(يح) توهمهم ملامح الجن في الأنس.
(يط) قولهم في جنون الجن وصرع الشيطان.
(ك) ما يحكونه من نيران السعالى والجن.
(كا) فلسفة ما تزعمه الأعراب من عزيف الجان وتغول الغيلان.
(وأما المقصد الثاني) ففي آراء فلاسفة الإسلام في الجن (أ) ابن سينا (ب) أبو طالب المكي (ج) الغزالي (د) ابن حزم (هـ) الفخر الرازي (و) القاشاني (ز) الماوردي (ح) القاضي أبو يعلى ابن الفراءِ (ط) ابن تيمية (ي) ابن القيم (يا) الأٍتاذ الإمام الشيخ محمد عبده. إنما تأثرت مذاهب الأعراب بما أُثر عن الأئمة في هذه المسألة انتقالاً إلى الجد في مباحثها إذ المقصد الأول أشبه بالجمام والمشراح لما شاب جده من مخاريق ومخايل وختمت البحث بمتفرقات من شوارد هذه المسألة تميماً لفوائده وتأييداً لمقاصده.
ليس لنا من مزية فيما أثرناه إلا انتقاء المهم مما طالعناه وترتيبه على هذا الأسلوب نسأله تعالى أن يمن علينا بتنوير القلوب ويدخلنا في عباده الذين يؤمنون بالغيوب.
المقدمة
فيما قاله فلاسفة اللغة في الجن
قال الراغب الأصبهاني في مفرداته في مادة جن: أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنه الليل وأجنه والجنان القلب لكونه مستوراً عن الحاسة والجنة كل بستان يستر بأشجاره الأرض (ثم قال): والجن يقال على الروحانيين المستترة عن الحواس كلها بازاء الأنس وسيأتي تتمة كلامه.
وقال الزمخشري في أساس البلاغة: جنه ستره فاجتن واستجن بجنة استتر بها واجتن الولد في البطن وأجنته الحامل وواراه جنان الليل أي ظلمته وفلان ضعيف الجنان وهو القلب وجنت الأرض بالنبات ولا جن بكذا أي لا خفاءَ به قال سويد:
(ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر).
ونقل الإمام ابن جرير في سورة البقرة في تفسير آية وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أن استثناءه من الملائكة يدل على أنه منهم وعن ابن اسحق أن العرب يقولون: ما الجن إلا كل من اجتن فلم يروا أن آية إلا إبليس كان من الجن أي كان من الملائكة(48/18)
وذلك أن الملائكة اجتنوا فلم يروا وإن آية وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً إشارة لقول قريش أن الملائكة بنات الله (قال) وقد قال الأعشبي ـ أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله:
ولو كان شيءٌ خالداً ومعمرا ... لكان سليمان البري من الدهر
براه إلهي فاصطفاه عباده ... وملكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا أجر
(قال) فأبت العرب في لغتها إلا أن الجن كل ما اجتن يقول: ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يروا وما سمى بني آدم أنساً إلا أنهم ظهروا فلم يجتناوا فما ظهر فهو أنس وما اجتن فلم ير فهو جن.
ثم قال ابن جرير: وأما خبر الله عنه أنه من الجن فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جناً كما ذكرنا قبل في شعر الأ شى فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنابهم عن أبصار بني آدم:
وقال الراغب الصبهاني في مفرداته: الجن يقال على وجهين (إحداهما) للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بازاءِ الأنس فعلى هذا تدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة وعلى هذا قال أبو صالح: الملائكة كلها جن وقيل بل الجن بعض الروحانيين وذلك أن الروحانيين ثلاثة (أخيار) وهم الملائكة (وأشرار) وهم الشياطين (وأواسط) فيهم أخيار وأشرار وهم الجن ويدل على ذلك قوله تعالى قل أوحي إليَّ إلى قوله عز وجل وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون.
من ادعى من الأعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف
الجان وما يشبهونه بالجن والشياطين وبأعضائهم وأعمالهم
أنشد أعرابي:
كأنه لما تدانى مقربه ... وانقطعت أوذامه وكربه
وجاءت الخيل جميعاً تذنبه ... شيطان جن في هواء يرقبه
أذنب فانقض عليه كوكبه
وأنشد:(48/19)
إن العقيلي لا تلقى له شبها ... ولو صبرت لتلقاه على العيس
بينا تراه عليه الخز متكئاً ... إذ مر يهدج في حش الكرابيش
وقد تكنفه عرامه زمناً ... أشباه جن عكوف حول إبليس
إذ المفاليس يوماً حاربوا ملكاً ... ترى العقيلي منهم في كراديس
وقال أبو الخطفي:
يرفعن بالليل إذا ما أسدفا ... أعناق جنان وهاماً رجفا
وعنقا بعد الرسيم خيطفا
وأنشد ابن الأعرابي:
غناءُ كليبي يرى الجن يبتغي ... صداه إذا ما آت للجن أيب
وقال الأعشى:
فإني وما كلفتموني اتباعه ... ليعلم ربي من أعق وأحويا
كالثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا
وقال الرقياني:
بين اللهى منه إذا ما مدا ... مثل عزيف الجن هدت هدا
وقال ذو الرمة:
قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظل أخضر يدعو هامه اليوم
للجن بالليل في أرجائها زجل ... كما تناوح بين الريح عيشوم
دوية ودجى ليل كأنهما ... يم تراطن في حافاته الروم
وقال:
وكم عرست بعد السرى من معرسن ... بها من صداء الجن أصوات سامر
وقال:
كم جبت دونك من بهماء مظلمة ... تيه إذا ما مغنى جنه سمرا
وقال:
ورمل لعزف الجن في عقداءه ... هرير كتضراب المغنين بالطبل
وقال:(48/20)
وتيه خبطنا غولها وارتمى بنا ... أبو البعد من أرجائه المتطاوح
فلاة لصوت الجن في منكراتها ... هرير وللأبوام فيها نوائح
وطول اغتمامي في الدجى كلما رعت ... من الليل أصداء المثاني الصوائح
ويقولون لمن به لقوة أو شتر إذا شبَّ يالطيم الشيطان ويقولون للرجل المفرط الطول يا ظل النعامة وللتكبر الضخم يا ظل الشيطان.
وكان عمر بن عبد العزيز أول من نهى الناس عن حمل الصبيان على ظهور الخيل يوم الحلبة وقال: تحملون الصبيان على الجنان وأنشد في تشبيه ال، س بالجن لأبي الجويرية العبدي:
أنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا ... مُرَزَّؤُن بهاليل إذا حشدوا
وأنشدوا:
وقلت والله لترحلنا ... قلائصاً تحسبهن جنتا
وقال ابن الزوائد:
بحور خفض لمن ألم بهم ... آخيته عمري إذا خطروا
وأنشدوا:
إني امرؤ تابعتي شيطانيه ... آخيته عمري وقد آخانيه
يشرب في قعبي وقد سقانيه ... فالحمد لله الذي أعطانيه
وقال عبيد بن أوس الطائي:
هل جاء أوساً ليلتي ونعيمها ... ومقام أوس في الخياءِ المشرج
ما زلت أطوي الجن أسمع حسهم ... حتى دفعت إلي راق المروج
وأنشد آخر:
ذهبتم وعدتم بالأمير وقلتم ... تركنا أحاديثاً ولحماً موضَّعا
فما زادني إلا سناءً ورفعةً ... ولا زادكم في القوم إلا تخشعا
فما نفرت جني ولا فلَّ مبردي ... ولا أصبحت طيري من الخوف وقعا
وأشعارهم في هذا المعنى تفوت الحصر.
إضافتهم مباني تدمر وأمثالها إلى الجن(48/21)
قال النابغة الذبياني:
ألا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصُّفاح والعمد
قال الجاحظ: وأهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل زمن سليمان عليه السلام بأكثر مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا ولكنكم إذا رأيتم بنياناً عجيباً وجهلتم موضع الحيلة فيه أضفتموه إلى الجن ولم تعانون بالفكر. وقال العرجي:
سدت مسامعها لقرع مراحل ... من نسج جن مثله لا ينسج
وقال الأصمعي السيوف المأثورة هي التي يقال أنها من عمل الجن لسليمان بن داود عليهما السلام فأما القوارير والحمامات فذلك ما لا شك فيه. وقال البعيث:
بني زياد لذكر الله مصنعة ... من الحجارة لم تعمل من الطين
كأنها غير أن الأنس ترفعها ... مما بنت لسليمان الشياطين
وقال الأعشى في بناء الشياطين لسليمان:
أرى عادياً لم يمنع الموت ربه ... وورد بتيماء اليهودي أبلق
بناه سليمان بن داود حقبة ... له جندل صم وطي موثق
تفرقهم بين مواضع الجن
قال الجاحظ: كما يقولون تنقذ برقة وضب سحا وأرنب الخلة وذئب خمر فيفرقون بينها وبين ما ينسب لذلك أما في السمن وأما في الخبث وأما في القوة كذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن فإذا نسبوا الشكل منها إلى موضع معروف فقد خصوه من الخبث والقوة والعرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم قال لبيد:
غلب تشذر بالدحول كأنها ... جن البدي رواسيا أقدامها
وقال النابغة:
سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت النسور جنة البقار
وقال زهير:
عليهن فتيان كجنة عبقر ... جديرون يوماً أن ينيفوا فيسثعلوا
وقال حاتم:(48/22)
عليهن فتيان كجنة عبقر ... يهزون بالأيدي الوشيج المقوما
تنزيلهم الجن في مراتب
قال الجاحظ: ثم ينزلون في مراتب فإذا ذكروا الجني سالماً قالوا جنى. فإذا أرادوا أنه ممن سكن مع الناس قالوا عامر والجميع عمار. وإن كان ممن يعرض للصبيان فهم أرواح فإن خبث أحدهم وتعرم فهو شيطان. فإن زاد على ذلك في القوة فهو عفريت والجمع عفاريت. وهم في الجملة جن وخوافي قال الشاعر:
ولا يحس سوى الحافي بها أثر
فإذا ظهر الجني ونطق واتقى وصار خيراً كله فهو ملك في قول من تأول قوله كان من الجن ففسق عن أمر ربه على أن الجن في هذا الموضع الملائكة وقال آخرون: كان منهم على الإضافة إلى الدار والديانة لا على أنه كان من جنسهم وإنما ذلك على قولهم: سليمان بن يزيد العدوي وسليمان بن طوحان التيمي وأبو علي العبدري وعمرو بن قائد الأسواري: أضافوهم إلى المحال وتركوا أنسابهم في الحقيقة:
وقال آخرون: كل مستجن فهو جني وجان وجنين وكذلك الولد في البطن قبل له جنين لكون في البطن واستجنان وقيل للميت في القبر جنين وقال عمرو بن كلثوم:
ولا شمطاء لم تدع المنايا ... لها من تسعة إلا جنينا
يخبر أنها قد دفنتهم كلهم قالوا وكذلك الملائكة من الحفظة والحملة والكروبيين فلا بد من طبقات وربما فرق بينهم بالأعمال واشتق لهم الأسماء من السبب كما قالوا لواحد من الأنبياء خليل الله وقالوا لآخر كليم الله وقالوا لآخر روح الله. والعرب تنزل الشجعان في المراتب والاسم العام شجاع ثم بهمة أليس هذا قول أبي عبيدة.
فأما قولهم: شيطان الحماطة فإنهم يعنون الحية وأنشد الأصمعي:
تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذوي خروع قفر
وقد يسمون الكبر والطغيان والخزوانية والغضب الشديد شيطاناً على التشبيه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لا نزعن نعرته ولا ضربنه حتى أنزع شيطانه من نحرته وقال حسان بن ثابت في معنى قوله والله لأضربنه حتى أنزع من رأسه شيطانه فقال:
وداوية سبسب سملق ... من اليد تعرف جنانها(48/23)
قطعت بعيرانة كالفنيق ... يمرح في الآل شيطانها
وأبين منه قول منظور بن رواحة:
أتاني وأهلي بالرماح وغمرة ... مسب عريف اللؤم حتى بني بدر
فلما أتاني ما تقول تقلصت ... شياطين رأسي وانتشين من الخمر
والأعراب تجعل الخوافي والمستجنات من قبل أن ترتب المراتب جنين تقول حن وجن بالجيم والحاءِ وأنشدوا:
أبيت أهوى في شياطين ترن ... مختلف بخارها حن وجن
ويجعلون الحن فوق الجن وقال أعشى سليم:
فما أنا من جن إذا كنت خافياً ... ولست من النسناس في عنصر البشر
ذهب إلى قول البشر ناس ونسناس والخوافي حن وجن ويقول أنا من أكرم الحيين حيث ما كانت.
وضعفة النساك وأغبياء العباد أن لهم خاصة شيطاناً قد وكل بهم يقال له المذهب يسرج لهم النيران ويضيء لهم الظلمة ليفتنهم ويريهم العجب إذا ظنوا أن ذلك من قبل الله تعالى.
(قال) وأما الخابل والخبل فإنما ذلك اسم للجن الذين يخبلون ويتعرضون ممن ليس عنده إلا العزيف والنوح وفصل أيضاً لبيد بينهم فقال:
أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ... ولكن أتانا كل جن وخابل
زعمهم أن الغول من أنثى الجن وكذلك السعلاة
قال الجاحظ: قالوا إذا تعرضت الجنية وتلونت وعبثت فهي شيطانة ثم غول. وربما جعلوا الغول اسماً لكل شيء فمن الجن يعرض للسفار ويتلون في ضروب الصور والثياب ذكراً كان أو أنثى إلا أن الأكثر على أنه أنثى وقد قال أبو المضراب عبيد بن أيوب العنبري:
وحالفت الوحوش وحالفتني ... بقرب عهودهن وبالبعاد
وأمسى الذئب يرصدني محشا ... لخفة ضربتي ولضعف آدي
وغولاً قفرة ذكر وأنثى ... كأن عليهما قطع البجاد
فجعل في الغيلان الذكر والأنثى وقد قال الشاعر في تلونها:
وما تزال على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول(48/24)
فالغول ما كان كذلك. (والسعلاة) اسم لواحدة من نساء الجن تتغول لتفتن السفار قالوا وإنما هذا منها على العبث أو لعلها إن تفزع إنساناً فيتغير عقله من أجله عند ذلك لأنهم لم يسلطوا على الصحيح العقل ولو كان ذلك لبدؤا بعلي بن أبي طالب وحمزة ابن عبد المطلب وأبي بكر وعمر في زمانهما وبغيلان والحسن في دهرهما ويواصل وعمرو في أيامهما وقد فرق بين الغول والسعلاة عبيد بن أيوب حيث يقول:
وساخرة مني ولو أن عينها ... رأت ما أُلاقيه من الهول جنت
أزل وسعلاة وغول بقفرة ... إذا الليل وأرى الجن فيه أرنت
وهم إذا رأوا الفتاة حديدة الطرف والذهن سريعة الحركة ممشوقة قالوا سعلاة وقال الأعشى:
ورجال قتلى بجنبي أريك ... ونساءٌ كأنهن السعالى
ويقولون تزوج عمرو بن يربوع السعلاة وقال الراجز:
يا قاتل الله بني السعلاة
وفي تلون السعلاة يقول عباس بن مرداس السلمي:
أصابت القوم غول جل قومهم ... وسط البيوت ولون الغول ألوان
وقال عبيد بن أيوب وكان جوالاً في مجهول الأرض لما اشتد خوفه وطال تردده وأبعد في الهرب:
لقد خفت حتى لو تمر حمامة ... لقلت عدو أو طليعة معشر
فإن قيل أمن قلت هذي خديعة ... وإن قيل خوف قلت حقا فشمر
وخفت خليلي ذا الصفا ورأبني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذر
فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر
أرنْت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حوالي نيراناً تلوح وتزهر
وأصبحت كالوحشي يتبع ما خلا ... ويطلب مأْنوس البلاد المبعثر
ومما ذكر الغيلان قوله:
تقول وقد ألمت بالأنس لمة ... مخضبة الأطراف خرس الخلاخل
أهذا خليل الغول والذئب والذي ... بهيم بربات الححال الكواهل(48/25)
رأت خلق الأدراس أشعث شاحباً ... على الجدب بساماً كريم الشمائل
تعوّد من آبائه فتكاتهم ... وإطعامهم في كل غبراء شامل
ومما قال في هذا المعنى:
علام ترى ليلى تعذب بالمنى ... أخا قفرات كان بالذئب يأنس
وصار خليل الغول بعد عداوة ... صفياً وربته القفار البسابس
وقال في هذا المعنى:
فلولا رجال يا منيع رأيتهم ... لهم خلق عند الجوار حميد
أنالكم مني نكال وغارةٌ ... لها ذنب لم تدركوه بعيد
لكل بنو الإحسان حتى أغرتم ... على من يثير الجن وهي هجود
وتزعمن الأعراب أن الغول إذا ضربت ضربة ماتت إلا أن يعيد عليه الضارب قبل أن تقضي ضربة أخرى فإنه إن فعل ذلك لم تمت وقد قال شاعرهم:
فثنيت والمقدار يحرس أهله ... فليت يميني قبل ذلك شلت
وأنشدوا لأبي البلاد الطهوي:
لهان على جهينة ما ألاقي ... من الروعات يوم رحا بطان
لفيت الغول تسري في ظلام ... بسهم كالعيابة صحصحان
فقلت لها كلانا نضو أرض ... أخو سفر فصدي عن مكاني
فصدت وانتحيت لها بعضب ... حسام غير مؤتشب يماني
فقد سراتها والبرد منها ... فخرت لليدين وللجران
فقالت زد فقلت رويد إني ... على أمثالها ثبت الجنان
شددت عقالها وحططت عنها ... لا نظر غدوة ماذا دهاني
إذا عينان في وجه قبيح ... كوجه الهر مشقوق اللسان
ورجلاً مخدج ولسان كلب ... وجلد من قراب أو شنان
قال الجاحظ: وأبو البلاد الطهوي هذا كان من شياطين الأعراب وهو كما ترى يكذب وهو يعلم ويطيل الكذب ويجيزه وقد قال كما ترى:
فقالت زد فقلت إني ... على أمثالها ثبت الجنان(48/26)
لأنهم هكذا يقولون يزعمون أن الغول تستزيد بعد الضربة الأولى لأنها تموت من ضربة وتعيش من ألف ضربة.
زعمهم أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم
قال الجاحظ: ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم ولذلك قال شمر بن الحارث الضبي:
ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدار لا أريد بها مقاما
سوى تجليل راحة وعين ... أكالئها مخافة أن تناما
أتوا نار فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم زعيم نحسد الأنس الطعاما
وذكر أبو زيد عنهم أن رجلاً منهم تزوج السعلاة وأنها كانت عنده زماناً وولدت منه حتى رأت ذات ليلة برقاً على بلاد السعالى فطارت إليهن فقال:
رأى برقاً فأوضع فوق بكر ... فلأياً ما أسأل وما أعاما
فمن هذا النتاج المشترك وهذا الخلق المركب عندهم بنو السعلاة من بني عمرو ابن يربوع وبلقيس ملكة سباء.
وتأولوا قول الشاعر:
لاهم إن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا
فزعموا أن أباجرهم من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السماء أُنزلوا إلى الأرض كما قيل في هاروت وماروت فجعلوا سهيلاً عشاراً مسنج نجماً وجعلوا الزهرة امرأة بغياً مسخت نجماً وكان اسمها أناهيد. وتقول الهند في الكوكب الذي يسمى عطارد شبيهاً بهذا.
ويقول الناس فلان مخدوم يذهبون إلى أنه إذا عزم على الشياطين والأرواح والعمار أجابوه وأطاعوه. فمنهم عبد الله بن هلال الحميري. الذي كان يقال له صديق إبليس. ومنهم كدياس الهندي وصالح الموسوي. وقد كان عبيد يقول أن العامري حريص على إجابة العزيمة ولكن البدن إذا لم يصلح أن يكون هيكلاً لم يستطع دخوله والحيلة في ذلك أن يتبخر باللبان الذكر ويراعي سير المشتري ويغتسل بالماء القراح ويدع الجماع وأكل الزهومات ويتوحش في الفيافي ويكثر دخول الخرابات حتى يرق ويلطف ويصير فيه مشابهة من الجن فإن(48/27)
عزم عند ذلك فلم يجب فلا يعودن لمثلها فإنه ممن يكون بدنه هيكلاً لها ومتى عاد خبطه فربما جن وربما مات قال فلو كنت ممن يصلح أن يكون لهم هيكلاً لكنت فوق عبد الله بن هلال.
قالت الأعراب وربما نزلنا بجمع كثير ورأينا خياماً وقباباً وناساً ثم فقدناهم من ساعتنا والعوام تروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت من الجن ليلة الجن. وقد روي عنه خلاف ذلك.
وقال أبو النجم * بحيث تستن مع الجن الغول * فأخرج الجن من الغول الذي باتت به الجن. وهذا من عادتهم أن يخرجوا الشيء من الجملة بعد أن دخل ذلك الشيء في الجملة فيظهر لأمر خاص.
وفي بعض الرواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمة وأن خالد بن الوليد حين هدم العزى رمثه بالشرر حتى احترق عامة فخذه حتى عوذه النبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام الجاحظ رحمه الله تعالى وهذه فتنة لم يكن الله تعالى ليمتحن بها الأعراب من العوام قال وما أشك أنه كان للسدنة حيل وألطاف لمكان التكسب. ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهند من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم لعلمت أن الله تعالى قد من على جهلة الناس بالمتكلمين الذين قد نشؤا فيهم: يعني علماء الكلام وفلاسفة الدين عليهم رضوان الله.
يتبع(48/28)
حكم إفرنجية
من لم يكن يكرم الشيخوخة كان كمن يهدم في الصباح البيت الذي يجب عليه أن ينام فيه في المساءِ (كار).
لا يحب المرءُ أن يحبه الناس إلا لأنه يحب نفسه وربما ليجعل له سبباً إلى أن يحب أكثر مما يحب (ديدرو)
كلما أراد أحمق أن يكون شقياً يصادف شقياً يبحث عن أحمق آخر بومارشيه.
المرءُ في حاجة إلى غيره سعيداً كان أو شقياً فعمره قصير إذا لم يعش إلا بنفسه دليل.
التقدم هو النقطة الكبرى ولم يصل إليه أحد منا فكلنا أناس سائرون في الطريق كاسباران.
ليس من الأمور العظيمة أن يكون عقل المرءِ حاداً إذا لم يكن مستقيماً فليس كمال الساعة الدقاقة بسرعة سيرها بل بانتظام أدواتها.
يدفع العمل ثلاث مفاسد: الملل والرذيلة والحاجة.
توشك السلطة في البلاد المصابة بالجمود أن تنتقل إلى أيدي المهدارين الساقطين من الناس.
أفضل السلطات ما لم يشعر المرءُ بثقل وطأته.
ما من جندي مهما كان إلى الضعف والضعة إلا ويحسب قائداً في نظر آخرين.
أفضل الأطباء من ركض في البحث عنه زبائنه فلم يجدوه.
النار تغلي الماء والماءُ يطفئُ النار فلا تدفئُ ناكر الجميل فإنه يطفئ شعاعك.
انتف ريش البط في القرى وريش المنقاضين في المدن.
حاذر من إظهار مكانتكم لئلا يكثر معادوك.
إني لا أوثر أن أخدع على أن أعيش أبداً في حذر وهو ابن الجبن وأبو المداجاة بوسويه.
لو كنت أعلم شيئاً نافعاً لوطني مضراً للجنس الإنساني لأبقيت عليه كما أبقي على جريمة أرتكبها مونتسكيو.
أحرى الناس بالاستماع من يستعمل الكلام للتعبير عن الفكر والفكر لبيان الحقيقة والفضيلة فنيلون.(48/29)
غرائب الغرب
الطباعة الباريزية
ألمعنا مرات في الفصول السالفة إلى تفنن الباريزيين في الأمور الذوقية والطباعة من جملة فنون الذوق وإن كانت تتوقف على علم وفضل تجربة. وأجور الطبع هنا غالية لغلاء الأسعار وأجور الدور والمنازل فالعامل الجيد لا يرزق أقل من نصف ليرة وأقل عامل لا يرزق أقل من أربعة فرنكات في يومه. ولذلك ترى بعض أرباب المجلات وغيرهم من المؤلفين والطابعين يطبعون مجلاتهم وكتبهم في مطابع الولايات لرخص أجورها وجودة طبعها الذي لا يختلف عن المطابع الباريزية في شيء.
ومن جملة المطابع العظمى التي زرتها مطبعة الأمة أي مطبعة الحكومة التي أسسها لويز الثالث عشر سنة 1640 ثم نقلت إلى قصر الكردينال روهان من أجمل القصور الباريزية القديمة المعروف ببيت أساقفة ستراسبورغ. وقد أنشئت لها بناية هائلة في شارع الكنفانسيون لضيق هذا المكان على سعته البالغ سطحها عشرة آلاف متر مربع.
تدخل من الباب فترى في فناءِ الدار تمثال غوتنبرغ مخترع الطباعة والمتفضل على الإنسانية معمولاً من البرونز فلا تتمالك من الدعاء له وذكر بيض أياديه على العالم ثم يأخذك الدليل في الوقت الذي تعينه لك من قبل إدارة المطبعة ويطوف بك قاعات مسابك الحروف في ثمانين لغة واللغة العربية في مقدمة لغات الشرق رأيناهم في بعض الغرف كتبوا بيتاً من الشعر العربي ليمرن الأستاذ العملة على تعلم هذه اللغة فيحسنوا تنضيد حروفها بفهم.
ثم طاف بنا الدليل قاعات التنضيد والتجليد والطبع والطي فرأينا كل شيء قد جعل في مكانه اللائق به والعملة والعاملات يعملون في مكان واحد كتفاً إلى كتف وقد يتولى الأعمال الشاقة الرجال من دون النساء. وعدد العاملين والعاملات في المطبعة يناهز الألف والخمسمائة وفيها ما يربو على ستين آلة طابعة على آخر طرز منها خمس آلات من المعروف بالروتاتيف وعلى مثلها تطبع جميع الجرائد الكبرى في اغرب اليوم. وتنفق الحكومة على هذه المطبعة نحو تسعة ملايين فرنك مسانهة وفيها تطبع الجريدة الرسمية ومطبوعات الحكومة والنظارات ومناشيرها وفهارسها وأوامرها فالاستعداد فيها تام لكل ما(48/30)
تطلب الحكومة طبعه وليس في وقتها متسع لطبع مطبوعات الأفراد وناهيك بمطبعة حوت من الأدوات ما يلزمها من سبك الحروف حتى التجليد وناهيك بكثرة أشغال حكومة الجمهورية التي تقع ميزانيتها وحدها في ثلاثة آلاف صفحة كبيرة يطلب طبعها في وقت قصير وهذا لا يتيسر إلا بمطبعة متقنة جداً.
ولهذه المطبعة معامل للتصوير الشمسي وطبع الصور والطبع المحفور المجوف والحفر على الخشب والحفر على النقش والحفر الناتئ على النحاس والزنك والطبع الملوّن وطبع الحجر والتصفيح والطبع المنحس وغير ذلك من التفنن في الطباعة. وتسمح المطبعة بإعارة الطابعين بعض الحروف الغريبة من اللغات الأجنبية ولا تطبع من الكتب إلا ما كان بلغة غريبة لا يوجد من حروفها في كل مطبعة وذلك لمحض خدمة المعارف والفنون.
هذه جملة ما يقال في مطبعة الأمة ولو جمعت مطابع مصر كلها ما دانتها بالمكانة وكذلك لو جمعت مطابع الأستانة وأضفت إليها مطابع الولايات العثمانية برمتها والمطبعة التي تنفق عليها الحكومة نحو أربعمائة وخمسين ألف ليرة في السنة يستحيل على حكومة كالحكومة العثمانية والمصرية أن تقوم بمثلها وهي لا تنفق على المعارف كلها نحو هذا القدر من المال أو أكثر منه بقليل فتأمل.
مدرسة فرنسا
من المعاهد التي استغرقت شطراً كبيراً من وقتي في باريز دروس مدرسة فرنسا (كوليج دي فرانس) لسهولة التلقي فيها في كل علم يخطر في البال ولأن هذه المدرسة ذكرتني بمدارس الإسلام أيام حضارتنا وقد جعلوا العلم مباحاً لكل طالب يلقنونه إياه بلا عوض.
في شارع المدارس بالقرب من كلية السوربون قام بناءٌ عظيم أسسه فرنسيس الأول ملك فرنسا حوالي سنة 1530 وجعل فيه درسين الأول لتعلم اللغة الرومية والثاني للعبرانية وسمى المدرسة مدرسة الملك فرأت الكلية إذ ذاك أن قد استهين بها فأوعزت إلى مدرسة اللاهوت أن تتهم مدرسي مدرسة الملك بأنهما يدعوان إلى الزندقة فحال الملك دون صدور الحكم عليهما وأضاف إلى المدرسة درساً في الفصاحة اللاتينية ليخلص وجماعته من تهمة الإلحاد وما زال عدد الدروس يزيد على عهد الملوك حتى أضاف إليها هنري الثالث درس العربية ونابليون الأول درس التركية ولم يبرح بناؤها ودروسها عرضة للقلب والإبدال(48/31)
حتى عهد الجمهورية الثالثة.
ولقد أصبحت هذه السنة الدروس التي تلقى على الناس مجاناً 49 درساً يصح أن يقال أنها مجموع علوم البشر يتولى تدريسها أعظم أساتذة هذه البلاد وعلمائها ممن اشتهروا بفن أو علم أو لغة وصرفوا في البحث فيه شطراً مهماً من حياتهم ولم أر في هذه المدرسة أستاذاً نقل سنه عن ستين إلا بعض المعاونين ممن يتجاوزون الأربعين وينتخبهم المجمع العلمي أو المجامع العلمية الخمسة وأساتذة المدرسة ويقبض الأستاذ عشرة آلاف فرنك في السنة ولا تتجاوز مدة الدروس ستة أشهر يتلو في خلالها درسين في كل أسبوع فقط.
أما العلوم التي تلقى على جمهور المستمعين فهي (1) علم الأثقال التحليلي والسماوي (2) العلوم الرياضية (3) علم الطبيعة والرياضة (4) الطبيعة العامة والتجريبية (5) الكيمياء المعدنية (6) الكيمياء العضوية (7) الطب (8) علم الحياة العامة (9) تاريخ الأجسام الغير العضوية الطبيعي (10) علم تكوين الجنين (11) التشريح العام (12) علم النفس التجريبي (13) تاريخ العلوم العام (14) تاريخ التشريع المقابل (15) الاقتصاد السياسي (16) الجغرافيا والتاريخ والإحصاء الاقتصادي (17) تاريخ العمل (18) جغرافية فرنسا التاريخية (19) تاريخ الأديان (20) الفلسفة الاجتماعية (21) علم الاجتماع الإسلامي (22) علم الجمال وتاريخ الفنون (23) علم الكتابات والعاديات الرومانية (24) الكتابات والعاديات اليونانية (25) الكتابات والعاديات السامية (26) الآثار المصرية وأصول لغاتها (27) الآثار الآشورية وأصول لغاتها (28) الآداب العبرانية والكلدانية والسريانية وأصول لغاتها (29) الآداب العربية واللغة العربية (30) النقود القديمة ونقود القرون الوسطى (31) آداب اللغات الصينية والتترية والمنشوية ولغاتها (32) آداب اللغة السنسكريتية (33) آداب اللغة اليونانية (34) فقه اللغة اليونانية (35) تاريخ آداب اللاتينية (36) التاريخ الوطني والعاديات الوطنية (37) الفلسفة الحديثة (38) اللغة الفرنسوية وآدابها في القرون الوسطى (39) اللغة الفرنسوية الحديثة وآدابها (40) أصول اللغات الجرمانية وآدابها (41) لغات أوروبا الجنوبية وآدابها (42) اللغات والآداب السلتية (43) اللغة السلافية وآدابها (44) علم النحو المقابل (45) العاديات الأميركية (46) الرياضيات (47) تاريخ فن الموسيقى (48) التاريخ العام والطريقة التاريخية (49) أصول اللغات الهندية(48/32)
والصينية وتاريخها.
هذه العلوم التي تدرس في مدرسة فرنسا ولا يستغرق الدرس منها ساعة يتلو في خلالها الأستاذ زبدة علمه وبحثه ولا يكثر المستمعون إلا في بعض الدروس التي رزق أستاذها فضل بيان وطلاقة لسان وأكثر الحضور غرباء أي غير فرنسويين وفيهم كثير من الفتيات طالبات العلم ممن قصدن فرنسا من ألمانيا وإنكلترا وروسيا والنمسا وإيطاليا وبلغاريا ورومانيا والصرب والسويد وأميركا ليغترفن من مدارس باريز ويحكمن لغتها الجميلة. فكأن أهل هذه العاصمة زهدن في حضور هذه الدروس المجانية وأزهد الناس في الرجل أهله وجيرانه. وإن دروساً يعد من جملة أساتذتها لفاسور وبول لوروا بوليو الاقتصاديين وماسبرو وغانو الأثريين وجوليان ومونو المؤرخين وبرجسون وريبو الفيلسوفين وغيرهم من الأئمة الأعلام لحرية بأن يستفيد منها كل طالب ويغترف من درر بحورها عاشق العلم.
وإن هذا المعهد ليولي فرنسا شرفاً ليس وراءه غاية ويدل على تفانيها في نشر المعارف والأخذ بأيدي القائمين عليها وينادي بلسان الحال والمقال على توالي العصور والأجيال أن فرنسا إذا هرمت في سياستها وأخلاقها فهي على الدهر فتية في جمال علمها وجدة حكمتها.
التجارة الباريزية
لم يكتف الفرنسويون بل الغربيون بما بلغوه من أسباب الراحة والرفاهية بل تراهم يعملون ليلهم ونهارهم لئلا يسبق بلد بلداً آخر أو مملكة مملكة أخرى كأن المنافسة التي هي من أعظم عوامل الارتقاء قد تحسمت في صدر الكبير والصغير من الإفرنج فكان من آثارها ما يبهرنا من تلك الحضارة الراقية والسعادة الشاملة.
رأيت روح الاجتماع مستحكمة في أعمال الأوروبيين فلا يكاد يأتي زمن قليل حتى تصبح جميع مشاريعهم وأعمالهم شركات وجمعيات ليخفى عمل الفرد ويظهر عمل الجماعة ويتراجع ضعف الواحد أمام قوة المجموع فقد ظهرت لتلك الأمم نتائج الاشتراك جماعة ظهوراً لا ينكره إلا من يكابر حسه ويغش نفسه فأنشأ من كانوا إلى الانفراد في متاجرهم ينضمون بعضهم إلى بعض ومن عاشوا بالوحدة يربحون ويخسرون فلا يدري بهم أحد عدلوا عن سالف طريقتهم واقتدى المتأخر بالمتقدم أو العناصر اللاتينية والسلافية بالعناصر الإنكليزية السكسونية.(48/33)
مثال ذلك مدينة باريز مهد الحضارة اللاتينية فإنك تجد معظم مشاريعها ومتاجرها ومصانعها لشركات ومشاريع الأفراد ومتاجرهم ضعيفة ضئيلة لا تكاد تحيا حتى تموت وكلها آيلة طوعاً أو كرهاً إلى الاندماج في سلك الاشتراك مع الجماعة. دخلت كثيراً من مخازن باريز فكنت أشهد على قلة إلمامي بفن التجارة روح الجماعة مرفرفة عليها وتعدد القوى زائدة في نمائها وحسن الذوق وسلامة الإبداع تتخلل أرجاءها وتزيد بهاءها.
باريز أعظم بلد تصرف فيه السوق المالية والتجارية والصناعية من فرنسا ورؤوس أموالها مقدمة جميع متاجرها ولا تفوقها في ذلك إلا لندر. وقد بلغ عدد ما في باريز من البيوت المالية والمصارف وشركات الضمان فقط زهاء ألفي محل توشك أن تكون كلها لشركات وأعظم متاجر باريز بل فرنسا تجارة الأطعمة المحضرة والأمتعة والثياب والأزياء وكلها مهمة جداً لا بكثرة عددها بل بمكانتها وفخامتها وانتظام أعمالها.
زرت بعض هذه المخازن من مثل لابل جارندنيير والرنتان والبون مارشه واللوفر ولافييت ودوفاييل وكل واحد منها يبتاع بما حوى قطراً واسعاً من أقطار الشرق ويحتاج وصفه إلى الكلام ساعات على شرط أن يكون المتكلم عارفاً بالتجارة وما يتصرف أو يتوقف عليها وتتوقف عليه وكل مخزن يعد مستخدموه وموظفوه بالمئات ففي مخزن دوفايل وهولفرش الدور والقصور وما يلزم لها من الأثاث والخرثي والرياش والأواني والسرر والصناديق والمقاعد والمتكآت والكراسي وأدوات الطبخ وكل ما يتصرف تحت أنواع الزينة والتبرج والبذخ والرفاهية ما يأخذ بمجامع القلب ويعد من أغرب غرائب الغرب. ولا يقدر المرء أن يطوف هذا المخزن في أقل من ثلاث ساعات إذا أحب أن يلقي نظرة واحدة على ما فيه من التحف والأمتعة الثمينة وهو قصر فخيم جداً لم أر أجمل من نقوشه البديعة وبنائه العظيم سوى متحف اللوفر ومتحف فرسال ودار المجلس البلدي الباريزي. وفي مخزن دوفايل محل للتمثيل ومحل للموسيقى ومحل لألعاب السينما توغراف يختلف إليها الزائرون بأجور معتدلة جداً والغرض منها أن يمروا ببعض مخازن ذاك المحل الكبير فيكون مرورهم بها وإلقاء أنظارهم عليها بمثابة إعلان عما فيها من الأعلاق النفيسة وببركة الإعلان يشتري من لم يكن تحدثه نفسه بالشراء.
ومن الغريب أن هذا المكان الذي لا يشبهه في الفخامة إلا أرقى قصور الملوك والأمم كما(48/34)
آخذ الآن في توسعة مخازنه لأنها ضاقت به على سعتها وما أدري ما هو رأس ماله ولا مقدار أرباحه وعدد مستخدميه وغاية ما رأيت أن مصرفه أشبه بمصرف كبير بل هو في سعته وكثرة مستخدميه أشبه بمصرف الكريدي ليونيه في القاهرة لا في باريز فإنه هناك العجب العجاب بعينه.
وقرأت في إحصاء أخيراً أن مخزن لافاييت أحب أن يزيد رأس ماله فقرر مساهموه أن يزيدوه اثنين وعشرين مليوناً ونصف مليون من الفرنكات فإذا كان مخزن واحد زاد رأس ماله في جلسة نحو مليون ليرة عثمانية فكم يكون أصل رأس المال.
ومما هو حري بالنظر في المسائل الاقتصادية أن أهل باريز على شدة كرههم للألمان يبتاعون في بلدهم البضائع الألمانية لرخص أسعارها والتفنن في إبداعها حتى كادت بضائع الألمان تأتي على بضائع فرنسا مع جودة هذه ومتانتها وأصبحت بذلك معظم البيوت التجارية لأناس أو لشركات من الألمان وغيرهم ومثل ذلك قل على ما قرأته في إحدى المجلات عن تجارة لندرا أو تجارة نيويورك فإن القسم المهم منها بيد الألمان يصرفون على الإنكليز والأميركان سلعهم وحكومة إنكلترا وأميركا مع شدة حرصهما على مصلحة قومهما التجارية لم تستطيعا بالتعاريف الجمركية ولا بغيرها أنت تقيما سداً منيعاً دون تسرب البضائع الألمانية إليهم. ولكن ألمانيا أو العنصر الجرماني ومن لف لفه تحارب هذه الحرب التجارية بسيف العلم والمعارف وسدود الدول لا تقوى على صد هجماتها المعقولة.
ذكر الإحصائيون أن مدارس ألمانيا تخرج كل سنة أربعين ألف طالب وبيدهم الشهادات التجارية فأين يذهب هؤلاء الرجال بعد؟ وهل لهم إلا أن يصرفوا متاجرهم في مشرق الشمس ومطلعها بالطرق الاقتصادية المدهشة. فكم رجل تخرج من البلاد المصرية العثمانية يا ترى حتى الآن في المعارف التجارية وكم طالب أتقن اللغة الألمانية منا حتى أصبح يكتب فيها ويترجم منها وإليها كما يكتب الفرنسوية أو الإنكليزية ويترجم بها منها؟
قال لي أحد علماء الألمان أتدري بأي شيء غلبنا الفرنسيس في حرب السبعين قلت لا أعلم قال غلبناهم لأننا كنا عارفين بما عندهم أما هم فلم يكونوا يعرفون ما عندنا وأنا أقول أن اقتصارنا معاشر العثمانيين والمصريين والسوريين خاصة على تعلم اللغة الفرنسوية في(48/35)
الأكثر هو من الاحتكار الضار فيجب أن نعرف أو بعضنا لغة أمة كبرى تريد أن تحارب العالم حرباً اقتصادية حتى لا يكون مثلنا مثل الفرنسيس مع جيرانهم الألمان قبل حرب السبعين جهلوا ما عندهم فخسروا في ماديتهم ومعنوياتهم.
نعم نتوفر على الأخذ من أوروبا كل ما تمتاز به مملكة من ممالكها فنحول وجهتنا بعد الآن إلى جرمانيا لنتعلم علومها واقتصادها ومتاجرها وبريتها ونأخذ عن فرنسا الزراعة والحقوق وعن إنكلترا السياسة والعلوم والبحرية وعن إيطاليا الصنائع النفيسة ونجعل للغة الألمانية والإيطالية حظاً من عنايتنا حتى لا نكون حكرة مضرة لحكومة خاصة من حكومات الغرب فنحن كما نريد في السياسة أن نعامل الدول كلهن بوئام يجب أن نأخذ عن كل دولة راقية أحسن ما عندها حتى لا نكون من الجامدين على أمة بعينها والجامدون في مسائل الدين كالجامدين في مسائل الدنيا لا يخلو حالهم من ضرر على المجتمع.
الإعلان أساس التجارة
تقدم في الفصل السالف أن البيوت التجارية في باريز تبيع ببركة الإعلان عن نفسها وهنا مجال لأن أفضل ذاك الكلام المجمل فأقول: كل من زار مدينة أوروبية أو أميركية من أبناء هذا الشرق الأقرب يأخذه العجب من وفرة الإعلانات وتفننهم في نشرها والفرنسيس في الإعلانات مقلدون لا مجتهدون قلدوا الأميركان والإنكليز وهؤلاء ينفقون عليها نفقات لا تكاد تصدق فقد ذكروا أن معمل الموازين فيربانك وشركاؤه الذي كان ينفق على الإعلانات نحو ثلاثة آلاف فرنك مسانهة أخذ اليوم ينفق نحو ثلاثة ملايين ونصف فرنك وقد كان خصص أحد معامل الصابون ثلاثين ألف ريال للإعلان عن مصنوعاته وهو اليوم يصرف ألف ريال في اليوم وتخصص المعامل الكبرى التي تبيع بالمفرق في مدينة نيويورك وحدها زهاء أربعة ملايين ريال في السنة لنشر إعلاناتهم وقد أنفق أحد أصحاب المخازن لإرسال طبعة واحدة من الإعلانات بطريق البريد 640 ألف ريال وليس من محل في أميركا إلا ويصرف خمسة في المئة من أرباحه على الإعلانات وقد أنفق أحدهم 750 ألف ريال للإعلان عن موسى له فباع سنة ملايين موسى وكذلك فعل توما بيشام بحبوبه فصرف للإعلان عنها مليوني جنيه.
فاشتهار اسم المعمل أو صاحبه من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي وتردداه في أفواه(48/36)
أرقى الأمم وأوحشها موقوف على كثرة التفنن في الإعلان عنه والبذل في هذا السبيل عن سعة حتى قال كارنجي أعظم أغنياء الأميركان: إذا أردت أن تبيع قبعة بريال فإنك تسطيع أن تبيعها بريالين إذا وضعت اسمك عليها وذلك لأنك تفهم الناس بأن لاسمك بعض القيمة.
وذكروا أن شركة ولن سي الأميركية وهي شركة معامل أصواف مؤلفة من 27 معملاً رأس مالها 690 مليون ريال وكانت مجموع أرباحها سنة 1902 187. 00. 000 على حين بلغ مجموع المنسوجات الصوفية المصنوعة في الولايات المتحدة كلها ملياراً و 485 مليون ريال فبيدها جزءٌ من ثمانية أجزاء من عمل الصوف ذكروا أنها توصلت بفضل التفنن في الإعلان عن نفسها إلى أن كادت جزءاً عظيماً آخر من أرباح الشركات الأخرى إن لم تكن التهمتها حتى الآن.
والطرق إلى ذلك مختلفة فمن ضروب الإعلانات الإعلان في الجرائد والمجلات على اختلاف أنواعها ووضع صفائح منحسة في الصفحة السابعة أو الثامنة أي الأخيرة وإعلانات في شبك ودس الإعلانات في أخبار الجرائد وبين أخبار الرياضات والسباق ودور التمثيل والأزياء وإدماجها في المقالات وتعليقها على حيطان الدور وفي شوارع المدن والقرى وعلى طول السكك الحديدية وفي أماكن النزهة والمناظر التي يسرح فيها النظر وفي عجلات الحوافل والترامواي والسكك الحديدية تحت الأرض وفوق الأرض وستور دور التمثيل والقصور وجميع الأماكن العمومية حتى المراحيض وترسم الإعلانات على القرطاس الذي يضعه الكاتب تحت يده وعلى المقطع والسكاكين وعلبة عيدان الكبريت والدواة والبارموتر وكتب التقاويم وورق النشاف وبطاقات البريد وتجعل من الورق الملون والمقوى والزجاج والخزف والخشب والمعدن وغيرها. وتبدو في المساء بألوان مختلفة مقطعة بادية بالكهرباء وغيرها مما يطول ذكره.
ومن غريب تفننهم في الإعلانات أن مخزن أدوات نحاسية وحديدية في ليفربول أخذ يعلن في جرائدها بأنه يقدم مفتاحاً بلا ثمن لكل من يضيع مفتاح بابه أو خزانته فبهذه الواسطة كان يأتيه المضيع فينصح له المحل بأن يبتاع قفلاً كاملاً ويغير القفل القديم حتى لا يقع المفتاح في يد لص وربما هانت عليه السرقة فبعض الناس يبتاعون وبعضهم يكتفون بأخذ مفتاح بلا ثمن ولكن النصح يفعل في أكثرهم. واخترع أحد البدالين من بائعي المأكولات(48/37)
المحضرة في لندرا طريقة للإعلان عن محله بأن اغتنم فرصة حصور جوق تمثيل فابتاع مئات من الكراسي لمستخدمي محله أدخلهم على نفقته فتحدث القوم بذلك وذكرته الجرائد فحصل للمحل بالإعلان عن نفسه. ومن غريب تفننهم أن أحد مخازن القبعات في بلتيمور في أميركا أعلن في الجرائد أنه يريد أن يعرف أحد النساء المحكوم عليهن بالقتل فاهتدى إليها وأعطاها مئة ريال على أن تقول قبل ضرب عنقها هذه الجملة كل ما أستطيع أن أقوله الآن هو أن محل المستر بلانك يعمل أحسن القبعات بريالين ثم قطع عنقها واغتنى صاحب المعمل.
والأمثلة على ذلك كثيرة ويكفي إلقاء النظر على أي حائط أو مجلة أو جريدة لنعرف مبلغ تفنن الغربيين في الإعلان والأساليب في الكتابة التي يختارونها والصور المنوعة ومنها المضحك وغيرها الجدي وبعضها لطيف وآخر بشع ومنها السياسي والأدبي والعلمي وقد جعل الإنكليز السكسونيون للإعلانات قواعد حتى صارت علماً من العلوم لا يبرز فيها إلا من حسن ذوقه وعرف النقش والرسم والتصوير والطباعة وكان ملماً بالاقتصاد السياسي وعلم النفس ومحيطاً بعالم المالية والصناعة والتجارة والجرائد والمجلات وكان ذا هبة بالتفنن والأدب والخطابة حاسباً كاتباً مقنعاً يعرف التفنن في المسائل الحاضرة أو يحسن علم الحال.
ولا تعيش معظم الجرائد والمجلات الكبرى إلا بأجور إعلاناتها حتى أن أجرة صفحة واحدة مرة واحدة في جريدة لادي هوم جورنال تؤجر بألف جنيه. ويؤخذ من إحصاء صدر سنة 1900 أن في الولايات المتحدة 18226 جريدة ومجلة بلغ مجموع ما يطبع من أعدادها من كل نسخة 114. 229. 334 ومجموع ما تطبعه في السنة 8. 168. 148. 749 وبلغ مجموع إيرادها تلك السنة 878. 948. 250 فرنكاً منها 479. 305. 635 فرنكاً من أجور الإعلانات أي 54. 5 في المئة من مجموع دخلها وتطبع بعض الجرائد نسخاً خاصة بنشر الإعلانات فقط وتوزعها على مشتركيها ومن الجرائد ما لا يطبع غير الإعلانات وتوزع مجاناً. ويصرف أحد بيوت الثياب في فيلادلفيا نصف مليون فرنك في السنة أجرة صفحة واحدة من إحدى الجرائد الكبرى في تلك المدينة اسمها لروكورد ويصرف مخزن آخر يريد منافسته مليون فرنك على أربع جرائد. ومن كتاب الإعلانات(48/38)
من يرزق ألف ليرة في السنة.
ومن الإعلان الغريب أن بعض التجار لهم بيوت ولا مخازن بل هم يطبعون إعلانات وينشرونها في قوائم خاصة وعلى صفحات الصحف والكتب والرسائل فيرسل الطالبون بالبريد يطلبون منهم ما يشاؤن من بضائع ومأكولات وهم يرسلونها إليهم بالبريد أيضاً وهذه الطريقة اخترعت في الولايات المتحدة لأن ثلاثة أرباع سكانها يعيشون في القرى والمزارع بعيدين عن مراكز التجارة وأشغالهم لا تسمح لهم بالاختلاف إلى المدن لابتياع ما يشاؤن وبهذه الواسطة يوفرون عليهم عناء التعب والمساومة ويصلهم ما يشتهون وهم في أعمالهم وناهيك بما في هذه الطريقة من تبادل الثقة بين التاجر والشاري وفي شيكاغو وحدها تبيع مثل هذه المحال التجارية في السنة بما قيمته ملياران وخمسمائة مليون فرنك وأن ثلاثة محال منها لتأخذ وحدها كل يوم خمسة وعشرين ألف رسالة في طلب ما يلزم أصحابها. وقد حسبوا أن عشرة ملايين أي ثمن أهالي الولايات المتحدة يبتاعون حاجياتهم على هذه الكيفية.
وأن لأحد هذه المحال التجارية في شيكاغو زبناً يبلغون مليوني نسمة يتناول منهم في السنة أربعة ملايين رسالة وهذه الرسائل لا تفتح واحدة واحدة بل تجعل كل ستين منها في آلة تفتح كلها بلحظة ثم ترسل إلى مئات من البنات تجعل كل قسم مع قسمه وكل طلب مع ما يضارعه وتجعل في لوالب كهربائية لا تقل عن خمسة عشر ألف لولب وترسل في أسرع ما يمكن إلى البيوت التي تقدم للمحل طلباته وهي لا تقل عن 77 ألف نوع فتأتي كلها على جناح البرق بحيث يكون العمل ما أمكن مستغنياً عن الأيدي الكثيرة على أن محلاً واحداً من هذه المحال التجارية التي تبيع بالمراسلة عنده من المستخدمين 6200 مستخدم ولم يكن صاحبه قبل ربع قرن يملك ليرة واحدة وثروته تعد اليوم بملايين الليرات والناس يطلبون إلى محله وإلى غيره من المحال التي على شاكلته كل ما يخطر ببالهم ومنهم من يطلبون أو يطلبن الزواج بواسطته.
وعلى الجملة فإنك لا ترى في ديار الغرب محلاً تجارياً أو معملاً أو مشتغلاً بالفنون الجميلة بل ولا عالماً ولا كاتباً ولا صانعاً إلا وينفق جزءاً من ماله على الإعلانات ليربح المئة مئات وللإعلان يد طولى في عامة الأعمال الصناعية والزراعية والعلمية ولولاها ما(48/39)
رأينا المخازن الكبرى والجرائد الكبرى فعسى أن يقتدي الشرق بأخيه الغرب في هذا السبيل فيعلن خصوصاً عن أصقاعه الجميلة ليجذب السياح إليها ويربح منهم مئات الألوف من الليرات كما فعلت سويسرا واغتنت بعد فقرها بكثرة تشويق العالم إلى زيارة ربوعها وكما فعلت فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها من أصقاع أوروبا وأميركا مثل مدينة دالاس في ولاية التكساس في الولايات المتحدة فإن أهلها كانوا سنة 1880 عشرة آلاف نسمة فأزمع بعضهم أن يؤسسوا نادياً سموه نادي المئة والخمسين ألفاً أي أن مدينتهم ستكون سنة 1910 مئة وخمسين ألف نسمة وما برحوا يتذرعون إلى ذلك بكل حيلة حتى بلغ عددهم سنة 1904 83 ألفاً وتوصلوا إلى أن قال الرئيس روزفلت في خطاب له أن شمالي التكساس هو حديقة الرب ومدينة دالاس تطالب ويحق لها ذلك أن تكون نقطة دائرة هذه الحديقة.
نعم إن الإعلان أساس من أسس الثروة اليوم بل هو سبب من الأسباب المعقولة المشروعة وأثره في الإعلان عن الأشخاص ظاهر وكم من نابه اشتهر يتحدث الناس في أمره ومن آخر خمل ذكره لأنه لم يعرف كيف يتوصل إلى الشهرة فعاش ومات ولم يدر به أحد فاللهم اجعل الشرقيين من النابهين بحق لا الخاملين المجهولين.
دور التمثيل والأنس والاجتماع في باريز
إن ما شهدته من التمثيل العربي المنحط جداً في الديار المصرية والشامية زهدني في التمثيل على أنواعه فصرت لا أختلف إلى دار تمثيل إلا متكارهاً وذلك في المدة الطويلة لقلة غنائه وانقطاع الرغبة فيه وأعلل ذلك بأن التمثيل لم يعهده العرب أيام حضارتهم بل لم يكن لهم ما يشبهه في قرطبة ولا في بغداد ولا في دمشق ولا في القاهرة أيام عزتها ولذلك قلما مال أبناء العرب إليه ميل الغربيين له وقدروا مزاياه حق قدرها.
ولما حللت باريز كان من أوائل المسائل التي توخيت دراستها حالة التمثيل في الغرب والسر في توفر أهله عليه وخدمتهم له كما يخدم الشعر والموسيقى والخطابة بل جعلوا هذه الفنون خادمة للتمثيل وأصبح عندهم من ضروريات الحياة كالطعام والشراب لا حياة بدونهما وكذلك التمثيل لا حياة روحية بدون الاختلاف إلى دوره ولو مرة في الشهر إن لم يكن مرة أو مرتين في الأسبوع.
والتمثيل في باريز من أعظم ملاهيها وقل أن تجتمع لعاصمة ما اجتمع لها من ضروبه(48/40)
ولشدة عناية الحكومة به تنقل من مالها كل سنة أربعة دور تمثيل مبلغاً تستعين به على تحسين حالها فتمنح الأوبرا ثمانمائة ألف فرنك والتياترو الفرنسوية 240 ألف فرنك مع الدار وتعطي الأوبرا كوميك 300 ألف وتعطي الأودبون 100 ألف فرنك وفي باريز 53 دار تمثيل كبرى ذهبت إلى أشهرها مثل الأوبرا والتياترو الفرنسوية والأوديون والشاتليه وساره برنارد والفودفيل وغيرها.
فكنت كلما أَلفت اصطلاحاتهم في أحاديثهم وحركاتهم وسكناتهم ومظاهرهم ورقصهم وغناهم تبين لي سر تغالي الغربيين بالتمثيل وأنه حقيقة مدرسة تهذيب وفضيلة عملية ودار سلوى وارتياح أرواح فلا عجب إذا عدوه من أكبر العوامل في نهوضهم وتثقيف مجتمعاتهم وشغفوا بفصوله ولا شغف الشرقي بفضوله وحرص الفرد منهم على ساعاته حرصه على عزيز أوقاته.
أما دور التمثيل فهي قصور فخمة هندسوها على ضخامتها بحيث لا يحرم الحضور على اختلاف درجاتهم من سماع ما يقال على مسارحها ورؤية ما يعرض فيها من المشاهد والمناظر. وكفى بأن دار الأوبرا كلف بناؤها ثلاثين مليون فرنك وذرعها أحد عشر ألف متر. وأقل دار تمثيل تساوي عشرات الألوف وبعضها مئات الألوف من الليرات وإن مما يبهج جوق الموسيقى في الأوبرا وقد حزرته بمائتي شخص وجوق الممثلات والراقصات والممثلين على المسرح وما أظن جمهرته تقل عن خمسمائة.
وإذا عرفت أن الأوبرا تدفع لأحد ممثليها 2200 فرنك كل ليلة أي 128 ألفاً عن 64 ليلة في السنة وتدفع لغيره من الممثلين رواتب تختلف بين 85 ألفاً إلى 30 ألفاً. وعن كل ليلة يغني فيها كاروزو عشرة آلاف فرنك وتتناول بعض الممثلات أربعة آلاف فرنك في الشهر جاز لنا أن نستقل إعانة الحكومة للأوبرا ونحكم على كثرة دخلها وخرجها.
ولقد كنت أتمثل نفسي في حضرة أعظم فصحاء الأرض وعلماء الاجتماع والنفس ساعة تشتهي إلى مسمعي أصوات الممثلين والممثلات وتنفتق ألسنتهم بكلمات الحكمة والأدب ويشخصون الفضيلة في أبهى مظاهرها كأنك تراها فلا أتمالك من توفير الممثلين والممثلات وإكبار فائدة التمثيل. المدارس لتنشئة الصغار في وقت معين من السن ودور التمثيل مدارس دائمة للصغار والكبار تلقنهم من أيسر السبل حكمة وآداباً وتلقنهم عبرة(48/41)
مفيدة وفكاهة رشيدة.
حضرت رواية مثل الأوراق في الاوديون ورواية الباريكاد لبول بورجه في الفودفيل ورواية جان دارك في تياترو ساره برنارد ورواية الجندي الصغير في الشاتليه فكان يخيل لي وأنا أسمع وأرى أن الأمر واقعي وأن هذه المشاهد حدثت الآن وقد اجتمع جمال الصوت إلى جمال الوجوه إلى جمال الكلام إلى جمال الهندام إلى جمال المكان إلى جمال النظار وأقل هذا مما يستهوي النفس فلا تدري أي شيء ترى ولا أي فائدة تعي.
وما أظن أكبر متنطع لو حضر التمثيل في مثل هذه الدور العظمى يستطيع أن يعيب شيئاً مما يشهد. وأي عين لا تقع على ساره برنارد أشهر ممثلة فرنسوية وهي في الخامسة والستين من عمرها تمثل دور جان دارك وهي في التاسعة عشرة فتظهر كأنها هي بصوتها وحركتها ونضرة وجهها ولا ترتاح وتعجب وأي أذن تسمع الحكمة في رواية الباريكاد يقولها أحد الممثلين بصوت رخيم إن الطبقات الاجتماعية كالأمم يضيع حقها في حفظ ما لم تقو على الدفاع عنه. ولا يفكر طويلاً.
ولقد رأيت في دور التمثيل حتى ما يوصم منها بأن فيه شيئاً من الخلاعة مثل مولن روج أن الأدب يغلب على السامعين والناظرين. وإن قاعات الاستراحة بين الفصول ليسير فيها الخرد العين كاسيات عاريات معطرات متبرجات ولا ترى إلا من يغض الطرف حياءً وأدباً. والغالب أن النساء يلبسن لليالي التمثيل ثيابهن وأزيائهن كأنهن في بيوتهن وبين صويحباتهن وأصحابهن وقلما تراهن في الشوارع إلا مكتسيات من اللباس بما خف محمله وقلّ ثمنه.
أما سائر أماكن الطرب كمحال السماع والموسيقى والمراقص العامة فكثيرة جداً في باريز وأحسنها ما كان على جوانب الجواد العظمى أو بالقرب منها ويكون فيها المرءُ بحسب مبلغه من التهذيب. وموسيقى الإفرنج وعزفهم وزفنهم يستحسنها الشرقي مع طول الألفة لها وأنسة ومن لم يعرف عندهم ولو أحد هذه الأنواع الثلاثة استغربوا أمره وعدوه محروماً من لذائذ الدنيا ساقطاً من رسوم الهيئة الاجتماعية. ولكل قوم عاداته وأخلاقه يحرص عليها كثيراً ولا يرى فيها حرجاً ولا نكيراً سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.(48/42)
من باريز إلى الأستانة
قضيت شهرين اثنين في هذه العاصمة طفت المعاهد ورأيت المشاهد وعرفت العامل الجاهد وتبينت العالم المجاهد وطعمت الجشب والشهي من الطعام ووصلت السير بالسرى وعمل الليل بعمل النهار ورأيت العملة في حاناتهم ومطاعمهم وواكلت الأغنياء في مقاصفهم وشاركتهم في نعيمهم واختلطت بطبقاتهم أسمع عباراتهم ولم أستنكف من غشيان كل مكان أرجع منه بفائدة مستطلعاً طلع خلق جارياً من الاختبار فيه على عرق فكانت عيني تملّ النظر وأُذني تسأَم السماع وذهني يتأفف من التفكر وقلبي يتخوف كثرة الوعي. ومع ما صرفته من الوقت والقوة خرجت من هذه المدينة وفي النفس منها أشياء لم أتمكن من درس معالمها ومجاهلها من هذه أماكن الرياضات البدنية واللعب على اختلاف ضروبه وزيارة مجاري العاصمة تحت الأرض وسراديبها والاعتبار بقبورها ومدافنها وهي مزينة كقصور الأحياء ومقطعة إلى طرق ومناطق.
وفي يوم بدأ نهر السين بفيضانه المشؤوم الذي طغى على السدود والسكور فدكها وبثقها وأودى بالأموال الجسيمة من ناطق وصامت ركبت القطار وقت الظهر إلى الحدود الألمانية فكان نهر الموز والمارن هائجين حتى طغت مياههما على السهول والأودية ولم يصل القطار إلى نانسي على الحدود ويبلغ ستراسبورغ في أرض الألمان وقاعدة الألزاس إلا وقد انقلبت تلك الأمطار ثلوجاً وذاك الهدير سكوناً ولون تلك المياه الكدرة بلون الثلج الأبيض الناصع وبلغنا مونيخ عاصمة مملكة بافيرا الألمانية صباح الغد فوقف القطار زهاء ساعتين فرأيت أن لا أضيع الفرصة فأخذت أطوف المدينة ولكن كانت الثلوج غمرتها فلم أر منها إلا واجهات الأبنية ورؤوسها وهنا تمثل لي النقص وأحسستن بالعجز وشعرت بالغربة وأنا ألتفت عن يميني وشمالي فلا أسمع إلا الألمانية التي لا أعرف منها أكثر مما أعرف من الكردية وقد تركت بعض رفاق لي في القطار ومنهم بولونيون يتكلمون بالإفرنسية تطيب نفسي بمحادثتهم ومفاكهتهم حتى إذا عدت آخذ مكاني من القطار اجتاز بنا بعد قليل في أرض النمسا حتى وصلنا مساءَ اليوم الثاني إلى فيينا عاصمة النمسا.
وعلى ذكر اللغة لا بأس بأن أقول أنني يوم دخلت فرنسا لم أشهد وحشة ولم أشعر بغربة لمعرفتي بلسان أهلها واطلاعي على تاريخهم وعاداتهم فكنت كأنني داخل ولاية من(48/43)
الولايات العثمانية التركية أو قطراً من الأقطار العربية في غربي آسيا أو شمالي إفريقية ولما انتقلت من ستراسبورغ شعرت بتغير العادات واللهجات وأيقنت بأن الغريب الذي يزور بلداً لا يعرف لغة أهله كالأصم والأعمى وهذا ما عاقني في الأكثر عن زيارة إنكلترا وألمانيا خلال هذه الرحلة مع شغفي بحضارة هاتين الأمتين لأنني أستصعب أن أرى غيري بعيون غير عيني وآذان غير أذنيّ.
قضيت في فيينا يومين استرحت فيهما من وعثاء السفر واطلعت على بعض معاهدها إلا أن الثلوج التي بلغت نحو ذراع عاقتني عن إتمام الزيارة فركبت ثالث يوم بعد الظهر القطار قاصداً بلاد المجر فاجتزنا عاصمتها بودابست في الليل ووقف القطار فيها ساعة لم أتمكن في خلالها حتى ولا من رؤية المحطة وعدنا إلى قطارنا حتى تخطينا من الغد أرض الإمبراطورية إلى أرض البلقان ولم يكد القطار يجتاز نهر الطونة حتى تمثل أمام خيالي تاريخ هذه البلاد وبينما كنت أذكر وقائع العثمانيين في سلسترا والبروج المعروفة ببرج العرب وأذكر تلك الدماء العزيزة التي أهرقت على ضفاف الطونة لفتح هذه البلاد ركبت معنا من أول محطة في بلاد الصرب فتاتان صربيتان في الخامسة عشرة من عمرهما عليهما سيماء الحشمة والأدب فسألت الرفيقة رفيقتها أن تغني شيئاً فالتفتت إلينا وكان معنا رفيق بلغاري يعرف التركية فاستأذن في ذلك فقلت له لا بأس فاندفعت الفتاة تغني بنغمة على إيقاع غريب فاضت له نفسي بالدموع خصوصاً وقد جاءها الغناء وهي تفكر فيما أصابنا في هذه الديار من الشقاء. فعجب رفيقي البلغاري وقال لعلك فهمت هذا النشيد الوطني الصربي قلت لم أفهم وإنما تأثرت من النغمة ومن أمور أخرى فسألني إلا أن بحت له بذات نفسي ولما ذكرت له كيف تقدموا هم وتأخرنا من بلاد هواؤها عثماني وسيماؤها عثماني وأكثر عاداتها عثمانية عذرني على شعوري بما فيه من فضل أدب.
ووقف القطار ساعتين في بلغراد عاصمة الصرب فاغتنمت الوقت لزيارتها وهي نظيفة لطيفة صغيرة حرية بأن تكون قاعدة لتلك المملكة التي يقطعها القطار طولاً بأقل من عشر ساعات وزرت من الغد صوفيا عاصمة بلغاريا وهي أجمل وأضخم منظمة على مثال المدن الأوروبية ويغلب الأدب أهلها وكثير منهم يعرفون التركية وقد وقفنا عليها نحو ست ساعات تمكنت أثناءها من درس معالمها وحدائقها ومتنزهاتها وبعض قصورها وهي أقرب(48/44)
إلى أن تكون مدينة شرقية منها إلى أن تكون مدينة غربية ويقال أنها ترتقي سنة عن سنة ارتقاء يحسدها عليه حتى الأوروبيون الراقون وعجبت لما سمعت بعض الألفاظ التركية يستعملونها مع اللغة البلغارية حتى الآن كأنهم تركوها عضواً أثرياً يذكرهم بأيام حكم الأتراك عليهم.
وعند الظهر سار بنا القطار يقطع بلاد البلغار ووصلنا إلى جسر مصطفى باشا في ولاية أدرنه أو التخوم العثمانية عند العشاء وهناك جاءنا رجال شرطتنا يدمدمون ويبرقون ويرعدون يحكمون على هذا بالجزاء النقدي ويعفون عن ذاك ويطلبون من هذا جوازاً ومن الثاني أن ينبشوا صوانه وهميانه ومن الثالث أن يفتشوا صندوقه ويراقبوا كتبه والخلاصة تغيرت معنا الحال من الأعلى إلى الأدنى حتى بلغنا بلادنا فرأينا الانحطاط بادياً عليها في كل شيء وإداراتها هي تلك الإدارة الاستبدادية بعينها لم يعدل الدستور من شدتها وما زلنا على ذلك حتى بلغنا صباح الغد الأستانة عاصمة سلطنتنا العثمانية.
عاصمة السلطنة العثمانية
صقع جميل وسواحل بديعة ومناظر رائقة وسماء صافية ورفاهية مفرطة وأنس دائم فمن المضيق إلى الخليج إلى جزر البحر إلى متنزهات منقطعة القرين إلى غابات ملتفة وجبال مكسوة وعيون خرارة وكل ذلك بهجة النفس والخاطر وهذه هي الأستانة وأحياؤها وضاحيتها.
أما عمرانها فصورة مكبرة من عمران الولايات لا نظام ولا شوارع منظمة ولا طرق معبَّدة ولا راحة للراكب والسائر ولا للمقيم والنازل وغاية ما فيها من مصانع وآثار قصور السلاطين والجوامع الكبيرة الزاهية التي أنشأوها منذ عهد محمد الفاتح إلى يومنا هذا وبعض ثكن ومدارس عالية حديثة لا شأن لها من حيث فن البناء.
والأستانة من حيث قوتها المادية ضعيفة ضئيلة نصف أهلها أتراك يبلغون نحو ستمائة ألف والنصف الآخر أروام وأرمن وأكراد وأرناؤد وعرب وغيرهم من العناصر العثمانية. ويغلب على الأتراك الاتكال لأنهم ما زالوا حتى بعد الحرية يعتقدون من أنفسهم الغناء والسؤدد أكثر من بقية العناصر ويتوهمون أنهم العنصر الحاكم ولذلك قلما ترى بينهم تاجراً معتبراً أو زارعاً كبيراً أو مالياً دراكة يعيشون كلهم إلا المرتزقة والباعة عالة على الأمة لا(48/45)
يعرفون غير تقلد الوظائف الإدارية والعلمية والقلمية والعسكرية.
فالأستانة من هذه الوجهة مدينة الاتكال المجسم يعيش أهلها كالحلمة الطفيلية على عنق الولايات ولكم خربت ولاية أو لواءٌ أو قضاء ليعمر بها أحدهم مصيفاً له على ضفاف الخليج أو في جزيرة الأمراء ويقتني من الجواري والسراري والعبيد بقدر ما تطيب له نفسه.
ولأهل الأستانة فضل أدب ولين جانب عرفوا به منذ القديم فترى الواحد منهم يعاملك بأقصى اللطف والظرف حتى يرضيك وفي باطنه على الأغلب يسر لك غير ذلك وهذا الخلق عام في عمال النظارات والإدارات الكبرى ولولا ذلك ما انصرفت وجوه أرباب الأشغال من سكان الولايات إلى الأستانة يقصدونها لكشف ظلامة ونيل رتبة ومرتبة وراتب.
صرفت في هذه العاصمة عشرين يوماً قابلت في خلالها كثيراً من أهل العلم والسياسة وكنت أتكاره في الاختلاف إلى المعاهد والناس إذ سئمت نفسي كل ذلك بعد باريز التي رأيت فيها من كل شيء أحسنه ومن العالم أرقاهم ولطالما اسودت عاصمة بلادي في عيني ووددت على الأقل لو كنت لي أن أزورها قبل الرحيل إلى الغرب وإمتاع النظر والحواس بحضارته البهجة حتى لا أرى الانحطاط بعد الرقي ولا الظلام بعد النور.
ومن جملة المعاهد التي هي جملة مقصدي وغاية مناي من زيارة الأستانة مجلسنا النيابي زرته خمس مرات وأعضاؤه نحو مائتين وخمسين نائباً من جميع عناصر الدولة وأصقاعها تجد فيهم ذا العمامة البيضاء أو الخضراء كما تشهد فيهم لابس الكوفية والعقال وثلاثة أرباعهم من لابسي الطرابيش ولقد سمعت من أرباب العمائم مناقشات راقية لم أكد أسمعها إلا من النواب الذين صرفوا شطراً من أعمارهم في أوربا يتعلمون ويتمرنون ويدير حركة المجلس من النواب اليوم نحو عشر أعضائه شأن مجالس كلها فإن أرباب العقول الراقية والمضاء الكبير قلائل في كل طائفة. خصوصاً ومجلسنا ما برح طفلاً ويرجى أن يكون في الانتخابات المقبلة أرقى مما هو الآن.
رأيت النظام قليلاً في المجلس يبدأ قبل الظهر بالنظر في قانون كذا وبعد الظهر يتناقش في غيره قبل أن يكمله ومن الغد يتناقش في مسألة أخرى وينسى القانون أو اللائحة الأولى(48/46)
وذلك لأنهم وسدوا رئاسته لرئيس اشتهر بخدمته الحرية والشهرة قد تكذب. وكم وسدوا النظارات في هذا العهد الدستوري الجديد إلى أناس اشتهروا بعلمهم وعقلهم في الدور السالف حتى إذا جاء الآن دور العمل أبانوا عن ضعف في المدارك وخور في العزائم وبضاعة مزجاة من العلم والعمل ونفس شريرة تعد قتل عنصر من العناصر قتلاً معنوياً لغاية بعيدة الحصول أسهل من تناول الكأس أو السلام على الناس.
وكل أولياء الأمر إذا حدثتهم في نقصنا والسعي لإصلاحنا شاركوك في حديثك وربما تظاهروا بأكثر من غيرتك وحملوا أشد من حملتك فإذا أتت نوبتهم ليعلموا تراهم يقرون القديم على قدمه إن لم نقل يزيدون الحال أعضالاً وأشكالاً. فهم فلاسفة قول لا عملة عمل وجربذتهم في أساليب لهم يتقنونها لا في ظلامة يرفعونها وولاية يرقونها وإصلاح يدخلونه.
ولا أغالي إذا قلت أن عمال الأستانة الآن صورة من صور العهد الحميدي إلا أنهم يدعون الحرية وهم مضطرون إلى الإسراع بمصالح العباد بأقل مراوغة ومطاولة مما كانوا عليه في العهد الماضي أما الإصلاح الحقيقي فأظن من سيقومونه به لهذه البلاد العزيزة لم يخلقوا بعد ونحن نكتفي من الحاليين أن يحتفظوا فقط بالحالة الحاضرة ريثما يتخرج جيل جديد يربى على أدب النفس وأدب الدرس وينشأ بعيداً عن أخلاق الحكومة الاستبدادية المطلقة التي غرست مبادئها الساقطة في القلب واللحم والدم والعظم.
المتحف السلطاني
دخلنا هذه الدائرة الفخمة من بابها الغربي الكائن بجوار نظارة العدلية ومررنا أمام دار الضرب العامرة وبعدها دخلنا من باب آخر ينتهي إلى ساحة كبيرة بني على أطرافها رواق كبير يسمونه غرفة العرض كان يجلس فيه الوزراء والأمراء للمذاكرة والمشاورة وفي صدره مصطبة كبيرة يصعد إليها من درجة واحدة كان يجلس فيها السلطان متوارياً عن الأعين.
ثم خرجنا من هذه الغرفة وصعدنا إلى قصر شامخ يصعد إليه بسلم من رخام جدرانه مزينة بالقيشاني بناه السلطان مراد الرابع بعد رجوعه من بغداد على طرز قصر هارون الرشيد وسماه (قصر بغداد) وهو قصر مبني على الطرز الشرقي بشكل مثمن منتظم تحيط به من الخارج ردهة ذات منافذ تطل على الخمائل والبحيرات وتشرف على بحر مرمرة وقسم من(48/47)
البوسفور وأحياء القسطنطينية وضواحيها وبجانب هذا القصر دائرة (الخرقة الشريفة) وفيها الرداءُ النبوي وبقية المخلفات والآثار النبوية.
وخرجنا بعدئذ من هذا القصر ودخلنا قصراً آخر فيه غرفة كبيرة طولها نحو عشرين ذراعاً وعرضها نحو ثلاثة عشر ذراعاً يقال أنها من بناء السلطان مصطفى الرابع وفي الجهة القبلية من هذا القصر قصر آخر بناه السلطان عبد الحميد المجيد ويسمونه (سلطان مجيد كوشكي) مبني على الطرز الإيطالي وهذا القصر أجمل قصر رأيناه هناك ومما يجدر بالذكر في هذا القصر صفاء بلور النوافذ حتى أنك تظن النافذة مفتوحة لا بلور فيها لشدة صفائه وعلى جانب هذا القصر حجرة صغيرة بناها السلطان عبد المجيد لتبديل لباسه قبل دخوله دائرة الخرقة الشريفة.
ثم انتهينا إلى دائرة المتحف السلطاني وهي بيت القصيد في هذه الزيارة وهنا لا يتمالك الإنسان من الدهشة عند ما يشاهد تلك الآثار النفيسة والمصنوعات الثمينة النادرة التي لا تقدر لها قيمة لنفاستها التاريخية. دخلنا هذه الدائرة وهي مؤلفة من ثلاث غرف تحتانية وثلاث غرف أخرى فوقانية وأول شيء وقع نظرنا عليه تخت كسرى الذي غنمه السلطان سليم الأول من الشاه إسماعيل الصفوي في حرب (جالديران) الشهيرة وقد نصب في وسط المتحف يوحي إلى الرائي بعظمة الدولة العثمانية ومجدها السالف ويصور للناظر السلطان سليم الأول ممتطياً جواده سالاً سيفه يقود جيشه الباسل إلى بلاد الأكاسرة ويشتبك مع صاحب العجم في حرب عوان فيهزم جيشه ويستولي على عرشه وخزائنه.
هذا التخت على هيئة مستديرة قائم على أربعة أعمدة يصعد إليه بدرجة واحدة وكله مرصع بالياقوت والزمرد مما يبهر الناظر. شاهدنا في هذا المتحف سيف قسطنطين بالئوغوس آخر قياصرة الروم وهو سيف مرصع بالماس أخذ من جملة غنائم يوم فتح القسطنطينية. شاهدنا مهد السلطان محمود الثاني وهو على شكل السرر التي تصنع في دمشق من الخشب مرصعة بالصدف وهذا مرصع بالأحجار الكريمة. وفي المتحف ثلاث قطع من الزمرد الأولى بقدر جوزة الهند ووزنها ثمانمائة درهم والثانية على شكل مستطيل وزنها ستمائة درهم والثالثة بينهما في القطع والوزن وهناك أوانٍ من النجف بعضها مرصع وبعضها بدون ترصيع وساعات وأوان من العاج وبواطي من الصيني ودروع وطبرات(48/48)
ومغافر وبنادق قديمة مرصعة مما لا يكاد يحصى وخواتم من الماس بعضها فضة بقدر الجوزة. وإلى جانبيها دوي قديمة ذهبية وقماقم ومحاريب وسبحات ومراوح مرصعة وفي جملة هذه المراوح ثلاث تعد من نوادر المصنوعات الواحدة قبضتها مرصعة بالماس والأخرى مرصعة بالياقوت والماس في وسطها ياقوتة بقدر الجوزة والثالثة مرصعة بالأحجار الكريمة وعليها رسم الكرة الأرضية.
ومما أمتعنا به النظر صورة شخص طوله عشرة سانتيمترات صدره وبطنه لؤلؤة واحدة ورجلاه فيروزتان وبالقرب منه صندوق وعليه فيل من الذهب مرصع بالأحجار الثمينة. رأينا أغطية مناضد من الأطلس والديباج بعضها مرصع باللؤلؤ فقط والبعض الآخر مرصع باللؤلؤ والزمرد والياقوت بنقش بديع يأخذ بالعقول وهناك قلب من الماس حجرته الوسطى بقدر البيضة ويقال أن هذه الحجرة هي رابع حجرة في الدنيا من حيث الحجم والوزن وقد أمتعنا الطرف برسم السلطان عبد العزيز مجسماً معمولاً من النحاس الأصفر ممتطياً جواده بقطعة كبيرة طبيعية وآخرين صغيرين ورأينا رسم اسكندر الثاني قيصر الروس ورسم غليوم الأول عاهل الألمان.
وماا رأيناه ثلاث آلات للمنظومة الشمسية مصنوعة من النحاس الأصفر تدور فيها الأرض والسيارات حول الشمس بحركة دولاب يدار باليد كل ذلك بل أكثره موضوع في خزائن من البلور لا تمسه الأيدي رأينا مسميات لا نعرف أسماءها مما يحار لها العقل ويدهش لها الفكر وأنىَّ لنا بابن المعتز يقف في هذه الخزينة ويصف ما فيها من الحلي والحلل والجواهر الثمينة والمصنوعات الفاخرة النادرة بمنظومات تحكي ترصيع الجواهر المكنوزة في هذا الكنز الكبير.
ليس شيءٌ أصعب على الكاتب من أن يرى أشياء لم يألف مشاهدتها ولا يعرف لها اسماً فهو إذا أراد وصفها عصته الألفاظ وضاقت به التعابير رأينا في هذا المتحف شيئاً كثيراً كله من النادر الغريب الذي لا يوجد إلا في خزائن الملوك ولو أردنا أن نصف كل ما رأيناه لطال بنا البحث واحتجنا إلى سفر كبير ولكن نكتفي بذكر الآثار التاريخية الثمينة بالنظر لما لها من المكانة العلمية والقيمة الأدبية.
فمن ذلك درع مرصعة بالماس والياقوت مع سيف مرصع أيضاً مكتوب عليهما هذه العبارة(48/49)
هذه الدرع غنمها السلطان مراد الرابع لما فتح بغداد في اليوم الثامن عشر لسنة ألف وثماني وأربعين هجرية وتخت معمول من الباغا مرصع بالفيروز والزمرد وهو تخت السلطان أحمد الثالث كان يجلس عليه يوم عرفة وفي وسطه فراش من الأطلس مرصع باللآلئ بنقوش لطيفة يصعد إليه بثلاث درجات صغيرة وخزانة من الكهرباء الملون المعرق أهدتها فيكتوريا ملكة الإنكليز للسلطان عبد العزيز ومكتب (قنصل) كبير مرصع بالماس والياقوت وسائر الأحجار الكريمة أهدتها كاترينة قيصرة الروس للوزير الأعظم محمد باشا البلطه جي يوم وقعة (بيروت) الشهيرة وهذا المكتب من أثمن ما شاهدناه في هذه الخزينة لما فيه من الأحجار الكريمة وحلل ملوك بني عثمان وعمائمهم موضوعة كلها على قوالب مخصوصة على شكل إنسان بالهيئة التي كانت عليها ومكتوب على كل اسم منها اسم صاحبها وسيف السلطان الغوري عزيز مصر وخاتم السلطان عبد العزيز الذي نزع من إصبعه يوم استشهاده ووسامات مختلفة أهداها ملوك أوربا للسلاطين العثمانيين وغير ذلك من الآثار البديعة التاريخية.
وفي الجملة أن هذه الخزينة هي أعظم خزينة على وجه الأرض لأنها جمعت بين خزائن الأكاسرة وخزائن القياصرة وملوك الإسلام وكانت في الدور القديم تجمع فيها الأموال على نفقة الدولة وتدخر لأوقات الحروب وتسمى (ايج خزينة) أي الخزينة الداخلية. يروى أن السلطان مصطفى الثالث كان جمع فيها مبالغ طائلة صرفها كلها في الحرب الروسية ويقدر ما صرفه في ذلك الوقت باثني عشر مليون ليرة على حساب هذا الزمان.
أما بناء الدائرة فليس من الأبنية الفخمة المزينة بل هو بسيطْ جداً على طرز التكايا وليس فيه ما يستحق الذكر سوى ما ذكرناه آنفاً من القصور الحديثة التي بناها ملوك بني عثمان بعد الفتح وإنما هي تمتاز بجمال موقعها وحسن مناظرها ومكانتها التاريخية فالواقف في فنائها أو في أحد قصورها يمتع طرفه بتلك المناظر البهيجة ويسرح فكره في غابرها وحاضرها ويهتز طرباً وتتجلى له عظمة آل عثمان وسلطانهم ويرى الفاتح يسوق أسطوله على اليابسة بأعجوبة لم يسبق لها نظير ويفتح القسطنطينية ويملك قصر القياصرة وخزائنهم كما افتتح أجداده بلاد الأكاسرة وقوضوا عروشهم ويكون نعم الأمير الذي امتدحه الرسول وجيشه نعم الجيش.(48/50)
وفي الحقيقة إن هذا البناء اللطيف من أجمل ما يتصوره الفكر وألطف ما تشعر به النفوس فهو يحتاج إلى قريحة شاعر مطبوع أو قلم كاتب مجيد يصف ما تشعر به النفس من المعاني الشعرية في جانب هذه المناظر البهيجة والآثار التاريخية. هذا ولا يسعني هنا إلا أن أثني الثناء الطيب على ناظر المتحف حافظ محمد رفيق بك لما أبداه من المجاملة والملاطفة في زيارتنا هذه كما أني أشكر للأستاذ الزهراوي وعبد العزيز أفندي قولجه لي عنايتهما في هذه الزيارة التي هي من أثمن الزيارات التاريخية.
المتحف العثماني
ليس بين معاهد الأستانة وقصورها معهد توفرت فيه شروط التجديد ودخلته الروح الغربية مثل المتحف العثماني فهو المعهد الوحيد الذي قلدنا فيه الأوروبيين وأحسنا التقليد يستفيد به زائره تاريخ الصناعة ولا غرو فقد ضم عاديات الأمم القديمة كالرومانيين واليونانيين والفينيقيين والآشوريين والبابليين والمصريين والهيبيين والبيزنطيين المتأخرين من نواويس وتماثيل وأواني وآثار حجرية وخزفية وبلورية وكلها شاهدة على الدهر بما كانت عليه حضارات الشعوب التي انقرضت فأصبحت بلادها من جملة ولايات هذه السلطنة العثمانية أيد الله أركانها.
ومن أجمل ما يشاهد فيه مسلتان عثروا على الأولى في صامسون والأخرى في ازنيق وأسد وجد في هاليكارناس (قصبة بودروم) ويرد تاريخه إلى أربعة قرون ق. م وبجانبه ناووس روماني استخرج من دراج في ولاية أشقودرة ومن ألطف عاديات هذه الدار النواويس التي عثر عليها في صيداء وهي عبارة عن ستة وعشرين ناووساً ادعى بعضهم أن أحدها هو ناووس اسكندر المقدروني لأن الإسكندر توفي في العراق وجيء به إلى سورية على أن روايات المؤرخين مختلفة في دفنه. ومن النووايس ناووس دفن فيه تابنيت ابن اشموناراز ملك صيداء وعليه كتابة بالخط الفينيقي. وناووس الإسكندر من أغرب ما نقش النقاشون تحدسنا عليه وعلى كثير من الآثار الموضوعة في قاعات متحفنا أهل العاديات والآثار ويبذلون لنا لو أردنا في الحصول عليها مئات الألوف من النضار ونووايس المتحف البريطاني واللوفر ليست بأعظم منها.
ومن عاديات المتحف ناووس معروف باسم صدراب أحد ولاة فارس فيه رسوم الصيد(48/51)
والقنص والحرب واللعب والسباق ووضيمة جنازة ومنه يستدل على ما وصلت إليه هذه الصناعة من تلوين الرخام في أيونيا في الساحل الغربي من بلاد الأناضول من الارتقاء في القرن الخامس ق. م وهناك تمثال ثماني عشرة امرأة من أعجب ما نقش النقاشون جعلن على أشكال منوعة بعضهن قائمات وبعضهن قاعدات وهن يذرفن دموع الحزن واللهفة وبالقرب منهن 19 قطعة من نووايس رومانية عثر عليها في جبل لبنان وحمص وبيروت.
ومن النواويس البديعة ناووس اسمه ناووس ليكيا أي البلاد المعروفة اليوم بسواحل أضالية من أعمال قونية وهو رومي الصنعة محلي الأسلوب. وعلى مقربة منه تمثالان من الخزف المنقوش لأبي الهول عثر عليهما في مدينة أورله أو ميناء قلازومن من أزمير.
قلنا أن الناووس المعروف بناووس الإسكندر هو من أبدع ما صنعت الأيدي ولذلك زاره ألوف من علماء أوربا وأميركا يعجبون بصنعه وفيه كثير من الرسوم والخطوط النفيسة الملونة ومن الصور المزبورة عليها وقائع الإسكندر المشهورة. ومن كتاباته ما كتب بالخط الهيروغليفي المصري ومنها بالخط الفينيقي.
ومن الرسوم الموجودة في ناحية قريبة ما يرجح أنه رسم الحرب التي نشبت بين الإسكندر في أيسوس أو أربيل وبين دارا ملك الفرس سنة 333 ق. م.
ومما يقع نظرك عليه في القاعة الرابعة بعض عاديات هيتية مثل أسود وجدت في زنجيرلي وقصورها وتمثال يمثل أحد ملوك الهيتيين وقاعدة تمثالين لأبي الهول وتمثال من الحجر الأسود اسمه أسد مرعش كتبت عليه كتابات هيتية وهو أشهر أثر عثر عليه من آثار هذه الأمة حتى الآن.
والهيتيون أمم مختلفة كانت في القرن الخامس عشر قبل المسيح تنزل في جبال الأكراد في سورية وقبادو كيا وقسم عظيم من بلاد الأناضول حتى مجرى نهري الأحمر (قيزل ايرمق) وكديز وأصولهم كثيرة متباينة بل أن البلاد التي كانوا مستولين عليها هي كما يقول المحققون في شمالي سورية أي في المنطقة الممتدة من فرع الفرات الأكبر إلى جبال طوروس. وقد أنشأوا على الفرات قلعة قارغاميش المعروفة الآن بجرابلس وأخذوا يهددون مدينة نينوى القديمة (الموصل) إلى أواخر القرن الثامن ق. م وبلغوا منتهى مجدهم بين القرن العاشر والثامن ق. م وقد استولى على هذه القلعة صاراغون ملك آشور سنة 712(48/52)
وباستيلائه عليها محي اسم الهيتيين من عالم الوجود. على أن تاريخ هذه الأمة مع ما بلغت من الحضارة بين الأمم القديمة لم يؤثر عنها بالذات شيءٌ يدل على عظمتها لأن خطها لم ينحل حتى الآن ويرجى أن يكتشف كما اكتشف الخط المصري القديم بواسطة حجر وجد في رشيد كتب بالخط المصري مترجماً إلى اليونانية.
ومن العاديات المهمة في المتحف الأواني الزجاجية والخزفية وأحسن الزجاج ما جاء من سورية وقد كتب على كل قطعة منها اسم البلد الذي عثر فيه عليها. ومعلوم أن تاريخ وجود الزجاج قديم يتعذر معرفته وهناك قطع من الفسيفساء عثروا عليها في استانكوي أو جزيرة كوس من جزائر البحر الرومي ويرد تاريخها إلى الدور اليوناني وآثار معبد آشمون في صيداء من آثار الفينيقيين الخزفية وآثار سوكة وأياثلوغ ونامورد من أعمال إزمير وغيرها من بلاد الأناضول وأكثرها يوناني. وفي قاعة أخرى أوان وجدت بالقرب من صور وويج في ولاية مناستر في بعض المدافن وأوان في ليندوس (رودس) وغيرها يرد تاريخها إلى أدوار مختلفة يونانية ورومانية ومنها ما عثر عليه في لابسكي من أعمال كليبولي.
ومن الآثار المهمة في القاعة الحادية عشرة عاديات أرض فلسطين ومنها ما عثروا عليه في جوار القدس ويرجع تاريخه إلى القرن الثامن ق. م وما عثر عليه في بحيرة حمص في الجزيرة التي حفر فيها من القدور والأسرجة وقد اعتبروا القسم الأعظم منها من عهد الزمن النحاسي. وفيه قطعتان من المرمر وجدتا بالقرب من المسجد الأقصى وعليهما كتابات بالرومية تحظر على الغرباء أن يتخطوا معبد سليمان وإلا فيعاقبون بالموت. وهناك حجر كلسي عثروا عليه في القدس مكتوب عليه كتابة فينيقية وفيه ذكر جر الماء تحت الأرض في قناة حفرت في الصخور من نبع جيجون إلى سور القدس حتى تصل إلى نبع عين سلوان وينسبونه إلى الملك حزقيا أحد من ورد ذكرهم في سفر الملوك من التوراة.
وليست العاديات المصرية كثيرة في المتحف ومنها صور أبي الهول وفي ثلاث قاعات الآثار الكلدانية والبابلية والآشورية وأكثرها ألواح وأوان وأكواب وعظام كتبت بالخط المسماري.
ومنها ناووس من الخزف يرد إلى عهد بابل أي إلى نحو 600 سنة ق. م ومنها مسلة من الحجر من مخلفات نابونيد ملك بابل كسرها سنحريب في وقائعه مع السيتيين. ومن(48/53)
العاديات ما وقع في خرابة نيفر في الشمال الشرقي من الديوانية من أعمال بغداد ومنها ما وجد في تللو من أعمال البصرة ومنها ما عثروا عليه في سيبارا أوابي الحبة من أعمال الجزيرة.
وقد خصوا القاعة السابعة عشرة بالآثار التدمرية والحميرية ومن الآثار التدمرية ما يستدل منه على أن صنعها من بدائع صناعهم وإن كانت تشبه الصناعات اليونانية لأن مملكة تدمر وإن كانت يهودية لم يبق فيها أثر لهم لأن الآشوريين قرضوا عمرانهم ثم ارتقت على عهد أوليانوس أوائل ظهور النصرانية ودخلت في حوزة المملكة اليونانية على عهد الإسكندر واستعملت اللغة الروميّة ولا سيما في الرسميات وإن كانت لغتها الآرامية أو السريانية. أما الآثار الحميرية فهي آثار أهل سبأ ومعين في الجوف وعاصمة سبأ مأرب وأهل معين كانوا نازلين في قصبة العلى في جوار مدائن صالح ومملكة حمير اليمانية إنما نشأت بعد هلاك مدينة سبأ ومعين واستدلوا من ذلك على أن الخط الحميري يشبه الفينيقي ولكن دخله قلب وإبدال كثير.
ومن العاديات آثار قبرص منها تمثالان للمعبودين هو كول وآفروديت وأوان خزفية ونذور. ومنها حلي آشورية وفينيقية وحلي وجواهر وأقراط وأساور وقلائد وجدت في مدينة ترواده أي في محل اسمه الآن حصارلق جبل قار وهللسبون أي بين جناق قلعة وبحر الآرخبيل وكانت هذه عاصمة قديمة مشهورة. ومنها ما وجدوه في ترال من أزمير وليبية من طرابلس الغرب وبرقة وغيرها في طرسوس وآخر في برغمة وفي نابلس.
هذه جملة أشرنا بها إلى ما حواه المتحف وله قسم آخر إسلامي جعلوه في قصر الصيني أمام البناء الجديد كما قسمت مصر عادياتها إلى متحفين متحف الآثار المصرية واليونانية القديمة والمتحف العربي. وقصر الصيني هذا مما أمر بإنشائه السلطان محمد الفاتح ولكن لم يبق عليه من آثار أيامه إلا أثر ضئيل جداً مثل الآثار التي يحويها وبعض عاديات وأكثرها من قرون الانحطاط أي القرون الخمسة الأخيرة ومنها بعض الصيني الذي كان يعمل في دمشق ورودس وأزنيق وكوتاهية وبعض الكاشاني المكتب بالكوفي ومنها ما عثر عليه في مصر وقونية ودمشق وبورصة وكان يعمل فيها كما تعمل الطنافس البديعة في معامل دمشق وتوقاد وأصفهان وغيرها.(48/54)
ومن عاديات قصر الصيني درفتان من صنع قره مان وقونية ومنها رحالي وقماقم وطنافس ومصابيح وخطوط صدرت عن بعض الملوك العثمانيين ومنبر من صنع الرها (أورفة) وأوان خزفية وجدت في الرقة من أعمال حلب وجلود كتب من صنع مهرة المجلدين من العرب والفرس والترك وأصونة وخزائن وبعض آثار حجرية يقال أنها أموية عثر عليها في القدس وبعض نقوش حيوانات رسمت على الزجاج من الأدوار التركمانية والآرتقية وملوك يبني آرتق من مماليك ملكشاه بن الب أرسلان السلجوقي حكموا جهات ماردين وديار بكر وحلب إلى سنة 811 هـ وانقرضت دولتهم بعد حكم 334 سنة إلى غير ذلك من العاديات والآثار ومما عرضوه عود طرب أو طنبورة وهي من صنع عصور الظلمة أيضاً.
وبالجملة فإن العاديات القديمة التي جعلت في البناء الجديد كلها حسنة ومقيدة لو لك يكن الكسر والتحطيم يغلب عليها لما قاسته من أهاويل الدهور أما العاديات التركية والعربية الأخيرة فتافهة على الأكثر. وفي الأستانة محل قرب جامع السلطان أحمد عرضوا فيه صور الإنكشارية مجسمة من الجبس من صنع النمسا وهم يلبسون ألبستهم المعروفة وجالسون على مراتبهم وعاداتهم لا بأس بزيارتها لما فيها من الفائدة التاريخية.(48/55)
سيرة العلم والاجتماع
تربية صغار العملة
في السويد الآن 72 معملاً لصغار الأولاد منها 16 في استوكهلم والمخترعة لهذه المدارس العقيلة كوستاف سيستا رتزويس التي أنشأت أول معمل من هذا النمط منذ عشرين سنة تذكاراً لأمها وهذه المعامل هي عبارة عن ملجأ لأولاد الشعب الذين لا تفتح لهم المدارس أبوابها إلا صباحاً من الساعة الثامنة إلى الواحدة أو بعد الظهر من الساعة الثانية إلى السادسة فيعلم فيها الأولاد صنع الخشب وتطريق الحديد وإصلاح الثياب وخياطتها وخصف النعال وصنع الأحذية. وقد تبين لهذه المعامل أن الأولاد يعنون كثيراً بالثياب التي يخيطونها بأنفسهم ولا يقصد من هذه المعامل إعداد عملة ماهرين خبيرين بل يكتفى بتمرين ما خصوا به من الحذق والنظر والاجتهاد وتقوية ميلهم الحسن إلى الاعتياد على العمل ولا يسمح لولد أن يتخلى عن صنعة قبل أن يعمل بنفسه شيئاً فيها يرضى عنه معلموه ومعلوم أن الحذق في العمل اليدوي يكون قبل الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة هذا مع ما في عملهم من التأثير الأدبي النافع ويزيد ذلك سهر الأساتذة على تلامذتهم ومعاملتهم لهم بالحب والحرية ولا تعطيهم هذه المعامل لقاء عملهم سوى طعامهم وهم يهيئونه بأنفسهم معظم الأحايين.
أترابنا العميان
تحت هذا العنوان كتبت معلمة إنكليزية من العميان في إحدى المجلات العلمية مقالاً أثبتت فيه أن العميان ليسوا كما يتوهم الناس عاجزين إلا عن استعمال قسم قليل جداً من القوى التي يستخدمها المبصرون وأوردت على ذلك أمثلة من التعليم الخاص بالعمي في بيوتهم أو في المدارس الابتدائية والعالية فقالت أن هذه المدارس التي يديرها العمي في الأكثر مثل مدرسة المعلمين العميان في إنكلترا تعلم تعليماً موافقاً لحاجات الطلبة بحيث يغادرها هؤلاء وهم يعرفون القراءة والكتابة والخياطة باليد أو الآلة وطباعة اللنتوتيب والكتابة على الآلة الكاتبة واللعب. وتعليمهم اللعب من أصعب الأمور هذا ما يحرض عليه أساتذة مدرسة المعلمين المذكورة حتى غدا تلاميذهم يعرفون اللعب بالشطرنج والداما ويركبون الدراجة ويحسنون التجديف والعوم ولعبة الفوتبول.(48/56)
تعلم اللغات الحية
نشر أحد ضباط الإنكليز في الجيش الهندي مقالة في المجلة المدرسية ذكر فيها أن حكومته أرسلته مع الحامية إلى تخوم الشمال الشرقي من مستعمرة الهند بين قبائل متوحشة تتكلم بلهجة هندية صينية ليس لها قواعد ولا معجم مفردات مكتوبة فقاده الاتفاق إلى أن صارت له صلة مع أحد شيوخ ذاك الصقع يستعمل السحر والكهانة فأنشأ بادئ بدء يستمع لما يلقيه ذاك الساحر من القصص مشفوعاً بإشارات ورموز واضحة تجلب النظر فلم يمض زمن طويل إلا وقد توصل إلى إدراك المعاني التي يريدها الساحر وما هو إلا قليل أيضاً حتى دهش من نفسه وقد أخذ يألف الكلمات التي يدمدم بها الشيخ المتوحش وأصبحت له من هذه اللغة البربرية معرفة واسعة لم يتعب في تحصيلها كأنه تعلمها من كتاب. واستنتج بعد ذلك بأن خير طريقة يجب اتباعها في تعليم الأحداث لغة لا يعرفونها أن يسير العلمون لها على الطريقة التي تعلم بها صاحبنا الإنكليزي لغة الهند الصينية.
الأخلاق بالطعام
يرى بعضهم أنه يستدل على أخلاق المرء من خطوط يده أو من تفلطح رأسه أو من استعماله القهوة أو غير ذلك ولكن أحد أطباء الإنكليز قال: قل لي ما تأكل لأقول لك من أنت واستدل بأن الإغتذاء بلحم البقر يورث نشاطاً وقوة. واستعمال لحم الخنزير يورث النفس انقباضاً ويسود المستقبل في النظر. ولحم الخروف يورث السويداء والإكثار من لحم العجل كثيراً مدة طويلة يضعف كل نشاط ومقاومة. وتناول اللبن الحليب والبيض يولي قوة ذهن ولا سيما في النساء والزبدة تكثر البلغم والتفاح يوافق العاملين بعقولهم والخردل من باعثات الذهن ومنشطاته.
المباحث الليمنولوجية
اللينمولوجيا من العلوم الحديثة وهو يبحث عن الظواهر والتراكيب التي تبدو البحيرات وعلى سطوحها وفي داخلها وتدل هذه الظواهر على الخصب الذي لا يتناهى في جوف الأرض ولهذا العلم شأن عظيم في أميركا. ففي نيكاراغا مثلاً بحيرة اسمها نجيابا هي في الحقيقة حوض ماء من الصابون تحتوي كميات وافرة من محلول بيكاربونات البوتاس والصودا وسلفات المنغنيزيا إذا ثار الهواءُ تحدث منه أمواج يتكون منها زبد يستعمله سكان(48/57)
ضفاف البحيرة في غسل رؤوسهم والتداوي من الأمراض الجلدية. وفي وسط ولاية الالاسكا بحيرة أغرب من هذه يكون سطح مائها حلواً وسمكها أبيض اللون أما الماءُ في داخلها فأملح من ماء البحر وتوجد فيه الأسماك التي لا تصاد إلا من البحار. ومن البحيرات الصغرى في ولاية أوتاح ما تجد ماءه مركباً من توابل مملحة متبلورة يمشي عليها الفارس ولا يسقط وفي ذاك الصقع أيضاً بحيرة لون مائها وردي وتنبعث منها رائحة بنفسج ولونها ورائحتها صادران من وجود الخث نبات الماء فيها وبالقرب من سانتا في كولورادو بحيرة تحتوي كمية وافرة من الكبريت. ومثل ذلك تجده في كثير من أقطار الأرض وهو ناشئ من نوع الحيوانات والنباتات التي تعيش في تلك البحيرات ومن طبيعة أرضها بركانية كانت أو غيرها. قالت المجلة التي عربنا عنها وربما علل بذلك ما وجد في بحيرة اكتشفت حديثاً في آسيا من الغليان الدائم في مياهها بحيث لا تنزل حرارتها عن 120 درجة بالميزان المئوي.
التمثيل في الخلاء
ضاقت في الغرب بيوت التمثيل فهرع الناس إلى الخلاء يتخذون منه دوراً للتمثيل لا تضيق بالممثلين ولا بالحضور. وقد مثلت مدرسة هارفرد الجامعة في أميركا في المدة الأخيرة رواية جان دارك للفيلسوف الألماني شيلر فكان الممثلون ألفي شخص والحضور خمسة عشر ألفاً وهو أعظم اجتماع على هذه الحال.
الجيش العامل
على الرغم من احتجاج الملوك ومعارضة دعاة السلم ما برحت أوربا تزيد في جيوشها العاملة حتى بلغ الجيش العامل أربعة ملايين وربعاً من أصل 435 مليوناً من السكان أي عاملاً واحداً يؤخذ من كل ثلاثين عاملاً في أوربا ولألمانيا وحدها 634 ألفاً ولفرنسا زهاءُ 600 ألف وهكذا ازداد عدد هذه الجيوش زيادة كبرى فزادت أوربا جيشها العامل منذ سنة 1869 ضعفي ما كان وكذلك نفقاته. وفي الإحصاءات الأخيرة أن أوربا تنفق على جيشها مسانهة ستة مليارات و 725 مليون فرنك في السنة.
صفات السياسي
نشرت مجلة الاجتماع الدولية مقالة في الأخلاق التي يجب أن يكون عليها الساسة فمما(48/58)
قالته أن الناس يزعمون بأن أحسن سياسي أكثرهم جربذة واحتيالاً وقد أبان استورنل كونستان فساد هذا الرأي مؤكداً بأن الثقة والسلطة والاعتبار حليفة أهل الحشمة والوقار من الناس أما النجاح المؤقت الذي يأتي به بعض الظرف فهو من شأن الساسة السطحيين وولاة المنحطين. فمن يجيد السلام يسلم عليه ولكن لا يعد شيئاً عند التحقيق. ومن النقائص المضرة جداً في السياسي أن يكون واسع الفكر ورديء النية فعليه إذا أحب النجاح أن يتحامى إدهاش المجتمع بفضيلته. كما أن الواجب عليه أن لا يعيش عيش الفقراء بل أن يكون له مسكن في المدينة التي يقيم فيها وواحد في الضاحية وآخر في بلده الأصلي وأحياناً مسكن في إحدى الولايات والإنفاق على أربعة بيوت يحتاج إلى البذل كثيراً ولكن ذلك ضروري لمن يحب أن يقوم بوظيفته حق القيام على صورة محتشمة. وختم الكاتب مقالته بأن السياسة مثل سائر المسالك والأوضاع آخذة بالنشوء والابتعاد عن التقاليد القديمة من دس الدسائس واستعمال الشدة وغايتها الآن العمل لما فيه نشر السلام بين الأنام.
المعادن الشفافة
جبوا الذهب فظهر لهم أنه من المعادن الشفافة ومن المحتمل أن يكون النحاس والفضة كذلك. وإثبات أن هذه المعادن شفافة يحدث أواناً مدهشة وتغييراً في الصناعة.
خفقان القلب
يختلف خفقان القلب في الحيوان باختلافه في الطول فكلما كان نوع الحيوان صغيراً زادت ضربات القلب فقلب الفيل يخفق 30 مرة في الدقيقة والحصان 40 والحمار 50 والإنسان 70 والكلب 90 والأرنب من 150 إلى 200 والفأرة من 500 إلى 600. ولم يتيسر حتى الآن بالآلات الموجودة معرفة خفقان قلوب الحيوانات الصغيرة وغاية ما عرف أن الفأرة نفسها كلما كانت فتية زاد خفقان قلبها.
جمعية الموسيقيين
تألفت في فرنسا جمعية مهمة لتجمع جميع الجمعيات الموسيقية في فرنسا على اختلاف مقاصدها في نقابة واحدة. ففي فرنسا الآن 12 ألف جمعية موسيقية مؤلفة من 300 ألف إنسان على الأقل فإذا دفع الواحد فرنكاً في السنة لهذه النقابة أن تعمل أعمالاً مهمة ومنها إنشاء مكتبة موسيقية عامة.(48/59)
التمثيل في إيطاليا
الشعب الإيطالي مولع من وراء الغاية بالتمثيل ولعه بالتصوير والنقش والموسيقى حتى بلغت عندهم أكثر من جميع البلاد المتمدنة بالنسبة ففي إيطاليا 1217 مسرحاً أي مسرح واحد لكل ثلاثة وعشرين ألف شخص ولولاية بروز المقام الأول حتى أن بليدة صغيرة اسمها كامبوناكورد في البندقية سكانها 350 شخصاً لها معهد تمثيل. ومعظم دور تمثيلهم تسمى بأسماء أعاظم رجالهم.
حوادث السكك الحديدية
على كثرة عناية الأميركان لاتقاء ما يحدث عن السكك الحديدية من المكدرات تزداد حوادثها يوماً بعد يوم وقد حسبوا أنه هلك من وقائع السكك الحديدية منذ شهر حزيران 1906 إلى مثله من سنة 1907 122885 أي أكثر مما هلك وجرح في معركة واترلو حيث بلغ مجموع من هلكوا 53 ألفاً وفي معركة موكدن حيث لم يتجاوز الهالكون مئة ألف. وقد اخترعوا في روسيا طريقة سموها طريقة التجسس وهو أن يداهم المفتش وقاد القاطرة والميكانيكي وغيرهما من عملة القطار أثناء السير فإذا صادف خللاً أو نقصاً يحكم على المتراخي في الحال. ويقضي على كل سائق ووقاد أن تفحص عيناه كل شهر فإذا شوهد فيها أدنى ضعف يمنع من الخدمة وقد جربوا هذه الطريقة في روسيا وأميركا فظهرت لهم فوائدها.
البريد الألماني
في إحصاء رسمي لسنة 1908 أنه كان عدد الرسائل وغيرها التي مرت بالبريد الألماني تلك السنة 14057 مليوناً وكانت سنة 1900 8840 مليوناً وعدد مستخدمي البريد 194256 سنة 1900 فأصبحوا في سنة 1908 288725 وتجيء بعد سويسرا ألمانيا بجودة بريدها في حين كانت إنكلترا الثانية منذ ثلاث سنين. ولكل 825 نفساً في سويسرا مكتب بريد ولكل 1495 نفساً في ألمانيا مكتب وفي إنكلترا لكل 1873 وفي البلجيك لكل 5119 وفي إيطاليا لكل 3940 وفي النمسا 2965 وفي فرنسا 3008 وفي إسبانيا 4143 وفي روسيا 10365 وفي الدولة العثمانية لكل 18215.
مدرسة الخلية(48/60)
الخلية أو عش النحلة اسم وضعه أحد مفكري رجال التربية في فرنسا المسيو سباستيان فور لمدرسة له أوجدها في مدينة رمبوليه من مقاطعة الواز في شمالي فرنسا لتربية اليتامى أو الأطفال المهملين أو ذوي الحاجة يختارون من أبناء السادسة ويعلمون إلى الخامسة عشرة فيتلقى الطفل إلى السنة الثانية عشرة التعليم الابتدائي وبعد ذلك يضاف إليه قسم فني فيتعلم الطالب حرفة فإذا بلغ الخامسة عشرة يخير بالخروج من المدرسة أو أن يعمل فيها على أن يقسم أرباحه من صناعته ثلاثة أقسام ينفق الأول لطعامه ومسكنه والثاني يضاف إلى رأس مال الخلية والثالث يودع له في صندوق التوفير لحاجته الذاتية والخلية الآن مكان لطيف فيه 26 طالباً وأسرة المؤسس 14 يعيش هؤلاء الأربعون نسمة كأسرة واحدة ورأس مال هذه الخلية من ثمرة أعمال المؤسس وحسنات المحسنين وقد كانت نفقتها سنة 1909 نحو عشرة آلاف ليرة ودخلها أقل من ذلك بقليل وقد أسست منذ سنة 1906 وهي الآن تخسر وتسد العجز منه ويربي الطلبة على التربية البدنية والتربية العقلية ولا يعلمهم الدين ولا التاريخ ليختاروا متى شبوا لأنفسهم ديناً ومذهباً سياسياً لأنه يقول أن التاريخ كما هو الآن لا يخلو من زيادات كثيرة فمن نصفهم بأنهم عظماء كانوا في الحقيقة مخربين أشراراً ولذلك يكتفي بتلقينهم تاريخ الحضارة والمدنية إذ يلقنهم بذلك حقائق راهنة لا يتطرق إليها الفساد.
اكتناء عرب الشام
كتب الأمير شكيب أرسلان في النبراس فصلاً قال فيه تحت العنوان السالف ما يأتي: إنه لمعلوم أن لكل مبارز شعاراً ينادي به في ميدان الحرب، وهذا هو المسمى عند الماضيين بالاكتناء وعند المعاصرين بالنخوة، وهي في اللغة العظمة والفخر: يقولون انتخى عليه افتخر وتعظم. وحيث كان المنتخي أكثر ما ينتخي عَلَى طريق الكنية كأن يقول: أنا أبو فلان وأخو فلان جُعل هذا المذهب من الفخر في ساحة القتال اكتناء وسمي هذا الاكتناءُ انتخاء. ومنه قول الإمام علي رضي الله عنه: أنا أبو حسن القرم ومنه: أنا الغلام الغفاري. وقد ورد في الحديث: رأيت علجاً في القادسية وقد تكنى وتحجتى والتكني هو هذا والتحجي هو الزمزمة عَلَى عادة الفرس.
ولا ينحصر الاكتناء المذكور هنا بذكر الأب والأم بل هو تعريف الفارس بنفسه في ساحة(48/61)
الوغى بلقب من الألقاب أو وصف من الأوصاف يصير عليه علماً. فالشعلان شيوخ الرُّولا من عنزة من أعظم العشائر الضاربة في بلاد الشام ينتخي واحدهم بقوله: أنا راعي العليا وتى قيل راعي العليا عُلم أنهم الشعلان عند كل العرب. ولهم نخوة أخرى وهي أخوصيته ولا أدري ما أصل هذه التكنية ولكن الصيتة في اللغة هي بمعنى الصيت ومنه قول لبيد:
وكم مشترٍ من ماله حسن صيتةٍ ... لآبائه في كل مبدٍ ومحضرِ.
ثم أن ابن سمير شيخ ولد علي فخذ آخر من عنزة يكنى بقوله أخو عذرا وعذرا هذه قرية في مرهج راهط شرقي دومة الشام كان لأبناء سمير عليها أتاوة سنوية أو عَلَى رأيهم خوة فتكنوا بها فكأن قولهم أخو عذرا يشير إلى أن قرية عذرا تؤدي لهم الخوة.
ثم أن ابن الطيار شيخ الفرقة الثانية من ولد علي يتكنى بأخي ثنية ولا علم مإذا كانوا يريدون بهذه الثانية المحلى المسمى بثنية العقاب الواقع إلى الشرق من عذرا والذي هو المطلع من المرج إلى جبال القلمون.
ثم السردية وهم من العرب المعروفين في بلادنا بأهل الشمال ولهم قرية في حوران وإمارة في الأيام السابقة ويزعم بعضهم أنها بطن من تنوخ فهؤلاء ينتخون بقولهم أخوذية.
ثم بنو صخر النازلون شرقي البلقاء عَلَى طريق الحاج وهم فرقتان الطوقة والخرشان. فالطوقة ثلاث فرق: الغبين وشيوخهم الفايز وهم شيوخ سائر بني صخر أيضاً ومنهم المرحوم طلال باشا ابن فندي الفايز والحامد والزين. فالفايز كنيتهم في الحرب أخوبلها والحامد يقولون أخو عمشاء والزين أخو وضحا. وأما الخرشان إحدى فرقتي بني صخر فيقولون أخو فلوا والبلهاء في اللغة هي المرأة الكريمة الغريرة التي لا تعلم الشر، وود أيضاًَ أنها الناقة: قالوا ناقة بلهاء لا تنحاش من شيءٍ مكانةً ورزانةً كأنها حمقاء. ولم أعلم سبب قولهم أخو بلها. أما العمشاء فهي مؤنث الأعمش من العمش وهو ضعف البصر مع سيلان الدمع. ولم أر في فصح اللغة الفلواء وإنما قيل أن الفلو هو المهر يقال له فلو بالتشديد ثم يؤَنث فيقال فَلوة مثل عدوّ عدوَّة فهل ذاك تحريف أم تخفيف؟ لا أعلم. وجمع بني صخر يقال لهم البواسل وهو لقب يجمعهم فإذا قيل جاء البواسل فهمَ العرب من ذلك أنهم بنو صخر ومعناه مفهوم. ولهم لقب آخر وهو رعاة العرفاء والعرفاء مؤنث الأعرف وهو الطويل الذي عَرف: يقال ناقة عرفاء أي مشرفة السنام. ويقال أيضاً ناقة عرفاء أي(48/62)
مذكرَّة تشبه الجمال، ويقال أيضاً عرفاء للضبع لطول عرفها وكثرة شعرها وقد ورد العرفاء في شعر الشنفرى قال:
ولي دونكم أهلون سيد عماَّسٌ ... وأرقط زهلولٌ وعرفاءُ جيألُ
ثم أن العدوان وهم عشيرة ينزلون منذ نحو مائتي سنة بالبلقاء يشتون في الغور ويقيظون في حسبان يكتنون بأخوة شيخه. ومن القريب أن هذه الكنية في الحرب كنية المشايخ العوامرة من رؤساء الدروز في جبل حوران. عَلَى أن للعدوان أيضاً لقباً آخر وهو رعاة الضبطاء. أخبرني شيخهم وشيخ مشايخ البلقاء في هذا العهد وهو سلطان ابن علي بن ذياب أن الضبطاء اسم ناقة غنموها في حربهم مع الأمراء آل مهدي الذين كانوا في البلقاء قديماً وكانوا أمراء تلك الجهة وزحزحهم العدوان عنها بعد حرب عوان وأن آل مهدي كانوا قد حملوا عَلَى تلك الناقة أوقار كنوزهم من الحلي والذهب والفضة فهزمهم آل عدوان وغنموا الناقة بما عليها وتقاسموا فيما بينهم تلك الأموال فكانت بدء سعادتهم وحق لهم أن ينتسبوا إلى ناقة حملت سعدهم فوق متنها. وأما الضبطاء في اللغة فهي مؤنث الأضبط والأضبط هو الذي يعمل بكلتا يديه: يقال أسد أضبط أي يعمل بيساره كما يعمل بيمينه، وناقة ضبطاء ولبوة ضبطاء. قال الجميح الأسدي:
أما إذا أَحردت حردي فمجريةٌ ... ضبطاء تسكن غيلاً غير مقروب
ثم عشيرة عبادة من نزالة البلقاء أيضاً وهم يناظرون العدوان يقال لهم الطرائفة فتسمعهم في الهيجاء يصيحون أين ذهب الطرائفة؟ أين ذهب الطرائفة؟ وهم فرق ست منهم المناصير أخوة عوجاء ومنهم الخالتين (بدون تشديد) ومنهم الفقها ومنهم الرماضنة ومنهم غير ذلك. والطرائفة اسم جامع للكل.
ثم الحويطات النازلون بأطراف معان والعقبة عَلَى طريق الحاج هؤلاء يقال لهم أخوة صالحة وينتخون في الحرب بكلمة خيالة الصفحة. سمعت أنهم يعنون بذلك محلاً صعباً وعراً كثير الحجارة في بلادهم وفي اللغة الصفائح هي بهذا المعنى.
ثم العجارمة وهم من عشائر البلقاء أيضاً ولهم قدمة في التاريخ رأيت السائح ابن بطوطة يشير في رحلته إليهم إذ مرَّ من هناك قاصداً إلى الحجاز هؤلاء كنيتهم صبيان الصباح ولا أعلم الأصل في ذلك. وعشيرة أبي الغنم جيرانهم يقال لهم أخوة دلعب ولا أعلم وجه هذه(48/63)
التسمية ولم أرَ في الفصيح دلعباً فلعله مقلوب دعلب أو دعبل فإن الدعلبة والدعبلة هما بمعنى الناقة.
وبنو حميدة من عر بالكرك صبيان السياح والمجالية شيوخ عرب الكرك الذين منهم مبعوث ذلك اللواء في مجلس الأمة هؤلاء كنيتهم أخوة خضرا.
والصليت من عرب الكرك أيضاً يقال لهم رعاة الحيزا ولا أعلم للحيزا معنى إلا إن كان من الحيز وهو السير الروبد والسوق اللين أخوة شيرة ولعل شيرة مخفف شيرّه أي جميلة لأنه يقال امرأة شيرة أي حسنة الشارة.
والصقر من عرب غور بيسان يقال لهم رعاة الجدعا والجدعاء من الجدع وهو القطع وأكثر ما يستعمل في الأنف والشفة والأذن وقد رأيت في لسان العرب بنو جدعاء بطن من العرب.
ثم المساعيد النازلون بغور الفارغة في عدوة الأردن إلى الغرب عَلَى طريق نابلس أميرهم ضامن المسعودي لهذا العهد يقال لهم بنو عقبة وبلغني أنهم في الأصل أشراف واردون من الحجاز.
والسرحان من العرب الذين يقال لهم عرب الشمال اسمهم رعاة البويضا. والعيبر اسمهم رعاة الصغرا والدعجة من عرب مادبة يقال لهم أخوة خشفة. والمشالخة من عرب غور أبي عبيدة (رضي الله عنه) منهم الربيع أخوة عمشيا والفاعور أخو صبحا والشرارات وهم من عرب البادية الضاربة إلى الجوف يقال لهم الآن بنو مكلب وأظن أنهم بنو كلب لأن التاريخ ذكر نزول كلب بأطراف البلقاء من الشام.
ومن جملة الكنى المشهورة في حوران أخوة بلجاء وهي كنية بني الأطرش أشهر مشايخ الدروز بذلك الجبل. ولا أدعي أنني أتيت عَلَى جميع ما لعرب الشام من اصطلاحات النخوة والكنية واللقب إذ بقي هناك قبائل وبطون وأفخاذ لا يكاد يأخذها العدد ولكل منها كنية ومعرفة تتعرف بها وإنما نتبع القول السائر: ما لا يدرك كله لا يترك كله.
هلكي السل
ثبت أن الألكحول هي الباعث الأقوى للسل وإنه حيثما كثرت الحانات زادت الإصابات والوفيات بهذا الداءِ العياء. وإذ كان في فرنسا مثلاً نصف مليون حانة يصيب كل ثمانين(48/64)
إنساناً من أهلها حانة واحدة وفي بلاد الشمال يصيب كل 53 شخصاً حانة أصبح السل فيها أكثر انتشاراً من غيرها. وقد أكدوا أن بلاد نروج توصلت بالقواعد الصحية ومراقبة التلامذة والأساتذة في المدارس التي هي بؤرة العدوى إلى أن قلَّ فيها عدد المصابين بالسل وفي إحصاء ظهر منذ خمس سنين أن فرنسا يهلك فيها 31 نسمة من كل عشرة آلاف بهذا الداءِ وإيرلاندا 26 وإيكوسيا 20 وألمانيا 17 وإيطاليا 16 وإنكلترا 16.
التنزيه في الفرصة
بدأت الشركات في سويسرا منذ عشرات من السنين بجلب الأولاد من بلادها وغيرها وتنزيههم مدة الفرصة فجرت عَلَى إثرها شركات أخرى في أكثر ممالك أوربا حتى بلغ عدد من تنزههم الشركات من التلامذة في ألمانيا 35 ألفاً في السنة وفي إنكلترا 30 ألفاً وفي فرنسا 25 ألفاً ومن التلامذة من يرسلون تحت حماية معلميهم إلى نزل للشركة ومنهم من تكتري لهم دوراً خاصة وفريق منهم تبتاع أو تبني لهم دوراً من أرض لها لينزلوها خلال فصل الصيف.
الاستشفاء في الشمس
كتب الدكتور تريمولير في مجلة مطالعاتنا في البيوت ما مثاله معرباً: جاءت الشهور التي يستشفى بها بالشمس العجيبة فلنفتح لها أبوابنا ونوافذنا ولا يكفي تسخين المساكن بأشعتها وإنارة زواياها بحرارتها فإن الشمس في تلك الحالة لا تزيد الجراثيم التي تنمو في الرطوبة والظلمة إلا نضوجاً ولا يقتصر عَلَى الاستحمام بنورها المحرق المذهب خلال الارتياض والخروج للنزهة بل الواجب إدخال أشعتها إلى جسمنا وهو عريان لتطهر أشعتها جثماننا وتحيي أنسجتنا وتحول المادة الحية المكتئبة إلى مواد حيوية طاهرة تحوي في مطاويها النشاط والقوة.
فقد أوصى اسكولاب المشهور في الأساطير القديمة الذي احترم الأطباء في كل عصر أقواله_كل من ضعفت وظائفهم أن يعيشوا عراة في الشمس بوقاية رؤوسهم من ضربات الشمس. وكان الرومان يقتطعون منن مساكنهم أو مدنهم أماكن يختصونها بحمامات الشمس والهواء الطلق يدعونها سولاريوم بذلك حسن نسل اليونان واللاتين. قصد الإسكندر الكبير ديوجنس الكلبي ذات يوم وهو خارج من برميله يستحم عَلَى مهل بنور الشمس فسأله الملك(48/65)
أي غرض تريد أن أقضيه يا فيلسوف فأجابه هذا أريد أن تبعد من طريق شمسي.
وقد اتفق الأطباء في عصرنا عَلَى هذه المسألة وجاءت من كل مكان أخبار فوائد أشعة الشمس. وحدث أن رجل كان مصاباً بخراجين نغارين من الخنازير فعرض أحدهما للشمس فشفي أما الثاني فلما لم يحسن مداواته بأشعة الشمس بقيت بحالها تنز. وهكذا الحال في كثير من الرضوض والقروح السلية والنواسير والبثور وجروح الجلد فإنها كلها تتحول بتأثير المداواة بالشمس.
وأشعة الشمس لا تؤثر فقط في ظاهر الجلد بل تخترق البشرة والأدمة (الطبقة الغائرة من الجلد) وتسري إلى الداخل وتعدل الحواس الداخلية فالحرارة المنبعثة منها تجلب التعريق فتلين الأعصاب وترخص المفاصل ويزول الشعور بالملل والثقل بتأثير الأشعة وما يتبعها من ارتفاع درجة الحرارة ويحسن الهضم شيئاً فشيئاً ويسكن القلق والاضطراب الحادثان من أوجاع مجهولة. ويرتفع التأثير الشديد الناشئ من وجع الكلى والرحم والمبيض والآلام العصبية ووجع الأضلاع أو يقل تناوبه عَلَى المصاب به فتنبسط نفسه وترتاح روحه وتتعدل حالة البول بإدراره تارة وتجمعه أخرى وتحسن موازنة الوظائف العديدة في تركيب الإنسان وأكل الأحشاء التي تقاوم كل تأثير تنتهي بها الحال إلى الخروج عن ضعفها. ويقف السمن عن النمو أو يرجع القهقرى وذلك بدون عقاقير ولا تعاطي أدوية ولا حاجة للوصول إلى هذه الغاية إلى أكثر من التشمس عَلَى طريقة منظمة بتوجيه الأشعة إلى البطن السمين والعنق والخاصرة حتى تعود إلى اعتدالها وحالتها الطبيعية وبعد المداواة بالشمس أشهراً يعود الصدر إلى سالف طبيعته.
وإن الحركات الرياضية التنفسية اللازمة للبالغين من ضاقت صدورهم وكل من لهم استعداد للسل لتقضي بأن يعري المرء نصفه الفوقي ويعرضه للشمس وهذه المداواة تنفع جميع الضعفاءِ والهزالى والمنهوكين والمتعبين. وأكثر المستشفين انتفاعاً بأشعة الشمس من اسودت بشرتهم فإذا لم يكتب لهم ذلك فالواجب أن يعمدوا إلى طريق آخر في الاستشفاءِ. ويجب أن يعرض الجزء اللازم شفاؤُه للشمس مباشرة بدون حاجز اللهم إلا سجف يقي الجسم من النظر وهبوب الهواء فلا يحم المستحم عَلَى هذه الصورة ولذلك رأى بعضهم أن خير استشفاء ما يكون في الشتاء ورأى آخرون أي الواجب الاستياط ووضع رفادات ندية(48/66)
أو مثلجة عَلَى الرأس والنقرة والقلب ولذلك يجب مراجعة الطبيب.
السجناء
ما برح الناس في الغرب يسعون إلى تخفيف عذاب السجون والرفق بالسجناء حتى أصبح السجن بهيجاً كالمعمل أو الثكنة بل إن بعض السجناءِ قال لمفتش أحد السجون أنهم لا يعطوننا خبزاً مثل خبز الجند كأنه يظن نفسه أرقى منهم طبقة ويحق له أن يطالب بأكثر مما نال فليس عجيباً من ثم أن تزيد الجرائم. واختلف الباحثون في الجرائم والعقوبات فمنهم من رأى الاستعاضة عن الحبس بغرامة مالية ولكن ما كل الناس في سعة يستطيعون معها بذل المال وقال آخر يجب تشهير الجاني بالإعلانات ورد عليه غيره بأن ذلك مناط بعقل المجرم. وذهب آخرون إلى وضع المجرمين في بيوت أهلها من أهل العرض والشرف ثم عاد عن هذا الفكر وارتضاه فقط لصغار الأولاد. وأحسن السجون سجن لوفان في البلجيك حيث يفصل المحكوم عليهم عن أخوانهم ويزورهم أناس من أرباب الشرف والحشمة يسلونهم ويعطونهم عملاً ويستمعون لمطالبهم وينصحون لهم سراً بنصائح صالحة وقد ارتأى أحد العلماء أن المحكوم عليه يجب أن يفصل ما أمكن عن أقرانه ويكون قريباً ما أمكن من المجتمع.
شركات المطاط
كان يستخرج المطاط إلى العهد الأخير من أشجار برية معرشة اسمها ليان ثم أصبحوا يغرسون شجرة ويزرعونها فصارت غلاته عَلَى طريقة منظمة وأجود وأغزر من قبل وانتشرت هذه الزراعة في المستعمرات الإنكليزية فأنشئت سنة 1909_89 شركة إنكليزية برأس مال قدره عشرة ملايين جنيه كما أنشئ من أول كانون الثاني 1910 إلى 1 آذار 45 شركة أخرى رأس مالها خمسة ملايين ونصف من الجنيهات وكل يوم تنشأ شركات جديدة وقد كانت رؤوس الأموال الموضوعة سنة 1906 مليونين ونصفاً من الجنيهات فأصبحت اليوم ثلاثين مليوناً وأهم تلك الشركات تملك 2. 700. 000 شجرة يستخرج منها المطاط.
مدرسة التربية
يذهب كثير من الباحثين إلى أن المدرسة إذا علمت الأولاد قليلاً أو كثيراً فهي لا تربيهم(48/67)
وقد كتب أحد علماء الطليان بحثاً في هذا الشأن قال فيه أن المدارس تفرط في تدريس التعليم المسيحي عَلَى حين ليس هو نافعاً في تربية أخلاق الأولاد وذلك لأنهم لا يفهمون منه شيئاً فالواجب أن يعمد إلى تربية الطفل عَلَى العمل حتى تصبح المدرسة مربية حقيقية في ساعتين تكفيانه في اليوم لتعليم اللغات والمعارف الابتدائية فينبغي تخصيص بقية الوقت أي ساعتين أو ثلاث للأعمال اليدوية بحسب ميل الطفل وذوقه لأن الاستعداد للعمل أمتن أساس في الخلاق وبذلك لا تكون المدرسة سجن الطفل تتبرم نفسه من الجلوس عَلَى دكات المدارس خمساً أو ست ساعات في اليوم وتضطرهم المدرسة إلى حضور التعليم الديني بلا فم والفطرة تدعوهم إلى الحياة العملية التي تهيئ مستقبلهم في المجتمع.
سماد الفوسفات
انتشرت صناعة السماد الكيماوي ولاسيما الفوسفات فقد ظهر هذا السماد لأول مرة سنة 1867 في كارولين ثم جاء سماد البلجيك والجزائر وتونس وجزائر المحيط وفلوريدا وغيرها وكان المستخرج منه سنة 1886 ثمانمائة ألف طن فأصبح هذه السنة خمسة ملايين طن والولايات المتحدة أكثر الممالك إخراجاً للفوسفات أي نصف ما يستخرج من آسيا وأوربا وأفريقية وزاد المصروف من هذا السماد 79 مرة خلال العشر السنين الأخيرة.
القرى والمدن الأنكلوسكسونية
قابل احدهم بين نمو المدن في إنكلترا ونموها في ألمانيا فقال أن الألمان أشد ميلاً إلى سكنى المدن من الإنكليز في حين بدأ الإنكليز بالتحضر في المدن قبل الألمان بكثير فقد كان 5 في المئة من سكان المملكة الجرمانية سنة 1871 يعيشون في المدن التي تضم كل واحدة منها بين جوانحها مئة ألف نسمة فبلغ عدد ساكني المدن 19 في المئة من مجموع من مجموع السكان سنة 1905 وكان عدد المدن التي تحوي كل منها مئة ألف نسمة 14 مدينة في إنكلترا سنة 1871 فيها 6. 250. 000 ساكن أو 27 ونصف في المئة من مجموع السكان فأصبحت سنة 1901 33 مدينة كبرى تحتوي كل واحدة منها عَلَى مئة ألف نسمة ومجموع سكانها 11. 500. 000 فزاد سكان المدن ضعفين خلال هذه المدن في إنكلترا وزادت في ألمانيا ثلاثة أضعاف. والسبب في نمو المدن الألمانية كثر أراضي(48/68)
ألمانيا وكثرة الولادات بل هجرة الناس من القرى ومعظم سكان المدن الحديثة هم شبان تختلف سنهم بين 20 إلى 45 سنة.
عملة الطليان
يبلغ عدد العاملين في إيطاليا 7. 787. 166 عاملاً منهم ثلاثة ملايين و126. 500 يعملون في الصناعات و467. 666 في الزراعة وقد أنشأ الراقون من العملة مؤتمراً للاتحاد بينهم منذ أربع سنين فبلغ عدد الداخلين فيه إلى هذه السنة زهاء ثلثمائة ألف وغايتهم أن تكون حركة طبقة المساكين تحت إدارتهم مباشرة وأن يساعدوا عَلَى تأسيس غرف للعمل والاتحاد الوطني وينشطوا عَلَى وضع القوانين الاجتماعية النافعة للعاملين فخطتهم إصلاحية سلمية.
التعليم الحديث في الصين
أخذت الصين منذ سنة 1900 تعنى كل العناية بإصلاح التعليم في الصين فنظمت كلية بكين وقسمتها إلى ثمانية أقسام ثم أسست مدرسة للغات الغربية وفي سنة 1903 وضعت مشروع قانون لجعل التعليم عصرياً محضاً فأخذ الطالب يشرع في الدرس في السنة السادسة ولا يخرج من المدرسة الثانوية إلا في سن العشرين وبعد ذلك يتمرن ثلاث سنين في المدرسة العليا في عواصم الولايات قبل أن يخصي في مدرسة بكين في علم واحد وهذه المدرسة تعد رجالاً أكفاء لستة وأربعين مسلكاً. ويصرفون جزءاً مهماً من الوقت في المدرسة الابتدائية لتعليم اللغة الصينية وقراءة كتب الأقدمين من كتاب الصين أما في المدارس الأخرى فيدرسون العلم واللغات الحية خاصة وهذه اللغات تعلم عَلَى الترتيب الآتي: اللغة الإنكليزية اللغة اليابانية اللغة الفرنسوية اللغة الألمانية اللغة الروسية. والتلامذة أنفسهم يلاحظون في كل مدرسة أمر مدرستهم ويحق لهم الإشراف عليها. ولم تكد تنشر اللوائح الجديدة في التعليم حتى وضعت موضع العمل وقام الصينيون كلهم يطلبون إنشاء مدارس لهم وقد فتحت في ولاية بتشيلي وحدها ثلاثة آلاف مدرسة في آن واحد وحولت كثيراً من المعابد البوذية إلى مدارس للتعليم عَلَى الصول الحديثة وقد أوعزهم المعلمون أولاً حتى أصبحوا يقبلون المتعلم بعض من لا يحسنونه إلا أن الصين لم تلبث أن بعثت إلى يابان سنة 1904 بألفي طالب يتعلمون في مدارسها العالية وزاد عددهم حتى بلغوا سنة(48/69)
1906 عشرة آلاف طالب وكل من يعود منهم توظف إليه الوظائف السامية في التدريس وغيره (من مجلة العالمين الفرنسوية).
التعليم في ألمانيا
لا شيءَ أدل عَلَى ارتقاء التعلم الابتدائي في ألمانيا من قلة عدد الأميين بين الجند من أبنائها فقد كان عند ألمانيا سنة 1887_1. 250 جندياً أمياً من الجنود الذين كانوا تحت السلاح فأصبحوا سنة 1897 مائتين وقد بلغا هذه السنة اثنين في المئة من مجموع المجندين وأكثر هؤلاء الجنود الأميين من البولونيين في بروسيا الشرقية أما عدد الأميين في فرنسا في السنة الماضية فقد بلغ 9825 من الجند ومعظم الدول تعلم جندها الأميين القراءة والكتابة بحيث لا يقضي الجندي الخدمة العسكرية إلا وقد تعلم الكتابة كما تعلم الرماية.
المطبوعات الأميركية
نشر إحصاء بحركة العلم والمطبوعات في الولايات المتحدة خلال السنة الماضية فشوهد أن القوم أخذوا يزهدون في قراءة القصص ويرغبون في تناول كتب الجد وأصبحت كتب الآداب في الدرجة الأولى من العناية بعد أن كانت في الدرة الخامسة. وقلت العناية بكتب الدين واللاهوت كما زادت في سائر فروع العلم مثل الفنون النافعة والجغرافيا وكتب الرحلات والسياسة والعلوم الاجتماعية والتربية. وقد طبع سنة 1909 في هذه البلاد 8308 كتب لمؤلف أميركي وكان عددهم في السنة التي قبلها 6349 وطبع 828 كتاباً لمؤلف إنكليزي أو أجنبي وكان عدد هذه الفئة في للسنة التي قبلها 1145.
اللغة الروسية
كانت اللغة الفرنسوية في روسيا منذ مئة سنة لغة الطبقة العالية والمجتمعات المنورة وما برح الروسيون يعملون عَلَى تحسين لغتهم ويحببونها إلى النفوس عَلَى كثرة شذوذها ويرققونها عَلَى غلظتها حتى نشروا أعلامها لا في بلادهم فقط بل في أوربا ووصلوا بها إلى أميركا ففي نيويورك وحدها حيٌّ للروس يبلغ المتكلمون بلغتهم 160 ألفاً هذا واللغة الروسية عَلَى ما فيها من الآداب منذ عهد بوشكين شاعر الروس الأول إلى عهد تولستوي آخر أئمة النثر عندهم لم تبرح عَلَى جفائها الأول وإن تسربت غليها ألفاظ كثيرة من اللغات المجاورة ولاسيما الألمانية.(48/70)
أميركا الإسرائيلية
في إحدى المجلات الإفرنجية أن أميركا هي بلاد الإسرائيليين لو رجعنا إلى ما قاله بعض المؤرخين والإحصائيين. فقد دخل الإسرائيليون أميركا منذ اكتشافها وسها علماء إسرائيل في البرتقال بأعمالهم الرياضية والفلكية الطريق لسفر خريستوف كولمبس إلى أميركا بل إن مال اليهود هو الذي يسر له رحلته وكان معه في السفينة لويز دي تور الإسرائيلي وهو أول من داس الأرض الأميركية وأخذ المهاجرة من الإسرائيليين منذ افتتاح تلك البلاد يأتون زمراً زمراً فاليهود هم الذين استعمروا سان تومه حيث أسسوا معامل السكر وبهم نجحت برازيل إلى أن طردوا منها سنة 1654 وجزائر بارباد وجاماييك ارتقت بواسطة الإسرائيليين وقد طرح أحد حكام الإنكليز أن الإسرائيليين هم أحسن رعايا عظمة الملك. وما كانت الولايات المتحدة لتدخل في طور الفلاح لولا العنصر اليهودي فيها. وقد قال الرئيس يوم عيد الـ 250 لهجرة الإسرائيليين أن هؤلاء القوم قد شاركوا في عمران هذه البلاد ونشأتها. وقال الرئيس كلفلند لم يؤثر أحداً كاليهود في تأسيس معالم الحضارة الأميركية اليوم.
الرياضات اليابانية
يقول اليابانيون أن الأجسام بينهم أخذت بالضعف منذ تخلى الناس في يابان عن الارتياض واللعب عَلَى طريقتهم القديمة عَلَى خلاف ما يظن الأوربيون فإن كثرة المواصلات بالترمواي والسكك الحديدة قللت السير عَلَى الأقدام والمشي من أنفع الرياضات كالسباحة وقد نصحوا بأن الواجب عَلَى كل ياباني أن يحسن العوم ويتعلمه مكرهاً في المدارس وعلى الناس أن يرجعوا من تلقاء أنفسهم إلى تعاطي اللعب والرياضات والمشي فليس أدل عَلَى ضعف البنية اليابانية أكثر من أن حكومة الميكادو أخرت 178 ألفاً منن الجند وأعفتهم من الخدمة من أصل 414 ألفاً لضعف بنيتهم ولأنهم لم يستوفوا الشروط المطلوبة للخدمة العسكرية.
خريطة العالم
دعا المؤتمر الجغرافي في جنيف سنة 1908 مؤتمراً دولياً للتعاون عَلَى وضع خريطة للعالم من مقياس مليون فاجتمع المؤتمر في لندرا وقرر أن ترسم إنكلترا معالم أفريقية(48/71)
ومجاهلها وترسم الولايات المتحدة معالم أميركا الشمالية والجنوبية وألمانيا ترسم آسيا وستكون هذه الخريطة أصح مصوَّر للأقاليم والبلدان تنفق عليه النفقات العظيمة.
محصول الحنطة
ذكر أحد كبار الإحصائيين الاقتصاديين منذ عشر سنين أنه سيجيء وقت ليس ببعيد يظهر عجز كبير في محصول القمح فلا يعود يكفي الناس لأنهم في ازدياد كل يوم والمحصول لا يزيد عَلَى نسبتهم فقد أبان بعضهم أن محصول الحنطة في العالم سنة 1906_1906 كان 7. 812. 462 هكتولتراً (الهكتولتر مئة لتر) وما صرف منها 229. 773. 730 فبلغت الزيادة 7. 812. 462 هكتولتراً وبلغ المحصول في العالم سنة 1907_1908 2. 009. 736. 430 والمصروف 2. 33. 585. 900 أي بعجز 320. 849. 470 ولا يتأتى سد هذا العجز إلا بخزن القمح وخزنه لا يتيسر عَلَى ما ينبغي والمستقبل لا يخلو من خطر عَلَى غذاء البشر. وقد عاد الاقتصاديون فبحثوا عن الراضي التي تزرع قمحاً فأثبتوا بالأرقام أن كثيراً من الأصقاع في أميركا وآسيا آخذة بالنمو العجيب في زراعة الحنطة وأنه يمضي الجيل إثر الجيل والقرن بعد القرن والحنطة تكفي البشر وإنه إذا كانت بعض المطاحن والمخابز وقفت عن الطحن والعجن والخبز ولاسيما في العواصم الأميركية والإنكليزية فذلك ناشئٌ من مضاربة تجار الحنطة لا من قلة المحصول.
الصحافة في سويسرا
ظهر تقويم الصحافة السويسرية لهذه السنة فتبين منه أن سويسرا عَلَى قلة سكانها أكثر البلاد الراقية بصحفها ومجلاتها ففيها 262 جريدة سياسية وإخبارية تصدر باللغة الألمانية و101 باللغة الفرنسوية و21 باللغة الإيطالية و3 بلغة الرومانش (الرومانش من شعوب سويسرا الشرقية ينزلون اليوم في كريزون ولغتهم مشتقة من اللغة اللاتينية) وعندهم أربع مجلات فلسفية مهمة و40 مجلة فرنسوية برتستانتية و37 ألمانية و27 جريدة كاثوليكية و10 جرائد للمراسلين وجلتان إسرائيليتان وثلاث مجلات لا تقول بدين هذا عدا الجرائد الرسمية التي تصدر في المقاطعات والمجلات الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والفقهية ومجلات الضمان والنساء والفلسفة والعلوم والصناعات النفسية والرياضات والآداب فيكون مجموعها 766 مجلة وجريدة فحيا الله بلاد العلم والعمل.(48/72)
منع التقبيل
اشتدت ولاية أيوا في الولايات المتحدة أكثر من غيرها من أصقاع الأرض منع التقبيل وقد صنعت ألوفاً من الشريط الأبيض والوردي كتبت عليه لا تقبل ووزعت مجاناً عَلَى تلامذة المدارس وأخذت إدارة الصحة تبعث بأطبائها إلى البلاد يخطبون القوم في مضار التقبيل وأساتذة المدارس يساعدونهم بما يبثونه من النصائح للتلامذة والطلبة.
حماية الجمال الطبيعي
في ألمانيا عدة جمعيات أخذت عَلَى نفسها حماية الجمال الطبيعي في أصقاعها البهجة وهي تبذل كل مرتخص وغال لحماية المصانع القديمة من سوء ينزل بها ومنذ عشر سنين ما برحت المؤتمرات لهذه الغاية تنعقد وتتوالى ومن هذه الجمعيات ما يبلغ إيراده مئة ألف فرنك في السنة تصرفها في هذا السبيل.
الحمة
هي تلك الراضي الفسيحة الواقعة في وادي اليرموك الجميل عَلَى الخط الحجازي الآتي من طريق حيفا في الكيلومتر و93 و95 الذي يشقه نهر الشريعة الشهير عَلَى جنوبي جبال مكيس ذات الآثار الجليلة المعروفة قديماً بمدينة (جدره) وفي الحمة ينبع ثلاثة ينابيع معدنية حارة تنبجس بغزارة وتجري حتى تنصب في نهر الشريعة عَلَى بعد قليل ويبعد النبع عن الآخر بضع دقائق يدعى إحداها المقلي أو حمام سليم ودرجة حرارته 119 والآخران (حمام الجرب) وحرارته 108 وحمام الريح وحرارته 82 بميزان فارنهيت ويلحق بهذه الحمامات ثمانمائة دونم كلها صالحة للزراعة ذات خصب وثراء وقد عرف الأقدمون مكانة هذه الينابيع فعمروها عَلَى أحسن طرز من البناء الروماني الضخم الجميل يدلنا عَلَى ذلك ما خلفوه لنا من الآثار الجليلة والأبنية لدائرة الفخمة التي تخاطبنا بأفصح لسان بما كانت عليه من الجلال والمنعة إبان مجد الرومانيين الدابر منها آثار تياترو من الحجر الصلد الأسود عَلَى غاية الرونق والإتقان.
وقد جرى تحليل هذه المياه في أدوار مختلفة لمعرفة خصائصها ومنافعها في الاستشفاء والمعالجة فأفصحت التجارب عن حقائق ذات شأن كبير منها شفاء أوجاع المفاصل المعروفة بالروماتيزم عَلَى أنواعها عضلية أو مفصلية وأمراض الجلد والقروح حادة أو(48/73)
مزمنة والرمل الكلوي وأمراض المعدة والكبد والأمراض الزهرية والأمراض المانعة للحبل والتوليد وغير ذلك وفيها أيضاً نبع غزير بارد له خاصية شفاء الإسهال إذا شرب منه المصاب ولهذه الحمامات شأت في كثير من جهات البلاد المجاورة لذلك يقصدها الكثيرون يستشفون بها ويمنعون النظر بمناظرها الطبيعية الجميلة بين ماء وكلأ وجبال شماء وأودية غناء ولا أبالغ إذا قلت أن معدل قاصديها في شهر نيسان لا يقل عن عشرين ألفاً يقيمون أياماً تحت حر الشمس وهبوب الريح لا بيت يؤويهم ولا نزل يكنهم فإن كان هؤلاء القاصدون يبلغون هذا العدد وهي قفراء خربة في شهر واحد فكم يكون عددهم لو تهيأت لهم حمامات منتظمة وأبنية وفنادق وما به يستتب لهم الراحة فيه أأبالغ إذا قلت أنهم يزيدون عن المائتي ألف؟
وقو لي هذا يقوله ألوف غيري ويضيق بي المقام لو قصدت الاستفاضة في وصف ما تجتنيه شركة مساهمة من الأرباح وما يحوزه الوطن من الفوائد المادية والمعنوية والشركة تحتاج إلى خمسين ألف ليرة منها خمسة وأربعون ألف ليرة للأبنية من الحمامات ونزل ومستشفيات وخمسين ألف ليرة لإصلاح الراضي المجاورة ونصب أشجار مثمرة من ليمون وبرتقال وغيره وحدث عن خصب هذه الأراضي ولا حرج فإن شجرة الباميا بلغت مترين فكم تكون غلة الشجار المثمرة وكم يكون نموها عجيباً وكم من الأرباح والفوائد التي تستغلها الشركة وتتمتع بها دون إعانات وعناء؟
عجلون:
نجيب فركوح.(48/74)
مطبوعات ومخطوطات
العبرانيون والفينيقيون
نشر المسيو سلوش من علماء المشرقيات كتاباً بالإفرنسية ذكر فيه أن الإسرائيليين والفينيقيين من عنصر واحد وليس أصل سكان فينيقيا بعيداً عن وقت دخول الهكسوس أي العرب إلى مصر. ومعنى فينيقي ساكن الكثبان والرمال الحمراء وكان الفينيقيون والعبرانيون عل عهد القضاة شعباً واحداً قال وقد دخل التمدن إلى بلاد اليونان من مصر وإن كان موسى أخو أبي الهول قد خرج من صحراء ليبيا ليحمل الحضارة إلى يونان والكادموسيون أخوان الفينيقيين البكر أما أجداد الساميين المذكورين باسم بني قدم في التوراة فإن أصل مقامهم كان في الهند كوش وخليج فارس ومعنى اسمهم الساميون الشرقيون ومنهم خرج العبرانيون سكان وراء بحر الفرات والآراميون سكان الشمال الجبلية والعرب سكان الغرب. وقال أنه كان سنة 471 ق. م أناس من المستعمرين اليهود في أسوان وجزيرة الفيلة من صعيد مصر وانتشر اليهود في القرن الثاني ب. م في افريقية ولما دمرت القدس سنة 70 كان اليهود ومن تبع عاداتهم هم السواد الأعظم من سكان صحراء ليبيا. وبعد الحروب التي نشبت بين يهود اليونان ويهود الرومان خربت بلاد برقة وصحراء ليبيا الشرقية واضمحل سكانها وسقطت اليهودية اليونانية منذ ذاك الحين في افريقية ولما قامت مدينة قرطاجنة الرومانية عَلَى أنقاض قرطاجنة الفينيقية أصبحت مدينة تقاليد اليهود التلموديين وامتدت المستعمرات اليهودية إلى من قرطاجنة بلاد مراكش وكثر عددهم في مراكش الرومانية وأفريقية الفاندالية في القرن الثالث للمسيح. وتكلم عَلَى اليهود الحميريين واليهود البربر وعلق شأناً عظيماً عَلَى قول ابن خلدون في البربر النازلين في أفريقية منذ عهد متطاول والبربر الذين أتوا من حمير وهم عرب اختلطوا في أفريقية بالسكان الأصليين وتبربروا مثلهم وقد انصبغت هذه الشعوب الحميرية بصبغة اليهود وقال أن اليهودية انتشرت في جنوبي بلاد العرب منذ سنة 115 ق. م.
ديوان سلامة بن جندل
نشر المسيو كليمان هوار من علماء المشرقيات من الفرنسويين ديوان سلامة بن جندل من شعراء الجاهلية نقلاً عن نسخة مخطوطة من مكتبة آيا صوفيا في الآستانة وقد ترجمه كله(48/75)
إلى الإفرنسية ونشره في المجلة الآسياوية فعساه يجرد عَلَى حدة.
فقه العلم
هو كتاب قدمه أصدقاء الماركيز ملكيوردي فوكويه المستشرق الفرنسوي بمناسبة ذكرى ثمانين سنة عَلَى ولادته وبعض تلامذته ورصفائه والمعجبين به من علماء المشرقيات فكتب كل واحدة مقالة وقد جرت العادة أن يقدم للعلماء مثل هذه الهدايا كما قدم لنولدكه أحد كبار علماء المشرقيات من الألمان مثله ومن مقالات هذا السفر النفيس مقالة للمستشرق مانس فإن برشم للكتابات المأثورة عن دولة الأتابكية في دمشق وحل ما عرف من الكتابات الخمس عن أمراء البوريين منها ثلاث من الأتابك طغتكين وواحدة من ابنه يوري وأخرى من محمد بن يوري. ومنها مبحث للمسيو برونوف في حصون تخوم بلاد العرب من العقبة إلى حوران وأشار إلى المعبد الذي أنشئ في أوائل التاريخ المسيحي في سي من بلاد حوران إكراماً لووسارا وفيه المصورات والرسوم اللازمة. وبحث المسيو جويدي في المعلومات التي تؤثر عن علماء العرب في الجغرافيا من قبل الإدريسي مثل ابن خرداذبة واليعقوبي وابن الفقيه والاصطخري والمقدسي في وصف أوربا الغربية فقال أن هذه المعلومات ضعيفة لأن العرب الذي جاؤوا إسبانيا قد ساروا عَلَى شواطئ أفريقية ولم يتيسر لهم أن يزوروا البلاد الغربية عَلَى أن هؤلاء الجغرافيين وصفوا رومية وصفاً مستوفى في الجملة أخذوه عن مصادر مسيحية ولكنها شرقية. وجميع هذه المقالات متعلقة بآثار الشرق وتاريخه وآدابه وشعوبه وفي جملة الكاتبين أناس من كبار المستشرقين مثل سنار ونولدكه ومولر وماسبرو ومرجوليوث ودوسو وغانو.
مجلتان جديدتان
العلم_هي أول مجلة عربية نشرت في العراق لمنشئها السيد محمد علي هبة الدين الشهر ستاني في النجف وتطبع في بغداد وهي شهرية دينية فلسفية سياسية علمية صناعية ومؤلفها مشهور من القديم بكتاباته ورسائله وقيمة اشتراكها 20 قرشاً في محلها وريال ونصف في سائر الأقطار.
النجف_هي أول مجلة فارسية ظهرت في العراق أنشأها آغا محمد المحلاتي تصدر في النجف مرة في الشهر في 64 صفحة وثمنها ثمانية بشالك وهي تبحث في موضوعات(48/76)
دينية ومدنية.(48/77)
العدد 49 - بتاريخ: 1 - 3 - 1910(/)
مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
تتمة ما ورد في الجزء الماضي.
مزاعمهم في الهاتف والناقل والرائي
قال الجاحظ: والأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون من الإيمان بالهاتف بل يتعجبون ممن رد ذلك فمن ذلك حديث الأعشى ابن ماس بن زرارة الأسدي أنه سمع هاتفاً يقول:
لقد هلك الفياض غيث بني فهر ... وذو البياع والمجد الرفيع وذو القدر
قال فقلت مجيباً له:
ألا أيها الناعي أخا الجود والندى ... من المرءِ تنعاه لنا من بني فهر
فقال:
نعيت ابن جدعان بن عمرو أخو الندى ... وذا الحسب القدموس والمنصب القصر
قالوا ولنقل الجن الأخبار علم الناس وفاة الملوك والأمور المهمة كما تسامعوا بموت المنصور في اليوم الذي توفيه فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضاً كثير.
وكانوا يقولون إذا ألف الجني إنساناً وتعطف عليه وخبره ببعض الأخبار وجد حسه ورأى خياله، وإذا كان عندهم كذلك قالوا مع فلان رئي من الجن. وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحاء ابن قمعة_والمأمون الحارثي_وعتيبة بن الحارث بن شهاب في ناس معروفين من ذوي الأقدار من بين فارس رئيس وسيد مطاع.
فأما الكهان فمثل حارثة بن جهينة وكاهنة باهلة وعنز سلمة ومثل شق وسطيح وأشباههم.
وأما العراف وهو دون الكاهن فمثل الأبلق الأسيدي والأجلح الزهري وعروة بن زيد الأسدي وعراف اليمامة رباح بن كحلة وهو صاحب المستنير البلثعي وقد قال الشاعر:
فقلت لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن أبرأتني لطبيب
وقال جبهاء الأشجعي:
أقام هوى صفية في فؤادي ... وقد سيرت كل هوى حبيب
لك الخيرات كيف منحت ودي ... وما أنا من هواك بذي نصيب
أقول وعرة الأسدي يرقي ... أتاك برقية الملق الكذوب
لعمرك ما التثاؤب يا ابن زيدٍ ... بشافٍ من راق ولا مجيب(49/1)
لسير الناعجات أظن أشفى ... لما بي من طبيب بني الذهوب
وليس الباب الذي يدعيه هؤلاء من جنس العيافة والزجر والخطوط والنظر في أسرار الكف وفي مواضع قرض الفأر وفي الخيلان في الجسد وفي النظر في الأكتاف والقضاء بالنجوم والعلاج بالفكر.
وقد كان مسيلمة يدعي أن معه رئياً في أول زمانه ولذلك قال الشاعر حين وصف مخاريقه وخدعه:
بيضة قارور وراية شادن ... وخلة جني وتوصيل طائر
ألا تراه ذكر خلة الجني.
ما روي من هتوفهم بالبعثة المحمدية
روى الإمام الماوردي في أعلام النبوة ما رواه أهل السير من هتوف الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وأنه كان من آيات نبوته الصادرة عن إلهام فمن ذلك ما رواه عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ذات يوم جالساً إذ مرَّ به رجل فقيل له: أتعرف هذا المار يا أمير المؤمنين قال: ومن هو قالوا هذا سواد بن قارب قال نعم يا أمير المؤمنين فقال أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:
عجب للجن وتطلباتها ... وشدها العيس باقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صدق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... فليس قدماها كأذنابها
فقلت له: دعني فقد أمسيت ناعساً ولم أرفع بما قال رأساً فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:(49/2)
عجب للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها
فقلت: دعني فقد أمسيت ناعساً ولم أرفع بما قال رأساً فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:
عجب للجن وتجساسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كانجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: فأصبحت وقد امتحن الله قلبي للإسلام فرحلت ناقتي وأتيت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله قال: هات فأنشأت:
أتاني نجيٌّ بين هدو ورقدة ... ولم أك فيما نجوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بني غالب
فشمرت من ذيل الأسرار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فاشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون عَلَى كل غالب
وإنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جيء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحاً شديداً ووثب إليه عمر فالتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع منك هذا الحديث فهل يأتيك رئيك اليوم فقال: مذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن.
يروي إبراهيم بن سلامة بسنده إلى رجل من خثعم قال: كانت خثعم لا تحل حلالاً ولا تحرم حراماً وكانت تعبد أصناماً (قال) فبينا نحن عند صنم ذات ليلة نتقاضى إليه في أمر قد شجر بيننا إذ صاح صائح من جوفه.(49/3)
يا أيها الركب ذوو الأحكام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومستندو الحكم إلى الأصنام
هذا نبي سيد الأنام ... يصدع بالحق وبالإسلام
اعدل ذي حكم من الأحكام
ويتبع النور عَلَى الأظلام ... سيعلن في البلد الحرام
قد ظهر الناس من الآثام
قال الخثعمي: ففزعنا منه وخرجت إلى مكة وأسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وروى إبراهيم بن سلامة بسنده عن رجل حدث عمر بن الخطاب قال له: خرجت وأصحاب لي في تجارة لنا نريد الشام فصحبنا رجل من يهود فلما كنا ببعض أودية الشام هتف هاتف
إياك لا تجعل وخذها موبقة ... فإن شر السير سير الحقحقة
قد لاح نجم فاستوى في مشرقه ... يكشف عن ظلما عبوس موبقه
يدعو إلى ظل جنان مونقه
فقال اليهودي: تدرون ما يقول هذا الصارخ قلنا: ما يقول قال: يخبر أن نبيّا قد ظهر خلا فكم بمكة فقدمنا فوجدنا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بمكة
ومن بشائر هتوفهم ما حكاه أبو عيسى قال: سمعت قريشا في الليل هاتفا عَلَى أبي قبيس (جبل) يقول:
إن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان من السعدان سعد بكر وسعد تميم فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... عَلَى الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات زخارف
قال الماوردي: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه ولا يحج قوله فخروجه عن العادة نذير وتأثير في النفس بشير وقد قبلها السامعون وقبول الأخبار يؤكد صحتها ويؤيد حجتها (فإن قيل) إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة جاز أن تكون دليلاً(49/4)
عَلَى صحة الكهانة فعنه جوابان (إحداهما) أن دلائل النبوة غيرها وإنما هي من البشائر بها وفرق بين الدلالة والبشارة أخباراً والثاني أن الكهانة عن مغيب والبشارة عن معين فالعيان معلوم والغائب موهوم اهـ كلام الماوردي.
مزاعمهم في أوصافهم ومن قتلوه
يقولون من الجن جنس صورة الواحد منهم عَلَى صورة الإنسان واسمه شق وأنه كثيراً ما يعرض للرجل المسافر إذا كان وحده فربما أهلكه فزعاً وربما أهلكه قتلاً وضرباً (قالوا) فمن ذلك حديث علقمة بن صفوان بن أمية بن حرب الكناني جد مروان ابن الحكم في الجاهلية خرج وهو يريد مالاً له بمكة وهو عَلَى حمار وعليه أزار ورداء ومعه مقرعة في ليلة أضحانية حتى انتهى إلى موضع يقال له حائط جرمان فإذا هو بشق له يد ورجل وعين معه سيف وهو يقول:
علقم إني مقتول ... وإن لحمي مأكول
اضربهم بالذهلول ... ضرب غلام شملول
رحب الذراع بهلول
فقال علقمة:
يا شق ها مالي ولك، ... اغمد عني منصلك
تقتل من لا يقتلك
قال شق:
عنيت لك عنيت لك، ... كيما أبيح مقتلك
فاصبر لما قد حم لك
(قالوا) ومن الدليل أن هذين البيتين من أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدهما ثلاث مرات متصلة لا يتعتع فيها وهو يستطيع أن ينشد أثقل شعر في الأرض وأشقه عشر مرات ولا يتعتع.
(قالوا) وقتلت مرداس بن أبي عامر أبا عباس بن مرداس_وقتلت الغريض خنقاً بعد أن غنى بالغناء الذي كانوا نهوه عنه_وقتلت الجن سعد بن عبادة بن ديلم وسمعوا الهاتف يقول:(49/5)
نحن قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده
ورميناه بسهمين ... فلم نخط فؤَاده
من استهووه ومنهم خرافة
(قالوا) استهووا سنان بن أبي حارثة ليستفحلوه فمات فيهم واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثر إلى يومنا هذا_واستهووا عمرو ابن عدي اللخمي الملك الذي يقال فيه شب عمرو عن الطوق ثم ردوه عَلَى جذيمة الأبرش بعد سنين_واستهووا عمارة بن المغيرة ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش.
ويروون عن عبد الله بن قتادة يرفعه قال: خرافة رجل من عذرة استهوته الشياطين.
ورووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل المفقود الذي استهوته الجن ما كان طعامهم قال: الروث: قال فما كان شرابهم قال البول.
توصيفهم رجل الغول وعين الشيطان
العامة تزعم أن الغول يتصور في أحسن الصورة إلا أنه لا بد أن تكون رجلها رجل حمار، وخبروا عن الخليل بن أحمد أن أعرابياً أنشده:
وحافر العير في ساق خدلجة، ... وجفن عين خلاف الأنس في الطول
وذكروا أن العامة تزعم أن شق عين الشيطان بالطول: قال الجاحظ: وما أظنهم أخذوا هذين المعنيين إلا عن الأعراب.
مزاعمهم في أرض وبار وبلاد الحوش
تزعم الأعراب أن الله تعالى عندما أهلك الأمة التي كانت تسمى وبار كما أهلك طمساً وجديساً وعملاقاً وثموداً وعاداً أن الجن سكنت في منازلهم وحمتها من كل من أرادها وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجراً وأكثرها حباً وعنباً وأكثرها نخلاً وموزاً فإن دنا إنسان من تلك البلاد متعمداً أو غالظاً حثوا في وجهه التراب فإن أبى الرجوع خيلوه وربما قتلوه.
(قال الجاحظ) والموضع نفسه باطل فإن قيل لهم دلونا عَلَى جهته وأوقفونا عَلَى حده وخلاكم ذم زعموا أن من أراده ألقى عَلَى قلبه الصرفة حتى كأنهم أصحاب موسى في التيه وقال الشاعر:
وداع دعا والليل مرخ سدوله ... رجاء القرى يا مسلم بن حمار(49/6)
دعا جعلاً لا يهتدي لمقيله ... من اللؤم حتى يهتدي لوبار
فهذا الشاعر الأعرابي جعل أرض وبار مثلاً في الضلال، والأعراب يتحدثون عنها كما يتحدثون عما يجدونه بالدو والصان والدهناء ورمل يبرين وما أكثر ما يذكرون أرض وبار في الشعر عَلَى معنى هذا الشاعر (قالوا) فليس اليوم في تلك البلاد إلا الجن والإبل الحوشية والحوش من الإبل عندهم هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن فالحوشية من نسل ابن الجن والعبدية والمهرية والعسجدية والعمانية قد ضربت فيها الحوش وقال رؤبة:
حوت رجال من بلاد الحوش
وقال ابن هرمة:
كأني عَلَى حوشية أو نعامة ... لها نسب في الطير وهو ظليم
وإنما سموا صاحبة يزيد بن الطثرية حوشية عَلَى هذا المعنى، وقال بعض أصحاب التفسير في قوله تعالى وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً إن جماعة من العرب كانوا إذ صاروا في تيه من الأرض وتوسطوا بلاد الحوش خافوا عبث الجنان والسعالي والغيلان والشياطين فيقوم أحدهم فيرفع صوته إنا عائذون بسيد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحد وتصير لهم بذلك خفارة.
يوجد نقص فقرة مزاعمهم في الصرع وفقرة مزاعمهم في الطاعون
ما يزعمونه في تمثيلهم وتصويرهم
قال الجاحظ: تزعم العامة أن الله تعالى ملك الجن والشياطين والعمار والغيلان أن يتحولوا في أي صورة شاؤوا إلا الغول فإنها تتحول في جميع صورة المرأة ولباسها إلا رجليها فلا بد أن يكونا رجلي حمار.
وإنما قاسوا تصور الجن عَلَى تصور جبريل عليه السلام في صورة دحية ابن خليفة الكلبي_وعلى تصور الملائكة الذين أتوا مريم وإبراهيم ولوطاً وداود في صورة المؤمنين_وعلى ما جاء في الأثر من تصور إبليس في صورة سرافة بن مالك_وعلى تصوره في صورة الشيخ النجدي.
(قالوا) فإذا استقام أن تختلف صورهم وأخلاط أبدانهم وتتفق عقولهم ونياتهم واستطاعتهم جاز أيضاً أن يكون إبليس لعنة الله عليه والشيطان والغول أن يتبدلوا في الصور من غير(49/7)
أن يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة اهـ.
ونقل الحافظ أحمد بن حجر في فتح الباري عن البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع قال سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبياً اهـ.
(قال ابن حجر) وهذا محمول عَلَى من يدعي رؤيتهم عَلَى صورهم التي خلقوا عليها وأما من ادعى أنه يرى شيئاً منهم بعد أن يتطور عَلَى صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور، (قال) واختلف أهل الكلام فقي ذلك فقيل هو تخييل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية وقيل بل ينتقلون لكن لا باقتدارهم عَلَى ذلك بل بضرب من الفعل إذ فعله انتقل كالسحر (أي الشعبذة) (قال) وهذا قد يرجع إلى الأول اهـ وسيأتي تحقيق تمثلهم في أول مباحث الخاتمة.
رأيهم في قرناء الشعراء الفحول
قال الجاحظ: يزعمون أن مع كل فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحل عَلَى لسانه العشر ويقولون اسم شيطان المخبل عمرو واسم شيطان الأعشى مسحل وكذلك أيضاً اسم شيطان الفرزدق عمرو وقد ذكر الأعشى مسحلاً حين هجاه جهنام فقال:
دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له ... بجهنام يدعى للهجين المذمم
وذكره الأعشى فقال:
حباني أخي الجني نفسي فداؤه ... بأقبح جياش العشيات مرحم
وقال أعشى سليم:
وما كان جني الفرزدق أسوة ... وما كان فيهم مثل فحل المخبل
وما في الخوافي مثل عمرو وشيخه ... ولا بعد عمرو شاعر مثل مسجل
وقال الفرزدق في مديح أسد بن عبد الله:
لتبلغن أبا الأشبال مدحتنا ... من كان بالغور أو طودي خراسانا
كأنها الذهب العقيان حبرها ... لسان اشعر خلق الله شيطانا
وقال:
فلو كنت عندي يوم قرء عذرتني ... بيوم دهتني جنه وخبائله(49/8)
فمن أجل هذا البيت ومن أجل قول آخر:
إذ ما زاع جارية فلاقى ... خبال الله من أنس وجن
دعاني شقنان إلى خلف بكرة ... فقلت اتركني فالتفرد أحمد
أي أحمد لي في الشعر من أن يكون لي عليه من معين فقال أعشى سليم يرد عليه:
إذا ألف الجني قرداً مشنفاً ... فقولوا لخنزير الجزيرة أبشر
فجزع بشار عند ذلك جزعاً شديداً لأنه كان يعلم مع تغزله أن وجهه وجه قرد وكان أول ما عرف من جزعه من ذكر القرد الذي رأوا منه حتى أنشد قول حماد عجرد:
ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد
وفي أن مع كل شاعر شيطاناً يقال معه قول أبي النجم:
إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وقال آخر:
إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبوٌّ عني
فإن شيطاني كبير الجن
وأما قول عمرو بن كلثوم:
وقد هرب كلاب الجن منا ... وشذبنا قتادة من يلينا
فإنهم يزعمون أن كلاب الجن هم الشعراء. ومما دل عَلَى أنهم يقولون أن مع كل شاعر شيطاناً قول شاعرهم:
إذا ما ترعرع فينا الغلا ... م فليس يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شد الإزا ... ر فذلك فينا الذي لا هواه
ولي صاحب من بني الشيبا ... ن فطوراً أقول وطوراً هوه
وشيصبان وشنقان رئيسان من آباء القبائل في زعمهم وقد ذكرهما أبو النجم.
خيالهم في جن الشام والهند
قال الجاحظ: وأصحاب الرقي والأخذ والعزائم والسحر والشعبذة يزعمون أن العدد والقوة في الجن والشياطين لنزالة الشام والهند وإن عظيم شياطين الهند يقال له (سكويرك) وعظيم شياطين الشام يقال له در كاراب وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد ابن بشير حين(49/9)
ادعى هذه الصناعة فقال:
قد لعمري جمعت من أصعياب ... ثم من شعر آدم والخراب
وتفردت بالطوالق والهيكل ... والدهتمات من كل باب
وعلمت الأسماء كي ما تلاقي ... زحلاً والمريخ فوق السحاب
واستثرت الأرواح بالبحر يأتين لصرح الصحيح بعد المصاب
جامعاً من لطائف الدهمسيا ... ت كنوساً نعتها في كتاب
ثم أحكمت متقن الكرويا ... ت وفعل الناريس والنجاب
ثم لم تفتك السعاية والخد ... مة والاحتفاءُ بالطلاب
بالخواتيم والمناديل والسعي ... بسكويرك ودركاراب
توهمهم ملامح الجن في الأنس
قال القعقعاع بن زرارة في ابنه عوف ابن القعقعاع: والله لما أرى في عوف من شمائل الجن أكثر مما أرى من شمائل الأنس: وقال بجير بن أيوب:
أخو قفرات حالف الجن وانتفى ... من الأنس حتى تقضت وسائله
له نسب الأنسي يعرف نجله ... وللجن منه خلقه وشمائله
وقال الآخر:
وصار خليل الغول يعد عداوة ... صفياً وربته القفار البسابس
فليس بجني يعرف نجله ... ولا هو أنس تحتويه المجالس
يظل ولا يبدي لشيء نهاره ... ولكنه ينتاع والليل دامس
قولهم في جنون الجن وصرع الشيطان
أنشد أعرابي:
فما يعجب الجنان منك عدمتهم ... وفي الأسد أفراس لهم ونجائب
أتسرج يربوعاً وتلجم قنفذاً ... لقد أعوزتهم ما علمت المراكب
فإن كانت الجنان جنت فبالحرى ... ولا ذنب للأقدار والله غالب
وما الناس إلا خادع ومخدع ... وصاحب إسهاب وآخر كاذب
وقال دعلج بن الحكم(49/10)
وكيف يفيق الدهر كعب بن ناشب ... وشيطانه عند الأهلة يصرع
وأنشد عبد الرحمن بن منصور الأسدي:
جنونك مجنون ولست بواجد ... طبيباً يداوي من جنون جنون
وأنشد:
أتوني بمجنون يسيل لعابه ... وما صاحبي إلا الصحيح المسلم
وقال ابن ميادة:
فلما أتاني ما تقول محارب ... تغنت شياطين وجن جنونها
وحكت لها مما أقول قصائداً ... ترامت بها صهب المهاري وجونها
وقال في التمثيل:
إن شرخ الشباب والشعر الأسو ... د ما لم يعاض كان جنونا
وقال الآخر:
جادت بها عند الغداة يمينه ... كلتا يدي عمرو والغداة يمين
ما إن يجود بمثلها في مثله ... إلا كريم الخيم أو مجنون
وقال الجمحي:
ولو أنني لم أنل منكم معاقبة ... إلا السنان بذات الموت مطعون
أو لا خطبت فإني قد هممت به ... بالسيف إن خطيب السيف مجنون
وانشد:
هم أحموا حمى الرقبى بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون
فنكب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون
ما يحكونه من نيران السعالي والجن
أنشد أبو زيد لسهم بن الحارث:
ونار قد حضأت بعيد هدء ... بدار لا أريد بها مقام
سوى تحليل راحة وعين ... أكالتها مخافة أن تنام
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قد عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم نحسد الإنس الطعاما(49/11)
قال الجاحظ: وهذا غلط وليس من هذا الباب بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عبيد بن أيوب:
فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر
أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليَّ نيران تبوخ وتزهر
فلسفة ما تزعمه الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
قال الجاحظ رحمه الله: كان أبو إسحق يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان أصل هذا المر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد من الأنس استوحش ولاسيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة، لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة وقد ابتلي بذلك غير حاسب كابي ياسر ومثنى ولد الفنافر (قال) وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه وداووه، وقد عرض ذلك لكثير من الهند وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع ويتوهم عَلَى الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً يناشدوه وأحاديث يتوارثونها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ وربي فيه الطفل فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، فعند أو وحشة أو فزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدا وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور وربما كان في الجنس واصل الطبيعة تفاحاً كاذباً وصاحب تشنيع وتهويل فيقول في ذلك من الشعر عَلَى حسب هذه الصفة فعند ذلك يقول رأيت الغيلان وكلمت السعلاة ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول رافقتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول تزوجتها قال عبيد بن أيوب:
فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر
وقال:
أهذا رفيق الغول والذئب والذي ... يهيم بربات الحجال الهواكل
وقال آخر:
أخو قفرات حالف الجن وانتفى ... من النس حتى قد تقضت وسائله(49/12)
له نسب الأنسي يعرف نجله ... وللجن منه خلقه وشمائله
ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومد لهم فيه أنه ليس يلقون بهذه الشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابياً مثلهم والأغبياء لم يأخذ نفسه قط لتمييز ما يوجب التكذيب والتصديق أو الشك ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط_وأما أن يلقوا رواية شعر أو صاحب خبر فالرواية عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدعي رؤية الغول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها، وآخر يزعم أنه رافق في مغارة نمراً فكان يطاعمه ويؤاكله فمن هؤلاء خاصة القتال الكلابي فإنه الذي يقول:
أيرسل مروان الأمير رسالة ... لآتيه إني إذاً لمضلل
وما بي عصيان ولا بعد منهل ... ولكنني من خوف مروان أوجل
وفي ساحة العنقاء أو في عماية ... أو الأود ما من رهبة الموت موئل
ولي صاحب في الغار هدك صاحباً ... هو الجون إلا أنه لا يعلل
إذا ما التقينا كان جل حديثنا ... صماتاً وطرف كالمعابل أكحل
تضنت الأروى لنا بطعامنا ... كلانا له منها نصيب ومأكل
فأغلبه في صنعة الزاد أنني ... أميط الأذى عنه ولا يتأمل
وكانت لنا طب بأرض مضلة ... شريعتنا لأي من جاء أول
كلانا عدو لو يرى في عدوه ... محزاً وكل في العداوة محمل
وأنشد الأصمعي:
ظللنا معاً جارين نحترس الثأي ... يشاربني من فضلتي وأشاربه
ذكر سبعاً ورجلاً قد توافقا كل واحد منهما يدع فضلاً من سؤره ليشرب صاحبه، والثأي الفساد، وخبر إن كل واحد منهما يحترس من صاحبه.
فأما من جميع ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينة والتحقيق وغنما المثل في هذا مثل قوله:
قد كان شيطانك من خطابها ... وكان شيطاني من طلابها
حيناً فلما اعتركا ألوى بها(49/13)
والإنسان يجوع فيسمع في أذنه كالدوي وقال الشاعر:
دوي الفيافي رابه فكأنه ... أميم وساري الليل للضوء يعود
يعود أي يضجر، وربما قال الغلام لمولاه دعوتني فيقول لا وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرض لا أنه سمع صوتاً.
ومن هذا الباب قول تأبط شراً أو قول القائل في كلمة له:
يظل بموماة ويمسي بقفرة ... جحيشاً ويعروري ظهور المهالك
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شده المتدارك
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كانئٌ من قلب شبحان فاتك
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخضر باتك
إذا هزه في عظم قرن تذللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك
يرى الأنس وحشي الفلاة ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
(قال الجاحظ): ويدل عَلَى ما قال أبو إسحق من نزولهم في بلاد الوحش وبين الحشرات والسابع ما رواه لنا أبو مسهر عن أعرابي من بني تمتم نزل ناحية الشام فكان لا يعدمه في كل ليلة أن يعضه أو يعض ولده أو بعض حاشيته سبع من السباع أو دابة من دواب الأرض فقال:
تعاورني دين وذلك وغربة ... ومزق جلدي ناب سبع ومخلب
وفي الأرض أحناش وسبع وحارب ... ونحن أسارى وسطها نتقلب
ثم عد في قصيدته ما ينيف عن الثلاثين صنفاً ما بين حيوان وحشرات.
يتبع
جمال الدين القاسمي.(49/14)
نشوءُ اللغات الإسلامية
تتمة ما ورد في الجزء الماضي
دعت ضرورة إيجاد ألفاظ جديدة للتعبير عن أفكار حديثة أن تأخذ اللغة العربية من اللغات الأجنبية أو أن تعمد إلى معجمها بأن تصيغ ألفاظاً جديدة أو بأن تضع معاني جديدة للألفاظ التي تجدها في متن اللغة. ولم يكن في العربية سهولة اللغات الرومانية بأن تعمد إلى اللاتينية أو اليونانية لتصيغ التعابير الجديدة وبهذا تألف حزبان حزب يقول بأخذ الألفاظ الإفرنجية والآخر لا يرضى إلا بالرجوع إلى الاشتقاق من متن اللغة. والظاهر أن الحزب الأول قد كتبت له الغلبة أولاً ولاسيما في بلاد الجزائر وذلك لجهل المترجمين أو لغلبة الكسل عليهم فبدلاً من أن يبحثوا في إيجاد لفظ يقابل اللفظ الفرنسوي اكتفوا بنقله عَلَى ما هو بدون أن يحدثوا فيه تغييراً ثم إن عدم وجود صحافة وطنية مما ساعد عَلَى ذلك أيضاً فإن جريدة المبشر الرسمية ما برحت إلى عهد قريب هي الجريدة الوحيدة في الجزائر أما جرائد البلاد الخارجية فلم يكن دخولها إليها إلا من المتعذرات. وقد ذكر المسيو واشنطون سويرس من جملة الألفاظ الأعجمية التي دخلت عَلَى اللغة الجزائرية لفظة شامبيت ويجمعونها عَلَى شامابيت أي حارس الحقل بدلاً من عسس الفحص وفي الوراق الرسمية السيد الكوفرنور جنرال أي سيدي الحاكم العام في حين كان من السهل جداً أن يقال سعادة والي مملكة الجزائر وقد أنحى برسنيه في كتابه الملح العربية عَلَى هذا النقل الرديء وحق له أن ينحي عليه قال لأنه لا يفهم له معنى حتى عند الفرنسيس أنفسهم.
ويا ليته يرى ما سرى إلى لسان العامة من الجزائريين وفي مكاتباتهم من الألفاظ الفرنسوية المحرفة تحريفاً تتعذر أحياناً معرفته. وفقد جاء في كتاب الرسائل العربية المخطوطة الذي نشره المسيو دلفين لفظة لانتوراليزه فرانسه بمعنى المتجنس بالجنسية الفرنسوية ولفظة كاتارفاويتبدلاً من لفظة ثمانية وثمانين. ونحن لا نورد ألفاظاً كثيرة من هذا القبيل من الألفاظ الإفرنجية التي يقل فيها التحريف ولا تتأذى منها النفس في العبارة العربية مثل لفظة كونسيون دو امتياز ماءٍ التي وردت في رسالة لأحدهم فنقلها كما هي.
ولقد وقع رجوع إلى الأصل في مكافحة الألفاظ الأعجمية التي أوشكت أن تغير نضرة اللغة. فأكد المسيو باربيه دي مينار سنة 1896 مع السرور أن الصحافة العربية في مصر(49/15)
وسورية أخذت تستعيض عن الألفاظ الأجنبية التي كثرت فيها بألفاظ عربية صرفة وذلك أن اللغة يمكنها بما لها الاستغناء عن الألفاظ الأعجمية وكان منها أن عربت سنة 1897 لفظة كونغره بلفظة مؤتمر للدلالة عَلَى مؤتمر المستشرقين الذي عقد تلك السنة في مدينة باريز ووضعت كلمة مستشرق للفظة أوريانتاليست الفرنسوية وهي اسم الفاعل من شرق والمصدر استشراق أي طلب الشرق أو انتحاء نحو الشرق وهي تنطبق عَلَى الأصل الإفرنجي كل الانطباق. وأخذ اللسان العثماني هذه الألفاظ الثلاث عن العربية وانشأ يستعملها وكان من قبل ينقل اللفظ الفرنسوي برمته واحتذى اللغة العربية مطالب الحياة الحديثة هو من العادات المتبعة في الصحافة التونسية ويرجى أن تجري سائر الجرائد العربية في البلاد الأخرى والجرائد السورية والمصرية وهي نموذجها ومصدرها الوحيد عَلَى مثال الجرائد التونسية في تعريب الألفاظ.
وإليك الآن عدة أمثلة في استعمال المولد من الألفاظ العربية الصرفة اقتبسناها من كتاب المسيو واشنطون سويرس ومن هذه الألفاظ لفظة منطاد للبالون ودراجة للبيسيكليت ومطفأة لمضخة الحريق ومستوصف. ومن جملة الألفاظ التي كانت موجودة في اللغة واستعملت لمعنى جديد لفظة امتياز وإنهاء ودشن افتتح وتحقيق ومذهب (سياسي) وصبغة (سياسية). وأنت ترى أن لفظة صبغة بالمعنى الخاص معناها اللون والصباغ أما الذين يصوغون الكلمات المولدة عندما يعمدون إلى ألفاظ موجودة في متن اللغة فإنهم يستندون عَلَى المعنى الأصلي للفظ الذي يريدون أن يعربوه. ومن هذه الألفاظ التي كان عَلَى المسيو واشنطون سويرس أن يضيفها إلى قائمة الألفاظ المعربة لفظة كلية فقد كان المترجمون يستطيعون أن يطلقوا عليها لفظة دار العلوم أو دار الفنون ولكن كثيراً من الكتاب لاحظوا أن لفظة أونيفرستيهتعطي معنى الاجتماع والمجموع فصاغوا من كل كلية وهي ترجمة حرفية للفظة الفرنسوية. ولفظ كلية شائع اليوم في مصر كثيراً.
وبعد فإنا إذا بحثنا عن الألفاظ في كل قطر عربي وعن علاقة ألفاظه بالألفاظ الفرنسوية نستنتج ما يأتي: ففي سورية ومصر وتونس كمية كبيرة من الألفاظ الفرنسوية مختلفة الأساليب وفيها أيضاً كثير من الألفاظ التركية أو الفارسية انتقلت إلى العربية بواسطة التركية وهي في الأكثر تعابير عسكرية وإدارية أو ألفاظ تشريف مثل باشا وبك وأفندي(49/16)
وخانم. وألفاظ طليانية مثل سيغورطه (ضمان من الحريق أو ضمان الحياة) المستعملة في التركية. وندر استعمال هذه الألفاظ في البلاد الأخرى وهي شائعة بالاستعمال عَلَى الألسن في طرابلس الغرب كما تجد بعض الألفاظ الرومية وهناك ألفاظ أعجمية أخرى ولكنها قليلة وهي مستعملة في مصر خاصة مثل لفظة جنيه الإنكليزية لليرة المصرية. وهذا جماع الألفاظ الأعجمية وقد سبق لنا الكلام عَلَى المالطية وهي بين اللغة التونسية والمصرية وفيها أثر كبير من الإيطالية.
ثم أن في تونس لغة مكتوبة منقحة للغاية ليس فيها شيءٌ من الألفاظ الأجنبية ولغة محكية دخلت إليها الألفاظ الإفرنسية والإيطالية بكثرة. أما لهج الجزائر فتكثر فيها الألفاظ الفرنسوية وفيها كما في لهجة تونس بعض الألفاظ التركية وقليل من الإسبانية والإيطالية. أما لغة مراكش فتجد فيها تعابير فرنسوية وإيطالية واقتبست قليلاً من لغة البربر وكثيراً من اللغة الإسبانية وربما بعض الألفاظ البرتقالية. وقد أكد المسيو مرسيه في بحثه عن هذه الألفاظ المشتركة أن الألفاظ البربرية (التي قد تكون أحياناً ألفاظاً من أصل عربي متبربرة ثم أعيدت إلى اللغة العربية) قلما توجد إلا في البلاد الكبرى التي تكثر فيها اللغة البربرية ثم أن تأثير اللغة الإسبانية في المدن الساحلية محسوس جداً فتراهم يستعملون في الكلام لفظة كوشطا للساحل مأخوذة من كوستا الإسبانية وفالسو أي رديء الصفة وفافور نعمة وخلينالد محتذاة من جنرال وموندا من موني أي المعاملة. ولم يثبت بأن الأدوات أو الحروف دي وديال الكثيرة الاستعمال قد أتت من دي ودل ولكن اللغة العربية المراكشية أخذت عن الإسبانية حرف ب. وقد لاحظ المسيو مرسيه وحقت له هذه الملاحظة بأن قلة التناسب في هذه اللغة وتأثيرها باللغة البربرية والإسبانية ناشئة من أسباب كثيرة والحقيقة أن اللغة البربرية ليست لغة مكتوبة هو من أهم الأسباب عَلَى أن العربية كانت في كل زمن محو اللغة البربرية وعاملة عَلَى تمدنها وتحضيرها.
