إلا إذا كان فيها ماء وإلا فهي بئر ولا للإبل راوية إلا ما دام عليها الماء ولا للدلو سجل إلا ما دام فيها ماء ولا ذنوب إلا ما دامت ملأى ولا نفق إلا إذا كان له منفذ وإلا فهو سرب ولا للسرير نعش إلا ما دام عليه الميت ولا للخاتم خاتم إلا إذا كان عليه قص ولا رمح إلا إذا كان عليه زج وسنان وإلافهو قناة ولا لطيمة إلا للإبل التي تحمل الطيب والبز خاصة ولا حمولة إلا للتي تحمل الأمتعة خاصة ولا بدنة إلا للتي تجعل للنحر ولا ركب إلا لركبان الإبل ولا هضبة إلا إذا كانت عيداناً مجموعة وإذا كان نقب في جبل أو حائط فهو وكن ووكر.
ثم قال فصل وتقول العرب في الأمر وهن وفي الثوب وهي وفي الحساب غلت وفي غيره غلط وفي الطعام بشم وفي الماء ثغر وحلا الشيء في فمي وحلي في عيني الخ.
وهكذا جميع فصول الكتاب كلها غرر بل قلائد درر وهو نحو أربعمائة صفحة والصفحة على ربع الورق تغمد الله تعالى مؤلفه برحمته ورضوانه.
بغداد
محمود شكري الألومي(40/7)
بعد البين
لقد طوحتني في البلاد مضاعا ... طوائح جاءت بالخطوب تباعا
فبارحت أرضاً ما ملأت حقائبي ... سوى حبها عند البراح متاعا
عتبت عليّ بغداد عتب مودع ... أمضته فيها الحادثات قراعا
أضاعتني الأيام فيها ولو درت ... لعز عليها أن أكون مضاعا
لقد أرضعتني كل خسف وإنني ... لأشكرها إن لم تتمّ رضاعا
وما أنا بالجاني عليها وإنما ... نهضت خصاماً دونها ودفاعا
وأعملت أقلامي بها عربيةً ... فلم تبد إصغاءً لها وسماعا
ولو كنت أدري أنها أعجمية ... تخذت بها السيف الجزاز يراعا
ولو شئت كايلت الذين انطووا بها ... على الحقد صاعاً بالعداء فصاعا
ولكن هي النفس التي قد أبت لها ... طباع المعالي أن تسوء طباعا
أبيت عليهم أن أكون بذلةٍ ... وتأبى الضواري أن تكون ضباعا
على أنني داريت ما شاء حقدهم ... فلم يجد نفعاً ما أتيت وضاعا
وأشقى الورى نفساً وأضيعهم نهىً ... لبيب يداري في نهان رعاعا
تركت من الشعر المديح لأهله ... ونزهت شعري أن يكون فذاعا
وأنشدته يجلو الحقيقة بالنهى ... ويكشف عن وجه الصواب قناعا
وأرسلته عفواً فجاء كما ترى ... قوافي تجتاب البلاد سراعا
وقفت غداة البين في الكرخ وقفةً ... لها كربت نفسي تطير شعاعا
أودع أصحابي وهم محدقون بي ... وقد ضقت بالبين المشت ذراعا
أودعهم في الكرخ والطرف مرسل ... إلى الجانب الشرقي منه شعاعا
وأدعم رأسي بالأصابع مطرقاً ... كأن برأسي يا أميم صداعا
وكنت أظن البين سهلاً فمذاتي ... شرى البين مني ما أراد وباعا
وإني جبان في فراق أحبتي ... وإن كنت فيغير الفراق شجاعا
كأني وقد جدّ الفراق سفينة ... أشالت على الريح الهجوم شراعا
فمالت بها الأرواح والبحر مائج ... وقد أوشكت ألواحها تتداعى
فتحسبني من هزة فيّ أفدعاً ... ترقى هضاباً زلزلت وتلاعا(40/8)
فما أنا إلا قومةٌ وانحناءةٌ ... وسرُ أذاعته الدموع فذاعا
أبيت وما أقوى الهموم بمضجع ... تصارعني فيه الهموم صراعا
وألهو بذكراهم على السير كلما ... هبطت وهاداً أو علوت يفاعا
هم القوم أما الصبر عنهم فقد عصى ... وأما اشتياقي نحوهم فأطاعا
لقد حكموني في الأمور فلم أكن ... لانطق كلاباً أم قحمت سباعا
فلست أبالي بعد أن جدّ بينهم ... زجرت كلاباً أم تحمت سباعا
سلامٌ على وادي السلام وإنني ... لأجعل تسليمي عليه وداعا
له الله من وادٍ تكاسل أهله ... فباتوا عطاشاً حوله وجياعاً
رآهم عبيداً فاستبد بمائه ... ولم يجر بين المجديات مشاعا
جرى شاكراً صنع الطبيعة إنها ... أبانت يداً في جانبيه صناعا
وما أنس لا أنس المياه بدجلة ... وإن هي تجري في العراق ضياعا
ولو أنها تسقي العراق لما رمت ... به الشمس إلا في الجنان شعاعا
وما وجدت ريح وإن قد تناوحت ... مهباً به إلا قرى وضياعا
سأجري عليها الدمع غير مضيع ... وأندب قاعاً من هناك فقاعاً
وأذكر هاتيك الرباع بحسنها ... فنعمت على شحط المزار رباعا
الأستانة ـ
معروف الرصافي(40/9)
النقل والناقلون
للتأليف طريقتان طريقة الاعتماد على من سبق لمؤلف ونقل كلامهم ليدعم به قوله ويؤيد رأيه وطريقة إبداء رأي المؤلف مباشرة دون الاستشهاد بأقوال غيره مهما بلغت من المكانة. والطريقة الأولى هي الطريقة العلمية المقنعة التي تبقى على الدهر ويصعب أن يتطرق إليها الخلل إلا إذا ظهرت نصوص كثيرة صحيحة تخالف ما استشهد به الكاتب.
فقد رأى ديكارت الفيلسوف الفرنسوي أن ليس في مذاهب الغير ولاسيما في الفلسفة كبير أمر وأنا الأجدر ولو ببعض أرباب العقول أن يبحثوا عن الحقيقة بما فيها من الأسرار الخاصة دون الاحتفال بالمذاهب الأخرى التي ذهب إليها غيره في هذه المسألة بيد أن بعض إشياع فلسفة ديكارت نفسهم يرون أن هذا البحث على خلوه من فائدة ضار لأنه يسلب من العقل في تقدير الأشياء قدرها.
ويرى الفيلسوف كوزين الفرنسوي غير رأي ديكارت بل أنه غالى في ضرورة درس المذاهب الفلسفية السالفة حتى تدرج إلى أن مزج الفلسفة بتاريخ الفلسفة ومن رأيه ان الطريقة الفلسفية الوحيدة الجديرة بهذا العصر أن يدرس المؤلف المذاهب كلها ويقابل بين المذاهب التي ظهرت إلى اليوم على مشهد العقل البشري من المذاهب المتناقضة.
قم عاد ديكارت أيضاً فقال أن المصنفات التي يصنفها جماعة قد تكون في كمالها دون التي يصنفها فرد واحد وتدرج من ذلك إلى أن قال أن العلوم التي تألفت على التوالي من آراء كثيرين قد يكون حظها من الأخذ بطرف من الحق أقل من العلوم التي هي ثمرة فكر واحد.
ومن العادة عند مؤلفي الغربيين إذا أرادوا الكتابة أن يطالعوا جميع ما يمكنهم مطالعته في الموضوع الذي يريدون الخوض فيه فيطالع الألماني ما كتبه الإفرنسي والإيطالي والروسي والإنكليزي والأميركي وغيره غيرهم لتكون كتابته مؤيدة بالشواهد الصحيحة ولذا قرأ سبنسر فيلسوف الإنكليز في القرن التاسع عشر 173 كتاباً قبل أن يكتب كتابه العدل. وهكذا كل مؤلف في الغرب اليوم.
وبعد فماكل قول ينقل ويستشهد به حجة لتأييد الكلام وإنما ينقل قول يكون قائله قدوة وإلا فما من قول إلا وقد قيل كما قال كثير من الحكماء. وقد نشأ من نقل أقوال كيفما اتفق اختلاف كثير حتى أن الباحث إذا دقق النظر يرى أن تلك الأقوال ترجع إلى قول أو قولين ممن يعتد بهم ولو أمكن لكل مؤلف أن يسلك طريقة الجاحظ في قوله: إنما أحكي لك من(40/10)
كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم لأن فيه دلالة على غيره وغنيّ عما سواه لكان نهج السبيل الأقوم.
ومن نقل كل ما يقال ترى في كتب التاريخ والملل والنحل أقوالاً إذا بحثت عنها لم تجدها إلا عند بعض أدنى العوام فكراً ولو عين المنقول إليه لسقط موقع القول من النفوس لكن بعض الناقلين لقصورهم في النظر ينقلون كل ما يقال بدون تعيين المنقول عنه ولو عينوا المنقول لسقط الإشكال. وكثيراً ما يقصد الحذاق منهم المغالطة ليوهموا الناظر أن في المسألة اختلافاً وهو محل دقيق جداً يغلط فيه التحرير العالم على أن بعضهم يرى أن لا ينقل من قوللا الحذاق إلا قول له موقع في النفس ومن ثم يقول القائل.
وليس كل خلاف جاء معتبراً ... الأخلاف له حظ من النظر
وإن أرباب النقد ليبحثون في كل قول عمن قاله ليعلموا درجة القائل في نفسه ودرجته في اقتداء الناس به وبذلك تظهر له الحقيقة في أجلى مظاهرها وقد قال حجة الإيلام الغزالي قولاً قاله كثير ممن قبله لو سكت من لا يعلم قلَّ الخلاف في العالم.
سألنا ذات يوم أحد العلماء العارفين عن السر في اختلاف المذاهب والمشاعب المنقولة فقال: وربما نجد في كتب الملل والنحل أسماءَ فرق لها أقوال غريبة يصعب عليك بعد التتبع الشديد أن تعرف في أي عصر وجدت وأين وجدت وكيف وجدت وفي أي قطر يوجد منهم أناس وإن زعم الزاعم انقراضها يعسر عليه إثبات زمان انقراضها وأغرب من ذلك صعوبة معرفة ترجمة رجل من حذاقها فذكر فرقة من هذا النوع يعد سخافة من الناقل. والذين لهم كتب في هذا المقام منهم الناقل غير الناقد ومنهم المموه لغلبة الهوى عليه في هذا الباب مثلاً لكفينا المؤنة في ذلك نعم يقال أن الجاحظ قد يسلك طرق التمويه كما سجل عليه ذلك بعض معاصريه من أبناء نحلته كأبي جعفر الإسكافي لكن تمويه الجاحظ تمويه عاقل ذي بصيرة إذا موه يكاد يظهر الحق من خلال تمويهه وقد يصرح بغير ذلك في موضع آخر فالعاقل ذو البصيرة ينتفع بكلامه كيف كان قال ومن يخلط في نقله كالطبيب الذي ينقل كل قول لا يعود أحد يعتدُّ بمنقوله وكذلك النحوي وغيره وهذه القاعدة تكاد تكون عامة لا تتخلف في كل فن فقد نقل ابن أبي الحديد أن الجاحظ ألف كتاباً سماه كتاب العثمانية انتصر فيه للخلفاء الراشدين إلا أنه أظهر فيه ما يشعر بالنصب لما اقتضته طينة(40/11)
البصرة على زعم بعضهم فتصدى له من أبناء نحلته الإمام أبو جعفر الإسكافي فنقض كتابه وأطلق لسانه في الجاحظ إطلاقاً لم يقع نظيره من المضادين للجاحظ في النحلة فمن ذلك قوله: القول ممكن والدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ. . . قوله لغو ومطلبه سجع وكلامه لعب ولهو يقول الشيءَ وخلافه ويحسن القول وضده.
قال قاضي القضاة عبد الجبار في كتاب طبقات المعتزلة نقض الإسكافي كتاب الجاحظ في العثمانية في حياته فدخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقد كتابي وأبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره وكان أبو جعفر علوي الرأي محققاً منصفاً قليل العصبية ألف سبعين كتاباً في علم الكلام.
وقصارى القول أنه لا ينقل إلا كلام الثقات والعظماء للاستئناس به وتقوية أواصر الكلام به وقد ينقل كلام بعض الضعفاء لنكتة فيه أو لعبرة تراد منه. والكتابة بدون استشهاد بأقوال الأئمة والعظماء مهما بلغت درجة صاحبها لا يلتفت إليها عند المحققين ولو حوت من اللآليءِ كل عقد ثمين.(40/12)
التمييز في الألبسة
ليس أغرب من هذا الشرق ترى فيه الاختلاف في الأفكار كما تراه في الأديان بل تراه في اختلاف الهواء والماء وقد وفق الغرب إلى توحيد ألبسة أهله في القرون الأخيرة أما الشرق فلم يزل في تخالفه في ذلك على نحو ما كان عليه في القرون الوسطى قرون الظلم والهمجية.
اختلاف المشارقة في ألبستهم قديم فقد كان للقضاة وللأجناد وللعلماء والعامة ألبسة خاصة بهم بل كان اللباس تابعاً للأقاليم فابن الحجاز يلبس ما لا يلبسه ابن الشام وهكذا تجد لو طفت الأقاليم ودرست المدنيات.
وكان لأهل الذمة في الإسلام لباس خاص بهم وهو من التحكمات السياسية التي دعا إليها العرب لا الدين وليس في الدين ما يدل على تمييز المسلمين بلباس خاص فقد اشترط الخليفة الثاني في كتاب الجزية الذي كتبه لأهل الذمة أن يؤخذوا بلبس الغيار وهو علامة لهم كالزنار ونحوه ولما تبسط الفاتحون في مناحي السلطان كان من جملة واجبات المحتسب كما في كتاب نهاية الرتبة في الحسبة أن يأخذ الذميين يلبسه فإن كان يهودياً عمل على كتفه خيطاً أحمر أو أصفر وإن كان نصرانياً عمل في وسطه زناراً أو علق في حلقه صليباً وإن كانت امرأة لبست خفين أحدهما أبيض والآخر أسود وإذا عبر الذمي إلى الحمام ينبغي أن يكون في حلقه صليب أو طوق من حديد أو نحاس أو رصاص ليختبر عن غيره.
وفيكتاب الخراج لأبي يوسف أن لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته ويؤخذوا بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الخيط الغليظ يعقده في وسطه كل واحد منهم وبأن تكون قلانسهم مضربة قبل وإن عمر بن الخطاب امر عماله أن يأخذوا أهل الذمة بهذا الزي أي أن تكون قلانسهم طوالاً مضربة وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب وقد ذكر لي أن كثيراً من قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم واتخذوا الجمام والوفر وتركوا التقصيص ولعمري لئن كان يصنع ذل فيما قبلك إن ذلك بك لضعف وعجز ومصانعة.
وفيما اطلعنا عليه من الكتاب إشارات طفيفة لاختلاف أزياء الذميين في العصور الإسلامية(40/13)
وما هذا الاختلاف في الحقيقة ناتج إلا من التحكم البارد غالباً. قال ابن الأثير في حوادث سنة 235 أن المتوكل أمر أهل الذمة بلبس الطيالسة العسلية وشد الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب وعمل كرنين في مؤخر السروج وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفين لون الثوب كل واحد منهماقدر أربع أصابع ولون كل واحدة منهما غير لون الأخرى ومن خرج من نسائهم تلبس إزاراً عسلياً ومنعهم من لبس المناطق وأمر بهدم بيعهم المحدثة وبأخذ العشر من منازلهم وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان ولا يعلمهم مسلم وأن يظهروا في شعانينهم صليباً وأن يستعملوا في الطريق وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض وكتب في ذلك إلى الآفاق.
وقال الذهبي فيحوادث 398 وفيها هدم الحاكم كنيسة القيامة بالقدس وكانت فيها أموال وجواهر ما لا يوصف وألزم النصارى بتعليق صلبان على صدورهم واليهود بتعليق مثل رأس العجل على صدورهم وكان الصليب رطلاً بالدمشقي من خشب ومثال رأس العجل كالمدقة وزنها رطل ونصف وأن يشدوا الأجراس في رقابهم عند دخول الحمامات قال وألزم الحاكم صاحب المغرب والحجاز ومصر والشام أهل الذمة بالصلبان في أعناقهم وألبس اليهود العمائم السود نكاية واهنة لبني العباس قال ابن خلكان وفي سنة اثنتين وأربعمائة أمر الحاكم النصارى واليهود إلا الخيابرة بلبس العمائم السود وأن تحمل النصارى في أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي الخشب على وزن صلبان النصارى وأن يكون في أعناق إذا دخلوا الحمام الصلبان وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين.
قلنا وكان في الحاكم لوثة وجنة يأمر اليوم بأمر فينهي عنه في الغد.
وذكر الذهبي في حوادث سنة سبعمائة أن النصارى واليهود ألبست بمصر والشام العمائم الزرق والصفر واستمر ذلك. وسنة 734 ألزمت النصارى ببغداد بالغيار ثم نقضت كنائسهم ودياراتهم وأسلم منهم ومن أعيانهم خلق كثير منهم سديد الدولة وكان ركناً لليهود.
وروى لسان الدين بن الخطيب أن اسمعيل بن فرج الخزرجي من ملوك الأندلس اشتهر في إقامة الحدود وإراقة المسكرات وحظر تجلي القينات للجرال في الولائم وقصر طربهن(40/14)
على أجناسهن من الناس وأخذ لليهود الذمة بالتزام سمة تميزهم وإشارة تشهرهم وليوفى حقهم من المعاملة التي أمر بها الشرع في الخطاب. والطرق وهو شواش (جمع شاشية) أصفر. وذكر صاحب المعجب في سيرة أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن أنه أمر في آخر أيامه أن يتميز اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم وذلك ثياب كحلية وأكمام مفرطة السعة تصل إلى قريب من أقدامهم وبدلاً من العمائم كلوتات على أشنع صورة كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم فشاع هذا الزيّ في جميع يهود المغرب ولم يزالوا كذلك بقية أيامه وصدراً من أيام ابنه عبج الله إلى أن غيره أبو عبد الله بعد أن توسلوا إليه بكل وسيلة واستشفعوا بكل من يظنون أن شفاعته تنفعهم فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر وعمائم صفر فهم على هذا الزي إلى وقتنا هذا وهو سنة 621 وإنما حمل أبا يوسف على ما صنعه من أفرادهم بهذا الزي وتمييزه إياهم به شكه في إسلامهم وكان يقول لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم وجعلت أموالهم فيئاً للمسلمين ولكني متردد في أمرهم ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام ويصلون في المساجد ويقرون أولادهم القرآن جارين على ملتنا وسنتنا والله أعلم بما تكنه صدورهم وتحويه بيوتهم اهـ.
وقال ابن أبي أصيبعة: حدثني الشيخ موفق الدين البوري الكتاب النصراني قال لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكرك أتى إلى دمشق الحكيم موفق الدين يعقوب بن سقلاب النصراني وهو شاب على رأسه كوفية وتخفية صغيرة وهو لابس جوخة ملوطة زرقاء زي أطباء الفرنج وقصد الحكيم موفق الدين بن المطران وصار يخدمه ويتردد إليه لعله ينفعه فقال له هذا الزي الذي أنت عليه ما يمشي لك به حال في الطب في هذه الدولة بين المسلمين وإنما المصلحة أن تغير زيك وتلبس عادة الأطباء في بلادنا ثم أخرج له جبة واسعة عنابية وبقياراً مكحلاً وأمره أن يلبسهما.
قال ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة أسعد بن المهذب ما يأتي: كان المهذب أبوه المعروف بالخطير مرتباً على ديوان الإقطاعات وهو على دين النصرانية فلما علم أسد(40/15)
الدين شيركوه في بدء أمره بمصرانه نصراني وأنه يتصرف في (عمله) بلا غيار نهاه وأمره بغيار النصارى ورفع الذؤابة وشد الزنار عن الديوان فبادر هو وأولاده فأسلموا على يده فأقره على ديوانه مدة ثم صرفه عنه فقال فيه ابن الذروي:
لم يسلم الشيخ الخطير لرغبة في دين أحمد
بل ظن أن محاله ... يبقي له الديوان سرمد
والآن قد صرفوه عنه فدينه فالعود أحمد
ولما أمر شيركوه النصارى بلبس الغبار وإن يعمموا بغير عذبة قال عمارة اليمني:
يا أسد الدين ومن عدله ... يحفظ فينا سنة المصطفى
كفى غياراً شد أوساطنا ... فما الذي يوجب كشف القفا
هذا ما كان عليه الاختلاف في الأزياء بين أهل الوطن الواحد وأكثره كما ترى ناشيء من ملوك وفقهاء متعصبين تعصب ظاهراً مثل المتوكل والحاكم بأمر الله ولم يسمع بأن رجال الجد في الإسلام مثل الرشيد والمأمون وصلاح الدين ونور الدين تحكموا هذه التحكمات والله أعلم.(40/16)
الجغرافيا والعرب
لم يترك العرب أيام حضارتهم فرعاً من فروع العلوم النافعة في قيام مجتمعهم إلا وتوفر أفراد منهم عليه. وعلم الجغرافيا هو أحد تلك العلوم ولم يكن لهم به عهد في الجاهلية كالشعر والرواية والأدب والخطب وإذا ذكروا بعض أسماء البلدان المجاورة لهم فإنما يذكرونها بالعرض لا تشعر بمعرفة ولا تنمّ عن اشتغال.
وكان أول الكتب التي نقلوها إلى لسانهم كتب بطليموس اليوناني في الجغرافيا ومن أول الأعمال الجغرافية العلمية التي تمت على يد علمائهم هو أن المأمون أمر محمد بن موسى بن شاكر وأخويه أحمد والحسن بتحقيق طول خط نصف البار لمعرفة محيط الكرة الأرضية فقاسوا أحد خطوط الطول في سهل سنجار ثم أعادوا المقياس ثانياً في وطآت الكوفة فثبتت لديهم كروية الأرض وعرفوا محيطها.
قال ابن خلكان في ترجمة بني شاكر: وكانت لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل وأتعبوا أنفسهم في شأنها وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم واحتضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني فأظهروا عجائب الحكمة وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم وهو الأقل ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها وهو مجلد واحد. ومما اختصوا به في ملة الإسلام وأخرجوه من القوة إلى الفعل وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه ولكنه لم يثقل أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله إلا هم وهو أن المأمون كان مغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها ورأى فيها أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون المجموع ثمانية آلاف فرسخ بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض والتقى طرفا الحبل فإذا مسخنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل فأراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك فسأل بني موسى المذكورين عنه فقالوا: نعم هذا قطعي وقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحرر ذلك أم لا فسألوا عن الأراضي المتساوية في أي البلاد هي فقيل لهم صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطآت الكوفة فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم ويركن إلى معرفتهم بهذه(40/17)
الصناعة وخرجوا إلى سنجار وجاؤا إلى الصحراء المذكورة فوقفوا في موضع منها فأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات. وضربوا في ذلك الموضع وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على استواء الأرض من غير انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول ولم يزل ذلك دأبهم حتى انتهوا إلى موضع أخذوا منه ارتفاع القطب المذكور فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل فعلموا أن كل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثان ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول وشدوا فيه حبلاً وتوجهوا إلى جهة الجنوب ومشوا على الاستقامة وعملوا كما عملوا في جهة الشمال من نصب الأوتاد وشد الحبال حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الشمالي قد نقص عن ارتفاعه الأول درجة فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك.
وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر لهم حقية ذلك ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلثمائة وستون درجة لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً وكل برج ثلاثون درجة لتكون الجملة ثلثمائة وستين درجة فضربوا عدد درج الفلك في ستة وستين ميلاً أي التي هي حصة كل درجة فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل وهي ثمانية آلاف فرسخ وهذا محقق لا شك فيه فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار فتوافق الحسابان فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك.
هذا ما قاله صاحب وفيات الأعيان بنصه وليس العمل لإثبات كروية الأرض هو العلم الوحيد الذي قام به المأمون فقد قال المسعودي صاحب مروج الذهب في كتابه التنبيه والإشراف وهو مما ألفه بفسطاط مصر سنة 345 للهجرة: ورأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الأصباغ وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس وتفسير جغرافيا قطع الأرض وفي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون اجتمع على صنعتها عدة(40/18)
من حكماء أهل عصره صور فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس وغيرهما اهـ.
قال السنيور جويدي الإيطالي وليس حكماء العرب هم الذين عنوا دون غيرهم من الأمة العربية برسم صورة الأرض بل أن أمراءهم كذلك ومنهم أمير المؤمنين المأمون الخليفة العباسي فإنه أغرم برسم الأرض وبذل قصارى جهده في إبرازها فجمع من بالعراق من حكماء دولته زهاءَ سبعين حكيماً على ما قيل فاجتمعوا على تكوينها وأحكامها حتى فضلت بذلك ما تقدمها من الصور اهـ ولقد عرف المسلمون أن من جملة أسباب الفتح معرفة طرق البلدان والأمصار فقد ذكر المؤرخون أنه قام الملاحون المدعوون بالمغرورين في القرن الأول للهجرة وأقلعوا من لشبونة عاصمة البرتغال اليوم بغية الوصول إلى ما وراء كولمبس وفي البعثات التي سيرها الخلفاء إلى القاصية كبعثة الواثق العباسي لاكتشاف سواحل الخزر وبعثة المقتدر بالله عام 309 إلى البلغار للدعوة الإسلامية فيها وأخذ أحد أعضاء البعثة أحمد بن فضلان معلومات مفيدة عن تلك البلاد وفي الحملة التي وصلت إلى بكين بعد فتح كاشغر سنة ست وتسعين للهجرة لدعوة الصين إلى الإسلام في كل ذلك أكبر دليل على تقدير العرب على رسم الأرض أو الجغرافيا أو علم تقويم البلدان.
ولقد كان علماء الحديث من أشد الناس عناية بالجغرافيا لتمييز النسب إلى البلدان والفرق بين الرجال ومساقط رؤوسهم وهذا هو السبب الذي دعا أرباب المعاجم أن يذكروا أسماء الأمصار والقرى. ومن راجع باب العشر والخراج في مطولات الفقه علم ما بين الفقه والجغرافيا من التعلق.
كتب أحد الخلفاء إلى حكيم من حكماء عصره حين فتح الله البلاد على العرب من العراق والشام ومصر وغيرها يقول: إنا أناس عرب وقد فتح الله علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن البلاد والأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها فكتب إليه ذلك الحكيم بجغرافيتها الطبيعية. وكتب عمر ابن عبد العزيز إلى أحد عماله أن يصف له جزيرة الأندلس لأنه علم أن المسلمين نزلوا فيها في بلاد يحيط بهم الإفرنج من أكثر الجهات ولا بقاء لهم في تلك البلاد.(40/19)
ولما اجتمع ابن خلدون بتيمورلنك سنة 802 هـ في دمشق سأله هذا عن بلده والمغرب الأقصى فذكر له ابن خلدون ما حضره وطلب منه أن يؤلف له مختصراً وجيزاً يصف له بلاد المغرب كلها أقاصيها وأدانيها وأنهارها وقراها وأمصارها فكتب له في غربته اثنتي عشرة كراساً في وصف المغرب.
وأجمع تعريف للجغرافيا يستدل منه على موقعها من نفوس العرب واتصالها بعدة علوم لهم ما قاله ياقوت في مقدمة معجم البلدان: ومن ذا الذي يستغني من أولي البصائر ع معرفة أسماء الأماكن وتصحيحها وضبط أصقاعها وتنقيحها والناس في الافتقار إلى علمها سواسية وسر دورانها على الألسن في المحافل علانية لأن من هذه الأماكن ما هي مواقيت للحجاج والزائرين ومعالم للصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ومشاهد للأولياء الصالحين ومواطن غزوات سرايا سيد المرسلين وفتوح الأئمة من الخلفاء الراشدين وقد فتحت هذه الأماكن صلحاً وعنوة وأماناً وقوة ولكل من ذلك حكم في الشريعة في قسمة الفيء وأخذ الجزية وتناول الخراج واجتناء المقاطعات والمصالحات وإتالة التسويفات والإقطاعات لا يسع الفقهاء جهلها ولا تعذر الأئمة والأمراء إذا فإنهم في كريق العلم حزنها وسهلها لأنها من لوازم فتيا الدين وضوابط قواعد الإسلام والمسلمين فأما أهل السير والأخبار والحديث والتواريخ والآثار فحاجتهم إلى معرفتها أمسُّ من حاجة الرياض إلى القطار غب أخلاف الأنواء والمشفي إلى العافية بعد يأسٍ من الشفاء لأنه معتمد عليهم الذي قلَّ أن تخلو منه صفحة بل وجهة بل سطر من كتبهم وأما أهل الحكمة والتفهيم والتطبب والتنجيم فلا تقصر حاجتهم إلى معرفته عمن قدمنا فالأطباء لمعرفة أمزجة البلدان وأهوائها والمنجم للاطلاع على مطالع النجوم وأنوائها إذ كانوا لا يحكمون على البلاد إلا بطوالعها ولا يقضون لها وعليها بدون معرفة أقاليمها ومواضيعها ومن كمال المتطبب أن يتطلع إلى معرفة مزاجها وهوائها وصحة أو سقم منبتها ومائها فصارت حاجتهم إلى ضبطها ضرورية وكشفهم عن حقائقها فلسفية ولذلك صنف كثير من القدماء كتباً سموها جغرافيا ومعناها صورة الأرض وألف آخرون كتباً في أمزجة البلدان وهوائها نحو جالينوس وقبله بقراط وغيرهما وأما أهل الأدب فناهيك بحاجتهم إليها لأنها من ضوابط اللغوي ولوازمه وشواهد النحوي ودعائمه ومعتمد الشاعر في تحلية جيد شعره بذكرها وتزيين عقود لآلي نظمه بشذرها فإن(40/20)
الشعر لا يروق ونفس السامع لا تشوق حتى يذكر حاجز وزرود والدهناء وهبود ويتحنن إلى رمال رضوى فيلزمه تصحيح الاسم وأين صقعه وما اشتقاقه ونزهته وقفره وحزنه وسهولته فإنه إن زعم أنه واد وكان جبلاً أو جبل وكان صحراءَ أو صحراءُ وكان نهراً أو نهر وكان قريةً أو قرية وكان شعباً أو شعب وكان حزناً أو حزن وكان روضةً أو روضة وكان صفصفاً أو صفصف وكان مستنقعاً أو مستنقع وكان جلداً أو جلد وكان سبخةً أو سبخة وكان حرّةً أو حرة وكان سهلاً أو سهل وكان وعراً أو يجعله شرقياً وكان غريباً أو جنوبياً وكان شمالياً سفل قدره ونزر كثره وآض ضحكة ويرى أنه ضحكة وجعل هزأة ويرى أنه هزأة واستخف وزنه واسترذل واستقل فضله واستجهل اهـ.
وبعد فقد نبغ في علماء العرب بفن الجعرافيا أناس لم يزالوا يذكرون كما يذكر الأفراد فمن قدمائهم أبو موسى الخوارزمي وعبد الله بن خرداذبة وابن واضح اليعقوبي وابن الفقيه الهمذاني وعمر بن رستة وقدامة بن جعفر والجيهاني وعلي بن فضلان وأبو دلف مشعر وأبو زيد البلخي وأبو إسحق الاصطخري وشمس الدين المقدسي وعلي بن الحسين المسعودي وأبو الريحان البيروني وأبو عبيد البكري وأبو سعيد الأصمعي وأبو عبد الصيرافي والزمخشري ومحمد بن أحمد الهمذاني ومحمد بن أبي بكر الزهري والشريف الإدريسي وابن فضل الله العمري ومحمد المازني ومحمد بن علي الموصلي وأبو عبد الله بن شداد وأبو محمد العبدوي وأبو عبد الله ياقوت الحموي وزكريا بن محمد القزويني وابن سعيد المغربي وشمس الدين الأنصاري الدمشقي والملك أبو الفداء صاحب حماة وابن بطوطة وابن الوردي وابن إياس وهذا كان آخرهم ممن يعتد بأقوالهم فقد جاء في القرن العاشر للهجرة وبعد ذلك انقطع سند العلوم الجغرافية من المسلمين بزهدهم في كل علم ولغلبة الجهل وإن صادف أن جاء من اشتغل بالجغرافيا بعد ذلك العهد فيكون ناقلاً عن مصنفات أولئك الأعلام أو مختصراً لبعضها شأن العرب في القرون الثلاثة الأخيرة في جميع ما كتبوا فقد فقدت منهم ملكة التأليف والاختراع وصاروا نقلة عاديين والله أعلم.(40/21)
ديوان خالد الكاتب
في جملة مخطوطات دار الكتب الظاهرية في دمشق ديوان خالد الكاتب ابن يزيد كتب سنة 1110 هـ بقلم محي الدين الدمشقي السلطي وهو في 88 ورقة تغلب عليه الصحة ومرتب على حروف الهجاء رتب لناظمه ولم يرتبه بنفسه فيما يظهر قال على قافية الباءِ:
يا أيها المعرض يا ذا الذي ... هب للهوى ديني بطول التعب
أما تراني دنفاً هائماً ... وجداً بمن صارمني واحتجب
ياواحداً في الحسن طال الهوى ... والشوق إذ طال إليك الطلب
عدمت للعبد على أن لي ... قلباً قريحاً بك نافي الندب
وقال أيضاً:
القلب مني على شوق وتعذيب ... وزفرة فرحت في قلب مكروب
لا والذي ذهبت بالنفس لحظته ... وما بعبرى (؟) من حسن ومن طيب
ما طول شوقي ولا حزني ولا كمدي ... إلا على مهجتي من بعد تعذيبي
كم كمن الدهر من سهم يفوقه ... مسدد بدم العشاق مخضوب
وقال أيضاً:
ليست بأول ليلة ... طالت على دنف غريب
متأوه حب الخليل ... بزفرة الصب الكئيب
لم يلق بعد فراقه ... ثمراً وغصناً في كثيب
وقال أيضا:
فلو أن خداً كان من فيض عبرة ... يرى معشباً لأخضر خدي فأعشبا
كأن ربيع الزهر بين مدامعي ... بما اخضل فيه مزفتى وتعببا (؟)
على أنني لم أبك إلا مودعاً ... بقية نفس ودعتني لتذهبا
وقد قل لما لم أجد ليراحة ... سوى الدمع لما حل أهلاً ومرحبا
ومعظم الديوان في الغزل قال في قافية الدال:
السنه السقم حتى ملَّ عائده ... يا سالم القلب من شوق يكابده
ثم لا أرقت فإن الهم أقلقه ... فبات يسهد ليلاً أنت راقده
وباح بالسر لما ذاب أكثره ... شوقاً إليك ولما بان واحده(40/22)
رثى العذول له حتى بكى معه ... حزناً وأسعده بالدمع حاسده
وقال أيضاً:
القلب يحسد عيني لذة النظر ... والعين تحسد قلبي لذة الفكر
يقول قلبي لعيني كلما نظرت ... كم تنظرين رماك الله بالسهر
العين تورثه هماً فتشغله ... والقلب بالدمع ينهاه عن النظر
هذان خصمان لا أرضى بحكمهما ... فاحكم فديتك بين العين والبصر
وقال أيضاً:
ولما رأيت الدمع غاص إلى الحشا ... وأن فؤادي من دموعي في بحر
نظرت إلى عينيّ لا ماَء فيهما ... فأيقنت أن الدمع تحتهما يجري
فلولا استبان الدمع في مضمر الحشا ... تفجر أنهار الدموع من الصدر
على ان قلبي ينشف الدمع حره ... وأين بقايا الدمع في وهج الجمر
قلنا أن معظم شعره في الغزل والنسيب وأكثره من أربعة أبيات ومن شعره في المديح قوله يمدح الحسن بن وهب الكتاب:
يا وجه أحسن من يمشي على قدم ... بحرمة الحسن قل لي كيف حلَّ دمي
أما وخدين يسقي الورد ماءهما ... في نسبة تمنع الدنيا من الظلم
ومقلة كلما دارت رأيت بها ... من جوهر اللحظ أسقاماً بلا ألم
إلى أن قال في المديح:
مذهب في الباب الملك أسرته ... أهل الكتابة والألباب والحلم
من بيت دهنقة الأشراف في شرف ... أوفى على مطلع العيوق في الشمم
في ذروة من بناءِ العز باذخة ... علياءُ طالت عن الأوعال والعصم
أمضى البرية في خطب وأصوبها ... عزماً وأكتب من أملى على قلم
قال جامع الديوان وهذا آخر ما وجد في ذيله عن نسخة أخرى ند قافية الباءِ قوله:
يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي
يا مفرداً بالحسن أفردتني ... منك بطول الشوق والحب
إن تك عيني أبصرت فتنة ... فهل على قلبي من عتب(40/23)
حسيبك الله لما بي كما ... أنك في فعلك بي حسبي
وشعر خالد الكاتب كما تراه منسجم هو إلى شعر المولدين أقرب منه إلى شعر العرب الذي يحوي فخامة اللفظ وجزالة التركيب وقد استفدنا من ترجمة خالد الكاتب أنه كان مغرماً بالصبابة وبينه وبين معاصره أبي تمام الطائي ملاحاة وشؤون وخلاصة حياته كما في فوات الوفيات للكتبي أنه خالد بن يزيد أبو الهيثم الكاتب البغدادي أصله من خراسان وكان أحد كتاب الجيش ولاه ابن الزيات الأعطاء ببعض الثغور فخرج فسمع في طريقه منشداً ينشد:
من كان ذا شجن بالشام يطلبه ... ففي سوى الشام أمسى الأهل والوطن
فبكى حتى سقط مغشياً عليه ثم أفاق واختلط عقله واتصل به ذلك إلى الوسواس وبطل. قال ومن شعره:
عش فحييك سريعاً قاتلي ... والهوى إن لم تصلني واصلي
ظفر الشوق بقلبي دنف ... فيك والسقم بجسم ناحل
فهما ما بين وجد وضنىّ ... تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العاذل
ومن شعره أيضاً:
عشية حياتي بورد كأنه ... خدود أضيفت بعضهن إلى بعض
وراح ولعل الراح في حركاته ... كفعل النسيم الرطب فيالغصن الغض(40/24)
مصالح الأبدان والأنفس
قد يظن بعض من لا عهد لهم بحالة العرب أيام حضارتهم أنهم كانوا كعرب البادية اليوم لا يكادون يعرفون الأمور الصحية ولا تدبير البدن وأنهم كانوا يسيرون متشبعين بفكر القضاء والقدر إن هلكوا قالوا قضاءٌ وإن عاشوا قالوا قدر. والحقيقة إن القوم كانوا على عناية أكيدة بأمور الصحة وما بقي من كتبهم القليلة المحفوظ بعضها في دور الكتب في الشرق والغرب والمطبوع بعضها يدل دلالة كبيرة على ذلك وأقرب سبيل للإشراف على عناية العرب بتدبير الصحة أن يرجع القاريء إلى كشف الظنون فيرى الكتب التي ألفت في هذا الفن بل إلى تراجم الأطباء في القرون الأولى للإسلام ويقرأُ في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أسماء الكتب التي صنفوها في تدبير الصحة فقط.
وقد ظفرنا في خزانة كتب السيد أبي الخير عابدين من جلة فقهاء دمشق بكتاب مصالح الأبدان والأنفس لأبي زيد البلخي ولعله الجغرافي المؤرخ المشهور في القرن الثالث: والقطعة مقتطعة من كتاب للمؤلف تغلب عليها الصحة فأحببنا نقله للمقتبس لأن معظم ما تكلم فيه من المصالح كأنه كتب في هذه الأيام قال المؤلف:
تذكرة مقتضبة على سبيل الإيجاز والاختصار من كتاب أبيزيد البلخي رحمه الله تعالى المسمى مصالح الأبدان والأنفس تجنبنا فيه بسط أبي زيد وتطويله وإن كان ملذاً غير مملول ومعسول اللفظ غير مغسول إلا أنا ملنا إلى ما يدركه الحفظ وتقصر في الإحاطة به مساهمة اللحظ وبالله التوفيق والإعانة. . .
باب الحاجة إلى تعهد الأجسام وما في ذلك من استدامة الصحة
إن الجسد يحتاج في تعاضد أركانه وتماسك أجزائه إلى تعهد شديد وتفقد بليغ والنفع في ذلك بين أثره عند من دق نظره. ومثاله ما نراه من حال النمو في الأطفال وأنه يتدرج على ترتيب يخفى عن الحس إلى أن يبلغ غاية التمام والشباب ثم يولى تولية تلطف عن الإدراك حتى يجتمع فيه من أحوال الانتقاض والانتقاص ما تكون جملته محسوسة وإن لم يحسن تفصيله فذلك منفعة التعهد ومضرة الإهمال في خفائهما أولاً ثم ظهورهما أخيراً.
باب في تدبير الأهوية والبلدان
كما يسافر الناس لطلب المعاش فلذلك يجب أن يسافروا لطلب المنازل المحمودة والبعد من(40/25)
الأهوية الفاسدة فإن بعض الحيوان قد يفعل شبيهاً بذلك مثل أجناس الطير القاطعة وأصناف السمك المثقلة والهواء كالمركب أبداً من طبيعة الماء والتراب اللذين يمر عليهما واختلاف أحوال سكان البلاد في صورهم وأخلاقهم يتولد عن اختلاف هذه الأصول التي هي التراب والمآء والهوآء، وعلى حسب ذلك يجب أن يرغب الحكيم في إصلاح ما يخصه منها. وأفضل المساكن ما كانت تربته عذبة طيبة غير مشوبة ولم تبعد الشمس عن سمت رؤوس أهلها وكان عالياً في إنجاد الأرض وذرى الجبال ليتموج هوآؤُه ولا تحتقن فيه بخارات المياه وأنفاس الحيوان. ويكون ماؤه سبحاً من مناقيع طيبة حرَّة التراب، وتكون مجاريه بارزةً للشمس وحركته شديدة ومسافته من مبدإِه إلى منتهاه بعيدة ولا يكون بقرب المنزل تربة فاسدة أو مياه أَجنة من بطائح ونقائع، وقد يوجد في المواضع الخربة من الأرض تفاوت شديد يجب معه الحرص على طلب الأصلح وإذا دفعت الضرورة إلى نزول بلد هواؤُه فاسد أصلح بالبخورات الموصوفة. وجلب الماء للشرب من المواضع السليمة والانتقال عنه أصلح، فأما السلطان فتنقله في بلاد ملكه يجمع فنوناً من المصلحة منها سرور التنزه، ومنها تخير الأصوب في تدبير الأجسام ومنها توزيع مراعاته على كل حد من حدود ملكه، والهوآء أقوى أجسام هذا العالم تصرفاً وتصريفاً لما لاقيه وهو الذي يؤدي السري من الأجسام السمارية إلى الأرضية ويوصل قوى ما يمر عليه إلى ما يصل إليه كإيصاله الأصوات والروائح التي لو سكن لعدمت، ويجب أن يكون المبيت في الصيف بإزاءِ مهب الشمال، والجلوس فيالشتاء بإزاء مهب الجنوب، وفي الفصلين بإزاء مهب الصبا فهي موصوفة بطيب النسيم ولاسيما في السحر ويجتنب مع ذلك ملاقاة كل ريح عاصفة، وإنما خصت الصبا بالحركة في السحر لإقبال الشمس من ناحيتها فترفق أجزاء الهواء بحرها فيتبدد ويطلب مكاناً أوسع فيحدث النسيم المستلذ، ولأن الشمس تعطي كل ما تلاقيه في أول النهار قوة عجيبة، وأما الدبور فيجب اجتنابها في جميع الأوقات والأحوال. ويجب أن يجعل الجلوس عالياً عن مهب الهواء الجاري على وجه الأرض المشوب بالأبخرة فإنها تكدر الهواء المتنسم فيختر البدن ويفتره ويضعف قوة الحفظ وينقصه، وتستوطن العلالي والمناظر إلا أن يمنعه منها صميم الحر والبرد فيتعوض عنها الأسرَّة والفرش المنضدة قياساً على ما قد تقرر من أن المواضع الجبلية أصح مزاجاً وأنقى هواءً(40/26)
من السهلية. . .
باب تدبير الأكنان والملابس
واجب على الإنسان توقية جسمه الح والبرد من غير مبالغة في ذلك تكسب الترفه وتجلب الضرر عند أيسر تغيير من العادة وترقق أديم الجسم والحرارة أوحى إهلاكاً (؟).
والبرودة أشد مضادة وبذلك يهلك الشتاء النبات ويحوج الحيوان الصامت إلى الاستتار بدل الانتشار ويجب أن تكون مساكن الشتاء منحرفة عن سنن الرياح مستحصفة الحيطان لتكون أحصن. . . تخلل الهوااء واسعة رفيعة السمك ليكون للبخار والأنفاس ودخان الوقود والمصابيح مجال فيها فإنها إن تكاثفت انعكست إلى المسام فكانت لها بئس الغذاء وهذه الصفة في التوسعة وتعلية السمك تلزم في الصيف والشتاء، ويجعل مساكنه مضيئة ما أمكن فإن النفس تنزوي من الظلمة وتستوحش قياساً على الليل والنهار وربما احتيج إلى قرآءة كتاب في الظلمة فلم يكن إلا بإكراه البصر وإكراهه يكله ويضعفه والظلمة مضرة بالبصر فإن قوام النظر بالهواء المعتدل. وشدة الضوء تضره كشعاع الشمس واتصال الظلمة يبطله كما أصاب من طالت مدته في الحبس. ويجب إدفاء بيوت الشتاء بالنار التي يستوي في إحمائها جميع أجزاء البيت لتستوفي لذة الدفاء من جميع الجهات كفعل الحمام فإن اختفت مقادير السخونة أضرت بحسب خروجها عن الانتظام والاعتدال، إلا أن يحتاج أن يسخن بعض أعضائه فيجري ذلك مجرى العلاج ويبتدىء فيدخل في أول البرد إلى الأروقة ثم إلى المواضع التي تليها ثم يتدرج إلى المواضع الغامضة بحسب زيادة البرد كحال الداخل إلى الحمام في التنقل بين بيوته فإن لزوم التدريج بين الأضداد واجب، ويتقي برد الخريف أكثر من اتقائه برد الربيع لأن ذلك مقبل وهذا مولٍ، وأعدل الثياب القطن ولذلك لا يصيبها السوس ولا تسرع إليها الآفة وهي ملابس الشتاء والكتان للصيف لبرده ولتنشيفه العرق ييبسه، والصوف قوي الحرارة مضر بالأبدان التي تكثر حرارتها ويجب أن يختار من الملابس ما كان ناعماً لتلتذه حاسة اللمس، ويكون في الشتاء خفيفاً ليمنع البخار الخارج من الأبدان من النفوذ فينعكس إليها فيكون به الدفاء وهذا حقيقة الدفاء وبه تدفأ الأوبار أكثر لأن الكثافة فيها أوفر، واحتقان الأبخرة في أثنائها أعظم، وثوب الصيف متخلخل شفاف بضد ذلك إلأا أن يكون ضاحياً بارزاً في الصيف فيحتاج إلأى لباس كثيف ليوقي جسمه الحر،(40/27)
ومن كان محروراً واضطر إلى الوبر فليجتنب الثقيل الطويل الشعر كالثعلب، وليجتنب ما كان ضاماً للبدن كله كالأقبية ونحوها، وليقتصر على ما يدفئ الظهر فهو أشد ما في البدن برداً إلا أن الأعضاء التي فيها الحرارة كالكبد والقلب في البطن دون الظهر ولذلك يكون ابتداء الأمراض عنه أعني الظهر فإن الأخلاط فجة هناك فتبتديء الطبيعة بها ولا يغم رأس المعدة قإنه موضع حساس، وللصفراء هناك تسلط ربما آذاه لصوق الوبرية بل يجتهد أن يصل إلى هذا الموضع روح الهواء ما لم يضره، أو يخالف عادته ويتوقى ملاقاة الريح فإن التحرز من البرد فيها لا يمكن في الهواء الساكن فإن اضطر إلى ذلك استكثر من الدثار وتلثم وسد منخريه ولم يستنشق من الهواء البارد بل يتنفس من كمه أو ما يستره، وإن كان ممن يمشي مشي فسخن جوفه وإن لم يكن ممن يمشي ركب دابة كثيرة الحركة محوجاً له إلى الرياضة ودلك بدنه وقتاً بعد وقت فإن الحركة تقاوم البرد ودليل ذلك ما تشاهده من جمود الماء الواقف قبل الجاري ولا يباشر السفر في هذه الحال، إلا بعد أن يغتذي غذآء خفيفاً غير تام ويجعل فيه كالثوم والخردل، وأنفع من ذلك كله الشراب الموصوف فإنه يسخن الدم في عروقه. ويختار للصيف المساكن الفسيحة الكثيفة الحيطان التي للرياح الهابة فيها مخترق وترش وينضح الجسد بماء الورد ويروح عنه فأما السراديب والمواضع العميقة فتجتنب البتة فإن أهويتها غليظة تكسل وتفتر وإذا جلس في الخيش استعلى عن سطح الأرض بالأسرَّة وما يجري مجراها واحتال لوصول الهواء من أعالي البيت ليخفف عنه ثقل الهواء الثقيل المنحصر فيه ويكون الاستكنان في الخيش في وقت الظهيرة لا قبله ولا بعده ويستعمل الأطعمة الحارة في الشتاء فعلاً ومزاجاً والأطعمة الباردة في الصيف.
باب تدبير المطعم
من أخذ من الغذاء قدر حاجته من غير زيادة عليه ولا تقصير عنه دامت له الصحة، وكان مثله كالمصباح يمد من الدهن بما لا ينقطع عنه فيطفئه ولا يغمره فيفرقه وأقوى الأغذية غذاء اللحم، ولذلك صارت السباع التي تغتذي به أقوى من غيرها والأمم التي تنفرد باستعماله أشد بطشاً وأكثر غناءً في المصاولة ممن سواها كالأتراك ومن أشبههم وأفضله المعتدل الذي لا تغلب عليه كيفية من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة كلحم الضأن ولذلك صار الإنسان لا يمله وصار يطيب بكل صنعة وبكل طعم يضاف إليه وخص بهذه(40/28)
الفضيلة لاعتدال مزاجه، وخيره لحم الفتي منه وإن يجتنب ما صغر كالأجنة وما قرب عهده بالنتاج فإنه يكون لزجاً مولداً للكيموس الفاسد. ويجتنب الضاني القحل اليابس ويقصد السمان دون المهازيل والخصيان دون النعاج، فإن الولد يمص جوهرها ودون الفحول فإن السفاد يؤبس لحمها وكلا المعنيين يأخذ صفو أجساد الحيوان ويختار للأكل الرقبة ولحم الأضلاع والكتف والمواضع المتوسطة للجسد. ويجتنب الرأس وكل ما فيه الأفخاذ وما يليها فإن لحومها غليظة ثقيلة بطيئة الانهضام والأعضاء ذوات الأسماء والهيئات ولا خير فيها كالقلب والكبد والطحال والأمعاء والكروش إنها ليست لحماناً خالصة ولحم الطيور بالحكم الأعم أخف من لحوم المواشي وربما ثقلبعضها بالحكم الأخص وينبغي أن يقصد منها الأسرع انهضاماً، والحيوان المآءيُّ كالبط والغرانيق غليظة زحمة بطيئة الانهضام ولا خير في السمك لأصحاب الأبدان الباردة الرطبة وقد ينفع الطري منه المحرومين ويقصد منه المتوسط بين الصغير والكبير ولما كان في المياه العذبة دون البحار والآجام والمملوح منه كالقديد من اللحم ولا خير فيهما فإنهما كالشيءِ الذي ذهب صفوه ولبابه وبقي أثقل وأغلظ ما فيه، وأما الألبان فمناسبة للحم في جوهرها لأن أصلها الدم وتعمها اللطافة وسرعة الاستحالة فللطفها صارت غذاءً للصغار الذين تضعف قواهم عن الهضم ولاستحالتها صارت أجزاؤها تتميز سريعاً كالزبد والسمن وأمكن أن تتخذ أصنافاً كثيرة من الأغذية والاقتصاد عليها ليس بمحمود إلا لمن جرت عادته بها وإن جعلت أداماً وفي الطبيخ فإن طبيعتها عند ذلك تمتزج بطبيعة ما يكون مخلوطاً بها والحموضة فساد عارض في اللبن كما يعرض مثله في الشراب فليجتنب الصادق الحموضة منه ما أمكن وبياض البيض غذاء ثقيل وخيم وصفرته غذاء شريف كثير التغذية، وأفضله النيمبرشت والذي ينهضم من الحبوب ويستحيل منها إلى الدم أقلها والباقي الفاضل عن الهضم أكثرها وهي في ذلك مخالفة للحم لأنه مناسب للدم بجوهره سريع الاستحالة إليه، وينبغي أن يجتنب منها ما طبيعته توليد الرياح فكل ما يتولد الرياح عنه رديء بطيء الانهضام، وأجود الحبوب للاغتذاء السمين وما تناهى إدراكه ولم يكن فجّاً ولا عتيقاً عفناً كالفتي من الحيوان بين الأطفال والمسان ويعتمد لبابها، ويجتنب قشورها، فإن القشور تولد كيموساً غير محمود، والفواكه قليلة الغذاء ومن أفضلها التين والعنب، وهما مع ذلك إذا لم ينهضما ولدا أمراضاً(40/29)
رديئة والإكثار من جميع الفواكه ومن هذين النوعين رديء لإسراع العفونة إليها في المعدة واستحالتها إلى الكيفيات الرديئة ويجتنب قشورها فربما لصق القشر بالمعدة والأمعاء فضر ويهجر كل ما كان فجاً وقديماً عفناً من جميع أصنافها والبقول لايكاد ينهضم منها إلا ما كان مطبوخاً لأنها عادمة النضج في جميع أحوالها إلا أنها في أول منبتها ألطف ويجب أن يجتنب أكلها بالجملة كل معنيّ بحفظ الصحة فإن دعت شهوة أو ضرورة فالفوذيخ (؟) فإنه يقوي المعدة والهندباء فإنه يصفي الدم، والخس فإنه يرطب ويقمع الصفراء ويهجر ما له حرافة وحدة إلا أن يطبخ في جملة الطعام.
صنعة الطعام
إحكام صنعة الطعام أحد قوانين حفظ الصحة لأن الطبيعة تشتهيه فتستمريه وقوام الطعام معنيان نوع الغذاء وصنعه وقوت الصنعة أضر من رداءة النوع، لأن الرديء النوع قد ينقله أحكام الصنعة إلى أن يلتذ ويشتهى. والجيد النوع قد يجري أمره بالضد فيقل ميل الطبيعة إليه ونيلها منه وما فاته جودة الصنعة حل من الطبيعة محل الدواء المستكره لا الغذاء المشتهى وربما ولد أمراضاً لنفار الطبيعة منه وقلة احتوائها عليه ويبلغ من الانتفاع بقوة الشهوة أن الضار قد يصير بها نافعاً بجودة الاستمراء له واستيلاء القوة عليه حتى أن المرضى ربما اشتهوا شيئاً رديئاً فأصلحت قوة الشهوة فساد مزاجه فقلَّ لذلك الاستضرار به، وأحوج الناس إلى هذا الباب من اعتاده ومرنت حاسة الشم منه عليه وارتاضت مذاقته به والجفاة الطبع أقل حاجة إلى التدقيق في هذا الباب أولاً لجفاء التركيب، وثانياً لفقد العادة في الارتياض لمعرفة الطيب وغيره فقليل الصنعة كثير عندهم، وثالثاً أن كثرة حركاتهم تجود هضم معدهم حتى يستمروا من الخبز الفطير ومن اللحم ما ناله الأشمام ولا يستضرون بشيء منه بل يناسبون الحيوانات الصامتة في أكثره وأولى الأشياء بالتقية فيه الخبز لأنه أصل الغذاء والراتب منه وأصوب ما يستعمل فيه المبالغة في إنضاجه فإن القليل النضج منه يولد فيالبدن أخلاطاً غليظة وأدواء خبيثة، والخبز الخشكار أكثر حرارة وأسرع هضماً لحرارة نخالته.
والحواري أبطأ انهضاماً وإذا انهضم كان أكثر غذاءً وأفضل جوهراً وبالجملة فكل ما فاته النضج فالآفة فيه على البدن عظيمة جداً ولا يتناول منه الحار لوقته فإنه بمثابة مالم يدرك(40/30)
ولا اليابس فإنه بمثابة القديد وكلاهما إذا أصابه الماء في المعدة انتفخ وربا كما يصيبهما إذا صب عليهما الماء خارجاً عنه، بل ما كان مخبوزاً ليومه أو غده ثم اللحم ومن التدبير فيه إنضاجه ويتجاوز ذلك فيمن ضعفت معدته إلا أن يهرا له تهريةً، فأما من قوي هضمه كرجال الحرب فالصواب أن يتناولوا من الخبز الفطير ومن اللحم المشوي ما لم ينته نضجه ليتولد لهم اللحم الصلب الكثير المحتمل للألم فإن اختمار العجين وتهرية اللحم يقلل قوتهما، وما كان من الحيوان رطباً كالسمك والحملان الرضع شوي ليقلل رطوبته وما كان مسناً طبخ ليقلل رطوبة الطبخ يبوسته، والشواء يؤبس الطبع والطبخ يحله، وما عمل بالكانون أخف مما عمل بالتنور، لأن التنور يغمه فيرجع إليه البخار فيكسبه ثقلاً ووخامة وأغباب شواء التنور أصلح ويستعمل بعد شوق إليه، وشهوة له تعين على هضمه ويطيب الطبيخ بلباب البصل والحمص ومآئهما دون قشورهما وجملة جرمهما وبالجملة فاللب من كل شيء أكثر نفعاً وأقل ضراً من القشور، ويجتنب الأشياء الحريفة كالخردل والثوم فربما لذعت الآت الغذاء وقرحتها كما تفعل في ظاهر البدن قلت وهذا الحنين فيه قول يدل على أنها تقرح الظاهر وتعفن الباطن وإذا انهضمت الأشياء اللذاعة أحدثت في الكيموسات كيفية حادة حريفة مضرة جداً لأن الذي تفعله استحالة كيفية الدم أضر مما تفعله كميته ويجب أن يجتنب التي منها حتماً وأصلح الأطعمة ما لم يغلب عليه طعم فإن الطعم الغالب يدل على الكيفية الغالبة وأشد الطعوم ومشاكله للدم الحلاوة، ولذلك تشتد شهوة الصبيان لها لأنهم في سلطان الدم والحلو الأصلي كالتمر والعسل أشد تسخيناً للدم وإحراقاً له من الحلو الدسم كالفالوذج ونحوه وهذه المركبة أقل غائلة في تنوير الحرارة لأن الدسومة تقاوم تلك السورة إلا أنها أثقل على المعدة لمكان الدسومة وشرب الماء على الحلو الأصلي أنفع من شربه على المركب لأن الماء يمازج الأصلي فيكثر حلاوته ويعدله ولا يمازج الدسم فيعقب لذلك تخماً، والأصلح في تناول الحلو استعماله عباً وبعد الشوق الشديد ثم الإقلال وقصد اللطيف كالمعمول من السكر الطبرزد واللوز والحامض يفتق الشهوة إلا أنه أقل غذاءً من الحلو وهو مضر بالعصب، ويعق! ب الهزال والنحافة، وأصلح الحموضات الخل فإن فيه تحليلاً وتلطيفاً، والمالح معين على الهضم ويعتبر ذلك من تأثيره في الأشياء التي يطيب بها فيدفع العفونة والفساد عنها وهو ينوب عن الأفاوية الحارة مع سلامته وقلة غائلته، ويجتنب أكل(40/31)
الطبيخ الحار الذي في بقية عليانه ولم تفارقه الأجزاء النارية فإنه كالشيء الذي لم يدرك، والغاب والفاسد رديء لا خير فيه. . . .
أوقات الأكل
أصلح أوقاته وقت الحاجة إليه وتجتنب استعماله بالعادة في وقت يعينه في كل يوم أو بالمساعدة أو بالشهوة الكاذبة فإنه يحدث حينئذ أمراضاً خبيثة والغداء والعشاء يصلحان للعامة ويجب أن يخفف الغداء لئلا يثقل البدن عن التصرف في المعاش ويستوفوا العشاء لأن النوم يتبعه فيعين على هضمه فلليل خاصية في تجويد الهضم ليست لنوم النهار إلا أن العشاء ربما أضر بالرأس والعين لأن قوة الهضم تحدث أبخرة كثيرة، فأما الملوط فصدر نهارهم مشغول بمهماتهم وهم يستكثرون مع ذلك من الألوان فلا يبقى فيهم فضلة لأكلة أخرى، بل الواجب أن يستقبلوا الليل بعد النوم الذي يعين على هضم الغذاء وهم في نهاية الجمام والنشاط للسهر والمؤانسة وإن دعت أحدهم نفسه إلى أكلة ثانية وليس ذلك بصواب له فليحذر اللحم والدسم ويقتصر على الخبز لا يكاد يعرض منه تخمة ولا يثقل إلا أن يفرط في الإكثار منه ويجعل أدمه في هذه الحال من الحموضات والملوحات وليحذر كل الحذر ويتوقى كل التوقي أكله بين شرايين فإنه مجرب الضرر ولا يكاد مستعمله يسلم منه.
تقدير الطعام
الحمية أصل الطب. وقلة الأكل أفضل العلاج، وحد ذلك أن يمسك عن الأكل وقد بقيت من الشهوة بقية تدعوه إلى الازدياد، فإن الطعام يربو وينتفخ في المعدة بعد أكله فإذا أمليت به ولم يترك فيها فضاء لرتوه أحدث الكظة وأوجب التخمة وتولدت عنه الأمراض الرديئة، ومن ضعف هضمه، جعل أكله دفعات وخففه واقتدى فيه بتدبير الطبيعة في تفريقها غذاء الأطفال وبتقليله في كل مرة، وينبغي ان تكون الجرأة على الأكل في الشتاء أكثر لانهزام الحرارة إلى غور البدن ويستعمل في الصيف ضد ذلك ويقصد في زمان الصيف اللطيف من الأغذية كالبوارد.
ترتيب ألوان الطعام
يجعل الأخف قبل الأثقل ولا يبتدئ بالدسومة فتفقر الشهوة وتلطخ المعدة بل يقدم الحامض بالخل فإنه يحلل أجزاء ما لاقاه فيفتق الشهوة ويمكن لما سواه ولا يقدم الشيء الحلو فإن(40/32)
الطبيعة لميلها إليه تستولي عليه فينقطع به عما سواه ولا يبتديء بالشواء فإن القوة الهاضمة إذا تعلقت به قهرها فاقتصرت عليه فلم يمكن الاستكثار من شيء بعده ومن كانت معدته باردة فيجب أن يستعمل الفاكهة بعد الطعام بساعة جيدة ليلحق خفته الثقيل المنهضم قبله.
صفات الأكل
يجتنب تعظيم اللقم وسرعة الأكل. وإن لا يخلط في الأطعمة فإن في هذا الأدب فوائد ولها أنه أبلغ فيالاستيفاء من الطعام وأهون على الهضم الجيد وأبعد من الكظة لأن الذي يصل إلى معدته الشيء بعد الشيء من الطعام تستولي عليه القوة الهاضمة وتتمكن في الهضم، واللقم المتتابعة تقبر هذه القوة وتغص المعدة فيتولد عنها الفواق والجشاء المؤذي المستقبح وكذلك حال الماء في امتصاصه والعدول عن عبه وتأني الأكل أبعد من مشابهة الحيوانات التي تتناول أغذيتها بالنهم والشره وأحرى أن لا يستقذر الإنسان وتعاف الأنفس مؤاكلته ثم إن كانت عنده دعوة أو جماعة كان تأنيه أمكن لهم في تناول حاجتهم فمن رزق هذه العادة وإلأا فليرض نفسه عليها، ويجتنب الأكل على حال انزعاج من النفس وما ينسيه ثم يتناول الغذاء بعده ويسر نفسه بمحادثة المواصلين، ومؤانسة المنادمين فإن ذلك معين على نجوع الغداء ولذلك كانت الملوك لا تنام ولا تشرب ولا تأكل إلا على سماع ملذا أو حديث ممتع وإن لم يتمكن من النوم بعد الأكل فلابد من اضطجاعة أو تكأة فإن الانتصاب والقعود تعب والتعب يمنع من تمام الهضم.
الباقي للآتي(40/33)
إسبانيا والعمران العربي
تتمة ما في الجزء الماضي
دثرت المدنية الإسلامية الباهرة لا بأيدي المسيحيين الذين كانت تخشى بأسهم بل بصنع أناس من المسلمين أنفسهم نسفوها نسفاً وأعني بهم المرابطين. ولم يلتجيء أمراء العرب في الأندلس إلى هؤلاء الإفريقيين القساة المتبربرين الذين حملوا إلى الإسلام روح تعصبهم المنبعث من ضيق عقولهم الجاهلة إلا بعد أن أوجسوا خيفة على حياتهم وزاد سوء ظنهم في العواقب. هلك المعتضد ونفسهتحدثه بالشر الذي يجره على بلاده وأخلافه. وبينما كان ألفونس السادس ملك طليطلة إذا هو قد أصبح ملكاً على إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغدا الأندلسيون مهددين من جهتين فرأوا أن يستسلموا لأبناء دينهم من المرابطين ليدفعوا غارة المسيحي عنهم وهو عدوهم القديم.
وفيسنة 1086 هزم يوسف (بن تاشفين) وعصاباته الإفريقية ألفونس السادس في وقعة الزلاقة شر هزيمة وفي سنة 1100 كتب لهذه العصابات أن تطرد عامة ملوك الطوائف أو تقتلهم وفيعام 1027 استرجعوا مدينة سرقسطة وخضعت إسبانيا كلها لملك مراكش.
وإن الثلاثة الملوك من المرابطين الذين استولوا على الأندلس منذ سنة 1100 إلى 1445 وهم يوسف وعلي وتاشفين كانوا على شجاعة فيهم ضعاف المدارك موسومين بالتعصب لا وقوف لهم على اللغة بل ولا على آداب العرب وأخذوا بتحريض الفقهاء يضطهدون الشعراء والعلماء والفلاسفة باسم الدين حتى اضطر هؤلاء أن يصمتوا أو أن يفروا بأنفسهم إلى بلاد أعدائهم القدماء ملوك قشتالة ونزلوا مدينة طليطلة حيث توفروا على تخريج النصارى يعلمونهم من أحكام الترقي ما كان ينقصهم للحاق بالمسلمين.
ومن الغريب أنه لم ينشأ على عهد عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني على كثرة حرصهم على المعارف علماء متجرون وفلاسفة عظام في البلاد الأندلسية المستعربة. وعلى العكس كنت ترى الفلاسفة يكثرون في عهد الشدة أيام أخذ المتعصبون من أهل الدين يطاردون كل من يجرأ في أرض الأندلس على مخالفة مذهب مالك. نعم كانوا ينبغون على حين غرة من أولئك المتنطعين وينيلون إسبانيا العربية مجداً لم يبلغه المسلمون أيام كانوا مشارقة صرفاً. فجاء الأندلس أمثال ابن باجة وابن الطفيل وابن زهر ولاسيما أبو الوليد ابن رشد الذي(40/34)
تخرج بابن باجة وانتمى إلى ابن الطفيل وصحب ابن زهر.
هذه الفلسفة التي انتقد عليها فيما بعد لخلوها من الإبداع قد كان لها شأن عظيم في حضارة القرون الوسطى بأن كانت واسطة النقل إلى الغربيين الذين أضاعوا حتى الاسم من معارف اليونان على ما تلقتها عنهم مدرسة الإسكندرية وبفضل هذه المدرسة تسنى لعلم الفلسفة واللاهوت (علم الكلام) في القرون الوسطى في الغرب أن تتصل التقاليد المدرسية بآداب النهضة.
كان للشعراء مقام كريم بين الناس بمافطروا عليه من التصورات فكانوا على طبيعتهم الشرقية لا يأتون ما يخالف روح الإسلام وكان الملوك بما فيهم من الاستبداد الطبيعي والأغراض السياسية يمقتون الفلاسفة. هذا إلى ما هنالك من حقد المتنطعين والمتفقهين وما جبل عليه الشعب الإسباني من أخلاق التعصب وكان الإسبانيون بانتحالهم الإسلام يزيدون المسلمين تعصباً إلى تعصبهم.
وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني من التسامح على جانب مع العلماء ولقد اتهم المنصور حاجب هشام الثاني بأفكاره الفلسفية فلم يدفع عنه هذه التهمة إلا بتكبير مسجد قرطبة ونسخ القرآن بيد، وإدرار الهدايا والعطايا على العلماء والفقهاء وتخريب خزانة كتب الحكم الثاني لأنها كانت عبارة عن كتب فلك وفلسفة وجغرافيا وطب فأحرقت وبإحراقها بادت إلى الأبد كنوز لا تقدر بثمن ونال لقاء ذلك رضا المتنطعين فخلا له الجو في قصره وأخذ يشتغل بالدروس التي يحظرها على الناس ويشتد في الإنكار عليها. وما أتاه من هذا القبيل سياسة قام به المرابطون مدفوعين إليه بعامل من الاعتقاد ونابل من أمزجتهم.
فكما أحرقت سنة1150 كتب ابن سينا في بغداد بأمر الخليفة رأينا بابن باجة يسجن بدعوى المروق من الدين ويضطر ابن واهب من إشبيلية أن يخلى عن دروسه الفلسفية إبقاءً على حياته ويقتل ابن حبيب من أهل تلك المدينة لاتهامه بالفلسفة. ويضطهد ابن الطفيل حتى يضطر إلى الاعتراف جهاراً بإيمانه الصحيح ومعتقداته الخالية من الشوائب. وهكذا انقضى زهاءُ قرن والكتب تحرق في أطراف إسبانيا الإسلامية وبها يبيد أثمن ذخر من الآداب العربية.(40/35)
حاول السلطانان الأولان من الموحدين وهما عبد المؤمن ويوسف وكانا يميلان إلى الحرية أن يخففا من تعصب عصاباتهما ومن تشدد المتنطعين من المتصوفة حتى حظر عبد المؤمن إحراق الكتب على نحو ما كان يفعل المرابطون لإبادتها وأحسن معاملة ابن الطفيل وابن زهر وابن باجة. وأغدق يوسف وكان أعلم أمراء عصره على ابن الطفيل من إنعامه الشيء الكثير وقرأ عليه فلسفة ابن رشد وفوض إليه أرقى المناصب ومنها منصب القضاء في إشبيلية ثم أقامه طبيباً أول فيقصره (1183) ووسد إليه منصب قاضي القضاة في قرطبة على نحو ما كان أبوه وجده. وأفاض عليه يعقوب المنصور بالله ما كان له من أسلافه وزاد عليه ولكن إرادة شخص ولو كان ملكاً لا تقوى على صد هجمات تيار الرأي العام ولاسيما في عصر كان فيه سلاطين الموحدين مضطرين إلى إضرام جذوة التعصب فينفوس رعاياهم المسلمين من الأندلسيين لمعاكسة ملوك قشتالة وأراغون الذين كانوا على الدوام يتقدمون إلى الأمام.
وفي سنة 1196 بعد وقعة الأركوس التي كتب فيها النصر للمنصور على ألفونس التاسع صاحب قشتالة قويت شوكة الحزب الديني في القصر السلطاني ونكب ابن رشد على شيخوخته نكبة هائلة تناولت كثيرين من العلماء والأطباء والشعراء بل والفقهاء متهمين بحرية الفكر والخروج عن مقصد الجماعة. وطرد العامة ابن رشد على أبشع صورة من الجامع الأعظم في قرطبة وكان ذهب إليه لأداء الصلاة مع ابنه عبد الله الذي كان من أعظم عمال تلك المدينة ونفي إلى مدينة لوسنا اليهودية. وفي غضون ذلك صدر أمر من المنصور يحظر فيه على مراكش وإسبانيا درس الفلسفة المضرة والعلوم وما يتعلق بها ولم يستثن من هذا الحظر إلا الطب والحساب ومبادئ الفلك. وعهد بتنفيذ أمره إلى ابن أخت ابن زهر وكان فيلسوفاً كخاله فصدع بالأمر والخوف رائده. ثم إن ابن رشد نال الرضا من سلطانه قبل موته بأربع سنين وعاد المنصور يتوفر على دراسة ما كان يحظره على أمته من العلوم ولكن بعد أن ضربت الفلسفة الإسبانية العربية ضربة لا يجبر كسرها.
وإذ طردت العلوم الإسلامية من بغداد ومراكش وإسبانيا لم يبق لها غير مصدر واحد تلجأ إليه في طليطلة حيث طلبت حماية الدول المسيحية التي هي ألد أعدائها وكان سبقها إلى تلك العاصمة كثير من المسيحيين والإسرائيليين من أهل الأندلس فزعوا إليها لتحمي(40/36)
حياتهم ومعتقداتهم. وإذ كان المرابطون والموحدون متعصبين بالفطرة اضطروا أن يتظاهروا بالتعصب سياسة أيضاً فكانوا يعيشون في جهاد دائم لمقابلة المسيحيين من سكان الشمال الذين لم يكونوا دونهم في الانغماس بحمأة التعصب أيضاً للدفاع عن كيانهم في بلادهم ولم ير أولئك المرابطون والموحدون وسيلة إلى بث دعوتهم في نفوس أبناء دينهم أحسن من إثارة روح التعصب في جمهور العامة المتعصب وليس من سبيل إلى إقناعهم إلابتحسين دينهم لهم واضطهاد غيره من الأديان. فلا عجب من ثم إذا عومل نصارة الأندلس بأقصى الشدة وخربت كنائسهم وصودرت أموالهم وغدوا على الدوام مهددين في حياتهم. ولما عيل صبرهم استصرخوا ألفونس السابع المعروف بحبه للحرب والضرب فاقتصر من نجدتهم على غزو المسلمين في عقر دارهم ولكن بدون طائل إذ قاسى مسيحيو الأندلس من تلك الغزوات ضروب النكبات فقتل بعضهم أو نفي إلى إفريقية (1125) على صورة متوحشة بحيث هلكوا بأسرهم قبل أن يبلغوا منفاهم.
وجرى استئصال شأفة النصارى سنة 1136 على أقسى وجه حتى لم يبق منهم باقية في الأندلس ومن نجوا من الموت والتشريد لجؤا إلى قشتالة. وهكذا أسدى المرابطون والموحدون لنصارى الشمال معروفاً عظيماً غير متوقع بما توفروا على القيام به من العسف حتى نقضوا العهد الذي كان عقد بين إسبانيا الجنوبية والمسلمين العرب وقووا الشعور الوطني والتحمس الديني في الأندلسيين وجمعوا بين الإسبانيين من سكان الشمال ومن سكان الجنوب بما بينهم من أواصر الجنس والدين فقاموا قومة رجل واحد في وجوه المسلمين مسوقين إلى ذلك بحب الانتقام المتأصل بين الإسلام ومن يخلفه. وما كان الاضطهاد الذي نال أهل الصناعات الوديعين من المغاربة بعد خمسة قرون إلا جواباً طال التفكر فيه ودعت إليه قسوة المرابطين والموحدين وكان نتيجة تعصب مماثل لذاك التعصب ورأي سياسي مشابه لتلك الآراء وإن كان إلى الصراحة أقرب.
ولم يلبث امتزاج الشعوب الإسبانية على اختلاف العناصر والدين إن أثمر الثمرة المطلوبة فانهارت قوة الموحدين في وقعة لاس نافاس دي تولوزا (1212) وسقطت قرطبة (1238) وإشبيلية (1254) وبلنسية ومرسية في أيدي الإسبانيول وغدا هذا الاسم بعد حين جامعة دينية أكثر مما هو جامعة جنسية لأن جميع من لم يرتدوا عن الإسلام دخلوا في سواد(40/37)
العرب البربر وامتزجوا فيهم أي امتزاج. وإن المغاربة الذين رضوا بأن يعيشوا في الأندلس عيش التنبت إلى القرن السابع عشر ليصعب عليهم أن يبرهنوا على أنهم من دم إفريقي ثم أنه يتعذر على الإسبانيول أيضاً أن يذكروا أنسابهم لأن بعضهم مخضرمون خلاسيون فيهم الدم العربي وقليل منهم سرى إليهم دم البربر إبان الفتح وآخرون أصبحوا إفريقيين صرفاً عند زوال ذاك السلطان وخفوق راية الإخفاق على ربوع الأندلس الإسلامية.
ومما قوى أمل المسلمين في المستقبل وزادهم نشاطاً كثرة عديدهم فقد طرد منهم فرديناند الثالث بعد دخوله إشبيلية زهاءَ ثلثمائة ألف مسلم من أهل هذه المدينة فلجؤا من إشبيلية إلى قرطبة وجيان وبلنسية وغرناطة حيث بقيت دولة بني نصر مائتين وخمسين سنة أيضاً وعلى هذا كانت غرناطة آخر ملجأ للعمران العربي أزهر أي أزهار عندما أوشك بالانقراض فرأت حدائق الحمراء البهجة كبار الشعراء والمؤرخين من العرب أمثال محمد بن الخطيب وابن خلدون يجتازانها هما وابن بطوطة الجغرافي العظيم.
كان من نتائج وقعة لاس نافاس دي تولوزا أن حررت إسبانيا من رق العبودية للمسلمين وأدرك ملوك قشتالة أن ليس من العقل مقاطعة الماضي القديم وأنهم في حاجة بعد إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء ومنافسيهم الألداء (المسلمين) فحاول ألفونس العاشر خليفة القديس فرديناند الثالث واكن أوسع ملوك عصلره مدارك أن يعمل لإسبانيا المسيحية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام وذلك بالأخذ بأحسن ما فيالحضارتين ومزجهما بالحضارة الإسبانية.
فأسس سنة 1254 في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية عربية وحفظ لمدينة مرسية رونقها العربي الصرف واستدعى إلى عاصمته العلماءَ من جميع الملل والأجناس ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية وقوامها اختيار أحسن المعارف النافعة وهي أقرب إلى التسامح من المدرسة الأولى إذ كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية الحضارة العربية والعلم العبراني. وذلك لأن الإسرائيليين على سعة آمالهم في أحكام صلات التآلف بينهم وبين مسلمي الأندلس وما عرفوا فيه من مرونة الأخلاق قد عوملوا أسوأ معاملة وأوذوا في أنفسهم كما آذى المرابطون والموحدون نصارى تلك البلاد. فقتل الإسرائيليون ونفوا ومن سعدهم أن لجؤا(40/38)
إلى أرض ملوك قشتالة وأراغون الذيمن أحسنوا استقبالهم وكان لهم في بلاطهم شأن مهم أواخر القرن الخامس عشر فكان منهم أمناء الخزائن ومستشارون وأطباء للملوك. وبلغ عددهم في طليطلة أيضاً زهاء اثني عشر ألف شخص. وظل اليهود إلى ذاك الحين أقدر التراجمة على نقل الحضارة العربية وبما ترجم منها إلى لغتهم نجت أثمن آثار تلك الحضارة لأن الموحدين والمرابطين أخذوا يبددون كتبها عامة. وكان زان بن زاكت ويهوذا هاكوهن والربان زاك هم الذين نقلوا لألفونس العالم معظم كتب التاريخ والفلسفة والفلك عند العرب مع الشروح التي علقها عليها الشراح. وأتى دهر ظن فيه أن ألفونس العاشر سيحيي إسبانيا بعد موتها.
ظهرت الكنيسة أنها طمع في تنصير المسلمين بالبرهان فوضع أحد الرهبان الدومينيكيين واسمه رامون مارتي أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230 وفي سنة 12 ـ 1311 امتدح البابا كليمان الخامس في إحدى المجامع الدينية من إنشاء كرسي لتعليم العربية في مدرسة سالامنكة. وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومينيكيون مثالاً لغيرهم بإنشاء مدارس لتعليم اللغات الشرقية ليقف رهبان من أهل الغيرة على لغات غير أبناء دينهم ومعتقداتهم ويباحثوهم ويجادلوهم. وقد أنشأ يعقوب الأول صاحب أراغون مدرسة مثل هذه في ميرامار إكراماً لثلاثة عشر راهباً فرنسيسكانياً وأخذ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص ينقطعون إلى دراسة اللغة العربية ليقاوموا الفقهاء والمشايخ بسلاحهم. وعلى هذا التقليد ظلت الجمعيات الدينية ولاسيما الفرنسيسكان إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة الاستشراق أي درس آداب الشرق ولغاته وتاريخه.
كانت وطنية الإسبانيين متشبعة بروح السخط وحميتهم قائمة على التعصب وعدم التسامح وسياسة ملوكهم إلى الشدة ولذلك نالوا ما طمحت إليه نفوسهم من استتباع المسلمين بدراسة علومهم وقد نشأت من هذا الاحتكاك حضارة ذات قلب وإبدال مركبة من حضارتين مهمتين بغناهما ثم استقل الإسبانيون بعقولهم المرنة الشديدة المروضة وأصبحوا مصدر حضارتهم ومقرري مدنيتهم.
اعترفت إسبانيا بما هي مدينة به للحضارة العربية بما حفظته لها في مدارسها من الشأن(40/39)
حتى بعد أن تحررت من قيودها. كان في سالامنكة التي استحقت أن تجعل في مصاف باريز وأكسفورد وبولونيا إحدى المراكز العلمية الأربعة في الغرب سبعون حلقة للتدريس وربما بلغ عدد طلبتها سبعة آلاف في القرن السادس عشر ولم تنل هذه الشهرة الطائرة أولاً إلا لكونها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب التي كانت إلى ذاك العهد مغشاة بتجارب تافهة وعمليات مضحكة من نحو السحر والطلسمات. ولم يكن في سالامنكة في أواخر القرن الثالث عشر على عهد البابا بونيفاس الثامن غير خمسة وعشرين حلقة للتدريس منها حلقة لليونانية وأخرى للعبرانية وثالثة للعربية.
ولقد أصيبت هذه الحركة المثمرة المباركة بضربة شديدة عندما عاد ملوك الكاثوليك فاستولوا على غرناطة سنة 1492 واستصفوا أرض إسبانيا وأبادوا آخر مملكة إسلامية من شبه جزيرة الأندلس. ومنذ ذاك العهد أعادت حرب لا على دين أصحاب تلك البلاد ونعني بهم المسلمين بل على جنسيتهم ومدنيتهم. وقد جرت العادة بأن تلقي تبعة هذا العمل على رجال الدين من الإسبانيين ممن كانوا في الحقيقة متفانين في تنفيذ هذا العمل وذاهبين بفضل الربح فيما قاموا به من الذرائع على أن هذا الحكم لا يخلو من غلو ووضع المسؤولية في غير موضعها وذلك لأن ملوك الكثلكة مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث الذين نسب إليهم الفخار بهذه الأعمال هم اليوم يبوؤن بالقسم الأعظم من العار. فكانت الشدة فيهم منبعثة عن رأي سياسي كاذب أكثر مما هي عن تعصب ديني ويراد بها التوسع في الملك على وجه سخيف. فطمع الإسبانيون بعد الوحدة السياسية والملكية التي نالوها بالصبر عليها قروناً أن يضموا إليها الوحدة الأدبية المتناهية في الخيال وهي التي كان يتصورها لويس الرابع عشر بفكره القاصر وانتهت بفسخ الأمر الصادر في نانت. وكان الفكر السائد منذ عهد فرديناند الكاثوليكي إلى فيليب الخامس بين جميع حكومات إسبانيا أن يعملن كلهن على تطبيقه على ضعاف المغاربة بالشدة التي جرين عليها في الأزمان السالفة فكن يقاومن أمراء المسلمين في الأندلس مقاومة ليس بعدها مقاومة. ومثل ذلك كان يجري على الإسرائيليين بصورة أكثر شدة ولكن لا تكاد يشعر بها لأن اليهود كانوا عبارة عن طائفة أقل من المسلمين وكان الغضب والأحقاد الشخصية تصب عليهم في الفترات متقطعة ثم زاد التعصب الإسباني وعجل بالقضاء على كل مخالف. وأكد فرديناند(40/40)
وإيزابيلا للمغاربة في غرناطة والأندلس بأنهم في حلٍّ من البقاء في أرض إسبانيا وأن يكونوا أحراراً في دينهم على شرط أن لا يدعوا إليه وأن تجعل جميع مساجدهم كنائس كاثوليكية. ولما قضى نحبه الكردينال بدرو كونزالز دي مادوزا سنة 1495 قام الكردينال كسيمنس دي سيسنروس رئيس أساقفة طليطلة ومن قدماء الأساتذة ومن الشاهدين على ما قالته إيزابيلا وحاكم إقليم قشتالة ينقض العهد الذي تم مع المسلمين رياءً ونفاقاً. وكان هذا الرجل معروفاً بسعة نظره وقوة عارضته في العمل بكل رأي يراه صواباً فيدعو على العمياء لتأييد الحكم المطلق للمقام البابوي أو للحكومة الملكية.
وأنشأ القوم بعد ذلك لا يكتفون بدعوة المسلمين إلى النصرانية بل يتطلعون إلى تعميدهم أو طردهم فجرى تعميد ألوف في إشبيلية وطليطلة وقرطبة وغرناطة من أولئك البائسين من المسلمين ممن اضطرتهم المصلحة والخوف واحترام المتغلب وحب الأرض التي ولدوا فيها أن يرضوا بتغيير معتقداتهم وقلوبهم منكرة عليهم أعمالهم ثم تكفل ديوان التفتيش الديني بمراقبتهم لتتبين له طهارة اعتقادهم. ومنذ سنة 1501 ـ 2 طرد من قشتالة ومملكة غرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام ولم يعد للدومينيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا بها من مجادلة الفقهاء وتخلوا عن علومهم لأنها أفسدت أفكارهم وزهد المسيحيون في علوم المسلمين إذ قام في أذهانهم أنها خطرة عليهم. ولذلك رأينا الكاردينال كسيمنس عندما أسس أو أحيا سنة 1499 كلية الكالادي هنار استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية مع أنه نسج في تأسيسها على منوال مدرسة سالامنكة وجعل فيها حلقتين لتدريس العبرية واليونانية فرأى أن تكون هذه المدرسة الجامعة لتلقي علوم اللاهوت وأن تبث الدين الذي يريد الملوك والبابا أن يروه غاماً موطداً الدعائم من أقصى إسبانيا إلى أقصاها. وكان أعظم أستاذ في سالامنكة في القرن السادس عشر فري لويس دي ليون شاعراًً لاهوتياً وفيلسوفاً مستشرقاً يحسن اللغة العبرية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية.
صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية ولاسيما من المصاحف المخطوطة أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن ولولا تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقضي(40/41)
على الحضارة العربية بجملتها التي امتد رواقها على إسبانيا مدة ثمانية قرون ولم يبق لعينها من أثر. وكاد ديوان التفتيش الديني على ما أخذ به نفسه من إبادة كل أثر للعرب أن يجعل طعاماً للنار تلك المخطوطات العربية التي حفظت في خزانة كتب الأسكوريال لولا أن تلطف الماركيز فيلادا وحال دون إحراقها. أما متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين فلم يكونوا يستطيعون إبداءَ أسفهم إلا سراً وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية أي الإسبانية المكتوبة بحروف عربية دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم.
ولم يحظر فيليب الثاني سنة 1556 على متنصرة المسلمين حمل السلاح فقط بل منعهم من استعمال اللغة العربية وأرادهم على أن تنزع من أسمائهم التراكيب العربية ومن أجسامهم الألبسة الشرقية ليدل بذلك على أنه يريد مزجهم في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي. ثم إن قدماء المسيحيين من الإسبان كانوا كل حين يحتقرون أولئك المتنصرة على نحو ما كان العرب قديماً أيام عزهم يزدرون بالمولدين ولما ضاقت صدور المغاربة انتفضوا على احكومة فشتت شملهم في أودية البوجاراس وبعد مقاومة شديدة نفي أولئك المتنصرة أو سجنوا في أواسط بلاد إسبانيا وأصبحوا أمراء (1558).
سيم المسلمون في إسبانيا سوء العذاب فحاولوا ثانية أن يشقوا عصا الطاعة على عهد فيليب الثالث وعندها نفوا آخر مرة وعددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة. ولم يبق إذ ذاك من الحضارة العربية واللغة العربية غير ذكراهما البعيد وأصبحتا مزدرىً بهما. وهنا لا يسعنا إلا الاعتراف بأن الإسبانيول عاملوا الكتب والناس على نحو ما جرى المرابطون والموحدون وكانوا يمقتون أكثر لو لم يستعيضوا عن المدنية التي قضوا عليها بمدينتهم التي كانت إذ ذاك في أوائل أنبلاج فجرها فإن تخالفت النتيجة فالطرق إليها سواءٌ في اللوم والتقريع.
ومما لا يقبله العقل لولا أنه حقيقة أن إسبانيا التي كان للمدنية العربية عليها أيادي بيضاء قد بلغت بها الحال إلى أن تناستها بالكلية. فكان يزهد خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بالمرة في تعليم اللغة العربية في أرض إسبانيا ولم يكن له أثر إلا إذا كان على طريقة سرية إفرادية وغدا الاطلاع على العربية نقصاً وربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد ولم تبق مدرسة تريلنك لرهبنة الفرنسيسكان في إشبيلية من أساليب تعلم العربية إلا أثراً ضئيلاً(40/42)
فكان يكفي الطالب منها أن يلفظ الأسماء المستعملة ليذهب بعد إلى إفريقية وآسيا داعية للنصرانية ومن كان يحب التقدم منهم في معرفتها مجذوباً بما حوت من الآداب الغنية لم يبلغ شوطاً كبيراً في معرفتها إذ لم يكن يراها أحد عنوان مجد لإسبانيا الكاثوليكية في عصره.
ومن العدل أن يقال أن إسبانيا كانت منذ عهد فيليب الرابع إلى شارل الثالث تتخبط في المسائل الشاقة سواءٌ كان في شؤونها الداخلية أو الخارجية فلم يترك لها انحطاطها السياسي والعملي وقتاً ولا قوة لدرس العربية والتفرغ للبحث في تاريخ الحضارة الإسلامية وقد أوشكت على عهد شارل الثالث ملك الفلاسفة أن تعود العربية وآدابها إلى ما كانت عليه من الحياة في إسبانيا وإن كان بعض الإسبانيين إلى اليوم ينكرون على هذا الملك أفكاره على أنه كان له في إسبانيا الحديثة شأن أقل من فيليب الثاني وإن كان مثله في مكانته وسلامته ففيليب الثاني وشارل الثالث هما الملكان الكاثوليكيان اللذان بلغا بمملكة إسبانيا أوج الفخار أما شارلكان فهو أوربي أكثر منه إسباني وإن كانت إسبانيا بلد أمه. وبآثار ذينك الملكين يعثر في كل خطوة من يزور شبه جزيرة إسبانيا. فقد بلغ من جرأة شارل الثالث أن ضرب الماضي ضربة أدخلت إسبانيا في الحياة الجديدة التي أخذ شعوب الغرب يستمتعون بها فأراد وهو مشغول القلب بماضي مملكته شغله بسمتقبلها أن يعيد إلى إسبانيا عهد الآداب العربية فاستدعى لذلك رهباناً موارنة من سورية وأنفق عليهم النفقات الطائلة ليعلموا الإسبانيين لغتهم الأصلية الثانية. وكان هذا العمل من الصعوبة بحيث لم يكف عصر شارل الثالث (1759 ـ 1788) لإتمامه هذا مع ما وقف في سبيله من الأوهام والعثرات حتى إذا مضى لسبيله انقطع العمل الذي قصد إليه. بيد أنه يحق للنصف الثاني من القرن الثامن عشر أن يباعي بأساتذة متمكنين من أسرار العربية أمثال القصيري وكامبومان والأب بلانكري وكوندو وفري باتريسيو دولانور وغيرهم.
جرَّت حروب نابوليون الويلات والاضطرابات على شبه جزيرة الأندلس وانقطع على عهد فرديناند السابع كل عمل يراد به إحياء العلم على نحو ما بدأ به شارل الثالث. ولما تولت الملك إيزابيلا الثانية قويت النهضة وخلصت النيات للتجديد ودخل الإصلاح إلى تلك الكليات القديمة التي كانت تتسكع في ديجور الباطل والعاطل إلا أن مسألة تعلم اللغة(40/43)
العربية كانت في الدرجة الثانية بالنسبة لما شرع فيه من إصلاح التعليم سنة 1845 على يد المسيو جيل دي زارات وبفضل هذا عادت العربية تدرس في الكيات رسمياً.
ولما استلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857 زمام إصلاح التعليم من دون رجال الدين أو الملك أو الأشراف ربحت اللغة العربية حتى كادت تعود إليها حياتها التي كانت لها في شبه جزيرة الأندلس منذ القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر ثم إن فقد إسبانيا لمستعمراتها في أميركا وآسيا ضاعف حركتها العلمية وطمحت بها آمالها السياسية نحو استعمار أفريقية أي مراكش.
فأخذت معرفة اللغات والآداب العبرية والعربية من تلقاء نفسها تدخل في قائمة دروس التعليم العالي وأصبحت المجموعة النفيسة من المخطوطات العربية الموجودة في مكتبة الأسكوريال ومكتبة الأمة ومكتبة المجمع العلمي التاريخي ميداناً للمستعربين من الإسبانيين يبحثون فيه ما شاؤا ويضاف إلى تلك الأسفار الثمينة المجموعة النادرة جداً من المخطوطات العربية المكتوبة بحروف عبرية الت احتفظت بها رهينة الكنيسة الكاتدرائية في طليطلة. دع عنك تلك النفائس التي اقتنتها بعد مكتبة العالم كايانكوس وما اقتناه الأستاذ كودرا في رحلاته إلى مراكش وتونس.
وعندنا أن للمستشرق كايانكوس الفضل في أنه خط للمشتغلين بالعربية في إسبانيا طريقاً مهيعاً فقام على أثره زمرة من العلماء وفي مقدمتهم المحترم الدكتور فرنسيسكو كودرا الذي احتفل بيوبيله احتفالاً دل على عواطف أهل العلم الأوربي. وقد أصبحت مينتان من مدن إسبانيا كهف اللغة العربية ونعني بهما مجريط (مدريد) وغرناطة فنبغ في مجريط الدكتور كودرا أستاذ الكلية الوسطى والدكتور فرناند إيكونزالز والأب لازكانو الذي أخذ يبحث في اللهجة السورية في دير الأسكوريال وهو العمل الذي بدأ به في بيروت. وغير هؤلاء العلماء بالمشرقيات وقد انضم إلى هاته الزمرة الغيورة أناس من الفتيان أخذوا على أنفسهم الجري على آثارهم لإتمام العمل الذي بدأوا به وتقوية روابطه مثل الكاهن المسيو ميكل أسين أستاذ اللغة العربية في الكلية الوسطى والأستاذ ريبرا أستاذ كلية سرقسطة الذي يدرس في مجريط حضارة المغاربة والعبرانيين والمسيو آلماني مدرس اليونانية والعالم المشهور بالعربية والمسيو فيف عضو المجمع العلمي التاريخي والمؤرخ الأثري المحقق(40/44)
والمسيو كونزالفو خازن كتب السجلات الوطنية والمسيو فيلالتا الذي قضى شطراً مهماً من حياته في مزغان والدار البيضاء وطنجة.
وقد كانت غرناطة فيما مضى مثل مجريط اليوم عاصمة الأندلس فحق لها أن تكون مركز الدروس العربية وكان الدكتور فرنسيسكو جافيه سيمونه هو الذي رفع مقام هذه اللغة وعد تحصيلها فرضاً رسمياً على الطلاب في غرناطة. مات مؤخراً وهو مشهور بأبحاثه العديدة في الجغرافيا والتاريخ وأصول اللغة والآداب الإسبانية الإسلامية وأخصى في حل الخطوط العربية ومثله الدكتور ليوبولد أكويلاز والدكتور ماريانو كاسبار ريميير وامتازت إشبيلية بأبحاثها الكتابية المتعلقة بغرناطة وهو الفرع الذي برز فيه الأستاذ الماكرو كاردناس ولكل من مدينتي برشلونة وسالامنكة صفان لتدريس العربية العامية وتجد مثل هذين الصفين في مالقة وقادش وبالمادي ولورقة وتنيريف في قناريا.
ولا يسعنا أن ننسى ما أصدره كل من الدكتور كودرا والدكتور ريبرا تاراغو من الأثر النفيس باسم المكتبة العربية الإسبانية فإنهما لم ينشرا منذ سنة 1882 إلى 1892 أقل من عشرة مجلدات في أصول اللغة والتاريخ والجغرافيا والأدب والنقود العربية في إسبانيا. ومما لا يصح السكوت عليه ما نشر باسم مجموعة الدروس العربية بمساعي الدكتور ماريانو دي بانو والدكتور دودرا وقد بلغ ما نشروه حتى الآن سبعة مجلدات.
وإنك لتجد في إسبانيا ميداناً عجيباً للدرس وذلك لأن المخطوطات والكتابات كثيرة فيها على الرغم مما أصابها من التلف منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر كما تقرأ ذكرى الحكومة العربية في كل حجر يقع نظرك عليه بل في كل وجه يتمتع طرفك بمرآه وتجد العاملين المدربين على العمل كثاراً فلا يعوزك إلا أن تدعوهم فيستخرجون معك الدفائن والكنوز. ولولا الصفات الشخصية التي فطر عليها المشتغلون بالعربية من الإسبانيين بالنظر لانفرادهم وقلة معونة الحكومة لهم وجهل الأمة قيمة ما يشتغلون به لما كان للعربية في إسبانيا ذاك المقام المحمود فقد رأينا الحكومة تتشدد في توصيد تدريس العربية في الكليات إذا خلت من مدرسيها فتقتصد بذلك رواتب المدرسين أو تعهد بالتدريس إلى أناس غير متمكنين منها حق التمكن كما فعلت في سالامنكة وبرشلونة ووسدت التعليم فيهما إلى مدرس اللغة العبرية. والمعلوم أن العلم كلما ارتقى احتاج إلى أناس متحجرين(40/45)
وأخصائيين. والأخصاء في فن يفتح لصاحبه السبيل فيبذل جهده في نقطة واحدة وبذلك يبرع ويبرز.(40/46)
حالة المسلمين الاجتماعية
أيها السادة
إن من يلقي نظرة التاريخ الإسلامي ويرى ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى من عزة الجانب وقوة السلطان وحرية الأفكار واتحاد الكلمة وما هم عليه اليوم من وهن العقيدة وضعف العزيمة وانحلال الرابطة قد نالت منهم الأهواء وفتك فيهم داء الشقاء تذوب نفسه حسرة وأسى ويتشوق إلى الوقوف على ما أصاب المسلمين فبدّل من حالهم ونزل بهم م مستوى العظمة إلى حضيض الضعة والمهانة وهم اليوم أعز من سلفهم نفراً واكثر مالاً وأرقى عيشاً وهذا كتاب الله وسنة رسوله وهما الأساس المتين الذي قامت عليه قوة الإسلام ومنهما قد انبثق نوره وأضاءت محجته يتليان بين ظهرانيهم بكرة وعشياً. وهذه معاهدهم العلمية تخرج في كل عام من رجال الدين وحملة الشريعة وأرباب الأقلام ما يربو عدده أضعافاً مضاعفة على ما تخرجه قرون كثيرة في أول الإسلام.
ليت شعري كيف لا يذهل قاريءٌ التاريخ مما وصلت إليه حالة المسلمين وهو يرى أن الإسلام قد ظهر بتعاليمه السامية ومبادئه العالية فأشرق نورها على أفئدة قوم لم يسبق لهم عهد بالمدنية ولم يعرفوا بين الأمم إلا بجفاءِ التربية وعبادة الأوثان وشن الغارات وشظف العيش وخشونة الطباع اللهم إلا بعض أخلاق كريمة كالكرم والوفاء ونحوهما مما لا يعد ركناً وكيناً تستند عليه الأمم في نهضتها فما لبث أن حرر الأفكار من عقالها وبعث الهمم من مراقدها وأنشأ منهم نشأ جديداً فلم تكن عشية أو ضحاها حتى تجلت عروس تلك المدنية العربية في ثوبها القشيب جامعة بين قوة السلطان وصولة العلم بين التسامح والشدة فعمروا الأرض وأحيوا فيها موات الفضيلة وبلغوا شأواً عظيماً من رقة الشعور وصفاء العقل فمكنهم ذلك من التلطف بالأمم حتى وقفوا على خفيات أخلاقها وعاداتها وكشفوا ما كان مستوراً عهدها واستخرجوا من كنوز معارفها ودقائق حكمها ما ظهر فضله على الأوربيين بعد عدة قرون من البعثة النبوية.
نعم لم يمض جيل حتى أخذت دولة العلم تعانق دولة الإسلام في جزيرة العرب وما فتحه المسلمون من الأمصار فينبغ فيهم الحكيم والطبيب والفيلسوف والمهندس والمخترع والفقيه والمحدث والسياسي المحنك والأصولي البارع والإمام العادل فأخذ هؤلاء يجوبون الآفاق يقودون طلائع تينك الدولتين أينما حلوا حل معهم ما استفادوا من صنائع الفرس والآريين(40/47)
وعلوم المصريين والرومانيين بعد أن هذبوه وغسلوا عنه ما تراكم عليه من الأوضار بأيدي الرؤساء في الأمم حتى غدا بفضلهم أبلج ناصعاً يختال في حلة عربية تدهش الناظرين وتزري بكل شيء في العالمين.
وإن ديناً هذا شأنه في ترقية الشعوب وتهذيب النفوس لجدير بأن لا يقف بأهله تيار الرقي والتيكلما توالت الأيام وحرصوا على التمسك بمبادئه ونهجوا منهجه القويم، فما هو هذا الداء العضال الذي مني به المسلمون فتقاعسوا عن اللحاق بأسلافهم وتقطعت بهم السبل وبرح بهم داء الفشل.
ارجع البصر معي أيها السامع الكريم وانظر إلى ما وصلت إليه حال المسلمين. إنك لا تجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين فيناحية أو بيتين في قرية وأهل أحدهما مسلمون والآخر غير مسلمين ألا وتجد المسلمين أقل من جيرانهم نشاطاً وانتظاماً في جميع شؤونهم الحيوية والعمومية وأقل من نظرائهم في كل فن وصنعة وأعظم إهمالاً وأكثر خمولاً وأكبر شقاقاً وأحقر نفوساً وأتعس حالاً حتى توهم كثير من حكماء الأمم الحية لينصفوا التاريخ أن الإسلام والنظام ضدان لا يجتمعان وعدوان لا يأتلفان.
أيها السادة
إن علينا واجباً كبيراً وفرضاً محتماً أمام الله ورسوله والناس أمام الشرف والتاريخ لا نخرج من عهدته ولا نبرأ من تبعته إلا إذا وجهنا جل عنايتنا وصرفنا أوقاتنا وقللنا شباة يراعنا بحثاً وتنقيباً حتى نصل إلى تشخيص هذا الدواء ومعرفة جراثيمه وأعراضه وما يستأصلها من الدواء الناجع وهذا أفضل جهاد نثاب عليه من الله والتاريح ولنعم الجهاد هذا الجهاد لذلك رغبت في أن يكون هذا المبحث الجليل موضوع محاضرتي اليوم طرقته مستعيناً بالله وربما أوتيته من العلم فأقول:
اختلف الباحثون من العلماء في منشإ هذا الفتور فذكروا أسباباً كثيرة كلها فروع ترجع إلى أصل واحد ألا وهو الانحراف عن جادة الكتاب والسنة وتلمس الهدى من غيرهما فحقت علينا كلمة القرآن إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها(40/48)
وكذلك اليوم تنسى. وقد ذكرنا في المقدمة ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الأعراث في البداوة لم يتبلغوا بشيء من التعليم والترف ولم يشموا رائحة العلم والصناعة فما كادوا ينفضون عنهم غبار الوثنية حتى ظهر من أمرهم ما قصصناه عليك. وذلك أن الدين الإسلامي كما أنه يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان بما بعد الموت من عالم الغيب يدعوهم أيضاً إلى الإيمان بعالم الشهادة والسير على سنن الكون قد أطلق لهم عنان الحرية وطالبهم بالتفكر فيما خلق الله من عالم السماوات والأرض قد وضع لهم قانوناً جامعاً لضروب الهداية متكفلاً لهم أن هم اتبعوه ونصروه بإصلاح شؤونهم في هذه الحياة الدنيا قد أحكمت أصوله على قاعدة جلب الداقع ودرء المفاسد والإرشاد إلى أنه الدين القيم الفطري الملائم لإصلاح النفوس بالأخلاق الفاضلة وإصلاح شؤون البشر الاجتماعية بإقامة العدل واتباع الطريقة المثلى في كل شيء. سنة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
فهم السلف الصالح هذا الأصل من القرآن فاهتدوا بهديه ولم يحيدوا عنه قيد شبر عالمين (إن من أقام هذه الأركان كلها كان هو المسلم الكامل ومن هدمها كلها كان ملحداً في دينه ومن كان أقرب إليها كان حظه من السعادة بمقدار سهمه منها) وأن ليس بعد القرآن والسنة إلا الضلال والعمى كما قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
تفرع أيها السادة عن هذا الأصل الوبيل أمراض هشمت من عظمة الإسلام وشوهت من محاسنه فأول جرثومة سرت منه إلى المسلمين رجحان كفة السياسة الكاذبة على كفة الدين الصحيح لحاجة في نفس بعض الأمراء المستبدين كانت الحكومة الإسلامية في أحكامها نيابية اشتراكية (ديموقراطية) كما نطق بذلك القرآن الكريم وأرشدت إليه السنة وظلت كذلك زمن الخلفاء الراشدين إلى أن وقع النازع بين علي ومعاوية فاتخذ بنو أمية ذلك ذريعة حول مجراها وقيد معالها وجعلها ملكاً عضوضاً يمكله فرد يستبد به كيف شاء فبدأ يتطرق إلى الأمة داء الذل ووجد الضعف منفذاً إلى قلوبهم ووجد الأبرياء من بعدهم مع توالي الأيام مجالاً فسيحاً من صدور أولئك الذين نصبوا أنفسهم قادة للدين وسموا أنفسهم حماة الشريعة فوضعوا لذلك أصولهم في التشيع والاختلافات في أصول الدين وفروعه فانشغل بها الناس وصدقوا عن الكتاب والسنة وولوا وجوههم شطر البدعة وذهبوا شيعاً(40/49)
متباينة مذهباً متباعدة سياسة ومشرباً كل طائفة تجادل عن نفسها وتدعو إلى كتابها ولو أدى ذلك إلى تكفير الأخرى فخرج الدين عن حضارة أهله وتحول عن بساطته واتسع الخرق وانحلت الرابطة الإسلامية بل والقومية وفشت المنكرات وانطمست معالم السنن وتحكم التقليد لأنه أثر من آثار التشيع بل ركن من أركانه.
التقليد
التقليد وما أدراك ما التقليد التقليد هو قيد الأحرار وسجن العقول وهادم الأفكار وعدو الشرائع ومبيد الأمم وجيش الاستعباد.
كان الإسلام ملة سمحاء ليلها كنهارها واضحة المسالك معروفة الواجبات سهلاة المأخذ يتلقفها الأعرابي الجافي من فم الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يبرح من مجلسه إلا وقد خالطته بشاشة الإسلام وأشرب في قلبه التوحيد كما قال تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.
عجباً كيف يرضى المسلم العاقل أن يغل أعز شيءٍ وهبه الله وهو العقل بغل التقليد والاستسلام ويلقي بنفسه في براثن الجمود والله قد أمره بأن يكون على بصيرة في دينه فقال تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني إنما ضل من الخلد إلى التقليد بعد أن تبين له الحق كمثل رجل أراد أن يسلك طريقاً مستقيماً واضح المسالك لا عوج فيه فوسوس إليه الشيطان قال: هل أدلك على طريق آخر هو أقرب إلى غايتك فانصاع له فأخذ يقوده كالأعمى في طريق مظلم كله تعاريج وعقبات فلما أن توسطاه قال إني بريء منك وتركه يتخبط في ديجور حالك لا يدري أين يهذل كلما أخرج يده بم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فمال له من نور.
أنحى الله باللائمة والتقريع على أهل الجمود من المقلدين في كثير من آي القرآن قال تعالى بعد أن احتج على المشركين وبيّن أن لا حجة لديهم في عبادة الأوثان (با قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وما أرسلنا من قبلك في قريسة من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) فقد احتج على المقلدين بأنه يجب عليهم اتباع النظر وما هو أهدى ولم يعذرهم بالتقليد فدل على أن عذر غير مقبول(40/50)
عنده ولو كان التقليد عذراً لأحد لكان جميع المشركين معذورين عنده.
كان الصحابة والتابعون يأخذون أصول الدين وفروعه من القرآن ومايثبت من السنة يحكمون العقل واللغة في تفهمها واستنباط ما لا يجدون فيه نصاً صريحاً وإن اختلفوا في شيء رجعوا فيه إلى ذينك الأصلين كما قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء الآية) فهناك يرتفع الخلاف ويرجع المخطيء عن خطئه ويظهر الحق كما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردة وهذا هو الاجتهاد الذي كان سائغاً في السلف الصالح من الأئمة وكأن هؤلاء نظروا إلى المستقبل من طرف خفي فأنكروا أشد الإنكار على من يأخذ بآرائكم في الدين قبل أن يعرف مصدرها من الكتاب والسنة فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا وقال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي ولكن خلف من بعدهم خلف وقف بهم جمود الفطنة وقصور الهمم عن اتباعهم وتقليدهم تقليداً أعمى فجعلوا مذاهبهم أصولاً يرجع إليها وأخذوا يتفننون في فرض المسائل واستنباط الأحكام من تلك الأصول فتشعبت الآراء وكثرت الاختلافات واتسعت التآليف في الفقه وأصول الدين على غير أسلوب فصيح من اللغة العربية لا يخالها القاريء إلا رموزاً أو أحاجي يتعاصى فهمها على العربي الصميم. يمضي الطالب واأسفاه زهرة العمر في تحصيلها فلا يخرج من تلك المضايق إلا وقد حشر في مخيلته ضروباً من الاصطلاحات والمسائل متشاكسة متنافرة لا تروي من ظمأ ولا تشفي من علة وإن فهم القرآن والسنة لأسهل بكثير من هذه الشروح والحواشي لأن كلامهما عربي مبين لم يتلوث بالعجمة ولم يتدنس بسقم التركيب والآراء فمن تعلم العربية تعلماً صحيحاً تيسر له الفهم منهما فلا يعاني عشر معشار ما يعانيه في تلك المعجمات (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر).
ثم لم يكفهم ذلك حتى حجروا على الله واسعاً فأرصدوا باب الاجتهاد وأسدلوا بين الأمة وبين كتابها ستراً من الأوهام وحرموها لذة النظر والتدبر في معجزاته فأصبح لا يتلى إلا في المآتم وعلى المقابر (تبركاً) يتأكل به أناس من الكسالى يتغنون به على قارعات الطرق وأبواب المساجد يحرفون الكلم عن مواضعه ويشترون به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون من هنا أيها السادة اقتسم هذا الدين فريقان فريق اطمأنت نفسه إلى القديم فهو يريد أن يرجع(40/51)
بالناس القهقرى يحمل أهل القرن الرابع عشر على أن يتخلقوا بأخلاق أهل القرون الوسطى ويحذوا حذوهم في أحكامهم وآرائهم ومدنيتهم فلا يتخطوها قيد شبر يكابرك فيالمحسوسات ويجادلك في الحق وينكر سنة الله في خلقه من أن لكل عصر طوراً من أطوار الحياة يأخذ قسطه من النمو والارتقاء بحسب استعداده أهل ذلك العصر ولذلك كانت نصوص القرآن خصوصاً ما يتعلق منها بالآلاء والأخلاق التي هي أكبر معجزاته مجملة يتناولها أهل كل زمان بقدر ما وصلوا إليه من الرقي.
وفريق رأى من وعورة المسلك وصعوبة الفهم في كتب القوم ما يقطع نياط القلب دون الوصول إلى الغاية وإن كثيراً منها على تشتته وتشويشه لا ينطبق على مقتضيات العصر الحاضر ولا يأتلف مع مدنيته ففرطوا في أمر الدين وأهملوا مجد آبائهم وذهبوا يتلمسون الإصلاح من غيرهما فعبدوا بهرج المدنية الأوربية وصبت إليها نفوسهم حتى أصبح التدين ضرباً من التهوس وسمة من سمات التأخر وساعدهم على ذلك ما رأوا من نظام الغربيين طفرة منهم قد خرجوا من ورطة التقليد الأولى ووقعوا في شر منها فلم يكن من جراء ذلك إلا أنهم قلبوا أوضاع مبانيهم وغيروا من أزيائهم وبدلوا من هيئات مآكلهم وملابسهم وآنيتهم وتنافسوا في أيهم يسبق الآخر في إحكام نظامه إلى أجود ما يكون في البلاد الأوربية وتوغلوا في الإسراف والبذخ وانسابت ميازيب الثروة من أيدي الشرقيين إلى جنوب الغربيين لجلب ما تستدعيه تلك المدنية من الضروريات والزخارف فكسدت بذلك أسواق الصناعات الوطنية ومات أربابها لأنها أصبحت رثة بالية لا تروق في أذواقهم لم تجد معضداً من موسريهم وسراتهم لتنهض من خمولها وتضارع أختها في الغرب كما فعل أهله إبان رقيهم فنخلص من شر ما يضمره لنا المستقبل من الفقر المدقع إن دام هذا السبات لأن ما قريناه من المدنية الكاذبة لم يقم على أساس متين. نعم أنا لا أنكر أن في الأمة الإسلامية كثيراً ممن تعلموا في أوربا فوقفوا على أسباب حياتها وحملوا إلينا شيئاً مما تعلموه ولكن قلَّ أن ترين من هؤلاء مهندساً مخترعاً أو طبيباً مكتشفاً أو عالماً أخلاقياً أو أصولياً مشرعاً وهناك أناس لا يسعون وراء الثروة ويتكلون على الوظائف ومن كان هذا شأنه فمحال أن يعمل لخير بلاده.
قرر علماء الأخلاق والباحثين في أطوار الأمم أن المقلدين في كل أمة المنتحلين أطوار(40/52)
غيرها يكونون سلماً تتطرق الأعداء إليه ويكونون بما وقر في قلوبهم من تمجيد الذين قلدوهم واحتقار من لم يكن على مبادئهم ولو كانوا من أبناء جلدتهم أو إخوانهم أو عشيرتهم فيستهينون بجميع أعمالهم ويحتقرون أمرهم ويسخرون منهم وبهذا وأمثاله وهنت الرابطة القومية وانحلت عقدتها وفقد التضامن الذي عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً مثل المؤمنين في تعاضدهم وتآزرهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وكفى بذلك مدعاة للتقهقر والانحطاط ولكن يلوح من بين هذه النابتة الذين تهذبوا بنور العلم وعركتهم يد الحوادث بصيص من الأمل يجعل الأمة تتطلع إلى مستقبل باهر كما قال فيهم بعض الفضلاء: أرى في شجرة الإسلام التي جفت أوراقاً خضراء فلا أدري أهي بقية مما مضي أو باكورة للمستقبل.
البدعة في الدين
أيها السادة
أرأيتم لو أن طبيباً وصف لأحد المرضى علاجاً رأى فيه شفاء فحدد للصيدلي ما يحتاجه ذلك الدواء من العقاقير وبالتالي مقاديرها وكيفية تركيبها فخالف الصيدلي أمر الطبيب وأخذ يزيد وينقص في المقادير كيف شاء حتى جعلها سماً زعافاً لا دواء نافعاً إنكم ولا شك تحكمون على هذا الكيماوي إما بالجهل في صناعته وإما بالغش والخيانة وإنه من أكبر العاملين على تفشي الأمراض وإزهاق الأرواح بسبب ما يرتكبه من الخطل في تلك المهنة الشريفة.
ولكم مثل الذي يبتدع في الدين ويفتري على الله الكذب لأن القرآن والسنة والله هما شفاء لما في الصدور قال الله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة. ونزلنا الكتاب تبياناً لكل شيءٍ فالذي يبتدع في الدين إنما يحارب الله ورسوله ويصيب كبد الإسلام بسهم مسموم.
يا حسرة على الإسلام وظهرت بوادر هذه البدع في إبان الإسلام فكان قادة الإسلام يحاربونها بسلاح القرآن يدحضون الحجة بالحجة ويقرعون البدعة بالسنة إلى أن تمكن حب التقليد من النفوس وقل الاشتغال بالتفسير والحديث وأهمل التاريخ فاختلط الحابل بالنابل وراجت سوق الأحاديث الموضوعة وانتفخت بها بطون التآليف لاسيما ما يتعلق(40/53)
منهابالزهد والرغائب والحثّ على القناعة باليسير والكفاف من الرزق وإماتة المطالب النفيسة كحب المجد والرئاسة والإقدام على عظائم الأمور ودب إلى الأمة داء التواكل واسترسلت وراء الأوهام وعلق بالقلوب كثير من أدران الشرك وظهرت المعجزة في حديث لتتبعن سنن من قلبكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم أليس ما نراه اليوم من تعليق الآمال بقبور الصالحين وتشييد الأضرحة وبناء القباب والمساجد عليها والتغالي في زخرفتها ونذر النذور لها وشد الرجال لزيارتها مما يعتقد كثير من الناس أنه من أعظم القربات كان في صدر الإسلام ضرباً من الشرك بل هو الشرك الذي جاء الدين بمحوه.
إن القرآن والسنة لم يتركا باباً من أبواب الشرك إلا وأوصداه بألف حجة وبرهان وخليا بين العبد وربه يناجيه ويرفع إليه حوائجه كيف شاء ومتى شاء لا يحتاج في ذلك إلى وسيط أو وسيلة اللهم إلا ما شرع لنا من وسائل الأعمال الصالحة كما فسر الرسول بذلك الوسيلة في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة.
نرى كثيراً ممن يهتدي بهم يتهافتون على هذه المهلكات تهافت الذباب على الطعام ويقتسمون ما يلقى في الأضرحة من النذور كأنه ميراث ورثوه عن الأجداد والآباء ويؤولون ما ورد في ذلك من النصوص القطيعة محديث: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها السرج. لا تتخذوا قبري من بعدي وثقاً يعبد. لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.
أيها السادة هذه هي أمهات البدع التي ألصقت بالإسلام ولولا أنه دين قويم قام على أساس متين لانمحى أثره من الوجود لكثرة ما رزيء به من أمثال هذه الأمراض القتالة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لم أرَ ديناً كدين الإسلام خول لكل فرد من أفراد الأمة الإشراف على الشؤون العامة والقيام بأمر الإرشاد والنصيحة وأطلق لهم عنان الحرية في مباشرة هذين الأصلين بحسب ما تستدعيه حالة الأمة. قال الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فالذي لم يقم بهما لا شك أنه خارج من هيئة المؤمنين.
كان خطباء المساجد هم من القائمين بهذه الوظيفة يمزجون مصالح الأمة بالمواعظ(40/54)
والإرشادات فكانت خطبهم تفعل بالنفوس ما لا تفعله السيوف. هذه كتب الأدب فطالعها إن شئت تجدها مشحونة بخطب السلف من الأمراء وغيرهم على نحو ما تسمعه اليوم عن الغربيين في دور نوابهم ومجالس أعيانهم كم نبهت شعوراً وأحيت أمماً وأماتت جبناً وأصلحت معوجاً وهذبت نفوساً وسنت نظاماً انعكست القضية فأصبح خطباء المساجد إلا قليلاً من أجهل الناس يقولون ما لا يفعلون ويتكلمون بما لا يفهمون من سقط القول فلا تسمع إلا سجعاً كسجع الكهان وإني يؤثر الوعظ إذا كان لا يتجاوز اللسان.
احتياجنا إلى العلم
أيها السادة ما أشبهنا في حياتنا الاجتماعية بالحيوانات الأليفة أو الطيور الداجنة التي يحبسها ربها في الأقفاص تنتظر منه فضالة من طعام أو رشفة من ماء فإن هو منعها ذلك هلكت جوعاً وظمأً إذ ليس لها من الحول والقوة ما تفك به قيود الأسر فتخرج إلى الفضاء آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان.
واأسفاه. سبقتنا الأمم شوطاً بعيداً فأصبحنا في مؤخر الرحل كقدح الراكب عالة عليها في كل حاجاتنا الأدبية والمادية حتى فيما يتوقف عليه فهم كتابنا الكريم من الحكمة العرفية والعلوم الكونية. بربك هل تجد فيما يدرأ عنك طواريءَ العاديات وتدفع به غوائل الحر والبرد مما تذود به من سلاح ولباس وما تسكنه من قصور شامخة ومبان شاهقة وأكواخ حقيرة وما تحتاجه من آنية طعام وشراب وموائد وأخشاء وحرائر وأطالس وفرش ومقاعد ومصابيح ومطابخ وحلي وجواهر ونقود ومعادن وما يحتاجه الزارع في زراعته والكاتب في كتابته والكيماوي في حانوته. هل تجد في كل ذلك أبداً لصانع شرقي اللهم إلا إذا كان مكارياً أو سمساراً أو عاملاً بسيطاً أو تاجراً لا يربح من تجارته إلا اليسير لا يدري أين صنعت ولا كيف صنعت.
جهلنا حقائق الأشياء فلا نعلمها إلا أماني وانتصرنا على ما يتعلق بعلاقة الإنسان مع ربه وحكمنا على ما عدا ذلك بالإعدام وحاربنا أهله وأزهقنا روح التقدم وأطفأنا مصابيح العرفان في الأذهان.
أين منا المؤرخ والنباتي؟ أين منا الطبيب والكيماوي أين منا المهندس والطبيعي واللغوي والأديب والمنطقي أين منا عالم الأخلاق والحكيم والفلكي وعالم الزراعة نعم إن لدينا منكم(40/55)
نفراً ولكن هم دون الحاجة وقليل منهم العاملون.
دعانا داعي الإصلاح فأرشدنا إلى مواقع الضعف منا وإن لا نجاة إلا بمجاراة الأمم الغربية وإن تقلع جذور هذه التربية العقيمة علنا نعمل فلنسترجع مجد آبائنا الأولين أساتذة الغرب فنعق به دعاة السوء من كل جانب إن قد خالفت الدين افتراء منهم على الله وما كانوا مهتدين.
يا قومنا هذا القرآن حجة على الشعوب الإسلامية بما فرطوا من أمر الدين والدنيا تتلى عليكم وفيها من أسرار الكون وعجائب المخلوقات ما لا سبيل لنا إلى فهمه إلا إذا أخذنا نصيباً من هذه العلوم.
قال الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء لآيات لقوم يعقلون وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون. هذه الآيات وأمثالها تسجل علينا العار وإننا لسنا من العقلاء في شيء إذ العقلاء هم الذين تتغذى أرواحهم بمعرفة ما أبدع الله في الكائنات وما ذرأ في الذرات من مباهج الآلاء والحكمة. العاقل من تدعوه لذة النظر إلى الشوق والولوع في حوز المعارف والعلوم.
يا قومنا هذه هي أزمتنا وهذه جراثيمها التي لا تزال تنخر في جسومنا وتفسد من أعضائنا وتميت من مشاعرنا فهل لنا أن نكشف الغطاء عن أبصارنا وبصائرنا فنخرج إلى عالم النور فنحيا حياة طيبة.
يا قومنا لا دواء لنا من هذه الأدواء إلا بالعلم ولا علم إلا بالتربية والتربية مفقودة عندنا نسمع ضجة للعلم وجلبة للمدارس ونبغ فلان وأخذ فلان الشهادة فإذا سرنا في الشوارع أو بين دور الوطنيين نرى ما تذوب له الأكباد نرى فلذاتنا أمة الغد من ذكور وإناث كقطعان الغنم يتلاكمون ويتلاطمون ويتنابزون بكلمات الفحش والفجور قد صبغتهم الأوساخ وشوهت من محاسنهم الأمراض أليس هذا بدليل على أن الأمة لا تزال في أقصى درجات الانحطاط مسخنا نصوص الشريعة الغراء فإذا دعانا داعي الإصلاح أن لا سبيل للرقي إلا بتعليم المرأة صوبنا إليه سهام الطعن وقلنا كذباً وافتراء أن ذلك مخالف للدين.
أفلا تنبهنا الحوادث وتوقظنا العظات وها نحن قد شخصنا أمراضنا وعرفنا أسباب تأخرنا(40/56)
فلم لا نعمل على إزالة هذه الأسباب فنفيق من رقودنا ونهب من سباتنا ونخلص من هذه القيود ونسبح في فضاء الحرية نستبدل بهذا الخور عزيمة وبالذل عزاً وبالاستكانة شهامة وبالتفرق وئاماً وبالجهل علماً.
يا قومنا إن العلم كنز مفاتيحه الأخلاق وحاجتنا إلى هذا الكنز شديدة فهلموا لنهذب من أخلاقنا ونمحو آثار الرذيلة من بيننا ونحافظ على عاداتنا علنا أن نفتح هذا الكنز المغلق فنكون خير أمة أخرجت للناس.(40/57)
مطبوعات ومخطوطات
شرح ديوان طرفة بن العبد
للشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي طبع بمطبعة أورنه ك في قزان
(روسيا) سنة 1909 (ص80)
طرفة بن العبد أحد فحول شعراء الجاهلية الأقدمين الذين يستشهد بصحة عربيتهم وديوانه هذا قليل الجرم جم النفع وهو مرتب على رواية يعقوب بن السكيت وأشار الشارح إلى ما أخذه من تعليقه بقاف بين قوسين ونبه على ما لم يروه الشنتمري في شرح السنة ومن شعر طرفة:
واعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرءِ فهو ذليل
وإن لسان المرءِ ما لم تكن له ... محصاة على عورانه لدليل
إذا قلت فاعلم ما تقول ولا تقل ... وأنت عمٍ لم تدر كيف تقول
وإن امرأً لم يعف يوماً فكاهةً ... لمن لم يرد سوأ بها لجهول
تعارف أرواح الرجال إذا التقوا ... فمنهم عدو يتسقى وخليل
ومنه:
قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبب
والظلم فرق بين حيي وائل ... بكر تساقيها المنايا تغلب
قد يورد الظلم المبين آجناً ... ملحّا يخالط بالذعاف ويقشب
وقراف من لا يستفيق دعارة ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
والإثم داءٌ ليس يرجى برؤه ... والبر بروءٌ ليس في معطب
والصدق يألفه اللبيب المرتجى ... والكذب يألفه الدني الأخيب
اللمع في أصول الفقه
لأبي إسحق الشيرازي المتوفى سنة 476
عني بتصحيحه السيد محمد بدر الدين النعساني
طبع بمطبعة السعادة بمصر (ص95)(40/58)
الشيرازي هو مدرس النظامية ببغداد رحل إليه الناس من الأمصار كما قال الحافظ السمعانيلا وكان يضرب به المثل بالفصاحة وكان عامة المدرسين بالعراق والجبال تلاميذه وأصحابه صنف في الأصول والفروع والخلاف والجدل وقد اشتهر كتابه هذا اللمع في معظم البلاد حتى قال فيه الرئيس أبو الخطاب بن الجراح:
أضحت بفضل أبي إسحق ناطقة ... صحائف شهدت بالعلم والورع
بها المعالي كسلك العقد كامنة ... واللفظ كالدر سهل جل ممتنع
رأى العلوم وكانت قبل شاردة ... فحازها الألمعي الندب في اللمع
وقد طبع الكتاب بمراجعة نسختين جيدتين منه في المكتبة الظاهرية بدمشق تاريخ إحداهما 574 والأخرى فيالعام نفسه وقد علق عليه الأستاذ جمال الدين القاسمي تعليقات نافعة تدل على فضل اطلاع منها ما علقه في صنعة المفتي والمستفتي قال: قال برهان الدين التقصير في علم اللغة إخلال بأول فروض الاجتهاد وقد أحسن الشيخ أبو المعالي فيما علق عنه من الأصول حين بين مواد مواد العلوم ومقاصدها وحقائقها وجعل مادة الفقه الأصول القطعية وهي الكتاب والسنة والإجماع وجعل اللغة مادة لهذه المادة قال لأن الشريعة عربية فلا بد من القيام بها ليفهم عن الله مراده فاللغة أصل الأصول ومادة المواد فكيف يكمل فقه من أخل بها.
ثلاث رسائل
الأولى المنظومة الموسومة بمواهب المشاهد في واجبات العقائد لمؤلفها هبة الدين السيد محمد علي وهي 31 ص والثانية رواشح الفيوض في علم العروض للفاضل الموما إليه وهي قريبة المأخذ جمة الفوائد في 42 ص والثالثة متن اعتقادات الأمامية لبهاء الدين العاملي صاحب الكشكول وهي موجزة وافية بالغرض وقد جاء فيها بشأن الخلافة عند الشيعة ما نصه: نعتقد أن خليفته من بعده على أمته بالنص الجلي فييوم الغدير وغيره أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام وبعده ولده الحسن ثم الحسين ثم علي زين العابدين ثم محمد الباقر ثم جعفر الصادق ثم موسى الكاظم ثم علي الرضا ثم محمد التقي ثم علي التقي ثم الحسن العكسري ثم محمد المهدي صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بنص كل سابق على لاحقه وأن جميع الأنبياء وأوصيائهم(40/59)
معصومون ن جميع الذنوب والسهو الونسيان وسائر النقائئص وإن محمد المهدي عليه السلام هو مستور عن الناس كخضر وإلياس إلى أن يؤذن له في الظهور فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وظلماً اهـ قلنا ومن الشيعة سرت إلى السنة عقيدت المهدي المنتظر راجع ما قاله ابن خلدون في أحاديث المهدي في المقدمة.
خلع السلطان عبد الحميد
الخليل أفندي الخوري طبع في مطبعة الإصلاح بدمشق سنة 1909
(ص 80)
ذكر كاتب هذه الرسالة السبب الذي حمل الأحرار على خلع السلطان العثماني السابق وطرفاً من سيرته وسياسته وقد رأينا فيها بعض أمور كنا نود لو عزاها ناقلها إلى مظانها مثل قوله (ص 15) إنه منذ عشرة أعوام نوت بريطانيا الجلاء عن القطر المصري وأحضر سفيرها في الأستانة الأوراق الرسمية وعرضها على الصدر الأعظم فأبى المخلوع كل الإباء وقام رجال المابين المنافقون مدعين أن الإنكليز يدسون الدسائس للدولة العثمانية وأن الإنكليز إلى الآن لا يتأخرون البتة عن إخلاء مصر إذا رضيت الدولة أن ترسل جنودها إلى هناك للاستيلاء على القطر. ولو صح مثل هذا الخبر لكتبت فيه المجلدات فضلاً عن المقالات. الكتاب شاهد بأدب كاتبه حري بالمطالعة.
مجلات جديدة
النعمة ـ مجلة دينية علمية إخبارية تصدرها البطريركية الأنطاكية الأرثوذكسية في دمشق مرتين في الشهر ومعظم القسم التاريخي والأدبي بقلم عيسى أفندي اسكندر معلوف أحد المنشئين المشهورين. وقيمة اشتراكها في دمشق ريال ونصف وريالان في الممالك العثمانية وخمسة عشر فرنكاً في الخارج.
الكوثر ـ مجلة علمية فنية سياسية لصاحبها ومحررها بشير أفندي رمضان من فضلاء الكتاب تصدر في بيروت في غرة كل شهر وفي الجزء الأول منها مقالات نافعة منها التأثر الفطري بالإنسان والاقتصاد والترامواي الكهربائي واختراعه والحفريات في بابل وغير ذلك من الموضوعات الملذة المفيدة. وقيمة اشتراكها ريالان في بيروت وريالان ونصف في(40/60)
سائر الولايات وخمسة عشر فرنكاً خارج البلاد العثمانية.
الحسناء ـ مجلة نسائية علمية أدبية تاريخية أخلاقية اجتماعية لمنشئها جرجي أفندي نقولا باز ويساعد في تحريرها نخبة من الكاتبين والكاتبات وهي تصدر مرة في الشهر وفي الجزئين اللذين طالعناهما منها عدة أبحاث نسائية مفيدة منها ترجمة مدام دي ستال ومدام رولان وهما العقيلتان اللتان أعدتا الأفكار للنهوض قبيل الثورة الفرنسوية الأولى ومقالة في المرأة والدين إلى غير ذلك من الفوائد المنزلية والبيتية وصاحب هذه المجلة معروف عند معظم قراء العربية بمقالاته ورسائله في الأخلاق والاجتماع. وقيمة الاشتراك بالحسناء عشرة فرنكات في بيروت واثنا عشر فرنكاً في الخارج.
فنرجو لرصيفاتنا الجديدات نجاحاً يكثر من سواد أعوانها وأنصارها وينفع بمسطورها ومنشورها وفق أربابها إلى إنارة العقول وبث روح المدنية الصحيحة.(40/61)
سير العلم والاجتماع
إلغاء الرتب
صدر أمر نظارة الداخلية العثمانية أن تكون التشريفات يوم 10 تموز شرقي أي يوم ذكرى مرور حول كامل على إعلان القانون الأساسي في المملكة العثمانية بالألبسة السوداء على عادة الأمم الديمقراطية وقد صدعت أكثر الولايات بهذا الأمر وبذلك أقرت الدولة بأنها ألغت الرتب التي طالما كانت السبب في إفساد أخلاق الأمة أيام كانت الدولة العثمانية دولة استبدادية.
قانون المتشردين
وضعت الدولة العلية نظاماً للمتشردين وأخذت تطبقه في العاصمة والولايات وبموجبه يضرب المضرون في المجتمع الإنساني بالعصي وذلك لأن طبيعة البلاد تقتضي الضرب الآن ولولا هذه العقوبة المحسوسة لا يؤثر القانون أثره المطلوب في بعض طبقات الناس.
شاه إيران
قويت شوكت الأحرار وظفروا بشاههم الظالم المستبد محمد علي شاه بعد أن خصبوا أرض فارس بدمائهم فأنزلوه هذا الشهر عن عرش الأكاسرة وجعلوا مطانه يكره الشاه أحمد وهو في الثالثة عشرة من عمره وبخلع الشاه محمد علي قاجار والسلطان عبد الحميد العثماني منذ ثلاثة أشهر إبان الفرس والعثمانيون بأنهم أقوياء في العقل أشداء في العمل ينكرون على الظالمين فيسرهم وجهرهم وأن الأخلاق اليوم أرقى منها بالأمس إذ لا عمل بلا خلق وإعداد عامة المعدات في الوصول إليه.
استعمال السكر
ثبت أن الإكثار من السكر يزيد في القوة العضلية من 26 إلى 33 في المئة وقد أكد بعض أطباء الجند من الألمان أن السكر يسكن الظمأ والجوع ويؤخر التعب ويمكن استعماله للجنود السيارة ولراكبي الدراجات والانتفاع به. كما أثبت بعضهم أن إعطاء خيول الحوافل والعجلات الصغيرة سكراً يقتصد به كثير من طعامها. وهناك أناس من الباحثين فيصحة البطون أثبتوا أيضاً أن ليس من خواص السكر في الأشربة والمربيات والمعجنات لذة في الطعم فقط بل هو مادة من المواد التي يحتاج إليها في التغذية. وقد قال تورثه قطعة من(40/62)
ضلع غنم ثمنه قرشان. وكان معدل ما يتناوله الفرد في البلاد الراقية 13 كيلو غراماً في السنة على حين أثبت الاختبارأنه يمكن للفرد أن يتناول في اليوم من خمسمائة غرام إلى كيلوغرام وبالجملة فإن الإكثار من السكر أنفع في الصحة من الإقلال منه.
صحة الإنسان
أثبت الأاخصائيون فيعلم الأسنان أن الانس الذين تتناسب ثناياهم مع ناباتهم وأضراسهم يقل عددهم شيئاً فشيئاً حتى في الملوك أنفسهم وهم الغلاة في القيام على الصحة ومنهم ألفونس الثالث عشر ملك إسبانيا وإدوارد السابع ملك إنكلترا فإن أسنانهما غير متناسقة في وضعها. وهذا الاختلال في وضع الأسنان لا يغير صورة الوجه ويجعلها بشعة فقط بل يحدث ارتباكات معدية تنشأ من قلة مضغ الطعام ويجب التوقي من ذلك ولكن الوقاية لا تفيد في الأكثر إلا في زمن الصبا. وقد وضعت الفطرة الأسنان على نظام خاص لينطبق بعضها على بعض فإذا جاءت ناتئة أو متداخلة تشوه منظر الفم وأضرت بصحة الجسد. ومن الأبوين من يتساهل في أخذ الولد إلى طبيب الأسنان فيزيد ألمه ومنهم من لا يعنون بصحة الفم فينخر السوس الأسنان ويضر بها أي ضرر وقد ارتأى الدكتور جارينه ويت من بوستون أن من أنجح الطرق في حفظ صحة الفم أن يزور الطبيب أولاد المدرسة ليبحث عن أسنانهم وأبان في محاضرة له في هذا الباب أن الفم مستنبت الجراثيم الباثولوجية وغير الباثالوجية يفعل فيه العتدال المناسب والرطوبة ونثرات الطعام وقال أن التساهل بصحة الأسنان أدى إلى أن كان في المئة من أولاد الألمان 84 إلى 95 لهم أسنان عاطلة وعمت البلوى في الأسنان الرديئة في أميركا حتى لا تكاد تجد أميركياً في الستين من عمره ممتعاً بأسنانه كلها أو لا يشكو منها. ومن الناس من يعمدون إلى قلع أسنانهم عند أقل عارض يعرض لها ويستعيضون عنها بأسنان صناعية حتى في السادسة عشرة أو الثامنة عشرة من أعمارهم بحيث كان طب الأسنان صناعة رابحة في أميركا وغيرها واغتنى أربابها فأصبح عددهم يزيد كل يوم. قال الدكتور المشار إليه وأن التساهل بالأسنان مرض أشد فتكاً من الأوبئة والأمم لا تهلك إلا من أسنانها.
المطبوعات الألمانية
نشر في ألمانيا من تموز 1907 إلى تموز 1908 نحو ثلاثين ألف تأليف ألماني طبع(40/63)
القسم الأعظم منها في برلين ويليها ليبسيك على أن هذه المدينة كادت تكون فيها أعظم سوق للكتب في العالم أما اديمبورغ التي كان يسميها الإنكليز مفاخرين فقد كادت تسقط من مكانتها.
تبادل الأولاد
قامت فئة منورة في بعض بلاد أوربا تتفنن في تعليم ناشئتها فرأت أن من خير ما يقوي ذهن التلميذ ويزيد فياختباره وعلمه أن يرسل به إلى مملكة أخرى فالإنكليزي يبادل ابنه مع الفرنسوي والفرنسوي يرسل بابنه إلى صاحبه الألماني وقد أخذ هذا المبدأ ينمو حتى بلغ عدد من أرسلتهم فرنسا من شبانها هذه السنة إلى خارج بلادها بواسطة جمعية مقايضة الأولاد الدولية 175 طالباً أرسلت ثلثهم إلى ألمانيا.
فلسفة تولتسوي
كتب المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحد ة السابق ومحرر مجلة أوتلوك يصف فلسفة الكونت تولستوي الروسي فقال إنه رجل نابغة وقصصي كبير كما تشهد به رواياته المختلفة التي أثرت تأثيراً حسناً في أهل عصره ولكنني أشك فيما إذا كان تأثيره كبيراً بين رجال العمل من الوجهة الفلسفية والأدبية. ولست أنكر أن فلسفته يؤثر بعض التأثير في الناس الذين يلزمون مخادعهم ولا يتخطون دائرة مكتبتهم. وإن كانت قد أثرت شيئاً في أهل العمل فإنما كان ذلك للشر لا للخير على أنني لا أظن أن فلسفته تجد محلاً رحباً في صدور رجالالعمل بل الذي أراه أنها استولت على أذهان ضعاف العقول وصغار الأحلام. والأقوياء العقول قد يستفيدون شيئاً من تعاليم تولستوي الادبية ولكن بشرط أن يكونوا على درجة من قوة العقل والإرادة تمكنهم من نبذ تعاليمه السخيفة أو المضادة للأدب. ثم ضرب الأمثال على خطأ فلسفة تولستوي فقال:
إن تأثير فلسفة تولستوي في الذي يندفعون معها ويسيرون في تيارها من رجالنا إنما هو تأثير مضحك في الغالب فإن بعضهم كتب منذ زمن وجيز كتاباً في مسائل أميركا البلدية قال فيه أن عيوبنا الأدبية والاجتماعية ناشئة بعض الشيء عن خطيئة المذهب الحربي. ولما كتب الكاتب هذه العبارة لم يكن تحت تأثير ما يقع أمام عينيه وما يخبره بنفسه وإنما كان متأثراً بأقوال تولستوي ومذاهبه التي لا تنطبق البتة على المعيشة الأميركية فإن(40/64)
المذهب الحربي عامل من عوامل الخير أو الشر في معظم البلاد الأوربية ولكنه في أميركا كمية عاطلة لا يتعدى تنظيم البوليس الوطني لتأييد الأمن والنظام. إن أكل لحم الخيل أمر يختص بالذوق فقط ولكن المبشرين الأولين في شمالي أوربا رأوا أن أكله مجلبة لضرر عظيم لأن القوم كانوا يأكلونه م1بوحاً للوثن فحرموا أكله. والحق يقال أن عيوبنا الاجتماعية ليست أكثر علاقة بالمذهب الحربي منها بأكل لحم الخيل المذبوح للصنم!!
وكان آخر عندنا ينظم القصائد الطوال في الدفاع عن المهدوية وحجته في ذلك الدفاع أنه احتجاج على الحرب ومبدئها طبقاً لتعاليم تولستوي. والمهدوية كما تعلم شر ما رأى الناس من أسباب إراقة الدماء والظلم والفساد والتعصب وكانت عاقبتها المباشرة بقتل نصف السكان في البلاد التي نكبت بها وترك النصف الآخر في حضيض البؤس والمهانة. فدفاع تولستوي وتلاميذه عنها أعظم دليل على سوء مذهبه الأدبي وما في حسبانه مرشداً أدبياً من الخطر على العقول والآداب انتهى ملخصاً عن الجريدة.
الساعات في إيطاليا
بلغ عدد الساعات التي دخلت إيطاليا ثمانية ملايين ونصف مليون ساعة أتى معظمها من سويسرا. فاستجلبت إيطاليا سنة 1907 21597 ساعة ذهب منها 30300 من سويسرا وبلغ الوارد إليها في السنة الماضية 595692 منها 566992 من سويسرا.
تجارة البيض
يبلغ ما تخرجه الولايات المتحدة كل سنة من البيض 862. 546 طناً تستخرجها من 233 مليون دجاجة وما تخرجه ألمانيا 270 ألف طن تستخرجه من 55 مليون دجاجة وما تخرجه فرنسا 30. 000 طن تستخرجه من 50 ألف دجاجة وما تخرجه إنكلترا 125000 طن تستخرجه من 25 مليون دجاجة ويتجمع الكيلو من البيض من عشرين بيضة على أن إيراد الدجاجة الواحدة يختلف حسب الأقاليم.
وثبت في الإحصاء أن البلاد العثمانية تبعث إلى الغرب كتيراً بآح البيض ومحه حتى أن ما تستورده فرنسا وحدها من بلادنا يبلغ مسانهة أربعة آلاف طن.
حكم صغيرة
يقول أوجين ماريو: الحرية احترام حقوق كل فرد والنظام احترام حقوق المجتمع المجموع.(40/65)
قالت العقيلة رولاند: من يعمل ولا يرجع إلى مبدأ كمن ينظر إلى ساعته وقد وضع إبرتها كيفما اتفق. وقال لابروبير: من الحقائق ما يكتب له الظفر وتكتب له المبالغة أيضاً حتى تصبح كاذبة. وقال: من الأمور ما لا يطاق فيه الاعتدال الشعر والموسيقى والخطاب العام. وقال موتنسكيو: من يتكلم بدون تفكر أشبه بصياد يصيد بدون أن يتوجه جيداً للغرض. وقال بلين: العفو جزء من أجزاء العدل.
أصل الفواكه
يعرف كل نبات في بلد بأنه أصيل فيها لا دخيل عليها إذا رأيت منه أصنافاً برية نبتت من تلقاء نفسها ولم تنقلها يد بشرية. فالتوت الإفرنجي (الفريز) دخيل على جميع البلاد التي ينبت فيها الآن والجيد منه في إنكلترا أُتي به من فرجينيا سنة 639 والتوت الشوكي (فرامبواز) هو من ثمار البلاد المعتدلة في أوروبا ودخيل على قارة آسيا والمشمش لم يأتِ من أرمينية كما توهم بعض علماء النبات بل جاء من الصين ولكنه كان برياً حامضاً وقد عرف من تاريخ المشمش أنه كان معروفاً لليونان والرومان منذ ألفي سنة. والخوخ عرفه الرومان واليونان أيضاً ولكن توهم بعضهم بأن أصله فارسي والحقيقة أنه صيني ولأهل الصين فيه أساطير. والكرز هو من فصيلة الكرز العام (كريوتيه) نبت على ضفاف بحر الخزر. والدُراق وتبلغ أجناسه ثلاثمائة جنس والجنس الأول منه خاص بأرض الأناضول والقافقاس والروم إيلي. والأجاص وأجناسه كثيرة أيضاً رؤي منه صنف بريٌ في الأقاليم المعتدلة من أوربا وفي آسيا الغربية. والسفرجل منشأوه في جنوبي شرقي أوربا وبلاد القافقاس وإقليم بحر الخزر. والتفاح على أنواعه ينبت في أوربا والقافقاس وما وراء النهر وفارس والتفاح هو أحد الفواكه القديمة المعروفة إذ كانت الشعوب قبل التاريخ تستعمله بكميات وافرة. واللوز انتقل إلى أوربا من سلاسل جبال لبنان (جبل الشيخ وجبل قلمون وجبال اللكام) وما وراء بلاد القافقاس وبين النهرين وفارس وتركستان. والتين لم يهتد علماءُ النبات إلى معرفة بلاده الأصلية والغالب أنه من أقاليم البحر المتوسط ولا سيما سورية وكذلك العنب لا يعرف منشأُوه لأنه ثبت أنه قديم الاستعمال جداً بين البشر وهو حديث العهد في جنوبي أوربا وشمالي إفريقية وغربي آسيا وأصل الجوز من أقاليم القافقاس والعجم وشمالي الهند. والبرتقال أتى على غالب الظن من جنوبي الصين(40/66)
وكوشنشين وانتقل إلى أوربا في القرن السادس عشر والليمون جاء من الهند ودخل إلى إيطاليا حوالي القرن الثالث أو الرابع للمسيح.(40/67)
تموز الحرية
إذا انقضى مارت فاكسر الكوزا ... واحفل بتموز إن أدركت تموزا
أكرم بتموز شهراً إن عاشره ... فقد كان للشرق تكريماً وتعزيزا
شهر به الناس قد أضحت محررة ... من رق من كان يقفو إثر جنكيزا
سل أهل باريز عن تموز تلق لهم ... يوماً به كان مشهوداً لباريزا
كانت لهم فيه لما ثار ثائرهم ... بسالة مدت البستيل مبروزا
وإن تموز شهر قام فيه لنا ... على البقاع لواء العز مركوزا
في شهر تموز صافنا لما وعدت ... بيض الصوارم بالدستور تنجيزا
هي المساواة عمتنا فما تركت ... فضلاً لبعض على بعض وتمييزا
أمست لنا قسمة بالملك عادلة ... حكماً وكانت على علاتها ضيزى
كنا من الجور عمياناً وليس لنا ... منق قادئدين ولم نملك عكاكيزا
حتى نهضنا إلى العلياء تقدمنا ... عصابة برزت في المجد تبريزا
إن تلقهم تبق منهم في الوغى جبلاً ... وهجتهم للمنايا هجت راموزا
قوم إذا طمعوا في حومة تخذوا ... قصاعهم من قحوف القوم لا الشيزى
قمنا على الملك الجبار نقرعه ... بالسيف منصلتاً والريح مهزوزا
حتى تركنا في هيجاء معضلة ... ألقت ضراماً على الطاغين مأزوزا
إنا لنأبى على الطاغي نهضتنا ... حتى نهوز في الهيجاء تهويزا
ونأكل الموت دون العز نمضغه ... كمضغنا التمر برنياً وسهريزا
لا عاش من لا يخوض الموت مرتضياً ... بقاءه بعصي الذل موكوزا
راعت سلانيك دار الملك فانتبهت ... من ذاك طهران تخشى أمر تبريزا
حتى غدت وهي في تموز ناكسة ... رايات شاه رماه الخلع مجنوزا
فالشاه في شهر تموز هوى وكذا ... عبد الحميد هوى في شهر تموزا
يا شهر تموز لا راعتك رائعة ... ولا لقيت من الأحداث ارزيزا
يا شهر تموز قد زينت رايتنا ... بالعدل توشية فيها وتطريزا
من لي بأنجم هذا الأفق أنظمها ... قصائداً فيك مدحاً أو أراجيزا
أو أنحت الماس أقلاماً معرضة ... أمدها ذهباً في الطرس إبريزا(40/68)
وأجعل الجو في تموز أمدحه ... طرساً أجادته كف النور ترزيزا
الأستانة في 10 تموز 1325
معروف الرصافي(40/69)
العدد 41 - بتاريخ: 1 - 6 - 1909(/)
أكبر الأشياء في العالم
أعلى جسر طبيعي في العالم هو جسر صخري في ولاية فرجينيا (الولايات المتحدة) علوه مائتا قدم.
أكبر مبلغ من الأوراق المالية المستعملة في العالم هو في الولايات المتحدة. فسكان هذه الجمهورية العظمى يستعملون 700. 000. 000 من تلك الأوراق في حين أن مملكة روسيا العظيمة تستعمل منها 670. 000. 000.
أكبر شركة لضمانة الحياة في العالم هي شركة (موتشال) في مدينة نيويورك (الولايات المتحدة). رأس مال الشركة يبلغ 108. 000. 000 دولار.
أشهر صوت في العالم هو في قلعة (سيموزا) على مسافة ميلين من ميلان فإذا أطلق فيه عيارٌ ناري تراجع صداه ستين مرة.
أكبر بركان في العالم هو بركان (إثنا). دائرة قاعدته 90 ميلاً وعلوه 1000 قدم وقد انفجر لأول مرة في سنة 474 للمسيح.
أكبر شجرة في العالم هي في إيالة (توكر) في (كاليفورنيا) علوها 275 قدماً ودائرة محيطها 106 أقدام.
أكبر صحراء في العالم هي (شارا) في شمالي إفريقية. طولها ثلاثة آلاف ميل وعرضها 900 ميل ومساحتها مليونا ميل مربع.
أكبر ماسة في العالم هي (براغانزا) في بلاد البرتقال تزن 1880 قيراطاً وقد وجدت في برازيل سنة 1741.
أطول رجل في العالم هو يوحنا هال من إنكلترا. طوله تسعة أقدام وستة قراريط وطول كلٍ من يديه سبعة عشر قيراطاً وعرض كل منهما ثمانية قراريط ونصف القيراط.
أعلى عمود تذكاري أقيم في العالم حتى اليوم هو في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة علوه 555 قدماً.
أعلى بناء أقيم في العالم هو برج إيفل في باريس عاصمة فرنسا علوه 9895 قدماً وتمَّ بناؤه سنة 1889.
يعمر كلٌّ من الغراب والإوزة مئة سنة. والحدأة أو طير الرخم 59 سنة والببغاء 60 وأبو حوصل 50 والقنبرة 30 والعصفور الدوري والباشق 40 والطاووس والكناري والغرنوق(41/1)
24 سنة.
أعظم جنادل في العالم هي شلالات (بيفاغارا) في الولايات المتحدة علوها 165 قدماً. أما أعلى جنادل في العالم فهي في كليفرينا فمياهها تسقط على علو 2550 قدماً.
أقدم مدافن في العالم هي مدافن ملوك مصر القدماء التي يرد تاريخها إلى ألفي سنة قبل المسيح. أما مدافن رومية القديمة ففيها نحو ستة ملايين من رفات الأموات. وأما مدافن باريس القديمة ففيها ثلاثة ملايين من تلك الرفات.
أكبر عدد عن الماشية جيءَ به إلى مدينة واحدة في العالم في سنة واحدة هو ما استاقوه إلى مدينة شيكاغو في سنة 1884 وقد بلغ عدد الأبقار التي جلبت إلى تلك المدينة في تلك السنة 1. 874. 984 وعدد العجول 30. 223 وعدد الخنازير 5. 640. 625 وعدد الأغنام 749. 917 وعدد الخيول 15. 625 وقد شغلت تلك الماشية تسعة آلاف قطار كلّ منها مؤلف من إحدى وثلاثين مركبة. فإذا قطرت كل تلك القطر والمركبات يبلغ طولها 146 من الأميال.
أكبر مزرعة في العالم للغلات هي في الجنوب الغربي من ولاية لوزيانا. مساحتها شمالاً وجنوباً مائة ميل. وقد كلف تسييجها 50. 000 دولار.
