح الأساتذة الذين أوجدوا في الكليات روح الوحدة الألمانية وربوا رجال الأمة تلك التربية السياسية المهمة يتوفرون على الاحتفاظ بهذه الوحدة حتى صح على الألمان ولا يزال صحيحاً ما كان قاله بسمرك وقد رأى جماهير الطلبة سنة 1895 تجيء لتهنئته بعيده الثمانيني: منذ رأيت هذه البلوطات الألمانية الحديثة (ويعني بها الشبان الألمانيين) لم يبق عندي أقل قلق على مستقبل ألمانيا.
صور تتغنى وتتكلم
إن النجاح الذي صادفته الصور المتحركة بتمثيل الأشباح على الستار قد جعل المفكرين(61/52)
يدأبون لتتميم الفائدة بإضافة آلة الفوتوغراف أو الحاكي ليتهيأ لجمهور المشاهدين التمتع برؤية الأشباح وسماع أصوات ممثليها في آن واحد، وقد وفق مؤخراً الكابتن كواد الفرنساوي للجمع بين عرض صور الممثلين وأسماع الجمهور أصواتهم بحيث تأتي حركاتهم وأصواتهم طبقاً للمألوف من أصوات الممثلين الحقيقيين وحركاتهم.
وطريقه ذلك أن يتكلم الممثل أولاً أو يغني ويؤثر أمام آلتي الفوتوغراف والتصوير فيأخذ الحاكي أصواته على حدة وترسم آلة التصوير حركاته الموافقة لأصواته ثم يوصل بين هاتين الآلتين بقضيب من حديد لتتم المواصلة الكهربائية بينهما، وتوضع آلة التصوير وراء الجمهور حسب المعتاد، ويوضع الحاكي بالقرب من الستار ويديرها معاً مجرى كهربائي فتتحرك الآلتان بسرعة واحدة فتتفق بذلك الأصوات التي تصدر من الحاكي مع الحركات التي تدير صورها آلة السينما توغراف أو الصور المتحركة، فيرى المشاهد أشخاصاً ترقص أو تمشي أو تركض أو تتحرك بحركات غير هذه ويسمع ما تفوه به من الأصوات المطابقة فيخالها أشخاصاً طبيعية لها قوة الحركة والنطق.
قفل يفتح بصوت صاحبه
في جملة الاختراعات الحديثة قفل للأبواب والصناديق له فوهة مثل فوهة آلة التلفون وله جهاز خاص فلا يفتح إلا إذا تكلم صاحب القفل أو غيره في الفوهة كلمة اصطلاحية يفتح بها القفل بمجرد دخول الصوت المركب من مقاطع تلك الكلمة، فإذا زادت المقاطع أو نقصت تغير فعل الصوت في آلة القفل فيمتنع على الفاتح.
غير أن لهذا الاختراع عيوباً أخصها عدم انفتاح القف إذا كان الصوت ابح ولذلك فإذا أصيب صاحب القفل بزكام شديد فلا يبقى بإمكانه أن يفتح بابه أو صندوقه ما لم يطلع صديقاً له على كلمة السر ليلفظ بها في فوهة القفل وفي ذلك ما فيه من الإعنات وكشف السر.
تلقيح التربة بالبكتيريا
درس بعضهم خواص نوع من البكتيريا فوجد أن له خاصة امتصاص عنصر النيتروجين من الهواء وغيره وبثه في التربة التي يعيش فيها، وامتحن تلقيح الأرض بهذا النوع من البكتيريا فوجد أنه يزيدها خصباً وأنه يحسن غلتها خصوصاً إذا وضع في التربة شيء من(61/53)
المواد التي ينمو فيها هذا الميكروب من مثل البوتاس والحامض الفسفوريك والكلس، وسيكون لهذا الاكتشاف شأن عظيم في الزراعة.
آلة لتطهير هواء المنازل
اخترع الأستاذ شارل ريشه من باريس آلة تنقي هواء المنازل مما يكون فيه من الغبار والجراثيم الحيوية، وهذه الآلة تقذف قطرات صغيرة من الغليسرين يلصق بها الغبار فتحمله ساقطة به إلى الأرض، ولها مروحة تجذب الهواء إليها ليسهل رشه بالغليسرين فيتهافت جميع هواء البيت شيئاً فشيئاً إلى تجاه المروحة فيتطهر بهذه الطريقة السهلة.
شعر الرأس
يمكن شعرة عادية من شعر الرأس أن تحمل ثقلاً يزن ست اواق طبية، ويبلغ معدل شعر الرأس نحواً من ثلاثين ألف شعرة ويمكنه أن يحمل ثقلاً يزن عشرة قناطير وإذا فتل معاً فإنه يحمل هذا الثقل ومقدار ثلثه أيضاً، ولذلك فإن نساء قرطاجنة الحرائر كن يقدمن شعورهن الكثة عندما حاصر الرومانيون مدينتهن ليصنع منها حبال قوية تقذف بها الحجارة من المجانيق.
بندقية بدون صوت
تحشى ببارود بدون دخان
اخترع المستر هيرام برسي مكسيم الأميركاني أنبوباً صغيراً يناط بفم البندقية فيضعف قوة صوت البارود حتى يكاد لا يسمع للبندقية صوت عند إطلاقها، وهذا الأنبوب عبارة عن قطعة مجوفة من الفولاذ قطرها نحو قيراط ونصف وطولها نحو خمسة قراريط ولها في جوفها حلقات معدنية لولبية ناتئة من جدرانها الداخلية تجعل الغاز الذي ينفلت من البارود عند إطلاقه يدور في هذه الحلقات قبلما يخرج إلى الفضاء، فيفقد بذلك قوته ويخرج من فم الأنبوب ضعيفاً لا قوة له على تمزيق الهواء وإحداث الصوت المعروف وذلك لأن صوت البنادق إنما يحدث من غاز البارود الذي ينفلت من فوهة البندقية حالما تخرج من الرصاصة فيحلق في الهواء أي أنه يخرج بهيئة حلقات لها شكل الفطر، فتدفع هذه الهواء دفعاً شديداً تمزقه فيها تمزيقاً فيسمع له الصوت الذي نعرفه.(61/54)
أما بواسطة هذا الأنبوب الذي يدخل فيه فم البندقية إدخالاً محكماً فيدور غاز البارود في الحلقات اللولبية في باطنه فيفقد قوته لأنه لا ينطلق تواً، فيخرج وله صوت يماثل صوت الغاز إذا أطلق من زجاجة كازوزة بعد أن تزحزح الفلينة قليلاً فينفلت ضعيف القوة بحيث لا يسمع له صوت إلا على بعد بضع خطوات لشدة ضعفه.
وقد جرب المخترع اختراعه هذا فحشا عدة بنادق ببارود لا دخان له وأطلقها جميعاً على هدف بحضور جم غفير فكان رصاصها يخترق الهدف والمشاهدون لا يرون دخاناً ولا يسمعون صوتاً إلا صوت وقع الرصاص على الهدف، وإذ رأت الحكومة الأميركية خطورة هذا الاختراع وتعرض الناس بواسطته لاعتداء القتلة الأشرار إذا تمكنوا من التسليح بهذا السلاح الذي يأمنون معه افتضاح أمرهم عمدت إلى قانون تسنه منعاً لم اعساه أن يترتب على هذا الاختراع من الضرر والإخلال بالأمن العام.
طبقات الهواء العليا
وجد بالامتحان أن حرارة الهواء تقل كلما صعدنا في الجو حتى نبلغ علو نحو عشرة آلاف متر (33 ألف قدم) ومن ثم تأخذ الحرارة بالازدياد قليلاً ازدياداً قانونياً، وقد وجد أن هذه الطبقة العليا السخنة تضم جميع الجهات فوق المناطق الاستوائية والمعتدلة والمتجمدة شمالاً وجنوباً، فهذا الانقلاب في حرارة أعالي الجو يدل على إمكان اختلاف تركيب طبقات الهواء السفلى عن طبقته العليا وقد ملأ بعض الكيميين زجاجات من الهواء من طبقاته المتعددة إلى علو يتجاوز 46 ألف قدم وعدا ما ذكر فإن ركاب المناطيد قد كشفوا طبقة هادئة في أعالي الجو وسيكون من وراء درسها نفع في الأسفار الجوية.
اللحم الأحمر واللحم الأبيض
في جملة الحيوانات الحمراء لحم البقر والغنم والخيل والخنازير البرية والوعول والأرانب والحمام والبط والإوز وسمك سليمان أو السلطان ابراهيم، وقد يكون لحم بعض هذه الحيوانات داكناً، أم العجول والخنازير الداجنة والأرانب الأليفة وسمك الشبوط وأبو منقاد والكركند والسراطين فلحمها أبيض أو كفيء اللون، وأما الطيور فجاجئها أي صدورها بيضاء اللحم وما بقي منها أسمر اللون، وكثير من أصناف السمك كالحنكليس وغيره يجمع بين اللونين الأسمر والأبيض، وقد تبين من الأبحاث العلمية أن لهذه الألوان علاقة بالقوة(61/55)
والنشاط، فتكون العضلات الكفيئة اللون على الجملة أكثر نشاطاً من التي لونها أحمر أو أسمر لأنها تتقلص بسرعة ولكنها تكل قبل العضلات السمراء إذ أنها تفرز مقداراً أعظم من الحامض اللكتيك (أو اللبنيك) وهو نتيجة التعب والدليل عليه ولذلك فيمكننا أن نحكم على نشاط الحيوان وعلى مقدار ما يتحمله من التعب بالنسبة إلى غيره من لون لحم عضلاته، والقاعدة لذلك أن ما كان لحمه أبيض كان كثير الحركة والنشاط وما كان أحمر اللحم وأسمره كان أقل نشاطاً في حركته ولكنه أكثر تحملاً للأتعاب.
تعجيل نمو النبات
كانت الطريقة المعول عليها لإنماء النبات إنماءً صناعياً أن يعالج بالأثير فيسرع نموه وتنضج ثماره قبل أوانها، غير أن العلامة مولبش قد كشف طريقة أسهل من هذه وأقل نفقة وهي: أن يغمس ما يراد إنماؤه من النبات مقلوباً في ما تبلغ درجة حرارته بين 30 و 35 بمقياس سنتيغراد، ويبقى مغموساً مدة تسع ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة وبعد ذلك ينقل إلى غرفة مظلمة رطبة حرارتها تبلغ درجة 25 ويبقى هناك إلى أن تبتدئ الأوراق تظهر فينقل حينئذ إى مغرس زجاجي ويعامل معاملة النباتات التي تربى في المغارس الزجاجية الدافئة، وامتحن أحدهم هذه الطريقة في الزنابق فأزهرت بعد نحو أربعين يوماً مع أن ما غرس منها غرساً عادياً لم تظهر أوراقه في هذه المدة مما يدل على شدة تعجيل نمو النبات بهذه الطريقة السهلة الإجراء القليلة النفقة.
ثمن الراديوم
كان يمكن قبلاً أن يشرى الجزء من ألف من الغرام من الراديوم بعشرة فرنكات أما في سنة 1909 وما بعدها فبلغ ثمن هذا الجزء خمساً وأربعين ضعفاً أي 450 فرنكاً، وبما أن الراديوم يستخرج من الأتربة الزفتية فتراب الزفت في ضواحي معمل كورنش بالقرب من لندن يساوي ثمناً يفوق ثمن تراب الذهب والماس.
شباك الصيد
دل اختبار صيادي السمك في جهات متفرقة على تأثير لون الشباك بالأسماك فصار من المقرر أن من يستعمل شبكة زرقاء اللون يصيد أكثر كثيراً ممن يستخدم الشباك العادية السمراء اللون، وذلك لأن لون الشبكة الزرقاء يماثل لون ماء البحر فينتفي بذلك خوف(61/56)
السمك من الدنو منها.
آلة جديدة للحلاقة
اخترعت في أميركا آلة جديدة تحلق شعر الوجه بموسى مجهزة بآلة كهربائية بدون أن تمسها يد إنسان، وللموسى واق من المطاط وغيره يقي الحد من الجرح، ولا نظن أن هذا الاختراع يسر الحلاقين عندنا إذا تهافت الناس على شراء هذه الآلة وصاروا يحلقون لحاهم بواسطة الكهربائية ويأمنون شر جراح المواسي التي قد تنقل العدوى من مصاب بمرض جلدي في وجهه إلى الأصحاء.
عضو جديد للحس
اكتشف فرتر في الهرة عضواً خاصاً للحس مؤلفاً من بضع شويكات نابتة في الجلد بجانب رسغي قائمتيها الأماميتين، وكانت هذه الشويكات قد وجدت في حيوانات عديدة غير الهرة من مثل القواضم والحيوانات الدرداء (التي لا أسنان لها) والمفترسة وذوات الأربع السافلة في سلم الأحياء، وتوجد هذه الحاسة خاصة في الحيوانات التي تتلقف طعامها بأكفها والتي تزحف أو تتسلق الأشجار، ولكنها لا توجد في القردة لأنها تعتاض عنها بما لها من الامتياز في استعمال ايديها وللآن لم يمكن الاستدلال على وجود هذه الحاسة في الكلاب.
سفينة لرصد المغنطيسية
عزم بعض محبي العلم في اميركا على السياحة في جهات القطبة الجنوبية وغيرها لرصد مغنطيسية الأرض فابتنوا سفينة خالية من الحديد والفولاذ، فصنعت جدرانها ومساميرها وسائر ما فيها من الخشب منعاً لتأثير ما قد يكون فيها من المواد المعدنية في المغنطيسية التي تقاس بآلات خاصة في السفينة
خليل سعد
طنين الآذان
تختلف الاهتزازات التي يسمعها المصابون بالصمم أو بطنين الآذان فيطنون تارة أنهم يسمعون صفيراً حاداً وأخرى أنهم يسمعون جلبة مثل صوت الزيز والصرصور والجرادة وطوراً يسمعون صوت أنغام من جوقة موسيقية فيها الطبل والطنبور والجلاجل والصنوج(61/57)
أو رنة اجراس وتغريد طيور شديدة بحيث يتراءى للسامع بأنه في بيت حمام وقد تمر الشهور والمصاب بالصمم أو طنين الاذن يسمع هذه الأصوات فتحول دون سماعه الأصوات الخارجية، والمصابون بالصمم والخرس معاً ليسوا عرضة لهذا المرض بل أن جميع المصابين بالتهابات الشرايين هم على الجملة مصابون به وتختلف درجاته فيهم، وقد بحث الدكتور ما راج الفرنسوي في أسباب هذا المرض فقال أن أكثرها ناشئة من اختلال وضع سلسلة الكعب وإن التغميز (التمسيد) نافع في أكثر حالات هذا المرض.
تعليم الجغرافيا
الجغرافيا كلمة يونانية معناها رسم الأرض أو صورة الأرض عرفها العرب بتقويم البلدان أو رسم الأرض وكان لها شأن من عنايتهم ونبغ فيها مشاهير خدموها خدمة جلى في القرون الوسطى وعدم عناية من يشتغلون بالعلوم الإسلامية بها في القرون الأخيرة نشأت منه أمور مضرة ومنها ما يضحك حتى أن كثيراً من جرائدنا العربية بل ومجلاتنا تغلط في إيراد أسماء البلدان والأنهار والجبال والأقطار وكثير منها لا يعرف جغرافية مملكته بل قلّ جداً من خاصتنا اليوم من يحسن جغرافية قطره فالسوري مثلاً لا يستطيع أن يحدد لك بلاد فينيقية ولا جبال سنير والجليل وموآب واللكام ولا يعرف كم في سورية من بحيرات أو من مدن عامرة وكذلك المصري فلما يعرف مركز الوجه البحري من الوجه القبلي وأي بلاد الأقاليم أعمر وفي أيها يجود القطن أو تجد أثراً للصناعات وهكذا الحال في ابن العراف وابن تونس وابن الحجاز وابن اليمن دع عنك ما يلزم العثماني خاصة معرفته من أحوال الولايات العثمانية كلها حتى أن من ألغوا في الجغرافية من الأتراك خلطوا في أسماء الأعلام خلطاً يكاد يرفع الثقة من كل ما كتبوه وكذلك الحال فبمن كتبوا من المصريين وأطلعنا عليه من كتبهم وأن من الأسف أن يرد في إحدى مجلاتنا المعتبرة أن سورية هي من آسيا الصغرى كما من الأسف أن تقول بعض جرائدنا أن بلاد نجد خضعت لأحكام الدولة العلية مع أن نجداً قطر عظيم له أميران الآن ابن سعود وابن الرشيد فخلطه الكاتب مع لواء اسمه نجد من أعمال البصرة وقالت إحدى جرائدنا أن ولاية من الولايات القريبة من الاستانة مثلاً بورصة مع أن واناً هي في أقصى تخوم الولايات العثمانية على الحدود الفارسية والروسية وقالت أخرى أنهم انشأوا خط تلفون بين غلطة واشقودرة فعربت(61/58)
باشقودرة مع أنها اسكدرا إحدى أحياء الاستانة ويا بعد ما بين اشقودرة والاستانة وقالت إحدى جرائد الاستانة الكبرى أن والي بيروت زار جبلة مركز جبل الدروز مع أن جبلة على الساحل من أعمال بيروت وجبل الدروز في داخلية سورية لا علاقة لها مع والي بيروت إلى غير ذلك مما يقع أمثاله لصحافتنا كل يوم وهم يبحثون في بلادهم فما بالك بهم إذا تجاوزوهما إلى الصين والهند واوستراليا واميركا وأوروبا وأفريقية، وربما لا يخبط بعضهم عند كلامه على جغرافية الولايات المتحدة أو فرنسا أو انكلترا مثلاً بقدر ما يخبط في كلامه على ولايته نفسها إذ يكون قد درس جغرافيتها في مدارس الفرنسيس والأميركان والإنكليز حق الدراسة في كتب جيدة ونظر إلى كرة الأرض أو المصورات فطبق ما قرأه في الكتاب على المشاهد.
ولكن علماء الجغرافيا في أوربا اليوم يرون تعليم هذا الفن على تلك الصورة متعباَ للذهن لا يلبث الطالب أن ينساه متى خرج من المدرسة وإذا ذكر منه فلا بذكر إلا اجماليات لا تغني من التفصيل شيئاً فقالوا أي فائدة للطالب أن تذكر له أن في المقاطعة الفلانية كذا من الأنهار والرؤوس وشبه الجزر والجبال والمدن والدساكر وهو يعتقد بأن ما يتناوله من هذا العلم هو من الكماليات لاغناء منه إلا بقدر ما في حسن الخط والرياضة الجسمية وكم من عالم رديء الخط ومن أديب لا يحسن اللعب على الحبل ولا يقفز مترين ولا يستطيع السير على قدميه ساعة أو التصعيد في جبل.
يبد ان فن الجغرافية نافع في التربية نفع الرياضيات فهو علم تعقل وتدير هو علم صلات الأرض بالانسان ولذلك كان له شأن في تثقيف العقل فيه يدرسك المرء جسامة البحر المحيط وعظم غابات اميركا وأخلاق زنوج افريقية ويعودنا النظر إلى البلاد التي نعيش فيها ولا نعرف من امورها الطبيعية شيئاَ فلا نقدر ابعادها ولا قممها واوديتها ومضايقها رجوفها ولا لمَ كانت الأشجار الفلانية تجود في الساحل ولا تجود في الداخلية كل ذلك مما تعلمه الجغرافيا اليوم فيها نعرف تركيب طبقات الأرض واشكال النواتيء والمناخ وكيف تنبعث المياه واشكال ما يعيش فيها من الحيوانات والنباتات والانسان، وتدل كيف أن المرء مستعبد لقوى العالم واسير في الأرض وأنى له أن يجاهدها ويتغلب عليها ويبين الصلة المتبادلة بين الأرض والإنسان.(61/59)
وفي القرن الماضي بدت الجغرافيا في مظهر جديد بما توفر لها من علوم طبقات الأرض والطبيعة وأصول الشعوب وعلم قياس البحار وعلم الأحداث الجوية والحيوان والنبات والاقتصاد السياسي ورحلات من وصفوا الأمم وصفاً مجرداً ووصفوا بلادهم وصفاً مدققاً وتمت لها اكتشافاتها ولم يبق إلا شيء يسير من الأرض يحاول العلماء اليوم أن يكتشفوه ونعني به القطب الشمالي والقطب الجنوبي، وكم ذهب في هذا السبيل من رجال وصرفت فيه من أموال.
فغدا هذا العلم يبحث في مختصراته ومطولاته عن الحوادث الكبرى في الجغرافيا الطبيعية والجغرافية الاقتصادية ولكن علماء الجغرافيا ينتقدون اليوم تلك الطريقة التي كانت مثل الرجوع بعد تلاوة الكتاب إلى المصورات أو رسمها كما هو الحال في بعض مدارس الشرق النظامية قائلين أن الجغرافيا لا تعلم في قاعة الدرس وهي مقفلة على هذه الصورة وأن أحسن الطرق في تلقينها ما تعلمه الطالب في الأرض التي يتعلم جغرافيتها فيطوف فيها مع استاذه ويريه سهولها وجبالها وبحيراتها وأنهارها وخلجانها وبركانها وقالوا أن تبعة تدريس الجغرافيا على هذا النحول عظيمة لأنها في الغالب تضطر الاستاذ أن يصحب معه ثلاثين أو اربعين طالباً إلى اماكن وعرة ولكنها جميلة وقد جرب بعضهم هذه الطريقة في التدريس فكانت طريقته انجع في الاستظهار وتطبيق التعلم على الحس اكثر من تلاوة كتاب والنظر إلى مصور فيحيط الطالب بالصقع وكل ما فيه من ظواهر الطبيعية أكثر ممن يسيحون وهم في القطارات لا يعرفون من البلاد إلا ما يكتب لهم أن يطلعوا عليه من نوافذ مركبتهم، والاساتذة الذين يمثلون صقعاً لتلاميذهم بالتصوير الشمسي أو رسم المسطحات أو الطواف في الضواحي يغرسون فيهم ذوق النظر والتشبيه ويضمنون لهم الفرح الكبير فإذا عملت الجغرافيا على هذه الصورة ولا سيما ما كان منها مختصاً بمملكة المتعلم يكون لها شأن عظيم في تربية قوى المتعلمين فلا تدخل في عقولهم مبادئ مهمة فقط بل تعلمهم النظر والتدبر فيكون منها مجموعة تتكون منها أحسن اداة في التربية العامة واقوى عامل في التعليم العملي فيتلقى الطالب من تعليمها على هذه الصورة اصولاً ينتفع بها في حياته يوم خروجه من المدرسة.
انتشار الألمان(61/60)
قالت احدى المجلات الانكليزية المعتبرة: اخذت المانيا ترمي جهاراً إلى تكبير بلادها في الشرق والغرب فإن المحالفة الألمانية النمساوية تقوى كل يوم وتقترب روسيا منها بابتعادها عن انكلترا ويزيد الألمان في مداخلتهم في البلاد كلها بأنهم يؤسسون فيها المدارس والجرائد ويمثلون الروايات ويقيمون الحفلات الموسيقية ويحتكرون التجارة بالتدريج وقد فتحوا حديثاً في مدريد مدرسة نجحت نجاحاً كثيراً وللألمان في البلاد العثمانية صحافة خاصة وألمانيا تتقدم من جهة تخومها الغربية بخطا سريعة ولكنها ثابتة متينة وكأنا بالبلجيك وقد اصحبت عما قريب جزءاَ متمماً لاجزاء المملكة الجرمانية وسيكون شأنها شأن امارتي بافيرا وسكستونيا وقد كادت مدينة انفرس وهي سوقها الكبرى تصبح جرمانية بمشاريعها ورؤوس اموالها ونفوذها وتنظر المانيا جهاراً إلى بلاد القاع (هولاندة) والمستعمرات الهولاندية تريد أن تضمها إليها وأن المانيا على ما يتراءى من حالها قد اختطت لها خطة ستضم بها إليها اراضي جديدة وسيكون ذلك في اول فرصة متى حدث بينها وبين فرنسا أو انكلترا مشكل.
النسر عند السوريين
في مجلة تاريخ الأديان الفرنسوية أن الناظر في النواويس والقبور في سورية القديمة يجد صورة نسر وغراب وتاج محفورة في الحجر، وأحياناً لا يشاهد صورة غراب أو تاج ولكن قلما شوهد ناووس مهم إلا وقد زبرت عليه صورة نسر تارة منفرداً وحده وجناحاه مبسوطان وأخرى بين ذراعين إشارة إلى الصلاة وطوراً يحمل الميت على ظهره بكل ما في جناحيه الواسعين من قوة، وأنا لنشاهد هذا النسر على القبور الرومانية في عصر الامبراطورية بحيث يدعو ذلك إلى الظن بأن النسر السوري قد نقل على هذا الوجه إلى المدافن الرومانية ومنها نشأ الرمز الامبراطوري أي علم النسر الذي تحمله الكتائب، أما وجود النسر في القديم فذلك لأنه يعتبر في بعض الأديان السامية خادماً للشمس وهو الذي يحمل إليها الأرواح التي انفصلت عن الأجسام المستعبدة على الأرض، وانتقل هذا المعتقد السوري إلى رومية حيث كانوا يذهبون إلى أن النسر يحمل الامبراطرة إلى السماء، والنسر هو الحيوان المقدس للرب المشتري دام هذا الاعتقاد طويلاً وقد عثر على مسلة من القرن الرابع تمثل صورة امبراطور يسير في النعش وأمامه نسران يدلانه على الطريق(61/61)
وكانت هذه الحالة امتيازاً للقياصرة يمتازون به عن الشعب، وهكذا نرى نفوذ الأديان السامية الأولى مؤثراً في معتقدات العالم الروماني.
الحركة التجارية في روسيا
يؤخذ من بيانات سنة 1910 في روسيا أن روحاً جديدة أخذت تدب في التجارة ففي تقرير إدارة الرسومات عن ستة الأشهر الأولى من السنة المذكورة أنه بلغت الزيادة في أثمان البضائع الداخلة إلى البلاد ما يربو على 125 مليون ريال، والأصناف التي زاد ورودها بكثرة هي الحديد والخشب وزادت صادرات الجلود 25 بالمائة عما كانت عليه، والمعلوم أن زيادة طلب الحديد دليل على حركة صناعية تجارية فالقسم الأوفر من الحديد هو لمد خطوط حديدية ففي سنة 1908 زيد إلى مجموع ما عند روسيا من الخطوط الحديدية 215 ميلاً وفي سنة 1909 زيد 137 ميلاً وأما في الستة الأشهر الأولى من سنة 1910 فقد زيد إلى مجموع ما عندها من السكك الحديدية 275 ميلاً وهي عازمة الآن على بناء 3000 ميل.
الانتفاع بالكلاب بعد التربية
الكلاب من جملة الوسائل التي تتخذها جمعية الصليب الأحمر لتخليص الجرحى من ساحة الحرب ولفرع الجمعية في فرنسا إدارة خاصة بتربيتها لهذه الغاية فهم يعلمونها أن تفتش عن الجرحى في الليل أو أثناء النهار فإذا حظي أحد هذه الكلاب بجريح يأتي إما ببندقيته أو قبعته إلى حيث يقيم الراهبات فعندها يرشد جماعة منهن إلى مكان الجريح وقد اتخذ المدربون لتلك الكلاب الوسائل الفعالة في تمرينها حتى لا تنبح عندما تظفر بجريح لئلا تزعجه بنباحها وأما في ألمانيا فهم يمرنون الكلاب على أن تقيم بجانب الجريح عندما تظفر به وتنبح إلى أن يأتي من يأخذه من جماعة الراهبات.
ساعة من الزهور
زار حديثاً الموسيو فالير رئيس جمهورية فرنسا مدينة بيرن من أعمال سويسرا وهي من أشهر المدن في العالم لصنع الساعات فقدمت إليه ساعة مصنوعة من الزهور الطبيعية قطر دائرتها 6 أقدام وهي معمولة من البنفسج والشقائق وعقاربها من زهور مختلف لونها عن لون دائرتها والأرقام من زهور يختلف لونها عن الجميع والزهور كلها مغروسة في(61/62)
أصاصي علب صغيرة وقد أحكم صانعها ضبط حركتها إلى درجة أنها لا تقل في ضبط الوقت عن أحكم الساعات.
إزالة الثلج
البخار أحدث طريقة لإزالة الثلج عن الخطوط الحديدية وذلك بتوليد البخار في المحطة يسحب في أنبوبين من حديد يمر كل واحد منهما تحت أحد قضيبي السكة فإذا نزل الثلج يذوب لحماوة الحديد.
الموسيقى عن بعد
وفق حديثاً أحد سكان سان فرنسيسكو قاعدة ولاية كليفورنيا من الولايات المتحدة لأن ينقل صوت الفونوغراف بواسطة التلفون إلى مسافة 500 ميل وقد جرب ذلك جماعة من الخبيرين بفن الكهرباء فكان الكل يسمعون صوت الفونوغراف عن بعد يخرج الألحان بكل وضوح.
أكبر مزرعة حمام في العالم
أكبر مزرعة لتربية الحمام في العالم هي في ولاية كليفورنيا وهذه المزرعة مؤلفة من ثمانية أفدنة من الأرض شيدت عليها حظائر الحمام، وقد بلغ عدد ما تنتجه من الحمام 450000 طير في السنة لا يقل عدد المفرخين منها عن 100000 طير ومعدل الثمن الذي يباع فيه ذلك الحمام من ريالين إلى أربعة ريالات ومع ذلك فلم تعد بفائدة عظيمة على صاحبه لكثرة ما يتكبده من النفقات فهي كل يوم تأكل 6000 اوقية انكليزية من الحبوب عدا أجور المستخدمين الذين يقومون بخدمتها ويحافظون عليها وعلى صغارها من الجرذان والفيران والطيور الجوارح.
الأفيون
قالت مجلة الاجتماع الاميركية: بلغ ثمن ما صدر من الأفيون من الهند الانكليزية إلى الصين من سنة 1855 إلى سنة 1904 ما قيمته 85220 مليون روبية أي أكثر من 100 مليون روبية كل سنة وكان كل ما ربحته بلاد الهند من الأفيون الصادر إلى آسيا الشرقية عامة من سنة 1773 إلى سنة 1906 436000000 جنيه وابتدأت تجارة الأفيون في(61/63)
الصين سنة 1767 فصادفت مقاومة شديدة من الحكومة والشعب الصيني معاً ولكن الحكومة الانكليزية أرغمت الجميع على قبول دخول الأفيون إلى بلادهم.
المواشي والمراعي
اشتهرت أستراليا بتربية الماشية وكثر عددها في تلك البلاد حتى أصبح الكلأ غير كاف لإطعامها فعمد الأستراليون إلى سقي الأراضي لتنبت عشباً يفي بالمطلوب ولما كان ماء الأنهر لا يمكنه إرواء كثير من الأرض حفروا آباراً ارتوازية فأصبحت الأرض التي تسقي من ماء تلك الآبار 3000000 فدان.
أموال الانكليز
بلغت الأموال التي أقرضها الانكليز إلى غيرهم من الأمم حتى آخر السنة الماضية 2693738000 جنيه ودخلهم منها 139791000 وقد أقرضوا في السنين الثلاث الأخيرة ما بلغ مجموعه زيادة على المجموع السابق 516 مليون ليرة انكليزية فبلغ ما أقرضه الانكليز لسكان الولايات المتحدة 688 مليون جنيه وما أقرضوه للجمهورية الفضية 269 مليوناً وللمكسيك 87 مليوناً وللبرازيل 94 مليوناً ولشيلي 46 مليوناً ولأوراغي 35 مليوناً ولبيرو 32 مليوناً ولسائر جمهوريات جنوبي أميركا 23 مليوناً ولمصر 44 مليوناً ولروسيا 38 مليوناً وللدولة العلية 18 مليوناً ولإسبانيا 19 مليوناً ولإيطاليا 11 مليوناً ونصفاً وللبرتغال 8 ملايين ولفرنسا 7071000 ج ولألمانيا 6061000 ومجموع ما يدينه الانكليز من أموالهم للبلاد الخارجية 1638000 ج. وللمستعمرات والهند 1554152000 ج، أو ثمانون مليار فرنك هذا مع أن المشهور بأن فرنسا أكثر الدول غنى وأوسع الأمم في بسط يدها بالدين لمن يريد مع أن ديونها لا تبلغ سوى أربعين مليار فرنك أقرضتها لغيرها في البلاد الخارجية.
الجرذان
لا شك في أن الجرذان تسبب كثيراً من الأمراض الوافدة كالطاعون فقد فكر الكثير في طريقة لمحوها مع أن البوم يفتك في عدد وافر منها كل سنة ومع الأسف أن الصيادين في أميركا يقتلون كل ما عثر الواحد منهم عليه ففي فرنسا وألمانيا حموا هذا الطير عدو الجرذان الطبيعي فبرهنت التجربة فائدته للزارعين والصيادين معاً.(61/64)
أكبر مرساة
أكبر مرساة في العالم وزنها 15 طناً ووزن سلسلتها 100 طن وهي لأكبر باخرة في العالم عرضت في معرض الهندسة والميكانيكيات في لوندرا.
مطاعم الأولاد الصغار
لا شك في أن الأولاد الصغار أحوج من غيرهم إلى الأطعمة الوافرة الغذاء ولكن هذا لا يتيسر وقت الظهر لأغلب أولاد المدارس العمومية في المدائن الكبرى لعدم استطاعة الأولاد الذهاب إلى بيوتهم لتناول الفطور وجلهم من أسرات فقيرة لا تستطع أن تطعمهم في المطاعم قرب المدرسة شيئاً من الطبيخ لغلاء أثمان الطعام فيها فهم يعطون أولادهم بضعة دريهمات يبتاعون بها شيئاً من الكعك والشاي والقهوة والشوكولاته ليسدوا بها رمقهم ففكرت الآنسة مابيل كتير من الشهيرات بفن تدبير المنزل العملي في حال أولئك الأولاد وأن هذا الطعام لا يقوم بما فيه من الغذاء بحاجة أجسامهم فطلبت إلى لجنة المعارف في مدينة نيورك بأن تجرب مطعماً في إحدى المدارس العامة يتناول فيه الأولاد فطورهم من الخبز مع البطاطا أو البندورة أو المعكرونة مع البندورة أو ما تيسر من أنواع الخضر مطبوخاً مع اللحم لقاء ثلاث (سنات) يدفعها كل طفل فرخصت لها لجنة المعارف وأعدت لها غرفة ومطبخاً في إحدى المدارس فابتدأت تلك الآنسة بعملها وكانت تحسب النفقة والدخل بكل دقة فكانت النتيجة أنها لم تكلف إدارة المعارف سوى عطلة المحل ومصروف الغاز والماء وفحصت إدارة الصحة العامة بعد ثلاثة أشهر من ابتداء العمل أجسام الأولاد الذين كانوا يأكلون في هذا المطعم وأجسام الأولاد الذين كانوا يكتفون من الفطور بشيء من الكعك والشاي أو الشوكولاته فوجدت أن صحة الأولين أحسن من الآخرين وزاد معدل وزن الآخرين بنسبة عشرة إلى خمسة إلى زيادة وزن أجسام الآخرين، فطلبت إدارة المعار إلى الآنسة المذكورة بأن تؤلف لجنة تحت إدارتها وتوسع نطاق عملها إلى عدة مدارس وخصصت لها في ميزانية المعارف 150 ريالاً كل سنة على كل مدرسة تؤسس فيها مطعماً لتقوم بالعجز ملخصاً عن مجلة الآورلوك.
ثروة الأمم
نشرت إحدى المحلات الإيطالية مبحثاً في ثروة يابان وقاستها بأمم الحضارة اليوم فتبين(61/65)
منها أنها أفقر الدول الكبرى بأسرها فإذا حسبنا مجموع ثروة يابان نجد أنها إذا ملكت مئة فإن إيطاليا تملك 269 والنمسا 384 وروسيا 551 وألمانيا 683 وفرنسا 743 وانكلترا 1008 والولايات المتحدة 1397 وما من دولة كثرت ديونها مثل مملكة الشمس المشرقة فإنها تبلغ 22 في المئة من مجموع ما تملك على حين يبلغ دين إيطاليا 12 في المئة وروسيا 14 وفرنسا 14 وألمانيا 10 والنمسا 7 وإنكلترا 7 والولايات المتحدة 1 وإذا كان الفرد الياباني يملك 10 يانات مثلاً فإن الإيطالي يملك 23 والنمساوي 28 والألماني 42 والفرنساوي 42 والانكليزي 52 والأميركاني 73، وما من بلد في الأرض تكثر فيه الضرائب على الرعايا (ماخلا البلاد العثمانية) مثل يابان فإن الفرد فيها يدفع 12 في المئة من إيراده أما الإيطالي فإنه يدفع 12 أو 2 في المئة والنمساوي 11 و 3 والفرنساوي 9 و 70 والانكليزي 8 و 80 والألماني 6 و30 والأميركي 3 و 30.
الجهر بالقراءة
من محاضرة للمسيو إميل بوترواحد شيوخ العلم في فرنسا في هذا الموضوع ما تعريبه: من أنجع الوسائط المختلفة في التعليم والتربية على ما أرى القراءة بصوت عال، ولطالما ذكرت تلك المطالبات التي كان يتلوها على مسامعنا في صبانا أحد الأساتذة الماهرين في التلاوة آوة الفراغ، وتأثير البيان كل يوم في نفوس الناس مشاهد محسوس فإذا تركنا التمثيل جانباً الآن ألا نرى أن إلقاء الخطيب لخطابه يزيد في تأثيره في القلوب، ألا تلاحظون كيف يعنى الأستاذ عند إيراده جملة من الكلام البليغ يذكره بالصورة التي تلي بها.
فلقد أدرك القائمون على التربية في كل زمن مكانة الجهر بالتلاوة فكان في آثينة أول معلم يتولى تربية الطفل رجلاً يعرف قليلاً من النحو كانت مهمته الأولى أن يدرسه أقوال الشعراء فكان يترقى بالتدريج في إنشاد جملة بعد جملة من كلام هوميروس أو أزيودوس والتلامذة يرددون ما يقول وكانت تلاوة الأسفار المقدسة في الكنائس المسيحية بصوت جهوري من أهم الأجزاء الجوهرية في العبادة في كل زمن، ونرى اليوم علماء التربية قد أقروا على فائدة التلاوة الجهرية، واتفق لي أن تأكدت ما لهذا التمرين من الشأن في المدارس الألمانية فإن له ولا سيما في مدارس البنات الشأن الأول فيقصدون أن ينبهوا في(61/66)
العقول الشعور الوطني بتأثير النطق والمهارة في انتقاء الكلام وتنبيه الأفكار إلى الشعور بالجمال وبيان مكانة المؤلفين من الذكاء.
وما برح عندنا (فرنسا) أجل رجال الإدارة والتعليم والصحافة يعنون كل العناية ببعث النفوس في المدارس على حب القراءة فقبلت وعملت في هذا السبيل أمور جميلة من العبث أن تحدثوا بها واكتفي في هذه المسامرة أن أبين تأثير القراءة الجهرية وكيف ينبغي للقارئ أن يقرأ حتى يتجلى هذا التأثير فأقول: إن القراءة تبعث في الخطاب روحاً، وفي هذه الكلمة جواب سؤالنا الأول ولكن ما هو سر هذه الحياة وأي معنى لهذه الاستعارة؟ فقد شبه أفلاطون الخطاب بالتصوير في قوله: إن الحال في الكتابة كما هو في التصوير فإن الصورة تتراءى للأنظار حية ولكن إذا سألتها لا تحير جواباً وهكذا الحال في الخطب المكتوبة فإذا سمعتها تظن أنها تفكر ولكن إذا سألتها بعض إيضاح عن الموضوع الذي تخوض عبابه تجبك جواباً واحداً أبداً، وإن خطاباً إذا أهين واحتقر ظلماً يحتاج على الدوام لمعونة من أبي عذره أما هو فعاجز عن الدفاع عن نفسه.
ومعنى ذلك أن المؤلف إذا لم يكن مستصحباً لكلامه لا فائدة من تصوراته فهو إذا تلا كلامه يحفظ في ذهنه حوادث وأفكاراً وأحكاماً وتجارب وتحقيقات أدت به إلى تلك النتائج ولذلك تحف حول كل فكر عبر عنه بالكتابة مواكب غير مرئية من الأفكار التي تشرح الكلام وهي من توابعه، والخطاب المكتوب وحده لا يقوم بالإفصاح عن تلك المعاني المستترة وصوت الإنسان هو الكفيل بإثارة فكر الحضور على الانتباه لما فيه من الدقائق فإن ألوفاً من صور الكلام ليست سوى شروح تعين على إدراك القصد من الأفكار والصلات بينها وتعارض الأشكال وتقاربها والصورة الخاصة بالأشياء والغاية التي ينتهي إليها الفكر بل هو العمل بذاته الذي انصرف إليه الكاتب الذي يتجدد في فكر القارئ والمستمع بل هو الذكاء الراقد في غشائه المادي يتنبه ويحيي النفس، هذا هو التأثير الأول من الجهر بالتلاوة وهو من آكد الطرق وأفعلها في تفهيم الكلام بجلاء والتعمق بأسراره.
لا أدري ما في الصوت البشري من سر يرسل إلى الإنسان فيبلغ شغاف قلبه، هذا السر أشبه بما يسمى في الطبيعيات الاهتزازات الحادثة في آن واحد، فترى القارئ والسامعين يهتزون معاً واضطراب الأول يفعل في الآخرين وبالعكس وبتأثير العقل الذي يذكرون(61/67)
صنعه تنشأ هذه الظاهرة فهو الذي يحيا فيهم وحبه للحقيقة والجمال وهما أصل المكتوم من أفكاره ينبعث في روح أحبابه، وهكذا لا يفهم القارئ غيره بل يحبب المؤلف إلى سامعي كلامه فبسماع صوته يضيع اللسان المكتوب ماله من الكثافة والمادة ويغدو رمزاً خالصاً ويتسرب بالتدريج إلى النفوس الباحثة ويصبح كالصلة والعائد بين تلك الأرواح نفسها، وبينا تترنح الأعطاف تنفتح أبواب النفس على ما ينبغي ويشرع العقل يخاطب عقلاً آخر مثله.
وعلى هذا فإن التلاوة بصوت جهوري تعلم وتشعر بنشاط غريب، وما الفهم والشعور بقوة إلا باعث على الإرادة إلا قليلا ومن صحت إرادته كان حرياً بأن يبدأ بالعمل، فمن تلاوة المصنفات الجليلة تنشأ أفكار سامية يكون من أثرها أن نرقى نحن إلى مستواها ونتفهم مغازيها فتفعل في أفكارنا وأفعالنا.
أما كيفية القراءة فقد قال لي رجل مشهور بالتفنن والرياضات أن أحسن الطرق لإجادة القراءة هو أن يتلفظ الإنسان على وجه الصحة محافظاً على المخارج بحسب ما يعطيه الكلام والخطاب يفعل في النفوس كما تشاء ويفكر فيه الذهن بذاته وأن من يحاول أن يشرح فكر المصنف يحشر نفسه بينه وبين المؤلف حشراً على غير داع، ولمثل هذا الفكر أنشأ بعض نوابغ الشعراء منذ بضع سنين تمثيل روايات اللعب المعروفة حرصاً منهم على سلامة هذا الفن وممثلو هذه القصص لا يحاولون على الأقل أن يقوموا مقام المؤلف.
ومن المحقق أن الواجب أن يقرأ ما في النص وأن لايحاد عما فيه فإن بعضهم يحرفون ما يجدونه مسطوراً أمام أعينهم خفة منهم أو عادة لهم الفوها أن يكتفوا بما حصل أو لقلة لين في ملكتهم أو لاهتمامهم بالموضوع تاركين ما تقضي به الأمانة للتأثير في فكر السامع بقدر ما يعطيه الكلام.
وانه ليحرم على المربي أن يزيد وينقص من عنده ليلفت بذلك النظر إلى نفسه كما بفعل بعض الممثلين فيزيدون من عندهم قحة منهم واعند ليحوزوا استحسان الحضور لهم، ولن ينجح مرب يقصد من تلاوته على تلاميذه أن يعجبوا بقريحته وكذلك لا تكون تلاته لتسلية سامعيه كما يفعل بعض العامة فان الافكار العالية واللهجة الجميلة ليست من اداوات السرور والحظ بل يتوخى فيها ان يشترك سامعها بالحياة العالية المنبعثة من فكر قائلها،(61/68)
وليس للقارئ ان يتطلب اعجاب السامعين به فيصفقوا له ويشكروه بل عليه ان يفنى امام من ينقل قوله بلسانه فيكون لسان حاله الامين فقط وهو وسامعوه على مستوى واحد من هذه الوجهة فليس له إلا أن ينكر نفسه وبذلك يضمن له النجاح.
ولا تتأنى للقارئ افادة سامعه إلاه إذا شعر بما يقرؤه واحبه ليحببه إلى النفوس اما التصنع من المربي فهو اسلوب مضر متى فاجأه فيه تلاميذه تفقد منه الثقة والالفة اللتان هما شرط في نفوذه عليهم وليس اجدر من السير مع الفطرة والطبع في التلاوة وان يتحد بروح المؤلف وذاته وجوهره.
بنظر في كلام المؤلفين إلى العصور التي قالوها فيها ليعلم انهم ثمرة تلك القرون التي عاشوا فيها فلا يأبى عليهم القارئ ذلك لئلا يخدعهم وبغشهم ولكن كلام الاعاظم نافع في كل زمن لانهم يكتبون كتابة تنفع على غابر الدهر يكتبون والمستقبل نصب اعينهم متوخين الكمال المطلق وعلى هذا فعلى القارئ أ، لا يكتفي بابلاغ احساسه الخاص بل ان يظهر الامور التي يذهب الكاتب على جليتها ولا يتيسر له ان يستعبد سامعيه إلا إذا خاطب حواسهم كما يخاطب قلوبهم واهانهم وان يبهجهم بثقة لسانه ولا يفوته أن الالسن خلقت لتتكلم فقد كتب البشر اللغة المحكية قبل ان ينطقوا باللغة المكتوبة.
ولجودة الصوت شأن عظيم في التلاوة فالواجب ان تخرج الكلمات على ايسر وجه ورنين واطلاق وان يتلو الانسان منتصباً على رجليه ما امكن أو مستنداً على مؤخر كرسيه وان يفخم الكلام بقدر ما يعطي من دون اكراء ويكون جرسه صريحاً غنياً لطيفاً رخيماً، وغريب كم للطف الصوت من تأثير في مجامع قولب السامعين واعدادهم لتلقي الافكار فان من اهم الاجزاء الجوهرية في الالقاء جردة التنفس فالواجب ان يكون التنفس حراً لا قليلاً ولا كثيراً لطيفاً لا يشعر به.
ثم تجب العناية بالتلفظ ومعلوم كم هو ينفع ويضر، ورب خطاب جميل اضر به فساد اللفظ ولاختلاف التلفظ في علائق الناس نفوذ حقيقي كثيراً مالا يقبل النسبة مع قدر هذا الخلق العقلي، والتلفظ على وجه عام يدل على المحيط الذي عاش فيه الانسان والقدر من التربية التي بلغها فهو نمام ينم عليك لمن لم يعرفك، إذاً فينبغي صرف الجهدان يكون اللفظ صريحاً صحيحاً ظريفاً، واهم جزء في هذا الباب اخراج الحروف من مخارجها وهناك امر(61/69)
له دخل في احسان التلاوة وهو الجمال اللائق بالكلام واظهاره في مظهر متناسب مع سائر اجزاء الخطاب فيجب اولاً ان يضم ما يجب ضمه ويفصل ما يمثل من الجمل افكاراً متخالفة فيتردد التالي بين الوصل والقطع في العبارات فالوقف المهم ينم عليه اللفظ، قال كوت ان الوقف واخراج الحروف من مخارجها هما من اهم الشروط الاساسية في جودة القراءة، وكم من وقف يقوم مقام وصل ففي اللفظة الواحدة تنجذب المخارج المختلفة إلى واحد منها وتنقطع الجملة بعد كلمة أو بضع كلمات والقطعة بعد جملة والخطاب بعد ايراد بعض افكار عامة، وتجب اجادة النغمة وتنويعها على ما يليق بنظام وقلة تكلف ويعمد في الاحيان إلى السذاجة في النطق على الترتيل والتلحين وان يتأنى في الإلقاء لئلا يطيل المرء الخطاب على السامعين من حيث يريد اختصاره، ويزن الكلام فيبدأ بعد الوقف بسكون ثم يجهر رويداً رويداً فان الوزن قانون الحياة إذا وقع تطبيقه في الخطاب يملك صاحبه نفوس المخاطبين ويستهويهم ويدب الروح فيما يعرضه على مسامعهم وينتج من هذه الملاحظات سواء كانت عملية أو عامة أنه لا تتأنى القراءة بصوت عال بدون ان يعد القارئ ما يريد تلاوته فإن الارتجال في القراءة كما قال كوت لتلاميذه هي الليالي القمراء في الخطاب أي أن نورها مكوك فيه لا تظهر كل حين ولا يجب ان يستعد القارئ فقط بل ان يعد سامعيه أيضاً فيبدؤه باعطاء ما يلزم من الشروح ثم يتلو بلا انقطاع فان الشرح اثناء الإلقاء ينقص من بهجة الكلام، ويستدل القارئ على نجاحه في تلاوته من السكوت وقلة الحركة بين الجمع المستمع فإذا سادا فهناك الاستحسان وإلا فإن الجلبة والحركة لا تنشآن إلا من توزع النشاط الذي لا سبيل إليه بين اناس متنبهين حقيقة.
تطهير الغرف
جربوا في إحدى المدارس بانكلترا طريقة لتطهير الغرف وذلك أنهم يبلون كمية من نشارة الخشب بسائل مضاد للعدوى فتنثر تلك النشارة في ارض الغرفة مساءً وعند الصباح تكنس فكانت النتيجة أن صحة التلامذة والمعلمين تحسنت عما كانت عليه.
الفقر في انكلترا
ذكر بعض علماء الاحصاء ان انكلترا قد نهضت منذ اربعين سنة كما نهضت البلاد الأخرى في العلم والصناعة والتربية وتدبير الصحة والاسعافات والمعونات فهي وحدها(61/70)
تنفق على التربية والصحة واعانة البائسين اربعين مليون جنيه بالنسبة لسنة 1871 وكان يرجى أن تخفف هذه النفقات الشقاء ولكن الامر زاد تفاقماً على العكس فكانت انكلترا تنفق سنة 1776 - 1، 557، 000 جنيه في السنة على الفقراء فصارت تنفق سنة 1906 - 14، 786، 000 وهي اليوم تعول 1، 700، 000 من السكان منهم 538، 000 تعولهم مدى حياتهم و 530، 000 تعولهم مدة طوية و 640 ألفاً تعولهم من شهر إلى سنة، وأن البالغين من الرجال منذ السنة السادسة عشرة إلى الخامسة والستين المحتاجين للمعونة ليزيد عددهم اكثر من النساء ومن الدواعي إلى ذلك كثرة انهيال الناس من القرى إلى المدن، ويرى الكاتب ان انكلترا تساعد على انتشار البؤس بما تمده إلى أهله من المعونات فيكسلون ويرتكبون المحرمات على أنها إذا سنت قانوناً للشيوخ تقل في بلادها بواعث الشقاء بالتدريج.
الحسبة في الإسلام
نشرت المجلة التونسية الفرنسوية مقالة في الحسبة جاء في خاتمتها أن العرب باختلاطهم مع الرومانيين والبيزنطيين والفرس والهنود صفت اذهانهم واقتبسوا الصناعات والفنون وهكذا جلبت إلى أفريقية انواع القرميد الملون والاقمشة الحريرية والجوخ الدقيق والألبسة الجميلة ونقل العبيديون إلى القيروان وتونس صناعات مصر، وجاء بعدهم ملوك الصنهاجيين ولا سيما الأمير أبو الحسن بن علي بن تميم المعز بن باديس وبعد أن عقدوا هدنة مع ملوك النصارى في صقلية أخذوا يتبادلون الهدايا والاعلاق النفيسة وذلك سنة 529.
وأنشأ بنو حفص في تونس أبنية جميلة ونشروا العلوم والصناعات وملأوا خزائن الكتب بالأسفار الكثيرة فوهب أبو زكريا الحفصي 36 ألف مجلد من كتبه وانشأ المدارس ومنها مدرسة الشماعين ومسجد القصبة ومنارته الحالية حيث لا يزال اسمه منقوشاً على حائطها إلى اليوم وهو الذي انشأ الأسواق الموجودة إلى عهدنا في تونس والمتآفقة الشهرة فانشأ سوق العطارين والشوسة أي سوق الحفصي ومات سنة 614 في غنى ونعمة.
وفي أيامه نزح إلى تونس أناس من الأندلسيين ممن طردوا من إسبانيا فاكرم عثمان باي وفادتهم ومد المحتسب لهم يد المعونة فجعل فقراءهم عند أناس من أهل البلاد يعملون لهم(61/71)
واذن لغيرهم أن يسكنوا حيث أرادوا فابتاع اولئك النازحون أملاكاً واسعة وأراضي ذات ينابيع غزيرة وانشأوا فيها أبراجاً وتناسلوا ونزل معظمهم مدينة تونس بحيث يسوغ لنا أن نقول أنهم مدنوا أهلها بما حملوه إليهم من مدنيتهم وصناعاتهم، بل قد أسسوا مدناً مهمة مثل سليمان وبالي ونيانو وقرومباليا وتوركي وجديداً وزغوان وطوبورية وجريش الواد ومجاز الباب وتاستور وسلوقية والعالية وقلعة الأندلس وغرسوا الزيتون والتين وانشأوا الحدائق وعمروا الطرق ودمثوها بما اتوا به من بلادهم الأصلية من محادل (ملاسة) وما برح هؤلاء المهاجرون إلى اليوم يمتازون عن غيرهم وهم في تونس طبقة الأحرار.
وقد انتهت الحال بأن جعلت بعض أعمال المحتسب في تونس بيد مجلس العشرة الأعيان وكلهم ينتخبون من أهل تونس ومن أصل أندلسي ماحلا إثنين يكون أحدهما من صفاقس والثاني من جربة ويجب أن يكونوا كلهم من أهل المذهب المالكي ومن معلمي الشواشية أي صناع الطرابيش ماخلا الجربي والصفاقسي وإليهم يرجع الأمر في فصل قضايا التزوير في الشواشية والإشراف على عملها أن يكون صباغها جيداً وكان نقيب حرفة الشواشية تحت أمرهم.
وكان من خصائص مجلس العشرة النظر في غش البضائع وهو يحكم على الجيد منها والعاطل فيما إذا حدث اختلاف بين البائع والمشتري وذلك بوساطة أمين التجار ولم يكن أعضاء هذا المجلس يقبضون راتباً ولا يحضر عضو جربة وصفاقس في مجلس العشرة إلا إذا عرضت مسائل تجارية، وكان لأعضاء هذا المجلس امتيازات خاصة كأن يكون لهم حق التصدر على سائر التجار ويجلسون في بعض الأحوال بالقرب من الباي، وقد تولت محكمة العرف اليوم ما كان يتولاه مجلس العشرة سابقاً من أمور الاحتساب يحكمون فيما يعرض من المسائل كما يحكم أهل الخبرة وهذه المحكمة مؤلفة من أمين التجار وعشرة معاونين، وقد أخذ شيخ المدينة ينظر في بعض الأعمال التي كان يتولاها المحتسب سابقاً فهو يرأس نقباء الحرف وحكمه لا يقبل النقض والإبرام فيما يحدث من الاختلافات في مسائل الصناعات وهو المكلف بحجز أموال المفلسين وبيعها في تونس وتوزيع ما حصل من أثمانها على أرباب الديون على اختلاف تابعيهم وهو يبيع الأملاك التي رهنها بعض التونسيين ومشايخ الحارات هم اليوم مضطرون إلى أن يقدموا بياناً مطبوعاً بمن يولد(61/72)
ويتوفى في أحيائهم من الوطنيين وهؤلاء المشايخ اليوم صورة مصغرة من المحتسبين أمس.
الإنسان والمدنية
نشرت مجلة الاقتصاد الانكليزية مقالة جاء فيها أنه يستدل من الإحصاءات بأن معدل تولد البشر أقل في الأغنياء مما هو بين الفقراء وأنقص بين أرباب الأشغال العقلية مما هو بين الأميين أرباب الصناعات والعملة بحيث يسوغ لنا أن نقول على الجملة بأن بين كثرة النفوس والمدنية عداوة حتى أن الحضارة يوم تبلغ أوجها لا يبقى على الأرض أحد يستمتع بها، وقد أوردت المجلة أرقاماً لإثبات حجة هذه الدعوى فقالت أن الأمراض التناسلية هي في الأغنياء أكثر منها في الفقراء وفي المدن ولا سيما الكبرى أكثر منها في الأرياف حتى أنه ليتعذر من أجلها على النساء أن يلدن كثيراً أو أن يكتفين بولد واحد.
وكذلك يحدث مثل هذا التأثير من الأمراض العصبية والعقلية التي هي تابعة لارتقاء المدنية كما يتبع الظل الجسم، والسبب الرئيسي في قلة الولادات قلة الرغبة في أن يرزق الناس أولاداً لأن المدنية كلما تقدمت ينظر إلى الأولاد بأنهم حمل وضيق على أبويهم.
طعام الأقوياء
قل من المسائل التي تضاربت فيها الآراء تضاربها في تعيين كميات الطعام وكيفيته على ما يليق بالإنسان وأدت الأبحاث الحديثة إلى أن طعام الإنسان يختلف باختلاف الجنس والمهنة والمناخ ولكن الدكتور سيبرت قد اجتاز هذا الحد وهو يؤكد بعد مشاهداته الشخصية مدة خمسين سنة لأشهر مصارعي أميركا أن كل إنسان يحتاج إلى طعام خاص به فقد قال من مقالة له أن أقوى رجل عرفه هو المصارع الشهير سيجفريج أتى إلى محلي - لأن الدكتور المذكور مؤسس محل يأتي إليه المصارعون ويعيشون تحت نظارته - وهو في العشرين م نعمره وبعد أن تمرن مدة ثلاثة أشهر زادت قوته زيادة عظيمة وكان الطعام الذي يختاره لنفسه أغلب ما يكون من الخضر والحليب والخبز مع قليل من اللحم وكان عشاؤه قليلاً من الحليب مع شيء من السكر وقطعة من الخبز مدهونة بزبدة وعلى هذا الطعام أصبح على شيء من القوة في أطرافه وظهره جعلته من أشهر المصارعين مع قلة اشتهاره بالحذق وخفة الحركة وكثيرون ممن أعرفهم أرادوا أن يحذوا حذوه في طعامهم(61/73)
فكان أغلبهم يصابون بسوء الهضم وهكذا المصارع بيتروس باريوثر كان في صباه ولداً منبوذاً لا يأكل في أغلب الأوقات سوى شيء من الخبز الناشف لفقره وبعد أن قضى مدة الخدمة العسكرية اتخذ الصراع مهنة وفي السابعة والعشرين من عمره أثبت أنه أقوى رجل من وزنه فهو يرفع وزنه من الأثقال إلى فوق رأسه سواء كان بيده اليمنى أو اليسرى وهو معتدل في أكله يفضل الأطعمة البسيطة، وقد شاهدت كثيراً ممن يأكلون أكثر من هذين الرجلين ويتناولون اللحم بكثرة وهم دونهما بمراحل في القوى واحتمال التعب، معرباً عن مجلة العلم الأميركانية.
تواريخ
المكتشف والمستعمر من البلاد والجزر في العالم
اكتشف كولمبس أميركا في 11 تشرين الأول سنة 1492، اكتشفت جزائر (أندرينوفزي) بين آسيا وأميركا سنة 1760، استعمر البرتغاليون أنغولا سنة 1482 ثم استعمرتها إنكلترا سنة 1650، أدخلت إنكلترا غرس الشجر إلى (أنغولا سنة 1650)، استعمرت إنكلترا أنتيفو سنة 1632، إكتشف المكان المعروف بممر رئيس الملائكة سنة 1419، استعمرت هولاندا جزيرة (اريوبا) سنة 1634، اكتشفت مملكة البرتغال جزيرة (أزوس) سنة 1419، اكتشف خليج (يافن)
سنة 1622 اكتشفت جزائر (باهاما) سنة 1659 واستحوذت عليها انكلترا سنة 1718، اكتشفت (تبربروس) واستعمرت سنة 1614، استعمرت انكلترا جزيرة (بربودا) سنة 1628، اكتشفت جزيرة (بارينفتن) في حزيران سنة 1793، حصنت هولاندا مدينة باتافيا جزيرة في جاوه سنة 1618، اكتشفت جزير (برمودا) واستعمرت سنة 1612، بدأ باستعمار بوسطن (ماس) في الولايات المتحدة سنة 1630 مرت مراكب الانكليز في خليج (باي) لأول مرة في 21 آذار سنة 1787، عمرت فرنسا جزيرة (يوربون) سنة 1672، اكتشفت برازيل سنة 1486 وعمرها السبانيول سنة 1515، ثم استعمرتها هولاندا سنة 1624، ثم تولتها برتغال سنة 1654، اكتشفت جزيرة بريطانيا نحو سنة 90 للمسيح، عمرت (كالدونية) في أميركا سنة 1699، اكتشفت كلفرنيا في أميركا نسة 1543، اكتشفت (قابون) كندا سنة 1499، ثم اكتشفتها فرنسا سنة 1508، اكتشفت جزائر كاناريا سنة(61/74)
1344 واهديت إلى اسبانيا سنة 1393، اكتشف رأس بلانكو في أفريقية سنة 1441، اكتشفت بريطانيا رأس بريطانيا سنة 1584 ثم استحوذت عليه فرنسا سنة 1632 ثم استرجعته انكلترا سنة 1745 ثم استرجعته فرنسا سنة 1748 ثم استردته انكلترا سنة 1758، اكتشف رأس جزائر (دي فرد) سنة 1447، اكتشف رأس الرجآء الصالح سنة 1487 واستعمرته هولاندا سنة 1651، طافت السفن حول رأس (هورن) لأول مرة سنة 1616، اكتشفت (كارولينيا) إحدى الولايات المتحدة سنة 1497 واستعمرت سنة 1629، اكتشفت جزائر (كريبني) سنة 1595، اكتشف كولمبس جزيرة (الهررة) في سنة 1492، استعمرت فرنسا جزيرة سابيني سنة 1635، اكتشفت جزيرة سيلان سنة 1506، اكتشفت جزيرة (خاتام) في حزيران سنة 1793، اكتشفت اسبانيا (شيلي) في أميركا سنة 1518 وغزاها الإسبانيون سنة 1540، يمم البرتغاليون الصين لأول مرة سنة 1517 وحكم في سنة 1595 وعمرتها انكلترا سنة 1626، اكتشفت مملكة الكونغو سنة 1482 واستعمرتها برتغال سنة 1486، استعمرت هولاندا (كوركوا) سنة 1634، استعمرت (دربيني) سنة 1700، اكتشف مضيق (دفس) سنة 1512، اكتشف كولمبس جزيرة (ديسيدا) سنة 1419، اكتشفت جزيرة القديس (دومينكو) سنة 1492، اكتشف كولمبس دومينيكا في سنة 1493، اكتشفت جزيرة الشرق سنة 1722، اكتشف البرتغاليون شرقي الهند سنة 1497 وأمها الإنكليز في سنة 1591 ثم الهولانديون في سنة 1595 ثم رهط من انكلترا سنة 1601 ورهط من فرنسا في السنة نفسها ثم رهط من الدينمرك في سنة 1612، اكتشفت جزائر (فولك لاندا) في سنة 1592، اكتشف القبطان قابون فلوريدا في أميركا سنة 1500 واستعمرت سنة 1763 اكتشف مضيق مرو بشير سنة 1558 اكتشفت جزيرة الثعالب في شمالي المحيط الباسيفكي سنة 1760 اكتشفت جزائر كالاباغوس سنة 1700 أسس القائد (أوغلترب) مستعمرة جورجيا الولايات المتحدة سنة 1739، استعمرت هولاندا جزيرة كوري سنة 1617، استعمرت فرنسا جزيرة غرنادا سنة 1652 اكتشفت (غرنيلاندا) في سنة 1585 واستعمرت في عامي 1721 و 1731، اكتشف كولمبس جزيرة (غودلوب) سنة 1493 واستعمرتها فرنسا سنة 1653 اكتشف البرتغاليون شاطئ غينيا سنة 1482 وباشر القبطان هوكن في انفلشمن من نواحي ذلك الشاطئ بتجارة الدقيق سنة 1563(61/75)
اكتشفت جزيرة القديسة هيلانة سنة 1502 وملكتها انكلترا سنة 1600 وعمرتها سنة 1651 اكتشفت جزيرة هودو في المحيط الباسيفيكي في حزيران سنة 1793 اكتشف القبطان هدسن خليج هدسن المسمى باسم مكتشفه سنة 1607 اكتشف أيسلاندا أحد قطاع السبل من الدنيماركيين سنة 1861 اكتشف كولمبس جاميكا سنة 1494 واستعمرها الإسبانيون سنة 1509 اكتشفت يابان سنة 1542 وزارها جماعة من الإنكليز سنة 1612 اكتشف الفرنسيس بوزيانا في الولايات المتحدة غربي نهر مسسبي العظيم سنة 1633 واستعمروها سنة 1718 وسلموها إلى الولايات المتحدة أو تنازلوا عنها سنة 1801 اكتشف البرتغاليون مدغسكر سنة 1506 اكتشفت جزيرة (مديريا) في سنتي 1344 و 1418 اكتشفت فعلان سنة 1520 اكتشفت جزيرة مرغلانته سنة 1493 استعمر اللورد بلتيمور مركندا سنة 1633 وبلغت نفقات استعماره 40000 ليرة إنكليزية اكتشفت جزيرة موريتوس سنة 1598 واستعمرت سنة 1721 حكم الإسبانيون المكسيك سنة 1519. . . . 1521 اكتشف منتريال كندا سنة 1534 واستعمرت سنة 1629 اكتشف كولمبس مونترست في غربي بلاد الهند سنة 1493 واستعمرتها انكلترا سنة 1632 استعمرت إنكلترا نيفس سنة 1628 اكتشفت كلدونية الجديدة سنة 1774 استعمرت انكلترا الجديدة سنة 1620 اكتشف قابون فونلندا الجديدة سنة 1497 واستعمرت سنة 1614 اكتشفت غيونيه سنة 1699 اكتشف الهولنديون هولندا الجديدة سنة 1627 واستعمرتها انكلترا سنة 1787 استعمر الاسوجيون نيوجرمي في الولايات المتحدة سنة 1637 اكتشفت إسبانيا المكسيك سنة 1518 اكتشفت زيلاندا الجديدة في سنة 1660 ثم في سنة 1769، بنيت بليموث واستعمرت سنة 1620 استعمرت نيويورك في الولايات المتحدة سنة 1664 اكتشف الممر الشمالي الشرقي إلى روسيا سنة 1553 استعمرت نوفا سقوثية سنة 1622 اكتشفت نوفازمبية سنة 1553 اكتشفت جزائر جورجيا الثلاث في 18 حزيران سنة 1765 اكتشفت جزيرة هاي ها حيث قتل القبطان كوك سنة 1778 اكتشف خرائب مدينة النخل في صحراء سورية سنة 1678 استعمرت باناما سنة 1516 اكتشفت بارغواي سنة 1525 استعمرت بنسلفانيا الولايات المتحدة سنة 1680 اكتشفت بيرو سنة 1518 اكتشف الإسبانيون جزائر فلبين سنة 1521 اكتشف مضيق بث في غربي الهند في 30 نيسان(61/76)
سنة 1760 اكتشف بورتوريكو سنة 1497 استعمرت هولندا سابا سنة 1640 استعمرت سالم ماس في الولايات المتحدة سنة 1628 اكتشفت جزائر سندويش في المحيط الباسيفكي سنة 1778 استعمرت سفانا سنة 1732 اكتشف شاطئ سيراليون سنة 1460 اكتشفت جزائر سوشى في المحيط الباسيفكي سنة 1765 اكتشفت جزيرة سليمان في أميركا سنة 1527 اكتشفت جزائر سومور سنة 1527 اكتشفت هولندا جزيرة القديس يوستينس سنة 1632 اكتشف نهر سانت لورانس واستعمره الفرنسيس سنة 1508 اكتشفت جزائر سوفولك سنة 1764 استعمرت انكلترا سورثيم سنة 1764 واستعمرت (سورت) سنة 1603 اكتشفت جزائر ثاثي شرقي الهند في 29 حزيران سنة 1795 استعمر الهولنديون توباغو سنة 1642 اكتشف الإسبانيون جزائر بترقارس سنة 1583 استعمر الإسبانيون بترافيرمه سنة 1524 اكتشفت جزيرة ترانيداد سنة 1498 استعمرت روسيا برقرثي سنة 1752 اكتشف السر والتر فرجينيا سنة 1584 اكتشف كولمبس غربي الهند سنة 1492. أمريكا:
يوسف جريس زخم.
تفنن العرب
صرح أحمد بك زكي في المؤتمر الدولي الذي عقد في الشهر الماضي بمصر لتحسين حالة العميان أن علماء العرب قد سبقوا الأوروبيين إلى اختراع طريقة الكتابة بالحروف البارزة الخاصة بالعميان فلخص كتاب نكت الهميان في نكت العميان لصلاح الدين الصفدي وقال أنه يرجع إلى ابن الشرق الفخر في وضع طريقة الكتابة البارزة للعميان وإذا كان المسيح عليه السلام يقول أعطوا ما لقيصر لقيصر فيجب أن نعترف بأن أول مخترع لطريقة الكتابة بالحروف البارزة هو شرقي عربي هو علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر المشهور بزين الدين الآمدي الذي فقد بصره في أول عمره وشرح طريقة معرفته لأثمان جميع الكتب التي كانت في مكتبته بأنه كان كلما اشترى كتاباً لف ورقة على شكل حرف من الحروف ولصقها في الكتاب وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بلمسها على معرفة ثمن الكتاب واستطرد إلى القول بأن زين الدين الآمدي المتوفى سنة 712 هجرية أو 1312 ميلادية سبق برايل إلى اختراع طريقة الكتابة بنحو ستمائة سنة لأن برايل(61/77)
الفرنسي لم يخترع طريقته إلا منذ ستين عاماً فقط.
قلنا وعجيب تفاني المصريين في إحياء المدنية العربية فإذا أثبت صديقنا أحمد زكي بك أن العرب اخترعوا طريقة الحروف البارزة فقد أثبت في السنة الماضية صديقنا أحمد تيمور بك أن العرب سبقوا الأوروبيين في الطيران فقال:
مهما نسينا أو تناسينا فلن ينسى التاريخ أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس كلما ذكر زبلن وسنجر وإضرابهما فإن من يرجع البصر في صفحاته يجد بين من خصهم الله بمواهب في استخراج العلوم واستنباطها اسم هذا الحكيم مقروناً بالغرائب والمدهشات فهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وصنع الآلة التي تعرف بها الأوقات على غير رسم ومثال ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلا يخيل للناظر أنه حقيقة فقال مؤمن بن سعيد الشاعر يداعبه:
سماء عباس الأديب أبي القا ... سم ناهيك حسن رائقها
من أبيات تركت ذكرها لقذاعة هجوها، وهو الذي احتال في تطيير جثمانه فكما نفسه الريش ومد له جناحين طار بهما في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في ظهره لأنه لم يعمل له ذنباً ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه وفيه يقول الشاعر المتقدم ذكره من أبيات:
يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كان جثمانه ريش قشعم
فنرى من ذلك أن الرجل كان من أسبق الفائزين بالطيران من بني الإنسان ولا يغض من اختراعه تقصيره عن الشأو البعيد فيه فذلك شأن كل مشروع في بداءته وحسبنا أن منتحلي هذه الصناعة مع ما مر عليهم من القرون لم يزالوا دون الغاية المطلوبة منها إلى اليوم أفلا يكون من الإنصاف التنويه بذكر هذا المخترع.
طول الحياة
ثبت أن مدة الحياة البشرية آخذة بالازدياد فقد كان معدلها في أوروبا خلال القرن السادس عشر للميلاد لا يتجاوز العشرين سنة فبلغ الآن 40 وربما 44 سنة ولذلك رأى معظم شركات ضمان الحياة أن يعيدوا النظر في قوانينهم ويتساهلوا في ضمانة النفوس وسبب هذه الزيادة في الأعمار ما بلغته العلوم الطبية في الخمس والعشرين سنة الأخيرة من(61/78)
الارتقاء فتغلبت على الأمراض السارية، فالغشاء الذي كان يصيب حنجرة الطفل المصاب بالخناق كان فيما مضى يودي بحياته وهو اليوم لا يزعج الجراح لما فيه من وسائط الشفاء العاجل بفضل الحقن تحت الجلد بمصل الخناق وغير ذلك من التدابير ويقل اليوم المصابون بالحمى التيفوئيدية والقرمزية وذات الجنب أكثر من الزمن السالف والسل يعالج بوسائط تظهر نتائجها الحسنة اليوم بعد اليوم والتهاب السحايا الدماغي الشوكي قد قل عدد الهالكين من المصابين به عن خمس أو ست سنين إلى ثلاثة أرباع، وقد تغلبت الوسائط التحفظية والطبيعية في مقاومتها لأنواع الفساد البكتيري فظهرت بها نتائج مؤثرة بحيث تمكنت بالتدريج لإفراز السميات المرضية المسببة للحمى.
ومع هذا فإن بعض المتشائمين من الأميركيين قد نشروا هذه الأيام مفكرة تبعث على القلق حسبوا فيها معدل عدد الوفيات في الولايات المتحدة وغيرها من بلاد العالم الجديد والقديم وحققوا أسباب الوفاة فصرحوا بأن الأرقام التي يستشهد بها في دعوى طول الحياة ليست صحيحة إذ يقتصر فيها على إحصائيات الأولاد فقط لأن هؤلاء يبلغون في الواقع سن الفتوة ولكن الاضطرابات التي تبدو في تراكيبهم في سن الشباب تظهر مؤثراتها في الحال، فالمشاهد يدل الآن على أن الأولاد تقل الوفيات فيهم ولكن من بلغوا من الرجال سن الشيخوخة قلائل.
ومن رأي الأستاذ فيشر في نيويورك أنه يندر وجود أشخاص هم في مأمن من الأوجاع المهلكة مثل النقرس والرثية الروماتيزم وسوء الهضم والبول السكري ومرض برايت والزائدة الدودية قال أن الرجال والنساء عرضة لعوادي الأعداء المستترين على اختلاف في الدرجات فالحياة بالنسبة إلى كل واحد منهم ليست في الحقيقة طويلة بل هي متسعة ومعنى ذلك أن الرفاهية التي تحيط بالحياة تقصر حبلها، ومن جملة تلك السعة في الرفاهية التغيير الذي طرأ على الطعام فإن الناس بالغوا في التأنق فيه حتى أنهم ليقتلون أنفسهم وهم لا يشعرون، وقد بلغ من هذه التبدلات أنك لا تجد امرءاً حتى في العيال المستورة يقنع بالإقلال من الطعام على النحو الذي كانوا عليه فيما غبر، فنشأ من هذا التفنن في الطعام اضطرابات عضوية لا يحتاط لها بل يسعى الناس إلى زيادة شرورها مختارين، فالناس يكثرون من تناول الأطعمة وكثيراً ما يفرطون ويبحثون عن الأطعمة المحضرة أنواع(61/79)
التحضير اللذيذ وكثيراً ما يشفعونها بالمقبلات والأشربة الكحولية ويتعرضون لما ينجم عنها من المضار بل يستقبلون عن رضى الأمراض المعدية وما يتبعها من الأوصاب. بالمقبلات والأشربة الكحولية ويتعرضون لما ينجم عنها من المضار بل يستقبلون عن رضى الأمراض المعدية وما يتبعها من الأوصاب.