من الصعب تعيين اللغات الدخيلة عَلَى لغات فارس الوطنية قبل الفتح العربي فللغة البهلوية كتابة آرامية وأكثر ألفاظها آرامية ولكن أي تأثير كان في اللغة من هذه الألفاظ السامية المشتركة؟ والواقع أن هذه الألفاظ الدخيلة لم تكن أسماء مجردة بل أسماء كثيرة الاستعمال وضعت لما يقابلها من الألفاظ الإيرانية التي كانت ولا تزال موجودة وهذا يقرب من(49/17)
الحقيقة من يدعون أن البهلوية لا تختلف إلا في الخط.
وقد تبدل كل شيء في الفتح الإسلامي فدخ لت عَلَى اللغة الفارسية ألفاظ سامية جديدة ومنها العربي التي هي تعابير دينية وألفاظ مجردة وأخذوا يكتبونها بألف باء العرب وهذا هو أصل الفارسي الحديث. ولكن هذا التحول طال أمره حتى أن الفردوسي كتب في القرن العاشر كتابه الشاهنامة وهي قصة أبطال فارس بدون أن يستعمل الألفاظ العربية وهذا يدل عَلَى مقدرة يصعب تقليدها اليوم وإن كان بعض العلماء يقدرون عَلَى كتابة مكاتيب مطولة ومقالات جرائد مقتصرين فقط عَلَى الألفاظ الإيرانية ولكن من إدغام اللغة الفارسية بالألفاظ العربية نشأت اللهجة الفارسية الحالية.
ولقد كان الفرس والأتراك أو التتار في القرون الوسطى الكثير من العلائق التي أبقت أثراً منها في اللغة وسرت بعض الألفاظ التركية إلى الفارسية منذ قرون ومن جملها ما ذكر أرمينوس فمبرى من الألفاظ المستعملة في الفارسية وهي من أصل تركي مثل سالار قائد وخواجه معلم أو أستاذ. وسرى إليها بعض الألقاب وأسماء الوظائف مثل آغا وبك وخان وباشي (زعيم) التي كثيراً ما نراها متصلة بألفاظ فارسية مثل متولي باشي وهو اسم لقب ديني وده باشي زعيم عشرة (أون باشي) أما سائر اللهجات المحكية في فارس كالآرامية ولغات الشعوب القافقاسية الخاضعة للحكم الفارسي فلم تتأثر حتى أوائل القرن التاسع عشر بالمؤثرات الفارسية وهكذا في اللغة الهندستانية عَلَى كثرة الصلات الموجودة بين فارس والهند فالواجب مع هذا أن لا نغفل عن لفظة لك مئة ألف وكورور خمسمائة ألف وتشاب طبع أو مطبوعات وتنوب هذه عن لفظة طبع العربية وهي لفظة حديثة العهد.
هذا ما يقال في الدور الذي سبق الدور الذي صار لفارس صلات مع أوربا في أوائل القرن الماضي. وبعد ذاك الدور هاجمت الألفاظ الأجنبية اللغة ولم تكن هذه الألفاظ مأخوذة عن أقرب الأمم من فارس كما كان المنتظر ولا من أكثرهن نفوذاً فيها من حيث السياسة والاقتصاد بل إن اللغة الفرنسوية هي التي دخلت عَلَى أهل الجيل الحاضر بأفكارها ومصطلحاتها اللازمة للتعبير عن الألفاظ الحديثة في الشرق.
بحث في هذا الموضوع أحد كبار رجال فارس المرزا علي خان ذكاء الملك مدير مدرسة السياسة في طهران في محاضرة له ألقاها في مدرسة الاتحاد الإسرائيلي في عاصمة إيران(49/18)
يوم 13 نيسان 1907 ونشرت محاضراته في المجلة الزرقاء تكلم فيها بعد أن أورد بعض الملاحظات عَلَى الألفاظ العربية والتركية والهندية التي أخذتها الفارسية عَلَى نشوء لغته الحديث فقال أن اللغة الروسية واللغة الإنكليزية لم يسر منهما إلى الفارسية إلا ألفاظ قليلة جداً.
وربما وجد الناظر في لغة أهل طوريس ورشت بعض ألفاظ روسية في اللغة الدارجة ولكنها قليلة للغاية وهذا مما يدل عَلَى أن الروس قد أخذوا ألفاظاً كثيرة من لغتهم عن الأجانب مثل الفرنسويين والألمان والإنكليز والطليان فلم تستعر الفارسية من الروسية إلا لفظ سماور واستكان طاس ودروخكا عربة وكاليسكه كاليش (وهي عربة ذات أربعة دواليب) وتارنتاس وباراخود للسفينة البخارية وأسكنات معاملة الورق وهي من أصل فرنسوي أسنيا.
والألفاظ الإنكليزية عبارة عن عشر وهي فاغون وترمواي ونوت من بانكنوت وشيك وجيلاس (قدح للشرب) وجلاس وسار لا سهم الشركات الخ. أما الألفاظ الفرنسوية في الفارسية فكثيرة جداً وهي تنقسم عَلَى الوجه الآتي: الألفاظ العلمية وأسماء العقاقير وأسماء الأطعمة مثل سوب حساءٌ وجيكو فخذ وكوتلت ضلع وأسماء الألبسة مثل كلوش حذاء الرجل وبلوز مشلح وبالتو معطف وباردسو شعار وأسماء للتعبير عن المخترعات الحديثة: مثل تلغراف وتلفون وأتوموبيل وبالون وغاز للاستصباح وألفاظ للجندية مثل أسكادرون كتيبة وباتري (بطارية) عدة مدافع ومارش سير هالت وقوف ودفليه مضيق وموسيك موسيقى وإن وجود معلمين من الفرنسيس في الجيش الفارسي في أزمان مختلفة قد انتهي باستعمالهم الألفاظ الإفرنجية وأسماء الأثاث مثل بيانو ولانترن مصباح وأسماء مدرسية مثل كلاس صف وبروغرام خطة وديكته إملاء ونمرة واستعمالهم لفظتي برلمان وكونستيتوسيون اللتين نقلوهما بألفاظ شوالي مري ومشروطيت أو سياسية فيقولون عنها سياست وتعابير دولية مثل قنصل وتمبر طابع وبودجه ميزانية وهنور شرف التي تقابل لفظة هنر الموجودة في الأصل الفارسي وقد استخرجها مونتسكيو وقبلت بين الفارسيين كما قبلت لفظتا مرسي الشكر وباردون العفو.
واستنتج ذكاء الملك أنه لا فائدة من اختراع ألفاظ جديدة متى أريد التعبير عن أفكار حديثة(49/19)
فإن اللفظ الجديد عَلَى ما يرى هو غريب كاللفظة الأجنبية التي يراد اتقاؤها. ومن رأيه ألا يؤخذ من اللغات الأجنبية لفظ ما دام في أصل اللغة الفارسية ما يقوم مقامه. ولذا عبروا عن السكة الحديدة بلفظ راه آهينومتولي الأشغال بلفظ مه لمحتكذار ولفظ مرسل فوق العادة بلفظ مأمور فوق العادة وغرفة التجارة بلفظ أنجمن تجارتي ومهندس بلفظ فني مأمور.
ويغلب عَلَى الظن أن عدد الألفاظ الأجنبية سيقل بعد حين فإنا نرى الجدال قائماً منذ بضع سنين في الصحافة لإعادة اللغة الفارسية إلى نضرتها الأولى والقوم يريدون الرجوع بلغتهم إلى لغة الفردوسي بحذف الألفاظ العربية التي كثرت سرايتها إلى الفارسية وألفنا استعمالها عَلَى ما تراه من الأمثلة التي أوردناها. ويدعي القائلون بهذا الرأي أن حذف الألفاظ العربية لا يفهم منه مخالفة للدين فما من شيء في القرآن يقضي علينا بأن تستعمل في لغتنا ألفاظ عربية. وإن تناغي الفرس بوطنيتهم ما فطر عليه القائمون بهذا الرأي من الغيرة والاقتدار ومن جملتهم اللغوي العالم مؤلف الدولة ليدعوا إلى عقد الرجاءِ بنجاح هذا المشروع.
كان الأتراك قبل أن يدينوا بالإسلام يستعملون ألف باء من أصل سامي أما الألف باء اليونانية أو الرومانية القديمة والويغور فالظاهر أنها لم تكن تقتبس شيئاً من اللغات السامية. واقتبسوا عدداً قليلاً من الألفاظ الفارسية والصينية وعدداً غير قليل من الألفاظ المغولية التي كان الاشتراك في الأصول بينها وبين التركية يسهل احتذاء مثالها بالنظر لكثرة الصلات بين الشعبين. ومن هذه جملة ما أخذه الأتراك قبل الإسلام من جيرانهم حتى إذا انتحلوا الدين الإسلامي تغير كل ذلك. فكانت العربية هي لغة الدين والعلم مصدراً للأتراك يتناولون منها الألفاظ الدينية والعلمية التي تمس حاجتهم إليها وكانت اللغة الفارسية عَلَى أتم نشوؤها ولها آداب رائقة هي لغة الأتراك الأدبية في عامة الأقطار وما الشعر التركي إلا عَلَى مثال الشعر الفارسي وانتشر التهذيب الفارسي من آسيا الوسطى إلى البحر الرومي وكانت له المكانة العليا في كل مكان يتكلم به باللغة التركية التي كانت مفرداتها كثيرة في القديم بفضل طرق الاشتقاق الكثيرة الهينة ولكنها لم تلبث أن افتقرت بما دهمها من الألفاظ العربية الفارسية.
وإنك لترى في النصوص القديمة من لغة الويغور ألفاظاً مثل كوتادغو بيليك وهي من القرن الحادي عشر وهي تكثر في لغة الجغتاي نحو القرن السادس عشر وقد تركت لغة(49/20)
الويغور بالمرة واستقر أمر التركية بأنها لغة إسلامية. أما اللهجات الشرقية التي هي أكثر عراقة في تراكيبها القديمة فقد احتفظت بتراثها الوطني من المفردات أما في اللغة العثمانية ولاسيما في اللغة العثمانية الأدبية فإنك لا تكاد تجد لفظة تركية مقابل ثلاثة ألفاظ عربية أو فارسية الأصل ففي آذربيجان والقافقاس تجد تأثيرات اللغة الفارسية ظاهرة في لهجة القوم كل الظهور وفي آسيا الصغرى ترى اللغة العربية مؤثرة في لغة السكان ولاسيما في اللفظ.
وليست هذه الألفاظ المشتركة الإسلامية هي الوحيدة في بابها فإنك تجد في لغة سكان التركستان الصينية ألفاظاً سرت غليها من اللغات الصينية ولكن ما أُخذ من اللغات الأوربية كثير للغاية.
في أي عصر دخلت إلى التركية الألفاظ الأولى التي هي من أصل غربي؟ إنه من الصعب أن يحكم بذلك حكماً صريحاً عَلَى أن الأخذ عن الرومية نشاهده قد حدث منذ القرن الثالث عشر. وفي المعجم اللغوي الذي نشره المسيو هوتسما وكتاب نحو التركية لأبي حيان بعض ألفاظ من هذا القبيل مثل لفظة (أوغور) سعادة (أرغات) صانع وهذه الألفاظ عَلَى ندرتها في اللهجات الشرقية تكثر بسرعة عجيبة في اللغة التركية العثمانية بعد فتح الآستانة حتى أن لفظة (أفندي) الذي كتب المسيو بسيشاري تاريخها الغريب والتي تنقلت بها الحالات صورة ومعنى كانت مستعملة منذ القرن الخامس عشر.
وإذا كانت الإيطالية هي اللغة البحرية والتجارية في البحر المتوسط فقد اكتسبت في كل زمان كمية عظيمة من الألفاظ للغة العثمانية فإننا نجد فيها تعابير بحرية وتجارية وهي من لهجة البندقية خاصة.
وقد اقتبس اللسان العثماني عدة تعابير بحرية ورياضية من اللغة الإنكليزية كما اقتبس قديماً من اللغة المجرية واللغات السلافية في البلقان عدة ألفاظ عسكرية أما سائر اللغات المحكية في المملكة العثمانية فاللغة التركية العثمانية تكاد لم تأخذ عنها شيئاً وقد سرت إليها بعض الألفاظ الألمانية وبعض الألفاظ من اللغات الأخرى ولكن الألفاظ الإفرنسية كانت ولا تزال أكثر وجوداً في اللسان العثماني من جميع اللغات الأجنبية. بدأ دخولها عَلَى يد السلطان محمد مبيد الجيش الإنكشارية ويجب اعتبار هذا التأثير عَلَى الأقل نتيجة لازمة للإصلاحات التي جعلت المملكة العثمانية تشابه اليوم بعد اليوم سائر ممالك أوربا بحكومتها(49/21)
وعاداتها وقوانينها فقضت الحال للتعبير عن أفكار جديدة لإيجاد ألفاظ جديدة وكان معجم اللغة التركية الفارسية العربية يكفي في أحوال كثيرة لسد هذه الثلمة ولكن الأتراك رأوا من النسب قبول التعابير الأجنبية ولاسيما الإفرنسية منها عَلَى ما هي عليه. وإذا غيروها أحياناً فإنما يغيرونها لتكون موافقة للفظ التركي. وزاد هذا الاقتباس من الإفرنسية إنشاءُ صحافة تركية وطنية نسجوا فيها عَلَى مثال الصحافة الوربية وكثر شعف أدباء العثمانيين بتلاوة مصنفات الفرنسويين حتى حلت محل مصنفات الفرس نحو سنة 1850 فأصبحت المثال الذي يحتذيه كتاب الأتراك ولاسيما ترجمة القصص الفرنسوية التي هي في الأكثر من أسلوب الإنشاء الطبيعية.
ثم عاد القوم منذ خمسة عشر سنة يريدون وضع حاجز دون هجوم الدخيل عَلَى لغتهم وطرح ما دخلها منه وأرادوا أن يعبروا عما يريدون بالألفاظ التركية وإذا لم يكن فيها ما يقابل اللفظ الإفرنجي يعمدون إلى الفارسية أو العربية. وكاد هذا الإصلاح يأتي بالنتائج المنتظرة منه خصوصاً وأن له علاقة بالحركة لتوحيد اللغة العثمانية وهي الحركة التي أشير عليها وسنعود إلى الكلام عليها. وعلى أي حال فإنا نرى الآن في الصحافة التركية ألفاظاً مولدة مثل تحت البحر سفينة سي أي غواصة وآثار عتيقة أي العاديات أو الآثار العتيقة وبيطر فلك الحياد بين الملل دولي وغيرها. وقد نقلوا إلى التركية كما نقل كتاب العرب ألفاظاً إفرنجية وضعوا لها مسميات فترجموا دراعة بلفظ زرخلي ولكن الطراد أبقوه عَلَى أصله الفرنسوي فقالوا (كروازور) وقالوا عن النسافة (توربيدو) وهي من الإيطالية وبالإفرنسية (توربل) و (غانيوط) أي سفينة مدفعية وهي من الإنكليزية (كونبوت).
أما المصطلحات العلمية فتكاد تكون تقريباً بأجمعها تركية أو فارسية أو عربية ويعمد إلى الفرنسوية واللاتينية في النادر ولا تستعمل الإنكليزية ولا الألمانية.
أما سائر اللهجات الشرقية التي تأثرت من اللغات العثمانية باللغات الأوربية فإن اللغة الروسية تكاد تكون وحدها منفردة بهذا الامتياز ولا يشاهد ذلك إلا في اللغة التتارية خاصة والظاهر أن ذلك بدأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر فإنك تجد في القصص الهزلية التي ألفها أليرزا فتح العلي آخوان زاده التي كتبت بين سنتي 1850 و1860 بعض الألفاظ لم تكن روسية فتكون قد سرت إلى التتارية من اللغة الروسية مثل (زاكون)(49/22)
قانون (بيلت) من (بيله) الفرنسوية أي تذكرة و (باشور) من (باسور) أي جواز و (مدال) من ميدال أي نوط ولا تكاد الآن تفتح جريدة مثل ترجمان التي تصدر في بعجه سراي وترقي التي تصدر في باكو وجريدة قازان مخبري إلا وتدهش مما تراه من كثرة الألفاظ الروسية أو المصبوغة بالصبغة الروسية لأن كثيراً منها من أصل فرنسوي أو ألماني أو إيطالي.
إذا عرفت من هذا فما هو مستقبل اللغة التركية؟ إنا نشهد الآن لجنة المعارف العمومية في مجلس النواب الروسي تعنى بالكتب المؤلفة باللغة المحلية للمدارس وقد رفضت الاستعاضة عن اللفظ التتري باللفظ التركي وذلك ليحولوا دون الجامعة التركيةز ولكن من أين نشأت هذه المخاوف؟
نشأت من كون جميع العناصر التركية مهما كانت لهجتهم من الآستانة حتى سمرقند يريدون أن يتعارفوا ويتفاهموا وإنا لنجد الصحف العثمانية تقرأ في روسيا كثيراً والصحافة التترية تتخذها نموذجاً تحتذيه حتى ولو كان ما يقتبسونه منها من المولد مأخوذاً من أصل أوربي ولا يجب أن يفوتنا أن كثيراً من الألفاظ الفرنسوية قد سرت إلى اللغة التترية بواسطة اللغة الروسية ولكن ما جاء منها من طريق اللغة العثمانية أوفر عدداً.
ولقد أصبح من الظرف في البلاد العثمانية منذ بضع سنين أن تحتقر اللهجات الشرقية وينظر إليها كما ينظر إلى ما يسمونه قبا ترك أي التركي الغليظ وشغف القوم بالرجوع إلى لغة النيفا وسلطان بابر القديمة الغنية التي افتقرت وتبدلت أوضاعها بما دهمها من الألفاظ العربية والفارسية أولاً والألفاظ الإفرنجية ثانياً فالقوم فيها يبحثون في حذف جميع هذه الألفاظ ليستعيضوا عنها بما يقابلها من الألفاظ التركية التي نسيت منذ عهد بعيد وهي أكثر التئاماً مع روح اللغة. وأصبح لهذه الحركة شأن عظيم بما توفر عليه القائمون بطرح الألفاظ الدخيلة عَلَى التركية من الأبحاث اللغوية المهم أكثرها كأبحاث العلماء أمثال القائم مقام نجيب عاصم بك والمقالات الكثيرة التي نشرت في جرائد وتأسيس الجمعيات لهذا الغرض مثل جمعية (ترك درنكي) أي المنتدى التركي وغرضه درس أصول اللغة التركية وإحياء ما عاث فيه البلى من الألفاظ ويقول المسيو هارتمان أحد علماء المشرقيات أنه يرجى أن تكون لهذه الحركة نتائج حسنة.(49/23)
وهكذا يرجع العثمانيون الأتراك إلى التركية القديمة والتتر الروسيون يحاولون الجري عَلَى مثال اللغة التركية الشائعة في الآستانة ويطمعون في كل مكان ولاسيما في روسيا أن يوحدوا اللغة. وهذا العمل يلاقي صعوبات مهمة ولاسيما فيما تعلق منه باللغة العامية. فاللغة المحكية في القريم هي اللغة العثمانية إلا قليلاً ولا فرق بين هذه اللغة ولغة القافقاس إلا ببعض التعابير المتعلقة باللهجة وبعض الألفاظ الروسية التي يريد القوم طرحها وبعض الصيغ النحوية عَلَى أن هذا الفرق لا يحول دون العثماني وفيهم لهجة أوزري من أيسر وجه ومن المتعذر إرجاع لهجات بلاد قازان وآسيا الوسطى إلى هذا الأسلوب. ومهما تم في هذا الأمر فالأنظار متجهة لما يحدث من هذا القبيل في البلاد التركية اتجاهها لما يحدث في سائر العالم الإسلامي مما فيه تأييد روح الوطنية باللغة الوطنية.(49/24)
المالية العثمانية
لا شيء يشغل بال العارفين من العثمانيين مثل إصلاح ميزانية الدولة وبينا النفوس متطلعة إلى ما يجري في مجلسنا النيابي بشأنها وردت مجلة العالمين الباريزية وفيها مقالة بقلم أحد الأخصائيين في هـ1ذا المعنى قال فيها أن واردات السلطان سليم الأول كانت تقدر سنة 1508 بـ 3. 130. 000 دوكا وبلغت سنة 1553 15 مليون دوكا وبعد ذلك عاد ارتقاؤها انحطاطاً وقوتها ضعفاً مشهوداً بالاقتراض فأصبحت المملكة في قبضة أرباب المصارف من الماليين ولا تزال حتى يوم الناس هذا. فليت شعري هل ينهض أحرار الأمة العثمانية المجددون لإنهاض ماليتهم من كبوتها؟ فالجواب عَلَى ذلك اقتصدوا عَلَى وجه حسن تحسن ماليتكم لأن هذه لا تستمد إلا من الاقتصاد عَلَى أن الحالة الزراعية والصناعية والتجارية في السلطنة العثمانية ليست عَلَى ما يرام بالنظر لمثل هذه المملكة الواسعة الرباع والأصقاع. فقد خرجت المملكة سنة 1905 18 مليون قنطار من الحنطة و34 مليون قنطار من الشعير والجاودار (الحنطة السوداء) والقرطمان والذرة. ويستخرج من اليمن قهوة حسنة معروفة منزلتها. وتبلغ مساحة الغابات التي خربتها المواشي عشرة ملايين هكتار. ويصدر من ولاية بورصة ولواء أزميد نحو ألف طن من الفيالج (الشرانق) وكثير من المواد الطبيعية عَلَى ظاهر الأرض وباطنها لم تستثمر إلى الآن لقلة رؤوس الأموال والمهندسين. وتقدر صادرات المملكة ووارداتها بنحو 1150 مليون فرنك تكاد تنقسم نصفين وطول سككها الحديدية 6600 كيلومتر.
هذا ما قاله صاحب هذا المبحث وقال إن إصلاح المالية العثمانية ليس بالأمر المتعذر فإنها إذا لم تحدث للدولة مشاكل خارجية تستطيع أن تلم شعثها بعد بضع سنين إذا أحسن الأحرار السياسة والإدارة. وهو قول يشبه ما يردده ناظر ماليتنا عَلَى أنه مثل بعض الماليين لا يرى عَلَى الدولة حرجاً في الاقتراض لسد العجز من ميزانيتها لأن الدولة تقترض من جهة وتوفي ديونها من جهة أخرى.
ولما كانت الدولة العثمانية دولة حربية منذ أن قامت في الوجود إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم تحتم عليها أن تنفق عَلَى جيشها شطراً عظيماً من دخلها وبذلك كانت العسكرية أو إدارة دخلها الإصلاح في الدولة بعد إعلان الحرية وهذا الإصلاح يستدعي نفقات طائلة فقد جعل ما يطلب للحربية في ميزانية 1326 8. 280. 452 ليرة عثمانية أو نحو 40 في المئة(49/25)
من الواردات والدولة تحاول أن تجعل لها بحرية تضاهي قوتها البرية وهيهات أن يتم لها ذلك وقد جعلت المخصص لهذه الغاية مليون ليرة وأخذت تجمع إعانة لإنشاء أسطول من رواتب الموظفين عَلَى اختلاف درجاتهم وتهز أكف المحسنين من الأهلين فجمع حتى الآن اثنان وأربعون مليون قرش أوصت بأكثرها عَلَى مدمرات ونسافات. وتدفع الدلوة زهاء ثمانية ملايين وربع للديون العمومية العثمانية مما يبلغ مع اللازم للجيش البري والبحري زهاء ثلثي الدخل والباقي يصرف رواتب لرجال الإدارة والدرك والمعارف والنافعة.
أما إصلاح المالية فموقوف كما يقول العارفون عَلَى إصلاح طرق الجباية وتعديل قيم الأملاك وتضمين الأعشار بحيث يتعادل ما يجبى منها من الفلاحين ومن كبار الأغنياء المالكين وأن تطبق من خطط الإصلاح ما لا يكلفها النفقات الطائلة ويكون مأمون المغبة مثل إصلاح ري العراق واستثمار القرب فالأقرب من مناجمها وإنشاء الأهم فالأهم من خطوطها الحديدية ومرافئها البحرية. والاضطلاع بجباية رسوم الأغنام وفرض ضريبة التمتع عَلَى التجار الوطنيين والأجانب عَلَى صورة عادلة وإذا قبلت الدولة بزيادة الرسوم الجمركية أربعة في المئة تصبح 15 في المئة فتبلغ الزيادة فيها 34 في المئة وإذا أضفنا إليها إصلاح إدارة الجمارك بتكثير رواتب الموظفين والاقتصار عَلَى المقتدرين منهم تزيد الواردات نحو 35 في المئة.
وبيت قصيد كل هذا الاقتصاد في النفقات فقد رأينا الحكومة اقتصدت في الظاهر من أمور طفيفة وأسرفت في أمور كبيرة وما ندري عَلَى أي قاعدة من قواعد الاقتصاد طبقت فانون التقاعد في موظفيها فبعد أن كان العامل من الموظفين يقبض ألف قرش مثلاً أجرة تقاعده وأخذت تدفع له ألفاً ومئة قرش أي أنها زادته في رزقه وبذلك خسرت من وجهين الأول أنه دخل في زمرة المتقاعدين أنا كان يرجى أن ينفعوها بمعارفهم وتجاربهم لو داموا عَلَى عملهم مع مراقبتهم واستعاضت عنهم بإغمار لا يحسنون كيف يسيرون إلا قليلاً وتكبدت الخزانة من الوجه الثاني زيادة رواتب المتقاعدين.
ولو كانت الحكومة تقت رض المال اللازم لسد هذا العجز لهان الأمر وقلنا لها لا بأس من إقدامها الآن عَلَى تحسين ما تريد تحسينه والتوسعة في النفقة ولكنها تنفق بالاستدانة من مصارف أوربا وعليها الآن نحو 130 مليون ليرة عثمانية دين للمصارف وقد استلفت في(49/26)
العام الفائت لسد عجز الميزانية أربعة ملايين وهي تحتاج هذه السنة لعشرة ملايين ليرة أخرى.
ويقول المسيو لوران المستشار المالي ومع إنه لا يعرف مقدار الديون العثمانية معرفة صحيحة فالمظنون أنه لا يقل عن 2950 مليون فرنك فإذا ضم هذا المبلغ إلى القروض التي عقدت منذ سنة 1882 أي منذ إنشاء إدارة الديون العمومية وهي 1. 395. 000. 000 فرنك منها 1. 175. 000. 000 للديون العمومية 155. 000. 000 مليون سلفه و65. 000. 000 للمصرف الزراعي وأخذنا التعديل المتوسط لا نجد العجز يقل عن أربعة وستين مليون فرنك سانهة وقد تراكمت عليها هذه الديون لأنها سعت في استهلاك الديون المنتظمة.
وكيف يتأتى للدولة أن تكثر وارداتها فتصبح كما قال ناظر المالية ثلاثين مليوناً بعد ثلاث سنين ونحن نراها لم تضع في ميزانية الزراعة والمعادن سوى جزءٍ من مئة جزءٍ وأقل من ثلثمائة جزءٍ في المئة للتجارة النافعة ومعظم هذا القدر يصرف رواتب لموظفي هاتين الإدارتين فأين اترك لينفق عَلَى إصلاح ري العراق وفتح المناجم وإنشاء الخطوط الحديدة والطرق والمرافئ ولم يزد المخصص للمعارف سوى 350 ألف ليرة وهو قدر زهيد بالنسبة لاتساع المملكة وأكثر مما يصرف عَلَى تتريك العناصر العثمانية لا عَلَى تعليمها علماً ينفع الأمة والوطن.
ومن الغريب أنه ورد عَلَى الخزينة السنة الماضية خمسة وعشرون مليون ليرة من الضرائب المنوعة ومليونان ونصف عن ولايتي البوسنة والهرسك وأربعة ملايين بدل التخلي عن بلغاريا وخمسة ملايين صودرت من أموال المخلوع عبد الحميد وأموال أعوانه ونحو مليون من واردات الأراضي السنية ما عدا القرض الذي عقدناه وهو زهاء أربعة ملايين وأنفق كل هذا في سنة واحدة ولعل هذه السنة لا تكون أقل من طريدتها لأتن الدولة لا تأمن كل ساعة أن يفتح عليها باب فتنة داخلية أو خارجية تضطر إلى الإنفاق فيها ما لم تدخله في ميزانيتها.
أهم الواردات المخمنة في الميزانية 6. 233. 259 ليرة من الأعشار و3. 980. 395 من الجمارك و1. 222060 ليرة خراج الأراضي 1. 377. 360 خراج العقارات و1.(49/27)
790. 720 رسوم الأغنام و1. 289. 612 البدلات النقدية إلى غير ذلك من رسوم التمتع والمرتب عَلَى الغابات والمناجم مما لا يتجاوز الستة العشرين مليوناً. وقد ألغي منذ ابتداء سنة 1326 من البلاد التي لم تحرر نفوسها وأملاكها جميع الرسوم التي كانت تؤخذ باسم الدكاكين والخيم وما شاء كل ذلك عدا عن رسم الاحتساب أو الدخولية الذي كان وضعه من أهم عوامل فتنة الأرناؤد الأخيرة كما ألغيت الرسوم التي تؤخذ من الصيارف وأصحاب المعامل المنشأة حديثاً وجميع القوانين المتعلقة بالعملة المكلفة وتذاكر المرور أي الجوازات وتحصيل بدلات الطرق نقداً لا بدناً وتلغى الرسوم التي أحدثت في الكمارك بدون استناد عَلَى قانون أو نظام وألغيت الرسوم التي كانت تستوفيها الحكومة تحت أسماء الدلالية الزورق والرحى والحطب والفحم والباج والصياغ ومعمل القرميد والقصب والمضيق ومرور الحيوانات وميزان الفضة وتمغته وغيرها كما ألغيت رسوم الجسور والمعابر في ولايات بغداد والبصرة والموصل والقدس وبعد جهات أدرنة فإنها تركت للبلدية.
وقد كتب شفيق بك المؤيد نائب دمشق في مجلس الأمة العثمانية وهو ثقة في الشؤُون المالية مبحثاً قال فيه: إن ديون الدولة يوم تألفت إدارة الديون العمومية محررة بالضبط في تأليف قانون هذه الإدارة وكانت يومئذ عبارة عن 116. 815. 172 ليرة عثمانية غير أنا إذا دققنا نجد أن قيمة هذه الديون الحقيقية لا تتجاوز ثلاثين مليون ليرة لأن القمة المحررة في القانون هي قيمة اعتبارية لا حقيقية وقد قسمت الديون المذكورة وقتئذ إلى أربعة أقسام أعظمها وكان يتناول أمثر من ثلاثة أرباعها ما كان معروفاً عند أصحاب الدين باسم (ترتيب د).
وهكذا كانت المئة منه تختلف أبداً بين 17 و20 وإنا عَلَى ما ذكر ما تجاوزت قط قبل أن تظهر مسألة توحيد الديون 21 و22 كما أن مجلس الديون العمومية لم يدفع قط في مشتراه لاستهلاك الدين قيمة فوق ذلك. وإني لآت ببرهان جلي عَلَى أن قيمة الحقيقية أعني قيمتها في البورص لم تتجاوز قط ثلاثين مليوناً. وذلك أن مجلس الديون العمومية كان ولم يزل ينشر كل سنة خلاصة أعماله في رسالة مخصوصة يطبعها ويوزعها عَلَى أصحاب الدين. وقد وقعت يدي الآن اتفاقاً عَلَى رسالته عن عام 314 فوجدت أن الفائدة التي أداها المجلس تلك السنة عن الأقسام الأربعة المذكورة بلغت 1. 014. 483 ليرة عثمانية فإذا أضفنا إلى(49/28)
هذا المبلغ ما بعود من صافي الواردات لأسهم السكة الحديدية الروملية وهو 156335 ليرة بلغ المجموع 1. 178. 080 ليرة وإذا أخذنا رأس مال هذا المبلغ بحساب قيمة الديون الموحدة وجدنا ذلك لا يبلغ ثمانية وعشرين مليوناً غير أنه يجب لأجل تعيين ومقدار الديون الخارجية وقتئذ أن نضيف إلى هذا المبلغ قيمة الديون المضمونة بخراج مصر والدين الذي كان معروفاً بالتحويلات الممتازة فبلغ مجموع ذلك زهاء خمسين مليون ليرة وهذا يكاد لا يتجاوز مقدار الدين الموحد الآن فأين هذا من 150 مليوناً.
أما ديوننا الخارجية الآن فهي كما يأتي وهي أرقام حقيقية راهنة لا اعتبارية:
18. 606. 698 الديون المضمونة بخراج مصر.
52. 394. 659 الدين الموحد.
31. 332. 554 ديون أخرى مودعة لمجلس الدين.
2. 399. 606 ديون لبعض البيوت المالية.
15. 262. 764 ديون منوط أمر تأديتها بنظارة المالية (منها القرضان الأخيران).
119996281 المجموع.
فإذا أضفنا إلى هذا المبلغ قيمة القرض الذي تنوي الحكومة عقده وأضفنا عشرين مليوناً رأس مال ما ندفعه كل سنة ضماناً لشركات السكك الحديدية نجد أن مجموع ديون الأمة ستتجاوز في منتهى هذه السنة المالية مائة وخمسين مليوناً فتزيد عنها يوم تأسست الديون العمومية ما يقرب من مائة مليون.
قال عَلَى أني لست من الذين يستعظمون هذا المبلغ ويرون أن أحوالنا المالية وخيمة العاقبة لمجرد تراكم هذه الديون علينا. كلا وإنما الخطر كله في سياسة الحكومة المالية وانحرافها عن طريق الاقتصاد متبعة خط التبذير والإسراف في جميع شؤونها وأمورها مما لا يقف بنا عند هذا الحد بل يجرنا إلى عقد القروض الجديدة فنحمل عاتق أخلافنا ما لا يقدرون عَلَى القيام بأعبائه ونبيع آجل القمة بعاجل لقمة نحن في غنى عنها.
وإن في ميزانية السنة الحالية أجلى برهان وأعظم دليل عَلَى ما قدمت.
تقررت ميزانية الدولة العثمانية عن سنة 326 بعجز يتجاوز عشرة ملايين ونصفاً من الليرات العثمانية ومهما قال القائلون فهذا العجز لا ينقص عندي عن ثمانية عندي عن(49/29)
ثمانية ملايين فتحتاج الحكومة لسده أن تعد قرضاً يقرب عشرة ملايين بزيادة نحو ثلاثة ملايين عن العام الماضي.
ولا يخفى أن ديوننا الخارجية وضمانات السكك الحديدية مع الواردات المخصصة لها مفوضة إدارتها جميعها إلى دائرة أجنبية لا تأثير للحكومة في أعمالها وهذه الواردات مع النفقات وفائدة الديون المخصصة لها يجب في الحقيقة تنزيلها عن الميزانية إيراداً ومصروفاً فإذا فعلنا ذلك رأينا أن صافي الواردات التي للحكومة حق التصرف بها يبقى عبارة عن ثمانية عشر مليوناً فإذا استقرضت الحكومة عشرة ملايين لسد عجز الميزانية تكون قد استقرضت ما يقرب من ستين بالمائة من مجموع وارداتها فما ظن القراء بتاجر لا يكتفي أن يصرف سنوياً عَلَى خاصته وأسرته جميع كسبه وإيراده بل يقترض فوق ذلك ستين في المئة من مجموع هذا الكسب والإيراد اهـ.(49/30)
حكم إفرنجية
التألم عَلَى ما يرغب فيه أكثر من الاستمتاع بما تملكه اليد هذا ليس من السعادة في شيءٍ بل هو من شأن الطامع.
إن ما تشمئز منه نفوس أرباب الأفكار الصالحة من المناقشات هو أنها تنتهي بالخصام.
كثيراً ما يكون الاستهزاء إفلاساً في الفكر.
ما من شيء أدل عَلَى الحذق أكثر من حسن السلوك.
الجليل عَلَى ثلاثة ضروب: جهل بكل شيء ومعرفة ناقصة فيما تعلمه ومعرفة غير ما يجب عليك معرفته.
يتوهم الأولاد والمجانين أن عشرين فرنكاً وعشرين سنة لا يتأتى أن تنتهي.
شارك الناس في أفراحك تعظم وشارك الناس في أتراحهم فإن الترحة المجزأة يقل تأثيرها.
يسأل الحكيم نفسه عن سبب أغلاطه والأحمق يسأل عنها غيره.
سران يضمنان احترام الشيخوخة وصفاء الحياة: حب العمل والشعور بالواجب.
النظام يسعف الذاكرة ويوفر الوقت ويحفظ الأشياء.
يقرأ الإنسان ليمهر فلو كان الناس يقرؤن ليكونوا أحسن حالاً يصبحون عما قريب أمهر وأحذق.
نشكو قليلاً في الأحيان من أحبابنا لنبرر سلفاً خفثنا (لاروشفو كولد).
إن تعلم النظر هو أطول الفنون وأصعبها (كونكور).
إننا نحب من يعجب بنا ولكننا لا نحب أبداً من نعجب بهم (لاروشفو كولد).
يجد المرء في السياحة رأس مال للبطالة لا يخلو منه زاوية من زوايا قلب كل منا (بانفيل).
علينا وحدنا أن نحرس أفكارنا ففي البيوت نسهر عَلَى أخلاقنا وفي المجتمعات نحرس ألسنتنا (العقيلة دي ساتيل).
لا يحدث في الحياة أمر لا كما يخشى منه ولا كما يؤمل فيه.
أشبه بمن يقول الكذب من يورد قولاً في معرض الحق وهو لم يفكر فيه.
في القراءة أجمل سلوى عن الحياة وعن النفس.
استمع مئة مرة ولا تتكلم إلا مرة واحدة.(49/31)
من العار الحذر من الأصحاب أكثر من الانخداع بهم.
أحق أنواع الإسراف باللوم الإسراف في الوقت.
الاغتياب نذالة ولا قوة له إلا عَلَى المتغيب.
العفو طيب الفضيلة.
إن لك من الحاضر دواء وما دمت تتعذب منه فاعقد الرجاء بالخلاص.(49/32)
التربية الأوربية
سادتي الأخوان الأعزاء:
أوعز إليّ بعض أصدقاء هذا المنتدى الكريم أن أحدثكم بما رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوربا فلم تسعني مخالفتهم لأن الطلاب أعزة وتبادل الأفكار مهم مع أشرف المطالب ولكن الموضوع كبير لا يتسع وقتي الآن للإحاطة بأطرافه كله ولا أوقات الحضور الكرام إلى وعيه وسماعه ولذلك أقتصر منه في هذه الليلة عَلَى الإشارة إلى طرف مما تأثرت به نفسي في درس معالم الحضارة الأوربية في أماكنها واستطلاع طلعها بالعمل بعد الاشتغال بدراستها بالنظر مدة. ولذا أستميح عذركم إذا لحظتم في أقوالي شيئاً مما لم يعتد بعضكم سماعه فأنا أقص عليكم شعوري ولا حرج عَلَى الشاعرين كما لا حرج عَلَى الشعراء.
أول ما يقع عليه نظر الداخل إلى أرض أوربية ذاك الانتظام الغريب في مرافق الحياة فيسقط لأول وهلة عَلَى نموذج صالح من استبحار العمران هناك بل يتجسم في عينه وذهنه ما سعت إليه ولا تزال تسعى تلك الأمم الراقية من الأخذ بأسباب الراحة والبسطة من طريق التكمل العلمي والنشوء الاجتماعي والعملي.
ولا يزال هذا النموذج من العمران يعظم في نظر السائح كلما طاف المعاهد وزار المشاهد وجال في القربى والدساكر والحواضر والقواعد. وكل فرع من فروع هذا الارتقاء العجيب يحتاج الناظر في وصفه إلى مجلد برأسه حتى يتجلى للسامع بعض التجلي وما راءٍ كمن سمعا.
مإذا أذكر لكم أيها الأخوان من حال أوربا ومدنية الغرب الراقية التي بلغها بقوة العقل وتطبيق العلم عَلَى العمل؟ أأحدثكم بصناعاتها التي تبهر النفس؟ أو باتساع متاجرها التي لا يحصيها العد؟ أو بارتقاء زراعتها التي تنادي بلسان حالها ومقالها بأنه لم يبق بعد ما بلغته غاية؟ أم أذكر لكم حال المجامع العلمية والسياسية والجمعيات الاجتماعية والنقابات التجارية والصناعة أم المدارس الجامعة والكلية والثانوية والابتدائية أم المتاحف والمعارض والمكاتب والمجالس والمصارف ودور التمثيل ومحال الطرب والأنس؟
كل هذه المشاهد كنت أختلف إليها في أوقاتها وأجتمع برجال العلم والأدب والسياسة منذ الصباح إلى ما بعد منتصف الليل ونفسي تتأثر بتغير المشاهد بحيث تملك عليّ مشاعري فلا استطيع التفريق في الحسنات كأني ابتليت بداء الاستحسان لا تقع عيني عَلَى شيء ولا(49/33)
تسمع أذني بشيء ولا يتصور ذهني أقل شيء إلا وأخذ به جملة وتغرق النفس في استحسانه وتحار في وصفه.
ولقد عزمت أن أدون في مفكرتي ما يعرض لي من المناظر والمظاهر ويتردد في صدري من الأفكار والخواطر وأحضره من المحاضرات والخطب والدروس النوادر ولما كثرت عليّ الموضوعات كلّ القلم من التقييد وقلت إنك يا هذا تكتفي متى عدت لتحدث قومك بما رأيت من تسجيل ما يعلق في ذهنك وبعض مما فيه الغناء والكفاية.
نعم تركت التقييد عَلَى خلاف عادتي فصدق فيَّ قول الشاعر:
تكاثرت الظباءُ عَلَى خراشٍ ... فما يدري خراشُ ما يصيد
لولا أن اليأس من أعظم الأمراض في الأفراد والجامعات لطاوعت النفس وفطنت من نهضة هذا الشرق لمجارات الغرب ولولا أنني أعتقد بأن النجاح مقدور لكل مخلوق يعمل وأن الأجسام تتكون من الذرات وأن من الجزئيات تنشأ الكليات لسجلت بأن قيام الشرق العثماني وهو عَلَى نهضته المتثاقلة البطيئة التي نشهدها أمر متعذر إلا بعد قرون أن كتبت له الحياة. ولكن أمامي مثال الدولة اليابانية مملكة الشمس المشرقة رأيتها جارت أكبر الدول الأوربية في ثلاثين سنة وفاقت من كانت تعمل منذ ثلثمائة سنة من الدول الغربية فبلغت درجة عالية من الحضارة.
نعم إن اليأس يجب أن لا يتطرق إلينا وإن كنا ويا للأسف تحت وصاية الغرب اليوم في كل شأن من شؤون حياتنا السياسية والاجتماعية والعلمية والتجارية يصرفون علينا ما يريدون من ضروب المعارف ويربحون بعقولهم منا أنواع الأرباح والمكاسب ويستثمرون شرقنا بكل ما لديهم من ذرائع العلوم والفنون ونحن معهم باهتون شاخصون شأن عبد مع سيده أو جاهل مع عالم.
حضرت دروساً كثيرة في الكوليج دي فرانس وهي المدرسة العظمى التي تضم في صدرها زهاء أربعين عالماً من كبار علماء فرنسا يقرأ كل واحد منهم درسين اثنين في كل أسبوع في العلم الذي أخصى فيه وتفرد به طوال عمره وتكون دروسهم عامة يحضرها كل من أراد فتدل عَلَى كرم الفرنسويين في العلم.
وحضرت دروساً في مدارس أخرى ووقفت إلى سماع خطب ومحاضرات كثيرة فلم أر في(49/34)
أكثرها إلا تعصباً عَلَى الشرق وغمطاً لحقوقه.
أذكر لكم عَلَى سبيل المثال محاضرتين دعيت إليهما لتعلموا منهما مقدار ما يعده الغرب للشرق ومبلغ حكم أبنائه علينا ولكم بعدها أن تقيسوا حاضركم بحاضرنا وغابرهم بغابرنا وتضحكون بعدها أو تبكون.
فالمحاضرة الأولى كانت في قاعة السوربون الأولى أي كلية باريز وهي المكان الذي جرت العادة أن يكون معهد العاملين للعلم من الفرنسويين فأقامت جمعية آسيا الفرنسوية والجمعية الجغرافية حفلة للاحتفاءِ بأعضاءِ بعثة بليو إلى التركستان الصينية وكنشو بحضور جماعة من أعضاء المجمع الفرنسوي ولم يقل الحضور أقل من ألف وخمسمائة مستمع ومستمعة والمسيو بليو هو في الثامنة والعشرين من عمره طلق اللسان في آية البيان وهو أستاذ اللغة الصينية في المدرسة الفرنسوية في الشرق الأقصى. شرح في محاضرته ما لاقاه في رحلته التي بدأت في 15 حزيران سنة 1906 وانتهت في الصيف الماضي وأتى عَلَى ما وفق إليه من الاكتشافات الثرية والكتابية وغيرها في آسيا الوسطى مما حفظ لفرنسا شهرتها القديمة في البحث عن الآثار وقال أن التعصب هناك انتشر بانتشار الإسلام في القرن الحادي عشر للمسيح فكان من ذاك التعصب أن أتى عَلَى الآثار بجملتها. وقد قرَّع الشرقيين عامة والمسلمين منهم خاصة أنواع التقريع. أما رحلته فهي كسائر الرحلات العلمية التي يرحلها الغربيون إلى آسيا وافريقية فيكونون مقدمة للفتح والاستعمار وقديماً كان الشاعر يقول السيف أصدق أنباءً من الكتب فإذا أرادت الأمة أن تفتح بلد أخرى ترسل غليها السيوف والبنادق ثم تمهد البلاد بالمعارف أما اليوم فيرسل الغرب رجال العلم يرتادون البلاد أولاً ثم يرسلون مدافعهم وبنادقهم وآلات تدميرهم والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة.
وقد ادعى بليو صاحب البعثة والغالب أنه عَلَى حق فيما ادعاه أن ما وفق إلى جلبه من الآثار قد أغنى مكتبة الأمة في باريز بألوف من المخطوطات الصينية ومنها شيءٌ في تاريخ الصين كما أغنى متحف اللوفر الشهير بتماثيل ورسوم ونقوش فأصبحت باريز بذلك عاصمة الدروس الصينية في أوربا ويحق لها أن تفاخر بأن مجموعة ما عندها الآن من الآثار الصينية ليس لها مثيل في الغرب حتى ولا في الصين نفسها قال وغاية البعثة في التركستان الصينية ولاسيما في مقاطعات قاشار وأرومشي البحث عن بقايا التمدن البوذي(49/35)
الذي سبق التمدن الإسلامي إلى هناك وأنه رأى جميع أهل التركستان من أهل الإسلام وإذ كان دينهم يحرم التماثيل والصور لم يظفر بكثير منها في الأماكن المطروقة إذ كانت تعبث بها أيدي المتعصبين منهم.
وقال أنه رأى لسوء الحظ أن قد سبقه إلى ارتياد تلك الأصقاع أناس من الألمان والإنكليز واليابان والروس وللغاية نفسها ولكنه وفق إلى أنه اكتشف بين قاشار وكوتشار في نصف الطريق في طومشونك تمثالاً بوذياً صغيراً بين الصناعة اليونانية والبوذية حريٌّ بأن يكون صلة بين الصناعة الشرقية القديمة والغربية وظفر في قاشار تحت أنقاض أحد المعابد في طبقة كثيفة بمخطوطات هندية فأحرز ثلثها بواسطة راهب انقطع في تلك المغاور ووصف تلك البقاع بأنه لا شجر فيها ولا عشب مع أنك تمشي ألوفاً من الكيلومترات اللهم إلا في بعض الواحات. وأكثر تلك الأصقاع جبال شامخة ومنحدرات كثيرة ورمال محرقة فكانت الحرارة في الصيف تصل إلى الأربعين درجة وفي الشتاء إلى الخمس والثلاثين تحت الصفر حتى كان الحبر يجمد في أيدي أعضاء البعثة متى أرادوا أن يقيدوا آثار بعثتهم وقد أخذ أحد أعضاء البعثة صورة طوبوغرافية من خط هذه الرحلة وفوائد فلكية في عدة نقاط وآب بمجموعة من الحشرات والحيوانات تغني المتحف الطبيعي وبصور كثيرة عرضت بالفانوس السحري عَلَى الحضور تلك الليلة حتى لكأنهم ذهبوا بأنفسهم إلى تلك الأصقاع النائية.
هذه المحاضرة الأولى التي تكهرب بها جسمي وتأثرت عواطفي وسمعت بها مهانة أمتي بأذني. والمحاضرة الثانية التي ألقاها المسيو تارديو من كبار السياسيين الفرنسويين وصاحب المقالات الافتتاحية في جريدة الطان في الدولة العثمانية فهو أول أخصائي في سياسة الشرق ولاسيما دولتنا يقلب القلم بين أصابعه كما تشاء حكومته. حضرت خطبة له في مدرسة اللغات الشرقية الحية ألقاها عَلَى طلبة تلك المدرسة العالية ممن يتخرجون الآن ليذهبوا إلى الشرق فيما بعد لخدمة حكومتهم ويكون منهم التراجمة والقناصل والسفراءُ ببيان لم أسمع من العرب ولا من العجم أبلغ منه لم يتمتم ولم يعطس ولم يكرر وقلما رأيت إنساناً درس موضوعه وأعد له المواد التاريخية والمستندات أكثر من ذلك ولكن سياسة المنافع والمصالح كانت تلوح صراحة من خلال كلام الخطيب فكان عجبي بتحامله عَلَى(49/36)
الدولة أكثر من عجبي بذلاقة لسان فقد تكلم عَلَى علاقة فرنسا بالشرق ولاسيما الدولة العلية فقال أن فرنسا صاحبة الفكر الأول في الحروب الصليبية قد أتى عليها زمن حالفت فيه الدولة العلية أيام قوتها لتستخدمها لأغراضها وقد جنى الفرنسيس ثمار هذا الوفاق ثم لما مضت سنون والدولة لم تر خيراً لها من تلك المحالفة نزعت يدها من يد حليفتها ثم عادت فرنسا فبعثت أبناءها إلى القريم ليحابوا مع الإنكليز والعثمانيين جيوش الروس لأن مصلحتها اقتضت إذ ذاك وأفاض في نشأة الامتيازات الأجنبية في البلاد المصرية والعثمانية وقال أن فرنسا في كل دور من أدوارها استخدمت الدولة العلية لمقاصدها وأن لها اليد الطولى في المسألة الشرقية أي استقلال بلاد البلقان واليونان وأنها لا تقصر كل حين في بتر عضو من أعضاء هذه الدولة حتى تموت وتفنى.
فيا أخواني وسادتي أيسمع عثماني هذا الكلام ولا يجهش نفسه بالبكاء ولا تذوب كمداً وحسرة وتسود الدنيا في عينيه؟
هذا بعض ما يعده الغرب للشرق فمإذا يعد الشرق للغرب؟
نحن يا قوم لا نحفظ كياننا ولا نحتفظ بلغتنا وديننا وآدابنا إلا إذا قاتلنا من يريدون قتالنا بالسيف الذي يقاتلونا به. وأعني به سيف العلم. نحن يقضى علينا أن نأخذ من تلك المدنية الغربية التي تدهشنا مكل ما ينفعنا لقيام مجتمعنا نأخذ عن رجال العلم منهم ونحتك بهم زمناً لنستفيد ونعرف الطرق التي يجب علينا سلوكها.
رأيت الدولة بعد انقلابنا الأخير بعثت بزمرة من الطلبة العثمانيين ليدرسوا في مدارس أوربا ولاسيما في مدارس باريز فقدرت عددهم قليلاً جداً بالنسبة لمجموع هذه الأمة. وإني لأخجل أن أقول لكم أن عدد الطلبة البلغاريين في روسيا وألمانيا والنمسا وفرنسا والبلجيك وإنكلترا أكثر من عدد الطلبة العثمانيين وإياكم أن تظنوا أن جميع طلبة الأجانب تبعث بهم حكوماتهم ليدرسوا عَلَى نفقتها بل إن لهمم الأفراد شأناً عظيماً في هذا الباب وكثيراً ما ينفق الطالب من مال أبيه عن سعة حتى لا يتم دروسه إلا وقد أتى عَلَى آخر فلس مما عنده وهو مغتبط بما صنع لأنه أحرز رأس مال ثمين لا يقدر بالملايين والكرات وعاد وهو يعرف كيف يخدم أمته وبلاده.
نحن مقصون كل القصور في إرسال أبنائنا إلى ديار الغربة يلتقطون درر العلم من بحار(49/37)
كليتها ومدارسها والعرب في هذا المعنى أكثر العثمانيين قصوراً. ولقد أحصيت جميع من يدرسون من أبناء سورية في أوربا عَلَى نفقة الحكومة أو عَلَى نفقاتهم فلم أقدر أن أوصلهم إلى ثلاثين طالباً أكثرهم يدرسون عَلَى نفقتهم فليت شعري أليس هذا العدد بقليل عَلَى قطر يناهز سكانه الثلاثة ملايين. هذا من سورية أرقى البلاد العربية وما أظن أحداً من أبناء العراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس وبرقة وغيرهم من الأقاليم العربية يدرس في مدارس أوربا فيكون هؤلاء الثلاثون طالباً لخمسة عشر مليوناً من العرب العثمانيين يصيب كل مليون نسمة طالبان وما أعظم ذلك من قصور وتقصير.
نعم هو تقصير وليس وراؤه وراء وخمود همم كاد يصدق به علينا حكم الغريب. وإني لأرجو أن لا تكون أقوالنا أكثر من أفعالنا فإن الكلام لا أثر له بقدر الفعل. نريد معاشر العرب أن نجاري الأمم الراقية بل سائر العناصر من أخواننا العثمانيين ولا نجاريهم عَلَى الأقل في مضمار التعلم؟
نتناغى بالوطنية ونندب حظ اللغة العربية ونحن أبناءها الذي نعقها ولا نتعلمها. أليس مما يزعج أن يخطب العربي أباه وأمه وأخاه وصديقه بغير لغته الأصلية؟ يعمل ذلك لا ليتمرن عَلَى تلقف غير لغته بل لأنه لا يعرف أن يتكلم ويكتب بلسان أبيه وأمه وقد يكون في الأكثر ممن يفرض عليهم فرض عين تعلمها ليفهم بها كتابه وشريعته.
أنا إن كنت عربياً وأحب العرب وأريد نهوضهم أيتيسر لي كل ما أريد إذا لم أخاطبهم وأخطبهم وأكتب لهم بلغتهم التي يفهمونها. أنا إن كنت أريد الاطلاع عَلَى مجد آبائي وأجدادي أأتمكن من ذلك بدون دراسة ما خلفوه من آثارهم وهل يتيسر لي إلا باللغة التي كتبوا بها؟ أقول هذا وأنا آسف كل الأسف عَلَى قصور العرب عَلَى تعلم لغتهم قصوراً لا أبالي إذا قلت أن فيه العار والشنار.
أيزهد سلالة العرب الأكارم في لغتهم ويتعلمها المستشرقون أكثر من علماء العرب أنفسهم؟ أيزهد العربي ابن العشرين في العربية ويتعلمها رجل أعجمي في الستين من عمره. وأعني به الكنت دي سارديج الفرنسوي. هذا الرجل من أهل الطبقة العالية في غناه كان والده سفيراً في طهران عن الملك لويز فيليب ملك فرنسا وقد كان هو موظفاً في السفارات وأخر وظيفة له رئاسة تراجمة سفارة فرنسا في مدريد ثم استقال وهو يسكن في الصيف في(49/38)
قصر له في لوزان في سويسرا وفي الشتاء في باريز وقد أقام في ذهنه منذ أشهر أن يدرس اللغة العربية للاطلاع عَلَى حضارة العرب ومدنيتهم الباهرة فاتخذ له أستاذاً صديقنا ووطنينا ميشيل أفندي بيطار وأنشأ يتخرج به فقطع شوطاً في التعلم وإذ كانت الدواعي تضره إلى المقام في قصره في سويسرا أكثر من باريز وكان أستاذه لا يستطيع أن يلحق به إلى سويسرا كتب إليه يلتمس منه التماس التلميذ من أستاذه أن يبعث إليه بدروس عشرين يوماً حتى لا يضيع وقته مدة مقامه في سويسرا ويحرم من الاستفادة والتحصيل فإذا آب إلى العاصمة يعاود من بدأ به.
هذا الرجل عَلَى أبواب الشيخوخة وهو في هذه السن يحاول أن يتعلم لغة شرقية لا عهد له بمعرفتها. أو أن يتعلم لغة القرآن ليدرس بها مدنية أهله وشبان العرب أنفسهم يترفعون عن أن يقضوا ولو بعض أوقات فراغهم في إحكام لغتهم. هذا هو مثال صغير من أمثلة الهمم في الشرق وأمثلتها في الغرب فهل فيكم يا شباب المستقبل وقرة عيون العثمانية العربية من يمشي عَلَى أقدام هذا الشيخ الفرنسوي حتى لا يجيء علينا وقت نضطر فيه أن نأخذ لغتنا بل ديننا عن أوربا ونكون تحت وصايتها حتى في أمس الأمور بتاً وأعقلها بقلوبنا؟
كل ما نراه من همم الغربيين ومتنانتهم هو محصول الكتاب والمدرسة فأنتم وأمثالكم شباب هذه الأمة في أيدي اقتداركم أن تجددوا لها شبابها إذا وضع كل منكم نصب عينيه الذهاب إلى الغرب وقضاء سنين في الدرس والبحث ليرى بعينيه ويحكم بنفسه عَلَى قصورنا عن الغربيين وفقرنا وغناهم وشقائنا وسعادتهم ليعلم أنني لا أغالي فيما أوردته لكم بل إنني عاجز عن الوصف والتعريف. ولا يقعن في أذهانكم أن الذهاب إلى أوربا بعيد المنال وأنه لا يتيسر إلا لكبار الأغنياء فالعيش في معظم البلاد الأوربية أرخص من الآستانة ومصر ودمشق وبيروت والمدارس رخيصة أجورها ولا يكاد لها أجور ومنها ما أجرة الطالب فيه مع الأكل والنوم والدرس ستون فرنكاً في الشهر ومثل هذا القدر من المال لا يصعب عَلَى أحد فيما أحسب أن يعده أو يستلفه عَلَى المستقبل مهما بلغ من ضيق ذات يده.
يا أبناء قومي ويا زهرات أمتي! أليس من العار أن تكون بلادنا التي لا تعيش إلا بالزراعة ولا تحيا إلا بالزراعة خالية من عارفين بها عَلَى الأصول الحديثة فلا يكون الذين يتعلمون منا هذا الفن في أوربا سوى طالبين اثنين أحدهما في المدرسة الزراعية في لوفان من(49/39)
أعمال البلجيك وهو رفيق بك بيضون من بيروت والآخر في كرنيون من أعمال باريز في مدرسة كرنيون الزراعية واسمه مصطفى أفندي الكيلاني من حماة. كلاهما من أبناء الأعيان ولهما أراض ومزارع فنعماً عملا بالاختصاص بهذا الفن الشريف المفيد ولكن أليس في أبناء سورية بل البلاد العربية أحد من أبناء الأعيان يملك أراضي وقرى غير هذين الشابين؟ بلى إن المالكين كثار ولكن محبي الدرس قلائل! هذا في فن الزراعة فمتى يقوم أناس لتعلم الكهربائية ومد الخطوط الحديدية والهندسة العملية والصناعات الحديدية واليدوية والتجارة وغير ذلك مما نحن فيه عيال عَلَى الأوربيين.
زرت مدرسة كريون الزراعية وهي عَلَى مسافة ساعة من باريز فرأيت شعارها مكتوباً بقلم غليظ في مكتبتها بما معناه: الأرض هي الوطن ومن توفر عَلَى تحسينها يخدم وطنه ولكن قومي غفر اتلله لهم يحتقرون هذا الفن فيما أرى. فإن كنا نختلف في البديهيات فمتى نتفق في غيرها؟
زرت كرنيون ورأيت فيها عبد القادر الكيلاني يلبس مشلح الزراع ويدرس كما يدرس أبناء الأعيان في فرنسا ويجاريهم في ذكائه وأطلعني عَلَى عَلَى ما في مدرسته من متاحف ومعارض واصطبلات وحظائر لتربية الماشية وحدائق لغرس النبات والبقول وغابات للنزهة والانتفاع وأدوات للعمل وحرث الأرض وكرثها.
رأيت كل هذا وأكبرته وقلت في نفسي لو حذا السوريون في الزراعة وتربية الماشية حذو الفرنسيس فيها وتربتهم تلاءم تربتنا وأقاليمهم أشبه بأقاليمنا لاغتنينا غنى يغنينا عن الهجرة وتطلب الوظائف الاتكالية فقد ذكروا لي أن خروفاً علفته إدارة المدرسة سنتين عَلَى الطريقة العلمية فبيع في أحد المعارض بسبعين ليرة. فأين خرفاننا التي يباع الواحد منها بسبع ليرات. مهما علفناها بجهلنا وبساطتنا وأطعمناها السمسم المقشر أو الشيح والقيصوم والعرار والعرعر.
ولكن الآمال معقودة بأن نعلف خرافنا عَلَى طريقتهم ونستثمر تربتنا عَلَى أصولهم نربي عقولنا عَلَى مناحيهم ونطبع دوابنا وماشيتنا بحسب سنتهم فيكون إذ ذاك أبناء عبد القادر في التوفر عَلَى زكاء التربة في نفعهم لهذه الأمة عَلَى مستوى جدهم الذي زكى النفوس في عصره. وتزكية التربة لا تقل عن تزكية التربية والمآل واحد.(49/40)
مدرسة كرنيون الزراعية هي التي أوصى أبناء الأعيان وغيرهم التخرج فيها لتخصب بهم تربتنا بعد إجدابها وتملأ جيوبنا بعد فراغها والمال مبدأ كل عمل وفاتحة كل ارتقاءٍ مادي وأدبي.
نحن لا نرقى الرقي المطلوب إلا إذا تعلمنا العلم العملي وزهدنا قليلاً في شقشقة الألسن والنظريات المجردة. ومن جملة المدارس التي زرتها في فرنسا وتأثرت أيضاً بنظامها مدرسة جزيرة فرنسا في مقاطعة الواز. زرتها بدعوة من صديقي مرسي أفندي محمود أحد كتاب مصر فكانت زيارتها وزيارة مدرسة كرنيون من اسعد الأيام التي قضيتها في أرض الفرنسيس وإني أحب أن أقص عليكم قصة هذه المدرسة لتعرفوا الغرض منها فأقول:
قام منذ عشر سنين في فرنسا رجل من رجال الصحافة اسمه أديمون ديمولانس درس طرق الحضارة والتعليم والتربية عند الألمان والإنكليز والأميركان وقابل بين طرائقهم وأخلاقهم وعاداتهم وبين ما عند الفرنسيس منها ووضع لذلك الكتب وكتب المقالات وأنشأ مجلة العلم الاجتماعي التي تدور عَلَى هذا الغرض ومن جملة كتبه سر تقدم الإنكليز السكسونيين الذي نقل إلى العربية فعمت فائدته العرب كما عمت الإفرنج.
وقد وفق ديمولانس صاحب تلك الدعوة بأنه التف حوله أناس من أرباب الغيرة عَلَى ارتقاء بلادهم والاهتمام بمستقبلها فكانوا يعطونه بالمئات لقيان الغرض الذي حاول بلوغه وتربية أبناء الفرنسيس عَلَى الطريقة الأنكلو سكسونية العملية فأسست لذلك ثلاث مدارس كبرى عقيب دعوته الأولى مدرسة بروش أسست سنة 1899 باسم جماعة من المساهمين وأخرى في إقليم نورمانديا لجماعة من كبار الصناع منها وأخرى في ليانكور أسست سنة 1901 وهي التي أريد أن أحدثكم عنها.
ليانكور قرية سكانها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة وهي عَلَى نحو ساعة من باريز إلى الشمال من مقاطعة ألواز وفيها ما في سائر بلاد فرنسا من أنواع المرافق والرفاهية والمعامل الكبرى الصناعية والزراعة الراقية الغنية بل فيها من دور التمثيل فقط ثلاث دور وقصر الدوك دي لاروشفو كول الواعظ المشهور صاحب الكلمة المأثورة الذي أسس بنك التوفير في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر قامت هذه المدرسة العملية. وقصره هذا في أرض مساحتها مائتا هكتار أي نحو ثلثمائة فدان لم يبق منها إلا دائرة حشمه أما دائرة(49/41)
قصره فقد أتى عليها رجال الثورة الأخير فدكوها وجعلوا عاليها سافلها وقد جعلت تلك المدرسة في تلك الدائرة فوسعت كل صفوفها ومرافقها ومعاملها.
في هذه البقعة الجميلة الواسعة بل الأبعدية الكبيرة والحانوت الفخم التي حوت الغابات والمروج والحدائق والغدران والآكام والسهول يتربى رجال المستقبل عَلَى الطريقة الإنكليزية وفيهم الفرنسويون وأكثرهم من أبناء الباريزيين وعدد قليل من الأميركان والإنكليز والبرتقاليين والأميركيين والمصريين. ويعيشون في هذا البيت كأنهم في أسرة لا في مدرسة وقد رفعت عنهم أكثر القيود التي تقيد طلبة المدارس الداخلية واختصر منها عَلَى ما يحفظ به النظام والآداب مثل الحظر عَلَى أحدهم أن يركض ويرفع صوته في المدرسة أو في حجر الدروس وأن يلعب في الأماكن التي هي مرر لإخوانه وأن لا يخرج من المدرسة ولا يركب في قارب في الغدير بدون رخصة أولاً وأن لا يبتاع أي شيء كان من المدينة بدون استئذان وأن لا يدخل جرائد ولا كتباً إلا إذا وقع عليها المدير ولا يدخن ولا يلبس ثياب اللعب عندما يخرج من غرفة المائدة وقت الظهر ولا يركب دراجته إلا يومي الخميس والأحد وأن لا يعبث بما حوت حديقة المدرسة ومكتبتها وأن لا يتكلم بعد أن يطفئ النور في غرفة النوم مساء ولا قبل أن يستيقظ رفاقه صباحاً وما عدا ذلك فهو حر أن يلعب اللعب الذي يختاره في الأوقات التي خصصت لذلك منذ الظهر إلى حوالي الساعة الرابعة بعده.
وكل هذه القيود لا تكبر عَلَى التلميذ لأنه يعرف أنه لا بد منها لكل عائلة كبرى وما هذه المدرسة إلا كذلك. والمدرسة تقسم إلى ثمانية صفوف أسسها الأستاذان الإنكليزيان هو كنسن وسكوت ومديرها اليوم المسيو لبلا وهو فرنسوي لأن قانون فرنسا يحظر عَلَى الأجانب إنشاء مدارس باسمهم في البلاد. وفي المدرسة نحو عشرين معلماً ومعلمة وناظرة. ورئيسة المدرسة الآنسة باري من أقرباء أدمون ديمولانس صاحب الدعوة إلى الأخذ بطريقة الإنكليز السكسونيين في التربية ومن أولئك المعلمين معلمان إنكليزيان واثنان ألمانيان.
ويقسم تلامذتها بحس أسنانهم واستعدادهم ولا يختلط الكبار بالصغار إلا في بعض ساعات النهار وهذه المدرسة تعد التلامذة لنيل شهادة البكلوريا أو العالمية ولكن عَلَى غير الطريقة(49/42)
التي يحشى بها رأس التلميذ بالمواد النظرية وهي عن العلم العملي بمعزل. فالمدرسة تربي الإرادة والعين والذوق واليد والجسم أكثر مما تربي الذهن والذاكرة.
وأسماء الصفوف كصفوف سائر المدارس ويشترك جميع المعلمين في التعليم ويلاحظون الدروس أيضاً ولا يراجعون التلامذة فيما تعلموه خارج الصفوف النظامية لأن النهار يكفي لذلك ويتولى الأولاد بأنفسهم أمور لعبهم وحفظ النظام العام وسائر شؤون الحياة وربما لا تروق أكثر الأولاد هذه الطريقة خصوصاً وأكثر من فيها من أبناء الأغنياء والأمراء اعتادوا أن يخلقوا وحواليهم الخدم والحشم ويتولوا من أمورهم ما يتقاعسون هم عن عمله ويصغرون خدودهم كبراً من القيام به.
ويقسم التلامذة بعد الصفوف والفرق إلى بيوت وكل بيت يديره أستاذ ويعهد إلى النساء بالإدارة البيتية والعناية بالمرضى وتعليم الموسيقى وتعليم الأحداث من الطلبة وهن يعشن في المدرسة نفسها وعلى الطلبة أن يحضروا ثلاث جلسات في الأسبوع لتعلم لعب الكوكي والكريكة بنظارة أساتذة فيف هذه الألعاب. وفي المدرسة دار للتمثيل كما فيها ميدان للعب السيف ومحل لتعلم الرقص والموسيقى ومحال دروسهم أشبه بمكتب منه بقمطر تلميذ لكل واحد منضدة عليها عليها دواة وورق نشاف يتصرف فيها كما يشاء ويرى فيها الدروس التي يدرسها بطريقة عملية أكثر منها نظرية.
فيتعلم مع العلم صناعة من الصناعات التي هي أحب إلى قلبه كالزراعة والنجارة والحدادة والتصوير والتجليد وصنع المقوى والفخار والجلد وغيرها وذلك بنظارة أساتذة هذا الشأن يدلونه عَلَى الطرق التي يسلكونها ولا يعملون بعده بل يدلونه عَلَى غيوب عم له ويده وعينه هما اللتان تعملان ليتعمد بذلك عَلَى نفسه فإذا عاد إلى أهله يستطيع أن يصنع بذاته عملاً من مثل ذلك فلا يكون لا فرق بين ما عمله في المدرسة ويعمله بعد الخروج منها ويتولى أكثر شؤونه كما قلنا بنفسه حتى يسهل عليه كل جهاد في حياته فإن الرياضيات التي يقومون بها في البستان والحقول والرحلات في الخلاء سواء كانوا مشاة أم ركاباً عَلَى الدراجات تزيد في قواهم وقابليتهم للرياضات البدنية ولا يقل النوم عندهم عن عشر ساعات للصغار إلى تسع للكبار ليستريحوا من أتعاب النهار.
وتمتاز هذه المدرسة بأن يرحل تلامذتها بمراقبة أساتذتهم إلى بعض البلاد المجاورة(49/43)
كالبلجيك وهولاندة أو غيرهما من مقاطعات فرنسا البعيدة ليعتادوا الاستغناء عن الرفاهية ويحسنوا التخلص عند الحاجة من مشاكل الأحوال التي كثيراً ما تصادف الإنسان في حياته وذلك أيضاً ليتحملوا بصبر وحسن خلق معاكسات الوقت ونكد الأيام وتنوثق عرى المحبة بينهم ففي عيد الفصح تنقسم المدرسة ثلاث فرق بحسب سن التلامذة المؤلفة منهم فتذهب كل واحدة في جهة خمسة أيام وكل من حسنت أخلاقه ودروسه يرحل به أيضاً كل ثلاثة أشهر مرة أو مرتين يوماً أو بعض يوم إلى مكان بعيد وللمدرسة في فصل الصيف شهران أيضاً عطلة فتكون عطلتها السنوية من حيث المجموع ثمانين يوماً وتستوفي المدرسة أجرة من كل طالب إلى سن الحادية عشرة 2500 فرنك فإذا تجاوز هذا السن تأخذ منه ثلاثة آلاف يدخل في ذلك أكثر حاجاته ما عدا بعض الدروس كالرقص والموسيقى والرسم فإنه يدفع أجرتها عَلَى حدة. وهو مبلغ كبير بالنسبة لأهل بلادنا ولكنه لا يستكثر في مدرسة مثل هذه النفقات الطائلة عَلَى الأساتذة والعيشة والرحلات ويطبق فيها العلم عَلَى العمل وتربى الحواس بالعمل أكثر من تربية الذاكرة.
حدثني أحد أساتذة المدرسة قال كان فكر مؤسسيها ديمولانس أن تكون عَلَى الطريقة الإنكليزية المحضة ولكن لم تمض حتى انقلبت أوضاع الدروس والرياضات إلى ما يشبه الطريقة الفرنسوية لأن ما توهمه ديمولانس من أنه يمكن تطبيقه في بلاد قد غإلى فيه كثيراً ولو كان حياً_مات منذ نحو سنتين_لرجع عن كثير مما نعاه عَلَى قومه وعد عدمه نقصاً في تربيتها وسبباً في ضعفها. وهو قول حق سديد لأن ما يوافق أمة لا يطبق بالحرف عَلَى أخرى وللعادة والمحيط والتقاليد دخل كبير في أوضاع الأمة عَلَى أن هذه النغمة قد أفادت فرنسا وغيرها بلا شك وأطلعت الشرق عَلَى التربية الفرنسوية مع ما هي عليه من الحسن هي في رقيها دون التربية الإنكليزية السكسونية من وجوه وإن كانت هذه دونها من وجوه ولعل بلادنا تستفيد من كل ذلك عبرة.
تقدم أن تلامذة مدرسة لياكنور هم من الفرنسيس وخليط من البرتقاليين والأميركان والإنكليز والمصريين وهكذا شأن معظم المدارس في فرنسا ولاسيما في كلياتها الجامعة فلا يتعلم فيها الطلبة من الذكور فقط بل يتعلم فيها الطالبات من الإناث وإني لا أذكر أنني حضرت خطبة أو درساً أو مجلساً علمياً ولا زرت متحفاً ولا مطبعة ولا إدارة جريدة إلا(49/44)
ورأيت الفتيات سبقنني إلى تلك الأمكنة ومعظمهن روسيات وإنكليزيات وألمانيات وبلقانيا وبولونيات. والبولونيات أكثر الفتيات الأجنبيات في فرنسا وأكثرهن عناية بتعلم اللغات الأجنبية حتى أن الواحدة منهن لتكلمك فلا تحسبها إلا فرنسوية لكثرة إتقانها للغة الفرنسوية وإجادتها النطق بها مما لا يكاد يتيسر مثله لغريبة ولا لغريب عن اللغة وهن مع هذا أكثر النساء الأوربيات تفانياً في أحكام ملكة لغتهن وحرصاً عَلَى آدابها وتلقينها.
ولقد كانت المرأة البولونية تعلم أولادها لغتهم في الغابات والحقول عندما كانت الحكومة الروسية تحظر عليه إلى قبل بضع سنين تعلم لغتهم لتجعلهم روساً مع الزمن فلما دالت دولة الجهل ونال البولونيون كسائر العناصر السلافية بعض حريتهم عقيب إنشاء الدوما الأولى كان من البولونيون أن فتحوا في شهر واحد في البلاد التي وقعت منذ قرن ونصف تحت سلطة الروس زهاء أربعة آلاف مدرسة يعلمون فيها العلوم العالية والدروس المنوعة بلغتهم ولم ينقصهم أساتذة ولا أعوزهم بالطبع التلامذة.
فالمرأة البولونية وإن عنيت بتعليم اللغات الأجنبية عنها تحتفظ بلغتها ووطنيتها احتفاظاً أسأل الله أن يرزقنا نحن بعضه حتى أنها إذا تزوجت من أجنبي لا تلبث أن تصبغ أولادها بصبغتها بحيث اضطر بسمارك أن يسن في عهده قانوناً يحظر فيه عَلَى الضباط الألمان أن يتزوجوا من البولونيات إذ ثبت له أن الوطنية الألمانية كادت تضعف ويعروها الانحلال في القسم الذي أصاب مملكة بروسيا من إرث صاحب بولونيا.
فيا ليت شعري متى يكون نساؤنا بل رجالنا في هذه المنزلة من صحة الوطنية مع الحرص عَلَى الجامعة العثمانية التي هي عدتنا في شدتنا وبدون هذه الجامعة السياسية لا يرجى لنا بقاء بعد الذي رأيناه من تكالب الغرب عَلَى الشرق فنحن إن أنصفنا لا ننزع من يدنا من الجماعة لأن يد الله مع الجماعة ومن رأى كيف كانت حالة سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة قبل الوحدة السويسرية والألمانية والأميركية يدرك سر الاجتماع والتعاضد ويعرف أن المركب الكبير يستحيل أن تأتي عليه الأنواء بقدر ما تضر بالصغير فقد يغرق هذا أو يستغرق في غيره ولا من يسمع به.
تعلمنا أوروبا وأمريكا كل يوم معنى من معاني الوطنية والجامعات الجنسية فإن كان بعض الاجتماعيين يدعون اليوم إلى إنشاء جامعة أوروبية واحدة وبعضهم إلى إنشاء جامعة(49/45)
أمريكية واحدة وبعضهم إلى إنشاء جامعة صفراء من اليابان والصين واحدة أفلسنا نحن أبناء العثمانية أحرياء بأن نزيد في تكاتفنا وتكافلنا ونرفع من بيننا سوء التفهم بسعي العقلاء منا.
طال المقال وبت أخشى عليكم الملال فهل تأذنون بأن أختمه بجملة واحدة للمقارنة بين أخلاقنا وأخلاق الغربيين وهي الأخلاق التي كانت من أعظم الوسائط في ارتقائهم كما كان لنقيضها واسطة في بانحطاطنا وذلك أنني تبنيت بالاختبار أن الإفرنج أكثر تفكراً منا في مصادر الأحوال ومواردها فهم لا يقدمون مثلنا عَلَى أمر قبل لأن يوقنوا من أنفسهم الغناء فيه فالصانع في الغالب لا يتطال إلى أن يكون سياسياً والمحامي لا يعمل في الزراعة وهكذا اختص أهل كل طبقة بطبقتهم وتفرد كل عالم بما بعلم ولم يتعده فالاختصاص أو الاخصاء هو الذي كان واسطة نجاح الغرب ودعوى معرفة كل شيء هي التي كانت واسطة انحطاط الشرق.
الغربي يفتخر بأنه لا يعرف غير ما تعلمه في مدرسته وحصله من حرفته ولكنه تعلمه فبرز فيه وأحاط بأطرافه وصبر حتى نضج فتناول ثمار جنية. أما نحن فنسارع إلى الرقود فنهب دفعة واحدة كما نخمد كذلك.
الغربي يهمه نجاح العمل من حيث هو عمل نافع لأمته ولنفسه ولذلك جاءت مصانعهم ومعاهدهم بل وجميع شؤون حضارتهم فخمة خالدة وكانت مصانعنا ومعاهدنا وسائر أعمالنا مختلة معتلة لا تدوم إلا بدوام من عمل لها أول مرة فإذا ما ذهب تذهب بذهابه.
الغربي استفاد ويستفيد بتجارب غيره لأن من عادته أن يحسن الانتفاع بكل شيء ونحن من عادتنا أن نهزأ في الأكثر بكل شيء.
الغربي يدخل الإصلاح إلى داره وبيته وأمته بالتدريج ونحن نحب أن نطفر طفرة في إصلاحنا والطفرة محال لأن سنن الفطرة لا تغالب ولا تعاند. الغربي يحب النظام حتى صار ذلك طبيعة ثانية له ونحن لا يهمنا النظام ولا التنظيم. الغربي معتدل عَلَى الأكثر في عامة أحواله ونحن أميل إلى الإفراط أو التفريط الغربي عبد الواجب ونحن قلما نقوم بفرض أو واجب فالغربي كما أحسن تقسيم الأعمال والاخصاء فيها أحسن استخدام الوقت إحسانه لاستخدام عناصر الطبيعة فنجده جد ولكن في أوقات الجد وهزله هزل ولكن في(49/46)
أوقات الهزل ونزهته نزهة ولكن في أوقات النزهة وعمله عمل ولكن في زمن العمل والشرقي ويا للأسف ليس بذلك.
أحسن الطبائع في الغربي خلق الاعتماد عَلَى النفس وإنكار النفي فهو يعتمد عَلَى كفاءته أولاً ثم عَلَى محيطه أمته وقد يهتم عَلَى الأكثر بمصلحة أته اهتمامه أو أعظم بمصلحة نسه ولذلك جاء كل غربي راقٍ أمةً برأسه وأمة تتألف من أفراد هذا حال وادهم الأعظم ينبسط ظل عمرانها ويمتد عَلَى الأرض سلطانها. فالله أسأل أن يهب هذا الشرق المحبوب نفثة من تلك الروح العالية وهذا لا يرجى لنا إلا بكثير سواد أمثالكم يا طلاب المدارس العالية فطلاب المدارس العالية هم ولا جرم أهل المطالب العالية فاعرفوا مقدار أنفسكم ومقدار الآمال التي تعلقها عليكم أمتكم نصر الله وجوهكم وبيض بكم وجوهنا.(49/47)
سير العلم والاجتماع
الدرس في النزهة
اعتادت بعض المدارس في الغرب أن تخرج بتلامذتها في أيام معينة من الأسبوع إلى الضواحي تدرسهم في كتاب الطبيعة بعيدين عن الدفاتر والكتب وجدران صفوفهم ما يحرر حواسهم من رقها وينزه عقولهم من أتعابها ويعلمهم معالم بلادهم ومجاهلها وهذا ما سماه أحد علماء التربية بمدارس النزهة وليست هذه المدارس عبارة عن نزهة بسيطة يهيم فيها التلامذة والأساتذة عَلَى وجوههم كما في نزهات المدارس بل إنها نزهات هي إلى الجد أكثر منها إلى الهزل وخطتها واسعة لأنها تجمع بين الولد والأرض والحياة وتعلمه النظر والتبصر والتفكر والشعور بالحقيقة وجمال الموجودات حيوانات كانت أو جمادات وتوقفه عَلَى مناظر الطبيعة وأعمال أبنائها فيجمع فيها الولد شعوراً ومشاهدات وملاحظات وأحكاماً وتذكارات وصوراً عَلَى اختلاف ضروبها يستمد منها معرفة وحكمة.
ويخرجون إلى هذه المدارس في مساء يوم الأربعاء الثالث من شهر نيسان وأيار وحزيران وتموز وآب وتشرين الأول أي في شهور الربيع والخريف أما في الصيف فيخرجون إليها صباحاً خوف الحرارة وفي الشتاء يخرجون في أوقات الصحو والفرق بين هذه النزهات وغيرها أن الأساتذة يكونون عارفين بالخطة التي يجرون عليها وما فيها من مظاهر الكون المفيدة وظواهر الأشياء ليلفتوا إليها أنظار تلامذتهم وإذا كان في الطريق شيءٌ يغيب عن أذهان المعلمين فيتخلصوا من مأزقه في الحال.
فباستعداد المعلمين لمثل هذه النزهات ينجو التلميذ من هوى النظام المدرسي وخلل العادات ويتعود التنظيم المدقق بما يسبق نزهاته من تدقيق المعلم بما يلزم لكمال هذه النزهات من الفوائد التي تناسب مدرسته ومحيطه فيذهب التلامذة مجتمعين حول معلمهم أكثر مما هم في صفوف المدرسة يسايرونه في البراري وينظرون ويتأملون ويستمعون ويسألون ثم يعودون إلى المدرسة ببذرة من التذكارات فيكتبون مشاهداتهم ويجعلونها في جريدة مذكراتهم وربما أضافوا صور المناظر والأشياء التي وقعت عَلَى أنظارهم.
والسبب في هذه المدارس البرية هو أن بعضهم قالوا أن المدارس لا تعطي سوى جزءٍ معين من المعارف وهذه المعارف منتخبة بحيث لا تضمن للولد كل المعرفة العملية التي(49/48)
يحتاج إليها في الحياة بل إنها تؤثر في قواه وتخلق له فكراً وتنيره وتوسعه وفيها التربية الحقيقية فالواجب أن يحمل الطفل من أبناء الشعب عن معلمي مدرسته الابتدائية عادات حسنة من التفكر وذكاءً نبيهاً وأفكاراً رائقةً وصحة حكم وبعد نظر واستقامة في الفكر واللسان. وليس في هذه الطريقة من التعليم طرائق ميكانيكية تبلد الذهن ولا دروس عالية تحوي في مطاويها معلومات تافهة باردة بل فيها كل ضروب التعاون في الأفكار المختلفة المرنة ولا سبيل إلى إبلاغ العلم إلى العقول إذا كان المتعلم يلقيه عَلَى صورة مجردة ويعلمه كالمتسلط فعلى المعلم أن لا يلقن إلا ما يقرب من إذ أن الطلبة وعليه في كل تعليم أن يستخدم أموراً محسوسة ويري الأشياء بحيث تمسها اليد ويقف بالطلبة أمام حقائق ناصعة ويمرنهم بالتدريج عَلَى استخراج المجردات فهو يربي صحة الحكم في تلميذه بما يقوده إليه من النظر ويربي فكر البحث بكثرة النظر والعقل بمعاونته عَلَى التعقل بذاته من دون قواعد منطقية.
التلميذ لا يتعلم دروس الأشياء في كتاب ما لم تضع أمام عينيه صورة الشيء أو عينه وإلا فيكون كالببغاء يسمع المدرس فيتثاءب والأولى أن ينظر إلى الشيء بذاته فإن صورته واسطة وخير للناظر أن ينظر مباشرة فينطبع بطابع ما يرى أشكاله ويسمع صداه وينشق رياه ويغتني بأسماءِ الأعيان والأجناس التي تفهمه الأشياء وتمثلها لعينيه بما فيها من زخرف ثم يحسن أن تذكر في كتاب مع صورتها. ولئن أفادت المعارض الطبيعية والمتاحف في المدارس فإن الأفيد منها والأقرب إلى حصول المقصود أن تعرض الأشياء عَلَى أنظار الطفل في أماكنها فالواجب أن يرى الحجر في الجبل والحصاد في الحقل المتموج بأشعة الشمس والنبات والزهر في النور المرتج قبل أن يفهم بل ليفهم مجموعة المعرض من أعشاب وزهور وأحجار. يجب أن يذهب إلى الطبيعة ليلاحظ الأشياء والمخلوقات في مساكنها وأماكنها واكتشاف الصلات بين الأرض والبشر.
فيخرج الطفل من المدرسة وهو أقرب إلى العمل والحقائق مسلحاً بسلاح ماض من التعليم لطعن عوائق الحياة وليس معنى هذه التربية إخصاء التلميذ في العلم بل تلقينه مبادئ عامة واستعداداً موسعاً فيه يحبب البلاد التي خلق ليعيش فيها وتلقي في نفسه ذوقاً للبقاء فيها ليعمل بها ويضرب فيها أوتاد مقامه ولذا اقتضى أن ينظر في مظاهرها الطبيعية ويرى(49/49)
صناعاتها وفنونها كيف رقيت ويقرأ تاريخ أجداده ويشعر بالصلات والاتحاد المعقود بين الأرض وأجيال الناس الذين راقهم النزول فيها وحولوها منذ قرون إلى الحالة التي وقع استحسانهم عليها.
وبهذه التربية تتربى الحواس في التلميذ عَلَى حين تصاب بين جدر المدرسة بإغفاء. والتربية الطبيعية تشد أزر التربية العقلية وهناك القوة والنفاذ فيتيسر للتلامذة أن يقدروا الأبعاد الشاسعة بسيرهم عَلَى الأقدام ثم بالعين من بعيد ولا يبرحون يتصورونه حتى يترسخ في ذاكرتهم فينظرون إلى قامة إنسان وعلو بيت وطول شجرة عَلَى اختلافها في البعد والطول ويميزون بين جمال الأصقاع وما يتخللها من المظاهر والألوان أما صغار الأطفال فلا يستطيعوا أن يسايروا أترابهم الأكبر منهم سناً فيجلسون إلى ناحية ويقطفون زهوراً وأوراقاً ويعدونها وبذلك يكون لهم درس في الحساب ثم يجمعونها بحسب أشكالها وحجمها وبذلك تتمرن ألسنتهم عَلَى الكلام وأذهانهم عَلَى النظام. فحاستا الذوق والشم تتمرنان باستنشاق الزهور وجنيها ورائحة المرج والأرض وغابة الصنوبر والسمع يتعود الإنصات إلى خرير المياه وتقدير المساوف التي تبلغ بها الآذان وتتمرن الأيدي كما تتمرن العيون عَلَى المساحة وتكعيب الخشب فتقرب التلميذ من الأرض ومن أعمال البيوت.
نعم بهذه الواسطة يتعلم الطفل عَلَى الحساب والمساحة والعلوم الطبيعية بما يعده ويحسبه ويحوله ويجمعه من النبات والحيوان والمعادن والأحجار والمسافات وهكذا ينتقل نظر التلميذ في الخلاء من حقل يعمل صاحبه بيد وكرم يعزقه مالكه ومعمل يشتغل فيه الفتيان والفتيات وترتفع الكلفة بين المعلم وتلاميذه فيسيرون معه أو يسير معهم كما يسير أب مع بنيه ويدرك التلامذة باحتكاكهم بأرباب الصناعات وعملة الحقول أن العمل شريف في ذاته وأنه خير ما يعد له نفسه.
العالم في الصور
كتبت الآنسة برس في مجلة التربية مقالة قالت فيها: إن أول من رأس تسهيل الدرس عَلَى الأطفال بوضع صور في الكتب المدرسية هو أحد قدماء العلماء آموس كومينوس (1592_1671) وما برحت طريقته تنتشر ولكن عَلَى ضعف حتى العهد الأخير وقد غدت الكتب المدرسية وغيرها مصورة كلها بل أفرطوا في بعضها حتى قال بعضهم أن كثرة(49/50)
الصور توشك أن تأتي عَلَى كل اجتهاد للفهم وتفكر الإنسان بنفسه في موضوع بمجرد وصفه وصفاً بسيطاً. ولكن الذاهبين إلى أن الصور تضعف قوة التصور هم عَلَى خطأ في دعواهم فإن الصورة تقوي الجهاد للفهم وذلك بأن تجعل الحواس والذهن تتحرك بنفسها منذ الصغر ويتسع أمام الطفل عالم العلم المنوع وتعلق بواسطته مبادئ من العلم غير قليلة وبذلك يكون الفكر في سعة من الوقت والقوة اللازمة للبحث في أمور أخرى لا يتأتى التمكن منها بالنظر. نعم إن الصور توضح كل شيءٍ بحيث تكتفي أرباب أرباب العقول العادية بما فيها وهي مفيدة تفتح لأرباب الأفكار العالية أموراً جديدة أخرى. ولعمري أليس التصوير من حيث الجملة هو سبب ونتيجة لاتساع الانتباه العقلي في السنين الأخيرة.
فالواجب أن تري الجغرافيا عيوننا صوراً من بلاد العالم لم نراها ولن نراها. وأن يكون التاريخ معرضاً صور لكل عصر أو لكل القصص التي تعظم قيمتها لقلة صحتها لأنها تعبر عن حالة الأفكار العامة لزمن أو لشعب أهم من فكر الأبطال الذين تنتسب إليهم. وأن يكون التاريخ الطبيعية عبارة عن نزهة في حدائق حيوانات أو حيوانات تتمثل حية ونباتات تبدو بجمالها وقوة أصولها وصخور تبدو عَلَى أجمل مظهر لتنبه النظر إلى التأمل.
نعم فلتكن عجائب المعامل والأدوات وما وصلت إليه بعض الصناعات والأعمال الاجتماعية من الارتقاء من مألوف عقل الولد بوساطة التصوير وبذلك يربح الطفل لنفسه وللمستقبل لأن ما يتمثل لعينيه يقيمه وسط التمدن العصري محفوفاً باكتشاف العلم وتبدل الأخلاق السريعة في تحولها اليوم وكم من عادة كانت بالأمس غريبة فأصبحت اليوم من المألوف وكذلك سيكون الحال غداً في الطيران في الهواء فلكي يستعد الطفل لتلقي ما يحدث غداً من الارتقاء يجب عليه بعد الآن أن ينظر بلا انقطاع بكل ما فيه من قوة نظر إلى ارتقاء اليوم.
والصور مفيدة في تعليم الحساب وتصور الحياة العملية وفي دراسة النحو والصرف فإن كتاب علم مصور تصويراً جيداً هو درس في الذوق ولطف في الصناعة والواجب أن ينبه المعلم تلميذه إلى ما حوت الصورة التي تمر في الدرس من المعاني وإن كان من الصور ما ينطبق بنفسه فالأولى أن ينطقه. فالطفل لأول حركته يعطى لعباً وصوراً منقوشة محسمة فإذا تقدم في السن تعرض عليه صور عَلَى الورق ليتعلم منها ما يحدث في الحياة البيتية(49/51)
فيشرح المعلم لتلميذه كل الأدوات والآنية والخرثي والماعون والثياب لينبه ذهنه إلى كيفية استعمالها وإذا شرحت الصور للولد شرحاً كافياً لا يلبث متى أدرك أن يقلدها بيده ويتعلم ما هو بعيد عنه كأن يدرس ابن المدينة ما يجري في القرية وابن القرية ما يتم في المدينة فبالتصوير يدخل الطفل في عالم جديد والتصوير يمثل لعينيه العالم في مظاهر لم يكن يتوقعها فيرى حواليه الأشياء والمناظر التي رآها في كتابه وربما كان يمر بها وهو ساه لاهٍ عنها وبذلك يعلم جمال الحقيقة فالإكثار من مجاميع الصور في المدارس والبيوت من أقوى أسباب التعليم.
صحة العين
نشر الدكتور دوفور في مجلة التربية مقالة في صحة العين في البيوت المدارس قال فيها:
إن الواجب تنظيف عيون الأولاد والعمل لما فيه وقايتها لا أن يمدوا أيديهم إليها وهي وسخة فلا تستعمل لها اسفنجة ولا خرقة استعملت في سائر أجزاء الجسد ولا أن تغل عيون الأولاد بما استحموا به. لأن الاسفنجة حتى ما يستعمل منتها لفرك الوجه لا تخلو من وسخ ولكي يثق المرء بنظافتها يجب أن تجعل في ماء غالٍ كل مرة يراد استعمالها وكث يراً ما تكون الفوط قاسية القماش فالأحسن استعمال شيء من القطن للعيون ثم ترمى بعد الاستعمال وأحسن سائل لغسيل العين الماء الطاهر وإذا أريد مزيد العناية فالواجب استعمال ماءٍ أغلي ثم فتر وتجعل فيه قطعة من القطن المعروف ثم تمسح بها العين ولاسيما وراء الجفون والحدقتين من جهة الأنف والواجب تنشيف العيون بعد غسلها حتى لا يبقى فيها اثر للنداوة. وأن يفهم الطفل متى وعى عَلَى نفسه أن لا يقرب يديه وهما موسختان من عينيه كما لا يقرب منها شيئاً يؤذيها مثل قلم أو مقص أو شنكل أو موسى فإذا كبر وتعاطى بعض الصناعات تجعل عَلَى عينيه نظارات تقيها الذرات الضارة.
ويقضى أن تكون غرفة المدرسة منورة بالنور الأبيض وبنور النهار ما أمكن وما دام النور الطبيعية كافياً يجب تفضيله عَلَى النور الصناعي. ومما يضر العين بل مجموع حالة الإنسان أن يبقى المرء في غرفة منورة بنور أحمر مثل غرف التصوير الشمسي فإن للألوان الملونة تأثيراً في النظر. يجب أن يكون النور غزيراً فإن مضرة النور القليل تضطر التلميذ إلى الاقتراب من دفتره أو كتابه فيشغل قواه النظرية بإفراط فإذا عني(49/52)
بصحة عينيه منذ صغره يجود نظره في كبره ولتدارك ذلك يجب أن يكون النور كافياً بحيث يستطيع التلميذ أن يقرأ عن بعد الثلاثين سنتيمتراً عَلَى الأقل براحة. ويقضى أن تكون غرفة الدرس بحيث يرى منها التلميذ شعاعاً من نور الشمس أو ضوءِ النهار وأسوأ المدارس ما جعل خالياً من النور في الطبقة السفلى من البناء لا ترى منها إلا الفناء أو شوارع ضيقة.
والأصلح أن يدخل النور عن شمال الولد فإنه إذا قابله يبهر نظره فيضره وإذا استدبره يظلل جسم الطفل ما تحت يده من الورق والكتاب وإذا جاءه عن يمينه يغطي السطر الذي يخطه. ويمكن تنوير الغرف العالية من سقوفها وإذا أريد التوقي من نور الشمس في غرف المدارس فالأحسن اختيار ستور رمادية فاتحة كما تجعل الجدر كذلك حتى لا تبهر عيونهم ويجب أن يكون النور الصناعي شديداً ما أمكن فالغاز دون الكهرباء ضوءاً وخيره ما جعلت له زجاجة ولذلك تفضل مصابيح البترول والغاز والكهرباء عَلَى الشموع وغيرها مما لا زجاج يمنع الهواء عن العبث بنوره. ويقتضي للغرف المنورة بمصابيح البترول والغاز أن تهوي لأنه ينبعث من تلك المصابيح بخار وحامض كربونيك تستدعي الهواء أك ثر من الغرف المنورة بالكهرباء.
أما كيفية الجلوس فينبغي ألا تكون عَلَى كراسي لا تليق إلا للجلوس عليها بضع دقائق في إحدى القهوات بل تكون بحيث لا يقترب التلميذ مما بين يديه من الكتاب وغيره أقل من 32 إلى 33 سنتمتراً ويكون جسمه وذرعاه ورأسه عَلَى وضع يستريح به فإذا جلس بعيداً عن الكتاب أو الدفتر لا يصير أحس قصير النظر أو أنه إذا كان مصاباً بالحسر لا يزيده إعضالاً. فإذا أحب الكتابة يشتد مقدم ذراعه عَلَى المنضدة ويبقي مرفقه مطلقاً في الهواء وأن تكون المقاعد عالية في الجملة وعلو محل كل تلميذ 65 سنتمتراً عَلَى الأقل ويجب أن يعود الطفل عَلَى الكتابة المستوية لا عَلَى السطور المائلة لأن المائلة تسبب الحسر وأن يعلم العمل بالأدوات الكاتبة التي شاعت بالاستعمال في أميركا. ويختار من الكتب ما تقرأ حروفه مطبوعة عَلَى ورق غليظ في الجملة بحيث لا تبدو الحروف الناتئة من أسفله ويكون الورق أبيضاً خيراً من الرمادي أو الأصفر الذي يمتدحه بعض أطباء العيون فالحروف الجيدة ما لا تلتبس فيه الحروف المتشابهة بالرسم حتى عن بعد. ويجب أن لا(49/53)
يتجاوز طول السطر عن ثمانية سنتمترات وبين كل سطر مسافة ثلاثة مليمترات وأن لا تطول الصفحات ويكون لها هوامش بيضاء.
لا يدخل الطفل المدرسة قبل السادسة من عمره ولا يبدأ بتعليم الكتابة إلا بعد سنة من بداءته بالقراءة ويعلم الكتابة بالورق والقلم لا عَلَى ألواح من الحجر ولا يعلم في النهار أكثر من أربع ساعات وهو جالس بحيث لا تتجاوز كل مدرسة أكثر من ساعة يفصل بين كل واحدة منها ربع ساعة عَلَى الأقل يصرفها التلميذ في اللعب في الهواء الطلق أو تحت رواق بحسب الفصل ولا يقرأ التلامذة ولا يكتبون خلال النزهة وأن تقلل ساعات درسه في بيته ما أمكن لأن شروط الصحة تكون في البيت غير مستوفاة في الجملة وكذلك ينقطع الولد عن الدرس أيام العطلة وكل أسبوع كما تصرف العطلات المدرسية في الهواء الطلق لا في العمل. والأحسن أن لا يملي الأستاذ عَلَى تلامذته ما يقضى عليهم أن ينسخوه بل أن يكتبه ويوزعه عليهم ويلاحظ الأطفال المولعون بالمطالعة فلا يسمح لهم أن يطالعوا في الفراش لأن جلستهم تكون غالباً مختلة ونور الغرفة ضئيل ويجب تعويد الأطفال رؤية الأشياء البعيدة حتى تتمرن عيونهم عَلَى النظر.
والحسر من الأسباب الرئيسية إن لم يكن في العمى التام فلنصف عمى يجعل الإنسان عاجزاً ويحول بينه وبين تعاطي أكثر الصناعات وقد فحص كوهن في ألمانيا سنة 1865 زهاء عشرة آلاف طفل فقر ربان الحسر في مدارس القرى يكاد لا يوجد لهم أثر ويزيد عددهم بزيادة الدرس ويبلغون الدرجة الكبرى من قصر البصر في المدارس العالية والجامعات وإن الحسر في التلامذة يزيد من الطبقة الواطئة إلى الطبقة العالية وإن كان يكثر في العلماء لكثرة تحديقهم الساعات الطويلة وإن الحسر يزيد في صاحبه كلما تقدم في درسه. وقد أكد كثيرون في بلدان مختلفة هذا الإحصاء فإبان البحث بأن الإفراط في تقريب العين المرئيات يورث الحسر وهذا ناشئ من سوء جلسة التلميذ الذي يحني أعلى جسمه إلى الأمام مستنداً عَلَى مقدم ذراعيه مصعراً رأسه والسبب في الحسر واختلال وجهة العمود الفقري رداءه وضع التلميذ.
ولقد كان ولا يزال لمسألة الحسر في المدارس شأن عظيم ولطالما أرسلت الحكومات إلى مدارسها بالتعاليم الواجب عَلَى المعلمين تطبيقها عَلَى التلامذة لوقاية أعينهم من الضعف(49/54)
والقصر من أحسن الخطط التي اختطوها (1ً) أن يقسم التعليم عَلَى وجه لا يضطر فيه التلميذ إلى صرف أكثر من ساعة متتابعة (2ً) أن تمرن العيون عَلَى النظر إلى مسافات متراخية (3ً) الرياضة المتوالية في الهواء الطلق والرياضات البدنية (4ً) الامتناع عن القراءة في العتمة أو في الشفق أو ضوءٍ مظلم (5ً) حسن العناية بوضع التلميذ خلال القراءة والكتابة (6ً) الحظر عَلَى التلاميذ أن يضعوا عَلَى عيونهم نظارات بدون استشارة طبيب العيون (7ً) يجعل التلاميذ الذين ضعفت عيونهم في مكان يعينه الطبيب (8ً) يجب أن ينبعث النور للقارئ والكاتب والمصور من شماله أو من أعلى رأسه (9ً) يجتنب النور الصناعي وإذا كان لا مناص منه فالإقلال ما أمكن من القراءة والكتابة عَلَى ضوئه ويبتعد عن التصوير فيه (10ً) يعلم الأولاد بحروف صغيرة (11ً) يحظر استعمال الورق (12ً) يباعد بين العنق والعمل القريب.
تربية بيوت الضاحية
اشتهر الدكتور ليز في ألمانيا بإنشاء مدارس سماها بهذا الاسم وشاعت طريقتها في أوربا وأميركا عَلَى نحو ما كانت شاعت منذ بضع سنين كتب إديمون ديمولانس في فرنسا القائل باتخاذ التربية السكسونية. وقد كتبت مجلة التربية الفرنسوية يصف طريقة مدارسه قال: إننا أنشأنا خلال العشر السنين الأخيرة من بيوت التربية ثلاثة وهي في الضواحي بعيدة عن المدن يتربى فيها التلميذ ممتعاً بكل قواه الطبيعية والدينية والأدبية فيعيش في محيط ملائم لتربية شخصيته عَلَى القوة والنشاط عَلَى صورة تعرف فيها قيمة الحياة وأفراحها وتكون جديرة بأن تساعد عَلَى سعادة الخلق فيقوم المعلمون في هذه المدارس بوظيفة المربي الحقيقي يعيشون مع الفتيان الذين عهدت إليهم تربيتهم كما يعيش الأصحاب ويعينونهم ما أمكن عَلَى إتمام تربيتهم الشخصية فيلعبون ويعملون معهم ويقاسمونهم اللذائذ والأعمال الجدية ويؤثرون فيهم بالمثل والقدوة وبما يبثونه في قلوبهم من حب الميل إلى كل الصور الشريفة والنافعة في العمل. وللتربية العملية المقام الأول في هذه التربية فيمكنون الطفل أن يعيش في الهواء الطلق وما يتحتم عليه القيام به من أنواع الرياضات البدنية يكون متناسباً مع نموه ويعمل به بدون إفراط فيوصونه بالمشي والعدو وأعمال الرياضة وركوب الدراجة وهذه الرياضة الأخيرة تكون في السنة الحادية عشرة ومن جملة(49/55)
الأعمال التي تقوي جسمه زراعة البقول والزروع والنجارة وهي من الصناعات التي كتبت لها المدرسة فضل التقدم وإذ كان الدكتور وايز يعلق شأناً عظيماً عَلَى تأثير جمال الأقاليم في التلميذ أسس مدارسه الثلاث في ثلاثة أقاليم بهجة من بلاد ألمانيا أما الأشغال العقلية فيجب أن يعلمها الطفل عَلَى صورة مقبولة ويتقبلها بفرح فينبه ما فيه من الميل الفطري وهباته في النظر وقوته في التفكر كما تربي فيه العواطف الدينية والأدبية والوطنية وتفي بما يحفظ نظام الحياة وسذاجتها وإخلاصها المطلق نحو الواجب.
قال لقد أنشأنا في ثلاثة أقاليم بهجة من بلاد ألمانيا (في هارز تورنغ ورون) ثلاثة دور للتربية للأطفال والمتوسطين والكبار وذلك ليكون أبناء كل سن مع أبناء سنهم ويخلصوا من حبسهم في مدارس داخلية أشبه بالثكن منها بالمدارس فيعمل أهل كل سن ما يشاؤن لتنمية شخصياتهم ولهم من تنوع الأقاليم التي ينقلون من مدارسها ما يوسع أمامهم أفق العمل في الحياة وليس في كل مدرسة أكثر من 50 إلى 70 تلميذاً يقسم كل 10 إلى 12 منهم فرقة واحدة يتولى أمرها معلم يعيش معهم كما يعيش الأب مع أولاده وهكذا تتسع دائرة اختبار الطفل وأفكاره بتنقله من فرقة إلى أخرى ومن مدرسة في هذا القطر إلى أخرى في قطر آخر تخالفها بعض الشيء في النظام.
والعيش في هذه المدارس منوع الأساليب حسن النظام بحيث يلاءم تنمية القوى العقلية والطبيعية فيستيقظ الأولاد فيها بين الساعة السادسة إلى السابعة صباحاً ليغنموا نشاط البكور فبعد أن يستحموا ويفطروا يبدءون بالدروس وهي خمسة طول كل منها 45 دقيقة وذلك للمتوسطين والكبار أما الصغار فدروسهم أربعة. ودروس الصباح لا تكون إلا فرعين أو ثلاثة ويفصل بين كل درس فرصة للنزهة وفرصتان تدوم كل منهما ثلاثين دقيقة تخصص إحداهما للركض في الغابة إذا كان الوقت صاحياً وفي الشتاء للتزحلق عَلَى الثلج واللوج والنزهة الثانية لتناول الطعام الثاني ويتغذون الساعة الواحدة بعد الظهر والتعليم ينتهي الظهر وللتلميذ ساعة قبل الطعام يتعاطى فيها أعماله الخاصة أما الأكل فإنا نتبع فيه طريقة الدكتور لاهمان وذلك بأننا نكثر من البقول والثمار ونقلل من تناول اللحم ونتحامى الأطعمة ذات التوابل والمشروبات الروحية والجزء الأول من وقت بعد الظهر أي من الساعة الثانية إلى الرابعة نستعمله في الأعمال العملية مثل البستنة والنجارة أو في الفنون(49/56)
اللطيفة كالرسم والموسيقى الآلية وبعد الساعة الرابعة يبدأ العمل العقلي عَلَى أنه تقال فيه ما أمكن التمارين المكتوبة والنصوص المستظهرة. والعمل الجوهري في المدرسة يتم في الصباح وتدوم مدة الدرس في المساء ساعة في المدرسة الصغرى وساعة ونصف في المدرسة الوسطى وساعتين ونصفاً في المدارس الكبرى وبعد رياضة طبيعية قصيرة أو درس في الفضاء يذهبون إلى المائدة الساعة السابعة وبعد ذلك يستريح الطفل قليلاً عَلَى نحو ما يشاء ثم ينتقلون إلى قاعة السر فيبدأ أستاذ الموسيقى وجوقة التلامذة في أول الاجتماع وآخره بتلحين قطعة من الشعر ثم يتلو المدير قطعة أدبية تتشربها روح الطفل وتكون الأدبيات متناسبة مع اقتدار القوى العقلية في الطفل فالصغار يرتاحون إلى تلاوة الأقاصيص والحكايات والقطع الشعرية أما الكبار فيحبون أنواع الآداب العالية وينام الصغار في الساعة الثامنة وينام الكبار في الساعة التاسعة.
وفي كل أسبوع تقضي كل فرقة أو أسرة السهرة في رفقة أب الأسرة ويخصصون سهرة أخرى لسماع الموسيقى وكثيرا ما تتلى عليهم محاضرات يقوم بها أصدقاء المدرسة أو الأساتذة أنفسهم وهكذا ينتهي اليوم بما يعلي نفس التلميذ ويحدوها إلى المطالب العالية. وإذ كان التلميذ في حاجة إلى الحرية لترتقي مداركه فالمدرسة تطلق سراحه بعد ظهر الأربعاء والسبت ولا يخشى أن يسيء استعمال هذه الحرية لأن انفراد المدرسة في الخلاء والعيشة الاشتراكية بين الأساتذة والتلامذة وكثرة الأعمال الطاهرة والجاذبة تستدعي نشطته وتقود إرادته.
وطريقة المدرسة في التعليم طريقة الوصف والاستدلال التي تساعد الطفل أبداً عَلَى مؤازرة المعلم في عمله. ولا تطبق هذه الطريقة إلا عَلَى شرط أن تنظم المواد المدروسة في هذا العمل الابتدائي المشترك وأن تعرض من جديد عَلَى الطفل في صورة علمية. وإذ كانت الفروع التي تدرس في كل صباح قليلة سهلة البحث في المسائل التاريخية والعلمية واللغوية وذلك بدرس تجارب الغير والمستندات الموجودة وعلى هذا يتأتى التوسع في درس تاريخ الأدب بدون أن يجزأ وللطفل من وقته متسع ليعرض أفكاره ويقدم اعتراضاته ويهيئ أجوبته.
إن احترام التلميذ لشخصية المربي وطاعته له هي من الشروط الجوهرية في نجاح التربية(49/57)
وهذه المدارس لا تتطلب من تلامذتها بالخوف ولا بالقصاص. فإن التأثير الروحي الناشئ من الشخص المربي الحري بكل تجلة والانقياد للطبيعة أو للعقل وتأثير نوع الحياة والعمل المطلوب هي وحدها حرية بتربية أخلاق حرة.
وعلى ذلك يسمح للتلميذ أن يجري مع ميوله ويقوم بما يزيد في نشاطه عَلَى عمله ولا تطلبه المدرسة إلا بما لا غنية عنه بتربيته الطبيعية والعقلية فتعلمه بالقدوة وبما يسود فيها من الأفكار العامة إلى أن يدرك ماهية الواجب بحيث يتضح له بأن نجاحه هو نتيجة لازمة لنظام منطبق عَلَى العقل.
أما العقوبات فيستغنى عنها في هذه المدرسة لأن المربي يتنزل إلى تقريب مناهجه من عقل التلميذ ويعامله عَلَى نصاب العدل وإذا اختلت هذه الشروط تصبح الحاجة ماسة إلى العقوبات وعلى التلميذ من ثم أن يتعاطى عمله بابتهاج وهذه هي الطبقة من التلامذة التي تتوخى المدرسة تنشئتها والقيام عليها ولا تطلب منهم الكمال بل تريدهم عَلَى أن يرتقوا تدريجياً متناسباً مع قواهم واستعدادهم. وإذا لم يكف ذكاء التلميذ وإرادته للتوقي من الأغلاط أو لسد مواضع الخلل من تربيته فإن المدرسة تنشطه وتصبر عليه في جهاده عَلَى أنها لا تكلفه ما لا طاقة له به.
ويعامل كل تلميذ بالاحترام اللائق بشخصه فإن المربي الحقيقي هو الذي يكتشف في كل تلميذ حتى في المقصرين منهم في المدارك ما هو جدير بالاحترام وقابل للتكمل فإذا تم ذلك فالحياة المدرسية تنقضي في دعة نافعة ونفع شامل.
وإذا مست الحاجة إلى إنزال القصاص بالتلميذ فلا يكون إلا عَلَى أقل درجاته فمن أساء استعمال حريته تحجز عليه ومن تراخى في درسه يغيرون له الأسلوب في الإلقاء والمراقبة وطريقة تنشيطه وهكذا تجتهد المدرسة أن تحمل الولد عَلَى الاعتراف بخطائه وتأخذ بيده كل الأخذ لتوقد في نفسه جذوة العمل الصالح. ويحرمون العقوبات البدنية والقصاص الخارجي التي ليس لها علاقة داخلية مع الخطأ الذي ارتكبه كما لا يعمدون إلى مكافأة المحسن من التلامذة بمكافآت مادية. لا جرم أن أعظم العقوبات التي تشاهد في تربية مدارس المدن ناشئة من الخروج عن سنة الفطرة وهذا ساقط من ذاته في مدرستنا بالنظر لموقعها من الخلاء ولطرز معيشتنا.(49/58)
ولقد اقتنعنا بأن كل شخص لم يطرأ عَلَى قلبه وذكائه ما يشوههما كل التشويه هو قابل للخير حري بالمعاناة لإصلاح حاله. فالثقة والحب والإخلاص والمعاملة بحسب قانون العقل كلها من العاملات في ضمان النجاح للمرء حتى أن النجاح وإن كان لا يرجى في الحال بهذه الطريقة فإننا عَلَى ثقة بأن البذرة الملقاة لابد عاجلاً أو آجلاً أن تأتي أكلها.
نحن نحاول أن نحب تلاميذنا بدون ضعف لنلقنهم معنى الواجب ونحببه إلى نفوسهم وننشطهم عَلَى الرغبة فيه أبداً. هذه هي القواعد التي جرينا عليها منذ عشر سنين وظهرت بعض نتائجها وحذت حذونا بعض المدارس التي أنشئت في البلاد الخارجية فأبانت عن نجاح وستعظم فائدته في المستقبل أكثر.
معنى التاريخ
كتب الدكتور ماكس نورد كتاباً بالإفرنسية تحت هذا الاسم جاءت فيه بعض الفقرات الآتية:
إن ما كان يراه الجيل الماضي في التاريخ لا يراه الحاضر وما يناسب هذا لا يناسب المستقبل وما يناسب الهنود واليابانيين لا يناسب الأوربيين والأميركيين فالتاريخ يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فما تنبه به اليوم إلى مصلحة عامة لا يكون له غداً تأثير في العالم. فالتاريخ يسير في ظلمات الماضي كالإنسان الذي يحمل مصباحاً وشخصية المؤرخ تظهر وإن قال ذلك المؤرخ أن الواجب إخفاؤه لإيراد الحقائق مجردة. وقد قال هيرودوتس أبو التاريخ ليس التاريخ إلا لعب ممن يرويه ولا يختلف عن القصائد التي تنظم في تمجيد الأبطال إلا بكونه نثراً وهذه شعر. وهو إلى اليوم لم يبرح على ما يدعيه بعضهم من أنه أصبح علماً عبارة عن قصة ولا يختلف المؤرخ عن القصصي إلا بأن حريته محدودة بحوادث حدثت وعرفت في الجملة وذلك لأنه لا يستطيع أن يناقض ما وقع التسليم به عند السواد الأعظم. ليس التاريخ علماً لأن العلم ليس إلا معرفة الصلات بين النتائج والمقدمات التي تربض الظواهر ببعضها البعض ومعرفة النواميس العامة في الطبيعة التي هي مفصحة عنها. وقد ردَّ المؤلف هربرت سبنسر قول من يطلق لفظ علم على هذا النوع من التقييد والتنسيق في الحوادث. وعبثاً حاولت فلسفة التاريخ أن تحدد الصلة الأصلية في الحوادث وأن تضيع القوانين التي تتسلسل بها الوقائع التاريخية وربما جاء زمن اقتدر الناس فيه على تدوين تاريخهم خالياً من التناقض إذا ارتقى الفونوغراف(49/59)
والتصوير الشمسي أكثر من الآن. ولكن لا يتأتى أن يدون بهذه الواسطة إلا جزء صغير من الحوادث وما وراءها وهو الأهم كنحو ما يضمر في روح البشر ويبقى مخفياً عنا فلا سبيل إلى نقشه ونقله. والحقيقة أن لكل مؤرخ رأياً خاصاً في الصور الكبرى من الماضي والحاضر وقلما تتفق صوره على صور رصفائه.
التاريخ هو غير تدوين الوقائع بل هو خارج عنه وأرقى منه وما التاريخ إلا مجموع حوادث اعترضت الجهاد الإنساني في سبيل الحياة فهو تابع الأعمال والمحن والميول والحقائق التي يحاول الإنسان بها أن يوفق بينه وبين الشروط الطبيعية والصناعية الكائنة في المحيط الذي ولد فيه ويجب عليه أن يعيش وسطه فلا ترى بين رجل عادي ورجل فاتح فرقاً في الطبيعة وكلاهما خاضعان للقوانين الفطرية فالأول لا علاقة له بغيره قد يعيش ويموت فلا يدري به أحد أما الثاني فيؤثر بأفكاره وأعماله في ألوف وملايين من أبناء جنسه فالفرق بينهما في الكمية لا بالكيفية وكم من أناس كبر مقامهم من دونوا أخبارهم حتى أن كثيرين ليعجبوا من أرباب الرحلات السخفاء عجبهم من كبار الفاتحين المصلحين وكم من أناس هم عظماء في نظر أمة ولا يذكرون عند أخرى وكم من زلازل وحرائق أثرت في الانقلاب البشري أكثر من الحروب والغارات وما سبب ذلك إلا المؤرخون فإنهم غالوا في هذه وسردوا أخبار تلك على وجه عادي.
قال ومن المحقق أن معرفة الحوادث التاريخية ليس فيها ضرورة حيوية كما هو الحال في الظواهر الطبيعية ونواميسها بل إنها تسد في المرء حاجة نفسية بل حاجة اجتماعية. وملكة النقد على الجملة غير مرتقية في السواد الأعظم من الخلق فلم يرزقوا استعداداً للتمييز بين الحق والباطل وقلما يهتمون بذلك فكل قول يؤكد قائله صحته يقبلونه مصدقين بدون أن يطلبوا الدليل عليه وأن يبحثوا عن درجته من الصحة والتثبت. فكما أن اللاهوت يوقف الناس عن الأسباب الأخيرة في نظام هذا العالم أو المعجزات تكشف خفايا المستقبل هكذا تدوين الحوادث التاريخية كان يوقفهم على معميات الماضي. ولو اهتم البشر بالاطلاع على الأسباب الأخيرة على نسبة اهتمامهم بالاطلاع على الأسباب القريبة لقضي على عالم اللاهوت منذ عهد طويل على نحو ما جرى ما جروا في التاريخ الطبيعية الذي خلفه بلينوس وعلم الحياة تألف أرسطو وكتاب الطبيعة لبطليموس ولو اهتموا بمعرفة الماضي(49/60)
اهتمامهم بالمستقبل لأدركوا منذ عهد بعيد أن تدوين وقائع التاريخ لا يوصل إلى معرفة المستقبل إلا كما يدل علم النجوم والقيافة والعرافة.
الصحة المدرسية
اجتمعت جمعية الصحة الألمانية في ديسو من بلاد ألمانيا وبحثت في أمور كثيرة في حفظ صحة التلامذة ولاسيما في مسألة العيون فقد رأي أن خير وقاية للعين من الأمراض عناية الأمهات بنظافة عيون أبنائهم وبناتهم ثم عناية المدارس بذلك والتوفر على تقليل النقائض الإرثية وملاحظة مواضع النور في المدارس بحيث لا يقترب الأولاد مما ينظرون فيه وأن تجعل الدروس في الصباح أما وقت العصر فيصرف في الألعاب والرياضات حتى يتيسر للنظر أن يتمرن على النظر إلى المساوف البعيدة. ولا باس حين الحاجة من إنشاء مدارس خاصة بضعاف الأبصار من التلامذة وهذا خير طريق للعناية بنظر حماة الوطن وأبناء المستقبل على أن يعنى أرباب البيوت بصحة عيون أبنائهم عناية المدارس بها بعد.
كلية ليبسيك
احتفلت كلية لايبسيك الألمانية بمرور خمسمائة سنة على تأسيسها فقد أنشئت سنة 1409 على يد أساتذة وتلامذة من الألمان هاجروا من براغ للخلاص من النفوذ السلافي فمد فريديريك المحارب ظل حمايته عليها وكذلك صاحب مسينا فحازت شهرة وقوة لم تزل محتفظة بهما حتى اليوم. وفيها الآن خمسة آلاف تلميذ من أقطار أوربا وانتدبت كليات ألمانيا وغيرها من كليات الغرب مندوبين عنها حتى اضطرت عمدة الاحتفال أن تحدد عدد الخطباء وناب كثير من ملوك الإمارات الألمانية وقد احتفلوا بإقامة موكب تاريخي اشترك فيه ألفا رجل يمثل الأدوار المختلفة في الحياة المدرسية في ليبسيك منذ سنة 1419 إلى 1830 ومما مثلوه فيها مناقشة لوثيروس صاحب الدعوة البرتستانتية مع خصمه إيك وحرب الثلاثين سنة والدور الذي رفض فيه الفيلسوف ليبنز من نيل شهادة الحقوق ودور ليسنج وكيتي وأربعة من قدماء تلامذة لايبسيك.
بلجيكا الحديثة
نشر فرنسوي أقام في بلاد البلجيك زمناً كتاباً في وصفها جاء أن ليس في بلجيكا روح بلجيكية كما ليس في ألمانيا ولا في فرنسا روح فرنسوية ولا في إنكلترا روح إنكليزية لأنه(49/61)
ما من شعب في الأرض يملك روحاً خاصة به بل هو مزيج أرواح مختلفة ففي البلجيك شعبان ألفالون والفلامند وقد انتبه الشعب الفلامندي في السنين الأخيرة فطلب أن تعامل اللغة الإفرنسية واللغة الفلامندية بالمساواة. وفي البلجيك 2. 822. 000 نسمة لا يتكلمون بغير الفلامندية و2. 574. 000 نسمة لا تتكلم بغير الإفرنسية و801600 يتكلمون بالإفرنسية والفلامندية و28300 لا يعرفون أن يتكلوا بغير الألمانية و7200 يتكلمون الفلامندية والألمانية و42900 يتكلمون باللغات الثلاث الشائعة في البلاد. والبلجيك متأخرة من حيث التعلم فنجد فيها 101 أمي في كل 1000 جندي أي أكثر من عشر أبنائها في حين ليس في هولاندة سوى 23 أمياً في الألف وفي فرنسا 47 وبحث المؤلف في أحزاب البلجيك فردها إلى ثلاثة أحزاب حزب الأحرار وحزب الدين وحزب الاشتراكيين وقال أن الحزب الأول ضعيف بالنسبة للثاني الذي استولى على الأمر فالأحرار يكتفون بأن يخاطبوا الأرواح والأفكار أما سائر الأحزاب فتدعو إلى مذهبها بما تقوم به من الأفعال النافعة العملية فهي تسطو على الفلاح والعامل والطفل أيضاً تتناولهم من المهد ولا تتركهم إلى اللحد.
محصول الذهب
قال مجلة الاقتصاديين: ما برح محصول الذهب في العالم يزيد سنة عن سنة وليس هو الذي زاد غلاء المعيشة بل إن الغلاء ناشيء بطبيعة الحال من التدابير السياسية والقوانين الاجتماعية وهاك جدولاً بمحصوله سنة 1909 ومنه تفهم أن الولية قد فازت بها الترنسفال في هذا الباب.
فرنك
770. 100. 000 الترنسفال
429. 150. 000 الولايات المتحدة
367. 101. 978 أوستراليا
174. 216. 000 روسيا
132. 600. 000 المكسيك
64. 285. 500 رودوسيا(49/62)
56. 100. 000 الصين واليابان وكوريا
54. 825. 000 كندا
53. 886. 600 الهند الإنكليزية
32. 587. 500 أفريقية الغربية
12. 648. 000 مدغسكر
127. 500. 000 الأقطار الأخرى
2. 329. 000. 000 المجموع.(49/63)
مخطوطات ومطبوعات
أمهات مخطوطات
ندر جداً بين غلاة الكتب العارفين في البلاد العربية مثل الشيخ طاهر الجزائري في دمشق ومحمود شكري أفندي الآلوسي في بغداد وأحمد بك زكي في القاهرة فهم يتوسلون إلى نشر كتب السلف بكل ما لديهم من ذرائع لينيروا بها آفاق البلاد ويحيوا موات المجموع والأفراد. وطريقة العالم المصري في الدعوة غريبة لأنه متشبع باللغة أو باللغات الإفرنجية فقد نشر أمس تقريراً طبعه باللغة العربية والتركية لتنظيم خزائن الكتب العامة في الآستانة وأقرب الطرق إلى الانتفاع بها واليوم نشر كراسة بالإفرنسية فقط ذكر فيها الأسباب التي يجب الاعتماد عليها في مصر لإحياء الآداب العربية فيها فقال أن القاهرة منذ أسسها الفاطميون استأثرت بالإرث العلمي الذي كان لبغداد وقرطبة فازدهرت فيها الحضارة الإسلامية وأنارت الأفق آثارها فنجحت مساعي العلماء المصريين إلى آخر عهد سلاطين المماليك وأثمرت أعمالهم ثمرات جنية كان لهم من تنشيط الملوك والأفراد الذين شغلوا بالآداب والعلوم ما دعاهم إلى تأليف مجاميع من المخطوطات النادرة والآثار الثمينة وكان للجوامع إلا قليلاً من مدارس وخزائن كتب دع عنك المكاتب التي جعلت خاصة لحفظ المخطوطات.
وإن العمال الباهرة التي قامت على ذاك العهد لتدل عليها كتب النويري وابن فضل الله العمري وابن شامة والمقريزي والقلقشندي والسيوطي ثم ابن إياس والجبرتي من المتأخرين وإن المناصب السياسية التي تولى معظم هؤلاء أمرها قد كان لهم أعظم الخطط الجديدة التوفيقية ولكن ما جمع في مصر من مصنفات السلف في خمسة أو ستة قرون قد تمزق شذر مذر وانتقل إلى مكاتب مختلفة ولاسيما إلى الآستانة عقيب أن فتح السلطان سليم العثماني مصر وحمل القسم الآخر إلى مكتبة باريز ولاسيما منذ عهد حملة بونابرت على مصر ومكاتب برلين وليدن ولندن وأكسفورد ورومية وفينا وغيرها فجمعتها تلك الحكومات المنتبهة الغيورة على الآداب وأخذ علماؤها يبعثون إلينا منها الحين بعد الآخر ما يطبعونه أجود طبع ويعيون إلينا منا بالانقلابات السياسية وبجهل بعض الأجيال الماضية ولقد جمعت بفضل الخديوي وإسماعيل وإشارة علي مبارك باشا بقايا تلك الكنوز وأسست(49/64)
لها المكتبة الخديوية وها قد جاء دور يحق فيه للمصريين أن يستعيدوا سالف مكانتهم العلمية في العالم الإسلامي وبعد أن تكلم على ما أبرزته المطبعة الأميرية من مصنفات علماء العرب مثل كتاب الأغاني والعقد الفريد وتاريخ ابن خلدون وصحاح الجوهري وقاموس الفيروز آبادي وغيرها من المصنفات التي لها شأن حتى عند علماء المشرقيات من الإفرنج لفت أنظار الحكومة المصرية في عهد الخديوي عباس الثاني إلى إحياء ما خلفه لنا السلف الصالح وأورد ما وفق جمعه من مكاتب منوعة بواسطة التصوير الشمسي من الكتب الممتعة أو ما استنسخه أو ما عرف مكانه ككتاب نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الكريم النويري (ونويرة قرية بالقرب من بني سويف في صعيد مصر) وهو كتاب دائرة معارف في العلوم البشرية التي عرفت في عصره قسمه إلى خمسة أقسام وهي السماء والأرض وما فيها والإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات (وفيه نبذة في الطب) والتاريخ وهو في 31 مجلداً انتهى قبيل سنة وفاة المؤلف سنة 733 هجرية.
وتكلم ما شاء بيانه على هذا السفر الممتع وما لقيه من العناء في جميع أجزائه المتفرقة ثم ذكر دائرة معارف أخرى لمؤلفها شهاب الدين أبي العباس أحمد ابن فضل الله العمري واسم كتابه مسالك الإبصار في ممالك الأمصار وهو في 32 مجلداً قسمه إلى قسمين الأرض والإنسان وهو دائرة معارف طبيعية جغرافية مع المصورات وتاريخية أدبية وسياسية وهذا المؤلف دمشقي وكان معاصراً للنويري.
والكتاب الثالث الذي لفت إليه الأنظار جوامع العلوم لفريعين تلميذ أبي زيد البلخي من أهل القرن الثالث عشر وهو مثل دائرة معارف أيضاً. والكتاب الرابع والخامس درر التيجان لأبي بكر بن عبد الله أيبك الداواداري وكنز الدرر وجامع العبر للمؤلف نفسه وهو تاريخ مهم فيه أمور لم تنتشر بالطبع عن دولة الفاطميين والأيوبيين والمماليك وحياة المصريين وغارات التتار وأخلاقهم وتقاليدهم وأساطيرهم وسبب زوال الخلافة العباسية وفيه ترجمة مطولة للسلطان الناصر قلاوون صاحب المعاهد الخيرية في مصر والشام وأحسن سلاطين المماليك وحامي الآداب والمعارف في عصره.
والكتاب السادس سيرة ابن السلطان جقمق لابن عرنشاه والكتاب السابع كتاب تجارب الأمم(49/65)
وتعاقب الهمم في وقائع العرب والعجم لابن مسكويه وهو من مؤرخي الإسلام الذي تفلسفوا في التاريخ. تطبعه على نفقتها اليوم أسرة جيب الإنكليزية بمعرفة الأمير كايتاني الإيطالي في رومية والكتاب الثامن ذيل تجارب الأمم للوزير أبي شجاع ولطائف المعارف للنيسابوري وهو في الأدب والتاريخ والسياسة والجغرافية والإحصاء وشجرة النسب الشريف النبوي للملك الأشرف السلطان أبي النصر قانصوه الغوري وكتاب صور الأقاليم الإسلامية لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي وهو في الجغرافيا وفيه 22 مصوراً. والبلخي أول جغرافي في الإسلام استعمل رسم الأرض وكتاب تاريخ الأمير يشبك الظاهري وهو رحلة فيها وصف سورية وأرمينية وفارس في القرن التاسع للهجرة. ومن الكتب التي لفت إليها الأنظار كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع وقد كتب لنا يقول فيها أن النسختين اللتين ظفر بهما من كتابي الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع هما أجمل وأصح بكثير من اللتين اعتمدنا نحن واعتمد عليهما الأمير شكيب أرسلان في الطبع وإن الذي سميناه بالدرة اليتيمة إنما هي الأدب الكبير بعينه ونسخة زكي بك هي بالشكل الكامل ومنها كتاب ترجمة البقية من كتاب يمسطوس أحد فلاسفة يونان المعروف عند الإفرنج بجامبليك وهو الذي قاوم النصرانية في القرن الثالث للميلاد وأراد أن تبقى يونان على وثنيتها والكتاب الخامس عشر رسالة في تاريخ الغناء وعدم حرمته وأخبار المغنين في بلاد العرب ومؤلفه من أهل القرن الثاني والكتاب السادس عشر كتاب العز والمنافع للمجاهدين بآلات الحرب والمدافع وهو كتاب معرب عن اللغة الإسبانية الإسلامية (الجميادو) بقلم قاضيب فارس سنة 1050هـ قال فيه أن البارود اخترعه راهب ألماني.
هذه هي الكتب التي لفت إليها صاحب اللائحة أنظار العالم العربي والغربي معاً وهو يرى أن يبدأ بطبع دائرتي معارف النويري المصري والعمري الدمشقي ليكون لمصر مجد خالد كالأهرام على الدوام وفقه وسائر العاملين لخدمة العلم.
فلسفة الإسلام
نشر الماجور ليوناردو الإنكليزي كتاباً في الإسلام وصاحب الشريعة (عليه الصلاة والسلام) على وجه يرفع الغشاء عنها ويزيل الشبه الشائعة في الغرب اليوم عن حقيقة هذا الدين وقد قدم له السيد أمير علي العام الهند الشهير مقدمة بالإنكليزية وأثنى على علمه(49/66)
وحبه للحق والكتاب يطلب من مكتبة لوزان في لندرا.
النصائح الكافية لمن يتولى معاوية
كتاب في 224 صفحة في أفعال معاوية بن أبي فيان رأس خلفاء بني أمية وما عامل به آل البيت وكيف قام على الإمام الحق وشيءٍ من تاريخ ذاك الدور تأليف السيد محمد بن عقيل العلوي الحسيني من نحارير الكاتبين والعالمين.
مبادئ الفلسفة القديمة
هي مجموعة فيها كتاب ما ينبغي أن يقدم قبل أن تعلم فلسفة أرسطو لأبي نصر الفارابي وكتاب عيون المسائل في المنطق ومبادئ الفلسفة له أيضاً عنيت بتصحيحها ونشرهما المكتبة السلفية بمصر لمؤسسيها محب الدين أفندي الخطيب وعبد الفتاح أفندي القثلان. وقد جعلت له مقدمة في ترجمة الفارابي مطولة وعلقت عليه حواشي مفيدة.
سمير الليالي
طبعت المكتبة الرفاعية في طرابلس الشام الجزء الأول من هذا الكتاب تأليف محمد أمين أفندي صوفي السكري وهو في جغرافية الممالك العثمانية وشيء من تاريخها وهو في 198 صفحة وعسى أن يزيد المؤلف كتابه تدقيقاً في الطبعة القادمة لأن فيه بعض نواقص لا يصح أن تبقى فيه.
الغصن الرطيب في فن الخطيب
هو مختصر في تعليم الخطابة للشيخ سعد الشرتوني من فصحاء لبنان ولغوييه وفيه كثير من القواعد وبعض أمثلة.
مطالع الأضواء في مناهج الكتاب والشعراء
هو موجز أيضاً للشيخ سعد الشرتوني انتقى فيه زبدة علوم المعاني والبيان والبديع والعروض بعبارات وجيزة قال أحد الناظرين فيه تبين لنا أثناء مرور النظر على مباحث هذا الكتاب أن المؤلف إذا استشهد ببيت شعر يعزو لقائله أو فقرة من المزامير يبين عدد الصحيفة التي وردت بها الآيات القرآنية الشريفة فإذا استشهد بها لا يعزوها بل يتخذها كالمثال المبتكر من عنده أو كالكلام المعتاد فيا حبذا لو أرجع الآيات كما يرجع غيرها.(49/67)
الأرض في السماء
هي قصائد أجنبية أخلاقية تاريخية وأساطير حكمية تأليف محمد أفندي ظاهر خير الله من الشعراء والكتاب جمع فيها الحقائق العلمية والنتائج العقلية والفوائد الزراعية على نمط جديد ولم يلتزم فيها الروي في كل شطر وسماه الأرض في السماء أي ما ينال به الإنسان رغد العيش وحلاوة الأمن وهو مشكول بالشكل الكامل ليسهل على كل متناول وعدد صفحات هذا الجزء 142 ص طبع بالمطبعة الأدبية في بيروت ويطلب من مؤلفه في دمشق.
دروس الحياة الإنسانية في مدرسة الله النباتية.
هو كتاب في 152 ص تأليف أمين أفندي ظاهر خير الله المشار إليه جعل شعاره أن المبرؤات المحدودة تنطق بلسان صمتها عن تمام حكمة البارئ الغير محدودة وفيه مباحث أدبية واجتماعية جعل الدين ولاسيما آيات الكتاب المقدس دعامتها الكبرى وذلك لينتفع به طلاب المدارس المسيحية وهو مشكول أيضاً سهل العبارة حسن الأسلوب والنسج.
تاريخ أبي المحاسن
بدأت جامعة كليفورنيا في أميركا بنشر كتب في اللغات السامية أن تستفتح عملها بنشر الجزء الثاني من كتاب النجوم لزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لأبي المحاسن ابن تغري بردي وهو في ست مجلدات كان نشر الجزء الأول منه في ليدن. وهذا التاريخ يبدأ من الفتح الإسلامي وينتهي سنة 872 للهجرة. وفي هذا الجزء كلام على خليفتين من خلفاء الفاطميين العزيز الناصر والحكم.
حضارة بابل
نشر المسيو مارتين 248 رسالة باللغة البابلية وجدت في أبي حبة على خمسين كيلومتراً من مدينة بابل وفيها إشارات إلى ثروة تلك البلاد وأشخاصها ومجتمعها المدني وأشغالها التجارية والحقوقية وذلك مدة خمسين سنة من سقوط بابل إلى أوائل قيام دار ملك الفرس.
ابن الطفيل
نشر المسيو ليون غوتيه بالإفرنسية كتاباً على أبي بكر ابن الطفيل أحد فلاسفة الأندلس فيه(49/68)
ذكر حياته وأعماله وأشار إلى رسالته حي بن يقظان في الحكمة الشرقية.
ابن رشد
نشر المستشرق الموما إليه كتاباً في ابن رشد الفيلسوف الإسلامي جعله تتمة لما كتبه الفيلسوف رنان عنه وأفاض في الكلام على كتاب فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.(49/69)
العدد 50 - بتاريخ: 1 - 4 - 1910(/)
جرائد الولايات العربية
كل شيءٍ أخذ بالنشوء والنمو في هذه الديار إلا جرائد الولايات العربية الرسمية فإنها كلما طال عليها الزمن تنحط مكانتها لأنها كانت ولا تزال تقدس أعمال الولاة وتزكيهم إلا قليلاً وجرائدٌ هذا حالها كيف يرضيك خبرها ومخبرها.
للحكومة العثمانية اثنتا عشرة ولاية (أو لواء) عربية تصدر فيها 11 جريدة رسمية أسوة سائر الولايات في آسيا الصغرى والروم إيلي وهي طرابلس الغرب، بيروت جبل لبنان، القدس، سورية، حلب، الموصل، بغداد، البصرة، الحجاز، اليمن تصدر مرة في الأسبوع لتقريظ أعمال الولاة والمتصرفين ونشر بعض أوامر الحكومة باللغتين العربية والتركية لأن الأولى لغة البلاد والثانية لغة الحكومة والعربية منقولة عن التركية بالحرف ولكنه قل لا تقدر أن تقول عنه عربياً ولا مولداً وأحر به أن يكون لغة خاصة يكاد لا يفهمها إلا قلائل ممن ألفوها أو ممن يعرفون التركية فإذا عشر عليهم فهم عبارة قلبوا الوجه التركي من الجريدة فقرأوا الأصل لينحل معهم الإشكال.
إن هذه الدركة من الانحطاط بلغت لغة الجرائد بفسادها ولو كانت منتشرة بين طبقات القوم انتشار سائر الجرائد العربية لأفسدت من ملكة الأدب العربي فساداً لا يشبهه فساد ولكن من حسن الطالع أن قراءها محصورون أو يكادون يعدون على الأصابع وأقدمها أنشئ منذ خمس وأربعين سنة وأحدثها منذ سنتين واثنتان منها وهي الزوراء جريدة بغداد والموصل تصدران بالتركية الصرفة كأن الحكومة اعتبرت الجزيرة والعراق من الأقاليم التركية أو أنها أرادت أن توفر على اللغة العربية بعض الألفاظ والتراكيب الرديئة تصدر عن أعظم العواصم العربية القديمة أو أنها لم تجد في دار السلام والموصل الحدباء من يعرب لها جريدتها الرسمية. وجريدة لبنان تصدر بالعربية فقط وهي أحسن الجرائد الرسمية عبارة. ولذا فإن كلامنا اليوم مقصور على تسع جرائد لتسع ولايات كبرى كل منها حرية بأن تدعى مملكة لا ولاية لاتساع بقاعها وكثرة نفوسها وقديم مجدها ونكتفي بإيراد جملة من جرادها الرسمية ننقلها نموذجاً على انحطاط أسلوبها وتراكيبها نلتقطها من صفحة واحدة من كل واحدة ولا نشير إلى الجريدة حرصاً على كرامة القائمين بها وإن كان معظمهم لا يعرفون من العربية جملة ولا من قواعدها قاعدة وهم عامة يكتبون وينشرون بدون مبالاة بما يفسدون به لغة العامة والخاصة وإن كانت تتفاوت تلك الجرائد في عباراتها.(50/1)
فما ورد في إحداها قولها: صورة التحريرات الواردة بالشرف وهي تعريب عن الأصل التركي بالحرف ولفظ التحريرات لم يسبق في الفصيح استعماله كما لم يسبق للعرب استعمال خطاب بمعنى كتاب المستعملة بين المصريين ويجمعونها على خطابات قال في التاج وتحرير الكتاب وغيره تقويمه وتخليصه بإقامة حروفه وتحسينه بإصلاح سقطه وتحرير الحساب إثباته مستوياً لا غلث فه ولا سقط ولا محو فالتحرير يجمع على تحارير وليس هو مقابل لفظ رسالة وألوكة أو كتاب. أما تركيب الواردة بالشرف فمن أسمج التركيب.
وقال: إن التشتت والافتراق هما يسببان ويحدثان الغوائل والمشكلات الداخلية ويؤديان إلى انقراض الهيئة المعظمة واضمحلالها كما تشهد بها مثالها التاريخية ولا يحصل لها السلامة والسعادة والترقي والتعالي إلا باتحاد قلوبهم واتجاههم جميعاً نحو غاية واحدة فنظراً لهذه الحقائق رئت نواب الملة تشكيل الجمعيات المبنية على أساس القومية والجنسية والمعنونة بها ملة بالوحدة العثمانية ففي هذه الجملة من الركاكة والألفاظ المبذولة الزائدة الدخيلة ما تراه. فأي داعٍ أولاً لتكرار لفظي التشتت والافتراق والغوائل والمشكلات وفعلي يسببان ويحدثان وانقراض واضمحلال وكلها بمعنى واحد يستغنى بأحدهما عن الأخرى ثم إلى أين يرجع ضمير أمثالها وكذلك كيف يرجع ضمير اتجاههم جميعاً. وتركيب يحصل لها السلامة والسعادة والترقي والتعالي من التراكيب السقيمة ولا معنى للتعالي هنا ولو قال لتمم لهم السعادة الخ لكان أسلم ومن القبيح استعمال فنظراً لهذه وأقبح منه رئت نواب المملة تشكيل فإن في هذا التركيب ثلاث غلطات فقط الأولى في الرسم فكان الوجه أن يقال رأى ولفظ الملة لا تستعمل بمعنى الأمة في العربية وهو من استعمال الترك فالملة الشريعة أو الدين كملة الإسلام والنصرانية واليهودية قال في التاج: وقيل هي معظم الدين وجملة ما يجيء به الرسل وقال الراغب: الملة اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه ليتوصلوا به إلى جواره وقال أيبو إسحق: الملة في اللغة السنة والطريقة. وكذلك يقال في تشكيل فليس في العربية التشكيل بمعنى التأسيس أو الإنشاء فتشكل في الأمر عندهم تصور وشكله تشكيلاً وصوره. وما أبشع تركيب الجمعيات المبنية على أساس القومية والجنسية والمعنونة بها فتجد الألفاظ العربية في الظاهر ولكنها مبدوءة في تركيبها.(50/2)
وقال: فيجب أن تبلغون الذين يقتضي لهم التبليغ بالصورة الحسنة والمناسبة وتبينون لهم أن ليس في هذه المادة غرض سوى المحافظة على الوحدة العثمانية المتكفلة بالسلامة والسعادة العمومية وأن تجري التدريسات الابتدائية بالألسن القومية وتساعد على الجمعيات الخيرية والعلمية وأن لا يتلقى أحد الممنوعية المذكورة في شكل العرض إلى الأقوام فالغلط النحوي في هذه الجملة وهو ما نسامح به لأنه بسيط لا يفسد اللغة بقدر ما تفسدها تلك الألفاظ المعسلطة والتراكيب الشائنة المغلطة مثل تبلغون الذين يقتضي لهم التبليغ بالصورة الحسنة والمناسبة ولو قال: تبلغون من يجب على ما يجب. لكان أخصر واسلم. ولو قال الكفيلة بالسلامة العامة والسعادة الشاملة لأجاد ولفظ التدريس لا يجمع على تدريسات ومن الألفاظ ما يستحب مفرده أكثر من جمعه ومنها ما يعذب جمعه أكثر من مفرده ولعل جميع تدريسات جمعت على مثال تحريرات وكم أدخلت التركية إلى العربية من هذه الجموع والألفاظ التي تجدها عربية الأصل ولكن أتى عليها شيء من العجمة ومنها ما نقل منه اللفظ عن أصله مثل التشكيل.
ومن سخيف اللفظ الممنوعية فإن المنع عربي في الأصل ولكن هذه الصيغة لم تعهد للعرب ولا لمن بعدهم وإنما جاءتنا في القرون المتأخرة ومثلها الممنونية ولا يقال أنا ممنون منك فالممنون المتطوع بل ممتن لك كما لا يقال المحظوظية والمسرورية والأمنية بمعنى الأمن والمقطوعية والمعلومية والمأذونية والمفهومية والانتقالية والفراغية وكل هذه الصيغ لا تجوز في لغة العرب دخلت عليها من التركية فاللحن كما قال عبد اللطيف البغدادي يتولد في الأمم والنواحي بحسب العادات والسير.
ومادام في العربية متسع عن هذه الألفاظ فالأحسن نبذها وكذلك يقال في التنسيقات والمأموريات فقد خطأوا من قال من المتكلمين هذه المحسوسات وقالوا صوابها المحسات لأنه يقالا أحسست الشيء بمعنى أدركته فأما المحسوس فهو المقتول من حسه إذا قتله ولو راجع من يمسكون القلم العربي ليكتبوا به الجرائد في معاجم اللغة مثل هذه الألفاظ ونظروا في أصولها لردوا أكثرها إلى الصحة من تلقاء أنفسهم.
وتقول: ينبغي إجراء التعقيبات المتمادية بوساطة مأمورين البلدية تحت نظارة الأطباء في المواقع المحررة آنفاً وتجري الفيران الميتة وألقاهن في الماء المغلي وإمساكهن بمللقاط(50/3)
الحديد الطويل وتبليلهن بدهن الكاز وإحراقهن بالنار. . . يجب إجراء الوصايا والتوضيحات الكافية للأهالي لإتلاف الفيران اللواتي لم تصبهن المرض بعد لا يمرضن ويكن واسطة لانتشار المرض ويجب أيضاً على الدوائر البلدية إعطاء أجورات مناسبة لكل فأرة التي يصطادونها الأهالي بالفخ قصداً لتقليلهن في البلد.
هذه الجملة وحدها كانت تكفي للدلالة على ما في هذه الجريدة من منافيات البيان والقواعد المألوفة لصغار الطلبة دع عنك كبارهم. فمن الأغلاط اللغوية التي فيها التعقيبات والتوضيحات والأجورات ووقوعات ومن الغلاط النحوية مأمورين البلدية والصواب مأموري البلدية ولكل فارة يصطادونها الأهالي بالفخ وهذه اللغة يسمونها لغة البراغيث من قولهم أكلتني البراغيث وأولى أن تسمى لغة الفيران للتناسب ومثله تنزيل الفيران منزلة العاقل فقال (إلقائهن) والصواب إلقاؤها (ونبليلهن بدهن الكاز وإحراقهن الفيران اللواتي لم تصبهن المرض بعد لئلا تمرض فنكون. . . قصد تقليلها و (لا لا) هذه من أغلاط الرسم وصوابها بها لئلا كما يفهم من سياق العبارة ومن مراجعة الأصل التركي وكذلك (مللقاط) والأحسن ملقط ولم تكتف هذه الجريدة باستعمال الألفاظ التركية المهزعة بل هي تدخل إلى العربية ألفاظاً إفرنجية لها في اللغة ما يقابلها مثل لفظة (كادرو) التي شاعت في العهد الأخير في هذه البلاد يراد بها الموظفون غير العاملين فيقولون أخرج فيها خارج الكادرو أو القادرو وهي لفظة فرنسوية والأولى أن يقال اخرج من الخدمة أو اسقط أو ماثل ذلك. و (محلول السوبليمه) ولو قال محلول السليماني لأفهم وما أعجم و (الباراقات) ولو استعاض عنها بالأكواخ لأصاب شاكلة الصواب ولفظ (سوبليمة) و (باراك) من الألفاظ الفرنسوية أيضاً وعندنا ما يقابلهما من اللسان العربي).
وجاء في جريدة أخرى لقطر آخر. المتعين لمتصرفية. . والصواب المعين. وندعو لمعاليه بالموفقية وهي جملة لم تشتم رائحة العربية ولو قالها عربي لأوردها هكذا (ندعو له بالتوفيق) فالموفقية من الألفاظ العربية المتتركة والأولى حذف الألف من ندعو كما تحذف موزعو الجرائد ومأمورو الإدارة. وقال: (بحمد الله وعنايته التي لانهاية لها من منذ يومين ثلاث قد تنزلت الأمطار النافعة في. . وجوارها وأخذت الزراع صيب المواضع. وفي أثناء نزول المطر في يوم الأحد قد أصابت الصاعقة المطبخ الواقع في الجهة الشمالية من(50/4)
خستة خانة المركز العسكري وبحمد الله لم يكن تلفات في النفوس ولا ضايعات سوى احتراق يسير في أرجل محمد علي من الخدمة بدون تأثير). هذه القطعة التي افتتحها الكاتب واختتمها بحمد الله نقول فيها ألف سبحان الله لما فيها من الركاكة والإفساد للغة قريش. وما أظن رجلاً من عرض الناس يكون له بعض مطالعة قليلة يكتب عبارة أحط من هذه ودليلنا (من منذ يومين ثلاث) و (لم يكن تلفات في النفوس ولا ضايعات سوى احتراق يسير في أرجل محمد علي من الخدمة بدون تأثير) وغير ذلك من الغلط الفظ الفظيع. أما تلفات وضايعات فتتصرف على وزن (موفقيات) و (تنسيقات) و (تعقيبات) ألفاظ أصلها عربي ولكن تركيبها أعجمي. ولم نفهم (أخذت الزراع صيب المواضع) إلا عندما قابلناها للوجه التركي فرأينا فيه ما تعريبه: (فأخذ الزراع يحرثون حقولهم ويسرعون إلى بذرها) كما إنا لم نفهم نسبة الأرجل إلى محمد علي وهل هذا الخادم له أكثر من رجلين كما نرى الآدميين أم له عدة أرجل ولعل هذا يقاس على مر بك آنفا من تنزيل غير العاقل منزلة العاقل في جملة الفيران. ومن أبشع التعابير تعبير (بدون تأثير) في آخر العبارة أما لفظ (خستة غانة) فلها في العربية ما يقابلها مثل دار المرضى أو مستشفى وكذلك جميع الألفاظ التي تختم بخانة فالواجب على العربي أن لا يخون لغته بل يردها إلى أصلها فلا يقول دفتر خانة ولا تيمار خانة ولا طوبخانة ولا موز خانة ولا بارود خانة ولا قره قولخانة بل يقول دار السجلات ودار المعتوهين ودار المدافع والمتحف أو دار المتحف ودار البارود ودار الخفر أو المخفرة الخ.
ومن ركاكات هذه الصحيفة (لأجل تقوية الانضباط بداخل المملكة روي لزوم إنشاء واحد قره غول في مواقع. . . . . مخصوص لإقامة قوميسر البوليس. وقد تبرع. . . بخدمة مفتخرة بإعطاء عرصة منهما يكون إنشاء القره غول. . المصارف الإنشائية المقتضية للقره غول المذكور تعهد بتأديتها إعانة من طرف. . مأمور التوتون الرزي. . فإبراز الحمية من المومي إليهم بهذه الصورة أوجبت التقدير والممنونية.).
وكان الأجدر أن يقال لتوطيد أمور الضبط في البلاد دعت الحاجة إلى إقامة مخفرة. . ليقيم فيها مفوض الشرطة خاصة فتبرع فلان بإعطاء عرصة تبنى فيها المخفرة على نفسه أداء النفقات لبنائها. . . فلان وفلان مأمور حصر الدخان. . . . وحمية الموما إليهم حرية(50/5)
بالشكر موجبة للأجر وهنا ننبه إلى رسم (المومى إليهم) الواردة في العبارة الأولى فالأولى رسمها بالألف لأنها من أومأ والأتراك يرسمونها بالياء وكثير من كتاب الصحف يتابعونهم على رسمها غلطاً. وجاء في هذا العدد (التقسيط المعطا من طرف. . .) وكان الأولى أن تجعل ألف المعطى بدل ياء (المومى إليهم).
وجاء فيها: (تفضل بالأشعار من جانب قوماندان القواي العمومية أن مجموع الإعانة للبوابير العثمانية في المعسكر الهمايوني بلغت كما هو محرر أعلاه تسعة وخمسين ألفاً وسبعمائة وثمانية وثلاثين قرش وعشرة بارات وقد أرسلت رأساً إلى دار السعادة فإبراز حمية المتبرعين الجدية جديرة بالمحمدة والشكران) في هذه الجملة أربع ألفاظ أعجمية كان يتأتى الاستعاضة عنها بألفاظ عربية مثل (قوماندان) قائد (وقواي) القوة و (البوابير) السفن و (الهمايوني) السلطاني. ولو قال كتب قائد القوة العامة أن قد بلغت الإعانة للسفن العثمانية في المعسكر السلطاني. . . لأحسن ولفظ (قرش) تنصب على التمييز ولم نفهم معنى حمية المتبرعين الجدية ولا الشكران.
وفي هذه الصفحة من الصحيفة أغلاط شائنة أخرى أكثرها مما يعرفها أحداث المدارس مثل: (إن طالبين المأمورية تؤخذ منهم ورقة ترجمة الحال ابتداءً ليعلم منشأهم وهويتهم والغير تابعين لهذا الأصول لا يكون إسعافهم لمسئولهم) وتعريب هذه الجملة هكذا: تؤخذ من طالبي التوظيف تراجمهم بادئ بدءٍ ليعرف منشأهم وأحوالهم ولا يجاب سؤال من لا يجرون على هذه الأصول) ولفظ هوية تكثر في الكلام المولد مثل كمية وكيفية.
وجاء أيضاً ما نصه وفصه: فالمأمور الذي يمنع ويصر على عدم إعطاء ترجمة الحال بلا مانع فيلحظ أنه لمقصد ستر وإخفاء بعض خصوصات عائدة لسيئات سو ابق أحواله فالمأمورين المختارين السكوت مقابل إغماض العين بهذا الباب يرى أنهم غير موافقين للمصلحة وتعريب هذه الجملة كما يأتي: علم أن لم يمتنع من الموظفين عن إعطاء ترجمة بلا موجب مقصداً يريد ستره لسوء حاله والسكوت عن أهل هذه الطبقة يعد من الإهمال ولا يوافق المصلحة بحال.
ومثله ففي هذه الحال واختياره لا يكون تجويز هذا المقصد والطالبين المأمورين بداية إذا ما أعطوا ورقة ترجمة الحال لا يكون قبولهم في خدمة الدولة قياساً للأصول ولأجله لزم(50/6)
التبيلغ تعميماً. . . ولا يجوز قطعياً لمأمورين الحكومة. . . وعلى فرض يحصل خلاف هذا الأساس من المستخدمين في خدمة الحكومة فطبيعياً تجري بحقهم المعاملة اللازمة وبناءً عليه يقتضي تلك التنبيهات جمل كلها من السخافات والركاكات بمكان لا يصل إليه كاتب إلا بخذلان من الله.
وجاء في جريدة لقطر آخر: بناءً على شدة احتياج أهالي الولاية وضرورتهم كما علم من قرار تصفية البقايا وكان تدقيق ذلك وبتطبيق تعليمات مضبطة البقايا إلى نهاية سنة 1320 في درجة الوجوب فقد تقرر استحصال الأمر بالتلغراف وإجراؤه وتعريب هذه الجملة كما يأتي: علم من قرار تصفية بقايا الموال أن أهالي الولاية في حاجة ماسة إلى تطبق عليهم لائحة البقايا إلى نهاية سنة 1320 ولذا تقرر استصدار الأمر بلسان البرق وجرى العمل به.
وفي هذه الصفحة من الصحيفة ألفاظ أعجمية عمت بها البلوى في اللغة القرشية مثل: أرسلت الولاية بمحررة أي في كتاب أو رسالة. واستحصال أمر وتسريع إجرائه أو مكانته ولفظة أهمية مثل موافقية ومعمورية أصلها عربي وتركيبها أعجمي وكذلك لتأمين وإدامة نعمة الأمنية والراحة إلى منتهى حدودها أي لتوطيد دعائم الأمن والراحة للغاية. ومثله نسب قوميسيون التنسيق إعطاء معاش المعزولية إلى. . . أي رأت لجنة الإصلاح منح راتب عزل إلى. . ولفظ معاش غير وارد في هذا المعنى والأولى أن يقال راتب أو مشاهرة وكذلك نسب رأى مناسباً وقوميسيون لجنة والمعزولية مثل الممنونية والأمنية والأهمية تقاس عليها ولكن لا تقس عليها بالله عليك ومثلها تبليغات وتعليمات وإيضاحات. وفي هذه الجملة تراكيب رديئة مثل: باش كاتب الأعشار وبلغت لهم الكيفية بتذاكر مخصوصة. . . المخبر عنه يكون مظنوناً بغشهار السلاح. . . أن ينظموا محاسباتهم العائدة لزمان إدارتهم بمجرد ما ينفكون عن مركز وظائفهم. . . وبذلك ظهرت أنه نزلت علامة الخصب والبركة في السنة الآتية. . . يقرر حق المفتين ببعض أحول مخصوصة مستثناة. . . والخطب يسير في إرجاع هذه الجمل إلى العربية فيقال: رئيس كتاب الأعشار وأبلغوا ذلك في رسائل خاصة. . . المتهم بأنه شهر السلاح. . . يضعون محاسباتهم أيام إداراتهم عندما يغادرون وظائفهم. . الخ.(50/7)
وتقرأ صورة من صور الركاكة في صفحة واحدة أيضاً من تلك الجرائد التي تصدر في قطر آخر أيضاً فمنها: يلزم إيفاء التعقيبات القانونية بحق من. . . لكل الملحقات والمراجع الإيجابية. . . أسماء الذواة الذينهم عينوا. . حيث كانت أرض أنموذج الزراعة بعيدة عن البلد وواقعة في محل لا يمر فيه أحد ولم يستفاد من هذا الأنموذج شيء حال كون نفق عليه الأموال الكثيرة وبذلت في إصلاحه المساعي الوفيرة فاستئذن كل من مجلس الولاية العام ومجلس الإدارة من نظارة الأحراش والمعادن والزراعة بأن يجعل الميدان والبستان الذي في جواره جفتلك الأنموذج. . . وعرف عن أهمية المسئلة أيضاً وحين اقترن ذلك بالتصديق العالي يجري الإيجاب اللازم. وصوابه: اسماء الأعيان الذي عينوا. . . لعامة العمالات والمراجع. . . لما كانت أرض الحقل النموذجي. . . لم ننتفع منه في حين أنفقت عليه الأموال الطائلة استأذن مجلس الولاية العام ومجلس الإدارة نظارة الحراج بأن يجعل مزرعة أنموذجية. . . عرف بمكانة المسالة حتى إذا صدق عليه يعمل بموجبه.
وفي هذه الصحيفة من الألفاظ الأعجمية كل ما تنقبض منه النفس العربية مثل المشروطية والشائعة ووالمضبطة الاسترحامية وحيثية ملة النجيبية العثمانية واسترحامات وتفوهات لسانية الخ ويمكن أن يقال عنها الحكومة النيابية أو الدستورية والإشاعة ومضبطة الاسترحام وشرف الأمة العثمانية الكريمة. واسترحام وتفوه. ونرى أن هذه الجريدة كلما أرادت أم تتفاصح تسقط مثل قولها: ما تقرره وما افتكر بتاتاً تبديل وإلينا المحترم وأعهد بأن هكذا إشعارات لا تنقص بعزم وحزم حضرة المشار إليه الذي يتعلق بإصلاح المملكة. . المرتبة العليا والمكان المسمى. . . تترنم بالأنغام المحزنة التي تفعله بالأرواح ما لا تفعله السراح تريد أن تقول لم يتقرر ولم يفكر بتاتاً وهو العامل على إصلاح البلاد. . . المرتبة العليا والمكان السامي أو الأسمى. ولم أفهم ما يراد بالسراح هنا. وكذلك نحن متحمسين بحياة حب الوطن أي شعورنا وطني أو ما شاكل ذلك ولف حسيات يرسمونها بالتاء المفتوحة مثل ثقات لا ثقاة ولكن ليست من العربي في شيء.
وإليك أنموذجات أخرى من جريدة قطر عظيم آخر: غير خاف على أن جميع المأمورين والمستخدمين هم مكلفون بإعطاء أوراق تراجم أحوالهم وكان الذين لم يقدمون أوراق لا يتعينون في المأموريات ابتداء وذلك من الأصول المتخذة فمن الضروري أن الذين يتعينون(50/8)
في خدمة يجب أن يعطوا ورقة ترجمة حالهم في اقل مدة وألا يتسببوا إلى الاحتياج بتبليغهم فيكون معلوماً لدى العموم أنه إذا وقع خلاف ذلك لا تجري معاملتهم وتكون الإشارة على أسمائهم في دفاتر القيود طبقاً للإشعار الواقع من نظارة الداخلية هذه المرة فلتجري التبليغات اللازمة إلى مأموري ومستخدمي النافعة بالمثابرة على مقتضاه.
وجاء فيها: لحيث أنه من اللزوم أن أوراق الإخبارات. . . مستندة إلى قناعة كاملة من أصحابها وأن يصرح في الإمضاآت. . . أخبرنا بذلك العموم فيقتضي إعلانه بطرفكم. . . رياسة شوراء الدولة وتعليمات البول. . . المعاونية الأولى. . . باطن مظروفات مبطنة تعمل له خاصة لأجل إرساله بتمام المحافظة عن الضياع. . . حاصلات البول تفيد في خاناتها المخصوصة بالدفاتر المحلية. . . صندوق تسهيلات. . . من عموم مأموري البلدية. . . تلقى المسئولية على الآمر والصارف. . . يقيد مصروفاً بأنواعه ومقاديره بجهة المدفوعات في دفتر عينيات البول الخ.
وهنا نترك تصحيح هذه العبارة مكتفين بإيرادها بنصوصها لئلا يطول البحث. وعندنا أن هذه الجرائد إذا دامت على هذا المنوال توجد في اللغة العربية لهجة جديدة لا يفهمها إلا طبقة مخصوصة ويكون الاختلاف بينها وبين الفصحى أكثر مما بين الإسبانيولية والبرتقالية وهناك بعض صحف رسمية هي أقرب إلى الصواب في منشوراتها وإن كانت لا تسلم مما تقع فيه الجرائد الركيكة العبا رة مثل قول إحداها: باشمديرية الرسومات وصل إلى مياه ثغرنا طريق شوسة للتحري على المزيفين استلفت الأنظار القشلة الهمايونية دفتر الاغتراب مستملكات الروس رفع راية العصيان ضد طمعاً بنوال مقاصدهم الأمر الهام يحكم وهلة الرفاه والراحة بناءً عليه وتوفيقاً لأحكام والأحرى أن يقال: رئاسة مديرية الجمرك. بلغ ثغرنا. . طريق مركبات أو معبدة. للبحث عن المزيفين. لفت الأنظار أو وجه الأنظار. الثكنة السلطانية. سجل الغرباء. مستعمرات الروس. رفع راية العصيان على. طمعاً بنيل مقاصدهم. الأمر المهم أو الجلل. يحكم لأول وهلة. الرفاهية أو الرفاهة والراحة. عملاً بأحكام. أما تركيب بناء عليه وعليه وحيث أن فهي مولدة لا يعرفها العرب والأولى أن يستعاض عنها بتراكيب أخرى عربية.(50/9)
تعليم النساء
وترجمة علية بنت المهدي العباسي
تمهيد
كان الخلفاء والأمراء وخاصة الناس في صدر الإسلام حتى القرن الخامس للهجرة من أحرص الناس على تذيب بناتهم وجواريهم وأمهات أولادهم ينفقون الأموال ويجهدون النفوس السنين الطوال في تثقيف عقولهن وتقويم فطرتهن بالترويض والتخريج والتدريس والتحصيل على أيدي ثقات أهل العلم وأئمة النحاة والرواة وأشهر الحفظة والمجودين فما منهن بعد أن يتمرسن على العفاف وحب الفضيلة من لا تحفظ القرآن العزيز وطرفاً من أحكام الفقه والحديث ونتفاً من علمي الأنساب والتاريخ فضلاً عن آداب اللغة وآثار السلف من شعراء ومحدثين وغزاة وخطباء وكتبة وأمراء فكان صدر كل فتاة من فتياتهم كنزاً من أسمى الكنوز يصيب منه سميرها ما شاء من أدب وحكمة ونكتة وفكاهة فينجذب لها فؤاده وتنزع إليها عواطفه وتحل من نفسه محل الحرمة والتجلة والإعظام بمقدار ما يتوسمه فيها من مخايل الدراية والتعقل وآثار النجابة والاختبار.
وما في ذلك من عجب بل العجب من النقيض وهيهات أن يخفى على أمثال المنصور والمهدي والرشيد والمأمون أن الحسن المادي مهما كان بارعاً رائعاً باهراً فتاناً إذا لم يقترن بالحسن المعنوي ويشفع بالظرف الأدبي كانت صاحبته كالتمثال المنحوت والصورة المنقوشة بل اقل قيمة وأبعد جاذبية منعهما لأن التمثال والصورة معدودان من الجمادات فلا يتوقع منهما الإنسان رشاقة الحركة ولطف الإشارة وخفة الروح وحلاوة المعنى وسعة الدراية وحسن الرواية ولذلك يستحسنان ويروقان بأعين الناظرين بمقدار ما أودع فيهما من دقة الصناعة وتناسب الرسم وحسن التكوين وتشاكل الألوان بمعزل عن تلك المزايا.
أما الفتاة ذات الجسم المتحرك والنفس الحية واللسان الناطق والخلق السوي العتيدة أن تكون زوجاً مؤانسة وأما مربية فتأباها النفس ويعافها الذوق وينصرف عنها القلب وإن كانت جميلة وسيمة ما دامت جامدة كالصنم بكماء كالعجماء لا تفقه من أحوال الدنيا وأسرار الحياة وحقائق الكون وماهية ما يراد منها ومفروض عليها من سنن وواجب إلا ما كان مداره المطعم والمشرب وقوامه الملبس والمركب ومرجعه اللهو والقصف ونتيجته الحب(50/10)
والبعال فإذا عرض لها أمر يستوجب الإنباء_وهو مما يحدث كل يوم_قصرت في الأداء وتلكأت في الكلام وسعلت وتنحنحت وتسامجت ما شاءت ولم تقو على الإفهام وإن سئلت عن شيء أجابت بلا أدري أو هذرت بجواب لم يكن من لحمة السؤال ولا من سداه. فمن كانت على هذا الطرز_وما عدد أمثالها عندنا بقليل_أحر بها أن تكون عند أذكياء الرجال وأرباب الذوق والفضل ساقطة المنزلة ساقطة القدر رخيصة القيمة تفضلها الشخوص وتمتاز عنها الصور لأن هذه تمتع الأعين بجمالها ولا تضر النفوس أما تلك فإنها تورث الكراهة وتمني بالضجر وتبلي المنازل خاصة والمجتمع القومي عامة بأدواء من الهموم والموبقات تذهب بالأمم إلى أقصى الدركات.
أجل وليس من ينكر أنك لتراها بادئ الأمر فتستحسنها لنقاء بشرتها وسواد حدقتها واعتدال قوامها وغضاضة جسدها وبضاضته وجدله والتفافه ثم تسمع كلامها الدال على جهلها وغباوتها المؤذن بقصر إدراكها وسذاجة قلبها وظلام ذاكرتها فتزدريها وتستهجنها وينبذها قلبك نبذ النواة ويطرحها ذكرك طرح القذاة لأنها لا تصلح للمؤانسة وترويح الهموم ولا ترجى للاستشارة وتسديد الرأي ولا تنفع للأمومة بأتم معانيها وللتربية وتدبير المنازل بكل ما يراد من هذين الواجبين بحكم العقل والصواب ومن كان هذا شأنها كانت سخطاً على النوع الإنساني ونيراً ثقيلاً على عاتق الوجود وكل أمة تقلص ظل مجدها ونضب معين رخائها ونزفت مواد قواها وتقطعت أسباب منعتها وعزتها وهنائها إنما نساؤها على تلك الشاكلة ولقد صدق من قال إن التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسراها.
فيا حبذا لو اقتدى كبراؤنا وأعظامنا بمن درجوا قبلهم من أساطين الأمة وسراة أعلامها وصرفوا العناية إلى تعليم أولئك اللواتي لا يسمين بحق أوانس إلا إذا كن بالفعل نزهة المجالس ولا يقال لهن عقائل ما لم يكن بالحقيقة أرباب علم وأدب وتهذيب وفضائل فإن الناس على دين ملوكهم والعامة تقتدي بأعيانها فلإن أحسن هؤلاء الابتداء أحسن الاقتداء والعكس بالعكس سنة الله في الخلق منذ حلت الحضارة محل البداوة وقام التهذيب مقام الفطرة وأصبح البشر درجات ومراتب وطبقات.
نقول هذا توطئة وتمهيداص لما نذكره الآن من ترجمة ابنة خليفة وأخت ثلاثة خلفاء وعمة ثلاثة وهي (علية بنت المهدي) التي عني قومها بتعليمها وتأديبها وتنوير عقلها وتوسيع(50/11)
دائرة اختبارها حتى صارت آية الفضل ونابغة الأدب ومثال العفاف وعنوان الرقة والبلاغة في قرض الشعر الصحيح الأجزاء المتين التراكيب الرشيق المعاني تتفنن في أساليبه وتأخذ بأطرافه أخذاً يبهر العقول ويفتن الألباب على كونها نشأة زهو وترف وغرسة صفو ونعيم. ومعلوم أن الملكة الشعرية لا تستحكم في فتاة إلى هذا الحد إلا بعد الإمعان والجد وإحياء وإحياء الليالي الطوال تبحراً في علوم العرب وإتقاناً لفنون الأدب وتعمقاً في دراسة أشعار النابغين المجيدين من فحول الجاهلية والمخضرمين والمولدين وإلا لما تهيأ لها أن تحذوا حذوهم وتنسج على منوالهم وما تلك بالوحيدة بين أترابها في ذلك العصر الزاهر وما بعده بل يوجد كثيرات مثلها حتى بين الجواري القيان فضلاً عن حرائر الآنسات الحسان.
* * *
ولدت عليه حفيدة المنصور_ثاني خلفاء العباسيين_وبنت المهدي وأخت موسى الهادي وإبراهيم ابن المهدي وهارون الرشيد والعباسة وأسماء وعمة الأمين والمأمون والمعتصم وصالح من سرية أم ولد تدعى مكنونة جارية المروانية وذلك سنة 160 للهجرة وأدركتها الوفاة نحو سنة 210 وقد ناهزت الخمسين على إثر حمى أصابتها وقد قال بعض المؤرخين في سبب وفاتها أن ابن أخيها المأمون ضمها إليه طويلاً وجعل يقبل رأسها والنقاب مسدول على وجهها فغصت بريقها من شدة ما نالها من حبس أنفاسها ثم شرقت وسعلت فكان في ذلك حتفها.
قال أبو إسحق القيرواني في كتابه زهر الآداب كانت عليه لطيفة المعنى رقيقة الشعر حسنة مجاري الكلام رخيمة الصوت ولها ألحان حسان أحصاها أبو الفرج الصبهاني في كتابه فإذا هي ثلاثة وسبعون وكلها حسن مختار.
وقال النوفلي عنها أنها من أوضئ النساء وجهاً وأعدلهن قواماً وأظرفهن كلاماً تقول الشعر المتين الجيد وتصوغ الألحان الحسنة وكان في جبينها أثر من شجة أو فضل سعة ينقص من محاسنها فاتخذت العصائب المكللة بالجواهر تستر ذلك العيب فكان ما أحدثته خير ما ابتدعته النساء وقد وهم من قال أن أختها العباسة المبدعة لتلك العصائب فإن ذلك لم يقله أحد من ثقاة المؤرخين.(50/12)
وقال إبراهيم ابن إسماعيل الكاتب كانت علية حسنة الدين لا تغني ولا تشرب إلا إذا كانت معتزلة الصلواة فإذا طهرت أقبلت على الصلاة وتلاوة الأوراد ومطالعة الكتب_إلا أن يدعوها الخليفة إلى شيء فلا تقدر على خلافه_وأطرب شيء إليها قول الشعر.
وكان أحد أحفاد الفضل بن الربيع وزير الرشيد يقول ما اجتمع في الإسلام أخ وأخت أحسن غناءً من إبراهيم بن المهدي وأخته علية وكانت أخته تقدم عليه.
حدث يوماً أبو أحمد بن الرشيد فقال: دخل في بعض الأيام المأمون إلى دار الحرم ودخلت معه فسمعت غناءً أذهل عقلي فلم أقدر أن أتقدم ولا أتأخر وفطن المأمون لما بي فضحك ثم قال: هذه عمتك عليه تطارح عمك إبراهيم.
مالي أرى الأبصار بي جافية ... لم تلتفت مني إلى ناحية
لا تنظر الناس إلى المبتلي ... وإنما الناس مع العافية
وقد جفاني ظالماً سيدي ... فأدمعي منهلة واهية
والشعر والغناء لها ومن شهرها في أخيها الرشيد وقد دعته إلى وليمة فلبى دعوتها:
تفديك أختك قد حبوت بنعمةٍ ... لسنا نعدُّ لها الزمان عديلا
إلا الخلود وذاك قربك سيدي ... لا زال قربك والبقاءُ طويلا
وحمدت ربي في إجابة دعوتي ... فرأيت حمدي عند ذاك قليلاً
قال الراوي ما معناه: لما زارها الرشيد قال لها غنيني يا أختي فقال وحياتك لأعملن فيك شعراً ولأصوغنَّ فيه لحناً ولأسمعنك به غناءً يطرب الثكلى ويرقص المقعد ويشجي المدنف ثم نظمت في وقتها الثلاثة أبيات التي ذكرناها وغنت بها في لحن جديد من خفيف الرمل فأطرب الرشيد كثيراً واستعادها إياه مرَّات. ولها فيه أيضاً وقد دعا أختها العباسة إلى زيارته ولم يدعها:
ما لي نُسيت وقد نودي بأصحابي ... وكنت والذكر عندي رائحٌ غادِ
أنا التي لا أطيق الدهر فرقتكم ... فرق لي يا أخي من طول إبعادي
ولها في ابن أخيها الأمين وكانت لما مات الرشيد جزعت عليه جزعاً شديداً وتركت اللهو والغناء فلم يزل بها الأمين حتى عاودتهما وهي كارهة فقالت:
أطلتِ عاذلتي لومي وتفنيدي ... وأنت جاهلة شوقي وتسهيدي(50/13)
لا تشرب الراح بين المسمعات وزر ... ظبياً غريراً نقي الخد والجيد
قد رنحته شمول فهو منجدل ... يحكي بوجنته ماء العناقيد
قام الأمين فأغني الناس كلهم ... فما فقير على حال بموجود
ولها في لبانة ابنة أخيها علي بن المهدي وكانت من حسان زمانها الفاتنات:
وحدثني عن مجلس كنت زينه ... رسولٌ أمينٌ والنساءُ شهودُ
فقلت له كرّ الحديث الذي مضى ... وذكرك من بين الحدث أريدُ
وليس في شعرها هذا بشيء بجانب غزلياتها فإن لها من المقاطيع في طل ورشا.
ومنها قولها في رشا وقد كنَّت عنه بزينب:
وجد الفؤاد بزينباً ... وجداً شديداً متعباً
أصبحت من كلفي بها ... صباً كئيباً منصبا
ولقد كنت عن اسمها ... عمداً لكي لا تغضبا
وجعلت زينب سترةً ... وكتمت أمراً معجباً
قال وقد عزَّ الوصا ... ل ولم أجد لي مذهبا
والله لا نلت المودَّ ... ة أو تنال الكوكبا
فلما اشتهر أنها تكني عن رشا بزينب قال وقد صحفت زينب بلفظة ريب:
القلب مشتاق إلى ريب ... يا ربما من هذا العيبِ
قد تيمت قلبي فلم أستطع ... إلا البكاء يا عالم الغيب
خبأت في شعري اسم الذي ... أرته كالخبءِ في الجيب
وكانت لزبيدة زوجة الرشيد جارية اسمها طغيان وشت بها مرة إلى الرشيد فقالت علية تهجوها وفيه مع أدب الكتاب أشد أنواع الذم وهو من مبتكراتها المأثورة:
لطغيان خف منذ ثلاثين حجة ... جديد فلا يبلى ولا يتمزقُ
وكيف بلى خف الدهر وهو كلهُ ... على قدميها في الهواء معلقُ
فما خرقت خفاً ولم تبل جورباً ... وأما (ثياب فوقهُ) فتمزقُ
ولما مات رشا أو قتل شببت في طل فقالت وقد صحفت اسمه في البيت الأول تلميحاً:
أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى طل لديك سبيل(50/14)
متى يلتقي من ليس يهوى وخروجه ... وليس لمن يهوى إليه الدخولُ
عسى الله أن نرتاح من كربة لنا ... فيلقى اغتباطاً خلة وخليلُ
ولها فيه أيضاً وقد جعلت التصحيف في البيت الثالث:
سلم على ذاك الغزال ... الأغيد الحسن الدلال
سلم عليه وقل له ... يا غل الباب الرجال
خليت جسمي ضاحياً ... وسكنت في طل الجمال
وبلغت مني غايةً ... لم أدر فيها ما احتيال
ثم صرحت بعه في أبيات أخر تستعطفه به وتتهمه بالصدود والإعراض وهي قولها وهو من أرق التشبيب:
يا رب إني قد عرضت بهجرها ... فإليك أشكر إذ ذاك يا رباه
مولاة سوءٍ تستهين بعبدها ... نعم الغلام وبئست المولاه
طل ولكني حرمت نعيمه ... ووصاله ما لم يغثني الله
يا رب إن كانت حياتي هكذا ... ضراً عليَّ فما أريد حياة
والذي أدبها وعلمها وخرجها فنون الشعر إنما هو عمرو أبو حفص الشطرنجي وقد نشأ هذا في دار أبيها المهدي مع أولاد مواليه ثم انقطع بعد موت المهدي إلى علية هذه ولما زوجت بموسى بن عيسى العباسي خرج معها إلى دار زوجها ولما عادت إلى القصر بموت زوجها عاد معها وسمي شاعرها وهو القائل عن لسانها لما غضب عليها الرشيد:
لو كان يمنع حسن العقل صاحبهُ ... من أن يكون لها ذنب إلى أحد
كانت علية أربى الناس كلهم ... من أن تكافأ بسوءٍ آخر الأبدِ
ما أعجب الشيء نرجوه ونحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
فكانت أبياته هذه سبب رضى الرشيد عنها وإقباله عليها ومن أحسن الغزل وأرقه قولها:
يا عاذلي قد كنت قبالك عاذلاً ... حتى ابتليت فصرت صباً ذاهلاً
الحب أول ما يكون مجانةً ... فإذا تمكن صار شغلاً شاغلاً
أرضى فيرضى قاتلي فتعجبوا ... يرضى القتيل وليس يرضى القاتلا
وكان الرشيد قد استحلفها ألا تكلم طلاًّ ولا تشبب به في شعرها ولا تسميه فحلفت له ثم همَّ(50/15)
يوماً بالدخول إليها وإذا بها تقرأ في سورة البقرة وقد بلغت الآية فإن لم يصبها وابلٌ فأطل وأرادت أن تقول فطل فقالت فالذي نهى عنه أمير المؤمنين فضحك وقال لها ولا كل هذا.
هكذا روى القيرواني أما الأصبهاني فقال أنه عندما سمع الرشيد منها ذلك وهبها الغلام بعد أن قبل رأسها وقال لها لست أمنعك بعد اليوم من شيءٍ تريدينه وعندنا أن الرواية الأولى أدنى إلى الصحة على ما عهد من غيرة الرشيد وأنفته كيف وهو الهاشمي الأبي العزوف النفس ولقد روي عن لسان علية أنها قال لا غفر الله لي فاحشة ارتكبتها قط ولا أقول في شعري إلا عبثاً وهي هي التي تقول ما حرَّم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما حلل منه عوضاً فبأي شيءٍ يحتج عاصيه وبالجملة لو لم يكن حبها للجمال مقصوراً على القيل والقال لما أكثرت من شعرها من ذكر الهجرة والوحشة والشوق فما نظمت بيتاً في التشبيب والغزل إلا كاد ينطق بعفتها وأدبها بغير لسان ويعرب عن نزاهتها وتصونها كأفصح ترجمان لأن النار لا تنبعث عن فؤَاد أخمدته الشهوات وأطفأت جذوته اللذات وما أحلى قولها تشكو وتتألم وهو من مهلهل الشعر:
نام عذالي ولم أنم ... واشتفى الواشون من سقمي
وإذا ما قلن بي ألمٌ ... شك من أهواه في ألمي
ولو شئنا أن نأتي على جميع أخبارها ومنظوماتها وما ذكر الرواة من بدائعها ونكاتها لضاق بنا المقام وأدرك القارئ الملال فلم نرد بداً من الاقتصار على ما أوردنا تبصرة للرجال وتذكرة لمن أغفلن العلم ولم يعتنين بالفضل من ربات الحجال خاتمين هذا الفصل ببيتين لعلية لا يخلوان من الحكمة والعبرة لمن يكثر الزيارة واللبيب تغنيه الإشارة:
إني كثرت عليه في زيارته ... فمل الشيءُ مملولٌ إذا كثرا
ورابني منه أني لا أزال ارى ... في طرفه قصراً عني إذا نظرا
سليم عنحوري(50/16)
مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
تتمة ما ورد في الجزء الماضي
أقوال متقدمي فلاسفة الإسلام في الجن
ابن سينا والفارابي.
قال ابن سينا رحمه الله في كتاب الحدود: الجن حيوان هوائي ناطق مكشف الجرم من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة (قال) وليس هذا رسمه بل هو معنى اسمه اهـ قال أبو البقاء في كلياته: أي هذا بيان لمدلول هذا اللفظ مع قطع النظر عن انطباقه على حقيقة خارجية سواء كان معدوماً في الخارج أو موجوداً ولم يعلم وجوده فيه فإن التعريف الاسمي لا يكون إلا كذلك بخلاف التعريف الحقيقي فإن عبارة عن تصور ماله حقيقة خارجية في الذهن (ثم قال أبو البقاء) وجمهور أرباب الملل المصدقين بالأنبياء قد اعترفوا بوجوده واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة أيضاً.
وفي رسالة للمعلم الثاني أبو نصر محمد الفارابي في جواب مسائل سئل عنها ما مثاله:
(سئل) فيما رآه بعض العوام في معنى الجن وسأله عن ماهيته (فقال): الجن حي غير ناطق غير مائت وذلك على ما توجبه القسمة التي يتبين منها حد الإنسان المعروف عند الناس أعني الحي الناطق المائت، وذلك أن الحي منه ناطق مائت وهو الإنسان ومنه ناطق غير مائت وهو الملك، ومنه غير ناطق مائت وهو البهائم، ومنه غير ناطق غير مائت وهو الجن: فقال السائل: الذي في القرآن مناقض لهذا وهو قوله استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً والذي هو غير ناطق كيف يسمع وكيف يقول: فقال: ليس ذلك بمناقض وذلك أن السمع والقول يمكن أن يوجد للحي من حيث هو حي لأن القول والتلفظ غير التمييز الذي هو النطق، وترى كثيراً من البهائم لا قول لها وهي حية، وصوت الإنسان مع هذه المقاطع هو له طبيعي من حيث هو حي بهذا النوع كما أن صوت كل نوع من أنواع الحي لا يشبه صوت غيره من الأنواع كذلك هذا الصوت بهذه المقاطع التي للإنسان مخالف لأصوات غيره من أنواع الحيوان، أما قولنا: غير مائت فالقرآن يدل بذلك في قوله تعالى رب انظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين اهـ.
أبو طالب المكي(50/17)
قال في قوت القلوب في الفصل الثلاثين تفصيل خواطر القلوب ما مثاله بعد سرد آيات وقال تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك وقال تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقال ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهي حواس الجسم والقلب. فأدوات الجسم هي الصفات الظاهرة. وأعراض القلب هي المعاني الباطنة قد عدلها الله تعالى بحكمته وسواها على مشيئته وقومها إتقاناً بصنعته وإحكاماً بصنعه (أولها) النفس والروح وهما مكانان للقاء العدو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى (ومنها) غرضان متمكنان في مكانين وهما العقل والهوى عن حكمين في مشيئة حاكم وهما التوفيق والإغواء (ومنها) نوران ساطعان في القلب عن تخصيص من رحمة راحم وهما العلم والإيمان فهذه أدوات القلب وحواسه ومعانيه الغائبة وآلاته والقلب في وسط هذه الأدوات كالملك وهذه جنوده تؤدي إليه أو كالمرآة المجلوة وهذه الآلة حوله تظهر فيراها ويقدح فيه فيجدها.