أكبر عقد في العالم هو (اكودكت) في واشنطن، فهو يزيد عن عقد (شاستر) في انكلترا بعشرين قدماً وأطول من عقد (نيولي) باثنين وتسعين قدماً ومن جسر واترلو في لندن بمئة قدم، أما علو عقد واشنطن فمئة قدم.
أوسع معادن العالم هي المسماة (فيربرغ) (ساكسوني) عرفت في القرن الثاني عشر للميلاد، وقد امتدت دهاليزها الغربية في سنة 1835 إلى مئة واثنين وثلاثين ميلاً وأعمق عمود قائم في معدن في العالم هو في (بريزلرام) وهو معدن رصاص عمقه 3280 وأعمق معدن فحم حجري في العالم هو على مقربة من (ثورني) في (بلجيكا) عمقه 3542 قدماً، على أن ليس له اسطوانة كاسطوانة معدن الرصاص المقدم الذكر، وأعمق نقب أو ثقب أو فتحة في الأرض هي بئر في (بوتسدام) في انكلترا، عمقها 5500 قدم، وأعمق اسطوانة معدن فحم حجري في الولايات المتحدة هي في بوتسفيل (بنسلفانيا) عمقها 1800 قدم ومن هذا العمق العظيم يستخرج يومياً ما يملأ أربعمائة (كار) يسع كل منها (أربعة طنات) من الفحم(41/2)
الحجري وأعمق معدن فضي في الولايات المتحدة هو المدعو (بلوجاكت) في (فرجيناستي) في ولاية نيفادا، وأوطأ مسطحاتها 2700 قدم.
أكبر جسر حجري على وجه البسيطة أنجز في أيار سنة 1885 في (لفانغ) في الصين بناه مهندسو الصين وهو يقطع جون البحر الصيني طوله نحو ستة أميال وله 300 عقد طول كل منهما سبعون قدماً وهو أعظم بنيان شيده الإنسان (ومع ذلك ترانا نزدري بتلك الأمة الوثنية العظيمة).
أكبر جسر حديدي في العالم هو ذلك الجسر الذي يقطع (فرث تاي) في (سكوتلاندا) طوله 18912 قدماً، وأكبر جسر خشبي في العالم هو ذلك الجسر الذي يقطع بحيرة (بونشارتين) على مقربة من نيوأورلين، طوله 21 ميلاً وأعلى جسر في الولايات المتحدة هو المبني فوق نهر (كينزينا) على مقربة من (برادفورد) بنسلفانيابني سنة 1882.
أكبر ثور في العالم هو في (فيلادلفيا) (الولايات المتحدة) بلغ وزنه 4900 (بوند) وأكبر بقرة بلغ وزنها 3296 بونداً.
أشهر وأكبر وأجمل بناية للعبادة في العالم هي كنيسة القديس بطرس في رومية، موقعها في شمالي غربي رومية وقد بنيت على هيئة الصليب اللاتيني، طولها 612 قدماً ونصف قدم وعلوها 448 قدماً وعلو قبتها 152 قدماً ونصف وقطرها 163 قدماً أما وزن جرسها ما عدا المطرق أو المطرقة فنحو 37 قنطاراً وقد أسست في سنة 1450 للميلاد وعاش ومات فيها 43 باباً.
أكبر بنيان شيدته يد الإنسان على الغبراء هو هرم مصر مساحة قاعدته 762 قدماً وعلوه 486 قدماً وهو يشغل ستة أفدنة من الأرض وقد قدر العارفون من المهندسين نفقاته بثلاثين مليون ليرة انكليزية وأنه بني نحو سنة 2170 قبل المسيح أو في عهد ابراهيم الخليل وأنه تقاضى نحو عشرين مليون قنطار من الأحجار النحيتة وأن تلك الأحجار قد جلبت من مقلع عظيم من البلاد العربية على مسافة نحو سبع مئة ميل.
أكبر وأنفس قصر في العالم قصر اللورد (بيوث) في انكلترا يشغل فسحة من الأرض قدرها ثلاثة أفدنة، وقد بني على نسق بناء قدماء الغوطيين ويبلغ علوه مئة وعشرين قدماً وتقدر نفقاته بثمانية ملايين دولار.(41/3)
أكبر جسم مائي بارد في العالم هو بحيرة (سوبيرور) طولها 400 ميل وعرضها 180 ميلاً ومساحتها 32000 ألف ميل مربع وعمقها 1200 قدم ومساحتها أكبر من مساحة (نيو انكلترا) وهي تعلو عن سطح البحر 636 قدماً.
أكبر آلة لنقل الآلات في العالم هي آلة شركة المركبات الكهربائية في (بولمان) على مقربة من شيكاغو (الولايات المتحدة) وقد اجتهد امبراطور برازيل أن يشتريها فلم يفلح، أما علوها فأربعون قدماً وقوتها توازي قوة 1400 حصان ولها اسطوانتان طول كل منهما أربعون قيراطاً.
أكبر قارب في العالم هو قارب (سولانا) المستخدم اليوم بين (بينيسيا) ومرفأ (كوستا) طوله 460 قدماً وعرضه 166 قدماً وعمقه عشرون قدماً وله ثمانية مراجل من بولاد وثلاث دفات.
أعلى بناية في العالم بعد برج (إيفل) وبناية مرصد واشنطن ودار البلدية في (فيلادلفيا) الولايات المتحدة هي بناية كنيسة (كولوغن) علوها 511 قدماً وطولها كذلك وعرضها 231 قدماً، أسست في 15 آب سنة 1248 وكمل بناؤها في 14 آب سنة 1880 أي بعد أكثر من 600 سنة من عهد وضع حجر زاويتها.
كان الباحثون يظنون أن أعلى جبل على وجه البسيطة هو جبل (إيفرست) أما اليموم فقد بدا فساد ذلك الظن، فجبل (هيركولس) أعلى منه فهواي هيركولس يعلو عن سطح البحر 32763 قدماً ويعلو ايفرست عن سطح الأوقيانوس الهندي 29002 من الأقدام وقد اكتشفه القبطان (لاوسون) في سنة 1881 في جزيرة (بابيوا نيوجونيا).
أكبر ولاية في الولايات المتحدة هي تكساس وهي تحتوي على 274356 ميلاً من الأرض الخصيبة وتسع وعشرين مليوناً من الناس ولا يحتشدون فيها بهذا العدد أكثر من احتشاد سكان اسكوتلاندا في الزمان الحاضر وقد قدر أنها تسع كل سكان الكرة الأرضية وأنه يصيب الواحد منهم أربعة أقدام من الأرض.
أطول أنهار العالم هو نهر (ميسوري) في الولايات المتحدة، طوله 4300 ميل ويجري مساحة 1726000 من الأميال المربعة، وأوسع نهر في العالم هو نهر (أمازون) في برازيل طوله 4000 ميل ويجري 2330000 من الأميال المربعة.(41/4)
أكبر ديوان للجمارك في العالم هو في (نيوأورلينس) له 111 غرفة وعلوه من قاعدته إلى قمة إطار عموده ثمانون قدماً ومن قاعدته إلى رأس قبته 187 قدماً ومساحة هذه وحدها 49 قدماً مربعاً وعلوها 61 قدماً وذلك الديوان مبني من الرخام والأخشاب النفيسة ويقدرون أكلافه بأربعة ملايين وتسعمائة دولار.
أكبر نزل في الولايات المتحدة وربما في العالم هو نزل (بالاس) في سانفرنسيسكو كلفيرينا وهو مؤلف من تسع طبقات وقد كلف ثلاثة ملايين دولار ونصف مليون دولار (واحترق في جملة ما احترق من القصور والدور الشاهقة في 18 نيسان سنة 1905 وسبق ذكر ذلك في مقالة للمعرب في حريق وزلزال سانفرنسيسكو نشرت في الجزء السابع من سنة المقتبس الأولى).
أجمل ملعب في العالم هو في باريس عاصمة الفرنسيس، وهو مبني من الحجر الناعم الصلد الجميل وأرضه مرصوفة بالرخام وهو يشغل ستة أفدنة من الأرض، أما (لاسكالا) من ميلان ففيها أكبر محل للجلوس، وأما دار الخطابة في شيكاغو التي تم بناؤها في سنة 1889 ففيها سبعة آلاف مقعد للجلوس.
أكبر مجلد عرفه الإنسان منذ الخليقة حتى اليوم هو كتاب الملكة فيكتوريا المنتقلة إلى رحمة ربها في سنة 1901 وهو يتضمن التهاني التي وردت عليها بيوبيلها ويبلغ سمكها 18 قيراطاً ويزن أكثر من عشرة أرطال.
أكبر كاس للفحم الحجري في العالم هو في (ادوارد شفيل كوليرين) في بنسلفانيا الولايات المتحدة وهو يحضر من الفحم الحجري ما يملأ أربعمائة كاراً (مركبة) في كل عشر ساعات.
أعظم علو بلغ المنطاد هو 37000 قدم أو نحو سبعة أميال وكان ذلك في 5 تشرين سنة 1862 في ولفرها فبتسن في انكلترا.
أطول سلك برقي مفرد في العالم استخدم لأجل رسالة برقية فقط هو في الهند، فقد مد فوق نهر كسيتوا بين بزورا وسيكتوكروم أما طوله فأكثر من ستة آلاف قدم وهو يمتد من قمة جبل إلى قمة جبل آخر وعلو ذينك الجبلين نحو ألفي قدم.
أكبر تمثالين في العالم هما في يابان أحدهما في نارا وعلوه ثلاثة وخمسون قدماً وتسعة(41/5)
قراريط وكان أول نصب أقيم في القرن الثامن على أنه تهدم فيما بعد وجدد في سنة 1223 وأما الآخر فهو نصب كاماركورا وعلوه 47 قدماً.
المعرب أقول ومن هذا يظهر أن المغاربة الذين ما زال صغار العقول منهم وكثيرو الدعوى الفارغة بينهم يشمخون بأنوفهم على المشارقة ويقولون في انحطاطهم وجهلهم كل كلمة عوراء أن الشرق سبقهم في نصب التماثيل بمئات السنين كما سبقهم بكثير مما يفاخروننا به في هذا العصر.
أكبر منارة في العالم هي في سدني استراليا، فقوة نورها توازي قوة نور مئة وثمانين ألف شمعة، وتشاهد تلك المنارة على مسافة خمسين ميلاً في البحر، وثاني منارة في العالم بكبرها وقوة نورها هي في باليس اندوستراي وقوة نورها توازي قوة نور مئة وخمسين ألف شمعة، أما منارة سان جوزف كلفرينا فقوة نورها توازي قوة أربعة وعشرين ألف شمعة، وأول منارة أنشئت في العالم كانت في جزيرة فاروس القائمة على ثغر الاسكندرية.
أكبر بلاطة رصفت في دار للسكن هي في دار وليم فاندربلت المثري الشهير في مدينة نيويورك، وقد جلبت من قضاء بايك في بنسلفانيا (الولايات المتحدة) وكلف نقلها لنيويورك تسعة آلاف ومئتي دولار أما أكلافها كلها فبلغت سبعة وأربعين ألف دولار.
أعظم ملاك للأراضي في العالم هو ولسن ودنفهام فله من الأراضي في المكسيك وغير المكسيك مليون ونصف مليون فدان آكر وكلها صالحة للزراعة.
أعظم وزر قلعة أو حصن أو معقل للفنون الحربية هو وَزَر غبرلئر فهو يشغل صخراً ناتئاً خارج البحر طوله نحو ثلاثة أميال وعرضه ثلاثة أرباع ميل ويعلو عن سطح البحر 1435 قدماً وجهته الشمالية عمودية في حين أن جهته الشرقية ملأى بالأحادير المرعبة، ويحده من الجنوب المكان المعروف برأس يوربا وتحدره في غربيه أقل منه في شرقيه ويفصل بينه وبين البحر مضيق وتلك القلعة من القلاع التي هزأت وتهزأ بحملات الجنود البواسل وقنابل مدافعهم الهائلة ويبلغ عدد الجنود فيها في زمن السلم سبعة آلاف جندي.
أكبر كهف بحري في العالم هو في مقاطعة ادهونسن كنتكي في الولايات المتحدة وهو على مقربة من النهر الأخضر ونحو ستة أميال من مدينة قاف وثمانية وعشرين ميلاً من بولن كرين.(41/6)
أكبر جرس في العالم هو دير بودهست على مقربة من قانتن في الصين، علوه ثمانية عشر قدماً ومحيط دائرته خمسة وأربعون قدماً وهو واحد من الثمانية الأجراس النحاسية العظيمة التي سكبت بأمر الامبراطور يانغ لو في سنة 1400 للمسيح وقد كلفت ثمانية نفوس في أثناء صبها وحفر على ذلك الجرس العظيم ثمانية وأربعون حرفاً صينياً تؤلف قصة صينية شهيرة.
أكبر آلة لرفع المياه في العالم هي تلك المضخة الطلبمة المشهورة في فردسفل بنسلفانيا الولايات المتحدة، فهي ترفع في الدقيقة سبعة عشر ألف وخمسمائة غالون مكيال انكليزي يسع عشر ليبرات أو 1440 درهماً من الماء أما قطر دواليبها ذات الدفع فهو خمسة وثلاثون قدماً ويزن كل منها مئة وستين قنطاراً وطول قضيب مجذافها أربعون قدماً وقطر اسطوانتها مئة وعشرة قراريط وقطر قبضتها ثمانية عشر قيراطاً.
أكبر مدفع في الولايات المتحدة هو في معقل هملتن في مرفأ نيويورك العظمى، طوله 343 قيراطاً، وقطره الأعلى 64 قيراطاً وقطره الأدنى 34 قيراطاً وقطر ثقبه 11 قيراطاً ويبلغ ما يحشى من البارود مئتي بوند وتزن قنبلته ألفي بوند.
أكبر مطرق بخاري في العالم هو لشركة المعمل الحديدي في بيت لحم (الولايات المتحدة) فقوة ضربته أو صدمته توازي ثقل خمسمائة قنطار وهذه المطرقة لأجل صنع السبائك الذهبية التي تزن الواحدة منها من أربعمائة إلى ستمائة قنطار.
أعظم مدينة شاهدها الإنسان منذ عهد الخليقة حتى يوم الناس هذا هي مدينة لندن أو عاصمة بريطانيا العظمى، فهي تشغل سبعمائة ميل من الأرض وعدد سكانها نحو ستة ملايين نفس، منهم أكثر من مليونين من الأجانب من كل ناحية من نواحي الكرة الأرضية المعمورة، وفيها من الكاثوليك الرومانيين أكثر من كاثوليك رومية ومن اليهود أكثر من يهود فلسطين ومن الايرلنديين أكثر من سكان دوبلن في ايرلندا ومن الاسكوتلنديين أكثر من سكان ايدنبرغ ومن أهالي ويلس أكثر من سكان كاردف ومن المزارعين أكثر من سكان أقضية ديفون ووارو كشير ودورهام.
وتلد فيها نفس كل خمس دقائق وتموت نفس في كل ثماني دقائق ويحدث يومياً سبع حوادث في شوارعها التي تبلغ ثمانية آلاف ميل ومعدل كل من تلك الشوارع أربعون ميلاً(41/7)
ويبنى فيها خمسة عشر ألف بيت سنوياً.
والمعدل السنوي لزيادة السكان في لندن من طريق الولادة فقط هو 49000 نفس تجد في مرفئها يومياً ما يزيد على ألف سفينة وعشرة آلاف ملاح، وفي لندن حوانيت للمشروبات الروحية يبلغ طولها إذا بني كل منها إلى جنب الآخر ثمانية وسبعين ميلاً، ويقف كل سنة أمام دكة القضاء من سكيريها ثمانية وثلاثون ألف سكير وتفتح أبواب الحوانيت فيها نهار الأحد على مسافة سبعين ميلاً.
وللندن نفوذ بين في كل صقع من أصقاع العالم، ويوافيها من الرسائل سنوياً 298000000 رسالة ويمر يومياً على منعطف شافام فيها خمسون قطاراً، ويسير في نفقها تحت الأرض 1211 قطاراً كل يوم، ويركب في مركبات شركة الحوافل أومنيبوس فيها كل سنة ستة وخمسون مليون راكب.
والغريب أن الخطر في السير في شوارع لندن أكثر منه في السفر في القصر أو السفائن البحرية بين نيويورك وليفربول ففي سنة 1886 قتلت المنقلات أو المركبات 130 نفساً وتضرر 2000 في شوارع تلك العاصمة.
أما عدد كل فرقة من رجال المحافظة في لندن وساقة المنقلات والعملة في إدارة البريد فهو 15000.
وتنفق لندن سنوياً على النور الكاز ثلاثة ملايين دولار، وعدد جرائدها اليومية والأسبوعية 400.
أما تاريخ تأسيس لندن فيرجع إلى سنة 2832 للعالم أي أنه انقضى على أول بناية بنيت في لندن 3015 عاماً ومياه لندن نظيفة وصالحة للشرب ومعدل الموتى فيها قليل جداً لنكلن نبراسكا الولايات المتحدة.
يوسف جرجس زخم(41/8)
حقوق البشر
من المحال أن نأمن غوائل المستقبل ودواعي الزمان وتغلب الأشرار وتلاعب الفجار إذا لم نغرس في قلوب أبناء الأمة محبة الوطن الحقيقية ونعرفهم حقوقهم وواجباتهم للهيئة الاجتماعية ونرقي شعورهم وعواطفهم بحيث ينطبعون على عزة النفس وإباء الضيم وحرمة الفضيلة واحتقار الرذيلة، فيصبحون بذلك على أهبة الدفاع عن مصلحة الأمة والوطن دفاع البطل المستميت الذي يرى لثم شفار السيوف وشرب كأس الحثوف خيراً من الصبر على الذل والرضى بالعار واهتضام الحقوق ولا سبيل للوصول إلى هذه الغاية الشريفة إلا بالعلم والتربية، أريد بالعلم جماع العلوم الصحيحة التي بنيت قواعدها على البراهين القاطعة وأريد بالتربية تهذيب الناشئة على مقتضى الحكمة والعقل تهذيباً ينسف بروج الخرافات والأباطيل نسفاً ويقذفها في اليم قذفاً، وأول شيء ينبغي أن يجعل نصب أعين المصلحين تعليم الأمة حقوقها المقدسة وأخص بالذكر حقوقها الاجتماعية التي كانت مداسة بالأقدام منذ ألوف من الأعوام. .
شعار الإنسان الحرية، وهي التخلص من قيود الأسر المادي والأدبي، ولا يجوز أن يطلق إنسان على من عدم هذه الحرية وكان في إمكانه نيلها.
الأسر الأدبي أشد تأثيراً وأمر فعلاً من الأسر المادي، وهو أن يكون الإنسان تابعاً لآراء غيره مقلداً له في أفكاره وحركاته تقليداً أعمى لا يميز الصحيح من الفاسد ولا يعرف الخبيث من الطيب. . وما أبعد الحرية عن أناس إذا سمعوا منادياً ينادي في الأسواق تجمعوا حوله ونظروا إليه وإذا تبع ذلك المنادي واحد منهم تبعوه جميعاً وهم لا يدرون إلى أين يذهب بهم ذلك المنادي أإلى ذرى جنات النعيم أم إلى أسفل دركات الجحيم. . .
وفي قصة (أعطه جملة) عبرة وذكرى تبين لنا معنى الأسر الأدبي بياناً لا يدع مجالاً للشك والريب!
مالنا ولهذا أليس الجهل رقاً مؤبداً وأسراً مخلداً. . وأعظم مراتب الجهل جهل الإنسان حقوقه الاجتماعية ومن كان في غفلة عنها فهو حيوان مسخر يستخدمه الآخرون بأبخس الأثمان. . . في عنقه حبل الأسر مشدود الوثاق وفي رجله قيد الذل والهوان.
ثم إن من عرف حقوقه ولم يكن في جسمه دم حار يدفعه للذود عن حياضها عندما تمسها أيدي الظلمة الغشمة فهو دون مرتبة الحيوان!.(41/9)
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد
ما هي الحقوق المقدسة التي يجب على كل فرد معرفتها؟
إليك سبعة عشر بنداً تتضمن حقوق البشر وأبناء الوطن نظمها خمسة أعضاء من مجلس التأسيس الذي انعقد إبان الثورة الكبرى في فرنسا سنة 1789 وقد تلاها أمام المجلس الخطيب الطائر الصيت ميرابو في اليوم الثاني عشر من شهر آب وقوبلت بالقبول والاستحسان في السادس والعشرين من ذلك الشهر وهي الآن فاتحة دستور الحكومة الجمهورية في فرنسا. . ومن تأملها يجدها وقد جمعت فاوعت من حقوق البشر وواجباتهم وما أجدر أبناء وطننا أن يحفظوها بالحرف ليعرفوا مكانهم من هذه الهيئة المبجلة وهاهي:
1 يلد الإنسان حراً ويظل حراً، والناس متساوون في الحقوق لا امتياز لأحد على الآخر إلا بالأعمال التي تعود على المجتمع بالنفع الشامل والخير العام. .
2 الغاية من كل اجتماع سياسي صيانة حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تسقط بمرور الأيام وكرور الأعوام، وهذه الحقوق هي:
الحرية.
الملك.
الأمان على النفس.
الدفاع عن النفس.
3 الأمة أصل كل سلطة وسيادة. . فليس فرد من الأفراد أو هيئة من الهيئات استعمال سلطة لم تخوله إياها الأمة.
4 الحرية هي القدرة على أي عمل لا يضر بالغير ويسوغ لكل فرد من أبناء المجتمع التمتع التام بحقوقه الطبيعية التي تنتهي حدودها عندما تبتدئ حدود حقوق الآخرين وحدود الحقوق لا تتعين إلا بنص القانون.
5 ليس للقانون أن يحظر إلا الأفعال التي تضر بالهيئة الاجتماعية، كذلك لا يجوز لأحد من البشر مطلقاً أن يمنع أمراً لم يحظره القانون كما أنه لا ينبغي أن يجبر أحد على عمل شيء لم يأمر به القانون.(41/10)
6 القانون مجموع إرادة الأمة، ولكل فرد من أبناء الهيئة الاجتماعية الحق الصريح بالمشاركة في وضعه إما بالأصالة وإما بإرسال نائب عنه، ومن الواجب المتحتم أن يكون حكم القانون عاماً شاملاً سواء في القصاص والعقاب أو الحفظ والحماية، وبما أن جميع الناس متساوون في نظر القانون فمن البديهي أن تفتح أبواب المناصب والمراتب وخدم الدولة العامة لأبناء الوطن كافة على السواء كل بحسب استعداده وكفاءته لا يمتاز بعضهم على بعض إلا بالفضيلة والدراية والمعرفة.
7 لا يجوز بتاتاً تهمة أحد أو حبسه أو توقيفه إلا في الأحوال المعينة في القانون وعلى الطرق المصرح بها فيه.
والذين ينفذون أوامر عرفية أو يتوسطون في تنفيذها ينالون قسطهم من العقاب. . غير أنه يجب على كل من يدعي باسم القانون تلبية الدعاء في الحال ومن يمتنع عن الإجابة يعد من المجرمين.
8 لا ينبغي أن يوضع في القانون إلا العقوبات الضرورية التي لا بد منها، ولا يجوز أن يعاقب أحد إلا بنص القانون قد سن ونشر وطبقت أحكامه على الأصول قبل حدوث الجرم.
9 الأصل براءة الذمة، فكل فرد من أفراد الهيئة الاجتماعية يعد بريء الذمة إلى أن يثبت جرمه، فإذا دعت المصلحة لإلقاء القبض على أحد قبل المحاكمة وثبوت الجرم فعلى القانون أن يمنع كل شدة وقسوة لا تفيدان في معرفة ذلك الرجل.
10 لا يؤاخذ أحد أصلاً عن آرائه وأفكاره ولو كانت فيما يتعلق بالأمور المذهبية والمسائل الدينية، إلا إذا كان التظاهر بمثل هذه الآراء والأفكار يخل بالراحة العامة التي تكفل بها القانون.
11 حرية بث الأفكار والآراء من أجل حقوق الإنسان وأثمنها، فلكل فرد من أفراد المجتمع الحرية الكاملة بأن يكتب ما يشاء وينشر ما يشاء ويتكلم بما يشاء.
غير أن سوء استعمال هذه الحرية داع للسؤال والمؤاخذة على مقتضى الشروط المصرح بها في القانون.
12 لا بد من قوة عامة (يريد بها الجند) لصيانة حقوق الناس وأبناء الوطن وهذه القوة معدة لحفظ منافع الأمة جمعاء لا لحفظ منافع الذين أنيطت بهم إدارة هذه القوة!. .(41/11)
13 لا غنى عن تكاليف عامة لإدارة تلك القوة وتدبير شؤون الملك، ومن الواجب أن توزع هذه التكاليف على جميع أبناء الوطن كل بحسب قدرته واستطاعته.
14 يحق لأبناء الوطن البحث في لزوم هذه التكاليف وتحقيقها إما بالأصالة أو بالنيابة، ومن حقوقهم الإقرار عليها ومراقبة صرفها في وجوهها وتحديد مقاديرها ومدة دوامها وتعيين طرق جبايتها. .
15 من حقوق الهيئة الاجتماعية مراقبة العمال ومناقشتهم الحساب فيما يأتونه من جميع الأعمال.
16 أي هيئة اجتماعية لا تصان فيها حقوق الإنسان ولم توزع فيها القوى العامة التشريعية والعدلية والإجرائية فليس لها دستور.
17 الملك حق جليل لا يقبل الغصب لذلك لا ينزع من أحد ماله بتاتاً، وإذا مست المصلحة العامة لاستملاك بعض الأملاك فمن الواجب أن تكون ضرورية ويعطى ثمنها لصاحبها.
عبد الوهاب(41/12)
مصالح الأبدان والأنفس
تابع ما في الجزء الماضي
القول في الشراب
الطعام عامته جسم أرضي يحتاج إلى ما يرقق أجزاءه ويهيئه للقوة الهاضمة وحقيقة الشراب هو الشيء الذي إذا طبخ صار جميعه بخاراً بلا ثقل كالماء فأما ما يبقى له ثقل أو ينعقد منه شيء إذا طبخ فهو بالطعام أشبه وأوفق الأشربة التي يكثر استعمالها السكنجبين العسلي لأن فيه قوى العسل والخل، ولهما الجلاء والتحليل، وعلى هذين المعنيين مدار أفضل المعالجات فإن الأشياء التي تحفظ الأجسام وتمنع من العفونة والفساد هي الخل والعسل والملح والصبر فقد اجتمع في السكنجبين شيئان من هذه الأربعة.
القول في المسمومات
كما أن الماء ليس يغذو بنفسه، وإنما هو مركب للغذاء كذلك الهواء لا يغذو إلا بما يستصحبه من الرائحة الطيبة وكذلك وقع المشموم في باب حفظ الصحة ويجب للحكيم أن لا يترك الانتفاع بالروائح الأرجة وأن يجعل استعمالها عباً لأن للمشمومات قوى مفرطة في الحرارة والبرودة فربما ضرت مداومتها فلأن حاسة الشم إذا انغمست في الروائح الطيبة كلت عنها وفترت لذتها منها كالعطارين والدباغين في القيدين ولا يدني المشمومات إلى أنفه إدناءً كثيراً لغلبة الكيفيات بل يبخر له المجلس وثيابه ويجمع من المشمومات رطبةً كانت أو يابسةً طبائع مختلفة لتكون أقرب إلى الاعتدال وأعون على الاستكثار فإن التركيب ألذ ما استعمل في الأطعمة وأنفع ما اعتمل في الأدوية كالأبارجات ونحوها.
القول في النوم
من كان أرطب بدناً كان النوم عليه أغلب والمشايخ أكثر نوماً إلا أن رطوبتهم ليست أصلية فضعف لذلك نومهم واضطرب وهو من الأقوات الطبيعية إلا أن الإكثار منه يرخي البدن ويهيج الوجه ويكل الحواس ويملأ الأعضاء فضولاً ويفتر الحركات وربما كان سبباً لعفونة الإخلاط وإضعاف الحفظ والفهم والذكاء، والحاجة إليه في الصيف أكثر لغلبة الحرارة واليبس فيه ولطول نهاره وكثرة التعب بحركات اليقظة فيه وهو في الربيع مستلذ وفي الصيف علاج ويجب أن لا يلحق المرء نصف الليل إلا وهو نائم فهو حقيقة الليل(41/13)
واستحكام الظلام وأن امتد به السهر فلينم في السحر وقبل طلوع الفجر فإن اتصال اليقظة ليلاً ونهاراً ليس بصالح والنوم في أول النهار خطأ لأنه وقت الانتشار وحركة الحيوان فالنوم فيه تنكيس للأمور الطبيعية عن جهاتها وكذلك آخر النهار، لأنه ينقص نوم الليل ويفسده والليل أفضل الأوقات للنوم ويحمد النوم عند الغم والخوف لأنه يقلل الحرارة التي يهيجانها، وتقدير زمان نوم الحكيم، الثلث من جميع ساعات الليل والنهار ولا يلزم شكلاً واحداً في النوم فربما اضطر إلى غيره ولا يوقط الإنسان بإزعاج فإن نفسه تتموج وأعضاءه تسترخي عند نومه، فكل شيء من الأفعال الطبيعية فيجب أن يكون الانتقال منه إلى ضده بتدريج وترتيب وليكن النوم بالليل على فراش وثير والجلوس بالنهار على مقعد وطيء.
فصل في الباه
ينبغي تجنبه في حالي الخواء والامتلاء وحال الامتلاء أسلم، وفي حال الغم والحزن وأن تكون التي تواقع محركة النفس بنشاط أو غضب فإن ذلك يوجب ذكاء المولود وليجتنب مجامعة العليلة والفاترة النفس والمسترخية البدن والمغلوبة بالنوم فإن ذلك يوجب بلادة المولود. .
القول في الحمام
وهو من أشرف مرافق الأبدان ومعاون الصحة لأنه يجمع الماء الحار، والهواء الحار فيفتح المسام ويخرج الرطوبة الفجة المتولدة عن فضول الأغذية التي مقامها في البدن مؤدٍ إلى العلل والأسقام وهو يجمع إلى نقاء البدن من داخل نقاءه من خارج وتنظيفه من الأدران وفيه كذة نفسانية لأن النفس مجبولة على حب الزينة والنظافة وكلما كانت ألطف كان هذا الطبع عليها أغلب، ففيه لذتان للنفس والجسم، وأكثر نفعه لأصحاب الأبدان المتخلخلة، وربما ضر أصحاب الأبدان المستحصفة لأنه يثير الأبخرة ثم يمنع الاستحصاف من خروجها إلا بإطالة مكث في الحمام يحل القوة ويكرب ويضعف ويجب اجتنابه في الصيف أو تقليل اللبث فيه جداً وأصلح الأوقات له الغداة لأنه بعد ثقل النوم وبرده ورطوبته، وليجتنب على الامتلاء فإنه يثور ما في المعدة والجسم محتاج إلى التسكين في ذلك الوقت ليتم هضمه وربما أحدث ضرراً عظيماً، ويهجر بعقب الجماع والتعب والاستفراغ وهيجان(41/14)
الأعراض النفسانية ولا يستعمل الغذاء بعد الخروج منه ولا الركوب والتعب إلا بعد راحة أو نومة لأنه يثور الإخلاط، فتحريك البدن قبل أن تستقر طبيعته قرارها ضار مخوف العاقبة، ويجب استعماله غباً فإنه أدوم للذمة وأعدل لنفعه.
القول في الحركات الرياضية
الرياضة من أشرف العلاجات وقد نرى أصناف الحيوان تستعملها وتختلف في الطيران والمشي غير طالبة لشيء من مأكل أو مشرب غير الحركة فقط، وقد ترى الماء الجاري بعيداً من الفساد، والراكد كثير العفونة ولذلك صار المترفون يدفعون إلى أمراض مزمنة كالنقرس وغيره، والإنسان خلق خلقاً متحركاً مشاءً بالطبع فإذا عطل نفسه مما خلق له أداء ذلك إلى المرض ولا يسرف في الحركة فإن إفراطها أسرع في توليد الأمراض، والملوك أحوج إلى الرياضة من العوام لكثرة تودعهم ولاختلاف الأطعمة والأشربة عليهم، فأما العوام والسوقة فهم في رياضة دائمة، وأفضل الحركات حركة المشي وحركة الركوب دونها ويجب أن يحرك البدن على الدابة، ومن الحكمة أن ينزع الإنسان في القوس الشديدة نزعات كل غدوة ونعم الرياضة لأهلها اللعب بالصوالجة ويجب أن يبدأ الإنسان بالرياضة ثم الاستحمام ثم السكون ثم الأكل ثم النوم ثم الشرب، ومن لم يتهيأ له المشي والركوب، فالكلام والمحادثة فقد قيل أن الكلام الكثير يهزل الغذاء وفي وقت اشتداد الحر لأن غلبة الحر تحلل القوة الغريزية.
القول في التغميز
هذا أحد المعاون في حفظ الصحة ولا سيما بعد التعب والحركة والخروج من الحمام ومن الدليل على الانتفاع بالتغميز وإخراجه الأبخرة وتفتيحه المسام استدعاء الطبيعة الحل لإبراز البخار الذي يحتقن داخل المسام واستعمالها التمطي والتثاؤب لذلك ولا سيما عند حركة الحمى وامتلاء البدن من الفضول والتمرخ لمثل ذلك لا يكون التغميز بخرق بل برفق ولا في حال امتلاء.
القول في السماع
يجب أن يميل الملك من السماع إلى ما يوقر ويرزن دون ما يخفف لئلا تقع الأبصار منه على ما ينقص الهيبة وإن مالت نفسه إلى ذلك كان في حال خلوةٍ.(41/15)
القول في الأدوية
الأدوية كلها مضادة للطباع والقوة تجاهدها فلذلك يجد البدن بعد الاستفراغ ما يجده المستريح من التعب، وفعلها في الأبدان إذا كثرت كفعل الصابون ينقي ويخلق وهي إن وافقت فضلة أخرجتها وإلا أخرجت الرطوبة الغريزية فكان ضررها بذلك عظيماً والأبدان المستحصفة التي لا يسهل خروج الأبخرة منها أحوج الأبدان إلى المداواة. . . .
فصل في الحرارة
لا تجوز المداواة في صميم الحر لأن الغريزية تضعف في عمق البدن وتبرز إلى ظاهره فلا يجوز أن يجمع عليه الضعف من هذا الوجه، والضعف بالإسهال والحرارة إذا ثبتت في ظاهر البدن جذبت الإخلاط إلى خارج، والدواء يجذبها إلى داخل فتجري بينهما ممانعة وتتعب الطبيعة ولا يؤمن معها مضرة شديدة ولا في صميم البرد لأن الإخلاط جامدة عسرة الحركة فربما كان في مجاذبة الأدوية لها سجح وأضرار بالآت الغذاء.
فصل في العلاج
يجب أن يكون العلاج بما يدخل في باب الغذاء أكثر منه بما يدخل في باب الدواء لأن الغذاء شكل، والدواء ضد، وأن يختار الأسلم منها وإن كان نفعه أقل، فتدارك التقصير أهون من تدارك الإفراط وتدارك الحمية قبل الدواء بيومين أو ثلاثة ويجتنب اللحم لأنه يملأ الأوعية وغيره مما يولد السدد والحامض لأنه يخشن، فربما أحدث الدواء بعده سحجاً بل تستعمل قبله الأغذية الخفيفة الدسمة الخفيفة لتجلو المجاري وتسلسلها ويشيع الدواء بحمية أيام لتثوب إلى البدن قوته ويجتنب بعده التخليط فإن الشيء الضار على النقاء. . . . النقاء أشد ضرراً.
فصل في إخراج الدم
بحسب الانتفاع بإخراج ما له كيفية رديئة من الدم يكون الاستضرار بإخراج النقي الجوهر منه وإذا بتيع في جوف العروق لم يشف إلا إخراجه بالقصد وإذا كان في خارج العروق نفعت منه الحجامة والصبي والشيخ يضعفان عن القصد والأكحل عام النفع لجميع البدن والقيفال لأعلاه والباسليق لأسفله ويجب إخراج الدم على ثلاثة وجوه إما غلبة الكمية يغير(41/16)
كيفية فاسدة وعلامته ثقل البدن وحكة ليس لها لذع شديد أو لفساد الكيفية بغير كمية فيكون مثل الماء الذي يغلي على النار، وعلامته حرقة الجسد ويثور لذاعه أو تغلب فيه الكيفية والكمية فتمكن منه العفونة والاستحالة وعلامته مجاوزة الأعراض التي ذكرناها إلى توليد الأمراض، والحمايات والأورام، والصنف الثاني يخرج منه القليل وربما أغنى فيه التسكين والأول أكثر والثالث يخرج منه كل ما تحله القوة ويقدم الفصد قبل الدواء لأن الإخلاط الآخر متشبثة بالدم فربما أغنى إخراجه عن المسهل وليكن الإقدام عليه وقت استحكام قوة البدن ويمتنع بعد الفصد من الأغذية التي تولد السدد والكيموس الرديء كالبقول والفواكه ويجتنب على حال خواء أو امتلاء أو خمار أو جماع أو تحرك بعض الأعراض النفسانية.
القول في حفظ صحة الأنفس
ينبغي للعاقل أن يشعر نفسه أن الدنيا مبنية على الشوائب والتكدير فلا يطلب منها ما ليس في طبيعتها ويستعمل التغافل وترك الاستقصاء ويروض نفسه على احتمال صغير ما يضجر فإنه تمرين على احتمال الكثير ومن التدبير البليغ أن يعرف الإنسان وزن نفسه ومبلغ استقلاله وقوة قلبه فيكون ما يخاطر في طلبه ويغرر له من مآربه بحسب احتماله فإن راحة القلب وطمأنينة مع الإقلال خير من ضده مع ضده والإنسان يقبل من غيره أكثر مما يقبل من نفسه ولذلك يجب أن يكون مع الملك طبيب لأخلاقه كطبيب الجسم يذكره ويعظه في أوقات الخوف والغضب.
فصل آخر في الخوف
الخوف هو أبعد وأسهل والفزع لما هو أقرب أو أشد فلذلك كان الخوف مقدمة للفزع والجزع أشد الحزن فهو من الحزن كالفزع من الخوف.
فصل في الغضب
ينبغي للعاقل أن لا يفارقه من قد أطلق له وعظه وتذكيره في أول اهتياج الغضب عليه وأن يتصور أن الغضب كالنار أولها سريع الإطفاء وآخرها كثير الضرر فليقصد لقمع غضبه من أوله كما يكبح الفرس في أول جماحه وليتذكر فضيلة الحكم وشرف الكظم وما حازه الحكماء من حسن الذكر ويفكر في أن شدة الانتقام وسرعة المؤاخذة لنفر قلوب الخدم وتكسب الأحقاد والضغائن وتفسد طاعة المحبة وتنقلها إلى طاعة الرهبة والذين يطيعون(41/17)
الرئيس بالمحبة حراسه من حيث يعلم (ولا يعلم) والذي يطيعونه بالرهبة يحتاج إلى الاحتراس منهم وما أحسن قول بعض الملوك (ما غضبي على من أملك ولا غضبي على من لا أملك) ويجب أن يفكر في أنه لا يكاد يعاقب إلا على ما فيه جنس منه ومن عاقب على ما يأتي مثله أو بعضه فليس بمنصف ويذكر نفسه حرمات المغضوب عليه ووسائله أو ما يرجو من مستأنف خدمته وما يستخلصه الحلم من طاعته ومناصحته ويجب أن لا يقع بصره على من أغضبه إلى أن يسكن غضبه.
فصل في الخوف والفزع
ليس شيء يخاف من الإنسان كخوفه على نفسه من التلف والألم ومنه شيء يكون على البديهة لرقة الطبع وسرعة استحالة النفس وهذا لا حيلة في دوائه ويجب أن يفكر الخائف في قولهم أكثر الروع باطله فإن الحكماء شبهت الأمور المخوفة بالضباب الذي يتولد على وجه الأرض فيتخيل الإنسان من بعد أنه جسم كثيف ليس فيه متنفس ولا عمل للبصر فإذا أفضى إليه وجده شبيهاً للهواء الذي فارقه وشدة الخوف ربما أذهل عن الحيلة للخلاص مما يخاف فيكون الخوف داعية ما يخافه الإنسان والعاقل لا يستجيز مثل هذه الحال ويجب أن يفكر في أن الخوف والجزع من خور النفس وأنهما خاصة للصبيان والنساء فيغضب على نفسه من أن لا يكون فيها من الجلادة والصرامة ما ينفي هذا العار عنه فليس شيء أبلغ في التشجيع من قوة الأنفة، ويفكر في أن الخوف فعل الغر الذي لا يعرف حقائق الأشياء ولذلك خوف الصبي أكثر وخوف من لم يشاهد الحروب والقتلة أوفر ولو قد تحقق الصبي من حال الأشخاص التي يفزع بها ما تحققه البالغ العالم لما خافها وقل اكتراثه لها وخوف الصبي والجاهل كخوف الطير من الشبح الذي ينصب لها على الزرع ولو تحققت كيفيته لأقدمت عليه وكنفار الخيل من الأشخاص التي لم يألفها حتى تؤنس بها فالمغ الأدوية في إزالة الخوف الاستكثار من العلم والمعرفة بحقائق الأشياء وتعويد حاسة السمع والبصر ملابسة ما يهول ويجب أن يخرج أولاد الملوك إلى معارك الحروب لتهون عليهم الأهوال فإن الأطباء الذين يباشرون الكيّ والبط والملاحين الذي قد تمرنوا على الرياح العواصف والأمواج العظائم يقل ارتياعهم لما يشاهدون من ذلك ولذلك يرتاع الإنسان للمرض أول ما يناله ثم ينوبه دفعات فيألفه فيقل استيجاشه منه والجاهل تروعه الكسوفات والعالم العارف(41/18)
بأسبابها وحسابها قليل الارتياع منها وهذا مثل لغيره.
فصل في الحزن والجزع
الجزع أشد الحزن وهو كالنار الملتهبة والحزن كالجمر الباقي بعد سكون اللهب وكأن نفس الإنسان التي هي نور بدنه وضياء جسده في حال الغم والحزن، شمس كسفت وهو يفعل ضد المسرة فإن وجه المسرور مستبشر بهي مشرق والحزن لفوت محبوب كما أن الخوف توقع مكروه والحزن أبداً لما مضى والخوف لما يستقيل والحزن المجهول السبب يرجع إلى الأعراض البدنية وتولده عن كدر الدم أو برده ومن أدويته النفسانية إحداث السرور بالمحادثة والمؤانسة وينبغي للمحزون أن يتذكر ما بقي له من قثيتة (؟) فإن ذلك يسليه عن المفقود ويتصور كثرة الأسى له ففي ذلك سلوة ويتصور أن الحزن يبلى كل يوم وينقص فإن التفكر في ارتفاع المكروه ونقصانه يعقب سروراً عاجلاً.
القول في الوسواس
هذا منه جنس من قبل الطبع وما يقع في المولد وهو ألزم وأسلم من الغريب الطاري والوسواس على نوعين نوع فيما يرجى ونوع فيما يخشى فالذي يرجى كالمستهتر بمعشوقه فلا يعرف غير صياغة الأماني فيه والاشتغال عن أكثر أعماله به، والذي يكون فيما يخشى فإنه يوهم الإنسان الشيء يخافه وهو بعيد عنه مقام القريب منه، فلا يزال نصب وهمه فكأنه يلاحظه ومتى أراد الاشتغال بغيره طفرت نفسه إليه، ومن شأن من هذه حاله أنه إذا عرض له أمر من الأمور يمكن أن يتصرف على وجهين لم يذهب وهمه إلا إلى ما هو أصعب وأخوف دون ما هو أسهل وأرجى ومن الأعوان على إزالة هذه الأفكار ترك الانفراد فإن الوحدة تهيج الفكر لا سيما إذا كانت النفس ذكية رقيقة الطبع، وإنما تحمد الوحذة الذي سلطان يخلو بالفكر في تدبيره أو لعالم يخلو باستنباط حكمة أو لناسك ينفرد بمناجاة ربه وما خلا هذه الوجوه من أبواب التفرد مذموم، وعلى أن الله عز وجل خلق الإنسان يحب الأنس والاجتماع مع أهل جنسه فليس يسد ذاك عن هذا الطبع إلا من عرض له نقص في طباع الإنسانية ومناسبة السباع وهو خلق موجود في الحيوان الذي طبعه أفضل وأسكن كبهائم الأنعام والطير وضده موجود في السباع من الصنفين ولذلك قيل أن الواحد شيطان ويجتنب الفراغ كتجنبه الوحدة ويصرف الفاضل من أوقات زمانه عن(41/19)
شغله إلى قضاء أوطاره من اللذات والسماع المحرك لقوى النفس والنظر إلى الصور الجميلة والاستجداد منها ليكون أشغل لقلبه وأغلب على فكره والآن من طباع صاحب هذا العرض أن يكون ملولاً ومما يستعان به على صرف هذا الفكر الجليس الذي يثق به ليعرفه بطلان ما يتخيل له من الفكر الرديئة وإذا علم من نفسه أن هذا خلق وقع له بالطبع الأقدم والمزاج الأول كان أخف لغائلته وأقل الاشتغال سره به ومما يزيل كثيراً من الاستشعار التعويل على صناعة النجوم وما تشهد به من السلامة فإنها صناعة شريفة قد استعملتها الأمم المتباعدة البلاد واتفقوا مع اختلاف ديارهم على صحة أصولها وتجربة فروعها فلا يجوز أن يكون اتفاقهم عليها باطلاً بل عن وحي لا يكذب أو إلهام لا يبطل ويجب أن يفكر في أن الله عز وجل لما أراد عمارة الدنيا جعل أسباب العطب ودواعي البقاء والنجاة أقوى من دواعي الانحلال والبوار وهذا أمر موجود بالمشاهدة فإنا نرى ذوي السلامة أكثر من ذوب العاهات والزمانة، فيكون هذا الفكر أميل به عن الخوف إلى الرجاء وبالله التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(41/20)
نكارتر
الماسة المفقودة
كان نكارتر البوليس السري المشهور عند وقوع هذه الحادثة في مدينة دانفر من مقاطعة كولورادو، وقد دعاه إليها عمل مهم أنجزه فملأت الجرائد المحلية أعمدتها بذكر نكارتر وأعماله الغريبة ودار اسمه على الألسنة وتناقلته الأفواه.
وحين أنهى طعام الغذاء في أحد الأيام جلس في الغرفة مع معاونه باتسي وإذا بخادم الفندق أقبل عليه وسلمه رقعة زيارة قال له أن صاحبها يود أن يكلمه في الحال فأخذها البوليس وقرأ عليها اسم فيليب دلمار بصوت منخفض ثم التفت إلى معاونه باتسي وسأله هل سمعت بهذا الاسم قبلاً، فأبدى باتسي إشارة النفي، فتبسم نكارتر وقال إذن فلنغتنم هذه الفرصة للتعرف إلى هذا الرجل وقال للخادم أدخله لنرى.
وبعد هنيهة أقبل الزائر وهو ربعة في الرجال قد لوحت وجهه أشعة الشمس وكانت حركاته العنيفة تدل على أنه عرضة لاضطراب وانفعال شديد حتى أنه لم يفتكر بتحية البوليس عند الوصول بل صرخ قائلاً: يجب أن أستعيد ماستي المفقودة المدعوة (عين الشيطان).
فأجابه نكارتر: ذلك مما لا ريب فيه.
فقال باتسي ممتعضاً: حسناً يفعل هذا الرجل إذا تكلم عن الشيطان ذاته.
ولكن الغريب استتبع الكلام وقال ياللغرابة أليس من العجب أن أفقد عين الشيطان ماستي الثمينة، فقال البوليس بتأن حسناً ولكن اسمح لي أولاً أن أقدم لك نفسي فأنا نقولا كارتر من نيويورك.
فعض الزائر على شفته ثم قال:
وأنا فيليب دلمار، وإذا كنت لم أقم بالواجبات فأرجوك مغفرة لأنني أضعت صوابي حين فقدت ماستي العزيزة التي لا يقع عليها ثمن.
فقاطعه نكارتر قائلاً: تفضل واجلس ثم قص علينا قصتك بالسكينة التامة فإذا وجدت فيها ما يستحق العناية فأنا رهين أمرك.
فجلس دلمار على المقعد الذي أشار إليه نكارتر ثم ألقى على باتسي نظر مستفهم وقال أظن أن هذا الشاب مساعدك.(41/21)
ـ نعم ومن أشد مساعدي ذكاءً ثم بعد أن تعارف الرجلان وتصافحا قال دلمار فلنعد الآن إلى حديث الماسة وأظن أنه يهمك أن تعرف تاريخها قبل أن تدخل في ملكي.
ـ لا حاجة لي بذلك فيكفيني أن أعرف منك كيف ومتى انتقلت هذه الماسة إليك.
ـ إنها دخلت في حوزتي منذ سنة تقريباً وكنت في تلك الآونة تاجراً في كلكتا فاتفق لي مرة أنني أنقذت حياة رجل برهمي له شرف أثيل وثروة جزيلة ودفعت عنه غائلة لصوص داهموه ـ ولست أفتخر بشجاعتي ـ ولكني أقول أني لحسن الحظ كنت حاملاً مسدسي وأنت تعلمون أن السلاح الجيد يفعل ما لا تفعله البسالة.
ـ ذلك مشهور ولكنه يتوقف على الساعد الذي يدير السلاح.
إنني أجيب على هذا ـ وأنا بريء من التبجح ـ إنني استعملته بمهارة فائقة، فإن اثني عشر لصاً هاجموا البرهمي في ضواحي المدينة ولم يكن هناك سواي فبادرت إلى نجدته مع أني لم أكن أعرفه قبلاً ولم أحتج في إنقاذه إلى شجاعة فائقة بل كفى لذلك أن أطلق النار ذات اليمين وذات اليسار وأن أعيد حشو مسدسي بأسرع ما يمكن فصرعت رجلاً بكل طلق ولا أستحق الإعجاب بهذا فإن اللصوص كانوا قريبين مني حتى لم يمكنني أن أخطئهم فقتلت خمسة منهم ومات السادس أثناء نقله إلى المستشفى وفر الباقون هاربين.
فابتسم نكارتر وقال له إذن فأنا لا أوثر أن أنازعك ما دام مسدسك في يدك لأنك تبلغ به ما تريد.
ـ دعنا من هذا فلو كان لي جرأة أن أستخدم مسدسي منذ ثمانية أيام ما رأيتني اليوم آتياً لأزعجك لأنني كنت أوقفت كقاتل، ولنرجع الآن إلى تتمة الحديث ففي اليوم الذي تلا الواقعة أتاني البرهمي إلى مخزني وكان يريد أن يقدم لي هدية دليلاً على شكره فأعطاني علبة صغيرة وقال لي أن ضمنها الماسة المعروفة في الهند بعين الشيطان ثم قال لي أن هذه الماسة ذات قيمة لا تقدر يا صاحبي وأشير عليك أن تبارح الهند بعد الآن فحياة الذي يملك هذه الماسة في خطر شديد لأن جميع الطبقات في الهند تعرفها وكثيراً ما أثارت المعارك الدموية في سبيل امتلاكها، ثم ذهب البرهمي وتركني ذاهلاً والصندوق في يدي وعندما فتحته وجدت فيه ماسة كبيرة الحجم جداً لم تقطع بعد وتكاد لا تعرف لها لوناً لشدة صفائها، وعندها لم أدرِ ماذا أفعل ولما استشرت كبار الجوهريين في كلكتا وأخبروني عن(41/22)
قيمتها الحقيقية تهت عجباً ولم تعد حياة تاجر في الهند تطيب لي فبعت مقتنياتي وعدت إلى الولايات المتحدة آملاً بأن أقطع الحجر وأبيعه بأغلى ما يتيسر لي.
فسأله نكارتر وهل تقطن في كولورادو؟
ـ لا، إنني لم أقطن في مدينة بعد لأنني لم أترك الهند منذ أكثر من شهر وقد جئت من بوسطون إلى كولورادو.
قبل أن أنزح إلى الهند أقمت عدة سنوات في هذه البلدة عساني أوفق إلى حشد ثروة فاتخذت أصدقاء كثيرين وفي هذه الآونة لم يسمح لي قلبي أن أمر في مقاطعة كولورادو دون أن أذهب لزيارة أصدقائي القدماء.
وحين نمي إليّ أن اثنين منهما يقطنان هذه المدينة ألقيت فيها عصا التسيار.
وقد مضى على هذا أسبوع وفي اليوم التالي من وصولي دعوت صديقيَّ إلى العشاء في الفندق فلبّيا دعوتي وخصصت غرفة لنا فقط و. . . إن هذه لصدفة عجيبة أننا كنا جالسين في هذه الغرفة عينها ذلك اليوم المشؤوم.
فقال البوليس إن الأمر ذو شأن خطير، إنك ولا ريب أريت الحجر الكريم إلى أصدقائك.
ـ نعم وأسفاه.
ـ إذن فأخبرني بالتدقيق عن المدعوين الذين حضروا العشاء.
ـ حباً وكرامة، كانت المنضدة الطاولة موضوعة في الزاوية حيث يجلس المسيو باتسي الآن، وكان الخادم قد وضعها أولاً في وسط الغرفة كما ترونها الساعة ولكنني نقلتها من موضعها لأنه كان يمكن القاطنين في الجوار أن يروا كل ما نفعله لو بقيت المنضدة في محلها فغيرت وضعها وجلست قرب هذين الزرين اللذين تراهما في الحائط وأنت تعلم أن الذي دعاني إلى وضع المنضدة هنا قصصته عليك لأنك تود أن تعرف كل ما جرى بالتفصيل وعندما وصل أصدقائي الثلاثة نهضنا إلى المنضدة.
فقاطعه نيكارتر وقال له هل كانوا ثلاثة إنك لم تذكر لي حتى الآن سوى اثنين منهما.
ـ هذه هي الحقيقة ولكن واحداً منهما أحضر معه شريكه الأعمى فجلست قرب الحائط حتى يسهل عليّ استدعاء الخادم بتحريك اللولب وجلس أمامي كراب الرجل الأعمى وكان عن يميني شريكه ماتيو وعن يساري صديقي المدعو دونلسون.(41/23)
ـ أرجوك أن تعرفني بأسماء أصدقائك الأولية.
ـ فرانك ماتيو وجورج دونلسون أما كراب فأظن أنه يدعى يوحنا.
ـ فردد البوليس لفظة جورج دونلسون وهو يلتفت إلى معاونه باتسي الذي كان إلى جانبه ثم سأل دلمار ما هي صنعة هذا الرجل.
ـ يقوم بمشاريع كثيرة يؤمل منها أن يكتشف مناجم غاز.
ـ حسناً كنت ظننت أنه هو وتراني مسروراً جداً لأنني أسمع عنه شيئاً.
فتعجب دلمار وسأل نكارتر قائلاً وهل كنت تعرفه قبلاً؟
كلا ولكنني أود كثيراً أن أتعرف إليه وسنتكلم عنه فيما بعد. . . أرجوك الآن أن تتمم حديثك.
والذي دفع نكارتر إلى السؤال عن دونلسون هو أن هذا الأخير كان له ضلع في كثير من الجرائم الفظيعة من قتل وسرقة بالتحريض والإغراء دون أن يعلم بها البوليس وكان هذا الداهية المحتال ينسل من وصملتها ولو علم بها البوليس لقادته إلى السجن أو إلى الكرسي الكهربائي (آلة الإعدام).
وكان نكارتر وباتسي هما الوحيدان اللذان قدرا أن يكتشفا أسرار فعلته، ولكنهما لم يكشفا أمراً آملين أن يقبضا يوماً على الشرير ويدعما شكواهما عليه بالبراهين الجلية.
ثم عاد دلمار واستأنف حديثه فقال: وانتهى العشاء كما تنتهي الولائم في الفنادق عادة وبعد أن رفع الخدم المائدة وقدموا القهوة واللفائف السكاير وخرجوا أخرجت الماسة من جيبي، فتناولتها الأيدي والكل يعجبون بها وسمع كراب الأعمى ذلك وإذ لم يكن قادراً أن يبصرها أراد أن يمسها على الأقل، وبعد أن جسها وضعها بقربي على المنضدة آه إني أذكر كل حركة جرت عندئذ فقط نظرت كراب المسكين يقلب وعاء السكر عند ما مد يده ليناولني الحجر الكريم وسمعت تنهده حين وضعه أمامي، وبقي على المنضدة هنيهة يسيرة يسألني في أنثائها أصدقائي ألف سؤال عن تاريخ هذا الحجر فلم أجد مانعاً من إخبارهم بكل ما جرى فقصصت عليهم كل ما أعرفه من تاريخ الماسة وكيف اتصلت بي. . قصصت عليهم كل هذا بإخلاص وبساطة شأن الأصدقاء.
وأخيراً فرغت الأقداح فضغطت على زر الجرس الكهربائي لأستدعي الخادم وكان في(41/24)
نيتي أن أقدم إلى المدعوين قدحاً من الكونياك الفاخر، ومع هذا فلم أولِ أصدقائي ظهري تماماً لأنني لم أشأ أن أحول نظري عن الماسة ولكن لنكد طالعي ضغطت على زر الكهربائية وللحال استولى على الغرفة ظلام دامس لم يستمر بضع ثوان أعدت في خلالها المجرى الكهربائي ولو قدر لي أن أعيش مئة سنة لم أنس اليأس الذي أخذ بخناقي عندنا ألقيت نظري على المنضدة فوجدت الماسة قد اختفت.
وحين وصل دلمار إلى هذا الحد من حديثه أمر يده على جبهته وانقطع عن الكلام فقال نكارتر لو لم تأتِ إليّ اليوم وتقص عليّ هذا الخبر لكنت أقول أن أحد أصدقائك سرق الحجر.
فقال دلمار هذا هو فكري بتمامه.
فأجاب نكارتر نعم ولكنك إذ لم تفتشهم حالاً صار الواجب علينا أن نسلم أن اختفاء الماسة سر غامض.
فسأل دلمار وكيف هذا إنني لا أفهم شيئاً.
فقال نكارتر إن المسألة واضحة كل الوضوح وهو أن رجلاً يجيد استعمال المسدس مثلك كان من الواجب عليه أن لا يدع شيئاً ثميناً كهذا يفقد من دون أن يطلق طلقاً أو ينبس ببنت شفة بل كان يفتش حالاً في الموضع الذي وضع فيه الحجر فإن الحجارة الكريمة لا تسرق نفسها على ما أعلم.
فقال دلمار إنني أخبرتك أنني حزين لأنني لم أعمد إلى المسدس فقد أخرجته من جيبي ولكني لم أطلق النار، على أن الماسة اختفت كما قلت بطريقة غامضة خفية للغاية فإنها لا تسرق نفسها كما قلت وبالتالي فلم أجد طريقة أوضح فيها هذا الإبهام.
ـ فأخبرني بالتفصيل والتدقيق عما أجريته عندما فقدت الماسة.
ـ إذن فاسمع أول ما وقعت الحاظي على ماتيو وكانت يده على شفتيه تنتزع السيكار الذي كان يدخنه دون انقطاع، وكانت مظاهر الدهش تعلوه فعزوت هذه المظاهر إلى ما ناله من سرعة فقد الماسة وكانت يده اليمنى على المنضدة.
وكان دونلسون يرسل إليّ لحظاً لم يسرني فاشتبهت به للحال ويعسر عليّ أن أصف هيئته وصفاً مدققاً ولكنني أذكر ما يلي، كانت عيناه موجهتين إلى موضع الماسة تواً وكانت يده(41/25)
اليسرى قابضة على المنشفة ومضطربة بفعل عصبي ويده اليمنى موضوعة على زجاجة خمر فارغة وكان جالساً على كرسيه في المؤخرة بعيداً جداً عن الطاولة، أما كراب الأعمى فكان على شفتيه كأس ماء وكانت عيناه متجهتين إلى القدح ونظرت رماد سيكارته تتساقط على المنشفة بينما كان يشرب الماء، وكل هذا أذكره تماماً، ثم وضع القدح على المنضدة وكان في بقية ماء اضطربت ثواني قليلة ثم سكنت.
ـ إن وصفك تام مدقق فلننظر الآن في شأن دونلسون وقد قلت لي أنه كان بعيداً جداً عن المنضدة.
ـ نعم وكانت نظراته تشف عما في صدره.
ـ يظهر أنه اغتنم فرصة الظلام فسرق الماسة أليس كذلك؟
كان ذلك كما تقول، وكان له هيئة تشبه هيئة الثعلب الذي سقط في فخ.
ـ وهل كان جالساً على مقعده بدون اهتمام عندما أظلمت الغرفة؟
ـ أظن ذلك.
ففكر البوليس لحظة ثم قال:
يمكنني أن أتصور الآن كيف جرت الحوادث فإن دونلسون نظر اختفاء الماسة.
ـ لا لا قال دلمار وكان يتزايد اضطرابه العصبي أنا لا أعتقد بهذا ولكنني أظن أن دنلسون هو السارق وهذا الشك يتزايد في خاطري فقال له نكارتر أملك روعك فإنك قد قصصت عليّ الأخبار بدقة وتفصيل نادر فلا تشوش حديثك بالاضطراب.
فلنفكر بكل هذه الشؤون ولنمعن النظر فيها بهدوء وسكينة.
فتضجر دلمار وقال سأبذل جهدي لاتباع نصيحتك فماذا تريد أن أخبرك الآن؟
ـ أريد أن تخبرني ماذا قال أصدقاؤك عندما ألقيت الشبهة على أحدهم وماذا صنعوا ليعينوك على اكتشاف السارق؟
ـ فقال دلمار إنني نظرت إلى دونلسون فوجدت ألوانه متغيرة لأنه لحظ أنني أتهمه بالسرقة.
فقال لي لا توجه إليّ هذه النظرات يا دلمار.
ـ إنني لا أحب هذا النوع من اللهو، قلت هذا بصوت أجش وألقيت عليه نظرات لا تسر.(41/26)
ونظرت أيضاً إلى ماتيو ثم قلت:
فلتعاد إلي ماستي إن المسألة خطيرة أكثر من أن تجعل موضوعاً للهو والمزاح فالذي أخذ الماسة عليه أن يعيدها حالاً إلى موضعها وفي هذه اللحظة دخل كراب في المحادثة وقال والدهشة بادية على وجهه ماهذا وماذا جرى؟
فأوضحت له بكلمات قليلة أن ماستي فقدت في اللحظات القليلة التي استحوذ فيها الظلام على الغرفة وأن أحد أصدقائي قد سلبها وكان هذا الرجل لم يعلم إلى تلك الساعة شيئاً من القضية حتى أنه ربما لم يشعر بانطفاء النور فكان من الواجب عليّ أن أوضح الأمر وعندئذ أخذ الثلاثة يتكلمون سوية.
فقال كل من دونلسون وماتيو إنني لم آخذها يا دلمار بينما كان كراب يقول إن هذا النوع من المزاح مسيء جداً وأنه شعر بما أحاق بي من الكدر الشديد.
ويمكنكم أن تتصوروا ما ألم بقلبي من الأشجان، فلم يكن من الممكن أن تتصاعد الماسة في دخان السيكارات، كنا أربعة في الغرفة وإذ لا يحتمل أن أسرق نفسي كان من الضروري أن يكون السارق أحد الثلاثة، إن فقدان الماسة أثر بي تأثيراً شديداً ولكن شعوري بأن هذا العمل المعيب صدر من أحد أصدقائي كان أشد إيلاماً لي.
ولما لم أستفد شيئاً من ذلك نهضت ووضعت يدي على طرف المنضدة وقلت لأصحابي اصغوا إليّ واسمعوا جيداً إنني أفادي بكل شيء في سبيل استبقاء أصدقائي القدماء ولكنني مضطر أن أوضح لكم أنه إذا لم تعد الماسة في عشر ثوان إلى موضعها من المنضدة فإني عندئذ أعتبركم أعداء لي وأعاملكم معاملة الأعداء.
فلم يتحرك أحد منهم.
عشر ثوان لا تحسب شيئاً أليس كذلك يا مسيو كارتر ولكنني استطلتها كالدهر وحبست نفسي حتى انقضت المهلة المعينة وكنت قد وضعت ساعتي أمامي ولاحظت عقربها وأنا أرتعش بنوبة من الحمى.
فقال ماتيو أنا لا أدخل في دائرة هذا الوعيد، ثم رمى لفافته ووضع يديه على صدره وقال إن هذا العمل الذي جرى لهو مكدر للغاية ولكنني أؤمل أنك لا تعتقد أنني قادر أن. . . . . .(41/27)
فصرخ دونلسون وأنا أيضاً بريء كل البراءة.
وفي هذه الحالة بدأت بالكلام فقاطعني كراب الذي أثر بي اضطرابه وارتعاشه وقال: إنني لست صديقاً قديماً لدلمار فإذا كان فقد ماسته كما يدعي فالأولى أن تقع التهمة عليّ فقال ماتيو إذن يكون مجنوناً فكيف يمكنك أيها المسكين أن تسرق شيئاً وأنت على ما أنت عليه من العاهات والضعف.
فقال الأعمى بلطف من المؤكد أنني لم أسرق الحجر الكريم ولكن دعوني مع هذا أتكلم أنا عارف أن الشبهات يجب أن تقع عليّ بالأكثر، كما كنت أفعل لو كنت موضع دلمار ولهذا فأنا أرجوه أن يفتشني.
ثم نهض واقترب مني وهو يتلمس طرف المنضدة في مسيره.
وكنت أراقب الاثنين الآخرين فلما وجدت أنهما لم يتأثرا تلاشت صداقتي لهما ومرت كحلم وزاد في نفسي الريب فقلت لهما: أنا أعقل من أن أشك في هذا الأعمى أو يخيل لي أنه السارق ولكنني إذ رأيتكما لم تتأثروا ولم تتحركا فأنا عازم أن أتبع مقالته بالحرف.
فارتجف دونلسون وظهر الغضب على وجهه وصرخ هل تريد أن تشك بي؟
فقلت له بلهجة الآمر اجلس في محلك وللحال سحبت مسدسي ووجهته إليه وأنت تعلم يا مسيو كارتر أنني بالمسدس ذاته قد هزمت لصوص كلكتا ولم أنس طريقة استعماله بعد ثم ناديت دونلسون إياك والحراك وإلا فأنت هالك لا محالة فسقط على كرسيه وتناول لفافة شعلها ولم يقل شيئاً ثم عرفت بعد ذلك أنه لم يكن ناقلاً سلاحاً نارياً وكان ماتيو أعزل أيضاً ولكن كراب كان مسلحاً.
فصاح نكارتر آه وأي سلاح كان مع الأعمى إن هذا لغريب.
ـ مسدساً من أشهر المعامل.
فظهرت على محيا البوليس أمارات البغتة.
ـ هذا غريب أليس كذلك وقد فكرت ملياً في معنى وجود المسدس في جيب هذا الأعمى فقال لي وهو يتبسم أنه يصحب السلاح ليدافع عن نفسه إذا تعرض له أحد وأنه كثيراً ما يهزم عدوه بإطلاق النار في الهواء، ثم وضع مسدسه على المنضدة وطلب مني أن أفتش جيوبه كلها فأتممت ما طلبه بعد أن وضعت مسدسي على مقربة مني ليسهل عليّ استعماله(41/28)
إذا هم أحد الاثنين بنأمة ولكننا لم نصل إلى هذا الحد.
ولما لم أجد ماستي في جيوب الأعمى أعدت إليه بعض ثيابه التي كنت أخذتها ثم عاد إلى موضعه وهو يستعين بالارتكاء على طرف المنضدة والتفتّ إلى دونيلسون وقلت له قد جاءت نوبتك فانفض وهو مصفر كالميت، حتى خيل لي أنه لم يبق نقطة دم في عروقه وصرخ إن هذا لا يليق بي إنني لم آخذ ماستك وأنا لا أسمح لك أن تفتشني.
فم أجبه ولكنني رفعت مسدسي نحوه فتناول زجاجة فارغة من المائدة وأراد أن يرميني بها، وكنت أسرع منه فأطلقت النار، فأصابت رصاصتي عنق الزجاجة ومرت بين أصابعه وهو الرمي الذي وجهت إليه الكرة فانكسرت الزجاجة وسقطت كسرها على المنضدة وقد أتممت بهذا الخطة التي رسمتها لنفسي فإنني كنت أبغي أن أبين له أنني قادر على قتله فاستمر دونلسون واقفاً عاجزاً أن ينزل ذراعيه وظل قابضاً على عنق الزجاجة بأصابعه المتشنجة لأن ضربتي كانت قد أرعبته وكان ماتيو قد نهض في هذه الأثناء فصحت به مكانك فلبث صاغراً وعاد إلى مجلسه أما كراب فكان يدخن وهو رابط الجأش ساكن كأنه لم يسمع شيئاً ثم قلت لدنيلسون يجب عليك أن تذعن للتفتيش، وأنصحك إذا كنت حريصاً على حياتك أن تنزع ثيابك دون تذمر ولا ممانعة فقد فرغ صبري وضاق صدري.
وفي هذه اللحظة قرع الباب ففتحت وإذا بخادم الفندق جاء على صوت إطلاق الرصاص فقلت لن أن مسدسي انطلق عرضاً ولم يسبب أدنى ضرر فعاد من حيث أتى وأغلق الباب، فقلت لدينلسون بلهجة التهديد أما إذا انطلق عرضاً مرة ثانية فسيردي رجلاً منكم.
وكان من شأن النظرات التي أرسلتها إلى دنلسون أن أقنعته بعزمي فأطاع الأمر وبدأ بخلع ثيابه، وبالاختصار فإنني جردته من ثيابه ولمست مجاسده بيدي وفتشت جيوبه بدقة ولكنني كدت أجن لما لم أجد شيئاً، وكان دينلسون يخشى أن تأخذني الحدة فتنطلق من يدي رصاصة تكون القاضية عليه.
يقولون في المثل إن النتائج الجيدة تحصل في المرة الثالثة ولهذا أوعزت إلى ماتيو أن جاء دورك فجرد ثيابك.
وكان يشبه دونلسون بشدة تأثره ولكنه لم يجد مفراً من ذلك فتقدم إلى وسط الغرفة وبدأ بنزع ثيابه.(41/29)
فوجدت جيوبه أخلى من جيوب دونلسون وعندئذ أخذني دوار شديد شعرت معه أن كل ما في الغرفة يتحرك ويضطرب واستلقيت على المقعد وقد خارت قواي ولحسن الحظ لم يشعر أصدقائي بما آلت إليه حالتي من الضعف والوهن، وقبل أن يبدأ دونلسون بالكلام كنت شفيت من هذا الدوار.
فقال لي دونيلسون بصوت أبح ضح حداً لهذه الوقاحة، ها هنا مدعو لم تهنه بعد لأنك لم تبلغ درجة من القحة تأمره فيها بنزع ثيابه.
وعندما أتم دونلسون جملته نهض كراب وكان حتى الساعة جالساً على كرسيه بسكينة تامة يدخن سيكارته فيتصاعد منها الدخان كما يتصاعد من مدخنة المعمل.
فوضع لفافته. . . وإنني لا أزال أذكر كيف كان يمر يده على المنضدة ليجد المنفضة ولم يبد عليه أقل انزعاج ثم قال بصوت منخفض أنا عالم ماذا يراد مني ولحسن الحظ أن ذلك سهل جداً عليّ لأنني أعمى.
وحين قال هذه الكلمات بدأ بنزع ثيابه فآلمني هذا المنظر وأخذتني الشفقة على ذلك المسكين وكنت مزمعاً أن أمنعه من ذلك ولكن أمارات الاستهزاء التي بدت على وجه دونيلسون وماتيو وافتكاري بالسرقة هيجا غضبي فغلى الدم في عروقي وعوضاً أن أمانع كراب أوعزت إليه بالإسراع.
وفي بضع دقائق كنت قد فتشت جميع أثوابه، ولكن جميع التنقيب الذي أجريته لم يجدني شيئاً وظلت الماسة مفقودة ويصعب عليّ أن أقول أنني كنت آمل أن أجدها مع كراب ولكنني انخذلت ثالثة.
وفي هذه المرة سمعت صوت دونلسون وهو يقول بلهجة كئيب:
والآن فإنك قد اكتفيت من إهانتنا ففتش تحت المنضدة عساك ترى شيئاً.
ولم يكن هذا الفكر قد خطر لي قبلاً، فشعرت بحمرة الخجل تعلو جبهتي وأومض لي في ظلمات اليأس برق من الرجاء.
وحين أرجعت المنضدة قليلاً كي لا تعيقني في عملي وانحنيت على البساط محدقاً فيه كنت أفكر بأي طريقة أعتذر لأصدقائي إذ كان من المحتمل أن أكون أنا ذاتي قلبت الماسة على الأرض حين التفت لأضغط الزر، ولكن يا للأسف فإنني لم أكد أرسل نظرة إلى ذاك(41/30)
البساط حتى تلاشى آخر رجاء ولم أقف للماسة على أثر.
وعندها استفزني غضب شديد فاندفعت بحدة شديدة أبحث في جيوب هؤلاء الرجال الذين اعتبرتهم أصدقائي ودعوتهم ليقاسموني المسرة والصفاء، فذهب كل ما بذلت من الجهد أدراج الرياح ولم أظفر بضالتي.
وهكذا فإن ماستي الثمينة، الماسة التي كنت أفتخر بها فقدت ولست أدري ماذا جرى بها وحين بلغ هذا الحد من خطابه سكت قليلاً وأخذ يمسح العرق البارد المتصبب على جبهته ثم سقط على مقعده ذاهلاً وكان قد وقف حين استفزته الحدة أثناء الحديث.
ـ فقال نكارتر: إنها لقصة عجيبة وأنا أود أن أعلم كيف تنتهي فأشار دلمار برأسه وبعد أن تنهد تنهداً عميقاً عاد إلى حديثه فقال: ولما وجدت أن بحثي ذاهب سدى استلقيت على مقعدي خلف المنضدة وأذنت لهم بلبس ثيابهم.
ولما أبصرت النظرات المخيفة التي كان يرشقني بها كل من دونلسون وماتيو احتطت لنفسي فجلست وراء المنضدة والمسدس في يدي اليمنى.
وكنت ألاحظ هؤلاء الرجال وهم يتشحون بأثوابهم، ولم يلفظوا كلمة واحدة لأنهم على ما أظن لم يجدوا كلاماً يعبر عما في أنفسهم من شدة الانفعال لإهانتي إياهم إذا كانوا حقيقة أبرياء.
وانتهى بي أعمال الروية إلى الافتكار أن واحداً منهما سلب الماسة بأسلوب خفي غامض ومهارة تامة حتى خفيت فعلته عن صديقه الآخر وعلى كل فقد وجدت من المناسب أن أسعى لإعادة الصلات الحبية التي كانت تضمنا حتى تلك الساعة فقلت لهم:
يا أصدقائي الأعزاء إن الحادثة التي جرت قد أدمت قلبي ولو علمتم عظم الخسارة التي حلت بي لصفحتم لي عن المعاملة القاسية التي حزنت لأجلها و. . .
فصرخ دونلسون بغضب خفف عن نفسك مؤونة الاعتذار فلو جثوت أمامي مئة سنة لم يكف ذلك لمحو الإهانة التي ألحقتها بي، كل علاقة بيننا قد توترت منذ الآن وانقلب الحب بغضاً فإذا صادفتني في الشارع ومسدسي في جيبي فخذ الحذر.
فالتفت عندئذ إلى ماتيو وكان لونه متغيراً ولكنه كان هادئاً فقال لي أما أنا فلا أتهدد.
لم يقل غير ذلك ولكنني فهمت فكره تماماً وعرفت أنه حقود لا يصفح لي عن الإهانة وأنه(41/31)
أصبح عدواً هائلاً يخيفني أكثر من دنلسون فما زلت منذ تلك الساعة أحاذر أن أوجد في طريقه.
أما الأعمى المسكين الذي لم أعرفه قبلاً فكنت لا أعلم بأي عبارة أعتذر إليه فجلست على المقعد ولم أهم بحركة حتى أكمل الثلاثة لباسهم وهموا بالخروج فقال دونلسون وصوته يتهدج من الغضب: أتأذن لي الآن بالانصراف؟
أما ماتيو فلم يقل شيئاً بل كان ينتظر كراب الذي تأخر في الاكتساء لضعفه كي يقوده إلى خارج الغرفة، ولما استعد تقدم إليّ ببطء وبخطوات متقلقلة فأراد ماتيو أن يقوده خارجاً ولكنه دفع الذراع التي مدها إليه صديقه وقال له:
انتظرني دقيقة أيضاً يا فرانك
ثم خاطبني قائلاً:
إن هذه الحادثة قد أزعجتنا جميعاً ولكنني لا أحقد عليك لأنني أقدر أن أتمثل حالة نفسك فأنا مغتم غير أنني أرجوك أن لا تظن بي سوءاً.
وهذه الكلمات التي لفظها ذلك المسكين أذابتني خجلاً لأنني لم أكن مستحقاً هذا التلطف بعد أن عاملته بخشونة كما عامله رفيقيه فأجبته:
تأكد يا مسيو كراب أنني كنت راغباً أن لا أفتشك لولا إصرار دونلسون.
فقال الأعمى لا شك عندي بذلك ومهما يكن من الأمر فإني لا أطوي لك ضغينة في صدري.
ثم مددنا يدنا وتصافحنا مصافحة الإخاء وبعد أن حييته وأجاب تحيتي قال:
لي إليك كلمة أيضاً وبعدها أذهب: إن الحادثة التي جرت في هذه الليلة قد ضيقت صدري فأدركني بقدح من الماء فلم أستغرب هذا الطلب لأن حلقي كان يلتهب من الظمأ فقلت له إن آنية الماء قد انكسرت فهل لك في قدح خمر أو غيره من المشروبات.
فقال شكراً لك لا حاجة لي بذلك، ولكنك تجد بقية ماءٍ في قدحي.
فأخذت القدح وناولته إياه.
فشكرني وهو يأخذ القدح وبعد أن شرب السؤر وضعه على المائدة وتأبط ذراع ماتيو وخرجا سوية من الفندق وكان ينوي أن يكلمني فوقف الكلام على شفتيه.(41/32)
ثم سقطت على مقعدي خائر القوى وأحاقت بي ظلمات متراكبة من اليأس.
وإن الفكر الذي كان يدور في خلدي من أن السارق أحد هؤلاء الثلاثة لم يبارحني لحظة، وكانت شبهاتي تقع على دونلسون ومع هذا فلم أر أبداً من التسليم أنه من المحتمل أن يكون الثلاثة شركاء في السرقة قد اتفقوا من قبل أن يلعبوا بي هذه اللعبة المشؤومة فقلت إذا كان الأمر هكذا فإنهم لا يلبثون بعد خروجهم من الفندق أن ينشقوا أو يتنازعوا وللحال نهضت ومشيت على أطراف أصابعي دون أن أحدث أقل صوت ومشيت في الرواق فأدركت ماتيو وكراب في منتصف السلم وظلا صامتين لم يلفظا كلمة حتى بلغا الباب الخارجي، فعندئذ قال ماتيو لكراب:
هاهنا عربة وسأعينك على الصعود إليها وأعين للسائق المحل الذي تروم أن تبلغه، وأما أنا فلا أود أن أدخل البيت حالاً لأنني ما زلت متهيجاً جداً.
فأجاب الأعمى حسناً إنني أعرف ذلك ولكن إياك أن تأخذك الحدة والطيش بسبب هذه الحادثة أسمعت يا فرانك؟
فلم يجبه ماتيو.
ثم نظرت كراب يصعد إلى العربة وصديقه يري السائق الجهة التي يجب أن ينحوها فسارت العجلة من الوجهة المعينة وسار ماتيو في الجهة المعارضة حيث كان دنلسون ينتظره على كثب.
وبقي الرجلان اللذان لم يرياني صامتين بضع دقائق وأحدهما بجانب الآخر ثم شرعا بالكلام معاً وكانت جملهما واحدة تقريباً:
ـ هل أنت أخذت الماسة يا جورج؟ (سأل ماتيو)
ـ هل أنت أخذت الماسة يا ماتيو؟ (سأل جورج)
إن صدور السؤالين في وقت واحد وبتركيب واحد تقريباً لم يغير شيئاً من جد الرجلين، وكان دونلسون أقل صبراً من رفيق فأجاب قائلاً:
أؤكد لك أنني لم آخذ الماسة.
فقال ماتيو ولا أنا أيضاً، وليس في وسعنا أن نقول أن كراب هو السارق لأننا إذا فرضنا أنه همّ بذلك فإنه عاهته تمنعه ذلك.(41/33)
فأجاب دونلسون: وأنا أسلم بذلك ولكن ما هي هذه اليد الخفية التي سرقت تلك الماسة الشيطانية؟
فقال ماتيو يظهر أن دلمار خولط في عقله فلا يبعد أن يكون وضع الماسة في جيبه وأظن أنه سيجدها بعد أن يملك روعه.
فصرخ دونيلسون إنني أدفع مئة ريال عن طيب خاطر إذا صح افتراضك ووجد هذا التعيس ماسته في جيبه.
فسأله ماتيو أيسرك ذلك ولماذا؟
فأجابه دونيلسون أست تعرف لماذا؟ قالها بلهجة تهديد مخيفة حتى إنني ارتعشت رغم إرادتي.
ثم تمم حديثه قائلاً: لأنني بعد أن حدث ما حدث الليلة أريد أن أعرف موضع الماسة حتى أحول ظنه إلى حقيقة.
فقال ماتيو هذا ما أقصده لأني إذا قدرت أن أغرمه جزاء العار الذي ألصقه بنا فأنا لا أتأخر عن ذلك، فاتبعني الآن يا جورج لنروي ظمأنا الشديد.
وعندئذ سار صديقاي القديمان وذراعهما ملتفان إحداهما على الأخرى.
وإنك ترى الآن يا مسيو كارتر أنني قصصت عليك الحادثة بتفصيلها ولم أسقط حرفاً واحداً، وبذلت الجهد حتى لا أدع شيئاً دون أن أقصه عليك ولم أهمل أمراً لم أنبئك به ولو كان طفيفاً في الظاهر لأنني أخشى أن يكون ذلك الأمر مفتاح السر.
وهنا سكت دلمار كم أنهى حديثه.
فسأله نيكارتر قد مر على هذه الحوادث أسبوع أليس كذلك؟
ـ نعم
ـ وأنا أظن أنك لم تفتر عن السعي في خلال هذه المدة لاستجلاء الغامض.
ـ أنا. . كنت جننت لو لم أدأب في السعي.
ـ إذن فقل لي ماذا صنعت؟
ـ إنني سأشرح لك ذلك بحرية تامة فقد تدرجت في الشوارع بحالة تشبه الجنون وقد ظهر لي أنه من الممكن أن أكون أنا نفسي قد وضعت الماسة في جيب من جيوبي فعدت مسرعاً(41/34)
إلى حيث تناولنا طعام العشاء، وابتدأت أفتش نفسي بدقة لا مزيد عليها فقلبت جيوبي جميعها ومزقت بطانة أثوابي وعريت من كل لبسي حتى صرت في حالة جدينا الأولين، وإن خجلي من قص ذلك عليك لا يوازي خجلي من إخفاق مساعيّ، فقد اختفت الماسة ولم أقف لها على أثر.
ولم أكد أتمم لبس ثيابي حتى قرع الباب ففتحته وإذا بخدام الفندق قادمين ليرتبوا الغرفة وبينما كانوا يدأبون في عملهم كنت أراقبهم بمزيد الانتباه وأقول من المحال أن لا يجدوا الماسة.
ولما أنجز الخدام عملهم ولم يجدوا شيئاً خرجت أتجول في الشوارع وظللت نحواً من ساعتين، وكان الوقت الساعة التاسعة ليلاً، ثم وقفت بغتة لأرى الجهة التي أسلك فيها وتطلعت فإذا أنا أمام مركز البوليس فهممت بالدخول لأقص عليه الواقعة، وبعد أن فكرت بهذا علمت أن لا رجاء لي بمساعدة البوليس العادي في هذه المسألة الغامضة، إذ ليس في يدي برهان يؤكد حدوث السرقة، إن الماسة فقدت دون شك ولكن بعد المبحث المدقق الذي أجريته لم أجد مجالاً لاتهام ضيوفي.
فأتممت نزهتي منفرداً وكان يأسي يزداد من حين إلى آخر وكنت أعزي نفسي بأن فقدان الماسة لم يجعلني مملقاً فما زالت ثروتي في كلكتا ولكن هذه التعزية كانت تزول حين كنت أفتكر أنني خسرت بضياع الماسة نحواً من نصف مليون دولار، ولا سيما عندما أفتكر أن هذه الثروة الواسعة فقدت في بضع ثوان.
فسأله نيكارتر وهل أخبرك الجوهريون في كلكتا أنها تساوي هذا الثمن الفاحش؟
ـ نصف مليون؟ هذا مؤكد وهو ليس بثمنها الفاحش بل المعتدل، وقد أخبروني أن الماسة إذا قطعت قطعاً لا يشوبه خطأ فإن ثمنها يرتقي إلى ثلاثة أضعاف هذه القيمة.
ـ إذن فأنت تعتقد أن عين الشيطان تستحق العناء الذي ستصرفه في البحث عنها.
ـ آه يا مسيو كارتر وهل تريد أن تتولى أمر البحث عنها؟
ـ على الأرجح. . . ولكنك لم تقل لي بعد ماذا فعلت ولعلك قد عثرت على أثر يدلك على مكمنها.
ـ قد حزرت يا مسيو كارتر قد عثرت على أدلة عديدة ولكنك تعرف مبلغها من الصواب(41/35)
أكثر مني.
بعد أن أدرت ظهري لمركز البوليس أتممت المسير فاجتزت المدينة وقبل الساعة الحادية عشرة وجدت نفسي أمام محطة السكة الحديدية وأبصرت عربة مقبلة تقل مسافراً.
ولما وصلت قفز السائق إلى الأرض وساعد الراكب على النزول ولم يكن هذا الراكب سوى كراب الرجل الأعمى.
فصرخ نيكارتر ياللعجب.
فتبسم دلمار عندما سمع ذلك وقال:
ربما افتكرت أنه أراد أن ينجو بالسرقة وأنا أعتقد أنه ربما كان هذا ممكناً وربما كان من الواجب عليّ أن أستعمل المسدس ولكن إصغ: إنني رأيت السائق يأخذ خريطة كراب من العربة ثم أمسكه بذراعه وقاده إلى غرفة الانتظار، فكنت لهما ألزم من ظلهما.
ثم أخذه إلى حيث قطع جوازاً إلى بونبلو وكنت خلفه فسمعته يسأل المأمور عن ميعاد سفر القطار فأجابه سيقوم القطار الأول إلى بويبلو بعد عشر دقائق.
وفي هذه الأثناء كان السائق واقفاً وراء كراب ليقوده إلى القطار وعندما اجتازا غرفة الانتظار أعوزتني السكينة ولم أتمالك نفسي فعارضتهما في الطريق.
وقلت له وأنا أشتعل من الغيظ:
أسعدت صباحاً يا مسيو كراب
فحدق بي الأعمى وأدار نحوي عينيه وظهر عليه أنه عرف صوتي فقال وهو يتردد في القول:
يظهر لي أني أعرف صوتك، ألست المسيو دلمار، فهل خدعني سمعي؟
فقلت له أنا هو.
ـ إذن فقل لي بالله هل وجدت أثراً لماستك تهديك لمخبأها؟
ـ فقلت لا وكنت أراقب ماذا يكون تأثير جوابي فيه.
ـ إن هذا مكدر جداً، إن هذه الضربة هائلة.
ـ نعم ولكن ليس بوسعي إلا أن أتلقى مصيبتي بالصبر، والآن فإني أراك على وشك السفر.(41/36)
نعم وآسفاه فإنني وجدت في منزلي عند رجوعي إليه هذا النبأ البرقي الذي أجبرني أن أسافر مع القطار الأول.
ودفع إليّ النبأ حين طلبته منه وأنا أعترف لك أنني لم أتردد بل قرأته بمزيد السرعة وكان من بويبلو وهذا نصه حرفياً:
أختك على فراش الموت عجل بالحضور، الطبيب. م. غوردون
فعزيته بكل ما حضرني من عبارات التعزية.
فقال لي: منذ مدة كنت أتوقع ورود هذا النبأ، فوردني اليوم، وبما أنني راحل فأنا أشكر جميلك إذا أنبأتني بالدلائل التي تبدو لك والآثار التي تهتدي إليها وأنت تعرف السبب الذي يهيج هذه الرغبة في نفسي.
فأجبته متململاً نعم أعرفه جيداً.
ثم قال بعد أن أواري أختي المسكينة في التراب أعود إلى هنا ولديك عنوان إقامتي فأرجوك أن تواصلني بما يجد معك في هذا الشأن.
فوعدته أن أنبئه بكل ما يحدث.
فاستتبع حديثه قائلاً: إن إقامتي في بويبلو ستكون في بيت أختي، فإذا اتضح لك كيف اختفت ماستك أو إذا وجدتها كما أتمنى لك، فستكون لك عليّ يد بيضاء إذا أنبأتني على لسان البرق لأنك تعلم أنه ما زالت ستور الخفاء مسدولة على هذه المعضلة تظل العلائق بيني وبين صديقي ماتيو متوترة وإن هذا ليحزني لأنني كنت وإياه دائماً صديقين حميمين.
فهممت أن أخبره بما قاله عنه ماتيو ودونيلسون بعد خروجهما من الفندق ولكنني آثرت الرصانة والسكوت واقتصرت على نسخ العنوان الذي أعطانيه كراب.
وبعد ذلك صافحني وقاده السائق إلى الرصيف حيث كان القطار مزمعاً أن يقف، وعدت إلى الفندق وفي أثناء عودتي عولت أن أراقب دونلسون وماتيو عبثاً كنت أحاول أن أطرد هذا الفكر عن خاطري وهو أن أحدهما كان السارق.
وبينما أنا أسير صادفتهما في الطريق ولكنهما لم يبصراني فتبعتهما على بضع خطوات وأنا أحذر كل ما من شأنه أن ينبههما إلى وجودي.
وكانا آتيين من النادي دون شك ووجهاهما مقطبان فتبعتهما وما زالا سائرين حتى وصلا(41/37)
إلى المنزل الذي يقطنه كراب وكان لماتيو غرفة هنالك أيضاً ففتح ماتيو الباب بمفتاح أخرجه من جيبه ودخل الرجلان.
فلم يمكثا أكثر من خمس دقائق.
وكنت لحظت أن النور قد أضيء وأطفئ بسرعة في ثلاث من الغرف أو أربع فدل ذلك على أنهما كانا يفتشان عن ماتيو الذي لم يبلغهما بعد خبر سفره الفجائي.
فقال ماتيو وهما ينزلان إلى الشارع أن القطار قد نحا بويبلو من ربع ساعة تقريباً.
فأجابه دونيلسون نعم إن هذا الفاجر قد بعد مسافة طويلة فقال ماتيو ولكن لحسن الحظ أن اللحاق به سهل.
وهذا كل ما قدرت أن أسمعه من المحادثة وكان من المؤكد عندي أنهما يتكلمان عن كراب ولكنني لم أعرف هل كانا ينظران ماستي وهما يتكلمان هذا ما أترك حله لك يا مسيو كارتر.
ثم دخلا مسرعين إلى بيت آخر وقد فهمت بعد ذلك أنه مسكن كليمور شريك دونيلسون فلم أحفل بهذا الأخير لأنني لم أعلم كيف يكون له دخل في سرقة الماسة.
فقاطعه نيكارتر قائلاً: حسناً حسناً إنك أنت لا تعرف كليمور ولكننا نحن نعرفه فهو متهم بالتحريض والإغراء على كثير من حوادث القتل والسرقة وهو الآن في السجن ينتظر جزاءه وأن علائقه مع صديقك دونيلسون كانت تدلني على أن في حياة هذا الأخير أموراً خفية غامضة ولكن أرجوك أن تتمم حديثك الآن.
فاستأنف دلمار الكلام وقال إنني انتظرت ساعة قرب بيت كليمور خرج بعدها الاثنان ولكنهما انفصلا في أول عطفة من الشارع فتبعت دونلسون الذي عاد إلى منزله، أما ماتيو فلا أعلم أين انتهى به السير ولم أنظره بعد ذلك ولكنني أرجح أنه ذهب في اليوم التالي إلى بويبلو ليلاقي كراب هناك.
أما دونيلسون فقد أقام عامة اليوم التالي في مكتب المحل الذي يديره هو وشريكه كليمور وفي اليوم التالي نظرت صدفة أن دونيلسون أخذ رسالة برقية وبعد أن قرأها ظهرت على وجهه علائم الاهتمام والتأمل ولم أقدر أن أعرف مصدر الرسالة ولا محتواها ولكنني أعرف أنني لم أر دونيلسون في اليوم التالي ولما ذهبت في اليوم الثالث أطلبه في محله(41/38)
أخبروني أنه سافر إلى بويبلو، وبالطبع ركبت أنا أيضاً القطار الأول وتبعته.
فقال نيكارتر إنه لفكر في غاية السداد فماذا اكتشفت هناك؟
ـ لا شيء في لا شيء أجاب دلمار إنني رمت أن أذهب إلى المحل الذي أعطاني كراب نمرته ولكنني فهمت أنه لا يوجد بيت في المدينة بهذا العنوان، وكان الشارع موجوداً فقط ولكن النمرة التي معي كانت عنوان أرض ما زالت خالية من البناء ولم يكن هناك بيت إلى بعد مئة خطوة من جميع الجهات.
فقلت لعلني أخطأت في نسخ النمرة فسألت عن أخته التي كانت على فراش الموت فلم أسمع أحد يتكلم عن امرأة ماتت أو أشرفت على الموت فسألت عن الطبيب ا. م. كوردون فلم يكن حظ هذا من الوجود أكثر من حظ الأخت الموهومة.
فلم يبق لي إلا أن أسأل عنه فسألت مأموري المحطة هل شاهدوا رجلاً أعمى نزل في الليل من القطار قادماً من نيويورك ووصفت لهم ملامحه.
فلم يذكر أحد في المحطة أنه شاهد رجلاً أعمى بهذه الملامح وبالاختصار فإنني قد أضعت يومين في بويبلو وأنا أفتش دون طائل.
فعزمت على أن أقصد مركز البوليس وأشرح له خبر السرقة وكل ما يتعلق بها، وحين قرأت في الجرائد أعمدة بأسرها ملؤها إطراؤك والثناء عليك ووصف العمل العظيم الذي قمت به قبل الليلة السابقة وعلمت أنك حضرت إلى هنا عاد لي بعض الرجاء وأتيت إليك لأعرض عليك القصة بجميع تفاصيلها.
فقال البوليس لدلمار إنني أقدم لك تحياتي وتهاني لأنني قلما نظرت رجلاً قادراً مثلك على الإحاطة بأطراف الموضوع واستقصاء شوارده وإيضاح دقائقه ووصف ذلك بطريقة سهلة واضحة، وسنقتفي بعد الآن أثر عين الشيطان وإذا ساعدنا الحظ فإننا نرجو أن نهتدي إليها.
ـ إنني أقدم لك شواعر الشكر التي تختلج في صميم الفؤاد، وأرجوك أن تخبرني هل عزمت على السفر إلى بويبلو؟
ـ على الأرجح.
ـ وهل تريد أن أرافقك؟(41/39)
ـ لا ولكن اترك لي عنوانك وإذا اضطررت إلى الانتقال فأبلغني ذلك، حتى تصلك جميع الرسائل والأنباء البرقية التي يمكن أن أرسلها إليك، ولا أطلب منك غير هذا سوى أن تثق بي.
وثم تحادث الثلاثة سوية بشأن الأمور المادية التي يقتضيها البحث والتنقيب، وبعد ذلك استأذن المالك الشرعي للماسة من البوليس الشهير ومعاونه وانصرف.
وبعد أن خرج دلمار التفت كارتر إلى معاونه الشاب الايرلندي وقال له:
ـ ما رأيك في هذه القضية يا باتسي؟
يظهر لي أنها أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة فهل صدقتها يا أستاذي؟
ـ صدقتها كما أصدق بالحياة الأبدية التي لا أشك فيها لحظة.
ـ إذا فرضنا هذا فكيف أمكن الثلاثة أن يخفوا الماسة؟
فضحك كارتر طويلاً ثم قال:
يظهر لي أنك تظنهم شركاء في الجريمة قد تعاقدوا عليها سابقاً.
ـ إذن فماذا تريد أن أعتقد في شأن هذه الماسة التي اختفت وغابت آثارها.
اسمع يا باتسي أريد أن أحدثك بشأنها ولكنني لا أتكلم عن لصوص.
ـ عمن تتكلم أعن لص واحد؟
ـ نعم فأنا أعتقد أن كراب هو السارق الوحيد.
ـ أيمكن هذا؟ أيمكن هذا الأعمى أن يسلب الماسة وأمامه ثلاثة رجال يبصرون؟
فقال نكارتر إن كراب هو الذي أخذ الماسة قال هذا وهو يتظاهر بأنه لم يسمع اعتراض المعاون ومع هذا فأظن أنه لم يفكر أن سرقتها بإمكانه لما قبل الدعوة ولا أصدق باتفاق سابق وأؤكد لك أن دونيلسون وماتيو بريئان من وصمة السرقة وهما يعتقدان كما أعتقد أن كراب هو السارق، وقد هاجهما ما صادفاه من الإهانة فعزما على اتباع كراب وإجباره على رد المسروق أو أن يقاسمهما على الأقل ولما علما بسفره إلى بويبلو عرفا أنه قد خدعهما فاقتنع باتسي بتأكيدات أستاذه وقال حسناً يمكننا الآن أن نستنتج النتائج من هذه المقدمة وقد فهمت الآن معنى المحادثة التي دارت بين الرجلين أمام الفندق.
ـ وجلي أن سفر كراب إلى بويبلو هو اعتراف ضمني بذنبه.(41/40)
ولهذا تبعه ماتيو إلى بويبلو حيث علم أن السبب الذي انتحله الأعمى للسفر كان مختلفاً وهذا الذي عرفه دلمار بعد بضعة أيام.
ـ من الراجح أن يكون ماتيو مرسل النبأ الذي اهتم له دونيلسون كثيراً، فسافر لينضم إلى رفيقه في اللحاق بالأعمى.
ـ أحسنت يا باتسي هذا ما حدث برمته.
ـ ولكن كيف قدر هذا الشيطان كراب أن يسرق الماسة على هذا الشكل الخفي الغامض حتى لم يقدر دلمار أن يجدها في ثيابه حين فتشها؟
وبعد أن توقف لحظة عن الكلام ضرب بيده على جبهته ثم قال:
يخيل لي أن هذا الخبيث المحتال ليس أعمى.
ـ وحسناً وأي فرق في ذلك؟
فقال باتسي لا فرق وضاع سروره باكتشافه حقاً أن الحالين سيان فهل تظن أنه أعمى يا أستاذ؟
ثم ساد سكون قطعته قهقهة باتسي الذي قال وهو يضحك:
ـ آه، آه، إن تفتيشاً كالذي أجراه دلمار لا يتفق حدوثه دائماً، ثلاثة رجال عارين كجدهم آدم قبل أن يخطئ حقاً إنه منظر مضحك.
فأجابه نكارتر ضاحكاً:
لا أظن المشابهة تامة إذ ينقص الأخيرة قليل من الصحة.
فعاد باتسي بعدها إلى الجد وقال:
أنا أرى يا أستاذ أنك فكرت لتبلغ نتيجة فبأي أسلوب تظن كراب سرق الماسة وتمكن من إخفائها.
ولكنه انذهل عندما وجد أن كارتر اقتصر على الضحك وهو يرفع كتفيه ثم خاطبه قائلاً: يا عزيزي باتسي لم أعلم عن ذلك شيئاً.
ـ أفهذا ممكن؟
ـ نعم ممكن للغاية، فقد أرى في الأمر سراً لم أقدر على فهمه حتى الساعة وأنا أحتاج في حله إلى تأمل طويل سأباشره أثناء سفري ولذلك أرجوك أن تستفهم لي عن مواعيد سفر(41/41)
القطر.
فنزل باتسي مسرعاً إلى مكتب الفندق وهناك تقويم لهذه الشؤون فأمعن فيه البوليسان هنيهة وبعدما اختار نكارتر القطار الذي سيقله قال لمعاونه:
أرى أن واحداً منا يكفي لمطاردة هذا الأعمى أما أنت فأقم هنا في دنفر وأخبرني إذا عاد أحد الرجلين واعلم أنه يحتمل أن يحدث هذا بأسرع مما نفكر فتيقظ.
فقال باتسي كن أميناً من هذه الوجهة.
ولم يكن يتعذر على رجل ماهر كنكارتر أن يقفو أثر أعمى ففهم وهو في الطريق أن كراب قبل أن يصل إلى بويبلو طلب من السائق جوازاً عاماً.
فمع اكتفاء البوليس بهذا التصريح توصل إلى علم ما يأتى وهو أنه في يومين مختلفين من الأسبوع الماضي كان في القطار مسافران القيا إلى المفتش هذا السؤال بعينه فتحقق عند ذلك أن ماتيو ودونيلسون قد اجتمعا في بويبلو ومن هناك سارا للبحث عن الأعمى.
وبعد برهة اكتشف على آثار الأعمى وكأن صوتاً داخلياً يناجيه أن كراب هو السارق الوحيد، وعرف أنه اشترى نعالاً محددة واكترى جواداً من قرية صغيرة من قرى مقاطعة الأريزونا الشمالية، وسافر من هناك مصحوباً بدليل توصل البوليس إلى معرفته وطلب منه إيضاحاً وبسط ما يعرفه عن المسافر الذي كان يصحبه.
فقال الدليل:
لم أرافقه مدة طويلة إذ أنه قال لي بعد خمسة أيام من بدء السفر يمكنك أن تعود الآن فترددت في الرجوع وتركه منفرداً لأننا كنا عندئذ في أوحش قسم نم الأريزونا ولكنه أصر عليّ فتركته وعدت.
ففكر نكارتر ملياً في ما قاله الدليل ولم يفهم كيف أن رجلاً أعمى ضعيف القوة يود أن ينفرد في تلك البقعة الكثيرة الأخطار، فسأل الدليل:
ـ هل تعتقد أن الرجل كان أعمى حقيقة؟
فقال الدليل: كل الاعتقاد ودعم حديثه بسرد بعض الحوادث التي جرت على الطريق والتي تؤيد قوله.
ثم استتبع البوليس السير في طريقه.(41/42)
ولم يكن الذي يلقاه على الطريق قادراً أن يعرف هذا الرجل ذو الشهرة الواسعة في العالم والذي يختلف إلى الأندية العليا في نيويورك وله المنزلة الرفيعة بين الاريستوقراطيين لأن كارتر تزيا بزي سكان الغابات فاتخذ هيئة متوحش يؤثر استعمال السلاح وخشونة العيش على رفاهية الحضارة.
وكان جواده كريماً فأعمل في خاصرته المهماز ليبلغ ذلك المحل الذي يكاد يكون في آخر الدنيا حيث فارق الدليل كراب.
وبينما كان يجد السير صادف فارساً مقبلاً عليه من الجهة المقابلة ناداه وهو يوقف مطيته قائلاً:
أيها الغريب.
فأوقف كارتر جواده وقال له:
ماذا؟
ـ أعندك تبغ؟
ـ مؤكد، عندي قطع كبيرة.
وكان نكارتر يعلم أن رجل الغابات يجب أن تكون معه مؤونة من التبغ فحمل معه كمية منه مع أنه لم يكن يستعمله.
ثم أخذ علبة من جيبه وقال للرجل هو ذا التبغ فخذ حاجتك.
فقال الرجل أشكرك ومد يده وحاول أن يمضغ قطعة منه.
فقال له نكارتر اقطعها إلى قسمين لأنك لا تزال بعيداً جداً عن العمران وعلى ما أظن أن التبغ لا ينمو على الأشجار كما قيل لي منذ هنيهة.
ـ أنت محق، فإن طالما وجدت في هذه البقعة التي هجرها الله والناس وكان قد أخذ نصف قطعة التبغ ورد بقيتها إلى نكارتر.
فسأله البوليس: إذن أنت تعرف المقاطعة.
ـ نعم تقريباً ألا تعرفها أنت؟
ـ لا هذه هي المرة الأولى من مجيئي إليها.
ـ في طلب الذهب؟(41/43)
ـ ليس تماماً فإنني ألاحق رجلاً أعمى.
ـ ماذا؟ إن هذا لغريب جداً.
ـ إن قدوم أعمى ليختبئ في هذه المواضع الموحشة لهو غريب جداً ولكنه حدث.
ـ ليس هذا الذي أريد أن أقوله ولكنني أفكر بشخصين استأجراني لخدمتهما كدليل وطباخ وهم أيضاً مثلك يفتشون عن أعمى.
ـ يا للشيطان، هذا ما نسميه صدفة قال ذلك نكارتر وهو يلفظ سلسلة من الأقسام تليق بسكان الغاب ثم سأل الرجل وما هي المسافة بيني وبينهما؟
ـ أظنهم أصدقاءك.
ـ تقريباً فإنهم من معارفي.
ـ حسناً فأنتم الثلاثة في هذه الحالة تطاردون شخصاً واحداً وهذا كل شيء.
ـ أصبت أيها الشجاع، وعلينا أن نتابع هذا الأعمى حتى نظفر به ولو اضطرنا الأمر أن نذهب إلى نهاية العالم.
ـ لتسترجعوا منه الماسة أليس كذلك؟
ـ بسم ال. . . وكيف عرفت ذلك؟
ـ أخبرني به صديقاك.
ـ حسناً إن هذه الماسة لا تخص الأعمى.
فأغمض الرجل عينيه وبدأ يقهقه وقد بدت على وجهه أمارات المكر ثم قال: أصدق قولك إن الماسة لا تخص الأعمى، فإذن هي ملك الذي يظفر بها، ولكن هذا لا يهمني فحاول أن تجتمع بأصدقائك.
ـ يدهشني وقوفك على هذا السر.
ـ لا غرابة في ذلك فالمسافرون أياماً عديدة في القفار تنشأ بينهم روابط شديدة، وقد كانا يتكلمان بادئ الأمر سراً فكنت أصغي إلى حديثهما ثم أخذت بسؤالهما ولما وجداني وقفت على شيء من القصة شرحاها لي وأخبراني منها بما كنت لم أعلم بعد.
ـ قصا عليك كيف سرق الأعمى ماستهما أليس كذلك؟
ـ نعم أو بالأحرى ماسة أحد أصدقائهما.(41/44)
فتعجب كارتر من ثرثرتهما وقال للرجل إن أذنيك لم تخدعاك.
ـ آه آه، أنت هو الصديق صاحب الماسة.
ـ هذا ممكن فأنا لا أنفيه.
ـ حسناً فاسمع إذن إن كنت لا تريد أن تصادف رصاصة توردك حتفك فالأولى بك أن لا تحاول الاجتماع بصديقيك، لأن مصاحبتهما خطرة وقد شعرت بذلك ولهذا فارقتهما هذه الليلة.
ـ يظهر لي أنهما أخبراك بكل شيء وأنا أرجوك أن تخبرني عن واسطة أتجنب فيها ملاقاة هذه الرصاصة وأن تخبرني عن الطريق الذي سلكاه.
فرفع الرجل كتفيه وقال إن فكر ملاحقتهما هو فكر جنوني، ولست أعلم ماذا تفعل إذا وجدت أمام اثنين هذا إذا لم نعد الأعمى، إنني تركت صديقيك أول البارح فإذا أسرعت في السير نحو الشرق تصل إلى مخاضة نزل فيها صديقاك وركبا النهر وسافرا.
ـ أشكرك على هذه التعليمات.
ثم حرك كارتر جواده ولما رآه الرجل سأله هل أنت مصمم على التقدم؟
ـ بلا ريب.
ـ حسناً فهل يلزم أن أعلن خبر موتك؟
ـ لا تتعجل أستودعك الله.
ـ سر بالسلامة أيها الغريب وأشكرك على تبغك، لاحظ أنك واحد ضد اثنين ما عدا الأعمى ولكنني أشتهي لك الفوز من قلبي.
فأرخى نكارتر لجواده العنان وبعد أن قطع ربع ميل التفت وهو على سرجه ونظر الرجل الذي كان يراقبه وهو ثابت في محله فقال البوليس في نفسه إن هذا الرجل ليس أبله كما أظهر لي وقلبي يحدثني أنه سيكون لي وله شأن قبل ختام القصة، آه لله ما أشد حمق ماتيو ودونلسون اللذان يكشفان أسرارهما لكل سائل، واستمر البوليس في سيره حتى أحلولك الليل فاستراح قليلاً ثم ركب جواده وعاد للسير حتى وصل إلى ضاحية كولورادو التي أهداه إليها الرجل ثم ربط جواده في جذع شجرة ثم أوقد قليلاً من الحطب وأعد لنفسه عشاءً من المؤن التي اشتراها ثم التحف بغطائه ونام على الأرض ليريح نفسه بضع ساعات من(41/45)
عناء النهار.
وفي الثلاثة الأيام الأخيرة من إقامته هناك نظر عن بعد ثلاثة بيوت في ذلك القفر ولم يعلم البعد بينها وبين أقرب عمران وعلم أن المخبأ الذي يختاره الأعمى ليكون فيه لا يتسنى لصحيحي النظر أن يقيموا فيه، ثم قال لماذا لم يسافر كراب إلى مدن الشرق الكبيرة حيث يصادف فرصة أوفق لبيع الماسة، وردد هذا السؤال في خاطره دون أن يهتدي إلى حل مرضي وأخيراً أغمض عينيه وتاه حتى انفجر نوماً عميقاً هادئاً وعندما استيقظ تناول قليلاً من الطعام ثم علا ظهر جواده وسار فعرف بفراسته أن فرساناً آخرين قد تقدموه منزهين في نفس الطريق، فسر بهذا وعلم أيضاً أن الفارس أهداه إلى الصراط المستقيم وكان كلما تقدم يزداد منظر البلاد وحشة وانفراداً، وكان النهر يجري بسرعة شديدة بين مضايق صخرية ثم تصب مياهه المزبدة في مصب بعيد الغور فيسمع لها ضجة شديدة.
وبعد الظهر بقليل وصل كارتر إلى سفح رابية صخرية فهمّ أن يتسلقها وهو راكب وقد ظهرت له آثار على الأرض عرفته أن فرساناً آخرين مروا من هنالك حديثاً، وكانت قمة الرابية جرداء تطل على ما جاورها إلى أمد بعيد فوقف كارتر فجأة لأنه نظر على بعد ثلاثة أميال تقريباً خطاً رفيعاً من الدخان يتصاعد إلى الأفق فقال لعل هنالك مفتشاً عن الذهب أو لعل الطريدة التي ألاحقها قد عادت، وكان كل ما حوله يظهر له واضحاً فأبصر نقطاً متحركة تشبه النمل السائر فظنها هنوداً ولكن هذا لم يكن راجحاً لأن البوليس منذ دخوله إلى تلك البلاد المتوحشة لم يشاهد أكثر من ستة من ذوي الجلود الحمراء فتفرس في هذه النقطة بالعين المجردة لحظة من الزمان ثم تناول منظاره ووضعه على عينيه فوجد أنهم أربعة فرسان يسرعون في المسير جنوباً وإذ لم تكن جهة سيرهم هي الجهة التي ينحوها البوليس تأكد أنهم لا يقتفون آثاره وفضلاً عن ذلك فليس لهم من اللحاق فائدة.
وعندما فكر في هذا عاودته الهواجس فتناول منظاره وبدأ بالتفرس فوجد الأربعة يتدرجون إلى اليمين وينحون في سبيلهم مخاضة على بعد عدة أميال ثم وضع منظاره في جيبه وقد ظهرت على وجهه علائم الاهتمام والتأمل العميق لأنه نظر بين الأربعة وعلى زعامتهم الفارس الذي طلب منه تبغاً وقص عليه ما عرفه عن دونلسون وماتيو.
وكان الجو قد طبق بالغيوم مما دل على قرب هبوب العاصفة فتساءل في نفسه عما يجب(41/46)
عليه أن يفعله وهل كان يسير في النهج القويم فإذا كان ذلك فهو يدرك جماعته قبل أن يبلغهم الفرسان الأربعة ولكنه إذا كان يعتسف في طريقه فماذا يحدث؟ وبعد أن فكر قليلاً قال لا، لا، إنني أتبع الآثار ذاتها ثم لكز جواده وأخرج من كيس معلق بسرج الجواد بعض الأمتعة الصغيرة، ثم ساق مطيته إلى سفح الرابية حيثما ربطها في مرجة صغيرة محاطة بالعليق حيث يجد الجواد حوله شيئاً من الكلأ فيمكن لنكارتر أن يتركه هناك برهة طويلة دون أن يخشى عليه شراً ثم اطرد سيره ماشياً.
وقد تبع في مسيره ضفة النهر وما زال يسير حتى وصل إلى مضيق عميق تندفع إليه مياه النهر بسرعة وتنصب فيه فيسمع لها دوي شديد، وكان ممتداً على المضيق جذعا شجرتين كبيرتين قصفهما النهر فأشبها جسراً ورأى نكارتر آثاراً دلت على أن خيولاً عبرت ذلك الجسر حديثاً فتتبع الآثار فقاده تتبعه الآثار إلى غابة كثيفة نظر من خلال أشجارها خطاً من الدخان رآه وهو على الصخرة غير أنه كان الآن قريباً منه وهو يتصاعد من بناية خشبية عاث السوس في عوارضها.
وكانت تجري أمام هذا الكوخ ساقية جميلة مملوءة بالسمك وأمامها ما يشبه الاصطبل قد ربط فيه ثلاث جياد.
ولم يكن غير هذا الكوخ معموراً في الجوار، فاقترب نكارتر بهدوء وأصغى لما يجري داخل الكوخ الذي ظهر له أنه كوخ رجل يفتش عن مناجم الذهب فيسمع من الداخل جلبة وضجة، فتقدم بدون احتراس إلى أن دخل الباب فسمع صوتاً يقول:
قد اكتفينا يجب أن نضع حداً لهذا الإنكار، فاسمع يا كراب الحقيقة إننا نريد أن نقاسمك فإذا أصررت على الإنكار لا نسلبك ماستك فقط بل حياتك أيضاً.
ثم ارتفع صوت آخر يقول:
إننا لم نأت إلى هنا لنسمع ثرثرتك.
فأجاب شخص ثالث:
ـ افعلا ما بدا لكما، إذا لم تخجلا أن تهاجما أعمى مسكيناً وتقتلاه فلا تترددا، ولكنني أعيد عليكم إنني لا أعرف ماذا حدث للماسة وأود أن أبذل جهدي لأبرهن لكم صحة قولي فإنني خلعت ثيابي عندما أمرني دلمار فهل تودون أن أعيد ذلك الآن؟(41/47)
فصرخ المتكلم الأول:
ماهذه الترهات عندما تسدد حسابك نعلم ماذا نصنع بثيابك وأما الآن فما عليك إلا أن تجيبنا إلى ما طلبنا وتيقن أننا بعد ذلك نكون كرماء جداً حتى أننا نهبك حياتك.
أعطنا الماسة أو أهدنا إلى موضعها وأنت إذا رفضت مائت لا محالة.
فقال الأعمى وهو يتنهد وأي معنى للرفض هنا هل يقدر الإنسان أن يعطي إلا ما يملكه؟
ـ آه
ثم عاد الأعمى إلى الكلام فقال:
فكروا فيما تقدمون عليه وتذكروا أن الدم المهراق ينتقم له دائماً.
ـ هو ذا الرسول الصالح! إننا نعلم ما يجب أن نعمله.
ثم خيم السكوت لحظة على تلك الغرفة.
فقال نكارتر لنفسه يظهر لي أنني وصلت في الوقت المناسب لأمنع هذين الشريرين من ارتكاب جريمة جديدة.
ففتح الباب بلطف ليرى ما يجري داخل الكوخ، فوجد كراب جالساً قرب منضدة في وسط المحل وعيناه الكبيرتان تحدقان بالحائط أمامه، ولا شك أن الأخيرين باغتاه وهو على المائدة إذ كان عليها قطع من الخبز واللحم البارد وقدح ماء ووعاء للقهوة والملح وكان ماتيو ودونيلسون واقفين أمامه وعلى وجهيهما أمارات التهديد فكان واحد منهما رافعاً هراوة ضخمة فوق رأس الأعمى والآخر مستعداً أن يضربه بخشب البندقية.
فقال لا يوجد في القضية ما يقال إن كراب أعمى إذ ليس بيدي أقل ممانعة لهذا الخطر الموشك الحدوث.
فتخطى عتبة الباب وأسرع إلى الداخل وألقى نفسه بين الأعمى وبين الشقيين وصرخ بهما:
ـ اخجلا أيها الشقيان أتضربا أعمى لا طاقة له على الدفاع إن هذا منتهى الجبن والنذالة ونزع الهراوة من يد ماتيو برشاقة وقبض على بندقية دونيلسون وحمى الأعمى الذي لم يعلم ماذا جرى والذي لم يكن يشك أنه أشرف على الهلاك.
فجمد الشريران لمفاجأة هذا الرجل الذي لم يعرفا من أين أتى فخيل لهما أنه هبط من(41/48)
السماء، واستولى الذهول عليهما بضع ثوان، أما كراب فإنه تنهد جزعاً واختبأ تحت المائدة.
وأخيراً تمتم دونيلسون قائلاً:
أي شيطان هذا، من أنت أيها الرجل، من أنت؟
وكان لنكارتر مزية عليهم هي أنه يعرفهم لأنه نظر صورهم وأما هم فلا يعرفونه البتة.
ـ من أنا؟ لا أرى إخباركم بهذا ضرورياً ولكن الذي يهمكم هو أنني لا أقدر أن أسكت عندما أرى شريرين قويين مثلكما يفتكان بأعمى ضعيف ليس له نصير ولا قدرة على الدفاع، إنني لست عظيماً من عظماء الأرض ولكنني لست نذلاً لأدعكما وشأنكما.
فقال ماتيو: إنه لم يكن هنا سوى ضجيج فقط وإننا رمنا أن نخيفه.
ـ أن تخيفاه، حسناً، ولكنني لم أفهم كيف يمكنكما أن تروعا أعمى بمثل ما عملتما.
وكان الرجلان شاخصين بأبصارهما إليه فقال نكارتر:
ـ أصغيت قليلاً قرب الباب فسمعتكما تتكلمان عن ماسة وإذا كنتم تودون أن تتقاسموها وذلك يتعبكم فانا أرضى أن أكون حكماً وإذا كنت أقدر أن أفيدكما فأنا خادمكم.
فقال دونيلسون بحدة:
لا تزعج نفسك فهل يهمك أمرنا وهل لك زمن طويل هنا هلم اهرب بأسرع ما يمكنك.
ـ شكراً لك على هذه الدعوة للهرب، ولكنني أروم أن أمكث قليلاً.
ثم أخذ البوليس كرسياً وجلس بسكون ثم قال: اصغوا لكلامي كل الإصغاء يا رفاقي:
إذا حدث خصام في هذا الكوخ بعد الآن فهو سيحدث بيننا، إنكم سألتموني عن اسمي فأنا أجيبكم على ذلك إنني (جاك الأحمر) من مقاطعة مونثانا المدعو أيضاً (بالدموي الهائل)، وقد تعودت أن ألتهم اثنين أقوى منكما وأضخم غذاءً لي.
وفي أثناء الحديث أسند البندقية إلى المائدة وسحب مسدسه من جيبه.
ـ أتنظران جيداً هذا الكلب الصغير؟ إنه ينبح دون أن يتحرش به أحد، وصوت واحد منه كاف.
ثم ضحك البوليس ضحكاً مرعباً وجلس إلى المنضدة بينما كان ماتيو ودونيلسون يتبادلان النظرات، فقال ماتيو:(41/49)
فلنسافر فلنسافر، إذ ليس لنا مقام هنا بعد.
فاقترب الاثنان من الباب.
فقال نكارتر وهو يعبث بسلاحه:
أرجوكما أن تقيما خمس دقائق هنا أيضاً، فهذا المحل أوفق لكم وأنا أقول لكما السبب فإن عندي شيئاً لأقوله لكما وهو يهمكما جداً.
فنظر الاثنان بارتياب إلى جاك الأحمر الدعي وهما يرغبان أن يفتكا به ولكن سلاحه كان يوحي لهما أن يحترماه.
واستتبع نكارتر الحديث فقال:
عودا إلى محليكما فما دمتما في هذا الكوخ فأنتما في مأمن من خطر الموت إنني أريد أن أقدم لكما اقتراحاً فإذا أردتما أن تساعداني ساعدتكما أيضاً.
وكان انفعال الشقيين يشتد وهما يحدجانه بأبصارهما دون أن يلفظا كلمة.
فقال نكارتر بلهجة تدعو إلى الثقة:
إذا كان أحدكم أمهر من رفيقيه فسلب الماسة دونهما فلا تتخاصموا الآن لأجلها، كونوا أصدقاء، لأن خطراً مهولاً يتهددكم جميعاً.
فقال دونيلسون:
أي خطر هذا؟ عماذا تتكلم يا رفيقي؟ أوضح.
فقال كراب الذي نهض من مخبأه تحت المنضدة:
نعم، أوضح ماذا تريد أن تقول؟ ليس عندنا ماسة قط فقال البوليس وهو يرفع كتفيه:
ـ هذا ممكن ولكن يوجد في هذه النواحي رجال مقتنعون بعكس ما تقرره، أيكفي هذا؟ هل فهمتم معنى كلامي؟
ـ كلا إننا لم نفهم فهل تريد بتلميحاتك إفهامنا أن بوليساً يقتفي آثارنا؟
فقال نكارتر وهو يرفع كتفيه ثانية:
ـ ربما ولكنني لا أعرف شيئاً من ذلك، ولكن الذي أعلمه أن رجالاً آخرين يطاردونكم وهم أشد خطراً بما لا يقدر من أفراد البوليس.
اجلسوا مواضعكم يا رفاقي واسمعوا كيف عرفت ذلك، إنني لا أريد أن أرهقكم فنزاعنا(41/50)
وسلامنا يتوقفان عليكم.
وبعد أن تبادل ماتيو ودونيلسون النظرات وجدا الأوفق لهما أن يتشجعا ويجلسا فجلس الأول على كرسي مخلعة والثاني على صندوق فارغ فأخرج كارتر من جيبه ورقة مربعة يعلوها الغبار مكتوبة بحروف حمراء ومد هذه الورقة لدونيلسون دون أن يقول كلمة.
وكان فيه تصريح من أحد أشراف مقاطعة مونتانا يعد فيه بمكافأة كبيرة ـ خمسمائة ريال ـ لمن يقبض على جاك الأحمر الشهير حياً أو ميتاً.
وكان نكارتر يتلاعب هذا التلاعب وهو أمين أن ينفضح سره فإن عرف أن جاك الأحمر كان في سجن هيلينا من مقاطعة قونتانا فليس في وسعه أن يفسد هذه الوحدة.
ثم قهقه نكارتر وقال لهم مما قرأتم في هذه الورقة يمكنكم أن تثقوا بي واسمعوا قصتي الغريبة: فإنني اضطررت أن أقتل رجلاً كما أقتل ذبابة، وكان هذا الرجل قد صب ماءً في قدح خمري أسمعتم؟ ماءً مع الويسكي! ماءً، ماءً.
فقلت لهذا الشقي الذي تجاسر على مزج الويسكي بالماء: إن قايين ليس شيئاً بالنسبة إليك، إن ما فعلته هو أعظم من قتل الأب أو الأخ وأريد أن أريك أيها الشقي كيف تتجاسر أن تسمم رجلاً شريفاً بالويسكي الممزوج بالماء، ولم أدعه ينتظر كثيراً بل أطلقت عليه رصاصة كانت القاضية.
أنتم ترون أني كنت محقاً فيما فعلت ولكن الشريف وأعضاء محكمته حكموا بغير هذا وبالاختصار فإنني لو لم أقتل اثنين من الحرس لكنت علقت الآن في مشنقة جميلة، وكان موتي خسارة على الوطن أليس كذلك؟
ثم بدأ بطي الورقة وقال:
أما الآن فبما أنني بزي بربري أو وحشي كما يقولون فقد نجوت من الشرور ولم يعد من معارض لي في نزهتي، ولكنني قد صادفت منذ يومين فارساً قص عليّ خبراً غريباً.
قال لي أنه كان في خدمتكما وأكد لي أن في حوزتكما ماسة لا نظير لها في العالم بأسره وحاول أن يقنعني بالاتفاق معه لنسلبكما إياها.
فنظر دونيلسون وماتيو أحدهما إلى الآخر وهما متعجبان، ثم قال دونيلسون:
إصغِ، إننا نعرف حق المعرفة هذا الرجل الذي تتكلم عنه فقد كان معنا وقد وقف على(41/51)
شيء من سرنا فلم يعد لنا مندوحة عن إفشائه لننجو من تعرضه، ولكن هذا ليس بالأمر الخطير.
فقال نكارتر حسناً دعني أتكلم:
على مسافة قليلة من هنا تجد رابية صخرية تتذكرانها دون شك لأنكما وطئتماها بجواديكما، وقد وقفت عندها لأروّح النفس قليلاً فنظرت في السهل أربعة فوارس سائرين بجد ولم تكن هذه الناحية وجهتهم التي يقصدونها رأساً ولكنكم القوم الذين يفتشون عليهم وإذا نكبوا عن الطريق قليلاً فذلك حتى يجتمعوا برفاقهم.
أما متابعتهم لكم فهذا واضح وضوح الشمس وإذا كنت أشك في ذلك فأنا أقسم لكم بالرعد أنني أغتسل غداً وليحرسني الله، وقائد هذه الفرسان هو الرجل الذي كان في خدمتكم، وهنا أقلق كلام البوليس سامعيه الذين لم يشكوا في وشك الهلاك فاقترح دونيلسون سرعة الهرب.
فقال جاك الأحمر الدعي لا تفكر بهذا البتة فهؤلاء القوم يعرفون المقاطعة كما يعرفون جيوبهم فهم يمسكونكم حالاً، لا، لا، فأحسن ما نفعله هو أن نتربص هنا وندافعهم إذا هاجمونا.
ـ ماذا تقول؟ نتربص، إذن فأنت من جملتنا.
ـ مؤكد، فهل تظنون أنني أحتمل أن أراهم يشجون رؤوسكم بالرصاص ويقتلون هذا الأعمى المسكين، إنكم إذا ظننتم هذا فأنتم لا تعرفون جاك الأحمر حق المعرفة، إذا حميتم ظهري قليلاً فلا أتردد عن أن أقف وحدي أمام اثني عشر فارساً.
فقال كراب:
آه يا إلهي لماذا باشرت هذا السفر؟
فسأل ماتيو:
هل أنت متأكد يا مسيو جاك أن هؤلاء الرجال يعرفون طريق رجوعنا.
قال هذا وهو يتبادل النظرات مع دونيلسون.
فقال جاك الدعي:
إنني أحذركم فإن هؤلاء الرجال أقدر على اقتفاء الآثار منكم لأنها حرفتكم! ألا تعتقدون أنهم(41/52)
يعرفون بوجود هذا الكوخ؟
ـ هذا مرجح.
هل يخص هذا الكوخ أحداً منكم؟
فقال دونيلسون لا.
فصرخ كراب:
ـ إنه يخصني أكثر مما يخص غيري، لأنني أنا الذي بنيته حين قدمت منذ بضع سنين إلى هذه الأنحاء طلباً لمناجم الذهب وكنت لم أفقد البصر بعد.
فقال له كارتر شكراً لك على هذه التعليمات فهل يوجد أكواخ في الجوار؟
فأجاب كراب: لا يوجد أكواخ إلى مسافة بعيدة أما إذا كانوا قد بنوا في هذه السنوات الأخيرة فهذا ما لا أعلمه.
فقال البوليس: لا أظن أن أحداً يستعمر هذه البقعة التي هجرها الله فهنا الذئاب تقاطع الدببة حتى أنها لا تحييها تحية المساء، وإذا اتفق أن مسافراً أعوزه الويسكي في هذه القفار فما عليه إلا أن يصلي صلاة الموت.
وكان دونيلسون وماتيو منزويان يتكلمان بصوت منخفض وأخيراً خاطر به دونيلسون جاك الدعي بقوله:
ـ نعم إننا موشكون أن نقع في خطر عظيم وإننا نشكرك يا صاح لأنك أنذرتنا بالخطر قبل وقوعه فإذا رضي كراب أن يدفع إلينا الماسة فمن الممكن أن ننجو جميعاً.
قبل أن. . .
فقاطعه نكارتر قائلاً:
ـ من الجنون أن تفكروا بمثل هذا الآن، إن هؤلاء الأشقياء يتبعوننا إلى مئات من الأميال.
فقال كراب:
ـ كيف يمكنني أن أعطي ما لا أملكه وما لم أملكه البتة.
فخاف ماتيو من إصرار شريكه ففتح فاه ليجيبه ولكن نكارتر أسكته وقال:
سواء وجدت الماسة أو لم توجد فإنها على ما يظهر ستذهب بحياتنا جميعاً. . . إصغوا فعلت وجوه الثلاثة صفرة وأصغوا وقد حبسوا تنفسهم فسمعوا وقع حوافر جياد فأظهر جاك(41/53)
الدعي الضجر وقال:
إذا لم يكن هؤلاء هم الفرسان الذين أخبرتكم عنهم فإني آلو على نفسي أن لا أشرب إلا الماء الصرف بقية أيام حياتي، ولكي أريكم قدر الذي حالفتموه يا أصدقائي وسعادتكم بهذه المحالفة أرجوكم أن تتركوني أفتتح القتال بنفسي.
ولم ينتظر البوليس جواب الثلاثة بل ترك الكوخ وبعد عنه أربعين متراً في طريق ضيق وراء الكوخ.
ثم وقف فرأى الفرسان يقتربون وكانوا اثني عشر وعلى قيادتهم الرجل الذي طلب تبغاً من كارتر، فأبدى كارتر لهم إشارة بمسدسه أدهشت الرجال فأوقفوا خيولهم كأنهم يخضعون لأمر.
فصرخ القائد:
ـ هل وجدت معارفك؟
ـ نعم، أجاب الوحشي الكاذب، صحتهم حسنة وقد كلفوني أن أحمل لك تحياتهم فأين تذهب الآن؟
فهمهم القائد ثم قال:
إنني قدمت إلى هنا مع صديقين لنساعدك.
ـ أوكد لكم أن مساعدتكم لا تفيدني.
ـ لماذا؟
ـ لأنني لست في حاجة إليكم وهذا كل شيء.
ثم أبدى البوليس إشارة من مسدسه في طيها معان كثيرة.
فاقترب الفرسان وتشاوروا بصوت منخفض جداً حتى أن كارتر لم يسمع من محادثتهم كلمة واحدة.
ثم عاد القائد إلى الكلام فقال:
ـ يقولون أنك تقصد أن تتحرش بنا وتغضبنا.
ـ نعم فتكونون لي خبزاً جوهرياً قال ذلك وهو يضحك، إنني منذ يومين لم أقتل أحداً لأقتات به ومعدتي فارغة ومع هذا فليس لكم بقلبي بغض ولا حقد ولا أريكم أسناني إلا إذا(41/54)
قصدتم الشر.
فقاطعه القائد قائلاً:
اقصر عناك وكف عن هذا الكلام أقول لك مرة، مرتين، ثلاث هل تريد أن تتخلى عن طريقنا؟
ـ إنك تقرأ أفكاري أيها الخبيث.
ـ بالنتيجة فماذا تريد منا إننا لم نلحق بك الأذى.
ـ حتى الساعة لا، أما فيما بعد فأنتم موشكون.
ـ إذا مسست شعرة من رأس أحد أصدقائي جعلت لحمك طعمة للعقبان.
فأجابه البوليس ضاحكاً:
ـ فإذن فابدأ.
فصاح رجل كان واقفاً بجنب القائد:
يجب أن نرسل رصاصة لدماغ هذا الخشن.
ثم دفع جواده إلى الأمام قبل أن تبين نكارتر.
فعندئذ أطلق البوليس مسدسه فسمع للرصاصة دوي واختلج الرجل فوق سرجه ثم سقط إلى الأرض لأن الرصاصة سحقت كتفه.
ثم قال نكارتر:
عندي من هذه الرصاصة قدر ما تشاؤون لا أتأخر عن بذلها في سبيل خدمتكم، إن الممر ضيق جداً حتى لا يمكن لأكثر من اثنين منكم أن يتقدما سوية، وعندي لكم مؤونة كافية وأصدقائي عندهم أيضاً كثير منها فإذا أصررتم على غيكم فإننا سنرديكم واحداً بعد الآخر حتى لا يبقى منكم أحد، وسأسر جداً إذا قدرت أن أخدمكم بأن أجمعكم مع أجدادكم السالفين.
فظهر الرعب على وجوه الفرسان عندما شاهدوا مصرع صديقهم وزاد في رعبهم صهيل الخيول واضطرابها، ثم صاح اثنان من مؤخرتهم إننا لا نقدر أن نحتمل أكثر وحاولا أن يتقدما إلى الأمام ولكن جواد القائد أجفل وسد الممر فجعل هذه المحاولة مستحيلة.
ولم يمكن لأحد من الصف المتأخر أن يطلق النار على البوليس خشية أن يصرع أحد رفاقه فلم يجدوا أفضل من العود فلووا أعنة الجياد وانفتلوا راجعين.(41/55)
ونزل القائد وأحد رفاقه فساعدا الجريح على الركوب وبينما كانا يجدان لينضما إلى الفرقة التفت القائد إلى نكارتر وقال له:
أيها الغريب إنك قد بدأت القتال فاحذر من انتقامنا قبل أن يطلع النهار.
فقال نكارتر بحدة:
جربوا فإن عندنا من (الملبس) ما يكفيكم.
وعندما توارى الفارسان عن نظره عاد إلى الكوخ، فوجد دونيلسون وماتيو وفي يد كل منهما مسدسه وهما واقفان أمام الباب.
أما كراب فلم يتحرك من موضعه وكان وجهه مصفراً وأمامه على المنضدة مسدسه فقال ماتيو للبوليس:
ياللشيطان، إنك عراف شهير دون شك فإنك لو لم تنبئنا بالخطر لقبضوا علينا ونحن في الكوخ كما يقبضون على الثعالب.
فقال كارتر:
لم تنته المعركة بعد فإنهم سيعيدونها.
فسأله كراب وهو يضطرب:
أتظن أن هذه العصبة ستعاود الهجوم قبل الليل؟
ـ لا، لا، إننا الآن آمنون إلى أجل قصير ويحسن بنا أن نغتنم هذه الفرصة لنقتات بشيءٍ وبعدها نعد الوسائل لمصادمتهم، قال البوليس هذا ثم دخل إلى الكوخ.
فقال له دونيلسون:
كل قدر ما تشاء إذا كنت جائعاً، أما أنا فإنني لا أقدر أن أتناول لقمة واحدة وأفضل أن أقوم على حراستكم خارجاً، وأظن أنه من الضروري أن يقوم واحد منا على هذه الحراسة.
فقال له جاك الأحمر الدعي: كما تشاء.
وكان يظن أن دونيلسون يحاول الهرب فلم يهمه ذلك ولم يحاول أن يصده لأن شكوكه كانت تقع على كراب في الغالب وترك أيضاً ماتيو يرافق صديقه.
فقال كراب للبوليس:
ـ هناك في هذا الوعاء قهوة وعلى المائدة تجد لحماً مقدداً فتقدم كارتر بانطلاق، وقد حاول(41/56)
ماتيو أن يأكل ولكنه لم يقدر أن يبلع.
ومع هذا فإن دونيلسون لم يحاول الفرار بل عاد إلى الكوخ بعد أن أتم كارتر عشاءه فسأل البوليس وفمه ملآن:
ـ ماذا يوجد؟
فقال دونيلسون: إنهم سيهاجموننا قبل الليل ـ وكانت هيئته مضطربة ـ فإذا شاء كراب أن يعطينا الماسة فمن الممكن أن ننجو جميعاً.
ـ كيف ذلك؟
ـ يمكننا أن نمر على هذا الجسر المؤلف من جذعي الشجرتين ثم نطلق فيه النار فلا يمكن الآخرين العبور.
فقال جاك الكاذب: أنت تعتقد بذلك يا صديقي؟ يظهر أنك لا تعرف هؤلاء الرجال معرفة يقين، إنهم قادرون أن يمسكونا إذا جازوا من محل آخر.
ـ ولكن يمكننا أن نختبئ بين الصخور وندعهم يتقدموننا.
ـ كان ممكناً هذا لولا أن هؤلاء الرجال يعرفون هذه الصخور ـ منذ ولادتها ـ فهم يحاصروننا حتى نهلك جوعاً، وأقول لكم أن أحسن ما نفعله هو أن نبقى هنا ونصادمهم كالأبالسة، إننا أربعة على اثني عشر فلسنا في غاية الضعف لأننا في هذا الكوخ كأننا في معقل.
ـ ولكن لا يمكننا أن نعد كراب بين المدافعين.
ـ هذا حق إنني نسيت أنه أعمى، ولكن إذا كنتما من الرماة الماهرين مثلي إذن. . . .
فقاطعه دونيلسون قائلاً:
إن هذا كلام في كلام سنهلك جميعنا إذا بقينا هنا.
ـ أجب سؤالي أولاً أيها الجبان هل تعرف أن تطلق النار جيداً؟
ـ ذلك مما لا ريب فيه.
ـ وأنت يا ماتيو.
ـ يا إلهي: إنني عند الحاجة أعرف كيف أستعمل المسدس.
ـ حسناً فليس علينا إلا أن ندافع عن نفوسنا فماذا تقول يا كراب وقبل أن يجيب كراب(41/57)
أفرغ قدح الماء في فيه ثم قال:
ـ ليس لي ما أقوله سوى أنني كنت أود من صميم الفؤاد أن لا أبلغ هذه الأنحاء المقفرة، إنني أنصحكما يا رفيقيّ أن تتبعا نصائح هذا الرجل فأنتما سبب هذه المتاعب، إنكما تريدان أن تجعلاني سارق الماسة وأخبرتما غريباً بما تقصدان فكانت نتيجة ثرثرتكما أن عصبة من الأشقياء تتعقبنا الآن وهذر كما سيأتي على حياتنا.
وكان كراب يتكلم بلهجة ملؤها الإخلاص حتى أوشك أن ينخدع بها نكارتر نفسه لولا أن براهين دامغة كانت تقنعه أن كراب بالرغم عن إنكاره الشديد هو سارق الماسة.
فلمعت شرارات الحقد في نظري دونيلسون وماتيو الموجهين إلى كراب ثم التفت نكارتر إلى دونيلسون وسأله قائلاً: هل تظن أنهم يهاجموننا هذه الليلة؟
ـ إنني نطرت هؤلاء الأشقياء حين صعدت إلى ذروة الرابية فوجدتهم في الوادي مشتغلين بتناول الطعام والعناية بالجريح وسيصلون إلينا في الليل فقال ماتيو لم يبق للظلام إلا ساعة واحدة.
فتنهد كراب تنهداً كثيراً وسأل قائلاً: هل يوجد مظاهر تدل على قرب وقوع المطر؟
ـ نحن معرضون من حين إلى آخر لغيث ساكب.
وكان نكارتر قد أنهى العشا فدخن لفافته بهدوء، وكان من مظاهر السكينة التامة التي تلوح على وجهه أنها أثرت تأثيراً حسناً في نفس البقية، وبعد قليل أقبل الظلام.
وكان نكارتر جالساً قرب الباب فالتفت إلى الداخل وقال: أظن أن العصبة لا تتأخر طويلاً فاستعدوا للمصادمة.
فقال ماتيو والحيرة لا تفارقه.
ـ ماذا نقدر أن نصنع؟
ـ إنهم يعتقدون دون شك أننا سنتحصن هنا فإذا أغلقنا باب الكوخ أحبطنا ما يرومونه من حصارنا ولا أظنهم يعودون إلينا راكبين ولكنهم يترجلون في الوادي ويتسلقون الصخر إلينا.
فقال دونيلسون:
ـ إننا نقابلهم سوية وهم يقابلوننا واحداً واحداً حقاً إن هذا موافق.(41/58)
ـ هل تنظرون ذلك الصخر على بعد خمسين متراً؟
وكان الليل حالكاً فلم يتبينوه ولكنهم عرفوا عماذا يريد أن يكلمهم.
ـ اثنان منا يلوذان بذلك الصخر فيصيران كأنهما في معقل، فأنتما يا دونيلسون وماتيو تذهبان إلى هناك وأنا والأعمى نتوارى وراء هذا الصخر المقابل وإن يكن أقل مناعة من ذاك إلا أنه كاف، فإذا انحدر المهاجمون من الرابية شويناهم بنار بنادقنا.
فقال ماتيو: فكرة في غاية الإصابة فتعال يا جورج.
ـ نعم إن هذا التدبير حسن ـ قال البوليس ـ إن رصاصي تسوى اثنتين أما الأعمى فيحشو لي السلاح، أليس كذلك يا كراب؟
فأجاب التعس بلهجة اليائس، أفعل كل ما تأمرني به، ثم أفرغ قدح الماء في فمه وسار وهو يتلمس الحائط إلى زاوية من الغرفة، ثم عاد وفي يده حقيبة ملأى بالخرطوش.
فسأله نكارتر: أهذه لي؟
ـ نعم، فقدني الآن إلى الزاوية التي عينتها.
فسار دونيلسون وماتيو إلى الصخر الذي دلهما عليه البوليس وسار كراب ونكارتر إلى الصخر المقابل على بعد خمسين خطوة من الصخر الأول.
ـ لا يوجد في هذا الصخر سوى محل لرجل واحد فتمدد أنت على الأرض.
فسأله الأعمى: وأنت ماذا تفعل يا صديقي؟
ـ أنا أجد ملجأ ليقيني المهاجمة من بعض النواحي.
فتنهد كراب وقال كل هذا من أجل ماسة مشؤومة.
فقال البوليس ضاحكاً:
ـ نعم، إنني بعد كل ما سمعته لا أرى أشأم منها، ولكن كفى الآن! فإما أن يكون سمعي قد خدعني أو أن المهاجمين اقتربوا! أصغ.
وأصغيا فسمعا دوياً من غابة مجاورة وكان خفيفاً جداً في بادئ الأمر ثم أخذ بالاشتداد شيئاً فشيئاً.
وأطلق بغتة طلقان ناريان من وراء الصخر الذي لاذ به دونيلسون وماتيو.
فتململ البوليس وقال ما أشد حمقهما إنهما أهديا الأعداء إلى مكمنهما عوضاً عن أن(41/59)
يجعلاهم البادئين، فهذه الغباوة ستكلفهما كثيراً.
وفي الواقع أنه لم يكد الطلقان يلمعان حتى دوت ست طلقات من المهاجمين وكلها موجهة إلى حيث خرجت النار.
فأيقن نكارتر أن الوقت قد حان فأطلق النار وللحال تصاعد في سكون الليل صراخ ألم شديد، فقال البوليس قد أجدى الطلق على ما أظن، ثم أفرغ من مسدسه الخمس الطلقات الباقية بسرعة مدهشة، ثم أمر كراب أن يحشو السلاح.
وكان يسمع حركة الأعمى وهو يحشو المسدسات، وسمع أيضاً من قمة الرابية صراخاً وتجديفاً فقال قائد العصابة:
ياللداهية، إنهم أكثر مما ظننتهم.
فسأله آخر قائلاً:
هل جرحت يا وان؟
ـ نعم.
ـ وأنا أيضاً مصاب بجرح بليغ.
فظن نكارتر أن الأعداء سيقاتلون وهم متقهقرون فإذا كان ذلك فما عليه إلا أن يطلق طلقاً واحداً، أو أنه يفرغ سلاحه في الهواء.
وفي هذه اللحظة دوى طلق من صخر الصديقين أجابه الأعداء بطلقات شديدة قوية ونظر نكارتر شبحاً يتسلل بين الأشجار فصوب عليه المسدس وأطلقه فاضطرب الشبح وتوارى في الغاب دون أن يهم بصيحة ألم.
ـ هذه خسارة، قال البوليس، كنت أفضل لو صرخ، لأنه كان يلقي الرعب في قلوب المهاجمين.
وهذا الطلق بدل الوجهة التي كان يقصدها المهاجمون فإنهم عرفوا أن الخطر يهددهم من الجهة الأخرى، وللحال لمعت رصاصة وسقطت على الصخر وراء نكارتر والأعمى، فتمدد نكارتر على بطنه أما كراب فإنه حشا الأسلحة وأعطاها لرفيقه الشجاع وهو يتململ وسأله:
هل تظن أنهم يحاصروننا هنا؟(41/60)
ـ هذا ممكن.
ولمعت طلقات جديدة بالقرب منهما.
فقال البوليس وهو يحاول أن يتبين المهاجمين ـ عمل حسن.
ثم سمعوا طلقاً من وراء صخر الصديقين، فلم يقابله الأعداء بالمثل.
ثم ابتدأ الحصار الذي تنبأ عنه كراب ونكارتر.
وقد سبقه سكون لم يفرغ في أثنائه نكارتر رصاصة من مسدسه ثم نظر بغتة دوران الفتيان المتسرعين.
فنهض قليلاً وهو يحمل في كل يد مسدساً فأفرغهما بالتتابع على المهاجمين بمهارة فائقة، وقد أصاب في الجميع تقريباً فكنت ترى هنا هيكلاً بشرياً ينقلب على الأرض أو يضطرب أو يتوارى في الظلام.
ولم يسكن الأعداء مدة طويلة بل عادوا إلى المهاجمة فانطلقت رصاصة رفعت قبعة نكارتر وطرحتها على الأرض، ولكن في ذات اللحظة سقط الرامي على الأرض وهو يصرخ صراخ الألم.
وكان نكارتر قد أبقى رصاصتين في كل مسدس.
ولكن طلقاً بالقرب منه ألفت أنظاره فوجد كراب قد أطلق النار فسأله:
ماذا صنعت هل أنت مجنون؟ دعني لهذا العمل فعلينا أن نقتصد في الذخيرة.
أنت محق، ولكنني فكرت أن رصاصة تطلق صدفة ربما كان لها بعض النفع وقد تهيجت حتى لم أتملك نفسي.
وظهر أنه قد أصاب المرمى لأن البوليس نظر شبحاً يميل ذات اليمين وذات اليسار ثم سقط وقد كان مؤكداً أنه لم يطلق النار على هذا الرجل فتمتم قائلاً في نفسه:
آه، آه، إنني قد بدأت أفهم.
ولكن الوقت لم يكن وقت تفكير.
فإن ثلاثة أشباح اندفعت نحوه وهي تطلق النار بدون انقطاع حتى كادت تصم أذنا البوليس وكانت الرصاصات تمر بجانبه ولها صوت كفحيح الأفاعي ثم شعر برصاصة قد خرقت قميصه ولامست كتفه، وللحال غير نمط المهاجمة فعوضاً أن يبقى في مكمنه انقض على(41/61)
مهاجميه وهو يثب وثب النمر وأفرغ من مسدسه رصاصة صرعت أقربهم منه.
وكان الثاني قريباً جداً من نكارتر فاستعمل نكارتر مسدسه كهراوة وضربه على رأسه ضربة كانت القاضية عليه فسقط المسكين على الأرض.
أما الثالث فركن إلى الفرار لا يلوي على شيء كأن الموت يقتفيه ثم توارى في الوادي فتركه نكارتر يفر.
وهذه البسالة الفائقة من رجل واحد قررت النصر والظفر.
ثم التفت نكارتر إلى صديقه الأعمى وقال له أما الآن فسنعود إلى الكوخ إذ لم يعد من خطر.
فنهض كراب واستند بيديه على ذراع البوليس، فلاحظ هذا أن الأعمى قام بهذه الحركة بسكون ولم يخامرها شيء من الاضطراب والتردد الذي كان يرافق أقل حركاته.
كان الأعمى يتشكى منذ مدة يسيرة أنه عصبي المزاج سريع التأثر ولكنه في هذه اللحظة كان يظهر أنه ليس أقل جلداً من نكارتر نفسه، فقاده البوليس إلى الكوخ، ولما وصل الاثنان إلى الباب وضع نكارتر يده على فمه ليستجمع قوة صوته ونادى الرفيقين الباقيين أن أخرجا من مخبإكما فكل شيء قد انتهى وللحال أبصر رجلاً يعجل السير نحوه وكان هذا الرجل ماتيو، فسأله نكارتر: أين صديقك؟ فأجابه ماتيو بصوت متلجلج، قد مات، أصابته رصاصة عند الطلق الأول نفذت إلى دماغه.
ـ آه ما أتعسه! ولكن لماذا عرض نفسه للخطر بتصديه لإطلاق النار أولاً.
ـ لماذا، لأنه ظل متهوراً إلى الساعة الأخيرة، فإنني توسلت إليه أن يتربص قليلاً ولكنه أبى إلا أن يكون البادئ، وحالما أطلق النار رفع رأسه ليرى إذا كان أصاب المرمى وفي الدقيقة عينها صاح صيحة مرعبة وسقط بين ذراعي ميتاً.
ـ إنني سمعت تلك الصيحة ولكنني ظننت نشأت عن الأعداء، ماذا تريدون؟ إن الذي لا يصغي إلى النصائح تكون العاقبة وبالاً عليه والآن فلننظر خسائرنا فهل أنت جريح يا رفيقي؟
ـ كلا، وأنت؟
ـ إنني خمشت في ذراعي فهل عندكم مصباح؟(41/62)
وكان مع نكارتر مصباحه الكهربائي ولكنه فضل أن لا يستعمله لئلا يثير الشكوك في نفس الرفيقين وكان يشعر بحاجة إلى الحذر والاحتراس كل ما تقدم خطوة، وفوق ذلك فإنه لم يتمم وظيفته بعد فبالرغم عن كل ما قام به فالماسة ما زالت مفقودة.
فقال كراب هناك مصباح في الزاوية.
وبعد أن أوقدوا عدداً كبيراً من الثقاب (عيدان الكبريت) وجده ماتيو فأضاءه في أثناء ذلك كان نكارتر قد خلع ملابسه ورفع كم قميصه فظهر على ذراعه جرح خفيف فقال البوليس إن الرصاصة كانت مسددة، ولنخرج الآن لنرى ساحة القتال ثم تناول المصباح واقترب من الباب.
فصرخ ماتيو:
هل أنت مجنون؟ فإذا كان أحد الأعداء مطروحاً على الأرض وله مكنة على إطلاق النار أفلا يتخذ منك هدفاً مناسباً؟
ـ هذا صحيح، ولكنني أشك في بقاء أحدهم حياً وإذا وجد أحد فهو لا يؤثر النزاع، وعند اقترابه من الأشجار أبصر شبحين يقتربان ببطء فصاح به أحدهما لا تطلق النار أيها الغريب فإننا قد نلنا فوق الكفاية.
ـ كما تريدون أيها الأصدقاء إننا قوم مسالمون ولا نود أن نؤذي أحداً ولكن إذا كان جلد أحدكما يأكله فما عليه إلا أن يعود، فما زال لدينا ذخيرة معدة لخدمته ونستأنف الدور، فلم يجيباه وعندها تقدم البوليس فرأى على نور المصباح أن أحدهما كان جريحاً جرحاً بليغاً وأما الجريح الثاني فكان خطبه أيسر فسألهما هل خرج أحد منكم سالماً من المعركة؟
ـ نعم، ثلاثة.
ـ وأين هم؟
ـ إنهم نجوا كالأرانب واختبأوا في الكهف.
ـ كذلك يفعل النبهاء، إنني أراكم قادرين على المسير فاذهبا وادعوا أصدقاءكما، نوباً عني بتحيتهم وناديهم ليرجعوا أو يعنوا برفاقهم ويطمئنوا من جهتنا فإننا سنساعدهم في مهمهتم، ولكن اصغوا: إذا كنتم عازمين أن تعيدوا المشهد فإننا سنجعل أجسادكم قوتاً لذئاب هذه الغابة.(41/63)
فتمتم أحد الرجلين:
يا إله السماء، إننا نلنا أكثر من حسابنا، فكن مطمئناً، فنحن لا نريد إلا المسالمة على شرط أن تقابلنا بالمثل.
ثم ودعا البوليس ـ وداعا بسيطاً ـ وانحدرا مسرعين إلى منحنى الكهف ثم عادا ومعهما الأصحاب الفارون.
وفي خلال غيابهم جال نكارتر في ساحة القتال ليرى إذا كان في وسعه أن يساعد أحداً من الجرحى، فوجد اثنين منهم ضمد جراحهما بمناديل أحضرها ماتيو من الكوخ خمسة من المهاجمين في جملتهم القائد سقطوا في المعركة.
فقال البوليس وهو يفكر:
يحزنني أن أضطر إلى الفتك بهؤلاء، ولكننا كنا ندافع الدفاع الذي يجيزه الشرع فلو لم ندافع لكنا قتلنا الواحد بعد الآخر وظل الثلاثة الأصحاء نحواً من ساعتين حتى واروا قتلاهم في الثرى وأعانوا الجرحى إلى بلوغ مرابط الخيل، ثم توارى هؤلاء الفرسان عن العيان وكانوا منكسي رؤوسهم حزناً لإخفاق سعيهم فعوضاً أن يلاقوا الماسة لاقوا الضرب والرصاص.