ولقد أفحشوا في التأنق فتراهم يعنون كل العناية بالولد فيحظرون عليه كل ما يضر به حتى إذا نجا من أخطار الطفولية وأصبح رجلاً يلقي بنفسه كل يوم مختاراً في هذه المهالك وهو لا يبالي، الناس كلهم يطمعون في الحياة ما خلا بعض شذوذ ولكنهم لا يهتمون بما يجب القيام به لإطالة حبل الحياة.
وبعد فإن فيشر وجمهور علماء الصحة يعلقون شأناً عظيماً على مجموع التراكيب التي تؤثر في حركة الطعام في التركيب النامي لتجعله صالحاً للقيام بجميع الوظائف اللازمة لإنقاذ الحياة ونشؤها بل إطالتها، متى ازدردت الأطعمة على ما ينبغي ووزعت في الأقنية والأحشاء على النحو الذي يوجبه علم منافع الأعضاء فالتدبير الغذائي يجري على نظام راسخ فلا يحدث أدنى عارض ويظل الجسم سالماً يقاوم الطوارئ فتمضي السنون وهو صحيح وتكون الشيخوخة قليلة المزعجات على صاحبها، أما إذا تمت حركة الطعام على طريقة معتلة رائدها الإهمال وقائدها الاختلال ولا سيما فيما يختص بعمل الآلة الهاضمة فتنشأ من ذلك أوجاع لا تلبث أن تكون مزمنة تضعف تركيب الجسم وتسلمه إلى الأمراض الباطنية.
لا يكفي المرء أن يأكل ليعيش بل الواجب لحماية الحياة وجعلها مقبولة وإطالة حبلها أن يعلم كيف يقوم بعلم الأكل ولا يعد هذا فناً فقط بل هو علم وهوراس فننشر الأميركاني هو رأس الدعاة إلى هذه الطريقة في عدم الإسراف في الطعام وتجويد القضم والخضم ليجود الهضم فقد كان هو نفسه مستخدماً في بيت تجاري في شنغاي وكان كمواطنيه من الأميركان يحب الرياضات البدنية وله صحة جيدة قوي العضلات ينصرف إلى الشاق من الرياضات في الهواء الطلق مثل المشي والركض والقفز والعراك وغيرها من الألعاب وهو يلين أعصابه، وكان من نتائج نشاطه ومعرفته أن جمع ثروة مهمة فحدثته نفسه أن يغير طرز حياته ويذوق من جميع اللذات التي يسمح له بها كيسه فمال إلى تخير الأطعمة(61/80)
الفاخرة وآثر القصف على القصد فأخذ يطعم على خوانه كل يوم من الألوان المتبلة واللحم الغريض الحنيد والخمور الجيدة ما ساءت باستعماله معدته وكان يقضي الليالي في التدخين وتعاطي الأشربة فظهر الأثر السيء في هذه الطريقة من استعاضته عن المشي على الأقدام بالركوب في العجلات فسمن سمناً مفرطاً حتى لم يمض إلا قليل من الزمن إلا وقد أنكره أصحابه فكثر دمه وتورمت خدوده وثخنت رقبته وأخذت تظهر على سحنته أعراض الاستعداد لداء الصرع.
وفي ذات يوم أصيب عقيب أكلة أكلها بفتور في جسمه دعاه إلى التفكر في صحته فأزمع بما فيه من عزيمة أن يعدل عن طريقته في التغذية ويختار غيرها تكون أشد في الانتظام وأن يتخلص من السمن والربالة لما ينشأ عنهما من الضرر وطفق يسير بجسمه إلى نظام مضمون ذاهباً إلى أن الجسم لا تغذيه كمية الغذاء ولا كيفيته بل شروط الهضم فيه وبين له أن ذلك مناط بلوك الطعام فمن هذه القاعدة وهي: على من يريد أن يعمر طويلاً أن يلوك طعامه كثيراً، هدته التجارب إلى هذه الطريقة التي نسبت إليه فسميت الطريقة الفلتشرية وهي عبارة عن خمس نصائح 1 أن ينتظر المرء الشهوة للطعام 2 أن تستشار الشهوة للطعام في اختيار الأطعمة 3 أن يمضغ الطعام بحيث تستخرج منه جميع المادة المغذية وتترك اللقمة تسوغ إلى المعدة من نفسها 4 أن يخصص للطعام ما يقتضي له من الوقت ولا يعجل في ازدراده وأن يذكر الإنسان أبداً أنه في صدد تناول طعامه فيصرف ذهنه إلى ما هو بسبيله على وتيرة منظمة ويطرد عن نفسه كل ما يلقيها في اضطراب 5 أن يقتنع أن كل وجبة هي عمل واجب في الحياة وأن يحسن القيام به بحيث يتوفر له الوفاء بهذه الغاية.
بالغ فلتشر بذاته في التدقيق بهذه القاعدة فلم تمض إلا بضعة أسابيع إلا وتغير تركيبه، وعاد فأزهر شبابه ولطف قوامه وخف ثقله فأمسى 80 كيلوغراماً بعد أن كان 180 ثم ما عتم أن عاد إليه بعودة قوته الطبيعية نشاطه العقلي، وزال ذاك التعب الذي كان يشعر به أيام كان سميناً مشحماً وشعر بضرورة المشي على الأقدام وأن يعود إلى ما كان أخذ نفسه به من أنواع الرياضات في شنغاي، فظهر له أن قد تغير كيانه وعادت قواه إلى نشاطها في صباه وصفا ذهنه ورأى من نفسه استعداداً إلى العمل وبالجملة شعر كأنه رجع عشرين سنة(61/81)
في عمره إلى الوراء وأنه سيعمر طويلاً بعد، كل هذا نشأ من تدقيقه في تلك القواعد الخمس التي سنها ومبالغته في الاحتفاظ بها والجري عليها وأخذ يقلل من كمية غذائه بدون أن يقتصر منها على ما يسهل هضمه وخضمه كما يفعل بعض من يمتنعون عن اللحوم ويكتفون بالبقول وأن يمتنع عن المشروبات الروحية امتناع الزهاد بل كان ينتفع بما يدخل جوفه ويتخذ أسباب حسن الهضم فيما يأكل ويشرب فلا يدخل بلعومه غذاءً إلا إذا أجاد لوكه جيداً، ولم يكتف فلتشر بما وصل إليه من هذه التجارب الصحية النافعة بل أراد أن يعم استعمال هذه الطريقة فكتب ما جرى له في الجرائد والمجلات ونشره في كراريس وزعها بلا ثمن على قومه فضحكوا منها بادئ الرأي إلا أن علماء الصحة اضطروا بعد حين إلى إمعان النظر فيما أتاه الرجل وجربوا بأنفسهم طريقته فأسفرت لهم عن نجاح وأوصى الناس بها حتى صار أشياع المذهب الفلتشري اليوم يعدون بالملايين في الغرب.
وقد تبع فلتشر في طريقته الأستاذ باولو الروسي منذ سبع سنين فتبين له أن التغذية الحسنة متوقفة على الشهوة إلى الطعام وهذه هي الباعث الأقوى على هضمه والانتفاع به في الجسم فالجوع يحبب إلى النفوس الأطعمة على اختلاف ضروبها والأطعمة لا تفيد إلا إذا رغبت فيها النفس، ولا يحسن ما على المائدة من الصحاف وينفع المتناول منها إلا إذا كان هذا في فراغ من الذهن يمكنه من تقدير الألوان حق قدرها، فسرور المواكلين وطيب الأحاديث من العوامل النافعة في الهضم، والسرور على الخوان لا ينشأ من إجادة الطبخ والتنطع في اختيار الألوان بل بما يبدو على وجوه المجتمعين على الطعام من الابتسام.
ومعلوم أنه يقتضي للجسم لتجديد الأنسجة وتوليد الحرارة الحيوانية اللازمة كل يوم لحفظ مرونته والقيام بوظائفه التنفسية كمية محدودة من المواد الدهنية والزلالية وعلماء الصحة والأجسام والأعضاء على اختلاف منهم في ذلك فمنهم من يقول بالإقلال من تناول اللحوم والاقتصار على البقول والألبان والثمار والبيض والأرز والزبدة ومنهم من يرى تناول اللحوم ضرورية لكل عامل يعمل بعضلاته والحقيقة أن التوسط في الأمر خير وأبقى، فالإكثار من اللحوم يسمم الجسم وربما حدثت منه في كثير من الأحوال مضار في الصحة منبهة القوة العصبية ومنهكة قوى الكبد والكلى وعلى العكس في تناول البقول فإن الاقتصار عليها يؤدي إلى اضطرابات هاضمة من شأنها أن تحدث ضرراً في المعدة وعليها فأكل(61/82)
اللحم لا يؤذي بقدر ما يتوهمه بعضهم بل لا يؤذي إلا عدم الوقوف عند حد في تناوله.
وقد رأى أحد علماء منافع الأعضاء من الألمان أنه يكفي لغذاء الفرد كل يوم 118 غراماً من اللحم وغيره من المواد الدهنية وقال لا بأس يجعلها 145 غراماً لمن يعمل بيديه قال غيره لا حرج من إبلاغها إلى 150 غراماً، وأكد أحد علماء انكلترا بأن من عمد إلى استعمال طريقة فلتشر في الاقتصاد في الطعام وإجادة مضغه يتأتى له أن ينقص نحو الثلث مما يأكل وتجود صحته.
وقد جرب أساتذة من أميركا طريقة تنقيص وجبات الأكل فتخلصوا من أمراض كانت تؤلمهم مثل أوجاع الرثية الروماتيزم والشقيقة والمرة السوداء فعادت إليهم صحتهم ونشاطهم ومنهم من كان أصيب بالسل في الدرجة الأولى فاتخذ طريقة فلتشر فنجا من الموت وأصبح يستطيع أن يتعاطى أعماله العقلية ساعة أو ساعتين متواليتين بدون عناء.
وقصارى القول أنه قد ذكر من اعتمدنا عليه من الافرنج في نقل هذا البحث أن الحياة هي عمل مجموع الوظائف التي تقاوم الموت، وأحسن طريقة في تأثير هذه المقاومة هي أن يتعلم الإنسان علم الأكل والقيام عليه، فالحياة هي علم معرفة التغذية، فمن لنا بشيوع طريقة فلتشر في بلادنا فيزيد الممتعون بصحتهم ويكثر النشاط على الأعمال البدنية والعقلية ويستغنى عن الطب إلا في الأمراض التي يستحيل الآن زوالها من العالم.
إن لتعليم الناس تدبير الصحة أثراً معروفاً عند الأمم في نهوضها وهو من شأن الصحف والمدارس فالصحافة في هذه الديار قائمة على قدر الإمكان بما يفرض عليها في هذا الشأن ولو سار التعليم الابتدائي في الشرق على نحو ما هو عليه في الغرب لا تنفع الناس بما يتلى عليهم ويكتب لهم أكثر مما ينتفعون ولا سبيل إلى ذلك إلا بتلقين المدارس مثل هذه القواعد فعلى أساتذة مدارسنا ومديريها أن يلقوا على الأولاد مثل هذه القواعد فتتشر بها نفوسهم منذ الصغر لتنفعهم وتدفع عيالهم في الكبر.(61/83)
مخطوطات ومطبوعات
ذيل
على طبقة الحنابلة
اطلعت في الجزء الأول من المجلد السادس من مجلة المقتبس على ما كتبتموه عن (المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد) فسرتني عنايتكم بالحنابلة كما تعنون بغيرهم لما آلت إليه حالهم في هذه العصور الأخيرة من قلة رجالهم وندرة كتبهم وانطماس أخبارهم بعد أن أزهرت بهم مدارس بغداد ومصر والشام وغيرها وأفعمت بتآليفهم خزائن الكتب المشهورة وصدعت بأحكامهم أركان البدع المنتشرة على ما يلاقونه من الفتن والمحن (إلى يومنا هذا) قال أبو الوفا ابن عقيل البغدادي المتوفى سنة 513 وهو ما هو وقد سئل عن الحنابلة (هم قوم خشن تقلصت أخلاقهم عن المخالطة وغلظت طباعهم عن المداخلة وغلب عليهم الجد وقلَّ عندهم الهزل وعزت نفوسهم عن ذل المراياة وفزعوا عن الآراء إلى الروايات وتمسكوا بالظاهر تحرجاً عن التأويل وغلبت عليهم الأعمال الصالحة فلم يدققوا في العلوم الغامضة بل دققوا في الورع وأخذوا ما ظهر من العلوم وما وراء ذلك قالوا الله أعلم ولم احفظ على أحد منهم تشبيهاً إنما غلب عليهم (الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار من غير تأويل ولا إنكار) والله يعلم أني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة خالية من البدع سوى من سلك هذا الطريق والسلام.
هذا وقد رأيت أن أكتب إليكم عن ذيل صنف بعد الكتاب المنوء به للسيد محمد كمال الدين الغزي مفتي الشافعية بدمشق المتوفى سنة 1214 في نسخة خطية عندي ذكر في مقدمته سبق أبي الحسين محمد ابن القاضي الكبير أبي يعلى الفرا إلى وضع طبقات الحنابلة واختصار شمس الدين محمد بن عبد القادر النابلسي المقدسي له (ولم نره كذيل الجمال يوسف بن عبد الهادي المقدسي وذيل تقي الدين بن مفلح) وتذييل الحافظ زين الدين بن رجب عليه وجمع العليمي كل ذلك في المنهج الأحمد طبقاته المذكورة ثم ابتدأ الغزي ذيله من أول القرن العاشر حيث وقف سلفه العليمي حتى وصل إلى آخر القرن الثاني عشر في 180 صفحة فجاء في من رجال العلم والدين أمثال جمال الدين يوسف بن عبد الهادي المقدسي صاحب المؤلفات الحديثة والطبية والتاريخية المدهشة المتوفى سنة 909 وشرف(61/84)
الدين موسى الحجاوي مفتي الحنابلة بدمشق وصاحب متن الإقناع المتوفى في حدود سنة 960 والشيخ مرعي الكرمي المقدسي ثم المصري صاحب التآليف في كل فن المتوفى سنة 1033 وأبي الفلاح عبد الحي العكري الدمشقي صاحب شذرات الذهب في أخبار من ذهب الذي بدأه من الهجرة إلى سنة ألف منها وبني مفلح وبني الشويكي وبني الرجيمي وبني البلباني وبني الجراعي وبني المواهبي وأعلام من الديار النجدية والنابلسية رحمهم الله تعالى.
وقد وقع في نفسي أن أجمع تراجم رجالنا في هذه المائة سنة الأخيرة وصلاً لهذه السلسلة البديعة فوفقت ولله الحمد لجمعها في 46 صفحة.
وحبذا لو صحت الأحلام بطبع طبقات العليمي فذيله المنوه به غير أنه بالنظر لعظم هذا المشروع الذي يحتاج فيه إلى التعاون على نفقات الطبع الباهظة وقلة الحنابلة في دمشق بحيث لا يتجاوزون أصابع الكف أرى من الواجب على من عرف تاريخهم ووقف على سيرهم أن يشتركوا بسهام الطبع لا كون أو لهم إقداماً وأعظمهم سهماً وأشكرهم.
دمشق:
محمد جميل الشطي.
مجموعة
المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سورية ولبنان تعريب الشيخين فليب وفريد الخازن.
بمطبعة الصبر في جونية من لبنان سنة 1910 و1911 المجلد الأول ص462 والثاني 480
أجاد المعربان الفاضلان في نقل هذه المفاوضات والرسائل السياسية من الإفرنجية إلى اللغة العربية لأنها مادة تاريخة مهمة وأدلة يصح بها نقل الناقل ورواية الراوي وكلام المتكلم خصوصاً وقد قلت الكتب السياسية التاريخية التي وقع فيها ذكر سورية.
والمجلدان وإن كان أكثر ما يدور عليه محورهما له مسيس شديد بسياسة لبنان إلا أن سائر أقطار سورية لها علاقة قوية بذلك خصوصاً وادي التيم والبقاع ودمشق وغيرها من البلاد التي نشبت فيها تلك الفتنة المشؤومة المعروفة بفتنة الستين 1860م التي انتهت بمنح لبنان(61/85)
استقلالاً إدارياً بمساعدة فرنسا وانكلترا، ومعلوم أن السياسيين لا يجوز لهم أن ينشروا أموراً تتعلق مباشرة بسياسة دولهم إلا إذا مضى عليها خمسون سنة ولذلك ساغ لإخلاف أولئك السياسيين الأجانب الذين كان لهم دخل في سياسة سورية على ذاك العهد أن ينشروا ما كتب في هذا الشأن ليكون تاريخاً، فالشكر كل الشكر لناشري هذا السفر النافع ومعربيه وعسى أن يترجم العارفون باللغات كل ما له مساس بحالة هذا القطر لتعم به الفائدة ونعرف ماذا يقول فينا خصومنا أو أولياؤنا لنا أو علينا.
فصل القضاء
جمع واضع هذه الرسالة نحو 1850 لفظة عربية قد يشتبه التفريق بينهما فيما إذا كانت تكتب بالضاد أو الظاء مرتباً لها على حروف المعجم مترجماً لها إلى اللغتين العثمانية والفارسية وقد قال في المقدمة أن جمعاً من العلماء الأعلام صنفوا في هذا الشأن كالإمام ابن مالك والحريري وابن سهل النحوي وغيرهم لكنهم لم يرتبوا ما صنفوه على حروف الهجاء فصعب استخراج المقصود على من يعتني بهذا الغرض، فنشكر المؤلف عنايته بسد هذه الثلمة ونرجو أن يحذو حذوه في التأليف كل من أوتوا طرفاً من العلم وشدوا شيئاً من الأدب.
سيرة الفاتح
أجاد صديقنا بتعريب هذه السيرة لرجل العثمانيين العظيم فاتح القسطنطينية وحبذا لو توفر على تعريب غير ذلك من الآثار التاريخية عن اللغة التركية خاصة لأنه كاتب مجيد باللغتين، وهذه اللغة قليلة النقل عن التركية كما أن هذه قليلتها عن العربية، والأمم لا تتعارف إلا إذا تعاورت النقل إحداها عن الأخرى، وعلى كل فنشكر المعرب ونرجو له التوفيق إلى إتمام خدمته العلمية.
الجاذبية وتعليلها
اعتاد الأستاذ صاحب هذا الكتاب أن يأتي الحين بعد الآخر بمبتكرات من أفكاره تدل على طول باع وذكاء جنان كما فعل في كتابه الكائنات وفي مقالاته التي أراد بها تغيير الخط العربي وإبداله بحروف له اخترعها وإسقاط القوافي من الشعر العربي وجعل كل بيت من القصيدة ذا قافية واحدة وآخر كتبه هذه الرسالة اللطيفة في الجاذبية خالف فيها أهل هذا(61/86)
الفن في الغرب وقال أن الجاذبية في الحقيقة هي دافعية تنشأ من دفع الأجسام بعضها لبعض وأن ما يتراءى للناس أنه جذب إنما هو في الحقيقة تغلب قوة دافعة على قوة دافعة أضعف منها فالحجر يسقط على الأرض لأن الأجرام التي في السماء تدفعه إلى جهتها والأرض تمنع بحيلولتها دفع السماء من الجهة المقابلة، وهذه الرسالة وإن حوت ما لا يقره عليه أهل الفن فإنها دلت على أن المؤلف ضرب في العلوم المادية بسهم وأنه جريء في كل إصلاح يحاوله، والشجاعة الأدبية مما ينقص كثيراً من الكاتبين فله منا الشكر على هديته ومن العربية الثناء على خدمتها في الفنون كما يخدمها في الآداب.
أبحاث واقتراحات في التشريع المصري الحالي
ألف اميل أفندي بولاد أحد رجال المحاماة في القاهرة رسالة في إصلاح المجالس الحسبية وتناقض الأحكام الأهلية ولزوم إنشاء محكمة نقض وإبرام مدنية وضوابط صحيفة الاستئناف بالقانون الأهلي والدعوى العمومية والصلح الجنائي القضائي وغير القضائي وقانون النفي الإداري وأخطار تطبيقه وكل هذه المباحث تهم ابن وادي النيل أكثر من غيره لأن قضاءه وإن كان ممزوجاً بالقضاء الإسلامي والقضاء الفرنسوي إلا أنه خاص بأمة لها اصطلاح خاص وعادات خاصة فنشكر لوطنينا المحامي غيرته على الحق والبلاد التي يسكنها.
دليل السلام
أصدرت إدارة جريدة السلام في بونس آيرس عاصمة الجمهورية الفضية هذه السنة أيضاً دليلها هذا وهو يحتوي على عناوين التجار السوريين في الارجنتين والارغواي والبرازيل وتشيلي وكثير من الفوائد التجارية والإحصائية بعضه بالعربية وأكثره بلغة تلك البلاد.
حديقة الجنان في تاريخ لبنان
تأليف الخوري اسطفان ضو طبع بالمطبعة الجامعة في البترون (لبنان) سنة 1911 ص144
لم يخدم جبل من جبال المملكة العثمانية بتاريخه وجغرافيته وعمرانه يمثل ما خدم به جبل لبنان فلأهله غرام بذلك وعادة بالتوفر على إظهار محاسنه ومن الكتب الجديدة في هذا الشأن كتاب حديقة الجنان (؟) وهو مختصر في تاريخ الجبل وما وقع فيه من الحوادث(61/87)
وطرأ عليه من اختلاف الأحكام والحكام السابقين منذ سنة 600 إلى تاريخ بلادهم وأصقاعهم ما أمكن لما بقي مكان مجهول حاله في هذه الديار فإنا نرى أناساً دونوا وقائع طرابلس وآخرون عنوا بتاريخ حماه وغيرهم سطروا تاريخ حمص وبعضهم ذكروا لبنان فليت أهل كل بلد يدونون ما يجب عليهم لبلدهم من هذا القبيل وإذا فعلوا يخدمون التاريخ العام.
دروس الصرف والنحو
اقتضت طبيعة النهضة في سورية أن تؤلف لها الكتب المدرسية بحسب ذوق العصر حسنة التنسيق والتبويب وممن يتوفرون على هذا الشأن مؤلف هذا الكتاب أحد فضلاء بيروت وفيه تمارين عملية يفهمها الطالب الصغير فشكراً له على هذه العناية ووفق إلى إتمام هذه الأقسام لنفع طلاب الآداب.
وجوب الحمية عن مضار الرقية
كان السيد محمد بن عقيل من أفاضل الحضارمة في سنقافورا ألف كتاباً سماه النصائح الكافية لمن يتولى معاوية أتى فيه بالبرهان التاريخي والديني أموراً أقره عليه بعض العلماء وأنكرها عليه بعضهم وممن ألف في الانتصار له الأستاذ أبو بكر المشار إليه ففند ما قاله بعضهم ممن رموا السيد ابن عقيل بالتشيع وقال أن المسألة مسألة تاريخية دينية لا تقدح بمذهب من يقول الصريح فيها وأورد لذلك نصوص المؤرخين وغيرهم بعبارات رشيقة وإنا لنرجو أن تكون هذه الرسالة آخر ما يؤلف في موضوع فرغ منه أو كاد وأن تصرف تلك القرائح فيما ينهض بالأمة من عثارها اليوم، ومعاوية أن توليناه أو لم نتوله فقد لقي حسابه وجزاءه.
لباب الخيار في سيرة المختار
نشر المؤلف هذا الكتاب لتعليم ناشئة المسلمين سيرة صاحب شريعتهم عليه الصلاة والسلام وقد صدره بإجمال عن العرب قبل الإسلام ووصف بلاد العرب وأخلاقهم وعاداتهم وجميع ما يتعلق بسيرة صاحب الرسالة وآدابه وغزواته ونشر دعوته، ونسقه على عادته تنسيقاً يجب تلاوته إلى القارئ بعبارة سهلة جزلة وقد قدر المؤلف مساحة جزيرة العرب بمليون ومئة ألف ميل مربع أو 3156558 كيلومتراً مربعاً أو 126 ألف فرسخ مربع وعمل(61/88)
حسابها بالميل والكيلومتر والفرسخ فجاء الحساب متقارباً وقدر نفوسها باثني عشر مليوناً وقيل عشرة ملايين، والكتاب لا يستغني عنه طلاب المختصرات ولذلك عولت المدارس الإسلامية على تدريسه ونعما فعلت.
العادات
صاحب هذا الكتاب هو مؤسس جريدة لسان الحال البيروتية وصاحب المطبعة الأدبية خدم الطباعة العربية زمناً وهو اليوم بكتابه هذا يريد أن يخدم العادات العربية بوضعه لها مختصراً في مصطلحات الزيارات والولائم والأعراس، المآتم وآداب المحافل وغيرها مما هو جار عند الشعوب المتمدنة كتبه لطبقة خاصة من الأمة العربية بل أخص من الخاصة لأن معظم ما فيه من العادات يتعذر القيام به إلا على من الفوه من أهل الطبقة الراقية في الغرب فما أورده من هذا القول لا يتأتى تطبيقه الآن على المرأة المسلمة مثلاً لأن الشرط الأول مفقود عندها وهو اختلاط الرجال بالنساء ويتعذر كل التعذر العمل به عند غير المسلمين إذ يجب أن يكون لهم محيط يساعد عليه ومال يتوسعون في البذل منه وكنا نود لو قال المؤلف أن هذا كتاب في عادات الغربيين فطبقوا منها ما يمكن تطبيقه، على أن ما كتبه يحتوي على فوائد مهمة لا يستغني عنها إنسان في مجتمع مهما انحطت مكانته وقلت نعمته ومدنيته.(61/89)
العدد 62 - بتاريخ: 1 - 4 - 1911(/)
لفتوى في الإسلام
آداب المستفتي وصفته وأحكامه
الأول
المستفتي كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مستفت بتقليد من نفسه.
والمختار في التقليد أنه قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطاء بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه.
ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها.
فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الأيام والليالي.
الثاني
يجب عليه قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته.
فلا يجوز لا استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والاقراء وغيرها من العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك.
ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله انا أهل للفتوى لا شهرته بذلك ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر لأن الاستفاضة والشهرة من العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس: والصحيح هو الأول لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته ويجوز استفتاء من المشهور المذكور بأهليته.
قال الشيخ أبو اسحق الشيرازي رحمه الله وغيره: يقبل في أهليته خبر العدل الواحد قال أبو عمرو: ينبغي أن يشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به المتلبس من غيره فلا يعتمد في ذلك على آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك.
وإذا اجتمع اثنان أو أكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعيانهم والبحث عن الأعلم والأورع الأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان (أحدهما) لا يجب بل له(62/1)
استفتاء من شاء منهم لأن الجميع أهل وقد اسقطنا الاجتهاد عن العامي وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين (والثاني) يجب لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال وهذا الوجه قول أبي العباس ابن سريج واختاره القفال المرزوي وهو الصحيح عند القاضي حسين والأول أظهر وهو الظاهر من حال الأولين.
قال أبو عمرو رحمه الله: لكن من اطلع على الأوثق فالأظهر أنه يلزمه تقليده كما يجب أرجح الدليلين وأوثق الروايتين، ثم هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلد الأعلم على الأصح.
وفي جواز تقليد الميت وجهان (الصحيح) جوازه لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها (والثاني) لا يجوز لفوات أهليته كالفاسق (قال النووي) وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار.
(الثالث)
هل يجوز للعامي أن يتخير أي مذهب شاء قال الشيخ ينظر أن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في قول أن العامي هل له مذهب أم لا (أحدهما) لا مذهب له لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما (والثاني) له مذهب فلا يجوز له مخالفته.
وإن لم يكن منتسباً بني على وجهين حكاهما ابن برهان في العامي هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب مفت يأخذ برخصه وعزائمه أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يختص بتقليده عالماً بعينه فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء أم يجب عليه البحث عن أسد المذاهب وأصحها أصلاً ليقلد أهله فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتين والثاني يلزمه وبه قطع أبو الحسين الكيا وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم.
الرابع
إذا اختلفت عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب أحدها يأخذ بأغلظها والثاني بأخفها والثالث يجتهد في الأولى ويأخذ بفتوى الأعلم لا الأورع كما سبق واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة والرابع يسأل مفتياً آخر فيأخذ(62/2)
بفتوى من وافقه والخامس يتخذ فيأخذ بفتوى أيهما شاء واختاره أبو اسحق الشيرازي وجماعة.
قال الشيخ أبو عمرو: المختاران عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق بين المفتيين فيعمل بفتواه:
وقال النووي: الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة وهي الثالث والرابع والخامس والظاهر أن الخامس أظهرها لأنه ليس من الاجتهاد وإنما فرضه أن يقلد عالماً أهلاً لذلك وقد يفعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أماراتها حسية فإدراك صوابها أقرب فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها والفتاوى أماراتها معنوية فلا يظهر كثير تفاوت بين المختلفين والله أعلم.
الخامس
قال الخطيب البغدادي: إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه مفت إلا واحد لزمه فتواه وقال أبو المظفر السمعاني: إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه قال ويجوز أن يقال أنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل بلزمه إذا وقع في نفسه صحته قال السمعاني وهذا أولى الأوجه قال الشيخ أبو عمرو: لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتوى من اختاره باجتهاده.
قال الشيخ: والذي تقتضيه القواعد أن يفصل فيقال: إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر يلزمه الأخذ بفتواه ولا يتوقف ذلك على التزامه لا في الأخذ بالعلم به ولا بغيره ولا يتوقف أيضاً على سكون نفسه إلى صحته وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه بناء على الأصح في تعينه وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتفاق أو حكم حاكم لزمه حينئذ.
السادس
إذا استفتى فأفتي ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال فيه وجهان أحدهما يلزمه لاحتمال تغير رأي المفتي والثاني يعمل به وهو الأصح لأنه قد عرف الحكم(62/3)
أولاً والأصل استمرار المفتي عليه وخصص صاحب الشامل الخلاف فيما إذا قلد حياً وقطع فيما إذا كان ذلك خبراً عن ميت فإنه لا يلزمه والصحيح أنه لا يختص فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه.
السابع
له أن يستفتي بنفسه وله أن يعبث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يشك في كون ذلك الجواب بخطه.
الثامن
ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويجله وفي خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب إمامك ولا يقل إن أجابه هكذا قلت لنا ولا يقل أفتاني فلان أو غيره بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقاً لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب.
وينبغي أن يبدأ بالاسن الأعلم م المفتين وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الأجوبة في رقعة وإن أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحاً لا مختصراً مضراً بالمستفتي ولا يدع الدعاء لمن يستفتيه قال الصيمري: فإن اقتصر على فتوى واحد قال ما تقول رحمك الله أو رضي عنك أو وفقك الله أو سددك ورضي عن والديك وإن أراد جواب جماعة قال ما تقولون رضي الله عنكم أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى ويرفع الرقعة إلى المفتي منشورة ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها.
التاسع
ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف قال الصيمري يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل فقيه من أهل العلم ببلده.(62/4)
وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل ولا يقل لم قال النووي: فإن أحب أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة.
وقال السمعاني: لا يمنع من طلب الدليل وإنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعاً به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً به لافتقاره إلى الاجتهاد ويقصر فهم العامي عنه.
(العاشر)
إذا لم يجد صاحب الرقعة مفتياً ولا أحداً ينقل له حكم واقعته لا في بلدة ولا في غيره قال الشيخ - ابن الصلاح - هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد وأنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك فلا يؤاخذ إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها والله تعالى أعلم.
من أفتى بالحديث الصحيح مخالفاً لمذهبه
قال الإمام النووي: صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي: وروي عنه: إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي: أو قال: فهو مذهبي: وروى عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة.
وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحليل من الإحرام بعذر المرض وغيرها مما هو معروف في كتب المذهب.
وقد حكى أبو اسحق الشيرازي في ذلك عن الأصحاب فيها ممن حكى أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطي وأبو القاسم الدارلي، وممن نص عليه أبو الحسن الطبري في كتابه في أصول الفقه، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون.
وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث: انتهى.
وفي شرح الهداية لابن الشحنة - من كبار الحنفية - فإذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفياً بالعمل به فقد(62/5)
صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة.
وقال الإمام السندي في حواشيه على فتح القدير - من كتب الحنفية - الحديث حجة في نفسه واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا يعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان فإنما يقال له انظر هل هو منسوخ أم لا، إما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطاء المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث، قال ابن عبد البر: يجب على كل من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه، وأيضاً فإن المنسوخ من السنة في غاية القلة حتى عده بعضهم أحداً وعشرين حديثاً، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطاء المفتي كيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ، ولو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطاً في العمل بها وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله تعالى الحجة برسوله صلى الله عليه وسلم دون آحاد الأمة، ولا يعرض احتمال الخطاء لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعاف حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه ويجري عليه التناقض والاختلال ويقول القول ويرجع عنه ويحكى عنه في المسألة عدة أقوال، وهذا كله فيمن له نوع أهلية أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلان يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز ولو قدر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها فكذلك الحديث انتهى كلام السندي مخلصاً وقد أطال من هذا النفس العالي رحمه الله ورضي عنه.
إيثار الفتوى بالآثار السلفية
قال ابن القيم في أعلام الموقعين: اعلم أن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى(62/6)
التابعين وفتاوى التابعين أولى من فتاوى من بعدهم، وكلما كان العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم أقرب كان الصواب فيه أغلب، وهذا الحكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل فإن عصر التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم: وتتمة كلامه درر لا يستغنى عن مراجعتها.
عناية المفتي بتعليل الأحكام وبيان أسرارها
قال الغزالي في المستصفى: إن في معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسناً وتأكيدا ومن أحسن المؤلفات في أسرار الشريعة أعلام الموقعين وحجة الله البالغة.
حظر الفتوى بنسخ نص إلا بنص
قال الإمام أبو محمد بن حزم في مقدمة المحلى: ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت هذا منسوخ وهذا مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر وإلا فهو كاذب انتهى.
وقال العلامة أبو النصر القزاني القورصاوي في كتابه الإرشاد: إن الاعتصام بالكتاب والسنة أصل أصيل من أصول الدين والناس رفضوا هذا القطب حتى حسبوا أن الحديث الموجب للعمل مفقود، وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود، ولما كانت هذه بدعة عم في الدين ضررها، واستطار في الخلق شررها، وجب كشف الغطاء (إلى أن قال) فيقال لهؤلاء المخترعين هذا القول الذي وصفناه هل تجدون هذا الذي قلتم عن أحد يلزم قوله وإلا فهلموا دليلاً على ما زعمتم.(62/7)
فإن ادعوا قول أحد من علماء السلف بما زعموا من كون الأخبار الثابتة بنقل الثقات حجة على المجتهدين لا على غيرهم طولبوا به، ولن يجدوا هم ولا غيرهم إلى إيجادهم سبيلاً.
وإن ادعوا فيما زعموا دليلاً يحتج به يقال ما ذلك الدليل، فإن قالوا إن الحديث يحتمل الوضع يقال ليس الذي يقوم حجة خبر كل من نصب نفسه محدثاً بلا ما رواه وأسنده الأئمة المتقنون المعروفون بالصدق والأمانة والثقات الراسخون في العلم عن قوم مرضيين عندهم وصححوه مثل مالك بن أنس ومسلم بن الحجاج ومحمد بن اسماعيل البخاري ومحمد بن ادريس الشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن عيسى الترمذي وسليمان بن أشعث السجستاني وغيرهم من الأئمة المعروفين، وكتبهم بأسانيدهم بين العلماء معتمدة مشهورة حتى قالوا إن الحديث إذا نسب إليهم فكأنه أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قد فرغوا من الإسناد وأغنونا عنه، ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو ضعفه فكما أن المجتهد يعتمد على ثبوت الخبر على الإسناد من جهة الثقات فكذلك غيره، وكما أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة يلزم به العمل على المجتهد وهو محجوج به فكذلك غيره، وكما يجب علينا الاتقاء من حديث لا يعرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه فكذلك على المجتهد.
وأيضاً إن الخبر يقين بأصله لأنه من حيث أنه قول الرسول عليه السلام لا يحتمل الخطأ وإنما الشبهة باعتبار النقل حيث يحتمل السهو والنسيان، وقول الفقيه يحتمل الخطأ بأصله إذ هو يجتهد فيخطئ ويصيب وإما باعتبار نقله فأكثره خال عن السند أصلاً فكما أن وضع الخبر محتمل وصحة الإسناد يدفعه فكذلك وضع الرواية محتمل ولا إسناد حتى يدفعه.
والصحابة رضي الله عنهم كانوا متفقين على ترك الرأي بالسنة وهو حجة شرعية فكيف لا يترك التقليد بها وهو ليس بحجة أصلاً.
فالواجب على من بلغه الحديث أن يعمل به هذا في فقهاء الصحابة رضي الله عنهم فكيف فيمن دونهم وقد صح عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي فإنه مذهبي: وقال علي بن محمد القاري: وهذا مذهب كل مسلم.
وأما قولهم: الحديث يحتمل النسخ والتأويل: قلنا إذا ظهر ناسخه فلا نزاع في سقوط العمل(62/8)
به وإن لم يظهر فلا يترك العمل بالدليل الثابت لاحتمال النسخ بل يعمل به حتى يظهر ناسخه، ولو صار الدليل متروكاً بكل احتمال لم يبق دليل معمولاً به إلا ترى إلى ما نقله أصحاب الأصول عن أبي حنيفة ومحمد وحسن بن زياد رضي الله عنهم أن الحديث وإن كان منسوخاً لا يكون أدنى درجة من الفتوى ما لم يبلغه النسخ، وأيضاً قد شاع عن الفقهاء الرجوع عن قول إلى قول فهذا القول الذي يخالف الخبر الصحيح يجوز أن يكون قولاً مرجوعاً عنه فيكون كلا قول فكيف يترك الحديث الثابت بإسناده لاحتمال النسخ ولا تترك الرواية الخالية عن السند لاحتمال رجوع قائلها بل الظاهر أنه لم يبلغه الحديث ولو بلغه لرجع إليه أو كان ذلك المروي مذهبه فبلغه الحديث وترك مذهبه بالحديث ورجع إليه إحساناً للظن به فإنه إن خالف الحديث لقلة المبالاة والتهاون به سقطت عدالته فلا تقبل روايته وفتواه.
وكذلك قولهم: يترك النص لاحتمال كونه مؤولاً: قلنا احتمال التأويل إما أن يكون ناشئاً عن قرينة أو خفاءٍ فيه كما إذا كان مشتركاً أو مشكلاً أو مجملاً مثلاً أولا فإن كان الثاني فلا عبرة للاحتمال أصلاً إذ المراد من الكلام ظاهره عند خلوه عن قرينة تصرفه عنه والعقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة وإلا لبطل فائدة التخاطب، والفرار عن ظل جدار غير مائل لتوهم السقوط ينسب إلى السفه ولا كذلك إذا كان مائلاً، وإن كان الأول فإن قدر على ترجيح أحد المعاني المحتملة بالرأي فيعمل بما ترجح عنده وإن لم يقدر على الترجيح وكان جواب المسألة مما اشتهر وظهر وانجلى عن أصحابنا أرجو أن يسع الاعتماد عليه والعمل به إن شاء الله تعالى، ألا ترى إلى قول العلماء أن التمسك في الأصول بالكتاب والسنة وإجماع الأمة مع المجانبة عن الهوى والبدعة وفي الفروع بالمجمع عليه ثم بالأحوط ثم بالأوثق دليلاً ثم يقول من ظن أنه أعلم وأورع.
وأيضاً كما أن التأويل محتمل في الحديث كذلك يحتمل في فتوى الفقيه فإن جاز فهم المراد من الفتوى لظهوره جاز فهم المراد من الحديث أيضاً لظهوره، وليس الفقيه بأقدر على الفهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا القول الذي أحدثوه وحكيناه عنهم من لزوم الأعراض عن سنن النبي وأحاديثه صلى الله عليه وسلم بالشبه التي وصفناها أحقر وأصغر من أن ينقل ويثار ذكره إذ هو قول محدث وكلام خلف يستنكره أهل العلم وحججهم داحضة عند(62/9)
العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم فلا حاجة في رده بأكثر مما شرحنا إذ قدر المقالة وقائليها القدر الذي وصفناه والله المستعان على دفع ما خالف السنة ومذهب أهل السنة وعليه التكلان انتهى كلامه بحروفه.
وجوب تحري المفتي من الأقوال أرجحها
إن مما يدعو للنظر والتروي في الفتيا كثرة المذاهب والأقوال في المسألة فليس مذهب أحق من مذهب ولا قول أرجح من آخر إلا بالدليل والبرهان الذي يدعمه ويؤيدة ويبينه أجلى بيان.
وقد اتفق الأصوليون كافة على وجوب اتباع المفتي الأقوى دليلاً والأقوم برهاناً من أي مذهب كان قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: ليس للمفتي ولا للعامل في مسألة القولين أن يعمل بما شاء منها بغير نظر بل عليه العمل بأرجحهما.
وقال العلامة أبو النصر القزاني الحنفي في كتابه الإرشاد: وليس للمفتي الفتوى بأحد القولين أو الوجهين من غير نظر بل عليه العمل بالأرجح والجمهور من المحققين قالوا: إن العمل والفتوى بالمجمع عليه ثم بالأحوط ثم بالأوثق دليلاً ثم يقول من ظنه أعلم وأورع ولذلك ترى المنتسبين إلى مذهب يفتون بخلاف قول إمامهم كالحنفية يقلدون أبا حنيفة فيما لم يظهر على خلاف قوله دليل أقوى من دليله وإذا ظهر الدليل الراجح على دليله يفتون ويعملون على خلاف قوله ويقولون الفتوى على قول أبي يوسف أو على قول محمد أو على قول زفر مثلاً وينقلون قول أبي حنيفة رضي الله عنه في ظاهر الرواية على خلافه وكذلك أبو يوسف أو محمد مثلاً ممن ينتسبون لمذهب أبي حنيفة فإنهم يقلدونه فيما لا دليل عندهم وإذا قام الدليل على خلافه يفتون بغير قوله لأن الواجب متابعة الدليل الراجح عند قيامه والتقليد إنما يصار إليه عند الضرورة مقدرة بقدرها انتهى.
وقال الإمام ابن هبيرة في الإيضاح: إذا خرج من خلاف الأئمة المجتهدين متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكنه كان آخذاً بالحزم عاملاً بالأولى وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه يأخذ بالحزم مع جواز عمله بقول الواحد إلا أنني أكره له أن يكون مقتصراً في حكمه على أتباع مذهب أبيه أو شيخه مثلاً فإذا حضر عنده خصمان وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الأئمة الثلاثة يحكمه نحو(62/10)
التوكيل بغير رضا الخصم وكان الحاكم حنفياً وعلم أن مالكاً والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل وإن أبا حنيفة يمنعه فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بمفرده من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله ولا أداه إليه اجتهاده فإني أخاف عليه من الله عز وجل أن يكون اتبع في ذلك هواه ولم يكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (وكذلك) إن كان القاضي مالكياً واختصم إليه اثنان في سؤر الكلب فقضى بطهارة مع علمه بأن الفقهاء كلهم قد قضوا بنجاسته (وكذلك) إن كان القاضي شافعياً واختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً فقال أحدهما هذا منعني من بيع شاة مذكاة وقال آخر إنما منعته من بيع الميتة فقضي عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه (وكذلك) إن كان القاضي حنبلياً فاختصم إليه اثنان فقال أحدهما لي عليه مال فقال الآخر كان له علي مال ولكن قضيته فقضى عليه بالبراءة مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فهذا وأمثاله مما أرجو أن يكون أقرب إلى الخلاص وأرجح في العمل.
وقال الإمام ابن عبد البر في جامع العلم: الواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول على الصواب منها وذلك لا يعدم فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة فإذا لم يبن وجب التوقف ولم يجز القطع إلا بيقين فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد واستعمل عند إفراط التشابه والتشاكل وقيام الأدلة على كل قول بما يعضده قوله صلى الله عليه وسلم البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك: هذا حال من لا يمعن النظر وهو حال العامة التي يجوز لها التقليد فيما نزل بها وأفتاها بذلك علماؤها.
وأما المفتون فغير جائز عند أحد ممن ذكرنا قوله لا أن يفتي ولا يقضي حتى يتبين له وجه ما يفتي به من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان في معنى هذه الأوجه انتهى وهو خلاصة الخلاصة ولباب اللباب وما ألطف قول الماوردي: يلزم الاجتهاد في كل حكم طريقه الاجتهاد انتهى والمجتهد فيه قال الغزالي هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي وقد ذكر الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين أن من أفتى بقول يعلم أن غيره أرجح منه أنه خائن لله ورسوله وللإسلام إذ الدين النصيحة (قال رحمه الله) وكثيراً ما ترد المسألة تعتقد(62/11)
فيها خلاف المذهب ولا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب ثم نحكي المذهب الراجح ونقول هذا هو الصواب وهو الأولى أن يؤخذ به.
وههنا لا بد من التنبيه على أنه ليس كل ما يقال عنه ضعيف هو ضعيف حقيقة فقد سرى التقليد في كل شيء حتى في التضعيف وليس القول الضعيف ما ضعفه فقيه برأيه لتوهم مخالفة قاعدة عنده أو قياس أو نظير كلا أن الضعيف ما خالف دليلاً صحيحاً من نص أو قياس قويم وكم من قول مضعف هو صحيح برهاناً ونظراً وأوفق للمصلحة ولحكمة الشارع ويرحم الله القائل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
فعلى المفتي أن يمحص الأقوال ولا يغتر بمجرد التضعيف بل يجري وراء الأسد برهاناً الأصلح عمراناً وقد قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
الحذر من الفتاوى في تحسين البدع ووجوب الرجوع إلى مآخذها
قال الإمام ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتابه المدخل: وليحذر أن يغتر العالم أو يميل إلى بدعة لدليل قام عنده على إباحتها من أجل استئناس النفوس بالعوائد أو بفتوى مفت قد وهم أو نسي أو جرى عليه من الأعذار ما يجري على البشر وهو كثير بل إذا نقل إباحة شيءٍ من هذه الأمور عن أحد من العلماء فينبغي للعالم بل يجب عليه أن ينظر إلى مأخذ العالم المسألة وجوازه إياها من أين اخترعها وكيفية إجازته لها لأن هذا الدين والحمدلله محفوظ فلا يمكن أن أحداً يقول فيه قولاً بغير دليل ولوفعل ذلك لم يقبل منه وهو مردود عليه وتتمته نفيسة فليرجع إليه.
وقال الإمام محمد البلاطنسي في خلال فتوى له: إن الواجب على الشخص أن يلزم طريق السنة ويجتنب سلوك البدعة ولا يغتر بكثرة الفاعلين لها ولا يكون العامل بها والمواظب عليها عالماً أو مرموقاً بعين الصلاح.
وقال الإمام أبو شامة الدمشقي: وأكثر ما يؤتى الناس في البدع بهذا السبب يكون الرجل مرموقاً بالأعين فيتبعون أقواله وأفعاله فتفسد أمورهم مع تمادي العهد ونسيان أول هذا الأمر كيف كان وقال شيخنا البلاطنسي رحمه الله: إن أهل الزمان إنما أتوا من قبل أنهم يفتون في كل ما يسألون عنه ولا يدرون أصابوها أم أخطؤها والمناكر الفظيعة لا ينتبهون(62/12)
لها ولا ينكرونها سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري فالله المستعان على هؤلاء الذين شهواتهم غالبة على ديانتهم ويفتون بما ينقدح في أذهانهم ولا يقصرون أنفسهم عما لا يعرفونه وأكثرهم ينطبق عليه الحديث الذي في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
(قال الإمام أبو بكر الطرطوشي) فتدبروا هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس من قبل علمائهم فقط وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله.
قال وقد صرف عمر رضي الله عنه هذا المعنى تصريفاً فقال: ما خان أمين قط ولكنه اؤتمن غير أمين فخان (قال) ونحن نقول ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل انتهى.
استفتاء القلب
روى الإمام أحمد والدارمي في مسنديهما عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البر قلت نعم قال: استفت قلبك البر ما اطمأنت عليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك يشير إلى التورع عما هو حلال في الفتوى بحسب ظاهر الحال ولكنه يجد حزازة في قلبه فكل من وجد حزازة وأقدم مع ما يجده في قلبه فذلك يضره لأنه مأخوذ في حق نفسه بينه وبين الله تعالى بفتوى قلبه وتفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام من إحياء علوم الدين.
تغير الفتوى بتغير الأحوال والرد إلى المصالح
عقد الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين فصلا لتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات وقال هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة فبناها وأساسها على(62/13)
الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها وصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة في شيءٍ وإن أدخلت فيها بالتأويل الخ والبحث جدير بالمراجعة وللإمام نجم الدين الطوفي مبحث واف في المصالح المرسلة لا يستغني عن مراجعته مفت ولا حاكم.
بحث قولهم في الفتوى هذا حكم الله أو فما حكم الله في كذا
المستفتي إما أن يسأل عن حكم منصوص عليه أو مجتهد فيه ففي الأول لا خلاف في جواز قوله: فما حكم الله: وقول مفتيه هذا حكم الله: لأن حكم الله كما قال الغزالي في المستصفى خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وفي الثاني أعني المجتهد فيه أن على رأي الجمهور إن لله فيه حكماً معيناً يتوجه إليه الطلب وقد يصيبه المجتهد وقد يخطئه فلا يسوغ أن يقال فما حكم الله ولا هذا حكم الله لأنه مغيب وهو مثل دفين يعثر عليه المجتهد بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن أخطأه أجر واحد لأجل سعيه وطلبه وإن قلنا على رأي غيرهم أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين بل الحكم يتبع الظن والفرض على كل مجتهد ما غلب على ظنه فله أن يقول ما حكم الله بمعنى ما شرعه وأذن فيه وذلك هو ما غلب على ظن المجتهد.
وقد لخص هذه المسألة العلامة العضد في شرح مختصر المنتهى بقوله المسألة إما لا قاطع فيها من نص أو إجماع أو فيها قاطع أما التي لا قاطع فيها فقد اختلف فيها فقال القاضي - أبو بكر الباقلاني - والجبائي كل مجتهد مصيب بمعنى أنه لا حكم معيناً لله فيها وحكم الله فيها تابع لظن المجتهد فما ظنه فيها كل مجتهد فهو حكم الله فيها في حقه وحق مقلده وقد قيل لله فيها حكم والمصيب واحد وهو ما للجمهور.
وقد استدل للجمهور بحديث بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أوسرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال له وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا قال المحد ابن تيمية وهو حجة في أن ليس كل مجتهد مصيباً بل الحق عند الله واحد.(62/14)
وكذلك بحديث إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وأن أخطأ فله أجر فدل أن فيه خطأ وصواباً.
وقد أجيب عن الحديث الأول بما حكاه العلامة الشوكاني في نيل الأوطار قال وقد قيل أن هذا الحديث لا ينتهض للاستدلال به على أن ليس كل مجتهد مصيباً لأن ذلك كان في زمن النبي والأحكام الشرعية إذ ذاك لا تزال تنزل وينسخ بعضها بعضاً ويخصص بعضها ببعض فلا يؤمن أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس:
وأجاب الإمام الغزالي في المستصفى عن الحديث الثاني بقوله والجواب من وجهين الأول أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف يستحق الأجر (الثاني) هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطأ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئاً فيما طلبه مصيباً فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال أخطأ أي أخطأ ما طلبه ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها (ثم قال) فإن قيل ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء قلنا لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل للمخطئ أجرين لكان له ذلك وله أن يضاعف الأجر على أخف العملين لأن ذلك منه تفضل ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال.
والبحث جدير بالعناية وقد جوده حجة الإسلام الغزالي في المستصفى فارجع إليه
الحذر من رد النص بالتأويل
قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية: إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى شرفها وعلاها ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواها وأرفعها بعد فهم كتاب الله المنزل البحث عن معاني حديث نبيه المرسل إذ بذاك تثبت القواعد ويستقر الأساس وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس لكن شرط ذلك عندنا أن يحفظ هذا النظام ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام وترد المذاهب إليه وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه.(62/15)
وأما أن يجعل الفرع أصلاً ويرد النص إليه بالتكلف والتحيل ويحمل على أبعد المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذلول ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول فذلك عندنا من أردء مذهب وأسوء طريقة ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه وأنى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه ومتى ينصف حاكم ملكته غضبة العصبية وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة بالحمية إلخ.
الفتوى في أمر لم يقع
قال الإمام أبو شامة رحمه الله في كتابه (المؤمل في الرد إلى الأمر الأول) ما مثاله: كان الصحابة إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه وكانوا يتدافعون الفتوى ويود كل منهم لو كفاه إياه غيره وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع ويقولون للسائل عنها: أكان ذلك: فإن قال لا قالوا: دعه حتى يقع ثم نجتهد فيه: كل ذلك يفعلونه خوفاً من الهجوم على ما لا علم لهم به واشتغالاً بما هو الأهم فإذا وقعت الواقعة لم يكن بد من النظر فيها.
قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ولم يمض به كتاب ولا سنة وكرهوا للمسؤول الاجتهاد فيه قبل أن يقع لأن الاجتهاد إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد واحتج في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه: انتهى.
المواضع التي يجب فيها على المفتي المناظرة أو يستحب وشرح
فوائدها
قال حجة الإسلام الغزالي في المستصفى: المحصلون يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لسنة أغراض.
(أما الوجوب) ففي موضعين (أحدهما) أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم ولو عثر عليه لامتنع الظن والاجتهاد فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم(62/16)
ويعصى - المجتهد - بالغفلة عنه (الثاني) أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة.
(وأما الندب) ففي مواضع (الأول) أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له وأنه إنما يخالف حسداً أوعناداً أو نكراً فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد (الثاني) أن ينسب إلى الخطاء وأنه قد خالف دليلاً قاطعاً فيعلم جهلهم فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة (الثالث) أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير وكان طريقه عند عتيداً يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه (الرابع) أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد وهو لذلك أفضل وأجزل ثواباً فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الأفضل ومن الحق إلى الأحق (الخامس) أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات (السادس) وهو الأهم أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق فيه واحد من الأصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتياض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الأصول أو إلى ما هو فرض على الكفاية إذ لا بد في كل بلد من عالم مليء بكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة.
فهذه فوائد مناظرات المحصلين وهو من أحسن ما كتب فيها وبه يعلم أن الدخول في المناظرة إنما هو للمجتهد وقد صرح به حجة الإسلام عليه الرحمة أيضاً في بحث آداب المناظرة من كتاب العلم في الأحياء وأما المقلد فقد قال عليه الرحمة في كتابه فيصل التفرقة: إن شرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه: في كلام بديع ينبغي مراجعته وما ألطف قول ابن سهل: فما أضيع البرهان عند المقلد والله أعلم.(62/17)
نموذج من فتاوى القرن السابع وتوقيع عدة مفتين على فتوى واحدة
(واقعة)
قرية موقوفة على شخصين على سبيل الإشاعة الوقف الصحيح الشرعي فوضع شخص يده على نصف الأرض واستغلها وبقي النصف الآخر في يد الشريك فهل يكون الحاصل من مغل النصف الباقي بين الشريكين أم لا.
أجاب الشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن نوح المقدسي إذا كانت مشاعة غير مقسومة فالغصب واقع عليهما ومغل ما لم توضع عليه اليد بينهما لا يختص به الشريك الذي هو في يده.
وصحح على جوابه عبد الكريم الأنصاري
وكتب قاضي الحنفية الصدر سليمان: نعم يكون بينهما إلا أن يكون نماء ملكه
وكتب بعض الحنابلة: نعم يكون ذلك بينهما على حسب شرط الواقف
وفيها أيضاً ما مثاله
(حادثة)
وقعت لنقيب الأشراف بدمشق سنة (666) كان قد حوسب فخرج عليه في الحساب ستة آلاف فقال: صرفتها في المداراة عن الوقف: فقال الأشراف: ما نعرف ما المداراة بين لنا ما أردت به: فقال: ما يلزمني ذلك شرعاً: فكتب في ذلك سؤال.
فكتب تاج الدين: إن لم يكن المتولي حاكماً فعليه بيان جهة المداراة ويكون ضامناً أن أصر على الامتناع من البيان، وساعده النجم الموقاتي على ذلك
وكتب البرهان المراغي: أنه لا يلزمه بيان المداراة:
فما كان يوم الجمعة السادس والعشرون من شوال من السنة المذكورة عقد مجلس بالعادلية عند قاضي القضاة ابن خلكان وحضر النقيب وقال: أن الفقهاء أفتوا أنه لا يلزمه بيان المداراة: فناظره الشيخ في ذلك فرجعوا إلى قوله وهذا لأن المداراة من غير الحاكم لا بد من تفسيرها لأنها في مظنة الاجتهاد فإنه قد يعتقد مصلحة ما ليس مصلحة الخ.
وفيها أيضاً ما صورته:
(واقعة)(62/18)
كان بدمشق شخص يعرف بناصر الدين ابن مجاور في سنة (673) وقف غراسا على مغارة الدم بجبل قاسيون ظاهر دمشق وأشهدنا بالوقفية ولم يكتب كتاب وقف فلما توفي كان لبيت المال في ميراثه نصيب فنازع وكيل بيت المال في الغراس فكتب محضر مضمونه أن ابن مجاور وقف ذلك الغراس على مغارة الدم وعلى مصارفها وقفاً صحيحاً شرعياً فقال الوكيل المصارف مجهولة وكتب في ذلك سؤال.
فكان الجواب أن المصارف الجهات المعينة في كتاب وقف مغارة الدم المتقدم على وقف هذا الغراس.
ولما حضر الشهود عند القاضي كانت صورة شهادتهم: أنهم يشهدون على إقرار ابن مجاور أنه وقف ذاك الغراس على مغارة الدم: ولم يقولوا وعلى مصارفها
فتوقف القاضي لذلك في الحكم ونازع الوكيل وقال: إن هذه الشهادة لا تقبل: فكتب في ذلك سؤال.
أجاب تاج الدين فيه بأن هذه الشهادة يثبت بها الوقف ويحكم الحاكم بالوقف بها مستدلاً على ذلك بأنهما شهدا على إقراره بالوقف ومطلق الإقرار بالوقف محمول على الصحيح والصحيح ما اجتمع فيه الشرائط المعتبرة فيه.
وساعده على ذلك البرهان المراغي والشيخ محي الدين النواوي وغيرهما.
وفيها أيضاً ما نصه
(واقعة)
وقف وقفاً صحيحاً شرعياً على بعض جهات البر وحكم به حاكم من حكام المسلمين واستثنى الواقف النظر فيه لنفسه مدة حياته وله أن يفوض ذلك إلى من يرى في حياته وبعد وفاته وكذلك كل من آل إليه النظر في هذا الوقف له أن يفوضه إلى من يراه أهلاً لذلك في حياته وبعد وفاته ولم يجوز هذا الواقف لناظر من النظار في هذا الوقف أن يفوضه إلا إلى من يعلم عدالته وأمانته وصلاحه ويختار من هو على هذه الصفات من أقرب الناس إلى الواقف ثم الأقرب فالأقرب إلى الأعلى من نسله فإن لم يكن من عصبته أحد موصوف بهذه الصفات فعند ذلك يفوض إلى من هو على هذه الصفات من عشيرة هذا الواقف فإن لم يوجد منهم أحد فوضه إلى من هو على هذه الصفات من الأجانب على(62/19)
حسب ما يراه وإن كان إلا بعد على هذه الصفات والأقرب عارياً عنها فيقدم الموصوف بهذه الصفات على الأقرب ومتى عاد الأقرب إلى هذه الصفات واتصف بها عاد النظر إليه ومتى مات الناظر من غير وصية ولا تفويض كان النظر بعده مفوضاً إلى الأقرب فالأقرب إلى الواقف من الموصوفين بهذه الصفات على الشرط المذكور فإن مات الناظر ولم يفوض إلى أحد ولم يبق من عشيرة الواقف المذكور أحد موصوف بهذه الصفات كان النظر في الوقف مردوداً إلى كل حاكم يتولى الحكم بمدينة كذا فأسند الواقف النظر في ذلك إلى أخيه زيد ثم إن أخا الواقف أسند النظر إلى ولده عمرو إذ لم يكن للواقف أحد أقرب منه ثم إن عمراً أسند إلى ولده بكر مع وجود من هو أقرب إلى الواقف فهل يصح إسناد عمرو أم لا وإذا لم يصح فيكون النظر إلى أقرب الناس للواقف بشرط الوقف وإذا كان الأقرب إلى الواقف امرأة وهي موصوفة بالصفات المشروطة في النظر فهل يعود النظر إليها لكونها أقرب إلى الواقف أم لا.
أجاب الزين ابن المنجا الحنبلي: لا يصح إسناد عمرو إلى ولده مع وجود من هو أقرب منه إلى الواقف وإذا مات عمرو ولم يجعل النظر إلى من له جعله كان النظر إلى الأقرب إلى الواقف الموصوف بما ذكر وإذا كان الأقرب امرأة موصوفة بما شرط وكان الوقف لا يتضرر بنظرها لقيامها بالواجب فيه إما بنفسها وإما بنائبها كان النظر إليها وكتب: كتبه ابن المنجا الحنبلي.
وكذلك بعده ابراهيم بن أحمد بن عقبة الحنفي
أجاب التقي ابن تيمية الحنبلي: لا يصح إسناد عمرو والحالة هذه بل يكون النظر إلى أقرب الموجودين إلى الواقف من المتصفين بالصفات المشروطة بمقتضى شرط الواقف إذ التفويض الفاسد كلا تفويض وسواء كان رجلاً أو امرأة لانتظام العموم لها وقد فوض عمر رضي الله عنه وقفه إلى حفصة وكتب: كتبه أحمد بن تيمية،
ووافقه على ذلك الشرف المقدسي الشافعي
هذه نموذجات من فتاوى القرن السابع وهكذا ما قبله فيرى الواقف أن الوقائع والنوازل والأقضية كانت تعرض على أنظار عدة من أولي العلم ليرى كل فيها ما يؤديه إليه اجتهاده وقد يدلي بعضهم بحجة أقوى وبرهان أقوم فيفيء إلى فتواه من أفتى بخلافه وقد رأيت في(62/20)
هذه الفتاوى - فتاوى الفزاري - من رجع بعد فتواه إلى ما كتبه مفت آخر في واقعة وعبارتها فيها: فلما أفتى الشيخ بذلك وكتب خطه رجع التقي ابن حياة إليه ورجع عما كان كتبه مع الجماعة واعتمد عليه انتهى وهكذا يكون العلم الصحيح والسعي وراء الحق في المسائل دون تعصب لإمام أو تقيد بمذهب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
جمال الدين القاسمي(62/21)
الكلمات الدخيلة
منذ أخذت الصحف تصدر في العربية أي منذ زهاء ثمانين سنة شعر الكتاب والمترجمون بالحاجة إلى ترجمة بعض الألفاظ الافرنجية إلى العربية فبدأ بذلك الشيخ أحمد فارس الشدياق صاحب الجوائب ووضع بعض الألفاظ العربية لمدلولات افرنجية شاعت اليوم حتى عدت كأنها من متن اللغة الأصلي ثم تبعه من جاء بعده ولا سيما المترجمون في مصر وسورية ومن جملتهم الشيخ ابراهيم اليازجي صاحب الطبيب والبيان والضياء الذي عرَّب بعض الألفاظ وغيرهم من اللغويين المعاصرين.
وفي سنة 1310 عقد في مصر مؤتمر لغوي مؤلف من بعض العلماء واللغويين تليت فيه بعض الكلمات لبعض الألفاظ الشائعة مثل مرحى لكلمة برافو وبرحى على النقيض من الأولى ومدره للمحامي والمسرة للتلفون وعم صباحاً لبونجور وعم مساء لبونسوار والبهو للصالون والقفاز للجوانتي أو الكفوف والنمرة للنومر والوشاح للكوردون والطنف للبالكون والحراقة لمركب التوربيد والجديلة للمودة والمرب للكلوب والحذاقة لشهادة البكالوريا والعاطف أو المعطف للبالطو وحصب الأرض بالحصباء للمكادام والمشجب للشماعة أو بورتمانتو.
ثم انفرط عقد ذاك المجتمع وكان عبد الله أفندي البستاني من لغويي بيروت وضع لفظة (آنسة) لمداموازيل وعقيلة لمدام ثم وضع أحمد بك تيمور ثلاثين كلمة وهي ملة القلم المدة بضم أوله وهي ما يعلق بالقلم من المداد بعد غمسه في الدواة.
بوية الجزم أو طلاء الأحذية اليزندج أو الأرندج بفتحتين وهو السواد يسود به الخف.
صحبة الورد الطاقة وهي الحزمة من الريحان ونحوه ولعلها أقرب لفظة لمعنى الصحبة وقد اصطلح الكتاب على تسميتها بالباقة وهو خطأ لأن الباقة خاصة بحزمة البقل.
نشان التعليم الدريئة بفتح فكسر وهي الحلقة يتعلم الرامي عليها.
الكشك أصله بالفارسية كوشك وهو القصر الصغير وقد عربوه بالجوسق.
العطفة الردب بفتح الراء وسكون الدال وهو الطريق الذي لا ينفذ.
العديل السلف أو الظأب من المظآبة وهي أن يتزوج إنسان بامرأة ويتزوج آخر بأختها، أما التجاب بتشديد الباء من باب التفاعل فهو أن يتزوج كل من الرجلين بأخت الآخر.
قشرة الجرح الجلبة بضم فسكون وهي القشرة تعلو الجرح عند البرء.(62/22)
الطاقية السكبة بفتح فسكون وهي خرقة تقور للرأس كالشبكة.
ناظر العمارة أو مقدم الفعلة الوهين كامير وهو الرجل يكون مع الأجير يحثه على العمل.
اليشمق اللفام بكسر أوله وهو النقاب يكون على طرف الأنف فإن كان على الفم فهواللثام.
السردين الصير بكسر أوله وهو كما في القاموس السميكات المملوحة يعمل منها الصحناة وفسر الصحناة بأنه أدام يتخذ من السمك الصغار مشه مصلح للمعدة، فعلى هذا يجوز إطلاق الصحناة على كل ما يقدم أمام الطعام من المشهيات كالصير ونحوه المسمى عند الأعاجم يمكن أن يسمى السردين أيضاً بالطريخ كسكين وهو سمك صغار تعالج بالملح وتؤكل.
العزبة كأنها محرفة عن العزوبة بالفتح وهي الأرض البعيدة المضرب إلى الكلأ وصوابها الضيعة أو هي الأرض المغلة وقد استعملت قديماً بمعنى: العزبة وأظنها مستعملة إلى الآن بهذ االمعنى بالبلاد الشامية.
مضرب الكورة الطبطابة بفتح فسكون وهي خشبة عريضة يلعب بها بالكرة ويقال لها أيضاً الميجار بكسر أوله وهو كما في المخصص الصولجان الذي تضرب به الكرة.
المزة النقل بالفتح أو بالتحريك وهو ما يعبث به الشارب أو يتنقل به على شرابه من فاكهة ونحوها، والعامة تقول نقل بضم فسكون وهو خطأ قديم نبه عليه أئمة اللغة.
اللباس الرسمي السواد وهو لون اتخذه بنو العباس شعاراً لهم ثم أطلق عندهم على لباس أسود خاص بالأمراء والعلماء وذوي الأخطار وكان الرجل إذا أراد الذهاب إلى ديوانه أو مقابلة خليفته قال لغلامه عليّ بسوادي وسيفي.
ثياب الحزن السلاب بكسر أوله وهي ثياب سود تلبسها النساء في المأتم واحدتها سلبة بفتحتين وتسلبت المرأة وسلبت بتشديد اللام إذا لبستها وهو مثل أحدت إلا أن الأحداد يكون على الزوج خاصة والتسلب على الزوج وغيره.
الحبل الحاجز في الطريق عند إصلاحها أو في احتفال كبير، الماصر وهو كما في مختصر العين للزبيدي حبل على طريق أو نهر تحبس به السفن أو السابلة، واقتصر في اللسان على أنه الحبل يلقى في الماء لمنع السفن عن السير.
المعدية المعبر كمنبر وهو المركب الذي يعبر به.(62/23)
عقدة وشنيطة الأنشوطة بضم فسكون وهي عقدة يسهل انحلالها إذا مددت بأحد طرفيها انحلت، وتقول نشطت الأنشوطة من باب نصر إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها.
الحصان البوني المكبون والأنثى المكبونة وهو الفرس القصير القوائم الرحيب الجوف الشخت العظام ولا يكون المكبون أقعس ومعنى الأقعس في الخيل المطمئن الصهوة المرتفع القطاة.
الشال الطيلسان وقد فسره اللغويون بأنه ضرب من الأكسية واقتصروا على ذلك إلا أن الشيخ ابراهيم السجيني فسره في كتابه المسمى بالعمى الأكبر في عين من أنكر لبس الأصفر بأنه ثوب طويل عريض كالرداء يجعل على الرأس فوق نحو عمامة ويغطي أكثر الوجه ثم يدار طرفه تحت الحنك إلى أن يحيط بالرقبة ثم يلقى طرفاه على الكتفين وهو كما ترى قريب جداً من معنى الشال.
رخو الكرباج الشيب بكسر أوله وهو سير السوط، وفي اللسان وشيبا السوط سيران في رأسه وشيب السوط معروف عربي فصيح.
الجرسون أو السفرجي لم أقف على لفظ مفرد يدل دلالة تامة على الجرسون وقد ذكر اللغويون الندل بضمتين وفسره بخدم الدعوة قالوا سموا ندلا لأنهم ينقلون الطعام إلى من حضر الدعوة وأصله من ندل يندل إذا تناول، إلا أنهم لم يذكروا مفرده فأرجو ممن وقف على لفظة أخرى أو على مفرد الندل أن يتفضل بنشره إفادة للجمهور، على أني رأيت بهامش اللسان أن هذا اللفظ وجد مضبوطاً بخط الصاغاني بفتحتين وعليه فلا يبعد أن يكون اسم جمع لنادل كخادم وخدم إلا أن مثل هذا لا ينبغي الحكم فيه إلا بالنص الصريح.
القطن الزهر اصطلح المصريون على تسمية القطن قبل حلجه بالزهر وعربيته الفصيحة المكمهل بصيغة اسم المفعول وهو كما في القاموس القطن ما دام في الحب والقطن الحليج كأمير هو ما استخرج حبه ويسميه المصريون بالشعر، أما شجرة القطن فتسمى الزعبل بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه.
السنارة الشص بفتح أوله أو كسره وهي حديدة عقفاء يصاد بها السمك وأما الصنارة بكسر الصاد المهملة وتخفيف النون ومنع في اللسان تشديدها فهي الحديدة الدقيقة المقفة التي في رأس المغزل فاستعارتها العامة لمصيدة السمك وأبدلوا صادها سيناً ولا داعي للاستعارة(62/24)
متى وجدت الكلمة الموضوعة.
الجاكيتة اصطلح الكتاب على تسمية البالطو بالمعطف ومن المعلوم أن الجاكيتة كالبالطو الصغير فلا حرج إذا سميناها بالعطيف تصغير ترخيم للمعطف.
البيرة السوداء البيرة خمر الشعير وعربيتها الجعة وزان هبة فيجوز أن يقال الجعة السوداء إلا أن العرب سمت الخمر السوداء بأم ليلى فما المانع من إطلاقها على هذا النوع من البيرة.
عمود الغاز الماثلة وهي منارة المسرجة كما في القاموس
البونية الجمع بضم فسكون وهو من الكف حين تقبضها قال طرفة بن العبد:
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذلول بإجماع الرجال ملهد
ويقال فيه أيضاً الصقب بفتح فسكون وصقبه أي ضربه بجمع كفه.
وبقيت الحال على هذا المنوال تشتد الحاجة إلى مفردات عربية كلما كثر المترجمون وكان لبعض المجلات عمل مهم في هذا الشأن فوضع أربابها ومؤازروها ألفاظاً كثيرة منها ما شاع ومنها ما لم يرزق الحظوة من الشيوع بين الكتاب إلى أن قام في السنة الماضية أعضاء نادي دار العلوم في القاهرة وهم من الغيورين على خدمة اللغة لأن معظمهم ممن أحكموا كتابتها وقواعدها وبيانها أحكاماً يكاد لا يكون وراءه غاية وهم الحلقة الموصلة بين أهل التربية الحديثة وأهل التربية القديمة بل هم مثال التربية العربية العصرية فرأوا نفع الله بهم العربية أن يختاروا بعض الأكفاء منهم يؤلفون لجنة علمية تتوفر على هذا الغرض من وضع الألفاظ العربية للمفردات العامية أو الأجنبية التي سرت إلى لغتنا من لغات أوروبا أو من اللغتين الفارسية والتركية فوضعوا حتى الآن طائفة صالحة من هذه الألفاظ وها نحن نثبتها فيما يلي إيذاناً بفضل أولئك العاملين وبياناً للمشتغلين باللغة من أهل الأقطار العربية الأخرى عسى أن ينظروا فيها نظرة ثانية أو أن يقروا اللجنة على ما وضعت وإن كان المصريون هم في الحقيقة أئمة اللغة والقائمون على تعهدها أكثر من غيرهم من الشعوب.
وهاك ما قررته اللجنة حتى الآن من الألفاظ:
استمارة يرى أعضاء النادي استعمال استئمارة وقد وجدت هذه الكلمة في الكتب القديمة(62/25)
بلفظ استيمار بالتسهيل وحذف التاء ولكنهم رأوا إثبات التاء لالتزامها في الاستعمال الحاضر وعدم المانع منه والكلمة مرة من استأمر أي أخذ أمره.
إنفيتياترو ترجمت بلفظ مدرج منذ زمان وقد كاد اختيار الأعضاء يجمع عليها.
بلوك نوت تعريبها اضمامة ومعناها الأوراق منضمة.
بويه نظرت اللجنة فيما يستعمل للتلوين فوجدته على نوعين: نوع يتخلل أجزاء الأجسام فاختارت له كلمة صبغ كصبغ الثياب والورق وما أشبه، ونوع يعلو السطوع فاختارت له كلمة طلاء كطلاء المباني والأواني وغير ذلك.
تخته بوش وهو ما يسميه الافرنج وتعريبه نجيرة فقد جاء في لسان العرب أن النجيرة سقيفة من خشب ليس فيها نصب ولا غيره.
تربيزه أو طاولة رأت اللجنة من هذا المسمى أنواعاً: فمنها ما هو للأكل وهذا خوان ويسمى حين وضع الأكل عليه مائدة، ومنها ما توضع عليه الأشياء المختلفة وهذا منضدة مشتقة من النضد وهو جعل المتاع بعضه فوق بعض ويخصصه بعض اللغويين بحر المتاع وخياره، ومنها ما هو للكتابة خاصة وهذا يطلق عليه كلمة مكتب المستعملة.
ترسينه إن ما يخرج عن البناء منه ما هو مغطى وهذا يسمى كنه ومنه ما هو مكشوف وهذا طنف والكلمتان في العربية موضوعتان لما يخرج من الأجنحة في الدار، على أن هناك لفظة تؤدي المعنى وهي شرفة وقد كثر استعمالها وورد في الأغاني بهذا المعنى كلمة مستشرف
جول اختارت لها اللجنة لفظة مرمى على أن كلمة محج الشائعة في سورية تؤدي نفس المعنى
خارطة وصحيحها خريطة
دوسيه تعريبها ملف
شماعة أو تعليقة وجدت اللجنة لما تعلق عليه الملابس نوعين أولهما ذو عمود متوسط وشعبات بارزة فاختارت له كلمة غدان وهو في اللغة قضيب تعلق عليه الثياب والثاني يثبت في الحائط فاختارت له لفظة شجاب.