(ثم قال) فإذا أردا الله تعالى إظهار الخير من خزانة الروح حركها فسطعت نوراً في القلب فأثرت فينظر الملك إلى القلب فيرى ما أحدث الله تعالى فيه فيظهر مكانه فيتمكن على مثال فعل العدو في خزانة الشر وهي النفس، والملك مجبول على حب الهداية مطبوع على حب الطاعة كما أن العدو مجبول على الغواية مطبوع على حب المعصية فيلقي الملك الإلهام وهو خطوره على القلب بقدح خواطره يأمر بتقييد ذلك ويحسنه له ويحثه عليه وهذا هو إلهام التقوى والرشد.
(ثم قال) ذكر تقسيم الخواطر وتفصيل أسمائها، فأما تسمية جملة الخواطر فما وقع في القلب من عمل الخير فهم (إلهام).
وما وقع من عمل الشر فهو (وسواس).
وما وقع في القلب من المخاوف فهو (الحساس).
وما كان من تقدير الخير وتأميله فهو (نية).
وما كان من تدبر الأمور المباحات وترجيها والطمع فيها فهو (أمنية وأمل).
وما كان من تذكرة الآخرة والوعد والوعيد فهو تذكرة وتفكير.(50/18)
وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة.
وما كان من تحدث النفس بمعاشها وتصريف أحوالها فهو همم.
وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم.
ويسمى جميع ذلك خواطر لأنه خطور همة نفس أو خطورة عدو بحسد أو خطرة ملك بهمس اهـ مخلصاً.
الغزالي
قال في المضنون الكبير: الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافاً يكون بين الأنواع مثال ذلك القدرة فهيب مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفان اللون واللون والقدرة والعلم أعراض قائمة بغيرها فكذلك بين الملك والشيطان والجن والملك فلا يدري أهو اختلاف بين النوعين كالاختلاف بين الفرس والإنسان أو الاختلاف في الأعراض كالاختلاف بين الإنسان الناقص والكامل وكذا الاختلاف بين الملك والشيطان وهو أن يكون النوع واحداً والاختلاف واقعاً في العوارض كالاختلاف بين الخير والشر والاختلاف بين النبي والولي، والظاهر أن اختلافهم بالنوع والعلم عند الله تعالى، وهذه الجوار المذكورة لا تنقسم أعني أن محل العلم بالله تعالى واحد لا ينقسم فإن العلم الواحد لا يحل إلا في محل واحد وحقيقة الإنسان كذلك فالعلم والجهل بشيء واحد في محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين وأما أن هذا الجوهر غير منقسم وهل هو متحيز أم لا فهذا الكلام عائد إلى معرفة الجزء الذي يتجزأ فإن استحال الجزء الذي لا يتجزأ فهذا الجوهر غير منقسم ولا متحيز وإن لم يستحل الجزء الذي لا يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيراً_وقد قال قوم لا يجوز أن يكون غير منقسم ولا متحيز فإن الله تعالى غير منقسم ولا متحيز فمنا الذي يفصل هذا من ذلك وهذا غير مبرهن عليه لأنه ربما تباينا في حقيقة الذات وإن سلب عنهما الانقسام والتحيز والأمور المكانية وتلك سلوب والا عتبار بالحقائق لأن ما سلب عن الحقائق كالعرضين المختلفين بالحد والحقيقة الحالين في محل واحد فإن إيجاب احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل لا يفيد تماثلهما فكذلك سلب الاحتياج إلى المحل والمكان لا يفيد اشتراك الشيئين ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر أعني جواهر الملائكة وإن كانت غير محسوسة وهذه المشاهدة على ضربين إما على سبيل(50/19)
التمثيل كقوله تعالى فتمثل لها بشراً سوياً وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرى جبريل في صورة دحية الكلبي والقسم الثاني أن يكون لبعض الملائكة بدن محسوس كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها فكذلك وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفاً على إشراق نور النبوة كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوف عند الإدراك على إشراق نور الشمس وكذا في الجن والشياطين اهـ.
وقال الغزالي في الإحياء في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس بعد تمهيد مقدمة ما مثله: فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة ثم الرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني ما يضر في العقبة وإلى ما يدعو إلى الخير أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة فهما خاطران مختلفان فأفتقر إلى اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواساً ثم أنك تعلم أن هذه الخواطر حادقة ثم أن كل حادث فلا بد له من محدث ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى فر ترتيب المسببات على الأسباب، فمهمات استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى (ملكاً) وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى (شيطاناً) واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى (توفيقاً) والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى (إغواءً وخذلاناً) فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة. و (الملك) عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف وقد خلقه الله وسخره لذلك. (والشيطان) عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر. فالوسوسة في مقابلة الإلهام. والشيطان في مقابلة الملك. والتوفيق في مقابلة الخذلان. وإليه الإشارة بقوله تعالى (ومن كل شيء خلقنا زوجين).
ابن حزم
قال رحمه الله في كتابه الفصل في الكلام على الجن ووسوسة الشيطان ولعله في(50/20)
المصروع:
لم ندرك بالحواس ولم علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضاً بضرورة العقل ولكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عز وجل يخلق ما يشاء ولا فرق بين أن يخلق خلقاً عنصرهم التراب والماء فيسكنهم الأرض والهواء والماء_وبين أن يخلق خلقاً عنصرهم الهواء والنار فيسكنهم الهواء والنار والأرض بل كل ذلك سواء وممكن في قدرته لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وأجمع المسلمون كلهم على ذلك نعم والنصارى والمجوس والصابئة وأكثر اليهود، وهم يروننا ولا نراهم قال الله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فصح أن الجن قبيل إبليس قال الله عز وجل إلا إبليس كان من الجن، وإذا أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم ورآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان ولولا ذلك لأصبح موثقاً يراه أهل المدينة أو كما قال عليه السلام وكذلك في رواية عن أبي هريرة الذي رأى إنما هي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه.
وهم أجساد رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار كما أن عنصرنا التراب وبذلك جاء القرآن قال الله عز وجل والجان خلقناه من قبل من نار السموم والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما وإنما حدث اللون في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ولو لم يكونوا أجساماً صافية رقاقاً هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس.
وصح النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فوجب التصديق بكل ذلك حقيقة وعلمنا أن الله عز وجل جعل لهم قوة يتصلون بها إلى(50/21)
قذف ما يوسوسون به في النفوس، برهان ذلك قول الله تعالى من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ونحن نرى الإنسان يرى ما له عنده ثأر فيضرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته، ويرى من يحب فيثور له حال أخرى ويبتهج وينبسط، ويرى من يخاف فتحدث حال أخرى من صفرة ورعشة وضعف نفس، ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحيله أيضاً بالكلام إلى جميع هذه الأحوال فعلمنا أن الله عز وجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونه إليه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار الناس وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم كما قال الشاعر:
وقد كنت أجري في حشاهن مرة ... كجري معين في قصب الآس
(وأما الصرع) فإن الله عز وجل قال كالذي يتخبطه الشيطان من المس فذكر عن وجل تأثير الشيطان في الصروع إنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئاً ومن زاد على ذلك شيئاً فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل قال عز وجل ولا تقف ما ليس لك به علم وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه صلى الله عليه وسلم ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه مساً كما جاء في القرآن يثير به من طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد اهـ كلام ابن حزم.
الفخر الرازي
قال في مباحث الاستعاذة من أوائل تفسيره: أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم بل القول المحصل فيه قولان (الأول) أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة لها عقول وإفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة (والقول الثاني) أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في التحيز وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية (قالوا) وهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة وهي المسماة بالصالحين من الجن. وقد تكون(50/22)
كدرة سفلية شريرة وهي المسماة بالشياطين (ثم قال) واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية: وهذا باطل لوجهين (الأول) أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي وهو النفس ويلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس (الثاني) هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية فلم لا يجوز أن يقال أن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ثم أنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان.
وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا أن الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار وهذان المعنيان لأعراض فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمنع اشتراكها في بعض اللوازم فلما لا يجوز أن يقال الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار وإذ ثبت هذا فنقول لم لا يجوز أن يقال أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها وهي غير قابلة للتفرق والتمزق وإذا كان الأمر كذلك فإن تلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ثم أن الرياح العاصفة لا تمزقها والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا أن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر فلم لا يفعل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها وأن تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعين، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة والدليل لم يقم على إبطالها فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها.
(ثم قال الرازي) اع لم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية فكأن متكلماً يتكلم(50/23)
معه ومخاطباً يخاطبه فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه. ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة أن تلك الأشياء ليست حروفاً ولا أصواتاً وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات وتخيل الشيء عبارة عن حضور اسمه ومثاله في الخيال وهذا كما إنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب بل الموجود في العقل صورها وأمثلتها ورسومها وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورها. وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك فهذا قول جمهور الفلاسفة،
ولقائل يقول هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو للحرف والكلمة في الماهية أولاً فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء_وإن كان الحق هو الثاني وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات فحينئذ يعود السؤال وهو أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات وكيف نجد في أنفسنا هذه الكلمة أو العبارة وجداناً لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة على الذهن فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة.
أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقية.
واعلم بأن القائلين بهذا القول قالوا فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر وإما شيءٌ آخر روحاني مباين يمكن إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان سواء قيل أن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك وأما أن يقال خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى (أما القسم الأول) وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان فهذا قول باطل لأن الذي يحصل باختيار الإنسان قادر على تركه فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد فعلها أو تركها لقدر(50/24)
عليه ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره.
(وأما القسم الثاني) وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر فهو ظاهر الفساد. ولما بطل هذا القسمان بقي (الثالث) وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى (أما الذين قالوا) أن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذي قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى) اهـ.
المارودي
قال في كتابه أعلام النبوة: الجن من العالم الناطق المميز يتناسلون ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن يخص الله برؤيتهم من يشاء، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية،
(ثم قال): واختلفوا في الشياطين فزعم قوم أنهم كفار الجن يتناسلون ويموتون وزعم آخرون أنهم غير الجن وإنهم من ولد إبليس واختلف من قال بهذا في تناسلهم وموتهم فذهب فريق منهم إلى أنهم يتناسلون ويموتون وذهب آخرون إلى أنهم كإبليس لا يموتون إلا معه وإن تناسلهم انقطع بأنظار إبليس إلى يوم يبعثون، فإن أنكر قوم خلق الجن ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية قهرتهم براهين العقول وحجج القياس (ثم أسهب في ذلك رحمه الله).
القاشاني
قال في تفسير آية وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن في سورة الأحقاف ما مثاله: الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر سماها الحكمة الفرس (الصورة المعلقة) ولكونها أرضية متجسدة في ابدان عنصرية ومشاركتها الأنس في ذلك سميا ثقلين وكما أمكن الناس التهدي بالقرآن أمكنهم وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع وأوضح من أن يقبل التأويل:
وقال في تفسير سورة الجن: قد مر أن في الوجود نفوساً رضية قوية لا في غلط النفوس(50/25)
السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيآت النفوس الإنسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية_وملا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها سماها بعض الحكماء (الصور المعلقة) ولها علوم وإدركات من جنس علومنا وإدراكاتنا، ولما كانت قريبة بالطبع من الملكوت السماوي أمكنها أن تتلقى عالمها بعض الغيب فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي النفوس المجردة_ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت بتأثير تلك القوى فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم، ولا تنكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان اهـ.
القاضي أبو يعلي بن الفراء
نقل عن السفاريني أنه قال: الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ويجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافاً للمعتزلة في قولهم أنها أجسام رقيقة ولرقتها لا نراها (قال): ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلم الله ضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله نقله الله من صورة إلى صورة فيقال أنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على أمر إذا فعل نقله الله عن صورة إلى صورة أخرى لجري العادة وإما أن يصور نفسه فذلك محال لأن انتقالها عن صورة إلى صورة إنما يكون بنقص البنية وتفريق الأجزاء وإذا انتقلت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة وكيف تنقل نفسها (قال) والقول في تشكيل الملائكة مثل ذلك (وسيأتي أول الخاتمة مبحث تمثل الروحاني مفصلاً).
شيخ الإسلام ابن تيمية
نقل عنه السفاريني أنه قال: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن وكذا جمهور الكفار لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار يعرفه(50/26)
الخاصة والعامة (قال) ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة ونحوهم، (وقال) ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساوياً لما على الأنس في الحد والحقيقة لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء: (وقال في تفسير سورة الإخلاص) إن الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية قاصر جداً وفيه تخليط كثير وإنما يتكلمون جيداً في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها فكلامهم فيها في الغالب جيد، وأما الغيب الذي تخبر به الأنبياء والكليات العقلية التي تعم الموجودات كلها وتقسم الموجودات قسمة صحيحة فلا يعرفونها البتة فإن هذا لا يكون إلا ممن أحاط بأنواع الموجودات وهم لا يعرفون إلا قليلاً من الموجودات وما لا يشهده الآدميون من الموجودات أعظم قدراً وصفة مما يشهدونه بكثير، ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا أخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وهم يظنون أن لا موجود إلا ما علموه هم والفلاسفة يصيرون حائرين متأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وإن كان هذا لا دليل عليه وليس لهم بهذا النفي علم فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم لكن نفيهم هذا كنفي الطبيب للجن لأنه ليس في صناعة الطب ما يدل على ثبوت الجن وإلا فليس في علم الطب ما ينفي وجود الجن وهكذا تجد من عرف نوعاً من العلم وامتاز به على العامة الذي لا يعرفونه فيبقى بجهله نافياً لما لا يعلمه، وبنو آدم ضلالهم فيما حددوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به قال تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لما يأتيهم تأويله اهـ.
وقد أسهب رحمه الله في كتابه الفرقان_المطبوع_فيما يتعلق بالجن الشياطين فليراجع.
ابن القيم
قال رحمه الله في زاد المعاد في علاج الصرع ما مثله: الصرع صرعان صرع من الرواح الخبيثة الأرضية_وصرع من الأخلاط الردية. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون بأن علاجه بمقابلة الرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا(50/27)
العلاج: وأما جهلة الأطباء فينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط وهو صادق في بعض أقسامه لا في كلها، وقدماء الأطباء يسمون هذا الصرع المرض الإلهي وقالوا: إنه من الأرواح، أما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ: وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم.
(ثم قال ابن القيم) هذا ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق إن كان هو المصروع حقيقة.
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل عليهم السلام.
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
قال في تفسير قوله تعالى الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الموسوسون قسمان قسم الجنة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم وإنما نجدهم في أنفسنا أثراً ينسب إليهم، ولكل واحد من الناس شيطان وهي قوة نازعة إلى الشر يحدث منها في نفسه خواطر السوء:
وقال في موضع آخر: إن إلهام الخير والوسوسة مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم وقد أسند إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهاماً وخواطر الشر التي تسمى وسوسة كل منهما محله الروح فالملائكة والشياطين إذن أرواح تتصل بأرواح الناس. فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجسمانية المعروفة لنا لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا ونحن لا نحس بشيءٍ يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان(50/28)
قطعاً.
(ثم قال) يشعر مكل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره عند ما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعاً كان الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى فهذا يورد وذاك يدفع، وواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء قد أودع في نفسنا ونسميه قوة وفكراً_وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه وروح لا تكتنه حقيقتها_لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكاً ويسمي أسبابه ملائكة أو ما شابه من السماء فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع اهـ وسبق في كلام الغزالي نحوه وسيأتي في الخاتمة عن الراغب الأصفهاني ما يؤيده.
خاتمة
في فوائد متفرقات من شوارد هذه المسالة
(أ) للباحثين في تمثل الرواح آراء عديدة وأنظار متنوعة نذكر منها طرفاً قال في الخلاصة: اعتقاد قدماء اليهود بماهية الرواح المغيبة إنها إما هواء خالص أو لهيب نار (ثم قال) فعلى هذا فللملائكة أجسام هوائية لطيفة لا ترى ما لم تمثل كالهواء الذي نتنفسه فإنه جسم لكنه غير مبصر لنا (ثم قال) واقرب شاهد للتمثل هو الهواء فإنه وإن لم يقبل في حال تخلخله شكلاً ولا لوناً إلا أنه متى تكاثف أمكن تشكله وتلونه كما يتضح في السحاب وعلى هذا النمط يجوز أن تتكثف أجسام الملائكة بالقدرة الربانية على قدر ما يلزم لتموين الجسم المراد اتخاذه وبقدرون التجسد بعد أن يفعلوا أفاعيل حيوية اهـ.
وقدمنا عن القاضي أبي يعلي أنه قال: لا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلمهم الله ضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله نقله الله من صورة إلى صورة الخ: ونقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن إمام الحرمين أن تمثل جبريل معناه أن الله أفتى الزائد من خلاقه وأزاله عنه ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته بل يجوز أن يبقى الجسد حياً لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر تسرح في الجنة،(50/29)
وقال شيخنا شيخ الإسلام_زكريا الأنصاري_ما ذكر إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل وإذ ترك ذلك عاد إلى هيئته ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشاً فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير وهذا على سبيل التقريب والحق إن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه والظاهر أيضاً أن القدر الزائل لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله أعلم اهـ كلام الحافظ كله مبني على حمل الإطلاق في موارده على الحقيقة فليتأمل وقال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في رسالة التوحيد: أما وجود بعض الأرواح العالية_وهم الملائكة المكرمون_وظهورها لأهل تلك المرتبة السامية (الأنبياء عليهم السلام) فمما لا استحالة فيما بعد ما عرفناه من أنفسنا وأرشدنا إليه العلم قديمه وحديثه من اشتمال الوجود على ما هو ألطف من المادة وإن غيب عنا فأي مانع من أن يكون بعض هذا الوجود اللطيف مشرقاً لشيء من العلم الإلهي وأن يكون لنفوس الأنبياء أشراف عليه فإذا جاء به الخبر الصادق حملنا على الإذعان بصحته، أما تمثل الصوت وأشباح لتلك الأرواح في حس من اختصه الله بتلك المنزلة فقد عهد عند أعداء الأنبياء ما لا يبعد عنه في بعض المصابين بأمراض خاصة على زعمهم فقد سلموا أن بعض معقولاتهم يتمثل في خيالهم ويصل إلى درجة المحسوس فيصدق المريض في قوله أن يرى ويسمع بل ويجالد ويصارع ولا شيء من ذلك في الحقيقة بواقع فإن جاز التمثيل في الصورة المعقولة ولا منشأ لها إلا في النفس وغن ذلك يكون عند عروض عارض على المخ فلم لا يجوز تمثل الحقائق المعقولة في النفس العالية وأن يكون ذلك لها عندما تنزع عن عالم الحس، وتتصل بحظائر القدس، وتكون تلك الحال من لواحق صحة العقل في أهل تلك الدرجة لاختصاص مزاجهم بما لا يوجد في مزاج غيرهم؟ وغاية ما يلزم عنه أن يكون لعلاقة أرواحهم بأبدانهم شأن غير معروف في تلك العلاقة من سواهم وهو ما يسهل قبوله بل يتحتم لأن شأنهم في الناس أيضاً غير الشؤون المألوفة وهذه المغايرة من أهم ما امتازوا به وقام منها الدليل على رسالتهم، والدليل على صحة شهودهم وصحة ما يحدثون عنه أن أمراض القلوب تشفى بدوائهم وأن ضعف العزائم والعقول يتبدل بالقوة في أممهم التي تأخذ بمقالهم، ومن المنكر(50/30)
في البديهة أن يصدر الصحيح من معتل، ويستقيم النظام بمختل اهـ وقدمنا عن الغزالي كلمة في تمثيل الملك فتذكره.
(ب) شاع وصف الجن بالأرواح في المأثور وفي كلام الحكماء قال ابن الأثير في حديث: إني أعالج من هذه الأرواح: الأرواح ههنا كناية عن الجن سموا أرواحاً كونهم لا يرون فهم بمنزلة الرواح: إلا أنه غلب لفظ روح مفرداً في التنزيل الحكيم على الملك قال في الخلاصة: أن كلمة روح التي وصف بها الملائكة تتضمن معنى يدل على ماهيتهم وهوانهم مجردون عن كثافة الأجسام فليسوا مثلنا (قال) لأن أصل معنى الروح في العبراني واليوناني كما في العربي ريح أي هراء متحرك وكأن لغة البشر تقصر عن التعبير بكمال الكنه والحقيقة فاكتفى بتوضيح بلفظ يوضح الحقيقة وإن لم يجهلها تمام الجهلاء اهـ وقال ابن الأثير في حديث (الملائكة الروحانيون) يروى بضم الراء وفتحها كأنه نسبة إلى الرُّوح والرَّوح وهو نسيم الريح والألف والنون من زيادات النسب ويريد بهم أنهم أجسا لطيفة لا يدركها البصر اهـ.
وفي كليات أبي البقاء: الروح بالضم هو الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه واسم الروح الخ وفي التاج عن الفراء قال: سمعت أبا الهيثم يقول: الروح إنما هو النفس الذي يتنفسه الإنسان وهو جار في جميع الجسد فإذا خرج لم يتنفس بعض خروجه: وفي نقد المحصل للطوسي: الفلاسفة يفرقون بين النفوس والأرواح فإن النفوس عندهم جواهر بسيطة مجردة متعلقة الأبدان، والأرواح أجسام مركبة من الأبخرة والأدخنة المرتفعة من الدم المحتبس في العروق: وروى ابن جرير عن قتادة في تفسير آية ويسئلونك عن الروح قال الروح هو جبريل قال قتادة: وكان ابن العباس يكتمه ثم اسند إلى ابن العباس أن الروح ملك وكذا عن علي رضي الله عنه أنه قال: هو ملك من الملائكة:
(ج) جاء في معجم لاروس: أن سقراط كان يزعم أن له شيطاناً خاصاً يوحي إليه مقاصده وجميع مبادئ فلسفته وحكمته. فادعى بعضهم أن ذلك كان روحاً أو عاملاً فوق قوة البشر وأطلق آخرون هذا الاسم على معنى أدبي لطيف وحاسة طبيعية رائقة سريعة الإدراك أنمتها تجارب طويلة وهم على ما يرون أن شيطان سقراط لم يكن إلا إلهامات باطنة تعرض لعقله وقلبه مؤقتة عند تصور أعلى مطالب الفلسفة فمعنى استشارة سقراط لشيطانه(50/31)
الخاص هو أن يستشير إلهامه الداخلي وعقله وحكمه التي لا يراها نفحة ونعمة بل هي منبعثة عن الألوهية وجزء منها. ورأى آخرون أن هذا الزعم كان من سقراط حيلة يريد أن يتوصل بها إلى تحقيق إصلاح سياسي كبير. والظاهر أن سقراط اقتنع بصحة ما وقع في نفسه فلم يخامره ولا تلامذته أدنى شك في مدعاه وكان ذلك من آكد الأسباب في الحكم عليه بالموت.
وجاء فيه أيضاً في مادة جني: أن الجن في الأساطير الرومانية إشارة إلى الشيطان عند اليونان وهي عبارة عن الروح أو المبدأ الحيوي فكانوا يذهبون إلى أن كل عمل يعمله الإنسان يمليه عليه شيطانه الخاص. فالظاهر أنه كان من تأثيرات الزندقة الطبيعية أن توهم عامة اللاتين بأن للمرء شيطانين وذلك ليحلوا كما يشاؤون مسألة الخير والشر فشيطان الخير يوحي الأفكار الصالحة النافعة وشيطان الشر يلهم الأعمال الشريرة والحوادث المكدرة وهكذا رأى أن القائد بروتوس وكاسيوس عندما كتبت الهزيمة على أعلامهما شيطانهما الشريرين.
وكان القوم في رومية يعبدون الشياطين الخاصة والشياطين المحلية فإذا ولد لهم ولد يقومون باحتفال إكراماً لشيطانه وكثيراً ما تقدم فاكهة وثمار لشياطين المكان وعلى عده الإمبراطورية كان شيطان الإمبراطور يعبد عبادةً خاصة إكراماً واحتراماً اهـ.
(د) جاء في دائرة المعارف البريطانية ما تعريبه:
إن كلمة الشيطان هي اسم وضع في الإنجيل والمذهب النصراني على شرير كبير يظن أنه يرأس مملكة من الأرواح الخبيثة وهو الملك فيها وأنه عدو الله دائماً واللفظة العبرية وهي الشيطان الدالة على معنى المعاكسة أيضاً تستعمل لهذا الشرير الكبير أو ملك مملكة الشر ومما لا شك فيه أن روحاً خبيثة كهذه كثيراً ما استعملت في العهد الجديد وقد سمي بأسماء متعددة غير ما ذكر مثل كلمة الممتحن، بعل زبوب، ملك الشياطين، القوى، الشرير الخاطئ، العدو الألد، وهذه السماء استعملت مترادفة في الإنجيل وحيثما استعملت تدل على نفس القوة المتحركة الشريرة الخارجة عن الإنسان والمؤثرة فيه أو التي لها سلطة عليه ومن المسائل ما هو مبلغ اعتقاد المسيح نفسه في وجود مثل هذه القوة الخبيثة إلا أنه مما لا شك فيه أن قوة كهذه كان معترفاً فيها في معتقدات اليهود في أيامه ومن المحقق أيضاً أن(50/32)
هذا الاعتقاد بين اليهود لم ينم دفعة واحدة بل نشأ على مهل ويتأثره المطالع في العهد القديم بوضوح كما نجده واضحاً في العهد الجديد وفي الحقيقة أن كلمة الشيطان لا توجد في التوراة إلا في خمس مواضع وفي آثار الأنبياء العبريين الأولى لا يوجد اعتراف بروح شريرة تقاوم إرادة الله والصورة التي صورت بها هذه الروح الشريرة في آثار متأخريهم تختلف كثيراً عن الصورة التي صورها متأخرو علماء اللاهوت. إذاً ما هو أصل الاعتقاد بالشيطان من حيث أنه روح خبيثة مطرودة فالجواب الذي يذكره المنقحون من المعاصرين أن هذا الاعتقاد نشأ من اختلاط اليهود بالفرس لما كانوا منفيين في بلاد فارس فالاعتقاد الفارسي يقسم الدنيا بين إلهين موجودين مختلفين الواحد خير والآخر شر إلا أن كليهما له حصة في الخلق والإنسان. فأهر مزده كان مقدساً صادقاً تجب له العبادة والاحترام وأما أهر من روح الظلام ذو العقل الشرير فلم يكن اقل قدرة وكان يدعي الحق بمساواة أهل مزده من حيث إطاعة الإنسان له وفي القرون الوسطى كان الاعتقاد بالشيطان عظيماً فالقديسون كانوا يحبسون أنفسهم وغيرهم بخصام دائم معه ومن الصعب علينا الآن أن نتصور مقدار التأثير لهذا الاعتقاد في معيشة الناس حينئذ فإنه كان الفكر الثابت في رأس كل إنسان خصوصاً من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر وهي مدة يمكننا أن نعد هذه الخرافة بلغت فيها منتهاها ومن المحقق أن هذه العقيدة لم تنقص إلا قليلاً في القرن الخامس عشر بل حتى في القرن السادس عشر أو السابع عشر، ولوثيروس كان يشعر دائماً بتماس الروح الشريرة ومعاكستها ففي مكتبته وفي فراشه وحجرته كان الشيطان يتداخل في أشغاله أو راحته ولما كان يباشر درسه سمع صوتاً عرفه حالاً أنه صادر من عدوه الشيطان قال فلما وجدت أنه يريد أن يعود مرة ثانية إلى عمله جمعت كتبي وذهبت إلى فراشي وسمعته مرة ثانية في الليل ماشياً في الرواق لكنني لما كنت أعلم أنه الشيطان لم أهتم به بل غرقت في نومي وكذلك يقول لوثيروس ولما أفقت في هذا الصباح باكراً جاءني الشرير وابتدأ يجادلني فقال لي أنت مذنب عظيم فأجبته ألا يمكنك أن تأتيني بنبأ جديد يا شيطان. ولما تقدم المعقول في القرن الثامن عشر تناقص هذا الاعتقاد بانتشار التأثرات الشيطانية والشعور بما فوق الطبيعة تضاءل من جميع جهاته ولاسيما الاعتقاد القديم بسلطة الشيطان المطلقة على مصير الإنسان ومع أن الشعور الديني ازداد كثيراً منذ(50/33)
ذلك الحين فلا يمكن أن يقال بأن الاعتقاد القديم بالشيطان وأعماله تجدد ومن الممكن أن يكون اعتقاد النصرانية اليوم أن هنالك قوة شريرة في العالم تعاكس إرادة الله ولكن هل هذه القوة هي شخص وما هي علاقة هذه المملكة الشيطانية بمصير الإنسان؟ كل ذلك مسائل لم تقرر بعد أو مشكوك بها في أي مذهب من مذاهب الكنيسة. ووظيفتنا أن نلاحظ هذا التغير في اعتقاد النصارى من غير أن نبين منافعه أو غير ذلك ومن المحقق أن الاعتقاد بالشيطان لا يشغل مكاناً عظيماً في تصورات النصارى اليوم كما كان من ذي قبل وأنه ليس لسلطته الآن الذي كان له في الإنسان واختباره اهـ كلام دائرة المعارف البريطانية ولم نورده مع كلام المعجم قبلها إلا ليتم للواقف على هذه المسألة الاطلاع على آراء بقية المفكرين من الملل الأخرى فيها.
(هـ) تزعم الفرس أنه الجن يسكنون في بلاد تسمى جنستان ويسميها شعرائهم أرض العفاريت والجنيات ويقولون أنها واقعة في الطرف الغربي من أفريقية ومنهم من يقول أن مقرهم في جزيرة الحيات في بحر الهند ويصورونهم بهيئات مخيفة بقرون طويلة وأذناب وعيون مشقوقة طولاً وشعر واقف كذا في دائرة المعارف.
(و) قال وليّ الدين: يدعي بعض شيوخ الضلالة ورسل البهتان أن لهم تعازيم يستحضرون بها الجن ويجعلونهم تحت تصرفهم ولا يزال لهذا الأضاليل أثر يذكر يتناقله الناس ويعتقدون بصحته اهـ.
(ز) قال الرازي في مقدمة تفسيره في بحث الاستعاذة: هؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن قال الرازي وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء قال وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال: إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم أني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً اهـ.
(ح) ذكر بعض المحققين أن إبليس علم جنس للشيطان معرب ذياقوليس باليونانية ومعناه موقع الخلاف أو مطغي أو مبعد الإنسان عن سبيله، ويتضمن اسمه معنى آخر في كتب الوحي وهو رئيس الأرواح الشريرة قال وكان شعراء الفرس الذين ينظمون في الخرافات يصفونه بلون أسود وعينين تقذفان ناراً ورائحة كبريتية وقرون وذنب وأظافر معوجة(50/34)
وحافرين مشقوقين اهـ.
(ط) لفظ شيطان عبراني بمعنى مخاصم أو مضاد ثم أطلق على روح شريرة غير مرئية تدعو إلى المعاصي والآثام كذا في المرشد قال الراغب عن أبي عبيدة: الشيطان اسم لكل عارم من الجن والإنس والحيوانات قال وقد يسمى كل خلق ذميم للإنسان شيطاناً لهـ ونقله السيد الزبيدي عنه في تاج العروس شرح القاموس.
(ي) قال بعض الأفاضل: من الاعتقادات الشائعة أن الجن تسكن بعض الأماكن ولاسيما الخرابات والقبور والعيون والآبار والبيوت المهجورة حتى العامرة أيضاً فيحتاج أهلها إلى الخروج منها وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا سكنى دار ذبحوا للجن ذبيحة حتى لا تضرهم وهذا الاعتقاد المتقادم العهد لم يزل باقياً إلى الآن في أماكن كثيرة وربما روى بعض العامة مرائي وأساطير من هذا القبيل، وما ذلك إلا أوهام وتصورات تنتج من المتخيلة المنطبعة فيها من جري أكثر الأخبار، آثار لا تمحى إلا بكرور الأيام، وانتشار ألوية العلم في كل القطار بحيث تتمزق حجب الأوهام، وتأخذ الحقائق مكانها في أفكار الأنام، سهل الله سلوك سبيل العلم والعرفان إنه الكريم العلام.
جمال الدين القاسمي(50/35)
الاتكال الشرقي
نصيحة غربي
قليل في القارئين من لم يسمعوا باسم المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة السابق الذي خدم بلاده أجل خدمة فعد العالم الاجتماعي الاقتصادي والقائد العظيم والسياسي الإنساني وأعظم ملوك عصره ورؤساء الجمهوريات بلا منازع.
أصل هذا الرجل هولاندي نزل أجداده الولايات لمتحدة منذ مائتي سنة وتخرج هو في كلية هارفرد الجامعة وكان قبيل الحرب الأميركية الإسبانية مساعد أمين سر وزارة البحرية فلما نشبت الحرب استقال وتطوع في الجيش حتى إذا عاد ظافراً عينته الحكومة والياً على نيويورك ثم معاوناً للرئيس ماكنلي فلما قتل هذا انتخبته هذا رئيساً عليها على الرغم مما كان يكيد له بعض منافسيه في السياسة ثم أعيد انتخابه بعد أربع سنين وهي المدة النظامية لكل رئيس جمهورية. ضرب روزفلت على أيدي رجال الاحتكار في الغرب وطأطأت لأقواله رؤوس ملوك الفولاذ والبترول وغيرهم من الأميركان ونصر المستضعفين والفقراء وهاله اجتماع الثروة في أيدي أفراد وحرمان سائر الأمة منها فقام يضرب على المحتكرين الرسوم الفاحشة ويداوي الأجسام والجيوب بأفعاله كما يداوي الأرواح والعقول بأقواله وله عدة تآليف اجتماعية سياسية ومقالات كثيرة في المجلات والجرائد وهو الذي ألف بين جمهوريات الجنوب وجمهوريات الشمال وجعل لبلاده مقاماً سامياً في السياسة الخارجية وحل المعضلة التي كانت استحكمت بين روسيا واليابان فاستحق على عمله جائزة السلام لنوبل وعينه مجمع العلوم السياسية والأخلاقية في باريز عضواً مراسلاً له دلالة على اعتبار أوربا لأعماله.
ولما لم يرض المستر روزفلت أن يعاد انتخابه لرئاسة الجمهورية للمرة الثالثة عملاً بالتقليد المأثور عن الرئيس واشنطون وجفرسون رأى أن يهجر البلاد مدة ليخلو الجو للرئيس تافت الجديد فرحل إلى أفريقية الشرقية ليكمل نفسه في العلم والتجارب ويفيد أمته من رحلته حتى إذا عاد إلى نيويورك يوسد إليه تحرير مجلة الأوتلوك الأسبوعية وهكذا يرجع الرئيس من زعامة خمسة وثمانين مليوناً من البشر الراقي إلى رئاسة تحرير مجلة. وناهيك بمنتصب العلم من منصب.(50/36)
خطب المستر روزفلت في الخرطوم قاعدة السودان جماعة من طلبة المصريين والسوريين في دار أحد مراسلي الأميركان في شهر ربيع الأول 1328_1910 وانتقد ما يرمي إليه كثير من الشبان في أوربا وأميركا وأفريقية من الرغبة في التولف وخدمة الحكومة فأرادهم على ترك الاتكال والعمل في أعمال المعاش على طريق الاستقلال قال:
فمتى قلت لكم أنه يجب عليكم أن تؤيدوا الحكومة لا أريد أن يخطر لكم أنني أريد من قولي هذا أنكم مضطرون إلى السعي وراء أحرز الوظائف فيها (ضحك) بل إن الأمر على عكس ذلك. وأرجو يا حضرة الدكتور جفن (رئيس الإرسالية الأميركية في السودان) أن الأعمال التي قمتم بها هنا والتي تقوم بها سائر المعاهد العلمية التي لكم صلة بها سترمي إلى تلك الغاية. فتذكرون دائماً أن أعظم الناس خدمة ونفعاً للحكومة هو الرجل الذي يأبى على كل حال أن يشغل وظائفها.
أما أنا فلا أريد أن أرى كلية من كليات الإرسالية موجهة سعيها الأول وجاعلة غايتها الرئيسة من التعلم مجرد تخريج طلبة لإحراز الوظائف في مناصب الحكومة. بل أريد أن أرى المتخرج مستعداً للعمل باستقلال وبدون أقل اهتمام بأية مساعدة ينالها من راتب يتقاضاه من الحكومة. فإن أفضل الوطنيين شأناً هو من برع في الهندسة والصناعة والزراعة ومن سوء الحظ أن يقع في الأذهان سواء في أميركا وأوربا وأفريقية أن الرجل المتعلم يجب أن يجعل غايته الوحيدة اتخاذ وظيفة في خدمة الحكومة. إنني أرجو أن يتخرج من هذا المعهد العلمي وأمثاله عدد من أفضل الموظفين لخدمة الحكومة في أعمالها العسكرية والملكية ولكن إذا وافقت الأحوال فإن موظفي الحكومة بين ملكيين وعسكريين يكونون دائماً العدد الأقل من المتخرجين. لأن الغاية العظمى التي يجب أن ترمي إليها المعاهد العلمية هي تخريج رجال يستطيعون العمل بدون مساعدة ويستطيعون أيضاً مساعدة أنفسهم وغيرهم وهم على استقلال تام بدون أن تكون لهم أقل علاقة بالحكومة. وهذه مسألة أهتم بها كثيراً هنا اهتمامي بها في أميركا بالذات. . . .
وفي الختام أقول لا تقعوا في الخطأ الذي يقع فيه الشبان منكم فتظنوا أن علمكم قد انتهى بخروجكم من المدرسة أو الكلية. بل اعلموا أنكم إنما أنجزتم نصف العلم فأنا الآن في الخمسين من عمري ولو أني توقفت عن تحسين حالي وزيادة معارفي لشعرت أن قد أوشك(50/37)
أن ينتهي نفعي للجمهور.
فعلى كل واحد منكم تخرج من مدرسته أن لا يقول الآن قد انتهى تعلمي فيف وسعي أن أكسل بل أريد أن تقولوا قد سهلوا لي وضع أساس قوي للتعليم الناضج وفيما أنا أقوم بأعمالي سأواصل تمرين نفسي وتعليمها فبدلاً من أن تمر بي الأعوام وأنا واقف في مكاني أراني أتقدم وأصير أكثر كفاءة للعمل وأوفر مقدرة على إنجاز الأعمال الحسنة.
هذا ما قاله في هذه الخطبة وهو كما نراه يدعو إلى الاستقلال في التربية وقال في خطبة له في القاهرة ألقاها في الجامعة المصرية ابتدأها بالأسف لأنه ليس من أهل العلم ليتكلم بالعربية ولو كان منهم لما تكلم إلا بها:
اجتنبوا الباطل والادعاء الفارغ كما تجتنبون التعصب الديني والجنسي والسياسي. إن في كليات أوربا وكليات بلادنا أموراً كثيرة تستفيدون منها ولكن فيها أموراً كثيرة يجب اجتنابها. فاقتبسوا عنها ما كان حسناً ولكن انتقدوه قبل اقتباسه حتى تثقوا بأنكم إنما تقتبسون ما هو الفضل والأصلح لكم.
وأهم اجتناب من التقصيرات التعليمية اجتناب التقصيرات الأدبية. فإنكم ترسلون الطلبة إلى أوربا لكي يدرسوا فيها ويستعدوا لأتن يصيروا أساتذة. وهذا الاستعداد لازم إذ من الأمور الجوهرية أن تكون الجامعة مطلعة على أحسن ما يجري في معاهد أوربا وأمريكا العلمية ولكن ليعتن الشبان الذين يرسلون باقتباس كل ما هو حسن وجميل وواجب لأرقى أنواع التقدم الحديث وليجتنبوا كل ما كان غير ضروري في تمدن هذا العصر ولاسيما رذائل الأمم المتمدنة الحديثة ولتكن أذهانهم مفتوحة إذ من الخطأ العظيم إن تأبوا اقتباس ما رقي به الغرب في مرقاة القوة والعدول والعيشة الطاهرة وأن تقضوا به حاجاتكم ولكن من الخطأ العظيم أيضاً أن تقتبسوا ما كان رخيصاً أو مبتذلاً أو رديئاً. ليعلم الذين يرسلون إلى أوربا أن فيها أشياء كثيرة يجب أن يتعلموها وأخرى يجب أن يجتنبوها ويرفضوها فليأخذوا الحسن ولينبذوا القبيح.
واعلموا أيها الخلان أنه إن كان عندي شيء أقوله لكم فذلك الشيء هو أن الأخلاق أهم من العقول بكثير وأنه يجب على كل جامعة عظيمة بالفعل أن تسعى في تربية الصفات التي تكون منها الأخلاق أكثر من تربية الصفات التي تقوم بها العقول المثقفة. نعم إنه ما من(50/38)
رجل يبلغ الطبقة العليا بين الرجال إذا لم يكن ذكياً عاقلاً بنفسه ولم يكن مثقفاً بعقل وذكاءٍ إذ التثقيف لازم كالذكاء ولكن الذكاء وحده لا يجدي ما لم يسترشد بقلب مستقيم وما لم تكن وراءه قوة وشجاعة. فالآداب والحشمة والعيشة الطاهرة والشجاعة والمروءة واحترام الإنسان لنفسه كلها صفات أهم في تربية الأمم من ذكاء العقول فاجعلوا هذه الجامعة بحيث تساعد أمتكم على الارتقاء دوماً.
واحذروا خصوصاً من نقص واحد في التربية الغربية فقد كثر الميل في مدارس الغرب العالية إلى تعليم الشبان حتى يكونوا رجال علم وأدب ورجال صناعات وموظفين في وظائف رسمية كأن لا تربية حقيقية إلا التربية العلمية ولذلك سررت غاية السرور بأنكم شرعتم في بناء المدارس الصناعية والزراعية في مصر إذ التربية العلمية نوع واحد من أنواع التربية المختلفة وليس من الحكمة أن يقتصر عليها وحدها سوى جزءٍ قليل من أهل كل البلاد. أما بقية الأمة فيجب أن تستبدلها بغيرها وتتمرن على أعمال أخرى. إن سمو الخديوي في أعماله الكثيرة التي تتناول جميع وجوه العيشة المصرية أظهر حكمة عالية بعد أن نظر وأدرك حاجات بلاده بما يظهره من الاهتمام بترقية زراعتها وتحسين الزرع والضرع.
فهذه البلاد كسائر البلدان تحتاج إلى عدد معين من الرجال تؤهلهم تربيتهم الانقطاع إلى العلم والتعليم في المدارس أو تقلد مناصب الحكومة. ولكن ليس من مصلحة بلاد ما أن ينصرف إلى هذه الأمور سوى جزء صغير من ذوي العقول الكبيرة فيها.
ويجب أيضاً ترقية الميل إلى الصنائع وتمرين الأهالي حتى يحسنوا الزراعة وينبغوا فيها كما ينبغ أمهر المحامين والموظفين وحتى يخرج منهم التجار والمهندسون وأصحاب الأعمال الأخرى التي لا غنى عنها في بلاد عظيمة متمدنة.
إن وجود سياسي شعبي مستقيم بعيد النظر مفيد في كل بلاد ولكن فائدته تتوقف خصوصاً على استطاعته التعبير عن مشيئة أمته وللسياسي النصيب الأكبر في قيادتها وللتاجر والزارع والمهندس وأهل الفنون الأخرى النصيب الأوفر. كل أمة لا يكون لها من القادة والساسة والمحامون لم تدرك شأواً يستحق الذكر. فأساس الحياة الصحيحة في كل بلاد واجتماع إنما هو الرجال الذين يعملون الأعمال المختلفة من حراثة وصناعة وتجارة ولا(50/39)
فرق أن يشتغلوا بأيديهم أو بعقولهم. وخير للإنسان أن يشتغل برأسه ويديه معاً فهؤلاء الذين يعملون الأعمال الكبرى في حياة المجموع وما المشتغلون بالعلوم والمعارف والسياسة والقانون وموظفو الحكومة سوى مكملين لهم.
على أن الأمر المهم أن يقوم العمل على الأمانة والكفاءة مهما يكن مركز العامل من أكبر كبير إلى أحقر حقير. وما أقوله هنا على ضفاف النيل هو نفسه ما قلته على ضفاف أنهر الهدسون والميسيسيبي وكولومبيا.
واذكروا دائماً أنه لا الفرد ولا الشعب يتربيان التربية الجوهرية بمجرد فعل يفعلانه وإنما يتربيان بطريقة تتعاقب فيها الأفعال كطريقة النمو فإنك لا تجعل الإنسان متربياً ومتعلماً تعلماً حقيقياً بمجرد إعطائه دروساً معينة وكذلك لا تجعل أمة صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها بمجرد إعطائها دستوراً على الورق. بل تربية الفرد وتعليمه حتى يصير صالحاً للعمل في العالم تستغرقان أعواماً طويلةً وهكذا تربية الأمة وإعدادها حتى تنجح في قضاء واجبات الحكومة الذاتية لا يتمان في عشر سنوات أو عشرين بل يلزم لهما أجيال متعاقبة.
وخطب أيضاً تلميذات كليات البنات الأميركية في القاهرة فقال:
لا تقوم أمة في العالم أبداً إذا لم تكن فيها المرأة قادرة على القيام بعملها بجدارة وأهلية مثل الرجل وأنه من العدل أن تفهم وهي في حداثة السن في مدرستها وتعلم كيف تؤدي أعمالها وأشغالها.
إني أفتخر بكل مدرسة لا تقتصر على تلقين العلوم بل تعلم العمل ولا أشك في أن تلميذات هذه المدرسة متى صرن صاحبات بيوت يبرهن على اقتدارهن على أن يقمن فغي بيوتهن كما تقوم نساء الإرسالية في بيوت رجالهن.
يسرني جداً في هذه المدرسة أنها تعمل على قاعدة التسامح الديني. يسرني جداً أن ما علمته من أن ثلث تلميذات هذه المدرسة مسلمات والثلثين مسيحيات وإسرائيليات ومن طوائف أخرى.
أود الآن أن أتكلم عن المدارس عامة لما جئت إلى مصر من زمن بعيد لم تكن الحالة كما هي الآن إنني لا أقدر أن أصفها تماماً ولكن أتذكر منها ما يجعلني مع المقابلة أرى الآن النجاح والتقدم العظيم. إنني شاهدت الآن بيوتاً وترتيباً ومعيشة لم أشاهدها حينئذ. رأيت(50/40)
في بيوت عديدة ما دلني على أن الزوجات والأمهات اللواتي فيها قد كن تلميذات في هذه المدرسة أو أنهن عاشرن معلماتها والمتعلمات فيها.
إنني في كلامي عن المدارس لا أخصص جنساً منها بل أمتدح كل المدارس على اختلاف نزعاتها وصفاتها والقائمين بالعمل فيها ولا أقول أنه توجد مناظرة بين هذه المدارس أو أنني أكره المناظرة في هذا السبيل بل أقول أنني أرجو الخير لجميعها إذا كانت تعمل وهي ولا شك تعمل لخير المصريين.
هذا ما قالع العلامة المشار إليه وهو كما تراه يرمي إلى الاستقلال وينفر الناس عن الاتكال إذ قد عز عليه أن يرى شبان الشرق يقلدون بعض شبان الغرب في مكاسبهم ومعايشهم فيصبحون عالة على الحكومات يرزقون من خزائنها مختارين في عملهم الراحة على السعي والكسل على المضاء والتضييق على الانطلاق والاتكال على الاستقلال فتخرب البلاد بإهمال أبنائها لها ويفتحون بأيديهم أبواب بيوتهم للدخلاء والغرباء وتترك خيرات الأرض لمن يقوم على تعهدها واستثمارها واستنباتها.
ومن طبيعة المرء أن يحب العيش المضمون المريح وليس أحسن من الوظائف في هذا الباب تضمن معاش الإنسان في حياته وبعد مماته فيتدرج في سلسلة المراتب ولاسيما إذا كان على شيء من المعرفة المكتسبة والجربذة والدهاء ومعرفة المدخل والمخرج في نيل رضى رؤسائه بحيث يكون كالآلة في أيدي محركها ولا يطلب من الآلة إلا تنظيم سيرها فإن نطقت هي وسألت عن السبب كان للموظف ولاسيما إذا كان صغيراً أن يسأل عنه. يكفي في مضار التوظيف في الحكومات أنها تسلب الإرادة ومكن سلبت إراداته فنيت نفسه ومن فنيت نفسه كان كالميت لا يتحرك إلا إذا حرك. وأن أمة يرضى أرباب نوابغ الذكاء فيها لأنفسهم أن يكون بلا إرادة ولا شخصية ولا استقلال جديرة بالضعة والمقت والفقر والخمول وإذا حاز النبهاء هذه الصفات السيئة فأولى أن يكون حظ الخاملين أتعس. ولا رجاء لعامة ضعف خاصتها عن تعهد أمرها.
ومن أكبر الدواعي في ترجع عمران البلاد العثمانية والمصرية أنه وقر في النفوس مع الزمن أن من لم يخدم الحكومة لا يعد من الأشراف ولا من أرباب المكانة والرأي والوجاهة. وإن كل مروءة وحكمة وعقل وعلم ورفعة وقف على الموظفين ومن لم يحتك(50/41)
بالحكومة كان وضيعاً مهما رفعه مقامه وشرف آبائه وأجداده وجده ومضاؤه وحنكته ودربته ومعرفته وثروته.
هذا الخلق من طبيعة الحكم الاستبدادي وكم رأينا بيوتاً خربت لأن أربابها عز عليهم ألا يجاوروا بيوتاً أخرى كانت منافسة لهم في التسابق إلى دواوين الحكومة فغفلوا عن تجارتهم وزراعتهم المعقولة المشروعة وتعلقوا بالتافهات من خدمة أرباب الحكم فما استفادوا بقديمهم ولا أحسنوا يلقف حديثهم. وأكثر ما يكون هذا الخلق ظهوراً الآن في سكان العواصم مثل الآستانة والقاهرة ودمشق وحلب فترى كثيرين من أهلها كالحلمة الطفيلية ينتظرون نقل أحدهم أو استقالته أو موته حتى يخلفوه في مكانه.
إن أقوال المستر روزفلت حرية بأن يجعلها أهل هذه البلاد رائداً بين أيدي أعمالهم ومهمازاً لهم في أقولهم وأفعالهم. إن انصراف وجوه الناس كلهم نحو التوظف قد عطل في بلادنا القوى المعنوية والمادية وغادر القوم كإعجاز نخل خاوية تركوا موارد الثروة الحقيقية وراحوا زرافات يطرقون أبواب الحكومة وما هي بمغنية رعاياها كلهم وهم هم مادة حياتها وبغناها تغنى وبشقائهم تشقى.
لا يتعلم المتعلم منا من أهل الطبقة العالية والمتوسطة والدنيا إلا ليكون ضابطاً أو قائمقاماً أو موظفاً في الأقلام أو من رجال القضاء وقليل جداً من يريدون أن يتعلموا ليستعدوا لإنجاح تجارتهم وزراعتهم وصناعتهم ولاسيما من أهل الإسلام الذين حصروا آمالهم في الحكومة في كل دور من أدوارهم ولذلك قلما رأينا ابن تاجر منا علمه أبوه على الأسلوب الجديد حتى يكون كتجار الإفرنج بتعليمه وتجاربه ويعود عليه القرش قرشين بدل أن يعود قرشه ببارة.
طف مخازن القاهرة والآستانة وأزمير وسلانيك والإسكندرية وبيروت واسأل عن تراجم أربابها وأجناسها فهل ترى فيهم إلا إفرنجاً وغير مسلمين من أهل البلاد.
وإذا وقع لك أن صادفت تاجراً مسلماً فيكون في الأكثر غريباً عن تلك المدينة أو أنه أحوج إلى التعلم في عمله من أصغر تاجر من أولئك التجار أرباب الأموال الطائلة والمعارف الواسعة.
تجول في القرى وافحص المزارع هل تجد لمسلم وطني مزرعة نجحت بسعيه كما نجحت(50/42)
مستعمرات الألمان في فلسطين والفرنسويين في البقاع ومستعمرات الطليان والرو والأرمن في مصر وإذا رأيت مسلماً أخصبت تربته على سبيل الاتفاق فابحث عن السبب تراه اهتدى إلى استخدام أناس ممن تربوا على غير طريقته وعرفوا في الأمور الدنيوية من أين تؤكل الكتف.
وابحث عن صناعات البلاد هل تراها كل يوم إلا ترجع القهقرى لأن أربابها جمدوا على ما تعلموه من آبائهم ولم تحدثهم أنفسهم في تقليد الراقين من صناع الأيدي ولأنك لا تجد في الألف منهم واحداً يعرف ما يقتضي لنجاحه من الأسباب وأي الطرق سلكها الغربيون حتى بزوا بمصنوعاتهم مصنوعاتنا ويوشكوا أن يقضوا عليها قضاءً أبدياً.
كل هذا نتيجة الكسل والاعتماد على الحكومة في الرزق والبلاد لا ترتقي إلا بالمسلمين في المملكة العثمانية لأنهم الجمهور الأعظم من السكان ومنهم جلُّ رجال القضاء والإدارة وأرباب الأملاك والأراضي ولا سبيل إلى ارتقائها إلا إذا ارتقوا هم أنفسهم إن لم يكن أكثر من مواطنيهم فلا أقل من أن يكونوا على مستواهم. ونظن هذا التصريح جارحاً ولكن هي الحقيقة لا تدليس فيها ولا دهان.
إن كل ما كان الموظفون يجمعونه من دماء الأمة لم يثمر لهم الثمرة الجنية لأنه مال حرام أتاهم من غير طرقه المشروعة من كد واقتصاد فلم نر ثروة تسلسلت في أعقاب الموظفين إلى جيلين إلا نادراً وكثيراً ما كان يفتقر الموظفون في حياتهم لولا رواتب التقاعد رأيت أعظم الموظفين في السنة التي يضطرون فيها إلى ترك وظائفهم الفارغة أيديهم من مال يعتاشون به ولو كانت مشاهراتهم تعد بعشرات الليرات.
هذا من حيث المال أما عن سلب حرية الموظفين فحدث ما شئت أن تحدث ولولا أن العادة تسهل الأشياء لقضي على أكثر الموظفين في سن الكهولة لكثرة ما يلقون من عنت رؤسائهم وتضييق وجداناتهم وكم من ذكاء ذهب سدى لأن صاحبه لم يستعمله بل حصره في دائرة ضيقة من عمل أصبح له شيئاً معروفاً في بضعة أشهر وقضى عمره وهو يبيض ويسود أو يحاسب في موضوع لا يكاد يتعداه.
إن التوظف عمل من أعمال الناس لا يصح أن يترك وإلا فمن يدير شؤون البلاد ولكن لا يجب التهالك عليه كما نراه يتزايد اليوم بعد اليوم فالأم التي كانت تفرح ابنها فيما غبر(50/43)
وتقول له إن شاء الله أراك باشا ينبغي لها أن تربيه مع أبيه على أن يكون بعد اليوم ممتازاً في حرفة من الحرف أو صناعة من الصناعات فقد جربت الأمة ورأت من إفلاسها ما لا ينكره عاقل لأنه لم يتعلم منها أحد إلا ليكون من المستخدمين. كأن خيرات الأرض والسماء لا تغدق إلا على من ينصب نفسه وجسمه للجري على إرادة غيره لينال بزعمه رزقاً هنياً ليناً.
إنا والله مع احترامنا لكل موظف أمين يخدم الأمة بصدق ويقبض راتبه بعرق جبينه لنفضل عليه من يتجر السماد لتعمر به الأرض ومن يخرج الحجارة من المقالع ويعتمد على خالقه وعمله في معاشه على فرد ينسى كل شيءٍ ويتجرد عن كل شيءٍ ليقال عنه أنه موظف.
نزل مصر بعض المتعلمين من السوريين منذ عهد الخديوي إسمعيل وقبله وأخذوا بما فيهم من النشاط والقوة والمعرفة يتولون الوظائف وينافسون فيها المصريين في بلدهم فبقيت أرزاقهم محدودة ولم يخرجوا عن كونهم مستخدمين يصرفون في آخر شهرهم كل ما قبضوه في أوله. ولما صعبت الحكومة المصرية وصول غير المصري إلى تولي الوظائف بالقانون الذي سنته على عهد الوزارة الرياضية حول السوريون وجلهم مسيحيون وجهتهم إلى التجارة والزراعة فمإذا كان من إثر ذلك عليهم؟
كان منه أن أصبحوا يتكلمون على عملهم وكدهم ويبتاعون الأطيان البائرة في القطر المصري فيعمرونها بنشاط ومعرفة ويتجرون بمصنوعات البلاد ومصنوعات أوربا ويتوفرون على تنمية أموالهم بطرق اقتصادية حتى لم يمض عقد أو عقدان من السنين إلا وقد أصبح أبناء سورية النازلون في مصر أغنياء بعد الحاجة موسعاً عليهم غب الضيق يملكون القصور الباذخة ويتمتعون بالعيش الخضال حتى قدر أحد العارفين ثروة السوريين في مصر بخمسين مليون جنيه أي بعشر مجموع ثروة مصر. ولو ظلوا راضين كلهم بالدون من المعاش لما جمعوا واحداً في المئة من هذه الثروة الطائلة ولا يكون ما يجمعونه إلا من التقتير والشح وكذلك فعل المسيحيون في البلاد العثمانية لما قطعوا آمالهم من الحكومة فباتت أعمال المعاش المهمة كما تقدم بأيديهم ودرت عليهم أخلاف السعادة ولو قلدهم سائر العثمانيين في هذه الخطة الشريفة لخلصنا من الإشكال الذي لم تبلغه أمة من(50/44)
الأمم في سالف القرون والأجيال.
قال الجاحظ في رسالته مدح التجار وذم عمل السلطان: وهذا الكلام لا ينجم من حشوة أباع السلطان فأما عليتهم ومصاصهم وذو البصائر والتمييز منهم ومن فيقة الفطنة وأرهقه التأديب وأرهبه طول التفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجارب فعرف العواقب وأحكم التفضيل وينطق (؟) غوامض التحصيل فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم ويحكمون لهم بسلامة الدين وطيب الطعمة ويعلمون أنهم أورع الناس أبداً وأهنأهم عيشاً وآمنهم سرباً لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم يرغب إليهم أهل الحاجات وينزع إليهم متلمسو البياعات لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم ولا تستعبدهم الضرع لمعاملاتهم وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه وقاربه بخدمته فإن أولئك لباسهم الذلة وشعارهم الملق وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة قد لبسها الرعب وألفها الذل وصحبها ترقب الاحتياج فهم مع هذا في تكدير وتنغيص خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب وتغيير الدول واعتراض حلول المحن فإن هي حلت بهم وكثيراً ما تحل فناهيك بهم محرومين يرق لهم الأعداء فضلاً عن الأولياء فكيف لا يميز بين من هذا ثمرة اختياره وغاية تحصيله وبين ما قد نال الوفاء عنه والدعة وسلم من البوائق مع كثيرة الإثراء وقضاء اللذات من غير منة لأحد ولا منة يعتد بها وكم بين من هو نعم المفضلين خلي وبين من قد استرقه المعروف واستعبده الطمع ولزمه ثقل الصنيعة وطوق عنقه الامتنان واسترهن بتحمل الشكر الخ.(50/45)
ملك الإنكليز وإمبراطور الهند
إذا كان فراق هذه الدنيا تزداد صعوبته بزيادة إقبال الحظ وسعادة الطالع على المرء فالملك إدوارد السابع أولى الخلق بكراهة الموت وحب البقاء. وإن كان بلوغ الأماني وحصول الرغائب وازعاً عن التشبث بحبال الحياة ومفضياً به إلى القناعة من الدنيا والاكتفاء من لذائذها وحب الرحيل عنها فهذا العاهل الكبير أجدر الناس على الإطلاق بالملل من العمر والازدراء بأطايب الحياة.
وذلك لأنه عاش عمراً مفعماً بالحوادث العظيمة ومملوءاً بكل ما اشتهته نفس وطاب به قلبه وتمتع بجميع ما تتطلبه الأميال البشرية وتهنأ به النفوس. فقد كان قبل أن ارتقى إلى العرش البريطاني في 22 كانون الثاني 1901 منصرفاً إلى ما يلذه من السياحات والمذاكرات والمشاغل الخاصة غير محتمل عناء السياسة ولا متعرض إلى ما لا يعنيه من شؤونها فكان يكثر من مخالطة العلماء ومفاوضتهم في الفنون التي أولع بها ويحضر الحفلات العلمية ويسمع الخطب ويقرأ المقالات في العلوم الطبيعية والجرائد السياسية ويقف على آراء الزعماء ومطالب الأحزاب وأغراضهم ويعي ذلك في صدره لينتفع به عند الحاجة ويتلهى بالخروج إلى الصيد في أوقات الفراغ والسياحة في أوربا وقد كان مولعاً بمدينة باريس وجعلها موضع طربه ومقر صفائه وأكثر من انتيابها واللهو فيها حتى اتهمه الناس بالمجون والطيش وحسبوا انبعاثه في الملذات وقيامه على صفاء العيش وخلو الذهن من المشاكل يجعله ضعيفاً في إدارة الشؤون السياسية قاصراً عن النهوض بأعباء الملك عند انتدابه إليه.
درس العلوم العالية في جامعة كامبريدج وجامعة أكسفورد ونال منهما رتبة دكتور في الشرائع ووجهت إليه درجات علمية سامية من المدارس الكبرى في بريطانيا ومستعمراتها وعين قائداً في الجيش البري وأميرالاً في البحرية الإنكليزية وانتخبه الماسون رئيساً أعظم للمحفل الإنكليزي وكان غيوراً على هذه الجمعية مؤيداً لمبادئها حافظاً لقوانينها حتى صار له في العالم الماسوني مقام جليل ومنزلة سامية. وقد زار سورية سنة 1862 وجال في مدائنها وتفقد آثارها كما ساح في غيرها من بلاد الشرق والغرب مثل مصر والهند وكندا والولايات المتحدة وغيرها وتعرف بأكثر ملوك الدنيا قبل وصوله إلى العرش واضطلع بالسياسة الخارجية ودرس طبائع الأقاليم والشعوب وكان ينوب عن والدته الملكة فيكتوريا(50/46)
في أكثر الاحتفالات الدولية والجمعيات العلمية والخيرية.
أقضى إليه صولجان الملك بعد وفاة والدته فطرح اللهو جانباً وانتقل من دور التأهب إلى دور العمل وقد كان عندئذ الاضطراب سائداً والارتباك مستولياً في دوائر إنكلترا السياسية بسبب الحروب الناشئة في جنوبي أفريقية مع الترانسفال وإن كان النصر قد انبلج للإنكليز وتوثفوا من استيساق الأمر في تلك الناحية فعمد إلى سياسة اللين والرفق وغير خطة العنف التي كانت تنويها حكومته مع ذلك الشعب فأباح لهم الأمن والاستقرار في منازلهم ووزع عليهم الأرزاق والحقوق حتى أخلدوا إلى السكينة والهدوء ورتبت الشؤون في بلاد الراس على أسلوب مهد لإنكلترا ثبوت القدم على نصف قارة أفريقية من جهة الجنوب وإقامة دولة إنكليزية في تلك الأقاليم تضارع دولتها في الهند.
ثم فكر بوسيلة للاطمئنان من جهة هذه الدولة الضخمة وإيصالها من منابع النيل إلى مصبه وما زال يدبر ويمهد حتى وفق إلى عقد الاتفاق الودي مع فرنسا وأطلق يد إنكلترا في وادي النيل فأصبح البأس الإنكليزي مشتملاً على القسم الأعظم من قارة أفريقية من الإسكندرية إلى رأس الرجاء الصالح.
وهذا الاتفاق الذي ألف به إدوارد السابع بين الإنكليز والفرنسيس هو أعظم عمل قام به في حياته وأحسن ما استفادت منه إنكلترا في القرن الماضي خصوصاً وقد كان عقده أثناء الحرب اليابانية في الشرق الأقصى عندما كان يخشى من أن تسعى فرنسا بتأليف حزب كبير في أوربا لمناصرة روسيا وإضاعة انتصارات اليابان.
في أيامه شذبت اليابان قتادة الروس في الشرق الأقصى، وكفكفوا غائلهم إلى الوراء في منشوريا وبلغت السياسة الإنكليزية في ذلك أوجها الأعلى بانكسار شوكة روسيا والطمأنينة من تعاظمها وتعاليها في الشرق فأمنت الهند منها وتحققت أن هذا القلق قد خمدت خمرته وبردت ثائرته فلا يتحرك قبل اواسط القرن العشرين.
وفوز الساسة الإنكليزية في الشرق أقنع أوربا قاطبة أن إنكلترا هي صاحبة الكعب الأعلى والمقام الأول وهي الخصم الذي لا ينازع والقرن الذي لا يدافع فتزلفوا إليها بالمودة وتلطفوا بخطبة مودتها والتقرب منها حتى أن روسيا التي تحملت الضربة الكبرى اغتفرت لها الذنب وتناست ما للإنكليز من تعزيز شأن اليابان ومعاضدتهم في تلك الحرب ومالت(50/47)
إلى مصانعتهم واسترضائهم والفضل الأكبر في هذا النفوذ كان للملك إدوارد الذي أدار دفة السياسة بيده واهتم بتدبير الأمور على هذا المنوال.
ومن غرائب الاتفاق في السنوات التسع التي كان فيها هذا العاهل على العرش البريطانية لم يظهر أثنائها رجال بين ساسة الإنكليز مثل الذين ظهروا على عهد والدته بالاقتدار والحنكة والدراية فلم يكن لديه مثل غلادستون وسالسبوري وبيت وبكنسفليد وبلمترسون وغيرهم فكان الحمل عليه ثقيلاً والتبعة عظيمة وأخذ على عاتقه استنباط الأساليب واختراع المذاهب السياسية ومال إلى سياسة العلم والرفق أكثر ملوك أوربا ورؤساء حكوماتها وألف بين القلوب وأصفى الود لأعدائه وعقد معهم عقد المودة والإخلاص وصارت إنكلترا التي كانت بالتقاليد الأوربية القديمة مهتمة بالاعتزال والانفراد والكبرياء ومكروهة من الشعوب أقرب الأقوام مودة وأعلقهم بقلوب الأمم.
فهو أول ملك إنكليزي زار قياصرة الروس في عاصمتهم وأول من انتزع سخائم البغض والعداوة الراسخة بين الإنكليز والفرنسيس. وقد تعاصى عليه استجلاب ابن أخته إمبراطور ألمانيا باللين والصداقة فألب عليه جيرانه وكاد يخرج إيطاليا من المحالفة الثلاثية يفرد الدولة الألمانية وحدها بين الممالك الأوربية.
أما علاقة الملك إدوارد بدولتنا وسلطاننا فقد كانت في دور الاستبداد أقرب إلى العداء منها إلى الصداقة وقد صرح مراراً في مفاوضاته السياسية أنه يتمنى الخير للدولة العلية غير أنه بائس من إصلاحها ويحسبها عضواً فاسداً في العالم المتمدن لم يكن نصيراً للدولة الحميدية في نكباتها ولا أعانها في ويلاتها الكثيرة بل ربما شد في بعض مآزقها ومهد السبيل إلى ندور بعض الولايات عنها فكانت له اليد الطولى في استقلال كريت ورغب في إخراج مكدونيا من الوحدة العثمانية متبعاً بذلك سياسة غلادستون الذي كان الحزم بتقسيم الدولة العثمانية إلى ممالك صغيرة حرصاً على السلم العام. وصفاء بال العناصر من المشاكل الحميدية.
ثم لما تبين الرشد من الغي وانتصر الحق على الباطل بظهور الأحرار على الأشرار وإعلان الدستور في البلاد العثمانية كان الملك إدوارد أشد الأجانب فرحاً بهذا الانقلاب وأكثرهم مظاهرة لحكومتنا الجديدة الحرة فوقف في وجه ألمانيا وعرقل دسائسها في البلقان(50/48)
وصرف نفوذه وقوة دولته العظيمة في استمالة الرأي العام في أوربا لجهتنا وتسكين القلاقل في الروم إيلي وحال دون أمنية الأعداء الذين حاولوا إلحاق جزيرة كريت بحكومة اليونان وقد أثر عنه كلام كثير ومواقف متعددة نشط فيه حركتنا الدستورية وتمنى لنا الخير والإقبال وتوسم فينا التقدم والفلاح وكان أول من قر بين الملوك على خلع عبد الحميد بما هنأ عليه السلطان محمد رشاد من عبادات الود والإخلاص وقد اشتدت عزائم أحرارنا بمظاهراته لهم وتصريحه بالسرور والاستبشار بما قاموا به من النجدة والحمية.
هذه أهم الأعمال السياسية التي قام بها الملك إدوارد السابع مدة ملكه القصيرة وجميعها عائدة على أمته بالخير والنجاح وعلى العالم بالفضل والصلاح حتى لقبه الأوربيون بصانع السلام واعترفوا أنه رئيس السلم والداعي إلى الوئام والوفاق وحامي الحرية والعدل ينضوي تحت رايته نحو مائة مليون من المسلمين في الهند وجزائها وأفريقية والسودان والصومال وغيرها وقد كان يحب هؤلاء المسلمين من رعاياه ويعدهم أخلص الشعوب لعرشه وأعلقهم به حباً وقد اسفوا على موته وحفظوا له ذكراً حميداً.
لا يجادل أحد في أن الملك إدوارد كان أرحب الملوك صدراً وأوسعهم فضلاً ومن أكثرهم علماً وأعرضهم جاهاً وأسلمهم قلباً وأصفاهم وداً. وقد اشتد حزن شعبه عليه ولم يجد سبيلاً للعزاء سوى ما يؤملونه من أن ابنه وولي عهده ينسج على منواله ويحذوا حذوه في السياسة بهذه الأيام التي يشكو فيها الإنكليز من قحط الرجال في عواصمهم.
ولد ابنه الملك جورج في 3 حزيران سنة 1865 فهو اليوم في الخامسة والأربعين من عمره وتبوأ التخت الإنكليزي منذ أسبوع وليس له من الشهرة وسعة الاطلاع ما كان لوالده قبل بلوغ الملك فهو أقرب للعلم منه إلى العروش وأشد ولعاً بالمطالعة والدرس منه بالتمرسات السياسية وقد صرف معظم حياته الماضية بين الكتب وفي الأندية العلمية وملاحظة المعاهد الخيرية. على أن القوم لا يتوقعون منه أعمالاً عظيمةً ويحسبون أن عقله الكبير الذي أجاد في مجال العلم والتفكير لا يقصر في ميدان السياسة والتدبير.
فارس الخوري.(50/49)
مصطلحات آلات الطرب وأغاني العرب
كل من طالع كتاب الأغاني وبعض كتب الأدب القديمة التي تذكر بالغناء وأنواعه وآلات الطرب وملاهيه يقع على ألفاظ علمية اصطلاحية إذ نقر عنها في دواوينه اللغة ومعاجمها المطولة لا يرجع عنها إلا ما رجع بها حنين. ولقد حاول المستشرقون غير مرة البحث عنها في الكتب الأدبية التي ألفت في الصدور في الصدر الأول من زهو اللغة فلم يعثروا على ضالتهم كما لم يعثر عليها أدباء الشرق وعلماؤه. وقد وفق العاجز في هذه الآونة إلى وجود الضالة نبهاً في كتاب مخطوط كنت قد وصفته في المقتبس 28242_386 وعنوان البحث في كتابنا المذكور هو: العود ومصطلحاته وها نحن أولاء ننقل إلى الأدباء قراء المقتبس الأغر ما جاء من البحث تعميماً للفائدة ونتشاً لشوكة الجهل الناشبة في أذهاننا من هذا القبيل. قال صاحب الكتاب: العود ومصطلحاته في الصفحة 221 من المخطوط وما يليها:
كثيراً ما كنت أطالع في كتاب الأغاني ألفاظاً في مصطلح الغناء وما كنت أتوصل إلى فهمها حتى ظفرت أخيراً برسالة لعبد القادر بن غيبي الحافظ المراغي المشهور بعلم الألحان فأخذت عنه ما يتعلق بفتح مغلق الكلام الخاص بهذا العلم فأقول:
اعلم أن الألفاظ الواردة في كتاب الأغاني تتعلق كلها بالعود العربي فإذا علمت أن تركيب هذه الآلة هان عليك فهم ما أشكل عليك من مصطلحها فهذه الآلة طولها مثل عرضها مرة ونصفاً وغورها كنصف عرضها وعنقها كربع طولها في الراحة وثخن الورقة من خشب خفيف ووجهاً أصلب وتمد عليه أربعة أوتار أغلظها البم بحيث يكون غلظه مثل المثلث الذي يليه مرة وثلثاً. والمثلث إلى المثنى كذلك. والمثلث مثل الزير كذلك وقد ضبطوها بطاقات الحرير فقالوا:
يجب أن يكون البم أربعاً وستين طاقةً. والمثلث ثمانية وأربعين والمثنى ستاً وثلاثين. والزير سبعة وعشرين. ويجعل رؤوسها من جهة العنق في ملاوٍ والأخرى كمشط فتتساوى أطوالها. ثم يقسم الورق أربعة أقسام طولاً ويشد على ثلاثة أرباعه مما يلي العنق وهذا دستان الخنصر. ثم ينقسم الآخر تسعة ويشد على تسعة مما يلي العنق وهذا دستان السبابة. ثم يقسم ما تحت دستان السبابة إلى المشط أتساعاً متساوية ويشد على التسع مما يلي المشط ويسمى دستان البنصر فيقع دون دستان الخنصر مما يلي دستان السبابة. ثم يقسم الوتر من(50/50)
دستان الخنصر مما يلي المشط ثمانية أقسام وضعف إليها جزءاً مثل أحدها مما بقي من الوتر وشده فهو دستان الوسطى ويكون وقوعه بين السبابة والبنصر. فهذه الاصطلاحات هي المصححة للنسب فإذا جذب وتر منها إلى غاية معلومة سمي الزير فيجذب المثنى على نسبة تليه في الانحطاط وهذا مع الجنس بالخنصر والضرب حتى يقع التساوي.
فالزير كعنصر النار في الطبع والتأثير. والمثنى كالهواء والمثلث كالماء والبم كالتراب. فانطبق على الأخلاط والأمزجة أفراداً وتركيباً. ويقوى ما يكون على الأخلاط من سجايا وأمراض وأمكنة وأزمنة حتى قيل أن لطف النار مثل لطف الهواء مرة وثلثاً. وهكذا الهواء بالنسبة الماء والماء إلى التراب كما مر في الأوتار وأما وضعهم هذه الأوتار حتى جعلوها ثمانية فلما مر بك من أنها أول مكعب مجذور لأن الأرض كذلك فشاكلوا بذلك تسعة والقمر اثنا عشر وعطارد ثلاثة عشر والزهرة ستة عشر والشمس ثمانية عشر والمريخ أحد وعشرون ونصف والمشتري أربعة وعشرون وزحل سبعة وعشرون وأربعة أسباع والثوابت ثلاثون ولأن التثمين داخل في أشياء كثيرة تضاعف المزاج والطبائع وبالجملة قد اختلف ميل طوائف العالم إلى مراتب الأعداد كما عشقت الصوفية الواحد فطوت الأشياء فيه والمجوس الاثنين والنصارى الثلاثة وأهل الطبائع الأربعة وأهل الأوفاق الخمسة والهندسة الستة والحكماء الفلكيون السبعة فالذهن من حيث هو يستحسن النسب حتى إذا برزت إلى الخارج زادت النفس بسطاً فإن الكتابة تحسن بمناسبة حروفها استقامة وتدويراً وغلظاً ورقة واستدارة ولو بمجرد الانحناء فقد قيل أن الحروف كلها وإن اختلفت بحسب الأمم لا تخرج عن خط مستقيم ومقوس منها مركب منهما.
ثم قوانين الغناء لا تخرج عن ثمانية. (ثقيل أول) ورسمه:
تنَّ تنَّ تنَّ. تنَّ تنَّ تنَّ
وهو مركب من تسع نقرات هي ثلاث متواليات وواحدة كالسكون فخمس مطوية الأول. (وثقيل ثان) وهذا رسمه:
تنَّ تنَّ تنَّ. تنَّ تنَّ تنْ
وهو مركب من إحدى عشرة وهي ثلاث متواليات فواحدة ساكنة فثقيلة فأربع مطوية الأول (وخفيف الثقيل الثاني) ويسمى:(50/51)
الماخوري وهذا رسمه: تنْ تنْ تنَّ تنْ تنْ تنَّ
وهو مركب من ست وثلاث متواليات فسكون على ثلاث. (ورمل) ويسمى ثقيل الرمل وهذا رسمه:
تنَّ تنْ تنْ. تنَّ تنْ تنْ
وهو مركب من سبع وهي: ثقيلة أولى فمتواليتان فسكون وهكذا إلى الآخر (وخفيفه) وهذا رسمه:
تنْ تنْ. تنْ تنْ. تنْ تنْ. تنْ تنْ
وهو مركب من ثلاث نقرات متوالية متحركة (وخفيف الخفيف) ورسمه:
تنْ تنْ تنْ. تنْ تنْ تنْ
وهو مركب من نقرتين بينهما سكون قدر واحدة (وهزج) ورسمه:
تنْ تنْ تنْ تنْ. تنْ تنْ تنْ تنْ
وهو مركب من نقرة كالسكون ثم سكون قدر نقرة ثم بين كل اثنتين سكون فهذه أصول التراكيب وإنما تكرر بحسب استيفاء الأدوار.
(فالمسلي) بالتشديد نسبة إلى المسلة من آلات الخياطة وتسمى هذه وما بعدها (الأجناس المركبة) وهي كثيرة ولكن تعود أصول منها على التاسع ثمانية: أحدها وهو المسلي وسمي بذلك لرقة مدخله وسلطه ويدل على اجتماع الأخلاط في الصدر والشراسيف والقلب وكمال الربو والدبيلات وامتلاء المعدة ويعرف به تحرير الخلط من باقي البسائط وهو سهل.
وثانيها المائل وهو عكسه هيئة ودلالة.
وثالثها الموجيُّ وهو المختلف الأجزاء تدريجاً بحيث يكون الأعظم الخنصر ويظهر اختلافه عرضاً ينشبه الأمواج ومنه اسمه وهو يدل على فرط الرطوبة والاستقاء الزقي واللحمي وذات الرئة وغلبة الأمراض البلغمية.
ورابعها النمليّ سمي بذلك لدقته وضعف حركته ويقع في رابع الحارة فيدل على الموت في الخامس وبعد الموضع في وجود الحمي فيدل على الموت في الحادي عشر ويكون عن الدودي أيضاً فيرد عليه أيضاً فيرد عليه إذا انتعشت القوى بشرب ما يقوي القوى كدواءِ المسك والبادزهر وأنكر قوم انقلابه والصحيح ما قلناه وكل ما دل عليه الدودي دل عليه(50/52)
النمليّ لكن أشد رداءةً وضعفاً في القوى.
وخامسها الدودي وهو موجيّ ضعفت حركته بإسهال إن طال. وإلا فالمجفف من داخل كأخذ نحو الأفيون وما يكثف المزاج إلى فساد الرطوبات وقد يقع في البحارين لنقص الرطوبات ويكون ابتدؤه عند الموجي كما في النبضة.
وسادسها المنشاري وهو ما اختلف أجزاؤه تواتراً وسرعة وصلابته عكسها وكان قرعه للأصابع متفاوت التساوي كأسنان المنشار يدل على فرط اليبس ويختص بذات الجنب والدبيلات والأورام.
وسابعها المرتعش ويدل على الرعشة ونحوه من أمراض العصب بحسب مواقع أجزائه كما مر.
وثامنها المتشنج ودلالته كالمنشاري مطلقاً في غير ما اختص أي ذات الجنب به.
هذا واعلم أن اللحن يسمى مطلقاً إذا لم يكن مقيداً بلفظة تدل على وصفه كالثقيل والخفيف وخفيف الخفيف. ويذكر بعد اللحن موقع الإصبع الذي يبتدأ به ليهتدي إلى قراره فيقال مثلاً ثاني ثقيل مطلق أو ثاني بالوسطى أو بالخنصر في مجرى البنصر أو خفيف رمل بالبنصر أو خفيف ثقيل أول بالبنصر إلى غير ذلك وهو المعروف عند اصحاب هذا الفن بمواقع الأصابع في الدساتين. والله الموفق. اهـ نقله بحرفه.
بغداد:
ساتسنا.(50/53)
مخطوطات ومطبوعات
الذخيرة لابن بسام
في مكتبة الأمة بباريز الجزء الأول من كتاب الذخيرة لابن بسام وهو بخط مغربي ناقص ورقه من أوله وآخر هذا الجزء ترجمة الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو في 263 ورقة من القطع الكبير حديث الخط فيما يظهر. وفيها السفر الثاني من كتاب الذخيرة منسوخ عن نسخة مكتبة أكسفورد وقدج ذكر فيها أن الخط المنقولة عنه رديء جداً ولذلك جاءت فيها أغلاط قد لا يهتدى إليها وأوله فصل في ذكر الأعيان المشاهير أرباب صناعة المنظوم والمنثور بحضرة اشبيلية ونواحيها وما يصاقبها ويدانيها من بلاد ساحل البحر والمحيط الرومي وهو الجانب الغربي من جزيرة الأندلس وإيراد ما بلغني من غرر أشعارهم ومستظرف أخبارهم مع ما يتعلق بها ويذكر بسببها.
قال ابن بسام: وحضرة اشبيلية على قدم الدهر كانت قاعدة هذا الجانب الغربي من الجزيرة وقرارة الريامة (؟) ومركز الدول المتداولة ومنها شهدت البلاد وأبتت الجهاد عليها الفرسان كأنها العقبان وبهذا الأفق نزل جند حمص من المشرق وسميت حمص ولما كانت دار الأعزة والأكابر نابت فيها الخواطر وصارت مجمعاً لصوب العقول ودرب العلوم وميداني فرسان المنثور والمنظوم ولاسيما من أول المائة الخامسة من الهجرة حين فرح كل حزب بما لديه وغلب كل رأس على ما في يديه بعد الدولة الحامدية فأضحت أقطاب الجزيرة يومئذ كبني الأعيان وأهلها كما قال أخو بني عدوان:
عذيري الحجي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
بكى بعضهم بعضاً ... فلم تبق على البعض
فاشتمل هذا القطر الغربي لأول تلك المدة على بيتي حسب وجمهور في أدب مملكتان من لخم وتجيب حصرتا بلاده وأكثرتا رواده فأتاه العلم من كل فجِّ عميق وتبادره العلماء من بين ساق ومسبوق وكل ما نشأ من هذين البيتين أمير وأن إلى العلم أطلب وفي أهله ازغب والسلطان سوق يجلب إليه ما ينفق لديه حتى اجتمع في الجانب الغربي على ضيق أكنافه وتحيف الحذر قصه الله لأطرافه ما باهى الأقاليم العراقية وأنسى بلغاء الدولة الديلمية فقل ما رأيت فيه شايراً غير ماهر ولا شاعراً غير قاهر دعوا حر الكلام فلبى وأرادوه فما تأبى(50/54)
وطريقتهم في الشعر الطريقة المثلى التي هي على طريقة البحتري في السلاسة والمتانة والعذوبة والرصانة وأنا أورد في هذا القسم بعض ما انتهى إليَّ من خير كلامهم في نثرهم ونظامهم مشوباً ذلك كله بفنون ومعارف من أخبار يحسن الوقوف عليها على أن الذي بلغني من شعر قطر ثماد ونقطة من قطر ولقد فاتني كثير من الكتاب من أعيان الشعراء ممن كانوا في ذلك التاريخ منهم من لم أسمع بذكره ومنهم من لم تسمح نفسي بإثبات ما بلغني من شعره وربما أجريت ذكر أحدهم غير مبوب عليه ولا مشيراً إليه إما لشيءٍ أجاد فيه وإما أن يتعلق ذكره بذكر من أجريه وقد أبدى لذكر الرجل لمكانه من الإحسان لا لتقدمه من الزمان أو لبعض ما يدعو إليه القول من نسق خبر أو موجب نظر بأول ما ابتدأت به من أهل حمص آل عباد لثباته ذكرهم مع جودة شعرهم اهـ.
وهنا أورد ابن بسام ترجمة القاضي أبي القاسم محمد بن عباد ثم أورد ترجمة المعتضد بالله عباد بن ذي الوزارتين القاضي أبي القاسم محمد بن عباد قال فيه:
ثم أفضى الأمر إلى عباد ابنه سنة 33 وتسمى أولاً بفخر الدولة ثم بالمعتضد قطب رحى الفتنة ومنتهى غاية المحنة من رجل لمك يثبت له قائم ولا حصيد ولا سلم عليه قريب ولا بعيد جبار أبرم الأمور وهو متناقض وهو أسد فرس الطلق وهو رابض متهور تتحاماه الدهمات وجهان (؟) لا تأمنه الكماة متأسف اهتدى ومنبت قطع فما أبقى ثأر والناس حرب وكل شيءٍ عليه ألب فكفى أقرانهم وهم غير واحد وضبط شانه بين قائم وقاعد حتى طالت يده واتسعت بلده وكثر عديده وعدده افتتح أمره بقتل وزير أبيه حبيب المذكور طعنه في تغرة الأيام ملك بها كفه وجباراً من جبابرة الأنام شرد به من خلفه فاستمر يفري ويخلق وأخذ يجمع ويفرق له في كل ناحية ميدان وعلى كل رابية خوان ضربه سم لا يبطي وسهم لا يخطي وسلمه شر غير المأمون ومتاع إلى أدنى حين. . . .
وقد أطال في ترجمته وما وقع عليه من المحنة وما قاله وقيل فيه من الأشعار ثم أورد باباً يشتمل على طائفة من الوزراء والأعيان ممن كان في دولة المعتضد من أرباب هذا الشأن واجتلاب ملح وطرف لشعراء كانوا بذلك الأوان مع ما يتعلق بها ويذكر بسببها فترجم أبا حفص عمر بن حسن الهوزني. وأبا الوليد الباجي وأبا عمر بن مسلمة وأبا الوليد إسماعيل بن محمد الملقب بحبيب وأبا الحسن علي بن حصن الاشبيلي وأبا عمرو بن الباجي وأتى(50/55)
على جملة من شعر أبي الأصبغ بن عبد العزيز وترجم الوزير أبا العلاء زهير بن عبد الملك بن زهير الإيادي. والوزير أبا عبيدة البكري وذا الوزارتين الفقيه الكاتب أبا بكر بن سليمان المعروف بابن القصيرة وقال فيه وهو في وقتنا جمهور البراعة وبقية أئمة الصناعة وعذب اللسان العربي وسويداء قلب هذا الإقليم الغربي بحر علم لا يبرح وجبل حلم لا يزحزح من بعض كور اشبيلية نشأ في دولة المعتضد شهر بالعفاف فلزمه ويسر للعلم فعلمه وعلمه وكانت له نفس تأبى غلا مزاحمة الأعلام والخروج على الأيام وهو دائماً يغض عنانها فتجمح ويطمن من غلوائها فتتطاول وتطمح ممتنعاً من خدمة السلطان قاعداً بنفسه عن مر تبة نظرائه من الأعيان بين عفة تزهده وهيبة من المعتضد تقعده حتى فطن له ذا الوزارتين بن زيدون فلم يزل يصرح قذى العطالة عن مائة ويعلي رماد تلك الهيبة عن نار ذكائه إلى أن نبه عليه المعتضد آخر دولته فتصرف فيها قليلاً على تقية من تلك البقية. وتقشف من ذلك التعفف إلى أن أفضى الأمر إلى المعتمد وأخيه وقد كان في أيام أبيه من بعض يداخله ويصافيه فحياه من علاه بنصيب وسقاه من نداه ببحر لا بذنوب وأنهضه إلى مثنى الوزارة وأكثر ما عول عليه في السفارة فسفر غير ما مرة بينه وبين خلفائه من ملوك الطوائف بافقتى (؟) حتى انصرفت وجوه آمالهم إلى أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين رحمه الله فسفر ذو الوزارتين بينهما تكراراً فكثر صوابه اشتهر في ذات الله مجيئه وذهابه واضطر المعتمد إليه قريباً من آخر دولته فعظمت حاله واتسع مجاله واشتهر على الدولة استيلاء لا قصر عنه إشكاله إلى أن كان من خلعه ما كان فكان ذو الوزارتين أحد من حرب وفي جملة من نكب وأقام على تلك الحال نحواً من ثلثة أحوال حتى تذكره أمير المسلمين بما كان عهد من حسن خليفته وسراءِ طريقته وقد حدثت أن سبب ذلك الذكر كتاب كان ورد من صاحب مصر لم يكن من الجواب عليه والإنصاف منه وتفقد يومئذ أعلام المشاهير فكان ذو الوزارتين أقرب مذكور فاستدعاه لحينه وولاه كتبة دواوينه حتى أنساه زمانه اهـ.
ثم ترجم الوزير الفقيه الكاتب أبا القاسم محمد بن عبد الله بن الجد والوزير الكاتب أبا محمد عبد الغفور وذا الوزارتين أبا بكر محمد بن عمار والوزير الكاتب أبا الوليد بن المصيصي والوزير الأديب أبا القاسم بن مزرقان والوزير الكاتب أبا الحسين بن محمد ابن الجد(50/56)
والأديب أبا الحسن البكري والكاتب صالح الشنتمري والوزير أبا الحاكم عمرو بن مدحج وأبا الوليد بن عمه ابني حزم والأديب أبا بكر بن يحيى بن بقى.
ثم أورد فصلاً يشتمل على ذكر الكتاب والوزراء والأعيان والأدباء الشعراء ممن نشأ في الدولة المؤرخة بحضرة بطليموس وسائر بلاد المحيط الرومي والأندلس وذكر منهم المظفر أبا بكر محمد بن عبد الله بن مسامة المعروف بابن الأفطس والوزير الكاتب أبا عبد الله محمد بن أيمن والوزير الكاتب أبا محمد بن عبدون والأديب أبا جعفر محمد عبد الله بن هررة القيسي الأعمى القسطيلي والوزير الكاتب أبا بكر عبد العزيز بن سعيد البطليموسي والوزير الكاتب أبا بكر بن قومان والأديب أبا زيد بن عبد الرحمن بتن مقانا الأشبوني والشيخ أبا الحسن علي بن إسماعيل القوشي الأشبولي والأديب أبا عبد الله محمد بن الفيق وذا الوزارتين أبا محمد بن هود والشيخ الأديب ابن عمر بن فتح بن زلوحنة والأديب أبا عمر يوسف بن كوثر الشرتيني والأديب أبا الوليد المعروف بالنحلي والوزير الكاتب أبا بكر محمد بن سوار الأشبوني والأديب أبا محمد بن عبد الله بن صارة الشنتريني.
وهذا الجزء في 265 ورقة والجزء الثالث من هذا السفر منقول عن نسخة مغربية محفوظة في مكتبة غوتا وأوله ذكر الجانب الشرقي من جزيرة الأندلس وتسمية من نجم في أفقه من رجال النظم والنثر والرياسة بدأه بترجمة أبا عمر القسطلي ثم ذكر ذا الوزارتين أبي عبد الله الطاهر وذا الوزارتين أبي عامر بن الفرج وذا الوزارتين القائد أبي عيسى ابن لبون وذا الرياستين أبا مروان بن عبد الملك بن رزين والوزير الكاتب أبا محمد عبد الله بن الفقيه أبي عمر بن عبد البر النمري والوزير الكاتب أبا غامر بن التاكرتي والوزير الكاتب أبا المظفر عبد الرحمن بن ساحر المعروف بأبي الدبايج والأديب أبا الربيع سليمان بن مهران السرقسطي والأديب الأستاذ النحوي أبي عبد الله بن خلصة الضرير والأديب أبا مروان بن غصن الحجازي والأديب أبا علي إدريس بن اليملي والوزير الكاتب أبا الإصبع بن أرقم والكاتب أبا المظفر بن مثنى وهو عبد الرحمن بن أحمد بن صيعون والوزير الكاتب أبا عمر بن القلاس والوزير الكاتب أبا جعفر بن جرح والوزير الكاتب أبا الفضل بن حداي الإسلامي والأديب الكاتب أبا الربيع سليمان بن القضاعي والأديب أبا بكر محمد بن عيسى الداني والأديب أبا جعفر أحمد بن الدودين البلنسي والكاتب أبا جعفر بن أحمد(50/57)
مردانية والأديب الكاتب أبا الخطاب عمر بن أحمد بن عبد الله بن غيطون التجيبي الطليطلي وذا الوزارتين الكاتب أبا عبد الله ابن أبي الخصال قال فيه: حامل لواء النباهة بالروية والبداهة مع منظر ووقار وشيم كصفو العقار ومقول أمضى من ذي الفقار وله أدب بحره يزخر ومذهب يباهي ويفخر وهو إن كان خامل المنشأ نازله لم تنزله منازله ولا فرع للعلاء هضاباً ولا ارتشف للسناء رضاباً فقد تميز بنفسه وتخير من جنسه والذي ألحقه بالمجد وأوقعه بالمكان النجد ذكاء طبع عليه طبعه ونجم في سرية النباهة. . . . .
ثم ذكر الكاتب أبا عبد الله محمد بن أبي الخصال والوزير أبا محمد بن القاسم والأديب أبا تمام غالب الملقب بالحجام وهنا انتهى الجزء الثالث وهو في 233 ورقة وجاء في آخره أنه يتلوه في أول السفر الذي يليه في ذكر الحديث أبو عامر بن الأصيل. وفي هذه الأجزاء من الشعر الغريب والنثر المطرب ما هو ديوان الأدب وناهيك بسجعات ابن بسام التي هي أبهى من سجع الحمام بل وناهيك ما يقع عليه اختياره من نظيم الكلام ونثاره ومن هذه الأجزاء يؤخذ ديوان إنشاء في السلطانيات والأخوانيات والتهنئات والتعزيات والشفاعات والوسائل والجهاد وفي مقاصد شتى.
فيا حبذا لو تصدى لطبعه أحد أئمة المشرقيات في الغرب ليخدم بذلك التاريخ والأدب العربي. وفي مكتبة هذه المجلة النصف الأول من هذا الكتاب وهو بخط بمغربي ينفع في المعارضة إذا كتب الطبع للكتاب ونحن نقدمه لمن يتصدى لطبعه مع الشكر وقد اقتبسنا منه عدة تراجم في مجلدات المقتبس الماضية مع بعض الصعوبة لغلبة التحريف عليه.
ديوان أحمد نسيم
أهدانا هذا الشاعر المصري الجزئين الأولين من ديوانه وفيهما قصائد في أغراض شتى وبعضها اجتماعي وهاك نموذجاً من شعره قال في الشرق ومصر:
تداعت رواسي الشرق فانهال جوانبه ... وما همَّ حتى أقعدته نوائبه
تحاربه الأعداء من كل جانب ... ولم يكفهم أن الزمان يحاربه
تحد على هاماته شفراته ... وترهف فوق الناصيات قواضبه
وحسبك أن الشرق في كل أمة ... مآثره مشهورة ومناقبه
تخرج منه الفاتحون لأرضه ... فما جاءت بطحاؤه وسباسبه(50/58)
وكان عريناً لانضمام ليوثه ... وكان كناساً لاتهان رباربه
وكان قديماً مهبط المجد والعلى ... ومصعد غطريف ترجى مواهبه
وكان طليقاً أزهر اللون وجهه ... وللغرب وجه أصفر اللون شاحبه
له النصر والتأييد في كل غارة ... إذا زحفت يوم الصدام كتائبه
وكم بات مختالاً بكل مملك ... تسير على هام العباد مواكبه
وكم صال والهيجاء قان نجيعها ... بكل صقيل لا تفل مضاربه
إذا ما جرى وثباً إلى مطلع النهى ... فلا من يجاريه ولا من يواثبه
فيا شرق تأساءً إذا ناخ كلكل ... من الغرب إذ مدت إليك مخالبه
تقدمك الغرب المجد فلم يدع ... مكاناً تدانيه العلى وتقاربه
هرمت فلم تقدر على الدأب فانثنى ... يشاطرك الدنيا وما طر شاربه
ومنة عجب طفل على الثدي مرضع ... يطاول شيخاً حنكته تجاربه
جنحت إلى حب الخمول ولم تسر ... على سنن يرجو الهداية جائبه
* * *
صدقتك ما في الشرق إلا شراذم ... تخور خوار الثور آذاه ضاربه
وما فيهم إلا مضل مموّهٌ ... على القوم حتى أخطأت الرأي صائبه
وفي كل يوم يبتلي بمناهض ... تغير على عرش الملوك عصائبه
* * *
أعاتب قومي والعتاب تودد ... إذا لم أجد بين الورى من أعاتبه
إلى مَ ضياع العمر في غير عائد ... بجدوى ولم يرجع من العمر ذاهبه
يصاب الفتى بالحادثات تحيطه ... وأول من يسعى إليها أقاربه
معائب لا تحصى إذا ما عددتها ... ورحم الفتى أن لا تعد معائبه
خمول ولهو وانحطاط وذلة ... وعذر ووعد لا يؤنب كاذبه
وكم ماكر ينساب أرقم مكره ... وآخر مشاءٍ تدب عقاربه
يمينك فانظر نظرة المرءِ خلسة ... تجد بائساً ملقى على الضيم غاربه
أرى ناظر الشرقي يرنو من الأسى ... رنو امرئٍ ضاقت عليه مذاهبه(50/59)
ومما يزيد النفس بؤساً وحسرةً ... تربصها خطباً تبيت تراقيه
وما الشرق إلا موطناً عبثت به ... على غرة أبناؤه وأجانبه
أضاعوا حمى يجري النضار بأرضه ... وتهمي عليه باللجين سحائبه
كذا الشرق في أطواره طول عمره ... غرائبه ما تنقضي وعجائبه
* * *
رثيتك يا أرض الفراعنة الاءُلى ... قضوا في بلوغ المجد ما ألحق واجبه
ورثت بفضل العلم عزاً ممتعاً ... فما بات إلا وابن غيرك غاصبه
ولا خير في عرش من الغرب ربه ... ولا خير في مال من الغرب كاسبه
أفيقي فما في الجهل إلا مذلة ... ولا العلم إلا سؤدد عزَّ صاحبه
أنيري ظلام الشرق بعد انسداله ... فعند طلوع الشمس تجلي غياهبه
ولا تقنطي من رحمة الله مرة ... إذا شيم من برق انخذالك خالبه
امثلي ترين الغرب ياقظاً شاخصاً ... إلى الشرق يرجو أن تسوء عواقبه
وددت بلادي أن تسود بنفسها ... لأكتب فيها خير ما أنا كاتبه
وقال من قصيدة:
بعض الشيوخ ولا أقول جميعهم ... تخذوا التعنت والعناد لزاما
رثت عواطفهم وبات ضميرهم ... خلقاً وحبل العلم صار رماماً
ألفوا الجمود وكل شيخ همه ... أن يلبسوه عمامة ووساماً
يمشون فوق الأرض أعرض أهلها ... جبباً وأطول خلقها أكماماً
فروا من العلم الحديث وحسبهم ... جهلاً بأن عدوا العلوم حراماً
حب الجبان النفس خلقه لقي ... خلف المعامع يؤثر الإحجاما
وهم الذين إذا تضافر جمعهم ... هزوا العروش وأسقطوا الأعلاما
والله لو شهروا سلاح علومهم ... قهروا الأسود وحاصروا الآجاما
ولربما غلب الضعيف بعلمه ... جيشاً تموج كالخصم لهاما
قد حرموا علم الحساب وساءهم ... أن يعرفوا الأعداد والأرقاما
قنعوا بتجويد القراءة واكتفوا ... مذ أتقنوا التنوين والإدغاما(50/60)
سلهم عن الأهرام تسمع قولهم ... سيف بن ذي يزن بنى الأهراما
سلهم عن اليابان تعرف أنها ... جبل خصيب ينبت الأقزاما
سلهم عن الميكاد تعرف أنهم ... ملك غزا كسرى وحارب حاما
سلهم عن الأمزون تعرف أنه ... جزراً تحيط مراكشاً وسياما
إلى أن قال:
يا نصف أميين كيف قرأتم ... ونسيتم أن تعلموا الأقلاما
هل في اللغات نقيصة إن شئتم ... أن تفحموا أربابها الأعجاما
وهم الذين كما نراهم أتقنوا ... لغة النبي كتابة وكلاما
مستشرق حفظ الكتاب وآخر ... أخذ الشرائع عنه والأحكاما
يكفي رجال الغرب كل عجيبة ... تعيي الظنون وتعجز الأوهاما
بلغوا المطار وسوف تسمع أنهم ... جازوا الهواء وخاطبوا الأجراما
عابوا جمود المسلمين وصرحوا ... أن لا نعد مع الأنام أناما
عشقوا الحياة وما عشقنا بعدهم ... إلا جموداً يشبه الإعداما
نمنا وباتوا ساهدين وفاتنا ... حب الجمود على الضلال نياما
متعنتين على الدخيل فإن يضيئ ... نخرج إليه من الضياء ظلاما
حتى يظن الدين دين تعنت ... أو دين قوم أشبهوا الأنعاما
تقرير المجمع العلمي السميثوني عن سنة 1907
1907 ////
من أهم الجمعيات العلمية في أميركا الشمالية هذه الجمعية التي جعلت مقرها في واشنطون وأمامنا الآن تقريرها السنوي عن سنة 1907 وقد وقع في 726 صفحة وفيه عدة مقالات وأبحاث مفيدة بالإنكليزية في الفلك وطبقات الأرض والظواهر الجوية والطبيعيات والكيمياء والمعادن أو التعدين والنبات والحيوان وعلم البشر حوت 27 مبحثاً في الأغراض المشار إليها مع بعض الصور والرسوم الأنيقة فمقالة في آلة التوربين البخارية على اليابسة والماء ومقالة في ارتقاء التركيب الميكانيكي في الطباعة وفي بعض حقائق عن الكهرباء وأبحاث جديدة في التلغراف اللاسلكي وخاصيات الأنوار الكهربائية المنوعة(50/61)
وتقدم صناعة التعدين الكهربائية وتقدم جديد في التصوير الشمسي الملون والبربر في أفريقية الجنوبية قبل نزول الأوربيين فيها وآلة رخيصة الثمن لتحصيل علم الفلك وعلم الطبقات داخل الأرض وبحر سلطون والطرق المائية في البلاد وارتقاء علم الظواهر الجوية مثال لارتقاء العلم العام ومنزلة علم النبات القديم في وقتنا الحاضر وحدائق الحيوانات في بريطانيا والبلجيك وهولاندة وعلم الحيوان الأصلي تقدمه وغايته والتاريخ العام لذوات الثدي البحرية وشعوب إقليم البحر المتوسط واليابان قبل التاريخ وأصل الحضارة المصرية والمضخة النارية وأصل أبجدية الكنعانيين ومسألة تعمية الألوان ومقالة في الدرن وأخرى في ترجمة مارسلن بيرثيلون وغير ذلك. والتقرير كالتقارير السابقة في الغاية من حيث الطبع والوضع فمتى يكون للشرق العربي مثل هذه الجمعية التي تحيي العلوم المادية ونخلص من دور الأدبيات والخيالات.
تقرير المجمع العلمي السميثوني عن سنة 1908
1908
هذا التقرير من أكبر التقارير السالف حجماً وأغزر مادة ويبدو عليه النمو الغريب وتتبين منه ارتقاء هذه الجمعية الراقية ومباحثه تدور كطريدة على العلوم المادية والطبيعية فمن مقالاته الموقعة بتواقيع أهل هذا الشأن مقالة في المناطيد الحربية وأخرى في التلغراف اللاسلكي وفي التصوير الشمسي والحاكي (الفونوغراف) والمادة والأثير وارتقاء الكيمياء العامة والطبيعة في الأربعين سنة الأخيرة وارتقاء القذائف في عشرين سنة ومباحث حديثة في تكوين الكون وتغيرات المناخ وأسبابها وأورانوس علم طبقات الأرض وفي معارفنا الحاضرة عن الأرض ورحلات إلى القطب الجنوبي من سنة 1889 وبعض مناظر جيولوجية من النيل وفي الوراثة وفصائل النبات وصبار المكسيك وسمك إنكلر وأنواعه وطيور الهند ونشوء الفيل والحمة الدورية في اليونان وكارل فون ليتني أحد علماء الجيولوجية وترجمة اللورد كلفن وأعمال هنري ركويرل. وجميع هذه الم قالات في الغية من التحقيق ويدخل هذا المجلد في 800 صفحة جمعت فأوعت فيه وفيه كمجلدات السنين السابقة قائمة بأعمال الجمعية والغرض منها ودخلها وخرجها لازال التوفيق حليف المجامع العلمية على اختلاف لغاتها وأغراضها.(50/62)
الريحانيات
طبع في المطبعة العلمية في بيروت سنة 1910 (ص228).
قليل في كتابنا من خلصوا من ربقة التقليد وقليل فيهم من يكتب ليفيد. وأمين أفندي الريحاني صاحب كتاب الريحانيات هو من أمثل كتابنا وشعرائنا نجا من التقليد ووقف نفسه على نشر ما يفيد واشتهر بأنه العربي الذي فاق الإنكليز في البيان الإنكليزي فيكتب وينظم كأفضل أدبائهم ومصنفه رباعيات أبي العلاء الذي ترجمه شعراً إلى الإنكليزية ومقالاته في المجالات الأميركية والإنكليزية أدل دليل على تبريزه ولكنه على هذه المزية الممدوحة في منافسة أفاضل الإنكليز لم تفته منافسة كتاب العربية فكتب ونشر عدة أبحاث ومقالات في الجرائد العربية في أميركا ومصر والشام كما طبع من قلمه كتابين أحدهما المحالفة الثلاثية والآخر المكاري والكاهن وجميع ما كتبه كتبه لا ليقال أنه كتب بل لنفع قراء العربية وقد طبع هذه الآونة الجزء الأول من مقالاته التي نشرها في الجرائد من قلمه.
صدر كتابه بشذرة من خطه جاء فيها وهو ما ينم عن الغرض من نشر الكتاب جرد نفسك ولو بضع ساعات من أطمار الأجيال وتعال نحج معاً. ومتى وصلت إلى كع بة الحقيقة وأنت في مئزر الحج تجد هناك أثوابك الموروثة وأثواباً أخرى جديدة إلى جانبها فأما أنك تعود إلى ما كنت عليه فتلبس ما ألفته وتسير في سبيلك وإما أن تعتاض عنه بثوب ليس بفخيم ولكن من الرقع والفتوق سليم. وفي كل حال لا أنسى أنك أكلت من جفنتي وشربت من أبريقي ونمت في خيمتي. . . . .
في الكتاب عدة مقالات أكثرها ما كتبه تحت سماء أميركا فرشحت الكتابة من أفكار محيطها وصدرت كأنها غربية لا شرقية وأكثرها من نمط الشعر المنثور كمقالة وادي الفريكة التي وصف فيها الكاتب قريته وما فيها من مظاهر الطبيعة البهيجة فأجاد من وراء الغاية ومقالات الكتاب وأنوار الأفكار مناهج الحياة الصلوة جهل الإنسان لحكمة الخالق عظمة رأس السنة من على جسر بروكلن فوق سطوح نويورك الفقر وبنوه التمدن الحديث الضجيج والضوضاء روح هذا الزمان شهداء العلم الحرب التي تهمني الخيانة والخناس خطاب المسيح بين اللاهوتيين والعلماء ما هي السعادة بيتان للمتنبي مكروب السعادة(50/63)
المصيبة في التعزية والتعزية في المصيبة الرداء الأسود فلتر جان جاك روسو وليم غارسون تولستوي ابن سهل الأندلسي الثورة الإفرنسية بذور للزراعين وغيرها.
والكتاب تتدفق حرية الفكر من أطرافه ورقة الإحساس من سطوره وبعد النظر في مراميه وكله معان فلسفية في قوالب عصرية وروح شفافة في شعور جديد وقد قرأنا مرات بعض المقالات ونحن الآن نحب أن نعيد تلاوتها إذا قل في أرباب الأقلام مثل هذا النفس في إصلاح الأفكار والتلطف في إبلاغ العقول الجامدة محاسن الحضارة المدهشة والتجديد المفيد.
وما أحلى قول الكاتب من مقالة في جسر بروكلين وهو جسر نويورك يخاطب تمثال الحرية قائلاً: متى يا ترى تصير الحرية مثل هذا القمر فتوقد مصباحها لا في الغرب فقط بل في الشرق وفي الجنوب وفي الشمال_في العالم بأسره. متى تحولين وجهك نحو الشرق أيتها الحرية؟ متى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر فيدور معه حول الأرض ويضيء ظلمات كل شعب مظلوم؟ أيتأتى أن يرى المستقبل تمثالاً للحرية بجانب الأهرام؟ أيمكن أن نرى لك في بحر الروم مثيلاً؟ أيمكن أن يولد لك أخوات في الدردنيل وفي بحر الهند وفي خليج الصين؟ ايتها الحرية متى تدورين مع البدر لتنيري ظلمات الشعوب المقيدة والأمم المستعبدة
وأنت أيتها البواخر المقلة إلى أوربا ومصر وعدن والهند منسوجات نواكلند وقطن فرجينا وحديد بنسلفانيا وقمح تكساس وخشب فرمنت خذي معك إلى بحر الروم وبحر الهند والبحر المتوسط بعض موجات من هذه الأمواج التي تغسل أبداً تمثال الحرية. خذي معك ولو زجاجة صغير من الماء المقدس. ورشي منها سواحل مصر وسورية وفلسطين وأرمينية والأناضول وكل جزيرة تمرين بها وكل بلاد تقصدينها وكل شعب تحيي سواريك قباب كنائسه ومآذن جوامعه.
احملي سلام هذه الآلهة التي تنير الآن طريقك في الخروج من العالم الجديد وتوكل بها مالها في السماء من شقيقات باهرات. احملي إلى الشرق شيئاً من نشاط الغرب وعودي إلى الغرب بشيء من تقاعد الشرق. احملي إلى الهند بالة من حكمة الأميركان العملية وعودي إلى نويرك ببضعة أكياس من بذور الفلسفة الهندية اقذفي على مصر وسورية بفيض من(50/64)
ثمار العلوم الهندسية واقفلي إلى هذه البلاد بفيض من المكارم العربية. أيتها البواخر الآيبة حيي عن جسر بروكلن خراب تدمر وقلع بعلبك واقرأي أهرام مصر سلام هذه المعالم الشاهقة المشعشعة بالكهرباء. سيري أيتها السفن بسلام وارجعي بسلام.
وقد شاهدت الآن ثلاثة مناظر عظيمة لا أقدر أن أنساها حياتي. لا أتناساها لأنها عندي أشبه برموز جميلة لدعائم الحياة الروحية الثلاث وهي مراحل في رحلتي الفكرية التي باشرتها منذ خمس سنين_أو من حين ولدت. نعم إني طفل في العالم الروحي إني سائح في مروج النفس وأوديتها أمامي مسافة طويلة يجب أن اجتازها وتحتي هوة هائلة يجب أن أسبر أغوارها وفوقي فضاء غير متناه فينبغي لي أن أتمتع بجماله وحولي من المروج والجبال والأنهر والبحار ما يشغل معظم وقتي لو عشت ألف عام.
أما المناظر الثلاثة التي تمتع بها طرفي حتى الآن فقد تركت أثراً عظيماً في نفسي فهي لبنان وسواحله من ذروة جبل صنين وباريز من على برج إيفل ونويرك من الليل في منتصف جسر بركلين فالأول إنما هو رمز الطبيعة والثاني رمز الفنون الجميلة والثالث رمز الكد والاجتهاد وهذي هي دعائم الحياة الروحية الثلاث فالمنظر الأول صنعه الله والمنظران الآخران صنعة الإنسان المنظر الأول أو الطبيعة هو منبع النفحات الإلهية والإلهامات الروحية والمنظر الثاني أو باريز هو منبع التفنن في الصناعة على الإطلاق والمنظر الثالث المنبسط أمامي الآن إنما هو عنوان الجهاد والجلد والثبات والنجاح.
فإذا كنت أيها القارئ شاعراً أو مصوراً أو كاتباً بل لو كنت صباغاً أو دباغاً أو إسكافاً وجه نظرك إلى الطبيعة أولاً تستمد منها الإلهام الإلهي وعنها تقتبس الألوان البديعة والمناظر الجميلة والأشكال الأنيقة والنفحات السماوية وعرج على باريز ثانياً تتعلم فيها دقة الصناعة ولطافة الأسلوب وجمال الفنون وغرابة الإبداع وسر الابتكار وانزل على نويرك ثالثاً تأخذ منها الاجتهاد والجلادة وتتعلم من أهلها الاستقلال في العمل والثبات بعد الفشل. الطبيعة_التفنن_الاجتهاد هذي هي أساس الأعمال الفكرية هذي هي دعائم الحياة الروحية. لبنان_باريز_نويرك_في الأولى روحي في الثانية قلبي وفي الثالثة جسدي.
والكاتب ليس من الملاحدة كما يتهمه أعداؤه بل هو ملحد بأكثر ما يتخرص به المتخرصون من الشروح على المنون ومن قرأ مقالته في فلتر الفيلسوف الفرنسوي يتجلي له من أي(50/65)
نحلة كان أن الحرية أن لا تراعي أخاك ولا أباك فيما تعتقد صحته قال:
الإلحاد مضر بالصحة فهو لا شك ينفخ الصدر ولكنه يضعف القلب ويصغر الرئتين. أقول هذا عن اختبار ولا أقول أكثر من ذلك ليعلم القارئ فكره. إذاً الإلحاد مضر بالصحة ومهما قلتم لا أوضح. اختبروا لأنفسكم إن شئتم ولكن إياكم والتطوح وإذا كنتم لا تعرفون الحدود فالأجدر بكم ألا تجربوا لئلا تتملك فيكم جراثيم المرض وإذا كانت معدتكم ضعيفة فإياكم فلتر.
وبعد أن أفاض في مزايا هذا الفيلسوف ومآتيه ومنازعه وآخذه على روايته التعصب التي طعن فيها على الإسلام وأهداها إلى البابا فقبلها هذا بكل سرور وبعث إلى فلتر كتاباً لطيفاً أثنى فيه على غيرته (بخ بخ) وانتقد بعض أبيات الرواية الشعرية فأجابه فلتر متجاملاً على عادته في مثل هذه الأمور أنك لا شك معصوم عن الغلط في المسائل الأدبية أيضاً (زه ثم زه) هكذا تبادل الاثنان عواطف الولاء الكاذب وانتصر فلتر على أعدائه اليسوعيين وأنصارهم ولا يخفى على القارئ اللبيب ما في هذا العمل من السياسة والحيلة والمر ناهيك بأن الكاتب أخطأ في انتقاده الدين الإسلامي وفي تحامله المنكر على مؤسسه العظيم. . . .
وهذه النموذجات كافية في بيان فضل هذا التأليف النفيس ومنزلة أبي عذره من سلامة الفطرة وبعد الغور والنظر فله منا الشكر على ما أتحف به عالم الآداب من هذا السفر الجديد في وضعه وطبعه.
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
المعروف بمعجم الأدباء أو طبقات الأدباء لياقوت الحموي
نشر الأستاذ مرجيلوث أستاذ اللغة العربية في كلية أكسفورد القسم الأول من الجزء الثالث من هذا السفر الذي يطبع على نفقة أسرة جيب الإنكليزية وفي هذا الجزء 44 ترجمة من حرف الحاء وفيه من الأعلام ترجمة السيرافي وابن رشيق وأبي هلال العسكري والإسكافي وابن مقلة وغيرهم وطرف من أخبارهم ومنثورهم ومنظومهم وأكثر مما لم ينشر بالطبع حتى الآن فسد بذلك فراغاً مهماً في آداب العربية. وإنا لنكرر الشكر للأستاذ مرجيلوث لغيرته على آدابنا أكثر من غيرتنا أنفسنا ونرجو أن يوفق إلى إتمامه على ما يحب ويحب عشاق العلم المولعون بإحياءِ آثار السلف.(50/66)
كتب متفرقة
مبادئ العلوم السياسية والتاريخ الدستوري_ألفه مصطفى صبري أفندي فيه كلام مفيد في المجالس النيابية ونظام الحكومات ولاسيما العثمانية والمصرية والانقلابات السياسية والاقطاعات يطلب من مؤلفه في مصر.
غرائب الاغتراب ونزهة الألباب_وهو رحلة للسيد محمود الآلوسي صاحب التآليف المهمة وفيه وصف رحلته من بغداد إلى الآستانة ومن لقيهم في عهده من المشاهير والبلاد التي حلها طبع في بغداد في مطبعة الشابندر.
الخلاصة العراقية في تاريخ أدب اللغة العربية_هو كتاب في تاريخ العربية وتراجم الكتاب والشعراء الأقدمين من أهلها تأليف أحمد أفندي حسن الزيات في القاهرة.
فهرس مقتنيات الآثار العربية_تأليف مكس هرتس بك رئيس مهندسي دار الآثار العربية بمصر وتعريب علي بك بهجت وكيلها وفيه تاريخ هذه الدار والغاية من إنشائها.
المجموعة العلمية_مجموعة رسائل في الرياضيات والطبيعيات وضعها عبد الواحد أفندي حمدي في مصر.
فلسفة النشوء والارتقاء_أو مجموعة الدكتور شبلي شميل وفيها كثير من كتابات هذا المفكر الكبير في مجلدين ظهرا منهما حتى الآن وتطلب من القاهرة.
مشاهد الممالك_فيه وصف مسهب لبلاد أوربا وأميركا وكثير من أفريقية وآسيا وكلها مما ساح فيه المؤلف إدوارد بك إلياس في القاهرة.
نصائح للأمهات_عربه الدكتور فريد عبد الله في مصر وهو نصائح لربات البيوت للعناية بأطفالهن عند غيبة الطبيب.(50/67)
العدد 51 - بتاريخ: 1 - 5 - 1910(/)
درس على كتاب الدارس في المدارس
أيها السادة:
إن تاريخ كل أمة سواء كان مجيداً أو غير مجيد لا يخلو مستقبله من ارتباط بماضيه لا من حيث التشابه بين طرفيه بل من حيث النتائج التي ترتب عليها نهضة الأمم أحياناً وتغير مجرى الحياة الاجتماعية بأن تسرع بخطا الشعوب إلى مراقي الصعود.
ومعناه أنه إذا كان ماضي الأمة عظيماً محترماً في التاريخ تحرص على أن يكون أعظم احتراماً في حاضرها أو على تسترد ذلك الاحترام إذا فقدت شيئاً منه. وإذا كان ماضيها سيئاً غير محترم في التاريخ تدأب على التخلص منه وتطلب لنفسها حاضراً أسعد منه. فالنتيجة واحدة في الحالتين ولكن لمن؟ ومن يحصل على مثل هذه النتيجة من الأمم؟
تحصل عليه أمة تعلم أن لها تاريخاً فتدرسه وماضياً تبحث فيه وترجع إليه لاسيما إذا كان تاريخاً مجيداً له آثار معروفة في الوجود وأثر محقق في الاجتماع. والأمة كالفرد فخورة بالماضي الجميل إذا تمثل لها نفح فيها من روحه فملأها نشاطها ودفعها إلى الأمام أشواطاً.
وإن أمة لا تعرف تاريخها أحر بها أن يتنكر لها الزمان وتزدري بها الشعوب لجهلها بماضي التاريخ وتنكرها الإنسانية وتنكرها السماء والأرض.
إن المنارة الإسلامية التي رفع منارها أسلافنا الطاهرون وغيرت شكل الأرض ومجرى الاجتماع كان لمدنيتكم هذه حظ وفير منها ولاسيما في التوفر على إنشاء معاهد العلم ودور التربية والتهذيب.
هذا أيها السادة ما دعاني لأن أقف بينكم خطيباً افتح صحيفة ماضي التاريخ فيما يتعلق بأسلافكم الغابرين ومدينتكم الفيحاء وفيها ذكرى للذاكرين وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
إن هذه الذكرى ما ترونه في هذا الكتاب الضخم المشتمل على ألف وثلاثمائة وستين صفحة وهو كتاب (الدارس في المدارس) تأليف العلامة المؤرخ محمد بن محي الدين النعيمي وهو خاص بما أنشئ من معاهد العلم والمساجد ودور العجزة (التكايا) في دمشق وقد بلغ عدد ذلك مائتين وبضعاً وثمانين لو وزعت المدارس منها على السنين منذ إنشاء أول مدرسة في القرن الخامس إلى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى عهد المؤلف في أواخر القرن التاسع لأصاب دمشق كل سنتين مدرسة تنشأ أو دار للعجزة والمرضى تشاد هذا فضلاً عما أنشئ من المدارس بعد ذلك التاريخ ولم يدركه المؤلف المذكور وهذا(51/1)
فهرست الكتاب نتلو عليكم بعضاً من أسماء المدارس التي جاءت فيه ولا أطيل خوفاً من ضيق الوقت.
أنا تواريخ إنشاء هذه المدارس بالضبط والأوقاف التي حسبت على الطلبة فيها والعلماء الذين نبغوا منها ودرسوا فيها كل هذا مذكور في صلب الكتاب وليس في الوقت متسع لتلاوته عليكم كما ترون من حجم الكتاب وحسبكم أن من درسوا في هذه المدارس وتولوا رياستها أو نبغوا فيها من علماء الشريعة مثل الحافظ الذهبي صاحب التاريخ المشهور والإمام ابن تيمية صاحب التآليف الكثيرة وقاضي القضاة صدر الدين الأزرعي صاحب الجامع الصغير والعماد ابن كثير والنووي وابن الصلاح والحافظ جمال الدين المزي وأشباههم من العلماء الكبار ومن علماء الطب مثل ابن أبي أصيبعة صاحب تاريخ الأطباء ومهذب الدين بن الحاجب ونجم الدين اللبودي وموفق الدين بن المطران ومهذب الدين الداخواز وعماد الدين الدنيسري وأضرابهم.
ومن علماء العقليات والرياضيات والموسيقى مثل محمد بن أبي الحكم الباهلي وعز الدين السويدي وأبي الفضل الحارثي المهندس الذي كان باب البيمارستان النوري القائم إلى اليوم من عمل يده وأضرابهم.
وها أنا أقرأ لكم مثالاً واحداً من ترجمة هؤلاء الرجال فاسمعوا ما قال تاريخ الدارس هذا في ترجمة أفضل الدين بن أبي الحكم نقلاً عن الصفدي:
(محمد بن عبد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي) هو أفضل الدين أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين كان طبيباً حاذقاً وله يد طولى في الهندسة والنجوم (أي علم الفلك) وله في سائر الآلات المطربة يد عمالة وعمل أورغناً وبالغ في إتقانه وقرأ على والده وغير في الطب وكان في دولة نور الدين بن الشهيد ولما عمر البيمارستان والمستشفى النوري بدمشق جعل أمر الطب إليه إلى آخر ما قال:
هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم لكم وهذا الفضل الكبير منهم وعدد كثير مثلهم من أهل الشهرة بالعلم والفضل ودرسوا في هذه المدارس أو تخرجوا على رؤسائها ومشايخها ثم ملأوا المكتبة العربية بالمؤلفات النافعة في كل فن ومن راجع منكم كتاب الكواكب لابن عروة الحنبلي في أكثر من مائة مجلد وتاريخ الحافظ ابن عساكر في أكثر من عشرين مجلداً وهما(51/2)
موجودان اليوم في المكتبة العمومية في مدرسة الملك الظاهر بدمشق وقاس عليهما ما ألفه علماء تلك القرون الأفاضل وما قبلها في علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ والتراجم والفلك والطب والرياضيات كالهندسة والحساب وغير ذلك من العلوم علم مقدار ما لهذه المدارس ومؤسسيها من الفضل على الأمة وما للنابغين فيها من الأثر العظيم في الوجود بما سهروه من الليالي الطوال في الحرير والتحبير وما عانوه من النصب في وضع كتب العلم لإفادة الناس حتى ملأوا بها المكاتب ونشروا العلم: وما قولكم في أن عالماً واحداً من علماء الطب وهو موفق الدين بن المطران المتوفى سنة سبع وثمانين وخمسمائة ترك في مكتبته عشرة آلاف مجلد في الطب والعلوم الحكمية كما ذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة الموما إليه.
وملا يظنن بعضكم أن هذه المدارس كانت مدارس دينية فقط وأن أكثر علمائها وطلبتها من طلبة العلوم الشرعية وآلاتها كلا فإن فيها مدارس لغير العلوم الشرعية كالطب مثلاً ومن هذه المدارس المدرسة الدخوازية والدنيسرية واللبودية كما سترون ذلك في ما يأتي من الكلام إن شاء الله.
ولقد أخبرنا التاريخ أن معاهد العلم كانت مشاعة بين طلابه من كل فن وأن الطبيب أو الفلكي مثلاً كان يلقي دروسه في أي مدرسة كانت من مدارس العلم له فيها وظيفة بل في الجوامع والمساجد أيضاً لأنها كانت قبل أن توجد المدارس على شكلها المعهود أي قبل القرن الرابع أشبه بمدارس العلم بل هي المدارس بعينها وما زالت كذلك معاهداً للعلم والعبادة معاً إلى اليوم كما تعلمون.
وأذكر لكم مثالاً واحداً على أن المدارس كانت مشاعة لطلاب كل علم ما نقله ابن أبي أصيبعة في ترجمة رفيع الدين الجيلي قال:
وكان مقيماً في دمشق وهو فقيه في المدرسة العذراوية داخل باب النصر وله مجلس للمشتغلين عليه في أنواع العلوم والطب وقرأت عليه شيئاً من العلوم الحكمية.
واعلموا أيها السادة أن كثيراً من علماء الشريعة مثل الجيلي جمعوا بين العلوم الشرعية والعقلية والطب والفلك والرياضيات وكلهم من خريجي هذه المدارس بالضرورة وممن جاء ذكرهم من هؤلاء في هذا التاريخ واذكره مثالاً للباقين أحمد بن الحسين الدمشقي وإليكم ما(51/3)
جاء في ترجمته من هذا الكتاب نقلاً عن ابن كثير:
(الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي) اشتغل على مذهب الشافعي وبرع فيه وأفتى وأعاد وكان فاضلاً في الطب وقد ولي مشيخة الدخوازية (مدرسة طبية) لتقدمه في صناعة الطب على غيره وعاد المرضي بالبيمارستان النوري على قاعدة الأطباء وكان مدرساً بالشافعية بالمدرسة الفروخشاهية ومعيداً بعدة مدارس إلى آخر ما قال:
هذا يدلكم على أن العلوم كانت مشاعة بين العلماء وأن العالم بالشرع قد يكون عالماً بعلوم أخرى من العلوم النظرية والعملية كالفلسفة والطب والموسيقى والرياضيات وغيرها من العلوم التي قامت على دعامتها المدنية الإسلامية وكانت الحلقة الوسطى بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة حتى اعترف بفضلها على التمدن الغربي كثير من علماء التاريخ والاجتماع في أوربا كدربي ومونتسكيو لوبون وأفردوا للمدنية الإسلامية كتباً خاصةً أتوا فيها على ذكر ما تركته هذه الحضارة من آثار الترقي والعلم التي يجهلها أهله لهذا العهد بالأسف والعار.
نحن الآن أيها السادة بصدد علماء دمشق في القرون الوسطى وإنما هم حلقة من سلسلة تلك المدنية الإسلامية التي أخنى عليها الزمان وإذا سمحتم لي فأني أختم كلامي بنبذة من تاريخ تلك السلسة بعد استيفاء الكلام على كتاب الدارس هذا إن شاء الله.
علمنا مما سبق أن عدد المدارس ودور العجزة التي أنشئت في دمشق ولكن من الذي أنشأ هذه المدارس ورفع بنيانها وأدر الخيرات عليها وأنفق على طلابها من ماله أهي الحكومة أو الأفراد أو الجماعات؟
بلغ بنا الضعف أن صرنا كالأطفال نطلب كل شيء من الحكومة كما يطلب الطفل كل شيءٍ من والديه أما أسلافنا فلم يكونوا كذلك بل كانوا استقلاليين أكثر منهم اتكاليين يعرفون قيمة الاعتماد على النفس فكان الفرد الواحد يقوم بما تقوم به الجماعة أو يطلب من الحكومة اليوم.
ولهذا فإن كل ما جاء ذكره في هذا الكتاب من المساجد والتكايا والمدارس إنما أنشأه الأفراد وقام بمال أهل السخاء من أسلافكم الطيبين لمحض الخير وإرادة نشر العلم وخدمة الوطن والدين.(51/4)
لم يختص بهذا العمل الجليل والشرف الرفيع الملوك والأمراء وذوو السلطة كما قد يتوهم بعضهم كلا بل كان الأفراد من كل الطبقات من أهل اليسار يتسابقون إلى إقامة المعاهد العلمية حسبة لله وحباً بعمل الخير واسبقاءً للذكر الصالح في الوجود.
فالتجار والعلماء والسيدات هم الذين أسسوا هذه المدارس كل مدرسة يؤسسها شخص بمفرده ويحبس عليها من ملكه ما يكفي ريعها بل أقول لكم والخجل يكاد يمنعني من التكلم والحزن يوشك أن يعقد لساني أن العبدان_عبدان أسلافكم أيها السادة_شيدوا بأموالهم بعض هذه المدارس أيها السادة ورفعوا منار العلم للفضيلة كم ترفع العبدان إلى منزلة السادة في حين تنحط السادة إلى منزلة العبدان.
إن العبدان كانوا أرفع نفوساً وأسخى كفوفاً منا الآن يا للخجل والخسران.
إن الكلام وحده لا يغني عن البرهان وإنكم تنتظرون مني الدليل بعد هذا البيان وإليكم أمثلة من عمل العلماء. التجار. والسيدات. والعبدان.
قال المؤرخ في فصل عقده لمدراس الطب:
(المدرسة الطبية الدخوازية الدخوارية) المدرسة الدخوازية بالصاغة العتيقة بقرب الخضراء قبلي الجامع الأموي أنشأها مهذب الدين عبد المنعم بن علي بن حامد المعروف بالداخوز في سنة إحدى وعشرين وستمائة بالصاغة العتيقة كما تقدم وأول من درس فيها واقفها ثم من بعده بدر الدين محمد بن قاضي بعلبك ثم عماد الدين الدنيسري وهو بها الآن.
(المدرسة الدنيسرية) غربي البيمارستان النوري والصلاحية بآخر الطريق من قبلة قال الذهبي في العبر في أخبار سنة ست وثمانين وستمائة:
عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس الربعي الرئيس الطبيب ولبد بدنيسر سنة ست وسمع بمصر من علي بن مختار وجماعة وتفقه للشافعي وصحب البهاء الزهير وتأدب به وصنف إلى أن قال نقلاً عن الأسدي: العماد محمد بن عباس الحكيم البارع في الطب صاحب المدرسة للأطباء بالقرب من بيمارستان نور الدين الشهيد الخ.
(المدرسة اللبودية) اللبودية النجمية مدرسة خارج البلد ملاصقة لبستان الفلك المشيري أنشأها نجم الدين يحيى بن محمد بن اللبودي في سنة أربع وستين وستمائة: إلى أن قال نقلاً عن ابن أبي أصيبعة. كان علامة وقته وأفضل أهل زمانه في العلوم الحكمية الخ.(51/5)
هذه أمثلة من عمل العلماء: واسمعوا مثالاً من عمل التجار في سبيل الخير والعلم والمنفعة العامة لم يعمل مثله أحد من أغنياء هذا الزمان:
(المدرسة المزلقية) بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى الصابونية أنشأها تاجر الخاص الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المعروف بابن المزلق ميلاده سنة أربع وخمسين وسبعمائة وكان أبوه لباناً أدركه جماعة وهو يباشر ملبنة عند جامع يلبغا فنشأ ولده هذا ودخل في البحر وحكى عن نفسه أن أول سفرة سافرها كسب فيها مائة ألف دينار وثمانمائة ألف درهم وانفتحت عليه الدنيا وعمر أملاكاً كثيرة وأنشأ على درب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة وجسر يعقوب والمنية وعيون التجار وأنفق على عمارها ما يزيد على مائة ألف دينار وكل هذه الخانات فيها الماء وجاءت في غاية الحسن لم يسبق أحد من الملوك والخلفاء إلى مثل ذلك وهو صاحب المآثر الحسنة بدرب الحجاز ووقف على سكان الحرمين الشريفين الأوقاف الكثيرة الحسنة وعين للحجرة الشريفة على الحال بها أفضل الصلاة وأتم السلام الشمع والزيت في كل عام إلى آخر ما قال:
وهذا مثال لتاجر غيره أيضاً: (المدرسة الرواحية) شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه شمالي جيرون وغربي الدويلعة وقبلي السيفية الحنبلية: قال ابن شداد بانيها زكي الدين أبو القاسم المعروف بابن رواحة وقال الذهبي في تاريخه العبر في من مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة والزكي بن رواحة هبة الله بن محمد الأنصاري التاجر المعدل وأوقف المدرسة بدمشق وأخرى بحلب الخ.
ومن أمثلة عمل النساء: (المدرسة العالمية) العالمية شرقي الرباط الناصري غربي سفح قاسيون تحت جامع الأفرم واقفتها الشيخة الصالحة العالمة اللطيفة بنت الشيخ الناصح الحنبلي المتقدم ذكره في المدرسة التي قبل هذه (وهي المدرسة الشيخية بانيها أبو عمر الكبير) وكانت فاضلة لها تصانيف وهي التي أرشدت ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت الملك صلاح الدين إلى وقف المدرسة الصاحبية بقاسيون على الحنابلة الخ.
ومن أمثلة عمل العبدان والطواشية (المدرسة الصارمية) الصارمية داخل بأبي النصر والجانبية قبلي العذرواية بشرق قال القاضي عز الدين بانيها صارم الديك أزبك مملوك قايماز النجيبي ورأيت مرسوماً بعتبتها ما صورته:(51/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا المكان المبارك إنشاء الطوشي الأجل الصارم الدين جوهر بن عبد الله الحر عتيق الست الكبيرة الجليلة عصمة الدين عذرى ابنة شاهنشاه رحمها الله تعالى الخ.
أرأيتم أيها السادة بمإذا قامت هذه المدارس وبمن وكيف أن الأفراد من أسلافكم كانوا يعملون ما لا يعمله الجماعات منكم اليوم.
إن الأفراد هم الذين ينهضون بالأمم وأن المدنية الإسلامية التي تلوت عليكم حلقة من سلسلتها العظيمة كان للأفراد شأن عظيم في وضع دعامتها وتشييد بنيانها.
تعلمون أيها السادة ما كان لترجمة كتب أهل التمدن القديم كاليونان والفرس إلى العربية من الأثر الكبير في تأسيس المدنية الإسلامية في بغداد على عهد الخلفاء العباسيين وقد يتوهم بعضهم أن الذي عني بترجمة هذه الكتب إنما هم الخلفاء وحدهم وأخصهم أمير المؤمنين المأمون والحال أن لكثير من الأفراد ورجال الفضل والنبل من الأمة يداً لا تنكر في هذا السبيل.
وهذا يدلكم على أن عمل الأشخاص منفردين لا يقل تأثيراً في الهيئة الاجتماعية عن عملهم مجتمعين.
ولذا فلا أبالغ إذا قلت أن نوابغ الأمة الذين خدموا بذكائهم وعملهم المدنية وشيدوا أركانها الرفيعة إنما قاموا بهذه الخدمة وقامت تلك المدنية بفضل أهل السخاء والجود من محبي العلم والترقي وأنصار النجاح الذين كانوا ينفقون من مالهم على المترجمين للكتب العلمية إلى اللغة العربية.
ومن هؤلاء الأفاضل الأجواد الذين رصدوا جزءاً كبيراً من أموالهم على المترجمين لكتب العلم في تلك العصور: علي بن عيسى العباسي: ومحمد بن موسى بن شاكر الرياضي الشهير: وعلي بن يحيى الكاتب: وابن المدير الكاتب: وثاوري الأسقف: ومحمد بن عبد الملك الزيات الوزير: وبختيشوع الطبيب: ويوحنا بن ماسويه الطبيب: والعدد الكثير من أمثالهم المولعين بالترقي والعلم والذين كان ينفق كل واحد منهم أموالاً طائلة على نقله العلوم إلى اللغة العربية حتى لقد نقل ابن أبي أصيبعة عن محمد بن عبد الملك الزيات أنه كان ينفق في الشهر الواحد على المترجمين ألف دينار. قال هذا فضلاً عما كان ينفقه(51/7)
الخلفاء من بني العباس لهذا القصد.
إنا والله نتمنى أن تجمع هذه الألف دينار في كل شهر من كل غني من أغنيائنا اليوم لتنفق في سبيل نشر العلم وتربية الناشئة من أبناء الأوطان ولو فعلوا ذلك اليوم لعوضها أبناؤهم أضعافاً مضاعفة في الغد. بل لو فعل ذلك أهل كل ولاية عثمانية لأصبحت المملكة العثمانية بعد عشر سنين جنة قطوفها العلم وسياجها القوة والحياة. ولنعد إلى ما كنا بصدده فنقول:
بمثل هذا البذل على نقل كتب العلم ونشرها بين الكافة والاستفادة منها ظهر أركان النهضة في الشرق الذين ارتفع بهم شأن التمدن الإسلامي وذلك مثل بني موسى بن شاكر المهندسين الرياضيين في عصرهم وبختيشوع وبني سهل وبني ماسويه وبني حنين وبني ثابت بن قرة وبني زهرون وأبي عثمان الدمشقي وابن كرنيب ويحيى بن عدي المنطقي وأبي الفرج الطبيب وأبي الريحان البيروني والشيخ الرئيس ابن سينا وأبي النصر الفارابي والفخر الرازي وابن الشاطر وأضرابهم من العلماء الذين ظهروا في الشرق في عصور متفاوتة إبان الحضارة الإسلامية.
ومثل بني زهر ويحيى بن السمينة وأبي القاسم المرحيطي إمام الرياضيين والفلكيين في عصره وابن السمح الغرناطي المهندس وسعيد بن عبد ربه وأبي جعفر الترحالي وأبي الوليد ابن رشد وابنيه محمد وأضرابهم ممن ظهروا كذلك في الغرب.
ومثل ابن الهيثم البصري صاحب التآليف الغزيرة في الرياضيات والفلك والمبشر ابن فاتك وعلي بن رضوان وتلميذه أفرائيم بن الزفان والشيخ السديد رئيس الأطباء وشمس الرياسة بن جميع الإسرائيلي ورشيد الدين أبي حليقة وأمثالهم ممن ظهروا في مصر.
كل هؤلاء من علماء الفلسفة والرياضيات والحكمة الطبيعية وغيرها من العلوم ونسبتهم كنسبة واحد في المائة ممن ظهروا في عصرهم وبعده في الشام وبغداد ومصر وفارس والمغرب والروم أي آسيا الصغر وغيرها من الأمصار ونهضوا بالأمة وأعلو ذكر المدنية الإسلامية في الشرف والغرب وإنما وضع لهم الأساس أفراد من الأمة قدروا قدر العلم فشيدوا معاهده وترجموا كتبه وأكرموا أهله فتكون من عمل أولئك وهؤلاء وتعاونهم جيلاً بعد جيل بناء تلك المدنية العظيمة التي فقدناها بعد ولم نستطع اللحاق بأبناء التمدن الحديث(51/8)
لإعراضنا عن العلم وغفلتنا عن تحدي الأمم الراقية وقبض أكفنا عن إمداد معاهد العلوم وإنشاء دورها مع إنا قد يطلب منا الآن ونحن جماعات فلا نجيب ما كان يعمله الأفراد من أسلافنا من تلقاء أنفسهم وبمحض رغبتهم بالعلم والمعارف وحبهم للارتقاء فما هذا الفرق العظيم.
وبالجملة أيها السادة إنا أمة ذات ماضٍ مجيد وتاريخ جميل وقد ترك لنا أسلافنا درساً لا يمحوه الزمان ونقشاً في كل زاوية من المشرق ومكان فلن يبلغ بنا ضعف النظر أو ضعف القلوب والهمم أو فساد الأخلاق واستحالة الدم إلى أن نتناساه ولا نقرأ صحفه الزاهية التي يدعونا كل سطر منها إلى التذكر والتفكر والسعي الحثيث إلى الترقي الذي مناطه العلم والعلم يحتاج إلى المال. فالمالَ المالَ الكرمَ الكرم الانتباه الانتباه وإلا قضي علينا بالدمار وألحق بنا العار وتبرأ منا أسلافنا الطاهرون ولا يكون ذلك إنشاء الله ما دام فينا الكرام الغيورون والرجال المفكرون والسلام عليكم.(51/9)
أغنياؤنا
قال لنا منذ مدة أحد أعيان دمشق أنني اضطررت لضائقة أصابتني أن أبيع عقارين من عقاراتي أفتدري من كان يزيد فيهما؟ قلنا لا ندري. قال كان يزيد فيهما لا يتصور العقل أن عندهم قوت شهر واحد أناس يلبسون خلق الثياب ولا تعدهم من كبار السوقة بل من صغار المرتزقة أما من كان يظن أنهم سيتلقفون ذينك العقارين فلم يساومونا عليهما بفلس واحد لأنهم لا نقد عندهم وربما كان تقدير الناس لأموالهم هم دون الحقيقة بمراحل.
واجتمعا في المساء بمجلس غاص بالمفكرين وأربابا التجار فقص علينا أحدهم. أن المزرعة الفلانية التي يراد بيعها في الغوطة قد انتهى ثمنها إلى عشرين ألف لبيرة على يد رجل لم يكن يظن أنه يملك معشارها من الثروة حتى قال أنه يدفع قيمتها حوالة على المصرف دفعة واحدة ثم اجتمعت آراء الحضور على أن ثروة دمشق قد زادت في العشر سنين الأخيرة زيادة محمودة بداعي الأموال الطائلة التي بذرتها فيها إدارة السكة الحجازية وهي لا تقل عن مليوني ليرة وإدارة الترمواي الكهربائي الذي أنفق نحو مائتي ألف ليرة وما أعقب قرب المواصلات من ورود السائحين والحاجبين إلى دمشق ذاهبين منها وجائين وما نقلته السكك الحديدية من غلات البلاد القاصية فقدر ما حم لته سكة حوران وحدها من الغلات في العام الفائت بثمانين ألف طن والطن أربعة قناطير دمشقية وثمنها يناهز المليون ليرة وما نقلته سكة حديد حماة بخمسة وأربعين ألف طن هذا عدا ما نقلته الخطوط الأخرى وحمل على متون الدواب والجمال من الغلات والثمرات حتى عمرت بذلك قرى حوران وكانت خراباً يباباً منذ بضع سنين وغدا الحوراني اليوم يلعب بالليرات كما يلعب جاره الفلاح المصري بالجنيهات هذا في إقليم واحد من أقاليم بلاد الشام وفلسطين وولاية بيروت وحلب وسورية مقاطعات لا تقل في خصبها وأمراعها عن حوران ولكنها لم تشتهر شهرتها وأصبح أهلها بفضل المواصلات والحركة التجارية الجديدة في سعة من العيش تزيدهم كما زادتهم الحكومة أمناً ووفرت لهم مرافق الحياة.
قالوا وهذه النهضة الاقتصادية في دمشق خاصة لأنها قاعدة هذه البلاد والنقطة الوسطى منها وباب الكعبة ومقر الفيلق ومركز الولاية قد استمتع بخيراتها المقاولون والنجارون والحدادون والبناؤن والحجارون والجمالون والعملة والتجار وأرباب الفنادق والمطاعم والعربات فتسربت الدراهم والدنانير إلى جيوب أرباب الطبقة الوسطى فمن دونها واغتنى(51/10)
كثيرون وارتاشوا حتى أن كثيرين من بائعي الفول المدمس لا يرضون من الربح في يومهم أقل من ليرة.
كل هذا قالوه وهو صحيح ولكن الواجب علينا أن لا يمر بنا دون أن نتدبر سره الاقتصادي والاجتماعي والسر فيه أن كثيرين من الأعيان اكتفوا بما حازوه من الثروة إرثاً عن آبائهم أو بفضل سعيهم ولا تقول كيف حازوها والطرق التي سلكوها فمنهم من كانت ثروته ثمرة الكدح المشروع من تجارة وزراعة وهم قلائل يعدون على الأصابع. ومنهم من اغتنوا بالاتفاق فابتاعوا مثلاً أرضاً أو عقاراً قضت الأحوال بارتفاع أسعاره فأصبح ما ابتيع يساوي عشرة آلام وعددهم محدود أيضاً ومنهم من أثروا بما كان لهم أو لأجدادهم من النفوذ في الدولة الاستبدادية فكان الفلاحون يأتونهم باكين شاكين طالبين إليهم أن يرفعوا عنهم ظلم الحكومة أو الملتزمين أو عرب البادية ويأخذوا قريتهم حلالاً زلالاً وهم يكتفون منهم بالحماية ويدفعون لهم الخمس كل سنة من مجموعه ما تنبت الأرض. ومنهم من تيسر لهم أن يحرزوا وقفاً عظيماً لمدرسة أو لمدارس فعمروا أرضه ورباعه فأخصب وعلا ثمنه مع الزمن فاغتنوا هم وأولادهم ومنهم من وسدت إليهم الوظائف فباعوا ذممهم وفتحوا بطونهم لأكل الرشى وأضاعوا حقوق العباد والدولة حتى جمعوا لهم مقداراً من المال أنشوا به الحوانيت وعمروا الدور واستثمروا المزارع والدساكر. ومنهم من جرأوا على استحلال الربا أيام كان ابن حوران مثلاً لفقره يضطر في أكثر سنيه أن يقترض القرش بقرشين للمرابين والصيارف قحة وعرامة فجمعوا من رأس مالٍ صغير رأس مال صغير كنوزاً كبيرة في برهة وجيزة ومنهم من لم يستنكفوا من ظلم الفلاح فأكلوا لحمه وعرقه وعظمه حتى تم لهم والناس في غفلة والحكومة في إخفاء الذ من إغفاء الصبح نائمة على رعاياها إن جمعوا ما جمعوا سحتاً بحتاً وحراماً لا يجوزه عقل من عقول البشر ولا شريعة من الشرائع السماوية والأرضية.
هكذا قام أكثر ما نشاهده من الثروات وعلى هذه الأسس قامت أبنية الأمجاد والتقتير رائد أصحابها والإمساك طريقهم إلى الجمع. ومن أتاه قرش فصرف بعضه وأحسن استخدام ما جمع لا بد أن يأتي عليه يوم يحوز الغنى وكيف لا ننسب بعض الأغنياء إلى كزازة الأيدي ونحن نراهم لا يسمحون حتى بتعليم أولادهم مع أن تعليمهم باتفاق آراء العقلاء يعادل(51/11)
إطعامهم لقوام أجسامهم وتغذية الأرواح مفضلة عند الكثيرين على تغذية الأشباح.
لو تعلم أولاد الأغنياء أن التعليم العصري المطلوب وربوا على الأخلاق الفاضلة أخلاق العمل والحساب لما خيف على ثروات آبائهم من التبدد ولتوارثوا النسب كما يتوارث النشب كابراً عن كابر فتتسلسل الوجاهة في بيوتهم الجيل بعد الجيل والعصر بعد العصر فلا يخافون عيلة ولا يشكون سقوط منزلة. وأصدق مثال يصح الاستشهاد به كل حين ما يراه كل إنسان من الفروق في حالة المسيحيين والمسلمين وهم أبناء وطن واحد لا يختلفون في طبائعهم ولا في عاداتهم وهم قد فاقوا المسلمين بمبادئ يتعلمونها من اللغات والعلوم وطاب العيش فقيرهم منهم أكثر من عيش الغني في المسلمين وذلك بفضل ما تعلموه من حسن التربية والحساب للمستقبل وعدم الاتكال على الحكومة وأعمالها بل على الكفاءة واستخراج الثروة من المذاهب الطبيعية في المعاش.
وعقد ابن خلدون عقداً في نهاية الفصل في أن نهاية الحسب في العقد الواحد أربعة آباء فقال:
إن باني المجد عالم في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه وابنه بعده مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أن النسب فقط فيربأ عن نفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامعهم وقلوبهم فيحتقرهم بذلك فيغنضون عليه ويحتقرونه ويدبلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فرع الأول وينهدم بناء بيته هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل الصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب يشأ يذهبكم(51/12)
ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز.
واشترط الأربعة في الإحساب إنما هو في الغالب وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم أمرها وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا أنه في انحطاط وذهاب واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بأنه مباشر له ومقلد وهادم وهو أقل ما يمكن وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء قال صلى الله عليه وسلم إنما كريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد وفي التوراة ما معناه أن الله طائق غير غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوابت وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة إلا عقاب غاية في الأنساب والحسب اهـ.
وبعد فإن من سنن الكون أن لا يظل الغني غنياً ولا الفقير فقيراً وأن من رأيناهم اغتنوا في العهد الأخير بالنسبة لمجموع ثروة الأمم هم الذين سعوا إلى الرزق من أبوابه ومعظمهم يؤثرون حتى بعد أن اغتنوا أن يعيشوا عيش البساطة فدخل أحدهم فائض كثيراً عن خرجه ولا يبعد أن يجيء يوم يتولى أولئك الذين لا نعرفهم أو لا نريد أن نعرفهم أزمة الأمور ويصبحون هم أعيان البلاد خصوصاً إذا داووا أرواحهم وأرواح ذراريهم بتر ياق التعليم وبسلم التربية الحديثة وطبعوا أسراتهم بطابع الاستقلال لا بطابع الاتكال في الأعمال. ربوهم ليكونوا أعضاءً عاملة في المجتمع البشري لا ليكونوا فقط آمرين ومأمورين. ربوهم ليعرفوا المال وطرق كسبه من الوجوه المشروعة المعقولة لا بالاحتيال والنصب خبث الطعمة وسوء القالة. ربوهم كما يربي الإنكليزي ولده فيعلمه حتى إذا بلغ أشده يلقيه برضاه في معترك الحياة مانعاً عنه كل معونة مالية لا كما يربي الفرنسوي ولده فيعلمه ما أراد فإذا شب لا ينفك عنه فيزوجه ويعطيه وربما حرم بناته حتى يخلف قدراً أكثر لبنيه.(51/13)
التعليم الوطني
من أهم المسائل الاجتماعية في العالم مسألة التعليم فهو الذي تحرص عليه الأمم حرصها على حياتها. والتعليم الوطني هو أرقى أنواع التعليم به تحفظ الجنسيات واللغات ويبقي على العادات والقوميات ولذلك تجد العراك في هذا الشأن على اشد ما يكون بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة فالبولونيون لا يشمئزون من الألمان والنمسويين والروسيين إلا لأن كلاً من ألمانيا والنمسا وروسيا تحاول أن تصبغ البولونيين بصبغتها. والجزائريون لا يتأففون من فرنسا إلا لأنها تنوي القضاء على جنسيتهم ولغتهم ودينهم بتلقينهم المبادئ الإفرنسية واللغة الفرنسية. والكوريون لا يغضبون على اليابانيين إلا لأن هؤلاء يحبون أن يصبغوا أهل كوريا بصبغتهم ويطبعونهم على مناحيهم. وأهل الإلزاس واللورين لا يبكون من الألمان إلا لأنهم يرمون إلى تربيتهم على الأسلوب الألماني وتلقينهم اللسان الألماني لينسوا مع الزمن لسانهم وقوميتهم كما نسي أهل شلزويك هولستاين الدانيمركيون لغتهم بانضمامهم إلى بروسيا. والجاويون لا يتأوهون من هولاندة إلا لسعيها في تنشئتهم على مناحيها. والهنديون أعظم ما يسقمونه على الإنكليز تلقين الناس حب إنكلترا وعظمتها ولغتها وإن كان الإنكليز أكثر الأمم مراعاة لعواطف المغلوبين على أمرهم.
وهكذا لو استقرينا تاريخ الإنسان إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم نجده عبارة عن سلسلة ظلامات منشؤها سوء التفاهم بين الناس يريد القوي أن يسخر الضعيف ويطبعه على منازعه لاعتقاده بأنه أعلى منه كعباً وأكثر علماً وأدباً وأرجح عقلاً وأنجح سعياً شأن العالم مع الجاهل لا يود أن تمر به ساعة إلا يعلمه به شيئاً ليقربه منه ويحسن الانتفاع به ولكن ما كل قوي يكون أعلم من ضعيف ولا غالب أعقل من مغلوب وندر بين الناس والأمم من يقرر بأرجحية غيره عليه ولو كان الحق في ذلك أوضح من فلق الصبح.
نقول هذا ونحن نرى التعليم الوطني في مصر والشام وهما من أعرق البلاد في الحضارة والتعلم على أضعف ما يكون وإن كانت مصر سيدة البقاع في هذا لأن انتباه الناس منذ سنين لجعل طبقات التعليم بالعربية بعد أن كاد يصبح كله بالإنكليزية لا بد أن يحفظ على المصريين لغتهم وأخلاقهم وتقاليدهم أكثر مما يحفظها على السوريين مثلاً. فقد عبثت في السوريين دواعي التفريق في الوطنية وضعفت ملكتهم فيهم بقوة المدارس الغير وطنية في ديارهم. فإذا كانت هذه المدارس قد نفعت سورية بما أدخلته إليها من النور القليل فقد(51/14)
أضرتها بانحلال عقدة الوطنية فمدارس الأميركان والروس واليونان والفرنسيس والإنكليز والألمان قد أصلحت وأفسدت. أصلحت بتلقين من تخرجوا فيها شيئاً من معارف الغرب وأضعفت في نفوسهم حب الوطن بتحبيبها إليهم أوطاناً غير أوطانهم وتعريفهم إلى رجال غير رجالهم ومساواتها فيس أعينهم الأمم. والعاقل منة حرص على نفع أمته قبل كل نفع وانتفع بما عنده قبل أن يتطال إلى ما عند غيره.
رأينا أفاضل الطبقة التي نشأت في مدراس الفرنسيس والأميركان والروس في أدوار مختلفة فلم نشهد فيهم إلا النادر من يغار على وطنه كما يغار على حرمه فكنا إذا حدثناهم بما تصير إليهم حالة لغتهم ووطنيتهم بتخليهم عنها قالوا وأي نفع يرتجى لمن يتعلم اللغة العربية وهل هي إلا لغة قومٍ بادوا وانقضت أيام سعدهم ومن يضمن لنا أن نعيش إذا تعلمنا اللغة العربية ولذلك كانت أقل لغة من لغات العالم المتمدن أكثر فائدة. أما حالتهم في انحلال عقدة الوطنية فأدهى وأمرُّ. ومن زهد في لغة آبائه وجدوده كان حرياً بالزهد في وطنه ووطنيته. واللغة والوطن يصح أن يكونان اسمين لمسمى واحد.
شهدنا ناساً قيل عنهم أنهم حملة للشهادات العالية من مدارس الأجانب فكنا نسألهم بعض الأسئلة البسيطة في تاريخ أمتهم وبلادهم فما كانت أجوبتهم إلا استهزاء بما يترتب على معرفتهم ذلك من الفوائد وكان أيسر ما يحجنا به أحدهم أنه يعرف تاريخ روسيا وأميركا وإنكلترا أو فرنسا جيدة ويوردون لنا أيام تلك الأمم وأسماء رجال الحرب والسياسة والعلم فيهم ويعجزون عن ذكر شيء من تاريخ بلادهم إلا القليل الذي تلقفوه بالسماع من العامة. هذا في ناشئة المدارس الأجنبية الذين هان عليهم أن يغادروا بلادهم وأكثرهم نزحوا إلى مصر وأميركا وغيرهم اختاروها موطناً لهم وربما حدثتهم أنفسهم أن يتجنسوا بالجنسية الأجنبية لأنه لا ترجى عودة لهم إلى بلادهم وقد ملئت نفوسهم بحب من تخرجوا بهم.
وهناك طبقة ومعظمها من المسلمين تخرجت من مدارس الحكومة فخرجت أقرب إلى المجمعة منها إلى العربية لأن المدارس الأميرية ما برحت إلى اليوم وقبل اليوم تعلم اللغة العربية تعليماً صورياً وتوفر عنايتها بالتركية لغة البلاد الرسمية وإنا لنخجل أن نقول أن سورية قد نشأ منها زهاء خمسمائة ضابط ونحوهم أو أكثر من الموظفين لا يعرفوا من اللغة العربية إلا أن يتكلموا الكلام العادي البسيط وأكثرهم يمزجونه بألفاظ تركية لا يفهمها(51/15)
ابن العرب ويعتذرون عن قصورهم بأنهم لم يتعلموا في المدارس لغة آبائهم وأجدادهم ومن يقدرون منهم على الكتابة الصحيحة بلغتهم فأفراد يعدون على الأصابع تعلموها في الغالب بعد أن أنجزوا دروسهم. والمتخرجون في مدارس الحكومة لا يحسنون في الأكثر تاريخ الدولة العثمانية فضلاً عن تاريخ العرب وأمجاد أسلافهم.
جنت مدارس الأجانب والحكومة على هذه البلاد أعظم جباية لأن المتخرجين فيها ومعظمهم من الذكاء على جانب عظيم لم ينفعوا الدولة حق النفع ولم ينفعوا البلاد التي ولدوا فيها فتراهم ضعافاً في حبهم أوطانهم فإما أن يتنقلوا في الوظائف وإما أن ينتقلوا من البلاد جملة فتحرم منهم الأمة التي أولدتهم والسماء التي أظلتهم والأرض التي أقلتهم والبلاد لا تعمر إلا بأيدي أبنائها بعد أن قيل في الأمثال قتل أرضاً عالمها وهل أعلم بها من أبنائها.
ابحث عمن تخرج في هاتيك المدارس منذ ثلاثين سنة تجدهم إلا قليلاً وقفوا أنفسهم على نفع غيرهم واحتقروا جنسيتهم ولغتهم وربما كان عدد المحتقرين لهما في ناشئة المدارس الأميرية أكثر من متخرجي المدارس الأجنبية لأن هؤلاء يرون باحتكاكهم بالأجانب مبلغ تفاني هؤلاء في إنهاض أممهم وحبهم لغتها وتقاليدها ولمدارسهم عناية بالعربية أكثر من المدارس الأميرية فإذا كان الطالب حصيف الرأي لا ينطلي عليه محال من يعلمونه ولكن من أين له وطنية كوطنيتهم وغيرة كغيرتهم وهو لا يعرف من أسباب وطنيته حتى ولا لغتها ولا من مجد أجداده إلا قشوراً ولا من حاجات بلاده وقانونها إلا تافهاً. وهل غير القوي يدافع عن حوزته وغير العاقل يحتفظ بعاداته ولغته والقوة لا تنشأ إلا بالعلم والتربية الوطنية.
إن المدارس غير العربية في سورية أشبه بالسارق الذي يسرق الأعلاق ونفائس المتاع. استغفر الله بل من يسرق فلذات الأكباد ليخرجها على ما أراد أشق على النفس وطأة وأعظم في المغبة أثراً وهل يقاس سارق الأموال بسارق الأطفال والرجال أوليست الأرواح أثمن من كل بضاعة وهل أعز من الولد على قلب والديه.
وليس معنى هذه الدعوة إلى مقاطعة المدارس الغير العربية فإن أهل هذه البلاد لا غنى لأفراد منهم على تعلم اللغة التركية لغة السياسة الجامعة ولا عن تلقف بعض اللغات الأوربية الراقية كالإنكليزية والفرنساوية والألمانية والإيطالية ولكن الواجب أن يتعلموا ما(51/16)
شاؤا من اللغات والعلوم ولكن بعد أن يحكموا لغتهم كتابة وخطابة حتى لا يسرق أبناء سورية بتساهل آبائهم ويبيعونهم من أقوام أخر بالمجان على أمل التوظف في وظائف الحكومة أو الاحتكاك بالأجانب احتكاكاً يؤدي في الأكثر إلى ارتحال المتخرج بهم عن بلده وزهده في وطنه زهداً أبدياً.
إن المدارس التي تعلم غير الأسلوب الوطني هي التي تسلب من سورية اليوم بعد اليوم روحها وناهب الروح ماذا يدعى في الشرع والعقل؟ إن لأهل كل قطر منازع خاصة بهم وعادات وأخلاقاً ومميزات إذا فقدوها هلكوا وانحل أمرهم وآضوا عبئاً ثقيلاً على البلاد لا ينتفعون بها ولا هي تنتفع منهم. فالواجب إذاً إنشاء مدارس لإحياء التعلم الوطني لتحيا بحياته البلاد لأن مئة رجل يعرفون الزراعة باللغة الفرنسية أقل نفعاً من واحد يشرحها للعرب بالعربية وقد يكون تعلمها بالعمل لا بالنظر. وهكذا الحال في مئة كاتب متعلم قرأ العلوم والآداب بغير لغته لا يستفيد منه قوم إلا معشار كاتب واحد يعرف كيف يعلم عامة قومه قبل خاصتهم وجاهلهم قبل عالمهم أصول المعاش والمعاد بلغة أبيه وأمه.
إن ما عاق الأتراك عن فهم أسرار الشريعة قلة عنايتهم بالعربية التي يجب على كل مسلم أن يتعلمها والذي عاق العرب عن فهم قوانين البلاد جهلهم بالتركية لغة الجامعة العثمانية التي توجب السياسة تعلمها فظلت أكثر قوانيننا مكتوبة باللغة التركية ولم يستفد منها إلا قلائل من الأتراك وبعض من تعلموا ليتوظفوا من العرب والروم والأرمن والأرناوءد والأكراد واللاز والفلاخيين والبوشناقيين والبلغاريين. ولو تخرج في مدارس الحكومة أناس من العرب يحسنون الكتابة والخطابة كما يحسنونها باللغة الطارئة عليهم لتمكنوا على الأقل من نقل هذه القوانين إلى العربية وعرف العثمانيون ما لهم وما عليهم وأفادوا بلادهم وقوميتهم فائدة كبرى.
إن مما يبكي أن يسن ابن الآستانة قانوناً يحاول تطبيقه على ابن حوران وهلا كان الاختلاف في الحاجيات طبيعياً بين تركي وعربي وأوربي وآسياوي. ولذلك جاءت قوائم الدروس الجديدة في المدارس الابتدائية والثانوية في الولايات العربية مثل دروس الولايات التركية لا أثر فيها لتعليم العربية إلا أن يكون قراءة القرآن في الصفوف الابتدائية يتلى فيها بلا فهم ولا علم.(51/17)
وأكبر دليل على أن نظارة المعارف العثمانية جاهلة بطبائع البلاد أنها أسست مدرسة لتخريج المعلمين في دمشق ولم تذكر اسماً فيه للعلوم العربية لغة الدين والبلاد وجعلت الجهد كله مصروفاً إلى تلقين التركية حتى لا يعلم الأساتذة الجدد إلا ما تعلموه ويكثر عدد العارفين بالتركية والمنحلين من لغتهم فلا يأتي زمن خصوصاً متى أصبح التعليم الابتدائي إجبارياً إلا وقد أهمل العرب لغتهم بتاتاً.
صرحنا بهذا وإن كان فيه غضاضة كبرى على العرب الذين لم يستفيدوا من حرية الدستور حتى الآن وينشئوا على الأقل كتاتيب منظمة لتلقين لغتهم من أيسر الطرق حتى ينتفعوا بعد الآن بأولادهم حق النفع ولا يفقدوا عدداً كبيراً ممن يدخلون مدارس الأجانب فتنحل وطنيتهم تضعف لغتهم. أما مؤسسو تلك المدارس أجنبية كانت أو أميرية فإنهم يعذرون للسبب الذي أوردناه آنفاً وهو أن القوي يريد أن يستغرق الضعيف سنة من سنن الكون. ولم يبلغ البشر درجة راقية من التمدن حتى تتساوى في عيونهم اللغات والعناصر كلها وتتجرد أمة فتفنى لإحياء غيرها وتقلل من جنسها لتزيد سواد الآخر ولا تهمها دارها وتريد هدمها لتعمر بأنقاضها دار جارها والسلام.(51/18)
جبل الدروز وفتنتهم
إلى الجنوب من دمشق على نحو عشرين ميلاً منها كورة واسعة مخصبة اسمها حوران فيها نحو ستمائة قرية وفي شرقي تلك الكورة إقليم ممرع فيه السهل والجبل إلا أنه أطلق عليه اسم جبل حورانكما يقال له جبل الدروز الآن لأن معظم سكانه منهم وهو يمتد من شمالي حوران إلى جنوبيه ويحده من الشمال اللجاة وهي أرض بركانية ذات حرار وعرة للغاية ومن الشرق البادية ومن الجنوب قفر مترامي الأطراف يتصل بوادي الحجاز ومن الغرب الجنوبي النقرة والنقرة سهل جيد التربة في وسط حوران.
وطول هذا الجبل نحو 15 ساعة على راكب المطايا و8 ساعات وهو من الجهة الجنوبية والجهة الغربية أي نحو ثلاثة أرباعه سهل خصيب تضاهي تربته تربة السهل من بلاد حوران وغوطة دمشق والبقاع العزيز وربما كانت أسحن منها وفيه 108 قرى يقدر نفوسها عل التخمين بخمسين ألف نسمة وربما استطاع حمل السلاح منهم نحو ثمانية آلاف ومنهم الذين يشنون الغارات ويقتلون الأبرياء ويسلبون المارة وإقليمهم هو الإقليم الوحيد في سورية بأسرها الذي أزمنت فيه الفوضى وأحب أهله على قربهم من الحواضر ووفرة غناهم بزراعتهم أن يعيشوا عيش السلب والنهب والقتل يؤذون من خالفهم من مجاوريهم ويطيلون أيدي اعتدائهم على أبناء السبيل ويناوئون الحكومة ويعصون قوانينها فلا يؤدون الضرائب الأميرية والخراج ولا يخدمون الجندية وإذا لم يجدوا من يقتلونه ويمثلون به يقتتلون بينهم كأنهم يتعبدون بإهلاك العباد والعيث بالفساد في البلاد.
وآخر عمل فظيع قاموا به أنهم غزوا جيرانهم من أهل قريتي معربة وغصم وسكانهما مسلمون مسيحيون فقتلوا 59 رجلاً وجرحوا ثلاثة بين القتلى أربع نساء بينهن والدة الشيخ معربة وزوجته وأخته ونهبوا القسم الأعظم من السهوة وجيزة وسماقية وطيسة من بلا السهل فطفح كأس الصبر منهم ولم تر الدولة بداً من إرسال حملة عليهم تؤدب عصاتهم وتضرب على أيدي الفوضويين والعدميين نهم وتؤلف شاردهم وتؤمن خائفهم وتخضعهم للقوانين كسائر الأفراد العثمانيين.
ولعل كثيرين يتساءلون عن تاريخ عمران هذا الجبل ونزول الدروز فيه فالمعروف من حاله أنه كان في الدولة القديمة تابعاً لحوران تشهد بذلك الآثار القليلة الباقية إلى اليوم في بعض أمهات قراه مثل السويداء قاعدته القديمة وصرخد وقنوات فإن الكتابات اليونانية(51/19)
واللاتينية والنبطية والعربية المكتوبة بخط سباءٍ تدل على أنه كان عامراً للغاية.
وفي السويداء بل في أكثر قرى الجبل على ما انتابها من الخرب والتدمير بعض الآثار اليونانية والرومانية مثل القناة والمعبد والمسلة يظن أنها ممن القرن الرابع والخامس للميلاد والجامع الخرب المزبور عليه بعض كتابات يونانية والخزان الكبير لجمع الماء الذي أنشئ على أكمة تشرف على السويداء وعلى طريق قرية القنوات جسر مهم للغاية جعل على عمد هائلة يظن أنه من القرن الأول وإنه كان ناووساً.
والظاهر من عاديات قنوات أنها كانت أهم من بصرى قاعدة بلاد حوران كلها وكان فيها أبرشية للروم ولا تزال بعض الطرق هناك مبلطة ببلاط كبير من عوادي الأيام ومعظم الدور محفوظة كما كانت بنوافذها وأبوابها الحجرية.
ومن الآثار التي تجلب الأنظار ذلك المسرح التياترو الجميل الذي قام على يمين الوادي وأكثر منحوت في الصخر وقطره نحو 19 متراً وفيه تسعة صفوف أسفله على متر ونصف تحت الملعب وفي وسطه حوض ماءٍ وهو مطل على الوادي ومصانع المدينة وجبل حرمون (الشيخ) وفي مكان شاهق آثار معبد ذي أدراج في الصخر تؤدي إلى برج أصم ربما كان جزءاً من حصن مشرف على المضيق ويستدل من ألبنية السفلى أن تاريخها يردُّ إلى ما قبل عهد الرومان وعلى ميلة قليلة نحو الشرق برج عظيم مدور دائرته 25 متراً وربما كان برجاً لدفن الموتى وهناك بعض خرائب كنائس وجادات وأروقة وأرتجة وبعض قطع من هياكل وتماثيل وملاعب.
وعلى ثلاثة أرباع الساعة من قنوات في الجنوب الشرقي قرية ساله وفيها معبد من أهم معابد حوران تشبه هندسته معبد هيرود في القدس وفيه من رسوم الأسود والغزلان والخيول المسرجة وغيرها ما يأخذ بمجامع القلوب. وهناك أيضاً مذبح في سفح درجات المعبد وكان هذا المعبد خاصاً بعبادة إله السماء ومن الآثار المهمة آثار شهبا وطرقها معبدة واسعة تكاد تكون أوسع طرق حوران وقد يبلغ عرض الشارع فيها سبعة أمتار وستين سنتيماً.
وليس في الأيدي ما يستدل منه على منزلة تلك البلاد من العمران على عهد العرب وكانت قبيل الإسلام منازل قبائل بني غسان كما كانت البلاد المجاورة لها فقد بنى النعمان ابن(51/20)
المنذر الغساني من ملوك القرن الرابع للميلاد قصراً في السويداء بقى منه في بعض جهاته ووجدت في صرخد صخرة اللات التي عبدها الأنباط والعرب كما ذكر هيرودوتس وعليها كتابة تدل على أنها نصبت لذي الشرى وهو معبود نبطي له آثار في بصرى وبتره (وادي موسى).
والغالب أن صرخد حازت في الإسلام مكانة أعظم من مكانة السويداء فبالغ الملوك بتحصين قلعتها ليدافعوا عوادي البدو عن القرى العامرة وقد كثر ذكرها في كتب التاريخ على عهد الدولة الصالحية ومن بعدها من دول الجراكسة خصوصاً بعد أن استولى على الكرك والشوبك وغيرهما من الحصون المجاورة الملك الناصر السلطان صرح الدين بن أيوب وولى أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب عليها فأصبح لتينك المدينتين شأن عظيم حتى عدت الكرك من الممالك مثل مملكة بعلبك ومماكة حماة ومملكة شيزر وغيرها ومعظم هذه الممالك أصبحت فيما بعد قرى حقيرة في القرون الأخيرة لغلبة الجهل على الحكومات التي تعاورتها ولقلة الأمن وانتياب الغارات والزلازل والأوبئة التي اجتاحت سكانها.
ويؤخذ مما رواه أبو الفداء صاحب حماة أن بلاد صرخد وما والاها وبعبارة أخرى جبل الدروز كانت تدعى في عهده أي في القرن الثامن بجبل بني هلال قال:
صرخد بلدة ذات قلعة مرتفعة وليس لها سوى ماء المطر في الصهاريخ والبرك وهي قاعدة جبل بني هلال وليس وراء عملها من جهة الجنوب والشرق إلا البرية ومن شرقيها تسلك طريق يعرف بالرصيف إلى العراق وهذا الرصيف بين صرخد وبغداد عشرة أيام.
وقلعة صرخد شاهد أبد الدهر بعظمة تلك البلاد وهي كما قال الثقات أضخم وأهم من قلعة حلب اهـ.
وقد جدد الملك الظاهر بيبرس فيما جدد من المصانع في بلاده ما تهدم من قلعة صرخد وجامعها ومساجدها وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت وكانت قلعتا كوكب وعجلون لعز الدين بن أسامة وكان هذا ملك صرخد سنة ثمان وستمائة للهجرة وقال ابن خلكان: إنه ملك صرخد سنة إحدى عشرة وستمائة وقال لأن أستاذه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب حج في السنة المذكورة وأخذ صرخد من صاحبها ابن قردجة وأعطاه مملوكه أيبك والظاهر أن الأول أصح واستمرت في يد أيبك إلى سنة أربع(51/21)
وأربعين وستمائة فأخذها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل من أيبك المذكور. وممن تملك صرخد أقوش الأفرم أحد أمراء بني أيوب.
ومكن الأدلة على استبحار العمران في الجبل أنه نشأ بعض أمهات مدنه أعلام ومشاهير ومنهم عز الدين السويدي من أهل القرن السابع كان عالماً عاملاً ويونس بن إبراهيم ابن سليمان الصرخدي النحوي اللغوي 698 وإبراهيم بن سليمان التميمي الصرخدي الفقيه خطيب صرخد مات فيها سنة 618 وبدر الدين السلختي قاضي غزة نس نسبة إلى صرخد أيضاً وبعضهم يقول صلخد وسلخة والأصح صرخد فيما نرى والروايات الثانية تحريف طرأ مثله على بلدان كثيرة في سورية مثل عربيل فيقولون عربين وجماعين لاستسهالهم النطق بالنون أكثر من اللام.
قال ابن أبي أصيبعة: حدثني نجم الدين حمزة بن عبد الصرخدي أن نجم الدين القمراوي وشرف الدين المتاني وقمرا ومتان هما قريتان من قرى صرخد قال كانا اشتغلا بالعلوم الشرعية والحكمية وتميزا واشتهر فضلهما وكانا قد سافرا البلاد في طلب العلم ولما جاآ إلى الموصل قصدا الشيخ كمال الدين بن يوسف (الفيلسوف العلامة) وهو في المدرسة يلقي الدرس فسلما وقعدا مع الفقهاء ولما جرت مسائل فقهية تكلما في ذلك وبحثا في الأصول وبان فضلهما على أكثر الجماعة فأكرمهما الشيخ وأدناهما ولما كان آخر النهار سألاه أن يريهما كتاباً له كان قد ألفه في الحكمة وفيه لغز فامتنع وقال: هذا كتاب لم أجد أحداً يقدر على حله وأنا ضنين به فقالا له: نحن قوم غرباء وقد قصدناك ليحصل لنا الفوز بنظرك والوقوف على هذا الكتاب ونحن بائتون عندك في المدرسة وما نريد نطالعه هذه الليلة بالغداة يأخذه مولانا وتلطفاً له حتى أنعم لهما وأخرج الكتاب فقدا في بيت من بيوت المدرسة ولم يناما أصلاً في تلك الليلة بل كان كل واحد منهما يملي على الآخر وهو يكتب حتى فرغا من كتابته وقابلاه ثم كررا النظر فيه مرات ولم يتبين لهما حلة إلى آخر وقت وقد طلع النهار فظهر لهما شيء منه من آخره واتضح أولاً فأولاً حتى انحل لهما اللغز وعرفاه فحملا الكتاب إلى الشيخ وهو في الدرس فجلسات وقالا: يا مولانا ما طلبنا إلا كتابك الكبير الذي فيه اللغز الذي يعسر حله وأما هذا الكتاب فنحن نعرف معانيه من زمان واللغز الذي فيه علمه عندنا قديم وإن شئت أوردناه فقال قولا حتى أسمع فتقدم النجم(51/22)
القمرواي وتبعه الآخر وأود جميع معانيه من أول الكتاب إلى آخره وذكرا حل اللغز بعبارة حسنة فصيحة فعجب منهما وقال: من أين تكونان قالا: من الشام قال: من أي موضع منه قالا: من حوران وقال: لا أشك أن أحدكما النجم القمراوي والآخر الشرف المتاني قالا: نعم فقام لهما الشيخ وأضافهما عنده وأكرمهما غاية الإكرام واشتغلا عليه مدة ثم سافرا.
وهذه الرواية تدل كل الدلالة على انتشار العلم في هذه المزارع في القرون الوسطى وأمتان بلد شرف الدين المتاني قرية موجودة إلى ال يوم أما قمرا فهي قميرة خربة واقعة إلى الجنوب من صرخد على مسافة ساعتين ومنها الفقيه موسى القمراوي أديب مناظر حاذق توفي سنة 625 ومن شعره:
لما تبدى بالسواد حسبته ... بدراً بدا في ليلة ظلماءِ
لولا خلافته على أهل الهوى ... لم يشتهر بملابس الخلفاء
ومن قرى صرخد العرَّمان بتشديد الراء وفتحها والعامة اليوم تخففها قال ياقوت: أنشدني أبو الفضل محمد بن مياس العرَّماني من ناحية صرخد من عمل حوران من أعمال دمشق لنفسه.
يعادي فلان الدين (؟) قوم لو أنهم ... لأخمصه ترب لكان لهم فخر
ولكنهم لم يذكروا فتعمدوا ... عدواته حتى يكون لهم ذكر
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ولما اكتسى بالشعر توريد خده ... وما حاله إلا نزول إلى حال
وقفت عليه ثم قلت مسلماً ... ألا نعم صباحاً أيها الطلل البالي
وأنشدني أيضاً لنفسه يمدح صديقه موسى القمرواي وقمرى قرية من قرى حوران أيضاً قريبة من قرية العرَّمان:
أصبحت علامة الدنيا بأجمعها ... تشدُّ نحوك من أقطارها النجب
بأن على كبد الجوزاء منزلة ... تحفها من جلال حولها الشهب
ما نال من نالت من فضل ومن شرف ... سراة قوم إن جدوا وإن طلبوا
وفي الجبل إلى اليوم قريتان باسم نجران قال ياقوت أن نجران موضع بحوران من نواحي دمشق وهي بيعة عظيمة عامرة حسنة مبنية على العمد الرخام منمقة بالفسيفساء وهو(51/23)
موضع مبارك ينذر له المسلمون والنصارى ولنذور هذا الموضع قوم يزورون في البلدان ينادون من نذرَ نذر نجران المبارك وهم ركاب الخيل وللسلطان عليهم قطيعة وافرة يؤدونها إليه في كل عام. وقال مثل ذلك في دير نجران أيضاً وما ندري إن كانت نجران هذه هي نجران جبل حوران أم هي واقعة في السهل من قرى بصر الحرير.
وتبين مما تقدم أن العمران قديم في هذا الجبل وليس في الأيدي نصوص يركن إليها اللهم إلا إذا كان شيء في بطون التاريخ والجغرافيا جاء بالعرض ولم نهتد إلى معرفته وقد كان سكانه على ما مر بك آنفاً مسلمين ومسيحيين ولم ينزل الدروز إلا في القرون المتأخرة ويقول أحدهم أنهم رحلوا إلى جبل حوران منذ نحو مائتين وعشرين سنة أيام ابتدأ قوم من دروز لبنان يهاجرون وأولهم أسرة بني حمدان التي بطش بها التنوخيون أمراء لبنان ومنذ ذلك الحين أصبح كل من يغلب في الحروب القيسية واليمنية في لبنان ومن عضه الدهر بنابه أو غضب عليه الحاكم يرحل إلى ذلك الجبل ثم انضم إليهم أناس من دروز وادي التيم وصفد وجبل الأعلى والقنيطرة وجوار دمشق.
نزل الدروز هنا وهم مستضعفون وفقراء وما زالوا يطردون المخالفين من سكان البلاد الأصليين بالقوة ويستصفون أملاكهم ومنها ما هو إلى اليوم من أرباب البيوتات في دمشق وبأيديهم صكوك بملكيتهم لها حتى كاد الجبل إلا قليلاً جداً يكون لطائفة الدروز وزعمائهم بنو الأطرش وبنو الحلبي والمغوش وعامر وناصر والعزام توزعوا على القرى ومن أكبر زعمائهم بنو الأطرش وبينهم وبين بني مقداد المسلمين سكان بصرى وما جاورها طوائل قديمة يتربص كل منها لجاره الدوائر منذ نحو قرن ويعتقد الطرشان أن بني مقداد هم الحائل دون تعديهم حدود جبلهم ولولاهم لامتد سلطانهم على سهول حوران فاستأثروا بها كما استأثروا بهذا الجبل.
وأول الوقائع التي قام بها الدروز في الجبل وتمت لهم الغلبة وقعت بينهم وبين إبراهيم باشا المصري سنة 1830 في جنوبي اللجاة كتبت فيها الهزيمة للمصريين وقتل منهم الفريق محمد باشا وغيرهم من قوادهم وفي سنة 1838 أنفذ إبراهيم باشا أحد رجاله شريف باشا في أربعمائة فارس إلى قرية أم الزيتون في محل يعرف بوادي اللواء على نحو خمس ساعات عن السويداء لتجنيد الدروز فقتلهم الشيخ حمدان الدرزي عن آخرهم ولم يبق إلا(51/24)
على مقدمهم. وكذلك جرى لمحمد باشا القبرصي فلم يظفر بهم.
ومنذ ذاك العهد اعتصموا بجبالهم ونشأ لهم شيءٌ من الاستقلال عن الحكومة وأيقنوا بأنها تخاف بأسهم وتحسب لهم ألف حساب وزاد سوادهم وقوتهم في حوادث الستين وقد هاجر إليهم من لبنان كثير من أبناء مذهبهم فاعتزوا بهم خصوصاً بعد أن ثبت أن الذين أوقدوا نار فتنة النصارى منذ خمسين سنة وانتهت بقتل وصلب مئات من أهل دمشق المسلمين ولم يكدر للدروز خاطر ولم يسأ لوا عما ارتكبوه في تلك الفتنة الأهلية من الفظائع.
وما برحوا يفحشون القتل والسلب والتخريب منذ حادثة الستين لأن الحكومة استعملتهم إذ ذاك واستعملوا لها بواسطة بعض الدول آلة لمقصد تريده على ما يؤكد العارفون. ولقد قتلوا من جند الدولة والأهالي المساكين ما لو أحصي لبلغ مقداره نصف سكان الجبل اليوم. ووقائعهم في قرية أم ولد وقرية الكرك وقرية كحيل والحراك وبصر الحرير وبصرى إسكي شام وجوارها وقرية المليحات ومع عرب المعجل وعرب السرحان وعرب الخريشة وعرب ولد علي وغيرهم مشهورة إلى الآن على الألسن دع عنك نحو عشرين قرية اغتصبها الدروز من الحوارنة في قضاء عاهرة وقضاء السويداء وقضاء صرخد وهي أقضية الجبل اليوم التابعة لمركز اللواء الذي كان أول أمس شيخ سعد فأصبح أمس شيخ مسكين واليوم غدا درعا.
تعم لم يكن سكان جبل الدروز كما قال عارف بأحوالهم منذ أربعين سنة إلا أقل القليل من سكانه فالجهة الجنوبية أي قرى صرخد وجوارها كانت بأيدي المسلمين والمسيحيين من أهالي حوران والقرى الغربية كانت بيد حمولة الزعبية من حوران إلى أن اعتاد أشقياء دروز لبنان وحاصبيا وراشيّا أي وادي التيم وعكا وصفد والقرى المجاورة لدمشق والقنيطرة ومن اعتادوا القتل والنهب وقطع الطريق وتعذرت عليهم الإقامة في بلادهم أن يعتصموا في هذا الجبل فضاقت عليهم قراهم الأصلية فجعلوا الحوارنة عن بلادهم وأصبح جبلهم ملجأ الأشقياء.
أما وقائعهم المشورة فكان أولها سنة 1295 شرقية بينهم وبين أهالي بصر الحرير فساقت الدولة إليهم قوة إلى موقع القراصنة ولما لم تحسن الإدارة زاد الدروز جرأة إلى أن كان سنة 1297 شرقية وقد هجموا على قريتي الكرك وأم ولد وذبحوا سكانها عن بكرة أبيها(51/25)
حتى الأطفال الرضع فكانوا يفسخونهم قطعتين ثم سيقت عليهم قوة بقيادة المشير حسن فوزي باشا أسفرت عن ربط دية شرعية مسقطة على الدروز وتأسيس قائم مقامية جبل الدروز وجعلها ثمان نواح وتعيين قائم مقام ومديرين للنواحي منهم.
وما برحوا يشغلون الحكومة فترسل عليهم الحملات كل مدة ويراوغون ثم يستعطفون رجالها بالكذب والرشى تارة وتارة يتحد أشقياء المقرن القبلي مع عرب السردية فيغزون قرى بني صخر والحويطات والسرحان وقرى حوران الجنوبية وينضم أشقياء المقرن الشرقي إلى عرب الصفا يغزون تجار بغداد والزور وأشقياء المقرن الشمالي يتحدون مع عرب الحسن ويغزون قرى جبل قلمون والنبك وحمص ويتحد بعضهم مع عرب اللجاة يسلبون قرى جبل حوران وتارة يقتلون الموظفين ويمثلون بالعسكر ولا يدفعون الأموال وينهبون التجار حتى أرسلت عليهم الحكومة حملة مهمة سنة 1311 رومية فضربتهم ضربة لو وضعت بعدها الإصلاحات الإدارية المعتبرة ولم تعف بعد قليل عن زعمائهم لاستقام الأمر ولم يعودوا إلى سالف أحوالهم حتى صيف هذه السنة.
أحلَّ أشقياء الدروز في حوران قتل من خالفهم والاعتداء على مجاوريهم وعلى القوافل الآتية من العراق ونجد حتى كادت التجارة تنقطع بين أقطار العراق ونجد والشام بسبب غاراتهم على الأقاليم المجاورة وخربوا جانباً عظيماً من القرى والمزارع وأخذوا المواشي وسفكوا الدماء حتى الجأ إليهم كل من عصا الدولة والعسكر الفار من الجندية والأشقياء وخربت بأعمالهم كثير من القرى والمزارع وأصبحوا بفعلاتهم يحولون دون امتداد العمران في أطراف هذه الولاية ولولاها لاستفاض عمرانها ولاسيما من جهة الشرق والجنوب عمراناً تزيد مساحته على ولاية عظمى من الأرض المنبتة ولكفت ملايين من المهاجرين وأهل البادية.