وعندما بعد الأعداء قال جاك الكاذب أول فرض يجب علينا القيام به هو أن ندفن دونيلسون، فاستحسن ماتيو هذا الفكر واشتغل الاثنان بحفر ضريح لجسد رفيقيهما فصرفا في هذا السبيل ساعة من الزمان.
وفي أثناء ذلك كان المطر يتساقط غزيراً.
وكان كراب جالساً داخل الكوخ ووجهه بين يديه وكان مضى الهزيع الثاني من الليل حين عاد كارتر وماتيو إلى الكوخ.
فقال نكارتر لا أعلم يا صديقي إذا كنتما قادرين على السهر أما أنا فسأنام قال ذلك وهو يتثاءب.
فقال ماتيو:
لو أعطوني ذهباً لأنام ما أمكنني ذلك. .
ولكنه بالرغم من هذا الكلام اضطجع في زاوية من الغرفة وبعد بضع دقائق علا غطيطه(41/64)
واستغرق في النوم، ولكن البوليس لم يغمض له جفن.
وكان الهواء يزداد رداءة، وقبل الفجر بقليل هبت عاصفة شديدة يصحبها برق ورعد، ولكن ماتيو لم ينتبه البتة بل ظل مستغرقاً في النوم.
وكان الظلام لم يزل سائداً عندما لحظ البوليس أن الأعمى نهض بتأن ومشى على رؤوس أصابعه نحو الباب، وكان يتقدم ببطء ولكن حركاته ليست حركات من فقد بصره.
وهنا تلاشى الشك الأخير من نفس نكارتر، لقد شك به أثناء المعركة ولكنه تأكد الآن أن كراب كان من النوع المسمى (نكتالوب) والنكنتالوبيا هي خاصة في العين تمنعها من النظر إلا في النور الضعيف أو الظلام الحالك وهي واضحة في الهررة الداجنة التي تبصر ليلاً كما تبصر نهاراً.
وهذه الحالة نادرة جداً بين بني الإنسان ولكن نكارتر نظر مشهدها فكان كراب في النهار أعمى ولكنه يبصر جيداً في الليل.
وقد قدر أن يخدع جميع من شاهده حتى أصدقاءه الأخصاء فإنهم كانوا يعتقدون أنه فقد بصره تماماً، ولكن لما أطلق النار رغم إرادته فصرع الرجل الذي استهدفه كأبرع صياد كشف سره لنكارتر.
وهذا الاكتشاف زاد شبهة كارتر فجزم بأن كراب هو سارق الماسة دون غيره، وكان عليه أن يعرف مخبأها، ولم يفكر بإيقافه بل حاذر كل ما من شأنه أن يلقي الريب في نفس الأعمى قبل أن يعرف مخبأ الماسة.
إن هذا النكتالوب أظهر مهارة فائقة لا في سرقة الماسة فقط بل بتغييبها على شكل غامض حتى لم يجدوها معه ولا في ثيابه، فكان البوليس متكلاً على الصدفة وأن يدع السارق أميناً.
ولهذا لم يعارضه حين خرج تحت المطر المتساقط كأفواه القرب بل نهض بتأن ليتبعه.
إن الثبات الذي كان يسير به كراب في تلك الأرض الوعرة والمغطاة بالعوسج وليس فيها طريق مطروق أذهل البوليس إذ أنه على الرغم من نظره الثاقب ومن اعتياده المسير في الليل والنهار بين الوعور والآكام كان يبذل جهداً شديداً كي لا تزل به القدم.
وكان كراب يتقدم دون تردد ولا تأخر وبدأ بالنزول على الصخر إلى مصب النهر فضاق صدر نكارتر لأنه لم يعلم كيف يتبع النكتالوب في هذه الليلة الحالكة فوقف لحظة ليفكر(41/65)
فسمع بغتة وقع خطوات وراءه، فالتفت وإذا ماتيو قد انقطعت أنفاسه من سرعة الجري وكان قد وصل إلى حيث كان البوليس فقال له بصوت منخفض.
إنني نهضت فجأة ونظرت نور البرق فوجدتك قد خرجت من الكوخ فهل تقدمك ـ بدون شك ـ أجاب نكارتر وهو شديد العجب من تصرف ماتيو أنه قد خبأها في الكهف على ما يظهر.
فآلى ماتيو على نفسه أن يلحق به وكاد يندفع في سبيله فأمسكه نكارتر بيد شديدة فأثبته في محله وقال له ببرودة:
انتظر دقيقة بعد يا عزيزي فعندي شيء أريد أن أوضحه لك فارتعش ماتيو، فغنه رأى أن سلوك جاك الدعي لم يعد هو ذاته حتى أن لهجة صوته تغيرت ثم قال:
ـ ماذا تريد أن تقول؟
ـ إنني بوليس ليس إلا وأنا مكلف أن أعيد الماسة إلى صاحبها الشرعي الذي سلبت منه، فحين تصل الماسة ليدي أعيدها إلى دلمار، أما أنت يا مسيو ماتيو فأنا لا أريد منك شيئاً ولكن إذا حاولت أن تقاومني أو تحبط ما أحاوله فستندم على ذلك، فوقف ماتيو دقيقة دون حراك كأن الصاعقة قد انقضت عليه وحاول عبثاً أن يتكلم.
ـ بو. . . . ليس. . . . بوله. . . . يس ـ تمتم أخيراً، وأنت أنت. . ت. . تر. . . قبنا.
ـ أنا لا أقتفي آثارك ولكنني ألاحق كراب، كنت أفعل مثلكم.
قال نكارتر ببشاشة: فإنني كنت أعلم منذ زمن بعيد أنك لا أنت السارق ولا دونيلسون ولكنكم صممتم أن تستردوا الماسة ولكن لا لتعيدوها إلى صاحبها بل لتبقوها لأنفسكم.
ـ لكن. . . لكن. . . لا أعرف. . . أريد أن أسألك. . . ماذا تدعى؟
ـ أدعى كارتر من نيويورك وعادة يدعونني نكارتر.
ـ يا إلهي.
فارتجفت جميع أعضاء ماتيو واستلقى على صخر وهو يحاول أن يستعيد تنفسه.
ـ صمم الآن ـ قال البوليس إنني قدمت لك نصيحة حسنة وأنا آمل أن تقابلني بالمثل وهذا كل ما أطلبه منك.
ـ اعتمد عليّ يا مسيو كارتر، فلتحرسني السماء من عداوتك.(41/66)
ـ لا أحقد عليك ـ قال البوليس ـ وقد أخذته الرأفة على ضعف ماتيو ورعبه.
فلنسمع.
ـ كل ما تريد.
ـ هل أنت شريك كراب؟
ـ نعم ولكن لا في سرقة الماسة.
ـ أعرف هذا، ولكنك تعرفه منذ زمن طويل، هل تعرف أنه كان نكتالوب يعني أعمى في النهار ويرى في الليل؟
فنظر ماتيو إلى مخاطبه بعجب.
ـ حقاً إنك لاحظت ذلك؟ إنني اشتبهت به منذ زمن طويل وكدت أتأكد.
ـ وأخيراً تبدل شكك باليقين.
ـ ولا ولكن بالعكس بل كثيراً ما كنت أغالط نفسي، فإن كراب إذا لم يكن سوى نيكتالوب فإنه أمهر ممثل عرفته في حياتي.
ـ أنا على رأيك في هذا الأمر، إنه نكتالوب وأقدر أن أؤكد ذلك.
ـ هل تعرف أين خبأ عين الشيطان.
ـ لم ألاحظ أقل شيء من ذلك، ولا أقدر أن أجزم فيما إذا كانت الماسة في حوزته فليس عندي أقل برهان سوى الاستدلال والاستنتاج.
ـ وأنا من رأيك.
ـ أرجوك ـ إذا كنت تريد الخير لنفسك ـ أن لا تكتم عني شيئاً علمته وأقدر أن أستفيد منه شيئاً.
ـ أقول لك الحقيقة يا مسيو كارتر كما لو كنت أتكلم بعد القسم وأؤكد لك أنني أفادي بكل شيء حتى لا أعاديك.
ـ حسناً ـ وأنا أسمع ـ عندما اجتمعت بصديقك دونيلسون وصادفتما الأعمى هل كان في الكوخ.
ـ لا، كان الكوخ خالياً، ولكننا وجدنا آثاره فجزمنا برجوعه.
ـ ومتى رجع؟(41/67)
ـ أمس مساءً.
ـ أول الليل.
ـ نعم.
ـ إذن فهو في الليل يرى بجلاء إذ كيف يمكن الأعمى أن يجول وحيداً في هذه المقاطعات المنفردة، أو لم ينبهك ذلك إلى أنه نكتالوب.
ـ نعم إن هذا الفكر داخلني، ولكنني لم أفه لدونيلسون بكلمة.
ـ هل عرفت شيئاً عن المحل الذي كان فيه كراب؟
ـ لا أعرف. . . ولكنه أتى من هذه الجهة، ثم أشار إلى جهة الكهف.
ـ هل نظرته ينزل إلى هذا الكهف؟
ـ إننا راقبناه طول الليل، فلم ينكشف لنا من الأمر شيء حتى وصلت إلينا، وقد تفننا في سؤاله وأخيراً فرغ صبرنا فعولنا على إرغامه ليعطينا الماسة طوعاً أو كرهاً.
ـ إنكما تصرفتما بكل خرق في التذرع بالوسائل ولو لم أباغتكما لكنت الآن قاتلاً شقياً أمام الله والناس.
فارتجف ماتيو وغطى وجهه بيديه ثم قال وهو يتململ.
ـ كنت أود لو لم أتداخل في هذه القضية، مع أنني أنا، أنا الذي زينت لدونيلسون اتباع الأعمى واغتصاب الماسة.
ـ إنني قلت لك وأكرر ما قلت، ليس في صدري شيء عليك لا شخصياً ولا بداعي الوظيفة ويمكنك أن تنسحب الآن دون أن تخشى شيئاً، ولكن كن حكيماً في المستقبل، وأنصح لك الآن بالرجوع إلى الكوخ مسرعاً كما تفر من الموت، أما أنا فسأتابع الأعمى إلى الكهف.
ـ دعني أصاحبك يا مسيو كارتر، إنني فكرت ملياً في ذلك، فقد كانت هذه الماسة مشؤومة فألقتني في هذه الوهدة، وأريد الآن أن أبذل الجهد المستطاع لأردها إلى صديقي القديم دلمار.
فقال البوليس وهو يرفع كتفيه:
ـ كما تشاء إذ لا أجد مانعاً من إجابتك إلى ما تطلب، ولكنني أود أن ألفت أنظارك إلى(41/68)
الخطر الذي تسعى إليه فإن كراب ينقل مسدسه وهو يرى في الظلمة كما يرى الهر.
ـ إذا لم أكن مخدوعاً أقول أنه خبأ أيضاً بندقية في الكهف ولكن هذا لا يثني عزمي عما أروم.
ـ حسناً جداً، ولكننا نحتاج نوراً لئلا نعثر في انحدارنا لأننا لسنا من فصيلة (نكتالوب) كما تعلم.
ـ سأذهب إلى الكوخ وأفتش عن المصباح.
قال ذلك وهمّ بالذهاب فأمسكه نكارتر بذراعه وقال له:
لا حاجة لذلك فإن معي ما يغنينا، وأخذ من جيبه المصباح الكهربائي وأناره بضغطة على الزر.
فأبصرا أمامهما ممراً ضيقاً متحدراً كثير المزالق يؤدي بعد معاناة الأخطار إلى قاع الكهف، فتدرج الاثنان في هذا الطريق وهما متحدران، ولكنهما أسرعا في المسير على قدر الاستطاعة.
فوصلا أيضاً إلى أرض جرداء ولم يكن فيها سوى طريق صغير متعرج ضيق مملوء بالحجارة المحددة الرؤوس التي كانت تمزق الأحذية وكان على يمينها صخر ينهض إلى الأعالي حتى تغيب قمته في السحاب وعلى يسارهما النهر بأمواجه المزبدة فسأل البوليس أي طريق يسلكه كراب عند مروره من هنا.
ولم ينتظر طويلاً حتى يسمع جواباً على ذلك فإن شهاباً لمع للحال قرب النهر وسمع دوي طلق فأرعب نكارتر رعباً شديداً.
وصرخ ماتيو صراخاً هائلاً وأن أنة جزع لا تترجم بالكلام ثم رفع ذراعيه إلى السماء وحركهما هنيهة وبعد أن خطا بضع خطوات إلى الوراء سقط إلى الأرض لأن الرصاصة كانت قد اخترقت قلبه.
ولكن نكارتر لم يفقد صوابه فأدار نور المصباح إلى الجهة التي أتى منها الطلق ولكن النور لم يبلغ المسافة المطلوبة حتى يرى من هو الذي أطلق النار، فعزم البوليس أن يتبع مجرى الحوادث.
وبعد لحظة دوى طلق آخر أصاب المصباح الكهربائي الذي كان في يد البوليس ولحسن(41/69)
الحظ كان نكارتر ماداً يده بالمصباح لتطول المسافة التي يبلغها نوره فرفضت يده الصدمة الشديدة، وحين فقد النور عرف شدة الخطر الذي وقع فيه، إذ كان لخصمه عليه مزية كبرى في أنه يرى بجلاء على رغم الظلام المتكاثف أو بالأحرى بواسطته.
ولكن البوليس لم يكن يرى شيئاً فراح يعدو إلى جهة الصخر ليتحصن به.
فوفق الالتجاء إلى تجويف ضيق في الصخر انسل إليه بصعوبة وهناك ربض ينتظر النتيجة بفارغ الصبر.
فدوى طلق جديد وقع على الصخر الذي كان البوليس على وشك مغادرته فقال:
إذن ينبغي أن أقيم هنا دون حراك فإنني إذا خاطرت في التقدم خطوة إلى الأمام أصابتني رصاصة شدخت رأسي، لأن هذا الحيوان يصيب المرمى أحسن إصابة، ومع هذا فإن مقامي ليس أقل خطراً من التقدم فقد يمكن أن يبلغه كراب دون أن أشعر به.
وفي هذه اللحظة دوى الرعد فرددت صدى دويه الأودية بما يصم الآذان ولمع البرق فأضاء تجويف الصخر وتلك الأرجاء كلها حتى سهل النظر على البوليس.
فغنم كارتر هذه النهزة وحاول أن يستفيد منها عالماً أن كراب لا يستطيع فيها شيئاً بسبب ضعفه، فخطار حينئذ ورفع رأسه قليلاً ليرى خصمه فوجده على بعد خمسين خطوة واقفاً أمام ضفة النهر وهو يحمل باليد الواحدة بندقية ويستر عينيه بالأخرى حتى لا يبهره النور.
فعمد نكارتر إلى الاحتيال الذي خلصه من مواقف أشد خطراً من هذا الموقف فأخذ قبعته وعلقها على رأس صخرة ثم نزل مسرعاً إلى ضفة النهر حيثما لا يرى.
ثم اختفى نور البرق وساد الظلام ولم يعد البوليس قادراً أن يرى كراب فلم تمر لحظة حتى سمع دوي شديد وسمع كارتر صوت قبعته المتدحرجة على الأرض.
ـ لم يخدعني فكري فقد ظننت أنه سيلمح قبعتي، وأومل أن يسقط الآن في الفخ وكان يسمع خطوات تقرب من المحل الذي كان جاثماً فيه كأنها تقتفي آثار قبعته كأن كراب كان آتياً ليرى خصمه قتيلاً.
ولم يكن كارتر قادراً أن يميز شيئاً في الظلمة ففضل أن يستمر على سكونه ولم يشأ أن يصاب بطلق ناري يجعله هدفاً لنار (نكتالوب).
ولكن يجب أن نؤمن بآلاه خاص للبوليس السري فإن لمعة برق أشد من التي سلفتها أنارت(41/70)
الكهف حتى ظهرت أشجاره وعوسجه ورؤوس صخوره.
فوقف كراب فجأة ووضع يديه على عينيه متألماً لأن النور بهرهما وسكن بدون حراك كأن نار السماء قد أحرقته.
وللحال وثب البوليس وارتمى عليه، فشعر كراب بدنو خصمه فصاح صياح الغضب وقد ارتجف غيظاً لأن نور البرق لم يكن قد اختفى بعد فحاول أن يقابل البوليس، ولكن هذا كان أسرع منه فقبض على فم البارودة قبل أن يطلقها كراب فضاع الطلق في الهواء وسمع له دوي اضطربت له تلك الصخور من أسسها.
ولسوء الحظ عادت الظلمة ثانية.
وقام بين الرجلين صراع شديد، وكان اليأس يضاعف قوى كراب وفضلاً عن ذلك فإنه يرى في الظلام بينما كان نكارتر يصادف مشقة شديدة ليقبض على خصمه وقد قاتل كراب بخفة النمر فكان يثب ويضرب ويزمجر ولكنه تعب أخيراً فقبض نكارتر على رقبته بذراعيه الشديدتين، وانهارت التربة التي تحت أقدام الرجلين فجأة لما تخللها من المطر، ففقد كراب الموازنة ولكن البوليس نجا بوثبة وثبها إلى الوراء من خطر التدحرج من رفيقه إلى أعماق النهر.
ولمع البرق فأنار تلك الأرجاء، فأبصر نكارتر خصمه متدهوراً في ذلك المنحدر وهو يحاول أن يتمسك بالعوسج فخاب ما حاوله، وسقط المسكين في النهر وقد صرخ هذا التعس وهو على وشك الهلاك:
فلتكن ملعوناً، فلتكن ملعوناً، إنك لن تظفر بالماسة البتة، البتة، البتة، وطغت عليه مياه النهر فصاح صيحة هائلة جمد لها الدم في عروق نكارتر ثم غاص في الماء.
وبعد بضعة أيام وصل البوليس ـ وهو الوحيد الذي بقي حياً من العصبة إلى مقاطعة في الأريزونا فيها مكتب للتلغراف، فراسل باتسي الذي كان باقياً في دانفر كما أمره وعلم منه أن دلمار سافر إلى سان فرانسيسكو فأجابه نكارتر تلغرافياً بما يأتي.
سأقابله في سان فرانسيسكو وأطلعه على تفصيل الحوادث أما أنت فيمكنك أن تذهب إلى نيويورك.
وكان نكارتر بعد الواقعة قد جاس الأراضي وسنرى نتيجة فعله، ثم عاد يلتمس الجواد(41/71)
فوجده حيث عقله أما سائر المطايا فقد هلكت برصاص المتقاتلين، واستمر البوليس مسافراً على ظهر الجواد حتى وصل أول موقف لسكة الحديد فركبها إلى فرنسيسكو وهو يتنهد تنهد الراحة لأنه وجد أخيراً في غرفة متقنة فيها جميع معدات الراحة والرفاهية.
وفي فرنسيسكو قابل دلمار التاجر الهندي القديم ووضع في يده الماسة الثمينة التي كان يعتقد أنه فقدها إلى الأبد، فكان تأثر التاجر شديداً حتى تعذر عليه النطق بضع دقائق ثم دعا البوليس إلى تناول الطعام وسأله أن يقص عليه الحوادث التي جرت.
فقال نكارتر:
ليست مهمة جداً ـ قال ذلك لأنه كان يكره أن يذكر الأعمال الفائقة التي قام بها ـ ولكنني أقول أنه كان من المستحيل عليّ أن ألاقي الماسة لو لم أعرف كيف سرقت فقال دلمار:
أؤكد لك أني لا أعرف أيهما يسرني أكثر أن تعود الماسة إلى حوزتي أم أن أعرف الأسلوب الخارق الذي سرقت به.
ـ إن اللغز الذي حير ألبابنا كان بسيطاً للغاية، فكانت مظاهر الصعوبة التي تجلله أشبه بالظاهر التي جللت أركاز بيضة خريستوف كولمبوس.
يجب عليّ أن أقول لك أن كراب كان نكتالوب أي أنه لم يكن يرى في النهار ولكنه في الليل يرى بجلاء وعلى هذا فكان يستحيل عليه أن يرى على النور الكهربائي.
ولكنك لما التفت وضغطت الزر فأظلمت الغرفة نظر الماسة تلمع في ذلك الظلام فخطفها ورماها في قدح الماء الذي كان أمامه.
ولما شعر أنك ستعيد النور حالاً وضع القدح على فمه وإذ لم يكن للماسة لون استحال عليك أن تراها في القدح.
فصادق دلمار على كلامه وقال:
والأغرب من ذلك أن الماسة كانت تحت يدك عندما كنت تفتش جيوب أصحابك وثيابهم.
وعندما طلب كراب منك أن تناوله قدح الماء قبل أن بارح الغرفة قدمت له الكأس والماسة معاً وقلبك منسحق للإهانة التي وجهتها لهذا الضعيف أليس كذلك يا مسيو دلمار إن هذا يميت من الضحك.
وإنك تذكر جيداً أنه بعد أن تناول الماء كلمته فاقتصر على الانحناء أمامك وقد عزوت هذا(41/72)
لانفعاله الشديد من الإهانة حتى وقفت الكلمات على شفتيه آه، آه، آه.
وعندما خرج من الغرفة تناول الماسة من فمه ووضعها في جيبه وقد أتى مثل ذلك مراراً في الكوخ حيثما اجتمع عليه صديقاه وإني أؤكد أن الماسة كانت أمامه في الكأس حين شرعنا بالقتال مع البرابرة، وأذكر أيضاً أنه أفرغ القدح في فمه قبل أن يجلب لي حقيبة الرصاص ولا شك أن الماسة كانت عندئذ في فمه ثم خبأها في الكهف.
ولكي أختصر القصة أقول لك أنني خفت خوفاً شديداً لما سقط كراب في النهر من أن تكون الماسة معه فلا يعود في اليد حيلة كما تعلم وأخيراً عزمت أن لا أبارح الكهف بل أنتظر طلوع النهار وأخيراً بدأت بالتنقيب بين الصخور.
ولم يكن لي مطمع أن أجد جثة كراب فإنني لم أقف لها على أثر وبعد أن فحصت الحاجز الصخري وجدت تجويفاً فيه يؤدي إلى مغارة وكان في المغارة قوت وغطاء من الصوف وبندقية ومسدسان وعدة حوائج أخر.
ولا يقتضي فطنة كبيرة حتى يعرف الإنسان أن هذه المغارة هي مخبأ حصين وقد انتقاها كراب عند مبارحة الكوخ وأجاد في انتقائها لأن رجلاً فيها يمكنه أن يحارب جيشاً على شرط أن يكون عنده الذخائر الكافية.
وأخذت أنقب في زوايا الكوخ ومكانه ولكن آمالي خابت في أن أجد الماسة فيه إذ لم يلح لي أقل أثر منها وكدت أيأس لولا أنني لحظت في جانب الكهف صخراً على شكل مائدة وفي وسطه تجويف طبيعي صغير ملآن ماءً.
أقول تجويف طبيعي ولكن الأمر كان بالعكس لأنه كان من المستحيل أن يتسرب الماء من نفسه إلى ذلك التجويف فكان من الواجب أن تكون يد إنسان قد صبتها فيه فوضعت يدي في هذه الماء فوقعت على جسم صلب لا أراه ولكنه كان موجوداً لأنه كان يقاوم أصابعي ولله ذلك السرور الذي شعرت به فإنني عندما جذبت ذلك الجسم من الماء كانت الماسة بعينها التي طالما بكيت عليها وحننت إلى استرجاعها، هذا هو حل اللغز.
ثم استلقى نكارتر على مقعده وأغرب في الضحك.
فاستحوذ العجب والدهشة على دلمار وكان يتنازعه عامل السرور باستعادة الماسة وعامل الاحترام لذلك الشجاع النبيل المهذب فنهض وطوق عنق البوليس بذراعيه وجد في تقبيله(41/73)
قبلات شديدة أما نكارتر فلم يمانعه في ذلك البتة.
ثم قال دلمار:
إن كراب هذا هو أدهى لص لفيته في حياتي أليس كذلك يا مسيو كارتر؟ إنني لا أعرف كيف أعبر عن شكري العظيم.
فتبسم البوليس، ثم استأنف دلمار الكلام فقال:
إن الماسة صارت أعزّ عليّ الآن بعد أن تعرضت لخطر الضياع، ولكنني كنت أود أن أعلم ماذا جرى بكراب.
فقال البوليس وهو يرفع كتفيه ـ إنني لم آل جهداً في التفتيش عنه فذهبت مساعي أدراج الرياح وأعتقد الآن أنه يرقد بسلام في أعماق نهر كولورادو. . . .(41/74)
وقفة عند يلدز
لمن القصر لا يجيب سؤالي ... آهلات ربوعه أم خوال
مشمخر البناء حيث ترآى ... بالياً مجده بلى الأطلال
لم تصبه زلازل الأرض لكن ... قد رمته السماء بالزلزال
وكسته الأيام بالصمت لما ... نطقت فيه حادثات الليالي
فترآءت أبكاره شاحبات ... باكيات بأعين الآصال
* * *
أيها القصر ايه بعض جواب ... لا تكن ساكتاً على تسآلي
ليت شعري والصمت فيك عميق ... ذاكرٌ أنت عهدهم أم سال
ما تداعى منك البناء ولكن ... قد تداعى بناء تلك المعالي
كنت كل البلاد في الطول والعر ... ض وكل العباد في الأعمال
كنت مأوى العلى مثار الدنايا ... مهبط العز مصدر الإذلال
كنت جباً وأيّ جب عميق ... بالغاً للنفوس والأموال
مورد الخائنين كنت وكانت ... منك تدلى مطامع العمال
قصر عبد الحميد أنت ولكن ... أين يا قصر أين عرش الجلال
أين خاقانك الذي كان يدعى ... قاسم الرزق باعث الآجال
ما أرى اليوم ذلك المجد إلا ... كخيال يمر بعد خيال
هل وقوفي على مبانيك إلا ... كوقوفي على الطلول البوالي
قد تخونتنا ثلاثين عاماً ... جئت فيها لنا بكل محال
تلك أعوام رفعةٍ للأداني ... تلك أعوام خطة للأعالي
تلك فيما جرت به نقطة سو ... داء تبقى بجبهة الأجيال
ملأت خطة الزمان شناراً ... فأبتها كل العصور الخوالي
يثب العدل طافراً كلما م ... رَّ عليها مشمر الأذيال
وكأني أرى اضطراب نفوس ... كنت تغتالها وأي اغتيال
أسمع الآن فيك ما كان يعلو ... من أنين لها ومن أعوال
حائمات على الذي فيك أبقي ... ن دفيناً من الرفات البوالي(41/75)
تلك يا قصر أنفس أنفت منك ... فطارت إلى سماء المعالي
وترقت إلى ذؤابة أعلى ... كوكب في سمائه جوال
وهي اليوم أحرقتك بشهب ... قذفتها عليك ذات اشتعال
لم يضع مجدها وإن هي أمست ... ضائعات الأشلاء والأوصال
* * *
كيف ننسى تلك الخطوب اللواتي ... لقحت منك حربها عن حيال
يوم كنا وكان للجهل حكم ... خاذل كل عالم مفضال
آمر من عتوه كل أمر ... يغرس البغض في قلوب الرجال
أفأصبحت نادماً ليها الق ... صر تبالي بالقوم أم لا تبالي
لم تفدك الندامة اليوم شيئاً ... قضي الأمر فاصطبر باحتمال
وعزاء فلست أول قصر ... نكس الدهر من ذراه العوالي
قد تداعى من قبل إيوان كسرى ... بعد أن طال شاهقات الجبال
وكاين من قصر ملك ترامى ... ساقطاً بالملوك والإقبال
فابق يا قصر عابس الوجه كيما ... يصبح الملك باسم الآمال
وتعثر فلا لعالك حتى ... ينهض العدل ناشطاً من عقال
إنما نحن أمة تدرأ الضي ... م وتأبى أن تستكين لوال
أمة سادت الأنام وطابت ... عنصراً من أواخر وأوالي
فإذا ما علا الغشوم نهضنا ... فقذفناه سافلاً من عال
نملأ الأرض إن لمشينا لحرب ... بزئير الغضنفر الرئبال
وإذا ما غلّ المليك رددنا ... هـ ذليلاً يقاد بالأغلال
نحن من شعلة الجحيم خلقنا ... لأولي الجور لامن الصلصال
ياملوك الأنام هلا اعتبرتم ... بملوك تجور في الأفعال
ليس عبد الحميد فرداً ولكن ... كم لعبد الحميد من أمثال
فاتركوا الناس مطلقين وإلا ... عشتم موثقين بالأوجال
هل جنيتم من التجبر الأ ... كل أثم عليكم ووبال(41/76)
الأستانة
معروف الرصافي(41/77)
تدبير الصحة
اتفق لنا ونحن نعجب بالنبذة التي ننشرها لأبي زيد البلخي من أهل القرن الثالث في تدبير الصحة أن عثرنا في المجلة الباريزية على بحث للدكتور هيريكور الفرنسوي في هذا المعنى نفسه فرأينا تعريبه ليقابل القراء بين القديم والحديث قال: الصحة أعظم النعم ولا شيء يوازيها من سلطة وثروة في جلب الراحة بل ليس من سعادة أعظم مما توليه الصحة، ففي الصحة شعور بطول بقاء المرء مما يقوي الساعد على العمل والإنتاج إلى ما وراء التصور فيزيد في حسن الخلق الذي ينشر السعادة في أطراف صاحبه، والصحة الطبيعية شرط في الصحة الأدبية لأن من سلمت حواسه من العيوب وأطرافه من الفساد يسلم عقله، والصحة الأدبية عبارة عن قواعد من شأنها ضمان صحة الأفراد والمجموع، ولا يظن ظان أن هذه القواعد تزيد في الأنانية بل هي ولأمراء مدرسة مدهشة بثت روح الغيرية لأن خلق التضامن يتجلى في أبهى مظاهره في مسائل التدابير الصحية، والتضامن هو المحور الذي تدور عليه حياة المجتمعات البشرية في المستقبل.
وإنا نشعر بالمسؤولية الأدبية التي تصيبنا في المسائل الصحية العامة، مثال ذلك أن امرأ إذا كتم مرضاً سارياً ينشأ منه وباء يهلك فيه ألوف من الناس أفليس خليقاً به أن يدرك بأنه إذا باح بالمرض يقاتله هو ومن حوله على حين لو كتمه لأودى به وبغيره فليس تدبير الصحة والحالة هذه هو تدبير الجسم فقط بل هو تدبير الأخلاق بمجموعها.
يعلمنا علم منافع الأعضاء أن الجسم آلة لا تبقى على حالة حسنة كما هو الحال في جميع الآلات إلا بالعمل، وعلم الصحة بما فيه من القواعد التي من شأنها حفظ حياة الفرد وحياة الجماعة يعلمنا أيضاً الطرق التي تضمن لتلك الأداة البشرية أحسن نتائجها وأطول أيامها وكيف يتمكن الآباء من إيلاد الأولاد الأقوياء النافعين، فإذا عرفنا من علم الفسيولوجيا كيف أن الفرد هو ابن محيطه فإن العلم يشير إلى تلك النقطة التي يجب على المقتنين أن يوجهوا عنايتهم إليها إذا أحبوا تحقيق أسباب حسن تربية الفرد التي لها اتصال بطبيعة الأرض أكثر من اتصالها بنوع البذار أي بصحة الأجسام أكثر من صحة التعاليم.
وعلى الجملة فإن علم الصحة (الهيجيين) يأمر المرء بالعناية بصحته وصحة الناس ويشير إليه بالعمل ويدله على أسباب العمل الجيد ويبصره بعواقب الغرور ومخاطر الشهوات التي يطلب المرء فيها سعادته عبثاً وما هي في الحقيقة إلا سيئة الأثر منهكة للقوى، نعم أن علم(41/78)
حفظ الصحة يمثل الصحة بأنها السعادة الوحيدة الحقيقية ويبرهن بأن غلط الفرد يلحق المجموع وأن التكافل لا بد منه.
وإنا بما نورده من النصائح نوجز المبادئ الجوهرية في حفظ الصحة في الفرد والمجموع ونلقن ما يجب العلم به والعمل له من القواعد الأساسية التي نوجهها خاصة لمن كانوا في مقتبل العمر من الشبان والشابات.
القاعدة الأولى ـ يجب عليك أن تعنى بصحتك لأن صحة الفرد ليست له وحده بل هي للمجتمع ونجاح هذا وقوته منوطان بصحة مجموع من يتألف منهم، فالواجب على المرء أن يعمل بحيث يقدم للمجتمع ما يصيبه من الحصة من العمل والإنتاج ومن يهتم بصحته كان كمن يسعى لإبقاء تلك الآلة التي يملكها كل إنسان للقيام بما يفرض عليه من العمل ويؤدي ما عليه للمجتمع الإنساني، وتختلف عناية المرء بصحته بحسب حاله وشأنه فقد تضطره الحال في بعض الأحيان أن يفادي بصحته حباً بإبقاء صحة المجموع ولذلك كان من الواجب على كل امرئٍ أن يقوي صحته حتى لا يقف ساعة أمام ما يتحتم عليه بذله عند الاقتضاء.
القاعدة الثانية ـ اعلم أن العقل القويم بالجسم السليم إن في مجموع تركيب الجسم كما في المجتمع جميع الحواس متكافلة بعضها مع بعض فالدماغ وهو حاسة الفكر والإرادة معرض لعامة الأمراض التي تصيب سائر الحواس كما هو عرضة لجميع النقائض ولذلك قضت الحكمة أن تبذل العناية بذاك المجموع النامي على اختلاف مناحيه ولا سيما إذا كان في إبان نموه، ومتى عني بإحدى الحواس بنوع خاص يستأثرون سائر الحواس بالعناصر المغذية ويبطل عمل سائر الأعضاء وتقل تغذيتها فتنقطع الموازنة العادية في الصحة ولا تلبث تلك الحاسة الممرنة كثيراً أن تصير إلى حال من الاضطراب وتفقد غناءها بما يصيبها من البوائق التي تسممها وتضيق عليها وتفلجها وعليه فاقتضى أن يعمل لكل حاسة ما تحتاجه من العناية سواء كان من حيث الفكر أو الحركة.
لا يضر البالغ إلا لم تعط كل حاسة فيه حقها بقدر ما يضر الطفل واليافع لأن أعضاء هذا تكون في بدء أمرها لم تستوف قسطها من الاستحصاف من أجل هذا وجب أن تجدد بتدقيق صلات العمل الطبيعي والعمل العقلي ويقتضي للحواس قبل إنتاجها أن تستعد لذلك وإذا(41/79)
تعجل المرء في الإلحاح عليها تفسد وتتعطل، فتربية الطفل يجب أن تكون باعثة لمجموع الجسم على التقوية لا أن يعجل في استخدامها قبل أوان بلوغها ودماغ الولد لا يكمل إلا بعد حين ولذلك اقتضى أن لا يطلب منه إنتاج شيء قبل العمل ويكتفي بتلقين الولد العادات والأساليب التي تدر به بعد على العمل، وعلى العكس في العضلات فإنها تقوى بسرعة وكذلك هيكل الجسم فإنه يستحكم في السنين الأولى من الحياة ويقاوم أحسن مقاومة فنرى أن يمرن الطفل من سن الخامسة إلى العاشرة ساعة في الأشغال العقلية ومثلها في الأشغال الطبيعية ومن العاشرة إلى الخامسة عشرة ساعتين في الأمور الذهنية وثلاث ساعات في الأعمال العضلية ومن الخامسة عشرة إلى العشرين ثلاث ساعات في الأعمال العقلية وساعتين في الأعمال العضلية، والأخير خاص بالشبان الذين يختصون بالأعمال العقلية والأدبية والعلمية والفنية، ولا بأس في تلك السن بتعليم الأحداث صناعة يدوية إذ إن جمهور الفسيولوجيين على أن مهارة اليد تعمل عملاً نافعاً في جلاء الفكر وتؤثر أحسن تأثير في قوة الإرادة، بيد أن العمل اليدوي يعدل من العمل العقلي بل يكون له عوناً على تربية الفتى تربية عملية نافعة ويتمكن من تحصيل معاشه على كل حال فيكون مثال الرجل الحر المستقل.
القاعدة الثالثة ـ ليكن جسمك طاهراً نظيفاً على الدوام ـ للجلد وظائف مهمة للصحة كالرئتين فإنهما للتنفس والكليتين لإفراز السموم التي تنبعث من حياة الخلايا المؤلفة منها حواسنا وأنسجتنا فالجلد كالرئة يتنفس ويرشح فبالعرق يفرز الجلد كما تفرز الكليتان مع البول مواد سامة وتنفع الكلى وبالرشح يتعدل مزاج الجسم لأن الرشح هو العامل الوحيد في تركيبنا لمقاومة الحرارة شأن آنية يبرد ما فيها بتبخر السائل الذي يرشح إلى سطح الطين ذي المسام، وإذ كان الجلد سطحاً واقياً من الوسط الخارجي والعوامل الطبيعية والجراثيم يجب أن يترك نظيفاً ليحفظ نعومته التي بها يقاوم المؤثرات الخارجية فالجلد الذي لا يعنى به يتخرق ولا يقاوم فعل البرد وتدخل فيه الجراثيم التي تعلق فوق سطحه، وتحسن حالة الجلد بالدلك والغسل وصب الماء الحار أو البارد على الجسم بحسب مزاج الإنسان والمواسم، وربما لا تطيق بعض الأجسام صب الماء عليها ففي هذه الحالة يجب الاعتياد على الدلك والغسل يومياً لأن ذلك شرط في تدبير صحة الجسم.(41/80)
القاعدة الرابعة ـ اقلل من طعامك إن خطر الإفراط في الأكل يضر بنا في الأغلب أكثر من التغذية القليلة فالطعام إذا كثر على المعدة وساء هضمه يوشك أن لا يستحيل بالهضم بدرجة كافية فتهيج به الأحشاء كما لو دخلت عليها مادة غريبة وتحدث ألماً في الأمعاء وإذا بلعت لا ينتفع بها إلا قليلاً أي لا تحترق إلا بعض الشيء في داخل الجسم وهذا مثل الموقدة التي يختل تصريفها للدخان تمتلئ بجميع الفضلات الناشئة من اختلال الوقود، فالحامض البولي وهو أخص هذه الفضلات يسمم الدم أو يهيج الأنسجة التي تحويه فيصبح الأكول إذ ذاك عرضة لوجع المفاصل وغيره من الأمراض، وتكون هذه العوارض على طول الزمن دائمية وقد كان يمكن زوالها وتبدو في شكل تكوين الحصاة أو وجع المفاصل والبول السكري.
فالإفراط في التغذية وعنه يحدث الاضطراب في الهضم يتبعه في الغالب تخمر خارق للعادة في الأحشاء وتنبعث منه سموم منوعة في قناتها ولا يأتي على هذه السموم المبتلعة إلا الكبد ولكنه إذا كثرت عليه وظيفته ينتهي به الأمر أن يتعب ويصبح غير كاف بعمله وعندها تحدث سلسلة من الاضطرابات التي تغير ميزانية الصحة والكفاءة للعمل.
القاعدة الخامسة اجعل الماء شرابك العادي الماء هو الشراب الطبيعي ينفع في الهضم وتنقية الدم، ولا شك أن الماء يحوي جراثيم مضرة وهذه الجراثيم لا تبيد كما يزعم بعضهم بإضافة شيء من الخمر إليها، فإذا اشتبه في الماء أو كان ثمة خطر من وباء ينتقل في الماء كالحمى التيفوئيدية والهواء الأصفر، يجب غلي ماء الشفة وماء الاغتسال ولا يصح أبداً على راووق (مصفاة الماء أو فيلتر) البيت لأنه يستلزم عناية كبرى لا تنهض بها إلا المعامل الكيماوية ويحتاج إلى التطهير والتعقيم مرة في الأسبوع على الأقل، والماء المغلي لا يسوء هضمه فلكي يجعل قابلاً للشرب يتحتم تبريده وتهويته ويكفي ترويقه بالنفوير، وإن الأشربة التي تؤخذ على الريق لا تبقى في المعدة بل تنساب في الحال إلى الحشا الذي يبتلعه حالاً فالأحسن إذن أن يشرب الماء في أول الطعام لا في أواخره وتبقى الأشربة التي لا تهضم في المعدة مع الغذاء ويحل العصارة المعدية ويبطئ عمل الهضم في المعدة.
القاعدة السادسة ـ امتنع من تناول الالكحول بتاتاً ليست الكحول غذاء بل هي سم قتال للخلايا العصبية ومروره على الكبد والكليتين يفسد عناصرها على صورة يتعذر الشفاء مما(41/81)
ينالها وإن جسماً يقوى بالكحول لقليل البقاء إذ يفقد أدوات دفاع الجراثيم الضارة عنه ويكون عرضة لعامة الأمراض الالتهابية التي تشتد عليه أكثر ممن يمتنع عن تناول المسكرات ثم إن أهم الأحشاء تصاب بتبلل يؤدي بها إلى العقر أو يصاب نسل أولئك السكيرين بتشويه في أجسامهم لا يبرؤون منه، فكما قالوا أن الكحول هي مقدمة لداء السل في شاربيها كذلك هي مدرجة للأمراض العضال في الكليتين والكبد وإذا ورث ابن السكير نقصاً في جسمه تبلغ به الحال أن يكون جانياً أو مجنوناً، وجميع ما يصاب به أولئك البائسون من تشويه الخلقة والهستيريا وضعف المجموع العصبي والصرع مما يقضون به حياة شقية ناشئ ولا جرم من تسميم دم أبيهم له وتوريثهم هذه الأوصاب.
أما سائر الأشربة المقوية كالقهوة والشاي فليس فيها من ضرر من هذا القبيل وعلى كل فلا بد من الاعتدال فيها وإلا فلا تلبث أن تضر بالأعضاء الهاضمة، ومن الآراء الخرافية ما هو شائع على الألسن من أن القهوة تساعد على الهضم.
القاعدة السابعة ـ إذا كنت تعمل بعضلاتك اعتمد في طعامك على البقول وأكثر من تناول السكر وإذا كنت تعمل بعقلك فاعتمد في تغذيتك على اللحوم يستلزم العمل بالعضلات طعاماً يكثر فيه الكربون إذ أن العضلات هي أدوات لإنتاج الحركة والقوة تسخن بالفحم فالبقول تحتوي على أطعمة كربونية والسكر هو فحم العضلات التي توقد منه وعلى العكس في الأعمال العقلية فإنها تصرف عناصر آزوتية لا يمكن التعويض عليه إلا بتناول مواد ألبومينية من اللحم، واللحم النيء يصلح ما يفقده مجموع الجسم من الآزوت أكثر مما يصلح اللحم المطبوخ.
القاعدة الثامنة ـ للوقاية من البرد أذكر أن قطعة من الورق تعادل معطفاً أو حراماً قد يحدث أن البرد يداهم المرأ على حين يكون بلا معطف ولا دثار ومعلوم أن ما يدفئ الجسم هو أن تجعل حوله طبقة من الهواء سخنة وهذا الغطاء يجب مضاعفته أو تقليله لأن الهواء كجميع الأغذية هو أسوأ موصل للحرارة ولذلك ليس من المهم أن تكون ألبسة المرء غليظة بل أن تكون كثيرة منضدة بعضها فوق بعض وفي هذه الحال ينتفع بقطعة من الورق كما ينتفع بثوب جيد بالنظر لقلة ثخانته إذ يجعل طبقة واقية من الهواء وإذا وضعت جريدة تحت الصدرة أو تحت الدثار تعادل بما تورث الجسم من الحرارة المعطف أو دثاراً ثانياً.(41/82)
القاعدة التاسعة ـ احذر البرودة (الرطوبة) أكثر مما تحذر البرد لا شك أن أخص وظيفة للثوب أن يقي من البرد ولكن الأمراض الناشئة من البرد نادرة جداً على حين أن الأمراض المنبعثة من البرودة شديدة وكثيرة فاقتضى أن تكون الثياب مانعة من التنقل الفجائي بين البرودة والحرارة أي من البرودة، والثوب الذي يقوم بهذه الغاية هو الصدرة من الفلانلا، ومعلوم أن الجسم المتصبب عرقاً معرض للبرودة بالترشح السريع من العرق، والفلانلا تمتص إفراز العرق عند حدوثه وتقف حاجزاً دون برودة الجلد ونتائجه المضرة ويكون ذلك في الصيف والشتاء على حد سواء ثم أن الفلانلا في الحقيقة أنفع في الصيف منها في الشتاء بالنظر لكثرة الرشح من البدن للحرارة الكثيرة وعلى من يلبس الفلانلا أن يعلم بأنه إذا أراد أن يحفظ لها تأثيرها أي خاصيتها في الامتصاص يجب عليه أن ينزع في الليل ما لبسه في النهار ويستعيض عنه قميصاً أخف منه، والمروحة على هذا الوجه بين قميص الليل وقميص النهار ضرورية لإبقاء صفات القماش عليه.
القاعدة العاشرة ـ اعمل بنشاط فالعمل من شروط الصحة ـ وذلك لأن الجسم الحيواني هو في الواقع آلة تخرج النشاط من طريق الحركة أو من طريق الفكر، ولذلك كانت الآلة التي لا تأتي بالعمل الذي خلقت له لا يتيسر بقاؤها والآلة التي لا تستعمل تصدأ والصدأ يسرع في تخريبها أكثر من الابتذال وهكذا فإن جسم الإنسان لا يستقيم شأنه إلا إذا استخدم فيما يراد منه، ويعرف الناس أمثلة كثيرة من أولئك الذين ينقطعون عن العمل قبل الأوان ويتقاعدون في بيوتهم فلا تلبث البطالة أن تؤدي بهم إلى الهرم فالموت، ومن قضي عليهم من الناس أن يمتازوا بمالهم من ثروة أن يعيشوا بدون أن يعملوا يشعرون مع هذا بالحاجة إلى العمل فيعمدون إلى الرياضات من ركوب الخيل والدراجات وغيرها مما هو في الحقيقة من الصنائع اليدوية يقوم بها أولئك الموهون بها.
القاعدة الحادية عشرة ـ إذا كنت تعمل بعقلك استرح بأن تعمل بيديك وإذا كنت تعمل بيديك استرح بالعمل بعقلك ـ لموازنة الصحة علاقة بتوازن القوة على العمل في التركيب الإنساني على اختلاف أعماله، فعلى المشتغل بعقله أن يجعل له من وقته حصة للاشتغال بالأمور الطبيعية وذلك بأن يخصص كل يوم ساعة أو ساعتين للمشي وعلى من يعمل الأعمال اليدوية أن ينقطع قليلاً للنظر في الأمور الذهنية فيجب عليه أن يخصص لها مثل(41/83)
هذا الوقت أيضاً، وهذا من الضروريات التي تضمن لمتعاطيها سهولة هذه التربية لمساس الحاجة إليها في نفع الصحة الطبيعية والأخلاقية.
القاعدة الثانية عشرة ـ اصرف الراحة الأسبوعية في الخلاء ـ تقضي دواعي المدنية على العاملين من كل طبقة سواء كانوا عاملين بعقولهم أو بأيديهم أن يعودوا من حين إلى آخر إلى الحالة الطبيعية التي يمثلها العيش في الخلاء، فالراحة الأسبوعية التي يمكن أن يقال عنها أنها قانون السلام تمكن صاحبها من الرجوع إلى الحالة الطبيعية على شرط أن لا يصرف المرء وقته في دور التمثيل ولا في الحانات بل يصرفه في تهوية الرئتين وتليين المفاصل وذلك بأن يعمد إلى الرياضات البدنية على أنواعها أيضاً كالمشي والركض والقفز والتزحلق على الجليد بحسب سنه وذوقه والفصل الذي يكون فيه من فصول السنة، ويستفيد النساء والفتيان ويلتذون بالألعاب في الهواء الطلق مثل لعبة التنيس وركب الزوارق والدراجات.
القاعدة الثالثة عشر ـ وتم ثماني ساعات ـ كان من قواعد تدبير الصحة في القديم أن لا يسمح للمرء بأن ينام أكثر من ست ساعات إلى سبع على أنه لا وجه للشبه بين ما يعمله أحد سكان مدينة آثينة في زمن أفلاطون أو أحد سكان رومية في عهد هوراس وبين ما يعمله رجل بيده أو بعقله في القرن العشرين، أما اليوم فإن العامل بذهنه أو ببدنه يقتضى له راحة أطول تعوض ما يتوفر عليه من شاق الأعمال ولا سيما في الأطفال والفتيان ممن لا يتم نموهم في الحقيقة إلى نحو الخامسة والعشرين من أعمارهم، ولا يتوهمن منوهم أن إطالة الليل في النوم يستلزم تقصير النهار فليس السر في عدد ساعات العمل بل في الصورة التي تستعمل فيها فيتهيأ الفكر بعد الراحة المعوضة إلى العمل والحركات تكون دقيقة وسريعة والآراء سليمة واضحة والعمل يتم على وجه أسرع وأحسن، وماذا يفيد طول مقام المرء في مكتبه أو معمله إذا كان يقضيها وهو ساهٍ أو كالحيوان المخدر.
القاعدة الرابعة عشر ـ لا تدخن ولا تمضغ التبغ ـ التبغ من النباتات المخدرة للشعور المادي وتسلي أكدار الحياة تسلية موقتة وبذلك يتوهم بعض المشتغلين بالأعمال العقلية أن ينشطهم ويبعثهم على العمل على أنه يأتي على شعور المصاعب ويتغلب عليها ويلقي حجاباً على الحقيقة ولا يقف تأثيره في الدماغ فقط بل يتناول الأعصاب لأن التبغ سم(41/84)
الأعصاب وهناك عصب يتأثر أكثر من غيره ونعني به القلب وما هو الأعصب من الأعصاب.
وأن المولعين بالرياضيات والعدو والصراع وركوب الدراجات والقوراب ليحسنون صنعاً إذا طرحوا عادة التبغ لأنه بفعل ما يعانون من أنواع الرياضات، فيساق المرء بنابل من العادة وقد يتعودها بصعوبة بادئ بدءٍ بحيث يحتاج معها إلى إرادة قوية تتغلب على كراهة طعم التدخين حتى إذا ألفه يضر الذهن ولا سيما في الخلق.
لا شك أن التبغ يثلم الشعور الطبيعي والإحساس الأدبي فيقلل من الضجر والوسواس ويمنع الوجدان الأدبي من الانبعاث، ومن الصعب أن يحكم على مستعمل التبغ بأن له وجداناً طاهراً سليماً وقوة إرادة.
القاعدة الخامسة عشر ـ يجب الرفق بالأم وهي حامل ـ تراعى المرأة الحاملة أنوع المراعاة فمنذ تحمل تتجه أعضاؤها كلها إلى تكوين طفلها وكل ما يضر بصحتها يلحق منه ضرر على الرحم ويصده عن نموه العادي وقد تكون الهموم والأحزان والإفراط في التعب أصل المشوهات الطبيعية والعقلية التي تنال الطفل منذ ولادته وتعذبه طول حياته، فالواجب إذاً أن يمنع عن المرأة في خلال حملها كل ما يضر بخلقها ويغير صحتها الأم شخص مقدس تحمل في أحشائها مستقبل الإنسانية ورقيها ومتى كان حملها عادياً يتيسر لها أن تعمل بعض الأعمال غير المتعبة إلى آخر الأيام التي تسبق الوضع، وأن ما ينبغي التوقي منه كثيراً معاودتها العمل بعد الوضح حالاً فقلة الراحة بعد الولادة تضر بحواسها الباطنة فينشأ عنها اضطرابات تضعفها مدة حياتها وتضر بها في حملها بعد ذلك فيلزم للنفساء راحة تامة لا تقل مدتها عن خمسة عشر يوماً ثم تعاود العمل بالتدريج.
القاعدة السادسة عشر ـ لبن الأم خاص بابنها ـ إذا كانت الأم ممتعة بصحتها يجب عليها أن ترضع ابنها فلا شيء أنفع له من لبنها كما أن أعضاء المرضع تضمن صحة الأم لأن الرضاع طبيعي لها ولذلك كانت كل امرأة لا ترضع طفلها نصف أم لا أماً كاملة، فإذا عهدت بابنها إلى مرضع تجهل أو تتساهل أموراً كثيرة تجب العناية بها لحفظ صحة طفلها ولا ينتبه له ويهتم له اهتمامها غيرها ثم أنها تكون في تلك الحال سبباً لإهمال طفل آخر وهو ابن المرضع، وأن طفلاً ترضعه ربيبة لهو طفل آخر ربي على الابريق ذي زمولة(41/85)
(مصاصة) والطفل الذي ترضعه غير أمه تكون أمه قد أرضعت الاثنين رضاعاً غير طبيعي والطفل الذي يرضع من غير ثدي أمه بعيداً عنها يوشك في الغالب أن يموت في سنته الأولى فالأم التي يتيسر لها إرضاع ابنها بذاتها وتدفعه إلى مرضع تكفله لها تحت نظرها هي مسؤولة عن هذا الإهمال جملة، والأم التي تبعث بابنها إلى المرضع بدون ضرورة تجرم جرمين اثنين وقد تهلك ابنها بصنعها.
القاعدة السابعة عشرة ـ عليك أن تزن أولادك ـ بنمو الطفل كثيراً فإذا كانت صحته جيدة يزيد وزنه على الدوام فوزنه المرة بعد المرة أحسن واسطة لإثبات جودة صحته، فالميزان هو ميزان حرارة الصحة ومعدل زيادة الطفل الجيد الصحة والتغذية هو أن يزيد في الشهر الأول 25 غراماً وفي الثاني 23 وفي الثالث 22 وفي الرابع 20 وفي الخامس 18 وفي السادس 17 وفي السابع 15 وفي الثامن 13 وفي التاسع 12 وفي العاشر 10 وفي الحادي عشر 8 وفي الثاني عشر 7، ويجب أن لا تمضي ثلاثة أشهر إلا ويوزن الأولاد والفتيان على اختلاف أعمارهم لأن من الأمراض ما يتهددهم في المدن الكبرى مثل السل وكثيراً ما يكتفي لحسم الداء أن يعطى المريض راحة وتغذية مناسبة.
القاعدة الثامنة عشرة ـ يجب لك أن تجعل أولادك المرضى بمعزل عن الأصحاء حتى لا ينقلوا إليهم المرض ـ تكاد تكون جميع أمراض الأولاد أمراضاً معدية كالحميراء والحمى الحصبية والجدري وانتفاخ لوزتي الأذنين والخناق وتكاد تبدأ كلها باضطرابات يظن أنها زكام خفيف وهي نزلة أو التهاب في الحلق والحنجرة ومجاري الأذن، فإذا ظهر بعض هذا فعلى الأبوين في الحال أن يعزلوا أولادهم وأن لا يبعثوا بهم إلى المدرسة أو إلى أي اجتماع كان وأن يفردوهم وحدهم في الدار، وكم من أناس عدوا بأولادهم المرضى أولاد غيرهم فكانوا بأخذهم المرض من أولادهم قبل أن ينتهوا سبباً لسريان الأمراض التي تصبح أوبئة عامة بعد أن كانت مقصورة على بعض الأفراد.
القاعدة التاسعة عشرة ـ لا تسمح بأن يتعانق الأولاد ـ ليس للأولاد ميل طبيعي لأن يتعانقوا والأبوان هما اللذان يريدانهم على العناق ويسوقانهم إلى هذه العادة فتقبيل الأولاد بعضهم بعضاً يحوي مضرات كثيرة بأن ينقل الأمراض السارية وتكون تلك لقاحاً وأي لقاح لسريانها، وقد تقدم أن أكثر الأمراض في الغالب نزلات ووجع في الحنجرة والأنف(41/86)
والأذن كالحمراء والحمى الحصبية والسعال والحمى ذات البثور وأن الخناق (الدفثيريا) ينتقل بواسطة اللعاب عادة وعليه فإن التقبيل من العادات الضارة وكم من الأطفال هلكوا به.
القاعدة العشرون ـ كل مسكن سليم نافع للصحة إذا استطاعت الشمس أن تدخل إليه والهواء أن يخرج منه ـ كما أن البيوت تحصر الناس في بقعة من سطح الأرض فهي تقيهم تبدلات الجو والبرد والهواء والمطر والحرارة فالواجب أن يدخل إليها الهواء والنور فإن الهواء البليل الصافي الذي لم يستنشق ولم تمازجه غازات الوقود من المواقد والمصابيح ولم تشبه شائبة هو من أنفع الأشياء للكبد والتنفس بل هو غذاء الحياة.
فغرف العمل أو النوم على حجمها إذا لم يتخللها الهواء على الدوام تفسد بأنفاس السكان وغازات الوقود والاستصباح فمن اللازم اللازب أن يتخلل الهواء أي يتجدد على الدوام ويكفي في الصيف فتح الأبواب والنوافذ وفي الشتاء يخشى بعض الناس من البرد فلا يتركون الهواء يتخلل الأمكنة فينشأ من ذلك اختناق بطيء ولكنه خطر إن لم يقرب الموت العاجل يهيء السبيل إلى عدة أمراض ولا سيما السل.
وبعد فيجب استنشاق الهواء بليلاً أو بارداً ولذلك كانت الآلة ناقلة الحرارة التي تدفئ الهواء من أبشع وسائط التدفئة على حين أن الموقدة التي تدفئ ببروز الأشعة وتجلب هواء من الخارج أحسن الوسائط المنطبقة على حفظ الصحة والمواقد ذات الحرارة البطيئة خطرة فيجب الامتناع من استعمالها، وليست الشمس أقل لزوماً للصحة من دخول الهواء النقي وما شعاع الشمس إلا باعثة للقوة في الجلد وتغذية الأنسجة والنباتات التي لا تصيبها الشمس تذبل وتفقد ألوانها وتصبح بشعة المنظر ولا تلبث أن تموت وكذلك الحال في الحيوان والإنسان وكما تفيد أشعة الشمس النباتات والحيوانات تضر بالنباتات الطفيلية والعفن والجراثيم التي هي واسطة جميع الأمراض وذريعة إلى سريان العدوى وبفضل الشمس ننجو من الجراثيم الضارة العابثة بجسومنا وحيث تدخل الشمس لا يدخل المرض والتعرض للهواء والشمس هما من في الحياة.
القاعدة الحادية والعشرون ـ يجب التوقي من الغبار بالرش لا بالكنس بالقمة (المقشة) من ريش ـ الغبار مضر جداً وذلك لاحتوائه على ذرات كثيرة كلسية وآلية وصوانية تهيج(41/87)
الغشاء التنفسي وتؤذيه وتدعو إلى عدة أمراض كالنزلات والدفثيريا وجزء من الغبار مؤلف من براز المصابين بالأمراض فتسطو هذه الذرات على الأغشية المخاطية وتلقحها وتجرحها، فمن أهم قواعد الصحة في البيوت أن يمنع عنها الغبار لا بكنسه بمكنسة أو مقمة فإن ذلك الحال ترك الغبار متراكماً في الدار دون أن يمس لأن ضرره يكون واقفاً ولو موقتاً من إثارته على تلك الصورة، ولذا اقتضى أن لا يكنس وينفض بدون ماء وأن يزال الغبار بمناشف ندية أو فرشايات ومكانس ندية، ويجب جمع الغبار لإبادته لا إثارته لينتقل إلى الجيران.
القاعدة الثانية والعشرون ـ لا تستعمل الستور والبسط والأثاث المزين بالرفارف ـ وذلك لأنها مانعة من نفوذ الهواء والنور مستنبت للغبار وقد لا تتمكن ربة البيت من نفضها وتهويتها وكذلك الورق الملون الذي يجعل على الجدران فإنه عش الجراثيم الضارة وأحسن المساكن التي يصفها رجال الصحة ما كان منها مصقولاً مدهوناً قابلاً للغسل وأحسن الغرف ما كانت مدففة أو مبلطة وأن يكون أثاثها عبارة عن خشب وجلد لا من قطيفة ومخمل وبسط ورب سجادة حوت من الجراثيم بالغبار الذي عليها ما لا يوجد أضر منه في الشارع نفسه.
القاعدة الثالثة والعشرون ـ لا تتسامح بدخول الحشرات إلى منزلك ـ الهوام وسائط لنقل الأمراض السارية وتلقيحها فالذباب يقع على القاذورات فإذا كانت قاذورات حميات تيفوئيدية أو وباء (كوليرا) أو سل تنقل أجزاءها في أرجلها إلى الطعام والثياب وأغشية من تقع عليهم بعد، والبعوض ينقل في البلاد ذات المستنقعات حيث تشتد الحميات جراثيم من تقرحهم ممن يكونون مصابين بالحمى وتلقح بها غيرهم من الأصحاء، والبق والبراغيث تفعل بقرصها فعل البعوض بقرصه بالبق تنقل جراثيم حمى التيفوس والتيفوئيد ويخشى أن يكون ناقلاً للسرطان والجذام ومن المحقق أن البراغيث هي التي تلقح جراثيم الطاعون وتنقلها من الجرذان إلى الإنسان، ولا تخلو من أن تنقل جراثيم الحمى التيفوئيدية والسل.
وأقرب الطرق إلى النجاة من هذه الهوام أن يجعل شيء من روح الصمغ على سطح القاذورات في المراحيض وأن تصب كمية من البترول على المياه الراكدة فتموت الهوام الناقلة كالبعوض وغيره وأن تستر النوافذ في الليل بستائر من السلك الرفيع لتمنع البعوض(41/88)
من الدخول وقرص الساكنين وهم نيام وصب شيء من البترول على المحال التي يعيش فيها البق أنفع واسطة للخلاص منه كما أن الماء أنفع ذريعة للنجاة من البراغيث وغسل الحيوانات الأهلية على الدوام حتى لا تنقل البراغيث إلى القائمين على تربيتها.
القاعدة الرابعة والعشرون ـ اجعل الحيوانات الأهلية في اصطبل ـ ليست الدار نادي الحيوانات الأهلية كالقطط والكلاب والطيور فإن إيواءها في الدور مضر وناقل للأمراض ولا سيما للسل والسرطان فالكلب مصاب بالسل غالباً والهر بالسرطان والببغاء ذكورها وإناثها بالتهاب ذات الرئة بل أن الكلب والهر واسطتان لنقل الحميات ذات البثور كالجدري والقرمزية والحميراء والدفثيريا وأورام الجلد وغيرها من الأمراض المعدية ثم أن الكلب يلعق كل ما يقع أمام عينيه وقد يدلله صاحبه وما أنه يدري ينقل الكلب إن لم نقل مرضاً آخر دع عنك ريشه فإنه مستويل الجراثيم ينقلها من السقيم إلى السليم وعليه فالقطط والكلاب الأهلية هي خطر دائم على الصحة العامة.
القاعدة الخامسة والعشرون ـ اعن بنظافة الشارع كما تعنى بنظافة مسكنك ـ نقضي شطراً من حياتنا في الشوارع ولذلك وجب علينا أن نطهرها من الأدناس والأرجاس على أننا نطرح فيها بدون مبالاة الغبار والأوساخ وننفض فيها البسط ومماسح الأرجل وما الكناس إلا واسطة لنقل باسيل الأمراض وهناك قاذورات الكلاب وأخيل وهي سبب لعدة نزلات أذنية وحلقية وكل ذلك مما يبتلع منه ساكن المدن كمية غير قليلة فلو جمع غبار المساكن بوسائط ندية أو أحرقت في النار أو وضعت في ماءٍ يغلي وإذا امتنع المرضى عن البصاق في الشارع ولم يكنس الكناسون إلا بعد الرش كما في بعض البلاد المتمدنة لما أصبح الشارع كما هو الآن مستوبل الأمراض ومحلاً أضر من غرفة في مستشفى.
القاعدة السادسة والعشرون ـ إذا بصقت على الأرض فكأنك تبصق على جارك ـ يجب الامتناع عن البصاق في الشارع والمحال العامة والدار وذلك لأن بصاق الرجل السليم من العادات المخالفة للقواعد الفسيولوجية فالواجب نزع هذه العادة أما المسلول فإنه ببصاقه ينقل عدواه في الحال إلى غيره وذلك إذا بصق في الشارع لا تلبث بصقته أن تجف فتتطاير في الهواء ميكروباتها فعليه أن لا يبصق حتى في منديل لأنه كلما أخرجه من جيبه يقذف جراثيمه على من أمامه بل عليه أن يستعمل مبصقة يضعها في جيبه هذا هو من(41/89)
الفروض الاجتماعية ومن أوائل قواعد التضامن فمن كان به مرض ولم يستعمل هذه الطريقة فهو مرتكب جناية لا محالة.
القاعدة السابعة والعشرون ـ إذا كان بك مرض خذ الاحتياطات بذاتك أو بالواسطة لئلا تنقل العدوى إلى من حولك تكاد تكون جميع الأمراض الحادة وكثير من الأمراض المزمنة من الأمراض السارية فإذا رأى كل مريض من واجبه وقاية جاره من نقل جراثيم مرضه إليه لا تلبث معظم الأمراض السارية أن تضمحل، وما من قانون صحي عام ينفع في هذا السبيل بقدر ما تنفع عناية كل فرد على حدته بصحة من حوله وكل ما تقوم به البلديات من أسباب التطهير قليل جداً في جانب الوقاية التي يجب على المرء نفسه أن يتخذها وكثير من أرباب الأسرات يصابون بمرض سار فيعدون به أولادهم وأزواجهم ومن حولهم بتسامحهم وعدم اتخاذهم الاحتياطات الصحية فيقتلونهم بأيديهم جهلاً وغباوة ومن نظر في تاريخ البيوت يدرك أن الأولاد لا يصابون بالتهاب ام الدماغ إلا بتساهل آبائهم فالواجب على الريض أن يسأل الطبيب عن أسباب الوقاية التي يتحتم عليه اتخاذها ويطبقها على نفسه بالفعل.
وأنت يا هذا إذا أصبت ذات يوم بمرض فلا تحمل اللوم على قواعد حفظ الصحة وقلة غنائها ولا على ضعف العلم بل إن الذنب في ذلك على أجدادك ومواطنيك.(41/90)
رحلة إلى جبل قلمون
يعد جبل قلمون بين جبال سورية من أحسنها ماءً وهواءً وإنباتاً ومع هذا لم يشتهر اشتهار جبال لبنان وحرمون والكليبة واللكام على قربه من دمشق قاعدة بلاد الشام، وكان يقال له في القديم جبل سنير وبذلك عرفه الجغرافيون والمؤرخون والشعراء، قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك وهو مما ألف منذ نحو ألف سنة أن كورة دمشق وأقاليمها سهل الغوطة إقليم سنير مدينة بعلبك البقاع إقليم لبنان كورة جدنية كورة اطرابلس كورة جبيل بيروت صيدا البثينة كورة حوران كورة الجولان وظاهر البلقا وحوالي الغور وكورة ناب وكورة جبال وكورة الشرا وبصرى وعمان والجابية، فإقليم سنير هو من أقرب الأعمال إلى دمشق ولم نظفر له بتحديد أجمع من تحديد ياقوت في معجم البلدان، قال أن سنير بفتح أوله وكسر ثانيه ثم ياء معجمة باثنتين من تحت جبل بين حمص وبعلبك على الطريق وعلى رأسه قلعة سنير وهو الجبل الذي فيه المناخ يمتد غرباً إلى بعلبك ويمتد مشرقاً إلى القريتين وسليمية وهو في شرقي حماة وجبل الجليل مقابله من جهة الساحل وبينهما الفضاء الواسع الذي فيه حمص وحماة وبلاد كثيرة، وهذا جبل كورة قصبها حوارين وهي القريتين ويتصل بلبنان متيامنا حتى يلتحق ببلاد الخزر ويمتد متياسراً إلى المدينة وسنير الذي ذكر أنه بين حمص وبعلبك شعبة منه إلا أنه انفرد بهذا الاسم وقد ذكره عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي فقال من قصيدة:
أسيم ركابي في بلاد غريبة ... من العيس لم يسرح بهمه بعير
فقد جهلت حتى أراد خبيرها ... بوادي القطين أن يلوح سنير
وكم طلبت ماء الاحص بآمد ... وذلك ظلم للرجال كبير
وقال البحتري:
وتعمدت أن تظل ركابي ... بين لبنان طلعاً والسنير
انتهى كلام ياقوت جاء في أبي الفداء أن الجبل الشرقي الممتد شمالي الشام كان يدعى سنير في عهده وقد ورد سنير في التوراة فقال الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس: سنير (درع أو شلالة) اسم قسم من جبل الشيخ (حرمون) (1 أي 5: 23) 27: 5 (وقال ياقوت في القلمون أنه بفتح أوله وثانيه بوزن قربوس وهو فعلول قال الفراء وهو اسم وأنشد:
بنفسي حاضر بجنوب حوضي ... وأبيات على القلمون جون(41/91)
ومن القلمون الذي بدمشق بحتري بن عبيد الله بن سلمان الطابخي الكلبي من أهل القلمون من قرية الأفاعي وقال في القاموس قلمون محركة موضع بدمشق، التاج أن القلمون رومية وحروفها أصلية، وكلمة قالا بالرومية طيب ولعله الجبل الطيب أو نحو ذلك وحوارين التي قال عنها ياقوت أنها القريتين هي قصبة جبل سنير وهي كما قال في مكان آخر حصن من ناحية حمص قال بعضهم:
يا ليلة بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير
وقال أحمد بن جابر مر خالد بن الوليد في مسيره من العراف إلى الشام بتدمر والقريتين ثم أتى حوارين من سنير فاغار على مواشي أهلها فقاتلوه وقد جاءهم مدد من أهل بعلبك ثم أتى مرج راهط وفي كتاب الفتوح لأبي حذيفة اسحاق بن بشير وسار خالد بن الوليد من تدمر حتى مر بالقريتين وهي التي تدعى حوارين وهي من تدمر على مرحلتين وبها مات يزيد بن معاوية في سنة 64 قال الراعي:
أنحن بحوارين في مشمخرة=بيت ضباب من فوقها وثلوج
وقال أيضاً والقريتان قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية بينها وبين سخنة وأرك أهلها كلهم نصارى وقال أبو حذيفة في فتوح الشام وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه من تدمر إلى القريتين وهي التي تدعى حوارين وبينها وبين تدمر مرحلتان وإياها عنى ابن قيس الرقيات بقوله:
وسرت بغلتي إليك من الشا ... م وحوران دونها والعوير
وسواء وقريتان وعين ال ... تمر حزن بكل فيه البعير
فاستقت من سجاله بسجال ... ليس فيه منّ ولا تكدير
وقد سألنا العارفين فأكدوا لنا أن حوارين بعيدة عن القريتين بنحو ثلاث ساعات وآثارها بادية إلى الآن وما نظن أنها كانت قصبة جبل سنير فيما مضى إلا في أمورها الإدارية كما نرى اليوم قسماً من جبل قلمون تابع لقضاء دومة الشام والقسم الآخر هو الأعظم تابع لقضاء النبك وقسم منه تابع لحمص ويقول الخبيرون من أهل هذا الجبل اليوم أن جبل قلمون يمتد من الدريج إلى البريج وهو تحديد معقول جداً لأنك ترى في الدريج وهي مزرعة في رأس جبل قرب عين الصاحب بين معربا وحلبون سلسلة جبال جديدة تكاد(41/92)
تكون منفصلة بعضها عن بعض وفي البريج وهي على نحو ثلاث ساعات من قارة للقاصد إلى حمص ويمتد شمالاً إلى الجرود على بضع ساعات من بعلبك وجنوباً إلى البرية وتجتاز المسافة من الجنوب إلى الشمال لراكب المطايا في يوم كما يقطع طول الجبل من غربه إلى شرقه في يومين، وأوصل بعضهم طول الجبل إلى وادي القرن قرب البقاع، ويدل على أن آخر حدود الجبل هو في البريج من ناحية حمص ما قاله الاصطخري من أن الطريق من حمص إلى دمشق هو عشر فراسخ من حمص إلى جوسية ثم إلى قارا ثلاثون ميلاً ثم إلى النبك اثنا عشر ميلاً ثم إلى القطيفة عشرون ميلاً ثم إلى دمشق أربعة وعشرون ميلاً، وجوسية كما في المعجم قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق بين جبل لبنان وجبل سنير فيها عيون تسقي أكثر ضياعها سيما وهي كورة من كور حمص.
ونقل الدكتور فانديك في المرآة الموضية نقلاً عن أبي الفداء أنه قال أن سنير هو جبل الشيخ أو قسم منه ولذلك رأينا فانديك في جغرافيته يذكر بعض أمهات قرى جبل قلمون أو سنير بحسب المقاطعات التي كان معروفاً بها عند الحكومة على عهد تأليفه ولم يذكر أنها من أعمال جبل مشهور فقال: وإلى الشمال من دمشق مقاطعة يقال لها جبة عسال نسبة إلى مكان يقال له عسال الورد لكثرة الورد الذي فيه ومن أشهر قراها صيدنايا وفيها دير لراهبات طائفة الروم وإلى الشمال الشرقي مقاطعة معلولا نسبة إلى قرية فيها حصينة مبنية على قمة هناك لا يسلك إليها إلا من مضيق مستوعر وفيها دير عظيم لطائفة الروم وقد حدث في سنة 1850 للمسيح أن أمراء بني الحرفوش أصحاب بعلبك تحصنوا بها بعد وقعة جرت لهم مع أجناد دمشق فهجم عليهم عسكر الدولة إلى معلولا بوسيلة من بعض أهلها فقتلوا بعضهم وأسروا بعضاً ونهبوا القرية والدير وحول معلولا عدة من القرى كعين التينة وبخعة وغيرهما ولم يزل أهل تلك النواحي يتكلمون باللغة السريانية لكنها محرفة كثيراً عن أصلها كعربية العامة في هذه الأيام وإلى الشمال الشرقي من معلولا مقاطعة يبرود نسبة إلى قرية كبيرة فيها بعض آثار قديمة وفي جوارها رأس العين ومعرة باش كردي وفليطا وسحل والقسطل وإلى الشمال الشرقي من القسطل النبك وما بين النبك والغوطة يسمى الأرض التحتية وهذه الأرض يمر الطريق من دمشق إلى بغداد وفي جوار(41/93)
النبك قارة وهما أعدل مكانين في تلك الديار حتى يضرب المثل بجودة هوائهما ومائهما وقد لهجت بهما الشعراء كثيراً قال بعضهم:
إذا هاجت الرمضاء ذكراك بردت ... حشاي كأني بين قارة والنبك
وإلى الشمال الشرقي من النبك دير عطية وقال الحافظ أبو القاسم ومعلولا إقليم من نواحي دمشق له قرى وقال ياقوت في منين: قرية في جبل سنير من أعمال الشام وقيل من أعمال دمشق منها الشيخ صالح أبو بكر محمد بن رزق الله بن عبيد الله قال ياقوت وكان من ثقات المسلمين ولم يكن بالشام من يكنى بأبي بكر غيره خوفاً من المصريين (الشيعة) توفي سنة 426.
فاهم بلاد الجبل يبرود وكانت هي والنبك من أمهات بعد مملكة صوبه أو صوباالقديمة وهذه المملكة كانت في شمالي سورية تمتد من شمالي لبنان الشرقي نحو حمص وحماة وحلب وهي قاعدة لجبل ولا يقل سكانها عن عشرة آلاف ثلثهم مسيحيون والثلثان مسلمون وتكاد تكون أشبه بالمدن منها بالقرى لتوفر مرافق الحياة فيها وكثرة سكانها صلاتهم التجارية مع دمشق وبيروت وحمص وحماة وبعلبك ولوفرة المهاجرين منها إلى أميركا ويبلغ عددهم نحو ألف رجل ومنهم الذين اغتنوا وفي يبرود عدة مدارس للمسيحيين على اختلاف مذاهبهم منها مدرسة للروم والكاثوليك أنشأها أحد أحبارهم منذ زهاء عشر سنين فوهبها ثلثمائة ليرة من ماله وفرض على أبناء طائفته أن يشتغلوا فيها بأيديهم أيام الآحاد والأعياد فجاءت مدرسة كلفت زهاء ألف وخمسمائة ليرة وقد اشتغل بعضهم بنقل التراب وآخر يجلب الحجر وغيره بالبناء، وبأمثال هذه المدارس أصبح المسيحيون أرقى من جيرانهم المسلمين لأن الأول يتعلمون والآخرين مهملون وكانت الحكومة البائدة تزيدهم خبالاً إلى خبالهم وليس لهم من أهل الرأي والعلم من يشفق عليهم ويسعى إلى ترقيتهم ترقية حقيقية كما هو حال مواطنيهم.
أقول هذا ولا نكران للحق أن ارتقاء المسيحيين عن المسلمين ماثل على أشد صوره في هذا الجبل وكيف لا يكون كذلك والارساليات الدينية من الروس والانكليز والفرنسيس لم تكد تترك قرية إلا وأقامت فيها مدرسة لتثقيف عقول أبنائها على مناحيها بل أن جمع دينية أقامت لها مستشفى في دير عطية البلد الثاني في الجبل بكثرة سكانه واستئجار عمرانه.(41/94)
ودير عطية هذه هي والنبك (مركز حكومة القضاء) في وادٍ كان يعرف قديماً بذات الذخائر أو وادي الذخائر قال ياقوت والنبك قرية مليحة بذات الذخائر بين حمص ودمشق فيها عين باردة في الصيف طيب عذبة يقولون مخرجها من يبرود وقال الزاجر:
أنّى بك اليوم وأنّى منك=ركباً أناخوا موهناً بالنبك
واطلعت في دير عطية على حجة وقف نقلت حوالي الألف عن حجة كتبت سنة ثمان وسبعمائة للهجرة محفوظة عند كفيف من أهلها اسمه الشيخ عبد القادر الناظر جاء فيها أن الست الجليلة صالحة خاتون ابنة الأمير الكبير صلاح الدين بن بهلوان ابن الأمير الكبير شمس الدين الأكري الآمدي وقفت وحبست وأبدت في صحة منها وسلامة وجواز أمرها جميع الضياع الخمس المتلاصقات المعروفات بوادي الذخائر عمل دمشق المحروسة وتعرف إحداهن بالبويضا والثانية بابريصا والثالثة بالميرا والرابعة بدير عطية والخامسة بالحمرا وقد صدقت على هذه الوقفية محكمة قارة ولا يعرف اليوم من هذه القرى غير دير عطية والحميرة وفي دير عطية مدرسة للعلوم الدينية واللسانية أنشأها الشيخ عبد القادر القصاب الأزهري الديرعطاني فنتجت منها فوائد جليلة وفيها الآن نحو 50 طالباً وقد تعلم بعض الطلبة فأبانوا عن كفاءة فيما أخذوا لنفسهم بتعلمه.
ومن أهم قرى قلمون الرحيبة وجيرود وعلى مقربة من هذا البلد مملحة دائرة محيطها اثنا عشر ميلاً وهي في سهل منبسط ينحدر إليه ماء المطر من ويجتمع على علو يختلف بين 30 و 100 سنتمتر وفي أوائل شهر أيار يتحول ذاك الماء ملحاً أبيض نقياً مراً وهذان البلدان من قلمون التحتاني وفيه أيضاً الضمير وفيها عين كبريتية ينفع الاستحمام بها المصابين بالأمراض الجلدية وأرض هذه القرية أو البلد الحارة تبلغ غلاتها قبل سائر قرى الجبل حتى أن الشعير ليحصد فيها في شهر نيسان ويحمل إلى عسال في جرود الجبل الباردة ويزرع في الحال فيحصد في تموز وهذا من أعجب ما يكون في إقليم واحد والمسافة بين الضمير والجرد نحو عشر ساعات.
قال في المعجم ضمير بالتصغير موضع قرب دمشق قيل هو قرية وحصن في آخر حدود دمشق مما يلي السماوة قال عبيد الله بن قيس الرقيات:
أقفرت منهم الفراديس فالغو ... طة ذات القرى وذات الظلال(41/95)
فضمير فالماطرون فحورا ... ن قفار بسابس الأطلال
نصب الماطرون على أن نونه للجمع وهذه المواضع كلها بدمشق، وقال المتنبي:
لئن تركنا ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
وقال الفرزدق يرثي عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي وكان قد مات بضمير من دمشق:
يامعشر الناس لا تبكوا على أحد ... بعد الذي بضمير وافق القدرا
ما مات مثل أبي حفص لملحمة ... ولا لطالب معروف إذا افتقرا
منهن أيام صدق قد منيت لها ... أيام فارس فالأيام من هجرا
يعني قتاله لأبي فديك الحروري
ومن أهم قرى قلمون التعتاني القطيفة وهي مركز مدير ناحية تابعة للنبك جاء في المعجم أنها قرية دون ثنية العقاب للقاصد إلى دمشق في طرف البرية من ناحية حمص وتنية العقاب هي ثنية مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد دمشق إلى حمص قال أهل السير أن خالد بن الوليد سار من العراق حتى أتى مرج راهط فاغار على غسان في يوم فصحهم ثم سار إلى الثنية التي تعرف بثنية العقاب المطلة على دمشق فوقف عليها ساعة ناشراً رايته وهي راية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تسمى العقاب علماً لها.
ومن قرى الجبل البديعة قرية معلولا يدخل إليها من الشمال من فج طبيعي في الجبل وهي حصينة منيعة ويؤكد بعض العارفين أنها هي مدينة سيلفكيا بعينها إحدى أمهات مملكة سلوقس أحد خلفاء الاسكندر الأربعة الذين اقتسموا مملكته بينهم بعد وفاته فانتشبت الحرب عام 301 ق. م ودارت الدائرة على الملك انثيوغولس وابنه ديمتريوس فاقتسم إذ ذاك قواد الاسكندر مملكته إلى أربع ممالك الأولى مصر أخذها بطليموس سوتير مع العرب وجزء من بر الشام أي فلسطين والثانية مكدونية وبلاد اليونان أخذها كاساندر والثالثة ثرافيا وببسينا وبعض أطراف آسيا الصغرى أخذها ليسيماوس والرابعة بقية الممالك من البحر الأسود إلى نهر لاندوس في الهند أخذها سلوقس وسميت مملكة سورية ومن أشهر مدنها أنطاكية وسلوسية واناحية واللاذقية، ولا يزال إلى اليوم يعثر في بيادرها على آثار تدل على عمرانها القديم الفخيم، وأهلها وهم نحو ثلاثة آلاف يتكلمون بالسريانية المحرفة كما تقدم وفي جوار معلولا نجعا وجبعدين وأهلها أيضاً يتكلمون بهذه اللغة كما أن أهل قلدون(41/96)
يتكلمون بالتركية المحرفة قليلاً ويقال أن أصلهم من التركمان نزلوا هذه القرية منذ سنين واختلطوا بأهل الجبل، وكان بالقرب من قلدون ثلاث مزارع يتكلم أهلها بالتركية أيضاً وهي دنحا وخربوشة والكنيسة إلا أنها دثرت، وعلى مقربة من معلولا قرية عين التينة وكان أهلها كما يقول جيرانهم المسيحيون نصارى يعافبة دانوا كلهم بالإسلام منذ زهاء قرنين وقلبوا الأوضاع المسيحية بأوضاع إسلامية حتى لقم يطلقون على بيت الخوري بيت الحوري بالإهمال وفي هذه القرية شجر الفستق القديم ولا يزال ينقرض لأن أهلها لا يجددون غرسه وهذه القرية هي الوحيدة في قرى ولاية سورية التي تخرج الفستق وهو من أحسن الأنواع لا يكاد يضاهيه بجودته فستق روم قلعة من أعمال حلب.
طفت هذا الشهر أمهات قرى قلمون وكنت زرتها منذ عشر سنين فرأيت عليها مسحة من الارتقاء أتتها في الغالب من المال الذي جناه من أميركا المهاجرون من القلمونيين ففي قرية معرة صيدنايا وصيدنايا ويبرود ودير عطية مثلاً بيوت جميلة أقيمت بالحجر الصلد النحيت مثل بيوت لبنان الجديدة ومن البيوت ما كلفت ألفي ليرة وربما أكثر أما سائر معالم الجبل فظلت على حالها أو ارتقت بعض الشيء بطبيعة الزمن، وقد اشترك في الهجرة إلى أميركا سكان الجبل من المسلمين والمسيحيين إلا أن عدد هؤلاء أكثر والناجحين منهم أوفر ويقدرون عدد المهاجرين من الجبل بنحو أربعة آلاف رجل نجح منهم في الأكثر من اعتادوا شظف العيش مثل مهاجري دير عطية والنبك وصيدنايا والمعرة ومعلولا وقارة أما المترفون أو الذين اعتادوا الترف قليلاً فأخفق سعيهم وانقطعوا أو كادوا لقلة ذات أيديهم، ولا يعلم على وجه الصحة ما يبعث به المهاجرون القلمونيون من النقود كل سنة إذ ليس ثمة إحصاء مدقق وغاية ما يقال ومنه يستنتج ما يقرب من الحقيقة أن معدل عدد الرسائل التي ترد من المهاجرين كل سنة إلى أهلهم في الجبل يبلغ ثمانمائة رسالة، هذا في القرى التابعة لقضاء النبك وهي مركز الجبل ومزدحم الأقدام وفيه من القرى 28 قرية و 12 مزرعة، وباقي قرى الجبل وهي 13 قرية تابعة لقضاء دومه فإذا فرضنا أنه يأتي من المهاجرين في السنة ألف رسالة وهو أقل تعديل ولا يكتب لأهله إلا الناجح منهم في العادة ويرسل كل واحد ثلاثين ليرة فيكون معدل ما يصل من النقود إلى قلمون ثلاثين ألف ليرة، وهو مبلغ لا يستخف به بالنسبة لفقر الجبل ولو كان هذا المال يأتيه مع توفر العناية(41/97)
بالزراعة وتربية المواشي وغرس الأشجار والغابات لكان الجبل من أعمر جبال العالم.
ويبلغ عدد نفوس الجبل بإحصاء الحكومة 58127 نسمة بين ذكور وإناث منهم 45574 في القرى التابعة لقضاء النبك اليوم و 12553 في القرى التابعة لدومة وعدد المسلمين في قضاء النبك 40660 وعدد الروم الارثوذكس 1515 وعدد الروم الكاثوليك 2920 وعدد السريان الكاثوليك 399 وعدد البروتستانت 90 وربما بلغ عدد المسيحيين في الثلاث عشرة قرية التابعة لقضاء دومة 2500 نسمة.
وبلغت أعشار القرى التابعة للنبك هذه السنة 1443175 غرشاً وأعشار القرى والضمير وقارة والنبك ودير عطية ومعلولا وأهم قرى القضاء الثاني التل ومنين وحلبون وتلفيتا وصيدنايا ومعرة صيدنايا وباقيها مزارع أو أشبه بها.
ويقسمون قلمون بحسب موقع الطبيعي إلى قسمين فوقي وتحتي فمن قرى الفرقي أو الفوقاني رنكوس وحوش عرب وهي تعلو عن سطح البحر 1770 متراً وعسال وطفيل والجبة ومعرة باش وفليطا والسحل وقارة وعرسال ودير عطية والنبك وبخا ورأس العين ويبرود وحبعدين ومن التحتية النواني وعكوبر وبدا وحفير الفوقا وحفير التحتا وحلة ومعلولا والقسطل وعين التينة والقطيفة والمعظمية وجيرود والرحيبة والضمير ومعرونة وتلفيتا وصيدنايا ومعرة صيدنايا والتل ومنين وحزنة ومعطلة والدريج ومعربا وحبون وهي التي تخزن الثلج في الربيع في جردها وتأتي به كل ما يولى دمشق وتشاركها في بيع الثلج قريتا اوفرة أو قفرة وقرية منين.
وتعد زراعة قلمون من الدرجة الثالثة ولو توطدت دعائم الأمن فيه لاستطاع أهل القرى القريبة من البرية للشرق أن يزرعوا تلك السهول الفسيحة وينتفعوا بالمراعي البعيدة عن القرى ساعات، وأكد لي العارفون بأن الأمن إذا استقر في نصابه وأمن القضاء من غارة أشقياء العرب والدروز على المواشي والزروع تكثر مواشيه كثرة زائدة ويغتني الفلاح والحكومة فقد نهب العرب والدروز منذ نحو سبع سنين زهاء مئة وخمسين ألف رأس من الغنم والماعز لو سلمت لأربابها لكانت بلغت الآن على أقل تعديل مليون رأس ومعدل ربح الرأس مئة قرش هذا عدا ما هو موجود اليوم من مواشي الجبل.
وليس مثل جرود قلمون في الصيف لرعي المواشي ومثل سهولها الشرقية في الشتاء(41/98)
وألبان قطعانها من أدسم ما ذاق الذائقون، ولو تمت أمنية الفلاح القلموني بانتشار الأمن في شعابه وهضابه في الفصول الأربعة لربح الفلاح كل سنة القرش قرشين من ماشيته فقط ومن كانت عند المئة يجني المئتتين ومن ملك الألف جاءته ألفان، ويرى الخبيرون بأنه لا سبيل إلى تقرير الأمن في قلمون إلا بوضع أربع مخافر الأولى في الضمير والثانية في الناصرية والثالثة في الحميرة والرابعة في القريتين وأن يجعل في كل واحدة منها ـ وفي بعضها قلاع لإيواء الجند ـ خمسة وعشرون جندياً نظامياً فارساً (مفرزة) وبذلك يرهب أشقياء عرب البادية بأس الحكومة ويكفون عن السطو على ضعاف الأهلين كلما اهتبلوا الغرة.
ولا تجد في قلمون غابات كأكثر جبال العالم بل هو جبل أجرد أقرع ولو صحت عزيمة سكانه لأكثروا من زرع التين والكرم واللوز والجوز في الأراضي القريبة من القرى ومن السنديان والبلوط في النجاد والشعاب، والظاهر أن فأس الحطاب وأسنان الماشية اتفقت زمناً طويلاً على تجريد الجبل من أشجاره وغاباته فلا تجد الشجر إلا قرب القرى وقد تمشي الساعات ولا تجد أثراً للزرع ولا للشجر.
قال أحد الأجانب ممن زاروا هذا الجبل مؤخراً كنت أتمنى في حياتي أن أشاهد جبلاً أجرد من الكلأ والشجر فها قد قرت عيني في قلمون بمشاهدة ما كنت أريده من الجبال الجرداء أما ابن سورية فيتمنى لو قرت عينه برؤية جباله شجراء ذات غابات غبياء.
وليست مياه قلمون شحيحة عزيزة بل هي عذبة غزيرة كأحسن البلاد الجبلية ولكن منها ما يحتاج للإنباض وللعهد والعناية وإذا توفر الأهلون وساعدتهم الحكومة قليلاً على توفير مياههم تزيد كميتها بحفر العيون والأقنية والانتفاع بالمياه والسيول حتى لا تضيع منها نقطة بلا فائدة، ومن هذه العيون ما يشفي الأوصاب ويقوي الأجسام ويساعد على هضم الطعام وأطيبها ما قرب من جرود الجبل حيث يكثر نزول الثلوج وتبقى كل سنة ستة أشهر متراكمة في النجاد والوهاد وأبشع مياه الجبل طعماً في معرونة وهي جمع من ماء الشتاء ولكن طعمها أشبه بالملح الانكليزي بيد أنها إذا ثقلت في الطعم فلا تثقل على الهضم.
وقد بحثنا في بعض قرى الجبل عن آثار حجرية مكتوبة أو كتب مخطوطة علنا نقع فيها على مواد تاريخية ينتفع بها فخاب سعينا إذ شاهدنا معظم أديار الجبل لا يعرف أهلها من(41/99)
التاريخ إلا تقاليد يتناقلونها بالأفواه وهي لا تساوي شيئاً إذا وضعت على محك النقد وإذا كانت الأديار خالية من مثل هذا فاحر بأن تكون سائر المعاهد أخلى فدير صيدنايا لراهبات الروم هو بحسب ما شاهدنا من أقدم أديار الجبل وليس فيه تاريخ الدير نفسه وقيل لنا أن أهل الدير حرقوا باختيارهم منذ نحو قرن كتباً سريانية كثيرة ولو أبقوا عليها لما خلت من فوائد كان القائمون عليها يحتقرونها او يخافون منها إذ ذاك وهي أنفع ما يكون للتاريخ اليوم وغاية ما فيه الآن كتاب نسخته إحدى راهبات الدير سنة 1887 م واسمها تقلا غزال ولم تذكر شيئاً عن الأصل الذي نقلت عنه وهو حديث أيضاً ويفهم من مقدمته وفيه شرح تقاليد كثيرة متعلقة بدير صيدنايا إن هذا الدير بني على يد يوستنيانوس الكبير ملك الروم في السن الخامسة والعشرين من ملكه سنة 553 للميلاد وذلك عند مروره في تلك البقعة فاختارها لإقامة هذا الدير ليجعل محطة لها صدي بيت المقدس من أهل القسطنطينية وغيرهم وفي هذا الكتاب أمور تتعلق بتجلي السيدة العذراء عليها السلام ليوستيانوس حتى بنى ديره وهو مثل ما يقوله المسلمون عن بعض معاهدهم، وهذه التقاليد لا يثق فيها التاريخ ولا تنطبق على العقل ويأخذها المعتقدون بالتسليم دون أعمال النظر فيها على أن الإحساس الديني تجب مراعاته مهما كان وحقائق العلوم العصرية هي التي تمحو وتثبت.
وفي الجبل أديار غير العامرة الآن في قارة ويبرود ومعلولا قد أصبحت مأوى للبوم مثل دير مار شبريين ودير مار توما بالقرب من صيدنايا كما تجد كثيراً من النواويس (مقبور) محفورة في الجبال، ومنها ما رأيته في منين وعين الصاحب ومعلولا.
والجبل إلا قليلاً متشابه بعمرانه ولكنه مختلف بهيئات سكانه ولهجاتهم فلكل قرية لهجة خاصة بها وسحنة يعرف بها أهلها فأهل معلولا لا يشبهون أهل عين التينة وأهل يبرود لا شبه بينهم وبين أهل الرحيبة، والظاهر من سحنات القلمونيين أن منهم اليعاقبة والسريان ومنهم الروم والتركمان ومنهم العرب فاختلفت لهجاتهم باختلاف أصولهم وإن كان تركيب بعض أسماء قراهم متشابهاً مثل يبرود وجيرود ومعرة ومعرونة وعسال وعرسال وجبة وجبعدين وفليطا وتلفيتا، وتلفيتا هذه هي التي قال فيها صاحب المعجم أنها كانت بلد قسام الحارثي من بني الحارث بن كعب باليمن التغلب على دمشق في أيام الطائع وكان في أول عمره ينقل التراب على الدواب ثم اتصل برجل يعرف بأحمد الحطار من أحداث دمشق(41/100)
وكان من حزبه ثم غلب على دمشق مدة فلم يكن للولاة معه أمر واستبد بملكها إلى أن قام من مصر يلكين التركي فغلب قساماً ودخل دمشق لثلاث عشرة ليلة بقيت من محرم سنة 376 فاستتر أياماً ثم استأمن إلى يلكتين فقيده وحمله إلى مصر فعفا عنه وأطلقه.
ومن صنائع جبل قلمون وبعبارة ثانية بعض قراه مثل التل وحلبون ويبرود ومعلولا البسفي فإنه تعمل فيها بسط غليظة ولكنها متينة يستعملها أهل الجبل والمجاورون لهم من سكان القرى كما يحيكون الخام الجيد في هذه القرى، ولا جمال على صنائعها ولكنها متينة جداً ورخيصة وقد لا يربح العامل قرشين في نهاره ومع هذا يجد نفسه سعيداً بهذا المقدار الطفيف.
وهواء الجبل معتدل جداً وهو أنفع لأكثر الأجسام من هواء لبنان البليل لقرب ذاك من البحر يورث النفوس نشاطاً ومضاءً وإن الذكاء الفطري يغلب على سكانه وتساوى في ذلك سكان جروده وسهوله وقراه ومزارعه وإسلامه ونصاراه ولو سعت الحكومة بجد لإصلاح طرقه ومواصلاته والخطب فيها سهل جداً لكثر اختلاف المصطافين إليه وخصوصاً سكان دمشق لأن قلمون منها بمنزلة لبنان من بيروت والطرق فيه عامرة بطبيعتها مثل طريق صيدنايا إلى معلولا وطوله خمس ساعات ونصف وطريق معلولا إلى يبرود وطوله ثلاث ساعات وطريق يبرود فالنبك فدير عطية فقارة وهذا الطريق على طوله لو صرف عليه بضع مئات من الليرات لسارت عليه المركبات كما تسير على أحسن الطرق المعبدة ولكن الحكومة في الدور الاستبدادي كانت لا تحسن من الإدارة إلا أن تسلب نعمة الفلاحين بطرقها المعروفة من تكثير الضرائب والعبور والرسوم وإرهاق الفقير بالإعانات الكثيرة ولعل دولة الدستور تقوى في أقرب وقت فتجعل من مالها ووقتها نصيباً تصرفه في ترقية البلاد فتستعيده بعد سنين أضعافاً مضاعفة من أهلها وقد كانت حكومة الاستبداد ترى أن غناها بإفقار الأهالي فالواجب على حكومة الدستور أن تعتقد أن غناها من غناهم وسعادتها بسعادتهم.
وإن جبلاً كقلمون وهو جزء صغير من ولاية سورية وجزء أصغر من هذه المملكة العثمانية إذا حسنت إدارته ونظرت حكومته في عمرانه ليخرج من الخيرات ما لا يخرج مثله الجبل الأسود ذوالبند والعلم وصاحب الملك والوزراء، وكيف يعمر مثل قلمون إذا كان(41/101)
ولاة دمشق يقضون بها لاسنين الطويلة ولا يزورون معاهده ويتفقدون حالة أهله بل أن القائمين الذين طالما تناوبوا الحكم عليه لا يهمهم إلا قبض رواتبهم وأخذ ما يريدون أخذه من الأهالي وإذا طافوا بعض قراه فللنزهة والتماس الصحة والراحة لا لرفع ظلامة وإقامة عدل وتحسين حال ويعتمدون في أمورها على مشايخ معظمهم على غير علم كانوا ولم يزالوا عون كل ظالم والسعيد منهم من كان الجهل أغلب على قريته ليسوغ له أن يحكم فيهم حكماً قره قوشياً ولا أغالي إذا قلت اليوم أن أهل قلمون لم يلقحهم حتى الآن رشاشة من نعمة الدستور على قربهم من الحواضر ولولا بصيص نور يتلألأ في عقول بعض أهل القرى التي يكثر فيها المسيحيون والمدارس والهجرة لكان قلمون كما كان منذ مئات من السنين.
وهنا رأينا أن نختم هذا الفصل بقصيدة للأمير عبد القادر الحسني الجزائري قالها وقد سأله بعض الفرنسيس أي العيش أطيب عيش الخلاء والبداوة أم عيش المدن والحضارة وقد كنا نردد أكثر أبياتها في رحلتنا وأكثرها مما يصدق عليها لمناسبتها مع الحالة التي كنا عليها في الجبل من الصحة وفراغ البال قال رحمه الله:
ياعاذراً لامرئ قد هام في الحضر ... وعاذلاً لمحب البدو والقفر
لا تذعن بيوتاً خف محملها ... وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني ... لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
لو كنت أصبحت في الصحرا تمر على ... بساط رمل به الحصباء كالدرر
أو جلت في روضة قد راق منظرها ... بكل لون جميل طيب عطر
تستنشقن نسيماً طاب منتشقاً ... يزيد في الروح لم يمرر على قذر
أو كنت في صبح ليل هاج هاتنه ... علوت في مرتب أوجلت بالنظر
رأيت في كل وجه من بسائطها ... سرباً من الوحش يرعى أطيب الشجر
فيالها وقفة لم تبق من حزن ... في قلب مضنى ولا كداً لذي ضجر
نباكر الصيد عند الفجر نبغته ... فالصيد منا مدى الأوقات في ذعر
فكم ظلمنا ظليماً مع نعامته ... وإن يكن طائراً في الجو كالصقر
يوم الرحيل إذا شدت هوادجنا ... شقائق عمها مرن من المطر(41/102)
فيها العذارى وفيها قد جعلن كوى ... مرقعات بأحداق من الحور
تمشي الحداة لها من خلفها زجل ... أشهى من الناي والسنطير والوتر
ونحن فوق جياد الخيل نركضها ... شليلها زينة الأكفال والخصر
نطارد الوحش والغزلان فلحتها ... على البعاد وما تنجو من الضمر
نروح للحي ليلاً بعد ما نزلوا ... منازلاً ما بها لطخ من الوضر
ترابها المسك بل أنقى وجديها ... صوب الغمائم بالآصال والبكر
نلقى الخيام وقد صفت بها فغدت ... مثل السماء زمت بالأنجم الزهر
قال الأولى قد مضوا قولاً وصدفه ... نقل وعقل وما للحق من غير
الحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
أنعامنا أن أتت عند العشي تخل ... أصواتها كدوي الرعد بالسحر
سفائن البر بل أنحى لراكبها ... سفائن البحر كم فيها من الخطر
لنا المهارى وما للريم سرعتها ... بها وبالخيل نلنا كل مفتخر
فخيلنا دائماً للحرب مسرجة ... من استغاث بنا بشره بالظفر
نحن الملوك فلا تعدل بنا أحداً ... وأي عيش لمن قد بات في خفر
لا نحمل الضيم من جار فنتركه ... وأرضه وجميع العز في السفر
وإن أساء علينا الجار عشرته ... نبين عنه بلا ضر ولا ضرر
تبيت نار القرى تبدو لطارقنا ... فيها المداواة من جوع ومن خصر
عدونا ماله ملجأ ولا وزر ... وعندنا عاديات السبق والظفر
شرابنا من حليب لا يخالطه ... ماء وليس حليب النوق كالبقر
أموال أعدائنا في كل آونة ... نقضي بقسمتها بالعدل والقدر
ما في البداوة من عيب تذم به ... إلا المروءة والإحسان بالبدر
وصحة الجسم فيها غير خافية ... والعيب والداء مقصور على الحضر
من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدى ... فنحن أطول خلق الله في العمر(41/103)
سير العلم والاجتماع
العاملات في الافرنج
يزيد عدد العاملات من النساء في بلاد الغرب كلما صعب استحصال القوت وكثرت مطالب الحياة فقد بلغ عددهن في أميركا 5007069 امرأة ذات صنعة منهن 97800 مزوجة ومن تلك العاملات 185 بيطارة و 45 وقادة في القاطرات وقد زاد عدد المحاميات من 208 إلى 1010 وعدد المستمليات (ستينوغراف) 305 في المئة وعدد المهندسات 217 في المئة وعدد المبشرات 197 في المائة وعدد خازنات الكتب 116 في المئة.
وبلغ عدد النساء العاملات في فرنسا 6029707 منهن الطبيبات والأديبات وفيهن 4320 مصورة ونقاشة و 4415 موسيقية و 4500 قابلة و 40000 يصنعن أزياء و 100000 معلمة و 120000 مستخدمة في الإدارات و 260000 مستخدمات في المحال التجارية و 700000 عاملة في المعامل و 820000 خادمة و 900000 تعمل بأشغال الإبرة وزهاء ثلاثة ملايين يعملن في الحقول، وتنتخب النساء في المجالس النيابية في فنلندا وسويسرا ويحاولن الآن في أكثر الأصقاع الأوروبية أن يشاركن الرجل في هذه المهام، وللنساء حق الانتخاب في زيلندا الجديدة وأوستراليا.
صناديق التوفير
سبقت انكلترا غيرها من ممالك أوروبا في إيجاد صناديق للتوفير في إدارات البريد فانتفع بها الفقراء أي انتفاع في اقتصاد دريهمات لتكون لهم بعد رؤوس أموال وحذت حذوها في ذلك فرنسا والنمسا وإيطاليا والبلجيك وهولاندا والسويد وفنلندا وبلغاريا وروسيا وسويسرا، وهذه المعاهد لا تسهل على الناس الاقتصاد فقط بل هي مصارف حقيقية للأمة تدير شؤونها الحكومة فيتأتى لكل فرد في انكلترا أن يدفع في السنة لأحد فروع صندوق التوفير من فرنك إلى 1200 فرنك وأن يتناول منه ما يريده على أن لا يتجاوز ما يأخذه 25 فرنكاً، ولهم طريقة في التسهيل على من يريد الاقتصاد ولا تكاد تخلو قرية من فرع لهذه الإدارة فقد بلغ ما دخل صناديق التوفير في برد انكلترا سنة 1905 3741934000 فرنك وما خرج منها 9963049 فرنكاً وبلغ ما وضعه المقتصدون من الفرنسيس في صناديق هذه الإدارة في تلك السنة نفسها 1278257647 فرنكاً وضعت في 7884 فرعاً وبلغ عدد(41/104)
أربابها 4577390 شخصاً وبلغ عدد مثل هذه الصناديق في إيطاليا 5931 دفع لها 5283003 أشخاص 983 مليون ليرة وعدد المقتصدين على تلك الصورة في هولاندا 1184316 شخصاً دفعوا 129929574 فلورينياً وعدد الصناديق في النمسا 6479 اشترك فيها 2004487 شخصاً دفعوا 218 مليون كورون، وقد بلغ مجموع المودع في صناديق البريد بمصر في تلك السنة ذاتها 236000. ج. م وصار في السنة التي تليها 325000 وعدد المودعين 43424 نفساً فزاد حتى بلغ 59084 وليس في المملكة العثمانية صناديق وفر كهذه.
سكة حديدية بالبترول
أدخلت شركة شمالي أميركا طريقة استعمال زيت البترول لتسيير القطارات بدلاً من الفحم الحجري واتخذت لذلك مركبات وقاطرات خاصة بحيث لا يتجاوز محمولها 25 طناً أما المحرك فهو أفقي الشكل وقوته 200 حصان ويقطع 33 كيلومتراً بدون اهتزاز ويمكن إيقافه بأسرع ما يمكن وهو من غير القطارات في الصعود إلى النجاد العالية وربما قطع بعد مدة 40 كيلومتراً في الساعة.
شركات التلفون
بعد مدة تمد في مدينة الاستانة وكثير من قواعد البلاد العثمانية خطوط تلفونية كسائر البلاد الراقية وقد أحصى العارفون أنه يشترك كل 16 ساكناً في الولايات المتحدة بالتلفون وفي السويد لكل 45 ساكناً اشتراك بالتلفون ولكل 50 شخصاً في الدانمارك ولكل 54 في سويسرا ولكل 100 في ألمانيا ولكل 143 في انكلترا ولكل 364 في فرنسا.
فمتى تكون المملكة العثمانية بخطوطها التلفونية كأدنى ممالك أوروبا فيها وقيمة الاشتراك السنوي بالتلفون هو خمس ليرات في سويسرا وتنزل إلى 40 فرنكاً في السنة الرابعة للاشتراك وفي إيطاليا 750 فرنكاً وفي ألمانيا 850 ماركاً وفي النمسا 200 فرنك وفي بروكسل 250 فرنكاً ومثلها في مصر.
التعاويذ
نشر المسيو انطوان كاباتون من علماء المشرقيات في مجلة العالم الإسلامي مقالة في التعاويذ عند الشعوب ولا سيما التي دانت بالإسلام جاء فيها من البحث التاريخي ما(41/105)
تعريبه: الظاهر أن التعاويذ قديمة كالضعف والخوف المستحكمين في الإنسان أمام قوى الطبيعة، فتراه يضعف عن أن يجاهد بنفسه في تحمل الآلام المعنوية والطبيعية على اختلاف مظاهرها كالمرض والحزن والخراب يتدرع بما يبعدها عنه أو يقيه شرها بواسطة كلمات أو إشارات أو أشياء يعزو إليها قدرة واقية فوق الطبيعة ومن هذه الغريزة المنبعثة من سرعة التصديق وحب الدفاع عن النفس نشأ في الغالب استعمال التعاويذ في كل مصر وعصر منذ زمن الطاويين على عهد قدماء الفرس والابارجيين في كاليدونيا الجديدة إلى الكركريين من زنوج إفريقية الوسطى، ولا تنس التعاويذ المستعملة عند المحدثين من أهل الغرب التي يحلون بها أذرعهم.
وأغلب الآراء على أن جميع أنواع الحلي والزينة كانت بادئ بدء عبارة عن تعويذة فتتخذ تارة من عصائب أو من أوراق مربعة أو من جلد كتبت عليه كلمات أو رسمت عليه أشكال ورسوم أو أعداد لها في نظرهم فضيلة خاصة أوسور من كتب مقدسة كما تتخذ طوراً من الأحجار الكريمة أو الأحجار الغريبة الشكل والأصل أو من النباتات والجذوع والشعر والوبر والعظم والأظافر والأسنان أو تصنع من مواد كلسية علامة على حيوانات معينة أو من أقراط وأسورة وتماثيل من المعدن أو الحجر أو الخشب أو من الحلي والجرار أو كرات الذهب أو الفضة أو الرخام أو صفائح المعدن أو من خرق الأقمشة أو من جلود الحيوانات يزعمون أن لنقشها ورقشها خاصية الوقاية.
ويدعون أن تأثير التعويذة ناشئ من كيفية حملها وأنها تنفع الحيوان كما تنفع الإنسان وهي وقاية للقطيع كما هي وقاية الراعي وتساعد في النوم كما تساعد في اليقظة وفي عقد البيوع كما في الأمراض الطارئة.
ولئن عم استعمال التعاويذ بما في فطرة الناس كلهم من السذاجة والجبن فالظاهر أنها نشأت من الشرق أو أنها على الأقل كثر استعمالها فيه لأن الإنسان كان يشعر تحت السماوات الصافية بحاجة إلى ما يدفع عنه الأسواء.
وقد عهد في الحضارة المصرية استعمال الأسورة والتماثيل والأحجار الكريمة التي كانوا يزعمون أنها تجلب السعادة، وإن الكتابات على ورق البردي التي كانت تلف وتخاط في الثوب ليحملها الإنسان وكان يتزين بها الرجال والنساء بعقود الصفر المخفي ومن حرذون(41/106)
محفور على الحجر أو على المعدن كلما كانت تعاويذ للوقاية لا أشياء للزينة والتبرج يراد منها طرد الأرواح الشريرة والأمراض ودفع الخراب والموت.
واعتاد الآشوريون والبابليون أن يكتبوا بعض كلمات سحرية وتراكيب للشفاء على عصابتين إحداهما من قماش أبيض والثانية من قماش أسود وتقوم هاتان العصابتان مقام التعويذة بأن كانوا يضعونها على الأيدي أو على الجبهة، وقد نقلوا هذه الطريقة إلى الاسرائيليين مع شيء من التعديل فيها ولكنها لا تكاد تختلف عنها كثيراً ومع أن الشعب الاسرائيلي كبير الاعتقاد بالمولى فهو يعتقد بتأثير التعاويذ.
وتشير التوراة إلى هذه العقيدة فقد وردت فيها عدة آيات في التعاويذ والأحرار، ومعظم التعاويذ اليهودية عبارة عن صفائح معدنية أو حلق أو جذور أو عصائب من الرق كتب عليها اسم المولى أو آية من التوراة وبعضها مؤلف من جذع بعض الأشجار أو من حبات قمح وضعت في كيس جلد تناط في عنق الأطفال أو الحيوانات على حد سواء، ويلبس البالغون من الاسرائيليين تعاويذ على صفة خواتم.
وقد شاع استعمال التعاويذ بين اليهود منذ القرن الأول إلى القرن السابع للميلاد وكان الرومان واليونان يعتقدون كأبناء اسرائيل بتأثير التعاويذ ولما ظهرت النصرانية لم يكن من تأثيراتها إلا أنها حولت مجرى الخرافات وحلتها بالاسم والأعمال فأخذ الناس يعتقدون بالأيقونات والصور والتماثيل وبعض المعابد كما كان البشر يعتقدون من قبل بتأثير بعض الينابيع أو بعض المغور الآهلة بالجن.
أما الشرق الأقصى فقد فاق الشرق القريب والغرب باعتقاد أهله بالتعاويذ، فالصينيون والهنود اعتقدوا ولا يزالون يعتقدون بنفعها واقتبسها البراهمة والطاوسيون والبوذيون واقبسوها غيرهم من النحل والملل، ولشعوب الهند الصينية كالخمريين والشميين والاناميين ممن امتزجوا ببعض الأمم الراقية أساليب كثيرة من التعاويذ وللهنود نوع من الخرز يزعمون أنه يقي حامله من كل سوء وينيله كل خير وللأناميين والصينيين نوع من البطانات يكتبون عليها كلمات أو ألغازاً ويجعلونها في الأعناق عوذة كما أنهم يستعملون الأنواط والأقراط الذهبية والفضية وأظافر النمر وغيرها لدفع الأرواح الشريرة.
جاء الإسلام وهو آخر الأديان وفيه أمور من اليهودية والنصرانية ولم يتيسر له مثل غيره(41/107)
أن يتخلص من عدوى سرعة الاعتقاد فاستمال العامة بأن أقرهم على بعض معتقداتهم على نحو ما فعلت النصرانية، وربما كان الإسلام على سذاجته المملوءة بالتقوى والنفع أكثر الأديان تسامحاً في معنى التعاويذ وذلك لأنه انتشر بين شعوب الشرقيين تأهلت فيهم الخرافات منذ القدم، ولم يأت الإسلام غير توحيد صورة التعاويذ الظاهرة بعض الشيء عند جميع الشعوب الإسلامية.
فتعاويذ المسلمين في الشرق الأقصى تكاد تكون كلها عبارة عن سور من القرآن أو حكم أو كلمات لا يفهم لها معنى تكتب على الورق أو القماش أو على نصل أو صفيحة من معدن ويستعملون في كتابة هذه الأحراز ماء الزعفران أو الكركم أو ماء الورد أو ماء الزهر وتسامح المالايو والجاويون فأخذوا يستعملون الحبر الافرنجي.
ومن التعاويذ ما ينفع في جميع حالات الحياة فمنها للوباء وللمرض وللحريق وللسحر ومنها ما يلبسه الغزاة في حروبهم والنساء لحبلهن أو لحفظ ما لهن من ولد ومنها ما ينزل المطر ويفتح الكنوز ويحرس الحيوانات ومنها ما يبقى من قرص الذباب ونقيق الضفادع، أما عدد ما يحمل منها فراجع إلى ذوق الشخص وكذلك يضعها في جميع أطراف بدنه مؤقتاً أو دائماً ومعظم التآليف الموضوعة في فن الرقية والتعاويذ من تآليف أناس من مسلمي إفريقية وأكثر ما يعول عليه بين المغاربة والمشارقة كتاب شمس المعارف ولطائف العوارف ولهذا الكتاب عندهم حرمة تكاد تقرب من احترامهم الكتاب العزيز منهم لا يمسونه إلا مطهرين.
وشاع استعمال التعاويذ بين العرب والترك ومسلمي إفريقية الشمالية والشرقية والفرس وهم مكثرون منها وشعوب مانالايو والبولينيزيين وسكان مدغسكر، والمالايو وهم من شيعة أكثر الشعوب الإسلامية إغراقاً في استعمال التعاويذ، وكذلك الحال عند البوكويين والماكاساريين في سيليب والاتشثينيوا والبانافيين في سعومطرا والداياكيين في بورنو والتاكاليين والبيزيين في جزائر فيلبين.(41/108)
العدد 42 - بتاريخ: 1 - 8 - 1909(/)
نخب الذخائر
في أحوال الجواهر
اشتهر أبو عبد الله شمس الدين محمد بن ابراهيم بن ساعد السنجاري المصري بن الأكفاني بتآليف الجيدة وهو من أهل القرن الثامن توفي بالطاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة وكان طبيباً بمصر ومن مؤلفاته كتاب كشف الغين في أحوال العين وشرحها وقاية العين لنور الدين علي المناوي وتمنية اللبيب في غيبة الطبيب ونهاية القصد في صناعة الفصد والنظر والتحقيق في تقليب الرقيق ونخب الذخائر في أحوال الجواهر وإرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد وبعضهم زاد عليها وسماها الدر النظيم في أحوال العلوم والتعليم، وكتاب إرشاد القاصد طبع مرتين في القاهرة وبيروت وهو من كتب التعليم الممتعة على صغر حجمه ولكن المصنفات بفوائدها لا بحجمها.
وكتابه نخب الذخائر وأحرى به أن يسمى رسالة تفضل بإهدائه للمقتبس محمود شكري أفندي الآلوسي عالم العراق الآن فأحببنا أن نضمه إلى صدر المجلة لينتفع به القراء، أما هذا الموضوع فقد ألف فيه عدة كتب كما يفهم من عبارات المصنف ومن الكتب المؤلفة فيه كتاب الجماهر في معرفة الجواهر لأبي الريحان البيروني الفيلسوف المشهور ألفه للملك المعظم أبي الفتح ومنه نسخة في مادريد ومنها أزهار الأفكار في جواهر الأحجار لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن يوسف التيفاشي المتوفي سنة 651 هـ، وإليك نخب الذخائر:
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الفقير إلى الواحد الباري، محمد بن ابراهيم بن ساعد الأنصاري: الحمدلله كفّ أفضاله، والصلاة على سيدنا محمد وآله، (وبعد) فهذا كتاب لخصت فيه خلاصة كلام الأقدمين والمتأخرين، من الحكماء المعتبرين، في ذكر الجواهر النفيسة بأصنافها وصفاتها ومعادنها المعروفة، وقيمتها المشهورة المألوفة، وخواصها ومنافعها بأوضح لفظ وأصح معنى، ووسمته بنخب الذخائر في أحوال الجواهر، وجانبت فيه الأطناب، وميزت فيه القشر عن اللباب، والله أسأل أن ينفع به بمحمد وآله.
القول على الياقوت
أصنافه أربعة الأحمر وهو أعلاها رتبة وأغلاها قيمة والأصفر والأزرق والأبيض(42/1)
وللأحمر سبع مراتب أعلاها الرماني ثم البهرماني ثم الأرجواني ثم اللحمي ثم البنفسجي ثم الجلناري ثم الوردي، فالرماني وهو الشبيه بحب الرمان الغض الخالص الحمرة الشديد الصبغ الكثير الماء ويوجد لونه بأن يقطر على صفحة فضة مجلاة قطرة دم قرمز أعني من عرق ضارب فلون تلك القطرة على تلك الصفيحة هو الرماني والبهرماني يشبه بلون البهرماني وهو الصبغ الخالص الحاصل عن العصفر دون زردج ومن الجوهريين من يفضل البهرماني على الرماني والتفضيل إنما هو بشدة الصبغ وكثرة المائية والشعاع ومنهم من يقول هما شيء واحد وإنما أهل العراق يقولون بهرماني وأهل خراسان يقولون رماني فالخلاف لفظي والأرجواني أيضاً شديد الحمرة، وقيل كان الأرجواني لباس قياصرة الروم وكان محظوراً عن السوقة إلى زمن الاسكندر فإنه اقتضى رأيه أن لا يختص الملك بلباس يعرف به فيقصد، ومنهم من يسمي الأرجواني الجمري بالجيم تشبيهاً بالجمر المتقد وصحفه بعضهم بالخمري وكان الخميري هو البنفسجي، وأما اللحمي فهو دون الأرجواني في الحمرة يشبه ماء اللحم الطري الذي لم يشبه ملح والبنفسجي يشوبه كهبة تخرجه عن خالص الحمرة وهو لون البنفش المعروف بالماذيني، وأما الجلناري فيشوبه بعض صفرة والوردي يشوبه بياض وهو أنزل طبقات الأحمر.
وأجود هذه الألوان كلها ما توفر صبغه وماؤه وشعاعه وخلا عن النمش وعن الحرمليات وهي حجارة مختلطة به وعن الرثم وهو وسخ فيه شبه طين، وعن التفت وهو كالصدع في الزجاجة إذا صدمت يمنع نفوذ الضياء والإشفاف، وهذا قد يكون أصلياً وقد يكون عارضاً، ومن عيوبه أيضاً اختلاف الصبغة فيشبه البلقة ومنها غمامة بيضاء صدفية تتصل ببعض سطوحه فإن لم تكن غائرة ذهبت بالحك وإذا خالط الحمرة لون غيرها يزول بالحمي بالنار بتدريج وتبقى الحمرة خالصة ولا يثبت على النار غيرها ومتى زالت الحمرة بالحمي فليس بياقوت.
ومعدن الياقوت بجبل يسمى الراهون في جزيرة سرنديب، وفي سيلان ومكران معدن الياقوت الأصفر والأزرق وتحت جبل البرق معدن الياقوت الأحمر والياقوت أصلب الجواهر، ولا يخدشه منها إلا الألماس ولا ينجلي بخشب العشر الرطب وإنما يسوى بالسنباذج ويجلى على صفيحة نحاس بالجزع المكلس والماء وهو أشد الجواهر صقالاً(42/2)
وأكثرها ماءً، وشعاعه في الليل في ضوء الشمع أحمر وشعاع البلخش ونحوه أبيض.
وذكر القدماء أن قيمة المثقال الفائق من الياقوت الأحمر ثلاثة آلاف دينار، وأما في الدولة العباسية فإن الغالب من قيمته أن الجيد منه إذا كان وزن طسوج يساوي خمسة دنانير وأضعفه عشرين ديناراً وسدس مثقال ثلاثون ديناراً وثلث مثقال مائة وعشرين ديناراً ونصف مثقال أربعمائة دينار والمثقال بألف دينار والمثقال ونصف بألفي دينار هذا هذا ما تقرر في أيام المأمون مع كثرة الجواهر في ذلك الزمان، والمثقال من البهرماني بثمانمائة دينار ومن الأرجواني بخمسمائة دينار ومن الجلناري بمائتي دينار ومن اللحمي بمائة دينار والبنفسجي يقاربه والوردي دون ذلك وكان في خزانة يمين الدولة ياقوتة شكلها شكل حبة العنب وزنها اثنا عشر مثقالاً قومت بعشرين ألف دينار وكان للمقتدر فصاً يسمى ورقة آلاس لأنه كان على شكلها وزنه مثقالان إلا شعيرتان اشتراه بستين ألف درهم، وأما في هذا الزمان فإن قيمة الياقوت وسائر الجواهر زادت كثيراً.
وأما الياقوت الأصفر فأعلاه ما قارب الجلناري وبعده المشمشي وبعده الاترجي وبعده التبني وبلغت قيمة الأصفر الجيد المثقال مائة دينار، وأما الأزرق ويسمى الأكهب فأعلاه الكحلي ثم النيلي ثم اللازوردي ثم السمائي، وكان في القديم قيمة الجيد من الأزرق عشرة دنانير المثقال وما زاد فتزداد قيمته بأضعاف ذلك، وأما الأبيض فإنه يحمل من سرنديب ويكون رزيناً بارداً في الفم واجوده البلوري الكثير الماء وهو أقل قيمة من سائرها.
قال ارسطوطاليس أن مزاج سائر اليواقيت حار يابس وإذا علق شيء من أي أصنافه كان على إنسان أكسبه مهابة في أعين الناس وسهل عليه قضاء حوائجه ودفع عنه شر الطاعون، وقال ابن سينا أن خاصيته في التفريح وتقوية القلب ومقاومة السموم عظيمة، وشهد جمع من القدماء أنه إذا أمسك في الفم فرح القلب وقال النافقي وغيره أنه ينفع نفث الدم ويمنع جموده تعليقاً، وقال ابن زهر أن شرب سحيقه ينفع الجذام وأن التختم به ينفع حدوث الصرح وقال ابن وحشية من علق عليه الياقوت الأحمر اتسع رزقه وتصرفه في المعاش، وفي زماننا هذا حجر نفيس يعرف بعين الهر لشبهه إياها كان فيه زئبق يتحرك يتغالى فيه الملوك والأمراء ويقال أنه من أصناف اليواقيت ويظهر من معادنها، وقيمته إذا كان فائقاً وزنته نحو نصف مثقال ألف درهم فما فوقها ويقال أنه وقاية لعين المجدور.(42/3)
القول على البلخش
ويسمى اللعل بالفارسية وهو جوهر أحمر شفاف مسفر صافي يضاهي فائق الياقوت في اللون والرونق، ويتخلف عنه في الصلابة حتى أنه يحتك بالمصادمات فيحتاج إلى الجلاء بالمرقشيشا الذهبية وهو أفضل ما حلى به هذا الجوهر ومنه ما يشبه الياقوت البهرماني ويعرف باليازكي وهو أعلاها وأغلاها، وكان يباع في أيام بني بويه بقيمة الياقوت حتى عرفوه فنزل عن تلك القيمة وقرر أن يباع بالدرهم دون المثقال تفرقة بينه وبين الياقوت، ومنه ما يميل إلى البياض ومنه ما يميل إلى البنفسجية وهما دون الأول ومعدنه بالمشرق على مسير ثلاثة أيام من بذخشان، وهي له كالباب ومنه ما يوجد في غلف شفافة ومنه ما يوجد بغير غلاف وشوهد منه ما يزيد وزنه على المائة درهم وكانت قيمته في القديم عن كل درهم عشرين ديناراً وربما زاد عن ذلك وليس لهذا الجوهر منفعة كالياقوت بل يشترى لحسنه.
القول على البحادي
ويعرف بالبنفش وهو حجر يشبه الياقوت بعض الشبه إلا أنه لا يضيء غالباً حتى يلعق من تحته بالحفر ليشف عن البطائن وشبه ارسطوطاليس لونه بنار يشوبها دخان ومنه ما يجلب من سرنديب وهو أرفع طبقاته ويعرف بالماذيني، ومنه ما يجلب من بذخشان ومنه ما يجلب من بلاد المغرب ويعرف بالقروي، ومنه ما يجلب من بلاد الافرنجة ومنه صنف يشوبه صفرة خلوقية ويعرف بالاسبادشت ويوجد في الخراساني منه ما يكون وزنه نصف من.
أما السنديبي فإنه لا يتجاوز مقدار الياقوت بكثير وزن، وقيل أن الجيد منه يلتقط زغب الريش المنتوف ويبلغ قيمة الدرهم منه ديناراً واحداً، قال ارسطوطاليس أن من تختم بوزن عشرين شعيرة منه لم ير في منامه أحلاماً ردية ومن أدمن النظر إليه نقص نور عينيه وقال ابن أبي الأشعث لبسه يورث الخيلاء ويحرك الشبق، وأما الاسبادشت فإنه يقطع الرعاف ونزف الدم تعليقاً إذا كان وزنه نصف مثقال فما فوقه.
القول على الماس
هو جوهر يشبه الياقوت في الرزانة والصلابة وعدم الانفصال عن الحديد وقهره لغيره من(42/4)
الأحجار وهو شفاف فيه أدنى بريق ويوجد فيه الأبيض والزيتي والأصفر والأحمر والأخضر والأزرق والأسود والفضي والحديدي وأشكال الماس كلها مضرسة مخروطية ومثلثات من غير صنعة والهند تفضل منه الأبيض والأصفر بسبب ما يظهر منهما من الشعاع الأحمر بقوس قزح إذا أقيما في مقابلة عين الشمس، وأما أهل العراق وخراسان فلا يفرقون بين ألوانه لأنهم إنما يستعملونه في ثقب الجواهر خاصة ومعدنه بقرب معدن الياقوت، وله معدن بقرب غزنه ومعدن بمقدونية من بلاد الروم ولونه كلون النوشاذر، ومعدن باليمن وهو حديدي اللون ومعدن بقبرس وهو فضي اللون رخو، ومن غريب حال الماس أنه إذا طرق بمطرقة على سندان نكأ فيهما ولا ينكسر وإذا لف في صفحة اسرب وضرب انكسر، وغالب ما يوجد منه قطع صغيرة بقدر الفلفل ونحوه، وكان قيمة هذا قديماً المثقال بمائتي دينار وما كان بقدر البندقة أو قاربه فيكون قيمته من ثلاثمائة إلى خمسمائة دينار.
وحكى نصر الجوهري أن معز الدولة بن بويه الديلمي أهدى إلى أخيه ركن الدولة من الماس فصاً وزنه ثلاثة مثاقيل ولم يسمع بأعظم منه، وأخبرني السيد الشريف ناصر الدين الترمذي أنه رأى عند السلطان قطب الدين ملك الهند من الماس الجيد الجليل القدر شيئاً كثيراً جداً ولعلهم لا يسمحون بخروج جيده من أرضهم لأنهم يتيامنون به، قال ارسطوطاليس الماس بارد يابس في الرابعة يثقب به الياقوت وسائر الأحجار الصلبة ومتى كان في مجرى البول حصاة فتلصق حبة من هذا الحجر في حديدة كالقاثاطير ثم يدخل في القضيب لتماس الحصاة فتفتتها ولا ينبغي أن يدخل الفم فإنه يكسر الأسنان وإن ابتلع منه شيئاً فربما قتل.
القول على الدر واللؤلؤ
الحيوان الذي يتولد فيه اللؤلؤ هو بعض الأصداف وهو دقيق القوائم لزج ينفتح بإرادة منه وينضم كذلك ويمشي أسراباً ويزدحم على المرعى واختلفوا في تولده في هذا الصدف فمنهم من قال أنه يتكون فيه كما يتكون البيض في الحيوان البياض ذكر ذلك جمع من المحققين، وقيل بل يطلع إلى سطح البحر في شهر نيسان وينفتح الصدف ويتلقى المطر فينعقد حباً ذكره نصر الجوهري وكثير من الناس وأقول عند التدقيق لا تضاد بين القولين لجواز أن(42/5)
يكون تكون اللؤلؤ في صدفه كتكون البيض ويكون قطر نيسان له بمثابة النطفة.
وقال الكندي أن موضع اللؤلؤ من هذا الحيوان داخل الصدف وما كان منه مما يلي الفم والأذن فهو الجيد منه وقالوا أن الحب الكبير إنما يتكون في حلقومه ويزداد بالتفاف القشور عليه والدليل على ذلك أنه يوجد طبقات والداخلة منها شبيه بالخارجة وكلها تشابه باطن الصدف وله مغاصات مشهورة في البحر الأخضر ويوجد في مجازات بين تلك المغائص وبين تلك السواحل، ومن المغاصات المشهورة مغاص أول بالبحرين ومغاص دهلك والسرين ومغاص الشرجه باليمن ومغاص القلزم بجوار جبل الطور ومغاص غب سرنديب ومغاص سفالة الزنج ومغاص اسقطرة وقد يتفق في بعض المغاصات مانع من الغوص كالحيوانات المؤذية التي في مغاص القلزم، ولهذا يدهن الغواصون عند الغوص أبدانهم بالميعة السائلة لأن الهوام البحرية لا تقربها.
ويختلف اللؤلؤ باختلاف المغاصات من جهة تربة المكان وغذاء الحيوان كما تغلب الرصاصة على اللآلئ القلزمية والدهلكية والوقت الذي يغاص فيه هو من أول نيسان الرومي إلى آخر شهر أيلول وفي ما عدا هذه المدة يسافر هذا الحيوان من السواحل وبلجج ويختلف اللؤلؤ بالمقدار فمنه الكبار والصغار وما بين ذلك وأعظم ما وجد منه اليتيمة التي كانت عند عبد الملك بن مروان ذكر أنها كان وزنها ثلاثة مثاقيل وكانت مع ذلك حائزة لجميع صفات الحسن مدحرجة نقية رطبة رائقة ولذلك سميت اليتيمة ولم يذكر عنها قيمة لكن ذكر الأخواني الرازيان أنهما شاهدا في خزانة الأمير يمين الدولة حبة ذات قاعدة وزنها مثقالان وثلث وأنها قومت بثلاثين ألف دينار، ويختلف اللؤلؤ أيضاً من شكله فمنه المدحرج ويعرف بالعيون وإذا كثرت استدارته وماؤه سمي نجماً، ومنه المستطيل الزيتوني ومنه الغلامي وهو المستدير القاعدة المحدد الرأس كأنه مخروط ومنه الفلكي المفرطح ومنه الفوفلي واللوزي والشعيري، ومنه المضرس وهو دونها شكلاً، ويختلف اللؤلؤ أيضاً من لونه فمنه للسقي البياض ومنه الرصاصي ومنه العاجي وصفرته غالباً في حساب المرض له وإذا فاز وطال زمانه أسود، واللؤلؤ سريع التغير لأنه حيواني بخلاف الجواهر المعدنية إذ أن أعمارنا لا تفي بتغير أكثرها، ويثقب هذا الحب لأنه يزداد بحسن التأليف في إلا حسناً ورونقاً وقيمة وإنما بثقب بالماس فلذلك لم يستعمل الأطباء في الأدوية النظم البكر(42/6)
غير المثقوب.
والقيمة عن الدر في القديم النجم إذا كان وزنه مثقالاً كانت قيمته ألف دينار وإذا كان وزنه ثلثي مثقال كان قيمته خمس مائة دينار وإذا كان وزنه نصف مثقال كانت قيمته مائتي دينار وإذا كان وزنه ثلث مثقال كانت قيمته خمسين ديناراً وإذا كان وزنه ربع مثقال كانت قيمته عشرين ديناراً وإذا كان وزنه سدس مثقال كانت قيمته خمسة دنانير وثمن مثقال قيمته ثلاثة دنانير ونصف سدس مثقال قيمته دينار واحد، والغلامي بالنصف من قيمة النجم وما عداهما بالنصف من قيمة الغلامي، وأما ما زاد على وزن مثقال فيزاد لكل قيراط في الوزن مائة دينار في الثمن إلى أن يبلغ مثقالاً ونصفاً ثم يزاد لكل دانق في الوزن خمس مائة دينار في الثمن إلى أن يبلغ مثقالين وما زاد عليه تتضاعف قيمته، وأما الآن فالقيمة على قياس الجواهر متضاعفة لكثرة الرغبات من ملوك العصر في اقتناء الجواهر النفيسة، وأما صغاره فبالدرهم يقوم، وخاصية اللؤلؤ المنفعة من خفقان القلب وتوحشه ويجلو العين ويزيد في الباه ويقطع نزف الدم وشربته درهم والمحلول منه يذهب البهق والبرص والكلف والنمش طلاءً ويبرئ الصداع والشقيقة سعوطاً، وصفة حله أن يسحق ويعجن بماء حماض الأترج ويعلق في دن فيه خل بحيث يرتقي إليه بخار الخل فإنه ينحل في ثلاثة أسابيع وهو يابس في الدرجة الثانية بارد في الأولى وقيل حار فيها لطيف جداً.
قال نصر الجوهري: إذا ذهب ماء اللؤلؤ وكدر فينبغي أن يودع إليه مشروحه وتلف الألية في عجين مختمر ويجعل في كوز ويحمى عليه فإذا خرج دهن بالكافور وقال أبو الريحان البيروني إن ما كان تغيره من قبل الطيب فيجعل في قدح مطين فيه صابون ونورة غير مطفية جزآن متساويان ويصب عليه ماء عذب وخل خمر ويغلى في نار لينة ولا يزال ترفع رغوة الصابون وترمى بها إلى أن تنقطع ويصفو الماء في القدح وبعد ذلك يخرج اللؤلؤ ويغسل، وإن كان التغير في اديمه إلى السواد فينقع في لبن التين أربعين يوماً ثم ينقل إلى قدح فيه محلب وكافور وخروع أجزاءً سواءً ويوضع على نار فحم مقدار ساعتين بدون نفخ عليها ثم ينحى، وإن كان السواد في باطنه طلي بشمع وجعل في قدح مع حماض الأترج ويبدل عليه كل ثلاثة أيام وتدام حتى يبيض، وإن كان في اديمه صفرة نقع في لبن التين أربعين يوماً ثم نقل إلى قدح فيه قلي وصابون وبورق بالسوية ويفعل فيه كما يفعل(42/7)
بالأسود، وإن كانت الصفرة في داخله جعل في محلب وسمسم وكافور متساوية الأجزاء مدقوقة ثم تلف فوقها عجين وتوضع في مغرفة حديد وتغمر بدهن الأكارع وتغلى غليتين ثم تخرج، وإن كان أحمر غلي في لبن الحليب ثم طلي باشنان فارسي وشب يماني وكافور أجزاء متساوية تدق ناعماً وتعجن بلبن حليب ويطلى به طلياً ثخيناً وتودع جوف عجين قد عجن بلبن حليب ويخز في التنور، وإن كان رصاصياً نقع في حماض الأترج ثلاثة أيام ثم يغسل بماء البيض ويحفظ من الريح بالقطن، وذكر غيرهما في تبييض الفاسد أن يلقى في خل ثقيف مع حبشين تنكار وقيراط نوشادر وحبة بورق وثلاث حبات قلي مسحوقة وتغلى في مغرفة حديد ثم ترفع المغرفة عن النار وتوضع في ماءٍ بارد ويدلك فيه بملح اندراني مسحوق ناعم ثم يغسل بماءٍ عذب ولا يبعد أن هذا العمل ينزع عنه قشرة الأعلى أو بعضه والتجربة خطر.
القول في الزمرد
الخضرة تعم أصنافه كلها وأفضله ما كان مشبع الخضرة ذا رونق وشعاع لا يشوبه أسود ولا صفرة ولا نمش ولا حرمليات ولا عروق بيض ولا تفوت، وليس يكاد يخلص عنها ودونه الريحاني الشبيه بورق الآس الرطب ودونه السلقي الشبيه بورق السلق الطري وأهل الهند والصين تفضل الريحاني منه وترغب فيه، وأهل المغرب يرغبون لما كان مشبع الخضرة وإن كان قليل الماء ويزداد رونقاً إذا دهن بزيت بذر الكتان، وإذا ترك بدون دهن يذهب ماؤه ويمتحن بالعقيق المحدد فإن خدشه فهو من أشباه الزمرد ومعدنه بسفح جبل قرشندة من أرض البجاة بصعيد مصر الأعلى وأكثر ما يظهر منه خرز مستطيلة ذات خمسة أسطحة ويسمى أقصاباً وثقبه يشينه بعكس اللؤلؤ وظهر في زماننا هذا من هذا المعدن قطع لم يسمع بمثلها في العظم ما يقارب زنة من ونحو ذلك، والمشهور أن الدهنج يكدر الزمرد إذا ماسه فيذهب رونقه وهو الآن بدون القيحة التي كانت في القديم بخلاف سائر الجواهر وما ذلك إلا لكثرته، فإن أبا الريحان البيروني حكى أن زنة نصف مثقال من الجيد منه يساوي ألف دينار وقيل أن منه صنفاً يعرف بالذبابي أنه يشبه الذباب الطاوسية التي تكون في المروج وإن من خاصية هذا الصنف ولكنني امتحنت الريحاني والسلقي في هذا الأمر فلم يصح ولا تغيرت أعين الأفاعي وخاصية الزمرد النفع من السموم المشروبة(42/8)
ونهش الأفاعي ولدغ العقارب يؤخذ من سحيقه تسع شعيرات ويجد شاربه في بدنه وجعاً عظيماً وانحلالاً في قوته ثم يفيق وقد انتفع ويوقف الجذام في ابتدائه ويقطع الإسهال المزمن ونفث الدم شرباً وتعليقاً ويقوي المعدة وينفع الصرع تعليقاً وإمساكه في الفم يقوي الأسنان والمعدة وإن علق على فخذ المطلقة أسرعت الولادة وإدمان النظر إليه يجلو البصر ويحده وطبعه بارد يابس.
القول على الزبرجد
هو صنف واحد فستقي اللون شفاف لكنه سريع الانطفاء لرخاوته وقيل أن معدنه بالقرب من معدن الزمرد ولكنه مجهول في زماننا هذا ومع ذلك فقيمته نحو قيمة البنفش وطبعه حار يابس وتقرب منافعه من منافع الزمرد ويدفع شر العين.
القول على الفيروزج
معنى اسمه بالفارسية النصر ولذلك يسمى حجر الغلبة ويسمى أيضاً حجر العين لأن حامله يدفع عنه شرها والمشهور عنه أنه يدفع الصواعق وهو حجر أزرق أصلب من اللازورد يجلب من أعمال نيسابور، وكلما كان أرطب فهو أجود والمختار منه ما كان من المعدن الأزهري والبوسحاقي لأنه مشبع اللون صقيل مشرق، ثم اللبني المعروف بشيرقام، ثم الاسمانجوني الغميق، قال أبو الريحان أعظم ما وجد من الفيروزج وزن مئة درهم ولم يوجد من الخالص منه غير المختلط بشيء غيره إلا وزن خمسة دراهم، وبلغت قيمته مائة دينار قال الكندي وقد كرهه قوم بسبب تغيره بالصحو والغيم والرياح وتصفير الروائح الطيبة له واذهاب الحمام لمائه وإماتته بالزيت وكما أنه يموت بالزيت كذلك يحى بالشحم والالية يعالج بأن يجعل في أيدي القصابين، قال بن زهر: إن الملوك تعظم هذا الحجر لأنه يدفع القتل عن صاحبه ولم ير في يد قتيل قط ولا في يد غريق وإذا شرب منه نفع لدغة العقرب، وقال الغافقي إنه بارد يابس، وقال ديسقوريدس أنه يقبض نتو الحدقة وينفع بثرها ويجمع حجب العين المنحرقة ويجلو الغشاوة، وقال ارسطوطاليس أنه ينقص من هيبة حامله، وذكر هرمس أنه إذا نقش عليه صورة طائر في فمه سمكة وجعل في خاتم وتحته شيء من خصي الثعلب ويكون القمر وعطارد في الثور فإن حامله يقوى على الجماع وتزداد شهوته له، وقال ابن أبي الأشعث أنه يقوي القلب إلا أنه دون الياقوت، ووجدت(42/9)
نقلاً عن بعض الأطباء أنه أقوى في تقوية النفس من سائر الأحجار.
القول على البلور
يجلب من خزائن الزنج ومن كشمير ومن نواحي بذخشان وله معدن ببدليس ومعدن بأرمينية ويجلب أيضاً من سرنديب ومن بلاد افرنجة ومن المغرب الأقصى ومنه ما يلتقط من البوادي، وقيمته بحسب ما يعمل منه من الأواني وحسن صنعتها ووجد منه قطعة زنتها مائة رطل بالعراقي وأفضله المستنبط من بطن الأرض ويكون ساطع البياض كثير المائية رزيناً صلباً بحيث يقدح منه النار ويخدش كثيراً من الجواهر بخلاف الملتقط من ظاهر الأرض ومن خاصيته أنه من علقه عليه لم ير مناماً يفزعه ورأى أحلاماً حسنة ويسقى منه مثقال بلبن الاتن لأصحاب السل فينفعهم وينفع الرعشة تعليقاً.
القول على الجمز
ويقال جمست هو حجر يشبه الياقوت البنفسجي وأعلاه ما غلبت عليه الوردية ومعدنه بقرية صفراء بالحجاز، ويوجد مغشى ببياض كالثلج على وجهه حمرة ووجد منه قدر الرطل وأكثر ينفع وجع المعدة تعليقاً والشرب بآنيته يبطي بالسكر وقيمته رخيصة.
القول على الدهنج
هو حجر رخو شديد الخضرة تلوح فيه زنجارية وفيه خطوط سود دقاق جداً، وربما شابه حمرة خفية ومنه طاوسي ومنه موشى وقيل أنه يصفو بصفاء الجو ويكدر بكدورته ومنه افرندي وهو أفضل أصنافه ومنه هندي ومنه كرماني وخراساني ومنه كركي ومنه معزل والهند نرى أنه ضرب من التوتيا ويكون رخواً وقت إخراجه من معدنه ثم يزداد صلابة، وقال ارسطوطاليس إن شرب منه شارب السم نفعه وإن شرب منه من غير سم كان سماً، وقد وثق عامة الناس من الفرندي أنه يجلو بياض العين جلاءً حسناً.
القول على اليشب
ويقال يشم منه مجلوب من بلاد الترك وألوانه أبيض وأصفر وزيتي وهو أفضلها، ومنه مستخرج من ناحية ختن من واديين يسمى أحدهما فاش ويستخرج منه أبيض فائق ويسمى الآخر واقاش والمستخرج منه كدر، وربما خرج منه شيء أسود لا يوصل إلى معدنه وإنما(42/10)
السيل بخرجة والقطع الكبار للملك والصغار للرعية والترك، وأهل الصين تتخذ منه مناطق وحلية للسيوف والسروج حرصاً على الغلبة وزعموا أنه يدفع الصواعق وجرب من الأصفر والزيتي أنه ينفع وجع المعدة تعليقات عليها وينفع أوجاع الأحشاء.
القول على الغازدهر
ويقال بازهر ومنه معدني ومنه حيواني والمعدني منه أبيض وأصفر وأخضر وأغبر ومسكت وهو أفضلها ومعادنه بالهند والصين والخالص منه إذا ألقي من سحالته شيء في لبن حليب جمده ويعرق في الشمس وهو نافع من جميع السموم ومقدار ما يشرب منه اثنا عشر شعيرة فيخرج السم بالعرق من الجسد، وإذا وضع على لسع العقرب أو الزنبور نفع نفعاً بيناً وإذا أنثرت سحالته على موضع اللسع اجتذبت السم منه وجرب أنه إذا نقش في فص منه صورة عقرب والقمر في العقرب في أحد أوتاد الطالع وركب على خاتم ذهب وطبع به والقمر في العقرب على درهمين كندر ممضوغ فإنه يشفي من لسعة العقرب شرباً، وأما الحيواني من البازهر فإنه يتولد في مراير بعض الأياييل بأرض شنكاره من جبال شيراز كما يتولد حجر البقر في مريرها وأكثره بلوطي الشكل لونه بين الخضرة والغبرة ويتراكم طبقات بعضها فوق بعض في المسن من هذا الحيوان حتى يبلغ زنة البلوط منه عشرة مثاقيل مع خفته وهو جوهر شريف يقاوم سائر السموم شرباً إذا شرب منه من دانق إلى نصف درهم يسحل على المسن بالماء القراح وسحالة الخالص بيضاء وربما تميل إلى حمرة خفية والمغشوش منه سحالته تميل إلى خضرة أو صفرة وإذا تقدم إنسان باستعماله على سبيل الاحتياط، وشرب منه في أربعين يوماً متوالية كل يوم وزن دانق لم يضره ما يرد على بدنه من السموم وينفع المجزومين نفعاً بليغاً ويجلو بياض العين والكلف والنمش جلاء، وحيا ويحل مغل الدواب وأسر بولها سريعاً.
القول على الخرتوت
ويقال ختو قال أبو الريحان البيروني هو حيواني يقال أنه يؤخذ من جبهة ثور يكون في نواحي بلاد الترك بأرض خرخيز، وقيل بل من جبهة طائر عظيم يسقط في بعض تلك الجزائر وهو مرغوب فيه عند الترك وأهل الصين يزعمون أنه يعرق إذا قرب من طعام مسموم، قال الأخوان الرازيان خيره المعقرب الضارب من الصفرة إلى الحمرة، ثم(42/11)
المشمشي، ثم الضارب إلى الكهوبة وكان في القديم ما كان وزنه مائة درهم فقيمته من مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً، وجرب من دخان بخوره أنه ينفع البواسير نفعاً بليغاً، وليكن هذا آخر هذا الكلام في هذا الكتاب واقتصرت على ذكر هذه الجواهر لأنها النفيسة التي تدخرها الملوك والأكابر وتتحلى بها الغواني، ومنافعها جليلة ولم أطل فيه القول بكيفية تولدها لعدم الفائدة في ذلك ولا ذكرت ما يلتحق بها مثل المرجان والسبح ونحوهما لنزول رتبتها عن هذه الجواهر النفيسة، وقد آن ختم الكتاب بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين وآله وصحبه الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل.(42/12)
المطبوعات العربية
كان أول كتاب عربي مثل بالطبع في القرن الخامس عشر للميلاد في رومية العظمى كرسي البابوية فطبعت على ذاك العهد أمهات من الكتب النافعة كأسفار ابن سينا وغيره وعني الطابعون بتصحيحها ومعارضتها على أصول وقعت إليهم فدلوا بذلك على أن حب الإتقان واختيار الأجود تكاد تكون غريزة في الغرب ثم انصرفت الرغبة في أوروبا إلى تعلم لغات الشرق ولا سيما العربية فطبع المستشرقون من الفرنسيس والألمان والهولانديين وغيرهم كتباً جليلة لنا وبذلوا مجهودهم في تصحيحها ووضع الفهارس والمعاجم لها والدلالة على ما فيها من فوائد وأوابد وشوارد، وكل هذه المطبوعات على سقم الحروف التي كانوا يستعملونها في مطابعهم كانت على غاية من جودة الورق ومتانته وجمال الوضع والشكل.
ولما دخل الطبع إلى البلاد العثمانية سنة 1135 هـ تأسست في اسكدار إحدى أحياء الأستانة أول دار للطباعة كان في جملة المطبوع من الكتب العربية بعض كتب دينية وبينها بعض الكتب العلمية والتاريخية إلا أن الطباعة لم تكن على الإتقان المطلوب والعناية بالتصحيح كانت دون عناية الأوروبيين بكثير أما الفهارس والتبويب فلم يحفلوا بها لما يحتاج وضعها إليه من طول النفس وسعة الصدر وكثرة العلم.
ولما قام محمد علي الكبير في القطر المصري والياً عليها وأراد أن يجعل لها شأناً في الحضارة لتدخل في عداد البلاد الراقية كان مما قام به تأسيس المطبعة الأميرية الكبرى فشرعت تطبع الكتب المعتنى بها متخيرة لها أجود الحروف وأجود الورق وخيرة المصححين والناظرين، وإن بعض الكتب التي نشرتها تلك المطبعة على أوائل عهدها لا تزال إلى اليوم مثال الإجادة ومنها كتاب كلستان الفارسي للحافظ الشيرازي والقاموس المحيط للفيروز آبادي.
وما برحت أحوال المطبعة الأميرية عرضة للقلب والإبدال على ما يكون حال الإدارات والمشاريع في الشرق غالباً تختلف سقوطاً وارتفاعاً بحسب إرادة القائم عليها وهي تطبع مع تلك الكتب القديمة التأليف الأسفار التي عني الشيخ رفاعة الطهطاوي وجماعته بتعريبها من اللغات الافرنجية ولا سيما الافرنسية فجاءت إلا قليلاً نموذج الجودة شكلاً ووضعاً.
ثم أخذ بعض التجار في أواسط القرن الماضي بمصر يفتحون المطابع ويطبعون الكتب(42/13)
للتكسب منها فقط فوضعت لهم بعض أمهات الحروف ولكنها سقيمة بالقياس إلى حروف المطبعة الأميرية وزادها سقماً أن أولئك الطابعين طفقوا يتخيرون من الورق أرأده ويقتصدون في التصحيح حتى لقد يعهدون به وأكثرهم أميون لا يقرأون الكتاب إلى أناس يماثلونهم في ضعف المدارك والعلم فكانوا إذا أحسنوا وأجادوا يطبقون المطبوع بالحرف على ما عندهم من الأصل وربما كان في البلد على قيد غلوة منهم خمس نسخ أو عشر من ذاك الكتاب كتبت في أوقات مختلفة وهم لا تحدثهم أنفسهم بأن يعارضوا عليها نسختهم التي يطبعون عليها وإن يذبلوها كما جرت عادة الأوروبيين بوضع اختلاف النسخ في أسفل الصفحات، أما التبويب والفهارس المتقنة فليس لها أثر فيما طبعه أولئك المتجرون ببضاعة العلم.
وعلى ذاك العهد فتحت بعض المطابع في بيروت على يد بعض الجمعيات الدينية المسيحية وكان سبق لبعض الأديار في لبنان أن كان لها مطابع حجرية، طبعت بعض الكتب الدينية واللغوية ومن جملتها شرح الزوزني على المعلقات وهو طبع حجري لا حرفي، فتخيرت مطابع تلك الجمعيات الكتب الدينية أولاً وأجادت بعض الشيء في طبعها ثم ارتقت الطباعة إلى أن أصيبت ببائقة المراقبة فانقطعت الرغبات عن الطبع بل زهد الناس في تعلم العربية ورأوا ربحهم المادي من اللغات الأعجمية أكثر وأنشأ دير الفرنسيسكان في القدس مطبعة طبعت بعض كتب وأكثرها في الدين ومثلها دير الدومينيكين في الموصل طبع مع كتب الدين كتباً علمية قديمة وحديثة ومنها تآليف المطران يوسف داوود العالم المشهور، وأنشئت إذ ذاك في دمشق مطبعتان إلا أنهما لم تطل أيامهما حتى تزيد العناية بإتقان مطبوعاتهما بالاقتصاد من التصحيح والعناية والورق والشكل ورص السطور والكلمات بعضها فوق بعض بدون فواصل ولا تقطيع وكانت أكثر مطبوعاتهم في فروع الفقه والنحو والكلام والزهد والخلاعة مما ألفه المتأخرون وفيه من الحشو واللغو والموضوع والمصنوع ما كثر ضرره في عقول الطالبين والمتأدبين.
ومنذ عادت إلى العربية بعض نضرتها الأولى أيام هب منذ بضع سنين أناس استناروا بقبس الغرب أصبحت المطابع تستحي من طبع التآليف الساقطة وتستشير أهل الرأي في تخير المصنفات للطبع ولو عملوا بنصائح العلماء كل حين لما أخرجوا كتاباً للناس قبل(42/14)
بذل الجهد في تنقيحه وتصحيحه وإتقان طبعه ووضعه ولكن ما الحيلة وهم يعتقدون كما قلنا أن الربح لا يتيسر لهم إلا بمثل هذا الاقتصاد البارد، وما أعجب إلا من طابع يطبع كتاباً يكلفه الألف والألفي ليرة ثم يبخل بعشرات من الليرات أو بعض النسخ جائزة لمن يتقن النظر فيه.