طابور الكلمة عربية حرفت وصحيحها تابور(62/26)
كارت فيزيت سبق اختيار بطاقة الزيارة ولا مانع من الاستغناء عن المضاف إليه فيقال بطاقة كما يقول الافرنج كارت.
وقد رأت اللجنة أيضاً استبدال سينماتوغراف بكلمة خيالة وهي كل ما تراءى لك من الصور وفونغراف بالحاكي وميموغراف بمطبعة النضح تيب ريتر بمطبعة الأزرار لأنها اتخذت قاعدة عامة في قسمة المطابع وهي أن تستعمل كلمة مركبة من مطبعة مضافة إلى أكبر مميز لتلك المطبعة، على أن كلمة الآلة الكاتبة أو الكاتبة فقط أقرب من مطبعة الأزرار.
اسبتالية قالت اللجنة: كان من الممكن أن نجاري المتقدمين في اختيارهم كلمة بيمارستان ولكن رأينا أن كلمة مستشفى مع أدائها المعنى تماماً أسهل نطقاً من الكلمة الأولى وأكثر دوراناً على الألسنة والأفلام.
ونرى أن كلمة مستوصف أولى بالتعبير عن الكلينيك
وبوفة اختارت اللجنة لهذا المعنى كلمة مقصف - وقد سبق استعمالها لأن معنى القصوف في اللغة الإقامة في الأكل والشرب وهذا هو معنى بوفه أما استعمال القصف في اللهو فغير عربي.
أما خزانة الطعام والشراب فقد استعمل لها المتقدمون كلمة سكردان
بريمة بزال ومعناه في اللغة: حديدة يفتح بها الدن وهو قريب من البريمة الحالية ففي هذا الإطلاق توسع.
تلغراف استحسنت اللجنة الكلمة المستعملة برق ورسالة برقية
تباشير الكلمة عربية محرفة وصحيحها طباشير
ديبلوم شهادة عالية وقالت لم توافق اللجنة على الشهادة النهائية ولا على الشهادة العليا لأن الديبلوم ليست كذلك بل بعدها ما هو أعلى منها، أما شهادة الحذاقة التي أشار إليها أحمد تيمور بك فربما وضعت بعد لما هو أرقى من تلك الشهادة.
عفارم اختارت اللجنة كلمة مرحى وهي كلمة تقولها العرب للإصابة في الرمي فيمكن التوسع فيها.
قوميسون استنسبت كلمة لجنة المستعملة لأن معنى اللجنة الجماعة يجتمعون في الأمر(62/27)
ويرضونه وذلك معنى القوميسون.
اتومبيل سيارة كلمة استعملت وتعارفها الكتاب فوافقت اللجنة على استعمالها.
اكسبرس قطار سريع مع كثرة الاستعمال يستغني عن الموصوف ويكتفى بالسريع كالمعتاد، بدرة غمنة، في القاموس الغمنة الاسفيداج والغمرة تطلي بها المرأة وجهها وهو موافق لمسمى بدرة. بزرميط هجين، لمن أبوه خير من أمه، مقرف، لمن أمه خير من أبيه، مخلط، إذا لم تلاحظ الخيرية في إحدى الجهتين، بنطلون سروالة ترتوار طوار، في القاموس طوار الدار ويكسر ما كان ممتداً معها وهذا ممتد مع الشارع، تمرجي ممرض كلمة عربية مستعملة في معنى التمرجى تملي دائمى، جهجون جزاف استعملها الفقهاء للبيع من غير كيل أو وزن ولم تر اللجنة بأساً بالتوسع فيها، دونانمة أسطول، كلمة استعملها المتقدمون من المؤرخين في معنى الدونانمة، روماتيزم رثية في القاموس الرثية وجع المفاصل واليدين والرجلين.
زنبلك دورة، في القاموس يقال لكل ما لم يتحرك ولم يدر دوارة وفوارة بفتحهما فإذا تحرك ودار فهو دوارة وفوارة والزنبلك متحرك فرأت اللجنة أن الدوارة أقرب الكلمات العربية إلى معنى الزنبلك، صالون بهو، استعمل الكتاب كلمة بهو في الصالون والمعنيان متقاربان، صندوق القمامة صندوق القمامة، قشلاق ثكنة، في القاموس الثكنة مركز الأجناد ومجتمعهم على لواء صاحبهم وإن لم يكن هناك لواء ولا علم جمعه ثكن كصرد، يمكخانة حواطه، لمحل الأكل، مطعم، للوكاندة الأكل، برجل دوارة، فرجار، بركار، في القاموس الدوارة الفرجار وقد ارتضتها اللجنة لأنها عربية محضة والكلمتان الأخريان من تعريب علماء الهندسة المتقدمين وقد استعملنا كثيراً في كتبهم فرأينا أن نبقي عليهما، كروكي رسم تقريبي، قد اختير ترجمة الكلمة غير العربية بما يؤدي معناها لعدم اتصال علم اللجنة لانها خاصة بما تجلى فيه العروس.
(نوته) مذكرة، كناشة ج كناشات اشتق كلمة مذكرة من الفعل المقصود من هذا الاسم وهو التذكير وهذا ما اختارته اللجنة وأما كناشة فقد اختارها الأستاذ الشيخ حمزة وقد قال صاحب شرح القاموس ومنه الكناشة لأوراق تجعل كالدفتر يقيد فيها الفوائد والشوارد للضبط هكذا يستعمله المغاربة واستعمله شيخنا في حاشيته على هذا الكتاب كثيراً وترى(62/28)
اللجنة أنها تستعمل لما قاله صاحب شرح القاموس (أجنده)
(قماش) نسيج أصل القماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذاله قماش وليس هذا المعنى هو المراد بكلمة قماش وإنما يريدون بها المنسوجات فكلمة نسيج طبقه (قومندان) قائد أصل الكلمة أعجمية وكلمتها العربية قائد يقال قائد الجيش وقائد الفرقة وقائد الفرسان وقائد المشاة. (قواص) حاجب استعملت حاجب لتؤدي معنى قواص وهي موافقة، (طرحة) خمار الخمار النصيف وهي ما تغطي به المرأة رأسها وقد كانت الطرحة مستعملة قديماً في الطيلسان وقد يقولون الطراحة فالخمار أقرب إلى المعنى المقصود من الطرحة، (حزورة - فزورة) أحجية قال في القاموس كلمة محجبة مخالفة المعنى للفظ وهي الأحجية، (شنطة) عيبة قال في اللسان العيبة وعاء من آدم يكون فيها المتاع، شادوف شادوف جميع الكلمات التي وردت للجنة ليس فيها ما يدل على مسمى شادوف مع استعمالها في معان أخرى وهذه الكلمات هي دالية وهي المنجنون والناعورة والمنجنون الدولاب يستقى عليه أو المحالة يسنى عليها والمحالة البكرة العظيمة وكل هذا بعيد عن معنى الشادوف السانية وهي الغرب وأداته والناقة يسقى عليها والغرب الدلو العظيمة.
لهذا رأت اللجنة أن تستقي كلمة شادوف بإزاء ذلك المعنى المعروف وخصوصاً أن الصيغة عربية كثيرة الورود وقال الأستاذ الشيخ حمزة أنها كلمة مصرية معروفة عند العرب، فنار منار المنار موضع النور ويظهران كلمة فنار مخلطة من الكلمة العربية منار والكلمة اليونانية فار، فرشة فرجون محسة من وضع الأستاذ الشيخ حمزة قال في القاموس: الفرجون كبرذون المحسة وقال في مادة خس: الحس نفض التراب عن الدابة بالمحسنة للفرجون (كماشة) كماشة قال في القاموس الكمش ضرب من صرار الإبل وصرار الإبل شد ضرعها صرها يصرها صراً وهو نوع من القبض الذي يراد به التمكن من الشيء فرأت اللجنة أن هذا من التجوز الذي يتسع مثله ولا حاجة بعد إلى تغيير كلمة مثل هذه والذهاب إلى الكلمات العامة مثل ملقط ومقبض وما شاكل ذلك.
كالون قفل وغلق اختير الغلق لذلك الذي تسميه العامة كالون والقفل يستعمل عند العامة في مسمى معروف فيبقى دالاً على ذلك المسمى وهو المنفصل عن الباب ويستعمل له عروتان يربطهما القفل بلسانه، برميل برميل ورد للجنة تسع كلمات لم تر واحدة منها صالحة لأن(62/29)
تطلق على مسمى البرميل وهي (1) الزبيل ومعناها كما في القاموس القفة أو الجراب أو الوعاء والقفة والجراب مسماها مخالف لمسمى البرميل شكلاً ومادة والوعاء عام (2) الزكرة زق للخمر والخل والزق السقاء أو جلد يجز ولا ينتف للشراب وغيره وليس معنى البرميل هذا (3) فنطاس ومعناه حوض السفينة يجتمع فيه نشافة مائها وسقاية لها من الألواح يحمل فيها الماء العذب للشرب ولا تزال الكلمة مستعملة في معناها مع التوسع (4) مخزن وهي عامة لكل ما يخزن فيه الشيء أي يحرز (5) المقلد وهو الوعاء فهو عام (6) العس وهو القدح العظيم (7) الحب ومعناه الجرة والضخمة منها أو الخشبات الأربع توضع عليها الجرة ذات العروتين (8) الدن وهو الراقود العظيم أو أطول من الحب أو أصغر وله عسعس لا يقعد إلا أن يحفر له وهو المعروف بالزلعة أو الخابية (9) الراقود وهو مثل الدن.
رأت اللجنة بعد نظرها هذه الكلمات أن تقر على استعمال كلمة برميل لأنها أدل على مسماها ولم يوجد من الكلم العربية أمامها ما يقوم مقامها وقد قال الأستاذ الشيخ حمزة أن برميلاً بكسر الباء عربية صحيحة، حرملة إتب ومئتبة حرملة، في القاموس الاتب والمئتبة كمكنسة برد يشق فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين وهو قريب من معنى الحرملة، وقد بحثت اللجنة عن أصل هذه الكلمة وكيف استعملها الناس مع الطلاوة العربية فوجدت أن الحريملة شجرة تنشق جراؤها عن الين قطن ويحشى به مخاد الملوك لخفته ونعومته فلا يبعد أن هذه الحرملة كانت تحشى بهذا القطن للتدفئة فسميت باسم شجرتها وكبر اسمها ولذلك أبقتها اللجنة، البشاورة الطلاسة، في القاموس الطلاسة خرقة يمسح بها اللوح، شخير النائم غطيط، غط النائم صات.
الدورة الليلية عسس، عس طاف بالليل وهو نفض الليل عن أهل الريبة وهو عاس جمعه عسس، الرغاوي الرغاوى - الزبد، وضعت اللجنة كلمة الزبد وقال الأستاذ الشيخ حمزة الرغاوى أي الرغوة أي الزبد والجمع رغاوى كل ذلك عربي صحيح، طازه طازج، طازج تعريب طازه وكان من عادة العرب في التعريب أن لحقوا بالكلمات المنتهية بمثل هذه الهاء جيماً كما قالوا فالوذج ونموذج وغير ذلك، الدش الرشاش، الرش نفض الماء والرشاش مشتق منه.(62/30)
عفش أثاث، الأثاث متاع البيت، (حجر الحمام) نسفة، في القاموس النسفة حجارة سود ذات نخاريب يحك بها الرجل سمى به لانتسافه الوسخ من الرجل.
(طاولة اللعب) نرد، (عماص) غمص أن سال، رمص أن جمد، الغمص ما سال من الرمص غمصت العين كفرح فهو أغمص والرمص وسخ أبيض، يجتمع في الموق رمصت عينه كفرح فهو أرمص والتقييد من وضع الأستاذ الشيخ حمزة.
عود الفرن محش، المحش حديدة تحش بها النار أي تحرك كالمحشة
مصلحة الفرن المطردة، المطردة خرقة تبل ويمسح بها التنور ومثلها الطريدة.
(هلب السفينة) انجر كلوب، الانجر مرساة السفينة وهو خشبات يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة إذا رست معرب لنكر، والكلوب من وضع الأستاذ الشيخ حمزة قال في شرح القاموس ومن المجاز كلاليب الباز مخالبه جمع كلوب.
(هلب البئر) حصرم، الحصرم الحديدة يخرج بها الدلو من البئر.
(هباب اللمبة) سناج، السناج أثر دخان السراج في الحائط.
(مضرب الكرة) طبطابة، الطبطابة خشبة عريضة يلعب بها الكرة.
(فارة النجار) مسحج، المسحج المبراة يبرى بها الخشب، (تصبيرة) لمجة، اللمجة ما يتعلل به قبل الغداء، (أبعدية) ضيعة، الضيعة العقار والأرض المغلة.
(قزان) مرجل، المرجل القدر من الحجارة والنحاس مذكر.
(اضبش) غطمش، الغطمش الكليل البصر أما الضبش فلم نره، (الرمش) الهدب الهدب شعر أشفار العينين وهو ما تريده العامة برمش، (دوخة) دوار الدوار شبه الدوران يأخذ في الرأس، (فلينة - سداد الزجاجة) صمام صمام القارورة سدادها.
(مصفاة نحو إبريق الشاي) فدام الفدام المصفاة وابريق مفدَّم عليه مصفاة.
(البريثون) الثرب في القاموس الثرب شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء جمعه ثروب وأثرب وتعرفه العامة بهذا الاسم ولكنهم يبدلون الثاء تاء فيقولون ترب.
(أوزي) حمل في القاموس من معاني الحمل الجذع من أولاد الضأن فما دونه والجمع حملان وأحمال، (قشرة البيض الخارجة) قيض في القاموس القيض القشرة العليا اليابسة على البيضة، (القشرة الداخلة) غرقيء في القاموس الغرقي القشرة الملتزقة ببياض البيض،(62/31)
(بياض البيض) الزلال، (صفار البيض) المح في القاموس من معاني المح صفرة البيض، (المضيفة) الثوي في القاموس الثوي كغني البيت المهيأ له أي للضيف، (شبشب) كوث في القاموس الكوث القفش الذي يلبس في الرجل والقفش الخف القصير، (موضة) بدع - بدئ في القاموس البدئ الأمر المبدع والبدع الأمر الذي يكون أولاً جمعه إبداع، (انتيكة) عادي في القاموس العادي الشيء القديم - كأنه منسوب إلى عاد، (خريطة البحر) راهنامج في القاموس الراهنامج كتاب الطريق وهو الكتاب يسلك به الربابنة البحر ويهتدون به في معرفة المراسي وغيرها (طقة واحدة) وجبة القاموس الوجبة الأكلة في اليوم والليلة أو أكلة في اليوم إلى مثلها من الغد، (وش الفرش) ظهارة الظهارة نقيض البطانة وظاهر بينهما طابق.
(سيخ الشواء) سفود في القاموس السفود حديدة يشوى بها وتسفيد اللحم عظمه فيها.
(مونة البناء) ملاط الملاط الطين يجعل بين ساقي البناء ويملط به الحائط أي يطلى والساف كل عرق من الحائط والعرق كل صف من اللبن والآجر في الحائط والساف المدماك، (تقاوي) بذر البذر ما عزل للزراعة من الحبوب جمعه بذور وبذار.
(الوجاق) الوطيس الوطيس التنور، (الصنفرة) السفن من معاني السفن قطعة خشناء من جلد ضب أو سمكة يسحج بها القدح حتى تذهب عنه آثار المبراة.
(الدربكة) الكوبة الكوبة الطبل الصغير المخصر، (الطهارة) الختان.
(الاستراد) المنصة المنصة في الأصل ما ترفع عليه العروس واستعير لذلك المكان المرتفع الذي يصعد إليه بدرج لإلقاء درس مثلاً، (الدربزين) الدربزين ورد ذكر الدربزين في القاموس تفسيراً للجلفق واختيرت الكلمة لاستعمالها وغرابة الأخرى.
(النجفة) الثريا أصل الثريا علم لمجموعة من النجوم متضامة استعيرت لهذا المعنى لما بينهما من التشابه في التضام والإنارة، (ضيان) متين المتانة الصلابة والكلمة العامية تستعمل في الشيء ذي الصلابة والتحمل فهو معنى متين، (النفير) البوق البوق بالضم الذي ينفخ فيه ويزمر، (سباطه) قنو القنو الكباسة جمعه أقناء وقنوان والكباسة بالكسر العذق والعذق هو ما تعبر عنه العامة بالسباطة أما معنى السباطة لغة فهي الكناسة تطرح بأفنية البيوت، (المقشة) المقشة قش الرجل أكل من ههنا وههنا ولف ما قدر عليه من الخوان(62/32)
والشيء جمعه وكله مناسب لما تصنعه تلك الأداة والقشيش والقشاش اللقاطة، (معية) حاشية الحاشية أصل الرجل وخاصته والأخير نص في المعنى المراد بمعية، (بدلة) حلة الحلة ما تركب من ثوبين إزار ورداء وكذلك البدلة دائماً.
ياقة القميص زيق زيق القميص بالكسر ما حاط بالعنق منه، سواري فرسان، الأستيك النوط معلق كل شيء، (شلتة) حشية الحشية الفراش المحشو.(62/33)
كتاب المدهش
الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي هو محدث حافظ مفسر فقيه واعظ أديب قال فيه العليمي في طبقاته أنه أستاذ الأئمة حبر الأمة بحر العلوم سيد الحفاظ فارس المعاني والألفاظ فريد العصر قريع الدهر شيخ الإسلام قدوة الأنام علامة الزمان ترجمان القرآن قامع المبتدعين سلطان المتكلمين ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة لأنه وجد بخطه تصنيف له في الوعظ ذكر أنه صنفه سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وقال (ولي من العمر سبع عشرة سنة وكان يحزر مجلسه في الوعظ على الدوام بعشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً قال علي المنبر في آخر عمري كتبت بإصبعي هاتين الفي مجلد وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره سئل عن عدد مصنفاته فقال زيادة على ثلثمائة وأربعين مصنفاً منها ما هو عشرون مجلداً ومنها ما هو كراس واحد ولم يترك فناً من الفنون إلا وله فيه مصنف.
وقال بعضهم أنه كان يحضر مجلس وعظه مائة ألف أو يزيدون وهذا مبالغة لا يستطيع إنسان يوصل صوته إليهم ولا جامع أو ساحة أن تجمعهم والمقصود أنهم كانوا ألوفاً من المستمعين وقد قال عن نفسه أنه صنف وله من العمر ثلاث عشرة سنة وقيل عنه أنه كان يراعي حفظ صحته وتلطيف مزاجه وما يفيد عقله قوة وذهنه حدة وجل غذائه الفراريج والمزاوير ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات ولباسه الأبيض الناعم المطيب.
والمدهش من جملة كتبه ورد ذكره في قائمتها وهو في مجلدين مكتوب بخط مشرقيّ مشكول كله وقد دفعناه إلى صديقنا السيد عبد القادر المبارك فكتب عليه ما يلي:
من المخطوطات القديمة لابن الجوزي كتاب المدهش قال كاتبه في خاتمته كان الفراغ من نسخه في العشر الأوسط من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبعمائة جاء في مقدمته بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر يا كريم.
قال شيخ الأمة وعلم الأئمة ناصر السنة جمال الدين فخر الإسلام زين الأنام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن الجوزي قدس الله روحه ونور ضريحه: الحمدلله الذي لا منتهى لعطاياه ومنحه حمداً يقوم بالواجب في شكره ومدحه وصلى الله على أشرف نبي وأفصحه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ما أستن طرف في مرحه (أما بعد) فإني قمت بحمد الله في علم الوعظ بأصحه وأملحه وآثرت أن أنتقي في هذا الكتاب من ملحه والله(62/34)
الموفق في كل عمل لأصلحه وقد قسمته خمسة أبواب، الباب الأول في علوم القرآن وبيانه، الباب الثاني في تصريف اللغة وموافقة القرآن لها، الباب الثالث في علوم الحديث، الباب الرابع في عيون التواريخ، الباب الخامس في ذكر المواعظ وهذا الباب ينقسم قسمين، قسم فيه ذكر القصص وقسم فيه المواعظ مطلقاً والله الموفق.
وذكر في باب علوم القرآن وبيانه ستة فصول يقع كل فصل منها في نحو صفحة واحدة فذكر في الفصل الأول أقسام الخطاب في القرآن وفي الثاني ما ورد فيه من ضروب الأمثال وفي الثالث ما جاء فيه أخص وأحسن مما بمعناه من الكلمات التي تدور على الألسنة وفي الرابع ما اتحد من الآيات المتشابهة في المعنى واختلف في اللفظ وفي الخامس ما تغاير من الآيات بزيادة بعض الحروف والكلمات أو نقصانها وفي السادس ما تغاير من الآيات بتقديم أو تأخير.
ثم ذكر بعد هذه الفصول أربعة وعشرين باباً سماها أبواباً منتخبة من الوجوه والنظائر ذكر فيها معاني هذه الكلمات: أو، أدنى، الإنزال، الأرض، الأمر، الإنسان، الباء، الحق، الخير، الدين، الذكر، الروح، الصلاة عن، الفتنة، في، القرية، كان، كلا، اللام، لولا، من، الواو، الهدى.
ثم أتى على الباب الثاني في تصريف اللغة وموافقة القرآن لها وقسمه على ثلاثة عشر فصلاً قال في أول فصل منه: لما كانت اللغة تنقسم قسمين أحدهما الظاهر الذي لا يخفى على سامعيه ولا يحتمل غير ظاهره والثاني المشتمل على الكنايات والإشارات والتجوزات وكان هذا القسم هو المستحلى عند العرب نزل القرآن بالقسمين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله فكأنما قال عرضوه بأي القسمين شئتم ولو نزل كله واضحاً لقالوا هلا نزل بالقسم المستحلى عندنا ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية أو استعارة أو تعريض أو تشبيه كان أحلى وأحسن قال امرؤ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
فشبه النظر بالسهم فحلي عند السامع وقال أيضاً:
فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فجعل لليل صلباً وعجزاً وصدراً على جهة التشبيه وقال غيره:(62/35)
من كميت أجادها طابخاها ... لم تمت كل موتها في القدور
أراد بالطابخين الليل والنهار، فنزل القرآن على عادة العرب في كلامهم ومن عاداتهم التجوز، وفي القرآن فما ربحت تجارتهم، يريد أن ينقض، ومن عادتهم الكناية، ولكن لا تواعدوهن سراً، أو جاء أحد منكم من الغائط وأكثر الفصول الباقية ترجع إلى بيان سعة اللغة وفقهها على أسلوب فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي.
والباب الثالث في علوم الحديث وجله يتعلق ببيان أسماء المحدثين والمحدثات وتمييز ما يكثر فيه الالتباس وبيان المتفق والمفترق ويقال له أيضاً المؤتلف والمختلف ثم انتقل إلى الباب الرابع في عيون التواريخ أتى فيه على نبذ من أمهات المسائل التاريخية فمنها قوله: كان أول ملوك الأرض ملك فارس وملكهم دارا ملك نحو مائتي سنة ثم ملك بعده خمسة وعشرون ملكاً فيهم امرأتان وكان آخر القوم يزدجرد هلك في زمن عثمان رضي الله عنه فكان ملكهم خمسمائة سنة وكسراً وكان أظرهم ولاية ذو الأكتاف فإنه لا يعرف من ملك وهو في بطن أمه غيره لأن أباه كان قد مات ولا ولد له وإنما كان هذا حملاً فقال المنجمون هذا الحمل يملك الأرض فوضع التاج على بطن الأم وكتب إلى الآفاق وهو جنين وسمي سابورا وإنما سمي ذا الأكتاف لأنه حين ملك كان ينزع أكتاف مخالفيه وهو الذي بنى الإيوان وبنى نيسابور وسجستان والسوس وما زال الملك يتنقل بعده فيهم إلى أن ملك انوشروان وكان آخرهم وكان له اثنا عشر ألف امرأة وجارية وخمسون ألف دابة وألف فيل إلا واحداً وفي زمانه ولد النبي صلى الله عليه وسلم ومات لثمان مضين من مولد نبينا صلى الله عليه وسلم ولما دخل المسلمون المدائن أحرقوا ستر باب الايوان وأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهباً.
قال ومن العجائب أنه ولد في ليلة السبت لاربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول سنة تسعين ومائة المأمون ومات الهادي واستخلف الرشيد وفيه أجدبت الأرض في سنة ثماني عشرة وكانت الريح تسفي ترباً كالرماد فسمي عام الرمادة وجعلت الوحوش تأوي إلى الأنس فآلى عمر رضي الله عنه أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيي الناس واستسقى الناس بالعباس فسقوا وفيها كان طاعون عمواس مات فيه أبو عبيدة ومعاذ وأنس وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتت أم أميرهم فما وجدوا من يحملها وفي(62/36)
سنة ست وتسعين كان طاعون الجارف هلك في ثلاثة أيام سبعون ألفاً ومات في لأنس ثمانون ولداً وكان يموت أهل الدار فيطبق عليهم الباب وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة مات أول يوم في الطاعون سبعون ألفاً وفي اليوم الثاني سبعون ألفاً وفي اليوم الثالث خمدت الناس وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة ذبح الأطفال وأكلت الجيف وبيع العقار برغيفين واشترى لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم.
وقد عقد المؤلف رحمه الله في الباب الرابع في عيون التواريخ فصلاً مستقلاً أفرده بذكر الزلازل والآيات المشتملة على دواعي العبر والمواعظ والزواجر وها هو ينص حروفه.
زلزلت الأرض على عهد عمر رضي الله عنه في سنة عشرين، ودامت الزلازل في سنة أربع وتسعين أربعين يوماً فوقعت الأبنية الشاهقة وتهدمت أنطاكية، وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلت فرغانة فمات منها خمسة عشر ألفاً، وفي السنة التي تليها رجفت الأهواز وتصدعت الجبال وهرب أهل البلد إلى البر والسفن ودامت ستة عشر يوماً، وفي السنة التي تليها مطر أهل تيماء مطراً وبرداً كالبيض فقتل بها ثلاثمائة وسبعون إنساناً وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك اعف عن عبادك، ونظروا إلى أثر قدم طولها ذراع بلا أصابع وعرضها شبران والخطوة إلى الخطوة خمسة أذرع أو ست تبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتاً ولا يرون شخصاً، وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين رجفت دمشق رجفة انتفضت البيوت على سكانها فمات منهم خلق كثير وانكفأت قرية بالغوطة على أهلها فلم ينج منهم أحد إلا رجل واحد، وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفاً، وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فأقامت نيفاً وخمسين يوماً وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان والأهواز ثم ذهبت إلى همذان فأحرقت الزرع ثم ذهبت إلى الموصل فمنعت الناس من السعي فبطلت الأسواق وزلزلت هراة فوقعت الدور، وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين وجه طاهر بن عبد عبد الله إلى المتوكل حجراً سقط بناحية طبرستان وزنه ثمانمائة وأربعون درهماً وفيه صدع وذكر أنه سمع لسقوطه هدة مسيرة أربعة فراسخ في مثلها وأنه ساخ في الأرض خمسة أذرع، وفي سنة أربعين ومائتين خرجت ربح من بلاد الترك فمرت بمروَ فقتلت خلقاً كثيراً بالزكام ثم صارت إلى نيسابور وإلى الري ثم إلى همذان وإلى حلوان ثم إلى العراق فأصاب أهل بغداد (وسر من رأى) حمى وسعال وزكام(62/37)
وجاءت كتب من المغرب أن ثلاث عشرة قرية من قرى القيروان خسف بأهلها فلم ينج منهم إلا اثنان وأربعون رجلاً سود الوجوه فاتوا إلى القيروان فأخرجهم أهلها وقالوا لهم أنتم مسخوط عليكم فبنى لهم العامل حظيرة خارج المدينة فنزلوا فيها.
وفي سنة إحدى وأربعين ماجت النجوم في السماء وجعلت تتطاير شرقاً وغرباً كالجراد من غروب الشمس إلى الفجر ولم يكن مثل هذا إلا عند ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي السنة التي تليها رجمت قرية يقال لها السويداء بناحية مصر بخمسة أحجار فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فأحرقها ووزن منها حجر فكانت زنته عشرة أرطال، وزلزلت الريُّ وجرجان وطبرستان ونيسابور وأصبهان وقم وقاشان كلها في وقت واحد، وزلزلت الدامغان فهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفاً وتقطعت جبال ودنا بعضها من بعض وسمع للسماء والأرض أصوات عالية وسار جبل باليمن عليه مزارع حتى أتى مزارع قوم آخرين، ووقع طائر أبيض دون الرخمة وفوق الغراب على دلبة بحلب لسبع مضين من شهر رمضان فصاح يا معشر الناس اتقوا الله حتى صاح أربعين صوتاً ثم طار فجاء من الغد فصاح أربعين صوتاً وكتب صاحب البريد بذلك وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه، ومات رجل في بعض كور الأهواز فسقط طائر أبيض على جنازته فصاح بالفارسية والخوزية: إن الله قد غفر لهذا الميت ولمن شهده، وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت أنطاكية فسقط منها ألف وخمسمائة دار ووقع من سورها نيف وتسعون برجاً وسمع أهلها أصواتاً هائلة من كوى المنازل، وسمع أهل تنيس صيحة هائلة دامت فمات منها خلق كثير وذهبت جبلة بأهلها، وفي سنة خمس وثمانين ومائتين مطرت قرية حجارة بيضاً وسوداً، وفي سنة ثمان وثمانين زلزلت دنبل (كذا) فأصبحوا ولم يبق من المدينة إلا اليسير فأخرجوا من تحت الهدم خمسين ومائة ألف بيت، وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة عدل الحاج عن الجادة خوفاً من العرب فرأوا في البرية صور أناس من حجارة ورأوا امرأة قائمة على التنور وهي من حجارة والخبز الذي في التنور من حجارة، وفي سنة ثمان سبعين وثلاثمائة هبت ريح بفم الصلح شبهت بالتنين جرفت دجلة حتى ذكر أنه بانت أرضها وأهلكت خلقاً كثيراً واحتملت زورقاً منحدراً وفيه دواب فطرحته في أرض عوجا (كذا).(62/38)
وفي سنة عشرين وأربعمائة جاء برد هائل وقعت بردة حزرت ثمانية وخمسين رطلاً فكانت كالثور النائم، وفي سنة أربع وثلاثين زلزلت تبريز فهدم سورها وقلعتها وهلك تحت الهدم خمسون ألفاً، وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة كانت بارجان زلازل انقلعت منها الحيطان فحكى من يعتمد على قوله أنه كان قاعداً في ابوان داره فانفرج سقفه حتى رأى السماء من وسطه ثم عاد، وفي سنة ستين وأربعمائة كنت زلزلة بفلسطين هلك فيها خمسة عشر ألفاً وانشقت صخرة بيت المقدس ثم عادت فالتأمت وغاب البحر فساح في الأرض فدخل الناس يلتقطون فرجع عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً، وفي سنة اثنتين وستين خسف بابلة، وفي سنة ست وخمسمائة سمع ببغداد هدة عظيمة في أقطار بغداد، قال شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي: أنا سمعتها فظننت حائطاً قد وقع ولم يعلم ما ذلك ولم يكن في السماء غيم فيقال رعد، وفي السنة التي تليها وقعت زلزلة بناحية الشام فوقع من سور الرها ثلاثة عشر برجاً وخسف بسميساط وقلب بنصف القلعة، وفي سنة إحدى عشرة وخمسمائة زلزلت الأرض ببغداد يوم عرفة فكانت الحيطان تمر وتجيء، وفي سنة خمس عشرة وقع الثلج ببغداد فامتلأت منه الشوارع والدروب ولم يسمع قبله بمثله، وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة كانت زلزلة بحيرة أتت على مائتي ألف وثلاثين ألفاً فأهلكتهم وكانت في مقدار عشرة فراسخ في مثلها، وفي السنة التي تليها خسف بحيرة وصار مكان البلد ماء أسود وقدم التجار من أهلها فلزموا المقابر يبكون على أهلهم، وزلزلت حلوان فقلع الجبل وأهلك خلقاً كثيراً، وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلازل بالشام في ثلاثة عشر بلداً من بلاد الإسلام فمنها ما هلك كله ومنها ما هلك بعضه.
وهنا أنشأ المصنف رحمه الله الباب الخامس في ذكر المواعظ فبدأ في القسم الأول منه بقصة آدم وبناء الكعبة وقصة نوح وعاد وثمود والخليل والذبيح وذي القرنين ولوط ويوسف وأيوب وشعيب وموسى والخضر وبلعام وقارون وداود ومريم وعيسى وسليمان وزكريا ويحيى وأهل الكهف وبداية أمر نبينا محمد عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام وقصة الغار وأهل بدر وذكر أسماء من شهدها مرتبة على حروف المعجم ثم من يعرف بالكنية دون الاسم وختم هذا القسم من الوعظ بفصل ذكر فيه بناء علي بن أبي طالب بالسيدة البتول فاطمة الزهراء رضي الله عنهما وها أنا ذا أنقل للقراء أقصر قصة(62/39)
من تلك القصص الستة والعشرين لتكون انموذجاً يتعرف به أسلوبه الغريب في بابه قال في قصة ثمود ما نصه: لما أعرضت ثمود عن كل فعل صالح بعث إليهم للإصلاح صالح فنعنت عليه ناقة هو أهم بطلب ناقة فخرجت من صخرة صماء تقبقب ثم فصل عنها (أي خرج منها) فصيل يرغو فارتعت حول نهي (بكسر فسكون أي غدير ماء) نهيهم عنها في حمى حماية (ولا تمسوها بسوء) فاحتاجت إلى الماء وهو قليل عندهم فقال حاكم الوحي لها شرب ولكم شرب يوم معلوم وكانت يوم وردها تقضي دين الماء بماء درها فاجتمعوا في حلة الحيلة على شاطئ غدير الغرور فدار قدار ابن سالف عاقر ناقة صالح الذي هو أشقى ثمود حول عطن (فتعاطى فعقر) فصب عليهم صبيب صاعقة العذاب الهون فحين دنا ودندن دمغهم دمار (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم) فأصبحت المنازل لهول ذلك النازل كان لم تغن بالأمس.
والقسم الثاني يشتمل على مائة فصل كمقامات الزمخشري في أطواق الذهب وعبد المؤمن الأصفهاني في أطباق الذهب من حيث الموضوع والتفنن في الأساليب الناجعة المؤثرة في الموعوظ وهذا القسم يستوعب نحواً من خمسة أسداس الكتاب وقد أكثر فيه من الأشعار مستشهداً بها على حسب ما يقتضيه المعنى الذي يريد تصويره في مخيلة السامع وربما كان الشعر في هذا القسم مساوياً للنثر أو يزيد وكله أو جله من نظم غيره وإنما يذكره تمثلاً واستشهاداً.
قال في الفصل السادس والسبعين:
ذكر الأحباب والوطنا ... والصبا والألف والسكنا
فبكى شجواً فحن له ... مدنف بالشجو حلف ضنى
أبعدت مرمى يد رجمت ... من خراسان به اليمنا
من لمشتاق تميل به ... ذات سجع ميلت فننا
لم تعرض في الحنين بمن ... مسعد إلا وقلت أنا
لك يا ورقاء أسوة من ... لم تذيقي طرفه الوسنا
بك انسي مثل انسك بي ... فتعالي نبد ما كمنا
نتشاكى ما يجن فإن ... نحت شجواص صحت واحزنا(62/40)
أنا لا أنت البعيد هوى ... أنا لا أنت الغريب هنا
أنا فرد يا حمام وها ... أنت والألف القرين ثنا
اسرحا رأد النهار معاً ... واسكنا جنح الدجى غصنا
وابكيا يا جارتي لما ... لعبت أيدي الفراق بنا
أين قلبي ما صنعت به ... ما أرى قلبي له سكنا
كان يوم النفر وهو معي ... فأبى أن يصحب البدنا
أنه حادي الفراق حدا ... أم له داعي الفراق عنى
ومن قوله في بعض الفصول: ويحك اجتنب حلواء الشره فإنها سبب الحمى وخل خل البخل فإنه يؤذي عصب المروءة، إن عوجلت أمراضك فعولجت وإلا مللت وأمللت، لو احتميت عن الخطأ لم تحتج إلى طبيب، من ركب ظهر التفريط نزل به دار الندامة.
ومن قوله في هذا الفصل: كان داود إذا أراد النياحة نادى مناديه في أندية المحزونين فيجتمعون في مأتم الندب فتزداد الحرق بالتعاون:
يا بعيد الدار عن وطنه ... مفرداً يبكي على شجنه
كلما جد النحيب به ... زادت الأسقام في بدنه
ولقد زاد الفؤاد جوى ... هاتف يبكي على فننه
شاقه ما شاقني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
يا مذنبين مصيبتنا في التفريط واحدة وكل غريب للغريب نسيب، ومن قوله في فصل آخر:
إخواني انتبهوا من رقدات الأغمار وانتبهوا لحظات الأعمار وقاطعوا الكسل فقد قطع الأعذار الأعذار واسمعوا زواجر الزمن فما داجى الدجى ولقد نهر النهار وخذوا بالحزم فقد شقي من رضي بشفا جرف هار، ومنه: وأعجبا يتأمل الحيوان البهيم العواقب وأنت لا ترى إلا الحاضر ما تكاد تهتم بمؤنة الشتاء حتى يقوى البرد ولا بمؤنة الصيف حتى يشتد الحر ومن هذه صفته في أمور الدنيا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً.
ومنه: ما دامت النفس حية تسعى فهي حية تسعى، أول فعل لها تمزيق العمر بكف التبذير كالخرقاء وجدت صوفاً، أخل بها في بيت الفكر ساعة وانظر هل هي معك أو عليك، نادها(62/41)
بلسان التذكرة يا نفس ذهب عرش بلقيس وبلي جمال شيرين وتمزق فرش بوران، وبقي ذلك رابعة.
ومنه: يا صبيان التوبة طبيبكم متلطف تارة بالتشويق وتارة بالتخويف هذه الطير إذا انشق بيضها عن الفراخ علم الأب والأم أن حوصلة الفرخ لا تحتمل الغذاء فينفخان الريح في حلقه لتتسع الحوصلة ثم يعلمان أن الحوصلة تحتاج إلى دبغ وتقوية فيأكلان من صاروج الحيظان وهو شيء فيه ملوحة كالسبخ ثم يزقانه إياه فإذا اشتدت الحوصلة رقياه إلى الحب فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع فإذا جاع لقط فإذا راياه قد استقل باللقط ضرباه بالأجنحة إذا سألهما الزق فتأملوا تدبيري لكم في المواعظ، ومنه: الدنيا غرارة غدارة مكارة، تظن مقيمة وهي سيارة، ومصالحة وقد شنت الغارة
نح عن نفسك القبيح وصنها ... وتوق الدنيا ولا تأتمنها
لا تثق بالدنا فما أبقت الدن ... يا لحي وديعة لم تخنها
إنما جئتها لتستقبل المو ... ت وأسكنتها لتخرج عنها
تستحل الدنيا وما لك إلا ... ما تبلغت أو تزودت منها
وسيبقى الحديث بعدك فانظر ... خير أحدوثة تكون فكنها
ومن فصل آخر:
يا ساعياً لنفسه في المهالك، دنا الرحيل ونضو النقلة بارك، متى تذكر وحشتك بعد إيناسك، متى تقتدي من ناسك بناسك، كأنك بك قد خرجت عن أهلك وولدك، وانفردت عن عددك وعددك، وقتلك سيف الندم ولم يدك (يدفع ديتك) ورحلت ولم تحصل من ندمك إلى على عض يدك:
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الريح بعدك والقطر
على ذاك مروا أجمعين وهكذا ... يمرون حتى ينشرنهم الحشر
فحتام لا تصحو وقد قرب المدى ... وحتى مَ لا ينجاب عن قلبك السكر
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ... وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر
ومن فصل آخر: كان محمد بن المنكدر كثير البكاء فسئل عن ذلك فقال آية من القرآن(62/42)
أبكتني: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) كيف لا تذهب العيون من البكا وما تدري ماذا أعد لها سبقت السعادة لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل كونه ومضت الشقاوة لأبي جهل قبل وجوده، وخوف العارفين من سوابق الأقدار قلقل الأرواح هيبة، لا تسل مع تحكم (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) قوي قلق العلماء:
أترى سئلوا لما رحلوا ... ماذا فعلوا أم من قتلوا
أحليف النوم أقل اللوم ... فعندي اليوم لهم شغل
أدنى جزعي لم يبق معي ... قلب فيعي منذ احتملوا
جلدي سلبوا جسدي نهبوا ... كمدي وهبوا كبدي تبلوا
هيهات أفيق اذليس تطيق ... هذا ايليق فما العذل
لما ذرفت عين وقفت ... أترى عرفت ما بي الإبل
ولحى اللاحي وهو الصاحي ... وهمو راحي وأنا الثمل
ومن فصل آخر: يا تائهاً في ظلمة ظلمه، يا موغلا في مفازة تيهه، يا باحثاً عن مدية حتفه، يا حافراً زبية هلكه، يا معمقاً مهواة مصرعه بئسما اخترت لأحب الأنفس إليك، ويحك تطلب النجاة ولست على الطريق، هز الزمان بوعظه فماً فما سمعت: لينذر من كان حياً ومنه:
إلى أي حين أنت في زي مجرم ... وحتى متى في شقوة والي كم
وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتلاقي الذل غير مكرم
فثب واثقاً بالله وثبة ماجد ... ترى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
ومن فصل آخر:
تبني وتجمع والآثار تندرس ... وتأمل اللبث والأرواح تختلس
ذا اللب فكر فما في الخلد من طمع ... لا بد ما ينتهي أمر وينعكس
أين الملوك وأبناء الملوك ومن ... كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا
ومن سيوفهمو في كل معترك ... تخشى ودونهم الحجاب والحرس
اضحوا بمهلكة في وسط معركة ... صرعى وماشي الورى من فوقهم يطس
وعمهم حدث أو ضمهم جدث ... باتوا وهم جثث في الرمس قد حبسوا(62/43)
كأنهم قط ما كانوا ولا خلقوا ... ومات ذكرهمو بين الورى ونسوا
والله لو نظرت عيناك ما صنعت ... يد البلى بهمو والدود يفترس
من أوجه ناضرات حار ناظرها ... في رونق الحسن منها كيف تنطمس
وأعظم باليات ملبها رمق ... فليس نبقى وهذا وهي تنتهس
وألسن ناطقات زانها أدب ... جفت وما شانها بالآفة الخرس
لستهمو السن للدهر فاغرة ... فاها فآهاً لهم إذ بالردى وكسوا
حتى م ياذا النهي لا ترعوي سفهاً ... ودمع عينك لا يهمي وينبجس
ومن قوله في الفصل الأخير: هذه قصص النجاة قد أمليتها فعنونها وهذه جوارشات المواعظ قد جمعتها فاعجنها ثم قال في الختام لمن أصغي واصف، أفي عزمك أتباعي فأقف، الليل يضج من نومك، والنهار يستغيث من قبح فعلك.
يا أيها الراقد كم ترقد ... قم ياخليلي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وساعاته ... حظاً إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد
وكان بودي - لولا خشية الإملال من الإطالة وعدم اتساع نطاق المجلة - أن أستوفي نقل بعض فصول (هذا المدهش) برمتها لما تضمنته من محاسن البلاغة وأسلوب الحكيم وجودة المعنى والمبنى مما جمع بين اللذة والفائدة ودل على سمو مدارك المؤلف وسعة فضله وغزارة مادة علمه كما يظهر من ترجمته فعسى أن يقيض الله له من خدمة العلم وناشري الويته من يجيد طبعه ويستخرج للناس جواهر كنزه فيحظى بالربح عاجلاً وآجلاً مع تخليد الذكر الجميل والأثر الحسن والسلام.(62/44)
أخبار وأفكار
العين الكهربائية
اخترع الأستاذ روزنك الروسي آلة تكون بمثابة عين كهربائية تظهر بها اضطرابات المعدة وأسرار أعماق البحار وأسرار البراكين بجلاء ووضوح كما تتمثل لنا إذا كانت أمام العين مباشرة وقد بناه على الاكتشاف الحديث للأشعة الكاتوديكية فينطبع الموجود بمرآة من نوع الروتاتيف وتظهر الصورة بتأثير مجرى كهربائي، ويتأتى إنزال هذه الآلة إلى قعر البحر ووسط البركان والمعدة كما ينزل المسبار لسبر الأبعاد فيها فترى الأشياء في الظلمات كما ترى في النور بل ترى بها المعادن المدفونة في بطن الأرض إذا أريد أن ينظر فيما إذا كان ثمت خطر على العملة في المناجم ويفيد هذا الاختراع فوائد كلية في الأعمال الصناعية وفي الفنون الحربية والبحرية وفي غير ذلك وبهذه الآلة تتم عدة اختراعات كانت موقوفة على مثل هذه العين الكهربائية.
تعقيم اللبن
اخترع الدكتور هرنغ من فارسوفيا آلة لتعقيم اللبن تقتل بها الجراثيم الضارة بدون أن يفقد شيئاً من خاصيته وذلك بأن يغلى من 65 إلى 70 درجة ثم يبرد بواسطة هذه الآلة التي تعقم من 200 إلى250 سنتمتراً مكعباً من اللبن والآلة المذكورة حوت الشروط اللازمة التي يحفظ بها اللبن خاصياته الطبيعية والكيماوية ولونه وطعمه ورائحته ومواده الدهنية وغيرها وبها يتأتى إبقاؤه ثمانية أيام بدون أن يحمض.
برزخ جديد
عمدت روسيا أن تفتح برزخاً يصل بحر البلطيق بالبحر الأسود وطول هذا البرزخ 2150 كيلومتراً ويقدر ما ينبغي لذلك من النفقات 450 مليون فرنك تكون السهام للروسيين فقط كما تكون جميع الأدوات اللازمة لهذا العمل روسية محضة ويقول القائمون به أنه يرجى أن يكون دخل هذا الخليج 80 مليون فرنك كل سنة.
صرعى الكتب
يذكر القراء اسم المسيو البرسيم مؤلف الكتاب (المقتبس م3 ص377 و457 و735)
الباحث العلامة الذي أثبت بأن عمرو بن العاص لم يحرق مكتبة الاسكندرية في الفتح بأمر(62/45)
عمر بن الخطاب على ما يتهمهما بعضهم بذلك ظلما وقد كتب المؤلف الآن مبحثاً في المجلة الافرنسية قال فيه ما حاصله: شدد (جول فالي) في كتابه الأخير في كلامه على تأثيرات الكتاب السيئة فقال أنه طالما آذى قارئه بما ينبعث منه من الأفكار وخصوصاً كتب الأقاصيص والسير والغرام فلا تجد منتحراً إلا وقد سبقت له مطالعة أساليب الانتحار في كتاب ولا امرأة غادرت بيتها متهتكة إلا لأنها تلت القصص الغرامية ولا قاتلاً إلا سهلت له ما هو بسبيله مطالعة الكتب وكم أثرت الكتب في كبار الرجال فكانوا صرعاها في الحقيقة أمثال مورجة وموسه وبالزاك وساند، قال سيم أما الكتاب على التحقيق فهو كاللسان كما قال ازوب في الخير والشر هو رابطة الحياة المدنية ومفتاح العلوم به تعمر المدن وتنظم وبه يعلم الناس ويقنعون ويحكم الحاكمون والمسيطرون وبه تتم أول الفروض على المرء من حمد الله كما أنه اشر ما في العالم وأصل كل خصام وبلاء ومولد القضايا ومبعث الشقاق والحروب فإذا قيل أنه لسان حال الحق فهو أيضاً لسان حال الضلال بل النميمة والغيبة.
فالمؤلف إذاً قد غالى في وصف سيئات الكتاب فنظر إليه من وجه وترك الوجه الآخر وهو وجه الحسنات وفاته الخير الذي يسد به والعلم الذي ينشره والعزاء الذي تتعزى به النفوس والغذاء الذي تتغذى به الأرواح فقد قال سلفستردي ساسي: ما قط عراني ألم من الآلام التي تداهم القلب إلا وعالجته فزال بمطالعة ساعة وقد قال الفيلسوف شيلر يخاطب قريحته: ماذا أكون أولاك أني أجهله ولكنني أرتعش عندما أرى مئات وألوفاً من الناس حرموا منك، ولذا أتوخى هنا أن ألقي نظرة فيمن أحبوا الكتب وأولعوا بها وجعلوا فيها لذتهم بل سمرهم بحيث خصوا بها كل شيء وصرعوا بها مختارين راضين.
وكم من مولع بالكتب طال عمره كأن الكتب مما يطيل حبل الأجل فلو تتبعت سير الرجال منذ عهد ايراتوستين (276 - 195 ق. م) إلى دانيال هوية (1630 - 1721) لوجدت كثيرين من المعمرين المولعين بل المتجننين يحب الكتب ومنهم كيتي الفيلسوف والعالم تيرس والعالم كيزو واللغوي لتره والعالم ارنست لوكوفيه وغيرهم من المعمرين من أهل القرن الماضي والذي قبله وما منهم من قصرت سنه عن السبعين ومنهم من بلغ المئة وأكثر، وشيخ رجال الأدب اليوم في فرنسا المغرم بالكتب المشهور فرنسوا فرتيول بلغ(62/46)
السابعة والتسعين من عمره ولا يزال إلى اليوم في صحة ونشاط بين كتبه الكثيرة وأحبابه الموالين له.
وأقدم صرعى الكتب ايراتوستين الفيلسوف الجغرافي الرياضي اليوناني من أهل القرن الثالث قبل المسيح دعاه بطليموس من آثينة إلى الاسكندرية ليفوض إليه إدارة المكتبة التي أنشأها فيها وإذ كف بصره في آخر عمره آثر الموت على أن يحرم من مطالعة الكتب ويحرم من دروسه المعتادة فانتحر جوعاً، وأحدث صرعى الكتب شارل ديديه (805 - 1864) مؤلف رحلات كثيرة على الشرق كف بصره فآثر الانتحار على العيش بدون تلاوة وهذا فعل، ومثله ستانيسلاس كويارد (1846 - 1884) العالم المستشرق استاذ اللغة العربية في كوليج دي فرانس فإنه لما استحكم منه المرض فضل الانتحار على أن يعيش في راحة اضطرارية منقطعاً عن عمله، ومثله الطبيعي الباحث الألماني اميل بسلس (1847 - 1887) أضاع في غرق مجموعاته الثمينة وسطت النار بعد سنين على مكتبته وجميع مخطوطاته فرأى الانتحار أفضل من تحمل ألم تلك الرزية التي أصابته.
ومات بريان الأميركاني حزناً على كتبه الثمينة وكان أعطاها في حال غفلة لإحدى المكاتب ومات كوجه الافرنسي لأنه رأى عشرة آلاف من كتبه تنتقل إلى يد غير يده وكذلك اللغوي ريشارد برونك مات لأن الحالة المالية اضطرته أن يخرج عن ملكه بعض كتبه العزيزة، ومن الناس من حزنوا وهلكوا لما رأوا مجموعاتهم تنهب أو تعطل وكم من علماء وأدباء وخازني كتب قضوا بما وقع فوق رؤوسهم من الكتب والأسفار الثمينة الثقيلة أو وقعوا من سلم وهم بصدد وضع كتاب في بيته أو رفه أو إخراجه منه وكم من عالم أحرق كتبه بإهماله وذلك بشمعة سرى لهيبها إلى ورق أو أحرق نفسه بشمعة كما فعل تيودورمومسن المؤرخ الألماني الذي نقل النار إلى شعره الطويل الأبيض فمات من أثر حروق وكم من مولع بالكتب مثل بولارد (1754 - 1825) الذي جمع مكتبة فيها ستمائة ألف مجلد ملأ بها تسعة بيوت وأنهكه التعب في جمعها ونقلها فكانت سبب هلاكه.
ومن الناس من قضوا على أنفسهم بصنعهم وانصرافهم إلى المطالعة والاستغراق في الكتب ومن هذه الطبقة انكتيل دوبورون (1731 - 1805) المستشرق المشهور ناقل كتاب الزاند افستا الفارمي إلى الافرنجية وموجد الدروس الآسيوية في أوروبا وعارف لغاتها كلها كان(62/47)
مقتراً في مأكله وملبسه مستغرقاً فيما أخذ به نفسه حتى أنه لقلة هندامه ونظافته كان يظن أنه شحاذ فيعطيه بعض المارة دارهم متصدقين عليه فقضى عقيب أنهاك قوته في العمل ومن غرائبه أنه عين عضواً في المجمع العلمي ولما كان زاهداً في التشريفات ولا يغنى بغير المطالعة من أمور الحياة اضطر إلى الاستقالة، وكم من رجل حرم نفسه الطعام والأدام بل الدفء والثياب ليقتني بدريهمات يدخرها كتاباً ومنهم انطون ماكليابشي (1633 - 1714) العالم الفلورنسي المولع بالكتب كان يعيش أحقر عيشة وأمامه كنوز من المال أنفقها على خزانة كتبه في فلورنسا وكذلك يوسف اندراوس زالوسكي أسقف مدينة كيف في بولونيا 1701 - 1774 حصر كل وقته وقواه حتى جمع خزانة كتب حوت مائتي ألف مجلد فنهبها الروس سنة 1795 ومن المولعين بالكتب ومطالعتها من كانوا يكرهون أنفسهم على عدم النوم ويغسلون أرجلهم بالماء البارد وهم في أبرد الأقاليم لئلا يناموا ثم يضعون المنبه على أوقات يعينونها ومن المولعين بالكتب ومطالعتها من كانوا يكرهون أنفسهم على عدم النوم ويغسلون أرجلهم بالماء البارد وهم في أبرد الأقاليم لئلا يناموا ثم يضعون المنبه على أوقات يعينونها ومن المولعين بالكتب نابليون الأول حرم نفسه أنواع الراحة لأول أمره حتى اقتنى بعض الكتب وعلم أخاه في المدرسة ومنهم يواكيم لوول 1786 - 1861 المؤرخ البولوني العالم بالكتب والنقود نفته حكومته فنزل بروكسل عاصمة البلجيك وكان عزيز النفس لا يقبل معونة أحد وهو في فقر مدقع والفصل شتاء وهو لا مال له يبتاع به وقوداً يصطلي عليه في البرد القارس فاحتال بعض إخوانه أن يكتروا بجانب غرفته غرفة ويدخلوا أنبوب الموقدة من غرفته بعد أن أخذوا رأيه وأظهروا له أن غرفتهم لا تدفأ إلا على هذه الصورة فقال لهم اعملوا ما شئتم وهكذا توصلوا إلى تدفئته بدون أن يشعر ويدفع درهماً.
وكثير من الناس من ماتوا فوق كتبهم أو أمامها حتف أنفهم ومنهم بترارك الأديب الكبير (1304 - 1374) والفيلسوف الصقلي أنطون فلامينو من أهل القرن السادس عشر ومنهم سوليه الفرنسوي الذي آثر الوحدة على كل اجتماع وكانت حياته مثال العامل المجد وكتب بيتين لتحفرا على قبره معناهما: ولدت يتيماً وعشت وحدي في شبيبتي وكذلك في شيخوختي وهاءنذا وحدي هنا في القبر إلى اليوم(62/48)
سلك بحري
تقول المجلات العلمية أن السلك البحري الذي سينجز هذا الشهر بين ألمانيا وأميركا الجنوبية قد بلغ طوله 11200000 كيلو متر آخذاً من أمدان إلى تنريف فمونرونيا على شاطئ إفريقية الغربي ومن هناك إلى ليبيريا آخذاً إلى برنامبوكو فالبرازيل أما الفرع الثالث الذي يصل بين إفريقية والعالم الجديد فطوله 4500 كيلومتر.
لحم الكلاب
انتشر أكل لحم الكلاب في ألمانيا ولا سيما في إمارة ساكس ولحمها أغلى من لحم الخيل ويذبحون سبعة آلاف كلب كل سنة في تلك الإمارة لتناول لحومها.
سكان الولايات المتحدة
لم يكن للولايات المتحدة إحصاء معروف حتى سنة 1820 يدل على سكانها وحركة الهجرة إليها وقد تبين بالإحصاء أنه دخل من ذاك العهد سنة 1910 20 مليوناً من المهاجرين أكثرهم من الطليان والعناصر النمساوية المجرية، وليس الانكليز والايرلنديون والسكانداولون والألمان قلائل بعدهم، وكان سكان أميركا إلى حرب الاستقلال من أصل انكليزي خاصة وفيهم كثير من الايكوسيين والايرلنديين هربوا من بلادهم تخلصاً من ظلم الحكومة الانكليزية ثم جاء الألمان فالهو كنوت الفرنسويين والايكوسيون وزادت الهجرة عندما اشتد غلاء البطاطا في ايرلندا سنة 1347 وفي ثورة ألمانيا وكان الشمال الغربي من بلاد أوروبا أولاً هو الذي يهاجر منه المهاجرون بكثرة إلى الولايات المتحدة ثم سرت هذه البدعة إلى سكان جنوبي أوروبا وهم اليوم أكثر الأوروبيين هجرة، ومن الغريب أن البلغاريين والرومانيين والصربيين لم يهاجروا كما هاجر غيرهم من سكان أوروبا مع أنه هاجر كثيرون من أهل البوسنة وبولونيا وغاليسيا كما أخذ يهاجر اليوم كثير من أهل الممالك العثمانية ولا سيما أهل سورية وأرمينية.
انكلترا والسلام
ظهر من إحصاء حديث أن انكلترا على الرغم مما تسعى إليه في حفظ السلام قد أنفقت في القرن التاسع عشر ثلاثين مليار فرنك على حرب نابوليون والقريم وجنوبي إفريقية(62/49)
وخسرت سبعمائة ألف من رجالها وقد أفقدتها الهجرة منذ سنة 1820 ثمانية ملايين من الأنفس هاجروا إلى أميركا وكان في الولايات المتحدة وحدها سنة 1900 2800000 انكليزي أي أكثر من مجموع ما في أوستراليا وإفريقية الجنوبية وكندا من الانكليز.
أمة السواب
في بلاد المجر مستعمرة من السواب نزلتها منذ سنة 1716 وهو عهد تحرير الأمير اوجين لتلك البلاد من حكم العثمانيين ويبلغ عددهم اليوم مليون نسمة ويجتمعون في إقليم بانات وأسماء بلدانهم ألمانية ولكنهم قلما يتعلقون ببلادهم الأصلية وهم كالسكسونيين في ترنسلفانيا بأميركا قد أنشأوا لأنفسهم استقلالاً جديداً رقوه بنشاطهم في كل فرع من فروعه وليس لهم إلى الآن مقام رفيع في ميدان الأعمال العقلية ويكاد لا يوجد لديهم أكثر من خمسة عشر مؤلفاً وهم يفاخرون بأنه كان من شعرائهم القدماء شاعر اسمه نيقولا لونو ولهجة لغتهم كلهجة ذاك الإقليم وتآليفهم أشبه بالقصص التي كان يتلذذ بها الناس في ألمانيا منذ مئة سنة.
السويد والشرق
عثروا في السويد أثناء الحفر على كثير من الأمتعة والاعلاق يستدل من صورتها أنها شرقية أو جعلت على مثال شرقي واستنتج علماء الآثار من ذلك أنه كانت من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر للميلاد صلات منظمة بين السويد والعالم الإسلامي وربما مع الصين أيضاً فإن البلاد الواقعة في جنوبي السويد مملوءة بهذه النفائس والعاديات فقد عثروا فيها على 30 ألف قطعة من النقود العربية من نقود القرن الثامن إلى القرن العاشر ضربت في فارس وبين النهرين وفي غيرها من البلاد الواقعة شرقي بحر الخزر مثل المخ وسمرقند وعثروا على آثار منها الفارسي ومنها الصيني ومن جملتها كأس من الفخار مزين بالمينا استخرجوه من مدفن في غوتلاندا يشبه كأساً من القلز كتبت عليه كتابات عربية بحروف كوفية عثر عليه في سوركوت من أعمال سيبيريا.
قالت المجلة الآسيوية وجميع هذه المكتشفات ينجلى بها كلام مؤرخي العرب والروم البيزنطيين والايسلنديين الذين ذكروا مكانة التجارة السكانداوية في روسيا والمملكة البيزنطية وبلاد الإسلام وبما ظفر الباحثون في روسيا وسيبيريا بمثل هذه الذخائر وبها تسهل معرفة الطرق التجارية التي كان سلكها التجار بين السويد والشرق وإن ما عثر ما(62/50)
عليه أيضاً في جنزوف من الأسلحة والأدوات وأنواع الحلي ليدل على أنها سويدية الشكل ممزوجة بأصل عربي أو رومي ويرى المسيو ارن أن نهري الفولغا ودنيبر كانا هما الطريقين الأعظمين الواصلين بين بلاد السويد وفنلندا من جهة وبينها وبين بلاد الشرق من أخرى فكان يتيسر لتجار السويد أن يجتازوا الفولغا إلى حد بحر الخزر مما يوافق عليه مؤلفو العرب فقد قالوا أن الاجتماع كان في جنوبي هذا البحر فيصادفون في طريقهم في بلغار جنوبي قازان وفي اتيل جنوبي استرخان تجاراً قدموا من فارس وتركستان ليقايضوا معهم بضائعهم وكان سكان السويد يسيرون في نهر دنيبر حتى يبلغوا المملكة البيزنطية، وقد سرت التأثيرات الإسلامية إلى أعالي نهر دنيبر إذ قد ظفر الباحثون بالقرب من مدينة كيف بعقود سلكت في عدة أسلاك وهي من الصناعة الإسلامية، قلنا ولا عجب إذا عثروا هناك على آثار للعرب فقد ذكر المرحوم حسن أفندي توفيق من رجال النهضة العلمية المصرية في كتابه رسائل البشرى أنه وجد نقلاً في بعض الكتب عن القزويني في كتاب له يسمى آثار البلاد ما يستدل منه أن أبا بكر محمد الأندلسي الطرطوشي المعروف بابن أبي رندقة المتوفى في الاسكندرية سنة 520 قد ساح في أرض ألمانيا ووصف بعضاً من بلادها فوصف مدينة مينس وسماها مغناجه ووصف بعضاً من بلادها فوصف مدينة شليزفيك وسماها شلشويق وذكر لنا الأستاذ المرحوم أن أحد علماء الجغرافيا من الألمان ذكر له أنه عثر في معجم ياقوت على ذكر مدن في حدود اسكاندينافيا من شمالي أوروبا فإذا صح الأمر وكان ياقوت ذكر بعض هذه البلاد استفاد من ذلك الباحثون من أهل السويد أن طريق التجارة كان أيضاً من البحر قاصدين إلى ألمانيا فجنوبي شرقي أوروبا حتى يقاضوا تجار العرب والروم بتجاراتهم ويستدل من كلام ابن رندقة أن السياحة كانت ميسورة في ألمانيا في القرن الخامس والسادس للهجرة وهو غريب فتأمل.
يابان الحديثة
اختلفت الروايات في تقدير رقي يابان في مادياتها وقد كتب أحد العلماء في مجلة العالمين الباريزية مقالة في هذا الصدد جاء فيها أن قليلاً في الشعوب من سارت سير اليابان في رقيها بسرعة فقد أثبتت قوة بحريتها وبريتها في حربين عظيمتين خرجت منهما ظافرة وبلغت الدرجة الرابعة ببحريتها بين الدول وعادلت تجارتها الخارجية تجارة أوستراليا(62/51)
وكندا وأحسنت بالانتفاع جد الانتفاع من مناجمها وصناعاتها، وسككها الحديدية وأسلاكها البرقية والتلفونية كما لدولة عظمى، وتقدر ثروتها بسبعين مليار فرنك وبفضل الإدارة المنظمة بلغت ميزانيتها ملياراً ونصف مليار فرنك ولم يكن لحكومتها سنة 1868 إلى 1885 أهم الصناعات الحديثة في بلاها لتضاهي بها أهل الغرب في مدينتهم، يقولون أن آسيا متأخرة بمدنيتها خمسين سنة عن أوروبا أما المدنية في يابان فإنها أرقى من كثير من ممالك أوروبا نفسها.
التعليم في رومانيا
رومانيا مملكة من ممالك البلقان كانت تؤدي الجزية للدولة العلية من سنة 1392 إلى سنة 1716 ثم حكمتها مباشرة واستقلت نهائياً سنة 1878 منفصلة عن العثمانية في مؤتمر برلين وهي مؤلفة من إمارتي مولدافيا والفلاخ ومساحتها السطحية 139547 كيلومتراً وقد نشرت نظارة معارفها مؤخراً إحصاء بعدد الأميين والمتعلمين من أبنائها عن سنة 1909 أي لمرور 48 سنة على جعل رومانيا مملكة تبين منه أن أولاد رومانيا يجب عليهم أن يدخلوا المدرسة الابتدائية العامة من السنة السابعة إلى الرابعة عشرة وإذا رأت إدارة معارفها ضرورة تكره أولياء الأولاد أن يعلموا أطفالهم في مدارس إعدادية خاصة من سن السادسة إلى السابعة وإذا جاوز الولد الرابعة عشرة من سنه ولم يدخل مدرسة يضطر إلى دخولها ويمكث فيها سنة زيادة أما من تعلموا ما يجب تعلمه قبل أن يبلغوا الرابعة عشرة فيقضى عليهم إذا كانوا من أبناء القرى أن يواظبوا على مدارس للمراجعة، ولأولياء الأولاد أن يعلموا أولادهم في بيوتهم أو في مدارس خاصة تعترف بها الحكومة وإذا قدر لبعض الأولاد أن أخفقوا في امتحان سنتين من فحوص السنة المدرسية تقيد أسماؤهم في مدارس الحكومة على سبيل المعونة وقد بلغ عدد الأولاد الذين هم في سن الدراسة 827883 طفلاً وطفلة في القرى و 110573 في المدن وعدد مدارس القرى 4695 فيها 6460 معلماً وعدد طلابها وطالباتها 504297 منهم 333378 صبياً و 70919 ابنة وبلغ عدد مدارس المدن 378 فيها 1324 معلماً و 80654 تلميذاً منهم 46276 ذكراً وفي رومانيا 260 مدرسة خاصة فيها 24727 تلميذاً و 88 ملجأ معظمها للاسرائيليين تؤوي 3126 ولداً سنهم دون السابعة.(62/52)
قالت مجلة الاقتصاديين بعد إيراد بعض ما تقدم ونفقات المعلمين في هذه المدارس تؤديها الحكومة خاصة وقد كانت سنة 1910 - 13 مليون فرنك 297271 فرنكاً ويؤخذ من إحصاء سنة 1901 أن أهالي رومانيا بلغوا 4763699 ذكوراً وإناثاً سنهم أكثر من سبع سنين منهم 1809431 يقرأون ويكتبون و 2954268 أمياً ومعدل الأميين في المدن 26 في المئة في الرجال و 48 في المئة من النساء فيها و 2105605 من هؤلاء الأميين تجاوزت سنهم الحادية والعشرين فنجوا من قانون المعارف الذي يقضي بتعليم الأولاد إلى هذه السن و 850000 أمي تختلف سنهم بين السابعة والحادية والعشرين وقد بذلت العناية من وراء الغاية منذ عشر سنين لنشر المعارف بين غير المتعلمين من الرومانيين ولكن الأمر صعب والتغلب عليه بعد الآن، قلنا أما المملكة العثمانية فلا تعرف حتى الآن عدد أمييها من متعلميها بل لا تعرف عدد سكانها لأن كل شيء فيها موكول إلى التوكل والبركة لا إلى الحساب والتقدير.
احتكار المجلات
شاعت في الولايات المتحدة إشاعة أحدثت ضجيجاً وقلقاً في عالم الصحافة وذلك أن النقابة المالية التي يرأسها المثري الشهير مورغان تريد أن تحتكر المجلات الكبرى في تلك الديار لأن أحد أعضاء هذه النقابة قد ثبت أنه ابتاع عدة مجلات وهو مدير شكرة كرول التي لها ثلاث مجلات عظمى يبلغ ما تطبعه 1700000 نسخة وقد اشترى مورغان سهاماً كثيرة من شركة أخرى يريد ضمها إلى شركة كرول ويخشى مديرو المجلات أن لا يكون هذا الاحتكار داعياً يضطرهم لا نزال أجور الإعلانات، والذي نعجب منه في الأكثر أن المطبوع من ثلاث مجلات هو هذا القدر من العدد.
سكان الهند
أفاد لسان البرق أنه بلغ سكان الهند في الإحصاء الأخير 315 مليوناً وهو نمو هائل دل على استتباب أعلام الأمن وتوفر مرافق الحياة والصحة والثروة في تلك الأقطار الواسعة.
المرأة والرجل
اقترحت مجلة أدلة الترقي الفرنسوية على أرباب الأفكار وحملة العلم والأدب في فرنسا أن يكتبوا لها آراءهم في طلب المرأة التساوي بالرجل في حقوق الانتخاب وهو المطلب الذي(62/53)
اشتد النساء في ألمانيا وانكلترا والنمسا وفرنسا في المطالبة به في العهد الأخير لما ظهر من اقتدارهن ومسابقتهن الرجال إلى ورود حياض العلوم والمعارف فكتب لها الكاتبون وبعض الكاتبات الشهيرات بآرائهم فكانت في الأكثر مجمعة على وجوب تساوي النساء بالرجال في هذا الشأن وأن إشراكهن الرجل في الانتخاب حسن وربما كانت آراؤهن أميز من آراء الرجال في كثير من الأحوال.
كارنيجي والسلام
بعد أن دفع المثري الأميركي كارنيجي عشرة ملايين دولار للسعي في إبطال الحروب من الأرض وتعهد بأداء أربعين مليوناً آخر قوي الأمل بأن يرفع السلام أعلامه على الأرض وقد ألفت حكومة واشنطون لجنة من 24 رجلاً من كبار ساسة الأميركان للنظر في هذا الأمر، قال كارنيجي في كتابه إلى هذه اللجنة إني أودع إليكم مبلغ عشرة ملايين دولار لتستعملوه في الإسراع بإبطال الحرب الدولية هذه الوصمة القذرة في وجه المدنية الحديثة وقد وصف أحد الألمان كارنيجي الأميركي وقال أنه رآه في السنة الماضية وهو في السن الثالثة والسبعين فرحاً مسروراً كأنه في الأربعين وقوة جسمه ناشئة من رياضته وهو حسن الظن في الأمور قوي الثقة بالمستقبل شعاره: كل شيء صائر إلى خير لأن كل أمر في تحسن اليوم بعد اليوم في هذه الدنيا وكيف لا يقول هذا وثروته تبلغ عشرة مليارات من الفرنكات هو ابن نساج ايكوسي (انكليزي) فقير جاء أميركا يبحث له عن عمل ولا تسل عن سروره يوم جاء إلى أبيه بستة فرنكات اكتسبها لأول مرة من عمله في أسبوع وهو لا يزال يذكر تلك اللذة وأن ربح بعد ذلك الملايين والمليارات ومن جملة حسنات كارنيجي أنه أسس ألفي مكتبة لأمته سبلها على المطالعة والمراجعة.
أصل المصريين
ألقى الأستاذ اليوت سميث محاضرة في مدينة مانشستر من بلاد الانكليز في أصل المصريين قال فيها: إن معرفة أصل قدماء المصريين كان موضوع بحث الكثيرين من زمن اليونان والرومان الذين دهشوا من أعمال الأمة المصرية الهائلة وعاداتها الغريبة، وقد بدأت الاكتشافات الدالة على أصل المصريين في سنة 1894 باكتشاف الأستاذ بترى مقابر بين البلاص ونقاده في شمال مدينة طيبة كان داخلها أجسام وأشياء تاريخها سابق لتاريخ(62/54)
الأسرات التي حكمت مصر، وقد دل ذلك الاكتشاف على أن الأجسام التي وجدت قبل ذلك لم تكن مصرية بحتة بل كانت خليطاً من أجناس مختلفة، وأخذ كثير من المؤرخين يضعون نظريات بنوها على ما عثر عليه أناس لا علم لهم بالآثار بطريقة غير منظمة وهم على غير علم بما تدل عليه من الآثار التاريخية والفوائد الخطيرة العلمية قال إن من حسن حظه أنه بدأ في بحثه في مصر من سنة 1900 وهو الوقت الذي ثبت في تمام الثبوت أن مقابر نقاده كان مدفوناً فيها أجسام من قبل بدء التاريخ وأمكن كذلك معرفة أعمار هذه المقابر معرفة تامة ومن سنة 1900 تم كثير من أعمال الحفر والتنقيب اطلع عليها بأجمعها وبحث فيها بحثاً دقيقاً، وقد دلت البراهين الثابتة على أن المدنية المصرية قبل تدوين التاريخ كانت منتشرة في أعالي فروع نهر النيل إلى بلاد الحبشة ومن هناك إلى شاطئ البحر الأحمر.
وكان من عادة المصريين قبل حكم الأسرات التي حكمتهم أن يدفنوا موتاهم واضعين رؤوسهم نحو الجنوب ولما أتت الأسرة الرابعة حدث اختلاط في الأجناس في الوجه البحري وبدأت الموتى تدفن ورؤوسها نحو الشمال، وكان المصريون يعتبرون سكان شاطئ البحر الأحمر أجدادهم ويقدسونهم ويسمونهم (بنطا) أي أنهم من دم واحد ومواطنيهم.
وقبل بناء الأهرام أخذ المصريون في الاختلاط التام بالأجناس الأخرى وقبل أن بدأ تاريخ الأسرات المالكة كان المصريون قد اكتشفوا معدن النحاس فصنعوا منه أسلحة فتحوا بها الوجه البحري ولما اتحد الوجهان (القبلي والبحري) ظهرت الأسرة المالكة الأولى وفي هذا الوقت افتتح المصريون شبه جزيرة سينا وسواحل سورية إلى أن وصلوا إلى جبل لبنان وأدخلوا في غرب آسيا فوائد النحاس واستعماله وكان هذا الاختلاط بالأمم الأخرى باعثاً على تقدم المدنية المصرية فتقدموا في ذلك العصر تقدماً باهراً، وكانوا يعبدون آله الشمس (رع) على الدوام ولم تأت الأسرة الخامسة حتى انتشرت عبادة هذا الآله انتشاراً كبيراً وربما كان ذلك راجعاً إلى تأثير فتح البلاد السورية.
وفي آخر العصر الحجري أتى إلى أوروبا أناس عن طريق آسيا الصغرى وكانوا يستعملون القلز ولهم عادات مختلفة في دفن موتاهم وقد تعقبت بقايا هذا الجنس فوجدت أنها تتصل بنفس المكان في سورية الذي كان يأتي منه المهاجرون إلى مصر في عهد بناء(62/55)
الهرم الأول حيث تعلموا استعمال النحاس من المصريين وكانو عبورهم من مضيق البوسفور إلى أوروبا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة ثم اختلطوا من ذلك الوقت بمن كانوا عائشين في العصر الحجري وعلى ذلك فالجنس المسمى بالألبيين نسبة إلى الألب هم من نسل هؤلاء الأقوام الآسيويين ولما أتت الأسرة المالكة الخامسة ظهرت دلائل وجودهم في مصر الوسطى ثم في طيبة ثم أخذت تقاطيع المصريين وسحنهم تتغير تدريجياً.
وكان من عادة الأجانب في مصر أن يطلقوا شواربهم وقد اكتشفوا أجساماً من آخر الأسوة المالكة الثالثة إلى السادسة مدفونة في الجيزة وسقارة وميدوم من هذا النوع وفحصت جماجمهم والخلاصة أن قدماء المصريين قبل بدء الأسرات المالكة والجنس الذي كان على شواطئ البحر الأبيض في القسم الحديث من العصر الحجري المسمى من دم واحد، وفي حكم الأسرة الرابعة امتزج المصريون والأجانب بسبب الحركة الكبرى التي كانت في غرب آسيا وترقوا في ذلك العهد رقياً كبيراً.