أما الفوائد التي ستنجم من إدخالهم حظيرة الطاعة فامتداد العمران ال الجنوب مراحل كثيرة حتى يبلغ من الأزرق إلى بلاد الكرك بل قرى الملح إلى الجوف فينتفع بما فيها من المياه المعطلة ويمتد من جهة الشرق إلى تدمر مسافة عشرة أيام. وتدمر هيب المدينة المعروفة بتاريخها المجيد. ويتصل بجهة الشمال ببلاد حماة وحلب. ولعل هذا المبحث لا يصدر إلا وقد أخلد أولئك العصاة إلى السكون بهمة قائد الحملة العام سامي باشا الفاروقي فيضع لهم(51/26)
أساساً راسخاً في الإصلاح لا يتمكن أحدهم من نقض عروته ويعاملون في عهد الدستور بما لم تكن الدولة تعاملهم به في عهد الاستبداد ويشرط هذا الجرح النغار بل الآكلة المزمنة في جسم سورية بمشراط الجراح الماهر الذي أحسنت الحكومة ظنها به في هذه المهمة فيصبح جبلهم منتاب المصطافين كما أصبح جبل لبنان من قبل فجبل حوران ليس دون جبل الشيخ وجبل قلمون جبل اللكام وغيره من الجبال السورية بهوائه ومائه ويزيد عليه خصب تربته وبعده عن الرطوبة هذا ويقل الماء الجاري في جبل حوران وأكثره ينابيع قليلة تكاد تك في لشرب الشفة فقط أما الزروع فلا تنمو بالسقيا بل تنمو بماء السماء كسائر بلاد حوران وحدث ما شئت أن تحدث عن خصب التربة فإن الحبوب تجود فيه كل الجودة وتقل الأشجار فيهم اللهم إلا الكرم والتين وبعض السنديان والزان وأكثر الغابات لم يبق منها إلا جذوع أشجارها تجدها بالقرب من السويداء وسهوة الخضر وسهوة بلاطة ومياماس وابي زريق وساله وقنوات وعتيل في ذروة الجبل أي في طرف قليب حوران ولم يبق إلا شجرات معدودات بين قنوات والجبل والله أعلم.(51/27)
أصل الدروز
ينسب الدروز إلى رجل يقال له محمد بن إسماعيل الدرزي كان أحد أصحاب دعوة الحكام بأمر الله العبيدي ويسمى في كتب هذه الطائفة نشتكين الدرزي والدرزي بالفتح معناه الخياط فارسي معرب والعامة تضم الدال ويقولون في الجمع الدروز والصواب الدرزة محركة. أما الحاكم هذا فإنه سادس خليفة من خلفاء الدولة العبيدية ويقال لهم الفاطميون ولقبه الحاكم بأمر الله وكنيته أبو علي واسمه المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله المهدي.
واختلف المؤرخون في صحة نسبهم فبعضهم صححه وجعله متصلاً بفاطمة الزهراء عليها السلام ونسب عبيد الله المهدي إلى محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد المكتوم ابن إسماعيل بن جعفر الصادق. وطعن أكثر العلماء والمؤرخين في هذه النسبة وجعلوا نسبهم متصلاً بالحسين بن محمد بن أحمد القداح وكان مجوسياً وقيل يهودياً فقالوا أن أمهم فاطمة بن عبيد اليهودي واسم المهدي هذا سعيد ولقبه عبيد الله وزوج أمه الحسين ابن محمد بن أحمد بن عبيد الله القداح بن ميمون بن ديصان وقيل هو سعيد بن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون وميمون هذا هو صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة كان يظهر التشيع لآل البيت ونشأ لميمون عبد الله وكان يعالج العيون التي نزل إليها الماءُ بالقدح (هو إخراج الماء الفاسد منها) وتعلم عبد الله من أبيه ميمون الحيل وأطلعه أبوه على أسرار الدعوة آل البيت ثم سار القداح من نواحي كرج وأصفهان إلى الأهواز والبصرة ثم إلى سلمية من أعمال سورية يدعو إلى آل البيت.
ثم توفي القداح وقام ابنه أحمد مقامه وتوفي أحمد وقام مقامه ابنه محمد ثم قام بعده ابنه الحسين وكان ببغداد فسار إلى سلمية حيث كان له بها ودائع وأموال من ودائع جدع عبد الله القداح وكان يدعي أنه الوصي وصاحب الأمر والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن والجمال فتزوجها الحسين المذكور ولها ولد من اليهودي يماثلها في الجمال فأحبها وأحب ابنها وأدبه وعلمه العلم فتعلم وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة ومات الحسين ولم يكن له ولد فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو عبيد الله المهدي وعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل وأعطاه الأموال والعلامات فدعا له الدعاة.(51/28)
قال ابن خلدون: ولا يلتفت لإنكار هذا النسب لأن إغراء المعتضد لابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسلجماسة بالقبض على عبيد الله لما سار إلى المغرب وشعر الشريف الرضي في قوله:
ما مقامي على الهوان وعندي ... مقول صارم وأنف حمي
ألبس الذل في بلادي الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيد القصي
لفَّ عرقي بعرقه سيد الن ... اس جميعاً محمد وعلي
إن ذلي بذلك الجد عز ... وأمي بذلك الربع ري
شاتهد بصحة نسبهم وأما المحضر الذي ثبت ببغداد أيام القادر القداح في نسبهم وشهد فيه أعلام الأئمة فهي شهادة على السماع.
وبدأت دولة الفاطميين من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة وفي أيامهم كثرت الرافضة واستحكم أمرهم ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين في ثغور الشام كالنصيرية والدرزية. والحشيشية من نوعهم.
وكانت أحوال الحاكم بأمر الله متناقضة فعنده شجاعة وجبن ومحبة للعلماء وانتقام منهم وميل إلى أهل الصلاح وقتلهم وسخاءٌ وبخل بالقليل. لقب نفسه الحاكم بأمر الله ولما زاد ظلمه عنَّ له أن يدعي الإلوهية اقتداءً بفرعون فأخذ يمهد لذلك المقدمات فلقب نفسه الحاكم بأمره وأمر الخطباءَ بأن يقرءوا بدل البسملة (باسم الحاكم المحيي المميت) وصار يدعي علم المغيبات باتفاق اعتمده من العجائز اللواتي يدخلن بيوت الأمراء وعنده من دعاته رجلان أعجميان من دعاة الباطنية أحدهما يقال له محمد بن إسماعيل الدرزي وثانيهما يقال له حمزة بن علي بن أحمد أما الأول فإنه قدم إلى مصر في أواخر سنة سبع وأربعمائة ودخل في خدمة الحاكم ووافقه على إثبات دعوته بالإلوهية وصنف له كتاباً كتب فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب ومنه إلى أسلاف الحاكم متقمصة من واحد إلى آخر حتى انتهت إلى الحاكم وقرأ هذا الكتاب في الجامع الأزهر بالقاهرة فهجم الناس على مؤلفه ليقتلوه ففر منهم وحدث شغب عظيم في القاهرة ونهبوا بيت الدرزي وقتلوا كثيرين(51/29)
من أصحابه فأرسله الحاكم سراً إلى بر الشام فنزل بوادي التيم بالقرب من جبل الشيخ وهناك نادى بإلوهية الحاكم وكان الأمراء التنوخيون الذين أتوا من العراق إلى الشام من الباطنية ولذلك كانوا مستعدين لقبول دعوة الدرزي فانقادوا إليها ومن ذلك تسميتهم بالدروز. وقتل الدرزي المذكور في وقعة مع التتر سنة إحدى وعشرة وأربعمائة.
وثانيهما حمزة بن علي بن أحمد وكان وقع الخلاف بينه وبين الدرزي وبعده تقدم مكانه ودعا بإلوهية الحاكم فأجابه البعض واتخذ معبداً سرياً لعبادة الحاكم وجعل نفسه ثانياً له فهو مقدس ومحترم عند القائلين بإلوهية الحاكم يلقب عندهم بهادي المستجيبين وحجة القائم وغير ذلك. وهم يكرهون محمد الدرزي ويشتمونه ويكرهون التسمية باسمه لما أنه أراد أن يغتصب منصب حمزة ويتقدم عليه بما فعله كما يعلم من رسالة الغاية والنصيحة من كتبهم. ولما قتل الحاكم قرب حلوان زعم الدروز أنه خرج في ليلة منفرداً إلى البركة الزرقاء ومن هناك عرج إلى السماء متخفياً عن أعين الناس وكتب حمزة بعد وفاة الحاكم الرسالة المسماة بالسجل المعلق وعلقها على أبواب الجامع وفيها يقول أن الحاكم اختفى امتحاناً لإيمان المؤمنين وشرع حمزة يزرع في القلوب بذر الاعتقاد بإلوهية الحاكم وتوحيده وعبادته ويجتمع هو وأتباعه في المعبد السري يعبدون الحاكم حتى ثارت عليهم المسلمون وظفروا بهم وطردوهم ففروا من مصر ونزل بعضهم في الجبل الأعلى من الديار الحلبية وبعضهم في جهة حوران ثم تفرقوا من هناك فذهب بعضهم إلى جبل الشوف والآخر إلى وادي التيم ولم يزالوا في نمو وازدياد إلى هذا العصر.
للدروز عادات قديمة توارثوها منها أن لهم قضاة منهم يحكمون في المعاملات المدنية الجارية بينهم على مقتضى الشريعة غير أنهم يخالفونها في بعض المعاملات بحكم العادة الموروثة فلا يسوغ لأحدهم مثلاً أن يوصي بجميع ماله لأحد أولاده ويحرم الباقي من ميراثه إن كان هذا المال الموصى به من كسب يده وأما إذا كان متنقلاً غليه بطريق الإرث عن آبائه وأجداده فلا يسوغ له لأنه حينئذ يكون من حقوق الأسرة والأصول والفروع متساويان فيه فللورثة استحقاق في تقسيم هذا المال.
ومنها أن المرأة لا ترث شيئاً من دار أبيها حتى أن هذه العادة سرت إلى مجاوريهم في الجبل من بقية الطوائف. وكذا يخالفون في النكاح والطلاق إذ لهم في ذلك أصول خاصة لا(51/30)
يجوز عندهم الجمع بين امرأتين فإن لم يطلق التي عنده لا يمكنه التزوج بغيرها وتطلق المرأة بأدنى سبب ولا يجوز عندهم رد المطلقة ولو كان بعد زوج آخر.
ويخالفون في عقائدهم عقائد الفرق من أرباب الديانات لكنهم يستترون بين المسلمين بالإسلام ويتزيون بزي أهله والأحرى أن نقول أنهم يتظاهرون بالتبعية لمن يكونوا تبعاً له وأما في الباطن فإنهم ينكرون الأنبياء عليهم السلام وينسبونهم إلى الجهل وأنهم كانوا يشيرون إلى توحيد العدم وما عرفوا المولى ويشنعون بالطعن على جميع أرباب الديانات من المسلمين والنصارى واليهود والديانة الحقة عندهم هي عبارة عن توحيد الحاكم ويفترض عندهم صدق اللسان بدل الصوم وحفظ الإخوان بدل الصلاة ولكن لا يجوزون مراعاة ذلك لغير أفراد ملتهم.
ويقرءون القرآن ويؤولونه بتأويلات تناقض الشرع ويذهبون إلى قدم العالم تبعاً لبعض الفلاسفة ويقولون بالتناسخ معبرين عنه بالتقمص فالجسد يسمى قميصاً عندهم وإن الميت حين موته تنتقل روحه إلى من يولد وقتئذ فالأرواح الإنسانية لا تنتقل عندهم إلا قوالب إنسانية ويقولون أن الهوية الإلهية تنتقل في قالب وتحل في قالب آخر في كل عصر فتتجلى في كل زمن وتجلت أخيراً في الحاكم وأن حمزة أيضاً ظهر في كل عصر بقالب ففي زمان كان فيثاغورس الحكيم وفي زمان كان شعيباً وفي زمان كان سليمان بن داود وفي زمان كان المسيح الحق فهو النبي الكريم عندهم. وحمزة العصر المحمدي هو سلمان الفارسي.
ويزعمون أن القرآن قد أوحي حقيقة إلى سلمان الفارسي وأنه كلامه ومحمد (عليه الصلاة والسلام) أخذه وتلقاه منه حتى زعموا بأن خطاب لقمان الذي خطب به ولده في معرض الوصية بقوله: يا بنيَّ أقم الصلاة وأُمر بالمعروف وانه عن المنكر هو خطاب سليمان لمحمد والتعبير بالنبوة إنما هو من خطاب المعلم للمتعلم.
ويقسمون إلى قسمين العقال والجهال ويقال لهم أيضاً العوام ونسائهم أيضاًَ ينقسمن إلى قسمين عاقلات وجاهلات فيقال للعاقلة جويدة وللجاهلة غير جويدة والعقال طبقتان طبقة الخاصة هي التي يعتمد عليها ويوثق بها حقاً إذ أنها حصلت على تمام المعرفة بأسرار الديانة وطبقة العامة وهي التي يحسن الظن بها وأما الجهال فلا حظ لهم من الديانة سوى(51/31)
الدخول تحت اسم الدرزية وأينما وجد هؤلاء العقال تتخذ هناك معابد للعبادة تسمى بالخلوة وهي حجرة ضمن حجرة وفي كل ليلة جمعة يلتئم أهل كل طبقة في الخلوة الخاصة بهم ويجتمعون جميعاً في الخلوة الخارجية فيقرءون شيئاً من المواعظ ومن هؤلاء العقال طبقة أتقياء يقال لهم المتنزهون وهم مثابرون على العبادة والورع ومنهم من لم يتزوج ومنهم من لم يأكل لحماً مدة حياته ومنه من هو صائم كل يوم ولهم زيادة احتياط في التورع حتى أنهم لا يذوقون شيئاً من بيت أحد من غير العقال والعقال جميعهم يعتقدون أو أموال الحاكم والأمراء حرام فلا يأكلون شيئاً من طعامهم ولا من طعام خدمهم حتى ولا من طعام حمل دابة مشتراة من مال حاكم لكنهم يستحلون أموال التجار من أي جهة كانت فإن حصل بين أيديهم شيءٌ من مال اعتقدوا حرمته يذهبون به إلى أحد التجار فيستبدلونه منه وينزهون ألسنتهم عن ألفاظ الفحش والبذاءة ويتجنبون الإسراف لأنه يورث نقصاً في أخلاق الموحدين عندهم.
ويحرص الدروز جداً على كتمان عقائدهم ولذلك يعبرون عن مرامهم في لغتهم ورسائلهم بطريق الرمز والكناية ويذكرون مباحث من علم الكلام وبعض مقالات غلاة المتصوفة وتأويلات الرافضة والملاحدة وخصوصاً الإسماعيلية من غلاة الشيعة ثم أنهم لاعتقادهم التناسخ وهو التقمص يزعمون أنه إذا مات أحد من كبار العقال الذين يعتقدون بولايتهم تذهب روحه إلى جهة الصين ويحل في قالب ولها يزعمون أن لهم وراء جبل الصين كثيراً من الأولياء ويعتقدون أنه كان قبل عالم الإنس عالم الجن والحن والرم وعوالم أخر ويقولون أنه كان قبل دور الحاكم دوراً وكل دور أربعة آلاف ألف سنة أربعة ملايين وتسعمائة ألف سنة فيكون قد مضى من مبدأ الخليقة إلى دور الحاكم ثلاثمائة ألف ألف سنة وثلاثة وأربعون ألف ألف سنة ثلاثمائة وثلاثة وأربعون مليون سنة وأول الأدوار دور العلي وآخرها دور الحاكم وهو دور القيامة ويثبتون لكل دور من السبعين دوراً سبعة نطقاء وسبعة أوصياء وسبعة أئمة فيكون مجموع النطقاء لجميع الأدوار أربعمائة والأوصياء كذلك والأئمة كذلك والناطق هو الرسول والوصي هو الأساس ويقولون أن أصحاب التكليف في كل عصر ستة كما كانوا أولوا العزم خمسة في كل دور كما أنهم خمسة في هذا الدور الأخير قالوا وإنما كانوا خمسة لا غير لأن القوة في النهاية عند(51/32)
الخامس من كل شيءٍ ففي المقامات الربانية كانت عند الخامس وهو الحاكم وفي النطقاء انتهى العزم عند الخامس (يعنون به محمداً عليه الصلاة والسلام) وفي الأوصياء عند الخامس (يعنون به علياً كرم الله وجهه) وفي الأئمة عند الخامس (يعنون به محمد بن عبد الله القداح) وينتظرون ظهور يأجوج ومأجوج من داخل الصين ويحترمونه ويقولن يأتي هؤلاء القوم الكرام بألفي ألف وخمسمائة ألف من العساكر إلى مكة وفي صباح اليوم الثاني يتجلى لهم الحاكم بأمره من ركن البيت اليماني ويهدد الناس بسيف مذهب في يده ثم يعطيه حمزة وهو أيضاًَ يقتل الكلب والخنزير ثم يهدم الكعبة ويعطي الدروز حكومة الأرض جميعها ويستخدم بقية الناس في حكم الرعية.
وبعد فإن لهم مواجب دينية وفرائض توحيدية أوجبوا على جميع أهل ملتهم حفظها ومعرفتها والعمل بها وسترها عن غير أهلها وهي أربع وخمسون فريضة. منها عشر مقامات ربانية وهم العلي والبار وأبو زكريا وعلي المعل والقائم والمنصور والمعز والعزيز والحاكم وكلهم إله واحد. ومنها أربع تظاهر الباري بها وهي الهيئة والاسم والنطق والفعل فالهيئة هي الصورة التي ظهر بها والاسم هو اسم الحاكم الذي تسمى به والنطق هو المجالس والسجلات التي يتكلم بها وتصدر عنه والفعل هي المعجزات التي كانت تصدر منه كقهر ملوك وقتل الجبابرة وظهوره بين الأعداء وحده وخروجه أيضاً وحده في أنصاف الليالي وظهوره في الحر الشديد وقت الهاجرة مع عدم تأثير الشمس في وجهه وعدم رؤية ظل له في ضوء الشمس والقمر وغير ذلك من الأمور التي ذكروها معجزات له في كتبهم كالسيرة المستقيمة ومجرى الزمان وغيرهما.
ومنها عشر فرائض توحيدية الأولى معرفة البارئ وتنزيهه عن جميع المخلوقات الثانية الإمام قائم الزمان وتمييزه عن سائر الحدود الروحانيين الثالثة معرفة الحدود الروحانيين بأسمائهم ومراتبهم وألقابهم وإن قائم الزمان أولهم وهو الذي نصبهم وهم مطيعون لأمره ونهيه الرابع صون اللسان الخامسة حفظ الإخوان السادسة ترك عبادة العدم السابعة التبرؤ من الأبالسة الثامنة التوحيد للمولى في كل عصر وزمان التاسعة الرضى بفعل العاشرة التسليم لأمره وهي مذكورة في رسالة ميثاق النساء ورسالة البلاغ والنهاية.
ومنها عشرة مواجب دينية وهي كن لهن في نفاسهم وأعراسهم وجنائزهم على السنة التي(51/33)
رسمت لهم فهذه ثلاثة الرابعة أجيبوا دعوتهم الخامسة اقضوا حاجاتهم السادسة اقبلوا معذرتهم السابعة عادوا من ضامهم الثامنة عودوا مرضاهم التاسعة بروا ضعفاءهم العاشرة انصروهم ولا تخذلوهم وهي في رسالة التحذير والتنبيه.
ومنها عشرون إمامية منها أربعة أنواع النوع الأول أسامي وهي خمسة الأول علة العلل الثاني السابق الحقيقي الثالث الأمر الرابع ذومعة الخامس الإرادة النوع الثاني طبائع جوهرية وهي خمس الأولى حرارة العقل الثانية قوة النور الثالثة سكون التواضع الرابعة برودة الحكم الخامسة ليونة الهيولى فهذه الخامسة هي العقل وطبائعه الأربعة وهي في رسالة كشف الحقائق.
النوع الثالث خصائص نورانية وهي خمس الأولى الحمد لمن أبدعني من نوره الثانية وأيدني بروح قدسه الثالثة وخصني بعلمه الرابعة وفوض إليَّ أمره الخامسة وأطلعني على مكنون سره فهذه من كلام حمزة وهي في أوائل رسالة التحذير والتنبيه.
النوع الرابع منازل كلية وهي خمس الأولى حد الجسمانيين الثانية حد الجرمانيين الثالثة حد الروحانيين الرابعة حد النفسانيين الخامسة حد النورانيين فهذه المنازل الخمسة هي مجتمعة في الإمام وهي مذكورة في السيرة المستقيمة.
وأما تلقي الديانة وأخذها فله عندهم كيفية مخصوصة وهي أنه إذا أراد أحد من الجهال أن يأخذ الديانة ويدخل في سلك الموحدين ينبغي له أن يستجلب رضى الموحدين بتقديم الوسائل التعطفية مدة لا تقل عن سنتين يلتمس منهم قبوله وإدخاله في جماعتهم وإعطاءه الديانة فإذا قبلوه أدخلوه على الإمام فيوصيه بحفظ السر وعدم إشهاره ويأمره بتحرير العهد الواجب تحريره إذ لا يكون موحداً خالصاً بغير تحرير العهد على نفسه فإذا حرره وسامه إلى الإمام صار واحداً منهم والعهد الذي يجب تحريره هو المسطور تحت العنوان الآتي:
ميثاق ولي الزمان.
توكلت على مولانا الحاكم الأحد الفرد الصمد المنزه عن الأزواج والعدد أقر فلان بن فلان إقراراً أوجبه على نفسه واشهد به على روحه في صحة من عقله وبدنه وجواز أمره طائعاً غير مكره ولا مجبر أنه قد تبرأ من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات كلها على أصناف اختلافاتها وأنه لا يعرف شيئاً غير طاعة مولانا الحاكم جل ذكره والطاعة(51/34)
هي العبادة وأنه لا يشرك في عبادته أحداً مضى أو حضر أو ينتظر وأنه قد سلم روحه وجسمه وماله وولده وجميع مات يملكه لمولانا الحاكم جل ذكره ورضي بجميع أحكامه له وعليه غير معترض ولا منكر لشيءٍِ من أفعاله ساءه هذا أم سره ومتى رجع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره الذي كتبه على نفسه وأشهد به على روحه وأشار به إلى غيره وخالف شيئاً من أوامره كان بريئاً من البارئ المعبود وحرم الإفادة من جميع الحدود واستحق العقوبة من البار العلي جل ذكره ومن أقر أن ليس له في السماء إله معبود ولا في الأرض إمام موجود إلا مولانا الحاكم جلَّ ذكره كان من الموحدين الفائزين وكتب في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا من سني عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين المنتقم من المشركين والمرشدين بسيف مولانا جلَّ ذكره وشدة سلطانه وحده اهـ.(51/35)
السجل المعلق
من المخطوطات المضنون بها عند الدروز السجل الذي كتبه حمزة بن علي هادي المستجيبين وكان سبباً لثورة الأفكار في مصر حتى هرب منها ونزل سورية ونشر بها العقيدة الدرزية وهو أكبر القائلين بإلوهية الحاكم وهاك بعض فصول منوعة تفيد مطالعتها في تمثيل حالة هذا القوم ننشرها بحرفها. وهذا السجل هو مقالات منوعة في أغراض شتى فمن مقالاته مقالة: خبر اليهود والنصارى وسؤالهم لمولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمر المؤمنين صلوات الله عليه من شيءٍ من أمر دينهم باعتراض اعترضوه فيه إنكار أنكروه عليه والجواب على ذلك بما اختصهم من القول وأسكتهم وانصرفوا مقهورين والحمد لله رب العالمين بسم الله الرحمن الرحيم حدث من نثق به ونسكن إلى قوله مع إشهار الحديث في ذلك الوقت أنه حضر في موقف من مواقف الدهر وصاحب العصر مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين سلام الله عليهم حسب ما كان يقف على من سلم عليه فذكروا أنهم من أهل الذمة وأن لهم حاجة وأنهم يهود ونصارى فقال عليه السلام قولوا حاجتكم فقال نسأل حاجتنا إذا أمنتنا على نفوسنا فقال إن طلبة الحوائج لا تحتاج إلى أمان فقالوا هي حاجة صعبة وسؤال عظيم فقال عليه السلام اسألوا فيما عسى أن تسألوا ولو كان في الملك
قالوا: يا أمير المؤمنين ما هو شيءٌ يتعلق بأمر الدنيا وإنما هو شيءٌ يتعلق بأمر الدين وخطر عظيم فإن آمنتنا على أنفسنا ذكرناه وسألناك عنه وإن لم تأمنا سألناك العفو وانصرفنا آمنين فعد لك وأمنك قد ملآ الغرب والشرق وعطاؤك وجودك دق غمرا جميع الخلق.
قال عليه السلام: اسألوا عما أردتم وأنتم آمنون بأمان الله تعالى وأمان جدنا محمد وأماننا لا منكوث عليكم في ذلك ولا متأول. قالوا: يا أمير المؤمنين إنا الذي نسألك عنه خطر عظيم وأمر جسيم وأنت صاحب السيف والملك ولا نشك في أمانك ولكننا نخشى من سفهاء الأمة. قال عليه السلام: قولوا وأنتم آمنون من جميع الناس والأمة. قالوا: يا أمير المؤمنين أنت تعلم أن صاحب الشريعة الذي هو محمد بن عبد الله الرسول المبعوث إلى العرب الذي لهجرته كذا وكذا سنة وذكروا عدد السنين التي لهجرته إلى تلك السنة التي خاطبوه فيها أنه حين بعث إلى العرب وجاهد سائر الأمم لم يسمنا الدخول في شريعته إلا أنا اخترنا ذلك بلا إكراه وأداء الجزية ولم يكلفنا إلا هذا وكذلك كل واحد من أئمة دينه وخلفاء مذهبه ومتفقهي(51/36)
شريعته لم يسمنا ما سمتنا أنت إياه من هدم بيعتنا وأديارنا وتمزيق كتبنا المنزلة على رسلنا عند ربنا فيها حكمة بالحلال والحرام والقصاص حتى أنك أبحت التوراة والإنجيل يشد فيها الدلوك والصابون وتباع في الأسواق بسعر القراطيس الفارغة.
وقد أخبرنا صاحب الملة والشريعة عن ربه فيما نزل عليه أن التوراة فيها حكم الله ثم ذكر أنه في غير موضع في الكتاب المنزل عليه تفخيم أمر رسلنا والأفاضل من تباعهم وإسحق ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وهؤلاء كلهم أنبياؤنا وأئمة شرائعنا ومثلما ذكروا الفضلاء منا مثل بقايا موسى وحواري عيسى وما حكاه أيضاً في الكتاب المنزل عليه من تفضيل قسسنا ورهباننا بقوله أن فيهم قسساً ورهباناً وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول تفيض أعينهم بالدمع مما عرفوا من الحق ولو استقصينا كل ما جاء في الكتاب المنزل عليه من تفضيل رسلنا وتفخيم كتبنا لكان أكثر ما نزل عليه في هذا المعنى ثم قد كان من خلفاء الملة وأئمة الشريعة من المحمودين آبائك والمذمومين أعدائهم وأعداءك مثل بني أمية وبني العباس ممن عتا في الأرض ملكها طولاً وعرض (؟) ومع اتساع ملوكهم وعظم سلطانهم وكان بخطب لهم في كل بقعة بلغت إليها دعوة رسولهم وصاحب شريعتهم ولم يحدث علينا رسماً ولا نقضوا لنا شرطاً اقتداءً منهم بصاحب ملتنا وشريعتنا المذكورة على لسان نبيهم. فمن أين جاز لك أنت يا أمير المؤمنين أن تتعدى حكم صاحب الملة والشريعة وفعل الخلفاء والأئمة الذين ملكوا قبلك البلاد والأمة وليس أنت صاحب الشريعة بل أنت أحد أئمة صاحب الشريعة وأحد خلفائه والقائم في شريعته لتتممها وتشد أركانها وبنيانها وبذلك نطقت في كلامك في غير موضع من مواقفك التي خاطبت بها وأشهر ذلك عنك أقرب الناس إليك من أوليائك وأنت تفعل معنا ما لم يفعله الناطق معنا ولا أحد من أئمته ولا خلفائه كما ذكرناه وهذه حاجتنا التي سألناها وأمرنا الذي قصدناه وطلبنا الأمان عليه ونريد الجواب عنه فإن يكن حقاً وعدلاً آمنا به وصدفنا وإن يكن متعلقاً بالملك والدولة والسلطان بقينا على أدياننا غير شاكين في مذاهبنا وأزلنا الشبهة عن قلوب المستضعفين من أهل ملتنا وما جئناك إلا مستفهمين غير شاكين في عدلك ورحمتك وإنصافك وعلى هذا أخذنا أمانك وقد قلنا الذي عندنا وأخرجناه من أعناقنا كما تقتضيه أدياننا والأمر إليك فإن تقل لنا سمعنا وأطعنا وأجبنا وإن أذنت لنا ولم تقل انصرفنا ونحن آمنون بأمانك الذي أمنتنا فقال عليه(51/37)
السلام: أما الأمان فهو باقٍ عليكم وأما سؤالكم فما سألتم إلا عما يجب لمثلكم أن يسأل عن مثله وأما نحن فنجيبكم إن شاء الله ولكن امضوا وعودوا إليَّ ها هنا ليلة غد. وليأت كل واحد منكم يعني من اليهود والنصارى بأفقه من يقدر عليه من أهل ملته في هذا البلد ليكون الجواب لهم والكلام معهم.
ولما كان في ليلة غد حضر القوم في المكان بعينه وقفوا وسلموا وقالوا قد أتينا بمن طلبه أمير المؤمنين منا وقدموا أحد عشر رجلاً ومن قبل سبعة فقال لهم أمير المؤمنين صلوات الله عليه: لهؤلاء اخترتم لهم وقدمتم قالوا بأجمعهم: نعم يا أمير المؤمنين قال للنفر: وأنتم رضيتم أن تكونوا متكلمين عن أهل ملتكم نائبين عنهم قالوا: نعم قال: فهل تعلمون في هذه البلدة وأنتم أهل ملتكم من هو أفقه منكم قالوا: لا قال عليه السلام: وأنتم تحفظون التوراة والإنجيل وأخبار الأنبياء قالوا: نعم قال عليه السلام: (أنتم) عارفون بمبعث صاحب الشريعة الذي أنا قائم بملته وذاب عن شريعته وسيرته وأخباره وما جرى بينه وبين رؤساء ملتكم ومتقدميكم من اليهود والنصارى من الجدل والمسائل والاحتجاجات ومن سلم لأمره منهم ولم يسلم من مبعثه إلى حين وفاته. قالوا: لم نحط بذلك كله بل أحطنا بأكثره مما يلزمنا حفظه وعلمه مما جرى بينه وبين علمائنا تصحيحاً لمذهبنا وشريعتنا وذلك عندنا محفوظ مدون مكتوب تتوارثه أحبارنا وأحبار عن الأولين من قبلنا حتى وصل ذلك إلينا ويتصل بغيرنا كما وصل إلينا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قال عليه السلام: إن أصحابكم سألوني البارحة عن سؤال بعد أن أخذوا أماني على نفوسهم ووعدتهم أن أجيبهم عن سؤالهم إذا حضروا علماءهم وقد حضرتم واعترفوا لكم بالعلم والفضل وصدقتموهم أنتم على ذلك واعترفتم عندي به لما قلت لكم أنتم تعرفون في هذه البلدة من هو أعلم منكم من أهل ملتكم بأخبار صاحب شريعة الإسلام ونسبه وشيعته وعلمه وشريعته قلتم: لا. وأنا أسألكم في آخر السؤال أجيبكم وأخبركم بما سألوني عنه أصحابكم وأماني باق عليكم وعليهم على شرط وهو أني كلما سألتكم عن شيءٍ يقتضيه مذهبكم وشريعتكم ومذهب صاحب ملة الإسلام وشريعته فتجيبوني عنه بما هو مأثور في كتبكم المنزلة على أنبيائكم ومدون في كتب رؤسائكم وعلمائكم وأحباركم ما لم يكن عندكم ولا تعرفونه ولا تؤثرونه في كتاب منزل ولا أقول حكيم مرسل فردوه عليَّ وادفعوه بحججكم(51/38)
التي عسى أن تدفعوا بها سواي وما عرفتموه وفهمتوه فلا تنكروني إياه لقيام الحجة عليكم به وفيه قالوا: نعم قال لهم إن صدقتم فأماني يعمكم وإن كذبتم انفسخ أماني عنكم وعاقبتكم وكانت عقوبتكم جزاء لكذبكم أرضيتم؟ قالوا: نعم قال: أبلغكم أنه لما كان في كذا وكذا نمن هجرة الرسول صاحب شريعة الإسلام أتاه رؤساء شريعتكم وعلمائكم من الملتين اليهود والنصارى وهم فلان وفلان وفلان وفلان وسموا له البقية أسماء الرجال حتى أتوا على آخرهم.
قال عليه السلام. قد صح عندي أنكم صدقتم لما تممتم أسماء الرجال الباقين الذين بدأت أنا بذكرهم أفي ذلك عندهم شك تشكون فيه أو ريبة ترتابون بها قالوا: لا قال لهم: لما استحضرهم ما قال لهم قالوا: يقول أمير المؤمنين فمنه القول ونحن سامعون فما عرفناه أقررنا به وسلمنا فيه وما لم نعرفه ولم يكن مأثوراً عندنا ذكرنا لأمير المؤمنين. قال عليه السلام: قال لهم صاحب الملة والشريعة: ألم تكونوا منتظرين لزماني متوقعين لشخصي وترجون الفرج مع ظهوري فلما أن ظهرت فيكم وأعلنت دعوتي وشهرت أمر ربي كذبتموني وجحدتموني ونافقتم عليَّ فطائفة منكم قاتلوني وطائفة رحلوا من جواري حسداً لي وبغضة حسبما تفعله الأمم الباغية في الأزمان المتقدمة إذ ظهر مثلها سنة سنتها الظالمون أولهم إبليس اللعين مع آدم الكريم فهل كان ذلك منه إليهم قالوا: نعم قال: فإذا علمتم أن ذلك قد كان منه فما كان جوابهم له عن ذلك بعد استماعهم كلامه قالوا: قد قلنا أولى لأمير المؤمنين أن بقول ولنا أن نسمع ونحن محمولين على الشرط الأول الذي أشرطه أمير المؤمنين علينا أما ما عرفناه أقررنا به وما لم نعرفه أنكرناه فنريح بذلك سلامة أدياننا بالتصديق بالحق وسلامة أنفسنا من القتل بالتزام الشرط.
قال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: كان جوابهم أنهم قالوا: ما أنت الذي كنا منتظرين لزمانه متوقعين لشخصه ولا الذي نرجو الفرج من ظهوره قال لهم: ما دليلكم على صحة ذلك أني ما أنا هو قالوا: ما هو مأثور عندنا وموجود في كتبنا وبشرت به أنبياؤنا لأممهم قال لهم: وما هو بينوه قالوا: ثلث خصال أحدها ليس اسمه كاسمك وقد نطق بذلك لسانك في نبوتك وجهرت به لأصحابك وجعلت ذلك فضيلة لك فمنه آخذناك لما قلت ما حكيته عن المسيح ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد يحلل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث(51/39)
ويضع عنكم ضركم والأغلال التي كانت عليكم فهو كما قلنا ما أنت المسمى إذ اسمك محمد والذي بشرت به باتفاق منا ومنك اسمه أحمد والثانية مدته قد بقي لها أربعمائة سنة من يوم مبعثك إلى حين ظهور هذا المنتظر قد خالفته أيضاً في الاسم والمدة والثالثة المنتظر إنما يدعو إلى توحيد ربه بلا تعطيل ولا تشبيه ولا لفة تلحق نفوسنا حسبما ذكرته في تنزيلك من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ووضعه عنا ضرنا والأغلال التي كانت علينا فأي حجة بقيت لك علينا وليس اسمك اسم من ينتظر بقولك ولا فعلك فعله ولا المدة مدته فقد خالفته كما قلنا في الاسم والمدة والفعل وإذا كنت إنما تدعو إلى شريعته فبقاؤنا في شريعتنا آثر وخير لنا.
ووصفة المنتظر عندنا رفع التكليفات وانقضاء الشرور ورفع المصائب والشكوك وأن لا يتجاوزه في عصره كافر ولا منافق وأنت أكثر أصحابك يظهرون النفاق عليك وإنما بغلبة سيفك عليهم سلموا لأمرك وإذا كان ذلك كذلك فلم تلومنا على قتالك وتناقلنا على طاعتك والدخول في شريعتك. ثم قال لهم أمير المؤمنين عليهم السلام: أكذا كان قالوا: نعم كذلك كان وكل قولك حق وصدق. قال: فما كان جوابه لهم عن هذا الكلام قالوا: يقول أمير المؤمنين حسبما جرت به العادة ونسمع ونعترف بالجواب إذا علمناه وننكره إذا جهلناه قال لهم عليه السلام: أما إذا عرفتم ذلك وعلمتوه فلا شك أنكم تعرفون صفة الحال كما جرت إنشاء الله. ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: كان جوابه لهم لا أقاتلكم على الدخول في ملتي ولتكذيبي والصدوف عن أمركم لأنكم أصحاب شرائع وكتب ومتمسكون بأمرها ناطقون وليس أقاتل من هذه صفته ولا أنا رافع الشرائع ولا ذلك كله إلي بل كلما ملكت بلداً بسيفي ممن فيه عبدة الأوثان والتناذر فلي أن ألزمهم الدخول في ملتي أو أقتلهم ومن كان في البلدة منكم عرضت عليه إما الدخول في ملتي واتباع أمري وشريعتي أو أداء الجزية فإذا كره الوطن الذي ملكته وبسيفي فتحته فمن وزن الجزية منهم وشريعتي أقررته في مكانه ومن انتقل عني تركته ومن قاتلني منهم على مثل ذلك قاتلته وانتظرت فيكم حكم ربي قالوا: لك ذلك فما قلت إلا حقاً ولا نرى منك إلا صدقاً قال لهم: إذا استقر ذلك بيني وبينكم وقد تأولتم علي ورفعتم منزلتي وفضلي الذي قد أتاني من عند ربي وزعمتم أن الذي تنتظرونه له اسم تعرفونه وفعل تعلمونه ومدة تنتظرونها وهي من مبعثها إلى حين(51/40)
ظهور هذا المنتظر بقي له أربعمائة سنة فاكتبوا بيني وبينكم مواضعة تتضمن كل ذلك وذكره وعلى أنكم تدفعون إليَّ الجزية طول تلك المدة التي ذكرتم أن المبعوث إليكم فيها يأتي غيري فإن كنت من جملة المخرصين فإنتم تكفون مؤنتي ويرجع إليكم الملك إذ ظهر من تنظرونه وإن لم يظهر ومدتي قائمة وشريعتي ماضية وحكمي لازماً ولم يأتكم في هذه المدة من تنتظرونه فلصاحب ملتي والقائم بدعوتي والإمام الذي يكون في ذلك العصر أن يدعوكم إلى ما دعوتكم إليه فإن أجبتموه وسلمتم وإن أبيتم عليه كما أبيتم عليَّ وصددتم عنه واستكبرتم فله أن يأخذكم بالشرط الذي شرطتموه على أنفسكم ويقابلكم فإن قاتلتموه قاتلكم ولا يقبل لكم عذراً ويستبيح ملتكم ويهدم لكم شريعتكم بهدمه لبيعكم ويعطل كتبكم ويكون ما بقي لكم عذر تحتجون به ولا محال تركنون إليه ولا إبليس تعولون عليه وهو المنصور عليكم يقطع شأفتكم وشأفة كل الظالمين فهذا نصه المواضعة أهكذا هو قالوا: نعم قال أمير المؤمنين عليه السلام: والمواضعة لم تزل تنتقل من بعد صاحب الشريعة والملة من وصي صادق إلى إمام فاضل حتى وصلت إليَّ فهي عندي فلم يكن عليه السلام أن ينقض شرطاً أسسه وحكماً بينه وهو معروف وقت أن نشأ في الجاهلية محمد الأمين فكيف ينقض ما أنعم به عليكم ولم يجز لأحد من أئمة دينه وخلفاء شريعته أن ينقض ما أمر به من قبل انقضاء المدة إتباعاً وتسليماً لحكمه فلما وصل الأمر إليَّ وانقضت تلك السنون المذكورة في المواضعة في عصري وعند تمامها أمري أخذت منكم بحقه ودعوتكم إلى شرطكم وشرطه حسب ما تقتضيه الأمانة وحكم المعاهدة أكذلك بلغكم أنه صفة الحال قالوا: نعم كذلك كان قال: فأي حجة بقيت لكم عليه وعليَّ بعدما أوضحناه وأي أمر تعديت فيه بزعمكم عليم إذا كنت بشرطكم أخذتكم وما كنتم تنتظرونه أقمته عليكم وقد أوسعتكم حلماً وعدلاً إذا بقيت نفوسكم على أجسامكم ونعمكم عليها أمها (؟) لا لتنتبهوا بعد الغفلة وتسلموا بعد المعاهدة فأي حجة لكم بعدما وصفناه وأي حق معكم بعدما قلناه وأي عذر يقوم لكم بعدما شرحناه قولوا واسألوا تجاوبوا أو تنصفوا ولا يكون لكم قولاً ولا حجة فانصرفوا محجوجين كاذبين نادمين شاكين خائبين قالوا: ماذا تقولون قالوا بأجمعهم هذا والله كله حق وصدق لا نشك فيه ولا نرتاب به قد سمعنا لو فهمنا والله الحجة البالغة رب العالمين وصلى الله على نبيه وآله الطاهرين. تم الكلام في هذا الفصل وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله وحده ونستعين(51/41)
به اهـ.
وسننشر في الجزء التالي نتفاً من هذا المخطوط أيضاً جلاءً للحقيقة الغامضة.(51/42)
اللاما وعابدوه
عرف المطالعون من مواطنينا كثيراً عن غرائب ديانات البشر وعقائدهم ومعبوداتهم القديمة والحديثة ولكن نظن أنه لم يخطر لعاقل منهم ببال أنه يوجد حتى اليوم أمم عريقة في التمدن وهي تعد بالملايين تعبد إنساناً حياً مثلهم وتقدم له من أنواع التكرمة والتبجيل والإعظام ما لا ينبغي تقديمه إلا للإله الحي الأزلي القيوم فاللاما وما أدراك ما اللاما إن هو بشر كسائر الناس يأكل ويشرب ويضحك ويبكي ويخطئ ويصيب ومع ذلك فالملايين من الصينيين والهنود والمغول يؤلهونه تأليهاً ويبذلون له من ضروب العبادات ما يقضي بالحيرة والاستغراب والذهول هذا ولما كان الموضوع غريباً عجيباً وقد لا يخلو من الفائدة لمن تتبع تاريخ وأحوال وشؤون الأمم وما انطوت عليه من الشذوذ والمدهشات رأينا أن نطرفهم بهذه المقالة آخذة بناصيتي الإيجاز والوضوح فنقول:
إن الدين اللاماوي قديم جداً مر عليه زهاء ثلاثة آلاف سنة وهو زاه سائد منتشر في مساحة من المعمور تقرب من سبعمائة ألف ميل ممتدة من ينبوع نهر الأندوس إلى حدود الصين ومن تخوم الهند إلى قفر كوبي وتسمى هذه المملكة ثيبة أو تيبت وعدد سكانها يتجاوز الستة ملايين وهي مجاورة لجبال حملايا وترتفع عن سطح البحر نحو عشرة آلاف قدم بيد أن هذا الدين لم ينحصر في تلك المملكة فقط بل تسربت تعاليمه أيضاً منذ عصور متطاولة إلى قبائل وفصائل كثيرة من أمة التتر المتجولة بين ضفاف نهر الولكا وكوريا بجوار بحر اليابان وإلى كثير من جزائر الهند ومقاطعات الصين حتى يقول الباحثون أن الذين يدينون بهذا الدين لا ينقصون عن مئة مليون أكثرهم ممن لهم أقدام راسخة في المدنية الشرقية وعراقة تامة في الحضارة بين أصحاب اللون الأصفر والقوقاسيين من شعوب آسيا الكبرى.
ومقر عرش هذا المعبود استغفر الله إنما هو قصر يسمى باتولي مبنيٌ في ذروة جبل على مقربة من شاطئ بارمبوتر بينه وبين لاسا عاصمة البلاد سبعة أميال وفي حضيض ذلك الجبل يقيم نحو عشرين ألفاً من الكهنة تتفاوت رتبهم الدينية بحسب بعد منازلهم وقربها من عرش اللاما معبودهم الأكبر.
وهم يعتقدون أنه أزلي لا يموت محيط بكل الأمور جامع لأنواع الفضائل ويسمونه أب السماوات وهو لا يرى إلا في مكان سري في قصره يجلس فيه الأربعاء بين مئات من(51/43)
المصابيح الذهبية وعليه من الحلي وأنواع الجواهر النفيسة ما يقصر عنه الوصف فيتقاطرون إلى زيارته من كل صوب وأوبٍ وحدب في موسم معلوم وقليل منهم من يفوز بالدنو منه على قيد ذراع وعلى الذين ينالون شرف الدخول إلى مقدسه أن يطرحوا أنفسهم إلى الأرض ركعاً سجداً وهم بعيدون عنه مرمى النظر إجلالاً وتكريماً ولا يخصُّ بهذه المنحة السامية إلا الملوك وعظماء الأمم وزعماء القبائل فيرونه عن بعد من طرف خفي دون أن يخاطبوه أو ينبس لهم ببنت شفة.
وهذه الزيارة تكفي عندهم لمغفرة كل ما اجترحوه ويجترحونه من الآثام والكبائر مدى الحيوة ومن العجب أنهم يأخذون من رجيعه ما يذخرونه في أوعية صغيرة ذهبية ثم يعلقونه كالتمائم والتعاويذ في أعناقهم وأعضادهم يستشفون بها من الأمراض ويدفعون بها من كيد الأبالسة ونزعات الشياطين وهم يشترون تلك الذخائر الرجسة بألوف مؤلفة من المال ومن حصل على مثقال منها فقد نال بزعمهم سعادة الدارين وجمع بين الحسنيين وقد يدخلون إلى مطاعمهم ولو بعض نقاط من مفرزه المائي ولكن هيهات أن ينال ذلك منهم إلا كل رفيع القدر نافذ الكلمة واسع العطاء فمن خدمه الحظ وخازمه التوفيق بحيث يتهيأ له أن يجمع بين المفرزتين معاص فهو بين الأقطاب الأعلام أمجد من الإسكندر في عصره أو فرعون في مصره فيا لله مما تنحط إليه مدارك البشر.
وللاما سلطان سياسي فضلاً عن سلطانه الديني ومع أن بلاده تحسب منذ القدم تابعة للإمبراطورية الصينية وتؤديها بعض الجزية فهو يدير حكومة بلاده مستقلاً بواسطة عمال يسمونهم خانات وما من مدافع وله في باكين وغيرها من العواصم في الشرق الأقصى سفراء وإمبراطور الصين ذاته يؤدي له الطاعة والاحترام كعبود ولأعوانه الكثيرين الذين يسمونهم اللاماويين الصغار أنفذ سلطة وأسمى مكانة بين عامة الناس وخاصتهم وهم يجبون الهدايا ويجمعون النذور ومن جميع بلاد المغول وثيبة والهند الغربية وغيرها وغيرها باسم اللاما العظيم ومع كونهم فاسدي الأخلاق قبيحي السيرة منغمسين باللذات البهيمية يحترمهم الناس أعظم احترام ولهم جميعاً من الثروات الطائلة ما أصارهم في المقام الأول بين متمولي تلكم الأصقاع وموسريها.
وعندهم أن اللاما متى أدركه اليوم أو مات بسبب آخر من أسباب الموت تفارق روحه ذلك(51/44)
المنزل المتهدم القديم لتحل في مسكن أقوى وأمتن فتنتقل تلك الروح إلى جسد طفل له عندهم علامات وفروق خاصة كالعجل آبيس عند قدماء المصريين فيبحثون عنها بواسطة اللامويين الصغار حتى إذا تحققوا وجودها في أي طفل كان قالوا_هذا هو اللاما_فاتخذوه خلف لسلف قبله وأقاموا عنه نواباً حتى يبلغ أشده وعلى هذا لا يكون في زعمهم موتاً طبيعياً بل هو من قبيل الانتقال العادي من موئل إلى آخر.
وهم يؤمنون بإله واحد يثلثون أقانيمه كما يثلث الهنود برهما ويزعمون أنه ظهر أول مرة (سنة 1026 قبل الميلاد) وكان يملك في بلاد الهند وهو متجسد يموت في الظاهر ولكن في الحقيقة يتنقل كما ذكرنا سابقاً من مسكن إلى آخر مع أنه أزليٌ حيٌّ سرمديٌّ لا يموت ويريدون به نفس اللاما العظيم الذين يسميه الصينيون هوفو أي الإله الحي.
ثم هم يؤمنون بخلود النفس والثواب والعقاب ولهم صلوات وأصوام وذبائح وقرابين وكهانة ذات فروض ونذور ومناسك وصوامع وأديار وعدد كهنتهم يتجاوز الثلاثين ألفاً وكلهم يلبس ألبسة خاصة ذات مناطق صفراء وقبعات تختلف أشكالها وأوضاعها باختلاف رتبهم الدينية ولهؤلاء الكهنة مدارس تلقنهم فروض الدين ونواميسه وتعاليمه وشيئاً من الطب وعلم الهيئة وضروباً من الشعوذة والتدجيل يمخرقون بها على العامة المخدوعة بأساليبهم السحرية غير أن دهاء الإنكليز الذي يستسهل أمرهم بعض متهوسي الكتبة ذوي الأماني والأحلام لم يدع هذه الزمرة المضللة وإلهها الدجال يتمتعون بما توارثوه عن آبائهم منذ آلاف أعوام من المجد السامي والمكانة العليا بل لم برحوا منذ بعض قرون فآتياً يبثون دعاتهم ورسلهم وينصبون شباكهم وأحاييلهم بين اللامويين متعذرين بكل وسيلة من وسائلهم الفعالة لبسط نفوذهم وتمتين دعائمهم في تلك الأقطار حتى ألجأوا اللاما وأتباعه بعد حملات سالت فيها الدماء سيل الماء إلى موالاتهم والدخول في حمايتهم وتحت سيطرتهم وغير ذلك مما كشف القناع عن بصائر الصينيين وأمات ثقتهم وصدق يقينهم بذلك المعبود الكاذب فنهضوا عليه نهضة رجل واحد وأجلوه عن مقدسه فمضى هارباً صاغراً مدحوراً لا يلوي على شيءٍ يلتمس من مواليه الإنكليز حماية روحه وماله إلى غير ما هنالك مما فاضت ببيانه صحف الأخبار وجاء منطبقاً على ما يريد الإنكليز خلافاً لما يتوهمه البعض ممن ينظرون إلى المرامي السياسية بعين الأحوال فسبحان مصرف الأمور بحكمته ومقلب الأحوال بقدرته إن(51/45)
له لآيات ترى تبدو من خلال تعاقب الليل والنهار.
ومن غرائب هذه البلاد أن الهواء فيها مع ارتفاعها المتناهي عن سطح البحر وجاورتها لأعظم جبال آسيا هو باردٌ جافٌ لا مطر فيه أصلاً حتى أن الثلج قلما يرونه في تلك الأصقاع والخشب هنالك لا يبلى بل يصير صلباً حتى يضارع الصوان ويبقى مع الدهر.
كذلك اللحم إذا عرضته للهواء يجف حتى يمكن سحقه بسهولةٍ فيصير ناعماً كالكحل وهكذا يفعلون.
ومع هذا لا ينبت فيها شجر برّي قط تجد في أوديتها المحجوبة عن الزعازع والأعاصير أشجاراً مثمرة كثيرةً كالتفاح والتين والكروم والرمان والجوز وهناك يزرع الأرز والحنطة والشعير وما يماثله من أنواع الحبوب فتكون غارته جيدة بخلاف نجادها المرتفعة المعرضة للرياح فإنها لا تصلح للزراعة إلا شذوذاً.
وهي غنية بمعادنها الثمينة فإن الذهب والحجارة الكريمة كالزبرجد والماس توجد هناك بكثرةٍ كما يوجد أيضاً الرصاص والزئبق والحديد والبورق والملح.
وأهلها على غرابة دينهم وخشونة شعائره لينو العريكة دمثوا الخلق خفيفو الروح أولو شجاعة وكرم وأمانة ومروءة ينزعون إلى الحرية والاستقامة والصدق في معاشراتهم ومعاملاتهم ولهم كأهالي فينيقية الأقدمين أشد الولوع بالتجارة على اختلاف مناحيها وأكثرهم زاهد في الزراعة لعقم أراضيهم وقحلها ولكنهم يستغلون باستخراج المناجم والتعدين ولهم حذق عجيب بتثقيف الحجارة الكريمة وإصلاحها وإظهار رونقها ولمعانها.
ولغتهم وإن كانت من ذوات المقطع الواحد إلا أنها واسعة يعبر بها عن المعاني الفلسفية والدينية مهما كانت دقيقة غامضة بسهولةٍ وجلاء وهم يكتبون بها من الشمال إلى اليمين كما يكتب الهنود باللغة السانسكريتية ومكتبتهم غنية في آدابها وأكثرها أناشيد وتراجم وشروح مستمدة من كتب البوذيين المقدسة.
ويذهب أكثر علماءِ (البيولوجيا) أن أصل هذه الأمة مغوليٌّ ويقيم بين ظهرانيها قليل من المسلمين ومعظمهم من أهالي كشمير ويوجد هناك أيضاً بضعة آلاف من الكاثوليك.
ويكثر عند اللامويين تزويج جملة رجال بامرأة واحدة كأهالي جزيرة سيلان وهي عادة مستفيضة في كل أمة أو بلاد تقل نساؤها ويكثر رجالها.(51/46)
ولقد اختلف الكتبة والمؤرخون كثيراً في اسم هذه المملكة فمنهم من يدعوها (ثيبة) ومنهم من يسميها (تيبت) وبعضهم من قال أنها (تبت) ولقد ضبطها ياقوت الحموي بالباء المشدودة أما الأوربيون فيرسمونها هكذا وأول سائح استقرأ تلك البلاد هو (توماس ماتني) وذلك سنة 1812 للميلاد ثم وليه القس (هوك) سنة 1845 و1846 وإنما اسقراؤهما إياها لم يتجاوز القسم الغربي منها ولكن دعاة اليسوعيين قد عرفوا قبلها العاصمة (لاسا) وما حولها منذ القرن السابع عشر أما سائر أقسام المملكة ولاسيما الشرقية والشمالية فما برحت حتى اليوم مستغمدة أحوالها في سحاب كثيف وتعد عند الجغرافيين من مجاهل الأرض.
وهذا مجمل ما أمكن الوقوف عليه بعد التدقيق والتنقيب عن أحوال تلك المملكة الغريبة في ديانتها وعباداتها في إقليمها وبيئاتها في طبائع أهلها وعاداتهم أخذناه محصلاً عن عدة مصادر هي محل الثقة ثم أطرفنا به المقتبس تفكهةً لقارئيه وتبصرةً وذكرى.
دمشق.
سليم عنحوري(51/47)
قانون تكليف العقارات
(الفصل الأول)
في العقارات التي عليها التكاليف
المادة الأولى_يفرض على العقارات في كل قضاء تكليف واحد بنسبة دخلها ويكون هذا بدل التكاليف الحاضرة وهي الخراج ويركو وحصة المعارف والتجهيزات. وذلك اعتباراً من السنة المالية التي تلي تحرير هذه العقارات وتخمين إيرادها وفقاً لأحكام هذا القانون ويجوز ضم شيءٍ على أصل هذا التكليف للمعارف والأمور النافعة لأهل هذا القضاء بشرط أن يعين الحد الأعظم لهذه الضمائم في قانون الميزانية كل سنة. تعتبر كل دائرة بلدية في الآستانة والبلاد الثلاثة بك أوغلي، إسكدار، أيوب قضاء عند تطبيق هذا القانون.
المادة الثانية_العرصات المستعملة مخازن ومعامل للتجارة والصناعة تعد من نوع العقارات وإن لم يكن فيها بناء وسقف.
المادة الثالثة_تعتبر أفنية العقارات وحدائقها من متممات الأبنية ويفرض عليها مع الأبنية تكليف على نسبة سعتها وتعين هذه النسبة بنظامات خاصة. أما الزائد من الفنية والحدائق عن النسبة المذكورة إذا لم يستعمل للتجارة والصناعة كما هو محرر في المادة الثانية فيتبع قانون تكاليف الأراضي والعرصات. والعرصات المتصلة بالطواحين والمعامل لوضع لوازمها ومصنوعاتها تعد من مشتملاتها وتعتبر مثلها من حيث التكاليف.
المادة الرابعة_الاستثناء يكون إما دائماً أو مؤقتاً. أما المستثنيات دائماً فهي:
1_عقارات الدولة.
2_عقارات الحضرة السلطانية سوى ما هو للاستغلال منها.
3_عقارات البيت السلطاني المحررة أسماؤهم في الميزانية العامة في فصل رواتب البيت السلطاني على شرط أن يسكنوها.
4_عقارات البلديات والقصبات والقرى التي يستعملها الناس ولا إيراد لها.
5_التكايا والزوايا المصدق عليها في الدوائر الرسمية وبيوت العبادات والأديار ومتمماتها التي في حريمها (يشترط في هذه أن لا تكون مستأجرة).
6_العقارات المخصصة لإقامة الخدمة والمشايخ والمتولين المصرح بها في الوقفيات إذا لم(51/48)
تؤجر أو تستأجر.
7_العقارات الخاصة بالمدارس والمعارف ودور الخير إذا لم تؤجر أو تستأجر.
8_الدور التي تسكنها الفلاح والمزارع اللذان يحرثان ويزرعان بنفسهما والدور التي يسكنها حراس المزارع والأراضي والحراج والمحلات المعدة لإيواء الحيوانات وحفظ الحاصلات والآلات والأدوات الزراعية (إن جميع العقارات المدرجة في هذه الفقرة الثامنة مشروطة بها أن تكون خاصة باستثمار أراضي القرية أو المزرعة وأن لا تكون مفرزة من الأراضي المعدة للزراعة ومؤجرة).
9_الحائر والزرائب والمحال الخاصة بتربية الحيوانات ودود الحرير.
المادة الخامسة_تبقى العقارات المعفاة من التكاليف بموجب معاهدات وفرامين أو وثائق اشترطتها الحكومة على نفسها مستثناة من التكاليف كما كانت وبعد الآن لا يقبل استثناء سوى المواد التي ذكرت في المادة الرابعة إلا بقانون مخصوص.
المادة السادسة_تعين الإدارة المركزية نوع العقارات المذكورة في المادة الخامسة والفقرات الأولى والثانية والثالثة والخامسة والسادسة والسابعة الواردة في المادة الرابعة.
المادة السابعة_المستثنيات مؤقتاً هي:
1_الطواحين والمعامل في خلال خمس سنوات مالية تلي السنة التي تم فيها الإنشاء.
2_المساكن التي أنشئت لإسكان العشائر السيارة والمهاجرين الأولى لعشر سنوات مالية والثانية لخمس سنوات مالية بعد السنة التي تم فيها الإنشاء سواءٌ أنشئت هذه المساكن من قبل الحكومة أو من العشائر أو المهاجرين أنفسهم.
3_الأبنية الجديد الحجرية والخشبية الأولى لمدة سنتين والثانية لمدة سنة واحدة تلي السنة التي تم فيها البناء الحجري أو الخشبي. يجب على أصحاب البناء أن يعطوا في خلال شهرين من مباشرتهم البناء مأموري المالية في ذلك القضاء بياناً يتضمن موقع البنية ونوعها وجهة استعمالها. فإذا لم يعط هذا البيان في مدته المعينة يطرح عليه تكليف العقار اعتباراً من السنة المالية التي تلي ختام الإنشاء. متى أجر البناء كله أو جزء منه أو صار في حالة يمكن معها استعماله والانتفاع منه يعد إنشاؤه تاماً.
المادة الثامنة_الأبنية الآتي بيانها تعد من الأبنية الجديدة:(51/49)
1_العلاوات التي تضم على الأبنية الموجودة.
2_العرصات التي تعد للاستعمال بالصورة المحررة في المادة الثانية من هذا القانون.
3_ما جعل من العقارات الموجودة طواحين ومعامل.
المادة التاسعة_العقارات التي عليها تكاليف إذا دخلت في عداد المتثنيات يجري عليها حكم هذا الاستثناء من أول السنة المالية التي تلي السنة المستدعى بها من قبل الكلف.
المادة العاشرة_العقارات التي احترقت وخربت أو صارت من الخراب على حال لا يمكن الانتفاع به وأخبر صاحبها موظفي المالية عنها على الأصول وثبت ذلك لديهم بالتحقيق يرفع عنها التكليف اعتباراً من التقسيط الذي يلي التقسيط المصادف تاريخ مراجعة صاحبها وأخباره أما عرصتها فيجري عليها قانون تكاليف الأراضي.
المادة الحادية عشرة_المطاحن والمعامل ودور الصناعات إذا لم تشتغل مدة سنة كاملة على الأقل بدون فاصلة يكون لأصحابها الحق بالعفو المؤقت عن ثلاثة أرباع التكليف في المدة التي لم تشتغل بها. وعلى أصحاب هذه العقارات أن يرفعوا إلى الحكومة بيانين أحدهما في أول مدة توقفها عن العمل والثاني في آخر تلك السنة. ويكون حكم العفو الموقت اعتباراً من التقسيط المصادف نهاية السنة. وإذا لم يخبر أصحاب العقارات في شهر واحد باستئنافها العمل ببيانه يقدمونه إلى الحكومة يحرمون من التمتع بالعفو في غضون تلك السنة. إذا استمرت العطلة مدة سنتين فيجب تجديد البيان في كل سنة على الصورة المذكورة.
(الفصل الثاني)
في نسبة التكليف
المادة الثانية عشرة_إن نسبة التكليف هي اثنا عشر في لمئة عن الواردات غير الصافية وإنما يزاد في هذه النسبة في ميزانية المعارف ما يعادل النصف في المئة للمعارف المحلية في كل سنة.
يطرح التكليف على الطواحين والمعامل ودور الصناعة والدور الخشبية المعدة للسكنى بعد تنزيل ربع وارداتها غير الصافية. العقارات المحتوية على الآلات والأدوات المخصوصة والمعدة لإجراء صناعة تعد معملاً أو دار صناعة. الأبنية المنشأة من جدران من الخشب أو(51/50)
ألواح خشبية أو ما يسمونه بغدادي تعتبر خشبية (ولو كان أساسها قائماً على الحجر على ارتفاع مترين من وجه الأرض) الأبنية المنشأة من اللبن هي من قبيل الأبنية الخشبية.
المادة الثالثة عشرة_تعفى الدور التي وارداتها غير الصافية مائتان وخمسون قرشاً فأقل والمعدة لإسكان صاحبها من التكليف جملة. والجور التي إيرادها أكثر من مئتين وخمسين قرشاً وأقل من ألف يصرف النظر عن مائتين وخمسين قرشاً من إيرادها.
المادة الرابعة عشرة_تجرر وتخمن العقارات بحسب الإيجارات غير الصافية المتعارفة في محلها عامة بحسب إيراد الأبنية التي من نوع واحد وبحسب موقع البناء ومساحته وعدد أدوراه وعدد غرف كل طابق منه ونوع المواد التي أنشئ منها وبحسب حاله الحاضرة من حيث حسن محافظته وبحسب صورة الانتفاع منه. وعند تخمين غير الإيراد الصافي للطواحين والمعمل ودور الصناعة ينظر إلى ما فيها من الوسائط الصناعية الثابتة.
المادة الخامسة عشرة_إذا لم يوجد وسائط كافية لتخمين واردات البناء الغير صافية تعين قيمة البناء الحقيقية ويعتبر ثمانية في المئة من قيمته إيراداً غير صافٍ إذا كان طاحوناً أو معملاً أو دار صناعة أو دار خشبية لسكنى صاحبها وستة في المئة إذا كان من العقارات الأخرى.
(الفصل الثالث)
في تحرير العقارات وتقدير دخلها
المادة السادسة عشرة_تكتب جميع العقارات وتقدر قيمتها لتنفيذ حكم هذا القانون. يعين مبدأ التحرير والتقدير ببيان من الوالي في الآستانة والولايات ومن المتصرفين في الألوية المستقلة.
المادة السابعة عشرة_تكون كتابة العقارات من قبل لجنة مؤلفة من ثلاثة أشخاص تعينهم الحكومة ويكون التقدير والتخمين من قبل لجان يلحق بها وكلاء المكلفين برئاسة المأمورين الثلاثة المار ذكرهم.
يكون عدد الوكلاء ثلاثة تنتخبهم مجالس البلدية في القصبات التي فيها دوائر بلدية ومجالس الإدارة في القصبات التي ليس فيها دوائر بلدية من أناس لهم أملاك داخل البلدة وفي القرى تنتخبهم مجالس القرى. أصحاب العقارات مكلفون باراءتها لهذه اللجان وإعطائهم(51/51)
المعلومات الكافية عن أحوالها العامة وعن جهة استعمالها ومقدار أجرتها ويؤخذ ممن يمتنع عن ذلك أو يخبر بخلاف الحقيقة عن عمد عشرون قرشاً إلى مئة قرش جزاء نقدياً بحكم المحكمة.
المادة الثامنة عشرة_إذا كان العقار منقسماً ومفرزاً بين أصحابه بصورة رسمية يخمن إيراد كل قسم على حدة وإذا لم يكن مفرزاً بل كان مشاعاً بينهم يخمن إيراده كله من حيث المجموع.
المادة التاسعة عشرة_عند ختام تخمين القرية أو الحي في المدن من قبل اللجنة التي ذكرت آنفاً يعلن كمال الجدول الذي يتضمن قيد العقارات وتخمين إيرادها ليطالعه المكلفون ويمعنوا فيه نظرهم مدة شهر واحد ثم يبلغ كل من كلف على الانفراد ورقة إخبارية تتضمن مقدار الإيراد الذي خمن عقاره ولكل مكلف حق الاعتراض مدة شهرين من تاريخ تبليغه الإخبارية لمأمور مال القضاء لينظر به لجنة التخمين.
ولمأموري المال أيضاً حق الاعتراض على تقدير اللجنة وتخمينها مدة شهرين من بعد إرسال الجدول المذكور إليهم وحينئذ يكونون مكلفين بتبليغ اعتراضاتهم هذا مع أسبابه الوجبة بصورة مختصرة للمكلف صاحب العقار لتقدير الذي لا يعترض عليه قبل انتهاء المهلة المذكورة يكون قطعياً.
المادة العشرون_على اللجنة أن تنظر في الاعتراضات المذكورة وتسمع اعتراض المعترضين شفاهاً إذا طلبوا أو وجد لزوم لذلك وأن تشاهد العقارات مرة ثانية وتحقق أحوالها عند الإيجاب تعطي قراراً مدة شهرين على الكثير ويبلغ هذا القرار إلى المكلفين بواسطة مأموري مال القضاء.
المادة الحادية والعشرون_للمكلفين أن يستأنفوا قرار لجنة التخمين في خلال شهر واحد من تبليغه لدى لجنة تؤلف في كل لواء باعتراض يقدمونه لمأموري المال حاوٍ للدلائل الكافية.
تؤلف هذه اللجنة برئاسة الوالي أو المتصرف هكذا: الدفتر دار أو المحاسب ومأمور تنتخبه الحكومة وثلاثة أعضاء يقترع عليهم بواسطة المجالس العمومية في الولايات والجمعية العمومية للبلدية في الآستانة إذا لم يكن المجلس العمومي فيها ملتئماً بين ستة من أصحاب الأملاك يبعث بهم اللواء.(51/52)
ولمأموري المال أيضاً أن يراجعوا لجنة الاستئناف في المدة نفسها على شرط أن تبلغ مراجعتهم هذا للمكلف. وعلى لجنة الاستئناف أن تعطي قرارها في خلال شهرين.
المادة الثانية والعشرون_إذا ادعي بأن قرار لجنة الاستئناف مخالف للقانون والنظام فللمكلفين ومأموري المال أن يراجعوا في خلال شهر واحد بعد تبليغ القرار على الطريقة المار ذكرها اللجنة المركزية التي تؤلف في نظارة المالية بانتخاب. الناظر من رئيس وستة أعضاء. وهذه اللجنة لا تبحث في المعاملات المتعلقة بتقدير الإيراد.
المادة الثالثة والعشرون_للمكلفين أن يعترضوا خلال شهرين من بعد إعلان جدول التكليف الذي يكتب بنهاية التحرير العمومي على التكليف المطروح عليهم في الأحوال الآتية وفقاً للطريقة المدرجة في المادة التاسعة عشرة وما سيليها من المواد.
1_إذا وجد سهوة وامتنعت الحكومة عن تصحيحه.
2_إذا لم يجر التبليغ المحرر في المواد 19 و20 و21 و22 أو جرى بصورة مخالفة للقانون.
تكون هذه المدة عبارة عن شهر واحد من ابتداء إعلان جداول التحرير الخاص الذي يجري في خلال التحرير العام وجداول التكاليف التي تحرر لأول مرة في ختام التعديلات.
المادة الرابعة والعشرون_الاعتراضات الواقعة على مقدار التكليف المدخل في جدول التكاليف لا تحصيله لكن إذا تقرر أن الاعتراض محق يراد المقدار الزائد إلى المكلف حالاً.
المادة الخامسة والعشرون_مقررات اللجان المبينة في المواد السابقة تعطى بالأكثرية على شرط أن لا يكون عدد الأعضاء أقل من النصف فإذا تساوت الآراء يرجح الطرف الذي فيه الرئيس.
(الفصل الرابع)
في دفتر أمهات التكليف ومعاملاته التعديلية
المادة السادسة والعشرون_الجداول التي تحرر بمعرفة اللجان المار ذكرها حاوية تحرير العقارات وتقدير إيرادها والتعديلات المتوالية التي تجري بموجب هذا القانون يتألف منها دفتر الأمهات.(51/53)
دفتر الأمهات يكون مأخذ لجداول التكاليف السنوية المحررة في المادة الثالثة من قانون تحصيل الأموال المؤرخ في 5 شعبان سنة 1327 و18 أغستوس سنة 1325.
المادة السابعة والعشرون_في كل عشر سنوات تجري تعديلات عمومية لتقدير إيراد العقارات وفقاً لأحكام هذا القانون.
المادة الثامنة والعشرون_إذا نقص مقدار العقار أو زاد منه مقدار الثلث لبعض الأسباب الدائمة يعدل تعديلاً خاصاً بطلب صاحب العقار أو مأمور المال عد عن التعديلات العمومية التي تجري في كل عشر سنوات. تطلب التعديلات وفقاً للفقرة السابقة من الستة الأشهر الأولى من السنة المالية وتعتبر التعديلات من السنة الآتية.
المادة التاسعة والعشرون_يقضى على أصحاب الأملاك بيان الخصوصات الآتية إلى قلم المال كتابة من ابتداء تطبيق هذا التكليف في كل قضاء ولم يعطى لهم علم وخبر بمقابلة ذلك.
1_العلاوات التي تضم إلى الأبنية الجديدة الموجودة.
2_العرصات التي خصصت من جديد للجهات المصرح بها في المادة الثامنة من هذا القانون.
التبديلات التي تحصل في جهة استعمال الأبنية بصورة تدعو إلى انقطاع الاستثناء المسطور بهذا القانون والتحولات التي تغير نسبة التكليف المعينة في المادة الثانية عشرة.
تعطى البيانات المذكورة من خلال شهرين اعتباراً من استعمال الأملاك على الوجه المذكور أو من حدوث التحولات فيها وإذا لم تعط البيانات في المادة المذكورة يضم على التكليف المقتضي أخذه حسب التبدلات التي لم يخبر عنها عشرة في المئة مرة واحدة.
المادة الثلاثون_أصحاب الأملاك التي نسيت في التحرير العام ولم تكتب يقتضى عليهم إنهاء أمرها قبل انقضاء السنة الثانية التي تلي ختام أعمال التحرير وإذا لم يخبروا بدون عذر مقبول يضم على أصل تكليف ذلك العقار عشرون في المئة من ابتداء تطبيق هذا القانون في ذلك المحل إلى آخر السنة التي يطلع بها على النسيان.
المادة الحادية والثلاثون_تجري المعاملات المتعلقة بتعديل دفتر الأمهات وفقاً للقواعد الموضوعة للتحرير العمومي وإنما تؤلف اللجنة التي تنظر في هذه المعاملات من أربعة(51/54)
أعضاء اثنان منهم ينتخبان من أعضاء مجلس الإدارة واثنان من أعضاء المجلس البلدي برئاسة مأمور المال. ينظر في الاعتراضات التي يقدمها المكلفون أو مأمورو المال المحليون على قرار هذه اللجان في المدة المحررة في المواد السابقة في مجالس الإدارة المحلية. يكون قرار مجالس الإدارة قطعياً على شرط أن يبقى حتى المراجعة للجنة المركزية في المدة المعينة محفوظاً في الأحوال المحررة في المادة الثانية والعشرين.
(الفصل الخامس)
في المكلفين الملزمين بأداء التكليف
المادة الثانية والثلاثون_أصحاب العقارات وذوو اليد على العقارات مكلفون بدفع التكليف المرتب عليها وإذا لم يوجد هؤلاء فالساكنون فيها.
المادة الثالثة والثلاثون_المتصرفون في العقار مشاعاً يكلفون بنسبة حصصهم الشائعة. العقار المقيد على شخص متوفى يعتبر غير مقسوم وتجري بحقه المعاملة وفقاً للفقرة الأولى هذا إذا لم يقسم ويقيد في إدارة الطابو أو إذا لم يسقط الورثة حقوقهم الإرثية كلها أو بعضها.
أحكام عمومية
المادة الرابعة والثلاثون_يحرر ناظر المالية نظاماً يتضمن كيفية تنفيذ هذا القانون وبعد تدقيقه في مجلس شورى الدولة ينفذ بإرادة سلطانية.
المادة الخامسة والثلاثون_تعتبر الأحكام التي كانت مرعية قبلاً في تكليف العقارات لاغية من ابتداء تنفيذ هذا القانون في كل قضاء وإكمال التحرير العام ومباشرة في تحصيل التكليف.
المادة السادسة والثلاثون_عقارات الحرمين الشريفين مستثناة من أحكام هذا القانون.
المادة السابعة والثلاثون_ناظر المالية مأمور بتنفيذ هذا القانون.(51/55)
مخطوطات ومطبوعات
حالة المسلمين الاقتصادية
تأليف المسيو لشاتليه
'
اعتاد صديقنا صاحب هذه الرسالة أني رينا كل يوم أثراً من آثار علمه واطلاعه ودليلاً من أدلة مضائه واضطلاعه فهو اليوم المرجع الأكبر في أحوال الإسلام والمسلمين ومن أعظم أئمة الغربيين الواقفين على منزلة الشرقيين ورسالته هذه كسائر ما خطته يراعته أو صدرت تحت رعاية مملوءة بحسن الظن بمستقبل المسلمين افتتحها بقوله أن العالم الإنكليزي السكسوني الذي ذهب بفضل التقدم في أعماله الاقتصادية ليس هو من حيث العدد إلا نصف العالم الإسلامي فهو عبارة عن 125 مليون ساكن في بريطانيا العمى والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وأفريقيا الجنوبية والهند وسائر المستعمرات الساحلية التي ينزلها العنصر الإنكليزي أما الإسلام فتجمع كلمته من 200 إلى 250 مليون من البشر ويمتد سلطانه من الصحارى المتجمدة في إيريتش وأوهيو إلى مدن أفريقية الجنوبية من الأرخبيل الهندي إلى شواطئ الأتلانتيك مع فروع في أوربا تصل إلى ليتوانيا وبولونيا كي ينتشر وراء البحر المحيط إلى أميركا وأستراليا. والمسلمون كالسكسونيين تراهم تارة مجتمعين في بلاد إسلامية خاصة بهم وأخرى متفرقين بين من لا يدينون بدينهم فمركزهم الجغرافي ذو شأن في العالم.
والسواد العظم من المسلمين في آسيا فهو فيها عبارة عن 170 مليون مسلم أي مثل مجموع سكان أميركا الشمالية والجنوبية وإسبانيا والبرتقال. ففي العند الإنكليزية 284 مليوناً من السكان منهم 62 مسلم في الهند الصينية إلى سائر السكان نسبة 05_100 من مجموع السكان ومعدلهم في الصين من 5 إلى 6 في المئة وفي الأفغان 5_99 في المئة وفي بخارى 96 في المئة وبلوجستان 94 في المئة و93 في فارس وينزل معدلهم كلما تقدمت نحو الغرب فبينا تجدهم 98 فقي المئة ببلاد العرب ينزل معدلهم إلى 86 في المئة بين النهرين وإلى 78 في المئة في آسيا الصغرى والمعدل العام للمسلمين في آسيا هو 20 في(51/56)
المئة ويبلغ في أفريقية 36 ففيها 60 مليون مسلم مقابل 165 مليون أفريقي وينزل معدل نفوسهم من الشمال إلى الجنوب ويكون سوادهم الأعظم في الشمال أي في مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر وأصل سكان أفريقية الشرقية من جالية العرب والهنود ينزلون في رودوسيا والترنسفال والناتال والراس ومدغسكر وجزائر كومور وموريس ولا يقل عددهم عن مائتي ألف ولا يكثر عدد المسلمين في أوربا إلا في بلاد روسيا ففيها نحو ثلاثة ملايين من التاتار وكذلك ترى في شبه جزيرة البلقان أجناساً من الأتراك والأرناؤد وغيرهم لا يقل عددهم عن ثلاثة ملايين أيضاً أما سائر بلاد أوربا فليس فيها إلا عدد قليل لا يتجاوز الألوف من المسلمين المختلفين فقي أجناسهم وليس هو ثابتاً. وإذا أضفنا إلى أستراليا وتوابعها نحو 40 إلى 50 ألف أفغاني وهندي وماليزي ومثل هذا القدر في أميركا بأشرها من الأتراك والعرب والصينيين والزنوج جاءت معنا لائحة صحيحة في الجملة من العالم الإسلامي.
وبعد أن أفاض قليلاً في وصف معتقدات المسلمين وعاداتهم قال أن لسان القرآن الإلهي يحدث صلة أخرى بين أعضاء الأسرة الإسلامية الكبرى فإذا كانت اللغة العربية لا يتكلم بها سوى خمسين مليوناً من الآسياويين والأفريقيين من نهر الفرات إلى النيجر فهي يترنم بها في المدارس الإسلامية من بلاد السين إلى أفريقية الجنوبية من جزائر الفلبين إلى مراكش وتستعمل لغة كتابة عند الخاصة في كل بلد اجتمع فيه المسلمون ليتلوا القرآن العظيم. وإن الشعوب الإسلامية التي لم تقبل اللغة العربية قد دخل إلى لغاتها منها الشيءُ الكثير فالفارسية والتركية والملازية تكتب بحروف عربية ولغة الأوردو الهندية قد دخلها كثير من التعابير العربية وكذلك اللغة السواحلية ولغة البول والبربر في أفريقية.
وذكر المؤلف تاريخ الصحافة الإسلامية بإيجاز فقال مع أن تاريخها يرد إلى سنة 1828 أيام أنشأ محمد علي الوقائع المصرية أصبحت الآن منتشرة ولاسيما في مصر على عهدها الأخير والبلاد العثمانية بعد الحرية وقدر الصحف الإسلامية في الأرض بأربعمائة منها 150 باللغة العربية أكثرها في مصر والشام وتونس. وأفاض في المشاريع الصناعية والتجارية التي أخذ المسلمون في آسيا خصوصاً يدخلون فيها ويبرزون كغيرهم من الشعوب الراقية وأحسن ظنه بنهضة المرأة التركية وكيف يحاول المجددون في الإسلام(51/57)
اليوم أن يدخلوا العلوم والفنون حتى في الجوامع كما فعل التونسيون في جامع الزيتونة والمصريون في الأزهر وذكر مثالاً من السكك الحديدية وأعمال الكهرباء والبخار ولاسيما في البلاد العربية فقال أن المدنية المنورة مع أنها في قفر بين البدو تنار بالكهربائية كما أن ينبع تشرب من ماءٍ مقطر بالبخار والإمام يحيى في اليمن يطلب تمديد سكة حديدية من الحديدة إلى صنعاء.
ثم قال أن المفكرين من السياسيين الغربيين لينظروا وحق لهم أن ينظروا إلى هذه النهضة الحديثة في الإسلام لا من حيث الدعوة إلى الجامعة الإسلامية ولا من حيث الجامعة الوطنية بل الواجب أن ينظروا إلى ما يتوقع أمره في القريب العاجل من قيام مدنية إسلامية متماسكة تقصد إلى توطيد التكافل الاقتصادي بين أجزائها وقال أن السياسة الحميدية أخفقت في دعوتها للجامعة الإسلامية فانفضت عرى تلك الدعوة يوم ظفر أحرار سلانيك بإعادة الحرية إلى المملكة العثمانية وقال أن السياسة العثمانية الإسلامية الألمانية تهيئُ السلطان للتقسيم (كذا) والعقول لا تتصور كيف تتخلص من الانقسامات الجنسية لإيجاد فكرة وطنية.
فالفكرة الاقتصادية هي التي تهم العالم الإسلامي أكثر وهي بها اليوم يطالب المتغلبون كما تطالب مصر إنكلترا بقولها بأن منافع مصر يجب أن تكون لم صر وكذلك فعل الجزائريون بعد سبعين سنة من استيلاء فرنسا عليهم فقاوموا وهم لا يخافون بأس القوة يطالبون بأراضيهم التي استصفيت فعلى أوربا أن تتأكد قيام المسلمين بالجامعة الاقتصادية مما هو ماثل للعيان من حال إيران فإن أهلها يريدون أن يقاطعوا كل ما هو غير إيراني وأن يطبقوا القواعد المدنية والاقتصادية على الإسلام لتكون بلادهم لهم في اقتصادياتها ومشاريعها النافعة وهنا قال المؤلف بأن على أوربا أن تنظر المسلمين وجرائدهم التي تنفخ فيهم روح النهوض لترى كيف تخفق سياستها الاقتصادية فينادي لسان حالهم جميعاً بلاد الإسلام للمسلمين ونحن نقول إذا صحت هذه الأحلام والأوهام آمين.
منطق المشرقيين
والقصيدة المزدوجة في المنطق للرئيس أبي علي بن سينا
عنيت بتصحيحه المكتبة السلفية في القاهرة ص83(51/58)
أحسنت هذه المكتبة بنشر هذا السفر النفيس على أسلوب راقٍ شأنها في كل ما نشرته حتى الآن وقد صدرت الكتاب بترجمة الرئيس عن أصح المصادر فجاءت الترجمة في 38 صفحة وهي من أحفل تراجم الرئيس. أما الكتاب والقصيدة فهما في الغاية من السلاسة والوضوح بحيث يسهل على من لم يدرس هذا الفن على أسلوبه أن يتلقفه بنفسه من هاتين الرسالتين ولا عجب فكلام الرئيس رئيس الكلام. وهاك ما قاله المؤلف في ذكر العلوم ننقله نموذجاً لمن لم يسعده الحظ بقراءة شيءٍ كثير من قلم الرئيس وعنواناً على كيفية تقسيمهم العلوم في عهده قال: إن العلوم كثيرة والشهوات لها مختلفة ولكنها تنقسم أول ما تنقسم قسمين: علوم لا يصلح أن تجري أحكامها الدهر كله بل في طائفة من الزمان ثم تسقط بعدها أو تكون مغفولاً عن الحاجة إليها بأعيانها برهة من الدهر ثم يدل عليها من بعد. وعلوم متساوية النسب إلى جميع أجزاء الدهر وهذه العلوم أولى العلوم بأن تسمى حكمة.
وهذه منها (أصول) ومنها (توابع وفروع) وغرضنا ها هنا هو في الأصول وهذه التي سميناها توابع وفروعاً فهي كالطب والفلاحة وعلوم جزئية تنسب إلى التنجيم وصنائع أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها.
وتنقسم العلوم الأصلية إلى قسمين أيضاً: فإن العلم لا يخلو إما أن ينتفع به في أمور العالم الموجودة وما هو من قبل العالم ولا يكون قصارى طالبه أن يتعلمه حتى يصير آلة لعقله يتوصل بها إلى علوم هي (علوم أمور العالم وما قبله). وأما أن ينفع به من حيث يصير آلة لطالبه فيما يروم تحصيله من العلم بالأمور الموجودة في العالم وقبله.
والعلم الذي يطلب ليكون آلة_قد جرت العادة في هذا الزمان وهذه البلدان أن يسمى (علم المنطق) ولعل له عند قوم آخرين اسماً آخر لكننا نؤثر أن نسميه الآن بهذا الاسم المشهور.
وإنما يكون ذا العلم آلة في سائر العلوم_لأنه يكون علماً منبهاً على الأصول التي يحتاج إليها كل من ينتقض المجهول من المعلوم باستعماله للمعلوم على وجهة يكون ذلك النحو وتلك الجهة مؤدياً بالباحث إلى الإحاطة بالمجهول فيكون هذا العلم مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تنقل الذهن من المعلوم إلى المجهول. وكذلك يكون مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تضل الذهن وتوهمه استقامة مأخذ نحو المطلب من المجهول ولا يكون كذلك. فهذا هو أحد قسمي العلوم.(51/59)
وأما القسم الآخر_فهو ينقسم أيضاً أول ما ينقسم قسمين: لأنه إما أن تكون الغاية في العلم تزكية النفس مما يحصل لها من صورة المعلوم فقط وإما أن تكون الغاية ليس ذاك فقط بل وأن يعمل الشيء الذي انتقشت صورته في النفس.
فيكون الأول تتعاطى به الموجودات لا من حيث هي أفعالنا وأحوالنا لنعرف أصوب وجوه وقوعها منا وصدروها عنا ووجودها فينا والثاني يلتفت فيه لفت موجودات هي أفعالنا وأحوالنا لنعرف أصوب وجوه وقوعها منا وصدورها عنا ووجودها فينا.
والمشهود من أهل الزمان أنهم يسمون الأول (علماً نظرياً) لأن غايته القصوى نظر ويسمون الثاني منهما (عملياً) لأن غايته العمل.
وأقسام (العلم النظري) أربعة: وذلك لأن الأمور إما مخالطة للمادة المعينة حداً وقواماً فلا يصلح وجودها في الطبع في كل مادة ولا يعقل إلا في مادة معينة مثل الإنسانية والعظمية وإن كانت بحيث لا يمتنع الذهن في أول نظره عن أن يحلها كل مادة_فيكون على سبيل من غلط الذهن بل يحتاج الذهن ضرورة في الصواب أن ينصرف عن هذا التجويز ويعلم أن ذلك المعنى لا يحل مادة إلا إذا حصل معنى زائد يهيئها له وهذا كالسواد والبياض فهذا من قبيل الموجودات والأمور.
وإما أمور مخالطة أيضاً كذلك والذهن وإن كان يحوج في صحة تصور كثير منها إلى إلصاقه بما هو مادة أو جار مجرى المادة_فليس يمتنع عنده وعند الوجود أن لا يتعين له مادة وكل مادة تصلح لأن تخالطه ما لم يمتنع مانع وليس يحتاج في الصلوح له إلى ممهد يخصصه به مثل الثلاثية والثنائية من حيث هي مثكونة وتعرض الجمع والتفريق ومثل التدوير والتربيع وجميع ما لا يفتقر وجوده ولا تسوره إلى تغير مادة له وهذا قبيل ثان من الأمور والموجودات.
وأما أمور مباينة للمادة والحركة أصلاً فلا تصلح لأن تخلط بالمادة ولا في التصور العقلي الحق مثل الخالق الأول. الأول تعالى ومثل ضروب من الملائكة وهذا قبيل ثالث من الموجودات.
وأما أمور ومعانٍ قد تخلط المادة وقد لا تخالطها فتكون في جملة ما يخالط وفي جملة ما لا يخالط مثل الوحدة والكثرة والكلي والجزئي والعلة والمعلول.(51/60)
كذلك أقسام العلوم النظرية أربعة لكل قبيل علم.
وقد جرت العادة بأن يسمى العلم بالقسم الأول (علماً طبيعياً) وبالقسم الثاني (رياضياً) وبالقسم الثالث (آلهياً) وبالقسم الرابع (كلياً) وإن لم يكن هذا التفصيل متعارفاً فهذا هو العلم النظري.
وأما (العلم العملي) فمنه ما يعلم كيفية ما يجب أن يكون عليه الإنسان في نفسه وأحواله التي تخصه حتى يكون سعيداً في دنياه هذه وفي آخرته وقوم يخصونه هذا باسم علم الأخلاق.
ومنه ما يعلم كيف يجب أن يجري عليه أمر المشاركات الإنسانية لغيره حتى يكون على نظام فاضل_أما في المشاركة الجزئية وأما في المشاركة الكلية والمشاركة الجزئية هي التي يكون في منزل واحد والمشاركة الكلية هي التي تكون في المدينة.
وكل مشاركة فإنما تتم بقانون مشروع وبمثول لذلك القانون المشروع يراعيه ويعمل عليه ويحفظه ولا يجوز أن يكون المتولي لحفظ المقنن في الأمر جميعاً إنسانا واحد فإنه لا يجوز أن يتولى تدبير المنزل من يتولى المدينة بل يكون للمدينة مدبر ولكل منزل مدبر آخر. ولذلك يحسن أن يفرد (تدبير المنزل) بحسب المتولي باباً مفرداً و (تدبير المدينة) بحسب المتولي باباً مفرداً ولا يحسن أن يفرد التقنين للمنزل والتقنين للمدينة كل على حدة بل الأحسن أن يكون المقنن لما يجب أن يراعى في خاصة كل شخص وفي المشاركة الصغرى وفي المشاركة الكبرى شخص واحد بضاعته واحدة وهو (النبي).
وأما المتولي للتدبير وكيف يجب أن يتولى فالأحسن ألا ندخل بعضه في بعض وإن جعلت كل تقنين أيضاً باباً آخر فعلت ولا بأس بذلك لكنك تجد الأحسن أن يفرد العلم بالأخلاق والعلم بتدبير المدينة كل على حدة وأن تجعل الصناعة الشارعة ما ينبغي أن تكون عليه أمراً مفرداً.
وليس قولنا وما ينبغي أن تكون عليه مشيراً إلى أنها صناعة ملفقة مخترعة ليست من عند الله ولكل إنسان ذي عقل أن يتولاها كلا بل هي من عند الله وليس لكل إنسان ذي عقل أن يتولاها ولا حرج علينا إذا نظرنا في أشياء كثيرة مما يكون من عند الله أنها كيف ينبغي أن تكون.(51/61)
فلتكن هذه العلوم الأربعة أقسام العلم العملي كما كانت تلك الأربعة أقسام العلم النظري اهـ.
الهيئة والإسلام
لمؤلفه السيد هبة الدين الشهرستاني طبع ببغداد في مطبعة الآداب سنة
1328.
ص 314
ذكر المؤلف أن الإسلام يوافق آراء الفلسفة الحديثة أكثر مما يوافق القديمة خصوصاً في الفلكيات وقد فسر كثيراً من الآيات المشكلة والروايات المعضلة قال: ففي الناس أناس يزعمون الشارع في أبواب الفلكيات مسلك الحكماء وإن الهيئة القديمة هي الموافقة للشريعة القديمة فلأجل ذلك تراهم عند اعتقادهم بطلان الفلسفة الغابرة تزل أقدامهم ويضعف التزامهم بنواميس الشريعة الطاهرة فقصدت من تصنيف هذا الكتاب بيان مخالفة الإسلام لمعظم مباني الهيئة البطليموسية ومواقفه للآراء المكتشفة في الهيئة الجديدة فينبغي أن يكون تصديقهم للعلوم العصرية سبباً لرسوخ العقائد الدينية ومزيد اليقين بصدق باقي مقالات النبي الأمي والأئمة من أهل بيته. والمؤلف مشهور بسعة الإطلاع فنشكره على تحفه.
غرائب الغرب
لصاحب المقتبس طبع بمطبعته ص 204
هي بعض ما شاهده وعرفه صاحب هذه المجلة عن ديار الغرب نشر أولاً في بعض أجزاءه هذه السنة والسنة الماضية وجردناه على حدة وهذه مقدمته وهي تنم عن الغرض من نشره:
هذه فصول ومقالات بل آهات وتأوهات كتبتها في وصف معالم الغرب وما لقيته فيه وثقفته عنه وأنا على مثل اليقين بأنها لا تحمل في مطاويها من تلك المدنية الساحرة إلا بقدر ما تصل إليه يد عابر سبيل ويتفطر له فكر التنزيل والدخيل راجياً من كرمه تعالى أن ينفع بها قراء العربية ومنه أستمد العون والتيسير نعم المولى ونعم النصير.
رسائل البابية(51/62)
نشر البارون روزن الروسي المتوفى 63 رسالة بالفارسية والعربية كتبها بهاء الله المصلح الثاني في المذهب البابي. والعربية منها كما قال أحد الناظرين في هذه الرسايل وإن كانت تبدو في صورة وحي قرآني لا تخرج عن كونها كتبت لتقوية البابيين على تحمل المصائب في سبيل إيمانهم والعمل بما توحي به الحقيقة الكلية والرسالة العشرون منها المسماة سورة الملوك عبارة عن شكوى صاحب المذهب وأتباعه من بعض ما ينالهم من الموظفين الذين اضطهدوا من انتخبوا مذهب الباب. ولأن كانت البهاءُ ينحو فيها منحى القرآن في الإنشاء فيغتر بها بعضهم لأول وهلة إلا أن من يحسن كتابة لغته لا يلبث أن يرى أغلاطاًُ عربية وأكثرها في التركيب.
معيار الفتاوي
نشر المسيو إميل أمار من علماء المشرقيات في فرنسا ملخص فتاوى فقيه المغرب أب يالعباس أحمد بن يحيى الونشر يسي المتوفى سنة 914هـ في مجلدين وترجمها إلى الإفرنسية مع تعليق الشروح اللازمة لها. وهذا الكتاب هو فتاوى صدرت عن مفاتي أفريقية أي تونس وولايتا قسنطينة والجزائر وعلماء الأندلس والمغرب الأقصى وهو عبارة عن ولاية وهران وبلاد مراكش وكان طبع هذا الكتاب برمته على تل الحجر في فاس في 11 مجلداً تدخل في 4122 صفحة فنسق الناشر هذه الفتاوى حتى جاءت مثل كتاب دالوز في القانون مرجعاً يسهل الرجوع إليه.
ثلاث مجلدات جديدة
الحقائق_مجلة علمية دينية أخلاقية اجتماعية عمرانية لصاحبها الشيخ عبد القادر الاسكندراني يحررها نخبة من أهل الفضل بدل اشتراكها في دمشق ريال واحد وفي البلاد العثمانية ريال وربع وفي الأقطار الأجنبية 7 فرنكات وتصدر مرة في الشهر.
النديم_مجلة كاثوليكية سياسية إخبارية تاريخية أدبية علمية لمنشئها شاكر أفندي عون ويعاونه بإنشائها بعض أصحاب الأقلام قيمة اشتراكها في بيروت ريالان وفي البلاد الخارجية عشرة فرنكات وهي تصدر مرتين في الشهر.
تنوير الأفكار_مجلة دينية أدبية سياسية تصدر كل شهر مرة في بغداد لصاحبها عبد الهادي أفندي الأعظمي ومديرها نعمان أفندي الأعظمي قيمة اشتراكها في الممالك العثمانية مجيدي(51/63)
وربع وعشرة فرنكات في الخارج.
كتب متفرقة
معنى الحياة_عربه عن الإنكليزية وديع أفندي البستاني وهو تأليف اللورد أفبري المشهور وفيه نصائح للناشئة في قوة الإرادة وصدق العزيمة والثبات والشجاعة والاقتصاد يطلب من مكتبة المعارف في مصر.
تقرير السر ألدن غورست سنة 1909_هو التقرير الذي يصدره كل سنة معتمد إنكلترا في مصر عن الحركة الإدارية والسياسية والعلمية فيها صدر بالعربية والإنكليزية والفرنسوية وفيه كلام طويل على المعارف المصرية ونمو الحركة للتعليم وازدياد عدد الشبان والكتاتيب والعناية بتعلم العلوم باللسان العربي المبين ويطلب من مطبعة المقطم بالقاهرة.
القطار السريع في علم البديع_مختصر في علم البديع لحقي بك ناصف من شيوخ الأدب في مصر وهو شرح بديعية تقي الدين.(51/64)
سير العلم والاجتماع
الشعرى اليمانية
قرأت في المقتبس رسالة من بغداد تبحث في الشعرى العبور فشكرت عناية الكاتب بهذا البحث النافع وأرجو مواصلة القراء بشذور هذا العلم الساطع بيد أني وجدت فيها هفوة لعلها من النقل أو النشر وهو قوله: إن العلامة شارل نوردمان يقول بأن الشعرى تبعد عنا نحو خمسمائة مرة بعد الشمس عنا والصحيح لأنها تبعد عنا زهاء خمسمائة ألف وثلاثة وعشرين ألف مرة بعد الشمس عنا وتتأتى معرفة ذلك من رصد اختلافها السنوي وهو الزاوية الحاصلة عندها التي يقابلها قطر فلك الأرض وهي اصغر من أن تقاس إلا بأدق الآلات لأن فلك الأرض من ذلك المكان السحيق يرى كنقطةٍ متحدةٍ بنور الشمس المشع لكنها في غاية الضعف وقد عرف لها اختلاف سنوي جزئي وهو بحسب قائمة أورمان 0. 39 من الثانية فيقتضي لوصول نورها إلينا ثماني سنين وثلث سنة تقريباً وبالتدقيق 8. 3 ثم بحسب مادتها وهي ثلاث مرات وربع مثل مادة الشمس فتكون قوة الجذب فيها أشد من قوة الجذب في الشمس وتوابعها معاً (السيارات وأقمارها) فلو وجدت على بعد خمسمائة مرة مثل بعد الشمس عنا لدنت الشمس إليها ثم أسرعت نحوها مضطرة لشد التجاذب (لأن الجاذبية تتغير بالقلب كمربع البعد) أما للدوران حولها أو للاندماج فيها والواقع أن الشعرى اليمانية من النجوم المتباعدة عنا وأن شمسنا (ونظامها) سائرة نحو نقطة بالقرب من الجاثي واستنتج بعض الراصدين أن قرب الكيوني أنور كواكب الثريا قطب دوران حقيقي للكواكب (الشموس) التي تتألف منها عقود البروج كافة وهذا الرأي الأخير لم يجزم بصحته حتى الآن والشعرى اليمانية محسوبة من النجوم المزدوجة وقيل بأنها تدور حول جرم مظلم أعظم منها قليلاً ومدة دورانها حوله 52 سنة تقريباً.
ثم ذكر أن الشعرى اليماني هي إلينا أقرب هذه الكواكب المنتشرة على بساط المجرة والمعلوم عنها حتى الآن أنها الرابعة في البعد عنا بين الثوابت لأنه عرف لثلاثة كواكب اختلافها سنوي أكثر وأقربهم إلينا قنطوروس اختلافه السنوي 0. 75 أي ثلاثة أرباع الثانية فيكون بعده عنا قرابة 252 ألف مرة بعد الشمس عنا ويقتضي لوصول نوره إلينا أربع سنين ويظن بعض علماء الهيئة أن بين النجوم الضئيلة التي تعد بالملايين عدد قليل(51/65)
منها أقرب إلينا من قنطوروس.
لنفرض للاستعانة على تصور قدر الشمس الهائل وبعدها عنا ولأجل مقابلة المسافات الشاسعة المذكورة أن كرة قطرها قدمان تمثل الشمس فتكون الأرض كحبة حمص صغيرة على بعد 220 قدماً وتكون اقرب الثوابت إلينا على بعد تقديره بالتقريب 8000 ميل عن مثال الشمس والمسافة الحقيقية التي بيننا وبين الشمس 92 مليون ميل بالتقريب يصل نورها إلى الأرض في 8 دقائق و19 ثانية.
ويلي الشعرى اليمانية في البعد عدد لا يحصى من النجوم بضعة وعشرون منها يعرف لها اختلاف سنوي والملايين الكثيرة الباقية لا يعرف لها اختلاف سنوي لتناهيها في البعد أو لتوغلها في قلب المجرة أو أقاصيها وتراها بإشعاع نورها وليس بذات جرمها لأن زاوية البصر تتلاشى قبل الوصول إلى أقرب الثوابت بمسافات بعيدة وأقوى النظارات في وقتنا الحاضر لا ترينا قرصاً للثوابت وإذا قيل بأن النور يجتاز عرض المجرة بمدة عشرين ألف أو ثلاثين ألف سنة فبعض السدام على رأي بعض الفلكيين يقتضي لوصول تنوره إلينا سبعمائة ألف سنة وأقوى النظارات لم تحله إلى نجوم مفردة أو عناقيد ومن المحتمل أن يكون مجرة البعيد كالمجرة التي نظامنا الشمسي وعامة الكواكب وأنظمتها منها وفيها على أن الرأي القائل بأن وراء هذه المجرة المحيطة بنا مجرات عديدة مؤلفة من عوالم وأنظمة إلى ما لانهاية لما يتأكد والآلات الحاضرة لا تمكنا من كشف شيء من هذا السر العظيم وقد وجدت خطوط في طيوف بعض السدوم أنور من خطوط الهيدروجين لا تدل على عنصر معروف في الأرض أو في الشمس حتى الآن فمن المحتمل أن يكون ذلك دليلاً على وجود عنصر أبسط أو أوطأ رتبة من الهيدروجين.
هذا في ما جال في الخاطر حداني إليه كوكب نظرائه كاتب تلك الرسالة لاقتفاء أثره واقتباس منار لمه في هذا المسلك الذي قد لا أنجو بسلوكه من العثور فالرجوع إلى ما يدونه علماء العصر أحق والبحث في أنواع العلوم الطبيعية أنور للبصيرة فتكسب المرء قدرة التصرف بالأعمال العظيمة المفيدة فإن أكثر الناس تجهل حقيقة هذا العلم وتتخيل في السماء أموراً سخيفة أشركتها في معتقدها وتسكعت في باطلها وظلت عليها القرون والأحقاب حتى رسخت تلك الأوهام الفاسدة في العقول وانطبعت مزاعم زعمائهم الباطلة(51/66)
في القلوب فتأصل فيهم الميل للشعوذات والإيمان بالخرافات فحقت عليهم كلمة الشر والجهالة فصارت ذريعة إلى المجادلات حتى الحروب والغارات وفاتهم أن الأرض دار قراع وتنازع في البقاء وأن عصرنا هذا عصر جد واجتهاد وأنهم على سطح جرم حقير (الأرض) اعتباره كذرةٍ من جميع المادة نسبته إليها كنسبة حبة رمل إلى طود عظيم خليط من التراب والرمل والحجارة تناثرت أجزاؤه في هذا الفضاء وعلم الهيئة الحقيقي هو علم أثبته الفحص وقام عليه البرهان يعرفنا بحقيقة هذا الوجود ويزيل أو يقلل من تفاخر الإنسان الكاذب وغلوائه وعند التعمق بأصوله وتعميم انتشاره في مستأنف الزمان يدركنا التغيير الكلي في جميع أمورنا وأحوالنا ونخرج من مأزق التعصب ومضيق الأفكار فتبدو علاءات اليمن وإمارات الخير ويكون لهذا العلم المزية الكبرى على سائر العلوم فهو رائد الإصلاح الأكبر.
دمشق:
أحد القراء
وقف للعلم
وقف أحمد بك زكي من علماء مصر خزانة كتبه وفيها مئات من الأمهات المهمة المخطوطة والمطبوعة وأكثر مطبوعات أوربا العربية وكثير من نفائس الكتب الإفرنجية على المطالعة لأهل القاهرة وذلك على شرط أن تجعل في مكان خاص بها من دار الكتب المصرية وهي غيرة على العلم لا تستكثر ممن خدمه طوال حياته.
مسألة قلة النفوس
وضعت مجلة الاقتصاد بين مقالة قالت فيها أنه يكاد لا يعرف كبير أمر عن مسألة النفوس لأن الأمم القديمة قد دثرت كلها تقريباً ونوشك أن لا نعرف إلا أموراً طفيفة عن حالة الآشوريين كما نحن كذلك في تصور اليونان والرومان فإن الرجال الممتازين قواداً كانوا أو فلاسفة ممن اشتهروا قديماً لم يتركوا عقباً فلا يمكن أن يقال أنهم هلكوا في حروب أهلية أو خارجية وأن قد خلفتهم شعوب أخرى مثل البورغونيين والفانداليين والغوتيين الذين نشئوا من جرمانيا والهونسيين والمجريين الذين جاؤوا من آسيا فالماضي يمثل لأعيننا تعاقب الأمم التي تناقلت حسنات المدنية خلفاً عن سلف.(51/67)
ومسألة قلة النفوس اليوم ينظر فيها في كل مكان ولاسيما في فرنسا فالشعب الفرنسوي اليوم 39 مليوناً ويجب أن يزيد كل سنة مليون نسمة ولذلك رأى أحدهم أن يعطي كل أب وأم فرنسويتين ما شاءا من الوظائف لأن لهم ميلاً خاصاً إليها على شرطك أن يكون لهما ثلاثة أولاد أحياء أو أكثر بدون النظر إلى كفاءتهما وأن تخصص الحكومة مكافأة مالية قدرها خمسمائة فرنك تدفع دفعتين إذا ولد للأبوين الولد الثالث وهو حي وبذلك تنفق الحكومة في السنة من 150 إلى 175 مليون فرنك.
فردت المجلة على هذا الفكر وقالت أن الأولاد والعجزة الذين يولدون على تلك الصفة مدة عشر سنين يزيد عددهم ملايين وهم لا يعملون عملاً ويفتقر السكان من جباية هذه الضريبة منهم أي مبلغ 175 مليوناً كل سنة الذي يقضي عليه أداؤه وما قط كانت زيادة الضرائب مغنية لأمة ومن ذلك ينشأ فقر متتابع لأن مائتي مليون فرنك لا تكفي للقيام بتعليم العلم العالي الذي يستلزمه إعداد رجال للصناعات الحرة مثل الطب والمحاماة والهندسة وغيرها وسلك الوظائف أيضاً وربما كان في المستقبل معوض عن هذا العمل ولكن الحال في فرنسا ليست كأميركا وروسيا لأن باطن أرضها قليل الخصب ولا يرجى رواج التجارة أكثر من الآن فالنفوس فيها محدودون وكل دواء يقترح للشفاء من قلتها لا يزيد الحال إلا إعضالاً.
فهذه الضريبة لا تأثير لها في الأغنياء والحكومة الآن هي السبب في تقليل السكان فخير لها فيما نرى أن تسهل التعليم العالي فلا تحتم على طالب الطب والمحاماة تعلم اللاتينية بل اليونانية ومجموعة العلوم في حين يكفيهما معرفة علومهما معرفة عملية ويحذف حباً بالاقتصاد من خطة الدروس درس بقية العلوم لأمثال هؤلاء وبذلك يتوفر مبالغ من المال تصرف على تعلميهم إياها. قال وأنجع الأسباب في ذلك تقليل الضرائب على وجه عام فبتقليلها تزيد النفوس إلى الحد المطلوب الذي تسمح به حالة البلاد ونشاط أهلها.
دار الترجمة
صدر الأمر الخديوي بإعادة ديوان الترجمة في مصر. كما كان في أيام الخديويين السالفين وسيعرب هذا الديوان كل ما تحتاج إليه اللغة العربية من أنواع العلوم الفنون المستحدثة.
التربية اليابانية(51/68)
تقضي الحكومة اليابانية على الوالدين أن يرسلوا أبناءهم إلى المدرسة ست سنوات يخصص منها ساعتان في اليوم لدرس الآداب. ولناظر المعارف أن ينتخب الكتب المدرسية. وأهم الموضوعات في مدارسهم واجب الحب الوالدي واحترام السلف والإخلاص للإمبراطور والإمبراطورة والصفح والاحتشام وعرفان الجميل والاقتصاد والرقة نحو الشيوخ والخدم والمجاملة والواجبات نحو الجار والخير العام واحترام الآلهة والوطنية واستعمال الوقت والشجاعة. وقد أضافوا في السنين الأخيرة دروساً عديدة في واجبات الوطني الاجتماعية وواجبات الجندي وانتخاب النواب للبرلمان والبلدية واحترام الشرائع وأفضلية الرجل وواجبات الرجل والمرأة وهلم جرا.
اكتشاف نافع
اكتشف الدكتور أهرليخ الروسي تركيباً كيماوياً من الزرنيخ فدلت التجارب على نجاح هذا الدواء في معالجة الحمى الملارية والحمى المتقطعة ومرض النوام. ويعتقد بعض الأطباء أنه بات في حيز الإمكان الآن التغلب على مرض النوام المتفشي في بلاد الكونغو وغيرها من البلاد الأميركية. وفي رواية أخرى أن هذا التركيب يشفي من المرض الزهري.
ميكروب الخصب
أعلن الدكتور رسل والدكتور هتشنصن في المجمع الطبي البريطاني اكتشاف ميكروب يقتل البكتيريا اللازمة لخصب الأرض وهو أعظم اكتشاف زراعي منذ 50 سنة وكانا قد اكتشفا علاجاً بالحرارة أو مضادات الفساد يقتل جراثيم كثيرة من التي تأكل البكتيريا المفيدة للأرض فتزيد بذلك خصب التربة وقد كان في أثناء أبحاثهما في هذا الموضوع أن اكتشف الميكروب المتقدم ذكره.(51/69)
العدد 52 - بتاريخ: 1 - 6 - 1910(/)
صناعة النظم والإنشاء
كان الوليد أبو عبادة البحتري معاصراً لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام وهما من أعيان أمراء الكلام وكلاهما طائي غير أن البحتري ولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً فما ترعرع وبدت فيه علائم النبوغ حتى كان أبو تمام في أوج مجده وبحبوحة اشتهاره فلصق به وتخرج عليه حتى إذا نبل شعره وسار ذكره قال أبو تمام إن شعر هذا الغلام قد نعى إليَّ نفسي فما اجتمع في طي شاعران مشهوران إلا مات أكبرهما وقد صدقت نبوءته هذه فإن أبا تمام لم يعش بعد قوله هذا أكثر من عام واحد ولقد مات عبطةً وهو دون الأربعين ولو عمر حتى اكتهل كالمتنبي أو شاخ كالبحتري لأتى بالآيات المعجزات ولأطبق الناس على كونه أمير الشعراء قديماً وحديثاً.
وكان البحتري قد سأل يوماً أبا تمام أن يبين له الوجهة التي ينتحيها في نظمه والوتيرة التي يجري عليها توصلاً إلى الإجادة والإبداع فقال له:
يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيءٍ أو حفظه وقت السحر إذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وتوجع الأشواق ولوعة الفراق فإذا أخذت في مديح سيد ذي إياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقامه ونضد المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة. وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقوك الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين وجملة الحال أن تقيس شعرك وتعتبره بما سلف من شعر الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما نبذوه فاجتنبه ترشده إن شاء الله.
قال البحتري فأعلمت نفسي فيما قال فجاد شعري وطار ذكري ووقفت إلى ما أروم.
أما الحاتمي فقد اختار الليل للنظم وحوك الكلام ذاهباً مذهب (جورج ساند) الكاتبة الفرنساوية التي كانت تبدأ بكتابتها عند منتصف الليل وتنتهي منها الساعة السادسة ثم تنام إلى الحادية عشرة على ما وصفه المترجمون لها. وحجة الحاتمي في ذلك أن في الليل تجم الأذهان وتنقطع الأشغال ويصح النظر وتؤلف الحكمة ويتسع مجال الفكر وتنبعث(52/1)
الخواطر. وعندنا أنه مصيب وأكثر رجال السياسة والتدبير وأهل العلم والخيال وأرباب الاختراع والفنون يفضلون الليل على النهار ويختصونه للمهم من أعمالهم والصعب من شؤونهم والتفكير فيما يصلح من أمورهم وينبه من أقدارهم وفيه غالباً أنشأ المؤلفون الكتب وحبروا الرسائل وولدوا المعاني الحسان وأودعوها أسلاك كلامهم تباهي النجوم ضياء والدر نظاماً والروض زخرفاً وجمالاً_وإن كان ذلك مدعاة لإضناء أجسامهم واخترام أعمارهم فإن السهر ولا جرم مدعاة للسقم ومدرجة للألم وقد طالما عبث بالعقول قبل الأجساد فأوصل إليها الفساد_فالشاعر الماهر والكاتب المتأنق من إذا خلا إلى حجرته وقد سدل الليل ستاره وسكنت ضوضاء الناس واستولت سنة النوم على أجفانهم نشط إلى ما هو ميسر له من الأمر وباشر عمله بعد إمعان الفكرة وإطالة الروية واستيحاء السليقة فيستمد من القريحة عفوها وفيضها غير مستند إلى معنى لغيره يتلاعب به أو قول لبعض السلف ينتحله موقناً أن الناس كافة قيمون له منتقدون لأقواله تفرغون لتزييف كلامه وتفنيد نظامه ووزن معانيه وألفاظه بميزان المتعنت عليه المتبرم به الطالب حجة يتذرع بها إلى تنقيصه وتسوئته والحط من فضله ثم يكتب وهذا التحوط نصب عينيه مائل لديه فلا يجود إلا من مائه ولا يسبك إلا من معدنه بلا اغتصاب ولا استكراه حتى إذا فرغ مما حبر تربص إلى أن تهدأ سؤرة إعجابه فيما راق له من مبتكرات معانيه ومسبوكات قوافيه_وقد يجمل أن يكون ترصه هذا يوماً أو أياماً_ثم يعود بعد ذلك_وقد سكنت القريحة وخلا الذهن وصح التأمل_فيراجع ما كتب مراجعة منتقد ذاته قيم على نفسه رقيب على عمله فإن وجد محلاً للإصلاح أتاه أو وجهاً للتهذيب والتنقيح مارسه وعاناه متخيراً اشرف الألفاظ وأخفها وأكثرها قرباً إلى الفهم وتداولاً على الألسنة يدمجها في تضاعيف سطوره على منوال خاص وأسلوب غريب يعرف به وتظهر ملكته في أنفاس كلامه بحيث ينسبه القارئ العارف به إليه بمجرد تلاوته ولو لم يكن معنوناً باسمه ثم يعرضه على من يثق به من جهابذة الأقلام لعله يرى فيه عورةً فيسترها أو ثلماً فيسده فمن سلك هذا المسلك الجدد من مجيدي الشعراء والكتاب أمن في غالب منشآته العثار وحق له الاشتهار.
تلك نصيحتنا نوصي بها ونحرص على الجري بمقتضاها وإن كنا خالفناها في كل منظوماتنا حتى اليوم على ما يعلمه المقتطف ونبه إليه فإننا كنا ننظم في ليلتنا القصائد(52/2)
لمطولات ثم بعث بها في الصبح إلى عالم النشر دون معاودة نظر أو تثبت وما ذلك إلا أثر من آثار ضيق الطعن المنبعث عن هزال الجسم وسوء الهضم أعاذ الله منهما كل ناظم وناثر فإنهما آفة الإتقان ومجلبة التعس والمرارة والشقاء لبني الإنسان وما مصدرهما فيمن قدر له أن يعيش بعقله وعلمه إلا الإمعان في السهر وعدم الاعتدال في الدراسة منذ الصغر فيلتق الله الكاتبون في أجسامهم أن لهم فيما نعالنهم به عظة وعبرة وإن كانوا ممن يتدبرون.
وهنا_والشيء بالشيء يذكر_نأتي على كلام لأبي عثمان الجاحظ مما لا يخرج عما نحن في شأنه وتتوفر فيه الفائدة لمن رزقوا حظ الكتابة ولم يهتدوا إلى قانون يقوي فيهم ملكة الإنشاء ويبعثهم على الإجادة في الصناعة فإن ذلك أهم ما يحتاجه المنشئون هذه الأيام بعد أن قوضت فوضى الأقلام أركان البلاغة وشوهت ديباجة البيان وأضاعت سر التأنق في الترسل حتى زالت عنه مسحة الجمال إلا في عدد نزر ممن أوتوا نصيبهم من سلامة الذوق والعلم وألهموا الهداية في صناعتهم هذه الشريفة إلى محجة الكلام فرسخت في أذهانهم قواعد التحرير والتحبير واستحكمت في صدورهم أساليب التفنن بصوغ المعنى الصحيح في قالب اللفظ الفصيح حتى استقامت لهجتهم ووضح منهاجهم وعذب بيانهم فنسجوا على منوال خاص بهم تشربه القلوب وتستحسنه الأذواق وتعشقه النفوس على ما فيه من السهولة والانسجام ومتانة التراكيب: قال الجاحظ:
يقول جهابذة اللفظ ونقاد المعاني وأساطين البيان. المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم المختلجة في نفوسهم المتصلة بخواطرهم والحادثة عن أفكارهم مستورة خفية وبعيدة وحشية ومحجوبة مكنونة وموجودة في معنى معدومة لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه ولا معنى شريكه والمعاون على أمره وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وأخبارهم عنها واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تدنيها إلى الفهم وتجليها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهراً والغائب شاهداً والبعيد قريباً. وهي التي تلخص الملتبس وتحل المنعقد وتجعل المهمل مفيداً والمقيد مطلقاً والوحشي مألوفاً وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ورقة المدخل يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح(52/3)
وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كانت أنجع وأنفع في البيان والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه بكتابه ويدعو إليه ويحث عليه:
بذلك نطق القرآن وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت أصناف العجم.
فالبيان اسم كل شيء كشف لك عن قناع المعنى وهتك لك حجب الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ومن أي جنس كان. والألفاظ هي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة وعن حقائقها في التفسير وعما يكون منها لغواً وبهرجاً وساقطاً مطرحاً فإن صح التناسب وتم التآلف بين تلك المعاني وما تستخدمه لإبرازها من الألفاظ سهل إشرابها للعقول وتجليها على المخيلات وخولها إلى صميم القلب والعكس بالعكس. فمن شاء أن يكون حديثاً تقرع الآذان نبراته أو منشئاً تسحر الألباب نفثاته فليلبس المعنى الدقيق اللفظ الرشيق الذي لا ينقص عن معناها ولا يزيد وليمتن الأصول ويحذف الفصول ويجتنب الحشو ويطنب حيث يستحب الأطناب ويوجز حيث لا يستكره الإيجاز: كل ذلك يفتقر إلى رأي حصيف وفكر نقاد وخاطر جرئ وذهن ذكي وذوق يحسن الاختيار وبديهة لا تعرف التلكؤ وحافظة تكنز من المواد ما يستعان به على ركوب هذا المركب الوعر تقرن إلى ضلاعة في العلوم وتبحر في الأدب ومطالعة في آثار أئمة أهل البيان ممن نبغوا فدرجوا من قبل واشتمل عليهم الزمان ولقد قال أبو داود رأس الإنشاء الطبع وعموده الدربة وجناحاه رواية الكلام وحليه الإعراب وبهاؤه تخير اللفظ وقال ابن المعتز العاقل يكسو المعاني وشي الكلام في قلبه ثم يبديها بألفاظ كواس في أحسن زينة والجاهل يستعجل بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين معارضها واستكمال محاسنها.
ولما سئل جعفر البرمكي وزير الرشيد المشهور عن البيان قال هو أن يحيط كلامك بمعناك ويكشف عن مغزاك ويخرجه عن الشركة ولا يستعان عليه بالفكرة ويكون سليماً من التكليف بعيداً من الضعة بريئاً من التعقيد غنياً عن التأويل مع نزاهته عن الركة وترفعه عن اللغو وأبلغ الكلام ما بخته مراجل العلم وصفاه راووق الفهم وضمته دنان الحكمة فتمشت في المفاصل عذوبته وفي الأفكار رقته وفي العقول حدته وما أحسن ما قال حائك أديب الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه فخرج مفوفاً منيراً وموشى محبراً وإن من البيان لسحراً.(52/4)
ولقد قال غيره البليغ من يحوك الكلام على حسب الأماني ويخيط الألفاظ على قدود المعاني ومن أجلى ما وصفت به البلاغة قول أحد العلويين البلاغة إيصال المعنى إلى القلب بحسن صورة من اللفظ وهو يضارع قول بعض الأعراب البلاغة إيجاز في غير عجز وأطناب في غير سفسفة.
هذه هي الصناعة التي يحسبها الناس لعقة من عصيد أو لقمة من ثريد فلا يكاد الصبي منهم يقرأ الأجرومية أو شيئاً من شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ويتلقف بعض ما أوجده الخليل بن أحمد في دائرة البحور من الأعاريض وقيده إسماعيل الجوهري على بعض صفحات الصحاح من حوشي الألفاظ حتى يتربع في دست التصنيف والتأليف أو يقف على منبر الإمام الخطيب أو يسمي نفسه بالشاعر الساحر فيملأ الدنيا صناناً وهو يظنه عطراً وملاباً أو رنداً أو أقحواناً ولله الأمر من قبل ومن بعد وما هو بغافل عما يهذرون.
سليم عنجوري(52/5)
هل اللغة العربي حية
وضع المسيو قطان أحد أعضاء المجمع العلمي القرطاجني في تونس محاضرة رد فيها على من قال أن اللغة العربي ليست من اللغات الحية وأنها كانت كذلك وقد أصبحت اليوم من اللغات الميتة فأحدث كلام من أصدر هذا الحكم تأثيراً في نفوس المسلمين لأن له علاقة بأعز الأوضاع عندهم وأقدسها في نظرهم ونعني بها اللغة وقد ردت بعض الصحف الإسلامية على بعض من رموا اللغة العربية بالعقم رداً لم تورد فيه برهاناً بل جعلته خيالياً وتجاوزت فيه حد المناقشة العلمية ورمت القائل وهو أوربي بالطبع بأنه لا يعرف ما في العربي من الميزات والخصائص وقالت أنى يتأتى لغريب عنها أن يفهمها حق فهمها بيد أن صاحب هذه المحاضرة دافع عن العربية دفاعاً علمياً ورد مزاعم من يرمونها بالموت بالبرهان السديد وأثبت لها الحياة مع من يثبتها لها من أبنائها الذين يكتبون بها ويتكلمون فقال:
إن دعوى المسيو نويل بأن اللغة العربية لغة مقدسة جامدة لا تتحرك وإن أدنى تغيير يدخل عليها يعد خرقاً لحدودها وعبثاً بقانونها هو من الدعاوي التي يخالفها الواقع ولا ينهض عليها دليل. وأني أرى علماء المشرقيات الذين يتعلمون اللغة العربية والكتاب المسيحيين في سورية ومصر ممن عنوا بها وبرزوا في آدابها منذ سنين بل والمستنيرين من المسلمين أنفسهم يوافقوني على قولي على أن اللغة العربية لغة سامية انتشرت أولاً في شبه جزيرة العرب ووصلت إلى درجة التهذيب قبل الإسلام ببضعة قرون وكملت على يد النبي وأصحابه وأنه مضت عليها قرون طويلة وهي زاهرة بين شعوب انتشرت بينهم الحضارة الإسلامية فنشأ لهم في العربية كتاب كثيرون من النصارى واليهود والمسلمين وإنها اليوم شائعة بين الشرقيين من أهل الإسلام وغيرهم ويتفهم بها بضعة مئات الألوف من البشر بينهم كثير ممن لم يدينوا بالإسلام ينزلون شمالي أفريقية وأواسطها وجزءاً من قارة آسيا.
نعم لا أآخذ إذا قلت إذا كانت العربية عند معظم المسلمين لغة مقدسة لأنها لغة الدين والعبادة وهي لم تبرح لأرباب العقول السامية الذين ازدان بهم الإسلام والمسيحيين والإسرائيليين الذين عنوا بها حق العناية منذ عهد الخلفاء إلى هذا اليوم أداة بديعة للإفصاح عن الفكر والعواطف العالمية في مظاهرها المتخلفة وهي من أجمل لغات البشر.
أرى أنه متى أريد البحث في لغة بحثاً علمياً أن لا توصف بما يصفها به أرباب التقاليد من(52/6)
النحاة ولا المتعصبة من المتفقهة بأنها لغة مقدسة غير قابلة للزيادة والنقص بل الواجب النظر إلى تاريخ هذه اللغة والبحث فيما إذا كانت بقيت جامدة على صورتها الأولى حقيقة أو أنها نشأت ونمت كما ينمو كل تركيب نام حي.
لا جرم أن كل امرئٍ يدرك أن اللغات لا تحيا على يد أساتذة الكليات ولا بتقارير النحاة ولا بأحكام المحاكم وأوامر الحكومات فاللغة الإفرنسية لم تنم منذ عهد كوبلر إلى زمن بريان بهذه الطريقة بل إن العربية على ما فيها من الكتب والنحو والعروض التي شرحها معلمو الجوامع لا تعد لغة أدب فكما أن الإفرنسية تحيا بكتابها المبدعين المجددين أكثر من حياتها برجالها اللغويين والباحثين في أصولها هكذا اللغة العربية عاشت طول عمرها خارج الكيات الإسلامية بفضل أعمال المجددين والمترجمين والعلماء والفلاسفة والشعراء الذين كانوا في عصور مختلفة مع تمسكهم بقواعد النحو العربي الذي كانت الكليات مهيمنة عليها فهم يقفون ما أمكن موقف التوفيق بين ما يكتبون وبين اللغة التي يعجبون بها وحق لهم العجب من كمالها وغناها وجمالها. ومع هذا لم يقفوا ساعة عن تقويتها بما يحملونه إليها من الأفكار الطارئة ولغات الشعوب الأخرى.
وإذا أبى المسيو نويل الخروج عن هذا القياس وادعى بأن اللغة المصرية اليوم هي لغة حديثة نشأت من قطع ملفقة من التقارير وليست من التقديس في شيءٍ أي ليست اللغة العربية في معناها الحقيقي بل هي لغة صناعية وإن اللغة المقدسة هي التي استعملها القرآن فقط وفيها الغريب_إذا قال بهذا فهو يحذف بقياسه من الآداب العربية كتب المؤرخين والعلماء والفلاسفة وغزل الشعراء لأنها مملوءة بالمولد أو أنه يعتبرها من الكلام الوحشي الغير المأنوس ويقتصر بأن لا يعد من الآداب العربية إلا القرآن وتفاسيره وربما كانت هذه التفاسير بحسب زعم المسيو نويل من غريب الكلام أيضاً.
أما أنا فلا أفرط في التدقيق أكثر من عالم من علماء المسلمين بعد أن رأيت في دور المكتب أناساً من صلحائهم ينظرون في كتب القرآن والفقه وبجانبها تآليف كتبت باللغة العربية الحديثة بل مترجمات لفلاسفة يونان. ولذلك أسمي باللغة والآداب العربية تلك اللغة وتلك الآداب التي اتفق جمهور المسلمين وأمثال سلفستر دي ساسي ودارمبورغ وغولدسير وغيرهم من العلماء على تسميته بهذا الاسم.(52/7)
قال المسيو نويل أن اللغة الحية هي التي تخضع لنواميس الحياة أي أنها تدخل فيها الجديد وتنبذ ما لا تراه نافعاً لها وهو تجديد يعد من شروط الحياة كالتغذية لكل تركيب نام نباتياً كان أم حيوانياً.
وإني لأكتفي بدحض هذه الحجة بأنه أورد تاريخ العربية ولكم أن تحكموا بأنفسكم بأن هذه اللغة لم تبرح خاضعة قبل الإسلام وبعده لنواميس الحياة. أما تاريخ اللغة العربي فيقسم إلى أدوار أربعة: دور التكون ودور المدنية الإسلامية الزاهر ودور الانحطاط والدور الحالي.
فدور التكون يبدأ بالزمن الذي انفصلت فيه هذه اللغة عن سائر اللغات السامية وأصبحت لغة خاصة بعد أن كانت عبارة عن لهجات كثيرة قلما تجد بينها اختلافاً كثيراً وهي وافرة بقدر ما كان من القبائل في شبه جزيرة العرب. وتعدد اللهجات كان من أسباب غنى العربية بمفرداتها وانتهت الحال بعد ذلك بأن اندمجت هذه اللهجات بعضها في بعض ونسيت كلها ما عدا ثلاث لهجات كبرى ذكرها التاريخ وهي لغة اليمن والحجاز والحبشة.
جاء محمد (عليه السلام) وبدأ بتوحيد جزيرة العرب في سياستها ووفق أخلافه إلى تتميم هذا المقصد فتوحدت بذلك اللغة وكانت الغلبة للغة الحجاز موطن النبي فأصبحت لغة القرآن بعد واغتنت بما دخل إليها من المفردات المستعملة عند شعوب كثيرة ممن كانوا يقصدون مكة حاجين كالهند والفرس والنبط والحبشة والمصريين والإسرائيليين وغيرهم. فكانت مكة أشبه ببرج بابل ولا عجب أن سرى إلى اللغة الأدبية على ذلك العهد مزيج من لغات الأمم الأخرى.
فالألفاظ الدخيلة التي اغتنت بها اللغة العربية إذ ذاك هي أسماء العقاقير الطبية وما تنتج بطون الأرض من المعادن وما يصنع في فارس والمملكة الرومانية والهند الشرقية من المصنوعات ويحمل إلى جزيرة العرب. واقتبست العربية قبل الإسلام ألفاظاً كثيرة من اللغة البهلوية كما اقتبست من العبرانية بعض ألفاظ العبادة مثل الحج الكاهن عاشوراء وكانت الصلات التجارية بين الهند وبلاد العرب سبباً في تعريب كثير من الألفاظ السنسكريتية ولاسيما ما كان منها خاصاً بالعطور والأحجار الثمينة. وبعد أن فتحت فارس أخذ العرب يلبسون الثياب الفارسية وأدخلوا إلى لغتهم الألفاظ الدالة عليها في جملتها فدخلها من الألفاظ السروال الجبة القفطان الطربوش على نحو ما استعمل المسلمون الذين يكتسون(52/8)
الثياب الأوربية اليوم من الألفاظ الجاكت البنطلون اللستيك وأُخذ عن الفرس معظم الألفاظ التي تدل على الأطعمة المختلفة والأسلحة والآنية وغيرها.
وابتدأ الدور الثاني للغة العربية وهو دور الفتوح والمدنية الإسلامية باقتباس الألفاظ الدينية والقانونية والإدارية والعلمية وغير ذلك ثم بتعريب كتب اليونان والفرس والهنود فدخل اللغة من الألفاظ مثل الكحالة والصيدلية ثم توسعت في استعمال بعض الألفاظ لأكثر من المعنى الذي وضعت للدلالة عليه مثل مؤمن مسلم صلاة زكاة الحضانة.
حتى إذا تمت الفتوح وأنشأ المسلمون ينظمون البلاد التي خضعت لسلطانهم أخذوا من الفرس والبيزنطيين أصول أوضاعهم السياسية والإدارية والقانونية والعسكرية والمالية فاقتضى لهم تعابير جديدة للدلالة على هذه الوظائف الجديدة فاقتبسوا أكثرها عن الفرس والبيزنطيين مثل الديوان الجامكية البريد نيشان من الفارسية الأسطول الكردوس البطاقة من الرومية واخذوا مفردات عبرية وسريانية عندما ترجمت التوراة والأناجيل مثل قربان جهنم توراة توبة تلميذ يغوث آمين بل أن قواعد النحو نفسها قد دخلها التعديل فأخذت العرب تستعمل الضمائر المستترة للتفنن في التعبير تكثر من استعمال صيغة المجهول وتنسب إلى الروح روحاني وإلى النفس نفساني وتستعمل بعض الصفات في صورة أسماء مثل المائية العامة الخاصة وعلى ذلك العهد سقطت من الاستعمال بعض الألفاظ التي أتى الإسلام على مدلولاتها مثل المربع النشيطة الأتاوة الصرورة.
ولقد ظلت العربية تغتني بمفرداتها الجديدة وتراكيبها الحديثة وتنمو مفرداتها وقواعدها حتى جاء عصر انحطاط المملكة الإسلامية وأخذت تنقسم إلى ممالك مستقلة يحكمها أناس من أصول غير عربية كالمغول والأكراد والأتراك وغيرهم. ففي تلك العصور أصيبت اللغة بما ذهب برونقها الأصلي وأصبحت من التكلف واستعمال الألفاظ الضخمة على جانب من الغلظة والجفاء حتى أن ما كتب من المصنفات على ذاك العهد تصعب قراءته لخلوه من كل فائدة. فهو عهد الألفاظ الرنانة المفخمة والسجع المرصع الذي أعجب به بعضهم وحمل عليه كثيرون وذلك لأن البيان كثيراً ما يضيع لضرورة السجع وإذا ارتضت الأسماع الأسجاع فالفكر ينبو عنها كل النبو.
وفي ذاك العهد دخلت اللغة تلك الاستعارات المفخمة والمبالغات الغريبة حتى أن معظم(52/9)
الألفاظ التي عربت تلك الأيام كانت ألفاظاً إدارية أو أسماء رتب في الجيش مثل سنجقدار الجاشنكير اليوزباشي الباشا دفتردار خزندار المابين الآغا دفتر خانه. وفي ذاك العهد أيضاً أخذت بعض الألفاظ العربية توضع لمسميات جديدة مثل المتصرف الصدر الأعظم القائم مقام المسئولية التابعية ثم أتى دور تركت اللغة إلا ما كان له منها علاقة بالنحو واللغة والتصوف والفقه وفي هذه الموضوعات صدرت كتب لا تحصى بكثرتها.
والدور الرابع دور النهضة ويرد تاريخه إلى نحو قرن وقد نزل الأوربيون في الشرق يلتمسون لهم في شواطئ البحر الأبيض بلاداً يظهر فيها نشاطهم فاختلط المشارقة بالمغاربة اختلاطاً دائماً نشأ منه تبادل في الأفكار بينهم وبفضل ذلك اغتنت لغاتهم بمفردات استعارها بعضهم من بعض. وإذا كانت بضاعة الشرقيين في العلم قليلة اضطروا في دراسة العلوم الحديثة أن يأخذوا ألفاظاً عن اللغات الغربية أو أن يتوسعوا في معاني بعض ما لديهم من الألفاظ العربية ليضعوها لأفكار ومعارف جديدة. وذلك دليل على أن اللغة ظلت على حالها على النشوء.
ومن العبث أن نورد هنا بعض الألفاظ الإفرنسية التي اندمجت في سلك اللسان العربي مثل بوليس بارلمان سيركولير أو الألفاظ الإيطالية مثل بوسطة دبكربتو بروتستو دع عنك التعابير العلمية التي سرت إلى العربية من اللاتينية أو اليونانية وهي شائعة في لغات أوربا. ومن الألفاظ الكثيرة التي حولت عن معناها الأصلي للدلالة على أفكار جديدة لم تكن مألوفة للشرقيين الميزانية المؤتمر المحرر المحافظون الأحرار الاشتراكيون أهل الفوضى.
وقد نشأ للغة في سورية ومصر لعهدنا كتاب بالعربية من الطبقة الأولى خلصوا اللغة من قيودها وأعادوا إليها نضرتها الأولى وأنقذوها من المترادفات المملة حتى صارت بإنشائها إلى الوضوح والسلاسة معبرة أحسن تعبير عن الأفكار الحديثة وبفضلهم أخذت روح اللغات الأوربية تدخل في العربية وسهلوا نحوها وصرفها وبيانها.
يقولون أن لغة الكتابة تخالف لغة التكلم ومثل هذا موجود في اللغة الإفرنسية نفسها فإن أهل الطبقة الوسطى يتكلمون بلغة لا تناسب بينها وبين لغة أديب أو شاعر على أن الشعب في البلاد التي يتكلم فيها بالعربية أقرب إلى فهم ما يتعلمون من الألفاظ بالذوق من الشعوب الأوربية إلى فهم الغريب من لغاتهم الرسمية. والدليل على ذلك أنك تجد الطبقة النازلة من(52/10)
الأمة تستمع للحكواتي (الأدباتي) في محال القهوة وتنصت لقصص ألف ليلة وليلة وقصة عنتر وتتفهمها كلها على بلاغتها بفطرة فيها وشعور طبيعي.
ومهما يقال فإن التمثيل باللغة العربية الأدبية يفهمه العامة ولئن فاتهم فهم بعض أبياتها فعامة باريز ليسوا في مسارحهم أكثر فهماً لما يتلى عليهم من قصائد كورنيل ومولير.
واللغة العربية ليست كما يقال لغة صناعية أجنبية وليست غريبة إلا عن كثير من الطلبة الهنود والمراكشيين وغيرهم ممن يقصدون من البادية جامع الزيتونة في تونس والأزهر في مصر ليتعلموها بل هي لغة حية لمن يدرسها ويتعلم بها بذوق مثل كتاب الشام ومصر الذين يتولون الصحافة وينشرون المعارف البشرية بواسطة الصحف والكتب بل هي حية أيضاً بالنسبة إلى أولئك الذين تراهم في محال القهوة العامة يهتزون لما يسمعون من أناشيد الغزل ووقائع الحروب على أن اللغة الإفرنسية أيضاً هي أحق بأن تكون لغة صناعية أجنبية إذا رأينا كيف يتوارى شبان الطلبة من قرى أقاليم البروفانس وبرتانيا وغاسكونيا (فرنسا) عن الأنظار ساعات اللعب في المدارس يتكلمون بلهجتهم الخاصة بهم.
فإن قيل أن اللغة العربية تحتاج إلى عشر سنين لتعلم نحوها قلنا أن الشرقيين يتعلمونها في أقل من هذه المدة ويتقنون معها عدة لغات أجنبية فعلينا أن نعقد أملنا بإصلاح طرق التعليم في المدارس الإسلامية على الأسلوب الحديث وذلك بأن يحصل الطلبة لغتهم في قليل من الزمن فاللغة يجب أن تكون آلة لا غاية.
وقال المسيو نويل أن حاجة العربية ماسة إلى أن تستمد من اللغة العامية لتحيا أما أنا فأقول بأن أعظم نقص في اللغة العربية أن تكون غنية وهي لا حاجة بها إلى الأخذ من العامية في حين تجد لديها 21 لفظاً مختلفاً للدلالة على الظلام و52 للشمس و100 للخمر و255 للناقة و350 للأسد. وقد أصيبت اللغة الإفرنسية بكثرة مفرداتها على عهد رونسارد فما قدح ذلك فيها بل عد من الزيادات التي تحذف. فالعربية لا تشبه اللغات الأوربية بل هي بالنسبة إلى الإفرنسية كالمرأة الباريزية الممشوقة القوام الجميلة الهندام مع المرأة السمينة الشرقية التي تحرص على هندامها القديم وهي حية جميلة قوية. نعم إن عنى العربية بمفرداتها يضر بمرونتها وسرعة فهمها ولكن الفتى الحار لا يكثر منها كثيراً في عروقه فإنا نجد كتاب هذا العهد يسقطون عدداً كبيراً من المترادفات وينشقونها الروح الغربية فهم(52/11)
قوام على صحتها وحياتها. واللغة التي تأخذ عن العامية تصبح إلى الابتذال الممقوت أقرب.
وبالجملة فإن العامة في الشرق ليسوا أقل من عامة الغرب فهماً للغتهم ولكنهم يزيدون فهماً يوم تصرف بينهم كل سنة الملايين لنشر التعليم العام على نحو ما يجري في الغرب. وإن قيل أن اللغة العربية لغة أدبية جميلة ولكنها ليست إلا أداة مشوشة لتعليم العلوم فالجواب بأن النتيجة التي وصل إليها أصدقائي المسلمين في المدرسة الخلدونية من تعليم العلوم باللغة العربية هي تكذيب صريح لمن يقول هذا القول. ويمكن أن يقال أن شعوب الشرق هم من عناصر أدب وتفنن فهم أميل إلى تلقف الشعر منهم إلى تعلم العلوم المادية كما يفعل اليوم أهل القاصية من بلاد أوربا فيتخلون عن الجميل من العلوم لتعلم ما هو نافع منها حتى كادوا يفقدون بذلك حضارتهم. فأنا أقول لهم في هذا المجال ما قاله نابليون: إذا كانت العلوم من أحسن ما اهتدت عقول البشر إلى تطبيقه فالآداب (الأدبيات) هي روح الإنسانية بذاتها.(52/12)
السجل المعلق
نقلنا في الجزء الماضي نموذجاً من كتاب السجل لحمزة بن علي مثبت ألوهية الحاكم بأمر الله وصاحب مذهب الدروز الأول وها نحن أولاء نتبعه بنتف منه تكشف الغطاء عن معتقدهم وللقارئ أن يعلق عليها ما شاء:
جاء في الرسالة الموسومة ويد (؟) التوحيد لدعوة الحق: توكلت على مولانا البار العلام العلي الأعلى حاكم الحكام من لا يدخل في الخواطر والأوهام جل ذكره عن وصف الواصفين وإدراك الأنام حروف بسم الله الرحمن الرحيم حدود عبد مولانا الإمام: كتابي إليكم معاشر الأخوان المستجيبين إلى دعوة مولانا الحاكم الأحد الفرد الصمد جل ذكره عن الصاحبة والولد العابدين له لا لغيره الناجين من شبكة إبليس اللعين والضد المهين وجواسيسه الملاعين وأنصاره الغاوين وحزبه الشياطين ليس لإبليس عليكم سلطان ولا لجنوده لديكم مكان ولا لزخرفة عندكم شأن بل أنتم الملائكة المقربون الذين ملكوا أنفسهم عن أفعال المشركين وأنتم حملة عرش مولانا جل ذكره والعرش ها هنا علمه الحقيقي الذي هو صعب مستصعب لا يحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو مؤمن امتحن المولى قلبه بالإيمان له وجده سبحانه تعالى عما يصفون.
أما بعد فإني أحمد إليكم مولانا الذي لا مولى لنا سواه وآمركم وإياي بالشكر لنعمه وآلائه حمد من استوجب الزيادة في أولاه وأخراه وأوصيكم بما أيدني به مولانا جل ذكره وأمرني به من إسقاط ما لا يلزمكم اعتقاده وترك ما يضركم افتقاده من الأدوار الماضية الخامدة والشرائع الدارسة الجامدة وما منهم ناطق إلا وقد نسخ شريعة من كان قبله من المتقدمين ومحمد بن عبد الله الناطق السادس لما ظهر بالنطق نسخ الشرائع كلها وسد الطرق وقال فمن لم يترك ما كان عليه قديماً من دين آبائه وأجداده قتل وسمي كافراً ومن ترك الشريعة التي بيده ولم يلتفت إليها وقع عليه اسم الإسلام وكان في سلمه غير ملام وضمن لهم محمد الجنة على الدوام فبان للعاقل الشافي والمخلص الكافي أن الإشارة والمراد ها هنا في عبادة الموجود لا المعدم المفقود والإنسان ابن يومه وساعته وفي الوجود راحته وله عبادته وبه حياته وإليه إشارته ومولانا الحاكم البار العلام قد نسخ شريعة محمد بالكمال ظاهراً للمؤمنين ذوي الأفضال وباطناً للموحدين أولي الألباب وأما من نوره في قلبه زاهر وفي معاني أموره للخلق قاهر وغير منافق بالكفر شاهر لا يلتفت إلى اشتعال الناموس وعلوه(52/13)
وزخرف القول وسموه ويعلم أنه استدراجاً للكافرين وتمييزاً للمؤمنين الموحدين كما قال وليميز الله الخبيث من الطيب وإن كان لا يخفى عن مولانا جل ذكره الخبيث من الطيب يعني المشرك من الموحد لكنه أراد أن يبين للموحدين من يرجع منهم على عقبيه ومولانا جل ذكره عالم بما في الصدور وما هو كائن والدليل على ذلك زوال الشريعة على الاختصار في شيءٍ واحد إذ لم تحتمل هذه الرسالة طول الشرح.
وقد بينت لكم في الكتاب المعروف بالنقض الخفي نسخ السبع دعائم ظاهرها وباطنها وذلك بقوة مولانا جل ذكره وتأييده ولا حول ولا قوة إلا به وكيف وفي رفع الزكاة وإسقاطها مقنع المسائلين عن غيرها وهي مقرونة بالصلاة وقد غزا عبد اللات بن عثمان المكنى بأبي بكر إلى بني حنيف ومعه جميع المهاجرين والأنصار فقتل رجال بني حنيف ونهب أموالهم وسبى حريمهم. وقد اشترى علي ابن أبي طالب وهو أساس الناطق من جملة السبي امرأة تعرف بالحنفية واسمها تحفة وهي أم ولده محمد فقيل له يا علي كيف تستحل نفسك أن تشتري امرأة تعرف مسلمة تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله وتصلي الخمس وتصوم شهر رمضان فقال علي ما ينفعها ولا لقومها الشهادتين ولا سائر أعمال الشريعتين إذا لم يؤدوا الزكاة وإن الزكاة هي الشريعة بكمالها فمن لم يؤدها وجب عليه القتل وأحل لنا ماله وأهله لقوله فويل لمشركين الذين لا يؤدون الزكاة فقد أخرجهم الله من الإسلام وجعلهم من المشركين. وأنتم معاشر الموحدين قد علمتم وسمعتم السجل الذي أمر مولانا جل ذكره بقراءته عليكم وأسقط عنكم الزكاة والأعشار والأخماس وسائر الصدقات إلى أبد الآبدين ولم يسقط عنكم محافظة بعضكم بعضاً. . . .
وقال في رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد: فنعوذ بمولانا من ذلك سبوح قدوس مبدع الإبداع وجامع الأشتات والأضياع الذي هو على السماوات عالٍ وفي الأرض متعال وعن قريب يظهر مولانا جل ذكره سيفه بيدي ويهلك المارقين ويشهر المرتدين ويجعلهم فضيحة وشهرة لعيون العالمين والذي يبقى من فضله السيف تؤخذ منهم الجزية وهم صاغرون ويلبسون الغيار وهم كارهون ويكونون في الغيار والجالية على ثلثة أصناف فغيار النواصب علاقتان من الرصاص في أذني كل واحد منهم وزنهما عشرون درهماً وطرف كمه الأيسر مصبوغ فاختياً وجاليته ديناران ونصف وهم يهود أمة محمد ويكون غيار أهل(52/14)
التأويل الواقفين عند العدم علاقتين من الحديد في أذني كل واحد منهم وزنهما ثلثون درهماً وطرف كمه الأيمن مصبوغ بالسواد وجاليته ثلاثة دنانير ونصف وهم المشركون نصارى أمة محمد ويكون غيار المرتدين من توحيد مولانا جل ذكره علاقتين من الزجاج الأسود في أذني كل واحد منهم وزنهما أربعون درهماً ويكون على رأسه طرطور من جلد ثعلب وصدر ثوبه مصبوغ رصاصياً أغبر وجاليته خمسة دنانير في كل سنة وهم المنافقون مجوس أمة محمد وتؤخذ هذه الجالية من الشيوخ والشباب والنساء والصبيان والأطفال في المهد وتغير عليهم العلائق في كل سنة فمن خالف منهم ضرب عنقه. . . . .
وقال في رسالة الغاية والنصيحة: فلو ميزتم معاني الكلام وتدبرتموها لبان لكم نطق الرسول من نطق إبليس وفعل الإمام من فعل غطريس ولعرفتم السبت والخميس وتبرأتم من فرعون وهامان الرجيس ولتصور لكم ارتفاع مكان إدريس وعبدتم مولانا جل ذكره باري الحن والجن والبن والإنس. والرسول هنا هو الإمام المفترض الطاعة وهو دون الإمام المعظم وإبليس هو المشتبه بالمولى سبحانه ويزعم بأنه جنس ويدعي عهد المسلمين والإمام الأعظم ذومعة وسمي ذومعة لأنه دعا توحيد الإمام جل ذكره بلا واسطة وغطريس هو نشتكين الدرزي الذي تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الإمام ويدعي منزلته ويكون له خوار وجولة بلا دولة ثم تنطفئ ناره وكذلك الدرزي كان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب والثوب هو الداعي والسترة التي أمره بها إمامه حمزة بن علي بن أحمد الهادي إلى توحيد مولانا جل ذكره سبحانه وتعالى وادعى منزلته حسداً له وإعجاباً بروحه وقال قول إبليس وكذلك الدرزي سمى روحه في الأول بسيف الإيمان فلما أنكرت عليه ذلك وبينت له أن هذا الاسم محال وكذب لأن الإيمان لا يحتاج إلى سيف بعينه بل المؤمنون محتاجون إلى قوة السيف وإعزازه فلم يرجع عن ذلك الاسم وزاد في عصيانه وأظهر فعل الضدية في شأنه وتسمى باسم الشرك وقال أنا سيد الهاديين يعني أنا خير من إمامي البادي وغره ما كان يضربه من زغل الدنانير والدراهم وحسب أن أمر التوحيد مثله يحتمل التدليس وأبى أن يسجد لمن نصبه المولى جل ذكره وقلده واختاره وجعله خليفته في دينه وأمينه على سره وهادياً إلى توحيده وعبادته فتغطرس على الدين وأظهر سيف الناطق والأساس(52/15)
أجمعين طلباً للرياسة والاسم اللطيف بإظهار الشريعة في عالم البسيط والكثيف.
وفرعون البرذعي وهامان علي ابن الحبال لأن فرعون كان داعي وقته فلما أبطأ الناطق قال أنا ربكم الأعلى يعني إمامكم الأعظم. وهامان الذي فتح له باب المعصية وإدريس هو الذي رفع مكاناً عالياً وهو ارتفاع درجته في العلوم حتى أصبح إماماً دون الإمام الأعظم الذي مص العلم من ذي معة وهو قائم الزمان هادي المستجيبين عبد مولانا جل ذكره وصفيه بلا واسطة جسماني فإذا عرفتم هذا عبدتم مولانا جل ذكره باري الحق وهم الدعاة والجن وهم المأذونون والبن وهم المكاسرة والأنس وهم المستجيبون ها هنا في هذا المعنى والسبت دليل على السابق وهو علي بن عبد الله اللواتي الداعي والخميس دليل على التالي وهو مبارك بن علي الداعي وأهل التأويل يزعمون بأن الكلمة هو السابق والسابق هو الكلمة ولا فرق بينهما ولا يعرفون فوقهما شيئاً إذ كانت الثلة حدود الذين هم ذومعة وذمعة والجناح غائبين عن عيون قلوبهم ينظرون إليهم وهم لا يبصرون.
معاشر المستجيبين لمولانا جل ذكره قد بلغت لكم الهداية ودعوتكم إلى توحيد مولانا جل ذكره في سبعين عصراً ما منها عصر إلا ويظهرني مولانا جل ذكره فيكم بصورة أخرى واسم آخر ولغة أخرى أعرفكم ولا تعرفوني ولا تعرفون نفوسكم. والآن قد استدارت الأدوار وكأنكم بإظهار توحيد مولانا جل ذكره ونور الأنوار وأظهر لكم ما كان مدفوناً تحت الجدار فلمولانا الحمد والشكر وحده فلا تنكروا معجزات مولانا جل ذكره وآياته ولا تلتفتوا إلى أمس فأمس مضى بما فيه وغداً فلا تعلم أنك توافيه واليوم أنت فيه بما يقتضيه وكلما غاب عن العالم أسقطوه فلو كان للعالين عقول لميزوا معجزاتي التي أيدني بها مولانا جل ذكره يوم الجامع. . . . .
وقال في رسالة السيرة المستقيمة بشأن القرامطة ما يأتي: وكان أهل الإحساء_إلى المدينة صرفة_يسافرون إليها بالبيع والشراء فدخل إليها رجل من أهل الإحساء يقال له صرصر فكاسره بعض الدعاة وأخذ عليه العهد من وقته وساعته وأتى به إلى عند آدم وهو شطنيل فأطلقه داعياً بإحساء وأعمالها فخرج الرجل من وقته وساعته إلى الإحساء وأعمالها وأخذ العهد بها على خلق كثير وأوصاهم بتوحيد مولانا جل ذكره وعبادته والإقرار بشطنيل وإمامته والتبرئ من إبليس وصحبته وقال لهم إذا دخلتم هجر فعبسوا وجوهكم وقرمطوا(52/16)
آنافكم على أهلها فإن فيها رجلاً يقال له حارث ابن طرماح الأصبهاني وله أصحاب كثيرة وكلهم قد خالفوا مر مولانا البار العلام وجحدوا فضيلة الإمام فلا تخاطبوا أهلها بشيء من العلم إلا لمن يحضر معكم مجلس شطنيل الحكيم فقبلوا من الداعي صرصر وفعلوا ما أمرهم به من العبسة والقرامطة فلقبوهم بالقرامطة إلى وقتنا هذا وصار ذلك اسماً في بلاد الفرس وأرض خراسان إذا عرفوا رجلاً بالتوحيد قالوا هذا قرمطي ويسمون مذهب الإسماعيلية القرامطة لهذا السبب.
وكان أبو طاهر وأبو سعيد وغيرهم من القرامطة دعاة لمولانا البار سبحانه يعبدونه ويوحدونه ويسجدون لهيبته وعظمته وينزهونه عن جميع بريته فلقبهم المولى جلت قدرته بالسادة وعلموا في الكشف ما لم يعمله أحد من الدعاة وقتلوا من المشركين ما لم يقدر عليه أحد من الدعاة ولم يسهل المولى سبحانه ظهور الكشف على أيديهم لما علم جلت قدرته وعزت عظمته ومشيئته ما يكون من الخلف بعدهم من إضاعة التوحيد والضلالات وإتباع بني العباس بالشهوات ووقوعهم في الغي والغمرات وقد آن وقت الكشف وأزف أوان السيف الخسف وقتل المنافقين وهلاكهم بالعنف ولا بد من رجوع أهل الإحساء وهجر وديار الفرس إلى ما كانوا عليه من توحيد مولانا جل ذكره وعبادته ويسجدون له ولهيبته وعظمته وينزهونه عن جميع بريته ويكونوا أنصار التوحيد كما كانت قديماً أسلافهم وأبث فيهم دعاة التوحيد وأجمع شمل الأولياء والعبيد وأقهر بسيف مولانا جل ذكره كل جبار عنيد حتى لا يبقى بالحرمين الشريفين مشرك بمولانا جل ذكره ولا كافر به ولا منافق عليه ويكون الدين واحد (؟) بلا ضد ولا معاند وذلك بقدرة مولانا الحاكم الأحد الفرد الصمد المنزه عن الصاحبة والولد وشدة سلطانه ولا حول ولا قوة إلا له وبه عليه توكلت وبه أستعين وإليه المصير وهو حسبي ونعم المعين النصير. . . . .
وقال في نفس هذه الرسالة أيضاً في توحيد الحاكم وآياته: فلمولانا الحمد والشكر على ظهور نور الأنوار وخروج ما كان مدفوناً تحت الجدار فقد أنعم علينا وعليكم بمباشرته في البشرية وظهوره لكم في الصورة المرئية كيما تدركون بعض ناسوته الأنسية ولا أقول ذاته أو نفسه أو صورته أو معناه أو صفاته أو حجابه أو مقامه أو وجهه إلا ضرورة على قدر استطاعة المستجيبين وما يفهمه المستمعين (كذا) وتعيه عقولهم ويدخل في خواطرهم ولو(52/17)
قلنا غير هذا لما فهموا الكلام ولا تم لهم النظام وإلا فمولانا جل ذكره لا يدخل في الأوهام والخواطر ولا يمتزج بباطن ولا ظاهر بل منه بدأ كل شيء وإليه يعود كل شيء كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن سبحانه وتعالى عن إحاطة الدهور به والأزمان ولا يقف أحد من المخلوقين على أفعال مولانا جل ذكره ولا يدرك غاية سلطانه ولا يستطيع الوقوف على كنه عشر عشر معشار سيرته وبرهانه.
ولقد تدبروا العالمين (كذا) ما يرون من آياته وبيان علاماته مشاهدة العيان لكان لهم كفاية عن طلب العدم بالخبر وعن كتبه التواريخ والسير وذلك ما شاهدون منه لا يجوز أن يكون من أفعال أحد من البشر ولا سمع به من التواريخ والسير. ولو جئت أذكر لكم عيان جميع ما أظهر مولانا جل ذكره من أبياته وبيان علاماته لما حواه قرطاس ولا كتبه قلم كما قال في القرآن ولو أن ما في الأرض من شجر أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله والله في هذا الموضع ناسوت مولانا سبحانه لكني أذكر لكم في هذه السيرة وجوهاً قليلة العدد كثيرة المنفعة لمن تفكر فيها ووحده وعبد مولانا سبحانه وعز عن حكومة الأوهام سلطانه.
فأول من اختصر هذا القول ما فعله المولى سبحانه مع برجوان وابن عمار وهو يومئذ ظاهر ما يرونه العامة على قدر عقولهم ويقول صبي السن وملك المشارقة كافة مع برجوان وابن عمار ملك المغاربة كافة ما أمر مولانا سبحانه بقتلهم فقتلوا الكلاب ولم يخش من تشويش العساكر والاضطراب وأما أمر ملوك الأرض فما يجرأ أحد منهم على مثل ذلك ثم أمر بقتل ملوك كتامة وجبابرتها بلا خوف من نسلهم وأصحابهم ويمشي أنصاف الليالي في أوساط ذراريهم وأولادهم بلا سيف ولا سكين.
وقد شاهدتموه في وقت أبي ركوة الوليد بن هشام الملعون وقد أضرم ناره وكانت قلوب العساكر تجزع في مضاجعهم مما رأوه من كسر الجيوش وقتل الرجال وكان المولى جلت قدرته يخرج أنصاف الليالي إلى صحراء الجب ويلتقي به حسان بن عليان الكلبي في خمسمائة فارس ويقف معهم بلا سلاح ولا عدة حتى يسأل كل واحد منهم عن حاجته ثم أنه يدخل في ظاهر الأمر إلى صحراء الجب وليس معه غير الركابية والمؤذنين وكذلك في وقت نفاق مفرج بن ذغفل بن جراح وأخوته وأولاده وبدر بن ربيعة وجميع العرب وكانوا(52/18)
أهل الحجاز مع سلطانهم حسين بن جعفر الحسيني الذي نافق بمكة ومجيئه إلى الرملة واجتماعه مع ابن جراح وأولاده وما بالحضرة أحد من العسكرية ولا من الرعية إلا وهو يعتقد في كل يوم وليلة بأن حسين بن جعفر الحسيني يحيي مع مفرج بن دغفل وأولاده ويكسبون القاهرة والمولى جل ذكره يركب كل يوم وليلة ويخرج من العتمة من القاهرة ويدخل صحراء الجب ناحية الجبل موضع يزعمون العالم بأن بينه وبين ابن جراح وأراد ابن جراح أن يقتله ثم هلك بعد ذلك مفرج بن دغفل بن جراح وملوك الأرض كافة قد عجزوا عن هذا. . . . اهـ.
وهكذا تجد هذا المخطوط كيف قلبته حاوياً أنواعاً مما تقدم وختم بقصيدة اسمها شعر النفس للشيخ أبي إبراهيم إسمعيل بن محمد التميمي الداعي المكنى بصفوة المستجيبين إلى دين مولانا إلى علم الإمام أرسلها إلى جبل السماق لتقرأ على كل موحد وموحدة قال:
إلى غاية الغايات قصدي وبغيتي ... إلى الحاكم العالي على كل حاكم
إلى الحاكم المنصور عوجوا ويمموا ... فليس فتى التوحيد فيه بنادم
هو الحاكم الفرد الذي جل اسمه ... وليس له شبه يقاس بحاكم
حكيم عليم قادر مالك الورى ... يؤانس بالاسم المشاع بحاكم
غدا السابق السامي إليه وتاله ... مع الجد والفتح الخيال الملاوم
عبيداً لمولانا خضوعاً لأمره ... وكل فتى في الدين عبد لآدم
هو الواحد العالي على كل علة ... وما غيره إلا كعبد وخادم
هو الحاكم المولى بناسوته يرى ... ولاهوته يأتي بكل العظائم
إلى الحاكم المولى فهبوا واقبلوا ... فتوحيدكم صدق على كل حازم
إذا الحاكم العالي تعالى بموكب ... فوحد بين العلم بين العوالم
تسمى إماماً والإمام فعبده ... تيقظ ولا تصغي إلى كل نائم
وقد ظهر المولى فآسى عبيده ... بأفعالهم أنساً بحكمة حاكم
ظهوراً بأفعال العبيد وشكلهم ... ويؤنسهم والخلق شبه البهائم
إذا بثنا التوحيد طاشت عقولهم ... وراموا انتهاشاً مثل نهش الأراقم
سيقطعهم عظم احتجاج مقالنا ... على عظمهم قطعاً كقطع الصوارم(52/19)
هو الحق ما قلنا شواهده أتت ... تحز مقال القوم حز الغلاصم
تقوم رجال الحق عند قيامهم ... بقوة عزم في انتهاء العزائم
يفادون رغماً لا يجاب مقالهم ... حفاة سارى في أكف الضراعم
يناديهم الهادي هلموا إلى الذي ... جلتهم من التوحيد من كل عالم
هلموا إلى المعنى الخفي وحسبكم ... شواهد ما أبدي لكم في الدعائم
وقلتم بتأويل المعاني ديانة ... على غيره ما قد قيل من كل قائم
ظننتم بأن الطفل يبقى لصغره ... وأنسيتم حد البلاغ المكاتم
وأشركتم والشرك كنه لنطقكم ... وأمواج بحر الشرك بين التلاطم
سيطلق سيف الحق فيكم لجهلكم ... ويحصدكم كالزرع من غير راحم
وتحويكم أهل الإجابة والتقى ... وتوحيدهم يربو على كل غانم
ويظهر سيف للتميمي مشهراً ... على جمعكم والفعل من غير آثم
وما صفوة للمستجيبين تارك ... جهادكم من غير خوف ولا لم
ونشفي غليلاً في الصدور مكمناً ... ونأتي على أنسابكم والتراجم
وتمشون جهراً بالغيار لخلفكم ... وتلقون كل الذل من غير راحم
سيكظم هذا الشعر كل منافق ... ويزداد كظماً فوق كظم إلا كاظم(52/20)
حال الهند الإنكليزية
(معربة عن مجلة الديبا الأسبوعية)
ليست أحوال الهند كما يرام والحكومة الهندية البريطانية في خوف شديد ورعب زائد. لا جرم أنه يستبعد حدوث ثورة عامة مثل ثورة سنة 1857. لأن الحكومة تتذرع بوسائل من الحزم والاحتياط تجعل أمثال هذه الثورات من قبيل المحال. خصوصاً وأن أسلاك البرق وخطوط الحديد وسرعة وصول الأخبار وسهولة المواصلات تساعد الحكومة على توطيد دعائم الأمن والراحة وتضمن لها السكون والهدوء. غير أن الهنديين يحاربون الفاتحين بأسلحة أخرى وسيظلون محاربين لهم أبداً بها وهي: الجرائد. الخطب. الدعوة إلى الثورة.
فبهذه الأسلحة الثلاثة يحاول الهنديون نزع الحكم الإنكليزي من أعناقهم. إلا وأن بين سكان آسيا على اختلاف مللهم ونحلهم وتباين عناصرهم وأجناسهم وبين أهل أوربا نفوراً ليس في إمكان البشر محوه ورفعه.
وإليك ما قاله كيبلينك في هذا الصدد: من كتاب الإنكليز ولد في بومباي سنة 1865).
الشرق شرق والغرب غرب. ولا شيء يجمع بينهما فهما ضدان لا يأتلفان. ومكن المتعذر كل التعذر أن تنشأ بين ابن الشرق وابن الغرب ألفة حقيقية أو مودة ثابتة أو ثقة تامة. فإنهما يتكلمان بلغتين متباينتين كل التباين ولا يستطيعان أبداً أن يتفاهما. وعدم الألفة وقلة الوئام هو الأصل في علائق الشرقيين والغربيين على مدى الأيام. . . .
تخرج في غضون خمسين سنة من المدارس العليا في الهند وإنكلترا ما يربو على خمسين ألف تلميذ هندي فتسعة أعشار هؤلاء غدوا كتاباً وأدباء ومحامين. أما الأطباء والمهندسون والكيماويون فهم بين ثلاثة إلى أربعة آلاف.
ويتخرج كل سنة من المدارس العالية اثنا عشر ألف هندي وهؤلاء يأتون بلادهم حاملين شهاداتهم فيزداد بهم عدد الدارسين المعلمين زيادة مستمرة.
وإن يكن قد خصص لهؤلاء الشبان بعض المناصب الصغيرة في الإدارة والمحاكم فليس في هذه المناصب ما يكفيهم جميعاً ومن لم يقدر على الدخول أو يرغب في دخول سلك المعلمين بتلك الرواتب الطفيفة التي تكاد تكون سخرية وهزؤاً يضم صوته لأصوات الجرائد ورجال السياسة المهيجين فعدد هؤلاء كبير للغاية وهو ينمو ويقوى على الدوام. .(52/21)
فالتربية الأوربية جعلت الهنديين غير راضين وصيرتهم خانقين ناقمين! ينشأ الهندي من المدارس العالية على ذكاءٍ وقاد ونباهة تامة غير ميال للتجارة أو الصناعات فيدخل في برهة وجيزة غمار الساسة وهو حانق على حكومة وإدارة قد غرستا فيه آمالاً كبيرة ومنته بأحلام مذهبة لم يتمكن من تحقيقها ولا طاقة له بالحصول عليها. وإذ كان يرى نفسه على مستوى من يحكمون عليه مساوياً لهم في المعرفة والإدراك ولا فرق بينه وبينهم في شيءٍ لا يلبث أن يتمثل أمام عينه ذلك الظلم المهين الذي سجل عليه حياة بائسة تحت ربقة أناس دخلاء أجانب غرباء مع أن في مكنته أن يقوم مقامهم في تولى الأمور والمصالح والعمل في شؤون الحكمة والإدارة وقد يفضلهم ويمتاز عنهم من حيث أنه ابن البلاد عارف بأخلاقها وطبائعها، خبير بأمزجتها وعاداتها، واقف على معتقداتها وتصوراتها. . .
يتعلم الهندي في بلاد الإنكليز في أيام الدراسة قواعد السياسة وأصول الإدارة وسيقف على آراء علماء الاجتماع على نحو ما يتلقاها شبان الإنكليز فيخرج من المدرسة وعقله متشبع بمبادئ الحكم الذاتي وحكم الأمة نفسها بنفسها وعدم المركزية كما هو الحال في بريطانيا. والتلميذ الهندي يفهم هذه المبادئ كل الفهم ويعلمها حق العلم ولكنه متى جاء ليطبق أحكامها على بلاده وأوطانه يشعر بأن لسان حال الإنكليز يقول له بأجلى إشارة:
ما كان حقاً وصحيحاً على ضفاف التايمس ليس كذلك على ضفاف الغانج!.
وهذا القول يصعب إذا نظر الإنسان إليه بعين إنكليزية أما الهندي فلا يقنعه ذلك ومن هنا ينبعث النفور والحنق.
يريد الهنود إما أن يتركوا وشأنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم وإما أن يحكمهم الإنكليز مراعين مصلحة الثلاثمائة مليون من البشر سكان الهند رعية إمبراطور الممالك الهندية وملك بريطانيا. وبعبارة أخرى يطلبون من حكومة الهند أن توجه عنايتها لحفظ مصالح الهند.
إما الإنكليز وجرائد الإنكليز فيقولون ويجهرون بالقول غير مبالين بأن بقاء الإنكليز وحكمهم عليها هو لأجل مصالح الإنكليز فقط فالهنود محكومون للإنكليز من أجل هذه المصالح وحدها. وما دام الإنكليز في بلاد الهند فمصالحهم ومرافقهم فيها خطيرة فحرصاً على هذه المصالح ورعايةً لهذه المرافق وحباً بالوصول إليها على أكمل وجوهها يحكمون(52/22)
هذه المملكة الشاسعة الأطراف الوسيعة الجوانب ويدبرون أمورها.
ربما ساغ للإنكليز أن يقولوا أنهم عمروا البلاد وحسنوا حالها بإنشاء الطرق ومد الخطوط الحديدية وأسلاك البرق وإصلاح الري وسقيا الأرض وفتح أبواب الصناعات وبذل العناية في حفظ الصحة العامة ودرءِ أسباب المجاعات وتخفيف ويلاتها. ولكن هذه المواد النافعة لم تأتِ إلا من طريق العرض وهي منبعثة من المنافع الكبيرة والفوائد العظمى التي خص الإنكليز بها أنفسهم دون سواهم فهي ناشئة من حاجتهم إليها لأجل استثمار البلاد وأخذ نتاجها وغلتها. . .
وقصارى القول: إن الإنكليز لم يحكموا الهند من أجل عيون الهنود الكحلاء ولمنفعة الهنديين بل رغبة في مصلحة الإنكليز وحدها. . .
وما من أحد في الغرب يلوم الإنكليز على صنعها هذا. ولكن أليس من البديهي أن يصلح أهل الهند غير راضين عن هذه الحالة.
يقول الهنود: لا يعمل الإنكليز إلا لأنفسهم.
ويجيبهم الإنكليز: بأنهم يعملون لأنفسهم وفي عملهم هذا ينفعون البلاد الهندية. فهنا فرق دقيق لا يخفى على الناقد البصير.
وإن الهنود الدارسين في أوربا ليعلمون هذا الفرق ويدركونه وهم لا ينفكون من إلفات أنظار أبناء وطنهم إليه مشوباً بالإعظام والمبالغة. رأى الهنود المتعلمون وعرفوا ماذا حدث وجرى في جزيرة إيرلاندا ورأوا وعرفوا ماذا حدث في الممالك الأخرى فاقتدوا بهم ونسجوا على منوالهم وحذوا حذوهم وقلدوا الأيرلنديين والاجتماعيين والعدميين (سوسياليست وآنارشيست) في أعمالهم. .
خذ مثالاً لذلك حاثة عليبور سنة 1908 وحادثة لورندا سنة 1909 (وهي أن دنكرا الهندي قتل السير كرزون ويلي والدكتور لاتقا سنة 1909) وغيرهما. . .
فالمتهيجون والكتاب والصحفيون من الهنود الذين يعرفون قوة الجرائد والمطبوعات وتأثيرها فتحوا باب حرب دائمة على صحائف الجرائد ضد الإنكليز يدعون الناس فيها إلى طلب الاستقلال في الإدارة (أوتونومي وبالهندية سوراجا) ويشوقونهم لمقاطعة البضائع الإنكليزية (بويكوتاج وبالهندية سوادشي) كما صنع الأيرلنديون في جزيرتهم.(52/23)
وأضافوا على ذلك عمل الفوضويين أي القتل والفتك الذريع وإلقاء القنابل والأجزاء المفرقعة والمواد النارية المنفجرة.
وهذا هو البلاء! فكيف السبيل للوقوف أمام تياره الهائل؟
لم تعمد الحكومة الإنكليزية حتى الآن إلا إلى طريقتين: الأولى العزم والرصانة. الثانية: إرضاءُ الطبقات العليا التي لها التأثير في الهنود بشيءٍ من المنافع والمناصب وهم البراهمة الذين يلتصق بهم عامة الدارسين من الهنديين الذين نشئوا نشأة إفرنجية.
وربما وجد بين هؤلاء من هو راضٍ عن الإنكليز وحكم الإنكليز. بيد أنهم قليلون جداً لا يتعدون الطبقة التي تولت مناصب الحكومة ونالت رواتب كافية.
أما جيش الكتاب الصحافيين العرمرم، جيش الناقمين الحانقين، جيش المتعلمين الذين لم يحصلوا على مراكز في الحكومة فإنهم يؤثرون في أفكار الناس جميعاً من طريق الكتابة والخطابة.
يصعب الحكم على مبلغ تأثير هؤلاء المتحمسين وإلى أين يصل وماذا حصل منه. ومعلوم أن التأثير عظيم جداً لاسيما في بنجاب وبنغاله وغيرهما من الأقطار. . .
ومما يساعد على امتداد سلطة الإنكليز في الهند انقسام الهنديين إلى طبقات متخالفات (كاست وهذه الطبقات لا رابطة بينها ولا ترغب في أن يكون لها رابطة.
ولا يوجد في الهند ما يقال له أمة هندية. وليس بين سكان الممالك الهندية رابطة مشتركة سوى بعض الإنكليز وهذه الرابطة عبارة عن شعور سلبي لا يفيد في شيءٍ إن لم يكن مشفوعاً بشعور إيجابي كحب الوطن والاشتراك في اللغة وفي الأفكار.
فهذا لا أثر له في الهند. أو لم يوجد بعد. ويختلف الهنود بعضهم عن بعض كما يختلف سكان البلاد المتفرقة في أوربا.
ثم أن العنصر الإسلامي في الهند راضٍ عن حكومة الإنكليز لأنه هو أيضاً أجنبي. ومن المحقق أن المسلمين في الهند ليسوا سوى ستين مليوناً من ثلثمائة مليون والهنود يبغضون المسلمين بقد بغضهم للإفرنج تقريباً وزد على ذلك فإن مسلمي الهند محرومون من الذكاء والميل للتعليم الذي عرف به الهنود.
فينتج من ذلك أن الحالة في الهند أو في بعض أيالاتها (كبنجاب وبنغاله وغيرهما. .)(52/24)
ليست على خير وإن كان لا ينبغي إعظامها والمبالغة فيها لأن وجود الطبقات المتخالفات في درجات الاجتماع واختلاف الأجناس والأديان يحول دون ثورة عامة على الإنكليز. وإنكلترا لا تخشى إلا من أن تثور الهند مدفوعة من إحدى الدول العظمى أو مستندة عليها. خطر الثورة في الهند قليل جداً بالنسبة للثورة التي حدثت قبل اثنتي عشرة سنة ولكتن المركز حرج على كل حال.
عن نهر الذهب:
عبد الوهاب.(52/25)
آفة الأخبار
مسألة تصحيح السند في الأخبار من المسائل المعول عليها كثيراً في الإسلام حتى عد ذلك من خصائصه وبه حفظت السنة بحالها وطرحت منها الزوائد ولم يبق مجال للوضاعين والقصاصين على شدة احتيالهم في بث ما اخترعوه ووضعوه ولأجل هذا الغرض ألفت المصنفات الكثيرة في الطبقات ليعرف كل امرئٍ بترجمته فلا يغترر إنسان بقوله مهما بلغ من زخرفه: فمن طبقات للمفسرين وأخرى للمحدثين وأخرى للفقهاء وغيرها للمؤرخين وغيرها للنحويين والحكماء والأدباء والفلاسفة والأطباء لتظهر على الدهر صفات من انتسب لعلم أو ضرب في العارف بسهم.
ولذلك كان من السهل التمييز بين أقوال المؤلفين على عهد رواج بضاعة العلوم في هذه الديار أيام كانت ملكة النقد ترجع إلى قواعد مقررة وضوابط محررة فلا يغتر الخاصة بنقل نقله مؤلف هو في الحقيقة من العامة بمجرد ما يرونه8 مكتوباً على الورق منشوراً في سفر مجلد.
ولقد كان ولا يزال بعض من يعانون صناعة التأليف يسقطون الحين بعد الآخر في مسائل فيخلطون فيها على الأغلب ومنشأ ذلك على ما يعرف المحققون عدم تصحيح السند والنقل وأخذ القول على عواهته بدون تمحيص حتى لم تكد تخلو كتابة المكثرين من المغامز يتبين منها عوارها ويتجلى ضعفها.
مثال ذلك اختلاف بعضهم في أمر الخلفاء وما كانوا عليه من النازع والأخلاق فكان بعضهم يقدح في سيرتهم حتى يسقطوهم كل الإسقاط وبعضهم يرفعونهم حتى يبلغوا بهم مراتب الملائكة وكلا الأمرين إفراط وتفريط. فقد رأينا بعض الوضاعين وأرباب المجون اتهموا بعض بني العباس كالرشيد والمأمون مثلاً بالتبذل والاسترسال في الخلاعة ولم نر مؤرخاً واحداً من ثقات المؤرخين صحح هذه الأخبار فكأن مدون تلك الهنات يحاول إلصاقها بخصمه لغرض سياسي أو أن ينقلها بعض أرباب المقالات والأهواء_وأكثرها أيضاً من نزعات سياسية_ويقصد منها غرضاً من الأغراض أو يغتر بها الأبله وما أكثر البله في المؤلفين. ومن الحكايات المدخولة للأغراض المنوه بها ما رواه بعض لم يصححوا النقل في السبب الذي حمل الرشيد على نكبة البرامكة من قصة العباسة اخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته وإياهما الخمر إذن لهما في عقد النكاح دون(52/26)
الخلوة وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة لما شغفها من حبه فحملت ووشي بذلك للرشيد فغضب ونكب البرامكة.
وقد رد ابن خلدون على هذه التهمة الشنعاء أحسن رد معقول فدفع هذه الفرية عن ابنة خليفة وأخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول قريبة من عهد البداوة وسذاجة الدين وما هذه التهمة إلا مما وضعه الوضاعون يقصدون التوصل منه إلى النيل من أولئك الخلفاء بهذه الطريقة السافلة وإغراء الناس على إتيان المنكرات ليقول العامة إذا كان مثل الرشيد يعاقر الخمر ويقدح في مروءته في مسألة تزويج أخته فأولى بنا أن لا نشدد في قيود الدين والآداب ونحن يسعنا ما يسعهم وقد قال الطبري وهو من ثقات المؤرخين والمحدثين أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاماً ويحج عاماً. أما الشراب الذي يرمي بنو العباس بتناوله فكان عصير التمر وقد أفتى بحله الفقهاء.
وإنا إذا تمدنا في أخبارنا على مثل كتاب أعلام الناس ونزهة المجالس وشمس المعارف وغيرها من كتب الموضوعات واعتقدنا صحة أقوال بعض أرباب الأهواء من المؤرخين لا يكاد يبقى لنا بقية يعتد بها من الخلفاء والأئمة ما كانت الأمة تبقى إلى اليوم محافظة بعض الشيء على آدابها وأخلاقها. ومن ذلك ما وقع مؤخراً لصاحب مقالة تعليم النساء فنقل ما قاله الأدباء وأكثرهم من المخالفين لبني العباس في مذهبهم الديني والسياسي_في علية حفيدة المنصور وبنت المهدي وأخت موسى الهادي وإبراهيم ابن المهدي والرشيد والعباسة وأسماء وعمة الأمين والمأمون والمعتصم وإنها كانت تشبب بغلامين طل ورشا وإن الرشيد لما آنس منها ميلاً إلى طل وهبها إياها وقبل رأسها وقال لها لست أمنعك بعد اليوم من شيءٍ تريدينه!
ولئن رجح الكاتب الرواية الثانية لما عرف من أنفة الرشيد وغيرته ولكنه كان عليه طرح هذه الرواية المدخولة لأدنى نظرٍ قياساً على نظائرها مما روي عن أرباب الخلاعة من الماجنين من الشعراء والوضاعين من أهل الأهواء ممن يريدون الاعتذار عن سيئاتهم باتهام العظماء بهذه التهم الشنعاء ليكون الناس في الخزي والبذاء كأسنان لمشط في الاستواء ولطالما ودَّ صاحب الكبائر لو كان الناس كلهم شركاءهم فيما يقترفون.(52/27)
وإنا إذا وضعنا هذه الرواية على محك الروية لتجلى لنا لأول نظرة بأنها لا تصدر عن عامة الناس في عصر الرشيد والمأمون وناهيك به من عصر بلغ الغاية في الآداب والعلم والصيانة فكيف يعقل صدور ذلك من خليفة وابنة خليفة وأخت خليفة ولو وجد عقلاء عصره ورجال دولته أقل نقد عليه لما سكتوا عنه ولو أغمضوا عيونهم لما خفي أمره على الطالبين القائمين بالدعوة إلى أهل البيت وهل أحسن لهم ذريعة في إسقاط الرشيد والمأمون من نسبتهما إلى أمور لو ثبت أقلها لكانت تقصيهما عن منصب الخلافة ولو كان أهل الأرض ظهراءهما.
إن أخلاق السوقة تأبى لعمز الحق الرضى بما نقله أهل المجون عن الرشيد وسماحه لأخته بمعشوقها وقوله لها أنه لا يصدفها عن إتيان ما تريد إذا كان فيه هوى نفسها! وإن نسبة تلك الأشعار في النسيب والتشبيب إلى امرأة كعلية من فضيلة النساء لا يرضى به السوقة دع عنك الخلفاء بعد الذي علمناه من أن العرب كانوا يقتلون من بناتهم من تشبب وتفحش في غزلها فكيف بعد هذا نثق برواية القيرواني في علية وهو أموي والأصفهاني وهو علوي. ومعاداة العلويين والأمويين لبني العباس معلومة مشهورة وميل الأدباء والموسيقيين للأغراب لإدهاش الناس معروف موصوف ومتى كانت تؤخذ حقيقة علمية من أديب أو فضيلة أخلاقية من شاعر.
وعندنا أن كل ما اتهم به الوضاعون وأهل الخلاعة بعض الخلفاء الأول من بني العباس إنما أتى من تكتم العباسيين في أسرار دولتهم ولأنهم أعطوا الأمة حرية أمنت فيها فلم ير بعض أردياء الفطرة أقرب إلى العبث بعقول العامة بنشر تلك الموضوعات والمجونيات بين العامة والخاصة كما أشاعوا سوء القالة عن العباسة وعلية والناس أميل إلى الشر منهم إلى الخير وإلى كسر القيود أكثر من الاحتفاظ بها وإلى أقاصيص الهزل وأساطير اللهو أكثر من روايات الجد وتلقف الحقائق. وكل شيءٍ يحتاج إلى تمحيص وحاجتنا إليه في التآليف والمؤلفين أكثر حتى لا نتغرر بكل قول ولا نصحح كل نقل.(52/28)
قانون حق التأليف
المادة الأولى_لكل نوع من النتاج الفكرية والقلمية حتى لصاحبها يسمى حق التأليف.
المادة الثانية_النتائج الفكرية والقلمية هي جميع أنواع الكتب والمؤلفات والرسوم والألواح والخطوط والمحكوكات والهياكل والخطط والخرائط والمسطحات والمجسمات المعمارية والجغرافية والطبوغرافية وكل المسطحات والمجسمات الفنية والترانيم والتواقيع (نوطه) الموسيقية.
المادة الثالثة_إن حق التأليف يتضمن طبع ونشر هذه الآثار والاتجار بها وترجمتها للسان آخر أو إفراغها لرواية تمثيلية ويشمل الدروس والمواعظ والخطب والمسامرات التي تلقى لأجل التعليم والتربية أو الفكاهة. أما الخطب التي تلقى في مجلس المبعوثان والأعيان والمحاكم والاجتماعات العمومية فلكل إنسان أن يضبطها وينشرها. وإنما جمع خطب خطيب أو دروس أستاذ وتدوينها وطبعها هو حق من حقوق صاحبها.
المادة الرابعة_المقالات والرسوم التي تنشر في الجرائد اليومية والموقتة إذا كانت مقيدة بعبارة حقها محفوظ ونشرها وترجمتها ممنوع لغير صاحبها فحقها محفوظ.
ولكن المقالات والرسوم والأخبار اليومية غير المقيدة بمثل هذا القيد لا يعتبر فيها حق التأليف على شرط أن يبين مأخذها.
المادة الخامسة_لا يجوز استعمال أسماء الجرائد والمجموعات والرسائل والكتب الموجودة من قبل أحد وإنما لكل إنسان أن يضع لمؤلفاته أسماء وعنوانات عمومية.
المادة السادسة_يعود حق التأليف للمؤلف في حياته وبعد وفاته يعود أولاً لأولاده وأزواجه لمدة ثلاثين سنة من تاريخ وفاته. ثانياً لآبائه وأمهاته. ثالثاً لأحفاده بالتساوي. وعليه لا يجوز طبع ونشر هذه المؤلفات أو ترجمتها للسان آخر في هذه المدة من قبل أحد غير مؤلفها أو ورثته.
المادة السابعة_إن حق التأليف في الألواح والخطوط والنقوش والرسوم والأشكال والخرائط وجميع المسطحات والمجسمات المعمارية أو الجغرافية والطبوغرافية بعد الوفاة هو ثماني عشرة سنة أما حق التأليف في الترانيم والتواقيع الموسيقية فهو كالكتب والمؤلفات (ثلاثون سنة).
المادة الثامنة_ليس في القوانين والنظامات والأوامر والتعليمات الرسمية والإعلانات(52/29)
التجارية والصناعية حق للتأليف ولكن للذين يعلقون ويشرحونها حق محفوظ في هذه التعاليق والشروح.
المادة التاسعة_إن مدة حق التأليف للآثار التي لم تنشر في حياة المحرر تبتدئ من اعتبار تاريخ نشرها.
المادة العاشرة_لا يجوز تمثيل رواية منثورة أو منظومة أو تمثيل قسم منها من غير إذن المؤلف ولا يتضمن حق طبع هذه الآثار ونشرها حق تمثيلها.
المادة الحادية عشرة_إن تمثيل الروايات المنثورة والمنظومة في المسامرات التي ترتبها المكاتب والجمعيات الخصوصية لا لمقصد الانتفاع غير تابعة لحق التأليف.
المادة الثانية عشرة_يجوز أخذ بعض القطع من أي أثر كان لضرورة أو لفائدة من الآثار الأدبية والعلمية والكتب المخصوصة بالمدارس وفي الانتقادات على شرط أن يذكر اسم المؤلف.
المادة الثالثة عشرة_لا تنشر المكاتيب إلا برخصة من صاحب تلك الآثار إذا كان حياً أو من عائلته إذا كان متوفى.
المادة الرابعة عشرة_يمكن ترجمة أثر من الآثار من قبل واحد أو أكثر ضمن أحكام هذا القانون وحق كل مترجم من ترجمته كحق التأليف اعتباراً من وفاة المترجم.
المادة الخامسة عشرة_إن حق التأليف في الآثار التي تنشرها الدوائر الرسمية والجمعيات المعروفة لدى الحكومة بصورة رسمية عائد لتلك الدوائر والجمعيات.
المادة السادسة عشرة_إذا ألف أو ترجم اثر من قبل أشخاص متعددين من غير مقاولة فحق التأليف أو الترجمة عائد إليهم كافة على التساوي وإذا توفي أحد الشركاء فحق استفادته من الأقسام التي نشرت لتاريخ وفاته والمسودات التي أعدت للنشر ينتقل لورثته وتعتبر مدة الثلاثين سنة في حق التأليف ومدة الخمس عشرة سنة في حق الترجمة اعتباراً من وفاة آخر شريك في التحرير وإذا كان يوجد مقاولة مخصوصة بين الشركاء فيجري حكم المقاولة تماماً وإذا حدث خلاف ما يرجع إلى المحكمة.