أما سائر المطابع المصرية كمطابع الصحف فلم تطبع شيئاً يذكر من الكتب المهمة وإن كانت أكثر سخاء من أولئك التجار في إتقان الطبع وجودة الورق وحسن التنسيق، ولم نر في المطبوعات التي انتشرت في العهد الحديث أتقن وأجمل وأصح من كتاب المخصص لابن سيده تعاورته بالتصحيح أيدي بعض العلماء الأخصائيين المحققين فجاء مزيداً في بابه لانخجل منه إذا نظر فيه عالم أوروبي كسائر مطبوعاتنا الأخيرة.
نقول هذا ونحن على مثل اليقين في أن ماطبع من الكتب العربية في بلادنا ما عدا بعض كتب طبعت في المطبعة الأميرية في مصر وبعض كتب لغوية أدبية طبعت في المطبعة اليسوعية في بيروت لا ثقة للمستشرقين به، وقد أكد لنا أحدهم أن كل نقل ينقله أحد مؤلفيهم من كتاب عربي طبع في الشرق تسقط مكانته وإن جمهورهم لا يعترف بالصحة إلا لكتاب عربي طبعه أوروبي ولكن هذا لا يخلو من غلو أيضاً.
أليس من العار أن تكون سيرة ابن هشام التي طبعت في ألمانيا أصح من الطبعة التي طبعت في المطبعة الأميرية نفسها وهي التي كنا نقرظها الآن بجودة الطبع واختيار المصححين وقد نبغ منهم فيها أمثال الشيخ نصر الهوريني وأمثاله.
أليس من العار أن يطبع امرؤ القيس الطحان أو (ماكس موللر) الألماني طبقات الأطباء لبن أبي أصيبعة في مصر فيخرج بجودة تصحيحه وفهارسه على ما تراه وتطبع مصر كتاباً لأحد كبار فقهائها الذين تفاخر بهم وهو كتاب طبقات الشافعية للسبكي فيأتي مشعثاً سقيماً كما تشهد، نعم إن نفس تأليف ابن أصيبعة أرقى وأمتع من مصنف السبكي في بابه ولكن إتقان الطبع والتصحيح والفهارس هو الذي نبكي على فقده بين أظهرنا وهو موضوع بحثنا الآن.
أي فرق بين كتاب لنا طبع مرة في أوروبا وأخرى في الشرق، بالله كم تساوي نسخة معجم البلدان لياقوت طبع أوروبا إذا قيست بالنسخة التي نقلت عنها وطبعت في مصر أو كتاب(42/15)
الكامل المبرد المطبوع في أوروبا إذا قيس بالطبعة الثانية المصرية التي نقلت عنه فكانت الصحة تغلب عليها أكثر من الكتب التي نطبعها ابتداءً.
ومن غريب أمر الطابعين في مصر أنهم يستحلون طبع الكتب التي تعب علماء المشرقيات من الأوربيين في أحيائها فيعيدون طبعها بالسقم المعهود في مطابعنا فتجيء والعين تنبو عن النظر إليها دون الطبعة الأوروبية بمراحل ومع هذا يستنكف أولئك الأمناء أن يشيروا إلى النسخة المنقول عليها تمويهاً بأنهم هم ناقلوها عن أصل مخطوط ظفروا به وتكلفوا في البحث عنه ضروب المشقة والنفقة كأن أولئك الفضلاء الذين لهم الفضل الأكبر في إحياء مآثر أجدادنا غير أحرياء أن يذكروا بكلمة شكر لمعاونتهم لنا.
وإنا لنرى حتى الآن خزائن الكتب في بلادنا طافحة بالمخطوطات من الأمهات التي تجب المبادرة إلى تمثيلها بالطبع على مناحي الغربيين ونرى طابعينا وكتبيينا يكررون طبع تلك الكتب المألوفة والمستنير الفكر منهم يمد يده إلى كتاب طبعه أوروبي فعانى عرق القربة في سبيل نيله فيعيد طبعه مدعيه لنفسه وإنه هو الذي أحياه، وخزائن كتب الأستانة وخزانة دار الكتب المصرية وحدها مملوءة بالنوادر التي لو أحييت على الطريقة التي تجب من العناية لكان فيها الربح الجزيل والشرف الأثيل لطابعيها وناشريها.
لو بذل أرباب المطابع في مصر والشام والأستانة وبغداد وتونس وفاس بعض عناية الأوروبيين بكتبنا قبل أن يمثلوها بالطبع لكان عندنا اليوم من المطبوعات العربية ما نفاخر الأمم بكميته وإتقانه، نحن لا نقول لطابعينا أن يتأنقوا ويبالغوا في التصحيح كما يبالغ أكثر المستشرقين في الطبع بأن يرسلوا أحياناً الملازم المصفوفة حروفها من مملكة إلى أخرى لتعارض على الأصل الآخر الذي هناك أو لتدفع لعالم متمكن من الفن الذي جعل الكتاب في موضوعه يمر عليها نظره وإنما نريدهم على السخاء المعتدل في التصحيح وجعله من أوليات المسائل في الطبع لا مناص من توسيده إلا للعالمين به كما لا مهرب من إعطاء أجرة المنضد والمرتب والطابع والمجلد لكل من أراد أن ينشر كتاباً.
طبعت بعض مطابع الهند وفارس كتباً عربية كثيرة ومعظمها بالحجر في موضوعات دينية من حديث وفقه وكلام ولكن بعضها على العجمة المستحكمة من السن أهل تلك البلاد تكاد تكون أقرب إلى الصحة والضبط من بعض ما طبعه العرب من أرباب الطباعة في هذا(42/16)
الشرق الأدنى.
أما الآن وقد رفع الحجر عن العلم في البلاد العثمانية وأصبحت كالديار المصرية في حريتها فالفرض العيني على المتجرين بالكتب والمتمحضين لخدمة الآداب والعلم أن يسارعوا إلى استنساخ ما حوته خزائننا العامة والخاصة من الأسفار الممتعة ويحذوا حذو الأوروبيين في التصحيح والشكل والفواصل والتقطيع والفهارس المنوعة حتى ينتفع المراجع بفوائد الكتاب لأول وهلة ويسقط على ما يريد معرفته منه بأدنى نظر دون إنهاك القوى في تصفحه كله على غير جدوى من أجل العثور على مسألة أو اقتباس جملة، وبذلك يرفعون العار عن العربية الذي يشيعه عنها الجاهلون فضلها فيرمون كتبنا عنها بأنها معقدة غير متسعة وأن المطالعة في كتب جعلت جملة واحدة ضرب من العنت وإضاعة الوقت على غير طائل، وإفناء العمر في باطل وعاطل.(42/17)
رسائل بليغة
وقع إلينا كتاب مخطوط وقد كتب على جلده بخط حديث لا تحزن إن الله معنا حكمة بالغة لبعض الحكماء: لا مجد كمجد من يخدم وطنه، وقال اسكندر دوماس الفرنسوي المشهور: إن الأشرار يتحاملون على النفوس الشريفة بيد أنهم لا يستطيعون له أذىً فهي (أي النفوس الشريفة) كالصخور الصوانية تطغو عليها أمواج البحر عند هبوب العواصف فتظن أنها قد أغرقتها وهي قد غسلتها فتعود في نور الشمس أكثر جلاءً.
وليس لهذا المجموع اسم ولا عرفنا اسم جامعه ولا سنة نقله وإنما الطاهر من خطه المشرقي أنه مما كتب قبل الألف للهجرة وهو في ستة وأربعين ورقة من قطع الربع.
وفي الورقة الأولى منه صورة سؤال كتبه الشيخ الفقيه المفتي أبو محمد عبد الحميد بن أبي الدنيا إلى الفقيه الإمام العلامة الشيخ عز الدين أبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام رضي الله عنهما فيمن تصدى للفتيا والجواب عليها وقد استغرق السؤال والجواب ورقتين.
أما المجموع فهو رسائل لبعض البلغاء فالرسالة الأولى كتاب الفقيه المشاور أبو محمد عبد القوي في زواج ابنته إلى أحد الفقهاء وكتاب لأبي بكر بن صاحب الصلاة إلى بعض إخوانه يوصيه بالتحفظ بكتبه من الفار وكتاب له إلى بعض إخوانه يصف جامع قرطبة جاء فيه:
والجامع قدس الله بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه، قد كسي بردة الازدهاء، وجلي في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول في سنان، أو أشر في أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، وخلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس قد خلفت فيه ضياءها، ونسجت على أقطاره أضياءها، فترى نهاراً قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوة سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذبال تألق كنضنضة الحيات، أو إشارة السبابات بالتحيات، قد أترعت من السليط (شيرج) كؤوسها، ووصلت بحاجز الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أو كالثعابين العائمة، عصبت بها تفاح من الصفر، كاللقاح الصفر، بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولآلائها، كأنما جليت باللهب، أو أشربت ماء الذهب، إن ساميتها طولاً رأيت منها سبائك عسجد، أو قلائد زبرجد، وإن جئتها عرضاً رأيت منها أفلاكاً ولكنها غير دائرة، ونجوماً ولكنها غير سائرة، تتعلق تعلق القرط من الذفرى، وينبسط شعاعها بسط الأديم حين يغرى، والشمع قد رفعت على النار رفع البنود، وعرضت عليها عرض(42/18)
الجنود، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد.
وهنا انتهت الصفحة واختلط الكلام بغيره والغالب أن ورقة سقطت من الوسط، وكان فيها تكملة ذلك الوصف المسجع المستملح، وهناك رسائل كتب بها الوزير الكاتب أبو مروان بن زكريا ورسائل كتب بها ذو الوزارتين أبو بكر بن عبد العزيز منها كتاب كتبه عن أهل قرطبة إلى علي بن يوسف بن تاشغين ونصه: أيد الله أمير المسلمين بالتقوى وعمر به ربع الإسلام فلولا رجاؤه لكان قد خرف في هذه الجزيرة وأقوى وأتم به وعليه النعمى وجعل ذراه الأمنع الأحمى وأمده بالقوة والرحمى وأنار به طريق الهدى وصدع بنظره الحميل جميع العدى وجعله ممن اشتمل بالتوفيق وارتدى وجرى في غايات البر فسيح المدى واتبع آثار الذين هداهم الله واقتدى، كتبناه أدام الله تأييده وطاعته لم تخلق برودها ولم تتقض عهودها ولم يتغير معهودها ونحن لحقه مقدمون ولما أوجب الله من فرض إمامته معظمون ولما قضاه مسلمون ولما أمضاه مستسلمون وبين يدي أشفاقه باكون خاشعون وإلى جنابه وارتماضه (انفعاله) شاكون ضارعون وللحق فيما ينهيه حاكون وبه صادعون وقد ضاقت بالنفوس الحناجر وأسلمت الدموع المحاجر وسمعنا صراخ الأسرى المضطهدين يمنة ويسرة فما ملكنا إلا عبرة أو حسرة ووددنا يوم انتقل الأمير الأجل ولي العهد عن أنظارنا وارتحل من ديارنا أنا لقينا الموت المعجل فأراحنا من الأوجال ولم ترتق الخطوب إلينا حالاً بعد حال وهذا العدو المجاور لنا قضمه الله قد أحرقنا بشررة من ناره وأغرقنا في قطرة من غماره فكيف نكون بعد وقد أشجانا بشؤبوب برد ورمانا بضرم متقد ونحن نستقبل به جمعاً ولا نطيق له بغير الله دفعاً ونترقب آزفة تترك أنوار الإسلام والله الكافي كاشفة ولا تجد لها من دون الله كاشفة بل هو القادر على أن يصرف إلينا نظر أمير المسلمين فيسهل لنا مقاصدها ومسالكها ويرد عنا محاذيرها ومهالكها.
وتفسير هذه المقدمة الشديدة الوقوع الكريهة المسموع الأميرة قلعة رباح ومورة نفدت في شهر كذا وأوعب العسكر مع والينا أبي محمد وفقه الله في نقلها ونهضوا بما تحملوا من ثقلها فلما أعنقوا في مضمارهم وبعد عنا ماكنا نتطلع من أخبارهم جاء الصريخ أن عسكر الروم دخل على فج المساجد إلى بلاد الإسلام رد الله عنه كيد عبدة الأصنام وهناك مقاصد شتى شعوبها وغنائم لا يتعذر مطلوبها فأخذ بنا الورع في كل طريق وخفنا على كل جانب(42/19)
من جوانب المسلمين وفريق وتوجه من بقي في البلد من أهل الفلاحة وغيرهم للإنذار وتقليع الأقطار وأعلام أهل البوادي بنبأ هذا العسكر الجرار ورفعهم عن مواضع سكناهم عسير ولا يرد قدر الله عمن هو قتيل أو أسير واستصرخنا الأمير الأجل أبا زكريا يحيى بن اسحق وفقه الله لهذا الخطب النازل والعدو المغير المنازل فتوانى فيما كان يروم وسبقه إلينا الروم فأغاروا من الوادي الكبير إلى القليعة إلى لورة إلى فرنجولس واجتاز الوادي إلى يلمه وبعض نواحي استجة وكان ذلك في اليوم الثالث من وصول خبرهم إلينا ووروده علينا وأكثر أهل هذه الناحية لم يطيعوا النذير ولا صدقوا التحذير بل غلبهم ضعف المقدرة عن الانتقال وكثرة العيال والأطفال فامتلأت بالسبي الجبال وأسلمت من فيها السهول ولا تعصمهم الجبال وأخذوا من النهاب والإمتاع والحاضر والكراع ما لا يدركه الإحصاء ولا يملكه الاستقصاء وبقوا في ذلك يومين لا يجدون من يرد امتدادهم ولا من يرمي سوادهم حتى غلب أكفهم الانتهاب وضامه بهم المشي والذهاب ووصل كتاب وإلينا أبي محمد بن كركي بعد أخذه في الصدر والقفول من ذلك السفر يذكر ما اتصل به من الخبر ووعدنا بالتشمير في اتباعهم وأخذ الاهبة لقراعهم وتلوه إذن الله في ذلك لاعبين بكثرة الجند واجتماعهم وجاء أيضاً عن والي إشبيلية أنه وصل لورة وسيره حثيث وهو للمسلمين ناصر ومغيث والنصارى قد أثقلتهم الأسرى والغنائم فلا يمشون إلا رويداً ولا ينتقلون إلا صار الأمن لهم قيداً واجتمع الواليان وفقهم الله والعدو لم يبعد طلبه ولا تعذر مطلبه ونفر المسلمون من كل مكان خفافاً وثقالاً فرساناً ورجالاً وقد رأوا أسباب النجح بينة ولوازم الجهاد متعينة ولما تراءت الفئتان قصرت الأقدام وقلّ الإقدام وطفئت الحفائظ وكان لها توقد واحتدام ونسي فرض الإسلام واستخف ثقل الملام ورأى الكافر ما عليه من عساكر تترادف أمدادها وتزيد ضعفاً على من عنده أعدادها فلجأ العدو إلى جبيل لا يعصم الهارب ولا يمنع الطالب وسدل به الرجالة المطوعون فأرهقوه عسراً وحالوا بينه وبين المواشي قسراً وخالطوا الكفار في صعيد وسائر العساكر غير بعيد ورزق الله المطوعين الصبر في محاربتهم والاجتهاد في مطاعنتهم ومضاربتهم فما ذعر الكفار لهم سرباً ولا فلوا لهم غرباً فاستمدوا الولاة وعندهم الكماة وبين أيديهم الرماة فما أمدوهم بحام ولا أعانوهم برام بيد أن الكفار يئسوا من الحياة ولم يطمعوا في النجاة واعتنقوا اعتناق وداع ولا يثقوا بقوة ولا(42/20)
خداع وفني عمر اليوم والكتائب لم تتحرك وقد أذن الله بالإملاء لمن أشرك وترك الليل فقوض الكافر بجمعه على أعين الناس وأسرى ومعه الدواب والأسرى وقد أهملهم أهل الإسلام ولم ثرع فيهم ذمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وتركت الغنم والبقر سدى واغتالتها يد الردى وانتهبتها أهل الحصون كما تنتهب المغنم المباح وأخذوها كما تؤخذ الفوائد والأرباح ولم يرجع منها إلى أهلها إلا النذر اليسير والتافه الحقير وكان للأسرى عند رحيلهم عجة في الأصفاد وضجة في الأغلال والأقياد تصرع الجماد وتفجر الأحجار الصلاد فما رقت لذلك قلوب أقستها الذنوب وبعد عنها نصر الله وهو قريب ومنعها من حسن اليقين شك مريب، ومعظم الشكوى بأهل إشبيلية فإنهم أظهروا المباعدة وأقلوا المساعدة وعادهم في ذلك الخميس عيد من ذكر يوم الخميس فاستقبلوا العجز استقبالاً وخرجوا للنصر فما زادوا إلا خبالاً فيالله ويالأمير المسلمين من دماء سفكت وحرمات هتكت وأنفة في دين الله وضعت وتركت وجماعة من المسلمين غلبت بيد الباطل وملكت، وقدامهم من أخوانهم من يزيد على عددهم أضعافاً يغلب فيها النساء الرجال ويسبق ذوي الغرر والحجول ربات الحجال ولو كانوا نصفهم لكان ذلك النصف يحسبهم وكتاب الله تعالى قد أوجب أنه يغلبهم وقد روى ثقات الأخبار خطبة علي رضي الله عنه بالأنبار وأمير المسلمين أولى من اهتدى بهديه ورأى في الإسلام مثل رأيه وقد علم الروم أن حمى الإسلام غير ممنوع وغاربه غير مدفوع وعندهم في هذه السنة احتفال واحتشاد وتأهب واستعداد وما منا أحد إلا وهو يجتاز للجلاء أقرب طرقه ويرى موضع الفداء والسيف من عنقه وقد دعونا أمير المسلمين بما أسلف إلينا من نعمه وأعلقنا من ذممه وقرب إلينا من مسافة مطالعه واقتضاء الواجب في مناصحته ومشايعته والرب سائله عما استرعاه ومجازيه بعمله المبرور ومسعاه ولعل الله يجعل لنا في قلبه رأفة تعطفه إلى هذه الشكوى وترفه ما نزل بنا من البلوى وإنا لننتظر من نظره الجميل وجوابه الواضح السبيل ما يقر النفوس في قرارها ويعيد الآمال في النجاة بعد فرارها وهو أيده الله بذكر ما أخذه عليها من العهد المسؤول في النصح المبذول والصدق المقبول فرأينا أن لا نكتم ما يجب إبداؤه ولا نمسك ما يلزم أداؤه وهو المسؤول جلت قدرته أن يرفع بالتقوى قدره ويشرح لهذه الشكوى صدره ويجزيه عن جوانب الاتها العدل وبسيطها ومذاهب زانها الرفق وأقسطها أفضل ما(42/21)
جزي به أماماً تواضع لله فحببه إلى خلقه وأعانه على حقه لا رب غيره والسلام.
فراجعهم علي بن يوسف بن تاشنين:
كتابنا كتب الله لكم يقيناً تطمئن بصدقه القلوب وتهون بعده الخطوب وأيدكم بإيمان تنبعث به البصائر ويثوب ويذهب بسبب الروع الذي يخوف به الشيطان أولياءه فلا يعقب ولا يؤب من حضرة مراكش حرسها الله في الثاني عشر من جمادي الآخرة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة ونحن نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو حمداً نتخذه إلى المزيد من نعمته سبيلاً ونجعله إلى رحمته دليلاً وننزله بعصمته كفيلاً ونصلي على محمد نبيه الكريم صلاة عامة تامة تتعاقب إليه مع التسليم الأصفى وعلى آله الطيبين وصحبه الأكرمين بكرةً وأصيلا، أما بعد تجاوز الله عن ذنوبنا وذنوبكم وفزع بأمنه عن قلوبنا وقلوبكم وصفح عما يعلمه من عيوبنا وعيوبكم فإن كتابكم الأثير وافانا مضمناً من سوء أثر العدو قصمه الله في المسلمين عصمهم الله ما أغص وأشرق وأمضى وأرق وجمع علينا من همومكم وغمومكم ما انتشر وافترق وذلك ما أحصاه قبل خلق الخلائق كتاب من الله سبق قال الله سبحانه وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم وصدق (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسو على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) وما نهون مصاباً أدرك المسلمين والمسلمات فيه من النكال الموجع ما أدرك وظهر على المؤمنين في مواطنهم من كفر بالله وأشرك وفتك في حومته بدين الله من فتك ولوددنا والله شاهد أن نجعل دون نفس المسلمين نفساً لا ندخرها ما استطعنا من فدائهم ولا نكره أن نبذلها جهدنا في جهاد أعدائهم وأن نكون جنة واقية من أمامهم وورائهم ولكن نقول ما قال سبحانه وتسليماً وتراه كما هو عند الله عظيماً (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً) وقد علمتم أمتع الله بالحسنى أمتاعكم وأقر بعوائد البشرى أبصاركم وأسماعكم وكشف عنكم وعنا فيكم ما وقذكم وراعكم أنا قد تقدمنا إلى جميع العمال ومن تحت أيديهم من الرجال أن يتظافروا على العدو قصمه الله ويأتلفوا ويتطاوعوا ولا يختلفوا ويتقدموا في حسن الدفاع ويزدلفوا ولو أن جميع المسلمين من قلة أتي وبأضعاف كثيرة رمي لقلنا في الحاجزة نعماً هي ولكن فت في أعضاد الله تبريحهم وتنازعوا ففشوا وذهب ريحهم ولم يحظ عندنا بقبول تعريضهم في(42/22)
العدو وتصريحهم فاستحقوا مقت الله ومقت الأمة ولومها وأعطوا شيعة الكفر على الرغم منهم حكمها وشومها وفضحوا المسلمين كما فضحت عامل (عاد؟) قومها وعلى الله تعالى ثم علينا تقويم الزيغ بعينه والأود والتقدم لكل خاصة وللمسلمين عامة على توفيق الله تعالى بالنظر الاحد وأعينونا رحمة الله بالأدعية الصالحة التي هي أمضى السلاح وأوثق العدد وأما ما سرى إليكم من أعداد العدو قصمه الله لخروج يستقبله وفساد في البلاد يؤمله فالله تعالى بقدرته يشغله عن ذلك ويذهله ويرميه بحوادث لا تنتظره ولا تمهله وحن علينا وقد استرختم بنا أن نلبي بمشيئة الله نداءكم ونجيب على الصبة والذ والذلول دعا كم ونلقي دونكم الأموال والأنفس أعداءكم وما كنا لو لم تعلنوا في الكتب المجردة نجواكم ولم يبلغنا على السنة الأقلام شكوا كم لندعكم لعدو يستبيح حماكم ويجمع نفسه لمصرتكم وإذا كم ولا نستقيم أصلحكم الله بما نيتنالكم عن أذكاركم واعتصامنا جميعاً بالله هو مولانا ومولاكم واعلموا وفقكم الله أن حماكم حمانا ومن رماكم فقد رمانا ومن أرادكم بسوء الله يكبه لوجهه فما تخطانا ولا تعدانا وظلام الإسلام بحمد الله ممتدة وتلك النصب التي تقدمنا بها في العام الأول معتدة والاهبة بحمد الله متى حزب حازب مستجدة والذي من نصرتكم نستدعيه ونستمنحه في الله ونستهديه دعاء نتعرف بنعمة الله بركة إخلاصكم فيه على الذين شغلوا خيل الله قبلنا عن ثنايا في غزو الكفر نطلعها وأودية في مواطئ بغيظ حزب الشيطان نطويها ونقطعها والله يأخذ هذه الفئة ولا يدعها ويكبتها سريعاً ببطشه الكبرى ويصدعها فخذوا رحمكم الله في أدعية يقبلها ويرفعها ويد الله مع الجماعة ولن يرجع إلا بالإجابة السريعة إن شاء الله مجتمعها وأما ما انتهبه أهل الحصون وسواهم من أغنام المسلمين فلا فرق بينهم في ذلك وبين المشركين ولو كان ذلك النشر جامع يضم تفاريقه وحائط المسلمين يرى الحرج ويخشى ضيقه أو آمر بمعروف أدناه عن منكر يؤثر الحق ويسلك طريقه لحفظ تلك البقية على أربابها وحال بين المسلمين وبين انتهابها لكنهم أمنوا من سعتها وطلابها وما منعه قوم لم يحضرهم من أهل الرضى حاضر ولم يشهده منهم ناصر والله على نصر المهتضمين قادر توكل الله للمسلمين بناصر ناجز ولا وكلهم إلى مضيع ولا عاجز وجعل بينهم وبين الأعداء كل حجر مانع وحاجز بمنه والسلام.
ومن الكتب أيضاً أربعة كتب من أبي الحسن علي بن سيده إلى أستاذه، وفي المجموع عدة(42/23)
كتب لذي الوزارتين أبي عبد الله بن أبي الحضال منهم رسالة إلى عسكر انهزم فوبخه وثانية كتبها عن تاشغين بن علي إلى صاحب فاسر في أمر محمد بن تميم حين استراب منه وثالثة أيضاً مراجعاً للوزير الكاتب أبي مروان بن زكريا جواباً عن رسالة خاطبه بها وغير ذلك ومما يؤثر ما كتبه عن علي بن يوسف إلى يحيى بن علي بولاية بلنسية وها هو:
كتابنا أعزك الله بتقواه ورفع قدرك وأسماه وأيد عزمك في ذاته وقواه ولا زلت تتقلب في عوارفه المقيمة ونعماه من حضرة مراكش حرسها الله لأربع خلون لجمادي الأولى سنة أربع وعشرين وخمسمائة وأنا بما نعرفه من صفو ولائك وصدق غنائك وظاهر استقلالك واكتفائك نرى أن نرفعك بمقتضى حقك في الأحوال ونوسع لك في الأعمال ونعقد بطوقك منها ما نعلم أنه به ناهض مضطلع ونضيف إليك من جسيمها ما أنت بشروطه والقيام بحقوقه رحب الصدر متسع ولضبط جوانبه ومراعاة لوازمه منتظم الأمر مجتمع فقلدناك بعد استخارة الله تعالى والابتهال إليه في اطلاعنا على مواقع السداد وإمدادنا بحسن التوفيق والإرشاد ولاية بلنسية وأعمالها حماها الله تقليداً جمعنا لك به بين الولايتين وملكناك به أمر كريمتين وزمام جحفلين فتقلد ما قلدناك على الطائر السعيد وتظاهر التأييد وتوله معرفاً فيه يمن التقليد وتوالي الصنع الحميد وانفذ إلى عملك وتسلمه من المصروف بك واستقبل الأمر بأقوى عزيمة وجد وانفذ مضاءٍ وامضى حد وكن به جد ناهض مستبد وتلك حال خطيرة قد جذبنا إليك زمام قيادها وتوخينا بك إقامة منآدها وثغور قد رميناها منك بسدادها وأمور صارت بتصييرها إليك عند عالم بإصدارها وإيرادها وقد أغنانا علمك بالسياسات في جميع الطبقات عن أن نفصلها تفصيلاً أو نأتيك بها قبيلاً وإنما أعطيناك جملة لا يؤودك تدبيرها ولا يذهب عنك تفسيرها لأنك إنما تقدم على بلد صاقبته كثيراً وجاورته دهراً طويلاً فشؤونه في صدرك مجتمعة وإلى فكرك منحصرة مع تكررك على المكان واطلاعك عليه تارة بالخبر وتارة بالعيان وقديماً تمنى أن يلقى إليك قيادة وصب سادته ورعاياه وأجناده فاجزهم الآن بودادهم وحطهم في أنفسهم وأموالهم وبلادهم وعم جميع الأحوال بتصفحك ومتع الجميع بتأملك واعط كلاً حقه من نصفتك وحسن رعايتك وأذقهم حلاوة الأمن والعدل في ولايتك إن شاءالله، وموضع إقامتك هناك أنت تختاره حيث تهوى لنفسك فتبوأ مكاناً(42/24)
يصلح لأمرك ولا تبعد به كل البعد عن قاصية ثغرك فترجح ما بين شاطبة وبلنسية أو منزلة بينهما ذلك مصروف إلى اختيارك والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ونحن بعيد وأنت قريب وإنك كما علمنا موفق الرأي مصيب والله تعالى مؤيدك ومرشدك ومعينك ومنجدك بجوده ومجده لا رب غيره فإن احتجت أن تستعين بأبي عبد الله محمد بن علي أخيك أعزه الله فاستعرفه يقدم عليك واستدعه يسرع إليك واستنب مكانه بميورقة محمود المناب نافذاً في ذلك الباب إن شاءالله عرفك الله يمن ما وليت وأعانك على حفظ ما استرعيت بفضله وجميل صنعه لا إله غيره والسلام.
وكتب عنه أيضاً إلى أهل بلنسية في ذلك:
كتابنا كتب الله لكم تمهيد الأحوال والجهاد وأمدكم بسوابغ الإجمال والهبات ويسركم للأعمال الصالحات والمساعي المرضيات من حضرة مراكش حرسها الله لأربع خلون لجمادي الأولى سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقد رأينا بعد استخارة الله التي يتوصل إلى المراشد من بابها وتدرك المناحج من أسبابها أن نولي عليكم أبا زكريا يحيى ابن علي أعزه الله بتقواه فقد قلدناه أعمالكم ووصلنا به حبالكم نظراً منا لكم بمكانه وإلقاءً بأزمتكم إلى حازم وقته وأوانه فإنه والله ينجده ويسعده بحيث علمتم حسن سيرة وعدل ومتانة دين وفضل وتمسكاً من التقوى بأقوى حبل مع صالح مشهد وبلاء وصادق حفاظ وغناء ونفاد عزيمة ومضاء فآثرناكم منه يحافظ لنظامكم ومصرف لزمامكم وساد لثغوركم وقوام بأموركم فهو يقلبها على الحزم ويديرها ويمضي على ما يراه ويحكم تدبيرها وحسبنا في تمهيد أكنافكم وحراسة أطرافكم أن نجعلها وإياكم في كفالته ونختار لها ولكم حسن إنابته وقد فزعنا إليكم به من شؤونكم وقضيناكم به ممطول ديونكم فما ترجعون بعده بتباعة ولا تخشون معه إن شاء الله من حوزة مضاعة فعليكم رحمكم الله أن تتلقوا أمره بأتم سمع وطاعة وتتوخوا نصحه بكل جهد واستطاعة ثم إنه لا يستغني أن تكونوا ظهراً في المحاتم التي يتوخى بها جبر أحوالكم ورم ما رثّ من حبالكم فليجدكم عندها أمام كل إرادة ولتنجذبوا في يده باسمح مقادة فإنه لا يجعلكم الأعلى الذي فيه عن حوزتكم دفاع ولمصالحكم انتظام واجتماع وأنتم عنده على منازلكم يقدر كلاً قدره ويقضي إليه أمره فما في بره ولا في سياسته تقصير ولا عنده في غير كنهه جانب عسير وعلى ذلكم فقد وصيناه بجانبكم من غير أن نخاف منه عن(42/25)
القصد انحرافاً أو نحذر من جهته نكوباً عن الواجب أو خلافاً وإنما قصدنا معه الذكرى فإنها توقظ ذا لحجى وتنب وتبين لذي الحلم والنهى ما يشتبه عرفنا الله وإياكم ميامين هذا التقليد وجعله كافلاً بالأمر السعيد والصنع الحميد إنه الكريم والسلام
وكتب إلى العسكرية بها في الغرض المذكور!
كتابنا أبقاكم الله وعصمكم بتقواه وأجزل حظوظكم من حسناه وجعلكم سابقين إلى طاعته ورضاه متقلبين في عوارفه ونعماه من حضرة مراكش حرسها الله في تاريخ كذا من سنة كذا وقد ولينا أمركم أبا زكريا يحيى بن علي أعزه الله بتقواه وقدنا تصريف أعنتكم وأرمينا إليه بأزمتكم ومكانه حيث لم تجهلوه خيراً وضيماً ونصاباً كريماً وهدياً قويماً وإقداماً وتصميماً ومضاء كان به إذا رفع اللواء على الخميس زعيماً والآن بولائه إياكم فقد آن أن تتضاعف نجداتكم وتصدق عزماتكم فإنه يقود بكم من يرسل أمام اعنتكم عنانه ويروي قبل أسنتكم سنانه وأنتم مع ذلك بحكمه مصرّفون وبالتزام طاعته مكلفون وإلى رايته مجتمعون وتحتها متألفون فإذا أمر فأتمروا وإذا رمى بكم جانباً فابتدروا وإذا أوردكم فردوا وإذا أصدركم فاصدروا فإن حسن الطاعة بركة وجمال ويمن وإقبال كما أن الاستعصاء عليكم مبني على الأخلاق اللئيمة ومخبئة للنفوس الكريمة فأطيعوه كما فرض عليكم في المكروه والمحبوب وانضموا عليه راشدين مشفقين انضمام الجوانح على القلوب فإن لكم حسن الإيثار جزاكم الحسنى والحياء الانم الاسنى جعلكم الله ممن أصحب في القياد وأجاب داعي الرشاد وآثر التقوى واعتقدها خير زاد بمنه والسلام.
وفي هذا المجموع أيضاً بعض مقامات سنها المقامة القرطبية وتنسب إلى أبي عبد الله بن أبي الخصال وقد تبرأ منها وهي في وصف أعيان قرطبة ورؤسائها ثم رد على صاحب المقامة أيضاً اسمها الانتصار كتب بها أبو جعفر بن أحمد والمقامة الشبلية وتعري لأبي الوليد بن سيد أمير، ورسالة لأبي محمد بن القاسم في الترجيح بين الصابي والبديع وقد فضل البديع على الصابي ويتبعها رد من أبي عبد الله بن أبي الخصال في الانتصار للصابي، هذه نموذجات جزئية من الكتاب نشرناها على علاتها وربما سمح لنا الوقت بالرجوع إلى نقل بعض جمل من كتب ابن سيده والموازنة بين الصابي والبديع.(42/26)
روح الاجتماع
قلت الكتب التي تنشر هذه الأيام باللغة العربية ويراد منها بث علم نافع أو تصحيح فكر سقيم وذلك لقلة المؤلفين والمترجمين ولقلة القارئين والعارفين، وكتاب روح الاجتماع الذي عربه عن الافرنسية أحمد فتحي زغلول باشا هو من الأسفار التي يقصد بها مؤلفها نفع أمته وتصحيح بعض أغلاطها والمؤلف هو الدكتور كوغستاف لوبون العلامة صاحب التآليف الممتعة ومنها كتاب مدنية العرب فقصد المعرب أن ينقل كتابه لأمته لينتفعوا منه انتفاع الفرنسيين أو بعضه، والمعرب النابغة قديم في صناعة التعريب صحت عزيمته حتى الآن على نشر بعض الكتب المفيدة ومنها أصول الشرائع نبتنام وسر التقدم الانكليز السكسونيين لديمولانس والإسلام لهنري دي كاستري وهي من الكتب النافعة التي أحدثت تأثيراً في وقتها واستفاد منها المستنيرون من قراء العربية ولا سيما من لم يسعدهم الحظ بتعلم لغة أجنبية لتناول مثل هذه الأفكار من مصدرها الأصلي.
ولو تصدق كل من حذق لغة أوروبية وأحكم اللسان العربي فنقل لأمته كتاباً أو كتابين لكان عندنا اليوم من المترجمات العصرية في العلوم والاجتماع لا في القصص والأساطير ما يملأ خزانة كبرى تصبح معها لغتنا كإحدى اللغات الغربية بغناها بأفكارها وكتبها الجديدة، وليست طلاوة الجديد كطلاوة القديم وما قط كان العلم الخيالي كالعلم العملي، لو تصدق كل واحد من أرباب الأقلام ودارسي اللغات والفنون كما يتصدق المرة بعد المرة أمثال حضرات أحمد فتحي زغلول، محمد فريد، عبد العزيز جاويش، عبد العزيز محمد، أحمد زكي، صالح حمدي حماد وأمثالهم من المعاصرين لأغنونا بعلوم الغرب وقلبوا في مدة كيان الأفكار من طريق العلم.
كتاب روح الاجتماع هو في بيان أحوال الجماعات وما يعرض للفرد مجتمعاً من تغير المشاعر واختلاف النظر وتبدل حكمه فيما يحيط به حلل فيه المؤلف روح المجتمعات الحديثة ولا سيما في فرنسا تحليلاً نفسياً فلسفياً غير ناظر إلى أكثر ما يتعلق به بعض ضعاف المؤرخين من الحوادث بل نظر إلى الدواعي النفسية والمعتقدات والعادات نظر المستبصر الناقد علماً منه بأن الحوادث الظاهرة مثل الأمواج المتلاطمة التي تترجم فوق سطح البحر عما هو واقع في جوفه من الاضطرابات التي خفيت عنا ونحن إذا نظرنا إلى الجماعات نراها تأتي من الأعمال بما يدل على انحطاط مداركها انحطاطاً كلياً غير أن لها(42/27)
أعمالاً أخرى يظهر أنها منقادة فيها بقوة خفية سماها الأقدمون قدراً أو طبيعة أو يداً صمدانية وسماها أهل هذا الزمان صوت من في القبور.
وأحرج الأزمان في تطور الفكر الإنساني زماننا هذا ولهذا التطور عاملان أصليان: الأول تهدم المعتقدات الدينية والسياسية والاجتماعية التي تتكون منها عناصر المدنية الحاضرة والثاني قيام أحوال جديدة ونشوء أفكار جديدة في الحياة تولدت كلها من الاكتشافات العصرية العلمية والصناعية، ولما كان تهدم الأفكار القديمة لم يتم فلم تزل قوتها وكانت الأفكار التي ستحل محلها في دور تكونها كان الزمن الحاضر زمن تحول وفوضى. . . .
ولكن الذي نراه منذ الساعة أنه سيكون أمام تلك الأمم قوة عظيمة لا بد لها من الاعتداد بها لأنها أكبر قوة وجدت أريد بها قوة الجماعات تلك القوة التي قامت حتى الآن وحدها على أطلال الأفكار البالية التي كان الناس يعتقدونها حقائق وماتت وعاشت بعد أن حطمت الثورات المختلفة كل سلطة كانت تتحكم في الناس وهي القوة التي يظهر لنا أن مصيرها ابتلاع ما عداها في القريب العاجل ألا ترى أن معتقداتنا القديمة أخذت تهتز من وهن أساسها وأن أساطين المجتمعات القديمة تتداعى وتتحطم وأن سلطة الجماعات هي وحدها التي لا يهددها طارئ بل هي تعظم وتنمو عليه فالدور الذي نحن قادمون عليه هو دور الجماعات لا محالة. . .
الجماعات أقدر على العمل منها على التفكير وقد أصبحت بنظامها الحاضر ذات قوة كبرى وعما قريب يكون للمذاهب التي نراها اليوم في دور التكون من السلطان العظيم على الأفكار ما للمذاهب التي رسخت أصولها في الاعتقادات أعني سلطاناً مستبداً لا تأثير فوق تأثيره فلا تعود تحتمل البحث أو الجدل وحينئذ يقوم حق الجماعات المقدس مقام حق الملوك الأقدسين.
ينحصر الأثر الواضح لعمل الجماعات حتى الآن في هدم صروح المدنية فالتاريخ يدلنا على أنه كلما وهنت القوى الأدبية التي يقوم عليها بناء تقدم أمة من الأمم كانت خاتمة الانحلال على يد تلك الجماعات الوحشية اللاشعورية التي سميت بحق متبربرة أما الذين أقاموا صروح المدنية وشيدوا أركان الحضارة فهم نفر امتازوا بسمو المدارك وبعد النظر ولكنا لم نر حتى الآن للجماعات أثراً مثل هذا فهي إنما تقدر على الهدم والتحطيم وزمان(42/28)
حكمها زمان بربرية على الدوام لأن المدنية لا تقوم إلى على مبادئ مقررة ونظام ثابت وانتقال من العمل بمقتضى الغريزة إلى الاهتداء بنور العقل والبصر بالمستقبل ومرتبة راقية من العلم والتهذيب وتلك وسائل برهنت الجماعات على أنها غير أهل لتحقيقها إذا تركت وشأنها ـ ومثل الجماعات في قوتها الهادمة مثل المكروبات التي تعجل بانحلال الأجسام الضعيفة وتساعد على تحلل الأجساد الميتة فإذا نخرت عظام مدنية تولت الجماعات نقض بنائها هنالك يظهر شأنها الأول ويخيل لنا بادئ بدء أن العامل في حوادث التاريخ هو كثرة العدد، إنا لنخشى أن يكون هذا أيضاً مصير مدنيتنا لكن ذلك الذي لا نعرف منه شيئاً حتى الآن. . . .
معرفة روح الجماعات أصبحت اليوم آخر ملجأ يأوي إليه السياسي العظيم لا لأجل أن يحكمها فقد صار ذلك الآن صعباً كثيراً بل ليخفف عنه شدة تأثيرها، وإذا أردنا أن نعرف ضعف تأثير القوانين والنظامات في الجماعات فإنما السبيل إلى ذلك تدقيق البحث لمعرفة روحها والوقوف على أحوالها النفسية وبذلك نفقه أيضاً أنه لا قدرة لها على تكوين رأي أو التفكير في شيءٍ خارج عن الدائرة التي رسمت لها وأنها لا تقاد بقواعد العدل النظرية بل بالبحث عما من شأنه التأثير فيها أو اختلابها.
فإن الجماعات لا تعرف من المشاعر إلا ما كان متطرقاً بسيطاً وهي لذلك لا تقبل ما يلقى إليها من الآراء والأفكار والمعتقدات بجملتها أو ترفضها كذلك فتأخذها حقائق مطلقة أو ترغب عنها أباطيل مطلقة على أن هذا هو الشأن في المعتقدات التي تتحصل من طريق التلقي لا التي تتصل بالإنسان من طريق النظر والتعقل وكل يعرف ما للمعتقدات الدينية من التأثير في عدم احتمال المخالف ومن السلطان على النفوس.
ولما كان باب الشك غير مفتوح أمام الجماعة في كل ما اعتقدت أنه حق أو باطل وكانت تشعر شعوراً تاماً بقوتها كانت إمرتها متساوية لعدم احتمالها، يطيق الفرد المناظرة والخلف أما الجماعة فلا تطيق ذلك أبداً وأقل خلف يأتي به الخطيب الذي يتكلم في المجتمعات العمومية يتلقاه السامعون بأصوات الغضب والسباب الشديد فإن أصر فنصيبه الإهانة والطرد بلا إمهال ولولا الرهبة من رجال الشرطة الحاضرين لقتلوه أحياناً. . . . .
والمؤلف يكرر بعض الأفكار ولعله عن قصد لترسخ في النفوس وربما حذا كما قال في(42/29)
كتابه حذو دعاة الاشتراكية العصرية ممن يستعملون التوكيد والتكرار وسائل في التأثير وقد عقد لذلك فصلاً من ذلك قوله أن المدنيات هي صنع أناس من أرباب الأفكار العالية وسائر الناس معهم تبع ومثل قوله إن التعصب وعدم الاحتمال يصاحبان على الدوام كل شعور ديني وبلا زمان كل من اعتقد أنه ملك ناصية السعادة في الحياة أو في الآخرة وهاتان الصفتان توجدان في كل جماعة تحركت بأحد المعتقدات فقد كان اليعاقبة (اليعقوبيون) زمن الهول متدينين كما كان أهل الاضطهاد متدينين ومنبع حماسة الفريقين في القسوة واحد.
كذلك تظهر معتقدات الجماعات بالخضوع الأعمى والتعصب الوحشي والإكراه في الدعوة وكلها صفات من لوازم الشعور الديني وما البطل الذي تهلل الجماعة له إلا اله في نظرها، هكذا كان نابليون مدى خمسة عشر عاماً ولم يكن لمعبود سواه عباد أشد إخلاصاً من الذين عبدوه ولم يسهل على معبود قيادة النفوس إلى حتفها أكثر منه وما كان لآلهة الوثنية والنصرانية سلطان على القلوب أعز من سلطانه.
إن جميع موجدي الديانات ومؤسسي المذاهب السياسية لم يقيموها إلا لأنهم تمكنوا من إحداث التعصب الذي يجعل الإنسان يرى سعادته في العبادة والطاعة ويهيئه لأن يهب حياته لمعبوده. . . ليس لفاتحي النفوس في هذا الزمان معابد وهياكل لكن لهم صور وتماثيل والعبادة التي يعبدون بها لا تخالف كثيراً ما كانوا به يعبدون ومعرفة فلسفة التاريخ تتوقف على إجادة معرفة هذا البحث في علم روح الاجتماع. . . .
وقال: لا يقوم سلطان الفاتحين وتبنى قوة أعماله على تخيل الأمم ولا تجر الجماعات إلا بالتأثير في ذلك التخيل وكل حوادث التاريخ العظيمة كإيجاد البوذية وتشييد أركان المسيحية والإسلام وقيام البرتستانية والثورة فيما مضى وكإغارة الأفكار الاشتراكية المزعجة في هذه الأيام إنما هي نتائج قريبة أو بعيدة لتأثرات شديدة في تخيل الجماعات، ذلك هو العلة في أن جميع أقطاب السياسة في كل عصر وفي كل أمة حتى أشدهم استبداداً، اعتبروا تخيل أممهم أساساً تقوم عليه قوتهم وما فكروا يوماً في أن يحكموا الناس بدونه.
قال نابليون في مجلس شورى الحكومة (إني أتممت حرب الفندائيين لما تكثلكت واستوليت على مصر إذ أسلمت وتوجت بالظفر في حرب إيطاليا لأني قلت بعصمة البابا ولو كنت(42/30)
أحكم شعباً يهودياً لأعدت معبد سليمان) ويظهر لي أنه لم يقم منذ الاسكندر الأكبر وقيصر بين عظماء الرجال من عرف كيف يكون التأثير في تخيل الجماعات مثل نابليون فقد كان ذلك التأثير همه الدائم ما نسميه في انتصاراته وخطبه وأحاديثه ولا في عمل من أعماله وكان يفكر فيه وهو على سرير موته.
وقد أجاد المؤلف في كلامه على أفكار الجماعات ومعتقداتها ولا سيما في فضل التربية والتعليم وإثباته بالإحصاء أن الميل إلى الجرائم يزداد بانتشار التعليم أو هو يزداد بانتشاره على طريقة مخصوصة وأن الأمم اللاتينية أسست تعليمها على قواعد غير صحيحة تنمي الكفاءات الفنية ولا تؤثر في رقي الأخلاق وإن طريقة الانكليز السكسونيين غير طريقتهم فليس لهؤلاء مدارس خصوصية بقدر ما لفرنسا والتعليم عندهم لا يتلقى من الكتاب بل من الشيء نفسه فالمهندس مثلاً يتكون في المصنع لا في المدرسة وهو ما يسمح لكل واحد أن يصل في حرفته إلى الحد بالذي تصل قدرته العقلية فيكون عاملاً أو رئيس عمال إذا قعد به الذكاء عند هذا القدر وهو مهندس إذا قاده استعداده إلى هذا الدرج.
وأحسن ما شاء الإحسان في الكلام على الصور والألفاظ والجمل وما لها من السلطان على النفوس فقال أن الألفاظ والمعاني قد تختلف معانيها في قرن عن قرن وفي أمة عن أمة فمعنى الديمقراطية عند الجنس اللاتيني انزواء إرادة الفرد وإقدامه على العمل من نفسه أمام إرادة المجموع وهمته والمجموع تشخصه الحكومة فالحكومة هي المكلفة لإدارة كل شيء وحصر كل شيء واحتكار كل شيء وصنع كل شيء وهي التي تلجأ إليه دائماً الأحزاب بلا استثناء من أحرار إلى اشتراكيين إلى ملكيين وعلى الضد من ذلك يفهم الانكليزي السكسوني وبالأخص الأميركي من كلمة ديمقراطية نمو إرادة الفرد وإقدامه الذاتي إلى الحد الأقصى وانزواء الحكومة بقدر ما أمكن فلا تكلف بعد الشرطة والجيش والعلاقات السياسية بشيء حتى التعليم وعليه فاللفظ الواحد يفيد في بلد جمود إرادة الفرد وسكون إقدامه الذاتي واستعلاء كلمة الحكومة ويفيد في بلد آخر انزواء هذه وارتفاع صوت الأول.
وهكذا زاد الموضوع جلاء في الفصول التي عقدها المؤلف بعد هذا الفصل وأصبح لا يتعذر فهمه على الطبقات المتوسطة في المعرفة وجوّد الكلام على المجالس النيابية أي(42/31)
إجادة وابان مواقع الضعف والقوة من أعمالها وهو فصل كنا نتمنى نقله برمته أو تلخيصه على الأقل لا سيما والأمة اليوم في مصر تطالب بدستورها وفي البلاد العثمانية نالته ولكنه ما زال منقولاً عن أوروبا نقلاً لم يطبق على العمل فنوصي القارئ بالرجوع إليه.
وبعد فهذا مضمون الكتاب وموضوعه مصغراً وقد بان منه أسلوب معربه من الجمل التي نقلناها بحرفها آنفاً ومن قابل بين سلاسة العبارة هنا وضعفها في كتاب أصول الشرائع يدرك سر التوفر على العمل وأن مدرسة الزمن هي أعظم مخرج لأبنائها العاملين، وما برحت بعض هفوات لغوية تعلق على اسلة قلم المؤلف ومنها ما سرى إليه من لغة الجرائد ونص عليه أهل اللغة مثل الحريري وعبد اللطيف البغدادي والسيوطي وغيرهم، وذلك مثل قوله: لا نراها إلا رؤيا ناقصة والصواب رؤية لأن الرؤيا تكون في النوم والرؤية في اليقظة، واستعماله (الظروف) بدلاً من الأحوال والظروف لا تعطي هذا المعنى واستعماله (حيث) في غير مكانها واستعماله (تمام) كثيراً مثل (واضحة تمام الوضوح، تخالف تمام المخالفة، ويفقه فيها ذاته الشاعر تماماً) والفصيح أن يقال واضحة كل الوضوح ومنها قوله (رجل تمام) والأجدر أن يقال كامل أو تام الأدوات أو نحو ذلك واستعمل (ترتكز على) وهذه الصيغة لم تسمع إلا في لغة الجرائد المصرية.
ومثل ذلك (مجرد انضمامهم إلى بعضهم) والأحسن أن يقال بعضهم إلى بعض ومثله (رغماً عما ذهب إليه) والأولى أن يقال على الرغم مما، ومثله (يضحي مصلحته الذاتية) وهذا التعبير فيما أحسب هو من ركاكات الجرائد الشامية القديمة سرى إلى مصر فاستعمله حتى أفاضل الكتاب على غير روية وهو تعبير افرنجي والأجدر أن نقول فادى بدلاً من ضحى، ومثله (كان فرداً متنوراً) والصواب أن نقول منوراً أو مستنيراً ومثله (منقادة عادة إلى) وهو تعريب حرفي مثل بالسهولة وبالصعوبة وجلياً وبانتظام وبلا عناءٍ ويمكن الاستعاضة عن هذه الكلمات بألفاظ أو تراكيب أقرب إلى الأسلوب العربي.
ومثله (مندهش) والأحسن مدهوش و (منجر) والأحسن مجرور ومثله استعمال (الأجيال) للتعبير عن القرون والعصور، وما الأجيال إلا أصناف من الناس على ما أذكر، واستعمال (مراسح اللهو) والأولى أن يقال مسارح ومثله عنيف كثورة عنيفة وغير ذلك وهي من المبذوء ولنا من ألفاظ اللغة التي تدل على معانيها مندوحة عن استعمالها، ومثله العموم(42/32)
للتعبير عن الناس وهي من الألفاظ العامية، والأهمية وهي غير عربية بل تركية مثل محظوظية وممنونية، والرضوخ لحكمها وليس في اللغة رضوخ بمعنى الخضوع أو الأتمار وإنما الرضوخ العطاء القليل وفي مقامات الحريري بدريهمات رضخ بها له، وقد عدى يؤثر بعلى والصواب تعديتها بفي ومثله فطاحل العلماء ولفظة فطاحل وإن كانت شائعة على هذه الصورة للتعبير عن كبار العلماء لكنه لم يسبق للبلغاء استعمالها ولا للغويين بهذا المعنى تدوينها ومثله (الحفظ عن ظهر قلب) والأحسن أن يقال الاستظهار وهي أخصر وأجمل.
وجمع مشروعاً على مشروعات والأحسن جمعه على مشاريع، ومثله (أعداء الداء أشداء ضد الحكومة) والذوق العربي يقضي بأن يقال على الحكومة ومثله جمل ينطقها المتكلم والصواب ينطق بها ومثله معاني ما كانت لها أبداً، وأبداً بمعنى دائماً والأولى استعمال قط، ومثل جمعه عادة على عوائد كالاستعمال الشائع والأحسن جمعها على عادات وعاد ومثلها جمعه لواء على لواءات والصواب ألوية.
واستعمل من التراكيب الشائعة فلولا هي ما خرج من بربرته الأولى ولولا هي لراح مسرعاً والصواب فلولاها، ولولا هي من تراكيب عامة المصريين ومثلها لولا هو ما شاء الآلهة والصواب لولاه ومثل النصب على التاجر وما أدري إذا كانت لفظة النصب معروفة باللغة بهذا المعنى ومثله من رجاله الخصوصيين ولو قال من خاصته لأحسن ومثله يريق قطرة دم لواحد من أهلها والأولى قطرة دم واحد ومثلها جاز الاعتراف من السامعين والأسلوب الفصيح أن يقال جاز اعتراف السامعين ومثله شكلوا محكمة وهي مما سرى إلينا من التركية والصواب ألفوا محكمة وللتشكيل معنى آخر غير هذا ومنها استعمال المصالح للدواوين والمصالح لفظة عامية مصرية.
وهناك بعض التراكيب التي يقع نظرك عليها في الكتاب وهي تنبئك عن نفسها بأنها افرنجية لم تذق طعم العربية مثل تحت تأثير أحد هذه الأفكار وهم تحت ذلك التأثير وقتل الوقت ولكان ثمنها كثيراً من الثورات، وأما الحكومة التي تصنع من حملة الشهادات والذين اضطربت قواهم العقلية إلى النصف ولا تلبث المياه أن تعود إلى مجاريها وغير ذلك.
ومنها بعض التراكيب التي فيها شيء من ركاكة وسقم مثل غرق 850 مركب شراعي و(42/33)
203 مركب تجاري والصواب 850 مركباً شراعياً و 203 مراكب تجارية.
ومن عرف كيف يؤثر في تخيل الجماعات عرف كيف يقودها، لا دخل لتلك النظامات لا في سعادة ولا في شقاء، فإنه كان رجلاً هجوماً لا ذكاء فيه لكن ذا عزم ومضاءٍ، أنحى على العمال بالعطش.
وخالف مألوف المعربين في ترجمته السنديكات بالجمعيات وقد اصطلحوا على تعريبها بالنقابات وهي أولى وترجم البورصات بغرف التجارة وغرف التجارة كما لا يخفى هي غير البورصات وعرب الغيلوتين التي كانت تقط الرؤوس في فرنسا بالمنجلة ووضع لها بعضهم المقصلة ونظنها أحسن، ووضع بعض الألفاظ بلفظها مثل (ماندران) وهو الحاكم الصيني و (الاردواز) وهو لوح الحجر.
ولكن هذه الألفاظ والتراكيب القليلة لا تقدح في فضل الترجمة خصوصاً وأكثرها عما عمت البلوى باستعماله ولكن كنانود أن يكون ذاك الثوب النفيس خالياً من الشوائب ليجيء كتاب اليوم مستوفي الشروط من حيث أصله وفرعه ولغته ورشاقته وطبعه ووضعه وعسى أن تكون مترجمات المعرب المشار إليه في الأيام المقبلة أتم وأكمل لتزيد منها فائدة المطالعين والمتعلمين والله لا يضيع أجر المحسنين.(42/34)
الصحافة العثمانية
الصحافة أو فن الجرائد والمجلات هي عنوان ارتقاء الأمة المحسوس وكل أمة كانت صحافتها أوسع وأمتع يسوغ لك أن تحكم عليها بأنها أرفع وأمنع، فالجرائد الانكليزية مثلاً أوسع مادة وأبعد نظراً وأصدق أقوالاً من الافرنسية والإيطالية لأن الانكليز رجال الاتجار والاستعمار أعلى كعباً من الفرنسيس والطليان ودولتهم أرقى الدول.
وهكذا الحال في صحافة الأمة العثمانية المختلفة العناصر والأجناس وتاريخها يرد إلى سنة 1276 هـ، ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا أن الصحافة التركية أرقى من الصحافة العربية والرومية والأرمنية والبلغارية وبعبارة أخرى أن الصحف التركية أرقى من العربية إذ لا يجوز لنا أن نحكم على الصحافة الرومية والأرمنية والبلغارية ونحن لا نعرف لغاتها لنقرأها بها والحكم على الشيء فرع عن تصوره، أما التركية فلمعرفتنا بها يتيسر لنا الحكم على جرائدها وجرائدنا معاً كما نحكم على الصحف الافرنسية التي تصدر في بلادنا أيضاً.
كانت الجرائد العربية قبل الانقلاب الأخير عبارة عن الأعيب ورويات عن السياسات الخارجية محرفة وكان يحظر عليها خصوصاً في العشر السنين الأخيرة أن تبحث في موضوع اجتماعي إداري أو سياسي وطني فكانت موضوعاتها من ثم مسخاً أو سلخاً من جرائد أوروبا والأستانة في شؤون تافهة لا ترقي عقلاً ولا تلقن فضلاً.
ولما أنقذ الله البلاد من ظلم الاستبداد كانت صحافتها أول ما تحرر من أوضاعها مع صحافة العناصر الأخرى فداهمتها الحرية على حين غرة وأصبحت في حلّ من الخوض في كل موضوع وعندها ظهرت كفاءتها وصح لمن يريد التنظير بينها وبين الصحافة التركية أن يصدر حكمه عليهما.
لم يكن في سورية والعراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس الغرب غير بضع جرائد ومجلتين في مدينة بيروت ولبنان وواحدة في دمشق وأخرى في طرابلس الشام أما حلب والبصرة وبغداد واليمن والحجاز فكان يصدر في كل واحدة منها جريدة رسمية باسم ولايتها نصفها بالتركية والنصف الآخر بالعربية السقيمة وسائر قواعد البلاد خالية من الجرائد الرسمية وغير الرسمية لأن الجرائد كانت العدوة الكبرى للسلطان المخلوع فلم يكن يسمح بإصدارها إلا مضطراً أو بالاحتيال العظيم والبذل الكثير.
ولم تمض سنة على نشر القانون الأساسي حتى ظهرت بضع جرائد يومية جديدة في(42/35)
بيروت ودمشق وحلب وصدرت في الموصل وبغداد والبصرة ومكة وجدة وطرابلس الشام وطرابلس الغرب والقدس وحيفاء ويافا ومرج عيون واللاذقية جرائد أسبوعية متناسبة مع حال البلاد التي تصدر فيها وإن كانت جرائد سورية من حيث التركيب البياني واللغوي أرقى من جرائد غيرها من الأقطار لأن الملكة العربية مستحكمة من القائمين بها في بلاد الشام أكثر من غيرها ولكن تلك الجرائد الصادرة في الأقطار الأخرى نافعة على كل حال بما تأتي به من الأفكار والأخبار وسيكون منها بحول الله النفع العام لمن تنشر بين أظهرهم.
أما الجرائد التركية قبل الدستور فكانت عبارة عن مقتطفات من الصحف الأوروبية في السياسة الخارجية وتبليغات أوامر الحكومة الاستبدادية وأبواق خصصت لتأليه عبد الحميد الثاني وإطرائه إطراءً لم يعهد في لغة من اللغات ولا في أمة من الأمم وكانت تلك الجرائد متخومة بإنعامات السلطان السابق ورشى بعض الشركات لتساعدها على ابتزاز خيرات السلطنة، ومع كل هذه المساوئ كان الارتقاء بادياً على الصحافة التركية أكثر من غيرها لأن التركية لغة الحكومة وجرائدها مقروءة في بلاد الترك من آسيا وأوروبا كما تطالع في غيرها من البلاد لكثرة الموظفين وغيرهم ممن يعرفون التركية ويهتمون أن يطلعوا على قرارات حكومة العاصمة ومنشوراتها وأنبائها.
ثم إن الأتراك بمجموعهم أرقى بتربيتهم وتعليمهم من مجموع العرب ونظام الأسرة عندهم أمثل منه عند أكثر العرب والمرأة التركية والحق يقال أكثر تعليماً وتهذيباً من المرأة العربية، فقد تطوف البلد الكبير في هذه الديار ولا تجد إلا بضع بنات متعلمات ولو استقريت قواعد البلاد التي يغلب فيها العنصر التركي لرأيت المتعلمات من التركيات يبلغن المئات والألوف ولا سيما في العاصمة، وهذا هو أحد أسرار انتشار الجرائد في الأتراك أكثر من انتشارها هنا لكثرة سواد القارئين والقارئات عندهم وقلته عندنا.
وإذا أردنا المقارنة بين الصحف التركية وخصوصاً صحف العاصمة وبين الصحافة العربية في الولايات تكون للعربية الدرجة الأخيرة بين الصحافة العثمانية فيما نحسب ولذلك وجب أن نقابل الصحافة العربية كلها بالصحافة التركية كلها أي الصحف التركية التي تصدر في الأستانة وازمير وسلانيك وادرنة ومناستر وغيرها من البلاد العثمانية(42/36)
والصحف التركية التي تصدر في القريم والقافقاس مع الصحف العربية التي تصدر في الولايات العثمانية ومصر وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وجرائد المهاجرين من السوريين في أميركا الشمالية والجنوبية، وهذه الصحف على اختلاف مصادرها مستمتعة بحريتها الفكرية ما خلا بعض صحف تونس والجزائر والقريم والقافقاس وإذ كانت درجة ارتقاء الشعوب التي تتلى عليها متفاوتة جاءت هي كذلك.
ولذا كان من اللائق إذاً أن نقيس صحف بلد معين بآخر معين لأن قوة الجرائد بقوة من تصدر بينهم كما قلنا وإذ كان أهل الأستانة أرقى من حيث المجموع من أهل سائر الولايات ومدينتهم عاصمة سلطنة عظمى من أعمالها ثلاثون ولاية عدا الايالات المستقلة وهي مهوى أفئدة الأمم الإسلامية كافة كانت صحافة الأستانة أرقى من صحافة القاهرة وهي عاصمة مملكة فيها نحو ثلث سكان الولايات العثمانية ولها السبق علينا بالاستمتاع بنعمة الحرية، ومركز القاهرة السياسي مهم أيضاً وأهلها عريقون في الحضارة منذ عشرات من السنين وهي في غناها الطبيعي أغنى من الأستانة في الحقيقة، فلا عجب إذا امتازت فروق من هذه الوجهة عن مصر.
تأملنا كثيراً في صحافة مصر والأستانة في العهد الأخير فرأينا أمهات الجرائد التركية أرقى من أمهات الجرائد المصرية مادة وأسلوباً وشكلاً ووضعاً وطبعاً، ولا أغالي إذا قلت أن جريدة طنين ويكي تصوير أفكار ويكي غزته وصباح وإقدام لا تفوقها الطان والديبا والفيغار والماتين والجورنال إلا بحوادثها الخارجية وما عدا ذلك من البحث في إدارة البلاد وسياستها الداخلية وأخبارها وأفكارها وآدابها واجتماعها فالجرائد التركية شقيقة الجرائد الفرنسوية بقيمتها إلا قليلاً هذا مع بعد عهد الفرنسيس بالحضارة وقدم جرائدهم وقرب عهد الترك بها وحداثة جرائدهم، وتفوق جرائد القاهرة كاللواء والمؤيد والجريدة والأهرام والمقطم مثلاً بأنها أمهر في الضرب على الوتر الحساس في الأمة أكثر من جرائد الأستانة.
أما المجلات الافرنسية فهي أرقى بلا جدال من المجلات التركية وتصدر تحت سماء الأستانة بضع مجلات مثل علوم اقتصادية واجتماعية مجموعة وملكية وشهبال وثروت فنون لا تقل في أبحاثها وتدقيقها في موضوعاتها عن المجلات العربية الكبرى في مصر(42/37)
والشام وهي أرقى منها من حيث الوضع والطبع وأشبه بالمجلات الأوروبية في أن أبحاثها تكتبها الأيدي المنوعة من أهل الإخصاء، ومن العجيب أن مصر على كثرة علمائها الأخصائيين لم يصدر فيها حتى الآن مجلات يكتبها المصريون أنفسهم ولولا مجلة الجامعة المصرية وصحيفة نادي دار العلوم وهما ابنتا هذه السنة لقلنا أن مصر لا تميل للعلميات ميلها إلى السياسات وأهل العلم والأدب فيها لا صبر لهم على المشاريع العلمية حتى تنضج كما صبر أرباب المشرق والمقتطف والمنار والهلال والمقتبس والجامعةوغيرهم من أرباب المجلات السورية الحديثة كالمباحث والنبراس والمنتقد والحسناء والكوثر والنعمة والعرفان وغيرهم ممن لا تحضرنا أسماؤهم في مصر والشام.
أما جرائد سورية اليومية فهي أشبه من كثير من الوجوه بالصحافة التونسية من حيث المواد وقلة البحث في حالة البلاد وإن كانت جرائد الشاميين أكثر حرية وأسلم عبارة بل أنضج أسلوباً من جرائد التونسيين والفضل في ذلك للمدارس التي تعلم آداب العربية في الشام أكثر من تونس على أن المملكة التونسية وإن كانت أصغر من الجزائر ومن مملكة مراكش فهي في هذا العهد أرقى لهجة وعربية منهما بل هي بالنسبة للجزائر كنسبة سويسرا إلى إسبانيا أو ألمانيا إلى روسيا ولعل كثيراً من فقهاء الجزائريين يحرمون حتى اليوم كبعض فقهاء المراكشيين ما يقال له الجرائد والمحلات وكم للجامدين من جنايات جنوها على الدنيا والدين.
وقصارى القول أن الصحافة التركية أرقى بمجموعها من الصحافة العربية ولا سيما في السياسات والإداريات والعسكريات، والترك منذ قرون هم أهل السياسة والإدارة والجندية وأدبياتهم أيضاً أقرب إلى الأدبيات الغربية من أدبيات العرب، وعسى أن يكون الترقي الذي يتناول كل أمة فينبلها حظها منه في ظل القانون الأساسي يجري التعادل بين البلاد فيعم الارتقاء أنحاءها كافة بعد جيل أو جيلين من الناس ويجدّ رجال صحافتنا في الولايات العربية في ترقية جرائدهم ومجلاتهم ويسهرون على إيداعها كل مفيد من الأبحاث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والإدارية والعلمية والأدبية بحيث يزول عن العقول صدؤها فتتحلى من حلي المدنية الحقيقية بما ينيلها السعادتين وينبطها عليه أهل الخافقين.(42/38)
غنى العثمانيين
لا يعقل أن تكون المملكة العثمانية على هذه السعة والاعتدال وفيها من الأنهار والحراج والمعادن ما فيها ومن ذكاء سكانها وزكاء تربيتها العجب العجاب وتصبح في هذه الدركة من الفقر والانحطاط.
لا يعقل أن تكون بلاد هذه السلطنة التي ضمت إلى صدرها كثيراً من ممالك الأقدمين كالفينيقيين والغسانيين واللخميين والحثيين والحميريين والصفويين والنبطيين والبابليين والآشوريين والمقدونيين واليونانيين والفراعنة وتكون مساحة ولاياتها الثلاثين خمسة أضعاف ألمانيا ولا يكون فيها من السكان سوى نحو ثلاثين مليوناً على حين يبلغ سكان ألمانيا زهاء خمس وستين.
لا يعقل أن بلاداً فيها من الأنهار العظيمة مثل سيحان وجيحان ودجلة والفرات وقزل ايرمق واردار وغيرها من الأنهار أن تمحل ولا تخصب مع أن الخالق خصها بتربة ممرعة فيعطي مد الحنطة في بعض جهاتها مئة مد ثم تقرأ الفقر المدقع في وجوه أهلها.
لا يعقل أن بلاداً لها عشرات من الموانئ على شواطئ البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر وبحر الادرياتيك والمحيط الهندي وهي متاخمة لممالك البلقان وأوروبا من جهة ولبلاد السودان وصحراء إفريقية وشماليها من جهة وروسيا وإيران من أخرى ثم لا تستطيع أن تبعث بغلاتها إلى البلاد الخارجية لتتناول منها ثمنها نقداً لسد العجز المحسوس بين وارداتها وصادراتها.
ولكن من نظر في الأمر نظر متدبر وعرف أن حكومة الاستبداد تحرق الأخضر واليابس وتخرب العامر والغامر وأن الجهل مبيد الأمم برمتها دع عنك عمرانها لا يستغرب ما قدر لهذه السلطنة بل يعجب كيف أبقى الاستبداد فيها عقولاً تفكر وأيدي لتعمل ونفوساً تشعر بالتأخر.
كان همّ الحكومة المطلقة في هذه السلطنة أن تحتال لسلب النعمة الباقية من يد الأهين فكانت تشاركهم في أموالهم على غير رضاهم وهي لا تحميهم في أنفسهم وأموالهم ولا في مرافقهم وصحتهم وكيف تهتم لإسعادهم وهم عبيدها إذا طلبوا أن تخفف عنهم العذاب قاتلتهم وأن أرادوها أن تحاسنهم خاشنتهم، وكيف بطلب من الجاهل ما يطلب من العالم وهل ينفق امرؤ إلا مما عنده وهل الحكومات إلا أفراد مجتمعون.(42/39)
لسنا في صدد بيان مساوئ الدور البائد بل نريد الإلمام بغنانا وذكر شيءٍ من مستقبلنا، وغنانا في دور هذه الحكومة النيابية السعيدة مناط بهمتنا وهمتها إن عملت وعملنا حسبت بلادنا في عشر سنين في جدول البلاد الراقية وإلا فنبقى دستوريين بالاسم لا نستثمر من قوانيننا الجديدة وخيرات بلداننا العتيدة فائدة يعم نفعها.
نحن نطالب الدولة اليوم أن تؤسس لنا من المرافق العامة ما لا طاقة للأفراد أن يقوموا به من مثل إنشاء السكك الحديدية حتى تربط الأستانة مع أقصى بلاد العرب وتتصل وأن باشقودرة وطرابزون بالقدس وبغداد بالقاهرة ودمشق بطرابلس الغرب فتصبح ولايات الروم ايلي والأناضول وبلاد العرب متصلة كالحلقة الواحدة بشرايين من حديد ويتيسر لفلاح ملاطية وحكاري في الديار الكردية أن يبيع غلاته وثمراته من ابن طنطا والاسكندرية في الديار المصرية فلا تباع اقة الخبز الجيد بعشرين بارة كما في بعض بلاد الأناضول وتباع في دمشق بثمانين وتباع بمئة وستين في القاهرة.
نطالب الدولة أن تنشئ السدود وتجفف المستنقعات حتى ينتفع بكل شبر من الأرض يمكن زرعه وتشجيره ولا تهلك البلاد المجاورة لتلك المياه لقلة ريها كمن يصبح عطشاناً وفي الماء فمه وأن تصلح سقياها فلا يذهب ماء الفرات ودجلة بل مياه كثير من الأنهار والخلجان بلا فائدة وترى حواليها البلاد قاحلة تنتظر ماء الأمطار لتروى وما هي بمضمونة معظم السنين، وبذلك تجود صحة السكان النازلين بالقرب من تلك الأراضي وتقل الحميات والأمراض الوافدة فيهم فينمون ويتناسلون فتزيد البلاد بهم قوة.
كانت الأوبئة والطواعين تنتاب البلاد العثمانية قبل أن يعرف الأهالي والحكومة معنى التوقي المشروع فتهلك من سكانها مئات الألوف ولو ذكرت تواريخ المتأخرين ما انتاب البلاد كلها من الموتان فقط في المائتي سنة الأخيرة لزال العجب من قلة النفوس في بعض الولايات قلة لا تكاد تصدق، ولكن الزلازل والأوبئة والحريق والغارات مهما بلغ من تدميرها السكان والمكان يتأتى جبر ما أوهته ورنق ما فتقته وتعويض ما خسرته لو كان في البلاد شيء يقال له عدل وعلم.
مثال ذلك مدينتنا بيروت ودمشق فإنهما منذ جلب إليهما ماء نهر الكلب وعين الفيجة في أنابيب تقي الماء من الجراثيم الضارة قلت الأمراض قلة محسوسة حتى أن الهواء الأصفر(42/40)
انتاب سورية مرتين في العهد الأخير ولم يعرج على بيروت مع انتشاره كثيراً في صيدا وطرابلس المجاورتين لها وكذلك في دمشق منذ أخذ بعض أهلها يتسربون من ماء الفيجة الطاهر فلو تيسر لسائر مدن سورية مثلاً ما تيسر لنا من الماء النقي كالقدس وعكا ونابلس وطرابلس وصيدا واللاذقية وحمص وحماة وحلب وغيرها من الأمصار لما جاء على سورية ربع قرن إلا وسكانها ضعف ما هم الآن.
هذا في أبسط الأشياء وأقربها تناولاً فما الحال لو تشعبت خطوطها الحديدية عريضة كانت أو ضيقة بحيث لا تخلو قرية فيها خمسة آلاف نسمة من الارتباط مباشرة مع أمهات المدن فحاصبيا وراشيا وقطنا ودومة والنبك والقنيطرة وصلخد وعاهرة والسويداء والعمرانية وسلمية وبصر الحرير وعجلون والسلط والكرك كل هذه القصبات مراكز أقضية مهمة لا اتصال لأكثرها مع حاضرة الولاية إلى على ظهور الدواب والبغال والجمال فلو اتصلت بدمشق مثلاً كما اتصلت الزبداني والبقاع وبعلبك وحمص وحماة ومعان وشمسكين ودرعا إذاً لتوفر عمرانها وغزر سكانها واغتنت أرضها بغلاتها وثمراتها وسهل على البعيد أن يقتني أراضي لا يصل إليها على المطايا إلا في أيام طويلة فيبلغها مع القطار في ساعات.
ومثل ذلك قل عن ولايتي حلب وبيروت ومتصرفيتي القدس وجبل لبنان بل قله عن ولايات طرابلس الغرب واليمن والحجاز والبصرة وبغداد والموصل وديار بكر ومعمورة العزيز وبتليس وقسطموني ووان وارضروم وطرابزون وسيواس وقونية وانقره واطنه وجزائر البحر الأبيض وآيدين وخداوندكار والأستانة وادرنة وسلانيك ومناستر ويانيا وقوصوة واشقودرة ومتصرفيات بنغازي والزور وبيغا وجاتلجه وازميد.
ليس عند الدولة اليوم من الخطوط الحديدية ما يكفي لخمس ولايات فقط وقدروا عدد ما لديها منها بنحو سبعة آلاف كيلومتر تدفع على أكثرها ضمانات كيلومترية كل سنة لا تقل عن ستمائة ألف ليرة ولو كان رجالها في العهد الماضي على شيءٍ من الذمة والعقل لما فادوا بمصلحة أمتهم لقاء منفعة ذاتية تافهة إلى هذا الحد ولكانوا أنشؤوا معظم تلك الخطوط بأيدي شركات عثمانية تستلف من أوروبا ما يقتضي لها من المال بمقابل معتدل تسدده من مداخيل الخطوط التي تمدها فكما لم يعسر على الحكومة العثمانية إنشاء خط حديدي من دمشق إلى المدينة وهو لا يقل عن ألف ومئتي كيلومتر في واد غير ذي زرع لا يصعب(42/41)
عليها أو على الأمة أن تنشئ خطاً حديدياً مثلاً من دمشق إلى بغداد والمسافة بينهما ثمانمائة كيلومتر أو من دمشق إلى الأستانة والمسافة ألف ومئة كيلومتر تمر بأقاليم كلها عامرة بطبيعتها مشهورة بخصبها وجودة تربتها.
ولكن البلاد حتى اليوم لم تبرح كمن خرج من تحت الردم لا يكاد يفيق لكثرة ما لقيه من مصائب الأدوار السالفة والحكومة على سعي القائمين بشؤونها في العاصمة لم تستطع حتى الساعة أن تدبر ميزانيتها على ما ينبغي والعجز لم يزل يربو على أربعة ملايين ليرة كل سنة فقد بلغت نفقات الحكومة هذا العام 29929521 ليرة عثمانية ووارداتها 24587217 ليرة على ما أدخل عليها من تعديل رواتب الموظفين وغير ذلك من أنواع الاقتصاد وكان يرجى أن تزيد الأعشار هذه السنة زيادة محمودة لأن معظم أرباب النفوذ والفنى لم يعتادوا أن يؤدوا للخزانة في السنين الغابرة أكثر من خمس وارداتهم في الأغلب بل بعضهم ما كانوا يدفعون عشر العشر دع عنك سائر التكاليف.
وآخر إحصاء رأيناه في زيادة أعشار هذه السنة أنها زادت في السلطنة عن السنة الماضية مائة وخمسين ألف ليرة مع أن أعشار ولاية سورية وحدها زادت ثلاثة وأربعين ألف ليرة ولو عنيت حكومة هذه الولاية بتلزيمها حق العناية لما قلت الزيادة عن مئة ألف ليرة من الأقضية والألوية التي تدفع الأعشار بدلاً فضلاً عن لواء حوران الذي يدفع عشراً مقطوعاً بلغ هذه السنة تسعين ألف كيلة من الحنطة ولو استوفت من أهله الأعشار بحسب ما يجب عليهم أداؤه لأخذت هذا القدر المأخوذ من قضاء واحد فما بالك بسائر الأقضية على أن بعض الولايات كحلب مثلاً أصيبت هذه السنة بنقص غلاتها وثمراتها للجراد الذي انتشر في أرجائها ولكن حال سائر الولايات ليس كذلك.
ولا علة لهذا إلا أن موظفي المالية والإدارة ضعاف في معظم الولايات والأهلون أكثر منهم جربذة واحتيالاً فتمكنوا كما كانوا في العهد السالف من التزام الأعشار بالأثمان البخسة ويفكر ناظر ماليتنا اليوم في تخفيض العشر من اثني عشر ونصف في المئة إلى عشرة فقط لتبقى للفلاح بقية صالحة من وارداته يعمر بها أرضه ويكسو أهله ويرمم اصطبله وداره ويستكثر من الماشية لأن الحكومة تستوفي الآن من الفلاح جميع ما يملك كل سبع سنين، كما يفكر في زيادة رسوم الكمارك أربعة في المئة فتصبح خمسة عشر في المئة بدلاً(42/42)
من أحد عشر فإذا حسبنا قيمة ما تتقاضاه الدولة من الكمارك سنوياً 3868866 ليرة عثمانية كما هو المقدر في الميزانية الأخيرة والكمرك بعد عشرة في المئة لا تقل الزيادة عن مليون ونصف ليرة يسد بها جانب مهم من عجز الميزانية من قابل، ولا شك أن ضرائب الأملاك ستزيد أيضاً لأنها قليلة بالنسبة ولا سيما على أرباب السعة الذين كانت الحكومة السالفة تتسامح معهم بأكل حقوقها عن قصد والمأمول أن يزيد كل شيء على تلك النسبة من مثل بدلات العسكرية التي ستتقاضاها الحكومة من غير المسلمين في السلطنة.
قلنا ومن أمثل الأعمال تخفيف الأعشار في السلطنة أو إلغاؤها إن أمكن والاستعاضة عنها بضرائب على الأراضي بحسب موقعها وخصبها والزيادة في الكمارك وربما لا يخلو هذا الصنيع من زيادة قليلة في ثروة البلاد ويرغب السكان بعض الشيء عن البضائع الأجنبية ويستعملون ما أمكن من مصنوعات بلادهم فإذا لم يقل الوارد من السلع الأجنبية فلا أقل من وقوفه عند هذا الحد، ويقدرون قيمة صادراتنا بنحو اثنين وعشرين مليون ليرة عثمانية ووارداتنا بنحو ثلاثة وثلاثين مليوناً أي أن البلاد الأجنبية وأوروبا خاصة تأخذ منا كل سنة عشرة ملايين نخسرها من مجموع ثروتنا وإذا أضفنا إليها قيمة ما تدفعه الحكومة العثمانية ربا ديونها وهو لا يقل عن تسعة ملايين ليرة لأن ما عليها من الديون يبلغ نحو مئة مليون من الليرات فتكون السلطنة العثمانية قد خسرت نحو عشرين مليون ليرة كل سنة على أقل تعديل.
والطريقة الاقتصادية لسد هذا العجز في المزانية هو الوقوف في النفقات عند حد معين والسعي في استثمار الأسهل فالأسهل من خيرات البلاد بحيث لا تتكلف الدولة الإنفاق على مشروع إلا إذا كانت الأرباح فيه تربو على الخسارة منذ أول سنة كإصلاح ري العراق مثلاً الذي يحتاج إلى عشرة ملايين ليرة مثلاً تأتي الدولة والأهالي بمليوني ليرة على الأقل تأخذ منها الحكومة لا أقل من مليون ليرة فإصلاح ري العراق بالاستدانة من أوروبا ربح ظاهر لا محالة ولا سيما إذا تقدمه إنشاء خط حديدي من بغداد إلى دمشق كما هو رأي السير ويلكوكس المهندس الانكليزي المشهور.
وإذا عنيت نظارة الغابات باستثمار غابات السلطنة على الأصول المتبعة في أوروبا وصانتها من فأس الأهلين وأنياب مواشيهم تزيد ثروة المملكة زيادة محمودة تؤثر في(42/43)
المجموع فلا تتناول ما يلزمنا من الأخشاب من النمسا أو رومانيا مثلاً بل نبتاعه من حراج قونية وقسطموني وآيدين وتكفي سائر حراج الروم ايلي والأناضول وسورية للوقود فتكفينا مؤونة الفحم الحجري أو البترول أو غيره من الوقود الذي تجلبه من الخارج.(42/44)
الأوائل
ذكرني ما طالعته في العددين الخامس والسادس من مجلة المقتبس الغراء (4: 273) بما كنت قد عنيت بجمعه منذ سنوات من الأوائل (أي أول من عمل شيئاً) عند القدماء من يونان ورومان وفرس وعرب ثم عند من جاء بعدهم من الأمم إلى عهدنا من أعارب وأعاجم ولا يخفى ما في هذه الأبحاث من المحاضرات التاريخية والأدبية والعلمية واللغوية الخ فرأيت الآن أن ألخص مقدمة هذه الرسالة وبعض مباحثها لعل القراء الكرام يرون فيه تفكهة وجماماً وهاك نبذة منها:
لم يفت العرب جمع (الأوائل) شأنهم في كثير من الموضوعات التي طرقوها وألفوا فيها على حين لم يطرق مثلها كاتب أعجمي وعلم الأوائل هو كما عرفه الحاج خليفة في كتابه كشف الظنون الشهير (طبعة مصر 1: 132) ما يتعرف منه أوائل الوقائع والحوادث بحسب المواطن والنسب وموضوعه وغايته ظاهرة وهو من فروع علم التواريخ والمحاضرات لكنه ليس بمذكور في كتب الموضوعات وقد ألحق بعض المتأخرين مباحث (الأواخر) فيه وألفوا فيه كتباً عددها ملخصة وهاك تفصيلها من مظانها الأخرى:
1ـ أول من صنف في (الأوائل) أبو هلال حسن بن عبد الله العسكري المتفوى سنة 395 هـ (1004 م) وسمى رسالته (الأوائل) وهي مختصرة.
2ـ ومن المؤلفات فيها (محاسن الوسائل في علم الأوائل) للقاضي بدر الدين محمد ابن عبد الله السبكي المتوفى سنة 769 هـ ـ 1367 م.
3ـ (إقامة الدلائل على معرفة الأوائل) للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ ـ 1448م.
4ـ (الوسائل إلى معرفة الأوائل) لجلال الدين السيوطي الشهير المتوفى سنة 911 هـ ـ 1505م لخص فيه أوائل العسكري المذكور آنفاً وزاد أضعافه ورتبه ترتيب الفقه وختمه بالعلم والأمثال وفيه منظومة بالرجز اسمها الوسائل ويرجح أنها أرجوزة وسائل السائل إلى معرفة الأوائل التي ذكرها كشف الظنون ـ 2: 415.
5ـ محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر وهو مختصر للشيخ علي دده اتمه سنة 889 هـ ـ 1589م ووضعه على قسمين الأول في فصول الأوائل مرتباً على 37 فصلاً والثاني في فصول الأواخر وفيه 4 فصول.(42/45)
6ـ أزهار الخمائل في وصف الأوائل لمولى عثمان بن محمد المعروف بدوقه كين زاده الرومي المتوفى سنة 1013 هـ ـ 1604م وقد رتب الأوائل على الحروف بالتركية وأهداها إلى السلطان مراد خان الثالث.
7ـ8ـ9 الأوائل للطبراني ولمحمد بن أبي القاسم الراشدي ولابن خطيب داريا ـ وهذه أهم المؤلفات بهذه المحاضرات، على أننا لم نقف على مخطوط منها حتى الآن وإليك الآن مثالاً مما جمعته من الأوائل:
أول إنسان هو أبونا آدم وأول امرأة هي أمنا حواء
أول قتيل ومحسود وراع ولدهما هابيل وأول قاتل وحاسد وحراث ولدهما قابين.
أول ضارب بالمطرقة حفيدهما توبال قابين.
أول عازف بآلة طرب لامك.
أول مشترع ومؤرخ وقائد موسى النبي.
أول من كتب في السل أنه داء معدٍ سقراط الفيلسوف اليوناني الشهير.
أول من قال من الروم أن الأرواح غير فانية بل هي أزلية أبدية طاليس الفيلسوف اليوناني.
أول من عرف علم الطبيعة والهيئة عند اليونانيين طاليس هذا
وهو أول من قال الكلمة المشهورة أيها الإنسان اعرف نفسك.
وهو أول من أنبأ بكسوف الشمس وخسوف القمر قبل وقوعهما.
وهو أول من بحث عن أسباب الأهوية والزوابع والصواعق والبرق والرعد.
وهو أول من قاس ارتفاع القلاع والأهرام من ظلها الجنوبي لما تكون الشمس في الاعتدال.
وأول من قرب القربان للهياكل وطهر الأرض والمدائن والمنازل الفيلسوف أثيميديس اليوناني.
أول من اخترع عمل الفخار بالدولاب انخرسيس الفيلسوف اليوناني.
أول من امتنع لتواضعه أن يلقب حكيماً فيثاغورس الفيلسوف اليوناني.
أول من شهر علم الفلسفة بطريقة جلية في جميع اليونان دون غيره انكساغوراس(42/46)
الفيلسوف اليوناني.
أول من أدخل فلسفة اليونان إلى رومية شيشرون الخطيب الروماني الشهير قبل الميلاد بقرن.
أول من قال في الجاهلية أما بعد قس بن ساعدة أسقف نجران النصراني.
وهو أول من اتكأ على عصا عند خطبته وأطال الكلام.
وأول من وصف الخيل وأجاد بتشبيهاته امرؤ القيس من أصحاب المعلقات.
وأول من لعب بالصقور الحارث بن معاوية بن ثور الكندي ملك كندة.
وأول طبيب عند العرب الحارث بن كلدة الثقفي ثم ولده النصر.
أول من سكن نجران يزيد بن عبد المدان من بني كهلان نزلها نحو سنة 450م.
وأول من سمى اليوم السادس من الأسبوع الجمعة وكان يقال له العروبة كعب بن لؤي.
أول من قال مرحباً وأهلاً سيف بن ذي يزن الحميري قالها لعبد المطلببن هاشم ما وفد إليه مع قريش لتهنئته برجوع الملك إليه.
أول من خطب في الإسلام النبي (عليه الصلاة والسلام).
وهو أول من قال (مات فلان حتف أنفه).
وأول من أسلم خديجة زوجته.
أول كتاب كتب في اللغة العربية بصدر الإسلام المصحف في خلافة أبي بكر لأنه أول من اعتنى بجمعه.
أول من كتب في الإسلام علي بن أبي طالب.
وهو أول من قال جعلت فداك.
أول من قال أيدك الله وأطال بقاءك عمر بن الخطاب.
وأول والٍ فرض له رعيته نفقته أبو بكر الصديق.
وهو أول من سمي خليفة.
وهو أول خليفة مسلم ولى غيره وهو حي.
وهو أول من سمى القرآن مصحفاً.
وأول من قال اجعل هذا الشيء بأجاً (طريقاً) واحداً عثمان بن عفان.(42/47)
وأول من قال فاض الميت شريح قال هذا حين فوضه.
وأول من جمع الدجال مالك بن أنس فقيه المدينة بقوله: هؤلاء الدجاجلة.
وأول خليفة بايع لولده في الإسلام هو معاوية بن أبي سفيان بايع لولده يزيد.
وهو أول من وضع البريد، وأول من خطب جالساً على الأرجح.
وهو أول من سمى الطيب غالية وأول من عمل المقصورة في المساجد.
وأول من ضرب الدراهم والدنانير في الإسلام عبد الملك بن مروان.
وأول من بنى المارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك وعين له أطباء برواتب وحبس المجذومين وأجرى عليهم وعلى العميان الرزق.
وأول من ضبط الحروف العربية بالنقط والحركات نصر بن عاصم بخلافة عبد الملك ابن مروان.
وأول من اتخذ اللغة العربية في الدواوين بنو أمية.
أول لحن سمع بالبادية هذه عصاتي وأول لحن سمع بالعراق حيّ على الفلاح.
أول من سمي وزيراً في الإسلام أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال الهمذاني استوزره السفاح في القرن الثالث للهجرة.
أول من لقب أمير الأمراء في الإسلام ابن رائق أمير البصرة وواسط في القرن الرابع للهجرة وكان صاحب هذا اللقب يتولى رئاسة الوزارة والجند.
أول من لقب بالصاحب من الوزراء اسماعيل بن عباد وزير مؤيد الدولة في القرن الخامس للهجرة.
أول من التزم الصحيح من اللغة مقتصراً عليه الإمام أبو نصر اسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح.
أول من وضع كتاب الأجناس في اللغة الأصمعي لأن التجنيس مولد وليس من كلام العرب.
أول من ذكر أبنية الأسماء والأفعال فأورد للأسماء ثلاثمائة مثال وثمانية أمثلة سيبويه في كتابه المشهور.
أول من نقل الخط من القلم الكوفي إلى الصورة المتعارفة ابن مقلة وزير المقتدر بالله.(42/48)
أول من وضع المثلث في اللغة قطرب من أهل القرن الثاني للهجرة.
أول من تعمق بدرس كتب أرسطو الفيلسوف اليوناني وفسرها ونشرها بين العرب الفارابي.
أول من تكلم بأصول الفقه واستنبطه الإمام الشافعي.
أول من دعي بقاضي القضاة أبو يوسف القاضي من أهل القرن الثاني للهجرة وقيل ابن جنبة الأنصاري.
وأول من غير لباس العلماء إلى زيه المعلوم عندنا اليوم أبو يوسف المذكور.
أول خليفة لعب بالصولجان والكرة عند العرب هو هرون الرشيد العباسي.
أول من عمل اسطرلاباً في الإسلام الفزاري زمن المنصور العباسي.
أول من اشتغل بنقل العلوم إلى العربية خالد بن يزيد الأموي حفيد معاوية الأكبر في القرن الأول للهجرة.
أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة والأعمدة المشهورة والقسي الموتورة موسى الهادي العباسي في القرن الثاني للهجرة.
أول رصد وضع في الإسلام بدمشق زمن المأمون العباسي.
أول من كتب من العرب في السياسة المدنية أو الاقتصاد السياسي الفارابي ثم ابن خلدون في مقدمته.
أول جمعية علمية فلسفية عند العرب جمعية إخوان الصفاء في بغداد في أواسط القرن الرابع للهجرة.
أول من استخدم المرقد البنج في الطب العرب واستخدموا له الزؤان أو الشيلم.
أول من استخدم الكاويات في الجراحة العرب وأول كتاب فيه ليوحنا بن ماسويه.
أول من وصف الحصبة والجدري بكتاب هو أبو بكر الرازي.
أول من أنشأ حوانيت الصيدلية واشتغل في تحضير الأدوية العرب.
أول من استخدم الجيوب والأوتار في قياس المثلثات والزوايا البتاني الرياضي العربي.
أول من استنبط الكرة البيروني الجغرافي العربي الشهير.
أول من تناول الأرقام عن الهنود الخوارزمي فنسبت إليهم.(42/49)
أول من حسب فلك نجم المذنب على موجب قواعد تعليمية اسحق نيوتن الانكليزي في القرن السابع عشر.
أول من استعمل الشاري قضيب الصاعقة فرنكلين سنة 1759م.
أول من اكتشف الكينا رجل اسمه بليتيه سنة 1820م.
أول من اكتشف التلقيح بالجدري ادورد جنر الطبيب الانكليزي سنة 1796م.
أول من استعمل طوابع البريد الانكليز في لندن سنة 1840م.
أول طابعة تيب ريتر صنعت في أميركا سنة 1873م.
أول من اكتشف النيتروجين الدكتور روثر فورد سنة 1772م.
أول من اخترع تذاكر البريد الدكتور هرمن الألماني سنة 1869م.
أول جريدة عربية أنشئت في مصر تقويم الوقائع سنة 1828م.
أول جريدة عربية أنشئت في الأستانة العلية مرآة الأحوال لرزق الله حسون الحلبي سنة 1854م.
أول جريدة عربية أنشئت في سورية حديقة الأخبار لخليل الخوري اللبناني سنة 1858م.
أول مطبعة عربية أنشئت في سورية مطبعة حلب الآرثوذكسية منذ مائتي سنة أي في أول القرن الثامن عشر للميلاد.(42/50)
سير العلم والاجتماع
اللغة العثمانية
معلوم أن اللغة التركية العثمانية اليوم مؤلفة من ثلاث لغات التركية الأصلية والعربية والفارسية وإن الألفاظ العربية في العهد الأخير كثرت فيها جداً حتى تكاد تجد في الصفحة الواحدة ثلاثة أرباعها من الألفاظ العربية وربما أكثر وقد شق هذا الأمر على إقدام إحدى جرائد الأستانة فقامت تطلب تصفية اللغة العثمانية من الألفاظ العربية وقد ردت الجرائد الأخرى على هذا الرأي ويفته وفي مقدمتها جريدة تصوير أفكار بقلم صاحبها أبي الضيا توفيق بك الكاتب المشهور فقال من مقالة له ما تعريبه: زعمتم أن يوسف الثاني ملك النمسا كان أخذ على نفسه نشر اللغة الألمانية بين المجر فانتبه المجريون لما يراد بلغتهم وأخذوا يطرحون منها الكلمات الزائدة من اللاتينية والألمانية فتم لهم أن يكونوا اليوم أمة وأن البلغار وإن كانوا في الأصل أتراكاً أبدلوا لما نزل قسم منهم أوروبا مذهبهم ولسانهم بالنصرانية والسلافية فغدوا ينظرون إلينا نظر الخصومة كأننا لسنا منهم وليسوا منا في شيء، ولكننا لو نظرنا إلى تاريخنا وكيف تألفت جنسيتنا لا نحتج بمثل هذه الحجج.
فإنا لقوم (الترك) قد دفعتنا أيدي بكواتنا وأمرائنا وكنا عبارة عن ألف أو ألفين من الرجال اضطرتنا غارات جنكيز إلى الرحيل عن أوطاننا فجئنا إلى القرب من هذه العاصمة ونزلنا قصبة سكود ومنذ ذاك العهد حتى أواخر سلطنة سليمان القانوني أيام بلغنا غاية الغايات في فتوحاتنا ووصلت قوتنا إلى أرقى مراقيها أخذنا ننتشر في قارات الدنيا الثلاث الكبرى فجمعنا تحت لواء حكومتنا نحو عشرين إلى ثلاثين جنساً ومثل هذا العدد من الأديان والمذاهب حتى لقد استولينا أيضاً على جزء من بلاد المجر المبحوث عنها آنفاً.
وإذ تعذر في العهد الأخير أن تتقدم سياسة التغلب إلى الأمام التي لم تكن مبنية على مقصد خاص على نحو ما كانت سياسة بطرس الأكبر امبراطور روسيا مثلاً ولما لم تكن سياستنا نتيجة فطنة وتأمل قائمة على أساس متين انحلت عرى هذه الأجناس المتحالفة التي لم يدرك بادئ بدءٍ أن الضرورة تدعو إلى توحيدها لأدنى خلل عرض لقوة الدولة.
ثم إن الرابطة التي تربطنا والشعوب الإسلامية ومن هم قوام روابطنا كالعرب والأكراد وبعض العشائر المغولية التي سقطت إلى هذه الأرجاء وتوطنت فيها ومن تركناهم ن أولاد(42/51)
الفاتحين ومن تفرقوا من المجاهدين اتباع بكوات الروملي فانتشروا في تلك الديار أن تلك الرابطة قد دعت إلى أن يمتزج هؤلاء بأهالي البلاد الأصليين أي بالبلغاريين والصربيين والارناؤد والبوشناق فأخذ هؤلاء يدينون بالإسلام حتى أصبح نحو نصف سكان تلك الأقطار الواسعة من المسلمين، واضطر أولئك المسلمون إلى تعلم أمور دينهم وبهذه الواسطة انتشر اللسان العثماني وتغلب الفكر الديني على الجنسي وأنشأ أولئك الشعوب يعتقدون بأن السلطنة العثمانية حامية الدين وسلامتها سلامة لهم في الدارين وبفضل هذا الاعتقاد غدا أهالي البوسنة المسلمون خاضعين للحكومة النمساوية وهم لا يقلون عن 510000 نسمة ينظرون إلى النمسويين نظر الأعداء مع أنهم من عرق واحد، ومثل ذلك قل في البوماقيين والجناقيين وغيرهم من سكان بلغاريا ممن يرون السلافيين أعداءهم على حين هم وإياهم من أصل واحد ولا يستثنى من ذلك إلا الأرناؤد فإنهم في بلادهم يفضلون الجامعة الجنسية على كل جامعة فيدين المرء فيها بما يريد ولا من يسأله عن معتقده دان بالإسلام أو بالنصرانية لأن مسائل الاعتقاد من الأمور الوجدانية النفسانية ولكن يبقى للجنسية القول الفصل بينهم فإذا استباح حماهم أجنبي يقوم المسيحيون والمسلمون يذودون عن حياض بلادهم قومة رجل واحد بمعنى أنه لم تنشب قط ولا تنشب فتنة باسم الدين في بلاد الارناؤد فاللسان التركي الذي نستعمله منذ ستمائة سنة مؤلف من ثلاث لغات وقواعد صرفه ونحوه هي من الأصول المتحصلة من القواعد التي اقتبسها العجم عن العرب ولذلك أصبح لغة قائمة برأسها ولهجة خاصة بالعثمانيين فقط، وبقدر ما بين التركية الشائعة فيما وراء النهر والتركية المستعملة في آذربيجان والتركية التي يتكلم بها بعض الشعوب الأتراك في قافقاسيا والتركية المستعملة بين التاتاريين في القديم من الفروق فالفرق كذلك بين لغتنا ولغتهم.
وبالجملة فإن ما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها بعد دور الفتح من البلاد وما خسرته بعد عهد السلطان سليمان من النفوس مما لا يقل عن ثلاثة أرباع السكان وما نحن مضطرون ومفتقرون إليه من تعلم اللغة العربية التي هي لسان شريعتنا وعقيدتنا مع كل هذا هل جذب العربي التابع لنا التركي إليه وصبغه بصبغته أم نحن صبغنا العربي بصبغتنا، وما أدري كيف نشأ خيال الخوف من فقدنا وطنيتنا إذا لم تداركه بتصفية لساننا فقد رأينا جميع أبناء(42/52)
العرب النازلين في المدن والبلاد الواقعة بين الاسكندرونة وبغداد يتكلمون بالتركية ولقد أنسنا بشرف اللقاء في مجلس النواب بأناس من مبعوثي العرب يطلق عليهم لقب آغا ولكنهم يفوقون بفضائلهم وكمالهم كثيراً من وزرائنا فكان الحلبيون والرهاويون والعينيون (أهل أورفه وعنتاب) والمواصلة والكركوكيون والسليمانيون والبغداديون يتكلمون ويكتبون بهذه اللغة العثمانية الممزوجة من التركية والعربية والفارسية بلسان يشف عن فضل بيان وإحسان لا يضاهيهم فيهما إلا قلائل منا وما ذلك إلا أثر من آثار انتشار آداب التركية الجديدة بينهم لا التركية القديمة.
وعاد الكاتب المشار إليه في عدد آخر يقول في الرد على مناقشيه: إن اللسان العثماني هو لسان الأمة التي أنشأت هذه الدولة العثمانية من الأتراك وغيرهم من الشعوب الذين اتحدوا معهم افترق كل الافتراق عن تركية الجغتاي لمقصد سياسي بل من الواجب عليه أن ينفصل عنها وذلك لاشتراك الشعوب الكثيرة التي دخلت دائرة اتحادنا فأنشئت هذه الهيئة الاجتماعية ولذا لا تجد حاجة لها أن تتخاطب وتتكاتب بألف باء أويغور وتركية ما وراءِ النهر.
فما دامت ألف بائنا اليوم هي آلة الكتابة المشتركة التي اتخذها العرب وأضاف إليها الفرس أربعة حروف فعبروا بها عن لغتهم وما دمنا نرى من الواجب علينا أن نقلد العرب بسائق الدين ونقلد الفرس بسائق الأدب ونحن في حاجة ماسة إلى الأخذ من مؤلفات العرب والفرس والانتفاع بما خلفوه من علومهم منذ ألف وثلاثمائة سنة وما دامت مصنفاتنا العثمانية منذ ستمائة وخمسين سنة قد دونت من هذه اللغات الثلاث فنشأت عنها اللهجة العثمانية ما دام الأمر كذلك فنحن نأخذ في كل عصر من خزائن معارف هذه اللغات الثلاث ولا نتخذ عنها بديلاً، ولعمري ماذا نجني من الفوائد إذا قلدنا اليوم البخاريين والخوقنديين والكشغريين بلهجاتهم وكتابتهم ولكن هذه الشعوب إذا قلدتنا في لهجتنا تقترب من منهاج معارفنا فتستفيد من ذلك فوائد حسنة.
مقاومة الكحول
يشتد حملة الأقلام وأمراء البيان في الممالك الإفرنجية يوماً بعد يوم في مقاومة المسكرات وذلك بواسطة جمعيات نذر أعضاؤها على أنفسهم أن يقعدوا للمسكرات كل مرصد وقد(42/53)
كانت سويسرا من أول الأمم التي قاومت انتشار الابسنت منذ ثلاثين سنة فصدعت الحكومة هناك بأمر الشعب وإرادة الشعب حكم وعملت على ما اقتضاه منه المقاومون للمسكرات على كثرة خصومهم بادئ ذي بدء والموافقون على المنع رجال الصحة والأدب والجمعيات الطبية والسياسية والكنائس والأحزاب السياسية المتطرفة من كاثوليك وبرتستانت ولم يقف على الحياد في هذا الباب سوى الحزب الراديكالي.
وقد سبقت فنلندا سويسرا في مقاومة المسكرات فأصدرت حكومتها أمراً منذ سنة 1882 بمنع بيع المسكرات بالمفرق للناس والاتجار بها وجعلت بيعها بيد جمعيات تنفق ريعها على ما من ورائه فائدة عامة، وهذه الجمعيات تقاوم السكر بكل ما فيها من طاقة وتصد العامة من غشيان الفنادق وتدفعهم إلى الاختلاف إلى المطاعم الصحية التي لا تبيع المسكرات وأخذت تلك الجمعيات تدخل في دروس المدارس مضار المسكرات وتنفر الدارسين من تعاطيها، وحذت النمسا حذو الأمم العاملة على تقليل المشروبات فأنشأت جمعيات تصد العملة عن الشرب وأفلحت في تكثير سواد أفرادها وأنصارها وقد جعلت جمعية نقابات العملة شعارها: إن المشروبات الروحية منبع الأضرار العظيمة على طبقة العملة تسلبهم قواهم الطبيعية والعقلية اللازمة لهم في جهاد الحياة.
وهكذا ترى الحال في معظم الأمم الأوروبية ولاسيما في الممالك الصغرى مثل السويد والنرويج والدانيمارك وهولانده والبلجيك وبلغاريا، وهذه الإمارة الأخيرة أخذت منذ أسست سنة 1878 تقلد الأوروبيين في مناحيهم وأحبت مخالفة القواعد التي كانت مرعية فيها على عهد حكم العثمانيين عليها من وضع العقبات في سبيل المسكرات ولكنها عادت ففكرت في العاقبة حتى قل فيها تعاطي المشروبات كثيراً في البلاد التي تكثر فيها الكروم وأخذ البلغاريون يرددون المثل البلغاري السائر بينهم وهو أن الماء لا يقلق الرأس ولذلك جعلوا شربهم الماء الصرف وقد لا يتناولون المسكرات في بعض أعيادهم وهي لا تتجاوز الخمسة أو الستة أيام في السنة كلها.
وانتبهت بعض ولايات أميركا الشمالية إلى مضار المسكرات فسنت منذ سنة 1846 قانوناً لحظر بيعها بالمفرق ومن هذه الولايات كنساس وميسيسيبي وألاسكا وغيرها وقد عادت بعض الولايات أيضاً بعد أن رأت فائدة المنع مثل ولايتي الأباماوجيورجيا فسنت قانون(42/54)
الحظر لتنقذ سكانها السود من الموبقات وسكانها البيض ولا سيما النساء من اعتداء الزنوج عليهن وبذلك أخذ يقل توقيف المعربدين والجناة شهراً عن شهر في تينك الولايتين قلة محسوسة.
أما المملكة العثمانية فمع أن دين حكومتها هو الإسلام والإسلام أشد الأديان في حظر المسكرات فتراها أمس واليوم تشدد على المسكرات طاهراً ويهمها في الباطن ولاسيما قبل أن تكون دستورية ترك الأمور لطبائعها حتى تستفيد الديون العمومية من رسوم المسكرات، ويا حبذا لو فكر مجلس الأمة في سن قانون شديد للمشروبات الروحية والإكثار من الرسوم عليها إكثاراً لا يستطيع معه حتى الأغنياء تناولها وبذلك تنتفع البلاد نفعاً تقدره قدره بعد سنتين عندما يصبح معظم أبنائها متعلمين مهذبين بفضل التعليم الإجباري، وبعد تعريب ما تقدم منعت الدولة العلمية دخول الالكحول التي تعمل من غير العنب إلى بلادها وأن لا يدخل إليها من الالكحول (اسبرتو) إلا ما كان ممزوجاً ببعض الأجزاء فيستعمل في بعض الصناعات فحبذا يوم تمعنه على اختلاف ضروبه.
الإعلانات
يؤكدون أن الولايات المتحدة تنفق في السنة 250 مليون ليرة على نشر الإعلانات حتى أن بعض أصحاب معامل الصابون ينفقون كل يوم على إعلاناتهم 250 ليرة وقد أرسل أحد المخازن مؤخراً إلى زينه قوائم ببضائعه عدد صفحات كل قائمة ألف صفحة ووزنها ثلاث ليبرات فكان ما كلفه ذلك أجرة نقلها في البريد فقط 640 ألف دولار أو 128 ألف ليرة انكليزية، وقد أنفق أحد أصحاب معامل الأمواس هذه السنة خمسين ألف فرنك زيادة عن السنين السالفة لنشر إعلاناته فباع ستة ملايين موسى زيادة عن القدر الذي كان يبيعه في الأعوام الماضية.
الصحة في أسوج ونروج
أهل المماليك الصغرى في أوروبا من أسعد الناس حالاً وأنعمهم بالاً، فترى نروج متقسمة إلى مناطق طبية ولكل مقاطعة طبيب تعينه الحكومة وتدفع إليه راتبه وفي كل مديرية مجلس صحة يرأسه مفتش صحة وطبيب له سلطة تامة على المديريات والأفراد ويلقنون الطفل في المدرسة مبادئ حفظ الصحة فيجد فيها التلميذ حمامات ورشاشات (دوش)،(42/55)
وجميع الأمة تعتقد بتأثير المكتشفات العلمية والطبية وكلها تقوم بالواجب في أي مكان كان والناس يقومون أحسن قيام بالتدابير الصحية دون أن يتأففوا أو يحالوا التملص منها، وقد كان معدل الوفيات في أسوج 7و17 في الألف سنة 1881 فنزل سنة 1906 إلى 3و14 ومعدل وفيات الأطفال 7و112 في الألف فنزل إلى 83 وكان عدد سكان أسوج سنة 1881 ـ 4572245 فأصبح سنة 1906 ـ 5327055، وكان معدل الوفيات في نروج 16 في الألف سنة 1880 ووفيات الأطفال 9و95 فنزل سنة 1906 إلى 5و13 في الألف و 4و69 في الأطفال وبعد إن كان عدد سكانها سنة 1880ـ 1908512 أصبحوا سنة 1906ـ 2296300 كل ذلك بالمحافظة على الصحة على ما يوجبه الشرع والعقل.
العطورات والأخلاق
جاء في إحدى المجلات الافرنجية: الظاهر أنه تمكن معرفة أخلاق الناس من الطيوب التي يستعملونها حتى أصبح الآن من القواعد النفسية الجديدة قولهم: قل لي كيف تتطيب حتى أقول لك من أنت كما قالوا قل لي من تعاشر لأقول لك من أنت كلما قوي الشعور في الأعصاب الشامة كانت طبيعة المرء مهمة وعقله حصيفاً ولطيفاً فروائح الطيب الهندي والرائحة المعروفة برائحة قبرص وجلد إسبانيا وكلها مما لا يحمد أمره لأن مستعمليها يكونون من أرباب التأثر والهذر والرفاهية يصابون بكسل مزمن في عقولهم ويميلون إلى الإسراف ويستمدون للسمن، أما المولعون بعطر المسك فهم من فطرة أحط من أولئك أيضاً ويعرفون بالبلادة والتوحش على أن استعمال عطر المسك مع عطر آخر يدل على عقل راق، وفي العادة إن المولعين بعطر البنفسج من المستنيرين الذين يحبون الجمال على اختلاف مظاهره ولكن من يستعملون ماء الكولونيا يفوقون غيرهم بكثرتهم ووفرة فضائلهم، ويصعب إعطاء صفة لمستعملي عطر الكوريلبسيس الياباني لأن طبائعهم غريبة يجمعون إلى حب الغرائب فطرة خبيثة قد تكون نائمة في نفوسهم فلا تلبث أن تنبعث في حالة غير منتظرة وتظهر متجلية كالشمس في رابعة النهار.
هبات الأميركيين
بلغ ما جادت به نفوس المحسنين وأغنياء الأميركان منذ الحرب الأهلية حتى الساعة بليون ريال على أقل تعديل جادوا بها على إقامة المدارس والمكاتب والمستشفيات غيرها من(42/56)
الأعمال العلمية والخيرية العامة، ومن أوائل المحسنين المستر سلاتير وهب مليون ريال لتهذيب الزنوج والمستر بيبادي وهب كثيراً من ماله فمنح دفعة واحدة خمسة ملايين ريال لتصرف في سبيل التعليم، ومن محسنيهم المستر ليلاندستانفورد أنشأ جامعة كبيرة فمنحها دفعة واحدة عشرين مليون ريال، ومن محسنيهم أو محسناتهم مسز اليصابات اندرسون ومسز رسل ساج ومنهم مورغان وكارنجي وروكفلر فهبات الأول مكتومة وإن كان يعرف منها الشيء الكثير وبلغت هبات الثاني مئة مليون ريال وهو عاقد العزم أن يوزع ثروته البالغة ثلاثمائة مليون في الأعمال التي يعود نفعها على مجموع امته وجاوزت هبات الثالث مائتي مليون ريال، يجودون بأموالهم التي اكتسبوها في الغالب من التجارة والاقتصاد من الأمة التي كان بعض أفرادها خداماً لهم وأعواناً على إثرائهم وذلك على طريقة لا تدخل الكسل على الناس بل على العكس تدعوهم إلى اقتفاء آثارهم والائتمام بهديهم ولطالما سمعنا أن فلاناً يجود بمبلغ كذا إذا جاد الناس بمثله فلا يلبث المبلغ المطلوب أن يجمع فيدفع الكريم ماله راضياً، ولو جمع ما جاد به هؤلاء الأغنياء وأمثالهم على المعاهد العلمية والصحية فقط خلال الأربعين سنة الأخيرة لا بتيع به ممالك كبرى من ممالك الشرق ولاحتقر الشرقي نفسه وأمته ونعى فقرها المدقع وجهلها المطبق.
كليات إيطاليا
نشرت مجلة التعليم الدولية إحصاءً بكليات ايطاليا السبع عشرة وما فيها من الطلبة فكان مجموع من في كلية نابولي 5856 طالباً منهم من يدرسون العلوم ومنهم الطب وبعضهم الصيدلة وفي كلية رومية 3069 وفي تورين 2083 وفي بولونيا 1695 وفي بافيا 1360 وفي بادو 1299 وفي بيز 1186 وفي بالرمة 1131 وفي جين 1095 وفي كاتان 842 وفي بارم 532 وفي مودين 431 وفي ماسراتا 356 وفي كاكلياري 245 وفي سين 240 وفي ساساري 198 وإذا أضفنا إلى هؤلاء التلامذة مجموع ما في الكليات الحرة وهي كامارينو وفرار وبروز واورين يبلغ مجموع الطلبة في الكليات الإيطالية 24644 منهم 4356 في الطب و 3322 في العلوم و 2271 في الصيدلة.
الأمويون والعباسيون
التي رفيق بك العظم خطبة في نادي دار العلوم في القاهرة في أسباب سقوط الدولة الأموية(42/57)
والعباسية قال فيها: كان الأمويون شديدي الحذر من آل علي كما ذكرنا وكان هؤلاء بعد نكبتهم في خلافة يزيد قليلي الجرأة على الظهور لشدة العمال عليهم ومراقبتهم لحركاتهم وسكناتهم ولأن الخلفاء من بني أمية كانوا مع شدة حذرهم منهم يراعون مكانتهم ويحسنون إليهم فلم ينزع أحد منهم إلى الخروج عليهم لضعفهم إلا زيد بن علي فقد خرج في خلافة هشام فقتل في الكوفة وقتل ابنه يحيى في خراسان أما تميم أبي هاشم فقد كان بأمر سليمان بن عبد الملك لأنه خاف جانبه لما رأى فيه من النجابة والذكاء.
وربما كان هناك سبب آخر لضعف آل علي من بني فاطمة وهو أن الذين بقوا منهم أحياء بعد نكبتهم في كربلاء كانوا أطفالاً لا يصلحون لقيادة الناس فالتف الشيعة حول محمد بن علي المعروف بابن الحنفية من غير ولد فاطمة وهكذا ساقوا الإمامة في بنيه من بعده كما ساقها غيرهم إلى بني فاطمة أيضاً وانتقلت من ثم إلى أبي هاشم إلى بني العباس.
لا جرم أن سليمان بن عبد الملك جنى على دولته بقتل أبي هاشم لأن آل علي كانوا لشدة ما عانوا من المراقبة والاضطهاد شديدي الحذر بطيئي الخطى في الوثوب على الخلافة الأموية والظهور لمنازعة الأمويين عليها فتلقى العهد بها آل العباس وهم بعيدون عن سوء الظن والمراقبة لم يعانوا مشاق الدعوة ولم يذوقوا طعم الاضطهاد فيخافون الوقوع فيه: ولذا ما لبث أن عهد إلى محمد بن علي بالأمر حتى نهضوا بأعباء الدعوة بجرأة عظيمة وكان لابراهيم بعد موت أخيه محمد ما كان مع أبي مسلم بتفويض أمر الزعامة إليه وقيام هذا بث الدعوة أحسن قيام حتى استفحل أمرها وظهرت على خصومها.
أحس الأمويون بهذا الخطر السريع فبادروا ابراهيم الإمام بالقتل فنهض أبو العباس السفاح بعد قتل أخيه ابراهيم وعاجل الأمويين بالوثوب عليهم قبل أن يدب الفشل في أهله وشيعته منتهز الفرصة وقوع الشقاق بين الأخوة وأبناء الأعمام من آل مروان وتلظى المملكة الأموية بنار الفتن وظفر بما أراد وقضى على دولة الأمويين في المشرق فذهبت كأن لم تكن بالأمس.
على أن ظفر العباسيين على هذا الوجه وبهذه السرعة له بواعث وأسباب أخرى كاختلال نظام الدولة وغيره أرى أن ألم بها على قدر ما يمكنني من الاختصار.
تعلمون أن الدولة تموت برجل وتحيا بآخر وأن الرجال في الدول قليل والدولة الأموية لما(42/58)
فقدت رجلها فقدت جانباً عظيماً من قوتها وأعني بأولئك الرجال الرجال المخلصين الذين يخدمون الدولة بمنتهى الصداقة بقطع النظر عما ينسب إلى أفراد منهم من القسوة فيتهمونهم من أجل ذلك بالظلم إذ الرجال يصطبغون بصبغة الدولة ويتشكلون بشكلها والدولة الأموية لما كانت دولة مطلقة لزم أن يسير عمالها على سننها.
من رجال الدولة الأموية المخلصين، موسى بن نصير، والحجاج بن يوسف، وخالد بن عبد الله القسرى، ويزيد بن المهلب، وقتيبة بن مسلم وإضرابهم ومن خطاء الخلفاء الأمويين أنهم لم ينصفوا أمثال هؤلاء الرجال فأحرجوا من أحرجوه منهم حتى أخرجوه فقتلوه كخالد بن عبد الله وقتيبة بن مسلم ويزيد من المهلب الذين ذهبوا ضحايا سوء التفاهم، وموسى بن نصير الذي زج به في السجن في نظير فتحه الأندلس ومات أقبح ميتة ففقدت الدولة بفقد هؤلاء الرجال وأمثالهم جانباً لا يقدر من قوتها وأخذت تنحط من ثم هيبتها أما الحجاج فموته في الحقيقة مبدأ افول نجم الدولة الأموية لأنه كان يدها التي بها تضرب وعينها التي بها تبصر فإنه بعد أن أخمد لهم فتنة ابن الزبير كان والياً على الكوفة واليه ولاية خراسان وكلا المكانين عش الفتنة ومنبع الدعوة الأمامية ومع هذا فقط ضبط البلاد وأرهب ببطشه المنازعين للدولة والنازعين إلى الشغب، وأحسن في انتقاء العمال والقواد فامتد ملك الأمويين على عهده إلى كابول من بلاد الأفغان شرقاً والتركستان الصينية شمالاً ولو وجد بعده من يخلص من الولاة للدولة إخلاصه ويكون في مثل حزمه وعزمه لطال عمر الدولة الأموية بلا ريب.
ولعل نوابغ الرجال يكثرون في مبدأ نشوء الدولة وإن كانت هذه النظرية تحتاج إلى تمحيص.
ومما ساعد أيضاً على اختلال نظام الدولة الأموية تباعد أطراف المملكة بما صار إليهم من الفتح إلى عهد هشام بن عبد الملك إذ اتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم تبلغه قبلهم غير دولة الرومان.
فما بين النهرين المعروف بالجزيرة وإيران وقسم من الأفغان والتركستان والتبت والقوقاس وأرمينيا وشبه جزيرة العرب وسورية ومصر والمغرب والأندلس كل هذه الممالك دخلت في حوزتهم وأصبحت خاضعة لسلطانهم، وضبط مثل هذا الملك المترامي الأطراف مع(42/59)
صعوبة المسالك والمواصلات لذلك العهد متعذر جداً ولاسيما على أمة حديثة عهد في سياسة الأمم، ولذا فقد كانت الفتنة في طرف من أطراف المملكة بين الجنود والأمراء المتنازعين على الولاية وتنتهي بقتل وال وقيام غيره وربما انتهت بغلبة المشاغب أو المتنازع وضم البلاد إلى حوزته واستقلاله بالولاية عليها دونه وفصلها عن جسم الدولة والخليفة لا يعلم ذلك أو لا تصل قدرته إلى إخماد نار الفتنة في تلك البلاد النائية.
مثاله ما وقع في المغرب في خلافة الوليد بن يزيد سنة سبع وعشرين ومائة إذ تنازع عبد الرحمن بن حبيب من ولد عقبة بن نافع الفهري فاتح إفريقيا مع حنظلة بن صفوان وإلى إفريقيا فكانت الغلبة للأول واستأثر بالسلطة على البلاد وبقيت إفريقيا مستقلة عن الخلافة الأموية حتى قيام الدولة العباسية.
ومثل هذا وقع في الأندلس وفي بعض الأطراف السحيقة ولا يخفى ما في هذا من الوهن والخطر على المملكة.
ثم إن من الامور الثابتة في الاجتماع أن الدول الحربية الفاتحة لا تزال في أفق مجدها ما دامت على جانب الخشونة وما دام الراعي والراعية مترفعين عن الانغماس في الترف والاستغراق في ملاذ الحضارة، وقد عرفنا هذا في كثير من الدول البائدة كدولة اليونان وخلفاء داراً والاسكندر (أي البطالسة) والرومان حتى لقد قال مونتسكيو في تاريخه أسباب صعود الرومان وهبوطهم: إن دخول الرومانيين إلى الشام كان مبدأ ضعفهم بسبب ما كان متسلطاً على أهلها وملوكها من الرخاوة والترف.
والدولة الأموية إنما هلكت في نفس تلك البيئة التي هلك بها الرومان من قبل وبعد أن حافظت على خشونتها الأولى إلى خلافة هشام بدأت في خلافة الوليد بن يزيد المعروف بالتهتك تنحط عن خشونتها التي عرفت بها وأخذ الخلفاء من ثم يميلون إلى الترف والراحة والاستغراق في الملاذ تبعاً لأحوال البيئة التي نشأوا فيها وهذا بالضرورة كان من الأسباب التي عجلت على دولتهم يضاف إليه انقسام العرب في خراسان التي هي منبع الدعوة العلوية والعباسية إلى مضرية ويمانية وتنازع رؤسائهم على الولاية في إبان استفحال الدعوة.
مثاله ما وقع بين الحارث بن سريج والكرماني وبين هذا وقحطبة وبينهما وبين نصر ابن(42/60)
سيار حتى ملت نفوس العرب هذه الحال وسئمت ممارسة الحرب ورأوا أنفسهم اتباع ضحايا لقحطان وعدنان تزهق في سبيل المتنازعين على الخلافة من قريش حتى قال قائلهم:
تولت قريش لذة العيش واتقت=بنا كل فج من خراسان اغبرا
فليت قريشاً أصبحوا ذات ليلة=يعومون في لج من البحر أحضرا
لا جرم أن الذي بث روح الشقاق بين العرب في خراسان إنما هم أهل الدعوة الهاشمية 3 من علويين وعباسيين والذي أنجح قصد أبي مسلم في نشر الدعوة العباسية وقلب الدولة الأموية تواطؤ سكان البلاد الأصليين على قهر الأمويين وفل عصبيتهم العربية وقد عرف ابراهيم الإمام منازع الفرس وعلم أن دولته تقوم بغير العرب من الناقمين منهم وأن العرب شديدو العصبة للأمويين لاصطباغهم بالصبغة العربية الخالصة فكتب فيما كتب إلى أبي مسلم أن لا يبقي على عربي في خراسان أن استطاع فجعل رجال الدعوة يضربون العرب بعضهم ببعض لأن قسماً كبيراً منهم ممن نقم من الأمويين قبل الدعوة وصار من القائمين بها العاملين على تشييد دعائمها تعبداً واعتقاداً.
هكذا أثمر الغرس الديني الذي غرسه قبل ذلك بقرن ابن سبأ وإضرابه من الموالي الناقمين من الدولة السائدة واستحال على العرب في المشرق استبقاء السلطة خالصة لهم دون الأمم الأخرى المحكومة منهم وقد جرت سنة الوجود هذا المجرى في كثير من الأمم من قبل.
قال مونتسكيو: اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون للمالك حدود طبيعية تمسك باعنة الملوك عن تجاوز هذه الحدود وتعدي بعضهم على بعض ولما تجاوز هذه الحدود الرومانيون أهلكهم البرث أي قدماء الفرس وبددوا شملهم ولما تجاوزها البرث أنفسهم اضطروا لأول أمرهم للرجوع إلى أراضيهم.
وأقول أن العرب أصيبوا بما أصيب به الرومان والبرث وطبائع الاجتماع تعذر أولئك الأقوام على ما فعلوه مع العرب وحسب العرب أن نشروا بينهم دين الإسلام فلا مؤاخذة ولا ملام ولاسيما أن الإسلام يرمي بطبيعته إلى محو الحدود السياسية والجنسية بين الشعوب كما ترمي إلى مثل هذا مبادئ جماعات السوسيا لست أو الاشتراكيين أو الاجتماعيين لهذا العهد.(42/61)
ورب قائل يقول أن هذا الانقلاب أي انقلاب الدولة الأموية إلى عباسية لم تكن نتيجته كلها كما يريد أولئك الأقوام المغلوبون للعرب إذ دولة الأمويين عربية قرشية ودولة العباسيين ليست كذلك.
الجواب على هذا يأتي من وجهين، الوجه الأول، إن أمم المشرق لذلك العهد قلما كانت تقدر قيمة الحرية الكاملة لفنائها في وجود زعماء الاجتماع الشرقي أو كما قال مونتسكيو أن أمم آسيا لم يكن ميلهم إلى الحرية كميل أمم أوروبا إليها اليوم أي لعهده 4 ليحملهم على الخروج من الأسر والاستعباد وإنما كان ميلهم إلى تغيير الملك ولا صبر لهم على بقائه طويلاً.
وسواء صحت هذه النظرية أو لم تصح فإنه يجوز لنا تطبيقها على الأمم التي دخلت تحت حكم العرب لذلك العهد باعتبار أن الإسلام جمع بينهم جميعاً فلا فرق عند الفرس وغيرهم أن يكون الخليفة أو الملك عربياً أو غير عربي ما دام الملك آئلاً إلى غير الدولة التي نقموا منها وما دام مصير أكثر السلطة إليهم بعد فل حد العصبية العربية التي كان قائمة في دولة الأمويين متسلطة بقوتها على كل شيء.
وقد كان ما أرادوه بقيام الدولة العباسية التي لم يكن لها من العربية إلا الاسم وهي مصطبغة بالصبغة الأعجمية مشتبكة مع العناصر الأخرى بالنسب والصهر مشاركة لهم بمصالح الدولة.
هذا الوجه الأول أما الوجه الثاني فانتظار النتيجة الطبيعية لمثل هذا الانقلاب ولوفي المستقبل البعيد وتلك النتيجة هي أن اصطباغ الدولة أو الأمة السائدة بصبغة أهل البلاد يحيلها مع الزمن إلى عنصر هذه الصبغة والعكس بالعكس إذ من الشعوب من اصطبغوا بصبغة العرب بعد الفتح فاندمجوا فيهم ومن الشعوب من اصطبغ العرب بصبغتهم فاندمج هؤلاء فيهم وهذا ما وقع لسكان آسيا الوسطى بعد قيام الدولة العباسية ثم سقوطها وقيام غيرها من الحكومات الوطنية على أنقاضها وهكذا رأينا دولة الفرس وغيرها من الدول الإسلامية ديناً المختلفة جنساً قد عادت إلى أصلها وهي قائمة إلى الآن وستبقى قائمة عزيزة الجانب منيعة الجناب إلى الأبد إن شاء الله.
وهكذا نرى الخلافة الإسلامية التي من أجلها أو باسمها تلك الدماء الغزيرة صارت إلى غير(42/62)
العرب اليوم وفي دولة هي أعز دول الإسلام مكاناً وأجدرها بحفظ بيضة الخلافة ولم يمنع الذين أن تكون أن تكون إليها الخلافة كما لم يمنع أن تكون فيمن يقع عليه اختيار الأمة ورضاها في عهد الصحابة الكرام ولو من غير بني هاشم والتاريخ يعيد نفسه.
أما ما يقوله بعض المؤرخين من ظلم الدولة الأموية ويعزى إليه دمارها فمبالغ فيه وما كان منه صحيحاً فهو في نظري ثانوي بالنسبة للأسباب التي ذكرتها وتكاد تكون نتائجها طبيعية وليس من دولة في الأرض قائمة بالعدل المحض حتى الدول المقيدة ناهيك بالمطلقة.
ومن قال أن دولة الأمويين كانت ظالمة وأن ظلمها هو الذي جر عليها الدمار فجاهل بأحوال الاجتماع أو متعصب لدولة أخرى ولو طولب بالدليل على أن الدول التي قامت دولة الأمويين على أنقاضها كالفرس والروم والغوط وغيرهم كانت أعدل منها لما استطاع إليه سبيلاً.
والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس وكانوا في منزلة من العناية بالرعية والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير من الحكومات المطلقة وحسبك أن أشدهم قسوة وهو عبد الملك بن مروان استهل وصيته لابنه الوليد حين الاحتضار بقوله: يا وليد اتق الله فيمن أخلفك فيهم، والشواهد على مثل هذا كثيرة لا يسعها المقام وحسب تلك الدولة فضلاً فتوحها العظيمة التي سودت دين العرب ولسانهم على أحسن أجزاء المعمور إلى اليوم وتلك الأيام تداولها بين الناس.
التماسيح المقدسة
اعتاد بعض الآسيويين أن يعبدوا بعض الحيوانات المفترسة معتقدين أنها تحفظ في جسمها أرواح من افترست، وما زال هذا المعتقد شائعاً في الهند وفي شبه جزيرة مالقه، والزحافات في الأكثر هي التي تعبد من دون سائر الحيوانات ولاسيما إذا كانت طويلة كالتماسيح المقدسة التي تعيش في الأقاليم ذات البطائح ولكثرة اختلاف الناس إلى زيارتها تأنس بهم وتعتاد الخروج من الماء إذا ناداها الكاهن بدون أن تذعر فيناولها قطعة من اللحم وتبدي الدلال والتجني والناس مجتمعون عليها وربما رسموا عليها صوراً ورسوماً، وعند قيل راجبوتانا في الهند عدة تماسيح مقدسة يربيها في قصره وقد أنشأ لها غديراً كبيراً تشرب منه وتتمدد فيه ومئات من الهنود يأتون إلى زيارتها كل يوم ويتبركون بها.(42/63)
تراجع الكثلكة
وضع يوسف كاب الفرنسيسكاني تقريراً في حالة المؤمنين بالمذهب الكاثوليكي وغير المؤمنين به فقال أنه يقل القائلون بمذهب كنيسة رومية منذ سبعين سنة وأن جماعتها لا يخرجون من دينهم علناً بل لا يهتمون لأوامره ونواهيه فكأنهم بذلك خرجوا ضمناً وأن لم يخرجوا علناً، وأكد أن من ضعف إيمانهم هم خمسة ملايين نسمة في ألمانيا وأربعة في النمسا والمجر وخمسمائة وخمسون ألفاً في أوستراليا ومليونان ونصف في البلجيك وسبعمائة ألف في كندا وأربعة ملايين ونصف في إسبانيا والبرتغال وأربعة عشر مليوناً في الولايات المتحدة وثمانية ملايين في أميركا الجنوبية وثلاثة وعشرون مليوناً في فرنسا ومليونان وربع في بريطانيا العظمى وستة ملايين في إيطاليا وثلثمائة ألف في بلاد القاع (هولاندة) وستة ملايين ونصف في روسيا ونصف مليون في سويسرا أي أن المنحلين من الكثلكة بلغوا ثمانين مليوناً من أصل مائتي مليون.
المضغ
سأل أحدهم الوزير غلادستون وهو في الثامنة والثمانين من عمره ما هو سر طول حياتك فقال له: إنني أمضغ مضغاً جيداً كل ما أتناوله من الطعام وجودة المضغ في الحقيقة من الشروط الجوهرية في الهضم وبدونها يختل نظام الصحة، وليس المصابون بسوء الهضم في العادة إلا اكولين اعتادوا أن يقطعوا الأطعمة ويبلعوها بدون سحقها بأضراسهم سحقاً كافياً وما خلقت أضراسهم إلا لتمضغ الطعام فيتعبون معدهم ويوسدون لها عملاً ليس من شأنها فيعرضونها للتمرد والإمساك والتهاب الأحشاء وهي أسباب الألم فينبغي لهم من ثم أن لا يلوموا فيه إلا أنفسهم، فتعلم إجادة المضغ من الضروريات للعالم أجمع ومن لا يمضغ يسيء الهضم ومن يسوء هضمه يعرض نفسه للمخاطر، وللمضغ قواعد أولاً التأني فبدلاً من أن يقضم الطعام قضماً ويخضمه فيجعل لقمة واحدة بحسب الإقلال منه وتجزئته أجزاءً صغرى ما أمكن وتخميره وتليينه باللعاب وإحالته كتلة تجعل على اللسان بحيث يسوغ بلعه بدون جهد، وهذا من العادات التي يجب اتباعها وهي لا تتوقف إلا على قليل من العناء بادئ بدءٍ وشيءٍ من الانتباه حتى لا ينسى الآكل ما هو آخذ بسبيله.
وقد قال غلادستون أيضاً: تكلم قليلاً خلال الطعام أو حافظ على السكوت كل المحافظة وعدّ(42/64)
بروية عدد المضغات وهي تختلف باختلاف الأطعمة ولا تبلع إلا بعد هرس الطعام هرساً شديداً بحيث لا تحرك ماضغيك فقط بل شفتيك وخديك وإذا بدأت فحدق النظر في ساعتك وامعن نظرك في الإبرة التي تدل على الثواني، وبعد بضعة أيام تعتاد هذه الطريقة التي يجب عليك المحافظة عليها كل المحافظة.
وقصارى القول إن الواجب إحالة الطعام إلى حساءٍ إذا مزج باللعاب تتحد أجزاؤه وهذه أفضل طريقة لمعرفة ما يتناوله المرء ويذوقه، ومن المعلوم أنه يجب بذل العناية.
عادة المضغ بتناول ما يوافق المعدة من الأطعمة فلا يؤخذ منها الصلب وما يصعب خضمه وقضمه والأحسن اختيار اللحوم والبقول الطرية، وما المعدة إلا خادمة أمينة إذا لم تكلف شططاً وما يكون منافياً للصحة وكم من أناس يعبثون بمعدهم بإكراهها وإضرارها، وقد أصدر الحكام المسيطرون على مراقبة المدارس الأميركية أمراً يوعزون به للمعلمين والمعلمات في المدارس أن يعلموا الأولاد كيفية الأكل ولا يغفلوا عنهم خلال المائدة وأن لا يسمحوا لهم بالحياد عن قوانين الصحة وأن يضطروهم إلى إجادة المضغ وهذه من أفضل الطرق التي يجب على المدارس والبيوت أن تحافظ عليها.
كتب التبت المقدسة
أوسع الكتب المقدسة هي على التحقيق كتاب أهل التبت فإنه بلغ 325 مجلداً والتبت دانت بالبوذية التي أتتها من شمالي الهند نحو القرن السابع للميلاد فترجم علماء التبت في مئة مجلد كتاب ماهايانا المقدس ثم أضيفت إليه الشروح والحواشي على العادة في خدمة الكتب المقدسة حتى بلغ 325 مجلداً وفي كل مكتبة الأمة بباريز ومكتبة بطرسبرج ومكتبة لندرا نسخة من هذا الكتاب.
الإسلام في ألمانيا
أنشأت البعثة الشرقية الألمانية في بوتسدام مدرسة دينية لدرس دين الإسلام خاصة وسيكون موضوع المحاضرات التي ستلقى هذه السنة في المدرسة على اللغة العربية والفارسية والتركية وفي القرآن والفقه وأصول الشعوب الإسلامية في السياسة وفي الإسلام والشرق القديم وقد اختارت المدرسة ثلاثة من المشايخ لتدريس هؤلاء المستشرقين ما يلزمهم من أصول اللغة والدين.(42/65)
نقود الورق
بلغت نقود الورق التي يتعامل بها في الولايات المتحدة 2420341 دولاراً منها ما قيمته عشرة ريالات ومنها خمسة ومنها عشرون ومنها ألف ريال ومنها عشرة آلاف ريال وهي أكبر ورقة وقد ضاع أو تمزق من هذه الأوراق النقدية ما قيمته مليون دولار.
صحة الأطفال
قالت مجلة الكورسبوندان: رأت نيويورك منذ عشر سنين أن معدل وفيات الأطفال فيها 214 في الألف فوفرت العناية بالصحة حتى نزل معدلهم اليوم إلى 144 أي إلى نحو الثلث وقد عمدوا إلى طرق ثلاثة في هذا الشأن أولها اختيار اللبن الجيد الطاهر وتنزيه المرضعات في الهواء الطلق والخلاء ومراقبة الحبالى من النساء فكانوا يأخذون المرضعات من البيوت الضيقة القذرة في تلك العاصمة حيث تزدحم أقدام السكان من الفقراء وتضيق بها أنفاسهم ويبعثون بهن إلى الضواحي ولاسيما إلى ضفاف نهر الهودسون والنهر الشرقي وإلى مستشفيات الساحل ومراكب المستشفيات التي تطوف البحار وتنزه المرضعات والأمهات ويعلمنهن مدة تجوالهن دروساً في صحة الأولاد ومتى شعرت إدارة الصحة بأن امرأة حامل تحملهن على العناية بصحتهن وعلى الاهتمام بها وذلك قبل أن يضعن حملهن بستة أشهر.
المنتحرون
بلغ عدد المنتحرين في ألمانيا منذ تأسيس الامبراطورية الألمانية إلى اليوم 380 ألفاً وقد كثر عدد المنتحرين سنة 1907 فكانوا 9753 رجلاً و 3024 امرأة، وفي كل مئة ألف من أهل فرنسا ينتحر 8، 23 وفي المئة ألف في سويسرا ينتحر 8، 22 ثم تجيء الدانيمرك 22 وألمانيا 2، 20 ثم تأتي بريطانيا العظمى وسائر ممالك أوروبا بقلة المنتحرين فيها وفي اليابان ينتحر 9، 17 في كل مئة ألف أما بلاد النروج فمعدل المنتحرين فيها 5، 5 في المئة ألف وهي أكثر البلاد ميلاً إلى الدعة وقلة القنوط.
التربية والدين
تساءلت إحدى المجلات العلمية عن كيفية تربية الولد على مبادئ الدين أو تركه غفلاً منها(42/66)
واستشهدت على ذلك بأقوال المفكرين وعلماء الأخلاق والتربية فقد فضل الفيلسوف تولستوي أن ينشأ الولد على الجهل بتلقينه الدين كما هو الحالة الآن على أن يعلم ديناً مملوءاً بالأكاذيب قال إننا لا نلاحظ هذا الغلط بل إن الأولاد يشعرون به وهذا التعليم يشوش الفكر وقال الين كي بحذف الدين من المدرسة ولكن يجب على الوالدلين العقلاء أن يشرحوا لأولادهم التوراة والإنجيل وذهب كارل روتجر مذهب روسو في أن الواجب عدم ذكر الله للأولاد حتى إذا شبّ يصبح مسيحياً حقيقياً وأوصى كوبو بأن يلتزم الآباء الامتناع عن الأسئلة الدينية ويعلمون أن كل ما يحبون الاطلاع عليه من مختلف المعتقدات وينبغي للآباء أن لا يحاذروا إذا سألهم أبناؤهم أسئلة لا يعرفون جوابها أن يقولوا لا ندري لأن نصف العلم لا أدري.
التربية العقلية
اتفقت الآراء على أن الواجب تلقين الطفل مبادئ التربية الطبيعية بتقوية عضلاته والسهر على صتحه ونشاطه وتهذيب أخلاقه وتربية عقله وإنارته، ووقع الاختلاف بين علماء التربية ففريق يقول أن تربية العقل عبارة عن إنارة الفكر وتحسين الذوق وتلقين الأدب وحب الجمال والتكمل، وآخر يقول بأن الواجب تهيئته لعلم واسع ومعرفة صحيحة، ويقول بعضهم أن الواجب تنمية ذكائه، على أن الذكاء ليس مما ينال بالتعمد وتنشأ قواه بالأسباب بل يتكوّن من دون أن يبحث عنه ويقصد بالذات مباشرة فينشأ من أسباب عديدة ومن الانتخاب الطبيعي الذي يحيا به الأشخاص المستعدون ومن عمل كل فرد لما يضمن له بقاءه ويحسن عيشه ومن بواعث الحياة الاجتماعية التي تتزايد اليوم بعد اليوم وتتنوع أساليبها، فالولد يبحث من نفسه عما يحصله من المقدمات لعقله فيعرف الأشياء بدون أن نحتاج إلى تعريفها له ويفكر ويتأمل من تلقاء نفسه بدون أن نضطر إلى أن نحثه على ذلك ويشرع بنفسه في توخي الطرق إلى التخلص من مآزق الحياة فتراه إذا فرغ من درسه في المدرسة يعقد له صلات عديدة مع غيره ويبحث في الشؤون بذاته ويهتم بما يجري حواليه وينصت لأحاديث المسنين أكثر منه ويشاركهم في موضوعاتهم ويغتنم كل فرصة ليعد عقله وفكره، وأحاديث الأسرات على المائدة وما يتبادل فيها من الأفكار بين أهل البيت ويطرق فيها من مختلف الموضوعات في ساعات الفراغ أكثر فائدة لعقل الطفل من كل من يتمرن(42/67)
عليه في المدرسة، فيا سعادة من يكبر في بيئة ذكية وينمو عقله فيها بذاته بمجرد اشتراكه بالحياة العامة وبهذا ثبت معنا أن لا تربية تقوم مقام التربية التي يراها الطفل خارج المدرسة مما يفتح ذهنه ويعوده النظر والبحث والنشاط وينمي ذهنه بما يتوفر عليه من تمرينه المتواصل فيما يحتاج إليه في حياته ونعني به الذهن العملي.
لا جرم أن تربية الأولاد في المدارس الداخلية لا تخلو من عيوب تتعذر ملافاتها فهي نافعة في تنظيم العمل ومعودة للطفل على الصبر في مضمار الدرس ولكنها لا تفيد إلا فيما ينتج جمع المعارف أما إذا كان يطلب منها أعداد ذكاء الأطفال ليحسن به الانتفاع فطلب باطل لما عرف من الفروق بين وجوه الأولاد الداخليين والأولاد الخارجيين في المدارس فسحنة الولد الخارجي أكثر انتباهاً ونظره أبعد مرمى وإذا قلّ عمله ودرسه بالنسبة للتلميذ الداخلي فهو أنجح في التمارين التي تطلب ذهناً صافياً وعقلاً حاضراً حتى إذا أنجز دروسه زمان الدراسة ودخل معترك الحياة يجد نفسه أكثر ملاءمة معها فلا يثقل عليه الجهاد فيها لأنه كان أقرب إليها ولم ينفصل عنها كما انفصل تربه الداخلي الذي يكون قضى وقته في حياة صناعية أو مصنعة منعزلاً عن الناس بعيداً عن المجتمع اللهم إلا اجتماعه مع أولاد من سنه فكيف بعد هذا يهتم بحوادث الحياة الخارجية وبحركة الأفكار وبالوقائع العظيمة التي تجري في العالم وتضطر العقول مهما بلغ من إهمالها أن تفكر وتدبر.
لا يكاد يصل إلى التلميذ الداخلي من حوادث الكون إلا المبهم الغامض وما من يحدثه بما يجري في القرب والبعد وإني لأعرف تلميذاً داخلياً أخبر ذات يوم أن روسيا تحارب اليابان منذ أشهر فلم يدهش لهذا الخبر وبذلك تبين لعلماء التربية أن حياة المدارس الداخلية بما فيها من عزلة العقل تخدر قواه وإذا قدر لها أن تتمرن ففي ميدان ضيق جداً وأعني بها دروس المدرسة فقط ومن أجل هذا نقرأ في وجهه ضرباً من البلاهة ومثال الملل الذي لا يعلل والإهمال وقلة الاهتمام الذي يدخل في حياته نقصاً ومن الأسف أن ذلك أكثر فشواً في الطلبة العاملين منه في الطلبة الخاملين وفي المأخوذين بدروسهم منه في المتساهلين بها فهم الذين يبوّون بسيئات المدارس الداخلية، أما المضار الأدبية الناشئة من تربية الأولاد في المدارس الداخلية فمقررة عند علماء التربية فتربية الطفل في المدارس الخارجية هي التي يأخذ منها رأس ماله العقلي وذكاءه العملي الذي لا يتكون إلا بدروس الحياة نفسها وما عدا(42/68)
ذلك فباطل ومضر إذا لم يلاحظ ذلك أولاً فالنظر لا يفيد كالعمل بحال.
يحتاج الطفل إلى معارف حالية لا ليطبقها وينتفع بتطبيقها بل ليتهذب بها فالجهل المطلق في الأمور يؤدي إلى البلاهة لأن الذهن لا يشتغل في باطل لا طائل تحته فالواجب تغذيته إذا أريد تشغيله والذهن لا يتحرك إلا بحوادث تعرض له ومبادئ يتلقاها ولا يتيسر له اتساع العقل إذا لم يكن لديه شيء من المعارف يستعمله وكلما اتسع أمامه ما يترامى إلى سمعه تنمو قوى عقله، فالمعرفة حسنة في ذاتها وهي لا تنمو إلى على هذه الصورة، نعم إن من الحوادث ما لا خطر له وهو من العقم على جانب ولا غناء فيها لسامعيها ولذلك ليس فيها كبير أمر لأعمال الفكر والحوادث الغريبة ذات المعنى المهمة في ذاتها والوقائع التي تبعث العقل على التفكر هي التي يستفيد منها العقل وتقع على التصور وتهز الفكر إلى الحركة، وبديهي أن درس الحوادث التاريخية العظيمة هي أكثر إشغالاً للفكر من الحوادث الصغيرة في التاريخ الأدبي ولا شبه بين المادة العقلية التي تستخرج من معرفة قاعدة نحوية وبين المادة التي تؤخذ بدراسة قانون الجاذبية، ولقد لاحظ كويو أن من المعارف ما هو باطل متعب للذهن إذا دخلت إليه تحدث فيه فراغاً ولا تملأه بشيء.
فالواجب في مثل هذه الحال أن يترك الطفل منذ نعومة أظفاره يستمتع بشيء من إرادته ليمكن نموها بالتدريج ويجب أن لا يلاحظ الدرس على الدوام ويفرض على الدارسين حتماً، فقد قيل أن لا شيء يعادل البحث الشخصي للوقوف على الأشياء، فالمرء يحفظ ما وقع نظره عليه أكثر من غيره وما نظر إليه بعناية لأن ما اكتشفه بذاته يستقر به غالباً فالتمرين على الملاحظة الشخصية هو من الأسف مما يصعب في المدارس، يجب أن تترك للتلميذ بعض حرية في اختيار ما تتجه إليه رغبته من الدروس وأن يزاد من شرح الموضوعات التي تهمه أكثر من غيرها فقد جرت عادة المدارس أن تترك دراسة بعض المواد لاختيار التلميذ وهذا من شأن أن ينوع العاملين ويجعل حرية للطالب ولا بأس بأن تجعل للتلميذ حصة من اللعب في كل درس يراد منه العناية به فإن التربية العقلية لا تنتج النتائج الحسنة إلا إذا حثت نشاط العقل وجعلت منه له دافعاً وحيثما فقدت الإرادة يفقد الفكر لا محالة.
وترك التلميذ وما يختار من أنواع المطالعة من أعظم ما يثقف عقله فهو إذا أغرم بالمطالعة(42/69)
يتلقف بدون عناء معارف غريبة في تنوعها فإذا كلم غيره كلمة يدهش سامعه من الأمور التي يعرفها ويتساءل كيف تعلمها ولم يتعلم ذلك إلا في كتاب وقع إليه عرضاً فتصفحه مأخوذاً بما حواه واعياً ما أهمه من موضوعاته والقارئ في قراءته لا يتلقف حوادث بل أفكاراً فتكون له صلة فكرية مع أرباب العقول السامية ويسير على مناحيهم ما وسعته الحال بحيث يحاول إدراك كل ما يمر به فإن كل ما يمكن أن يعمل لتربية ذوق الطفل وتعويده المطالعة يساعد كل المساعدة على تقدمه العقلي ومن اقتصر على كتب الدراسة أقفر عقله وافتقر ذهنه.
وكما أن تحصيل المعارف ضروري فمن اللازم أن يكون للمرء ذاكرة جيدة فمن يتعلم سريعاً وجيداً يعد ولا جرم من أهل السعادة وإن الرأي الشائع بأن جودة الذاكرة وجودة الذكاء لا يتفقان لأحد هو من الآراء التي لا سند لها يرجع فيه إلى البحث الأكيد لأن معظم نبغاء البشر كانت ذاكرتهم نادرة فإذا كان في المكنة تحسين الذاكرة بتمرينها فالواجب أن لا يقصر فيه على أن في الذاكرة شيئاً لا يتيسر ترقيته بالتمرين وأعني به قابلية الاستظهار وإذا صح بأنه من الممكن تنميتها فلا مانع من إعطائهم دروساً يستظهرونها ويسمعونها على أننا لا نرى التلامذة بعد دراسة سنين يستسهلون التعلم أكثر من يوم بداءتهم فإن حاسة التذكر بالأشياء هي من الاستعدادات الفطرية تولد مع المرء وتنمو بسرعة فائقة وتبلغ غايتها في سن الثانية عشرة ثم تنحط كلما تقدم المرء في السن فما النفع يا ترى من تمرين الذاكرة؟ إن بتمرينها يحمل إلى عقل الطفل معلومات مقررة وتذكارات بنصها يحتاج إليها ثم تنمي فيه حاسة الانتباه وهو جماع الربح الذي يستخرج منه فتمرين الذاكرة هو أول جهاد عقلي وأول عمل ذهني يطلب من الطفل فهو يحثه ويحمله على أن يحصر أفكاره في موضوع معين وهذا يشبه كل الشبه ما ينبغي له بعد من إعمال الفكر متى طلب منه أن يفكر وحده مختاراً وقد يتعذر عليه الافتكار اختياراً بدون تمرين عقلي حازه بتمرين ذاكرته، فتسميع التلميذ ما حفظ في صفه هو في محله فبالتمرين تقوى الذاكرة، والغاية أن نجعل من الولد إنساناً يفكر لا ببغاء يتكلم، والمعرفة لا تغذي العقل إلى على شرط أن تتجانس أي أن تتحول ويستخدمها العقل في أساليب جديدة عقلية وإن من خواص تذكر النصوص أن تنقل إلينا الأفكار متوسعاً فيها في صورة مقررة ومتى تأملنا من جديد في(42/70)
الأمور التي استظهرناها لا يسعنا إلا أن نكرر كلمة كلمة العبارة التي حفظناها فتدخل في تضاعيف فكرنا من تلقاء ذاتها كأنها استشهاد بسيط ليست ذات قيمة عقلية ومتى امتلأ رأسنا من هذه الصور والعبارات التامة الصياغة هل نصوغ نحن أكثر منها؟ فإن ما يقتضي لنا لتأليف بعض الأفكار الخاصة هو أن نحيط علماً بالمسائل في ذاتها وأن نقتبس ما فيها من الفكر بقطع النظر عن حرفيتها، ولا يتأتى إلا نقل النص ولكن إذا كان للمرء أمور يعرفها يزيد عليها أموراً حديثة فإنا إذا حفظنا فكراً ونسينا العبارة التي عبرت عنه نبدأ من تلك الحال في الإبداع بالفكر.
فالفكر مرن للغاية وهو العقل الفعال له في ذاته قوة التمدد تهيئ له سبيل التوسع إلى ما وراء الغاية وفي صور مختلفة فإذا انتقل من عقل إلى آخر يصبح كأنه فكر آخر جديد ويكون كأنه ملك قائله وهو أبو عذره ولا يعبر عنه بأسلوب واحد، أما العبارة التي تستظهر فهي زهرة من مجموع أعشاب يابسة جافة متمددة والفكر الذي يبرز من الذهن كالبذرة التي تنمو ويكون منها زهرات حية فالواجب إذاً تقوية الطفل على حفظ الأشياء التي يكلمونه عنها أكثر من الأسلوب الذي تعبر به، يعلمونه المعاني أكثر من الألفاظ وهذا ما يجرون عليه في بعض الدروس مثل درس التاريخ مثلاً فإنه مطلب من مطالب الذاكرة ولكنه يتطلب ذكرى الحوادث لا الصور التي عبر بها عنها، وفي هذا المعنى يليق توجيه الذاكرة وتربيتها ومن أجمل التمارين أن يقرأ الطفل العبارة طويلة كانت أو قصيرة بحسب تقدمه العقلي وأن يسأل بعد ذلك عما تعلمه وبهذا يتأكد فيما إذا قد فهم المعنى لأول نظر وأنه انتبه إلى الأفكار الرئيسة وأنه حفظها متسلسلة ويبين له على هذا الوجه ما هو التعلم بفهم وذلك بدرسه مفكرات عقلية في موضوع يتلوه الإنسان وبهذا ترقى في التلميذ جودة الذاكرة التي لا تكتفي بجمع المسائل بل تميز بين ما يمكن أن ينفعها وتختار أجودها وتطرح العرض منها وتبقي على الجوهر، يجب أن يصل الفتى إلى أن يطالع كتاباً برمته ويستظهر منه الضروري مما يحوي.