لغة الاسبرانتو
اخترع طبيب العيون الروسي الدكتور زامنهوف من فارسوفيا منذ سنة 1887 لغة مساعدة دولية سماها الاسبرانتو وأقبل بعض الناس في العالم المدني على تعلمها إقبالاً جاوز حد المأمول فانتشرت في روسيا وفرنسا وألمانيا ثم تعدت إلى سائر الممالك وتجاوزت بحر الظلمات إلى أميركا وعقدت لها مؤتمرات في سنين مختلفة وعواصم مختلفة أهمها مؤتمر درسد وكان فيه 42 نائباً عن 42 أمة مختلفة لغتها عن لغة جارتها، وهذه اللغة مؤلفة من حروف لاتينية اختار لها مخترعها أبسط التراكيب وسهل التلفظ بها بحيث يتأتى لابن الغرب أن يدرسها في بضعة أسابيع وهي من أنفع ما يكون لتسهيل الصلات بين أبناء الحرفة الواحدة من مختلفي اللغات فبلغة الاسبرانتو يتفاهم الأطباء والأساتذة والمهندسون والعلماء والتجار من أي أمة كانوا وقد صار لهذه اللغة الآن مئة جريدة منها ما يكتب بها فقط ومنها ما يكتب بها وبلغة البلاد التي تصدر فيها وينشرون بها مجلة علمية تبحث في علم الإنسان والحيوان والاجتماع والنبات والطب والرياضيات ولها مجلات أخرى أدبية فنية وقد بلغ عدد جمعياتها في أميركا 280 وفي آسيا 31 وفي أوروبا 1203 وفي إفريقية وأوستراليا 39 منها 222 جمعية في ألمانيا فقط وناهيك بإقبال الألمان على كل ما يفيد(62/56)
وتأنيهم في الأخذ من الجديد، وقد قال من كتب عن لغة الاسبرانتو مؤخراً أنها ليست واسطة للمعاملات اليومية بين البشر بل هي الواسطة الوحيدة للقضاء على ألوف من المشكلات تنجم في الغالب من اختلاف اللغات وهي تبدو عياناً عند ما يراد الاتحاد مع أجنبي غريب في أي عمل كان فلغة الاسبرانتو لا تضر باللغات الموجودة بل أصبحت لغة ثانية لكل مدني من الناس وهذا نافع جداً للأفراد والإنسانية.
اللغة المؤقتة
تألفت في باريز جمعية عامة من الأساتذة بعثت إلى رئيس الجمهورية محضراً تصف فيه فضائل اللغة المؤقتة التي ألفتها قالت فيه أن هذه اللغة ساذجة عملية لا تكلف معانيها كبير درس وعناء وبها يتيسر لجميع سكان الأرض أن يلفظوا ويقرأوا ويكتبوا ويستمهلوا ويطبعوا ويخابروا بالبرق والتلفون بدون سابق درس في كل اللغات واللهجات مهما كانت منحطة (كلغة الجركس والداغستان مثلاً) وأن يفهموها أحسن فهم وأسرعه واكثر مما يتأتى لهم بالأساليب المعتادة، وقد ذهب هؤلاء الأساتذة إلى أن أصعب ما في اللغات التلفظ بها وإملاؤها فرأوا أن يكتب الإنسان كما يقرأ وأن يدل بحرف واحد على كل كلمة وأن كل صوت يعبر عنه بالحرف نفسه في كل اللغات التي يقع فيها ولذلك اخترعوا ألف باء مؤلفة من 45 حرفاً منها ذو علائم وإشارات وتسهيلاً لتعلم هذه اللغة اخترعوا دفاتر يشرحون في الصفحة الأولى منها قواعد تلك اللغة وأصولها وقد تركوا الثانية بيضاء لتطبيق هذه اللغة على العمل والتمرن فيها ووضعوا ملايين من هذه الدفاتر في المطاعم والفنادق ومكاتب البريد والمخازن والمحطات والمدارس ليصبو كل إنسان أن يجرب بنفسه تعلم هذه الطريقة وبذلك تتم بث دعوتها وتنتشر بين الناس أقصى الانتشار ويقول مخترعو هذه اللغة أن حسناتها إذا أضيفت إلى لغة الاسبرانتو تزيح الجهل الذي هو مبعث الحروب والثورات والشقاء الخاص والبلاء العام وأن لغتهم أداة صلة معقولة بين مطبعة غوتمبرغ مخترع الطباعة وآلة أديسون مخترع الفوتوغراف أي بين العالمين القديم والجديد.
الانكليزية الفرنسية
اخترع أحد الأساتذة لغة جديدة مزج بها اللغتين الانكليزية والافرنسية وهي نوع من لغة الاسبرانتو تنفع أبناء هاتين اللغتين فقط وقد وزع كراسة بمنافع لغته أباعها من الجمهور،(62/57)
فقالت عنه المجلات أن هذه هي النتيجة الأولى لاختراعه واستضحك منها كل من تلاها وهذه نتيجة ثانية، وقالوا أن هذه اللغة أشبه باللهجة الفلامندية المعقدة المعروفة في بلاد البلجيك.
التثاؤب
كثيراً ما كان الأطباء يقولون بشناعة التثاؤب حتى قال أبقراط أن التثاؤب كالشهقة بشع من صاحبه كما هو ضار في غيره وأن أحسن علاج للتوقي من التثاؤب أن يطيل المتثائب نفسه، وقد قام في العهد الأخير طبيبان في أوروبا يريان أن لا بأس بالتثاؤب وأنه نافع لأمراض الحلق ومن يحسن التثاؤب جادت رئتاه وجميع مجاري تنفسه ولكن الواجب أن يتمرن المرء على التثاؤب كما يتمرن على تنفس الهواء فيجب أن تشتغل بالتثاؤب أعصاب الصدر والحلق معاً وأن يكون عميقاً ملياً ما أمكن وأن يتثاءب المتثائب وذراعاه مبسوطتان بحيث يبدل الهواء الذي يجري في الدماغ والقلب والأحشاء كل التبدل ويكثر من إخراج النفس وبذلك قد يسهل البلع على من لا يستطيعه وتقل اضطرابات السمع على المصابين بها وهي تكون مصاحبة لزكام الحلق أما طريقة التثاؤب فسهلة للغاية وهي عبارة عن أن يتثاءب المرء ست أو ثماني مرات متوالية بالعاً ريقه بعد كل مرة قالت المجلة التي نعرب بها وإذ كان التثاؤب مما تنفر منه طباع الحضور في مجلس وقد يؤدي إلى أن يحذو حذوه غيره فالواجب على الإنسان كما قال الأخلاقي لابرو يبران يتثاءب في بيته لئلا يزعج غيره بما يكره.
غابة تحت الأرض
اكتشفت في ساندي هوك في ولاية نيوجرسي من أعمال الولايات المتحدة غابة تحت الأرض على بعد 130 متراً عمقاً بينا كانوا يحفرون آباراً ارتوازية وأشجارها عظيمة جداً قطر الواحدة نحو سبعة أمتار، والغالب أن هذه الغابة قد انهالت عليها الرمال فطمتها ويؤملون أن يعثروا في هذا المكان على كميات وافرة من العنبر الأصفر.
أجور المنازل
اشتدت وطأة الغلاء في أجور المنازل في عواصم العالم المدني فباتت فوق طاقة العاملين والمحترفين ففي إحصاء أخير أن في مدينة برلين 520441 مسكناً منها ثمانون في المئة(62/58)
مؤلفة من غرفتين ومطبخ وهذا مما يضر بصحة من يسكنون في مثل هذه المحال في بلد يتجاوز سكانه المليونين أي أن تسعين في المئة يسكنون في مثل هذه المساكن المتلاصقة وقد كان الرجل يسكن منذ قرن ونصف بإنفاق خمسة في المئة من دخله وارتقت الأجور سنة 1850 إلى عشرة في المئة واليوم لا يستطيع السكنى بأقل من 15 إلى 20 في المئة وربما اضطر بعض الأساتذة أن ينفقوا نحو ربع مشاهراتهم ليسكنوا بيوتاً لائقة بهم في الجملة والسبب في زيادة الأجور بدعة المضاربات في أراضي البناء في المدن، والناس في الغرب يطلبون تدخل الحكومات في مسائل الأجور وأن تنشأ لجان لتفتش المساكن.
لغة الفرنسيس
عقد مؤتمر في بروكسل للنظر في اختيار لغة دولية تقوم بالغرض المطلوب لدول أوروبا من كل وجه فكان القائلون بتفضيل اللغة الافرنسية أكثر من غيرهم وقد كان للقائمين بهذا الأمر عضد قوي من رجال الكليات في العالم ماخلا ألمانيا فإنه لم تسبق دعوتها إلى هذا الغرض أما المتأدبون والعالمون وأرباب الأعمال العقلية فقد فضلوا كلهم لغة هوغو وراسين على غيرها من لغات أوروبا.
الأولاد والكسب
نشر مجلس الصحة في كليفورنيا من الولايات المتحدة نشرة قال فيها أن تعليم الولد إلى سن العشرين يكلف في كليفورنيا 4150 دولاراً أي نحو ألف ليرة عثمانية وأن قيمة الولد في تلك السن تساوي 4000 دولار وبذلك يمكن أن يثمن الشاب في سن الثلاثين ب - 16 ألف دولار على التعديل المتوسط أي أنه يربح منه 12 ألف دولار في عشر سنين ويكون قد كلف 10150 دولاراً فيبقى الربح الصافي 5850 دولاراً ومعدل ما يكلف الولد في المدارس في الولايات المتحدة 2900 ريال فإذا حسب العاملون الدارسون من أهل كلفورنيا بلغت قيمتهم 6895000000 ريال أو نحو ضعفي سائر موارد الثروة والحكومة تفقد كل سنة مئة مليون ريال في تلك الولاية بالأمراض والموت الفجائي الذي يمكن تلافيه لو حسنت العناية بالصحة أكثر من ذلك، هذا ما يساويه سكان ولاية واحدة هناك فكم يساوي سكان ثلاثين ولاية عثمانية.
الاشتراك والبلديات(62/59)
كتب صاحب مجلة أدلة الترقي مقالة في الحركة الاجتماعية وتأثير اشتراك البلديات في أوروبا قال فيها أن ارتقاء الصناعات وإنشاء المعامل دعا إلى تباعد المسافات بين دور العملة ومحال أعمالهم فاستدعى ذلك تنظيم التراموايات ومدها إلى الأماكن البعيدة وإضاءة الشوارع بالأنوار الكهربائية أو الغازية ولكن رأت بعض البلديات أن التراموايات هي لشركات لا تنظر إلا إلى ربحها فابتاعتها منها ناظرة في استثمارها كما فعلت بلدية فينا إلى مصلحة الأهلين أولاً فنتجت من ذلك نتائج حسنة وهكذا نظرت المجالس البلدية في المدن الكبرى وبعض الصغرى إلى حالة المساكن فأنشأت بعضها مساكن صحية للعملة بأجور زهيدة وكانت مدينة زوريخ متقدمة على المدن عامة فخربت ربع المدينة القديمة وبنت مكانها مساكن منظمة على هندسة وشوارع حسنة وحدائق عامة وخاصة وأنشأت إدارة ترسل مقداراً من النور في السنة لكل بيت وماء سخناً للحمامات كل يوم وإذ كانت مسائل اللحم والخبز واللبن من المسائل المشكلة على الفقير أيضاً مثل مسائل البيوت الصحية الرخيصة رأت بعض بلديات ألمانيا أن تفتح على نفقتها مسالخ ومخازن لبيع اللحوم بأثمان معتدلة فتخلص العملة بذلك من احتكار القصابين وكذلك فعلت بلدية بودابست وأنشأت مخبزاً تبيع منه الخبز للعملة بأثمان حسنة بالنسبة لسائر الخبازين حتى اضطروا أن يجاروها ويرحموا الفقير، ومنحت بلدية رومية نصف مليون ليرة لإنشاء بيوت للعملة رخيصة صحية وأنشأت بلدية ميلان صيدلية ارتقت ارتقاء مدهشاً وبها انحل عقد المحتكرين من الصيادلة وتراجع أمرهم وأنشأت بلديات بعض مدن انكلترا معامل لتعقيم اللبن وبيعه من المواضع وغيرهم تبيعهم لبناً خالصاً لا غش فيه وكذلك فعلت بعض البلديات في ألمانيا وأخذت على نفسها بعض البلديات تجهيز الموتى بأثمان بخسة لإنقاذ الفقراء من مخالب الدافنين والمكفنين واشتطاطهم في الأجور وأنشأت بعض البلديات صناديق للتوفير للعملة أتت بنتائج حسنة كما أن جميع هذه الأعمال التي قامت وتقوم بها البلديات قد نفعتها مادياً كما نفعت الطبقة البائسة والمتوسطة بها وكل هذه الأعمال يقصد بها قيام الجماعة منظمين أمرهم بنظام المجالس البلدية ليدفعوا عن الفقير والعاجز بل عن مجموع أممهم غوائل احتكار الأفراد للمصالح العامة والحاجيات الضرورية ويعملوا على ما فيه مصلحة الناس عامة لا مصلحة أناس مخصوصين، وكانت انكلترا أول من فكر في(62/60)
مثل هذه الأعمال النافعة فعسى أن نكون نحن آخر من يفكرون في احتذاء ذاك المثال النافع والهدي الرافع.
لغة دولية مزدوجة
عرض جماعة من العلماء سنة 1900 مشروعاً نافعاً في ربط عهود الوفاق بين كل من فرنسا وانكلترا والولايات المتحدة الأميركية وهو أن تتداول حكومات هذه الممالك في عقد عهد تضطر بها كل منها أمتها أن تتعلم لغة الأخرى إجبارياً في المدارس فكما يتعلم الانكليزي والأميركي اللغة الانكليزية في مدارس بلاده يتعلم اللغة الافرنسية كذلك وكما يتعلم الافرنسي لغته في مدارسه يتعلم معها الانكليزية مضطر أيضاً وقد قال أبو عذر هذا الفكر المسيو بول شابليه أن انتشار اللغة الانكليزية قليل في قارة أوروبا اللهم إلا في بعض السواحل القليلة وهكذا في إفريقية الشمالية، والانكليزية منتشرة في أميركا الشمالية والجنوبية وشرقي آسيا ولكل لغة من هاتين اللغتين منطقة انتشرت فيها ولم تنازعها فيه الأخرى فإذا جرى وفاق من هذا القبيل تقوى كل من اللغتين قوة هائلة خصوصاً وأن لكل لغة من تينك اللغتين أناساً بل أمماً ترغب في تلقفها وتفهمها فللتجارة اللغة الانكليزية وللسياسة والسياحة والمجالس اللغة الافرنسية، ولكن جاء هذا الاقتراح في غير أوانه إذ كانت على ذاك العهد توترت العلائق بين فرنسا وانكلترا وأخرجت الثانية الأولى من فاشودة وكانت انكلترا مهتمة بحرب البوير فلما صفا جو الصلات اليوم بين الدولتين قام صاحب هذا الفكر بعرضه على الأنظار فوفق إلى إقناع أحد كبار الأغنياء في أميركا فتعهد أن ينفق على تحقيق هذه الأمنية كل ما يلزمها من المال ويقول العارفون أن هذا التدبير أفضل من اختراع اللغات الصناعية وستنتج منه نتائج كبرى عملية لتلك الأمم الثلاث من حيث الماديات والمعنويات، ونحن نقول أن هذا الفكر نافع جداً في المملكة العثمانية أيضاً ولا سبيل إلى ترقيتها إلا إذا تعلم الأتراك لغة العرب وتعلم العرب لغة الترك وبذلك يحصل التفاهم ويزول كل خلاف وهذا رأي كبار عقلاء الدولة وقد سئل عن معنى سوء التفاهم الواقع بين العرب والترك فقال لا سبيل إلى إزالته إلا إذا ترّكنا العرب وعرّبنا الأتراك.
حفظ الأسماك
اخترعوا في باريز آلة تخرج ثلجاً كالثلج الطبيعي حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل وهذه الآلة(62/61)
نافعة في حفظ الأسماك إذ قد ثبت أن بعض الأسماك في البحيرات والأنهار يهلك كثير منها لأن الثلوج والجليد تنقطع عنها فجأة وبهذه الآلة الجديدة ينزل الإنسان الثلج على الأماكن التي يريدها ويحفظ السمك بطعمه ولذته في الأبعاد الشاسعة وعلى متن البواخر التي تشق العباب بين قارات الأرض الخمس أياماً وليالي وباستعمالها اقتصاد عشرين في المئة من أدوات الثلج الصناعي أو الجليد المعروف في هذه الديار.
مدارس الشعب في انكلترا
نشرت مجلة التربية لمحة لأحد قدماء مديري المدارس الانكليزية في ترقي مدارس الشعب هناك منذ خمسين سنة جاء فيها أن مدارس الشعب في انكلترا تقسم إلى قسمين قسم يدعى في العادة الابتدائي والآخر الثانوي، ولفظة ثانوي مأخوذة من الافرنسية وربما كان كوندورسه هو أول من استعملها سنة 1792 فالمدارس الابتدائية يتعلم فيها أبناء العملة منذ صغرهم حتى سن الخامسة عشرة ولا يعلم فيها غالباً غير اللغة الانكليزية وهي أشبه بمدارس اختيارية أنشأتها الكنيسة وهي تنفق عليها ويرد تاريخها إلى بضعة قرون، أما برنامج دروسها فهو منظم الآن على طريقة واحدة تحت إدارة مجلس المعارف والحكومة تنفق عليها وتراقبها وتكره القوم على تعليم أولادهم فيها.
وليس لهذه المدارس مثيل في وحدتها في المدارس الثانوية أو في المدارس العالية، وقد جمعت طريقة التعليم فيها بين الطريقةالقديمة والطريقة الحديثة إذ فعلت فيها المؤثرات السياسية والاجتماعية والدينية والتعليمية واضطرت أن تخرج طلبة ينتقلون منها إلى كليتي اكسفورد وكمبردج.
يبدو لك التعليم الثانوي في انكلترا لأول وهلة مرتبكاً فله مدارس قديمة وأخرى جديدة ومدارس تنال رواتب من الحكومة وأخرى ليس لها رواتب ومدارس دينية وأخرى مدنية فقط ومدارس لها مجلس إدارة وأخرى ليس لها ذلك ومدارس تقبل أعطيات الحكومة وأخرى تستنكف من قبولها ومنها المحتفظة بالطرق القديمة في تدريسها ومنها من أتت على القديم فدكته واستعاضت عنه بالجديد من الأصول وقصارى القول أنك تجد مدارس من جميع الطبقات والدرجات والصفات ومدارس الشعب هي في الجملة التي لها مجلس إدارة وليست ملكاً لأحد وتبقي تلامذتها إلى أن يبلغوا التاسعة عشرة من أعمارهم وتبعث(62/62)
بقسم من قدمائهم إلى كليتي أكسفورد وكمبردج، فتخرج بهذا التعريف المدارس الخصوصية والاستعدادية والمدارس الصغرى والمدارس التجارية والصناعية والمدارس التي لا تعلم اللاتينية واليونانية والمدارس الثانوية التي أنشئت حديثاً تحت حماية الحكومة ويقصد منها أن تعم التربية العامة في الطبقات الوسطى وتعليمها تعليماً تجارياً أو صناعياً أو تخريج أساتذة للمدارس الابتدائية.
وبين مدارس الشعب والمدارس الثانوية في انكلترا اختلاف حقيقي فالأولى تكون على الأكثر داخلية وأساتذتها ممن تخرجوا في الكليات العظمى وتلامذتها يأتون من بيوت آبائهم مباشرة أو يكونون متخرجين في المدارس الاستعدادية وأجور التعليم فيها غالية ويعلمون فيها اللاتينية واليونانية ولها ارتباط كلي مع الكليات أما المدارس الثانوية فتلامذتها خارجيون والسواد الأعظم منهم يتخرجون قبل في المدارس الابتدائية وأجورها خفيفة ولا يعلمون فيها إلا قليلاً من اللاتينية ولا أثر لتعليم اليونانية فيها وقلما يبقى التلامذة فيها بعد سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة وهي تحت نظارة إدارة التربية والحكومة المحلية، وبعد فقد نشأت مدارس الشعب كما قلنا على صور شتى فمنها ما أنشأته الأديار والبيع ومنها ما أنشأه الملوك أوالأفراد أو شركات أو جمع لها المال بالاكتتاب العام فهي تسد حاجة أبناء من يديرون شؤون البلاد وقوائم دروسها تنفع من يريدون التدرج والترقي منها إلى الكليات أو إلى الجيش ويعملون الأعمال الحرة ويستخدمون في الوظائف الملكية في العاصمة والمستعمرات والهند أو في الفروع العالية التجارية والصناعية وفي هذه المدارس نحو ثلاثين ألف طالب وربما كان في المدارس التي تعد الطلبة للدخول فيها بعد نحو عشرة آلاف.
والسبب الأعظم في كون مدارس الشعب واقفة في أصولها عند حد محدود ارتباطها بالكليات ولأن مديري شؤونها وأساتذتها وتلامذتها هم من أرباب الأملاك أو الذين يتعاطون الصناعات الحرة، وأهل هذه الطبقة في انكلترا هم من المحافظين في السياسة والتربية وربما كان لهذه المدارس من قدمها مادة لبقائها حتى الآن ولذا فإن شركاتها أو جمعياتها تدعو فيها إلى التعلق بأذيال الماضي، ولشهرة المدرسة وتقاليدها وأسلوبها شأن أعظم من شأنها في التربية العملية أو التعليم الراقي.(62/63)
ويعيش تلامذة هذه المدارس داخليين لا في بيت واحد متسع بل في بيوت منفصلة بعضها عن بعض يوسد أمر النظر فيها إلى أساتذة ويختلف عدد المتعلمين في كل مدرسة منها بين 12 إلى 50 وربما زاد عن هذا القدر يعيشون عيشة اجتماعية ودية ويتحابون على نحو ما يتحاب الأتراب ويتعاطفون تعاطف الأخوة ولجميع هذه المدارس الكبرى معابد يصلون فيها على وتيرة دائمة إن لم تكن متصلة بكنيسة، وللدين فيها تأثير شديد، والعامل الرئيسي في نجاح معلم في المدارس الابتدائية طريقته وأسلوبه وفي أستاذ الكلية سعة عمله وفي مدارس الشعب أخلاقه ولذلك تجد المعلمين والمتعلمين في هذه المدارس الأخيرة مرتبطين بحب مدارسهم والإخلاص لها ارتباطاً ينم عن سير المدرسة وأخلاقها وتقاليدها ومن مبادئ هذه المدارس أن تمنح تلامذتها ثقة كبرى وقد فوضت قسماً مهماً من المراقبة والنظام في بيوت المدرسة ومحال اللعب للمسنين منهم وللرياضات شأن عظيم جداً في حياة المدرسة وفي تربية الأخلاق.
وقد وصف اللورد بيكو نسفيلد هذه المدارس بقوله: إن ما يعجبني في مدارس الشعب هو أن طلبتها يعيشون في الهواء الطلق ويبرعون في جميع الألعاب الرياضية ولا يتكلمون إلا بلسان واحد وقلما يقرؤون، حقاً إن هذه الطريقة في التربية غير تامة ولكنها لم يسبق لها نظير منذ عهد اليونان.
وقال أحد علماء التربية أن مدارس الشعب كانت تنجح كثيراً في تخريج الرجال، وعلى ما دخل هذه المدارس من الإصلاحات لا تزال تنظر إليها نظراً ثانوياً ولا ترمي إلا إلى غاية واحدة وهي أن تخرج رجالاً أكفاء أمناء وطنيين مسيحيين وبعبارة ثانية أعضاء نافعين في الكنيسة والحكومة.
وإن ما دخل من الإصلاح على هذه المدارس منذ خمسين سنة وما يرجى إدخاله لا يتأتى فهمه على حقيقته إلا بالرجوع إلى تاريخها فإنا نراها إلى اليوم تدرس اللغتين الميتتين اللاتينية واليونانية بل قد جعلتهما المادة الجوهرية في التعليم الحر ويكفي أن نقول إن السبب في دخول هاتين اللغتين إلى التعليم العالي في الغرب المسيحي هو أن الكنائس كانت بجوهرها في القرون الثلاثة الأولى يونانية الأصل وكذلك اللغة والنظام والفلسفة، وباللغة اليونانية بلغت الآداب على اختلاف فروعها ما عدا الفقه أوج اكتمالها، وأصبحت(62/64)
اللاتينية في خلال القرون اللاحقة في جميع غربي أوروبا لغة المستنيرين من الناس وفي القرون الوسطى جعلت الكنيسة وكانت إذ ذاك القوة المريبة الوحيدة في أوروبا اللغة اللاتينية لغة عامة، وعلى عهد النهضة انتشرت الآداب واللغات الأولى انتشاراً عظيماً في إيطاليا ثم تلتها حركة الإصلاح المهمة في مدارس ألمانيا بقيام ستورم وملانكتون وكان يدافع عن اللغات الأصلية دعاة متحمسون لا مثل ايراسم فقط من رجال الأدب بل مثل لوثيروس من رجال الإصلاح الديني فإن هذا دعا رؤساء الحكام في جميع مدن ألمانيا إلى تأسيس مدارس تدرس تلك اللغات القديمة حتى قال بعضهم: يجب علينا أن نرتبط بحب اللغات ارتباطاً رائده الثبات كما ارتبطنا عن رضى بالانجيل فإنا إذا لم نحتفظ باللغات لن نحتفظ بالانجيل ولقد أثرت بانكلترا مثل هذه العوامل فكانت بعد عهد الاصلاح تعد اللغة اللاتينية لغة الكنيسة ولغة من تطمح نفسه إلى المناصب الرسمية وظلت اللاتينية لغة العلم والسياسة إلى سنة 1660 ولكن مدارس الشعب لم ترجع عن طريقتها في التعليم إلا بعد أن قامت ألمانيا وفرنسا وعنيت بإصلاح التعليم العالي لما له من الشأن في تكوين الوطنية وهذا لم يتم إلا في أوائل منتصف القرن الماضي وإلى ذاك العهد كان تلامذة تلك المدارس يكتبون باللغةاللاتينة وينظمون بها ولا يدرسون الافرنسية إلا قليلاً أما الألمانية فكانوا يجهلونها كما يجهلون العربية وكانوا يعنون عناية خاصة بتلقين مبادئ الرياضيات ولا سيما الهندسة الوصفية وكان الأساتذة يجيدون في تعلم اللاتينية واليونانية والعلوم الرياضية وهم شيوخ يدرسون هذه المواد منذ أربعين سنة أكثر من المحدثين لأن خواتيم من يمارسونها أحسن من مباديها والحال ليس كذلك في مدرسي التاريخ والأدب والعلوم والاقتصاد السياسي فإن هذه الموضوعات تضعف كلما قيلت وتنوقلت فأدرك رجال العلم إذ ذاك أن هذه المواد لا تنبه ذهن التلاميذ ولا تلتئم مع مصلحتهم لأن ليس فيها نفع عام.
دام ذلك حتى أخذت بعض الكليات بعد سنة 1867 تنفق من حسابها لتعليم بعض التلامذة فعندها اضطرت معظم مدارس الشعب إلى تقسيم تعليمها فمن التلامذة من اختاروا طريقة التعليم الحديثة بدون تعلم اليونانية وتعمقوا باللغة الافرنسية والألمانية والتاريخ وأصبحت مواد كثيرة اختيارية لمن يريد أن يتعلمها ومنهم من أخذ يميل إلى الاخصاء أي التخصص بعلم واحد ولا سيما في المدارس المهمة.(62/65)
وها قد أصبحت هذه المدارس اليوم ولها معامل كيماوية ومراصد فلكية وخزائن كتب ورقي فيها تعليم الآداب الانكليزية واللغتين الافرنسية والألمانية وعدلت فيها الكتب وصرفت العناية إلى تعليم العلوم ومنها علم التربية وأصبح تعليم الموسيقى من المواد المهمة في التدريس وطلبة هذه المدارس يدخلون في مسائل اجتماعية مهمة من مثيل معاونتهم للفقراء والأخذ بناصر الضعفاء في الأحياء الفقيرة من المدن الكبرى ويتعلمون التعليم الوطني أو واجبات الوطني في المدارس المهمة ومعظم كبار الطلاب يتعلمون التعليم العسكري ليستعدوا به إلى نيل رتب الضباط في الجيش البري وكثير منهم يتعلم صناعة يدوية كالنجارة مثلاً، كل هذا والغرض اليوم من هذه المدارس لم يفت القائمين بها وهي أن تربي الأخلاق وترقي المدارك ولكنها لم تبلغ في الأمر الثاني درجة عالية وذلك ناشئ من تأخر نمو العقل في أبناء الانكليز فيظن الأساتذة أن عقول طلابهم كسلانة لا تعمل وقد قال أميرسون الفيلسوف الأميركاني: إن التربية هي ما يبقى في أطوارنا وعقولنا عندما ننسى ما علمتنا المدرسة إياه وقال الأستاذ سدلر: تشتد القوة الحيوية في التربية إلى قوة الثقة بالنفس والإخلاص في المعتقد فإذا لم يكن للمربي رسالة يريد تلقينها لعقل من يربيه وإبلاغها لروحه يتعذر وصوله إلى وضع أسس الشخصية الأدبية وهي المصادر التي هي أحسن ما في الحياة الشخصية والحياة الوطنية، فمبدأ التربية أيضاً منبعث من هذه الرسالة الروحية التي يبلغها الأستاذ وبدونها تضمحل قوتها الحيوية.
هذا ما عربناه من كلام الأستاذ الانكليزي وقد أمل لهذه المدارس نجاحاً أوكد في هذه الخمسين سنة التالية لما يعتورها من الإصلاح التدريجي فماذا يقول ابن هذه البلاد عندما يذكر ما يكتبه عنا علماء التربية والاجتماع فقد قال أحد الألمان ممن قضوا عشرين سنة في العراق أن الأمة العربية تموت الموت التدريجي لفساد طريقة التعليم فيها فاللهم قبض لمدارسنا الأهلية والرسمية والدينية من يصلحها الإصلاح الحقيقي ويعوضها من أصول التعليم المطول الممل بأصول حديثة ترقي الخلق والعقل ومن الخطط (البرنامج) المطولة التي هي طلاء ظاهر بخطط مختصرة ظاهرها كباطنها.
التربية في سويسرا
نشر الأستاذ ستودر الانكليزي مبحثاً له في التربية السويسرية وإذ كان ممن تربوا في(62/66)
مدارسها قديماً غدا كلامه جديراً بالثقة والنقل قال ما نعربه عن إحدى مجلات التربية الباريزية: التعليم في سويسرا على ثلاث درجات ابتدائي أو موجز وثانوي وعال وكلها ذات صبغة ديمقراطية يجلس على مقاعدها أبناء جميع طبقات المجتمع كتفاً إلى كتف وقد قضى قانون الاتحاد السويسري منذ سنة 1874 أن يكون التعليم الابتدائي إجبارياً مجانياً وتراعى حرية الوجدان فيه بيد أن تطبيق هذه القاعدة تختلف باختلاف الأقاليم فترى مدة الدروس لا تتشابه في كل إقليم وكذلك التعليم الديني يختلف بحسب البلاد، ومن أقاليم سويسرا ما يكره فيها الولد على البقاء في المدرسة من السنة السادسة إلى الرابعة عشرة ومنها ما تكون مدة الإجبار من السابعة إلى الخامسة عشرة ومنها ما يسمح للولد أن يخرج من المدرسة في الثالثة عشرة بعد أن يؤدي امتحاناً وعلى كل تلميذ أن يحمل دفتراً ينبئ بهويته، وكذلك الحال في قائمة الدروس فإنها تختلف كل الاختلاف لأن الأقاليم والبلديات لها مطلق الحرية أن توفق الدروس على حسب الأحوال المحلية بحيث يقال أن أعضاء المجالس البلدية في كل قرية لهم اليد العليا على كل ما يتعلق بالتعليم فيحددون بحسب إرادتهم أوقات العطلة ومدتها ويختارون المعلمين ويوافقون على إحداث مدارس أو أبنية جديدة ويتعهدون بالاهتمام بأنفسهم شؤون مدارسهم وتفتيش صفوفها في مدد معينة والنظر في راحة الأساتذة والتلامذة، وما من مجلس من هذه المجالس يتوقف في بذل أقصى العناية بأمور التعليم، والحكومة تؤدي نفقات المدارس الابتدائية وفي بعض الأماكن تعطي للأولاد الكتب ولوازمهم المدرسية من المدرسة كما تعلمهم مجاناً وفي أيام الشتاء يقدم للأولاد طعام الغداء بثمن زهيد جداً وأحياناً بدون ثمن.
تكاد تكون جميع المدارس من أملاك الحكومة وليس معنى ذلك بأن ليس ثمت بعض مدارس أهلية خاصة فإن بعض المدارس تتوخى في تعليمها غاية مخصوصة وبعضها تسعى إلى منافسة المدارس العامة ولكنها خاضعة لشروط فجميع الأولاد الذين يقرؤون في مدينة نوفشاتل على أساتذة خاصة أو يختلفون إلى مدارس خاصة يمتحنون كل سنة أمام لجنة من المحكمين وتجبرهم الحكومة على دخول مدرسة عامة إذا رأت أن نجاحهم في دروسهم غير مرض، وعلى كل أستاذ يعلم لنفسه تعليماً حراً أن يكون حاملاً شهادة أو يمتحن امتحاناً خاصاً في المواد التي تعادل ما يدرس في مدارس الحكومة، والمدارس(62/67)
الخاصة في كل طرف من أطراف سويسرا خاضعة لتفتيش الحكومة.
والتعليم الثانوي مجاني أيضاً في معظم الأقاليم ويعطى التلميذ في بعضها لوازمه من كتب وغيرها بلا عوض أما في التعليم العالي فإن التلامذة يدفعون أجوراً ولكنها طفيفة جداً والتلميذ الفقير المدقع يتعلم مجاناً إذا أراد مهما كان استعداده، وليس للكليات موارد خاصة ما خلا كلية بال وكلية أو كليتين قديمتين.
ولا يطلب من المعلم في التعليم الابتدائي أن يميز بعض التلامذة إذا رأى فيهم نبوغاً إذ ينظر إلى الأولاد كلهم نظراً واحداً ولا تفادى بمصلحة السواد الأعظم من أجل مصلحة طبقة مختارة لأن الأمة تتألف خاصة من أرباب العقول المتوسطة لا من النوابغ.
المدارس الداخلية غير معروفة في سويسرا وما خلا بعض مدارس المعلمين فالحكومة ليس لها إلا مدارس خارجية لأن عمل الأبوين في تربية الأولاد مما لا يقبل المناقشة في سويسرا على أن الحكومة قد جعلت من حقها مراقبة الأبوين اللذين يقضى عليهما أن يطعما أولادهما ويلبساهم على ما ينبغي ومن حقها أيضاً أن تقتص من الآباء المتساهلين في العناية بأولادهم وتكرههم أن يؤدوا عنهم ما يقوم بكفايتهم من الرزق.
وكانت العناية بالرياضات قليلة في مدارس سويسرا ويهتم المعلمون اهتماماً شديداً بذاكرة الولد لأنهم ينظرون إلى التعليم بأنه غاية لا واسطة أما اليوم فقد أدخلوا الألعاب الرياضية والتمارين اليدوية والحمامات المدرسية والأعمال الزراعية وقللوا مدة الدروس.
عدلوا بعض قوانين التعليم في سويسرا منذ بضع سنين ناظرين فيها إلى ترقية الأخلاق باعتبارها الغاية الرئيسية في التربية ورأوا أن التعليم الديني هو العامل الأعظم في تهذيب الأخلاق وإذ كان من الواجب مراعاة حرية الوجدان عملاً بالدستور السويسري رأت بعض الأقاليم أن تجعل التوراة أساس التعليم أو تدريس الأخلاق الطبيعية وخصصت ساعات معينة لدرس المعتقدات الدينية، ورأى المصلحون في الأيام الأخيرة أن يرفع من التعليم تعلم الدساتير والقواعد والحقائق المجردة التي كان يقضى على التلميذ استظهارها ويعمد إلى إرادة الطفل وبحثه الخاص فقط، وقد جعلت ولاية تسين أول بند من قانونها المدرسي أن الغاية من التربية أن يخرج الطفل إنساناً يفكر ويعمل وعليه تبعة ما يعمل، تريد بذلك إبعاد الطفل عن درس الأساليب التي تبعد الذهن عن التصور النافع أو التي لا غاية لها(62/68)
لأن استظهار كمية من الألفاظ لا علاقة بينها وبين الاختبار الشخصي فيقوم مقامها ألفاظ تطلب معاونة الولد وتخوله حريته في العمل والتصور، فسويسرا لا تكتفي بأن تعلم أبناءها القراءة والكتابة والحساب بل هي تنظر إلى التعليم نظراً أبعد تريد تربية الصحة والأخلاق وأن تبعد عن المتعلم كل ما يضر بخلقه وتهذيبه.
وقد كثرت في سويسرا منذ بضع سنين مدارس الزراعة والتجارة والصناعة على اختلاف ضروبها وأنشئت مدارس لتدبير المنزل يتعلم فيها البنات إدارة شؤون البيوت والخياطة والطبخ والكي والغسيل وغير ذلك، وجميع هذه المدارس هي عبء ثقيل على الحكومة ومع هذا فإن الحكومة لم تغفل عن التعليم العالي فلسويسرا سبع كليات عامرة والأجور فيها زهيدة للغاية لأن القوم أيقنوا أن الطبقة الراقية في حكومة ديمقراطية يجب أن تكون من أقوى عناصر الأمة وأكثرها ذكاء وهذه قد تكون فقيرة.
والظاهر أن غاية ما ترمي إليه التربية في سويسرا سعادة الأمة عامة والفرد خاصة وذلك ببذر كل البذور الصالحة وتعهدها بما ينميها والإشراف على القوى النافعة وكل ما في المرء من الميول الشريفة، وينظر في هذه التربية أيضاً إلى إصلاح كل ما سفل وتبدل من أخلاق الطفل والأخذ بيد كل وطني ليكون منه إنسان مستقل كثير الثقة بنفسه مسؤولاً عن حقوقه وخصائصه راغباً في القيام بكل واجباته نحو بلاده والناس أجمعين، وكيفما كان الحال في نقص الأساليب المتبعة في سويسرا على قلة المعلمين فالواجب أن يعترف بأنها لم تكتف بالألفاظ اللطيفة في معنى التربية فهي على ضيق مواردها قد بذلت عن سعة في سبيل تهذيب الشعب وفادت بكل ما لديها من المال والقوة لخدمة غرض تراه مرتبطاً كل الارتباط بنجاح الأمة وبقائها.
درس في الصحة
لا يكفي التعقل في تناول الغذاء على نظام خاص لحفظ الصحة بل الواجب الجري على قوانينها، فكن يا هذا مغرماً بالنظافة وحب الماء والاغتسال كما تحب أعز الأشياء عليك فمن غسل أطراف جسمه واعتاد الوضوء في الأوقات المعينة ضمن لجلده الرشح المنشط والمرونة النافعة فالماء البارد يشد المسام والحار يمددها والأفضل في كثير من الأحوال الاعتماد على الماء الفاتر فحمامات المياه الباردة تقوي الجسم وتنشطه والحمامات الفاترة(62/69)
تسكن هياج الأعصاب وتزيل التعب والحمامات الشديدة الحرارة تحط البدن وتضعفه.
دع على الدوام نوافذ مسكنك مفتحة ليدخله النور والهواء على ما يجب سواء كان في الصيف أو الشتاء ولا تخف الهواء يتخلل منافذ أبوابك فإنك إذا قللت من الإنفاق على التدفئة تنجو من أمراض كثيرة والغرف التي لا يدخلها هواء هي بؤرة أمراض دائمة كالزكام وذات الجنب وأمراض الحلق والصدر والوفدة النازلة، دع الهواء - كما قال أحدهم - يجري إلى غرفتك حتى في فصل البرد فإنه يحمل في جناحيه غذاء لرئتيك ومطهراً لبيتك.
تعلم جودة التنفس فإن الناس يجهلون إلا قليلاً هذا العلم الواجب تعلمه والعمل به، فبالهواء يتجدد دمنا وتحمل الحياة إلى جميع حواسنا وهو الذي يعين وظائفنا الطبيعية والنفسية على البقاء والاعتدال ومن أنفع الأمور في جودة الصحة أن يطيل المرء تنفسه في ساعات معينة ويتنفس بملء رئتيه وأن تكون الثياب واسعة لا تضيق على الصدر يتنفس بأن يعد من الأعداد من الواحد إلى الستة ويكون تنفسه من أنفه وفمه مغلق وتدوم هذه الرياضة عشر دقائق ومن الغد تمكث ثماني ثوان في تنفسك وثماني في حبس النفس وثماني في إخراج النفس من الرئة وهكذا تطيل كل يوم مدة التنفس وتجعله بنظام وتأن بحيث ينفذ الهواء إلى أدنى طيات رئتيك ويملأ دمك بالأوكسجين مبعث الحياة للراحة والصحة، وأحسن رياضة في التنفس ما كانت في الخلاء وأنت متمدد على العشب بالقرب من الأشجار أو أنت سائر بخطا معينة في طريق يحمل إليه الريح أرج المروج والغابات ومن واظب على مثل هذه الرياضة زاد نشاطه واستطاع قمع نفسه.
اغتنم أوقات فراغك واصرف كل يوم ساعتين من وقتك للسير على قدميك فالمشي أحسن أنواع الرياضات يزيل كما يقول الافرنج صدأ الأعضاء وهو وقاء من الهزال وتصلب البدن وشفاء للجسم به يخف ويزيد مرونة وتنتظم حركاته، إذا فعلت هذا تنجو من السمن والربالة الضارة وتبقى أعصابك حافظة مرونتها ونشاطها إلى أيام الشيخوخة.
فكما أن المشي ينفع من حيث الطبيعة ينفع أيضاً من حيث الأخلاق لأنه يصفي النفس ويطهر الروح وينظم الفكر ويطرد الأبخرة ويأتي على الأحقاد فيطفئها ويوحي إلى النفس المطالب الحسنة الشريفة والواجب أن تكون الخطا في المشي كبيرة لا تقل عن نحو 70(62/70)
سنتيمتراً وأن تمس رؤوس الأصابع الأرض أكثر من العقب وأن يتعاقب اهتزاز الذراعين.
والراحة مطلوبة عقيب العمل وخير الراحة ما كان منقطعاً بمعنى أن راحة ربع ساعة بعد ساعة من العمل أفضل من راحة ساعة عقيب أربع ساعات في العمل، وإذا اقتضى للمرء أن يواصل عمله ساعات فعليه متى فرغ منه أن يعمد لأسباب الراحة كلها كأن يستلقي على كرسي طويل وينزع ثيابه التي تضغط على صدره ويمدد ساقيه وذراعيه ويبطل حركة أعصابه ويطبق جفنيه ويطرد عنه اهتمام النفس ويجلب إليها من الصور ما يضحكها فيذكرها ببقعة جميلة من الأرض وبمنتزه حسن للرياضة فتمر به اللحظات كما يمر الماء المنعش ويغوص الفكر في سحاب سلام كأنه نصف نائم، وإياك أن تعزف نفسك عن صرف ثلاثين دقيقة في هذا السكون فإنك بها تستعيد قواك وتعوض الآلة العاملة ما يلزم لها من الزيت لتعمل عملها.
إذا عرفت أن الإكثار من كل شيء ضار فإياك والإكثار من الراحة أيضاً فإذا كان استعمالها معوضاً للصحة ما فقدته فالإكثار منها يجلب الأمراض لا محالة لأن قلة الحركة والكسل تغيران الصحة أكثر مما يغيرها التعب، والإكثار من العمل ولا الإقلال منه.
المسافة قريبة بين الراحة والاغفاء فخير النوم ما كان متناسباً مع سن الإنسان فقد قالوا أن ابن 3 إلى 4 سنين يقتضي له من النوم 12 ساعة ومن سن الرابعة إلى السابعة 11 ومن السابعة إلى السادسة عشرة 10 ومن السادسة عشرة إلى الحادية والعشرين 9 ويقتضي للبالغين ثماني ساعات، وقلة النوم داعية إلى الأمراض لأن فقر الدم وتعب الأعصاب والضعف تنشأ على الأغلب من قلة النوم.
ثم على الأقل بعد ساعتين من الطعام ويجب أن تكون غرفتك مفتحة النوافذ بعض الشيء إذا كان الفصل غير شتاء وتكتفي بوضع ستارة عليها حتى لا يدخل الهواء مباشرة إلى وجهك واضطجع على الجانب الأيمن حتى لا تتأثر حركات القلب وعود نفسك التنفس من أنفك لتنجو من يبوسة الحلق والغطيط وتناسى ما وقع لك من أعمال النهار وكن كأنك لا تفكر والنوم موافيك من ذاته لا محالة.
وعلى أصحاب المزاج الدموي أن يستعملوا الوسادة تحت رؤوسهم حتى لا يهجم الدم عليها(62/71)
أما أصحاب الأمزجة الضعيفة والذين ابتلوا بفقر الدم فينامون ورؤوسهم واطئة ما أمكن.
يجب أن يكون الفراش في وسط الغرفة لا في زاوية ضيقة منها وأن يكون غير محاط بالستور لئلا يمنع نفوذ الهواء إليه، والنوم على فراش الريش مضر، وخير الفرش ما كان الفراش الأسفل محشواً بالقش والأعلى بالصوف وفراشان يكفيان للراحة، والواجب إطفاء النور في غرفة النوم لأن النور يتعب العيون ويأخذ كمية من الأوكسجين لا تستيقظ في الصباح بعجلة فتقفز من سريرك على حين فجأة بل دع حواسك تستعيد قواها ورأسك يطرد سحب النوم عن الجفون ولا بأس بأن تكسل بضع دقائق ثم تنهض من فراشك لأن الهبوب من النوم فجأة والدم محتقن والأعصاب غير مستوفزة يحدث شيئاً من الاضطراب قد لا تكون نافعة.
للبرد تأثير كبير في أمراضنا فإنا في حال الصحة نحمل في أحشائنا ورئاتنا ولعابنا جراثيم ذات الرئة والخناق والنزلات فبأدنى سبب تهجم على أنسجتنا وتلقي الاضطراب فيها كأن نتعرض لبرد أو لمطر طويل أو نلبس جوارب رقيقة ترشح ماءً ولذلك وجب التوقي من هذه الأمور واختيار ألبسة تدفئ ولا ينفذ منها ماء إلى البدن أو الأطراف، وأن ثوبين خفيفين محكمين يمسكان حرارة الجسم أكثر من ثوب واحد غليظ، وأحسن ما يدفئ في البلاد الباردة في صميم صبارة القر تلك الأدثرة التي يحشونها بالفرو ويلبسونها في الغرب وبعض بلاد الشرق، والعناية كل العناية بتدفئة الرجلين، وإذا خرج المرء من غرفة حارة فعليه أن يمسك منديله ويضعه على فمه ومنخريه حتى لا يدخل الهواء البارد من الخارج إلى الرئة إلا ببطء وكذلك الحال في الأماكن الحارة جداً فإنها ضارة تحقن الدم كالأماكن الباردة كثيراً والواجب في شهري تموز وآب أن يمتنع المرء عن تناول المثلجات مهما حدثته نفسه من تناولها وأن لا يتعرض للشمس وأن يستعمل المظلة كل من كان دموياً.
وخير الطرق لاستمتاع المرء بشبابه وأن تكون أيام حياته طويلة وكلها ربيعاً أن يطرد عنه الخوف والتألم والغم والاضطرابات على اختلاف أنواعها ويحسن ظنه في المستقبل فلا يستدعي بنفسه الشيخوخة ففناء الجسم موقوف على عمل المرء نفسه لا على الأيام التي مضت عليه فكم من شيخ حفظ صحته بتعهدها ودفعه عنها كل ما يضر بها وكم من شاب ظن نفسه مقبلاً على ورود حياض الموت لوسواس أصابه وهموم وغموم دعاها تستولي(62/72)
عليها وإن علماء الصحة ليقولون إن الحياة قد تطول إلى أكثر من مئة سنة إذا لم يطرأ عليه طارئ غير منتظر فعلى من يحب حياته أن لا ينقصها بصنعه بل يعمل لغذائها ومنامها ولباسها وعملها كل ما يجعلها بهجة مفرحة.
لغة الولد
نشر أحد أساتذة انكلترا في مجلة المدرسة مقالاً في المكانة المعلقة على لغة الأم فقال أن التلامذة من أبناء التاسعة إلى الرابعة عشرة يجب أن يخصصوا عشر ساعات في الأسبوع لدراسة لغتهم الأصلية، فمن الوهم الفاضح أن يذهب بعضهم إلى أنه من الممكن تعليم الأولاد معنى الإنشاء والذوق الأدبي إذا لم يكونوا متمكنين كل التمكن من لغتهم، وباطل اعتقاد من يعتقد بغناء اللغات الأجنبية في التربية، بل أن تعلم لغة غريبة قبل إحكام المرء لغته الأصلية إحكاماً راسخاً وتبريزه في أساليبها ضار لا بلغته وملكتها فقط بل في تربية عقل التلميذ أيضاً.
أما الجمهور وعامة الناس فيذهبون إلى غير هذا المذهب فقد قال اللورد الفرستون في جريدة التربية يوم افتتاح مدرسة ما طالما قاله غيره وهو أن الواجب على الأبناء أن يتعلموا لغة أجنبية في صباهم حق تعلمها لأن ما يتعلمونه منها في سن الحداثة في بضعة أشهر يرسخ في نفوسهم أكثر مما يتعلمونه في سنين متى كبروا، نعم إن الحواس الصوتية هي في الطفل ألين منها في غيره ولكن الحبال الصوتية ليست هي كل ما يلزم لتعلم لغة فإن من المجرب أن الطفل الذي تعلم اللغة الهندستانية ينساها بعد سنين، قال الكاتب أما نحن فإننا نؤمن على كلام جريدة التربية ومجلة المدرسة وهو أن تزداد الساعات المخصصة لدرس اللغة الأصلية وأن تؤخر ما أمكن دراسة اللغات الأجنبية أو القديمة ريثما يستتم التلميذ ملكة لغته وأن يتجرد التعليم الابتدائي من دراسة اللغات الحية وفي ذلك من الغناء والنفع من كل وجه ما لا ينكر لبيب محله، هذا ما عربناه ويا ليت نظارة المعارف العثمانية تنظر فيه نظر تدبر فإن التعليم في مدارسها بالبلاد العربية أصبح من العقم بحيث أمسى عدمه خيراً من وجوده لأنها قضت أن لا يعلم التلاميذ حتى في المدارس الابتدائية شيئاً من لغتهم العربية واكتفت بتلقينهم فقط اللغة العثمانية وياليتها تحسن تعليمها فيخرج التلامذة بعد الدراسة لم يتعلموا لغتهم ولا لغة حرصت نظارة المعارف على نشرها(62/73)
كالعقعق أراد أن يمشي كالحجل فنسي ممشاه ولم يمش مثله.
العمل اليدوي
من الغريب أن البلاد التي قل أميوها هي التي جعلت أساس التعليم فيها الأعمال اليدوية واعتبرت التهذيب العلمي ثانوياً فقد جرت بلاد الدانمارك والسويد ونروج على طريقة تربي فيها ملكة الصناعات قبل الاشتغال بالمعقولات والمنقولات وجعلت غاية المدارس هناك أن تعد ابن الشعب لاكتساب رزقه فهو يجتهد في حرفة له يختارها ليبرع فيها ولا يجبر على العمل إجباراً بل تجعل له مكافآت مالية يتناولها بحسب تجويده عمله وفي خلال تلك المدة يتعلم الولد ما ينبغي له من التربية اللازمة لعامل وإذا نبغ من بينهم نابغ ونبه منهم نابه يخرج من بين تلك الصفوف بطبيعة الحال، وقد جربت إيطاليا هذه الطريقة في تعليم الصناعات وتهذيب الأولاد الذين ارتكبوا جرائم فحبسوا واستعاضت عن تلعيبهم بأعمال صغيرة سهلة مثل طي المقوى والحبك وعمل السلال مما يعمله المرء في العادة وهو يغني أو يتحدث مع غيره فراقت هذه الأعمال الأولاد السجناء خصوصاً وأنهم يتقاضون عن أعمالهم أجوراً وإن كانت طفيفة لكنها تغرس فيهم ملكة الحذر والاحتياط ولذا قل فيهم من يحيد أثناء هذه الأعمال عما يقضي به النظام وجاء منهم وطنيون نافعون لا حانقون على الدهر لا يدرون كيف يسيرون.
رعب الأولاد
وضع المسيو فاراندونك سؤالين على تلامذة بعض مدارس بلجيكا وهما: من أي شيء تخاف أكثر وما السبب؟ ومن أي شيء زاد خوفك كثيراً يوم كنت طفلاً وعلى أي سبب تعلقه؟ فأتاه ألف وخمسمائة جواب نشرها واستخرج منها ما استنتجته في مجلة علم النفس فتبين له أن الصبيان أكثر من البنات خوفاً من الأسد ورجال الشرطة ومن آبائهم وأمهاتهم ومن الوحدة والماء والأشباح والمستقبل والبنات يرعبن في الأكثر من الحيوانات ولا سيما من الذئب والدب والجراذين والفيران ويخشين أكثر من الصبيان الآلام الطبيعية والرجال والمركبات على أنواعها والظلمة والرعد والبرق، وأن الداعي لخوف الولد ناشئ من عدم مماشاته لمحيطه لأن إرادته لا دخل لها في هذا الشأن بتاتاً بل أن تخلفه عن السير مع محيطه ناشئ من ضعفه ومعظم الرعب في الأطفال ينشأ لهم من حواليهم وحدث ما شئت(62/74)
أن تحدث عن الرعب الذي يستولي حتى على الكبار في السن لأن الأوهام غرست فيهم منذ الطفولة، قال ومن أنواع الخوف ما ينفع الجنس الإنساني والولد أيضاً وهو الخوف النافع في الأحايين أي من الجبناء وهم في الأغلب العاقلون قد ينجون بحياتهم في أحوال كثيرة.
الأوائل
من الموضوعات التي اشتغلت فيها في دار غربتي موضوع الأوائل، فقد بحثت حتى جمعت فيه مجموعة كبرى أخذت معظمها عن اللغة الانكليزية، وهي تشغل أكثر من أربعمائة صفحة من صفحات مجلة المقتبس.
وغرضي من جمعها أن أضع في هذا الموضوع كتاباً خاصاً ذهاباً إلى أن العربية مفتقرة إليه ولا سيما أن المغاربة قد عنوا به عناية خاصة لمكانته ولا يضر المشارقة أن يحذوا حذوهم.
ولقد سرني ما عرفته من أن عيسى أفندي اسكندر المعلوف الباحث المعروف قد عني بهذا الموضوع، ولا ريب عندي في أنه متى وقف على عنايتي به أيضاً سيسر لأن غرضه وغرضي يرميان إلى مساعدة المشتغلين بالكتابة على جعل العربية غنية بالمباحث التي يفاخرنا بها أهل الغرب.
وهذا بعض ما عربته بهذا الباب وأضفت إليه بعض الحواشي لزيادة الفائدة.
أول بندقية اخترعت سنة 1646 وأول مدفع سنة 1886.
أول ملعب للتمثيل بناه الرومان في رومية سنة 69 ق. م.
نشر صليبيو إسبانيا لأول مرة في أوروبا أرقام الحساب العربي في القرن التاسع للمسيح.
أول رئيس قتل في الولايات المتحدة ابراهيم لنكان في 14 نيسان سنة 1865.
أول إنسان اكتشف الخليج الفاصل بين كرنيلاند وأميركا الشمالية القبطان (بافن).
أول مخترع للمنطاد (غوزماك) اليسوعي في سنة 1729 وأول من استعمله (مونتفولر) في سنة 1782.
أول مصرف افتتح في الولايات المتحدة مصرف فيلادلفيا، افتتحه رهط من أكابر البلاد في 17 حزيران سنة 1780 برأس مال قيمته 83916 دولاراً.(62/75)
أول مخترع للبارومتر (فورسيلي) اخترعه في سنة 1648.
اخترعت الحراب لأول مرة في (بايون) (فرنسا) سنة 1670.
أول طبيب أذاع تقرير جريان الدم في الرئة (ميشل سريفتس الفرنساوي في سنة 1553)
أول مخترع لتجليد الكتب ملك (برغامة) ظهر اختراعه في سنة 887.
أول من استعمل الخميرة في الخبز الإنكليز سنة 1650.
أول قناة في العالم أقيمت في مصر بين نهر النيل والبحر الأحمر.
اخترع ورق اللعب في فرنسا واستعمله الملك كارلس السادس للتسلية سنة 1380.
أدخلت المركبات إلى فيينا لأول مرة في سنة 1515 وإلى لندن في سنة 1580.
اخترع الشطرنج سنة 608 ق. م.
سافر الأميركان إلى الصين لأول مرة في سنة 1591.
اكتشف الكلورفورم في أميركا وجرمانيا سنة 1831.
أول كلية أقيمت في الولايات المتحدة كلية (هارفرد) المعروفة اليوم بجامعة هارفورد.
أسست سنة 1638.
زرع القطن لأول مرة في ولاية فرجينيا إحدى الولايات المتحدة سنة 1621، وأرسل إلى البلاد الأجنبية لأول مرة سنة 1741.
اعتبر ميلاد المسيح عيداً لأول مرة في سنة 98.
طاف اسطول مجللان لأول مرة حول الأرض في سنة 1521.
اخترع العرب الساعات الدقاقة في سنة 800 والإيطاليان في سنة 1200.
اكتشف الفحم الحجري لأول مرة في انكلترا سنة 1224.
سكت العملة لأول مرة في التاريخ المعروف في الصين سنة 1200 ق. م. وفي رومية سنة 576 ب. م وفي انكلترا سنة 1101 ب. م.
أنشئت في باريس سنة 1215 أولى الكليات من نوعها.
ذكر البيع لأول مرة في سفر التكوين عندما بيع يوسف بن يعقوب من المصريين.
استعملت إبرة الملاحين في الصين سنة 2634 ق. م وفي أوروبا سنة 1180 ب. م.
أول اجتماع عقده مجلس الأمة في الولايات المتحدة في فيلادلفيا في 5 تشرين الثاني سنة(62/76)
1774.
ولدت النصرانية في إسبانيا سنة 36 وفي بريطانيا سنة 60 وقيل في القرن الخامس وفي فرنقونية وفلاندرس في القرن السابع وفي لومبارديا ونيورنفيا وهيس في القرن الثامن وفي اسوج والدنيمارك وبولاندا وروسيا في القرن التاسع وفي هنغاريا وسكلافونيه في القرن العاشر وفي فانداليا وبروسيا في القرن الحادي عشر وفي بومرانية وليتوانيا وقسم من بلاد التتار في القرن الرابع عشر وفي إفريقية في القرن الخامس عشر وفي الهند والصين في القرن السادس عشر.
صنعت الأواني الخزفية لأول مرة في (فانزا) سنة 1450.
بوشر لأول مرة بتقطير المشروبات الروحية في القرن الثاني عشر وفي إيرلندا في سنة 1590.
نشأ من احتكاك كرتين من الكبريت إحداهما بالأخرى في سنة 1467 أول فكر أو رأي أو تصور لكيفية استخدام الكهربائية وفي سنة 1746 اكتشفت أشعتها في لندن وفي سنة 1756 كيفية إرسالها بالأسلاك.
أول رجل فاه في أميركا بعبارة (تحرير العبيد) ابراهيم لنلكي في أول كانون الأول سنة 1863.
اكتشف فن النقش على صفائح نحاسية لأول مرة سنة 504 ق. م وعلى الخشب سنة 1423 في فلاندرس وعلى الفولاذ سنة 1830.
أول مكتشف لفن الطبع على الحجر (سينفيلدر) الألماني حوالي سنة 1796.
استعملت المغلفات لأول مرة في سنة 1839.
اخترع حفر الخطوط سنة 512.
اخترعت أول آلة لإطفاء النار سنة 1663.
نشرت الراية الأميركية لأول مرة في كمبردج ماستشوستس في أول كانون الثاني سنة 1776.
استجلب الغاز لأول مرة إلى لندن لإنارة الحوانيت والشوارع في سنة 1814 وإلى بلتيمور الولايات المتحدة سنة 1821.(62/77)
اخترع مرغتيني التذهيب سنة 1273.
هجر النور مصر سنة 1515.
عرف الصينيون لأول مرة صناعة عمل الزجاج سنة 200 ق. م والرومان سنة 79 ق. م وفي سنة 1180 أخذ الانكليز يستعملونه للنوافذ والشبابيك وفي سنة 1757 للقناني والأوعية، وذلك بعد أن أدخل (بندكت) هذه الصناعة إلى انكلترا سنة 674 ب. م.
صنعت أول مرآة في (لامبت) سنة 1673 وفي (لانكثير) سنة 1773.
اخترعت المطحنة في إيرلندا سنة 214.
يرد اختراع البارود إلى الصينيين وانتشار معرفة اختراعهم في الغرب إلى سنة 1324.
أعدت المركبات للأجرة لأول مرة في لندن سنة 1625.
بوشر استعمال مسحوق الشعر لأول مرة في انكلترا سنة 1590 وفي سنة 1795.
ضربت الحكومة الانكليزية على كل من يستعمله ضريبة سنوية قدرها ليرة انكليزية قديمة.
أول معمل للمناديل (المحارم) أنشئ في بيسلي في اسكوتلندا سنة 1748.
اخترعت القبعات (البرانيط) في باريس سنة 1404 واستعملت في لندن لأول مرة سنة 1510.
أنشئ علم النسب حوالي سنة 1100.
اخترعت الساعة الرملية في اسكندرية سنة 204 ق. م وأدخلت إلى رومية سنة 158 ق. م.
استخرج العظلم في كرولينا الولايات المتحدة سنة 1747.
جرب التطعيم أو التلقيح في المجرمين لأول مرة سنة 1741.
بوشر في انكلترا بضمان السفائن سنة 1560.
اكتشف الحديد سنة 406 ق. م بواسطة احتراق جبل (ايدا) وصب في انكلترا لأول مرة سنة 1544 واكتشف في فرجينيا أميركا سنة 1715.
بنيت البواخر الحديدية لأول مرة في سنة 1830.
اكتشف (جنسن) لأول مرة سيارة صغيرة للمشتري سنة 1590.
استعمل زيت الكاز للتنوير لأول مرة سنة 1826.(62/78)
بوشر بتقبيل رجلي البابا لأول مرة سنة 709.
اخترعت جوارب الحبك أو شغل السنارة في اسبانيا نحو عام 1550.
صنعت السكاكين أو المدي لأول مرة في انكلترا سنة 1550.
أقيمت المدارس في جميع المدن الرئيسة في انكلترا لأول مرة سنة 1810.
نسج الشاش وخيوط الحرير والكتان لأول مرة في بيسلي سنة 1784.
يرد أول دور من أدوار القرميد إلى الرومان وفي سنة 1625 أمر كارلس الأول بتقطيعه بقوالب.
اعترف لأول مرة بطائفة (الكوكر) المعروفة بالفرندس أي الأصدقاء في سنة 1702.
اخترع ميمون المصري حروف الهجاء في عام 1822 ق. م.
علق جرس الحرية المشهور في أميركا لأول مرة سنة 1776 في ساحة دار الاستقلال في مدينة فيلادلفيا.
نسج الكتان لأول مرة في انكلترا سنة 1253.
يرد تاريخ اكتشاف المرايا إلى سنة 1300.
اخترع القسيس كينف في انكلترا أنوال الحياكة سنة 1787.
ذكر المؤرخون لأول مرة استعمال القرعة بمبلغ من الدراهم سنة 1630.
اخترع روجر باكون النظارة المكبرة في انكلترا سنة 1260.
اكتشف (ماموث) في سيبيريا سنة 1806.
اخترع انكسيمند الخرائط والكرات سنة 600 ق. م.
يرد اختراع الورق المعروف بالرخامي إلى أحد الجرمانيين في القرن السابع عشر استعمل الكبريت لأول مرة سنة 1829.
اخترع المكرسكوب لأول مرة في جرمانيا سنة 1621.
أسس أول دير في العالم حيث اعتزلت الراهبة انطوني سنة 270 وأول دير في فرنسا أسسه القديس مارتن سنة 360.
اخترع الإبر أحد الهنود في انكلترا سنة 1598.
اخترعت علامات الموسيقى سنة 107 ونقحت سنة 1330 وطبعت سنة 1502 أسس(62/79)
جوزف سمث الديانة المورمنية في سنة 1830.
أول نسخة جريدة طبعت في الغرب سنة 1494، وأول جريدة يومية ظهرت سنة 1615 اسمها فرنكفورت وأول جريدة انكليزية صدرت سنة 1622 دعيت أخبار الأسبوع وأول إعلان ظهر في سنة 1648 وأول جريدة أميركية طبعت في بوسطن (ماس) سنة 1690 اسمها (حوادث الجمهور) وأول جريدة يومية في الولايات المتحدة أنشئت في بنسلفانيا سنة 1784 اسمها (بنسلفانيا باكت) وأول جريدة سيارة في أميركا أنشئت في 15 أيار سنة 1775.
اخترع الأرغن سنة 755.
أسست جامعة اكسفورد في انكلترا سنة 886 وهي الأولى من نوعها.
يرد عهد الدهن إلى زمن نينوس حوالي سنة 2000 ق. م.
صنعت الأوراق المالية لأول مرة في أميركا سنة 1740.
صنع الورق من الخرق في مصر سنة 1085 وفي الصين من الحرير سنة 120 ق. م.
اخترع الرق أطاليوس ملك برغامة سنة 887.
سنت شريعة حصر الامتياز لأول مرة في الولايات المتحدة في 15 نيسان سنة 1790.
أدخلت صناعة الترصيف إلى باريس لأول مرة سنة 1185.
اخترع فن ترصيع اللؤلؤ سنة 1686.
استعمل (الريش) أقلاماً للكتابة لأول مرة سنة 635.
أسس فيلادلفيا وليم بن سنة 1682.
اخترع الفونغراف تومس أديسن سنة 1877.
صنع الفوسفور لأول مرة سنة 1677.
بوشر بفن التصوير لأول مرة في انكلترا سنة 1802 وأتقن في سنة 1841.
اخترعت الأخلة لأول مرة في فرنسا وقد استجلبتها كاترينا هاورد واستعملتها لأول مرة في انكلترا وقد صنعت في المصانع الأميركية لأول مرة سنة 1832.
صبت الغلايين المصفحة بالرصاص لأول مرة سنة 1539.
استعملت الطبنجات أو الفرود لأول مرة فرقة من الفرسان سنة 1544.(62/80)
صنع القير أو الزفت والقطران من مقلع فحم لأول مرة في (برستول) سنة 1779.
اخترع الدمام في باريس سنة 1470.
رقيت صناعة الخزف السكسوني لأول مرة 1767.
بنيت كوات المدافع في البوارج الحربية لأول مرة سنة 1545.
أسس أول بريد بين فيينا وبروسيلس في سنة 1516.
أصلح (ودغود) صناعة الفخار إصلاحاً عظيماً لأول مرة سنة 1763.
منح أكبر أنجال العترة المالكة في انكلترا لقب أميروالس لأول مرة سنة 1286.
اخترعت الطباعة سنة 1441.
ابتدأ الإصلاح الديني في جرمانيا سنة 1517 وفي انكلترا سنة 1532.
يرجع تاريخ اختراع أنوال الشرائط الحريرية إلى القرن السابع عشر في جرمانيا.
صنعت ملابس الملاحين لأول مرة في إنكلترا سنة 1590.
افتتحت المدارس العمومية في الولايات المتحدة لأول مرة حوالي سنة 1642.
سار أول قطار حديدي للركاب في إنكلترا في 27 تشرين الأول 1825.
اخترع دولاب الغزل في برنسوك سنة 1530.
اخترعت النظارة العوينات سنة 1299.
أصلحت الأنصاب في الولايات المتحدة لأول مرة سنة 1873.
اخترع أحد الفلمنكيين آلة اللف في لندن سنة 1792.
قيل أن استعمال البرادع المعروفة اليوم يرجع إلى سنة 385.
أول استعمال تمليح الفسيخ يرد إلى الهولانديين وقيل أن أول مخترع للمنشار هوتاليوس الكاتب اليوناني صنع ملح البارود لأول مرة في إنكلترا سنة 1625.
أدخل الهودج إلى إنكلترا سنة 1834.
أعطيت البراءة باستعمال آلة الخياطة لأول مرة في انكلترا سنة 1755 وأتقن هذه الآلة ايلياس هاوي الأميركي في سنة 1846 وآلة الخياطة هي المعروفة عند العامة بالمكنة.
اخترع تيخوبراهي سدس الدائرة في اغبورغ في سنة 1550.
صنع الصابون في لندن لأول مرة سنة 1524.(62/81)
ذكر السكر لأول مرة الطبيب بولس اغينتا سنة 625.
استعمل الفرار لأول مرة سنة 1540.
اخترع كرخر اليسوعي البوق في سنة 1652.
اخترع أحرف الطباعة الحديثة وليم غد الصائغ في ادينبرغ في 1735.
أسس المدارس الأحدية لأول مرة روبرت ريكس الإنكليزي في إنكلترا في 1781.
اخترعت الساعات الشمسية في 558 ق. م وفي رومية في 308 ق. م.
اخترعت الدباغة في 1795.
أدخل الشاي إلى أوروبا لأول مرة في 1610 جلب الهولانديون من الهند والهنود من الصين.
استعمل الفرنساويون آلات البرق لأول مرة في 1794 والانكليزيون في 1796 أول تلغراف سلك كهربائي امتحن بين مدينة باديفتن ودراتور انكلترا في 1835.
أول تلغراف فحص في أميركا بين بلتيمور والعاصمة واشنطن في 1844 وأول رسالة برقية أرسلت في هذه البلاد في 1851 من دوفر إلى كالي وأول رسالة برقية قطعت المحيط الاتلانتيكي في 1858.
عرض الحاكي التلفون المدعو جرس كبراهام لأول مرة في معرض سينتسنيال فيلادلفيا في 1875.
اخترع اسحق نيوتن الفيلسوف المرقب في 1692.
صنعت الخيطان لأول مرة في معمل بيسلي اسكوتلاندا في 1722.
اخترع الثرمومتر دربيل الهولاندي في 1620 وزاد بتحسينه ريومر في 1730 وفارنهيت في 1749.
اخترع الدكتور هيلس المهواة سنة 1740.
اخترعت الكمنجة حوالي 1477 وأدخلها إلى انكلترا الملك كارلس الثاني.
يرد أول دور من أدوار استعمال أوراق الحيطان إلى اسبانيا وهولاندا 1555 أما الأوراق المخملية فقد استعملت أولاً في 1620.
استجلب الدخان لأول مرة إلى انكلترا من فرجينيا الولايات المتحدة في 1583.(62/82)
اخترعت الساعات الحديثة في 1477 في جرمانيا وأدخلت لأول مرة إلى انكلترا في 1577.
قيل أن اختراع مطحنة الماء يرد إلى عهد محاصرة الغوطيين لرومية في 555 وأن مخترعها الأول هو رجل اسمه بلساريوس.
ذكر الدوارة لأول مرة فينريوفيوس اليوناني وأنها نصبت على رأس برج أثينا الذي بناه فيرشس.
أول جاب للأموال رجل دعي صولون عاش سنة 540 ق. م.
حدائق الأطفال ومدارسهم
كتبت إحدى المعلمات الفرنسويات مقالة في أحسن الطرق لتربية الأولاد قالت فيها أن البداءة بتعليم الطفل تكون على الغالب بتعليمه مبادئ القراءة خاصة والظاهر أن القراءة هي الواسطة الوحيدة لتنبيه جميع حواسه على حين فجأة، وقد شغل هذا الموضوع بال كثير من أرباب العقول وقام في سويسرا منذ نحو مئة سنة اثنان من رجال التربية الثقات أحدهما بستالوزي في مدينة زوريخ والآخر الاب جيرارد في مدينة فريبورغ ووضعا موضع العمل طريقة جديدة من شأنها أن تزكي عقل الطفل على أيسر وجه منذ إدراكه قال فنيلون الأخلاقي الفرنسوي أن ذكاء الطفل كلهيب شمعة يحركها الريح وهي أبداً في اهتزاز فالغاية إذاً من التربية هو أن يمد ذاك اللهيب بالمادة اللازمة بأن يدفع هبة خفيفة لتساعده على الانبعاث على خطة مستقيمة عالية متوخين أن لا نطفئها بحركة سريعة منا بل الواجب كما قال بستالوزي أن نحسن تسليك الطفل ونعفيه من النظر إليهم إلى المدارك الصريحة وإذ كانت بالحواس تحدث التأثرات اقتضى أن نقرب بين الطفل وبين الأمور التي يقضى عليه دراستها يعلم معنى الألفاظ التي يتكلم بها على ما يجب ويضاف إلى تعليم عقله تعليم عملي باليد وتعليمه هذا التعليم بين السادسة والعاشرة وقال غيره يجب أن يعنى بالطفل لتنبيه إحساسه منذ أول إدراكه لأن الولد ليس هو في الحقيقة إلا رجلاً ولكنه صغير، وقال آخر أن الولد أب الرجل وأفضل الطرق في تعليمه كما قال فريبل أن يقرب من الطبيعة فيدرك رحمة الله ويتعلم قدرته وصنعه في الوجود ويحترم كل ما له حياة وذلك بأن يعلم تربية بعض النباتات والنظر إلى ما حوله فيعلم نفسه بنفسه كأن يعطى الولد(62/83)
كرات ومكعبات وعصياً وأشكالاً ورسوماً وأشياء يثنيها ويفتلها ولا سيما ما كان منها طبيعياً يعطى منها بحسب المواسم فيتناول زهراً في الربيع مثلاً وتفاحة في الخريف أو الشتاء أو غير ذلك مما تنبت الأرض في المواسم الأربعة فإذا كان تفاحاً يستصحب الولد إلى السوق وتبتاع ويشرح له كيف نمت وكبرت وتوصف له الأشجار وجذوعها والأوراق والأرض ثم ترسم له تلك التفاحات وتقطع وتنقى ويجعل له منها مربى أو تشوى له في الفرن ثم يذكر كيف يصنع العصير ويصفون له المركبة والحصان والسوط وغير هذا كل ذلك يرسم له على اللوح والولد يقلده ويشفع ذلك باغان وأشعار متعلقة بالموضوع وتتوسع المربية في شرح ذلك للطفل بدون أن تحيد عن الغاية الأصلية المطلوبة وبذلك يعمل عقل الطفل ويقلد في عمله فيجمع إلى التربية العلمية والأدبية التربية العملية لمعاناة الفنون والصناعات، وقد انتشرت طريقة فريبل في التربية على هذا النحو في سويسرا وألمانيا والبلجيك وهولاندة والسويد وانكلترا وفرنسا وأميركا ودخلت خصوصاً في دور اللقطاء والبائسين وأنشئت في باريز مدرسة على هذا النمط أنشأتها آنسة متعلمة وأخذت تربي الأطفال هذه التربية المعقولة جاعلة مع حدائق الأولاد دروساً تلقى عليهم بالعمل في حفظ الصحة وعلم النفس والكيمياء والنبات وتدبير المنزل فجعلت محيط تلك المدرسة متناسياً مع ما يراه الطفل في بيت أبيه ليس فيه ما في صنوف المدارس من المناظر المدهشة مثل القماطر السود والمقاعد العالية بل فيها صور ونقوش وأزهار وطيور وأثاثها مناضد وكراسي صغيرة تناسب طول الطفل ومن الأولاد من يبقى طول النهار في المدرسة فيتيسر لإدارتها أن تعلمه أموراً كثيرة في تدبير المنزل وتغرس فيه أصول النظام والنظافة وذلك بأن تتركه مثلاً يعمل طعامه بنفسه حتى إذا رجع في المساء إلى بيته وعمره في الخامسة على الغالب يلاحظ على والدته أن لا تطرح قشر البطاطا أو قشر البيض بل أن تحفظها لتنظيف القناني والزجاجات وآخر يطلب إلى والده أن يضع كل يوم بيومه أجرة المدرسة على حدة حتى تتجمع في آخر الأسبوع مخافة أن يجيء يوم الدفع ولا يكون في البيت درهم لأداء قسط المدرسة وهكذا يتعلم الطفل تدبير البيت والاقتصاد المنزلي منذ يعي على نفسه ويغرسون فيه فكر الإحسان والعدل وحسن العشرة والألفة حتى لا يستوحش من الناس كما هي عادة الأطفال وهي عادة ضارة شائعة ويعلم قدر الصناعات وفكر الأسرة فتتنبه فيه(62/84)
عزة النفس فلا يقول لشيء لا أستطيع عمله ومنذ السنة الخامسة يرفض أن يلبسه ثيابه أحد أو يسرح شعره ويمشطه ويهندمه أحد فيكون مسؤولاً عن عمله وتنمو فيه قوة الإرادة والشعور بالنظر كما ينمو فيه الإحساس الديني والكمالي والاحترام والحشمة وبالجملة ترتقي فيه التربية قبل أن يهتم بالتعليم.