المادة السابعة عشرة_إذا لم يبق لصاحب الكتاب صاحب ما كأن توفي مؤلفه بلا وارث أو انقطعت الوراثة أو حدثت أسباب أخرى فكل إنسان له الحق بطبع ذلك التأليف وترجمته.(52/30)
المادة الثامنة عشرة_يمكن لكل أحد أن يطبع المؤلفات المطبوعة قبلاً والتي لا صاحب لها وفقاً للمادة السابقة وأما الذين يودون طبع مصنف لم يطبع حتى الآن فيعطى لهم بناء على استدعائهم امتياز من قبل نظارة المعارف لمدة عشر سنوات إلى خمسة عشرة سنة وحينئذ لا يجوز لغير صاحب الامتياز أو ورثته طبع هذا الكتاب في خلال هذه المدة وإنما إذا لم يباشر طبع المؤلف في مدة سنة أو عطل سنة بعد مباشرة طبعه فيعد الامتياز كأن لم يكن.
المادة التاسعة عشرة_إذا نفذت بعد وفاة لمؤلف نسخ أثر من الآثار المعتبرة التي يرجى منها الفائدة للناس ولم يتيسر طبعه لسبب من الأسباب كفقر ورثة المؤلف أو إهمالهم أو عدم اتفاقهم فنظارة المعارف تستكمل أسباب طبع هذا الأثر مع مراعاة حقوق الورثة.
المادة العشرون_على مؤلفي الآثار أن يعطوا ثلاث نسخ مطبوعة من أثرهم لنظارة المعارف في الآستانة ولمديرية المعارف في الخارج ويقيدوه ويسجلوه ليحفظوا بذلك حق تأليفهم أما الآثار التي ليس لها إلا صورة واحدة كالألواح والتماثيل والتعاليق (الأنواط أو المداليات) فهي مستثناة من هذه المعاملة.
المادة الحادية والعشرون_يقيد في الدفتر المخصوص الذي ينظم في نظارة المعارف ومديرياتها لحق التأليف ماهية المؤلف واسم كتابه وموضوعه وتاريخه ومحل طبعه وعدد صحائفه ويوضع له رقم بالترتيب وبعدها يوقع عليه من صاحب الكتاب أو وكيله الرسمي.
المادة الثانية والعشرون_يؤخذ في دوائر محاسبات المعارف ربع ليرة عثمانية فقط خرجاً للقيد والتسجيل ويعطى بمقابله من نظارة المعارف أو مديرياتها علم وخبر يعتبر بمقام سند للتصرف يكون معمولاً به إلى أن يثبت عكسه بالمحاكمة.
المادة الثالثة والعشرون_تجري معاملة قيد المطبوعات الموقتة في كل آخر سنة عند إراءة النسخ التي نشرت وتسجيلها.
المادة الرابعة والعشرون_لا تسمح دعوى حق التأليف في المؤلفات غير المسجلة إلى حين تسجيلها. تعلن في آخر السنة الكتب التي قيدت وسجلت في غضون السنة وأسماء مؤلفيها رسمياً بواسطة الجرائد.
المادة الخامسة والعشرون_لصاحب الأثر أو المترجم أو صاحب الامتياز أو ورثتهم أن يبيعوا أو يتركوا في خلال المدة النظامية حق التأليف أو الامتياز تماماً أو موقتاً أو بتعيين(52/31)
عدد النسخ لآخر بموجب بمقابل بدل أو بلا بدل ويكون المشتري أو الآخذ قائماً مقام أصحابها ضمن شروطها حتى أنه إذا توفى قبل إكمال المدة تعد ورثته متصرفة في المدة الباقية.
المادة السادسة والعشرون_يجب تسجيل مقاولة البيع أو الترك في نظارة المعارف في الآستانة وفي مديرياتها في الخارج ويؤخذ نصف ليرة عثمانية خرج قيد ولدى إبراز المقاولات التي لم تقيد على هذه الصورة إلى المحاكم يؤخذ ثلاثة أضعاف الخرج المذكور جزاء ويرسل إلى صندوق المعارف.
المادة السابعة والعشرون_المحررون وأصحاب الصناعة الذين يشتغلون لاسم غيرهم يعتبرون بائعين حق تأليفهم إذا لم يوجد مقاولة خصوصية.
المادة الثامنة والعشرون_ليس للطابع أن يحدث تغييراً ما في الكتاب بدون إذن المحرر وإذا جري ذلك منع نشر الكتاب بواسطة المحكمة وتعلن صورة الإعلام بالجرائد وليس للطابع أن يسترد الأجرة التي أعطاها للمحرر.
المادة التاسعة والعشرون_إن طبع كتاب وتمثيله في المدة الحقوقية من غير إذن صاحبه يعد تقليداً وكذلك تمثيل رواية منثورة أو منظومة في المدة الحقوقية من غير رخصة أصحابها وطبع التواقيع (نوطه) الموسيقية أو استنساخ الخرائط والألواح والرسوم وأنواع الخطوط بالفوطوغراف أو بوسائط أخرى وإعمال قوالب للآثار القلمية والموسيقية بالوسائط الصناعية وإعمال ألواح لها (بلاكات) هو بحكم التقليد يجازى المقلدون توفيقاً للمادة الثانية والثلاثين.
المادة الثلاثون_إن نسبة الآثار في التأليف والفنون النفسية لغير أصحابها يعد انتحالاً وكذلك من قدم وآخر عبارات كتاب أو أناشيد موسيقية أو حرف طرز أفادتها كله بصورة يفهم منها الأصل وأسندها لنفسه يعد بحكم المنتحل.
المادة الحادية والثلاثون_الانتقادات والشروح والحواشي لا تعد انتحالاً وكذلك إذا نقل المؤلف بعض جمل وفقرات من كتاب آخر لمصنفه ونوه بأنه أخذه من محل آخر لا يكون منتحلاً.
المادة الثانية والثلاثون_من طبع الكتب التي لها حق التأليف بدون رخصة من أصحابها أو(52/32)
توسط بطبعها أو مثل رواية منثورة أو منظومة يغرم بخمسة وعشرين ليرة عثمانية إلى مئة ليرة جزاءً نقدياً وحبس من أسبوع إلى شهرين وتضبط منه الأسفار التي طبعها وتعطى إلى أصحابها وكذلك من طبع مثل هذه المصنفات في الخارج ومن أدخلها إلى الممالك العثمانية يغرم بخمسة وعشرين ليرة عثمانية إلى مئة ليرة جزءً نقدياً والذين يبيعون هذه المطبوعات وهم عارفون بها أو يعرضونها للبيع يغرمون بخمس ليرات عثمانية إلى خمسة وعشرين ليرة جزاء نقدياً.
المادة الثالثة والثلاثون_إذا أقيمت دعوى الضرر والخسارة من قبل صاحب الكتاب المتضرر يعطى بحقها قرار من المحكمة نفسها مع أساس الدعوى.
المادة الرابعة والثلاثون_يعامل الطابعون الذين يطبعون كتباً زيادة عن المقاولة التي عقدوها مع المؤلف معاملة الذين خالفوا الأمانة وتضبط النسخ الزائدة التي طبعوها ويؤخذ منهم بدل ما باعوه ويعطى كل ذلك لصاحب الكتاب.
المادة الخامسة والثلاثون_تطبق أحكام المادة الثانية والثلاثين التي بحق المقلدين على المنتحلين أيضاً.
المادة السادسة والثلاثون_لأصحاب الكتاب المشترك أن يراجعوا المحكمة على الانفراد ويطلبوا الضرر والخسارة التي لحقتهم بسبب التجاوز على حقوقهم التصرفية من قبل الغير.
المادة السابعة والثلاثون_لا يجوز للدائنين حجر كتب المؤلف التي لم تطبع وإذا صدر حكم في بيع الآثار والمؤلفات التي حجز عليها يعتنى كثيراً بعرضها للبيع ووقاية أصحابها من الغدر.
المادة الثامنة والثلاثون_النظام المتعلق بطبع الكتب والمؤرخ في 8 رجب سنة 289 و30 آب سنة 288 مفسوخ بهذا القانون مع الفقرات المذيلة عليه.
المادة التاسعة والثلاثون_على من طبعوا أثراً قبل هذا القانون بدون أن يحصلوا على رضى صاحبه أو ورثته مراجعة صاحبه أو ورثته واستحصال رضاهم وإذا استمروا على بيع الآثار المخلدة من غير رضى أصحابها يجازون بمقتضى هذا القانون.
المادة الأربعون_إن تنفيذ الأحكام القانونية على الجرائم المعينة بهذا القانون متوقفة على(52/33)
شكايا شخصية.
المادة الواحدة والأربعون_إن حق تأليف للآثار التي نشرت بلا إمضاء أو بإمضاء مستعار راجعة إلى ناشرها إلى أن يظهر محررها نفسه.
المادة الثانية والأربعون_ناظر المعارف والعدلية مأموران بإجراء هذا القانون.
في عشرة جمادى الأولى سنة 1328 وفي 6 آذار سنة 1326.(52/34)
عبث المشيب
ظلم الرجال نساءهم وتعسفوا ... هل للنساء بمصر من أنصار
يا معشر الكتاب أين بلاؤكم ... أين البيان وصائب الأفكار
أيهمكم عبثٌ وليس يهمكم ... بنيان أخلاقٍ بغير جدار
عندي على ضين الحرائر بينكم ... نبأ يثير ضمائر الأحرار
مما رأيت ومما علمت مسافراً ... والعلم بعض فوائد الأسفار
فيه مجال للكلام ومذهب ... ليراعي (باحثة) (وست الدار)
* * *
كثرت على دار السعادة زمرة ... من مصر أهل مزارع ويسار
يتزوجون على نساء تحتهم ... لا صاحبات بغى ولا بشرار
شاطرنهم نعم الصبى وسقينهم ... دهراً بكأس إلى السرور عقار
الواردات بنيهم وبناتهم ... الحائطات العرض كالأسوار
الصابرات لضرة ومضرة ... المحييات الليل بالأفكار
* * *
من كل ذي سبعين يكتم شيبه ... والشيب في فوديه ضوء نهار
يأبى له في الشيب غير سفاهة ... قلب صغير الهم والأوطار
ما حله عطف ولا رفق ولا ... بر لأهله أو هوى لديار
كم ناهد في اللاعبات صغيرة ... ألهته عن حفد بمصر صغار
مهما غدا أو راح في جولانه ... دفعته خاطبة إلى سمسار
شغل المشايخ بالمتاب وشغله ... بتبدل الأزواج والأصهار
في كل عام همه في طفلة ... كالشمس إن خطبت فللأقمار
يرشو عليها الوالدين ثلاثة ... لم أدر أيهم الغليظ الضار
المال حلل كل غير محلل ... حتى زواج الشيب بالأبكار
سحر القلوب فرب أم قلبها ... من سحره حجر من الأحجار
دفعت بنيتها لشأن مضجع ... ورمت بها في غربة وأسار
وتعللت بالشرع قلت كذبته ... ما كان شرع الله بالجزار(52/35)
ما زوجت تلك الفتاة وإنما ... بيع الصبى والحسن بالدينار
بعض الزواج مذمم ما بالزنى ... والرق إن قيس به من عار
فتشت لم أرى في الزواج كفاءة ... ككفاءة الأزواج في الأعمار
* * *
أسفي على تلك المحاسن كلما ... نقلت من (اليالي) إلى الدوار
إن الحجاب على (فروق) جنة ... وحجاب مصر وريفها من نار
وعلى وجوه كالأهلة روعة ... بعد السفور ببرقع وخمار
وعلى الذوائب وهي مسك خولطت ... عند العناق بمثل ذوب القار
وعلى الشفاه المحييات أماتها ... ريح الشيوخ يهب في الأسحار
وعلى المجالس فوق كل خميلة ... بين الجباه وشاطئ محبار
تدنو الزوارق منه تنزل جؤذراً ... بقلادة أو شادناً بسوار
يرفلن في أزر الحرير تنوعت ... ألوانه كالزهر في آذار
الطاهرات اللحظ أمثال المهى ... الناطقات الخرس كالأوتار
الرائعات اللاعبات أوانساً ... بربي (بيوكدرة) وشاطئٍ (صاري)
الدهر فرق شملهن فمر به ... يا رب تجمعه يد المقدار
مصر
أحمد شوقي.(52/36)
الإبر
كثيراً ما فتشنا في كتاب دائرة المعرف العربية للبستاني عن أهم أمم الشرق وأديانهم فلم نعد بطائل. ومن جملة هذه الأجيال الأبر فلا تجد لهم ذكراً في هذا الكتاب. مع أن جغرافيي العرب ذكروهم في مؤلفاتهم وإن لم يذكروا لنا التفاصيل التي نتطال إلى معرفتها. فقد جاء في كتاب ابن الفقيه المسمى بكتاب البلدان ص83 من طبعة دي كوي ما نصه: وبرجان وبلدان الصقالب والأبر شمالي الأندلس وقد نقل هذه العبارة بعينها وحروفها ابن خرداذبة في كتابه المسالك والممالك. وقال ابن رسته في الأعلاق النفيسة ص98 عن بلاد هؤلاء القوم ما نصه: وأما ما وراء هذه الأقاليم (الأقاليم السبعة) إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد ياجوج ثم يمر على بلاد التغزغز وأرض الترك ثم على بلاد اللان ثم على الأبر ثم على برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب اهـ بحرفه وقال المسعودي في كتاب التنبيه والإشراف ص32: وحد الأقاليم الخمسة بحر الشام إلى أقصى أرض الروم مما يلي البحر إلى تراقية وبلال برجان والصقالبة والأبر إلى حد أرض ياجوج وماجوج إلى حد الإقليم الرابع مما يلي نصيبين أطول ساعات نهاره خمسة عشرة ساعة. اهـ.
وفي موضع آخر ص184 من كتاب المسعودي المذكور ذكر الأبر من سكان بلاد تجاور جبل القبق (قوقاس أو قفقاسية) قال: وقرب من هذا الجبل من الأمم كاللان والسرير والخزر. . . والأبر وبرجان والروس والبرغر. . . وذكرهم مرة ثالثة في ص191 قال: ومن جاورهم (أي الروم) من الممالك من برجان والأبر والبرغر والصقالبة والخزر وغيرهم. .
ولم نجد لهم ذكراً في سائر كتب مؤرخي العرب وواصفي البلدان فلا الطبري ذكرهم ولا ابن الأثير ولا ابن خلدون ولا غيرهم من كبار المؤلفين. ومن بعد أن بحثنا عنهم وجدناهم أنهم الذين يسميهم الإفرنج وهنا نلخص عنهم ما كتبوه تماماً للفائدة وسداً للثلمة الموجودة في كتبنا التاريخية والجغرافية.
الأبر جيل من الناس منشأوه في بلاد التتر وهم فروع من فرع قبيلة الهونة. وكانوا قد ضربوا خيامهم بعد أن هجروا بلادهم الصلية في نواحي جبل الألطائي. ثم طرأت عليهم طارئة من الصينيين سنة 552 فطردتهم من مقرهم وأفنت جماعات منهم. ومن نجا منهم(52/37)
فرغوا إلى جهات بلاد أوربا فقطعوا نهر الأثل والدون سنة 557 ثم خيموا بعد برهة على شطوط الطونة. وما عتموا أن ناوأوا ملوك الروم وقياصرتهم ونشلوا منهم سنة 582داقية وفنونية ومن هناك انتشروا ولا انتشار الجراد في بلاد جرمانية في شمالي الطونة حتى بلغو إيطاليا. وأول ما خضدت شوكتهم كان سنة 626 تحت أسوار القسطنطينية فإن هرقل الملك كسر شيخهم بيان وكان حليفاً لكسرى. ثم دوخهم كل التدويخ شرلمان من سنة 791 إلى سنة 799 وحينئذ دانوا بالنصرانية. وكان البر طويلي النجاد محبين للحروب وقد اشتهروا بالمكر والنكر والخدعة في الفر والكر.
وأما مساكنهم فإنهم لم يأووا إلى غير الخيم والمضارب. ولم يعرفوا من المدن إلا الأحوية جمع حواء وهي جماعة من بيوت الوبر المتدانية وكانوا يقيمون على هيئة دوائر عظيمة وتسمى عندهم رنك أي حلق جمع حلقة لاستدارتها. وكان يسمى شيخهم باسم الخان أو الخاقان.
أما حدود بلاد الأبر فقد اختلفت باختلاف العصور ففي عهد معظم انتشارها أي من سنة 590 إلى سنة 630 كانت مملكتهم تشمل فلوات شمالي الطونة من لوزاقة إلى ما وراء الدون. وعند أفول شمس القرن السابع للمسيح تقلصت حواشيها حتى كان في شمالي بلادهم وغربيها ديار اللاه والوند والجيك (أي بلاد بولونية وسيلسية وبرندبرج وبوهيمية على التسمية الحديثة في عهدنا هذا) وفي شرقيها كان الخزر وكان موطنهم يومئذ بين البوك ودنيبر.
وبعد أن خرب شرلمان ديارهم سنة 799 لم يبق منها إلا الصقع الغربي بين نهري الثيس وألان وهذا أيضاً جعله مقاطعة لدولة الإفنك باسم أبرية وأما ما بقي من تلك الربوع فقد احتلها المجر أي الهنكاريون. وفي بلاد الجركس في عهدنا هذا بقية من الأبر تقيم على منحدر كوه قاف الشمالي بين الإكسائي وشرداغ ويبلغ عدد بيوتهم اليوم 12000 وكلهم يدينون لخان كبير خاص بهم. ومعيشهم من الصيد والغزو والنهب والسلب. وهم يرجعون في الحكم إلى قيصر روسية._هذا ما أردنا إيضاحه وفوق كل ذي علم عليم.
بغداد:
تاتسنا.(52/38)
نظرة في النظرات
أخرج هذا الكتاب للناس في هذا العهد والأمة في برازٍ دائم بين القديم والحديث يريدها الأول على البقاء على الرثيث من تالدها مما ورثته بحكم الطبع أو التطبع ويضطرها الثاني إلى التجرد عما يأخذ بخناقها من العادات والتقاليد العتيقة التي أخنى عليها الدهر والأخذ بالجديد المفيد المنطبق على حاجات العصر اليوم.
وها نحن أولاً نرى بين علماء الدين في مصر والشام والحجاز واليمن من يتساءلون عما إذا كان تعليم العلوم المادية الطبيعية والتوفر على دراستها حراماً أو حلالاً بينا نرى بعض المفكرين من الباحثين العالمين يشهرون على أولئك حرباً عواناً تدير رحاها الأقلام مصرحين أنهم لا يدينون بسوى القوة والمادة اللتين هما من مظاهر الطبيعة ويضربون بكل علم عرض الحائط إذا لم يكن من العوم المادية الطبيعية أو منطبقاً على نواميسها الصحيحة أو موصلاً إليها متمماً لها ففريق يبالغ في إعظام رجال الخيال ويغالي في البحث فيما وراء المادة وفريق لا يعرف غير الحقيقة المادية مذهباً.
إلا وأن هذا البراز الحيوي لم يكن مقصوراً على العلم فقط بل تناول عامة شؤون الحياة وفروع الفنون الأخرى فكان للأدب النصيب الأوفر منه فإنا ما زلنا ولا نزال نرى بعضهم لا يرى للشعر من المكانة العالية إلا إذا كان قائله كالبها زهير وابن معتوق والشاب الظريف ويحسبون أن الكلام الطريف هو ما جاء في ريحانة الأدب وأشباهها غير معتدين بما عداها من الكتب الممتعة مثل نهج البلاغة والدرة اليتيمة وكليلة ودمنة وما جرى على أسلاك ألسنة الشعراء المتقدمين كالشريف الرضي والمتنبي والمعري وغيرهم من المتأخرين ممن جمعوا إلى التراكيب العربية الفصيحة الأفكار الغربية الصحيحة كما أنهم لا يعدونها شيئاً مذكوراً.
في كل حركة تقوم بين ظهراني هذه الأمة المنبسطة ظلالها في هذه المملكة المتنائية الأطراف نشهد مثالاً مجسماً من مبلغ تأثير تنازع البقاء ونقرأ فيه التجدد نقياً لا يشوبه شوب القديم فنستدل منه على تقدم الأمة في أفكارها وآ رائها وأن ما يناله القائمون بالتجدد من خصومهم الأعداء الألداء المكابرين لا بد من وقوعه ما دامت الأمة جاهلة خاملة وما دام من كتب لهم العلم والنباهة أفذاذ لا يزال تأثيرهم من الضؤول والحؤول بحيث يتراجع لأقل ريح تعصف.(52/40)
وبعد فللإبداع إذا بوديء الأستاذ المنفلوطي صاحب هذا الكتاب لأول وهلة بما ناله من معارضيه من بذاءة اللسان والتسفيه في القول ما نجله عنه لأنه سنة من المجددين منذ القديم. فهذا غستاف فلوبر الكاتب الفرنسوي المعروف كان يحتقره معاصروه ويهزؤون بكتاباته وآرائه حتى يحمله على ذلك البكاء كالأطفال الصغار ويشرع يخاطب زملاءه زولا وكونكور ودوده بقوله: بربكم أنبئوني لمَ لمْ تنل هذه المؤلفات الاستحسان الذي أتطلبه فتأخذهم رعدة الكآبة والحزن فيبكون جميعاً_هذا الرجل الذي كان في عصره بهذه المثابة ولم يكتب لآثاره أن يرتاح لها الرأي العام أصبح القوم اليوم يعبدونها ويمجدونها ويسبحون بحمدها.
أمامي الآن هذا الكتاب أنظر إلى الصفحة الأخيرة منه بعد أن كنت قرأت معظم فصوله في الصحف وكانت نظرتي إليه في المرة الثانية ومقالاته مجموعة في سفر خاص غيرها في الأولى. إذ كنت أطالعه وأنا أعلق عليه في مفكرتي بعض ما آخذت به منشئه ورأيته مما يجدر أن ينبه عليه مثله على أني قرأت ما كتبت عليه في الجرائد والمجلات فإذا به لا يبل غليلاً ولا يغني فتيلاً مما دل على أن باب التقريظ والانتقاد لم يفتح عندنا كل الفتح ونخشى أن طال علينا الأمد أن يصيبه ما أصاب باب الاجتهاد.
وقد أفردت لكل من أسلوبه وموضوعه وآرائه ولغته ووصفه بحثاً خاصاً سأتكلم على كل واحدة منه على حدة وأقفيه بالألماع إلى شذرة من روح المؤلف، وذلك بقدر ما مكنتني الفرصة من القيام وهداني إليه البحث والنظر.
1
أسلوبه
مما كتبه المنفلوطي في مؤلفه هذا قصص جمة كانت هي الباعثة لي على الخوض في غمار هذا الموضوع ولذا فأنا أنظر إليه في هذا المبحث نظري إلى قصصي أريد أن أبين طريقته في الإنشاء وأحاول أن أردها إلى مذهب خاص مما أنشأه أدباء المغاربة في تاريخ آدابهم. إذ لكل كاتب أدبي قصصي أسلوب خاص ينهج فيه مؤلفه المنهج الذي يراه أنه أمتع وأنفع ووافق طبعه في الغالب أو يتبع في ذلك سنة الارتقاء:
قامت في أوربا مذاهب شتى في الأدب القصصي منذ القرن السابع عشر حتى اليوم وكلها(52/41)
حلقات من سلسلة تاريخ الآداب عند المغربيين. فمن هذه المذاهب مذهب يرى زعماؤه أن الغاية من الصناعة هو إصلاح الإنسان وتعزيته لتخفيف آلامه عند حلول المصائب والنوائب. فتجدهم يضعون قلوبهم وأفكارهم في كتبهم بدعوى أنهم بتأثراتهم هذه تثور ثائرة القارئ. وإن ذوق كاتب القصة الشخصي ليتمثل في تضاعيف كتابه فتراه يختلق أشخاص الوقائع ليصف شعوره الذاتي وشوقه المبرح به نابذاً العناية يبث العواطف في أبطال الرواية ظهرياً. منة أجل هذا ندر من استفاد التاريخ وعلم الاجتماع من أمثال هذه المؤلفات.
وما يحملهم على ذلك إلا مشيهم مع شعور القراء وتنزلهم من عقول العامة لأن هؤلاء اعتادوا أن يعيشوا مجردين عن الحقائق العادية وأنهم ليتذمرون من مطالعة صفحات حياة الإنسان كما هي. ولذا كانت خطتهم في الروايات وكانت القصص السامية والأشعار الرقيقة الحافلة بالشعور ليس لها كلمة عالية. وقد سمي هذا المذهب.
مذهب المفكرين).
وهناك مذهب آخر في الإنشاء يدعى الخياليين وهو كما عرفه ستاندال هوب: عبارة عن صناعة تمثل نتائجها الأدبية ما يلائم معتقدات الأقوام وأطوارهم وعاداتهم في الحال الحاضرة مما يبعث في نفوسهم سروراً ونشاطاً بل هو كما يقول الناقد الشهير بروتير: هو أن لا يعرف الصانع سوى ذوقه وتهوساته وخيالاته قاعدة وأصلاً بل كما قال إميل فاكي: إن روح الرومانتيزم الحقيقية هو الحذر من الحقيقة وإن لم يكن لها الصانع في صدره موجدة ونفوراً. قالوا: وهذا الحذريتم باستسلام الفكرة للمخيلة كل الاستسلام وليس في هذا المذهب مشاهدة ولا تحقيق ولا ترصد كما أنه ليس ثمة معقول ولا محاكمة ولا منطق لأن هؤلاء كلها أمور تدين للحقيقة المادية_هذا هو أصل الرومانتيزم.
ومن المذاهب التي نشأت وشاعت المذهب التاريخي الذي كان زعماؤه يعنون بوضعه في الروايات التاريخية فيحرفون الحقائق التاريخية عن مواضعها وهم من التزوير والافتئات بحيث كانوا يطبقون قواهم المخيلة وعامة ما يخترعونه من الأفكار على الوقائع والحادثات. فالتاريخ عندهم كما قال اسكندر دومافيس مسمار يستعينون به على تنضيد ألواحهم فليس لديهم من ثم فكرة سوى أنهم يعملون على إدخال البشر والارتياح في نفس(52/42)
القارئ. بيد أن لجمال الأسلوب ورقة الوصف عندهم مكاناً من العناية. وأمثل نموذج لهذه المؤلفات التاريخية وأحفلها هم كتاب خمسة آذار لألفريد دوفيني ونوتردام دوباري لفيكتور هوغو.
وقد نشأ مذهب جديد دعي بمذهب الطبيعيين ومن أخص ميزاته هو أن زعماءه وسعوا دائرة القصص وأخذوا يبحثون عن ملجأ تلوذ به أشخاص القصة خشية أن تخوض عباب الوقائع الغريبة التي يتعلمها بعض الكتاب لتكون النتيجة إما الانتحار أو الزواج وأصحاب هذا المذهب ينظرون إلى ذلك الضرب من القصص نظرهم إلى ألعوبة يتلهى بها الفتيان والفتيات. والذي يعنون به اليوم هو صفحات التتبع فشأن القصص عندهم بنسبة ما تعيه من صحيح الوصف وحديث الوقائع.
ومن أنصار هذا المذهب من القصصيين ممن جردوا الروايات من شوائب الكذب والاختلاق بعد فلوبر إميل زولا وموباسان الكاتبان الفرنسويان المعروفان ونشأ عن هذا مذهب آخر دعي مذهب إمبرسيونيزم. والفرق بين هذا ومذهب الطبيعيين هو أن زعماء المذهب الأول يعنون بإبلاغ العواطف وآثار ما ولدته فيهم الحقيقة وهم يرون أن الحقيقة واسطة. أما أنصار الثاني فإنهم مستقلون عن الذاتية وما همهم إلا تتبع الحقيقة كما هي على حين يترجم زعماء الأمبرسيونيزم الطبيعة أكثر من أن يعيدوها مرة أخرى. وعلى هذا كان ولا جرم مذهب الطبيعيين أمتن وأرصن وقصصهم أعظم مهابة ووقاراً.
وهناك مذهب جديد وضعه الكاتب الفرنسوي الشهير بالزاك وانضوى تحت لوائه كبار المتأدبين ممن أثروا أثراً محموداً في نهضة الآداب الفرنسوية ألا وهو مذهب الحقيقيين وقد أتم وضعه فلوبر بمصنف له سماه مدام بوفاري وقد سبق هذا الرجل بلزاك وستاندال ومريمي فأذاقوا الفرنسويين بمصنفاتهم طعم الحقيقة ولكنهم لم يكسروا سورة شهوتهم بأسرها ولم يتعد تأثيرهم في نفوس القراء إيقاظ الحقيقة فيهم. ولكن مصنف مدام بوفاري علم الناس أجمع ما هو مذهب الحقيقيين بما تري في تضاعيفه من وصف الحياة بما فيها من اضطراب وضوضاء بأجلى تعبير وأوضح بيان.
وطريقة بلزاك في قصصه هو أنه يبدأ أولاً في تعريف الأشخاص ويأتي على تصوير المكان الذي يعيشون فيه والبيئة (المحيط) التي في أرجائها يجولون وما يحوي المكان من(52/43)
أثاث ورياش ثم يذكر الخلق وأجسامهم وما يلبسون ويكتسون من أردية حتى أنه يرسم خطوطهم الجبهية وأخيراً ينفخ فيهم من روح الحقيقة فينطقون ويتحركون.
هذه هي الطريقة العلمية التي ينحو منحاها العلماء والعقلاء من كتاب أوربا في التاريخ والأدب ولا يهمهم ما يكتبون سوى أنهم يمثلون الحقيقة للقراء عارية بأبشع وأشنع مظاهرها غير هيابين ولا وجلين. وثمة من المذاهب ما كنت أود أن آتي علي ذكره هنا لولا أني توخيت في هذه النظرة الايجاز مثل المذهب الرمزي (سنبوليزم) والمذهب الفني (كلاسيسيزم) وغيره من المذاهب.
وبعد فلم تقدم بين يدي القارئ هذه المقدمة التي نرجو أن نكون ألممنا فيها بطرف من مذاهب الكتاب إلا لنستطيع أن نحكم على بعض فصول النظرات القصصية ونضعها في المحل الذي يجب أن تحل فيه بين هذه المذاهب كلها.
لا جرم في أن الناظر في هذا السفر والمطلع على هذه المذاهب يعلم أن المنفلوطي جرى في كتابه مجرى الخياليين وأنه يجمع بين هؤلاء ومذهب المفكرين في الأحايين. فهذه مقالته الكأس الأولى وعبرة الدهر يتجلى فيها الخيال بأحفل مظاهره. فقد سمع صوت المؤلف في الأولى عند قوله: وما كان له وهو يهيم الخ. . . وكذلك عند قوله فيها: والمنظر المتكرر لا يلفت النظر ولا يشغل الذهن. وقد أورد على لسان الشخص المريض الشاخص ببصره إلى السماء_ذلك الرجل الذي لم يبق منه إلا إهابٍ ممزق_حديثاً لا قدرة لأصحاب الأجسام على إيراده في مثل تلك الحال وقصد المنفلوطي أن يبين سبب الإدمان على الخمر فجعل ذلك بلسان المريض ذاكراً أن كل كأس شربها جرتها عليه الكأس الأولى وأن ليس الباعث على ذلك غير قصور عقله عن إدراك خداع الخلطاء وبين أن الخونة الكاذبين خدعوه عن نفسه خداعاً ليستكملوا بانضمامه إليهم لذاتهم التي لا تتم إلا بقراع الكؤوس وضوضاء الاجتماع ثم عاد المنفلوطي وأظهر شخصيته فقال: ولو علمت كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه وأي ذريعة تذرعوا بها إلى ذلك لتحقق أنه أبله إلى النهاية من البلاهة وضعيف إلى الغاية من الضعف وقد حكم عليه بالبلاهة ولم يذكر عن تربيته ما يفهم منه أنه على غرارة وسذاجة بل الذي تبين أنه كان صديق المؤلف وارتباطه بالصداقة يقضي بأن يكون فيما أحسب على غير ما ذكر.(52/44)
وفي مقالة عبرة الدهر دليل آخر على مذهب الخياليين وهو ذكره (صاحب القصر) بأنه فاسد الأخلاق وإغفاله البحث في أن يذكر عن نشأته الأولى شيئاً نتبين منه أن بين جنبيه نفساً ملؤها الرذائل. وكان عليه أن يصف (بلالاً) الخادم الذي جعله في موقف الحكم الحكيم وأنه من المبادئ العالية ما هو كيت وكيت وأن يذكر طرفاً من حنق زوجته وتلهفها على زوجها الذي كان يقضي الليالي الطوال وهو يداعب أزواج المحارم بمثل ما يداعب غيره زوجته. وهذا نقص كبير وخطأ فادح في الأسلوب. ولكن المنفلوطي كما أسلفنا لم يهتم في الحقيقة اهتمامه الزائد في أن تكون قصته جامعة لجمال الأسلوب الخيالي الذي ضمنه حكماً بالغة وعواطف شريفة بدون أن يتبين المواقف التي يقف فيها الرجل الغر الغمر موقف المرشد الحكيم.
ومما يستدل فيه أيضاً على تنكبه جانب الحقيقة سؤال (صاحب القصر) (بلالاً) في أي ساعة نحن من ساعات الليل فأجابه في الساعة الأولى ثم ذكر المؤلف أن الخادم لم يصل من الحديث إلى حد معين حتى نصل خضاب الليل واشتعل المبيض في مسوده على أن ذلك الحديث يذكر في بضع دقائق لي إلا. . .
هذا نموذج مما ذكره المنفلوطي من الفصول القصصية ومن تشريح أسلوبه يعلم أنه احتذى مثال (الخياليين) في إنشائه. وكل من تتبع الحركة الأدبية في المشرق يعلم أنها مسوقة نحو الكمال بحكم ناموس النشوء والارتقاء وإن كتاب المنفلوطي هذا هي إحدى الحلقات من سلاسل الآداب التي لا يتم البحث بدونها.
وإنا نودع باستقباله ما ضمنه من أسلوب جديد وتشبيه رائق واستعارات فخمة ذلك الأسلوب الخيالي المحض في كتاب كليلة ودمنة وهو من تاريخ آداب المشرق بمثابة لافونتين من آداب المغرب كما أن غيرنا ودع بما عربه عبد الله بن المقفع كتاب ألف ليلة وليلة وأقاصيص عنترة الممزوجة بالأبطال الخياليين مما كان بها وبأمثالها بدءُ نهضتنا الأدبية القصصية كما كانت الإلياذة باكورة نهضة الغرب في الآداب وفاتحة رقيهم وتقدمهم.
وجدير بكبار أدبائنا العاملين وهم يبرون الغرب كل يوم يخطو خطوات واسعة نحو الحقائق أن يقتفوا آثار مذهب الحقيقيين بإطراحهم مهب الخياليين جانباً وأن يطيلوا الفكر والتنقيب فيستبدلوا الأحياء بالأموات ويستعيضوا بالأرواح عن الأشباح وكفى.(52/45)
2
موضوعه
قسم المنفلوطي كتابه إلى عشرة فصول: (1) الرسائل العلمية (2) الرسائل الأدبية (3) الرسائل الأخلاقية (4) الرسائل الاجتماعية (5) الرسائل السياسية (6) الرسائل الدينية (7) الدهريات (8) النسائيات (9) الروايات (10) المراسلات. ويجب أن نذكر هنا قبل كل شيء أن المنفلوطي لم يحسن تبويب الكتاب فقد ذكر مقالة أفسدك قومك في الرسائل الأخلاقية وكان الأولى أن تكون في الرسائل الاجتماعية كما أنه ذكر مقالة مدرسة الغراموفي سبيل الإحسان في الثانية في حين يقتضي أن تكون من الموضوعات الأولى. وأنت إذا أردت أن تنزل هذا الكتاب المنزلة الخليق بها من حيث علاقته بالعلم والاجتماع والسياسة والأخلاق رأيته يضرب في الأخير منها بسهم وافر ويجري منه على عرق.
تقرأ روح الأخلاق في مقالة الكأس الأولى وأين الفضيلة والغني والفقير وعبرة الدهر ومدينة السعادة والرحمة والصدق والكذب والإنصاف وتراه أيضاً يتعرض للموضوعات الاجتماعية فلا يلم بالبحث فيها من عامة أطرافها على حين تستدعي درساً يسلب المرء فيه قراراه ليسقط الناظر فيها على حقيقة ناصعة أو علم جم أو فكر جديد.
يدلك على هذا بحثه عن المجرم في مقالة أفسدك قومك فإنا لا ننكر عليه أنه ذكر فيه ما يفهم منه أنه يحمل الذنب على المجتمع البشري وعلى التربية الأولى وعلى القانون وعلى غير ذلك شأن كثيرين ممن قاموا اليوم في أوربا يحامون على المجرمين ويعدونهم كالبائسين يستحقون الرحمة ويطلبون تعديل القانون الجائر لتخفيف ما ينزل بهم من الويل والثبور. ولو كان المنفلوطي من كتاب الحقائق لتوسع في هذا المبحث وقرأ ما كتبه الأطباء في هذه المسألة لتتم الفائدة.
ثبت مؤخراً بعد الفحص الطبي أن للجناة من نقص ملكاتهم المادية والأدبية استعداداً لما يوقعونه من الجنايات منذ زمن بعيد. وقد فحص بنديكتأحد مشهوري أطباء فينا أدمغة كثيرين ممن يقترفون الجنايات الكبرى فوجدوها بأسرها مأفونة غير تامة التركيب، وهذا الرجل يعد الجنون والجناية صنوان. ويرى رأيه هذا الدكتور بوردي الفرنسوي وقد بحث في أدمغة ستة وثلاثين جانيا حكم عليهم بالإعدام فرأى الناحية الجبهية مصابة والناحية(52/46)
الجدارية واسعة جداً. وهذا يدل على نقص القوة العاقلة والشعور والميل إلى الحنق والنزق. وقد نظر غاروفالو أحد مشاهير علماء الجزاء في إيطاليا في الجناة فلم يجد واحداً منهم خلواً من إمارات مادية وأدبية تحكي الإنسان الأول.
وما ظهر من الحقائق الجديدة من أمثال هذا الاستقراء والاستقصاء هو موضوع الرأي العام في أوربا في شأن تنظيم الجزاء حتى نشأ عن هذه التجارب الطبية علم جديد يسمى علم الجرائم البشرية_آنتروبولوجي كريميتل وكان للإيطاليين اليد الطولى في خدمة هذا الفن الجليل.
نال المنفلوطي من المدنية الغربية في كلامه عليها ما لا أرضاه له كل من درسها حق دراستها وبحث فيه بحث العالم المتجرد عن المؤثرات دينية كانت أم قومية لا بحث خطيب أو أديب أو شاعر أو واعظ مرشد داعٍ إلى وطنية أو أخلاق.
وورد في قوله هذا كلام ثلة من حملة أقلام ممن لهم من أخلاقهم عصبية قومية أو نعرة شرقية وسواء عندي كان قولهم هذا بدافع الوطنية أو الدعوى إلى إحياء آثار مجد أو تمازجها لوثة من لوثات الفساد فينشأ ناشئهم وقد انحل من وطنيته كما انحل من دينه وأدخل الفساد أخلاقه كما أصاب عاده ومنازعه.
وإني أشاركه في كل ما جاء في تالك المقالة إلا في قوله: إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلاً بحضارة بغداد وقرطبة وثيبة وفينيقية لا بباريس ورومة وسويسرا ونيويورك، وإن دعوناهم إلى مكرمة فلنسرد عليهم آيات الكتب المنزلة وأقوال أنبياء المشرق وكلماته لا آيات روسو وباكون ونيوتن وسبنسر، وإن دعوناهم إلى حرب ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن النصير وصلاح الدين ما يغنينا عن تاريخ نابليون وولنجيتون وواشنطون ونلسون وبلوشر (بلوخر)، وفي وقائع القادسية وأفريقية والحروب الصليبية ما يغنينا عن وقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتنز والسبعين.
هذا ما كتبه المنفلوطي إلى ابناء القرن العشرين من المشارقة وهو يريد أن يربو تربية مدنية عملية يصدون بها غارات الجانب التي يشنونها عليهم من كل صوب وأوب وهذا هو السلاح الذي يحمله الشبيبة المصرية على أن يتسلحوا به ليقاتلوا أعداء الوطنية ويخرجوا من ديارهم من ابتزوا أموالهم وغلبوهم على أمرهم وكل يوم يريشونهم بسهام التعصب(52/47)
والطيش.
من الحكمة أن يدعو القائم بالإصلاح إلى قومية أو وطنية ولكن بدون أن يزدري مدنية الأمم الأخرى الناهضة ويعمل على الحط منها وهم الذين بها وطدوا دعائم استقلالهم ورفعوا منار مجدهم وسؤددهم.
وما أدري كيف تقوم لنا نحن معشر المشارقة قائمة إذا اقتصرنا على ما ورثناه من المناحي والمنازع وأقبلنا على الأخذ بما أبقاه لنا آباؤنا الأولون من الآثار فقط بدون أن نمعن النظر في آداب رجال الغرب وأخلاقهم وعاداتهم وتاريخهم وبالجملة نقف على سر تقدمهم ولا أعلم لأي غرض نعنى بإرسال البعثات العلمية إلى البلاد الأوربية وننادي على رؤوس الأشهاد أن هذا هو الذي يحقق لنا الأمل في المستقبل إذا لم يكن المقصد منه درس تاريخ نابليون وولنجتون وواشنطون ونيلسون وبلوخر ووقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتنز والسبعين أو لننهل حتى نروى من آداب روسو وباكون وزولا وألفريد دوموسه أو لنتبطن أسرار فلسفة ديكارت ونيوتن وسبنسر غيرهم.
ويجب ألا يغرب على الأذهان أن ما توفر لقواد المغاربة من الأسباب والوسائل في بيئتهم وبين بني جنسهم وما كان يجول في خواطرهم من الأماني التي كانت المص الح تدفعها للانبعاث إلى حيز الوجود غير ما توفر لقواد المشارقة من العرب وغيرهم على اقتحام غمرات الردى في سبيل الدفاع عن الحمى وهذا ما يدعو لاختلال التوازن في الدهاء السياسي في الفريقين بما يتذرع به من الحيل الحربية والدسائس في مثل هذه الأحوال للنظر في كتاب الغيب وقراءة مستقبل الأمم فيه مما ينجم عنه ما نراه من الاختلاف في نتائج الحروب والمعارك نصراً كان أو خذلاناً.
وساء صحت نظرية من زعموا أن من دواعي سقوط الدولة العربية جهل الأمة بتاريخ اليونان والرومان أو لم تصح فإن فيها حقيقة لا أخالها تخفى على مثل الأستاذ المنفلوطي. وإذا اتخذنا هذه النظرية أصلاً جاز لنا أن نبشر مساعينا بالإخفاق والحبوط ونحكم على حياتنا الاجتماعية والسياسية بالانحلال والاختلال في مستقبل الأيام إذا قادنا الجهل أن نحرم على أنفسنا الوقوف على سر استبحار عمرانهم وانبساط ظلال مدنيتهم في طول البلاد وعرضها فنحرم من الاستمتاع بعلومهم وآدابهم.(52/48)
ولو كان قوله هذا درساً يلقيه على صغار العقول من الطلبة الأطفال ليطبعهم بطبائع حب الوطن وينشأوا وهم يفادون في سبيله النفس والنفيس لما أخذوا بقدر ما يؤآخذ وهو في موقف ودع فيه_كما قال عن نفسه_الخيال والشعر وداع من يعلم أن الأمر أعظم شأناً وأجل خطراً من أن يعبث به العابث بأمثال هذه الطرائف التي هي بالهزل أشبه منها بالجد والتي إنما يلهو بها الكاتب في مواطن فراغه ولعبه لا في مواطن جده وعمله.
ألا فليعلم الكاتب أن في الغربيين من العادات ما هو خليق بنا نحتن الشرقيين أن نغتبط به ونأخذ بالنافع الرافع منه والرجاء أن لا يظن بأننا بما نكتبه الآن نخدع الأمة عن نفسها أو نفسد عليها شرقيتها بتزيننا لها هذه المدنية تزييناً يجمع إلى استقلالها النفسي استقلالها الشخصي فلشد وأيم الحق ما نكون محتفظين بعاداتنا العربية الشرقية وآدابنا ولكن ما نراه من تيار المدنية الغربية يريدنا على مجاراتها شئنا أم أبينا فإن لم نعد لها عدتها ولم نسر معها جنباً إلى جنب دحرتنا وربما وردتنا مورد الهلكة غير حافلة بنا ولا آسفة علينا.
ومما أنكره عليه أيضاً تعرضه في مقالة الحساب لولي عقله وأستاذه رجل الإسلام الشيخ محمد عبده ورجل المرأة قاسم بك أمين. ولو اقتصر على ذكر (المحسن) وذلك الرجل الذي كان في حياته يتخذ في أعماله ما يسمونه (الحيل الشرعية) وذلك (القطب) الذي كان أكبر تاجر من تجار الدين_لو اقتصر على هؤلاء لكان أحسن صنعاً.
وجل ما آخذ به الأول هو أنه فاجأ جهلة المسلمين بما لا يفهمون من المبادئ الدينية الصحيحة والأغراض الشريفة فأرادوا غير ما أراد وفهموا غير ما فهم. وهذا ما دعا إلى إلحادهم (!) ومروقهم من الدين (!) بعد أن كانوا مخرفين وأنه أول لهم بعض آيات الكتاب فاتخذ التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشياطين والجنة وبين لهم حكم العبادات وأسرارها وسفه لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها فتركوها وأنه قال لهم أن الولي آله باطل والله آله حق فأنكروا الإلوهية حقها وباطلها.
يتبع.
دمشق:
صلاح الدين القاسمي.(52/49)
أخبار العلماء بأخبار الحكماء
من الكتب الجيدة في التراجم هذا الكتاب للوزير جمال الدين أبي الحسن علي القفطي من أهل القرن السابع طبع أولاً في ليبسيك وأعيد طبعه في القاهرة فتداولته الأيدي وعم الانتفاع منه كما عم من قبل كتاب عيون الآن باء في طبقات الأطباء لموفق الدين أبي العباس أحمد المعروف بابن أبي اصيبعة من أصل ذاك القرن إلا أن كتاب أخبار الحكماء مال فيه صاحبه إلى الاختصار حتى جاء في نحو نصف طبقات الأطباءِ وإن كان زاد عليه بعض التراجم لأن المترجمين في كلا السفرين النفيسين تجاوزوا الأربعمائة.
سرد ابن القفطي أسماء مترجميه على حروف المعجم بحسب تقادم عهدهم بخلاف ابن أبي أصيبعة الذي أتى بالتراجم بحسب الأقطار ثم بحسب سني ولاداتهم ولم يشبع الأول الكلام إلا في بعض الأشخاص وربما أوجز في الأحايين إيجازاً لا يكاد يقع فيه ابن أبي أصيبعة إلا نادراً والغالب أن هذا وقف في جملة ما وقف عليه من الكتب كتاب القفطي فاستعان به وزاد عليه لأن هذا توفي سنة 646 في حلب وابن أبي أصيبعة توفي سنة 668 في صرخد من بلاد الشام ولا يعقل أن يكون رجلان متعاصرين ولا يطلع أحدهما على ما يكتبه الآخر فقد نرى بعض التراجم في بالحرف الواحد في كلا الكتابين ولعل المصادر التي أخذ عنها المؤلفان كانت واحدة فجاءت بعض تراجم مترجميهم بعبارة واحدة.
ومع أن ابن القفطي اشتهر بأنه من كبار غلاة الكتب وهو ذو ثروة واسعة وفي منصب الوزارة نرى ابن أبي أصيبعة من طبقة الأطباء في عهده يهدي كتابه إلى أحد وزراء دمشق ومع هذا تقرأ فيه سعة المادة المدهشة ولكن المتأخر قد يفوق المتقدم ولا عبرة بتقادم الميلاد كما لا عبرة باختلاف البلاد إذا كان الترقي فيها عاماً.
وهنا لا بأس بإيراد طرف من ترجمة صاحب أخبار الحكماء زيادة في البيان فهو علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى وزير حلب القاضي الأكرم الوزير جمال الدين أبو الحسن بن القفطي أحد الكتاب المشهورين وكان أبوه القاضي الشرف كاتباً أيضاً ولد بقفط من الصعيد الأعلى بالديار المصرية وأقام بحلب وكان بقوم بعلوم من اللغة والفقه والحديث وعلوم القرآن والأصول والمنطق والنحو والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل ولد سنة ستين وخمسمائة وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة وكان صدراً محتشماً كامل السؤدد وجمع من الكتب ما لا يوصف وقصد بها من الآفاق وكان لا يحب من الدنيا سواها(52/50)
ولم يكن له دار ولا زوجة وأوصى بكتبه للناصر صاحب حلب وكانت تساوي خمسين ألف دينار وله حكايات غريبة في غرامه بالكتب وهو أخو المؤيد بن القفطي ومن شعره:
ضدان عندي قصرا همتي ... وجه لحبي ولسان وقاح
إن رمت أمراً خانني ذو الحيا ... ومقول يطمعني في النجاح
فأنثني من حيرة منهما ... لي مخلب ماض ومالي جناح
شبه جبان فرَّ من معرك ... خوفاً وفي يمناه غضب الكفاح
وله من التصانيف كتاب الضاد والظاء وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى الخط. كتاب الدر الثمين في أخبار المتيمين. كتاب من ألوت الأيام عليه فرفعته ثم ألوت عليه فوضعته. كتاب أخبار المصنفين وما صنفوه. كتب أخبار النحويين كبير كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين ست مجلدات كتاب أخبار المغرب كتاب تاريخ اليمن كتاب المحلي في استيعاب وجوه كلا. كتاب إصلاح خلل صحاح الجوهري كتاب كلام علي الموطا لم يتم كتاب الكلام على صحيح البخاري لم يتم تاريخ محمود بن سبكتكين وبقية كتاب تاريخ السلجوقية تاب الاستئناس في أخبار آل مرداس كتاب الرد على النصارى وذكر مجامعهم كتاب مشيخة تاج الدين الكندي كتاب نهزة الخاطر ونزهة الناظر في إحسان من ظهور الكتب اهـ.
وعلى ما توخى ابن القفطي من الاختصار في التراجم تسقط فيه على أمور كثيرة وفوائد غزيرة خصوصاً وإن من الرجال من ترجمهم هو وحده ومنهم من تفرد ابن أبي أصيبعة ومنهم وهم الأكثر من اشتركا معاً في ترجمتها مثل الذي نقله عن الخطيب أمين الدولة أبو الحسن علي الأباني العثماني الأموي القفطي صاحب القاضي الأكرم قال: وكان من أجمل رأيت نباهة وفضلاً وبلاغة ومشاركة قال أدركت جلة المشايخ من إجلاء بلادنا وهم مجموعون على أن الذي أردم أراضي أكثر قرى مصر وأسس الجسورة المتوصل بها من قرية إلى قرية في زمن النيل هو أرشميدس فعل ذلك لبعض ملوكها وسببه أن أكثر القرى بمصر كان أهلها إذا جاء النيل تركوها وصعدوا إلى الجبال المقابلة لها فأقاموا بها إلى أن يذهب النيل خوفاً من الغرق وإذا أخذ النيل في النقص نزل كل قوم إلى أراضيهم وشرعوا في الزرع فكان ما تطامن من الأرض يمنعهم ما انحبس فيه من الماء عن الوصول إلى ما(52/51)
علا فلا يوصل إليه إلا بعد جفافه فلا يمكن زرعه فيذهب بذلك فعل كثير ولما علم أرشميدس بذلك في زمنه قاس أراضي أكثر القرى على اعلى ما يكون من النيل وأردم ردوماً وبنى عليها القرى وعمل الجسورة ما بين القرى وفي أواسط الجسورة قناطر ينفذ الماء منها من أرض قرية إلى أخرى فزرع كل واحد منهم الزرع في وقته من غير فوات ووقف من كل ضيعة أرضاً معينة يصرف مغلها في كل سنة إلى إصلاح هذه الجسورة فهي إلى الآن معلومة ولها ديوان مفرد بمصر يعرف بديوان مدن الجسورة وعليها احتراز كثير وعناية كثيرة وأعرف وأنا طفل وقد أضفيت هذه الجهة بالأعمال الشرقية من جوف مصر إلى والدي رحمه الله وله نواب وضمان ومشدون كان العمل فيها أتعب من جميع الأعمال اهـ.
ومثل قوله في ترجمة جالينوس الحكيم بأن أنطونيوس قيصر ملك اثنتي عشرة سنة وبنى مدينة إيليوبوليس وهي مدينة بعلبك أي أصلحها وقال في ترجمة سنان بن ثابت بن قرة الحراني ما نصه: وكانت منزلة سنان كبيرة عند الأمراء والوزراء فمن ذلك أن الوزير علي بن عيسى بن الجراح وقع إليه في سنة كثرت فيها الأمراض والأوباء توقيعاً نسخته: فكرت مد الله في عمرك في امر من في الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض وهم معوقون من التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم ويحملون معهم الأدوية الأشربة وما يحتاجون إليه من المزورات وتتقدموا إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس يعالجوا من فيها من المرضى ويريحوا عللهم فيما يصنفونه لهم إن شاء الله تعالى. ففعل سنان ذلك ثم وقع إليه توقيعاً آخر: فكرت فيمن بالسواد من أهله وأنه لا يخ لو من أن يكون فيه مرضى ولا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء فتقدم مد اله في عمرك بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم ويعالجون فيه ثم ينقلون إلى غيره. ففعل سنان ذلك وانتهى أصحابه إلى سورا والغالب على أهلها اليهود فكتب سنان إلى الوزير علي بن عيسى يعرفه ورود كتب أصحابه عليه من السواد بأن أكثر من بسورا ونهر ملك يهود وأنهم استأذنوا في المقام عليهم وعلاجهم أو الانصراف عنهم إلى غيرهم وأنه لا يعلم بما(52/52)
يجيبهم به إذا كان لا يعرف رأيه في أهل الذمة وعلمه أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملي والذمي. فوقع الوزير توقيعاً نسخته: فهمت ما كتبت به أكرمك الله وليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به معالجة الناس قبل البهائم والمسلمين قبل أهل الذمة فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم فاعمل أكرمك الله على ذلك واكتب إلى أصحابك به ووصي بالتنقل في القرى والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة والأمراض الفاشية وإن لم يجدوا بذرقة توقفوا عن المسير حتى يصيح لهم الطريق ويصلح السبيل فإنهم إذا فعلوا هذا وفقوا إن شاء الله تعالى اهـ.
وفي هذه الرسائل الثلاث نموذج مهم من الكتابة الرسمية في أوائل مدة العباسيين ودليل على ما بلغته الحضارة في عهدهم أيام كان الطب في جملة ما يعنى به حتى أن سنان ابن ثابت أحصى الأطباء في بغداد ولم يرخص لأحدهم أن يطبب إلا إذا أخذ شهادة بكفاءته وكذلك فعلوا مع الصيادلة حتى لا تؤتى الأمة من جهة الطب أبدانها كما حاذر الخلفاء أن لا تؤتى من قبل أديانها.
وكما تجد المحاسن ماثلة في أخبار الحكماء ترى المساوئ كذلك كالتي ذكره في ترجمة عبد السلام بن عبد القادر الجيلي المعروف بالركن قال: كان عبد السلام هذا قد قرأ علوم الأوائل وأجادها واقتنى كتباً كثيرةً في هذا النوع واشتهر بهذا الشأن شهرة تامة وله تقدم في الدولة الإمامية الناصرية وحصل له بتقدمه حسد أرباب الشر فثلبه أحدهم بأنه معطل وأنه يرجع إلى أقوال أهل الفلسفة في قواعد هذا الشأن فأوقعت الحفظة عليه وعلى كتبه فوجد فيها الكثير من علوم القوم وبرزت الأوامر الناصرية بإخراجها إلى موضع ببغداد يعرف بالرحبة وأن تحرق بحضور الجمع الجم منها ففعل ذلك وأحضر لها عبيد الله التميمي البكري المعروف بابن المرستانية وجعل له منبر صعد عليه وخطب خطبة لعن فيها الفلاسفة ومن يقول بقولهم وذكر الركن عبد السلام هذا بشر وكان يخرج الكتب التي له كتاباً كتاباً فيتكلم عليه ويبالغ في ذمه وذم مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار اهـ.
ومثلما نقله من الفقرات في ترجمة موسى بن ميمون الإسرائيلي الأندلسي لما نادى عبد المؤمن بن علي الكومي البربري المستولي على المغرب البلاد التي ملكها بإخراج(52/53)
النصارى منها وقدر لهم مدة وشرط لمن أسلم منهم بموضعه على أسباب ارتزاقه ما للمسلمين وعليه ما عليهم وبقي على رأي أهل ملته فأما أن يخرج قبل الأجل الذي أجله وأما أن يكون بعد الأجل في حكم السلطان مستهلك النفس والمال.
ومما ذكره وهو يدل على اتساع ثروة العرب في ترجمة بني وسى بن شاكر محمد وأحمد والحسن من أن محمداً صار بالعلم من وجوه القواد إلى أن غلب الأتراك على الدولة وذهبت دولة أهل خراسان وانتقلت إلى العراق فعلت منزلته واتسع حاله إلى أن كان مدخوله في كل سنة بالحضرة وفارس ودمشق ونحوها نحو أربعمائة ألف دينار ومدخول أحمد أخيه نحو سبعين ألف دينار. فتأمل مبلغ هذه الثروة.
ومما نقتبسه من هذا الكتاب أنموذجاً على درجة الحضارة في القرن الخامس ما نقله من كتاب كتبه المختار بن الحسن بن عبدون الحكيم الطبيب البغدادي المعروف بابن بطلان من نصارى كرخ بغداد إلى الرئيس هلال بن الحسن بن إبراهيم ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم. إنا لما اعتقده من خدمة سيدنا السيد الأجل أطال الله بقاءه وكبت أعداءه دانياً وقاصياً وافترضته من طاعته مقيماً وطاعناً وأضمرت عند دواعي حضرته العالية وقد ودعت منها الفضل والسؤدد والمجد والفخر والمحتد أن أتقرب إليها وأجدد ذكرى عندها بالمطالعة مما استطرفه من أخبار البلاد التي أطر قها واستغربه من غرائب الأصقاع التي أسلكها خدمة للكتاب الذي هو تاريخ المحاسن والمفاخر وديوان المعاني والمآثر ليودع أدام الله تمكينه منها ما يراه ويلحق ما يستوقفه ويرضاه وعلى ذكره فما رأيت أحداً بمصر وهذه الأعمال أكثر من الراغب فيه وكل رئيس في هذه الديار متشوق إليه متشوف ولوصوله مترتب متوقع ولو وصلت منه نسخة لبلغ الجانب لها أمنيته في ربحها ونفعها وإلى الله تعالى أرغب في نشر فضيلته الباهرة ومحاسنه الزاهرة بجوده. وكنت خرجت من بغداد وبدأت بلقاء مشايخ البلاد وخواصها واستملاء ما عندهم من آثارها وعجائبها فذكري أخبار مستطرفة وعجائب غريبة واقطاع من الشعر رائقة ولضيق الوقت وسرعةالرسول أضربت عن أكثره واقتصرت على أقله وكنت خرجت على اسم الله تعالى وبركته مستهل شهر رمضان سنة أربعين وأربعمائة مصعداً في نهر عيسى على الأنبار ووصلت إلى الرحبة بعد تسعة عشرة رحلة وهي مدينة طيبة وفيها من أنواع الفواكه ما لا يحصى وبها تسعة(52/54)
عشر نوعاً من الأعناب وهي متوسطة بين الأنبار وحلب وتكريت والموصل وسنجار والجزيرة وبينها وبين قصر الرصافة مسيرة أربعة أيام ورحلنا من الرصافة إلى حلب في أربع رحلات وهي بلد مسور بالحجر البيض فيها ستة أبواب وفي جانب السور قلعة أعلاها مسجد وكنيستان وفي إحداهما مكان المذبح الذي كان يقرب عليه إبراهيم عليه السلام وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبأ فيها غنمه وإذا حلبها أضاف بلبنها الناس فكانوا يقولون حلب أم لا ويسأل بعضهم بعضاً عن ذلك فسميت حلب وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير والفقهاء يفتون على مذهب الإمامية وشرب أهل البلد من صهاريج وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف وفي وسط البلد علوة صاحبة البحتري وهو قليل الفاكهة والبقول والنبيذ إلا ما يأتيه من الروم (الأناضول) وما بحلب موضع خراب ومنه خرجنا من حلب طالبين إنطاكية وبين حلب وبينها يوم وليلة فبتنا في بلدة للروم تعرف بعم فيها عين جارية يصاد منها السمك ويدور عليها رحى وفيها من الخنازير والنساء والعواهر والزنا والخمور أمر عظيم وفيها أربع كنائس وجامع يؤذن فيه سراً والمسافة التي بين حلب وإنطاكية لأرض ما فيها خراب أصلاً إلا أرض زرع للحنطة والشعير بجنب شجر الزيتون وقراها متصلة ورياضها مزهرة ممياهها متفجرة وإنطاكية بلد عظيم ذو سور وفيصل ولسوره ثلثمائة وستون برجاً يطوف عليها بنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك فيضمنون حراسة البلد سنة ويستبدل بهم في الثانية وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد من الجبل إلى قلته ويستتم دائرة وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرة وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب وفي وسطها قلعة القسياني وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده بطرس رئيس الحواريين وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين ودائر الهيكل أروقة يجلس فيها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان الساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً اثنتي عشرة ساعة وهو من عجائب الدنيا وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومقاصير حسنة وتخر مكنها المياه وهناك من الكنائس ما لا يحد كثرة كلها معمولة بالفص(52/55)
المذهب والزجاج الملون والبلاط المجزع وفي البلد بيمارستان يراعي البطريك المرضى فه بنفسه وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة من اللذاذة والطيبة فإن وقودها من الآس وماؤها سيح وفي ظاهر البلد نهر يعرف بالمقلوب يأخذ من الجنوب إلى الشمال وهو مثل نهر عيسى وخارج البلد دير سمعان وهو مثل نصف دار الخليفة يضاف فيها المجتازون يقال أن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار ومنه يصعد إلى جبل اللكام وفي هذا الجبل من الديارات والصوامع والبساتين والمياه المتفجرة والأنهار الجارية والزهاد والسياح وضرب النواقيس في السحار وألحان الصلوات ما يتصور معه الإنسان أنه في الجنة. وفي أنطاكية شيخ يعرف بأبي نصر بن العطار قاضي القضاة فيها له يد في العلوم مليح الحديث والإفهام وخرجت من إنطاكية إلى اللاذقية وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كيسة وكان في أول الإسلام مسجداً وهي راكبة البحر وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس وقاضي المسلمين الذي بها من الروم. ومن عجائب هذا البلد أن المحتسب يجمع القحاب والغرباء المؤثرين للفساد من الروم في حلقة وينادي على كل واحدة منهن ويتزايد الفسقة فيهن لليلتها تلك ويؤخذن إلى الفنادق التي هي الخانات لسكنى الغرباء بعد أن تأخذ كل واحدة منهن خاتماً هو خاتم المطران حجة بيدها من تعب الوالي لها فإنه متى وجد خاطياً مع خاطية بغير ختم المطران ألزمه جناية. وفي البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاءِ عقولهم وأذهانهم اهـ. .
وبعد فإن تاريخ القفطي من الكتب التي أجاد فيها مصنفها حريٌ بأن يستفيد منه كل متأدب ومتعلم ويرجع إليه كل عالم ومؤرخ سلس العبارة جميل المأتى ينقل الأمور على علاتها في الأكثر بدون تمحيص لها أو إبداء رأي فيها وابن أبي أصيبعة يفوقه في رد كل قول إلى قائله وضبط الأعلام والتدقيق في التواريخ وأخبار الرجال وذكر شذور من شعرهم ونثرهم والكتابان كفرسي رهان أو كالسلسلة المفرغة لا تدري أين طرفاها.(52/56)
الصحف والنجاح
للنجاح في الأعمال أسباب كثيرة منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي إذا اختل أحدها تعذر النهوض بالشق الآخر. وإنشاء الجرائد والمجلات لا يخرج عن هذا الحد المقرر وهل في الأرض عمل لا يحتاج إلى علم وتجارب ومال واستعداد. ولطالما رأينا مصر في الثلاثين سنة الأخيرة والشام في عهدها الدستوري الجديد وغيرهما من الأمطار والأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية تتجرأ على إصدار الصحب بدون حساب ولا روية وأدركنا العامة أجرأ من الخاصة على اقتحام هذا المركب الصعب وليس لديهم في الأغلب من وسائط النجاح كبير أمر فلا يلبث ما ينشئون أن يظهر إلى الوجود حتى يختفي اضطراراً لا اختياراً.
وهذا هو السبب في تعداد الجرائد وقصر أعمارها واشمئزاز الناس منها غذ توهموا بما تمثل لهم من حال بعض من أقدموا عليها آلة للتكسب والتدجيل لا أداة للوعظ والإرشاد والتعليم.
ما رأينا صناعة من الصناعات استسهل الناس أمرها كالصحافة فلم يعهد معلم في النجارة أو الحدادة أو البناء أو الهندسة يحترف هذه الحرف بدون سابق ممارسة ويتصدر للاعتياش منها وهو لا يعرف من أسراها سراً ولكن فن الصحافة في هذه الديار الذي يتوقف النجاح فيه على أسباب كثيرة أهمها العلم والتجربة والمال قد رأينا أناساً من الأغمار يدعونه بدون خشية وأكثرهم لا يعرفون قراءة الجرائد والمجلات دع عنك تأليفها وإصدارها.
كان جمهور الناس إلى عهد قريب يشارك الأطباء في طبهم فترى الكبير والصغير إذا عرض لهما مريض من خاصتهما ومعارفهما لا يتوقفان في وصف علاج يشفيه مدعيين أن ذلك من مجرباتهما أو مجربات أصحابهما ولما كثر الأطباء واستنارت الأمة بعض الشيء خفت هذه العادة في التعدي على الأطباء في طبهم إلا عند الطبقة الجاهلة أما الصحافة فيدخل فيها الفعل أناس ليسوا منها وليست منهم ويصفون للأمة أدوية تقيها الأسواء والأرزاء والأدواء ويعترضون على العالمين والحاكمين والسلاطين بلا خشية ولإحياء كأن طب الأرواح أصعب من طب الأشباح أو كأن الصحافة من العلوم اللدنية لا الكسبية يتعلمها المرء بالذوق وتوحى إليه إيحاءً.
من أجل هذا احتقرت الأمة الصحافة لما رأت من ضعف كثير من أدعيائها في أخلاقهم(52/57)
معارفهم ممن شانوا شأنها وعبثوا بمالها تذرعاً إلى مطمع ينالونه وصيت بالباطل يحصلونه ومقام عالٍ ينزلونه. نعم لم نشهد العطار بيطاراً ولا الإسكاف نجاراً ولا الحطاب رساماً ولا الفحام نظاماً ولا الجوهري حجاماً ولكن شهدنا الفلاح صحفياً والمتشدق مؤلفاً والثرثار محامياً والمكثار خطيباً كما نشهد الأغبياء قد يحاولوا بلوغ درجات الأذكياء والفقراء يقلدون الأغنياء.
بيد أن سنن الفطرة التي لا تغالب ونظام هذا الكون البديع الذي قلما اختل يعاقبان المعتدي على ما لا يعلم بما جنته يداه كما قيل في الأمثال الإفرنجية كل خطاء يحمل عقوبته فيه. وندر جداً في الناجحين من تيسر لهم الوصول إلى ما وصلوا إليه باتخاذ الذرائع المنجحة ونسج حلل مجدهم بأيديهم.
رأينا كثيراً ولاسيما في بلاد مصر والشام التصقوا بالصحافة وأنفقوا ثرواتهم في سبيلها فلم ينجحوا في مسعاهم ورجعوا بعد العناء الطويل وخسارة المال صفر الأيدي خائبين لأن مائدة العلم لا يجلس إليها طفيلي ولأن التمويه إن صعب في عمل فهو في الأعمال العلمية أصعب.
ومن ذلك رجلان اثنان صرف أحدهما في تأسيس الجرائد بضعة ألوف من الجنيهات والآخر بضعة مئات من الليرات وبعد العمل سنين ومحاولة النجاح ولو بالتلون في المبادئ وقلب الحقائق وتقبيح ما يستحسن واستحسان ما يستهجن والظهور في مظهر المصلحين الغيورين بعد كل هذا اضطرا إلى الرجوع أدرهما ولو كانا صرفا ربع ما بذلاه في هذا السبيل على درس فن الصحافة على أصوله وتلقناه كما تتلقن الصناعات المهمة ويدرب عليها المشتغلون بها لكان النجاح مضموناً لا محالة.
ولقد شاهدنا عياناً أن معظم الصحف التي كتبت لها البقاء في هذين القطرين الشقيقين خاصة هي التي قام بأعبائها أناس متعلمون تخرجوا في الكتابة وتدربوا في السياسة وتذوقوا لماظة من العلوم التي لا يسع صاحب جريدة ومحل جهلها. ومعظم من لم يخاذنهم ما يسمونه بالتوفيق أخفقوا لأسباب ناشئة من ضعفهم وقلة معارفهم في صناعة يلزمها ما يلزم لكل صانع من الأدوات إن لم نقل أنها تتوقف على أدوات أكثر.
وهنا مجال لأن ننصح الشبان المتهوسين في الكتابة الراغبين في الشهرة أن لا يقدموا على(52/58)
الدخول في معترك الصحافة والسياسة والآداب قبل أن يستتموا أدواتها ويستعدوا لها ويتخرجوا بها مدة فالإجادة في مقالة يكتبها كاتبها في أيام وربما عاونه غيره في تلقين موضوعها وتقويم أصولها وفروعها لا يتأتى منه الإجادة في كل موضوع ودعوى كل علم. والنشر والطبع مما ترغب فيه النفس والنفس غالباً تميل إلى نيل المحمدة والذهاب بفضل الشهرة والعاقل على أي حال من اتهم نفسه وحاسبها ولو يسيراً حتى لا يكون كل من يخط سطرين مغروراً بهما كمن هو بابنه وبشعره مفتون. وبعد فإن قانون المطبوعات العثمانية الجديد يقضي على من يصدر جريدة أو مجلة أن يحسن الكتابة باللغة التي يصدر بها صحيفته ليعلم ما يكتب فيها ولو كان قومنا يبالغون في انتقاء الرجال للأعمال لوضع في قانوننا بند يلزم كل من تصدر لمعاناة صنع القلم أن يمتحنفي الفن الذي يخوض عبابه كما امتحن المتطببون والصيادلة فإنشاء الصحف إن لم يكن أحق بالعناية بمعرفة الأمراض والعلل والعقاقير فلا أقل على أن يكون بمستواها فكم من جاهل قتل نفساً زكية ومن صحافي جرع قراءه السم الزعاف على حين ينتظر منه الترياق النافع.(52/59)
سير العلم والاجتماع
الجرائد في سلانيك
يكي عصر_جريدة تركية يومية تصدر بعد الظهر أسست قبل خمسة عشر سنة وكانت تسمى عصر إلى أن جاءت الحرية فزادت كلمة يكي بمعنى جديد فصارت يكي عصر. تبيع في يومها مقدار ثلاثة آلاف نسخة.
روم إيلي_جريدة تركية يومية أسست هذه السنة ولها من المشتركين مقدار ستمائة وتبيع خمسمائة تقريباً فيكون ما تصرفه مقدار ألف ومائة ولسوف تروج سوقها لأسباب لا نريد ذكرها.
زمان_جريدة تركية يومية أسست بعد إعلان الدستور بقليل ثم عطلت ثم نشرت قبل أيام قلائل ولذلك لا نعلم مقدار ما تصرفه على أني ولو رفته فلا يتخذ مقياساً لأنها بنت عشرة أيام.
سلاح_جريدة تركية تصدر الاثنين والأربعاء والسبت ثلاث مرات في الأسبوع ولا يبعد أن تصير يومية يباع يومياً منها في البلدة مقدار ألف نسخة ويرسل إلى مشتركيها ألف وخمسمائة فيكون مجموع ما تطبعه (2500).
مأمورين_جريدة تركية تصدر في الأسبوع مرتين تخص المأمورين فقط كما يظهر من اسمها.
باغجه (جنينة) _مجلة سياسية أدبية اجتماعية تنشر بالتركية في كل نصف شهر مرة وثمنها قرش واحد. قليلة الفائدة قليلة الراغب تحتوي على 16 صفحة.
حسن وشعر_مجلة تركية تصدر كل خمسة عشر يوماً لا طلاولة لآدابها إلا ما قل وثمنها قرش واحد.
وطنداش_جريدة تركية تنشرها جمعية الاتحاد والترقي ترسلها إلى أهل القرى مجاناً وتصدر كلما اقتضى الحال. وهذه الجريدة تبحث عن الاتحاد والترقي خاصة بلسان يفهمه القروي وفيها من المواد ما ينفع القروي في حقله وزرعه.
فاروس تيس ثسالونيكيس (منار سلانيك) _جريدة رومية يومية أسست سنة 1874 ميلادية تبيع في سلانيك مقدار ستمائة نسخة ولها من المشتركين مقدار سبعمائة فيكون المجموع(52/60)
1300.
آستير (النجم) _جريدة رومية يومية أسست هذه السنة تبيع ألفاً في سلانيك وترسل لمشتركها ألفاً فيكون المجموع (2000).
قونوبي (البرغش) _جريدة رومية أسبوعية نصفها منظوم وهو القسم الأول حتى العنوان وشرائط الاشتراك ونصفها منثور وكلها هزل أسست قبل سنة ويباع منها ألف نسخة.
نه آليثيا (الحقيقة الجديدة) _جريدة رومية يومية أسست سنة 1903 ميلادية باسم اليثيا (الحقيقة) ثم بعد الدستور ضم لها نه آ (جديد).
به لوس (ب بدل) (سهم) _جريدة رومية أسبوعية هزلية أسست هذه السنة تبيع مقدار ألف نسخة.
أبوكا (زمان) _جريدة يهودية يومية أسست سنة 1873 ميلادية ولها من المشتركين في سلانيك ستمائة وتبيع فيها مقدار ألف وخمسمائة ومشتركوها في الأطراف سبعمائة فيكون مجموع ما تصرفه 2800.
الأمبرسيال ' إسرائيلية يومية. أسست سنة 1908 ميلادية تبيع مقدار ألف نسخة.
قرباج (سوط) _جريدة يهودية أسبوعية هزلية أسست هذه السنة فنالت رغبة الناس جميعهم ولذلك تبيع مقدار ستة آلاف نسخة.
الآونير (المستقبل) _جريدة يومية تصدر يوم الاثنين والأربعاء والجمعة وتبيع مقدار ألف نسخة. أنشئت قبل ثلاث سنوات.
ره وياتا بو بو لار (مجلة العوام) _مجلة يهودية أسبوعية تنشر في إدارة ما قبلها وترسل معها يوم الجمعة.
ويرقوزيكو (شيطان) _جريدة يهودية أسبوعية هزلية لم تنل الرغبة مثل أختها قرباج.
لاتريبوناليبر (المحكمة الحرة) _جريدة يهودية أسبوعية يباع منها مقدار ألف نسخة.
جورنال دوسالونيك (جريدة سلانيك) _جريدة إفرنسية محررها إسرائيلي أسست قبل 15 سنة تصدر الأحد والثلاثاء والخميس تبيع في سلانيك مقدار ألف نسخة ولها فيها سبعمائة مشترك ولها في الأطراف أربعمائة مشترك فيكون مجموع ما تصرفه 2100 نسخة.
بروغره دوسالونيك (رقي سلانيك) _جريدة إفرنسية يومية محررها من أهل سلانيك أسست(52/61)
قبل 11 سنة يباع منها مقدار ألف نسخة.
كان للبلغار ثلاث جرائد قل مشتروها فخسرت فتعطلت جميعها.
وأما أهل سلانيك فلا يزيدون عن مائة وخمسين ألفاً وقد كنت أحب أن أقايس أهل الشام وجرائدهم بأهل سلانيك وجرائدهم بهم المطالعة ولاسيما ويأتيهم كل يوم من جرائد إستانبول مثل طنين وأقدام وصباح ويكي غزته ما لا يمكن حصره ولكن لا علم لي بمقدار أهل الشام ولا بجرائدهم ولا بمقدار ما يصرف منها فهل لأحد الفضلاء ممن يعرف ذلك أن يتخذ هذه العجالة أساساً ويتحفنا بالمقايسة؟
سلانيك ر. ب
التربية العقلية
وضع أحد أساتذة المدارس الجامعة في فرنسا كتاباً في التربية العقلية قال فيه بشأن تعلم الإنشاء أن أفضل طريقة يتخذها المعلم في تعليم تلامذته ألا يقترح عليهم كتابة موضوع بدون أن يدلهم على الطريق التي يجب عليهم سلوكها لأن الأفضل في نظره أن تتدارك أغلاطهم قبل وقوعها من أن تصلح بعد كتابتها فإن نقد الأغاليط عقيم في الأكثر ولا يخلو دائماً من الضرب على سندان واحد فلأجل الفائدة من التصليح يجب أن يكون في الوظيفة أو الفرض بعض الميزات الابتدائية والأجدر أن تقرأ للمتعلم قطع من أقوال الغير في الموضوع الذي يقضي عليه كتابته. قال أن من الصعب تعليم الأولاد أن يكتبوا أو يحكموا كتابة صحيحة وحكماً صحيحاً ولكن من الممكن تلقينهم كلهم معنى النظام وحسن السياق وذلك يتأتى بدرس ما كتبه الكاتبون حق دراسته وتحليله وبيان مزاياه ومتانة تراكيبه ومتى تم للم رء أن يعرف ما حوت كتابة كبار الكتاب من الحسنات يوشك أن يقبض على سر الإنشاء.
المدرسة والأخلاق
وضع أحد علماء الألمان كتاباً في التربية الأخلاقية قال فيه أن الواجب في تعليم الأطفال أن يدربوا أنفسهم بأنفسهم وأن يعلمهم معلموهم كيفية التوفيق بين شخصيتهم الروحية وشخصيتهم الحسنة فيباحثوهم في موضوعات في الأخلاق الشخصية أو الاجتماعية ذات ارتباط كلي بحياة التلامذة أنفسهم وأن يعودوا في المدارس إلى القول بعدم المركزية أي(52/62)
الحكومة المستقلة بحيث يعدون الطفل للديمقراطية العملية ويكلون ذلك للمتقدمين من التلامذة.
غاية التربية
قال أستاذ التربية والعليم في كلية برلين أن غاية التربية تقوية حواس الشخص ما أمكن مع احترام الخلق الطبيعي وشخصية الأفراد فالواجب أن نحكم فيه قوة الانتباه والتفكر والذاكرة ولا نعجل في استثمار عقله. وهو يشدد كثيراً في تربية الإرادة لأنها أهم من كل شرح وتفصيل في تربية أخلاق المرء.
آثار عربية
ظفر البارون ماكس فون أوبنهايم اثناء سياحته في الشرق على عدة كتابات استخرج بعضها ودفعها إلى علماء الآثار ليحلوها ومن جملتها 196 أثراً عربياً حلها المسيو برشم ونشرها في كتاب خاص ومعظمها لم يعرف وهي مما عثر عليه السائح الألماني من جنوبي بحيرة حمص إلى دمشق ماراً بقلعة الحصن ومصياف وحماة وقنسرين وحلب والرها (أورفة) وماردين وديار بكر والبيرة وعينتاب وآذنة وطرسوس وقره مان وقونية ويرد تاريخ معظمها إلى عهد استيلاء المماليك على مصر ومنها ست كتابات من عهد الخليفة المنصور في ديار بكر تاريخها سنة 297 من الهجرة وبعضها من عهد سيف الدولة ابن حمدان في حلب من سنة 354 ومنها أثر وجد في دمشق من عهد السلطان طوطش السلجوقي (480) وآخر في سلمية من عهد الأمير خلف 481.
علم نفس الطفل
ألف أحد علماء سويسرا كتاباً في تربية الأطفال وتعليمهم قال فيه: إن الطفولية يجب أن ينظر إليها بأنها باب للاستعداد للحياة وتختلف مدة الطفولية بحسب درجة كمال النوع فكلما اعتبر تاماً أي حافلاً غنياً بالمقاومات يطول طور الطفولية وعبثاً يريد المرء اختصار هذا الطول لأن الفطرة حمت هذا الدور من نقص التركيب بألف واسطة وكلما كانت الطفولية قصيرة يكون ترقي الطفل قاصراً. وتكلم عن لعب الطفل فقال أنه بالنسبة للطفل من أهم المعدات لاستقبال الحياة فإنا نرى اللعب حتى في الحيوانات سارياً بحسب قواهم الطبيعية فالهرة الصغيرة تلعب بكرة من الورق كما تلعب بفأرة والجدي تظاهر بأنه يناطح في حين(52/63)
ليس له قرون وكذلك الحال في الطفل فإن الألعاب على اختلاف ضروبها هي استعداد للعمل القانوني الذي يعمله يوم يبلغ أشده فمن كتب له أن يكون صالحاً في طفوليته يكون رجلاً تام الأدوات في رجوليته والطفل الذي رزق السلامة في أعضاءه والعمل لنما يعد جسمه للمشاق أفضل وأقدر في جهاد الحياة ممن يحملون الشهادات العالية التي تنبئ بدرسهم واستظهارهم فاللعب باعث قوي في نمو الحواس يمد كل من نشأ من النشاط وهو يشترك مع الفكر القوي في سن الفتوة فالواجب أن يترك هذا التصور يأخذ مأخذه كما يشاء ويضاف إلى ذلك رغبة الطفل في النظر والسؤال فينبغي أن لا يضن الأبواب بالجواب على أسئلة يسألها الابن هذا في سن الطفولية أما في سن البلوغ فإن التقليد من أكبر أدوات الارتقاء فالبالغ يبلغ عند الاقتضاء ليسهل التوفيق بينه وبين المطالب العالية والطفل يقلد في لعبه وهذا اللعب مما يفيده.
والمهم في ذلك أن يطبق أعماله على محيطه وأن يقوي قواه ويتعلم معلومات جديدة وينمو على الدوام نمواً طبيعياً وأخلاقياً وهو يرتقي هذا الترقي إذا قابل بنفسه المصاعب التي يجب عليه التغلب عليها تناول بنفسه المعارف اللازمة والأسرار التي يقضى عليه كشفها وسبر غورها. وقال أن علم التربية والتعليم (بيداكوجيا) هو علم معرفة درجات النشوء الطبيعي في الطفل واستخدام كفاءاته الفطرية لترقيتها.
سن تعليم القراءة
يبدأ الأولاد بتعليم القراءة في إنكلترا في السنة الثالثة وفي سويسرا بين الخامسة إلى السابعة بحسب المقاطعات وقد بدأ إميل روسو في الخامسة عشرة. وبحث أحدهم بحثاً دقيقاً فتبين له أن الطفل يتعلم القراءة في الأكثر بسرعة بين السابعة والثامنة وتقل السرعة بين السابعة والسادسة وأن الأظهر في هذه الحال أن يبدأ في سن السادسة بتعلم القراءة. وأكدت مديرة مدارس الأمهات في فرنسا أن تعليم الولد قبل السادسة يضر جداً ولكنها سمحت بأن يقرأ الأولاد بين الخامسة والسادسة من أعمارهم نحو عشرين دقيقة فقط وقالت ينبغي أن يدل الطفل على الكلمات التي يقرأها ولا يكتفي بتكرارها فقط إذ تشتغل في تلك الحال ذاكرته فقط وأن يقرأ بصوته العادي بدون أن يرفعه وأن تستعمل له الألفاظ المستعملة نفسها بدون ألفاظ مجهولة.(52/64)
انتظام التجارة
ثبت أن التكافل النامي في المصالح المادية بين البشر واضطرار كل بلدة أن تطلب المواد الأولية والمواد التي تفرغ في قالب آخر أو تبحث عن مصرف لبضائعها وحاصلاتها في البلدان الأخرى كان منه كان منه أن عدل النظام التجاري العام تعديلاً كبيراً لاسيما وقد أصبح اليوم طول سكك حديد الأرض مليون كيلومتر وكان سنة 1870 مائتي ألف كيلومتر فقط وأصبحت السفن تحمل اليوم 30 مليون طن وكانت سنة 1875 لا تحمل غير 3. 700. 000 طن وعدد الأسلاك البرقية البحرية 1400 ولم يكن سنة 1866 سوى سلك واحد فكيف تكون الحال يا ترى عندما تملأ البحور والبرور بالسفن والسكك والأجواء بالطيارات.
التربية المشتركة
كتب أحد العارفين في مجلة الأسبوع الأدبي في جنيف مقالاً في معنى تربية البنين والبنات في مدرسة واحدة فأورد عدة أمثلة تثبت أفضلية هذا النوع من التعليم ولاسيما لما شوهد من نتائجه الحسنة في إنكلترا وقال فيه أن تربية الجنسين معاً ولاسيما في المدارس الداخلية (كذا) اقل خطراً من تربية كل جنس مع أبناء جنسه. ومن شروط النجاح في ذلك أن يؤخذ الأولاد صغار السن جداً ويتركون يعيشون أبداً معاً ويطرحون العناصر التي لا يمكن التوفيق بينها فيربى الأولاد والشبان في مدارس الفلاة حيث تسلم الحياة من الشوائب وأخلاق الجد تكون أحسن أثراً وأن يسلموا إلى مربين تخرجوا على الأصول الحديثة في علم النفس فيربى كل جنس بحسب طبيعته وما ينتظره في حياته من الواجبات.
الولادات والوفيات
كانت الولادات أزيد من الوفيات سنة 1908 في أكثر ممالك أوربا فبلغت الولادات في ألمانيا 879. 562 والوفيات 795. 107 وفي النمسا 313. 616 و301. 936 وفي المجر 239. 760 و228. 338 وفي البلجيك 64. 837 و67305 وفي إنكلترا وغاليا 419. 921 و346. 847 وفي بلاد القاع أو هولاندة 84. 926 و75. 911 وفي إيطاليا 368. 667 و385. 165 وفي نروج 27. 600 و30. 450 وفي السويد 58. 407 و44. 204.(52/65)
الهند البريطانية
وضع أحد علماء فرنسا كتاباً في الهند بعد درس عشرين سنة فقسمها إلى قسمين قسم مساحته مليونان وستمائة ألف كيلو متر مربع وسكانه 232 مليون نسمة وهذا القسم تحكم عليه إنكلترا مباشرة وقسم مساحته مليون وسبعمائة وخمسون ألف كيلو متر مربع سكانه 62 مليوناً ونصف مليون وهذا القسم يحكمه راجات الهند والزعماء الوطنيون المحالفون للعرش البريطاني ولهم مستشارون إنكليز. ومناخ البلاد بالطبع مختلف باختلاف الأصقاع فإقليم راجبوتانا رمال تبعث الحرارة المدهشة في الصيف وتجلد المياه في الشتاء. ومسالة المياه أهم ما في الهند من المسائل وقد أقام الإنكليز في إقليم بنجاب أعظم آلات الري في العالم ويقدر عدد من يهلك كل سنة في الألف 31 منهم 19 بالحمى. والسكان طوائف وكل طائفة تخرج منها أناساً ولكن لا تدخل إليها أحداً وكان عددهم منذ نحو خمسين سنة لا يتجاوز المئة فأصبح اليوم 2378 تقسم بين 43 عنصراً وتابعية.
ومنها أربع طوائف يتألف منها 16 في المئة من الشعب الهندي وهي طبقة البراهمة وعدد أعضائها 14. 800. 000 والشاماريين 11 مليوناً وكل واحدة من الرجابوتيين والآهريين 10 ملايين والطبقات الكبيرة تسحق الصغيرة.
والظاهر أن المناخ مؤثر جداً في السكان حتى أصبحوا إلى الكسل أقرب منهم إلى حياة العمل وكل واحد يريد أن يعمل له وهو مستريح فتجد في كل خمسة رجال يعملون بحسب الظاهر واحداً لا يعمل شيئاً أصلاً يستريح وآخر يناظر وآخر يعاون فالأرض تؤجر من كبير إلى أصغر وتتعاورها الأيدي بالإيجار. وكثرة الديانات تزيد الأعياد وأيام الراحة والناس لا يربحون ولا ينظرون في المستقبل والفائض فاحش جداً عندهم ولذلك ترى المرابين في خطر أبداً من السلب والقتل على أن الفلاح اقرب إلى الاتفاق مع المرابي من جباة الأموال لأن جباة الأموال لأن الضرائب ثابتة لا تتغير بحسب جودة المواسم وعدمها ولها أوقات معينة لا مناص من أدائها فيها ولذلك تراه عند الضائقة يعمد إلى المرابي فيستدين منه بفائض كبير وقد كان ثلث الفلاحين منذ ثلاثين سنة مدينين على أمل أن يخلصوا من ديونهم والثلثان الآخران لا أمل لهما بالخلاص حتى اضطرت الحكومة الإنكليزية في بنجاب أن تسن قانون 1900 تقضي فيه على الفلاح أن لا يبيع أرضه إلا(52/66)
من فلاح ولكن المرابين كلهم أصحاب زراعات ولذلك لم يقل بيع الأراضي ولا رهنها.
ولم تنفذ الحكومة هذا القانون في البلاد الأخرى. وقوة الحكومة البريطانية في الهند ناشئ من كون إنكلترا تحكم عناصر مختلفة من السيخيين والمسلمين ولماهراتيين والهنود والبرمانيين وكلهم يتحاسدون بينهم وينفصل بعضهم عن بعض في الجنس والعادات والأديان ولذلك كان من الصعب إشراكهم كلهم في منافع الإدارة على قدم المساواة وعدد المسلمين هناك 62 مليوناً والهنود 207 ملايين وكان المسلمون حكام البلاد مدة قرون لذلك يحتقرون المسابقات التي تجري للدخول في الوظائف أما البراهمة فيتسابقون إليها.
تربية العقل
ألف الدكتور تولوز الفرنسوي كتاباً في هذا المعنى قال فيه أن النظر أفيد للمرء من البحث والدرس في خزائن الكتب والتمرن على حكم الأمور الواقعة خير من إملاء الذهن بمعارف ميتة لا محصل لها والعمل خير من التصور والحركة أفضل من التخيل وتكلم فيه على ضرورة العمل للإنسان فقال يجب أن يعمل المرء ليعيش لا أن يعيش ليعمل وأن الراحة الحقيقية هي في الانقطاع بضعة أسابيع عن العمل كل الانقطاع بعد قضاء زمن في الجهاد والجد لا في تعديل العمل وتخفيفه.
جلسة الأولاد
تبين أن السبب في تشويه أجسام الأولاد استعدادهم الكلي للجلوس على مقاعد كيفما اتفق وأن البحث قد أثبت بأن في كل خمسة ملايين طالب يتخرج 570 ألفاً مشوهين في أجسامهم وأحسن واسطة لاتقاء ذلك إجلاسهم على مناضد عالية بحيث لا يكادون يقعدون إلا منتصبة قاماتهم وأرجلهم تمس الأرض وبذلك يقوى هيكلهم العظمي على طبيعته ويتنفسون تنفساً حسناً.
الخطوط الحديدية في الأرض
ظهر من إحصاء أخير أن طول السكك الحديدية في القارات الخمس زاد في السنة الماضية 25 ألف كيلومتر فتجاوز طولها المليونان كيلومتر منها أربعمائة ألف فقي الولايات المتحدة وكندا ومئة ألف في أميركا الجنوبية وستون ألفاً في ألمانيا ومثلها في روسيا وخمسون ألفاً في فرنسا وثلاثة وأربعون ألفاً في النمسا وثمانية وثلاثون ألفاً في إنكلترا وجميع الخطوط(52/67)
الحديدية في آسيا لا تتجاوز الخمسة والتسعين ألف كيلومتر وفي أفريقية أحد وثلاثين ألفاً وفي أستراليا تسعة وعشرين ألفاً.
صحة المدارس
تكلم أحد الخطباء في مؤتمر الفنون في المدرسة في نانسي إحدى حواضر فرنسا في موضوع صحة المدارس فقال أن للنور دخلاً كبيراً في القراءة وإن الواجب أن تكون حروف المطبعة ثخينة في الجملة وأن يعتنى باختيار الألوان المفرحة في الجدران والحوائط ويستغنى عن الألوان الباهتة القذرة كلون الشوكولا والألواح الحجرية السود. والألوان البيضاء الجافية التي تجعل صفوف المدارس كأنها غرف مستشفيات بل الواجب تنويع الألوان والأدهان على الطريقة المقبولة للأولاد فاللون الأحمر والأزرق والبرتقالي مما ينفع النفس والنظر في الأيام الممطرة الغائمة وتكون للنفس بمثابة شعاع الشمس قال والواجب الإكثار في المدارس من الزهور والورود تزرع كيفما اتفق في الأفنية والمماشي ويعلم الصبي احترامها حتى لا يقطفها بمجرد وقوع نظرة عليها كما يعلم مراعاة الحيوان.
الأولاد المدخنون
حقق أساتذة هولانديون تأثير التدخين في الأولاد ثبت لهم مضاره في عقولهم وأخلاقهم والمدخنون هم كسالى وفاسدو الأمزجة والتراكيب ويزيد معدل المدخنين من الأولاد بالنسبة لحالة أهليهم من الرفاهية وعدمها.(52/68)
العدد 53 - بتاريخ: 1 - 7 - 1910(/)
أبو العلاء المعري
1ً_موطنه وأسرته
إلى جنوبي حلب على بعد ثماني عشرة ساعة عنها بلدة معتدلة الهواء قديمة عرفها الرومانيون باسم (خالس) ثم لقبت لعدهم بذات القصور وهي اليوم قضاء من أعمال حلب يعرف بقضاء معرة النعمان نسبة إلى المعرة قصبة ولفظة المعرة سريانية بمعنى المغارة وليست في شيء من التفاسير التي عددها ياقوت الحموي في معجم البلدان ولقد زعم بعض المؤرخين أنها سميت بمعرة النعمان نسبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري عامل حمص الذي مر بها فمات له ولد دفنه فيها فنسبت إليه وقد توفي النعمان سنة 65 هـ (684م). وعندي أن رأي ياقوت فغي معجمه أقرب إلى الصحة وهو أنها نسبت إلى أحد أجداد المعري وهو النعمان الملقب بالساطع ابن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة بن تيم الله بن تنوخ بن أسد بن دبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
فتنوخ إحدى القبائل الثلاث التي هي نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب اجتمعت هذه القبائل مع غيرها في البحرين وتحالفوا على التناصر وأقاموا هناك فسموا تنوخاً وتنوخ بمعنى الإقامة فتكون تنوخ حياً من بني قضاعة من عرب اليمن (وقيل من الأزد) خرجوا من مدينة مأرب إلى البحرين عند سيل العرم ثم تفرقوا في نواحي العراق والشام ونزل منهم النعمان زعيم قبيلته بالمعرة فنسبت إليه وهو أوجه الأقوال وأمثلها.
فمعرة النعمان كانت حصينة منيعة فتحها المسلمون في صدر الإسلام ثم استولى عليها الإفرنج الصليبيون سنة 492هـ (1098م) وأعادها المسلمون إلى أيديهم سنة 529هـ (1134م) وزارها ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما من السياح وقالا أنها كانت لعدها من أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقاً وبساتينها ممتدة إلى مسافة يومين وفيها الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه.
ولا شان لفستقها اليوم ولكن فيها الزيتون والتين الزبيب والعسل وأنواع الحبوب والقطن وفيها صناعة النسيج والدباغة. وتوجد قرى كثيرة باسمها منها معرة مصرين قرب حلب ومعرة باش من قضاء النبك في جبل القلمون ومعرة صيدنايا من أعمال دومة وغيرها. وإلى المعرة ينسب كثير من العلماء أشهرهم أبو العلاء هذا وكذلك كانت موطن اسر(53/1)
مشهورة مثل الأمراء الأرسلانيين التنوخيين في لبنان وآل الجندي في حمص وغيرهم.
وقد نشأ من التنوخيين في معرة النعمان سليمان بن محمد بن سليمان من سلالة النعمان ابن عدي المنتهي نسبه إلى الحاف بن قضاعة التنوخي الشهير وهو جد المعري لأبيه كان قاضياً في بلدته ومن العلماء الأعلام في وقته وترعرع ولده عبد الله والد المعري على الأدب وكلف بالعلم وتزوج امرأة مون آل سبيكة مواطنيه الذين عرفوا بآدابهم وخدم الأدب والمعارف إلى أن رزق ولده أبا العلاء هذا فكان صفوة هذا البيت وخلاصة ذكائه ومخيض زبده وآدابه.
2ً_نشأَته
ولد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن محمد بن سليمان التنوخي في معرة النعمان في بيت عرف بالأدب والفضل ومن والدين من سلالة العلماء يوم الجمعة في 3 ربيع الأول سنة 363هـ (973م) وما أن انفتحت عيناه لنور العالم ومشاهدة جمال الطبيعة حتى مني بالجدري في أول سنة 376هـ (977م) فأطفأت نورهما وردته إلى قلبه فتوقد ذكاءً وقد رتجل شعراً لما عيره بذلك عبد الله الخوارزمي وهو قوله:
قالوا العمى منظرٌ قبيحٌ ... قلت لكم بفقدي يهون
والله ما في الوجود شيءٌ ... تأسى على فقده العيون
وكثيراً ما كان يقول أحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر. ولقد كانت له أسوة بكثير من كبار الشعراء والعلماءِ الذين أصيبوا بالعمى مثل هوميروس اليوناني وبشار بن برد العربي وغيرهما والذي يظهر ممن شاهدوه أنه كان في أول أمره قد غشي يمنى حدقتيه بياض وذهبت اليسرى جملة فكانت إحدى عينيه بارزة والأخرى غائرة جداً وذلك يخالف ما ذهب إليه بعضهم من أنه كان أكمه. وكان يقول: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأنني ألبست في الجدري ثوباً معصفراً. وكانت في وجهه ندوب الجدري وهو نحيف الجسم عصبي المزاج حاد الذهن قوي الحافظة.
قرأ النحو واللغة على أبيه ثم رحل إلى حلب وقرأ على محمد بن عبد الله بن السعد النحوي فتمن من آداب اللغة وطالع كثيراً من المؤلفات لوفرة المكاتب في حلب وقلتها في بلدته ونظم الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة ولم يكتسب به بل نمه شارحاً فيه أغراض نفسه(53/2)
معبراً عن شواعره وواصفاً عجائب الكون ولاسيما الأفلاك. ومفسراً غرائب الاجتماع وحاضاً على الزهد والاعتزال. وممعناً في فلسفة الوجود. ومتشكياً من مناوأة الأيام ومساورة المصائب. وعلى الجملة فإنه أبلغ شاعر قام في الإسلام ذاهباً في شعره مذهب الفلسفة وحرية الفكر والنظر إلى الكون بعين العقل وكان مولعاً بمطالعة المتنبي وتحدي أفكاره فنظم على منواله غير متقيد بالصناعة اللفظية.
وأتقن العلوم ابن عشرين سنة فصار مرجع الأدباء ومحط رحال البلغاء فتخرج عليه كثير من علماء عصره من أشهرهم أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي. وأبو زكريا الخطيب التبريزي شارح الحماسة.
وقد رحل في تفقد المكاتب والتوسع بالمعارف إلى طرابلس الشام المشهورة بمكتبتها العظيمة إذ ذاك وسار إلى اللاذقية فنزل ديراً فيها وسمع أحد الهبان بعض العلوم واطلع على مذهبي اليهود والمسيحيين وكذلك قصد دمشق وحلب وبغداد وغيرها.
وكان يرتزق من وقف كان يحصل منه ثلاثين درهماً في العام ينفق نصفها على من يخدمه فعورض في رزقه فذهب إلى بغداد متظلماً مما عارضه 398هـ (1007م) ثم عاد إليها ثانية سنة 399هـ (1008م) وأقام فيها سنة وسبعة أشهر فتفقد مكاتبها وتعرف بعلمائها ودرس عليه كثير منهم قال أبو القاسم التنوخي: لما ورد المعري بغداد قرأت عليه شعره وذكر أنه دخل عليه وهو في بغداد علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه شيئاً من النحو فقال له الربعي: ليصعد الاصطبل فخرج مغضباً ولم يعد إليه. ويروى أنه دخل يوماً مجلس المرتضى فعثر بإنسان فقال به: من هذا الكلب فقال المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً وله أخبار كثيرة لا محل لاستيفائها.
ومن أشعاره في غربته يحن إلى وطنه قوله:
قيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني الدهر إليها منذ ليالي
فهل فيك من ماءِ المعرة قطرة ... تغيث بها ظمآن ليس بسال
وعاد أبو العلاء من بغداد إلى المعرة سنة 400هـ (1009م) ولزم بيته وشرع في التصنيف والتدريس فتقاطر إليه الأدباء من كل صوب مقتبسين آثاره وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الاقتدار فانقطع إلى خدمة الآداب وسمى نفسه رهين المحبسين للزوم بيته(53/3)
ولذهاب عينيه كما صرح في ذلك بقوله:
أرني في الثلاثة من سبحوني ... فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي ... وكون النفس في الجسد الخبيث
وكان يلعب الشطرنج والنرد (الطاولة). ويملي على بضع عشرة محبرة في فنون من العلم وولع بالعلوم الرياضية وأتقنها وله كثير من الأبيات الرياضية مثل قوله:
طرق العلى مجهولة فكأنها ... صم العوائد مالها أجذار
والعقل أنذرنا بما هو كائن ... في الدهر ثم تشعب الأنذار
وعلى الجملة فإن المعري كان غزير الفضل وافر الأدب عالماً باللغة ضليعاً بآدابها حسن الشعر جزل الكلام قوي الذاكرة شديد الذكاء.
3ً_حافظته ونوادره ووفاته
اشتهر أبو العلاء بقوة الحافظة اشتهاراً عظيماً فاق فيه بديع الزمان الهمذاني وغيره وربما زاد حفظاً بالعمى فإنه يجمع الذهن ويقوي المخيلة. ومما يروى عنه أنه جرى حساب طويل بين رجلين في مكان تشرف عليه غرفته فسمع الحساب وحفظه. ثم ضاعت الأوراق بعد أيام فأملاها عليهما ووجدت الأوراق بعد ذلك فكانت طبق إملائه.
وأعجب من هذا أنه كان يوماً عند يهودي فأتاه يهودي آخر واستودعه صرَّة. ثم جاء يطلبها بعد سنة فأنكرها فرافعه إلى القاضي ولم يكن بينهما شهود إلا المعري فاستقدمه القاضي وسأله. فقال: إنني رجل أعمى لم أبصر ما كان بينهما. ولكنني سمعت كلاماً بالعبرانية أذكر لفظه ولا أعرف معناه. فدعا القاضي يهودياً خالي الذهن من القصة وأعاد عليه الشيخ ذلك الكلام فإذا هو يؤذن بصحة الدعوى.
وأنشده مرة أبو نصر المنازي قوله:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظماءٍ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم(53/4)
فقال له أبو العلاء: أنت أشعر من بالشام. وطويت الأيام على قوله فلما رحل إلى بغداد أنشهد المغازي فيها:
لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحى
شحبى قلب الخلي فقيل غنى ... وبرح بالشجي فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صبٍ ... إذا اندملت أجد لها جراحا
ضعيف البصر عنك وإن تقاوى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحى
بذاك بنو الهوى سكرة صحاة ... كأحداق المهى مرضى صحاحا
فقال له أبو العلاء. ومن بالعراق علي قوله قبلاً (أنت أشعر من بالشام) إلى غير ذلك وكان يقصده كثير من العلماء للتعارف به وممن نزل بالمعرة القاضي عبد الوهاب البغدادي فمدحه المعري (راجع ابن خلكان 1: 431).
ومكن نوادره أن الوزير أبا الفضل التميمي الدرامي البغدادي اجتمع بأبي العلاء هذا في بلدته المعرة لما بعثه القائم بأمر الله العباسي من بغداد رسولاً إلى صاحب أفريقية المعز بن باديس وأنشده قصيدة لأمية يمدح بها صاحب حلب قبل عينه وقال لله أنت من ناظم.
ولقي يوماً غلاماً فسأله عن الطريق فدله. فسأله الغلام عن اسمه فعرفه به فقال له أأنت القائل:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
قال: نعم. قال: إن الأوائل وضعوا 29 حرفاً للهجاء فهل لك أن تزيد عليها حرفاً فسكت وقال لرفيقه: أن هذا الغلام لا يعيش لحدة ذهنه وهكذا كان.
وبقي أليف الأدب منقطعاً إلى التدريس حتى مرض ثلاثة أيام ومات في الرابع منها ولم يكن عنده غير بني عمه فقال لهم في اليوم الثالث من مرضه: اكتبوا عني. فتناولوا الدوي والأقلام فأملى عليهم غير الصواب فقال القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت. فمات يوم الجمعة ثالث ربيع الأول سنة 499هـ (1058م) بالمعرة. وفي طبقات ابن الأنباري أنه توفى سنة 499 وهو خطأ. وقبره في ساحة من دور أهله وعلى الساحة باب صغير قديم وهو مهمل وقد أوصى أن يتب على قبره:
هذا جناه أبي عليَّ (م) ما جنيت على أحد.(53/5)
والمشهور أنه مكتوب على قبره:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... مكنونة صاغها الرحمن من شرف
عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منها إلى الصدف
وقرئ على قبره سبعون مرثية ورثاه نحو 180 شاعراً.
4ً_أخلاقه ومعتقده
كان المعري حاد الذهن عصبي المزاج فضاق خلقاً في آخر أيامه لأن العمى يرث الضجر كثرت مصائبه فاختار العزلة وأكثر الشكوى وسوء ظنه بالناس بدليل قوله:
من عاش غير مداج من يعاشره ... أساء عشرة أصحاب وأخدان
كم صاحب يتمنى لو نعيت له ... وإن تشكيت راعاني وفداني
قوله: توحد فإن الله ربك واحد ... ولا رغبن في عشرة الرؤساء
يقل الأذى والعيب في ساحة الفتى ... وإن هو أكدى قلة الجلساء
وكان حر الضمير تدل سريرته على ظاهرته ولذلك قال:
وأردتموني أن أكون مدلساً ... هيهات غيري آثر التدليسا
وربما تظاهر بما ليس من خلقه تلبية لقوانين المعاشرة كقوله:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً ... تجاهلت حتى ظن أني جاهل
فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقص ... ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل
وكان متواضعاً يمقت الكبرياء فلذلك قال:
دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ ... ولكن الصحيح أبو النزول
وبقي نحو 45 سنة منقطعاً عن أكل اللحوم والبيض واللبن مقتصراً على المآكل النباتية لأنه كان يذهب مذهب من تقدمه من الفلاسفة الذين لا يعذبون الحيوانات بالذبح وقال ابن الأنباري: أنه كان برهمياً ولذلك لما وصف له فروج وهو مريض لم يأكله بل خاطبه بقوله: استضعفوك فوصفوك. وإلى ذلك أشار تلميذه أبو الحسن علي بن همام في مرثيته له بقوله:
وإن كنت لم ترق الدماء زهادةً ... فلقد أرقت اليوم من عيني دماً
وكان يذهب مذهب الهنود أيضاً في إحراق جثة الميت كما جرى لسبنسر وكوخ في(53/6)
عصرنا بدليل قوله:
حرَّق الهند من يموت فمازا (م) روه في روحة ولا تكبير
واستراحوا من ضغطة القبر ميتاً ... وسؤال لمنكر ونكير
وقلوه:
إذا حرق الهندي بالنار نفسه ... فلم يبق غض للتراب ولا عظم
فهل هو خاشٍ من نكير ومنكر ... وضغطة قبر لا يقوم لها نظم
ومن قواعده السياسية التي يصدع بها عظماء ساستنا في هذه الأيام قولهُ:
يقول لك العقل لذي بين الهدى ... إذا أنت لم تدرأ عدواً فداره
فقبل يد الجاني الذي لست واصلاً ... إلى قطعها وانظر إلى سقوط جداره
ومن مذهبه الشورى بدليل قوله:
مُلَّ المقام فكم أعاشر أُمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجزاؤها
ومنه كره للمدح ولذلك قال:
إذا أثني على المرء يوماً ... بخير ليس فيّ فذاك هاجي
وحقي أن أساء بما افتراهُ ... فلؤم من غريزتي ابتهاجي
ومن مبادئه التثبت عند حلول النوائب كما قال:
غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قي ... س بصوت البشير في كل نادٍ
أبكت تلكم الحمامة أم ... غنت على فرع غصنها مياد
ذهب مذهب القائلين أن وجود الولد جناية فلم يتزوج بدليل ما أوصى أن يكتب على قبره وبدليل أقوال له كثيرة منها:
على الولد يجني والد ولو أنهم ... ولاة على أمصارهم خطباء
وربما كان متردداً في البعث والمعاد والخلود ولكن اعتقاده بها أكثر من إنكاره لها ومن قوله:
أيها الملحد لا تعصي النهى ... فلقد صح قياس واستمر(53/7)
أن تعد في الجسم يوماً روحه ... فهو كالربع خلا ثم عمر
ولذلك ألف بعضهم كتاباً في الدفاع عنه سماه (دفع المعرة عن شيخ المعرة) وألف كمال الدين ابن العديم كتاب (دفع التجري عن المعري) وكتبت مقالات كثيرة في تبرئته مما نسب إليه من الزندقة.
5_شعره
يكفي شعر المعري أن يقال في ناظمه أنه فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وقد تصرف فيه تصرفاً غريباً وسرح خياله في العوالم العلوية والسفلية فمثلها أحسن تمثيل وحرص الناس على شعره فجمع في ثلاثة دواوين (لزوم ما لا يلزم) (وسقط الزند) و (ضوء السقط) وقد قلت فيها مور ياً:
ومبذرق نظر اللفيفة جاءني ... والنار قربي بالثقاب يضرَّم
مذ قال هذا ضوءُ سقط الزند قل ... ت له أراه لزوم مالا يلزم
ومنها انتخب الآن ما يدل على مسرح خيال المعري وحسن وصفه ودقة فكره وقوة بصيرته فمن أقواله يصف السهر والليل من قصيدة:
باتت عرى النوم من عيني محللة ... وبات كوري على الوجناءِ مشدوداً
كأن جفني سقا نافر فزع ... إذا أراد وقوعاً ريع أو ذيدا
ظن الدجى فظة الأظفار كاسرةً ... والصبح نسراً فما ينفك مزؤودا
تناعس البرق أي لا أستطيع سرى ... فنام صحبي وأمسى بقطع البيدا
كأنه غار منا أن نصاحبه ... وخاف أن نتقاضاك المواعيدا
من يخبر الليل إذا جنت حنادسه ... والرمل عني لما طل أو جيدا
أني أراح لأصوات الحداة به ... وللركائب يخبطن الجلاميدا
كأنهن غروب ملؤها تعبٌ ... فهن يمتحن بالأرسان تقويدا
ومن حماسياته قوله من قصيدة:
يتهللون طلاقة وكلومهم ... ينهل منهن النجيع الأحمر
لا يعرفون سوى التقدم آسياً ... فجراحهم بالسمهرية تسبر
من كل من لولا سعر بأسه ... لا خضر في يمنى يديه الأسمر(53/8)
يذكي تلهب ذهنه أوقاته ... فكأنما هو بالغدو مهجر
وضجيج طفلهم الحسام وإن ثوى ... منهم فتى فمع المهند يقبر
فكأنهم يرجون ليقيا ربهم ... بالبيض تشفع عندهم وتكفر
إنا من أقام الحروف وهي كأنها ... نونٌ بدارك والمعالم أسطر
وقال من قصيدة أخرى في الغنى والفقر:
وإن الغنى والفقر في مذهب النهى ... لسيان بل أعفى من الثروة العدم
وما نلت مالاً قط إلا ومال بي ... ولا درهماً ولا در بي الهم
لك الخير قد أنفذت ما هو ملبسي ... حياءً وعند الله من قائل علم
ولو أنه أضاف أضعاف مثله ... من التبر لم يثبت له في نداك اسم
وأهون به في راحة أريحية ... كآخر ماضٍ ليس من شأنه الضم
فمني تقصير ومنك تفضل ... بعذر فلا حمد لدي ولا ذم
فلو كنت شعراً كنت أحسن منشد ... سليم القوافي لا زحاف ولا خرم
وقال أيضاً من قصيدة أخرى:
تقول ظباء الحزم والدمع ناظم ... على عقد الوعاء عقد ضلال
لقد حرمتنا أثقل الحلي أختنا ... فما وهبت إلا سموط لآلي
فإن صلحت للناظمين دموعنا ... فأنتن منهن والكثيب حوالي
جهلتن أن اللؤلؤ عندنا ... رخيص وأن الجامدات غوالي
ولو كان حقاً ما ظننتن لاغتدت ... مسافة هذا البر سيف أوال
وقال في نار القرى:
المو قدي نار القرى الآصال والأ ... سحار بالأهضام والأشعاف
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف
وقال في خلاء الفكر للنظم والنثر:
ولولا ما تكلفنا الليالي ... لطال القول واتصل الروي
ولكن القريض له مغان ... وأولاها به الفكر الخالي
وقال في التوجيه البديعي:(53/9)
فدونكم خفض الحياة فإنما ... نصبنا المطايا في الفلاة على القطع
وقال أيضاً:
حروف سرى جاءت لمعنى أردته ... برتني أسماءٌ لهن وأفعال
قال: لو جرت النباهة في طريق ال ... خمول إليَّ لاخترت الخمولا
قال: فصرفني فغيرني زماني ... سيعقبني بحذف وإدغام
وقال من قصيدة:
وليلا تلحق الأهوال فيه ... بفود الشيخ ناصية الغلام
إذا سئموا الرحيل فكل غر ... يرى صرعاته خلس اغتنام
كأن جفونه عقدت برضوى ... فما يرفعن من سكر المنام
لو أن حصى المناخ مدى حداد ... أزرتها النخور من السآم
وجاز إليّ إبرادي هجير ... يجوز من القراب إلى الحسام
يرد معاطس الفتيان سفعاً ... وإن ثني اللثام عن اللثام
إذا الحرباء أظهر دين كسرى ... فصلى والنهار أخو الصيام
وإذ دنت الجنادب في ضحاها ... أذاناً غير منتظر الإمام
قال: وكم لك من أب وسم الليالي ... على جبهاته سمة اللئام
مضى وتعرف الأعلام فيه ... غني الوسم عن ألف ولام
قال: لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق
فرتب النظم ترتيب الحلي على ... شخص الجلي بلا طيش ولا خرق
الحجل للرجل والتاج المنيف لما ... فوق الحجاج وعقد الدر للعنق
فإن توافق في معنى بنو زمن ... فإن جل المعاني غير متفق
قد يبعد الشيء من شيءٍ يشابهه ... إن السماء نظير الماءِ في الرزق
قال: أرى المجد سيفاً والقريض نجاده ... ولولا نجاد السيف لم يتقلد
وخير حمالات السيوف حمالة ... تحلت بإبكار الثناء المخلد
قال: كأن كل جواب أنت ذاكره ... شنف يناط بأذن السمع الواعي
قال: وكلامك المرآة تصدق في الذي ... تحكي وأنت الصارم المصقول(53/10)
قال: فيا قبر واهٍ من ترابك ليناً ... عليه وآه من جنادلك الخشن
لأطبقت إطباق المحارة فاحتفظ ... بلؤلؤة المجد الحقيقة بالخزن
قال: وليلة سرت فيها وابن مزنتها ... كميت عاد حياً بعدما قبضا
كأنما هي إذ لاحت كواكبها ... خود من الزنج تجلى وشحت خضضا
كأنما النسر قد قصدت قوادمه ... فالضعف يكسر منه كل ما نهضا
والبجر يحتث نحو الغرب أينقه ... فكلما خاف من شمس الضحى ركضا
ومنهل ترد الجوزاء غمرته ... إذا السما شطر المغرب اعترضا
وردته ونجوم الليل وانية ... تشكو إلى الفجر إن لم تطعم الغمضا
قال: وأرى ابا الخطاب نال من الحجى ... حظاً زواه الدهر عن خطابه
لا يطلبن كلامه متشبه ... فالدر ممتنع على طلابه
أثني وأخاف من ارتحال ثنائه ... عني فقيد لفظه بكتابه
كلم كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت حبابه
فتشوفت شوقاً إلى نغماته ... إفهامنا ورنت إلى آدابه
والنخل ما عكفت عليه طيوره ... إلا لما علمته من إرطابه
ردت لطافته وحدة ذهنه ... وحش اللغات أوانساً بخطابه
والنحل يجني المرَّ من نور الربى ... فيصير شهداً في طريق رضابه
وقال ملغزاً في الإبرة:
سعت ذات سم في قميصي وغادرت ... به أثراً والله يشفي من السم
كست قيصراً ثوب الجمال وتبعاً ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وقال وقد أبدع في تشبيه الليل والبرق:
كما أغضى الفتى ليذوق غمضاً ... فصادف جفنه جفناً قريحاً
إذا ما احتاج أحمر مستطيراً ... حسبت الليل زنجياً جريحاً
وقال وقد أبدع:
يا سعد أخبية الذين تحملوا ... لما ركبت دعيت سعد المركب
غادرتني كبنات نعش ثابتاً ... وتركت قلبي مثل قلب العقرب(53/11)
قال: لا تطلبن بآلة أنت حاجة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السما كأن السماء كلاهما ... هذا له رمح وذاك أعزل
قال: ولا تجلس إلى أهل الدنايا ... فإن خلائق السفهاء تعدي
وقال يصف انعكاس صورة السماء ونجومها في مرآة الماء:
فأطعمن في أشباههن سواقطاً ... على الماء حتى كدن يلتقطن باليد
فمدت إلى مثل السما رقابها ... وعبت قليلاً بين نسر وفرقد
قال: أطرق كأنك في الدنيا بلا نظر ... وأصمت كأنك مخلوق بغير فم
وإن هممت بمين فاتخذ لفماً ... مضاعفات لتثني اللفظ باللفم
وقال في ذم الدنيا من أبيات:
وقد نطقت بأصناف العظام لنا ... وأنت فيما يظن القوم خرساء
يموج بحرك والأهواء غالبة ... لراكبيه فهل للسفن إرساء
إذا تعطفت يوماً كنت قاسية ... وإن نظرت بعين فهي شوساء
قال: إن الأعلاء إن كانوا ذوي رشد ... بما يعانون من داءِ أطباءِ
وما شفاك من الأشياء تطلبها ... إلا الألباء لو تلقى الألباء
نفر من شرب كاس وهي تتبعنا ... كأننا لمنايا أحياء
قال يصف الشباب: إن الشبيبة نار إن أردت بها ... أمراً فبادره إن الدهر مطفئها
قال: إذا فعل الفتى ما عنه ينهى ... فمن جهتين لا جهة أساَء
وقال في النساء:
علموهن الغزل والنسج والرد ... ن وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتى بالحمد والإخلاص ... تجزي عن يونس وبراءه
تهتلك الستر بالجلوس أما الستر ... إن غنت القيان وراءه
وقال في أدب الأخلاق:
إذا صاحبت في أيام بؤس ... فلا تنس المودة في الرخاء
ومن يعدم أخوه على غناه ... فما أدى الحقيقة في الإخاء
ومن جعل السخاء لأقربيه ... فليس بعارف طرق السخاء(53/12)
وقال:
القلب كالماء والأهواء طافية ... عليه مثل حباب الماء بالماء
منه تنمت ويأتي ما يغيرها ... فيخلف العهد من هند وأسماء
والقول كالخلق من سيءٍ ومن حسن ... والناس كالدهر من نور وظلماء
وقال:
ينافي ابن آدم حال الغصون ... فهاتيك أجنت وهذا جنى
تغير حناؤه شيبه ... فهل غير الظهر لما انحنى
قال: لن تستقيم أمور الناس في عصر ... ولا استقامت فذا أمناً وذا رعبا
ولا يقوم على حق بنو زمن ... من عهد آدم كانوا في الهوى شعبا
قال: يغدو على خله الإنسان يظلمه ... كالذيب يأكل عند الغرة الذيبا
قال: تقادم عمر الدهر حتى كأنما ... نجوم الليالي شيب هذي الغياهب
وقال في النمام:
وإنك إن أهديت لي عيب واحد ... جدير إلى غيري بنقل عيوبي
وقال في الرياء:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وقال في فساد الناس:
عرفتكم بني حواء قدماً ... فكلكم أخو ضغن مكور
وما فيكم على الإحسان جازٍ ... ولا منكم على النعمى شكور
قال: صدف الطبيب عن الطعا ... م وقال مأكله يضر
كل يا طبيب ولا خلا ... ص من الردى فلن تغر
قال: مثل الفتى عند التغرب والنوى ... مثل الشرارة إن تفارق نارها
إن صادفت أرضاً أرتك خمودها ... أو وافقت أكلاً أرتك منارها
قال: وغن اقتناع النفس من أحسن الغنى ... كما أن سوء الحرص من أقبح الفقر
قال: وما الوقت إلا طائر يأخذ المدى ... فبادره إذ كل النهى في بداره
رأتك البرايا ظالماً يا ابن آدم ... وبئس الفتى من جار عند اقتداره(53/13)
قال: اضرب وليدك تأديباً على رشد ... ولا تقل هو طفل غير محتلم
فرب شق برأس جر منفعة ... وقس على شق رأس السهم والقلم
قال: النفس عند فراقها جثمانها ... محزونة لدروس ربع عامر
كحمامة صيدت فثنت جيدها ... اسفاً لتنظر حال وكر دامر
ولقد نسبه بعضهم إلى الكفر لقوله:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
ولكنه قال أيضاً في محل آخر:
خلق الناس للمعاد فضلت ... أمة يحسبونهم للنفاذ
إنما ينقلون من دار أعمال ... إلى دار شقوة ورشاد
وقال أيضاً:
فإني وجدت النفس تبدي ندامة ... على ما جنته حين يحضرها النقل
وإن صدئت أرواحنا في جسومنا ... فيوشك يوماً أن يعادوها الصقل
وقد لوّم في قوله أيضاً:
تاه لنصارى والحنيفة ما اهتدت ... ويهود حيرى والمجوس مضلله
قسم الورى قسمين هذا عاقل ... لا دين فيه وديّن لا عقل له
والمرجح أنه كان متردداً في مذهبه وربما كان إقراره بالدين في أخريات أيامه كيف لا وهو القائل:
عجبي للطبيب يلحد في الخالق ... من بعد درسه التشريحا
ولقد علم المنجم ما يو ... جب للدين أن يكون صريحا
رب روح كطائر القفص ... المسجون ترجو بموتها التسريحا
ومن ذلك قوله:
اذكر إلهك إن هببت من الكرى ... وإذا هممت لهجعة ورقاد
واحذر مجيئك في الحساب بزائف ... فالله ربك أنقد النقاد
تغشى جهنم دمعة من تائب ... فتبوخ وهي شديدة الإيقاد(53/14)
قوله: أزول وليس في الخلاق شك ... فلا تبكوا عليّ ولا تبكوا
قوله: لا ييأسن من الثواب مراقب ... لله في الإيراد والإصدار
فترى بدائع أنبات متحسساً ... إن الجزاء بغير هذي الدار
وشعره كله على هذا النمط من حرية الفكر والشكوى وله من القصائد الفخرية المشهورة وغيرها ما نجتزئ عن ذكره الآن ومن نوادر قصائده ما نشرته مجلة المقتبس (2: 97 و4: 66). وعلى الجملة فإن المعري دقيق التصور حتى يمثل لك أحياناً أموراً لا يستطيع تمثيلها البصير وهاك الآن من فلكياته ما يدل على سمو مخيلته فمن قوله في الفجر:
كأن سنا الفجرين لما توليا ... دم الأخوين زعفران وأيدع
أفاض علي تاليهما الصبح ماءه ... فغير من إشراق أحمر مشبع
قوله: كأن الليل حاربها ففيه ... هلال مثلما انعطف السنان
ومن أم النجوم عليه درع ... يحاذر أن يمزقها الطعان
وقد بسطت إلى الغرب الثريا ... يداً غلقت بأنملها الرهان
كأن يمينك سرقتك شيئاً ... ومقطوع على السرق البنان
قوله: يغرن عليّ الليل كل غارة ... يكون لها عند الصباح توالي
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بجاري النضار الكاتب ابن هلال
ولقد اعتنى كثير من الغربيين بجمع أشعاره وترجمتها إلى لغاتهم مثل كارليل المستشرق الإنكليزي أستاذ العربية في جامعة كامبريدج في أواخر القرن الثامن عشر فإنه ترجم بعض أبيات باللاتينية والإنكليزية. وهكذا فعل المستشرق النمساوي فون كريمر فإنه نشر مقالات كثيرة في (المجلة الجرمانية الآسياوية) عن أبي العلاء وأفكاره وشعره نظماً سنة 1877م ثم ألف كتاباً بعنوان (أشعار أبي العلاء المعري الفلسفية) طبع في فينا سنة 1888 نقل فيه نثراً أمكثر من مائتي بيت شعري من شعر المعري. ثم ترجم رباعياته بالإنكليزية نظماً صديقي أمين أفندي الريحاني اللبناني بكتاب انتخبه من دواوينه الثلاثة وطبع في نيويورك سنة 1903 في 144 صفحة صدره بمقدمة بحث فيها عن أبي العلاء وسيرته ومن رأيه أن عمر الخيام الشاعر الفارسي قد تحداه وهما متعاصران. واختار موسى أفندي بيكييف من أفاضل قازان (روسيا) منتخبيات من لزوميات المعري ونقلها إلى التركية في(53/15)
نحو مائتي صفحة مطبوعة في أورنبورغ سنة 1908. واعتنى كثير من القدماء بدواوينه فإن عبد الله بن السيد البطليموسي النحوي الأندلسي شرح سقط الزند شرحاً ستوفى فيه المقاصد وهو أجود من شرح أبي العلاء صاحب الديوان المسمى بضوء السقط. وكذلك التبريزي خريج المعري شرح سقط الزند.
وكان الحسين بن الجزري شاعر بني سيفا أمراء طرابلس الشام مغرماً بالمعري فكتب على ديوانه لزوم ما لا يلزم:
إن كنت متخذاً لجراحك مرهماً ... فكتاب رب العين مرهم
أو كنت مصطحباً حبيباً سالكاً ... سبل الهدى فلزوم ما لا يلزم
ودواوينه الثلاثة مطبوعة في مصر وسورية. وقد قابلت مجلة المقتطف الغراء بينه وبين ملتون الشاعر الإنكليزي الضرير صاحب (الفردوس الضائع) راجع السنة العاشرة صفحة 449 ومجلة الهلال الغراء ترجمته في السنة الخامسة عشرة صفحة 195. وترجمة رضاء الدين أفندي فخر الدين من علماء أورنبورغ فغي روسية بالتركية التترية في 72 صفحة طبعت في المدينة المذكورة سنة 1908. وغيرهم.
ولقد كان المعري والمتنبي وابن هانئ ممن اختطوا خطة جديدة في الشعر لم ترق في عيون المحافظين على الأسلوب القديم فلذلك لم يسمحوا للمترشحين للنظم أن يتحدوهم كما في مقدمة ابن خلدون وغيرها فالمعري أشبه فكتور هيكو عند الإفرنسيين وكذلك صنواه.
6ً_نثره وكتبه
أهم ما وصل غلينا من نثر المعري رسائله التي نشرت في بيروت سنة 1894 مشروحة بقلم الأستاذ شاهين عطية اللبناني في 240 صفحة. وفيها تكلف غريب وإغراب في النثر لم تألفه العامة وإليك الآن أمثلة منها تعرفه عند القراء:
فمن نثره قوله من رسالة إن كان للآداب أطال الله بقاء سيدنا يتضوع. وللذكاء نار تشرق وتلمع. فقد فغمنا على بعد الدار أرج أدبه. ومحا الليل عنا ذكاؤه بتلهبه. وخول الأسماع شنوفاً غير ذاهبة. واطلع في سويداوات القلوب كواكب ليست بغاربة. ومما كتبه إلى صديق له سأله أن ينقصه في ترتيب المكاتبة وقد أيقنت أن رسل نصيحته ليس بسمار. وإن صواب رأيه عن غير ائتمار. ولم أكتب في أمر أبي فلان إلا متكشراً ثم ثنيت(53/16)
باسترفاد المعونة مذكراً. إذ كان أدام الله عزه لا يشير. لسائله إلى الرفد البعيد. ولا يضرب لراجيه رؤوس المواعيد. وكتب إلى أبي القاسم المغربي جواباً عن فصل كتبه إليه وهو برمته كلما هم خبري بالهمود. وأشرفت على الخمود. نعشني الله بسلام يرد من حضرته يجل ثري كالروضة الحزينة. والبارقة المزنية. ولو كنت عن نفسي راضياً. لشرفتها بزيارة حضرته. ولكني عنها غير راضٍ. وما أقربني إلى انقراض. وإنما أنا قضيض التمراد. ومتخلف المراد. وقد عددت في أناس قيل فيهم تهلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون. عما كانوا يعملون. فإن نعمت أو شقيت. فدعائي ينصل بحضرته ما بقيت اهـ. وكتبت من رسالة لو اتصلت كتب مولاي كاتصال الأمطار وتوالت توالي الأنفاس لكنت بوليها. أسر مني بوسميها. وإلى مستأنفها. أشوق مني إلى سالفها. وما يكتب إلا في بر. ولا يحث على غير المصلحة في الجهر والسر. وما أدري ما أقول في السعادة التي قد رزقتها عنده حتى غطت معايبي. وسترت الأسدة التي أضرت بي. فما أنكر بعدها أن تعد نظفات الدر لأم الأدراص. وأن تصاغ مناطق الذهب للرباح. وأن يدعي المدعون أن ريش ابن أنقذ سهام صائبة. أو قنوات يزينه. . . . وقد اطال في بعض رسائله حتى أن المطالع يمل مطالعتها ولا يتجلد ليتم قراءتها وأخصر رسائله ما ختمها بقوله:
كانت كتبي إليه كبارح الأروى تكون في الدهر مرة. والآن صارت كسوانح الغربان وبوارح الظباء:
تكاثرت الظ باء على خراش ... فما يدري خراش ما بصيد
ومن ألحف فدواؤه ما قال بشار. وليس للملحف مثل الرد. وعليه سلام لو كان يوم عرفة. أو شهراً لكان ناتقاً أي شهر رمضان والسلام وحسبي لله وحده. وقد عني بطبع رسائل المعري هذه الأستاذ مرغليوث وترجمها بالإنكليزية معلقاً عليها شروحاً مفيدة من أدبية وتاريخية مصدرة بترجمة المؤلف شمس الدين الذهبي معتمداً على نسخة في مكتبة ليدن قابلها على نسخة بيروت المشار إليها وقال أنها ينقصها تسع رسائل وبعض العاشرة.
ومن نثره الذي بين أيدينا الآن (رسالة الغفران) وهي التي وصفها شمس الدين الذهبي في ترجمة المعري بقوله له رسالة الغفران في مجلدة قد احتوت على مزدكة واستخفاف وله(53/17)
رسالة الملائكة ورسالة الطير على ذلك الأنموذج أرسلها إلى علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح صدرها بأشواق وتحيات ثم أشار إلى وصول رسالته إليه وأثنى عليها ثم استطرد في وصف الجنة ونعيمها ومن دخلها من الشعراء والملائكة على أسلوب أشبه بالشعر القصصي الروائي عند الإفرنج اليوم فجاء بعده بأكثر من قرنين دانتي شاعر الإيطاليين ونسج على منوالها (الرواية الإلهية) وملتون شاعر الإنكليز (الفردوس الضائع) وغيرهما ولكنهما لم يغربا باللغة مثله. وقد طبعت رسالة الغفران مصححة بقلم الشيخ إبراهيم اليازجي اللبناني في مصر سنة 1907م في 213 صفحة.
ولها نسختان مخطوطتان إحداهما في المكتبة الخديوية بمصر والثانية في مكتبة الكوبر يلي في الآستانة. ولا بأس أن ننتخب منها الآن قوله في الشعر صفحة 55: فقال وما الأشعار فإني لم أسمع بهذه الكلمة قد إلا الساعة. فقلت الأشعار جمع شعر. والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس. كان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات فجئت بشيءٍ منه إليك لعلك تأذن لي بالدخول من هذا الباب. ومن قوله يف اللغة صفحة 93:
والباب فيما كان مضاعفاً متعدياً أن يجيء بالضم كقولك عددت أعد ورددت أرد وقد جاء أشياء نوادر كقولهم شددت الحبل وأشد ونممت الحديث أتم وأنم وعللت القوم أعل وأعل. وإذا كان غير متعد فالباب الكسر كقولهم حل عليه الدين يحل وجل الأمر يجل. والضم في غير المتعدي أكثر من الكسر فيما كان متعدياً كقولهم شح يشح ويشح وشب الفرس يشب ويشب وصح الأمر يصح ويصح وفحت الحية تفح وتفح وجم الماء يجم ويجم وجد في الأمر يجد ويجد في حروف كثيرة اهـ. .
وللمعري مؤلفات كثيرة غير ما ذكر ألمع إليها الحاج خليفة في كشف الظنون أهمها ظهر العصري في النحو. والفصول والغايات. وإقليد الغايات. وكتاب الفصول. وكتاب السادر. وقاضي الحق. والقائف على مثال كليلة ودمنة وتفسير منار القائف. ومبهج الأسرار. وملقي السبيل في المواعظ. والمواعظ السنية ونظم السور. والحقير النافع في النحو. وخطب الخيل عن ألسنتها. ورسائل المعونة. والصاهل والساجح. وزجر النائح يتعلق بلزوم ما لا يلزم. السجعات العشر في الوعظ. وسجع الحمائم. والسجع السلطاني في(53/18)
مخاطبات الملوك والوزراء. وسجع الفقيه. وسجع المضطرين عمله لرجل تاجر يستعين به على دنياه. وشرف السلف عمله لأمير الجيوش. وأهم مؤلفاته الأيك والغصون أو الهمزة والردف ولم يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من فنون الشعر والأدب إلا أحصاها يقع في ألف ومائتي كراس وربما بلغ أربعين مجلداً من كتبنا اليوم. إلى غير ذلك مما يغني قليله عن كثيره.
فهذا شيخ المعرة وفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة وهذه آثاره التي خلفها لنا رحمه الله تنشد قول أبي الفتح حصينة المعري فيه:
وعجبت أن تسع المعرة قبره ... ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع
لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما استكثرت فيه فكيف الأدمع
زحلة (لبنان).
عيسى اسكندر معلوف.(53/19)
نظرة في النظرات
تتمة ما ورد في الجزء الماضي
أراد المنفلوطي في كلامه هذا أن يخطئ الإمام بأن ما دعا إليه من المبادئ الدينية لم يحن بعد وقتها وأن سواد هذه الأمة لم يتأهلوا لقبول هذه المبادئ جاعلاً ذلك علة العلل في إلحادهم ومروقهم من الدين وهذا قياس منطقي أعيذ للمنفلوطي عن أن يحشو فكره بمثله من الأوهام والخيالات التي أبان فيها عن فكر ليس له حظ من التجربة والاختبار.
لا يستطيع صاحب النظرات فيما أعلم أن ينكر أن جل الداعين إن لم أقل كلهم أنجبهم الدهر وولدتهم العصور في أوقات كانت فيها الأفكار حين يقارع بعضها بعضاً في ميدان الحياة. ومن هنا نعلم الحاجة الماسة إلى المرشدين في مثل هذه الأحوال الحرجة والمآزق الضيقة وأنهم متى قاموا بفكرة إصلاحية لا بد أن يلاقوا في طريقهم من عثرات الفريق المخالف ما يستهدفون معه لضروب الإيذاء فيقومون بين مثالب الطعن والقد حتى تتسرب الفكرة إلى بعض من يعمل على نشرها في سرهم وجهرهم ليبقوا من سعيهم هذا خميرة حيوية في المجتمع الإنساني لمن يأتي بعدهم ممن تجد لها من عقولهم مباءة فتتأصل في نفوسهم فستفيدون إذ ذاك ويفيدون بما يدعون إليه ويسعون وراء أشرابه النفوس ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
بمثل هذا قامت المذاهب والأديان وتأيدت الآراء العلمية والنظريات الفلسفية. وإذا لم يكن الأمر كذلك فليدل لنا المنفلوطي برهاناً يبين مصلحاً قام بفكرة جديدة ولم يقم في وجهه في بيئته حتى من بني جلدته من يعمل على محاربته أو مناهضته بكل ما فيه من قوة وقدرة.
ويا لله كيف جاز له أن يحكم على المبادئ السامية التي دعا غليها الشيخ محمد عبده كانت مدعاة للإلحاد والمروق من الدين بدعوى أن دعوته لم يحن بعد وقتها أو أنه يوجد ثمة من يمقتها وينبذها أو أنها نشرت بين فئة واتخذوا من هداها ضلالاً ومن نورها دجى حالكاً. وهؤلاء تلامذته مصريهم وشاميهم وعراقيهم وحجازيهم في عامة الأقطار يتنازعون مبادئه ويتدارسون كتبه لم ينظر إليهم الأستاذ المنفلوطي ونظر إلى فئة ضالة مضلة لا بد من وجودها في كل عصر ومصر.
وكان الواجب على من لم يفهم ما أراد الأستاذ الإمام أو اشتبه عليه بأن يسأل عنه أهل(53/20)
العلم فقد قال أحد شيوخ العلم: يستحيل في نظر العقل أن يدعو الحق إلى الباطل والهدى إلى الإلحاد وأصول الدين الصحيح إلى المروق منه، بل ما أبطل مبطل ولا ألحد ملحد ولا مرق مارق إلا بجهله بالأصول الصحيحة ونبذه التعلم السديد وسلوك جواده القويمة.
ولو كان من شروط الدعوة فقد المناوئين خشية مناهضتهم ومحاربتهم لما قام نبي بدعوة بإرشاد وتعليم لكانت الفكرة الإصلاحية التي قويت وشاعت بالمناهضة ثوت في سرى الرمس قبل أن يلحد القائم بها ولما كنا رأينا كتاباً منزلاً ولا أدباً غضاً ولا علماً صحيحاً وبالجملة ما كانت للأمم مدنية زاهرة ولا عمران زاخر.
ولا وجه لإنكاره على مثل هذا الإمام لأن اتخاذ التأويل قاعة مما لا نكران فيه في كل تأويل جرى اللسان في مثله ووسعته اللغة وهي لثروتها وغزارة مادتها وسعت من المجاز ما يربو على الحقيقة حتى صرح أئمة البيان بأن المجاز أكثر من الحقيقة. حتى صرح أئمة البيان بأن المجاز أكثر من الحقيقة. ولو أعار نظره إلى من سبق ذاك الإمام في مسألة الجن والملك كحجة الإسلام الغزالي والراغب الأصفهاني والقاشاني ونحوهم لما أكبر هذه المسألة وقد أوضح ذلك الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه مذاهب الإعراب وفلاسفة الإسلام في الجن وأفاض في هذه المسألة بما لا يبقى معه ريبة لمرتاب فليرجع إليه من شاء.
وأما ما قام به الإمام من بيان الأسرار وحكمه فذاك فن قديم عني به أئمة الإسلام وفلاسفته كالأئمة الذين تقدم ذكرهم وأضرابهم وهو عندهم من أجل الفنون التي يجب درسها والتوسع فيها. وقد أخذوا على أنفسهم أن يفهموا الأمة أن الدين مؤاخ للعقل مؤازر للحكمة ليس فيه ما يعلو عن العقل أو ينبو عن الفهم وحجتهم في ذلك أن القرآن الكريم هو الذي مهد السبيل للتعليل وصرح بذلك في آيات لا تحصى كما أوضحه الإمام ابن القيم في كتاب التعليل وقد حذا حذوه من المتأخرين حتى برع في هذا العلم_علم الحكمة والأسرار_الإمام ولي الله الدهلوي فألف كتابه المشهور حجة الله البالغة وأفرغ جهده في استنباط الأسرار في العبادات والمعاملات حتى جاء في مجلدين كاملين حافلين.
ولقد سفه المنفلوطي رأي قاسم بك أمين أيضاً وأنحى له لأنه دعا المرأة وقد رآها في أحط دركات الجهل إلى أن تلم بمعرفة ما يلزمها جهاد الحياة وجلادها من تربية وتعليم لتكون(53/21)
المرأة صالحة لهذا المجتمع فتدير شؤون منزلها أو تضرب في الأرض لترتزق إن عضها ناب الفقر وفجعت بموت من يعولها ويكفلها وهو لم يدعها إلى ذلك_كما يعلم المنفلوطي_إلا خشية أن يمزق الحجاب وهي من الجهل المريع بمكان.
وما ذنب قاسم بك أمين أن بين رأيه ولم يأبه لكيد الكائدين من تجار الأدب والدين والمرأة أخذت بالأسهل من رأييه والألصق بنفسها من نصيحته فتبرجت ورفعت برقعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياة.
ومما لا مشاحة فيه أن رجل المرأة قاسم أمين قام بدعوته أحسن قيام فوصف الدواء بعد أن شخص الداء ولو كان في البلاد الأوربية لأقيمت له النصب والدمى_وإن كان صاحب النظرات لا يقول بالتماثيل_احتفاءً به واعترافاً ببيض أياديه وسابقة فضله عليهم أو لو كان المنفلوطي يقدر عمل العامل وفضل الفاضل لما جرأ على أن يقول فيه: ما رأيت باطلاً أشبه بالحق من باطله.
3 ـ
آراؤه
ذهب الأستاذ المنفلوطي في طائفة من أفكاره مذاهب فريق من فلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر من أوربا حتى قابله بعضهم بروسو من حيث نظره إلى المجتمع الإنساني ومما قالوه: إن ما كتبه روسو في فن التربية والتعليم قائلاً: أيها الرجال، لا ترهقوا النشء الصغار على أن يفكروا كما تفكرون ويعتقدوا ما تعتقدون ولا تحاولوا إفساد ملكاتهم بهذه الفضيلة الموهومة والحرية المطلية التي هي في مذهب العقل غاية العبودية ومنتهى الاسترقاق الخ. . ._إن ما قاله روسو تعرض له المنفلوطي في فصل له عنوانه مدينة السعادة وأغرب ما لفت نظري أني لم أر في تلك المدينة ذات التمايز الذي أعرفه من مدائننا بين الناس في منازلهم ومراكبهم وأزيائهم كأن جميع سكانها سواء في حالة المعيشة ودرجة الثروة.
وفي المنفلوطي نزعة اشتراكية تتجلى على أشدها في هذا الفصل في قوله: وحسب الرجل من البشر بيت يؤويه ومزرعة صغيرة يقتات منها ودابة تحمل أثقاله ثم لا شأن له فيما سوى ذلك.(53/22)
وقالوا: يرى روسو أن الدور العالية التي شيدتها الحكومات للتعليم هي التي تغرس مبادئ الجهالة في النفوس وتبعد الإنسان عن عقله وفطرته والمنفلوطي يقول: وأي حاجة إلى المدارس في مثل هذا المجتمع وليس بأبر بآبائنا منا فنحن الذين نتولى تعليمهم وتهذيب نفوسهم وتمرينهم على العمل النافع فلا مدارس عندنا غير المصانع والمزارع نعلمهم كيف يرمون البذور وكيف يستنبتونها وكيف يصنعون الآلات الزراعية وكيف يستعملونها الخ. . . .
وبالجملة فمن رأي الشيخ المنفلوطي أن لا يكون في هذا المجتمع سيد ولا مسود ولا غني ولا فقير ولا حاكم ولا محكوم فالشطر الأكبر الذي يقتفي أثرها هي فلسفة خيالية لا تأثير لها في أبناء القرن العشرين إلا بقدر ما للأساطير من التأثير في العلوم الرياضية. وهي إن جاز أن يكون لها أنصار قبل مائتي سنة أو يزيد فلن تجد لها فيما أحسب من هذا الجيل الجديد الناشئ على أفكار داروين وهيكل وهكسلي وسبنسر ورانكي ومومسن وبالزاك وزولا نصيراً وظهيراً لأنها مخالفة لسنن الطبيعة والحياة العملية.
وقد ذهب مذهب (إسكندر دوما فيس) ولفيف من مفكري المتأدبين الغربيين في مقالته غرفة الأحزان في المرأة المجرمة من حيث يمهدون لها الأعذار ويرون الرجل أجدر باللائمة منها لأنها ضعيفة مفرطة الشعور ولأنه هو الذي هم بها فراودها عن نفسها واراد أن ينزل بها السوء فخدعها إذ عاهدها أن تكون له زوجة ويكون لها بعلاً فسلبها قلبها وشرفها وعفتها وغادرها حين علم أن في أحشائها جنينها يضطرب بين جنينها ناراً تضطرم وكان سبب شقاءها حتى أصبحت حزينة ذليلة تفضل الموت على عيش لا تستطيع معه أن تكون زوجة لرجل أو أماً لولد وأخذ لمجتمع البشري يتهكم بها ويعبث مما زادها حزناً واكتئاباً.
وقد مثل لنا هذا البغي وقد تركت وراءها ما تراه من النعمة الواسعة والعيش الرغد في ذلك القصر الذي كانت متمتعة فيه بعشرة أمها وأبيها إلى منزل حقير في حي مهجور لا يعرفه أحد ولا يطرقه طارق لتقضي فيه البقية الباقية من حياتها.
ولم يكتف ببيان هذه الجناية وحدها بل جعل أن أمها وأبيها قضيا حزناً لفقدها ويأساً من لقاها وختم الحادثة بأن أضاف على الجنايات جناية أخرى وهي هلاك المرأة المجرمة بعد أن أودع نفسها من العواطف الشريفة ما شعرت معه بمصيبة ساورتها الهموم وبلغت منها(53/23)
مبلغاً أودى بحياتها وهكذا ضاعف الجرم على الرجل وعله كاذباً وخادعاً ولصاً وقاتلاً وختم المقالة وهو يمحض الرجال القاسية قلوبهم النصح للرفق بضعيفات النفوس من النساء.
والظاهر أن الأستاذ المنفلوطي كان لا ينظر إلى الحقيقة من حيث هي بل كان قلمه حين يأتي على وصف حادثة يختلف باختلاف المظاهر والمؤثرات فبينا نرى صفحات مقالته هذه مكتظة بما لا يملأ النفوس شفقة ورحمة وعطفاً وحناناً على العاهرات إذا به يضني عليها بجندي يقف ليخفرها ممن يريد أن يسلبها من الحقوق ما لم يبق منها إلا الذماء ويستكثر عليها ذلك في موقف هي خليقة بالشفقة والعناية أكثر من كل المواقف.
ولقد رأيناه وهو يتكلم على المرقص في الأزبكية يحمل على الحكومة المصرية حملة منكرة ويحتدم غيظاً وحنقاً لأن هذه الحكومة المدنية المادية (على رأيه) التي هي مسؤولة أمام القانون عن استقرار الأمن واستتبابه تبعث بجندي يحمي أبواب العاهرات لئلا يعبث المشاغبون بالأمن والسكينة أو يعيثوا في الأرض فساداً.
ومما قاله: إن العين لا تكاد تملك مدامعها سحاً وتذارفاً كلما أبصرت هذا الجندي الشريف واقفاً هذا الموقف الذليل يسمع قراع الدفوف، لا قراع السيوف ويرى حمرة الصهباء لا حمرة الدماء ويحمي الفسق والفجور لا القلاع والثغور. وما أعجب لشيء عجبي لهذه الحكومة التي تضن بجنديها أن يشتمه شاتم أو يلمسه لامس فتغضب له غضبة مضرية تتراءى فيها الشهامة والحمية والعزة والنخوة ثم لا تضن أن تؤجره نائحة في الجنائز، أو قوادة في المراقص.
هذا ما قاله المنفلوطي وما يحدوه إلى هذا إلا أنه ودّ أن يكون في طليعة من يعمل بالدرس الذي ألقاه على الرجال القاسية قلوبهم ليعلمهم فيه الشفقة والرحمة والإحسان!!! وما رآه في مبدأه هذا الأكتولستوي الفيلسوف الروسي الشهير الذي يهيج هائجه على الحكومة الروسية ويصمها بالمعرة والدعارة لأنها تبعث بالأطباء إلى المواخير العامة وتعهد إليهم أن يعنوا بتطهيرها خفية أن تنتقل جراثيم الأدواء الدوية من هؤلاء البغيات الباغيات فتعم الشعب بأسره وتراه يرمي الأطباء بكل مكروه بدعوى أنهم يسعون وراء إشاعة الموبقات وتسهيل أسباب الفسق والفجور.
ويقضي علينا الأخذ برأي هذا المصلح الأخلاقي الروسي أن نهمل تعهد أماكن الفسق(53/24)
والمواخير وأن ندع الجراثيم تفتك بمن ملكت عليهم أمرهم لتسري العدوى في الآخرين وتنتشر الأمراض الوبيئة الوبيلة في الأمة حتى تهلك عن آخرها بدعوى صون أخلاق الشعب كيلا يتطرق إليها الفساد والخلل.
وقد رحم المنفلوطي المرأة البغي في غير هذا الموضع أيضاً وحض على التزوج بها ليرد إليها عرضها وزعم أن ذلك من أعظم القربات وعد الرجل الذي يرد العرض الضال إلى صاحبه المفجوع فيه أشرف ممن يمنح الحياة فاقدها. على شرط أن يكون الباعث على الزواج الرحمة والرأفة والحنان والشفقة لينظر في إصلاح قلبها ويحاول أن ينزع من جنينها ملكة الفساد الراسخة في نفسها ويداخلها مداخلة المؤدب المهذب الذي يصور في نظرها معيشة الفساد بصورة تنفر منها وتشمئز لها.
ومما قال: ليت الرجال يأتمرون جميعاً على أن يستنقذوا بهذه الوسيلة الشريفة (الزواج) كل امرأة ساقها فقرها وعدمها أو فقد عائلتها إلى البغاء.
وقد صرح في هذه المقالة أن بغاء البغي شقاء ما جناه عليها إلا الرجل فجدير به أن يغرم ما أتلف ويصلح ما أفسد وتعرض للمرأة أيضاً في مقالة التوبة فكأن بين جنينه جذوة نار من الحقد والموجدة تتقد على الرجل لأنه قتلها وعلى المجتمع الإنساني لأنه لا يعاقب القاتل على جرمه ولا يسلكه في سلسلة المجرمين.
والغالب أن ثقته بالجرائد المصرية ضعيفة جداً فهو يراهاً نادياً من أندية القمار والكتاب جماعة اللاعبين والرؤوس المصرية موضوعة على مائدة الألعاب كما توضع الأكر على طاولة منضدة (البلياردو).
والسيد وطني سلمي معتدل يفضل اتفاق الأحزاب السياسية على اختلافها وتعارفها على تناكرها ما دامت الغاية من تأليفها تحرير الوطن من رق العبودية.
ومن رأيه أن العلماء والجهلاء سواء وليس بين الفريقين من الفرق إلا أن هؤلاء لا يعرفون كيف يعبرون عن آرائهم وأفكارهم وأولئك أعرف منهم في كيفية إفضاء الحكمة إليهم وسعيهم وراء وعظهم وإرشادهم وإن ما ينطق به الحكيم العالم من جوامع الكلم هو نفس ما يأتي به الجاهل من الأمثال لولا أن كلام الأول في أسلوب مجود ومقال الثاني في تعبير مبتذل.(53/25)
يقول قوله هذا ثم يكتب في مقالة موت العظماء ما نصه: ليست هذه العشرة ملايين (يعني المصريين) التي تراها إلا أطفالاً رضع، وسوائم رتع لولا علماؤها وأذكياؤها الذين يقودونها إلى الخير ويأخذون بيدها في ظلمات الحياة.
فليت شعري إذا كان العلماء والجهلاء في مستوى واحد من العلم والتربية فلماذا ينحي على أمته وأبناء دياره وينزلهم منزلة الحيوانات العجم وفيهم العالم والجاهل. وإذا كان المنفلوطي قد وجد في معاجم اللغة مادتي العلم والجهل من الألفاظ المترادفة فيكون كلامه حينئذ جامعاً لمتناقض الأحكام.
4 ـ
لغته
لم أر فيما رأيت من الكتب الممتعة التي وعت نتاجها قرائح أهل الأدب في هذا العصر كالريحاني وأمثاله أفصح لغة وأصح تركيباً من كتاب النظرات.
فإنك ترى في فصوله مسحة العربية الأولى وقد خلت في الغالب من ركاكات الكتب الجدد والمبذوء من تراكيبهم وجملهم المتعاظلة التي اعتورتها العامة حقبة من الزمن انسلخت فيه عن العربية الخالصة حتى أصبحت إلى الأعجمي أقرب منها إلى اللسان العربي المبين.
بيد أننا نرى من الواجب أن لا نمسك القلم في نقد ما رأيناه من سقطاته في جمل نزلت منزلة أقوال العامة وألفاظ لغوية كان الأجدر بكاتب أدبي مثل هذا أن يكون مصوناً عنها.
فما نأخذه به استعماله فعل (ازدرى) متعدياً بالباء والعرب لا يعرفونه إلا متعدياً بنفسه في قوله في مقالة النبوغ من العجز أن يزدري المرء بنفسه واستعماله (الوظيفة) بمعنى (المنصب) وقوله: خرج في المنطق عن الحيوانية الناطقية والصواب أن يقال: من الحيوانية الناطقية وقوله جداً عجيب والأولى أن يقال عجيب جداً لأن جداً إذا قدمت أضيفت إلى ما بعدها ونسبته بديهة على بديهي وكان عليه أن يقال (بدهي) كما يقول في بجيلة (بجلي) واستعماله (تلائم) بمعنى التأم في قوله من مقالة الجمال غير متناسبة ولا متلائمة وقوله: ويحبس عليها أنفاسها فإن حبس هنا لا تتعدى إلا بـ عن فإذا تعدت بـ على كانت بمعنى الوقف واستعماله البسيط بمعنى الساذج وقوله ودققت النظر والعرب تقول. دقق الشيء إذا أنعم دقه واستعماله تربى بدل ربي وجمعه لفظة مثل على أمثلة(53/26)
والمسموع أمثال وقوله في السنة العامة والصواب على السنة العامة واستعماله الأعوج بدل الاعوجاج وتعرج عوضاً عن تعوج واحتجز بمعنى منع وقوله لا تسلم إلا الحياة وهي عامية والأفصح ولا تفادي إلا بالحياة وإدخاله واو الحال على الماضي بعد إلا كما أنها لا تدخل على المضارع المثبت في قوله: فما رايت سطوراً مقطوعة الأواسط إلا متشابهة الأطراف إلا وقرأتها وقوله نهشه في إصبعه والصواب نهش إصبعه واستعماله الأعراض بمعنى العلامات وقوله يودعه الله في فطرة الإنسان والصواب يودعه الله فطرة الخ. . . .
هذا ما رأينا أن ننبه على ما ورد في كتاب النظرات من الألفاظ والجمل مما لا عهد للعرب به كما أن ثمة ألفاظاً أغفلناها ذكرها كاستعماله لفظة (المراسح) بدل (المسارح) و (البالونات) عوضاً عن (المناطيد) و (المكروبات) بدلاً من (الجراثيم) و (الطاولة) بدل (المنضدة).
والعاقل يغتفر له هذه الهنات اليسيرة إذا عرف أن الكاتب بين ظهراني أمة معظم صحافييها وأدبائها وكتابها يرون أن في هذه اللغة التي يكتبون بها الغناء والكفاء عن أن يتحدوا العرب العرباء في مناحي أساليبهم وأقوالهم ولله في خلقه شؤون.
5 ـ
وصفه
وهب السيد المنفلوطي ملكة خارقة في الوصف تكاد تكون فيه طبعاً وسليقة. وإني لأقرأ له القطعة الأدبية فيخيل إلي أنها من سحرها أن نفحة من قلم هيكو تهب عليَّ فلا أكاد أتم قراءتها حتى أهم بإعادتها المرة بعد الأخرى وأحمد الله على أن وجد في هذا العصر من ينفح هذا الهيكل البالي من الأدب روحاً جديدة ليحيا حياة رغد وهناء.
قال في مقالة الغد: الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه وتصطخب أمواجه فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر أو الموت الأحمر.
ولقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأبصار حتى لو أن إنساناً رفع قدمه ليضعها لا يدري أيضعها على عتبة القصر أو على حافة القبر.
الغد صدر مملوء بالأسرار الغرار تحوم حوله البصائر، وتتسقطه العقول، وتستدرجه الأنظار فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.(53/27)
يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الولد أن يلد للموت ما جمع الجامع ولا بني الباني ولا ولد الولد.
إلى أن قال: أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى لمحة واحدة من لمحات وجهك. أولاً فاقترب منا علناً نستطيع أن نستشف خيالك من وراء هذا اللثام المسدول فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك، وذابت أكبادنا وجداً عليك.
أيها الغد، إن لنا آمالاً كباراً وصغاراً، وأماني حساناً وغير حسان. فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها أأذللتها وأهنتها. أم كنت لها من المكرمين. لا لا، صن سرك في صدرك وأبق لثامك على وجوهك ولا تحدثنا حديثاً واحداً عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة.
وحسنا هذه القطعة الذهبية التي أوردناها هنا دلالة على مكانة الكاتب من ملكة الوصف ومبلغ ما وهب من القوة الطبيعية في النثر الشعري أو الشعر المنثور.
وللمنفلوطي في بعض فصول كتابه تشابيه جميلة واستعارات جديدة ربما غمضت على عقول من اعتادوا تمجيد القديم من المتأدبين أو تعامى عنها بعض من يرى المعاصرة حرمان فلم يرفعوا لها شأناً ولم يقيموا لها وزناً كقوله: فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافاً أما الأول فلو كان جاراً لبيت فاطمة (رضي الله عنها) وسمع في جوف الليل أنينها وأنين ولديها من الجوع ما مد أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه (المتحجر) لا تنفذ إليه عاطفة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان وربما أنكروا عليه وصفه القلب المتحجر وعد جعله للإحسان بسمات إغراقاً منه في المجاز ومبالغة في الاستعارة ولكن الحقيقة في غير ما يزعمون.
ومثل قوله: فقد عقد رياء الناس أمام عيني سحابة سوداء أظلم لها بصري حتى ما أجد في صفحة السماء نجماً لامعاً ولا كوكباً ساطعاً وقوله درع منسوجة من نجيع وقوله: بهذه الصواعق التي يمطرنها علينا من سماء الصحف ومن جمله الجميلة قوله: وما نشر الظلام أجنحته السوداء في الأفق حتى رأيتني أحير من دمعه وجد في مقلة عاشق يدفعها الحب ويمنعها الحياء. لا أعلم هل أنا سر كامن في باطن الظلماء، أو حوت مضطرب في أعماق(53/28)
الماء وقوله أيضاً: وهناك أحسست بسلسبيل بارد من الأمل يتسرب إلى قلبي فينقع غلته ويطفئ لوعته وقوله في مقالة يخاطب بها المحزون: أنت حزين لأن نجماً زاهراً من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينك نوراً وقلبك سروراً، وما هي الأكر الطرف إن افتقدته فما وجدته وقوله: ابتسامة هادئة الخ. . .
وقد أجاد الشيخ في مقالة غرفة الأحزان أيما إجادة حتى أن قارئ القصة ليجد أثرها في نفسه بعد قراءته لها في دمعة تترقرق في جفنه فتنم عن عواطفه وشعوره. وما هي لو علمت إلا جائزة القلب إلى البراع الذي خط تلك السطور بأسلوب يتدفق شعراً وشعوراً. ولا يسعه إلا أن يكبر ذلك الوصف الذي ألم بعامة أطراف الحادثة إكباراً فكان جائعاً لما تشعر به النفس من دبيب الآلام واعياً لما يصدر عن النفس السامية من شريف العواطف.
6 ـ
روح المؤلف
إذا صحت النظرية القائلة الكتابة صورة الكاتب جاز لنا أن نحكم على المنفلوطي أنه من جماعة المتشائمين ولكن لا في مذهب من المذاهب الفلسفية أو التاريخية أو السياسية بل هو من يرون أن لا سعادة في الحياة ولا هناء وإن من العبث أن يلقي المرء بنفسه إلى التهلكة في معترك الحياة ما دامت الرذائل آخذة من النفوس مآخذها وإن ما نسميه فضيلة ليس إلا خداعاً ورياءً ونفاقاً دعيت بالفضيلة وهي ليس لها ظل في هذا الوجود.
هو ينظر إلى المجتمع نظر الحانق الناقم لأنه يعتقد أنه مصاب بالسقم في فهمه والاضطراب في تصوره فلا عبرة بحكمه ولا ثقة بوزنه وتقديره إذ هو يسمي الفقير سافلاً وطيب القلب مغفلاً وطاهر السريرة بليداً والحليم عاجزاً.
وإنك لترى في مقالته أين الفضيلة روح اليأس مجسمة وما يتخيله أو يفكر به هو قد مر بخاطر كثيرين من أدباء المشارقة والمغاربة وكثيراً ما أجهد الكاتب من هؤلاء نفسه ليضع قصة يأتي بها على شرور العالم ومفاسده وكنت كلما مررت بسطر من سطوره تصب اللعنات على هذه الحياة التي تراها مثل الشقاء وتتمثل آنئذ بقول الشاعر العربي الحكيم:
إنما نحن بين ظفر ونابٍ ... من خطوب أسودهن ضراء
نتمنى وفي المنى قصر العمر ... فنغدو بما نسر نساء(53/29)
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتدي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء
من فساد يحويه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء
قاتل الله لذة لأذانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقد فإيجادنا علينا بلاء_الخ. . .
يدلك على هذا أيضاً ما تقرأه له أيضاً في مقالة الشعر البيضاء ويعني بها شعرة المشيب التي رآها تلوح في فوده فخاطبها مؤنباً إياها بأنها تدني له الموت وبالغ في تأنيبها وتعنيفها، وأغرق في عتبها ولومها ثم رجع بعد ذلك لنفسه وكأنه ندم على ما فرط منه بجنبها وأخذ يخاطبها قائلاً: ما الذي يحمله في صدرك لك من الحقد والموجدة رجل لم ينعم بشبابه فيحزن على ذهابه، ولم يذق حلاوة الحياة فيجزع لمرارة الممات ولم يستنشق نسمات السعادة غضاً رطباً فيأسى عليها عوداً يابساً.
ما الذي ينقمه عليك من الشؤون رجل يعلم أنك وحي الأمل الذي يبشره بقرب النجاة من حياة ليس فيها من السعادة والهناء إلا لمحات قليلة يكدرها ما يحيط بها من الهموم والأكدار كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة المرآة.
أليس كل ما أعده إليك من الذنوب أنك طليعة الموت الذي يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام، الحافل بالآلام والأسقام، الذي لا أغمض عيني فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر صديقه وأخ يخون أخاه وعشير يحدد أنيابه ليمضغ عشيره، وغني يضن على الفقير بفتات مائدته وفقير يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر بأمنيته وملك لا يفرق بين رعيته وماشيته، ومملوك لا يميز بين ملك الملك وربوبيته ونفوس تتفانى قتلاً على لون حائل، وظل زائل، وغرض سافل، وعيش باطل وعقول تتهالك وجداً على نار تحرقها، وأنياب تمزقها وعيون حائرة في رؤوس طائرة تنظر ولا ترى شيئاً مما حولها، وتلمع ولا تكاد تبصر ما تحتها.
هكذا رأينا المنفلوطي يرمي هذا العالم بنظرات كلها شؤم كما هو شأن جماعة المتشائمين في عامة شؤونهم وأطوارهم وأحوالهم. ولولا أنه لا يقول إلا ما يعتقده ولا يعتقد إلا ما(53/30)
يسمع صداه من جوانب نفسه لقلنا أنها خاطرات شاعر وجدت لها من سماء مخيلته مطلقاً ثم ما لبثت أن أدركها الغروب. أم وأن هذا الكلام هو صورة من صور نفسه فلا جرم أنها حالة نفسية كثيراً ما تعرو من يميلون إلى التجرد عن المادة ويرون في سكوت الموت وظلمته حياة مفعمة بالحركة والنور والرغد والسرور.
دمشق:
صلاح الدين القاسمي.(53/31)
إلى العرب
يا معشر العرب الكرام تحية ... شغف النسيم بها فبات عليلا
رقت فلولا الشعر يحيا ذوبها ... وجدت لها بين السطور مسيلا
من شاعر لولا هواه يقومه ... ما كان برضى اليراع خليلا
باتوا يلوموني وبات القلب عن ... لوم الوشاة بحبهم مشغولا
زادوا ولوعاً بالملام وأسرفوا ... فيه فزدت ثغورهم تقبيلا
حلت الثغور بذكر من أحببتهم ... فرشفت من برد اللمى معسولا
إني لأهفو إن أردت حديثهم ... حتى أنك قد أدرت شمولا
ماذا علي إذا عددت هواهم ... ديناً وغيري عده تضليلا
والناس مختلفون في أهوائهم ... متباينون مشارباً وميولاً
ولرب محسوس ترى آثارهم ... ليس على كل النفوس شكولا
سجع الحمائم يستفز أخو الهوى ... طرباً ويحسبه الحزين عويلا
* * *
قومي وأنتم خير من فوق الثرى ... واجلهم يوم الفخار أصولا
ردوا على الشرق القديم شبابه ... فالأمر بات لعزمكم موكولا
شخصت لواحظه إليكم يبتغي ... نيل الرجاء فحققوا المأمولا
وانضوا العزائم للرقي وحسبكم ... يوم الطلاب تواكلاً وخمولا
لا تيأسوا فاليأس كم جرَّ الردى ... وغدا على صغر النفوس دليلا
وأخو العلى من لا يزال طلابه ... أبداً بأسباب الرجى موصولا
فالروض يزهو بالنضارة بعدما ... نهكته عادية الهجير ذبولا
وإذا المنى امتنعت وعز منالها ... كان الثبات بنيلهن كفيلا
* * *
فامشوا إلى كبد العلاء بهمة ... تذر الجبال الشامخات سهولا
وتقحموا الغمرات واصطبروا لها ... فالمرء أن يجبن يعش مرذولا
المجد مطلبه الشديد فأخلقوا ... عزماً يذلل صعبه تذليلاً
* * *(53/32)
واستشهدوا التاريخ أصدق منبئ ... بالغابرات من العصور الأولى
أيام تبتدر الجياد شوازباً ... يضربن عرضاً في البلاد وطولا
يحملن أبطال الجزيرة طلعاً ... كالأسد أبرحها الحفاظ الغيلا
من كان أروع مثلما تهوى العلا ... كالسيف عضب الشفرتين صقيلا
تلقاه يؤثر إن يموت مكرماً ... عن أن يمتع بالحياة ذليلاً
فتحوا البلاد وغادرت أسيافهم ... في كل أرض ونة وصليلاً
بيض إذا انتضيت ليوم كريهة ... وردت ظباهن الدم المطولا
كتبوا بها في الدهر آية سؤدد ... لا تقبل التحريف والتأويلا
* * *
ذودوا عن اللغة التي وردت بها ... آي الكتاب ونزلت تنزيلا
هي روح نهضتكم ومعقد مجدكم ... فتعدوهما بكرة وأصيلا
وحياتكم يا قوم احتفظوا بها ... أو ترتضون عن الحياة بديلاً
* * *
لا تحسبوا الدستور يسعدكم إذا ... لم تسلكوه للرقي سبيلاً
وإذا الصبح بدا ولم نجف الكرى ... لم يجدنا فلق الصباح فتيلا
فاسترشدوا بالعلم وانصرفوا له ... وتدارسوا المعقول والمنقولا
وابنوا المدارس في البلاد كأنها ... زهر تزيج من الظلام سدولا
وهي الكفيلة حين يعمر ربعها ... إنا ننال من الزمان السولا
تكاتفوا في السعي لا تتخاذلوا ... فيبيت ممردة الصروح طلولا
وتعهدوا الأخلاق فهي إذا التوت ... تركت ممردة الصروح طلولا
ما كان تحرير الرقاب بنافع ... إن لم نحرر أنفساً وعقولاً
دمشق: جرجي الحداد.(53/33)
الكتابة والكتب ودورها
أفرأيتم المصريين الأقدمين وقد تركوا لنا كتبهم منقوشة على صفحات الجبال وفي بطون المغارات وعلى أحجار البرابي والأهرام والمسلات؟
أم هل أتاكم حديث الآشوريين؟ فقد اكتشف النقابون في هذه الأيام مصافحهم مرقومة على اللبن، وهو الطوب المشوي أو المطبوخ. وذلك لأن أرض ما بين النهرين مكونة من طمي جبلة والفرات وليس فيها جبل ولا حجر. ولكن ذلك لم يقف عثرة في سبيل الغرام بالكتب. فصاروا يرقمون بالمسمار على الطين وهو نيئ ثم يطبخونه في النار، استباقاً لكتابتهم على مر الأدهار والأعصار.
ثم انتشر هذا الغرام في مصر وعم ومط، فاحتاج القوم لزيادة الكتابة، وأسوا بما في النقش على الأحجار من صعوبة، فعادوا إلى الطبيعة، وهي الهادي الأكبر إلى البشر، أخذوا البردي وعالجوه بما جعله صالحاً للكتابة، وها هي آثاره في دار العاديات المصرية بقصر النيل في القاهرة، وأكثرها في متاحف أوربا، وأما الصين والهند، فقد كفتهم دودة القز هذه المئونة، في القيام بما يدعون إليه الولوع بالكتب والكتابة، وإذا نظرت إلى بني الأصفر وأعني بهم اليونان والرومان تجدهم قد استعانوا بالحيوان، فعالجوا الجلود وصنعوا منه ما نسميه بالرقوق.
وأول من استنبط ذلك الأغارقة من أهل فرغانة، وهي مدينة بآسيا الصغرى تسمى عندهم برجامة فصار اسمها على اسم هذا المصنوع من الرقوق، ولا يزال باقياً عند جميع الإفرنج إلى الآن، فإن أهل إيطاليا يسمون الرق (بفتح الراء) بزجامينو أي الفرغاني لأن العرب تقلب الباء الفارسية إلى فاء لقرب المخرج كما قالوا في أفلاطون وهكذا. وأما الاسم العربي فهو مأخوذ من ترقيق الجلد بعد دبغه.
أما العرب فبلادهم جرداء قحلاء فلم ينقشوا على الأحجار، ولم يطبخوا الطين على النار، ولم يهتدوا إلى صناعة الترقيق. ولكن ذلك لم يكن حائلاً دون غرامهم بالكتابة والكتب. فكانوا قبل الإسلام في عصر النبوة يكتبون على عسيب النخل أي قحوف الجريدة لكثرة هذه الشجرة المباركة في بلادهم. ويكتبون على ألواح العظام (وكثرتها ناشئة عن ذبح الأضاحي) ويكتبون على نوع من الأشجار المصقولة التي يلتقطونها من فيافيهم وبواديهم.
ونقف بالكلام على العرب دون سواهم من الأمم الأخرى. فإنهم ما لبثوا في خلافة الصديق(53/34)
ومن جاء بعده من الخلفاء، أن انتشروا في الأرض فأخذوا على جعلها أسليب الحضارة. ثم احتاجوا إلى التبسط في الكتابة، لاتساع الملك واستبحار العمران فكتبوا في العراق على الحرير وسموه بالمهراق. وكتبوا في مصر على البردي ولا تزال آثاره باقية في أوربا وبعضها في القاهرة في دار الكتب الخديوية. وكانوا يكتبون على هذا البردي باللغة العربية وحدها تارة، ومصحوبة بالترجمة الرومية أو القبطية تارة أخرى. ولا تزال هذه سنة مطردة في ديارنا، أعني بها سنة الاحتياج إلى لغتين مثال ذلك: الأحجار وأوراق البردي في عهد اليونان، نراها مكتوبة بلغتهم وباللسان المصري القديم، وفي عهد الرومان حل اللسان اللاتيني محل اليوناني. حتى جاء العرب فكان من شأنهم ما ذكرنا. ثم انقضت مدة طويلة من أيام المأمون إلى آخر الدولة الأيوبية استقل فيها اللسان العربي. حتى جاءت دولتا المماليك البحرية والجركسية فاندمجت في اللغة العربية بعض ألفاظ واصطلاحات دخيلة من التركية. ثم جاءت دولة العثمانيين فكانت السيادة في مصر للمماليك الأتراك حينئذ طما بحر اللغة التركية وصارت تزاحم لغة البلاد. واستمر الحال على ذلك بعد جلوس الفرد الفذ الأعظم محمد علي نابغة العصر الجديد إلى أيام سعيد وبعد ذلك بدأت الفرنساوية تحل قليلاً محل التركية. وها هي الآن تتأخر في الميدان أمام الإنكليزية. والحق يقال أن لغة البلاد أخذت في الانتعاش كثيراً بفضل خديوينا المحبوب عباس الثاني وبفضل حكومته الرشيدة السعيدة. وبفضل المحاكم والجرائد سترون عما قليل حسنة جليلة من أكبر محاسن الحكومة الحاضرة يرفع بها منار هذا اللسان وتتجدد معها آداب العرب وعلومهم.
نرجع إلى الكتابة والكتب ونقول أن العرب ما عتموا أن استخدموا الجلود بعد ترقيقها وكان من مزاياها عندهم أنهم كانوا يغسلونها ويجددون الكتابة عليها. فرأوا أن ذلك إن كان صالحاً في بعض المعاملات الوقتية ففيه ضرر كبير على العلم كما رأوا من جهة أخرى أن الحرير يدعو إلى مئونة كبيرة مع أن الحاجة ماسة إلى الإكثار منه ومن الرق بل رأوا في أيام هارون الرشيد أنهم مقلدين لغيرهم من الأمم وإن ما وصلوا إليه من الحضارة والرجحان يوجب عليهم الأخذ بأسباب الاختراع والاستنباط. فكانوا أول من اصطنع الورق على هذا الشكل الباقي إلى أيامنا هذه وحسبهم ذلك فخاراً. وقد سموه بالكاغد ثم بالقرطاس ثم شاع اسم الورق وانتشرت معامل الورق من الخرقة أي من الكهنة في سمرقند وبغداد(53/35)
والقاهرة ودمياط ثم انتقل إلى بلاد الغرب فكان لهذه الصناعة شأن كبير في بلاد الأندلس واشتهرت مدينة شاطبة بمعاملها ومصانعها التي فاقت في الجودة والإحسان والإتقان واربت على ما بلغه أهل المشرق من هذا الباب ومن شاطبة كان الكاغد يحمل إلى سائر بلاد الأندلس. ومن هناك انتقل إلى أفرنجة (فرنسا) ثم إلى بقية ديار أوربا وقد ابلغه القوم في هذه الأيام إلى نهايات ما يخطر بالأحلام وأتوا في ذلك بالعجب العجاب حتى صاروا يصنعونه من الأخشاب وانعدمت هذه الصناعة من ديار المشرق كلها فصار عالة على غيره فيها وفي غيرها.
حينئذ توفرت عند العرب الأسباب المادية والعقلية فأبدعوا في التصنيف وأغربوا في التأليف وتهافتوا على جمع الكتب وتطلبها وتساوى في ذلك السلطان والسوقة والخاصة والعامة والرجال والنساء وجميع الطبقات حتى كثرت دور الكتب في القاهرة وأمهات المدائن المصرية بدرجة لا تتصورها الآن لأن بلادنا أصبحت خلواً منها بالمرة لولا تلك الصمامة القليلة الباقية في دار الكتب الخديوية وفي الأزهر الشريف تتلوها المكتبة الحديثة التي أنشأتها البلدية في الإسكندرية. أما البيوتات فقد أصبح عددها أقل من أصابع اليد الواحدة وأولها بيت السادات يتلوها بيت البكري فبيت المرحوم رفعة وعبد الله فكري. وأما الأفراد فقد قلب النظر فلم أر غير المرحوم لطيف باشا سليم وبعده الفاضل أحمد بك تيمور.
وقد أردت أن أجري على هذا المنوال وإن كانت خطواتي صغيرة ويدي قصيرة ولكني خشيت أن تذهب مجموعتي من بعد للعطار والزيات والبقال أو تتفرق شذر مذر كما حصل للمجموعة النفيسة التي كانت تزدان بها دار المرحوم علي مبارك باشا في حياته. لذلك جعلتها من الآن خاصة بالأمة ولا أزال دائباً إلى آخر ساعة من حياتي على توسيع نطاقها والزيادة فيها.
إذا رجعنا ببصرنا إلى التاريخ رأيناه يحدثنا عن دور الكتب في القاهرة فتأخذنا لوعة لمجرد هذا الوصف وتبكي على ذهاب العين والأثر.
فدور الكتب التي أسسها الفواطم يحدثنا المقريزي عنها بما يثير الأشجان ويستمطر الدموع من الآماق. فقد كان في قصر الخلافة وحده أربعون خزانة كانت فيها النوادر والذخائر فأخذ معظمها بعض الموظفين وبعض الأجناد الأتراك بدل مرتباتهم في أيام الشدة التي وقعت(53/36)
للخليفة المستنصر.
وقد نهبت عرب لواتة شيئاً فشيئاً منها أغرب المقريزي في وصفه ثم قال: إن عبيدهم وإماءهم أخذوا جلوها برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم وأحرقوا ورقها تاولاً منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره وإن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر الأقطار وبقي منها ما لم يحرق سفت عليه الرياح التراب فصار تلالاً باقية إلى اليوم بناحية آثار تعرف بتلال الكتب.
هذا عدا خزائن القصر الداخلة التي لا يتوصل إليها أحد وعدا خزائن دار العلم بالقاهرةوهي مماثلة لما نسميه اليوم أكاديميا أو كما يقول صاحب كشف الظنون وابن أبي أصيبعة قبله: (أقاذيميا) وسوى خزانة المارستان العتيق وقد بقيت إلى أن بيعت في أيم صلاح الدين فاشترى القاضي الفاضل وحده منها مائة ألف كتاب مجلد وأودعها في المدرسة التي أنشأها بالقاهرة. وفضل القاضي الفاضل ومكانته في الدولة الأيوبية يدلان على أنه اختار أفضل الكتب وأحسنها ولكنها ذهبت بها الأيام أيضاً فإن الغلاء لما وقع بأرض مصر سنة 694 صار طلبة هذه المدارس يبيعون كل مجلد برغيف من الخبز. وبقيت منها بقية تداولتها أيدي الفقهاء بالعارية وكان فيها مصحف اشتراه القاضي الفاضل بنيف وثلاثين ألف دينار على أنه مصف الخليفة عثمان وكان في خزانة مفردة له غربي المحراب. وهذا القاضي الفاضل كان يقتني الكتب ومن كل فن ويجتلبها من كل جهة وله نساخ لا يفترون ومجلدون لا يبطلون. وقد بلغ مجموع كتبه قبل موته بعشرين سنة 124000 مجلد طلب ابنه مرة أن يقرأ ديوان الحماسة وتوسل إلى ذلك ببعض المقربين لديه فأمر القاضي الفاضل فأحضر له خازنه 35 نسخة فصار ينفضها واحدةً واحدة ويقول هذا بخط فلان وهذه بخط فلان حتى أتى على الجميع ثم قال: ليس عندي ما يصلح للصبيان وأمر بشراء نسخة بدينار لولده وقد أحضرت مجموعة رسائله في جملة ما أحضرته من الكتب.
وقد بقي بعض الكتب من آثار الفاطميين في مصر وزاد عليها المماليك وجعلوا لها خزانة عمومية ولكنها احترقت في سنة 691 فتلف بها من الكتب الفقه والحديث والتاريخ وعامة العلوم شيءٌ كثير جداً كان من ذخائر الملوك. والذي نجا من النار انتهبه الغلمان وباعوه(53/37)
بأبخس الأثمان فظفر الناس منها بصحائف محرقة فيها نفائس غريب.
ولم تكن هذه المدرسة الوحيدة في القاهرة فقد كانت خزائن الكتب في المساجد والجوامع والمدارس فضلاً عن القصور والمنازل. وحسبي الإشارة إلى بعض المدارس التي امتازت بجمع الكتب النادرة فمنها المدرسة التي أنشأها بمصر القديمة في سنة 654 الوزير الصاحب بهاء الدين علي محمد بن سليم بن حنا (بكسر الحاء المهملة وتشديد النون المفتوحة كما ضبط الثقات من المؤرخين) فقد كانت فيها خزانة جليلة من الكتب النادرة ثم نقلها فبقيت عنده حتى مات فتفرقت بين الناس وكذلك الملك الظاهر بيبرس البندقداري جعل في مدرسته الظاهرية خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في عامة العلوم.
فلما تولى السلطان قلاوون جعل في قبته البديعة خزانة الكتب في جميع أنواع العلوم ولكن معظمها تفرق في أيدي الناس واقتدى به ابنه محمد فأنشأ خزانة كتب في مدرسته التي شادها بجوار هذه القبة في الجهة المعروفة الآن بالنحاسين.
وأما أسماء الأمراء والأفراد فهي كثيرة جداً مثل الأمير متكوتمر سيف الدين الحسامي والحاج سيف الدين آل ملك والأمير سيف الدين الجاي والطواشي سابق الدين مثقال والطواشي سعد الدين بشير الحمدار. وأهم الكل الأمير جمال الدين الأستادار.
ولا أنتقل من هذا الموضوع قبل أن أذكر لكم أن نساء مصر كانت لهن مشاركة في هذه المأثرة وحصة كبيرة في الغرام بالكتب وأكتفي الآن باسم الست عاشوراء بنت ساروج الأسدي وكانت عائشة في أيام صلاح الدين والست الجليلة الكبرى عصمة الدين مؤنسة خاتون بنت الملك العادل الأيوبي وكانت من فضليات أهل العلم واشتهرت بالبراعة والفصاحة وفنون الأدب والسيدة الجليلة الكبرى خوندتتر الحجازية بنت السلطان الناصر محمد بن قلاوون والست بركة أم السلطان الملك الأشرف شعبان والست أيديكين زوجة الأمير سيف الدين بكجا الناصري.
وقد بدد الزمن آثار تلكم السيدات الكريمات فلم أقف على كتاب من تلك الخزائن الكثيرة وغاية الأمر أن في دار الكتب الأهلية بباريس تحت نمرة 2751 كتاباً في علم تعبير الرؤيا وهو مرتب على حروف الهجاء بشكل معجم ومكتوب وفي سنة 833 هجرية برسم خزانة أميرة من أميرات مصر (إحدى البرنسات) وهي بنت السلطان الملك الظاهر جقمق.(53/38)
كان هذا الغرام عاماً في مصر وفي جميع بلاد المشرق. وخصوصاً في الممالك الخاضعة لصولجان صاحب التاج في القاهرة. التي كانت عاصمة للإمبراطورية المصرية. والشواهد كثيرة على هذا الولوع وحسبي أن أذكر لكم اسماً واحداً من باب التدليل. وهو أبو الفدا سلطان حماة وصاحب التاريخ المشهور بالمختصر في أخبار البشر وصاحب الجغرافيا المسماة بتقويم البلدان الذي طبع وترجم في باريس قد مع في خزانته من الكتب ما لا يزيد عليه في خدمته ما يناهز مائتي معمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمنجمين والفلاسفة والكتبة.
ولو أردت أن أستقصي ما أعرفه عن الكتب وغرام المولعين بها أيام كانت الحضارة الإسلامية زاهية زاهرة لطال المقام ولم تكفني الأيام تتلوها الأيام.
وقبل الختام أذكر لكم قضية وقعت بمصر وهي من أغرب ما سطرته سجلات القضاء.
وقفت على كتاب اسمه كنز الدرر وجامع العبر لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادار وهو في تسعة أجزاء ثلثاها بمكتبة آيا صوفيا والثلث الباقي بمكتبة طوب قبو بالقسطنطينية وهو في تاريخ مصر وفيه تفصيل غريب وبيان واف لا نراه في التواريخ التي وقعت إلينا. وليس هذا محل الشرح عن هذا السفر الجامع النافع. وقد كان هذا الكتاب موقوفاً على إحدى المدارس بالقاهرة فاغتصبه بعض الأكابر وأوقفه على مدرسته وقفاً صحيحاً شرعياً مرعياً فأقيمت عليه قضية بمجلس الحكم وحصلت المرافعة والمدافعة ثم اصدر القضاة حكمهم ببطلان الوقف الثاني وإعادة الكتاب إلى مقره الأول باسم واقفه الأول. وقد قضت الأيام ببطلان هذين الوقفين وبانقسام الكتاب إلى شطرين وفي خزانتين ولكن في غير مصر.
إن العرب في اجتماع أهل الفضل في دور الكتب كانوا مقلدين لليونانيين في أثينة وللرومانيين في رومية وكل منهما قد نهج على سنة أجدادنا المصريين.
أول من مدح الكتب على ما أنبأ به التاريخ الصحيح هو أول من أسس لها داراً خصوصية بديار مصر وجعل منفعتها عمومية.
أنا لا أجاري بعض الغلاة من العرب ومن أربى عليهم من المتهوسين الألمانيين الذين قالوا بوجود دور الكتب قبل حدوث الطوفان وأخذوا يتصيدون الأقاويل من هنا ومن هناك(53/39)
ويقيمون الدلائل على غي طائل محتجين على ذلك بتعليم آدم الأسماء وبالأعمدة التي نقشها شيث وبالصحف التي نزلت على إدريس ويكفينا أن نقنع بما هو وراء ذلك وهو قديم بل قدموس حتى لا نخوض بحور الخيال ونهيم في أودية الأوهام. حسبنا أن نرجع إلى ما هو قبل اليوم بأكثر من 3200 سنة فهنالك نصل إلى التاريخ الثابت المنقوش على الأحجار وهو مما لا جدال فيه ولا مراء. فتلك الأطلال الماثلة إلى الآن في صعيد مصر تنطق بلسان هيروغليفي مبين وتقول أن أوسيماندياس فرعون مصر الذي سماه اليونان سيزوستريس ورمسيس الثاني هو أول من أسس دار الكتب في مدينة طيبة بالصعيد وهو أول من مدح الكتب بعبارة وصلت إلينا. وذلك أنه نقش على باب تلك الدار كلمتين اثنتين جعلهما رمزاً عليها وتلخيصاً لكل ما فيها وهما:
(شفاء الأرواح).