ومما يحسن أيضاً تمرين الطفل بالأسئلة المتوالية على أن يغترف في الحال من ذهنه ما هو في حاجة ماسة إلى ذكره، ولا يكفي أن يكون العلم مكنوناً في ذهنه كالكتب المركونة في صندوق بل ينبغي أن يكون كل حين تحت الطلب وينتفع بها ويعثر عليها في الوقت(42/71)
المطلوب على أيسر وجه، فالتلميذ الذي لم ترب ذاكرته في هذا المعنى بتمارين خاصة لا يكون ما وعاه من الأفكار إلا هاجعاً نائماً صعباً على الانبعاث لا تجيبه عند الدعوة وتستعصي عليه إبان الحاجة، ضع للتلميذ سؤالاً في المسائل التي تغلب عليه معرفتها يرتبك ولا يذكر الجواب وليس هو في متسع من الوقت يستخرج فيه من أعماق قلبه ما سبق له وعيه، سله أن يورد لك بعض الأمثلة من أكثر المسائل تداولاً فلا تكاد تأخذ جواب مسألة أو اثنتين إلا بعد اللتيا والتي فعلمه غير حاضر معه، وهذا من العيوب المؤسفة جداً ولاسيما في الحياة العملية التي يجب للمرء حضور ذهن ليتخلص من المآزق وينجو من المضايق، فذاكرة الذكي والحالة هذه هي التي تورد في الوقت المطلوب ما يطلب إليها إيراده، لا جرم أن هذه الخاصية من الخواص التي تولد مع المرء ولكن يتيسر تنميتها بالترويض والتمرين.
ليست المخيلة من القوى التي تطلب لجمالها بل لها منفعة خصوصية على أننا يجب أن نكون على مثل اليقين بأنها لا تقوى بدون ذلك فبالمخيلة يتيسر لنا أن يسبق تفكرنا أعمالنا وبهذا نطلع على الاحتمالات المختلفة في المستقبل فهي ضرورية لإنسان ذكي، تجد المخيلة عند معظم الأولاد حادة للغاية فهم يحبون أن يتمثلوا الأشياء في أذهانهم ويجعلوها مسلاة لهم بل لهواً ولعباً فيخترعون من أنفسهم صوراً ليتلذذوا بالنظر إليها في باطنهم وكل فرصة تمكنهم من استخدام هذه القوة وترويضها يفرحون بها ويبسمون للقياها وهذا التبسم من التربية العقلية يسهل عليهم لأنها مستميلة لقلوبهم جامعة لأهواء نفوسهم وبهذه الطريقة يثق المؤدب من حسن الإرادة من يؤدبه، لا بد للتصور بادئ بدءٍ من مواد يقتنيها ومن المعلوم أنه مهما بلغت حاسة الاختراع فينا لا نتمكن من الإبداع العقلي إلا بصور ننتزعها من الحقيقة فكل ما فينا من إرادة يكتفى بتحويله قليلاً وترتيبه على صور منوعة فنحن لا نستطيع أن نتصور أمراً إذا لم يسبق لنا رؤية مثال منه، والأقوال مهما بلغ من سلطانها على نفوسنا لا تكون إلا إلى العجز في إدراكنا أمراً أياً كانت منزلته إذا لم تذكرنا بشؤون من عالم الحقيقة يتأتى إدراكها مباشرة.
فالواجب إذاً تزويد الطفل بتصورات عقلية واسعة المادة، أره كثيراً من الأشياء تجلب بها دهشته وربما لا تجد منه ارتياحاً إلى ما أنت ملقنه إياه ولا اطمئناناً إلى ما تحسنه له فهو(42/72)
يختار بذاته ما يهتم به، ضع أمام عينيه صوراً ورسوماً ولوحات واعمل على أن تكون كتب درسه طافحة بالرسوم وهكذا إذا تزود بصور شتى مصنوعة وتصورات وتذكارات يستطيع أن يعمل بذاته ويؤلف من عنده، أما نحن فلا يعنينا أمر خيالاته فهو حر فيها وهي من خصوصاته فإنا نراه إذا ترك وشأنه ينسى العالم الحقيقي فيجعل له من ذاته عالماً يجول فيه خياله ويرى مدهوشاً في مضيق الصور الباطنية، فتصوراته مهما بلغت درجة غرابتها ومهما كانت طفلية فهذا ليس من شأننا معه.
بيد أنه لا يكفي المخيلة أن تعمل بل الواجب أيضاً أن تتعلم على العمل وهنا تبدأ مهمة المربي إذ يقضى عليه أن يحول هذه الحركة في الفكر إلى أنحاءٍ تزيد في ذكائها وبعد ذلك تدعو الضرورة إلى تمرين الذهن على أسلوب حسن فهو جزء من التربية التامة ومن الخطر أن لا يفكر فيه، وقد رأى بعض أرباب الأفكار القائلين بتلقين المحسات (المحسوسات) بأن الأنسب تدريج عقل الطفل على النظر في الحوادث المقررة المقيسة الحقيقية أي تربيته تربية علمية صرفة وإلا فتضعف قواه المفكرة لقلة المران ويتكون عقله ناقصاً أو أن يعمل بنفسه ويضيع في الخيالات الغربية لقلة الملاحظة، فالأحرى أشغال الذهن أكثر من كل شيء، ولا سبيل إلى التأثير في الذهن إلا بالكلام والمطالعة ومتى قرئت للطفل مثلاً قصة جميلة تأخذ في الحقيقة بمجامع قلبه ويستغويه وتضطره إلى تأليف بعض الصور.
وينبغي للمربي أن يلاحظ فيما إذا كان الطفل الذي يعلمه خاضعاً لما يحببه إلى نفسه ولا يعنى بما يلقيه عليه، ينبغي أن يحقق نظره منه المشهد الذي تقصه عليه فأنت لا تعطيه في الحقيقة إلا بعض الدلائل وبها يقضى عليه أن يكمل الصورة بأجمعها وبهذا يتهيأ أمامنا التمرين الأول الذي نركبه أو يعدنا إلى التركيب وهو يتطلب من الفكر شيئاً من البديهة والإرادة، إذا كانت المطالعة في موضوع يستدعي التصور والتفكر فيكون فيه تنشيط الخيال وتوجيهه نحو وجهة معينة حرة وبفضل الاتجاه الذي يوليه للعقل يدرك صوراً أجمل وأكثر تنظيماً مما يستطيع أن يخترعه بذاته وبفضل الحرية التي يطلقها له تكون مهمته محببة إلى النفس خفيفة على الطبع.
هذا هو الربح الذي تستخرجه المخيلة من التعليم الأدبي ومما لا يخلو من الفائدة أن نبين(42/73)
كيف يتأتى الانتفاع في هذا المعنى بالتعاليم العلمية التي ترمي إلى تحصيل المعارف أكثر مما تقصد إلى تهذيب العقل وهذه التعاليم تشغل المخيلة ولكن لا مباشرة، فكل تعليم وصفي أو نقلي فيه بحث عن المجردات يضطر المرء إلى أن يتمثله، هكذا الحال في العلوم الطبيعية والجغرافية الوصفية والتاريخ، فقد أدرك المعلمون أن هذه التعاليم يجب أن تعرض أولاً في صورة مجردة بأن ترسم ما أمكن أمام عيون الطفل الأمور التي يكلمونه عنها أو يصورونها له للوصول بعد إلى المجردات والعموميات، فإن قصة تاريخية يمكن أن تؤثر في المخيلة نفس التأثير الذي تؤثره رواية فاجعة أو قصة عادية إذا كانت مؤلفة بخيال واسع.
وبعد ذلك تأتي التمارين المؤلفة تأليفاً خاصاً أي التي يحاول التلميذ الاختراع فيها، إنا نريد أعداد مخيلات عامة مستعدة للتوليد لا أن نكتفي بأن نعيش أبداً من رأس مال الغير فالواجب إذاً تمرين الطفل على التأليف بنفسه، ويجب أن يعنى بأن تكون هذه التمرينات بالطبع متدرجة في الصعوبات مبتدئة بشرح مادة تعطى له إلى أن تبلغ حرية الاختراع، ومما ينفع بيان مزية هذه التمرينات في التأليف من حيث التربية فقد أغرق من قالوا بإبطال الطريقة القديمة في التأليف واليوم اقتصروا من التمرين على التأليف على القدر الجزئي وقد ظهر من مناقشات حديثة أن بعض المربين شرعوا يدهشون من هذا القصور فقد كان من معايب الطريقة القديمة أنها تقود التلميذ خاصة إلى التوليد الأدبي ومن حسنها أنها تترك مجالاً واسعاً للتمرينات التي يستطيع المرء بها أن يبرهن على مقدرته العقلية فهي من ثم محرض قوي نافع للعقل وبها يجب علينا أن نفكر فما أحرانا أن نغير وجهة الدروس لنجعل التلامذة أقل عناية بالأدبيات منهم بالعلميات على أن لا نضيق نطاق التمرين العقلي والتأليف والاختراع.
تجب العناية بالرسم لما فيه من المزايا في التربية فالرسم إذا أدركت حقيقته ووجهت وجهته نحو التربية العقلية يساعد كل المساعدة على ترقية المخيلة فهو يعلمنا النظر إلى الأشياء بذكاء ويقوي فينا حاسة التمثل والذاكرة المصورة والمخيلة المبدعة، وإذا أريد استخراج المنفعة الحقيقية المنتظرة من هذا التعليم فالواجب التمرين عليها، ولقد ضل من علماء التربية من جرد تعليم الرسم من كل نظر للطبيعة ومن التطبع على الاختراع فما(42/74)
كانوا يرمون إلا إلى أعداد نساخين جيدين وأي فائدة لتعليم الرسم إذا لم تتحرك المخيلة.
لتعليم اللغات مقام رفيع في طريقة تدريسنا وليس هذا بعجيب فإن فهم الإنسان للغته وإجادة الكتابة والتكلم بها هو من أثمن المساعدات للذهن، ومعرفة اللغات الميتة يفتح أمامنا ميدان الفكر القديم كما أن معرفة اللغات الحديثة ضرورية لتتبع حركة الفكر الحديث، فباللسان يجد الفكر ما يعبر عنه فهو أداة من الألفاظ تتقدم وتتأخر على الدوام منها إلى الفكر ومنه إلى الألفاظ وتتطلب فكراً عاملاً أبداً، ولا عجب من ثم إذا صرف وقت طويل في التعليم المدرسي من حيث تنمية القوة الشفهية فإن هذا الاهتمام في محله والواجب أن يعنى فقط بأن تكون هذه الدروس بحيث يستخرج منها الشبان أعظم المنافع العقلية.
وهنا نبدأ أولاً بالكلام على التمرين الذي يذهب العقل فيها من الألفاظ إلى الفكر فمن أول الدلائل وأدلها على بيان ذكاء الطفل أن يفهم ما نكلمه به وإذا كان لا يفهم معنى الكلمات وكان من الصعب علينا إلا قليلاً أن نشرحها له فيجب عليه أن يحرزها وهو استدلال يستلزم منه أن يكون ذا ذكاءٍ مدهش وبعد أن يتقدم فيه تعليم اللسان يصبح معنى الكلمات المستعملة مألوفاً له ولا يتعب فهمها ذهنه بل تكون له مفهومة بذاتها بدون أدنى تعمل ويبقى عليه دائماً ألفاظ جيدة وتراكيب جمل غير عادية ليدرك معانيها وكلما نظر درساً جديداً يجد أمامه مادة خاصة من ألفاظ تقف أمامه بعض الشيء، فنحن في مطالعاتنا نعثر كل ساعة على جمل لا تفهم لأول وهلة وبعض الأفكار لا يتأتى أن يعبر عنها بصورة واضحة وتعابير مستعملة، ومهما بلغ من استعمالنا اللغة والذكاء فلا بد في شرح صورها الشفاهية من درجة خفيفة لا يرقى إليها المرء إلا بمحاولة الفهم، وهذا الجهد نافع للعقل ولذلك كانت اللغة التي نريد اقتباسها زمان الدراسة غير مألوفة لنأكل الألفة وكان درسها عبارة عن تمرين عقلي حقيقي.
وبهذا النظر لا نرى بداً من التوصية باستعمال الترجمة فإنها في الحقيقة إحدى الرياضات المدرسية الدالة على فرط الذكاء فيضطر الولد فيها أن يفرض عدة وجوه للمعاني الكثيرة التي يحتملها النص وتمييز أوجه الشبه بينها ويستخرج من مجموع معنى الجملة المعنى الخاص بها الذي يجب إعطاؤه لكل كلمة فيتمرن على هذه الصورة ذكاؤه وعقله، ولا فرق بين أن يكون هذا التمرين بلغة حية أو ميتة ويجب أن يلاحظ فقط أن الطريقة المتبعة في(42/75)
تعليم اللغات الحية مباشرة ترمي إلى ترك التمرين على الشرح والترجمة، وهذه الطريقة سامية من حيث العمل ومهيأة للتلميذ بأسرع ما يمكن لاستعمال اللغة ولكنها قلما تمرن العقل فيجب أن يفكر المربي في التعليم بهذا تمرين الحسن أو بما يعادله على الأقل.
وإن استعمال الترجمة والشرح ليمكن حتى من لغة المرءِ الأصلية فإن معنى شرح عبارة هو حلّ معناها الحقيقي وترجمتها إلى لغة شائعة وبذلك يتعود المرء على ما هو لازم له من جودة النظر في الكلمات فلكم رأينا، مناقشات قامت خاصة على ما أحدثه سوء التفاهم في اللغة فإنا ندخل في براهيننا تعابير مهمة أو مدرسية تكذب فكرنا أو تمنعنا من إيضاحها كل الإيضاح.
وهناك تمارين أخرى تقودنا من الفكر إلى الألفاظ فإننا نحاول أن نوجه للتعبير عن فكرنا لفظاً مستعملاً ولطالما دهشت من الألفاظ الكثيرة التي يقتدر التلميذ الصغير على الإفصاح بها عن أفكاره بدورات تدل على حذق وبقليل من الألفاظ، حتى أن محاولتنا التعبير عن أفكارنا مما يفيدهم، ومن النادر ولاسيما عندما نفكر في مسائل قليلة الصعوبة أن نكون على استعداد مما نقوله قبل أن نبدأ في الكلام في الكلام فالفكر يبقى منتشراً مشوشاً وهو على سهولته في حيز القوة لا يخلو من إبهام إذا أريد إخراجه إلى العمل ومن المحتمل كثيراً أنه يبقى في هذه الحالة المختصرة إذا لم نبحث عن طريقة لبيانه وتكميله بالتعبير عنه فالفكر لا يتم إلا بالجملة.
فالواجب والحالة هذه تمرين طلبتنا على التكلم وسؤالهم على الدوام وتمرينهم على الإفصاح عما يجول في خواطرهم ببيان رائق وهذا أحسن واسطة لتنبيه عقولهم حتى في خلال الدروس فإنهم إذا لم يكونوا إلا سامعين لما يلقى عليهم لا يلبثون أن يكونوا خاملين غير مهتمين بالدرس. وتيسير للمعلم إذا تكلموا أن يستدل على، هم في حالة يعملون معها أذهانهم ويستعملون قواهم العقلية فأنت ترى تلامذتنا الذين اعتادوا أن لا يفكروا إلا والقلم بأيديهم مرتبكين في الأحايين التي يحتاج فيها إلى حضور ذهن. وليس معنى هذا أن يجعلوا خطباءَ بل أن يمرنوا على التعبير عن أفكار حتى أمام الجمهور بدون ارتباك ولا غموض. فالتمرين اللفظي يضطر إلى التفكر بسرعة وإيجاد تعبير للفكر الذي يعرض في الحال فهو يقوي الصفات العقلية التي تجعل المرءَ عاملاً.(42/76)
التمارين المكتوبة ترقي الانتباه لتأليف الكلام في آونات الفراغ وتمكن صاحبها من العمل بعقله متتابعاً ومن التفكر طويلاً وتضطره إلى إيجاد بعض الأفكار في موضوع معين وتنظيمها والإبانة عنها أحسن إبانة في حين أن التمرين اللفظي يعلم استخدام الذكاء فالتمرين الكتابي هو العمدة لترقية العقل في الأكثر والمرء يتعلم التفكر إذا أخذ يكتب فالصور والحقائق تسير دائماً جنباً إلى جنب في الأشغال العقلية. إنشاءُ الكاتب وفكره متلازمان حتى أنك تشك في التأليف الرديء الإنشاء فيما إذا كان فيه خطأ في الفكر فإذا كانت الجملة رديئة التركيب شرشة الأساليب يستحيل أن يكون الفكر واضحاً على نسق متتابع. فلنعمل إذاً بكل ما فينا من قوة على تحسين إنشاء تلامذتنا فإننا بذلك نربي عقولهم. ومن أعظم الخدم التي نخدمهم بها أن نعلمهم لغة فصيحة ثابتة صريحة لأن مستقبلهم العقلي موقوف عليها. يقولون أن للغة الفرنسية هذه الصفات إلى درجة أمازت بها وحقيق ما يقولون. إن الإدارة حسنة فعلينا أن نعلم الفتيان كيف يحسنون استعمالها. منذ بضع سنين أتى على اللغة الفرنسوية بحران غريب أوشك أن يفسد اللغة وأعني به كثرة الكتابات والاستعارات والظاهر الآن أن هذا الوباء قد كاد يضمحل لولا أننا لم نبرح نعثر على بقايا من هذا المرض في لغة بعض معاصرينا من الكتاب لا يستقل بعددهم. أما نحن فندعو إلى الوضوح في العبارة وأنت ترى أي معنى يجب أن توجه إليه وجهة التمرين على الإنشاء للانتفاع منه انتفاعاً عقلياً فلا ينبغي النظر إلى الصور الجميلة بل إلى الصفات العقلية. فنحن في مبحثنا هذا لا نرمي إلى أن نخرج أدباءَ بل إلى تربية ذهن الطفل بتمرينه عَلَى الإفصاح عن أفكاره بذكاءٍ.
وها قد وصلنا إلى التمرين الذي يقصد به تربية الفكر فإنه لا يكفي حث الدماغ عَلَى العمل بكل الأسباب الممكنة فيمكن أن يفكر المرءُ كثيراً وتكون مادته فائضة أبداً ولا يكون إلا متوسط الذكاء وكل هذا العمل في الدماغ يجب أن يكون منظماً منسقاً متجهاً إلى وجهة واحدة ولكل جهاد فكري غاية والمطلوب أبداً إيجاد شيءٍ من تقرير حقيقة أو البحث عن أحسن واسطة لتحقيق غاية فالواجب من ثم أن نمرن عقلنا عَلَى العمل بصورة نافعة.
يميل الطفل إلى التفكر لهوى في نفسه يتلذذ به فيفرض كيفما اتفق قضايا لا يتعب نفسه في مراقبتها ولا يهتم في الحقيقة للاجتهاد وبهذا يبقى كثير من الناس طول حياتهم في حكم(42/77)
الأطفال. وإن المرء ليعجب أن يرى أموراً تثبت بأقل نظر بمجرد المناقشة فيها والخوض في الأحاديث خوضاً عادياً فالواجب العمل عَلَى ما يخالف هذا الدليل منذ الصغر بالجري عَلَى نظام عقلي حسن.
وأن حكم الطفل عَلَى الأشياء ليصحح خلال الحديث كلما خالف الواقع فمن خصائص عقله أن لا يمس الوقائع والحقيقة فالواجب إرجاعه إليها فكل فكر متلظ هو فكر متهور إذا وضع عَلَى محك النظر لا يلبث أن يكذب بالبحث والنقد فالواجب إذاً الرجوع أبداً إلى الحقائق ويجب أن لا يفوتنا الاحتراس من أن الأوهام في الأحكام تصدر في العادة من نقص في الأخلاق لا من ضعف القوة المنطقية فين عَلَى الأمور التي لا يحق لهم أن يبتوا فيها حكماً لا لأن العمل العقلي الذي يصدر به الحكم شيء الترتيب بل لقلة اهتمامهم وخفة أحلامهم ونقص في استقامة عقولهم. وعلاج ذلك أن يشعر الطفل بما في كل قضية مهما كانت من الأمور الجدية أبداً وهناك تدخل التربية العقلية كما ينتظر في التربية الأخلاقية.
والواجب أيضاً تربية قوة التعقل فإن بعض قضايانا ليست مستخرجة من التجربة مباشرة بل هي مستندة إلى آراء أُخذت من قضايا سابقة ففكر يولد لنا فكراً آخر ولنوسع في تأكيده وإثباته وما جودة الأحكام إلا أن يكون للمرء تسلسل في أفكاره لا يناقض أحدها الآخر بل أن يعضد أولها آخرها فيتألف منهما مجموع متماسك الأجزاء. أنا نستطيع أن نعود أولادنا عَلَى صحة الحكم وذلك بإشراكهم معنا في الحوار والمناقشة معلنين لهم نقص تصورهم بأن نعيد أفكارهم إلى الطريق السوي متى حادت عنه ولذلك ألف مناسبة للإشراف لي عقل الطفل في الحياة اليومية أو أثناء الدرس والتعليم.
وأنا إذا سما بنا النظر إلى ترقية التربية العقلية أكثر مما هي الآن في أطفالنا ليجب علينا أن نجعل في المدارس تمرينات خاصة لتربية القوة العقلية ودروساً في المنطق العملي. وليس في طريقة تعليمنا اليوم شيءٌ مما يشبه هذا فإنا لا نعلم التلاميذ المنطق إلا في أواخر سني الطلب وبعض القواعد المنطقية الصحيحة التي يدرسونها عَلَى هذه الصورة هي سطحية مبتذلة قليلة التطبيق على العمل ويكاد يكون نفعها في التربية الفعلية قليلاً جداً.
لا جرم أن المربين يستندون عَلَى تلقين العلوم المجردة للطفل لترقية القوة المنطقية في عقله ولكن في الرياضيات والهندسة صورة قاسية من تقوية العقل وهذه القسوة فيها تجعل(42/78)
هذه الدروس قليلة النفع ولذا لا يسهل كثيراً الفرق بين تقوية العقل على طريقة جيدة أو رديئة فلاتقاء السفسطات والأمور المخالفة للمنطق نحتاج إلى دقة وحذاقة أكثر من احتياجنا إلى ذهن يعي الهندسة. وكل منا يعرف أن المرءَ قد يكون مهندساً بارعاً ويكون حكمه بعيداً عن الصواب في جميع المواد الأخرى. وهل معنى هذا أننا ننسب لدرس العلوم المجردة قلة غناء في التربية عَلَى حين نتوقع نحن منها نفعاً عقلياً كبيراً يخالف ما يراه بعضهم كل المخالفة.
فكل تمرين للطفل نافع لما يتطلب فيه الجهد والتعمل. فأي مقاومة خاصة يقضي على دارس العلوم المجردة أن يتغلب عليها وأي حاسة تتمرن بها؟ فإن هذه العلوم متى فهمها المتعلم وأدركها يقوم له البرهان عليها والصعوبة الأولى في الاهتداء إليها وفهمها وللنجاح فيها يجب أن يكون صاحبها أهلاً لان يجعل لأفكاره المجردة كل التجربة قريبة من العقل ما أمكن ببيان الصلات بينها بمعنى أنه يتوصل إلى أن يلاحظ عليها ملاحظة حقيقية. يجب إدراك ما بين المسائل الكثيرة من الارتباط في النظريات التي قد تحدث ولا تتسلسل وفي مثل هذه المآزق يستدل على فلسفة العقل وقوتها. وأنت ترى أن الصعوبة في بلاغ الذهن إلى تلك المجردات لتحقيق هذه الأعمال العقلية ومن هنا نشأ الجهاد والتعب وفي هذا التمرين الحقيقي فائدة العلوم المجردة هو تمرين العقل على المجردات.
إن التعلم عَلَى سهولة مأتاه في المجردات والترقي بالتمرين المتصل إلى مجردات أعلى منها هو أرقى أنواع التهذيب العقلي وبدون أفكار مجردة لا تتجاوز معدل الذكاء الحيواني ولا نفكر إلا بصورة خاصة كنحو ما يلزمنا في حياتنا اليومية. في حين إن جميع الأعمال العقلية ذات الشأن والتشابيه المركبة والعموميات والتصورات الصعبة كلها بنت المجردات وربيبة النظر فمعنى إدراك الأفكار المجردة الاستعاضة عن الفكر الحقيقي المرتقي في تصوير الأشياء بفكر هو في حيز القوة يستعمل كما لو كان راقياً. فالعقل الممرن الصريح المعتاد على التفكر في الأمور المجردة يشعر من نفسه بهذه القوة ويقودها ويكتفي برسم الأعمال العقلية بدون أن يقوم بها بالفعل فينشأ من ذلك تخفيف عن الفكر يشبه ما حدث من نوعه عندما استعاض تصورنا عن الأشياء الحقيقية بصورة بسيطة من هذه الأمور. وبذلك تنمو قوة إدراكنا ونظرنا في العواقب نمواً مدهشاً ونعمل أعمالاً مختصرة بدون جهد أعمالاً(42/79)
يتجاوز ارتقاؤها طوقنا وذكاءَنا. وعلى هذه الصورة يرتقي العلم بأن يدخل أفكاراً مجردة في أفكار مجردة أعلى منها ويوجد طرقاً أقرب إلى الجادة لحل المشاكل تتطلب حلاً ماهراً وبذلك يسمو المرء إلى نظر أعلى في مجموع ما يعيه وإلى المدركات الواسعة فذكاء المرء يمكن أن يقاس بما فيه من قوة عَلَى اقتباس المجردات فأنا نرى الطريقة التي يفرض إتباعها واضحة أمامنا فيجب أن يسري تعليمنا من الأعيان إلى المجردات لا لأن للعقل ميلاً إلى الجري على هذه الصورة بل لأن هذه هو الطريق الوحيد لبلوغ الارتقاء العقلي.
نعم إننا بذلك نكثر على العقول الفتية من الجهد وربما خيف من أن تتجاوز مثل هذه التمرينات القوة التي خصصت لها ولذا من اللازم أن يجري عَلَى سنة التدريج في إيراد الصعوبات.
فإن ذهن الطفل لا تتأتى ارتقاؤه إلا بالتأني من سنة إلى أخرى باجتياز محطات تناسب تغيرات نموه الطبيعي ولا تتقاضى زيادة عما تحتمله سنه. ولا يعدم أحد منا أمثلة على هذه التربية الخرقاء من تحميل الطفل الذكي فوق طاقته بجهل والديه أو مربيه فيدفعونه إلى ما يجب أن يحموه عنه ويعودونه الشدة في التربية حتى تنهك قواه فيقوى عقله قبل الأوان لكثرة ما يحملون إليه من المحركات ولكنه قد يضل ثم يقف هذا الارتقاء عن جريه ويظل الطفل وسطاً في حياته. ألا فلنمتنع من كل طريقة في التربية تكون إلى الشدة وتظهر منها نتائج خارقة للعادة لقاء عياءٍ أكيد يصيب الطفل ولنعمل على العكس ما يضمن للطفل استمتاعه بقواه كما نريد على النحو المستقيم وأن نطلق سراحها خلال الدرس حرة في موازنتها الطبيعية والأدبية.
وبعد فإن الواجب تقوية الذكاءِ على صورة معتدلة ويمكن تقويته بالإرث لأن رقي الدماغ الذي يمتع المرء بصحته الطبيعية من شأنه الانتقال بالوراثة. الذكاء أمر نافع وكل من يرى الارتقاء العقلي الذي بلغه البشر بالعمل فكان أثمن هبة حصل عليها وتحدثه نفسه أن يبذل كل مرتخص وغال لترقية الذكاء البشري درجة أخرى وما أظننا نغص إذا رأينا الجيل المقبل أرقى منا في منازعه بما نعنى بع تلقينه أرقى تربية من تربيتنا نحن لا نغالي في آمالنا ونعرف ما يتطلبه النشوءُ الاجتماعي لإدخال التكامل عَلَى عنصر من السذج البله وأن المرء بذاته لا يتحول على أيسر وجه وإن الارتقاء العقلي الذي يتأتى لنا أن نرجوه(42/80)
من التربية الحسنة هو محدود بالطبيعة. فالطفل يولد على شيءٍ من الذكاء قلَّ أو كثر بمعنى أنه يكون ذا مزاج معتاد في رقيه فترتفع منزلته إلى قياس عقلي معتدل ومهما بولغ في تلقينه فلا يتيسر أن يتجاوز به هذا القياس. ولقد رأينا كثيراً من الفتيان والفتيات لم يربوا التربية الكافية فوقفوا في درجات عقلية يتأتى له تجاوزها وكان لهم استعداد طبيعي لم يحسن القائمون على تربيتهم استخدامه فأست تربيتهم مقيدة بقيود تزيدهم بلاهة بدلاً من أن تزيدهم ذكاءً. فالذكاء كالصحة والقوة الطبيعية في الإنسان لا يكون من الإكثار من أسبابه سوى إهلاكها لا نماؤها والأخذ بيد كل إنسان إلى حيث تصل قواه هو الحسن والإحسان بعينه وأن ما نقصد إليه في هذا المبحث الاقتصار إلى التربية الضرورية حتى يرتقي العقل الحر ممتعاً بما فيه من كفاءة أوثية. نعم إن العقول مختلفة في مداركها فالكسلان الغليظ الذهن يظل أبداً كذلك والذكي بالفطرة يزداد ذكاؤه مضاءً بالعمل والتدريب والمتوسط متوسط والمستعد إلى التقدم تزيد قواه العقلية نشاطاً والتربية لا تزيل الفروق الإرثية بل تزيدها فالنفوس المستعدة تستفيد أكثر من غيرها من أسباب الترقي وتتقدم تقدماً محسوساً. والتمرين الشديد الذي تتطلبه التربية العقلية العالية لا يتأتى قبوله إلا لمن كانت عقولهم عاملة بطبيعتها أما غيرهم فلا استعداد لهم إليها. لئن كان تعديل أساليبنا في التعليم على النحو الذي أوردناه نافعاً للجميع فهو نافع خاصة لبعض الناس وذلك لأنه يزيد تنشيط بعض الأذكياء المستعدين للنبوغ ولا ينبغي أن نستاء من هذه النتيجة ونقلق منها فإن ذكاء الطبقة المختارة من الخاصة هو مولد النجاح الذي يستفيد منه المجموع (انتهى معرباً عن مبحث طويل في مجلة التربية الباريزية).
سكة الحجاز
قالت مجلة الطبيعة الفرنسوية: كان الحجاج يسلكون إلى مكة طريق القوافل من جهات الساحل أو الداخلية ويجيء الفرس والهنود من الشرق ناعجين أيضاً طريق القوافل باجتياز صحارى بلاد العرب ويسير غيرهم وعددهم ليس بقليل عن طريق جدة عَلَى البحر الأحمر عَلَى مسافة 75 كيلومتراً من مكة ويسير حجاج افريقية من طريق البر مجتازين شبه جزيرة سينا في حين أن غيرهم يأتون من البحر إلى جدة. ولهذا كان هذا الثغر من البلاد المهمة للغاية يجتمع فيه كل سنة عدد عظيم من الحجاج قادمين من مصر وافريقية الشمالية(42/81)
وبلاد الهند والعثمانية وروسيا الجنوبية. أما حجاج سورية فهم أيضاً كثار العدد يقصدون إلى مكة من طريق القوافل فيجتازون بلاد العرب من الشمال إلى الجنوب من الخط الذي يربط دمشق بالمدينة ومكة. وبعد أن يجتمع هؤلاء الحجاج بالقرب من دمشق يؤلفون ركباً تخفره من غارات البدو كتيبة من المشاة ومدافع جبلية وذلك عَلَى طول الطرق البالغ 1800 كيلو متر ويقطعه الحجاج في أربعين يوماً. وإذا أضفت إى هذا الحرس المؤلف من نحو مئة بدوي يعهد إليهم العناية بالمتعبين من الحجاج أو المرضى منهم وألوف من الجمال والبغال التي تستعمل لحمل الأثقال والذخيرة اللازمة لطعام الحرس والحجاج تتمثل لك تلك الصعوبات التي يجلبها إعداد مثل هذه القافلة وتسييرها ويجب أن لا يفوتنا بأنه من المتعذر الامتيار طول الطريق وإذا استثنينا بعض الأنحاء في الطريق نجد الحال في هذه الدرجة من الصعوبة في استقاء الماء القابل للشرب. فكل شيء يجب والحالة هذه نقله عَلَى ظهور المطايا.
ونرى من جهة ثانية أن القيمة التي يكلفها هذا الحج فاحشة وإن اختلفت باختلاف الحجاج في غناهم ورفاهيتهم ومتى كان مع الحاج جمال لنقل أثقاله وحمله قد تبلغ كلفة الحاج من دمشق إلى مكة ألف فرنك ولكن كثيراً من الحجاج يذهبون مشاة وبعضهم يستخدمون عكامة أو خدمة لتقليل النفقة.
ولقد فكر القوم منذ زمن طويل في واسطة لتقليل هذه الصعوبات إلى أقل ما يمكن واختصار المسافة بإنشاء طريق حديدي من دمشق إلى مكة وبقيت الحال عَلَى هذه المنوال إلى يوم 1 أيار 1900 وقد أصدر السلطان السابق عبد الحميد بإشارة أمين سره عزت باشا الدمشقي إرادته بإنشاء السكة الحديدية ودعا السلطان العالم الإسلامي للإعانة لتمديد الخط فتقاطر المسلمون يدفعونها عن رضى حتى بلغ ما جمع في برهة قليلة ما يكفي للمباشرة بالعمل ما عدا بعض التخصيصات التي أعطتها الحكومة أو الأفراد.
وإذ كان من المتعذر الحصول عَلَى عملة من سكان البلاد يكفون للقيام بهذا العمل وكان الواجب الاقتصاد من النفقات عَلَى القدر الضروري عمدت الحكومة إلى استخدام الجنود في تمديد الخط فعهد إلى جنود من المشاة بالأعمال الترابية وإلى كتائب السكك الحديدية بنقل الأحجار وأعمال البناء أما سرايا الاستحكام فاستعملوا في الأعمال الميكانيكية في الورشات(42/82)
ووضع الأسلاك البرقية. وبالجملة فإن إنشاء سكة حديد الحجاز قامت بأيدي العاملين من المسلمين ما خلا مهندس ألماني واحد اسمه المسيو مايسنر.
يسير هذا الخط من دمشق إلى المدينة متجهاً من الشمال إلى الجنوب وجهته متوازية مع طريق الفواقل الذي لا يبعد عنه إلا في بعض المحال وذلك تفادياً من الصعوبات في تمديده ويمتد عَلَى القسم الأعظم من الطريق عَلَى سطح يرتفع بالتدريج من الشاطئ 898 متراً فوق سطح البحر إلى دمشق حتى إذا كان في الكيلومتر 888 فما بعده ينزل حتى يبلغ المدينة فيصير عَلَى 700 متر من سطح البحر بعد أن يكون بلغ في محطة الهدية أي في الكيلومتر 1126 - 345 متراً من سطح البحر.
وقد أرد بادئَ بدءِ تمديد الخط من درعا والاكتفاء من دمشق إليها بالخط الذي كانت مدته شركة فرنسوية ولها الحق بالشعبة التي تصل بين درعا ومرفأ حيفا على البحر المتوسط. وهي شعبة مهمة للغاية لسكة حديد الحجاز لأنها تصله مباشرة بالبحر وبعد أخذ ورد طويل ترك تمديد الخط من درعا إلى حيفا لسكة حديد الحجاز ولكن لم يتيسر الاتفاق عَلَى إعطاء الحق الأصلي من دمشق إلى درعا لإدارة سكة الحجاز فمن ثم اضطرت هذه الإدارة أن تجعل دمشق مركز سيرها وتبني خطاً جديداً موازياً للخط الأول بين دمشق ودرعا. ويجتاز الخط بين هذين البلدين ببلاد حوران وهي إقليم غني بالجملة وكان قديماً انبار رومية ويزيد غناه بفضل خصب التربة فيه ويرتقي كما هو المأمول ارتقاءً حسناً إذا تيسر له الخلاص من عصابات قطاع الطرق التي تعيث فساداً في أرجائه ويجتاز الخط بعد درعا وجهة متآزية مع جبال موآب التي تمتد عَلَى شواطئ بحيرة لوط ويقطع صقعاً متموجاً بالزروع ومغطى بالمراعي يسير فيه البدو ومعهم قطارات من الجمال. وفي ذاك الإقليم تجد مدينة عمان القديمة التي لا تزال آثارها ماثلة للعيان.
وبعد ذلك يصل الخط إلى بادية العربية الصخرية أو السعيدة ومن تلك النقطة تبدأ الصعوبة في الحصول عَلَى الماء الضروري لتسيير القطارات وشرب الركاب. وعند الكيلومتر 458 أي من محطة معان تصل إلى واحة ذات حدائق ونخيل تسقيها عينان نضاختان مياهها باردة صافية وفي جوار هذه المحطة خرائب مدينة بترا القديمة.
ومن بعد معان إلى العلا والمدينة تتبدل هيئة البلاد كل التبدل فتشتبك بجبال عالية قد تبلغ(42/83)
قمم بعضها 3000 متر عن سطح البحر ممتدة عَلَى ول البحر الأحمر وتنتهي عَلَى خط عمودي من البحر بأرصفة متتابعة وهناك اسناد تشقها أودية لا ماء فيها تطيل مسافة هذه الأرصفة والأودية فبعد أن تتجه تارة اتجاهاً عمودياً نحو الصخور الجبلية تكون طوراً متآزية ثم ينقطع أثرها في البادية. وتختلف سعة هذه الأودية اختلافاً كثيراً فتكون واطئة أحياناً بحيث يبلغ علوها في بعض الأماكن زهاءَ مئة متر.
وفي سفح هذه الاسناد يسير الخط الحديدي إلى المدينة مجتازاً ما أمكن الأودية المختلفة التي تكاد تكون وجهتها متآزية. وبذلك تيسر الاقتصاد في نفقات بناء الخط إلى أقصى ما يمكن.
ولقد قلنا آنفاً أنه ما عدا محطات معان وذات الحج وتبوك والأخضر والعلا فليس من ماءٍ في تلك الأصقاع بل أنك ترى الأودية إلا في بعض أحوال نادرة جافة حتى في موسم المطر. وموسم نزول الأمطار في تلك الأصقاع يكون في شهر تشرين الثاني وشباط وآذار ومن النادر أن تهطل في شهري كانون الأول وكانون الثاني والمطر يبقى في المكان الذي يهطل فيه حتى في أشهر المطر فبعض الأنحاء لا يبلغها الماء على حين يصل منه إلى غيرها كميات كبيرة تجري في الأودية فتغرقها ولطالما كانت سبب انقطاع المجاري في خلال إنشاء السكة الحديدية ومناخ هذه الأصقاع العالية جيد جداً ولجفاف الهواء تبلغ درجة الحرارة 55 في أشهر القيظ إلا أنه مما يحتمل لما يعدله من الريح البليل الذي يهب في تلك الأرجاء طول السنة لا يصعب احتمال هذا الهواء إلا في الأودية المحصورة جداً مثل التي في جوار العلا حيث تكون سبباً لانتشار الحميات وتنزل درجة الحرارة في الشتاء إلى 4 أو 5 ومن النادر أن تنزل إلى الصفر. وأهم الاحتياطات التي يجب اتخاذها التوقي من اختلاف درجة الحرارة بين النهار والليل.
وبعد أن يخرج الخط الحديدي من معان يعود فيدخل في إقليم قفر يشبه الذي اجتازه في الشمال فتتخلله أودية كثيرة قليلة العمق. وقد اقتضى لقطعها إنشاء مجار من الحجر أما تربتها فقاسية جداً وهي قاحلة ومملوءة بالحجارة.
وبعد أن يقطع الخط الحديدي في بطن الغول على ستين كيلو متراً من معان قمة جبل يبلغ ارتفاعها 1168 متراً عن سطح البحر يعود فيهبط نحو ذات الحج سائراً في وادي رتم(42/84)
الذي تختلف سعته وبعضهم كلما اقترب من ذات الحج وهي واحة فيها نحو مئة نخلة محيطة بقلعة قديمة لرد هجمات البدو الرحل وما من منزل حول هذه الواحة الحقيرة. وهذه الأراضي القاحلة المنبسطة تقطعها من مكان إلى آخر أودية تكون إلى تبوك البعيدة 692 كيلو متراً من دمشق وهي واحة مهمة فيها زهاء ألف نخلة ولها معقل حصين وسكانها نحو ثلثمائة نسمة.
وفي تلك الأصقاع المقفرة حيث تشتد حرارة الهواء الجاف بما تبعثه فيه الشمس من أشعتها تجد النور بهيجاً وتصبح وتبدو الأصقاع البعيدة غريبة في أنوارها فتنقطع الآكام المنفردة في شرق السكة الحديدية والجبال التي تحاذي البحر الأحمر بما فيها من نقوش النباتات والأوراق المحبوبة التي ترى عن بعد من الجهة الغربية تحت سماء مدهشة بصفائها وتكسو الشمس هذه الجبال عند الشروق والغروب بألوان منقطعة الشبه والنظير.
وكلما توغل الخط في قطع المساوف نحو الجنوب يصل إلى أصقاع منبسطة قاحلة ولكن تجري إلى الأودية ثم كمية وافرة من ماء المطر أثناء الشتاء ولذلك قضت الحال باجتياز هذه الأودية لإنشاء مجارٍ عظيمة القناطر ولا سيما في وادي اتيل وقد أقيم عليه جسر من الحجر طوله 134 متراً وله 20 قنطرة فتحة كل منها ستة أمتار. وهذا هو أهم عمل في الخط.
ثم يقترب الخط من الصخور البركانية الجبلية فيتجاوز في حارات العمارة الاسناد الأولى بواسطة نفق طوله 160 متراً وذلك بالقرب من محطة الأخضر فيدخل ثمت في أودية مختلفة محاذياً لها إلى العلا على مسافة تسعمائة كيلو متر من دمشق بعد أن يكون قد قطع عدة محطات وأهمها المعظم والمطلع ومدائن صالح.
وتتألف واحة المهمة التي يبلغ سكانها 3600 نسمة من غابة نخيل وليمون وطولها من 5 إلى 6 كيلو مترات وعرضها خمسمائة متر. وانتهى الخط الآن بالمدينة وهي على مسافة 1300 كيلو متر من دمشق وسيشرع بإكمال الخط بين المدينة ومكة. وقد بحث في عدة طرق لتمديد هذه الشعبة الأخيرة بين البلدين الطاهرين إحداهما تسير تواً من المدينة إلى مكة والأخرى أطول مسافة تقترب من البحر وهذا الفرع الأخير الذي يبلغ طوله 442 كيلو متراً هو الذي شرع ببنائه اليوم وبه يصبح طول السكة الحديدية من دمشق إلى مكة(42/85)
1754 كيلومتراً.
إن عرض خط الحجاز 1، 05 متر وهو غير متساو في رسمه فترى فيه في بعض المحال انحداراً طوله 20 ملمتراً في كل متر ودورة تبعد عن التخطيط الأصلي مئة متر أما تمديده فلم يستدع سوى فرش التراب ووضع الخطوط ما خلا جسرين من الحجر أحدهما بين محطتي عمان والقصر والآخر عَلَى وادي ايتل وهناك جسور لا شأن لها وهي كثيرة لأن الحاجة مست في عدة أماكن إلى إنشاء جسور في ممر الأودية التي تجف في الصيف وتطفح في الشتاء.
وما عدا جسر طوله 15 متراً له منافذ من حديد فإن جميع أعمال البناء من الحجر وذلك لكثرة العملة من الجند ولسهولة جلب الحجر من المحال القريبة. وقد أنشئت بعض الأنفاق القصيرة لاجتياز القمة التي تفصل بين مصاب بعض الأودية وجعلت هذه السكة من خطوط حديدية وزن المتر منها 21 كيلو غراماً تستند إلى خشب أو حديد ولكن الإدارة اضطرت بعد قليل إلى الاستعاضة عن الخشب بالحديد لكثرة فعل الشمس فيها فمجموع وزن المتر من هذا الخط ويدخل فيه قضبان الحديد الذي يسير عليه القطار والذي اسند عليه وغيره هو 103 كيلو غرامات أما فرش الخط فمن حجارة مكسرة من الأحجار البركانية.
وعدد المحطات المهمة قليل وهي تتألف من بناية لمكاتب الاستثمار ويقيم فيها المستخدمون ومن محطة للقاطرات وأحواض ماء وآلات رافعة للماء اللازم للقاطرات ثم طرق لتخزين المركبات. ولبعض هذه المحطات ورشات لإصلاح أدوات الخط وآلاته الثابت منها والمتحرك. وتجد بين هذه المحطات الرئيسية على مسافة عشرين إلى ثلاثين كيلومتراً محطات أخرى أقل شأناً من تلك وليس فيها سوى بناء هو عبارة عن مسكن للمستخدمين ويضاف في كل 70 إلى 80 كيلو متراً إلى هذه المحطات ما يلزم للقاطرات من أسباب حمل الماء اللازم ففي بعضها آبار وللبعض الآخر برك وهذه البرك قديمة البناء أنشئت لسد حاجات القوافل تمتلئ ماء في الشتاء فيستعمله الحجاج والبدو الذين يقصدونها للاستقاء منها مع إبلهم. وسعة بعض هذه البرك 36 ألف متر وبعضها 70 ألفاً وإذ كانت غير مغطاة ممتدة السطح وقليلة العمق يصبح الماء بعد مدة قليلة كريهاً ويتبخر سريعاً من حرارة(42/86)
الشمس. أما المحطات ذات الآبار وأكثرها قليلة العمق غالباً فإن مياهها تنضب بسرعة. فلا سبيل من ثم إلى إيجاد الماء الكافي للقاطرات والاستثمار إلا في بعض المحطات البعيد بعضها عن الآخر في الغالب وهذه الصعوبة في قلة الماء تزيد كلما توغل الخط متقدماً نحو المدينة. وللتغلب على هذه الصعوبات أضافوا أولاً إلى كل قاطرة مركبة حجمها 12 متراً مكعباً ثم استخدموا أحواضاً بمركبات تنقل الماء إلى المحطات التي يضطر فيها القطار إلى الاستقاء ولكن هذه الوسائط لم تخل من عوائق تجعل الخلل دائماً. فعقدوا العزم من ثم على حفر آبار عميقة جداً في كل 70 إلى 80 كيلومتراً ليمتاح منها الماء إلى البرك المغطاة. وقد جعلوا في الأماكن التي لم يتيسر فيها الحصول من الآبار على نتائج مرضية أحواضاً عظيمة مغطاة عمقها من 6 إلى 7 أمتار لتجمع فيها مياه المطر وتستعمل للشرب وجعلوا لها أدوات لتصفيتها من الأوساخ. ويحمل ماء الآبار والبرك إلى المحال اللازمة بواسطة مضخات بالبخار والأغلب بواسطة طواحين هواءٍ.
وقد حاولت الإدارة أن تفتح آباراً ارتوازية وحفرت بعضها إلى عمق 110 أمتار فلم تظفر بماءٍ ينبض وعللوا ذلك بأن السبب فيه إن ذاك السطح من الأرض يعلو من 800 إلى 1000 متر عن مساواة نهر الأردن فتسيل مياه الأمطار التي تتساقط هناك في الأحافير الكثيرة في الأرض نحو ذاك النهر. وربما كانت النتائج من ذلك أحسن كلما اقترب الخط من المدينة حيث تجري المياه إلى وجهة مخالفة.
ومعلوم أن سورية وبلاد العرب فقيرة جداً بغاباتها وليس فيها مناجم فحم أما الأصقاع التي يجتازها الخط الحجازي فهي خالية من كل ذلك بالمرة. فوقود القاطرات والوقود اللازم لتدفئة المستخدمين وطبخ طعامهم والاستصباح كل ذلك يجلب من الخارج إلى دمشق أو حيفا ومنها يحمل إلى المحطات الكثيرة حتى المدينة أي إلى مسافة زهاء 1400 كيلو متر وبهذا يرتفع سعر طن الفحم ارتفاعاً فاحشاً ولذا تبحث الإدارة في الاستعاضة عن هذا الوقود بزيت ثقيل يجلب من روسيا أو من الموصل على مقربة من بغداد.
كما أن الإدارة تفكر في طريقة تحفظ بعض التسويات الترابية فإن الخط في كثير من الأماكن ولا سيما في جهات العلا يجتاز أصقاعاً تربتها من رمال تسفيها الرياح الشديدة التي تثور في بعض فصول السنة فترتفع تلك الرمال تغشي الطريق وتسده وتحمل تلك(42/87)
التسويات التي أقيمت بهذا الرمل ولثقوبة هذه التسويات غطوا الحدور والسطوح بطبقة من تراب صلصالي مزجوها بالحصا من حجم مناسب وهو يوجد عَلَى أيسر وجه في جوار الخط.
أما أدوات الخط فتتألف من 43 قاطرة و512 مركبة نقل للبضائع و31 مركبة للركاب. هذا وقد بدئ بإنشاء الخط الحجازي في أوائل سنة 1900 وتم مؤخراً إى المدينة عَلَى مسافة 1300 كيلو متر بمعنى أنهم مدوا 140 كيلومتراً في السنة وقد كلف كل كيلو متر بما فيه المحطات والأدوات المتحركة من 35 إلى 40 ألف فرنك وهو قدر زهيد بالنسبة إذا اعتبرنا الأحوال التي لتخلل العمل هناك من الصعوبات عَلَى أن أيدي العملة من الجند هي التي ينسب إليها الفضل في تقليل النفقة.
نرى للخط الحجازي من حيث المنافع العثمانية مكانة عسكرية وسياسية كبرى لأنه سيصل عما قريب بخط حديدي لا ينقطع بين الأستانة وبين قطر بعيد كثيراً عنها ويسكنه قوم صعب قيادهم. أما من حيث التجارة فأي فائدة له؟ وليت شعري هل يكفي نقل البضائع والركوب لوفاء رأس المال الذي صرف عَلَى الخط والنفقات اللازمة لاستثماره وهي ليست قليلة. وهل يختار الحجاج الذين يقصدون مكة الركوب في هذا القطار على السير في طرق القوافل يا ترى؟ هذه مسائل يحلها المستقبل ثم ألا يخشى من انتشار الهواء الأصفر بهذا الخط بين البلاد عَلَى الرغم من المحجر الصحي في تبوك الواقعة على سبعمائة كيلو متر من دمشق اه.
هذا ما نشرته مجلة الطبيعة الثقة في العلوم الطبيعية والرياضية بشأن سكة الحجاز وقد ختمها الكاتب بما لا تكاد تخلو منه كتابات الإفرنج عن الشرق وضعف الأمل في مستقبله وأعماله ونعني بذلك أن الخط الحجازي لا شأن له من حيث التجارة لأن الحجاج قد يؤثرون طريق القوافل عَلَى الركوب فيه وأنه يكون واسطة لنقل الوباء من القطر الحجازي إلى القطر الشامي. وكل هذه هو الخطأ بعينه لأنا نرى الحجاج يؤثرون الركوب في الخط الحجازي عَلَى ما فيه الآن من خلل في إدارة واستثماره وقلة وسائط الراحة ولو وفرت العناية به لظهرت الفوائد التجارية المادية ظهور الشمس في رابعة النهار ويكفي الآن أن الخط بين دمشق والمدينة قد حسن تجارة البلدين كثيراً بل أن من بعض الأراضي(42/88)
عَلَى طول الخط ما عمر أو كاد الآن بفضل المواصلات. والإفرنج يقولون: مدد الخط الحديدي في قفر ونحن نضمن له العمران فما بالهم يحللون لأنفسهم ما يحرمونه علينا ثم أن دعوى أن الخط الحجازي ينقل جراثيم الوباء مسألة فيها نظر بعد أن تحجر الحكومة على الحجاج في تبوك أياماً على أنه قد تمر السنين ولا ينتشر الوباء في الحجاز.
العهر والزواج
ألقى المسيو مالابرا أحد أساتذة الفلسفة في باريز محاضرة في مدرسة الدروس الاجتماعية العالية قال فيها: إن من يذهبون إلى أن التصريح بشرح المحظورات والرذائل أما الطلبة مما يضر بآدابهم ويعرفهم ما كان يجب السكوت عنه معهم هم في ضلال من آرائهم. وإن ما يرونه من جهل الأطفال في هذه الأمور مما يحفظ عليهم طهارتهم وعفتهم هو الخطر والخطل وذلك لأن الجهل لا يعد فضيلة ولا يقوم مقامها لأن للجهل حداً وزمناً يقف عندهما وعندئذ يسرع العطب إلى الفضيلة. ثم أن من يتوهم بأن الشاب يبقى إلى السادسة عشرة من عمره غير عارف بأسرار الرجولية هو من العماية بمكان. لأن الشاب لا يلبث أن يتعلم من بعض أقرانه الذين هم أعرف منه بهذه الأمور لم يتعلم ذلك من والديه أو معلمه فالوالدة خصوصاً هي أعرف بالزمن الذي يجب أن تنصح به لأبنها بما ينبغي له اتقاؤه من المفاسد وهي أقدر من غيرها عَلَى نصحه النصح اللازم بدون أن تمس أصلاً من أصول الحياء. ولكن معظم الوالدين يتسامحون بإعطاء هذه النصائح ويتخذون من جهل أبنائهم بما يترتب عليها من المفاسد حجة عَلَى سكوتهم. ومن المعلمين من تضيق صدورهم بشرح ما ينبغي ذكره للشبان مجتمعين ويؤثرون أن يذكروها لبعضهم منفردين ومنهم من يرون أن يعهد بحث هذه النصائح لطبيب الأسرة وآخر للرئيس الديني والأحسن أن يكون أمرها بيد المعلمين.
يجب أن يقال للأولاد أنكم إذا أحببتم أن تكونوا في حياتكم أهل شرف وحشمة أن تعرفوا أن الأمم يضمحل أمرها متى فقدت آدابها وأنه لا سبيل إلى شخص أن يكون في مبدأ أمره فاسقاً ثم يكون في دور آخر صاحب فضيلة محترم المقام. فمن فصول الأخلاق فصل اعتادوا ويا للأسف أن لا يشرحوه لكم عَلَى حين هو جدير بالشرح وأعني به علاقة الرجل بالمرأة لما في ذلك من المخاطر والأهواء والشرور والمفاسد التي تعبث بمعنى الفضيلة(42/89)
والشرف والعدل. إن من أبشع ضروب السفسطة ما يزعمه بعضهم من أن خيانة المرأة من أعظم الجنايات وينتفرون خيانة الرجل وربما عدوها من أنواع الظرف واللباقة عَلَى حين هما مشتركان في الجريمة وارتكاب المآثم والرياء. ولعلهم يرون أن المرأة مخلوق بلغ مبلغاً عظيماً من الطهر والعفاف وهما لها من الأمور الطبيعية السهلة وأن الرجل هو من هذه الوجهة محتقر مرذول لا سبيل إلى مطالبته بأن يسير عَلَى غير ما يسير عليه الخنازير أو العصافير. أو لعل بعضهم يقول بأن خيانة المرأة وهي تأتي إلى البيت الأبوي بولد ليس منه يشارك أهله في العطف والإرث ويسيء استعمال الحقوق الطبيعية التي هي لأهله الأصليين من دون الدخلاء لا تعد شيئاً ولكن الرجل الذي يضع أبنه في غير بيته هل هو أقل ظلماً لأسرته والمجتمع من تلك المرأة وهذه تحمل الطفل في أحشائها تسعة أشهر وترضعه وتربيه وتتعب به أما الوالد فيقضي حظه في ساعته ويذهب مختالاً. ولكن هذا الظلم في الحكم عَلَى الجنسين ليس إلا اعتقاداً عاطلاً قديماً ورثناه عن الأجداد الذين كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى حيوان مفترس أو دابة ركوب وأنها خادمة الرجل وملكه ومتاعه نهبها في الحرب أو ابتاعها من السوق وبذلك كانت سرقتها خرقاً لحقه وجنايتها إهانة لعظمته وتمكينها من نفسها ضرباً من ضروب الاعتداء عَلَى حق غيرها وهي لا حق لها يعرف بتة.
نعم ليس ثمت أدبان فمن سار سيرة سيئة دنيئة مع امرأة لا يستطيع أن يكون عفيفاً مخلصاً عادلاً بقية حياته ومن أسخف ما يقولونه حتى كاد يسري مسرى المثل أن الشبيبة طور من أطوار الحياة لا بد من قضائه أي أنه يتسامح مع الشاب أن يأتي ما يأتي. وكم من رجال أُفسدوا بهذه الحكمة السخيفة ومن وجدانات يعبث بها كل يوم من تاثيراتها. فمن أفظع الأمراض التي يصاب بها الشباب مرض الزهري فقد أثبت الإحصاء أن واحداً من كل سبعة رجال يصاب به في فرنسا وواحداً من كل أربعة يصاب به من طلبة باريز فهذا الطاعون الجديد كما يسمونه يحمل معه أمراضاً كثيرة منها العقم والفالج العام والموت فكما أنه مرض عقام فهو معدي حتى من بعد خمسين سنة فإن أصيب به يحمله إلى غيره حتى بعد هذه المدة فقد ثبت أن الإصابات عَلَى هذه الصورة ليست نادرة بل أن 19 في المئة من النساء يصبن به من رجالهن وينقلنه إلى أولادهن وأن عشرين ألف طفل في سنة يولدون(42/90)
ميتين أو يموتون في الشهور الأولى من ولادتهم بسبب هذا الطاعون ومن يعيش منهم يبقون في عاهات وسقوط نفسي وجسدي كاحديداب ظهورهم ووقر في آذانهم وعقلة في ألسنتهم وضعف في قواهم العقلية وبلاهة وحمق. فأي شاب عاقل يعرض أولاده لهذا المرض بصنعه ويورثه هذه المصائب ولا تؤاخذه نفسه على ما أتى قائلاً أنه يكفر عن سيئات ارتكبها ويؤخذ بجنايات أتاها دع عنك ما ينال الشخص نفسه من ضعف القوى العقلية وضعف النشاط والفتاء مما يجعل فيه استعداداً للسل وللأمراض العصبية والعقلية فمن يسرف في حبه على صورة دنيئة جنونية يوشك أن يهينه ولا يهين المرء حبه إلا إذا أهان نفسه فقد قيل ما من امرئ يأتي ما يخجل منه بدون أن يصدر عنه ببعض المقت والقذارة. وبهذا رأيتم أن العفة تطالبكم بالاحتفاظ بها لا للحيطة على النفس فقط بل حرصاً عليها من التدنس والعار.
وأني لأعجب لمن يعمد إلى إغواء فتاة ثم لا يعلم أنه كما تدين تدان ويستاءُ إذا بلغه أن أخته أو إحدى أقاربه قد اتخذت لها خليلاً حتى يكاد يموت خجلاً وربما أدى به ذلك إلى ارتكاب الجنايات. وأني لأرثى لحال تلك الفتاة التي أُغويت وتركها مغويها بما فيه من دناءة. ومن قال بأن جريمته تغتفر إذا استفاد من فتاة أغواها قبله إنسان فهو شريكه في الجرم لا محالة ومن أمثال هؤلاء الشبان كثر العهر والفجور أحد الأدواء الاجتماعية في هذا المجتمع. فمن دناءة الطبع أن يبيع المرء جسمه من كل طالب فهل ترون أقل دناءة من يبتاع جسم غيره؟ فقد قال فيكتور هوغو كلاماً حرياً بالإمعان:
يقولون أن الرق زال من الحضارة وهذا وهم لأنه ما زال بحاله ولكنه رق لا تنوءُ تحت عبئه إلا المرأة وهو ما يسمى بالعهر. لا يثقل على المرأة أي على اللطف والضعف والجمال والأمومة وذلك من موجبات الخجل للرجل.
وأن من يقول أن الشاب بما يأتي يقوم بواجب طبيعي لا نجيبه إلا بأن ما يعمله هو من نتائج التفكر. ويتأتى له أن يفلت من مخالب هذه المفاسد إذا صحت عزيمته وسلمت إرادته فالإرادة وحدها هي الباعثة عَلَى الشهوات وإذا قيل أن مقاومة الطبيعة صعبة فإنا نقول بأن ما يصرف من القوى في جهاد النفس والهوى أقل مما يسرف منها إذا سار المرء بما تمليه فطرته الرديئة. ومن خلص نفسه من هذه المآزق كان خليقاً بأن يعد مالك نفسه ثبت الإرادة(42/91)
متين الأخلاق كريم العواطف وكل ذلك من صفات الرجولية.
فعليك يا هذا أن تعلي قدر الحب وأن تبتذله لأنه أجمل ما في الأرض وأقدسه وأن تعلي قدر المرأة بحيث لا تهان لأنها في البيت والمجتمع حارسة الكمال وهي في ذاتها جزءُ بل أشرف جزءٍ من الكمال في الحياة وعليك أن تتمثل أبداً المرأة في ذهنك صورة حية كما تتمثل أختك وأمك صورة الطهر واللطف واعتقد بما قاله تورية: إن من يتزوج شاباً وهو سليم البنية ويختار فتاة شريفة سالمة من العاهات ويمازج حبها شغاف قلبه ويبذل كل نفسه وقواه ويجعلها رفيقة أمينة له وأماً ولوداً ويميل لتربية أولاده ويكون لهم خير مثال بعد وفاته هذا هو الحقيقة وما عدا ذلك خطأ وجناية وجنون.
ولا أسهل عليك من التوقي من ضروب الإغواء والغواية إذا أزمعت أن تتزوج شاباً وفكرت فيمن تكون أليفة حياتك ممن ربما تكون عرفت صورتها من قبل وأحببتها وكتمت حبها في صدرك فتشاطرك في الحياة آلامها وأفراحها وه تكون لك عوناً كما أنت لها عون بما تشعر به من حبك لها حباً دائماً جميلاً وتتخذ من جسدك وروحها أحسن مادة تؤلف منها جسد ولدك وروحه.(42/92)
العدد 43 - بتاريخ: 1 - 9 - 1909(/)
غرائب الغرب
الرحيل من دمشق إلى لبنان
1
كان من أعظم أماني النفس منذ بضع سنين أن أرحل إلى أوربا رحلة علمية أقضي فيها ردحاً من الدهر للتوفر عَلَى دراسة حضارة الغرب في منبعثها واستطلاع طلع المعاهد التي نشأ المخترعون والمكتشفون والفلاسفة المنزهون والعلماء العاملون والساسة المستعمرون والقادة الغازون والتجار والصناع والزراع والماليون وهم على التحقيق مادة تلك المدنية وهيولاها.
وكانت الأحوال تعوق هذا القصد عن إتمامه وتحول دون البغية المنشودة إلى أن قدر الله فأقام والي سورية السابق تلك القضية الملفقة على جريدة المقتبس واحتال انتقاماً لنفسه لأقفال المطبعة وتوقيف الجريدة والمجلة قبل صدور حكم المحكمة عليَّ فقلت الآن حان وقت الرحلة في طلب العلم نتفرغ لتحقيق ما في الخاطر ريثما يتبين الحق من الباطل من العاطل وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
في الهزيع الأخير من ليل الثلاثين من رمضان (1327) ركبت من دمشق عربة مع صديقين عزيزين قاصدين قرية القابون وفي ظاهرها وقفنا لحظات إلى أن وصلت فرسي ووصل صديقٌ لي راكباً فرسه فركبنا وعاد ذانك الحبيبان إلى المدينة. وكان بدأ في تلك الساعة الإشراق في الأفق والسكون لم يبرح مستحوذاً على الأرباض والرياض ولم نكن نسمع من بعيد غير قعقعة أجراس الطحانين والمكارين وصياح الديكة أو عواء الكلاب وما كدت أعلو متن مطيتي حتى ترامى إلى مسمعي صوت مؤذن القابون ينادي هلموا إلى طاعة الله يرحمنا ويرحمكم الله فقلت كلمة حق لو جرى العمل بالطاعة وما يلزم لها لرحموا ولكنها جمل جميلة تقال ومعان شريفة لا يعمل بها وعادات ألفت بمعزل فيها من الأسرار النافعة في صلاح المعاش والمعاد.
التفت إلى الغوطة الدمشقية التفاتة أخيرة وهي أحب بقعة إلى قلبي في الأرض وقد كثر في أفقها شفق الفجر فذكرت طرفاً من أيامها البيض والسود. ذكرت الغوطة المحبوبة وذكرت مطامع البشر وانحطاط أخلاقهم وعقولهم فقاد ذلك إلى التفكر في شقاء الإنسان بالإنسان(43/1)
وموت بعض لحياة كلّ وافتقار مئات لإغناء أفراد وشقاء ربوات لسعادة عشرات وتعب فريق لراحة أمة فتمثل لي عجيب صنع المولى في خلقه سبحانه لا يبقى العالم عَلَى حال هو المعز المذل القابض الباسط المغني المفقر يقلب الأرض ومن عليها ولا يرثها إلا عباده الصالحون.
سارت بنا مطيتانا فاجتزنا قرية برزة ومعربا ولم تشرق الشمس إلا وقد قطعنا أراضي معربا وأشرفنا على أكماتها فالتفتنا إلى ما وراءها وقد تحلت لنا بعض بقاع الغوطة والمرج من خلف الجبال فألقينا عليها نظرة الوداع وأغذذنا السير إلى بسيمة ومنها إلى دير مقرن فكفير الزيت فدير قانون فكفر العواميد وفي هذه القرية بتنا ليلة عيد الفطر.
ولم أشهد هذا الوادي وكنت مررت به راكباً منذ ستة عشر عاماً شيئاً من التغير والإرتقاء المحسوس فالفلاح فيه لا يزال ينتظر موسم الفاكهة إن سلمت أشجاره من لفحات الجليد يرتاش تلك السنة ويعتاش برمانه وجوزه وتفاحه وكمثراه وتينه وعنبه وإلا فيضطر في الأكثر إلى الاستدانة عَلَى الموسم المقبل وإن كان على شيء من القوة والجلد يرحل إلى بعض الكور المجاورة كقرى وادي العجم أو الغوطة يعمل فيها أشهر الصيف ليأتي في الشتاء بمؤونة تكفيه من الحنطة في كنه وكانونه.
نوذلك لأن هذا الوادي منذ قرية دمر حتى سوق وادي بردى لا يغل من الحبوب ما يسد عوز سكانه بعض السنة لغلبة اليبوسة على جروده وجباله ولأن أكثر تربته صخرية تحتاج للعمل الكثير على الطرق الزراعية الحديثة لتأتي أكلها. أما الأشجار وبعض الخضر والبقول التي ينتفع بها الفلاح هنا فالفضل لنهر بردى في إروائها يأخذ من مائه في مجار يعليها بقدر حاجته أو أكثر.
ولقد أخذت أثمان الفواكه تأتي بأرباح أكثر من السنين السابقة خصوصاً منذ استثمار السكك الحديدية في سورية كسكة بيروت_دمشق_حوران وسكة دمشق_حيفا_المدينة وسكة دمشق_حلب_بيره جك 0 (البيرة) فأصبحت ثمارهم تصدر إلى الجهات القاصية وكانوا يقدمون أكثرها في سني الخير علفاً للدواب أو يلقونها في الطريق لأن العطلة في نقلها من محلها إلى دمشق أو بيروت مثلاً على الدواب لا تقوم بأجرة المكار ودابته.
نعم لم أر ارتقاء محسوساً في حالة فلاح وادي بردى وأني يتم له ارتقاء وليس له طريق(43/2)
يسلك غير ما حفرته أقدام المارة وحوافر الدواب والماشية وجرفته السيول والرياح منذ قرون. فالطرق المعبَّدة المطروقة لا أثر لها في هذا الوادي ولعل ذلك ناشيء من كونه حديث عهد بالحكومة المنظمة فقد كانت معظم قراه من قبل تابعة لأقضية بعيدة أما الآن بعد أن غدا من مركز قضاء الزبداني على بضع ساعات فقد بات يرجى بفضل قائم مقامه الغيور أن تنظم لأهل قضاء الزبداني طرق غير طريق السكة الحديدية تصل بين قراهم وبين دمشق حاضرة الولاية ليتيسر للناس الغدو والرواح من أيسر السبل. وما أخال ذلك معتذراً على الحاكم إذا حث أهل كل قرية أن يقوموا بأنفسهم لتمهيد طريقهم أيام انقطاعهم عن العمل كفصل الشتاء مثلاً لما يعرفون من الفوائد التي تنجم لهم عنها أو يعلمونها بواسطة الموظفين الأمناء وإن كانت هذه الطريقة لا تخلو من محظور لأنها تؤدي إلى السخرة والسخرة ممنوعة بنص القانون الأساسي. وتمهيد الطرق وبث الأمن من جملة الفروض العينية عَلَى كل حكومة.
وبعد فإنه لا وجود في وادي بردى لسائر المرافق التي يتمتع بها الفلاح في البلاد المتمدنة وذلك لأن الحكومة الاستبدادية الماضية لم يهمها من الفلاح إلا أن تأخذ منه لا أن تهيئ له سبيل الأخذ. فكان قصاراها تكثير الجباية وتوفير الضرائب وأخذ من تريده للخدمة العسكرية أما أمتاع الآهلين بالوسائل الحصية وتعليمهم الطرق الزراعية القريبة المأخذ وفتح سبل الواصلات ورفع علم الأمن وتعليمهم الضروري من القراءة والكتابة فكانت أموراً لا تعرفها لا في وادي بردى فقط بل في جميع أودية البلاد العثمانية وسهولها وجبالها.
ومن أغرب ما رأيناه في وادي بردى أن بعض قراها تحفر القبور لموتاها أما الدور فترى حي الأحياء مع حي الأموات وما أدري هل يأتون ذلك بالقصد حرصاً على رفات موتاهم من أن تسطو عليها الوحوش الكاسرة في مدافنها إذا لحدوها بعيدة عن العمران ولو بضع خطوات أو أنهم يؤثرون دفن الموتى أما أعينهم ليذكروا كل شارقة وبارقة مصير الإنسان إلى دار البقاء ويزهدوا في دار الفناء فلا يهتمون بأسباب الهناء والصفاء.
ومما عمت به البلوى في الفلاحين أنك ترى القاذورات أيضاً تعمي العيون وتخنق الأنفاس فترى روث البهائم وغائط الآدميين وسط الدور وخلفها وقدامها وعن ايمانها وشمائلها.(43/3)
ولولا بقية من عادة النظافة والتطهر ورثها المسلمون بالتسلسل عن آبائهم وشيء من جودة الهواء في الجملة في القرى لما بقيت باقية لسكان هذا الإقليم ومن حوله.
ركبت صبيحة العيد ورفيقي قاصدين سوق وادي بردى ولعلها سميت كذلك لسوق كانت تقام فيما مضى للبيع والشراء على العادة في أسواقنا الباقية حتى الآن فيقال مثلاً سوق الأحد وسوق الجمعة وسوق الخيل وسوق الحمير. ولهذه الأسواق أمثال في أوربا. وبالقرب من السوق تضيق فوهة الوادي وينقطع العمران ليخرج منه إلى منفسح وادي الزبداني. وجبال السوق لا تخلو من نواويس قديمة على نحو ما تجد منها في جبال الشام محفورة في الغالب في القمم والآكام.
ومن السوق انتهى بنا نفس السير إلى قرية عيت الفخار من أعمال البقاع العزيز وهي القرية التي اشتهرت منذ عهد بعيد بفخارها الذي تطبخه أكثر بيوتها في تنانير خاصة وتبيعه في المدن الداخلية من أعمال دمشق.
وقد شعرنا بتغير المشاهد منذ أطللنا عَلَى عيتا ورأينا بيوت القرميد التي بنيت بالحجر النحيت على المثال الذي نشاهده في أكثر بيوت سورية.
وعلمنا أن سبب ما شاهدناه من جمال المساكن في عيتا تلك الأموال التي جلبها بعض سكانها من هجرتهم إلى أميركا وأحبوا حتى من لا تحدثهم أنفسهم بالسكنى ثانية في عيتا أن يظهروا غناهم بإنشاء الدور المنظمة ليصح عليهم المثل العربي أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها إن الغني طويل الذيل مياس أو الأثر المشهور إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وليس كالبيوت تنم عن يسار وتدل على سعة. وبعد عيتا مررنا بكامد اللوز فجب جنين فلالا فبعلول من وادي البقاع وفي هذه القرية بتنا عند رجل من أهلها أنزلنا عنده وأكرمنا ولم يعرفنا ومع حرصه على معرفتنا اكتفينا من التعريف بالتعريض وفي المعاريض مندوحة عن الكذب.
وقد سرت إلى هذه القرية وإلى جميع قرى البقاع عدوى الهجرة وتناول الاغتراب السكان عَلَى اختلاف نحلهم ومن حديث كثير من البقاعيين تبين أن أهل كل قرية في الغالب يؤثرون في بلاد المهجر إقليماً خاصاً لهم ينزلونه أو مملكة يوجهون وجهتهم إليها فيقصد مثلاً أهل قرية كذا ولاية كذا من شمالي أميركا وأهل القرية الفلانية يقصدون جمهوريات(43/4)
الجنوب وآخرون ينزلون كندا وغيرهم اوستراليا وفريق السنيغال فكأن عدوى الانتقال تسري إليهم بالعشرة فلا يحب المواطن إلا أن يقلد مواطنه في مآتيه ومنازعه بل في شقائه وسعادته. وقد اذكرنا هذا بحال العرب في الفتح وبعده فكان القيسيون ينزلون بلد كذا واليمانيون إقليم كذا ثم لما امتدت الفتوحات وفتحوا الأندلس كان جند الشام يختار بقعة غير التي اختارها جند حمص ولذلك كان الجند يدعون كل بلد ينزلونه باسم بلدهم الأول كما يحاول بعض مهاجرة السوريين الآن ذلك في الولايات المتحدة.
وفي اليوم الثالث قصدنا مشغرة فمررنا بجسرها المخرب الممتد على نهر الليطاني وانجدنا قاصدين جزين أول حدود لبنان إلى الجنوب. ومشغرة أقصى بلد عامر بالزراعة والصناعة في البقاع الغربي وهي مشهورة إلى الآن بدبغ الجلود للأحذية اشتهار مدينة زحلة أو أكثر والمسافة بين مشغرة من أعمال ولاية سورية وحزين من متصرفية لبنان ثلاث ساعات تعلو قمة عالية ثم تنحدر في واد عميق.
ومع أن قضاء البقاع من أعمر أقضية ولاية سورية بزراعته لخصب تربته وتوفر المياه الدافقة عليه من سفوح لبنان الغربي ولبنان الشرقي ومتاخمته لجبل لبنان الذي يحتاج لكل ما تنبته أرض البقاع من الحبوب والثمار ومع كثرة الأعيان الذين يملكون فيه المزارع والأراضي الواسعة ومنهم من أنشأ فيه حقولاً انموذجية حقيقية وصرفوا عليها الأموال الطائلة واستخدموا لها أحدث الطرق الزراعية كالأراضي التي عمرها نجيب بك سرسق في عميق ودير طحنيش وأقامها الآباء اليسوعيون في تعنايل - مع كل هذا العمران المستبحر وما تأخذه النافعة من أموال الآهلين كل سنة باسم الطرق والمعابر لا ترى في القضاء طريقاً مسلوكاً اللهم إلا طريق الشام القديم الذي تركته شركة الديليجانس لما أنشئ خط بيروت الحديدي. وقيل لنا أن الحكومة صح عزمها مؤخراً على إنشاء طريق عجلات بين المعلقة مركز القضاء وبين مشغرة في غربه وأن الطريق وصل أو كاد إلى قرية عيتنيت ولعله جسماً لا أسماً كأكثر الطرق التي أنشأها النافعة في الولايات فكانت لفظاً بلا معنى واسماً بلا مسمى لم ينشأ عنها إلا التعجيل في سلب نعمة الفلاح وخراب بيته باسم العمران وخدمة الأوطان.
وصف لبنان الطبيعي(43/5)
2
كنت في لبنان أشبه بأبي زيد السروجي أو أبي الفتح الأسكندري احتاج إلى رواية مثل الحارث بن همام أو عيسى بن هشام يروي كلٌ منهما لمثل الحريري أو بديع الزمان تلك المظاهر التي اضطرت إلى الظهور فيها لانجو من مخالب عدو ممازق أو جاسوس مخادع وليتيسر لي درس حالة البلاد بدون حجاب.
فقد قيل اكتم ذهابك ومذهبك وذهبك ولكن القاعدة لا يرضاها منك اللبنانيون الأذكياء فتجدهم يحرصون كل الحرص عَلَى استطلاع طلع كل مصطاف بينهم أو سائح في جبالهم والوقوف عَلَى مقصده ومبلغ ثروته والدين الذي يدين به. وربما كان سؤالهم عن الأخير قبل كل شيء لأن عامتهم متدينون جداً فهم يسرون إذا شعروا أنهم يتعارفون إلى رجل يشاكلهم في المعتقد. وأنيَّ لمن قضى عليه شدة إخلاصه في خدمة وطنه ودولته أن يصرح لهم بهويته وهو مشرّد طريد محكوم عليه بالجناية حكماً قره قوشياً!
ودعني رفيقي غداة وصلنا إلى جزين وعاد إلى الفيحاء وبقيت وحدي لا ريق لي إلا كتابي وفرسي. فانقلبت لساعتي من جزين قاصداً دير القمر فاجتزت إليها تاتر وعماطور والمختارة وغيرها والطريق بين هذه القرى القديمة عامرة من وراء الغابة تمشي فيه وسط أشجار الزيتون وهي غابات غبياء في الشوف كما أن أشجار الصنوبر كذلك في قضاء المتن. ودير القمر هو مركز الجبل القديم وصلت إليه قبيل الغروب وقد بدت القصبة بأبنيتها الشاهقة كالعروس في حليها وعكست شمس الأصيل على زجاج نوافذها وسطوحها فاختلطت الحمرة بالصفرة بالخضرة بالزرقة فكان أجمل منظر تقع عليه عين إنسان. وأهل الدير كمعظم سكان الجبل موصوفون بالرقة وحسن العشرة يتحببون إلى الغريب كيف كانت حاله. وفي هذه القصبة إلى اليوم جامع قديم من القرن العاشر بناه أحد أمراء لبنان ولا يزال الديريون يحرصون على سلامته فيتعهدونه بالعمارة وإن لم يكن له من يقيم فيه الصلاة.
وقصبة الدير بكثرة سكانها وتوفر مرافق الحياة فيها أشبه بالمدن منها بالقرى وهي مشهورة بتجارة الحنطة تحمل إليها من حوران فتوزع في الأطراف. وليس دير القمر وحيداً في نوعه باكتظاظ الأقدام فيه فمدينة زحلة لا يقل سكانها عن خمسة وعشرين ألف نسمة(43/6)
وأوصل بعضهم نفوسها إلى خمسة وثلاثين. وتكثر النفوس في حمانا ورأس المتن وبرمانا وبيت مري وبعبدات وبيت شباب وبكفيا وبسكنتا وبعبدا والشوير وحصرون والشويفات وحدث الجبة وبعقلين ومجد المعوش وعالية ومعلقة الدامور وجزين وجبيل واهمج وتنورين وعمشيت وغزير وجونية وكفر ذبيان والبترون واهدن والهرمل وأميون وزغرتا وكوسبا وفي غير ذلك من القصبات التي يعد فيها النفوس بالألوف والمئات.
والقرى والمزارع متصلة خصوصاً في المحال التي ترتفع كثيراً عن سطح البحر ولا يتعذر العيش فيها في الشتاء لكثرة ثلجها وبردها وجليدها وأعاصيرها وما أشبه لبنان وقراه ومزارعه لا تقل عن تسعمائة وستة وخمسين قرية (1) إلا بقصر فخيم جميل واسع الأرجاء محفوف من أطرافه بالرياحين والأزاهير العطرية وغرفه الكثيرة تلك الدساكر والضياع لا يكاد المتجول يمل من مقصورة حتى ينتقل إلى أخرى وما أسرع وصوله إليها من تلك الطرق المعبَّدة وهذا القصر مزدانة أفنيته وأروقته بأقصى ما تخص به يد الصانع من بدائع الزينة ويد المخلوق لم تقصر كثيراً في تعهده.
معنى لبنان الأبيض وهو اسم عبراني سمي به لتعمم قممه بالثلج في الشتاء والربيع وبعض الصيف. وقد ورد ذكره في الشعر القديم فقال النابغة الذبياتي:
حتى غدا مثل نصل السيف منصلتاً ... يقرو الأماعز من لبنان والأكما
وقال أحمد بن الحسين بن حيدرة المعروف بابن الخراساني الطرابلسي من المحدثين:
دعوني لقاً في الحرب أطفو وأرسب ... ولا تنسبوني فالقواضب تنسب
وإن جهلت جهال قومي فضائلي ... فقد عرفت فضلي معدُّ ويعرب
ولا تعتبوني إذ خرجت مغاضباً ... فمن بعض ما بي ساحل الشام يغضب
وكيف التذاذي ماَء دجلة معرقاً ... وأمواه لبنان ألذُّ وأعذب
فمالي وللأيام لا درَّ درُّها ... تشرّق بي طوراً وطوراً تغرّب
وأنشد المتنبي في مدح أبي هرون بن عبد العزيز الأوراجي في قصيدة:
بيني وبين أبي علي مثله ... شمُّ الجبال ومثلهن رجاءُ
وعقاب لبنان وكيف يقطعها ... وهو الشتاءُ وصيفهن شتاءُ
وقال البحتري:(43/7)
وتعمدت أن تظلَّ ركابي ... بين لبنان طلعاً والسنين
مشرفات عَلَى دمشق وقد اء ... رض منها بياض تلك القصور
وقال الجغرافي اليزه ركلو من المتأخرين يصف (1) لبنان: إذا ما ألقيت ببصرك من البحر إلى سلسلة لبنان المستطيلة رأيت من هذا الجبل منظراً مهيباً فيلوح لك أزرق أو وردياً في الصيف ومشتملاً في الشتاء والربيع بجلباب ثلجه الفضي وإذا تصاعدت الأبخرة في الجو ألبست قممه الشامخة ثوباً شفافاً هوائياً غاية في اللطف بيد أن جمال هذا المنظر لا يخلو من سطوة الشدة فترى ذاك الجبار يتمطى بضلوعه الشديدة وينطح برأسه الشامخ لا يقوم في وجهه قائم عَلَى أن النظر إلى محاسن هذا الجبل عن كثب هي دون جماله عن بعد فترى ظهره عَلَى طول 150 كيلو متراً أقهب أجرد لا تكسوه الخضرة. أوديته متشابهة ومشارفه كأنها قدت عَلَى قالب واحد.
وقال الأب لامنس: إن لبنان أشبه بجدار عظيم من الصخور وجهته من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وفي الجهة الشرقية تراه ينقطع بغتة أما من جهة الغرب فهو يتفرع فروعاً متعددة عَلَى هيئات شتى من آكام وبطون وسهول وربى متسلسلة يدخل بعضها في بعض وإذا استثنيت هذه التفرعات الثانوية والتجعدات المنتسقة تحققت أن سلسلة لبنان العظمى قد وضعها الخالق على صورة نظامية وجانب كبير من البساطة ولذلك قلما نرى في لبنان تلك المناظر المتباينة التي تقر بها العين وإنما يقع البصر على حاجز كبير في حدود الأفق يتواصل على خط مستقيم لا تكاد قممه العليا تمتاز عن بقية أقسامه. ووصف شكله أيضاً فقال: ومن تفرع الجبل من الجنوب إلى الشمال وجده يتزايد علواً وكذلك يتسع عرضاً ولو تأمل الناظر من علو الجو عرض لبنان بين صيدا ومشغرة لوجده يزيد عن 29 كيلو متراً وهو يبلغ بين بيروت وقب الياس 31 كيلومتراً ومعظم اتساعه بين طرابلس والهرمل 46 كيلومتراً فيكون لبنان على كل ذا شكل مربع منفرج عن زاويتيه العلويتين اه.
ولقد قدروا مساحة لبنان بثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر يحده جنوباً صيداء وأعمالها وشمالاً طرابلس وكورتها وشرقاً ولاية سورية وغرباً البحر المتوسط ومدينة بيروت. هذا هو حده الجديد وهو المعروف بلبنان الغربي والأصل في التسمية. ويطلقون اسم لبنان(43/8)
الشرقي على وادي التيم وجبل الشيخ (حرمون) أي على قضاءي حاصبيا وراشيا وما إليهما والبقاع فاصل بين اللبنانين. وحدَّه القدماء فقالوا: (1) أنه جبل مطل على حمص يجيء من العرج الذي بين مكة والمدينة حتى يتصل بالشام فما كان بفلسطين فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل وبدمشق سنير وبحلب وحماة وحمص لبنان ويتصل بأنطاكية والمصيصة فيسمى هناك اللكام ثم يمتد إلى ملطية وسميساط وقاليقلا إلى بحر الخزر فيسمى هناك القبق قال وفي لبنان سبعون لساناً لا يعرف كل قوم لسان الآخرين إلا بترجمان وفيه من جميع الفواكه والزروع ممن غير أن يزرعها أحد وفيه يكون الأبدال من الصالحين. وقال القلقشندي ثم يمتد لبنان إلى الشمال ويجاور دمشق وإذا صار في شماليها سمي جبل سنير.
وعلى ذكر الصالحين نقول أن لبنان مشهور منذ القديم بانقطاع الناس إلى العبادة فيه قال ابن جبير في كلامه على العلم والمتعلمين في الشام في القرن السادس للهجرة ما نصه: وكل من وقفه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم أن أحب ضيعة ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى أو يصعد إلى جبل لبنان أو إلى جبل الجودي فيلقى بها المريدين المنقطعين إلى الله عز وجل فيقيم معهم ما شاء وينصرف إلى حيث شاء. ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فيجب مشاركتهم وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا فيه أنواع الفواكه وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة وقل ما يخلو من التبتل والعبادة. وقال ابن بطوطة في القرن الثامن: إن جبل لبنان من أخصب جبال الدنيا فيه أصناف الفواكه ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين وهو شهير بذلك ورأيت فيه جماعة من الصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى ممن لم يشتهر أسمه.
قلنا ولذلك نرى المعروف اليوم بالإحصاء أن في لبنان نحو ألفي راهب وراهبة لهم 118 ديراً ما عدا الكنائس والبيع والصوامع التي لا تخلو قرية عن واحدة أو عدة منها ولا يقل دخل الرهبنات والأديار فيه عن مئة وخمسين ألف ليرة في السنة كما أكد بعض العارفين. وهو نحو ثلث أيراد لبنان بأسره. وفيه المحابس التي ينقطع فيها النسك بعض الرهبان(43/9)
فيقيمون في مغارة أو مكان منفرد يتعبدون في الخلاء. زرت أحدهم في مديرية القاطع فرأيته متوفراً على كرم له هناك حتى جاد وأخصب يعمل فيه بيده ولا يكاد يأكل منه متى نضج ويصرف شطراً من وقته في النسك والصلاة. ولو قام كل امرئٍ بالواجب عليه فسعى للمعاش سعي هذا الحبيس وعبد الله وخافه لارتفعت الشرور من البشر وقل احتياجنا للحكومات وقوانينها. وهذه المحابس (1) قديمة في لبنان ترد إلى عهد هيلاريون الناسك أو قبله وفي عدلون بين صيدا وصور عَلَى مقربة من صرفند عند الجسر صخر عال حفر فيه نحو مائتي كهف اتخذها الرهبان مساكن لهم.
وبالنظر لتوسط لبنان من سورية كان نافعاً بعمرانه لها بطبيعته فكأن علو قممه - وأعلاها ظهر القضيب علوه 3063 متراً ثم في الوسط جبل صنين وعلوه 2806 متراً وأعلى نقطة في جبل الشيخ 2860 متراً_وتكاثر ضبابه وكثرة أشجاره وقربه من البحر كلها داعية إلى كثرة الثلوج والأمطار فيه فيتكون من عصاراتها ومسايلها أنهار ذات شأن عظيم في عمران الشام
فمن سفوح لبنان تنبجس أعظم أنهار سورية فنهر العاصي الذي يروي أراضي وادي حمص وحماة وأنطاكية ينبجس من الهرمل في شمال لبنان ونهر الليطاني الذي يروي بلاد صيداء وصور وتنتفع به بعض بلاد البقاع ينبع من لبنان ونهر طرابلس المسمى بنهر أبي علي ويعرف قديماً بقاديشا يخرج من سفح لبنان ونهرا الكلب وبيروت اللذان يسقيان مدينة بيروت وضاحيتها ينبجسان من السفح الغربي من لبنان ونهر البردوني الذي يسقي زحلة وبعض البقاع هو لبناني المنبع أيضاً. ومن لبنان الشرقي ينبجس الأردن الشريعة كما ينبجس من غرب لبنان الغربي نهر إبراهيم.
فلبنان في فائدته لسورية أشبه بجبال الألب في سويسرا أو بنيل مصر من حيث امتداد المنافع. وللألب والنيل المثل الأعلى. وفي لبنان عدة ينابيع منها نبع الأربعين ونبع صنين وبلقيع واللبن والعسل والباروك وعين زحلتا وقد زرت هاتين الأخيرتين.
وصلنا إلى الباروك في زهاء ساعتين من دبر القمر مارين ببيت الدين مركز مصرفية لبنان الصيفي وكفر نبرخ وبعض المزارع وقرية الباروك في واد منفرج قليلاً تنبع عينها عَلَى قيد غلوة منها أما المصطافون فيها فيختارون في الغالب النزول بالقرب من رأس(43/10)
العين في نزل هناك أو خيام لهم يضربونها وسط الحراج المبثوثة على آكام الباروك وجبالها فيوفر لهم بذلك إلى جودة الماء التي ما بعدها جودة فيما أظن - طيب الهواء ونسيم الأرز والصنوبر العليل البليل. ومن الباروك إلى عين زحلتا ساعة على الراكب وفي هذه القرية فنادق حسنة لكثرة ورود المصطافين إليها للتمتع بنبع الصفا وقاع الريم اللذين ينبعان في ظاهرها ولتسريح عيونهم بجمال موقعها وخصب واديها وحراجه الغبياء. وعين الباروك وعين زحلتا على مساماة واحدة في العلو وماؤهما يكاد يكون متشابهاً والطريق من عين زحلتا إلى عين صوفر ماراً بطريق السكة الحديدية نحو ساعتين ونصف في العربة أو على الراكب وهذه العيون ينتفع بها كلها في سقي الحدائق في القرى البعيدة والقريبة.
ومن صوفر قصدت حمانا وقرنابيل فصليما فعبدات فبحنس فبكفيا فبيت شباب فالشاوية فالفريكة. وهنا قضيت مع صديقي الابرامين أفندي ريحاني الكاتب الشاعر المفكر الشهير أياماً رائقة ريثما ركبت البحر من بيروت قاصداً القطر المصري فأوربا. هذا وقد كان سبق لي منذ سنين أن زرت بعض قرى كسروان والبترون وزحلة فأكون هذه المرة بما خبرته من حال هذه الأقضية الثلاثة الأخرى وهي جزين والشوف والمتن خليقاً بأن أتكلم على الجبل خصوصاً ولم ينقصني منه إلا قضاء الكورة فقط.
نبذة في تاريخ لبنان
3
لم يخرج لبنان في دور من أدواره عن كونه معقلاً حصيناً كل من ساده يكون في الأعمم من حالاته إلى الشدة والمضاء يتعب من يسودهم وقد يتعب به جيرانه من أهل البلدان الأخرى. ولقد كان تاريخه السياسي كتاريخ معظم المقاطعات السورية استقلالاً وخضوعاً للغريب ولكن أيام الاستقلال أكثر من غيرها في غيره من أقاليم الشام.
والغالب أن قاصيته خضعت للفينيقيين كما خضعت سواحله واستولت عليه حكومة الأيتوريين العربية في عد الروم. والأيتوريون شعب شديد الشكيمة مولع بالحروب أنكفأ من حوران واللجاه بلاده ونزل البقاع فأنشأ له مدينة شالسيس أو عين جر جعلها عاصمة وأخذ يشن الغارات على لبنان ويتقدم إلى الأمام حتى تيسر له أن تسور قممه وأخضعه لسلطانه ثم انحدر إلى سواحل الشام وجعل مدينة طرابلس مركزاً ثانياً (1) وأكثر من كانوا(43/11)
يتأذون من بأس الأيتوريين سكان جبيل وبيروت فلم يكونوا يملكون معهم لأنفسهم طولاً ولا حولاً.
نعم خضع هذا الجبل للفاتحين واستولى على زمامه المردة وهم قوم من نصارى الفرس أتى بهم الروم ليدفعوا عن لبنان غزوات الأيتوريين فنزل المردة (2) في الشمال أوائل القرن الأول للهجرة ثم جاء التنوخيون ونزلوا جنوبيه وتوالى عليه الأمراء المعنيون فآل عساف التركمان ومن سلالة المعنيين الأمير فخر الدين الذي عهد إليه السلطان سليم فاتح سورية ومصر بولاية الشام ثم الشهابيون ومن أمرائهم الأمير بشير الملطي الثاني ومن أمراء لبنان جان بولاد (جنبلاط) الذي حكم الشام سنتين في القرن العاشر فيما ذكر. وروى التاريخ أن سكان كسروان أخذوا في القرن السادس أوائل القرن السابع للهجرة يطيلون أيدي اعتدائهم على أبناء السبيل فيخطفون المسلمين ويبيعونهم من الأعداء فكان عساكر المسلمين معهم بين عدوين هم في جبال صنين أو الظنينين كما سماهم أبو الفداء وجيوش التتار التي انهالت على هذه البلاد كالسيل العرم إن نجا المسلم من التتري لا ينجو من الكسرواني (سنة 699) ولذا سار شيخ الإسلام أبن تيمية سنة 704 لنصح أولئك العصاة فلما لم ينجح النصح فيهم قاتلتهم الجيوش الشامية قتالاً هائلاً بزعامة جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق. والغالب أن سكان كسروان كانا إذ ذاك خليطاً من النصيرية والموارنة وغيرهم كما كان سكان ساحل كسروان من اليعاقبة.
وما زال نواب الشام (1) الأشرف بن خليل قلاوون والناصر محمد بن قلاوون يحاربون النصيرية في كسروان حتى أخرجوهم وجعلوا بدلهم قوماً من التركمان في بعض النواحي وبقي كثير من المتاولة معهم كما فعل صلاح الدين يوسف لما استخلص ساحل لبنان ولا سيما جبيل وأعمالها من أيدي الإفرنج سنة 583 فرتب (2) في جبيل قوماً من الأكراد لحفظها. فبقيت على ذلك إلى سنة 593 فباعها الأكراد الذين كانوا بها ورحلوا عنها ثم عادت تلك السواحل فاستولى عليها الإفرنج بعد صلاح الدين لأن الكسروانيين كانوا نصراء الصليبيين يمدونهم بالذخائر والرجال.
ولذلك أمر حسام الدين لاجين نائب دمشق بأن تخرب بلادهم فخربت على عهده وعهد غيره من حكامها ولا سيما على عهد الأفرم كما تقدم إذ قضى بقطع كرومهم وتخريب(43/12)
بيوتهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وتفرقوا في البلاد أيدي سبا.
ولما انتشر التركمان بكسروان سنة 606 تداركوهم (3) بثلثمائة فارس وجعلوا دركهم من حدود انطلياس إلى مغارة الأسد على حدود معاملة طرابلس فكانوا يمنعون من يستنكرونه أن يتعدى دربند نهر الكلب إلا بورقة طريق من المتولي أو من أمراء الغرب كما يفعلون بقطية (4) على درب مصر وجعلوا التركمان ثلاة أبدال كل بدل يقيم في الدرك شهراً لحفظ الموانئ والدروب. وفي سنة 686 صدر منشور من ملك الأمراء لاجين نائب الشام عن الملك المنصور قلاوون إلى جمال الدين وزين الدين ابن علي أنه إذا بلغهما توجه المقر الشمسي سنقر المنصوري بالعساكر إلى جهة كسروان والجرد أن يتوجها إليه بمجموعهما وأسرتيهما وأن من سبي امرأة منهم كانت جارية أو صبياً كان له مملوكاً ومن أحضر منهم رأساً فله دينار وأن سقر توجه لاستئصال شأفتهم ونهب أموالهم وسبي ذراريهم. وهذه الفقرات على شدتها لم تصدر عن أمراء الشام إلا بعد أن طفح كأس صبرهم من تمرد الكسروانيين.
واختلف العلماء في أصول سكان لبنان والأرجح أنهم خليط من الفينيقيين والآراميين والروم والعرب مزجتهم بودقة واحدة فغدوا مزيجاً واحداً كما هو حال معظم البلاد فإنك ترى كثيرين من أسرات لبنان المشهورة نزحت من بلاد حلب وحماة وحمص وحوران في الداخلية ولا سيما في القرون الخمسة الأخيرة. ذكر المؤرخون أن معاوية نقل إلى طرابلس وجبيل وبيروت وصيداء قوماً من الفرس يسكنونها. وذكروا أيضاً أن أبا جعفر المنصور العباسي لما قدم دمشق من بغداد قدم عليه من بلاد المعرة الأمير ارسلان وأخوه الأمير منذر بجماعة من عشيرتهما فطابت نفس الخليفة بهما فأمرهما أن يسكنا في جبال بيروت الخالية من السكان وأنعم عليهما بمقاطعات معلومة فسكنوا وبعضهم في كسروان وأخذوا يشنون الغارات على مجاوريهم وفي بعضها أحرقت قرى من كسروان السفلى وتقوى الأمراء الأرسلانيون بعشائرهم وعمروا العمائر في الشويفات وجوارها.
أما الموارنة فكان أول منشأهم في شمال سورية في الأغلب ينتسبون إلى قديس لهم أسمه مارون وهم طائفة كاثولوكية لا يكادون يختلفون عن الكثلكة في أمر جوهر في المعتقدات جاؤوا شمالي لبنان أولاً وما زالوا يمتدون ويطردون سكان الجبال الأصليين أو ينصرون(43/13)
ويدمجونهم في جملتهم حتى بلغوا الجنوب واحتفظ الدروز ببلادهم بما فيهم من الشدة والإباء.
وزعم بعضهم أن الموارنة لم يسكنوا كسروان قبل القرن السادس عشر للميلاد لأنه لا يوجد بين أديار كسروان اليوم دير واحد يسبق عهده القرن السابع عشر وأن جبيل والبترون كانتا على الحياد مع الصليبيين فلم تنحازا إليهم ولا للمسلمين أصحاب البلاد إلا أن هذا لم يمنع من الرواية الثانية من ممالاة الموارنة للصليبيين ودلالتهم على الطرق ونجدتهم (1) لهم وثباتهم معهم على العهد إلى النهاية حتى خرجوا من سورية سنة 1302 م ومن أجل هذا اضطر حكام البلاد أن يحرقوا ويقتلوا ويسبوا بعض القرى القريبة من طرابلس مثل أهدن وبقوفا وحصرون وكفرسارون والحدث.
وما برح لبنان ينقسم بين أمراء المقاطعات يحكمونه على النحو الذي كانت عليه صورة الحكم في البلاد العثمانية قبل تنظيم الولايات. يقوي اليمانيون تارة والقيسيون أخرى والناس معهم في أمر مريج ومن التحزبات القيسية واليمانية ما وقع في الربع الأول من القرن السادس عشر للميلاد بين الأمير فخر الدين المعني القيسي وجمال الدين الأرسلاني اليمني. قال المقريزي وعشير الشام فرقتان قيس ويمن لا يتفقان قط وفي كل قليل يثور بعضهم على بعض.
ونشأ حزب آخر وهو الحزب اليزبكي نسبة إلى يزبك جد الشيخ عبد السلام العماد زعيمه والجنبلاطي نسبة إلى الشيخ علي جنبلاط زعيمه الآخر وذلك سنة 1729_1754 وامتد في لبنان ولم يزل له أثر كما نشأت أحزاب أخرى كالمعلوفي والمكارمي ومثل هذه الأحزاب قد لا تخلو من حدوث فتن تهرق فيها الدماء وتكثر الأيامي والإماء كما فعل الحماديون وأحرقوا بلاد جبيل والبترون فخربت جميعها ونزح سكانها إلى بلاد ابن معن وكانت العداوة بين بني سيفا وبني معن سبباً في تخريب الجبل أيضاً.
ومن الوقائع التي يتمت فيها الأطفال تلك الوقعة التي جرت في القرن العاشر عقيب أن نهب بعض أمراء لبنان الصرة السلطانية من جون عكا بينما كانت محمولة إلى الأستانة فجمع إبراهيم باشا صهر السلطان مراد بن السلطان سليم العساكر من مصر وقبرص ودمشق وحلب وقدم بها مرج عرجموش قرب زحلة وأمسك طريق البحر والبقاع على(43/14)
الدروز فقتل نحو ستمائة منهم وأسر بعض الأمراء.
وما زالت حال الجبل في إقبال وإدبار تقع اليوم فتنة العاقورة وغداً وقعة مرحلاتا وبعده وقعة أرض خلدة ثم فتنة برج الغلول وبعد ذلك وقعة عين دارة حتى أقامت له الدولة سنة 1842 عمر باشا النمسوي والياً فلم تطل مدته حتى منحت الدولة للجبل امتيازات وقسمته في السنة التالية إلى مقاطعات. وتعرف الأولى (1) بقائم مقامية النصارى وهي الشمالية تمتد من نهر البارد في عكا إلى طريق دمشق مع بعض قرى ساحل بيروت تولاها الأمير حيدر إسماعيل اللمعي وتعرف الثانية بقائم مقامية الدروز وهي الجنوبية تمتد من طريق الشام إلى منتهى جبل الريحان في الشمال مع قرى إقليم التفاح وبعض قرى ساحل بيروت وتولى شؤونها الأمير أحمد عباس الأرسلاني أما قصبة دير القمر فكان يتولى شؤونها رجل من قبل والي ايالة صيداء وكانت قائم مقامية النصارى مؤلفة من المتن وكسروان والبترون والكورة وزحلة وقائم مقامية الدروز تشمل قضائي الشوف وجزين وقسماً من غربي البقاع وبعض قرى مديرية الساحل الداخلية اليوم في قضاء المتن وفرض على لبنان في كل سنة ثلاثة آلاف وخمسمائة كيس.
ودام الحال على ذلك إلى سنة 1860 وقد اشتعلت جذوة تلك الفتنة المشؤومة بين الدروز والنصارى في لبنان فمنحت الدولة هذا الجبل استقلالاً إدارياً بأن جعلته متصرفية يتولى شؤونها حاكم مسيحي تبعث به الدولة كل خمس سنين أو تجدد انتخابه بمصادقة الدول. وجعل مال لبنان سبعة آلاف أو ثلاثة ملايين ونصف مليون قرش وضعت على الأعناق.
ولحكومة لبنان موارد أخرى سنوية منها نحو أربعة ملايين قرش من بدلات حاصلات الأراضي الأميرية ورسوم المحاكم والمقاولات والعربات والعجلات وتعدل بثلاثة عشر ألف ليرة ولا تتناول الدولة الآن شيئاً من مال الجبل ولا تعطيه وكانت منذ سنين تدفع إليه العجز في ميزانيته.
وفي لبنان ألف جندي لبناني بإدارة أميرالاي لبناني وفي بيت الدين فرقة من الجند العثماني المحافظ وعليها أميرالاي بإدارة حكومة لبنان.
وتحاول حكومة الجبل الآن أن تزيد الضرائب قليلاً ليتيسر لها القيام ببعض الإصلاحات والتوسعة على موظفيها كما وسع عليهم في سائر البلاد العثمانية بعد الدستور إلا أن معظم(43/15)
الآهلين يقاومونها وفاتهم أن الليرة منذ خمسين سنة لا تعادلها اليوم إلا الثلاث ليرات أو أكثر لوفرة الذهب وغلاء الأسعار. وهم يعتبرون أن هذا العمل إخلال بشروط امتيازاتهم ويخافون أن يتدرج الأمر إلى العبث بقانونهم فيختل نظامه مع الزمن من أجل هذا أبى اللبنانيون أن يبعثوا إلى مجلس الأمة العثمانية بنواب منهم يمثلونهم وما نظن وطنيتهم تحول بينهم في الانتخاب القادم وبين إرسال نواب عنهم حتى يشتركوا وسائر أخوانهم العثمانيين في الغنم والعزم فليس من الإنصاف أن يبقى جبلهم بدعوى قلة خصبه على الحياد وهو في وسط البلاد ويحسب جزءاً متمماً من أجزاء السلطنة العثمانية كيف تقلبت الحال وتعددت المظاهر والأشكال.
غابات لبنان
4
ليس في لبنان أرض تبلغ مساحتها مائة كيلو متر مربع بل غاية ما فيه من الأراضي منحدرات ومنعرجات وأودية ضيقة ومسايل صغيرة وفيها جعل القدماء زروعهم وأشجارهم وأكثر الأراضي مما يصلح للشجر أكثر مما يصلح للبقول والغلات شأن جبال الأرض في الأكثر. وليس في الأيدي نص قديم يشير إلى أصناف زراعة لبنان منذ عرف التاريخ غير ما نقلناه في نبذة سالفة عن مؤلفي العرب من أن فيه أصناف الفواكه والزروع وأكثرها مما ينبت بنفسه وهو كلام مجمل لا يشبع ولا يقنع. وإذ كانت طبيعة أرض لبنان لم تتغير منذ عشرات من القرون كانت الزروع التي لا تناسبها أرضه ضعيفة فيه أو تكاد تكون معدومة.
ولكن لم تخل أرض لبنان في زمان من أزمانها من الزيتوت والتين والكرم والخروب والجوز واللوز والتفاح والصنوبر والتوت من الأشجار المثمرة والزان والسنديان والسرو والأرز من الأشجار الغير مثمرة. وقد أكثر القدماء والمحدثون من الكلام خاصة على تاريخ الأرز لورود ذكره في الكتاب المقدس مرات ولأن من خشبه بني قصر داود هيكل سليمان والهيكل الثاني الذي جدد في أيام زربابل وسقف الهيكل المجدد في عهد هيرودوس وقبة القبر المقدس وسقف الكنيسة في بيت لحم. وقالوا أنه ثبت أن ملوك الأشوريين والبابليين استعملوا في قصورهم خشب الأرز وأن المصريين أدخلوا من خشبه في بناء هياكلهم(43/16)
وقصورهم كما فعل الفرس وأن الاسكندر المقدوني وضع من خشب الأرز في السد الذي أقامه بين الجزيرة والشاطئ حيث كانت مدينة صور وكذلك ملوك السلوقيين في سورية أدخلوا خشب الأرز في بناء دورهم.
وكل هذه الأخشاب قطعت من لبنان أو من الجبال المجاورة له وكانت تحمل في الغالب إلى طرابلس وصيداء وصور حيث كانت دور الصناعات وقد أنشأ بعض ملوك الإسلام أساطيل من خشب الأرز وقالوا أن بيروت (1) كانت دار صناعة دمشق (ترسانتها أو ورشتها) وبها عمر معاوية المراكب وجهز فيها الجيش إلى قبرص ومعهم أم حرام واسمها العميصاء وقيل أنه عمر من الأرز ألفاً وتسعمائة سفينة وبعد سنين جهز أسطولاً أضخم من الأرز نفسه وتبعه غيره من ملوك الإسلام في اختيار الأخشاب للسفن من غابات لبنان وما برح كثيرون من المتدنيين بالنصرانية يتبركون بشجر الأرز ويحملون من غصونه قطعاً ينقلونها من قارة إلى قارة ومن مملكة إلى أخرى وهو عطر الرائحة إذا وضع في النار ويحسن في المثم إذا مسسته بيدك ولونه أصفر فاقع مشرب بخطوط حمراء لا تعبث به الأرضة ولا يفعل فيه السوس ولذلك كاد ينقرض لكثرة حرص السوريين وغيرهم على استعماله في أبنيتهم وقصورهم وهياكلهم وتماثيلهم ونصبهم.
والغالب أن الحكومة السالفة (1) القديمة في لبنان كانت تحتكر أربعة أشكال من الشجر تستثمرها لخزينتها وهي السرو والعرعر والأرز والصنوبر وتسمح بقطع غيرها واحتطابه أو غرس غره محله. وقد بدأ النقص في هذه الأشجار ولا سيما الأرز منذ خمسة قرون لأن اللبنانيين احتاجوا إلى الاحتطاب وأخذوا يكثرون من زراعة التوت والكرم خصوصاً وقد جرت عادة بعض حكام لبنان إذا غضبوا على أحد أن يقطعوا أشجاره ويخربوا داره وإلى اليوم لا يزال من الأمثال السائرة في الجبل الله يقطع رزقه أي ما يملك من شجر والله يخرب زوقه أي بيته.
مثال ذلك أن الأمير أحمد المعني طرد المشايخ الحماديين المتاولة لما كثر بغيهم في كسروان ففروا إلى بلاد بعلبك فأحرق قراهم في القرن لحادي عشر وقطع أشجارهم وقد رسم مرة بيدمر (2) نائب الشام لشهاب الدين ابن زين الدين صالح من أمراء الغرب في لبنان وكان في دمشق أن يركب على خيل البريد ويتوجه إلى قرية عين زحلتا من شوف(43/17)
صيداء ليكشف عما فيها من أشجار التوت النافع لعمل النشاب فلم يجده موافقاً وربما أحب عدم تصديع أهل البلاد بقطعه ونقله ومنذ ذاك العهد اجتهد أهل الشوف في قطع شجر التوت وتعطيل نشوئه واستئصاله لئلا تصدعهم الدولة من جهته. قلنا ومثل ذلك ما نشاهده في أيامنا من أن بعض أهل القرى البعيدة عن مراكز الحكومة في الولايات العثمانية قد يسخون بقطع أشجارهم فراراً من ظلم ملتزمي الأعشار واشتطاطهم في تقاضي العشور عليها أضعافاً مضاعفة ولم يبرح شجر الأرز موجوداً في عدة أماكن من لبنان على كثرة ما انتابه من البوائق فبالرب من معاصر الفخار على مقربة من بيت الدين غابة منه فيها نحو 250 شجرة يسمونها الأبهل وأخرى فوق الباروك غير ملتفة وضعيفة النمو لكثرة الأمطار والثلوج والعواصف في تلك الأرجاء وثالثة فوق قرية عين زحلتا وكان أحرق أكثرها لاستخراج القطران منه وقطع بعضها أيام حادثة سنة ستين لتجدد بخشبه بعض بيوت المنكوبين ورابعة بين افقا والعاقورة في جرد جبيل من بلاد كسروان وخامسة بين قرية تنورين وبشري صغيرة الشجر وعدد شجيراتها نحو عشرة آلاف وسادسة بالقرب من بشري على علو1925 متراً عن سطح البحر وهي مقصد السياح وفيها أضخم أشجار الأرز ويبلغ عددها 397 وقيل 680 شجرة منها 12 كبرى وأكبرها شجرتان دائرة جذع كل منها نحو خمسة عشر متراً وارتفاع أطولها خمسة وعشرون متراً وقدروا عمرها بثلاثة آلاف سنة. ولا أثر الآن في سورية لشجر الأرز إلا في أعالي سير ببلاد الضنية (1) في وادي النجاص ففيه كثير من شجر الأرز على ارتفاع 1900 متر عن سطح البحر وبين سير ونبع السكر وفي الغابة الواقعة خلف وادي جهنم ويسمى عند أهله تنوب.
ولو توفرت همة أبن الجبل اليوم على غرس شجر الأرز أو أي كان من شجر الاحتطاب في الأماكن الخالية ولا سيما في القمم والقنن لما أتت عشرات من السنين إلا وقد زادت ثروة الجبل زيادة محمودة وكان مع طول الزمن لأبن لبنان من أشجاره مود آخر غير التوت والزيتون مثلاً لأن شجر الأرز لا يجود في الغالب إلا في مثل هذه لعلو من الجبل بل من جبال سورية التي تشبه لبنان بطبيعتها وموقعها.
وإذا زاد عدد الغابات في سورية زيادة كبرى وتوفرت عناية ولايات بيروت وسورية وحلب ومتصرفيتي القدس والزور بتكثير الغابات في الأماكن الخالية ولا سيما في المحال(43/18)
التي يعرف أنها كانت غابات غبياء نافعة يتحول مناخ سورية وتكثر فيها الأمطار بعد سنين ولا تعود تخشى اليبوسة وهلاك الزرع والضرع كما يحدث بعض السنين فيتأذى بذلك العرب الرحالة في باديتهم كما يتضرر ابن المعمورة بهم ويصبح منهم بين نكبتين سماوية بقلة الأمطار وأرضية بسطو ابن البادية على ما بقي لأبن القرى من رزق.
وليت حكومة لبنان تبدأ فتفرض على كل لبناني أن يغرس عشر شجرات من أصناف الشجر عله تقتدي بها سائر حكومات بلاد الشام بعد ذلك فلا يأتي علينا جيل إلا وتصبح سورية غنية بغاباتها كغنى سويسرا أو أكثر والأشجار في بلادنا أكثر نمواً مما هي في أوربا لما عرفت من اعتدال الفصول ولطف الجو ولقد جربت حكومة الجزائر فغرست الغابات منذ زهاء خمسين سنة فكانت النتيجة أن كثر اليوم تهطال الأمطار فيها على طريقة منظمة وسيكثر خيرها كلما زادت أشجارها وعسانا نقتدي في سورية بهذا المثال.
الهجرة من لبنان
5
منذ أمن السكان في لبنان على أرزاقهم وانقطعت شأفة أرباب المقاطعات الذين طالما اشتطوا في مطالبهم وبطلت أو كادت السلطة الإفرادية الذوقية وقلت الأوبئة والزلازل التي كانت تحصد العمران والسكان حصداً كالزلزال الذي عاود لبنان مرات سنة 1759م وخرب القرى وأهلك الناس والطاعون الذي حدث سنة 1789م وعم لبنان كله واستمر الموتان ثلاثين سنة (1) - منذ خفت العوارض الطبيعية والأرضية أخذ كل فرد يحسن من حاله فنمت النفوس باستتباب أسباب الراحة وأخذ المرسلون وغيرهم من رجال الدين منذ زهاء مئة سنة ينشؤن أبناء الجبل على المنازع الدينية ويلقنونهم شيئاً من اللغات الإفرنجية والعلوم العصرية كما أن الموارنة ما زالت لهم علائق مع الكرسي البابوي في رومية يختلف إليه أحبارهم منذ قرون وربما انتفع الجبل من هذه الصلة والعائد.
ثم أن طبيعة الجبل تقتضي التحسين والتنظيم والمسيحيون على الجملة يميلون إلى الرفاهية ويقدرون طعم الحياة قدرها ولم يكد يدخل القرن الثالث عشر للهجرة في دور العدم ويطلع القرن الرابع عشر حتى دخل جبل لبنان في طور جديد فكثرت طرق عجلاته حتى أصبح ليده منها الآن نحو ألف كيلو متر تجمع بين قراه ومزارعه كالشبكة المحكمة وتهيء سبل(43/19)
التنقل على المصطافين في ربوعه وأكثر هذه الطرق في قضاء المتن لأنه ظهر لبنان ونقطته الوسطى ومقصد المصطافين من البيروتيين والشاميين والمصريين وغيرهم. وفيه الآن سبعون كيلومتراً من الخطوط الحديدية منها خمسون من طريق بيروت ودمشق وعشرون من ترامواي شمالي لبنان.
وفي هذا الجبل 25 (1) مدرسة داخلية كبرى وصغرى و14 مدرسة اكليركية و8 مستشفيات و206 من الحراج والغابات و147 من معامل الحرير و8197 من الدواليب وبلغت حاصلاته من الفيالج (الشرانق) سنة 1906 - 2027030 أوقة ومن الزيت 25488 أقة وثمن الحرير الذي يخرج منه نحو ثمانية ملايين فرنك في السنة وكثر سكانه حتى عدلوا أن في كل كيلومتر مربع 61 نفساً ولا يفوق الجبل في ذلك غير ولاية الأستانة وجزيرة سيسام (ساموس). وسكانه الآن زهاء أربعمائة وثلاثون ألف نسمة منهم 250 ألفاً من الموارنة و160 ألفاً من الروم و36 ألفاً من الكاثوليك و55 ألفاً من الدروز و33 ألفاً من المسلمين (سنة وشيعة) و 1500 من البرتستانت والباقون أرمن وإسرائيليون وكلدان ولاتين وفيه خمسمائة من أهل الوبر يعيشون في مضاربهم خارج القرى وأكثرهم فقراء يستوكفون الأكف وقد أحصى غليلموس الصوري في تاريخ الصليبيين عدد الموارنة في عصره فكانوا أربعين ألفاً وما زال عددهم يربو على عدد وفياتهم وأن هاجر كثيرون بعد ذلك إلى قبرص ورودس والقدس ومالطة ولا يبعد أن تكون اللغة العربية انتشرت في جزيرة مالطة بواسطتهم.
ولا يسعنا وقد وصلنا من بحثنا في شؤون الجبل إلى هذا الحد إلا أن نرسل جملة في شغف اللبنانيين بالهجرة إلى أميركا وغيرها من البلاد التي توهم أبن سورية أن المال فيها ملقى على الشوارع لا يحتاج إلا لمن يمد يده ليتناوله مع أولئك المهاجرين لو صرفوا في بلادهم نصف ما يصرفون من الوقت والقوة في بلاد المهجر على طول السنة وحسبوا ما صرفوه في ذهابهم وإيابهم وقدروا عدد من هلكوا منهم لرأوا أن المعدل واحد والفرق قليل لا يساوي هذا النصب.
والذي ظهر من قرائن الأحوال أن ابن لبنان كان أول فلاح سوري هاجر إلى أميركا أو جرأ سائر السوريين على الهجرة مجذوباً بما اشتهر عن القارة الأميركية من الغنى ولكثرة(43/20)
علائق لبنان مع الغرب قبل حادثة سنة 1860 وبعدها ولأن ابن لبنان أكثر أهل جبال سورية تعلماً ونوراً وأوفرهم نشاطاً ومضاءً وشمماً وادلالاً بل أن مجموع القارئين والكاتبين فيه أوفر من مجموع القارئين والكاتبين في مجموع مدن الشام.
وأول من دخل أميركا (1) من السوريين الخوري الياس بن القسيس حنا الموصلي الكلداني من سنة 1668_1683 وأول من دخل أميركا الشمالية في القرن الماضي الخوري فلابيانوس الكفوري سافر إليها سنة 1848 وأخذ معه ناصيف الشدودي وأول من دخل الجنوبية المطران باسيليوس حجار سنة 1874 وكانت غايتهم جمع الإحسان وأول من دخل أميركا الشمالية للتجارة تجار من بيت لحم حملوا مصنوعاتهم الخشبية المرصعة بالصدف إلى معرض فيلادلفيا سنة 1876 ثم عادوا إلى بلادهم بثروة وافرة فاقتفى أثرهم غيرهم واتصل ذلك بشمالي لبنان وامتد في كل سورية ثم كثرت الجالية السورية في العالم الجديد واستراليا وجزر البحر المحيط بل وفي افريقية شرقها وغربها وشمالها وجنوبها.
وقدر بعضهم أن ثلث المهاجرين يسكن أميركا وثلثهم يرجع إلى وطنه والثلث الآخر يموت. ونظن أن الثلث الأخير مبالغ فيه وإن كان عدد الهالكين في المهجر غير قليل. وأحصي (1) عدد السوريين المهاجرين إلى سنة 1906 فكانوا مائتين وخمسين ألفاً منهم ستون ألفاً في الولايات المتحدة وخمسون ألفاً في جمهوريات أميركا الجنوبية وخمسة وعشرون ألفاً في أميركا الوسطى وعشرة آلاف في اوستراليا وبعض الجزائر والباقون في افريقية والهند والفليبين وكوبا ومصر وعدد اللبنانيين منهم ستون ألفاً نصفهم ذكور ونصفهم إناث وربما كان الذكور أكثر.
كثرت الهجرة منذ نحو عشرين سنة وذهب بعض سكان لبنان بإقدامهم وذكائهم المعهود فنزلوا في دار الهجرة بلاداً تحتاج إلى أيدً عاملة ونفوس لا تعرف التعب فأنشأوا يعملون ويذخرون ويقترون على أنفسهم في النفقة على خلاف عادة معظم المهاجرين إلى أميركا من أهل أوربا مثلاً فآب من قدرت له السلامة منهم ولم يكن له رأس مال في هجرته غير صحته بمئات الليرات فكان أول همه أن يعمر له داراً قوراء بالحجر النحيت والقرميد على المثال الذي رآه في بيوت المهجر.
وكثر تقليد الناس بعضهم لبعض ومنهم من اشترى له أرضاً في بلده وطفق الآخر بما جناه(43/21)
من ذاك الرأس المال القليل أما الأفراد الذين اغتنوا فعدت ثروتهم بالألوف فقد استوطنوا البلاد التي هاجروها جرياً على المثل العامي في المطرح الذي فيه ترزق الصق وهم إن كانت تحدثهم أنفسهم بالرجوع لا يهنأ لهم بال متى عادوا إذ يتجلى لهم الفرق الكبير بين نيويورك وشيكاغو وسان فرانسيسكو وبونس أيرس وسان باولو مثلاً وبين عشقوت وبسكنتا وعمشيت وعرنة ومعرونة أما أولادهم فينطبعون بطابع البلاد التي ولدوا فيها وأكثرهم لا يتعلمون اللغة العربية ولذلك لا يرجى البتة أن يعودوا إلى موطن آبائهم وهذا القسم ممن خسرتهم البلاد حقيقة والذي يزيد في الحسرة عليهم أن بعضهم ذهب برأس مال من بلاده ولو طفيف وبعضهم على جانب من الأخلاق والمعرفة لم يعمدوا إلى الطرق السافلة في تحصيل الثروة.
نفعت الهجرة لبنان وأضرته وعندي أن المضار أكثر من المنافع إذ لا يظهر إلى العيان في الغالب إلا الحسن. فقد يذهب ألف مهاجر مثلاً إلى بلد كذا ولا ينجح منهم إلا واحد أو اثنان فيأخذ الناس يتحدثون في أمرهما وينسون أولئك المئات الذين يعملون أربع عشرة ساعة كل يوم في أشق الأعمال ولا يكادون بعد مرور سنين يوفون أجرة الطريق التي استلفوها من أحد المرابين في بلدهم أو باعوا في الحصول عليها أرضاً لهم ورثوها من آبائهم خل عنك من هلكوا بالأمراض وغرها وهكذا الحال في مجموع حالة لبنان من حيث منافع الهجرة ومضارها.
فإن من نظر في الأمور نظراً سطحياً وشاهد تلك البيوت البديعة في قراه ومزارعه التي عمرت بمال أتى به المهاجرون من غير أرض لبنان وسمع بأن فلاناً أصبح يملك كذا وكذا من الليرات وأن بلد كذا يدخل إليه كل شهر من تحاويل أميركا ما يقدر بكذا من الذهب - من شاهد ذلك وسمعه لا يعتم أن تعروه هزة الفرح لبلاده وربما اعتقد أن الحال إذا دام على هذا المنوال وأموال أميركا لتسرب إلى بلادنا نصبح بعد بضع سنين أغنى من الأميركان وننقل شطراً عظيماً مما عندهم من الذهب الوهاج وهذا منتهى السعادة البشرية ليست السعادة بكثرة المال. السعادة شيءٌ غير ما يتوهمه من همهم إنشاء البيوت وتزيينها وفي باطنها الشقاء والحسرة. قال لي عجوز في صليما وقد سألتها أين رجالكم: ذهبوا ألى أميركا وتركونا هنا نحرس لهم البيوت التي عمروها لتسرح فيها الفيران عادوا ليجمعوا كمية أكبر(43/22)
من المال لأن ما جمعوه لم يكفهم لإتمام هذه الدور على ما يحبون وفرشها ونقشها ثم إن حالة البلاد لم تعجبهم بعد أن شاهدوا مشاهد أميركا. وقول هذه العجوز الذي أحزنني مغزاه ولا تزال الأذن تردد صداه قد سمعت مثله من كثيرين من أهل لبنان رجال ونساء.
أي حسرة أعظم من أن تتوقع أمٌّ في كل أسبوع قدوم ابنها وقد تمضي الشهور ولا تتناول كتاباً منه أو زوجة تنتظر منذ سنين هي وأولادها وهو لا يكاد يبعث لهم بنفقتهم فتضطر تلك المرأة المسكينة أن تعمل ليلها ونهارها لتطعم أولادها من كدها وما هي بمفلحة. وأي بلوى أكبر من أن تدخل قرية وتجد فيها عشرات من البنات العوانس ينتظرن عروساً لأن شبان الضيعة هاجروا وأكثرهم لا يريد أن يتزوج وبعضهم تزوج من امرأة أميركية وزهد في أسرته وقريته لأنه تمدن بزعمه ولا يليق به أن يتزوج إلا من متمدنة. ومن شاهد البنات العوانس في لبنان يدرك سر تعدد الزوجات إلا في مثل هذه الحال ويسجل بأن أقل سيئات الهجرة انقطاع الأهلين عن التناسل ولولا ذلك لكثرت نفوس لبنان كثرة تذكر لطيب هوائه ومائه وتوفر أسباب الراحة فيه.
وإن دعوى من يدعون أن لبنان لولا الهجرة لأصبح خراباً مردودة من وجوه أحدها أنهم يعتقدون أن تلك الأموال التي دخلت لبنان وهي تستخدم فيه الآن بفوائد طفيفة هي غنى لبنان وما الثروة في الحقيقة إلا العمل ليس إلا. فقد رأينا اسبانيا على عهد شارلكان تسرب المال إلى صناديقها بالبدر والسبائك من أقطار المعمور لأن هذا الملك كان يعتقد أن كثرة النقود والذهب في بلاد كف وحده في غناها ولكن لم تكن بضعة عقود من السنسن حتى أمست اسبانيا أفقر بلاد أوربا لأن أهلها انقطعوا عن تعهد تربتها والأخذ بحظ من الصناعات اللازمة لهم والعلوم الرافعة من شأنهم.
إن انصراف وجهة اللبنانيين وغيرهم من السوريين إلى نزول أميركا وافريقية للاغتناء من خيراتها بسرعة على أمل العودة إلى مساقط رؤوسهم متى امتلأت أكياسهم وجيوبهم وعبابهم قد حال دون تعهد أرضهم واستثمار صناعاتهم. ففي لبنان من الخيرات الطبيعية ما يكفي أهله إذا زادوا ضعف ما هم الآن ومهما بلغت العناية اليوم بزراعته لا يزال فيه فضل للعمل وميدان واسع للجد. ولا يشعر بذلك إلا أرباب الأملاك. مثال ذلك أن كدنة الفلاحة كانت تساوي منذ سنوات قليله خمسة وعشرين قرشاً فأصبحت اليوم تساوي ستين(43/23)
على حين أن غلات التوت لم تزد على تلك النسبة وذلك لقلة أيدي العاملين وارتفاع أسعار الحبوب وغيره من مقومات المعاش في البلاد ولأن المهاجر اللبناني الذي كان فلاحاً حراثاً إلى عشرين أو ثلاثين جداً من أجداده إذا هاجر وقضى في هجرته ثلاث سنين ثم آب بلاده تكبر نفسه فلا يعود يتنازل إل معاناة الزراعة بل يفضل أن يعيش كما يعيش تجار أميركا وأرباب الأملاك في بلادنا وهو لا يملك رأس مال يكفيه سنة واحدة إذا ظل عطلاً عن العمل.
في أمثال العامة أنا أمير وأنت أمير فمن يسوق الحمير حكمة لطيفة نافعة تصدق على اللبناني المهاجر فإذا أحب كل فرد من المهاجرين أن يقلد الأعيان في عيشه ورفاهيته فمن يبقى لتعهد التوت والزيتون وغرس الصنوبر والأرز والسنديان والزان وحفر الأقنية والأحواض وتمهيد الطرق ومعالجة الصناعات من حل الحرير وصنع الأقمشة المزركشة البسيطة وعمل الفرش والستور وأنواع الزينة.
ولقد قال الاقتصاديون أن جملة ما ساعد ألمانيا على عظمتها التجارية الصناعية العلمية أنك تجد في رجالها أنواع العاملين ولا يستنكف كل عامل من عمله بل ولا يريد أن يعرف إلا به فالألمان أشبه بجيش منظم فيهم الجندي كما فيهم الضابط الصغير والكبير والقائد العظيم وكل واحد منصرف إلى عمله لا تحدثه نفسه أن يقلد رفيقه أو يعتدي عليه بل يعمل في دائرته بما يستطيعه ويحسنه ما أمكنه الحال ولو جرى أهل بلادنا على هذا المثال لأصبحنا بعد جيل أمة راقية حقيقية ولما رأينا الصغير يشكو لأنه يريد تقليد الكبر وأسبابه لا تساعده.
نحن لا نجاري أولئك الذين يدعون أن لبنان كان خراباً لولا الهجرة لأمور أقلها أن البلاد السورية واسعة وأهل لبنان اليوم وقبل اليوم يستطيعون أن ينزلوا الأقاليم القليلة السكان المحتاجة إلى العناية ويستعمروها فإن فتشوا ذات اليمين وذات الشمال ورأوا طرابلس وعكا وحمص وبعلبك والبقاع ومرجعيون وصيداء تتاخم جبلهم وتحصرهم فيه فإن لهم من بلاد الكرك وحوران وبادية الشام وبلاد حلب مثلاً ما يكفي لإغناء مئات الألوف من الناس فلو نزلوا تلك البلاد الخاوية وعمروها بكدهم لأصبحت بعد سنين جنات زاهرة وأقلُّ ما في ذلك من منافع أن هذه البلاد منهم على أيام قليلة يستطيعون في استعمارها أن يقضوا معظم(43/24)
أيام السنة في جبلهم.
وقد كتب قائم مقام سروج من أعمال حلب منذ مدة في جريدة المقتبس يقول أن خمسين قرية في قضائه وحده محلولة وتباع كل واحدة منها بثلاثة آلاف قرش فلو اشتراها بعض أرباب الأموال من اللبنانيين وأنفقوا عليها النفقات التي ترقى زراعتها وغرسوا فيها الأشجار وأقاموا البيوت لما أتت ثلاثون سنة إلا وهذا القضاء وحده من أعمر البقاع السورية فما بالك بما في غيره من الأقضية والألوية والولايات العثمانية من الخيرات.
لا نوافق القائلين بالاغتناء بسرعة فإن ما يأتي بدون عناء كبير قد يذهب في الأكثر كما جاء. وإنا لنؤثر أن يوجه اللبنانيون ولا سيما في عهد الدستور السعيد وجوههم قل البلاد الداخلية من سورية والعراق والأناضول ففيها متسع لهم وفيها لهم مغانم كثيرة ولو صبروا على جنيها لكان لهم ولأبنائهم وأحفادهم منها مال خالد وملك لا يكاد يبلى.
وفي لبنان من الصناعات القديمة ما يرقى لو سعوا تحسينه كعمل الأقمشة والنجارة والحدادة (1) وغيرها وله مورد آخر للربح ينتفع منه الآن أكثر من سائر جبال سورية ونعني به موسم المصطافين فإن لبنان من سورية ومصر كسويسرا من أوربا وأميركا يقصده الكثيرون كل سنة التماساً للصحة والراحة فلو عني اللبناني أكثر مما يعنون براحة من ينزلون عليهم لأتاهم الصيف في كل سنة بما لا يقل عن مليون ليرة فقد حسب بعضهم عدد المصطافين في لبنان سنة 1906 فكان خمسة عشر ألف نسمة أكثرهم من المصريين فلو فرضنا أن الواحد ينفق عشر ليرات لكان المبلغ لا يقل عن مئة وخمسين ألف ليرة فما الحال لو زاد هذا العدد ونحن نرى أن سويسرا وإيطاليا تربح كل منهما من موسم السياح كل سنة ما لا يقل عن خمسة عشر مليون ليرة وإذا زادت عناية حكومة لبنان وأهله بالمصطافين في قمم لبنان لا يعتم أن يجلب إليه أناساً من المصطافين من أهل أوربا نفسها خصوصاً إذا رأى السياح أن النفقة في الجبل أقل مما في جبال الألب وأنها لا تبلغ مع أجور النقل في البحر والبر والمبلغ الذي يصرفونه في بلاد الاصطياف.
وبعد فإننا لا نفتأ نكر القول بأن من الأنفع لأبن لبنان أن يوجه بعد الآن وجهته إلى الداخلية ليعتاش ويرتاش وأنه إذا استفاد المهاجرون منا إلى أميركا من حيث ارتقاؤهم في اقتباس بعض أصول التمدن في الملبس والمأكل والمسكن فإن الأنفع له ليوم أن يستعمر بلاده وهي(43/25)
تحتاج إلى أضعاف أضعافهم. وسوف يعلمون أن هذه النصيحة صادرة عن إخلاص لا يراد منها إلا نفع لبنان خاصة وسورية عامة فإن يقاسيه اللبناني من ألم الغربة والمهانة في الأحايين واحتقار الغربي له مهما بلغ من مكانته جدير بأن لا ينسيه بلاده والعيش بين أهله وجيرته. وقدر أحد العارفين منذ ثلاث سنين أن ما حمله اللبنانيون المهاجرون إلى لبنان يبلغ خمسمائة ألف ليرة أي على معدل خمس ليرات لكل مهاجر فلو فرضنا أن هذا القدر قليل وعدلناه نحن بمليون ليرة هل كان هذا المبلغ يعادل ما فقد من الرجال وخسرته البلاد من قواها المعنوية والأدبية.(43/26)
نهضة العربية الأخيرة
سادتي الأخوان (1)
سألتموني سعدت بكم أوطانكم أن أحدثكم بطرف من تاريخ نهضة اللغة العربية في المئة سنة الأخيرة وما منكم إلا من استفيد منه وأتشرف بالأخذ عنه. أنتم من أهل الفئة الفاضلة في وطنكم يتوقع منكم أن تنيروا آفاق جهله بأنوار معارفكم وأن تعمروا أكناف معالمه ومجاهله بما ثقفتموه في هذه العاصمة السعيدة من تجارب نافعة وتلقفتموه من علم صحيح وآداب رافعة. فإنى لي وأنا نازل بينكم متعلماً لا معلماً أن أفوه في حضرتكم بكلام وقد اعتادت آذانكم سماع مصاقع الخطباء وتقرير جهابذة الباحثين والعلماء وما حالي وحالكم لو أنصفتكم وأنصفت نفسي إلا حال من يحمل التمر إلى هجر أو المسك إلى أرض الترك استغفر الله بل أن حال من يلقي محاضرة على جمعية الإخاء المصرية في باريز أعجب وأغرب.
إخواني: تعلمون قرت بكم عيون مصر أنه أتت على اللغة العربية أدوار وأطوار وعرض لها ما يعرض لكل كائن في الوجود من ضعف وقوة وعزة وذلة وأن أتعس أيام ضعفها كانت في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر للهجرة وهو عهد الفتور في جسم الأمة الإسلامية عامة والأمة العربية خاصة. ثلاثة قرون بل أكثر مضت في مرض مستحكم كانت تكفي لموت هذه اللغة الشريفة التي تعقد اليوم على أمثالكم خناصرها وترجو بمساعيكم أن يكون مستقبلها خيراً من حاضرها وغابرها بيد أن لغة يفرض على زهاء مائتي مليون من المسلمين أن يتعلموها ليفهموا بها كتابهم العزيز يستحيل عليها الاضمحلال ما دام في الأرض مسلم يوحد الله.
لابد لكل حركة من سبب. وسبب ما عرا العربية من الضعف في تلك القرون انقطاع الملوك عن الأخذ بيدها فأصبحت الأمور العلمية صورية ينظر فيها إلى الأشكال لا إلى الحقائق واقتصر الناس على فروع الفقه والكلام والتوحيد وعدوا ما عداها من العلوم فضولاً لا غناة فيه وساعد على انتشار هذا الرأي السخيف ما أصاب البلاد من ضعف الأحكام وفساد النظام ولا علم حيث يفقد الأمن وفي النادر أن يهتم جاهل بتعليم أو يربي من لم يتربَّ.
وكأن قدرة المولى تعلقت بأن هذه اللغة التي نشأ لها الضعف من أبنائها أن تأتيها الصحة(43/27)
على أيدي غيرهم. وربما يعجب بعضهم الآن إذا قلنا له أن مبدأ نهوض اللغة العربية كان في مصر أيام محمد علي وقد صحت عزيمته على خدمتها مسوقاً بنابل من سلامة فطرته ودلالة بعض مستشاريه من أهل العلم من الفرنسيس فكان من أعماله الحليلة ما خلد له الفخر على الدهر وجعله من حيث خدمته للغة والعلم لا من حيث منازعه السياسية من أعاجيب الحكام في الشرق. والشرق أبو المعجزات والكرامات.
ليس من يجهل أن محمد علي كان أمياً أو يقرب من درجة الأمية. مات ولم يحسن التكلم بالعربية العامية لأنه كان ارناؤدياً ولم يخط سطراً واحداً لأنه تعلم في الكهولة مبادئ طفيفة من حسن الخط والقراءة فقط. ومع هذا فقد عني بما لم يعن به أحد من ملوك المتأخرين وشرع منذ استتب له أمر مصر يختار الأذكياء من أبنائها ممن قرؤوا الدروس الوسطى فيبعث بهم على نفقة الحكومة إلى أوربا ليخصوا في العلوم التي أولعوا بها حتى إذا عاد أحدهم وأتم تحصيله يحبسه عنده في قلعة الجبل ويخرج له كتاباً بالإفرنجية في الفن الذي أتقنه ويوعز إليه بأن لا يخرج من القلعة قبل أن يترجمه بالعربية ويأمر له بأسباب الراحة والمعينات على الترجمة والتأليف. فإذا ما انتهى الطالب من عمله يعرضه على أمير البلاد وهذا يدفعه بالطبع للعارفين من الناس أو إلى لجنة كانت معروفة إذ ذاك بلجنة الامتحان فبعد أن تنظر فيه ترخص بطبعه في المطبعة الأميرية ويغدق الأمير على المترجم أنواع الهبات ويشرع في ترقيته في المراتب إن كان ممن استعدوا للإدارة أو الجندية أو البحرية وإذا كان من الأساتذة يوسد إليه التدريس في بيوت العلم موسعاً عليه في الرزق ليتخرج به أبناء مصر. وهو عمل يذكرنا بما كان يأتيه المأمون العباسي من الأنعام على المترجمين ولكن ما يصدر عن المأمون وهو أعلم خليفة في الإسلام لا يستكثر منه وعصره شباب هذه الأمة بقدر ما يستكثر ما تم على يد محمد علي الأمي الألباني وعصره عصر شيخوخة الإسلام والمسلمين.
قال لي صديقي الدكتور عثمان بك غالب أحد حسنات مصر الذين نبغوا بفضل الطريقة التي اختطها محمد علي لمن يجيء بعده وشاهد تلك الحركة العلمية في إبانها ثم شاهدها في انحطاطها وهو يشهدها الآن في تجددها: لقد ظلت نهضتنا العلمية سائرة أحسن سر إلى سنة 1882 فما بعدها وبدأ انقطاعها سنة 1887 وقد قام بعدها رجل من أبناء مصر نفسها(43/28)
وهو علي باشا مبارك ناظر المعارف فسعى وربما كان بدون قصد سيء منه لإحلال اللغة الإنكليزية محل اللغة العربية في المدارس الأميرية زاعماً بأن الواجب على المصريين مخاطبة المحتلين بلغتهم وهذا لا يتأتى إلا إذا أتقن المصريون لغة البريطانيين فبدأت نظارة المعارف في أيامه وبعدها تسلب وظائف التدريس من المصريين وتعطيها لأبناء انكلترا وقطعت الإرساليات العلمية إلى أوربا حتى لم يكد يبقى اليوم من أولئك المدرسين المصريين غير شيوخ قلائل إذا عادوا إلى منابر التعليم لا يسدون حاجة مصر وأخذت المعارف في عهد المبارك تطهر المدارس بأمثال دنلوب وارثين من كل ما ينفع اللغة أو كان من آثار النهضة الأولى حتى لقد كانت تطرح الكتب المترجمة أكداساً من مستودعاتها كما يطرح القذى والنوى لتسجل العار على من عقوا لغتهم وأمهم كما عق أخوة يوسف ابن أبيهم عل حين كان علي مبارك من جهة ثانية يؤسس دار العلوم ويؤلف التأليف التي تخدم العربية مثل الخطط وعلم الدين وغيرهما من مصنفاته.
قال غالب بك كان أكثر أساتذة المدارس التي أنشئت في مصر على عهد نهضتها الأولى من الفرنسويين المستعربين يكتب الأستاذ درسه بالفرنسوية والمترجم معه ينقله إلى العربية فيلقي على الطلبة بلغتهم دام ذلك منذ سنة 1830 إلى سنة 1854 وقد كتب فيها الأستاذ بروجر بك الفرنسوي رئيس مدرسة الطب والولادة والصيدلة والمستشفيات المصرية إلى خديوي مصر في عهده يقول له في تقريره السنوي أن الوقت قد حان لأن تكون وظائف التدريس كلها بيد المصريين إذ أصبح فيهم الأكفاء الآن وأن مهمة فرنسا في تربية أبناء مصر في هذه الفروع العلمية قد انتهت أو كادت.
نعم في ذاك العهد تم للعربية ما تريد من تعريب المصنفات العلمية والأدبية على اختلاف أنواعها فأضحت لغة علم بعد أن انقطع سند العلوم منها قروناً وأحيا أولئك المصريون أمثال الطهطاوي والرشيدي والشباسي والهيهاوي والنحراوي وحماد وبهجت والفلكي وندى والنبراوي والبقلي ألفاظاً من لغتنا كانت في حكم الدارس هجرت منذ كان العرب يترجمون وينقلون على عهد الدولة العباسية في بغداد والأموية في قرطبة والفاطمية في مصر وأضافوا إل تلك الألفاظ ما حدث بعد عهد الحضارة العربية من المستحدثات العصرية والمصطلحات الفنية وعربوها على الطريقة التي سلك عليها أجدادنا المعربون غالباً حتى(43/29)
أن الأتراك والفرس لما شرعوا يعلمون العلوم في البلاد العثمانية والإيرانية باللغتين التركية والفارسية لم يجدوا أمامهم كنزاً حاضراً ينتفع به في الحال مثل تلك المعربات المصرية الحديثة في الهندسة والطب والعلوم والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافية وغيرها فنقلوا المصطلحات العربية برمتها وأدمجوها في تضاعيف لغتهم.
كان الطلبة الذين أرسلهم محمد علي إلى التخرج في أوربا وتلامذتهم وتلامذة تلامذتهم مدة نصف قرن حملة لواء العلم لا في القطر المصري فقط بل في البلد العربية كافة وأصبحت مصر ببيض أياديهم من هذه البلاد بمثابة باريز من الممالك اللاتينية تفيض عليها النور وتهز أعصابها للارتقاء حتى بلغت الكتب التي ترجمت في فنون مختلفة من الإفرنجة زهاء ألفي مجلد. والأثر الأكبر فيها للشيخ رفاعة الطهطاوي شيخ من ألف وترجم في عهده بما خلفه من قلمه أو عرب في قلم الترجمة برئاسته وما بثه من المبادئ في مدرسة اللغات ومجلته روضة المدارس. وكلها أعمال مهمة تدل على نفس طويل وفضل جزيل. خل عنك تلك الجرائد والمجلات التي صدرت في تلك الأثناء ومنها جريدة وادي النيل لأبي مسعود ومجلة الطب لكلوت بك.
ورب معترض يقول أي علاقة لتعلم العلوم الجديدة ونقلها إلى العربية بحياة اللغة التي يراد منها آدابها المنثورة والمنظومة ليس إلا. والجواب أنه لا أدب لمن خلت لغته من أمثال هذه المعارف. فكما أن للعلوم ارتباطاً كلياً بعضها ببعض هكذا خلت لغته من أمثال هذه المعارف. فكما أن للعلوم ارتباطاً كلياً بعضها ببعض هكذا اللغة دخل عظيم في سلاسة آدابها بما تأخذه عن غيرها بل إن لغة مهما حوت من أنواع البديع والمعاني والبيان لا تعد من اللغات الحية إن لم تكن لغة علم قبل كل شيء.
وهنا مسألة مهمة لا أحب أن أمر بها وأنا منطلق لأن لها علاقة كبرى بموضوع النهضة الأدبية وهي أنا إذا تدبرنا تاريخ محمد علي وحسناته على العلوم والمعارف لا نلبث أن نشبهه من ملوك الإفرنج بالإمبراطور شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا الغربية. وشارلمان كما لا يعزب عن علمكم كان من أعظم ملوك دهره وله صلة بملوك المسلمين وهو الذي أنفذ إليه الرشيد العباسي رسولاً من قبله سنة 1801م يحمل إليه هدايا فاخرة ومفاتيح القبر المقدس وهذا الذي كان يحمي الملتجئين إليه من أمراء المسلمين الهاربين من الخلفاء في(43/30)
قرطبة. كان شارلمان لأول أمره أمياً تعلم الكتابة البسيطة على كبر مثل محمد علي إلا أن تنشيط التجارة والصناعة والآداب كان مغروساً فيه بالفطرة فجعل قصره معهد المستنيرين والمتعلمين الذين يستعين بهم على نشر المعارف بما أنشأه من المدارس بإشارة الكوين المشهور أستاذه وأمين سره وباذر الجراثيم الأولى من المعارف في هذه الأرض الفرنسوية وبمساعيه أنشئت المدارس في اكس لاشبل عاصمة البلاد إذ ذاك وتور واورليان وليون واستنسخت الكتب الوافرة لينتفع بها الطلاب.
ومن العجيب أنه حدث لنهضة شارلمان ما حدث لنهضة محمد علي حذو القذة بالقذة وذلك أنه لما مضى لسبيله عادت تلك الحركة العقلية فركدت ريحها جملة واحدة لأن من خلفوه على سرير الإمبراطورية لم يكونوا على قدمه ولا رزقوا سعة عقله وصفاء طبعه ولأن الأعمال العظيمة في البلاد المنحطة قد تقوم بالفرد أكثر من قيامها بالأفراد وعلى العكس منها في البلاد الراقية. أتت خمسون سنة على فرنسا بعد وفاة شارلمان مات في خلالها التعليم أو كاد ولم تدب روح التجديد فيها إلا بانتباه عقول الأمة وعلى يد أناس من أبنائها كما قامت مصر منذ نح عشر سنين تجدد حياة آدابها بيدها بعد محمد علي بنحو خمسين سنة متكلة في مهمتها على نفسها لا على الحكومة وبذلك جاز لنا الاستنباط بأن كل اصلاح يقوم بالأمة في هذا الوجود يكون الأمل في بقائه أكثر مما يقوم بيد الحكومة ولا سيما في الدول الإستبداية التي تجد فيها تمييزاً بين الأمة والحكومة. والحكومات قد تعرض لها عوارض تنسى معها الترغيب في العلم ومنها إلى اليوم من يفضل الجهل على العلم. ولهذه المسألة نظائر كثيرة في تاريخ الأمة العربية فقد رأيناها تسعد وترقى في برهة قليلة على يد فرد عظيم عاقل من ملوكها وشاهدناها تشقى وتنحط بفرد آخر لا يرجع إلى عقل ولا إلى نقل.
كان الأدب العربي قبل دور النهضة الأخيرة عبارة عن سجع كسجع الكهان طول بلا طول ولا طائل وجمل باردة سمجة وشعر ركيك أكثره في الأماديح والأهاجي وإن ارتقى الشاعر انفلق لسانه في وصف الخد والخال وذات النطاق والخلخال من ربات الحجال أو الذكران من الرجال. وما أظنكم أعز الله بكم دولة الأدب إلا قد وقع لكم شيءٌ كثير من أمثال هذه الركاكات والسخافات فضربتم بها عرض الحائط وحمدتم الله على أن خلقكم في زمن قام(43/31)
فيه من الكتاب أمثال محمد عبده وأحمد فارس وإبراهيم المويلحي وإبراهيم اليازجي وإبراهيم الحوراني وطاهر الجزائري وعبد الله فكري ومحمود شكري الألوسي وجمال الدين القاسمي وحفني ناصف ويعقوب صروف وإبراهيم مصور وسليمان البستاني وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل وقاسم أمين وأحمد فتحي زغلول ورشيد رضا ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوي وعبد العزيز جاويش وصالح حمدي حماد ولبيب البتنوني وفريد وجدي ومحمد فريد وعلي يوسف وأحمد تيمور وزكي مغامز وشاكر شقير وسامي قصيري وشحادة شحادة وسعيد الشرتوني ورشيد الشرتوني وفرح انطون وجرجي بني وإبراهيم النجار وأديب اسحق ونعوم لبكي ونعوم مكرزل وأحمد فؤاد وسعيد أبو جمرة ومصطفى الغلاييني وعبد الباسط فتح الله ومحمد بيرم وخير الدين التونسي ومحمد المهدي وشكري العسلي وشاكر الحنبلي وعبد الوهاب الإنكليزي ونجيب شاهين واسكندر شاهين وسعيد الباني ومحمد مسعود وحافظ عوض وحسن حسني الطويراني وأحمد سمير وعبد الغني العربي ورزق الله حسون ويوسف البستاني وأنطوان جميل وعادل أرسلان ونسيب أرسلان وجرجي حداد ورشيد عطية ونجيب طراد ويوسف زخم وعبد الوهاب النجار وميشيل بيطار وخليل زينية ومحمد مصطفى وأحمد زكي ومصطفى لطفي المنفلوطي وأمين ظاهر خير الله وعيسى اسكندر المعلوف وديمتري قندلفت ويوسف الخازن وروحي الخالدي ومحي الدين الخياط ومحمد المويلحي وخليل سعداة وداود بركات وبشارة زلزل وبولس زوين وعبد القادر المغربي وبدر الدين النعساني ومرسي محمود ومحمد صادق عنبر وعبد الرحمن البرقوقي وعبد القادر المؤيد وعبد الكريم سلمان وأحمد الصابوني وعشرات غيرهم لا تحضرني الآن أسماؤهم من شيوخنا وكهولنا وشبابنا. وقام من الشعراء محمود سامي وعبد المحسن الكاظمي وإسماعيل صبري وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومعروف الرصافي وجميل الزهاوي وشكيب أرسلان وفارس الخوري وخليل مطران وعبد الله البستاني ومصطفى صادق الرافعي وبطرس كرامة وناصيف اليازجي وعبد الباقي العمري ونجيب الحداد وأمين الحداد وولي الدين يكن ونقولا رزق الله وشبلي ملاط وداود عمون وفضل القصار ورزق حداد وغيرهم ومن الخطباء جمال الدين الأفغاني وعبد الله نديم وإبراهيم الهلباوي وسعد زغلول وأحمد الحسيني ونقولا توما ومصطفى كامل وعبد(43/32)
الرحمن سهبندر وأنيس سلوم واسكندر العازار وفارس نمر ومحمد أبو شادي وأمين ريحاني ومحمد لطفي جمعة وأحمد لطفي السيد وأحمد عبد اللطيف وعمر لطفي وأحمد لطفي وإبراهيم اللقاني وأحمد محمود وعبد العزيز الثعالبي وغيرهم ممن هم عمدة العربية في نهضتها الأخيرة عملوا لخيرها في مصر والشام والعراق وتونس أعمالاً وخلف أكثرهم من مآثر فضله ما يطرس المتأدبون عليه وينسجون على منواله.
وبينا كانت اللغة العربية تزهر في مصر في الإمارة العلوية عزَّ على الشام أن تكون دون شقيقتها في هذه الخدمة الشريفة فنشأت لهذه اللغة حياة جديدة في سورية لا بواسطة الحكومة كما في مصر بل بواسطة الأفراد والجمعيات وذلك في أواسط القرن الماضي وكانت بيروت مدينة وهي ثغر لبنان وسورية موطن تلك الشعلة وقد جاءها أناس من مرسلي الفرنسيس والأميركان وأنشؤا فيها مدارس جعلوا لغتها الأولى اللغة العربية وأتقنها كثيرون من أهل لبنان فحمد مسعاهم وكانت اليد الطولى في تنشيط لغة قريش للدكتورين كرنيليوس فانديك ويوحنا ورتبات وهما من أعظم مؤسسي الكلية الأمريكية الأنجلية في بيروت تعلما العربية والأول أميركي والثاني أرمني ودرسا بها مع أقرانهما العلوم الطبيعية والرياضية والطبية ومن غيرتهما عليها أن عمدة المدرسة لما عمدت أن تجعل لغة التعليم في الكلية اللغة الإنكليزية بدل العربية قاوما ما وسعتهما المقاومة ولما أخفقا استقالا من وظيفتهما لأنهما أبت مروءتهما إلا أن يمحضا النصح للبلاد وللغتها. والدكتور كرنيليوس فانديك الأميركاني في سورية بفضله على اللغة العربية وما عرب لها من كتب العلم أشبه بالشيخ رفاعة الطهطاوي في مصر ووجه العجب في فانديك أعظم لأنه أميركي والمنشأ غار على لغة العرب أكثر من أهلها ومن الغضاضة على مصر والشام أنهما لم تعرفا لهما حقهما على ما يجب وكان على القطرين أن يرفعا لهما تمثالين كما رفعت باريز لهوغو وروسوا وكما رفعت مصر لمحمد علي وإبراهيم. والعلماء لم يكونوا أحق بالرعاية من رجال السياسة في بلادنا فلا أقل من أن يكونوا على مستواهم.