فإذا خرج الطفل من هذه المدرسة ويدخلها وهو بعد الثانية من سنه في الغالب ويخرج منها بعد السابعة يحسن أن ينظم أموره لأنه تعلم منذ نعومة أظفاره الطاعة والنصيحة فلا يصعب عليه متى دخل المدرسة أن يتلقى بقبول حسن ما يلقيه عليه معلمه أو يفزع إذا جاء من بيته إلى المدرسة الابتدائية مباشرة بل يكون بحسب سنه قد ألف البحث والتفكر والنظر والتأمل في الأشياء ويجمع معلوماته ويصل بينها برباط وأحد وربما كانت بهذه الطريقة أفكاره قليلة ولكنها إلى الجلاء والوضوح أميل وفيها تسلسل معقول.
ويحسن الولد التفكر وحصر ذهنه وهو ما ينفعه عندما يجيء دور تعليمه القراءة فلا يستصعبها ويمل منها بل تكون له ميسورة سهلة سريعة ويحصر الذهن في موضوع يتعلم الولد الاهتمام بالأشياء المحيطة به أو التي تمسه مباشرة فهو يعرف الوجود ويحبه ويقدر نعمه قدرها ويذكر صانعها وتكون قد تنبهت حواسه وترقت وكذلك رغبته في النظر والمعرفة وبهذه الطريقة تقوى إرادته وتمهر يده وبما يتعلمه من الهندسة الابتدائية العملية يقدر بذهنه الأبعاد والخطوط ويسهل عليه النسب وبالرسم يتعلم نقل الصور المستعملة في البيت ويدرك بنفسه أنه لا يستطيع أن ينقلها كما هي ويبحث عن طريقة توصله إلى نقلها كما هي ويتعلم ملاحظة الأشكال وتقليدها وبذلك تتربى عينه ويده في آن واحد، ولا تسل عما تحدث هذه الطريقة عندما يجيء وقت الكتابة إذ تكون يده أعادت رسم الأشكال وما الحروف إلا أشكال ولكنها لا تنطق كالرسوم وعينه تساعد يده وكم ولد يرسم الحروف والكلمات التي يراها وهو يتعلم على هذه الطريقة بدون أن يفهم معناها، وتعلم الكتابة لا يتعب به عقله ولا جسمه بل يتعلمه كأنه يلعب ويرسم.
قالت الكاتبة فمدرسة حديقة الأطفال هي مدرسة التربية وعليها يصدق هذا التعريف: التربية هواء وقانون وحياة.
قرطاجنة والعرب(62/85)
بعث المسيو برتولون من المشتغلين بعلم تاريخ الإنسان إلى المجمع العلمي القرطاجني في تونس بمبحث بين فيه الفروق بين جماجم القرطاجنيين منذ 2400 سنة وجماجم التونسيين المعاصرين جاء فيه أن علماء الإنسان يتوصلون إلى درس الأخلاق الرئيسة لمعرفة مميزات عنصر من العناصر بالنظر أولاً إلى قامات أهله فمن أجناس الأمم من يغلب عليها طول القامات مثل الايكوسيين والسويديين ومنهم من يكونون قصارها مثل اللايونيين والسارديين والصقليين ثم ينظر إلى ألوان البشرة والعيون والشعور وحجم الجماجم والأنف والعيون والوجه فيقدرون المقياس الأعلى بمئة ومن بلغ طول رأسه من 70 إلى 86 كان معدوداً في طوال الوجوه ثم يقاس الطول مع العرض وتجري النسبة بينهما وقد قاس في تونس مئة جمجمة قديمة جداً يظن أنها من جماجم القرطاجنيين من القرن الرابع قبل الميلاد و23 جمجمة حديثة من جماجم التونسيين فاستبان أن نساء القدماء يشبهن بتقاطيعهن نساء المحدثين إلا قليلاً وأن الاختلاف محسوس بين رجال اليوم ورجال أمس وأن العقول كانت واحدة في القرطاجنيين والتونسيين وكان كثيرون من القرطاجنيين طوال القامات ومميزاتهم كمميزات قبائل الغرب العظمى المعروفة في التاريخ باسم النوميديين وثبت له أن سكان ضواحي تونس يشبهون أولئك القدماء في قاماتهم وأن سكان قرطاجنة وتونس ظلوا متشابهين منذ القديم إلى يومنا هذا على ما طرأ عليهم من الطوارئ السياسية وبعيد أن يكون قدماء القرطاجنيين من فينيقية لأن الفينيقيين عرفوا بضيق جبهاتهم وكانت أواسط رؤوسهم منبسطة واستدل من حفريات مدافن صيدا ومن قياس هيكل عظام الملك ثابنيت بن اشمونازار الذي وجد في إحدى النواويس الصيداوية أن القرطاجنيين لم يشبهوا الفينيقيين بجنسهم وأن القرطاجنيين اختلطوا بأهل عنصر طويلة رؤوسهم وكذلك الحال في عيون الصيداويين أنها كانت أكثر استدارة من عيون القرطاجنيين وأنوف الفينيقيين أصغر من أنوف القرطاجنيين وبذلك ظهر أن سكان قرطاجنة (المستعمرة الفينيقية) في القرن الرابع لم يكونوا من عنصر يشبه العنصر الفينيقي وأن سكان قرطاجنة من أصل العنصر الذي أنشأ المدنية في بحر ايجيه (الارخبيل) أي أجداد المدنية اليونانية كما استدل الباحثون في أصول مدنية شواطئ البحر الأبيض أن هؤلاء الإفريقيين القرطاجنيين قد فني فيهم الطوارئ من الفينيقيين الذين حلوا ديارهم فكان أهل قرطاجنة فينيقيين ثم رومانيين ثم(62/86)
عرباً قال: وعلى فرنسا أن تنظر إلى ما تم في هذا السبيل من صبغة التونسيين لنعيدهم إلى صبغتها لأن حكم العرب قد أتاهم بقانون سنه رعاة لرعيان فصعب تطبيق هذه الشريعة على مجتمعات ممدنة كالمجتمع القرطاجني ولذا انحط أي انحطاط عما كان عليه زمن الفتح الروماني، قال وإن مبادئ التنظيم الذي بقيت آثاره إلى اليوم في تونس مثل البلديات والصناعات وصناعة الخزف والبناء والهندسة ليست من اختراع العرب كما يقال بل هي بقايا من المدنية القديمة السابقة للإسلام فسدت على عهد الفاتحين وأعمالهم العقيمة، قلنا وبمثل هذا المتعصب الفرنسوي ممن يمدون أقلامهم بالسم الزعاف ليكتبوا عن العرب جهلاً منهم أو تجاهلاً ما برح استعمار فرنسا متأخراً عن غيره من الأمم وسيتراجع عمرانها كلما قويت شأفة الممحاكين والسفسطائيين من أبنائها.(62/87)
العدد 63 - بتاريخ: 1 - 5 - 1911(/)
البرجان
من هم البرجان الذين كثر ذكرهم في كتب العرب التاريخية القديمة وما اسمهم باللغة الفرنجية؟ هذا سؤال يحب أن يقف على جوابه كل من يهمه الاطلاع على إخبار الأقدمين والأمم السالفة، فأقول: إذا أردنا الوضوح في هذه المسألة يجدر بنا أن نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام وهي: قسم نذكر فيه كلام مؤرخي العرب أو مشاهيرهم، وقسم نذكر فيه آراء لغويي العرب وقسم نأتي فيه على ما صرح به علماء الافرنج ومستشرقوهم ثم نختم هذه الأبواب الثلاثة بخاتمة تكون بمنزلة فصل الخطاب.
1_القسم الأول كلام مؤرخي العرب أو مشاهيرهم:
أول من ذكر البرجان من جغرافيي العرب هو أول مؤلف عربي صنف في وصف البلدان أعني به أبا زيد أحمد البلخي صاحب كتاب صور الأقاليم المتوفى ليلة السبت لتسع بقين من ذي القعدة سنة 322 هـ (3 تشرين الثاني 933م) إذ يقول: أما مملكة الإسلام فإن شرقيها (في عهد المؤلف) الهند وفارس، وغربيها مملكة الروم وما يتصل بها من الأرمن واللان والبرجان والسرير والخزر والروس والبلغار والصقالية وطائفة من الترك، وشماليها مملكة الصين وما اتصل بها من بلاد الأتراك ومنها بحر فارس المطلوب من إيراده.
وقال ابن خرداذبة: والعمل الثاني (من بلاد الروم) عمل تراقية وحده من المشرق السور ومن الجنوب عمل مقدرنية ومن الغرب بلاد برجان ومن الشمال بحر الخزر وقد جاء في كتاب المسالك والممالك ذكر البرجان مراراً عديدة وكلها بهذا المعنى.
وقال ابن الفقيه في كتاب البلدان: وإليها (أي إلى الري) تقع تجارات أرمينية وأذربيجان وخراسان والخزر وبلاد برجان.
وأما اليعقوبي فلم يتعرض لذكرهم، وممن ضرب صفحاً عن ذكرهم أيضاً الاصطخري وابن حوقل والمقدسي وقدامة بن جعفر والبكري والبيروني.
وقال ابن الوردي عن أرض البرجان ما حرفه: هي أرض عظيمة واسعة بها من البرجان أمم لا تحصى وهي أمة طاغية قاسية بلادهم واغلة في الشمال ويقول عن أرض البلغار ليبين لك أنها ليست أرض أولئك كما زعم ذلك بعض المتأخرين أو المعاصرين: هي أرض واسعة ينتهي قصر النهار عند البلغار والروس في الشتاء إلى ثلاث ساعات ونصف ساعة(63/1)
قال الجواليقي: ولقد شهدت ذلك عندهم فكان طول النهار عندهم مقدار ما صلي أربع صلوات كل صلاة في عقيب الأخرى مع الأذان وركعات قلائل الإقامة والتسبيح، وعماراتها متصلة بعمارة الروم، وهم أمم عظيمة ومدينتهم تسمى بلغار وهي مدينة عظيمة يخرج واصفها إلى حد التكذيب.
وقال الطبري (1: 18 من ولد يوان: الصقالبة وبرجان. (وفي 1: 299) وملك (افريذون ابنه) سلماً الروم والصقالية والبرجان وما في حدود ذلك (وفي1: 900) وانوشروان غزا برجان ثم رجع فبنى الباب والأبواب. (وفي 2: 1317) وفي هذه السنة (أي سنة 98) أغارت برجان على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس فأمده سليمان بن عبد الملك بمسعدة أو عمرو بن قيس في جمع فمكرت بهم الصقالية، ثم هزمهم الله بعد أن قتلوا شراحيل بن عبدة. (وفي 3: 775) وقتل في هذه السنة (سنة 193) نقفور ملك الروم في حرب برجان وفي (3: 1450) وقد كان إذن (ملك الروم في سنة 246هـ -) لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه.
وقال المسعودي في كتاب التنبيه: وحد الإقليم الخامس بحر الشام إلى أقصى أرض الروم مما يلي البحر إلى تراقية وبلاد برجان والصقالية والابر إلى حد أرض يأجوج ومأجوج وقال في موضع آخر من كتابه المذكور: إن السبب في ذلك (في انتصار الملك قسطنطين على أعدائه) ظهور صليب له نوري في السماء في نومه في حال حربه مع ملك برجان وأنه قيل له: استنصر به على عدوك تنصر عليه.
وقال (في ص 141): وقد دخل كثير منهم (من الأجانب) في وقتنا هذا في جملة الروم كدخول الأرمن والبرغر وهم نوع من الصقالية والبجناك من الأتراك فشحنوا بهم كثيراً من حصونهم التي تلي الثغور الشامية وجعلوهم ازاء برجان وغيرهم من الأمم المتأبدة بهم والمحيطة بملكهم. . . وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا السبب في كيفية بناء القسطنطينية والتنازع في ذلك، وقول من قال ما وراء الخليج كان من أرض برجان فاحتال قسطنطين على ملك برجان لعلمه بالموضع وحصانته حتى أذن له في بنائها.
وقال (في ص 164) لحق (يسطنيانس) بملك الخزر مستنجداً به وتزوج هناك فلم ير عندهم ما يحب فصار إلى طرفلا ملك برجان. . . . وقد كان شرط لطرفلا ملك برجان إذا(63/2)
رجع الملك إليه أن يحمل إليه في كل سنة خراجاً وكان يفعل ذلك. . .
وقال (في ص 183) وقد ذكر خبر السور المسمى بالرومية مقرون لينحس تفسير ذلك السور الطويل الحاجز بين بلاد برجان وبين البنود الخمسة التي وراء القسطنطينية
وقال في ص 184 وقرب من هذا الجبل جبل القبق من الأمم كاللان والسرير والخزر وجرزان والابخاز والصنارية وكشك والكاسكية وغيرهم والابر وبرجان والروس والبرغر والافرنجة والصقالبة. .
وقال في ص191 ومن جاورهم (أي الروم) من الممالك: من برجان والابر والبرغر والصقالبة والخزر وغيرهم. . .
وقال (في ص 196) وقد ذكرنا ما جرى بين الروم وبرجان والبرغر والترك وغيرهم من الوقائع المشهورة والحروب المذكورة. .
وقال المسعودي في كتابه الآخر مروج الذهب: (2: 16 طبعة باريس) وشن الغارات (أي ملك البرغر يريد البلغار) حولها (أي حول القسطنطينية) إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والافرنجة. . . وقال (في ص 311 من ذلك الجزء). . وقد كان له (أي لقسطنطين الملك) في بنائها خبر طريف مع بعض ملوك برجان لخوف دخله من بعض ملوك آل ساسان. . وقال (في ص 314) وكان السبب في دخول قسطنطين بن هلاني في دين النصرانية والرغبة فيها أن قسطنطين خرج في بعض حروب برجان أوغيرهم من الأمم فكانت الحرب بينهم سجالاً نحواً من سنة. . . وقال (في 3: 66) الافرنجة والصقالبة والنوكبرد والاشبان واليأجوج والمأجوج والترك والخزر وبرجان واللان والجلالقة. . . وقال (في ص 78) ولربما اجتمع عليهم (على أهل الأندلس) من الأمم من ولد يافث من الجلالقة وبرجان وافرنجة وغيرها من الألسن. . . وقال في 3814 عمل الترك لخافان سبع مائة فرسخ في خمسمائة. أي طوله. . . وعرضه. . . عمل الخزر واللان سبع مائة فرسخ في خمسمائة فرسخ، عمل برجان ألف وخمسمائة فرسخ في ثلثمائة فرسخ، عمل الصقالبة ثلاثة آلاف وخمسمائة فرسخ في سبعمائة فرسخ، وقال في 14327 وفي هذه السنة وهي سنة 223 خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغر والصقالبة وغيرهم ممن جاورهم من ملوك الأمم حتى نزل مدينة زبطرة من الثغر(63/3)
الخزري فافتتحها بالسيف. . .
وقال ابن رسته: الإقليم السادس يبتدئ من المشرق ويمر على بلاد مأجوج ثم على بلاد الخزر فيقطع بحر طبرستان إلى بلاد الروم فيمر على جرزان وأماسيا وهرقلة وخلقيذون والقسطنطينية وبلاد برجان وينتهي إلى بحر المغرب.
الإقليم السابع يبتدئ من المشرق من شمال يأجوج ثم يمر على بلاد الترك ثم على سواحل بحر طبرستان مما يلي الشمال ثم يقطع بحر الروم فيمر ببلاد برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب.
وأما ما وراء هذه الأقاليم إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ثم يمر على بلاد التغزغز وأرض الترك ثم على بلاد اللان ثم على الابر ثم على برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب.
وقال في موضع آخر: ومن هذه المدينة (أي رومية) تركب البحر فتسير ثلاثة أشهر حتى تنتهي إلى بلاد ملك برجان وتسير منها في جبال وعقاب شهراً واحداً حتى تنتهي إلى بلاد فرنجه.
وقال ياقوت: برجان بالجيم، بلد من نواحي الخزر، قال المنجمون: هو في الإقليم السادس وطوله أربعون درجة وعرضه خمس وأربعون درجة وكان المسلمون غزوه في أيام عثمان رضه.
وقال البلخي في كتاب البدء والتاريخ (1: 64) سمعت قوماً من برجان يسمونه (أي الله) ادفوا، فسألتهم عن اسم الصنم فقالوا: فغ وقال (في 3: 26) فمنهم (من أولاد يافث) الترك والخزر والصقالبة وبرجان واشبان ويأجوج ومأجوج ستة وثلاثون لساناً وقال (في 4: 53) الإقليم السادس: يبتدئ من المشرق فيمر على بلاد يأجوج ومأجوج ثم على بلاد الخزر ثم على وسط بحر جرجان إلى بلاد الروم فيمر على جرزان وهرقلة وقسطنطينية وبلاد برجان إلى بحر المغرب، قال أهل هذا العلم: أما ما وراء هذه الأقاليم إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ومأجوج فيمر على بلاد التغزغز وأرض الترك وعلى بلاد اللان ثم على بلاد برجان ثم على شمال الصقالبة إلى أن ينتهي إلى بحر المغرب.(63/4)
وقال أبو الفداء في تقويم البلدان: برشان بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وفتح الشين المعجمة ثم ألف ونون في الآخر، ويقال لها أيضاً برجان بالجيم، كانت قاعدة البلاد، قال ابن سعيد: وبرشان كانت قاعدة الأمة الذين يقال لهم برجان وكان لهم شهرة وبأس في قديم الزمان فاستولت عليهم الألمانية وأبادوهم حتى لم يبق منهم أحد ولا بقي لهم أثر
وقال القرماني: برجان بلاد غائصة في جهة الشمال فيها قصر النهار إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة وبالعكس وأهلها مجوس، وقال عن بلغار: مدينة عظيمة (كذا والمراد هنا قاعدة البلغار) على ساحل بحرمانطس مبنية من خشب الصنوبر وسورها من خشب البلوط، وحولها من أمم الترك ما لا يعد ولا يحصى، والبرد عندهم شديد جداً لا يكاد الثلج أن ينقطع عن أرضهم صيفاً وشتاءً.
وقال ابن الأثير في (1: 28 من طبعة مصر) ومن ولد بوان (والأصح يوان بالمثناة التحتية) الصقالبة وبرجان والاشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع فيها من وقع من ولد العيص بن اسحق وغيرهم، وقال (في 116) ثم ملك اسطينان (أي أسطنيانس أو يسطنيان) المعروف بالأخرم تسع سنين أيام عبد الملك ثم خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده فانتقل إلى ملك برجان، ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيام عبد الملك ثم ترك الملك وترهب، ثم ملك السمين المعروف بالطرسوسي سبع سنين فقصده اسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به اسطينان وخلعه وعاد إلى ملكه فكان ذلك أيام الوليد بن عبد الملك واستقر اسطينان وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً فاجتمعوا عليه وقتلوه فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً وقال (في ص 117) وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة 193 فقتل فيها وقال (في ص 154) عن كسرى انوشروان عاد إلى المدائن وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن، ثم قال (في ص 155) وقوي أمره (أي انوشروان) وغزا فرغانة والبرجان وعاد فبنى مدينة الشابران، وقال (في 5: 10) وفي هذه السنة (أي 98) فتحت مدينة الصقالبة وكان برجان قد أغار على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة فكتب إلى سليمان يستمده فأمده فمكرت بهم الصقالبة ثم انهزموا.(63/5)
وأنت ترى أن ما نقلناه هنا عن ابن الأثير يكاد يكون نص الطبري بعينه، ومثل هذين النصين كلام ابن خلدون فلهذا نضرب صفحاً عن ذكره، وإلى هنا أيضاً انتهى ماجمعناه من كتب أشهر المؤرخين وأهل التخطيط وإن كان ثم غير هؤلاء إلا أنهم يعدون من النقلة لا من المصنفين الأصليين، وهذا يدلك على سبب عدولنا عن ذكر نصوصهم لاستغنائنا عنهم بأقوال الكتاب الأقدمين أصحاب القدم الراسخة في هذا الموضوع.
2_القسم الثاني نصوص لغويي العرب
قال الفيروز أبادي في القاموس: برجان كعثمان: جنس من الروم وزاد السيد المرتضى في تاج العروس يسمون كذلك قال الأعشى:
وهرقل يوم ذي ساتيذ ما ... من بني برجان في الباس رجح
يقول: هم رجح على بني برجان أي هم أرجح في القتال وشدة البأس منهم، وهذا الكلام كله هو نص ابن منظور بحرفه، وقد أخذه المرتضى عنه ولم ينبه عليه.
وقال ابن الوردي: البرجان أمة بل أمم طاغية مثلثون، بلادهم متوغلة في الشمال وسيرهم منقطعة لبعدهم عنا وجفاء طباعهم.
وقال في المعرب للجواليقي: برجان، اسم أعجمي وقد تكلمت به العرب قال الأعشى: من بني برجان في الناس رجح.
وقال الجوهري في الصحاح:
وهرقلاً يوم ذي ساتيذما ... من بني برجان ذي البأس رجح.
ولم يزد على هذا القدر مع اختلاف الرواية بينه وبين صاحب اللسان والتاج.
وقال المطرزي في المغرب: برجان جنس من الروم بلادهم قريبة من القسطنطينية وبلاد الصقالبة قريبة منهم.
وقال صاحب الأوقيانوس: برجان على وزن عثمان اسم جنس من الروم وفي كتاب المغرب للمطرزي (ماذكرناه آنفاً) وكتاب الخريدة لابن الوردي (مانقلناه فويق هذا) ثم قال: وعليه فيؤخذ من هذا الكلام وعن سائر ما ورد في كتب تخطيط البلدان أن برجان وبغدان هما بلاد وجيل معروفان يكونان وراء نهر الطونة، فمن المحتمل إذاً أن تكون كلمة برجان معربة عن بوجاق (كذا، ويراد ببوجاق البلاد المعروفة باسم بسرابية) بل ولعل الأرجح أن(63/6)
تكون برجان تعريب بغدان تعريباً.
ومن الغريب أن القلقشندي الذي وضع كتاباً في الأنساب وذكر أنساب كثير من الأجيال والأمم والشعوب لم يتعرض لذكر البرجان، وممن أغفل التنويه بهم سائر اللغويين من العرب كصاحب الجمهرة وتهذيب اللغة والمحيط والمجمل والمخصص والمحكم والجامع لديوان العرب والعباب وأساس البلاغة والمصباح المنير ومجمع البحرين ومطلع النيرين والبابوس إلى آخر ما هناك.
وأما صاحب محيط المحيط أي البستاني فإنه نقل كلام المطرزي ولم يصرح باسم المنقول عنه، وصاحب أقرب الموارد لم يذكر البرجان بمعنى هذا الجيل من الناس، ونقف عند هذا الحد من ذكر نصوص اللغويين.
القسم الثالث رأي مستشرقي الافرنج
ذهب أغلب المستشرقين إلى أن المراد بالبرجان: البلغار، وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً البتة كما سنثبته في ذيل هذا القسم، على أن بعضاً منهم انتبهوا إلى ما في هذا التوحيد بين اللفظين من الغرابة والبعد لرؤيتهم كثيرين من كتاب العرب جمعوا في عبارة واحدة بين البرجان والبلغار وميزوا بين الجيلين تمييزاً بيناً فاستنتجوا أن القومين ليسا بواحد بل هما اثنان وإن كانا في أغلب الأحايين متحالفين متفقين في الهجوم والدفاع وفي القتال والقراع.
على أن بعض الافرنج ذهبوا إلى أن المراد بالبرجان في بعض عبارات الكتاب من العرب قوم يكونون في افرنجة (افرنسة) وهم المعروفون باسم البرجون أو البرغون أي هم المعروفون باللغة الفرنسوية باسم وهم محقون في ذلك، مثلاً ما قال المسعودي في عبارته (في 2: 16) وفي عبارته (في 3: 78) فلا شك أن المراد بالبرجان هناك البرجون أو البرغون، وهذا التصحيف قريب من البرجان فظن المؤلف الأول أو ناسخ الكتاب أن البرجون والبرجان شيء واحد، والحال: أن الأمر على خلاف ما يظن وإن كان بين اللفظين تناسب في الاشتقاق، ولهذا فقد أصاب الفاضل بربيه دمينار حينما ذكر هذه العبارة: وبشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والافرنجة إن المراد بهؤلاء البرجان: لكنه لم يصب في قوله أنهم البلغار في كلام المسعودي في 3: 66 و 3: 78 ثم 7: 134 ثم 4: 38 فلو ذكرهم باسمهم البرجان كما فعل في 2: 311 و 2:(63/7)
315 لكان أولى له ولهذا فقد أصاب في مواطن وأخطأ في مواطن أخرى.
وأما العلامة دي كوي فإنه لم ينقل إلى اللاتينية اسم البرجان كل مرة وردت في الطبري، وأما في ترجمته لكتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة فإنه نقلها إلى لفظة بلغار في ص 25710592 وأما في 25717 فقد أبقاها على لفظها برجان، كأنه قد اكتفى بما ألمع إليه وبأن المراد من البرجان البلغار.
وقد صرح فريتاغ أنه لا يعرف على التحقيق من هم هؤلاء المعروفون باسم البرجان، على أنه في الآخر ذهب إلى أن قولهم: اسرق من برجان يراد بهم هؤلاء الأقوام، وقد قال في مستهل كلامه عن البرجان برجان اسم لص أو لصوص، وقد تابعه في هذا الوهم قزميرسكي، وقد وهم كلاهما، فإن اللص المشهور باسم برجان هو غير جيل البرجان فاللص برجان كان من ناحية الكوفة، صلب لسرقته فسرق وهو مصلوب، وذلك أنه قال لحافظه: مر إلى تلك الخربة فإن لي فيها مالا وأنا أحفظ برذونك، فلما غاب عنه قال لواحد مر به: خذ البرذون فهو لك.
وأما برجان الآخرون فهم أقوام يجاورون البلغار وليسوا بهم، وكانوا أهل غزو لا لصوصا شأن سائر الناس في غابر العصور قبل العمران الحديث، ولهذا فقول فريتاغ وقزميرسكي أنهم من اللصوص وهم ظاهر وخبط بين فليحفظ، هذا فضلاً عن أنك لا ترى واحداً من أبناء العرب ذهب إلى أن اللص برجان هو من قوم البرجان، أو أن البرجان هم من اللصوص ومنه قولهم اسرق من برجان كقولهم هم اسرق من قوم برجان.
والظاهر أن أول مستشرق ذهب إلى أن البرجان هم البلغار العلامة كاترمير في الكتاب الذي نشره في باريس لمؤلفه رشيد الدين وترجمه إلى اللغة الفرنسية مع حواش نفيسة تزري بعقود الجمان، وقد رأيت هذا الكتاب مراراً عديدة في مكتبة الحاج علي الآلوسي من مبعوثي بغداد، وهو اليوم في الاستانة ومكتبته مقفلة لا يدخلها داخل ولو كان من أخص أقربائه، ولما كان مقام كاترمير من أرفع المقامات في العلم تابعه الكثيرون اعتماداً عليه، والبائن أن العلامة رينو في ترجمته لكتاب تقويم البلدان تأليف أبي الفداء لم يقطع كل القطع برأي وطنيه كاترمير لأنه أبقى كلمة برجان على حالتها في ص 283 من الجزء الأول من المجلد الأول وفي ص 313 من ذلك الجزء بعينه، ثم قال ما معربه: الظاهر(63/8)
كلمة برجان تعني بعض الأحيان البلغار المجاورين لنهر الطونة، راجع حواشي المسيو كاترمير على كتاب تاريخ رشيد الدين ص 405 وراجع أيضاً تصنيف المسيو دوصون في كلامه عن أقوام جبل قاف ص 260 ومن المرجح أيضاً أن هذا الاسم يشمل الإبر والصرب كلام رينو.
فأنت ترى أنه لا يجزم بصحة هذا القول كل الجزم بل يذكره بكل تحفظ وتحرز لأنه رأى أنه إذا صح هذا التأويل في مواضع فهو لا يصح في عدة مواطن.
وأما أقوى براهين كاترمير على أن البرجان هم البلغار المجاورون لنهر الطونة هو هذا على ما أتذكر: يقول المسعودي أن بستنيان الثاني المشهور بالأخرم لاد بتاوفيل ملك البرجان والحال أن كتبة اليونان يذكرون ذلك عن ملك البلغار إذن البرجان هم البلغار كلام العلامة محصلا بمعناه، فأقول: نص المسعودي هو هذا: وفي هذه السنة وهي سنة 223 خروج توفيل بن ميخائيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغار والصقالبة وغيرهم فيتضح من هذا الكلام أن البرجان غير البرغار أو البلغار وإلا لما فرق بين اللفظين بل أنهم قوم محالفون للبرغار كما كان الصقالبة محالفين لهم أيضاً واكتفاء اليونان بذكر البرغار فقط لا يدل على أنه لم يكن معهم برجان وصقالبة بل إنما ذهبوا إلى ذكر البلغار أما لكثرتهم وأما لشهرتهم وأما لأنهم إذا ذكروا البلغار فهم قراء أولئك الزمان حلفاء البلغار أيضاً البرجان والصقالبة أو لعل هناك سبباً آخر لا يصل إلى معرفته عقلنا القاصر.
وعلى كل حال فإن كلام المسعودي صريح كل الصراحة أن البرجان قوم كانوا مع البلغار وليسوا إياهم، بل هم الذين نعنيهم في كلامنا الآتي.
وأما آراء سائر المستشرقين فلا حاجة إلى ذكرها لأنه إذا كان مقدموهم وزعماؤهم على هذا التأويل فلا تبعد تأويل من جاء بعدهم وأخذ عنهم بعداً يذكر ومن ثم تكون آراؤهم منحصرة في ثلاثة تآويل: فالأغلب يذهب إلى أنهم والبلغار جيل ومنهم من يقول بأن البرجان في بعض المواطن تفيد البرجون أو البرغونيين والطائفة الأخرى تبقي اللفظة على وجهها لأنها لم ترها موافقة لمعنى البلغار.
على أن هناك مذهباً رابعاً بل وخامساً لا ينسب أو ينسبان إلى واحد من المستشرقين بل إلى عالم جليل من علماء الأتراك ولغوييهم أريد به عاصم افندي صاحب الاوقيانوس(63/9)
ومترجم القاموس فإنه يظن أن البرجان تعريب بوجاق ويرجح عليه كون اللفظة تعريب بغدان وكلا اللفظين وإن كانا يتقاربان في الكتابة إلا أنهما يبتعدان كل الابتعاد في النطق والتلفظ هذا فضلاً عن أن إبدال الحروف وسننه لا توافق كل الموافقة هذا التصحيف البعيد الوقوع إلا بتكلف وتعمل واعنات لا إعنات وراءه.
4_خاتمة النبذة وفيها ذكر رأينا
من قرأ بترو وتدبر ما كتبناه إلى هنا وأنعم النظر في الشواهد التي نقلناها عن كتبة العرب على اختلاف عصورهم يحكم حكماً باتاً بأن البرجان غير البلغار وبالعكس وإليك خلاصة ما قاله العرب عنهم مجموعة هنا:
البرجان جيل من الناس بلادهم غائصة في جهة الشمال في قصر النهار إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة، وبالعكس، وأهلها مجوس طغاة بغاة قساة وسيرهم منقطعة عنا لبعدهم وجفاء طباعهم، وقد تنصروا في عصور النصرانية الأولى بعد أن غادروا بلادهم وأقاموا بجوار البلغار من جهة وبقرب الصقالبة من الجهة الأخرى وكانوا تارة مهادنين للبلغار ومواليهم ومحالفيهم وطوراً أعداءهم وهاجمين عليهم وغازين إياهم، شأن الجار للجار، فهذا كله لا يصح إلى على الأمة المعروفة عن الافرنج باسم ويقال فيها عندهم كما أن العرب أخذوا هذه اللفظة عن اليونان وهم يكتبون الفاءالفارسية المثلثة الفوقية باء موحدة تحتية سهل سبب تعاقب الفاء والباء، والكلمة هي في الأصل ومعناها المنفي أو الآفاق ثم توهموا فيها الأفراد كما هو الأمر حقيقة فجمعوها على فعلان فقالوا فيها برجاناً كما قالوا في جمع ظهر ظهراناً.
والبرجان على التحقيق قوم افاقون أصل أغلبهم من اسكنديناوية ثم انضم إليهم أناس آخرون من عناصر أخرى كالروس والصقالبة والأبر والسرب والبلغار فاجتمع منهم أمة قائمة بنفسها قاتلها الألمانيون فافنوها عن آخرها.
هذا ما ظهر لنا على وجه التحقيق بعد أن طالعنا عدة مؤلفات عربية وافرنجية وبعد أن وقفنا على آراء بوغودين وجد عونوف وكستوماروف وهوفائسكي وآمي بوه وكانتس وليجه ودلافلاي وغيرهم.
وإن كان لواحد من القراء ما يهدم رأينا بمعول براهينه فليأتنا به ونحن له من أعظم(63/10)
الشاكرين لأن غايتنا البحث عن الحقيقة لا التمسك برأينا فمتى ما رأينا وجهها الصبيح نسير للحال بضيائه، وفقنا الله إلى ما به كل خير بغداد:
ساتسنا.(63/11)
الفتوى في الإسلام
تتمة ما ورد في الجزئين الماضيين
حاجة المفتين إلى معرفة العلوم الرياضية
إن هذه العلوم الجليلة - الرياضية - كان عني بها من سلفنا وأئمتنا من لا يزال اسمه كالبدر في السماوات وعمه وآثاره مرجعاً لحل العويصات مثل الحافظ بن حيان صاحب الصحيح وحجة الإسلام الغزالي وفخر الدين الرازي وولي الدين ابن خلدون والإمام ابن رشد وسيف الدين الآمدي والحرالي وابن عبد ربه وابن الصلاح وأبي الصلت الداني الأندلسي والرشيد بن الزبير الأسواني والمبشر بن فاتك الأموي والشيخ السويد والفخر الفارسي والقطب المصري والموفق عبد اللطيف البغدادي وابن البيطار وأفضل الدين الخونجي وشمس الدين الأصفهاني وابن النفيس والقطب الرازي والسيد الشريف الجرجاني وسعد الدين التفتازاني وبدر الدين ابن جماعة وقاضي القضاة الهروي وعلاء الدين البخاري وشهاب الدين ابن المجدي والتقي السبكي ومن لا يحصى من الأئمة كما تراه في طبقات الحكماء وفي حسن المحاضرة للسيوطي وسواهما من تواريخ الأعلام ووفيات الأعيان وكثر من كان فيهم من القضاة والحفاظ والرواة والمتكلمين والمفتين العدول الثقات ولو ضم إليهم غيرهم لبلغ مجلدات كل من عني بهذه العلوم - الرياضية - علم مسيس الحاجة إليها وأدرك موضع الكمال منها فراح بضرب منها بسهم ويخوض منها في بحر.
تخلل كتب الفقه ما لا يحصى من فروع هذه العلوم وكم توقف القضاء والافتاء في النوازل على الإلمام بهذه الفنون.
أليس تحرير سمت القبلة يتوقف على معرفة أصول فن الميقات وكذا تحرير أوقات الصلوات في البلاد على معرفة عروضها وأطوالها المقررة في علمها.
وكذلك حسم المنازعات في مساحة قطع الأرض أو مقادير السقيا من الأنهار أو الدمن يتوقف على فن الهندسة والمقاييس.
وهكذا التقاضي في وقف على بلد من بلاد دولة من الدول معينة ارتيب في كون تلك البلد من حوزتها أو حدودها يتوقف على علم الجغرافيا (تقويم البلدان) فمنه يعلم دخولها في شرط الواقف أو عدم دخولها.(63/12)
وهكذا أفتى من المحققين غير واحد أن لمن له معرفة بعلم هيئة الفلك أن يعمل بحسابه في صوم رمضان والفطر منه بل أفتى تقي الدين السبكي لما كان قاضي القضاة بدمشق في رسالة سماها (العلم المنشور في إثبات الشهور) إن من شهد برؤية الهلال في رمضان أو ذي الحجة مثلاً ودل الحساب على أنه لا تمكن رؤيته أن تلك الشهادة ترد (قال) لأنه أقوى من الريبة لأنه مستحيل عادة، وبين رحمه الله في هذه الرسالة ما يجب على القاضي من التثبت في ذلك وما ينبغي له من الإلمام بعلم الهيئة والميقات أو تقليد من يثق به في ذلك ليكون على بصيرة مما يقبل من الشهادة في ذلك أو يرد.
ورسالته هذه من أنفس الرسائل المضنون بها.
وبالجملة فحاجيات الفنون الرياضية في الأقضية والأحكام وفي العبادات والمعاملات أوسع من أن يدخلها الحصر ولا غنى للقاضي والمفتي عن الإلمام بها كما أوضحنا.
تحري المفتي في مسائل الطلاق المجمع عليه والأقوى دليلاً
مما يجب على كل مفت - بمعنييه الخاص والعام - أن يتحرى ويتروى ويحتاط في مسائل الطلاق ما أجمع على وقوعه أو قوى الدليل فيه معقولاً أو منقولاً وأما التسرع بالفتوى بحل العصمة لمجرد قول غير مجمع عليه أو المدرك في سواه أو قول الصحب والتابعين رضوان الله عليهم على خلافه - هذا التسرع من الأمور التي جرت الويلات على كثير من العائلات وكم أفضت إلى التحيل بما لا يرضاه الشارع ولا يلتقي مع أصول ملته السمحاء، ومن العجيب أن صور الحلف بالطلاق وأنواع التعاليق فيه التي أفردت لها تآليف خاصة وأفعمت بطون الأسفار لا ترى منها مسألة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا واقعة مأثورة عن الصحب رضوان الله عليهم لأنها مما حدثت بعد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في بعض فتاويه لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة وهو التحليف بالطلاق والعتاق والتحليف باسم الله وصدقة المال وقيل كان معها التحليف بالحج تكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم في هذه الأيمان وتكلموا في بعضها على ذلك فمنهم من قال إذا حنث بها لزمه ما التزمه ومنهم من قال لا يلزمه إلا الطلاق والعتاق ومنهم من قال بل هذا من جنس إيمان أهل الشرك لا يلزم بها شيء ومنهم من قال بل هي من ايمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم في سائر ايمان المسلمين واتبع هؤلاء ما نقل في هذا الجنس(63/13)
عن الصحابة وما دل عليه الكتاب والسنة (قال) كما بسط في موضع آخر.
وبالجملة فأهم مسائل الطلاق الآن مسألة الحلف به وبالحرام، والتعليق عليه، وطلاق السكران، وطلاق الغضبان، وجمع الثلاث في كلمة دفعة واحدة، والطلاق في الحيض، ويندرج تحت كل صور شتى يرى الواقف على مذاهب السلف فيها أقوالاً وفتاوى عديدة وقد أسلفنا ما اتفق عليه كلام المحققين من وجوب التحري في المسائل المختلف فيها وبذل الوسع في مسألة القولين لترجيح أحدهما.
ومما يعين المفتي على الترجيح الصحيح مراجعته الكتب التي جمعت أقوال السلف في هذه المسائل وهي المحلى لابن حزم وفتاوى ابن تيمية وكتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل له أيضاً وإغاثة اللهفان الكبرى لابن القيم وإغاثة اللهفان الصغرى في طلاق الغضبان لابن القيم أيضاً وزاد المعاد له أيضاً وكذلك مراجعة كتب النوازل في فقه المالكية ومطولات كتب أصحاب الأئمة نفعنا المولى بعلومهم فالواقف عليها يجد من سماحة الإسلام ويسر الدين ورفع الحرج في هذا الباب ما يجعله كله السنة تنطق بحمده تعالى على هذه الرحمة.
حكم تولية طالب الإفتاء
هذا الحكم يعلم بالأولى مما ذكروه في القضاء ومن أحسن ما كتب فيه ما قاله الإمام الماوردي - من كبار أئمة الشافعية - في كتابه الأحكام السلطانية وعبارته:
فأما طلب القضاء وخطبة الولاة عليه فإن كان من غير أهل الاجتهاد فيه كان تعرضه لطلبه محظوراً وصار بالطلب مجروحاً.
وإن كان من أهله على الصفة التي يجوز معها نظره فله في طلبه ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره فيخطب القضاء دفعاً لمن لا يستحقه ليكون فيمن هو بالقضاء أحق فهذا سائغ لما تضمنه من دفع منكر ثم ينظر فإن كان أكثر قصده إزالة غير المستحق كان مأجورا وإن كان أكثره اختصاصه بالنظر فيه كان مباحاً.
(والحالة الثانية) أن يكون القضاء في مستحقه ومن هو أهله ويريد أن يعزله عنه إما لعداوة بينهما وإما ليجر بالقضاء إلى نفسه نفعاً فهذا الطلب محظور وهو بهذا الطلب مجروح.
(والحال الثالثة) أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وال عليه فيراعي حاله في(63/14)
طلبه فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء المستحق في بيت المال كان طلبه مباحاً وإن كان رغبة في إقامة الحق وخوفه أن يتعرض له غير مستحق كان طلبه مستحباً فإن قصد بطلبه المباهاة والمنزلة فقد اختلف في كراهية ذلك مع الاتفاق على جوازه فكرهته طائفة لأن طلب المباهاة والمنزلة في الدنيا مكروه قال الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
وذهبت طائفة أخرى إلى أن طلبه لذلك غير مكروه لأن طلب المنزلة مما أبيح وقد رغب نبي الله يوسف عليه السلام إلى فرعون في الولاية فقال اجعلني على خزائن الأرض اتي حفيظ عليم فطلب الولاية ووصف نفسه بما يستحقها به من قوله اني حفيظ عليم وفيه تأويلان (أحدهما) حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني وهذا قول عبد الرحمن بن زيد (والثاني) أنه حفيظ للحساب عليم بالألسن وهذا قول اسحق بن سفيان وخرج هذا القول عن حد التزكية لنفسه والمدح لها لأنه كان لسبب دعا إليه انتهى.
اشتراط علم المولي بأهلية من يوليه لصحة التولية
قال الإمام الماوردي: تمام الولاية معتبر بأربعة شروط (أحدها) معرفة المولي للمولى بأنه على الصفة التي يجوز أن يولى معها فإن لم يعلم أنه على الصفة التي تجوز معها تلك الولاية لم يصح تقليده (والشرط الثاني) معرفة المولي بما عليه المولى من استحقاق تلك الولاية بصفاته التي يصير بها مستحقاً لها وأنه قد تقلدها وصار مستحقاً للاستنابة فيها ثم ذكر تتمة الشروط في تولية القضاء مما يدل على اعتبارها فيما هو دون تولية القضاء من الافتاء والتدريس والوعظ والإرشاد والخطابة والإمامة بالأولى ولله در المستوعر الأكبر في قوله:
وما سقطت يوماً من الدهر أمة ... من الذل إلا أن يسود دميمها
إذا ساد فيها بعد ذل لئيمها ... تصدى لها ذل وقد اديمها
وما قادها للخير إلا مجرب ... عليم بإقبال الأمور كريمها
وما كل ذي لب يعاش بفضله ... ولكن لتدبير الأمور حكيمها
وبالجملة فإعطاء كل ذي حق حقه ووضع الأشياء في مواضعها وتفويض الأعمال للقادرين عليها مما يوجب صيانة الحق ويشيد بناء العدل ويحفظ نظام الأمور من الخلل، ويشفي(63/15)
نفوس الأمة من العلل، وهذا مما تحكم به بداهة العقل وهو عنوان الحكمة التي قامت بها السموات والأرض وثبت بها نظام كل موجود، وكل من تتبع تواريخ الأمم وكان بصير القلب علم أنه ما انقلب عرش مجدها إلا لتفويض الاعمال لمن لا يحسن القيام عليها ويض الأشياء في غير مواضعها إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
حكم الاشتراط في الفتوى أن تكون على مذهب معين
يستفاد هذا مما أوضحه الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية في القضاء (قال): ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به.
وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كا ن أنفى للتهمى وأرضى للخصوم (قال الماوردي) وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق.
ثم قال: فلو شرط المولي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين أحدهما أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام فهذا شرط باطل سواء كان موافقاً لمذهب المولي أو مخالفاً له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطاً فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسداً سواء تضمن أمراً أو نهياً، ويجوز أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه.
فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق تصح الولاية ويبطل الشرط ثم ذكر الضرب الثاني وفصل فيه فانظره وقال الإمام أبو زيد الدبوسي - من أكابر أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله - في كتاب(63/16)
تقويم الأدلة في أواخر باب الاستحسان: وكان الناس في الصدر الأول أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين يبنون أمورهم على الحجة فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصح بالحجة فكان الرجل يأخذ بقول عمر رضي الله عنه في مسألة ثم يخالفه بقول علي رضي الله عنه في مسألة أخرى، وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أنهم وافقوه مرة وخالفوه أخرى على حسب ما تتضح لهم الحجة، لم يكن المذهب في الشريعة عمريا ولا علويا بل النسبة كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا قروناً اثنى عليهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم بالخير فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم فلما ذهب التقوى من عامة القرن الرابع وكسلوا عن طلب الحجج جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم فصار بعضهم حنفياً وبعضهم مالكياً وبعضهم شافعياً ينصرون الحجة بالرجال ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب ثم كل قرن اتبع عليه كيفما أصابه بلا تمييز حتى تبدلت السنن بالبدع فضل الحق بين الهوى كلام الإمام أبي زيد وللبحث مقدمة مدهشة فليرجع إليها وقد نقل نحواً من ذلك شيخ الصوفية محيي الدين ابن عربي في الباب الثامن عشر وثلثمائة من الفتوحات المكية في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية بالأغراض النفسية عافانا الله وإياك من ذلك فليتدبر من يحب الإنصاف.
الحسبة على المفتين وأمثالهم
قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتوعده بالعقوبة إن عاد، وطريق الأمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم انتهى.
وقال الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: وإذا وجد - المحتسب - من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف أنكر عليه التصدي لما هو ليس من أهله وأظهر أمره لئلا يغتر به.
وقال ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم عاص قال أبو الفرج ابن الجوزي: ويلزم ولي الأمر منعهم وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو(63/17)
يطب الناس بل هؤلاء أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين قال وكان شيخنا شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: اجعلت محتسباً على الفتوى: فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب انتهى.
دلالة العالم للمستفتي على غيره
قال ابن القيم: هذا موضع خطر جداً فلينظر الرجل إلى من يدل عليه وليتق الله فإنه إما معين على الإثم والعدوان وإما معين على البر والتقوى وقد سأل الحافظ أبو داود - صاحب السنن - الإمام أحمد عن رجل يسأله عن مسألة فيدله على من يسأله فقال: إذا كان يعني الذي أرشده إليه متبعاً ويفتي بالسنة:
وذكر بعد ورقات أنه إذا علم أن السائل يدور على من يفتيه بغرضه في تلك المسألة فيجعل استفتاءه تنفيذاً لغرضه لا تعبداً لله بأداء حقه فلا يسعه أن يدله على غرضه أين كان بل أن علم المفتي فيها نصاً عن الله ورسوله فلا يسعه تركه إلى غرض السائل وإن كانت من المسائل الاجتهادية ولم يترجح له قول لم يسغ له أن يترجح لغرض السائل وهذه المسألة جديرة بالمحافظة عليها وليرجع إلى تتمتها في كلامه.
هل يقول المفتي في المسألة قولان ونوادر في ذلك
قال الإمام ابن القيم في الأعلام: لا يجوز للمفتي تخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال متضمناً لفصل الخطاب ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل: وكتبه فلان:
وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلي على حديث عائشة.
وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال: أما أهل الايثار فيخرجون المال كله وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه.
وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد.
قال أبو محمد ابن حزم وكان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب هو: جوابي فيها مثل جواب الشيخ، فقدر أن مفتيين اختلفا في جواب فكتب(63/18)
تحت جوابهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له أنهما قد تناقضا فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا.
قال ابن القيم: وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى وهو مقدم في مذهبه وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب: يجوز كذا أو يصح كذا أو ينعقد كذا بشرطه، فأرسل إليه يقول: فأتينا فتاوى منك فيها: يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه نحن لا نعلم شرطه فإما أن تبين شرطه وإما أن لا تكتب ذلك قال وسمعت شيخنا - ابن تيمية - يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط وهذا ليس بعلم ولا يفيد سوى حيرة السائل وتنكده.
(وكذلك) قول بعضهم في فتاويه: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم: قال فياسبحان الله: لو كان الحاكم شريحا وأشباهه لما كان مرد أحكام الله ورسوله إلى رأيه فضلاً عن حكام زماننا والله المستعان.
وسئل بعضهم عن مسألة فقال: فيها خلاف: فقيل: كيف يعمل المفتي (فقال) يختار له القاضي أحد المذهبين.
قال عمرو بن الصلاح كنت عند أبي السعادات ابن الأثير الجزري فحكى لي عن بعض المفتين أنه سئل عن مسألة فقال: فيها قولان فأخذ يزري عليه وقال: هذا حيد عن الفتوى ولم يخلص السائل من عمايته ولم يأت بالمطلوب، وللبحث تتمة فليرجع إليه في كلامه رحمه الله.
أجناس الفتيا التي ترد على المفتين
قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: المفتي إذا سئل عن مسألة فإما أن يكون قصد السائل فيها معرفة حكم الله ورسوله ليس إلا، وإما أن يكون قصده معرفة ما قاله الإمام الذي شهر المفتي نفسه باتباعه وتقليده دون غيره من الأئمة، وإما أن يكون مقصود، معرفة ما ترجح عند ذلك المفتي وما يعتقده فيها لاعتقاده علمه ودينه وأمانته فهو يرضى بتقليده هو وليس له غرض في قول أمام بعينه، فهذه أجناس الفتيا التي ترد على المفتين.
فغرض المفتي في القسم الأول أن يجيب بحكم الله ورسوله إذا عرفه وتيقنه لا يسعه غير ذلك.
أما في القسم الثاني فإذا عرف قول الإمام بنفسه وسعه أن يخبر به ولا يحل له أن ينسب(63/19)
إليه القول ويطلق عليه أنه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم فليس كل ما في كتبهم منصوصاً عن الأئمة بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير منهم يخرج على فتاويهم، وكثير منهم أفتوا به بلفظه أو بمعناه.
فلا يحل لأحد أن يقول هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقيناً أنه قوله ومذهبه فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدي الله تعالى.
وأما القسم الثالث فإنه يسعه أن يخبر المستفتي بما عنده في ذلك مما يغلب على ظنه أنه الصواب بعد بذل جهده واستفراغ وسعه ومع هذا فلا يلزم المستفتي الأخذ بقوله وغايته أنه يسوغ له الأخذ به، فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث وليقم بواجبها فإن الدين دين الله والله سبحانه لا بد سائله عن كل ما أفتى به والله المستعان.
ولا يخفى أن في القسم الأول ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص بل هو اللازم ما أمكنه فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام وقد كان هو عصمة الصحابة واصلهم الذي يرجعون إليه وقد أسهب في ذلك بما لا يستغنى عنه فليراجع.
استعانة المفتي بمراجعة كتب المذاهب واختلاف الأئمة
في جمع الجوامع وشرحه ونرى أن الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة والسفيانيين الثوري وابن عيينة وأحمد ابن حنبل والاوزاعي واسحق ابن راهويه وداود الظاهري وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم في العقائد وغيرها وقال الشعراني في الميزان وقد أجمعوا على أنه لا يسمى أحد عالماً إلا أن بحث عن منازع أقوال العلماء وعرف من أين أخذوها من الكتاب والسنة: وقال إن الشريعة كالشجرة العظيمة المنتشرة وأقوال علمائها كالفروع والأغصان وقال إن الشريعة المطهرة جاءت شريعة سمحة واسعة شاملة قابلة لسائر أقوال أئمة الهدى من هذه الأمة المحمدية وأن كلا منهم فيما هو عليه في نفسه على بصيرة من أمره وعلى صراط مستقيم وأن اختلافهم إنما هو رحمة بالأمة وقال نقلاً عن الإمام الزركشي في آخر كتاب القواعد له ما مثاله: إن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كابي محمد الجويني وإضرابه فإنه(63/20)
صنف كتابه المحيط ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين انتهى ثم قال الشعراني، وقد بلغنا أنه كان يفتي الناس بالمذاهب الأربعة الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديريني وشيخ الإسلام عز الدين ابن جماعة المقدسي والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البرلسي والشيخ علي النبتيتي الضرير، ونقل الشيخ الجلال السيوطي رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ولا نصوصه ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به انتهى وذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة إمام الحرمين ما مثاله والإمام لا يتقيد بالأشعري ولا بالشافعي لا سيما في البرهان وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده: وذكر في ترجمة أبيه الجويني أنه ألف كتاباً سماه المحيط لم يتقيد فيه بمذهب وأنه التزم أن يقف على مورد الأحاديث لا يتعداها ويتجنب جانب العصبية للمذاهب: كما قدمه الشعراني، وذكر في ترجمة ابن جرير أن المحمديين الأربعة - ابن جرير وابن خزيمة وابن نصر وابن المنذر كانوا يذهبون مع اجتهادهم المطلق وكان كل منهم مجتهداً مطلقاً لا يقلد أحداً ولهم من الاختيارات ما دونه السبكي في تراجمهم وهذا باب يطول استقصاؤه وقد عد السيوطي في حسن المحاضرة من المجتهدين في مصر وحدها ما أضاف على السبعين فيكيف بغيرها وكل من هؤلاء إنما كان يفتي بما يؤديه اجتهاده وكان يتفق لكثير من هؤلاء وأمثالهم من جمع الكتب المنوعة للاستفادة بما فيها ما يدهش وقد حكى السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام عبد السلام ابن بندار أنه دخل إلى بغداد من مصر ومما معه عشرة جمال عليها كتب بالخطوط المنسوبة في فنون العلم وقال الشعراني أيضاً: إن كل مقلد اطلع على عين الشريعة المطهرة - أدلتها - لا يؤمر بالتقيد بمذهب واحد وربما لزم المذهب الأحوط في الدين مبالغة منه في الطاعة، وإلى نحو ما ذكرناه أشار الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله، ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فعلى الرأس والعين وما جاء عن أصحابه تخيرنا وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال، ثم قال إذا علمت ذلك فيقال لكل مقلد امتنع عن العمل بقول غير إمامه في مضايق الأحوال امتناعك هذا تعنت لا ورع لإنك تقول لنا أنك تعتقد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم لاغتراف مذاهبهم من(63/21)
عين الشريعة ثم قال وكان الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى يقول: لم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه وما ذلك إلا لأن كل مجتهد مصيب، وكان الزناتي من أئمة المالكية يقول: يجوز تقليد كل من أهل المذاهب في النوازل، وقد أطال الشعراني في هذا البحث وأجاد والقصد أن توسع المفتي في مراجعة مذاهب الأئمة وأقوالهم مما يعينه على الأقوى والأرجح في النازلة، إذ ليس الحق وقفا على مذهب أو كتاب وبالجملة فلا سبيل للوقوف على الضالة المنشودة إلا بتتبع مطاوي الكتب وخبايا الأسفار، وبمقدار رفع الهمة في ذلك بمقدار تنور الأفكار، قال العلامة العطار في حواشيه على شرح جمع الجوامع من تأمل ما ذكره من تصدى لتراجم الأئمة الأعلام علم أنهم كانوا مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شبههم وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير الإسلام قال فإني وقفت على مؤلف للقرافي رد فيه على اليهود شبهاً أوردوها على الملة الإسلامية لم يأت في الرد عليهم إلا بنصوص التوراة وبقية الكتب السماوية حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها عن ظهر قلب ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات، ثم قال ومن نظر فيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئاً من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم نكررها طول العمر ولا تطمح نفوسنا إلى النظر في غيرها حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخلصنا عنه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا أصل لها أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة وهكذا فصار العذر أقبح من الذنب، وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها وإن تفطنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساوياً، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة(63/22)
الأدب، وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أي علم كان عند ذلك تقوم القيامة وتكثر القالة ويتكدر المجلس وتمتلئ القلوب بالشحناء وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يسمى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال أن الشيخ مستغرق أو يهذو بما تمجه الاسماع، وتنفر عنه الطباع.
وقالوا سكرنا بحب الآلة ... وما أسكر القوم إلا القصع
فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظه ببغداد
مافي الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وهذه نفثة مصدور فنسأل الله السلامة واللطف كلام العطار وموضع الاستشهاد منه تأسفه على الاقتصار على ما في الأيدي من الأسفار مع أن الدواء الناجع هو التنقيب عما خبأته أيدي السلف من جواهر العلم ونفائس الفوائد وبالله التوفيق.
أعراض المفتي عن المقلد الخصم
المقلد هو الذي لا يصل فهمه إلى درك الدليل أو لا يريد أن يصل، أقعدته الفطرة عن اللحاق بأولي العلم، أو قنع بالتخلف عن السباق مع إبطال النظر وأقطاب الفهم، فلما ماتت قوته النظرية كان قصاراه أن يقف مع قول مفتيه، ويجرع من الكاس الذي يسقيه، فإذا تحكك بالدليل، وأخذ يخوض مع الإبطال في القال والقيل، دل على تطفله، وفضوله وتمحله وتعديه طوره، ومجاوزته قدره فلهذا يجب الإعراض عنه، وأن تحجب مخدرات المناظرة منه ولما ابتلي الأئمة قديماً بالمقلدة المماحكين، وضعوا لدرء جدلهم قوانين، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وأرضاه في كتابه فيصل التفرقة وشرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ولو كان أهلاً له كان مستتبعاً لا تابعاً وإماماً لا مأموماً، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد، وطالب لصلاح الفاسد وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر وقال رضي الله عنه في إحياء علوم الدين في الباب الرابع من أبواب العلم في مباحث المناظرة وتلبيس المناظرين ما مثاله: اعلم أن هؤلاء قد يستدرجون الناس إلى ذلك بأن غرضنا من المناظرات المباحثة عن الحق ليتضح فإن الحق مطلوب والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر هكذا كانت عادة الصحابة رضي الله عنهم في مشاوراتهم ثم(63/23)
قال ويطلعك على هذا التلبيس ما أذكره وهو أن التعاون على طلب الحق من الدين ولكن له شروط وعلامات ثمان (إلى أن قال) الثالث أن يكون المناظر مجتهداً يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له كما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم والأئمة فأما من ليس له رتبة الاجتهاد وإنما يفتي فيما يسأل عنه نافلا عن مذهب صاحبه فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه فأي فائدة له في المناظرة ومذهبه معلوم وما يشكل عليه يقول لعل عند صاحب مذهبي جواباً عن هذا فإنى لست مستقلاً بالاجتهاد.
وقال رضي الله عنه أيضاً في كتاب آداب تلاوة القرآن في أسباب موانع الفهم الأربعة ما مثاله في الثاني (ثانيها) أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك فيرى أن ذلك من غرور الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب: وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وأتقوها إليهم انتهى.
وما أجمل قول الجاحظ عليه الرحمة: التقليد مرغوب عنه في حجة العقل منهي عنه في القرآن، نصراؤه قد عكسوا الأمور كما ترى ونقضوا العادات وذلك أنا لا نشك أن من نظر وبحث وقابل ووزن أحق بالتبين وأولى بالحجة انتهى.
ما على المفتي إذا عرف الحق
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان، اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال.
وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه.
وإما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه(63/24)
مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذان اخطأ كما في القبلة.
وأما أن قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً وهؤلاء من جنس مانع الزكاة ومن عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة فإن ذلك لما أحب المال حباً منعه عن عبادة الله وطاعته صار عبداً له وكذلك هؤلاء فيكون فيه شرك أصغر ولهم من الوعيد بحسب ذلك وفي الحديث أن يسير الرياء شرك كلامه عليه الرحمة.
تورع المفتي عن التضليل والتكفير
مما يزين العالم كبر عقله وشدة رزانته وحصافة لبه، ومما يشينه ويزريه طيشه وحمقه وخفته وتسرعه فتراه بذلك يهوي من حالق وإن ناطح الجوزاء بعرفانه بحق أو بغير حق.
فبحفظ اللسان صيانة الإنسان وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
قال حجة الإسلام الغزالي في فيصل التفرقة، إذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فاعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس ولو ينكث من الأيدي من لا يدرى لقل الخلاف بين الخلق.
(وقال) رضي الله عنه أيضاً، واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلاً إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلاً دينياً علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر (ثم قال) ولو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة أصلاً فصار كون الإجماع مختلفاً فيه.
وقال أيضاً ولا يلزم كفر المأولين ما داموا يلازمون قانون التأويل وكيف يلزم الكفر بالتأويل وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه.
وقال أيضاً كأن كل واحد لا يرضى بما ذكره الخصم ولا يراه دليلاً قاطعاً وكيفما كان فلا ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه.
وكتابه رضي الله عنه هذا فيصل التفرقة مما يهم كل نبيه مراجعته ومطالعته فلم يؤلف في موضوعه مثله.(63/25)
وقال الإمام ابن حزم في الفصل في الكلام فيمن يكفر ولا يكفر ما مثاله: اختلف الناس في هذا الباب إلى أن قال وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عنهم إلى أن قال والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا إلى أن قال وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفراً.
وتتمة البحث من نفائس العلم فليرجع إليها.
اتقاء المفتي التسرع في دعوى الإجماع
كثيراً ما يمر بمطالع كتب الفقه دعوى الإجماع في بعض المسائل أو النوازل ولا سند له إلا عدم العلم بالمخالف فيأتي سير التقليد فينقله على اعتقاد أنه مجمع عليه مع أن الواجب عليه أما التنقيب جهده في سائر بطون الكتب الفروعية وأسفار الخلاف حتى يسقط على الحقيقة في دعوى الإجماع أو يحذف كلمة الإجماع من نقله وعزوه فقد ظهر فيما يحصى من المسائل المدعى فيها الإجماع أن وراءها خلافاً في مذاهب أخرى بل في كتب منتشرة قد لا تخلو خزانة عالم منها، وما ألطف قول شمس الدين الأصفهاني - من كبار أئمة الشافعية - في شرح الحصول، الحق تعذر الاطلاع على الإجماع إلا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة وأما الآن ويعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعلم به قال وهو اختيار الإمام أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية قال والمنصف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوباً في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو ينقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة وأما من بعدهم فلا انتهي كلام الأصفهاني.
ووجه الاتقاء والتورع في دعوى الإجماع في بعض الأحكام هو أن الإجماع - على ما عرفه الأصوليون - اجتماع علماء المسلمين على حكم من الأحكام: ولذا قال شيخ الإسلام(63/26)
تقي الدين ابن تيمية: وأما قول بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماعاً باتفاق المسلمين بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروهم إذا رأوا قولاً في الكتاب أو السنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب والسنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك انتهى وفي معالم الأصول، إذا أفتى جماعة ولم يعلم لهم مخالف فليس إجماعاً قطعاً إذ لا يعلم أن الباقي موافقون ولا يكفي عدم علم خلافهم فإن الإجماع هو الوفاق لا عدم علم الخلاف انتهى.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد على أمر واحد اتفاقاً بلفظ صريح ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى انقراض العصر عند قوم ومن هذا علم حد الإجماع (وقال أيضاً) وإنما يعرف ذلك - مواضع الإجماع - من مطالعة الكتب المصنفة في الاختلاف والإجماع للسلف ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين إذ لا يحصل تواتر الإجماع به (قال) وقد صنف أبو بكر الفارسي رحمه الله كتاباً في مسائل الإجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض تلك المسائل (قال) فإذن من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذب فلا يمكن تكفيره والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير انتهى كلام حجة الإسلام نفعنا المولى بعلومه.
المفتي والعالم بإزاء ما ينبزه بالألقاب
إن العالم لما أخذ الله عليه الصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا يخاف في الله لومة لائم كان معرضاً من أعداء أنفسهم وعبيد أهوائهم للشنان والنبز وبالألقاب فتراهم أن وجدوه يميل للنظر في الأدلة على الأحكام والوقوف على مآخذ المذاهب والأقوال وتحري الأقوم والأصلح بدون تعصب لإمام ولا تحزب لآخر نبزوه بالاجتهاد وسموه (مجتهداً) تهكماً مع أنه بذلك لم يقم إلا بواجبه، وإن أبصروا ميله لعلوم الحكمة والرياضيات وتشويقه لاقتطاف ثمارها سموه (طبيعياً) وإن رأوا حثه على البذل والإنفاق في سبيل الله ودعواه الموسرين للعطف على البؤساء لقبوه (اشتراكياً) وإن سمعوه(63/27)
يتكلم في الزيارة المشروعة وينهى عما أحدث فيها أو يتكلم على أنواع الشرك المقررة في السنة أو يزجر عن الغلو في الصالحين دعوه (وهابياً) إلى غير ذلك من أفانين أقوالهم ونبزهم بالألقاب لكل من لا يمالئهم على ميولهم ولا يسايرهم على أهوائهم، ولهم في كل عصر تلقيب جديد ونبز مبتدع.
العالم الحكيم لا يأبه لهذه الألقاب إذا صدع بالحق ولا تحزنه بل يعيرها إذناً صما لأنه يجري على ما يوجبه دينه، ويفرضه عليه يقينه، وهو ما يرضي ربه وخالقه تعالى فإن رضاء الناس غاية لا تدرك وإنى للعاقل إرضاء أهواء متباينة ومنازع متناقضة.
ما ألذَّ الألقاب التي تتنوع على المصلح وهو ساع إلى خير قومه وما أوجب الترحيب بها والابتسام لها فإن أمامه من الأنبياء ووارثيهم ما يعزيه ويسليه وكفى بهم أسوة وما أصدق قول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به الأعودي: رواه البخاري.
الثبات على تحمل المشاق والصبر الجميل من الواجبات المحتمة على كل داع إلى حق والصدمات التي يجدها البطل المقدام يجب أن تقابل بثبات الجأش وأن تكون كلما تجددت باعثةً على تجدد القوى ومواصلة العمل والسير ولذلك قرن تعالى في كتابه الحكيم التواصي بالحق بالتواصي بالصبر وصدق الله العظيم.
خوض بعض المفتين في التلفيق
مسألة التلفيق من غرائب المسائل المحدثة المفرعة على القول بلزوم التمذهب للعاميّ وهوقول لا يعرفه السلف ولا أئمة الخلف وقد اتفقت كلمتهم على أن العامي لا مذهب له ومذهبه مذهب مفتيه.
ترى الفقيه من القرون المتأخرة لو سئل عن رجل مسح بعض رأسه أقل من ربعه في وضوئه ثم خرج منه دم وصلى يجيبك بأن صلاته باطلة لأن عبادته ملفقة من مذهبين فخرج منها قول لا يقول به أحد هذا قصارى جوابه في فتواه ومبلغ عمله على دعواه مع أنه لو فرض أنها حدثت في القرون الأولى وسئل عنها مفت سلفي لكان نظره في صحتها أو فسادها إلى الدليل المبيح لها أو الحاظر ولا يمكن أن يتصور أن يقول له: عملك هذا ملفق أو هذا تلفيق وإنما يأمره بالفعل أو بالترك استدلالاً أو استنباطاً فحسب، ولذلك لم(63/28)
يسمع لفظ التلفيق في كتب الأئمة لا في مواطآتهم ولا في أمهاتهم بل ولا في كتب أصحابهم ولا أصحاب أصحابهم ولا يبعد أن يكون حدوث البحث في التلفيق في القرن الخامس أيام اشتد التعصب والتحزب ودخلت السياسة في التمذهب، واضطر الفقهاء للاعتياش والارتياش إلى التشدد في ذلك والتصلب، فمسألة التلفيق إذن من مسائل الفروع ولا دخل لها في الأصول فإن مسائل الأصول هي مباحثه التي يستمد منها معرفة الاستنباط والاستنتاج مما لأجله سمي الأصول أصولاً فمن أين أن يعد منها التلفيق الذي لم يخطر على بال أحد في القرون الأولى ولا سمع به.
اتسع أمر التأليف في القرون المتأخرة وأدخل في كل فن ما ليس منه بل امتلأ مثل الفقه من الفرضيات أضعاف أضعاف الواقعيات فلو وازنت بين أسلوب المتقدم والمتأخر في أي فن لدهشت من تباينهما عجباً فكانت كتب المتقدمين لا تخرج عن موضوع الفن قيد شبر حتى استفحل الأمر في التأليف وجرى من جرائه ما نعاه غير واحد من الحكماء وقد ألم بشيء من ذلك القاضي ابن خلدون في مقدمة تاريخه.
والمقام لا يتسع لبسط هذا البحث الذي تتجاذبه أمور عديدة لمعرفة منشأه من اختلاف السياسة ودخول عوائد الأمة الغالبة على المغلوبة قسراً وتبدل المناحي والمطالب في تلقي العلم والتوسل لنيله فاختلط جيد الكتب بغيره وتبدلت العادات بغيرها وصارت المراتب والمناصب وقفاً على هذا السبيل لا تنال بغيره فتبعها ضرورة أمر التأليف فجرى على سنتها ومنهاجها وصار التمذهب أصلاً راسخاً وتعددت لأجله الفرق الإسلامية كل يدعو لإمام ورائده السياسة والسيادة فنشأ ما نشأ وتولد ما تولد مما لا عهد للسلف به بل بينه وبين سيرهم الأول بعد المشرفين برف ذلك كله من دقق في فلسفة التاريخ واستقرأ قواعد الفاتحين وأصول الدول واستكنه رجالها وحلية العصر والمصر في كل مملكة وجيل وقد بسطناه في مقالة خاصة والقصدان التلفيق الذي يبحث عنه المأخرون ينبغي للمفتي إذا استفتي عن مسألة منه أن ينظر إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أو مدركها المعقول منها وإما تسرعه إلى القول بالتلفيق بطلاناً أو قبولاً فعدول عن مهيع السلف على أن ما يسمونه بعد تلفيقاً بقطع النظر عما ذكرنا في شأنه ربما رجع إلى نوع الرخص التي يحب الله أن تؤتى وللشيخ مرعي الحنبلي - أحد فقهاء الحنابلة المشاهير - رسالة في جواز التلفيق(63/29)
للعوام وهي رسالة نفيسة قال: لأن العلماء نصوا على أن العامة ليس لهم مذهب معين (قال) وقد قال غير واحد لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة (قال) والذي أذهب إليه واختاره القول بجواز التقليد في التلفيق لا بقصد تتبع ذلك بل من حيث وقع ذلك اتفاقاً خصوصاً من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك (إلى أن قال) ولا يسع الناس غير هذا ويؤيده أنه في عصر الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم مع كثرة مذاهبهم وتباينهم لم ينقل عن أحد منهم أنه قال لمن استفتاه الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته لئلا تلفق في عبادتك بين مذهبين فأكثر بل كل من سئل منهم عن مسألة أفتى السائل بما يراه مجيزاً له العمل من غير فحص ولا تفصيل ولو كان ذلك لازماً لما أهملوه خصوصاً مع كثرة تباين أقوالهم انتهى.
وقال العلامة الدسوقي - من فقهاء المالكية في مصر - في حواشيه على شرح خليل في بحث الفتوى من خطبة الكتاب ما مثاله وفي كتاب الشبرخيتي امتناع التلفيق والذي سمعناه من شيخنا نقلاً عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة (قال الدسوقي) وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان المنع وهو طريقة المصاروة والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت انتهى.
وقال ابن الهمام في فتح القدير في كتاب أدب القاضي: المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء ثم قال: وأنا لا أدري ما يمنع هذا أي تتبع الرخص وأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته انتهى.
نقول هذا إقناعاً لمن يهوله أمر التلفيق ويزعم أن الحكم بجوازه شيء نكر مع أن أمامه من الأفاضل ممن نكبرهم من قال بجوازه لا بل من صححه ورجحه أما نحن فإنا نرى الرجوع في مسائله إلى سنة السلف والأئمة في مثلها كما أوضحناه وبالله التوفيق.
ما يعمل المفتي إذا فحص أقوال الأئمة
ذكر أبو عمر محمد بن يوسف الكندي في كتاب القضاة الذين ولوا قضاء مصر في تولية قضاء مصر لإبراهيم بن الجراح سنة 304 ما مثاله: عن عمر بن خالد قال: ما صحبت(63/30)
أحداً من القضاة كإبراهيم بن الجراح كنت إذا عملت له المحضر قرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم ويرى فيه رأيه فإذا أراد أن يقضي به دفعه لي لأنشئ منه سجلاً فأجد في ظهره قال أبو حنيفة كذا وفي سطر قال ابن ليلى كذا وفي سطر آخر قال أبو يوسف كذا وقال مالك كذا ثم أجد على سطر منها علامة له كالخطة فاعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ المسجل عليه انتهى وهكذا حق المفتي أن ينظر في الواقعة إلى أقوال الأئمة ويفحصها وينعم النظر حتى إذا استبان له قوة أحدها توكل على الله تعالى وأفتى به والأئمة بأجمعهم لم يغادروا في النوازل بذل الواسع حتى اجتمع من أقوالهم الكثير الطيب ووجد فيه الأمثل فالأمثل وأعني بالنوازل ما تجدد على عهدهم وأما المأثور فما كان عن الصحب رضوان الله عنهم فكذلك يتخير فيه الأمثل وما كان عن الحضرة النبوية فهناك فصل الخطاب والله الموفق.
تتمة الآداب في هذا الباب
نختم هذا البحث الجليل بما جاء في الإقناع وشرحه في كتاب القضاة والفتيا مما لم نذكره قبل وعبارته مع شرحه.
يحرم الحكم والفتيا بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعاً.
ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً قاله الشيخ.
وينبغي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم حذراً مما يصورونه في سؤالاتهم لئلا يوقعوه في المكروه.
ويحرم تساهل مفتٍ وتقليد معروف به (قال الشيخ): لا يجوز استفتاء إلا من يفتي بعلم أو عدل:
ويلزم المفتي تكرير النظر عند تكرار الواقعة وإن حدث ما لا قول فيه تكلم فيه حاكم ومجتهد ومفت.
وينبغي للمفتي أن يشاور من عنده مما يثق بعلمه إلا أن يكون في ذلك إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى أو مفسدة لبعض الحاضرين فيخفيه إزالة لذلك.