ولعمري أن هاتين الكلمتين هما أبلغ من كل ما جادت به القرائح بعده في شرق البلاد وغربها وما هو مأثور عن عجم الأمم وعربها.
وعن المصريين اقتبس اليونان علومهم ومعارفهم ونظامهم ولكنهم لما جاء الدور لهم لم يتيسر لهم إنشاء مكتبة عمومية إلا بعد الفرعون المصري بربوات من السنين لا تقل عن الخمسة قرون وذلك أن طاغية بيسترات هو أول من أحدث بمدينة أثينس (أي أثينا) داراً من هذا القبيل لاستفادة الخاص والعام وكان ذلك قبل القرن السادس للميلاد وجمع فيها أشعار أوميروس بعد أن تلقفها من أفواه الرواة كما كان شأن العرب من بعده باثني عشر قرناً في أيام بني أمية وبني العباس. وما لبثت هذه الدور أن انتشرت بأرض اليونان كما يشهد بذلك بيت قال شاعرهم ارسطوفان:
وفي يد كل إنسان كتاب ... يلقنه أفانين العلوم
وتولع اليونان بجمع الكتب والحث عليها لدرجة لا تكاد تكون محمودة: دخل حاكم إلى مدرسة النحو بأثينا فطلب من الأستاذ نسخة من ديوان أوميروس. فأعلمه المعلم بعدم وجودها فما كان من الحاكم في هذا الإهمال إلا أن صفعه وخرج.
ثم تهوس القوم بجمع الكتب من غير استفادة أو إفادة حتى رأى أديبهم لوسيان الشميشاطي أن يكتب رسالة بليغة في هجو رجل جمع من الكتب طائفة وفيرة لمجرد الاشتهار بأنه(53/40)
جماع للكتب. قال ذلك الأديب يخاطب ذلك المذموم بما ترجمته:
في وسعك أن تعير الكتب لغيرك فتكسب أجراً وفيراً ولكن ليس في طاقتك أن تستفيد منها فتيلاً ولا قمطيراً. على أنك ما أعرت منها أحداً شيئاً مذكوراً فكان مثلك كالكلاب التي تنام في إسطبل الدواب فهي لا تقدر على أكل ما فيه من الشعير ولكنها تمنع منها الخيال وهي قديرة على الانتفاع بأكله.
ولو تأخر هذا الأديب المجيد لخر ساجداً إذا سمع قول الكتاب المجيد مثلهم كالحمار يحمل أسفاراً فانظروا يرعاكم الله إلى حسن الديباجة وإلى هاتيك الإجادة: وأما قول لوسيان فما أشبهه بقول الجاحظ ولكن في ذم الخصيان ولا ازيد على هذا البيان بغير الإشارة عليكم بمراجعة كتاب الحيوان وإليكم مثالاً مما قاله العرب في ذم من يجمع الكتب وهو لا يدري بما فيها:
زوامل للأخبار لا علم عندهم ... بحيد إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأحماله أو راح ما في الغرائر
فلما جاء دور الرومان أنشأ الإمبراطور يوليان المنبوز بالمرتد وفي كتب العرب بالمارق دار كتب في القسطنطينية وأراد أن يتشبه بفرعون مصر ولكنه لم يبلغ شأوه فكتب على بابها هذه العبارة:
لبعض الناس صبابة بالخيل ولبعضهم ولع بالطير ولآخرين غرام بالوحش وأما أنا فقد تدلهت منذ نعومة أظفاري بشراء الكتب واقتنائها.
ومما امتازت به مدينة القسطنطينية أنها في ايم النصراني حفت في كنائسها علوم الأقدمين حتى جاء العرب فاستفادوا منها ونشروها من قبورها وكان لهم بهذه الوسيلة القدح المعلى في ترقية الحضارة وبني الإنسان وكذلك امتازت في أيام الإسلام بحفظ ما جادت به قرائح العرب الكرام في مساجدها وما علينا سوى اقتفاء أثرهم وإتباع سنتهم. وقد فتحت لكم الباب وحسبي ذلك فخراً.
جاء العرب في أيام العباسيين فانتهت إليهم كلمة عن سقراط فكانت محركة لعزائمهم وجعلتهم أئمة العلم وقادة الأفكار.
قيل لهذا الفيلسوف: أما تخشى على عينيك من إدامة النظر في الكتب فقال: إذا سلمت(53/41)
البصير لم أحفل بسقام البصر.
وفي هذا المقام لا يصح إغفال ذكر المأمون فهو أول من أسس دار كتب عامة في الإسلام وسماها بيت الحكمة كما أنه أول من أسس مجمعاً للعلوم (أقاذيميا) وسماه دار العلم. هذا فضلاً عن خزانة كتبه الخصوصية التي يروي لنا عنها ابن النديم كل معجب ومطرب.
كان بمدينة الإسكندرية حاكم يسمى خليل ابن شاهين الظاهري اشتهر بتأليفين أحدهما في عالم اليقظة والآخر في عالم المنام فأما الأول فهو كتاب زبدة كشف الممالك في بيان الطرق والمسالك ثم اختصره وسماه زبدة كشف الممالك وهو كتاب مفيد في وصف بلادنا وأعمالها ودواوينها ووظائفها ونظاماتها وغير ذلك من محاسن هذه المملكة مع سرد أبيات مما نظمه بعض ملوكها وسلاطينها إلى غير ذلك من النوادر والفوائد ولا حاجة لي بأن أقول لكم أنه لا يوجد من هذا الأثر النفيس ولا نسخة واحدة مخطوطة بديار مصر كلها وهي وطنه ووطن مؤلفه بل هي موضوعه ومدار بحثه.
أما لكتاب الثاني فقد سماه الإشارات في عالم العبارات والعبارة هي تعبير الرؤيا وتفسير الأحلام واسم العلم بالفرنسوية مأخوذ عن اليونانية.
قال صاحب كشف الظنون: إن كانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها وبالطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم لحاجة الناس طراً إليها. وذلك منهم صوناً لقواعد الإسلام وعقائد أهله عن تطرق الخلل من علوم الأوائل قبل الرسوخ والأحكام وأقول أن الشارع هو الذي دعاهم إلى تقييد العلم على إطلاقه فقد جاء في الحديث الشريف:
العلم صيد والكتبة قيد. قيدوا رحمكم الله علومكم بالكتابة.
أخذ الشاعر قول الشارع فصاغه في بيت سائر ونظم بارع:
العلم صيد والكتابة قيده ... قيد صيودك بالحبال الواثقة
ثم مدحوا الكتب كما مدحها فرعون مصر وقياصرة الروم من قبلهم فقال العتابي وهو من أجلاء عصر الأمين والمأمون:
لنا ندماء لا نمل حديثهم ... أمينون مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... ورأياً وتأديباً وأمراً مسددا(53/42)
بلا علة تخشى ولا خوف ريبة ... ولا نتقي منهم بناناً ولا يداً
فإن قلت هم أحياء لست بكاذب ... وإن قلت هم موتى فلست مفندا
ومدحها ابن طباطبا العلوي:
لله أخوان أفادوا مفخراً ... فبوصلهم ووفائهم أتكثر
هم ناطقون بغير السنة ترى ... هم فاحصون عن السرائر تضمر
إن ابلغ من عرب ومن عجم معاً ... علماً مضى فيه الدفاتر تخبر
حتى كأني شاهد لزمانها ... ولقد مضت من دون ذلك أعصر
خطباء إن أبغ الخطابة يرتقوا ... كفي كفي للدفاتر منبر
كم قد بلوت بها الرجال وإنما ... عقل الفتى بكتاب علم يسبر
كم قد هزمت بها جليساً مبرماً ... لا يستطيع له كالهزيمة عسكر
وهو ينظر بقوله الأخير إلى جواب جالينوس فقد قيل له: لم كان الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل فقال لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين القلب بالجوارح عليه.
وفي ذلك المعنى الذي أشار إليه ابن طباطبا وهو في مصر قول لمونتسكيو (ابن خلدون فرنسا) وهو في باريس قال ما ترجمته: ما حل بي جيش الهموم إلا بددته بساعة واحدة من القراءة.
ومدح الكتب للعرب كثيراً جداً اكتفى منه بكلمة واحدة منثورة: أهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب إليه: هديتي هذه أعزك الله تزكو على الإنفاق وتربو على الكد. لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب. وهي أنس في الليل والنهار والسفر والحضرة وتصلح للدنيا والآخرة. وتؤنس في الخلوة وتمتع في الوحدة. مسامرة مطواع ونديم صديق.
وقال آخر: الكتب بساتين العلماء.
ولكن كل هذه الأقوال وما شابهها مما نرويه عن المتقدمين والمتأخرين لا تعادل الكلمتين اللتين قالهما فرعون مصر عن الكتب.
شفاء الأرواح.
ولقد قام رجل من مشاهير الإنكليز في أوائل القرن التاسع عشر وهو بلور لينون فأشار(53/43)
بمطالعة الكتب لإزالة أنواع لأمراض قال ما خلاصته: لقد اختلج في ضميري أن أنظم دور الكتب على نسق جديد مفيد فبدلاً من أن يكون مكتوباً على الخزائن والدواليب والرفوف هذه الكلمات. لغة. علوم طبيعية. فن التقريظ ونحو ذلك أشير باستبدال هذه الكلمات بأسماء الأمراض التي تنتاب الجسم والروح مما يمكن مداواته بالمؤلفات الموجودة فيها من داء النقطة إلى أخف النزلات فهذا النوع الأخير من الأسقام يصلح له قراءة الكتب الهزلية مع منقوع الشعير في قليل من اللبن الحليب فإذا غشي النفس هم من الهموم التي يمكن إزالتها مثل عدم تحقيق الأماني أو معاكسة الأخوان أو معاندة الزمان ففي هذه الحال يحسن بالمصاب أن يتلو تراجم العيان والأفراد فيتسلى بما أصابهم من البلايا ويزول مرضه بإذن الله. فإذا ما طم الهم وعم الغم فالروايات أنجع دواءٍ لهذا السقم. ولكن إذا حلت بالإنسان مصيبة فادحة وجب عليه أن يستغرق كل عقله ولبه وقلبه في عمل من الأعمال العقلية التي تجعله ينسى نفسه وما حل به من الأرزاءِ.
واستشهد المستنبط لهذا الطب الجديد الغريب بما حل بشاعر الألمان (جيته) فإنه حينما مات ولده تفرغ لدراسة علم جديد وقيل أنه أكمل فصول بعض رواياته البديعة فجاءت في نهاية البلاغة والإعجاز.
فانظروا إلى ما صنعه الإسكندر الأكبر عندما هزم دارا ملك الفرس فإنه ظفر في جملة الغنائم الملوكية بصندوق بديع الصنعة فقال للمقربين إليه: لأي شيءٍ يصلح هذا الصندوق؟ فأجاب كل منهم بما رآه. ولكن سيد الفاتحين لم يعجبه قولهم وقال إنما يليق هذا الصندوق لحفظ إلياذة أوميروس.
وفي أيام الإسلام ظفر الحجاج بن يوسف عامل بني مروان بصندوق عجيب من ذخائر الفرس فأمر بفتحه فوجد صندوقاً آخر ففتحوا فوجدوا صندوقاً آخر ثم رابعاً وخامساً وسادساً وسابعاً فقال الأمير: لعل فيه حماقة من حماقات الفرس. ففتحوا وإذا فيه بطاقة مكتوب عليها هذه العبارة: من مشط لحيته في كل يوم طالت: ونحن لم نخرج عن هذا الموضوع لأن هذه الوصية كانت مكتوبة على قطعة من الحرير وإنني أقلب الطرف يميناً وشمالاً فلا أجد من أوصيه بها ليخبرنا بصحتها بعد العمل بها.
ولا يخفى عليكم أن عرب الشرق هم الذين أحيوا علوم العرب ونشروها وها هم عجم(53/44)
الغرب يعملون على هذه السنة الآن في ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا وهولاندة وإسبانيا والروسيا وسائر بلاد أوربا وأميركا ولا أمل لي إلا أن أرى أهل مصر يشاركونهم فهم أحق بتراث أجدادهم ولا يكون ذلك ولن يكون إلا بالعناية بالكتب.
هل أتاكم حديث فرنسا وناهيكم بها في العلم والحضارة والعرفان؟
إنها مدينة لمصر الإسلامية بدينين عظيمين في إنشاء دور الكتب العمومية.
أولهما يرجع إلى أيام الحروب الصليبية. فإن الملك القديس لويس وهو التاسع بهذا الاسم شن الغارة على مصر في أول دولة المماليك البحرية ثم عاد أدراجه مهزوماً ولكنه رجع ظافراً بفكرة حميدة ومأثرة جميلة. وهي أن اقتبس عن أجدادنا فكرة جمع الكتب بعضها مع بعض في دار واحدة وفتحها في وجه الجمهور لينتفع بها الخاصة والعامة.
اترك الكلام لكاتب سيرته وإمامه في صلواته فقد قال ما خلاصته:
إن الملك الورع التقي لويس وصل إلى سمعه وهو فيما وراء البحار أن سلطاناً من سلاطين الشرقيين يبذل عنايته في البحث عن الكتب المختلفة الأنواع وفي استنساخها على نفقته ثم يضعها في دار عمومية ليستفيد من مراجعتها علماء بلاده فإنه كان يجعل هذه المجاميع تحت تصرف جميع الطالبين. فأراد القديس لويس أن يتشبه بهذا السلطان وعزم على بذل المال بمجرد عودته إلى فرنسة لنسخ الأسفار النافعة وصحاح الكتب المقدس التي يتأنى له العثور عليها في الأديار ليتمكن هو ورعاياه العاكفون على علوم الأدب من درسها وحرثها للانتفاع بها وأفاد الجار والقريب بمعارفهم وقد أنجز هذا القصد فأمر بإعداد مكان لائق أمين في باريس جمع فيه كثيراً من تصانيف القديس أغسطينوس وأمبرواز وجيروم وغريغوار وبقية أئمة المذهب الأرثوذكسي. وكان يذهب في أوقات الفراغ للقراءة في هذا المكان ويسمح لغيره عن طيبة خاطر بمشاركته في مناجاة المؤلفين. وكان يؤثر استنساخ الكتب على شراء أصولها لأن ذلك في رأيه من شأنه أن يزيد في عدد الكتب المقدسة ويجعلها أكثر فائدة. وكان حينما يقرأ في تلك الكتب بمحضر من خدمه وحشمه الذين لا يفهمون اللاتينية يترجم لهم بالإفرنسية ما لا يدركونه من العبارات.
غير أنه في آخر عمره أصابه دخل في عقله فبدد شمل تلك المجموعة وأمر في وصيته بتوزيع الباقي على الأديار.(53/45)
وأما الدين الثاني الذي لنا على فرنسا فيرجع إلى عهد قريب منا وبيان ذلك أن القائد بونابرت عند هجمته على مصر في فجر القرن الماضي على التاريخ الميلادي نهب كثيراً من بقايا الكتب النفيسة التي كان أجدادنا أخفوها أو وجدوها بعد الفتح العثماني. وكل من ذهب إلى باريس واطلع على فهرس دار الكتب الأهلية فيها يأخذه العجب والعجاب إن لم تساوره الأشجان والأحزان. فلقد أصبحنا إذا احتجنا إلى شيء من مؤلفات المصريين الخاصة بمصر لا نرى منها شيئاً في بلادنا ولا بد لنا من الرحلة والتغرب لتطلبها في بلاد الغرب.
ولقد أدرك محمد علي ذلك عندما أراد أن يجدد العلم في ربوع مصر فأرسل نفراً من نابغي الأزهر الشريف فعادوا وأفادوا جدد الله عهدهم. ورافع رايتهم هو المرحوم رفاعة بك فطالما أنشأ وأنشد وصنف وألف وترجم وعرب وكلنا عيال عليه وعلى أولاده.
اعلموا أن للعرب والإسلام سراً عجيباً في تاريخ الحضارة والعمران. فالعرب أينما حلو انتشرت لغتهم قليلاً قليلا ثم سادت رويداً رويدا ثم انتهى أمرها بالانفراد والاستقلال. كذلك الإسلام أينما انتشرت رايته استهوى العقول والألباب. ولكن الغريب أن العجم هم الذين ينشرون علوم العرب ودين العرب حتى لقد قال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك: عجبت لهذه الأعاجم ملكت الدهر فلم تحتج إلى العرب وملكت العرب فلم تستغن عنهم. وماذا كان يقول هذا الخليفة ودولته أموية عربية محضة: وماذا كان يقول لو عاش حتى رأى عصر العباسيين أو لو بعثت من قبره هذه الأيام ورأى حاجة العرب إلى الأعاجم في كل شيء من مرافق الحياة وحاجتهم إليهم حتى في إحياء آثارهم والتهافت على اقتناء مآثرهم.
ماذا كان يقول لو علم بالقصة الآتية؟
تعلمون أن التتار هم الذين خربوا دولة العرب ودكوا معالم الإسلام ومع ذلك فمن أغرب الغرائب وأعجب العجائب أنهم ما لبثوا أن دانوا بدين العرب المغلوبين وتشبهوا بملوكهم البائدين في إحياء العلوم وتوسيع نطاق العمران. سر من أسرار الطبيعة لا نراه إلا في شؤون العرب ومعارفهم. فبعد أن هلك هولاكو وبعد أن مارت الأرض تيمور فأدخلته في تامورها جاء أحفادهما فدخلوا في دين الله أفواجاً وأقوامهم وارتفع بهم مناره في بلاد آسيا(53/46)
الوسطى وفي بلاد الهند إلى أوائل الجيل الماضي ومن أشهرهم في العلم والعلماء الغ بك واسمه محمد بن شاهر روخ اعتنى هذا الرجل بعلم الفلك وألف فيه زيجاً باللغة الفارسية ترجمه إلى العربية بعض أفاضل المصريين والترجمة في خزينتي مصر وجمع هذا الرجل خزانة من الكتب النفيسة رأيت بعض بقاياها كتاب الصور السمائية لعبد الرحمن بن عمر بن محمد بن ابن سهل الصوفي ويسمى بأبي الحسين ويعرف بكتاب صور الكواكب وبكتاب الكواكب الثابتة وهو الذي أريد أن أحدثكم عنه في هذه الساعة.
هذا الكتاب لا أبالغ في فضله ولا اذكر شيئاً من محاسنه وإنما أقول لكم أن الروس عرفوا قدره فطبعوه في بلادهم ثم أوعزوا إلى أحد علما الفرنسيين فترجمه إلى اللغة الفرنسية وطبعوا هذه الترجمة أيضاً في بطرسبرج. وهذا الصنيع المزدوج يدلكم على فضل الكتاب وفائدته. وإذا بحثتم في ارض مصر من الشلالات إلى الأشاتيم ومن بادية العرب إلى صحراء لوبيا لا تجدون سوى الترجمة الفرنسية وسوى الترجمة الفارسية في دار الكتب الخديوية أما الأصل العربي فقد لبس طاقية الاختفاء وتطاير في الفضاء وهجر ديارنا وواصل غيرنا فيما وراء البحاتر ورحل عن أرض أهين بها إلى بلاد ظهرت قيمته بين أهلها بحيث أن العرب الذين صدر الكتاب بلغتهم إذا احتاجوا الآن لمراجعته وجب عليهم أن يتلقنوا إحدى الفرنسية أو الفارسية أو أن يذهبوا إلى بطرسبرج وأن استبعدوها فإلى باريس وهنالك تجدون منه خمس نسخ استغفر الله بل ستاً لأن السادسة هي التي سأتكلم عليها. ففي سنة 1891 عثر يوسف بك خلاط على نسخة ملوكية من هذا الكتاب مكتوبة على ورق الحرير بألوان مختلفة بالنسخ والثلث وقد بلغ الكتاب فيهما نهاية الإجادة والإتقان وازدانت بصور ملونة باهية زاهية يتدفق فيها الذهب واللازورد على أحسن شكل وأجمل مثال.
وفوق هذه المزايا التي تجعل للنسخة قيمة يتنافس فيها المتنافسون ويتعشقها العارفون فإنها حوت أثراً آخر يزيدها قيمة لأهل الدراية. ولكن أين هم في ديارنا. . . وذلك أنها مكتوبة برسم خزانة الملك العالم المؤلف (الغ بك) وعليها اسمه بخطه فصارت بذلك نادرة النوادر وذخيرة الذخائر.
عرضها يوسف بك على دار الكتب الخديوية فقومتها إني لأستحي من ذكر القيمة. . . .(53/47)
ولكن أقولها لكم لتعلموا مقدار تفريطنا. قومتها بخمسة عشر جنيهاً مصرياً. وظننت أن ذلك شيء كثير. وكيف لا وهذا المبلغ يساوي اللف ونصف الألف من القروش أو خمسة عشر ألف مليم: توجه صاحب الجوهرة إلى الغزي مختار باشا فزاده الربع. توجه إلى الإرسالية العلمية الفرنسية بالقاهرة القائمة الآن بجوار دار ناظر المعارف الحالي فضاعفت له الثمن أربع مرات ووعدته فوق هذه المساومة بوسام المجمع العلمي الفرنسي. فقبض الثمانين جنيهاً ولا أدري إذا كان أحرز النشان ولكنه اشترط أن يكتب اسمه ببنانه على تلك النسخة فقبل القوم شرطه وأرسل الكتاب إلى باريس تكميلاً لنصف الدستة وأصبحت نسخه ستة.
روى صاحب تاب الفهرست أن أبا زكريا يحيى بن عدي النصراني المتوفى ببغداد سنة 364 قال أنه رأى في تركة إبراهيم بن عبد الله الناقل النصراني كتاب السماع الطبيعي كله لأرسطو مشروحاً بقلم الإسكندر الأفروديسي وعندي قطعة وافرة من (كتاب البرهان) وأنهما عرضا عليه بمائة دينار وعشرين ديناراً فمضى يحتال في الدنانير ثم عاد فأصاب القوم قد باعوا الشرحين في جملة الكتب على رجل خرساني (أعجمي من الفرس) بثلاثة آلاف دينار وكانت هذه الكتب مما يحمل في الكم.
قال القاضي الأكرم الوزير القفطي المصري بهذه المناسبة في كتابه المترجم بتراجم الحكماء المطبوع في ليبسك من أعمال ألمانيا ما نصه:
فانظر إلى همة الناس في تحصيل العلوم والاجتهاد في حفظها والله لو حضرت هذه الكتب المشار إليها في زمننا هذا وعرضت علي مدعي علمها ما أدوا فيها عشر معشار ما ذكر وما كان يقول لو سمع الحكاية التي رويتها لكم عن كتاب الصوفي. نعم إن الخرساني اشترى الكتب بثلاثين ضعفاً وأما الفرنسيين اشتروا كتاب الصوفي بأربعة أضعاف لأنهم لم يجدوا في مصر من يزاحمهم كما جرى في بغداد.
وأقول لكم أن يحيى بن عدي النصراني المذكور كان من أكابر المؤلفين والمترجمين ومحققي الفلاسفة وكان من المغرمين بجمع الكتب ونسخها بيده وكان أوحد دهره ومذهبه من مذاهب النصارى اليعقوبية. رآه ابن النديم في سوق الوراقين فعاتبه على كثرة نسخه فقال: من أي تعجب في هذا الوقت. من صبري؟ قد نسخت بخطي نسختين من التفسير للطبري وحملتهما إلى ملوك الأطراف وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى ولعهدي(53/48)
بنفسي وأنا أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة. .
ونحن نعلم أن النويري المصري صاحب كتاب نهاية الرب في فنون الأدب كان من يكتب في اليوم والليلة ثلاثة كراريس أي ستين ورقة. فلم يبلغ شأو هذا المتقدم مع أن جميع المؤرخين يعجبون بابن وطننا الذين سترون أثره الجامع لكل العلوم والمعارف في السنة المقبلة إن شاء الله.
كل هذه الأعمال وهي قطرة من بحر تدلكم على مقدار الغرام بالكتب وأنه إذا استولى على العقل فلا يجد المدنف العاشق لذة في شيء آخر. وهذا الغرام ليبس قاصراً على الشرق أو على الغرب بل هو داء مستحكم في نفوس الناس على اختلاف الأوطان والأديان والأجناس.
نرجع إلى ذكر السرفات في الكتب وأروي لكم حادثتين وقعت إحداهما لرجل من أفاضل الإسكندرية وكان للثانية شأن كبير بالجامع الأزهر في القاهرة.
فمن الرجال الذين يحق للإسكندرية أن تفتخر بأنها أنجبتهم أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري النحوي الجغرافي ألف كتاباً فيما اختلف وائتلف من أسماء البقاع وقد ضبطه وافنى في تحصيله وتحقيقه عمره فأحسن فيه كل الإحسان فجاء أبو بكر زين الدين محمد بن موسى الهمداني المشهور بالحازمي المتوفى سنة 584 فسطا عليه برمته وادعاه واستجهل الرواة فرواه نبه على ذلك ياقوت الحموي في صدر معجم البلدان بقوله: ولقد كنت عند وقوفي على كتابه أرفع قدره من علمه وأرى أن مرماه يقصر على سهمه إلى أن كشف الله من خبيئته وتمحض المحض عن زبدته أقول أنه رغماً عن التنبيه ما زال الكتاب مشهوراً باسم السارق فإن صاحب كشف الظنون لم يذكر غيره وسماه كتاب ما اتفق لفظه واختلف مسماه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط. وعلى كل حال فالكتاب لم يصل إلينا.
وأما الحادثة الثانية فقد وقعت في القاهرة في ختام القرن التاسع للهجرة. وذلك أن الإمام شهاب الدين أبا العباس أحمد بن محمد القسطلاني المصري المتوفى سنة 923 ألف في السيرة النبوية كتبه المشهور المتداول بيننا الآن وهو المواهب اللدنية بالمنح المحمدية فما راعه بعد أن فرغ تبييضه في سنة 899 إلا وقد رفع جلال الدين السيوطي دعوى عليه(53/49)
أمام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهاك بعض ما ورد في صحيفة الدعوى إنه يسرق من كتبه ويستمد منها وينسب النقل إلى نفسه طالبه شيخ الإسلام ببيان ما ادعاه. فقال أنه نثقل عن البيهقي وله عدة مؤلفات فليذكر أنه نقله عنه. ولكنه رأى ذلك في مؤلفاتي فنقله فكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عنه.
ماذا كانت النتيجة؟ انظروا واعجبوا.
صدر الحكم على القسطلاني بالترضية اللازمة للسيوطي وإزالة ما في خاطره.
كيف كان التنفيذ؟
مشى القسطلاني من القاهرة إلى الروضة (جزيرة النيل) وكان السيوطي معتزلاً عن الناس بها فوصل إلى بابه ودقه فقيل له من أنت؟ فقال أنا القسطلاني جئت إليك حافياً ليطيب خاطرك. قال له: قد طاب. ولم يفتح له.
فأين أين ذلك الزمان مما نحن فيه الآن؟ أفرأيتم لو رفع المجني عليهم قضاياهم من هذا القبيل على السارقين الذين فاقوا القسطلاني قولوا لي بربكم هل كانت تكفينا المحاكم الشرعية والبطريركية والأهلية ولمختلطة والقنصلية ولجنات النفي الإداري؟
لعمري أن تجار الأحذية كانوا يفلسون كلهم في يوم واحد لو اقتدى السراق بما فعله القسطلاني!! ولكن التبجح وانتهاك الحرمات وص في زماننا إلى درجة لا مزيد ليها خصوصاً وإن انتشار الطباعة ساعد على نمو هذا الطبع.
وتلك الصناعة قد كان لها أصل عند العرب في مصر والأندلس وإن كان الأثر الناطق بذلك قد ذهب من بلادنا ولكن الإفرنج حفظوه لنا أثابهم الله عنا خير الثواب ووقفنا إلى اقتفاء خطواتهم في النافع بدلاً من تهالكنا على تقاليدهم في كل ضار.
أخبرني الأستاذ الفاضل حقي بك ناصف أنه رأى خشبة محفوظة بمكتبة ويانا عاصمة النمسا في جملة ما ازدانت به من آثار العرب وثمرا عقولهم وهذه الخشبة منقوشة عليها بالتجويف كتابة عربية مقلوبة على الطريقة المألوفة في اصطناع الأختام وأنها كانت مستعملة لطبع الأوامر العسكرية وتوزيعها على الجنود كما هو الشأن في أيامنا هذه في الغازته العسكرية وذلك يستفاد من العبارة المنقوشة عليها وهذه الخشبة يرجع عهدها إلى الفواطم وربما نشر صورتها عن قريب بعض علماء المستشرقين فتكون برهاناً على تولد(53/50)
هذا الفن بديار مصر.
وأما الأندلس فقد ترقت إلى ما وراء هذه الخطوة الأولى فقد كان للأندلس في هذا الباب ثلاث خطوات.
الأولى أنهم قلدوا مصر في عهد الفواطم ولكن أثرهم لا زال باقياً في ديارهم وها أنا أطرفكم بصورة فتوغرافية منه كهدية للعهد السعيد وهي صورة الطابع الذي كان يستعمله أهل الأندلس في مدينة المرية عثروا عليه في أطلالها وخرائبها وهو مصنوع من الخشب والكتابة التي عليه تدل على أنه كان مستعملاً في قيسارية المرية ولفظة قيسارية تدل على السوق ولا تزال مستعملة بهذا المعنى في القاهرة وفي كثير من مدائن الشرق وأصلها مشتق من اسم قيصر كما أنه اسم موضوع للدلالة على مدائن كثيرة بآسيا الصغرى منسوبة إلى قيصر ورشك أن هذا الطابع كان مستعملاً بصفة الدمغة (التمغة) التي كانت مستعملة في مصر إلى عهد قريب لوضعها على الأقمشة الزعابيط في نظير تأدية الرسوم المطلوبة لخزينة الحكومة.
كذلك كان ذلك الطابع يوضع على الأقمشة والطرود التي يجب دفع الرسوم عليها قبل دخولها إلى السوق أي القيسارية في تلك المدينة مدينة المرية كما يستفاد من الكلمات المكتوبة فيه وهي: طابع قيسارية المرية عام خمسين وسبعمائة.
وأما الخطوة الثانية فهي أن الإشراف على دار الطباعة كان من خطط الدولة. بدلكم على ذلك النص العربي الذي نبه إليه العلامة جايانجوس الإسباني وهذا النص وارد في كتاب (الحلل السيرا) لابن البار الأندلسي المشهور وقدطبع العرمة دوزي الهولاندي قطعة وافرة من هذا الكتاب الثمين في مدينة ليدن من سنة 1847 إلى 1851. وأنتم تعلمون أن الأبار هو الذي أرسله صاحب الأندلس ليستنجد بصاحب تونس. وهو ذلك الرسول الذي وقف بحضرة ملك تونس وأنشده تلك القصيدة الطنانة الرنانة التي تستفز الجبان ويلين لها قلب الجماد. قال في مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى مناجاتها درسا
وحل الشاهد أن ابن الأبار يقول في كتابه المذكور أن عبد الرحمن الناصر الخليفة الأكبر (ولى بدر بن أحمد الوزارة الحجابة والقيادة والخيل والبردوكان ينفرد (أي بدر) بالولايات(53/51)
فتكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطابع فتطبع وتخرج إليه فتبعث العمال وينفذون على يديه. نعم إن هذا النص سقيم ويحتاج إلى تقويم ولا بد من مراجعة الأصل وتقويته بنصوص أخرى. وربما كان المراد وضع الطابع عليها. ولكن هذا الغرض بعيد لأن الطابع عل ما نفهم لا يصح وجوده بيد غير الوزير كما هو معهود في الدول الإسلامية حتى إلى الآن في الباب العالي. والأظهر أن ذلك يشير إلى إخراج نسخ متعددة من مطبعة حجرية لتبليغها إلى أهل الولايات ورؤوس الواحات.
أما الخطوة الثالثة النهائية فلنا عليها دليل مما أورد لساد الدين ابن الخطيب في كتابه المترجم بالإحاطة في أخبار غرناطة قال في ترجمة الشيخ أبي بكر القدسي ما نصه:
وألف كتاب الدرة المكنونة في محاسن أسبطبونة وألف تأليفاً حسناً في ترحيل الشمس ومتوسطات البحر ومعرفة الأوقات بالأقدام ونظم أرجوزة في شرح ملاحن ابن دويدار وأرجوزة في شرح كتاب الفصح ورفع الوزير الحكيم كتاباً في الخواص وصنعه الأمدة وآلة طبع الكتاب غريب في معناه).
هذه العبارة اكتشفها اثنان من علماء الإفرنج تمكنا منها بشرح طويل في جرنال آسيا سنة 1852 فأنتم ترون فضل عجم أوربا في البحث والتنقيب عن مآثر العرب. نعم إنهما أرادا تصحيح العبارة العربية من حيث استقامة الكلام وتصورا أن فيها بعض الالتباس والإبهام. فأخذ أحدهما يصحح الجملة الأخيرة بما ليس له محل من الإعراب فقال (كتاب باقي خواس وصنعة آلة طبع الكتب كتاباً غريباً في معناه) ولا يصح لنا أن هزأ بهم بسبب هذا التصحيح العليل السقيم وما فاته من الأعراض أما الجوهر هو أنهما اكتشفا هذا البرهان الدال على أن هذه الصناعة وجدت في أيام العرب ولو من باب النظريات العلمية إذ لم تجد لها للآن أثراً علمياً محسوساً ومن المعلوم أن الأمدة (جمع مداد) تحتاج لتركيب مخصوص لكي تخرج منها نسخ متعددة فلذلك كان المؤلف الأندلسي بين صنعتها وبين طبع الكتاب. ولما كان هذا الاستنباط البديع الغريب لم يسبق له مثال بالأندلس رأى صاحب الإحاطة وجب التنبيه على فضل الكتاب فقال: غريب في معناه.
فأين أين ذلك الكتاب الذي ألفه القدسي ووصفه لسان الدين ابن الخطيب بأنه غريب في معناه.(53/52)
لاشك أنه ذهب طعمة للنار حيثما علت كلمة الإسبانيين وطردوا المسلمين من تلك الديار فإنهم كانوا كلما وقع لهم كتاب مكتوب بحروف عربية قالوا هذا قرآن وبادروا لطلب الغفران بإحراقه بالنيران وبهذه الكتابة أحرقوا تسعة أعشار ونصف وثلث وربع وخمس وسدس وسبع وثمن وتسع الكتب العربية فلم يدك يخلص إلينا منها واحد في الألف وكانوا يتهافتون بارتياح وتقوى إلى ارتكاب هذه الجريمة الكبرى وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً حتى أن أحد كرادلتهم أحرق في يوم واحد بمدينة غرناطة نحو ألفَ ألف كتاب. وكان هذا الصنيع بعمل الإيمان.(53/53)
جمهورية البرتقال.
من الانقلابات السياسية الخيرة مناداة الأحرار في مملكة البرتقال بالجمهورية والقضاء على الملكية فأصبحت هذه الجمهورية ثاني جمهورية في أوربا ومنذ سنين لم يبايع بجمهورية مهمة في ممالك الأرض إلا في برازيل فكأن هذه المملكة وكانت في القديم تحت حكم البرتقاليين بدأت بنزع الملكية فحبت أمها الأصلية أن لا تقصر عنها في المطالبة بالحرية.
فعم تغلب الأحرار أو الحزب الجمهوري على المحافظين بعد اضطرابات دامت سنين أدت إلى مقتل الملك كارلوس منذ نحو سنتين وعين ابنه عمانويل خلفاً له وها قد هاجر بلاده في الفتنة إلى جبل طارق مخافة أن تتناوله الأيدي بأذى كما تناولت من قبل أباه.
ولما كانت للبرتقال صلة قديمة بممالك الشرق الإسلامي وحكومات العرب وكان هذا الانقلاب من الانقلابات التي لها علاقة كبرى بالتاريخ والاجتماع رأينا أن نأتي بنبذة قليلة من أحوالها السياسية والطبيعية عسى أن تكون منها بعض فائدة فنقول:
البرتقال مملكة في الجنوب الغربي من أوربا يحدها من الجنوب والغرب البحر المحيط الأتلانتيكي أو بحر الظلمات ومن الشرق ومن الشمال مملكة إسبانيا ومنها ومن هذه المملكة تتألف شبه جزيرة أيبريا وتبلغ مساحتها السطحية ما عدا جزائر آمور ومادير 88954 كيلومتراً مربعاً وسكانها نحو ستة ملايين وعاصمتها لشبونة.
ولا تفصلها عن إسبانيا تخوم طبيعية كأكثر الممالك وفيها أنهار جارية وجبال عالية وأعلى قممها الجبل المسمى رياسكا يبلغ ارتفاعه 1578 متراً وحرارة البلاد معتدلة تتجاوز في الصيف في مدينة قلمرية قويمبرا 31 درجة وأمطارها غزيرة في الشتاء قليلة في الصيف وأنهارها حسنة جارية في الجملة وأعظمها ما ينبع من أرض إسبانيا ومنها ما يجري في أرض البرتقال.
وأصول سكان هذه البلاد مزيج من عناصر وشعوب كثيرة فمنهم سلتيون وإيبيريون ولاتينيون وسويفيون وفزيغوتيون وكثير من المغاربة والإسرائيليين وبعض الزنوج ففي لشبونة والكراف تقرأ إلى الآنفي سحنات البرتقاليين السواد مما يستدل على كثرة من كانوا يحملون من الزنوج إلى لشبونة خلال القرن السادس عشر (10 إلى 12 ألف زنجي كل سنة) وكثير من أهل البرازيل. والدين الرسمي في البلاد الكثلكة أما سائر الأديان فالظاهر أنها حرة يتسامح مع أهلها.(53/54)
وتعد مملكة البرتقال من الممالك الدستورية وهي وراثية يتناوب الملك فيها ذكورها وإناثها وقد نشر دستورها الأول في سنة 1826 ثم عدل سنة 1852 والقوة التشريعية هي لمجلس الكورتس أو مجلس النواب والشيوخ والملك يصدق على ما يقرره ويتألف مجلس الأمة من مجلس الأعيان ومجلس نواب وعدد الأعيان 52 عضواً وراثياً و13 قسيساً و90 عضواً يعينون مدة حياتهم وفي مجلس النواب 138 منهم سبعة عن المستعمرات ينتخبون من الشعب مباشرة من الأشخاص الذين حصلوا على بعض الرتب والألقاب العلمية أو ممن لهم دخل سنوي يربو على ألفي فرنك. وللملك أن يدعو هذا المجلس أو يحله وهو يعين رئيس الأعيان ويصدق على تعيين رئيس النواب. والأمة تنتخب نوابها مباشرة ولا يسوغ للملك أن يتغيب عن المملكة أكثر من ثلاثة أشهر بدون أن يأذن له المجلس والوزارة مؤلفة من وزير الداخلية ووزير المعارف والفنون الجميلة ووزير المالية والعدلية والمذاهب ولحربية والبحرية والمستعمرات والخارجية والأشغال العمومية والتجارة والصناعة. وتقسم البلد إلى إحدى وعشرين مقاطعة ولكل واحدة عامل يعينه الملك ولكل ولاية مجلس عام انتخابي ولجنة إجرائية.
وهذه البلاد زراعية وأرضها موزعة كثيراً في الشمال وليست كذلك في الجنوب على أن عدم النظام في تقسيم الأراضي وهجرة السكان أضرت بالبلاد ضرراً بالغاً. وأهم غلات البلاد الكرم تكاد تكون زراعته عاماً ومنه يخرج الخمر الجيد والحبوب تكثر في الشمال كما تكثر الغابات والأشجار المثمرة في الجنوب. وتكثر فيل تربية الماشية ودود الحرير والنحل. ولها موارد عظيمة من الصيد.
ومعادن البلاد كثيرة في الجملة ومنها الثمين إلا أن الفحم الحجري لا أثر له فيها ويكثر الملح في شطوطها البحرية وفيها عدة ينابيع معدنية يستفاد منها أكثر مما تستثمر مناجمها. والسواحل هي المراكز الصناعية في البلاد ومنها أعمال الحديد والآلات الحديدية وصنع السكاكين والمدى والنسج والغزل والدباغة والنجارة ومعامل القفافيز (الكفوف) والأحذية والدانتلة والمربيات والتبغ وغيره والخدمة العسكرية فيها إجبارية تكون 25 سنة منها ثلاث سنين في الجيش عاملة وخمس في الرديف الأول ويخدم فيها الجندي شهراً واحداً كل سنة ليتعلم. وقدرت واردات الحكومة في السنة الماضية بنحو 15. 855. 000 جنيه ونفقاتها(53/55)
بنحو 16. 157. 000 ويبلغ دينها 121. 600. 000 جنيه ووارداتها زهاء خمسة عشر مليون جنيه وصادراتها نحو نصف ذلك والتعليم الابتدائي إجباري فيها لكنه كما في المملكة العثمانية اسم بلا جسم حتى بلغ عدد الأميين فيها منذ عشرين سنة 87 في المئة وهو مما لا نظير له في مملكة أوربية صغرى وفيها مدارس عالية كثيرة منوعة وعدد جيشها العامل 30 ألفاً وتستطيع أن تجند 250 ألفاً أيام الحرب ولها بحرية فيها 6000 ضابط وعسكري.
وللبرتقال مستعمرات عظيمة لكنها جزء من مستعمراتها القديمة وكانت البرازيل من جملتها أيام كان للبرتقال القدح المعلى في استعمار أفريقية وجنوبي آسيا. ويبلغ مجموع مساحة مستعمرات البرتقاليين الآن 3. 850. 000 كيلومتر مربع فيها نحو عشرين مليون ساكن. فلها جزائر آسور ومادير في المحيط الآتلانتيكي وجزائر الرأس الأخضر وسنغامبيا البرتقالية وغينة والقديس توما وجزيرة الأمير في أفريقية الغربية ولانكانا وكابندا ثم أنكولا وبنكولا وموساميد. ولها في أفريقية الشرقية مملكة موزنبيق ونصف تيمور وكامبنج مما يدل على أن جزائر السوند كان يملكها الملاحون الأوائل من البرتقاليين وكانت هذه المملكة في القديم جزءاً من لوزيتانيا استعمر الفينيقيون شطوطها ثم استولى عليها الرومان خمسة قرون ونصفاً وتقلبت بها الحال حتى أوائل القرن الثامن للميلاد فاستولى عليها المسلمون وضموها إلى مملكة الخلافة ولم يلبث ملوك النصارى في أستوريا أن توسعوا في فتوحهم إلى جنوبي الجبال وطردوا المغاربة إلى غاليسيا واحتلوا لشبونة سنة 953. ومن ذاك العهد نشأ اسم برتقال لمقاطعة بورتو واشترك البرتقاليين في محاربة المسلمين وإجلائهم عن الأندلس وهزموا المسلمين كما يقول لاروس في معجمه في معركة سانتارم (1184) وساعدوا أهل قشتالة في حرب لاس نافا دي تولوز (1212) وسالادو (1340).
ونشأ للبرتقاليين بفضل عقول أمرائها بحرية عظيمة وقام منها سياح عظام منهم الذين اكتشفوا جزائر مادير والرأس الأخضر والكونغو ورأس الرجاء الصالح كما وصلوا إلى جزائر مالابار والصين والهند واليابان. وتجارة العطور والأباريز والأفاوية أغنت البرتغال قديماً في الزمن الذي أخذت فيه تعتني أيضاً بالآداب والصناعات. وقد كان لديوان التفتيش الديني فيها كما كان في إسبانيا شأن يذكر وأسس فيها سنة 1526. وكان من وفاة ملكها الدون سباستيان في وقعة القصر الكبير أن خلت المملكة في يد فيليب الثاني ملك إسبانيا إلا(53/56)
أنها حاولت أن تتخلص منه أما هو فجعل بلادهم خديوية قشتالية ومنعهم من الإتجار مع شذاد الآفاق من أهل بلاد القاع (هولاندة) فأخذ هؤلاء يجلبون الأباريز والأفاوية تواً من بلاد الشرق وانكسر الأسطول البرتقالي سنة 1601 في بانتام من أعمال جاوة واستولى الهولانديون على جزائر السوندوبنوا باتاويا وحلوا في سيام وسيلان واليابان وعلى شواطئ غينية وغويان.
وفي سنة 1640 انتفض إقليم كاتالونيا على صاحب إسبانيا فنزعت البرتقال يدها من الحكم الإسباني وبايعت دوك باراكانس ملكاً فلما لمت المملكة البرتقالية شعثها حاربت إسبانيا خمساً وعشرين سنة واستعادت بعض مستعمراتها إلا أنها تركت بومباي للإنكليز سنة 1661 وفي الربع الأول من القرن التاسع عشر انفصلت برازيل عنها. وإذا مالت برتقال إلى إنكلترا أكثر من فرنسا لم تساعدها هذه أكثر في أزماتها السياسية وقد قامت في القرن الماضي بإصلاحات اقتصادية مهمة منها وضع أصول الكاداسترا على الأراضي وإلغاء الرقيق من المستعمرات وابتياع أملاك الرهبان وتمديد الخطوط الحديدية وإصلاح أصول المالية.
والدليل على أن المسلمين حكموا تلك البلاد مدة سريان ألفاظ كثيرة إلى لغتهم من العربية وهي أقل مما في لغة أهل قشتالة وقد ألف دوزي المستشرق الهولاندي كتاباً في الألفاظ الذي أخذتها البرتقالية والإسبانية من العربية ويبلغ عدد المتكلمين بالبرتقالية في برتقال وبرازيل وجزائر الرأس الأخضر وغيرها من المستعمرات البرتقالية في المحيطين والهند الصينية نحو عشرين مليوناً.
وكانت هذه البلاد جزءاً من الأندلس ويطلق عليها اسم البرتقال وهذا هو اسمها في كتب العرب لابورتغال أو بغير واو وعاصمتها لسبون التي يذكرها العرب باسم لشبونة وأشبونة والأشبونة ولا تزال في مدينة شنترة حصون العرب على قمم الجبال وبجانب بعضها مسجد باقية آثاره إلى الآن وعلى مقربة منه قبر دفن فيه القوم عظاماً وجدوها ولم يعلموا أنها للمسلمين أو للنصارى فوضعوا على رجام القبر صورة للصليب وصورة للهلال والقسم الذي كانت تسكنه العرب في لشبونة يعرف عندهم باسم الحمة لا بتشديد الميم ويسميه البرتقاليون الآن من باب التحريف الفاما ومنظر هذه المدينة يشبه المدائن الشرقية.(53/57)
ومن أمهات مدن البرتقال مدينة كوييمبرا المعروفة في كتب العرب باسم قلمرية وهي الآن دار العلم ومحط المعارف في بلاد البرتقال. ومنها مدينة بورتو واسمها في كتب العرب برتقال وبها يسمى هذا القطر برتقال كما نقول نحن الآن طرابلس وحاضرتها طرابلس وتونس وحاضرتها تونس وكما نقول بني سويف وبندرها بني سويف والفيوم وبندرها الفيوم والمنيا وبندرها المنيا وهكذا في أسيوط وقنا.
وفي مدينة البرتقال هذه آثار كثيرة ولكن العرب لم يخلفوا فيها شيئاً يذكر لأنهم كانوا يجيئونها فاتحين ثم يجوزونها إلى غيرها من البلاد ولم ترسخ فيها قدمهم وقد تألف التجار على إنشاء دار البورصة على الطراز العربي ونقشوا أكبر بهو فيها بحسب الأسلوب العربي وزينوه بالزخارف وكتبوا في ضمن رسومها البديعة أشعاراً عربية وفي جميع الطرازات هذه العبارة (عز لالانا السلطانة مريم 2) يريدون عز لمولاتنا السلطانة مريم الثانية اهـ.
أما القول بأن العرب كانوا يجيئون البلاد فاتحين ثم يجوزونها إلى غيرها فمسألة فيها نظر بعد أن قال ياقوت أن شنترة ملكها الإفرنج (أي من المسلمين) سنة 543 ونسب إليها قوم من أهل العلم. ولا يخرج من دولة علماء إلا إذا رسخت أقدام حكومتها في البلاد. وقال في شنترين أنها مدينة متصلة الأعمال بأعمال باجة في غربي الأندلس ثم غربي قرطبة وعلى نهر تاجه قريب من انصبابه في البحر المحيط وهي حصينة بينها وبين قرطبة وعلى نهر تاجة قريب من انصبابه في البحر المحيط وهي حصينة بينها وبين قرطبة خمسة عشر يوماً وبينها وبين باجة أربعة أيام وهي الآن للإفرنج ملكت سنة 543.
وقال في قلمرية: بضم أوله وثانيه وسكون الميم وكسر الراء وتخفيف الياء مدينة بالأندلس وهي اليوم بيد الإفرنج. وفي لشبونة ويقال لها أشبونة بالألف وهي مدينة يتصل عملها بأعمال شنترين وهي مدينة قديمة قريبة من البحر غربي قرطبة وفي جبالها البزاة الخلص ولعسلها فضل على كل عسل الذي بالأندلس يسمى اللاذرني يشبه السكر بحيث أنه يلف في خرقة فلا يلوثها وهي مبنية على نهر تاجه والبحر قريب منها وبها معدن التبر الخالص ويوجد بساحلها العنبر الفائق وقد ملكها الإفرنج في سنة 573 وهي فيما أحسب في أيديهم إلى الآن.(53/58)
وأصرح من هذا ما قاله المراكشي قال وفي الحد المتوسط ما بين الجنوب والغرب من المدن مدينة طليطلة وكوطنكة وإقليج وطلبيرة ومكادة ومشريط ووبذ وإبلة وشقوبية هذه كلها يملكها الإدفنش وتسمى هذه الجهة قشتالة وتجاور هذه المملكة فيما يميل إلى الشمال قليلاً مدن كثيرة أيضاً وهي سمورة وشلمنكة والسبطاط وقلمرية هذه كلها يملكها رجل يعرف بالببوج وتسمى هذه الجهة ليون وفي الحد الغربي الذي هو ساحل البحر الأعظم أقيانس مدن أيضاً منها مدينة لشبونة وشنترين وباجة وشنترة وشنياقو ومدينة يابرة ومدن كثيرة ذهبت عني أسماؤها يملكها رجل يعرف بابن الريق.
وذكر في سيرة ابي يعقوب يوسف عبد المؤمن أنه خرج سنة 579 قاصداً غزو الأندلس قال: فقصد مدينة شنترين أعادها الله للمسلمين وهذه المدينة أعني شنترين بمغرب الأندلس وهي من أمنع المدائن يملكها وجهاتها مع بقلاد كثيرة هناك ملك من ملوك لنصارى يعرف بابن الريق وقد فصل ما وقع بينهما من الهزائم وكيف خرج أبو يعقوب وحمل في محفة وكيف هرب أبو الحسن المالقي الذي كان سبب هزيمة المسلمين إلى مكة ابن الريق فآواه صاحبه وأكرمه إلى أن بدا له من سوء رأيه أن يكتب كتاباً إلى الموحدين يستعطفهم وأدرج في ضمن ذلك فصلاً يذكر فيه ضعف المدينة فأطلع الرجل الموكل به وكان يعرف العربية سراً فقبض عليه فشاور ابن الريق قسيسه في أمره فأشاروا عليه بإحراقه فحرقه.
وذكر المراكشي أنه كان يملك الثغر الذي من الجهة الشمالية من الأندلس (بعد انقطاع الدعوة الأموية عنها) وبعض المدن لمجاورة للبحر الأعظم ابن الأفطس المتلقب بالمظفر ثم كان له ابن اسمه عمر يكنى أبا محمد تلقب بالمتوكل على الله كان يملك بطليموس وأعمالها وبابرة وشنترين والأشبونة قال: اتصلت مملكته إلى أن قتل المرابطون أصحاب يوسف بن تاشفين ابنه المتوكل في غزة سنة 485 وكانت أيام بني المظفر بمغرب الأندلس أعياداً ومواسم وكانوا ملجأ لأهل الآداب وفيهم يقول ذو الوزارتين أبو محمد عبد المجيد بن عبدون من أهل مدينة يابرة قصيدته المشهورة التي مطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
وبهذا علمت أن العرب استولوا على برتقال مدة لا تقل عن مائة وخمسين سنة فنبغ فيها رجال منهم وخلفوا آثاراً لا تزال شاهدة بفضل تقدمهم في العمران وأن هذه المملكة التي(53/59)
انقطعت الآن بينها وبيننا أنواع الصلات كانت من جملة ممالك الشرق وإن كانت غربية وأن لسانها اقتبس من لساننا وأن التعصب الذميم الذي تم على يد القساوسة منذ القديم كان من المعجلات في نزع الملكية وقيام الجمهورية الآن.
وقد كان أول عمل للجمهوريين طرد جماعة اليسوعيين من بلادهم واستصفاء الأديار والقضاء على الرهبان والراهبات لأنهم لم ينسوا بعد مسعى رجال الدين في مقتل فرر رجل الإسبان الحر في العام المنصرم قتلوه بواسطة الحكومة على أبشع صورة عرفت في عصر النور والمدنية فلما ظفر الأحرار بالمحافظين قضوا القضاء المبرم عليهم وعلى تقاليدهم ليعرفوهم ويعرفوا الحكومات التي تعمد إلى الشدة في معاملة أمتها أن الناس لا يحكمون إلا باستمالة القلوب وأن القوة إذا خيف منها زمناً فقد يأتي آخر يستهين بها أهله فيستميتون ويستبسلون.
والضغط لا يزيد النفوس الأبية إلا مضاء. وهكذا أهين رجال الدين ولاسيما اليسوعيين وطردوا أو كادوا من البرتقال كما طردوا من فرنسا قبل وحرم عليهم دخول سويسرا وتوشك سلطتهم أن تنتزع أيضاً في إسبانيا لمتاخمتها أرض البرتقال وإذا صحت عزيمة البلادين المتجاورين على إنشاء مملكة واحدة كما هو فكر بعض الخاصة هناك تصبح جمهورية إسبانيا والبرتقال وأحر بها أن تسمى جمهورية أيبريا من الحكومات القوية ذات الشأن العظيم، وربك يفعل ما يشاء ويختار.(53/60)
رحلة إلى قلمون الأسفل
على أربع ساعات من شمالي دمشق واد منبسط بين جبلين متسامتين طوله من سفح ثنية العقاب إلى مزرعة الناصرية لا يقل عن ست ساعات وعرضه ساعتان تربته بيضاء ورباعه مخصبة ومياهه موفورة بحيث لو حفرت عشرة أذرع أو أكثر ينبط الماء غزيراً مع أن الجبلين المتناوحين من شمال الوادي وجنوبه لا شجر فيهما ولا غابة تزينهما.
ولو كانا مغروسين بالسنديان والزان والبلوط والشوح لكان هذا الوادي بأمطاره الغزيرة وريه المتواصل أشبه بأخصب السهول الشندشية ولذا كان جبل قلمون ضعيفاً بريه وإن لم يكن كذلك بزكاء تربته والمعالي والأسفل أو التحتاني منه متشابها وإن كانت سهوله أخصب من آكامه وتلعاته ومياه الأعالي أعذب من مياه الأسفل. وفي قلمون الأسفل من القرى والأمهات ما يطلق على أمثاله في ديار الغرب اسم بلدة وذلك مثل الرحيبة وجيرود والمعظمية والقطيفة وضمير وكلها ذات تاريخ قديم وعمران طبيعي وهي بكثرة نفوسها يزيد عمرانها اليوم كلما انبسط السلام فيها وأمن أهلها على مواشيهم من غارات أشقياء الصفا وجبل الدروز المجاورين لهم من جهة الجنوب والجنوب الشرقي على مسيرة يوم من هذه البلاد.
ولقد كان عرب الصفا واللجاة وجبل حران يغزون من سنين أهل قرى القلمون الأسفل في عقر دارهم ويرعون زروعهم وينهبون ناطقهم وصامتهم ولذلك ضعف عمران تلك الديار حتى على قيد غلوة من القصبات والدساكر فأصبحت إلا قليلاً مزارع حقيرة ومداشر. وقلت الأشجار فيها حتى في ضواحي الثرى وعلى شواطئ الجداول والأنهار لأن الفلاح أصبح لا يفكر إلا في رزق سنته فإذا نجا عامه من شرور النهب فهو سعيد آمن وإلا فيقضى عليه أن يعيش في فقر ليس بعده فقر وذلة هي الموت بعينها أو يهيم على وجهه إلى إقليم آخر يكون أقرب إلى الأمن والأمان يطلب معاشه بالعمل مأجوراً وكان يستطيع أن يعيش أميراً من أرض أورثه إياها آباؤه وأجداده لو كان له حكومة تفكر فيه وتدفع عنه بوائق الدهر وعواديه وتعرف أن ما تتقاضاه إياه من الضرائب والإتاوات ليس إلا لتحميه.
ومن الغريب أن الأمن ما كاد يرفع رواقه في هذه الديار وتنتظم أصول الإدارة بالنسبة لما عليه في القرن الماضي مثلاً حتى سرت إلى الأهلين هنا نغمة الهجرة إلى أميركا فغدا هذا الجبل بمن هجره شقياً وكان يسعد بهم لو توفروا على خدمة أرضه واستثمار شجره(53/61)
واستنبات غلاته وتعدين مناجمه والعلم لاستبحار عمرانه ولا يقل عدد المهاجرين من هذا الوادي عن خمسمائة من أصل نحو عشرين ألف نسمة وكل يوم يزيد نازحهم وقلما يعود أحد منهم. يذهب الشبان الأقوياء ويبقى في الأكثر الأطفال والكهول والشيوخ حتى كادت تسوء الظنون في مستقبل هذه البلاد وهي إذا لم توفق إلى النهوض بنشاط شبانها هيهات أن تعمر بتكاسل شيوخها وكهولها وخمولهم.
قلنا تعدين مناجمها لأن جبالاً من مثل هذه لا تخلو من مناجم فإذا كانت بقعة واحدة هي جيرود وما إليها تحتوي في جملة ما تحتوي من الغلات والثمرات على أربعة أصناف من العناصر التي تقل أو لا توجد في غيرها فما بالك لو بحث في قرى هذا الجبل وحده عما يكنه صدره من الخيرات الطبيعية.
نعم في جوار جيرود على مسافة ساعة منها المملحة التي يصدر منها الملح الجيد للطعام وتكفي ألوف القناطير التي يمكن استخراجها من سورية بأجمعها ولذلك يكتفى باستخراج كمية قليلة منه لأن في جوار تدمر وحماة وصفد مملحات أخرى ينتفع بملحها دع عنك ما في سائر الأقطار العثمانية من هذا الجزء المفيد.
وبالقرب من المملحة معدن الجبس أو الجبصين ينبشونه من الأرض قطعاً مستطيلة بطول شبر أو شبرين وعرض ثلاثة أصابع وثخن إصبعين يستخرج العامل القنطار الشامي منه بسبعة قروش وقد لا يستخرج قنطاراً منه في اليوم الواحد فيأخذه ضامته من إدارة الغابات أو المعادن ويجعله في تنور كبير يحرقه وعندها يستحيل إلى جبس يدخل في الأبنية والتبليط والنوافذ وغير ذلك.
هذان هما المعدنان أما النباتان فهما نبات القلي أو الإشنان يقطعونه ويجعلونه في حفر يوقدون فيها النار فيستحيل إلى قلي. ومن شواطئ المملحة التي لا يقل طولها عن ساعتين وعرضها عن ساعة ينبت السل أو قش الحصر وهذا القش يخرج في بقاع أخرى ولكن أحسن القش ما خرج من جيرود ولذلك ترى كل حصري في دمشق يحرص على أن ينسج حصره من قش جيرود لمتانته وروائه.
فبلاد هذا بعض مغلها الطبيعي خصت بزكاء المنبت وجمال الطبيعة تخرج منها الحبوب على أنواعها والثمار على اختلاف أشكالها ثم يظل أهلها في جهالة على قربهم من دمشق أم(53/62)
المدن السورية بل عاصمة هذه البلاد العربية وذلك لقلة المواصلات بينهم وبينها ولأن الحكومة لا يهمها إلا أن تأخذ من أهلها حقوقها ولا تقوم بما يجب عليها من حقوق.
ولو كان الهالي في قلمون والمرج والغوطة يفكرون في مستقبل بلادهم حتى التفكير ويحبون أن يبقى أولادهم لهم لا أن يبروهم لينزحوا إلى أميركا ويتشتتوا في البلاد لطلبوا من الحكومة امتياز سكة حديدية ضيقة كالمعروفة في مصر بالسكك الحديدية الزراعية وبذلك تصدر الصادرات على أيسر وجه وتتساوى في الأبعاد القرى القاصية والدانية.
بالسكك الزراعية أحيي موات مصر وقربت مسافاتها والتحمت أجزاؤها وإذا كان يتعذر الآن ربط دمشق ببغداد بسكة حديدية تجتاز الغوطة والمرج وقلمون والقريتين وتدمر إلى العراق لاختلاف المصالح السياسية فلا اقل من أن يقوم أغنياء دمشق وهذه الأقاليم ينشئون سكة ضيقة تصل بين هذه القصبات بوصلة العمران ففي الغوطة من أمهات القرى مثل دومة وعربيل وجوبر وسقبا وفي المرج مصل ضمير وعتيبة وعذراء وفي قلمون مثل يبرود ودير عطية وقارة والنبك وجيرود والرحيبة والقطيفة وغيرها ما يجدر بأرباب الأموال أن يتدبروه ويضموا أشتات هذه الأجزاء المتفرقة التي لا تجد بينها طريقاً معبداً ولا بريداً ولا سلكاً برقياً ولا طبيباً ولا صيدلياً ولا كاتباً ولا حاسباً بل تجد فيها الناس يعيشون بعيدين عن محيطهم لا يعرفون عنه أكثر مما يعرف ابن السودان عن سكان مراكش في حين ترى المسافات قريبة وأبعد قرية عن الفيحاء لا تبعد مائة كيلومتر أو يوماً وبعض يوم على ظهور المطايا.
مثال ذلك أننا قصدنا إلى هذا الجبل يوم وقفة عيد الصغير فكان الفلاحون يسألوننا كلما وقفنا لنريح مركباتنا فيما إذا كان ذاك اليوم من رمضان أو أنه رؤي هلال العيد وثبت في دمشق أما من كنا نسألهم عن فتنة جبل الدروز فكانوا لا يعرفون من أمرها إلا أن الحكومة جيشت جيشاً عليهم ولا يعرفون ما تبع ذلك من تأديب الدروز على حين هم أحق الناس بالفرح بهزيمة الأشقياء لانتشار ظل الأمن في تلك الربوع ولأنهم طالما تأذوا بهم ونهبت مواشيهم وقتل رعاتهم وزراعهم.
ولا سبيل إلى عمران هذه البلاد إلا بالأمن والعم فمن جملة أسباب الأمن مد الخطوط الحديدية الزراعية التي تقل نفقاتها وتكثر فوائدها المادية والمعنوية فتتضاعف أثمان(53/63)
الأراضي هنا كما يتضاعف دخلها وتكثر أشجارها ومواشيها والعلم لا ينتشر إلا إذا هب أعيان البلاد وعقلاؤها إلى إنشاء مدارس لأبنائهم خاصة تجري على غير الخطة التي يسير عليها ديوان المعارف. تسير في التعليم على طريقة يتعلم بها الفلاحون لغتهم فقط بحيث يقرؤون ويكتبون فيها في الجملة ويعرفون المبادئ الأولى من الحساب والطبيعة والنبات والحيوان وشيئاً من تربية المواشي وحفظ الصحة والرياضة البدنية وأصول الدين. يعلمون كل ذلك بالعمل أكثر من النظر.
فلو قامت في كل قرية من قرى قلمون مدرسة ابتدائية كالتي أنشأها في جيرود محمد باشا الجيرودي ووقف عليها بستاناً فيه صنوف الثمار لا يقل ريعه السنوي عن عشرة آلاف قرش لأصبح قلمون بعد عشرين سنة أرقى جبال سورية لما فطر عليه أهله من الذكاء والنشاط.
نعم استحق الزعيم المنوه به كل شكر لأنه جرى على غير سنة كبرائنا في السخاء فكان فيما نظن ثاني رجل في هذا القرن الرابع عشر وقف على العلم في سورية مثل هذا الملك الذي لا يقل ثمنه الآن عن ثلاثة آلاف ليرة. والرجل الأول فيما نذكر محمد باشا المحمد من أمراء عكار وقف على مدرسة دينية هناك ما يكفيها. أما سائر أعياننا وأغنياءنا فلم يوفقوا إلا قليلاً إلى وقف ما يوليهم في دنياهم وآخرهم فخراً وذخراً ولعل أعيان هذه البلاد من الأسر العريقة في المجد تقدم بعد الآن بين يدي نجواها من البذل للعلم ما تقر به العين فيحذون بذلك حذو أغنياء الأقاليم في مصر الذين نهضوا بها وما أنشئوه لفلاحيهم من الكتاتيب في بضع سنين ما لا تنهض به أمة تنتظر من حكومتها أن تعلمها في قرن أو قرنين. وليت شعري متى تنبعث من دمشق نفحة من تلك الروح التي انبعثت في القاهرة ففاضت على أقاليم مصر فأحيتها حتى يكون حظ المصرين واحداً في النهوض اليوم كما كان كذلك في القرون الوسطى.(53/64)
مخطوطات ومطبوعات
كتاب المثنى
قال ابن ساعد: إن علم اللغة هو نقل الألفاظ الدالة على المعاني المفردة وضبطها وتمييز الخاص بذلك اللسان من الدخيل فيه وتفصيل ما يدل على الذوات مما يدل على الأحداث وما يدل على الأدوات وبيان ما يدل على أجناس الأشياء وأنواعها وأصنافها مما يدل على الأشخاص وبيان الألفاظ المتباينة والمترادفة والمشتركة والمتشابهة. ومنفعة الإحاطة بهذه المعلومات خبراً طلاقة العبارة والتمكن من التفنن في الكلام وإيضاح المعاني بالألفاظ الفصيحة والأقوال البليغة.
ولقد طبعت كتب كثيرة في اللغة ولا يزال يظفر بأشياء لم يكتب لها الظهور ومما وقع إلينا من مكتبة أحد علماء هذه الحاضرة نسخة من كتاب المثنى تأليف حجة العرب أبي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي الحلبي الذي ذكره السيوطي في بغية الوعاة فقال أنه عبد الواحد علي أبو الطيب اللغوي الحلبي الإمام الأوحد.
قال في البلغة له التصانيف الجليلة منها مراتب النحويين، أطياف الإتباع، الإبدال، شجر الدر، وقد ضاع أكثر مؤلفاته وكان بينه وابن خالويه مناقشة مات بعد الخمسين وثلثمائة، وقال الصفدي: أحد العلماء المبرزين المتقنين لعلمي اللغة والعربية أخذ عن أبي عمر الزاهد ومحمد بن يحيى الصولي وأصله من عسكر مكرم قد حلب وأقام بها إلى أن قتل في دخوله الدمستق حلب سنة إحدى وخمسين وثلثمائة.
وكتابه هذا في 130 ورقة أكبر من الربع عليه حواش وتعليقات مفيدة كتب على الحاشية أن أكثرها بقلم ابن الشحنة وابن مكتوم القيسي تلميذ أبي حيان وفيه نقص من وسطه ونقص قليل من آخره إلا أنه لا يحول دون الانتفاع منه لأن النسخة القديمة على ما يظهر وهي حسنة الخط بالشكل الكامل والصحة غالبة عليها بحيث يسهل تمثيلها بالطبع دون الرجوع إلى الأمهات لتصحيح ألفاظها وإثبات الروايات المعتمدة في ضبطها وليس في الكتاب تاريخ نسخه ويرجح أنها مما كتب في القرن السابع أو الثامن.
جاء في مقدمته ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد النبي وعلى آل محمد. قال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي: أنه ليس شيء من كتبنا وإن قصرت(53/65)
أبوابه وقلت أوراقه وضمر حجمه وصغر جسمه بأقل فائدة في معناه للمتعلم ولا أنر عائدة في مغزاه على المتفهم من غيره وإن أسهبنا فيه وأغرقنا في معانيه حتى طارت أصوله وانشرحت فصوله بل كان كل واحد بحمد الله على غاية ما يمكننا من الكمال فيما اقتصرنا به عليه ونهاية التمام فيما انتهينا به إليه وما من شيء توخيناه من ذلك ولا تعمدناه إلا لغرض الإفهام تحريناه وحرصنا على الإعلام الذي أردناه وكل من الله سبحانه وبه. فإذا كانت بغيتنا فيما نعانيه وإرادتنا فيما نعيده ونبديه معونة اللقن المستفيد والتقريب على ذي الفهم البعيد وإلحاق الكهام البليد بالذكي الحديد وكان ذلك لوجه الله خالصاً موفوراً لا نريد به جزاءاً ولا شكوراً فإنا غير قانطين من تفضله جل اسمه علينا بالإرشاد وتوفيقه إيانا للسداد والله عند الظن عبده وكافل لمن استرشده برشده ولا قوة إلا بالله. ونحن قاصدون في كتابنا هذا قصد ما ورد من كلام العرب مثنى في الاستعمال تثنية لازمة ومبتدئون بشرح وجوهه وتقصيها وذكر ضروب توسعهم فيها فنقول أن جميع ما ورد على ذلك من الأسماء عشرة اصناف الاثنان غلب إحداهما عليهما لقب واحد منهما يجمعهما لقب واحد الاثنان ثنيا باسم أب أو جد أو إحداهما ابن الآخر فغلب اسم الأب الاثنان اللذان لا يفردان من لفظهما الاثنان في اللفظ يراد بهما واحد الاثنان يثنيان وإن اكتفي بأحدهما لم ينقص المعنى وأما ما ورد من ذلك من الأفعال من الأفعال فصنفان من الفعل المبني على صيغة التثنية والمراد به تكرير الفعل. الفعل يجيء لفظه لاثنين ومعناه واحد ونحن نبوب هذه الأبواب ونأتي على ما فيها أو جمهوره إن شاء الله.
هذا باب الاثنين غلب اسم أحدهما على اسم صاحبه قال الأصمعي وأبو عبيدة قولهم سار في الناس سيرة العمرين إنما يريدون أبا بكر رضي الله عنهما وقال الفراء محو ذلك وسمع معاذاً الهراء يقول لقد قيل سنة العمر ين قبل عمر بن عبد العزيز وجاء في حديث أنهم قالوا لعثمان رضي الله عنه نطلب منك سيرة العمرين فهذا يدلك على صحة ما قلنا.
وهنا أخذ المؤلف يورد الأمثلة في هذا الباب مثل الحنتفان والزهدمان والبجيران والعتبان والعبدان والحيدان والعقامان والنافعان والشريفان والعشاءآن والأمقسان والقربان والقمران والمربدان والطلحيتان وأبانان والنيران والمشرقان والضمران والدحرضان والكيران والموصلان والصباحان والبصرتان والغدوان والمطران. وشرحها شرحاً موجزاً واستشهد(53/66)
لها بكلام العرب وأورد في باب التثنية لاتفاق اسميهما السعدان لسعد بن زيد مناة بن تميم وسعد بن زيد مناة ين تميم والمروان لمرو الشاهجان ومرو الروذ. والفرقدان والقطبان والناظران والوريدان والأجدلان والذراعان والمسجدان قال بعد الأمثلة الكثيرة في هذا الباب يفوت الإحصاء ويدخل فيه الأذنان والعينان والجبينان والحاجبان والخدان والوجنتان واللحيان والعارضان وما أشبه ذلك.
وقال في بابا الاثنين غالب نعت أحدهما على نعت صاحبه مثل الأسمران الخبز والماء والأسودان التمر والماء والأخضران البحر والليل والأبيضان الخبز والماء والباكران الصبح والمساء ويقال لهما الرائحان والأبيضان الشحم والشباب. وقال في باب الاثنين جمعاً في التثنية وأورد لفظاً الأقهبان الفيل والجاموس الأحمران الخمر واللحم والأصفران والأسودان والأزهران والأيهمان والأعميان والأطيبان والأخبثان الخ.
وأتى على هذا النحو في تفصيل الأبواب تفصيلاً حسناً وشرحها شرحاً أحسن.
وقال في الإتباع الذي في أوله الألف: قال أبو ملك تقول العرب في صفة الشيء بالشدة أنه لشديد أديد وهو من الأد وألأد القوة إلا أن الأديد لا يفر قال الراجز:
نضوت عني شرة وادا ... من بعد ما كنت حملا نهدا
ويقال جيء به من عيصك وآيصك أين من حيث كان ولم يكن فالعيص الأصل والأيص إتباع الخ.
وقال في الإتباع الذي في أوله الباء يقال أنه لحسن بسن وأنه لكثير بثير وأنه قليل بليل الخ وقال في التوكيد الذي في أوله الباء: يقال فر وله بصيص وأصيص وبصيص من الفزع وكله بمعنى الصوت الضعيف ويقال أنه لغض بض وغاض باض وهي الغضاضة والبضاضة قال أبو زيد والبضاضة رقة البشرة وقال الأصمعي هي رقة البشرة والبياض وقال أبو زيد قد يكون الاسم بضاً ويقال أن لسر بر وسار بار وأنهم لسارون بارون وسرون برون قال الشاعر:
أخوة ما علمت سرون برون ... فإن غبت فالذئاب جياع
وهكذا أتى بباب الإتباع على حروف المعجم فاستوفاه ولم نعثر في شيء من كتب اللغة المطبوعة على أكثر استيفاء لهذا المبحث من هنا. وفي آخر هذا الفصل البديع انتهى(53/67)
بحسب الظاهر الكتاب. وجاءت بعده قطعة أخرى في اللغة على تلك الشاكلة ولكنها تكاد تتجاوز ثلاثة أرباع الكتاب فمن أمثلته: الباء والشين يقال أرب على القوم وأرش عليهم إذا حمل عليهم ووشى بهم وهو يؤرب على القوم تأريباً ويؤرش تأريشاً ويقال غلام بلبل وش لشل إذا كان خفيفاً ظريفاً. وقال في الباء والفاء: أبو زيد يقال خذه بابانه وخذه بافانه أي بزمانه وحينه وأنشد:
فهلا بافان وفي الدهر غرة ... تزور وفي الأيام عنك عقول
وعلى هذه الصورة كانت سياقة هذه الأبواب المفيدة ولها نظائر من كتب اللغة المطبوعة.
وهاك نموذجاً آخر: الجيم والقاف قال الأصمعي: يقال لكل ذي حانوت كربج وكربق والكربج والكربق أيضاً اسم الحانوت وهو فارسي معرب وسئل عن كثير فقال كربجاً قال أبو حاتم يعني صاحب حانوت ويقال هو الفالوذج والفالوذق وأعطاني من الشعير أو الحنطة كيلجة وكيلقة. أبو عمرو يقال أنه لحسن الجسم وحسن القسم بمعنى واحد والقسم هو الجسم بعينه وأنشد:
طبيخ نحاز أو طبيخ أمهية ... دقيق العظام سيء القسم أملط
ويقال انباجت عليهم بايجة الدهر وانباقت عليهم بايقة وهي البوايج والبوايق أي الشدائد والدواهي قال الشاعر وهو الشماخ يرثي عمر رضي الله عنه:
قضيت أموراً غادرت بعدها ... بوايج في أكمامها لم تفتق
وفي الحديث لن يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوايقه أي دواهيه قال ابن ألأحمر:
أخاف بوايقاً تسري إلينا ... من الأشياع سراً أو جهارا
ومن الأمثلة الكثيرة ما ورد في العين والنون الأصمعي يقول أعطيته إعطاء وانطيته إنطاء بمعنى واحد ومنه قول الأعشى:
جيادك في القيظ في نعمة ... تصان الجلال وتنطا الشعيرا
والدعفص والدنفص من الرجال الزري المنظر القميء ويقال عسل الذئب يعسل عسلانا وينسل نسلانا وهو ضرب من المشي تضطرب فيه متناه وفي التنزيل: فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون وشكا عمرو بن معدي كرب إلى عمر بن الخطاب رحمة الله عليه المعص فقال: كذب عليك العسل أي عليك بالعدو قال الشاعر:(53/68)
عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل
وهكذا تجد الكتاب من أوله إلى آخره سلسلة فوائد لغوية حرية بالتدبر والاستظهار ولو اتسع المجال لأكثرنا من الأمثلة وفيما أوردناه مقنع فعسى أن تصح عزيمة بعض الطابعين والمؤلفين على نشره ليضاف إلى المجموعة اللطيفة التي طبعت مؤخراً من كتاب اللغة مثل كتاب فقه اللغة للثعالبي والألفاظ الكتابية للهمذاني وتهذيب الألفاظ لابن السكيت والنوادر لأبي زيد والأضداد لابن بشار الأنباري والفصيح لثعلب وذيله للبغدادي وفصيح اللغة للهروي وفعلت وأفعلت للزجاج ومبادئ اللغة للإسكافي وأساس البلاغة للزمخشري والمقصور والممدود لابن ولاد وغير ذلك من المختصرات والمطولات كرسائل الدارات للأصمعي ورأس تلك الكتب الممتعة المخصص لابن سيدة المطبوع والمحكم له الذي يرجى طبعه عما قريب.
أعمال الأعلام
فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يجر ذلك من شجون الكلام تأليف.
لسان الدين ابن الخطيب طبع في بلرم صقلية سنة 1910 ص68.
احتفل علماء الطليان في المشرقيات بمرور مئة سنة على مولد ميشيل آماري المستشرق الإيطالي الذي صرف حياته كلها في درس التاريخ الإسلامي ولاسيما ما كان متعلقاً منه بجزيرة صقلية التي دانت للمسلمين زمناً طويلاً فوضعوا لذلك كتاباً أتى كل واحدة بنبذة تاريخية أو اجتماعية نشرها. ومن جملة ما نشر هذا الجزء من تاريخ ابن الخطيب. تشره حسن حسني أفندي عبد الوهاب أستاذ التاريخ في المدرسة الخلدونية بتونس بدعوة مكن صديقنا الأستاذ نالينو الإيطالي ومكافأة لذكرى من خدم الإسلام والمسلمين في أوربا طيلة حياته وقد علق الناشر بالفرنسية شروحاً وحواشي على هذا الجزء تدل على بعد غوره وتدقيقه على أسلوب الأوربيين. وللكتاب مناسبة كبرى بتاريخ شمالي أفريقية وصقلية والأندلس وفيه ذكر من ولي الملك بصقلية قال لسان الدين في وصفها: قال أبو محمد الرشاطي: صقلية جزيرة كبيرة وصقلية اسم لإحدى مدنها الكثيرة وقلاعها الأثيرة وطولها مسيرة خمسة أيام وهي في البحر الشامي موازية لبعض بلاد أفريقية واق رب المواضع إليها من بلاد أفريقية رأس أدار بينهما اثنتي عشرة ومائتين وكانوا قبل ذلك معاهدين(53/69)
ولافتتاحها خبر شهير. وقال أبو الحسن ابن جبير في رحلته يصف مدينة مسنة وأخبار ملوكها: هذه المدينة موسم تحار الكفار ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار كثيرة الإرفاق برخاء الأسعار مظلمة بالكفر لا يقر فيها للمسلمين قرار أسواقها دافقة حفيلة وأرزاقها واسعة بأرغاد العيش كفيلة لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان وذكر بعد مدينة مسينة المدينة المعروفة ببلارمة فقال فيها سكنى الحضر من المسلمين ولهم فيها المساجد والأسواق المختصة بهم والأرباض وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها ومدنها كسر قوسة وغيرها بهذه المدينة سكنى ملكها غليام وش أنه عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين وهو كثير الثقة بهم وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله وزمنهم وزراؤه وحجابه وهم أهل دولته والمرتسمون بخاصته وعليهم يلوح رونق مملكته لأنهم في الملابس الفاخرة والمراكب الفارهة ولهذا الملك القصور المشيدة والبساتين الأنيقة وهو كثير الاتخاذ للقيان والجواري وليس في جميع ملوك الرومية أشرف منه في الملك ولا أنم ولا أرفع وهو يتشبه في تنعمه بالملك وترتيب قوانينه وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهته وإظهار زينته بملوك المسلمين.
وملكه عظيم جداً وله الأطباء والمنجمون وهو كثير الاعتناء بهم شديد الحرص عليهم. ومن عجيب شأنه أنه يقرأ ويكتب بالعربية وعلامته الحمد لله حق حمده وكانت علامة أبيه الحمد لله شكراً لأنعمه. وجواريه وحظاياه في قصره مسلمات كلهن. وذكر لنا أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة يعيدها الجواري المسلمات. وذكر مدينة شيلفود فقال هي مدينة ساحلية كثيرة الخصب واسعة المرفق منتظمة الأشجار والأعناب مرتبة الأسواق يسكنها طائفة من المسلمين وذكر مدينة ثرمة فقال هي أحسن وضعاً من التي تقدم ذكرها وهي حصينة تركب البحر وتشرف عليه وللمسلمين فيها ربض كبير لهم فيها مساجد وهذه المدينة من الخصب واسع الرزق على غاية وذكر المدينة التي هي حاضرة صقلية فقال هي أم الحضارة والجامعة بين الحسنيين غضارة ونضارة فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر وموارد عيش أخضر عتيقة أنيقة مشرقة مونقة تتطلع بمرأة فتان وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان فسيحة السكك والشوارع تروق الأبصار بحسن موضعها البارع عجيبة الشأن قرطبية البنيان قد زخرفت فيها لملكها دنياه تنتظم بلبتها قصوره انتظام(53/70)
العقود في نحور الكواعب وتنقلب في بساتينها ويادنيها بين نزهة وم لاعب فكم له فيها لأعمرت من مقاصر ومصانع ومناظر ومطالع وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها وديارات قد زخرف بنيانها وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإسلام يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع ولهم أرباض قد انفردوا بها بأسمائهم وبكنائسهم ولهم فيها قاضٍ وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وقوده وأما المساجد فكثيرة ولا تحصر وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن وأطنب في شبهها في مدينة قرطبة. وذكر مدينة طرابنش وأطنب في ذكر الجميع بما لا مرغب في إطالته إذ يجر التفجع ويثير التوجع أعاد الله دار إيمان بقدرته اهـ.
وذكر من ولي على هذه الجزيرة من الملوك إلى أن تغلب عليها الروم واستولى عليها رجار ملك النصارى في زمن المرابطين على عهد الأموي المستعلي من ملوك الشيعة بمصر عندما استولت الروم على بيت المقدس والجزائر أو قبل ذلك بيسر وتداول هذه الجزيرة أمراء إلى أن انقطع عنهم إمداد المسلمين لاشتغال كل جهة بما يخصها من الفتن فكان استخلاص العدو لها في سنة خمس وثمانين وأربعمائة وذكر المؤلف من خرج من هذه الجزيرة من المحدثين والعلماء والفقهاء والشعراء والكتاب مثل ابن حمديس الصقلي قدم على المعتمد بن عباد عند الجلاء لحادثتها فكان أثيراً لديه وهو القائل مما ألمَّ فيه بذكر صقلية:
قضت للصبا النفس أوطارها ... وابلغها الشيب إنذارها
نعم وأجالت قداح الهوى ... عليها فقسمن أعشارها
وما غرس الدهر في تربة ... غراساً ولم يجن أثمارها
فأفنيت في الحرب آلاتها ... وأعددت للسلم أوزارها
كميتاً لها مرح بالفتى ... إذا حث باللهو أدوارها
تناولها الكوب من دنها ... فتحسبه كان مضمارها
وساقية زررت كفها ... على عنق الظبي أزرارها
تدير بياقوتة درة ... فتغمس في مائها نارها
وفتيان صدق كزهر النجوم ... كرام النجائر أحرارها(53/71)
يديرون راحاً تفيض الكؤوس ... على ظلم الليل أنوارها
كأن لها من نسيج الحباب ... شباكاً تعقل طيارها
وراهبة أغلقت ديرها ... فكنا مع الليل زوارها
حدانا غليها شذا قهوة ... تذيع لأنفك أسرارها
فما فاز بالمسك إلا فتىً ... يتيم دارين أو دارها
كأن نوافجه عندها ... دنان مضمنة قارها
طرحت بميزانها درهمي ... فسيل من الكاس دينارها
خبنا بنات لها أربعاً ... ليفترعن اللهو أبكارها
من اللاء أعصار زهر النجوم ... تكاد تطاول أعمارها
تريك عرائسها أيدياً ... طوالاً تصافح أخصارها
تفرس في شمسها طيبها ... مجيد الفراسة واختارها
فتى دارس الخمر حتى درى ... عصير الخمور وأعصارها
يعد لما شئت من قهوة ... سنيها ويعرف خمارها
وعدنا إلى هالة أطلعت ... على قضب البان أقمارها
يرى ملك اللهو فيها الهموم ... تثور فيقتل ثوارها
وقد سكنت حركات الأسى ... قيان تحرك أوتارها
فهذي تعانق عوداً لها ... وتلك تقيل مزمارها
وراقصة لقطت رجلها ... حساب يد نقرت طارها
وقضب من الشمع مصفرة ... تريك من النار نوارها
كأن لها عنداً صفقت ... وقد وزن العدل أقطارها
تقل الدياجي على هامها ... فتهنك بالنور أستارها
كأنا نسلط آجالها ... عليها فتمحق أعمارها
ذكرت صقلية والأسى ... يهيج للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا ... حسبت دموعي أنهارا(53/72)
ضحكت ابن عشرين من صبوتي ... بكيت ابن ستين أوزارها
فلا تعمن عليك الذنوب ... إذا كان ربك غفارها
وقد أجاد الناشر في التعليق على الرسالة بعض ما فات المؤلف من رجال صقلية أو هاجروا منها إلى أفريقية وذكر أناساً منهم فنشكره على تحفته.
درس التاريخ الإسلامي
تأليف الشيخ محي الدين الخياط. القسم الثاني طبع على نفقة المكتبة
الأهلية ي المطبعة العصرية ببيروت ص87.
أجاد مؤلف هذا التاريخ بتسهيل مطالبه وتنسيق عباراته بحيث يتناول التلميذ على أيسر وجه بعبارة لطيفة وهذا الجزء يشتمل على تاريخ دولة الخلفاء الراشدين وما حدث من الأحداث الأولى في الإسلام. وكنا نود لو صحت عزيمة المؤلف على شكل مواضع الأشكال من عباراته حتى تقوى ملكته الفصيحة أو التلاوة المعربة في التلميذ وأن يعلق شرحاً خفيفاً في الهامش على بعض الأعلام ولاسيما الجغرافية فيكون التلميذ على بصيرة من مواقع البلاد التي تعرض له ويجتمع له منها مجموعة معجم صغير للبلدان التي فتحت للصدر الأول. وذلك مثل الجابية والبلقاء وبصرى والعربة واليرموك وقيسارية وعمواس وسبطية والرها وبرقة والقادسية والأهواز والجزيرة وكذلك بعض أعلام فارسية مثل مكران وطخارستان وماسبذان وابيبرود وطوس فإن التلميذ لا يقنعه أن تقول مكران من بلاد فارس خصوصاً وأن كثيراً من أسماء هذه البلاد قد تغير الآن عن أصله أو دثر برمتها. ثم إنا لاحظنا إيجازاً في العبارات كان يكون مخلاً في بعض المحال مثل اقتضاب الجملة التي قالها هرقل من الشام إلى القسطنطينية بائساً أنه إلى الشام وقال: السلام عليك يا سوريا سلاماً لا اجتماع بعده وقد كتب التاريخ أنه قال هكذا: السلام يا سورية سلامٌ لا اجتماع بعده ولا يعود رومي إليك أبداً إلا خائفاً حتى يولد المولود المشئوم ويا ليته لا يولد فما أحلى فعله وأمر فتنة على الروم.
المهاجر السوري
تأليف جميل أفندي بطرس حلوة في مطبعة جريدة الهدى اليومية في.(53/73)
نيويورك ص154.
من أنفع الكتب الاجتماعية والاقتصادية التي نشرت بالعربية هذه الآونة هذا الكتاب الذي وضعه مؤلفه من مهاجرة السوريين في أميركا الشمالية لفائدة المهاجر السوري إلى أرض خريستوف كولمبس فقد بحث بثاً مستوفي فيما ينبغي للمهاجر عمله حتى ينجح بدأه بلمحة من تاريخ مهاجرة السوريين ونشوئها ومؤسسيها وعدد السوريين في الولايات المتحدة وأعمالهم وقد قال في ذلك أن الأحوال قد تحولت في الشئون وتبدلت وأميركا اليوم غير ما كانت عليه منذ خمس عشرة سنة وذلك ليكون المتخلفون في الوطن على ببصيرة وانتباه ولاسيما أن السياسة قد بشرت بالترقي والتحسن والحرية بالتقوى وسورية غنية بمناجمها وآكامها وريافها ومائها وهوائها ولا ينقصها إلا بذل الأموال عليها وتوجيه العزائم إليها حتى يفيض منها اللبن والعسل.
وذكر أن الهجرة لا ترجع إلى أبعد من خمسين عاماً كان الباعث عليها اختلال المجاري الاقتصادية في السلطنة العثمانية. وقد أنكرنا عليه قوله أن الصواعق في عهد الحكومة الحميدية كانت تقع على رؤوس نصارى الشرق دون سواهم وعلى فلوسهم يعيش الجاسوس والمنافق لما ثبت لدى العارفين أن المسيحيين إن لم يكونوا سواء وإخوانهم المسلمين في المعاملة فقد كانت حقوقهم مرعية أكثر وقولنا في مسيحيي سورية لا في غيرها خصوصاً وأن أكثر المهاجرين من لبنان ولبنان باستقلال إدارته كان أكثر دعة من غيره من الولايات.
وقال أنه هاجر إلى الولايات المتحدة فقط من سنة 1905 إلى 1908 خمسة آلاف نسمة وكلما نجح أفراد زادت الهجرة وفي الولايات المتحدة من السوريين الآن عدد يبلغ الثلثمائة ألف إذا حسبنا تكاثرهم على سبيل التوالد.
وقد تكلم المؤلف بحرية فقال أن البعض من المتجولين على تقدير أنهم في بلاد غربة وعلى رغم أن لا رقابة عليهم ولا معاينة خلعوا عنهم تبعة الاستقامة والصدق والأمانة جارين بذلك على أنفسهم نقمة الوطنيين ولعنة المواطنين.
وأجاد في كلامه على المرأة السورية المهاجرة وأشار إلى ما تتعرض له من الهوان وثلم الشرف بإتجارها وأشار بأن تعفى من هذه المذلة فالمال لا يكون شريفاً تحصيله من هذا(53/74)
السبيل.
وعقد فصولاً كثيرة في المهاجرة والدولة ومقتضياتها واستئصال النخاسة وحماية العمال والخطر الأصفر وتفريق المهاجرين في الولايات عوضاً عن تجمعهم وضريبة الدخول على النفوس والفحص ومراقبة الحكومة وما ينبغي للمهاجر أن يكون له من المال ويكون عليه من الصحة والهندام. وتكلم على عمران الولايات المتحدة وأجاد فقال يكفي أن يقال عن مساحة الولايات المتحدة أن ولاية تكساس فقط منها تسع إنكلترا وجرمانيا وفرنسا وإيطاليا مجموعات! وأورد دستور الولايات المتحدة وحقوق الرعوية فيها ورئاسة جمهوريتها وتذاكر التجنس بالجنسية الأميركية وغير ذلك من القوانين النافعة لتصور حالة تلك البلاد وهو مما ينفع المهاجرين وغيرهم فنشكر للمؤلف تحفته التي نفع بها أبناء وطنه.
كتب متفرقة
نقد النصائح الكافية_تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي وفيه تعديل معاوية وقبول مرويه ومروي الصحابة الذي كانوا معه وبيان الاعتدال والإنصاف كما هو مذهب الأئمة وفلاسفة الإسلام وهو في 44 صفحة طبع في مطبعة الفيحاء بدمشق ومن أحسن ما راقنا فيه الفصل المعنون ببيان أن كتب الحديث مشتركة بين الأمة يرويها الشيعي عن السني وبالعكس وإن عادة السلف الرواية عن المخالفين في المذهب وإن كتب الحديث هي إيمانية محمدية لا شافعية ولا غيرها والكتاب جيد كسائر ما خطته يراعة الأستاذ.
الأخلاق_وهو كتاب عربه عن الإنكليزية محمد أفندي الصادق حسين صدر الجزءان الأولان منه ومؤلفه صموئيل سميلز من مشاهير الإنكليز ويطلب من مكاتب القاهرة.
الصحة من السعادة_تأليف الطبيب مصطفى السعادة صدر الجزء الأول منه في 166 صفحة وفيه الكثير من القوانين الصحية والتدابير الأهلية يطلب من مؤلفه في بيروت.
ديوان الإنشاء_هو مختصر في المراسلات العصرية تأليف محمد عمر أفندي نجا في بيروت في 244 صفحة وفيه كثير من الفوائد والرسائل التجارية يطلب من مؤلفه ومن مكاتب بيروت.
الإسلام حافظ الذمم في ما بين الأمم_تأليف عبد الوهاب أفندي سليم التنير من أفاضل بيروت وفيه رد على بعض قسس البروتستانت الذين تناولوا الإسلام بأحط من شأنه آخذاً(53/75)
من كتب الإفرنج ومنشوراتهم وتواريخهم غير مغفل ما ورد في الإسلام نفسه وهو في 41 صفحة.
الدرر_أعادت المطبعة الأدبية في بيروت طبع الدرر لأديب بك إسحق من كتاب الطبقة الأولى من الصحافيين في القرن الماضي وفيه مقالاته وقصصه وخطبه وآثاره مراثيه وكل ما يتعلق بذلك وهو من جمع شقيقه عوني أفندي إسحق وقد وقع في 616 صفحة.
مجلتان جديدتان
مجلة الاقتصاد_هي زراعية صناعية تجارية مصورة لمنشئها أنيبال أفندي أبيلا تصدر في بيروت مرتين في الشهر في 32 صفحة وقيمة اشتراكها في العام خمسة بشالك ما عدا أجرة البريد وفيها عدة مقالات نافعة منها مقالة في بلجيكا واقتصادياتها جاء فيها أن مساحة إنكلترا 315 ألف كيلومتر مربع وسكانها 40 مليوناً ومعدل السكان في كل كيلومتر مربع 126 والديون العمومية 17 ملياراً والتجارة 17 ملياراً وطول سككها الحديدية 35 ألف كيلومتر ومساحة البلجيك 29. 450 وسكانها 7 ملايين ومعدل سكانها 224 وديونها 2. 2 مليار وتجارتها 3 مليار وتجارتها 3 مليار وطول سككها 4500 ومساحة النمسا والمجر 625 ألف كيلومتر وسكانها 44 مليوناً ومعدل الساكن في كل كيلومتر 69 وديونها 16 ملياراً وتجارتها 42 مليون وسككها 25 ألف كيلومتر ومساحة ألمانيا 540 ألف كيلومتر مربع وسكانها 53 مليوناً ومعدل السكان في كل كيلومتر 97 وديونها 156 ملياراً وتجارتها 10 ملايين وسككها الحديدية 49 ألف كيلومتر ومساحة روسيا 5. 430. 000 وسكانها 106 ملايين ومعدل السكان 19 وديونها 16 ملياراً وتجارتها 4 مليارات وطول سككها 40 ألف كيلومتر ومساحة إيطاليا 290 ألف كيلومتر وسكانها 32 مليوناً ومعدل سكانها في كل كيلومتر 109 وتجارتها 3 مليارات وسككها 16 ألف كيلومتر ومساحة فرنسا 536 ألف كيلومتر وسكانها 38 ومعدل السكان 72 ساكناً في كل كيلومتر وديونها 35 ملياراً وتجارتها 7 وسككها الحديدية 42 ألف كيلومتر أما البلاد العثمانية فمساحتها 4 ملايين كيلومتر مربع وسكانها 38 مليوناً ومعدل السكان في كل كيلومتر 10 أشخاص وديونها 5 مليارات وتجارتها 12 مليار وسككها الحديدية 5000 كيلومتر بما فيه طريق الحجاز.
العالم الجديد_مجلة شهرية تصدر باللغة العربية في نيويورك وتبحث في شؤون اجتماعية(53/76)
واقتصادية ولغوية وفكاهية وتاريخية اطلعنا على العددين السابع والثامن فرأيناهما حافلين بالموضوعات والمباحث النافعة لمنشئها سلوم أفندي مكرزل وقيمة اشتراكها دولاران ونصف وهي في عشرين صفحة كبيرة.(53/77)
سير العلم والاجتماع
مدارس الصحافة
حاول الغربيون أن يعلموا فن الصحافة في المدارس فأنشئت في باريس سنة 1899 مدرسة للصحافة فلم تلبث أن أصبحت منتدى تقرأ فيه محاضرات ومسامرات وخطب في موضوعات لها علاقة بالصحافة. وفي ليل قام أوجين تافرنيه سنة 1896 فألقى عدة محاضرات في وظائف الصحافي وفي لندن أنشأ ويليام روث مدرسة للصحافة يدرس فيها علاوة على كيفية كتابة المقالات أصول طبع الجريدة في أميركا ولاسيما في الولايات المتحدة أنشوا عدة صفوف في المدارس الكلية لتعليم الصحافة ولاسيما في فيلادلفيا وشيكاغو وأضافوا في ولاية كنساس إلى دروس التحرير والإنشاء درساً في كيفية جلب الأخبار وامتازت سويسرا وألمانيا في هذا الشأن فاشتركت برن وزوريخ وجنيف وهايدلبرغ وبرلين في تعليم فن الصحافة. قالت إحدى المجلات الإفرنجية بعد إيراد ما تقدم: ويا ليت شعري هل أثمرت هذه الأعمال ما كان يتوقع منها وهل دخل الإصلاح في الصحافة من هذا التعليم؟ فالجواب بالإيجاب صعب. فينبغي للصحافي مع ما يجب لصناعته من المعارف الفنية كفاءات منوعة ومزايا طبيعية وصفات في الثبات والإدارة ويصعب تعليمه هذه المهنة بدونها مهما أجلسناه على دكات المدارس على أنه لا ينكر أن التعليم العالي يجب أن يعنى بعد الآن بالمسائل المهمة التي تخوض الصحافة عبابها وأن مدارس الصحافة التي هي متممة للدروس العالية تخدم خدمة نافعة في هذا الشأن.
الساحات للصحة
قال الفيلسوف جان جاك روسو: إن نفس الإنسان مضر بالصحة. ولكن هذه القاعدة لم تطبق في المدن ولذلك كثرت فيها الأمراض فقد تبين بالاستقراء أن المدن التي تكون ساحاتها العامة أكثر والهواء والشمس يتخللها تق فيها الوفيات بالسل في لندن يقل عدد الموتى بالسل إلى ثلث عدد من يهلكون في باريس لأن ساحات لندن أكبر من ساحات باريس بثلاث مرات تصرف عليها الملايين لاعتقادها النفع منها للناس. قلنا فأين ساحاتنا في المدن الكبرى وحدائق النزهة.
مكاتب الشعب(53/78)
قدم قيم مكتبة بلفنا الروسية إلى مؤتمر الكتب والمستندات في بروكسل تقريراً في خزائن كتب الشعب في بلغاريا فقال أنه يعضدها جمعيات مؤلفة أعضاؤها من أرباب الحرف المختلفة فلكل مكتبة محل فيه خزانة الكتب وغرفة المطالعة التي تعرض فيها المجلات والجرائد السياسية والمصورة. وقال أن مدينة بلفنا كان فيها سنة 1888_80 مجلداً فأصبح فيها الآن 11 ألفاً وأنه عول أن يجري على طريقة مجمع الكتب الدولي الذي عقد في بروكسل وهو أن تصف الكتب بحسب موادها وتجعل لها فهارس بذلك.
يابان الاقتصادية
نشرت يابان إحصاء بالحالة الاقتصادية في بلادها خلال سنة 1910 فبلغت مساحتها السطحية 448243 كيلومتراً مربعاً يدخل في ذلك جزائر فرموز وبسكادور وصقالين وكان سكانها سنة 1909_53. 274. 980 منهم 51. 169. 581 في البلاد الأصلية وقد زاد السكان منذ سنة 1891 عشرة ملايين فيكون بذلك 133 ساكناً في كل كيلومتر مربع. وقد نظمت يابان ماليتها بعد الحرب الروسية اليابانية وسنت قواعد في الميزانية مملوءة بالحكمة وحددت الخرج والدخل السنوي بحيث تتحامى عقدة قروض جديدة وأن تسارع إلى وفاء ما عليها من الديون فلا تميل إلى أن تطلب أموالاً جديدة بل قللت ما أمكن ما كانت وضعته من الاعتمادات لبعض المشاريع وأرجأت دفع النفقات اللازمة لبعض الأعمال العامة وضربت لها مدداً متطاولة لتخف السنة بعد السنة.
وعزمت هذه الحكومة أن تدفع كل سنة خمسين مليون يان أو 129. 150. 000 فرنك كل سنة لوفاء الديون العمومية وأزمعت أن تزيد هذا القدر حتى تستهلك جميع الديون التي عليها ومع كل هذا فهي تزيد في ميزانيتها العادية وميزانيتها فوق العادة فكانت هذه السنة 402. 860. 000 يان للأولى 114619978 ياناً للثانية وأهم النفقات التي زادوا فيها مخصصات الإمبراطور وزيادة رواتب الموظفين والضباط توسعة عل الجند وأكثر النفقات فوق العادة بذلت في استهلاك دين الإمبراطورية. وبداعي النظام الجديد في الجباية نزلت الضرائب على العقارات والسكر أحد عشر مليوناً ونصف مليون يان وزادت من جهة أخرى واردات الحكومة العادية بتحسن بعض الضرائب الأخرى واصلات الطوابع والبريد واحتكار الملح والكافور والتبغ. وقلت النفقات الغير عادية مليون يان فارتقت على حين(53/79)
فجأة إبان الحرب الروسية اليابانية إلى 420 مليوناً.
وبلغت تجارة اليابان الخارجية سنة 1909_807. 311. 354 ياناً منها 413113. 000 من الصادرات و394. 199. 000 في الواردات وأكثر صلات اليابان التجارية مع الصين والولايات المتحدة ثم تجيء فرنسا فألمانيا فإنكلترا. وطول خطوطها الحديدية 5020 ميلاً منها 4542 م لك الحكومة و477 تستثمرها شركات كلفت 535 مليون يان ومع أن معدل دخل سكك الحكومة أكثر من دخل سكك الشركات فالحكومة تريد أن تجعل محاسبة خطوطها على صورة تجارية.
فوائد التلفون
نشر أحد الألمانيين كتاباً في الفوائد التي نجمت في التجارة من التلفون جاء فيه أن ما أنفقته ألمانيا إلى آخر سنة 1904 15200 مليون مارك لإنشاء السكك الحديدية و264 مليون مارك لإنشاء الأسلاك التلفونية. وكانت الولايات المتحدة أنفقت إلى سنة 1902_1823 مليون مارك وأن النظام الاقتصادي الحديث قائم اليوم على أساس نقل الأخبار بسرعة ففي الأسلاك التلفونية مبادلة للمفاوضات الشفاهية في بقعة واسعة من الأرض ولا تزال المسافات بين الأسلاك تبعد كلما كمل الفن وتم العلم والتلفون أفضل من التلغراف لكنه لا يقوم مقامه واستعمال التلفون يستلزم اقتصاداً عظيماً في الوقت وبه سهل تكاثر الصلات التجارية وكان يتعذر بدونها دوامها وساعد على اعتدال الأسعار وتحكم التجار فيها والتلفون أداة نافعة في تقسيم العمل وتوزيعه فالواجب تنزيل أسعاره حتى يشترك في منافعه الفقير والغني على السواء.
النجاح الألماني
كان من نتيجة آخر إحصاء قامت به ألمانيا منذ ثلاث سنين أن كان عدد سكان ألمانيا 62. 036. 000 أخذت إفادات كافية عن 61. 721. 000 ساكن وقد صرفت ألمانيا هذا الإحصاء الأخير وحده زهاء ستة ملايين مارك فكان عدد العاملين في الصناعات الرئيسية ومنهم الخدمة ومن لا موطن لهم والأشخاص المستقلون بلا عمل 30 مليون وفي ألمانيا 2. 3 مليون أرباب الأملاك وموظفين فإذا حذف مجموع الأشخاص المستقلين وهم بلا صناعة تجد عدد العاملين 26. 8 مليون أي زهاء 43 في المئة من مجموع السكان وكان سنة(53/80)
1882 17 في المئة فقط. وتقسم هذه الصناعات والحرف إلى ثلاث أقسام رئيسية وهي الزراعة ويدخل فيها البستنة وتربية المواشي والغابات والصيد. والصناعات الصغرى والكبرى والتجارة والنقل وقد زاد عدد العاملين في كل فرع من فروعها وقل عدد المشتغلين بالزراعة على نسبة معتدلة فكان عدد العاملين في الزراعة سنة 1907 32 مليوناً على حين بلغ هذا العدد 43 مليوناً سنة 1882 وبلغ عدد من يتعاطون الزراعة مباشرة في سنة 1907_17 مليوناً وعدد المشتغلون بالصناعات 11 مليوناً وزاد عدد السكان سنة 1895 إلى 1907 نحو عشرة ملايين التهمت الصناعة منهم ثلاثة أخماسهم وربعهم انصرف إلى التجارة والنقل وهكذا كان بحسب الإحصاء الأخير 2. 501. 000 شخص من مديري الزراعات و7. 283. 000 من العملة و99. 000 من المستخدمين و1. 977. 000 مدير في الصناعة و686. 000 مستخدم و8. 593. 000 عامل و1. 012. 000 مدير في التجارة و500. 000 مستخدم و1. 960. 000 عامل. وزاد عدد الأشخاص العاملين بأكثر سرعة من عدد المعامل وكثر انضمام المعامل بعضها إلى بعض واحتفظت الزراعة بالقسم اللازم لها من السكان ونبذت الآخر بالعمل في التجارة والصناعة.
مطالعات
قال أبو العلاء المعري وأجاد في ما شاء:
مثل الفتى عند التغرب والنوى ... مثل السرارة أن تفارق نارها
إن صادفت أرضاً أرتك خمودها ... أو وافقت أكلاً أرتك منارها
وقال الآخر وقد أبدع:
وكم قائل ما لي رأيتك راجلاً ... فقلت له من أجل أنك فارس
وقال البحتري ولم يبق مجالاً لقائل:
الجاهلان اثنان من دون الورى ... فأفطن أخيَّ وإن هما لم يفطنا
من قال ما بالناس عني من غني ... من جهله أو قال بي عنهم غني
فضائل الهند ثلاثة وضع كتاب كليلة ودمنة المشهور والشطرنج والأرقام التسعة الهندية.
قال يونس النحوي: الأيدي ثلاث يدٌ بيضاء ويد خضراء ويد سوداء فاليد البيضاء في(53/81)
الابتداء بالمعروف واليد الخضراء هي المكافأة على المعروف واليد السوداء هي المن بالمعروف.
كتب رجل من العلماء إلى يزيد بن حاتم يستوصله فبعث إليه ثلاثين ألف درهم وكتب إليه (أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً ولا أقللها تجبراً ولا أستثنيك عليها ثناء ولا أقطع لك بها رجاءً والسلام).
عيسى اسكندر معلوف.
إحصاء الحيوانات
قدم الأستاذ سيبلي إلى مجمع ترقية العلوم البريطانية إحصاء أنواع الحيوانات قال فيه لقد كثرت منذ نحو نصف قرن الحيوانات ذوات الثدييات كثرة زائدة فبعد أن كانت 1200 نوع أصبحت 2300 وبعد أن كانت أجناس الطيور 3600 ارتفعت إلى 11000 وكان عدد الدبابات 343 فصارت 3400 وعدد الأسماك 3500 فأصبحت 11000 والحيوانات التي لا فقار لها كذات الصدف 11000 فعد منها 33000 والحيوانات ذوات القشر من 1290 إلى 7500 والعناكب من 1048 إلى 3070 والهوام من 49100 إلى 220. 150 وأجراء البحر ونجومها من 230 إلى 18043 والديدان من 372 إلى 6070 وكان مجموع الأنواع المعروفة سنة 1840_73. 588 فأصبحت سنة 1881 311653 وما زالت في ازدياد سنة عن سنة.
إنكلترا والاقتصاديات
نشرت الحكومة الإنكليزية إحصاءاً مهماً في الوفيات والولادات قالت فيه أن عدد الوفيات سنة 1908 كان 15 في الألف في إنكلترا و16 في الألف في البلجيك و18 في بروسيا و20 في فرنسا وأن من يموتون من الأطفال في روسيا فاحش جداً فقد بلغ 268 في الألف وقد تبين من هذا الإحصاء نجاح إنكلترا كثيراً في الأمور الاجتماعية منذ خمسين سنة وقلة المواليد فيها فقد كان معدل الولادات فيها سنة 1850_33 في الألف فنزل سنة 1905_إلى 27 في الألف وأن الفقراء يكثرون عن ذي قبل وكذلك يكثر إيداع الناس أموالهم في صناديق التوفير وتتسع دور العملة بفضل المجالس البلدية وتقل الأمراض المعدية وتزيد مسافة الانفراج بين غلاء المعيشة والمياومات وإن ما يشغل بال إنكلترا هو في الحقيقة(53/82)
مسألة العطلة الأسبوعية.
حماية الأطفال
في أميركا أنشئت أول جمعية لحماية الأولاد سنة 1876 وفيها اليوم 350 جمعية تتوخى هذا الغرض وأهم هذه الجمعيات هي في مدينة نيويورك في بناية عظيمة ذات ثماني طبقات خدمت الإنسانية خدمة تذكر فبمساعيها أبطل إكراه الأولاد على الشحاذة أو بيع الزهر في الليل ومنع الموسيقيون السيارون والباعة وغيرهم أن يستخدموا صغار الأطفال فإذا وصل إليها طفل تفحصه فحصاً طبياً فإن رأت فيه تشويهاً في بعض أجزاء جسمه تختار له عمل يوافق مزاجه وبذلك أنقذت منذ تاريخ تأسيسها 160. 977 طفلاً.
الهواء الطلق
وضع أحد علماء كوبنهاغن عاصمة الدنمرك طريقة جديدة في الاستشفاء فارتأى أن يسير المرء مكشوف الرأس حافي القدمين ويتجرد أبداً من الثياب فلا يكثر منها إذا أمكن وينام بدون قميص ويفضل السير راجلاً على ركوب المركبات والتراموايات والدراجات وقد اخترع نوع من القبقاب ليلبس في الأرجل بدل الأحذية المتعارفة حتى يتخلل الهواء الرجل على نحو الطريقة التي اخترعها الخوري كنيب في الاستحمام للاستشفاء بالماء البارد. أما الجوارب فقد حظر لبسها في الأرجل قال ولا بأس بوضع قماش مسرد على الساقين وقال أن النزلة الصدرية كادت تسطو عليه منذ بضع سنين فرأى أن يداويها في الحال بالمشي السريع فتصبب جسمه عرقاً ونجا من الإصابة بها. وقد أحدثت هذه الطريقة الجديدة في الصحة أخذاً ورداً بين الباحثين والعاملين في الغرب فكأن واضعها يريد أن يعود بالإنسان إلى العيش الطبيعي.
الخط المائل والمستقيم
اتفق جمهور من الأطباء في جلسة لهم في باريس على أن الخط المستقيم لا يتأتى معه للولد أن يجلس جلسة طبيعية بسبب التنقل الدائم في يده اليمنى فإن حركة ذراعه تحدث تعباً في الأعصاب فيكون هذا الخط متعباً جداً وبطيئاً جداً وتنشأ عنه أخطار الأولاد المستعدين لتشويه الجسم والكزاز (الشنج) الذي يصيب الكتاب أما الخط المائل فإنه يكتب على صورة أسهل من المستقيم ولذلك يقل إتعابه للولد وتكون به جلسته أكثر انضباطاً وهذه(53/83)
الطريقة هي التي يفضل تعليمها في المدارس وأن الخط المستقيم لا يحول دون حسر البصر كالخط المائل أو المنحني.
نصائح للمعلمين والمتعلمين
كتب أحد المشتغلين بتربية العقول أن التربية المدرسية يجب أن لا تختلف عن التربية البيتية فيفرض على التلامذة أن يعنوا بأسباب الحشمة والحرية والإرادة والنظر والتعقل وهكذا يتعلمون ما يجب بأنفسهم ولأنفسهم قال وإياك أيها التلميذ أن تحاول الرجم بالغيب فالتكهن هو صورة من صور الكذب. والتفت الكاتب إلى الأساتذة فنصح لهم أن يحترموا شخصية تلامذتهم كل الاحترام وأن يدركوا معنى التبعة التي تنوء عليهم ويقولوا في أنفسهم أن المدرسة إذا لم تسر سيراً حسناً فذلك ناشئ من المعلمين لا المتعلمين فعلى الأستاذ أن يحذر الغفلة والتوسع في الرحمة كالتوسع في الشدة وأن تكون مطالبهم من المتعلمين بحسب سنهم فيجب أن لا يخافهم التلميذ ولكن لا يبغضهم أن تكون تربيتهم استقلالية لا اتكالية أي لا كحالة الموظف مع سيده. وهنا وجه كلامه إلى المديرين فقال عليكم ألا تنسوا أن الواجب أن يعامل الناس بأكثر مما يستحقون.(53/84)
العدد 54 - بتاريخ: 1 - 8 - 1910(/)
الجن
عند غير العرب من أمم الشرق والغرب.
طالعنا في مجلة المقتبس الغراء ما حاكت بروده وطرزت بوده يراعة صديقنا الأبر الفاضل الشيخ جمال الدين القاسمي بقية أعلام دمشق عن اعتقاد العرب في الجن وما ورد في أسفار الدين وأشعار النابغين وأقاصيص السلف من الأحكام والنوادر والآثار الحاكية عنهم على وصفهم وأحوالهم فراقنا منها حسن التبويب ودقة النقل وبراعة اللهجة ووضوح المنهاج وسعة الاستيعاب إلى غير ذلك مما لا يستثكر في جانب ما هو مشهود من فضل الشيخ أعزه الله وحدانا الإعجاب بما هنالك إلى تحبير مقالة موجزة تكون لها كالتكملة تأتي على ما عند غير العرب من أمم الشرق والغرب من أمثال هذا الاعتقاد. وهو موضوع بكر لم يتسور جداره فيما نظن مفترع قبل ولم يحو حوله قلم شرقي على ما اتصلت إليه مطالعاتنا حتى اليوم.
ولقد بذلنا جهد المستطيع تنقيباً عن مواده المستترة في ثنايا الصحف والمبعثرة في زوايا المطولات وتخيراً للأصح من المصادر والأصدق من الروايات فجاءت مقالتنا_على ما نعهده بذاتنا من الضعف_طرفة يرغب فيها وأمنية يسعى إليها وما أحراها أن تكون مع رسالة الشيخ سفراً مستقلاًَ يرجع إليها عشاق الدراسة والاستبصار من ناشئة الوطن وأدبائه فإن أتيتم على هذه البغية كنتم من المحسنين.
تمهيد.
كثر عداد من يزعمون أن العرب هم المتفردون دون سائر الناس في الاعتقاد بالجن اعتقاداً دينياً سنداً إلى ما ورد في كتابهم الموحى من صريح النصوص القائلة بوجودهم_كما في سورة الرحمن والأحقاف والجن_وتوارثاً لما ورد في أقاصيص الجاهلية مما دونه الثقات وأثبته المؤرخون وأتى على بيانه الشيخ بحيث لم يبق مجال لتفصيل وتعليل. وفي ذلك الزعم من الخطأ والوهم وا لا يحتاج إلى دليل فإنك لو رجعت إلى كتب الأمم القديمة من كل بيئة وجنس ومذهب لرأيت في تضاعيفها ما يؤيد كون الاعتقاد بالجن كان منتشراً بين البشر مستفيضاً في كل قبيلة وفصيلة وشعب ممن أهل بهم المعمور من الأرض شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً باديةً وحضراً لا يستثنى منه قوم ولا تبرأ منه أمة ولكن على تباين(54/1)
في الآراء واختلاف ببعض الفروع.
فالظاهر أن الاعتراف بوجود أرواح يتوقع شرها كالإقرار بوجود آلهة يرجى خيرها إنما هو من مقتضيات هذا الكيان الإنساني لا محيد عنه لكل ذي لسان ناطق يرشده العقل إلى أنه من أهل الخلود وأنه ضيف مجتاز في حكم هذا الوجود وإلا فما بال الأمم على تباعد أنحائها واختلاف آرائها وتغاير مذاهبها وتناقض مشاربها تجمع على هذا الأمر اجتماعاً باتاً كأن أفرادها متواطئون عليه_منذ كانوا في عالم الغيب_فكلهم يقول بإله يثيب وشيطان يكيد وجن تخيف ونفس بين ذلك تتنازعها عوامل اليأس والرجاء ويبدو لها أنها بنت البقاء دون سائر ذوات الأرواح التي تقلها الغبراء وتظللها السماء وينعشها الهواء وإن كانت محاطة مثلهن بأسباب الزوال محكوماً على هيولاها المراكب بالانحلال وشخوصها المتحركة بالجمود ثم الفناء.
على هذا نشأت الناس وعلى هذا اجتازت عالمهم برزخي الحياة والموت ألوفاً مؤلفة من السنين قال بعضهم أنها عشرات الألوف وقال آخرون أنها ملايين حتى جاءنا الطبيعيون من متفلسفي هذا العصر_عصر الاكتشاف والاختراع_يجلسون على منصات القهارمة والأساطين وينشدون مع أبي نواس شاعر العباسيين:
ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة من مات أو في نار
ويقولون مع أبي العلاء:
ومهما عشت في دنياي هذي ... فما تخليك من قمر وشمس
* * *
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعادله سبكُ
وأتنه لا شيء في هذا الكون غير هذه المادة التي يتعاورها التركيب والتحليل ويتداولها الدثور والتمثيل_مع بقاءٍ في الكم وتغيير في الكيف_وأن القول بما وراء المادة من قوة تدير الحركات وهي علة الموجودات منها استمد الناس أرواحاً سرمدية إنما هو من أوهام الواهيمن وتخليط فما نحن وسائر من يتحرك بالإرادة إلا من ماءٍ وطين ولا يحيينا ويميتنا إلا الدهر!!
فأين هذا من ذاك؟ وما هذا الانقلاب العجيب والانعكاس الغريب؟ وأية منفعة من قول جعل(54/2)
العامة من الناس_وهم تسعة أعشارهم بل يزيدون_في أودية من الحيرة يهيمون وفي ظلمات من التردد والشك يخبطون لا يرون لأنفسهم مما ألقوهم في مهاوية مخرجاً ولا هم يهتدون.
رويدك أيها العصر عصر الحضارة والنور. وعلى رسلكم يا معاشر العلماء. أرباب الحصافة والذكاء. وحنانيكم يا من أكثروا من العمق والتبحر. واسترسلوا في الاستقراء والاستنتاج. وبحثوا في الجراثيم والذرات. وتكلموا عن الحويصلات والنقاعيات. وبرهنوا على كون السديم أصل الكائنات. والإنسان سليل من نوع القردة أو ما يشاكلها من ذوات الفقرات. ورحماكم يا أصحاب دارون وأولياء سبنسر وأشياع بخنر وتلامذة هكل وإن كان فيكم فيلسوف كفرشيما وحكيم وادي الفريكة ومتهوسو وادي النيل إننا أيم الله لسنا من يقف في سبيلكم فيما تستوحون أسراره من الأحكام والنواميس وتحاولون إجلاءه من الغوامض والمشكلات أخذاً عما تلقيه عليكم الطبيعة أمكم وأمنا من الدروس والأمثولات طبقاً لما تبعثكم إليه ميولكم وأهواؤكم. ولكن لنا كلمة نقولها الآن لكم بعد إذ كنا نتداولها بيننا همساً ونهجس بها سراً فإن أصختم إليها سمعاً واستوعيتم لها قلوباً وجربتم بمقتضاها بعد اليوم عددناكم كراماً وقلنا سلاماً وإلا فما على من استحكمت الأيبوخاندريا في معدته واستولت السوداء على دماغه من سبيل.
ليس من ينكر أن المصلح العاقل من هدى بعلمه لا من ضل. ومن أراح لا من أتعب فيا حبذا_يا أصحابنا_الجهالة أنها خير من هذه المعرفة الناقصة التي تعجلتم بها إلى نقض الأديان وتقويض أركان العقائد وتمتين دعائم التعطيل والجحود قبل أن تنضج آراؤكم وتجمعوا على ما إليه ترمون وعليه تتهافتون من بث بذور الكفر في القلوب وتعبدكم للطبيعة التي أصبحتم لكثرة دراستكم لها ومزاولتكم علومها أعلق بها من جنود بونابرت بمدافعهم أولئك الذين كانوا لكثرة اصطحابهم لها وتهوسهم باستعمالها والاحتفاظ بها يسمونها بأحب السماء إليهم ويعانقونها ويقبلونها كأنها من الغانيات الفاتنات وكذلك أنتم الآن فإن توفركم على تلك الدراسة وانصرافكم إلى استحياء دقائق الهيولى مستحكين الصامت من قواها وعناصرها غير منكفين عن مناغاتها ومباغمتها أناء الليل وأطراف النهار وقد استهواكم واستدرجا بكم إلى تأليه هذه المادة الجامدة حتى صرتم تحسبونها كل شيء أو(54/3)
قبلها شيء بحيث لو أمكنكم أن تحذفوا مذ الآن من كل معاجم الأرض ما حوته من الألفاظ الدالة على الخلق والإبداع والصمدانية والقدرة والبعث والخلود لفعلتم.
فيا أسفاً على الهمجية إذا كان مأتاكم هذا من نتاج المدنية ويا حسرة على الجهالة إن كان ذلك من مستلزمات العلم. أفتتركون ألفاً وستمائة مليون من الناس حائرين بائرين لا يدرون بم يعتقدون وأي جهة ينتحون فلا رأيكم تثبتون ولا عن قولكم ترجعون!!؟؟.
تالله إننا معكم لفي صفقة مغبون وما أنتم إلا غادرون وإلا فما هذا التغرير الذي يجعل كلاً من أفراد هذا المجتمع القومي يحيا بلا ضمير يسرق مستتراً ويثلب متخفياً ويقتل متوارياً وينتحر قانطاً وما عليه من وجدانه قيم ولا من دينه زاجر ولا في الآخرة على زعمه من نكير!!!
لعمرك أن العامي الذي لا يتوقع في الآخرة عن عمله حسابا ولا يرجو عن حسناته ثواباً ولا يخشى مهما تعددت سيئاته وتعاظمت كبائره عقاباً إلا إذا كانت مشهودة من الأنام مثبتة لدى الحكام ثم يحسب ذاته في هذه الحياة الدنيا كالنبات الفطري حتى إذا مات لم يعد شيئاً مذكوراً. لا يلبث أن يكون لعنة على الأرض وسخطاً من السماء لا يحفل بالمحظور والمباح ولا يبالي بالحلال والحرام بل يقضم الأخضر واليابس ويجتاح العامر والغامر وهو يقول على الدنيا السلام.
فالعالم حريص على منفعة بني نوعه الدائب على خير قومه وبلاده من اشتغل بما يريد من أنواع العلم ما يشاء على ما يشاء وأن يعتقد لنفسه بنفسه ما أحب كيفما يحب لكن على شريطة أن ينشط لتمتين أوتاد العقائد وتأليف شوارد المذاهب مع تنزيهها عما لحقها من الزوائد ولصق ببعضها من الخرافات تاركاً للجاهل وازعاً من دينه يجنبه الموبقات ورادعاً من ضميره ينكبه المنكرات وما ضر العاقل أن يكون ذا دين مثله مادام الدين لا يكلفه الشطط ولا يعنته بكثرة التكاليف وقد أباحه من طريق الحلال كل ما منعه عن طريق الحرام فلا يقفل في وجوه ملاذه وأمانيه الأبواب ولا يطالبه بأكثر مما يتقاضاه العقل ويرضى به الصواب.
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالوبال عليكما
أو على الأقل يترك الأديان وشأنها والعقائد وحالها يتحارسها زعماؤها ويصونها أئمتها(54/4)
وعلماؤها_فلا يتعرض لها ولهم في أقواله ومنشوراته بما يعبث باليقين ويولد الشكوك ويبعث على الحيرة أو المروق من نزعات ومعارض وترهات وأدلة وبراهين وأقاصيص لا قوام لها حتى اليوم إلا النزق والسفسطة ولا ركن إلا الخيال والهوس يراد بها التفرد بالشهرة فيما يخالف فيما أجمع عليه الناس وإن كان حقاً تواطأت على وجوبه العقول وإن كان صحيحاً غير مفكر بما ينجم عن أضاليله وسفاسفه من تشويه النظام وضياع الأحكام وانتشار الفوضى والعود بالعالم الإنساني إلى الزمن الذي كان آباؤنا يضارعون برابرة الأوقيانوس الهندي وأواسط أفريقية حالاً وقالاً وخلقاً وأوضاعاً. متصيداً بأحاييله الإبليسية وبهتانه المزخرف ما حقائب بعض من أوتوا مالاً ولم يرزقوا عقلاً من دينار مكنوز ثم ينفقه على تمثيل أسفار ورسائل يطبع منها الآلاف من النسخ ثم توزع على الناس_ولاسيما الناشئة الأدبية منهم_مجاناً قصد إشراب قلوبهم تلك المبادئ الفاسدة وإيداع نفوسهم تلك الحماقات السخيفة التماساً للشهرة على ما ألمعنا من طرق التعميم في الإذاعة والتوسع في الإبلاغ كما فعل بعض هؤلاء المفتونين_بحب الطبيعة_هذه الأيام ففعلت نفثاته السامة في أدمغة البعض ما لا يتوقع العاقل قيامه إلا قيام دولة الشهوات وانثلال عروش الآداب وتقويض أركان الديانات وانتشار الإباحية والعدمية إلى غير ذلك من بواعث الهلكة والانقراض والبوار لولا أن يأبى الله إلى أن يعيد كيده إلى نحره بأن قيض له من أهل التبصر والاعتبار والعلم الصحيح من يكشف بصائر أهل الغرور بما يريهم عياناً زيف درهمه وزغل ديناره فإن ألحق أبلج وضاح. والباطل لجلج فضاح وإن كره الماكرون.
يقول المتعنتون من هؤلاء الملاحدة المتحذلقون_سنداً على ما سجله التاريخ من أنباء حروب وفتن واضطهادات كان منشئها الظاهري التباين في المذاهب والاختلاف في الدين.
إن الديانات ألقت بيننا إحناً ... وعلمتنا أفانين العداوات
فالدين إذن عدو النظام لا نصيره بغيض السلام لا ظهيره!!!
نحن لا ننكر أن كثيراً من المشاغبات والفتن والثورات والحروب والغارات أثيرت باسم الدين ونشبت على حساب الدين ولكن من سبر غور الحقيقة بمسبار النزاهة والإخلاص وتوفرت له سلامة الذوق وصحة الاستنتاج وأصالة الرأي وعدالة الحكم علم_بعد الاستقراء_علم اليقين أن الدين لم يكن المصدر الحقيقي لتلك الموبقات بل أن الباعث عليها(54/5)
في الأصل والمؤدي إليها بالفعل_ما خلا الشاذ_إنما هو شهوات الملوك ولبانات أولي الحكومات ونزوات أرباب السلطات والزعامات الذين من دأبهم_ولاسيما في تلك العصور المظلمات_التذرع بأي وسيلة كانت_حتى التغاير الديني أو المذهبي_لإثارة الفتن وإصلاء الحروب إرادة أن يتهيأ لهم من جرائها تمتين السلطة والتوسع في البسطة والاستفحال في الملك لدواعي أطماعهم اللانهائية وإشباعاً لنهمات أميالهم النفسانية.
فالمرء لا تنقضي آرابه أبداً ... إذا انقضى أرب يصبو إلى أرب
ومن ذا الذي يتجرأ أن يقول ما ينشأ عن سوء استعمال الدين إنما هو الدين؟؟؟
لا جرم أن للحروب والفتن أسباباً جمة قد يكون سوء استعمال الدين أو التذرع بالدين إحداها وقد لا يكون وما أرباب السيادة من خدمة الدين وغيرهم إلا بشر مثلنا قد يسيئون في أمورهم المعاشية وسياستهم الإدارية وقد يحسنون: فما بالنا نلصق بالدين_الذي هو من الله_ما ينجم به وعلى حسابه من مساوئ الناس؟ أفلا تفقهون!!
أجل: إن مطامع أصحاب العروش وتخالف العناصر وتباين الأجناس وطموح المم التي توفرت لها القوى إلى التغلب على المستضعفين ونزوعها إلى التكاثر والاستزادة سواء كان عن طريق الفتوح أو الاستعمار أو الدين هي هي لعمر الحق_في كل آن وزمان_مصدر الفتن ومبعث الإحن وعلة العدوان ومنشأ الحروب التي ما برحت مرافقة حيوة بني الإنسان منذ أصبحوا دولاً وأمماً وجماعات حتى الآن وهي لا تبرح ولن تبرح ملازمة لهم_ولكن على تباين بالكم والكيف_عملاً بناموس تنازع البقاء إلى منتهى الدوران. ومن ماراني في ذلك أتيته من أقوال قهارمة التاريخ وأقطاب العمران وفلاسفة طبائع البشر بما شاء من دليل وحجة وبرهان.
لنسلم جدلاً_ولو بالباطل_أن في عصور التعصب والغباوة والجهل كانت الديانات جرثومة العداوات وأرومة الحروب والثورات ولولاها كان الناس في نعيم مقيم وأمن مكين!! لا بأس عليهم ولا هم يحزنون!!!
ثم تعالوا بنا إلى هذا العصر الحديث عصر التساهل والكياسة والعلم عصر الحضارة والتمدن والنور وعصر الحرية والمساواة والإخاء ولنقف متسائلين هل خلت أممه الأعرق حضارة والأعلى في مدنية كعباً من فتن تثار وحروب تصلى وأطماع تسود وأشرار(54/6)
تتفاقم؟؟
أم هل علاقة للأديان بحرب بروسيا مع النمسا (سنة 1866) أو حرب ألمانيا مع فرنسا (سنة 1870) أو حرب الإنكليز مع الترنسفال واليابان مع الصين وروسيا مع اليابان والبلغار مع الصرب في خواتم القرن التاسع عشر وفواتح القرن العشرين؟؟ كلا ثم كلا.
فليصمت إذن أولئك الذين يتظلمون بتلك السفاسف والترهات تغريراً بالسذج وتمويهاً على الأغبياء وليعلموا أن الاعتقاد بمبدع حكيم يجزي ويثيب مع الاحتفاظ بقاعدة صن دينك واحترم دين سواك هو عماد السلام وركن التهذيب ومصدر الآداب ومصدر الوئام والتحاب: فكيف لا يتقي الله أولوا الألباب!!!
أجل إن في تسود العقائد المبنية على التنزيل والوحي وسلامتها من الشوائب والحشو وتنزهها عن الخرافيات واللغو وترفع أولياءها عن التشيع الشائن والتعصب الضار والتحامل الذميم يستتب الظلام ويسود السلام وتسعد الأنام لا بقول المعري:
أأترك ها هنا الصهباء عمداً ... لما وعدوه من عسل وخمر
فموت ثم بعث ثم حشر ... حديث خرافة يا أم عمرو
وقوله: اثنان من أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخرٌ دين لا عقل له
فإن هذا الفيلسوف الشاعر الضرير رهين الحبسين_حبس العمى وحبس البيت_بعد أن أوحى إليه خياله الواسع ما أوحى فباح بما هذر وجاهر بأنه كفر مطاوعة لما يستولي على أمثاله من أعراض السوداء عاد إليه بض رشده فاستحوذ عليه الشك وخامره التردد والريب فقال متوجساً لعقباه حاسباً حساب أخراه.
في القدس قامت ضجةٌ ... ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق ... وذا بمأذنة يصيح
كل يؤيد دينه ... يا ليت شعري ما الصحيح
ثم لم يمت إلا على دين آبائه كما حقق الثقات من معاصريه خلافاً لمن يتخذون أقواله حجة يؤيدون بها مذاهب التعطيل ويذيعونها بين الناطقين بالضاد هداهم الله.
ذلك ما رأينا إثباته استطراداً في هذا التمهيد كبحاً لجماح من ملئوا الدنيا زياطلاً تشيعاً لأصحاب تلك الأضاليل ممن يتوهمون السراب شراباً والحبة قبة وما أهون ما تخدعهم(54/7)
الزخارف والأباطيل إن ربك بالمرصاد وهيهات أن يفلح حزب الفساد مادام للصلاح فئة من أعلام يعملون هم في الظلمات مشكاة وفي المجاهل والمعاثر هداة وما على منفق جهده من جناح ولا إلى تأنيبه من سبيل.
عود على بدءٍ.
قلنا أن الاعتقاد بالجان قلما خلت منه أمة في غابر الأزمان ومصداقاً لذلك نقول الآن.
ورد في ميثولوجيا الهنود أن أرواحاً شريرة اسمها رقشاشة ومعنى هذا الاسم الجبابرة خلقت قبل الجو والحيوانات وهي ترصد الآجام والمقابر وتتلهى بإثارة الموتى من أجداثهم والتحرش بهم. تأكل لحوم الأحياء من البشر وتشرب دماءهم وتتخذ لها صوراً مختلفة وأشكالاً متباينة ثم هي لا تزال حاضرة عند تقدمة القرابين وذبح الضحايا للآلهة لكي تفسد على الناس شعائرهم وتغري المعبودات على تلك القرابين ورذل مدميها: من أجل ذلك يعد الهنود أشد ضرراً على البشر من سائر الجن.
وقد ذكر في الكتب السانسكريتية القديمة المحفوظة في هياكل الصين وكوريا وسيلان وسائر أمهات المدن المنتشرة في الشرق الأقصى الغاصة بأتباع برهما وبوذة من ذوي الجنس الأصفر أن النساك وخدمة الدين طالما استنجدوا القوى العلوية للنجاة من شرور هذا الصنف الغادر من الجن الكثير العدد وهو مع ذلك لا يزال يزيد نمواً وانتشاراً بزيادة عداد من يموتون من الأثمة أصحاب الكبائر لأن أرواح هؤلاء تكون إلى زمن من نوع الرقشاشة وأشهر هذه الفئة الباغية المنقسمة إلى فرق ومراتب إنما هي رافانا.
وليتك تدري ما رافانا إنما هي روج شرير زائد القحة والجرأة كثير المطامع والشهوات حتى أنه زين له في بعض الأزمنة أن يخضع الأرض وما عليها والهاوية ومن فيها والسماوات ومن فوقها إلى حكمه وسلطانه ويجعل الكيان المطلق عبداً خادماً لرغائبه ومآربه ونزعاته فتمادى جوراً وعسفاً وزاد بغياً وطغياناً حتى أنت من حيفه الأرض وشكت ظلمه الأفلاك واستولى الرعب على قلوب المعبودات في أخدارها والملوك في عروشهم وكان موطن هذا الجني الخبيث في ذلك الزمان لافكا عاصمة جزيرة سيلان.
فساء وشنو العظيم هذا الأمر الجلل ورأى أن يتجسد ثانية لينقذ الأكوان ومعبوداتها من شر هذا الطاغية ويرد إلى المخلوقات طمأنينتها وسلامها فتجسد في الجهة المقابلة في الهند في(54/8)
صورة راما تشندر ابن داسرتا ملك أبوذيا من امرأته كالسيا وبعد أن اتحد مع سوغريفا ملك طائفة القرود على الإيقاع برافانا مضيا إلى الأرخبيل الفاصل بين جزيرة سيلان والبر والتقيا هناك جسراً من الصخر اجتازاه إلى الجزيرة ثم باشرا القتال مع رافانا فلم يلبث الخبيث أمام المعبود المتجسد وحليفه!!! فسقط بين أيديهما هالكاً غير مأسوف عليه.
والرومانيون يقولون أنه يوجد عذراء من الجن كانت تقيم في غابة اسمها أريسيا على مقربة من رومية عاصمة الرومان وتدعى تلك العذراء إيجيريا وأن أحد ملوكهم توما بومبيليوس اتخذها له زوجة فكانت تساعده على قهر الأمم المتوحشة وإدخالها في ربقة الطاعة له والانضواء على عرشه وتشاركه في حل ما أعضل عليه من المشكلات. فلما مات زوجها جزعت عليه أشد الجزع ولجأت إلى تلك الغابة معتزلة حيث كانت تجلس في حضيض جبل ذارفة دموعاً سخية بلا انقطاع فأحزن حالها ديانا إلهة الصيد فرأت أن تحولها إلى عين ماء نضاخة لا ينضب ينبوعها فسميت عندئذ عذراء العيون وشيد بجوارها هياكل للعبادة كانت النساء الرومانيات يقصدونها بنذورهن الثمينة في مواسم معلومة متخذات لها أعياداً يحتفلن بها احتفالاً كبيراً لأنها كانت تحفظهن عند الولادات ويصون مواليدهن من سائر الجن. ولمدينة رومية جني خاص أقام له قدماء الرومانيين تمثالاً من ذهب.
والجرمانيون ومنهم البروسيون وسائر الألمان وكثيرون من التابعين للعرش النمساوي يزعمون أن للمياه جناً يطلق عليه اسم اليفنة ويدعوها الإنكليز مرميده وأهل شمالي أوربا نكسن.
قال سكان سواحل البلطيك أنها تظهر على شكل الخيل على مقربة من ثغور البحار وتداعب من يخرجون القمراء للنزهة والسمر في تلك الشواطئ وكثيراً ما أخافتهم.
أما الألمانيون فيقولون أنها تقيم في نهر البي وأنها أظرف من جن بحر البلطيق وقد تخرج أحياناً من الماء في ليالي الشتاء وتقصد النار التي يتركها رعاة المواشي لتستدفئ بها. وقد طالما نظرت هناك بهيئة نساء جميلات مستترات بشبه براقع لهن وجوه زهر وشعور شقر تسترسل على أكتافهن. وقد يعشق بعضهن الرجال فيخلصن الحب لمن كان وفياً منهم ويساعدنه في ميادين الحرب ويقين شخصه بنفوسهن من سهام العدو ولا تنفك إحداهن(54/9)
مولعة بمن تهوى مرافقة له ساهرة على مصلحته وراحته متحملة معه ما يكابده من برحائه وضرائه حتى الموت. ولكن إذا خانها ولو مرة ذهبت به إلى شاطئ البحر أو إلى ضفة النهر وجذبته بمنتهى قوتها إلى اللجة فتميته غرقاً!!! وهي على ما يقولون ذات صوت غريد مطرب هو_في زعمهم_مصدر حفيف الغابات وخرير الأنهار الذي يؤنس الحزين ويسلي الغريب وكان القدماء من أهالي أوربا الشمالية إذا أرادوا استمالة تلك الجن طرحوا في البحار والأنهار ثماراً وأزهاراً وذهباً ولؤلؤاً وعطراً وطيباً استعطافاً لها وقد وجدوا في بحيرة تولوز أشياء كثيرة مما كان يستعطف بها سكان فرنسا القديمة تلك الجنيات الحسان اللواتي يشبهن في بعض أمورهن بنات الماء اللواتي ذكرهن الدميري في كتابه حيوة الحيوان.
ومن أغرب ما رواه المؤرخون أن سيبيون الروماني لما فتح مدينة تولوز وجد في بحيرتها من الذهب ما وزنه مئة ألف ليبرة ومن الفضة مثله فاستأثر بها.
وقد تحقق أن الغاليين القدماء أجداد سكان جنوبي فرنسا الآن كانوا يرفعون تلك الجنيات الحسان إلى مصاف الآلهة ولذلك اشتد حنق التولوزيين على من خرق حرمة بحيرتهم سالباً حليهن وكنوزهن كما ألمعنا وربما كان لهن في بلادهن غير الأسماء الثلاثة التي ذكرناها قبل.
أما السكندنافيون وهم أهل أسوج أو السويد ونروج وهولاندة أو الفلمنك والدنيمرك فيعتقدون بوجود جن اسمها ألفة أو الفر وهي حاذقة لبيبة ذكية عالمة وتقسم عندهم إلى فئتين.
إحداهما تعرف بالجن الصالحة ويقال لها جن النار أو جن النور تقيم في بلاد الغيم التي يتولاها صاحب الشمس لها وجوه تلمع كالصبح وعيون أجمل من الكواكب وشعر ذهبي يروق مرآه للناظرين والثانية تعرف بالجن الهائلة وتسمى عندهم سفورت الفار وهي عدوة للنور وأشد سواداً من الزفت ذات منظر كريه وتقاطيع شنيعة وأعضاء مشوهة ولا تسكن إلا في باطن الأرض.
وأهل القرون المتوسطة من سكان هذه الممالك السكندنافية كانوا يزعمون أن هذه الجن الأرضية تختطف أطفالاً من أسرتها وإذا أحبت إحداهما رجلاً ذهبت به إلى موطنها تتلذذ(54/10)
بمداعبته ولا تدع له سبيلاً إلى تركها والعودة إلى بلاده: وهم يوقنون كل اليقين أن ملكتهم خطفت السيد توماس السيدون الملقب بالشاعر إلى حماها وحجرت عليه في صرح لها سبع سنين كان فيه تمثال غرامها وكعبة هيامها وهي على ما يرتأون لطيفة المعاني حسنة الطلعة تنسج لها أقمصة وحللاً من نور القمر وتعتم بعمامة في أعلاها جرس وتحتذي برجليها الكافور بتين زجاجاً رقيقاً نقياً شفافاً فإذا عثر إنسان عند انفلاق الصبح على حذاءٍ أو جرس مما تلبسه تلك الجنيات الرائعات المحاسن ملقى على العشب نال من التي فقدته كل ما يتمناه.
وهي تشتو غالباً في كهوف الجبال تعيش فيهات كسائر الناس وتصرف الوقت بمطالعة الأشعار وأناشيد الآلهة وكتب التاريخ وبتطريق الذهب والفضة والأخبار عن مستقبلات الشؤون متخذة لها حلياً من الياقوت والزمرد وكبار اللآلئ. ومتى بدت تباشير الربيع تزايل تلك الكهوف والمغاور متجولة في جوانب الجبال استنشاقاً للهواء العطر والنسيم البليل. وقد تتسلق الشجار لتقطف منها الأزهار والثمار أو لتراقب من يمر على مقربة منها حتى إذا أقبل الليل تجتمع في الحقول متماسكات الأيدي كالحلقة التي تؤلفها نساؤنا ليجلون العروس ثم تأخذ في الرقص والغناء في ضوء القمر. وقد ترعى ماشيتها على ضفاف الأنهر ولا تزال تلك حالها حتى يعاودها الشتاء.
ومع أن الألفة غير منظورة فالمولودون أيام الآحاد يمكنهم أن يروها. وهي على نحافتها وجمالها ولطف بنيتها لها من القوة ما يمكنها حمل أثقل الصخور وأكبرها حجماً ماشية به مسافات طويلة وإذا لمست بيتاً هزته وزعزعته من أسسه ولو شاءت لحملت بيدها رجلاً وسارت به ركضاً ولا تبالي. وهي تحب غالباً شجر البلسان والزيزفون والحور الرومي فمن أحب أن يراها من مواليد يوم الأحد يقصد من تلك الأشجار ما كان منها في سفوح الجبال يجدها تغني على قيثارها العازف تحت رواق ظلها الوارف.
وكان لها في بلاد الإنكليز وسكوتلاندة ملك وملكة وكانت جزيرتا سترن وروجن في بحر البلطيك تحت سلطانهما وقد شوهد هذا الملك يوماً في مركبة يجرها أربعة أفراس ويستدلون على تجوله في مملكته المترامية الأطراف بصهيل الخيل وسواد الماء والضوضاء التي يحدثها أعوانه في طبقات الهواء.(54/11)
واليونانيون القدماء يقولون أن أغينور ملك فينيقية تزوج بالجنية ميلي فولدت له أوروبا فنشأت ذات جمال فتان وبياض ناصع فشغف بها المشتري وتمثل لها بصورة ثور وتزلف إليها كثيراً حتى ركبته معاً بلين قياده فأسرع وهي على متنه نحو البحر وسبح بها إلى جزيرة كريت وهناك اتخذها زوجة فأولدها خمسة صبيان وثلاث بنات وكلهم ابتنوا مدناً وأنشئوا قبائل وعلى هذا يكون الكريتيون من سلالة الثيران والجن فلا عجب إذا كانت نيران فتنهم لا تنطفئ وحركات ثوراتهم لا تسكن.
والروسيون الأقدمون يزعمون أن الفامبيره فريق من الجن يسكنون القبور وهم يثورون ليلاً في المدافن. متفرقين على منازل الأحياء حال نيامهم فيمتصون دماءهم. وإن الديموفوي جني البيوت يتراءى للنساء حال انفرادهن وإن في الأنهار عفاريت تدعى فوريانوي وفي الغابات أبالسة اسمها الياسنك والسلافيون يدعون أن للجن إلهاً خاصاً يسمونه وتشرنو بوغ أي الإله السود وللبشر إلهاً آخر اسمه بباليوغ أي الإله الأبيض.
وأهل جبال البريني أو البرانس يعتقدون أن الجن مقيمة في الغيوم التي تغشى ذروات جبالهم وعلى ضفاف الأنهار الحافلة بالأشجار ولهم فيها أقاصيص طويلة وروايات غريبة لا يحتمل المقام سردها أو استيفاءها.
وأهالي جزائر ملديف يقولون أنه كان يجيئهم في وقت معلوم من ناحية البحر جني كأنه مركب مملوء بالقناديل فلا ينجو من شره إلا بإعطائه فتاة بكراً يتركونها له في بيت الأصنام ثم يصبحون فيجدونها منهوكة ميتة فاتفق أن زار مدينتهم رجل صالح يدعى أبو البركات البربري فلما حان زمان مجيء الجني أخذت النساء يبكين ويندبن فسألهن عن السبب فقالت له عجوز منهن أن لها بنتاً وحيدة بارعة في الجمال أصابتها القرعة بحسب القاعدة الجارية في المدينة وستكون في الغد ضحية للجني فقال أنا أنوب عنها ثم ذهب إلى بيت الأصنام متخفياً وأخذ يتلو القرآن العزيز فلما سمع الجني تلاوته غاص في البحر ولم يعد بعد.
قال ابن بطوطة في رحلته إن هذه الحاد ثة كانت سبباً لدخول أهالي تلك الجزائر في الإسلام وهي يد كبرى تعد لأبي بركات المشهور بصلاحه على أولئك الوثنيين.
واليونانيون يثبتون أن عذارى من الجن اعتنين بتربية جوبيتر وهو طفل فأهدى إليهن قرن(54/12)
الخصب وهو أحد قرني العنزة التي رضع لبنها عندهن.
وهم يقسمون الجن إلى ثلث رتب يرفعون الأولى منها إلى مقام المعبودات وجدها الأعلى عندهم أجينوس باللسان الروماني القديم وهو شخص زفس أو جوبيتر.
وهي تقسم إلى فئات أو قبائل منها البانة والفونة والسانيرة والنيمفة الرتبة الثانية توابع كل شعب وكل مدينة وكل محلة وهم يعتقدون أن مؤلفي هذه الرتبة يموتون ويولدون كسائر الأحياء غير أن حياتهم تستغرق ألوفاً من السنين.
والرتبة الثالثة توابع كل شخص بمفرده وهم الذين يتولون أمور الأفراد ويؤثرون في جميع أحوالهم من معايشهم وعواطفهم وحوادثهم وأمراضهم. وللنساء توابع خاصة يسمونهن جونون.
قال سرفيوس متى ولد الإنسان يسخر له تابعان من الجن أحدهما يرشده إلى ما به الخير والآخر يميل به إلى طرق الشر.
وقال أبوليوس إن النفس البشرية ذاتها تتحول بعد نجاتها بالموت من هيولاها إلى الجن فإن كانت حياة صاحبها صالحة دخلت في عداد الجن الأنيس وبقيت في البيت لحماية ساكنيه وإن كانت شريرة سميت لارفه أي عفريتاً أو جنياً خبيثاً فلا تستقر في مكان واحد ويكون دأبها الإخافة والتهويل وإلقاء الرعب بين البشر والوسوسة والنزع في الصدور إمالة بأربابها إلى الإضرار بأوغوسطوس مادام تابعه يحميه ويذود عن حوضه.
وكان اليونان والرومان عن بكرة أبيهم يقدمون في أعياد مواليدهم نذوراً للصالحين من تابعيهم زهراً وبخوراً وخمراً يضعونها على ضفاف الجداول وتحت ظلال الأشجار في الغابات تكرمة وزلفى ولو استوفينا كل ما ورد عن هاتين الأمتين في أعصرهما الخرافية مما يتعلق بموضوعنا لطال بنا المطال وضاقت عن استيعابه الرسائل بيد أنا فيما ذكرناه عنهما غنى وكفاية.
أما الفرس فيعتقدون أنه يحكم العالم روحان متضادان متخاصمان أحدهما صالح وهو أورمزد والآخر شرير أهرمن وهذان الروحان في خصام دائم ومن غلبة الواحد على الآخر ينتج تداول الخير والشر والنور والظلام والليل والنهار كل يوم.
وما الجن إلا لخدمة أهرمن وحاشيته وسيأتي يوم يظهر فيه ثلاثة أنبياء يفلون جيوش(54/13)
أهرمن ويتلفون أعماله فلا يبقى جني على الأرض فيعيش الناس في سعادة كاملة وسلام دائم يتكلمون بلسان واحد ويعيشون متحدين على نمط واحد ووتيرة واحدة وهؤلاء الثلاثة أنبياء سيولدون من نطفة محفوظة في ينبوع ماءٍ صغير لم يهتد إلى مكانه بعد.
وهاذ الاعتقاد الثنائي مستفيض في الشرق منذ القديم حتى أنه يظهر بالتتبع والاستقراء التقليدي إنه كان على عهد عيلام بن سام بن نوح الذي منه تشعب الفرس وقد سرى إلى عدة شيع ونحل وبدع في القرون الأولى وأصبح ركناً بني عليه مذهب الماني الموسوس الفارسي كما لا يغرب على كل مطلع على تاريخ هذه الأمة.
وقد زعم الفرس أيضاً أن للجن مملكة خاصة اسمها عندهم جنستان أي بلاد الجن ويقولون أنها واقعة في الطرف الغربي من أفريقية وقد طالما سماها شعراءهم بأرض المردة والعفاريت: أما العبرانيون والفينيقيون والكلدانيون القدماء فيقولون أن الجن تدخل في البشر فتبليهم بالجنون وهيب تسكن الأرض وتتراءى للناس بهيئات مختلفة حتى أنها تتلبس بأشكال الحيوانات ويستخدمها السحرة والعرافون للأنباء بالمغيبات وكشف المستورات وكل هؤلاء الأمم يعتقدون كالعرب بالقرينة والتابعة والكهانة والسحر ومن يرجع إلى تواريخهم يجدها طافحة بأخبار وأقاصيص تدل على رسوخ هذا الاعتقاد فيهم منذ قرونهم الأولى شأنهم في ذلك شأن سائر الأمم الشرقية سواء.
أما المصريون فقد كانوا يهبون جني نهر النيل في كل عام عروساً حسناء من فتياتهم استرضاء له واستمداداً لفيضه ويجعلون الحيات والهررة وغيرها آلهة وأنصاف آلهة متخذين العجل آبيس أعظم معبود لهم بناء على كون الزراعة ركن معايشهم وقوام رزقهم في بلادهم فهم يكرمونه ويخصونه بأفضل أنواع العبادات ليمد الثيران من سائر بني جنسه بقوة من عنده تكفيهم مؤونة الحرث والفلاحة التي لم يجدوا إليها سبيلاً في تلك الأزمنة إلا بتسخير البقر.
ومع أن الأقدمين منهم كانوا في طليعة غيرهم من الأمم علماً ومدنية وتهذيباً كانت عقائدهم الخرافية في غاية السخف وقد زادهم فيها استرسالاً اجتياح اليونان ثم الرومان لبلادهم واستيلاؤهم عليها ردحاً من الدهر إذ قد أضيف ما عند هؤلاء من مضحكات العقائد ومبكياتها إلى ما عندهم منها حتى أصبحت مزيجاً جامعاً ما لم تجمعه أمة قبل ولا بعد.(54/14)
هذا مجمل ما ورد متفرقاً في أسفار السلف وأساطيرهم_من كل أمة ونحلة_برهاناً على كون الاعتقاد بالأرواح الخفية كالجن والعفاريت والمردة إنما هو مرافق حياة البشر في قرونهم الأولى من كل جيل وجنس ومذهب ولكن على أنحاء متضاربة ووجوه متباينة واختلاف كثير في وصفها وتكييفها وتعيين قواها وطبائعها وتحديد ماهيتها ومراتب تأثيرها في أعمال الخلق وشؤونهم إلى غير ذلك مما لم يقع عليه الإجماع التام بين شعب وشعب وأمة وأمة.
ومما يجب التنبيه إليه أنه قام في كل صقع وبين كل قوم رجال أفذاذ من أبناء العصور الغابرة قائلين بما يقوله اليوم أكثر علماء الغربيين وبعض الشرقيين من أن هذه الأرواح_الضارة_لا وجود لها إلا في مخيلات الناس وأوهامهم يبعثهم على تصورها والجزم بوجودها ما يتعاورهم من الأماني والمخاوف والانفعالات المتناقضة فيما يعرض لهم من أحوال هذه الحياة الدنيا الكثيرة الكوارث والشجون مضافاً إلى ذلك ما يتوارثونه من عقائد الآباء ويتناقلونه خلف عن سلف من ترهات وعجائزيات قد أبان على تبجينها في أذهانهم ما أسدله الجهل على بصائرهم من كثيف الحجب في أعصر الظلمات ولاسيما أثناء القرون الوسطى التي استحكمت فيها المنازعات الدينية والأحن المذهبية_مسببة عن أطماع الملوك_حتى ألبست الأرض أرجواناً من الدم.
فما بدأ يتفجر في أفق العالم الغربي نور العلم الصحيح المبني على التثبت والاستقراء الحسي حتى أخذ يتقلص في تلك الأصقاع ظل الاعتقاد بوجود أرواح تتأثر بني الإنسان متداخلة في أمورهم ومصايرهم فاعلة في شواعرهم وهواجسهم ضاغطة على حركاتهم وسكناتهم في معايشهم ومرتزقاتهم وكان ذلك في أواسط القرن الثامن عشر حتى إذا أشرف محيا القرن العشرين من نافذة الدهر تلاشى أو كاد مذهب من يرى أن في العالم المحجوب قوة تناوئ إرادة الله وتناهض عباده كما يزعم الثنائيون من الأمم ومعظم المتدينين من الفلاسفة والمفكرين في أيامنا هذه يذهبون إلى أنه قبل انقضاء هذا القرن قد لا يبقى على وجه البسيطة من يصدق بوجود فاعل فوق الطبيعة غير الحق عز وجل وهو سبحانه أعلم بما يتخرصون.
دمشق:(54/15)
سليم عنجوري.(54/16)
حمة أبي رباح
لم يكتب أحد من المتقدمين من علماء العرب وغيرهم في تاريخ هذه الحمة أو موقعها أو وصفها وصفاً علمياً مع ما لها من المكانة التاريخية والطبيعية كما أنه ليس للباحثين المتأخرين من الغربيين والسوريين مقال في هذا الباب يرجع إليه أو شرح يستند عليه.
ولقد كان بودي أن أقف على كلمة من هذا القبيل لتكون لي دليلاً في سبيل ما أريد تسطيره وحجة تؤيد ما أعلمه في هذا الموضوع وأروم تحبيره إلا أنني لم أجد كتاباً يذكر ما أردت وينبئ ما رمت فما وسعي إلا أن أعود إلى ما أعلمه عن هذه الحمة بالاختبار مجداً في تطبيقه على الفن الحديث ومستدلاً على تاريخه بما عثرت عليه فيها من الأبنية والآثار القديمة بقدر الإمكان.
مركزها الجغرافي_أبو رباح جبل من كورة حمص من عمل ناحية القريتين يبعد عن الأولى أربعين ميلاً إلى جهة الشرق وعن الثانية تسعة أميال إلى الشمال الغربي يشرف على ضيعة يقال لها الغنتر من أملاك عبد المجيد آغا سويدان مدير ناحية حسية (أيكي قبولي) الحالي ورئيس أسرة سويدان المعروفة ويحده من الشمال أراضي (الشومرية) وهي جبال قل فيها المنبسط ذات تربة جيدة وأرض خصبة منبتة وفيها بعض القرى المستحدثة وكانت من أملاك السلطان السابق ويسمونها الآن (الأملاك المدورة) ومن شماله أيضاً البلعاس وهي كورة من كور حمص فيها حرج من شجر البطم يبلغ طوله تسعين ميلاً من الغرب إلى الشرق ويحده من الشرق طريق القوافل بين الشام وتدمر ثم الجباة وهي مزرعة لنا ذات مياه وقد أوقع سيف الدولة فيها بقبائل البادية وذكرها المتنبي بقصيدة يمدح بها المشار إليه حيث قال:
ومروا بالجباة يضم فيها ... كلا الجيشين من نقع أزارا
ومن الجنوب الغنثر والجباة المار ذكرهما ومن الغرب الشومرية والفرقلس وهي قرية من الأملاك المدورة ذكرها ياقوت الحموي فقال أنها اسم مياه قرب سلمية بالشام والأصح أنها أقرب إلى حمص من سلمية.
مركزها الطبيعي_إن هذا الجبل بركان لا ثائر ولا منطفئ لأنه لو كان ثائراً لأهلك القرى المجاورة له وقضى على الأرواح والأجساد مما يقذفه من الحجارة والحمم ولو كان منطفئاً لما صعد منه البخار الذي يراه منه الناظر من مسافة بعيدة متفرقة في الجو. ومعلوم أن(54/17)
الأرض كانت جسماً يكاد يكون سيالاً يتلظى قبل وجود الإنسان والحيوان والنبات على سطحها ثم برد سطحها وبقي جوفها شديد الحرارة والسبب في ثوران البركان هو هذه الحرارة والماء والمواد المعدنية الحارة في جوف الأرض فإذا ما اختلط الماء بالمواد المعدنية الحارة تمدد ورفع ما فو قه ثم يزداد الضيق عليه من الحرارة وثقل الأرض وعندما يشتد دفعه ينفجر ويقذف الحمم والصخور والبخار ويجعل الصعيد المستوي جبلاً راسياً مما يرمي به تلك الأجسام ولكن إذا فقدت المواد المعدنية وظل الماء جارياً تسخنه حرارة باطن الأرض الطبيعية البالغة ألفي درجة أو أكثر وكانت الأرض بركانية من قبل لا يصعد من أفواهها غير البخار كما يشاهد في أبي رباح هذا إذ يسمع الإنسان الواقف عند فوهته صوتاً كهدير البحر ويرى البخار يتصاعد منها كبخار الماء المغلي في المرجل.
فمن هذا يتبين لنا أن أبا رباح كان بركاناً ثائراً في العصور الخالية ودام ثورانه ردحاً من الزمن إلى أن انتهى ما في جوفه من المواد المعدنية وبقي الماء والحرارة الطبيعية المسببان لصعود بخاره الحار.
نظرة تاريخية_اتضح مما قدمنا أن هذه الحمة بركان نفدت مواده المعدنية الحارة منذ ألوف السنين وصارت إلى ما هي عليه اليوم عبارة عن فوهة وسط جبل يتصاعد منها بخار مائي ليس إلا. ثم جاء الأقدمون وبنوا فوق هذه الفوهة حماماً يستشفون به من الأسقام والأمراض ولكن من هؤلاء الأقدمين الذين شادوا هذا المعهد الكبير النافع؟. .
سؤال نقف عنده إذ ليس لدينا من الأدلة التاريخية إلا الآثار الموجودة التي ستستنبط منها ما يكون موافقاً للأحكام التاريخية فنقول: سكن هذه البلاد كما روى التاريخ من الأمم ذات الحضارة والمدنية والسلطة الكنعانيون والآراميون واليونانيون السلوقيون والتدمريون والرومانيون والمسلمون فالأمم الأربع الأولى هم سكان البلاد الأصليون والاثنتان الباقيتان هم الفاتحون الذين قطنوها بعد الفتح فأي أمة من هذه الأمم قامت بتشييد هذا المحل يا ترى؟ المسلمون؟. . لا لأن الآثار الموجودة ليست من أيامهم بل هي أقدم منهم بقرون عديدة كما أنها ليست من أعمالهم ولو كانت ذلك لدنوها في كتبهم وكذلك الرومانيون لم يكون إلا أمة فتوح واستعمار لا أمة علم وفن ولم يبرزوا إلا في بناء المعاقل والحصون في الصحاري لصد صدمات المهاجمين وقلما تنفع دولة مستعمراتها كما تفيد ممالكها الأصلية(54/18)
ومع كل ذلك نرى أثراً من تلك الآثار المتباينة في طراز هندستها وقدمها على نسق الأبنية الرومانية ذات العقود والقناطر قائماً على يمين الحمة بمسافة عشرات من الخطوات وهو أحدث الآثار الباقية المتداعية الأركان.
وإذا أمعنا النظر في هذه الآثار ندرك أنه ليس للكنعانيين والآراميين من صنعة فيها وربما أقاموا في ذلك المكان حيناً من الدهر حتى داهمتهم الحمم الصادرة عن جوف الأرض إبان ثورانها فأزهقت نفوسهم ودفنت مساكنهم إذ يبصر المرء هنالك آثاراً طامسة تغشاها الحمم والأنقاض الدالة على الثوران في غابر الزمان.
وهنا لم يبق لدينا سوى تينك الأمتين السلوقية والتدمرية ولا مناص من نسبة هذا الحمام وما يجاوره من الأنقاض إلى إحداهما أو إلى كليتيهما لأن الأمة السلوقية كانت ربة علم وفلسفة لا يفوتها استخدام مثل هذا البخار للمنافع الصحية وكذلك الأمة التدمرية على ما نعرفه ويعرفه الخاص والعام فإن لنا في مدينتها العظمى شاهداً عدلاً على ما بلغته في الصناعات والترقي في الفنون وناهيك بأعمدتها الباسقة التي كانت تجري من فوقها الأنهار فأمة مثل هذه لا يعوقها جعل بركان قريب لعاصمتها حماماً يزيل ما في الأبدان من الأوجاع والأوصاب.
فكلتا الأمتين كان لهما في حلبة المعارف أفكار سامية وفي مضمار الرقي عقول نيرة ثم دالت دولتهما وهما ينشدان:
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
أي لعمر الحق أنها لأثار تدل على ما كان لهم من اليد الطولى في الفنون الجميلة والصناعات البديعة كما أن قيام هذا الحمام ليس عن عبث أو سائقة طبيعية بل عن علم صحيح وعقل رجيح فإذا حققت النظر في مبانيه الخربة وجدت أنها كانت في عهدها الزائل مستوفاة الشروط الطبية داخلاً وخارجاً مما نعجز نحن أبناء القرن العشرين عن الافتكار بمثله ولو بعد حين.
وفوق كل هذا إنني أرجح نسبة هذه الآثار إلى التدمريين لمشابهة أنقاضها لأنقاض مدينة تدمر وقربها منها ولما يتواتر على السنة الأهلين في تلك الأنحاء من أن هنالك ساقية قديمة تنتهي إلى المدينة المذكورة.(54/19)
نبذة صحية_لو كنت طبيباً لفحصت هذا الحمام من وجهته الطبية والكيماوية فحصاً دقيقاً وعلمت ماهية بخاره ومقدار درجات حرارته ونتيجة تحليله ولكني لا أطيق التطفل على موائد الطب فأقتصر على ما أعلمه من شفائه للمصابين بالأمراض العصبية عامة وتيبس الأعضاء والتشنج خاصة.
وفاتنا ذكر ما هنالك من المناظر غير الفوهة التي بني عليها الحمام وفيها منفذان أحدهما يتداوى به الصم بوضع آذانهم على فيه والثاني يؤمه العقيمات من النساء لدفع الأسباب المانعة من حبلهن بقعودهن القرفصاء عليه ولا أخال الأطباء يقولون بخرافة هذه الطريقة لأن البخار إذا ما دخل الأذن وبيت الولادة يطهر ما فهيما من الأوساخ إن كان ثمة ذلك والله أعلم
لمحة إدارية اقتصادية_ليس من ينكر أن مثل هذه المعاهد إذا عني بإصلاحها تأتي بدخل عظيم ولكننا أمة قدر لها أن تكون في الأعصر الماضية خاملة لا تهتدي إلى طرق غناها ولا تقر بمقدار ثروتها التي هي تحت تصرفها وفي حوزتها فترى المال الذي في جبالها متروكاً والممزوج بتربة سهلها منسياً ومن جملة المهملات هذا المكان الذي نحن بصدده وهو لم يزل خراباً يباباً يلجأ إليه لصوص الأعراب وجناتهم فلو لحظ بطرف الاهتمام قليلاً وأرسل إليه طبيب كيماوي يحلل بخاره ويشرح فوائده الصحية بقرير شرحاً وافياً ومهندس يخطط لاعتماره مصوراً كافياً ثم تنشأ فيه أماكن منتظمة تسر القاصدين من المرضى وغيرهم بعد بناء مخفرة للجند تمنع المعتدين من أهل البادية وتلزمه الحكومة إلى شركة أو متمول لقاء مبلغ من المال لكانت تستفيد منه وتفيد فتنشر الأمن في تلك الربوع وعساها فاعلة عن قريب وعسى أهل العلم لا يضنون علينا بما يكشف الغامض من هذه الحمامات البخارية.
فارس فياض.(54/20)
مناظرة القنائي والسيرافي
من المناظرات الجميلة بأسلوبها وجمال إنشائها ما جرى بين متى بن يونس القنائي وبين أبي سعيد السيرافي نقتبسها من الجزء الثالث من معجم الأدباء الذي صدر مؤخراً ليطلع القراء على أفكار الفيلسوف وأفكار نحوي وها نحن نقدم قبل إيراد المناظرة مختصر ترجمة المتناظرين وناقل كلامهما ليكون القراء على بينة مما يتلو كلامه.
أما متى بن يونس أو يونان أبو بشر وهو من أهل دير ممن نشأ في أسكول مرماي قرأ على قوقري وعلى روفيل وبنيامين ويحيى المروزي وعلى ابن أحمد بن كرنيب وله تفسير من السرياني إلى العربي وإليه انتهت رئاسة المنطقتين في عصره وكان نصرانياً وتوفي ببغداد يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وثلثمائة ولمتى من الكتب مقالة من مقدمات صدر بها كتاب أنالوطيقا كتاب المقاييس الشرطية وشرح كتاب إيساغوجي لفرفوريوس.
وأما أبو سعيد الحسن السيرافي فيتلخص مما قاله ياقوت في معجم الأدباء أن سيراف بليد على ساحل البحر من فارس كان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد فسماه أبوه أبو سعيد عبد الله وقال أبو حيان في كتابه الذي ألفه تقريظ أبو عمرو بن بحر وقد ذكر جماعة من الأئمة كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم ابو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو الفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر له على زلة وقضى ببغداد وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني فما جاراه فيه أحد ولا سبقه إلى تمامه إنسان هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرواية صام أربعين سنة وأكثر الدهر كله ومات 368.
هذا أما أبو حيان التوحيدي فهو المتكلم الصوفي صاحب المصنفات ومنها كتاب البصائر والإشارات وغيرهما وكتاب المقابسات وكان إماماً في النحو واللغة والتصريف فقيهاً مؤرخاً وصفه ابن النجار أنه كان فقسراً صابراً متديناً وأنه كان صحيح العقيدة إلا أن بعض المؤرخين رموه بالكذب وقلة الدين والمجاهرة بالبهتان وإنه تعرض لأمور جسام والقدح في الشريعة والقول بالتعطيل قال ابن الفارس:
ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدخله ويخفيه من سوء الاعتقاد(54/21)
فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعداءه ونفق عليهم بزخرفه وأفكه ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته وما يبطنه من الإلحاد ويرومه في الإسلام من الفساد وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه ومات في الاستتار.
وعده أبو الفرج ابن الجوزي في تاريخه أحد زنادقة الإسلام الثلاثة وهم الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء قال وأشدهم على الإسلام أبو حيان لأنه جمجم ولم يصرح. قال السبكي أنه وقع على كثير من كلامه فلم يجد فيه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس مزدرياً بأهل عصره ولا يوجب هذا القدر. قلنا وما كان طلب الصاحب ابن عباد لأبي حيان إلا لأن هذا وضع كتاباً سماه مثالب الوزيرين ضمنه معايب أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد وتحامل عليهما وعدد نقائصهما ومن كتبه أيضاً الإمتاع والمؤانسة في مجلدين وكتاب الصديق والصداقة وكان موجوداً في السنة الأربعمائة.
وإليك الآن هذه المناظرة الغريبة.
قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى واختصرتها فقال لي اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة هؤلاء الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه وتوعى فوائده ولا يتهاون منه في شيءٍ فكتبت:
حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلثمائة قال الوزير ابن الفرات للجماعة: (وفيهم الخالدي وابن الإخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن أبي رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فارس وابن رشيد وابن العزيز الهاشمي وابن يحيى العلوي وابن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان) أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده وأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا فقال ابن الفرات: والله إن(54/22)
فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما ذهب إليه وإني أعدكم في العلم بحاراً وللدين وأهله أنصاراً وللحق وطلابه مناراً فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال: اعذر أيها الوزير فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الجامدة والألباب الناقدة لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة ويجتلب الحياة والحيا مغلبة وليس البراز في معركة غاصة كالصراع في بقعة خاصة.
فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك والانتصار لنفسك راجح على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره هجنة والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير ونعوذ بالله من زلة القدم وإياه نسأل حسن التوفيق في الحرب والسلم ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطؤه على سنن مرضي وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه وفاسد المعنى من صالحه كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح.
فقال له أبو سعيد: لأخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل هبك عرفت الراجح منت الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص وأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون والى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد وبقيت عليك وجوه فأنت كما قال الأول:
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء.
وبعد فقد ذهب عليك شيءٌ هاهنا ليس كل ما لدينا في الدنيا يوزن بل فيها ما يوزن وفيها ما يكال وفيها ما يذرع وفيها ما يمسح وفيها ما يحزر وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضاً على ذلك في المعقولات المقروءة والإحساس ظلال العقول وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها(54/23)
من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه وأن يتخذوه حكماً لهم وعليهم وقاضياً بينهم ما شهد له قبلوه وما أنكره رفضوه. قال متى: إنما يلزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه. قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة إنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق وطلكن ليس الأمر هكذا ولقد موهت بهذا المثال ولكم عادة في مثل هذا التمويه ولكن ندع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة. قال: نعم. قال أخطأت: قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بل أنا أقلدك مثل هذا. قال أبو سعيد: فأنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى علم تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان فكيف صرت تدعو إلى لغة لا تفي بها وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متهولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية. قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق. قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت وقومت وما حرفت ووزنت وما جزفت ولا نقصت ولا زادت ولا قدمت ولا أخرت ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام وإن كان هذا لا يكون وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني فكأنك تقول بعد هذا لا حجة إلى عقول يونان ولا برهان إلا ما وصفوه ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصناعة ولم نجد هذا عند غيرهم. قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى فإن العلم مبثوث في العالم ولهذا قال القائل:
العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث(54/24)
وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض ولهذا غلب علم في مكان دون مكان وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة وهذا واضح والزيادة مشغلة ومع هذا فإنما كان يصح قولك ويسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة الظاهرة والبينة المخالفة وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم والحق تكفل بهم والخطأ تبرأ منهم والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممن يظن بهم وعناد ممن يدعيه عليهم بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال وليس واضع المنطق يونان بأسرها إنما هو رجل منهم وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير وله مخالفون منهم ومن غيرهم ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث في المسألة والجواب سنخ وطبيعة فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيءٍ يرفع به هذا الخلاف أو يحله أو يؤثر فيه هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منط قه على ما كان قبل منط قه وامسح وجهك بالسلوة عن شيءٍ لا يستطاع لأنه مفتقد بالفطرة والطباع وأنت فلو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها وتدرس كتب يونان بعادة أصحابها لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان وها هنا مسألة: أتقول أن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة. قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيءٌ يرتفع به الاختلاف الطبيعية والتفاوت الأصلي. قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً. قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع دع عنك هذا أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب ومعانيه متميزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه وهو الواو وما أحكامه وكيف مواقعه وهل هو على وجه واحد أو وجوه. فهبت متى وقال: هذا نحو والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو وبالنحوي حاجة إلى المنطق لأن المنطق يبحث عن المعنى والمنطق يبحث عن اللفظ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ واللفظ أوضح من المعى. قال أبو(54/25)
سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والأنباء والحديث والأخبار والاستخبار والعرض والتمني والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة ألا ترى أن رجلاً لو قال نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح وأبان المراد ولكن ما أوضح أوفاه بحاجته ولكن ما لفظ أو أخبر ولكن ما أنبأ لكان في جميع هذا مخرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه ومستعملاً للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى وإن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان يقفوا أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان لأن مستعملي المعنى عقل والعقل إلهي ومادة اللفظ طينية وكل طيني متهافت وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها وآلتك التي تزهى بها إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار ويسلم لك بمقدار وإن لم يكن لك من بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة بك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف فإني أتبلغ بهذا القدر إلى إغراض قد هذبتها لي يونان. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات كهذه الأسماء والأفعال والحروف فإن أخطأت والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة على أن ها هنا سراً ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو أنتعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف فمن أين يجب أن نثق بشيءٍ ترجم لك على هذا الوصف بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية كما أن اللغات لا تكون فارسية ولا عربية وتركية ومع هذا فإنك(54/26)
تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر فلم يبق إلا أحكام اللغة فلم تزري على اللغة العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطليس بها من جهلك بحقيقتها وحدثني قائل قال لك عن حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا وأتدبر كما تدبروا لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد وما تقول له لا يصح له هذا الحكم ولا يستثب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل أكثر مما يفرح باستبداده وإن كان على حق وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين. ومع هذا حدثني عن الواو وما حكمه فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً. وإن تجهل حرفاً واحداً من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية ومن جهل حرفاً واحداً أمكن أن يجهل اللغة بكاملها وإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج وهذه رتبة العامة أو هي رتبة فوق العامة بقدر يسير فلم يتأبى على هذا وينكر ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان وإنما سألتك عن معاني حرف واحد فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق والتي لها بالتجوز وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون أن الباء للإلصاق وإن في تقال على وجوه يقال الشيء في الوعاء والإناء والمكان والسائس في السياسة والسياسة في السائس ألا ترى هذا الشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب فهذا جهل من كل من يدعيه وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذ قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع السكيت. فقال ابن الفرات أيها الشيخ الموفق أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون اشد في إفحامه وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشيع به. فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها معنى العطف في قولك أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا ومنها الائتناف كقولك خرجت وزيداً قائم لأن الكلام بعد ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل(54/27)
نحو قوله:
وقائم الأعمال خاوي المخترقن.
ومنا أن تكون أصلية في الاسم كقولك واقد واصل وافد وفي الفعل كقولك وجل يوجل ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى فلما استلما وتله للجبين ونادياه أي ناديناه ومثله قول الشاعر:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
المعنى انتحى بنا ومعنى الحال في قوله عز وجل: ويكلم الناس في المهد وكهلاً أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة. فقال ابن فرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك. ثم قال أبو سعيد: دع هذا ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ما تقول في قول القائل زيد أفضل الأخوة. قال: صحيح: قال: فما تقول إن قال زيد أفضل أخوته. قال: صحيح قال: فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهباً عن وجه بطلانها. قال متى: بين ما هذا التهجين. قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه والجماعة تعلم أنك أخطأت فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ هذا كان يصح لو أن المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم اتلسياح والخاطر العارض والحدس الطارئ وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له الاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ويكون طباقاً لغرضه وموافقاً لقصده.
قال ابن فرات يا ابا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملاً في نفس أبي البشر. فقال ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير فإن الكلام إذا طال ملَّ. فقال ابن الفرات ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال ابو سعيد: إذا قلت زيد أفضل أخوته لم يجز وإذا قلت زيد أفضل الأخوة جاز والفصل بينهما أن أخوة زيد هم(54/28)
غير زيد وزيد خارج من جملتهم ولك دليل أنه لو سأل سائل فقال من أخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول عمرو وخالد ولا يدخل زيد في جملتهم فإذا كان زيد خارجاً عن أخوته صار غيرهم فلم تجز زيداً غير أخوته فإذا قلت زيد أفضل الأخوة ألا ترى أنه لو قيل من الأخوة عددته فيهم فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير فلما كان على ما وصفناه جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس كما دل الرجال وكما في عشرين درهماً مائة درهم. فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد. فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك وإن زاغ شيءٌ عن النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيءٌ مسلم لهم ومأخوذ عليهم وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقتهم ونظرهم وتكلفهم فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى. ثم اقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا البشر أن الكلام اسم وقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب والثوب يقع على أشياء بها صار ثوباً ثم به نسج بعد أن غزله فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي وزن سداته ثم تأليفه كنسجه وبلاغته كقصارته ودقة سلكه كرق لفظه وغلظ غزله ككثافة حروفه ومجموع هذا كله ثوب ولكن يعد تقدمة كل ما يحتاج إليه. قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسوألة أخرى فان هذا كلما توالي عليه بأن انقطاعه وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا ينصره. قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال لهذا عليّ درهم غير قيراط. قال متى: مالي علم بهذا النمط. قال: لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ها هنا ما هو أخف من هذا قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان وقال آخر:(54/29)
بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ. قال متى: لو نثرت أنا عليك من مسائل المنطق شيئاً لكن حالك كحالي. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيءٍ أنظر فيه فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً وإن كان غير مت علق بالمعنى رددته عليك وإن كان مت صلاً باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها وبين ما وحدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب وإلا والموضوع والمحمول والكون الفساد والمهمل والمخصوص وأمثلة لا تنفع ولا تجدي وهي إلى العي اقرب منها إلى الفهاهة اذهب ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقض ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة وتدعون الشعر ولا تعرفونه وتدعون الخاطبة وأنتم عنها في منقطع التراب وقد سمعت قائلكم يقول الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بمن قبله من الكتب وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان فهي أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهان وإلا فلما صنف مالاً يحتاج إليه ويستغني عنه هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزاً وغابتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص وتقولوا إلهية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والإنسية والكسبية والنفسية ثم تنمطون وتقولون جئنا بالسحر في قولنا * لا أفي شيء من باء وواو وجيم في بعض باء وفاء في بعض جيم وإلا في كل ب وج في كل ب فإذا لا في كل ج وهذا بطريق الحلف وهذا بطريق الاختصاص وهذه كلها جزافات وترهات ومغالق وشبكات ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وإنارات نفسه واستغنى عن هذا كله بعون اله وفضله وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس منائح الله الهبية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده وما عرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً من هذا الناشيء(54/30)
التلغراف
سعى ركضاً رسول الكهرباء ... على أسلاكه فوق الهواء
جرى متدفقاً من دون صوت ... كما تجري الأشعة من ذكاء
وطار بأرضنا براً وبحراً ... كما طارت بروق في السماء
أصمٌ سامعٌ أقوال دان ... وأخرس ناطق بمراد ناء
جماد كاتب من غير كف ... حروفاً لسن من هذا الهجاء
به التلميح تصريح جلي ... به الإيحاز تطويل لراء
وليس يريبه حر وبرد ... فيجري في المصيف وفي الشتاء
يقابل ضغط إعصار ببر ... وتياراً يهيج موج ماءِ
تجاري في الضياء وفي الدياجي ... ليوصل ما يشاء بلا وناء
فيشبه في سكينته فؤاداً ... يمد الجسم من خير الغذاء
كذا أسلاكه تحكي عروقاً ... قد امتدت بجثمان الفضاء
وأعصاباً بهذا الإحساس يجري ... لأدمغة كجري الكهرباء
تسير بطيها الأنباء تحيي ... عوالم أرضنا سيل الدماء
فسبحان الذي أهدى عقولاً ... إلى كشف القناع عن الخفاء
عيسى اسكندر معلوف(54/31)
العرب
العرب مات شعورهم ... فاندبه دهرك باكياً
ولى فولى بعده ... أنسي وساء مآليا
وظللت للهم المب ... رح والشقاء مؤاخيا
لا أجلتي للعلم إلا ... شانئاً أو قالياً
وإذا دعوت إلى الهدى ... قمي ورحت مناديا
وطفقت أندب حالهم ... ندب الربوع خواليا
وأقول أن عمادنا ... يا قوم أصبح واهيا
عافوا النصيحة وانثنوا ... لا يسمعون دعائيا
قد كنت أطع أن أرى ... وطني بهيجاً زاهيا
فوجدته من كل علم ... أو علاء خاليا
فرثيته وبكيته ... وسكبت دمعاً غاليا
وتقطعت أعشار قل ... بي حسرة وفؤاديا
يا عرب إن خمولكم ... ترك القلوب دواميا
أشجى المحب بما شجا ... فغدا حزيناً آسيا
فمتى الصعود إلى العلى ... فأنا صاح مراديا
وأبيت مغتبطاً أج ... ر من الحبور ردائيا
فسعادتي يا ابتن الكرا ... م وبغيتي ومراميا
أن تصبح العرب الأذل ... ة سادة ومواليا
وتعيد مجداً كان بال ... علم المرجب حاليا
وتكون نوراًَ للبري ... ة بالمعارف هادياً
وتسيد في ربع العلا ... ء معاهداً ومبانياً
فتسوء حساداً نكا ... هم فضلها وأعادياً
هذي سعادتي التي ... أنا ناشد وهنائيا
وهي الشقاء لعلتي ... وهي الدواء لدائيا
القدس:(54/32)
إسعاف النشاشيبي.(54/33)
مخطوطات ومطبوعات
روضة العقلاء ونزهة الفضلاء
للإمام أبي حاتم محمد بن حيان البستي المتوفى سنة 354هخـ
صححه محمد أمين أفندي الخانجي بعد قراءة الأصل على الشيخ طاهر
الجزائري طبع بمطبعة كردستان العلمية بمصر.
سنة 1328 ص267.
علم الأخلاق كما قال ابن ساعد علم بعلم منه أنواع الفضائل كيفية اكتسابها وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها وموضوعه الملكات النفسية من الأمور العادية ومنفعته أن يكون الإنسان كاملاً في أفعاله بحسب إمكانه لتكون أولاه سعيدة وأخراه حميدة. وجميع ما طبع حتى الآن من كتب هذا الفن الجليل مفيد في بابه نافع لطلابه مثل كتاب الذريعة في مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني وتفصيل النشأتين له وأدب الدنيا والدين للماوردي والفوز الصغر لا بن مسكويه وتهذيب الأخلاق له أيضاً ومداواة النفوس لابن حزم ورسائل إخوان الصفا وحكم ابن عطاء الله السكندري وقواعد التصوف لا بن زروق والطب الروحاني للشيرازي ومعظم إحياء علوم الدين للغزالي وبعض فصول الفتوحات الملكية لابن عربي وغير ذلك من كتب التصوف الصحيح.
وهذا السفر من أجل التي أحييت في هذه الآونة بمعرفة أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري فجاء الفرع والأصل متساويين في المحاسن وقد قال عنه في التذكرة الطاهرية الذي وضعه أستاذنا في فوائد متفرقة في وصف المكتب النافعة الكثيرة التي يطلع عليها قوله: وقفت في ذي الحجة سنة 1327 على كتاب روضة العقلاء للإمام الحافظ الأجل ابي حاتم محمد بن حيان التميمي ألبسني أحد أفرادها الدهر فوجدته كتاباً من أجل الكتب وأنفعها قصد فيه مؤلفه بيان ما يحتاج غليه العقلاء في أيامهم على اختلاف أحوالها وهو من المطالب العالية التي يحرص عليها كل عاقل غير غافل. وليس الرجال بأحق بالاستفادة منه من ربات الحجال وقد ابتدأ كل مط لب بحديث ثابت يتعلق به وابتعه بما قصد بيانه ووشاه بشواهد كثيرة مما قاله شعراء الحكماء وحكماء الشعراء وجرى في عبارته على نهج من أوتوا(54/34)
الحظ الأدنى من البيان فيجدر بالعقلاء أن يرضوا أنفسهم في روضتهم مجتنين من أثمارها ومجتلين لأزهارها.