ولقد كان من أعظم من خدموا الآداب العربية في بيروت على ذاك الدور أيضاً بطرس البستاني وأسرته بما نشره من دائرة المعارف العربية وغيرها من الكتب والجرائد وبثه في مدرسته الوطنية من أصول العلم وفروعه وكذلك يوسف الأسير وإبراهيم الأحدب وناصيف(43/33)
اليازجي وأسرته وغيرهم. فهؤلاء كلهم توفروا على التعليم وتخرج بهم مئات من الطلبة الذين انتشروا بعد في أقطار الشام ومصر وأميركا وكان منهم الكتاب والصحافيون والمحامون والخطباء. ولم تحرم الأستانة - والعواصم مرزوقة منذ خلقها الله_من نزول عالم بالعربية فيها اتخذها مباءة علمه ومثابة درسه وبحثه وأعني به أحمد فارس الشدياق الذي اقترح عليَّ صديقي سيد أفندي كامل من رجال الجامعة المصرية أن أتوسع في الكلام عليه.
أصل هذا الرجل من لبنان من أسرة مسيحية خرج من بلاده مغاضباً فقضى زمناً طويلاً في مصر وتونس ومالطة وفرنسا وإنكلترا وتعلم خلال ذلك الإنكليزية والإفرنسية ثم دان بالإسلام وألف بعض الكتب ومنها اللفيف في كل معنى طريف طبع في مالطة سنة 1839 ومن كتب في أوربا كتاب الساق على الساق في ما هو الفارياق أو أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام طبعه في هذه العاصمة سنة 1270هـ. وضمنه ترجمة حياته وشؤوناً وشجوناً على أسلوب يجمع بين الجد والفكاهة تقدر أن تعده من الإنشاء المعروف عند الإفرنج بالامورستيك (الجد في الهزل) أو الرياليست (الحقيقي) الذي حدث في عهد فلوبر أو الناتوراليست (الطبيعي) الذي تم على يد زولا وانك لتدهش من قدرته فيه على التعبير ورشاقته في التصوير ومتانته في التحرير والتحبير فكأن اللغة التي كان من جملة محفوظات أحمد فارس فيها قاموس الفيروزابادي الذي ألف كتاباً مهماً في نقده سماه الجاسوس على القاموس - كانت نصب عينيه يأخذ منها كل ساعة ما يشاء ويستحضر في دقيقة ما يصعب الإتيان به في ساعة ويتقن ما شاء بيانه وتبيانه. ولفظ الفارياق مقتطع من أول اسمه فارس وآخر اسم أسرته الشدياق. وقد حمل في كتابه على رؤساء الدين حملة منكرة لأن بعضهم قتلوا أخاه ظلماً وتعصباً جعلوه في بناء لهم وبنوا فوقه لأنه دان بالمذهب البرتستانتي (1).
هبط أحمد فارس مدينة الأستانة بعد أن خبر حال أوربا خبرة زائدة وأنشأ جريدة الجوائب التي طار صيتها في الأفاق ورزق الحظوة بعلمه فكان ملوك الأطراف يهادونه ويمنحونه المنائح وممن كان يساعده خديوي مصر وباي تونس وملك باهوبال في الهند حسن صديق خان الذي طبعت له مطبعة الجوائب معظم تآليفه العربية وكان هذا الملك أعلم الملوك(43/34)
المتأخرين بل أشبه بأبي الفداء صاحب حماه في جمعه حكم الناس إلى معالجة التأليف وهو بلا نزاع نابغة العجم والعرب في فهم أسرار الكتاب والسنة.
ولقد كانت جريدة الجوائب مثال الإنشاء العربي البحت سارت جميع صحفنا التي أسست بعدها على نسقها وقلَّ أن نشأت جريدة في صحتها وديباجتها العربية اللهم إلا أن تكون جريدة العروة الوثقى للشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصباح الشرق لإبراهيم بك المويلحي والبرهان للشيخ حمزة فتح الله وذلك لأن جريدته كانت كهاته أسبوعية وله فيها مساعدون في الأقطار العربية كان يهاديهم ويهادي علماء عصره حتى كثر أحبابه من العلماء في شمالي افريقية وغربي آسيا ووسطها وهو الذي يتولى النظر في كل ما ينشر فينمقه ويزوقه وناهيك بكلام تصقله الأنامل الفارسية. فأحمد فارس هذا لو أنصفنا هو واضع أساس الصحافة العربية وباعث روح الحياة في آدابنا بما خلفه من آثاره ومن أراد أن يطلع على شيء من كتاباته في جوائبه فعليه بالرجوع إلى كنز الرغائب في منتخبات الجوائب وهو مطبوع متداول وإن أحب الإطلاع على الجوائب برمتها في حجمها ووضعها فليرجع إليها في خزائن الكتب في أوربا ومصر والأستانة.
ولم يقف عمل أحمد فارس عند حدود نشر جوائبه وكتبه ومنها كتاب سر الليال ورحلة له إلى أوربا جدة محضة وكتاب نحو اللغة الإنكليزية وديوان شعره وغيرها بل نشر طائفة من كتب الأدب واللغة والشعر ككتب الثعالبي والتوحيدي والطغرائي والبديع وغيرهم من أئمة الأدب نشرها على أحسن أسلوب راق في طول البلاد عرضها بأثمان بخسة فعمت بها الفائدة وأنشأ طلاب الآداب يتحدونها في أسلوبها. وما برحت مطبوعات الجوائب إلى اليوم يتنافس المتنافسون ويدخرها غلاة الكتب لينتفع بها الأحفاد والبنون على ممر الدهور والقرون.
ابتلى أحمد فارس بأناس حسدوه وأي عالم خلا من حساد وطفقوا يشنعون عليه ويزيفون شعره ونثره وينتقدون جريدته وكتبه ولكن تلك المناقشات اللغوية والأدبية بينه وبينهم بل بين حزبه وحزبهم لم تزد فارسنا إلا جرأة على الجري في مضماره وقبولاً بين العالمين بمصنفاته وآثاره فكان بنقده بعض كتاب اللغة العربية أشبه بسانت بوف في نقده كتاب عصره من الفرنسويين فاستفاد أرباب الأقلام من تلك المحاورات كما استفادوا بعد مما دار(43/35)
بين التقدم والمقتطف والبيان والضياء والمشرق وبذلك أخذ من يعانون صناعة القلم يتأنون قليلاً فيما يكتبونه وأخذت تخف أغلاط الكاتبين والشاعرين وتسلم عبارة التأليف كلما نقل الناقلون عن اللغات الإفرنجية ونحا المؤلفون مناحي قدماء الكتاب في ترك التكلف والتعسف حتى صح لنا أن نقول اليوم أن أسلوب الكتابة العربية لا ينقص عن اللغات الإفرنجية الراقية بإيجازه واندماجه وتقطيعه وفيه بلاغة قدماء المنشئين وسلاسة المعاصرين وأفكارهم.
نعم عادت للغة العربية ولا سيما في الثلاثين سنة الأخيرة نضرتها الأولى في القرن الرابع والخامس والسادس للهجرة وخلصنا من ذاك السجع المتكلف الذي أتانا به العماد الكاتب الأصفهاني من فارس - وفارس مورد بدع كثيرة في الإسلام منها الزندقة والزنادقة ثم الباطنية ومنها الموسيقى والعود المطرب_ونقله إلى العربية فأجاد في أكثره إلا أن من جاؤا بعده قد أفسدوا علينا لغتنا لأنهم لم يتقنوه.
وإني لا أزال أذكر ما كنت أكثر من مطالعته واستظهاره أيام ولوعي بالأدب من مقامات الحريري ورسائل الخوارزمي ورسائل الصابي وتاريخ اليميني للعتبي ومقامات الزمخشري ومقامات الأصفهاني وقلائد العقيان وذيله مطمح الأنفس للفتح بن خاقان وخطب أبن نباته وفاكهة الخلفاء لأبن عربشاه وخزانة الأدب لأبن حجة والريحانة للخفاجي وغيرها من الكتب التي كنت أطرب لتلاوتها ولا أكاد أفارقها في خلوتي وجلوتي. ولما كتب لي الإطلاع على الآداب الفرنسوية والتركية وأنشأت أبحث عن كتب كتبت بلا تكلف وتعمل ككتابات الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وسهل بن هرون وأبي حيان التوحيدي وابن مسكويه والراغب الأصفهاني والغزالي والماوردي والطبري والمسعودي والصاحب وأبن العميد وأبن خلدون وأبن الخطيب وغيرهم من جهابذة المنشئين غدوت أعجب من نفسي كيف أضاعت وقتها في تلقف تلك الأسفار المسجعة وفي اللغة مثل نهج البلاغة والبيان والتبيين والذريعة والإحياء وغيرها مما لا يتسع المجال لتعداده وهو في الحقيقة ونفس الأمر مادة أدب كما هو مادة عليم لا تبلى على الدهر جدتها ولا تخلق ديباجتها كما كنت أعجب من إقبالي أيام الطلب على تلاوة شعر أبن النبيه وأبن معتوق والصفي الحلي وأبن منجك وأبن مليك والجندي من شعراء المتأخرين وعند العرب من أهل هذا الشأن(43/36)
أمثال أبي الطيب وأبي عبادة وأبي نواس والشريف الرضي وأبن حمديس وأبي فراس الحمداني.
يرجع الفضل الأكبر في انتشار دواوين الأدب والتاريخ واللغة من كتبنا لعلماء المشارقة من الغربيين أمثال دوزي ودساسي ووستنفيلد وعشرات غيرهم من أهل أوربا ولبعض ما نشره اليسوعيون في مطبعتهم المتقنة في بيروت وما نشرته الجمعيات الكثيرة التي أُلفت في أوقات مختلفة في مصر لإحياء الكتب العربية وآخرها تلك الجمعية التي طبعت لنا المخصص لأبن سيده وأحسن كتاب عني بطبعه في شرقنا ولما طبعته المطبعة الأميرية ومطبعة الجوائب ومطابع الجرائد في مصر والشام وتونس. كل هذه الأعمال أعانت العربية على تحسين آدابها وترقيتها. ولا ننسى غيرة أولئك الذين نسجوا في منظومهم ومنثورهم على مناحي الأوروبيين من حيث قلة الكلفة ومجاراة الطبع ومحاكاة الطبيعة ووصف عواطف النفس بإيجاز وإعجاز وأولئك الذين وقفوا أنفسهم منذ عشرات من السنين يعربون لنا كل يوم في جرائدهم ومجلاتهم أفكار الغربيين في سياستهم وعلومهم واجتماعهم فكوَّنوا مجتمعنا الأدبي على ما ترونه وجددوا للغة شبابها بحيث أمنا بفضلهم عليها من العفاء وأصبحنا نرجو لها دوام النماء والارتقاء.
أنا لا أقدم لكم مثالاً من أمثلة ارتقاء لغتنا أكثر من أن أحيلكم على مراجعة مجموعة من جرائدنا العربية قبل ثلاثين سنة مثل الجنان والجنة في سورية والفلاح والمحروسة في مصر وأن ترجعوا إلى كتابة الدواوين في مصر في منتصف القرن الماضي مثلاً وترجعوا إليها اليوم وإن كانت إلى الآن عشيقة الركاكة بعض الشيء. قابلوا المنشورات التي تصدر اليوم في الوقائع الرسمية في مصر وما كان يصدر من أمثالها منذ مئة سنة مما أورد الجبرتي في تاريخه نموذجاً صالحاً منه بنصه وفصه. عارضوا بين لغة القضاء اليوم وما تفيض به ألسن المحامين وأقلامهم في مصر من التفنن في أساليب الدفاع والتأثير الخطابي وبين ما كان للغة من نوعها مما ذكر صاحب كتاب المحاماة طرفاً صالحاً منه يتجلى لكم كيف ارتقت لغة القضاء. استمعوا للخطباء اليوم ممن درسوا الدروس النظامية وتشبعوا بالعلوم العصرية وقابلوها بأكثر ما يحفظه خطباء الجوامع أو يقرأونه من السجعات في دواوين الخطب القديمة. تدبروا لغة التمثيل اليوم وإن كنا فيه دون سائر فروع الآداب(43/37)
تأخراً واسألوا كيف كانت منذ البدء حليفة الضعف والسماجة. اقرأوا المحاضرات التي تتلى اليوم في نادي المدارس العليا ونادي دار العلوم في مصر الخالية من التعقيد والغلط الحالية بالرشاقة والبيان وقابلوها بالخطب التي كانت تتلى زمن الثورة العرابية وبعدها مثلاً تدركون كيف وفقنا الله إلى قيام بناء آدابنا على هذا الأسلوب الرائق والإبداع في الأداء والإلقاء.
أليس مما يعد من نهوض اللغة ما نراه من أحكام ملكتها في طلبة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي فقد رأينا طلبة أحداثاً تخرجوا من دار العلوم فكانوا والله أعرف بالعربية وفنونها من أكثر من اشتهروا في قرون الانحطاط الأخير على غير حق أما من تمحض منهم للتدريس والنفع فهم مفخر من مفاخر العربية في هذا العصر استحكمت فيهم ملكة البيان استحكامها من العرب العرباء وأحاطوا بعلوم الوقت إحاطة نبهاء الغربيين.
وإليكم أيضاً مثالاً صغيراً أذكره لكم على ما أتت به بعض مدارس مصر في حياة اللغة فقد شاهدت في وادي النيل بعض العمد ممن لم يدرسوا غير الدروس الثانوية يكتبون كتابة صحيحة في الجملة تسقط فيها على روح البيان والتلطف في التعبير مما لا تتلوه في عسلطات المحشين والمهمشين والشارحين من الفقهاء والنحويين المتأخرين وما ذلك إلا بفضل المدارس المنظمة وما تلقيه الجرائد على مسامع الناس وأنظارهم كل يوم من فصح العربية وشواردها وتتفنن فيه من أساليب التعليم. نعم إن مطالعة الجرائد والمجلات أعانت على انتشار الآداب وأدخلت الغيرة على التعلم في نفوس أرباب الاستعداد.
ولذا رأينا البلاد العربية التي لم تنشأ فيها مدارس لتعليم العربية على الأصول الحديثة ولم يولع أهلها بمطالعة الجرائد لقلة انتشارها بينهم ما زال أهلها إلى اليوم يكتبون لغة سقيمة ويتكلمون بلغة سقيمة ومن هذه البلاد مرَّاكش فإن مدينة فاس منذ القديم ما خلت من أفراد يعانون الآداب على الأصول القديمة ولكنهم في الحملة خير من أهل الجزائر الذين لا تكاد تجد فيهم فرداً يعد في الطبقة الثانية في كتابنا فيما علمت وما ذلك إلا لأن اللغة العربية لم تقم لها في بلاد الجزائر في دور من الأدوار سوق نافقة ولأن حكومتها تحاول منذ القديم أن تجعل أهلها فرنسيساً في لغتهم وأفكارهم ومنازعهم.
ولئن ضعفت في تونس تلك الروح الشريفة التي بثها فيها خير الدين باشا التونسي وأشياعه(43/38)
فإن الآمال قويت الآن بارتقاء ملكة العربية لانتباه التوانسة الأذكياء من الخلدونيين وغيرهم. أما طرابلس الغرب وبرقة الصحراء والسودان فهي من أخوات الجزائر في ضعف ملكة البيان وقلة الجرائد فيها بل عدمها ولكن هناك في صحراء مراكش بلد غريب في تلقف ملكة العربية وأعني به شنقيط بلد الشيخ محمد محمود الشنقيطي الحافظ المشهور في عصرنا. وطريقة أهلها طريقة الأقدمين في التلقي والاستظهار وقد شوهدت في شنقيط بعض البنات الشنقيطيات إلى اليوم يحفظن كامل المبرد مع الفهم وأظن من يحسن فهم هذا الكتاب قلائل حتى في شيوخ الأزهر.
أما سورية فقد كاد ينحصر الفضل في إحياء ملكة العربية الجديدة ببعض المدن وبقيت الأخرى غريبة عن تلك الحركة مثل فلسطين وبلاد حلب وداخلية ولاية سورية ومثلها الحجاز واليمن ونجد وحضرموت ومسقط وعمان وزنجبار والجزيرة والعراق إلا أن ذلك لم يحل دون نبوغ بعض أفراد شاركوا أتم المشاركة في حياة العربية ونعني بهم بعض أولئك العراقيين النوابغ الذين ألفوا وكتبوا ولم يعقهم الحجز على الأفكار الذي دام في البلاد العثمانية إلى يوم 23 تموز 1908 ولذلك لا نغالي إذا قلنا أن ثلاثة أرباع ما تم للعربية من الارتقاء في القرن الأخير يرجع الفضل فيه لمصر والربع الآخر يوزع على سورية والعراق وتونس. ومن الأسف أننا لا نزال نرى بعض الجرائد في الولايات العربية تصدر باللغتين التركية والعربية ولكن القسم العربي منها يكاد يكون أشبه بالمالطية والكرشونية منه بالعربية الحجازية فتسقط فيها من الأغلاط في التركيب والتأليف والألفاظ والوضع وما تسأل الله معه السلامة وأقلُّ من ذلك غلطاً تلك الجرائد التي صدرت مؤخراً في طرابلس الغرب وبعض مدن سورية الصغرى وبغداد والبصرة والموصل وأحسن منها جرائد مهاجري سورية في أميركا الشمالية والجنوبية وهي لا تقل عن ثلاثين جريدة وفيها الجيد والرشيق. ومع هذا فإن الآمال قويت بأن لا ينتصف هذا القرن الرابع عشر للهجرة إلا وتكون ملكة الآداب عمت البلاد التي ينطق فيها بالضاد بل بالصاد والحاء والخاء والعين والغين والثاء والذال والظاء ورقيت لغتنا بمساعي المنورين من أبنائها أمثالكم درجة عالية خصوصاً في البلاد التي كانت كعبة هذه اللغة ومنبعث أنوارها وأريد بها الحجاز واليمن ونجداً فإن فيها بقايا من أرباب الذكاء النادر إلى الآن من لو تمرنوا على العمل إذا تهيأت(43/39)
لهم الأسباب لأتى على أيديهم خير كثير للأمة ولا يرجى ذلك إلا متى انقطعت شأفة الفتن من تلك الأقطار وأمن الناس على أموالهم وأرواحهم ليتفرغوا أو أفراد للدرس والإستنارة.
هذا ما أحضرني في موضوع نهضة العربية الأخيرة ألقيته في هذه المحاضرة وربما خرجت عن البحث بعض الشيء وساحة عفوكم تسعني وأنتم تعلمون أني على أوفاز استودعكم الله والسلام عليكم.(43/40)
طريقة التعليم
كان من أول الإصلاح في أوربا أواخر القرون الوسطى وأوائل القرون الحديثة لما شرعت الأمم الراقية فيها تدرس العلوم المادية والأدبية أن أتت على طريقة التعليم تصلحها بما يقتضيه حال الزمن والتجارب فتم لها في أوائل القرن الماضي تنظيم مدارسها على النحو الذي نراها عليه اليوم وأصبحت يدخلها الطالب فيتعلم في بضع سنين لغو أو لغتين أو ثلاثاً معها إلى ما يتحتم عليه معرفته من العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية فيخرج الطالب بعد هذه الدروس النظامية الأولية ملماً بفروع كثيرة بل بأمهات العلوم وأصولها المقررة لإعداد العقول للتفكير والأنامل للكتابة والألسن للنطق والأجسام للحركة وهذه الدروس التي يسمونها دروس الموضوعات (الأنكلوبيذية) يمر فيها الطالب على كثير من المطالب تغنيه إذا أراد الاقتصار عليها والانصراف إلى أكثر الأعمال التجارية والصناعية والزراعية والعلمية. وإذا سمحت به همته إلى الإخصاء في علم واحد من العلوم التي ذاقها في الجملة يتمحض لها ويدخل مدارسها الخاصة كمدارس الزراعة والتجارة والمعادن والميكانيكيات والأدب والطب والهندسة والقضاء والجندية واللغات والفلسفة واللاهوت والاجتماع وعن ذلك من أصناف العلوم التي جعل لكل فرع منها مدرسة خاصة أوصف خاص يدرس فيها من تصح عزيمته على الامتياز في فروعها ليكون فيها مرجعاً ويبرز على أقرانه فينفع وينتفع.
ولولا إصلاح طريقة التعليم والإلقاء لم يتيسر للشاب أن يدرس في سنين قليلة مثل هذه الدروس الكلية ولكن أصول الكتب التي أُلفت بحسب سني الطلب وسن الطالب وطريقة الإلقاء الشفهي والإملاء الكتابي هي التي تفتح ذهن الطالب وتحبب إليه الدرس والبحث منذ الصغر فلا يتناول من العلم إلا بقدر معلوم ولكنه يتناول اللباب ويطرح القشور ويقرأ المختصرات إبان دراسته كليات العلوم فإذا شب يتناول المطولات فتكون منه على طرف الثمام.
فيمثل هذا التنظيم في التعليم ثم الإخصاء في فرع أو فرع نبغ في الغرب رجال في علوم البشر لأشبه بينهم وبين رجالنا في سعة المدارك وبعد الهمم والعلم الواسع وبتربية بنيه على هذا الأسلوب نبغ في القرون الأخيرة فرادليس في رجالنا من يضاهيهم أو يبلغ علمه ربع علومهم أمثال ديكارت وكونت وكانت وياكون سبينوزا ويبنترلا وأمرسون ونيوتن(43/41)
وهاكسلي وسبنسر وكيتي وشيلر وروسو وفولتير ومئات يتعذر الآن إحصائهم.
هذه المدارس وطرق تدريسها هي التي حرم منها الشرق إلا قليلاً ولا يرجى تأسيسها على ما يجب في البلاد المصرية والعثمانية إلا بعد أن تكون المائة والخمسون طالباً الذين تبعث بهم نظارات الحكومة العثمانية إلى كليات أوربا قد أنجزوا الفروع التي يتمحضون لها ويعود أولئك الذين أرسلتهم الجامعة المصرية للأخصاء في فروعه منوعة من العلم يدرسون في الجامعة بالعربية فيتخرج بهم أرباب الرغبات في العلم كما يتخرج الآن في السلطنة العثمانية أناس كثيرون بالرجال الذين درسوا الفنون العسكرية والطبية في ألمانيا أو يتخرج المصريون بالأساتذة القلائل الذين تعلموا في كليات انكلترا وفرنسا وألمانيا على نفقة نظارة المعارف المصرية.
متى كثر عدد المتعلمين على الطريقة الحديثة وأصبح الأستاذ لا يجلس في حلقة تدريسه وعلى منبر إلقائه إلا إذا كان أفنى شطراً من حياته بالقعود على دكات تلك المدارس الراقية وأسهر الجفن في الليالي وراء المناضد وتخرج بأعظم أساتذتها الأعلام هنالك قل للعثمانيين والمصريين أنكم بلغتم درجات الأمم الحية فجديرون وأنتم ما أنتم أن يهابكم العدو ويحترمكم الصديق. وأي سلاح أمضى من العلم الصحيح والآداب الرافعة وأي عاقل يبجل غير الحري بالتجلة والإكرام ممن امتاز بصفات الرجولية الحقيقية.
لا جرم أن إصلاح التعليم على الأسلوب الجديد وتدريس علوم الدنيا به ينفع إذ ذاك في إحياء العلوم الدينية أيضاً لأن الارتقاء سلسلة لا يتيسر أن يكون بعضها عاطلاً وبعضها حالياً بل هو كالبناء لا يكون صحيحاً إذا تداعى منه جانب.
متى حسنت طريقة التعليم لا يقضي طالب العلم الديني بضع سنين مثلاً في تعلم بعض العلوم الآلية ليحسن مطالعة عبارة معربة فيغوص كما هو الحال في الروم ايلي والأناضول والشام سنين كثيرة في بحر البناء والمقصود العزي والمراح والعوامل والإظهار والكافية والشافية والسمرقندية والمختصر والسنوسية والأيساغوجي وغيرها من كتب النحو والصرف والبيان والمنطق ثم لا يتلو شيئاً من العلوم التي يقصد تعلمها كالتفسير والحديث والفقه والكلام والحكمة. وذلك كما يغوص طالب العلم في الأزهر في قراءة الأجرومية والكفراوي والأزهرية وأبن عقيل والخضري والصبان وغيره من كتب النحو المطولة(43/42)
والمختصرة ينتقل من واحد إلى آخر حتى يفرغ صبره ولو قرأ أحد هذه الكتب المطولة قليلاً كابن عقيل وشرحه مثلاً لأغنته عن هذا التطويل الذي يضيع به وقته ويتبلد ذهنه وتفوته الغاية المقصودة من الطلب واللغة آلة لا غاية. ولكن عقم طريقة التعليم قضى أن لا يتعلم طلبة الجوامع والمدارس سواء كان في الديار المصرية والبلاد العثمانية إلا هذه القوانين والقواعد ويحرموا من تطبيق النظر على العمل.
وليت شعري أليس من فساد طريقة تعليم المشايخ أن لا يعلم الطالب منهم كتاباً أو شذرة من علم الأدب واللغة ليتفهم أثناء دراسته النحو والصرف والبيان معاني الكلام الفصيح ويطبق النحو والصرف والبيان والمنطق على العمل ثم يتأتى له تأليف جملة صحيحة عربية وكيف يتأتى للمرء إتقان لغة دون أن يطلع على كلام أهلها وكيف يؤلف الكلام من لا يفهمه وهل اللغة الإسماع من أصحابها والجري على مناحي بلغائها وما نظن الغزالي وابن رشد وابن سينا وابن الطفيل وابن زهر وأبا حيان وابن جرير الطبري والماوردي ومئات غيرهم في الإسلام كانوا يعرفون فروع النحو ودقائقه مثل ابن الحاجب وابن عقيل والبركوي والصبان وإضرابهم من أئمته ومع هذا انتفعت الأمة بكتب أولئك الفلاسفة والعلماء انتفاعاً يبقى أثره على الدهر ولم تعهد لهم غلطة شائنة ولا أسلوب ركيك.
لا يتيسر إتقان لغة من لغات العالم كلها إلا بالسماع من أفواه أهلها وسلوك الطريقة العلمية في اقتباسها فلو أتقن الطالب جميع قواعد النحو والصرف والبيان والمنطق كما هو الحال الآن في هذا الصنف من المتعلمين ولم ينظر في تحليل الكلام العربي واستظهار القدر اللازم من منثوره ومنظومه ولم يتدبر معاني الكتاب ولا أخذ بقسط من الحديث وغيره ما استطاع الطالب أن يفهم روح اللغة العربية على أصولها ومن لم يفهم اللغة كان حرياً بأن لا يفهم أسرار الشريعة على ما يجب.
إن المدارس الغير نظامية كالأزهر والفاتح صدت الناس عن الطلب لما اعترضهم دونه من العقبات بالطريقة العقيمة المتبعة معهم وأي طريقة أفسد من أن يظل الشيخ يشرح للطالب المبتدئ في أول يوم يشرع فيه بتعلم النحو كيفية إعراب البسملة ووجوه قراءتها على حين يكون الطالب غفلاً لا يعرف الجار من المجرور ولا المرفوع من المنصوب ولا الصفة من الموصوف وهكذا يبقى الشيخ يضيع وقته ووقت الطالب على غير جدوى وقد رأيت من(43/43)
المشايخ من قرأوا العوامل في سنة والعوامل مثل فهرس لأبواب النحو لا يبلغ ثلاث ورقات إلا أن المدرس أوسعها شرحاً وتحشية وتهميشاً حتى صارت كتاب نحو مطول هيهات أن يستوعبه عقل طالب.
ولذا كان من خير ما تم من الإصلاح في الأزهر على عهده الأخير الاستغناء ما أمكن عن الشروح والحواشي. ولعل المشيخة الإسلامية تنظر لطريقة تعليم طلبة الجوامع بما يقوم أودها فتقضي على طلبة العلوم الدينية أن يمتحنوا امتحاناً عملياً لا نظرياً ممزوجاً بشيء من العلوم العصرية كما هو حال مدرستي دار العلوم ولقضاء الشرعي. وتسير على هذا المنهج إدارة الأزهر الشريف فيعود إليه سالف مجده ويخرج في السنين القليلة طلاباً درسوا علوماً كثيرة تنفعهم في جهاد الحياة.(43/44)
سير العلم والاجتماع
الأرض وما تخرجه
تبلغ مساحة الحقول المزروعة بأيدي البشر 537 مليون هكتولتر أي واحد من خمسة وعشرين جزءاً من أراضي القارات الخمس وثلث أراضي أوربا مزروع وواحد في كل 121 هكتاراً من كندا ويبلغ ما في الأرض من الحيوانات ذوات القرون 280 مليون رأس و413 مليون خروف و127 مليون خنزير و70 مليون حصان. ومملكة هولاندة أخصب بلاد العالم يعطي كل هكتار من أرضها 1235 لتراً من الحنطة في حين يعطي الهكتار في فرنسا 720 وهي معدودة أرقى بلاد أوربا بزراعتها ويخرج من الولايات المتحدة 234 مليون دجاجة.
الدواب والأثقال
أفضل ما اهتدى إليه الإنسان استعمال الخيل كانت العول عليها في التنقل قبل الدراجات والسيارات والمناطيد. ومن أقطار العالم ما لا تستعمل فيه الخيول لأنها غالية الثمن أو لا تحتمل مناخ الإقليم الموجودة فيه أو لأن الطرق غير معبدة أو لأن الأحمال التي يراد نقلها عليها غير متناسبة مع قواها فاستعاض سكانها بغيرها من الحيوانات ففي الهند وبعض بلاد الشرق الأقصى يعمدون إلى استعمال الفيلة لا لقلع الأشجار بل لحملها إلى الأماكن البعيدة وأن مخالب الفيلة في برمانيا وسيام على صغرها وقوتها لتكفي لقلع أضخم الأشجار من جذوعها ولما كانت مخالب الفيلة في سيلان وسومطرة ضعيفة أكتفوا منها بأن استخدموها بدل البنائين فعهدوا إليها بنقل الأحجار الضخمة ووضع بعضها فوق بعض كما توضع سائر مواد البناء.
وفي الترنسفال تجر ثماني أو عشر أو ثنتا عشرة بقرة مركبة بسرعة مهمة وفي جزائر الأرخبيل يربطون البقر توصلهم وأثقالهم إلى الحقول حتى إذا بلغوها استعملوها فيما تستعمل فيه الخيول. وفي برمانيا جنس من الجاموس معد للسباق وهو مطلوب بقدر ما تطلب خيول السباق في أميركا. ويستعملون في جهات القطب الشمالي الوعل والكلب بدل الخيول والوعل هو خيل بلاد لابون يقطع 150 كيلومتراً في اليوم وهو مربوط إلى مركبة متسعة والكلب فيما وراء ذاك الإقليم أي أصقاع القطب بمثابة الدواب التي تجر الأثقال(43/45)
وهو مستعمل في شركة نهر الهدسون بأميركا كما يستعمل القرد المعروف بالأسكيمو. والكلاب هنا قد تقطع 1500 كيلومتر بدون أن تستريح طويلاً ومن الغريب أنهم لا يطعمونها بل هي التي تمتان لنفسها إذ يصعب حمل مؤنتها في جملة ما يراد حمله في المركبات التي تجرها ولذلك كثيراً ما يحدث أن تفترس الكلاب بعضها بعضاً لقلة الغذاء فلا تصل المركبة إلى المكان المقصود إلا بزوجين أو بأربعة من الكلاب في الأكثر. والجمل كما هو المعلوم في افريقية وآسيا هو الذي يحمل الأثقال.
وفي كثير من البلاد يستعمل الإنسان بدل الحيوان لنقل الأثقال ولا تزال المحارات والدراجات التي تسير من نفسها في بلاد أنام وقد انتقلت إليها من اليابان وهي عندهم دخيلة أدخلها منذ أربعين سنة أحد المرسلين الأميركان لينتفع بجرها محاويج الأهلين ولكنها أشاعت عندهم شيوعاً هائلاً حتى أنك تجد في طوكيو وحدها عشرة آلاف عربة من هذا النوع تقطع عشرة كيلومترات في الساعة ولا تزال هذه المركبات التي يجرها البشر شائعة في أنام وسيلان والهند وجنوبي افريقية على الرغم من انتشار السكك الحديدية والتراموايات والدراجات والسيارات. والمركبات المستعملة في المكسيك هي من نوع ما كان يستعمل في المحارات لنقل الملوك في أوربا وثمن البغل في الحبشة ضعفاً أو ثلاثة أضعاف ثمن الحصان ولذلك يؤثرون استعماله للإكرام ومن يريدون إكرامه ليحظى بحضور نجاشي الحبشان يركبونه على البغل ويركبون الخدم على الخيول. واشتهرت حمير القاهرة حتى احرزت قصب السبق في بعض المعارض. وفي بعض المدن الكبرى من فرنسا يستعملون مركبات يقطرونها إلى العنز يستخدمونها لتنزيه الأولاد في الحدائق العمومية كما يقطر النعام في افريقية الجنوبية وكليفورنيا إلى المركبات ليجرها. والبقر شائع في جر المركبات في كثير من الأصقاع الأوربية والآسياوية. وفي هولاندة والبلجيك وبعض الأقطارالشمالية من فرنسا يقطرون الكلاب بالمركبات وتجر عربات بائعي الحليب.
مدة النوم
كان الطب القديم يقضي بأن ينام الأطفال والشبان والشيوخ ست ساعات في الأربع والعشرين ساعة ويعد من ينام كثيراً من الكسالى ولكن علم الصحة الحديث قضى بأن تكون كمية النوم متناسبة مع ما يصرفه الإنسان من قواه فالشيخ الذي يتوجب عليه سنه أن لا(43/46)
يصرف كثيراً من قواه ينبغي له أن لا ينام كثيراً أيضاً ويقول المثل الإفرنجي إن أرق الشباب ونوم الشيوخ دليل الموت لا الحياة وكثيراً ما يصدق هذا القول. فسبع ساعات تكفي لمن يتعاطى الأعمال الصعبة منها ساعة في النهار وينتاب داء المفاصل والحميات المتقطعة العامل الذي ينام على الأرض معرضاً للهواء ولو كان في الشمس كما أن علة الصرع قد تعتري الشيوخ الذين ينامون بالقرب من النار بعد الطعام.
عدد البقر
في انكلترا 11، 455، 000 رأس بقر وفي ألمانيا 19، 001، 00 وفي فرنسا 13، 551، 000 وفي روسيا 37، 413، 000 وفي النمسا والمجر 14، 237، 000 وفي إيطاليا 5، 000، 000 وفي اسبانيا 2، 452، 000 أما بلادنا فليس فيها إحصاءٌ مدقق للبشر فضلاً عن البقر.
طحين الشوندر
هو محصول جديد يستخرج من الشوندر الذي أصبح منذ مدة يستخرج منه للصناعة سكر والكحول وكان هذا الطحين يستعمل في ألمانيا ولكن لعلف الماشية فتوصل أحد الزراع البلجيكيين إلى الانتفاع به في المعجنات. وطحين الشوندر يحتوي على 65 في المئة من السكر.
الكليات الفرنساوية
كان عدد أساتذة العلم في الخمس عشرة كلية في فرنسا سنة 1909_366 و 102 ناظر ومحاضر و148 ناظراً عاماً على الأعمال العلمية و336 معيداً للدرس وطلب من الحكومة لرواتب الأساتذة ومن يتبعهم سنة 1910 مبلغ 11، 679، 553 فرنكاً و 2، 229، 827 فرنكاً لابتياع الأدوات وقد زادت ميزانية تلك الكليات زهاء ربع مليون فرنك.
عطايا كليات أميركا
كانت عطايا المحسنين لكليات أميركا في السنة الماضية كثيرة على العادة وأهمها لكلية يال 475 ألف دولار ليؤسس فيها معمل طبيعي و73 ألف ريال لتصرفها على تعليم بعض نوابغ المعوزين و236 ألفاً لجامعة دورهام و50 ألفاً لكلية ماك جيل في مونتريال و100(43/47)
ألف لكلية برنستون و500 لكلية أوهيو و230 ألفاً لكلية هارفرد وأعطت عقيلة ريد مبلغ مليوني دولار فقط لتأسيس مدرسة جامعة للفنون والعلم في بورتلاند من أقاليم أورغون.
عظمة بريطانيا
نشرت المجلة الوردية إحصاء في بلاد الإنكليز ومستعمراتهم وتجارتهم في العام الماضي جاء فيها أن مساحة بريطانيا العظمى 121، 390 ميلاً مربعاً وسكانها 44، 538، 718 ومساحة الهند الإنكليزية 1، 766، 517 ميلاً يسكنها 294، 317، 082 ومساحة مستعمراتها الأخرى في آسيا 141150 ميلاً يسكنها 6، 218، 006 ومساحة مستعمرات المحيط الكبير 3، 190، 360 ميلاً سكانها 5، 848، 413 ومساحة مستعمرات افريقية 2، 099، 483 ميلاً سكانها 34، 605، 305 ومساحة كندا 3، 745، 574 ميلاً سكانها 6، 153، 789 ومساحة المستعمرات الأميركية الأخرى 279، 123 ميلاً فيها 2، 336، 951 ومساحة أملاكه في أوربا 117 سكانها 228، 618 فيكون مجموع مساحة ما يخفق عليه العلم البريطاني في القارات الخمسة 11، 343، 706 أميال مربعة و 394، 246، 882 ساكناً أو نحو خمس العالم وواردات بلادها 1، 053، 265، 995 ليرة إنكليزية وصادراتها 968، 344، 562 ليرة أي بزيادة ثلاثين ملون ليرة في قسم الواردات وعشرة ملايين في قسم الصادرات بالنسبة للسنة السابقة وزادت خطوطها الحديدية حتى أصبحت في السنة الماضية 23، 108 أميال في بريطانيا و 29، 936 في الهند و 53، 199 في سائر المستعمرات.
الطب الصيني
قال أحد أطباء الغرب في يونان من بلاد الصين أن ما يقال في شهرة طب الصين مبالغ فيه على أن الصيني لا يعادي الطب الأوربي ومعلوم أن أحد أمبراطرة الصين درس سنة 2737 ق. م زهاء مئة نبات شافٍ ونظمها تنظيماً حسناً وأن علم تركيب الأدوية الصينية يربو على خمسمائة نوع من النباتات الطبية والتراكيب المختلفة مثل قرن الوعل وذرور الأظافر وشوارب النمور وإذ كانت تستعمل بالإفراط أحياناً فقد تودي بحياة المريض وعند الصينيين من النباتات ما يستعملونه من الخارج مثل نبات يقي من الإسهال يجعلونه على البطن في لزقة وعندهم أدوية تقي من السكر ومن الخوف أو تجلب الخوف وأدوية لمداواة(43/48)
العشق وأدوية لنزعه. وذكر الطبيب المشار إليه حالة أهل الصين مع حفظ الصحة فقال أن البيت الصيني قذر مظلم كئيب لا نوافذ له في الأغلب وفراش الصيني وهو من الخشب مغشى بالحصير وأغطية وسخة تحته في الشتاء موقدة ترمى بروائح أوكسيد الفحم لترسل الحرارة في المكان. وليس عند الصينيين عناية بتنظيف الجسم فيكاد الصيني لا يستحم مدة عمره ولا ينزع ثيابه عن بدنه إلا إذا نزعته وليس في البيوت محال للاطمئنان ومراحيض والمستنقعات مملوءة بالأقذار ولذلك كانت الحمى التيفوئيدية والزحير من الأمراض الوافدة في الصين وكثرت وفيات الأطفال كثرة هائلة ولكن التناسل كثير جداً.
الأضواء في فرنسا
تكون الأضواء في المدن والقصبات الفرنسوية بالكهرباء والغاز والاسيتيلين ففيها 3769 مدينة ومديرية لها معمل للغاز أو محطة للكهرباء والاسيتيلين وفي فرنسا 3700 حاضرة مقاطعة و 7720 مديرية يربو سكان كل واحدة منها على ألف نسمة لم يزل بعضها محروماً من الكهرباء ولا تكثر الكهرباء إلا بالقرب من شلالات المياه وتمتد على مسافة طويلة فتضيء الأرجاء.
اكتشاف العالم الجديد
عثر الباحثون في مينوستا في الشمال الرقي من الولايات المتحدة على أثر تاريخي يستدل منه على أن أميركا دخلها أناس من العالم القديم قبل أن يصل إليها خريستوف كولمبوس بمئة وثلاثين سنة. وقد زعموا كثيراً أن جماعة من السكانداويين نزلوا الشاطئ الشرقي من غروانلانده ولابرادور نحو سنة ألف للميلاد ولكن ذلك من روايات بعض القصصين الذين جاؤا قبل القرن الخامس عشر ويظهر أن الأثر الذي عثر عليه الآن أقرب إلى الصحة وقد عثر عليه جماعة من العملة بينما كانوا يعالجون أخراج جذع من الأرض وهو عبارة عن حجر بين جذعين وقد عرف من البحث في الجذعين أنهما أصل لشجرتين قديمتين غرستا بعد وضع ذاك الحجر المكتوب عليه من وجهيه بحروف رونية كتبت في القرن الرابع عشر والحروف الرونية هي حروف السكاندوايين في القرون الوسطى لا يعلم حلها إلا أفراد قلائل وما كان منها من القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر يمكن تقليده ولذلك تبين لهارلاند العالم الأثري أن هذا الحجر صحيح والكتابة به واضحة ومعناها أن ثمانية(43/49)
من الغوطيين واثنين وعشرين من النوريين بينا كانوا يطوفون البحار سافروا من فنلاندا في ايكوسيا الجديدة ونزلوا على مقربة من ليلتين بالقرب من هذه الحجر وذهبوا إلى الصيد وشهدوا عند عودتهم عشرة م رجالهم ميتين: رحماك أيتها السيدة البتول فإن عشرة من رجالنا نازلون على الشاطئ بالقرب من سفنا على أربعين يوماً ويوم من هذا الحجر كتب سنة 1362.
الروائح والهضم
كل الناس يعلمون أن الروائح التي تنبعث من الطعم اللذيذ تفتح شهوة الطعام والروائح المنبعثة من الطعام الكريه تصد النفس وتمنع القابلية. وقد استدل أحد أطباء الولايات المتحدة بالبحث والتجارب أن الروائح والعطور تؤثر كل التأثير في بعض الحواس وذلك أن بعض الأشخاص لا يتأتى لهم أن يقعدوا في غرفة فيها باقة من البجلة (ليلك) أو الياسمين وأن أناساً يصابون بالصداع أو المقس (القيء) إذا استنشقوا الياسمين البري أو وردة وأن أكثرهم يصابون باضطرابات معدية إذا دخلوا بيت تربية النبات وكان فيه التنوم (دوار الشمس) وذكر أن امرأة متوسطة العمر كانت تصاب بوجع في القلب كلما كانت تشم رائحة الخروف والسمك وكانت تتناول منه مسرورة على شرط أن تسد أنفها حتى لا تشم رائحته ومن ذلك أن كثيرين يصابون بالقرف إذا قدمت لهم صفحة من لحم كريه عندما يشمونه. وقال أن له زبوناً كان ضابطاً في حرب الانفصال كلما رأى البصل يصاب باضطراب في المعدة لأنه كان يقدم له في تلك الحرب بصل محضر تحضيراً رديئاً فيتناول منه متكارهاً مضى على ذلك خمس وأربعون سنة وهو لا يزيد للبصل إلا كراهة. وأفضل دواء لمن يصاب بذلك أن يعمد إلى أخذ المقبلات ولكن يجب ما أمكن التوقي من الروائح الدافعة فالجيد منها نافع والكريه ضار حتى أن بعض الشرقيين يعمدون قبل الطعام إلى استنشاق الطيوب والعطور علماً منهم بأنهم بذلك يحسنون أعصابهم وهضمهم.
الطلاق
انتشر الطلاق في الولايات المتحدة وسويسرا انتشاراً هائلاً بحيث أصبح المطلقون والمطلقات كثيرين جداً ويقال أن السرَّ في ذلك فساد قوانين الزواج حتى اختل نظام الزوجية وانتشار العيشة الفردية وقلة التدين ويؤكد من يعللون هذا الحال بقلة الدين أن(43/50)
بعض المقاطعات في الولايات المتحدة يقلُّ فيها الطلاق جداً لأن أهلها متدينون ولا تزال تغلب عليهم التقاليد والأوهام.
غنى أشراف الإنكليز
في المجلة الباريزية بحث في حال الأشراف والفقراء في انكلترا جاء فيه أن فيها 27 دوقاً ما عدا الدوقات الذين هم من دم ملكي يملكون نحو 2500 مزرعة كبرى أي أراضي نصف المملكة على التقيب. ويقدرون مساحة أراضي الدوق دي سوترلاند بـ 1، 358، 545 فداناً أو نصف مليون هكتولتر بلغت وارداتها منذ عشرين سنة 141، 667 ليرة انكليزية ويجيء بعده الدوق دي بوكلوش وأراضيه تبلغ نصف مليون فدان ولكن وارداتها أكثر أي أنها تبلغ خمسة ملايين ونصف من الفرنكات ويجيئ بعدهما دوقات ريشموند وديفونشير وهاملتون واتول وارجيل وبورتلاند ونورتومبراند ومونتروز وهم يملكون مئة ألف فدان تأتيهم بنحو مليون فرنك من الواردات ثم يجيء بعدهم الدوقات الصغار ولا يقل ما يملكه الواحد عن عشرة آلاف فدان.
ويتألف من هؤلاء الدوقات وألقابهم وغناهم أمتن أساس في بنيان المجتمع الانكليزي الحاضر وهم المحور الذي تدور عليه الحياة الاجتماعية والسياسية في البلاد ولطالما كان هؤلاء الأشراف منذ القديم موضوع احترام انكلترا ولكنهم بما يملكون من هذه الأراضي الواسعة أصبحوا لا يعرفونها ولا يخدمونها فصحت فيهم آية التوراة إن الذين يضيفون من بنيكم حقلاً إلى آخر تنتهي بهم الحال أن يكونوا نساكاً متزهدين. نعم تركت حقولهم وغاباتهم بدون أن تتعهدها الأيدي تركوها لتكون متنزهاً ومجالاً للإرتياض والصيد في حين أن ألوفاً من الأيدي تنقطع عن العمل لقلة الأراضي لديها ويتحكم الأشراف في مزارعيهم ومزارعهم تحكماً غريباً فإن الدوق ديفونشير لا يسمح لمزارعيه أن يعلقوا في أراضيهم إعلانات يتناولون أجرتها بضعة قروش من المعلنين والدوق دي فيف لا يرضى أن يبقى أحد في الفندق القريب من مقره عندما يجيء إليه.
فغنى انكلترا المشهور هو في أيدي الأسرات الممتازة المختارة من طبقة الأشراف وأغنياء الطبقة الوسطى والرفاهية وقف عليهم وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من أهل الطبقات الأخرى كما هو الحال في فرنسا. وقد بلغ عدد المعوزين في انكلترا 959، 848 أي(43/51)
شخصاً واحداً من كل سبعة وثلاثين شخصاً محتاج أن تعوله الحكومة أو جمعيات الإحسان وفي لندرا وحدها من البائسين 123، 545 ولا يزال عددهم في ازدياد في الولايات والعاصمة فقد كان منذ سنين معدل الفقراء في بريطانيا العظمى 57، 9 في الألف فأصبح في أواخر العام الماضي 586 في الألف.
ويستدل من هذه الأرقام أن الأمة الانكليزية تعيش منذ سنين برأس مالها وإذا ظلت على هذا الحال تفلس إفلاساً اقتصادياً واجتماعياً وأن الحكومة من حيث السياسة دلت بذلك على أنها لم تستطع أن تحكم لتوسع على الأمة راحتها وسعادتها بل تركتها بلا سلاح في معترك الحياة تغني لنفسها وتفقر كذلك. والسبب لوحيد في هذا الفقر اضطرار الناس إلى الانقطاع عن العمل بداعي حرية التجارة. ويقول آخرون أن السبب في هذا الشقاء هو مسألة تقسيم الأراضي فأملاك الأشراف مهملة لا يستفاد منها وتلك الأيدي العاملة تنقطع اضطراراً عن عملها لأنها لا تجد ما تعمل في الصناعة والتجارة وكانت تعمل في تلك الأراضي الواسعة لو وزعت عليها توزيعاً معقولاً فأشراف انكلترا هم العائق الكبير في كل إصلاح وارتقاء وأملاكهم هي الحاجز الاقتصادي الحائل دون نماء الراحة العامة فعليهم التبعة العظمى في غلاء المعيشة وقلة الأعمال والشقاء الاجتماعي الذي يزيد يوماً عن يوم.
ومنذ عشرين سنة فتحت طريقة جديدة لإدخال لوردات جدد علاوة على القديم منهم وهم من كبار أرباب المعامل والماليين مثل الدوق دي نورفولك ووارداته السنوية 37 مليون فرنك ما عدا الأربعمائة فدان التي يملكها في حي وستمنستر في لندرا وريعها مليون جنيه والدوق دي بدفور وريع أراضيه البالغة 250 فداناً في لندرا هو مليونا جنيه واللورد نورثامبتون وريع أملاكه مليونا ليرة أفرنسية وغيرهم كثيرون.
وهكذا أصبح دوقات انكلترا أرباب الاحتكار للثروة وهم سبب شقاء الطبقات ومنهم ضرر البلاد.
ري العراق
خطب السر ويليم ويلكوكس في اجتماع الجمعية الجغرافية الملكية في لندرا: في العراق ماضيه وحاضره ومستقبله خطاباً حضره كثير من سراة الانكليز وعلمائهم فقال أنه لما انتدبته الحكومة العثمانية الجديدة لري العراق وإصلاح أقنية دجلة والفرات وبيان الطرق(43/52)
اللازمة لعمران تلك البلاد بدأ يدرس طرق الري القديمة وما يلزمها من الإصلاح فاستفاد من ذلك فائدتين أساسيتين الأولى كثرة نفع الماء الخالي مما يحمله عادة كالوحل والحكاكات والثانية لزوم اتخاذ الاحتياطات لمنع الفيضانات وأن الأثني عشر مهندساً الذين ساعدوه في بغداد كانوا بينوا له أنهم قادرون على القيام بهذين العملين فعرضوا على الحكومة قبل ذلك طريقة للتخلص من فيضان ماء الفرات حتى مهابط نهر بيزون القديم وقدر المال اللازم لذلك بثلاثمائة وخمسين ألف ليرة والوقت بثلاث سنين وبذلك تصبح الأرض قابلة للزرع مضاعفة ومحصولات الحنطة تبلغ ثلاثة أضعاف أما المزارعون اليوم فإنهم لا يجرأون على زرع الأراضي بالبذور اللازمة وكذلك هم يحسبون أنهم يخسرون كل شيء في السنة السالفة.
ومشروع اليوم هو القناة الوسطى الكبرى في أرض الدلتا اللازمة لري 3، 000، 000 فدان من أحسن أراضي العراق لريها بماءٍ نقي ففي الشمال الغربي من بغداد بين دجلة والفرات انخفاض في الأرض يسمى بحيرة عكار كف ومساحتها إذا كان ماؤها على أقل درجاته أربعون ميلاً مربعاً وإذا كانت مملوءة ثلاثمائة ميل مربع وانخفاض سطحها عن الفرات خمسة وثلاثون قدماً وعن دجلة عشرة أقدام وإلى هذا المنخفض من الأرض يأتي نهر الصقلاويه وهو فرع من الفرات عرض قناته 240 قدماً وعمقها 25 قدماً وينقسم عند وصوله إليها من الغرب إلى نحو عشرين فرعاً.
وعند اتصاله بالفرات يلزم أن يوضع له معياران قويان يعينان الماء المار فيه وكذلك يوضع للفرات سد بعد مفرق فرع الصقلاويه لتنظيم مجرى ماء الفرات نفسه. إن ما تقدم من الأعمال يؤمن وصول الماء من الفرات وأما من جهة دجلة فإن المهندسين ارتأوا وضع سكر في البلد عند حاجز عكار كف وبهذه الواسطة يمكن أن يحفر له فرع لري الأرض المخصبة الواقعة شمال بغداد ويصنع لهذا الفرع منفذ إلى البحيرة المذكورة فيحفظ قناته من الوحل ويصل دجلة بالبحيرة وهكذا يحصل الزارعون على ما يلزمهم من الماء من النهرين المنصبين في تلك البحيرة من غربها وشمالها وأما من جهتها الجنوبية والشرقية القريبة من بغداد فيحفر قناة توازي ضفة دجلة اليمنى وتنتهي في الحي وهذه القناة تكفي لري ستة ملايين فدان.(43/53)
أما الوحل الشديد المضر ومدته لا تتجاوز خمسة عشر يوماً في السنة فإنه يرسب في البحيرة. وويلكوكس يقترح أن تسمى الضفة اليسرى من هذه القناة باسم أول حاكم دستوري في البلاد العثمانية وهي تكون حاجزاً يحمي البلاد من فيضانات دجلة وعليها تمر سكة حديدية تنقل محصولات البلاد وهكذا تعود مدن صبارة وكوثا ونيل ونفور وأرخ وتل سكرخ وتل لو إلى عمرانها.
وبعد أن بين الطرق التي تحمي البلاد من الفيضانات وكيف أن المباشرة تكون بري ثلاثة ملايين فدان من الأرض تغل سنوياً مليون طن من القمح ومليوني بالة قطن ذكر طريقة إيصالها لأسواق التجارة مع ملايين من الأغنام ومئات الألوف من الماشية التي يمكن أن تعيش في الدلتا وقد فاوض تجار بغداد فوجدهم متفقين على أن تأخر البلاد ناشئ في الأكثر عن انقطاع المواصلة مع الغرب وأن محصولات العراق اليوم وهي الغنم والبقر والجاموس والصوف وعرق السوس والحنطة والشعير مطلوبة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط وفي أوربا وكل ما تحتاج إليه البلاد يمكن أن يأتيها من الغرب لذلك لا ينقصها إلا إحداث سكة حديدية تصل بغداد بالبحر المتوسط من أقرب الطرق وأرخصها ومثل هذا الخط يكون مخرجه قرب صور أو صيداء وطوله من بغداد إلى دمشق خمسمائة وخمسون ميلاً تكلف مليوني ومائتي ألف ليرة. اه (معرباً عن جريدة التيمس بقلم أحد أصدقائنا).
ثقل الأيام
يقال أن فلاناً أثقله كر الغداة والعشي وقد أثبت أحد العلماء أن المرء كلما تقدم في السن زاذ جسمه خفة فالكبد ووزنه العادي في البالغ 1165 غراماً لا يبلغ وزنه في الرجل الشيخ أكثر من 800 إلى 900 غرام ووزن الكلية في البالغ 180 غراماً ولا تكون كلية الشيخ أكثر من 100 غرام. أما القلب فلا يزال ينمو بنمو السن فيبلغ زهاء ألف غرام في الشيخ أكثر من الفتى وكلما شاخ المرء كبر قلبه وربما كان ذلك ناشئاً من أسفه على السنين تمر به فتقربه من أجله.
دارسو العلوم
بلغ عدد الطلبة الذين قيدوا أسمائهم سنة 1908_1909 في جامعة العلوم الباريزية 2151 طالباً منهم 1577 فرنسوياً و427 روسياً و27 رومانياً و15 من جمهوريات أميركا و13(43/54)
نمساوياً مجرياً و13 عثمانياً و10 ألمان و10 يونان و8 من الولايات المتحدة و8 بلجيكيين و6 سويسريين و5 سويديين ونروجيين و4 صربيين بلغاريين و4 مصريين و4 إيطاليين و3 من كل من الجزائر البريطانية وهولاندة وشيلي و2 من كل اسبانيا والبرتغال والصين وواحد من كل الدانيمرك وإيران وسورية والراس والهند الانكليزية و80 طالباً أجنبياً في سائر الجامعات منهم 51 في الطب و21 في الصيدلية و5 في الأدب و3 في الحقوق.
معمل الفولاذ
انشأوا على 40 كيلومتراً من شيكاغو على شاطئ بحيرة مشيغان في مدينة اسمها طاري أعظم معمل للفولاذ في العالم وهو يحوي من التنانير ما يخرج في اليوم أربعة آلاف طن وتقدر أكلاف هذا المعمل بعشرين مليون ليرة وحجم الغاز الذي يخرج في الساعة من كل تنور عالٍ يبلغ ثمانين ألف متر مكعب وفيه 17 محركاً بالغاز تبلغ قوتها 2500 حصان ومجموع ما يصدر من هذا المعمل في السنة 2، 700، 000 طن
مخترع المعكرونة
قالت إحدى الكاتبات الإيطاليات إن تاريخ اختراع المعكرونة يرد إلى سنة 1220 يوم خميس الجسد وهو اليوم الذي تاب فيه في بلرمة ونابولي الملك الصالح فريدريك الثاني ففي ذاك اليوم اخترع أحد علماء الكيمياء من الطليان واسمه سيشو هذه المعكرونة فسرقت منه سر هذه الصناعة امرأة اسمها لاجوفانلادي كانزيو فاستعملتها من مواد كثيرة وأجادت صنعها وتناول الملك فاستطابها ثم الأسرة المالكة وأهل البلاط والأشراف والنبلاء والفرسان وبعد أن عمت إيطاليا انتقلت إلى أوربا بأسرها بل إلى العالم كله.
الفراسة بالأظافر
يقول أحد أطباء الأيدي في باريز أن الأظافر العريضة والقصيرة هي دليل كاف على الشدة في الخلق والقسوة والغضب ويكون صاحبها متناقضاً في أفكاره وعنيداً للغاية. وإذا كانت الأظافر طويلة ومنبسطة تدل على كبر العقل والتصور وعلى الحكمة وتوازن الدماغ. وإذا كانت مستطيلة ومنفسخة تدل على ميل صاحبها إلى الشعر والفنون على اختلاف أنواعها وعلى كسل غريزي فيه. وإذا كانت محنية كالمخالب فهي دليل نفاق خبيث شديد قاس كما تدل على القسوة والميل إلى القتل ومن كانت أظافره رخوة فدليل ضعف جسمه وعقله في(43/55)
حين أن من يأكلون أظافرهم كثيراً ما يكونون من المائلين إلى الخلاعة. ومن كانت أظافره متلونة تدل على صحة وفضيلة وسعادة وميل عظيم للكرم.
معادن العالم
أحصى أحد العارفين ما استخرج من معادن الرصاص والنحاس والتوتيا الزنك سنة 1907 فكانت 992 ألف طن من الرصاص و713 ألف طن من النحاس و733 ألف طن من التوتيا ومعدل سعر الطن من المعدن الأول 482 فرنكاً وربع ومعدل سعر الطن من الثاني 2177 فرنك و55 سنتيماً ومعدل سعر التوتيا 337 فرنكاً ويوزع المستخرج من الرصاص على ست ممالك فيصيب الولايات المتحدة 341 ألف طن واسبانيا 186 ألفاً وألمانيا 140 ألفاً واستراليا 97 ألفاً والمكسيك 72 ألفاً وانكلترا 20 ألفاً ويصيب الولايات المتحدة من النحاس 421 ألف طن وأوربا كلها 143 ألفاً وانكلترا 72 ألفاً وألمانيا 32 ألفاً واليابان 45 ألفاً واستراليا 32 ألفاً ويصيب الولايات المتحدة من التوتيا 227 ألف طن والبلجيك 145 ألفاً الخ.(43/56)
العدد 44 - بتاريخ: 1 - 10 - 1909(/)
غرائب الغرب
حالة مصر
هبطت مصر وعهدي بها ليس ببعيد غبت عنها أربعة عشر شهراً وكنت صرفت فيها أربع سنين أيام الحكم الاستبدادي في المملكة العثمانية فلم أرَ اليوم وأنا عابر سبيل أن أمكث فيها أقل من أربعة عشر يوماً قضيتها في مشاهدة من خلفتهم فيها من الأصدقاء الكثيرين. والقاهرة من البلاد العربية كباريز من البلاد الإفرنجية حوت ما في العواصم من ضروب الرقي والانحطاط مما تنفقه على غيرها طوعاً أو كرهاً ويأتي الناس من القاصية فيأخذونه عنها ويهتمون بتقليده وتأييده.
إن من ينظر إلى مصر نظراً سطحياً يأسف لها كثيراً ويعدها كنزاً ضائعاً ودماً ضيعه أهله. ومن يمعن النظر في مواردها ومصادرها ويدرس مساعيها ومقاصدها ويقيس النتائج بالمقدمات والماضي بما هو آت يدرك أن المستقبل المخبوء لمصر في حياتها الاجتماعية والسياسية لا يقل عما أحرزته في حاضرها من المنافع المادية والأدبية إذا ظلت عناية أهلها متوفرة على التعليم والتربية وهم يتفننون سنة عن أخرى في تلقف ما ينفعهم من أنواع المعارف لقيام بناء مجدهم الجديد على أحسن نظام.
ليس في أقطار الشرق ولا في أقطار الغرب بلد عرف تاريخه كما عرف تاريخ مصر ولا بلد مثله أبقى على آثاره الخالدة واحتفظ بتراثه القديم فنفع العلم والعالم بما ادخره.
فقد قال لنا التاريخ أن عهد بعض سلائل فراعنتها كان عهد ارتقاءٍ ومدنية وأن مدنيتهم لا تقل من وجوه عن المدنية الرومانية واليونانية والفارسية فكانت دولة فاتحة غازية مستعمرة كما كانت دولة فاضلة متحضرة وأنه جاءَ زمن طويل على مدينة الإسكندرية أيام الروم كانت تفيض العلم النافع على العالم أجمع بمدرستها كما كانت تفيض العلم مدرسة بغداد ومدرسة قرطبة أيام الخلفاء وكما تفيض كليات أوربا وأميركا على آسيا وافريقية اليوم.
أتى على مصر دور انحطاط بعد دولة الفاطميين اشتغلت فيه بنفسها وكان حظها من المعارف حظ سائر بلاد الشام وإن كانت لها الميزة أبداً في هذا الباب على الأقطار المجاورة فقد كانت على عهد الأيوبيين والجراكسة والمماليك على انحطاطها مورداً تستقي منه البلاد الأخرى وكانت العلوم الإسلامية والأدبية خاصة مما يحمل من أزهرها إلى(44/1)
شمالي افريقية وداخليتها وبلاد العرب والترك وسورية وغيرها. ولما جاء نابليون الأول ثم م علي الكبير دخلت فيها بواسطة علماء من الفرنسيس روح الحضارة الغربية وأسلوب التعاليم الأوربية وأخذت حكومتها ترسل بالبعثات العلمية بل بالبعوث السلمية إلى أوربا ليدرس النشء في كلياتها ثم يعودوا إلى مصرهم فينفعوها بما علمهم الله والبشر الراقي.
وما برحت هذه الإرساليات تكثر ومصر الحديثة تتكون على المناحي الغربية حتى جاء الخديوي إسماعيل وأسرف في مالها إسراف جنون وجهل فاضطرت إلى الاستدانة من الماليين الأوربيين وأكثرهم انكليز وفرنسيس ولما حدثت الفتنة العرابية وجدت انكلترا مدخلاً لها بحجة أن أرباب الأموال يوجسون خيفة على أموالهم ورأت من فرنسا غفلة أو تغافلاً فعملت وحدها على إطفاء الفتنة فصدقت عليها كلمة نابليون في قوله وقد أخرجته انكلترا من مصر بعد احتلاله لها بضع سنين في القرن الماضي أنها لم تخرجنا منها إلا لتأخذها لنفسها في المستقبل.
دخلت انكلترا مصر لإطفاء الفتنة أولاً ثم للمحافظة على ترعة السويس التي أصبحت أكثر أسهمها لجماعة من أبنائها. والترعة كما هو المعلوم طريق الهند الأقرب ومادة حياة دولة البحار. ومن حافظ على سلامته ومادة حياته يعذر.
ولقد كان ميدان الإصلاح فسيحاً أمام المحتلين لتوفر الأسباب الطبيعية لمصر وأن بلاداً لا ينقطع ماؤها ولا تغيب شمسها ولا تتعب تربتها ولا تتعاصى على الإنسان طبيعتها لأقرب البلاد إلى معالجة الإصلاح في مجاهلها ومعالمها.
ولما استتب الأمن في أنحاء القطر أقبل أرباب الأموال من الغربيين وغيرهم يتجرون ويزارعون ويؤسسون المشاريع العمرانية فكانت تلك الحركة نافعة في نهضة القطر الأخيرة نهضة اقتصادية كبرى حسدتها عليها بلاد كثيرة.
تهيأ لمصر والحق يقال من رجال الاحتلال أناس عملوا بإخلاص لتحسين زراعتها وريها وتنظيمها لينتفع من ذلك البريطانيون والمصريون معاً. وكان عميدهم الأكبر لورد كرومر الذي أدار دفة السياسة المصرية أربعاً وعشرين سنة أرخى في خلالها عنان الحرية الفكرية فهاجر إلى مصر كثيرون من المشارقة. عمل هذا وغيره من الأعمال النافعة ولكنه كان يحاول أن يقف بالمصريين عند حد الاشتغال بالزراعة ثم بالوظائف القليلة التي لا تسمح(44/2)
الحال إلا بإعطائها للمصريين وماعدا ذلك من الارتقاء العقلي والسياسي فقد كان اللورد يقول لهم كل سنة تصريحاً وتلويحاً في تقاريره السنوية أنكم لا استعداد لكم معاشر المصريين لغير ذلك من الأعمال فهل نسيتم ماضيكم أيام كنتم تساقون إلى السخرة سوقاً وتستعبدون استعباد العبيد والأرقاء أيام الحكومات الماضية المدمرة فاحمدوا الله على أن أنجاكم مما كنتم فيه فحالكم الآن أحسن من ماضيكم مئة مرة فعليكم أن تقنعوا بما حزتموه.
ولكن نبهاء مصر لم يفتهم معنى هذه السياسة وكان الفضل الأكبر للجرائد في تنبيه شعور الأمة المصرية إلى أن وراء ما هم متمتعون به الآن مطلباً أسمى وأنفع فقاموا يسعون إليه سعيهم وهم على اختلاف في الطرق الموصلة إليه لا يختلفون في كون بلوغه لا يتأتى إلا من طريق التعليم والتربية فبذل أهل الاقتدار ما سمحت به نفوسهم من إنشاء الكتاتيب في الأرياف والمدن حتى أسفرت النتيجة بعد بضعة سنين عن تكثير سواد القارئين والكاتبين ثم رأوا أن الأمة لا ترقى إلا إذا كان فيها أفراد يحسنون تعليم الأمة بلغتها ما يلزمها من المعارف المادية والاقتصادية والاجتماعية فسعوا إلى إقناع الحكومة بجعل التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية باللغة العربية وكان أكثره بالانكليزية من قبل ثم رأوا أنه إذا لم يكن لهم من أبنائهم من يعلم العلم العالي سبب ارتقاء الأمم لا يكون العلم إلا عقيماً ناقصاً فأنشأوا لذلك المدرسة الجامعة المصرية وهم اليوم ينظمونها لتكون بعد سنين على مثال الجامعات الأوربية تدرس علوم الجامعات الإفرنجية باللغة العربية وهي أول جامعة من هذا النوع لأمة لا يقل الناطقون بها على ستين مليوناً من البشر.
نعم إن الجامعة المصرية اليوم وما دخل من الإصلاح على الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار العلوم ومدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة الهندسة والزراعة وسائر المدارس الأميرية والخصوصية هي التي تتألف منها اليوم طبقات رجال مصر الحديثة ولا بد لهذا الأمر من آخر ولمساعيهم الحسنة من نتيجة إذا سلك القوم سبيل التوءدة وطبقوا أعمالهم على قانون العقل الصحيح واستفادوا بتجارب الأمم السالفة وانصاع العامة للخاصة وحدهم ولم يبق المجال للغوغاء وبذلك تصبح أسباب القوة المادية والمعنوية في بلادهم على مستوى ما هي عليه عند الأمم الحية حقيقة لا مجازاً.
لا جرم أن المصريين بما فيهم من الذكاء وما ورثوه من حضارتهم القديمة وتيسر لهم من(44/3)
الرقي المادي هم بمجموعهم أرقى من مجموع الشرقيين خل عنك اليابانيين وفيهم اليوم من العقلاء المفكرين العالمين والباحثين من ليسوا دون أبناء طبقتهم في الغرب وربما فاق الأتراك المصريين في الأمور السياسية والحربية.
ولا يعاب على مصر إلا فتور همة أبنائها في منتصف الطريق في الأغلب وهذا الخلق يكاد يكون عاماً في القطر لا يقوى في التغلب عليه إلا التربية العملية. وحبذا يوم نرى فيه مصر تقبل على العلوم الطبيعية والكيمياء والميكانيك والمعادن مثلاً إقبالها على تعلم الحقوق مثلاً فقد ترى من ناشئتهم زهاء خمسمائة طالب في كليات أوربا وأميركا والقسم الأعظم منهم يدرسون الحقوق ليترشحوا منها إلى الوظائف لأنه وقر في النفوس أن فن المحاماة أكثر عائدة على صاحبه من غيره من الفنون خصوصاً وهو متوقف بعد العلم النظري على طلاقة لسان وفضل بيان والمصريون أكثر العرب حظاً من تينك المزيتين.
أصبحت مصر بمجموعها اليوم قطعة من أوربا كما قال الخديوي إسماعيل ولكن أحبابها يريدون لها أن تكون كأوربا في صفاتها العالية وحضارتها الراقية حتى لا تخرج أملاكها بطيش الطائشين من أبنائها إلى أيدي الغريب فيعود المصري بعد بضع سنين والعياذ بالله كالغريب في بلده وما أصعبها من حالة.
إن مسألة الراية التي تخفق على أمة لاتهم بقدر ما تهم في الحقيقة مسألة الأملاك إذ أنه مهما بلغ من حيف أمة فاتحة أو مستعمرة لا تحدثها نفسها أن تنزع من المالك ملكه إلا برضاه. ومصر التي تتأذى اليوم بوطأة الرومي والطلياني والانكليزي وغيره لا تنتقل بعض أملاكها منها إلا برضى أولئك الوارثين والمسرفين الذين لا يعرفون دخلهم من خرجهم ولا دينهم من دنياهم هذه هي الفئة الضالة المضلة في هذا القطر المحبوب ومنها يخشى على مستقبله.
فبقلة عقول المستهترين أصبحت نحو تسعة أعشار الأطيان والأملاك في مصر للغرباء وعليها مائتان وخمسون مليون جنيه من الديون منها نحو مئة مليون دين الحكومة ولا نعرف متى توفيه والباقي على عنق الفلاح الصغير والمزارع الكبير.
إن ما نخشاه على مصر هو الإسراف الزائد وتقليد الغربي على العمياء ولو كان لأهل وادي النيل شيء من الإمساك المحمود والاقتصاد المعقول إذا لكانت حال مصر السعيدة(44/4)
أرقى مما هي اليوم. ومن حاز الثروة وقانون الحكمة يدبرها والحنكة قائدها ورائدها وانتظر الفرص التي لا يزال الدهر يخبأوها للأفراد كما يبخل بها على الأمم لا بد أن يتمتع يوماً بالسعادة السياسية والاجتماعية التي هي منتهى آمال كل أمة حية في هذا الوجود.
7
مرسيليا
في الساعة الرابعة بعد الظهر أقلعت بنا من الإسكندرية الباخرة ايكواتور (خط الاستواء) إحدى بواخر شركة الميساجري مارتيم الفرنسوية فبلغنا ثغر مرسيليا أكبر مواني فرنسا على البحر المتوسط والمحيط والمانش في اليوم السادس الساعة الخامسة بعد الظهر ولم نر في طريقنا شيئاً يستحق الذكر سوى بعض سواحل إيطاليا وفرنسا وقد تجلت عن بعد وكان نظرنا يختلف إليها بقدر بعدنا أو قربنا منها ودام البحر رهواً حتى إذا خرجنا من مضيق مسينا أصبحنا وأصبحت سفينتنا على كبرها وطولها وعرضها ألعوبة العواصف والتيار يتقاذفنا من كل مكان حتى لم يبق راكب في درجات السفينة الأربع إلا وقد أخذه الدوار أو كاد ولم نملك حواسنا إلا عند بلوغنا ساحل السلامة.
وقوة هذه الباخرة 2987 حصاناً ومحمولها 3848 طناً وتقطع في الساعة أثني عشر ميلاً وهي إحدى بواخر الشركة التي تغدو وتروح بين مواني البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر وبحر الأدرياتيك ولهذه الشركة التي جعلت رأس مالها خمسة وأربعين مليون فرنك تسع عشرة باخرة من مثل هذه خصت سيرها بالبحرين الأولين في لأغلب. ومن موانينا التي تقف عليها بواخر الميساجري ماريتم خانيا وسلانيك والأستانة وجناق قلعة وأزمير ومدانيا وفاتي ولارنكا ومرسين والإسكندرونة واللاذقية وطرابلس الشام وبيروت ويافا وحيفا ورودس والإسكندرية وطرابلس الغرب وصمصون وطربزون وبور سعيد والسويس ولولا أمثال هذه البواخر الفرنسوية والنمسوية والروسية والإيطالية والانكليزية والألمانية والرومانية لما بقيت لنا تجارة تصدر من بلادنا وترد إليها ولتعذر التنقل إلا في السواحل على ظهور الجمال والبغال والحمير أو في المركبات وبعض القطارات القليلة التي تربط أجزاء مملكتنا بعضها ببعض.(44/5)
ولشركة الميساجري أيضاً إثنان وعشرون باخرة تمخر العباب إلى الهند الصينية وتوابعها وخمس بواخر لخط الكوشنشين وست بواخر لخط اوستراليا وخلكيدونيا الجديدة وخمس بواخر في المحيط الأطلانطيكي (الظلمات) وسبع اختصت بالبحر المحيط الهندي وذلك ماعدا السفن الصغرى التي جعلتها في بعض المواني الكبرى. وأشغال الشركة متوسطة مع أن حكومة فرنسا تدفع إليها إعانة مالية كل سنة لقاء نقلها البريد بين الشرق والغرب وخدمة الجمهورية فيما يلزمها.
ويقول الذين سافروا مرات بين بلادنا وبلاد الغرب أن البواخر الألمانية والانكليزية والطليانية تفوق بانتظامها وحسن خدمتها البواخر الفرنسوية وأن الراكب يجد راحته في تلك أكثر من هذه مع أن الأجور واحدة ولذلك اضطرت هذه الشركة وغيرها إلى تخفيض الأجور في الصيف إلى نحو النصف لركاب الدرجة الأولى والثانية والثالثة وأخذت تحسم خمسين في المئة لكل شخص ثالث كان مع شخصين يدفعان القيمة المقررة فإذا كانوا أربعة فأكثر تحسم للرابع فما بعده خمسة وسبعين في المئة ولذلك يسهل السفر في الصيف لاعتدال أجوره.
ومن التسهيلات التي قامت بها هذه الشركة أن اتفقت مع شركات البواخر الانكليزية والأميركية وشركات السكك الحديدية على أن تنقل الركاب إلى المواني التي تختلف إليها بواخرها وتلك الشركات تنقلهم على بواخرها بحيث يطوفون العالم ويجتازون من نصف الكرة الغربية إلى النصف الشرقي والأجرة في ذلك معتدلة فيسلك الراكب إن أحب أحد الطرق التي يختارها في قطع البحور والبرور فالطريق الأولى عن مواني الصين واليابان وكندا ماراً بفانكوفر وهو يكلف في الدرجة الأولى 3288 فرنكاً والطريق الثانية اوستراليا وفانكوفر ويكلف في الدرجة الأولى أيضاً 3575 والطريق الثالثة إلى اوستراليا فمضيق توريس فاليابان ففانكوفر وأجرتها 4257 في الدرجة الأولى والطريق الرابعة عن طريق الصين واليابان وسان فرنسيسكو وتكلف 3288 فرنكاً والطريق الخامسة إلى اوستراليا ومضيق توريس واليابان وسان فرنسيسكو وتكلف 4257 فرنكاً في الأولى فيركب الراكب من مرسيليا إل هونغ كونغ على بواخر شركة الميساجري عن طريق السويس وجيبوتي أوعدن وكولومبو وسنغافورة وسايغون ومن هونغ كونغ إلى شنغاي إلى كوبي فيو كوهاما(44/6)
على بواخر الشركة أو على بواخر شركة الباسيفيك الكنادية بحسب ما يختار الراكب ومن يوكوهاما إلى فانكوفر على بواخر الشركة الكنادية ومن هنا يركب القطار إلى كيبك ومونتريال وهاليفاكس وسان جون أو نيويورك ومن نيويورك إلى ليفربول أو سومتون على إحدى البواخر الانكليزية أو الأميركية أو النمسوية أو من نيويورك إلى الهافر على بواخر الترسلانتيك ومن الهافر بالسكة الحديدية إلى باريز.
هذه هي المسافات التي يقطعها من يريد الطواف حول الأرض ولو قال قائل هذا لأحد أجدادنا الأقدمين وقال له أنني أريد السير نزهة على هذه الخطة لنسب إليه الجنون وقال إن ذلك لن يكون ولكن إذا عرف سر الأسفار في هذه الأعصار يقول سبحان من سخر لنا قطع البحار بالبخار يفعل ما يشاء ويختار.
وبعد فلم يتسع لي الوقت لأدرس جميع معالم المدنية في مرسيليا لأني لم أصرف فيها إلا ثلاثة أيام قضيت أكثرها في الراحة ومن عناء السفر الذي طال علينا إحدى عشرة ساعة زيادة على المعتاد لما صادفته الباخرة في طريقها من الأنواء ولطارئ طرأ على آلتها في عرض البحر فأصلحتها ولولا ذلك لقطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية ومرسيليا في خمسة أيام بلياليها ولا تقف قرب اليابسة. ومن البواخر الانكليزية ما يقطع المسافة بين بور سعيد ومرسيليا في أربعة أيام وهذه البواخر خاصة بالبريد الانكليزي تنقله من اوستراليا والهند إلى الجزائر البريطانية في خمسة وثلاثين يوماً لا تكاد تستريح في طريقها إلا بقدر ما تحمل زاداً ووقوداً وركاباً والمسافة المعتادة بين اوستراليا وانكلترا لا تجتازها الشركات المعتادة في أقل من سبعين يوماً.
قامت مرسيليا في منقطع وادي الرون الجميل فكانت جملة الجمال الفرنسوي بما فيها من الجبال والسهول وما أحرزته من مجد قديم وغني حديث وأن محيطها الذي لا تقل مساحته عن مئة كيلومتر مربع لأحلى من العافية في بدن السقيم أو النضارة في خدود الجواري - كما يقول بديع الزمان_استغفر الله بل كاد يكون أجمل من الحور الذي تقرأوه في عيون المرسيليات الدعج. ولعل جمال العيون في النساء هنا التي فاقت عيون البدويات الرعابيب انتقلت إليهن من أجدادهن العرب فقد قال ميشله المؤرخ أن أصل سكان مضايق الرون مختلط كثيراً ففيه العنصر السلتي واليوناني والعربي وخليط من الطليان والغالب أن سكان(44/7)
جنوبي أوربا يوصف نساؤهم بدعج العون وسواد الشعور كما يوصف الشماليات بزرقة العيون وشقرة الشعور.
وإلى اليوم يكثر في مرسيليا الغرباء ولا سيما الطليان ففيها 550 ألفاً من السكان خمسهم من الطليان وبيدهم كثير من الصناعات والمعامل وهم عشر الأجانب في فرنسا وكان في مقاطعة مرسيليا سنة 1906: 766500 ساكن منهم 123500 أجانب وفيها وفيها 718 مدرسة وفي مقاطعتها 717 كيلومتراً من الخطوط الحديدية و163 كيلومتراً من الترم و284 من الطرق الأهلية و3683 كيلومتراً من طرق العجلات الموصلة بين أقاليمها.
وأهم صناعاتها عمل الأقمشة وتحضير الأطعمة والمأكولات وصنع القرميد خل عنك تجارتها الهائلة وزراعتها التي لا تختلف في الرقي عن زراعة عامة البلاد الفرنسوية وفيها دور صناعة للأساطيل والبواخر التجارية ولا سيما دار صناعة الميساجري ماريتيم.
قال من كتبوا عن مرسيليا من المؤرخين أن تاريخها من أقدم التواريخ وهي أول ميناء بحرية لفرنسا يرد عهد إنشائها إلى القرن السادس قبل المسيح وفي مقاطعتها اليوم 49 ألف منزل منقسمة بين ألفي شارع وطريق ومعظم آثارها ومصانعها حديثة النشأة من عهد السلالة الملكية الثانية ومن أحسن متنزهاتها الكورنيش الذي انتهى سنة 1863 وكان عدد السفن التي دخلت مرفأها البالغ سطحه 300 هكتار سنة 1907_16330 وعدد الركاب 550 ألفاً وقدروا ما يدخل إليها ويخرج منها في اليوم بسبعة وأربعين باخرة وبارجة وناهيك به من عدد.
ويطبع فيها وينشر 146 جريدة ومجلة. وجريدة البتي مارسيليه (المرسيلي الصغير) أوسعها انتشاراً تطبع 180 ألفاً كل يوم وهو حجم الماتين والايكودي باري كما يطبع البتي باريزيان (الباريزي الصغير) الذي يصدر في باريز مليوناً ومائتي ألف نسخة في اليوم والثاني أكثر جرائد فرنسا انتشاراً. فكأن لهذه الأسماء الصغيرة من حسن التوفيق ما لا يحالف الأعمال التي تبدأ بالألقاب الضخمة والأسماء الفخيمة.
زرت إدارة البتي مارسيليه فرأيت النظام مستحكماً في كل ما يتعلق بها وهي اليوم في السنة الثالثة والأربعين من عمرها وأقدم منها بل أقدم جرائد مرسيليا السيمافوردي مارسيل أنشئت سنة 1827 وهي من الجرائد الجدية المعتبرة إلا أنها أقل انتشاراً. وهذه الجريدة(44/8)
تباع في مقاطعة الرون وما إليها مثلاً فلو فرضنا أن ما يطبع من جرائد مرسيليا ومجلاتها يبلغ كل يوم مليوني نسخة لأصاب كل فرد في مقاطعتها جريدتان ونصف على أقل تعديل هذا عدا الجرائد الباريزية وغيرها التي ترد على مرسيليا وتباع في شوارعها بالألوف أيضاً.
ومن الأسف العظيم أننا لو أحصينا عدد ما يصدر من جميع الجرائد والمجلات العربية والتركية والفارسية في البلاد المصرية والعثمانية والإيرانية لا يبلغ بكميته قدر ما تطبع كل يوم جريدة البتي مارسيليه إحدى جرائد ولايات فرنسا. وعلى هذه النسبة قس ولا تخف درجة ارتقائنا وارتقاء الفرنسيس وسجل علينا بالفقر المدقع في كل شيء ولا سيما في الأمور العقلية.
ليون
8
ماذا يصف القلم من مدينة الفرنسيس وكل فرع من فروعها المدهشة لو تعاورته الأقلام الكثيرة وتوفرت على البحث فيه العقول الكبيرة لما كانت إلا إلى جانب القصور. نعم لو جاء في عصرنا الرحالة ابن حوقل وشاهد مدينة فرنسا فقط لحوقل واسترجع وقال هذه حضارة ليس لنا في وصفها مطمع ولو أتى المسعودي بقلمه وعلمه لعجز عن الوصف والتسطير ولو جيء بابن بطوطة لآب من رحلته الطويلة لا يحسن إملاء ما رأى وسمع ولو قام ابن جبير لاعترف بقصور ذرعه وعدم نفاذ طبعه وقال إن هذا إلا حلم وخيال ونحن لا نسجل في رحلتنا إلا ما تقع علينا أبصارنا ويترامى إلى آذاننا وتمسه أيدينا.
وبعد فماذا يصف القلم في ليون أجمالها الطبيعي أم الصناعي. معاملها الحريرية أم مدارسها وكليتها أم انتظام شوارعها ودورها وقصورها وحدائقها أم غناها ومتاحفها وعادياتها وكنائسها ومصانعها ومعارفها ومكاتبها ومخازنها وحوانيتها وتماثيلها وأنصابها وخطوطها الحديدية والكهربائية وجسورها الحديدية والحجرية وأرصفتها البديعة وساحاتها وحدائقها ونهريها العظيمين الرون والسون اللذين يقطعانها شطرين ويزيدان في بهجتها ما تقر به العين.
ماذا نذكر من ليون ثاني مدينة في فرنسا وقد شبهوها بموسكو الروسية في كونها عاصمة(44/9)
دين كما هي عاصمة صناعة وعمل. وعلى جسر ليون مر الصليبيون في القرون الوسطى ذاهبين إلى المشرق لإنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين. نعم ماذا نعدد من ليون وبدائع صنع الإنسان فيها وما ضمت من معاهد قديمة وحديثة ومشاهد بهيجة ويالله ما أعجب معرض نموذج الأنسجة الذي حوى أربعمائة ألف نموذج ليس لها نظير في العالم وعرضت على أنظار أهل البلاد والسائحين ينتفعون بالنظر إليها ويستدلون بها على تفنن يد الإنسان في كسوة الأبدان.
لئن حرمت ليون من ميناء بحرية لتصريف مصنوعاتها بسرعة فإن البخار البري عوض عليها هذا الحرمان فزاد في عظمتها التجارية ففي كل يوم يمر في محطات سككها الحديدية 140 قطاراً جائية ذاهبة من أنحاء شتى ولا سيما من الشمال إلى الجنوب. والمسافة بين باريز ومرسيليا 850 كيلومتراً ليس فيها شبر واحد لا أثر للعمران فيه يقطعها القطار بالسير السريع في 14 ساعة. وليون على مقربة من نصف الطريق بين باريز عاصمة البلاد ومرسيليا ثغرها والحكومة اليوم شارعة بمد خط حديدي ثالث لتسيير القطارات لأن الخطين الموجودين لا يتأتى أن يجري عليهما في كل بضع دقائق أكثر من قطار واحد مخافة أن يحدث اصطدام بين القطارات وسيكلف الخط الجديد بين باريز ومرسيليا مئات الملايين من الفرنكات وكل ذلك حتى لا يتأخر راكب ولا بضاعة وتأخذ كل جهة حظها من العمران.
لم تقف ليون عند حد الأعمال الصناعية والتجارية والمالية بأن كانت هي التي أسست مصرف الكريدي ليونيه مثلاً من أعظم مصارف العالم. بل لها حظ كبير من النهضة العلمية وأثر راسخ في الحضارة الفرنسوية وناهيك بكليتها التي تحوي فروع العلم ولا سيما الطبيعي والحقوق والطب والتجارة يختلف إليها 2500 طالب منهم الأجانب وفيهم نحو خمسين مصرياً أكثرهم ويدرسون الحقوق وقليل منهم الطب وأقل في التجارة والمصريون حديث عهدهم بنزول ليون للتخرج في كليتها وقد كثر ورودهم عليها بعد أن ترك المسيو لامبر أحد أساتذة مدرسة الحقوق في القاهرة منصبه فعينته حكومته في كلية ليون أستاذاً فكان من أثر محبته للمصريين ومحبة المصريين له أن جذب عشرات منهم للتعلم في كليتها وهو يشرف عليهم إشراف الأب على أولاده. وكانت مصر تعتمد في تنشئة أولادها(44/10)
من قبل على كليات الولايات الفرنسوية ولا سيما كلية مونبليه وذلك على عهد الخديوي إسماعيل لأنه كان يعتقد أن أهل مونبليه أقل معاداة للملوك وأبعد الفرنسويين عن التطرف.
قضيت في ليون يومين لزيارة معالمها ومشاهدة صديقي محمد لطفي أفندي جمعة الكاتب الخطيب الغيور فرأيت فيها غاية الرقي الاجتماعي والتكافل الإنساني والذوق الفرنسوي وفي مثل مدينة ليون من قواعد البلاد تعرف حقيقة الفرنسيس لما يشهده السائح فيها من السكون والانقطاع إلى الأعمال الشريفة فلا يسفون كأكثر سكان العواصم في الأغلب للمكاسب الدنيئة أو يرضون بأن يكونوا عالة على الحكومة يأخذون رزقهم من خزانتها بالتوظيف والاستخدام.
وياما أبهج ساحة بللكور (الفناء الجميل) يوم الأحد والرجال والنساء والأولاد غادون رائحون فيها لا تقرأ في وجوههم غير الأدب ولا في حركاتهم إلا التربية البيتية العالية والتشبع بالنظام المدني المعقول حتى إذا جن الليل يختلف القوم إلى دور التمثيل وأماكن اللهو والطرب وسماع الخطب والمحاضرات وهكذا ليلهم كنهارهم عمل وراحة واستفادة وإفادة أخذوا بحظ وافر من دنياهم ولم ينسوا تعهد آدابهم. فليون بلد طيب أمين يسكنه المهذبون العاملون.
ولقد كنت كلما وقع نظري في ليون على شارع عظيم أو بناء جسيم تحدثني النفس بسورية فأقول متى يا ترى يكون فيها مثل ما في ليون على الأقل ولو أن عمران ليون وحدها وهي إحدى مدن فرنسا وما فيها من قوة مادية وأدبية وزعت على سورية من عريش مصر إلى الفرات ومن البحر المتوسط إلى أقصى بداية الشام وحدود نجد والحجاز لغدت سورية وهي في مساحتها نحو مساحة فرنسا كلها من حيث عمرانها أرقى مدن المعمورة ولكن الرزق لا يأتي بالتمني والوجود لا ينتفع به إلا من يحسنون استخدام ما فيه من القوى والعناصر.
تحية باريز
9
سلام عليك مرضعة الحكمة. وربيبة الرخاء والنعمة. وروح الانقلابات الاجتماعية والسياسية. وحيية المدنية الأصلية في الأقطار الغربية والشرقية. ومعلمة العالم كيف يكون الخلاص من الظالمين. والضرب على أيدي الرؤساء والنبلاء والمالكين. أنت هذبت طبائع(44/11)
البشر حتى غدوا يشعرون باللطف والذوق وفائدة العلم والعمل. أنت كنت في مقدمة العواصم التي انبعث منها تمجيد العقل بل تأليهه فقضيت بالتقدم له على كل شيء في الوجود. وبالغت في إكرام العقول من أبنائك.
سلام عليك يا عشيقة الإبداع والاختراع. وسابقة الأقران في مضمار الانتفاع بما حوت الرباع والبقاع. استخدمت القوى المادية فأحدت استخدامها. واستثمرت القوى العقلية فأبدعت في استثمارها. وأحييت حضارات الأمم السالفة. وأنشأت لك حضارات لا يزال يحسدك عليها أسبق الشعوب إلى الترقي مهما تقلبت بك الحال. ويجدون في أوضاعك ما ليس يجدونه في أوضاعهم من المرونة والجمال.
سلام عليك يا واضعة حقوق الإنسان وملقحة الأذهان بالتناغي بحب الأوطان والداعية إلى ثل عروش الجبارين والمخربين. أنت لم ترهبك تقاليد أبطال القرون الوسطى. والقدر بل أخذت بالأسباب والمسببات فقتلت من أراد قتلك. ووضعت من لم يهمه رفعك. وكنت للناهضين من الناس خير مثال.
سلام عليك يا معهد المعارف والصناعات بما أنشأتيه من مجامعك العلمية ومدارسك الجامعة والكلية. ومجالسك العامية والخاصية. وجمعياتك ونقاباتك لخدمة المدنية والإنسانية. ودور تمثيلك ومعاهد انسك وسماعك. ومتاحفك وحدائقك ومكاتبك ومعارضك. وكل ما أبدعته أفكار أبنائك وأيديهم ودل على مجد طريف وتالد وتاريخ على جبين الدهر خالد.
سلام عليك يا ملقنة الخلق معنى الإخاء والحرية والمساواة ليتعاشروا بالمعروف ويقوم نظام اجتماعهم على تبادل المنافع حتى لا يبقى تمييز في الحقوق والواجبات بين المختلفين في الموالد والديانات وقطعت التفاضل إلا بالأعمال الصالحة والأحلام الراجحة.
سلام عليك يا متشبعة بأفكار الحكماء ارتضيتيها منهم قانوناً تجرين عليه لسعادتك ولئن حاد بعض أبنائك بعض الشيء عنها فذلك لأن سياسة المنافع والمصالح قد تخالف ناموس الحق والعمل الصالح ولأن نظام بقاء الأنسب لا قلب له والتنازع في جهاد الحياة كثيراً ما يدعو الإنسان إلى ركوب ما تحظره الشرائع الوضعية والسماوية ولا سيما في هذه العصور التي يفصل فيها كل عمل على قالب الماديات وما ذلك إلا ليقر البشر بعجزهم ويعلموا أن الكمال الآن محال ولعله لا يفوتهم في مستقبل القرون والأجيال.(44/12)
السلام على هذه العاصمة التي أحسنت إلى الشرق فيما مضى فعلمته حتى استمد منها النور فإن قلنا معاشر الشرقيين ولا سيما سكان الشرق الأقرب أنا نأخذ عن المدينة الغربية فإنما نعني المدنية الفرنسوية وبعبارة أصح المدنية التي تنبعث أشعتها من باريز ومن طريقها وبلغتها وأسلوبها تيسر لنا أن نستطلع طلع سائر مدنيات الأرض.
سلام عليك علمت فما أحسن العلم والعمل إذا اجتمعا. وما أحلى الإخلاص والشعور بالواجب.
سلام عليك سننت للغرب سنة التضامن والتكافل. والعطف على البائسين والمساكين. والرفق بالضعفاء والعاجزين. والأخذ بأيدي المقهورين والعاثرين. والانتصار للمظلومين من الآدميين خصوصاً إذا كانوا من طينة أوربية.
سلام عليك أنت العاصمة التي تركت القصور الفخيمة التي عمرت بدماء الأمة مباحة للناس يدخلونها وكانت بورة المظالم والمغارم. ومنبعث الشهوات والأهواء. ولطالما جأرت جوانبها بالدعاء إلى السماء من حيف الكبراء أيام كان يوقع ملوكها وهو على سرير نومه توقيعاً واحداً يترك من الغد مئة ألف أسرة في هذه البلاد تبيت جائعة عريانة ليعمر بما يجمع قصراً له أو يدفعه لمحبوبته صبرة واحدة فلما أضناك الظلم والعنت قمت تجعلين من تلك القصور الفاسقة متاحف عامة ومن دور الظلم والظلمات مجالس عدل وعلم ونور.
سلام عليك خلدت أعمال من خلفوا لك هذه المدنية وأقمت تماثيلهم ونصبهم موقع الاحترام والإعظام وتوفرت على تكرير أسمائهم على المسامع كل يوم ألوف الألوف من المرات لتجعليهم مهمازاً لمن يأتي بعدهم من الأبناء والأحفاد.
سلام عليك يا بلد ديكارت وكونت وروسو وفولتير وديدرو وسيمون ومونتسكيو وهوغو وباسكال ورنان ومئات أضرابهم ممن بذلوا حياتهم في حسن خدمتك فلم تنس أفضالهم عليك بعد مماتهم.
أنت إن خجلت من ذكرى الحروب الصليبية وديوان التفتيش الديني ومذبحة القديس برتلماوس ومقتل الفيلسوف فيفاتي وجنون نابليون وغير ذلك من الأعمال البربرية في عصور الظلمة فإن سكانك يفاخرون وحق لهم الفخر بأنهم أحفاد ثورة سنة 1789 قاموا من الأعمال المشكورة في عصور النور ما ينسي الماضي إلا أقله. إن الحسنات يذهبن(44/13)
السيئات.
السلام عليك باريز أجمل عواصم العالم وأغنى البلاد ببدائعها الطبيعية والصناعية وأجمعها لمرافق الراحة والرفاهية. لست أنت اليوم عاصمة مئة مليون من البشر أربعون في أرضك وستون في المستعمرات بل أنت بما فيك من المزايا عاصمة معظم الخافقين لأسباب هنائك وصفائك ونعيمك ونعائمك وتفردك من بين العواصم بسلامة الذوق وسلامة الإبداع ووفرة العلماء والباحثين والكاتبين والشاعرين والقصصيين. فكل شيء في باريز مبذول حتى لتعافه النفوس من أقصى ما يتصور الفكر من الفضيلة إلى آخر ما يجول في خاطر أو يحوم حوله خيال.
فباريز ولا مراء جنة أرضية جمع فيها موجدوها - استغفر الله_ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
باريز بعد الغروب
10
إن فاخرت باريز بمعارضها التي أقامتها في أوقات مختلفة لتلفت إليها الأنظار وتستفيد الفخار والنضار فإن لها كل ليلة معارض لا تختلف عن السابقة إلا في كون البقعة التي تقوم عليها هذه أوسع مجالاً وأكثر جمالاً.
يصرف الباريزيون أو معظمهم نهارهم في الاستعداد لليلهم وكثيرون لا يعملون إلا في الليل ويصرفون النهار في جمع قواهم وادخار أحسن ما عندهم لما بعد الشفق فهم لا يجعلون الليل لباسا والنهار معاشاً كما هي عادة معظم الأمم بل أن الحركة عندهم تبدأ قبيل الظهر بطيئة ولا تزال تنمو حتى تغيب الشمس وتطلع بدلها شموس وأقمار.
ترى المدينة في النهار عابسة مظلمة على كثرة جاداتها الكبرى وشوارعها المغروسة على جانبيها بالأشجار غالباً وطرقها وأزقتها وساحاتها العامة وفي هذه الأماكن تشهد مجالي الحسن والإحسان وما تفننت في إبداعه العوامل وتلطفت في روائه الأفكار والأنامل.
على تلك الأرصفة تناجي النفس رب النجوى قائلة اللهم هل خلقت باريز من معدن اللطف والظرف لتكون مثالاً من جنة أرضية فخصصت أهلها بالاستمتاع بنعمة الجمال حتى لكأنك شطرته شطرين شطر وقفته على الباريزيات وشطر وزعته على سائر بنات حواء.(44/14)
إن امتاز الفرنسيس بالإبداع في الصناعات فقد امتازوا أيضاً بنضرة الوجوه. وإلى باريز تحمل هذه الأمة ولا سيما في فصل الشتاء أفضل ما عندها من مجالي الكمال والجمال أيام تكون أم هذه القرى مقصد السائحين والمتجرين والطالبين والعالمين والسياسيين والخاطبين وتغص دواوينها وإداراتها وتلتئم مجالسها العلمية والسياسية والاجتماعية.
ويزيد الوجوه بهجة في باريز تفنن القوم في الأزياء وتغاليهم في التبرج والزينة تغالياً مهما تقدم عند غيرهم لا يزالون مصدره ومورده وأساتذته وسدنته. ومظاهر الأزياء تتجلى في باريز بعد الغروب على الجادات والشوارع والطرق والساحات وفي المركبات والسيارات وحوافل الخيل والكهرباء والسكك الحديدية فوق الأرض وتحتها وفي دور التمثيل ومسارح اللهو والطرب وحال الفرج والحانات والقهوات والمطاعم والفنادق ويزيدها فتنة للناظرين ما اعتاده الباريزيات إلا من عصم ربي من إبداء زينتهن لغير المحارم أكثر من إبدائها لبعولهن وذوي قرباهن ورنين أصواتهن في الكلام رنيناً تحسبه من مزامير داود وتستطيبه أكثر من تغريد العندليب وهناك الفتنة بعينها والفتنة أشد من القتل ونعوذ به تعالى من فتنة القلب وفتنة العين.
ولعل هذه المجالي في الحرية المفرطة حملت الكثير من الغرباء على نزول باريز ليشهدوا فيها مالا يشهدونه في غيرها وتربح منهم الليرات بالملايين والكرات عملاً بما قاله أحد ملوك بروسيا وقد قيل له ليس من اللائق أن تضرب ضريبة على محال الاطمئنان في الشوارع فقال الغاية تبرر الوسيلة فما دامت الغاية الكسب فلا بأس من الاحتيال لنيله ومن أجل هذا تظهر باريز بعد الغروب أقصى الفضيلة وأقصى الرذيلة والناس معهما وما يختارون.
بعد الغروب تعمر في باريز أندية الخطابة والمحاضرة والعلم وتلقى فيها من الفوائد ما يبلغ الأذهان عفواً وصفواً ويفيض معين البيان ويبدو حذق يد الإنسان ويسعى العالم إلى تعليم الجاهل في ساعة ما تعب في إحضاره الأيام والأعوام فمائدة الخطب والمحاضرات معروضة. ودروس الفضائل عامة مورودة.
بعد الغروب يعمل معظم الكاتبين كتبهم والشاعرين أشعارهم والمؤلفين مؤلفاتهم والمخترعين اختراعاتهم والصانعين كأن الأفكار لا تنطلق من عقالها والأيدي لا تحذق(44/15)
أعمالها إلا عندما ترقد عيون البشر أو كأن الزهرة ربة الجمال لا تحب أن تملي على من هم أحوج الناس إلى طلعتها إلا من الليل ككوكب الزهرة لا يبدو في مطلع الأفلاك إلا مع الدجى. ولذا يحرص أهل باريز أن يجعلوها بعد غروب الشمس مجمع الأنس وريحانة النفس.
وكأن الباريزيين وهم العارفون بتقسيم الأعمال عزَّ عليهم أن تمضي ساعة في بلدهم ينقطع فيها العاملون عن أعمالهم فخصوا النهار ببعض الصناع والتجار والعملة والعاملات والليل بالمفكرين والمفكرات والمؤنسين والمؤنسات والمغنين والمغنيات والممثلين والممثلات. . . . . حتى لا تنقطع حركة ولا يقف دولاب عمل وكان بذلك الحظ الأوفر للغرباء فلا يدخل على الغريب ملل من تغير المشاهد ولا يفتأ من الفجر إلى الفجر إن أحب يستمتع بالمشاهد العجيبة ويتعلم ويأنس ويتنزه.
يقول الباريزيون أن بلدهم مبارك على الغريب أكثر منه عليهم وأنهم مضطرون أن يواصلوا السير بالسرى ويكدحون الليل والنهار ولكن هذا قول من ملك شيئاً فزهد فيه والروح ترتاح إلى التنقل أما الشرقي الذي يرى أهل باريز ويغبطهم على أكثر ما دبروه لراحتهم ورفاهيتهم فإنه يعجب لمن يساكنهم زمناً كيف ترضى نفسه أن يختار عن باريز بلداً كما يعجب لأهلها كيف لا يأسفون على مفارقة الحياة أضعاف أضعاف ما يأسف غيرهم عليها ومن قال بأن دواعي الراحة تطيل حبال الآجال يستعظم على أهل باريز لمَ لم يعمروا أكثر من عامة الخلق وعندهم النعيم المقيم والخير العميم.(44/16)
الرسالة العذراء
في موازين البلاغة وأدوات الكتابة كتب بها أبو اليسر ابراهيم بن محمد بن المدبر
بسم الله الرحمن الرحيم
فتق اله بالحكمة ذهنك، وشرح بها صدرك وأنطق بالحق لسانك، وشرف به بيانك، وصل إليَّ كتابك العجيب الذي استفهمني فيه بجوامع كلمك جوامع أسباب البلاغة، واستكشفني عن غوامض آداب أدوات الكتابة، سألتني أن أقف بك على وزن عذوبة اللفظ وحلاوته، وحدود فخامة المعنى وجزالته، ورشاقة نظم الكتاب ومشاكلة سرده، وحسن افتتاحه وختمه، وانتهاء فصوله، واعتدال وصوله وسلامتهما من الزلل، وبعدهما من الخطل، ومتى يكون الكاتب مستحقاً اسم الكتابة، والبليغ مسلماً له معاني البلاغة، في إشارته، واستعارته، وإلى أي أدواته هو أحوج، وبأي آلاته هو أعمل إذا حصحص الحق. ودعي إلى السبق، وفهمته وأنا راسم لك أيدك الله من ذلك ما يجمع أكثر شرائطك، ويعبر عن جملة سؤالك، وإن طولت في الكتاب وعرضت وأطنبت في الوصف وأسهبت، ومستقص على نفسي في الجواب على قدر استقصائك في السؤال، وإن أخل به التياث الحال، وسكون الحركة، وفتور النشاط، وانتشار الروية، وتقسم الفكر، واشتراك القلب، والله المستعان.
اعلم أيدك الله إن أدوات ديوان جمع المحاسن وآلات المكارم طاعة منقادة لهذه الصناعة التي خطبتها وتالية تابعة لها وغير خارجة إلى حجد أحكامها ولا دافعة لما يلزمها الإقرار به لها أضراراً منها إليها وعجزاً عنها فإن تقاضتك نفسك علمها ونازعتك همتك إلى طلبها فاتخذ البرهان دليلاً شاهداً والحق إماماً قائداً يقرب مسافة ارتيادك ويسهل عليك سبل مطالبها واستوهب الله توفيقاً تستنجح به مطالبك، واستمنحه رشداً يقبل إليك بوجه مذاهبك، فاقصد في ارتيادك، وتأمل الصواب في قولك وفعلك، ولا تسكن إلى جحود قصد السابق باللجاج ولا تخرج إلى إهمال حق المصيب بالمعاندة والإنكار ولا تستخف بالحكمة ولا تصغرها حيث وجدتها فترحل نافرة عن مواطنها من قلبك وتظعن شاردة عن مكانها من بالك، وتتعفى بعد العمارة من قلبك آثارها وتنطمس بعد الوضوح أعلامها واعلم أن الاكتساب بالتعلم والتكلف وطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء فإن أردت خوض بحار البلاغة وطلبت أدوات الفصاحة فتصفح من رسائل المتقدمين ما تعتمد عليه(44/17)
ومن رسائل المتأخرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنجاح بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تستعين به ومن الأشعار والأخبار والسير والأسماء ما يتسع به منطقك، ويعذب به لسانك ويطول به قلمك، وانظر في كتب المقامات والخطب ومحاورات العرب ومعاني العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وتوقيعاتهم وسيرهم ومكايدهم في حروبهم بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشروط ككتب السجلات والأمانات فإنه أول ما يحتاج إليه الكاتب وتمهر في نزع آي القرآن في مواضعها واجتلاب الأمثال في أماكنها واختراع الألفاظ الجزلة وقرض الشعر الجيد وعلم العروض، فإن تضمين المثل السائر والبيت الغابر مما يزين كتباتك ما لم تخاطب خليفة أو ملكاً جليل القدر فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء والجلة والرؤساء عيب واستهجان للكتب إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له فإن ذلك مما يزيد في أبهته ويدل على براعته، وإن شدوت من هذه العلوم ما لا يشغلك محله، وتنقبت من هذه الفنون ما تستعين به على إيطالة قلمك وتقويم أود بيانك.
بعد أن يكون الكاتب صحيح القريحة، حلو الشمائل، عذب الألفاظ، دقيق الفهم حسن القامة بعيداً عن الفدامة خفيف الروح، حاذق الحس، محنكاً بالتجربة، عالماً بحلال الكتاب والسنة وحراميهما، وبالملوك وسيرها وأيامها، وبالدهور في تقلبها وتداولها، مع براعة الأدب، وتأليف الأوصاف، ومشاكلة الاستعارة، وحسن الإشارة وشرح المعنى بمثله من القول حتى تنصب صوراً منطقية تعرب عن أنفسها، وتدل على أعيانها، لأن الحكماء قد شرطوا في صفات الكتاب طول القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهازم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل وملاحة الزي حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزيّ الكتاب فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.
وخاطب كلاً على قدر أبهته، وجلالته، وعلوه وارتفاعه، وتفطنه وانتباهه، واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام فأربعة منها للطبقة العلوية وأربعة دونها ولكل طبقة منها درجة ولكل قسمة حظ لا يتسع للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها، ويقلب معناها إلى غيرها فالطبقة العليا الخلافة التي أعلى الله شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير والمخاطبة والترسل، والطبقة الثانية الوزراء والكتاب الذي يخاطبون الخلفاء(44/18)
بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم ويتجملون بآدابهم الثالثة أمراء ثغورهم، وقواد جيوشهم، يخاطب كل امرئ منهم على قدره وبما حمل من أعباء أمورهم، وجلائل أعمالهم، الطبقة الرابعة القضاة فإنهم وإن كان لهم تواضع العلماء وحلية الفضلاءِ فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء.
أما الطبقات الأربع الأخرى فالملوك الذين أوجبت نعمهم تعظيمهم في الكتب وأفضالهم تفضيلهم فيها، والثانية وزراؤهم وكتابهم وأتباعهم الذي بهم تقرع أبوابهم وبعنايتهم تستماح أموالهم والثالثة هم العلماءُ الذين يجب توقيرهم في الكتب لشرف العلم وعلو درجة أهله، الرابعة لأهل القدر والجلالة والظرف والحلاوة والعلم والأدب فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم وشدة تمييزهم وانتقادهم إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم، واستغنينا عن الترتيب للتجار والسوقة والعوام رتبة لاستغنائهم بتجارتهم عن هذه الآلات واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن تراعيها في مراسلتك إليهم في كتبك وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه وتعطيه قسمه وتوفيه نصيبه فإنك متى أضعت ذلك لم آمن بك أن تعدل بهم غير طريقهم وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه وتنظم جوهر كلامك في غير ملكه فلا يفيد المعنى الجزل ما لم تلبسه لفظاً جزلاً لائقاً بمن كاتبته ومشابهاً لمن راسلته، وإن الباسك المعنى وإن شرف وصلح لفظاً مختلفاً عن قدر المكتوب إليه لم تجر به عادتهم تهجين للمعنى وإخلال بقدره وظلم لحق المكتوب إليه ونقص مما يجب له كما أن في امتناع نعارفهم وما انتشرت به عاداتهم وجرت به سنتهم وضعاً لقدرهم وخروجاً من حقوقهم، وبلوغاً إلى غير غاية مرادهم وإيقاظاً لحجة أدبهم ضمن الألفاظ المرغوب عنها والصدور المستوحش منها في كتب السادات والأمراء والملوك على اتفاق المعاني مثل أبقاك الله طويلاً وعمرك ملياً وإن كنا نعلم أنه لا فرقان بين قولهم أطال الله بقاءك وبين قولهم أبقاك الله طويلاً ولكنهم جعلوا هذا أرجح وزناً وأنبه قدراً في مخاطبة الملوك كما أنهم جعلوا أكرمك الله وأبقاك أحسن منزلة في كتب الظرفاء والأدباء من جعلت فداك على اشتراك معناه واحتماله أن يكون فداء من الخير كما يكون فداءً له من الشر ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص فداك أبي وأمي لكرهت أن يكتب بها أحد على أن كتاب العسكر وعوامهم قد(44/19)
أولعوا بهذه اللفظة حتى استعملوها في جميع محاوراتهم وجعلوها هجيراهم في مخاطبة الشريف والوضيع والصغير والكبير ولذلك قال محمود الوراق:
كل من حل سر من را من النا_س وممن يصاحب الأملاكا
لو رأى الكلب ماثلاً في طريق ... قال للكلب يا جعلت فداكا
وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل أبقاك الله وأمتع بك إلا إلى الحرمة والأهل والتابع والمنقطع إليك وأما في كتب الإخوان فغير جائز بل مذموم مرغوب عنه ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أحلت عما عهدت من أدبك ... أم نلت ملكاً فتهت في كتبك
أم هل ترى أن في التواضع للأخ ... ولمن نقصاً عليك في حسبك
أتعبت كيفك في مكاتبتي ... حسبك مما يزيد في تعبك
إن جفاءً كتاب ذي أدب ... يكتب في صدره وأمتع بك
فكتب إليه محمد بن عبد الملك:
أنكرت شيئاً فلست فاعله ... فلن تراه يخط في كتبك
فاعف ندتك النفوس عن رجل ... يعيش حتى الممات في أدبك
كف أخون الإخاء يالعلي ... وكل شيءٍ أنال من سببك
إن يك جهلاً أتاك من قلبي ... فعد بفضل عليّ في أدبك
وأما صدور السلف كانت من فلان بن فلان إلى فلان كذلك جرت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العلاء بن الحضرمي وإلى أقيال اليمن وإلى كسرى وقيصر وكتب أصحابه والتابعين كذلك حتى استخلص الكتاب هذه المحادثات من بدائع الصدور واستنبطوا لطيف الكلام ورتبوا لكل رتبةً وجروا على تلك السنة الماضية إلى عصرنا هذا في كتب الخلفاء والأمراء وثبتوا على ذلك المنهاج في كتب الفتوحات والأمانات والسجلات ولكل مكتوب إليه قدر ووزن ينبغي للكاتب أن لا يتجاوز به عنه ولا يقصر به دونه، وقد رأيتهم عابوا الأخوص حين خاطب الملوك بمخاطبة العوام في قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فهذا معنى صحيح في المدح ولكنهم أجلوا أقدار الملوك أن يمدحوا بما يمدح به العوام لأن(44/20)
صدق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان مدحاً فهو واجب على كل والملوك لا يمدحون بالفروض الواجبة وإنما يحسن مدحهم بالنوافل لأن المادح لو قال لبعض الملوك إنك لا تزني بحليلة جارك وإنك لا تخون ما استودعت وإنك تصدق في وعدك وتفي بعهدك كان قد أثنى بما يجب ولكنه لم يصل بثنائه إلى مقصد وقال ما لا يستحسن مثله في الملوك.
ونحن نعلم أن كل تولى من أمور المؤمنين شيئاً فهو أمير المؤمنين غير أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا للخلفاء خاصة ونعلم أن الكيس هو العقل إذا عنوا به ضد الحمق ولكنك لو وصفت رجلاً فقلت: إن فلاناً لعاقل كنت قد مدحته عند الناس ولو قلت أنه كيس كنت قد قصرت في وصفه وقصرت به عن قدره إلا عند أهل العلم باللغة لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة إلا إلى حيث جرت منها العادة في استعمالها في الظاهر مع الحداثة والعزة وخساسة القدر وصغر السن فقد روينا عن علي رضي الله عنه أنه تبجح بالكيس حين بنى الكوفة وقال:
أما تراني كيساً مكيساً ... بنيت بعد نافع مخيساً
حصناً حصيناً وأميراً كيساً
وقال آخر: ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس ونعلم أن الصلوة وحي غير أنهم قد حرموها إلا على الأنبياء كذلك روي عن ابن عباس (رضه) وسمع سعد بن أبي وقاص أخاً له يلبي ويقول: ياذا العارج فقال نحن نعلم أنه ذو المعارج ولكن ليس كذلك كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كنا نقول: لبيك اللهم لبيك وكان أبو ابراهيم المزني قال في بعض ما طالبه به داود بن علي خلف الأصبهاني فقال: وإن قال كذا فقد خرج من الملة والحمدلله فانتقد عليه ذلك داود وقال: تحمد الله علي أن يخرج مسلماً من الإسلام هذا موضع استرجاع وللحمد مكان يليق به ونحن نقول على المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون.
فامتثل هذه الرسوم والذاهب وأجر على آدابهم فلكل رسومٌ امتثلوها وتحفظ في صدور كتبك وفصولها وافتتاحها وخاتمتها وضع كل معنى في موضع يليق به وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر الشكوى بمثل والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل، وفي موضع ذكر البلوى نسأل الله دفع المحذور ونسأل الله صرف السوء وفي موضع الذكر المصيبة بمثل إنا لله وإنا إليه راجعون، وفي موضع ذكر النعم بمثل(44/21)
والحمد لله خالصاً والشكر لله واجباً، فإنها مواضع ينبغي للكاتب تفقدها فإنما يكون كاتباً إذا وضع كل معنى في موضعه وعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى فلا يجعل أول ما ينبغي له أن يكتب في آخر كتابه في أوله ولا أوله في آخره فإني سمعت جعفر بن محمد الكاتب يقول: لا ينبغي للكاتب أن يكون كاتباً حتى لا يستطيع أحد أن يؤخر أول كتابه ولا يقدم آخره.
واعلم أنه لا يجوز في الرسائل ما أتى في آي القرآن من الإيصال والحذف ومخاطبة الخاص بالعام والعام بالخاص لأن الله سبحانه وتعالى إنما خاطب بالقرآن أقواماً فصحاء فهموا عنه جل ثناؤه أمره ونهيه ومراده والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب وكذلك ينبغي للكاتب أن يتجنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس فإنه إن ذهب على مثل قوله تعالى واسأل القرية واسأل العير بل مكر الليل والنهار احتاج أن يبين بل مكركم بالليل والنهار ومثله في القرآن كثير.
ولا يجوز في الرسائل ما يجوز في الشعر لأن الشعر موضع اضطرار فاغتفروا فيه الإغراب وسوء النظم والتقديم والتأخير والإضمار في موضع الإظهار فمن الحذف قول الحطيئة من صنع سلّام يريد سليمان بن داود وكقول الآخر: والشيخ عثمان أبو عفان وكقول الآخر:
وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق
أراد ابن سيار وكقول النابغة: ونسج سليم كل قضاء زائل يريد سليمان وكذلك ينبغي في الرسائل أن لا يصغر الاسم موضع التعظيم وإن كان ذلك جائزاً على مثل قولهم دويهية وجذيل وعريق، ومما لا يجوز في الرسائل كلمت إياك وأعني إياك وإساءة النظم في التأليف في الشعر كثير وتكون الكلمة بشعة حتى إذا وضعت وقرنت مع أخواتها حسن حالها وراقت كقول الحسن بن هاني:
ذو حضر أفلت من كد القبل والكد كلمة قلقة لاسيما في الرقيق والغزل والتشبيب غير أنها لما وقعت في موضعها حسنت كما أن اللفظة العذبة إذا لم توضع موضعها نفرت قال:
رأت عارضاً جونا فقامت غريرة ... بمسحاتها قبل الظلام تبادره
فأوقع الجلف الجافي هذه اللفظة غير موقعها وظلمها إذ جعلها في غير مكانها لأن المساحي(44/22)
لا تكون ولا تصلح للغرائر وأين كان عن قول الشاعر:
غرائر ما حدثن يهديهن آنسة ... فما فوقه منهن غير غرائر
حديث لو أن العصم تدعى به أتت ... ودون يد الفحشاء حد البواتر
فتخير من الألفاظ أرجحها وزناً، وأجزلها معنى، وأليقها في مكانها، وليكن في صدر كتابك دليل واضح على مرادك وافتتاح كلامك برهان شاهد على مقصدك حيثما جريت فيه من فنون العلم ونزعت نحوه من مذاهب الخطب والبلاغات فإن ذلك أجزل لمعناك وأحسن لا تساق كلامك ولا تطيلن صدر كلامك إطالة تخرجه من حده، ولا تقصر به عن حقه، ولو صور اللفظ وكان له حد لوقفتك عليه غير أنهم في الجملة كرهوا أن يزيدوا سطور كتب الملوك على سطرين وهذه إشارة لا تعبر إلى عن الجملة من المقصود إليه لأن الأسطر غير محدودة.
واعلم أن أول ما ينبغي لك أن تصلح آلتك التي لا بد لك منها وأدواتك التي لا تتم صناعتك إلا بها وهي دواتك فابدأ بعمارتها وإصلاحها وتخير لها ليقة نقية من الشعر والودح لئلا يخرج على حرف قلمك ما يفسد كتابك ويشغلك بتنقيته وخذ من المداد الفارسي خمسة دراهم ومن الصمغ العربي درهماً وعفصاً مسحوقاً نصف درهم ورماد القرطاس المحرق درهمين ثم تسحقها وتغربلها وتجمعها ببياض البيض ثم بندقها واجعلها في الظل فإذا احتجت إليها أخذت منها مقدار حاجتك فكسرته وحشوت به دواتك وإذا نقعته في ماء السلق حتى ينحل ويذوب ويختمر ثم أمددت من مائه دواتك كان أجود وأنقى ثم اختر بعد ذلك من أنابيب القلم الذي يصلح لكتابة القراطيس أقله عقدة وأكثفه لحماً واجلبه قشراً واعدله استواءً وتجنب الأقلام الفارسية ما استطعت فإنها ما تصلح إلا للكواعد والرقوق.
واجعل لقلمك براية حادة فإن تعثر يد الكاتب وقت قطع القرطاس ناقص مروءته ومخل بظرفه وإن قدرت أن لا تقطع القرطاس إذا فرغت من كتابك إلا بخرطوم قلمك فافعل فإن ذلك أكمل لمروءتك وأبدع لظرفك وقطعك.
واستعمل لبري القلم سكيناً طواويسي مذلق الحد وميض الطرف فيكون ذلك عوناً لك على بري أقلامك فإن محل القلم من الكاتب محل الرمح من الفارس ولئن قيل كأنه الرمح الرديني فقد قال الكاتب كأنه القلم البحري، وتفقد الأنبوبة قبل بريكها لئلا تجعلها منكوسة(44/23)
وابرها من ناحية نبات القصبة وأرهف ما قدرت جانبي قلمك ليرد ما انتشر من المداد ولا تطل شقه فإن القلم لا يمج المداد من شقه إلا مقدار ما احتملت شبتاه فارفع شبتيه ليجمعا لك حواشي تحضيره وإما قط القلم فعلى قدر القلم الذي يتعاطاه الكاتب من الخط غير أن المسلسل لا يكاد يتسلسل إلا بالقلم المربع القط كما أن كتب الملوك والسجلات لا تحسن إلا بالقلم المحرف الكوفي وأما قلم اللازورد فهو المعتمد عليه والمقصود إليه في النوائب والمهمات.
ورأيت كثيراً من الكتاب يختارون قلم النرجس لتجعده وتجانسه ومن اللازورد أبسط منه وأقوم حروفاً وأما الموشع والمولع والمدبج والمنمنم والمسهم فعلى قدر رشاقة خط الكاتب وحلاوة قلمه وأما حسن الخط فلا حد له قال علي بن زيز النصراني الكاتب أعلمك الخط في كلمة واحدة لا تكتبن حرفاً حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف المبدوء به وتجعل في نفسك أنك لا تكتب غيره حتى لا تعجل عنه إلى غيره، وإياك والنقط والشكل في كتابك إلا أن تمر بالحرف المعضل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه فأن يشكل عليّ الحرف أحب إلي من أن يعاب بالنقط والأعجام، وقال المأمون لكتابه إياي والشونيز في كتبكم يعني النقط ولذلك قال ابن هاني:
لم ترض بالأعجام حين كتبته ... حتى كتبت السب بالأعراب
ولا تغفل الصلاة على النبي علي الصلاة والسلام فقد قال أبو العيناء أن بني أمية هم الذين كانوا أمروا كتابهم فطرحوا ذلك من كتبهم فجرت عادة الكتاب إلى يومنا هذا على ما سنوه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لا تجعلوني كقدح الراكب ولكن اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه وآخره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولاً وأوسط وآخراً.
وأحب أن تجعل بدل الإشارة التراب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتربوا كتبكم فإنه أنجح لحاجة ولا تدع التاريخ فإنه يدل على تحقيق الأخبار وقربها وبعدها وانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه فإن كان الماضي أقل من نصف الشهر قلت هكذا ليلة مضت من شهر كذا وإن كان الباقي أقل من النصف قلت لكذا أيضاً بقيت وقد قال بعض الكتاب إن الماضي من الشهر إن تحصيه والباقي لا تحصيه لأنك لا تدري أيتم الشهر أو ينقص وليس هذا بشيء لأن تاريخ الكتاب ليس من الأحكام في شيءٍ وما على الكاتب أن يكتب(44/24)
إلا بما ظهر وتبين لا بما يظن.
ولا تجعل سحاة كتبك غليظة إلا في العهود والسجلات التي تحتاج إلى خواتمها وطوابعها فإن محمد بن عيسى الكاتب كاتب آل طاهر أخبر عنهم أن عبد الله بن طاهر كتب إلى العراق في أشخاص كاتب كان كتب إليه فكتب وغلظ سحاة كتابه فرد الكتاب إليه فقدم عليه راجياً لبره وجائزته فقال عبد الله بن طاهر إن كان معك مسحاة فاقطع خزم كتابك وإنه رف وراءك وكذلك لا تعظم الطينة ففي المثل من عظم الطينة فإنه مظلوم ولا تطبعها إلا بعد عنواناتها فإن ذلك مراد بهم وقد يجب عليك علم الصلق القراطيس ومحوها ولم أر شيئاً في إلصاقها ألطف من أن ينقع الصمغ العربي في الماء ساعة حتى يذوب ثم يلصق به وكذلك ماء الكثيرا والنشاستج ثم تطويه طياً رقيقاً وتجعله في منديل نظيف ويرفع تحت وسادة حتى يجف وأما محوها فعلى قدر لطف الكاتب وتأنيه غير أنه ينبغي له أن لا يلقط السواد من القرطاس إلا بمثل الشمع المسخن واللبان الممضوغ وما أشبههما ثم يكون لقطه رويداً رويداً كما لقط جانباً حوله إلى الجانب الآخر
وأما قراءة الكتب المختومة والتلطف لنقض خواتيمها فمما لا نذكره خوفاً من سفيه.
وأما تضمين الأسرار حتى لا يقرأها غير المكتوب إليه فقيه أدب وقد تعلقت العامة بالقمي والأصبهاني فيجب أن يبدل الحروف تبديلاً يخفى وألطف من ذلك أن تأخذ لبناً طيباً فتكتب به في قرطاس فيذر المكتوب إليه عليه رماداً حاراً من رماد القراطيس فإنه يظهر وأن كتب بماء الزاج وذرّ عليه العفص المدقوق بجاز أو بماء العفص وذر عليه شيئاً من الزاج أو ينقع شيئاً من وشق ثم تكتب به ثم نثرت عليه الرماد فإنه يظهر وإن أحببته لا يقرأ بالنهار ويقرأ بالليل فاكتبه بمرارة السلحفاة وإن حاولت صنعة رسالة أو إنشاء كتاب فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت والكلمة بعبارة إذا سخت فربما مرّ بك موضع يكون مخرج الكلام إذا حسب أنا فاعل أحسن من أنا أفعل واستفعلت أحلى من فعلت.
وأدر الألفاظ في أماكنها واعرضها على معانيها وقلبها على جميع وجوهها حتى تقع موقعها ولا تجعلها قلقة نافرة فمتى صارت كذلك هجنت الموضع الذي أردت تحسينه واعلم أن الألفاظ في أماكنها كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رقاعه تغير حسنه قال الشاعر:(44/25)
إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبين الناس أن الثوب مرقوع
وارتصد لكتابك فراغ قلبك وساعة نشاطك فنجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلف لأن سماحة النفس بمكنونها وجود الأذهان بمخزونها إنما هو مع الشهوة المفرطة في الشر والمحبة الغالبة فيه أو الغضب الباعث منه ذلك، قيل لبعضهم لم لا تقول الشعر قال: كيف أقوله وأنا لا أغضب ولا أطرب، وهذا كله إن جريت من البلاغة على عرق وظهرت منها على حظ فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك ولا واقعة شهوتك عليها فلا تنضي مطيتك في التماسها ولا تتعب بدنك في ابتغائها واصرف عنانك عنها ولا تطمع فيها باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك ومن كان مرجعها فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدم والاستضاءة بكوكب من سبقه وسحب ذيل حلة غيره ولم يكن معه أداة تولد له من بنات قلبه ونتائج ذهنه الكلام الحر والمعنى الجزل فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير.
على أن كلام العظماء المطبوعين ودرس رسائل المتقدمين على كل حال مما يفتق اللسان ويوسع المنطق ويشحذ الطبع ويستثير كوامنه أن كانت فيه سجية قال العتابي: ما رأينا فيما تصرفنا فيه من فنون العلم وجرينا فيه من صنوف الآداب شيئاً أصعب مراماً ولا أوعر مسلكاً ولا أدل على نقص الرجال ورجاحتهم وأصالة الرأي وحسن التمييز منه واختياره من الصناعة التي خطبتها والمعنى الذي طلبته وليس شيء أصعب من اختيار الألفاظ وقصدك بها إلى موضعها لأن اللفظة تكون أخت اللفظة وقسيمتها في الفصاحة والحسن ولا يحسن في مكان غيرها وبتمييز هذه المعاني ومناسبة طبائع جها بذتها ومشاكلة أرواحهم جعلوا الكتابة نسباً وقرابة وأوجبوا على أهلها حفظها.
سهل بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان مفترقة ومن لم يعرف فضلها وجهل أهلها وتعدى بهم رتبتهم التي وصفهم الله بها فإنه ليس من الإنسانية في شيءٍ، قالت البرامكة: رسائل المرء في كتبه دليل على عقله وشاهد على غيبه قال الشاعر:
وتنكرو دا لمرء في لحظ عينه ... وتعرف عقل المرء حين تكاتبه
آخر:
وشعر الفتى يبدي غريزة طبعه ... وبالكتب يبدو عقله وبلاغته
الشعبي: يعرف عقل الرجل إذا كتب وأجاب، العتبي: عقول الناس مدونة في كتبهم، ابن(44/26)
المقفع: كلام الرجل وافد عقله، وشبهت الحكماء المعاني بالغواني والألفاظ بالمعارض فإذا كسا الكاتب البليغ المعنى الجزل لفظاً رائقاً وأعاره مخرجاً سهلاً كان للقلب أحلى وللصدر أملى ولكنه بقي عليه أن ينظمه في سلكه مع شقائقه كاللؤلؤ المنثور الذي يتولى نظمه الحاذق والجوهري العالم يظهر بإحكام الصنعة له حسناً هو فيه ومنحة بهجة هي له كما أن الجاهل إذا وضع بين الجوهرتين خرزة هجن نظمه وأطفأ نوره، كان حبيب بن أوس ربما وقع على جوهرة فجعلها بين بعرتين قال الشاعر:
ولو قرنت بدرٍ فاخرٍ خرزاً ... من الزجاج لقلنا بئسما نظما
والياقوت حسن وهو في جيد الحسناء أحسن وكذلك الشعر الجيد مونق ولكنه من أفواه العظماء آنق والتاج الشريف بهي المنظر وهو على الملك أبهى كما قال ابن الرقيات يعتدل التاج فوق مفرقه قال أبو العتاهية لابن مناذر: بلغني أنك تقول الشعر في الدهر والقصيدة في الشهر فقال نعم لو رضيت لنفسي أن أؤلف تأليفك وأقول ياعتب بادرة الغواص لقلت في اليوم والليلة ألف قصيدة وقال عمر بن لجأ لشاعر: أنا أشعر منك قال: ولم قال: لأنك تقول البيت وابن عمه وأنا أقول البيت وأخاه.
فإن منيت بحب الكتابة وصناعتها والبلاغة وتأليفها وجأش صدرك بشعر معقود أو دعتك نفسك إلى تأليف الكلام المنثور وتهيأ لك نظم هو عندك معتدل وكلام لديك متسق فلا تدعونك الثقة بنفسك والعجب بتأليفك أن تهجم به على أهل الصناعة فإنك تنظر إلى تأليفك بعين الوالد لولده والعاشق إلى عشيقه كما قال حبيب:
ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون
ولكن اعرضه على البلغاء والشعراء والخطباء ممزوجاً بغيره فإن أصغوا إليه وأذنوا له وشخصوا بالأبصار واستعادوه وطلبوه منك وامتزج فاكشف من تلك الرسالة والخطبة والشعر اسمه وانسبه إلى نفسك وإن رأيت عنه العيون منصرفة والقلوب عنه واهية فاستدل به على تخلفك عن الصناعة وتقاصرك عنها واسترب رأيك عند رأي غيرك من أهل الأدب والبلاغة فقد بلغني أن بعض الملوك دعا إنساناً إلى مؤانسته حتى ارتفعت الحشمة بينهما فأخرج له كتاباً قد غشاه بالجلود وجمع أطرافه بالابريسم وسوى ورقه وزخرف كتابته وجعل يقرأ عليه كلاماً قد حبره فيه ونمقه عند نفسه وجعل يستحسن ما لا(44/27)
يحسن ويقف على ما يستثقل قراءته حتى أتى على الكتاب فقال له كيف رأيت ما قرأت عليك فقال أرى عقل صانع هذا الكلام أكثر من كلامه ففطن له ولم يعاوده إلى أن وقف به على تنور مسحور ثم قذف بالكتاب في النار وهذا رجل في عقله فضلة وفيه تمييز.
وإنما البلية فيمن إذا بينت له سوءَ نظمه واختياره ووقفته على سخافة لفظه هجرك وعاداك فاجعل هذا الأصل ميزاناً تزن به مذهبك في رسائلك وبلاغتك ولا تخاطبن خاصاً بكلام عام ولا عاماً بكلام خاص فمتى خاطبت أحداً بغير ما يشاكله فقد أجريت الكلام غير مجراه وكشفته وقصدك بالكلام الشريف للرجل تنبيه لقدر كلامك ورفع لدرجته قال:
فلم أمدحه تفخيماً لشعري ... ولكني مدحت بك المديحا
فلا تخرجن كلمة حتى تزنها بميزانها فتعرف تمامها ونظامها ومواردها ومصادرها وتجنب ما قدرت الألفاظ الوحشية وارتفع عن الألفاظ السخيفة واقتضب كلاماً بين الكلامين.
الجاحظ: ما رأيت قوماً أمثل طريقة في البلاغة من هؤلاء الكتاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشياً ولا ساقطاً سوقياً: وقال خالد بن صفوان: أبلغ الكلالم ما لا يحتاج إلى كلام وأحسنه ما لم يكن بالبدوي المغرب ولا القروي المخدج الذي صحت مبانيه وحسنت معانيه ودار على السن القائلين وخف على آذان السامعين ويزداد المحكوم له بالبلاغة من إذا حاول صنعة كتاب سالت على قلمه عيون الكلام من ينابيعها وظهرت من معادنها وتدرب من مواطنها من غير استكراه ولا اغتصاب.
حدثنا صديق للعتابي قال له: اعمل لي رسالة واستمده مرة بعد أخرى فقال له: ما أرى بلاغتك إلا شاردة فقال له العتابي. لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة فأحببت أن أترك كل معنى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها. أملى يزيد بن عبد الله أخو ديناراً على كاتب له وأعجل عليه الإملال فتعثر قلم الكاتب عن تقييد إملاله فقال متحرشاً: اكتب يا حمار فقال الكاتب: أصلح الله الأمير إنه لما هطلت شآبيب الكلام وتدافقت سيوله على حرف القلم كلَّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده فليتذكر الأمير عذري فكان جوابه أبلغ من بلاغة يزيد. وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه كان أسهل ولوجاً في الأسماع وأشد اتصالاً بالقلوب وأخف على الأفواه ولا سيما إذا كان المعنى البديع مترجماً للفظٍ مونق شريف ومعبراً بكلام مؤلف رشيق لم يشنه التكلف بميسمه(44/28)
ولم يفسده التعقد باستهلاكه كقول ابن أبي كريمة.
قفاه وجه حسن والذي ... قفاه وجه يشبه الشمسا
فهجن المعنى بتوعر مخارج الحروف وأخذه الحسن بن هاني فسهله. وقال بذَّ حسن الوجوه حسن قفاكا وكلاهم من حسان حيث يقول:
قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمك خير من المنذر
وانظر إلى سلاسة الحسن بن سهل حيث قال:
شرست بل لنت بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهل والجبل
وكتب عيسى بن لهيعة كتاباً إلى بعضهم فعقد كلامه وجاز المقدار في التنطع فوقع له:
أنى يكون بليغاً ... من اسمه كان عياً
وثلث الحرف منه ... إذا كتبت مسياً
ودخل كاتب على مريض فوجده يئن فخرج من عنده فوجد طائراً يقال له الشفانين بباب الطاق فاشتراه وبعث به إليه وكتب كتاباً يتنطع فيه ويذكر أنه يقال له الشفانين شفاءً من الأنين فأجابه لو عطست ضباً لم تكن عندي إلا نبطياً فاقصر عن بغضك وسهل كلامك ومثله بمخلد الموصلي يهجو حبيب بن أوس الطائي:
أنت عندي عرني ... عرني والسلام
شعر ساقيك وفخ ... ذيك خزامى وتمام
وقفاً تحلف ما أن ... أعرقت فيه الكرام
أنا ما ذنبي إن الذ ... نبي فيك الأنام
وسألني بعض أهل العلم أن أكتب له قصة إلى جعفر بن عبد الواحد القاضي وقال: اكتب لي قصة سهلة بليغة الألفاظ فقلت له: دعني أكتب لك ما يصلح للقضاة فغضب وقال ما أسأل أن تعطيني شيئاً إنما أسألك هذا المعنى الرخيص فاحتملت عتبه لذمام فكتبت له قصة لا تصلح أن تدفع إلا لرؤية بن العجاج يقرؤها أو الطرماح فلما حصلت بيد القاضي أراد قراءتها فإذا هي مغلقة عليه فقال له: أنت كتبت هذه القصة قال: نعم. فقال: إذاً فاقرأها فذهب ليقرأها فإذا هي يالسودانية استعجاماً عليه فقال له: أصلح الله القاضي إنما أقرؤها في بيتي فقال له: فاطلب حاجتك إذاً في بيتك فرجع إليَّ غضبان آسفاً يشتم ويؤذي وسألني(44/29)
أن أكتب له قصة على ما أرى فكتبت له كتاباً يثبه أن يكون من مثله إلى القضاة فقرأها وقضى حاجته وعلم أنه لم يكتب واحدة منهما والكتاب إذا لم يكن بحاجة صاحبه كان أحد الأسباب المانعة والمعاني كلها ممتثلة والكلام مشبعاً ولكن سياسته صعبة وتأليفه شديد إلا على جهابذته وفرسانه أمراء الكلام يصرفونها كيف شاؤوا ولا يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه ويكون اللفظ الأسبق إلى الأسماع من معناه إلى القلوب.
الجاحظ: كان لفظه في وزن إشارته وطبعه في معناه في مطابقة معناه ذكر الحسن ابن وهب أحمد بن يوسف فقال ما كنت ألفظه آنق أم معناه أو معناه أجزل أم لفظه. والمعاني وإن كانت كامنة في الصدور فإنها مصورة فيها ومتصلة بها وهي كاللآليء المنظومة في أصدافها والنار المخبوءة في أحجارها فإن أظهرته من أكنانه وأصدافه تبين حسنه وإن قدحت النار من مكانها وأحجارها انتفعت بها وإلا حذق المستنبط وصواب حركات المستخرج وقصد إشارته وكلما كان الكلام أفصح والبيان أوضح كان أدل على حسن وجه العني الخفي بالروح الخفي واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف لفظ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة ولا النظام متسقاً والدال على المعنى أربعة أصناف لفظ وإشارة وعقد وخط.
وذكر أرسطاطاليس خامساً وهي تسمى النصبة وهي الحالة الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة الناطقة بغير لفظ والمشيرة إليه بغير يد وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وفي كل صامت وناطق وهي داخلة في جملة هذه المعاني الأربعة وخارجة منها بالحيلة.
ولكل واحدة من هذه الدلائل صورة مخالفة لصورة صاحبتها وحلية غير مشاكلة لحلية أختها غير أنها في الجملة كاشفة عن أعيان المعاني وأوضح هذه الدلائل صنفان منها وهما اللسان والقلم وكلاهما يترجمان ويدلان على القلب ويستميلان منه ويؤديان عنه ما لا تؤدي هذه الأصناف الباقية.
وأما اللسان فهي الآلة التي يخرج الإنسان بها من حد الاستبهام إلى حد الإنسانية ولذلك قال صاحب المنطق: حد الإنسان الحي الناطق وإنما يبين عن الإنسان اللسان وعن المودة العينان والله سبحانه رفع درجة اللسان فأنطقه من بين الجوارح بتوحيدة وما جعل الله من(44/30)
عبر عن شيء مثل من لم يعبر عنه.
الأعور التيمي:
لسان الفتى ونصف فؤَداه ... فلم يبقِ إلا صورة اللحم والدم
وقال آخر:
إن الكلام لفي الفؤاد وأنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
الطائي:
ومما كانت الحكماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد
للخط صورة معروفة. وحلية موصوفة وفضيلة بارعة. ليست لهذه الأوصاف لأنه ينوب عنها في الإيضاح عند المشهد ويفضلها في المغيب وكفى بفضيلة العلم والخط قول الله عز وجل الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وأقسم به كما أقسم بغيره ثم أقسم بما يكتبه القلم إفصاحاً عن حاله وإعظاماً لشأنه وتنبيهاً لذكره فقال: وما يسطرون. ومن فضيلة الخط أنه لسان اليد ورسول الضمير ودليل الإرادة. والناطق عن الخواطر. وسفير العقول ووحي الفكر. وسلاح المعرفة. ومحادثة الأخلاء على التنائي. وأنس الأخوان عند الفرقة. ومستودع الأسرار. وديوان الأمور. وترجمان القلوب. والمعبر عن النفوس. والمخبر عن الخواطر. ومورث الآخر مكارم الأول والناقل إليه مآثر الماضي والمخلد له حكمته وعلمه والمسامر للعين بسر القلب. والمخاطب عن الناصت. والمجادل عن الساكت. والمفصح عن الأبكم والمتكلم عن الأخرس الذي تشهد له آثاره بفضائله وأخباره بمناقبه وقد وقعت البلاغة من العلم علو القدر وباذخ العز كأبي مسلم صاحب الدولة فرقت شمله وبددت جمعه ونقضت برمه وأفسدت صلاحه وضعضعت بنيانه مع ذكائه وتفطنه ومكايده ودهائه وأصالة رأيه وشدة شكيمته وامتناعه على أبي جعفر ونفاره عنه كيف استفزه ابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وجبل بن زيد واستمالوه بسحر ألفاظهم وبلاغة أقلامهم حتى نزل من باذخ عزه وجاء مبادراً حتى وقع في الشرك المنصوب له فتفرق جمعه وانطفأ نوره وصار خبراً سائراً وأثراً ورفع القلم خاشع الطرف صغير الخطر لئيم الجنس من ناظريه حتى شافهت بع عنان السماء ورفعت بناءه فوق البناء حتى طلبه الراكب وقصده الطالب وخشعت له الرجال. ولحظته العيون بالوقار. وتمكن من الصنائع ومدت نحوه الأصابع.(44/31)
فشكرت منه اللفظة. ورجيت منه اللحظة. كمحمد بن عبد الملك بن الزيات وفيه يقول علي بن الجهم:
أحسن من عشرين بيتاً سداً ... جمعك معناهم في بيت
ما أحوج الملك إلى مطرة ... تغسل عنه وضر الزيت
فأجابه محمد بن عبد الملك:
رقيت في القول إلى خطة ... قدرك فيها قد تعديت
قيرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت
ومدحه حبيب بن أوس يمدحه ويصف قلمه:
لك القلم الأعلى الذي بثباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل
وكان محمد من ألطف الناس ذهناً وأرقهم وأصدقهم حساً وأرشقهم قلماً وأملحهم إشارة إذا قال أصاب وإذا كتب أبلغ وإذا أشعر أحسن وإذا اختصر أغنى عن الإطالة أمره الواثق أن يتلطف بعبد الله بن طاهر ويعلمه أنه صرفه عن أمر الجزائر والعواصم وفوض ذلك لابن اسحاق بن إبراهيم فكتب أما بعد فإن أمير المؤمنين رأى أن يخلع ما في يمينك من أمر الجزائر والعواصم فيجعله في شمالك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
سهل بن بركة يهجو أبا نوح النصراني الكاتب فقال:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام ... أم ضاعت الأذهان والأفهام
من صد عن دين النبي محمد ... إله بأمر المسلمين قيام
إلا تكن أسيافهم مشهورة ... فينا فتلك سيوفهم أقلام
قال عبد الرحمن بن كيسان استعمال الكلام أجدر بإحضار الذهن عند تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام ولم يختلف في شرف القلم وإنما اختلف في كيفية البلاغة وماهيتها وقد مدحها كل قوم بأوضح عبارتهم وأحسن بيانهم فقال صاحب اليونانيين البلاغة تصحيح الأقسام واختيار الكلام. الرومي: البلاغة وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة. الفارسي: هي معرفة الفصل من الوصل. الهندي: هي البصر بالحجة والمعرفة لمواضع الفرصة ثم أن يدع الإفصاح بها إلى الكتابة عنها إذ كان الإفصاح أوعر طريقاً وربما الإطراق عنها أبلغ في الدرك وأحق بالظفر. غيره: جماع البلاغة التماس(44/32)
حسن الموقع والمعرفة بساعات القول وقلة الحذق بما التبس من المعاني وغمض وبما شرد من اللفظ وتذر ثم قال وزين كله وبهاؤه وحلاوته أن تكون الشمائل معتدلة والألفاظ موزونة واللهجة نقية فإن جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت فقد تم كل التمام. وقيل لهندي ما البلاغة فأخرج صحيفة مكتوبة عندهم فيها أول البلاغة احتمال آلة البلاغة. وذلك أن يكون البليغ رابط اتلجأش ساكن الجوارح قليل اللحظ متحيز للفظ لا يكلم سيد الأمة بكلام ولا الملوك بكلام السوقة ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة ولا يدقق المعاني كل التدقيق ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح ويصعبها كل التصعبة ويهذبها غاية التهذيب ولا يكون كذلك حتى يصادف فيلسوفاً حكيماً ومن قد تعود فضل الكلام وأسقط مشترك اللفظ.
أنوشروان لبزر جمهر: متى يكون العيي بليغاً فقال إذا وصف بليغاً
أرسطاطاليس: البلاغة حسن الاستعارة.
بشر بن خالد: البلاغة التقرب من المعنى البعيد والتباعد عن خسيس الكلام والدلالة بالقليل على الكثير.
خالد بن صفوان: ليس البلاغة بخفة اللسان ولا بكثرة الهذيان لكنها إصابة المعنى والقرع بالحجة.
عمر بن عبد العزيز: البليغ من إذا وجد كثيراً ملأه وإذا وجد قليلاً كفاه.
ابن عتبة: البلاغة دنو المآخذ وقرح الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير. بعضهم: إني لأكره للإنسان أن يكون مقدار لسانه فاضلاً عن مقدار عقله كما أكره أن يكون مقدار عقله فاضلاً عن مقدار لسانه وعلمه. يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.
عمرو بن عبيد: ما البلاغة فقال: ما بلغك الجنة وعدل بك عن النار وما بصرك بمواقع رشدك وعواقب غيك فقال السائل ليس هذا أريد. فقال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول قال ليس هذا أريد. قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنا معشر الأنبياء بكاؤون وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله فقال له السائل ليس هذا أريد قال كانوا يخافون من فتنة السكوت وسقطات الصمت(44/33)
فقال ليس هذا أريد فقال فكأنك إنما تريد تخير اللفظ في حسن إفهام أنك أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المؤنة عن المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستوجبت من الله سبحانه جزيل الثواب. الخليل بن أحمد: كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة فإن استطعت أن يكون لفظك لمعناك طبقاً ولتلك الحال وفقاً وآخر كلامك لأوله مشابهاً وموارده لمصادره موازناً فافعل واحرص أن تكون لكلامك متهماً وإن ظرف ولنظامك مستريباً وإن لطف بمواتاة آلتك لك وتصرف إرادتك معك فافعل إن شاء الله.
وهذه الرسالة عذراء لأنها بكر معانٍ لم تفترعها بلاغة الناطقين ولا لمستها أكف المفوهين ولا غاصت عليها فظن المتكلمين ولا سبق إلى ألفاظها أذهان الناطقين فاجعلها مثالاً بين عينيك ومصورة بين يديك ومسامرة لك في ليللك ونهارك تهطل عليك شآبيب منافعها ويظلك منها بركاتها وتوردك مناهل بلاغاتها وتدل على مهيع رشدها وتصدرك وقد نقع ظمؤك بينابيع بحر إحسانها إن شاء الله عز وجلّ والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(44/34)
جابلق وجابلص أو جابلقا وجابلصا
كان الإفرنج قبل أن يعنوا بدرس اللغات الشرقية ينسبون أشياء جمة إلى العرب ويقولون عنها أنها خرافات لا نصيب لها من الحقيقة بل ولا أثر لها في عالم الوجود.
ولما أخذوا بالبحث عن تلك الأمور والإيغال فيه ناموا يرجعون شيئاً فشيئاً عما عزوه إليهم تحكماً أو تهكماً وبدأوا ينضمون إليهم مستصو بين أقوالهم. إلا أنه مما يمكن أن يقال في هذا الصدد أن الناطقين بالضاد بالغوا في ذكر بعض الأمور العرضية حتى كاد الجوهر يخرج عن طوقه بما حملوه الوهمية نقلاً عمن ليسوا من فرسان الميدان. ومن هذا القبيل هاتان المدينتان اللتان نريد أن نبحث عنهما في نبذتنا هذه.
أخلاف اللغات فيها
قال في اللسان في مادة جبلق: التهذيب: جابلق وجابلص (أي بفتح البآء الموحدة التحتية وفتح اللام في كليهما على ما ضبطتا كتابة) وأما في القاموس فقد ضبطهما أيضاً بالفتح في جابلق وبالفتح أو بالسكون في جابلص. وذكرها ياقوت في معجمه: جابرس وجابلق أي براء مهملة ساكنة بعد الياء الموَّصلة التحتية. وبلام ساكنة بعد الياء في الثانية ورواها صاحب البرهان القاطع روايات مختلفة الذكر فذكر في 2: 79 ج بلسان في جابلق. ورواهما أيضاً جابرسان وجابرُسا في جابلص. وحكى في شفاءِ الغليل إن المتكلمين يقولون جابلقآء وجبلصآء بالمدّ وخطأهم. وأرردهما الطبري في تاريخه بصور مختلفة أي جابرت وجابرس وهو يريد جابلص وجابلق وجابلقا وهو يرمي إلى جابلق. فهذه اللغات والروايات وإن اختلفت فهي واحدة في المرجع والأصل ثم اختلفت تبعاً لسنة المعرب أو الأعجمي على ما هو مشهور في ما أفرغ في قالب عربي. وتعاور اللام والراء في العربي الفصيح أمر مشهور كالطلمسآء والطرمساء وداهية لبسآءُ وربساء ونافة عبهر وعبهل فكيف في الدخيل. ومثله يقال في تبادل التاء والسين في لغة معروفة في اليمن وهي الوتم. ولا حاجة في التصريح بأن السين والصاد تترادفان في العربية والأمثلة تفوت الحصر (المزهر1: 226 و 227).
أقوال العرب فيها
قال في التهذيب: جابلق وجابلص: مدينتان إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب لس(44/35)
ورأهما إنسيٌ روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه ذكر حديثاً ذكر فيه هاتين المدينتين. أهـ.
وقال الإمام السهيلي في كتاب المبهم: أظنها مجاورتي ياجوج وماجوج. وقد آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ مرَّ في ليلة الإسراء فدعاهم فآمنوا. أهـ.
وقال الخليل: بلغنا أن معاوية أمر الحسن بن علي أن يخطب الناس. وهو يظن أن الحسن سيحصر لحداثته فيسقط من أعين الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابلص رجلاً جدُّه ونبيٌّ ما وجدتموه غيري وغير أخي وأن أدري لعله فتنةً لكم ومتاع إلى حين وأشار بيده إلى معاوية. أهـ.
وقد جاء حرف جابلق في شعر أبي الأسود الدؤلي على أنه اسم موضع معروف قد شاهده فقد قال:
تلبس لي يوم التقينا عويمر ... بجابلقٍ في جلد أحنس باسل
فهذا كلام يشعر بأنهما التقيا بجابلق. وهي غير جابلق الواردة في حديث الحسن وهي التي ذكرها أحمد بن يعقوب الهمداني في كتاب الإكليل إذ يقول: في جابلق وجابلص بقايا عاد وثمود الذين آمنوا بهود وصالح.
وقال ياقوت في معجمه في مادة جابرس. مدينة بأقصى المشرق. يقول اليهود إن أولاد موسى عم هربوا أما في حرب طالوت (= شاول) أو في حرب بخت نصر فسيرهم الله وأنزلهم بهذا الموضع فلا يصل إليهم أحد وأنهم بقايا المسلمين. وإن الأرض طويت لهم وجعل الليل والنهار عليهم سواءً حتى انتهوا إلى جابرس فهم سكانها ولا يحصي عددهم إلا الله فإذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه وقالوا: لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك فيستحلون دمه بذلك. وذكر غير اليهود أنهم بقايا المؤمنين من ثمود وبجابلق بقايا المؤمنين من ولد عاد. اهـ. وذكر في جابلق: جابلق بالباءِ الموحدة المفتوحة وسكون اللام. روى أبو روح عن الضحاك عن ابن عباس أن جابلق مدينة بأقصى المغرب وأهلها من ولد عاد وأهل جابرس من ولد ثمود ففي كل واحدة منهما بقايا ولد موسى عليه السلام كل واحدة من الأمتين. أهـ. المقصود من إيراده.
وقال صاحب التاج في مادة ج ب ر س جابرسا آخر بلاد الدنيا (من جهة المغرب) وقال(44/36)
في جبلق: جابلق قد أوضح المولى سعد الدين البلدين وعرَّف بهما وذكر معناهما على الوجه الأكمل في بحث المثال في شرح المقاصد. ذكر ذلك الشهاب في شفاء الغليل. . . . أهـ قلتُ أنا: لم أرَ شيئاً في شفاء الغليل المطبوع في مصر مما ذكره صاحب التاج. نعم إنه تكلم عن البلدين إلا أنه لم ينطق بكلمة بخصوص المولى سعد الدين. فاحفظه. وأما شرح المقاصد لسعد الدين فهو وإن كان يبدي إلا أنه لما كان خالياً من فهرس مرتب يهديني وحياً إلى مطلبي لم أتمكن من العثور على البحث المذكور فرجعت عنه بما رجع به حنين.