ولا يلزم جواب ما لا يحمله السائل لقول علي - كما في البخاري - حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وفي مقدمة مسلم عن ابن مسعود: ما أنت بمحدث(63/31)
قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
ولا يلزم جواب ما لا نفع فيه لخبر أحمد عن أبن عباس أنه قال عن الصحابة ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
وللمفتي قبول هدية لكن لا ليفتيه بما يريده به غيره وإلا حرم قبولها.
وللمفتي رد الفتيا إن خاف غائلتها أو كان في البلد مني قوم مقامه وإلا لم يجز له ردها لتعينها عليه (والتعليم كذلك).
ومن قوي عنده مذهب غير إمامه لظهور الدليل مع أفتى به وأعلم السائل.
ويجوز للمفتي العدول عن جواب المسؤل عنه إلى ما هو أنفع للسائل.
وللمفتي أن يدله على عوض ما منعه عنه وأن ينبهه على ما يجب الاحتراز عنه لأن ذلك من قبيل الهدية لدفع المضار.
وإذا كان الحكم مستغرباً وطأ قبله ما هو كالمقدمة له.
وله الحلف على ثبوت الحكم أحياناً لآية قل أي وأبي أنه الحق وآية فورب السماء والأرض أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون والسنة بذلك كثيرة.
وله أن بكذ لك مع جواب من تقدمه بالفتيا إذا علم صواب جوابه فيقول: جوابي كذلك والجواب صحيح وبه أقول.
وإذا مثل المفتي عن شرط واقف لم يفت بإلزم العمل به حتى يعلم هل الشرط معمول به في الشرع أو من الشروط التي لا تحل مثل أن يشرط أن يصلي الصلوات في التربة المدفون بها الواقف ويدع المسجد أو يشعل بها قنديلاً أو سرجاً لأن ذلك محرم كما تقدم (لصاحب الإقناع) في الجنائز.
ولا يجوز إطلاقه في الفتيا في اسم مشترك إجماعاً بل عليه التفصيل في الجواب، فلو سئل المفتي هل له الأكل في رمضان بعد طلوع الفجر فلا بد أن يقول: يجوز بعد الفجر الأول لا الثاني. وأرسل الإمام أبو حنيفة إلى أبي يوسف يسأله عمن دفع ثوباً إلى قصار فقصره وجحده هل له أجره إن عاد وسلمه إلى ربه وقال أبو يوسف نعم أو لا أخطأ ففطن أبو يوسف وقال إن قصره قبل جحوده فله الأجرة لأنه قصره لربه أو قصره بعد جحوده لا أجرة له لأنه قصره لنفسه. (وسأل) أبو الطيب الطبري قوماً من أصحابه عن بيع رطل(63/32)
تمر برطل تمر فقالوا يجوز فخطأهم فقالوا لا فخطأهم فقال: إن تساويا كيلاً جاز. فهذا يوضح خطأهم المطلق في كل ما يحتمل التفصيل.
ولا يجوز للمفتي ولا لغيره تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه، وإن حسن قصد المفتي في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخلص المستفتي بها من حرج جاز.
وللمستفتي العمل بخط المفتي وإن لم يسمع الفتوى من لفظ إذا عرف أنه خطه.
وحقيق بالمفتي أن يكثر من هذا الدعاء النبوي اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
هذا ما يسر المولى بفضله جمع من عدة مصنفات، كما يظهر في المزو إليها في الأصل أو التعليقات، والمقام جدير بالعناية، لذوي الدراية، والله ولي الهداية.
دمشق:
جمال الدين القاسمي(63/33)
أوغست كونت وفلسفته
تمهيد
نبغ في فرنسا بعد نقض الأوضاع القديمة كثيرون من المفكرين الذين بحثوا في نظريات الاجتماع وفي طليعة هؤلاء النابغين الفيلسوف أغست كونت. وقد اختلف الباحثون في مذهبه على مركزه الفلسفي فوضعه قوم بين دمتر وفوريه وقالوا بوحدةآرائهم مع اعترافهم لكونت برجاحة العقل وتوفر المكتسبات الفنية وجعله آخرون بين هيوم ولابنج وأمثالهما فأخطأ الفريقان مركزه وغرَّ الأولين ما رأوه بين الطرق التي انتهجها الفلاسفة الثلاثة إلى مقاصدهم من التشابه فشغلهم عن ذلك النظر في ضعف الرابطة بين مرامي كونت الباحث في تجديد شروط الاتحاد الاجتماعي ومرامي دمتر وفوريه وانفرد كونت عمن سواه بمبدأه المشهور أن النظام الاجتماعي لا يمكن تغييره إلا إذا جعلت التصورات النظرية في الهيئات الاجتماعية خاضعة لتأثير الفن وأدمجت فيما سواها من المستنبطات البشرية وهذه الخاصة تفسح لكونت مجالاً بين فلاسفة الاجتماع الناشئين في القرن الثامن عشر وتربطه بتورغوي ومونتسكيو وقوندوزوسه الذي كان كونت بدعوة بأبيه الفلسفي وهو تصريح يكفي لإثبات ما نقول.
يصعب علينا أن نلخص في هذه الصفحات فلسفة كونت المودعة في ستة مجلدات ضخمة ولا سيما أن كتاب الغرب الذين أجالوا أقلامهم في الموضوع كتوارت ميل وغيره ممن درسوا فلسفة كونت عن كثب وألفوا في انتقادها لم يوضحوا مذهبه إيضاحاً يزيل اللبس والإبهام ويوقف المطالع على حقائقه. ولم يكن بين من كتبوا في هذا المبحث من أوضح لنا كيف اقتبس كونت فلسفته من الرياضيات وما الذي دعاه إلى تقسيم لمعلومات البشرية إلى ستة فروع كبرى وكيف بدأت فلسفته بفكر رياضي فانتهت بفكر اجتماعي.
ولا يتسنى لنا أن نفهم حقيقة هذا الفيلسوف إلا إذا درسنا ترجمته فنحن بادئون بها وصائرون إلى مذهبه الفلسفي.
ترجمته
هو ايزيدور - أغست - ماري - فرانسوا قزاويه كونت ولد في قصبة مون بيليه سنة 1798 وكان والده يجبي الخراج في القصبة المذكورة وبعد أن أتم التحصيل الابتدائي في(63/34)
مدرستها دخل دار الفنون في باريس فامتاز فيها بعصيانه للقوة الرسمية الحاكمة واحترامه الشديد للكمال الخلقي والفكري وثباته الراسخ في توخي غايته ولم يطل مكثه فيها سوى سنتين رأس بعدهما احتجاجاً على أساتذتها آل إلى إخراجه من المدرسة فعاد إلى موطنه حتى كانت سنة 1816 فأمَّ باريس غير مكترث باعتراض والديه الشديد وأقام فيها يحصل قوته بإلقاء دروس خاصة في الرياضيات وجعل همه تحدي بنيامين فرانكلين الذي كان يدعوه سقراط زمانه في معيشته على أنه امتاز عن جميع الفلاسفة بصلابة العزم والثبات على مبدأه فلم تلوه عنه حياة تبكي تعاسة وشقاء.
وضاق به العيش في باريس فحثته النفس بالهجرة إلى أميركا وكان على وشك أن يؤمها لولا صديق ثنى عزمه عن المهاجرة بجملة أوردها في عرض حديث تجاذبا أطرافه عن الفكر العملي في العالم الجديد فقال له صديقه ان لا كرنج (رياضي فرنساوي شهير) لو ذهب إلى أميركا لم يجد عملاً يقوم بأوده سوى مسح الأرضين. فعدل كونت عن السفر وأقام في باريس يعالج الحياة المرة ويتبلغ بثمانين ليرة يتقاضاها راتباً سنوياً من إحدى المدارس التي انتدبه لتعليم الرياضيات حتى سعى له أصدقاؤه بوظيفة تدريس في دار المسيو كازيميريه المشهور فدخلها ووجد هناك أسباب الراحة والهناء غير أن المعيشة لم ترقه لحنينه إلى الحرية التي أضاعها فلم يستقر به المقام أكثر من ثلاثة أسابيع ودع بعدها مضيفيه وعاد إلى حاجته السابقة وقناعته الفطرية وقد يكون الفقر في الشبيبة داعية الشر إلا إذا كان الشاب الفقير متعلماً فتساعده الحاجة حينئذٍ على أن يكون أميل إلى الحقيقة منه إلى الخيال.
وسنة 1818 اتصل كوت بهنري دوسان سيمون ابن أخت الدوق دي سان سيمون المشهور وكان في عهده من كبار كتاب المذكرات السياسية فكان لهذا الاتصال تأثير شديد في نظريات كونت الفلسفية.
كان سان سيمون يوم لزمه كونت في الستين من عمره ولم يكن ذا شهرة طائرة غير أن غرابة حياته وأحواله الاجتماعية وأفكاره السياسية تستوقف الأنظار فقد قضى الرجل عمره ساعياً بما له من الملكة العقلية الرائعة لتطبيق خيالاته على حقائق الأشياء والتربية الفنية لم يكن لها أقل أثر في هذا الرجل لأنه لم ينشأ عليها ولا شعر بلزومها على أنه كان خبيراً(63/35)
بالاتحاد الاجتماعي وله في السياسة المثبتة وترقي البشر كثير من الأفكار الخطيرة ولكنه لم ينها عن محاكمة منطقية بل هي أِبه بتخيلات الشعراء.
هذا الفيلسوف القديم سحر كونت فلم يستطع أن يفكر في حقيقته إلا بعد أن فارقه حتى أنه لقبه بالممخرق في حديث له بعد أن انقطعت أواصر ودهما ولم يستطع إلا أن يعترف بنفوذه عليه وتأثيره في تربيته الفلسفية واشتدت وطأة التأثير على كونت حتى ناء بها وهنأ نفسه يوم مغادرته سيمون بخلع هذا النير عن عاتقه.
وتعرف ما كان للفيلسوف الشيخ من اليد عند كونت من كتاب بعث به الأخير إلى صديق له يقول فه: إن سيمون أراني الخطة الفلسفية التي أسلكها فأنا مطرد السير فيها كل عمري غير ملتفت إلى ورائي وهذا الاعتراف الصريح لا يحط من قدر كونت ولا يناقض أرجحيته العقلية وتفوقه بدرجات على صديقه الشيخ ولا ينقص من قدره أنه أخذ كثيراً من أفكاره التي أقام عليها بناءه الفلسفي من أفكار سيمون المضطربة وخلاصة القول أنه لا يصح أن نعد كونت تلميذاً لسان سيمون ولا مقلداً له وكل ما في الأمر أن الشيخ أوقف صديقه الشاب على نقطتين مهمتين كان لهما الشأن الأكبر في فلسفة الأخير أولاهما أن الحوادث السياسية هي كالحوادث الطبيعية يمكن جمعها وربطها بقوانين مقررة وثانيتهما أن غرض الفلسفة الأصلي البحث في القضاء الاجتماعي فتناول كونت هذا المبدأ وتوسع في بسطه وشرحه توسعاً لم يخطر للشيخ في بال.
دامت صحبة الرجلين ست سنوات ثم بدأ بالانحلال لما أوقر كونت من سلطة سيمون الثقلية وما دخل على نفس الشيخ من القهر والحسد لما رأى ميزة الشاب عليه بمداركه ومواهبه وحدثت ثمت حادثة قطعت العلائق التي رثت ووهت وملخصها أن سان سيمون نشر كتاباً في الاجتماع انتحل فيه معظم أفكار كونت لنفسه فغضب الأخير وعاتب صديقه عتاباً مراً ولم يكن سبيل للتوفيق بين الرجلين فكان فراقهما أبدياً.
وتزوج كونت سنة 1835 فزاد ذلك في أسباب تعاسته وشاءه لأن أسرته وهي شديدة التعصب للملكية والكاثوليكية أغضبها زواجه المدني فأقلقته باحتجاجها إلا أن ذلك لم يمنعها من الاحتفاء بزوجته وشخص العروسان إلى مون بيليه فأقاما فيها هنيهة سئمت الزوجة فيها عيشة القرية ذات النسق الواحد وبدأ نزاع انتهى بفراق الزوجين كما سيجيء وقد كتب(63/36)
كونت إلى صديق مخلص في السنة الأولى بعد زواجه يقول: إن الأحزان أغرقتني والهواجس استحوذت عليَّ فاضطررت أن أفادي من سعادتي بجزء إذ لم يكن أعظم أجزائها فهو ألذها وأحلاها.
نشوء الأفكار السامية في هذه البيئة الرديئة يحرك في النفوس مواضع الدهشة والإعجاب ويحملها على احترام الفيلسوف الذي كان يقوم على تنشئتها والخطوب المتوالية تفسد نظام حياته وكان الفشل حليفه في كل أعماله فأخفق في إيجاد تلامذة يتلقون أفكاره وآراءه ولم يجبه سوى شخص أضجرته الوحدة فودع أستاذه غير آسف.
وفي هذه الأثناء أخذت أفكار الفيلسوف بالتكامل وشرع بنشر مقالات في جريدة المنتج (لوبرودكتور) كان يتقاضى عنها بعض الدريهمات ولما آيس من بث أفكاره بواسطة تلاميذه عمد إلى إلقاء محاضرات وأعلن عن المحاضرة الأولى سنة 1826 راجياً أن يصيب بذلك شهرة وأن يفوز بنفع مادي يستعين به على حاجته وفقره وشجعه أحد أصدقائه على ذلك بقوله: إن كثيرين يبحثون في آرائك وأفكارك غير ذاكريك بشيءٍ فاعلن أنك أنت صاحبها فعمل فيلسوفنا بنصيحته وسمع المحاضرة الأولى رجال من جلة علماء فرنسة ونخبة آدابها.
وما كاد طالع السعادة يبسم لكونت ويتحدث الناس باسمه وفضله حتى داهمته الكوارث فمني بنزيف دماغي عقيب المحاضرة الثالثة لأن ثورة أفكاره انعقدت بتأثره لشقائه العائلي فأصيب بمرض عضال عاناه سنة فلما أخذ بالنقه من مرضه فكر فيما آلت إليه حاله وأبصر لتعاسة آخذة بسبله فيئس من الحياة وعول على الانتحار غرقاً في نهر السين ثم عدل عن الانتحار وبدأ يسترجع قواه العقلية والجسدية.
وفي هذا الدور التعس عقد لكونت عقد ديني أيضاً غير أن ذلك لم يمحِ شيئاً من اختلال بيته وكان المرض قد أثر فيه تأثيراً شديداً فظهرت عليه إمارات الجنون فقام الفلاسفة من معارضي كونت يقبحون طريقته ويتخذون هذه الحادثة حجة على سخف رأيه وفساد تعليمه ويقولون ليس من العقل في شيءٍ أن يتبع الإنسان مذهب مجنون وهذا تحامل مجرد يقصد منه تضييع تأثيره فقد أصيب نيوتن قبله بمرض دماغي فلم ينقص ذلك شيئاً من حرمته والإعجاب بكتابه المسمى (برنيب) الذي وضعه عقيب ذلك المرض.(63/37)
وبعد أن استجم كونت قواه عاد سنة 1828 إلى إلقاء المحاضرات ونشر المجلد الأول في دروس الفلسفة الموجبة سنة 1830 بعد تعب كثير وعمل طويل بدأ سنة 1826 ولم يكن عمله في المجلدات الخمسة التي تلته أقل عناء فانه لم يتمكن من نشر المجلد السادس إلى سنة 1842.
كانت الاثنتا عشرة سنة التي قضاها الفيلسوف في التأليف سني خير وبركه علمه ذاق في خلالها السعادة المادية لأنه دعي في سنة 1838 إلى امتحان الطلبة الذين يتوافدون من كل صوب إلى كلية باريس وانتدبته مدرستان كبيرتان لتعليم الرياضيات فأصبح دخله السنوي أربعمائة ليرة ولما كان عهد لويس فيليب دعاه المسيو كيزويه رئيس الوزارة ليدرس تاريخ الفنون وقال له إذا كان هناك أربع كراسي لتدريس تاريخ الفلسفة وجب علينا أن نخصص كرسياً على الأقل لظهور العلوم المثبتة وارتقائها فدل الوزير بذلك على ميله للفلسفة الحسية ولولا اشتغاله بما فوق الطبيعة أيضاً لتقدمت في عهده تقدماً باهراً.
وفي كتاب أرسله كونت إلى زوجته ما يدل على رقة قلبه وسمو عواطفه فقد قال لها في ذلك الكتاب لا أود أن أصف لك هنا الحبور الذي تفيض نفسي به لما أرى الشاب فاز في امتحانه وقرب من آمال الذهبية أنت تضحكين من ذلك ولكنني لا أتمالك من أن أذرف دموعي.
وكان كونت يفكر دائماً في سعادة الآخرين ويسعى إلى منفعتهم بكل سبيل وهذا الاهتمام الدائم حمله على إلقاء الخطب والتدريس في المجتمعات العامة من سنة 1831 - 1848 على ما كان يعترضه من الموانع في هذه السنة حدثت ثورة في باريس أظهر فيها كونت عطفه على المجتمع فقد كان يفضل السجن على الدخول في الفرق الوطنية التي ألفت يومئذٍ ومع أنه لم يدع الناس لحمل السلاح على الملكية فانه لم يقسم لها يمين الإخلاص.
ولم يكن كونت يتأثر من مشاهدة الروايات مع أنه كان كثيراً ما ينتاب الملعب فالمفجعات (تراجيدي) في نظره ظواهر مصنعة ليس فيها من الحقيقة إلا ظل لطيف فقل اكتراثه بها وما سواها القصص المضحكة (كوميدي).
وقد كتب أحد تلامذته عن أحواله وصفاته الشخصية ما يأتي:
دقت ساعة لوكسنبورغ الثامنة وكان صدى صوتها لا يزال يرن في الآذان حين فتح باب(63/38)
الغرفة ودخل رجل قصير القامة ممتلئ الجسم نظيف الثياب ملتح ممعن في قبض شواربه حتى لم يبق لها ظل وكان يكتسي الأثواب السوداء ويتأنق في لبسه فكلما رأيته تخاله مدعواً وليمة وكانت عقدة رقبته كأن المكواة مرت عليها حديثاً فاقترب الرجل من أريكته المعدة له وراء المنضدة ووضع علبة السعوط أمامه وبعد أن استمد مرتين ومر القلم على الصحيفة ليرى ملته شرع بكتابة الدرس بادئاً فيه بقوله: كنا قلنا أنه في مثلث غير معين كالمثلث أب ج الخ.
ودام درسه ثلاثة أرباع الساعة والطلبة يدونون الموضوعات المهمة في مذكراتهم ليمكنوا من مراجعتها عل حده ثم سحب من جيبه دفتراً آخراً فأعاد تلاوة الدرس السابق وظل حتى الساعة التاسعة فتناول حقته ونفض ما على معطفه من السعوط وكانت يده في جيب معطفه وفتح الباب وخرج بسكينة تامة.
قلنا آنفاً أنه نشر المجلد الأخير من فلسفته الموجبة سنة 1842 وبينا المرء يتخيل عظم المكافأة التي يجب إسداؤها إلى هذا الفيلسوف على اثنتي عشرة سنة صرفها في الجهد والتعب المضنك يجد أن جزاءه كان تزايد المشكلات والخطوب التي تضيق الصدور تضغط على الفكر ففي تلك السنة تفاقم الشقاق بينه وبين زوجته فأدى الأمر إلى انفصالهما بعد أن خصص لها مائتي ليرة راتباً سنوياً ونرى من العبث البحث في هذه المسألة لأن أحوال الزوجين الخاصة لا يطلع عليها حتى أخاص أصدقائهما وظلت مادام كونت بعد الانفصال تفكر في سعادة زوجها ودامت المراسلات الودية بينهما عدة سنين.
وأصيب كونت بحادثة ثانية أثرت فيه وهي أن طابع المجلد السادس علَّق على الكتاب حواشي ينكر فيها حملة كونت الشديدة على أراغو فغضب الفيلسوف لذلك وخاصمه بلجاجة فربح دعواه.
وأشد المصائب التي نكب بها هو أنه ذكر منتخبيه للإشراف على الامتحان في المجلد الثالث بما لا يستحب فأدى ذلك إلى ضياع نصف راتبه الزهيد فضاق كونت بالعيش ذرعاً وأنبأ بفقره صديقاً له منذ بضع سنين وهو المستر جيمس استيوارت ميل أحد علماء المنطق الإنكليزيين الذي أثرت فيه أفكار الفيلسوف واستمد منها معظم أفكاره وآرائه في أصول المنطق وقد كثر مراسلات الصديقين ونشر جزء منها في المدة الأخيرة فهاج رغبة(63/39)
الجمهور للاطلاع على سائرها.
ولما انتهيت إليه كتب الفيلسوف هاجت فيه الخاصة التي عرف بها من عطفه الشديد على الرجال العظام ورثائه لشقائهم فنهض إلى مساعدته وطرق أبواب ثلاثة من أصدقائه هز أعطافهم لمساعدة الفيلسوف فتعهدوا بتقديم مائتي ليرة له سنوياً وكان ذلك سنة 1845.
ولم يوفق كونت لعمل شيء يدل على شعوره بجميل الإنكليز فلما عاد إليهم ميل في السنة التالية أعطاه الأول مبلغاً زهيداً ورفض الاثنان الآخران مساعدته قائلين يجب على كونت أن يعول نفسه بنفسه فلما أخفق استيوارت في مساعدة صديقه بهذه الوسيلة أشار عليه بكتابة مقالات للصحف الإنكليزية وتعهد له بترجمتها فرضي كونت أولاً بهذا الطلب ثم عاد إلى هوسه واغتراره فأخذ يتهم الإنكليز بفساد الأخلاق مما أسخط استيوارت وباعد ما بين الصديقين حتى انتهى الأمر بانقطاع المراسلات. ومن كلام كونت في هذا الصدد قوله: لماذا يترك الرجل بعد موته مبلغاً من المال لمتفنن لم يعرفه وهو لا يعد مساعدة الرجال الذين عرفهم في حياته فرضاً؟ إن الإنكليزيين صرحا أنهما يخدمان فيلسوفاً يقولان بقوله والرجل يحب أن لا يقبل في انتشار مبدأه مساعدة الذين يرتئون رأيه وقبوله معونة من سواهم حطة من قدره.
وما زال كونت يدفع لامرأته مائتي ليرة سنوياً من 1845 إلى سنة 1848 إذ هبطت رواتبه بدون سبب إلى ثمانين ليرة ففتح المسيو ليتره وبعض الأصدقاء اكتتاباً لمساعدته فجمعوا من المال ما وسع على كونت ردحاً من الزمن وقد كان في جملة المشتركين بهذه الإعانة المستر ستيوارت ميل الذي لم يمنعه استياؤه من معاملة كونت عن مساعدته وإسعافه.
ويرى المطالع أن كونت لم يتصرف مع أصدقائه تصرفاً يليق برجلٍ عظيمٍ مثله لأن نفسه جمعت إلى خصاله الحميدة من رسوخ العزم وقوة الإرادة والثبات والمثابرة على خدمة البشر نقائص مشينة من الغرور والعجرفة وإذا جاز التمثيل شبهنا كونت ببروتوس وكاتو.
وإذا أراد الإنسان أن يحب كونت وجب عليه أن يتصور حالته التعيسة وحياته المظلمة وخطوبه المتواترة وهو بين هذه الظلمات دائب على إنجاز مهمته لا يكل ولا ينثني فما زال يركب إلى غايته الخطوب حتى فاز بما أراد وكانت القوانين الأساسية للعلوم الموجبة(63/40)
قبل عهده مطلقة مبهمة فجاء كونت موضحاً لها مما يزيل الإشكال ويقيم لها حدوداً بيِّنه فكثر لذلك حساده ومزاحموه.
ولم يكن كونت يكتب كلمة قبل أن يقرر الموضوع ويكتبه جملة فجملة بعد تهيئتها في ذهنه ومتى فرغ من إحضارها جلس يكتب ببراع ميال فيسجل سلسلة من الأفكار تجري على اسلاته بدون انقطاع ولا تردد لقوة ذاكرة كونت واستغنائه عن العود إلى المذكرات ولكن أسلوبه الكتابي لم يكن بالحلة اللائقة لأفكاره البراقة وإذا كنا لا نتوقع منه كتابة كالشعر في تأثيرها وسلاستها إلا أن الكتابة في أرقى الموضوعات العلمية إذا لم تكن طلية مجها أكثر العلماء جلداً على الاستقصاء وإذا قايسنا أسلوب كونت بغيره من الفلاسفة كهيوم وديدرو وباركله رأيناه ثقيلاً جافاً وربما وقعت في كتباته بعض العبارات المتينة إلا أن جميع اصطلاحاته خالية من سلامة الذوق في الانتحاب وقد كان يكثر من أدوات الحال في بعض الجمل حتى لا يثبت على مطالعتها إلا من أوتي الصبر الجميل من تلامذته ولكن قوة فكره ونفوذ نظره وسمو آرائه تشرع له السبيل إلى ذهن القارئ وتستر هذه النقيصة وتضعف تأثيرها وإذا كانت مؤلفاته عظيمة فأسلوبه لا يؤلف جزءاً من تلك العظمة القائمة بماهية الأفكار والممثلة رجاحة العقل الذي أوجدها. وركاكة أسلوبه ناشئة عن عدم مطالعته مؤلفات بلغاء الكتاب فهو لم يقرأ إلا علماً كان يسميه علم حفظ الصحة الدماغية وقبل أن يتم فلسفته الموجبة لم يطالع سوى دواوين اثنين أو ثلاثة من الشعراء في مقدمتهم دانتي وأهمل ما سوى ذلك حتى قراءة الرسائل والمجلات ولكن أصدقاؤه كانوا ينبئونه بكل حادثة جديدة في عالم الفن فأدى هذا الانقطاع إلى تجرير نفسه من قيود الاجتماع والمؤثرات وظلت أفكاره بمعزل عن الاعتبارات الخارجية وإذا كان أفاده من هذه الوجهة فقد أضره من الوجهة الأخرى فأفرط في إهماله وضعف شعوره بالعالم الخارجي وقد وضحت فيه هاتان النقيصتان أواخر أيامه.
وقبل أن تتم ترجمة كونت نسرد حادثة جرت له عام 1845 يوم تعرف إلى مادام دي فو:
كانت هذه العقيلة أيماً لأن زوجها حكم عليه بالسجن المربد ولا نعرف إلا اليسير عن أوصاف المرأة وأخلاقها وكل ما نعلمه هو أنها وضعت قصة رفعتها في عيني كونت إلى مستوى مادام جورج سلند ولم تكن هذه القصة في ذاتها شيئاً يستحق الذكر لا أنها دلّت على(63/41)
ذوق سليم وفطرة حميدة فتوثقت بينهما روابط الولاء وأصبحت العقيلة عزاءه في أحزانه وأفاضت على نفسه روح الهدوء والسكينة ولو طالت مودتهما لم يظهر اضطراب الفكر في كتب كونت الأخيرة إلا أن الأقدار التي ناصبت الفيلسوف طول حياته فجعته بريحانة نفسه وموضوع سلوته سنة 1846 فجرع لفقدها جزعاً شديداً ولازمه الحزن والغم فكان يخرج إلى ضريحها مساء كل أربعاء إذا توارت الشمس في الحجاب يبلله بقطرات دموعه ويجثو في النهار ثلاث مرات احتراماً لذكرها فيستغرق في أحزانه ويستسلم إلى الجزع وكان تلامذته يقولون أنه يقدم لها من الاحترام ما قدمه دانتي لحبيبته باتريس ويشبهون حاله بحال دالامبر بعد وفاة لينياس.
الباحثون في حياة كونت يقسمونها إلى شطرين أحدها يمتد حتى تعرفه إلى العقيلة دي فو والآخر بعد ذلك ويفرقون بين الشخصين كونت الذي كتب الفلسفة الموجبة وكونت الذي ألَّف في السياسة الموجبة إلا أن أعداءه يأبون كل تفريق في هذا الصدد ويقولون إن المختل الذي كتب في السياسة هو نفسه الذي كتب في الفلسفة.
ولم يكد كونت ينهي من نشر فلسفته الموجبة حتى بدأ بنشر سياسته وهذه بالطبع تستند إلى تلك فنشر المجلد الرابع والأخير في سنة 1848 وفي هذه السنة حدثت ثورة في فرانسا لم تبد طلائعها حتى هرع كونت إلى تأليف جمعية دعاها الموجبة توقع أن يكون لها الشأن في هذه الثورة ما كان لنادي الجاكوبيين في ثورة 1789 وإذا كان كونت لم يدرك جميع آماله في إنشاء هذه الجمعية فقد أدرك بعضها باجتماع تلامذة الفيلسوف ووضعهم مذهباً فلسفياً جديداً كما يهوى ويختار.
وكان كونت سنة 49 و 50 و 51 يلقي في القصر الملكي (باله رويال) في باريس محاضرات متتالية يحضرها عامة الناس وخاصتهم فيبحث في فلسفته ومعتقداته ودعاويه وقد ختم محاضرته الأخيرة بقوله:
يا خدمة البشرية والفلسفة الحقيقية يجب أن تتولوا زعامة العالم لأن ذلك حقكم الصريح وأقصى أماني الإنسانية تأليف حكومة أخلاقية مادية فكرية فإن الحكومات التي قامت على دعامات الكثلكة والبروتستانية سقطت لأن الناس اتخذوهما وسيلة لإضرام الثورات وقضاء اللبانات.(63/42)
ومن غرائب الاتفاق أن يقوم بعض هذه المحاضرة ببضعة أسابيع رجل يدعو الناس إلى طاعته لا ليخدم الإنسانية بل لدعواه أنه صاحب الحق بالسلطة المطلقة وأن يحمل الناس على معرفته كذلك بالقوة القاهرة.
وسنة 1852 نشر كونت رسالة في مذهب الإنسانية أظهر فيها ارتياحه إلى ضربة لويس نابليون للحكومة وإنشائه جمهورية هو فيها الحاكم المطلق ومهما يكن من قيمة الفكر السياسي نجد عذراً لكونت في أنه كتبه وهو لا ينتظر أن تؤول الحال لما آلت إليه من الضغط والاستبداد وإلجام المطبوعات.
وأصيب كونت سنة 1857 بداء السرطان وقضى في الخامس عشر من أيلول فانتهت حياة مرة تنكر لها الزمان وفي هذا اليوم من كل سنة يجتمع تلامذة الفيلسوف من إنكليز وفرنساويين فينوهون بذكره ويقومون بمراسم سنوها لأنفسهم وقد قبض كونت وهو دون الستين وهنا لا يسعنا إلا أن نشارك جون مورلي في حزنه لعاقبة من أشد عواقب العمر إيلاماً وهي أن يقضي أرباب الذكاء الخارق في تهالكهم على نشر أفكارهم قبل أن يدركوا أمانيهم وتنقاد لهم رغباتهم.
فلسفته
لا تعرف المقادير إلا بمقياسها وقياسها تواً يستحيل في الغالب وأبسط الشواهد يعترضنا من المصاعب في قياس طول بالوحدة المترية إذ يشترط في صحة القياس أن ينطبق المتر على السطح كل الانطباق وأدنى نتوء أو غور يخل بالاستواء يعيد هذا القياس متعذراً تلك أهون المصاعب تعترضنا تعثرنا في أقل البسائط فكيف بها في أرقى المركبات كتقدير الأبعاد بين الأجرام السنوية.
ذاك ما قاد الفكر البشري إلى وضع العلوم الرياضية فإذا تعذر أو استحال علينا أن نقيس مساحة أو نقدر كمية توصلنا إلى ذلك بالطرق الرياضية فجمعنا بين لا يقاس تواً وبين ما يقاس واستخرجنا الأولى من الثانية على قاعدة التناسب.
فلكي نقيس مساحة نمثلها بشكل هندسي كالمثلث مثلاً ونعتبر المناسبة بين الأضلاع والزوايا فتسهل علينا معرفة المساحة. وبهذه لوسيلة وبغيرها من نوعها تمكن الفكر البشري من تقدير الأبعاد بين أجرام وارتقى إلى معرفة حجومها وأشكالها الحقيقية وظواهرها(63/43)
الطبيعية وسعتها وامتدادها وقوة جاذبيتها إلى غير ذلك من المعلومات التي بلغها بالوسائل الرياضية وغرض الرياضيات مقايسة الكميات وتقديرها بالواسطة وذلك يدرك بمعرفة النسبة بينها فالرياضيات إذن علم تستخرج بواسطته الكميات المجهولة من الكميات المعلومة للمناسبات الصريحة الموجودة بينها.
ما هي الكمية؟
عرف الرياضيون الكمية أنها ما يقبل الزيادة والنقصان ويمكن تقدير بالوحدة القياسية.
فالعدد والطول والسطح والحجم والزمان والمكان وسرعة الجسم ووزنه وغيرها من الأركان الداخلة في الحوادث الطبيعية هي كميات لتوفر صفتي الكمية فيها وقد اكتفى الرياضيون بالمعلومات النسبية فلم يخطر لهم ذات يوم أن يبحثوا في ماهية المكان والزمان والمادة لأنها الأسس التي تقوم عليها المعارف البشرية فليس في الوسع أن تثبت أو تعرِّف ولهذا السبب حصر الرياضيون في كشف النواميس التي تؤثر في هذه الكيات وإظهار النسبة بين ما اجتمع منها في حادثة واحدة بدون أن يحاولوا بلوغ معلومات مطلقة.
والرياضيات تثبت لنا أن في وسعنا بعض الكميات الداخلة في إحدى الظواهر الطبيعية من البعض الآخر إذ لا بد من وجود روابط بينها ولم يشهد الناس حتى اليوم ظاهرة فقدت فيها هذه الروابط ولكنها قد تدق حتى يتعذر على الباحث اكتشافها.
إذا أبدلنا كلمة كمياتفي تعريف الرياضيات بكلمة حوادث كان لنا تعريف العلم الحقيقي فهو ما أوضح بعض الحوادث ببعضها الآخر مستنداً في ذاك على العلاقات الموجودة بينها. وكل علم يجمع طائفة من الحوادث ويؤلف بينها ويستخرج من جمعها نواميس عامة ويضع قواعد إذا جرينا عليها عرفنا نتائج حادثة بقياسها على حادثة ثانية من نوعها فإذا عجز عن ذلك لم تصح تسميته علماً.
ثم أننا إذا جعلنا كلمة النواميس الطبيعية بدلاً من العلاقات بين الحوادث كان ذلك أصح وقد خدمت الرياضيات في تعيين هذه العلاقات فوق خدمة كل ما سواها من العلوم فهي تدلنا على أقصى ما يراد بالعلم وإذا شئنا أن نقع على فكر صحيح في تحديده وجب علينا الرجوع إلى الرياضيات فإن الأصول العامة التي يقتضي أن يسري عليها الفكر في الأبحاث لا نصادفها في غير الرياضيات وليس من علم آخر يماثلها في حل المسائل حلاًّ(63/44)
تاماً يفضي إلى استخراج النتائج بدقة وضبط. هذه هي النقطة التي بدأ منها مذهب الكونتيزم لواضعه أوغست كونت.
استنبط الفيلسوف التحديد العام للعلم من الرياضيات واقتبس منها الأصول التي يجب أن يجري عليها في الأبحاث العلمية أما أساس فلسفته فهو: إن الحوادث كافة تجري على قوانين مقررة والعقل البشري يعجز عن معرفة منشأ الحوادث الأزلي ومنتهاها الأبدي وهذه حقيقة لا ينكرها من كان ذا مشاركة في العلوم الطبيعية لأنه يعلم أن الغية من إيضاح الحادثة الطبيعية ليس إلا إظهار الأحوال والشروط التي يمكن معها حدوث مثلها وتعيين علاقتها بغيرها من الحوادث وإليك مثلاً على ذلك.
اكتشف نيوتن الجاذبية العامة فأوضح بها جميع الحوادث الفلكية وبين أن كثيراً من الحوادث التي كان الناس يتوهمون أن لا علاقة بينها كالخسوف والكسوف والمد والجزر إنما هي مظاهر مختلفة لحادثة واحدة عامة كنا نعبر عنها بالثقل فبتنا نفسر جميع الحوادث الفلكية بالجاذبية ولكنا نعجز عن معرفة ماهية الجاذبية وعلتها الأصلية فإذا سئلنا في ذلك لم يكن عندنا جواب وليس هذا كل ما في الأمر بل أن الفلسفة الموجية تثبت لنا أيضاً أننا لن نستطيع إدراك ذلك فعلينا أن نتخلى عن هذه المباحث لعلماء ما فوق الطبيعة فإذا قال قائل إن اهتزازات الجواهر الفردية بسبب ذلك الثقل لا يكون قد أوضح مبهماً لأن الإشكال ينتقل من الثقل إلى الاهتزازات فلا يلبث المستطلع أن يسأل عن سبب الاهتزاز أيضاً.
إذا أردنا أن نفهم الصفة المميزة للفلسفة المثبتة وجب علينا أن نتتبع الفكر البشري في أدوار ارتقائه وقد وضع كونت لذلك قانوناً عاماً أقنعته بصحة معلومات العصر الحاضر وشهادات العصر الماضي.
وهذا القانون هو أن كل فرع من المعارف يمر في ثلاثة أدوار متعاقبة أو حالات مختلفة أولها الدور الوضعي والثاني الدور المجرد والثالث الدور المثبت.
ونكتفي بذكر هذا القانون بدون أن نتقدم إلى إثباته أو معرفة نتائجه.
شبه كونت الفكر البشري بخضوعه لنواميس الارتقاء وحالاته الثلاثة التي تتعاقب عليه بالإنسان في أدواره الثلاثة من طفولة وشبيبة وهرم.
ونشأت ثلاثة مذاهب مختلفة لإيضاح الحوادث في الأدوار الثلاثة أولها الفلسفة الوضعية(63/45)
والثاني الفلسفة المجردة والثالث الفلسفة الموجبة والأول مبدأ ارتقاء الفكر الإنساني والثالث غاية ما بلغه والثاني الحلقة المتوسطة بين الاثنتين.
اتجه فكر الإنسان في الفلسفة الوضعية للبحث في أسباب الحوادث الأزلية وغاياتها الأبدية فتلقى تلك الحوادث آثاراً من فواعل ذات إرادة مطلة يعزو إليها كل ما شاهده بدون أن يفكر في النواميس والسنن.
وارتقت هذه الفلسفة فبدأت الفلسفة المجردة التي أقامت القوى المجردة مقام الفواعل الوهمية وهذه القوى عاربة من الهيولى تسبب الحوادث المشهورة.
أما الفلسفة المثبتة فقد اقتنع واضعوها أن الفكر الإنساني يستحيل عليه أن يدرك معلومات مطلقة فصرفوا نظرهم عن البحث في منشأ الكائنات ومصيرها وقصروا همهم على معرفة نواميس الحوادث فمزجوا بين المشاهدات والمحاكمات العقلية لاكتشاف هاتيك النواميس.
لما ارتقت الفلسفة الموضوعة حتى قال الناس بإله واحد يدبر الكون بلغت أوج الكمال وغاية الارتقاء وأدركت الفلسفة المجردة نهاية شوطها عدما ردت الحوادث إلى الطبيعة ودعتها بالقوة العامة المجردة.
أما الفلسفة المثبتة فهي تسعى لتوضيح أن جميع المحسوسات ظواهر مختلفة لحادثة عامة فمتى تيسر لها ذلك بلغت أرقى درجاتها على أن هذا الارتقاء غير متيسر في الأحوال الحاضرة ولا تدل ظواهر الحال على إمكان ذلك في المستقبل فإذ استطعنا أن نفسر حوادث النور والحرارة والصوت والكهربائية من حوادث المغناطيسية بقولنا أنها نتيجة تموجات فإننا لا نستطيع أن نفسر الحادثات الفلكية على هذا الوجه والفلسفة المثبتة جاهدة في إظهار العلائق بين الحوادث والقوانين الطبيعية وصفتها المميزة صرف الفكر البشري عن البحث في ماهية الحوادث لأنها لا تخوض في هذا المبحث بل تدعه إلى الفلسفة المجردة التي توضح الأزل والأبد بسهولة تامة وتستقصي الأسرار العلوية حتى أدق خفاياها.
يتساءل القارئ بعد أن عرف غاية الفلسفة الموجبة عن الحد الذي بلغته وعلى أي شيء يتوقف إكمالها وما نحن متطرقون في بحثنا إلى ذلك.
لم تمر المعلومات البشرية في الأدوار الثلاثة بسرعة واحدة ولا أدركت الحال المثبتة في آن واحد بل كان أسرعها إلى ذلك الحوادث الفلكية لبساطتها وسهولها وتلتها الحادثات(63/46)
الفلسفية فالكيمومية فالعضوية.
ويتعذر علينا تعيين بدء انقلابها على التدقيق ولكننا نعلم أنها أخذت بالارتقاء مذ أنشئت دور العلوم في أثينا والإسكندرية ومذ حمل العرب العلوم الطبيعية إلى غربي أوروبا وأرشدوا أهليها وما زالت تتكامل وتتدرج في مراتب الارتقاء حتى نبغ باكون وديكارت وكبلر وغاليله فأثرت مآتيهم في الأفكار البشرية تأثيراً شديداً ووضعت أسس الفلسفة الموجبة التي بدأت بالانتشار والشيوع منذ ثلاثة عصور ولكنها لم تحط بكل أنواع الحوادث الاجتماعية.
هذه الحوادث لا تزال محجبة النواميس كثيرة الإبهام لم يكشف عن أسرارها الغطاء ولا استطاعت العلوم أن تحصرها تحت قوانين عامة وقد وضع الفكر البشري علم الميكانيكيات والحيوان والنبات وحان الزمان الذي يضع فيه علم الاجتماع فكان كونت أول من سمت به أفكاره نحو هذه الغاية فرمى إليها في موسوعات مجلداته الستة التي أودعت ملخص المعلومات البشرية لأن كونت لم يقصر همه فيها على الفلسفة الاجتماعية بل تعمد تدوين الفلسفة الموجبة فبحث في كل علم إلى حد إظهار علاقته بغيره من العلوم وأظهر تدرج كل منها في الارتقاء ودخوله في الدور الموجب وجعل أساس بحثه تعاقب الحوادث وارتباطها المنطقي فقسم العلوم إلى ستة فروع كبرى تنضوي تحتها فنون مختلفة وإليك هي:
(1) - الرياضيات
(2) - الهيأة (الفلك)
(3) - الفلسفة الطبيعية
(4) - الكيمياء
(5) - الفلسفة العضوية
(6) - الفلسفة الاجتماعية
وقد قدم كونت العلوم الرياضية بالذكر لأنها أقدم العلوم الموجودة وأكملها وهي أول ما دخل في الفلسفة الموجبة وقد راعى كونت في ترتيب هذه الفروع تاريخ ثبوتها ومما لا ريب فيه أن الرياضيات بدأت مثبتة وما زالت ترتقي من أقدم عهدها إلى اليوم وتهلتها الهيأة فالفلسفة الطبيعية فالكيمياء فالحكمة العضوية رقى بها إلى هذه الدرجة كبلر وغاليله ولافوازيه(63/47)
وبلنويل أما الفلسفة الاجتماعية فإن كونت حسبها لم تؤسس بعد. واختلف الفنون في بلوغ هذه المرتبة لتفاوت درجتها في السهولة فكان أبسطها أقربها إلى الثبوت.
وشرع كونت يفكر بعد ذلك في تعاقب هذه الفنون وارتقائها من أبسط النظريات الرياضية إلى أرقى التصورات الاجتماعية فإن ذلك الاستقصاء إنما هو تتبع ارتقاء الفكر البشري والحوادث تجري على تسلسل طبيعي وهذا التسلسل هو بمثابة رابطة عامة بين النظريات المثبتة في الفنون المختلفة ورأى كونت أن بعضها يجب أن يكون له تأثير في الآخر فجعل العلوم الرياضية أول حلقة من السلسلة لأنها فعلت فيما بعدها لترقيته إلى مرتبة الثبوت وجعل الفلسفة الاجتماعية الحلقة الأخيرة.
قايس كونت بين الفكرين الرياضي والاجتماعي فلم يجد مندوحة عن أن يتخذ الأول دليلاً على نظريات الثاني المثبتة حتى إذا أمكن حصر الارتقاء البشري تحت قوانين معينة استبدل الرياضيات بالفلسفة الاجتماعية لأنه وجد الأولى غير كافية لتأسيس فلسفة حقيقية تامة حتى قال: إن ما بذله المفكرون من المساعي في العصور الماضية لإيجاد فلسفة جديدة تحل محل الفلسفة الموضوعة ذهب أدراج الرياح لأن الذين حاولوا ذلك أرادوا أن يتخذوا الرياضيات ركناً وينشئوا مذهبهم باختلاف طفيف أو كبير وإذا أمكن اقتباس حقيقة من الرياضيات فلا يمكن التوسع في ذلك الفكر وجعله عاماً فإن الحوادث الرياضية قد ضبطت قوانينها (الهندسة والميكانيك) هي في غاية السذاجة فلا يمكن تطبيق شرائعها على المركبات وكثيرون من الرياضيين في عصرنا الحاضر يقولون أن غرائب الحوادث الفلكية والحوادث الاجتماعية الناتجة عن إرادة البشر وقدرتهم غير خاضعة لنواميس معينة.
في الفلسفة الحكمية والكيمومية لا نجد خوارق مما يحملنا على القول أن جميع الحوادث هي ذات سنن مقررة لا تتغير ولكن الحوادث المبهمة المغلقة لا يظهرها على هذا الشكل إلا الفلسفة الاجتماعية فرجح لدى كونت أن يقيم مذهبه على نقطة اجتماعية وسعى في كشف النواميس الثابتة لهذه الحوادث وقد كان الباحثون قبله يستندون إلى افتراضات أو يستعينون بفلسفة ما فوق الطبيعة فأراد كونت أن يجرد المبحث مما يخامره من الأوهام ويدخله في حال مثبته.
وكان كونت يقول بحرية الوجدان المطلقة يريد بذلك أن كل فكر وكل تعبير يستعمل(63/48)
للإفصاح عنه يجب أن يعفى من أنواع الجزاء من التنبيه البسيط إلى الحكم بالجناية وتبسيط في القول على ذلك حتى ادعى أن ليس من حرية وجدان في الهيأة والحكمة والكيمياء والفيسيولوجيا لأن المرء إذا لم يقبل مبادئها الأساسية اتهم بالهوس وليست الحال كذلك في الاجتماعيات لأن المبادئ القديمة قد اضمحلت ولم تخلفها بعد مبادئ جديدة.
أما أصول علم الاجتماع فكانت كغيرها من الأصول العلمية تستخلص من التجارب والمشاهدات على سبيل القياس والاستقراء فيطالع المستقرئ حوادث بسيطة يضع لها النواميس ثم يترقى إلى الحوادث المركبة بطريق القياس فيستخرج قوانينها إذ ليس في وسع الباحثين استنباط القوانين العامة مباشرة من ملاحظة الحوادث المركبة ولكن كونت لاحظ أن الحال في العلوم الاجتماعية كذلك فإن حوادثها البسيطة تتألف من أفعال الأفراد وحواسهم ونواميس هذه لا تختص بها بل تشمل الطبيعة البشرية ذاتها والحوادث الاجتماعية إنما هي نتائج لتلك البسائط.
وقد كان العلماء إلى عهد كونت يحاولون أخذ العلم الاجتماعي المثبت من قوانين الطبيعة البشرية العامة ثم يجعلون الوقائع التاريخية دليلاً على صحة تلك الاستنتاجات فرد كونت هذه النظرية وقال إذا دلت القوانين العامة على ما لا يؤيده شاهد من التاريخ وجب علينا أن نحكم بفساد التاريخ واختلاله لأن صفحاته الأولية مهزعة وكلما أعرق الناس في الحضارة ازدادوا دقة في تدوين الحوادث وإذا كان التاريخ يدلنا على مجرى الرقي البشري في غابر العصور فهو لا يوجب اتخاذ ذلك المجرى سنناً ولا يضع قانوناً فمتى شئنا معرفة القوانين تعين علينا أن نعود إلى علم النفس (البسيكولوجيا).
إن قوانين الطبيعة البشرية العامة هي في جملة موسوعات علم الاجتماع غير أنها تختلف في استعمالها عن القوانين الطبيعية فإن التجارب الخصوصية في هذه تؤدي عن طريق القياس إلى استخراج القوانين العامة وفي العلم الاجتماعي نبلغ الناموس العام من التجربة الخاصة ثم نستخرج عن طريق القياس نتيجة تؤيد صحته.
والفلاسفة الذين اشتغلوا في نظريات الاجتماع لم يكونوا يعتبرون التاريخ سلسلة من الأسباب والنتائج بل كانوا يتلقونه كأقاصيص متفرقة لا رابطة بينها حتى جاء كونت فبين فساد مزاعمهم في هذا الصدد وجعل التاريخ من أكبر مآخذ العلم الاجتماعي وحيث رأى(63/49)
حادثة شذت عن قوانين الطبيعة البشرية حكم باختلال تدوينها.
والخلاصة أن أوغست كونت وضع أصول العلم الاجتماعي - كما قال استوارت ميل - وإذا كان لم يوجد ذلك العلم فانه حبا من بعده من الفلاسفة قوة لإيجاده وفلسفته المثبتة في العلوم الطبيعية وأصول التحليل التاريخي ستخلد اسمه بين مشاهير الفلاسفة.
دمشق:
جرجي الحداد(63/50)
مشاهير العرب والصناعات
وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
(أبو العتاهية)
يتوهم بعض الكتاب أن العرب أهملوا الصناعات يل استنكفوا منها لأنهم لم يقولوا (آل الحائك) خشية تحقير المضاف والحقيقة هي أن قدماء العرب لم تنصرف أفكارهم إلى الحياكة في زمان بداوتهم لأنهم لبسوا جلود الحيوانات وابتاعوا منسوجات غيرهم فلم يتقنوا الحياكة على أنهم عرفوها بعد ذلك واشتهروا بكثير منها ونقل الإفرنج عنهم ما تفننوا به مثل الموركو والكوردوفان لنوعين من الجلود التي دبغها العرب الأول في مراكش والثاني في قرطبة. والدامسكو للشيخ الدمشقي المشجر. والدامسكين للترصيع المعدني الدمشقي والموصلين لنسيج عرفت به الموصل وصناعة الشفار والسيوف التي أخذوها من دمشق إلى غير ذلك مما لا يحصى. ولهم تآليف كثيرة في الصناعات يحضرني منها الآن اسم رسالة للكندي في المعادن والجواهر وأنواع الحديد والسيوف وجيدها ومواضع انتسابها. ورسالة أخرى في ما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تتثلم ولا تكل لكندي أيضاً. ولقد ذكر جاهليو العرب بعض الصناعات في أشعارهم مثل قول طرفة بن العبد البكري من معلقته مشبهاً الناقة:
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد
وقوله:
وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يجرد
وقوله:
وعينين كالماويتين استكنتا ... بكهفي حجابي صخرة قلت مورد
ومن أقدم صناعاتهم الغزل وقد ذكروه كثيراً في أشعارهم مثل قول النابغة:
وعريت من مال وخير جمعته ... كما عريت مما تمرُّ المغازل
وهذه الصناعة عرفت قديماً وذكرها كثير من الأعاجم مثل قول هوميروس في الإلياذة بلسان هكطور بطل تروادة عند توديع زوجته اندروماك وطلبها منه أن لا يسير إلى الحرب من موشح بليغ:
ولكل عمل فامضي كفى ... واشغلي أعمال ربات السديل(63/51)
فلك النسيج وفتل المغزل ... ولنا أعمال سمر الذيل
ووصف هيلانة تطرز بإبرتها في قوله:
وجدتها بالصرح تنسج ثوباً ... بحواشي البرفير والأرجوان
وبرأس الخياط ترسم فيه ... واقعات أبلت بها الفئتان
وقال أبو العلاء المعري في النساء:
علموهن الغزل والنسيج والردن ... وخلوا كتابة وقراءة
وقال ندة ملتن كبير شعراء الإنكليز ما يقرب من هذا إلى غير ذلك.
وفي صدر الإسلام اعتبر الخلفاء الصناعات بدليل قول الإمام عمر بن الخطاب: إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفه فن قالوا لا سقط من عيني، وقول موسى الهادي الخليفة العباسي لأمه الخيزران لما استبدت بالأمر وكثر المختلفون إليها لقضاء أعمالهم: ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك. أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك. وكثيراً ما ذكر الشعراء بعد ذلك الصناعات ولو على سبيل المجاز مثل قول ابن نباتة في الطيّ والنشر:
لا تخف عيلة ولا تخش فقراً ... يا كثير المحاسن المختاله
لك عين وقامة في البرايا ... لك غزالة وذي فتاله
ولقد مارس الخلفاء والصحابة والأمراء والأشراف والأئمة والعلماء على اختلاف طبقاتهم وأمكنتهم وأزمنتهم صناعات كثيرة جمعت الآن منهم ما وصلت إليه يد البحث تذكرة لقوم يعقلون:
كان أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وطلحة بن الزبير وعبد الرحمن بن عوف بزازين وعمر بن الخطاب دلالاً فتاجراً. والوليد بن المغيرة وأبو العاص أخو أبي جهل حدادين. والنضر بن الحارث عوداً يضرب بالعود. وللعاص بن وائل السهمي بيطاراً يعالج الخيل. وابنه عمرو بن العاص جزاراً ومثله الإمام أبو حنيفة وقيل كانا خزازين يبيعان الخز (وهو التباس يقع في التصحيف). والزبير بن العوام خياطاً ومثله عثمان بن طلحة الذي دفع له النبي مفتاح الكعبة وهكذا قيس بن مخرمة. وكان مالك بن دينار وراقاً والمهلب بن أبي صفرة بستانياً. وقتيبة بن مسلم الذي فتح بلاد العجم إلى ما وراء النهر جمالاً. وعقبة بن(63/52)
معيط خماراً وسعد بن أبي وقاص بارياً للنبال. وأبو سفيان ابن حرب يبيع الزيت والأدم. وعبد الله بن جدعان نخاساً يبيع الجواري. والحكم بن أبي العاص خصاء يخصي الننم ومثله حريق بن عمر والضحاك بن قيس الهفري وابن سيرين.
وكان سفيان بن عيينة معلماً ومثله الضحاك بن مزاحم وعطاء ابن أبي رباح والكميت الشاعر والحجاج بن يوسف الثقفي الشهير وعبد الحميد بن يحيى إمام المترسلين وأبو عبيد الله القاسم بم سلام والكسائي مؤدب الأمين والمأمون وكثير غيرهم ممن مارسوا التدريس والتهذيب وكانت هذه الصناعة تسمى عندهم صناعة الأشراف. وكان أبو يوسف الفقيه قصاراً (يبيض الثياب) وأبو العتاهية الزاهد يبيع الفخار في الكوفة فسمي الجرار. وأبو تمام الشاعر كان سقاءً وقيل خادم حائك. والمتنبي ابن سقَّاء في الكوفة. والعكبري في أول أمره منجماً ثم صار نحوياً. وحماد عجرد الشاعر باري نبال. وأبو إسحاق إبراهيم الحصري كان يعمل الحصر أو يبيعها وأبو إسحق إبراهيم بن محمد الزجاج النحوي كان يخرط الزجاج وأبو الحسن السري الرفاء الشاعر كان يرفو ويطرز وأبو بكر عبد الله القفال المروزي الفقيه يعمل الأقفال. وأبو الحسن الماوردي الفقيه كان يبيع ماء الورد. وأبو الحسن علي بن هلال كان أبوه بواباً فسمي بابن البواب. وأبو القاسم الزاهي الشاعر كان قطاناً (يبيع القطن). وأحمد بن محمد الطوسي الغزالي وأخوه الإمام الغزالي الشهير كانا منسوبين إلى عمل الغزل على طريقة النسبة عند الخوارزميين إذ يقولون القصاري والعطاري في القصار والعطار. وأبو بكر أزهر بن سعد السمان الباهلي البصري كان يبيع السمن وأبو غالب تمام التياني اللغوي القرطبي كان يبيع التين. وأبو القاسم الجنيد لقب بالخزاز والقواريري لأنه هو عمل الخز ووالده عمل القوارير. وأبو علي الحسين الكوابيسي البغدادي نسب إلى بيع الكرابيس وهي جمع كرباس بالفارسية بمعنى الثياب الغليظة وهي أشبه بالخام عندنا. وأبو محمد بن مسعود الفراء البغوي كان يعمل الفراء ويبيعها. وابو مغيث الحسين بن منصور الحلاج الزاهد حلج القطن فنسب إليه. ومؤيد الدين الطغرائي نسب إلى كتابة الطغراء. وأبو عمرة حمزة بن حبيب الزيات باع الزيت ومثله كثيرون لقبوا بلقبه مثل محمد بن زيات وزير المعتصم وغيره. وأبو عمرو خليفة بن الخياط العصفري نسب إلى الخياطة والصبغ بالعصفر. وأبو المعالي سعد بن علي(63/53)
المعروف بالحظيري (بالظاء المشالة) الوراق لقب بصناعته دلال الكتب ورشيد الدولة فضل الله الهمذاني طبيب خرمندة التتري كان في عمره عطاراً فصار يدبر ممالك التتر. وأبو منصور عبد الملك الثعالبي نسب إلى خياطة جلود الثعالب وعملها فراءً. وأبو قاسم عثمان الانماطي الفقيه كان يبيع الانماط وهي البسط التي تفرش. وأبو عمرو عثمان بن الحاجب كان والده حاجباً للأمير عز الدين موسك الصلاحي. وأبو الحسن علي بن عبد الله السمسماني اللغوي نسب إلى السمسم. وأبو الحسن علي بن الحسن القاضي الملقب بالخلعي كان يبيع الخلع لأملاك مصر. وأبو الحسن بن وصيف المعروف بالناشئ الأصغر كان جده وصيف مملوكاً وأبوه عبد الله عطاراً وهو حلاءً أي عامل الحلي النحاسية للتزيين. وأبو القاسم عمر الخرقي الفقيه نسب إلى بيع الخرق أي الثياب البالية. وأبو القاسم عمر بن محمد المعروف بابن البزري نسب إلى عمل البزر وبيعه والبزر عندهم اسم للدهن المستخرج من حب الكتاب وبه يستصحبون أي يسرجون المصابيح. وكان ابن سير بن المشهور بتعبير الرؤيا ابن صائغ قدور من النحاس. وأبو عمرو المطرز البارودي غلام ثعلب كان مطرزاً. وكان والد البحراني الشاعر الاربلي تاجراً يتردد إلى البحرين ويصيد اللآلئ من مغاوصها. وفخر الملك ووزير بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهي كان ابن صيرفي. وأبو بكر الرازي الطبيب كان في أول أمره مغنياً عواداً. وأبو الحزم مكي الضرير المقري النحوي كان ابن صانع أنطاع. ونصر الخبزارزي الشاعر كان يخبز أرغفة الأرز بمربد البصرة. وأبو الفرج محمد الغاني الملقب بالوأراء كان منادياً في دوار البطيخ بدمشق ينادي على الفواكه. وكان بشار بن برد الشاعر ابن طيان حاذقاً بثناعته وأخواه بشر وبشير كانا قصابين. وفتيان الشاغوري لقب بالمعلم لأنه كان يعلم أولاد الملوك. وأبو محمد القاسم الحريري نسب إلى بيع الحرير أو عمله. والقاضي أبو بكر محمد الباقلاني البصري نسب إلى بيع الباقليّ. وأبو الحسين الجزار الشاعر المصري تعاطى الجزارة. وسراج الدين الوراق الشاعر الوراقة. وأبو الفضل بن عبد الكريم الحارثي الدمشقي لقب بالمهندس لحذاقته في الهندسة وكان في أول أمره نحات حجارة ونجاراً وأكثر أبواب البيمارستان النوري الذي بناه نور الدين بن زنكي الملقب بالعادل في دمشق من نجارته وصناعته وقد درس إقليدس على نفسه وأصلح الساعات في جامع دمشق(63/54)
وإن له على مراقبتها راتب خاص. وأبو زكريا يحيى البياسي الأندلسي الطبيب قطن دمشق وعرف التجارة واشتغل الآلات الهندسية وكان عواداً وعمل الأرغن. والبديع الاسطرلابي كان يعمل الآلات الفلكية ولا سيما الاسطرلاب. وأبو بكر محمد بن الحسن النقاش الموصلي البغدادي العالم نسب إلى نقش السيوف والجدران لممارسته ذلك وحذقه به. وأبو عباس محمد بن صبح المعروف بابن السماك الكوفي الزاهد نسب إلى صيد السمك وبيعه. وأبو بكر محمد بن السري النحوي المعروف بابن السراج نسب إلى عمل السروج. وأبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي النحوي الملقب بالقزاز القيرواني نسب إلى عمل القز وبيعه. ومعاذ بن مسلم الهراء كان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها. وأبو منصور الجواليقي نسب إلى عمل الجوالق وبيعها. وأبو يزيد وشيمة الوشاء كان يتجر بالثياب المصنوعة من الابريسم الموشاة. ومحمد بن رضوان بن الرعاد كان خياطاً واقتنى مكتبة من صناعته. وشمس الدين الدهان الدمشقي الشاعر كان يمارس صناعة الدهان. والنصير الحمامي كان يتحرف باكتراء الحمامات ويستجدي بشعره. وأبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المعروف بالحداد الفقيه الشافعي المصري نسب إلى أحد أجداده الذي كان يعمل الحديد وبيعه. وأبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بالصيرفي الفقيه البغدادي نسب إلى الصرافة. وأبو عبد الله محمد بن الكناني الشافعي المعروف بابن الكيزاني الشاعر كان بعض أجداده يعمل الكيزان ويبيعها فنسب إليه. وأبو الرداد عبد الله بن عبد السلام بن الرداد المؤذن البصري عمل المقياس بمصر في أثناء القرن الثالث للهجرة. ونجم الدين المنجنيقي الشاعر كان في أول أمره جندياً مقدماً على المنجنيقيين ببغداد فنسب إليه ومن لطيف منظومه قوله:
كلفت بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح المرابط
وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ... فلم أخل في الحالين من قصد حائط
ويحيى النحوي الإسكندراني كان ملاحاً إلى أن بلغ الأربعين من عمره فمال إلى العلم وأتقنه. وكان علي بن رضوان الطبيب بن فران. ومن أغرب العلماء أرباب الصناعات كشاجم الشاعر فإن اسمه منحوت من صناعاته فالكاف من كاتب والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من منجم والميم من مؤدب إلى غير ذلك.(63/55)
ومن متأخري العلماء من نسب إلى الصناعات مثل القزويري وابن الطباخ وابن العطاؤ والأسطواني وابن الكيال وابن السقاف وابن السمان وابن الحجار وغيرهم كثير.
وممن لقبوا بالصناعات ولا نعلم إذا كانوا قد مارسوها أبو جعفر أحمد المرادي النحاس النحوي المصري. وابن الخياط الدمشقي. وأبو بكر بن عياش بن سالم الخياط الأسدي الكوفي. وأبو محمد سعيد بن الدهان البغدادي. وأبو القاسم الإسكافي. وظافر الحداد الشاعر الاسكندري. وابن الدهان الموصلي المعرف بالمهذب. وابن شاس المنعوت بالخلال. وابن الخشاب البغدادي. وأبو نصر عبد السيد ابن الصباغ الفقيه. وأبو قاسم علي بن القطاع الصقلي اللغوي. وأبو الحسن علي بن القصار اللغوي. وأبو بكر المبارك المعروف بابن الدهان النحوي الضرير الواسطي. وأبو بكر محمد بن باجة الأندلسي المعروف بابن الصائغ الفيلسوف. وأبو عبد الله محمد الرقاء الأندلسي الرصافي الشاعر. ويحيى بن الجراح الكاتب. وموفق الدين النحوي المعروف بابن الصائغ الحلبي. وأبو المحاسن شهاب الدين الشواء الحلبي الشاعر. وابن النجار الدمشقي الشاعر. وإبراهيم الحائك وقيل المعمار أو الحجار غلام النويري المصري الشاعر الزجال. وبكر بن علي الصابوني. وجوبان القواس الشاعر. وابن البيطار النباتي الشهير. وعبد الله بن محمد المغربي الملقب بالعطار الشاعر. وعبد الحق الإشبيلي المعروف بابن الخراط. وعبد الرزاق بن أحمد الصابوني المحدث المؤرخ الفيلسوف. وأبو بكر الوراق التميمي. وأبو المعالي البقال الأديب. وابن الصفار المارديني. وأبو حفص الشطرنجي شاعر المهدي وابنته عليه. وأبو عبد الله البغدادي النقاش الشاعر. ومجاهد بن سليمان المعروف بالخياط الشاعر. ومحمد بن أحمد المعروف بابن الحداد الشاعر. ومحمد بن أحمد بن الصابوني الصدفي الإشبيلي. ومحمد بن داود بن الجراح الكاتب. والحافظ الكبير ابن النجار البغدادي واضع تاريخ بغداد المطول. وهبة الله بن الفضل المعروف بابن القطان الشاعر البغدادي. فضلاً عن كثير من أرباب الصناعات الأُخر مثل أبي عبد الله الفرضي الحاسب. وأبي حفص عمر بن الفارض الشاعر. وابن المعلم الواسطي الشاعر. وابن الدهان البغدادي الفرضي الحاسب. والبتاني الراصد وغيرهم كثير.
ومنهم من تدل أسماؤهم على أنهم من أرباب الصناعات وهم لم يتعاطوها مثل أبي سلمة(63/56)
حفص ابن سليمان الخلال الهمداني فانه لم يكن خلالاً ولكنه كان يجلس إلى محل للخلالين قرب داره بالكوفة فلقب بالخلال. ومثل أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحق الزجاجي النحوي البغدادي الذي لم يشتغل بالزجاج ولكنه صحب أبا إسحق إبراهيم بن السري الزجاجي فنسب إليه. وأبو سعيد الصدفي لم ينسب إلى صناعة الصدف بل إلى الصدف بن سهل وهي قبيلة كبيرة حميرية هبطت مصر. وكثير من العلماء لقبوا بالعسكري ولم يكونوا عساكر ولكنهم نسبوا إلى (سر من رأى) الملقبة بالعسكر حيث نشأوا لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره فقيل لها العسكر ومنهم أبو الحسن العسكري من أهل القرن الثاني للهجرة. ومنهم من سموا باسم عسكر مكرم من كور الأهواز مثل أبي القاسم محمد العسكري وغيره. وأبو الحسن الكسائي لم ينسب إلى عمل الكساء بل لأنه دخل مرة على حمزة بن حبيب الزيات وهو ملتف بكساء وقيل بل أحرم بكساء فنسب إليه. وأبو زيد محمد القاشاني المشهور ولكنه نسب إلى مسقط رأسه فاشان في بلاد فارس. وكمال الدين الفراوي نسب إلى فراوة في خوارزم لا إلى الفراء ومن النكت باسمه أنه قيل عنه (الفراوي ألف راوي). وأبو بكر الآجري الفقيه لم ينسب إلى صناعة الآجر (القرميد) ولكن إلى قرية آجر من قرى بغداد. وأبو بشر محمد الرازي الدولابي لم يصنع الدولاب ولكن نسب إلى الدولاب وهي قرية من الري وصناعته كانت الوراقة فلقب بالوراق وأبو بكر محمد الصولي الشطرنجي توهم بعضهم أنه وضع الشطرنج أو صنعه والصحيح أنه اشتهر باللعب فيه. والفراء النحوي اللغوي الكوفي كان يفري الكلام ولم يشتغل بالفراء فعرف بهذا اللقب وأبو عمرو بن دراج القسطلي نسب إلى قسطلة في الأندلس لا إلى عمل القساطل للمياه. ويونس الصدفي المصري الفقيه لم يعمل الصدف بل لسبب آخر سمي بالصدفي وهو أنه صدف بوجهه مرة فلزمه هذا اللقب. ومحمد بن الحسن الصائغ العروضي أقام بالصاغة زماناً يقرئ الناس فلقب بالصائغ إلى غير ذلك وهم كثيرون.
هذا ما وصلت إليه يد الاستقراء الآن من صناعات المشاهير عند العرب جمعته تبصرة وتذكرة لمن يتوهمون أن الصناعة تزري بالعلماء والأدباء والمشاهير. على أن الإفرنج كثيرو الولع بالصناعات مما سأفرد له مقاله خاصة إن شاء الله في فرصة أخرى. ولقد أعرضت عن مشاهير المعاصرين وأسماء الأسر التي تنسب إلى الصناعات وهي كثيرة(63/57)
في بلادنا قريبة العهد فلا حاجة إلى وصفها. فحبذا لو كثر الميل إلى أسباب العمران بين ظهرانينا وولع مواطنونا بالصناعات ونحوها مما يوفر الدراهم ويشغل الأوقات ويعود على البلاد بالنفع وإلا فإن اقتصارنا على العلوم اللغوية واللسانية جمود فلنتخذها مفتاحاً للعلوم الطبيعية:
بزراعة وصناعة وتجارة ... تجد البلاد تقدماً وفلاحا
أسباب عمران فسيد صرحها ... وخذ العلوم لنبلها مفتاحا
زحلة:
عيسى اسكندر المعلوف.(63/58)
دقائق عربية
لا مراء أن من يشتغل بالكتابة ويتوغل في المطالعة يمر به من صور التراكيب ومن الألفاظ المفردة ما يربك ذهنه وإذا راجع كتب النحو وكتب اللغة فلا يهتدي إلى ما يجلو له وجه الصواب فإن علماء العربية عل كثرة ما ألفوا في علمي الصرف والنحو واللغة تراهم قد أغفلوا من القواعد والتنبيهات والمفردات ما قد ترى بعضه في كتب الشروح أو في الكلام القديم كما ذكرت ذلك في مقالة بهذا العنوان نشرت في المجلد الخامس والعشرين من المقتطف وقد اجتمع إليَّ كثير من هذه الدقائق فلم أدخرها لنفسي بل أحببت نشرها رغبة في أن يكون للأدباء من وراء نصبي فائدة وابتغاء تخليص العبارة من علل الخطأ فإن في بعض المنشورات الحديثة ما يذوب له قلب البلاغة وتدمع له عين الفصاحة وأكبر نصير لتلك المنشورات على تشويه محبا البيان اختلاط الغث بالسمين فبينا تمر فيها بالبليغ إذ بك قد وقعت في أركِّ تركيب حتى أن المنشورات العامية العبارة أخف جناية على الفصاحة مما اجتمع فيه الصحيح بالمعتل فيلتبس على الضعفاء من أهل الأدب العليل بالصحيح والخطأ بالصواب فيتخذون الخطأ صواباً والعليل صحيحاً وتلك رزية كبيرة على الفصاحة فمن هنا تعلم أن نشر مثل هذه المقالات المتممة للناقص والمبينة للمبهم هي أوسع فائدة وأجل نفعاً وأرفه شأناً من تأليف كتاب في علم قد صارت المؤلفات فيه تربى على الألوف كما هي الحال في علم العربية.
الدقيقة الأولى
قد أجازوا أن تخاطب جماعة النساء خطاب الواحدة كما أجازوا أن ينعت ويخبر عن الجمع المكسر بالصفة مفردة فيقولون عيونهم نائمة وما أجمل العيون الحوراء. ولم أجد من نبه على ذلك فيما وقفت عليه من كتب النحو والصرف مع أنه واردٌ في كلام من بنيت على كلامهم قواعد التصريف والإعراب قال علقمة بن علف المري وهو من شعراء الحماسة:
ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم شهود
وقال آخر:
قد كتب الحسن على وجهه ... يا أعين الناس قفي وانظري
فقال الأول (رجالك) مكان (رجالكن) وقال الثاني (قفي وانظري) مكان (قفن وانظرن).(63/59)
الدقيقة الثانية
من حق الضمير أن يطابق مرجعه تذكيراً وتأنيثاً وإفراداً وتثنية وجمعاً وكذلك اسم الإشارة كما هو معلوم عند صغار الطلبة ما خلا اسم الجمع فقد فضلوا في الإضمار له مراعاة اللفظ على مراعاة المعنى قلت لكن متى كان المقام يقتضي الكثرة كانت مراعاة المعنى عين مقتضى الحال فيقال هؤلاء قومٌ كرامٌ وهذا قوم كريم وهذا شعب شجاع وهؤلاء شعب شجعان وكذا حكم اسم الجنس فيقولون ورق خضر باعتبار المعنى وورق أخضر باعتبار اللفظ قال أبو خراش الهذلي:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ... وتظهر في أطرافها الورق الخضر
ولم أجد من زاد على ذلك لكني رأيت في كلام من يوثق بهم جواز مطابقة الضمير واسم الإشارة للخبر. فإن كان المرجع مؤنثاً والخبر مذكراً أجازوا الإتيان بضمير المذكر. وكذا إذا كان المرجع مذكراً والخبر مؤنثاً مثال الأول قول التبريزي في شرح الحماسة: فائدة إذن هو أخرج البيت مخرج الجواب ومثال الثاني ما جاء في كامل المبرد من قوله: إذا صب لبن حليب على حامض فهي المرخة وهذا فاش في كلام الفصحاء وقد جاء في سورة الأنعام فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي مكان هذه ربي. قال صاحب الكشاف فإن قلت ما وجه التذكير في قوله (هذا ربي) والإشارة للشمس قلت جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد. وقال صاحب أنوار التنزيل ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن التأنيث.
الدقيقة الثالثة
متى أريد بالمفرد العموم ولو لم يكن اسم جنس جمعي كالشجر أو اسم جمع كالشعب والقوم جاز أن يعامل في نعته والإضمار له والإخبار عنه معاملة الجمع وهذا مبني على اعتبار المعنى فقد جاء في سورة الأنعام وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم قال الزمخشري فإن قلت كيف قيل أمم مع إفراد الدابة والطائر قلت لما كان قوله تعالى وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال وما من دوابٍ ولا طيرٍ حمل قوله إلا أمم على المعنى وقال البيضاوي وجمع الأمم للحمل على المعنى ومثله في القرآن أيضاً وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم(63/60)
شيئاً وذلك لأن قوله كم من ملك في معنى كم ملائكة.
الدقيقة الرابعة
في الفرق بين نادها لو تسمع وبين فحيها هل تسمع.
قال التبريزي في شرح قول مويلك في رثاء امرأته:
أُمرر على الجدث الذي حلت به ... أم العلاء ونادها لو تسمع
ويروى فحيها هل تسمع والفرق بين (لو) هنا وبين (هل) أن (لو) فائدته الشرط هنا والكلام به كلام من غلب القنوط عليه من إدراكها تحية من زارها و (هل) من حيث كان للاستفهام يصير الكلام به كأنه كلام راج أو طامع في سماعا ويكون المعنى حيها وانظر هل تسمع.
الدقيقة الخامسة
حق رب أن تدخل على الماضي ولكنها جاءت في سورة الحجر داخلة على المضارع حيث قال ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين قال الزمخشري لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ود.
الدقيقة السادسة
إن الفاء التي تلي همزة الاستفهام إنما يراد بها التعقيب قال الزمخشري في تفسير قول القرآن أفرأيت الذي كفر بآياتنا والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب كأنه قال أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك.
الدقيقة السابعة
(فضلاً) مصدر يتوسط بين الأدنى والأعلى للتنبيه بنفي الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفي الأعلى واستحالته فيقع بعد نفي إما صريح كقولك لا يملك فلان الدراهم فضلاً عن الدينار وإما ضمير نحو وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم فضلاً أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمي المعاني والبيان. وأكثر الكتبة المعاصرين ذاهلون عن هذا الحكم فيستعملون فضلاً في الإيجاب كقولك زيد بارع في صيد البر فضلا عن براعته في صيد البحر وهو مخالف للقاعدة المذكورة مغاير لمنهج البلغاء.