المؤلف من جلة العلماء المكثرين من التأليف المجودين فيما كتبوه وكتابه هذا على ما نعلم طبع لأول مرة وقد ترجم له ياقوت الحموي في معجم البلدان فقال ما محصله:
أبو حاتم محمد بن حيان التميمي العلامة الفاضل المتقن كان مكثراً من الحديث والرحلة والشيوخ عالماً بالمتون والأسانيد أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره ومن تأمل تصانيفه تأمل منصف علم أن الرجل كان بحراً في العلوم سافر ما بين الشاش والإسكندرية وأدرك الأئمة والعلماء والأسانيد العالية وكان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبقه إليه وولي القضاء بسمرقند وغيرها من المدن وكانت الرحلة بخراسان من مصنفاته. قال أبو بكر أحمد بن ثابت: ومن الكتب التي تكثر منافعها أن كانت على قدر ما ترجمها به واصفها مصنفات أبي حاتم محمد ابن حيان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر السجزي ووقفني على تذكرة بأسمائها ولم يقدر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معروفة وأنا أذكر منها ما استحسنه سوى ما عدلت عنه أو طرحته. فمن ذلك كتاب الصحابة خمسة أجزاء وكتاب التابعين خمسة عشر جزءاً وكتاب أتباع التابعين خمسة عشر جزءاً وكتاب تبع التباع سبعة عشر جزءاً وكتاب تبع التبع عشرون جزءاً وكتاب الفصل بين النقلة عشرة أجزاء وكتاب علل أوهام أصحاب التواريخ عشرة أجزاء وكتاب علل حديث الزهري عشرون جزءاً وكتاب علل حديث مالك عشرة أجزاء وكتاب علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه عشرة أجزاء وكتاب علل ما استند عليه أبو حنيفة عشرة أجزاء وكتاب ما خالف الثوري شعبة ثلاثة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل المدينة من السنة عشرة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل مكة من السنن عشرة أجزاء وكتاب ما عند شعبة عن قتادة وليس عند سعيد عن قتادة جزءان وكتاب غرائب الأخبار عشرون جزءاً وكتاب ما أغرب الكوفيون ثمانية أجزاء وكتاب أسامي من يعرف بالكنى ثلاثة أجزاء وكتاب كنى من يعرف بالأسامي ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل والوصل عشرة أجزاء وكتاب التمييز بين حديث النضر الحمداني والنضر الحزاز جزءان وكتاب الفصل بين حديث أشعث بن مالك وأشعث(54/35)
بن سوار جزءان وكتاب الفصل بين حديث منصور بن المعتمر ومنصور بن راذان ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل بين مكحول الشامي ومكحول الأزدي جزءٌ وكتاب موقوف ما رفع عشرة أجزاء وكتاب آداب الرجالة جزءان وكتاب ما أسند جنادة عن عبادة جزء وكتاب الفصل بين حديث نور بن زيد جزء وكتاب ما جعل عبد الله بن عمر عبيد الله بن عمر جزءان وكتاب ما جعل شيبان سفيان أو سفيان شيبان ثلاثة أجزاء وكتاب مناقب مالك بن أنس جزءان وكتاب مناقب الشافعي جزءان وكتاب المعجم على المدن عشرة أجزاء وكتاب المقلين من الحجازيين عشرة أجزاء وكتاب المقلين من العراقيين عشرون جزءاً وكتاب الأبواب المتفرقة ثلاثون جزءاً وكتاب الجمع بين الأخبار المتضادة جزءان وكتاب وصف المعدل والمعدل جزءان وكتاب مفصل بين حدثنا وأخبرنا جزء وكتاب وصف العلوم وأنواعها ثلاثون جزءاً وكتاب الهداية على علم السنن قصد فيه إظهار الصناعتين اللتين هما صناعة الحديث والفقه يذكر حديثاً ويترجم له ثم يذكر من يتفرد بذلك الحديث ومن مفاريد أي بلد هو ثم يذكر كل اسم في إسناده من الصحابة إلى شيخه بما يعرفن نسبته ومولده وموته وكنيته وقبيلته وفضله وتيقظه ثم يذكر ما في ذلك الحديث من الفقه والحكمة فإن عارضه خبر ذكره وجمع بينهما وإن تضاد لفظه في خبر آخر تلطف للجمع بينهما حتى يعلم ما في كل خبر من صناعة الفقه والحديث معاً وهذا من أنبل كتبه وأعزها.
قال أبو بكر الخطيب: سألت مسعود بن ناصر يعني السجزي فقلت له: أكل هذه الكتب موجودة عندكم ومقدور عليها ببلادكم فقال إنما يوجد منها الشيء اليسير والنزر الحقير.
قال وكان أبو حاتم بن حيان سبل كتبه ووقفها وجمعها في دار رسمها بها فكان السبب في ذهابها مع تطاول الزمان وضعف السلطان واستيلاء ذوي العيث والفساد على أهل تلك البلاد. قال الخطيب: ومثل هذه الكتب الجليلة كان يجب أن يكثر بها النسخ فيتنافس فيها أهل العلم ويكتبونها ويجلدونها إحرازاً لها ولا أحسب المانع مكن ذلك كان إلا قلة معرفة أهل تلك البلاد بمحل العلم وفضله وزهدهم فيه ورغبتهم عنه وعدم بصيرتهم به والله أعلم.
قال الإمام تاج الإسلام: وحصل عندي من كتبه بالإسناد المتصل سماعاً كتاب التقاسيم والأنواع خمس مجلدات وكتاب روضة لعقلاء وحصل عندي من تصانيفه غير مسندة عدة كتب مثل كتب الهداية إلى علم السنن من أوله قدر مجلدين وله وهو أشهر من هذه كلها(54/36)
كتاب الثقات وكتاب الجرح والتعديل وكتاب شعب الإيمان وكتاب صفة الصلاة. وكان من فقهاء الدين وحفظ الآثار والمشهورين في الأمصار والأقطار عالماً بالطب والنجوم وفنون العلم جعل داره مدرسة لأصحابه ومسكناً للغرباء الذين يقيمون بها وأهل الحديث والمتفقهة ولهم جرايات يستنفقونها داره وفيها الصفة خزانة كتبه في يدي وصي سلمها إليه ليبذلها لمن يريد نسخ شيءٍ منها الصفة من غير أن يخرجه منها. قال الحاكم: أبو حاتم كبير في العلوم وكان يحسد لفضله وتقدمه. وصنف لأبي الطيب المصعبي كتاباً في القرامطة وتوفي سنة 354 (ايري فيه) ودفن في الصفة التي ابتناها بمدينة بست بقرب داره اهـ.
هذا هو الرجل العظيم الذي اغفل ذكره كتاب التراجم والباحثون في آثار السلف كصاتكحب وفيات الأعيان وفوات الوزفيات وصاحب الفهرست وصاحب كشف الظنون ومع هذا لم يغفل عنه يباقوت وترجمه بما هو أهله. وكم في هذه الأمة من ضاعت ترجمته وغابت عنا أعمالهم بضعف في مدارك أهل بلدهم وعقم النفوس في ديارهم وحسد نالهم وهي العلامة المميزة للمصلحين والصالحين التي كثيراً ما أصيبوا بتأثيراتها الضارة.
أنا الكتاب الذي نشر اليوم فهو روضة علم وأدب وأخلاق قسمه إلى مطالب في أدب النفس ناهزت الخمسين مطلباً مثل لزوم التقوى والعلم والصمت والصدق والحياء وترك القحة ولزوم التواضع ومجانبة الكبر والتحبب إلى الناس ومداراتهم وإفشاء السلام والمزاح المباح والاعتزال عن الناس ومؤاخاة الخاصة وكراهية المعاداة والتلون ومجانبة الحرص للعاقل والتحاسد والتباغض ومجانبة الغضب والطمع ولزوم القناعة والتوكل والرضا والعفو وصفة الكريم واللئيم والزجر عن قول الوشاة وكتمان السر والنصيحة للمسلمين كافة والزجر عن التهاجر ولزوم الحلم عند الذى وإباح جمع المال للقائم بحقوقه والحث على إقامة المروءات والزجر عن قبول الهدايا وقضاء الحوائج والحث على مطالبة لمعالي وإطعام الطعام والمجازاة على الضائع والحث على سياسة الرياسة ورعاية الرعية غير ذلك مما يستفيد منه الكبير والصغير ويتأدب به الأمير والأجير ويغني غناءه للرجال والنساء على السواء.
يفتتح المؤلف كل فصل بحديث صحيح ثم يشفعه بكلام منظوم أو منثور ينقله بالرواية ومنظومه كله مما يجدر بالناشئة حفظه لسلاسته وكثرة حكمه ثم يتكلم ابو حاتم من عنده(54/37)
كلاماً يدل على العقل الواسع والعلم النافع وحسن المأتى ولطف الأداء وقد يورد في أكثر الفصول قصصاً تروق العامة والخاصة معاً. نسق تأليفه تنسيقاً عجيباً لم يخل به من أوله إلى آخره حتى جاءت المطالب كلها متساوية بالحجم والفائدة آخذة من الحسن والإحسان بنصيب وافر. فجودة الأسلوب التي عرفت بها مصنفات الإفرنج لعهدنا تجدها على أتمها في المجودين للتأليف في عصور الارتقاء الإسلامي وهذا الكتاب نموذج صالح منها.
وإليك الآن مثالاً من عبارة المؤلف تستدل منها عل مبلغه من الحذق والعلم والبيان. قال أبو حاتم: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره صحيح الاعتبار في صباه حسن العفة عند إدراكه رضي الشمائل في شبابه ذا الرأي والحزم في كهولته يضع نفسه دون غايته برتوه (خطوة) ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها لأن من جاوز الغاية في كل شيءٍ صار إلى النقص ولا ينفع العقل إلا بالاستعمال كما لا تتم الف5رصة إلا بحضور الأعوان. ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير أخاف أن يكون حتفه أقرب الأشياء إليه. ورأس العقل المعرفة بما يمكن أن يكون كونه قبل أن يكون والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة فإنها اسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك وكثرة التمني وسوء التثبت. لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق ولا يسعى إلا لما يدرك ولا يعد إلا بما يقدر عليه ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر ما عنده من الغناء ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعه منه والعاقل يبذل لصديقه نفسه وماله ولمعرفته رفده ومحضره ولعدوه عدله وبره وللعامة بشره وتحيته ولا يستعين إلا بمن يحب أن يظفر بحاجته ولا يحدث إلا من يرى حديثه مغنماً إلا أن يغلبه الاضطرار عليه ولا يدعي ما يحسن من العلم لأن فضائل الرجال ليست ما أدعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم ولا يبالي ما فاته من حطام الدنيا مع ما رزق من الحظ في العقل. أنشدني عبد الرحمن ابن محمد المقاتلي:
فمن كان ذا عقل ولم يك ذا غنى ... يكون كذي رجل وليست له نعل
ومن كان ذا مال ولم يك ذا حجى ... يكون كذي نعل وليست له رجل
قال أبو حاتم: كفى بالعاقل فضلاً وإن عدم المال بأن تصرف أعماله إلى المحاسن فتجعل البلادة منه علماً والمكر عقلاً والهذر بلاغة والحدة ذكاء والعيُّ صمتاً والعقوبة تأديباً(54/38)
والجرأة عزماً والجبن تأنياً والإسراف جوداً والإمساك تقديراً فلا تكاد ترى عاقلاً ولا موقراً للرؤساء ناصحاً للأقران مواتياً للإخوان متحزراً من الأعداء غير حاسد للأصحاب ولا مخادع للأحباب لا يتحرش بالأشرار ولا يبخل في الغنى ولا يشره في الفاقة ولا ينقاد للهوى ولا يجمح في الغضب ولا يمرح في الولاية ولا يتمنى ما لا يجد ولا يكتنز إذا وجد ولا يدزخل في دعوى ولا يشارك في مراء ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً ولا يشكو الوجع إلا عند من يرجو عنده البرء ولا يمدح أحداً إلا بما فيه لأن من مدح رجلاً بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية. والعاقل يكرم على غير حال كالأسد يهاب وإن كان رابضاً وكلام العاقل يعتدل كاعتدال جسد الصحيح وكلام الجاهل يتناقض كاختلاط جسد المريض وكلام العاقل وإن كان نزراً خطوة عظيمة كما أن مقارنة المأثم وإن كان نزراً مصيبة جليلة ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه وآفة العقل العجب بل على العاقل أن يوطن نفسه على الصبر على جار السوء وجليس السوء فإن ذلك مما لا يخطيه على ممر الأيام ولا يجب للعاقل أن يحب أن يسمى به لأن من عرف بالدهاء حذر ومن عقل عاقل دفن عقله ما استطاع لأن البذر وإن خفي بالأرض أياماً فإنه لا بد من ظاهر في أوانه وكذلك العاقل لا يخفى عقله وإن أخفى ذلك جهده وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل اهـ.
ومن الحكايات التي ساقها قوله: سمعت إسحق بن أحمد القطان البغدادي يتيسر يقول: كان لنا جار ببغداد نسميه طبيب القراء كان يتفقد الصالحين ويتعاهدهم فقال لي: دخلت يوماً على أحمد بن حنبل فإذا هو مغموم مكروب فقلت: مالك يا أبا عبد الله. قال: خير. قلت: ومع الخير. قال: امتحنت وبتلك المحنة حتى ضربت ثم عالجوني وبرأت إلا أنه بقي في صلبي موضع يوجعني هو أشد عليّ من ذلك الضرب. قال: قلت اكشف لي عن صلبك. قال: فكشف لي فلم أر فيه إلا أثر الضرب فقلت: ليس لي بذي معرفة ولكن سأستخبر عن هذا قال: فخرجت من عنده حتى أتيت صاحب الحبس وكان بيني وبينه فضل معرفة فقلت له: ادخل الحبس في حاجة قال: أدخل فدخلت وجمعت فتيانهم وكان معي دريهمات فرقتها عليهم وجعلت أحدثهم حتى أنسوا بي ثم قلت: من منكم ضرب أكثر قال: فقلت له اسالك عن شيءٍ فقال: هات فقلت: شيخ ضعيف ليست صناعته كصناعتكم ضرب على الجوع(54/39)
والقتل سياطاً يسيرة إلا أنه لم يمت وعالجوه وبرأ إلا أن مواضعاً في صلبه يوجعه وجعاً ليس عليه صبر قال: فضحك فقلت: مالك قال: الذي عالجه كان حائكاً. قلت: أيش الخبر. قال: ترك في صلبه قطعة لحم ميت لم يقلعها قلت: فما الحيلة قال: يبط صلبه وتؤخذ تلك القطعة ويرمى بها وإن تركت بلغت إلى فؤاده فقتلته. قال: فخرجت من الحبس فدخلت على أحمد بن حنبل فوجدته على حالته فقصصت عليه القصة. قال: ومن يبطه. قلت: أنا. قال: أو تفعل قلت: نعم قال: فقام فدخل البيت ثم خرج وبيده مخدتان وعلى كتفه فوطة فوضع أحدهما لي والأخرى له ثم قعد عليها وقال استخر الله فكشف الفوطة عن صلبه وقلت ارني موضع الوجع فقال: ضع إصبعك عليه فإني أخبرك به فوضعت إصبعي وقلت: ها هنا موضع الوجع. قال: ههنا أسأل الله العافية قال: ههنا قال: هاهنا أحمد الله على العافية فقلت: هاهنا قال: هاهنا أسأل الله العافية قال: فعلمت أنه موضع الوجع قال: فوضعت المبضع عليه فلما أحس بحرارة المبضع وضع يده على رأسه وجعل يقول: اللهم اغفر للمعتصم حتى بططته فأخذت القطعة الميتة ورميت بها وشددت العصابة عليه وهو لا يزال على قوله اللهم اغفر للمعتصم. قال: ثم هدأ وسكن ثم قال: كأني كنت معلقاً فأصدرت قلت: يا أبا عبد الله إن الناس امتحنوا محنة دعوا على من ظلمهم ورأيتك تدعو للمعتصم قال: إني فكرت فيما تقول وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت أن آتي يوم القيامة وبيني وبين أحد من قرابته خصومة هو مني في حل اهـ.
ومن أجمل الفصول التي استشهد بها المؤلف وصية الخطاب بن لمعلى المخزومي ابنه قال: أخبرتني محمد بن المنذر بن سعيد حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي حدثني عبد الرحمن بن أبي عطية الحمصي عن الخطاب بن المعلى المخزومي القرشي أنه وعظ ابنه فقال: يا بني عليك بتقوى الله وطاعته، وتجنب محارمه بإتباع سنته ومعالمه، حتى تصح عيوبك، وتقر عينك، فإنها لا تخفى على الله خافية، وإني قد سمعت لك وسماً، ووضعت لك رسماً، إن أنت حفظته ووعيته وهملت به ملأت عيون الناس، وإنقاد لك به الصعلوك، ولم تزل مرتجيا مشرفاً يحتاج إليك، ويرغب إلى ما في يديك، فأطلع أباك، واقتصر على وصية أبيك، وف رغ لذلك ذهنك، واشغل به قلبك ولبك، وإياك وهذر الكلام، وكثر الضحك والمزاح، ومهازلة الإخوان فإن ذلك يذهب البهاء، ويوقع الشحناء، وعليك(54/40)
بالرزانة، والتوقر من غير كبر يوصف منك، ولا خيلاء تحكي عنك، والق صديقك وعدوك بوجه الرضى، وكف الأذى، من غير ذلة لهم، ولا هيبة منهم، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فإن خير الأمور أواسطها، وقلل الكلام، وافش السلام، وامش متمكناً قاصداً ولا تخبط برجلك، ولا تسحب ذيلك ولا تلو عنقك ولا رداءك، ولا تنظر في عطفك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات. ولا تتخذ السوق مجلساً ولا الحوانيت متحدثاً. ولا تكثر المراء. ولا تنازع السفهاء. فإن تكلمت اختصر. وإن مزحت فاقتصر. وإذا جلست فتربع. وتحفظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها. والعبث بلحيتك وخاتمك. وذؤابة سيفك. وتخليل أسنانك. وإدخال يدك في أنفك. وكثرة طرد الذباب عنك. وكثرة التثاؤب والتمطي. وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك. ويغتمزون به فيك. وليكن مجلسك هادياً. وحديثك مقسوماً. واصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك بغير إظهار عجب منك. ولا مسالة إعادة. وأغض عن الفكاهات. من المضاحك والحكايات. ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك. ولا عن فرسك ولا عن سيفك.
وإياك وأحاديث الرؤيا فإنك إن أظهرت عجباً بشيءٍ منها طمع فيها السفهاء فولدوا لك الأحلام واغتمزوا في عقلك ولا تصنع تصنع المرأة. ولا تبذل تبذل العبد. ولا تلهب لحيتك ولا تبطنها، توقى كثرة الحلف، ونتف الشيب، وكثرة الكحل، والإسراف في الدهن وليكن كحلك غياً، ولا تلح في الحاجات، ولا تخشع في الطلبات، ولا تعلم أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم عدد مالك، فإنه إن رأوه قليلاً هنت عليهم، وإن كان كثيراً لم تبلغ به رضاهم، وأخفهم في غير عنف، ولن لهم في غير ضعف، ولا تهازل أمتك، وإذا خاصمت فتوقر، وتحفظ من جهلك، وتجنيب من عجلتك، وتفكر في حجتك، وأري الحاكم شيئاً من حلمكن ولا تكثر الإشارة بيدك، ولا تجفل على ركبتيك، وتوق حمرة الوجه وعرق الجبين، وغن سفه عليك فاحلم، وإذا هدأ غضبك فتكلم، وأكرم عرضك، وألق الفضول عنك، وإن قربك سلطان، فكن منه على حد السنان، وإن استرسل إليك، فلا تامن انقلابه عليك، وأرفق به رفقك بالصبي، وكلمه بما تشتهي، ولا يحملنك ما ترى من ألطافه إياك، وخاصته بك، إن تدخل بينه وبين أحد من ولده وأهله وحشمه، وإن كان لذلك منك مستمعاً، وللقول منك مطيعاً، فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعه لا تنهض، وزلة لا تقال، وإذا وعدت(54/41)
فحقق، وإذا حدثت فأصدق، ولا تجهر بمنطقك كمنازع الصم، ولا تخافت به كتخافت الأخرس، وتخير محاسن القول، بالحديث المقبول، وإذا حدثت بسماع فانسبه إلى أهله، وإياك الأحاديث العابرة المشنعة التي تنرها القلوب وتقف لها الجلود، وإياك ومضعف الكلام مثل نعم نعم ولا لا وعجل وعجل وما أشبه ذلك. وإذا توضأت من الطعام، فأجد عرك كفيك، وليكن وضعك الحرض من الأشنان في فيك كفعلك بالسواك، ولا تنخع في الطست، وليكن طرحك الماء من فيك مسترسلاً، ولا تمج فتنضح على أقرب جلسائك، ولا تعض نصف اللقمة ثم تعيد ما بقي منها منصبغاً فإن ذلك مكروه، ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملك. ولا تعبث بالمشاش. ولا تعب شيئاً مما يقرب غليه على مائدته بقلة خل أو أتابل أو عسل. فإن السحابة قد صيرت لنفسها مهابة. ولا تمسك إمساك المبثور. ولا تبذر تبذير السفيه المغرور. واعرف في مالك واجب الحقوق وحرمة الصديق واستغن عن الناس يحتاجون إليك. واعلم أن الجشع. يدعو إلى الطبع. والرغبة. كما قرر تدق الرقبة. ورب أكلة تمنع أكلات. والتعفف مال جسيم وخلق كريم. ومعرفة الرجل قدره. يشرف ذكره. ومن تعد القدر. هوى في بعيد العقر. والصدق زين. والكذب شين. ولصدق يسرع عطب صاحبه أحسن عاقبة من كذب يسلم عليه قائله. ومعاداة اللئيم. خير من مصادقة الأحمق. ولزوم الكريم على الهوان. خير من صحبة اللئيم على الإحسان. ولقرب ملك جواد. خير من مجاورة بحر طراد. وزوجة السوء الداء العضال ونكاح العجوز يذهب بماء الوجه. وطاعة النساء تزري بالعقلاء.
تشبه بأهل العقل تكن منهم. وتصنع للشرف تدركه. واعلم كل امرئٍ حيث وضع نفسه. وغنما ينسب الصانع إلى صناعته. والمرء يعرف بقرينه. وإياك وإخوان السوء. فإنهم يخونون من رافقهم. ويحزنون من صادقهم. وقربهم أعدى من الجرب. ورفضهم من استكمال الأدب. واستخفار المستجير لؤم. والعجلة شؤم. وسوء التدبير وهن. والأخوان اثنان فمحافظك عليك عند البلاء. وصديق لك في الرخاء. فاحفظ صديق البلاء. وتجنب صديق العافية. فإنهم أعدى الأعداء. ومن اتبع الهوى. مال به الردى. ولا يعجبنك الجهم من الرجال. ولا تحقر ضئيلاً كالخلال. فإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ولا ينتفع به بأكثر من أصغريه. وتوق الفساد. وإن كنت في بلاد الأعادي. ولا تفرش عرضك لمن(54/42)
دونك ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك.
ولا تكثر الكلام. فتثقل على الأقوام. وامنح البشر جليسك والقبول ممن لاقاك. وإياك كثرة التبريق والتزليق. فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث. وإياك والتصنع لغازلة النساء وكن متقرباً متعززاً ومنتهزاً في فرصتك رفيقاً في حاجتك. متثبتاً في حملتك. والبس لكل دهر ثيابه. ومع كل قوم شكلهم. ولا ترد حتى ترى وجه المصدر. وعليك بالنورة. في كل شهر مرة. وإياك وحلاق الإبط بالنورة. وليكن السؤال من طبيعتك. وإذا استكت (؟) فعرضاً. وعليك بالعمارة. فإنها أنفع التجارة. وعرج الزرع خير من اقتناء الضرع. ومنازعتك اللئيم تطعمه فيك. ومن أكرم عرضه أكرمه الناس. وذم الجاهل إياك أفضل من ثنائه عليك. ومعرفة الحق من أخلاق الصدق. والرفيق الصالح ابن عم. ومن أيسر أكبر. ومن افتقر احتقر. قصر في المقالة مخافة الإجابة. والساعي إليك. غالب عليك. وطول السفر ملالة. وكثرة المنى ضلالة. وليس للغائب صديق. ولا على الميت شفيق. واجب الشيخ عناء. وتأديب الغلام شقاء. والفاحش أمير. والوقاح وزير. والحليم مطية الأحمق. والحمق داءٌ لا شفاء له والحلم خير وزير. والدين أزين الأمور. والسماجة. سفاهة. والسكران. شيطان. وكلامه هذيان. والشعر. من السحر. والتهدد هجر. والشح شقاء. والشجاعة بقاء. والهدية من الأخلاق السرية. وهي تورث المحبة. ومن ابتدأ المعروف صار له ديناً. ومن المعروف ابتداء غير مسألة. وصاحب الرياء. يرجع إلى السخاء. ولرياء بخير. خير من معالنة بشر. والعرق نزاع. والعادة طبيعة لازمة. إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ومن حل عقداً احتمل حقاً. ومراجعة السلطان. خرق بالإنسان. والفرار عار. والتقدم مخاطرة. وأعجل منفعة. أيسار في دعة. وكثرة العلل. من البخل. وشر الرجال. الكثير الاعتلال. وحسن اللقاء. يذهب بالشحناء. ولين الكلام من أخلاق الكرام.
يا بني إن زوجة الرجل سكنه. ولا عيش لها مع خلافها. فإذا هممت بنكاح امرأة فسل عن أهلها فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة. واعلم أن الناس اشد اختلافاً من أصابع الكف. فتوق منهن كل ذات بذا. مجبولة على الأذى. فمنهن المعجبة بنفسها. المزرية ببعلها. إن أكرمها لرأته لفضلها عليه. لا تشكر على جميل. ولا ترضى منه بقليل. لسانها عليه سيف صقيل. قد كشف القحة ستر الحياء عن وجهها. فلا تستحي من إعوارها. ولا(54/43)
تستحيي من جارها. كلبة هرارة. مهارشة عقارة. فوجه زوجها مظلوم. وعرضه مشتوم. ولا ترعى عليه لدين ولدنيا. ولا تحفظه لصحبه ولا لكثرة بنين. حجابه مهتوك. وستره منشور. وخيره مدفون. يصبح كئيباً. ويمسي عاتباً. شرابه مر. وطعامه غيظ وولده ضياع. وبيته مستهلك. وثوبه وسخ. ورأسه شعث. إن ضحك فواهن. وإن تكلم فمكتاره. نهاره ليل. وليله ويل. تلدغه مثل الحية العقارة. وتلبسه مثل العقرب الجرارة. ومنهن شفشليق شعشع سفلع ذات سم منقع. وإبراق واختلاق. تهب مع الرياح. وتطير مع كل ذي جناح. إن قال: لا قلت: نعم وإن قال: نعم وقالت: لا. مولدة لمخازيه. محتقرة لما في يديه. تضرب له الأمثال. وتقصر به دون الرجال. وتنقله من حال إلى حال. حتى قلى بيته. ومل ولده. وغث عيشه. وهانت عليه نفسه. وحتى أنكره أخوانه. ورحمه جيرانه. ومنهن الورهاء الحمقاء. ذات الدال في غير موضعها. الماضغة للسانها. الآخذة في غير شأنها. قد قنعت بحبة. ورضيت بكسبة. تأكل كالحمار الراتع. تنتشر الشمس ولما يسمع لها صوت. ولم يكنس لها بيت. طعامها بائت. وإناؤها هاضير. وعجينها حامض. وماؤها فاتر. ومتاعها مزروع. وماعونها ممنوع. وخدامها مضروب. وجارها محروب. ومنهن العطوف الودود. المباركة الولود. المأمونة على غيبها. المحبوبة في جيرانها. المحمودة في سرها وإعلانها. الكريمة التبعل وخيرها دائم. وزوجها ناعم. موموقة مالوفة. وبالعفاف والخيرات موصوفة. جعلك الله يا بني ممن يقتدي بالهدى. ويأتم بالتقى. ويجتنب السخط ويحب الرضى. والله خليفتي عليك والمتولي لأمرك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد بني الهدى وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً اهـ.
هذه أنموذجان من الكتاب والغالب أن للمؤلف مصنفات غير ما ذكر في ترجمته ويؤيد ذلك ما قاله آنفاً مسعود بن ناصر من أن ما أورده من اسماء مؤلفاته هو عدا ما أطرحه منها بيد أن المؤلف نفسه يحيل في خلال كتابه هذا على بعض مصنفاته مثل كتاب محجة المبتدئين العالم والتعلم الوداع والفراق التوكل مراعاة الأخوان مراعاة العشر. فكم يكون قد قدر جميع ما خطته أنامله يا ترى. وقد علق عليه أستاذنا المنوه بقدره حواشي نافعة وشكل محلها الأشكال منه وحلاه بالفواصل فجاء هذا السفر الجليل وافياً بالغرض من كل جهة حرياً بالمتأدبين أن يتدارسوه ويتنافسوا في اقتنائه لنفاسة طبعه ووضعه.(54/44)
السياسة الإسلامية
تأليف المسيو لشاتليه طبع في باريس سنة 1910 ص165.
28
نشر صديقنا صاحب هذا الكتاب وهو من رجال الاجتماع والاستعمار في فرنسا مؤلفاً جديداً بهذا الاسم جعله ملحقاً لمجلة العالم الإسلامي الباريزية وقدمه إلى أحد أعضاء مجلس الشورى الدولة الفرنسية فقال فيه إذا كان لفرنسا سياسة ألمانية وسياسة إنكليزية بل وسياسة لاتينية فلماذا لا تتخذ لها سياسة إسلامية أمام مجموع العالم الإسلامي فإن مائتي مليون مسلم أحرياء أن يساسوا وتخرج فرنسا في سياستهم عن الأوهام الاستعمارية والسياسية.
وتكلم على تاريخ امتداد الإسلام في قارتي آسيا وأفريقية فقال أن شواطئ البحر الأبيض كانت عمالات للمسلمين من الأندلس حتى صقلية وشواطئ أفريقية ولما فتحوا بلاد الروم (بيزانس) وأخذوا بخناق البلقان زاد المسلمون من جهة أخرى ثم تراجعوا فلم يبق في أوربا غير ستة ملايين وإن مسلمي روسية ليتكلموا اللغة الروسية ويتحضرون بالحضارة السلافية ما عدا البوادي منهم وإن كان بعضهم يتسامحون يتعلم اللغة التركية العثمانية وقد احتفظوا بعقائدهم وأخلاقهم. قال: وقد اتهم الألبان الذين كانوا أعظم قوة تحرس عبد الحميد في المدة الأخيرة بانتحال العقيدة البكداشية على حين كان من ألبانيا أن سعت كل السعي في الانقلاب العثماني الأخير.
وقال أن أحرار العثمانيين ليدعوا إلى وطنية عنصرية يطبقونها على مصلحتهم حتى خاب ظن من كانوا يوافقونهم بادئ بدءٍ وقاموا يريدون أن يبقوا عثمانيين لا أتراكاً وإن الأحرار أرادوا حياة الإسلام في أوربا الشرقية بعد أن كان يضمحل أمره منها ولكنه عاد وعليه المسحة الأوربية وذلك لاختلاط أهله بأهل أوربا فكان من تأثيرات المحيط في هذا الدين أن رزق حياة جديدة ونهضة رافعة فقد أحدث الانقلاب العثماني من حيث الاجتماع والعلم فشلاً للدين المحمدي على نحو ما كان معروفاً على عهد الخلافة الحميدية ولكنه ظفر ظفراً ثميناً من حيث السياسة والوطنية فبدا في صورة جديدة أكثر انطباقاً على الروح الغربية وغدا نفوذه وقوته أكثر مما كانت على العهد الحميدي. ولم يقتصر مسلمو روسيا في نشوءهم(54/45)
الاجتماعي فأبدوا العواطف التي فرطوا ليها في مطبوعاتهم ودار الندوة الروسية ومؤتمراتهم حتى ضاهى الإسلام بروسيا في قوته الإسلام في الأرض العثمانية فتقوى هناك بخلاصه من العوائق التي كانت تضفه وبإشراك أهله في حركة الشعوب الأوربية وضعف في تقاليده إلا أنه نشط من عقاله.
وإن الدارسين في مدارس أوربا من السوريين والمصريين والهنود والفرس والأتراك وإن كانوا قلائل في عددهم إلا أنهم أرباب مكانة بعقولهم سيعيدون إلى الأمة الإسلامية شبابها. وعقد فصولاً كبرى أفاض فيها في شيءٍ من ماضي بلاد الإسلام وحالتها الاجتماعية والمادية والمعنوية اليوم فتكلم على السياسة الاستعمارية في الجزائر وتونس ومراكش وأفريقية الغربية وأفريقية الشرقية وآسيا كلاماً لم يخرج عن استحسان تلك الطريقة التي اتبعتها فرنسا في الاستعمار وتلقين الأمم المحكومة مدنيتها بالقوة والعنف ونزع عاداتها وتقاليدها لتجريعها جرعة من الآداب الفرنسية وإن لم تطلقها وفرنسة كل من يخفق على رأسه علم الجمهورية. وبحث في المملكة العثمانية ومصر وبلاد العرب وفارس والصين والهند ومسلمي والملايو والروس بلسان اجتماعي ينظر إلى مصلحة قومه من الوجهة الاستعمارية.
وقال في النتيجة أن الواجب على حكومته أن تفتح اعتماداً بعشرين ألف فرنك تقطعها لكلية الجزائر لتستعين بها على نشر المطبوعات التي تجعل الجزائر مورد العالم العربي ومصدره وما ندري كيف يتسنى ذلك بين قوم يقضى عليهم أن ينسوا لغتهم العربية ولا يدرسونها نصف أو ربع الحضارة الحديثة.
ولفت أنظار من قدم له كتابه إلى إصلاح حال مدرسة اللغات الشرقية في باريس وزيادة العناية بدراسة اللغات الإسلامية أي العربية والفارسية والتركية على نحو ما سعت إنكلترا وأصلحت في هذا الشأن كليتي لندرا وأكسفورد وسعت ألمانيا فأصلحت كلية برلين وقال أن الواجب إنشاء نادٍ يأوي إليه من يدرسون في فرنسا من المسلمين كما أنشأت برلين ولندرا مثله لهذه الغاية وقال أن اللغة العربية هي لغة التعارف والتعامل بين المسلمين كاللغة الإنكليزية بين السكسونيين فينبغي صرف العناية لها. وأحسن ظنه كما هي عادته بارتقاء المسلمين ولاسيما في الشؤون الاقتصادية فقال أن مجموع تجارتهم لم يكن في منتصف(54/46)
القرن التاسع عشر في العالم أكثر من ثروة أفقر أمة أوربية وعدد المسلمين نحو مائتي مليون ولا يبعد أن لا ينتصف هذا القرن العشرون إلا ويصبح مجموعها خمسين مليار فرنك إلى غير ذلك من الإيضاحات التي تنتفع بها فرنسا وتستفيد في مستقبلها الاقتصادي والاستعماري. والكتاب محلى بمصورات بلاد الإسلام وببعض رسوم الجوامع والأشخاص والكتابات الإسلامية وهو يدل دلالة واضحة على مبلغ غيرة المؤلف على مصلحة أمته ودرجة علمه بأحوال المسلمين اليوم وأمس كما هو شهادة ناطقة بأن الاخصاء في فرع من فروع العلم الكثيرة أنفع للعالِم وللعالَم من الخطف من هنا ومن هناك.
النسائيات
مجموعة مقالات في الجريدة في موضوع المرأة المصرية بقلم باحثة البادية.
أو العقيلة ملك حنفي ناصف سنة 1328 ص176.
من نعم الله على مصر أن فيها عاملين في كل فرع من فروع الحضارة وأنها تقلد الغرب في خطواتها نحو الارتقاء حتى كادت تكون قطعة من ديار الغرب لو كان نساؤها متعلمات كرجالها ولكن مصر الغنية بتربتها الذكية لم تقصر في ذكاء عقول أبناءها وبناتها فقد نشأ لها بفضل عقول رجالها ناشئة من النساء يأخذن بأيدي بنات جنسهن إلى مهيع التقدم وفي رأسهن مؤلفة ها الكتاب العقيلة ملك حنفي ناصف نسبة لوالدها أحد شيوخ العلم في القاهرة أو ملكة باسل نسبة لزوجها. عني بتأديبها والدها فجاءت أديبة بزت الأدباء وكاتبة يقلُّ في الكتاب مثلها وقد نشرت الآن ما أملاه قلبها على لسانها وقلمها في تعليم المرأة على الأسلوب الجامع إلى الدين الصحيح آداب الدنيا والمدنية الحديثة.
وقد طالعنا مات خطته يراعتها في هذا الشأن ولاسيما محاضرتيها في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية تكلمت فيها كلام العاقلة الحفيصة عن المولودة ودور الطفولة والمراهقة والخطبة والزواج والاقتصاد المالي والمنزلي والعمل البيتي والعادات والأخلاق ودور الأمومة. ومحاضرتها التي ألقتها في نقد عادات النساء وختمتها بقولها لو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية:
(المادة الأولى) تعليم البنات الدين الصحيح أي تعليم القرآن والسنة الصحيحة.
(المادة الثانية) تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي وجعل التعليم الأولي إجبارياً في كل(54/47)
الطبقات.
(المادة الثالثة) تعليمهن التدبير المنزلي علماً وعملاً وقانون الصحة وتربية الأطفال والإسعافات الوقتية في الطلب.
(المادة الرابعة) تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب بأكمله وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
(المادة الخامسة) إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
(المادة السادسة) تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.
(المادة السابعة) إتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج البنات قبل أن يجتمعا بحضور المحرم.
(المادة الثامنة) إتباع عادة المساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.
(المادة التاسعة) المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
(المادة العاشرة) على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.
طالعنا كل هذا ورأينا السيدة المؤلفة أجادت فيه من وراء الغاية لأن أقوالها نتيجة تجارب وخبرة بل هي القانون النافع في إنهاض المرأة من كبوتها وفي الكتاب مطالب كثيرة في إصلاح المرأة والاعتدال يقرأ من تضاعيفه والأدب يقطر من خلاله.
وقد قدم له أحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة والكاتب الخطيب العامل مقدمة لطيفة أبان فيها الغرض من هذه الأبحاث فقال لقد أجادت باحثة البادية في جعل بحثها مرتباً على هذا النمط المعين فإن الاعتدال في تعليم المرأة وتربيتها وتقرير الحد اللازم الذي تقف عنده في المساواة بينها وبين الرجال الاعتدال في ذلك كله أمان من الزلل والوقوع في نتائج سيئة قد لا تكون أقل في سوءِ الأثر من نتائج خمول المرأة وقعودها عن السعي إلى كمالها الخاص. قال أما الدين فإنه ملاك أخلاق المرأة ومناط آدابها وطرق كمالها وموجب الثقة بها. إن تقوى المرأة أكبر الأدلة على صونها ومعرفتها بالواجب وحسن قيامها به. إن شهود المرأة صلاة الجماعة في المسجد الجامع مرة واحدة أصلح لقلبها من سماع واعظ أخلاقي في الدار(54/48)
أو في المدرسة سنة كاملة. وإن تقليد المرأة الشرقية لأختها الغربية نافع ولكن هذا التقليد إلى اليوم ليس بحسنة جديدة ما دام أنه خلا من النوع الخاص بالدين. فإن الغربية تذهب إلى معبدها مرة في الأسبوع على الأقل في الشهر والمسلمة الشرقية لا تذهب إليه في مصر أبداً. كأن دأن أقل في الشهر ولالمسلمة لاشرقية لا تذهب إليه في مصر أبداًبها من سماع واعظ أخلاقي في الدلار أو من نتائج خمول المرأة وقعودها عنخول بيت الله أثقل كلفة عليها وأبعد عن رضى وليها من دخول بيوت التجارة وشهودها مسارح اللهو. إلا وأن حضور النساء صلاة الجماعة على صورة لائقة ومن غير إسراف هو أول عمل حسي تأتيه المرأة لتقرب به مسافة الفرق بينها وبين الرجل ولتقرر به المساواة المنشودة. وعلى الجملة فالكتاب من أنفع ما كتب في عصرنا حريٌّ بكل آنسة وعقيلة بل بكل رب بيت أن يتدارسه ويعمل به فبالأمس قام في مصر المرحوم قاسم بك أمين يحرر المرأة من قيود رقها واليوم قامت ملك ابنة حنفي بك ناصف تبين الخطة العملية فمتى يا ترى يكتب لهذه الديار أيضاً أن يقوم فيها من بنات حواء من يسعين لإصلاح بنات جنسهن على الطريقة الملكية فالكلام يفضل بفضل مصادره وأحسنه ما صدر عن ربات الحسن والإحسان.(54/49)
سير العلم والاجتماع
العلم والمال بمصر
ظهر كتاب الإحصاء الذي جرت عادة ديوان الإحصاء في مصر أن ينشره كل سنة فإذا فيه أن مجموع دخل مصر كان سنة 1909 15887313 جنيهاً ومجموع نفقاتها 16900015 جنيهاً وكان دخلها سنة 1880 9584430 جنيهاً وخرجها 7691424 جنيهاً.
وبلغ عدد مدراس الحكومة في هذه السنة المكتبية 64 مدرسة فيها 998 أستاذاً و14714 تلميذاً منهم 14087 ذكراً و627 أنثى وبلغ عدد المدارس الحرة 265 مدرسة سنة 1908 فسها 2329 أستاذاً و52441 تلميذاً منهم 46293 ذكراً وبلغ عدد كتاتيب الحكومة 144 كتاباً سنة 1910 فيها 449 أستاذاً و13365 تلميذاً منهم 9183 ذكراً وبلغ عدد الكتاتيب الحرة 356 فيها 6799 أستاذاً و190857 تلميذاً منهم 174023 صبياً. وبلغ عدد المدارس الأجنبية 409 مدارس فيها 2328 أستاذاً و47381 تلميذاً منهم 28914 ذكراً و18467 أنثى.
المحسنون للشام ولمصر
من أول إمارات النهوض في مصر والشام أن أبا السعود أفندي الحسيبي من أعيان دمشق يقف خزانة كتبه على المطالعين والعالمين سبلها في مكان خاص في القنوات وفيها مخطوطات ومطبوعات نادرة وهي نفيسة مهمة لا تقل فيما نحسب عن ألفي مجلد ويقف لها عقاراً يقوم بالإنفاق عليها وعلى القيم. وإن عبد الرحمن بك اليوسف من أعيان الفيحاء أيضاً تعهد بتعليم شابين أيضاً في مدارس فرنسا على نفقته يعلم الأول الهندسة الميكانيكية والثاني علم الزراعة وأن بطرس أفندي داغر من أعيان بيروت تبرع لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في الثغر بمئة ليرة كل سنة لتستعين بها على ترقية مدارسها الخاصة بالإناث. ووقف الأمير يوسف بك كمال من أعيان القاهرة 180 فداناً من أجود أراضيه في المنيا وعمارة بالإسكندرية يبلغ صافي دخلها السنوي ستة آلاف جنيه على مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها في أحد قصوره في درب الجماميز ووهب هذه المدرسة أيضاً عشرة آلاف جنيه لهدم القصر المذكور وبناءه من جديد على طرز مدارس الفنون الجميلة في الغرب وهذا فوق ما كان دفعه من المال للجامعة المصرية والمدرسة الصناعية والابتدائية(54/50)
اللتين بناهما في أملاكه في صعيد مصر وعلاوة على قطعة الأرض التي تساوي عشرة آلاف جنيه وهبها لنادي المدارس العليا لينشئ فيها منتداه. فأكرم بهؤلاء الرجال الذين يحسنون لإنارة العقول فيذرون في الدنيا بالمحمدة وفي الأخرى بالرحمة.
أعما الطيور
نشرت المجلة الفرنسية مقالة قالت فيها أن النشاط من خصائص الطيور وقلَّ فيها من يتخلف عن هذه القاعدة فالطير البحري المعروف بقصير الجناح الذي نرى جناحيه كنصل السيف يتحولان إلى قطع يظهر أنها تعجزه عن الحركة ومع هذا يطير ويقفز وكثيراً ما تطول مدة طيرانه وتحمله من جزائر الشمال إلى البحر الأبيض حيث يشتو وهذا مثل طير القوق فإنه يصيدج ويتناول السمك بحذق ويعرف بنزوة منه كيف يمسك ذات القشر وعادمة الفقار من الحيوانات ويتسلى بها فيجعلها نقله وحلواه. وطائر البجع الذي يظهر بأنه أعسر يتوكأ على رجل واحدة في الحدائق وأنه لا حراك فيه وهو على العكس طائر رحالة يفضل ما رزق من الأجنحة الواسعة التي تكون له بمثابة شراع لا نظير له يستخدمه في تنقله على البحيرات والأنهار حيث ينزل ويقيم جنوبي أوربا والهند والصين وأميركا وأستراليا. وتمتاز بعض الطيور بنشاطها على العمل بأن تتخذ لها صناعات مرتبة فالعصفور الدوري الذي كثرت أسماؤه بحسب البلاد هو في الواقع ونفس الأمر عامل لا يتعب ذو أمانة للغاية ويسميه الإسبانيون وهو في مالقة عندما يكون جاز إليها من جبل طارق نحات الحجر مشبهين له في الصناعة بالبناء لأنه يبني عشه ورائده العلم التام في الهندسة ومن أنواعه كثير في فرنسا وإنكلترا وجنوبي أوربا تختار لوكناتها ثقوب أشجار الصنوبر وتبتدع في هندستها وإحسان بنائها بالأحجار والملاط فالعصفور في جبل طارق صغير الجرم كالشحرور ويستعمل قوادمه ومنقاره لجمع الحجارة والحصى لينقلها إلى المحل إلى وقع عليه اختياره ويراكمها بعضها فوق بعض محكماً لها طبقة فوق أخرى ويجعل للعش حاجزاً طوله عشرين سنتيمتراً وعمقه كذلك وطوله من 6 إلى 7 سنتيمترات وههو يستعمل له نحو 280 حجراً ما عدا 70 إلى 75 حجراً للتأسيس ويبلغ عدد الأحجار 350 ومنها ما وزنه 60 غراماً وعجيب منه كيف ينشط لحمل مثل هذا الثقل والمسافة التي ينقل منها الحجار لعشه ليست بقصيرة.(54/51)
ومن أنواع العصافير ما يألف البلاد الجبلية وهو أيضاً يختط لعشه في الجدر والأحجار والأشجار خططاً عجيبة ويبالغ في هندسته وتقسيمه وكذلك الحال في الخطاف الذي يشبه السنونو فيكمل عمله وبدلاً من ثقب بسيط يختاره في أعلى العش للدخول يقيم نوعاً من الطريق مغطى في أسفل الجدار. ومن الطيور ما لا يحذق ابتناء الوكنات ومع هذا ومع هذا لا تلقي صغارها على حصا تختاره لذلك. وأعجب ما في هذه الطيور البناءة كلها فطرة الذكاء التي تقودها إلى اختيار مواد البناء. فالسنونو مثلاً تعرف كل المعرفة تمييز نوع الملاط الذي تجمع فيه بين أجزاء ما تقيمه من البناء من الداخل والخارج وذلك بمفرزاتها اللزجة التي هي من خصائصها الطبيعية وهذه المفرزات يستخدمها بعض الطيور ملاطاً لوكناتها أيضاً. وأن الطير المعروف ببناء البيوت ليصنع عشه من الطين والقش حتى أن أهل المكسيك منه تعلموا طريقتهم في البناء.
ومن لطيور النجار كما فيها البناء وذلك كالطائر المعروف بالنقار ال1ي يعيش في الأشجار يتسلق عليها بمخالبه فينقر بمنقار لحاء الشجر ليفرغ منها الهوام ليعيش بها فهو عامل غريب يجمع عشه بصبر مدهش ويحفره في بعض الجذوع على ثلاثة أمتار من وجه الأرض ويحتال في إجادة محله ما شاء وشاءت الإجادة الغريزية على نحو ما نشاهد جحوراً نجرتها هذه الطيور كنقار الخشب والصرد في غابات إنكلترا ثم تتركها إلى محل آخر لا تصل إليه اليد.
ومن الطيور ما ينقي الزرع كالقصير الرجلين يخدم الحدائق كما يخدمها صاحبها والمتعهد لها فهو وإن كان يعيش على شواطئ مجاري الأنهار ولاسيما البائخ إلا أنه ينقي الزهور والبذور التي يترك وشأنه ليسرح بينها وبين أجمل من هيئته وهو يقفز ويمر مسرعاً جائياً ذاهباً وجسمه مائل إلى الأمام وقنبرته منتصبة وريشه مشرق ظاهره سماوي وباطنه أبيض وعينه منتبهة لا يغفل دودة ولا حلزوناً إلا ويعزلها عن الزرع بوجدان سليم.
وأعجب من هذا وذاك حال الطير المسمى الشرطي وهو يكثر في أواسط أوربا يقف على الأسلاك البرقية على مساوف بعيدة يرصد البعاد لونه أسود وله عصابة برتقالية في رأسه يقتات بالديدان ويخافه النسر والباشق والبازي وقد سمي الظالم لأنه إذا اختلط بطيور أخرى يتسلط عليها وإذا لم يجد أسلاكاً ينزل على بعض العمد أو على غصن شجرة وإذا(54/52)
كان في السهل ينزل على ظهر بقرة ويعيش من الصيد ولا يهاب ما كان أكبر مكنه من الحيوانات بل يستخدم منقاره ومخالبه فيدمي بها ويقتنص وهو بذلك يتحاماه الكواسر وغيرها ولا يقرب من وكناته أحد منها واشتهر بالشجاعة بين الطيور حتى أنها لتهابه في وكناتها وتحسب له ألف حساب ولذلك كتبت له السعادة وهو من بين شذاذ الآفاق من الهوام والطيور والكواسر حامي القانون والمسيطر الأعظم.
التحصيل في أوربا
بلغ عدد من يختصون في العلوم في مدارس أوربا خمسة عشر طالباً من أهل دمشق فقط عدا من أرسلتهم الحكومة على نفقتها منهم أربعة في الطب والجراحة واثنان في طب الأسنان واثنان في الحقوق واثنان في الزراعة وواحد في الهندسة وآخر في هندسة الكهرباء وواحد في علم التربية والتعليم واثنان يستعدان في العلم الآن.
الرئيس البرتقالي
إن الرئيس البرتقالي الجديد تيوفيل براغا هو كأكثر رؤساء الجمهوريات عالم كبير فإن فاخرت فرنسا برئيس جمهوريتها الأول تيرس وفاخرت الولايات المتحدة بأحد رؤساء جمهوريتها روزفلت فيحث للبرتقال أن تفاخر برئيسها براغا فهو من أكبر كتابها المعاصرين وهو في السابعة والستين من عمره اشتهر أمره منذ خمسين سنة وهو شاعر فيلسوف نقاد فقيه أولى بلاده فخراً لا يبلى بما نشره لها من تاريخ آداب البرتقال الذي كتبه في عشر سنين متوالية ومن كتبه روح الحق المدني الحديث وهو زعيم القائلين بالفلسفة الحسية في برتقال كما أن بنيامين كونستان زعيمها في برازيل وهذه الفلس فة هي التي وضع أساسها أوغست كونت الفيلسوف الفرنسوي وما برح براغا يحف حوالي منبره في لشبونة أناس من الناشئة الجديدة يوحي إليهم آماله الديمقراطية وروحه الوطنية فلا عجب إذا وقع اختيار أمته عليه ليرأسها.
اللعب والتربية
كتب أحد علماء التربية الألمان مقالة طلب فيها إلى دور التعليم أن تخص وقت بعض الظهر من كل يوم بالألعاب المختلفة تكره عليها الأولاد والمتعلمين أكثر مما تكرههم على تعلم دروسهم واستشهد بقول الإمبراطور منذ مدة إنني أبحث عن جنود فحاجتنا الماسة إلى(54/53)
جيل قوي من الناس فالجمناستيك البسيط لا يقوم بهذا الغرض بل الواجب المشي الكثير الطويل لا الاكتفاء بألعاب عادية يقوم بها الأولاد والشبان عرضاً بل ألعاب حقيقية علمية مثل التزحلق (باتيناج) والعوم وغير ذلك. ألعاب يناظرها مدير خبير يستثمر النشاط ويحسن الانتفاع بمرونة الجسد ويقوي بالعمل والعادة اليومية أحسن قوى النفس والعقل مثل الصبر والحرية والإرادة وعمل مثل هذا المدير لا يقل في الفضل عن عمل زملائه أساتذة العلوم واللغات والتاريخ فهو بعمل على تربية الشبيبة على شرط أن يعطي الوقت اللازم لذلك وهو ينوع الألعاب بحسب الفصول حتى لا ينهك القوى في الحر كما يعاملها في البرد.
فقر يابان وغناها
ذهب بعض الأميركيون إلى أن يابان أفقر بلاد العالم فأثبت ذلك الأستاذ كامب من كلية كيوتو بالإحصاء الدقيق قابل فيه بين غنى اليابان وغنى غيرها من الأمم فقال إذا كانت يابان تملك مثلاً 100 يان (معاملة يابانية نحو فرنك) فإن ألمانيا تملك 683 ياناً وفرنسا 743 ياناً وإنكلترا 1008 يانات فالدخل الشخصي إذا سرنا على هذا النحو هو 10 يانات في اليابان و41 في ألمانيا و52 في فرنسا و60 في إنكلترا و73 في الولايات المتحدة. والدين الذي على بلاد اليابان ثقيل تنوء تحته فهو نحو 22 ياناً في المئة ومع هذا فإن يابان لا يخشى عليها من الفقر المدقع والخراب العاجل بالديون لأن الفرد منهم يعرف كيف يصرف في سبيل سداد عوز حكومته فيقطع من أكله ويقتصد من رفاهيته بسائق وطنيته ليعطي حكومته ما تنهض به من المال. والاقتصاد في المعاش من خصائص هذه الأمة.
أوهام السن
من الشائع ا=على اللسن أن من تجاوز الخمسين يؤذن نشاطه العقلي والطبيعي بالضعف على أن الحوادث تثبت نقيض ذلك فإن الحياة العلمية والسياسية والأدبية مخصبة كثيراً في السن التي يرميها الناس بالعقم ولطالما أورد بعضهم أدلة على رقيهم العقلي ونشاطهم فإن شهرة لوراستراتكونا في عالم السياسة ابتدأت لما كان عمره خمساً وسبعين سنة وهو اليوم في سن التسعين يعمل منذ العاشرة قبل الظهر ويحضر الولائم الرسمية ثلاث مرات في الأسبوع. وكان عمر ويليام مورغان 65 سنة لما كتب قصصه الأولى وكان عمر بيرمون(54/54)
مورغان المثري الأميركي نحو ذلك عندما وضع خطته في الإثراء. ومنذ خمسين سنة كانوا ينظرون إلى ابن الخامسة والأربعين في بلاد الغرب بأنه شيخ أما اليوم فلويد جورج السياسي الإنكليزي قد بلغ السابعة والأربعين ولا يزال يعد في الشبان وقد بدأ السير هيرام ماكسيم في سن السبعين يعمل عملاً جديداً كل يوم. ولما وصل فرنكلين إلى باريس سفيراً من قبل حكومة الولايات المتحدة كان عمره إحدى وسبعين سنة وبدأ فيكتور هوغو بكتابة تاريخ جناية في الرابعة والثمانين من عمره وعلى كل فالنشاط ميسور لكل من جادت صحته وصحت عزيمته على العمل شاباً كان أو كهلاً أو شيخاً ولا يزال المرء في هذه الديار يتعلم حتى يموت. والترتيب في الحياة هو سر اقتدار هؤلاء المعمرين على العمل إلى النهاية.(54/55)
إصلاح خطأ
سها عن بالنا أن نقول في الجزء الماضي عند إنشاء مقالة جمهورية البرتقال أنها ثالث جمهورية في قارة أوربا فإن الأولى فرنسا والثانية سويسرا والثالثة تلك الجمهورية الجديدة.
وجاء في الكلام على روضة العقلاء في هذا الجزء أن صاحب كشف الظنون لم يذكره بلى أنه ذكره بقوله روضة العقلاء لابن أبي حيان في الأحاديث وفي هذا خطأ في اسم المؤلف وهو حبان بالباء لا بالياء. وفي قوله أن الكتاب في الحديث وهو في الأخلاق.(54/56)
العدد 55 - بتاريخ: 1 - 9 - 1910(/)
ظلامات عصر الظلمات
كل منن ألقى نظرة إجمالية على تاريخ القرون الوسطى والقرون الحديثة في هذه البلاد يوقن بأن القرون الأخيرة أي القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر كانت أشقى العصور على هذه البلاد لا حكم فيها إلا للقوة لا عدل يحييها ولا علم ينهضها وخصوصاً في الأيام التي سادت فيها حكومة الاقطاعات وساد معها جيش الإنكشارية (يكى جري) أو العسكر الجديد فكل ما تراه عينك في دمشق مثلاً من بيوت ضيقة متلاصقة وأرتجة واطئة وأحياء لا منفذ لها وقصور ومدارس في الضواحي خربة إنما نشأ من اعتداء هذا الجيش على أفراد الرعية المسكينة وما نجا من أيديهم يتناوله الظلمة من الحكام ويصادرونه ويستصفونه هنيئاً مريئاً لا وازع يزع ولا إدارة منظمة: أحكام في الدمار مسمطة وقواعد في السياسة معسلطة وآراء في جلب المصالح ودرء المفاسد مخلطة مغلطة.
ولقد وقع غلينا مخطوط نافع أورد فيه مؤلفه بالعرض في جملة قصائده بعض ما شاهد في عصره من الكوائن فأحببنا نقلها إلى هذا المعنى دلالة على القضية التي قررناها آنفاً ولتكون متممة لتاريخ هذه الحاضرة. وهاك ما ورد في هذا المعنى بمناسبة مدحه لأحد حواشي سليمان باشا ابن المعظم (والي الشام إذ ذاك) قال: واتفق لهذا الممدوح قصة من غرائب القصص وهي أنه سعى في خلاص جماعة من أهل حيه وغيرهم من القتل وفداهم بنفسه ودافع عنهم عند والي الشام بما استطاع وسلموا من الهلاك بسبب مدافعته عنهم وفر قوم من دمشق خوفاً من واليها وأوقع الوالي القتل والنهب بقوم آخرين ظفر بهم في دمشق ثم أن الوالي خرج من دمشق أميراً بقافلة الحج وخرج معه هذا المذكور حاجاً ومؤدياً ما عليه من خدمة السلطان في طريق الحج فلما وصل الأمير والحاج إلى المزيريب رجع أولئك النفر الذين فروا من الوالي بعد أن أرسلوا مكاتبة إلى جيران هذا الذي سعى في خلاص أكثرهم من القتل تشتمل تلك المكاتبة على أنهم في ليلة كذا يرجعون ويدخلون دمشق بقصد انتهاب دار هذا المذكور وقتل من يظفرون به من أهاليه وقراباته فأجابهم كل من كاتبوه بذلك بالسمع والطاعة وأنهم سيكونون لهم عضداً وعوناً على ما يبيتوا عليه وأرادوه من السوء بهذا الأمر الذي عزموا على فعله فلما كانت الليلة الموعودة دخل أولئك النفر الفارون دمشق ومعهم نفر من النصارى والدروز والأشقياء أعداء الدين والمسلمين ولما وصلوا إلى القرب من الدار المقصودة بالسوء تلقاهم الناس بالترحيب وتحزب معهم(55/1)
غالب الناس من أهالي ذلك المحل حتى بلغوا العدد الكثير فلما قربوا من الحي ترفع أهله في منازلهم وفر من كان في الدار المقصودة من كبير وصغير طالبين للنجاة بأنفسهم فلما وصل أولئك النفر المغضوب (عليهم) ومن معهم من المنافقين الذين انضموا إليهم كسروا الأبواب وهجموا على الدار وانتبهوا وضربوا وأفسدوا إفساداً ما سمع بمثله وأصبحوا ماكثين في دمشق لا يهابون أحداً فخرج إليهم نائب الوالي والأعيان والموالي فتلقوهم بالحرب والضرب وقتل جماعة وجرح آخرون ورجع النائب ومن معه منهزمين ومكث أولئك النفر الأشقياء بدمشق ريثما بلغوا إربهم من سلب واغتصاب وتهكم وتحكم لا يردهم عن ذلك أحد ولا يهابون أحداً. . . . .
قال: ولقد حقق الله تعالى جميع نما نطقت به هذه القصيدة من الظفر بأولئك النفر المفسدين والطافة المعتدين المارقين من الدين على يد والٍ آخر غير ذلك الوالي المذكور في ترجمة هذه القصة قد عينه السلطان وولاه دمشق لأجلهم بسبب فتنة أضرموا في الشام نارها وأثاروا غبارها وأفسدوا إفساداً فظيعاً فقتلوا وخربوا واستلبوا وانتهبوا وأحرقوا الدور والأماكن وحركوا من الشرور كل ساكن وتجاهروا بالفواحش وارتكبوا كل أمر مخالف للدين فاحش وأعلنوا الفطر في شهر رمضان على رؤوس الأشهاد وتعطلت الأسواق والمعاملات بسببهم في دمشق قريباً من سنة لا تقام جميع ولا يسمع أذان ولا يفتح جامع ولا يمكن أحد أن يخرج من منزله لحاجة ولا لغيرها لفسادهم وإفسادهم وتعديهم على الخاص والعام وإنما كان سبب تمكنهم من ذلك عدم وال في الشام فإن واليها كان قد خرج منها إلى الحج أميراً ففي رجوعه من الحج عارضه العربان في أثناء الطريق ففر منهزماً بعد أن أعجزوه وانتهبوا قافلة الحاج بأسرها بعد ن كانوا انتهبوا جردة الحاج وقتلوا من الجردة والحاج الجم الغفير. . . فهذا كان سبب تمكنهم من إقامة الشرور والفتن فجاءهم بعد ذلك هذا الوالي المذكور ثانياً وقتل منهم من قدر عليه وفر منهم من فر منهزماً وسلب دورهم ومتاعهم وأثاثهم ووجه أخبارهم وتركهم أذل من اليهود وأحقر من الذباب وأوهن من الكلاب ولحق دمشق وأهلها من ذلك الوالي وحاشيته وجنده أسوأ السوء بسبب قيامهم على أولئك الأشقياء وانتهبت غالب المنازل في دمشق وقتل خلق كثير من البراء وتوطن هذا الجند الكثير من دور الناس وأخرجوا أهلها منها عنفاً وجبراً وقسراً وظهر من أباع(55/2)
الوالي ما أنسى أهل دمشق ما كانوا فيه من الضنك والشدة قبل قدوم هذا الجند إليهم. . . وأعقب مجيء هذا الوالي إلى دمشق في دمشق ضيق وشدائد وشرور وظلم وجور وعسف وتعد واحتقار لأهل دمشق من شدة فظاظتهم وغلظتهم وكان فيهم من النصارى والرافضة ما لا يحصى عدده وختم ذلك بزلزال في دمشق ونواحيها ورجفات زعزعت الجبال وردمت الدور في غالب الأماكن وهدمت كثيراً من المساجد والمعابد والمنارات وعند كتابتي لهذا المحل كانت مكثت في دمشق خمسة وأربعين يوماً وقتل إذ ذاك تحت الردم خلق كثير وخرج غالب الناس من منازلهم وتركوها خالية وتوطنوا البساتين والجبانات. وقال في مكان آخر: قد تقدم في هذا الديوان ذكر بعض ما وقع في دمشق من الفتن والمحن والشرور والغلاء والظلم وغير ذلك مما مر وتقدم وكل ذلك قبل تاريخ سنة ألف ومائة وسبعين وها أنا أذكر ما وقع واتفق لدمشق وأهلها في سنة سبعين وما بعدها من العظائم والحوب والأزمات والزلازل والرجفات وما تأتى من ذلك من خراب الدور والمنارات والجوامع وما كان في تلك الأيام من ظلم وجور وعسف إلى أن تداخلت الدواهي والبلايا بعضها في إثر بعض حتى كان آخر ذلك الطاعون الذي أنسى ما كان قبله مما يفسد الأديان ويهلك الأبدان ويشيب الولدان.
وهنا أورد المؤلف أرجوزة مطولة في وصف تلك المحن قال فيها:
لما تقضت عشرة ... من صومنا محررة
قامت طغاة فجرة ... في شامنا المطهرة
وأضرموا نار الفتن ... وأظهروا خافي الإحن
وأوقعونا في محن ... وكدروا منا الفطن
ومذ رأيت الفتنا ... ثارت وقامت علنا
وكل مكروه أنا ... وكل سوء وعنا
ناديت رباً ذا منن ... بعد الفروض والسنن
وجنح ليل قد سكن ... وفيه قد فر الوسن
وقلت قول الملتجي ... وطالب للفرج
وهارب من حرج ... يا من إليه ألتجي(55/3)
يا دافع البلاء ... يا عالم النداء
يا سامع الدعاء ... يا كاشف اللأواء
خلص أناساً ظلموا ... من بطش قوم ظلموا
عن الرشاد قد عموا ... ومن سداد حرموا
وعجل انتصاراً ... واهلك الأشرارا
وأيد الأبرارا ... وسدد الأخيارا
وهت ربوع الشام ... من زمرة طغام
وعصبة لئام ... خذوا من الحرام
وفرقة فجار ... طاغية أشرار
قد أزعجوا الذراري ... بأقبح الضرار
لم يرحموا صغيراً ... لم يستحوا كبيراً
لم يتركوا نقيراً ... نهباً ولا قطميرا
وأعلنوا الفسادا ... وأذهبوا العبادا
وأخربوا البلادا ... وأحرموا الرقادا
وحللوا الحراما ... وأهملوا الصياما
وقهروا اليتامى ... وفضحوا الأيامى
وأظهروا الإسرافا ... وقتلوا الأشرافا
وضيعوا الإنصافا ... وأكثروا الخلافا
وشتموا الإيمانا ... وكذبوا الأيمانا
وهدموا الأوطانا ... وأورثوا الهوانا
وضيعوا الأمانة ... وشهروا الخيانة
وحرموا الديانة ... وفارقوا الصيانة
وغلبوا الحكاما ... وأبطلوا الأحكاما
وأكثروا الضراما ... وأفحشوا الكلاما
مدوايد الفجائع ... سنوا مدى المواجع(55/4)
وقتلوا في الجامع ... لساجد وراكع
وتابعوا الأذية ... وأعظموا الرزية
وأوقعوا البلية ... وأقلقوا البرية
وأغلقوا المساجدا ... وأقفلوا المعابدا
وأكثروا المفاسدا ... فحرموا المحامدا
وعطلوا المنابرا ... وحقروا الأكابرا
ودمروا الأصاغرا ... واشتهروا المناكرا
وقصدوا أذاناً ... وأسكتوا الآذانا
وتابعوا الشيطانا ... وخالفوا السلطانا
وبات كل حالم ... من جاهل وعالم
وقاعد وقائم ... بالغم كالرمائم
وكل سوق سكرا ... وقل بيع وشرا
وقام سوق الإفترا ... ودام هذا أشهرا
يسوء فينا مدة ... حكت ليالي الردة
فلم تنزل في شدة ... ومحن ممتدة
والأرجوزة طويلة وهي على هذا النمط وقعت في نحو خمس ورقات بالخط الدقيق المندمج قال في آخرها: وجميع هذه الشكاية إنما هي مما وقع من الشرور والفتن في سنة ألف ومائة وسبعين في دمشق وما جرى واتفق خارجها من نهاب الجردة في سنة إحدى وسبعين ثم ما وقع فيها من انتهاب الحج وما حصل إذ ذاك من الفساد والإفساد من طائفة الأعراب والأوغاد ولما انتهبت الجردة ثم مات أميرها ثم انتهب الحج وانهزم أميره ورجع إلى دمشق من سلم من القتل منهوباً من السلب وكانت نار الفتنة لم تزل ثائرة في دمشق بين طائفة القول وطائفة الينكشارية من مضي عشر ليال من شهر رمضان والقول إذ ذاك محاصرون في القلعة فلما أقبل المنتهبون من الحجاج إلى دمشق خرجت طائفة الينكشارية يتلقون المنهزمين والمنتهبين من الحجاج فكل من ظفروا به وكان من القول قتلوه وأخذوا ما يجدونه معه من متاع أو دابة أو غير ذلك حتى أنه قد بلغني أنهم ظفروا بأحد القول(55/5)
خارج دمشق فقتلوه شر قتلة وأخذوا ما كان معه ثم أحرقوه بالنار واستمرت الشرور والفتن قائمة في دمشق وهي إذ ذاك خالية من وال حيث أن أمير الحاج لما انهزم في أثناء الطريق استمر منهزماً ولم يدخل دمشق فبقيت بلا وال ولا حاكم.
ولما بلغ السلطان مصطفى أخبار ما تقدم ذكره من انتهاب الجردة والحج وما في دمشق من الفتن والهرج وأن طائفة القول محاصرون في القلعة ساءه ذلك وعين عبد الله باشا الشتجي وأمره على دمشق وعلى الحج وأنه يستقصي الخارجين عن أمره والمتعصبين على القول ويقتلهم ويرسل برؤوسهم إلى الباب العالي وألزمه أن يباشر إصلاح طريق الحاج بما أمكنه فجاء عبد الله المذكور والياً على الشام وأعمالها وأميراً على الحاج ودخل دمشق في أوائل سنة إحدى وسبعين وجاء معه بجند الغالب منهم نصارى وأعاجم.
فلما قرب من دمشق تحزبت الينكشارية وتجمعوا في جهة الميدان والقبيبات والحقلة ووقع منهم إساءة في الأدب في حق الوزير وجنده وانتهبوا من نزل منهم بالقرب من محلهم الذي تحصنوا فيه ثم بعد يومين من ذلك نزل من الينكشارية نفر إلى جهة باب الجابية وتلك النواحي فظفروا باثنين من الجند فبطشوا بهما فقتل أحدهما وجرح الآخر فبلغ الخبر إلى الوزير فأمر من عنده من الجند أن يذهبوا إلى المحل الذي فيه الينكشارية ويقتلوا من يقدرون عليه ويأسروا من قدروا على أسره فخرج الجند متوجهاً إلى جهة حارة الميدان وتلك الجهات فلما وصلوا إلى وجوه المطلوبين وتوجهوا فرت طائفة الينكشارية طالبين البراري والقفار فتبعهم نفر من الجند ساعة من نهار وقتلوا منهم عدداً قليلاً ورجعوا عنهم واستمر أولئك هاربين ثم أن الجند أخذوا في قتل من رأوه كائناً من كان وشرعوا في النهب والسلب فانتهبوا غالب المنازل والحوانيت من حدود الحقلة إلى باب الجابية واستمر ذلك من الضحوة الكبرى إلى وقت العصر والجند يأتون بالرؤوس إلى حضرة الوزير فقتل في ذلك اليوم من الرعايا العدد الكثير وانتهب المتاع والمال الغزير إلى أن دارك الله تعالى باللطف بعد أن أخذوا العدد الكثير من الرعايا البرآء وسجنوهم ووضعوا القيود والأغلال في أيديهم وأرجلهم وأعناقهم ولما بلغ الوزير أن هؤلاء النصارى والأعاجم حصل منهم التعدي في القتل والنهب خرج إليهم ولامهم على ذلك وأمرمهم بالكف عن ذلك وجمع ما قدر على جمعه مما انتهبوه ووضعه في المساجد وأرصد له من يحرسه وندب المنتهبين أن(55/6)
يأتوا وينظروا في الأمتعة فمن وجد شيئاً من متاعه أخذه ففعلوا ذلك فما حصلوا على عشر معشار ما انتهب من متاعهم وأموالهم وأطفأ الله تعالى نار الفتنة ثم أخذ النصارى والأعاجم الذين هم من جند هذا الوزير يتحكمون في أهل دمشق بالسلب والاستحلال والشتم والقذف والضرب والقتل حتى أشاعوا الفواحش وتجاهروا بالزنا وشرب الخمر وحتى تعدوا إلى أن يخرجوا أهل المنزل من منزلهم ويسكنون فيه وكان الإنسان في تلك الأزمان لا يأمن على نفسه إذا خرج من منزله بعد المغرب ومتى خرج أصيب بنفسه أو ماله. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي أشرت إليه في الأرجوزة المتقدمة من الشكاية مما وقع في دمشق من الرزايا سنة إحدى وسبعين بسبب ما وقع من طائفة القول والينكشارية من الفساد والإفساد ثم بسبب ما وقع بعده من طائفتي النصارى والأعاجم الذين هم من جند الوزير المذكور سلط الله تعالى الزلازل والرجفات فوقع الردم في المنازل والجوامع والمنارات ومات تحت الردم خلق كثير وقبل أن تسكن تلك الرجفات والزلازل أرسل الله عز وجل الطاعون فأخلى البيوت وفرق الجموع وشتت الشمل وكدر العيش.
وقال بعد أن مدح عام اثنين وسبعين ومئة وألف: وقد كان أهل دمشق في غاية الوجل ونهاية الفرق والقلق من جهة الحاج من شر الأعراب الأشقياء قياساً على ما وقع منهم من الشر في العام الذي قبل هذا العام وكان الوجل الواقع من أهل دمشق في محله9 حيث أن العرب بالغوا في التعدي وفجروا واعتادوا سلب الأموال وتكدير الأحوال ولكن الله يؤيد بنصره من يشاء فإن أمير الحاج الذي هو عبد الله باشا المذكور ووقع بينه وبن الأعراب حرب شر من أجل مال الصر المرصود للعرب من جهة السلطان فتوعده باشر فاحتال عليهم وقتل أمراءهم وفر الأذناب منهم ومضى الأمير والحاج سالمين غانمين ولما رجع الأمير بالحاج رجع على طريق آخر بعد أن تجمعت العربان بين الحرمين بقصد المعارضة للحاج فخيب الله آمالهم ولطف سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين وسلمهم من غوائل الأشقياء المجرمين وبلغنا ذلك كله بعد هلة عام اثنين وسبعين بأيام فلأجل ذلك خصصت هذا العام بالمدح أيضاً فقد كان الناس قبل هلته يشكون من قلة الغيث فلما استهل أغاث الله عز وجل العباد وأحيا البلاد وإلا فإن الدواهي الواقعة فيه وفي أيامه بدمشق وقراها لم يسمع مثلها بفساد الجند وإفساد العساكر وظلم رئيسهم وجور حواشيه وعسفهم.(55/7)
وعاد المؤلف فكرر أهوال ما وقع سنة سبعين وما بعدها وقد دام ما وقع من أذى الجند السابق والجند اللاحق الذي جاء مع الوالي الجديد من عشر ليال من شهر رمضان إلى جمادى الأولى والقول منحشرون في قلعة دمشق والينكشارية ومن تبعهم من الحشرات حول القلعة والحرب قائمة على ساق وقدم وقد أخرج الجند الجديد أوب عض الناس من دورهم وتوطنوها ومع اختاطفهم لبعض النساء والغلمان جهاراً من غير مدافع لذلك ولا ممانع حاكمين على جميع أهل الشام بالكفر وبأنهم قوم يزيد مصرحين بذلك. .
هذه نموذجات من عصر الظلامات والظلمات والكتاب نسخة كتبت بقلم مؤلفه وشعره متوسط حسن بالنسبة لعصره عصر الانحطاط في كل شيءٍ كتبها في ذي القعدة سنة ألف ومائة وثلاث وسبعين.(55/8)
الألفاظ السريانية في العربية العامية
اللغة السريانية من أمهات اللغات السامية وهي من أصول اللغة العربية ولو بحثت في أصول الألفاظ العربية لرأيت بعضها سريانيا في الأصل كما دخل إليها ألفاظ كثيرة من العبرانية والحبشية والفارسية على نحو ما حققه المحققون من الباحثين في أصل اللغات.
كان للسريانية شأن عظيم حتى قال بعضهم أن السريانية كانت لسان آدم أبو البشر وتعدى بعضهم فادعى أن لسان أهل الجنة السريانية وذهبت عصابة من العلماء إلى أن السريانية أصل لغات الآدميين بدليل ما وقع في أسفار موسى من تسميات تقرب كل القرب من الألفاظ السريانية معنى ومبنى وعلى كل فهي بكر لغات النوع الإنساني وهي من أعرقهن في القدم وأول من انطلق لسانه على ما نعهد آرام بن سام فتناقلها الآراميون أخلافه ممن أطلق اسمهم حيناً من الدهر على السوريين أو السريان الذين عمروا بلاد كلدان وأشور وسورية والمراد بالسوريين غير الأثوريين النازلين من صلب آثور أو آسور بن سام من كانوا يسكنون عبر الفرات ولما دوخ ملوك أشور سورية عدَّ الأشوريون والسوريون شعباً واحداً ولما اقتسموا الملك عرف من أقام عبر الفرات بالأشوريين وقد تكلم بهذه اللغة السريانية سكان أورشليم بعد السبي البابلي وأكثر نصارى البطريركية الإنطاكية والموارنة وأما أشهر فروعها فأولها البابلي وهو أفصحها وأوضحها وأبقاها كتبت به أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس وثانيها الأورشليمي الذي تكلم به اليهود بعد جلائهم من بابل فتناسوا العبرانية وتلقفوا الكلدانية فشابوها ببعض ألفاظ من لغتهم وسميت لغتهم العبرانية لأن اليهود كتبوها بالعبرية وهي كلدانية سريانية والثالثة السريانية الإنطاكية وبها كتبت تب الدين عند الموارنة وكانت شائعة في البلاد العربية والحبشة وقسم من بلاد الأرمن وما بين النهرين وسورية ولبنان وفينيقية وأنطاكية.
والى اليوم لا يزال أثر ضئيل للسريانية أثناء المفردات العربية في كلام أهالي شمالي لبنان كما أن أهل بشراي وحصرون وبعض القرى المجاورة لهما كانت تتكلم بالسريانية في أواخر القرن السابع عشر ولا يزال إلى اليوم أهل معلولا من جبل قلمون يتكلمون باللغة السريانية مع اللغة العربية وقريتان بجوارهما.
وهاك الآن أسماء بعض قرى الشام التي هي سريانية الأصل:
(داريا) الدور. (بيتما) بيت اليتيم. (بيت لهيا) بين الآلهة. (زملكا) سلاح الملك. (كفر مشكا)(55/9)
قرية الجلود. (كفرسوسة) قرية الفرس. (كفر قوق) قرية الأكواز. (معربا) المغرب. (المعرة) المغارة. (راشيا) الرؤوس. (البقاع) السهول.
وإليك أسماء بعض قرى لبنان وأكثر أسمائها سريانية:
(بكفيا) الموجودة بين الحجارة. (بسرين) الحومات. (حبرمون) رفيق من أنت. (مزمورا) الترنيمة أو الأنشودة. (عينات) عين أبي. (رمحالا) الرمل العالي. (رشميا) رأس المياه أي أعذبها. (شرتون) صدقتموني. (شوريت) العرق. (بيت مرى) دار سادتي. (البتير) المسكن. (بسكنتا) محل العدل. (بلعشمية) قرية السماء. (برمانا) ابن من أنت. (بتغرين) سوق التجار. (بتعلين) مأوى الثعالب. (عينطورا) عين الجبل. (الشوير) سور. (عين عار) عين الغار. (قرنابل) قرن الأيل. (العاقورة) العين الباردة. (بجة) الجنة البستان. (جعيته) الصادحة. (درعون) الذراع. (حدشيت) أحد الستة. (عين جوبا) عين الحب. (عاليتا) العالية. (عمشيت) مع الستة. (ميروبا) المياه الغزيرة. (راسكيفا) رأس الحجر. (رشعين) رأس العين. (شمسطار) شمس الجبل. (أيطو) القيظ. (بتحلين) بيت الحلوين. (أسيا) الطبيب. (بشتودار) مكان الشر. (إهدن) الجنة. (حردين) انظر إذاً. (حدتون) الجديدة. (مجدليا) البرج. (راشانا) سيد المان. (ياريتا) الوارث. (نيحا) الهادئ. (عين تورين) عين الجبال. (رام) العالي. (شاتين) الستون. (شبطين) القضبان. (تنورين) التنانير. (زغرتا) الصغيرة. (الدوق) المنظر. (قزحيا) كنز الحياء. (كفرحى) مكان الحي. (كفرزيتا) حقل محل القضاء. (كفرتعلا) حقل الثعلب. (مليتا) الملآنة. (ريحات) الأكام. (بطرام) بيت العالي. (بطرومين) بيت السادة. (كفرحانا) الحقل الجديد. (كفرعقا) حقل العقد. (عابا) الحصن.
هذه نموذجات من أسماء القرى وهناك كثير من الألفاظ الشائعة في اللغة الدارجة في سورية وهي من أصل سرياني وتجد أكثر هذه اللفظات في لغة أهل جبل لبنان فمن ذلك قول الم لولدها ردعاً له وتخويفاً من أن يمس شيئاً يؤذيه (أوواوا) وهي كلمة وعيد. و (واوا) ويل ويل والمعنى إن مسست ذلك الشيء المؤذي فويل ثم الويل لك. وقولهم (الشكارة) للدلالة عَلَى النذر اليسير وهي في الأصل السرياني تدل عَلَى البقعة من الأرض فيقولون مثلاً: فلان عنده شكارة كرم وفلان مربي شكارة دود حرير وزرع له شكارة قمح.(55/10)
ويقولون عمن يتروى في أموره (فلان يتبحر في أموره) أي يتفحص. ويقولون (بحش الأرض) حفرها ويقولون أيضاً بحوش بمعنى نبش وحفر. ومنه قولهم (الولد يبعط) وهي لبط. ومنه (جهجه الضوء) أي انبلج الصبح. ومنه (كعيت) أي عجزت. ومنه (عمل له كعرة أيما كعرة) أي صاح به وانتهره زاجراً. ومنه (جرجره) أي جره. ومن ذلك (زرع دليل) أي متفرق هنا سنبلة وهناك أخرى. (دلف بيتنا) أي وكف وقطر. (دندل) دلى. (دقر الباب) أوصده. (دحيناهم) محقناهم وأفنيناهم. (طلعت هبلة الماء) أي بخاره. (يزعق الولد) يصرخ ويصيح. (زفر ثيابه) وسخها ودنسها. (زرب الماء أو زرزب أو ذرف) نضح وانهرق. (انقطع حيله) قوته وحوله. (رحيص الدابة) شدها وربطها. وينعتون الرجل الداهية الشديد المكر بكلمة (حرح) أي المكار المحتال الذي لا يؤخذ من وجه.
وربما قال بعضهم أن بعض هذه الألفاظ من مفردات العربية الفصحى ولكن لها في بعض التعابير من المعاني مل يحمل عَلَى أن يقطع المرءُ بأنها سريانية المبنى المعنى والوضع والمولد.
ومن ذلك طرطوع من يخلط في كلامه لخفة عقله. (طرش ثيابه) أي لوثها وقذرها. (أطرشوه ماءً) رشحوه وأنضحوه. ومنه يطرشون بيوتهم بالكلس أو بالحوارى وهي سريانية (يما ويما وجد) ويما البحر أو اليم ما يشيرون إليه يضارع أمواج البحر غزارة. كبس العجل روّضه.
كوّش أو كوش الزبالة جمعها وكومها. وتقول العجوز لجارتها تغزل صوفاً وغيره إذا ما تكدرت منها خرب الله كوشتك تريد أحل الله ما تكوم من خيوط ساق مغزلك. تلوش العجين تعجنه وتعركه. ومن صلواتهم الميامر واحدها ميمر قطعة حسنة ينشدون بعضها خلال القداس بلحن. ومنه دعاءٌ لموتاهم الله ينيحهم والله ينيح نفوسهم أي يريحهم ويمتعهم بالراحة. ومن دواثر لغتهم قولهم قلبي سايف أي فإن وتالف. الساعور المفتقد والزائر والعائد. عقوس الزنبور الحمة وإبرة الزنبور التي يلسع بها فيقولون عقسة الزنبورأي لسعته. العتيد الآتي والمقبل. داء الفالج من شق وشطر والفالج يصيب عادة شطراً من الجسم فيقطعه عن الحركة أو يأخذ منه الاسترخاء. الدم يفلفلك يلوثك ويمرغك كأن يقال قتلك الله وضرجك بدمائك. فرط الثمر نثره. فرم اللحم والتبغ هبره وقطعه إرباً إربا.(55/11)
فرافيط الخبز فتاته. فرشخ وسع ما بين رجليه. ومثله فشخ.
ومن دواثر لغتهم قولهم إن هذا الشيء يقاوي كثيراً يصبر عَلَى عوادي الدهر. هو قافط أو قامط معبس. قرقش الحمص صرَّ أسنانه عليها فظهرت بها متانتها. القسيس الشيخ والمسن. يرصون الزيتون يرضونه. يرشمون البيدر يضعون علامة عليه ومنه. الرشم للطابع المنقوش الذي يسمونه البيدر. شبشول الذرة ما تدلى منها دعوها كذلك لاسترسالها كاسترسال أغصان الجفنة. يشفون أشجارهم يلقمونها. أشحط الأولاد أطردهم. شحرك الله سودك. تشطح عَلَى الحصيرة تمدد وتسطح. ريح الشلوق وتسمى الشلهوبة أي اللهبة والضرم. شلح متاعه أي أرسله ورمى به بعيداً. وشلح تعرى. الشلفة الفأس الصغيرة يقتطعون بها الحطب. شمط له أذنيه اقتلعهما شمط خطف. شغف أو شغف الرغيف والحجارة من كسر جزأ. الشربوكة الشرك والأحبولة. انشطرت انخزق وانخرق. شرم الأذن قطعها. شرشت الشجرة أوشلشلت تأصلت وضربت عروقها في الأرض ومنها الشروش. شرش أرضك اقطع عروقها. الشماس والإشبين للمعروفين عند النصارى. شتل بستانه نصبه. الطغمة الزمرة. ضربه وتوكه عطبه. تكتك هذر وثرثر. تف الطعام قاءه ومجه والتف البصاف غير السائل. ويصفون الرجل الداهية بكلمة بهموت وهو الغول عند السريان كالسعلاة عند العرب. بح يا ولدي جف ونفذ. نوص القنديل من برض العشب إذا بان أولاً فأولا. ويقولون فو عليك أي أف عليه كلمة تكره. شخط حلده أي خزق. كش الدجاج وغيره من الطائر زجره. تحمط له أو عليه اغتاظ وغضب. تروحن انفرج ونفس كربه. البكير واللقيس للمطر الموسمي والولي. ويقول من يتورط في أمر صعب يتشكى قائلاً ما هذه البلشة أي الضر. بقعه أي رفسه برجله وركله في بطنه. يرعط الولد من تبرعص في الماء أي اختلج فيه. الغوغا الصخب والجلبة جم الكرم إذا اقتضبها من أسفل جذعها لتنبت من جديد. الجملون وهو سقف من خشب محدب كسنام الجمل مستطيل وهو تصغير الجمل في اللغة السريانية. جعر الفدان والجمل من عج الثور والجمل. غف الطائر فريسته إذا حام حولها أو وثب بشدة. الدجال وهو إلى السريانية أقرب منه إلى العربية. ويقولون عمن يموت برداً دنق أي تعذب وتألم لما يأخذه من نوافح البرد. حركش من حرش بين القوم وأغرى. يطيب أرضه يجعلها صالحة لإلقاء البذار فيها. الطربون الغصن(55/12)
الصغير أو المورق. كدن الفدان من قرن الثورين أي شدهما إلى نير واحدة. ويقولون للشيخ المسن اختيار أو ختيار أي شيخ. ماسورة الحائك وهي لفافة من الخيوط يلفها عَلَى عقدة قصب مجوفة.
ولو أردنا استقصاء الكلمات الدخيلة في اللغة العربية العامية بل واللغة الفصحى الدخيلة من الألفاظ السريانية لطال بنا المطال. وهنا نكتفي بما تقدم مضيفين إليه سكر الباب سرد الغربال عكشه الثور نطحه عرم التراب كومه وكدسه عرم الإناء والكيل بالجوامد أطفحه فرطش مناخيره فركش الولد فقع تمزع غيظاً فاش عَلَى وجه الماء فشار المهذار صمد دراهم صمد العروس صنة الإبط نتنه. قبع الحجر أصله في الركز فاستعمل في القلع قرمة الشجر جذعها قن الدجاج جلد فلان مقشب أي شارث متشقق الشوب الحر الشموط الكبة من الصوف الشقيف الصخر العظيم شقل الحجر رفعه الشرنقة البيت الذي تنسجه دودة الحرير لنفسها طبش الإناء كسره. وكذلك الناسوت والجبروت والكهنوت والملكوت وبراً وجواً وباخ الثوب.(55/13)
غرف التجارة
أيقنت الأمم التي كانت تحرص في أوائل القرن التاسع عشر عَلَى الانتصار في ميدان الهيجاء إن المصالح الاقتصادية أهم المصالح وأكثرها نفعاً فأخذت تعمل لتوسيع نطاق تجارتها وأعرضت عن توسيع مساحة بلادها. ولا مشاحة في أن تقدم الأمم ونجاحها في حالتي السلم والحرب ومضاء حكمها ونفوذها في البلاد الابتدائية لا يكون إلا بالمال وما يقوم به من الأعمال التجارية والصناعية.
تقحمت الدول في القرن العشرين حرباً ضروساً لفتح مصادر جديدة لمحاصيلها المتزايدة يوماً فيوماً في جميع أنحاء المعمورة بفضل الصناعات الكبرى أعني الصنائع التي تكون بالألوف المؤلفة من رؤوس الأموال وتضم الألوف من العمال تحت سقوف المعامل الفخمة وهكذا أخذ أرباب الصناعة والمستثمرون يبحثون البحث الدقيق عن أسواق البلاد في كل قطر ومصر. وكان النصر في حلبة هذه الحرب حليف الفئة التي أعدت السلاح الأقوى والأسباب المؤثرة فنشأت من ذلك لأمتهم مكانة اقتصادية بين الأمم لم تكن لتحلم بها قبل عشرين عاماً أو ثلاثين.
إن أميركا التي كانت تستحصل دون أن تعنى بتصريف محاصيلها وبيعها إلى عهد غير بعيد أحست بلزوم الحيد عن سياستها القاضية بسد أبواب التجارة حتى أن أحد المفرطين في التشديد بأصول حماية الصناعة والتجارة صرح لأمته في خطبة ألقاها قبل وفاته ببضعة أيام أنه لا بد من توسيع نطاق التجارة وعقد العهود مع بعض الدول توصلاً لهذه الغاية وفتح خلات في أبواب الجمارك المسدودة.
وليست أمة الأميركان وحدها في حاجة إلى المبادلة التجارية بل جميع أمم الأرض المنتجة مضطرة لمبادلة محاصيلها زراعية كانت أو صناعية. وليس الاستحصال غاية وإنما هو واسطة والمستحصلون لا يستحصلون لأنفسهم بل للانتفاع بما هوز أحوج إليه من ثمرات أعمال غيرهم عن طريق المبادلة ومكانتها ورواجها متناسبان مع مكانة المصادر ووفرتها وتحقيق ذلك من واجبات التجار مباشرة وأما الحكومة فلا ينتظر منها إلا إبلاغ التجار ما يتصل بها من الأخبار بواسطة قناصلها والذب عن حقوق رعاياها في البلاد الأجنبية وأن لا تمس قوانين وأنظمة تمس حرية التجارة وأن تقيم قوتها مقام قوى الأفراد حيث تكون الأمة متأخرة في العلم والتجارة وأن تكون لهم خير دليل فيما يمكن أن تكون.(55/14)
ولكن التجار في البلاد الراقية لا يعتمدون في ترقية التجارة الوطنية إلا عَلَى أنفسهم ولا يستغني تجار الأمم النازلة عن هذا العضد عَلَى أن موظفي الحكومة لا يعلمون حق العلم ولا يستطيعون أن يعلموا كنه التجارة وسير أعمالها. فكيف يصح ن يقودوا التجار وهم أحوج إلى قيادتهم وآراءهم المؤيدة بالاختبار الصحيح والتجارب المتواصلة.
وقصارى القول فلا يجد بالحكومة أن تعين وجهة سير التجارة بين بلادها والبلاد الأجنبية وإن فعلت لا تصلح خطأ أوجبه تداخلها حتى تقع في مثله ومن المحتم عَلَى الحكومة أن تشاور من هم أحق بالمشورة في شن الشرائع والأنظمة الداخلية وتعيين خطتاه في المشاريع العمرانية ووضع الضرائب التي لها علاقة بالتجارة والقيام بكل ما له مساس بالمصالح الاقتصادية وألا تقع في حيص بيص فلا تنطبق شرائعها عَلَى حاجيات الأمة ولا تلاءم الأحوال الاقتصادية وتحول دون ارتقاء البلاد من حيث العمران وتخنق الروح التجارية بالتعديل الذي تحدثه في أصول الضرائب. وبعد فإن المعهد الذي يهدي الحكومة إلى المحجة المثلى في مجرى أعمالها ويقوم بكثير من الواجبات التي ترتفع بها مكانة التجارة الوطنية هي الغرفة التجارية.
أخذت الطبقات الاقتصادية في الأمم التي نالت حريتها السياسية واحتفظت هي ونوابها بحق التشريع تسعى لترقية الأوضاع التي يؤلفها المنتخبون بالفتح من بينهم ليدافعوا عن منافع الطبقات الاقتصادية وكان لهذه الحركة الاقتصادية ثمرات عظيمة تعود عَلَى الأفراد والأمة بالنفع العميم ولما كان أعضاء هذه الأوضاع غرف التجارة والزراعة والصناعة يمثلون الطبقات الاقتصادية عامة أصبحت كلمتهم نافذة عن وكليهم والحكومة تحترم آراءهم وأقوالهم وتصيخ إلى مطاليبهم لأنهم أمناء الزراع والصناع والتجار وعمدتهم ولهم اطلاع عَلَى حاجات البلاد مهما تنوعت وتضاربت فيؤلفون بينها ويجمعونها حول مركز واحد.
ومن المسلم أنه لا تعتمد في الشؤون الحيوية إلا عَلَى ذوي العلاقات بالمناهج الحيوية ولذلك يستفاد من آراء أرباب الصناعات في الصناعة ومن التجار في آرائهم في التجارة. ولما كان الرجوع في كل مسألة إلى عامة التجار والصناع متعذراً اقتضت الحال أن تعتبر هذه الغرف والأندية التي حاز أعضاؤها الثقة العامة مرجعاً وآراء هذه الأندية تعتبر كآراء عامة أفراد الطبقات الاقتصادية. والحكومة تعلم حق العلم أن موكلي رجال هذه الأوضاع(55/15)
قوة عظيمة اجتماعية في البلاد وأن الأيدي لا تجسر أن تتلاعب بهذه القوة.
أقيمت غرف التجارة لمصلحة يجب الدفاع عنها ولا يرجى اقتطاف الثمرات من هذه المصلحة بمجرد أعمال الحكومة وتدابيرها ولبذلك لا ينكر أحد إلى الداعي إلى تأسيس الغرف التجارية ولكن هل هذه الغرف أسست عَلَى طراز واحد في كل قطر ومصر؟
الفرق تنقسم من حيث تأليفها قسمان:
1_الغرف المؤسسة عَلَى القاعدة الفرنسوية تؤسسها الحكومة ويحضر جلساتها من تنيبهم الحكومة عنها وحق انتخاب أعضاءها محصور بالتجار المقيدين في سجل الغرف التجارية أو من يدفع منهم مبلغاً معيناً من ضريبة الباتنت والحقيقة أن هذا الشكل من الغرف عبارة عن نقابات إلزامية ومداخيلها من الضرائب الموضوعة لها.
والغرف التجارية في ألمانيا وهولندة والنمسا وإيطاليا والبرازيل ورومانيا من هذا القسم.
والغرف الصناعية والتجارية في النمسا توفد نواباً إلى مجلس الأمة ولذلك فإن لها هناك فروضاً سياسية تقوم بها. وغرف التجارة الألمانية رسمية أيضاً ولكل من عرف الحكومات الألمانية التجارية قوانين خاصة بها. ولها واجبات خاصة عدا واجباتها العامة تتعلق بالأمور العدلية إذ تنتخب مرشحين من التجار يناط بهم أمر القضاء في محاكم الدعاوي التجارية وتعرض أسماؤهم عَلَى الأمير.
والغرف التجارية في إيطاليا تابعة لقانون 1862 وغرف التجارة الرومانية تابعة لقانون 7 أيار 1886 أما الغرف التجارية العثمانية فهي عَلَى الجملة من الغرف المؤسسة عَلَى القاعدة الفرنسوية.
2_الغرف المؤسسة عَلَى القاعدة الإنكليزية عبارة عن نقابات تجارية حرة ليست لها صفة رسمية قط. ومداخيلها من رواتب الأعضاء وهذه الغرف التي يمكن أن ينتظم في سلكها جمهور صنوف التجار أشبه بنقابات الصناعات المتحدة المؤلفة من رؤساء الصناعة بتلك النقابات المنتشرة في الأقطار الأوربية كافة.
تلتئم الغرف التجارية كل عام في إنكلترا وتؤلف مؤتمراً عامً وكذلك في أميركا وللقرارات التي تبرم في مؤتمر أميركا وإنكلترا شأن عظيم. والغرف التجارية في البلجيك وأميركا والبرتقال واليابان من هذا النوع. تنشئ الغرف التجارية الإنكليزية الثغور وتتعهد(55/16)
بمحافظتها وتستوفي في مقابل ذلك ضرائب معينة من السفن.
ولهذه النقابات الغرف التجارية الإنكليزية التي تؤلف قوة عظيمة في مملكة بريطانيا العظمى تأثير كلي في كثير من الإصلاحات القانونية.
وقد كانت غرف التجارة في البلجيك إلى تاريخ 1875 من نوع الغرف الفرنسوية ثم نزعت بضم النون عنها الصفة الرسمية وسمح القانون من ذلك العهد بتأسيس غرف حرة. أما روسيا فلها أشكال من الغرف خاصة بها:
أولاً في كل بروص لجان تنتخبها التجار والصناع عَلَى اختلاف ضروبهم ولهذه اللجان اجتماعية متوالية. ثانياً إن لكل من صنوف التجار والصناع مجامع ينتخب أعضاؤها جمهور الصنف الذي ينتسب المجمع إليه وأهم هذه المجامع مجمع معدني روسيا الجنوبية وتلتئم هذه المجامع مرتين في الخريف والربيع من كل عام وتمتد اجتماعاتها خمسة عشر يوماً أو عشرين وقد تتجاوز الاجتماعات هذه المدة. ثالثاً إن في نظارة التجارة الروسية مجلساً صناعياً تجارياً تعين الحكومة النصف من أعضاءه وتنتخب الصناع والتجار سائر الأعضاء وبتجدد انتخاب هؤلاء الأعضاء المنتخبون مرة كل ثلاث أعوام.
فتمر اللوائح القانونية التي لها علاقة بالتجارة أو الصناعات كافة من لجان دور البورص والمجامع والمجلس الصناعي التجاري في نظارة التجارة الروسية وكل من هذه الأوضاع يؤخذ رأيه في اللوائح المذكورة.
هل الغرف التجارية المؤسسة عَلَى الصول الإنكليزية أنفع أن المؤسسة منها عَلَى الأصول الفرنسوية؟
ليس من جواب قطعي لهذا السؤال لأن شكل الغرف كونها رسمية أو حرة تابعة لأخلاق الأمة وآدابها وعاداتها ونوع تربيتها.
فحيث تكون فكرة الاشتراك بالأعمال والإقدام والجرأة عَلَى القيام بالمشاريع غزيرة في النفوس يقوم التجار بتأسيس غرف حرة يرغبون وبالشروط التي يستحسنونها فتصان بذلك المصالح التجارية وحيثما فقد هذا الشعور الحي والمبادئ لا يسهل إنشاء هذه الأوضاع ولا بد للقيام بهذه المشاريع من إشراف القانون عليها.
ولم يقتصر الأوربيون عَلَى تأسيس غرف تجارية في بلادهم بل أسسوا مثلها في البلدان(55/17)
التي يتجرون معها فإن لفرنسا خمساً وعشرين غرفة تجارية وفي لندن ونابولي ورومية ونيويورك وأمستردام وغيرها وللإنكليز والنمسا والمجر والبلجيك وأميركا وإيطاليا وإسبانيا غرف تجارية في باريز وقد نجم عن هذه الغرف فوائد كثيرة لتجار البلاد التي تنتسب إليها وذلك لأنهم يأخذون عنها الأخبار المفيدة ويدركون حاجيات البلاد التي أسست فيها وميول سكانها وأذواقهم وبذلك تساعدهم عَلَى إيجاد المصادر وتوسيعها. وتكون رئاسة الشرف لهذه الغرف التي تؤسس في البلاد الأجنبية في عهدة القناصل عَلَى الأغلب.
والحكومات تخصص مبالغ من وارداتها تدفعها إلى غرف التجارة المؤسسة في البلاد الأجنبية لسد العجز في ميزانيتها لما لها من الفوائد والاعتماد وليس لهذه الغرف صفة رسمية عند الحكومة تنتسب إليها ولا عند الحكومة التي أسست في بلادها ونظارة التجارة الفرنسوية المؤسسة خارج فرنسا وهذه تخابر الحكومة الفرنسوية رأساً.
* * *
وقبل أن نتبين تأليف الغرف التجارية وقوانينها في فرنسا والبلاد العثمانية نأتي هنا عَلَى التعريف بوظائف الغرف التجارية في حياة التجارة العامة لكل مملكة:
1_الغرف التجارية تعنى حق العناية بالتربية الاقتصادية للبنين وتتلقى مسألة التعليم التجاري بما يجدر بها من الشأن فتشيد المدارس التجارية وتستميل الشبيبة إلى التجارة والسياحة وتحيي في نفوسهم فكرة الإقدام والجرأة وتنظم للمدارس الخطط المفيدة التي تقوي إرادة التلاميذ وتؤسس المكاتب ليألف الشبان والطلاب مطالعة التآليف والمصنفات المحررة بأقلام السياح وتدعوا أهل العلم لإلقاء المحاضرات وتمنح الجوائز للمقيمين في الممالك الأجنبية وتعلم في مدارسها لغات البلاد التي تكون ميداناً فسيحاً لحركتها التجارية وعل الجملة تنشئ شبيبة يقظى جريئة عَلَى الدخول في الحياة التجارية تدخل هذه الحياة وأعمالها مكللة بالنجاح.
ومن متممات التربية الاقتصادية الدروس الليلية والمتاحف التجارية ودور الأنباء والاستعلامات وكل هذه متممة لفوائد التدريس والتعليم.
2_الغرف التجارية توجه الرأي العام نحو عقد المعاهدات التجارية عَلَى المبادئ الحرة وتسعى في تنظيم تعرفات الجمارك بحيث تسهل نشوء التجارة وتقدماه.(55/18)
3_تتوسط الغرف التجارية في عقد المقاولات بين الأمم صيانة لحق التملك الصناعي خارج البلاد كما في داخلها وتطالب بسن القوانين الضامنة الحقوق الاجتماعية والبيوت التجارية من البائع إلى المشتري دون اضطرار إلى تغيير أسمائها وبذلك يصان كل اسم تجاري ذي شهرة من الاختلاس والضياع.
4_الغرف تعاضد الحكومة نقداً ومادة لإنشاء المشاريع العمرانية النافعة.
5_تصدر الغرف التجارية مناشير ومجلات تطبع فيها محاضراتها وجلساتها وكثيراً ما تنشر نتائج تحقيقاتها الخاصة عن المسائل التجارية.
6_إذا كانت دائرة الغرفة ضيقة النطاق لا تقتصر في أبحاثها وتتبعاتها عَلَى هذه الدائرة وتطالب بالإصلاحات التي تنفع عامة أنحاء المملكة وتنتخب كل ما يمكنها من الوسائل التي تؤدي إلى التقدم والرقي.
وفي المراكز التجارية الأوربية كافة أندية تقوم بهذه الوظائف أحسن قيام وأعضاؤها من الرجال الذين قضوا أربعين أو خمسين حجة من حياتهم في التجارة واشتهروا في خلالها بالعلم والعمل ومكارم الأخلاق. وإذا شئت أن تعلم كم لأعمال أولئك الرجال، رجال العلم والعمل ومباحثاتهم من الفوائد فهذه آراؤهم في المسائل التي لها مساس بحياة بلادهم الاقتصادية والمالية ومطاليبهم التي يعرضونها عَلَى حكوماتهم وآثارهم المفيدة كلها شواهد وحجج دامغة.
اقتبست قوانين غرفنا التجارية من اغرف الفرنسوية ولذلك سنبحث هنا عن ماضي هذه وحاضرها لنعلم منشأ تلك. أول غرفة تجارية فرنسوية تأسست غرفة مرسيليا التجارية التي كان تأسيسها في أواخر القرن السادس عشر وأنشئ أيضاً في أوائل القرن السابع عشر الغرف التجارية في تسع مدائن فرنسوية محافظة عَلَى المصالح التجارية. ولكل واحدة من هذه الغرف شخص خاص ومع ذلك فإن لها أوصافاً عامة مشتركة بينهن فأعضاء الغرف الطبيعيون هم أعضاء محاكم التجارة والأعضاء المنتخبون بفتح الخاء يؤخذون من صنوف التجار والقدماء منهم أو من أعضاء محكمة التجارة السابقة. وكانت الغرف مكلفة بإبداء آراءها ومطاليبها في ما يتعلق بالمصالح التجارية وعرض المذكرات التي يدفعها التجار إليها إلى المراجع العليا.(55/19)
يقول مؤرخو الفرنسيس لم تؤثر هذه البلاد في سياسة البلاد الاقتصادية تأثيراً مهماً ولم يكن لها سلطة تذكر إلا أن غرة التجارة المرسيلية لم تكن كذلك لامتيازها الطبيعي ولأن قنصليات الشرق كانت ملحقة بها ولما لها عَلَى التجار من الحقوق والواجبات المؤيدة بالقانون وكانت تسمح لإقامة الفرنسويين في مرسيليا وكان لها أسطول لمناهضة اللصوصية في البحر القرصان. ومن جملة أعمالها أنها كانت تشتري الأسرى وتقدم الهدايا إلى الملك وتغيث السفن المنكوبة وقد بلغت نفقاتها الاعتيادية مليوناً واحداً عام 1789.
ولما ألغي أكثر أوضاع الدور السابق عقب الثورة الفرنسوية الكبرى ألغيت الغرف التجارية في الجملة وبعد ثمانية أو عشرة أعوام أسست في اثنتين وعشرين بلدة غرف تجارية مقيدة بقيود نظامية ضيقة النطاق غير أن هذا الشكل لم يثمر قط ولم يمنح وقتئذ حق انتخاب الأعضاء إلا لأربعين أو لخمسين تاجراً كان ينتخبهم الوالي وقضى الأمر المؤرخ سنة 1832 بإحداث لجان منتخبة مؤلفة من أعضاء محكمة التجارة وأعضاء مجلس الصلح وجماعة من التجار يبلغ عددهم عدد أعضاء ذينك المجلسين ومنحت ثورة عام 1848 حق انتخاب الأعضاء لغرفة التجارة التجار الذين يؤدون ضريبة الباتنت عامة. ولما عادت الإدارة السابقة أمر الإمبراطور أن يكون تأليف لجنة الانتخاب من قبل الوالي والقاعدة المرعية اليوم في انتخاب الأعضاء وضعت عام 1872. وآخر نظام يتعلق بالغرف التجارية وضع عام 1898.
والغرف التجارية في نظر القانون الفرنسوي هي واسطة الدفاع أمام الحكومة عن المصالح التجارية في أصقاعها المعينة. ولا توجد الغرف التجارية في الجهات العامة وإنما يطلب ناظر التجارة والصناعة تأسيسها حيث يرجى النفع ثم يؤخذ رأي مجلس الناحية التي طلب الناظر تأسيس الغرفة فيها ورأي مجلس الولاية العام والغرف التجارية فيها وبعد كل ذلك تفتح بإدارة خاصة. وفي القانون صراحة أنه لا بد من وجود غرفة تجارية واحدة في كل ولاية عَلَى الأقل وإذا دعت المصالح الاقتصادية إلى تأسيس أكثر من غرفة يجوز وعندئذ يذكر في الإدارة الصادرة بتأسيس كل غرفة في حدود القطعة التي يتعلق بالغرفة الدفاع عن مصالحها التجارية. وفي بعض الولايات تسع غرف تجارية. وللغرف التجارية أعضاء أصليون أو عاملون وأعضاء مخابرون. وسأعود إلى بيان كيفية انتخاب الأعضاء(55/20)
الأصليين أما المراسلون فتنتخبهم الغرف رأساً ولهم الحق في حضور الجلسات ويستضاء بآرائهم ولا يجوز أن يكونوا أكثر عدداً من الأعضاء الأصليين. والأعضاء المراسلون أحسن صلة بين الغرف والتجار وبوجودهم في هذه العضوية يتهيئون للانتظام في المستقبل في العضوية الأصلية التي لا شك أنها أكثر مكانة من الأولى ولا يغرب عن القارئ الكريم ما ينجم عن هذه الأصول من الفوائد. وعدد الأعضاء العاملين يختلف بين 9 و21 ويجوز إبلاغ عددهم إلى (36) في غرفة التجارة الباريزية فقط ويجب التصريح بعدد أعضاء كل غرفة في الإدارة القاضية بتأسيسها وإذا قضت الأحوال يجوز تعديل هذا العدد بالإدارات التي تصدر بعد التأسيس.
وإليك الآن أصول انتخاب الأعضاء الأصليين. ينتخب كل من محكمة التجارة وغرفة التجارة ومجلس الصلح والمجلس العام بعض أعضاء مجلسه فتتألف من هؤلاء المتخبين بفتح الخاء ورؤساء المجالس المذكورة عضأعضاء بةيمبتنيمحكمة التجارة والغرفة التجارية ومجلس الصلح والمجلس العام لجنة تعنى بتنظيم دفتر بأسماء المنتخبين بكسر الخاء ولا يجوز أن يكون عددهم أقل من خمسين ولا أكثر من ألف إلا في باريز فيجوز أن يكون عدد المنتخبين ثلاثة آلاف وأن يكون معادلاً لعدد عشر التجار المكلفين بتأدية ضريبة الباتنت وبعد إتمام هذا الدفتر يدفعون به إلى الوالي ليعلنه.
ثم تلتئم لجنة الانتخاب تحت رئاسة مدير الناحية وتشرع بالانتخاب وشروط الانتخاب للعضوية أن يكون المرشح مكلفاً بتأدية ضريبة الباتنت منذ خمس سنين ومقيماً خلال هذه المدة داخل حدود الإقليم الذي تنتسب الغرفة إليه وبالغاً الثلاثين من عمره وأن يكون أيضاً إما تاجراً أو دلالاً في البورصة أو من مديري شركات الأنونيم أو باناً لإحدى السفن ذات الأسفار البعيدة ولم يصرح القانون بشروط اللجنة غير أنه معتبر ضمناً لما لأعمال الفرق ومقاصدها من الشأن الوطني.
وتجري الانتخابات بالرأي الخفي والأكثرية المطلقة عن المرشحين المسطرة أسماؤهم عَلَى قائمة خاصة وإذا تساوت الآراء ينظر إلى الأكثرية الإضافية وإذا تكرر التساوي يرجح الأكبر سناً ثم يكتبون محضراً بصورة الانتخاب ويدفعونه إلى الوالي وهذا يرسله إلى ناظر التجارة. وللناظر حق مطلق في رفض عضوية أي شخص كان من المنتخبين (بفتح الخاء)(55/21)
ولو لم يكن ثمة أسباب قانونية. وبعد إجازة انتخاب الأعضاء وتصديقه من قبل الناظر يؤسس الوالي الغرفة بالفعل. ومدة العضوية ست سنوات ويتجدد انتخاب ثلث الأعضاء مرة كل عامين بطريقة الاقتراع ويجوز إعادة انتخاب أي عضو كان بعد انقضاء مدته مهما تكرر انتخابه للعضوية والعضو الذي يتغيب عن الغرفة ستة أشهر بلا معذرة يطلب الناظر رأي الغرفة في شأنه ثم بعد أخذ رأي الغرفة يعلن أنه اعتبر مستقيلاً من عضوية الغرفة وينتخب (بفتح الخاء) سواه في أول انتخاب (من الانتخابات الجزئية) التي تتخلل الست سنوات.
ظهر للقارئ الكريم أن الانتخاب لا يشمل التجار كافة ولقد تكرر الطلب في مجلسي الأمة والأعيان لتوسيع هذا الحق ولم يسعف المجلسان هذا الطلب. وبعد أن تتألف الغرفة من الأعضاء يجتمع أعضاؤها وينتخبون لهم رئيساً أول ورئيساً ثانياً أو رئيسين ثانويين وكاتباً وأميناً للصندوق ولغرفة التجارة الباريزية وحدها الحق في انتخاب عدة رؤساء ثانويين وكاتبين ويتجدد انتخاب الرؤساء والكاتب وأمين الصندوق مرة في كل عامين ولا بأس بتجديد انتخابهم لهذه الوظائف نفسها وللولاة والمتصرفين الحق في حضور الجلسات وآراؤهم استشارية وكانوا قبلاً من الأعضاء الطبيعية يرأسون الجلسات التي يحضرونها. وإذا فقدت الغرفة ربع أعضاءها بأي سبب من الأسباب يجب انتخاب غيرهم في مدة شهرين وتدعى هذه الانتخابات بالانتخابات المتممة. إلا إذا كانت السنة التي حدث فيها هذا النقص في مجموع الأعضاء سنة الانتخابات الجزئية فيجب حينئذ التربص ريثما تجري هذه الانتخابات. ولا يجوز هذا التأخر إلى حلول وقت الانتخابات الجزئية إذا فقدت الغرفة نصف أعضاءها فأكثر. ومن حاز الأصوات في الانتخابات المتممة تنتهي مدته بانقضاء مدة العضو الذي انتخب عنه.
ولا تجري المفاوضة عن أمر ما في الغرفة إلا إذا حضر أكثر من نصف الأعضاء ولا يبرم أمر إلا بأكثرية الأصوات المطلقة وإذا تساوت الأصوات فالأرجحية في جانب الرئيس.
ولا يتقاضى الرئيس والأعضاء رواتب عن وظائفهم هذه ولرئيس محكمة التجارة حق التقدم عَلَى رئيس غرفة التجارة في التشريفات كما أن لأعضاء هذه المحكمة نفس الحق(55/22)
عَلَى أعضاء الغرفة التجارية.
وللغرف التجارية استقلال تام في الأمور الداخلية وهي تسن نظامها الداخلي وتعدله كما شاءت ولها الحق المخابرة رأساً مع ناظر التجارة وغيره من النظار. والقانون صريح في أن للغرف أن تنشر محاضرات جلساتها وأكثر الغرف تستفيد من هذا الحق. وليس لأعضاء غرف التجارة صفة الموظفين ولا تعتبر أعمالهم من أعمال القوة الإجرائية بتاتاً.
وإليك الواجبات الرئيسية التي يجب أن تقوم بها غرف التجارة باعتبارها شخصاً أدبياً ذا استقلال له كما عليه حقوق وواجبات:
1_الإجابة عن الأسئلة التي ترد إلى الغرف فيما يتعلق بالأمور الصناعية والتجارية.
2_أن تبدي الغرف آراءها في أسباب ترقية الصناعة والتجارة.
3_القيام بالأعمال التي يتحتم عَلَى الغرفة صيانتها.
فالبند الأول والبند الثاني من واجبات الغرف الاستشارية والثالث من حقوقها الإدارية. والغرف التجارية تؤسس مخازن عامة ومستودعات تجارية ودوراً للبورصة ومدارس تجارية وكذلك تشتري امتيازات بعض المشاريع النافعة. ولا بأس بمنح الغرف هذه الامتيازات إذا رغبت هي فيها بشرط أن لا تثبط مساعي الأفراد أو تضعف فيهم قوة الإقدام للقيام بهذه الأعمال والمشاريع. والأمور التي يرجح فيها لرأي الغرف هي كل ما له مساس بالنظامات والعادات التجارية وإنشاء غرف تجارية جديدة ودور للبورصة ومحاكم تجارية ومراكز لسماسرة البورصة والدلالين وبيان أسعار الأموال وتصديقها عند الحاجة وما له علاقة بتعريفة الدلالة وأنظمتها وتعاريف الجمارك وأصول الرسوم الجمركية وتعارف النقليات وقوانينها والضرائب التي تؤخذ لتنفق في محلها للمشاريع النافعة والعمرانية وتأسيس مصارف بنوك جديدة أو فروع للمصرف الفرنسوي ومخازن عامة وإحداث أماكن للبيع بالمزايدة.
والغرف التجارية مكلفة بدفع ضريبة الباتنت عن الشغال التجارية التي تتعاطاها برخصة خاصة أو امتياز بشرط أن يكون لها من ريع صاف وأما إذا توازنت النفقات والمداخيل فلا تدفع شيئاً. ومن حقوق الغرف المهمة حق المخابرة بعضها مع بعض والاتحاد لصيانة المصالح العامة المشتركة وتنكيد بعض النفقات المشتركة أيضاً. فالمخابرة سهلت المفاوضة(55/23)
بين الغرف وبالاشتراك سهل القيام بالمشاريع التي لها علاقة بأكثر من ولاية.
تنقسم مداخيل الغرف إلى ثلاثة أقسام: (1) ضريبة الباتنت التي تستوفى من النجار بحسب طبقاتهم ومكلفيتهم والهبات والوصايا (2) المداخيل الغير الاعتيادية وهي الضميمة التي تضاف إلى ضريبة الباتنت والتخصيصات التي تأخذها من الحكومة وما يرد عَلَى الغرف من مبيع العقارات والقروض (3) المداخيل الصافية التي تأخذها الغرف المذكورة من الأعمال والمشاريع النافعة والتجارية التي تقوم بها.
وتنقسم نفقات الغرف أيضاً إلى ثلاثة أقسام 1 النفقات العادية 2 النفقات غير العادية 3 النفقات الخاصة.
النفقات الأولى ما تنفقه الغرف لإدارتها السنوية. الثانية ما تنفقه الغرف لشراء أراضي وعقارات أو بنائها أو المخصصات غير العادية. والثالثة وهي النفقات الخاصة ما تنفقه الغرف عَلَى الأوضاع التي لها أو تعهدت هي بإدارتها. والقانون الفرنسوي الأخير سمح للغرف التجارية بتأليف ذخر احتياطي وهي مكلفة بتنظيم موازنة منتظمة تجيزها نظارة التجارة ولها أن تعقد قروضاً باسمها ولكن لا بد من اقترانها بإدارة رئيس الحكومة.
هذه خلاصة كيفية تأسيس غرف التجارة الفرنسوية ويظهر مما سبق أنها ليست حرة تماماً وبينها وبين الحكومة صلات وارتباط.
الباقي للآتي.
بين النهرين: تعريب
ز. خ.(55/24)
نهضة سورية
لم يبق مجال للشك بأن بلاد الشام ناهضة نحو الترقي ثابتة وعزم أكيد فقد بدأت تباشير النهضة من بيروت بُعيد حوادث سنة الستين التي انتهت بمنهج الاستقلال الإداري لجبل لبنان وضعف أمرها في أواخر مدة السلطان المخلوع عدو المعارف اللدود ثم سرت نفحة من تلك الروح الطيبة بعد إعلان الحرية إذ أيقن بعض الأهالي أن العهد عهد كفاءات لا عهد شفاعات والدور دور نشاط وإقدام لا دور جمود وإحجام وأن من لا يعهد للدهر عدته يهلكه الدهر ولا من يرحمه.
ولقد نال من نعمة الدستور في السلطنة كل بلد بقدر استعداد أهله وكان من توفرت لهم ذرائع التعلم أكثر ركوضاً إلى ورود مناهل العلم وليس في سورية مدينة استقام لها أمر التعليم كثغر بيروت الذي حمل إليه الإفرنج ولا يزالون يحملون علمهم وأموالهم ليربوا بها ناشئة الشرق ويخرجوهم عَلَى المنازع الغربية مازجين إلى تلقين المدنية تلقين النصرانية وقد وفقوا إلى ما قصدوا إليه منذ نحو نصف قرن.
ولكن أهل البلاد انتبهوا إلى ما يلحقهم من الغضاضة إذ لوا عيالاً عَلَى ما أسسه لهم الإفرنج من المدارس فبدؤوا بتأسيس مدارس طائفية أهلية سبق إليها المسيحيون أولاً في بيروت وبعض المدن السورية ثم حذا حذوهم المسلمون في بيروت فدمشق فغيرهما ولكن البيروتيين عَلَى قلة عددهم وغناهم بالنسبة للدمشقيين فاقوا جيرانهم هؤلاء لأن اعتمادهم كان عَلَى أنفسهم واعتبروا حق الاعتبار بما حمله إليهم المرسلون من الأميركان والألمان والروس والفرنسيس وقدروا المبادئ والخواتيم فرأوا أنه لا ينقذهم من سوء المصير إلا العمل لتثقيف عقول أبناءهم عَلَى الطرق الوطنية الحديثة.
أما الدمشقيون فقد استمروا وظائف الحكومة فكانوا ولم يزالوا إذا تعلموا شيئاً لا يقدرون له من الفوائد إلا بقدر ما يقربهم زلفى من الحكام ويوليهم التصدر في دست الرئاسة ولذا يرجح أن يكون مستقبل البيروتيين أكثر ثماراً جنيه في مستقبل جيرانهم اللهم إلا إذا اعتمد الدمشقيون عَلَى أنفسهم وحسبوا التوظف ثانوياً وقللوا من توقيره في نفوسهم.
هذا مثال ضربناه أما سائر مدن سورية كالقدس وحيفا ويافا وصيدا وعكا وطرابلس واللاذقية وحمص وحماة وحلب واسكندرونة وزحلة وغيرها فقد هبت للتعلم بقدر ما تساعدها أسبابها ومن كان أقرب للاختلاط بالغربيين كانت نهضته أقوى وأرقى كما هو(55/25)
المشاهد في حال حمص إذا قيست بغيرها بالنظر لموقعها وحالها وكثرة المهاجرين منها إلى مصر وأميركا فإنا نراها آخذة نحو الرقي وهي لا تتجاوز الخمسين ألف نسمة أكثر من حلب التي تربو عَلَى مائتين وشتان بين مركز قضاء من أعماله عشرات من القرى والمزارع وبين قاعدة ولاية عظمى من بعض عمالاتها إنطاكية والرها ومرعش بل ألوف من القرى والمزارع العامرة الغنية وتجارة واسعة تمتد إلى بغداد وإلى ولايات الأناضول كافة بل كانت فيما مضى دار ملك بني حمدان.
ولكن الحلبيين ابتلوا بما ابتليت به من قبل بعض الحواضر والعواصم كالآستانة التي يعول أهلها عَلَى الحكومة في ترقيتهم وكاد بعضهم يتناسون لسانهم ليتعلموا اللسان الرسمي فيتسنى لهم به أن يتوسد إليهم الوظائف التي تتلمظ بحلوائها شفاه كل وكلة تكلة يحب أن يعيش كالحلمات الطفيلية بامتصاص دم غيره.
أمام الأمة اليوم طرق ثلاث تسلكها أو أحدها للخلاص من ربقة الجهل ومصافحة أنامل الحضارة عَلَى ما يجب وبقدر ما يجب وهي إما أن تضع جميع أمانيها بالحكومة وتنتظر الفرج يأتيها عَلَى يد نظارة معارفها وهو بعيد الحصول قليل الثمرة مهما برقشه المبرقشون وزينه السائسون والحاكمون.
فنظارة المعارف العثمانية قد سنت نظام التعليم الابتدائي والثانوي والعالي بحيث يلاءم الآستانة وبعض ولايات الأناضول التي يتكلم أهلها بالتركية ولم تسنه بحيث لم ينطبق مع حاجة ابن قوصوه ويانيا ومناستر وأشقوردة مع حاجة ابن وان وأرضروم وتبليس ومعمورة العزيز أو سورية وبيروت وطرابلس الغرب واليمن. فالذين سنوا قانون المعارف كانوا متأثرين بعوامل حب قوميتهم ولسانهم فلم ينظروا إلى الأثر النافع الواجب إعطاؤه لأهل كل إقليم بحسب محيطهم ومزاجهم بل سنوه وأكثرهم لا يعرف من حال الولايات إلا النزر اليسير الذي لا يخول صاحبه حق التشريع لأنة مختلفة اللهجات والحاجات.
وبعد فإنا لا نعرف كيف نعلل إجبار ابن جبل عجلون عَلَى دراسة التركية قبل أن ينال حظاً من لغته. فإذا حملناه عَلَى تلقف لغة أجنبية قبل أن يحكم أصول لغته هل يكون فائدة منه لأمته ووطنه يا ترى؟ وهل بدراسة مختلة الأسلوب يتيسر لنا أن نترّك هذا العجلوني مادام لا غنية له عن بلاده وقد لا يخرج منها إلا لقضاء الخدمة في الجندية ثم يعود لمحراثه(55/26)
وسكته وثوره وجمله وحماره.
أليس الأولى له أن يتعلم من لغته القدر اللازم من كتابة وقراءة وبعض العلوم العملية الضرورية؟ وكيف يتيسر عن غريب عن لغة لا يعاينها ولا يسمع لهجتها ولا يقرأ آدابها أن يستطيع بها التعبير عن مقاصده في مثل هذه المدة القصيرة من دراستها. أما هو أنفع للدولة والأمة إذا تعلم هذا الفلاح باللغة التي هي أقرب إليه وانصرف إلى أرضه وزرعه أكثر من تعليمه لغة صعبة عليه لا تنفعه إلا إذا طمح للاستخدام في الوظائف الإدارية والعسكرية ومن يبقى عند ذلك يا ترى للتوفر عَلَى إخراج ثروة البلاد والإنفاق عَلَى هذا الجيش الكثير العدد والعدد وسائر ما يشترك العثمانيون في تسديده في ميزانيتهم من النفقات.
إن معنى الوقوف بالعجلونيين عند حد تلقين مبادئ التركية هو أن الحكومة تريد أن تجعل من جمهور الأمة حكاماً وأمراءَ وضباطاً حتى تكون مادة حياة البلاد آخذة بالدثور ويصبح الناس كلهم كمسلمي الآستانة لا يحلمون بغير الوظائف ولا يرون السعادة إلا من طريقها.
هذا مات كان من إصلاح نظارة المعارف في البلاد العربية أما مدارس الأجانب فلا تخلو أيضاً من مضار لأن معظمها يأتينا باسم النصرانية ليلقنها الموافق والمخالف وينشر آداب لغته وحب بلاده فترى التلميذ يتخرج من تلك المدارس وهي أرقى من المدارس العالية في الآستانة أيضاً ملماً بلغته ولكنه محكماً اللغة التي تلقى مبادئ العلوم وجاهلاً كل الجهل بما ينفع بلاده وقد لا يعرف من تاريخها وعمرانها واجتماعها أكثر مما يعرف عامة الطليان والأسبان عنا فلا يلبث وقد زينوا له حال الغرب أن ينقلب إليها مهاجراً فكأن هذه المدارس برزخ تنقل الدارسين فيها من وطنهم لتعدهم خدمة لأوطان أخرى وبفضل تلك المدارس هاجر من سورية زهاء ثلثمائة ألف نسمة وبعضهم من المتعلمين يطلبون الرزق في جمهوريات الشمال والجنوب من أميركا ومستعمرات أفريقية فخربت بذهابهم بلادهم وهم لم يستفيدوا بقدر ما فادوا به.
ومن ثم لم يبق لنا سوى الأمر الثالث الذي يجب علينا الاعتماد عليه الآن لنهوضنا ونعني به المدارس الأهلية والسعي في تحسين حالتها المادية والأدبية فهذا النوع من المدارس هو هو معقد آمالنا ومنه تنبعث شعلة نور الحق وتأييد كلمة الوطنية وتحيا اللغة العربية فلو(55/27)
أنشئت مثلاً في كل بلدة وقرية مدرسة أهلية كالمدرسة العثمانية والمدرسة العلمية في دمشق والمدرسة العثمانية ودار العلوم في بيروت مثلاً ووسد التدريس فيها إلى خيرة رجال العلم والأدب يثقفون العقول عَلَى منازع الفضيلة وحب الوطن والسعي إلى الكمال العقلي لنشأ لنا منها بعد زمن وإن كانت بدرجتها أدنى من المدارس الثانوية وأرقى من الابتدائية ناشئة تستطيع أن تعمل كل عمل وتستعد إلى التبريز فيه لأنها تكون عارفة بتاريخ بلادها وعظمة أمتها ومنزلة لغتها من لغات الشرق والغرب تنفع بما تعلمته العامة قبل الخاصة.
شاهدنا غير واحد من أهل هذه البلاد ممن درسوا في مدراس الأجانب العالية فأحكموا لغة أوربية أو درسوا في مدارس الحكومة العالية فأحكموا اللغة التركية فما رأيناهم إلا قاصرين غير نافعين لأنهم ضعفاء في التعبير عن مقاصدهم بلغتهم وشاهدنا من عانوا لغتهم وشدوا شيئاً من آدابها فاقتدروا عَلَى الكتابة والخطابة فيها مع ما أحكموه من اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة وأصبح العلم الذي درسوه ملكاً لهمم لا ملكاً لهم يصورونه متى شاؤا في المظهر اللائق به فينتقلون من أسباب المدنية ما يطبقونه عَلَى مصلحة بلادهم لأنهم يعرفون داءها ودواءها ويشعرون بالواجب عليهم لها.
رأينا أكثر من أحكموا اللغات الأعجمية الأجنبية إحكام أبنائها لها إذا قضي عليهم أن يبقوا في أرضهم بعد سن الدراسة صماً بكماً في المجالس عمياً عن مصالح الأمة والبلاد لا يحسنون المدخل والمخرج دأبهم التأفف من أهل بلدهم لأنهم لا يفهمونهم وما ذلك إلا لأن تلك اللغة التي أحكموها وزهدوا في لغة آبائهم قد نقلتهم إلى عداد أهل تلك اللغة فكثروا سواد العرفين بها ولو تعلموا العلوم بلغتهم لنقلوها إليها فزادوها قوة بدلاً من أن تزيد بضعفهم ضعفاً.
وأحسن واسطة لإرضاء العناصر العثمانية التي لا تقل عن اثني عشر عنصراً تتكلم باثنتي عشرة لغة مختلفة أن تترك حرية التعلم لكل عنصر يتعلم لغته وبعض ما يبدو غناؤه من اللغات الأخرى والعلوم وبذلك يسهل إشراب القلوب محبة الوطنية وتحضير العامة عَلَى أسرع صورة مقبولة وربطهم برباط الوحدة العثمانية ومن أحب الاستخدام يدخل المدارس الثانوية فيحكم التركية ومن أحب الاتجار والتمحض للعلم يحكم لغة راقية من لغات أوربا مشفوعة بالعلم الذي يلزمه الإخصاءُ فيه فإن الفلاخي والبلغاري والرومي والأرناؤدي(55/28)
والأرمني واللازي والجركسي والتركي والكردي والبشناقي والإسرائيلي والعربي يصعب جداً تحضيرهم في قرون كما صعب عَلَى النمسا أن تربط الجرماني بالمجري بالتشيكي بالبوهيمي بالبوشناقي بالكرواسي بالبولوني إلا بعد أن أطلقت لأهلها حرية أن يتعلموا بلغتهم وبدون ذلك لا تنهض البلاد.(55/29)
سير العلم والاجتماع
المدارس الصناعية في ألمانيا
كتب أحد رجال الفرنسيس كتاباً سماه ألمانيا العاملة جاء في بعض فصوله ما تعريبه:
إن السائح الذي يجتاز ألمانيا يدهش في العادة من أنه لا يرى بيتاً قائماً وحده في الأراضي الزراعية بل أن جميع المساكن في الحقول منضمة بعضها إلى بعض بحيث يتألف منها أحياناً مدن وهذا مما يدل عَلَى فكر الاشتراك المتأصل في العنصر الجرماني الذي يستغرب حال شخص يريد الابتعاد عن أخيه وهناك شيءٌ آخر وهو أن معظم حكومات ألمانيا تحظر إنشاء المساكن بعيدة عن مراكز القرى حتى لا يحرم الأولاد من الاختلاف إلى المدرسة في الأيام الممطرة العاصفة وهناك يسأل الوالدان عن ولد تأخر عن المدرسة فإذا تخلف أحدهم يجب عَلَى أقربائه أن يبينوا معذرته وإلا فيجازون أشد الجزاء. وعلى رؤساء المعامل الذين يستخدمون في الخلاء عملة أو موظفين أن يضمنوا لأولادهم حملهم كل يوم إلى مدرسة القرية القريبة وإذا كثر العملة في بقعة بعيدة وزاد سودهم تؤسس في الحال مدرسة عامة وتكون في العادة بإعانة من صاحب المعمل. وكان من أثر هذه العناية أن قل عدد الأميين في ألمانيا بحيث لا تجد واحداً في الألف عَلَى أنهم لم يكتفوا بتعليم مبادئ فقط بل إنك لا تدخل قرية ولا معملاً ولا بيتاً إلا وترى الجرائد والكتب في الأيدي تتدلى ويستفاد منها وذلك بين جميع طبقات الألمان.
للتعليم الابتدائي والأوسط في ألمانيا ميزتان لا نظير لهما في سائر الممالك وهي أنه لا يبعد المتعلم عن العيشة البيتية بين ذويه وهو سلم للتعليم الصناعي الذي تختلف درجاته وتراه نظرياً وعملياً في آن واحد.
وماذا أقول في دروس الأشياء والمجاميع النفسية التي تراها في المدارس الألمانية والتعليم بالنظر والذهن والعمل والنزهات المفيدة وغير ذلك من أنواع التربية. وما من ألماني إلا ويتعلم شيئاً من التعليم الصناعي ففي هذه البلاد التي يكاد الناس كلهم يعملون قد وقع في النفوس أنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى صناعة من الصنائع المقررة قبل أن يتعلمها بالنظر والعمل وهذا ما أدى إلى إنشاء كثير من المعاهد الملوكية والإمبراطورية والبلدية والخصوصية تقصدها الأمة فتستقي من مواردها قوتها المنتجة والعقلية.(55/30)
وأعظم هذه المعاهد وأقدمها وأشهرها هي كلياتها وعددها اثنتان وعشرون كلية وكانت كل إمارة من الإمارات الألمانية فيما مضى تحاول أن تكون لها كلية فأقدمها كلية هايدلبرغ أنشئت سنة 1386 وأحدثها كلية بون أسست سنة 1818. وقدم الكلية عنوان شرف لها وقد بقيت كلية هايدلبرغ أكثر الكليات محافظة عَلَى منزلتها السامية أما كلية برلين التي أنشئت سنة 1809 فطلابها أكثر. ومن أشهر كليات ألمانيا كلية ليبسك أنشئت سنة 1409 وهي تفاخر بأنه كان من جملة أساتذتها الفيلسوف لايبنتز ومن جملة طلابها كيتي وريتشارد فانير.
ولئن كانت الكليات في ألمانيا مستقلة حرة عَلَى صورة لم تحصل عليها كليات فرنسا فهي منظمة بنظام واحد فالكليات مهما كانت وجهتها في تعليمها نظرية أو عملية لا تتنافس في إعداد المهندسين وصناع والمباحث التي يستفيد منها أمثالهم لا يظفرون بها إلا في المجامع الكيماوية والطبيعية في المدارس الصناعية هي التي يتخرج فيها أرباب الهندسة والصناعات وهذه المدارس تابعة لكل إمارة وهي في بلادها تدير شؤونها وتعطي الدارسين فيها شهاداتهم بعد دراسة أربع سنين وعددها اثنتا عشرة مدرسة وهي في مدن إكس لاشبل برلين برنسويك كارلسروح درامستاد درسد هانوفر مونيخ ستوتكار دانزيكبرسلو فريبورغ في هذه المدارس زهاء اثني عشر ألف طالب فيخرج منهم كل سنة ثلاثة آلاف مهندس عدا من يتخرجون من المدارس الثانوية الصناعية.
وقد كانت الكليات هي التي تمنح لقب دكتور أشرف الألقاب وأعلاها في ألمانيا وبعد جدال طويل في مجلس النواب تقرر أن من حق تلك المدارس الصناعية أن تمنح هذا اللقب وبذلك خرجت ألمانيا عن تقاليدها القديمة بعض الشيء ولا تسل كيف ينظر أولئك الفلاسفة واللاهوتيون واللغويون أخلاف الفلاسفة هيكل وكانت وليسنغ لمن نالوا شهاداتهم عَلَى طريقة أميركا الشمالية لأنهم أتقنوا صناعة من الصناعات. والألمان أحرص الأمم عَلَى لقب دكتور حتى أنك إذا لم تطلق هذا اللقب الشريف عَلَى من ناله عد ذلك منك سخرية وفي ذلك دليل كبير لميل هذا الشعب للعلم والتلقب بألقابه وقد كان للإمبراطور غليوم الثاني يد طولى في إعطاء المدارس الصناعية حق إعطاء هذا اللقب الشريف حتى قال في خطاب له ألقاه عَلَى تلامذة المدرسة الصناعية قرب برلين: إنني أغتبط لأنني استطعت أن(55/31)
أمنح للمدارس الصناعية العالية لقب دكتور أنتم تعلمون أنني تحملت مقاومات شديدة في هذا السبيل أما اليوم فقد اضمحلت وقد أردت أن أجعل للمدارس الصناعية المقام الأول لما لها من المنزلة السامية لا من حيث العلم العملي بل من حيث الوجهة الاجتماعية. ونظام هذه المدارس واحد وتعليمها واحد اللهم أن بعضها تبذل العناية في فروع تمس حاجة أقطارها لها مثل مدرسة أكس لاشبل التي تعنى بتعدين المناجم كل العناية ومدرسة دانزيك التي تعنى ببناء السفن. وكان من ظفر هذه المدارس بإعطاء لقب دكتور أكبر دليل عَلَى غلبة الحديث عَلَى القديم.
ومدة الدراسة في المدارس الصناعية أربع سنين يدخلها من بيده من الوطنيين أو الأجانب شهادة من مدرسة ثانوية وفيها يتجلى ميل الألمان للإخصاء فيعلمون ما يعلمه غيرهم من الأمم فرداً واحداً لخمسة أفراد قائلين أن الذهن لا يتسع لإكثار المواد عليه ففي مدرسة هانوفر مثلاً أناس يتعلمون فن البناء وآخرون الهندسة وغيرهم علم الحيل (الميكانيك) وغيرهم الكيمياء الصرفة وآخرون الكيمياء الكهربائية وغيرهم إجماليات وفيهم 908 تلامذة و194 تلميذة و155 مستمعاً وبين الجميع 59 أجنبياً من أمم مختلفة والدروس عملية أكثر منها نظرية وهذه المدرسة خارجية يتناول التلامذة طعامهم قبل الدخول إليها وينقطعون عن العمل بعد ظهر السبت إلى صباح الاثنين كل أسبوع والألمان لا يحرصون عَلَى تعليم الهندسة لأذكى أذكيائهم بل يريدون أن يجعلوها قريبة المنال من كل أحد وهم يستعملون كل الطرق التي يرونها نافعة لئلا يتعبوا الفكر غير طائل بإغراقه مدة ساعات في قراءة صورة لذلك ترى الأساتذة يأخذون تلامذتهم إلى معامل خاصة وكثيراً ما تكون بعيدة عن المدرسة ليطلعوهم بالعمل عَلَى ما ينبغي لهم الاطلاع عليه من الآلات والأدوات كل معامل المدرسة وغرفها وحجر كتبها وصفوفها منارة بالكهربائية أو الغاز عَلَى صورة لا تضر بصحة عيون الطلبة حتى أنه ليقل جداً عدد الحسر بين الألمان لشدة العناية بصحة العيون. ومثل ذلك يقال عن مدرسة دانزيك وهي خاصة بأعمال الهندسة للعمارات البحرية وأعمال الري والمرافئ ومجاري الماء وهي كسائر مدارس الصنائع الكبرى أشبه بقصور الملوك منها بالمدارس لما حوت من المرافق والردهات والمماشي والساحات والأدوات وهذه المدرسة قد كلف بناؤها فقط سبعة ملايين فرنك ويكفي أن يتصور القارئ عظمتها إذا(55/32)
قلنا له أن فيها 94 ألف متر من الأسلاك الكهربائية و20450 متراً من اللوالب و2905 مصابيح بيضاء متأججة و372 مصباحاً ذات قوس قوتها 285850 شمعة. وقصارى القول أنك لا تمر بقرية ولا قصبة ولا مدينة ولا عاصمة في ألمانيا ولا تجد فيها مدارس صناعية كبرى وصغرى عَلَى نفقة الحكومة أو البلديات تعلم الصناعات المختلفة بحيث فاض عددهم عن حاجة البلاد وذلك لأن الشعب الألماني موقن بأن الواجب أن يسلح كل ولد في الوطن الألماني بالأسلحة الضرورية في الجهاد الاقتصادي.
مخطوطات نادرة
في المدرسة الأحمدية في حلب خزانة كتب عربية مخطوطة نجت من عوادي الدهر فكانت أحفل مكاتب الشهباء. وإلى القارئ المخطوطات التي لها علاقة بموضوع هذه المجلة ننقلها من فهرست سليم أفندي البخاري من علماء دمشق منذ بضع عشرين سنة كتب الأدب والدواوين: شرح نهج البلاغة نسختان. شرح ديوان المتنبي لابن جنى. أيضاً للواحدي. تمثيل المحاضرة للثعالبي. انتخاب حياة الحيوان. مسليات الحزين. شرح درة الغواص. الجزء الأول من المسعودي عَلَى المقامات. الجزء الأول من مناهج الفكر. جواهر العقدين في فضل الشرفين. مجموع ابن شمس الخلافة. طبقات الملوك للثعالبي.
كتب التاريخ: الأول من مرآة الزمان. تاريخ ابن الخطيب المسمى بدر المنتخب مجلدان والثاني مخروم الآخر. من الوافي بالوفيات للصفدي جلد 4. مختصر تاريخ الذهبي المسمى بالعباب. من مختصر تاريخ الذهبي جلد 6. من تاريخ الذهبي جلد 5. الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ. مجموعة في طبقات العلماء. منتخبات تواريخ آل عثمان. تحفة الكبار في أسفار التجار لكاتب جبلي. من عيون التواريخ جلد 7.
كتب منوعة: تذكرة السويدي في تقويم الأبدان. تشريح الأفلاك لبهاء الدين العاملي. صور الكواكب لعبد الرحيم الصوفي. المباحثة الشرقية للرازي. المصارع في المطارحات للسهروردي. لمعة ابن الشاطر. رسالة وضع خطوط صف الجائرة لابن مجدي المسمى بزاد المسافر. رسالة خطيب العدلية في وضع المزاول ومعها رسالة في الإصطرلاب. زيج ألوغ بك. ملخص ألوغ بك. مجموع رسالة في الإصطرلاب في الربع المقنطر وأخرى في الربع المجيب. رسالة في ربع المقنطرات. رسالة في الإصطرلاب للطوسي. فراسة ابن(55/33)
شيخ دبوس. فراسة قيلمون. كتاب الفروسية ورماية النشاب. كتاب في فروسية المجاهدين وتحفة المجاهدين.
ذهب المصارف
أغنى مصارف العالم بنقوده مصارف فرنسا ولذلك تهرع إليه كل دولة تريد أن تعقد قرضاً فقد بلغ ما في خزائنه من الذهب سنة 1910_134. 818. 000 جنيه وما في مصرف روسيا 122. 320. 000 جنيه وما في مصرف النمسا والمجر 55. 456. 000 وما في مصرف إيطاليا 48. 320. 000 وما في مصرف إنكلترا 37. 348. 740 وما في مصرف ألمانيا 32. 250. 350 وما في مصرف إسبانيا 16. 760. 000 وما في مصرف هولندة 10. 067. 330 هذا في أرقى ممالك أوربا وقد بقيت البلجيك والبرتقال وسويسرا والدانيمرك واسوج ونروج والصرب وبلغاريا ورومانيا والجبل السود فكم تبلغ النقود الموجودة في المصارف العثمانية يا ترى؟
أمالي تاريخية
المعتصم سمي المثمن.
ذكر أبو الفرج: أن المعتصم لخليفة العباسي المتوفى سنة 227هـ 841م كان يسمى لأنه كان الثامن في إحدى عشر أمراً أولها أنه ثامن ولد العباس والثاني أنه ثامن خلفائهم والثالث أنه ولي الخلافة سنة 218هـ (833م) وكانت مدة خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام. وولد له ثمانية بنين وثماني بنات وكان عمره عند وفاته 48 سنة وكان مولده في شهر شعبان ثامن الشهر من السنة.
ابن مقلة المثلث
من غري ما روى المؤرخون أن ابن مقلة الخطاط الشهير تولى الوزارة ثلاث مرات لثلاثة خلفاء المقتدر والقاهر والراضي وسافر ثلاث مرات ودفن ثلاث مرات لأنه دفن أولاً بموضع فجاء أهله ونبشوه ودفنوه في موضع آخر ثم نبش ثالثة ودفن في موضع ثالث.
الخليفة الراضي بالله
من غريب ما نقله المؤرخون أن الخليفة الراضي بالله العباسي المتوفى سنة 329هـ(55/34)
940م ختم الخلفاء في أمور منها أنه آخر خليفة كان له شعر يدون. وآخر خليفة خطب كثيراً (وأما من بعده فخطبوه نادراً). وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء. وآخر خليفة كانت له نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره عَلَى ترتيب الخلفاء المتقدمين.
عيسى اسكندر معلوف.
المرأة اليابانية
كتب عالم ألماني في تربية النساء في يابان فقال: لم تكن المرأة اليابانية إلى أواسط القرن التاسع عشر غير سجينة بيتها وأسرتها فكان اليابانيون يعتقدونها من عنصر أحط من عنصر الرجال ولما أرادت يابان أن تدخل مضمار الترقي حقيقة تغيرت وجهة الأفكار بسرعة في التربية كما تغيرت في السياسة وفي سنة 1902 كان في يابان 70 مدرسة عالية للفتيات وكان عدد الطالبات في مدرسة المعلمات 321 ألف طالبة سنة 1903. وبعد أن ساح الأستاذ ناروس سياحة علمية في أميركا عاد إلى يابان فعضده أناس من كبرائها مثل الكونت أوكوما والبرنس إيتو فأنشأ سنة 1901 أول مدرسة كلية للنساء التي أصبح المتعلمات فيها والمستمعات بعد ثلاث سنين ألف امرأة. والذي يزيد في العجب من هذا الإصلاح السريع هو أن يابان لم تغفل في تربية النساء عن الوجهة العملية فالفتيات يدرسن دروساً عالية ولا يفوتهن استعدادهن لوظيفة الزوجة والأم وهن يعشن عيشة أسرة واحدة وليس في المدرسة تعليم ديني بل يعلم فيها التسامح وخفض الجانب!.
مدارس الغابات
كان الأولاد في كل زمان ومكان يهربون من المدرسة والكتاب لأن منهم من لا يقدرون أن يخالفوا ما ركز في غرائزهم من تطلب الهواء الطلق والحركة وذلك لرداءة بناء مدارسهم ولأن وضعها غير طبيعي ونظامها مختل معتل وقد أخذ علماء التربية والتعليم في أوربا يدركون كل الإدراك أن من مدارسهم ما يجلب السقم ويميت الهمم وكان السابق إلى ذلك أناس في ألمانيا وإنكلترا وسويسرا فقاموا يطبقون بين الضروريات الطبيعية ومطالب المدنية الحديثة حتى يحولوا دون الأولاد والهرب من الكتاتيب والمدارس فيتمتعوا في مدارسهم بما تتطلبه أجسامهم من الهواء والنور ويسرحون ويمرحون تحت غابات الصنوبر(55/35)
والزان.
قالت مجلة التربية ونشأت هذه الفكرة في برلين لأن هذه المدينة القديمة ضيقة النطاق فاسدة الهواء لما فيها من تراكم الأنفاس حتى أن خمسة عشر ألف نسمة من أهلها يعيشون في أقبية تكون دافئة في الشتاء ورطبة بعض الشيء في الصيف فمدينة شارلوتنبرغ الملاصقة لبرلين هي التي منها نشأت هذه الفكرة لأن أبناءها كانوا بضعفهم الناشئ من رداءة هوائهم لا يستطيعون أن يسيرون مع أقرانهم عَلَى حين أن مدينتهم هي أم التعليم وفيها أعظم كلية صناعية فلم يستطيعوا أن يجاروا أقرانهم فرأى أحباب الإنسانية هناك أن يتنقلوا أولئك الأولاد إلى مدارس في الغابات تكون لهم بمثابة مصاح أو مصيف عَلَى سواحل البحار فإذا قويت أجسامهم يقوى ذكاؤهم والعقل السليم بالجسم السليم.
رأوا أن أبناء هذه المدينة اضعف من غيرهم بذكائهم وما سبب ذلك إلا ضيق حاراتهم وفساد أهويتهم وأن الأولى نقلهم من المدن إلى الفلاة وها قد أصبحوا الآن يبعثون بالأولاد ممن ليسوا مرضى حقيقة وهم مصابون بالهزال أو ضعف الرئتين والقلب أو ظهرت عليهم أعراض داءِ الخنازير أو غيره من مفسدات الدم_يبعثون بهم إلى مدرسة الغابات بدلاً من أن يذهبوا إلى المدارس الخاصة بالتلامذة المتأخرين فالمدارس الجديدة ليست للمرضى الذين يعدي بعضهم بعضاً ومعاملتهم من أقسى ما يكون من الشدة بل هي مدارس المرشحين للسل وغيرها من الأمراض كما يقول الأطباء فتداوي فيها صحتهم وينقذون مما يتهددهم بدون أن يحولوا بينهم وبين دروسهم أو يضيعوا عليهم سنة كاملة.
قام الشارعون بهذا العمل وهم يتخوفون الفشل والناس في ألمانيا لا ينظرون في الأعمال الجديدة إلا إلى ثمراتها الأولية وساعدهم البنك الألماني في مشروعهم بأن ابتاع لهم أرضاً وأعطاهم إياها بلا ربا والأرض واقعة في غابة عَلَى بضعة كيلومترات من شارلوتنبرغ يسير بينها وبين الغابة ترمواي كهربائي يصل بين المدينة وأول الغابة في عشرين دقيقة ثم يسير الإنسان من المحطة إلى المدرسة عشرين دقيقة عَلَى قدمه وسط الغابة وهواؤها عليل أكثر من المدينة وصاف للغاية.
ومن أهم ما فيها انبعاث رائحة القطران والصمغ من الصنوبر والرتينج وليس في هذه المدرسة أكثر من مئة طفل وطفلة جعلوهم في أكواخ من خشب سدوها من الداخل بقماش(55/36)
ولم ينفق عليها كثيراً بل بل بذلت العناية للتوقي فيها من الضباب والمطر وهناك بنايتان من الخشب وهما عبارة عن صفين يفصل بينهما غرفة للمعلم أو المعلمة وفي الجدران بعض المصورات الجغرافية والألواح وموقدة من القاشاني لا من الحديد المصبوب لأن الحديد مضر باتفاق علماء الصحة وهناك تجري الدروس ففي المطر تقام الصفوف بين هاتين البنايتين عَلَى أن تترك النوافذ مفتحة ما أمكن وفي أوقات الصحو تقام الدروس في وسط الغابات تحت أغصان شجر الصنوبر القديمة والأولاد جلوس عَلَى العشب وعلى المروج اللينة وعلى مقربة من غرف المدارس أنشئوا سقيفات مفتحة من أطرافها الأربعة لأنها إذا كانت مفتحة من جهة واحدة تكون معرضة لمجرى الهواء وتكون سطوح هذه السقيفات متينة تقاوم الأعاصير والأمطار ويكون من تحتها بمأمن من الرطوبات والرطوبات هي عدوة مدارس الخلاء. وهناك أيضاً بعض سقيفات اخف من الأولى وأصغر وبجانبها سقيفة واسعة طولها 27 متراً وعرضها 6 مفتحة نحو الجنوب ويمكن أن تؤوي 200 إلى 250 طفلاً.
فتحت هذه السقيفات البرية المبثوثة في الغابة يتسلى الأولاد عندما يتعذر عليهم أن يخرجوا من المطر إلى تحت السماء وهناك يستريحون فيجلسون عَلَى الكراسي المستطيلة كلما حالت الرطوبة دون تنزههم تحت الأشجار ولكن تصل إلى عيونهم ورؤوسهم رائحة الصنوبر وبعض أشعة الشمس. وفي إحدى السقيفات مناضد مستطيلة ودكات جعلت بيتاً للغذاء وفيها صحاف وكؤوس منمرة عَلَى نظام تام يجلس إليها الأولاد أوقات الطعام كل واحد في مكانه الخاص به وفي وسط هذه البنايات الخفيفة أنشئت بناية أكثر متانة وهي من خشب أيضاً قسموها أقساماً فمنها قسم للمديرة وآخر للمطبخ وثالث لحفظ الطعام ورابع قبو وحمام أو حمامان للذكور وآخر للإناث أما الحمام فعلى غاية من النظافة. وعلى هذا كان الماء الحار والماء البارد والحركة والرائحة والهواء والشمس مساعدة عَلَى تقوية تركيب الأولاد. وفي هذه المدرسة مستشفى صغير موقت لما قد يطرأ من الأمراض والعوارض عَلَى الأولاد.
وليس لهذه المدارس وفيها 250 ولداً سوى المديرة وإليها يعود أمر التربية والصحة وملاحظة الخادمات والمطبخ وستة معلمين وثلاث معلمات.(55/37)
تبدأ هذه المدرسة بالدروس عندما تعود الحياة إلى الغابات والخضرة في الربيع أي بعد عيد الفصح وتدوم بحسب مساعدة الجو وربما دامت إلى النصف الأخير من كانون الأول ولكن من العادة أن تطول مدة الدرس إلى آخر شهر تشرين الأول في شمالي ألمانيا وإلى منتصف تشرين الثاني في جنوبيها فيأتي الأولاد نحو الساعة السادسة ونصف صباحاً فتطوف بهم إدارة المدرسة فقي الغابات إلى الساعة الثامنة راكبين في ترمواي معد لهذا الغرض وفي تلك الساعة تبدأ الدروس وفي العادة ألا تطول مدة كل صف أكثر من 25 دقيقة فبعد الصف الأول يعطى التلميذ خمس دقائق للراحة والنزهة وبعد الصف الثاني عشر دقائق. والأطفال الصغار ومن بعدهم لا يدرسون في اليوم أكثر من ساعتين والأكبر منهم سناً يدرسون ساعة زائدة. والصف لا يتألف من أكثر من عشرين تلميذاً ليتيسر للمعلم أن يعنى بكل واحد من المتعلمين عناية خاصة ويدير شؤونهم وأعمالهم. وقد رأت إدارة المدرسة أن أربعة دروس يدوم كل واحد خمسة وعشرين دقيقة أفضل من دروس يدوم كل واحد منها 55 دقيقة وفيها 40 إلى 50 تلميذاً وإن الأحرى ترك التلميذ يسرح ويمرح في الغاب لا أن يقعد عَلَى الدكة يستمع 35 من أترابه يسمعون دروسهم مما لا يزيده إلا ثلم حاسة الانتباه فيه ويدخل عَلَى نفسه الاشمئزاز من الدرس مهما كان جذاباً أما الدروس التي يدرسونها في هذه المدرسة فهي دروس المدارس الابتدائية في ألمانيا ومختصر اللغة المحلية الألمانية وتاريخ ألمانيا ومختصر التاريخ العام والجغرافيا والحساب والتاريخ الطبيعي والغناء والرسم ودروس الأشياء وقليل من اللغة الإفرنسية لبعض الطلبة ويعنون عناية خاصة بتدريس اللغة الألمانية والتاريخ والجغرافيا والغناء. وإن كان الغناء من دروس التسلية أكثر من الدروس الجدية. والتاريخ الطبيعي والنبات والغناء والرسم في الغابة غالباً وفي جوار المدرسة بالعمل ومعلوماتهم أكثر بخلاف عقول من يتربون من الأولاد عَلَى هذه الطريقة أثقب ومعلوماتهم بخلاف عقول من يتربون في المدن وما يحصلونه.
وقد جعلت الألعاب بحيث تقوي نشاط الأولاد وتلقيفي نفوسهم فكرة الإبداع والاختراع فترى المدرسة قد خصت صغار الأولاد بقطعة من الأراضي مرملة يلعبون فيها ويحفرون ويطمون ويبنون بأغصان الخلاف جسوراً أو حصوناً وأنفاقاً ومجاري وكثيراً ما تستحيل(55/38)
هذه المسليات إلى صورة درس في الجغرافيا أو الطبوغرافيا فيرسمون بعض أنهار بلادهم وما عَلَى حفافيها من الأراضي والمصايف والحصون. وكبار الأولاد يدربون صغارهم عَلَى هذه الألعاب كما أن المعلمين يلاعبون كبار الطلبة بدون أن يظهروا بأنهم في صدد درس بل أنهم في لعب ونزهة.
ولطالما لاحظ علماء التربية أن جهاد المرء إذا صرف إلى غاية نافعة يكون عليها في نفس الطفل لذة زائدة فتؤثر في تربيته أكثر مما تؤثر الأعمال التي لا نتيجة لها فقد قال أرسطو أن كل حي يحب نشاطه. فإذا كان العمل فرحاً فهو كذلك عَلَى شرط أن يتم لا بالإكراه بل بحرية أي أن يتم بإرادة المرء مدفوعاً إليه بغايته الطبيعية وهي الإيجاد والإيلاد والإحداث.
ولذا اختصت المدرسة كل تلميذ بقطعة صغيرة من الأرض حديقة يزرعها ويستنبتها ما يريد فهو مالك هذه الروضة الذي لأراد لحكمه وله ريعها زهوراً كان أو ثماراً فترى أحدهم يزرع قرنفلاً أو ورداً ليقدم منها باقة لكبار أسرته وآخر يميل إلى العمليات فيزرع فجلاً أو بقولاً وبقوة الماء والعناية يستخرج من تلك الأرض الرملية المحرقة غلات نافعة حتى إذا تقدم في السن يدرك كم بذل الفلاح من العناية حتى أتاه بخبز عمل من الجاودار وصفحة من البقول. وهناك طفل آخر مولع بالنبات فيربي في روضته نباتات نادرة من الغابة ويدرس كيفية نشوءها. وهكذا أُشرب أخلاق كل واحد من هؤلاء المتعلمين وكلهم يفكرون فيما يستنبتون أن يقدموا من أول غلة لأقربائهم وأبويهم دليلاً عَلَى مهارتهم وحذقهم. ولا تسل عما يبذله أولئك الأطفال من الهمم ليدخلوا الشرور عَلَى قلوب غيرهم وكم لها من الشأن والقيمة الأدبية التي لا تضاهى.
أما الطعام الذي يتناوله فقد اختارته المدرسة من أقلها نفقة وأكثرها تغذية لأن المقرر الذي يدفعه التلامذة وأكثرهم من الفقراء لا يكفي لتقديم المأكولات الثمينة. وطعام الغذاء الذي يقدم الساعة الثانية عشرة ونصف وقت الظهر هو أكبر طعام وما عداه فالأولاد يأكلون كل يوم أربع وجبات الأولى الساعة السابعة يقدمون له كأساً من اللبن الحليب وقطعة خبز ومربيات لأنهم يعتبرون السكر مادة من مواد الغذاء ومقوياً. وفي الساعة العاشرة يقدمون أكلة خفيفة أيضاً وعند الظهر طعام مغذ مؤلف من ثريد ولحم لا يقل عن مئة غرام لكل ولد وبقول معدلها من 150 إلى 200 غرام وفاكهة أو حلويات أو مربيات. وفي الساعة الرابعة(55/39)
يعمونهم لبناً حليباً وخبزاً بالزبدة وفي الساعة الخامسة والربع يطعمونهم قطعة من الخبز وشيئاً من اللوز الهندي (كاكاو). وأنت ترى أن اللبن والخبز أكثر الأطعمة تغذية واقلها تكلفة.
ولقد كان من نتائج هذه التربية والحياة المدرسية أن كان الأولاد يأتونها ضعاف الأجسام تقرأ في وجوههم عبوسة وفي نفوسهم انقباضاً وفي أرواحهم ذلة وصغاراً لا تميل أنفسهم إلى شيء ولا تنبسط شهواتهم لشيءٍ وبعضهم لا يعرفون كيف يلعبون أيضاً فيهم خليط من أبناء الأحياء القذرة لا يعرفون الزهور ولا المروج ولا تغريد الأطيار في الأشجار ولا الحبوب ولا كيف تغيب الشمس فتسحر بمنظرها ولا كيف تشرق فيبهج النفس مرآها ولا كيف تسرح الحيوانات في الغابات ولا كيف تطن الهوام والحشرات في الشمس أو تعبث بالأوراق وها قد أصبحوا منذ أول دخولهم المدرسة وأفكارهم منتبهة ونشاطهم موفوراً وكل شيءٍ جديد لديهم كأنهم في عالم جديد يهتز منهم من لا يهتز لأمر من قبل وينبه أكثرهم رخاوة ويعود غليهم الذوق في الحياة فلا يجدون في العمل سخرة مملة عقيمة وكلما زادت قواهم الطبيعية يعود ذكاؤهم العادي إلى حالته الطبيعية.
وقد أخذ وزن أجسام الأولاد يزيد من أسبوع إلى أسبوع فكان الواحد يزيد نصف لبرة وكثير منهم زاد ثقلهم من 9 إلى 10 لبرات في خلال ثلاثة عشر أسبوعاً وكما أخذت المدرسة تراقب وزن التلامذة أنشأت تراقب كمية الدم فيهم فظهرت لها نتائج حسنة وأخذوا يشفون من الأمراض وتتحسن صحتهم تحسناً ظاهراً عَلَى اختلاف أسقامهم فثبت أن المقام في تلك الغابة نفع في أكثر المصابين بداء الخنازير وفقر الدم والمستعدين للسل. هذه هي النتائج الخارجية ويصعب تعيين ما حدث للأولاد من النمو في إرادتهم ومقدرتهم عَلَى العمل وحسن خلقهم وفرحتهم بالحياة وهذا من القوى أو النتائج الأدبية لم يتيسر لأداة أن تضبط عَلَى التحقيق نموها وضعفها ومع هذا فإن لها تأثيراً كبيراً لا في صحة الأخلاق بل في الصحة الطبيعية.
فالمحيط الجديد الذي انتقل إليه الأولاد وتأثير الطبيعة في نفوسهم والسكون والعمل المعقول والجهاد الحر النافع كل هذا يفعل أحسن فعل في الأعصاب التي هي كثيراً ما تهيج من هواء المدينة وضوضائها أو تضعف لقلة الهواء النقي. فمدار الغابات هي أشبه بأسرة(55/40)
كبرى كل امرئ سعيد أن يكون منها وكل واحد من أبنائها يحرص عَلَى أن لا يسوئ سمعتها وفي هذه الدار يتجلى للأنظار ما للعناية النسائية بالأطفال لأنهم يبوحون للمديرة التي تحنو عليهم حنو المرضعات عَلَى الفطيم بذات أنفسهم ونياتهم وأعمالهم فترشدهم وتنشطهم وتحاول أن تجعل منهم أهل حشمة من الرجال وجد من الفتيات. وإدارة المدرسة تفكر في أن تجعل مدرستها داخلية لأن الهواء النقي ينفع في حالة النوم ضعفي نفعه في حالة الإغفاء بالنسبة لهواء المدن القذرة فقد ثبت أن الطفل أثناء عودته في المساء إلى دار أبويه يفقد أحياناً ما ادخره من القوى لرداءة الغذاء أو الهواء ولانحطاط المحيط في الأخلاق والتربية أو لأسباب أخر من أسباب انفعال النفس. هذا وإن يكن الألمان أميل إلى أن يجعلوا أولادهم في مدارس خارجية أكثر من الداخلية وقد اشتهر أمر هذه المدرسة في بلاد الألمان وأخذت كثير من المدن الصناعية تحذوا حذوها كما فعلت مدينة البرفلد وكيل ولوبك ومومنيخ ومولهوس وغيرها وعمدت كلها إلى اقتصار الدرس والدروس وإشباع المواد فيها ودوام الراحة وتكثير وجبات الأكل المغذي وأجمل مدرسة تحت الغابات في ألمانيا_وكلها غابات جميلة_مدرسة غلادباش.
وذلك أرسل الإنكليز أناساً من رجال التربية عندهم ودرسوا طريقة هذه المدارس وأخذوا يقلدونها لأن طريقتها أشبه بطرائقهم في التربية والاعتماد عَلَى رياضة النفس فيها أكثر من الإكثار من الدرس فلم يحبوا أن يكون الأطفال في الارتياض اقل عناية بأمرهم من الفتيات في كليتي أكسفورد وكامبريدج حتى أن بلدية لندن نفسها أنشئت ثلاث مدارس من هذا النوع وكذلك فعلت مدينتا برادفورد وهاليفاكس واختيرت أماكن نزهة فيها الأشجار الهائلة وصرف بعض الإنكليز في هذا السبيل عن سخاء. ومتى قصر الإنكليز في بذل الجنيهات كالمطر إذا كانت نتيجتها تربية القوى الطبيعية في الأطفال؟
ولقد أخذت هذه المدارس تعلم الرسم في الطبيعة والطبوغرافية عَلَى شواطئ السواقي والحساب بقياس الأشجار الضخمة وتقدير حجم جذوعها بالمتر المربع والجغرافيا بخط خطوط في الرمل ناتئة. وللاستحمام بالمضخات وغيرها المقام الأول في هذه المدارس. وللشغال العملية مكانة كبرى فالبنات يتعلمن غسل الثياب وترقيعها والعناية بالأولاد. ومن مبدأ هذه المدارس أن الواجب أن يعرف كل ولد كيف يعمل عملاً بأصابعه العشرة ولهذا(55/41)
من الشأن العظيم من حيث الأخلاق وتقوية العقل أكثر مما يتوهم المتوهمون. وكانت نتيجة هذه المدارس باعثة علة الرضى إذ قد ثبت أن تسعة أعشار تلامذتها زادوا زيادة محسوسة في وزنهم ونشاطهم. ولئن كان نمو القوى الطبيعية سهلاً تحقيقه بواسطة الدينامومتر ودل البحث عَلَى أن الأولاد لم يزيدوا وزناً مثل مدرسة شارلوتنبرغ الألمانية فذلك لأن الجنس الإنكليزي في الغالب غير مستعد للسمن كالعنصر الألماني وكان من التلامذة الضعاف في عقولهم أن أخذت تنشط من عقالها كلما زاد نشاط أجسامهم.
وقد اغتبط الإنكليز بما تم من النجاح عَلَى أيدي مدارس الغابات ولا تلبث كل مدينة في إنكلترا أن يكون لها مدرسة من نوعها كما أن أناساً من رجال المال في أميركا قد أحدثوا في سان فرانسيسكو وغيرها أندية للأولاد تضمن لضعاف الحال والصحة السفر لاستنشاق الهواء الطلق وربما كان ذلك مقدمة لاحتذاء أميركا حذو ألمانيا وإنكلترا في إنشاء مدارس في الهواء الطلق بين أشجار الغابات. وقد أخذت سويسرا وفرنسا تفكر في إنشاء مدارس من هذا النوع لأن العناية بالصحة هيب فوق كل عناية حتى قال ديكارت الفيلسوف أنه مقتنع كل الاقتناع بأنه إذا كان ثمة واسطة لجعل البشر أذكى وأنبه مما هو فليس غير الطب يجب أن يعض عليه بالنواجذ ويلتمس منه الشفاء.
عقول الأطفال
في مجلة الأقرباء الإنكليزية ثلاث مقالات في إعداد عقل الطفل. الأولى في الجور الذي يجيء عَلَى الطفل من سن 18 شهراً حتى يبلغ ثلاث سنين وهي سن تعلمه الكلام ومقدرته عَلَى التقليد وغريزته في البحث عما لا يعلم وتكون قواه في التصور والتعقل في مبدأها وإرادته جرثومة تبدو في صورة عناد وبعد سن الثالثة تتأصل فيه قوة التعقل بمظهر أكبر وهذه هي السن التي يكون للتفكر فيها شأن رئيسي وتظهر الإرادة في مظهر أجلى ويأخذ الولد في تقرير أمور بدون أن تحمله إليها ضرورة لاحقة ولا يتيسر لهذا النشوء في عقل الطفل أن يتم عَلَى أصوله إلا بإجادة تغذيته ونومه فلطول رقاده شأن مهم في هذا السن.
أما من حيث الأخلاق فالذي يجب عَلَى الوالدين هو أن يعطيهما بدون خشية لأن للخشية نتائج سيئة في مستقبله وعلى الوالدين أن يوقنا بأن عقل الطفل صغير كجسمه وأن الواجب عليهما أشياء كثيرة وهو لا يسأل معهما عن شيءٍ.(55/42)
والمقالة الثانية في تهذيب الطفل جاء فيها أن المهذب الحقيقي هو الذي يعلم قليلاً من كل موضوع وكثيراً في موضوع واحد. وتكون تربية الطفل تربية حرة بأن لا يغفل عما يعلمهم من الاهتمام بكل الموضوعات الكبرى والصغرى مثل القصص والرحلات والتواريخ في الحيوانات والنباتات ويجب أن تؤثر الكتب التي لها قيمة أدبية فإن الذوق يتكون منذ الطفولية كالمفردات التي يستعين بها المرء أن يعبر بعد عن أفكاره. ويجب ألا يعتقد بأن الفضيلة تحبب إلى النفس بالتنفير من الرذيلة بل بتحبيب الفضيلة نفسها وما فيها من الخيرات فإن الأبطال الذين أحببناهم وأعجبنا بهم وحاولنا تقليدهم في شبيبتنا يظلون أصدقاءنا يوم نبلغ أشدنا. وبالجملة فالواجب أن يذكر أن القراءة تعلم الأولاد وتسليهم وأن لا يكثر عليهم من الكتب المعلمة ويترك لهم اختيار ما يروقهم منها عَلَى شرط أن تكون لها قيمة أدبية أو أخلاقية أو علمية.
والمقالة الثالثة في تعليم الطفل بالحديث والحوار لأنهما تؤثران في تربيته ولكتن لا مباشرة فإن الدائرة التي يلعبون فيها ويدرسون وبدائع الصنائع التي تلقنهم الجمال والنظام لا اثر لها في إمداد نفوسهم وأذواقهم بقدر حديثهم فإذا تركوا وشأنهم في حديثهم يصبحون وحديثهم نسقاً واحداً غير لائق فعلى المعلم أن يعنى بحديثهم بحيث يكون عاماً أحسن الأحاديث ما كان بحضور النساء لأن بعض مدارس إنكلترا جربت هذه الطريقة فنشأت منها خيرات كثيرة في تربية عقل الطفل.
الأخلاق والعادات
يرى بعضهم اختلافاً في تعيين معنى الطبيعة والعادة وأن الطبيعة والمزاج أو الأخلاق لا تؤثر فيها التربية أو أن التربية إذا استطاعت تغيير الإنسان فلا تعمل إلا عَلَى إبطاله وتلاشيه وعلماء الأخلاق عَلَى اختلاف بينهم في هذا الشأن فقد قال روسو أن التربية ليست سوى العادة لا طائل تحتها وهي عاجزة عن التأثير في المرء لأنها تجد أمامها سدوداً من مقاومات الطبيعة فلا تستطيع تغيير الميل والاستعداد ولا تقف عثرة في سبيل النشوء فليس في مقدرتها إلا أن تنير المرء وتهيئ له سبيل للانبعاث والعمل أو أنها تنشئ للمرء طبيعة ثانية وتبيد الأولى وتشحذ العقول وتعجن الأرواح وتحث الإرادات وتقويها.
فقد اعتاد من يقول بأن الإنسان غير قابل للتربية أن يحتج بأن الشر مغروس في فطرته(55/43)
وهذه هي الحاكمة المتحكمة في تكوين أخلاقه ولكن هذا الزعم فاسد لأن الدلالة عَلَى تأثير التربية وفعلها في تغيير الطباع أمر لا ينكره مفكر. قالوا أن العادة طبيعة ثانية ومن المحقق منه أنه إذا كانت للمرء طبيعة وهذه الطبيعة متحولة بالعادة فهو من بين سائر الحيوانات خاضعة للتأثيرات الخارجية الكثيرة المنوعة التي لها الفعل الأكثر في هذه الأسباب والتخلق بها واحتذاء مثالها فإن الحس الحي اللطيف وتركيب المرء اللدن المرن المستعد بدون عناءٍ لجمع أنواع التكون وقوة الحافظة التي هي طبيعية في المرء وبها يعتاد العادات عَلَى أيسر وجه كل هذا يجتمع ليكون أخلاقاً ومظاهر في المرء متشابهة لما يحيط به من الأخلاق والأشكال وما يحفه من الأجسام. وهذا هو جملة القوى العظمى في التربية الطبيعية ومنها تنشأ في الحال التربية الأخلاقية وبذلك يكون المرء قابلاً للكمال إلى ما لانهاية له ويستطيع القيام بكل أمر.
ويعتدل النظام الحيواني بالعادة خاصة فهي بطول الزمن تؤثر التأثيرات النافعة والتأثيرات الضارة. فتركيب الإنسان خاصة يستعد أن يظهر في كل من المظاهر. والمرء يستطيع أن يألف تناول السم وربما صعب عليه الإقلاع بعد من عادة كان ألفها بالتمرس بها والرجوع من القبيح إلى الأحسن فسكان البلاد الرديئة الهواء قد لا تجود صحتهم أبداً في بلاد أجود بهوائها فالمصابون بالربو (ضيق التنفس) الذين تناسبهم الأماكن الشاهقة في العادة قد يرون حاجتهم ماسة إلى هواء كثيف ثقيل كانوا اعتادوه أيام صحتهم والهواء الشديد قد يزيد أوجاعهم ويحدث لهم اختناقاً مدهشاً ولقد رأينا سجناء خرجوا من محابسهم ومطابقهم العفنة أقوياء أشداء بعد أن قضوا مدة طويلة مسجونين بجرائمهم ثم ضعفوا وهزلت أجسامهم من الهواء الطلق ولم تعد إليهم صحتهم إلا بعد أن ارتكبوا جنايات أخرى أعاداتهم إلى مطابقهم الأولى التي أصبحت لهم كأنها مساقط رؤوسهم.
وهكذا ففي الواسع أن تدخل عَلَى الطبيعة تعديلات أصلية كثيرة ويمكن تجديدها وقلبها والأخذ بها في طريق غير طريقها وذلك بالعادة. ثم أن الطبيعة خاضعة لجميع المؤثرات وقابلة لاعتياد أنواع العادات فهي_خلافاً لما يقال_مرنة قابلة للتحول لا تظل عَلَى حال واحدة بل تفعل فيها الأخلاق والتقاليد ومؤثرات المحيط والعادات الشخصية. وقد قال أحد علماء التربية أن للمرء مزاجين طبيعي أو أصلي وكسبي فالأول ينشأ من مزاج الإنسان(55/44)
فلا يؤثر فيه إلا إذا تكرر عليه غيره وعندئذ يظهر المزاج الآخر أي أن المزاج الأصلي يؤخذ بالمزاج الكسبي وهذا الذي يعتبر كأنه مزاج الأهواء الطبيعية والعادات المكتسبة التي يقضى علينا أن نلاحظها فقط فالمزاج الطبيعي يعرف ويظن ويغلط وهو مفترض مثل شروط التربية ولكن المزاج الكسبي هو نتيجة التربية نعرفه ونثبته فهو عمل من أعمال التجارب الثابتة.
فالمزاج الكسبي هو عبارة عن التبدلات التي تفعل في المزاج بحكم الوراثة_وإن كان يمكن اعتبار الوراثة جزأ من المزاج الطبيعي_ومن التبدلات الطبيعة الخاصة المشتركة بين جميع الناس وهي تنشأ من السن ومن الانقلاب الذي يحدث في الإنسان عند البلوغ مثلاً ثم من مجموع التبدلات العارضة التي تترك آثاراً باقية كنمو المرض أو الأسباب المنتظمة الثابتة كالمناخ وأصول المعيشة والأعمال العادية من جسدية وعقلية.
وقد أدمجنا في جملة أسباب المزاج الكسبي المرض والمانخ وذلك لأنهما يعدلان طبيعتنا وإن كان في اليد تعديلهما لأنه في استطاعة المرء أن يقاوم المرض ويتوقاه بمراعاة قواعد الصحة ويضعفه أو يشفيه بالعرج الخاص به كما أنه يصلح أو يخفف تأثيرات المناخ أو يجعله بحيث يناسبه وإن كان ي الأكثر عرضة لتأثيراته. والمرض بغير تركيبه ويقطع الموازنة بين الأعصاب الحاسة والمحركة وتغلب الأول عَلَى الثاني وهكذا تجد في الأولاد والمعرضين للأمراض حساً رقيقاً وشعوراً قبل أوانه وذكاءً حسناً ويتحول المزاج أيضاً بحسب المناخ فترى في البلاد الباردة القوى العصبية عاملة قوية والقوى الحسية مخدرة ضعيفة وبالعكس ترى أهل البلاد الحارة أما البلاد الرطبة العفنة فالمزاج فيها بلغمي.
ومهما كان من تأثير الأسباب الطبيعية في طبيعتنا فالتربية لها مدخل كبير في إعداد الرجال بل إنها هي المادة والعامل فإنا نجد فيما يستبعدنا سبباً لتحرير رقنا فمن ثم كانت التربية العامل الأكبر في طبيعتنا وإذا كان للمرض والإقليم تأثير فذلك يشعر بأن طبيعتنا قابلة للتحول. فالحرية ليست سوى اسم أطلق عَلَى مرونة تركيبنا الطبيعية والأخلاقي. وفي مكنتنا أن نعارض بين مختلف التأثيرات التي نخضع لنظامها ونكون لها سادة ونطبعها وننجو من تأثيراتها المضرة ونحرر نفوسنا من قيودها.
يكاد يكون تأثير طراز المعيشة كتأثير الإقليم وأحدهما يتغلب عَلَى الآخر فإنك تجد في(55/45)
عرض واحد من الكرة أناساً مختلفين في طبائعهم من مثل اليابانيين والصينيين واليونان والأتراك. لا جرم أن ينسب ذلك إلى اختلاف العناصر وربما كان لأسلوب المعيشة دخل كبير أيضاً لا تقوم إلا بعض التدابير والذرائع وما قط ازدهرت إلا بين الشعوب المعتدلة.
فالعادة الشائعة باستعمال الأفيون في البلاد العثمانية والصين والهند قد أثرت كالمناخ أو أكثر بل ساعدت كالحكومة أو أشد في تلك البلاد عَلَى توحيش سكانها وجعلهم غير صالحين للمدنية. واستعمال الألكحول هو أيضاً عند أمم أوربا مسألة حياة وموت. وبلسان أعم إن ضرره يلحق بالصحة عن اختياره وكل خطيئة طبيعية لها نتائج أخلاقية واجتماعية. قال سبنسر: قلائل في الناس من يظهر أنهم يفهمون في العالم شيئاً يمكن أن يسمى الخلق الطبيعي. والظاهر أن الناس يعتقدون عَلَى الجملة بأنه يباح لهم بأن يعالجوا أجسامهم عَلَى نحو ما تدرك عقولهم. وأنت ترى الفلاح طماعاً شديداً يقتل نفسه في العمل ويستعمل القسوة مع امرأته وأولاده فستنفد قواهم ويخرب صحتهم كما نرى العامل يضع كسبه في الحانة ويخل بأصول قواعد الصحة في مأكله ومسكنه بل إن عامة الطبقات في البشر تسرف عَلَى نفسها وتبذر في قواها وتعجل الخلل والهرم والعقر إليها وهكذا ضربت المدنية ضربة شديدة بأيدي السواد الأعظم الذين لا يقدرون حق قدرها واختل نظامها المادي بل إن التقدم المادي هو شرط ظاهر في التقدم المعنوي يبعث في الحقيقة من التربية والأخلاق حتى أن الأمم كإنكلترا التي تحترم الرفاهية الحديثة وتتعبد بها وتقصد من ذلك عنايتها بأمور الصحة كعنايتها بالرفاهية نراها تكاد تكون وحدها سائرة في طريق المدنية بقدم راسخة أحسن من الأمم التي لها أفكار خيالية في الحضارة. فخير ما ينظر إليه في التربية أن يلاحظ ما انطوت عليه جوانحنا ومزاجنا وأن نبني نظامنا عَلَى أساس الحياة الطبيعية.
للمزاج تربية أو لا بد له من تربية وقد شوهد بأن المزاج غير ثابت من فطرته لأنه نتيجة المرض والإقليم والنظام الصحي. يثبت ذلك أن المزاج قابل للتحول غير راسخ ما نراه من تحويله لا بوسائط طبيعية بل اجتماعية كالصناعات مثلاً. فالصنعة تروض الإنسان بأجمعه وتتحكم في أذواقه وأفكاره وتقوده في سلوكه بل تعمل في تركيبه الطبيعي. ومن البديهي أن ليس الحداد والمطرز متوحدين في القوة العضلية كما ليس لهما مزاج واحد وأمراضهما(55/46)
ليست متشاكلة والاختلاف بين ابن الأدب الفلاح والأول ينهك عقله والآخر يتعب عضلاته يختلفان بتركيبهما الطبيعي كالاختلاف المشاهد بين فرنسوي وألماني وإنكليزي وهولاندي وربما كان أكثر.
إذاً فما هو المزاج؟ الظاهر أنه يصعب ضبطه وتحديده ولا يتأتى تعيينه إلا بالفكر فيحدد لا بما هو فيه بل بما يمكن أن يستحيل إليه. ولقد نظر المشرعون والحكماء في القديم إلى التربية بأنها تدريب منظم تام لا تختل قواعده ولا يضل قاصده وعلى أيدي القدماء تحققت الأعاجيب التي تنشأ من التربية كالجندي والوطني والإنسان الذي يقصد إلى غاية كالدفاع والعظمة ومجد البلاد ولا يعيش الطامح إليها إلا لأجلها ولا يستنشق الهواء إلا لتحقيق أمنيته منها وبلوغ أربه. ولقد كان المثال البديع الذي ظهر من تربية الجندي الإسبارطي خير مثال تحدثه الأمم فأعجب تدربه القدماء والمحدثون وحق لهم أن يعجبوا لا لما تم عَلَى يديه بل لما بدا فيه من تأثير التربية أو تدريب الإنسان بالإنسان وهكذا دربت رومية رجال شحنتها. وفي إسبارطة ورومية يجب عَلَى الأخلاقي أن يفكر في تأثير التربية لأن هذه التربية لم تظهر قط بأعظم من مظاهرها في تينك العاصمتين ولم يمتد سلطانها حتى ولا في عهد اليسوعيين الذين كانوا يعجبون بما يتم عَلَى أيديهم من جعل أعضاء رهبنتهم عبيداً خاضعين وأدوات تامة.
نعم فعلت التربية فعلها حتى أخرجت المرء عن طبيعته الأصلية وعدلت في مزاجه حتى اشتهى الفيلسوف ميستر ذات يوم أن يرى الإنسان في نفسه أو عَلَى فطرته فقال أنه رأى فرنسياً وإنكليزياً وإيطاليين وروسيين ولكنه لم يوفق إلى رؤية الإنسان المجرد العام بل رأى الإنسان بحسب المحيط والتعليم والتربية المكتسبة والمزاج ولكن إذا كان الإنسان الحقيقي هو محصول التربية ومجموع العادات وإذا كان أبداً ابن الأحوال الطارئة عليه والعادات والمناخ والقوانين ألا يجب أن يقال بأنه ليس له خلق خاص وأن شخصيته تضمحل بما يعدو عليها. فالظاهر أننا لا ننظر للشخصية إلا عند مقاومتها للتربية ونراها مباينة بتعريفها للمؤثرات التي تؤثر فيها.
ترجع التربية إلى العادة وهنا انقسم علماء التربية إلى قسمين فمن قائل بتأثير العادة ومن قائل بعدمها. فزعم روسو بأن للتربية دخلاً قليلاً في إعداد الإنسان قائلاً أن التربية استعباد(55/47)
له وأن خير عادة يعودها الطفل أن لا يعود أمراً ما حتى ولا الأكل والشرب ولا النوم في ساعات معينة بل أن يعد للاستمتاع بحريته وأنت تلاحظه من بعيد كما تلاحظه في استعمال قواه تاركاً لجسمه العادة الطبيعية وأن يكون أبداً مالك قياد نفسه وأن ترى إرادته عندما يكون مالكاً لها قال والعادة الوحيدة النافعة للأولاد هو أن يستعبدوا لضرورة الأشياء بدون عناء والعادة الوحيدة النافعة للرجال هو الاستعباد للعقل بدون كبير أمر. ومثل لذلك بالنبات الذي تثنيه وتكرهه عَلَى ميل خاص فلا يلبث أن يعود إلى أصله إذا أطرحته من يدك.