وكفانا تتبعاً لأقوال الكتبة إذ اجتزأنا بذكره وفاء بالمقصود لا سيما أن الجميع يكررون أقوال بعضهم عن بعضٍ والنتيجة واحدة. والذي يستخلص مما تقدَّم بعد طرح الزوائد الدخيلة التي جاء بها الإسرائيليون ما يأتي:
جابلص آخر البلاد المعمورة من جهة المغرب على ما كان يظنه أبناء ذلك الزمان وجابلق آخر البلاد من المشرق وجابلق تاور بلاد ياجوج وماجوج. وجابلص في أقصى المغرب وأقصى المغرب كان ينتهي في عرف الأقدمين عند بحر الظلمات في نحو الجزائر الخالدات أو في ما يسامتها. وعليه فيجب علينا أن نبحث عن جابلق أو جابلقا في ما يجاور بلاد ياجوج وماجوج ونبحث عن جابلص في ما ينتهي عند بحر الظلمات. وأول كل شيء نحتاج إليه في البحث عن ضالتنا أن ننظر إلى الكلمة ونتفحصها لنعرف مأتاها. والحال أن العلماء قد أتفقت على أن اللفظة ليست بعربية ورجحوا كونها فارسية. لأنهم يقولون أن الجيم والقاف أو الجيم والصاد لا يجتمعان في لفظة عربية وإذا وجدتا فيهما يدلان على أن الكلمة أعجمية أو فارسية. فإذا تقرر أنها فارسية يتضح لك أن وجود جا في صدر كلا الحرفين يدل على أن اللفظة مركبة وأن جا تعين معنى يصح أن يقع على الكلمتين. وهو أمر لا ريب فيه فإن جا حرف فارسيّ معناه المحل والمكان والمقام. أو كما يقول العرب الدار التي وردت بمعناها الأصلي الحقيقي وبمعنى البلد والمدينة. لأن أول ما تنشأ عليه المدينة تكون داراً ثم تبتنى دور أخرى بجانبها حتى تقوم منها البلد أو المدينة. فقد قالوا دار السلام ودار الإسلام ودار السعادة ودار الحرب إلى آخر ما هناك. وأما بلقا أو بُلقا فيجب أن تكون اسم مدينةٍ في آخر البلاد المعمورة من جهة الشرق مما يجاور بلاد يأجوج ومأجوج وهذا ما يصدق على بلدة بلقا وبالإفرنجة وهو اسم نهر عرفه العرب أيضاً(44/37)
لخروجهم من سقي ذلك النهر. ويشهد على صحة ذلك وجود مدينة هنالك تسمى إلى اليوم بلقاري أو بلغاري وهم يكتبونها بحرف تمييزاً لها عن أو للبلاد المشهورة. واللاحقتان بآخر الكلم تدل على البلاد كما في كما أن جا في رأس الألفاظ تفيد هذا المعنى عند الفرس ومنها جابروان وجابق وجاجرم وجاجن وجاسك وجاكرديزه وجالقان وجاورسان إلى غير هذه.
وأما جابلص أو جابرسا أو جابلسا أو جابلصا فهي: بلص أو برصا أو بلصا أو بلسا بعد تجريد جا عنها. وإذا فتشنا عن مدينة بهذا الاسم في منتهى المغرب المعروف في ذلك العهد وجدناها باسم بلسا أو بلصا في بلاد لوسينانية أي هي البلدة المعروفة اليوم باسم تافيرة في بلاد البرتقال.
وإذا علمت ذلك ظهر لك أن لا حق للأجانب أن ينسبوا العرب إلى الجهل والقول بالخرافات والله الهادي إلى كل صواب.
بغداد ـ
ساتسنا(44/38)
نظرة في نخب الذخائر في أحوال الجواهر
وقفت على نسخة مضبوطة قديمة العهد من نخب الذخائر وعلقت عليها بعض حواشٍ وملاحظات لأنشرها في إحدى المجلات. فسبقتني إلى ذلك مجلة المشرق البيروتية في سنتها الحادية عشرة صفحة 851 وبالمقابلة وجدت أن نسخة المشرق ليست بمضبوطة كل الضبط وقد وقع فيها أغلاط وسقط منها عبارات وكلمات فترقبت فرصة أخرى أنشر نسختي مع حواشيها وملاحظاتي على مجلة المشرق. ولما زرت حلب في الصيف الماضي زدت النسخة تحقيقاً بمعارضتها بنسخ كثيرة فزدت ثقةً بما اجتمع لديَّ منها ثم انتهى إليَّ منذ أسبوعين الجزء السابع من مجلتكم المقتبس الغراء. لسنتها الرابعة فإذا بكم نشرتموها أيضاً فعارضت ذلك بنسختي فوجدت اختلافات أفردت لها هذه المقالة الآن وقبل أن أدخل في الإشارة إلى اختلافات نسخة المشرق والمقتبس عن نسختي أقدم الكلام في أحوال الجواهر والمعادن وما عرفه العرب عنها مع اعتقاداتهم واعتقادات الإفرنج بالحجارة الكريمة.
إن مؤلف نخب الذخائر في أحوال الجواهر هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري السنجاري المصري المعروف بابن الأكفاني نسب إلى سنجار حيث ولد ونشأ وطبَّ بمصر وتوفي بالطاعون سنة 749 هـ 1348 م وترك مؤلفات ذكر بعضها الحاج خليفة في فهرسه كنف الظنون منها كشف الرين في أمراض العين وغنية اللبيب في غيبة الطبيب ونهاية القصد في صناعة الفصد وإرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد وهذا طبع مؤخراً في بيروت سنة 1904 م في 148 صفحة وبعضها لم يذكرها منها بالنظر والتحقيق في تقليب الرقيق وغيرها مما هو في بعض مكاتب أوربا والشرق وأخبار المؤلف قليلة.
ولقد ألف كثير من القدماء في الجواهر منها كتاب (الأحجار) لأرسطو صنفه واستخرج بنظره والإرشاد الإلهي خواصها ومنافعها وذكر فيها خاصية ستمائة حجر ونيف. وقد عرَّبُه لوقا بن سرابيون وعليه اعتمد العرب في ما كتبوه عن الجواهر. فألف في هذا الفن أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتي المتوفى سنة 430 هـ (1038 م) واسم كتابه الجماهر في الجواهر. وأبو العباس أحمد بن يوسف اليفاشي القاهري المتوفى في سنة 651 هـ (1253 م) ةاسم كتابه (أزهار الأفكار في جواهر الأحجار) وصف فيه ما في خزائن الملوك منها.(44/39)
وقد رأيت نسخة منه في حلب وطبعه أنطونيو رانادي الإيطالي في فرنسا سنة 1818 م ونقله إلى الإفرنسية كليمان موله. وممن ألف في المعدنيات والأحجار الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845 هـ 1441 م. واسم كتابه (المقاصد السنية في معرفة الأجسام المعدنية). وموفق الدين البغدادي المتوفى سنة 629 (1231 م) له رسالة في المعادن وإبطال الكيمياء.
ومن أشهر من كتب في هذا زكريا بن محمد بن محمود الكوفي القزويني المتوفى سنة 682 هـ (1284 م) في عجائب المخلوقات معدّداً الحجارة والمعادن. والأبشيهي المتوفى في أوائل القرن التاسع ينتهي في المستطرف الباب السابع والستون. وابن بطوطة المتوفى سنة 777 هـ (1376 م) في رحلته ذكر مغاص الجوهر بين سيراف والبحرين. ومعدن الياقوت في جزيرة سيلان وعدد بعض اللآلئ في خزائن الملوك والعظماء.
وأبو الحسن المسعودي المتوفى 346 هـ (957 م) عدّد في كتابه مروج الذهب بعض المغاوص ووصف بعض الجواهر مما لا يخرج عن اعتقاد العرب وتتمة للفائدة أذكر أسماء المعادن والحجارة الكريمة التي أوردها القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات) قال: المعدنيات تقسم إلى الفلزات وهي الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأسرب والخارصيني وإلى الأحجار وهي الإثمد وحجر أرسون وحجر افيداج وحجر افرنجس وقليميا الذهب وقليميا الفضة وباهت وبسد وبلور والبورق وتنجادق وتدمر وتنكار وتوتيا وجالب النوم وجزع وحامي وبليناس واسمانجوني وحجر أبيض وأحمر وأسود وأصفر وأغبر وحجر الباهة والبحر والحباري والحصاة والحية والخطاف والدجاج والرحى والسامور والسم والشياطين والصدف والصنونو (السنونو) والعاج والعقاب والغار والقمر والقير والقيء والكلب والمطر وحجر تتمرغ فيه الناقة وحجر يتولد في الإنسان وحجر يتولد في الماء الراكد وحرض وموساي وخبث الحديد وخصية اللص وحجر در ودهنج وحجر دمياطي ورخام ورقوس وأحجار زاجات وحجر زبد البحر والزجاج والزرنيخ والزنجار والزنجفر وحجر سبج وسنسليس وسنباج وشاذنج وشب وصدف وطارد النوم وحجر طالقون وطلق وطرسوطوس وحجر عقيق وعنبري وعطاس وحجر فادزهر وفرسلوس وفرطاسيا وفرفوس وفيروزج وفيلفوص وفيهار وقرياطيسون وقروم قلقديس(44/40)
وقلطار وقلقندو وقلي وقيسور وقبراطير وحجر كرسياد وكرسيان وكرك وكرمان وكهرباء وحجر لازورد ولاقط الذهب وحجر لاقط الرصاص وحجر لاقط الشعر وحجر لاقط الصوف وحجر لاقط العظم وحجر لاقط الفضة وحجر لاقط القطن وحجر كاغيطوس وألماس ومغناطيس وماهاني ومراد ومرجان ومرداسنج ومرقشتا ومسن ومسهل الولادة وحجر مغناطيس وملح وحجر نطرون وحجر نوبي ونورة والنوشادر وحجر هادي وحجر ياقوت وحجر يشب وحجر يقظان. أهـ.
وذكر الأبشيهي في المستطرف أن المعادن تقسم إلى ما يذوب وما لا يذوب وقال أن المشهور منها سبعة الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والاسرب والخارصيني. والزمرّد والزبرجد والفيروزج والعقيق والجزع والبلور والمرجان وحجر الماطليس والحجر الماهاني وحجر مراد والدهنج والسبج والمغناطيس وحجر الخطاف وحجر الزاج وحجر الزنجفر وحجر الملح وحجر النطرون وحجر اللازورد. أهـ.
وقد ذكر كل من القزويني والأبشيهي خرافات كثيرة بشأن خواص الجواهر واتخاذ الناس لها مما كان أقدم من ذكر مثله من الاعتقادات أرسطو وديوسقور يدس اليونانيان وبلينوس الروماني وغيره فجاراهم العرب بهذه الأفكار.
وربما يظن بعضهم أن العرب ومن تقدمهم من الأمم اعتقدوا بهذه التخرصات فقط مع أن لمتمدني الإفرنج حتى يومنا اعتقادات ليست بأقل من تلك أوهاماً فالإنكليزيون يعتقدون أن الياقوت يشفي من الرثية (الروماتزم) ويبقي حامله من برد الأطراف والفيروز يحمي حامله من السقوط من شاهق والياقوت الأزرق يحمي حامله من الأفاعي ويزعمون أن حجراً كريماً يظهر في رأس الهرّ مرة كل ألف سنة فمن يجعله تحت لسانه تنبأ وأخبر بالغيب. وأهل نابولي في إيطاليا يلبسون أحجبة المرجان تعويذاً من عيون الحساد. ويزعمون أن الزبرجد يزيل حدة الطبع ويشفي من البرص. ويستعملون حجر اليشم لمنع العطش واتقاء الزوابع والصواعق والفيروز للوقاية من السقوط. والعقيق لقطع نزيف الدم والاستشفاء من لدغ الثعبان. ومن اعتقاد الإفرنج عموماً أن حجر الكهرباء يقي من مرض الحمرة ووجع الحلق. وكان القدماء من الفرنجة يطردون السحر بالياقوت الأصفر ويعالجون الجنون به ويرمزون باتاس إلى العدل والعفة والثبات إلى غير ذلك.(44/41)
وهناك الآن النظرة في مقالة النخب المنشورة في مجلتي المشرق والمقتبس معتمدين على مجلة المقتبس ثم على ما في نسخة المشرق وأخيراً نسختنا المحفوظة صفحة 378 سطر 3 كفَّ أفضاله وفي نسخة المشرق ونسختنا كفاء وهو الأظهر وسطر هـ الجواهر النفيسة بأصنافها وفي نسختنا وأصنافها. وسطر 13 صفحة فضة محلاة وفي نسختنا صفيحة فضة مجلوة وهي أصح وسطر 15 بلون البهرماني ـ البهرمان. وسطر 21 تشبيهاً بالجمر ـ تشبيهاً له بالجمر ـ وكأن الحميري ـ الخمري. وسطر 23 بالماذيني ـ بالماذنبي ولعل الاؤلى أولى.
صفحة 379 سطر 1 وعن التفت ـ التفث وسطر 3 عائرة ـ غائرة. وسطر 13 وأضعفه ـ وضعفه: ثلاثون ديناراً ـ ثلاثين. وسطر 18 وكان في خزانة يمين الدولة ـ الأميريمين الدولة محمود وسطر 19 وكان للمقتدر فصاً ـ فصّ.
صفحة 380 سطر 5 الفافقي ـ الغافقي وسطر 6 ينفع حدوث الصرع ـ يدفع وسطر 7 الياقوت الأحمر 5 وكذا في المشرق ـ وفي نسختي الياقوت الأبيض وسطر 8 كان فيه زئبق ـ زئبقاً. وسطر 10 وتقال أنه وقاية لعين المجدور ـ ويقال أنه أصح وقاية. سطر 12 مسفرص في وكذا في المشرق ـ صافٍ. وسطر 14 بالمرقشيشا الذهبية ـ بالمرقشيشا الذهبية: ما حلي به ـ ما جلي. وسطر 22 البحادي ـ البجادي. وسطر 25 بالماذيني ـ بالماذبني. وسطر 26 بذخشان ـ بدخشان.
زحلة (لبنان) ـ
عيسى اسكندر المعلوف(44/42)
سير العلم والاجتماع
كيف نحسن الأكل
كثيراً ما ينشأ سوء الهضم من هيئة الجسم ووضعه فإذا أردت أن تتقيه فعليك بجعل قامتك منتصبة ما أمكن واقفاً كنت أو جالساً فتلقي كتفيك إلى الوراء. وصدرك إلى الأمام وهذا من أهم القواعد في حفظ الصحة. ومن أنفع الرياضات لتقوية أعصاب الظهر والبطن أن يستلقي المرء على قفاه ويجعل يديه تحت نقرته ويجلس رويداً رويداً ويداه قابضتان على قفاه ويكرر هذا العمل مرات بتنويعه فينحني إلى الأمام وهو جالس ويمد يديه ليمس طرفي رجليه بأطراف أنامله. وهناك رياضة أخرى نافعة كثيراً وهو أن يقف المرءُ منتصب القامة وينحني إلى الوراءِ ثم يرجع إلى الأمام ويميل ذات اليمين ثم ذات الشمال وينتقل إلى الأطراف الأربعة بدون أن ينقل رجليه من مكانهما ثم يقف رافعاً يديه ومفرقاً بين رجليه كهذا الحرف ويمد بعد ذلك حفتيه بحيث تماسان وهو واقف مباعداً بين ساقيه ومنحنياً يمد يديه ما أمكن. هذه الحركات من شأنها تمرين عضلات البطن فإذا قام بها الإنسان قبل الأكل تنبعث شهوته للطعام وإذا أتاها بعده تسهل عليه الهضم ومما ينصح به لمن يريد حفظ صحته أن يبدل قبل الجلوس إلى المائدة ثيابه في النهار أو ثياب عمله ويضع المائدة وضعاً محكماً لأن لرداءة وضع الخفان تأثيراً في شهوة الأكل والنظر إليه وحده باعث على سوء الهضم والأحسن أن يستريح الإنسان قليلاً قبل الطعام وعليه أن لا يجلس على كرسي وذراعاه على ركبتيه وظهره منحن لأن هذه الجلسة تعوق الهضم.
النوراستينيا
النوارستينيا أو ضعف المجموع العصبي اسم لمرض عرف منذ ثلاثين سنة وهو يزداد مع الحضارة والإفراط في مقتضاياتها وهو عبارة عن تغلب الحالة العصبية على باقي المجموع العصبي والعصبي أعظم أمراض هذا العصر فالتعب على اختلاف أنواعه والاضطراب الدائم واشتغال الفكر في المعاش ولا سيما في المدن الكبرى والهموم ومعاكسة الدهر والخيبة في العشق وتعب الإسراف على النفس كلها من الأسباب الصحية المعتادة في انحلال الأعصاب وضعف مجموعها. وربما هذا المرض وراثياً فيحدث عنه إذ ذاك ضعف منوع في الأعصاب يؤدي إلى داء المفاصل وداء الملوك وهما من الأمراض العصبية كما(44/43)
هو المعلوم وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى الأمراض العفنية واضطراب الآلة الهاضمة والتناسل البولي. وأعراض النوراستينيا واحدة في الأكثر أهمها وجع الرأس ووجع الظهر والأرق والاضطرابات المعدية خاصة والضعف الذي يعم الجسم. وكثيراً ما تقل الوظائف العقلية والذاكرة والانتباه والإرادة ويصبح التأثر قريباً من المرض ويصحب كل ذلك قلق دائم وأفكار مرتبكة رديئة ويبدو التعب العام في الصباح عند الانتباه منت النوم فيشعر المريض أحياناً بتكسر في جسمه وارتخاء في قواه.
ويشعر بأهم الاضطرابات المعدية بسوء الهضم وثقل في جوف المعدة وأحياناً في قرصها فهذا المرض هو سوء هضم عصبي وكثيراً ما تقل شهوة الطعام وينتفخ البطن وترى في الوجه طفحة حمراء.
والنوراستينيا كالهستريا (اختناق الرحم) لا تهلك صاحبها بل تسمم جسمه وتصعب عليه الحياة ويتأتى للمصاب به كل حين أن يشفى منه وليس المعول فيه على الدواء والدواء ثانوي فالمهم في شفائه أن يُزال السبب الذي نشأ منه كالاهتمام بالأشغال والأعمال العقلية المفرطة في كل شيء. وتغير البيئة والمقام في الفلاة مما ينفع في شفائه نفعاً كبيراً. أما مداواته فالأحسن بالكهربائية والاستحمام بالماء الفاتر. والاستحمام بالكهربائية يؤثر في التغذية والأعصاب فالاضطرابات المعدية والشقيقة والأرق والأحلام الرديئة تنقطع بمجرد توجيه الكهرباء إلى الرأس. ونحاف الأجسام ينتفعن بالاحثقال بالزرنيخ ويفيد فيه التغميز (التمسيد) ولا بأس من استعمال بعض المشروبات التي تزيد القابلية للطعام وأخذ خلاصة القنب الهندي من عيار خمسة في المئة سانتغرام يزيل وجع الشقيقة لا محالة.
عمر الجراثيم
ثبت لأحد العلماء الألمان أن الجراثيم أطول أعماراً ومقاومة للاحتفاظ بحياتها مما نتوهمه لعلمنا أنها أحياء صغيرة لا ترى إلا بالمجهر فقد أخذ خراطيش حشاها رصاصاً وجعل عليها ألوفاً من الجراثيم ثم ملأ بنقية وأطلق الرصاص على علبة من التنك وكان فيها نوع من الهلام السائل الذي يصلح لأن تعيش فيه الميكروبات ولما مخض العلبة شاهد أن الجراثيم التي أطلق عليها الرصاص قد نمت وتكاثرت بدلاً من أن تهلك بإطلاق النار عليها والأغرب أنه رأى الرصاصة قد أخذت من الهواء جراثيم أخرى في طريقها أكثر حياة(44/44)
ترتع في الجسم الذي تحل فيه ولا تبقي ولا تذر.
تنظيف الرأس والشعر
يستعمل لتنظيف الشعر والرأس صفار بيضة تحل بقليل من ماء الكولونيا ويدلكان به ثم يغسل المكان بماء فاتر وينشف الشعر ويدوم مكشوفاً ريثما يجفُّ ولا يبقى فيه أثر للنداوة.
رجال الشرطة
من زار باريز يعجب برجال الشرطة وهو يراهم في الشوارع والجادات والمنعطفات واقفين لتأييد النظام يدلون الغرباء على الشوارع وهم منتبهون لكل ما يخل بالراحة ولكن الباريزيين يحسدون الإنكليز على شرطتهم ويقولون أنها أكثر نظاماً وانتباهاً وآداباً قائلين أن ثمانية آلاف لا تكفي للضرب على أيدي ثلاثين ألفاً من الأوباش والأوغاد في عاصمة الفرنسيس. ويقولون أن الشرطة في يابان يتولون حفظ النظام في شوارع أمهات المدن ويلبسون لباساً أوربياً ويتقلدون سيفاً دلالة على سلطتهم والحكومة تختارهم من قدماء الجند ولا سيما من طبقة اسمها الساموريسية عرفت بشدتها وجلادتها في الحروب والغارات ولذلك كان لهم في الشعب تأثير قوي ويزيدهم قوة عناية الحكومة بتربيتهم وعزة نفوسهم التي ضربت بها الأمثال. وترى رجال الشرطة في ألمانيا يلبسون لباس رجال المدفعية ويضعون على رؤوسهم خوذة وطنية سوداء لصغارهم كتب عليها بحروف من نحاس ـوائل الحروف من اسم الإمبراطور وبيضاء للضباط عليها صورة نسر بأجنحة مفردة واسم الإمبراطور بحرف مذهب. وإذا كان الألمان من أهل الطاعة العمياء أصبحت وظيفة الشرطة سهلة سواءٌ أرادوا القيام بها مع الفرد أو مع الغوغاء والجماهير ويعين الشرطة الرجالة رجالٌ من الشرطة الفرسان في مدينة برلين كما هو الحال في مدينة باريز. ويكتسي رجال الشرطة الإيطالية بجوخ أزرق وسراويل رمادية فاتحة وخوذات ملونة ويلبس ضباطهم ألبسة من الحرير الأزرق وإذ كان الطليان أصعب مراساً من الألمان فكثيراً ما يشاهد رجال الشرطة في بلادهم يتماسكون مع من يريدون القبض عليه أو دعوته إلى التزام النظام وينتهي ذلك بما لا تحمد عقباه من أجل هذا جعل لرجال الشرطة الطليانية حبل من سيور الجلد ليقيدوا به السجناء.
أما شرطة فينا فودعاء لطفاء يبشون في وجوه الناس. وشرطي بروكسل رقيق الجانب(44/45)
يخاطبك بلا كلفة. وشرطي هولاندة يحمل كل ما يلزم لإغاثة جريح يراه من الأدوية الأولية.
وسادة رجال الشرطة في الأرض هم بلا مراء شرطة الإنكليز ويقسمون إلى قسمين في لندرا قسم في الحي القديم وهو حي الحركة والتجارة وقسم لعامة أرجاء المدينة وعدد الأول ألف رجل وهو قليل المكانة بالنسبة للثاني المؤلف من 30 وكيلاً و 539 مفتشاً و2148 جاويشاً و 14129 ضابط بوليس ولهم كلهم ديوان كبير فخيم وتتخيرهم الحكومة من أرباب قامات تكون أطول من الوسطى والصحة الجيدة بالطبع وعليهم ملاحظة الحراس والعسس في الليل وستون في المئة منهم يلاحظون أمن المدينة ليلاً ولذلك قلما يحدث ما يكدر وراتب الشرطي من الدرجة الثالثة ثلاثة جنيهات في الأسبوع ويدفع إليه علاوة عن كل ساعة تزيد على العشر ساعات المقررة للخدمة كل يوم وليلة. ومخافر الشرطة في لندن هي عنوان الرفاهية يعيش فيها الشرطة غير المتزوجين حائزين على كل ما يلزمهم أما المتزوجون فلهم مخافر خاصة بهم فيها قاعات استقبال وحمامات والمضخات وقاعات لعب وخزائن كتب وغيرها فيعيش الشرطة فيها مع أسراتهم عيشة اشتراكية عسكرية. وفي لندرا ثلثمائة شرطي راكب لربط محطات الشرطة يستخدمون خاصة في أوقات المظاهرات والاحتفالات العامة ومثل هذا العدد لحفظ الأمن في نهر التايمس ويقوم بنجدة من تصيبهم بائقة ولهم مئة قارب وثلاث سفن معدة للجري كل حين وهكذا كانت شرطة لندرا أجمل زينة لإنكلترا وضامن لحفظها فعسى أن لا تقل شرطتنا العثمانية عن أمثالهم في البلاد الإنكليزية بعد حقبة من الزمن.
علاج الشهقة
وجدوا أن خير علاج للشهقة أن يمسك لسان من يشهق بين إصبعين يمسك بهما فوطة لئلا يغلب اللسان وأن يشد ما أمكن بحيث يبقى هنيهة خارج الفم فإذا لم تنجح هذه الحركة في المرة الأولى تعاد للثانية وفي ذلك الشفاء. وقد اهتدوا إلى هذه الطريقة من الدكتور لابورد الذي ما زالت تنقذ ألوفاً من الغرقى والمصلوبين وغيرهم بسحب ألسنتهم.
علاج الزكام
أفضل علاج للزكام أن يدهن المزكوم منخريه بزيت الزيتون ويستنشق زهر الكبريت وأن(44/46)
يلف صدغيه من الليل بمنديل ويمكن التوقي من الزكام في أوله ببل المنخرين بصبغة الأرنيكا فإذا طالت مدته فليس غير هذه الصبغة يستعملها المزكوم وإن أحرقته ولكن فائدتها مضمونة.
صوت الرعد
رأى بعض الأخصائيين بعلم الحوادث الجوية أن معرفة صوت الرعد عن بعد تتوقف على ملاحظة أول العاصفة أو آخرها لا وسطها والأحسن أن يلاحظ البرق الأفقي المنبعث من بين الغيم والأرض فإن صوته الجاف يعرف على أيسر وجه من الصوت الناشئ من البرق الذي يجول بين الغيوم. قال أراغو العالم أنه لا يسمع صوت الرعد إلى أبعد من خمسة وعشرين كيلو متراً وسبقه الإمبراطور كانغ هي الصيني فقال أنه يسمع من مسافة أربعين كيلو متراً وأن صوت المدافع يسمع إلى 30 فرسخاً (120 كيلو متراً) وقال أراغو أن صداها قد يتردد إلى بعد مائتي كيلو متر وأنه سمعت المدافع التي أطلقت من ثغر بورتسموت يوم جنازة الملكة فكتوريا إلى بعد 134 كيلو متراً وقد قام الباحث المشار إليه بتجارب عديدة منذ بضع سنين فلم يستطع أن يسمع صوت الرعد إلى أبعد من 45 كيلو متراً إذا لم يحل دونه جبال ولا آكام وكان الهواء ساكناً. وإن عاصفة تحدث عن بعد خمسة عشر كيلو متراً فقط قد لا يسمع صداها حتى أن بعضهم قال أنها إذا أرعدت السماء في لاهاي لا تسمع في ليدن وهي منها على أربعة فراسخ.
عداوة الزهور
يظهر أن بعض الزهور تتعادى أشد عداوة كالورد فإنه لا يطيق إلا سليخ (ريزيدا) ولك أن تربط واحدة من كل منهما في باقة وتضعهما في الماء فبعد ساعة تذبل الوردة وأختها على حين تزيد تلك الزهور الأخرى نضارة والسوسن قاس أيضاً على سائر الزهور يقتلها بدون رحمة على العكس في القرنفل وعباد الشمس فيحب أحدهما صاحبه فوا آسفاه حتى الزهور التي تعطر الأرجاءَ لا يتحمل أحدها الآخر.
مضار التدخين
في إحدى المجلات الإفرنجية إن مضار التدخين لا تنحصر في النيكوتين أي سمه فقط بل إن للدخان سموماً أخرى تصيب شاربيه وهي موجودة في تركيب مادة الدخان وهي(44/47)
البيريدين والكريزول وحامض الكربون وغيره وكلها ضارة لمن يدخنون اللفائف الكبيرة واللفائف المصنوعة من التبغ وهي أسوأ أثراً في الأكثر في من يبلعون الدخان فيصل إلى الرئتين فينشأ منه قيءٌ واضطراب في القلب وعرق بارد. ولا يتوقف تبطيل التدخين إلا على قوة إرادة ولأجل أن تعزف النفس عن التدخين يجب أن يتمضمض المدخن بجزء 0. 25 في المئة من نترات الفضة فإذا أحب بعدها التدخين يصاب بقرف شديد يدوم معه زمناً على أن هذه المضمضمة لا تخلو من خطر ثم أن نترات الفضة تسود الأسنان في برهة قليلة ورأى أحد الأطباء الروس أن يدهن غشاء الفم بنترات على معدل خمسة في المئة والأفضل من هذين الطريقتين أن يدهن سقف الحلق بمحلول نترات الصودا بكمية 10 في المئة.
لون الجوارب
من الجوارب ما يزول لونه في الحال فعليك إذا أحببت حفظ ألوانها عليها أن تجعلها في ماء فاتر وتغسلها باثني عشر لتراً من الماء البارد تجعل فيه حفنة من الملح وقدحاً من الخل الجيد.
إزالة البقع
لتنظيف البقع من الثياب (كالأقمصة والقفاطين وغيرها) وإزالة آثار الرطوبة منها افركها بالمحلول الآتي: ملعقة من الملح ممزوجة بملعقة من ذرور النشادر تحلها في ربع قدح ماء وتضع من هذا المحلول على البقع مرات متوالية ثم تترك الثياب منشورة في الهواء نهاراً ثم تغسلها على العادة فلا يبقى فيها أثر حتى ولا البقع القديمة.
البورصة
كتب خليل أفندي سعد في المهذب رسالة في البورصة جاء فيها أن البورصة نادٍ يجتمع فيه التجار والمضاربون فيشترون فيه ويبيعون إما نقداً وهو قليل وإما إلى ميعاد وهو أهم أعمال البورصة لما يجد فيه المشتري من السهولة والأمل بارتفاع الأسعار فيحمله ذلك على مشتري كميات أثمانها أكثر مما يقدر على أدائه نقداً.
وأعمال البورصة على نوعين أحدهما مختص بالاتجار بحواصل الأرض كالقطن والحبوب والسكر والمعادن وغيرها والآخر مختص بشراء وبيع القراطيس المالية من مثل أسهم(44/48)
المصارف وسندات الحكومة المالية وأسهم السكك الحديدية وما شاكل ذلك.
ولكي يعلم القارئ ما معنى هذه الأسهم وكيف توجد بطريقة رسمية لتصير صالحة للتعامل بها نقدم له مثالاً وهو كيفية تأسيس المصارف ذات الأسهم وهاك البيان:
إذا عزم أحد على إنشاء مصرف وكان غير قادر على تقديم رأس المال من جيبه الخالص فإنه يدعو جماعة من المتمولين للاشتراك معه في هذا العمل فيؤلف لجنة تدعى لجنة التأسيس أو المؤسسين. فهؤلاء إما أن يؤدوا كل ما يطلب لرأس المال، وإما أن يقدموا جزءاً منه مقابل أسهم معلومة يأخذونها ويطرحون الأسهم الباقية برسم البيع بالاشتراك فيشترك من يريد من الناس بعدد منها كل على قدر إرادته.
فإذا أعلن المؤسسون عن وجود مئة ألف سهم مثلاً كل سهم بثمانمئة قرش فقد ترد لهم اشتراكات بخمس مئة ألف سهم فيقال حينئذٍ أن أسهم هذا المصرف غطيت خمس مرات ولذلك فلا ينال من كان طالباً خمس مئة سهم مثلاً إلا مئة سهو فقط لوجوب توزيع هذه الأسهم بالتساوي على طالبي الاشتراك فيها.
ثم أن المؤسسين يختصون أنفسهم بأسهم يأخذونها مجاناً أو بثمن قليل جداً أي السهم بخمسة قروش مثلاً مقابل أتعابهم في إنشاء المصرف، وتدعى هذه أسهم التأسيس فيعطى لحامليها شيء معلوم مما يبقى من الأرباح بعد توزيع خمسة في المئة مثلاً على حاملي الأسهم العادية.
قلنا أن ثمن السهم من أسهم هذا المصرف الاعتيادية مئة قرش فإذا عمل المصرف بعد تأسيسه أعمالاً كثيرة الربح ارتفعت قيمة أسهمه جميعاً من مئة قرش إلى مئة وخمسين أو أكثر أو أقل تبعاً لمقدار الأرباح والعكس بالعكس. أما أسهم التأسيس فيبيعها أصحابها بالأثمان التي تساعدهم عليها حالة السوق وقد يبلغ ثمن السهم الواحد بين عشرة إلى خمسين ليرة تبعاً لشروط المصرف وموافقتها في توزيع أرباح طائلة على الأسهم التأسيسية ذات الامتياز.
وهذه الأسهم جميعاً عبارة عن ورقة مطبوع عليها نمرة السهم وقيمته الأصلية وبذيلها عدد من الكوبونات وهي مربعات محاطة بخروق تمكن من قطعها على حدة فيقطع فيها كل سنة واحد من هذه الكوبونات أو القطيعات يسلم إلى المصرف وينقد حامل السهم قيمة القطيعة(44/49)
وهذه القيمة تكون إما خمسة بالمئة أو أكثر تبعاً لمقدار أرباح المصرف أو ما يعينه في إعلان سابق يدرجه في الجرائد المحلية مبيناً ميعاد قبول الكوبونات وأثمانها.
هذه أخص الطرق لإصدار أسهم المصارف فيمكن يقاس عليها كيفية إصدار أسهم باقي الشركات التجارية وسندات الحكومة التي تقترض بموجبها ما يسد به دينها والآن فلنعد إلى كيفية المعاملة بالبضائع والأسهم وهي ما يأتي.
تفتح البورصة عند الساعة التاسعة صباحاً فيجتمع التجار والمضاربون في ردهتا ولا يسمح بالدخول إلى حلقة المناداة بالبيع أي عرض البضاعة أو الأسهم إلا لأناس مخصوصين هم السماسرة ووكلاؤهم.
فهؤلاء يكونون قبل أن يدخلوا حلقة المناداة قد تلقوا أوامر مختلفة من عملائهم بعضها بالمشترى وبعضها بالبيع بأثمان يعرضونها لهم. فيدخلون وبيد كل \ منهم مذكرة بشكل دفتر صغير فينادون ويعرضون ما لديهم من البضائع أو الأسهم مبينين أثمانها وذلك كأن ينادي أحدهم قائلاً: عندي خمس مئة قنطار قطناً من الصنف الوسط والقنطار بعشرين ريالاً تسليم آذار، أو إني أشتري مئة سهم من أسهم البنك العقاري بثلاث مئة فرنك السهم لميعاد شهرين فيجيبه آخر إني اشتريت ما تعرضه وآخر إني بعتك ما تطلبه فيدون ما بيع وما أشتري في مفكرات يوقعها البائع والشاري.
فإذا كان البيع نقداً والبضاعة حاضرة يدفع الشاري الثمن ويستلم ما اشتراه. أما إذا كانت المعاملة إلى ميعاد فلا يطلب من الشاري إلا جزءٌ من الثمن (بين 5 و 20 في المئة تبعاً لحالته من المالية)
كثيراً ما سمعت الناس يسألون عن معنى التغطية. وعندما اشتغلت النساء في مشترى أسهم المعادن منذ زمن في بيروت سمعت إحداهن تقول أن فلانة غطت بإيزارها أو ما ماثل ذلك.
ولكي تعلم حقيقة معنى التغطية البورصية لا الوجهية نفرض أنك اشتريت مئتين وخمسين قنطار قطن مصري وهي أقل كميبة يتعامل بها من صنف القطن في البورصة. فإن كان عميلك على ثقة منك فإنه قلما يطلب منك أن تدفع مقدماً أكثر من عشرة قروش على كل قنطار بصفة تأمين يأخذه لنفسه إذا هبطت الأسعار. وبما أن شراء القطن يكون لمواعيد(44/50)
مختلفة فإنك تعين الميعاد الذي تستلم فيه ما اشتريته فتوصي عميلك بأن يستري لد هذه الكمية تسليم شباط أو أيار أو غير ذلك. فلفظة تسليم هنا وهمية لأنك لست تاجر قطن لتستلم وإنما المقصود أنك تبيع ما اشتريته في ميعاد التسليم وتقبض أو تدفع فرق الثمن الذي يكون قد صعد حينئذٍ أو هبط. فإذا استمر السعر في صعود فلك أن تبيع وقتما تريد وتربح فرق الثمن. أما إذا هبط السعر فخسرت أكثر من العشرة قروش التي دفعتها تأميناً فيطلب منك العميل إما أن تغطي الخسارة فتدفع عشرة قروش أخرى وأما أنه يضطر إلى تصفية ما اشتراته لك فيبيعه لئلا تلحقه الخسارة شخصياً لأنه هو المسؤول لا أنت بالخسارة أمام من اشترى هو منه لحسابك.
في البورصة حزبان أحدهما يضارب على الصعود فيكثر من المشترى ليدفع الأثمان إلى الأعلى والآخر يضارب على النزول فيكثر من عرض البضائع والأسهم للبيع لتكثر على طلابها وتكسد فتهبط الأسعار ولكل من هذين الحزبين حيل وطرق للوصول إلى الغاية لا يمكن استيفاؤها هنا. غير أننا ننصح للمتعاملين بالبورصة أن لا يغتروا بالتلغرافات التي تأتي من الخارج عن إقبال المواسم أو محلها لأن بعض المضاربين قد يشيع نشوب الحرب بين دولتين لتهبط الأسعار ويخرج من مركزه رابحاً.
وفي كثير من الأوقات يحتكر حزب الصعود صنفاً من البضاعة ولا سيما إذا صار قليلاً قرب انتهاء موسمه فيرفع أسعاره بقدر ما يتمكن من ذلك. وهذا هو السبب في بقاء أثمان بعض الأصناف مرتفعة على الرغم من قلة الطلب ووفرة وجود البضاعة. ويعلم ذلك من أثمان الماس الآن فإنها فاحشة إلى ما يجب أن تكون عليه وما سبب ارتفاع ثمن القيراط من 15 ليرة إلى 30 ليرة مؤخراً إلاَّ تمكن جماعة من احتكاره وخصوصاً بعد حرب البوير وتعطل معادن الماس زمناً.
فيرى من ذلك أن المضاربات كثيرة الأخطار ولو كانت مبنية على الحكمة والتعقل والدرس واليقظة. فقد يكون المضارب على علم بزيادة المقطوعية لصنف من الأصناف مع عدم إقبال موسمه فيهجم على المشتري ظناً منه أن الربح متحتم ولكنه لا يلبث أن يرى الحالة بالعكس في كثير من الأوقات، إما لأسباب محلية توجب أعمال هذا الصنف أو تقليله وإما لعارض وقتي من مثل إشهار الحرب بين دولتين أو اعتصاب العمال أو لاتفاق حزب(44/51)
النزول على تنزيل قيمته أو لقيام صنف آخر مقامه وهلمَّ جرّاً.
فإذا كان لا بد لشخص من المضاربة بالبورصة فأفضل نصيحة تقدمها له أن يتروى كثيراً قبل المشترى أو البيع فيدرس حالة السوق على خبيرين ثم إذا أسعده الحظ وكسب عليه أن يكتفي بالربح القليل حالاً لأنه يكون قد وثق منه ثم يعاود الاتجار رابحاً بعزم جديد ومكسب يمكنه من تحمل الخسارة لو وقعت. فيمكنه إذ ذاك أن يخرج من مركزه مردداً قول القائل:
على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى ... وأخرج منه لا عليّ ولا ليا
وقد دلّ الاختبار على أن البورصة لا يمكنها أن تبلغ جراحها إلا في من يهورون لطمعهم بالغنى مع أن الغنى العاجل من البورصة لا يكون إلا بنسبة 5 إلى 100 من حوادث الخراب وذلك لذهاب معظم أرباح المضاربين إلى جيوب السماسرة الذين ينشبون المنشار فيأكلون الأرباح صاعداً ونازلاً سواءٌ ربح المضارب على أيديهم أو خسر، لأن نصيبهم (وهو في الغالب عمولة قدرها 5 في المئة) ثابت لا ريب فيه ما لم يفتروا فيجازفون بمالهم الخاص إرضاءً لعملائهم.
في البورصة طريقة لتأمين المضاربين على أموالهم بتحديد خسائرهم وهي أن يدفع المضارب مبلغاً معلوماً بصفة سوكارتاه ضد صعود الأسعار أو هبوطها تبعاً لإرادته.
فإذا شاء المضاربة بالقطن مثلاً واختار طريق الصعود أي أن يكون شارياً لا بائعاً فإنه يدفع نحو ربع ريال على كل قنطار لمدة شهرين فيأمن الخسارة مهما هبط السعر ولكنه لا يربح إلا إذا ارتفع الثمن أثناء الشهرين فوق الربع ريال الذي دفعه بصفة تأمين له ضد الخسارة.
وهناك طرق وعمليات أخرى من مثل العملية المسماة ستلاّج وهي الربح سواءٌ صعد الثمن أو هبط مقابل دفع أكثر من المبلغ المتقدم ذكره مما لا فائدة من الإسهاب في شرحه هنا لمماثلته لما تقدم في الجوهر.
وخلاصة ما ننصح به القارئ أن يبتعد عن البورصة لأنها كثيرة الأخطار والنفقات والهموم. وقد يوافق الاشتغال بها لمن كان عضواً في داخلها يقف كل يوم على بواطنها فيتمكن من التصفية حالاً. أما من كان بعيداً عنها فخسارته له ومعظم أرباحه لغيره.
هذا فضلاً عما يحف بالبورصة من الدواعي والأسرار التي تغل الأيدي عن السعي وتقيد(44/52)
الهمة عن الظهور بمظهرها الحقيقي خلافاً لحقل التجارة الواسع فإن فيه لذوي الذكاء والهمة والاستقامة مضرباً نائي الأطراف يمكن من كان مستعداً من الإصلاح والفوز بالفلاح.
سر السعادة
كتبت إحدى العقائل في مجلة مطالعات البيوت ما تعريبه: قال الفيلسوف فون كنيبل: سكن رغائبك الشديدة واجلس إلى مائدة الحيلة كما يجلس الضيف المحتشم ولا تطلب صنفاً من الطعام لا تراه مكتوباً في قائمة الألوان وهي كلمات فيها سر السعادة فإن حياة المرء تنقضي في البحث عن السعادة وكم من أفراد قلائل يتيسر لهم الحصول عليها. يدخل المرء في سن العشرين مضمار الحياة فيريد أن يؤسس له مقاماً بالرضى أو الغضب ويحاول أن يحرز أو يأخذ النمر الرابحة في يانصيب الحياة وكل يظن نفسه على ثقة من ربح الشطر الأعظم لأن الأهواء في السعادة تختلف باختلاف الأشخاص حتى إذا بلغ الأربعين بتعب ويشكو ويقول أنني أضعت سعيي هباءً ولم أحظَ بما أتطال إليه من السعادة ولو بحث المرء في حياته بحثاً مجرداً عن الهوى لاعترف في الغالب أنه بتعلقه بالوهم قد تخلى عن ألوف من الحقائق الحسنة في الحياة السعيدة.
السعادة تنشأ اليوم بعد اليوم من لذات مختلفة مؤقتة وأفراح طفيفة رائقة تكون بنت ساعتها فالواجب إيجادها بهمة وعناية على نحو ما تعمل النحلة العسل الجيد من عصارة الزهور المتباينة في الجودة فلقد كتب كارنو الكبير إلى ماكبورغ في ساعة يأس بالأبيات الآتية:
أيتها السعادة أنت التي يتحرك بك كل شيء على الأرض
أينزل ندماؤك على الكبراءِ أم في القرى؟
في إسبارطة أم في سباريس؟ في المعسكر أم في المقبرة؟
أم أنك تؤثرين الغابات أم حفظ القطعان؟
أأنت في البذخ أم في المجد أم في الوهم؟
في الرغبة الحاصلة؟ وفي الخلاص من الأمراض؟
في الصداقة أو الحب أو في البغض؟
في السلام والمعرفة والفضيلة أو بين القبور؟(44/53)
السعادة أيها الفاني الجزوع هي بنت الأمل
هي في فؤادنا وهي تلوج الطهر والعفاف
تقام نذورنا وتأتي غير منتظرة
هذه الهدية من الخالق هذه الجذوة السماوية
لا يتأتى تعريفها فهي خبز الروح
لاتعرف قيمتها إلا بفقدها
والحق مع كارنو الكبير في جعله السعادة ابنة الوجدان المستريح وأنها خاصة بالأمل ومن لم يقع له أن تحقيق رغبة طلبت زمناً لا تنشأ عنها المسرة التي كانت تتوقع منها قبل الحصول عليها فأجمل القصور وأزهاها للسكنى القصور التي يبنيها صاحبها في إسبانيا (أي الاشتغال بعالم الخيال) وإن ما يبعد السعادة من طريقنا عدم قناعتنا بما يحصل في اليد ونغتبط به فمعرفة السعادة هي حسن استعمال ما في الحياة من صالح وعدم مطالبتها بما لا تستطيع أن تمنحه.
ولربما رأينا زوجين تكدر عيشهما بعد اقترانهما لأن الزوجة نظرت إلى أرفع منها مقاماً فحسدتهن وأرادت بمال زوجها تنافسهن فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى تحمل بعلها على الاحتيال للمعاشر يأتيها بما تريد لبذخها وإسرافها ليترك سنن الاقتصاد والبساطة ويحاول أن يسعد امرأته أكثر من إسعاد الفطرة فما هو إلا أن تسود الدنيا في عينيه وعينيها ويضطر إلى الابتعاد عنها في طلب مظاهر الرفاهية وإذا رزقا أولاداً لا يكون منهم غير تنغيص العيش والشكوى على حين هم شمامة الأنس وريحانة النفس.
ليس لك من الحياة إلا ما أعددته وكثيراً ما نكون نحن العاملين على شقائنا بأنفسنا فبقليل من العقل والخبرة كان في وسع هذه المرأة التي جعلت حياتها بيدها لمجاهدة البؤس أن تكون بزواجها أسعد مما هي وكان لزوجها بشيء من المضاء والعمل وحسن السلوك بدلاً من أن يعيش في البؤس أن يصبح ذا مقام متناسب مع ذوقه وأصله وأمانيه ولو صحت عزيمة تلك الأم على أن يكون لها حنان حقيقي لاستطاعت أن تحسن تربية أبنائها الذين هم علة شقائها وربما خجلها.
الحياة دار ممر لا دار مقر لا يقف فيه السائر فالواجب التقدم على الدوام والاكتفاء بجني(44/54)
الزهور التي تصل يدنا إليها بسرعة على الطرق ونحن سعداء إذا لم نكن ممن أصابت أيديهم شوك وعوسج وإذا كنا ممن خانتنا السعادة فعلينا أن نجعل سرور غيرنا علة لسرورنا أنفسنا وعلينا أن نعمد إلى صالح الأعمال بدون جزاء وأن لا نبتعد قط عن خطة الواجب ننظر في مرآة ماضينا بدون ألم لوجداننا وعلينا حتى نسعد أن ننظر إلى تحتنا لا إلى من فوقنا ولا نكدر عيشنا بخوف ما يحدث وربما لا يحدث فكم عذاب يا رباه يحدث لنا من الشرور التي لا تلحقنا تبعتها.
فالعاقل يستمتع بما ملكت يداه وينظر إلى المستقبل باسماً ويقول إن الحياة زائلة والأيام معدودة فلماذا لا أغتنم السعادة الحاضرة. فإذا طرق البؤس بابي ذات يوم أتلقاه باحتشام رجل عرف الاستمتاع بالأيام الرائقة. وقليل في الناس اليوم من يرضون بما قسم لهم بل يطلبون أرقى منزلة مما هم فيها ويطمحون إلى أسباب ليست لهم ومن موجبات الأسف ما تسمعه من شكاوي الناس الذين يشكون مما لا يشتكى منه وليس لبؤسهم أثر إلا في مخيلتهم أو في أطماعهم التي لا تشبع وهم أبداً في خيبة مهما أُعطوا ولو عقلوا لكانوا سبب سعادة للبائسين في الأمور التي يبكون منها وينتحبون. قال فوستل دي كولانج المؤرخ إن الواسطة الوحيدة لسعادة الإنسان هو أن لا يفكر في نفسه بل يعمل لغيره وأن ينصرف بكليته إلى عمل يعتقد نفعه فالبشر لم يجدوا حتى الآن أسباباً توليهم السعادة والملاذ تعزف عنها النفس بسرعة والمطامع لا حدَّ لها فالإخلاص هو الذي فيه الهناء والجزاء في ذاته.
إذا نقص شيءٌ مما تريد ففكر فيمن لا يملكون شيئاً في هذه الدنيا. ذهب أحد الفقراء لزيارة إحدى الأماكن المقدسة ولم يكن له حذاءٌ فمشى على الأدغال والشوك يدمي رجليه والحصا يصرُّهما وكان طول طريقه يشكو سوء طالعه وقلة ذات يده قال أنه لما وصل إلى المكان المقصود رأى زواراً أتعس حالاً منه رأى أعمى لا ساق له فقال بعد أن رأيت ما رأيت لم أعد أشكو من فقدي حذاءً ألبسه في رجلي.
عمر الحيوانات
قليل في الناس من يعلمون كم تعمر الحيوانات فالحصان يعيش خمساً وثلاثين سنة والبقر ثلاثين في الأكثر ويبلغ البغل سن الستين والكلب لا يصل إلا إلى الخامسة والعشرين والهر الخامسة عشرة ومثله العنز والغنم وقد شوهد خنزير عمره عشرون سنة ولكن من النادر أن(44/55)
يبقوا عليه بل يذبحونه والأرنب قد يعيش من ثماني إلى عشر سنين ويعيش الديك الهندي والدجاج البري (الغرغر) اثنتي عشرة سنة وذكر البط قد يبلغ الثلاثين وصغار الطير كالحباشة والعصفور وحسون لا تتجاوز الخامسة والعشرين أما الغراب فإنه كما يقول علماء الحيوان يعمر طويلاً.
الجبن السريع
إذا أردت أن تعمل من اللبن الحليب جبناً في الحال بدون أن تستعمل الروبة التي يطول أمرها متى مزجت باللبن فعليك باستعمال السعتر البري تمسح به الإناء النظيف الذي تضع فيه الحليب ثم تصب على الأثر اللبن الذي يجمد في الحال.
تدوير الساعات
أفضل وقت ليدور الإنسان ساعته أن يوقت لها وقتاً يربطها فيه كل يوم في الميعاد المعين ومن الناس من يختارون المساء ومنهم من يختارون الصباح لربطها والصباح أفضل إذ تكون الساعة في النهار معرضة للحركة أكثر من الليل فإذا كان عهدها بالرباط قريباً تظل بقوتها إلى آخر النهار ثم لا تزال تضعف في الليل إلى صباح اليوم التالي وبذلك تستقيم جريتها وحركتها.
طرد الجرذ والفيران
عليك بدهن ثقوب الجرذ والفيران بزيت النعنع فإنها تكره رائحته كثيراً وذلك أسهل من استعمال السم لقتلها.
تدخين الحيوانات
يقولون أن الجمل والهجين يحبان دخان التبغ ومتى أُغويا به يسهل أن يحملا الأثقال ويطلب منهما كل صعب المنال وفي إفريقية الشمالية يعمد من يقودون ذينك الحيوانين إلى استهوائهما بالتدخين فيخضعان لكل ما يراد منهما ومتى صح العزم على قطع الأبعاد الشاسعة بهما يعطونهما لفائف يدخنونها فيسيران أحسن سير ويكون مع قوادهما في الغالب قطعة من الخشب مثلثة الشكل يجعل في طرفها المثقوب لفافة والخشبة في فم الحيوان فإذا شعلت اللفافة يمص دخانها ويرسله من منخريه حتى ينتهي منه ويطبق الجمل والهجين(44/56)
عيونهما في خلال شرب الدخان شاعرين بلذة فائقة وأنس غريب.
بيوت الرمل
وقر في الأذهان أن البيوت التي تُبنى على الرمل لا بقاء لها حتى أصبح ذلك من أمثالهم. نشأ ذلك مما ورد في بعض الكتب المقدسة من المقارنة بين من يبني بيته على الرمل ومن يبنيه على الصخر على أن آخر الآية أن الأمواج علت على ذاك البناء فانهار ولو بنيت البيوت في رمل جاف متين لمال استطاعت صروف الأيام أن تقوضها وأهرام مصر أصدق دليل على ذلك لأنها بنيت على الرمل وهي لم تتزعزع منذ ألوف من السنين.
الهر في يابان
كتب أحد الباحثين أن الهر نقل من الهند إلى الصين ومن هذه إلى اليابان وهو في الصين معدود من الحيوانات الأهلية منذ زمن طويل. وفي كتب الصين القديمة وصف مطول لأخلاقه وهو هناك يتوفر على إبادة الفيران من الحقول التي تسطو على الزرع وفي سنة 1212 من التاريخ الياباني الموافقة لسنة 552 للتاريخ المسيحي أخذوا في يابان يقدمون ضحيا للقطط وقد تبين له أن القط دخل يابان يوم دخل المذهب البوذي وذلك لوقاية المخطوطات الصينية التي تبحث في الأخلاق من سطوات الفيران وكانت العادة قديماً أن تجعل القطط في المعابد وكثيراً ما كانوا يرسمون صورها في المحال التي تألفها الفيران.
حمل الأحمال
يحمل الناس أحمالهم في البلاد الجبلية على الجزء الأسفل من ظهورهم أو على أصلابهم وذلك بوساطة سير من جلد يجعلونه أو بقدم يربطونه على الجبين بحيث ينتفع بعمل أعصاب النقرة ومن النساء الفلاحات من يحملن جرار الماء على رؤوسهن وعلى العكس في سكان الجبال فإنهم يحملون الأحمال الثقيلة على رؤوسهم حتى تنزل قدة الحمل على الجسم ولكن إذا حمل هكذا في الصعود الشديد يتعرض للسقوط إلى الأمام. أما الأشياء الخفيفة أو المتوسطة فيتأتى حملها بالذراع وعلى الورك والكتف مباشرة أو بواسطة ميزان كما هو الحال في الشرق الأقصى. ومن النادر أن يحمل الحمالون في البلاد السهلية على ظهورهم وإذا فعلوا فإنهم يجعلون الحمل على الجزء العالي من الظهر ولا يقربونه من الصلب كما يفعل الجبليون. وهذا كله ناشئ من تركيب الأرض التي يعيش فيها المرء(44/57)
فترى ابن الجبال ربعة مجموعاً قصيراً ولذلك يحمل حمله على صلبه حتى لا يتعرض للسقوط وترى ابن السهل طويل القامة نحيف الجسم أهيف فيحمل الأثقال على جنبه أو يرفعه كثيراً غير متخوف عليها السقوط.
البوسنة والهرسك
كان في البوسنة والهرسك إلى سنة 1906 نحو ثمانين ألف مزرعة وأرض زراعية لا يملكها العاملون فيها من الفلاحين بل هي ملك للسادة والأغوات يعطيهم الفلاح ثلث غلاتها وقد أخذت حكومة النمسا تبتاع تلك الأراضي من أربابها ولكن على طريقة بطيئة وألغت إكراه الأولاد على العمل بالطرق الأهلية وكان يقضى من قبل على كل ولد من سن السادسة إلى العشرين أن يسخر في الطرق واستعاضت عن ذلك بتكاليف وضعتها الولايتين مجلساً نيابياً مصغراً.
أخلاق الكوريين
عادات أهل كوريا من أغرب العادات فهم لا يعرفون الخياطة وبدلاً من أن يخيطوا ألبستهم وثيابهم يصموغنها بصمغ السمك وهم لا يعرفون الفرش بل يستعملون بدلاً منها ألواحاً من الورق المزيت لطيفة الملمس وأكلهم بسيط للغاية ومادته الأصلية عبارة عن الأرز ولحم الخنزير ولحم الكلب وهم على قرب بلادهم من بلاد الصين لا يعرفون الشاي بتة وأهم صناعات كوريا الورق وهو من أهم الصادرات إلى يابان ثم القيشاني والفخار يصنعونه بذوق غريب. أما وسائط النقل فهي على الفطرة الأصلية فترى المركبات فيها قليلة جداً والكراسي التي تحمل هي خاصة بالأغنياء والمنورين ولقلة الخيل والحمير استعاضوا عنها في حمل الأثقال بالثيران. والمرأة في كوريا محترمة للغاية ولكنه ينظر إليها كما ينظر للطفل وهي لا تسأل عن الجرائم التي تقترفها.
بكور الطيور
جاء في إحدى المجلات الإفرنجية ما مثاله معرباً: الطيور أكثر منا بكوراً في العادة فهي التي تتولى إيقاظنا في ساعات لا تكاد تختلف ولا بأس بالوثوق بها فطير البرقش (الشرشور) يستيقظ في شهر حزيران ويأخذ بالتغريد نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل وأبو زريق في الساعة الثانية ونصف والسلوى (سمانات) في الساعة الثانية والبلبل في(44/58)
الثالثة ونصف والشحرور يغرد منذ الساعة الثالثة ونصف إلى الساعة الرابعة والعندليب يبدأ في الرابعة ونصف وأبو زريق المستنقعات ربما تأخر تغريده إلى الخامسة بسبب برودة المكان الذي هو في الضباب المتكاثف عليه. والعصفور الدوري هو أكسل الطيور ينتبه من وكنته في الخامسة ونصف ولكنه يملأ الفضاء بتغريده. هذه ساعة الطيور ومن أراد الاعتماد عليها في أوقاته فعليه أن يسكن الغابات ويتمتع بأصوات هذه المخلوقات لا يخاف دركاً ولا يخشى والأجدر أن لا يجعل الطائر الذي يروق السمع بتغريده في قفص بل أن يبقى كما يريد من البيت وأكثر الطيور أنيسة للغاية وتحب مجتمع الناس إذا وقع في نفسها أنه لا تمس حريتها. وأحسن الطرق لجعل صغار الطيور وبيوضها في مأمن من مخالب الهررة وغيرها منه الحيوانات الغاصبة أن تضع حزمة من الشوك والعوسج في جذع الأشجار التي تناط بها الأعشاش والطيور المغردة تطربنا بنغماتها وهي من أعظم الأعوان على نجاح الزراعة.
الأعمار والعقليات
في مجلة المطالعات البيتية ما تعريبه: إن علاقة الأعمار بالأعمال الذهنية وتأثيرها هي من المسائل التي جرت المناقشة فيها كثيراً ولم تنجلِ عن نتيجة حتى اليوم. فمن المفيد من ثم أن نأتي على هذا الإحصاء الذي أورده أحد العلماء وقابل فيه بين أعمار زمرة من الرياضيين والشعراء والمصورين فأورد في المقدمين لايبنز الذي عمره 70 سنة وأولير 76 سنة ولاكرانج 77 ولابلاس 78 وكوس 78 وأفلاطون 82 ونيوتن 85 وأرخميدس 75 وفيثاغورس 90 وأورد من الشعراء والمصورين بندار الذي عاش 80 سنة وسوفقلس 90 وأربيدس 75 وسيمونيدس 89 وشومير 71 وميشيل آنج 90 والتيتين 99 ونوردورت 80 ولاندرو 89 فمعدل الحياة بموجب هذه الأرقام 79 سنة لرجال العلم و 85 لغيرهم.
فهذا الإحصاء يرضي القائلين بأن الأشغال العقلية لا تختصر حبل الأجل أما القائلون بعكسه فيقولون لك بالإحصاء أيضاً أن رفاييل مات في سن ال 37 سنة وموسه في ال 47 وهيجزيب مورو في ال 28 وشكسبير وبرون في سن الشباب وغيرهم ماتوا في زهرة العمر. وعليه فإن أحسن شرح لما تقدم أن يقال أن الارتقاء في الأمور العقلية في الأكثر نتيجة الصحة الجيدة وأن القوة الطبيعية هي التي تطيل الجل في حين أن هذه الأشغال(44/59)
العقلية نفسها تقصر أعمار ضعاف الأجسام وتقودهم في الأغلب إلى أشد حالات الاضطرابات الدماغية.
إبادة الجراد
لم ير الباحثون حتى الآن في طبائع الجراد وأضراره بالمزروعات والأشجار بحيث يقضم الأخضر واليابس إلا أن تتوفر العناية على جمع بذوره قبل أن تفرخ وتبيض كما يفعل المستعمرون في بلاد مراكش والجزائر حيث يكثر الجراد فيجرد كل خيرات البلاد معظم السنين.
دواء التهزيل
كثير من النساء من يريدون التخلص من السمن الذي يعالجهن قبل الأوان فتضيق به أنفاسهن وتتأذى به نفوسهن ليصبحن رشيقات ممشوقات. والذريعة إلى ذلك أن يعمدن إلى تمرين عضلي بسيط للغاية فإذا أحبت المرأة أن تصغر وركيها فعليها أن تضطجع على الأرض وترفس برجليها مرات، ثم تنهض وترفع ساقيها ثانيةً لهما بحيث تكون ساقها على صورة زاوية قائمة مع قامتها وتظلُّ تعمل هذه الحركة بساقيها خمس دقائق كل مرة. وفي الأسبوع التالي تقف منتصبة وتضع ذراعيها وراء ظهرها وتحمل شيئين ثقيلين تربطهما بطرفي حبل وفي الأسبوع الثالث تعمد إلى حني ركبتها وتمدُّ الساق الثانية مداً مستطيلاً وتضع يدها مفتحة على الأرض وذراعها الآخر وراءها وفي الأسابيع التالية تحني بدون أن تثني ركبتيها بحيث تمس أطراف أصابعها رجليها ولا بأس من الاعتماد على كرسي في بداءة هذه الرياضة فقط ويستغنى عنه فيما بعد. ثم تقفز بعد ذلك مستندة إلى إطار (طارة) واسع وهو أحسن من الحبل الذي يقفز به. حتى إذا اكتست المرأة ثياب الزينة تنتصب مستقيمة وتمد ذراعيها ثم تستنشق الهواء بكل ما فيها من قوة ثلاث مرات وبهذه الواسطة يهزل جسمها بحول الله وقوته وتغدو رشيقة القوام ـ انتهى معرباً عن مجلة البيوت.(44/60)
العدد 45 - بتاريخ: 1 - 11 - 1909(/)
القضاة والنواب
1
صحيفة من تاريخ القضاء
ترى الناس على اختلاف مذاهبهم ونحلهم وأجناسهم مجمعين على انتقاد أعمال القضاة والنواب شاكين كل حين من ظلمهم وغدرهم على أن العدل والأمن والراحة العامة وتأمين الحقوق في أيديهم وحياة الأمة وعمران الوطن وسعادته تتوقف على إصلاحهم فهم على ما هم عليه من المكان من حيث الدين والدنيا نرى أكثرهم كانوا من أكبر المخربين في هذا المجتمع الإنساني وقد تيسر لي اختبار أعمالهم وأفعالهم فرأيت أن أكتب شيئاً عنهم غير أني لم أقدم عليه قبل الرجوع إلى أمهات الكتب الدينية والوقوف على حقائق هذا المنصب العظيم.
وقد أنشأت هذه المقالات بعد أنم طالعت مقدمة ابن خلدون وحاشية ابن عابدين وتكلمته والأشباه والأحكام السلطانية وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل لابن الأثير ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة والميزان للشعراني وسراج الملوك وغيرهما ولذلك أرجو من وجد غرابة في بعض أقوالي أن يرجع إلى هذه الكتب المهمة.
القضاء
القضاء لغة: الحكم ويجيءُ بمعنى الفراغ والأداء وأما القضاء شرعاً فهو فصل الخصومات وقطع المنازعات غير أنه مظهر للأمر الشرعي لا مثبت.
كان النبي صلى الله عليه وسلم وحياً يوحى لا ينطق عن الهوى ولذلك لم يكن قضاءٌ في زمانه وفي مقر نبوته لأنه كان يأتي بالحكم أو يحكم مثلما يوحى إليه غير أنه عليه السلام لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أرسله إليها عاملاً وقاضياً وبعث علياً إلى جهة اليمن عاملاً وقاضياً فكان أمر القضاء ممتزجاً مع الإمارة في زمان النبوة ولما صار أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة قال له أبو عبيدة أنا أكفيك المال يعني الجزاء وقال عمر أنا أكفيك القضاء فمكث سنة ولم يخاصم إليه أحد فكان عمر أول قاض في المسلمين.
ولما تولى الخلافة أدرك أن توسع أمر الفتح وكثرة الاشتغال بالسياسة يؤخره عن القيام بالقضاء ولى أبا الدرداء معه في المدينة وولى شريحاً في البصرة وولى أبا موسى(45/1)
الأشعري بالكوفة وكتب له كتابه المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة وفيه يقول:
أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له واسٍ بين الناس في وجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما بيس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماءِ. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء فإن الله سبحانه عفى عن الإيمان ودرأ بالبينات وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام.
القضاء في الدولة العثمانية
3
كان السلطان عثمان الغازي مؤسس هذه الدولة ورعاً ديناً يستخدم قضاةً وحكاماً للنظر في الأمور الشرعية والقيام بأحكامها ولما تولى الملك ابنه أورخان الغازي طلب من الشيخ علاء الدين الأسودي رجلاً يقوم بمصالح الناس الشرعية في أسفاره فأوصاه بقره خليل أفندي جنوره لي فاتخذه قاضياً لبروسة عاصمة ملكه ثم جعله قاضياً على العسكر وخصه بأمورهم ولما آنس منه اختباراً في السياسة استوزره وسماه خير الدين باشا ونصب رستم أفندي مكانه قاضياً للعسكر.
وفي زمان السلطان بايزيد الأول تولى العالم محمد شمس الدين أفندي منصب الفتيا في قاعدة السلطنة للنظر في الأمور الشرعية وجمعها في مركز واحد فأصبح المفتي ناظراً عاماً عَلَى جميع العلماءِ والقضاة والمدرسين وقد بدأَ تنظيم مراتب العلماء الحالية ونظامهم(45/2)
في زمان محمد الفاتح على أنه لم يكن حتى في آخر زمانه سوى قاضٍ واحد للعسكر ولما كثرت الأعمال قسم القضاةَ على قسمين فصار قاضي عسكر للروم ايلي وقاضي عسكر للأناضول وجعل الفاتح جلال زاده خضر بك قاضياً عَلَى استانبول ومفتياً في مركز السلطنة وذلك عقيب فتح الأستانة.
وبعد حين تولى العالمان الشهيران ابن كمال باشا وأبو السعود أفندي منصب الفتيا بعدما كانا قاضيين للعسكر ثم أخذ يطلق عَلَى منصب الإفتاء مقام المشيخة الإسلامية وأصبح منصب الإفتاء فوق منصب قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول وجعلت له رئاسة الطرق العلمية ونظارة المحاكم الشرعية وأصبح مقام شيخ الإسلام معادلاً لمقام الصدارة العظمى وصار يقال لشيخ الإسلام (ولي النعم) وعدامر المعارف والعدل من حقوق مقام المشيخة واخذ طلبة العلوم عندما ينجزون دروسهم عَلَى الطريقة القديمة يقيدون أسماءهم في جريدة الدولة فيغدون قضاة.
ولم تكن مناصب قاضي عسكر وقضاة استانبول وقضاة أدرنه توجه إلا عَلَى اكبر المدرسين ومنتهى رتب التدريس رتبة المولوية بيد أن هذه الوظائف كانت مقرونة بالعمل والقاعدة أن ينالها المرء بحسب قدمه ولكن قوة الوساطة والشفاعة والرشى صارت تؤَهل الجاهل لبلوغ تلك المناصب فدخل الفساد فيها حتى أصبح القضاء ألعوبة بأيدي البحارة وصعاليك الناس وانشأ من ينال شهادة الملازمة بوسائط غير مشروعة يصل بها إلى القضاءِ. وكان قاضي استانبول اكبر مأمور شرعي بعد قضاءِ العسكر وله النظر في أمور البلدية وشؤون أرباب التجارة والحرف.
قلنا أن أحكام العدل كانت من وظائف مقام المشيخة وأن الدعاوي تنظر في المحاكم الصغرى وأما الدعاوي الكبرى فينظر فيها أمام قاضي عسكر وكان الديوان الهمايوني بمنزلة محكمة كبرى فوق المحاكم ينظر في أمور الدولة والأمور الشرعية معاً ثم تغيرت صورة هذا الديوان وانفردت أمور الدولة عن مصالح الرعية فاخذ القاضيان يجتمعان في غرفة العرض مرتين من كل أسبوع وينظران في الدعوى التي تعذر حلها في المحاكم الصغيرة وكان يقال لهذا المجلس (حضور مرافعه سي)
وأصبح هذا المجلس في سنة 1254 يلتئم بحضور شيخ الإسلام وفي عهد المرحوم عبد(45/3)
المجيد لما كان عارف أفندي شيخ الإسلام غدا انتخاب تحت نظام وفتح مكتب النواب عام 1272 وشرط ان يكون النائب من متخرجي هذه المدرسة وفي سنة 1274 تأَلف مجلس التدقيقات الشرعية وأصلح في سنة 1289 وأصبح تدقيق الصكوك والاعلامات من وظائف باب الفتوى.
وبعد ذلك انقسم مستخدمو الشريعة إلى قسمين الأول للفتوى والثاني للقضاءِ وصارفي مركز كل ولاية ولواءٍ وقضاءٍ مفتٍ وغدا المفتي مرجعاً لحل الأمور الشرعية وعد شيخ الإسلام المفتي الحقيقي وشرط في الإفتاء أن لا تعطى الفتوى لأرباب المصالح قبل تصديق شيخ الإسلام عليها وأما أمر القضاءِ فأمره لشيخ الإسلام يتولاه من السلطنة او مقام الخلافة غير أن مجلس انتخاب الحكام ينتخب الحكام وشيخ الإسلام يصادق عليه عند تقبيلهم ذيله ثم تكتب المراسلة ويختمها قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول وقاضي الأستانة وقاضي غلطة وقاضي الخواص الرفيعة وقاضي مكة وقاضي المدينة وغدا قاضي عسكر الأناضول قاضياً عَلَى آسيا وافريقية وقاضي عسكر الروم ايلي قاضياً على الروم ايلي وأما بقية البلاد فيحكمها نواب هؤُلاءِ القضاة فلكل مركز ولاية نائب ولكل مركز لواء نائب ولكل مركز قضاء نائب ولبعض النواحي نواب فنواب آسيا وافريقية ونواب قاضي عسكر الأناضول وأما نواب الروم ايلي فهم نواب قاضي عسكر الروم ايلي ولمنصب النيابة رتب منها خامسة ورابعة وثالثة ومسبوق ومستخدم الخ.
وترك الخيار في مراجعة المحاكم لأرباب الدعاوي وتقرر استئناف الأحكام في مجلس التدقيقات الشرعية وتمييزها في مقر الفتوى والتمييز قبل الاستئناف خلافاً للأحكام النظامية فالحجج والاعلامات ينظر فيها بعد تدقيق توقيعها وختم خاتمها فان وافقت الأصول الشرعية ترسل إلى مجلس التدقيقات الشرعية.
ثم جعلت محكمة (التفتيش) في نظارة الأوقاف للنظر في دعاوي الأوقاف ومحكمة (القسمة العسكرية) للنظر في دعاوي الإرث وتحرير الشركة وتقسيمها وعين مفتش الأوقاف حاكماً في محكمة التفتيش ومدته سنة والقسام العسكري حاكماً لمحكمة القسمة العسكرية واختصت محكمة التفتيش بدعاوي توجيه الجهات والتولية والمحلولات واستئنافها بمجلس التدقيقات الشرعية وأما القسام العسكري وقسام بيت المال فملحقان بقاضي عسكر الروم ايلي وليس(45/4)
لقاضي الأستانة سوى النظر في دعاوي الطلاق والنكاح والنفقة والمنازعات المتعلقة بالكدكات. وأما سائر المحاكم الشرعية فلها أن تنظر في دعاوى النكاح والطلاق والنفقة والحضانة والحريق والرق والقصاص والدية والارش والوصية والإرث والإقراض بالدور الشرعي والدعاوى الوقفية المتعلقة برقبة المسقفات والمستغلات والكدكات من الأوقاف الصحيحة التي هي من ذات الإجارة الواحدة أو ذات الاجارتين هذه الدعاوي في الأمور الشرعية مشوشة من حيث المرجع تحتاج إلى إصلاح حقيقي.
أوصاف القضاة الشرعية
4
القضاءُ فرض كفاية وسنة مثبتة لا يجوز أن يقلد إلا من تكاملت فيه شروطه وذلك بان يكون رجلاً بالغاً عاقلاً صحيح التمييز جيد الفطنة بعيداً عن السهو والغفلة حراً مسلماً عادلاً صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم متوقياً المآتم بعيداً عن الريب مأموناً في الرضى والغضب صاحب مروءة في دينه ودنياه سالم السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق وأن يكون عالماً بالأحكام الشرعية وعلمه بها يشمل علم أصولها والارتياض بفروعها.
وأما أصول الأحكام الشرعية فهي أربعة احدهما علمه بكتاب الله عز وجل حق معرفته والثانية علمه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله وطرق مجيئها والثالثة علمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الإجماع ويجتهد برأيه في الاختلاف والرابعة علمه بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها حتى يجد طريقها إلى العلم بإحكام النوازل ويميز الحق من الباطل.
فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة للأحكام الشرعية عد فيها من أهل الاجتهاد في الدين وجاز له أن يفتي ويقضي وأن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يقضي ويفتي وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه وقضاياه واختلف أصحابه فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة.(45/5)
ويقول ابن هبيرة في الإيضاح (إنما عني بالاجتهاد لما كان عليه الناس في الحال الأولى قبل استقرار مذاهب الأئمة الأربعة فالقاضي الآن وإن لم يكن من أهل الاجتهاد ولا تعب في طلب الأحاديث وانتقاد طريقها لكن عرف من لغة الناطق بالشريعة عليه الصلاة والسلام مالا يحتاج معه إلى شروط الاجتهاد وإنما عَلَى القاضي أن يقضي بما يأخذه من الأئمة أو عن واحد منهم فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قوله قاله وعَلَى ذلك فإنه إذا خرج من خلافهم متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكَنه كان آخذاً بالحزم عاملاً بالأولى ويجب عليه الأخذ بالأكثر والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه يأخذ بالحزم مع جواز عمله بقول الواحد إلا أنني أكره له أن يكون مقتصراً في حكمه عَلَى إتباع مذهب أبيه أو شيخه فلو عدل عما اجتمع عليه الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بمفرده من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قال ولا أداه إليه اجتهاده فإني أخاف من الله عز وجل أن يكون اتبع في ذلك هواه ولم يكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ثم قال: لو أهملت هذا القول ولم اذكره ومشيت عَلَى ما عليه الفقهاء من أنه لا يصلح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد لحصل بذلك ضيق وحرج عَلَى الناس فإن غالب شروط الاجتهاد الآن قد فقدت في أكثر القضاة ولذلك ان ولاية الحكام جائزة وأن حكوماتهم صحيحة نافذة وإن لم يكونوا مجتهدين والله أعلم أهـ).
وبهذا علمت أن قد جوز ابن هبيرة قضاء من لم يكن من أهل الاجتهاد وذلك في زمانه ولكنه لك يجوز قضاءَ الجهال ولو نظرنا إلى قوله لأدركنا أن القاضي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد يجب عليه أن يكون قريباً من درجته ليتمكن من ترجيح القول الراجح والقول الموافق ولو عَلَى غير مذهبه فإن أئمة الدين والفقهاء المحققين أوصوا باختيار القول الراجح ولو كان عَلَى غير مذهبه (لأن التقليد الأعمى في أحكام الشرع محظور والاجتهاد فيها مستحق).
نهى الشارع عن طلب القضاء وقد ضرب السلف الصالح وحبسوا ليتولوا القضاء فلم يقبلوا وجوز بعضهم طلب القضاء في حالتين إحداهما أن يكون القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره والحالة الثانية أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وال. وطلبه لاحتياجه مباح وإن كان لإقامة الحق فهو مستحب وإن كان طلباً للجاه فهو(45/6)
مكروه.
واتفق الأئمة الأربعة والفقهاء المتقدمون والمتأخرون عَلَى أن القاضي إذا أخذ القضاء بالرشوة لا يصح قضاؤه وإذا حكم لا ينفذ حكمه ويجب نقضه واجمع الفقهاء عَلَى أن القاضي إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى فيه. وقال السرخسي لا ينفذ كلها.
ولا يجوز للقضاة أخذ العائدات والمحصول ولو احتجوا بإذن موليه لأن ابن عابدين أنكرها كل الإنكار وذكر في الخبرية أن من التزم القضاء عَلَى مبلغ معلوم فهو كافر والعياذ بالله ولا يصح الاحتيال لحصول القضاء. وأما القضاء بظلم أو رشوة فيوجب العزل والتعزير وقد منع القاضي من قبول الهدية والاستعارة والاستقراض وسائر ما يتبرع به ويمنح ويجب رد الهدية إلى صاحبها أو لبيت المال إذا لم يعلم صاحبها وعدم القبول هو المقبول. وإذا فسق القاضي عزل ولا يكون القاضي فظاً غليظاً جباراً عنيداً وكره تحريماً اخذ القضاء لمن خاف الظلم والعجز عن إقامة الحق والعدل.
ولاية القاضي مقيدة بالزمان والمكان والحوادث وتكون ولايته عامة أو خاصة في بعض المسائل أو عَلَى أحد المذاهب وله أن يستخلف نواباً إذا فوض إليه صريحاً كولِ من شئت أو دلالة كجعلتك قاضي القضاة ولا يصح للقاضي أو النائب أن يحكم بما خالف الدليل لأنه لا ينفذ ولو حكم به ألف قاضٍ وأما القضاة فهي عَلَى ثلاثة أقسام الأول حكمه بخلاف النص والإجماع فهو باطل ينقض والثاني حكمه فيما اختلف فيه فهذا ينفذ وليس لأحد نقضه والثالث حكمه بشيءٍ يتعين فيه الخلاف بعد الحكم فيه أي يكون الخلاف في نفس الحكم فقيل نفذ وقيل توقف عَلَى إمضاء قاض آخر فلو أبطله الثاني بطل وإن أمضاه فليس لقاض آخر نقضه.
وأما منزلة القضاة من حيث الآخرة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل عرف الحق فلم يقض وجار في الحكم فهو في النار ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عَلَى جهل فهو في النار فانظر إلى ما كانت عليه أحوال القضاة وأحكامهم تعلم منازلهم.
ويسرنا أن نرى الحكومة الدستورية أخذت تعنى بانتخاب من توفرت فيهم الشروط الشرعية وفقها الله.(45/7)
أحوالهم الأخيرة
5
في المقالة الثالثة أن مدرسة النواب أسست لتخريج نواب قادرين عَلَى القيام بما يعهد إليهم من الوظائف عارفين بأحكام الشريعة غير أنني حتى الآن لم أصادف بين من اجتمعت بهم من المتخرجين في المدرسة المذكورة عالماً بوظائفه وأحكام الشريعة كما يجب إلا القليل منهم وهذا مما يدل عَلَى أن ذلك المعهد العلمي غير كاف وفي حاجة عظيمة إلى الإصلاح ومع ذلك فإننا نرى كثيرين من النواب تخرجوا بكتابة المحاكم الشرعية وربما يتعلم هؤلاء الكتابة وتنظيم الاعلامات والصكوك والحجج الشرعية وضبط الدعوى وتصير معهم ملكة المعاملات غير أنهم يخبطون في أحكامهم خبط عشواء ويجمعون من مجلة الأحكام العدلية وكتب الفتاوى ما يجدون كحاطب ليل واغرب من ذلك ما صادفته في بر الأناضول وذلك أن النواب هناك يستخدمون نواباً لأنفسهم جوالين (سيار نائب) ثم يأخذونهم إلى باب المشيخة ويجعلونهم نواباً بالوسائط التي بلغوا المناصب بها وقد شاهدنا بأم العين نواباً لم يكونوا ممن انتسب إلى العلم.
فالنواب حينما يذهبون إلى الأستانة في طلب التعيين ينتظرون زماناً طويلاً ويتكبدون نفقات طائلة ويقاسون أنواع العذاب ولا يحصلون عَلَى نيابة إلا بعد أن يصرفوا ما جنوه من أموال العباد في خلال نيابتهم الأولى فيخسرون ما جمعوه وتبقى عليهم حقوق العباد وعذاب الواحد الديان وأغلبهم يصل إلى النيابة إما بطرق غير مشروعة وإما بشفاعة غير جائزة وندر من غدا نائباً بطرق سهلة.
وأما رواتبهم فهي قليلة في أكثر أنحاء المملكة وقلما تقوم بنفقاتهم ولذلك تراهم منصرفين إلى ادخار الأموال ليصرفوها في طرقهم وإقامتهم بالأستانة وأخذ النيابة ولهذا السبب أيضاً ترى همهم تزييد العائدات التي أنكرها الفقهاء عَلَى أن المشيخة الإسلامية تركت تلك العائدات للكتبة فالنواب يشاطرونهم إياها حتى عَلَى تزكية الشهود ونفقات الطريق وأجرة القيد وما يسمونه الدلالية والقرطاسية ولا يسع الكتاب إلا السكوت والرضى لأنهم إذا امتنعوا عن إعطاء القسم الأعظم من العائدات تهددوهم بالعزل وعدم إصدار الاعلامات وحل المخاصمات بلا ضبط فحينئذ إما أن ينعزل الكاتب وإما أن يحرم من العائدات وقد(45/8)
تزيد هذه العائدات عَلَى رواتب النواب في أغلب الأحيان وتشغلهم كثيراً وتدعوهم إلى إحالة الدعاوي الحقوقية إلى المحكمة الشرعية.
فهذه العائدات عَلَى قسمين قسم مقيد في دفتر الخزينة فما تجاوز الخمسمائة من هذا القسم يكون مشتركاً بين النواب والخزينة وما كان دون الخمسمائة يكون حق النائب والكاتب لذلك لو دققت دفاتر الخزينة في كل الجهات ترى هذه العائدات قلما تجاوزت الخمسمائة وأنا القسم الثاني فذلك ما دخل كيس النائب والكاتب من غير أن يقيد بصندوق الخزينة وهذه الأجور والعائدات مصرح بمقاديرها في نظام أموال الأيتام غير أن الشريعة المطهرة لم تأمر بها عَلَى أننا لو نظرنا إلى حقائق الشريعة وما يقتضيه الدين والصلاح نرى أن أمر القضاء فرض كفاية كحفظ القرآن لا يستحق الأجرة كما فعل أبو بكر بن المظفر الشامي وغيره ولقد أفتى الفقهاء المتقدمون بتخصيص رواتب معلومة من بيت المال لتفرغهم عن المكاسب واشتغالهم بمصالح الناس وأنكروا تناول العائدات وقالوا أن الراتب يجب أن يكون كافياً.
لو نظر المرء إلى (المراسلة) التي تنبئ بنيابتهم وتصرح بوظائفهم تحت توقيع القاضي عسكر وجد أن عمل النواب محصور بإنفاذ الأحكام الشرعية عامة وبشدة الاعتناء في تحرير التركة.
وأما التركة التي يجب تحريرها فهي تركة رجل مات عن صغير أو غائب أو مات عن غير وارث أو إذا كان الميت مستغرقاً بالديون أو إذا طلب أحد الورثة تحرير تركة أبيه والغرض من ذلك حفظ حقوق الورثة وأخص بالذكر منهم الأيتام وقد رأينا النواب مسارعين إلى تحرير التركات غير أن السبب الحقيقي الذي يدفعهم إلى هذه السرعة هي العائدات والنفقات التي يأخذونها فنواب الأناضول تستخدم النواب الجوالين في تحرير التركات فيطوف هؤلاء القرى ويفتشون القبور والمدافن ويستخبرون عن الأموات فعندما يعلمون بوفاة أحد يجب تحرير تركته يحررونها فيتألم الورثة وأهل القرية وتستولي عليهم الكآبة والأحزان فوق حزنهم غير أنهم لا ينطقون ببنت شفة لأن النائب المتجول جاء باسم الدين والحكومة وم أشهد هذه الحالة في البلاد السورية لأن تحرير التركة هنا يتولاه النائب بنفسه أو يرسل رئيس كتابه.(45/9)
وأما تحرير التركات في مراكز الولايات فذلك من شأن نائب النائب وكتبة المحاكم فهؤلاء يستخدمون جواسيس وأعواناً يطوفون في البلدة ويستخبرون عن الأموات من المغسلين والحفارين ولما يعلمون بتركة تستحق التحرير يذهبون إليها مهرولين فهنالك الطامة الكبرى والمصيبة العظمى عَلَى الأيتام فتؤخذ الأشياء الثمينة والنادرة بثمن بخس واسم مستعار وترسل إلى بيوت النواب والكتبة ثم يحسبون أجرة الدلالة والقيد وأجرة اعلامات الديون واعلامات الصلح وأجرة دفتر القسام وأجرة إقدامهم لأنهم كلفوا أنفسهم وتعبوا في حفظ حقوق الأيتام والورثة. وبعد ذلك يضمنون الطوابع والأوراق الحجازية ويأخذون كل هذه النفقات من ثمن التركة فيصبحون بذلك شركاء الورثة وربما أخذوا أكثر من الورثة وهذا الأمر يكاد يكون عاماً وأما سوء الاستعمال في الإدانة والاستدانة وثبوت الرشد فحدث عنه ولا حرج وندر النواب الصالحون الذين لا يمسون أموال الأيتام.
ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى منع مس أموال الأيتام بتاتاً وصرح بمنعه في آيات عديدة واتفق الفقهاء والعلماء عَلَى تحريم أخذ أموال الأيتام حتى حرموا الجلوس عَلَى كراسيهم وأثاثهم واستعمال أوانيهم ولست أدري عَلَى أي كتاب وأي قول وأي نص يأخذون هذه العائدات والأجور فإن قيل أن في ذلك فتوى أقول ولا أبالي أن لا مساغ للاجتهاد في مورد النص وإجماع الأمة والفقهاء وعَلَى ما أظن أن تلك العائدات وضعها وجوزها القضاة والنواب الذين كانوا يأخذون مناصبهم بطريق المزايدة والالتزام.
وزد على ذلك كله أن النواب أعضاء في مجالس الإدارة ومجلس القرعة العسكرية ولجنة الفراغ ورؤساء للمحاكم البدائية الجزائية ومحاكم الحقوق ودائرة الإجراء ولهذا لا يفترون عن الاستفادة الغير المشروعة من كل مسألة لهم فيها علاقة فالناس والمستخدمون يتألمون مما يشاهدونه من سوء استعمالهم في قسم الجزاء فيحكمون عَلَى بريء ويبرؤن الجاني ويتركون الأشقياء والمجرمين ويحبسون المساكين وتسهيلاً لمقاصدهم يجعلون غرفة الاستقبال في بيوتهم محكمة شرعية عَلَى أن الفقهاء صرحوا بأن القضاء يقام في أكبر الجوامع أو في محل خاص في منتصف البلدة فلو نظرنا إلى التاريخ لعلمنا أن أهم المدارس بدمشق كانت مقراً للقضاة وأن المدرسة العادلية كانت مقراً لقاضي المذهب الشافعي(45/10)
نظرة في إصلاحهم
6
ذكرنا أن المشيخة الإسلامية عبارة عن الفتيا والفتيا والقضاء من حقوق الخلافة والإمامة الكبرى وأن المفتي يخبر عن الحكم الشرعي والقاضي يلزم به عَلَى أن كل عالم يستطيع أن يفتي بما يفتي به المفتي لأن الفتوى لا تتضمن الحكم والإلزام ولا يجوز لعالم ولا لمفتٍ أن يحكم بما حكم به القاضي مع أن للقاضي أن يفتي ويستخلف أمناء ونواباً ولم أر حتى الآن عبارة أو قولاً لفقيه يشاربه إلى استخلاف المفتي نواباً أو إلى تداخله في تعيين النواب لأنهم نواب القاضي لا نواب المفتي وأمر الاستخلاف يتوقف عَلَى إذن الخليفة.
ذكرنا أن مجلس انتخاب الحكام ينتخب النواب وشيخ الإسلام أو مفتي الأنام يأمر بتوظيفهم وقضاة العسكر يوقعون على مراسلاتهم ليكونوا نواباً لهم توفيقاً للأحكام الشرعية ومن ذلك يظهر أن القاضي هو الذي يستخلف النواب وقد عجبت لحصر القضاة في قضاة العسكر وإبقاء هذا التعبير لأن هؤلاء القضاة هم في الحقيقة قضاة عامة المسلمين والأمة ليست بأمة مسلحة عَلَى أننا لو نظرنا إلى التواريخ علمنا أنه كان في كل مركز ولاية قاض وفي أعظم مراكز الألوية قضاة وأنه كان في المدن الإسلامية الكبرى قضاة لكل مذهب ولذلك أرى أن يكون في مركز كل ولاية وفي مركز بعض الألوية المهمة قاضٍ وأن يكون شيخ الإسلام قاضي القضاة يرجع إليه جميع القضاة وأن يكون للقضاة حق استخلاف النواب بإذن من الخليفة فيصبح أمر تعيين النواب بيد قضاة الولايات فيتخلص هؤلاء من العناء والذهاب إلى الأستانة ولا مانع من جعل مدة النواب أربع سنوات لأن ذلك أمر اجتهادي ثم يجب أن يؤلف مجلس من فحول علماء المسلمين تحت رئاسة قاضي القضاة ينتخبون القضاة من بينهم فيصدق عَلَى انتخابهم قاضي القضاة ويعرضهم عَلَى الخليفة لتصدر إرادته بتعيينهم وينتخب لمنصب قاضي القضاة ثلاثة علماء من هذا المجلس أو من غيرهم بأكثرية الآراء والخليفة يختار واحداً منهم يجعله قاضي القضاة.
وأهم ما يجب إصلاحه مكتب النواب والرأي توحيده مع شعبة العلوم الدينية في دار الفنون العثمانية وإصلاح الدروس وتعيين أفاضل المعلمين ليخرج فيه نواب أفاضل ومفتون ومدرسون عالمون ويكون هذا المكتب أعلى قسم لمكتب استعدادي ينشأ في دمشق ويكون(45/11)
هذا مخرجاً لتلاميذ القسم العالي والغرض من الاستعداد في تعليم النواب اللغة العربية التي لا غنى للنواب عنها إذا كانوا يرغبون في تطبيق أعمالهم عَلَى أحكام الشريعة ثم تسهيل التحصيل عَلَى الفقراء لكثرة المدارس والأوقاف بدمشق وعندما يتم التلميذ التحصيل في المدرسة الإستعدادية يذهب إلى الأستانة ليدخل مدرسة النواب ويجوز قبول المتخرجين في المدارس الرسمية الإستعدادية وطلاب العلم بالامتحان وعندما ينال التلميذ شهادة القسم العالي يستخدم عَلَى حسب استعداده وعلمه ويكون له حق الترفيع.
ويجب أن يكون مقر الحكم في دائرة رسمية لا في بيوت النواب ولا يجوز انفراد النواب في الحكم لأنه غير معقول ولا يوافق مقتضيات زماننا وناهيك بما نشاهده من سوء أحوال النواب. وورد في الكتب الفقهية أن للقاضي أمناء يعينونه في الحكم فهؤلاء هم في الحقيقة أعضاء ولا فرق في المعنى كما أنه لا اعتبار للألفاظ فإن شئت سمهم أمناء وإن شئت سمهم أعضاء ومن ثم يجب أن يكون مع كل نائب في القضاء أمينان عالمان ومع كل نائب في الولاية واللواء أربعة أمناء أكفاء ويسأل هؤلاء الأمناء عن الحكم ويجعل النائب رئيساً لهم فإذا رأوا حكم الرئيس مخالفاً للأحكام الشرعية يكونون في حل أن يعترضوا ويصرحوا بأسباب الاعتراض تحت توقيعهم فالمفتي والمدرس الذين تقرر تعيينهم أخيراً يكونان أمناء نائب القضاء والمفتي والمدرس وعالمان في مراكز اللواء ومركز الولاية يكونون أمناء قاضي أو نائب اللواء وقاضي الولاية.
وإذا نظرنا إلى أنواع قضايا القضاة الثلاثة التي سبق ذكرها وأخص بالذكر منها القسم الثالث الذي يتوقف حكمه عَلَى إمضاء قاضٍ آخر فإن بطله بطل وإن صدق عليه نفذ ندرك أن حكم القاضي من أي قسم كان من هذه الأقسام الثلاثة يحتاج إلى تدقيق ولذلك يجب تمييز أعلام محكمة القضاء في محاكم اللواء أو الولاية بحسب البعد والقرب وإعلام الولاية يميز في مركز السلطنة إذا كانت الولاية قريبةً من العاصمة ويدقق الحكم فأما أن ينقض لمخالفته أحكام الشريعة وأما أن يصدق عليه إذا كان موافقاً فيصير حكماً مقضياً.
ولا بأس بتوحيد المحاكم الشرعية والمحاكم الحقوقية وجعل الأمناء أعضاءً في كلا المحكمتين.
ويجب حينئذ إصلاح أحكام المجلة بحسب الأحوال والزمان والمكان والحكم الذي لا يوجد(45/12)
في المذهب الحنفي قد يوجد في مذهب المالكي وقد سبق الذكر بأن القاضي لا يحصر حكمه في مذهبه واتباع هواه فحينئذ تتألف لجنة من أفاضل علماء المذاهب الأربعة فينقحون المجلة ويصححون أقوالها المرجوحة ويجعلونها جامعة للأحكام الدينية الصريحة ولا شك بأنهم يجدون الأحكام الموافقة للعقل والنقل والزمان.
ويكون الأمناء مسلمين بيد أنه حدثت قضية بين مسلم وغير مسلم أو بين غير المسلمين تجوز استنابة أعضاء المحاكم الجزائية والتجارية من غير المسلمين أثناء المحاكمة لأن الإمام الأعظم وغيره من الفقهاء صرحوا بجواز حكم النسيين بين أصحاب مذاهبهم
ومن لا يرضى بالحكم فله أن يميز دعواه في محكمة أخرى وإذا عرف الحكام بالعدل والإنصاف لا يمتنع أحد عن قبول أحكامهم لأن العدل يرضي كل إنسان أما المسائل المذهبية فتترك لرؤَسائهم الروحية بحسب الواعد الصلحية.
هذه نظرات أساسية لقواعد يجب وضعها في إصلاح النواب والقضاة فيجب بادئ بدء تأليف مجلس العلماء الذي أشرنا إليه ليبحثوا في الأحوال والزمان والمكان ثم ينظرون في أحكام القرآن والحديث وفي الكتب الفقهية والمدونات فيقررون قواعد تحفظ بيضة الدين وقواعد الإسلام وترفع شأن المسلمين.
شكري العسلي(45/13)
قضاء الفرد وقضاء الجماعة
من خطبة لرفيق بك العظم ألقاها في مدرسة القضاء الشرعي في القاهرة
ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما قد يتبادر إلى الذهن بل هي بالمعنى المشترك أيضاً جعل قوة التشريع القضائي مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتاً من الحكم واطمئناناً للدليل واعتماداً على ما هو الأصلح عند الجماعة إذا تعذر وجود النص.
إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد التشريع الإسلامي التي يدفع بها الحرج وتدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند الضرورة مع وجود النص ويتنازعون عَلَى المسألة الواحدة يجيء بها النص من عدة روايات أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتاً من الحكم ورغبة بمحض الخير للأمة والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة للمستفتين وقد قال ابن القيم تنازع الصحابة في كثير من الأحكام ولكن لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال. أي المسائل التي تتعلق بالأيمان.
قلنا أن المراد بقضاء الجماعة جعل قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ وأضمن للعدل وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها إلى الرأي والاجتهاد أو القياس عند تعذر وجود النص أو عند لوم ترجيح رواية من الروايات تحتاج إلى شروط قلما تتوفر في الفرد الواحد وإن توفرت له فربما لا يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من كل وجه بحيث لا يخالفه فيه غيره ممن هو في طبقته من أهل العلم.
اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في تقرير فروع المذهب وأصوله منتهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار وتتبع أصول الشريعة فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف اتباعهم بعد ذلك اختلافهم أيضاً فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي عَلَى نفسه حتى وجد في بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مصر واحد من الأمصار الإسلامية هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضاً في المسألة الواحدة حتى أصيب الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطرب أمر العدالة أيما اضطراب مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.(45/14)
لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم أن يحيل بعضهم عَلَى بعض أو يستشير بعضهم بعضاً في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم ولا سيما فيما يحتاج فيه إلى العمل بالاجتهاد والرأي.
لما كانت الشرائع مبنية عَلَى درءِ المفاسد وجلب المصالح والشريعة الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقد سن الشارع إيقاف العمل بالنص مراعاة للمصلحة ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها عَلَى وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة تترتب عَلَى العدول عن النص أكبر من المصلحة التي تترتب عَلَى العدل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون من بعده فكان ذلك شرعاً أيضاً فيه تيسير عظيم على المسلمين واليكم الدليل.
في حديث لأبي داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وأنتم تعمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي نهى عن إقامته في حال مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة وهي لحاق صاحبه بالعدو وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث.
وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها الضرورة
جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس ألا لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه حمية الكفار.
وروى ابن القيم في أعلام الموقعين عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن غلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له أن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة واقروا عَلَى أنفسهم فقال عمر يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال أما والله لولا أني أعلم نكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت يديهم وايم الله أن لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ثم قال يا مزني بكم أُريدت منك ناقتك قال بأربعمائة قال عمر (أي عبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمانمائة.(45/15)
وغير هذا فقد اسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بما صنعه ببني جزيمة لما أرسله داعياً لا محارباً فذهب إليهم وحاربهم وقتل وسبي منهم فبريء رسول الله من عمله إلى الله ولم يؤاخذه به وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية وقال والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم.
والشواهد عَلَى هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود والعقوبات المدنية كالسن بالسن والعين بالعين وأبدلت بها العقوبات الأدبية كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان أو لفشو المنكرات فشواً لم ينجع في تأديب مرتكبيها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الزمانية.
ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة أو مس لأصولها المقدسة مادام من أصولها وقواعدها أيضاً العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل ضرر منها والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة وقد سبق الله تعالى رسوله والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ وإنما تقرر حكم اقتضته مصلحة زمان وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة حمايتها وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة وقوي جماعة المسلمين وصاروا في مأمن من غائلة الضعف وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن.
وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية:
(أولاً) ان القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص.
(ثانياً) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد حفظها أو يتعذر عَلَى الواحد الإحاطة بها فاحتج في القضاء إلى استشارة حفاظها.(45/16)
(ثالثاً) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة إما في تطبيق النص أو في مسوغ الحكم إذا كان اجتهادياً تثبتاً من وضع الشيء في محله جهد الإمكان.
(رابعاً) انهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية وفي أحوال مخصوصة تدعو إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداءً بالشارع.
(خامساً) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان يدعوهم إلى عدم الإنفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد.
هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين أحداهما أن القضاء في الإسلام كان قضاء الجماعة لا قضاء الفرد والثانية أن الشريعة الإسلامية بما تقرر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان وتجيز لكل ضرورة حكماً يوافق مقتضى المصلحة والحال وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعاً أيضاً خلافاً لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضيقة توافق زماناً غير زماننا هذا ومكاناً غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة وحاجاتها سيراً تدريجياً في كل ما يقتضيه ترقي الجمعيات. ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وعدم الوقوف عَلَى أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب الفروع دون الأصول وردهم لكل ما لم يرد فيها من أسباب التيسير وإن ورد في أصول الشريعة وكلياتها من أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى دليل قطعي مالا يعدو سبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس ومع هذا فإنهم يفضلون العمل بهذه الأحكام عَلَى الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقيد والتضييق على أنفسهم والأمة ومهما ترتب عَلَى ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا بها الباحثون في طبائع الاجتماع.
وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد إذا فتح بابه وتطرق الفساد إلى الشريعة وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها عاقل لكن فيما ل صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.(45/17)
ومعاذ الله أن يريد هذه الفوضى للشريعة الإسلامية عاقل قط وإنما المراد أن ينظر في المسائل التي يقتضيها تغير الزمان وتجدد المصالح والحاجات عَلَى شرط عدم الوقوع في ذلك المحذور الذي يخشاه العلماء وذلك بأن تناط قوة التشريع والاجتهاد في المسائل الطارئة في كل عصر بجماعة من أهل العلم الواقفين عَلَى دقائق الكتاب والسنة والعارفين بحاجات الأمة ليقرروا لها الأحكام الموافقة لمقتضى الحال ثم تنال هذه الحكام تصديق أهل الحل والعقد فتصبح قانوناً رسمياً يتحتم العمل به في الحكومة الإسلامية التي هي في حاجة إليه لا يعدل عنه إلى غيره من أقوال الفقهاء والعلماء وإن مجتهدين فتضبط بهذا قوانين الشريعة ويؤَمن عليها تطرق الفساد ثم يكون من ذلك أن تحدد هذه القوانين تحديداً يغني عن الرجوع إلى كتب الفقه التي تختلف في المسألة الواحدة اختلافاً كثيراً يؤدي في كثير من الأحيان إلى التشويش عَلَى القضاء ويكفي أن تكون تلك الكتب شروحاً لقوانين الشريعة المعمول بها يومئذ يرجع إليها عند الضرورة والحاجة إلى تفسير نصوص ذلك القانون كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية المعمول عليها في محاكم الدولة العثمانية دون غيرها.
للقضاء في الإسلام دوران دور العمل بالأصول ودور العمل بالفروع وإنما اخترت هذا التقسيم لاختصار الطريق أو اختصار البحث خوفاً من تعب القارئ والسامع مع أن أدواره بعد دور التشريع الأول كثيرة جداً إذا اعتبرنا تقسيمه إلى طبقات المفتين والمحدثين من الصحابة والتابعين ثم الأئمة المجتهدين ومن بعدهم من طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر ذلك بما قسموا إليه طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر ذلك بما قسموا إليه طبقات الحنفية مثلاً فقد قالوا أنهم ينقسمون إلى ست طبقات: البقة الأولى طبقة المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد وغيهما من أصحاب أبي حنيفة القادرين عَلَى استخراج الأحكام من القواعد التي قررها الإمام.
والثانية طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب كالخصاف والطحاوي والسرخسي والخلواني والبزدوي وغيرهم وهم لا يقدرون على مخالفة إمامهم في الفروع والأصول لكنهم يستنبطون الأحكام التي لا رواية فيها عَلَى حسب الأصول.
والثالثة طبقة أصحاب التخريج القادرين عَلَى تفصيل قول مجمل وتكميل قول محتمل من دون قدرة على الاجتهاد.(45/18)
والرابعة طبقات أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على تفضيل بعض الروايات عَلَى بعض بحسن الدراية.
والخامسة طبقات المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة.
والسادسة من دونهم الذين لا يفرقون بين الغث والسمين والشمال واليمين.
لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حفاظ الشريعة ورواتها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة واستبحار العمران وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم الداخلة في الإسلام من غير العرب ولهذا خيف من تشتت أحكام الشريعة ودخول الفوضى في القضاء والإنشاء احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين الشريعة في الكتب. والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات عَلَى قوانين الشرع. وأول من تنبه للحاجة إلى هذين الأمرين عَلَى ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي وسداً للحاجة الأولى أمر الزهري من جلة التابعين وحفاظهم بتدوين الحديث في دفاتر وتوزيعها عَلَى الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور معروف.
أما الحاجة الثانية فقد شعر بها ولكن سدها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما روي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.
أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها أتباع لهذا العهد كداوود الظاهري وغيره وكأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم زيد بن علي وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب بل رأوا الحاجة تدعو إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه اجتهادهم وأدى جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعاً يعمل به أتباعه إلى اليوم.(45/19)
ولسنا بصدد إطراء هذا العمل الجليل الذي قام به أولئك الأئمة الكبار وحسب هذا العمل أو هذه الخدمة التي خدموا بها الأمة والشرع أنها تصون منزلة الإفتاء والقضاء عن متناول كل من أدعى أن عنده مسكة من العلم بالدين والوقوف على السنة هذا لو أحسن العلماءُ بعد العمل بقوانين الفقه.
وبعد فقد ارتكب الفقهاء متن التضييق والتوسع حتى أحرجوا الأمة والجأوا بعض الحكومات الإسلامية إلى العمل ببعض القوانين المقررة عند الأمم الأوربية خصوصاً الجنائية والتجارية نعم إن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة وكثرة الحواشي والشروح عَلَى القوانين والشرائع موجودة عند كل أمة فالقانون الفرنساوي مثلاً له شراح من المتشرعين وأشهرهم دالوز وكاربانتيه وسيريه وغيرهم كثيرون إلا أن القضاء عند تلك الأمم لما كان بيد الجماعة وقوة التشريع ليست من حق فرد من الأفراد بل من حق الأمة ونوابها فدستور العمل عندهم ما أجمعت عَلَى وضعه قوة التشريع وصادقت على قبوله الحكومة فصا قانوناً للقضاء لا يعدل عنه إلى تلك الحواشي والشروح وآراء المتشرعين ويصار إليها لتفسير مبهم أو تطبيق الحوادث بعضها عَلَى بعض.
لشريعة المسلمين أصول وكليات تعتبر أساساً للتشريع ومع أن أحكامها مسلمة فقد كان العمل بها في عهد الصحابة بالشورى بين المتفقهين منهم هذا فيما نص منها على ما يرد عليهم من النوازل فما بالكم فيما احتاج إلى الاجتهاد والتشريع بالقياس على تلك الأصول أو الاستنباط منها وقد كانوا لا يحكمون حكماً إلا بعد استشارة خيار الأمة وعلمائها وإقرارهم جميعاً عَلَى ذلك الحكم حتى اعتبر بعض الأئمة المجتهدين بعد أحكام الصحابة لقوتها شرعاً أو أصلاً من الأصول التي يبنى عليها التفريع سموه عمل الصحابة أو إجماعهم كما سبقت الإشارة إليه وكما ترون ذلك في كتب الأصول.
إذا كان إجماع الصحابة عَلَى مسألة شرط في صحتها واعتبارها شرعاً يلزمنا العمل به فقد لزم من هذا أمران:
الأول: إن إجماع الجماعة على تقرير حكم في مسألة شرط في صحة ذلك الحكم واعتباره شرعاً لزمنا العمل به وهو ما تفعله الأمم الأوربية في تقنين قوانينها لهذا العهد وقد وجد له أصل في الشرع الإسلامي فتركناه وأصبحنا نغبط الأمم الأوربية وقوانينها أو قضاء(45/20)
الجماعة عندها لهذا اليوم.
والأمر الثاني أن كل أقوال الفقهاء واختلافاتهم الواردة في كتب الفروع ليست بشرع إلا من حيث اشتمالها عَلَى أحكام يرد بعضها إلى أصول الشريعة إلا أنه غير متوفر فيها شرط التشريع الذي مر. وإناطة ترجيح قول دون آخر من حيث قربه من الأصل بشخص واحد لا يكسب هذا القول أو الحكم قوة التشريع ليسمى شرعاً أو قانوناً وجب العمل به إلا إذا اتفق عليه وقرره جمهور من المتشرعين أو المرجحين وهذا ما اردته من وجوب بقاء الاجتهاد لكي لا ليتناوله من شاءَ فيما شاء. كلا بل ليناط بجماعة من علماء المسلمين تقرير الأحكام التي تدعو إليها المصلحة ويتجدد بتجدد الزمان.
ولذا فإن اجتهاد الجماعة كما أنه لازم في الأصول فهو لازم في الفروع أيضاً وذلك لجمع أقوال الفقهاء عَلَى اختلاف مذاهبهم ما أصاب من تلك الأقوال محجة الصواب والمصلحة ووافق أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح في كتاب بعينه يعتبر قانوناً في المعاملات مجمعاً عليه من العلماء ليعرف منه كل مسلم ما له من الحقوق وما عليه لا لتقاذفه أقوال الفقهاء من خلاف لآخر ومن قول لنقيضه فتصير به إلى أهواء القضاة والمفتين يحكمون بما ترجح لديهم وبما يشتهون.
وليس اختلاف المذاهب بمانع من أن يحكم للشافعي أو عليه بقول للحنفية أو المالكي بقول للشافعية مثلاً إذ كل أتباع المذاهب أبناءُ دين واحد وكل أقوال كتب الفقهاء مأخذها واحد وهو الشرع والواقع يثبت أن أحكام المعاملات كانت في أكثر الممالك الإسلامية ولم تزل إلى اليوم جارية في القضاء على مذهب الدولة الحاكمة وربما كان أكثر الرعية من أتباع مذهب غر مذهبها.
ومع هذا فليس نكر من العلماء على أهل الدولة فلا سبيل لهم إلى النكير على القائلين بلزوم جمع الأقوال الموافقة لمقتضى المصلحة والعصر من كتب المذاهب وجعلها قانوناً جامعاً في المعاملات للمسلمين بل هذا خير وسيلة لإصلاح القضاء ربما اغتفرت للفقهاء ماضي تفريقهم وحدة الأمة باسم التعصب للمذهب وكانت خاتمة اضطراب نظام القضاء في الإسلام.
ليس اضطراب حبل القضاء في الإسلام بجديد وليس الظلم والعسف الذي لاقاه المسلمون(45/21)
من حكامهم الظالمين وحكوماتهم الجائرة إلا نتيجة توكئهم على ضعف القضاء خصوصاً ما يتعلق منه بولاية المظالم لا لنقص الدين أو الشريعة بل لنقص في طرق التقنين والتنفيذ.
إن الدين الذي ينزل على الظالمين صواعق الإنذار ويقرن الظلم بالشرك بالله تعالى ويأمر بإقامة ميزان العدل ويريد سعادة المجتمع الذي يدين به ما كان ظالماً ولن يكون وإنما المسلمون أنفسهم يظلمون.
تعلمون أن أحفل العصور الإسلامية بالعلماء والمفتين والفقهاء المتشرعين وأرقاها في سلم المدنية الإسلامية عصر هارون الرشيد العباسي إذ الشريعة في إبان زهوها والتفريع في مبدأ مجده والأئمة المجتهدون هم القائمون بالتشريع وإلى كتبهم ترجع الفتوى.
في ذلك العصر الزاهر بمجد الإسلام وأمجاد العظام يرى يوسف صاحب أبي حنيفة من ضعف القضاء وتسلط عمال الجور واضطراب نظام ولاية المظالم ما يلجئه إلى وضع كتاب الخراج لأمير المؤمنين هارون الرشيد وليس فيه إلا آية أو حديث أو مثال من قضاء الصحابة أي كله من أصول تلك الشريعة الطاهرة يذكره فيه بالرجوع إلى قضاء الله ورسوله وأصحابه أو قضاء الجماعة المتين قائلاً: ارجع يا أمير المؤمنين إلى هذه الأصول في سياسة الرعية وجباية الخراج وتوزيع الفيء، اقعد يا أمير المؤمنين بنفسك للمظالم وإنصاف المحكوم من الحاكم، أدرك الزراع فقد كاد يهلكهم الظلم فقد بلغني عن عمالك أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد وأنهم فعلون مما لا يحل لهم بوجه من الوجوه.
هكذا الحال في عصر الرشيد وأئمة الشريعة أحياء يرزقون فما بالكم بما جاء بعده من العصور التي صار فيها التشريع إلى عدد لا يحصى من المخرجين والمرجحين والفقهاء والمفتين وكلهم يقولون قولي أو قول فلان هو شريعة الله المفتى بها والمعول عليها
وما هو إلا تفكك نظام القضاء وتشتت قوة الجماعة فل حول وقوة إلا بالله.
والنتيجة أن ضمان العدالة الوحيد إنما هو قضاء الجماعة لا قضاء الفرد وأعني أن التشريع وحده غير كفيل بالعدل في القضاء إلا إذا أنيط كلاهما بالجماعة بالوضع والتنفيذ ولا تظنون أن هذا المطربش الواقف أمامكم يريد شيئاً جديداً في الدين أو قلباً لكيان الأحكام مع أنه ليس من علماء الدين ولا الأئمة المجتهدين.(45/22)
كلا فليس قضاء الجماعة بجديد في الإسلام بل هو من عصر الصحابة وهم واضعو أساسه المتين في الدور الأول للقضاء في الإسلام.
أما الدور الثاني فالذي اذكره أن دولتين من دول الإسلام تنبهتا إليه وعولتا عليه اولاهما دولة الأمويين في الأندلس التي جعلت في القرن الثالث داراً في قرطبة لشورى القضاء أعضاؤها من جلة العلماء يرجع إليهم في تقرير الأحكام.
والحق أقول أني لم أظفر بكثير بيان عن هذه الشورى لكن ما رأيته عنها في ثنايا الكتب التاريخية يكفي للدلالة عليها فقد ورد ذكرها في نفخ الطيب في ترجمة بعض العلماء كقوله كان فلان مشاوراً وطلب فلان إلى الشورى فأبى ونقل إليَّ ثقة عن كتاب من الأسف أنه غير موجود بين يدي بل هو في مكتبة دمشق وهو كتاب الأحكام للقرطبي ورد فيه ذكر هذه الشورى بقوله أن الشورى خافت الإمام مالكاً في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي القاسم. وفي هذا دليل كاف عَلَى أنه كان لديهم سلطة في التشريع وأن الدولة الأموية ثمة كانت مسددة الأعمال حتى قبيل وهنها وسقوطها حريصة على إجراء قوانين العدل بين رعيتها.
أما الدولة الثانية التي تنبهت إلى مثل ما تنبه إليه الأمويين فهي الدولة العثمانية لهذا العهد فإنها جمعت من علماء الأمة وفقائها الموثوق بفضلهم وعلمهم جماعة سمتهم جمعية المجلة وذلك من بضع وثلاثين سنة انتخبوا من كتب المذهب قانوناً جامعاً لأحكام المدنية وهو المعروف بمجلة الأحكام العدلية وأقر عَلَى العمل به أهل الحل والعقد فصار مرجع القضاء في المحاكم إلى اليوم.(45/23)
ديوان الرصافي
طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1328 (ص230)
يعرف قراء هذه المجلة شعر معروف أفندي الرصافي بما قرأوه وله في مجلدات المقتبس الأربع من الشعر الاجتماعي العذب المتين الذي كان فيه الفرد المقدم في العراق والشام أيام كان الكلام يحظر عَلَى كل إنسان وقد اشتهر بذلك حتى وصفه بعضهم بأنه شاعر المقتبس ولا عجب فهذه المجلة تفاخر بهذه النسبة. وقد طبع هذه المرة ديوانه وأكثر من ثلاثة أرباعه مما نشر في هذه المجلة عني بتبويبه الشيخ محي الدين الخياط من أفاضل بيروت وقدم له مقدمة رائقة وجعله في أربعة أبواب الكونيات والاجتماعيات والتاريخيات والوصفيات ومن شعر الرصافي الأخير من قصيدة في جرائد الأستانة.
ولم يكفها هذا الخلاف وإنما ... أطافت بنقصٍ للحقيقةِ زائد
فما بين مكذوب عليه وكاذب ... وما بين محجود عليه وجاحد
ترى في فروق اليوم قراء صحفها ... فريقين من ذي حجة ومعاند
جدال عَلَى مر الجديدين دائم ... بتفنيد رأي أو بتنقيد ناقد
وقال فيها:
ولم أر شيئاً كالجرائد عندهم ... مبادئه منقوضة بالمقاصد
يقولون نحن المصلحون ولم أجد ... لهم في مجال القول غير المفاسد
وكيفيبين الحق من نفثاتهم ... وكل له في الحق نفثة مارد
وقال من قصيدة في وصف لبنان:
لبنان تفعل بالحياة جنانة ... فعل الزلال بغلة الظمآن
وترد غصن العيش بعد ذبوله ... غضاً يميد بفرعه الفينان
فكأن لبنانا عروس إذ غدا ... يزهو بنشر غدائر الأغصان
وكأنما البحر الخضم سجنجل ... يبدي خيال جمالها الفتان
جبل سمت منه الفروع وأصله ... تحت البسيطةِ راسخ الأركان
تهفو الغصون به النهار وفي الدجى ... تهفو عليه ذوائب النيران
وترى النجوم عَلَى ذراهُ كأنها ... من فوقه درر عَلَى تيجان(45/24)
إلى أن قال:
لبست ربى لبنان ثوباً اخضراً ... وزهت بحيث الحسن أحمر قان
نشر الربيع بهن زهراً مونقاً ... يزري بنظم قلائد العقيان
فبرزن من وشي الطبيعة بالحلى ... فكأنهن بحسنهن غوان
وكأن صنيناً أطل مراقباً ... يرنو لهن بمقلة الغيران
تلك الربى أما الجما فواحد ... فيها وأما أهلها فاثنان
رجل يسير إلى النجاح وآخر ... يسعى وغايتهإلى الخسران
متخاذلين بها وهم اعوانها ... ومن البلاء تخاذل الأعوان
ضعفت مباني كل أمر عندهم ... ما بين هادمها وبين الباني
وتفرقوا دنيا كأن لم يكفهم ... في النائبات تفرق الأديان
وسعوا فرادى للنجاح وفاتهم ... أن التضامن رائد العمران
وقال من قصيدة حول البوسفور:
سفوح جبال بعضها فوق بعضها ... مكللة حافاتهن بأشجار
يروق بجنبيها خرير مياهها ... ويشجي بقطريها ترنم أطيار
ويجري النسيم الرطب فيها كأنه ... تبختر بيضاء الترائب معطار
معاهد زرها في الهواجر تلقها ... موشحة فيها برقة أسحار
نزلنا بها والشمس من فوق أرسلت ... على منحنى الوادي ذوائب أنوار
وقد ظل من بين الغصون شعاعها ... يوقع ديناراً لنا جنب دينار
كأن التفاف الدوح والنور بينها ... جيوب من الأنوار زرت بأزرار
تميل إذا هبَّ النسيم غصونها ... فتأتي بظل في الجوانب موار
ترانا إذا ما الطير في الدوح غردت ... تميل بأسماع إليها وأبصار
وقال من قصيدة في التربية بعد أن شاهد مسرح الحيوانات في بيروت:
كأنما الليث لم يخلق أخا ظفر ... محدد الناب قذافاً إلى العطب
شاهدته مشهداً بدعاً علمت به ... أن الغرائز لم تطبع عَلى شغب
وإن خبث البرايا في طبائعها ... لا بد فيه سوى الأطباع من سبب(45/25)
وإن ليث الشرى ما صيغ مفترساً ... لكن احالته فراساً يد السغب
وكم من الناس من قد راح مندفعاً ... بدافع الجوع نحو القتل والسلب
وان تربية الإنسان يرجعه ... إكسيرها وهو من ترب إلى الذهب
هذا إذا حسنت أما إذا قبحت ... كالمندلي بها يمسي من الحطب
فكل ماهو في الإنسان مكتسب ... فلا تقل فيه شيء غير مكتسب
أني أرى أسوأ الآباء تربية ... للابن أحرى بأن يدعى اعقاب
والمرء كالنبت ينمو حسب تربته ... وليس ينبت نبع منبت الغرب
من عاش في الوسط الزاكي زكا خلقاً ... حتى علا في المعالي ارفع الرتب
فاحرس عَلَى أدب تحيا النفوس به ... فإنما قيمة الإنسان بالأدب
وقد عني بتفسير ألفاظه اللغوية الشيخ مصطفى الغلاييني منشئ مجلة النبراس الشهير فجاء الديوان موفور الخيرات من كل الجهات حرياً بكل من ذاق لماظه من الأدب أن يقتنيه ويتدارسه فشعر الرصافي هو النموذج الراقي من شعر هذا العصر.(45/26)
حكم إفرنجية
من الناس من فيهم الكفاءة ولا يرتقون لكن ليس منهم من يرتقون دون أن يكونوا عَلَى شيء من الكفاءة (لاروشفو كولد).
الأدب يظهر المرءَ في مظهره الخارجي كما يجب أن يكون عليه في مظهره الداخلي (لابرويير).
عَلَى من يريد أن يعمل الخير أن يعرف كيف يفكر بأن الحياة قصيرة لا ينبغي أن تضاع هنيهة منها عبثاً (فولتير).
علينا أن نعلم من نريد تعليمهم بالمثال الحسن أكثر من أن نسن لهم الطرق ونخطط لهم الخطط فالمثال هو الذي يعلم الرجال (شاتو بريان).
أنا نشعر بالألم الكثير من الملل من أيام السعود أكثر مما نشعر بسرور الاستمتاع في أيام النحوس (بالزاك).
عاش من عرت نفسه من الأوهام.
لا يكفي المرء أن يكون له عقل حتى يخلص من البهيمية بل يجب أن يعرف كيف يستخدم عقله.
السعادة كالطير الأخضر الذي يقترب منك ثم يقفز قفزة صغيرة فلا تقدر أن تمسكه.
انتظار المدعو إلى دعوة إذا تأخر عن الميعاد قلة احترام لسائر المدعوين الحاضرين.
التغاضي عن الواجبات الصغيرة مدرجة إلى ارتكاب الأغلاط الكبيرة.
يمتص النحل والزنبور من زهور واحدة ولكن كلاً منهما لا يعرف أيجاد العسل نفسه.
مما يدل عَلَى المروءة التامة تعرض المرء لانظار أرباب المروءَة.
يؤثر النساءُ أن يغتبن في فضيلتهن عَلَى أن يطعن في فكرهن وجمالهن (دوماس).
الشهوة العظمى هي زهرة عاصفة لا تنبت إلا عَلَى حجر ضربته الأعاصير.
لسنا إلا ثمرة نشوئنا.
الأفكار الحسنة كمسامير من نحاس تنغرس في الروح ولا تستخرج منها قط.
في الاعتبار عزاء عن كل شيء.
من القهقهات ما يخرج كصوت القنابل لا يفيق منها صاحبها.
الفكر الجديد هو مثل زاوية لا يمكن إدخالها إلا من الأنشوطة الكبرى.(45/27)
سلسلة الزواج ثقيلة جداً لا سبيل إلى حملها إلا إذا استعد لها المرء واقفاً عَلَى قدميه.
الأسنان كالكلاب كلما أعطوا قضموا.
إننا نجور في شفقتنا وذلك لأننا نتأثر لمصاب عرضي يعرض للسعداء أكثر من تأثرنا لمصاب دائم يلازم البائسين.
كثير من الناس يرون السياسة علم الربح بدون رأس المال.
من الصعب عَلَى الأغنياء أن يحرزوا الحكمة أكثر مما يصعب على الحكاء أن يحصلوا الثروة.
إذا لم يستطع أرباب العقول أن يحسنوا الانتفاع من الأغبياء فما الفائدة من عقولهم (رنان).
التأمل يكمل الأخلاق بدون أن يغيرها كما أن القواعد تخدم القرائح ولا تساعدها على الانبعاث.
تتألف الحياة التي نستطيلها من كثير من الأيام التي نستطيلها أيضاً.
جسم جميل في روح خبيثة كسفينة حسنة وفيها ملاح رديء.
لا تكن محتاجاً إلى الأمل لتشرع في عمل ولا إلى النجاح حتى تظلَّ مداوماً عَلَى ما أنت آخذ في سبيله.
تشحذ الحياة الرجال في باريز كما تشحذ السكين على المسن ولكنها تثلمها.
في المجتمع الرديء النظام تشبه القوانين بيوت العناكب تعثر فيه الهوام الصغيرة أما الكبيرة فتفلت من أطرافه.
ثلاثة أمور صعبة الاحتفاظ بسر وتحمل الأذى واستعمال أوقات البطالة (فولتير).
لا تكن ساذجاً ولا خبيثاً.
اذهب متثاقلاً إلى ضيافة أصدقائك وسارع إليهم كثيراً في أيام بؤسهم.
أكثر الرياء خطراً ما أحاط بنا من انحطاط المحيطين بنا.
كثيراً ما يخفق رجل العقل في مشاريعه لأنه يخاطر كثيراً (مونتسكيو).
حب المجد في القلوب الكبيرة يشغل المكان الذي يملؤه العجب في النفوس الصغيرة.
لاتكرر كلمة جافة شائنة وإذا سمعت كلمة في قريبك فاكتمها في صدرك ف، ك لا تضيق بها ذرعاً.(45/28)
ثلاثة أمور تعلي قيمة الهدايا الإحساس والمناسبة وأسلوب الهدية.
اني استحسن الرياضات التي تعلمنا احتقار الحياة على شرط أن لا تدخل فيها حياة الغير.
الناس يستمعون النميمة عَلَى ما يكرهون أكثر من استماعهم مديح ما يحبون.
كثيراً ما ترى للناس ميلاً طبيعياً للمبادرة لمعونة الرجل الأقوى فيهم.
من سيئات المساواة هو أننا لا نريدها إلا مع الأعلى منا مقاماً.
التسليم بالقضاء والقدر هو سعادة من ليس لهم سعادة.
الآلام خير من تعذيب الوجدان.
المناكدة شقاء الصالحين.
قام كل عمل عظيم في العالم ببركة اجابة نداء الواجب وكل اثر سيء في العالم قام باسم المصلحة.
لا تبهر الفضائل الصغرى الأنظار بل تعطر صاحبها فهي بنفسج الروح.
إن المنجم الذي لا ينضب تعدينه عَلَى كثرة تعاور الأيدي عليه منذ أزمان هو منجم الحمق البشري.
من الناس من يتكلمون قبل أن يفكروا بهنيهة أي يسبق كلامهم تفكرهم.
لا تشاور في موضوع القيام بالواجب.(45/29)
غرائب الغرب
تاريخ عمران باريز
11
لعل باريز في الأصل إحدى تلك الضياع التي كان الغاليون ينشؤنها في جزر الأنهار الكبرى أيام كان يسهل عليهم أن ينشؤا جسوراً يتخذونها مجازاً إلى طرق مهمة وأول ذكر ورد لها ولسكانها في التاريخ كان 53 ق. م فدعا القيصر ساكنيها باريزيا كما دعا المدينة لوتيتيا وضم إليها سنة 53 نواب الأمم الخاضعة.
مضى زمن لم يمتد فيه عمران المدينة خارج الجزيرة الأصلية ثم استفاض عمرانا على الشاطئ الشمالي على عهد الإمبراطور كونستانس كلود الذي أنشأ فيها قصراً تسمى بقاياه اليوم بقصر الترم وسكن فيه جولين لما نادى به جنده قيصراً وكانت الجزيرة محاطة بمتاريس وفيها قصر تفصل فيه الأمور البلدية ومذبح عَلَى اسم جوبيتر أقامه الملاحون الذين كانوا يغدون ويروحون في تجارة نهر السين وفي سنة 250 غدت لوتيس مركز أسقفية وعَلَى ذاك العهد أطلق عليها اسم باريزي وهو اسم الشعب الذي يسكنها وكانت عاصمة بلاده فتحت باريز أبوابها للفرنك سنة 497 فدخل قصر الترم كلوفيس ثم ماتت القديسة جنفياف حامية باريز ووقف العمران عَلَى عهد الكارولنجيين بل تراجع فنقل الامبراطور شارلمان عاصمة ملكه إلى اكس لاشبل وما كان يقم في باريز إلا نادراً وكان عهد خلفائه عهد شقاء.
وكانت القرى في شمالي المدينة وجنوبها تؤسس تحت حماية الأديار وكثيراً ما كانت تخرب بأيدي أشقياء من السكان أو بغارات النورمانديين وفي سنتي 885_886 جاء النورمانديون وعددهم ثلاثون ألفاً وعسكروا أمام جزيرة المدينة وحاصروها ثلاثة عشر شهراً وبهذا الحصار افتتحت باريز أيام سعادتها وأصبحت كما قالوا رأس فرنسا وقلبها.
وفي القرن الحادي عشر والثاني عشر امتد عمران هذه القاعدة وانشئت فيها أديار وبيع ومستشفيات ومدارس وأقيم لها في أيام لويس السادس عمدة ينظر في شؤونها وأمور ضبطها وربطها وبدأ فيها العمران المادي. وعَلَى عهد فيليب اغسطس وهو أهم دور من أدوار عمران هذه العاصمة كثرت الكنائس الكبرى وأسست الأديار والمدارس ودور(45/30)
المرضى والأسواق والمجاري وأحواض المياه والفساقي والمرافئ وفي سنة 1185 أخذوا يبلطون شوارع المدينة للمرة الأولى وفي سنة 1204 أنشئ قصر اللوفر وبعد ذلك جمعت مدارس باريز وكان عدد طلبتها عشرين ألفاً وجعلت منها مدرسة جامعة أطلق عليه اسم الابنة الكبرى للملوك (السوربون) وأخذ سكان المدينة ينمون حتى بلغ عددهم سنة 1323 ـ 275 ألفاً وصرفت العناية منذ زمن شارل الخامس إلى لويس الثالث عشر في تزيين مدينة باريز وتطهيرها وأنشئت فيها فنادق جميلة.
ولقد كانت القرون الوسطى عَلَى باريز كما كانت عَلَى فرنسا قرون مصائب واضطراب فاستباح الإنكليز سنة 1420 حمى باريز وحاولت الفتاة جان دارك على غير طائل أن تطردهم عنها فذهب سعيها عبثاً ومنذ سنة 1408 إلى 1420 أكثر الأرمنياكيون من ذبح سكان باريز التي احتلها الإنكليز من سنة 1420 إلى 1436 وجاء طاعون جارف عَلَى الأثر أهلك الكثير من سكانها ومع هذا لا تزداد عروس الغرب إلا عمراناً.
وفي سنة 1533 وضع الحجر الأول في أساس دائرة المجلس البلدي الذي هو مفخر من مفاخر البناء في هذه العاصمة كما أسس قصر التويلري المشهور عَلَى أيام شارل التاسع وعادت باريز فأصبحت ميداناً لقتل من دانوا بالمذهب البرتستانتي من أهلها وانتشرت الفتن الدينية زمناً وأصبح القول الفصل فيها للمتعصبين والجامدين.
وفي خلال ذلك اشتد فيها القحط فاهلك من سكانها ثلاثة عشر ألفاً وكثرت الفتن عَلَى الملك وقتل بعض ملوكها وبدأ عهد لويس الثالث عشر بالارتقاء المادي والعقلي فجعلت باريز سنة 1622 مقر رئيس أساقفة وكانت أسقفية صغرى وفي سنة 1620 أنشئت مطبعة الأمة وسنة 1626 أنشئت حديقة النباتات وسنة 1635 أسس المجمع العلمي وأنشئت بعض الشوارع والساحات وغرست بالأشجار وكثرت الحارات والأحياء الجديدة واتصل العمران بالقرى المجاورة حتى تضاعفت مساحة المدينة وعَلَى عهد لويس الرابع عشر اخذوا يضيئون الشوارع بمصابيح يجعلون فيها شموعاً وذلك في الليالي الغير القمراء.
ولقد نشط هذا الملك البحث في التاريخ والصناعات والعلوم بإنشاء المجامع الأثرية والصناعات النفيسة والعلوم وبترخيصه للناس أن يختلفوا إلى المكتبة وكانت من قبل خاصة بالملوك فقط. وكان عهد الوزير كولبر المشهور عهد عمران هذه العاصمة الذي لم(45/31)
يسبق له نظير وزاد سكانها حتى بلغوا نحو 560 ألفاً وعلى عهد لويس الخامس عشر طبعوا أسماء الشوارع على صفائح من توتيا وجعلوها في رأس كل شارع واستعاضوا عن مصابيح الشموع القديمة بمصابيح الزيوت.
ولما جاءت ثورة سنة 1789 كثر عمران باريز إذ أعقب تخليص الأراضي من الكنائس والبيع لتنشأ فيها الشوارع والجادات وكثرت الأبنية العامة والخاصة والمعاهد العلمية والصناعية والحدائق العامة والمدارس الكبرى ولئن كان من الثورات التي حدثت بعد ولا سيما فتنة سنة 1848 ما نشأ عنه بعض الأضرار على العمران إلا أن الهمم كانت أعظم للتعمير منها للتخريب وقد جاء عشرون ألفاً من الألمان واحتلوا سنة 1871 بعض أحياء المدينة عقيب الحرب التي فشل فيها الفرنسيس في موقعة سدان وعاد الألمان من حيث أتوا بعد ثلاثة أيام.
وكان عهد عصابات الكومون بعد ذلك من أشأم أيام الخراب عَلَى عمران باريز فتقوض بها 238 داراً خاصة وعامة وقتل سبعة آلاف جندي وقتل وجرح خمسمائة ضابط وقدرت الخسائر بثمانمائة وستين مليوناً من الفرنكات وكثر بعد ذلك العمران باستتباب أسباب الراحة وكان من المعارض الثلاثة التي أقامتها باريز سنة 1878 و 1889 و 1900 ولا سيما المعرض الثاني الذي أقيم تذكاراً لمرور مئة سنة على الثورة الفرنسوية الأولى أعظم مظهر من مظاهر الصناعة عند الفرنسيس وأول دليل عَلَى ارتقائهم التدريجي الذي لم يقف قط عن الجري.
إجماليات في عمران باريز
12
باريز واقعة في الدرجة0، 48 49، 5 من العرض يشقها نهر السين إلى قسمين غير متساويين من الشرق والجنوب الشرقي ويتخللها في وسطها عدة آكام وجبال مهدتها حتى غدت كأنها بعض أجزائها منها يبلغ ارتفاعه 101 متر ومنها 128 ومنها 136 ومنها أقل من ذلك وتبلغ مساحتها 7802 هكتار ومحيطها 36 كيلومتراً.
وطولها من الشرق إلى الغرب نحو 12 كيلومتراً وعرضها من الشمال إلى الجنوب نحو تسعة كيلومترات وطول طرقها العامة 888000 متر فيكون مجموع مساحتها السطحية(45/32)
1532 هكتاراً ولها 70 باباً أو منفذاً منها 57 باباً و9 طرق للسكة الحديدية وطريقان لمجرى السين وطريقان لترعة سان ديني ولورك وعدد سكانها بحسب الإحصاء الأخير 2763393 وباريز بالنسبة لحجمها أكثر المدن ازدحاماً إذا قيست بالمدن الأوربية ومعدل الزواج فيها كل سنة 25 ألفاً والولادات 65000 والوفيات 50000.
وتقسم من حيث أمورها الإدارية إلى عشرين قسماً لكل واحد منها عمدة وثلاثة أو خمسة مساعدون ولباريز 2345 زقاقاً و82 جادة كبرى و115 شارعاً و166 ساحة و406 طرق غير نافذة و468 ممشى و154 قرية و49 مصيفاً و71 مجرى عاماً و42 رصيفاً و31 جسراً و48000 بيت وتمتد الطرق المغروسة بالأشجار وفيها 87000 شجرة عَلَى طول 270363 متراً وفيها 8103 مقاعد لجلوس الناس في الطرق والشوارع والساحات والحدائق. تضاء باريز في الليل بنحو52313 ضوء غاز و1575 مصباحاً كهربائياً وقوة القوى الكهربائية فيها للشركات الخاصة والعامة في باريز 2، 300، 000 مصباح كل واحد ذو عشر شمعات. ويجري ماء الشفة إلى مدينة باريز في قساطل من عدة ينابيع صافية نافعة خلافاً لما يدعيه بعض المتجرين بالخمور من أن ماءها مضر بالصحة حتى ينفقوا خمورهم ومعدل ما يجري منه إليها 310، 000 متر مكعب يأتي إلى 84 ألف محل من البيوت الخاصة و7433 مضخة للحريق و111، 695 محلاً لشرب المارة ويجري إليها ماء للاستعمال غير صالح للشرب وهو للصناعات وغيرها يجري في 64600 آلة عامة.
في باريز 16000 عربة بالخيل وأكثرها بحصان واحد والمركبة ذات الحصانين هي في الأكثر عربات خاصة بالأعيان وأرباب الفنادق وفيها 13000 أوتومبيل كبير تنقل زهاء 30 مليوناً من الناس في السنة و119 خطاً م خطوط الحوافل (أومنيبوس) والترامواي وفيها 250 عجلة أومنيبوس و1900 مركبة كهربائية تنقل في السنة مالا يقل عن 300 مليون راكب وعشرة آلاف مركبة خاصة و12000 سيارة (أوتومبيل) وقد كان في فرنسا في السنة الماضية 44767 أوتومبيلاً و 40000 مركبة نقل ولا تدخل فيها الكميونات وفي باريز 160 ألفاً من الدراجات و106 مراكب نهرية تحمل نحو 23 مليون راكب في السنة وسككها الحديدية المحدقة بها تحمل 31 مليوناً ويركب من الست محطات الكبرى فيها(45/33)
زهاء 77 مليون راكب ومثلهم يأتون إليها.
ويلزم لباريز في السنة 292 مليون كيلو من الخبز و159 مليون كيلو من اللحم و36 مليون كيلو من السمك و 669 مليون بيضة و31 مليون كيلو من الطير والصيد و6 ملايين هكتولتر من الخمور و692000 من الجعة و 120000 هكتولتر من سائر المشروبات الروحية.
وفيها 30 ألف فندق وحانة وقهوة ومطعم يعيش منها مئة ألف نسمة ولتجارة الأطعمة 24500 محل يعيش منها 90 ألف شخص ولتجارة الفرش والأثاث 3200 محل وعدد البيوت والمخازن التي تبيع الأمتعة والثياب والأزياء 9500 محل فيها 72 ألف عامل وعاملة وعدد محال الأطعمة ومعاملها 75 ألفاً فيها 43 ألف مستخدم وخمسمائة ألف عامل وعاملة فيكون مجموع من يعيشون من هذه المحال نحو مليون نسمة.
وأكبر وسائط النقل وأسرعها في مدينة باريز السكة الحديدية الكهربائية تحت الأرض التي يسمونها المتروبوليتين وهي تدل عَلَى عظمة العقل وآخر ما وصل إليه الإنسان من التفنن وليس لهذا الخط نظير في سعته وجدته في برلين ولا في لندرا افتتح الخط الأول منه سنة 1900 وله الآن ستة خطوط منها ما طوله عشرة كيلومترات ومنها أكثر وأقل إلى السبعة عشر كيلومتراً تربط أجزاء المدينة بعضها ببعض وينتقل الراكب إن أحب من فرع إلى فرع آخر بدون زيادة أجرة وقد تم الخط الرابع منه هذه الآونة وهو يسير تحت نهر السين ويكلف كل كيلومتر من هذا الخط ثلاثة ملايين فرنك وهو سريع نظيف رخيص يدفع الراكب في الدرجة الأولى 25 سنتيماً وفي الدرجة الثانية 15 وقد نقلت هذه السكة الحديدية سنة 1909: 254459920 راكباً وكان عدد من أقلتهم في السنة التي قبلها 229، 700، 519 وكانت أرباحها سنة 1908 نحو أربعين مليار فرنك فأصبحت في السنة التالية زهاء أربعة وأربعين ملياراً وهم يعملون أبداً عَلَى تهويته عَلَى طريقة لا تخليه من الهواء النقي ويذرون فيه المواد المضادة للتعفن وقد يتأذى بالركوب فيه بعض ضعاف المزاج ولكن ذلك من كثرة الازدحام فيه لا من شيء آخر.
علم المشرقيات
13(45/34)
لا يتأتى لغريب عن أمة أن يعرفها حق المعرفة إلا إذا درس لغتها وتاريخها وآدابها. واللغة مفتاح باب كل معرفة ومقدمة بين يدي كل عمل. ولذلك كان من الراغبين في درس أحوال الشرق من أهل أوربا أن يدرسوا لغاته ليحيطوا خبراً بأهله وكان للغة العربية المقام الأول بين تلك اللغات لأنها لغة أمة ذات حضارة باهرة ودين دان به أهل الأقطار المعتدلة من صميم الشرق.
فتوفروا على إحكام العربية وتنافسوا في تعليمها حتى نبغ منهم أناس لم يقلوا في فهم أسرارها عن خلص أبنائها الذين نشؤا في حجرها وأحكموا ملكة نظمها ونثرها وكان لفرنسا من بين ممالك الغرب يد طولى في هذا المضمار. وكل مملكة من ممالك أوربا وأمريكا لا تخلو من أفراد من أهلها أنفسهم يعانون حل معضلات لغة العرب وينسلون إلى تلقفها من كل حدب.
ولقد دعوا تعلم هذه اللغات وما ينبغي لها علم المشرقيات أو الاستشراق والمشتغلين بها علماء المشرقيات أو المستشرقين وقديماً كان العارفون من أهل هذا الشأن من الفرنسيس أكثر من غيرهم وقد أصبحوا اليوم وأكثرهم من الألمان. والألمان أمهر الغربيين في النطق باللسان العربي وأكثرهم نبوغاً فيه وعند الألمان من علماء المشرقيات بقدر ما عند الفرنسيس والنمسويين والمجريين والإيطاليين والهولانديين والإنكليز والروس والإسبانيين والبرتغاليين والأمركيين والبلجيكيين وكثرة عدد وحسن معرفة ولا عجب فالألمان نبغوا في كل شأن من شؤون الحياة والعلم والصناعة ودرس العربية كان له النصيب الأوفر من عنايتهم.
وقد اشتهرت في فرنسا الجمعية الآسياوية ومدرسة اللغات الشرقية الحية وقد درست أحوالهما وزرتهما غير مامرة وهاءنذا الخص للقارئ ما عرفته عن الجمعية الآسياوية بواسطة صديقي المسيو لوسين بوفا أحد الأعضاء العاملين العالمين في الجمعية المشار إليها فقد كتب إليَّ ما تعريبه: إن فكر تأسيس جمعية علمية تعنى بدراسة الشرق قد جرى البحث فيه منذ أواسط القرن الثامن عشر ولكنه لم يتم إلا بعد زمن طويل. فقد أنشئت الجمعيات الأولى للباحثين في المشرقيات خارج أوربا مثل جمعية العلوم والفنون في باتافيا (1778) والجمعية الآسياوية في البنغال (1784) والجمعية الآسياوية في بومباي (1805)(45/35)
ومنذ ذاك العهد أنشئت في أوربا وأمريكا عدة جمعيات للمستشرقين ولكن أقدمها عهداً الجمعية الآسياوية في باريز أسست سنة 1822.
وعَلَى ذلك العهد رأى جماعة من مستشرقي الفرنسيس أن الحاجة ماسة إلى أن يجتمعوا أو يجمعوا مواد الدروس المختلفة الضرورية لهم وأن يصدروا مجلة تكون لسان حالهم وقائمة أعمالهم. وكان المسيو ديلاستي أنشط هؤلاء العلماء وبفضله أسست الجمعية الآسياوية التي ناب في رئاستها ما يقرب من ثلاثين سنة وكان الرئيس إذ ذاك سلفستردي ساسي أحد أعضاء المجمع العلمي وأستاذ مدرسة فرنسا ومدرة اللغات الشرقية وهو أعظم من خدم اللغة الربية في فرنسا وربما كان أعظم مستشرق نبغ ونفع الفرنسيس وكان من مؤسسي الجمعية أيضاً كوسان دي برسفال وكارسين دي فاسي ورموسا.
فبدأت الجمعية أعمالها لأول تأسيسها بنشر المجلة الآسياوية التي اختصت بالبحث في لغات الشرق وتاريخه وعلومه وآثاره ولا تزال إلى اليوم نموذج العلم الراقي وسيدة المجلات الأخصائية في فرنسا.
وأنشأت الجمعية خزانة كتب جمعت فيها كل ما وصلت يدها إليه من الكتب والمخطوطات والرسوم وغيرها مما يفيد العلماء من أعضائها وجمعت أيضاً مجموعات من النقود القديمة والتحف البديعة. ونشرت مصنفات في تاريخ الشرق وأصول لغاته وفلسفته وأديانه وطبعت عَلَى نفقتها عدة مصنفات وساعدت كثيرين مساعدات أدبية ومادية على نشر الكتب النافعة وكان نشر المخطوطات وترجمتها من أهم الأعمال التي تعنى بها. وخصت جلساتها في سماع المراسلات والمناقشات العلمية النافعة كما عنيت بمراسلة العلماء الأجانب عَلَى الدوام والانتفاع بآرائهم وأعمالهم.
وإذ قد ظهرت منافع الجمعية الآسياوية سنة 1828 عادت بعد أن ضعف أمرها بضع سنين إلى مكانتها الأولى ولم تلبث أن قويت عن ذي قبل وانتشرت كلمتها فرأسها أمثال سلفستردي ساسي ثم جوبر ورينووموهل وكارسان دي تاسي ورنيه ورنان وباربيه دي مينار وسينار. ومن جملة رؤسائها الثانويين كوسين دي برسفال وبارتلمي سان هيلير ودفرني وبوريه دي كورتيل وماسبرو وربنس دوفال وبين امناء سرها ابيل ريمورا وجايمس ودار مستثير وشافان.(45/36)
تنقلت الجمعية منذ تأسيسها في عدة أماكن ومنذ سنة 1883 اتخذت لها مقراً في بناء ملاصق للمجمع العلمي وذلك بفضل رئيسها إذ ذاك رنان الفيلسوف المعروف ونالت من الحكومة الفرنسوية عدة معونات رسمية ومنحت الجمعية مكتبة الأمة الكبرى عدة كتب ومخطوطات وغيرها من النفائس ولا سيما المخطوطات التي أتت بها من الهند والمجموعة التبتية وكتب الديانة البوذية.
وما عدا المجلة الآسياوية التي تصدرها الجمعية في نحو مائتي صفحة كل شهرين ويتألف منها مجلدان كل سنة فقد نشرت على نفقتها 21 مصنفاً تتألف من نحو 40 مجلداً وبعض هذه المصنفات طويلة الذيل مثل مروج الذهب للمسعودي نشرته بنصه العربي وترجمته إلى الفرنسوية وهو في تسع مجلدات ونشرت رحلة ابن بطوطة في أربع مجلدات وكتاب الماهافاستو في ثلاث مجلدات.
وهذه الجمعية تمنح كل سنة معونات لبعض المؤلفين في الموضوعات العلمية. وأعضاؤها اليوم 250 عضواً منهم 26 من الأجانب وهي تبعث بمجلتها إلى نحو مئة جمعية علمية ومدرسة جامعة أو مجلة دورية وإلى ثمانين مكتبة من مكاتب العالم عَلَى يد نظارة المعارف الفرنسوية وللمجلة 130 مشتركاً ليسوا من الداخلين في الجمعية. وقد بلغت وارداتها سنة 1908: 25631 فرنكاً و66 سنتيماً وفي مكتبتها نحو اثني عشر ألف مجلد من الكتب و1500 صفيحة و200 كتاب مخطوط وفيها مجموعة من النقود القديمة هذا إجمال حال الجمعية الآسياوية وفيها من الأعضاء من لا فائدة منهم ولا رابطة بينهم وبين الغرض الذي ترمي إليه إلا أنهم يؤدون الراتب السنوي المضروب عليهم ويتناولون المجلة لقاء ذلك وكثير منهم لا يعرفون من أحوال الشرق ولغاته وأصول سكانه أكثر مما نعرف نحن عن الصين وتبت.
أما مدرسة اللغات الشرقية الحية وهي التي تقرئ مبادئ اللغات الشرقية وهي مخرج لأعضاء هذه الجمعية وغيرهم ممن يتولون القنصليات والترجمة والسفارة عن حكومتهم في بلاد الشرق فاسمها فيما أرى أكثر من نفعها وما دامت فرنسا تراعي الخواطر في توسيد وظائف التدريس لغير الأكفاء فإن تعليم اللغات الشرقية يبقى صورياً لا حقيقياً. وهيهات أن ينشأ لفرنسا وهي عَلَى هذه الحال أمثال المستشرقين الأول من أبنائها الذين باهت بهم الأمم(45/37)
مادامت سوق الشفاعات رائجة عندها.
درس من سلانيك
14
بينما كنت مأخوذاً بما أشاهده من مظاهر عظمة الأمة الفرنسوية وأقرأ مثالاً مجسماً من الارتقاء الغربي ولا أفرغ ليلي ولا نهاري من زيارة المعاهد العلمية وحضور الدروس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأغوص في مكاتب باريز ولا سيما مكتبة الأمة ومكتبة السوربون وبينا تكاثرت عليَّ المواد وأنا لا أعرف بأي لسان أعبر ولا بأي قلم أحبر وبينا أنا أفكر في بلادي وما يجب علي أن أكتب لها مما تأثرت به عواطفي وأخذ بمجامع قلبي حمل إليّ البريد من سلانيك كراسة باللغة الإفرنسية من قلم صموئيل سام أفندي ليفي رئيس تحرير جريدة سلانيك الفرنسوية وهي محاضرة ألقاها في نادي الإتحاد الرياضي في ذاك الثغر أواخر الشهر الماضي عقيب عودته مع جماعة العثمانيين الذين ذهبوا لزيارة بلاد النمسا والمجر منذ مدة فرأيت أن ألخصها للقراء ليعلموا إن تأثر العثمانيين واحد عند زيارتهم الديار الأوربية وأن ابن سورية إذا أقامه ما شاهده في غربي أوربا وأقعده بما فيها من آثار العمل والجد فإن ابن مكدونية لا ينقص عنه تأثراً في ما شاهده من أواسط أوربا وشعور أبناء الوطن واحد. قال الكاتب السلانيكي:
في ستة وعشرين يوماً ساح مائتان وخمسون رجلاً من أهالي الأستانة وسلانيك وأزمير وغيرها من مدن الداخلية سياحة كبرى قطعوا فيها 4500 كيلومتر في السكك الحديدية و 1500 في البواخر والعجلات والسيارات وعلى الأرجل فوقفنا في خمس وعشرين مدينة كبرى وصغرى وزرنا نحو 150 داراً صناعية ومعهداً علمياً أو مدرسياً وفنياً وإدارياً ومتحفاً وغيره وحضرنا مئة دعوة وغيرها أقامتها لنا 15 جمعية و25 غرفة تجارة وحكومة النمسا والمجر فلم يبق من تلك الرحلة التي تذكرنا السائحين جولن وماين ريد إلا أن نذكر شيئاً من ذلك الحلم الذي مر علينا في رحلتنا ونتثبت من تلك الأشباح لنحسن الانتفاع بها في مادياتنا وتكون لنا علماً ودرساً نافعاً ولقد كانت غايتنا من رحلتنا اقتصادية لندرس دور الصناعات والأوضاع التجارية والمدرسية والإدارية عن أمم ولكن المسائل الاقتصادية والاجتماعية كما قال البارون هلوموتسكي فيما خطبنا به لها مساس كلي(45/38)
بالمسائل السياسية وبينها روابط ولوازم ولا سبيل إلى البحث في الأولى مع إغفال الثانية.
ولقد كنا نقضي العجب من كل ما يقع نظرنا عليه حتى كنا نتساءل عما إذا كان ما تقع عليه أنظارنا من مدهش الأعمال هو من صنع أيدي البشر وهم الذين قاموا بهذه العجائب وبحق ما قاله النائب الدكتور رضا توفيق رئيس جماعتنا السائحين عندما غادر النمسا إن أغنى اللغات عاجزة عن بيان الشعور الذي نتأثر به كلنا كما ينبغي لما لقيناه من الحفاوة الخارقة للعادة مدة مقامنا في بلد بلغ هذه الدرجة من الرقي. نعم لقد تجلت لنا بلاد النمسا والمجر مملكة دخل إليها التجديد من كل أطرافها وتناول كل فرع من فروع أعمالها الخاصة والعامة.
وكثيراً ما اتفق لنا أن زرنا معهدين أو ثلاثة في فرع من فروع الصناعة وفي أقاليم مختلفة فكنا نجد في كل منها أساليب العمل التي يقضي بوجودها العلم أعمالاً كمالية تابعة وتحسينات خاصة ومحلية تدل على الإقدام الذاتي وقوة إرادة شخصية وحب في البحث وكلها ظواهر محسوسة لعمل عام ونشوءٍ متواصل. كنا نشهد ذلك في كل الفروع الصناعية والفنية والمدرسية والإنسانية. ولكثرة عنايتنا بالسؤال عن معاهد الإحسان ومعونة العملة ترآءى لنا أن النمسا في مقدمة الأمم في هذا الباب ومن ذلك أن 4200 من العملة العاجزين يعيشون في لاينز بالقرب من فينا لا على قدر الكفاية فقط بل يعيشون كما يعيش الملوك. وما ننس لا ننس ملجأ المرضى العصبيين في شنهوف وفيه 3600 عامل يعاملون كما لو كانوا في قصور ملكية وهم موزعون عَلَى 64 بناية في مسافة من الأرض تتجاوز مساحة مدينة سلانيك وقد صرفت عليها حكومة النمسا السفلى ستين مليون كورن فقط لا غير.