الدقيقة الثامنة(63/61)
قد فشا في كتب علماء الصرف أن (يدع ويذر) قد اميت ماضيهما حتى صار ذلك معلوماً لصبيان المكاتب ولم أعثر في قديم الكلام على ما يخالف ذلك إلا في بيت من قصيدة عينية لسويد بن أبي كاهل اليشكري وهو:
فسعى مسعاتهم في قومه ... ثم لم يظفر ولا عجزاً ودع
قال الشارح: أي سعى مسعاة أبيه في قومه فلم يظفر بما أراد ولا ترك عجزاً إلا استعمله والقصيدة من مختارات المفضل الضبي فيؤخذ ذلك للمضطر أن يحي ما أُميت كما أحياه سويد.
الدقيقة التاسعة
لم يذكر النحاة شيئاً في إعراب (حاش الله) وهي في موضع النصب على المصدرية. وإنما بقيت على بنائها كبقاء عن على بنائها في نحو جلس عن يمينه. ذكر ذلك الزمخشري في تفسير سورة يوسف.
الدقيقة العاشرة
من سنن العرب أنهم يقولون في نحو بني العنبر بلعنبر وذلك يفعلون في كل ما فيه ألف ولام إذا لم يكن ثم إدغام فيقولون بلعجلان وبلحارث في بني العجلان وبني الحارث فإن كانت لام التعريف مدغمة مثل النمر لم يحذفوا النون من بني.
الدقيقة الحادية عشرة
إذا توالت النعوت أو الأحوال وترك العطف كان ذلك إشارة إلى أن كل نعت صفة كمال على حدة كقول الزمخشري في مقدمة الكتاب أنشأه كتاباً ساطعاً تبيانه قاطعاً برهانه.
الدقيقة الثانية عشرة
قد أجاز العروضيون وصل همزة القطع لإقامة الوزن وقد عثرت في شرح القصيدة التي هجا بها حسان بن ثابت مسافع بن عياض التميمي على ما نصه قوله أو أصحاب اللوا الصيد خفف الهمزة. وتخفف إذا كان قبلها ساكن فتطرح حركتها على الساكن كقولك من أبوك كذا ذكره المبرد في كامله.
الدقيقة الثالثة عشرة
إن كثيراً من كتب النحو المتداولة تنص على وجوب نصب الفعل بعد فاء السبب في(63/62)
جواب النفي والصحيح أن ذلك غالب لا واجب بدليل قول الحارثي وهو من شعراء الحماسة:
فما حيلتي إن لم تكن لك رحمة ... علي ولا لي منك صبر فأصبر
وقد جاء في القرآن بالرفع بعد الفاء حيث قال: ولا يؤذن له فيعتذرونذكر ذلك سيبويه والدماميني ونقله الصبان في باب النواصب.
الدقيقة الرابعة عشرة
إن (أحداً) لا يستعمل إلا مسبوقاً بالنفي ما لم يضف نحو قام أحد الأربعة أو يقع نعتاً لله نحو هو الله الأحد أو يصاحب أسماء العدد كقولك عندي أحد وعشرون رجلاً هذا ما صرح به في كتبهم ولقد رأيت البلغاء يستعملونه قبل النفي كقول الزمخشري وعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه فيؤخذ من ذلك أن الشرط مصاحبه النفي سواء تقدم أم تأخر خلافاً لما يفهمه أكثر الأدباء من وجوب الوقوع بعد النفي.
الدقيقة الخامسة عشرة
قد أنكر أحد من أدركنا من أهل العصر على أحد المعاصرين قوله قال يوحنا فم الذهب وقال الصواب أن يقال الذهبي الفم. قلت إن هذا الانتقاد خطأ لأن فم الذهب لقب ليوحنا فهو بدل من لا نعت له على حد قولهم جاء زيد زين العابدين. وذهب عمر وأنف الناقة.
الدقيقة السادسة عشرة
قد أنكر بعضهم استعمال المربض لغير الغنم استدل بنصوص من كتب اللغة كالصحاح والمصباح. وقد رأيت في الصفحة 626 من الجزء الأول من الكشاف في تفسير سورة يوسف ما نصه وهو جاثم في مربضه أي الطائر ومثل الزمخشري جدير بأن يوثق بكلامه.
الدقيقة السابعة عشرة
قد أنكر بعضهم جمع برهان على برهانات وجاء في كتاب البيان والتبيين للجاحظ في الصفحة الثامنة ما نصه ومن العلامات الظاهرة والبرهانات الواضحة فيكون إنكاره خطأ وانتقاده غلطاً.
الدقيقة الثامنة عشرة
قد يخبر عن الجمع بالمفرد ولكن على تأويل قال القرآن كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون(63/63)
عليهم ضدا إنما وحد ضداً وحقه أن يكون جمعاً لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرض تضامنهم وقال القرآن أيضاً وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام يريد ذوي جسد ووحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال ذوي جسد من الأجساد ومثله وما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ومن هذا الباب قول القرآن أيضاً ثم نخرجكم طفلاً قال المفسر: طفلاً حال أجريت على تقدير كل واحد.
الدقيقة التاسعة عشرة
قد ورد في الشعر خطاب المرأة بضمير الرجال وذلك كقوله:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيءٍ ولا أني من الموت أفرق
وكقول سعيد بن حميد يخاطب محبوبته فضل الشاعره:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلاً وبعض الظن أثم ومنكر
إذا كان قلبي في يديك رهينة ... فكيف بلا قلب أصافي وأهجر
ومن هذين الشاهدين تعلم أنه يخاطب المرأة بضمير المؤنثة المخاطبة وبضمير جمع المذكر العاقل وهو جائز حيث يؤمن اللبس.
الدقيقة العشرون
إذا كان المتكلم في فن ثم شرع في فن آخر من الكلام يصدر الكلام الجديد بقوله (اعلم) تنبيهاً على الانتقال - ذكر ذلك الزمخشري في كشافه.
الدقيقة الحادية والعشرون
من سنن العرب أن يستغنى بذكر الشيء عن ذكر نقيضه قال المثقب العبدي:
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمرُّ بها رياح الصيف دوني
أراد رياح الصيف والشتاء فاجتزأ بواحد منهما ومثل ذلك قول القرآن سرابيل تقيكم الحر لم يذكر البرد وهي تقي الحر والبرد فترك البرد اجتزاءً بذكر الحر.
الدقيقة الثانية والعشرون
من التراكيب المستفيضة الواردة عن البلغاء ما تقدر فيه الجملة بالمفرد. من ذلك قولهم ما ترى لنا أن أنهرب أم نقيم والتقدير ما ترى لنا الهرب أم الإقامة. وهذا لم أجد من تعرض لذكره. نعم قالوا في باب أم المتصلة أنها تقع بين جملتين في تأويل المفرد نحو قول القرآن(63/64)
سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
على أنهم لم ينبهوا على أن الجملة تسبك بمصدر إلا مع الأحرف المصدرية.
الدقيقة الثالثة والعشرون
قد رأيت من الأدباء من ينكر استعمال صار بمعنى حصل وهذا خطأ جلبه نقص العلم فهي تأتي بمعنى حصل ومن تتبع كتب اللغة يرها واردة بهذا المعنى في عدة مواضع من ذلك ما جاء في مادة (وق ع) ونصه وقع في ارض فلاة صار فيها.
الدقيقة الرابعة والعشرون
إن أكثر الأدباء يرون قول العامة بقي فلان بفرد يد خطأ وصوابه بيدٍ واحدةٍ والحال أنه عربي فصيح فقد جاء في أخبار دعبل في كتاب الأغاني فحلف أن لا يبيعها (أي الحلة) أو يعطوه بعضاً ليكون في كفنه فأعطوه فردكم أي كماً واحداً وقد ورد هذا في غير الأغاني من كتب البلغاء.
الدقيقة الخامسة والعشرون
لم أر من نص على أن حيث تقع في مقام التعليل مع أنها وردت للتعليل في كلام البلغاء كالزمخشري والبيضاوي وقال الأول والأمر على عكس ما قدروا حيث هم جند لآلهتهم معدون وقال الثاني وما ضررتم بالكفران إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام وهي في كلام هذين الإمامين بمعنى لأن.
الدقيقة السادسة والعشرون
إذا جاء في لفظ مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى فإن روعي أحدهما في جملة جاز أن يراعى الآخر في أخرى. قال في سورة الحجر وما تسبق أمة أجلها وما يستأخرون وقال غلاق بن مروان وهو من شعراء الحماسة:
فأضحت زهير في السنين التي مضت ... وما بعد لا يعدون إلا الأشائما
الدقيقة السابعة والعشرون
إذا قيل لا أشجع من عمرو ولا أجبن من خالد ولذلك يشبه بهما كل متناهٍ في الشجاعة وكل متناهٍ في الجبن يكون المراد أن كل متناهٍ في الشجاعة يشبه بعمرو وكل متناهٍ في الجبن يشبه بخالد - لا أن كل متناهٍ في الشجاعة يشبه بخالد ولا كل متناهٍ في الجبن يشبه بعمرو(63/65)
خلافاً لما يماري فيه من يدعون التعمق في علم العربية وإنما هم واقفون عند ظواهرها وتعزيزاً لهذا أروي لك ما يبين لك الأمر كالصبح قال البيضاوي في تفسير سورة يوسفوذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذلك يشبه كل متناهٍ في الحسن والقبح بهما اه - يريد أن كل متناه في الحسن يشبه بالملك وكل متناهٍ في القبح يشبه بالشيطان.
بيروت -
سعيد الخوري الشرتوني(63/66)
العدد 64 - بتاريخ: 1 - 6 - 1911(/)
الفروق
للعرب كتب كثيرة في الفروق وأفردوها في التأليف وقد ذكر منها صاحب كشف الطنون رسالة في فروق الأصول وأخرى في فروق فروع الحنفية للكرابيسي النيسابوري المتوفي سنة 774 وغيرها للشيخ الكرابيسي السمرقندي المتوفي سنة 322 وثانية اسمها فروق الكرابيسيي المسمى بتلقيح المحبوب ورابعة في فروق فروع الشافعية لابن سريج وأخرى للجويني ولابن النقاش وللترمزي (255) وللأرموي (772) قال ذكر الأسنوي في مطالع الدقائق أن المطارحة بالمسائل ذوات المأخذ المؤتلقة المتفقة والأجوبة المختلفة المفترقة من مآثر وأفكار العلماء وقال قد رأيت لأصحابنا في هذا المعنى تصانيف منها ما هو موضوع لهذا المعنى بخصوصه ومنها ما هو مشتمل على أعم منه فمن الأول كتاب الجمع والفروق للشيخ أبي محمد الجويني ومنه كتاب الوسائل في فروق المسائل مجلد ضخم لأبي الخير سلامة بن اسمعيل بن جماعة المقدسي ومن الثاني كتاب المطارحات لأبي عبد الله القطان ظفر به الرافعي ونقل عنه في كتاب الغصب ومنه المسكت بالسين المهملة والتاء المثناة لابن عبد الله الزبيري ومنها المعاياة لأبي العباس الجرجاني وهذا الباب واسع جداً اشتمل على الغثِّ والثمين.
ومن جملة المخطوطات التي حوتها خزانة كتب السيد عبد الباقي الحسيني مخطوط فيه أربع رسائل وسمى أولها بكتاب المتوكلي يذكر فيه ما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والتركية والزنجية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية وغير ذلك لجلال الدين السيوطي والثانية الأحاديث الثمانية المنتخبة من نوادر الأصول العالية لأبي الضيا البوتيجي ويليه حسن النسيم بدار النعيم للطبلاوي ويليه المنتخب من كتاب الفروق لأبي هلال العسكري. وليس على المجموع كناية يعرف منها تاريخ كتابته إلا أن الظاهر من خطه وورقه أنه حديث وربما كانت الرسالة الأخيرة منه في الفروق أقدم من الثلاث الأولى لأنها مكتوبة بخط مختلف عن الخط الأول ولم يذكر فيه اسم صاحبها والغالب أنه تركي كتب على حاشية الصفحة الأولى ما نصه: الفرق بين الاسامة والأسد اسم للجنس والاسامة علم للجنس والفرق بين علم الجنس واسم الجنس أن علم الجنس موضوع للماهية المشتركة واسم الجنس موضوع للافراد جلبي وقال على الحاشية الإنسان والفرس والبقر فإنها علم للحقيقة المشتركة بين المذكر والمؤنث شرح وفي(64/1)
آخر رسالة تمت (؟) الكتاب بعون الملك الوهاب. وبذلك يستدل على أعجمية الكاتب والمختصر وإليك الرسالة برمتها:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين أما بعد حمد الله والصلوة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد وعلى سائر رسل الله وملائكته المقربين والرضى عن الصحابة والتابعين فهذه شذرة علقتها من كتاب الفروق لأبي هلال العسكري رحمه الله.
الفرق بين الاختصار والإيجاز أن الاختصار هو إلقاؤك الألفاظ من كلام مؤلف سبق حدوثه من غير إخلال بمعانيه والإيجاز هو الكلام على قلة اللفظ وكثرة المعاني.
الفرق بين الإطناب والإسهاب أن الإطناب بسط الكلام لتكثير الفائدة والإسهاب بسطه مع قلتها فالإطناب بلاغة والإسهاب عيٌّ.
الفرق بين المحال والممتنع على ما قاله بعض العلماء أن المحال ما لا يجوز كونه ولا يتصور مثل قولك الجسم أسود أبيض في حالة واحدة والممتنع ما لا يجوز كونه ويجوز تصوره في أهم مثل قولك للإنسان عش أبداً.
الفرق بين الإنكار والجحد أن الجحد أخص من الإنكار لأن الجحد إنكار الشيء الظاهر لقوله تعالى بآياتنا يجحدون والإنكار لشيء خفي لقواه تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها لأن النعمة قد تكون خافية ويجوز أن يقال الجحد وإنكار الشيء مع العلم به لقوله تعالى وجحدوا بها والإنكار لا يكون مع العلم.
الفرق بين الزور والكذب والبهتان أن الزور هو كذب قد حسن في الظاهر ليحسب أنه صدق بخلاف الكذب وأما البهتان فهو مواجهة الإنسان بما يكرهه.
الفرق بين الافتراء والاختلاق أن المفتري يقطع بالكذب ويخبر به والمختلق يبتدئ كذباً ويخبر به.
الفرق بين الإقرار والاعتراف أن الإقرار فيما قاله أداءُ معاني أخبار عن شيء ماض وهو في الشريعة جهة ملزمة للحكم وقال بعضهم الاعتراف كالإقرار وقال أبو هلال يجوز أن يقر بالشيء وهو لا يعرف أنه أقر به ويجوز أن يقر بالباطل الذي لا أصل له ولا يقال لذلك اعتراف إنما الاعتراف هو الإقرار الذي صحبته المعرفة بما أقرَّ به مع التزام له ولهذا يقال اعتراف بالنعمة ولا يقال إقرار بها فكل اعتراف إقرار وليس كل إقرار اعترافاً(64/2)
ولهذا اختار أصحاب الشروط الإقرار لأنه أعم ونقيض الاعتراف الجحد ونقيض الإقرار الإنكار.
الفرق بين الشكر والحمد أن الشكر هو الاعتراف بالنعمة علة جهة التعظيم للمنعم والحمد هو الذكر الجميل على جهة التعظيم ويجوز أن يحمد الإنسان نفسه على أمور جميلة يأتيها ولا يجوز أن يشكرها فالاعتماد في الشكر على توجيه النعمة وفي الحمد على ما توجيه الحكمة ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الاكفار ولا يجوز أن يطلق الحمد إلا لله تعالى.
الفرق بين الحمد والمدح أن الحمد لا يكون إلا على إحسان بخلاف المدح.
الفرق بين الجزاء والمكافأة والمقابلة أن الجزاء لا يلزم فيه المساواة بخلاف المكافأة والمقابلة وعورض بقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها الآية.
الفرق بين الثناء والنثاء على ما قال بعضهم أن الثناء بتقديم الثاء يكون في الخير والشر والنثاء بتقديم النون لا يكون إلا في الشر والصحيح أن الثناء وهو الأول لا يكون إلا في الخير وربما استعمل في الشر والنثاء وهو الثاني يكون في الخير والشر.
الفرق بين السب والشتم أن الشتم تقبيح أمر المشتوم بالقول والسب هو الإطناب في الشتم والإطالة فيه.
الفرق بين الشتم والسفه أن الشتم قد يكون حسناً إذا كان المشتوم يستحق الشتم والسفه لا يكون إلا قبيحاً.
الفرق بين الذم واللوم أن اللوم على الفعل الحسن والذم لا يكون إلا على القبيح.
الفرق بين العتاب واللوم أن العتاب هو يكون على تضييع حقوق المودة والصداقة بخلاف اللوم.
الفرق بين المستقيم والصحيح والصواب أن كل مستقيم صحيح وليس كل صواب صحيح مستقيماً.
الفرق بين المستقيم والصواب أن الصواب إطلاق الاستقامة على الحسن والمستقيم هو الجاري على سنن وإن كان قبيحاً.
الفرق بين الخطأ والغلط أن المخطئ من يقصد الشيء فيصيب غيره وأما الغلط فهو وضع الشيء في غير موضعه.(64/3)
الفرق بين اللحن والخطأ أن اللحن في القول فقط والخطأ في القول والعمل.
الفرق بين العقد والعهد أن العقد أبلغ من العهد.
الفرق بين العهد والميثاق أن الميثاق توكيد العهد وقال بعضهم العهد بين اثنين والميثاق من أحدهما.
الفرق بين الوعد والعهد أن العهد ما كان بشرط قال الله ولقد عهدنا إلى آدم الآية أن لا يخرج من الجنة ما لم يأكل من الشجرة بخلاف الوعد ويقال نقض العهد وأخلف الوعد.
الفرق بين التفسير والتأويل قيل أن التفسير هو الإخبار عن أفراد آحاد الجملة والتأويل الإخبار بمعنى الكلام جملة وقيل التفسير إفراد ما ينظمه ظاهر التنزيل والتأويل إخبار بغرض المتكلم وقيل التأويل استخراج معنى الكلام لا على ظاهره بل على وجه مجاز أو حقيقة.
الفرق بين الشرح والتفصيل أن الشرح بيان المشروح وإخراجه من وجه الإشكال إلى التجلي والظهور ولهذا لا يستعمل الشرح في القرآن والتفصيل هو ذكر ما تضمنته الجملة على سبيل الإفراد ولهذا قال الله تعالى ثم فصلت من لدنٍ حكيم ولم يقل شرحت.
الفرق بين التقسيم والتفصيل أن في التفصيل معنى البيان عن كل قسم بما يريد ذكره فقط والتقسيم يحتمل الأمرين والتقسيم يفتح المعنى ولتفصيل يتم بيانه.
الفرق بين القرآن والفرقان أن القرآن أعم والفرقان هو الفارق بين الحق والباطل والمؤمن والكافر.
الفرق بين السلام والتحية أن التحية أعم من السلام.
الفرق بين العام والمبهم أن العام يشتمل على أشياء والمبهم يتناول واحد الأشياء بعينه.
الفرق بين فحوى الخطاب ودليل الخطاب أن فحوى الخطاب باللفظ كقوله تعالى ولا تقل لهما أفٍّ ودليل الخطاب هو ما تعلق بصفة الشيء أو عدده أو حاله أو غايته ونحوها.
الفرق بين البيان والفائدة أن البيان لمعرفة غيره والمعرفة لنفسه
الفرق بين القراءة والتلاوة أن التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعداً والقراءة تكون لكلمة واحدة.
الفرق بين المنازعة والمطالبة أن المطالبة تكون بما يعترف به المطلوب والمنازعة لا(64/4)
تكون إلا فيما ينكره المطلوب.
الفرق بين المسألة والفتيا أن المسألة عامة في كل شيء والفتيا سؤال عن حادثة.
الفرق بين بلى ونعم أن بلى لا تكون إلا جواباً لما تقدم جحوده كقوله تعالى: ألست بربكم قالوا بلى أما نعم فلا تكون إلا للاستفهام بلا جحود وكقوله تعالى: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً قالوا: نعم.
الفرق بين الوسوسة والفزع أن الفزع الإغواء بالوسوسة وأكثر ما يكون عند الغضب.
الفرق بين الدلالة والامارة أن الدلالة ما يؤدي النظر فيه إلى العلم والامارة ما يؤدي النظر فيه إلى الظن.
الفرق بين الاستدلال والدلالة أن الدلالة ما يمكن الاستدلال به والاستدلال فعل المستدل.
الفرق بين النظر الاستدلال أن الاستدلال طلب معرفة الشيء من جهة غيرة والنظر طلب معرفته من جهته ومن جهة غيره.
الفرق بين النظر والتأمل أن النظر هو ما ذكرناه والتأمل هو النظر المؤمل به معرفة ما يطلب ولا يكون إلا في مدة فكل تأمل نظر وليس كل تأمل نظراً.
الفرق بين النظر والبديهة أن البديهة أول النظر يقال عرفته على البديهة أي في أول أحوال النظر.
الفرق بين البديهة والروية أن الروية على ما قال بعضهم آخر النظر والبديهة أوله.
الفرق بين النظر والفكر أن النظر يكون فكراً ويكون بداهة والفكر ما عدا البديهة.
الفرق بين التفكر والتدبر أن التدبر صرف القلب بالنظر في العواقب والتفكر تصرف للقلب بالنظر في الدلائل.
الفرق بين الانتظار والترجي أن الترجي انتظار الخير خاصة ولا يكون إلا مع الشك وأما الانتظار والتوقع فهو طلب ما يقدر إيقاعه.
الفرق بين الانتظار والتربص أن التربص طول الانتظار.
الفرق بين الخاطر والنظر أن الخاطر مرور معنى بالقلب بمنزلة خطاب مخاطب وعند بعضهم أنه كلام يحدثه الله تعالى أو الملك في سمع الإنسان فإذا كان من الشيطان سمي وسواساً وعورض بالأخرس فإن له خاطراً ولا كلام له.(64/5)
الفرق بين الذكر والخاطر أن الخاطر يكون ابتداء ويكون عن عزوب والذكر لا يكون إلا عن عزوب.
الفرق بين العلم والمعرفة أن المعرفة أخص من العلم لأنها لا تكون إلا مفصلة والعلم يكون مجملاً ومفصلاً قال بعضهم: ولا يوصف الله بأنه عارف قال المؤلف وليس كما قاله.
الفرق بين العلم واليقين أن العلم معرفة الشيء على ما هو به أو اعتقاده واليقين هو سكون النفس بما علم وبهذا لا يجوز أن يوصف الله باليقين ويقال اليقين لا يزال بالشك وقلَّ أن يقال العلم لا يزال بالشك.
الفرق بين الشعور والعلم أن الشعور النظر الدقيق الموصل للعلم والعلم أعم.
الفرق بين المعرفة الضرورية والإلهام أن الإلهام ما يبدو في القلب من المعارف بطريق الخير فيفعل وبطريق الشر فيترك والمعارف الضرورية أربعة عند المشاهدة وعند التجربة وعند الإخبار وعند أوائل العقل.
الفرق بين العالم والمحقق أن المحقق هو المتطلب حق المعنى حتى يدركه ولهذا لا يقالان الله محقق وقيل التحقيق لا يكون إلا بعد الشك بخلاف العلم.
الفرق بين العلم والعقل أن العقل هو العلم الأول الزاجر عن القبيح وكل من كان زاجره أقوى كان أعقل ولهذا لا يوصف الله تعالى به وقال بعضهم العقل الحفظ يقال عقلت الدرهم أي حفظتها ومن هذا الوجه يجوز أن يقال الله تعالى عاقل أي حافظ إلا أنه لم يستعمل.
الفرق بين الذهن والعقل أن الذهن هو نقيض سوء الفهم وهو عبارة عن وجود الحفظ لما يتعلمه ولا يوصف الله تعالى به والعقل ما تقدم.
الفرق بين الفطنة والذهن أن الفطنة هي التنبه على المعنى وضدها الغفلة ويجوز أن يقال أن الفطنة ابتداء المعرفة من وجه غامض وكل فطنة علم لا كل علم فطنة والذهن ما تقدم.
الفرق بين الفطنة والذكاء أن الذكاء تمام الفطنة وفي الذكاء معنى زائد عن الفطنة.
الفرق بين الفطنة والحذاقة أن الحذاقة هي سرعة الحركة في الأمور وأصلها الحدة والتناهي فلما كان الله تعالى لا تتناهى معلوماته لم يجز أن يوصف بالحذاقة والفطنة ما تقدم.
الفرق بين الألمعي واللوذعي أن اللوذعي هو الخفيف الظريف مأخوذ من لذع النار وهو(64/6)
سرعة أخذها من الشيء والألمعي هم الفطن الذكي الذي تبين له عواقب الأمور بأدنى لمعة أي لوح له.
الفرق بين القريحة والطبيعة أن الطبيعة ما طبع عليه الإنسان أي خلق والقريحة فيما قال المبرد ما خرج من الطبيعة من غير تكلف وقولهم ماءٌ قراحٌ أي لم يخالطه شيءٌ وللأرض التي لا تنبت قرواح والشجرة إذا جاوزت الدهر قرواحة والفرس القارح القديم السن وأما القرح في الجلد والقرحة شبيهه.
الفرق بين العلم والفقه أن الفقه هو العلم بمقتضى الكلام على ما تأمله بخلاف العلم ولهذا لا يقال أن الله تعالى تفقه لأنه لا يوصف بالتأمل.
الفرق بين السمع والإصغاء أن السمع هو إدراك المسموع والإصغاء طلب إدراكه.
الفرق بين السمع والاستماع هو الإصغاء للمسموع ليفهم بخلاف السمع ولهذا لا يقال أن الله تعالى يستمع.
الفرق بين العلم والإدراك أن الإدراك موقوف على أشياء مخصوصة وليس العلم كذلك والإدراك يتناول الشيء على أخص أوصافه وعلى الجملة فالعلم يقع بالمعدوم ولا يدرك إلا الموجود والإدراك طريق من طريق العلم ولهذا العلم قوته ضعفه بالمدرك والدراية هي الفهم.
الفرق بين الإحساس والإدراك على ما قاله بعضهم أنه يجوز أن يدرك الإنسان الشيء وإن لم يحس به كما يدركه ببصره ويغفل عنه فلان فلا يعرفه وقال أهل اللغة لما أشعرت به أحسست به أي أدركته بحسك وفي القرآن: فلما أحسوا بأسنا وفيه: فتحسسوا من يوسف وأخيه أي تعرفوا بإحساسهم وقال بعضهم الحس هو أول العلم ومنه قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم بالكفر أي علمه من أول وهلة ولا يجوز أن يقال الإنسان يحس بوجود نفسه.
الفرق بين العلم والاعتقاد أن العلم أعم فلا يلزم من العلم الاعتقاد بخلاف عكسه.
الفرق بين العلم والحفظ أن الحفظ هو العلم بالمسموعات دون غيرها من المعلومات ألا ترى لا يقال حفظت أن زيداً في البيت ولا يقال للعلم بالمشاهدات حفظ ويجوز أن الحفظ هو العلم بالشيء حالاً بعد حال من غير تخلل جهل أو نسيان ولهذا سمي حفاظ لقران حفاظاً ولا يوصف الله بالحفظ لذلك.(64/7)
الفرق بين الذكر والتنبه أن الذكر هو العلم بالحادث بعد النسيان بخلاف التنبه.
الفرق بين العلم والإحاطة أن الإحاطة كالدائرة من كل وجه تجيء بمعنى العام وبمعنى القدرة وقد جاء لفظة الإحاطة في القرآن كثيراً منه قوله تعالى وكان الله بكل شيء محيطاً وقد أحاط بكل شيء علماً والله محيط بالكافرين والعلم ما تقدم.
الفرق بين المعروف والمشهور أن المشهور هو المعروف عند جماعة كثيرة والمعروف هو المعروف ولو عن واحد.
الفرق بين العلم والشهادة أن العلم أعم والشهادة أخص.
الفرق بين الشاهد والمشاهد أن المشاهد للشيء هو المدرك له رؤية وقيل رؤية أو سمعاً وهو في الرؤية أشهر ولا يقال أن الله لم يزل مشاهداً لأنه يقتضي إدراكاً بجله والشاهد هو يقتضي ذلك.
الفرق بين الشاهد والحاضر أن الشاهد للشيء يقتضي العلم بخلاف الحاضر ألا ترى أنه يقال حضره الموت لا شاهده الموت ولا يصح وصف الموت بالعلم.
الفرق بين الإعلام والإخبار أن الإعلام التعريض بما علم به والإخبار إظهار الخبر علم به أو لم يعلم.
الفرق بين العلم والتقليد أن العلم معرفة الشيء واعتقاده على ما هو به على سبيل الثقة والتقليد قوبل الأمر ممن لا يؤمن عليه الغلط بلا حجة.
الفرق بين النسيان والسهو أن النسيان إنما يكون عما كان والسهو يكون عما لم يكن يقال نسيت ما عرفته وبهذا يقال سهوت عن السجود الذي لم يكن ويقال النسيان عن ذكر والسهو عن ذكر وعن غيره.
الفرق بين السهو الغفلة أن الغفلة تكون عما لا يكون والسهو عما يكون وفرق آخر وهو أن الغفلة تكون عن فعل الغير ولا يجوز عن يسهى عن فعل الغير.
الفرق بين النوم والإغماء أن الإغماء سهو من مرض فقط والنوم سهو بمحدث من فتور جسم.
الفرق بين الظن والحسبان على قول بعضهم أن الظن ضرب من الاعتقاد والحسبان ليس بالاعتقاد.(64/8)
الفرق بين الريبة والتهمة وكلاهما مذمومتان أن الريبة في الإنسان تورث شكاً في صلاحه مثلاً والتهمة تورث مقالاً فيه فكل مرتاب متهم وكل متهم ليس بمرتاب.
الفرق بين التصور والتخيل أن التصور لا يثبت على حال وقيل التخيل تصور الشيء على أوصافه والتخيل والتصور منافيان العلم كما أن الظن والشك ينافيانه.
الفرق بين الحماقة والرقاعة أن الرقاعة على ما قال بعضهم حمق مع رفعة وعلو رتبة ولا يقال أحمق إذا كان سيداً أو رئيساً أو ذا مالٍ أو جاه.
الفرق بين الحياة والعيش أن العيش سبب الحياة من أكل وشرب ونحوهما.
الفرق بين الحياة والروح أن الروح من قرائن الحياة والحياة عرض والروح جسم رقيق من جنس الريح وقيل هي جسم رقيق حساس وزعم الأطباء أن موضعها في الصدر من الحجاب والقلب وذهب بعضهم إلى أنها مبسوطة في جميع البدن وفيه خلاف كير وسمي جبرائيل عليه السلام روحاً لأن الناس ينتفعون به في دينهم كانتفاعهم بالروح وبهذا المعنى سمي القرآن روحاً.
الفرق بين الروح والمهجة والنفس والذات أن الروح ما تقدم والمهجة خالص دم الإنسان الذي إذا خرج خرجت روحه وهو دم القلب والنفس مشتركة يقع على الروح والذات.
الفرق بين الإهلاك والإعدام أن الإهلاك أعم من الإعدام فكل إعدام إهلاك وليس كل إهلاك إعداماً.
الفرق بين القدرة والقهر أن القدرة تكون على صغير لقدور كبيرة والقهر يدل على كبير المقدور.
الفرق بين الغلبة والقدرة أن الغلبة من فعل الغالب وليست القدرة من فعل القادر.
الفرق بين القهر والغلبة أن الغلبة من نتاج القدرة.
الفرق بين القادر والقوي أن القوة أخص والقوة أعم فكل قوي قادر لا كل قادر قوي.
الفرق بين القوة والشدة أن الشدة ليست من قبيل القدرة قال الله تعالى: أشد منهم قوة أي أقوى منهم وفي القرآن: ذو القوة المتين أي العظيم الشأن في القوة.
الفرق بين الشدة والصعوبة أن الشدة ما ذكرناه والصعوبة تكون في الأفعال دون غيرها.
الفرق بين الصحة والعافية أن الصحة أعم والعافية أخص.(64/9)
الفرق بين الصحة والسلامة أن السلامة نقيض الهلاك والصحة نقيض السقم.
الفرق بين القدرة والطاقة أن الطاقة غاية مقدرة القادر واستفراغ وسعه في المقدور ولا يقال تعالى مطيق.
الفرق بين القدرة والاستطاعة أن القدرة أعم والاستطاعة أخص وكل مستطيع قادر لا كل قادر مستطيع.
الفرق بين القادر والمتمكن قال بعضهم معناهما واحد وبعضهم فرق والاستطاعة والتمكن من صفات المخلوقين.
الفرق بين الدوام والخلود أن الدوام هو استمرار البقاء في جميع الأوقات والخلود هو استمرار البقاء من وقت المبدأ والله تعالى موصوف بالدوام لا بالخلود.
الفرق بين الدائم والسرمد أن السرمد هو الذي لا فصل فيه بل اتباع الشيء بالشيء.
الفرق بين الخلود والبقاء أن الخلود استمرار البقاء من وقت له مبدأ وأصل الخلود اللزوم.
الفرق بين القديم والباقي أن الباقي هو الموجود لا عن حدوث والقديم ما لم يزل كائناً موجوداً والقديم على الحقيقة هو الذي لا أول لوجوده.
الفرق بين الأول والسابق أن السابق يقتضي أن يكون ثم مسبوق والأول لا يقتضي ثانياً ألا ترى أنك تقول هذا أول موجود ولد لفلان وإن لم يولد له غيره وأول عبد يملكه حي وإن لم يملك غيره وبهذا يبطل قول الملحدين أن الأول لا يسمى أول إلا بالإضافة إلى الثاني.
الفرق بين الحب والود أن الحب فيما يكون يوجبه ميل الطباع والود من جهة ميل الطباع فقط.
الفرق بين الإرادة والرضا أن الإرادة تكون الطاعة قبلها والرضا بها يكون بعدها أو معها والرضا نقيض السخط والسخط من الله تعالى إرادة العقاب فينبغي أن يكون الرضا منه إرادة الثواب.
الفرق بين الإرادة والمشيئة أن الإرادة لما يتراخى وقته ولما لا يتراخى والمشيئة لما يتراخى وقتها فقط.
الفرق بين المشيئة والعزم أن المشيئة تقدم والعزم إرادة يقطع بها المريد رؤيته في الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه ويختص بإرادة المريد لفعل نفسه لأنه لا يجوز أن يعزم على(64/10)
فعل غيره.
الفرق بين العزم والنية أن النية إرادة متقدمة لتفعل بأوقات والعزم قد يكون متقدماً للمعزوم عليه بأوقات أو توقت ولا يوصف الله تعالى بالنية ولا بالعزم.
الفرق بين الإرادة والاختيار أن الاختيار إرادة الشيء بدلاً من غيره بخلاف الإرادة.
الفرق بين القصد والإرادة أن قصد القاصد مختص بفعله دون فعل غيره والإرادة غير مختصة بأحد الفعلين دون الآخر والقصد أيضاً إرادة الفعل في حال اتحاده فقط إذا تقدمته بأوقات لم يسم قصداً إلا أنه لا يقال قصدت أن أزورك غداً.
الفرق بين الهم والإرادة إن الهم إجراء العزيمة عند موافقة الفعل وقيل الهم تعلق الخاطر بشيء له قدر في الشدة والمهمات الشدائد.
الفرق بين الهمة والقصد أن الهمة اتساع الهم وقوته فتقول فلان ذو همة وذو عزيمة.
الفرق بين الغضب والغيظ أن الغيظ يكون من نفسه ولا يجوز أن يغضب على نفسه لأن الغضب إرادة الضرر للمغضوب عليه ولا يجوز أن يريد الإنسان الضرر لنفسه.
الفرق بين الهم والحزن أن الحزن على ما فات والهم على ما هو آت فقلته من غير الكتاب المذكور.
الفرق بين الغضب والسخط أن الغضب يكون من الصغير على الكبير ومن الكبير على الصغير والسخط لا يكون إلا من الكبير فقط.
الفرق بين العداوة والشنآن أن العداوة إرادة السوء لمن تعاديه والشنآن على قول بعضهم طلب العتب على فعل الغير لما سبق من عداوته.
الفرق بين المعاداة والمخاصمة أن المخاصمة من قبل القول والمعاداة من أفعال القلوب ويجوز أن يخاصم غيره من غير معاداة وأن يعادي غيره من غير مخاصمة.
الفرق بين الاختراع والابتداع أن الابتداع إيجاد ما لم يسبق إلى مثله بخلاف الاختراع.
الفرق بين الفعل والإنشاء أن الإنشاء هو إحداث الشيء حالاً بعد حال من غير ابتداءً على مثال بخلاف الفعل وقال بعضهم أن الإنشاء الابتداء والإيجاد من غير سبب والفعل يكون عن سبب قال آخرون الفعل إيجاد بعد أن لم يكن بسبب وبغير سبب والإنشاء ما يكون بغير سبب والوجه الأول أجود.(64/11)
الفرق بين المبدئ والمبتدئ للفعل هو المحدث له ولا يقدر عليه إلا الله تعالى والمبتدئ بالفعل هو الفاعل لفعله من غير تتميمه.
الفرق بين العمل والفعل أن العمل إيجاد الأثر في الشيء بخلاف الفعل.
الفرق بين العمل والصنع أن الصنع ترتيب العمل وإحكامه دون العمل.
الفرق بين الجعل والعمل أن العمل إيجاد الأثر في الشيء والجعل بغير صورته.
الفرق بين الأخذ والتناول أن التناول أخذ الشيء للنفس خاصة والأخذ لنفسه ولغيره فهو أعم ويجوز أن يقال التناول يقتضي تسليم شيء بخلاف الأخذ قال الله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم.
الفرق بين الواحد والفرد أن الواحد يقتضي الانفراد بالذات أو بالصفة والفرد نقيض الزوج.
الفرق بين الانفراد والاختصاص أن الانفراد ما تقدم والاختصاص انفراد بعض الأشياء بمعنى دون غيره.
الفرق بين الواحد والأوحد أن الأوحد من فارق غيره ممن يشاركه في فن من الفنون بخلاف الواحد.
الفرق بين الفرد والواحد أن الفرد يفيد التقليل دون التوحيد ولهذا لا يقال لله تعالى فريد كما يقال له فرد.
الفرق بين الواحد والمنفرد أن المنفرد يقتضي التخلي والانقطاع عن الغرباء ولهذا لا يقال لله تعالى المنفرد بالنون كما يقال يتفرد بالتاء المتخصص بتدبير الخلق وغير ذلك مما يختص به من صفاته وأفعاله سبحانه وتعالى.
الفرق بين الواحد والوحيد والفريد أن الوحيد والفريد يقتضي التخلي عن الأنيس ولا يوصف به إلا الله تعالى بخلاف الواحد.
الفرق بين التفرد والتوحيد أن التفرد بالفضل والنبل والتوحيد التخلي.
الفرق بين الوحدانية والوحدة أن الوحدة التخلي والوحدانية تقتضي نفي الأشكال والنظراء ولا يستعمل في غير الله تعالى واحد من طريق العدد.
الفرق بين الواحد والأحد أن الواحد لا ثاني له والأحد لا يقبل التجزي والواحد يختص(64/12)
بالصفات والأحد بالذات.
الفرق بين الكل والجمع أن الكل عند بعضهم هو الإحاطة بالأجزاء والجمع الإحاطة بالأبعاض.
الفرق بين البعض والجزء أن الجزء لا ينقسم وأن البعض ينقسم ويقتضي كلا والجزء يقتضي جمعاً.
الفرق بين الجزء والسهم أن الجزء من جملة ما أقسمت عليه والاثنان جزءٌ من العشرة والثلاثة ليست بجزءٍ منها لأنها لا تنقسم عليه وكل ذلك يسمى سهماً كما قال بعضهم.
الفرق بين الشبيه والمشبه أن الشبيه أعم والمشبه أخص.
الفرق بين المثيل والنظير أن المثيلين ما تكافآ في الذات والنظير ما قل نظيره في حسن أفعاله.
الفرق بين الصفة والهيئة من قبيل الأسماء واستعمالها في المسميات وليست الهيئة كذلك.
الفرق بين الجنس والنوع أن الجنس أعم من النوع والصفة.
الفرق بين الحظ والقسم أن كل قسم حظ وليس كل حظ قسماً.
الفرق بين النصيب والحظ أن النصيب يكون في المحبوب والمكروه والحظ لا يكون إلا في المحبوب.
الفرق بين الرزق والغذاء أن الرزق اسم لما يملك صاحبه الانتفاع به فليس كل ما يتغذى به الإنسان رزقاً كالمسروق وليس هو رزقاً للسارق إذ لو كان رزقاً له لما ذم عليه والرزق ما ينتفع به ليدخل الحرام والإلزام أنه لو عاش عمره بالحرام لم يكن له رزق وأما الذم علي فأمر آخر.
الفرق بين البر والصلة أن البر يكون بسعة الفضل وبلين الكلام وبالملقة بجهل (؟) القول والفعل والصلة بالمواصلة بالفضل.
الفرق بين البر والخير أن البر لا يكون إلا عن قصد والخير عن قصد وسهو.
الفرق بين الغنيمة والفيء أن الغنيمة اسم لما أخذناه من أموال المشركين بقتال والفيء ما أخذناه من أموالهم بغير قتال إذ سبب أخذه الكفر.
الفرق بين القرض والدين أن القرض يستعمل في الدين والنقد بخلاف الدين فكل قرض(64/13)
دين ولا كل دين قرض.
الفرق بين السخاء والجود أن الجود كثرة العطاء من غير سؤال والسخاء أن يلين عند السؤال.
الفرق بين الكرم والجود أن الجود ما ذكرنا والكرم على وجوه فيقال الله تعالى كريم أي عزيز وهو من صفات ذاته ومنه قوله تعالى ما غرَّك بربك الكريم أي العزيز الذي لا يغلب والكريم الحسن في قوله تعالى من كل زوج كريم ومثله وقل لهما قولاً كريماً أي حسناً والكرم بالفضل في قوله تعالى أن أكرمكم عند الله أتقاكم أي أفضلكم ومنه قوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم أي فضلناهم والكريم أيضاً السعيد في قوله عليه الصلاة والسلام إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه أي سيد قومٍ ويجوز أن يقال الكرم إعطاء الشيء عن طيب نفس قليلاً كان أو كثيراً هذا كلام من الكتاب وفي كتب الفقه أشياءٌ غير ذلك فلتراجع.
الفرق بين الكرم والإيثار أن الإيثار بذل الشيء مع الحاجة إليه بخلاف الكرم والجود والسخاء.
الفرق بين الشح والبخل أن الشح الحرص على منع الخير والبخل منع الحق.
الفرق بين الصمد والسيد أن السيد المالك والصمد يقتضي القوة على الأصوب.
الفرق بين سيد القوم وأكبرهم أن سيدهم هو الذي يلي تدبيرهم وكبيرهم هو الذي يفضلهم في العلم والسن والشرف.
الفرق بين مالك وملك أن مالك يفيد مملوكاً وملك لا يفيد ذلك لكنه الأمر بسعة القدرة على أن المالك بيان أوسع من الملك لأنك تقول الله مالك الملائكة والأنس والجن.
الفرق بين مالك ومليك أن المليك يقتضي المبالغة مثل سميع وعليم ولا يقتضي مملوكاً.
الفرق بين العظيم والكبير أن الكبير الذي ليس فوقه أحد وقد يكون من جهة الكثرة ومن غير جهة الكثرة ولذلك جاز بأن يوصف الله تعالى بأنه عظيم ولم يوصف سبحانه بأنه كبير فقط وقد يعظم الشيء من جهة الحسن ومن جهة التثقيف وفرق بعضهم بين الجليل والكبير بأن قال الجليل في أسماء الله تعالى هو العظيم الشأن الذي يستحق الحمد والكبير من يستحق صفة الحمد والأجلُّ من ليس فوقه من هو أجل منه.
الفرق بين الإله والمعبود أن الإله هو الذي يحق له العبادة فلا إله إلا الله وليس كل معبود(64/14)
يحق له العبادة ألا ترى أن الأصنام معبودة والمسيح معبود ولا يحق لها ولا له العبادة.
الفرق بين قولنا الله وبين قولنا إله أن قولنا الله اسم لم يسم به غير الله تعالى إلهاً على جهة الخطأ وأما قول الناس لا معبود إلا الله أي لا يستحق العبادة إلا الله.
الفرق بين قولنا يحق له العبادة وقوله يستحق العبادة أن قولنا يحق له العبادة يفيد على أنه صفة يصح أنه منعم وقولنا يستحق يفيد أنه قد أنعم واستحق.
الفرق بين الله وقولنا اللهم أن قولنا الله اسم وقولنا اللهم نداءٌ أي يا امه.
الفرق بين النصير والولي أن الولاية قد تكون بإخلاص المودة والنصرة تكون بالمعونة والتقوية ولا تمكن النصرة مع الولاء.
الفرق بين الحكم والقضاء والقدر والتقدير أن الحكم إلزام قد يكون عن خصومة وقد فصل الأمر على الأحكام مما يقتضيه الشرع والعقل والقضاء والفصل الأمر التمام (؟) وأما المقدر فهو على ما قاله بعضهم وجود القول على مقدار ما أراده ولا يستعمل إلا في أفعال الله تعالى وأما التقدير فيستعمل في أفعاله وأفعال عباده.
الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة أبلغ من الرحمة.
الفرق بين الضر والبؤس أن الضر يكون من حيث لا يعلم المقصود به والبؤس لا يكون إلا من حيث يعلم.
الفرق بين المضرة والإساءة أن الإساءة قبيحة والمضرة قد تكون حسنة نحو المضرة بالضرب للتأديب والتعليم.
الفرق بين الإمهال والإنظار أن الإنظار مقرون فيما يقع فيه النظر والإمهال فيه (؟) وقيل الإنظار تأخير العبد للنظر في أمره والإمهال تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله.
الفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة التقدم فيما ينبغي أن يتقدم فيه وهي محمودة ونقيضها مذموم وهو الإبطاء والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة ونقيضها محمود وهي الأناة وأما قوله تعالى: وعجلت إليك رب لترضى فانه بمعنى أسرعت.
الفرق بين الهداية والإرشاد أن الإرشاد إلى الشيء هو التطريق إليه والتسنن له والهداية هي التمكن من الوصول إليه.(64/15)
الفرق بين الخير والصلاح أن الصلاح هو الاستقامة على ما تدعو له الحكمة في الضر والنفع والخير أعم وأفعال الله كلها خير.
الفرق بين الصلاح والفلاح أن الصلاح ما يتمكن به من الخير أو يتخلص به من الشر والفلاح نيل الخير والنفع الباقي.
الفرق بين الفساد والقبيح أن الفساد هو التغيير عما تدعو إليه الحكمة والقبيح ما يزجر عن الحكمة.
الفرق بين الدين والملة أن الملة اسم لجملة الشريعة والدين اسم لما عليه كل واحد من أهلها.
الفرق بين بين العبادة والطاعة أن العبادة غاية الخضوع ولا تكون إلا لله والطاعة الفعل الواقع على حسب الإرادة ويكون للخالق والمخلوق.
الفرق بين الدين والشريعة أن الشريعة هي الطريق والدين ما يطاع به المعبود ولكل منا دين وليس لكل منا شريعة.
الفرق بين الإجابة والقبول أن القبول يكون للأعمال والإجابة للأدعية.
الفرق بين الحلال والمباح أن الحلال هو المباح بالشرع والمباح لا يعتبر فيه ذلك الشيء في السوق (؟) مباح لإحلال الحلال خلاف الحرام والمباح خلاف المحظور.
الفرق بين الإسلام والإيمان أن الإيمان طاعة الله الذي يأمن بها العقاب على ضدها والإسلام طاعة الله التي يسلم بها من عقاب الله هذا كلامه في هذا الكتاب وليس فيه فرق بينهما والفرق مشهور في مظانه في كلام القائلين بالفرق.
الفرق بين الفسق والفجور أن الفسق هو الخروج من طاعة الله بكبيرة والفجور الانبعاث من المعاصي فلا يقال لصاحب الصغير فاجر.
الفرق بين الظلم والجور أن الجور خلاف الاستقامة في الحكم والظلم قيل ضرر من حاكم أو غيره فهو أعم وقيل وضع الشيء في غير محله وقيل نقصان الحق والجور والعدول عن الحق.
الفرق بين القبيح والفاحش أن الفاحش الشديد القبح ويستعمل في الصورة فيقال الفرد قبيح الصورة لا فاحش الصورة ويقال فاحش القبح فاحش الطول أي جاوز الاعتدال مجاوزة حد(64/16)
الاعتدال مجاوزة فاحشة والقبيح ليس كذلك.
الفرق بين الحرام والسحت إن السحت مبالغة في حقيقة الحرام فيقال حرام سحت لا سحت حرام وقيل السحت الحرام الظاهر لأن كل سحت حرام لا كل حرام سحت ويجوز أن يقال السحت الحرام الذي لا بركة له.
الفرق بين الإثم والخطيئة أن الخطيئة قد تكون من غير تعمد ولا يكون الإثم إلا تعمداً.
الفرق بين الإثم والذنب أن الإثم لغة التقصير والذنب ما يتبعه الذم وقولهم للصبي أذنب مجاز.
الفرق بين الوزر والذنب أن الوزر ما يثقل صاحبه ومنه قوله تعالى ووضعنا عنك وزرك الذي والذنب ما تقدم.
الفرق بين العدل والقسط أن القسط هو العدل الظاهر البين والعدل قد يخفى.
الفرق بين الندم والتوبة أن التوبة أخص من الندم فكل توبة ندم ولا كل ندم توبة أما الحديث الندم تبة أي معظمها كالحج عرفة.
الفرق بين الاستغفار والتوبة أن الاستغفار طلب المغفرة والتوبة الندم على الخطيئة والإقلاع عنها والعزم على ترك العود ولا يجوز الاستغفار مع الإصرار.
الفرق بين التأسف والندم أن التأسف يكون على الفائت من فعلك وفعل غيرك والندم من أفعال القلوب يتعلق بفعل النادم وغيره.
الفرق بين العفو والغفران أن الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونيل الثواب ولا يستحقه إلا المؤمن ولا يستعمل إلا في الله تعالى ويستعمل في غيره شاذاً قليلاً والعفو يقتضي إسقاط اللوم والذم ولا يقتضي نيل الثواب ويستعمل في العبد والمراد من العفو والغفران محو الذنوب.
الفرق بين الغفران والستر أن الغفران أخص فيجوز أن يستر عنه ولا يغفره.
الفرق بين الصفح والغفران أن الغفران ما ذكرناه والصفح التجاوز عن الذنب.
الفرق بين الإحباط والتكفير أن الإحباط يطال الحسنات بالسيئات والتكفير ضده.
الفرق بين الثواب والعوض أن العوض يكون على فعل المعوض والثواب لا يكون على فعل المثيب والثواب يقع مكافأة على الحقوق والعرض يقع على جهة المسامحة.(64/17)
الفرق بين الثواب والأجر أن الأجر قد يكون قبل الفعل المأجور عليه بخلاف الثواب والثواب قد اشتهر في الجزاء على الحسنات والأجر يقال كذلك ويقال على معنى الأجرة على الانتفاع.
الفرق بين العذاب والألم أن العذاب أخص من الألم فإن العذاب هو الألم المستمر والألم مستمر أو غير مستمر.
الفرق بين الألم والوجع أن الوجع أهم من الألم.
الفرق بين العذاب والعقاب أن العقاب ينبئ عن استحقاق والعذاب يجوز أن يكون باستحقاق وبغير استحقاق.
الفرق بين البلاء والنقمة أن البلاء يكون ضرراً ويكون نفعاً والنقمة لا تكون إلا عقوبة وشدة وتسمى النقمة والبلاء لا يسمى نقمة.
الفرق بين الخوف والخشية أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله والخشية تتعلق بمنزلة المكروه ولا يسمى الخوف من نفس المكروه خشية.
الفرق بين التخويف والإنذار أن الإنذار تخويف مع إعلام موضع المخافة وإن لم يعلم لم يكن إنذاره.
الفرق بين الخوف والفزع أن الخوف ما ذكرناه والفزع ما فاجأ الخوف عند هجوم عارض أو صوت ونحوهما وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه عاجل.
الفرق بين الخوف والوجل أن الخوف يكون من متعد والوجل من غير متعد ومنه قوله تعالى: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.
الفرق بين الخجل والحياء أن الخجل معنى يظهر في الوجه ارتداعاً بقوة ويجوز أن يكون الخجل عما كان والحياء عما يكون.
الفرق بين الرجاء والطمع أن الرجاء هو الظن لوقوع الخير كالأمل والخشية والخوف ضدهما والرجاء لا يكون إلا من سبب والطمع ما يكون من غير سبب ولهذا مدح الرجاء وذم الطمع.
الفرق بين اليأس والقنوط أن القنوط أشد مبالغة من اليأس.
الفرق بين الكبر والجبروت أن الجبروت أبلغ من الكبر.(64/18)
الفرق بين العجب والكبر أن العجب بالشيء شدة السرور به والكبر إظهار عظم الشأن وهي العزة والسلطنة.
الفرق بين الخشوع والخضوع أن الخضوع فعل يرى فاعله وأن الخضوع له وقه وأعظم منه والخشوع يكون في الكلام خاصة لقوله تعالى: وخشعت الأصوات للرحمن وقيل هما من أفعال القلوب.
الفرق بين التواضع والتذلل أن التذلل إظهار العجز عن مقاومة من يتذلل له والتواضع إظهار قدرة من يتواضع له سواء كان ذا قدرة على المتواضع أم لا.
الفرق بين التذلل والذل أن التذلل فعل المتصف به وهو إدخال نفسه في الحكم والذليل المفعول به من قبل غيره.
الفرق بين الخضوع والذل أن الخضوع ما ذكرناه والذل الانقياد كرهاً ونقيضه العز.
الفرق بين الذل والإهانة أن الذل ما ذكرناه والإهانة أن يجعل كالصغير لا يبالى به.
الفرق بين الذليل والمهين أن الذليل ما ذكرناه والمهين هو المستضعف.
الفرق بين الحقير والصغير أن الحقير من نقص عن مقداره المعهود والصغير يكون بالإضافة إلى من هو أكبر منه.
الفرق بين اليسر والقليل أن القليل يقتضي نقصان العدد واليسير ما يشتد تحصيله أو طلبه ولا يقتضي نقصان العدد.
الفرق بين الكثير والوافر أن الكثرة زيادة العدد والوفور إجماع أجزاء العدد حتى يكمل حجمه.
الفرق بين الجم والكثير أن الجم هو الكثير المجتمع والكثير قد يكون عن مجتمع.
الفرق بين العبث واللعب واللهو أن العبث ما خلا عن الإدارة والإرادة حدوثه واللهو واللعب يتناولها غير إرادة حدوثهما وقيل اللعب عمل للذة لا يراعى فيه داعي الحكم كعمل الصبي واللهو للعب واللعب قد يكون ليس بلهو.
الفرق بين المزاح والاستهزاء أن المزاح لا يقتضي تحقير من تمازحه بل إيناسه والاستهزاء يقتضي تحقير من يستهزأ به.
الفرق بين الاستهزاء والسخرية أن السخرية تدل على فعل شيء يشتق منه السخرية(64/19)
بخلاف الاستهزاء.
الفرق بين المزاح والهزل أن الهزل يقتضي تواضع الهازل لمن يهزل بين يديه بخلاف المزاح.
الفرق بين المزاح والمجون أن المزاح ما ذكرناه والمجون صلابة الوجه وقلة الحياء.
الفرق بين الحيلة والتدبير أن الحيلة ما أحيل به عن وجهه فيجلب به نفه أو يدفع به ضر والتدبير هو إصلاح أمره أو أمر من يلوذ به وقد لا يكون حيلة.
الفرق بين الكيد والمكر أن المكر كالكيد إلا أنه لا يكون إلا مع الفكر والكيد أقوى من المكر.
الفرق بين الحيلة والمكر أن من الحيلة ما ليس بمكر.
الفرق بين الغرور والخداع أن الخداع يستر عنه وجه الصواب ليوقعه في مكروه والخطر ركوب المخاوف رجاء بلوغ المراد.
الفرق بين الحسن والبهجة أن البهجة حسن الفرح تفرح به القلوب والحسن لا يقتضي ذلك.
الفرق بين الحسن والجمال أن الجمال ما يحمد من الأفعال والأخلاق وكثرة المال وليس هو من الحسن في شيء.
الفرق بين الجمال والبهاء أن البهاء بهارة المنظر بخلاف الحسن.
الفرق بين التمام والكمال أن التمام اسم للجزء والبعض الذي يتم به الموصوف بأنه تام والكمال اسم لأجماع أبعاض الموصوف.
الفرق بين البشاشة وطلاقة الوجه أن البشاشة إطلاق السرور عند اللقاء سواء كان أولاً وآخراً وطلاقة الوجه خلاف العبوس تكره الوجه عند اللقاء.
الفرق بين الطهارة والنظافة أن الطهارة تكون في الخلقة والمعاني والنظافة لا تكون إلا في الخلقة واللباس لا في المعاني.
الفرق بين القبيح والوحش أن الوحش الهزيل والقبيح في المنظر ويجوز أن يقال الوحش هو المتناهي في القباحة.
الفرق بين السرور والفرح أن السرور لا يكون إلا بما هو نفع أو لذة على الحقيقة وقد يكون الفرح ما ليس بنفع ولا لذة كفرح الصبي بالرقص مثلاً.(64/20)
الفرق بين الغم والهم أن الهم هو الفكر في إزالة المكروه واجتلاب المحبوب والغم معنى لتغص القلب معه لوقوع ضرر كان أو يكون أو لتوهمه.
الفرق بين الهبوط والنزول أن الهبوط نزول يعقبة إقامة بخلاف النزول.
الفرق بين المحض والخالص أن المحض الذي لم يخالطه شيء والخالص هو المختار من الجملة كالذهب المصفى.
الفرق بين إخماد النار وإطفائها أن الإخماد يستعمل في الكثير والإطفاء في القليل.
الفرق بين النجم والكوكب أن الكوكب اسم للكبير من النجوم والنجم على علم الثريا في صغيرها وكبيرها.
الفرق بين الزلزلة والرجفة أن الجفة الزلزلة العظيمة الشديدة ولهذا سميت زلزلة الساعة رجفة.
الفرق بين الرجوع والإياب أن الإياب هو الرجوع إلى منتهى القصد والرجوع يكون لذلك أو لغيره.
الفرق بين المحق والإذهاب أن المحق يكون للأشياء الكثيرة ولا يكون في الشيء الواحد بخلاف الإذهاب ومن قوله تعالى: يمحق الله الربا يمحق ثواب عامله لقوله تعالى: ويربي لصدقات أي ثوابها.
الفرق بين العكوف والإقامة أن العكوف هو الإقبال على الشيء والإحساس فيه ومنه الاعتكاف والإقامة لا تقتضي ذلك.
الفرق بين الدنو والقرب أن الدنو لا يكون في مسافة بين شيئين والقرب عام في ذلك وفي غيره فيقال قلوبنا أن تتقارب ولا يقال تتدانى ويقال قرب بقلبه وإن كان بعيداً.
الفرق بين الوسط والبين أن الوسط يضاف إلى الشيء الواحد وبين يضاف إلى شيئين فصاعداً تقول قعدت وسط الدار لا قعدت بين الدار وبين القوم والوسط يقتضي اعتدال الأطراف ولهذا قيل الوسط العدل في قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً الآية.
الفرق بين الذوق والطعم أن الذوق ملابسة يحس بها الطعم وإدراك الطعم يتبين من ذلك الوجه يقال ذقته فلم أجد له طعماً.
الفرق بين الركون والسكون أن الركون السكون إلى الشيء بالجبلة والاتصاف والسكون(64/21)
خلاف الحركة وإنما يستعمل في غيره مجازاً.
الفرق بين الفرق بين التابع والتالي أن التالي فيما قال بعضهم هو الثاني وإن لم يتدبر بتدبير الأول والتابع إنما هو المتدبر بتدبير الأول.
الفرق بين قوله مالك لا تفعل كذا وبين قوله لم لا تفعل كذا إن لم لا تفعل كذا أهم لأنه قد يكون بحال إلى غيره ومالك لا تفعل بحال يرجع إليه.
الفرق بين النار والسعير والحريق والجحيم أن السعير هو النار الملتهبة والحريق النار الملهبة المحرقة والجحيم ناراً على نار وجمر على حمر.
الفرق بين النور والضياء أن الضياء ما يتخيل آخر النور.
الفرق بين النطفة والمني أن النطفة تفيد أنه ماء قليل والمني يفيد أنه مستقذر.
الفرق بين الصب والسكب أن السكب هو الصب المتتابع والصب يكون دفعة واحدة.
الفرق بين التبديل والإبدال أن التبديل على ما قال بعضهم تغيير الشيء عن حاله والإبدال جعل شيء مكان شيء.
الفرق بين الخوان والمائدة أن الخوان لا يسمى مائدة إلا إذا كان الطعام عليها وإن لم يكن عليها طعام فهو خوان.
هذا آخر ما علقناه من هذا الكتاب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وفي غيره الفرق بين البشارة والتهنئة أن البشارة الإعلام بما يسر والتهنئة الدعاء بالخير للمرء بعد ما علم به ولهذا لما أنزل الله توبة كعب بن مالك وصاحبيه ذهب إليه البشير فبشره فلما دخل المسجد جاء الناس فهنؤوه. الفرق بين الحياء والإغضاء أن الحياء رقة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقع كراهته أو ما يكون تركه خيراً من فعله والإغضاء التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته.(64/22)
رسائل الانتقاد
كلمة للناشر
بينا كنت خلال العام الفارط أرسل رائد الطرف في بعض المخطوطات العربية القديمة عثرت على كتاب صغير الحجم جميل الخط عتيقه فتأملته فوجدته لمؤلف تونسي معدود من البلغاء. وإذا كان لي ولوع شديد بالاطلاع على مآثر الأدباء من بني وطني تعلقت رغبتي بتعريف هذا التصنيف. بيد اني لما أخذت أتلو رشيق معانيه وأحلل دقائق مبانيه وجدت نقصاً فادحاً بين أوراقه أفسد عقد جمله فحل بي من ذلك قلق عظيم. ثم بعد مدة وقعت في فهرست القسم العربي من مكتبة الاسكوريال بجزيرة الأندلس على اسم مقامة تحت عدد 536 منسوبة إلى أبي عبد الله محمد بن شرف القيرواني فانجلى خاطري وبادرت في الحال لطلب نسخة منها من بعض زملائي المستشرقين. فلما وافتني صورتها وطابقتها بما لدي عاودني سروري الأول وقوي عزمي إذ كانت القطعة الأندلسية مطابقة للقسم الأول من النسخة التونسية بزيادة ما نقص. فأسرعت حينئذٍ إلى النسخ وأتممت هاته بتلك حتى كمل والحمد لله ما كنا نرغبه وهو ما نقدمه اليوم للقراء الكرام.
ومن المناسب أن نذكر شيئاً عن الأصلين اللذين أخذنا عنهما. فالأول وهي النسخة التونسية تشتمل على ستين صفحة شرقية يلوح منش كل خطها أنها من القرن السابع لكنها صعبة القراءة لانطماس الأحرف ودثور كتابتها دع عنك ما لحق الورق من العث الذي أهلك جانباً وافراً منها.
أما القطعة الأندلسية التي أكملنا بها ما ضاع من التأليف فهي تحتوي على ثماني عشرة صفحة صغيرة الحجم أندلسية الخط قديمة النسخ كما يتبين ذلك من التاريخ الذي وضعه بعض المطالعين في الصفحة الآخرة حيث قال: طالعته في موفي سنة خمس وخمسمائة وبهذا يستدل على أن هاته القطعة كتبت زمن المؤلف مدة إقامته بالأندلس (حوالي سنة 455) أو قريباً من عهده. ومهما كان الحال فهي أقدم من أختها التونسية إلا أنها أخصر ولا تشمل إلا على المقامة الأولى.
ويلوح لي أن مؤلفنا قصد بتدوين هذه الرسائل معارضة كتاب العمدة الذي وضع زميله ومعاصروه الحسن بن رشيق القيرواني كما سنبينه في ترجمته. إلا أن الرسائل المعارض(64/23)
بها كانت أطول وأكثر مما وجدناه وأوردناه هنا. يؤيد ذلك ما جاء في سياق كلام ابن شرف في مقدمته للمجلس الأول حيث قال: فأقمت من هذا النحو عشرين حديثاً فالمظنون أنه يقصد بالحديث مجالسه مع الأستاذ الموهوم الذي سماه أبا الريان كما اختلق الحريري في مقاماته شخص الحارث بن همام واخترع الهمذاني عيسى بن هشام. فعسى أن يساعدني الحظ بالعثور على بقية هذا التأليف النفيس إن كان في عالم الموجودات.
وقد احترمت في الاستنساخ الطريقة التي أتى عليها الأصل في الرسم وضبطه إلا ما نبهت عليه أسفل المتن مع التعاليق.
ولما كان الاعتراف بالمعروف فريضة وجب عليّ أن أرفع شكري الخالص للكاتب البليغ والباحث المدقق أخينا في الله محمد بدر الدين أفندي النعساني الذي أعانني بعلومه النيرة لإزالة بعض مشكلات النسخة التونسية كما أقدم عبارات ودادي إلى العالم المستعرب المتمكن صديقي الأستاذ كارلو نالينو الذي أسعفني بالحصول على صور القطعة الأندلسية وهو لا يزال يفيدني بإشاراته العلمية وفكره الصائب فجزيا عني خير جزاء والله ولي التوفيق به أهتدي وإليه أنيب.
تونس // حسن حسني عبد الوهاب
ترجمة المؤلف
نبغ أبو عبد الله محمد بن أبي سعيد بن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني نحو سنة 390 من إحدى البيوتات الشريفة القادمة مع الجيش العربي الفاتح والقيروان إذ ذاك زاهية زاهرة بالعلوم رافلة بالمعارف والفنون فروى المعقول والمنقول عن أفاضل ذلك العصر كأبي الحسن القابسي وأخذ الفنون الأدبية من أساتيذتها كأبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني ومحمد بن جعفر القزاز وغيرهما حتى برع فيها وأجاد فألحقه حينئذٍ المعز بن باديس الصهناجي أمير أفريقية بديوان حاشيته لما رأى فيه من الذكاء والنجابة. وهناك التقى ابن شرف بجماعة من الكتاب البلغاء والشعراء الظرفاء الذين كان يجمعهم املك مثل علي بن أبي الرحال الكاتب رئيس قلم التحرير والمراسلات وأبي علي الحسن بن رشيق صاحب العمدة ومحمد بن حبيب القلانسي وغيرهم. وطبيعي أن وجود ابن شرف في مثل هذا الوسط دعاء إلى تتبع الوجهة التي شب عليها وقوي نشاطه إذ كان أولئك الأدباء(64/24)
الأجلاء يتسابقون في التقرب بنظمهم ونثرهم إلى الأمير رغبة في العطايا الهائلة والهبات الطائلة. وحصل على هذا التنافس والتزاحم حركة فكرية أدبية لم تر أفريقية مثلها في عصر من عصور السلطنة الإسلامية وصارت القيروان كعبة العلم التي يحج إليها العلماء من جميع أصقاع المغرب حتى من الأندلس. وقد خصص العز لصحبته من بين هؤلاء الزعماء المتقدمين ابن شرف هذا وابن رشيق فكان يلتفت تارة إلى الأول وأخرى إلى الثاني وجرى بسبب ذلك بين هذين الأديبين مناقضات ومهاجمات رسمها كل منهما في رسائل مستقلة ومقامات متنوعة لم يصل إلينا منها شيء فيما نعلم.
حكى ابن شرب المترجم له في كتابه أبكار الأفكار قال: استدعاني المعز بن باديس يوماً واستدعى أبا علي الحسن بن رشيق الأزدي وكنا شاعري حضرته وملازمي ديوانه فقال: أحب أن تضعا بين يدي قطعتين في صفة الموز على قافية الغين. فضمنا حالاً من غير أن يقف أحدنا على ما صنعه الآخر فكان الذي صنعته:
يا حبذا الموز وإسعاده ... من قبل أن يمضغه الماضغ
قد لأن حتى لا مجس له ... فالفم ملآن به فارغ
سيان قلنا مأكل طيب ... فيه وإلا مشرب سائغ
والذي صنعه ابن رشيق:
موز سريعٌ أكله ... من قبل مضغ الماضغ
فمأكل لآكل ... ومشرب لسائغ
فالفم من لين به=ملآن مثل فارغ
يخال وهو بالغ ... للحلق غير بالغ
فأمرنا للوقت أن نصنع فيه على حرف الذال فعملنا ولم ير أحدنا صاحبه ما عمل فكان ما عملته:
هل لك في موز إذا ... ذقناه قلنا حبذا
فيه شراب وغذا ... يربك كالماء القذى
لو مات من تلذذا ... به لقيل ذا بذا
وما عمله ابن رشيق:(64/25)
لله موز لذيذ ... يعيذه المستعيذ
فواكه وشراب ... به يداوي الوقيذ
ترى القذى العين فيه ... كما يزيها النبيذ
قال ابن شرف: فأنت ترى هذا الاتفاق لما كانت القافية واحدة والقصد واحداً. ولقد قال من حضر ذلك اليوم ما ندري مم نعجب أمن سرعة البديهة أم من غرابة القافية أم من حسن الاتفاق.
وحكى المؤلف المترجم له أيضاً في كتابه المذكور قال: استخلانا المعز يوماً وقال أريد أن تصنعا شعراً تمدحان به الشعر الرقيق الخفيف الذي يكون على سوق بعض النساء فإني أستحسنه وقد عاب بعض الضرائر بعضاً به وكلهن قارئات كاتبات فأحب أن أريهن هذا وأدعي أنه قديم لاحتج به على من عابه وآسي به من عيب عليه. فانفرد كل منا وصنع في الوقت فكان الذي قلت:
وبلقيسية زينت بشعر ... يسير بها ما يهب الشحيح
رقيق في خدلجة رداح ... خفيف مثل جسم فيه روح
حكى زغب الخدود وكل خد ... به زغب فمعشوق مليح
فإن يك صرح بلقيس زجاجاً ... فمن حدق العيون لها صروح
وكان الذي قال ابن رشيق:
يعيبون بلقيسية أن رأوا لها ... كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا
وقد زادها التزغيب ملحاً كمثل ما ... يزيد خدود الغيد تزغيبها ملحا
فانتقد المعز على ابن رشيق قوله يعيبون وقال: أوجدت لخصمها حجة بأن بعض الناس عابه فانظر ما ألطف هذه المناضلات وما أحلى هذه الحكايات ولولا خوف الإطالة لزدنا من هذه طرفاً تروق الخاطر.
واستمر ابن شرف على خدمة المعز إلى أن زحف عرب الصعيد من هلاليين ورياح وغيرهم واستولوا على غالب القطر التونسي بعدما خربوه ودمروه واضطر الأمير المعز إلى ترك القيروان أمام تلك القبائل المتوحشة (سنة 49 هـ -) وفر إلى المهدية واتخذها دار ملكه وقد تبعه إليها شعراؤه وحاشيته. وفي خلاء القيروان يقول ابن شرف من قصيدة(64/26)
رنانة:
بعد خطوب خطبت مهجتي ... وكان وشك البين أمهارها
ذا كبد أفلاذها حولها ... وقسمت الغربة أعشارها
أطفالها ما سمعت بالفلا ... قط فعادت الفلا دارها
ولا رأت أبصارها شاطئاً ... ثم جلت باللج أبصارها
وكانت الأستار آفاقها ... فعادت الآفاق أستارها
ولم تكن تعلو سريراً علا ... إلا إذا وافق مقدارها
ثم علت فوق عشور الخطا ... ترمي به في الأرض أحجارها
ولم تكن تلحظها مقلة ... لو كحلت بالشمس أشفارها
فأصبحت لا تتقي لحظة ... إلا بأن تجمع أطمارها
وأقام ابن شرف مدة بالمهدية مع زمرة شعراء الملك يخدم الأمير المعز وابنه تميماً إلى رحل عنها قاصداً جزيرة صقلية لما سمع عن كرم أميرها وإليها لحقه رصيفة ابن رشيق وقد قدمنا أنه كان وقع بينهما بالقيروان ما وقع بين جرير والفرزدق أو بين الخوارزمي وبديع الزمان. فلما اجتمعا بصقلية تسامحا وأقاما بها زمناً ثم استنهض يوماً ابن شرف رفيقه على جواز الأندلس فأنشد حينئذٍ ابن رشيق البيتين المشهورين بين الخاص والعام:
مما يزهدني في أرض أندلس ... سماع مقتدرٍ فيها ومعتضد
ألقاب سلطنة في غير مملكة ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فأجابه ابن شرف بديهة:
ان ترمك الغربة في معشر ... قد جبل الطبع على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
واجتاز ابن شرف وحده الأندلس وسكن المرية وغيرها وتردد على ملوك طوائفها كآل عباد بميلية وغيرهم وبهذه المدينة الأخيرة كانت وفاته سنة 460 هـ (1067 مسيحي) وخلف ابناً يدعى أبا الفضل جعفراً كان أديباً مجيداً أيضاً أورد له العماد في خريدته وانفتح في قلائده قصائد وفصولاً تشهد له بطول الباع.
أما تآليف محمد بن شرف فكثيرة على ما نقله إلينا المؤرخون فمنها كتاب أبكار الأفكار(64/27)
جمع فيه ما اختاره ونثره وهو أنفس مصنفاته (مفقود وقد يوجد منه شيء في بعض كتب الأدب). ومنها كتاب أعلام الكلام به نخب وملح (مفقود أيضاً). ثم رسائل الانتقاد والمظنون أنه ألفها بعد هجرته القطر التونسي كما يستفاد من سياق كلامه في مقدمتها. وغيرها من هذه المصنفات الأدبية النفيسة.
وها نحن نأتي على منتحبات نثر وشعر من كلام محمد بن شرف ليرى القارئ براعة هذا المؤلف الجليل ومكانته من الأدب.