وقواعده هذه تنطبق عَلَى التربية بل هي قواعد التربية بذاتها إذ لا فرق بين التربية والعادة وما التربية إلا العادة فمن ثم كانت التربية تربيتين تربية ظاهرة مؤقتة وتربية حقيقية دائمة فالأولى هي التي تقاوم الطبيعة والثانية هي التي توحي إليها الطبيعة ولا تعمل إلا عَلَى ترقيتها وموافقة قانونها ولذا قال روسو أن من النسا من ينسبون تربيتهم أو يضيعونها ومنهم من يحتفظون بها. عَلَى أن الابتعاد عن الفطرة ما ينافي العقل فالحكمة تقضي بأن نعمل مع الطبيعة ولأجلها وكل تربية لا تجري عَلَى هذا النظام لا تكون عبئاً ثقيلاً فقط بل تكون عبثاً لا نتيجة لها. ومن الباطل أن نعتقد أن مخالفة الطبيعة في التربية تعني غناءها وما هي إلا ظواهر فإن معظم العادات كما قال روسو التي تعتقد أنك تلقنها الأولاد ليست عادات حقيقية لأنهم أخذوا بها بالعنف وجروا عليها عَلَى غير إرادتهم فهم يتوقعون الفرص لينزعوا ربقتها. وقوله هذا صحيح لا غبار عليه فإن بدريتو الذي أخذ وهو طفل من محيطه المتوحش وربي التربية الأوربية الدقيقة تخلى يوم خلا له الجو ونجا من أيدي مدبريه عن عيش الرفاهية الظريف وراح يعود بين أهله إلى عيش الكسل والعطالة والشقاء التي قادته إليها ميوله الإرثية ولم يعد قط إلى حالته الثانية. وكذلك كان من حال الصيني الذي تزوج من امرأة فرنسوية وأخذه معها إلى بلاده فلما بلغها أخذ ينظر إلى زوجه بأنها غير مساوية له وانقطع عن معاملتها معاملة متمدنة. وبهذا تبين أن التربية ليست غالباً إلا طلاء يزول لأقل عارض. وقد قال الفيلسوف ريبو أيضاً أن الطبيعة لا تعاند وإن للإرث والميول الطبيعية دخلاً كبيراً في التربية. ومن رأي روسو أن العادة لا يمكن إلا أن تكون منطبقة عَلَى الطبيعة.(55/48)
وقالت العقيلة نكرسوسور التي ناقضت روسو في نظرياته وجعلت للعادات في التربية الشأن الذي أراد روسو أن يسلخه عنها أن الولد ليس إلا كائناً لدناً رخيصاً قابلاً للتحول مستعداً إلى التطبع بالعادات يتناول ذلك عَلَى أيسر وجه بدون نكير وليس في العادات عائق عادي يخدر قواه بل إن الاتفاق يتم أبداً بين الخلق والعادات وكلما كان الولد فتياً في السن انبعثت عاداته من أخلاقه ومن نفسه. وبالجملة فإنه يحصل للولد ذوق في العادات التي يعتادها فيقع استحسانه عَلَى ما يراه. قالت إنها رأت طفلاً في الشهر التاسع من عمره يبكي بكاءً شديداً ويأبى أن يتناول غذاؤه لأن الفنجان والصحفة الملعقة لم تكن موضوعة في محلها التي جرت العادة أن توضع فيه. فاستدلت بذلك عَلَى أن ذوق النظام كان بذرة في الطفل فالواجب عَلَى المربي أن يربيه ويقويه وهكذا تجد ذوق النظافة والحياة فطرية في الإنسان قالت إنها شاهدة طفلة في الشهر الثامن عشر من سنها تبكي إذا مس أحد مقطف مربيتها في النزهة وقد رأت هذه الطفلة امرأة مجهولة دخلت ذات يوم وسرقت من البيت قفطان والدتها فأخت تصيح صياحاً هائلاً. ومن هذا يستنتج أن العادة ليست في الأصل عارضية دخيلة فينا بل إنها تدخل وتنساب في حياتنا بقدر ما تصادف من الائتلاف وتنبهه فينا من الشعور ويتفق مع إرادتنا وهكذا هي مادة من شخصيتنا ولكن تلك العادات لا يجب أن تخرج عن الطبيعية فلا تتمازج وإياها كما يتمازج قلبان كأنهما تراضعا لبناً واحداً ويتعلق المرء بالعادة مختاراً لا مضطراً فتظل عاداتنا كما كانت في الأصل بهجة وظرفاً لا سلسلة وقيداً ليكون لسان حال كل امرئٍ أن عبوديتي حلوة وعبئي غير ثقيل. نعم يعتاد الأمور وهي محببة إليه ولا يعتادها متكارهاً.
ولقد كان القدماء ينظرون إلى التربية بأنها تدريب مدقق شديد أو تجريب عَلَى أسلوب تام ولنهم يشفعون تربية الجسم بتربية الروح فلم يكونوا يكتفون بتربية العضلات بل كانوا يلقنون المربى العبادة واحترام القوة ويرون أن التدريب أو العادة ليس بشيء إذا لم تظهر بأنها ترجمان للروح.
قال الكاتب الفرنسوي الذي احتذينا عن مبحث له هذه النبذة: وطريقتنا في التربية هو أن لا ننظر إلى العادة والخلق موجودة بذاتها ومستقلة بنفسها بل أن نعتبرها بأن أحدهما يقوم بصاحبه وهو متمم له.(55/49)
إصلاح حوران
تمت لسورية أمنيتها التي لطالما نشدتها من إدخال حوران ولاسيما جبل الدروز في الطاعة وإصلاحه إصلاحاً إدارياً ليسعه بعد الآن ما يسع عامة الأقاليم العثمانية. فوفق القائد العام في الحملة عَلَى جبل الدروز سامي باشا الفاروقي الذي انتدبته الدولة لتأديب العصاة بالنظر لمعرفته اللغة العربية ولأنه استعان عَلَى تحقيق رغائبه بقواد من أبناء هذه الديار أو ممن سكنوها زمناً وعرفوا أحوالها وساعد عَلَى ذلك انتظام الجندية في العهد الأخير انتظاماً يغبطنا عليه المحب فقابل الدروز العسكر بإطلاق الرصاص بالقرب من السويداء قاعدة الجبل كما قابلوهم في قنوات والكفر وما والاهما فاستولت الحملة عَلَى تلك البلاد وأحرقت بعضها لما بدا من أهلها من المقاومة ومن سلم للحملة عومل بالرفق والعدل ولما أيقن الدروز بأنهم كانوا عَلَى ضلال في مقاومة الدولة استسلموا كلهم ودخلت بلادهم في الطاعة وعادوا إلى أعمالهم الزراعية فجمعت الحملة أسلحتهم وأحصت نفوسهم وساقت إلى الجندية نحو ألف من شبانهم كما اعتقلت من ثبت كل الثبوت اشتراكه في الفتنة الأخيرة وعصيانه وربما حكمت عَلَى عشرات منهم بأحكام مختلفة بما أقامته في السويداء من الديوان العرفي ولا يعرف بالتحقيق عدد من هلك من الدروز في هذه الوقائع لأن من عادتهم أن ينقلوا جرحاهم وقتلاهم في ساحة النزال مهما كانت النيران متهاطلة عَلَى الرؤوس عَلَى أن الأخبار الرسمية ترجح أنه قتل منهم نحو ألف كما استشهد من الجنود 57 بينهم ضابط وجرح نحو مائة بينهم أربعة ضباط وبلغ عدد الجيش الزاحف نحو عشرين ألف جندي.
وقد دعم الإصلاح لواء حوران بهذه الواسطة وخيم الأمن عَلَى تلك الربوع فأحصيت نفوس سكان السهول منه وسكان جبل عجلون كما أحصيت نفوس جبل الدروز ويقال أن من يدخلون الجندية من شبان حوران هذه المرة وكانوا لا يخدمونها من قبل نحو أربعة آلاف جندي وستربح الدولة من هذه الحملة أموراً كثيرة أولها انتشار الأمن في سورية كافة وثانيها زيادة الأعشار والأموال والضرائب من هذا اللواء الخصيب فيزيد دخل هذه الولاية لحكومة فقط زهاء مائتي ألف ليرة مسانهة.
سكان الولايات العثمانية
الولايات والمتصرفيات بالكيلومتر متر المربع عدد السكان(55/50)
المساحة
ـ في الروم إيلي ـ 169. 3006. 130. 200
ولاية الآستانة309001. 203. 000
متصرفية جتالجة 1. 90060. 000
ولاية أدرنة38. 4001. 028. 200
= سلانيك35. 0001. 130. 800
= مناستر28. 500849. 000
= قوصوه32. 9001. 038. 100
= أشقودرة 10. 800194. 100
= يانيه17. 900527. 100
ـ في آسيا الصغرى ـ 501. 4009. 089. 200
ولاية الأرخبيل (بحرسفيد) 6. 900322. 300
متصرفية أزميت8. 100222. 700
= بيغا6. 600129. 500
ولاية خداوندكار65. 8001. 626. 800
= آيدين 55. 9001. 396. 500
= قونية 102. 1001. 069. 000
= أطنة 39. 900422. 400
ولاية أنقرة 70. 900932. 800
= قسطموني 50. 700961. 200
= سيواس 62. 1001. 057. 500
= طرابزون 32. 400948. 500
ـ في أرمينة وكردستان ـ 186. 5002. 470. 900
ولاية أرضروم49. 700645. 700
= معمورة العزيز32. 900575. 200(55/51)
= بتليس 27. 100398. 700
= ديار بكر 37. 500471. 500
= وان39. 300379. 800
ـ في سورية زما بين النهرين_637. 800 288. 600
ولاية حلب 86. 600995. 800
بيروت16000533500
متصرفية لبنان3100 200000
القدس17100341600
ولاية سورية 95900719500
متصرفية الزور78000100000
ولاية بغداد 111300614000
= الموصل 91000351200
= البصرة 138800433000
ـ في بلاد العرب ـ4411001050000
ولاية الحجاز 250000300000
= اليمن 191100750000
ـ إيالة طرابلس الغرب 10510001000000
ـ سيسام 468 55000
ـ قبرص 9600 210000
ـ كريت 8618 310056
ـ مصر 3114011287359
ـ تونس 1674001830000
التربية الجديدة
لا ينبغي للمدرسة أن تكتفي بالتعليم بل أن تعد رجالاً عاملين للحياة ولذا قامت إنكلترا وفرنسا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا والولايات المتحدة بإنشاء مدارس جديدة تريد أن تتناول(55/52)
من التلميذ حياته بأنجعها لا أن تربي عقله فقط تريد أن لا تكون المدرسة دار تعلم بل دار احتذاءٍ تهمها الحياة قبل التعليم. وقد وضع فروبل أعظم باحث بالتربية في العصر الماضي قاعدة من شأنها أن الواجب التعلم مع العمل فالمدارس الجديدة وجدت لتطبق هذا الفكر وتدفعه إلى نتيجته الطبيعية وهي أن الواجب التعلم مع الحياة فيقتضي من ثم للإنسان الكامل الذي يحب أن يعمل عملاً مثمراً ويجد السعادة في علاقاته الشخصية ويصبح وطنياً صالحاً_يقتضي له جسد سليم وذكاءٌ شديد وصفات لازمة له في ضروريات الحياة. وهذه القوة والمقدرة الطبيعية والصفات الأخلاقية لا يتأتى الحصول عليها إلا بالعمل فيجب أن يعيش الولد حياة الصحة الجسدية والجهاد العقلي والأخلاقي حتى إذا دخل في سن الرجولية تكون له قدرة واعتياد عَلَى استخدامها في الغايات الحسنة.
وقد كان ينظر حتى الآن إلى المدرسة بأنها جعلت لترقية العقل وأن سائر شؤون الحياة هي في الطفل من عمل الأسرة ولكن أسباب الحياة قد تبدلت في العصر الأخير حتى لم يعد في طاقة الأسرة أن تجهز الطفل بجهاز من الصفات اللازمة في جهاد الحياة فاقتضى من ثم للمدرسة أن تقوم بهذا الواجب فتنشئ عادات صالحة وتعلم الأسباب إليها ولا غنية في تلقين هذه التربية الآن فلا يجد فيها ما يخالف الغرض الذي يرمي إليه بخلاف من يقضي شطراً من حياته الأولى في البيت وقد يكون هذا في الأكثر جارياً عَلَى غير سنة المدرسة في الآداب وهناك فوائد أخرى في التربية المدرسية وهي أنها تساعد الأولاد عَلَى أن يكبروا في الفلاة ويتعاطوا الأعمال المطلوبة منهم ويفهموا فائدتها ويعيشوا في ظل الطبيعة خلال السنين التي تتأثر الروح بالانطباع بطابعها.
ومنذ أمد طويل عرفت التربية الطبيعية في أحسن المدارس الإنكليزية مكانة. فإنكلترا هي بلد الرياضات والحياة في الفلاة والبراري ومن هذه المدارس نشأ في الإنكليز حب اللعب في الهواء الطلق فينظم الأولاد لأنفسهم ألعابهم دون أن تتدخل في شؤونهم إدارة المدرسة حتى أصبحت الألعاب والرياضات أهم جزء من التربية في المدارس الثانوية في البلاد التي يتكلم بها باللغة الإنكليزية وفي غيرها أيضاً.
وبعد فإن النزهات (الفسح) في الفلاة والحمامات في الهواء الطلق ولعب الرماية والهدف والشغل اليدوي عَلَى اختلاف أنواعه واختيار الغرف المعرضة للتهوية عَلَى الدوام(55/53)
واستعمال اللباس الساذج المعقول والطعام اللطيف الصحي ومراعاة قواعد الصحة في استعمال الوظائف الجسدية كل هذا مما يجب أن يعم أمره في المدارس كما تعم الألعاب وهي لازمة لبقاء الصحة ولاسيما لإيجاد عادات راسخة متى زالت سلطة المدرسة عن رأس التلميذ وتلقي في نفس الأولاد حب الحياة السليمة النشيطة فينبغي لنا محيط يسمح بكل ما تقدم عَلَى أن يترك شيءٌ منه للمصادفات فالمدرسة التي لا تضع في قوانينها ما عددناه تخل ولا جرم بواجبها الأول.
قال العالم الإنكليزي الذي ننقل كلامه هنا عن مجلة التربية الفرنسوية وليس أحسن ذخيرة عقلية يحملها الفتى من المدرسة هي مجموعة معلومات علمية وإنشاء جميل بل القدرة عَلَى التفكر بنفسه فيكون له إرادة عَلَى الابتكار ويستعد لأن يقوى عَلَى حل المشكلات كلما عرضت. وهذه القوة لا يحصل عليها بالبحث في الكتب بل بأن يعمل الولد الشيء بذاته عَلَى اختلاف ضروبه والواجب أن يتسع خطط المدارس فتكون دروسها منوعة وتولي كفاءة كل امرئ حرية أوسع. فدماغ الولد لا يقوى بالقراءة بقدر ما يقوى بالعمل والدماغ في الأصل لم يبحث عن عادات اليد بل أن اليد علمت العادات للدماغ وهكذا يجب العمل عَلَى تنشئة الطفل ليكون رجلاً فيجب أن يكون لنا في خطط الدروس أعمال يدوية منوعة كثيرة لا لأنها أساس العلوم والفنون التي توصلنا إليها بل لأنها في حد ذاتها أدوات ثمينة في التربية. ففي الأعمال العلمية والأعمال الكتابية ينبغي لنا ميدان نشاط وروس لنكون عَلَى بصيرة من بلوغ القوى والمصالح الحقيقية في الطفل ونكشف استعداده الشخصي. يجب أن لا ننسى أن القيمة الرئيسية في عمل ما ليست بنتائجها المادية بل بطريقة إنتاجها في طريقتها وإن أهم نتيجة وأدومها هي العادة العقلية التي ساعدت عَلَى الإنتاج. يجب للمدرسة والمعمل عمل شخصي وأن يعطى للتلميذ مسائل ليحلها بالاختبار أكثر مما يحلها بالتعقل فتحصيل العلم يجب أن يعتبر بأنه سياحة اكتشاف أكثر مما ينظر إليه بأنه تعلم ما اكتشفه الغير فلا يجب أن يطلب من التلميذ أن يتعلم لينتفع بعد بمعارفه إذا سنحت لها لفرص بل أن يعلم ضرورة العلم بالعمل السريع الذي يرى نفسه مضطرة أن تقوم به.
فالتربية الجديدة لا ترمي إلى تنشئة رجال ونساء ذوي كفاءة وقدرة بل تريد إعداد وطنيين صالحين ينتفعون بخصائصهم لا لينالوا منها فوائد خاصة لهم بل ليعاونوا الناس(55/54)
ويساعدوهم. يعود الأولاد أن يقدروا أنفسهم بأنفسهم وأن تهيأ لهم أسباب العمل فلا يكفي أن يتعلم ما هو صالح إذا لم تقو الإرادة وتتأصل عادة عمل الخير في المرء بالفعل فقد كان سقراط يقول أن المرء لا يختار عمل الشر من نفسه وبذلك نتج أن معرفة الخير هي ضرورية فقط ونحن نتعلم دروس الحياة كلما عشنا.
نلقن الولد أن يعمل ونساعده أن يرى بنفسه ضرورة الوقوف عند حد والاعتراف بقيمة سلوكه. وهذا خير من استعمال الضعف في التلقين ويفرض علينا أن نمتع الولد بحريته لأنه إذا لم ينشأ وهو يختار الخير لا ينمو في الأخلاق نمواً حقيقياً وإذا خالفنا ذلك نصوغ من الطفل أداة مدهشة لا رجلاً عاملاً ولا يتأتى ذلك إلا بتبادل الثقة بين المتعلمين فيخلص الأولاد بعضهم لبعض ويخلص المعلمون في مراعاة حرية من يعلمونهم. سيجب عَلَى الأساتذة أن يقتنعوا كل الاقتناع بأن الأولاد يرون من شمم نفوسهم أن يكونوا أحرياء بالثقة عندما يشاهدون أنه يوثق بهم وأن يدربوا من دون عنف وقسوة ولا ينظر لهم كمن ينظر إلى من يشك في حاله.
قال وأرى أننا في حاجة إلى نفوذ المرأة حيثما وجد أولاد وذلك لا في السنين الأولى للطفولية بل في خلال مدة التربية وإذا صح كما نعتقد بأننا لا نستطيع أن نتعلم إلا إذا عشنا فنحن في حاجة في المدرسة إلى جميع العوامل والمؤثرات الرئيسية في الحياة فليس تجديد الحياة المدرسية وقصرها عَلَى جنس واحد إلا عبارة عن خنقها وفلجها منذ بدايتها فتربية البنين مع البنات ضرورية والمدارس التي سرت عَلَى الأسلوب الجديد في التربية تقوم بهذا المطلب من عدة وجوه بحسب حالتها واعتقادها وعاداتها القومية ويترك للتلميذ أن يعتقد ما يشاء من دين آبائه ولا يبحث في الأديان بل يبحث في إعداد رجال على أنه يعلم نفع التدين كما يعلم الأجنبي عنا احترام وطنية الغير لا تقديس وطنيتنا فقط.(55/55)
مخطوطات ومطبوعات
مباهج الفكر ومناهج العبر
وقفت في الصيف الماضي (سنة 1909م) عَلَى هذا المخطوط النفيس في المكتبة المارونية بمدينة حلب ويسمى أيضاً (نزهة العيون في أربعة فنون) لمؤلفه جمال الدين أبي عبد الله محمد الكتبي الملقب بالوطواط المتوفى سنة 718هـ (1318م) وهو عَلَى شكل دائرة معارف في الطبيعيات والعلوم والجغرافية. متقن الخط مذهب الصفحات في 518 صفحة مخروم من آخره قليلاً وضعه مؤلفه عَلَى أربعة فنون الأول في العوالم العلوية والثاني في الأرض والثالث في الحيوان والرابع في النبات وكسر كل من الفنون الأربعة عَلَى تسعة موضوعات. والذي يفهم من بعض تعاليق عَلَى الكتاب أن مؤلفه أندلسي الأصل مصري المنشأ. وأن هذه النسخة حصلها من إسبانيا المطران جرمانوس فرحات الحلبي الماروني. وقد رصع مؤلف هذا الكتاب كلامه بنثر بليغ وشعر رشيق ومن منتخبات أشعاره الفلكية قول ابن رشيق القيرواني في ترتيب السيارات:
بالذي شرف كي ... وان بحظ من دهائك
وأعار المشتري حل ... مك مع حسن اهتدائك
وانتضى المريخ سي ... فاً لك يمضي بمضائك
والذي ألقى عَلَى الش ... مس رداءً من بهائك
وكسا الزهرة أخ ... لاقك مع حسن ثنائك
ثم أعطى كاتب الش ... مس نصيباً من ذكائك
وأقام القمر ال ... فريد بريداً لارتبائك
أنجز الوعد لعبد ... ماله غير رجائك
وقول هبة الله بن صاعد بن التلميذ المسيحي يذكر عقوق ولد له:
أشكو إلى الله صاحباً شكساً ... تسعفه النفس وهو يسعفها
فنحن كالشمس والهلال معاً ... تكسبه نورها ويكسفها
وقول آخر في المجرة:
وعلى المجرة أنجم نظمت ... مثل الفقار يلوح في الظهر(55/56)
هذا حباب فوق صفحتها ... طاف وهذا جدول يجري
وقول ابن أبي ظافر المصري من أرجوزة في وصف الشمس:
والشمس قد مالت لنحو المغرب ... فموهت لجينه بالذهب
وفتحت في ساعة الأصيل ... وردتها في خدها الأسيل
وقول هاشم بن إلياس ف وصف الجوزاء:
وكأنما جوزاؤه في غربها ... بيضاء سابحة ببركة زئبق
وكأنما أومت ثلاث أنامل ... منها تقول إلى ثلاث نلتقي
وقول الآخر في اقتران الشمس بالقمر:
يقابل الشمس فيه بدر دجى ... يأخذ من نورها ويمتار
كصيرفي يروج منتقداً ... في كفه درهم ودينار
وهناك وصاف الإنسان كقول ابن الرومي في الترك
إذا ثبتوا فسد من حديد ... تظل عيوننا فيهم تحار
أسود الحرب أنفسهم كبار ... إذا لوقوا وأعينهم صغار
وأوصاف الحيوان كقول بعضهم في الفهد:
رقدت قلبي ومقتلي يق ... ظانٌ يحسن الأمور حساً شديدا
يحمد النوم في الجواد كما لا ... يمنع الفهد نومه أن يصيدا
وقول أبي محمد اليزيدي في رثاء القنفذ من أبيات:
عجبت له من شيهم متحصن ... بنبل من السرد المضاعف يمرق
وإنى اهتدى سهم المنية نحوه ... وفي كل عضو منه سهم مفوق
ولو كان كف الدهر يستحسن الردى ... لكان بكف الدهر لا يتعلق
وقول آخر في وصف الخطاف:
أهلاً بخطاف أتانا زائراً ... يذكر عهداً بالزمان الباسم
لبست سرابيل الصباح بطونه ... وظهوره ثوب الظلام القاتم
وقول بعض الحكماء (ابن التلميذ وابن صفية) في النمل:
وإذا أنبت المهيمن للن ... مل جناحاً أعدها للتردي(55/57)
ولكل امرئ من الناس حد ... وملاك الفتى جواز الحد
وأوصاف النبات كقول آخر في البطيخ:
ثلاث هن في البطيخ زين ... وفي الإنسان منقصه وذله
خشونة لمسه والثقل فيه ... وصغرة لونه من غير عله
وقول بعضهم في الثوم:
الثوم مثل اللوز إن قشرته ... لولا روائحه وطعم مذاقه
كالنذل غرك منظراً فإذا دعي ... لفضيلة ينمى إلى عرقه
وأوصاف الجمادات كالأهرام والمباني والبلدان والحوادث كقول أبي سعيد نصر ابن يعقوب يصف زلزلة:
اسقني كأساً كلون الذهب ... وامزج الريق بماء العنب
فقد ارتجت بنا الأرض ضحى ... كارتجاج الزئبق المنسرب
فكأن الأرض في أرجوحة ... وكأنا فوقها في لولب
وعلى هوامشه حواش فيها فوائد كثيرة منها ما ينسب إلى السلطان سليمان القانوني لما مر عَلَى وادي حماة وهو في حلب سنة 961هـ 1552 يصف نواعيرها:
نواعير في وادي حماة إذا بكت ... تهيج منا بالبكا مدمعاً قاصي
فإني عَلَى نفسي لأجدر بالبكا ... إذا كانت الأخشاب تبكي عَلَى العاصي
وفيه مباحث تاريخية في وصف العواصم والأجناد والمواقع مثل موقعة دمياط بين المسلمين والصليبيين وكثيراً ما يستشهد بابن الأثير وبالمسيحي وغيرهما من المؤرخين. وفي صفحة 18 منه وصف كسرى للفلك ذكره حمزة بن الحسين الأصفهاني في كتاب التشبيهات. وهو عَلَى الجملة من الكتب النادرة الجديرة بالنشر ولمؤلفه كثير من المصنفات تدل عَلَى سعة اطلاعه مثل الدرر الغرر في شعراء الأندلس وغرر الخصائص الواضحة وعرر النقائص الفاضحة وغيرها.
عيسى اسكندر معلوف.
إرشاد الفحول
إلى تحقيق الحق من علم الأصول.(55/58)
للإمام المجتهد الذي طار صيته في الأقطار القاضي محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 طبع بمطبعة السعادة بمصر سنة 1327 عَلَى نفقة مصطفى أفندي المكاوي.
لا حاجة بنا إلى الإسهاب في ترجمة المؤلف_الشوكاني_لسهولة الوقوف عليها في مواضع عدة في مقدمة كتاب نيل الأوطار المطبوع وفي كتاب التاج المكلل لناشر علمه وآثاره الإمام صديق حسن خان وغيرهما.
أما آثاره عليه الرحمة فكلها مما يتنافس فيها ويتسابق إليها ومعظمها في القطر اليماني وما نشر منها بالنسبة إلى ما لم ينشر كالقطرة في جانب البحر ولقد كان من حسنات هذه الأيام الاهتمام بطبع كتابه هذا بمصر لما هبط إليها من اليمن فلطالما تشوقت إليه نفوس الفضلاء وتاقت لمراجعته قلوب المحققين لشهرة مؤلفه بتجويد المباحث واستقلال الفكر وقد جمعه أحسن وجميع وهذبه أبلغ تهذيب وتوسع في كثير من المباحث بما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصراً في الاستنباط وبصيرة في حصول المأمول، ومما انفرد به عن الكتب المؤلفة في ذلك_عدا عن كثير من نوادره_تحقيقات أتى عَلَى أنها نهاية ما يمكن أن يقال عنها في مباحث الإجماع والاجتهاد والتقليد فقد أورد عشرين بحثاً وخاتمة في الإجماع وتسع مسائل في الاجتهاد وستاً في التقليد، في مطاويها من بدائع التحقيقات ما لم يسبق إليه كما يعرفه من أوزان بينه وما بين الأيادي من أسفار هذا الفن.
أما مكانة علم الأصول فأسمى من أن تعرف ويكفي أنه_كما قال المؤلف_عماد فسطاط الاجتهاد وأساه الذي تقوم عليه أركان بنائه وأنه العلم الذي يأوي إليه الأعلام والملجأ الذي يلجأ إليه عند تقرير المسائل وتحرير الدلائل في غالب الأحكام.
جمال الدين القاسمي.
مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
جردنا من هذه المجلة ما نشره في هذا المبحث الشيخ جمال الدين القاسمي أحد العلماء العاملين في دمشق لتتداوله الأيدي فجاء في 50 صفحة وتطلب منه ومن إدارة المقتبس. ولا حاجة للكلام عليها فالقراء عرفوا دقة أبحاثها ووفرة فوائدها وأدركوا كيف حلت هذه المعضلة القديمة.(55/59)
تصحيح أعلام برتقالية
تفضل صديقنا أحمد بك زكي في القاهرة فأرجع لنا الأعلام البرتقالية التي ورجت في مقالة جمهورية البرتقال في الجزء السادس من هذه السنة إلى أصلها فقال:
1_ذكرت الكراف تعريباً بقولهم واسمه الغرب عند العرب وهو لا يزال من بقاياهم عَلَى مقاطعة كبيرة في جنوب البرتقال وغربها.
2_ذكرت سانتارم وصحة اسمها عند العرب شنترين
3_ذكرت لاس نافادي تولوز وصحة اسمها عند العرب: وقعة العقاب. وكانت بقرب مدينة طلوسه
4_ذكرت باراكانس وصوابها عند العرب: أبراقنصة.
5_استعملت لفظة الكاداستر بلفظها الإفرنكي ومقابلها عند العرب في مصر والمغرب الأقصى والأندلس هو كلمة: الروك ونحن كنا نقول في مصر إلى عهد قريب التاريع. والآن نقول المساحة.(55/61)
العدد 56 - بتاريخ: 1 - 10 - 1910(/)
رسالة ابن القارح
إلى أبي العلاء المعري
(إلى القارئ مخطوطاً من أندر المخطوطات ظفرنا به في خزانة كتب أستاذانا الشيخ طاهر الجزائري كتبه أبو حسن علي بن منصور الحلبي المعروف بالقارح إلى أبي العلاء المعري فأجاب عنها هذا في رسالة خاصة سماها رسالة الغفران طبعت بمصر سنة 1321_1903 في مطبعة هندية. أما ابن القارح وكان يلقب بدوخلة فكان شيخاً من هل الأدب رواية للأخبار حافظاً لقطعة كبيرة من اللغة والأشعار قؤوماً بالنحو وكان ممن خدم أبا علي فارس في داره وهو صبي ثم لازمه وقرأ عليه وكانت معيشته التعليم بالشام ومصر. قال ابن عبد الرحيم وشعره يجري مجرى شعر المعلمين قليل الحلاوة خال من الطلاوة وكان آخر عهدي به بتكريت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فإنا كنا مقيمين بها واجتاز بنا وأقام عندنا مدة ثم توجه إلى الموصل فبلغتني وفاته من بعد وكان يذكر أن مولده بحلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. قال ياقوت وعلي بن منصور هذا يعرف بابن القارح وهو الذي كتب إلى أبي العلاء المعري الرسالة المعروفة برسالة ابن القارح فأجابه أبو العلاء برسالة الغفران وذكر اسمه فيها).
بسم الله الرحمن الرحيم.
استفتاحاً باسمه واستنتاجاً ببركته والحمد لله المبتدي بالنعم المنفرد بالقدم الذي جل عن شبه المخلوقين وصفات المحدثين ولي الحسنات المبرأ من السيئات العادل في أفعاله الصادق في أقواله خالق الخلق ومبديه ومبقيه ما شاء ومفنيه وصلواته عَلَى محمد وأبرار مترته وأهليه صلوة ترضيه وتقربه وتدنيه وتزنفه وتخطيه كتابي أطال الله بقائي مولاي الشيخ الجليل ومد مدته وأدام كفايته وسعادته وجعلني فداءه وقدمني قبله عَلَى الصحة والحقيقة وبعد القصد والعقيدة وليس عَلَى مجاز اللفظ ومجرى الكتابة ولا عَلَى تنقص وخلابة وتحبب ومسامحة كما قال بعضهم وقد عاد صديقاً له كيف تجدك جعلني الله فداك وهو يقصد تحبباً ويريد تملقاً ويظن أنه قد أسدى جميلاً يشكره صاحبه أن ينهض واستقل ويكافئه عليه إن أفاق وأيلَّ عن سلامة تمامها بحضور حضرته وعافية نظامها بالتشرف بشريف عزته وميمون نقيبته وطلعته ويسلم الله التكريم تقدست أسماؤه إني لو حننت إليه أدام الله تأييده(56/1)
حنين أواله إلى وكرها وذات الفرخ إلى وكرها والحمامة إلى إلفها أو الغزالة إلى خشفها لكان ذلك مما تغيره الليالي والأيام والعصور والأعوام لكنه حنين الظمآن إلى الماء والخائف إلى الأمن والسليم إلى السلامة والغريق إلى النجاة والقلق إلى السكون بل حنين نفسه النفيسة إلى الحمد والمجد فإني رأيت نزاعها إليهما نزاع الإستقسات إلى عناصرها والأركان إلى جواهرها فإن وهب الله لي ملأ من العمر يؤنسني برؤيته ويعلقني بحبل مودته مرت كساري الليل ألقى عصاه وأحمد مسراه وقر عيناً ونعم بالأوكان من لم يمسسه سوء ولم يتخوفه عدو ولا نهكه رواح ولا غدو وعسى الله أن يمن بذلك بيومه أو بثانيه وبه الثقة وأنا أسأل الله عَلَى التداني والنوى والبعاد إمتاعه بالفضل الذي استعلى عَلَى عاتقه وغاربه واستولى عَلَى مشارقه ومغاربه فمن مر عَلَى بحره الهياج ونظر في لألآء بدره الوهاج خليق بأن يكبو قلمه بأنامله وينبو طبعه عن رسائله إلى أن يلقي إليه بالمقاليد أو يستهويه إقليداً من الأقاليد فيكون منسوباً إليه ومحسوباً عليه ونازلاً في شعبه وأحد أصحابه وحزبه وشرارة تياره وقراضة ديناره وسمك بحره وثمد غمره وهيهات ضاق فتر عن مسير ليس التكحل في العينين كالكحل خلقوا أسخياء لا متساخين وليس السخي من يتساخى ولاسيما وأخلاق النفس تلزمها لزوم الألوان للأبدان لا يقدر الأبيض عَلَى السواد ولا الأسود عَلَى البياض ولا الشجاع عَلَى الجبن ولا الجبان عَلَى الشجاعة قال أبو بكر العزرمي:
يفر جبان القوم عن أم رأسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد عدوه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه
ومن لا يكف الجهل عمن يوده ... فسوف يكف الجهل عمن يواثبه
ومن أين للضباب صوب السحاب وللغراب هدى العقاب وكيف وقد أصبح ذكره في مواسم الذكر أذاناً وعلى معالم الشكر لساناً فمن دافع العيان وكابر الأنس والجان واستبد بالأفك والبهتان كان كمن صالب بوقاحته الحجر وحاسن بقباحته القمر وهذي هذر وتعاطى فعقر وكان كمحموم بلسم فعفر ونادى عَلَى نفسه بالنقص في البدو والحضر وكان كمن قال من يعنيه ولا يشك فيه:
كناطح صخرة يومأً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاده شرفاً لديه قال لعن الله ذا الوجهين لعن الله(56/2)
ذا اللسانين لعن الله كل شقار لعن الله كل قتات. وردت حلب ظاهرة حماها الله تعإلى وحرسها بعد أن منيت بربضها بالدرخمين وأم حبركري والفتكرين بل رميت بآبدة ألاباد والداهية النآد فلما دخلتها وبعد لم تستقر بي الجار وقد نكرتها لفقدان معرفة وأنشدتها باكياً:
إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت حبيباً والبلاد كما هي
كان ابو القطران المرار بن سعيد الفقعسي يهوى ابنه عمه بنجد واسمها وحشية فهتداها رجل شامي إلى بلده فغمه بعدها وساءه فراقها فقال من قصيدة:
إذا تركت وحشية النجد لم يكن ... لعيني مما تبكيان طبيبا
رأى نظرة منها فلم يملك البكا ... معاوز يربو تحتهن كثيب
وكانت رياح الشام تكره مرة ... فقد جعلت تلك الرياح تطيب
فحصلت من الرباح عَلَى الرياح كما حصل لابن قطران من حشية ثم وثم وثم وثم أجري ذكره أدام الله تاييده من غير سبب جره وغير مقتض اقتضاه فقال الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه وباللغة والعروضمن الخليل فقلت والمجلس بأزز بلغني أنه أدام الله تأييده يصغر كبيره وينزر صغيره فيصير تصغيره تكبيراً وتحقيره تكثيراً وهكذا شاهدت ما شاهدت من العلماء رحمهم الله أجمعين وجعله وارث أطول أعمارهم وأمدها وأنضرها وأرغدها وما ثم له حلجة دعت إلى هذا قد تفتح النور وتوضح النور وإرضاء الصبح لدى عينين أبو الفرج الزهرجي كاتب حضرة نصر الدولة أدام الله حراسته كتب رسالة إليَّ أعطانيها ورسالة إليه أدام الله تأييده استودعنيها وسألني إيصالها إلى جليل حضرته وأكون نافثها لا باعثها ومعجلها لا مؤجلها فسرق عديلي رحلاً لي الرسالة فيه فكتبت هذه الرسالة أشكو أموري وأبث شقوري وأطلعه طلع عجري وبجري وما لقيت في سفري من أقيوام يدعون العلم والأدب والأدب أدب النفس لا أدب الدرس وهم إصغار منها جميعاً ولهم تصحيفات كنت إذا رددتها عليهم نسبوا التصحيف إلي وصاروا إلباً علي لقيت ابا الفرج الزهرجي بآمد ومعه خزانة كتبه فعرضها علي فقلت كتبك هذه يهودية قد برئت من الشريعة الحنيفية فأظهر من ذلك إعظاماً وإنكاراً فقلت له أنت عَلَى المجرب ومثلي لا يهرف ما لا يعرف وأبلغ تيقن فقرأ هو وولده وقال صغر الخبرِ الخبر وكتب إلي رسالة يقرظني فيها بطبع له كريم وخلق غير ذميم قال المتنبي: لأذم إلى هذا الزمان أهليه صغرهم تصغير تحقير غير(56/3)
تكبيل وتقليل غير تكثير فنفث مصدوراً وأظهر ضميراً مستوراً وهو سائغ في مجال الشعر وقائله غير ممنوع من النظم والنثر ولكنه وضعه غير موضعه وخاطب به غير مستحقه وما يستحق زمان ساعده بلقاء سيف الجولة أن يطلق عَلَى أهله الذم وكيف وهو القائل يخاطبه:
أسير إلى أقطاع في ثيابه ... عَلَى طرفه من داره بحسامه
وقد كان من حقه أن يجعلهم في خفارته إذا كانوا منسوبين إليه ومحسوبين عليه ولا يجب أن يشكو عاقلاً ناطقاً إلى غير ناطق إذ لزمات حركات الفلك إلا أن يكون ممن يعتقد أن الأفلاك تعقل وتعلم وتفهم وتدري بمواقع أفعالها بقصود واردات ويحمله هذا الاعتقاد عَلَى أن يقرب لها القرابين ويدخن الدخن فيكون مناقضاً لقوله:
فتباً لدين عبيد النجو ... م ومن يدعي أنها تعقل
أو أن يكون كما قال الله تعإلى في كتابه الكريم مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ويوشك أن تكون هذه صفته.
حكى القطربلي وابن أبي الأزهر في تاريخ اجتمعا عَلَى تصنيفه وأهل بغداد وأهل مصر يزعمون أنه لم يصنف في معناه مثله لصغر حجمه وكبر علمه يحكيان فيه أن المتنبي أخرج ببغداد من الحبس إلى مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير رحمه الله فقال له: أنت أحمد المتنبي فقال أنا أحمد المتنبي وكشف عن بطنه فأراه سلعة فيه وقال هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي فأمر بقلع جمكه وصفعه به خمسين وأعاده إلى محبسه ويقول لسيف الدولة:
وتغضبون عَلَى من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
كذب والله لقد كان يتحرش بالمكارم ويتحكك بها ويحسد عليها أن تكون إلا منه وبه وهذا غير قادح في طلاوة شعره ورونق ديباجته ولكني أغتاظ عَلَى الزنادقة والملحدين الذين يتلاعبون بالدين ويرومون إدخال الشبه والشكوك عَلَى المسلمين ويستعذبون القدح في نبوة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ويتطرفون ويبتذئون إعجاباً بذلك المذهب تيه مغن وظرف زنديق. وقتل المهدي بشاراً عَلَى الزندقة ولما شهر بها وخاف دافع عن نفسه بقوله:(56/4)
يا ابن نهيا رأسي عَلَى ثقيل ... واحتمال الرأسين عبءٌ ثقيل
فادعوا غيري إلى عبادة ربي ... ن فإني بواحد مشغول
وأحضر ثالح بن القدوس وأحضر النطع والسياف فقال علام تقتلني قال عَلَى قولك:
رب سر كتمته فكأني ... أخرس أو ثنى لسان عقل
ولو إني أظهرت للناس ديني ... لم يكن لي في غير حبسي أكل
يا عدي الله وعدي نفسه:
الستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون لخير من ستر
فقال قد كنت زنديقاً وقد تبت عن الزندقة قال كيف وأنت القائل:
والشيخ لا يترك عاداته ... حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا أرعوى عاد إلى غيه ... كذي الضنى عاد إلى نكسه
وأخذ غفلته السياف فإذا رأسه يتدهدأ عَلَى النطع. زظهر في أيامه في بلد خلف بخارا وراء النهر رجل قصار أعور عمل له وجهاً من ذهب وخوطب برب العزة وعمل لهم قمراً فوق جبل ارتفاعه فراسخ فأنفذ المهدي إليه فأحيط به وبقلعته فحرق كل شيءٍ فيها وجمع كل من في البلد وسقاهم شراباً مسموماً فماتوا بأجمعهم وشرب فلحق بهم فعجل الله بروحه إلى النار. والصناديقي في اليمن فكانت جيوشه بالمديخرة وسفهنه وخوطب بالربوبية وكوتب بها فكانت له دار أفاضة يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل الرجال عليهن ليلاً قال من يوثق بخبره دخلت إليها لأنظر فسمعت امرأة تقول يا بني فقال: يا أمه نريد أن نمضي أمر ولي الله فينا وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميز مال من مال ولا ولد من ولد فتكونون كنفس واحدة فغزاه الحسني من صنعاء فهزمه وتحصن منه في حصن هناك فأنفذ إليه الحسني طبيباً بمبضع مسموم ففصده به فقتله. والوليد بن يزيد أقام في الملك سنة وشهرين وأياماً وهو القائل:
إذا مت يا أم الحنيكل فانكحي ... ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإن الذي حدثته من لقائنا ... أحاديث طسم تترك العقل واهيا
ورمى المصحف بالنشاب وخرقه وقال:
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب خزقني الوليد(56/5)
وأنفذ إلى مكة بناءاً مجوسياً ليبني له عَلَى الكعبة مشربة فمات قبل تمام ذلك فكان الحجاج يقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك يا قاتل الوليد بن يزيد لبيك وأحضر بنايجة من الذهب وفيها جوهرة جليلة القدر وصورة رجل فسجد له وقبله وقال اسجد يا علج قلت ومن هذا قال هذا ماني شأنه كان عظيماً اضمحل أمره لطول المدة فقلت لا يجوز السجود إلا لله فقال قم عنا وكان يشرب عَلَى سطح وبين يديه باطية كبيرة بلور وفيها أقداح فقال لندماءه أين القمر الليلة فقال بعضهم: في الباطية فقال: صدقت أتيت عَلَى ما في نفسي والله لأشربن الهفتجة يعني شرب سبعة أسابيع متتابعة وكان بموضع حول دمشق يقال له البحرا فقال:
تلعب بالنبوة هاشمي ... بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقتل بها ورأيت رأسه في الباطية التي أراد أن يهفتج بها وأبو عيسى بن الرشيد القائل:
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
ولو كان يعديني الإمام بقدرة ... عَلَى الشهر لاستعديت دهري عَلَى الشهر
عرض له في وقته صرع فمات ولم يدرك شهراً غيره والحمد لله. والجنابي قتل بمكة ألوفاً وأخذ ستة وعشرين ألف جمل خفاً وضرب آلاتهم وأثقالهم بالنار واستملك من الغلمان والنساء والصبيان من ضاق بهم الفضاء كثرة ووفوراً وأخذ حجر الملتزم وظن أنها مغناطيس القلوب وأخذ الميزاب قال: وسمعت قائلاً يقول لغلام دحسمان طوال إنها في برديه وهو فوق الكعبة يا رحمة اقلعه وأسرع يعني ميزاب الكعبة فعلمت أن أصحاب الحديث صحفوه فقالوا يقلعه غلام اسمه رحمة كما صحفوا عَلَى علي رضي الله عنه قوله تهلك البصرة بالريح فهلكت بالزنج لأنه قتل علوي البصرة في موضع بها يقال له العقيق أربعة وعشرين ألفاً عدوهم بالقصب وحرقوا جامعها وقال في خطبته يخاطب الزنج لنكم قد أعنتم بقبح منظر فاشفعوه بقبح مخبر اجعلوا كل عامر قفراً وكل بيت قبراً. قال لي بدمشق أبو الحسين اليزيدي الوزيرين عَلَى نسب جدي دخل وإياه ادعى قال. أبو عبد الله محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي: كنت بمكة وسيف الجنابي قد أخذ الحاج ورأيت رجلاً منهم قد قتل جماعة وهو يقول يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي ومن دخله كان آمناً أي أمن هنا فقلت له يا فتى العرب تؤمنني سيفك أفسر لك هذا قال: نعم قلت: فيها خمسة أجوبة الأول من دخله كان آمناً من عذابي يوم القيمة والثاني من فرض الذي فرضت عليه(56/6)
والثالث خرج مخرج الخبر وهو يريد الأمر كقوله والمطلقات يتربصن بِأنفسهن والرابع لا يقام عليه الحد فيه إذا حتى في الحل والخامس من الله عليهم بقوله إنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم فقال صدقت هذه اللحية إلى التوبة؟ فقلت: نعم فخلاني وذهب.
والحسين بن المنصور الحلاج من نيسابور وقيل من مرو ويدعي كل علم وكان متهوراً جسوراً يروم إقلاب الدول ويدعي فيه أصحابه الإلهية ويقول بالحلول ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ومذاهب الصوفية للعامة وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه وناظره عيسى الوزير فوجده صفراً من العلوم وقال تعلمك لطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها كم تكتب إلى الناس تبارك ذو الغور الشعشعاني الذي يلمع بعد شعشعته ما أحوجك إلى أدب حدثني أبو علي الفارسي قال رأيت الحلاج واقفاً عَلَى حلقة أبي بكر الشبلي أنت بالله ستفسد خشبة فنفض كمه في وجهه وأنشد:
يا سرسر يدق حتى ... يجل عن وصف كل حي
وظاهراً باطناً تبدي ... من كل شيءٍ لكل شيء
يا جملة الكل لست غيري ... فما اعتذاري إذاً إلي
وهو يعتقد أن العارف بن الله بمنزلة شعاع الشمس منها بدا وإليها يعود ومنها يستمد ضوءه أنشدني الظاهر لنفسه:
أرى جيل التصوف شر جيل ... فقل لهم واهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وحرك يوماً يده فانثر عَلَى قول مسك وحرك مرة أخرى فانتثر دراهم فقال له بعض من حضر ممن يفهم أرني دراهم معروفة أؤمن بك وخلق معي أن أعطيتني درهماً عليه اسمك واسم أبيك فقال وكيف هذا وهذا لا يصنع قال من أحضر ما ليس بحاضر صنع ما ليس بمصنوع وكان في كتبه أني مفرق قوم نوح ومهلك قوم عاد وثمود فلما شاع أمره وعرف السلطان خبره عَلَى صحته وقع بضربه ألف سوط وقطع يديه ثم أحرقه بالنار في آخر سنة تسع وثلثمائة وقال لحامد ابن العباس: أنا أهلكك فقال حامد: الآن صح أنك تدعي ما قرفت به. وابن أبي العذافر أبو جعفر محمد بن علي الشلمغان أهله من قرية من قرى واسط تعرف بشلمغان وصورته صورة الحلاج ويدعي عنه قوم أنه إله وأن الله حل في آدم ثم في(56/7)
شيث ثم في واحدٍ واحد من الأنبياء والأوصياء والأئمة حتى حل في الحسن بن علي العسكري وأنه حل فيه وكان قد استغوى جماعة منهم ابن أبي عون صاحب كتاب التشبيه ومعه ضربت عنقه وكانوا يبيحونه حرمهم وأولادهم يتحكم فيهم وكان يتعاطى الكيمياء وله كتب معروفة.
وكان أحمد بن يحيى الراوندي من أهل مرو الروز حسن الستر جميل المذهب ثم انسلخ عن ذلك كله بأسباب عرضت له ولأن علمه كان أكثر من عقله وكان مثله كما قال الشاعر:
ومن يطيق مرداً عند صبوته ... ومن يقوم لمستور إذا خلعا
صنف كتاب التاج يحتج فيه لقدم العالم فنقضه أبو الحسين الخياط.
الزمرد يحتج فيه لإبطال الرسالة نقضه الخياط.
نعت الحكمة سفه الله تعإلى في تكليف خلقه أمره. نقضه الخياط.
الدامغ يطعن فيه عَلَى نظم القرآن.
القضيب يثبت أن علم الله محدث وأنه كان غير عالم حتى خلق لتنفسه علماً نقضه الخياط.
الفريد في الطعن عَلَى النبي عليه الصلوة والسلام.
المرجان في اختلاف أهل الإسلام.
علي بن العباس بن جريج الرومي قال أبو عثمان الناجم دخلت عليه في علته التي مات فيها وعند رأسه جام فيه ماء مثلوج وخنجر مجرد ولو ضرب به صدر خرج من ظهر فقلت: ما هذا قال: الماء ابل به حلقي فقلما يموت إنسان إلا وهو عطشان والخنجر إن زاد عليَّ الألم نحرت نفسي ثم قال: أقص عليك قصتي تستدل بها عَلَى حقيقة تلفي أردت الانتقال من الكرخ إلى باب البصرة فشاورت صديقنا أبا الفضل وهو مشتق من الأفضال فقال إذا جئت القنطرة فخذ عَلَى يمينك وهو مشتق من اليمن واذهب إلى سكة النعيمة وهو مشتق من النعيم فاسكن دار ابن المعافي وهو مشتق من العافية فخالفته لتعسي ونحسي فشاورت صديقنا جعفراً وهو مشتق من الجوع والفرار فقال: إذا جئت القنطرة فخذ عَلَى شمالك وهو مشتق من الشؤم واسكن دار ابن قلابة وهي هذه لا جرم قد انقلبت بي الدنيا وأضر ما علي العصافير في هذه السدرة تصيح سيق سيق فها أنا في السياق ثم أنشدني:
أبا عثمان أنت قريع قومك ... وجودك للعشيرة دون لومك(56/8)
تمتع من أخيك ما أراه ... يراك ولا تراه بعد يومك
وألح به البول فقلت له البول ملح بك فقال:
غداً ينقطع البول ... ويأتي الوبل والعول
إلا أن لقاء الله ... هو دونه الهول
ومات من الغد فأرجو أن يكون هذا القول توبة له مما كان اعتقده من ذبحه لنفسه والرسول عليه الصلوة والسلام يقول من وجأ فسه بحديدة حشر يوم القيامة وحديدته بيده يجأ بها نفسه خالداً مخلداً في النار من تردى من شاهق حشر يوم القيامة يتردى عَلَى منخريه في النار خالداً مخلداً من تحسي سماً حشر يوم القيامة وسمه بيده يتحساه خالداً مخلداً في النار.
قال الحسن بن رجاء الكاتب جاءني أبو تمام إلى خراسان فبلغني أنه لا يصلي فوكلت به من لازمه أياماً فلم يره صلى يوماً واحداً فعاتبته فقال: يا مولاي قطعت إلى حضرتك من بغداد فاحتملت المشقة وبعد الشقة ولم أره يقل علي فلو كنت أعلم أن الصلاة تنفعني وتركها يضر في ما تركتها فأردت قتله فخشيت أن يحمل عَلَى غير هذا.
وفي تآريخ كثيرة أنه أحضر المازيار إلى المعتصم وقبل قدومه بيوم سخط عَلَى الإفشين لأن القاضي ابن أبي داود قال للمعتصم: اعزل ويطأ امرأة عربية وهو كاتب المازيار وزين له العصيان فأحضر كاتبه وتهدده المعتصم فأقرانه كتب إلى المازيار لم يكن في الأرض ولا في العصر بلية إلا أنا وأنت وبابك وقد كنت حريصاً عَلَى حقن دمه حتى كان من أمره ما كان ولم يبق غيري وغيرك وقد توجهت إليك عسكر من عساكر القوم فإن هزمته وثبت إنا بملكهم في قرار داره فظهر الدين الأبيض فأجاب المازيار جواب هو عنده سفط أحمر فجمع بين الإفشين والمازيار فاعترف المازيار بما حكي عنه وقيل لمعتصم أن وراء المازيار مالاص جليلاً فأنشد:
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ذكروا أن اثنين قتلوا ثلاثة آلاف ألف وخمسمائة ذباح بالثياب الحمر والخناجر الطوال وأنهم وجدوا أسماؤهم في وقعة وقعة وفي بلد بلد وكانوا يأخذون من كل واحد خاتمه أو ثوبه أو منديله أو تكته أتى الوادي فطم عَلَى القرى.
قد لقيت من يجادلني أن علياً رضي الله عنه وكذلك الحاكم وقد ظهر بالبصرة من يدعي أن(56/9)
جعفراً بن محمد عليهما السلام وأنه متصل به وروحه فيه ومتصلة به ولو استقصيت القول في هذا الفن لطال جداً ولكن:
لا بد للمصدور أن منفثاً ... وللذي في الصدر أن يبعثا
بل لو قلت كل ما أعلمه أكلت زادي في محبسي بل كنت أنشد:
أحمل رأساً قد مملت حمله ... إلا فتى يحمل عني ثقله
وأستريح إلى أن أنشد:
ليس يشفي كلوم غير كلومي ... ما به ما به وما بي ما بي
إن شكوت العصر وأحكامه وذممت صروفه وأيامه شكوت من لا يشكي أبداً وذممت من لا يرضي أحداً شيمته اصطفاء اللئام والتحامل عَلَى الكرام وهمته رفع الخامل الوضيع ووضع الفاضل الرفيع إذا سمح بالحياء فأبشر بوشك الاقتضاء وإذا أعار فأسحبه قد أغار فما بين أن يقبل عليك مستبشراً ويولي عنك متجهماً مستبشراً إلا كلمح البصر واستطارة الشرر لم يخترق ذكر الوفاء مسامعه ولم يمسس ماء الحياء مدامعه ظاهره يسر ويونس باطنه يسوء ويؤنس يخيب ظن راجيه ويكذب أمل عافيه لا يسمع الشكوى ويشمت بالبلوى قد ذممت سيئاً ووقعت فيه أنا كالغريق يطلب معلقاً والأسير يندب مطلقاً وأستحسن قول علي بن العباس ابن جريج الرومي:
ألا ليس شيبك بالمنتزع ... فهل أنت عن غية مرتدع
وهل أنت تارك شكوى الزما ... ن إذا شئت تشكو إلى مستمع
نشيت أخي الشيب أمنية ... إذا ما تناهر إليها هلع
كنت في حال الحداثة أقرب الناس إليَّ وأعز عليَّ وأقربهم عندي وأجلهم في نفسي مرتبة من قال لي نسأ الله في أجلك جعل الله لك أمد الأعمار وأطولها فلما بلغت عشر الثمانين جاء الجزع والهلع فمم ارتاع والتاع وأخلد إلى الأطماع وهو الذي كنت أتمنى ويتمنى لي أهل أمن صدوف الغواني عني فأنا والله عنهن أصدف وبهن أدوائهن أعرف إذ لست ممن ينشد تحسراً عليهن:
للسود في السود آثار تركن بها ... لمعاً من البيض ثنتي أعين البيض
وقول آخر:(56/10)
ولما رأيت النسر عز ابن داية ... وعشش في وكريه جاشت له نفسي
ولا أنشد لأبي عبادة البحري:
إن أيامه من البيض بيض ... ما رأين المغارق السود سودا
وإذا المحل ثار ثاروا غيوثاً ... وإذا النقع قار ثاروا أسوداً
بحسن الذكر عنهم والأحادي ... ث إذا حدث الحديد الحديدا
بلدة تنبت المعالي فما يت ... غر الطفل فيهم أو يسودا
وهذه صفة معرة النعمان أدام الله تأييده لأخلت منه ومن النعمة عليه وعنده فقد وجدت أهلها معترفين بعوارفه خلا أبي العباس أحمد بن خلق الممتع أدام الله عزه فأني وجدت آثار تفضله عليه ظاهرة ولسانه رطباً بشكره وذكره وقد ملأ السماء دعاء والأرض ثناء. قالت قريش للنبي عليه الصلوة والسلام أتباعك من هؤلاء الموالي كبلال وعمار وصهيب خير من قصي وكلاب وعبد مناف وهاشم وعبد شمس فقال نعم والله لئن كانوا قليلاً ليكثرن ولئن كانوا وضعاء ليشرفن حتى يصيروا نجوماً يهتدى بهم ويقتدى فيقال هذا قول فلان وذكر فلان فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في الجاهلية فلما يدهده الجعل بمنخره خير من آبائكم الذين موتوا فيها فاتبعوني أجعلكم أنساباً والذي نفسي بيده لتقتسمن كنوز كسرى وقيصر فقال له عمه أبو طالب أبقِ علي وعلى نفسك فظن عليه الصلوة والسلام أنه خاذله ومسلمه فقال يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر قي شمالي عَلَى أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله وأهلك فيه ما تركته ثم استعبر باكياً ثم قام فلما ولى ناداه اقبل يا ابن أخي فأقبل فقال اذهب وقل ما شئت فو الله لا أستلمك لسوء أبداً فكان عليه الصلاة والسلام يذكر يوماً ما لقي قومه من الجهد والشدة وقال لقد مكثت أياماً وصاحبي هذا يشير إلى أبي بكر بضع عشرة ليلة ما لنا طعام إلا البرير في شعب الجبال وكان عتبة بن غزوان وإن يقول إذ ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة لقد مكثنا زماناً ما لنا طعام إلا ورق البشام أكلناه حتى تقرحت أشداقنا ولقد وجدت يوماً تمرة فجعلتها بيني وبين سعد وما منا اليوم أحد إلا وهو أمير عَلَى كورة وكانوا فيمن وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه أن أسعد الرجلين من حصلت النواة في قسمه يلوكها يومه وليلته من عدم القوت وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط وابتدأ أمره أنه وقف عَلَى الصفا(56/11)
ونادى يا صاباحاه فجاءوا يهرعون فقالوا: ما دهمك ما طرقك قال: بما تعرفونني قالوا محمد الأمين قال: أرأيتم أن قلت لكم أن خيلاً قد طرقتكم في الوادي وأن عسكراً قد غشيكم من الفج أكنتم تصدقوني قالوا: اللهم نعم ما جربنا عليك كذباً قط. قال: فإن الذي أنتم عليه ليس الله ولا من الله ولا يرضاه الله قولوا لا إله إلا الله وإني رسول واتبعوني تطعكم العرب وتملكون العجم وإن الله قال لي أستخرجهم كما استخرجوك وابعث جيشاً وابعث خمسة أمثاله وضمن لي أن ينصرني بقوم منكم وقال لي: قاتل بمن أطاعك من عصاك وضمن لي أن يغلب سلطاني سلطان كسرى وقيصر ثم أنه عليه الصلاة والسلام غزا تبوك في ثلاثين ألفاً وهذا من قبل الله الذي يجعل من لا شيء كل شيء ويجعل كل شيءٍ لا شيء يجمد المائعات ويميع الجامدات يجمد البحر ثم يفجر الصخر وما مثله في ذلك إلا كمثل من قال هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة أحك بها هذه الجبال الصلدة الصلبة المنيفة فترضها وتفضها وهذه النملة الرقيقة اللطيفة تهزم العساكر الكثير المعدة وكذا حقيقة أمره عليه الصلاة والسلام حتى لقد قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش وكان رسولهم إليه صلى الله عليه وسلم بالحديبية لقد وردت عَلَى النجاشي وكسرى وقيصر ورأيت جندهم وأتباعهم فما رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد هم حوله كأن الطير عَلَى رؤوسهم فإن أشار بأمر بادروا إليه وإن توضأ اقتسموا وضوءه وإن تنخكم دكوا بالنخامة وجوههم ولحاهم وجلودهم وكانوا له بعد موته أطوع منهم في حياته حتى لقد قال بعض أصحابه لا تسبوا أصحاب محمد فإنهم اسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف أسيافهم فتأمل كيف استنتج دعوته وهو ضعيف وحده بأن هذا سيكون فرآه العدو والولي وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال هذه الهباءة تعظم وتصير جبلاً يغطي الكعبة فدفعه عثمان بن طلحة العبدري فقال: لا تفعل يا عثمان فكأنك بمفتاحها بيدي استعين بعصمة الله وتوفيقه وأجعلهما معينتي عَلَى دفع شهواتي أشكو إليه عكوفي عَلَى الأماني وأسأله فهماً لمواعظ عبر الدنيا فقد عميت عن كلوم غيرها بما جشم عَلَى خواطري من الشعف ولست أجدر مني منصفاً لي ولا حاجزاً لرغبتي فيها عنها وأين ودائع العقول وخزائن الأفهاء يا أولي الأبصار صفحنا عن مساوئ الدنيا إغماضاً لعاجل موفق التنغيص وترمي إليه يد الزوال وتكمن له الآفات قال كثير:(56/12)
كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تحشي بها العصم زلت
وأقول عَلَى مذهب كثير بادنيا في كل لحظة لطرفي منك عبرة وفي كل فكرة لي منك حسرة يا مرنقة الصفا ويا ناقضة عهد الوفا ما وفق لحظة من عرج ولا سعد من أثر المقام عَلَى حسن الظن بك هيهات يا معشر أبناء الدنيا لكم في الظاهر اسم الغني وفي الباطن أهل التقلل لهم نفس هذا المعنى كم من يوم لي أغر كثير الهلة قد أصحت سماؤه وامتد عليَّ ظله تمدني ساعاته بالمنى ويضحك لي عن كل ما أهوى حتى إذا اتصل بكل أسبابي وامتزج سروره بفرحي وروحي وأترابي نفست علي به الدنيا فسعت بالتشتيت إلى ألفته والنقص إلى مدته فكسفت بهجته كسوفاً وأرهقت نضرة وحشته الفراق وقطعتنا فرقاً في الآفاق بعد أن كنا كالأعضاء المؤتلفة والأغصان اللدنة المتعطفة وا حسرتي في يوم يجمع شرتي كفن ولحد.
ضيعت ما لا بد منه ... بالذي لي منه بد
وأنشد ابن الرومي:
ألا ليس شيبك بالمنتزع ... فهل أنت عن غيه مرتدع
فأقلق وابكي بكاءً غير نافع ولا ناجع ويجب أن ابكي عَلَى بكائي وأنشد:
لساني يقول ولا أفعل ... وقلبي يريد ولا أعمل
وأعرف رشدي ولا أهتدي ... وأعلم لكنني أجهل
عرض عليَّ بعض الناس كأس خمر فامتنعت منها وقلت خلوني والمطبوخ عَلَى مذهب الشيخ الأوزاعي وقلت لهم عرض إبراهيم ابن المهدي عَلَى محمد بن حازم الخمرة فامتنع وأنشد:
ابعد شيبي أصبو ... والشيب للجهل حرب
سن وشيب وجهل ... أمر لعمرك صعب
يا ابن إمام فألا ... أيام عودي رطب
وإذ مشيبي قليل ... ومنهل الحب عذب
وإذا شفاء الغواني ... مني حديث وقرب
فالآن لما رأى بي ... العذال ما قد أحبوا(56/13)
وآنس الرشد مني ... قوم أعاب وأصبو
آليت أشرب خمراً ... ما حج لله ركب
وأبلت عَلَى نفسي مخاطباً لها ومعاتباً والخطاب لغيرها والمعنى لها لقد أمهلكم حتى كأنه أهملكم أما تستحيون من طول ما لا تستحيون فكن كالوليد تقلبه يد اللطف به عَلَى فراش العطف عليه تصرف إليه المنافع بغير طلب منه لصغره وتصرف عنه المضار بغير حذر منه لعجزه أما سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام إذ يقول في دعائهم اللهم أكلأني كلأة الوليد الذي لا يدري ما يراد به ولا ما يريد إلا متعلق والإذلال أذيال دليله إلا معد معطية ورحلا ليوم رحيله يا هلاه الدلجة الدلجة أنه من يسبق إلى الماء يظمأ إنما منعتك ما تشتهي ضناً بك وغيرة عليك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا وأنت تشكوني إذا حميتك وتكره صيانتي إذا صنتك إلا لائذ بفنائنا ليعز إلا فارٌ إلينا لا فار منا يا من له بد من كل شيءٍ ارحم من لا بد له منك عَلَى كل حال يغني بشيءٍ عن شيء فلهذا قال جبريل للخليل ألك حاجة قال: أما إليك فلا الله يستحق أن يسأل وإن أغنى لأنه لا يغنى بشيءٍ عنه أطعه لتطيعه ولا تطعه ليطيعك فتفر وتمل. من ترك تدبيره لتدبيرنا أرحناه جل من لوالب القلوب والهمم بيده وعزائم الأحكام والأقسام عنده:
أنسيت ذكر أحبة ... ينسون ذنبك عند ذكرك
وجفوتهم ولطالما ... كانوا خلافك طوع أمرك
وصبرت عند فراقهم ... ما كان عذرك عند صبرك
تترك من إذا جفوته ونسيت ذكره وتعديت حده
تترك من إذا جفوته ونسيت ذكره وتعديت حده وتركت نهيه وضيعت أمره وتبت إليه وعولت في تفضله عليك عليه وقلت: يا رب قال: لك لبيك وإذا سألك عبادي عني فإني قريب وإذا كان الذباب بوجهك فاتهمك وإن قطعت أنا أعضاءك تتهمني أنت الذي إذا أعطيتك ما أملت تركتني وانصرفت وإذا أنعمنا عَلَى الإنسان أعرض ونأى بجانبه يا واقفاً بالتهم كم كم أليس يقول لك ما غرك بي تقول حلمك وإلا لو أرسلت عليَّ بقة لجمعتني عليك إذا أردت أن تجمعني:
أمن بعد شربك كأن النهى ... وشمك ريحان أهل التقى(56/14)
عشقت فأصبحت في العاشقي ... ن أشهر من فرس أبلقا
أدنياي من غمر بحر الهوى ... خذي بيدي قبل أن أغرقا
أنا لك عبد فكوني كمن ... إذا سره عبده أعتقا
كان ببغداد رجل كبير الرأس فيلي الأذنين اسمه فاذوه رأسه في الأزمنة الربعة مكشوف لا يتورع عن ركوب مخزية يقال له يا فاذوه ويلك تب إلى الله فيقول يا قوم لم تدخلون بيني وبين مولاي وهو الذي يقبل التوبة عن عباده فكان في بعض الشوارع يوماً ذاهباً والشارع قد اتسع أسفله وضاق أعلاه والتقت جناحان فيه فناولت جارة جارتها مهراساً انسل من يدها عَلَى رأس فاذوه فهرس رأسه وخلط كخلط الهريسة وأعجله عن التوبة وكان لنا واعظ صالح يقول لنا احذروا ميتة فاذوه.
قال جبريل في حديثه خشيت أن يتم فرعون الشهادة والتوبة فأخذت قطعة من حال البحر فضربت بها وجهه يعني طينه والحال ينقسم ثمانية أقسام منها الطين فكيف يصنع من عنده أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإقامة عَلَى آخر فلا حول ولا قوة بلغني عن مولاي الشيخ أدام الله تأييده أنه قال وقد ذكرت له أعرفه جزاً هو الذي هجا أبا القاسم علي ابن الحسين المغربي فذلك منه أدام الله عزه رائع لي خوفاً أن يستشر طبعي وأن يتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر وهو بتعريف التنكير عنده لجلالة قدره ودينه ونسكه وأنا أطلعه طلعه ليعرف خفضه ورفعه وفراداه وجمعه.
كنت أدرس علي أبي عبد الله بن خالويه رحمه الله واختلف إلى دار أبي الحسين المغربي ولما مات ابن خالويه سافرت إلى بغداد ونزلت عَلَى أبي علي الفارسي وكنت أختلف إلى علماء بغداد إلى أبي سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وأبي عبيد الله المزرباني وأبي حفص الكتاني صاحب أبي بكر بن مجاهد وكتبت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغت نفسي أغراضها جهدي والجهد عاذر ثم سافرت منها إلى مصر ولقيت أبا الحسن المغربي فألزمني إن لزمته لزوم الظل وكنت منه مكان المثل في كثرة الإنصاف والحنو والتجاف فقال لي سراً أنا أخاف همة أبي القاسم أن تنزو به إلى أن يوردنا ورداً لا صدر عنه وإن كانت الأنفاس مما تحفظ وتكتب فأكتبها وأحفظها وطالعني بها فقال لي يوماً ما نرضى بالخمول الذي نحن فيه قلت وأي خمول هنا تأخذون من مولانا خلد الله ملكه في(56/15)
كل سنة ستة آلاف دينار وأبوك من شيوخ الجولة وهو معظم مكرم فقال: أريد أن تصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب ولا أرضى أن يجرى علينا كالولدان والنسوان فأعدت ذلك عَلَى أبيه فقال: ما أخوفني أن يخصب أبو القاسم هذه من هذه وقبض عَلَى لحيته وهامته وعلم أبو القاسم بذلك فصارت بيني وبينه وقفة.
وأنفذ إلي القائد أبو عبد الله الحسين بن جوهر فشرفني بشريف خدمته فرأيت الحاكم كلما قتل رئيساً أنفذ رأسه إليه وقال: هذا عدوي وعدوك يا حسين فقلت من ير يوماً ير به والدهر لا يغتر به وعلمت أنه كذا يفعل به فاستأذنته في الحج فأذن فخرجت في سنة سبع وتسعين وحججت خمسة أعوام وعدت إلى مصر وقد قتله فجاءني أولاده سراً يرمون إلى الرجوع إليهم فقلت لهم خير مالي ولكم الهرب ولأبيكم ببغداد خمسمائة ألف دينار فاهربوا وأهرب ففعلوا وفعلت وبلغني قتلهم بدمشق وأنا بطرابلس فدخلت إلى إنطاكية وخرجت منها إلى ملطية وبها المسايسطكرية خولة بنت سعد الدولة فأقمت عندها إلى أن ورد علي كتاب أبي القسم فسرت إلى ميافارقين فكان يسر حسواً في ارتغاءٍ قال لي يوماً من الأيام: ما رأيتك قلت: أَعرضت حاجة؟ قال: لا أردت أن ألعنك قلت فالعني غائباً قال: لا في وجهك أشفى قلت: ولم قال: لمخالفتك إياي فيما تعلم. وقلت له ونحن عَلَى أنس بيني وبينه لي حرمات ثلاث البلدية وتربية أبيه لي وتربيتي وتربيتي لإخوتي قال هذا حرم مهتكة البلدية نسب بين الجدران وتربية أبي لك منة لنا عليك وتربيتي لإخوتي بالخلع والدنانير أردت أن أقول له: استرحت من حيث تعب الكرام فخشيت جنون جنونه لأنه كان جنونه مجنوناً وأصح منه مجنون وأجن منه لا يكون وقد أنشد:
جنونك مجنون ولست بواحد ... طبيباً يداوي من جنون جنون
بل جن جنانه ورقص شيطانه:
به جنت مجنونة غير أنها ... إذا حصلت منه ألب وأعقل
وقال لي ليلة أريد أن أجمع أوصاف الشمعة السبعة في بيت واحد وليس يسنح لي ما أرضاه فقلت أنا أفعل من هذه الساعة قال أنت جذيلها المحك وعذيقها المرجب فأخذت القلم من دواته وكتبت بحضرته:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي هول ما ألقى وما أتوقع(56/16)
نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
فقال كنت عملت هذا قبل هذا الوقت فقلت تمنعني سرعة الخاطر وتعطيني علم الغيب وقلت: أنت ذاكر قول أبيك لي ولك ولبتي الشاعر ولمحسن الدمشقي ونحن في الطارمه اعملوا قطعةً قطعة فمن جود جعلت جائزته كتبها فيها فقلت:
بلغ السماء سمو به ... ت شيد في أعلى مكان
بيت علا حتى تو ... ر في ذراه الفرقدان
فأنعم به لا زلت من ... ريب الحوادث في أمان
فاستجاد سرعتها وكتبها في الطارقة وخلع عَلَى وكان أبو القسم ملولا والملول ربما مل الملال وكان لا يمل أن يمل ويحقد حقد من لا تلين كبد ولا تنحل عقده وقال لي بعض الرؤساء معاتباً: أنت حقود ولم يكن حقوداً فقلت له أنت لا تعرف والله ما كان يحنى عوده ولا يرجى عوده وله رأي يزين له العقوق ويمقت إليه رعاية الحقوق بعيد من الطبع الذي هو للصد صدود وللتآلف ألوف ودود. كأنه من كبره قد ركب الفلك واستوى عَلَى ذات الحبك ولست ممن يرغب في راغب عن وصلته أو ينزع إلى نازع عن خلته فلما رأيته سارواً جارياً في قلة إنصافي عَلَى غلوائه محوت ذكره عن صفحة فؤادي واعتددت وده فيما سال به الوادي.
ففي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
وأنشدت الرجل أبياتاً اعتذر بها في قطعي له:
فلو كان منه الخير إذ كان شره ... عتيداً لقنا إن خيراً مع الشر
ولو كان إذ لا خير ولا شر عنده ... صبرنا وقلنا لا يريش ولا يبري
سبو لكنه شر ولا خير عنده ... وليس عَلَى شر إذا دام من صبر
وبغضي له شهد الله حياً وميتاً أوجبه أخذه محاريب الكعبة الذهب والفضة وضربها دنانير ودراهم وسماها الكعيبة وأنهب العرب الرملة وخرب بغداد وكم دم سفك وحريم انتهك وحرة أرمل وصبي أيتم وأنا معتذر إلى الشيخ الجليل من تقريظه مع تقريظي فيه لأنه قد شاع فضله في جميع البشر وصار غرة عَلَى جبهة الشمس والقمر خلد ذلك فيه بدائع الأخبار وكتب بسواد الليل عَلَى بياض النهار وأنا في مكاتبة حضرته بمنظوم ومنثور كمن(56/17)
أمد النار بالشرر وأهدى الضوء إلى القمر وحب في البحر جرعة وأعار سير الفلك سرعة إذ كان لا يحل النقص بواديه ولا يطور السهو بناديه.
ولقد سمعت من رسائله عقائل لفظ أن نعتها فقد عبتها وإن وصفتها فما أنصفتها وأطربتني يشهد الله إطراب السماع وبالله لو صدرت عن صدر من خزانته وكتبه حوله يقلب طرفه في هذا ويرجع إلى هذا فإن القلم لسان اليد وهو أحد البلاغتين لكان ذلك عجيباً صعباً شديداً ووالله لقد رأيت علماء منهم ابن خالويه إذ قرأت عليهم الكتب ولاسيما الكبار رجعوا إلى أصولهم كالمقابلين يتحفظون من سهو وتصحيف وغلط والعجب العجيب والنادر الغريب حفظه أدام الله تأييده لأسماء الرجال والمنثور كحفظ غيره من الأذكياء المبرزين المنظوم وهذا سهل بالقول صعب بالفعل من سمعه طمع فيه ومن رامه امتنعت عليه معانيه ومبانيه.
حدثني أبو علي الصقلي بدمشق قال: كنت في مجلس ابن خالويه إذ وردت عليه من سيف الدولة مسائل تتعلق باللغة فاضطرب لها ودخل خزانته وأخرج كتب اللغة وفرقها عَلَى أصحابه يفتشونها ليجيب عنها وتركته وذهبت إلى أبي الطيب اللغوي وهو جالس وقد وردت عليه تلك المسائل بعينها وبيده قلم الحمرة فأجاب به ولم يغيره قدرة عَلَى الجواب وقال أبو الطيب: قرأت عَلَى أبي عمر الفصيح وإصلاح المنطق حفظاً وقال لي أبو عمر كنت أعلق اللغة عن ثعلب عَلَى خزف وأجلس عَلَى دجلة أحفظها وأرمي بها وأنا تعبت وحفظت نصف عمري ونسيت نصفه وذاك أني درست في بغداد وخرجت عنها وأنا طري الحفظ ومضيت إلى مصر فأمرجت نفسي في الأغراض البهيمية والأغراض المؤثمية وأردت بزعمي وخديعة الطبع المليم أن أذيقها حلاوة العيش كما صبرت في طلب العلم والأدب ونسيت أن العلم غذاء النفس الشريفة وصيقل الأفهام اللطيفة وكنت أكتب خمسين ورقة في اليوم وأدرس مائتين فصرت الآن أكتب ورقة واحدة وتحكني عيناني حكاً مؤلماً وأدرس خمس أوراق وتكل ثم دفعت إلى أوقات ليس فيها من يرغب في علم ولا أدب بل في فضة وذهب فلو كنت إياساً صرت باقلاً وأضع كتاباً عن يميني وأطلبه عن شمالي وأريد مع ضعفي أن أرتاد لنفسي معاشاً يظهر غير ظهير بل كسير عقيل وصلب غير صليب إن جلست فهو كالدمل وإن مشيت فجملتي دماميل ومعي بقية نزرة يسيرة من جملة(56/18)
كثيرة لو وجدت ثقة أعطيته إياها ليعود علي بما أرفه به جسمي من الحركة وقلبي من الشغل وأنا أجد من أدفعها إليه وبقي أن يردها إلي.
دفع رجل إلى صديق له جارية أودعها عنده وذهب في سفره فقال بعد أيام لمن أنس به وتسكن نفسه إليه: يا أخي ذهبت أمانات الناس أودعني صديق لي جارية في حسابه أنها بكر جربتها فإذا هي ثيب. ومن ظريف الأخبار أن ابنة أختي سرقت لي ثلاثة وثمانين ديناراً فلما هددها السلطان أطال الله بقاءه ومد مدته وأدام سموه ورفعته وأخرجت إليه بعضها قالت: والله لو علمت أن الأمر يجري كذا كنت قتلته فأعجبوا من هريستي وزبوني والله لولا ضعفي وعجزي عن السفر لخرجت إليه متشرفاً بمجالسته ومحاضرته فأما مذكراته فقد يئست منها لما قد استولى علي النسيان واحتوى عَلَى قلبي من الهموم والأحزان وإلى الله الشكوى لا منه وليس يحسن أن أشكو من يرحمني إلى من لا يرحمني وليس بحكيم من شكا رحيماً إلى غير رحيم وكان أبو بكر الشبلي يقول: ليس غير الله ولا عند غير الله خير. وقال يوماً: يا جواد ثم أمسك مفكراً ورفع رأسه ثم قال: ما أوقحني أقول لك يا جواد وقد قيل في بعض عبيدك:
لو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
وقد قيل في آخر:
تراه إذا جئته متهللاً ... كأنك معطيه الذي أنت سائله
ثم قال: بلى أقول يا جواد فاق كل جواد وبجوده جاد من جاد. ودخل ابن السماك على الرشيد فقال له عظني وفي يد الرشيد كوز ماء فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين أرأيت أن أقدر الله عليك مقدراً فقال لن أمكنك من شربة إلا بنصف ملكك أكنت فاعلاً ذلك قال: نعم قال: اشرب هنأك الله فلما شرب قال: أرأيت يا أمير المؤمنين أن لو أسفت نفس هذا المقدر عليك فقال: لن أمكنك من إخراج هذا الكوز إلا بأن أستبد بملكك دونك أكنت فاعلاً ذلك قال: نعم قال: فاتق الله في ملكك لا يساوي الإبولة وكيف أشكو من قاتني وعالني نيفاً وسبعين سنة كان قميصي ذراعين فوكل بي والدين حدبين مشفقين يتناهيان في دقته ورقته وطيبه فلما صار اثني عشر ذراعاً تولاه هو وطعامي فما أجاعني قط ولا أعراني والذي هو يطعمني ويسقين خاطب ربه بالأدب فقال فإذا مرضت فهو يشفين فنسب المرض إلى(56/19)
نفسه لأنها تنفر من الأعراض والأمراض وكل شيءٍ يطرأ على الإنسان لا يقدر على دفعه مثل النوم واليقظة والضحك والبكاء والغم والسرور والخصب والجدب والغنى والفقر فهو منه تقدست أسماؤه ألا ترى أنه لا يتوعد على فعله ولا يعاقب عليه وما يقدر على دفعه فهو منه مثل أن يريد الكتابة فلا يقع منه البناء ويريد البناء فلا تقع منه الكتابة ومن به الرعشة لا يقدر على إمساك يد ومن ليست به يقدر على إمساكها.
كنت بتنيس وبين يدي إنسان يقرأ ويحزن: يوفدون بالنذر ويخافون ويبكي فخطر لي خاطر فقلت أنا بضد هؤلاء القوم صلوات الله عليهم أنا لا أنذر ولا أفي ولا أخاف شقاء ولا عناء ولو كنت أخاف ما أصبحت محموماً وكنته وحدثني من أثق به ولا أتهمه عن أبيه وكان زاهداً قال: كنت مع أبي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق فرأينا شاوياً قد أخرج حملاً من التنور كأنه بسرة نضجاً وإلى جانبه قد عمل حلاوى فالوذجاً فوقف ينظر إليهما وهو ساه مفكر فقلت يا مولاي: دعني آخذ من هذا ورقاقاً وخبزاً ومنزلي قريب تشرفني بأن تجعل راحتك اليوم عندي فقال: يا هذا أظننت أني قد اشتهيتهما وإنما فكري في أن الحيوان كله لا يدخل النار إلا بعد الموت ونحن ندخلها أحياء.
يا رب عفوك عن ذي شيبة وجل ... كأنه من حذار النار مجنون
قد كان ذمم أفعالاً مذممة ... أيام ليس له عقل ولا دين
تمت الرسالة والحمد لله ذي الأفضال وصلواته على محمد وخيرة الآل ما فرغت من هذه السوداء حتى ثارت بي السوداء وأنا أعتذر من خطل فيها أو زلل فإن الخطأ مع الاعتذار والاجتهاد والتحري موضوع عن المخطئ ومن ذا الذي يؤتى الكمال فيكمل. قال عمر بن الخطاب: رحم الله امرأ اهتدى إلى عيوبي وأسأله أدام الله عزه تشريفي بالجواب عنها فإن هذه الرسالة على ما بها قد استحسنت وكتبت عني وسمعت مني وشرفتها باسمه وطرزتها بذكره والرسالة التي كتبها الزهرجي إليَّ كانت أكبر الأسباب في دخولي إلى حلب وإذا جاء جواب هذه سيرتها بحلب وغيرها إن شاء الله وبه الثقة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.(56/20)
الدين والدنيا
وأين يختلفان وكيف يتفقان
ادخر لدنياك ادخار الراغب فيها ... وتزود من دينك زاد الراغب عنها.
نسمع في الأرض اليوم صيحة تصم الآذان منشؤها اختلاف المذاهب والأديان. وهي على كثرة الصائحين فيها قد صارت أشبه شيءٍ بلغط زمرة من المغنين وقد علت أصواتهم واختلفت لهجاتهم وتباينت نغماتهم فيقف السامع الصحيح الأذن مبهوتاً من خلط هؤلاء المغنين كخلطنا بين الدنيا والدين.
يريد بعض الناس أن يكون الدين كل شيء. وينظر غيرهم إلى الدين كأنه لا شيء. وبين هؤلاء وأولئك أفرادٌ وزمر يتشاحنون ويتجاذبون ويتخاذلون ويقتتلون تعصباً للدين ولكنهم في الحقيقة يسخطون رب العالمين الذي لو شاء لجعلها أمة واحدة ووحد لها السراط إلى عليين.
في تعاليم كونفوشيوس المسالمة والإخاء أساس الدين. وفي الديانات الفتشية وهي أحط الأديان في نظر الراقين لما نحن فيه أن العداء بسبب اختلاف المعتقد بل كل منهم وما يعبد شرط الولاء للقبيلة وفي التوراة على لسان سليمان الحكيم من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل إلى الأرض. جامعة ص3_21 فكأن سليمان يوعز إلى قومنا بأن يفتأوا من حدتهم في احتكار طريق السماء. وفي الإنجيل في بيت أبي منازل كثيرة. وإن الذين بلا شريعة فبغير الشريعة بدانون. وإن كل عمل خيراً مقبول عنده فعلى مَ التعصب. وفي القرآن الشريف من يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. وإن الله رب العالمين ولم يقل رب النصارى ولا رب المسلمين.
وفي حكم العقل أن الله تعإلى يجل عنه أن يخلق أمماً وشعوباً ليجعلها برمتها طعاماً للنار لأنها عملت بشريعة الضمير التي سنها هي لتكون شريعة عامة وتجاوزت بعض الأمور العرضية التي لم يتفق لها أن تقتنع بها لرسوخ غيرها في مكانها مما لا يضر بالإنسانية ولا يغضب رب البرية.
وفي حكم الكتب المنزلة والعقل معاً أن إلهنا الرحوم الغفار. المحب الأب السماوي. لم(56/21)
يخلقنا ليظهر قوته وبطشه فينا فيرسل بعض أبناءه إلى بحيرة النار المتقدة لأنهم يسيرون إليه في طريق لا نراها نحن مواصلةً إليه إما لنقص في مداركنا وإنا لأنه تعإلى لم يشأ أن يوحي إلينا بكامل إرادته في خلقه. أو يعقل أن ننسب للإله الذي هذه صفاته محبة التلهي بمنظر لحوم أبناءه وهي تشوى في نار جهنم كأنه يسر بتعذيبنا وهو الرحيم الرحمن الغفار لجميع ذنوبنا إذا آمنا به كما نحن مؤمنون؟
إذاً فالموحدون جميعاً وجهتهم الإله الواحد وإليه يسيرون. فلماذا هذه القيامة القائمة على الأرض وهذا التعصب الذميم الذي يفرق الأخ عن أخيه والابن عن أبيه. أنزلت علينا آيات بينات بكره كل من خالف معتقدنا وبإثارة حرب عوان على إخواننا في الدين من الموحدين. بل مالنا وللكفرة الملحدين والله رقيب عليهم وإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم لأنه على كل شيءٍ قدير.
نعلم أن جميع الأديان توصي بمحبة الناس بعضهم لبعض وبمنع الاعتداء. وبالمسالمة. والإخاء. فضلاً عن شريعة الضمير ووصية كنفوشيوس والسيد المسيح معاً القائلة مهما تريدون أن يفعل الناس بكم فافعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم.
فأين حكم العقل والضمير وهذه التعاليم السامية من سير البعض منا ممن يتصافحون بالخناجر ويسلمون بالمسدسات لا لسبب سوى كون الفئة الواحدة تسير إلى خالقها في طريق موازية لما تسير فيها الأخرى:
أهكذا تكون مقدمات الأمم التي تريد الرقي في عمرانها. أم نظن أن الله يرضى عن مثل هذه الأفعال التي ما أنزل بها من سلطان.
بقي أن منبت التعصب ليس في الدين نفسه بل في ما أدخل عليه من التقاليد والشروحات والتفاسير المضلة التي قد سمت عقول العامة حتى صاروا ينظرون بعضهم إلى بعض نظر العدو الألد على الرغم كونهم أبناء وطن واحد تجمعهم جوامع اللغة والقومية والوطنية ووحدة المعتقد بربهم أجمعين.
حقاً إن حالتنا في الشرق لما تذرف لها الدموع السخينة. لأننا تركنا الجوهر وتمسكنا بالعرض تركنا العبادة الحقيقية بالروح أو الحق وصرنا ننظر إلى الأسماء لا إلى المسميات. فمن كان اسمه محمداً أو بطرس أو هرون أو حمزة أو مارون أو نقولا صار(56/22)
كأنه يحمل في عنقه علامة ليقتله كل من يجده من أخوانه في الإنسانية وأشقاءه في الوطنية.
فإلى مَ يا قومنا على هذه الحالة المحزنة نخط الدين بالدنيا في معاملاتنا وصلواتنا ووظائفنا وخدمنا الوطنية وواجباتنا القومية.
ألا يدري رؤساؤنا الروحيون أن كلمة منهم تتغير مبادئ العامة أكثر من مجلد يكتبه غيرهم من الناس. فلماذا لا يتكلمون ويزيلون الوحشة بل الغلطة من قلب الرعايا مع بقاء المعتقدات على أصلها مجردة عن الزيادات.
هو ذا بعض المفكرين من أخواننا المسلمين في وادي النيل قد جاهروا بوجوب الإصلاح الديني ودعوا الراسخين في العلم إلى مجتمع يبحثون فيه لتنقية الدين مما طرأ على محيطه من الشوائب التفسيرية والعادات التقليدية التي لا تتفق مع جوهر الدين. فلماذا لا نحذو نحن حذوهم فنعمم نفعهم وننزع عن الدين صبغة التعصب التي شوهته بها العصور الوسطى ولا تزال عليه إلى الآن.
يظهر مما تقدم أن الدين والدنيا يتفقان إذا نزعنا عن الدين ما ألصقه به المتعصبون من الزوائد الضارة وهو يزداد اختلافاً كلما زدنا تفننا في تفسير التعصب وتخرجه إغراء للسذج ببقائهم على ما هم عليه من الجهل المطبق.
ديننا_لا تخف يا أخي التقي فإن لا قوة بشرية تقدر على اختطاف دينك منك ولا على زعزعة أركانه إذا كان مؤسساً كما تعتقد على الصخر.
فدع الزوابع تهب وافرح بعدم اقتدارها على هزه. أما إذا كنت حذراً خائفاً على دينك فتحيطه بسور لئلا تسفيه الريح فثقتك إذاً بصاحبه قليل، ولذلك تحاول أنت أن تملأ نقص هذه الثقة. ألا تعلم أن الحق يعلو ولا يعلى عليه وأن الصحيح لا يتحول إلى فاسد باختلاطه بالأمور الدنيوية بل يطفو كالزيت فوق عكر الماء وتظهر شوائبه لأقل نظرة كما ظهرت الشوائب التي أدخلت فيه إلى الآن.
كلمة إلى حضرة رؤساء الأديان_جاء في الأسفار الدينية رئيس شعبك لا تقل فيه سوء. فأنت رؤساء الشعب الروحيون ولذلك فإننا نجل مقامكم ونحترمكم ونضمن لكم حفظ الرئاسة الدينية على شرط أن تفصلوا الدين عن الدنيا لأنكم لستم رؤساء فيها ور يجوز أن(56/23)
تكونوا لئلا يلتوي عليكم الأمر في سياستنا التي تحتاجون معها إلى توحيد القوى العقلية. وبعد هذا نرجوكم أن تفهموا الفلاح والصانع والتاجر والواعظ والكاتب وغيرهم أن يحترف كل منهم حرفته العالمية مجردة عن كل صبغة دينية. وإذا جاءكم طلاب الوظائف وأرباب الدعاوي واحتلموهم إلى المراكز الدنيوية وبثثتم فيهم روح الدين الصحيح القاضي باعتبار جميع الناس إخواناً في الدنيا. وإذا جاهرتم بمبدأ الإخاء من على المنابر. وإذا نزعتم من قلوب الشعب أشواك الجهل الديني_وهو التعصب الذميم. وإذا أعطيتمونا قدوة نتبعها في هذا السبيل. فإنكم إذا فعلتم جميع ذلك تخدمون الدين والإنسانية معاً وحينئذ تروننا نزيد مقامكم رفعة ونجل جميعاً رئاستكم شاكرين لأنكم بذلك تسكتون السنة المتذمرين.
هذه الطريقة المثلى لفصل الدين عن الدنيا ولتعزيز المراكز الدينية العليا لأن بها يستوفي العمران نصيبه ويحافظ الدين على حقه.
فمن لنا من سادتنا الروحيين بمن يبدأ بالمجاهرة بهذا التساهل وهذا التسامح فنسطرها له باكورة للإصلاح الديني في القرن العشرين.
دنيانا_علينا في دنيانا واجبات كثيرة لا بد من قضائها من التعاون والتعاضد بقطع النظر عن الدين. هو ذا البلاد في حاجة إلى الشركات الوطنية وتوحيد الكلمة القومية في الدفاع عن الوطن وفي تعميره بما حسن من الحضارة الحديثة. فمن يقوم بهذه الأعمال ومتى يتم لنا النجاح إذا بقي الدين حاجزاً بين أبناء المذاهب المتفرقة. أو كيف يمكن أن ننهض معاً ونحن ينظر بعضنا إلى بعض شرراً كنظر القريب إلى الغريب المعتدي. أن نكذب على أنفسنا وعلى الله بقولنا أن الدستور قد وحد فينا المبادئ القومية وما قومنا للآن إلا المذاهب متجسمة والضغائن كامنة تكاد أن تظهر من تحت الرماد في كل ملة ومذهب.
هذه هي الحقيقة وأدلتها تحيط بها إحاطة الهالة بالقمر. والحقيقة أولى أن تقال لئلا يذهب بنا الوهم إلى الاعتقاد بأننا قد صرنا كما أظهرنا في بدء حياتنا الدستورية.
أجل إن فينا العدد العظيم ممن يريدون الإخاء وينادون به بألسنتهم جرائدهم وأعمالهم ولكن لا يزال في البلاد كثيرون من نصراء الدور السابق ممن يلقون الشقاق في كل ملة ويثنون الناس عن سيرهم في دنياهم متآخين.(56/24)
فأعمال هؤلاء لا يكشفها سوى حملة الأقلام المناط بهم الدفاع عن الجامعة القومية.
ولقد كان لجرائدنا على اختلاف نزعاتها الفضل العظيم في إمالة الخواطر وتحويل الرأي العام عن التعصب إلى الحرية والمساواة والإخاء ولا نزال نطمع من زملائنا بإعادة الكرة المرة بعد المرة على كل خالط للدين بالدنيا.
وإنا لنعجب من استحكام هذا الشر في بلادنا الشرقية حيث الذكاء يتدفق من العقول في حين أننا لا نرى عند غيرنا عشر معشار ما نحن فيه من الشقاق.
أسبب ذلك كون أرضنا مهبط الوحي ومحتد الصالحين؟
أنكون أول من قصد الله بنا خيراً فحولناه بجهلنا إلى شر عظيم؟
أهكذا كانت غاية محمد وموسى وعيسى عليهم السلام أجمعين أن يزرعوا في قلوبنا العداوة إلى أبد الآبدين؟
أقصد هؤلاء الداعون الناس إلى طاعة ربهم أن يعلموا الشقاق في دنياهم بواسطة الدين؟
كلا. ثم ألف كلا_إننا نحن السبب في ذلك كله لأن نفوسنا جانحة إلى الشر والله لا يغر قوماً إلى الحسنى قسراً إذا هم أبوا أن يغيروا ما بأنفسهم. لأن الإنسان حر في أفعاله ليكون لكل نفس ما أكسبت وعليها ما اكتسبت.
وخلاصة ما نقول في هذا الشأن أننا قد شبعنا من العداء وقد كلت خناجرنا من الطعن ومسدساتنا من خطف الأرواح فهي تضرع إلينا بلسان حالها قائلة استبدلوني بالنظرات الأخوية والمصافحة السلمية والقبلات القلبية. ألقوني في اليم وسيروا بلا خوف ولا عداء وتضافروا في أعمالكم وتعاونوا في خدمة وطنكم. انسوا ذكري وأهملوا أمري وتسلحوا بالغيرة الوطنية والمحبة الأخوية.
لقد آن الوقت للاختلاط في الخدمة والأعمال المالية والإندغام في الدفاع والسعي وراء المصلحة القومية.
ولا يتم لكم ذلك إلا بترك الشقاق فتتركوني ولا يزول الشقاق إلا بفصل الدنيا عن الدين وبذلك تريحوني وتخدمون دنياكم وتكسبون رضى رب العالمين.
وفي الختام إننا نبتهل إليه تعإلى لينظر إلينا بعين الرضى وينزع من قلوبنا شوك الشقاق ويلهمنا رحمة منه إلى التوفيق بن مساعينا الدنيوية مع تمسكنا بأصول الدين مجردة عن(56/25)
الدخيل. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
خليل سعد.(56/26)
غرف التجارة
تتمة ما ورد في الجزء الماضي
ذكرت قبلاً بعض ما تمتاز به الغرفة الباريزية على غيرها من الغرف الفرنسوية من الامتيازات وقد مضى عليها مائة وسبعة أعوام وهي ذات مقام سام خاص بها ولها خمس لجان علمي استشارية الأولى تبحث في المسائل الاقتصادية كما شأنها تتوغل بتحقيق مسائل الرسوم الجمركية والإدخالية (الأوكتروا) والثانية تشتغل بمسائل الوسائط النقلية والثالثة بالمسائل التجارية والصناعية والرابعة بمسائل الصادرات وتعنى الخامسة بالدروس ولها أيضاً تسع لجان إدارية تشتغل بدور البورصة ومدارس التجارية والمكتبات. . . . ولها ديوان يتولى كتابة تقاريرها الأسبوعية وقد نظمت هذه الغرفة خلال سنتي 1901 و1902 ستة وسبعين ومائة تقرير في مسائل شتى واتحدت مع عدة لجان أُلفت في النظارات وأوفدت منها أعضاء إلى المؤتمرات الأجنبية.
وتنفق كل عام أربعة وخمسين ألف فرنك على الدائرة الوطنية للتجارة الخارجية وستة وستين ألفاً على مدرسة التجارة ومئة وعشرين ألفاً على مدرسة التجارة العالية وخمسة وثلاثين ألفاً على الدروس الليلية وأربعين على دور البورصة وثلاثين ألفاً على الأوضاع والأعمال المفيدة للتجارة.
وتتولى غرفة التجارة الباريزية إدارة كل من مدرسة العلوم التجارية العالية التي أنشئت سنة 1881 وموازنتها 527 ألف فرنك ومدرسة التجارة العالية التي أنشئت سنة 1820 وموازنتها (510) آلاف فرنك ومدرسة التجارة التي أسست عام 1863 وموازنتها 235 ألف فرنك وتحت حماية غرفة تجارة باريز الجمعية التجارية لتعليم الألسنة الأجنبية وجمعية الترغيب في إصدار الأموال التجارية الفرنسوية وقد أسستا عام 1881.
* * *
ذكرنا أوضاع الغرف الفرنسوية عامة والغرفة الباريزية خاصة ونبحث الآن في أوضاع الغرف التجارية في البلاد العثمانية وإليك البيان:
قضى القرار الصادر في العام 1293 بتأليف جمعيات زراعية وتجارية مؤلفة من أربعة وعشرين عضواً في القسطنطينية واثني عشر عضواً في حواضر الولايات وثمانية أعضاء(56/27)
في مراكز المتصرفيات وأربعة أعضاء في مراكز الأقضية ومن الشروط الأساسية النظامية أن يكون الأعضاء الذين يتوظفون في القسم التجاري من التجار والأعضاء الذين يتوظفون في القسم الزراعي من الزراع وأن تكون الغرف مرتبطة وملحقة بعضها ببعض وأن تكون غرف الولايات تابعة لنظارة التجارة مباشرة. وكانت الغاية من كل هذا تنسيق الغرف تنسيقاً إدارياً بحيث تكون مرتبطة بالحكومة ارتباطاً موثوقاً غير أن هذا التنسيق الذي لم ينظر في وضعه إلى الوسط والأحوال لم يثمر قط الثمرة المطلوبة. وفي اليوم السادس من صفر عام 1297 أي بعد أربعة أعوام أعلن النظام الأساسي لغرفة القسطنطينية وفي العشرين من رمضان عام 1298 الموافق لليوم الثالث من آب 1298 أعلن النظام الداخلي لغرفة التجارة وأصدر في هذا التاريخ قوانين تقضي بتأسيس غرف صناعية وتجارية على حدة.
وكان إعلان النظام الأساسي لغرف التجارة باسم النظام الأساسي لغرفة دار السعادة التجارية ولم تسن الحكومة نظاماً خاصاً بغرف الولايات التجارية. ولم يعلم سر نسبة هذا النظام إلى غرفة القسطنطينية على أنه لم يكن مستحيلاً درج الحكام والمواد المتعلقة بغرفة القسطنطينية التجارية في النظام العام للغرف التجارية.
ولم تمنع هذه الحال تأسيس الغرف في الولايات بل أن هذه حذت حذو اسطنبول وأنشأت غرفاً قياساً على غرفة العاصمة. وقرر شورى الدولة أن تطبق غرف الملحقات وضعها وإعمالها على غرفة الآستانة وأن يراقب موظفو الملكية الغرف ويلاحظوا ما يكفل حسن إدارتها وبقائها وأنه أنيط بالولاة إنشاء الغرف في أوقاتها لإيجاد الأسباب التي تؤول إلى ترقية التجارة الأهلية وأنها (الغرف التجارية) مرتبطة بنظارة التجارة وأن لها الحق بمراجعة النظارة إذا دعت الحاجة وأبلغ كل هذا إلى محل الإيجاب واتخذ أيضاً بعض قرارات بما ستجري على غرف الولايات والأقضية من الامتيازات.
ولقد تأسست غرف زراعية في بعض الجهات ولم تؤسس في أكثرها ولم يؤسس غرف صناعية مطلقاً ولذلك طلبت نظارة التجارة أن تقوم غرف التجارة بأعمال الغرف الزراعية والصناعية وواجباتها. وقرر مجلس الوكلاء قبول هذا الطلب واقترن بإرادة سنية في السابع والعشرين من جمادى الآخرة لعام 1306 وعلى إثر إلغاء غرف الزراعة والعدول(56/28)
عن تأسيس الغرف الصناعية دعيت الغرفة التجارية (غرف التجارة والزراعة والصناعة) ولكن من اللازم اللازب إحداث غرف زراعية على حدة لأن العنصر الحيوي في بلادنا هو ولا شك الزراعة. ويتيسر للغر فالتجارية أن تقوم بأعمال غرف الصناعات ولا بأس بتوحيدهما لأن الصناعات في بلادنا أقرب إلى العدم منها إلى الحياة.
يقضي النظام الأساسي لغرف القسطنطينية التجارية أن تكون مؤلفة من أربعة وعشرين عضواً.
وشروط العضوية أولاً أن يكون المنتخب (بفتح الخاء) بالغاً الثلاثين من عمره ثانياً أن يكون ممن قضوا في التجارة لا أقل من خمس سنين غير متهم بجنحة أو جناية ولا مفلس (إلا إذا استرجع اعتباره بعد الإفلاس) وأن يكون من ذوي الشرف والاستقامة. وتجري الانتخابات بالأكثرية الخفية. وعند تساوي الآراء يرجح الأكبر سناً ولا يجوز انتخاب عضوين من شركة واحدة. ولجنة الانتخاب تتألف من عشرين منتخب أول (بفتح الخاء) تنتخبهم نظارة التجارة والزراعة (الآن نظارة التجارة والنافعة) وعشرة ينتخبهم التجار فيجتمعون تحت رئاسة ناظر التجارة (في الولايات تحت رئاسة الوالي والألوية تحت رئاسة المتصرفين وفي الأقضية تحت رئاسة القائم مقامين). وأعضاء الغرفة ينتخبون من بينهم رئيساً أول ورئيساً ثانياً بالأكثرية المطلقة ويعرضون هذا الانتخاب على النظارة لتجيزه.
مدة العضوية (ولقد استعمل القانون في هذا المقام لقلة وظيفة الأعضاء على أن عضوية غرفة التجارة ليست وظيفة من الوظائف) ثلاثة أعوام ولم يكن يجوز إلى تاريخ 1 كانون الثاني لعام 305 تجديد انتخاب العضو قبل مرور سنة على انقضاء عضويته السابقة ولكن المادة المعدلة في هذا التاريخ جوزت تجديد انتخاب العضو غب انقضاء المدة. ومن لا يحضر الجلسات مدة سنة أشهر يعتبر مستقيلاً وإذا توفى أحد الأعضاء أو استقال أو حكمة عليه بجناية أو جنحة تنتخب لجنة الانتخاب غيره عند حلول أول اجتماعها ويتم العضو الجديد المدة الباقية لسلفه. وإليك واجبات الغرفة التي ذكرها النظام الأساسي وهي إبلاغ المواد الآتية رأساً وتحريراً إلى نظارة الزراعة والتجارة:
(1) وسائل ترقية الصناعة.(56/29)
(2) ما يجب على النظارة القيام به من الإصلاح والتحوير.
(3) الأمور التي من شأنها ترقية التجارة: تعارف الجمارك، والأشغال العامة (الأمور العمرانية والنافعة)، المراسي، الملاحة في الأنهر، أسلاك البرق، السكك الحديدية، فتح الطرق والشوارع، تأسيس دور البورصة، إصدار الجرائد التجارية.
وفي النظام صراحة بأن الغرف مطالبة بإحداث سجلات وقيود منتظمة لكل ما له علاقة بالأعمال التجارية من أموال والمسكوكات والإسهام ومما يقضي به نص القانون إلزام الغرف بالإجابة على أسئلة النظارة مؤيدة أجوبتها بهذه السجلات والقيود موقعة عليها بختم الغرفة.
ولغرفة التجارة الحق في وضع نظامها الداخلي كما هو مصرح في إحدى مواد نظامها الداخلي المترجم عن نظارة عام 1831 الفرنسوي وقد عملت بموجب هذا الحق وسنت نظامها الداخلي إلا أنها دفعته إلى الدوائر الإيجابية ثم قرنته بإدارة سنية بلا ضرورة نظامية.
* * *
يعبر النظام الداخلي غرفة التجارة مصدر الأخبار التي تتصل بنظارة التجارة عن التجارة والتجار ولصلة بين الحكومة والتجار في الأعمال التي تجري بينهما.
والواجبات الأساسية على الغرفة هي البحث والتنقيب عن المصالح التجارية والصناعية والوسائل التي تؤول إلى ترقية الصناعة والتجارة والتذرع بها وعن العوائق التي تحول دون تقدمها وإبلاغ الحكومة ما تعثر عليه الغرف من نتائج البحث والتحقيق للغرف الحق بإجراء الأمور الآتية عدا عن الواجبات التي سبق ذكرها آنفاً والتي ذكرت في النظام الأساسي:
أولاً_تدعو الغرف التجارية التجار وأصحاب المصارف (البنوك) والمعامل ليسجلوا أسماؤهم في دفاتر الغرف الخاصة والدعوة تعلن بنشرات عامة أو في الجرائد.
ثانياً_تسجل سفر التجار (المسجلة أسماؤهم عندها) وقدومهم وإفلاسهم واسترجاعهم الاعتبار التجاري (بعد الإفلاس) وإذا حكم على أحدهم ظناً أو اتهاماً بجنحة أو جناية يسجل أيضاً هذا الحكم في الدفتر الخاص لهذه الوقائع.(56/30)
ثالثاً_تصدق مجاناً الكفالات وأوراق الشهادات والتقارير ومقدرة الكفلاء فيما يتعلق بالأمور التجارية.
رابعاً_تستجلب محال الإيجاب بواسطة نظارة التجارة أوراق إقامة الحجة البرتستو التي تنظم بحق التجار وأصحاب البنوك والمعامل لعدم تأديتهم البونويات والسندات المحررة للأمر والسفاتج الموقعة بتواقيعهم.
خامساً_تستنسخ في دفتر خاص عين الصكوك والعقود التجارية والصرافية والبحرية والصناعية والعمرانية المنعقدة خارج الغرفة عند طلب الفريقين المتعاقدين.
سادساً_للغرف التجارية الحق في إبداء ملاحظاتها في تجديد قانون التجارة وتصحيحه والنظامات التي لها علاقة بمحاكم التجارة وفي تأسيس غرف التجارة في الولايات ودور البورصة وتوظيف الدلالين وكبار الكامبير وسن تعرفات للدلة وقوانين لها ولغيرها من الأمور التجارية التي يجب أن يكون لها تعرفات ونظامات وفي البنوك والأعمال العمرانية.
قضت المواد المؤرخة في 7 المحرم لعام 1299 أو 18 تشرين الثاني لعام 1297 المذيلة للنظام الداخلي للغرف التجارية بأن تنظم الغرف التجارية أوراق الشهادات بالكفالات التي تقدم إلى الدوائر الرسمية والمحاكم التجارية والحقوقية باسم التجار وأن ترسل إلى محل المزايدة مأموراً تنتدبه ليحضر الحجز والمزايدة للأموال وتقدير القيم من قبل الخبراء إذا كان ذلك بقرار من المحكمة. ومن جملة ما تقتضيه المواد المذكورة إلزام الدلالين والوسطاء (سماسرة التجار) بتسجيل أسماءهم في الغرفة التجارية وأن يأخذوا منها تذاكر بإجراء صناعتهم وأن لا يقبل في المزايدات والمناقصات للدوائر الأميرية إلا التجار والدلالون الذين بيدهم شهادات بأنهم مسجلون في دفاتر الغرف التجارية وأن يكون تسطير صحائف دفاتر التجار ووضع إشارة (صح) عليها من قبل الغرف_وقد أعيد بعد ذلك حق كتابة صحائف دفاتر التجار ووضع إشارة (صح) إلى محرر المقاولات كما في السابق. والمنع الذي ذكر قبل المادة الأخيرة لم يراع إلا قليلاً.
* * *
سبق أن أعضاء غرفة التجارة الإستنبولية أربعة وعشرون وذلك بمقتضى النظام الأساسي. وأما تأليف غرف التجارة في الولايات من اثني عشر عضواً وفي الألوية من سنة أعضاء(56/31)
والأقضية من ثلاثة فهو من أحكام المقررات وأعضاء الغرف يجب أن يكونوا من تجار أحد الطبقتين: الأولى والثانية المسجلة أسماؤهم في دفتر الغرفة هم أصحاب المصارف وهؤلاء يدفعون للغرف خمس ليرات كل سنة. والصنف الثاني من التجار المسجلة أسماؤهم في الغرفة هم الذين يؤدون ثلاث ليرات سنوياً والصنف الثالث منهم يدفعون ليرتين والرابع ليرة واحدة عن بدلات الاشتراك والشركاء الذين لهم توقيع واحد يعتبرون تاجراً واحداً. والتجار يسجلون أولاً أسماؤهم في دفتر الغرفة ثم يعتبرون من أحد الأصناف الأربعة بقرار من الأعضاء ويحق للأعضاء المسجلة أسماؤهم في الصنفين الأول والثاني أن ينتخبوا أعضاء لغرفة التجارة كما أن الأعضاء الموقتين في المحاكم التجارية والخبراء والمميزين لبعض الدعاوى والأشخاص الذين يفحصون الدفاتر التجارية يجب أن يكونوا من الصنفين المذكورين.
(المواد المذبلة).
تجتمع أعضاء الغرف التجارية في الأسبوع وإذا اقتضت الحال يعقدون اجتماعات غير عادية بدعوة من الرئيس أو بطلب كتابي من ستة أعضاء وبعد نصب الرئيسين الأول والثاني ينتخب الأعضاء من بينهم بأكثرية الأصوات مشاورين أولاً وثانياً لسنة وأميناً عاماً للصندوق. وما عدا هذا يجوز أن يكون للغرفة أمين صندوق بكفالة وكتبة للتركية الفرنسوية وسواهم من الموظفين والمستخدمين وتجري مذاكرات الغرفة بحسب ما تقتضيه أعمالها اليومية وقبل ارفضاض الجلسات تنظم الغرفة يومية المذاكرات عن الاجتماع القادم. وعلى الرئيس إعلام الأعضاء كتابة بأيام الاجتماع. ولا تبرم القرارات إلا إذا حضر الجلسات اثنا عشر عضواً ولكن تجوز المذاكرات إذا اجتمع أقل من ذلك وتكتب الآراء والملاحظات التي يذكرها الأعضاء في أوراق الدعوة للجلسة القادمة والأعضاء الذين لا يحضرون ثانياً أن يقبلوا رأياً من هذه الآراء ويبلغوه إلى الغرفة كتابة وإما أن يحضروا الجلسة المعينة في أوراق الدعوة ويعربوا عن آرائهم الذاتية وإذا خالفوا في أجوبتهم الكتابية آراء الأعضاء ولم يحضروا أو أنهم لم يجيبوا الدعوة كتابة ولم يحضروا الجلسة بتاتاً تعرض الغرفة عن آرائهم ويبرم القرار ولو لم يبلغ الأعضاء المقدار المعين.
وللغرفة حق في تعيين لجان مؤلفة من غير الأعضاء للنظر في بعض المسائل ولا يجوز(56/32)
أن يتجاوز عدد أعضاء هذه اللجان الستة وتنتدب الغرفة أحد أعضائها لينضم إلى اللجنة ويقوم بوضع لائحة تتضمن نتائج البحث عن المادة المحولة إلى اللجنة.
وللرئيس الحق في تأليف لجنة للبحث في المواد الجديرة بالقبول المبلغة إلى الرئيس تؤلف من ثلاثة رجال ينتخبهن الأعضاء ويقضي النظام الأساسي بأن تكون مداخيل الغرف التجارية عبارة عن بدلات الاشتراكات التي يدفعها التجار وبعض الرسوم (ولم يذكر صاحب المقالة هذه الرسوم) وما زاد على نفقات الغرفة من المداخيل يجوز إنفاقه بقرار الغرفة وإذن الحكومة معاً على إنشاء مدارس وجرائد تجارية: ولكن يرصد منه مبلغ لا يقل عن مئتي ليرة لأحوال طارئة. والغرفة مكلفة بتنظيم ميزانيتها لأخر كل سنة.
وهذا تعريب نص إحدى المواد الانتهائية:
(تعرض الغرفة التجارية على أنظار مراحم (؟!) الحكومة الجوائز لذوي الاختراعات الصناعية التي ينجم عنها منافع عامة.
* * *
إن النظامين الأساسي والداخلي لغرفة التجارة المعدلين بمقررات من شورى الدولة لاستحالة تطبيق موادهما على الولايات محتاجان إلى تعديل مهم يجب إدخاله عليهما:
أولاً: إن النظام الأساسي لغرف التجارة مختصر كثيراً وخاص بالعاصمة وثانياً إن كثيراً من مواد النظام الداخلي يجب إدخالها في النظام الأساسي ولذلك يجب مزج لنظامين المذكورين ومراجعة آراء الغرف التجارية في العاصمة والولايات وتدقيق النظامات الأوربية ثم بعد ذلك يجب على نظارة التجارة سن لائحة قانونية لتعرض على مجلس الأمة في اجتماعه القادم.
ولا شك أن الفوائد التي تنجم عن إنشاء الغرف التجارية على أسس حقوقية والواجبات وتنسيقها بحيث تكون ممثلة للتجار ونائبة عنهم تكون عظيمة. وبعد قبول مجلسي الأمة والأعيان اللائحة المذكورة واقترانها بإرادة سنية يجب الشروع بالعمل بها دون تأخير ومن الضروري إعطاء حق وضع النظام الداخلي للغرف نفسها بشرط أن لا يكون مناقضاً للنظام الأساسي ويجب أن تسجله الغرفة في نظارة التجارة.
إن تعريف الغرف التجارية المذكور في النظام الداخلي ليس بتعريف يضمن كرامتها ولذلك(56/33)
من الضروري إدخال قيد يتضمن للغرف المذكورة حق الدفاع عن المصالح التجارية وصيانتها وبذلك فقط تعلو مكانة هذه الأوضاع.
ويجب تأسيس غرف تجارية في كل حاضرة من حواضر الولايات كما هي الحال في فرنسا وأن يكون تأسيسها في مراكز الألوية والأقضية غير محتم وإذا ارتأى التجار أو الحكومة تأسيسها في الألوية أو الأقضية يجب أن يكون ذلك بعد موافقة المحاكم التجارية في مراكز الولايات والألوية والأقضية أو موافقة الغرف التجارية في مراكز الولايات والألوية.
يجب إعطاء الرخصة بتأسيس الغرفة من قبل الولاية وإعلام نظارة التجارة بواقعة الحال. ولا حاجة بحسب النظام الحالي لتصديق انتخاب الأعضاء من قبل الحكومة ويجب أن تبقى الحال كما هي اليوم ولا أرى أيضاً أن يتوقف انتخاب الرئيس على إجازة الولاة والمتصرفين والقيم مقامين بل يشترط على الرئيس الذي ينتخب أن يكون من الوطنيين.
وللأعضاء المراسلين في بلادنا أيضاً شأن كبير ولذلك يجب أن يكون للغرفة أعضاء مراسلون من البلدة التي أسست فيها الغرفة وهي تنتخبهم ويجب أن يحضروا الجلسات ويستضاء بآرائهم في بعض المسائل كما أنه من الضروري أن يكون للغرفة أعضاء مراسلون في الولايات والبلاد الأجنبية. ويجب أيضاً توسيع حق الانتخاب وإعطاؤه لكثير من التجار والصناع الذين يؤدون رسوم التمتع وعملاً بهذا المبدأ يجب العدول عن القاعدة التي تقضي بأن يكون تعين النصف من أعضاء لجنة الانتخاب من قبل الحكومة والنصف الآخر من قبل التجار وأن يكون حق الانتخاب للعضوية مشروطاً بالأحوال الآتية. أن يكون المرشح للانتخاب مقيماً منذ مدة معينة في البلدة التي تقام فيها الغرفة مشتغلاً هذه المدة بصناعة أو تجارة (بكل ما تشتمل هاتين الكلمتين من ضروب الأعمال) ومن الذين يؤدون ضريبة التمتع ومن ذوي الأشراف والاستقامة.
أما مسألة الجنسية العثمانية فقد سبق أن هذا الشرط غير مصرح به في القانون الفرنسوي ولكنه مرعي في الانتخابات وأما عندنا فلم تشترط التابعية العثمانية على الأعضاء فمنهم الأجنبي ومنهم العثماني على السواء. ويجب أن تظل الغرف على هذه الحال إلى حين ولاسيما وأن التجار الأجانب المقيمين في بلادنا منذ مدة طويلة قد درسوا شؤون بلادنا حق(56/34)
الدراسة وإذا أضفنا إلى ذلك مقدرتهم العلمية وسعة إطلاعهم ووفرة بحثهم تبين لنا أنه يستفاد منهم إذا كانوا بين أعضاء غرفنا التجارية إنما يشترط على أولئك الأعضاء الأجانب إقامتهم في بلادنا مدة لا تقل عن عشر سنين مشتغلين خلالها بالتجارة.
جاء في نظام غرف التجارة أن لها الحق في إنشاء مدارس وجرائد تجارية ويجب أن يكون لها الحق أيضاً بتأسيس غير ذلك من الأوضاع التجارية وأن تتعهد (إذا رغبت) القيام بالأمور العمرانية على طريق الامتياز ولكن الواجب أن تكون خاضعة للشروط التي تشترط على غيرها من أصحاب الامتيازات.
ولا يمكن لغرفنا التجارية أن تقوم بالأعمال التي تؤول إلى ترقية تجارتنا ما لم تتوفر في ميزانيتها المداخيل وإلا فإن محافظة الحالة الحاضرة تقضي بأن تظل مداخيلها تكاد لا تساوي النفقات الجارية السنوية مما لا يجوز البقاء عليه أبداً.
فيجب تقسيم الشركات الأنونيم على درجات معينة وإلزامها بتأدية مقادير مقررة سنوية تعين بحسب هذه الدرجات. ويجب أن تقرر درجات التجار بدر ما يدفعون من ضرائب التمتع لا بمجرد رأي الغرف وتقديرها. ومن اللازم اللازب تسجيل التجار أصحاب هذه الدرجات كافة وإلزامهم بتأدية الضرائب السنوية.
* * *
لم يتصل بأحد إلى هذا العهد أن الغرف التجارية قامت منذ تأسيسها بمشروع يرفع مكانة التجارة في هذه البلاد. ولقد غابت هذه الغرف حيناً من الزمن ثم عادت تظهر في مظهر الحياة ثم أفلت بعد الشروق أفولاً لا طلوع بعده أو عاد بعضها بعد طول الغروب ولم تكن أعمالها في الغالب إلا عبارة عن تسويد القرطاس أو إبداء بعض الآراء التي لم يلتفت إليها. ولم تلتفت الغرف التجارية إلى إنشاء مدارس أو صحف تجارية البتة. ولا تلقى تبعة هذا الإهمال على الغرف التجارية بل على الحكومة السابقة. ولقد سبق أن بعض الغرف التجارية طلبت مرات عديدة إصلاح الأصول الرسومية وتسهيل المصالح التجارية دون أن تتجاوز إلى طلب إنشاء أوضاع جديدة ولم تثمر هذه المراجعات قط.
ولما يئس التجار من الاستفادة من الغرف التجارية تخلو عنها ولم يعودوا يؤمون أبوابها وقطعوا عنها رواتبهم السنوية ومما يدلنا على درجة ارتباط التجار بغرفهم هذه مداخيل(56/35)
غرفة القسطنطينية قبل عشر سنين فإنها كانت في ذلك الحين ضعفي مداخيلها اليوم.
هذه الأحوال من جهة وكون انتخاب الأعضاء لغرفة التجارة في العاصمة لم يكن كما وضعه القانون بل كان بيد نظارة النافعة تمنح العضوية من تشاء على نحو ما كانت تجري القاعدة في الإحسان بالرتب والمناصب من جهة أخرى كل هذا وذاك ليس من الأمور التي ترتاح إليها نفوس التجار أو تطمئن بسببها قلوبهم إلى للغرفة التجارية.
التجار أكثر وأسرع من جماع طبقات الأمة معرفة وشعوراً بالانقلاب الكبير الذي يسري إلى شؤوننا العامة. ومع ذلك فإن حياة حرية التجارة قائمة بتوطيد دعائم الأمن ومتى اطمأن جمهور التجار إلى أن مصالحهم الأصلية مصونة يجدر بنا الاعتماد عليهم بحيث لا يغادرون مثقال ذرة من واجباتهم ومن الواجب على الغرف أن تطلب من الحكومة بجد ومضاء تحديد نظام الغرف وتعديله وأن البحث بحثاً مدققاً في ضروريات التجارة ونواقصها في المحال التي تنتسب إليها وتدفع بآرائها وملاحظاتها إلى نظارة التجارة وأن توجه همتها إلى إنشاء المدارس والصحف التجارية والدروس الليلية التي تكفل توسيع دائرة العلم بين أرباب التجارة. كل ذلك حقيق بالمفاداة ولا شك أن الأعمال المعروفة في هذا السبيل تكلل بالنجاح.
ويجب أن تكون غرفة القسطنطينية التجارية نموذجاً لسائر الغرف وأن تدفن العنعنات الماضية فتجعلها نسياً منسياً: يجب أن تتقدم هذه الغرفة بفتية الأفكار وتدخل الإصلاح الحقيقي إلى مجلتها المدرسية وغير منكر أن هذه الصحيفة التجارية الوحيدة في البلاد العثمانية لا تفي بالحاجة بمقالاتها التي لا تتجاوز العمودين وفقراتها المترجمة بل يجب على غرفة القسطنطينية أن تتخذ مجلة غرفة التجارة الفرنسوية مثالاً وتنحو نحوها فتنشئ على منوالها صحيفة تجارية جامعة لأخبار التجارة الداخلية والخارجية الجدية المفيدة والموضوعات الأساسية فإذا لم تقم غرفة القسطنطينية بهذه الأعمال ولم تأت بالآثار الدالة على رقي صحيح لا تنال مكانة أرفع من مكانتها في دورها السابق.
أما التجار المسجلة أسماؤهم في دفتر غرفة القسطنطينية فهم (47) من الصنف الأول و (107) من الثاني و (240) من الثالث و (50) من الرابع وقد يوجد بين تجار الصنفين الثالث والرابع من يجب أن ينتظموا بين تجار الصنفين الأول والثاني وبين التجار الذين لم(56/36)
يسجلوا أسماءهم في الغرفة كثير يجدر بهم الانتظام في إحدى الدرجات الأربع. والأمل وطيد بترقي مداخيل الغرفة ولو بقيت على أصول تصنيف درجات التجار على حالتها الحاضرة.
وتبلغ مداخيل غرفة القسطنطينية وحدها (ما عدا مداخيل جريدتها ونفقاتها) 175. 326 قرشاً صحيحاً تنفق في مقابلة ذلك 43532 قرشاً على رواتب موظفيها و21739 قرشاً على النفقات المتفرقة و216000 على أجور داره ونحوه. فالنفقات الإدارية وحدها تتجاوز دخل الغرفة ولا ينفق على المشاريع النافعة من مداخيلها بارة واحدة وما حالة غرف التجارة في الولايات بأشفى للصدور وأوفى للأماني من غرفة القسطنطينية ولقد رغبت أن أعرف عدد غرف التجارة في الولايات والألوية والأقضية من القيود الرسمية فماذا رأيت؟. .
رأيتني أمام كمية تستحق العجب: في بلادنا مئة وخمسون غرفة تجارية على أن عامة غرف التجارة في فرنسا لا تتجاوز المئة والعشرين.
وبما أنني أعتبر الغالب من هذه الغرفة المقيدة في الدفاتر حبراً على ورق ولا أصدق أن الفهرس الذي أنقل منه متقارناً للصحة.
وللأجانب في بعض المراكز التجارية العثمانية غرف تجارية ففي القسطنطينية غرف تجارية إنكليزية وإفرنسية وطليانية ونمسوية وألمانية ويونانية ولكل واحدة منها نظام داخلي وللغرفتين الإنكليزية والفرنسوية مجلتان بلسان قومهما. اسست غرفة التجارة الإنكليزية في سنة 1887 ولها رئيس وثمان أعضاء وعضوان خارجيان وعضوا شرف وكاتب وأمين صندوق وأربعة كتبة شرف في سلانيك وأزمير ومنشستر ولندن ولهذه الغرفة مراسلون في سلانيك وأزمير ومنشستر ولندن والولايات العثمانية. ولها مجلة يبلغ حجمها ستاً وثلاثين صفحة كبرى جامعة لمقالات في التجارة الإنكليزية العثمانية والأخبار والإحصاء.
وفي أزمير أيضاً غرفة تجارية إنكليزية.
ويشترط في عضوية الغرف التجارية الإنكليزية الاشتغال بالتجارة أو بالصناعة أو الشؤون المالية ويشترط على العضو أن يكون إنكليزياً أو من وكلاء المعامل الإنكليزية في البلاد(56/37)
العثمانية.
ورئيس الشرف لغرفة التجارة الفرنسوية هو قنصل فرنسا لعام ولها لجنة إدارية مؤلفة من تسع أشخاص في جناق قلعة ولجنة أخرى مؤلفة من تسعة عشر شخصاً في بورصة ولها مراسلون في سبعين بلداً داخل البلاد وفي الخارج لها من يخابرها في روسيا وفارس ورومانيا والصرب واليونان.
وتصدر هذه الغرفة شهرياً مجلة في سبعين أو ثمانين صفحة منذ اثنين وعشرين حجة بلا انفصال. وتدعى هذه المجلة مجلة الشرق التجارية. وهيب جامعة للأخبار والمقالات المفيدة للغاية وإني أتمنى أن تعلو مكانة غرفتنا التجارية إلى منزلة غرفتي التجارة الفرنسوية والإنكليزية وأن تتقدم جريدتها تقدم الجرائد اليومية.
ما بين النهرين:
تعريب ز. خ.(56/38)
آلاسكا واللاسكاويون
آلاسكا جزيرة تنيف مساحتها على مساحة فرنسا ثلاثة مرات أصبحت الآن معتركاً حيوياً جديداً لبني البشر إلا أن وعورة المسالك واختلاف الهواء بها ترك أربعة أخماس من أرضها في عداد المجاهل.
وقد كانت هذه البلاد الواقعة في أقصى الغرب الشمالي من أميركا الشمالية والمنفصلة عن قارة آسيا بخليج بهرنغ مستعمرة للدولة الروسية فباعتها من حكومة أميركا.
إن البحث لم يهتد إلى شيءٍ مهم فيما يتعلق بالسكان الأصليين من وجهة علم الأنساب بل ظل أكثره إن لم نقل كله ناقصاً مبهماً. فالشعوب النازلة سواحل البحر قد تمكن بعض المرسلين من درس أحوالها أما المتوغلة في الداخل فاكتفى العلم بأخذ روايات من ارتادوها من الذين ضربوا في عرضها للتنقيب عن معادن الذهب أو لصيد بعض الحيوانات التي ينتفع من جلودها للفراء الثمينة. وكلا الفريقان مما لا يعول على قولهما ولا يرجى أن يفيا البحث العلمي حقه أو بعض حقه.
ويستدل من آخر إحصاء لسكان هاتيك البلاد الذي جرى سنة 1900 للميلاد أن عددهم (29536) نسمة يدخل فيهم الأسكيمو ولكن ذلك مما لا يصح الاعتماد عليه لأسباب جمة أهمها أن أغلب تلك الشعوب من الرحل ولم يتيسر الوصول إلى بعضها لوعورة المسالك كما ذكر. أضف إلى ذلك ما دفعته إليهم المدنية الأوربية من آفاتها كالجدري والسل والزهري وداء السكر بعد اكتشاف مناجم كلوندبك الذهبية فإن هذه الأمراض الفتاكة فعلت وما زالت تفعل في الأهلين ما لا يفعله الأسل حتى أن كثيراً من القرى خوت على عروشها وأصبحت قاعاً صفصفاً قب انتشار داء الجدري انتشاراً مريعاً من وراء الغابة. ولهذا يتراءى لي أن عدد السكان تنازل إلى الخمسة والعشرين ألفاً وهم يقسمون إلى فريقين فالأول يضم إليه شعوب شيلكا وياكوتا وهايداج وأباعوت وأوك الذين يتفقون في الجنس والنسل. والثاني شعب واحد يدعى دنا ويختلف عن الأول باعتبار علم أصل الشعوب وسلائلهم وهو ينزل البلاد الواسعة التي تمتد من خليج الهودسون إلى قلب ألاسكا على أن هذا التقسيم المبني على علم ناقص لا يلتفت إليه ولا يعمل به إلى أن يقوم علماء الإنسان بالتتبع العلمية والبحث الكافي ويتفقوا على ذلك شأنهم في سكان أميركا الأصليين.
والذي يزيد المستطلع إشكالاً في أمرهم مشاكلتهم بعضهم بعضاً حتى أنك لتخالطهم من(56/39)
عنصر واحد لاتفاق أزيائهم وأخلاقهم ومهما كان النقابة دقيق الفكر بعيد النزر لا يتمكن من النقد الصحيح والتمييز المصيب فلنحسبهم الآن قوماً واحداً وندرس أحوالهم الاجتماعية.
يجد القائلون بأن سكان أميركا الصليين من المغوليين الذين هبطوا أميركا عن طريق خليج بهرنغ وصخور الأووسيك من الوثائق ما يقوي حجتهم وبرهانهم. لا جرم أن جولف استرايت الذي وصل إلى سواحل ألاسكا بعد اجتيازه جزر اليابان هو الذي نفخ في الساحلين من شرقي آسيا روح الجرأة والإقدام على ارتياد هذه البلاد حتى أصبح أمر إحدى السفن الشراعية اليابانية التي جرفها التيار الحار سنة 1833 ميلادية ودفعها إلى ساحل ألاسكا مشهوراً لأن البرابرة وفي الأصل اليام يام جعلوا منها مائدة كانت عيداً لأولهم وآخرهم.
أما الآن فقد وضع الحق وظهر ما كان باطناً من أن ألاسكا كانت مأهولة بالسكان في أزمنة ما قبل التاريخ كسائر أخوانها من البلاد الأفريقية ويثبت هذه الحجة ما تراه الآن في عادات الأسكاويين وأخلاقهم وطبائعهم ولغتهم فإن كل هذه لم تكن عليها مسحة تدل على أنها آسيوية.
ونحن نتوخى في عجالتنا هذه البحث عن حالتهم الأصلية قبل أن يمازجها ما اكتسبوه من الاحتكاك بالأوربيين فنقول أن هؤلاء قد اجتازوا دور التكامل البدائي للبشر وتباعدوا ما أمكن عن الهمجية حتى صاروا أقرب إلى البداوة منهم إلى التوحش قبل أن تطأها أقدام المكتشفين الروس.
وترى لهم في البلاد الساحلية الآن البيوت الواسعة القوراء وبعض المصايف والقصور التي أقيمت على منوال الأوربيين وبالإجمال فهم أرقى علماً وأوسع مدارك من شعوب البوروج الذين ما زالوا يلبسون جلود البهائم.
والغريب في أمر هاته البيوت الفطرية أنها على اتساعها وقد يختلف طولها بين المائتي متر وعرضها بين الخمسة عشر والعشرين متراص تكفي لإيواء عائلات كثيرة معاً ومع هذا لا ترى فيها نافذة خلا بعض الثقوب في سقوفها لانبعاث الدخان المتصاعد من المواقد واجتذاب نور الشمس إلى الداخل ولم يكن فيها ما يصلح في الخارج سوى بعض الأبواب كما أن سطوحها لم تكن مائلة من طرفيها كما هو الحال في غير بنايات بل لها ميل قليل(56/40)
يكفي لتسليط مياه المطر على الخارج وتنفع هذه السطوح خطباء القوم فيرتقونها ويتخذونها منبراً عند الحاجة.
وتنبنى هذه اليبيوت من عيدان الحطب التي لم تصقل ويقتطعونها بمقاطع خشبية لأن الحديد الذي فيه البأس الشديد والمنافع الجمة للناس لم يعرفوا به بعد.
ويعتاضون عن الحديد بقرون نوع من الحيوان يسمى عندهم وايثي أو بقواطع من شجر البابل وفي الشتاء حيث يهجم الثلج بخيله ورجله يضيفون إلى البنايات الداخلية طبقة من رفيع القصب وبمثل ذلك أيضاً يفرقون البيت أيضاً عن أخيه فيكون دساً بين العائلات التي تأوي إليه.
أما أثاث هذا البيت البدائي فهو موافق له كل الموافقة فلا تجد فيه من الرياش ما يضيق معه الرحب بل هو في منتهى البساطة وهناك مقاعد خشبية تحت الفراش أو هي أسرة النوم على طول جدار البيت والفراش هو من السل قش الحصر وقد زيد في نشجه عند موضع الرأس حتى أشبه بالوسادة كما أن غطاءهم أو لحافهم من جلود الغزلان المدبوغة أو نوع من الكلاب المجعدة الشعر وقد أوشك نسلها بالانقراض بينهم.
لهؤلاء البائسين الذين يطلق عليهم اسم همج بعض صناعات لو أنصف المطلعون عليها لقالوا بكبر عقولهم ورقة شعورهم وقد ترى بعض الصناديق من صنعهم على حين لا يعرفون المسمار ولا رأوا آلات النجارة. والحدادة غاية في الضبط وآية في الدقة وطول هذه الصناديق متر وعرضها ستون أو سبعون سنتيمتراً وعمقها سبعون أو ثمانون سنتيمتراً.
وصف أحد المراسلين صناعتهم هذه بقوله أنهم يأتون بخشبة من شجر الأرز ويشقونها على أربعة وجوه ثم يصقلونها ما أمكن ويلفونها جيداً فيتكون منها زوايا الصندوق الثلاث ثم يخيطون طرفا الخشبة الداخليين بخيطان قوية من جلود الوعل يدخلونها بالمسلة الإبرة المصنوعة من قرون نوع آخر من الوعل فتحصل معهم الزاوية الرابعة أما أسفله فإنهم يجعلونه من قطعة واحدة من الخشب وله حافة تتصل أطرافها بالزوايا الأربع فيخاط كذلك بدقة غريبة حتى أنك لا تجد فيه عوجاً ولا أمتاً. ويكون غطاء الصندوق من قطعة واحدة أيضاً يمدونها على شقوق الزوايا المتناظرة فيتم الصندوق الذي يعد من بدائع الإبداع. وبعد(56/41)
أن يحفروا على الغطاء شارة العائلة أو الفريق ويدهنونه بلون مناسب يضعون فيه الملابس القيمة والفراء الثمينة التي تلبس في الأعياد والمناسبات.
ويبلغ الشتاء أشده ويقرص البرد في بعض بلادهم فيتقون بأسهما بحفر مستديرة يفتحونها في بطن الأرض على سعة متر أو مترين كبيوت الأسكيمو وهنالك يختبئ العشرون أو الثلاثون منهم مجتمعين فيحصل الدفء بينهم.
وتعلو هذه الحفر أكواخ حقيرة ليس لها من النوافذ إلا واحدة في رأسها هي للجيئة والذهاب والهواء والنور أما سبيلهم إلى هذه الأنفاق فهو عمود من خشب نقروه حتى نتأت منه أرجل أشبه بالسلم.
وقد اتفق الأسكاويون على عادة غريبة جرى عليها أغلب الأقوام الفطريين وبينهم هنود أميركا الوسطى والجنوبية وهي عزل البنات اللواتي يبلغن أشدهن والنساء اللائي في المحيض في أكواخ خاصة بهن حتى يطهرن ولو جردنا صناعة السلال الدقيقة التي يصنعونها من رفيع القصب نجد كل صناعاتهم ساذجة للغاية. نعم إنهم يحيكون بعض الأقمشة المتينة من خيوط خاصة يستخرجونها من ألياف شجر الأرز ويخلطونها بأصواف وعول صيغين وكندا وأصواف الكلاب التي مر ذكرها فيتكون عندهم منها نسيج متين يفي بحاجتهم إلا أن ذلك مما لا يعد صناعة نافعة.
وهذه الكلاب هي من الحيوانات الداجنة التي يمكن أن يقال عنها أنها وحيدة هذا القوم فهم ينتفعون من جلودها وأصوافها وتفيدهم في صيدهم وجر عجلاتهم على الجليد ولكنها ويا للأسف قد أوشكت تنقرض كما ذكرنا وقل نسلها قلة يخشى من ورائها.
وللسلال التي أشرنا إليها شهرة واسع عند أهل الإخصاء في جميع شتات الآثار ورائع الصنائع وهي أهل لأن تكون كذلك لأن عملها جميل متقن وعلى الرغم من أنها لم تطل بطبقة صمغية فقد تجدهم يستخدمونها في امتياح المياه من الآبار ونقلها ولا يرشح الماء من هذا السجل الدلو أو السلة أبداً.
والأغرب من هذا أن النبات الذي يستعمل في صنع هذه السلال يختلف باختلاف الشعوب إلا أن أرقها وأدقها ما كان من ألياف شجر الأرز ويوجد من هذه السلال ما أربى عمره على خمسين عاماً تتداولها الأيدي صباح مساء أما صانعوها فإنهم من النساء على الأعم.(56/42)
وللنساء ولع خاص بالزينة والتبرج فيذهبن مذهب الماديين حتى أن المقارنة النسلية بينهن على هذه الوتيرة.
وتلقى ذلك ظاهراًَ كل الظهور في بعض الشعوب فترى الأب لا يهمين على ابنه أوسبطه إلا حين تزوجه من امرأة بينا يكون للشاب الخيار بقبول الابنة التي انتخبها له والده أو رفضها.
أما ما يتعلق بوجود القرابة بين المرأة وزوجها فلم يكن لها من قاعدة مألوفة أو خطة مرسومة بل ترك ذلك لاجتهاد كل فريق منهم. فقد ترى لدجى بعضهم جوازاً بزواج أبناء العم بينا تلقى زواج فتى وفتاة خاضعين لزعيم واحد من المحظورات عند آخرين فالأولين لم تمنعهم لحمة النسب من الزواج والآخرين منعتهم صلة التبعية فقط.
وتجد الزواج عند بعضهم كأنه اتفاق وقتي أو هو أقرب إلى الاستمتاع منه إلى الزواج والأنكى من كل ذلك أن شرعتهم قد تركت جبل الرجال على غواربهم وأحلت لهم افتراس أية امرأة في حيهم. نعم إنهم اشترطوا في ذلك أن يتبارز الشاب الطالب مع زوج المرأة المطلوبة برزاً لا يتخلله سفك دم لأن لا سلاح لديهم فإذا ما غلب الأول الثاني على أمره وطرحه أرضاً جاز له التصريف الملق في امرأته. ولكن ماذا يفيد هذا الشرط وهل يغني عن الحق شيئاً ما دامت الغلبة للقوة؟ وإذا كانو الزوج الأول ممن يعتقدون قوة خصمه ويستنكف عن مبارزته فيحق حينئذ لذلك الخصم أن يذهب إلى بيت الأول ويدعو امرأته إلى اللحاق به وهنالك لا يسع صاحبتنا إلا الجري وراء زوجها الجديد البطل والدخول في داره وحرمه ويظل الأول منزوياً في إحدى زوايا بيته ينظر إلى هذه العادة الغريبة شرراً وقد اعتراه اليأس وأشبه الهرة التي كسرت إناء الحليب.
ويقيم الزوجان على أن يملك كل منهما ماله من أثاث البيت ورياشه إن كان هناك ما يقال له أثاث ورياش ولا يجوز لهما أن يشتركا في كل شيءٍ من أنواع القنيات ومتى توفى الزوج الرجل يسترد ذوو قرباه ما كان له في الدار من مال ومتاع أما إذا سبقت المرأة زوجها إلى الموت فلا يكتفي أهلها بأخذ ما لها في البيت فقط بل هم يضطرون الزوج إلى إعطاء هدية ذات قيمة لتكون عزاءً وسلواناً لهم على فقد ابنتهم.
ومتى فاجأ الحامل المخاض يدخلها بعض النسوة العجائز الحاضرات غرفة خاصة وبعد(56/43)
ولادتها يغسلن الطفل بالماء الفاتر ويرششن على جسمه مسحوق شجر الأرز ثم يضعونه في سلة على شكل سرر الأطفال ويعلقونها في دعامة البيت الخشبية أو غصن من أغصان الشجر وهذه السلال أو السرر مصنوعة بحيث يتسنى للأم أن تحملها على ظهرها أثناء مشيها.
ويخرج الطفل من سريره مرتين في اليوم على الأكثر لأخذ إفرازاته وتبقى هذه السلة عشاً له إلى أن يدرك حد الفطام والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ومتى أتممنها يدرج الطفل من عشه أو سجنه وتذهب الأم في ذلك السرير إلى جهة نائية من الحرج فتعلقه في إحدى الأغصان تقدمه إلى الملك الموكل بحفظ ذلك الوليد طول حياته.
وهنالك بدعة سيئة يجري عليها بعض الشعوب في أطفالهم. فهم يلفعون رؤوسهم عقب اليوم الثالث من ولادتهم بعمامة من قشور الشجر وهذه العادة القبيحة التي تغير من شكل عظم الرأس وتهصره وتشوه الخلقة هي في عرفهم علامة خاصة بالنبلاء. ثم يتلو ذلك التلفيع يوم خاص يجتمع فيه لفيف الأسرة أو يقيمون حفلة حافلة بتسمية اسم الوليد وبعدها تبدأ دروس التربية الجسمانية وبعد انقضاء السنة الرابعة عن ولادة الصبيان يجهزون عليهم بالضرب بعضي رفيعة صباح كل يوم صيفاً كان أو شتاءً ربيعاً كان أو خريفاً ليزيدوا حسن جلودهم على زعمهم وفوق ذلك فهم يرغمونهم على الاغتسال بالماء البارد في الأنهار الجارية.
ومتى بلغوا العاشرة من حياتهم يدفعونهم من أكواخهم إلى الخارج حفاة عراة ليقضوا ليليهم نياماً يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء أو أنهم يمضونه وأيديهم قيد ماء الجليد على ضفاف البحيرات ولا يجوز لهم رفعها إلا بعد أن تشرق الشمس عليهم فتحل عقال هؤلاء المحكوم عليهم بظلم العقول السخيفة.
وعندما يأزف زمان تكاثر الأسماك في الماء وتطفو عليها طبقات من السمك المنتن يبعثون بأولادهم تحت جنح الليل ليستنشقوا تلك الروائح الكريهة ويعتادوها ويمارسوا الفروسية تحت رعاية ملك الحفظ.
أما من حيث المعتقد فهم بعيدون جداً عن الاعتراف بإله قادر قائلون بتعدد الأرواح التي ملأت السهل والجبل وعلى رأيهم أن لكل منهم عملاً خاصاً به حتى أن العجماوات والشجر(56/44)
وآلات الصيد وكل ما يقع عليه نظرهم في هذا الكائن الهائل من جماد ونبات وحيوان له ملك موكل به ولذلك تراهم أبداً مشتغلين بالمراسم والعبادات ليرضوا هذه الآلهة الكثيرة وينعموا بالاً في هذه الحياة الدنيا.
مثال ذلك أن أفراد الشعوب التي تقتات من الصيد لا يتيسر لها أكل لحم الوعل الذي يصيدونه بهناء بل أنهم يحتفظون بالدماء والأمعاء لئلا تقع تحت يد وحش ضار فيأكلها وذلك لاعتقادهم أن الملك الموكل بذلك يطلع بقية الوعول على جلية الأمر ويريهم النقص الذي حصل من الصائدين في سبيل احترام رفيقهم فلا يعودون يجودون بأنفسهم ليصطادوا بل يلجئون إلى الجبال التي تناطح السحاب ويشكل على الملقين في العناية بهم أمر الصيد.
ثم أنهم عندما يأتون بصيد الوعل إلى بيوتهم لا يجوزون به الأبواب التي وطئتها أقدام النساء وفي عرفهم أن ظباء النساء وظباء الوعل أعداء متشاكسون.
وعندما يزمع أحدهم صيد الدب الأبيض يطلب إلى روح ذلك الحيوان أن تتمثل أمامه كحيوان مستسلم ولا تمسه بسوءٍ فإن ساعده ووفق إلى صيده يدهن وجهه على وجه الإنسان بألوان مختلفة علامة شكره على نجاحه ويبدأ بتلاوة قصيدة رثاءٍ يمدح فيها خلال الفقيد العزيز وسجاياه الغرّ (!).
ومن غريب عاداتهم في مباشرة طعام لحم الدب أنهم يبدؤون برأسه على أن يكون وجوه حاضري الوليمة مصبوغاً بالألوان وأن يعلق على رأس الدب في أعلى غصن من شجرة باسقة بحيث يراه أبناء جلدته عزيز الجانب رفيع الجناب في الحياة وبعد الممات. يقولون وبعد هذا لا يأنف الحيوان مقابلة الصيادين والتعرض لأسنة حرابهم وأخشابهم. ولا يقتصر هذا الاحترام على نوع الدب فقط بل يكاد يكون عاماً في جميع الحيوانات. وعندما يتجاذب الأهلون حديث الصيد ويخصون بالذكر الحيوان الذي يبغون قتله أو صيده بالفخاخ يمازج حديثهم أخشنة والأدب فيخفتون من أصواتهم لئلا يقرع مسامع الأرواح الموكلة بتلك الحيوانات كما أنه يكون منسجماً متناسقاً كقولهم: رفاقنا. لعل أولياء نعمتنا يتكرمون علينا برؤية أحدهم فيكون نصيباً منهم وعلاً أو غزالاً أو دباً إلى غير ذلك.
ولو اكتفوا بهذه التعاليم والتقاليد فقط لكان لهم فيه بعض العذر ولكنهم شملوا به الفاكهة أيضاً فحالما يبادرون بجنسي الثمار يكون لديهم راهب أو ساحر يتلو عليهم جهاراً دعاءً(56/45)
يليق بالمقام ويرضى به الملائكة الموكلة لتتم البركة ويحصل الخير. وبينا الراهب يتلو الأدعية والإذكار يقف زعماء الشعب وفي أيديهم العصي يراقبون أعمال الشبان حتى إذا ما رأوا أحداً فتح عينيه قبل ختام الدعاء أوسعوه ضرباً ولكماً.
على أن كل ما ذكر لا يعادل الحفلات التي يقيمونها عند حلول موسم صيد نوع من السمك فعندما تقع سمكة في يد الصياد في أول الموسم يرفعها على ساعدين لأنه محظور عليه أن تمسها يده فيأتي بكل وقار إلى رئيس الرهبان الذي يتقبلها منه بقبول حسن ويرفعها إلى مكان خص بها وهيئ لها من غصون الصنوبر.
ثم يقترح على شيخ جليل من الحضور تكون له الوجاهة والرجاحة في قومه أن يصف حول السمكة العصي التي تشير كل منها إلى أسرة من البيوت الكريمة بحسب درجاتها ثم يتناول الرئيس الراهب العصي واحدة بعد واحدة ويمس بها مسيح السمكة الأمامي الذي يعتدونه بيدها اليمنى ويخاطبها بقوله: لي الشرف أن أقدم لكريم مقامك الأسرة الفلانية التي حضرت إلى رحابك الواسع وأطلب إليك أن تسمحي لها بأن تكون موطئ قدمك إلى غير ذلك من ضروب الإطراء وصنوف المديح. وبعد إتمام هذه المراسم يضع السمكة في قدر جديد ويسلقونها على النار بين النشيد والترتيل ثم توزع بين زعماء القوم وتليها الأسماك التي تشرفت بالعيد بعدها وتطبخ هذه أيضاً ثم تعطى إلى من لم يكن حرم عليه أكل السمك شرعاً.
لرؤساء الدين عند هذه الطوائف شأن كبير لأنهم يعتقدون فيهم أنهم وسطاء بينهم وبين الملائكة أو الرواح الموكلة وتنتقل الرهبنة من الآباء إلى الأبناء وتتعاطى هؤلاء الرهبان بعض مواد تخدر الجسم في حين يعنون كل العناية بالاعتكاف والانقطاع عن الناس فيكون فيهم من وراء ذلك شيءٌ من الجمود والسكينة.
ومما يدعو إلى الانتباه الأنصاب القائمة في مداخل البلدان وقبالة البيوت وقد زعم المكتشفون من الروس أنها تماثيل تعبد والحقيقة أن هذه شارات خاصة لكل أسرة منها شارة فمنها ما يكون كالطير ومنها ما يكون كالسمك وأشباههما من الحيوان على أن هذه تخدم في تفريق البيوت بعضها عن بعض لأنها كلها مبنية على نسق واحد لا يمكن التمييز بينها إلا بمييزات خاصة وهذه التماثيل تفي بالغرض المطلوب. ولهم نوع من السحرة(56/46)
يطبون المرضى ولكتن بإخراج الأرواح الشريرة منهم لا بالعلاج النافع الذي لا يعرفونه. ثم هم يدعون أن كل أسرة منهم من نسل أحد الأرواح الموكلة ويعتقدون أن لهم صلة بالسماء كالصينيين أبناءِ ماءِ السماءِ ولله في خلقه شؤون.
حيفا.
عبد الله مخلص.(56/47)
قانون الجمعيات
الفصل الأول
المادة الأولى_الجمعية هي الهيئة المؤلفة من أشخاص عديدين غايتهم توحيد معارفهم أو مساعيهم دون أن يقصدوا اقتسام الربح.
المادة الثانية_لا تضطر الجمعية إلى نيل الرخصة قبل تأليفها إلا أنها يقضى عليها عقيب تأسيسها إخبار الحكومة طبقاً للمادة السادسة.
المادة الثالثة_لا يجوز تأليف الجمعية المستندة على أساس غير مشروع مغاير لأحكام القوانين والآداب العامة أو مخل بالأمن في المملكة وتمام ملكية الدولة وتغيير شكل الحكومة الحاضرة والتفريق سياسة بين العناصر العثمانية المختلفة.
المادة الرابعة_محظور تأليف جمعيات سياسية أساسها وعنوانها القومية والجنسية.
المادة الخامسة_يشترط في أعضاء الجمعيات أن لا تكون سنهم أقل من عشرين غير محكوم عليهم بجناية أو محرومين من الحقوق المدنية.
المادة السادسة_ممنوع كل المنع تأليف الجمعيات السرية. فإذا أنشئت جمعية تقدم بياناً في الأستانة لنظارة الداخلية وفي الولايات لأكبر موظف ملكي يوقع عليه مؤسسو الجمعية ويختمونه فيبينون فيه عنوان الجمعية ومقصها ومركز إدارتها وأسماء المكلفين بإدارتها وصفتهم وملح إقامتهم. ويعطى علم خبر مقابل هذا البيان. ويربط بالبيان المذكور نسختان على نظام الجمعية الأساسية المصدق عليهما بطابع (ختم) الجمعية الرسمي.
وبعد أخذ العلم والخبر يعلن المؤسسين الكيفية على أن الجمعيات مضطرة أن تخبر الحكومة حالاً بالتعديلات والتبديلات التي تجريها سواء في نظامها الأساسي أو في هيئة الإدارة ومحال الإقامة وهذه التعديلات والتبدلات يعمل بها في يوم إخبار الحكومة وتقيد في سجل خاص يبرز في كل وقت تطلبه العدلية والملكية.
المادة السابعة_لمركز كل جمعية مجلس إدارة يؤلف من شخصين على الأقل وإذا كان للجمعية فروع يجب أن يكون لكل واحد منها مجلس إدارة مربوط بالمركز ويشترط على المجالس أن يكون لها أولاً سجل تبين فيه هوية الأعضاء وتاريخ دخولهم ثانياً سجل للمقررات والمفاوضات والتبليغات ثالثاً سجل فيه مقدار دخل الجمعية ونفقاتها بأنواعها(56/48)
ومفرداتها وتبرز هذه السجلات الملكية والعدلية في أي وقت تطلبها.
المادة الثامنة_كل جمعية تعطي بياناً بموجب المادة السادسة تكون بالواسطة مدعية ومدعى عليها في المحاكم كما هو مبين في المادة التاسعة ولها الحق بأن تنصرف وتدير ما عدا الإعانات التي تكلف بها الدولة أولاً الحصص النقدية التي يعطيها أعضاؤها على أن تتجاوز سنوياً الأربع والعشرين ليرة ثانياً المحل المخصص لاجتماع أعضاء الجمعية وإدارتها ثالثاً الأموال غير المنقولة اللازمة للوصول إلى المقصد الذي اتخذته وفقاً لنظامها الخاص. ومحظور على الجمعيات أن تتصرف بغير ذلك من العقارات.
المادة التاسعة_تكون المراجعات والمطالبات باسم الجمعيات لمأموري الحكومة والمحاكم والمجالس الرسمية بعرائض عليها طوابع يوقع عليها الكتاب العموميون والمديرون بتوقيعهم وطابعهم الذاتي ولا تجري غير ذلك من الوسائط. وإن أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بالمعاملات باسم الجمعية تبين هويتهم في نظام الجمعية الأساسي.
المادة العاشرة_يمكن لأعضاء الجمعيات أن ينفصلوا عنها في أي وقت يريدون ولو اشترط في نظاماتها الأساسية عكس ذلك بعد أن يؤدوا ما عليهم من الحصص النقدية التي حان استيفاؤها وتختص بالسنة الحالية.
المادة الحادية عشرة_محظور إدخال الأسلحة النارية والجارحة إلى المكان الذي تجتمع فيه الجمعية كما أنه يحظر حفظها فيه إلا أنه يمكن أن يوجد أسلحة بقدر اللزوم في الأندية المختصة بتعليم الصيد والقنص ولعب السيف على أن تكون للضابطة علم بذلك.
المادة الثانية عشرة_تمنع الحكومة كل جمعية لم تعط بياناً للحكومة ولم تخبر ولم تعلن عن نفسها حسب المادة الثانية والسادسة ويعاقب بالغرامة النقدية من خمس ليرات إلى خمس وعشرين ليرة مؤسسوها ومجلس إدارتها وصاحب محل اجتماعها أو مستأجره على أن يحكم بجزاء آخر إذا كانت أمثال هذه الجمعية مؤلفة لمقصد مضر من المقاصد المسطورة في المادة الثالثة والمبينة في قانون الجزاء كما يقضي به القانون المذكور.
المادة الثالثة عشرة_يؤخذ جزاء نقدي من ليرتين إلى عشر ليرات من الذين يأتون أعمالاً تخالف باقي أحكام المادة السادسة ما عدا الأخبار والإعلان وأحكام المادة الرابعة والخامسة والسابعة والتاسعة. ويغرم أعضاء الجمعيات التي تمنع بموجب المادة الثانية عشرة وتبقى(56/49)
مخالفة لهذا القانون أو تؤسس من جديد بالجزاء النقدي من عشر ليرات إلى خمسين ليرة وبالسجن من شهرين إلى سنة ويجازى وبعين الجزاء من يعطون محالهم لاجتماع أعضاء جمعية منعت.
المادة الرابعة عشرة_إذا كان نظام الجمعية التي تحل برضا أعضاءها واختيارهم أو بموجب نظامها الداخلي أو تمنعها الحكومة صريحاً يعمل بموجب الأموال العائدة إليها وإلا تعامل على حسب ما تقرره هيئة الجمعية العمومية.
أما إذا كانت الجمعية قد منعت لتألفها لأحد الأسباب المضرة المبينة في المادة الثالثة فإن الحكومة تأخذ أموالها وتضبطها.
المادة الخامسة عشرة_الندية هي من قبيل الجمعيات المدرجة في هذا الفصل.
المادة السادسة عشرة_الجمعيات الموجودة اليوم مضطرة أن تقدم بياناً وتعلن كما تقضي بذلك المادة الثانية والسادسة وأن توفق معاملتها على باقي مواد هذا القانون خلال شهرين اعتباراً من إعلان هذا القانون.
الفصل الثاني.
المادة السابعة عشرة_إن اعتبار الجمعية خادمة للمبادئ العامة متوقف على تصديق الحكومة بقرار من شورى الدولة.
وهذه الجمعيات يمكن القيام المعاملات الحقوقية كافة التي لا تمنع منها نظاماتها الأساسية ولا بد للأسهم والسندات التي تعود إلى حاملها أن تقيد وتحول باسم الجمعية ولا يمكن للجمعية أن تقبل هبة أو وصية إلا بإذن خاص من الحكومة وتباع أموال الهبة أو الوصية الغير منقولة إذا لم تنفع الجمعية في مقصدها ويصرح في قرار البيع بالمدة التي يجب أن تباع في خلالها ويسلم بدل العقار المباع إلى صندوق الجمعية.
المادة الثامنة عشرة_للضابطة حق تفتيش الجمعيات والأندية فتفتح هذه أبواب محال اجتماعها لمأموري الضابطة في كل وقت. يجب أن يكون مع موظفي الضابطة كي يثبتوا أنهم دخلوا محال الاجتماع مستندين على لزوم حقيقي أمر أو إذن رسمي يضطرون إلى إبرازه ويكون صادراً إليهم من ناظر الضابطة في الأستانة ومن أكبر مأمور ملكي أو وكيله في الولايات.(56/50)
المادة التاسعة عشرة_على ناظري الداخلية والعدلية تنفيذ هذا القانون.
في 29 رجب سنة 1327وفي 31 آب سنة 1325.(56/51)
سير العلم والاجتماع
سعة التأليف ومؤلفو الشيعة
كتبت رصيفتنا العرفان تتمة لما كتبناه في الجزء الأول من المقتبس الخامس في سعة التأليف في الإسلام ذوكرت المكثرين من التأليف عند الشيعة فقالت: لم نجد بين رجال القرن الأول من له ثلاثون مصنفاً لعدم انتشار التأليف آنئذ وغلبة الأمة ويكفي بأن تثبت للشيعة مؤلفين على حين أنه لم يكن لغيرهم تأليف في ذلك القرن فقد ألف أمير المؤمنين علي عليه السلام صحيفة في الديات وألف سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري في الأخبار والسير وألف أبو الأسود الدؤلي في النحو الأدب وألف كثيرون غيرهم ممن يطول الشرح في تعدادهم.
ومن المؤلفين المكثرين من رجال الشيعة في القرن الثاني لوط بن يحيى أو محنف المؤرخ المشهور الذي يروي عنه الطبري وغيره من المؤرخين قال النجاشي له كتب كثيرة وعد منها نحو ثلاثين كتاباً كلها في التاريخ والسير.
وهشام بن الحكم عدد له النجاشي نحو ثلاثين كتاباً أكثر في الكلام والفلسفة الإلهية.
ومن رجال الشيعة في القرن الثالث إبراهيم بن محمد الثقفي قال النجاشي له كتب كثيرة والتي اتصل بنا منها ثم عددها نحو أربعين كتاباً.
والحسن بن موسى أبو محمد النوبختي قال النجاشي له على الأوائل؟ كتب كثيرة منها كتاب الآراء والديانات وحجج طبيعية مستخرجة من كتب أرسطاطاليس في الرد على من زعم أن الفلك حي ناطق وكتاب في المرايا وجهة الرؤية فيها وعدد له نحو أربعين كتاباً.
وسعد بن عبد الله أبو القاسم القمي عدد له ما ينيف عن ثلاثين كتاباً.
وعبد العزيز بن يحيى الجلودي ذكر النجاشي كتبه في أربع صفحات وقد بلغت مائة وأربعة وثمانين كتاباً في جملة فنون وأغلبها تاريخ وأخبار وفقه.
وعلي بن محمد العدوي الشمشاطي كقال النجاشي له كتب كثيرة عدد منها ما يقرب من أربعين كتاباً ومما يلفت النظر منها كتب الأنوار والثمار قال النجاشي قال سلامة بن دكا أن هذا الكتاب ألفان وخمسمائة ورقة يشتمل على ذكر ما قيل في الأنوار والثمار من الشعر وكتاب النزه والابتهاج قالَ قال لي سلامة بن دكا أنه نحو ألفاتن وخمسمائة ورقة يذكر فيه(56/52)
آداباً وأخباراً ومن جملة كتبه مختصر تاريخ الطبري وأغلب كتبه ضخمة.
والفضل بن شاذان أبو محمد الأزدي النيسابوري قال النجاشي: ذكر الكحي أنه صنف مائة وثمانين كتاباً وقع إلينا منها وعدد نحو خمسين كتاباً.
ومحمد بن ارومه أبو جعفر القمي قال النجاشي: ذكر القميون وغمزوا عليه ورموه بالغلو حتى دس عليه من يفتك به فوجدوه يصلي من أول الليل إلى آخره فتوقفوا عنه وقد عدد له نحو ثلاثين كتاباً ومن العجيب أن بينها كتاباً في الرد على الغلاة وكل كتبه دينية.
ومحمد بن جعفر بن أحمد بن بطه المؤدب أبو جعفر القمي قال النجاشي: كبير المنزلة بقم كثير الأدب والفضل والعلم يتساهل في الحديث ويعلق الأسانيد بالإجازات وفي فهرست ما رواه غلط كثير وقد عدد له أكثر من خمسين كتاباً أكثر كتبه مسماة بأسماء الأعداد فله كتاب الواحد والاثنين إلى التسعة والأربعين.
ومحمد بن أحمد أبو الفضل الجعفي الكوفي المعروف بالصابوني عدد له النجاشي نحو سبعين كتاباً وقد كان زيدياً فصار اثني عشرياً.
وهشام بن محمد السايب قال النجاشي: كان له كتب كثيرة وعدد له منها خمسين كتاباً في الأنساب والتاريخ والسير.
ويونس بن عبد الرحمن قال النجاشي: وكانت له تصانيف كثيرة وعدد منها أكثر من ثلاثين كتاباً.
ومن رجال الشيعة المشهورين في سعة التأليف في القرن الرابع أحمد بن محمد بن دول القمي قال النجاشي: له مائة كتاب وعدد منها جانباً.
وعلي بن أحمد أبو القاسم قال النجاشي: كان يقول بأنه من آل أبي طالب وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه وصنف كتباً كثيرة أكثرها على الفساد وقد عدد له نحو خمسين كتاباً أغلبه ردود وبها رد على أرسطاطاليس وكتاب في تفسير القرآن وكتاب في النفس.
ومحمد بن يعقوب الكليني عدد له النجاشي أربعين كتاباً وقال: صنف الكتاب الكبير المعروف بالكليني يشمى الكافي في عشرين سنة ومات سنة 329 سنة تناثر النجوم.
ومحمد بن أحمد بن الجنيد المكاتب أبو علي الإسكافي عدد له النجاشي ما يقرب على مائة وثمانين كتاباً كلها دينية فقه وسير وكلام.(56/53)
ومحمد بن بابويه القمي المشتهر بالشيخ الصدوق عدد له النجاشي نحو مائة كتاب.
وموسى بن الحسن أبو الحسن الأشعري القمي قال النجاشي: صنف ثلاثين كتاباً عدد منها اثني عشر كتاباً.
ومن المؤلفين في هذا القرن إسماعيل الصاحب بن عباد وأبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني وهما وإن لم تبلغ تآليف كل منهما الثلاثين فإنها تناهز العشرين فضلاً عن تعدد مجلداتها وغزير فائدتها.
ومن المكثرين من التأليف في القرن الخامس علي بن الحسين أبو القاسم السيد المرتضى الشهير فقد عدد له النجاشي أربعين كتاباً ويقال بأن له ثمانين كتاباً وهو صاحب أمالي المرتضى الذي طبع في مصر.
ومحمد بن محمد بن النعمان المشهور بالشيخ المفيد عدد له النجاشي نحو مائة وستين كتاباً.
أما في القرن السادس فيوجد من الشيعة عدة مؤلفين بيد أنهم غير مكثرين.
ومن المكثرين من التأليف في القرن السابع السيد أحمد بن طاووس قال في الروضات وصنف اثنين وثمانين كتاباً في فنون من العلم وعد منها طرفاً صالحاً.
والحسن بن المطهر الحلي المشهور بالعلامة عدد له صاحب الروضات سبعين مصنفاً ورأيت على الحواشي بعض مصنفاته بأن له ثلاثمائة مصنف.
والسيد علي بن طاووس عدد له صاحب الروضات نقلاً عن كتب كثيرة أكثر من ثلاثين مصنفاً كل كتاب منها عدة مجلدات.
ومحمد الخواجة نصير الدين الطوسي الحكيم المعروف عدد له صاحب الروضات نحو ثلاثين كتاباً في فنون مختلفة.
ومن المكثرين من التأليف في القرن الثامن محمد بن معية النسابة وهو وإن لم يتجاوز ما عدد له صاحب الروضات خمسة عشر كتاباً فهي تبلغ الستين مجلداً منها كتاب أخبار الأمم فإنه قال صاحب الروضات خرج منه أحد وعشرون مجلداً وكان يقدر إتمامه في مائة مجلد كل مجلد أربعمائة ورقة.
ومحمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول فهو وإن لم يذكر صاحب أمل الآمل إلا نحو خمسة عشر كتاباً فمن المشهور أن له تآليف جمة في فنون مختلفة جزيلة الفائدة.(56/54)
ومحمد بن مكرم الأنصاري الإفريقي صاحب كتاب لسان العرب المعجم المعروف له كتب كثيرة ويقال أن مختصراته خمسمائة مجلد.
أما في القرن التاسع فلم نعثر على مؤلفين مكثرين بين رجال الشيعة وإن كان يوجد بينهم عدة مؤلفين مقلين.
وممن اشتهر في القرن العاشر بكثرة التأليف زيد الدين الشهيد الثاني العاملي ثم الجبعي عدد له تلميذه العودي من المؤلفات المتنوعة ما ينيف عن ستين مؤلفاً.
وممن
اكثر في التأليف في القرن الحادي عشر سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي عدد له صاحب الروضات نحو أربعين مصنفاً وبها الكتب التي وقعت في عشر مجلدات.
وصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المشتهر بالملا صدرا عدد له صاحب الروضات نحو ثلاثين كتاباً أكثرها في الحكمة الإلهية.
ومحمد بن الحسن بن علي بن محمد المعروف بالشيخ الحر العاملي صاحب كتاب الوسائل في الحديث وأمل الآمل فغي علماء جبل عامل في التراجم وقد ترجم نفسه به وعدد مصنفاته كما نقله صاحب الروضات فإذا هي تنيف عن أربعين كتاباص ورسالة.
ومن المؤلفين المكثرين في القرن الثاني عشر إسماعيل المازندراني قال صاحب الروضات بعد أن عدد له أربعة عشر كتاباً ورسالة إلى غير ذلك من السائل والمؤلفات الكثيرة التي تبلغ نحو مائة وخمسين مؤلفاً متيناً في فنون شتى من العلوم والحكم والمعارف.
ومحمد باقر المشهور بالمجلسي عدد له صاحب الروضات نحو خمسين مؤلفاً عربياً وخمسين مؤلفاً فارسياً وبعد الفراغ من تعدادها قال: وعدد أبيات جميع ما ذكر من العربي والفارسي ألف ألف بيت واثنين وأربعمائة لف بيت وسبعمائة وإذا وزعت على أيام عمره التي هي ثلث وسبعون سنة من غير زيادة ولانقصان يكون قسمة كل سنة تسعة عشر ألف بيت ومائتين وخمسة عشر بيتاً وخمسة عشر حرفاً وهكذا بالترتيب اهـ.
والسيد خلف عدد له صاحب الروضات نقلاً عن أمل الآمل وغيره من كتب التراجم نحو ثلاثين مؤلفاً.
وسليمان البحراني عدد له صاحب الروضات أمثر من خمسين مؤلفاً أكثرها رسائل.(56/55)
وعبد الله بن جمعة السماهيجي البحراني عدد له صاحب الروضات نقلاً عن بعض إجازاته أكثر من ثلاثين كتاباً ورسالة.
والسيد هاشم البحراني عدد له صاحب الروضات أكثر من ثلاثين كتاباً وفيها المجلدات الضخمة.
ومن المكثرين في التأليف في القرن الثالث عشر من الشيعة الشيخ أحمد الإحسائي فقد قال صاحب الروضات بعد ما عدد له ثلاثين مؤلفاً إلى تمام مائة رسالة وكتاب.
ومحمد الباقر البهبهاني قال صاحب الروضات نقلاً عن صاحب المنتهى له ستون مؤلفاً ثم عدد أكثرها.
وملا جعفر الاستربادي عدد له صاحب الروضات نحو أربعين مؤلفاً في علوم مختلفة أكثرها مجلدات ضخمة.
وأبو القاسم الميرزا القمي صاحب كتاب القوانين في الأصول عدد له صاحب الروضات عد كتب كلها مجلدات ضخمة وقال وجد بخطه ما يؤدي بأنه كتب ألف رسالة في مسائل مخصوصة من العلوم.
ومحمد بن عبد النبي المعروف بميرزا محمد الأخباري نقل صاحب الروضات بأنه كتب كتاباً في الرجال ترجم به نفسه وعدد مؤلفاته وهي ثمانون مؤلفاً في فنون عقلية ونقلية وشهودية وجلها أو كلها مجلدات كبيرة ومنها ما وقع في عدة مجلدات اهـ.
مدرسة الاستقلال
ذكرت مجلة العلم الاجتماعي أن مدرسة دي روش في فرنسا احتفلت بمرور عشر سنين على تأسيسها فذكر رئيسها في هذه المناسبة ما قامت به المدرسة منذ إنشائها في تربية العقول ونزع حب الاتكال من النفوس وتحبيب الاستقلال إليها قال أن هذه المدرسة أنشأها أديمون ديمولانس (صاحب كتاب سر تقدم الإنكليز والسكسونيين) وغرضها أن تقصد إلى القضاء على الأساليب والعادات المتبعة في المدارس الداخلية الفرنسوية فهي تعاكس الظلم الناشئ من التدريب المبالغ فيه وتقاوم إنهاك القوى في عامة أشكاله وطريقة اتباع الخطط في الدروس ورخاوة التربية الطبيعية وقلة كفاية التربية الصحية وفقدان التربية العملية ونزع الأساليب المتبعة في تربية الأخلاق وتلقين الأديان.(56/56)
وقد ذكرت المجلة أن غاية ما توخته هذه المدرسة أن توفق بين النمو العقلي في الطفل وعنيت أن تبين للأولاد لماذا يعلمون الشيء الفلاني وإن تشوقهم إلى تعلمه لحل المسألة الفلانية بحيث يهتمون بنتائجها وكان ممن تخرجوا في تلك المدرسة منذ سنة 1905 أن تقدموا للمسابقة فأحرز قصب السبق منهم 56 من 67 وأبانوا عن كفاءة مدهشة في المواد التي لا تسألهم عنها المدارس مثل الرياضات البدنية واللغات الحية والموسيقى والمعلومات العلمية وتربية الأخلاق. وأحسن ثمرات التعليم الاستقلالي أنه لم يعمد إلى البطالة فرد من المتخرجين على أسلوبه بل أنم 26 منهم دخلوا في التجارة والصرافة وكثيرون قصدوا البلاد الخارجية وثلاثة دخلوا المدارس التجارية و11 في الصناعة وقلما يرغب تلامذة هذه المدرسة في التوظف والأعمال الحرة بل يختارون الصناعات العلمية الحرة فلم يدخل منهم حتى الآن سوى واحد في معمعان السياسة وواحد آثر التوظيف.
مؤتمر العناصر
ومن أول مظاهر الإخاء بين البشر المؤتمر الذي سيعقد في لندرا في شهر تموز 1911 فهو أول مؤتمر عام للعناصر يساعد على تبادل الاحترام بين عناصر الشرق والغرب وستتلى فيه مفكرات غريبة يتلوها أناس من أرقى الرجال من أهل العالمين القديم والحديث وسيكون بينهم خمسة وعشرون رئيساً في مجالس النواب وأربعون أسقفاً ومئة وثلاثون أستاذاً في الحقوق الدولية وغير ذلك سيكون لهذا المؤتمر شأن عظيم في مستقبل العناصر البيضاء وغيرها.
استعمار الإسلام
قالت مجلة الاقتصاد الدولية إننا قد أيقظنا اليابان والصين من سباتهما وها قد أصبحنا ولاسيما الأميركان منا نعض الأنامل ندماً على ما قدمناه بين يدي تينك الأمتين وقد أخذ المسلمون ينهضون وينتبهون أيضاً بحسب رأي المسيو لشاتليه (المقتبس م5 ص276) كما يفهم من الأرقام التي أتى بها للدلالة على انتباه المسلمين قال أن الصحف الإسلامية تكون الرأي العام الإسلامي على أن تكون منافع الجمارك والأراضي والغابات والمعادن والنقل والاحتكارات والامتيازات وكل ثمرات الأرض إسلامية خاصة بالمسلمين يقول لسان حالها الإسلام للمسلمين وقد علقت المجلة على ما تقدم بهذه الجملة الغريبة وهاكها بنصها معربة:(56/57)
إننا نعد أنفسنا سعداء إذا اكتفى المؤمنون بهذا ولم يأتوا فيستعمروننا على الطريقة التي عمدنا إليها معهم.
ضعاف المدارك
نقلت مجلة الاقتصاديين الباريزية عن إحدى المجلات الإنكليزية مبحثاً لأحد أطباء إنكلترا جاء فيه أن بين عامة الناس والبله الثابتة بلاهتهم في بريطانيا العظمى طبقة كبرى ضعيفة في مداركها وهي عالة على أسرها والمجتمع وعددها لا يقل عن خمسين ألفاً قال أن ضعف العقل أرثى وأصحابه يشتد غرامهم ويكثر أولادهم على حين يقل أولاد الأذكياء وبذلك ينتج ضعف الأخلاق والعقل في المجتمع وذلك لأتن ضعاف العقول يأتون بالجرائم والمفاسد أكثر من غيرهم وضعيفات العقل من البنات أقرب بنات جنسهن إلى الإغواء. وقد حسبوا جميع سكان ورخوس فكان خمسهم أو ربعهم ضعاف العقول فالواجب إذن تقوية هذه المدارك الضئيلة والمدارس التي أقيمت لغرض تقوية الضعاف في عقولهم لم تثمر الثمرة المطلوبة لأنه لم ينجح واحد في الخمسين ممن دخلوها لأنها أنشئت على مبدأ مدارس أقوياء العقول أي على طريقة مدرسية صرفة لا شأن فيها للصناعات. قالت المجلة فإن ادعى صاحب هذا الفكر بأن هذا خطر عظيم على المجتمع أجيب بأنه كان منذ كان البشر ولكنه لم يكن محسوساً كما هو الآن لأن الملاجئ والأديار تؤوي أمثال هؤلاء وكانوا من قبل مشتتين فالخطر وإن كان واقعياً إلا أنه ليس بالدرجة التي يظنها الطبيب المشار إليه نعم إن الأولاد كلهم يصاغون صياغة واحدة من سن السادسة إلى الثانية عشرة بمعنى أنهم يتعلمون القراءة والكتابة وما تعلم القراءة والكتابة بالأمر السهل كما يظهر بل هو من شاق الأعمال التي لا نقدرها حق قدرها فإن المستخدم إحدى المكاتب يملي ثلاثين كلمة في الدقيقة أي ما يعادل طول خمسة أمتار فتكون هذه الخطوط ثلثمائة متر في الساعة أو ألف كيلو متر في ثلثمائة يوم من أيم السنة وهي أيام العمل. ولأجل كتابة 130 كلمة يدور رأس القلم 480 دورة في الدقيقة و28. 800 دورة في الساعة دع عنك ما يتبع ذلك من التعاريج مما لا يقل طوله كله عن مئة ألف كيلومتر في السنة ولولا العادة ما سهلت الكتابة وخففت من تعب الأعصاب وهذا هو العمل الذي يقضي على الأولاد أن يعملوه فهل يستغرب إذا رأينا بعضهم ينوؤن بهذا العبء الثقيل وأن ما يطلبه الطبيب لضعاف العقول من تعليمهم(56/58)
الصناعات هو أحق به أن يطلب لجميع المتعلمين إذا أردنا أن يكون لهم عقل سليم فقي جسم سليم.
تربية الحس
كتب بول غوتليه من علماء التربية في فرنسا مقالة في نقص تربية الحس في مجلة التربية جاء فيها: لا أرى في التربية أكثر إهمالاً في العادة من تربية الحس فإنه متروك وشأنه ينمو كما يشاء وعلى النحو الذي يشاء فيأخذ بالاتفاق ذات اليمين أو ذات الشمال في المدرسة والأشرة وترى الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات يعنون بما في جهدهم بتلقين العلوم ولا يلتفتون إلى تربية القلب في حين أن الحس أصل القوى كلها ومبدأ كل حياة ولا أثر للذكاء والإرادة بدونه على ما أبان ذلك الفلاسفة المحدثون أمثال ريبو وفوليه وبرجسون. فالفكر الذي لا يقتبس من حرارته عار عن القوة. فبه تعرف مطويات الضمائر وعناوين الأمزجة وغاية الجهد بل هو الصورة لما في الأفراد من مزايا الإبداع. قال روسكين (من علماءؤ الاجتماع الإنكليز): إننا نشكو من قلة الحس أكثر من كثرته فقلته أدت ببعض الأرواح إلى الابتذال فمن آثار قلته عادات وأعمال تخالف الإنسانية لا خوف يزعجها ولا فرح ولا شرف ولا تقوى يهزها فإذا تثاقلت يد المرء في تعاطي العمل وجف قلبه وساءت عاداته وجمد فؤاده يصبح مبتذلاً على قلة عواطفه وسرعة ذكائه وجودة مأتاه ومنزعه فالعقل لا يعرف غير الحق فهو الإنسانية الربانية تستحكم من القلوب فتدرك الإلهيات وصالح الأعمال.
فالحس يقرب بين الشخصيات ويسيطر على العواطف فيجمع الناس في أفراجهم ويشكرهم بعضهم مع بعض في أتراحهم بل هو السلسلة التي تربط كلاً منا بالعالم كله فهو الموزع الجوهري بين الشخصيات. والأفكار والأعمال نتيجة لازمة عنه وهو كذلك الصلات بين الأفكار. إذا نقص فلا شيء يحدو نحو الوكمال بل أن الكمال يفقد جملة ويجف معين العلم والصناعات والفضائل ويتعذر العلو وتفقد العشرة وتنحل ربط الاجتماع فلا إحساس ولا شفقة. إذا فقد الحس تضعف الإرادة ويبقى العلم ظلاً زائلاً ويفنى الذكاء. ولطالما رأينا علماء وهم مغفلون لو استقرت أحوالهم تجد لا فرق بينهم وبين حمر الخلائق لأن العلم لم يرق فيه الحس الرقيق الذي يمكنهم من معرفة ما لا يقع مباشرة تحت حواسهم وهو قلما(56/59)
يتعلم كتاب فالحس من ثم هو الحد الفاصل بين أن يجعل الرجل في كبار الرجال أو في طبقة ضعاف المغفلين.
وإذا حيد باستعداد الطفل عن الجادة منذ صغره لا يلبث أن يكون استعداده مبعث كثير من المفاسد وأصل جم من الخطايا يرسل بأحسن ما فيه عن مائية إلى الأغصان الشرهة الطفيلية فتهولك الأغصان النافعة وتقوى دواعي الهوى والشهوات فقد قال بول بورجه: تكاد تكون معظم الأمراض العصبية ناشئة من اضطراب العشق ومبدأ كل هذا الاضطراب من رداءة التدبير الصحي الأخلاقي زمان البلوغ فمن الحس تنشأ المطالب العالية والمطالب الدنيئة وهذه القوة أو هذا الأساس في كل قوة شواءٌ كان في الخير أو في الشر ينبغي أن لا يترك وشأنه في الولد على حين هو لدن رخيص إلى الغاية فإذا هب على ما يجب يكون منه أبطال وقديسون وإلا فلا أقل من أهل حشمة ووقار.
وأكثر ما يكون مربياً للحس بيت العائلة والتربية الأصلية هي التي تجعل الولد على استقامة لا ينالها من تربية أخرى وفي حب الوالدة ولدها معنى من معاني الظرف تصحب المرء إلى قبره ولكم كانت عناية الأم أكبر مخرج للرجال الأعاظم حتى قالت العقيلة نيكر دي سوسور إن الحنان هو الحرارة الضرورية لتنمية الجراثيم السعيدة.
والمدارس الداخلية مضرة وهي لصغار السن جريمة ويتضرر البنات وهن سيصبحن ملائكة البيت بدخولهن المدارس الداخلية إذ يبتعدن عن الأسرة بل عن العالم ويفطم الولد من الحب ولا يعرف غير جفاء النظام والعذاب والمجرد وقلة مبالاة الإدارة بأمره.
يتعذب وما من أحد يعنى به عناية حقيقية أو يعرف ذوقه وميوله ولا يجد حوله من يبوح إليه بذات نفسه فهو وحيد محروم من الهواء وإحساسه يذبل إذا لم نقل يفسد ولذلك كانت المدارس الداخلية في فرنسا لا تخلو من مفاسد تلحق الأخلاق. وقد انتبه الإنكليز لذلك فلم يعودوا يرسلون بناتهم إلى المدارس الداخلية بل يجعلونهن في بيوت معلماتهن على أخلاقهن وينجون من إدارة تسير على هواها كإدارة الحبس فأفضل اختيار البيت لتربية الأولاد فيه فليس كالأسرة التي يخرجنا منها وازع يحف طفولتنا بعنايته ويعلمنا الظرف واللطف والطهارة التي كتب فيها رينان الفيلسوف يقول: أينم يتعلم الطفل أو الفتى الطهر وصفاء السريرة اللذين هما أساس كل أدب راسخ ويدرك زهرة العواطف التي تكون ذات(56/60)
يوم بهجة للمرء ودقة الفكر التي هي ذات أشكال لا تدرك بالتصور؟ أيتعلمها في الكتب وفي الدروس التي تلقى على مسامعه فيصغي إليها أو في رسائل يستظهرها؟ كلا إنه لا تعلمها في شيءٍ من ذلك بل يتعلم في الهواء الذي يعيش فيه والمحيط الاجتماعي الذي يصير إليه يتعلمها بحياته في أسرته ليس إلا. .
فالحنان الآخذ بعنان الأسرة بما فيه من الانتباه والحب هو الذي يربي حسن الطفل من نفسه بعيداً عن قلة الاهتمام والعدوى والحسد بعيداً منذ نعومة أظفاره عما يعبث به. ويجب أن لا يدفع الأولاد للخدامين والخدامات فإنهم يفسدونهم بضعف عقولهم وقلة عنايتهم حتى أن ولداً في الثالثة عشرة أصبح أبله بصنع خادمة ارادت تسكيته فوضعته في غرفة وأقفلت عليه الباب بضع دقائق حتى إذا فتحت الغرفة وجدته متخشباً وقد عولج الولد فشفي إلا أنه بقي أبله طوال حياته. فصح فينا ما قاله بلوتارك في القديم: من الغريب أننا نرى الواحد منا يستخدم خادماً له في حرث أرضه وآخر لتنظيم داره وغيره لإدارة نفقته فإذا كان له خادم سكير لا يستطيع عملاً يعهد إليه بتربية ولده ونحن كم عندنا من معلم ومعلمة خانهم الدهر فعمدوا إلى اتخاذ التعليم حرفة وهم ليسوا على شيءٍ من الأخلاق التي تطلب منهم لتربية خلق المتعلم فيرث الأولاد عنهم نقائصهم وأحياناً مفاسدهم بل يقتبسون دناءة النفس فيتجردون عن المطالب العالية النضيحة قبل أن يبلغوا السن اللازمة.
ولذلك وجب على الوالدين أنم لا يتخلوا لأحد عن ملاحظة أولادهم ففي الطفولية يتولون ذلك بأنفسهم وأثناء الدراسة يشرفون إشرافاً عليهم ولا يدفعونهم إلا لمعلمين أكفاء على أن دلال الولد وملاطفته على الدوام قلما تنشئ رجالاً أو نساء أحرياء بالاعتبار لأن رخاوة الحس على هذه الصورة تبعد بالولد عن تحمل المكاره والإفراط بالعناية به تعده إلى أن لا يتوقع إلا الدلال فالشاب يتطلب من الزوجة رفيقة لا أماً والشابة تنتظر أن تكون لعبة لا ملكاً. وهذه العيوب تلحق الولد الوحيد في الغالب لأن والديه يبالغان في دلاله.
وأضر ما يكون على طفل الإغراق في قضاء رغائبه وإعطاؤه من اللعب ما لا تشتد حاجته إليه بل أن يكون من شأنه أن يعوده على الإسراف والبذخ وخير من ذلك أن يعود الولد الحرمان والتقشف لأن الشدة القليلة في التربية تدعو المربى إلى الشجاعة. وعرف الإسبارطيون ذلك حق المعرفة وهذا هو السبب في أن الإنكليز مازالوا محافظين على(56/61)
أنواع الرياضات العنيفة وضرب السياط في المدرسة. لا جرم أن ذلك يمنع رقة القلب الكاذبة ويبعد من التأنث مما هو من العيوب حتى في النساء.
وينبغي أن لا نكتم شيئاً عن الأولاد يطلبون السؤال عنه وإذا كان ثمة ما لا يسوغ لهم إبداؤه نعدهم بأن نفصح عنه بعد حين فالجهل فيها ليس من الخير في شيءٍ لأنم الجهل خطر كل حين وقد كتب المسيو نيكولاي يقول: إن الأخلاق عبارة عن تعلم مجاهدة الشر لا أن يعقد الأمل الخيالي بأن يكبر الولد في سذاجة تامة في حين هو يعيش في العواء الفاسد الذي نستنشقه.
فلتربية الحس القوي الذي يقاوم الصدمات يجب أن نجعلها تمس الحياة عند بداءة ظهورها والمدرسة مفيدة في هذا الباب لأن الأخلاق تتحاك فيها ولا بأس بأن يغادر الولد البيت ويسيح في الخارج فإن ذلك مما يقوي فيه الإرادة ويشد عزمه على العيش في لهواء الطلق في هذه الحياة.
يجب أن يكون للحس نظام فقد كان علماء التربية حتى الآن يعتبرون الصناعات واسطة للتسلية لا نتيجة لها أو ألاعيب الصبيان وهي في الحقيقة أحسن تعويذة لأن في مكنتها أن تجعل أبداً في الإحساس مساوقة ونظاماً وتحيله إلى أجب غض إذا صح أن الاعتدال هو القصد لا في المأكل والمشرب بل في الفكر والعواطف هو أساس كل فضيلة فقد قال روسكين: إنم معرفة الجميل هو الطريق الحقيقي بل هو الدرجة الأولى لمعرفة حقيقة الأشياء الجميلة فإن الحياة والسرور بالجمال في عالم المادة هما من القسم الدائمة المقدسة في أعمال الخالق كما الفضيلة في عالم الأفكار.
فمن الواجب كل الوجوب أن يجعل شعور الطفل منذ نعومة أظفاره يحتك بالجمال بوجه عام والفنون بوجه خاص وذلك لا في كتب يدرسها بل فيما يحيط به يحف حوله وأن يوقى النظر إلى البشع كما يوقى النظر إلى ما ينافي الأدب.
يجب ألا ينشأ الطفل ويتطلع حواليه إلا ويجد الجمال في المسكن والجمال في المناظر فمن سيئات التمدن الحديث إن حرم أبناءه السكنى في بيوت وسط الغابات والأشجار وجعل مساكنهم متصلة بعضها ببعض بحيث لا تفتح النافذة إلا لترى واجهة البناء المحاذي لك ولا يفتح الطفل عينيه إلا ما على هو منحط وبشع على حين يسهل أن نزين مسكننا فليس(56/62)