فمن نظمه في الشوق إلى بلاده القيروان مدة إقامته بالأندلس:
يا قيروان وددت أني طائر ... فأراك رؤية باحث متأمل
يا لو شهدتك إذ رأيتك في الكرى ... كيف ارتجاع صباي بعد تكهل
وإذا تجدد لي أخ ومنادم ... جددت ذكر أخ خليل أول
لا كثرة الإحسان تنسي حسرتي ... هيهات تذهب علتي بتعلل
لو كنت أعلم أن آخر عهدهم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
وله في شكوى الزمان:
إني وإن عزني نيل المني لأرى ... حرص الفتى خلت زيدت على العدم
تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم
وأنشد في المعنى:
عتاباً عسى أن الزمان له عتبى ... وشكوى فكم شكوى ألانت له القلبا
إذا لم يكن إلا إلى الدمع راحة ... فلا زال دمع العين منهملاً سكبا
وقال أيضاً:
وما بلوغ الأماني في مواعدها ... إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب
وقد تخالف مكتوب القضاء به ... فكيف لي بقضاء غير مكتوب
ومن شعره في الحكم قوله:
احذر محاسن أوجه فقدت محا ... سن أنفس ولو أنها أقمار
سرج تلوح إذا نظرت فإنها ... نور يضيء وإن مسست فنار
وقوله:(64/28)
لا تسأل الناس والأيام عن خبر ... هما يبثانك الأخبار تطفيلا
ولا تعاتب على نقص الطباع أخاً ... فإن بدر السما لم يعط تكميلا
لا يؤيسينك من أمر تصعبه ... فالله قد يعقب التصعيب تسهيلا
بع من جفاك ولا تبخل بسلعته ... واطلب به بدلاً إن رام تبديلا
وصير الأرض داراً والورى رجلاً ... حتى ترى مقبلاً في الناس مقبولا
وله:
إذا صحب الفتى سعد وجد ... تحامته المكاره والخطوب
ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيلياً وناد له الرقيب
وله أيضاً:
يا ثاوياً في معشر ... قد اصطلى بنارهم
إن تبك من شرارهم ... على يدي شرارهم
أو ترم من أحجارهم ... وأنت في أحجارهم
فما بقيت جارهم ... ففي هواهم جارهم
وأرضهم في أرضهم=ودارهم في دارهم
ومن كلامه في التغزل قوله في ليلة أنس:
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... بالأرض فيها والسماء تذوب
جمع العشائين المصلي وانزوى ... فيها الرقيب كأنه مرقوب
والكاس كاسية القميص كأنها ... لوناً وقدراً معصم مخضوب
هي وردة في خده وبكأسها ... تحت القناني عسجد مصبوب
مني إليه ومن يديه إلى يدي ... فالشمس تطلع بيننا وتغيب
وقوله أيضاً:
قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخطو والميثاق والنظر
تخطو فتولي الحصا من حليها نبذا ... وتخلط العنبر الوردي بالعفر
تلفتت عن طلا وسنان وابتسمت ... عن واضح مثل نور الروضة العطر
ما لذ للعين نوم بعدما ذكرت ... ليلاً سمرناه بين الضال والسمر(64/29)
تساقط الطل من فوق النحور به ... تساقط الدر في اللبات والثغر
وله من خمرية سمية:
خليل النفس لا تخلي الزجاجا ... إذا بحر الدجى في الجو ماجا
وجاهر في المدامة من يرائي ... فما فوق البسيطة من يداجى
أمط عنك الكرى والليل ساج ... ودعنا نلبس الظلماء ساجا
وهات على اهتمام الروح راحاً ... يعيد هموم النفس لها اقتراجا
إذا مريخها اتقد احمراراً ... صببنا المشتري فيها مزاجا
وله:
بكيت دماً والقاصرات سوافر ... فلاحت خدود كلهن مورّد
وقد وقف الواشون في كل وجنة ... على محضر فيه المدامع تشهد
وله:
يقول لي العاذل في لومه ... وقوله زور وبهتان
ما وجه من أحببته قبلة ... قلت ولا قولك قرآن
وقال:
قل للعذول لو اطلعت على الذي ... عانيته أعناك ما يعنيني
أتصدني أم للغرام تردني ... وتلومني في الحب أم تغريني
دعني فلست معاقباً بجنايتي ... إذ ليس دينك لي ولا لك ديني
وقال فيمن اسمه عمر:
يا أعدل الناس اسماً كم تجور على ... فؤاد مضناك بالهجران والبين
أظنهم سرقوك القاف من قمر ... فأبدلوها بعين حيفة العين
وله أيضاً:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأني سبابة المتندم
وقال يمدح أستاذه الكاتب أبا الحسن علي بن أبي الرجال:
جاور علياً ولا تحفل بحادثة ... إذ ادرعت فلا تسأل عن الأسل
اسم حكاه المسمى في الفعال فقد ... حاز العليين من قول ومن عمل(64/30)
فالماجد السيد الحر الكريم له ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل
زان العلا وسواه شانها وكذا ... تميز الشمس في الميزان والحمل
وربما عابه ما يفخرون به ... يشنا من الخصر ما يهوى من الكفل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
ومن نظمه في أنواع شتى: قال في العود
سقى الله أرضاً أنبت عودك الذي ... زكت منه أغصان وطابت مغارس
تغني عليها الطير والعود أخضر ... وغنت عليه الغيد والعود يابس
وقال في الدرهم والدينار:
ألا رب شيء فيه من أحرف اسمه ... نواه لنا عنه وزجر وإنذار
فتنا بدينار وهمنا بدرهم ... وآخر ذا هم وآخر ذا نار
وقال من قصيدة في وصف سيف:
إن قلت ناراً أتندي النار ملهبة ... أو قلت ماء أيرمي الماء بالشرر
وله من أخرى:
وقد وخطت أرماحهم مفرق الدجى ... فيان لأطراف الأسنة شائبا
ومن نثرة ما كتبه مستعطفاً محبوس في دين:
قد حكمت بسجن الأشباح. وهي سجون الأرواح. فامنن علي ماشئت منهما بالسراح. فالحبس نزاع الأرواح. والعقلة أخت القتلة. وكلاهما فقد. ومهر للخطوب وفقد. وإنما بينهما نفس متصاعد. وأجل متباعد. فالحق بهما ما أجلت بما عجلت. وقد أخرنا الدين. إلى يوم الدين.
ومن منثور كلامه في أبكار الأفكار:
لما فني عمر الأمس. وطفئ سراج الشمس. لاحت بروق الثغور اللوامع. وجلجلت رعود الأوتار في المسامع. وبعث محارق وابن جامع. فلم يزل ذلك دأبنا. ما أقلع سحابنا. حتى مسأنا هجعة. وكنا نقول بالرجعة.
وله في القرابة: الوجيه بين أقاربه. كالوادي بين مذانبه. تجذبن ماءه وتطلبن ظماءه.
وفي العداوة: كم قاطعك من راضعك. وقابحك من مالحك. ونافقك من وافقك. وناصبك من(64/31)
صاحبك. وحادك من وادك.
في أنواع شتى: الجود أنصر من الجنود - من بخل بماله. سمح بعرض آله - الباذل كثير العاذل - الكريم كثير الغريم - احذر الكريم إذا افتقر. واللئيم إذا اقتدر - احذر التقي إذا أنكر. والذكي إذا فكر - المطل أحد المنعين. واليأس أحد الصنعين - العشق أحد الرقين. والسلو أحد العتقين - رفث الكلام أحد السفاحين. وموالاة القبل أحد النكاحين - جميل الرد أحد الجودين. وبقاء الذكر أحد الخلودين - طول الجمود أحد القبرين. وبقاء الثناء أحد العمرين - بئس النصير التقصير - المتحاسر خاسر - من كثر فجره. وجب هجره - من كرمت خصاله. وجب وصاله - سحابة صيف. وزيادة طيف - الوسيلة جناح النجاح - رب عين إذا رأت زنت - لأكرم بمن حرم - المستلم أحزم من المتسلم.
هذا ما قصدنا إيراده هنا على أن ما جمعناه من كلام هذا الأديب البارع هو أطول من ذلك وقد لاقينا صعوبات جمة في نظم ما تشتت إذ لا يوجد تأليف يحوي تراجم فضلاء القطر التونسي والله المسؤول الإعانة.
ح. ح. ع
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن برحمتك
قال أبو عبد الله شرف القيرواني هذه أحاديث صنعتها مختلفة الأنواع. مؤتلفة في الأسماع. عربيات المواشم. غربيات التراجم. واختلقت فيها أخباراً فصيحات الكلام. بديعات النظام. لها مقاصد ظراف. وأسانيد طراف. يروق الصغير معناها. والكبير مغزاها. وعزوتها إلى أبي الريان الصلت بن السكن من سلامان. وكان شيخاً هماً في اللسان. وبدراً تماً في البيان. قد بقي أحقاباً. ولقي أعقاباً. ثم ألقته إلينا من باديته الأزمات. وأوردته علينا العزمات. فامتحنا من علمه بحراً جارياً. وقدحنا من فهمه زنداً وارباً. وأدرنا من بره طرفاً. واجتنينا من ثمره طرفاً. ونحن إذ ذاك والشباب مقتبل. وغفلة الزمان تهتبل. واحتذبت فيما ذهبت إليه. ووقع تعريضي عليه. من بث هذه الأحاديث ما رأيت الأوائل قد وضعته في كتاب كليلة ودمنة فأضافوا حكمه إلى الطير الحوائم. ونطقوا به على ألسنة الوحش والبهائم. لتتعلق به شهوات الأحداث. وتستعذب بسمره ألفاظ الحداث. وقد نجا بذا النحو(64/32)
سهل بن هرون الكاتب في تأليفه كتاب النمر والثعلب وهو مشهور الحكايات. بديع المراسلات. مليح الكاتبات. وزور أيضاً بديع الزمان الحافظ الهمذاني وهو الأستاذ أبو الفضل أحمد ابن الحسين مقامات كان ينشئها بديهاً في أواخر مجالسه وينسبها إلى راوية رواها له يسميه عيسى بن هشام وزعم أنه حدثه بها عن بليغ يسميه الاسكندري وعددها فيما يزعم رواتها عشرون مقامة إلا أنها لم تصل هذه العدة إلينا وهي متضمنة معاني مختلفة. ومبنية على معاني شتى غير مؤتلفة. لينتفع بها من الكتاب والمحاضرين من صرفها من هزل إلى جد. ومن ند إلى ضد. فأقمت من هذا النحو عشرين حديثاً أرجو أن يتبين فصلها. ولا تقصر عما قبلها. ولعمري ما أشكر من نفسي. ولا أثني على شيء من حسي. إلا ظفري بالأقل مما حاولته على ما أضرمته نيران الغربة من قلبي. وثلمته صعقات الفتنة من لبي. وقطعت أهوال البر والبحر من خواطري. وأضعفت الوحشة والوحدة من غرائزي وبصائري. لكن نية القاصد وسعة المقصود. أعانا ذا الود على أتحاف المودود. والله أسأل توفيقاً. ينهج لنا إلى الرشد طريقاً.
فمنها:
قال محمد وجاريت أبا الريان في الشعر والشعراء ومنازلهم في جاهليتهم وإسلامهم واستكشفته عن مذهبه فيهم ومذاهب طبقته في قديمهم وحديثهم فقال الشعراء أكثر من الإحصاء وأشعارهم أبعد من شقة الاستقصاء. فقلت لا أعتبك بأكثر من المنهورين. ولا أذاكر راك إلا في المذكورين مثل الضليل والقتيل. ولبيد وعبيد. والنوابغ والعشو. والأسود بن يعفر. وصخر الغي وابن الصمة دريد. والراعي عبيد. وزيد الخيل. وعامر بن الطفيل. والفرزدق وجرير. وجميل بن معمر وكثير. وابن جندل. وابن مقبل. وجرول. والأخطل. وحسان في هجائه ومدحه. وغيلان في ميته وصيدحه. والهذلي أبي ذؤيب وسحيم نصيب. وابن حلزة الوائلي. وابن الرقاع العاملي. وعنترة العبسي. وزهير المري. وشعراء فزارة. ومفلقي بني زرارة. وشعراء تغلب ويثرب. وأمثال هذا النمط الأوسط كالرماح. والطرماح. والطثري والدميني. والكميت الأسدي. وحميد الهلالي. وبشار العقيلي. وابن أبي حفصة الأموي. ووالبة الأسدي. وابن جبلة الحلمي. وأبي نواس الحكمي. وصريع الأنصاري. ودعبل الخزاعي. وابن الجهم القرشي. وحبيب الطائي والوليد البحتري. وابن المعتز(64/33)
العباسي. وعلي بن العباس الرومي. وابن رغبان الحمصي. ومن الطبقة المتأخرة في الزمان. المتقدمة في الإحسان. كأبي فراس بن حمدان. والمتنبي بن عبدان. وابن جدار المصري. وابن الأحنف الجنفي. وكشاجم الفارسي. والصنوبري الحلي. والنصر الخبزدزي. وابن عبد ربه القرطبي. وابن هاني الأندلسي. وعلي بن العباس الأيادي التونسي. والقسلطي قال أبو الريان لقد سميت مشاهير. وأبقيت الكثير. قلت بلى: ولكن ما عندك فيمن ذكرت. قال: أما الضليل مؤسس الأساس. وبنيانه عليه الناس. كانوا يقولون أسيلة الخد حتى قال أسيلة مجرى الدمع. وكانوا يقولون تامة القامة وطويلة القامة وجيداء وتامة العنق وأشباه هذا حتى قال بعيدة مهوى القرط وكانوا يقولون في الفرس السابق يلحق بالغزال والظليم وشبهه حتى قال قيد الأوابد ومثل هذا له كثير. ولم يكن قبله من فطن لهذه الإشارات والاستعارات غيره فامتثلوه بعده. وكانت الأشعار قبل سواذج. فبقيت هذه جدداً وتلك نواهج. وكل شعر بعد ما خلاها فغير رائق النسج. وإن كان النهج وأما طرفه فلو طال عمره. لطال شعره. وعلا ذكره. ولقد خص بأوفر نصيب من الشر. على أيسر نصيب من العمر. فملأ أرجاء ذلك النصيب بصنوف من الحكمة. وأوصاف من علو الهمة. والطبع معلم حاذق. وجواد سابق. وأما الشيخ أبو عقيل فشعره ينطق بلسان الجزالة. عن جنان الأصالة. فلا تسمع له إلا كلاماً فصيحاً. ومعنىً مبيناً صريحاً. وإن كان شيخ الوقار. والشرف والفخار. لبادئات في شعره وهي دلائله. قبل أن يعلم قائله. وأما العبسي فمجيد في أشعاره. ولا كمعلقته فقد انفرد بها انفراد سهيل. وغبر في وجوده الخيل. وجمع فيها بين الحلاوة والجزالة. ورقة الغزل وغلظة البسالة. وأطال واستطال. وأمن السآمة والكلال. وأما زهير فأي زهير. بين لهوات زهير. حكم فارس. ومقامات الفوارس. ومواعظ الزهاد. ومعتبرات العباد. ومدح يكسب الفخار. ويبقى بقاء الإعصار. ومعاتبات مرة تحسن. ومرة تخشن وتارة تكون هجواً. وطوراً تكاد تعود شكراً. وأما ابن حلزة فسهل الحزون. قام خطيباً بالموزون. والعادة أن يسهل شرح الشعر بالنثر. وهذا أسهل السهل بالوعر. وذلك مثل قوله:
أبرموا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من منادٍ ومن مجيبٍ ومن تص ... هالٍ خليل خلال ذاك رغاء(64/34)
فلو اجتمع كل خطيب ثائر. من أول وآخر. يصفون سفراً نهضوا بالأسحار. وعسكراً تنادي بالنهوض إلى طلب الثار. ما زادوا على هذا إن لم ينقصوا منه ولم يقصروا عنه وسائر قصيدته في هذا المسلك شكاية وطلاب نصفة وعتاب في عزة وأنفة وهو من شعراء وائل وأحد أسنة هاتيك القبائل. وأما ابن كلثوم فصاحب واحدة بلا زياة أنطقه بها عز الظفر وهزه فيها جن الأشر فقعقعت رعوده في أرجائها وجعجعت رحاه في أثنائها وجعلتها تغلب قبلتها التي تصلي إليها وملتها التي تعتمد عليها فلم يتركوا إعادتها ولا خلعوا عبادتها إلا بعد قول القائل:
ألهى بن يني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
على أنها من القصائد المحققات وإحدى المعلقات. وأما النابغة فأشعاره الجياد لم تخرج عن نار جوانحه حتى تناهى نضجها ولا قطعت من منوال خواطره حتى تكاثف نسمها لم تهلهلها ميعة الشباب ولا وهاء الأسباب ولا لوم الاكتساب فشعره وسائط سلوك وتيجان ملوك. وأما النابغة الجعدي فنقي الكلام شاعر الجاهلية والإسلام واستحسن شعره أفصح الناطقين ودعا له أصدق الصادقين وكان شاعراً في الافتخار والثناء قصير الباع لشرفه عن تناول الهجاء وكان مغلوباً في الجاهلية وطريد ليلى الأخيلية. وأما العشي بأجمعهم فكلهم شاعر ولا كميمون بن قيس شاعر المدح والهجاء واليأس والرخاء والتصرف في الفنون والسعي في السهول والحزون نفق مدحه بنات المحلق وكان في فقر ابن المذلق وأبكى هجوه علقمة كما تبكي الأمة. وأما الأسود بن يعفر فأشعر الناس إذا ندب دولة زالت أو بكى حاله حالت أو وصف ربعاً خلا بعد عمران أو داراً درست بعد سكان فإذا سلك هذا السبيل فهو من حشو هذا القبيل كعمرو بن زيد وسعد وسعيد. وأما حسان فقد اجتث بواكر غسان ثم جاء الإسلام وانكشف الإظلام فجاحش عن الدين وناضل عن خاتم النبيين فشعر وزاد وحسن وأجاد إلا أن الفضل في ذلك لرب العالمين وتسديد الروح الأمين. وأما دريد بن الصمة فصمة صمم وشاعر جشم وغزل هرم وأول من تغزل ي رثاء وهزل في حزن وبكاء فقال في معبد أخيه قصيدته المشهورة يرثيه:
إرث جديد الحبل من أم معبد
وهي من شاجيات النوائح وباقيات المدائح. وأما الراعي عبيد فجبل على وصف الإبل(64/35)
فصار بالراعي يعرف زنسي ما له من الشرف. وأما زيد الخيل فخطيب سجاعة وفارس شجاعة مشغول بذلك عما سواه من المسالك. وأما عامر ابن الطفيل فشاعرهم في الفخار وفي حماية الجار وأوصفهم لكريمة وأبعثهم لحميد شيمة. وأما ابن مقبل فقديم شعره وصليب نحره. ومغلى مدحه. ومعلى قدحه. وأما جرول فخبيث هجاؤه شريف ثناؤه صحيح بناؤه رفع شعره من الثرى وحط من الثريا. وأعاد بلطافة فكره ومتانة شعره قبيح الألقاب فخراً يبقى على الأحقاب ويتوارث في الأعقاب. وأما أبو ذؤب فشديد أسر الشعر حكيمه شغله فيه التجريب حديثه وقديمه وله المرثية النقية السبك المتينة الحبك بكى فيها بنيه السبعة ووصف الحمار فطول وهي التي أولها:
أمن المنون وريبه تتوجع
وأما الخطل فسعد من سعود بني مروان. صفت لهم مرآة فكره. وظفروا بالبديع من شعره. وكان باقعة من حاجاه. وصاعقة من هاجاه. وأما الدرامي همام فجوهر كلامه. وأغراض سهامه. وإذا افتخر بملك ابن حنظلة. وبدارم في شرف المنزلة. وأطول ما يكون مدى إذا تطاول اخيار جرير عليه بقليله على كثيره. وبصغيره على كبيره. فانه يصادمه حينئذٍ ببحرٍ ماد. ويقاومه بسيف حاد. وأما ابن الخطفي فزهد في غزل. وحجر في جدل. يسبح أولاً في ماء عذب. ويطمح آخراً في صخر صلب. كلب منابحته. وكبش مناطحته. لا تفل غرب لسانه مطاولة الكفاح. ولا تدمي هامته مداومة النطاح. جارى السوابق بمطية. وفاخر غالب بعطية. وبلغته بلاغته إلى المساواة. وحملته جرأته على المجاراة. والناس فيهما فريقان. وبينهما عند قوم فرقان. وأما القيسان وطبقتهما فطبقة عشقة. توقة. استحوذت الصبابة على أفكارهم واستفرغت دواعي الحب معاني أشعارهم فكلهم مشغول بهواه لا يتعداه إلى سواه. وأما كثير فحسن النسيب فصيحة لطيف العتاب مليحة شجي الاعتراب قريحة جامع إلى ذلك رقائق الظرفاء وجزالة مدح الخلفاء. وأما الكميت والرماح ونصيب الطرماح فشعراء معاصره ومناقضات ومفاخره فنصيب أمدح القوم والطرماح أهجاهم والرماح أنسبهم والكميت أشبههم تشبيباً. وأما بشار بن برد فأول المحدثين وآخر المخضرمين وممن لحق الدولتين عاشق سمع وشاعر جمع شعره ينفق عند ربات الحجال. وعند فحول الرجال فهو يلين حتى يستعطف. ويقوى حتى يستنكف وقد طال عمره وكثر(64/36)
شعره وطما بحره ونقب في البلاد ذكره. وأما ابن أبي حفصة فمن شعراء الدولتين وممن حظي بالنعمتين ووصل إلى الغنى بالصلتين وكان درب المعول ذرب المقول والد شعراء ومنجب فصحاء. وأما أبو نواس فأول الناس في خرم القياس وذلك أنه ترك السيرة الأولى. وانكب على الطريقة المثلى وجعل الجد هزلاً والصعب سهلاً فهلهل المسرد وبلبل المنضد وخلخل المنجد وترك الدعائم وبنى على الطامي والعائم وصادف الأفهام قد نكلت وأسباب العربة قد تخلخلت وانحلت والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت. فمال الناس إلى ما عرفوه وعلقت نفوسهم بما ألفوه فتهادوا شعره وأغلوا سعره. وشغفوا بأسخفه وكلفوا بأضعفه وكان ساعده أقوى وسراجه أضوا لكنه عرض الأنفق وأهدى الأوفق وخالف فشهر وعرف وأغرب فذكر واستظرف والعوام تختار هذه الأعلاق وأسواقهم أوسع الأسواق فشعر أبي نواس نافق عند هذه الأجناس كاسد عند أنقد الناس وقد فطن إلى استضعافه وخاف من استخفافه. فاستدرك بفصيح طرده طرفاً حد اللسان وحدوده وهو محدود في كثرة التظاهر على من غض منه بالحق الظاهر ليس إلا لخفة روح المجون وسهولة الكلام الضعيف الملحون على جمهور العوام لا على خواص الأنام. وأما صريع فكلامه مرصع ونظامه مصنع وجملة شعره صحيحة الأصول مصنعة الفصول قليلة الفضول. وأما العباس بن الأحنف فمعتزل بهواه وبمعزل عمن سواه دفع نفسه عن المدح والهجاء ووضعها بين يدي هواه من النساء قد رقق الشغف كلامه وثقفت قوة الطبع نظامه فله رقة العشاق وجودة الحذاق. وأما دعبل فمديد مقبل اليوم مدح وغداً قدح يجيد في الطريقتين ويسيء في الخليقتين وله أشعار في العصبية وكان شاعر علماء وعالم شعراء. وأما علي بن الجهم فرشيق الفهم راشق السهم استوصل شعره الشرفاء ونادم الخلفاء وله في الغزل الرصافية وفي العتاب الدالية ولو لم يكن له سواهما لكان أشعر الناس بهما. وأما الطائي حبيب فمتكلف إلا أنه يصيب ومتعب لكن له من الراحة نصيب وشغله المطابقة والتجنيس حبذ ذلك أويس جزل المعاني مرصوص المعاني مدحه ورثاؤه لا غزل له وهجاؤه طرفاً نقيض وخطباً سماء وحضيض وفي شعره علم جم من النسب وجملة وافرة من أيام العرب وطارت له أمثال وحفظت له أقوال وديوانه مقرو وشعره متلو قال ابن بسام أما صفته هذه لأبي تمام فنصفه لم يثن عطفها حمية ولا تعلقت بذيلها عصبية حتى لو سمعها حبيب(64/37)
لتخذها قبلة واعتمدها مله فما لام من أدَّب وإن أوجع ولا سب من صدق وإن أقذع. وأما البحتري فلفظه ماء ثجاج ودرر رجراج ومعناه سراج وهاج على اهداء منهاج يسبقه شعره. إلى ما يجيش به صدره يسر مراد ولين قياد إن شربته أرواك وإن قدحته أوراك طبع لا تكلف يعيبه ولا العناد يثنيه لا يملّ كثيره ولا يتكلف غزيره لم يهف أيام الحلم ولم يصف زمن الهرم. وأما ابن المعتز فملك النظام كما هو ملك الأنام له التشبيهات المثلية والاستعارات الشكلية والإشارات السحرية والعبارات المجرية والتصاريف الصنوفية والطرائق الفنونية والافتخارات الملوكية والهمات العلوية والغزل الرائق والعتاب الشائق ووصف الحسن الفائق.
وخير الشعر أكرمه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيد
وأما ابن الرومي فشجرة الاختراع وثمرة الابتداع وله في الهجاء ما ليس له في الإطراء فتح فيه أبواباً ووصل منه أسباباً وخلع منه أثواباً وطوق فيه رقاباً يبقين أعماراً وأحقاباً يطول عليها حسابه ويمحق بها ثوابه ولقد كان واسع العطن لطيف الفطن إلا أن الغالب عليه ضعف المريرة وقوة المرة. وأما كشاجم فحكيم شاعر وكاتب ماهر له في التشبيهات غرائب وفي التأليفات عجائب يجيد الوصف ويحققه ويسبك المعنى فيرققه ويروقه. وأما الصنوبري ففصيح الكلام غريبه مليح التشبيه عجيبه مستعمل لشواذ القوافي يغسل كدرتها بمياه فهمه الصوافي فتجلو وتدق وتعذب وترق وهو وحيد جنسه في صفة الأزهار وأنواع الأنوار وكان في بعض أشعاره يتخالع وفي بعضها يتشاجع وقد مدح وهجا ونثر وشجا وأعجب شعره وأطرب وشرق وغرب ومدح من أهل أفريقية أمير الزاب جعفر بن علي منفق سوق الآداب فوصله بألف دينار بعثها إليه مع ثقات التجار. وأما الخبزرزي فخليع الشعر ماجنه رائق اللفظ بائنه كثيرة محاسنه صحيحة أصوله ومعادنه رائقة البزة مائلة إلى العزة تسليه عن الحب الخيانة ويروقه الوفاء والصيانة وله على خشونة خلقه وصعوبة خُلقه اختراعات لطيفة وابتداعات ظريفة في ألفاظ كثيفة وفصول قليلة الفضول نظيفة حتى أن بعض كبراء الشعراء اهتدم أشياء من مبانيه واهتضم طرفاً من معانيه وهو من معاصريه فقل من فطن لمراميه. وأما أبو فراس بن حمدان ففارس هذا الميدان إن شئت ضرباً وطعناً ولفظاً ومعنى ملك زماناً وملك أواناً وكان أشعر الناس في المملكة وأشهرهم(64/38)
في ذل الملكة وله الفخريات التي لا تعارض والأسريات التي لا تناقض. وأما المتنبي فقد شغلت به الألسن وسبرت في أشعاره العيون الأعين وكثر الناسخ لشعره والآخذ لذكره والغائص في بحره والمفتش في قعره عن جمانة ودره وقد طال فيه الخلف وكثر عنه الكشف وله شيعة تغلو في مدحه وعليه خوارج تتعايا في جرحه والذي أقول أن له حسنات وسيئات وحسناته أكثر عدداً وأقوى مدداً وغرائبه طائرة وأمثاله ثائرة وعلمه فسيح وميزه صحيح يروم فيقدر ويدري ما يورد ويصدر.
قال أبو الريان هذا ما عندي في شعراء المشرق وقد سميت لي من متأخري شعراء المغرب من لعمري لا يبعد عن معاصرهم ولا يقصر عن سابقهم. فأما ابن عبد ربه القرطبي وإن بعدت عنك دياره فقد صاقبتنا أشعاره ووقفنا على أشعار صبوته الأنيقة وتكفيرات توبته الصدوقة ومدائحة المروانية ومطاعنه في العباسية وهو في كل ذلك فارس ممارس وطاعن مداعس وأطلعنا في شعر على علم واسع ومادة فهمٍ مضيءٍ ناصع من تلك الجواهر نظم عقده وتركه لمن يتجمل به بعده. وأما ابن هاني محمد الأندلسي ولادة القيرواني وفادة وإفادة فرعدي الكلام سردي النظام متين المباني غير مكين المعاني يجفو بعطنها عن الأوهام حتى تكون كنقطة النظام إلا أنه إذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه رمى عن منجنيق يؤثر في النيق وله غزل قفري لا عذري لا يقنع فيه بالطيف ولا يشفع فيه بغير السيف وقد نوه به ملك الزاب وعظم شأنه بأجزل الثواب وكان سيف دولته في إعلاء منزلته من رجل يستعين على صلاح دنياه بفساد أخراه لردادة عقله ورقة دينه وضعف يقينه ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر حتى يستعين عليها بالكفر. وأما القسطلي فشاعرهم ماهر بما يقول تشهد له العقول بأنه المؤخر بالعصر المقدم في الشعر حاذق بوضع الكلام في مواضع لا سيما إذا ذكر ما أصابه في الفتنة وشكا ما دهاه في أيام المحنة وبالجملة فهو أشعر أهل مغربه في أبعد الزمان وأقربه. وأما علي التونسي فشعره المورد العذب ولفظه اللؤلؤ الرطب وهو بحتري الغرب يصف الحمام فيروق الأنام ويشبب فيعشقق ويجب ويمدح فيمنح أكثر ما يمنح.
هذا ما عندي في المتقدمين والمتأخرين على احتقار المعاصر واستصغار المجاور فحاش لله من الأوصاف بقلة الإنصاف للبعيد والقريب والعدو والحبيب.(64/39)
قلت: يا أبا الريان أكثر الله مثلك في الإخوان ووقاك محذور الزمان ومرور الحدثان فلقد سبكت فهماً وحشيت علماً.
قال محمد قلت لأبي الريان في مجلس عقيب هذا المجلس يا أبا الريان لقد رأيت لك نقداً مصيباً ومرمى عجيباً ولقد أرغب في أن أنال منه نصيباً قال النقد هبة الموالد. زفيه زيادة طارف إلى تالد ولقد رأيت علماء بالشعر ورواةً له ليس لهم نفادٌ في نقده ولا جودة فهم في رديئه وجيده وكثير ممن لا علم له يفطن إلى غوامضه وإلى مستقيمه ومتناقضه. قلت أنا شديد الرغبة إلى فضلك في أن تسهمني من ميزك وعقلك ما أستهدي بسراجه على مستقيم منهاجه فأقف من سرائره على بعض ما وقفت وأعرف من متأخره ومعانيه جزءاً مما عرفت. قال نعم أول ما عليه تعتمد وإياه تعتقد أن لا تستعجل باستحسان ولا باستقباح ولا باستبراد ولا باستملاح حتى تنعم النظر وتستخدم الفكر واعلم أن العجلة في كل شيء مودئٌ زلوق ومركب زهوق فإن من الشعر ما يملأ لفظه المسامع ويرد على السامع منه قعاقع فلا يرعك شماخة مبناه وانظر إلى ما فيّ سكناه من معناه فإن كان في البيت ساكن فتلك المحاسن وإن كان خالياً فاعدده جسماً بالياً وكذلك إذا سمعت ألفاظاً مستعملة وكلمات مستذلة فلا تعجل باستضعافها حتى ترى ما في أضعافها فكم من معنى عجيب في لفظ غير غريب والمعاني هي الأرواح والألفاظ هي الأشباح فإن حسنا فذلك الحظ الممدوح وإن قبح أحدهما فلا يكن الروح. قال: وتحفظ عن شيئين أحدهما أن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان ما تستمع له والثاني أن يحملك أصغارك المعاصرة المشهود على التهاون بما أنشدت له. فإن ذلك جورٌ في الأحكام وظلم من الحكام حتى تمحص قولهما فحينئذٍ تحكم لهما أو عليهما وهذا باب في اغتلاقه استصعاب وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه أتعاب وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تشبثت القلوب بسيرة القديم ونفارها من المحدث الجديد فقال حاكياً لقولهم إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وقال لن نعبد إلا ما وجدنا عليه آباءنا وقد قلت أنت:
أغري الناس بامتداح القديم ... وبذم الجديد غير ذميم
ليس إلا لأنهم جسدوا الح ... ي ورقوا على العظام الرميم
وقلت في هذا المعنى:(64/40)
قل لمن لا يرى المعاصر شيئاً ... ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان جديداً ... وسيغدو هذا الجديد قديما
فلا يرعك أن تجري على منهاج الحق في جميع الخلق فيه قامت السموات والأرض وبه أحكم الإبرام والنقض وسأمثل لك في ذلك مثالاً وأملأ أسماعك مقالاً وفهمك عدلاً واعتدالاً.
يتبع(64/41)
مخطوطان ومطبوعان
حاضر الإسلام ومستقبله
تأليف الأستاذ مونثه من كلية جنيف (سويسرا) طبع على نفقة الكتبي
بول كوتنز بباريز ص 157
في رجال العلم في الغرب فئة قليلة تجردت نفوسهم عن الغايات فإذا أصدروا حكمهم على أمر يصدروه أقرب إلى الصحة أحياناً أكثر ممن تربوا تربية القرون الوسطى وتشبعوا بأفكار أهلها أو نزعوا منزعاً سياسياً فصارت أقوالهم وأقوالهم تصدر وهي ترشح من مادة سياسة دولتهم. ومن أهل تلك الفئة الفاضلة الأستاذ مونته من جامعة جنيف في سويسرا ألقى ست محاضرات في حاضر الإسلام وماضيه وباللغة الإفرنسية في كوليج دي فرانس بباريز وهي دار العلم العامة ونشرها في كتاب أرسل إلينا لنبدي رأينا فيه فرأينا أن نلخص أقواله أولاً ثم نعقب عليها إذا وجدنا داعياً قال في المحاضرة الأولى في الأبحاث الإسلامية وإحياء نفوس أهل الإسلام وانتشار دينهم أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى وهولاندا هي الدول التي لها علاقة كبرى بالمسلمين لأن لها في مستعمراتها ملايين منهم تابعين لها وإن طبائع الحكومات الخاضعين لها تختلف باختلاف طبائعهم فيمكن إرجاع المسلمين المحكوم عليهم في آسيا وأفريقيا إلى ثلاثة أقسام كبرى الهنود والمالايو والأفريقيون وأنه يؤثر أن يتكلم على المسلمين الخاضعين لفرنسا بنوع خاص ولا يتعرض لمسلمي الهند وجاوه وسومطرا إلا بالعرض.
المسلمون البربر يختلفون في طبائعم عن مسلمي العرب أو الفرس أو الهنود أو الصينيين أو المالايو كما تختلف النصرانية إذا نظر إليها نظراً إجمالياً لأنها تختلف باختلاف طبائع أهلها بحسب الأقاليم أوربية كانت أو أمريكية أو أفريقية أو آسياويه.
إذا نظر إلى البلاد الإسلامية من حيث مجموعها يتأتى أن يقال له الإسلام في الجملة منتشر في جزء عظيم من قارة آسيا وجزء مثله من قارة أفريقية وفي بلاد عظيمة جداً من ماليزيا دع عنك النازلين من أهل الإسلام في قارتي أوربا وأمريكا وعددهم فيهما لا يستهان به.
وإذا جئنا نحصي عدد المسلمين كان لفرنسا في أفريقية منهم 23. 108. 00 وربما بلغ المسلمون تحت علم إنكلترا 68. 000. 000 وتحت حكم هولاندا 38. 938. 000 منهم(64/42)
زهاء ثلاثين مليوناً في جاوه والمسلمون في الصين ثلاثون مليوناً أما سائر بلاد الإسلام فليس لها إحصاء يعتمد عليه إلا مصر وعددهم فيها 10. 269. 000 وسكان المملكة العثمانية 24 مليوناً القسم الأعظم منهم مسلمون وفي إيران تسعة ملايين وفي مراكش مثلهم أو أقل أو أكثر فيبلغ عدد من ينتحلون الإسلام في العالم من 200 إلى 250 مليوناً. ولم يقف الإسلام عند حد البلاد التي انتشر فيها بل تعداها إلى غيره شأن إناء صببت فيه زيتاً أكثر مما يسع فض على جوانب الآنية.
انتشر الإسلام بشرعة منذ أول ظهوره وقليل في الأديان التي شابهته وانبثت دعوته إلى اليوم مثله وإن النجاح الذي صادفه منذ انتشاره قد كان داعياً إلى التقول في أسبابه خطأ إذ عجب الناس كيف انتشرت سلطة محمد وإصلاحه خارج جزيرة العرب وقال القائلون ولا يزالون يقولون أن السبب الداعي إلى انتشار الدين الإسلامي قد كان منبعثاً من أسباب زمانية كانت من طبيعة محمد والخلفاء الأول وقبل كل شيء دعت إليها القسوة وقوة السيف ولكن الواقع قد كذب هذا الظن إذ لم ينظر الناظرون إلى الأسباب المختلفة التي نشأت عنها سرعة انتشار الدعوة إلى هذا الدين.
لا شك عندي بأن مبادئ الإصلاح الإسلامي كانت بداءة بدءٍ دينية صرفة. فكان محمد رسولاً على ما عرف العبرانيون رسلاً مثله فقام باعتقاد خالص وأتى على الوثنية وتوخى أن ينقذ مواطنيه من دين بربري سخيف وأن يخرجهم من حالة في الأخلاق والمدنية منحطة كل الانحطاط. فلا مجال إلى الشك إذاً في إخلاصه وحماسته الدينية التي كانت متشبعة بها نفسه وفكره فقام يدعو بعواطفه إلى إصلاحه في مكة ثم في المدينة.
ولما نقل مركز إصلاحه إلى يثرب لم يلبث عنصر جديد أن ينضم إلى إرادته الإصلاحية وهذا العنصر هو الشعور الوطني العربي والفكر الذي أخذ يسري في عقله بتوحيد بلاد العرب توحيداً سياسياً فنشأ بعد ذلك فكر الإصلاح الديني إلى فكر جمع كلمة القبائل العربية تحت سلطة دينية وسياسية واحدة ومن هناك نشأت جرثومة مزج السلطتين الدينية والمدنية اللتين تجلى أمرهما في الحضارة الإسلامية وكانت سبب عظمتها ومجدها كما أن بذلك يعلل سبب انحطاطها وخرابها وبهذا ساغ أن نميز بين انتشار الدعوة الإسلامية بادئ بدءٍ ووعظ القرآن والهداية الدينية وبين الفتح الحربي وتوحيد سياسة العالم العربي. وهذا(64/43)
التمييز الأساسي الجوهري لا يفاجأ به إنسان تبحر في دروس التاريخ الديني فإن مؤرخي الإصلاح الذي قام به لوثيروس وكلفن شاهدون بما كان للسياسة من عمل في نشر المذهب البرتستانتي. وحقاً أن كبار المصلحين في القرن السادس عشر كانوا أرباب وجدانات وأخلاق ونوابغ في الدين من الطراز الأول ولكن جذبهم تيار السياسة في عصرهم فعملوا على أن يديروه بحيث يوافق رغائبهم الدينية.
وإن في تاريخ البابوية أمثلة لا تقل ع ذلك في الظهور والدلالة على الصلة الشديدة في النشوء البشري بين المصالح الروحية والمصالح السياسية والاعتبارات الدينية والاعتبارات العملية والمادية.
ولقد ذهب بعضهم مذاهب أخرى في تأويل هذه القضية المعروفة في سرعة انتشار الإسلام لأول أمره وأرى أن من الباحثين من أوغلوا في تعليل الأسباب على حين يكفي كما بينا أن تعتبر الأسباب العامة الاعتيادية في حياة كل مجتمع بشري فقال بعضهم إن القوة في انتشار هذا الدين نشأت من طبيعة هجرة العنصر العربي الذي كان يبحث عن مخرج يخرج إليه من أرضه لأن بلاده كانت ضيقة لا تكفيه وزعم آخرون أن السبب في انتشار العنصر العربي والهجرة التي انتهت في القرن السابع للميلاد بنشر الإسلام في جزء مهم من بلاد الشرق كان منبعثاً من بطء التبدل في بلاد العرب ألوفاً من السنين. فكان من نتيجة ذاك التبدل جفاف تلك الشبه الجزيرة التي تعادل بمساحتها ثلاثة أربع مساحة أوربا أما نحن فنخشى كثيراً أن يكون هذا التغير الأساسي في المناخ لا يصل بنا إلى أوقات عريقة في القدم قبل أن عرف التاريخ.
أوجزنا الكلام على هذه الأسباب في انتشار الدعوة الإسلامية لأول عهد الهجرة لأن هذا الدين ما برح ينتشر إلى اليوم والعاملان الجوهريان فيه على الدوام هما اللذان أوردناهما أولاً وما انتشار الإسلام في القرن العشرين إلا ناشئ من أسباب منها الديني ومنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فالأسباب الدينية إذا بحثنا فيها كان علينا بادئ الرأي أن تنظر فيما إذا كان للإسلام كما للنصرانية مبشرون فإنا نرى النصرانية تنتشر في الخارج بواسطة جمعيات التبشير وعوامل منفردة في المذهب البرتستانتي والمذهب الكاثوليكي بواسطة الرهبنات. وليت(64/44)
شعري هل في الإسلام شيء يشبه هذا فالجواب لا ونعم.
ففي افريقية مثلاً أناس من المرابطين هم دعاة تبشير حقيقيين وهناك طرق دينية أخذت على نفسها نشر الدين الإسلامي على أن الإسلام ينتشر بنفسه بواسطة المسلمين أنفسهم لأن كل مسلم في البلاد الوثنية داعية دين بحد ذاته. المسلم على الجملة مؤمن مخلص في إيمانه وربما كان ذلك لأنه قليل التعلم أو كثير الجهل ومن خصائص الإسلام أن يستولي على المعتقد به فيكون مأخوذاً به قلباً وقالباً ولئن كان ثمت من المسلمين الفاترين الذين قلما يعنون بمثل هذه الأمور إلا أن الحمية خلق أساسي فيمن يدينون بالإسلام. وإني أكرر أن في مطاوي المسلم أحياناً شيئاً يشبه المبشر فهو يدعو إلى دينه كما كان يعمل الالبيجوي والغودوي في القرون الوسطى يدعو إلى دينه وهو متوفر على تجارته أو عامل في صناعته والفرق بين هؤلاء الدعاة الملاحدة قديماً وبين المسلمين اليوم هو لمن الأولين كانوا يستعملون سراً هذه الطريقة في بث معتقدهم لأن الحاجة كانت تضطرهم إلى التقية فراراً بأنفسهم من الظلم فيخبئون كتبهم الدينية في متاعهم وخرائط بضائعهم أما الإسلام فينتشر من نفسه بواسطة القوافل التي ترحل في البلاد الوثنية أو الفتشية ودعاة الإسلام فما عرفوا به من الغيرة يعمدون إلى ذرائع مختلفة تناسب كل حال بحسب الأقطار والشعوب التي يبثون دعوتهم بين أهلها وللوسائط الاجتماعية والاقتصادية دخل كبير في الأسباب الدينية التي يعمدون إليها.
وهكذا نرى الدعاة المسلمين قد أنشأوا قرى سكنتها المهتدون إلى دينهم من المحدثين في الإسلام ولطالما انتقموا من القحط الذي كان يلقي بجرانه في أصقاعهم كما حدث في وانكيا على شاطئ زنجيار ليظهروا دينهم في مظهر التفقه والإحسان وكم من مرة أعتقوا الرقيق لينشروا معتقدهم كما وقع في واداي فإن قافلة من العبيد وأصلها من واداي قد أطال إليها يد النهب أهل البادية على حدود طرابلس الغرب ومصر فاشتراهم سيدي محمد بن علي السنوسي وعلمهم في زاويتهم التعليم الضروري وأعتقهم وإذا يقن بعد بضع سنسن غناءهم في بث الدعوة أعادهم إلى وطنهم ليتوفروا فيه على نشر الإسلام.
وإن دعاة المسلمين في الأقطار المتمدنة والشعوب المستنيرة ليجرون في دعوتهم على غير هذه الطريقة فيتوخون بما لهم من علم وتعليم راق إلى نيل الحظوة من الرؤساء وبواسطتهم(64/45)
يؤثرون في الرأي العام ويسكتون عن بعض العادات المألوفة في ذاك القطر ويتغافلون عن بعض الأوهام الدينية والاحتفالات الوثنية فهكذا ترى المسلمين في الصين وقد فتحت في وجوههم جميع الأعمال فيها لا ينشؤون مساجد أعلى من سائر المعابد ولا يضيفون إليها منارات ويوصون أهل ملتهم أن لا ينقطعوا عن الاختلاف إلى مواطنيهم في أعيادهم التي لها صبغة دينية وطنية وهم عندما يقومون بالوظائف العامة يقومون بالفروض الدينية التي عينها القانون وإذا جاوروا المهذبين من غير أهل دينهم يظهرون لهم الإسلام بأنه دين الفطرة ينافي تقاليد الأجداد مجرد عن الزوائد والأمور المستحدثة التي علقت بمذهب كونفوشيوس.
والمدرسة هي إحدى العوامل الفعالة في نشر الدين أيضاً فالمسلمون على الجملة عندما ينزلون ويتوطنون في بقعة جديدة يصرفون أول عنايتهم في إنشاء مسجد يجعلون بجانبه مجرسة وينظر إلى المسلم في بلاد زنوج الوثنيين في أفريقية بأنه أرقى من غيره وبذلك يخف إلى التعليم في مدرسته أبناء الوطنيين يريدون أن يصبحوا مثله معلمين مهذبين منظمين.
وترى المرأة عند قبائل البحة النازلة بين النيل الأزرق وأعالي البلاد الممتدة من شمال سطح بلاد الحبشة أرقى بعقلها من الرجل ولذلك يختار دعاة الإسلام تعليمهن والاعتماد عليهن في بث الدعوة على نحو ما يفعل السنوسية بالزنجيات في طوبو. وهذه الطريقة في الدعوة قد اشتهرت هناك في حين أن تعليم المرأة في البلاد الإسلامية مزهود فيه على الغالب.
وينتشر الإسلام بالزنوج أيضاً فالمسلم يتزوج على أهون سبب بامرأة من غير عنصره كالعنصر الأفريقي أو العنصر الصيني أو غيرهما على حين أن المسلم في الصين يتزوج عن رضى من امرأة من بنات بلاده ولكنه يحاذر أن يزوج بناته من الصينيين غير المسلمين.
وينتشر الإسلام أيضاً باشتراء أبناء الوثنيين يربونهم على الدين المحمدي وقد شوهد في الصين أناس من المتحمسين يبتاعون بالمال عشرة آلاف طفل في أيام قحط حدث في شانغهاي تونغ لمي بق فيها ولم يذر.(64/46)
وإذا اعتبرنا الإسلام من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية نراه ولا سيما في أفريقيا قوة أسمى من غيره وواسطة للنجاح من الطراز الأول وذلك أن الإسلام كالنصرانية لم يخرج عن كونه عبارة عن مدنية ذات أصل قديم انتشر انتشاراً طويلاً وأتت عليه أدوار في النشوء بطيئة وكتب له أن بلغ في الشرق وفي الغرب أوج مجده وهو إذا انحط الآن وتراجع فلم يبرح له وجود. وكانت هذه المدنية في أفريقيا حيثما دخلت أسمى من غيرها من حيث الوجهة الإدارية والاقتصادية ومن الوجهة العقلية والأخلاقية والدينية ولذا قال أحد الباحثين أننا إذا قايسنا مجموع النتائج في بث النصرانية في أفريقية وبث الإسلام لا من حيث العدد فإن عدد من دانوا بالنصرانية قلائل بالنسبة للمسلمين بل من حيث التأثير العقلي والأخلاقي والاجتماعي في الجماعات والأفراد المهتدين يتجلى لنا بلا شك أن الإسلام أسبق في هذا المعنى.
فالإسلام بما فيه من مكانة إذا كتبت له الغلبة في الشعوب الأفريقية ولا سيما في الزنوج فذلك لأن فيهم خاصية الشعوب الأفريقية ولا سيما السود منهم فللإسلام بعض الأوضاع الأساسية المناسبة مع الحالة الاجتماعية في الزنوج وأعني بذلك تعدد الزوجات والرق وسذاجة الحياة الظاهرة في أهل الإسلام وأن هذه السذاجة في الإسلام هي قوة فيه قوى التجنس تؤثر في الزنوج قوة شخصية في تربية النفس بالنفس وتمكين الإرادة والشجاعة في قلب كل من دان به أن هذه السذاجة غريبة مدهشة لعمر الحق هي تطبيق حياة السذاجة التي يدعو إليها أرباب النظر السامي من أهل النصرانية في أوربا وأفريقية.
ومن جملة الأسباب التي دعت إلى انتشار الإسلام أحوال سياسية قضت على القبائل وعلى الأفراد وأن يحفظوا مراكزهم بالإسلام وكان ذلك قبل أن تتقاسم دول أوربا بالفعل تلك الأقطار فقبلت قبائل الزنوج الإسلام لتحفظ حياتها لما في الإسلام من الإدارة والنظام ويستقلوا في حكومات لهم مستقلة ذات نظام اجتماعي حي راق وبهذه الطريقة انتشر الدين الإسلامي في بلاد كثيرة من أفريقية الوسطى والغربية.
وانفي تاريخ حياة المامي ساموري أكبر دليل على ما للمصلحة السياسية من الدخل في بث الدعوة للإسلام فقد كان هذا الرجل قبل الاستيلاء على مدينة كانكان بحسب أغراضه السياسية فهو وثني لأول مرة ثم دان بالإسلام لما اتصل بصوري ابراهيما أحد أتباع محمد(64/47)
ومؤسس مملكة تيديان الذي استقل واحتفظ بمدائن كونيا وكانكوما وتورو كوتو وكابادو كو وبعد حين عاد إلى الوثنية حتى إذا نشبت حرب كونيا عاد فدان بالإسلام وقد جرى على تعاليم المرابط ديالو من فتاح جالون والفاعثمان من أهل الطريقة القادرية الذي جاء عقيب إرشاد الحاج عمر فتوطن في تلك البلاد في مدينة اسمها ليلنكو ومنذ ذلك العهد ساعده الفاعثمان في جميع حملاته وباقتراحه أطلق على ساموري بعد فتح كانكان لقب المامي.
وذها المأرب السياسي الذي حمل الوطنيين من الأفريقيين على انتحال الإسلام قد أتت عليه الدول الأوربية إذ لم يجد الزنوج داعياً بعد أن فتحت كل من فرنسا وإنكلترا مملكتيهما الأفريقيتين أن يعمدوا إلى هذه الطرق. فدخول الأوربيين إلى أفريقية حال دون انتشار الإسلام وبقاء الوثنية في الزنوج في مركزها وربما عاد بعض الوثنيين بعد انتحال الإسلام إلى سابق دينهم كما وقع لجماعة أصلهم من قيس وصوننكة أو ماركا دانوا بالإسلام واستوطنوا حوالي سنة 1830 في شمالي ياماكو واغتنموا وتأثلوا بما استرقوه من العبيد الذين توفروا على حراثة أراضيهم ولما احتل الفرنسيين تلك الجهات وأبطل الرقيق ولا سيما في سنة 1905 و 1906 عاد أولئك العبيد إلى مواطنهم الأصلية فاضطر أولئك الجماعة أن يغادروا المدينة وينزلوا القرى ليحرثوها بأنفسهم والغالب أن عدداً عظيماً منهم عادوا إلى الوثنية وهناك أمثلة أخرى للردة وهي كما تقدم منبعثة عن سبب سياسي كالسبب الذي دعا إلى انتحال الإسلام فالمصلحة الواحدة ظهرت في الوجهتين المتخالفتين وأعني بذلك المصلحة حفظ حقوق عنصرهم وامتيازاته.
والظاهر اليوم أن الدواعي السياسية في أفريقية لا تعمل لما فيه نشر كلمة الإسلام إلا من حيث الوجهة المحلية الصرفة وهكذا في الجماعات الوطنيين من غير المسلمين حيث ترى مسلمين من أصل غريب وأحياناً كثار العدد ولهم سطوة حقيقية لذلك يصعب على نفوسهم أن تخضع راضية لمطالب الرؤساء وقد تجد أولئك الزعماء من يدين بالإسلام علناً جهاراً وما ذلك إلا دليل على سمو مكانة الإسلام من حيث هو دين ومن حيث هو ذريعة للمدنية.
وقصارى ما ينتج من الحوادث التي عرضناها والإحصاءات وطرق الدعوة والأسباب المنوعة في إسلام من لم يدن بدين الإسلام إن هذا الدين ينتشر ويرتقي وأن له المكان السامي بين الأديان التي يبشر بها دعاتها وينشر رعاتها. وليس للأمثلة في الردة عن(64/48)
الإسلام ونزع كلمته التي ذكرناها سوى شأن ضعيف وهي لا تمنع الإسلام كالنصرانبة أن تكون منذ قورن في دور دائم من الرقي والنجاح.
ولا يبعد أن يأتي يوم تحدث فيه أمور لا يتيسر لنا التنبؤ بها مثل أسباب نشر الإسلام التي أتينا على ذكرها فيكون منها انتشار هذا الدين انتشاراً فوق العادة بحيث يعجل في هجرم الإسلام على بعض الأصقاع من الكرة على نحو ما حدث في تاريخ الإسلام ومهما يكن من هذه الظواهر في المستقبل فالإسلام ليس واقفاً في انتشاره من حيث هو دين بل لا يزال أبداً بعدد منتحليه والمتدينين به. يروى أن عقبة بن نافع لما سار في جنده سنة 62 للهجرة (678) إلى أقصى المغرب بعد أن جاز بلاد مراكش بلغ شاطئ بحر الظلمات فقفز على جواده وسط أمواج البحر فأصابت أمواج البحر فأصابت المياه صدر حصانه فوقف وهتف قائلاً: اللهم رب محمد أني لو تحل أمواج هذا البحر لسرت إلى الأقطار المتنائية أمجد اسمك في مملكة ذي القرنين أقاتل عن الدين وأقضي على كل من لا يؤمنون بك.
بيد أن الإسلام قد حقق من الأعمال أكثر مما طمحت إليه نفس هذا القائد الجبار الذي قال ما قال آنفاً فالإسلام قد تجاوز البحار وطاف الأقطار ناشراً رسالة محمد.
هذه المحاضرة الأولى من الكتاب وهي نموذج صالح منه وقد تكلم في المحاضرة الثانية على أصل الإسلام وما طرأ عليه من البدع والإلحاد والمذاهب وفي المحاضرة الثالثة على الأولياء وفي الرابعة على الطرق الإسلامية والتصوف وعملها الاجتماعي والسياسي وفي الخامسة على مذهب البابية والبهائية وفي السادسة على مستقبل الشعوب الإسلامية والميل إلى المناحي الحرة في الدين وقد ختم المحاضرة الأخيرة بطلب اتحاد العالم الأوربي مع العالم الإسلامي وأن يحسن الأوربيون إلى المسلمين ويحسنوا علاقاتهم في الصناعات والتجارة قال: الإسلام من حيث هو دين قوة أدبية فأول شرط في هذه الصلات الحسنة احترام الدين الإسلامي احتراماً مطلقاً وقد أخذ هذا الدين يعرف أحسن من ذي قبل حق المعرفة في أوربا بفضل ما نشره بعض العلماء وبعض السياح فإن خبرة الباحثين وسذج الزائرين للبلاد الإسلامية حربة بالنظر وكثير من السياح قد لاحظوا مثل ما لاحظت فقالوا أن أحسن منقذ للأوربي في الأصقاع الإسلامية التي يقل اختلاف المسيحيين إليها التي تقل راحتهم فيها هو احترامهم للإسلام وليس من الضروري إلا في أحوال خاصة أن ينتحل(64/49)
المخالفون لدين الإسلام بل يكفي بأن يكونوا أحباباً للإسلام أو بعبارة أبسط محترمين لشعائر هذا الدين. وكم من سائح في البلاد الإسلامية سمع على أساليب مختلفة ما كان قاله سلطانة حايل إلى المأسوف عليه هوبر أنت مسلم في بلادي وبعد فإن من الاتحاد بين المسلمين والأوربيين بل بين المسيحيين والمسلمين تنتج ولا شك نتائج حسنة قد ظهرت تباشيرها الآن فإن اتحاد الإرادات الحسنة في أوربا يسهل ولا جرم بالتدريج دخول كثير من الشعوب الإسلامية في تيار المدنية الحديثة. وعساني بهذه المباحث الحقيرة أكون قد حملت حجراً فوضعته في أساس البناء الذي أقيم للوفاق الحسن بين المسلمين والأوربيين بل بين المسلمين والمسيحيين.
والمقتبس يقول بارك الله بكل من تخط يده في تقريب الأمم بعضها من بعض خصوصاً متى كان قصده كما هو الظاهر من عبارات الأستاذ مونته خدمة الإنسانية والاجتماع لا خدمة سياسة مخصوصة ولا فكر خاص.
التعليم في مصر وحظ المسلمين والأقباط منه
للشيخ علي يوسف طبع بمطبعة الآداب والمؤيد بمصر (ص41)
لو كان كل المفكرين من الكاتبين والعالمين لا يدونون إلا ما يعلمون ولا يقدمون إلا على ما يتقنون لما ظهر عوار مؤلف ولما بدت مقاتل منشئ وباحث. وأمامنا الآن كراسة في التعليم بمصر لمدير سياسة المؤيد أقدم الجرائد الإسلامية وأرقاها في القطر المصري وهي خطبة ألقاها في المؤتمر المصري الأول أجاد فيها كل الإجادة لأنه دعم كلامه بالأرقام والكتابة بالدليل المحسوس يقرها الموافق والمخالف فقد قال أن البعثات العلمية التي نقلت العلوم والمعارف من أوربا إلى مصر وكان لها أعظم عمل في تكوين مصر الحديثة بدورها الجديد كانت إسلامية محضة ليس بها إلا نحو عشرين طالباً من الأردن والروم والسوريين والأحباش وثلاثة من الأقباط وهؤلاء كانوا طلاب وظائف لا ناشري علوم ومعارف ولكن في هذا العهد الأخير قد توجهت رغبات الأقباط كالمسلمين إلى هجرة الأوطان في طلب العلوم والمعارف وإن لم يبلغوا في هذا الصدد شأواً يضاهي شأوهم في رغبة التعليم في مصر. فقد بلغ عدد الطلبة المصريين إلى سنة 1910 بفرنسا وسويسرا وألمانيا وبلجيكا وإنكلترا وإيطاليا وأمريكا والأستانة وبيروت على نفقة آبائهم 681 طالباً وبإضافة هذا(64/50)
العدد إلى البعثة المرسلة من قبل الحكومة يكون عدد جميع البعثات العلمية المصرية الحاضرة خارج القطر المصري 740 طالباً. وإذا شئت أن تعرف مقدار عدد الأقباط في البعثات العلمية الموجودة الآن في القارات المختلفة سواء على نفقة الحكومة أو على نفقة آبائهم فإنهم لم يبلغوا خمسين طالباً أكثر من نصفهم في كلية بيروت وأكثر من ثلثهم على نفقة الحكومة فنسبة الأقباط إلى المسلمين في البعثات العلمية الحاضرة كلها لا تكاد تبلغ 7 في المائة.
وبلغ عدد الذين تخرجوا من مدرسة الحقوق الخديوية التي كان اسمها مدرسة الألسن والإدارة حتى الآن 655 طالباً عد المسلمين منهم 498 وعدد الأقباط 137.
ولم يدخل إلى مدرسة الطب التي أنشئت سنة 1824 أحد من الأقباط إلا في سنة 1888 وحاملو شهاداتها منهم حتى الآن 66 طبيباً ومن المسلمين 327 طبيباً ومن غيرهم من المسيحيين 26 وأنشئت مدرسة دار المهندسين سنة 1834 فلم يدخلها قبطي إلا في سنة 1896 بلغ المتخرجون فيها منهم إلى الآن 36 مهندساً مقابل 148 مهندساً ولم يتخرج في مدرسة المعلمين الخديوية وكان اسمها قديماً مدرسة قلم الترجمة سوى أربعة أقباط مقابل 83 من المسلمين وكذلك قل عن مدرسة المعلمين التوفيقية فإنها من سنة 1888 حتى الآن لم يخرج منها سوى 18 معلماً قبطياً مقابل 8 معلماً من المسلمين وتخرج في مدرسة دار العلوم الخديوية 422 أستاذاً مسلماً ولا يدخل هذه المدرسة إلا المسلمون ويوجد منهم اليوم في مدارس الحكومة بين نظار مدارس ومدرسين ومفتشين ومديري كتاتيب 294 شخصاً والباقون في سائر فروع الإدارة والأعمال.
قال والفضل كل الفضل في ارتقاء مصر الحاضر للوظيفة الكبرى التي قام بها المسلمون وقد أحسنوا أداءها مدة قرن كامل سواء كان في جلب أنوار المدينة والعلوم والمعارف من الخارج أو في تأسيس المدارس وتنظيمها وتعليم أبناء مصر العلوم المختلفة في الأدوار المتعاقبة مع اشتغالهم بالتأليف وترجمة الكتب النافعة وأنهم الآن أساتذة المدارس النافعون المفيضون على الناشئة المصرية بركة العلوم والتربية ولم يشترك الأقباط في أداء هذه الوظيفة السامية مع المسلمين يل كانوا عالة عليهم أولاً ثم تلامذة لهم في العهد الأخير وكان مجموع التلامذة المسلمين في مدارس الحكومة الابتدائية والثانوية والخصوصية والعالية(64/51)
سنة 1900 بالغاً 5984 تلميذاً ومجموع الطلبة الأقباط فيها 1555 وبلغ عدد الأولين سنة 1905 في تلك المدارس 7989 وعدد الآخرين 1815 وبلغ عدد الأولين سنة 1910 (11038) تلميذاً وعدد الآخرين 2256 وبلغ عدد المكاتب الأهلية التي شرط لها واقفوها أن تعلم أولاد المسلمين فأشركت الأقباط في تعليم أولادهم تسامحاً منها - عشرين مدرسة فيها 4942 تلميذاً قبطياً وبلغ مجموع تلامذة المسلمين في مدارس الأوقاف وكتاتيبها 1887 تلميذاً بينهم 242 من الأقباط مع أن هذه المدارس هي من أوقاف المسلمين. وختم خطابه بعد الأدلة التاريخية والشواهد التي تدل على بعد غوره في المسائل المصرية الحاضرة بطلب فصل جميع المدارس الأهلية ومدارس الأوقاف عن نظارة المعارف وجعلها إدارة قائمة بذاتها يراعى فيها تنفيذ شروط الواقفين وإبطال تعليم الدين المسيحي من جميع مدارس الحكومة لأنه لا يجوز تعليم غير الدين الرسمي فيها كما هو المتبع في الممالك المتمدنة فنثني الثناء الأطيب على غيرة المؤلف على بلاده وعساه يقف قلمه على الخوض في مسائلها فقط فالاستئثار بالمزايا كلها ضرب من ضروب المحال والإحصاء في الموضوعات أفضل وأشرف ما دام قول لا أدري نصف العلم وكل من تجاوز محيط والقدر الذي لقنه من العلم والمعرفة سواء كان في الصحافة أو غيرها من فنون التأليف والتعليم يوشك أن يعثر في كل خطوة فيخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وهذا ما لا نرضاه للقائمين بإنهاض هذا الشرق التعس من كبوته وتعليمه التعليم النافع والأدب الرفيع.
زراعة القطن
تأليف أحمد أفندي الألفي طبع بمطبعة المقطم بمصر سنة 1911 ص
140
من العاملين المفكرين من ناشئة مصر مؤلف هذا الكتاب وضعه على هذا الأسلوب المبتكر في زراعة القطن ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه وذكر فيه جميع ما تحب معرفته لهذه الزراعة المباركة وتجويدها والانتفاع منها وقد دل أن زراعته في القطر المصري بدأت نحو سنة 1821 م وما زال ينتشر ويشيع حتى بلغت الآن المساحة المزروعة منه أكثر من مليون وستمائة ألف فدان محصولها في المواسم الجيدة نحو سبعة ملايين وربع مليون قنطار ومتوسط ثمن القنطار غالباً نحو أربعة جنيهات إلى خمسة فيقدر إيراد البلاد منه(64/52)
سنوياً نحو ثلاثين مليون جنيه أو تزيد وإن القطن المصري أجود وأعلى جميع أقطار أميركا والهند والصين لا يدانيه إلا قطن جزيرة سي ايلند بأميركا ولكن محصول هذا عن نصف مليون قنطار وكان الوجه البحري مستأثراً إلى ما قبل بضع سنين بزراعة القطن لأن الري الصيفي عام فيه أما في الوجه القبلي فكان قاراً عل حيز محدود الوجه البحري كناية عن مديريات مصر الواقعة إلى شمال القاهرة وهي البحيرة والغربية والدقهلية والشرقية والمنوفية والقليوبية والوجه البحري عبارة عن المديريات الواقعة جنوبي القاهرة وهي الجيزة والفيوم وبني سويف والميناء وأسيوط وجرجا وقنا وأسوان. والشهير من أصناف القطن المصري الميت عفيفي والأشموني واليانوفيتش والعباسي والنوباري. والكتاب فاض بالفوائد الغزيرة لا يستغني عنه من يحب زراعة هذه الشجرة المباركة رنه حوى جميع ما يحتاج إلى معرفته للنجاح وهو نافع لأبناء سورية ممن يريدون اليوم تعلم زراعة القطن ولا سيما من أهل فلسطين فنحثهم على اقتنائه للانتفاع به فهو كتاب مادي عملي ليس فيه ما لا يفهم من الاصطلاحات الفنية وهذا من بعض حسناته.
الواجبات
تأليف سامي أفندي يواكيم الراسي طبع في المطبعة السورية في سان
باولو. البرازيل سنة 1911 ص 174
أحسن المؤلف وهو من أدباء الجالية السورية نزلاء أميركا الجنوبية في وضع هذا التأليف اللطيف فأفاض في واجباتنا نحو نفوسنا وفي بيوتنا وواجبات الأبناء نحو والديهم والأخ نحو أخيه والرجل نحو أخيه والرجل نحو زوجته والزوجة نحو رجلها والوالدين نحو أولادهم وواجباتنا نحو أقاربنا ومعارفنا وأعدائنا والجنس بوجه عام والعجماوات وهذا هو الباب الأول وسماه بالواجبات العامة أما الباب الثاني فهو في الواجبات الإفرادية نحو واجبات التلميذ والمعلم والصحافي والطبيب والمحامي والمؤلف والحاكم والمحكوم والجندي والتاجر والزارع والصانع والمستأجر والكاتب أخلاقي وعظي حري بالناشئة أن تطالعه وتستفيد منه بتدبير فنشكر لمؤلفه الفاضل.
الصاحبي(64/53)
تأليف أحمد بن فارس نشرته المكتبة السلفية في القاهرة ص 245
كتاب في فقه اللغة وسنين العرب في كلامها جمعه ابن فارس أحد أئمة اللغة في القرن الرابع من تصانيف من تقدمه فكان له فيه كما قال اختصار مبسوط أو بسط مختصر أو شرح مشكل أو جمع متفرق وفيه من الفوائد الغزيرة ما يجدر بكل طالب أدب أن يتدارسه المرة بعد المرة. وقد أجاد الناشر كل الإجادة بإحياء هذا التأليف النفيس نقلاً عن نسخة صحيحة بخط الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي أحد حفاظ اللغة في العهد الأخير وقدم له ترجمة حافلة للمؤلف وأجاد طبعه بحيث استحق شكر العلم والآداب.
مدينة العرب في الجاهلية والإسلام
تأليف محمد أفندي رشدي طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1329 هـ
- 1911 م (ص 200)
البحث في مدينة العرب من أصعب الموضوعات وأصعبها وأوسعها لأن مظان النقل قليلة وما يوجد منها لا يتيسر لكل طالب وفي مصر منها الشيء الكثير لذلك كنا نأمل أن يكون هذا الكتاب أوسع مادة وأصح استشهاداً فقد اقتصر المؤلف على المبتذل المعروف وكان لديه في دار الكتب المصرية مادة واسعة يتأتى الاستقاء منها ليجيء مصنفه لائقاً بشأن العرب ومدنيتهم العظيمة. بيد أن الكتاب أشبه بالكتب التي يراد بها نشر شيء من المعلومات بين العامة كالتي يسميها الفرنسيين فقد تكلم المؤلف على العلوم التي عرفها العرب واهتماماتهم بالسياحات والتجارة وأسواقهم وعاداتهم وصفاتهم وحكمهم وحكمتهم العملية ونقل رسائل للمشاهير في السياسة والرياضة وألم بتأليف الوزارة والشورى والدواوين وختمه بمقال في أسباب انحطاط الأمم وبالجملة فنشكر المؤلف لاهتمامه وغيرته ونرجو أن يعود إلى كتابه فيضيف إليه من كتب العرب التي بحثت في مدنيتهم ومنها المطبوع في أوروبا ما تكون به الطبعة الثانية من هذا المصنف تامة حافلة بالبحث والتدقيق.
كتب ورسائل ومجلات
لقطة العجلانتأليف الإمام بدر الزركشي شرحه الشيخ جمال الدين القاسمي.(64/54)
دروس الصرف والنحو للشيخ محي الدين الخياط يشتمل القسم الأول على أوليات الصرف وأوليات النحو.
الدروس العربية للشيخ مصطفى الغلاييني وهو القسم الأول منه في النحو.
التعليم الأدبي لجرجي بك ديمتري سرسق القسم الأول منه في الأخلاق والآداب.
خديجة أم المؤمنين تأليف عبد الحميد أفندي الزهرواي وهي قصة حقيقية تاريخية اجتماعية.
الجوهر المحبوك في نظم السلوك للسيد علاء الدين علي الملقب بعلوان الحسيني الحموي من أهل القرن العاشر.
واقعة السلطان عبد العزيز تأليف أحمد صائب بك وتعريب محمد توفيق أفندي جانا.
نظام الجهاد في الشريعة الإسلامية تأليف المسيو كولوزيو
'
التقرير السنوي الأول لجمعية تهذيب الفتاة السورية فغي بيروت والشويفات.
برنامج جمعية السيدات والأوانس الكاثوليكيات لتجهيز البنات العرائس الفقيرات في دمشق.
خلاصة جمعية ترقي الآداب الوطنية في يافا لسنتها الثالثة.
المدرسة مجلة فنية تصدر في تونس للسيد عبد الرزاق النطاسي مدرس الفنون بالخلدونية فيها ملخص دروسه ودروس أخوانه من أساتذة هذه المدرسة في التاريخ والجغرافية والعلوم الرياضية والحكمة الطبيعية والكيمياء والتاريخ الطبيعي إلى غير ذلك من الأبحاث المفيدة.
العروس مجلة نسائية علمية أدبية صحية فكاهية لصاحبتها الآنسة ماري عجمي تصدر في دمشق مرة في الشهر وهي المجلة النسائية الوحيدة في سورية تكتبها كاتبة لا كاتب.
العريس مجلة علمية أدبية اجتماعية فكاهية شهرية لمنشئيها نسيب أفندي نصار وفاضل أفندي الجمل تصدر في حمص وفيها شيء من تاريخ ذاك الوادي وآثاره ونفثات أقلام أدبائه.(64/55)
العدد 65 - بتاريخ: 1 - 7 - 1911(/)
بين بلاد الآراميين والفينيقيين
وادي العجم وإقليم البلان
يفزع المشتغلين بعقولهم إلى الفلاة يروضون أفكارهم كلما آنسوا من نفوسهم مللاً وتعباً رجاء أن يخفف عنهم ما نابهم فيعاودون أعمالهم بنشاط أكثر ومضاء أوفى وأوفر. وعلى هذه السنة جرى كاتب هذه السطور فركب العربة من دمشق بعد ظهر الخميس في 13 ربيع الثاني 1327 (13 نيسان غربي 1911) قاصداً إلى قطنا مركز قضاء وادي العجم فبتنا فيه ليلتنا على مثل ما كان النهار سخية هطالة ورياحاً نكباء وزعازع وأعاصير وكنا نود لو نخلص من الغد إلى راشيا ولكن حالت الثلوج المتراكمة في سفوح جبل الشيخ دون الأمنية فعقدنا العزم على زيارة القنيطرة حاضرة الجولان أولاً ثم نقصد إلى جبل عامل ونجعل راشيا خاتمة المطاف.
وعلى هذا ركبنا خيلاً من الغد قاصدين إقليم البلان ومنه إلى الجولان في يوم انقطعت أمطاره ولم تنقطع رياحه وذارياته وبعد أن سرنا ساعتين في شعاب وهضاب بلغنا قرية بيتيما وتخطيناها لنجتاز نهرها إلى كفر حور ولكن عجز حمار مكارنا عن قطع المخاضة إذ لا جسر يعبر عليه بين القريتين وصادف أن كانت عصارات ثلوج جبل الشيخ قد كثرت عصر ذاك اليوم فاضطرتنا الحال أن نعود أدراجنا إلى بيتيما نقضي فيها الليل عسى أن تخف مياه نهرها من الغد فنستأنف السير.
ومعنى بيتيما بالسريانية بيت اليتيم وقيل بيت الماء ولكل من اسمه نصيب وهكذا فعلنا ونحن نضحك من حكم الأقدار في هذه الديار وكيف أدى ماء النهر وعدم الجسر إلى تخلفنا ليلة في الطريق. نعم استضحكنا لأن حمار المكاري لم يستطع العبور وأنا ورفيقي كيف نسير وحدنا ونهتدي إلى ما نقصده من البلاد بدون دليل فقلنا: يا سبحان الله كم من حمار يقطر بشراً فيؤخرهم عن السير هذا الحال في حمار حيوان فكيف إذا كانت حمراً كثيرة في صور بشرية.
ليس في هذا الوادي والإقليم ما يستحق الذكر من الأمور التاريخية والأثرية فقد سكت التاريخ عن ذكر حالته في الأزمان القديمة كما سكت من أقاليم الشام فوادي العجم وإقليم البلان ليس لهما ذكر في تواريخ القرون الوسطى اللهم إلا ما كان من ذكر نهر وادي العجم(65/1)
الأعظم المسمى بنهر الأعوج والمعروف في التوراة باسم فرفر أو فرفار أو فرفور.
وهذا النهر يتكون من عدة عيون ومسايل تنبعث من سفوح جبل الشيخ منها عين في بيت جن ومن ينبوع آخر اسمه المنبج وعدم الشراطيط ووادي الدهامية وعين الطموسية وعين الطبيبية وهي أجود تلك العيون تحسن ماءه كما يحسن ماء عين الفيجة مياه نهر بردى باختلاطه بها وهكذا تجري إليه عشرات من العيون ومنها بيتمتا وعيون عرنة.
ويسقي نهر الأعوج أو فرفر كثيراً من قرى وادي العجم التحتاني وأهم قرى هذا القضاء قطنا والجديدة وعرطوز وجونية وكوكب والمعظمية وداريا وصحنايا والأشرفية والخيارة وسبينة وسبينات وبلاس والقدم وكفرسوسة والمزة والماجدية وذا النون وأم القصور والدير والكسوة وزاكية وزغبر وحرجلة والمقيليبة وشورى والطيبة والدرخبية والبويضة ومرجانة والحسينية والأشرفية والعباسة وحوش النفور وحوش مرانة وبراق وخان الشيح وسعسع وكناكر ودير ماكر وشقحب وبويضان وماعص وسبسبة والعثمانية والدناجى والزريقية والهبارية وغيرها من الأحواش والمزارع.
أما وادي العجم الفوقاني المعروف بإقليم البلان فهو قرى سفوح جبل الشيخ أو ما يقرب منها وطول هذا الإقليم نحو عشر ساعات وعرضه نحو سبع ساعات يحده جنوباً الجولان وشمالاً وادي العجم والديماس وراشيا وشرقاً وادي العجم التحتاني أيضاً وغرباً إلى الجنوب حاصبيا وأهم قراه عيسم وهي أول الإقليم على نحو ساعتين من قطنا ومن قراه عين البرج والقلعة وبيتيما وكفر حور وبيت سابر وحينة وبقعسم وعين الشعرة وريمة وعرنة ودربل وبيت جن وحرنة وخربة السوداء وحضر وسحيتة وترنجة وجباتا الخشب ومقروصة وحلس وبرقش وكفرقوق وصوجة ورضوان وأمبياودورين والبجاع والصبورة ورأس العين ورخلة ويعفور وإقليم البلان متوسط بزراعته لكثرة وجليدة وأهويته على العكس في وادي العجم التحتاني فإن تربته أخصب وتجود فيها الأشجار المثمرة أكثر. وفي بعض قراه إلى اليوم عاديات ونواويس تدل على عمران قديم زاخر وأن الآراميين والرومانيين واليونانيين سكنوا هذه البلاد فعمروها ولا تزال أسماء بعض بلاد الإقليم سريانية إلى اليوم وقد خلفوا فيها آثاراً صبرت على كرا الليل والبر وما برحت تنم عن حضارة وذلك مثل آثار بيتيميا كفر حور كفر قوق سحيتا وقد شاهدنا في ارض كفر حور أربعة نوارس(65/2)