وبينا كان رفقائي في رحلتي يدهشون من زيارة المعامل والمصانع ودور الصناعات عَلَى اختلاف أنواعها في بلاد المجر والنمسا ومورافيا وبوهيميا وستيريا وغيرها كان يلفت نظري خاصة منظر اتفقوا عَلَى تسميته باسم مملكة هابسبورغ. فإن هذه المملكة هي في الحقيقة رقعة شطرنج فيها غرائب الفسيفساء من العناصر المختلفة والوطنيات الغير متجانسة ولكن هذه الجماعات على اختلاف أصولها قد اجتمعت ليكون مجموعها مثال جمال ولطف وتنوع وما كانت وحدة هذا المزيج إلا نتيجة نظام الحكومة المركزية وحسن مأتاها وبعد نظرها فرأت أن تترك لكل قوم استقلالاً إدارياً كان غاية الغايات في إبداعه(45/39)
وبذلك توقت الصدمات الهائلة ولم يحدث حتى الآن ما يكدر صفو الراحة. وهذا الرأي في توسيع سلطة الأقاليم لم يكن منه الوحدة الجوهرية فقط لما فيه من احترام القوميات بل نتج منه ارتقاء خارق للعادة في جميع فروع العمل وذلك أن كل قطر له من نفسه غنى طبيعي غزير ورجال نوابغ أذكياء هم خيرة رجاله فاستطاعوا الانتفاع بما حوت بقاعهم وكان من ذلك أن استمتع كل جماعة بما لهم من الحقوق فنشأت المنافسة بين العناصر المختلفة وأخذت كل واحدة منها تضاعف عنايتها وتكثر من جهادها فأوجدوا بذلك مجموعة من بدائع الأعمال منوعة الأساليب تمت في عامة فروع الجهاد الإنساني وكان ذلك من أهم المشاهد وأجملها التي وقع نظرنا عليها في رحلتنا وأحسن معلم لنا معاشر العثمانيين.
تأَلفت مملكة هابسبورغ من زواج أمراء بعضهم من بعض عَلَى حين كانت الانقسامات الداخلية سبباً لضعف تلك المملكة ولطالما طحنتها مطامع جيرانها واعتداؤهم ولكن لما عزمت الحكومة أن تمنح العناصر المختلفة التي يتكون منها جسم المملكة دستوراً قائماً عَلَى المبادئ الحرة في مراعاة الحق العام الحديث بدأ نهوضها وارتقاؤها إلى الأمام.
فعلى نواب العثمانيين في مجلسنا النيابي أن ينظروا في أمر العناصر العثمانية ويحلوها كما حلتها النمسا والمجر التي كانت في حالة أشبه بحالتنا اليوم منذ نصف قرن فأحسنت حلها عَلَى ما يجب فهي سابقتنا في هذا الباب وما عينا إلا أن نأخذ عنها وبذلك نأمن العثرات ولا نسير على غير هدى.
وهنا التفت إلى رفاقي في الرحلة الذين دخل عليهم اليأس من ارتقائنا مما شاهدوه من الشوط البعيد الذي قطعه جيراننا.
فأقول لهم أن ما شاهدناه عندهم ليس إلا ثمرة عمل عظيم وجهاد منظم وإرادة قوية وأساس راسخ وإذا أحببنا أن نبلغ بأمتنا مبلغهم فما علينا إلا أن نمد نحن يد مساعدتنا للدستور ونستخدم جميع القوى الحية في الأمة وأن تعمل الحكومة عملاً فعالاً لما فيه إنهاض الشعب كما عَلَى الشعب أن يعمل لمعاضدة الحكومة الصالحة وبالجملة أن يعمل كلاهما بل يعمل الكل للواحد والواحد للكل ويعرف كل الواجب عليه ونكران النفس والمفاداة.
وهنا خاض الكاتب في مسألة نهوض العثمانيين وأنها موقوفة على التعليم وأننا لا ننجح إلا إذا حذونا على الأقل حذو البلاد التي كانت تابعة لنا بالأمس كممالك البلقان مثلاً وأرسلنا(45/40)
من شبابنا من يتعلمون العلوم الكاملة في كليات الغرب فمن أعظم نجاح تلك الإمارات أنها ما زالت منذ زهاء ربع قرن ترسل بشبانها إلى كليات العلم حتى لا تكاد تدخل كلية في أوربا إلا وتجد منهم كثيرين وهؤلاء هم الذين استلموا زمام الأعمال في بلادهم ونفخوا فيها من أرواحهم ولسنا نضطر إلى الأجانب لتعليم أولادنا في بلادهم بل يجب أن نجلب رجال الصناعات والعلم منهم يؤسسون في بلادنا مدارس ودور صناعات كما نحن في حاجة إلى رؤوس أموال الأجانب لاستخدامها في أعمالنا ومشاريعنا وأن نكون في سياستنا الاقتصادية كما قال ارنست لافيس المؤرخ الفرنسوي في تعريف السياسة أنها علم خديعة غيرك وأنت تظهر بأنك تحملهم عَلَى الاعتقاد بأننا لم ندرك بأنهم خدعونا أو أنهم يحاولون خداعنا.(45/41)
نظرة في نخب الذخائر في أحوال الجواهر
(تابع)
صفحة 381 سطر الافرنجة ـ أفرنجة. وسطر 10 هو جوهر ـ حجر ـ وعدم الإنفصال ـ الانفعال. وسطر 14 الأحمر بقوس قزح ـ الأحمر الشبيه بقوس قزح. وسطر 19 صفحة اسرب ـ صفيحة اسرب وسطر 20 قيمة هذا ـ قيمة هذه. وسطر 24 ناصر الدين الترمذي ـ الزمردي.
صفحة 382 سطر 2 وإن ابتلع منه شيئاً ـ وإن ابتلع منه شيء وسطر 8 عند التدقيق ـ عند التدقيق في النظر. وسطر 9 لجواز أن يكون ـ وفي المشرق والجواز أن يكون والأولى أولى. وسطر 14 تلك المغائص وهكذا في المشرق ـ المغاوص. وسطر 15 مغاص أول ـ مغاص أوال. وسطر 21 تغلب الرصاصة ـ الرصاصية. وسطر 26 الأخواني الرازيان ـ الأخوان الرازيان.
صفحة 383 سطر 4 وهو دونها شكلاً ـ وهو أدونها شكلاً. وسطر 5 للنقي البياض ـ النقي البياض ـ وإذا فاز ـ زاد. وسطر 6 اذان ـ فان. وسطر 7 و 8 سقطت كلمة النظم من آخر السطر السابع إلى آخر الثامن وأبدلت بكلمة الا في السطر الثامن. وسطر 17 يبلغ مثقالاً ونصفاً وفي المشرق مثقال ونصف وهو غلط. وس 18 لتضاعف قيمته وفي المشرق يتضاعف قيمته والأولى أولى ـ قياس الجواهر في نسختي المقتبس المشرق ـ وفي نسختي قياس سائر الجواهر. وس 25 يودع إليه مشروحة وكذا في المشرق ـ يودع أليه مشروحة وهو المراد.
صفحة 384 سطر 7 ثم نقل إلى قدح ـ ثم ينقل إلى قدح وس 9 ثم تلف فوقها عجين ـ ثم يلف فوقها عجين وس 11 غلي ـ أغلي. وس 12 سقطت هذه العبارة برمتها من نسخة المشرق وهي (ويطلى به طلياً ثخيناً وتودع جوف عجين قد عجن بلبن حليب) وسطر 13 ويخبز في التور ـ ويخبز. وس 15 مع حبتين تنكار وهكذا في نسخة المشرق ـ مع حبتي تنكار. وس 21 أسود ولا صفرة ـ سواد ولا صفرة ـ ولا تفوت ـ ولا تفوث. وس 24 يرغبون لما وكذا في المشرق ـ يرغبون بما
صفحة 385 سطر 2 إذا ماسهُ ـ إذا مسهُ وس 3 القيحة ـ القيمة. وس 5 ـ الطاووسية(45/42)
التي تكون في المروج وكذا في المشرق ـ الطاووسية اللون التي تكون في المروج الخضر. وس 8 الأفاعي وخاصية وكذا في المشرق ـ الأفاعي بوجه وخاصية ـ ولدغ العقارب وفي المشرق لذع والأُلى أصح. وس12المطلقة ـ المطلوقة وهو المراد. وس 27 كذلك يجي بالشحم والالية. وفي الشرق فإنه يحيى بالشحم أو لإلية ـ كذلك يحيا بالشحم والأَلية وهو المراد.
صفحة 386 سطر 2 لدغة العقرب وفي المشرق لذعة والأولى المراده هنا. وس 3 العين المنحرفة ـ العين المنحرفة. وس 8 ابن أبي الاشث. وفي المشرق ابن أبي الاشعب. وس 10 من خزائن الزنج وكذا في المشرق ـ من جزائر الزنج ـ ومن نواحي بذخشان وكذا في المشرق ـ ومن نواحي بدخشان. وس13 زنتها مائة رطل وفي المشرق زنتها مائتا رطل ـ زنة مائتي رطل. وس 19 ما غلبت عليه الوردية وفي المشرق ما غلت عليه الوردية والأولى أصح. وس 26 افرندي ـ فرندي. وس 27 ومنه معزل ـ ومنه مغربي.
صفحة 387 سطر 5 (ويقال يشم منه مجلوب. . . إلى قوله والمستخرج منه كدر) وفي المشرق اختلاف عن النسختين وهذا ما جاء فيه (مشرق 11: 763) (اليشب ويقال يشم منه مجلوب من بلاد الترك من ناحية ختن وألوانه أبيض وأصفر وزيتي وهو أفضلها ومن مستخرج من واد بين يسمى أحدهما قاش ويستخرج منه أبيض فائق ويسمى الآخر واقاش والمستخرج منه كدر) وفي المقتبس بدل قاش فاش والأولى في نسختنا. وس 10 تعليقات عليها ـ تعليقاً عليها. وس 12 الغازدهر وفي المشرق الفاذزهر ـ الفادزهر. وس17 وإذا نثرت ـ وإذا نثرت. وس19 عَلَى درهمين كندر وكذا في المشرق ـ عَلَى درهمي كندر. وس 20 الاياييل ـ الأيائل. وس21 في مريرها في ـ مرائرها. وس 22 لونُه بين الخضرة والغبرة وفي المشرق لونُه من الخضرة والغبرة. والأولى اولى. وس23 البلوط منه ـ البلوطة منه. وس24 وسحالة الخالص بيضاء. وفي المشرق وسحالته الخالص ـ وسحالة الخالص منه بيضاء وس25 عَلَى سبيل الاحتياط وفي المشرق عَلَى الاحتياط. وس 26 المجزومين ـ المجذومين.
صفحة 388 سطر 1 جلاء. وحيا ـ جلاء وحياً أي سريعاً. وس 8 و9 ما كان ورنه مائة درهم فقيمته من مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً وفي المشرق (11: 765 سطر 2) ما(45/43)
كان وزنه مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً وهو خطأ ظاهر - ما كان وزنه درهم فقيمته من. . . . وسطر 9 وجرب من دخان وفي المشرق وجرب مع دخان هذا ما تمثل للذهن القاصر من معارضة النسخ الثلاث استجلاء للحقيقة وحافظة عَلَى عبارات المؤلف الأصلية وتثبتاً في النقل خشية أن ينقل شيء من هذا الكلام ويشوبه أقل تغيير فيبعد عن أصله وتفوت الفائدة وما عَلَى الناقل والناسخ إلا أن يبقي الأصل عَلَى علاَّته ولعل القراء يرشدوننا إلى نسخة صح والله الهادي إلى الصواب والملهم السداد بمنه وكرمه.
زحلة (لبنان) ـ //// عيسى اسكندر المعلوف(45/44)
سير العلم والاجتماع
ضخام الأجسام
قالوا إن الأصحاء من ضخام الأجسام هم أسعد حالاً من النحاف وأن السمين يسعد أسرته وزوجته أكثر من الهزيل فلا يهتم بالجزئيات كالنحيف ويساعد زوجه في الأمور البيتية أما الهزيل فإنه في الأغلب يعتقد أن أعباء الأمة عليه وأنها تهلك إذا لم يساعدها ويفكر لها. وقد نصحت المجلة التي نعرب عنها لكل فتاة تريد أن تحيا حياة طيبة مع زوجها أن تختاره من السمان حتى يكون لها خير كفوء ولا ينغص عليها عيشها كما يخشى أن ينغصه النحيف.
أصل المظلات
كانت المظلات مستعملة عند الفرس والأشوريين والمصريين والرومانيين وبقيت زمناً دليل القوة والعظمة في كل قطر ولم ينتشر استعمال المظلات في أوربا إلا سنة 1680 وفيها انتشر استعمال المظلات للمطر فكانوا يؤجرونها للمارة من الساحات والجسور ثم كثر استعمال المظلات وابتذلت ولكنها لم تتغير عن حالتها بل كان ينظر فيها إلى اللطافة وجمال قماشها وحسن قبضتها.
أقدم شجرة
في جزيرة كوس من شاطئ آسيا الصغرى قامت إلى اليوم أقدم شجرة في العالم وهي دلبة اقرأ في ظلها ابقراط مؤسس الطب تلامذته وإذ كانت قديمة حتى في ذاك الزمن فلا يتيسر أن يقال عمرها الآن أقل من ألفين وخمسمائة سنة ومحيط جذعها عشرة أمتار ولا تزال أغصانها كل ربيع تغطى بالورق وقد أنشئت لها دعائم من القرميد ليجعل عليها أكبر أغصانها.
ممثلو الفرنسيس
من أعظم دور التمثيل في فرنسا الأوبرا والأوبراكوميك في باريز فالأولى تأخذ من الحكومة ثمانمائة ألف فرنك إعانة سنوية والثانية ثلثمائة ألف ومع ذلك لا تكاد تجد في ميزانيتها زيادة كبرى في الدخل عن الخرج لانهما يدفعان رواتب باهظة للمثلين والممثلات. فتدفع الأوبرا للمسيو الفارز 2200 فرنك كل ليلة أي 128 ألفاً عن 64 ليلة(45/45)
في السنة وتدفع لغيره من الممثلين رواتب تختلف في السنة بين 85 ألفاً إلى 30 ألفاً وعن كل ليلة يغني فيها كاروزو عشرة آلاف فرنك وتتناول كل من العقيلة مارغريت كاري والآنسة شنال أربعة آلاف فرنك في الشهر وهكذا لا يقل راتب الممثلة أو الممثل في الأوبراكوميك عن ألف فرنك في الشهر.
التدخين
قالت مجلة الحياة البيتة بمناسبة الضريبة التي وضعتها ألمانيا على أنواع الدخان أن فرنسا أيضاً تفكر في وضع ضريبة ولكن عَلَى الدخان الجيد تبيع بما قيمته 505، 988، 900 فرنك في السنة وإن عادة التدخين تضر بالأحداث كثيراً كما أن التدخين لا يضر الضرر البليغ الذي يتصوره بعضهم فإن ملايين من البشر يدخنون ولا شيء يصيبهم سوى إنفاق دراهمهم وأن كثيراً من الفلاسفة والعلماء والشعراء لا يدخنون ومنهم من يدخنون وإن فرنسا تحسن صنعاً لو أعطت الحق لكل وطني أن يقبض عَلَى كل صبي يراه يدخن لما في ذلك من الضرر عَلَى جسمه كما أن في انكلترا يحق لكل انكليزي أن يأخذ بتلابيب كل صبي يسير على هواه ويعمد إلى الكسل ولا يستعمل في العمل الصالح قواه.
سقوط الشعر
اخترعوا في ألمانيا دواءً بسيطاً لمنع الشعر من السقوط وذلك بأن تأخذ مائتا غرام من جذع القراص (قريص) وتسحقه سحقاً جيداً وتغلى في لتر ماء ونحو نصف لتر من الخل الجيد ويصفق هذا المحلول فيفرك كل يوم محل الشعر.
الصحافة
قالت مجلة النجاح ما مثاله معرباً: عرَّف لاروس في معجمه أن الصحافي هو الذي يشتغل بتحرير جريدة وهذا التعريف لا يخلو من إبهام وغموض وذلك أن الواجب عَلَى الصحافي أن ينظر في جملة ما يتحتم عليه النظر فيه من الرسائل الواردة عَلَى إدارته وينظمها بحسب الأحوال الداخلية وأن يسارع في عمله ويكون مستعداً ابداً لإملاء الفراغ الذي يقضي عليه أحياناً أن يملأه لأن للجريدة وقتاً معيناً تصدر فيه ولا مناص من تأخيره. فالمطلوب منه شيءٌ كثير أكثر مما يطلب من غيره من أرباب الصناعات ما عدا الطاهي فإن صناعة الطبخ أشبه بصناعة الجرائد من عدة وجوه فيطلب إلى الطابخ أشياء كثيرة كما(45/46)
يطلب من الصحافي ووجه الشبه بينهما لا يخلو من فروق فإن الأول يغذي الأجسام والثاني يغذي العقول والفرق بينهما أن عدد من يقضى عَلَى الطاهي إطعامهم محدود أما عدد من يغذيهم الصحافي فكثير جداً قد يبلغ مئات الألوف.
ثم إن للصحافي جمهوراً كبيراً من الحانقين ممن لا يعرفون للشفقة معنى ولا يقيمون للرأفة وزناً وأعني بهم من يعتقدون أنهم يحسنون معرفة كل شيء أكثر من غيرهم فالصحافي يقاسي الأمرَّين من أهل هذه الفئة.
يأتي الصحافي في الصباح إلى مكتبه فيجد أمامه بريده يغطي منضدة التحرير وفيها أدلة عَلَى قلة حظوته من الناس فمنهم من يكتب إليه ليتك تعنى عناية كبرى بأحوال المجلس البلدي وآخر يقول له: كفَّ عن مراقبة كل ما يحدث في البلدية وثالث يقول له إن السياسة لا تهمني فإذا أنت لم تعن كثيراً بالحوادث المحلية اضطر إلى الاشتراك بجريدة غير جريدتك ورابع يقول له العكس ويريده على أن يكثر من مؤازريه في المسائل السياسية والابتعاد عن سفاف أخبار المدينة. ومنهم من يقول لماذا لا تكثر من نشر الشعر فمتى عزمت عَلَى النشر فأنا أقدم لك قطعاً من شعري ومنهم من ينتقد نشر الجريدة للنمر الرابحة في اليانصيب ويوعز إلى صاحبها أن يستعيض عنها يوم لا شيء له يملأ به فراغه بقطعة من رواية يجعلها رفرفاً للجريدة ومنهم من يأمر محرر الجريدة أن يحذف بالمرة صفحة من تلك القصص الغرامية التي لا فائدة منها.
وهكذا يدرس الصحافي رأي قرائه من أحكامهم عَلَى مقالاته وأخباره والأنكى من ذلك أن بعضهم يوجهون هذا النقد إلى مديري الجرائد وأصحابها وهؤلاء يعتقدون أن أقل نقد يوجه إلى جريدتهم يوقف رواجها وربما يقصر حبل أجلها ويقضي عَلَى الصحافي إذ ذاك أن يفهم صاحب الجريدة وهناك المصيبة لأنه يكون في الأكثر من رجال المال فقط ولا يهمه سواه.
ولا تنتهي آلام الصحافي بخروجه من غرفة التحرير بل أنه إذا دخل محل قهوة ليستريح لا يلبث أن يراه بعض من يعرفونه فيحومون حوله معتقدين أن الفرصة قد حانت لنصحه ويأخذون في نقد العدد الصادر ذاك النهار فإذا لم يسلم لهم بانتقادهم يزيد إلى أعدائه أعداءً.
وبعد فإن الأرض لا يحرثها إلا الفلاح والجنود لا يقودها إلا ضابط والشعور لا يقصها ويزينها إلا الحلاق ولكن الجريدة يعرف كل الناس أن تكتبها وتنتقدها. نعم الجريدة يحسن(45/47)
تحريرها كل طالب في مدرسة وكل فتى شاب وكل قاعد في قهوة وكل معجب برأيه سخيف في عقله إلا الصحافي فكأن كل القراء يخلقون والقلم وراءَ آذانهم.
وهناك شؤون من مؤلمات الصحافي تعوق القرائح عن جريها وأعني بذلك إذا اخطأ ذات يوم وحمل عَلََى أحدهم فعندما تقام عليه القضية حتى إذا عاد بغضب الله عليه ويسجن فلا يرثى له أحد. وللصحافة حسنات ولكنها قليلة جداً وذلك إن اعتقاد الصحافي يكون في الأكثر أن يخدم الحضارة ويعد العقول ولكنه كثيراً ما يضطر أن يكتب غير ما يعتقد بحسب الحال ومع أن راتبه قليل ولا يجد في الجرائد إلا عدداً قليلاً تدفع رواتب حسنة للصحافي فالقسم الأعظم منها يدفع في السنة لرئيس التحرير من 2400 فرنك إلى 6000 فرنك ومن الجرائد ما يستغني عن المحررين ومع كل هذا فإن الصحافة مرغوب فيها كثيراً بما حوت من الظواهر والمظاهر ولأن كل من خانهم الحظ فلم يقدروا أن يعتاشوا في صناعة أخرى يرون من أنفسهم الكفاءة لإنشاء الجرائد
الحصاد في العالم
في هر كانون الثاني يبدأ الحصاد في معظم مقاطعات اوستراليا ويشرع بنقل الغلات الجديدة في البحار كما يبدأ بالحصاد في الشهر في كل من زيلندا الجديدة وشيلي وبعض أقطار أمريكا الجنوبية. ويبدأ الحصاد في شهر شباط في مصر والهند ويبقى إلى أواخر آذار وفي نيسان يبتدأ بالحصاد في سورية وقبرص وعَلَى شواطئ مصر وكوبا والمكسيك وإيران وآسيا الصغرى وفي أيار تحصد الغلات في آسيا الوسطى وإيران وآسيا الصغرى والجزائر وسورية ومركش وتكساس وفلوريدا والصين واليابان وفي حزيران تحصد الغلات في كليفورنيا واريغون والولايات الجنوبية من أمريكا الشمالية واسبانيا والبرتغال وايطاليا والمجر والروم ايلي وروسيا الجنوبية وممالك الطونة وجنوبي فرنسا واليونان وصقلية وكانتوكي وكانساس وكولورادو وغيرها. وفي شهر تموز يشرع في العادة بالحصاد في ولايات الجنوب الشرقي والوسطى من انكلترا ويدوم في اوريغون ونبراسكا ومينوستا وايوا وايلينوا وانديانا ومشيغان واوهيو وانكلترا الجديدة ونيويورك وفرجينيا وكندا العليا وفرنسا وألمانيا والنمسا وايطاليا وسويسرا والمجر وبولونيا ويدوم الحصاد في شهر آب في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبلجيك وهولاندة ومانيتوبا وكندا السفلى وألمانيا(45/48)
وبولونيا. وفي أيلول يشرع بالحصاد في ايكوسيا من بلاد الانكليز وأمريكا والسويد وشمالي روسيا وبعض فرنسا أيضاً وفي تشرين الأول يحصدون الحنطة والقرطمان في ايكوسيا والذرة في أمريكا وفي تشرين الثاني يشرعون بالحصاد في جنوبي افريقية (بلاد الراس وغيرها) وبيرو وشمالي اوستراليا وفي كانون الأول يشرع بالحصاد في ولايات لابلاتا وشيلي واوستراليا الجنوبية.
تقويم الهواء
إذا رأيت الكواكب في الصيف تتلألأ وهي كثيرة فهي إشارة إلى صفاء الجو وفي الشتاء علامة عَلَى البرد. فإذا فقدت لمعانها بدون أن تظهر السماء غائمة فذلك إشارة إلى المطر. ولمعان ضوء القمر دليل عَلَى الصحو وإذا أحاطت به الهالة البيضاء فدليل المطر. متى سطت الشمس عند الشروق طاردة أمامها الأبخرة البيضاء التي تبدو عند الفجر فذلك إشارة عَلَى أن اليوم مصح ومتى أشرقت الشمس وبدا معها في الأفق ضوء أصفر محاط بالضباب فذلك علامة المطر ومتى غابت وبدا معها لون ذهبي قليل الحمرة والسماء صافية الأديم فذلك إشارة إلى وجود الهواء وإذا اخترقت أشعتها السحاب عند الغروب وبدت في باقات مستطيلة تتماس بعضها مع بعض فذلك إشارة المطر. والسحاب الذي يقرب من الأرض بعد المطر يدل عَلَى الصحو والسحاب الذي يشبه كبب الثلج علامة الهواء في الصيف والثلج في الشتاء والسحاب الغليظ الأسود الذي يبدو في صورة منحدرات وجبال إشارة إلى العواصف والضباب الذي يحدث خلال الصحو ويرتفع تاركاً وراءه سحباً دليل رداءة الهواء ويشعر الهواء الشمالي والشمال الشرقي والشرقي والجنوب الشرقي بصفاء الجو وهواء الشمال الغربي والغربي ولا سيما الجنوب الغربي والجنوبي يؤذن بالمطر. وضباب الصيف الذي يبدو صباحاً يبشر بصحو النهار والضباب الذي يرتفع بدلاً من أن يتساقط ندى يدل أبداً عَلَى المطر والضباب الذي يبدو في الوقت الرديء يدل عَلَى أن الصحو قريب وضباب الخريف مقدمة للجليد الأول ومتى أخذ البط يقفز ذات اليمين وذات الشمال في الصحو صائحاً وغائصاً في الماء وتمرغ الدجاج في التراب وطار السنونو محوماً عَلَى سطح الماء فلك أن تحكم بأن المطر لا يلبث أن يهطل.
البقول والأخلاق(45/49)
يعرف الناس التأثير المضر الذي ينشأ من الإكثار من القتاء. والبصل ما زال منذ بدء العالم يبعث متناوله عَلَى الشفقة ومن يأكلونه فجاً تجد دمعتهم قريبة من مآقيهم والجزر يقوي في الطفل غريزة السلب والكراث يدمث الخلق ويكثر في متناوله الصبر ويجعله كفؤاً للعمل في الزراعة والفجل الأسود يولد السويداء وعَلَى نحاف الأجسام أن يتوقوا تناول البطاطا لأنها سلُّ الهزالى. ومن أراد تقوية عقله فعليه أن يتناول الثوم. ومن أحب السبانخ يتطال إلى المناصب العالية. ومن أكثر من العدس قوي فيه الميل إلى البحث المجهري والأرز يكثر منه البحارة والجرجير يمنع القرعة أما اللوبيا البيضاء فقد قال زولا أنها نافعة لمن يطيرون في المناطيد.
جمال الأصقاع
جمال كل صقع اليوم مورد ثروة لأهله. عرف السويسريون هذه الحقيقة وقدروا ما خصت يد الصانع بلادهم به من بهيج المناظر وجيد الماء والهواء فتوفروا عَلَى تهيئة أسباب الراحة في جبالهم وأوديتهم وسهولهم وبحيراتهم وأنهارهم فقد كان سكان سويسرا سنة 1889: 2، 933، 300 وكان يلحق الفرد منهم من الثروة 72 فرنكاً ونصف ومابرح عدد السائحين الذين يأتون يزيد حتى بلغ عدد من زاروها سنة 1899 مليونين ونصفاً وعدل ما تركه كل واحد منهم من الربح 98 فرنكاً فارتفعت ثروة كل فرد أواخر سنة 1899 إلى 152 فرنكاً ونصف. وهكذا بعد أن كانت هذه البلاد من أفقر بلاد العالم أصبحت من أغناها لأنها من أجملها. ثم أن لسويسرا من معاملها مورد ثروة آخر فقد بان بالإحصاء أنها تخرج كل سنة 917 مليون فرنك من مصنوعاتها عَلَى أن جمال أقاليمها هو أهم مورد لغناها. ولذلك تراها تنشيءُ كل يوم العمارات الجديدة التي تستوفي فيها شروط الراحة والرفاهية فلا يلبث المال الذي يدخل تلك الفنادق أن يتسرب إلى جيوب الفلاحين في أصغر قرية. وفي الفنادق السويسرية من أنواع البذخ ومعدات الحضارة مالا تكاد تجد مثله في نيس ومونتيكارلو وقد كان عدد أعضاء جمعية أرباب الفنادق السويسرية سنة 1900 828 عضواً ولها 65، 220 سريراً للسياح وتصدر باسمها جرائد وتنشر صور بلاد سويسرا الجميلة عَلَى جدران العالم المتمدن وتفرق بالألوان كتباً تدل السائح عَلَى ما في سويسرا من مظاهر الراحة والظرف والصحة. ولو أحذت سورية هذا المثال لما أتت بضع سنين إلا(45/50)
وهي من أغنى أقطار الأرض.
تقويم العيد
السنة عند الصينيين 360 يوماً تنقسم إلى أثني عشر شهراً وينقسم اليوم إلى 96 جزءاً والأعياد كثيرة عندهم وأكثرها أعياد الطبيعة والدين ففي شهر كانون الثاني عيد العذراء الصينية وفي أيار عيد حامية العميان. والعمى من أعظم أمراض مملكة ابن السماءِ. وفي شهر أيلول عيد الحصاد وعيد الزراعة وعيد الرعد وفي كانون الأول عيد ولادة فيلسوفهم كونفوشيوس وعيد الهم بوذا.
عمر الإنسان
يقول أحد علماء الألمان أنك إذا فرضت مالك في الحياة فجعلته 86 سنة وقسمت الباقي عَلَى اثنين يكون الحاصل ما بقي لك من سني الحياة. ويقول عالم بلجيكي أن خمسة في كل واحد يعيشون وفي سن الخامسة 119 من الألف وفي العاشرة يبلغون 512 وفي الخامسة عشرة 347 وفي العشرين 207 وفي الخامسة والعشرين 156 وفي الثلاثين 129 وفي الخامسة والثلاثين 97 وفي الأربعين 78 ويقول أن كل ألف رجل عمر الواحد منهم ستون 559 يعمرون السبعين و120 يبلغون الثمانين و17 إلى التسعين وأربعة فقط يبلغون سن المئة من كل ألف شخص عمر الواحد منهم تسعون.
مدارس الصناع
لكل صناعة في الغرب مدرسة خاصة بها فعدد تلامذة المدارس الصناعية في فرنسا 22 ألفاً ومثل هذا القدر عدد تلامذة المدارس الصناعية أيضاً في الدانيمرك وأهلها مليونان ونصف في حين أن أهل فرنسا نحو أربعين مليوناً وفي الدنيمرك 121 مدرسة صناعية و57 مدرسة تجارية وعدد تلامذة مدارس الصناعات والتجارة في ألمانيا 329، 656 تلميذاً تصرف عليهم في السنة ثلاثين مليون فرنك ما عدا الإعانات الأدبية والمادية التي لا تزال تنهال عليها وكان عدد تلامذة المدارس التجارية في بروسيا فقط سنة 1903 ثلاثين ألفاً وهذه المدارس إجبارية. ولسويسرا مدارس مدارس كثيرة للصناعات المختلفة ومدارس زوريخ وجنيف يضرب بها المثل بكثرتها وإتقانها ولليابان 38 مدرسة للصناعة فيها أربعة آلاف طالب وفي مدارسها الزراعية 62 ألف طالب وفي مدارسها التجارية 13 ألف طالب(45/51)
ومدارس المعامل خاصة بصنع الزهور الصناعية والتطريز وليس من تلميذ في المدارس الصناعية في السابعة من عمره إلا وهو يعرف بصور زهرة أو حشرة أو غصناً ولا عجب من ثم إذا زادت تجارة يابان زيادة كبرى فكانت تجارتها الخارجية سنة 1897 986 ملون فرنك فأصبحت سنة 1906 مليارين و195 مليون فرنك.
التكاليف أو الضرائب
قالت مجلة الاقتصاديين الفرنسوية ما ملخصه: من القواعد الاقتصادية المعروفة أن يكون أبناء الوطن الواحد سواءً في تحمل الضرائب شركاء في الغرم كما هم شركاء في الغنم وأن الضرائب يجب أن تفرض بحيث لا تقف حاجزاً دون حرية التجارة والضرائب مخصصة للخدم العامة في الأمة. كانت البضائع ولا سيما الغلات إذا أريد نقلها في أوربا منذ قرن وربع من إقليم إلى إقليم تراقب أنواع المراقبة وتؤخذ من أصحابها عدة رسوم ولكن رجال الاقتصاد تغلبوا عَلَى رجال السياسة وأبطلوا بالتدريج في أوقات مختلفة هذه العراقيل في التجارة علماً منهم بأن التجارة ليست سرقة كما يقول بعضهم بل هي مقايضة عن تراضٍ بين البائع والشاري ولأن التضامن الذي كان أول من قال به آدم سميث شيخ الاقتصاديين هو صورة من صور تقسيم الأعمال يستلزم الاخصاء في الكفاءات والتنويع في الحاجات فإذا ساءت مثلاً زراعة القطن في الولايات المتحدة تقف في الحال معامل لانكشير في انكلترا.
إبان الاقتصاديون منزلة قاعدة العرض والطلب من عالم المعاملات لأنها ميزان المقايضات بين الأمم وهي من الضروريات التي لا تستغني عنها دولة. قال كسني من الاقتصاديين أن تجار غيرنا من الأمم هم كتجارنا أبناء وطننا فدل بهذا القول عَلَى فائدة المنافسة التجارية وأشار إلى التشبث بها ما أمكن والمنافسة اليوم من أعظم العوامل الأدبية في المدنية الغربية. وأن الخطر العظيم الذي ينالها هو الاستعاضة عن المنافسة الاقتصادية بالمنافسة السياسية. لا جرم أن الاقتصاديين ترددوا بشأن أجرة العامل ولكنهم توصلوا إلى أن فرض الأجور هو عبارة عن وفاق للمقايضة وأن الأجرة لا تؤدي عن العمل بل في مقابل ما تنتجه وينشأ من أثرها وأن صاحب العمل يؤدي للعامل سلفة من أجرته وأن المتبايعين هم الذين يؤدون أجور العملة كما يؤدون الضرائب والمكوس والمبتاعون هم الناس أجمعون.(45/52)
أما الاختلاف بين رأس المال والعمل فليس في الحقيقة إلا اختلافاً بين المنفق الذي يهمه أن يرى أسعار الأسواق متدنية ما أمكن وبين العامل الذي يقبض أجرته ويرمي برفع الأجور وتنقيص ساعات العمل إلى زيادة قيمة ما يعود عليه.
ولم يفتأ الاقتصاديون يحاربون كل من يقصدون إحداث قيم مصنعة بما يدبرونه من الوسائط السياسية والإدارية والشرعية أو يعمدون إلى استعمال الشدة والقسوة في انفاذ ما يريدون سواءٌ كان بوضع الضرائب أو الاعتصابات أو برفع سعر الفائدة في الافتراض أو برفع سعر السلعة الفلانية أو قيمة الشيء الفلاني ثم زيادة سعر الحنطة بوضع رسوم الجمارك عليها وخفض قيمة الخبز إلى أقل من سعر الحنطة مادته الأولية بوضع رسوم البلدية عليه.
إن الإحسان والرفق بالضعفاء يزيدان في شقاء البائسين ويكثران من عدد المحاويج والمعوزين. فالاقتصاديون يوجدون الأسباب للقضاء عَلَى الشقاء من أصله بدلاً من أن يعمدوا إلى صوغ جمل محزنة مبكية كما يفعل من يجمعون الصدقات ليستدروا بأعمالهم أموال المحسنين ولذلك يوصف الاقتصاديون بكزازة الأيدي وأولئك المحسنون بسباطتها.
حارب الاقتصاديون الامتيازات في كل مكان واثبتوا ما يحق لكل عامل أن يتناوله من عمله ورسموا له جزاءً يساوي أتعابه ولقد ابان آدم سميث كيف أن من يبحثون عن منفعتهم الخاصة يضمنون النجاح العام. ولا يستطيع مالك رأس المال أن ينتفع به إلا بأحد وجهين إما ان يستعمله في أمور تأتي بربح أو أن يقرضه لأناس يستخرجون منه أرباحاً يعطون لقاءها فائدة ولا يأتي رأس المال بربح إلا عَلَى شرط أن يلقى به للاستثمار أو أن يصرف في سد حاجة ويدفع عنها ما يقابلها وأجرة رأس المال هي في الحقيقة مقياس الانتفاع من استخدامه.
قال الاقتصاديون: أن عَلَى المرءِ تبعة عمله فلا تعتبر الحكومات أداة بسيطة وآلة صماء فالرق والعبودية ممنوعة وحرية العمل أشرف من الاستعباد فيه وإن العامل إذا عمل مدفوعاً بعامل الربح يعمل أكثر مما إذا عمل مكرهاً وأثبتوا أن لا شيءَ بلا مقابل ولكل عمل ثمن وأجرة. وإن المسائل الاقتصادية تتجلى بالربح والخسارة وهناك العيار الذي قلما يختلف مما ليس لغيرها من المسائل. فالافراد يعملون ويقتصدون لأن الحكومات لا تخضع(45/53)
لناموس الربح والخسارة بل تنفق جزافاً وتسرف إسرافاً. ورجال الحكومات والبلديات في العالم يقدرون فائدة أعمالهم ببعض الآراء الوطنية والسياسية والدينية والصحية والإدارية والشخصية فقد كان الناس في القديم عندما كانوا ينهكون بوضع الضرائب يتعزون بأن ما يؤخذ منهم يعود عليهم حتى قال فولتير في القاموس الفلسفي أن ملك انكلترا يأخذ كل سنة مليون ليرة انكليزية وهذا المليون يعود برمته بإنفاقه له عَلَى أمته ولكن الاقتصاديين ردوا هذه الأوهام وقالوا أن الخراج يستولي عَلَى كل شيء من الدخل والخرج والوفر ولرؤوس أموال أرباب الأملاك والمباشرين للأعمال الكبرى والعامل وأن هاته الطبقات لو توفر لها ما تقاضته منهم الدولة لتنفقه عَلَى الموظفين والجند لكانوا هم أيضاً أنفقوه ولتيسر لهم أن يقتصدوا منه جانباً ينفقونه في تحسين أراضيهم وأعمالهم وربما كان للعامل من هذا الوفر رأس مال له ولا يزال إلى اليوم أناس ممن يزعمون أنهم عَلَى شيءٍ من العلم والتجارب يقولون في الأعمال الغير المثمرة وماذا يضر ذلك ما دام المال ينتقل من يد إلى أخرى. يقولون هذا وهم لا يدركون أن الأموال التي تصرف في أعمال عامة لا فائدة منها مثل الطرق البحرية بل هي ملقاة في المياه وضائعة ضياعاً لايرجى معه رجعة وأن الإسراف في هذا المال يقلل من رؤوس الأموال الموجودة كما يقللها الحريق والغريق.
يقتصد الاقتصاديون من مال الحكومة لأن مالها هو مال المكلفين. قالوا أن الخراج والجباية الباهظة تقضي عَلَى نشاط العاملين. فالعثماني لا يعمل متى علم أن الباشا سيسلبه ما ظهر من أرباحه. الخراج لم يغن قط أمة وإن أحسن الكرم الذي تعطف به حكومة عَلَى محكومين أن تتناول من المكلفين أقل ما يمكنها من الجباية والوزائع. والمكلفون هم العالم أجمع. ولذلك قال كبار الاقتصاديين أن الحكومة في اسبانيا هي الجرح النغار في جسم البلاد.
قال الاقتصادي شارل دونويه أن الحكومة هي المغنية في الحقيقة ونفس الأمر. وليس معنى هذا أنها هي التي تصنع المصنوعات بل لأنها تحمي الصانع في صناعته وتزيد في تأمينه وراحته فإذا حصلت أرباحه وقدرتها عَلَى ما يجب من الاعتدال يقوم غيره من أرباب الاقتدار ويجمعون رؤوس أموال ويحسنون الزراعة. فإغناء الحكومة هو توزيعها الثروة في الناس عَلَى نصاب العدل وذلك لأن الحكومة كما قال المشار إليه إذا ارتفعت حمايتها ولم تمد جناح أمنها عَلَى ما يجب تفقد الثروات قيمتها الحقيقية وتنقطع القوى المنتجة عن(45/54)
الإنتاج وتصاب بالانحلال والخمول وعَلَى العكس إذا نشرت الأمن فإنها تزيد قيم جميع الخيرات وتزيد جماع القوى نشاطاً ومضاءً وإخصاباً وكلما ارتقى الأمن والثقة يزيد النجاح وكلما زاد النجاح يزيد الناس رغبة في رفع أعلام الأمن ويرون الحاجة أكثر ما تكون مساساً إليه.
فالحاجة إلى الراحة أعظم من الحاجة إلى نشر كلمة المدنية ورفع شأنها والناس يتقاضون عدلاً سريعاً خالصاً تراعى فيه الحرية مع التشدد في المحافظة عَلَى النظام والراحة حتى لا ينغص أحد في استعمال قواه وما تملك يداه والواجب أن تكون هذه الراحة باقية عامة وأن لا يكدر من يصرفون قواهم ورؤوس أموالهم في المشاريع في مقايضتهم وأعمالهم مثال ذلك أن ألمانيا تضرب الضرائب عَلَى القمح واللحم لتغري بذلك كبار أرباب الأملاك وتوطد أقدام الفلاحين في قراهم.
فتأخذ منهم جنداً قوياً تقابل به الجند الذي تدعوه إلى حمل السلاح من فستفاليا وولاية رين وهم أهل صناعة يدفعون لها الضرائب التي تعدل بها القوى في الانتخابات.
والحكومة المجرية تريد أن نشئ صناعات لتهيء عملاً لمن لا عمل له من الفلاحين الذين يتكاثر عددهم اليوم بعد اليوم لتحول بذلك دونهم ودون الهجرة. والاقتصاديون يبحثون عن عامة الوسائط التي يراد بها معاونة العلم على نجاحه والصناعة عَلَى الترقي وللزيادة في تنقل الناس والبضائع والأموال قائلين أن صاحب رأس المال يحتاج إلى أمرين الحرية ليستخدم رأس ماله فيما يعود عليه بفائدة أكثر وللأمن لينال ثمرة رأس ماله فإذا أخطأ الحرية يضطر في الغالب أن يضع رأس ماله في أعمال قليلة الربح وربما يؤدي به ذلك إلى الخراب وإذا أعوزه الأمن يبحث لا عن الموارد النافعة له أي عن أنفعها له ولغيره بل ينقل رأس ماله إلى مكان آخر أو لا يستعمله إلا في أمور محدودة.
علائم الموت
فقدان العقل والشعور والإحساس في الجلد ووقوف التنفس والدم وغؤور العينين هي العلائم التي تثبت الموت ولكن هذه الإشارات قد تخطئ. وقد أبان أحدهم مؤخراً طريقة لمعرفة الميت ممن لم يزل فيه نسيس من الحياة لا ينتظر معها تفسخ الجثة حتى يتحقق ذهاب الروح منها وهي أن يجعل المائت في هواء غير متحرك ويوجه أحد أعضائه إلى الأرض(45/55)
ويرسل عليه نار تمس طرف الجلد مساً خفيفاً فتنفخ الجلد بعد ثوان انتفاخاً يسمع صوته ويكشط هذا الانتفاخ مكاناً من الجلد كالقرش وتنقبض بقايا البشرة المكشوطة حوالي المكان المحروق ولكن بدون سائل. وإذا جرب ذلك في شخص حي تحدث في بشرته بثرة ذات مادة مائية لا بثرة غازية كما في شخص ميت وعليه فإن البثرة الغازية لا تنشأ إلا بعد وقوف مجرى الدم وبذلك يتحقق موت الشخص.
أفضل الغذاء
من المسائل الصعبة اختيار أفضل الغذاء فقد قال علماء الفرنجة أن لحم الخنزير إذا أكثر منه الإنسان تسود الدنيا في عينيه وعَلَى العكس في مستعمل لحم البقر فإنه يورثه قوة ونشاط. والظاهر عَلَى ما قالوا أن لحم الخروف أشبه بلحم الخنزير أما لحم العجل فمن خواصه أن يسلبك القليل من النشاط الذي فيك. والزبدة واللبن الحليب تجود بتناولها صحة النساء. ومتى أكثرنا من تناول الزبدة تورثنا كسلاً وعَلَى رجال الأدب وأرباب الأقلام والصناعات النفيسة وكل من يصرفون من دقائق الدماغ كثيراً أن يكثروا من تناول التفاح وأن يجتنبوا البطاطا فإنها كالزبدة تورثهم الكسل. ومن الغريب أن لحم الحمام هو أتعب اللحوم للمعدة والجسم حتى أن أحد الانكليز تراهن مع أحدهم عَلَى أن يتناول لحم الحمام ثلاثين يوماً فلم تمض عشرة أيام حتى عراه العياء وطلب أن يطعم شيئاً من المرق.
النوام
تقول مجلة المطالعات البيتية أن مرض النوم أو النوام الذي اكتشفه العلماء عند بعض الشعوب في أواسط افريقية ليس من الأمراض الحديثة إذا نظرنا إلى الحوادث المشابهة له التي أوردها قدماء المؤلفين فقد نص علينا بلينوس القديم أن الفتى ايبمنيدس نام ذات يوم في كهف سبعاً وخمسين سنة بدون أن يستيقظ وأنه بعد أن انتبه من نومه عاش إلى سن المئة والخامسة والسبعين. وليس بلينوس هو الوحيد في بابه فهناك السبعة نيام في افسيس (أصحاب الكهف) الذين لم ينجوا من الموت خلال الاضطهادات التي وقعت عَلَى المسيحيين بأمر دسيوس إلا باعتصابهم في مغاور ناموا فيها 196 سنة عَلَى ما يؤكدون. وهذا النوم أشبه بداءِ النقطة ولكنه لا يشبه النوام الذي تكلم عنه سوانينوس من فيرون في كتابه وصف بلاد المسكوب قال أنه يوجد شعب يسكن لوكوموريكو وهي ناحية واقعة فيما(45/56)
وراء بلاد السارماتيين فيظهرون أنهم ماتوا منذ اليوم السابع والعشرين من شهر تشرين الأول كالضفادع لشدة البرد القارس في بلادهم وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر نيسان يستيقظون وتعود إليهم حياتهم ولسكان هذه البلاد صلات مع الأمم المجاورة وهم يدخرون عندما يقرب نومهم السنوي مؤونتهم من الطعام فيأتي جيرانهم عند ذاك يبحثون عنهم تاركين بضائع وميرة عَلَى سبيل المقايضة بثمن متساوٍ ومتى عادت إلى اللوكوموزيكيين حياتهم يطالبون بحقوقهم إذا لم يجدوا المقايضة متناسبة وتثور بينهم خصومات ربما أدت إلى حروب بين هاته الشعوب المسكويية. وما ندري إذا كان هذا الشعب لم يوجد له أثر إلا في مخيلة الكاتب الإيطالي أو أنه اختلطوا عليه مع اليرابيع التي ترقد في الشتاء.
رماد الإنسان
يقول الأميركان أن المرء يبلغ غاية الصحة في سن الأربعين ويقدرون ثمن الرجل الشجاع الذكي العامل بألفي ليرة أما الكيماويون فيقدرون أن ثلثي جسم الإنسان مؤلف من ماء ممزوج بسموم فنطفتنا تساوي ألوفاً من بيض الدجاج والهيدروجين الذي فينا يكفي لنفخ منطاد غير قليل وإذا أضيف إليه الكربون يتأتى أن يضاءَ به شارع طوله خمسمائة متر طوال الليل ففي أحشائنا ما يساوي 19 فرنكاً من غاز الاستصباح وفي هذا الكربون مادة كبيرة للتصوير يستخرج منها 780 دزينة من جيد أقلام الرصاص فإذا قطعت رجل إنسان يستطيع أن يستخرج منها مادة قلم الرصاص تكفيه لكتابته ما دام حياً. وفي الإنسان مادة فوسفورية تكفي لبل 820 ألف من الثقاب أي عود الكبريت وفيه من المواد الدهنية ما يكفي لعمل عشر دزينات من الشمع الجيد اللهم إذا استخدمناها لعمل الحساء وهذا يتأتى لنا تمليحه بالملح الذي تحويه أنسجتنا وهو نحو عشرين ملعقة.
ضمان الأغلاط
في الغرب شركات لضمان العقارات من الحريق وضمان الأسرات من موت أبيها وضمان الغلات من البرد وضمان السفن من الأنواء وضمان الأجسام من العوارض وها قد أسس الألمان اليوم شركة لضمان الإنسان من غلط يرتكبه موظفو البرق في كلمة أو كلمات تؤدي إلى تحريف الرسائل البرقية تضرر بذلك صاحبها أو لم يتضرر.
الأجراس(45/57)
أعظم أجراس الكنائس في العالم جرس كنيسة الثالوث في موسكو وزنه 67083 كيلو غراماً وجرس بلدة موسكو 65 ألف كيلو غرام والجرس الإمبراطوري في كولونيا زنته 28 ألف وجرس السفوايارد في باريز وزنه 16888 وجرس عمانويل في كنيسة نوتردام في باريز 12000 وجرس سيدة الحماية في مرسيليا 8044 وجرس كليمان في جنيف وهو من الفضة وزنه 2070 كيلوغراماً.
العدد المشؤم
يتشاءم عامة الإفرنج من العدد 13 وهذا التشاؤم كان قبل الميلاد عنوان الموت فكان العدد 13 في ورق اللعب الذي يستعمله أهل بوهيميا للتنبوء عن المستقبل عبارة عن هيكل عظام مسلح بمنجل ولهذا الرمز أثر عند بعض اليهود فلا يلفظ به عامتهم ويسمح لكبار حاخاماتهم أن يذكروه مرة في السنة. والعدد 13 هو العدد المقدس عند أهل المكسيك وقبائل يوكاتان إذ كان في بلادهم ثلاث عشرة حية تعبد وتمجد. وللعدد المذكور شأن في الأساطير النروجية وغيرها.
نبات يضيء
كل يوم يكتشف علماء النبات خواص لم تكن معروفة لبعض النباتات فبالامس اكتشفوا نباتاً يتغذى باللحوم ونباتاً يطير كالمنطاد والطيارة الهوائية واليوم اكتشفوا في برازيل في مقاطعة سان جواكيم من أعمال ولاية سان باولو نباتاً يضيء كالكهرباء أو كمصابيح الغاز والبترول والشموع ويسميه أهل تلك البلاد نبات الأوربية ويتنافسون فيه فيجعلونه في أصاصي وأواني ويزينون به القصور فيظل أياما يبعث نوراً يكفي لأن يطالع المطالع به جريدة وكتاباً. قالوا أنه من فصيلة النباتات التي لا زهر لها وإن كان لا يشبه الفطر.
غابة عظيمة
في شاطئ العاج إحدى مستعمرات فرنسا في افريقية غابة مساحتها 125 ألف كيلومتر مربع لم تمسها يد بشر وفيها من أنواع الحراج والنبات من 1500 إلى 2000 نوع منها خمسون نوعاً يبلغ علو شجرها خمسين متراً وجذعها من متر إلى مترين ونصف وعدد الأشجار التي يبلغ طولها من 25 إلى 40 متراً من 150 إلى 200 وهناك من أنواع(45/58)
الأشجار أغربها وفي ظلالها من النباتات أدهشها ومن جملتها المطاط والنخيل الذي يستخرج منه الزيت.(45/59)
العدد 46 - بتاريخ: 1 - 12 - 1909(/)
كتاب العرب
أو الرد على الشعوبية
لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة من أهل القرن الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما (قال) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة جعلنا الله وإياك على النعم شاكرين. وعند المحن والبلوى صابرين. وبالقسم من عطائه راضين. وأعاذنا من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد ونغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة وتلحق بها كل رذيلة وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف وتعص من النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر بالشجا. وتطرف منه على القذى. وتبعد من الله بقدر بعدها ممن قرب واصطفى. وفي الإفراط الهلكة وفي الغلو البوار والحسد هو الداء العياء. أول ذنب عصي الله به في الأرض والسماء. ومن تبين أمر الحسد بعدل النظر أوجب سخطه عَلَى واهب النعمة وعداوته لمؤتي الفضيلة لأن الله تعالى يقول (نحن قسمنا بينهم معيشتهم ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) فهو تبارك وتعالى باسط الرزق وقاسم الحظوظ والمبتدي بالعطا والمحسود آخذ ما أُعطي وجار إلى غاية ما أُجري.
وقال ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله قيل ومن يعادي نعم الله قال: حاسد الناس وفي بعض الكتب يقول الله: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راضي بقسمي.
وقال ابن المقفع: الحاسد لا يبرح زارياً على نعمة الله لا يجد لها مزالاً ويكدر عَلَى نفسه ما به فلا يجد لها طعماً ولا يزال ساخطاً عَلَى من لا يتراضاه ومتسخطاً لما لا ينال فوقه فهو مكظوم هلعٌ جزوع ظالم أشبه شيء بمظلوم محروم الطلبة منغص المعيشة دائم السخطة لا بما قسم له يقنع ولا على ما لم يقسم له يغلب والمحسود يتقلب في فضل الله مباشراً للسرور ممهلاً فيه إلى مدة لا يقدر الناس لها عَلَى قطع وانتقاض ولو صبر الحسود عَلَى ما به وضمر لجرته كان خيراً له لأنه كلما هرَّ خسأه الله وكلما لجج قذف بحجره وكلما أراد أن يطفئَ نور الله أعلاه الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ولله در القائل:(46/1)
وإذا اراد الله نشر فضيلة ... يوماً أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ماكان يعرف طيب عرف العود
ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والجشوة وأوباش النبط وأبناء اكرة القرى فأما أشراف العجم وذوو الاخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون مالهم وما عليهم ويرون الشرف نسباً ثابتاً.
وقال رجل منهم لرجل من العرب: إن الشرف نسب والشريف من كل قوم نسيب الشريف من كل قوم: وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب لأن منهم قوماً تحلوا بحلية الأدب فجالسوا الأشراف وقوم اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم وخبث عناصرهم فمنهم من الحق نفسه بأشراف العجم واعتزى إلى ملوكهم واساورتهم ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه ونسب واسع لا مدافع عنه ومنهم من أقام عَلَى خساسة ينافح عن لؤمه ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف ويظهر بغض العرب يتنقصها ويستفرغ مجهوده في مشاتمها وإظهار مثالبها وتحريف الكلم في مناقبها وبلسانها نطق وبهممها انف وبآدابها تسلح عليها فإن هو عرف خيراً ستره وإن ظهر حقره وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها وإن سمع سوءاً نشره وإن لم يسمعه نفر عنه وإن لم يجده تخرصه فهو كما قال القائل:
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا ... شراً أذيع وإن لم يعلموا بهثوا
ومن ذا رحمك الله صفا فلم يكن له عيب وخلص فلم يكن فيه شوب.
وقيل لبعض الحكماء هل من أحد ليس فيه عيب فقال لا لأن الذي ليس فيه عيب هو الذي لا يموت وعائب الناس يعيبهم بفضل عيبه وينتقصهم بحسب نقصه ويذيع عوراتهم ليكونوا شركاءَه في عورته ولا شيء أحب للفاسق من زلة العالم ولا إلى الخامل من عثرة الشريف قال الشاعر:
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري إن أردت قريب
وقال آخر:
وأجرأُ من رأيت بظهر غيب ... عَلَى عيب الرجال ذوو العيوب
وقد كان زياد بن أبي سفيان حين كثر طعن الناس عليه وعَلَى معاوية في استلحاقه عمل(46/2)
كتاباً في المثالب لولده وقال من عيركم فقرعوه بمنقصته ومن ندد عليكم فابدهوه بمثلبه فإن الشر بالشر يتقى واحديد بالحديد يفلح.
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى أغرى الناس بمشاتم الناس والهجهم بمثالب العرب وحاله في نسبه وأبيه الأقرب إليه حال نكره أن نذكرها فنكون كمن أمر ولم يأتمر وزجر عن القبيح ولم يزدجر وهي مشهورة ولكن كرهنا أن تدوَّن في الكتب وتخلد عَلَى الدهر ولا سيما وهو رجل يحمل عنه العلم ويحتج بقوله في القرآن. ومن أتعب قلباً وأنصب فكراً ممن أراد أن يجعل الحسنة سيئة والمنقبة مثلبه ويحتال لإخراج الباطل في صورة الحق فيقصد من المناقب لمثل فوس حاجب يضحك منها ويزرى بها ويذهب في ذلك إلى خساسة العود وقلة ثمنه وهذا لو كان على مذاهب التجار والسوق في الرهون والمعاملات لرجع بالعيب على الآخذ لا عَلَى الدافع لا يألون بدفع أحقر ما يجد في أكثر ما يأخذ والمغبون من غرَّ بالصغير عن الكبير وإنما رهن عن العرب بما ضمنه عنها من كف الأذى عن مملكته حتى يحيوا وتنكشف عنهم السنة ولو كان مكان القوس مائة ألف رأس من الغنم عن هذا السبب ما كان القوس إلا أحسن بالدافع والقابل لأن سلاح الرجل هي عزه وشرفه وإسلام المال أحسن من إسلام العز والشرف. وقد يدفع الرجل خاتمه وبرده أو رداءَه عن الأمر العظيم فلا يسلمه خوفاً من السبة وأنفة من العار.
قال أبو عبيدة لما قتل وكيع بن أبي سود التميمي قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان بلغ ذلك سليمان وهو بمكة وهو حاج خطب الناس بمسجد عرفات وذكر غدر بني تميم وإسراعهم في الفتن وتوثبهم عَلَى السلطان وخلافهم له فقام الفرزدق ففتح رداءَه وقال يا أمير المؤمنين هذا رداي رهناً بوفاءِ تميم ومقامها على طاعتك فلما جاءَت بيعة وكيع قال الفرزدق:
فدى لسيوف من تميم وفى بها ... رداي وحلت عن وجوه الاهاتم
يريد الأهتم بن سمي التميمي ورهطه وهذا سيار بن عمرو بن جابر الفزاري ضمن لبعض الملوك ألف بعير دبة أبيه ورهنه قوسه فقبلها منه عَلَى ذلك وساقها إليه وفيه يقول القائل:
ونحن رهنا القوس ثم تخلصت ... بألف عَلَى ظهر الفزاري اقرعا
وسيار هذا هو جد هرم الذي تنافر إليه عامر وعلقمة. ومن هذا الباب قول جران وذكر اجتماعه مع نساء كان يألفهن:(46/3)
ذهبن بمسواكي وقد قلت أنه ... سيوجد هذا عندكن فيعرف
يظن من لا يعرف هذا الخبر أنهن سلبنه المسواك فاعتد عليهن واخبرهن أنه سيوجد عندهن ويعرف لقدر المسواك عندهن وعنده ولأن الأعراب أنظر قوم في التافه الحقير الذي لا خطر له وكيف يظن به وبهن وهذا وبلد نجد مستحلس بضروب من شجر المساويك لا تحصى فكيف يبخل عَلَى نساء يهواهن بعود هو يصطلي به ويختبز ويطبخ بشجره ومتى احتاج إلى مسواك منه لم يتكلفه بثمن ولم يبعد في طلبه والمعنى أن نجداً تختلف منابته فمنه ما ينبت الاسحل ومنه ما ينبت الارك ومنه ما ينبت البشام فاهل كل ناحية منهم يشاكون بشجر بلدهم وكان جران العود معروفاً بهؤلاء النساء يزورهن عَلَى حذر من مزار بعيد وهو يستن من الشجر ما ينبت في بلده ولا ينبت في بلدهن فلما أخذن سواكه ليتذكرنه ويسترحن إليه كما يفعل المتحابون قال إن هذا سيوجد عندكن وإذا وجد علم أنه مما ينبته البلد الذي اسكنه فاستدل به عَلَى زيارتي إياكن ويقصد لقول القائل:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردا
فيتضاحك بالشعر ويستهزيء بالبردين والفرس الورد ويعارض ذلك بملوك فارس واسرتها وتيجانها وبأن ابرويز ارتبط تسعمائة وخمسين فيلاً على مرابطه وبلغت مخدته التي كان يشرف بها على الداخل عليه ألف إناء من الذهب وخدمته ألف جارية وقد جهل هذا معنى الشعر واخطأ في المعارضة وفخر بما ليس له فيه حظ ولا نصيب.
أما معنى الشعر فإن أبا عبيدة ذكر أن وفود العرب اجتمعت عند النعمان بن المنذر فأخرج بردي محرق وهو عمرو بن هند وقال ليقم أعز العرب قبيلة فيأخذهما فقام عامر بن احيمر بن بهدلة فأخذهما فاتزر بواحد وارتدى بآخر فقال له بما أنت أعز العرب فقال العز والعدد من العرب في معد ثم نزار في مضر في خندق ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس فقال النعمان هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك فقال أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة يغنيني الأكابر عن الأصاغر والأصاغر عن الأكابر فأما أنا في بدني فهذا شاهدي ثم وضع قدمه عَلَى الأرض وقال من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد من الناس فذهب بالبردين فسمي ذا البردين قال الفرزدق:(46/4)
فما تم في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما قيل لم يتبهدا
لهم وهب النعمان ثوبي محرق ... بمجد معد العديد والمحصل
وأما الفرس الورد فإن الخيل حصون العرب ومنبت العز وسلم المجد وثمال العيال وبها تدرك الثار وعليها تصيد الوحش وكانوا يؤثرونها على الأولاد باللبن ويشدونها بالأفنية للطلب والهرب وقد كنى الله عنها في كتابه بالخير لما فيها من الخير فقال حكاية عن نبيه سليمان صلى الله عليه وسلم (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) يعني الخيل وبها كان شغل سليمان عن الصلاة حتى غربت الشمس وقال طفيل:
وللخيل أيام فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير يعقب
وقال آخر:
ولقد علمت عَلَى توقي الردى ... إن الحصون الخيل لا مدر القرى
اني وجدت الخيل عزاً ظاهراً ... تنجي من العمى ويكشفن الدجى
ويبتن بالثغر المخوف طلائعاً ... وتبين للصعلوك جمة ذي الغنا
باتوا بصائرهم عَلَى أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتدٌ وأَى
والبصيرة الدم يريد أنهم لم يدركوا الثار فثقل الدماءُ عَلَى أكتافهم وأنه قد أدرك ثأره على فرسه وحدثني محمد بن عبيد قال حدثني سفيان بن عيينة عن شيب بن غرقدة عن عروة البارقي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
قال أبو محمد وليس لأحد مثل عتاق العرب ولا عند أحد من الناس من العلم بها ما عندهم وسأذكر من ذلك شيئاً فيما بعد إن شاء الله. وإذا كان للرجل منها جواد مبر كريم شهر به وعرف فقيل العسجدي ولاحق وداحس والورد. وليس أعجب من سرير كسرى وفخر العجم به وتصويرهم إياه في الصخور الصم وفي رعان الجبال. وإذا رأيت العرب تنسب إلى شيء خسيس في نفسه فليس ذلك إلا لمعنى شريف فيه كقولهم لهنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق ذات الخمار لذلك قال أبو عبيدة كانت هنيدة بنت صعصعة تقول من جاء من نساء العرب بأربعة مثل أربعتي يحل لها أن تضع عندهم خمارها فصرمتي لها أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات(46/5)
الخمار لذلك.
وقال كان هند بن أبي هالة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أكرم الناس أربعة أبي رسول الله وأمي خديجة وأختي فاطمة وأخي القاسم فهؤلاء الأربعة لا أربعتها وأما خطأه في المعارضة فإن صاحب البردين لم يكن ملك العرب فيعارضنا عنه بملك العجم ولم يدّع أحد أنه كان للعرب في دولة العجم مثل ملكها وأموالها وعددها وسلاحها وحريرها وديباجها فيحتاج أن يذكر فيلة ابرويز وجواريه وفرشه وقد كان هذا لأولئك كما ذكرتم جعله الله لهؤلاء فابتزوه واستلبوه والتحوهم كما يلتحى القضيب والناسخ أفضل من المنسوخ. وأما فخره بما ليس له حظ ولا نصيب فإنما يفخر بملك فارس أبناء ملوكها وأبناء عمالهم وكتابهم وحجابهم واساورتهم. فأما رجل من عرض العجم وعوامهم لا يعرف له نسب ولا يشهر له أب فما حظه في سرير كسرى وتاجه وحريره وديباجه وليس هو من ذلك في مراح ولا مغدى ولا مظل ولا مأوى. فإن قال لأني من العجم وكسرى من العجم فمرحباً بالمثل المبتذل ابن جار النجار ولو قال أيضاً لأني من الناس وكسرى من الناس كان وهذا سواء وما هو بأولى بهذا السبب من العرب لأن العرب أيضاً من الناس.
قال أبو عبيدة: اجريت الخيل فطلع منها فرس سابق فجعل رجل من النظارة يكبر وثب من الفرح فقال رجل إلى جانبه يا فتى أهذا السابق فرسك فقال لا ولكن اللجام لي.
وقال المسعودي: قدم علينا أعراب وكانوا يأتون ببضائعهم فأبيعها وأقوم بحوائجهم وكانوا يقولون رحم الله أباك ديناراً فكنت لا آلوهم عناية فقلت لهم اخبروني عن السبب بينكم بين أبي قالوا كان يساومنا مرة باتان فقلت لهم هل كان اشتراها منكم قالوا لا قلت الله أكبر قالوا وما ذاك قلت لو اشتراها صارت رحماً ونسباً.
وقد كانت العجم رحمك الله في ذلك الزمان طبق الأرض شرقاً وغرباً وبراً وبحراً إلا محال معد واليمن افكل هؤلاء أشراف فأين الوضعاء والأدنياء والكساحون والحجامون والدباغون والخمارون والرعاع والمهان وهل كان ذوو الشرف في جملة الناس إلا كاللمعة في جلد البعير وأين ذراريهم وأعقابهم أدرجوا جميعاً فلم يبق منهم أحد وبقي أبناء الملوك والأشراف.
وأعجب من هذا ادعاؤهم إلى اسحق بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم وفخرهم عَلَى(46/6)
العرب بأنه لسارة الحرة وأن إسماعيل أبا العرب لهاجر وهي أمة وقال شاعرهم:
في بلدة لم تصل عكل بها طنبا ... ولا خباءً ولا عكٌّ وهمدان
ولا لجرم ولا بهراء من وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض تبنى بها كسرى مناسكه ... فما بها من بني اللخناءِ إنسان
فبنو الأحرار عندهم العجم من ولد اسحق واسحق لسارة وهي حرة وبنو اللخناء عندهم العرب لأنهم من ولد إسماعيل وإسماعيل لهاجر وهي أمة قالوا واللخناء عند العرب الأمة فالويل الطويل لهؤلاء والبعد والثبور من هذه العداوة لأولياء الله والأنبار القبيحة لصفوة الله وقد غلطوا في التأويل عَلَى اللغة وليس كل أمة عند العرب لخناء إنما اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها وجمع الحطب وحمله واستقاء الماء والحلب وأشباه ذلك من الخدمة كما يقال الأمة الوكعاء وليس كل أمة وكعاء وإنما قيل لها لخناء لنتن ريحها ويقال لخن السقاء بلخن لخناً إذا تغير ريحه وانتن.
وأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل دفر وارتضاها للخليل فراشاً وللطيبين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام أما وجعلهما لها سلالة فهل يجوز لملحد فضلاً عن مسلم أن يطلق عليها اللخن ولو لم يكن إلا أن ملك القبط متع بها سارة وكانت أنفس أمائه عندهم واحظاهن لديه لقد كان في ذلك دليل عَلَى أنها لم تكن من الاماء اللخن ولو جاز أن يطلق على كل أمة لخناً لجاز أن يقال لكل شريف ولدته أمه هذا ابن اللخناء كما يقال هذا ابن الأمة وقد ولدت الاماء الخلفاء والخيار والأبرار مثل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
حثني سهل بن محمد قال حدثنا الأصمعي قال كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة ففاتوا أهل المدينة فقهاً وورعاً فرغب الناس في السراري والنساب لا يعرفون لأهل فارس ولا للنبيط في اسحق بن إبراهيم حظاً لأن اسحق تزوج رفقا بنت ناحور بن تارح وتارح هو آزر ورفقا بنت عمه فولدت له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد فيعقوب هو إسرائيل الذي ولد الأسباط كلهم وكانوا اثني عشر رجلاً وأولادهم جميعاً يدعون بنو إسرائيل وهم أهل الكتاب وليس لهؤلاء فيهم سبب(46/7)
ولا نسب وعيصو هو أبو الروم وكان الروم رجلاً أصفر شديد الصفرة في بياض ومن أجل ذلك سميت الروم بني الأصفر. قالوا وكانت أم الروم بنت إسماعيل ابن إبراهيم وولد من الروم خمسة نفر فكل من بأرض الروم من نسل هؤلاء الرهط قالوا ولما سبقه يعقوب إلى دعوة اسحق فصارت النبوة في ولده دعا لعيصو بالنماءِ والكثرة فالروم كلها من ولده وبعض الناس يزعم أيضاً أن الاشبان من ولده وقالوا النبط بن ساروح بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ويقال انه ابن ماش بن سام ابن نوح قالوا وأهل فارس من ولد لاوذ بن ارم بن سام بن نوح وكان كثير الولد فنزل أرض فارس فأجناس الفرس كلهم من ولده فليس بين هؤلاء وبين اسحق بن إبراهيم على ما ذكر النسابون نسب يجمعهم إلا سام بن نوح والناس يجتمعون في ولادة شيث بن آدم ثم في ولادة نوح ثم يتشعبون فولد نوح أربعة نفر سام وحام ويافث ويام فأما يام فهلك بالطوفان فلا عقب له وهو الذي قال له أبوه (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) وأما حام فإن أباه لعنه ودعا عليه بأن يكون عبداً لأخويه فخملت ذريته وسقطت فيه فهم النوبة وفزَّان والزغاوة وأجناس السودان والسند والقبط وأما يافث فإن أباه دعا له بالنماء والكثرة فولد الصقالب والترك ويأجوج ومأجوج وأممّا عدد الرمل والحصا في مشارق الأرض. فأما سام فبارك عليه فأشراف الناس من ولده منهم العماليق ومنهم الجبابرة وفراعنة مصر وملوك فارس ومن ولد سام الأنبياء جميعاً بعد نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ومن بعده إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. فالعرب وفارس يتساوون في هذه الجملة وتفضلها العرب بعدها بأنها من ولد إسماعيل ابن إبراهيم فهي أدنى من خليل الله دناوةَ وأمس به رحما.
ثم تتساوى العرب وفارس في أن الفريقين ملكوا وتفضلها العرب بأن قواعد ملكها نبوة وقواعد ملك فارس استلاب وغلبة. وتفضلها العرب بأن ملكها ناسخ وملك فارس منسوخ وتفضلها بأن ملكها متصل بالساعة وملك فارس محدود وتفضلها العرب بأن ملكها واغل في أقاصي البلاد داخل في آفاق الأرض وملك فارس شظية منه ليس فيه الشام ولا الجزيرة ولا خراسان في أكثر مددهم ولا اليمن إلا في أيام وهزر وسيف ابن ذي يزن.
ومن عجب امرهم أيضاً فخرهم عَلَى العرب بآدم بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني عليه فإنما أنا حسنة من حسناته ثم بالأنبياء وأنهم من العجم إلا أربعة نفر هود(46/8)
وصالح وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم وفي هذا القول وضع الفخر عَلَى غير أساس ومن أسس بنيانه عَلَى الباطل والغرور أوشك أن يتداعى وأن يخر وظلم للعرب فاحش ومنه ادعاؤهم آدم كأن العرب ليسوا من ولده ومنه انتحالهم موسى وعيسى وزكريا ويحيى وأشباههم من بني إسرائيل وليس بين فارس وبين بني إسرائيل نسب عَلَى ما بينت لك ومنه دفعهم العرب عن قربهم بهؤلاء الأنبياء وهم بنو عمومهم وعصبتهم لأن العرب بنو إسماعيل بن إبراهيم بإجماع الناس فهم بنو أخي اسحق بن إبراهيم وأولى به وأحق بشرفه وأولى بموسى وعيسى وداوود وسليمان وجميع الأنبياء من ولده وقال الله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران عَلَى العالمين) فآل إبراهيم هم ولد اسحق وولد إسماعيل ثم قال (ذرية بعضها من بعض) فأعلمنا أن العرب وبني إسرائيل شيءٌ واحد في النسب وفيما أوحى الله إلى موسى: إني سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك أجعل كلامي على فيه: يريد أنه يقيم لهم من العرب نبياً مثل موسى يعني محمد صلى الله عليه وسلم وهذا علم من أعلامه وحجة من حججنا على أهل الكتاب من كتبهم فإن قالوا في ذلك أنه يقيم لهم من بني إسرائيل نبياً مثل موسى وقالوا أن بني إسرائيل بعضهم أخوة بعض أكلبهم النظر لأنه لو أراد ذلك لقال لهم من أنفسهم ومنهم كما أن رجلاً لو أراد أن يبعث رسولاً من خندف لم يقل سأبعث رسولاً من أخوة خندف فإن كان دفعهم ولد إسماعيل عن تشابك نسبهم بولد اسحق لنزول إسماعيل الحرم ونكاحه في جرهم فإن الديار قد تتناءى والمحال قد تتباين والرجل قد ينكح في البعيد وقد يولد له من الاماءِ ولا تنقطع الأرحام والأنساب وإن كان إسماعيل نطق بالعربية فليس اختلاف الناس في الألسنة يخرجهم عن نسب آبائهم وإخوانهم وعشائرهم فهؤلاء أهل السريانية قد خالفوا في اللسان أهل العبرانية وهذه الروم كفرت بالله ولا شيء أقطع للعصمة من الكفر وتكلمت بالرومية ورغبت عن لسان آبائها وليس ذلك بمخرجها عن ولادة اسحق بن إبراهيم عَلَى أن إسماعيل لم يكن أول من نطق بالعربية وإنما تعلمها وإنما أصل العربية لليمن لأنهم من ولد يعرب بن قحطان وكان يعرب أول من تكلم بالعربية حين تبلبلت الألسن ببابل وسار حتى نزل اليمن في ولده ومن أتبعه من أهل بيته ثم نطق بعده ثمود بلسانه وشخص حتى نزل الحجر.(46/9)
حدثني أبو حاتم قال حدثني الأصمعي قال اخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال تسع قبائل قديمة طسم وجديس وعهينة وضجم (بالجيم وبالحاء) وجعم والعماليق وقحطان وجرهم وثمود.
وحدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا ابن أبي الزناد عن رجل من جرهم قال: نحن بدءٌ من الخلق لا يشاركنا أحد في أنسابنا بقول من قدمنا فهؤلاء قدماء العرب الذين فتق الله ألسنتهم بهذا اللسان وكانت أنبياؤهم عرباً هود وصالح وشعيب.
حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبهٍ أنه سأل عن هود أكان ابا اليمن الذي ولدهم قال لا ولكنه أخو اليمن في التوراة فلما وقعت العصبية بين العرب وفخرت مضر بأبيها إسماعيل ادعت اليمن هودا ليكون لهم والد من الأنبياء.
(قال) وأما شعيب من ولد رهط من المؤمنين تبعوا إبراهيم لما هاجر إلى الشام ولم يكن يثبت لهم نسب في بني إسرائيل ولم تكن مدين قبيلة ولكنها أمة بعث إليها فلما بوَّأ الله إسماعيل الحرم وهو طفل وانبط له زمزم مرت به من جرهم رفقة فرأوا ما لم يكونوا عهدونه وأخبرتهم هاجر بنسب الصبي وحاله وما أمر الله أباه فيه وفيها فتبركوا بالمكان ونزلوه وضموا إليهم إسماعيل فنشأ معهم ومع ولدانهم ثم أنكحوه فتكلم بلسانهم فقيل نطق باليعربية إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب كما تحذف أشياء من الزوائد وغير كما تغير أشياء عن أصولها والدليل على أن أصل اللسان لليمن أنهم يقال لهم (العرب العاربة) ويقال لغيرهم (العرب المتعربة) يراد الداخلة في العرب المتعلمة منهم وكذلك معنى التفعل في اللغة يقال تنزر الرجل إذا دخل في نزار وتمضر إذا دخل في مضر وتقيس إذا دخل في قيس وقال الشاعر:
وقيس عيلان ومن تقيسا
ولو كان كل من تعلم لساناً غير لسان قومه ونطق به خارجاً من نسبهم لوجب أن يكون كل من نطق بالعربية من العجم عربياً (وسأقول في الشرف باعدل القول وأبين أسبابه ولا أبخس أحداً حقه ولا أتجاوز به حده) فلا يمنعني نسبي في العجم أن أدفعها عما تدعيه لها جهلتها واثني أعنتها عما تقدم إليها سفلتها واختصر القول واقتصر على العيون والنكت ولا اعرض للأحاديث الطوال في خطب العرب وتعداد أيامها ووفدات أشرافها عَلَى ملوك العجم ومقاماتها فإن هذا وما أشبهه قد كثر في كتب الناس حتى اخلق ودرس حتى مل لا(46/10)
سيما وأكثر هذه الأخبار لا طريق لها ولا نقلت من الثقات والمعروفين أيضاً تخبر عن التكلف وتدل عَلَى الصنعة وأرجو أن لا يطلع ذوو العقول وأهل النظر مني عَلَى إيثار هوى ولا تعمدٍ لتمويه وما أتبرأ بعده من العترة والزلة إلا أن يوفقني الله وما التوفيق إلا به.
وعدل القول في الشرف أن الناس لأب وأم خلقوا من تراب وأعيدوا إلى التراب وجروا في مجرى البول وطووا على الأقذار فهذا نسبهم الأعلى الذي يردع أهل العقول عن التعظم والكبرياء ثم إلى الله مرجهم فتنقطع الأنساب وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه تقوى الله وكانت ماتته طاعة الله.
وأما النسب الأدنى الذي يقع فيه التفاضل بين الناس في حكم الدنيا فإن الله خلق آدم من قبضة جميع الأرض وفي الأرض السهل والحزن والأحمر والأسود والخبيث والطيب يقول الله عز وجل (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) فجرت طبائع الأرض في ولده فكان ذلك لاختلاف غرائزهم فمنهم الشجاع والجبان والبخيل والجواد والحي والوقاح والحليم والعجول والدمث والعبوس والشكور والكفور وسبباً لاختلاف ألوانهم وهيآتهم فمنهم الأبيض والأسود والأسمر والأحمر والأقشر والوسيم والخفيف على القلوب والثقيل والمحبب إلى الناس من غير إحسان والمبغض إليهم من غير ذنوب وسبباً لاختلاف الشهوات والإيرادات فمنهم من يميل به الطبع إلى العلم ومن يميل به إلى المال ومن يميل به إلى اللهو ومن يميل به إلى النساء ومن يميل به إلى الفروسية. ثم يختلفون أيضاً في ذلك فمنهم من يسرع إلى فهمه الفقه ويبطئ عنه الحساب ومنهم من يعلق بفهمه الطب وينبو عنه النجوم ومنهم من يتيسر له الدقيق الخفي ويعتاص عليه الواضح الجلي ومنهم من يتعلم فناً من العلم فيرسخ في قلبه رسوخ النقر في الحجر ويتعلم ما هو أخف منه فيدرس دروس الرقم عَلَى الماء ومن طلبة المال من يطلبه بالتجارة ومن يطلبه بالجراية ومن يطلبه بالسلطان ومن يطلبه بالكيمياء فيتلف بالطمع الكاذب والتماس المحال اثلة المال ومن طلبة النساء من يريد المهفهفة ومن يريد الضناك ومن يريد الغرة الصغيرة ومن يريد النصف الوثيرة وأعجب من هذا من ربما حبب إليه العجوز قال الشاعر:(46/11)
عجوز عليها كبرة وملاحة ... اقاتلتي يا للرجال عجوز
عجوز لو أن الماَء ملك يمينها ... لما تركتنا بالمياه نجور
ومن لؤم الغرائز أن من الناس من يحب الذم كما يحب غيره المدح ويرتاح للهجاء كما يرتاح غيره للثناء ومنهم من يغري بذم قومه وسب نفسه وآبائه وشتم عشيرته منهم عميرة بن جعيل التغلبي وهو القائل:
كسا الله حي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم اصغاراً بطيئاً نصولها
ومنهم الحرمازي وهو القائل:
إن بني الحرماز قوم فيهم ... عجز وتسليط عَلَى أخيهم
فابعث عليهم شاعراً يخزيهم ... يعلم منهم مثل علمي فيهم
ومنهم القحيف وهو القائل في أمه:
ياليتما أمنا شالت نعامتها ... أيما إلى جنة أيما إلى نار
ليست بشبعى ولو أسكنتها هجراً ... ولا بربا ولو حلت بذي قار
تلهم الوسق مشدوداً اشظته ... كأنما وجهها قد طلي بالقار
خرقاء في الخير لا تهدى لوجهته ... وهي صناع الأذى في الأهل والجار
(لها بقية)(46/12)
شذرة ذهب
من فن الأدب
من كلمات اللغة العربية ما يدل عَلَى أصل المعنى. ومنها ما يدل على المعنى نفسه مع زيادة قيد أو شرط أو وصف حالة. مثال الأول أن تقول (افتخر) زيد فإنه يفيد أصل معنى الافتخار. ومثال الثاني أن تقول (تنفخ) زيد فإن معناه الافتخار وشيء آخر زائد: وهو أن يفتخر الإنسان بما ليس عنده أو بصفة ليست فيه. أو يفتخر أحياناً بأكثر مما عنده. فيكون كريماً بالجملة مثلاً ثم يصف من كرمه وجوده أكثر من الواقع ومما يعلمه الناس فيه. فحينئذ يقال عنه أنه تنفخ. وقريب من معنى المتنفخ (الفتحة) ـ بضم الفاء وفتح التاء. وقالوا في معناه أنه الرجل الذي يتنفخ في المجالس ويكثر من ذكر ما أُوتيه من ملك وأدب يتطاول بذلك عَلَى الحاضرين.
ومثل (تعلم) فإنه يفيد أصل التعلم. أما إذا قلت (أَخصى) فإنه يفيدنا زيادة معنى في التعلم. هو أنه تعلم علماً واحداً كأن يتعلم فن الطب وحده أو الكيمياء وحدها ولا يلقى باله إلى غيرها من العلوم.
مثل هذه الأوصاف أو الأفعال التي تدل على معنى مركب يجب أن نعنى بها ونجمع منها طائفة للقارئ والكاتب.
قد تريد أيها الكاتب أن تصف إنساناً بكونه متقلباً لا يثبت عَلَى رأي واحد فتارة يتبع رأي هذا. وطوراً رأي ذاك. فتفكر كثيراً في كلمة تدل عَلَى هذا المعنى المركب. ولكنك إذا حفظت كلمة (إمعة) ـ بكسر الهمزة وتشديد الميم المفتوحة ـ فإنك تستعملها وتقول. فلان لا بأس به ولكنه إِمعة تريد أنه لا رأي له وإنما يتابع كل إنسان عَلَى رأيه.
وقد تريد أن تصف صاحبك بأنه لا يثبت عَلَى صداقة أحد فهو يؤاخي هذا يوماً ويمله. وينتقل إلى مؤاخاة الآخر وهكذا. تريد وصفه بذلك فيعيبك الأمر وربما سردت لبيان هذا المعنى جملاً طويلة عريضة ولكن العرب يقولون لا تثق بفلان فإنه مقطاع أي لا يثبت عَلَى مؤاخاة أحد.
وقد تحاول وصف بعض معارفك بأنه كسول لا ينشط إلى الكسب ولا يسعى في طلب معاشه فيضيق عليك الوصف أما إذا تعلمت كلمة (لبد) عَلَى وزان (كتف) فإنك تصفه به(46/13)
وتقول أن صاحبي فلان لبد لا يبرح منزله ولا يطلب معاشاً لنفسه وقريب من كلمة (تنفخ) التي معناها افتخر بما ليس فيه كلمة (ابتهر) هو أن يقول المرء فعلت كذا وأفعل كذا وهو لم يفعل شيئاً مما ادعى. وكثيرون يدعون فعل مالم يفعلوا فيضيق المرءُ ذرعاً بالواحد من هؤلاء ويريد أن يوجز في وصفه وفي الأخبار عنه بكلمة واحدة فأرى له أن يقول: دعونا من فلان فإنه يبتهر في كل ما يقول.
أما إذا كان المرءُ يقول فعلت الشيءَ ويكون قد فعله صدقاً. فهل من كلمة تدل عَلَى هذا المعنى؟
تدل عليه كلمة (الابتيار): فإذا قلنا فلان يبتار كان معناه يقول ويفعل لا كصاحبنا الأول الذي يبتهر ابتهاراً. وقد جمع الأعشى الشاعر الكلمتين في قوله:
قبيحٌ بمثلي لفت الفتا ... ة إِما ابتهاراً وإما ابتيارا
يقول أنه لا يليق بأدبه أن يعرض بالفتيات ويأخذ في سرد حوادثه مع أوانس الحي: فيقول كان من أمري مع فلانة كذا وخبري مع فلانة كذا: فهو لا يبتهر ولا يبتار ولا يقول عن الفيثات شيئاً صادقاً أو كاذباً.
فليتق الله ازيار النساء وليأنسوا بالأعشى فإنه موضوع للأسى.
ويعرض لك أحياناً أن تقول: إن القاضي كان يكلم المدعى عليه أثناء المحاكمة بغيظ وغضب. فبدل أن تأتي بكلمتين تقول كان (يدمدم عليه) أي يكلمه بغضب واراك تتهيب استعمالها لأول الأمر ثم لا تلبث أن تأنس بها ويألفها سمعك فتشيع وتروج بين الكتاب.
وإذا مات امرؤ في ميعة الشباب وصحة الجسم وأردت أن تخبر بذلك فقل مات فلان عبطة. أي شاباً صحيحاً. واعتبطه الموت. وقد تعيب آخر بكونه يشبه النساء في شدة تزينه وتنعمه فتأتي في وصفه بكلام كثير. والأجدى لك أن تقول لا يعجبني فلان فإنه يتزلق. قالوا ومعناه أن يتزين وينعم حتى يكون الونه وبيض أي لمعان ولبشرته بريق.
وإذا أردت أن تثني على صديقك بأنه ينفق عَلَى ذوي رحمه الفقراء ويكفيهم ذل السؤال تقول أنه (يعوله) ولكن هناك كلمة أخرى لا أرى بأساً في استعمالها وهي ن تقول أنه (يقعدهم) ـ بتشديد العين ـ أي يقوم بأمرهم ويكفيهم مؤونة الكسب وأحسبك تفضل (يعول) عَلَى (يقعد) وتقول أنها أخف منها على السمع. نعم ولكن الاستعمال كفيل بصقلها(46/14)
وإدنائها من الذوق.
والمرأة التي تبغض زوجها ماذا يقال لها؟
يقال لها (فارك) أما إذا كانت تحبه فتسمى (العلوق) وقالوا أنها التي لا تحب غير زوجها.
وإذا مر موكب في الشارع ورأيت امرأة تنظر إليه من نافذة بيتها وتمد عنقها مبالغة في المد فقل أنها (تتلع) أي تمد عنقها متطاولة. وإذا رأيت صاحبك يمشي الهوينا وينسحب انسحاباً وأردت أن تحكي عنه تقول أني رأيته (يتخزل) أي يمشي وهو متثاقل في مشيته. وإذا كان صاحبك المذكور مولعاً بمعاشرة النساء والجلوس أليهن فقل عنه أنه (عل). وقالوا في تفسير أنه الذي يكثر زيارة النساء. والراهب لا تعرف له اسماً غير اسمه هذا ولكنني أذكرك باسم آخر ربما فاقه رشاقة وحسناً وهو (الابيل) وقالوا في معناه أنهُ الراهب المنقطع عن النساء. ومن كلامهم فلانة لو أبصرها الابيل لضاق به السبيل وما أحلى ما قاله محي الدين بن العربي في هذا المعنى:
لو أَنها برزت لأشمط راهب ... فاق العباد عبادة لو أنها
واتت لتطلب منه ما خلقت له ... متذكراً نهي المسيح لما انتهى
لم يدع ابن العربي وجهاً من أوجه الحسن اللفظي والمعنوي إلا أودعه بيتيه هذين: وقوله لو أنها في آخر البيت لأفادة استبعاد أن تبرز تلك الفتاة من خدرها وهذا يستلزم أن تكون حصاناً عفيفة. وقوله لتطلب منهُ ما خلقت له غاية في نزاهة التعبير ولطف الإشارة. وقوله متذكراً نهي المسيح مما يؤكد حسن تلك الفتاة فضل تأكيد. وأن جمالها يملك النفس ويخدر الحس.
ويوجد أناس يتركون اللحم فلا يأكلونهُ. فإذا أردت أن تخبر فلاناً من هؤلاء القوم. وبحثت عن كلمة واحدة تؤدي هذا المعنى المركب دللتك عَلَى قولهم فلان (يتنحس) بالحاء المهملة عَلَى وزن يتكلم أي ترك أكل اللحم.
وإذا ترك التلميذ المذاكرة ومطالعة دروسه ومال إلى البطالة والكسل ماذا تسمي عمله هذا؟
تسميه (تناوة) وقالوا في تفسيرها أنها ترك المذاكرة وهجران المدارسة.
وإذا كان التلميذ نفسه قد اعتاد عادة قبيحة وهي أن يغمض عينيه ويفتحهما دواليك وأردت أن تنهاه عن ذلك فقل له دع هذه العادة يا بني ولا ترضك عينيك أي لا تغمضهما(46/15)
وتفتحهما. وهو رباعي وماضيه أرضك عَلَى وزن أكرم.
وإذا لامك لائم على شيء لم تفعله فقل أنهُ (يتذقح) لي أي ينسب إلي ذنباً لم أفعله ومثله (يتجرَّم) وكلاهما عَلَى وزن يتكلم ومثلهما يتجنى فلان عَلَى فلان.
وإذا وقح الرجل وقل حياؤه فلم يعد يبالي ذمهُ الناس أو مدحوه. رضوا عنهُ أو سخطوا عليه. فذهب في ارتكاب المآتم واجتراح السيئات كل مذهب ماذا تسميه؟
يسمونه (مستولغ) وفسروها بأنه الرجل لا يبالي ذماً ولا عاراً. وهناك تعبير آخر يفيد هذا المعنى. وهو قولهم أن فلاناً (يلحم الناس عرضه) أي يمكنهم من عرضه بما يفعله من المقاذر والمخازي فيقعون فيه ويطعنون عليه. فكأنه بذلك جعل عرضه لحماً أطعمهم إياه. وأكل لحم الغير كناية عن اغتيابه والنيل من عرضه. ومنه قوله تعالى (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً). وإذا مهدت لك أسباباً حملتك بها على سب فلان وشتمه كنت قد ألحمتك عرضه. وورد (إن الله يبغض البيت اللحم) بكسر الحاءِ على وزن كتف. وفسروه بالبيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس بغيبتهم والاستطالة في أعراضهم. وكان للوليد بن عبد الملك ولد يقال له العباس. ولم يكن في أطواره وأخلاقه كشبان بني مروان بل كان امرأَ صدق يتشبه بعمر بن عبد العزيز فقال يخاطب قومه ويحثهم عَلَى الاتحاد والإقلاع عن الفجور ومخالفة الدين.
ان البربة قد ملت سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لاتلحمن ذئاب الناس عرضكمو ... إِن الذئاب إذا ما أُلحمت رتعوا
فقوله (لا تلحمن) بضم التاءِ وكسر الحاء وتشديد الميم المضمومة خطاب للجميع وقد حذفت واوه لاتصالها بنون التوكيد. أي أن الناس كالذئاب فإذا مكنتموهم من الوقيعة فيكم لا يقصرون كما الذئاب إذا رأوا فريسة أغروا بها ونهشوا منها.
ومن الناس من يقابل الآخرين بذكر ما يؤلمهم ذكره. ويصف من أحوالهم ما يحملهم به عَلَى كره الحياة بل كراهة أنفسهم. فهذا الرجل الذي يفعل بالناس كذلك يسمى (أَجوم) عَلَى وزن جسور ويقال أنه يؤجم الناس ـ بتشديد الجيم ـ أي يكره إليهم أنفسهم. وهو مشتق من أجم الطعام وغيره إذا كرهه ومله.
وقد قام في زماننا قوم ينقصون العرب. ويصغرون من شأنهم وآخرون يفعلون كذلك(46/16)
بالمسلمين فماذا تسمي الأولين؟ وماذا تسمي الآخرين؟ الأَولون يسمون (شعوبية9 والواحد منهم (شعوبي) وقالوا في تفسير الشعوبية أنهم الذين يحتقرون العرب.
والآخرون يسمون (دققة) ـ بفتح القافين ـ وقالوا أنهم الذين يظهرون عيوب المسلمين.
أما (دققة) فطاهر أنه مشتق من دقق نظره في الشيء إذا تأمل فيه. وبحث في ما خفي عليه من أمره. ومن يكره المسلمين يفعل ذلك وينقب عن مساويهم ليشهر بها ويشنع عليها.
وأما الأولون مبغضو العرب فلماذا سموا (شعوبية)؟
سموا بذلك نسبة إلى الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو الجماعة الكبيرة من الناس غير العرب. أما الجماعة الكبيرة من العرب فتسمى قبيلة كما أن الجماعة الكبيرة من بني إسرائيل تسمى سبط. فالقبائل للعرب. والأسباط لليهود. والشعوب لغير هؤلاء وأولئك. ومنه قوله تعالى في صدد الامتنان عَلَى البشر (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). وكتب المعتمد بن عباد أحد ملوك الأندلس إلى يوسف بن تاشفين ملك المغرب يستنجده عَلَى الاسبانيول ـ (فأنا نحن العرب في هذه الأندلس قد تلفت قبائلنا. وتفرق جمعنا. وتغيرت أنسابنا. فصرنا فيها شعوباً لا قبائل. وأشتاتاً لا قرابة ولا عشائر) الخ. فانظر كيف قال أنهم تلفت قبائلهم فلم يعودوا قبائل وإنما أصبحوا شعوباً أي جماعات أعجمية. وذلك بسبب فقدهم مزايا العرب وكريم خصالهم التي منها النجدة والنعرة في حماية الذمار. والدفاع عن الجار.
أما الكتاب اليوم فقلما يفرقون بين (الشعوب) و (القبائل) وإنما يستعملونها في مطلق الجماعات من أي جنس كانوا.
ولما كانت شعوب الأعاجم تحط من قدر قبائل العرب عادة سمي كل من يحتقر أمر العرب (شعوبي).
اسكلة طرابلس الشام
المغربي(46/17)
استعمار الهند
معربة عن المجلة الزرقاء الفرنسوية
أحدث ما يقوم به الهنود في العهد الأخير م مقاومة حكومتهم قلقاً وهلعاً وذلك أن الثورة تضطرب لهزتها أعصاب إمبراطورية الهند والقوم هناك يدعون إلى الاستقلال جهاراً حاملين العلم الأحمر ويقوم الدعاة من كل مكان يوقدون جذوة التعصب والتحزب ولا يستنكفون من إتيان كل منكر من قتل النفوس وإهراق الدماء.
قويت هذه الحركة وامتدت دون أن يعوقها عائق لأنه لم يهتم بها أحد في مبدأها لغرابة أمرها ولأنها ظهرت غير متناسبة مع حال العقول في الهند. ولئن كان جمهور موظفي الحكومة الإنكليزية هناك عَلَى جانب من طهارة الوجدان والعلم والتهذيب والتجارب إلا أنهم لم يحسبوا لهذه الحركة حسابها ووهموا في نتائجها وفلتهم عَلَى ما عرفوا به من الذكاء إن ما دعا إلى ذلك غلطات لهم ارتكبوها فنشأ عنها ما نشأَ. وللوقوف عَلَى الصلات المتبادلة بين الحكام الانكليز والمحكومين الوطنيين من الهنود يجب أن نبين الأسس التي قامت عليها الإدارة البريطانية في شبه جزيرة الهند فنقول:
إن الهند أوسع من أوربا فمساحتها 4، 894، 000 كيلو متر مربع وسكانها 266 مليوناً وأهلها خليط من الناس ما كانوا ولن يكونوا أمة برأسها. قال الفرد ليل: كل من أراد أن يحكم عَلَى امرئٍ بالحكومة التي تحكمه والبلاد التي ينزلها لا يكون حكمه إلا ناقصاً إذ يجهل بذلك طبيعة الحكومة التي تحكمه لا يفيد شيئاً في معرفته نفسه لأن الحكومة نتيجة أحوال عارضه وتدبير موقف اه.
لما استولى الانكليز عَلَى الهند عقيب أن دالت دولة المغول ورفع عن بعض ارجائها علم الفرنسيين لم يجدوا أمامهم حكومة وطنية في البلاد ولا جماعة اجتمعوا لتدبير شؤونهم تربطهم المصلحة المشتركة بها بل رأوا هنا وهناك عصابات غير طبيعية نشأت بالاتفاق بطبيعة الفنح وظلت بطبيعة الحال عبارة عن مجتمعات منفصمة العرى تجمع تحت لوائها ملايين من الناس في أماكن متباينة وكان لهذه الأنوام بحسب مكانتها زعماء يقودونها اسموا أنفسهم أمراء وراجات ونواباً وسلاطين وامبراطرة ولم تتغير هذه الصورة من الحكومة منذ الأعصر التي استولى فيا الفرس والمقدونيون والبارثيون والتتار والمغول وغيرهم عَلَى(46/18)
تلك القارة.
ومع ما نراه من حال ذاك الشعب المهزع المنتشر الأطراف الخالي من كل جامعة قد انشأ له مدينة باهرة دامت قروناً تنير العالم بدائعها وظلت إلى يوم الناس هذا لم تمسها يد بسوءٍ. فارتبط الهنود من الشمال إلى الجنوب من جبال حملايا إلى رأس كومور برباط واحد وعملوا بقلب واحد وتبعوا بروح واحدة تدفعها الثبات الذي لا يوصف والغاية المشتركة التي وجهوا كلهم وجهتهم إليها وذلك أنهم لم يرموا إلى غرض سياسي ولا إلى غرض اقتصادي بل لأن المجتمع الذي ألفوه ورتبوا درجاته لم تكن غايته زمنية دنيوية بل كانت دينية فاستقام الأمر للمستعمرين لأن القوم لا تهمهم السياسة ولأن النواب والراجات المغلوبين عَلَى أمرهم ليست لهم أصول راسخة في البلاد ولا منزلة في قلوب الأمة فكان الدين هو الذي يحرص القوم عَلَى بقائه والانكليز أحرص الناس على احترامه ولا سيما بين طبقات البراهمة التي كان لها تأثير شديد في العامة.
أدرك الانكليز في الحال صراحة بأنهم في حلّ من أن يؤسسوا في الهند الحكومة التي تروقهم من حيث الإدارة والنظام السياسي والتشريعي على أن لا يمسوا المعتقدات ولا رجال الدين بسوء فانشأوا حكومة جديدة سموها حكومة الاستقلال ولم يراعوا في تأسيس هذه الحكومة أصول الشعوب إذا كان هنا البنغاليون الجياع وهناك الباهراتيون الشجعان وفي مكان أبعد سكان ميزور وفي المقاطعات الأخرى السيخيون النشيطون فتجد الفلسفة العالية والتصوف البديع إلى جنب الخرافات المستحكمة والتعصب الشديد بل راعوا اختلاف طبائع الأقاليم من حيث وضعها الطبيعي عملاً بما قاله أحد رجالهم من أن الاختلاف في أصقاع الهند أشد مما تراه في ظاهر أرضنا وسياراتنا من المشاهد. ولم ير المستعمرون من مصلحتهم أن يؤلفوا وطنية هندية فيكون لسكان بنجاب وبنغل وطنية خاصة بل عزموا عَلَى توسيع الاختصاص وتقسيم البلاد في إدارتها عَلَى خلاف ما جرت عليه فرنسا في ربط البلاد كلها بالعاصمة مباشرة لأنها ترمي إلى تجنيس أهل البلاد المستعمرة بالجنسية الفرنسوية. وبعد تجارب طويلة تمت لانكلترا سنة 1861 صورة الهند وكانت هذه الصورة معدلة منظوراً فيها وهي الصورة التي جرت عليها شركة الهند الشرقية سنة 1773 واستصدرت بها قانوناً من مجلس النواب فقسمت الهند أولاً إى ثلاث(46/19)
ولايات بنغال ومدراس وبومباي دعوها رئاسات لأن إدارتها كانت بيد مجلس ينشر القوانين وينفذ القرارات وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهو دور الحروب والمنازعات الهائلة رأت انكلترا من الضرورة أن توحد الإدارة السياسية مع الإدارة الحربية لتقوية كل منها فعهدت سنة 1773 بولاية الهند لحاكم بنغال بحيث يكون له التقدم عَلَى حاكمي مدراس وبومباي ولكن ولايته اسمية لا فعلية فأخذت الولايات الثلاث تضيع الوقت في الأخذ والرد والإدارة مختلة الأساليب لا ترجع إلى يد تضم شملها حتى إذا كانت ثورة السيباي سنة 1857 وهي التي كادت تخرج انكلترا من الهند وضعت الحكومة صورة إدارة كانت أساساً للإمبراطورية الهندية وهو عمل إداري لم توفق إليه أمة ولم يخطر في خاطر حاكم.
فقسمت أراضي الهند إلى طبقتين جوهريتين أراضي السلطنة البريطانية أي البلاد التي تحكمها انكلترا مباشرة وهي عبارة عن ولايتي مدراس وبومباي اللتين بقيتا عَلَى ما كانا عليه في حدودهما وولاية بنغال وقاعدتها كلكوتا جعلت عاصمة المملكة وقسمت إلى ثماني مقاطعات لها حق الانتخاب. والطبقة الثانية إمارات الوطنيين التي تركت تحت سلطة الراجات الاسمية أو الفعلية فقسمت إلى قسمين في وضع الحماية الانكليزية عليها وبذلك صار الحكم للوالي العام والرئاسات وحكومات الولايات والإمارات الوطنية.
ولحاكم الهند أو نائب ملكها مجلس مؤلف من ستة وزراء لهم معاونون وفي بعض الأحيان ولا سيما عند سن القوانين يضطر إلى أخذ آراء المجلس وله الحرية أن يعمل بها أو يرفضها وهؤلاء الوزراء يشبهون من وجوه كثيرة وزراء لويس الرابع عشر لا وزراء ادوارد السابع وهم وزير الداخلية والخارجية والمالية والمعارف والتجارة والحربية والعدلية والأشغال العمومية ويحق لواليي مدراس وبومباي أن يحضرا في المجلس عضوين فوق العادة وهذا المجلس الوزاري يجتمع في المكان الذي يستني الحاكم العام فحيثما التأم فهناك العاصمة. ويضاف إلى هذا المجلس بعض الأعضاء فيصبح برلماناً أي مجلس نواب فيكون نصف هؤلاء الأعضاء الإضافيين من الأعيان أوربيين كانوا أو وطنيين عَلَى أن لا يكونوا من موظفي الحكومة يعينهم الحاكم العام فبذلك يصبح العنصر الرسمي في هذا المجلس أكثر من العنصر الأهلي وهذا العنصر قليل العدد ولذلك لا حكم له ومعاونته في(46/20)
الأغلب.
أما المجلس التشريعي فله سلطة واسعة لا يقف أمامها إلا امتيازات البرلمان البريطاني وحقوق السلطنة الانكليزية وتفقد قراراته عند ما يصدق عليها حاكم الهند. وهذه الطريقة التي تسهل إحالة السلطة الإجرائية إلى السلطة التشريعية تحل مسألة تقسيم الإدارة عَلَى ليسروجه في حين تمنحها وحدة الآراء والأميال.
وفي مجلس النواب كما في مجلس الوزراء يعمل كل عضو بما فيه المنفعة العامة وينظر في المسائل التي يحسن معرفتها بخلو غرض ويعطي رأيه حراً وللموظفين ضمانات لا تضر بالنظام ولكنها تقي أشخاصهم كل الوقاية.
وبعد فإن الحكومة العامة تنظر خاصة في المسائل الملكية كالديون العمومية والكمارك والرسوم الأميرية والمقايضات والبريد والبرق ونفقات الحربية والأديان وقانون الجزاء والباتنتا والعلائق الخارجية والحقوق الأدبية وغيرها فتوجه دفة السياسة إلى الوجهة التي تختارها وتوحد بين المصالح العامة والخدم العامة فهي المنظمة والمدبرة وحافظة العهد الدستوري أما ولاة الأقاليم فلكل منهم مجلس خاص ومجلس تشريعي لا تسري أحكامه عَلَى أحكام الحاكم العام كما ن هذا لا يتعدى عَلَى امتيازات الإمبراطورية وما عدا ذلك فالحكومة مالكة حريتها برمتها ولها مطلق التصرف أن تقرر ما تشاء. ويخاطب واليا مدارس وبومباي لندرا مباشرة ويناولان التعليمات بأنفسهما أما سائر الولايات فإدارتها ترجع إلى ولاة وبعضها إلى متصرفين يعينهم الحاكم العام ويتناولون رواتبهم من الإمبراطور ويختارهم من الموظفين الذين قضوا عشر سنين في الهند على الأقل وهم يخابرون كلكوتا في شؤونهم ولكن في الأمور الإدارية ولهم سلطة كسلطة والي مدراس وبومباي ولهم الميزة عليهم بأنهم أكثر خبرة ونفوذاً.
أما الجيش فيؤلف من جيش عامل ن الأوربيين والهنود ويقدر بمائتين وسبعين ألفاً منهم ثلاثة وسبعون ألفاً من الانكليز ومن جيش مساعد تقدمه الإمارات الوطنية المستقلة عدده 380 ألفاً ولكن على الورق فقط وعنده أربعة آلاف مدفع وإذا استثني من الجيش العسكر الانكليزي وبعض الالايات كالسيخيين والباتام والغوركا فالجيش الهندي لا يساوي شيئاً. وإذا استثني من الجيش المساعد فيلق مملكة الكواليور لا يساوي شيئاً أيضاً. قال أحد(46/21)
كبارهم أن هذا الجيش عبارة عن خليط من الأوباش لا علم له بالتدريب الحربي وليس لديه سلاح منظم وإن الايين أو ثلاثة من جيشنا مع بطارية خيالة تمزق شمل خمسين ألفاً من مثل هؤلاء المحاربين فمجموع هذا الجيش العامل وقدره سبعمائة ألف مع الجيش الاحتياطي هو عبارة عن تضليل يزول كالسراب أو كالدخان عند مداهمة الخطر.
وتقسم كل ولاية وارداتها مع الولايات العامة عَلَ نسبة محددة وتقوم بنفقات القضاء والمعارف والأشغال العمومية وإعانة البائسين ولكل ولاية الحق في أن تستلف نقوداً على واردات خمس سنسن تصرفها في الطرق التي تراها نافعة لعمران ولايتها وتقتصد ما تشاء وفي الهند أربع محاكم عالية في بومباي وبنغال والشمال الغربي ومدارس تميز إليها أهم الدعاوي المدنية والجزائية وينتخب أعضاؤها من قبل السلطنة الانكليزية ويقبض كل عضو من مئة إلى مائتي ألف فرنك راتباً سنوياً وفي كل حاضرة ولاية محكمة استئناف ومحكمة جزاء نقالة ثم محاكم المقاطعات ويعمدون تارة إلى استعمال قانون لندرا وإذا وقع اختلاف بين أوربيين من رعايا انكلترا يطبقون عليهم القانون الهندي وأحياناً قانون الجزاء الانكليزي الهندي.
ومأمورو الإدارة الملكية عبارة عن 765 موظفاً فيكون بذلك موظف واحد لكل ربع مليون ساكن وتحت أيديهم صغار الموظفين من الوطنيين. ومن مبدأ انكلترا في الهند أن تبقي جميع الوظائف الكبرى في أيدي الأوربيين وتعطي جزءاً مهماً منها للوطنيين ولا ترى الحكومة أن تقبل أحداً من رعاياها الهنود وتجعلهم انكليزاً في جنسيتهم وهم يهزأون من فرنسا التي جنست رعاياها في بوندشيري بجنسيتها وأعطتهم حق الانتخاب لإرسال نواب واعيان.
أما الإمارات الهندية المستقلة فهي منقسمة إلى طبقتين تقل في الأولى السلطة الانكليزية عليها ومنا الإمارات الإسلامية التي تركت وشأنها لأن ذلك اقصد في النفقة عليها ولكن حالتها إلى الزوال لأدنى إشارة تصدر من الحاكم العام ثم أن أمراء تلك الإمارة الإسلامية هم غرباء ويدينون بدين يكرهه السواد الأعظم من رعاياهم فهكذا تجد في مملكة النظام مملكة حيدر آباد الدكن. تسعة ملايين من البراهمة لقاء مليون من المسلمين وفي سائر الممالك المستقلة خمسون مليون برهمي أما ممالك كواليور واندور وبارودا فليس لها من(46/22)
المهراتية إلا الاسم لأن امراءَها هم دخلاء عليها. أما ممالك الطبقة الثانية من الوطنيين فتختلف عن هذه كثيراً ومن الممالك ميزور وراجبوتانا وترافانكور وجيبور وجوبور وملوكها هم من البراهمة ولئن ترى الحكومة من الحكمة أن تضيق خناقهم وهي لا تخافهم ولكنها لا تركن إليهم إلا قليلا قال جايمس ستيفن:
إن الانكليز في الهند هم نواب تمدن محارب وسلام تدعمه القوة وما من بلاد نظمت شؤونها وحالفتها الدعة والراحة مثل الهند البريطانية ومتى خفت شدة الحكومة يكر نظام الهند كأنه مأخوذ بسيل جارف اه. وتنقسم درجات التعليم في الهند إلى ابتدائي ووسط وعالٍ وهو النقطة الضعيفة من ذاك البناء الانكليزي الهندي البديع.
إن من يسكنون البلاد الواقعة بين نهر الاندوس وشاطئ كورومانديل ويطلقون عليهم اسم الهنود يجب أن يجعلوا م الشعوب التي تشمئز من الغريب وتعاديه شأن كل الشعوب التي لها تاريخ قديم وفلسفة معروفة وتمدن خاص بها وهذا يصدق عَلَى الأكثرية من البراهمة كما يصدق عَلَى الأقلية من المسلمين فالبراهمة يرون من واجباتهم أن لا يحيدوا قيد شبر عن تعليم أولادهم الصنعة التي يعلمها آباؤهم بالإرث وتلقيهم الفروض الاجتماعية والعالمية والدينية التي تصدر عن زعمائهم وإن جزءاً من هذا الشعور ليتعلمه الطفل بالفطرة والتقليد وباقيه يحصله في مدرسة قريته أو يأخذه عن رئيسه الديني مع ما يأخذ من آداب أمته ودينها فيملأ ذهنه بالتراكيب المبهمة والصلوات ولا سيما صلاة الغداة ومعناها: لنعبد النور السامي من هذه الشمس ربة كل وجود في الوجود التي تقود فكرنا كما تقود عين معلقة بقية السماوات.
أما التعليم الحديث فإن رب الأسرة يدفعه عن أسرته مشمئزاً بقدر ما كان يشمئز لاوكون من هدايا اليونان ويرفضها ولذلك يعز عَلَى البراهمة أن يخونوا مبادئهم المقدسة وأكثر ما يحذرونه من الأمور التي يحملها إليهم الغرب المدرسة فإن شيئاً خفياً في فطرتهم يدعوهم في السر: إياكم والمدرسة الانكليزية فهي عدوتكم.
وعَلَى هذا حارت انكلترا في سياسة التعليم التي تجري عليها بين البراهمة لأنها لا تستطيع أن تعلمهم التعليم الأوربي إلا إذا أضرت بمعتقداتهم الدينية ومعتقدهم هو وطنيتهم وهي لا تريد أن يخرجوا عنها حتى إن انكلترا اضطرت سنة 1840 أن تجيب مطالب ثلثمائة ألف(46/23)
رجل اجتمعوا في سهل بنارس يقيمون الحجة عَلَى الرسوم التي تريد وضعها على البيوت وعزموا أن يهلكوا جوعاً أو تجيبهم الحكومة إلى إلغاء هذه الرسوم فأجابتهم مكرهة مخافة أن يحدث وباءٌ فإذا عادت روح الاعتصاب وسرت في أعصاب مائتي مليون رجل لمقاومة سياسة التعليم ماذا تعمل بريطانيا؟
ولم تر انكلترا اسلم لها من تلقين الهنود مبادئها بالتدريج على أن تعلمهم ما تعلمه أبناءها في عاصمة الجزائر البريطانية وتشربهم حب الانكليزية عَلَى شرط أن لا يحيدوا عن جادة الإخلاص لها ولا يسيئوا استعمال المفتاح الذي تسلمهم إياه ويستخدمونه لفتح الباب في إيذائها والمسألة لا تخلو من إشكال أيضاً فيما يتعلق بأهل الطبقة العالية من المسلمين فقد جاء في أحد التقارير عن الهند ما نصه: إنا إذا صرفنا النظر عن الأسباب الاجتماعية والتاريخية في الشعب الإسلامي في الهند نرى لانحطاطهم أسباباً ذات شأن لها علاقة بتربيتهم التي تؤثر في حياتهم فتعليم الجامع يجب عندهم أن يكون سابقاً دروس المدرسة ولا يتيسر أخذ الطفل من المسلمين إلا بعد أن يقضي بضع سنين في مدرسة يتعلم فيها اللغة العربية والفقه الإسلامي ولكن تعليم المدرسة الدينية يقوده إلى أن يختار الخدم الدينية مؤثراً لها عَلَى أربح المسالك والأعمال. وقد أيدت التجارب هذه الملاحظة إذ حدث أن حب الوظائف العامة قد أثر قليلاً في المسلمين في الهند وظلوا يقاومون التعليم الانكليزي كل المقاومة ولحسن طالعهم لم تعن الحكومة الانكليزية بأن تجعل المسلمين أوربيين كما حرصت عَلَى جعل الهنود كذلك ورأت انكلترا أن تنقذ الطبقة العالية من الهنود من الأوهام القديمة لتستخدم منهم أناساً في الإدارة والقضاء والمالية وقد رأَى اللورد ماكولى سنة 1835 على ما فيه من العقل الذي أثر تأثيراً سيئاً في الهند أن من الواجب تعليم اللغة الانكليزية في مدرسة شبان الهنود من أرباب الطبقات المختلفة لترشيح الانكليزية من الأعلى إلى الأدنى وكان يقصد من ذلك أن يأخذ ما يلزم للبلاد من الموظفين من أهل البلاد أنفسهم.
وفي سنة 1854 أنشأت انكلترا ديوان المعارف العمومية فعنيت بإدخال اللغة (الانكليزية) إلى مدارس بنغال وبنارس ونظمت مدارس الوطنيين مع محافظتها لها عَلَى صفاتها الخاصة وفي سنة 1857 أثمرت البذرة التي وضعها لورد ماكولي في تربة الهند فأسست(46/24)
ثلاث كليات في كلكوتا وبومباي ومدارس عَلَى مثال الكليات الانكليزية فيها أنواع الراحة والرفاهية وتدرس فيها الدروس التقليدية وأنشئت في حاضرة كل مقاطعة مدرسة عالية وفي المدن الصغرى مدارس وسطى ثم أُنشئت كليات لاهور لإقليم بنجاب والله آباد لإقليم الشمال الغربي وساغ للمتخرجين من تلك الكليات أن يتدرجوا في المراتب مثل من تخرجوا من كليتي أكسفورد وكمبردج.
فتخرج من تلك الكليات أناس من أرباب الذوق والأدباء والمشرعون وقل في المتخرجين العلماء إذ لاحظ السير هنري مين أن عقل الهندي المستعد لقبول ما حلا وطاب من المعارف هو محروم مما يتصور من قياس مدقق الحقيقة فالهندي يجيد التكلم والكتابة والتفكير الدقيق ولكنه متوسط الاستعداد للحساب والأرقام وأصبحت الحكومة تبعث إلى لندرا بأرقى طبقة من متخرجي كليات الهند ليكونوا نموذجاً عَلَى اشتغالها وراموزاً لمن طبعتهم بطابعها فكانت تكرم وفادتهم في لندرا ولم تعقهم ألوانهم السمراء وتناسب أعضائهم وعيونهم التي تقدح شرراً وقاماتهم القصيرة وحركاتهم المتناسقة وأمزجتهم الشديدة عن أن يستميلوا قلوب الناس إليهم ونالوا من الكرم البريطاني أنواع الرعاية والعناية وفتح الانكليز لهم أبواب دورهم الأنيقة الشريفة كأن كل فرد منهم كان أميراً خطيراً وراجا كبيراً فأخذوا بما شاهدوا وتكلنزوا عَلَى أجمل أسلوب وعاشوا عيش الوطنيين الانكليز وقدروا حق قدره كل ما في الوطنية من الاحترام والأمن والشرف والاستقلال العالي.
فكانوا يتعاشرون ويتسامرون ويتعارفون في المجالس إلى من يخطبهن من الآنسات الفتانات الشقر البيض ويلعبون معهن أنواع الألعاب المألوفة والرياضات الانكليزية النافعة وكانوا في جميع أحوالهم مثال الظرف في ألبستهم والترتيب في قبعاتهم حتى إذا أتموا دور التمرين التي كان كل يوم منها ابتسامة للمستقبل وتشبعوا بهواء الغرب وتبطنوا أسرار فلسفة هربرت سبنسر وشوبانهور ونيتش وخفقت أفئدتهم بما علمت وتلبس شعورهم بالبدائع وحشيت عقولهم بخطب مجلس النواب الانكليزي - يركبون البحر عائدين إلى بلادهم بلاد الشمس والحرية يحملون أجمل ذكرى مما رأَوه وفي صناديقهم وأصونتهم الأوراق المطيبة والزهرات الذابلة وقطع من الشريط وبعض الفساطين يؤُبون والكبر آخذ منهم ويعود محيطهم البرهمي يتحيفهم ويرجعون إلى سابق أوهامهم وأحقادهم عَلَى الإدارة(46/25)
الانكليزية التي لم تؤثر فيها كثرة تغذيهم بمبادئ أصحابها.
ولقد شاءت اللغة الانكليزية بين أمراء الهند حتى صارت لهم بمثابة لغة الاسبرانتو في الغرب يتكلم بها الهنود وهم أجناس مختلفة وأصحاب لهجات متباينة فالمتكلمون باللغة السنسكريتية والبراكريتية والبالية والتيلنكا والبنغالية والهندستانية والمالاكالية والتامولية وغيرها من لهجات الهند يحسنون الانكليزية كأهلها وهذا ما حدا انكلترا أن تضاعف مدارسها وكتاتيبها وكلياتها ثم رأت من الحكمة أن تعتمد على العنصر الإسلامي فأعظمت له مكانته وأقلت من مكانة العنصر البرهمي فزاد ذلك البراهمة نفوراً وأخذوا ينادون في سرهم وجهرهم (الهند للهنديين) وأرادوا محاربة الانكليز حرباً اقتصادية فلم يكن من أبناء جنسهم أناس يكفون للظفر في هذه المعارك فلم يسعهم إلا أن يلجؤا للأجانب فكان الألمان وهم الشعب الذي يحاول أن يخلف الانكليز في كل مكان هم الذين مدوا أيديهم للهنود وأصبح ما تخرجه هندهم من بالات القطن وصناديق الشاي وأكياس القهوة يسافر إلى ميناء همبورغ بدل منشستر.
ثم حدثت مشاغبات وفتن وقتل رجال الثورة بعض أعضاء الحكومة فلم يسع انكلترا إلا أن تعطي الهند نظاماً جديداً مصبوغاً بالصبغة الديمقراطية أكثر من ذي قبل وأشركت الهنود في سياسة بلادهم واستعملت انكلترا الرفق فيمن دعوا إلى الثورة من رجال الصحافة والمحاماة وكان من تقربها من روسيا وتحالفها مع اليابان أكبر مفتر لهمم الهنود عن نزع أيديهم من يد حكومتهم أما المسلمون الذين رأت بريطانيا بعد حين أن تعتمد عليهم فقد تحركت نفوسهم وأدركوا قصورهم خصوصاً عندما رأوا إخوانهم شبان العثمانيين الأحرار الذين حرروا المملكة العثمانية من السلطة الاستبدادية كل هذا ليصدق عَلَى سكان الهند ما قاله أحد المفكرين من رجال السياسة الانكليزية (سيبقى الشعب الهندي عَلَى الدوام شاهدا ناطقاً بالماضي غير ممسوس بيد الغرب إلا مساً خفيفاً) ومحاولة تجديد شبابه هو من الغلط وقلة الخبرة.(46/26)
الألبان
امتلأت الجرائد في هذه الأيام باسم هذا القوم المحارب ويجدر بنا أن نذكر شيئاً من تاريخه ولو مختصراً لنعرف ما كان عليه في الأيام الخالية وما صار إليه الآن. وقد اتخذت قاموس الأعلام، لشمس الدين سامي بك إماماً وكتاب التاريخ لمؤلفه دوروي معاوناً.
إن اسم هذا القوم فيما بينهم (اربانيا) في قبيلة كيفه و) اربريا) في قبيلة طوسقه لأن هذه كثيراً ما تبدل النون راء وكلاهما مشتق من اللغة الآرية القديمة من كلمة (آر) الحقل و (بان) من يعمل فيه أو يحرثه أو يزرعه فكأنه قيل لهذا القوم (الحارث) أو (الزارع) لأنه هو أول من أدخل هذه الصنعة من آسيا إلى أوربا ولما كان اليونانيون يبدلون الباء بالواو لفقدان الأولى عندهم دعوا هذا القوم (اروانيتيس) بزيادة (يشيس) وهي أداة النسبة عندهم أي منسوب إلى أربان (ظناً منهم أن أربان اسم للأرض التي يسكنوها) والسين زائدة تظهر في أكثر كلماتهم حالة الرفع وتسقط في حالة النصب والجر وفي التثنية والجمع ولما دخلت الأتراك إلى تلك البلاد أخذوا الأمم اليوناني فدعوهم ارناويت بحذف السين الزائدة وتقديم النون على الواو تحريفاً (كما حرفنا نحن كلمة عربون وقدمنا الراء فقلنا رعبون) وثقل أول الكلمة اقتضى أن يكون آخرها كذلك فبدلت التاءُ طاءً وكسرت الواو ضمة لغير سبب فصارت ارناؤط وأوربا اليوم تدعوهم (الباني) بتبديل الراء لاما وهما قريبا المخرج وكثيراً ما يتبادلان وفي العربية البرت والبت بمعنى واحد وهو القطع.
تبين لدى علماء الألسنة المحققين أن لسان الألبان يشابهُ اليوناني القديم واللاتيني والصقلبي والغوطي والفارسي والسنسكريتي وإن هذا اللسان من أقدم شعب اللسان الآري. ومن يقدر أن يحكم أن الكلمات المشتركة بين هذا اللسان وبين اليوناني القديم هي يونانية أخذها الألبان أو البانية أخذها اليونان؟
لا يقدر عَلَى ذلك إلا العالم بكلتا اللغتين المتوغل فيهما. وقد ادعى شمس الدين سامي بك بأن كثيراً من الكلمات تدل صورتها الألبانية عَلَى أنها أصل وصورتها اليونانية أو اللاتينية عَلَى أنها فرع. (كما نعلم نحن العرب مثلاً أن يئس وجذب أصل وأن ايس وجبذ فرع) ومن هنا يتبين أن هذا اللسان أقدم من اليوناني واللاتيني ثم إن مشابهته للسان الفارسي والزند والسنسكريتي أكثر من غيره من الألسنة الآرية الأوربية تدل على أنه لم يتشعب من هذه الألسنة التي هي شعبة من غيرها بل أنه جاء رأساً من آسيا الوسطى إبان الهجرة(46/27)
العمومية.
وقد انتخب هذا القوم لنفسه شرق أوربا وطناً له كما أن انسباءه السلتييت اختاروا غرب أوربا. ثم تفرق فرقاً فمنهم من أقام في ايليريا وهي بلاد الألبان الآن وبوسنه وهرسك ودالماسيا ومنهم من سكن في مكدونيا القديمة وهي عبارة عن سيروز وولاية سلانيك ومناستر واسكوب ومنهم من انتشر في ثراكيا وهي اليوم ولاية أدرنة وقسم من بلغاريا ومنهم من بقي في آسيا ولم يدخل أوربا وهم الفرنجيون ومكنهم من سواحل الأناضول في البحر الأبيض إلى سيواس وانقرة.
وقد ثبت بالأدلة التاريخية أن هذه الفرق الأربع من أصل واحد إلا أن أهل ايليريا أقرب إلى أهل مكدونيا وأهل ثراكيا أقرب إلى أهل فريجيا لغة وخلقا. وكان يجمعهم اسم (بلاسج أو بلاسغ) في قديم الزمان ويظن بعض علماء اللغة أن كلمة بلاسج مأخوذة من كلمة (بلاق) الألبانية ومعناها الشيخ سموا باسم حكمهم أي مجلس الشيوخ حتى أن أهل الجبل منهم الآن يحكمون مجلس الشيوخ فيما يختلفون فيه ويسمونه (بلاقونيا). ومن هنا يعلم إن هذا القوم العظيم انتشر قبل ألفي سنة من تريتا في بلاد المجر إلى سيواس في الأناضول. أما من كان في الأناضول فقد استولى عليهم الفرس ثم اليونان ثم الرومان فاختلطوا بهم فضاعوا وانقرضوا. وأما من كان في مكدونيا وايليريا فقد زاحمهم البلغار والصقالبة حتى اجتمعوا كلهم واكتفوا بالقسم الجنوبي من ايليريا. وكان هؤلاء لا يختلطون بغيرهم من الأمم ولا يؤَلفون جامعة لهم ولا يخطر ذلك في بالهم بل كانوا يعيشون متفرقين كما هو حال أهل الجبل منهم الآن في جوار دبره واشقودرة ولذلك حافظوا عَلَى لسانهم وعاداتهم وأخلاقهم. ولكن لم يحصلوا من الأدبيات القومية على شيء لفقدان الجامعة بينهم.
اتى عليهم زمن اسس فيه بعضهم دولة فكان منهم حكومة في اشقودرة وأخرى في يانية وثالثة في مكدونيا ومركز هذه بلدة (بلا) على نهر (قره آزمق) قرب بلدة (يكيجه واردار) من توابع سلانيك ومن ملوكها اسكندر المشهور ابن فيليب وهو الباني الأصل والنسب تعلم اليونانية لآدابها في ذلك الوقت فظنه الناس أنه يوناني وأكبر دليل عَلَى أنه ليس بيوناني خطب ذلك الخطيب اليوناني الشهير (ذيموستن) وتحريضه لأهل آتينة وتسميته له في تلك الخطب باسم (بارباروس) أي اعجمي وكانوا يسمون كل من لم يكن يونانياً (بارباروساً)(46/28)
كما أن العرب تسمي كل من لم يكن عربياً (أعجمياً) ومن أشهر ملوك يانيه (ببروس) فقد غلب الرومان مرتين واستولى عَلَى كثير من البلاد حتى توسع ملكه إلى اليونان ومصر ولم يكن همه إلا الظفر فقط ولذلك لم يترك لبنيه الذين ورثوه إلا ما ورثه عن أبيه.
إن الألبان الذين استولوا على العالم بأسره في عهد اسكندر ابوا أن يكونوا في أسر الرومانيين ولقد كانت لهم وقائع عظيمة معهم دلت على شجاعتهم وبسالتهم إلى أن أتى (بول اميل 168 ق. م) بعسكر جرار فغلبهم وخرب لهم سبعين قصبة (قرية وأكبر منها) وأسر منهم مائة وخمسين ألفاً وساقهم إلى رومية وباعهم هناك عبيداً.
أتظنون أنهم بعد هذا أطاعوا الرومانيين كلا فإنهم التجأوا إلى الجبال وتحصنوا فيها وتركوا الأراضي الخصبة وآثروا الفقر مع الحرية عَلَى الثروة مع الأسر.
وهكذا كانت حالهم لما دخل ملوك بني عثمان إلى الروم ايلي وفي سنة 1420 من الميلاد ظهر من بين رؤسائهم أمير يقال له اسكندر بك وكان رجلاً شجاعاً مدبراً فجمع القبائل كلها تحت رياسته وقاوم العساكر العثمانية أربعين سنة ولما هلك استولت الدولة العثمانية على جميع تلك البلاد فمنهم من رأى الغربة فهاجر إلى قلابريا وصقلية ومنهم من ذهب إلى البندقية وجنوه ومرسيليا ومنهم من أداه السير إلى اسبانيا. ومنهم من اختار الإقامة وهداه الله فأسلم ثم انتشر الإسلام بينهم ولم يبق عَلَى دينه القديم إلا مقدار الثلث ومذهب النصف منه اورثوذكس والنصف الآخر كاثوليك. وقد ظهر منهم رجال نبغوا في هذه الدولة حتى أحرز الصدارة منهم عشون وزيراً ومن أشهر قوادهم في الجيش العثماني سنان باشا وآثاره تدل عليه وهو أول من أدخل اليمن وعمان في حوزة الدولة وأوصل علمها إلى الأراضي المجهولة في ذلك الوقت مثل آجينة وصوماطره وكذلك الوزير المعروف بكوبريلي محمد باشا فإنه وصل إلى أسوار فينا مظفراً. يمتاز الألباني بأنه طويل القامة غليظ العظام عصبي المزاج كبير الدماغ واسع الناصية (وهذا مما يدل عَلَى ذكائه). يرعى العهد ولو كان فيه الموت الأحمر. يفدي روحه في حفظ قبيلته وعائلته بل لإنقاذ كلمة خرجت من فمه. يتبختر تبختر الأبطال في مشيته خفيف الحركة سريع الخطو. يغلب عَلَى نسائهم الجمال إلا أنهن غليظات الأبدان غليهن ملامح الرجال، لا يبالين بالحجاب ولكن الرجال يغارون أشد الغيرة عليهن فإذا أحسوا بأن فتاة أو امرأة خرجت ولو قليلاً عن دائرة العفة(46/29)
قولاً أو فعلاً فتكوا بها فتك ظالم غدار (لله درهم ودر العرب الذين لم تفسد أخلاقهم ودر هذه الغيرة التي نعدها نحن المدنيون توحشاً) نساؤهم صناع اليد كثيرات الجد والكد، هن ربات البيوت والرجال عندهن كأنهن ضيوف. لا يتزوجون إلا الأكفاء ولو بعدت المسافة بينهم. يحرمون بناتهم من الإرث (عادة ورثوها عن آبائهم) ولا يعطونهن شيئاً حتى إن ثياب العرس يشتريها الزوج. صلابتهم في دينهم شديدة إلا أنهم يتهاملون في العبادات ولهم بعض عادات انتقلت لهم من النصرانية أو من دين أجدادهم يحافظون عليها إلى الآن. يرون الاتفاق فيما بينهم فرضاً ولو اختلفت ديانتهم. فهذه ميزة الألبان باختصار.
وأما لسانهم فقد ذكرنا أنه شعبة مستقلة من اللسان الآري لكنه لم يحذو حذو أخواته كاليونانية واللاتينية فيرقى إلى أوج الفصاحة والبلاغة إلا أنه أقدم منهما لما يرى من أسماء الآلهة في أساطير اليونان واللاتين فإنها منه أخذت.
وقد اكتشف الذين ينقبون عن الآثار القديمة في (طوسقانه) من أعمال ايطاليا خطوطاً قديمة لم يمكن حلها باللسان اللاتيني واكتشفوا في فريجيا أيضاً خطوطاً تشبهها فجربوا فيها اللسان الألباني فوجدوها تشبهه غاية المشابهة ومن هنا يظهر ان لهذا اللسان خطوطاً تختص به. وعندهم بعض كتب تتعلق بمذهب الكاثوليك أُلفتت منذ خمسمائة سنة ولا أظنها مكتوبة إلا بالحروف اللاتينية وفيها المنظوم والمنثور.
ويحفظون بعض أغاني وطنية يرجع إنشاؤها إلى ثمانية او تسعة إعصار. ولا فرق بينها وبين لسان أهل هذا العصر إلا في التعبيرات الدينية لأن النصارى اتخذوها من اليونانية والمسلمين اتخذوها من العربية وكلاهما ترك اصطلاحات الدين القديم.
وأما حروفهم التي يتنازعون لأجلها الآن فلست أظن أنها تلك الحروف المكتشفة في طوسقانة وفي فريجيا عَلَى أنه لا يبعد أن تكون تلك إلا أنها أصلحت كالحروف العربية في بادئ الأمر وشكلها الآن. ولما زادت المجادلات بينهم وأخبرتنا الجرائد بذلك أحببت أن أرى هذه الحروف فأخذت كتاب ألف با وفيه دروس القراءة الألبانية. فوجدت كلمات هذا اللسان تتركب من أحد وثلاثين حرفاً وسبع حركات جعلوا لها (أي لهذه الثمانية والثلاثين) ستاً وثلاثين علامة أما الحركات فتلفظ همزة في أول الكلمات فقط ولذلك عدوها من الحروف. وأما الحروف فإنها تنقص عن العربية في أشياء وتزيد في أشياء. ينقص هذه(46/30)
اللغة من الحروف الخاء والصاد والضاد والطاء والعين وتزيد عن العربية بهذه الحروف:
1 ـ تس: حرف تمتزج فيه التاءُ بالسين فيحصل صوتاً مثل من فم ولد صغير أي بين (س) وَ ()
2 ـ: كما في التركية والفارسية.
3 ـ دز: صوت يحصل من امتزاجهما ولا سبيل لفهمه إلا بعد سماعه.
4 ـ ر: راءٌ مفخمة جعلوها مستقلة عن الرءِ المرفقة.
5 ـ: كما في التركية والفارسية.
6 ـ ك: حرف بين الغين والياء فلا هو غين ولا هو ياء لكنه أقرب إلى الياء منه إلى الغين.
7 ـ ل: لام مفخمة كالتي في لفظ الجلالة تقدمها فتح أو ضم.
8 ـ نى: نون ساكنة بعدها ياء وهي أسبه شيءٍ: الفرنساوية.
وأما العلامات فقد أخذوها من اللسان الفرنساوي عيناً إلا أن الفرنساوية وضعوها لحرف (تس) ووضعوها لحرف ووضعوها لحرف (دز) وما زاد عن الفرنساوية فقد اتخذوا له علامات لا تخرج عن وضع العلامات الفرنساوية إلا بزيادة خط معوج في رأسه أو أسفله.
سلانيك ـ
ر. ب(46/31)
حكم افرنجية
ما أحسن حال من يعتقدون أنفسهم بائسين وهم ليسوا إلا فارغين ملولين (الفرد دي موسيه).
مزج البارئ تعالى الصداقة بالحياة لينشر في أطرافها السرور والسلوى والمظرف (بلوتارك).
حيثما استطاع الإنسان أن يرزق فهناك يعيش عيشاً حسناً (مارك اوريل).
اعظم غلط يرتكب في التربية أن يعجل المرءُ في تلقينها (جان جاك روسو).
ليست معرفة الطاعة من الضعف بل هي قوة عظمى (جانت).
التربية بوضع القواعد طويلة الأذيال وأقصر منها التربية بالمثال الحسن (سنيك).
من فطرة الطامع أنه مغاضب لكل ما يملك (مين دي بيران).
في وسعنا أن نبدو عظماءَ في وظيفة هي دون أقدارنا ولكننا كثيراً ما نبدو صغاراً في وظيفة هي أكبر منا (لاروشفوكولد).
الناس كالمداخن التي يخرج دخانها كثيراً ليست ذات هندام حسن.
كثرة البطالة تخالف الفضائل فمن لم يعمل عملاً لا يبعد أن يعمل سيئاً.
في العادة إن المرءَ لا يستنصح إلا ليبتعد عن العمل بما نصح به أو ليلوم من نصح له.
من الناس وكثير ماهم من لا يندمون حقيقة إلا من أعمالهم الصالحة.
قلما يكون المختال جسوراً فالمرء كلما اعتبر نفسه تعرض للهلكة.
الجائع لا يكون حراً.
كثيراً ما يكون علم التغلب عَلَى المصاعب عبارة عن تقديرها بقيمتها الحقيقية.
يعتقد الطحان عن طيبة قلب أن الحنطة لا تنبت إلا لتحريك طاحونه.
كثيراً ما يكون الإسراع في إصدار الحكم خالياً من روح العدل.
لا تأكل حتى يثقل جسمك ولا تشرب حتى يطيش عقلك.
الندم أنفع الشعور الصالح.
الرحمة تجعل المساواة حتى في التعذيب.
الحياة حساب فالسعيد من كان حسابه مستقيماً.(46/32)
غرائب الغرب
دار معونة العلماء
15
هي الدار التي أنشأتها الآنسة دوسن شقيقة العقيلة تير امرأة تير. وهو العالم المؤرخ أول رئيس للجمهورية الثالثة نفع هذا الرجل فرنسا بحياته فأحبت امرأته أن تخلد ذكره بعد مماته فأوصت بمال يصرف على تأسيس دار تؤوي خمسة عشر رجلاً من شبان العلماء يكفون فيها مؤونة الحياة المادية ويتفرغون للبحث والدرس ليكونوا صلة بين الكليات التي تخرجوا فيها والمجامع العلمية التي يراد إجلاسهم في قاعاتها. ماتت العقيلة تير على حين فجأة فنفذت وصيتها شقيقتها ووقفت مالاً بلغ ريعه مئة وخمسين ألف فرنك.
إن من يزور هذه الدار المباركة ويطلع على أعمالها ورجالها يوقن كل الإيقان بالمثل الإفرنجي القائل بأن (فرنسا تخترع وألمانيا تعمل) الفرنسيس يبتكرون في كل شيء وهذه الدار هي من مبتكراتهم وما أظن لها مثيلاً عند الألمان والانكليز والاميركان سادة العالم في العلم وقادة الإبداع والاختراع.
زرت هذه الدار مرتين وتشرفت بالتعرف بمديرها أحد كبار فلاسفة فرنسا وعلمائهم المعاصرين المسيو أميل بوترو ـ ومشاهير الفلاسفة المعاصرين من الفرنسيس اليوم هم بوترو وفوليه وريبو وبرجسون.
ولم أتمن في حياتي أن أكون فرنسوي الأصل والجنس إلا لما رأيت هذه الدار وعلمت أنها لا تقبل في حجرها إلا الفرنسويين. تمنيت أن أعيش فيها المدة المحددة لكل طالب أتفرغ لدرس أبحاث تجول في الصدر ويعوق الزمان والمكان الآن عن إتمامها.
هذه الدار سميت باسم تير والأولى أن تسمى دار معونة العلماء لأنها ليست مدرسة كالمدارس ولا كلية كالكليات ولا مدرسة دينية كالمدارس الدينية بل هي دار يقبل فيها كل سنة خمسة من شبان العلماء من نابغي الكليات يحملون شهادة (الليسانس) أو (الدكتورا) في الآدب أو العلوم أو ممن نالوا جائزة من جوائز المجمع العلمي في الأبحاث التي تجري فيها المسابقة بين أرباب الأفكار والأقلام تحت نظارة المجامع العلمية الخمسة في باريز فيقضون ثلاث سنين في هذا المعهد ينصرفون فيها إلى الفن الذي يريدون الاخصاءَ فيه(46/33)
فيبحثون بأنفسهم لأنفسهم تحت رعاية مدير المعهد فيلسوف فرنسا المسيو أميل بوترو الذي يعيش وإياهم في المعهد كما يعيش الأب مع بنيه ويمدهم بآرائه ويهديهم إلى أقرب الطرق للانتفاع بمعارفهم ووضع مؤلف أو مؤلفات نافعة في الفنون التي هي أحب من غيرها إلى قلوبهم ولا ينشرونها إلا إذا نظر هو فيها واقرهم عليها. وأي عالم لا يحب أن ينتفع في علمه برأي عالم كالمسيو بوترو بلغ السبعين أو كاد من عمره وهو يفني لياليه وأيامه في العلم والفلسفة.
يشترط فيمن يدخل دار معونة العلماء أن يكون ممتازاً بعقله وأخلاقه ويفضل من يرتضي أساتذته أخلاقه ونبوغه ويشهدون فيه شهادة حسنة وأن يكون دون السادسة والعشرين من عمره غير متزوج وقد قضى الخدمة العسكرية ويعطيه المعهد ستين ليرة في السنة لنفقته الخاصة وثلاثين ليرة ليسيح بها سياحة علمية وتعطيه غرفتين فسيحتين فيهما أسباب الراحة والرفاهية إحداهما لنومه والثانية لعمله بحيث يكون الشبان العلماء الخمسة عشر وهو عدد الموجود منهم في المعهد أبداً موسعاً عليهم لا يطلب منهم إلا أن يؤلفوا ويبحثوا أبحاثاً علمية تنفعهم ونفع أمتهم وبلادهم ويقسم عدد من كانوا فيها سنة 1908 ـ 1909 من شبان العلماء إلى رياضيين ومؤرخين ومتشرع في السياسة والاجتماع وعالم في اليونانيات وحقوقيين وفيلسوفين ومؤرخ وموسيقار وعالمين في الجرمانيات ومؤرخ في الآداب الفرنسوية وجغرافي وقد أنشئ هذا المعهد سنة 1893 فيكون عدد من أعانهم على الأخصاء في العلم حتى الآن 80 عالماً وكلهم وضعوا المؤلفات الممتعة النافعة للعلم عامة ولبلادهم خاصة وقد بلغت واردات هذا المعهد مئة وخمسين ألف فرنك في السنة يتناول منها المدير عشرة آلاف فرنك.
قام معهد تير العلمي في أجمل حي من أحياء باريز في حي الأشراف والنبلاء بالقرب من غابة بولونيا الغناء غربي مدينة باريز في الحي الذي تؤجر الدار فيه اليوم بثلثمائة ألف فرنك مسانهة وسط حديقة أنيقة تحيط بها الحدائق في مكان يجمع إلى السكون المطلوب للعلماء والمؤلفين ولا يبعد عن سائر أحياء العاصمة وما يلزم لهم من المواد المفرقة في مكاتب باريز المختلفة ودور العلم والمستودعات والمجامع والمتاحف وغيرها بحيث هم بعيدون قريبون عن الحركة العلمية والسياسية والاجتماعية وليس في المعهد مكتبة كبرى(46/34)
لأنها عَلَى اتساع مساحتها لا يتسع صدرها لكل ما يلزم المؤلفين فيها من المواد بل فيها فقط كتب الفهارس والمعاجم والمراجعة والأمهات التي لأغنية لكل عالم عنها وما عدا ذلك فمكاتب باريز وعلماؤها ودور سجلاتها ومتاحفها عَلَى قيد غلوة من سكانها هذه الرحبة الشريفة يأخذون منها ما راقهم كل ساعة.
وليست هذه الوسائط هي كل ما في معهد تير من المعونات علمائها بل أن لهم بفضل الشيخ الرئيس مديرهم الحكيم الكبير أهم الأسباب التي تربطهم بعلماء العالم ومجامعه وكلياته فهم كسكان الجنان توفرت لهم كل الوسائط فلم يبق عليهم إلا أن يقطفوا من ثمار يحبونها كل قريب ودان.
يعيش هؤلاء العلماء عيشة مشتركة فيتناولون طعامهم معاً ويلعبون ويتنزهون معاً ويبحثون عن العلوم التي يمتون بها معاً ويظلون هكذا يعيشون عيشة الأتراب العاملين عَلَى ما تعلموا في طفولتهم في المدارس والكليات ويستفيد بعضهم من بعض في العلوم المختلفة ويعاون بعضهم بعضاً معاونة الإخوان ويترفهون رفاهية لا يتمتع بها إلا عقلاء الأغنياء.
قام هذا المعهد المفيد تحت رعاية العلماء من أهل المجمع العلمي وحققت فيه مؤسستاه العقلية تير وشقيقتها مارسمه النظار على ذاك المعهد أمثال جول سيمون ومنيه وبارتلمي سان هيلير فكان تير الذي عد من نوابغ القرن التاسع عشر الذين خدموا بلادهم خدمة تذكر عَلَى الدهر فتشكر نافعاً لأمته في حياته بعقله وفي مماته بماله. فمتى يصل الشرق يا ترى إلى هذه الدرجة في العقل والإحسان ومتى يكون علماؤه من أهل السعة واليسار إلى هذا الحد ليحسنوا الانتفاع بأموالهم كما أحسنوها بعلومهم.
إن شبان العلماء في هذه الدار بعد أن تعلموا ورأوا العلماء كيف يعملون محتاجون لهضم ما تعلموه أن يعانوا لينشأ منهم أفراد متفردون في العلم فيتحولون بهذه الواسطة من تلامذة إلى أساتذة أكفاء أن يكفوا أنفسهم وأن يوجدوا ويخترعوا وهذا موقوف عَلَى أن يستجمعوا قواهم ويتمتعوا بحريتهم وأوقاتهم عَلَى ما يشاؤن فالعمل كما قال أميل بوترو هو السرور على شرط أن لا يكون صاحبه مستبعداً فيه لأحد ولا لمؤثر بل يقوم به مدفوعاً فقط بعامل نتائجه الطبيعية وهي الإيجاد والإبداع. وما التربية إلا أن تخرج كل إنسان عَلَى ما ينفع فيه ويتيسر له النبوغ في فروعه. التربية هي تخريج المرء أولاً في مجموع المبادئ العامة(46/35)
التي هي وقف خلفه لنا أسلافنا بتجاربهم وسموا ذلك العقل ثم تخريجه ثانياً في أن يكون مخصياً متفرداً في علم واحد يكون فيه عَلَى بصيرة عَلَى نحو ما يتطلب ذلك العلم الحاضر والمجتمع الحديث ثم ينشأ ثالثاً ممن دخل في هذين الطورين في التربية فيلسوف يدرك قيم الأمور ويعرف الصلات المتبادلة فيما ينصرف إليه العالمون عَلَى اختلاف معارفهم ويبحث في أن يوفق توفيقاً حسناً بين الحياة الخاصة والحياة العامة. وكل هذا لا يفهم مغزاه شرقنا التعس الآن.
تآخي الغربيين
16
كل فكر ومذهب في الوجود نتيجة الدعوة إليه وتحبيبه إلى النفوس. عرف الغربيون هذه القاعدة فجروا عليها كثير من أعمالهم وكان من ثمرات الدعوات السياسية والدينية تأليف الوحدة السويسرية والألمانية والأميركية وتوحيد كلمة الجزائر البريطانية وانتشار المذاهب الاجتماعية والاشتراكية والفوضوية وكثرة من يدينون بالمذاهب البرتستانتية والفلسفية وقد قام في فرنسا جماعة ممن يفكرون لخيرها رأوا أن بلادهم تنتفع كثيراً من تحسين صلاتها مع أميركا فألفوا جمعية دعوها (جمعية فرنسا أميركا) مؤلفة من علماء وسياسيين وقواد واجتماعيين ومعلمين وفي رأسها المسيو جبرائيل هانوتو أحد أعضاء المجمع العلمي وصاحب التأليف الكثيرة في التاريخ والسياسة ووزير خارجية فرنسا الأسبق وقد انشأوا لبث هذه الدعوة مجلة شهرية باسم جمعيتهم تدعو إلى هذا الغرض استفتحها رئيس الجمعية بمقالة في الغرض الذي يرمون إليه وكتب في المجلة الأسبوعية مقالة طويلة الذيل في هذا الشأن فرأيت أن الخص للمشارقة لباب هاتين المقالتين دلالة عَلَى ما يأتيه المغاربة من الأعمال النافعة لمستقبلهم لننعى على أنفسنا نومنا عن النظر في مستقبلنا.
قال هانوتو: إن النجاح معقود بناصية من يعمل في الوقت اللازم ولو وجهنا وجهتنا منذ سنة 1860 إلى أميركا الشمالية والجنوبية لما احتجنا اليوم إلى دعوة أمتنا لتعريفها بما نعرفها به. هبت علينا الزعازع السياسية والاقتصادية منذ ذاك الحين وإذ سكنت الآن وجب علينا أن نعمل عملاً يحمل في مطاويه أحسن الفوائد.
تبدلت الأرض غير الأرض في خمسين سنة حتى صح أن نقول إن قارتي آسيا وافريقية(46/36)
كأنهما اكتشفتا حديثاً فكثرت مواصلاتهما وحملت إليهما المدنية والحضارة وجرى تعليمهما واستعمارهما وكان لفرنسا من هذا التحول الغريب حصة موفورة. فقد غير دلسبس بفتحه ترعة السويس شكل الأرض كما أن جول فري بموافقته عَلَى السياسة الاستعمارية قد حاز لنا قسماً كافياً من قسمة الأراضي الجديدة.
وبينما كان الشرق يستدعينا غدا الغرب الغرب ينكرنا ويستغني عنا. فإن مسألة باناما المشؤومة التي جاءت بعد مسألة المكسيك قد أثرت في علاقاتنا مع أميركا الشمالية والجنوبية واستغرقت التدابير الأوربية الكبرى التي اضطررتا إلى مجاراتها فكرنا وقوتنا المادية. وانحطت بحريتنا التجارية فضعفت بضعفها أسبابنا في العمل واحتفظنا بأساليبنا القديمة التجارية فسبقتنا شعوب أكثر منا فتاء وأكثر مضاء وأقل مطالب ومشاعب.
نعم تقدمنا وتأثلنا ولكننا لم نبرح كما كنا في قوتنا على عهد نابليون على حين كانت أميركا بثروتها وقوتها وعظمتها تتقدم تقدماً لا يوصف فقد كان سكان الولايات المتحدة سنة 1870 ـ 36 مليوناً أي ما يقرب من سكان فرنسا على التقريب فأصبحوا سنة 1890 ـ 63 مليوناً وهاهم يتجاوزون اليوم الثمانين مليوناً. وفي كندا اليوم زهاء 6 ملايين من السكان وفي الجمهوريات الوسطى والمكسيك 22 مليوناً وأصبحت أميركا الجنوبية 45 مليوناً وكان فيها سنة 1890 ـ 35 مليوناً.
وكان مجموع تجارة الولايات المتحدة سنة 1870 خمسة مليارات ونصف فرنك فأصبحت اليوم زهاء 16 ملياراً وكان مجموع تجارة كندا سنة 1878: 75079 مليوناً فأصبحت سنة 1905ـ 1906 مليارين ونصفاً. ومجموع تجارة أميركا الوسطى والمكسيك مليارين ونصف وجمهوريات الجنوب أكثر من أربعة مليارات منها ملياران ونصف للبرازيل ومليار للجمهورية الفضية.
وعلى الجملة فقد بلغ مجموع ما هناك من نفوس 160 مليوناً من البشر ومجموع التجارة أكثر من 25 مليار فرنك وأحدثت أميركا حركة كبرى في العالم بدخولها مضمار الاتجار فأثرت في فرنسا تأثيراً غير قليل وكانت هذه إلى ذاك التاريخ قريبة لتجارتها من انكلترا أي لها المقام الثاني في التجارة فأصبحت اليوم في الدرجة الرابعة بعد انكلترا والولايات المتحدة وألمانيا. أي أننا فقدنا ما كان لنا من المكانة قديماً فنحن اليوم نريد أن نستعيد(46/37)
منزلتنا الأولى أو أن نغتنم الوقت الضائع فالمسألة ليست متعذرة ولكن تقتضي لها الإرادة والتفكر والعمل على طريقة منظمة والعودة إلى تقاليدنا والانتفاع من أسبابنا.
أما الولايات المتحدة بما لها من المركز الذي أحاط بطرفي البحرين المحيطين فهي المهيمنة عَلَى أعمال العالم فإن عدلت الحالة بين اليابان وروسيا فلا يبعد أن يجيءَ زمن تتداخل فيه في السياسة الأوربية وأن الفرنسويين في كندا ليبلغون مليونين ونصفاً ومثل هذا العدد من الفرنسيس منتشر في جمهورية الولايات المتحدة ولا سيما في الجنوب واللغة الفرنسوية في كويان وجزائر الانتيل يصبح عدد الفرنسيس ومن يتكلمون باللغة الفرنسية من الأميركان ليس بقليل.
وان مالنا من الأيادي في أميركا ولا سيما وقد قرن فيها اسم لافابيت الفرنسوي باسم واشنطون الأميركي اللذين ساعدا على استقلال الولايات المتحدة وما وضعناه فيها من أموالنا وقمنا به في جمهوريات الجنوب من البعثات العلمية والعسكرية والمشاريع الاقتصادية والمالية كل ذلك يدعونا بلسان الحال إلى أن نصل الحاضر بالغابر وإن لم تكن سلسلة الصلات قد قطعت كل القطع.
والناس مهما تقلبت بهم الحال لا يزالون يذكرون لفرنسا بيض أياديها عَلَى المدنية وإذا نسوها فإنهم لا ينسون باريز التي تنشر أنوارها على العالم وإليها يحج الألوف من الأميركيين كل سنة للتنزه والارتياض والاستفادة وكلما كثرت الرفاهية في ديارهم تدعوهم الدواعي إلى نزول باريز وما في أراضي فرنسا من المصايف والضواحي كالشاطئ اللازوردي (كوت دازور) فإن مجموع الأميركيين الذين يختلفون كل سنة إلى ديارنا لا يقلون عن مليون سائح. فعقد الصلات بين فرنسا وأميركا فيها كل ما نحتاجه من الأسباب القوية فإن كانت أميركا الشمالية تدعونا إليها بما فيها من القوة والعظمة فأميركا الجنوبية تناينا إليها القرابة لأن عناصرها لاتينية وتربتها لاتينية فمن كندا إلى مضيق ماجللان مارين بالمكسيك والجمهوريات الوسطى ترى الدم اللاتيني ممزوجاً في شرايين العناصر الجديدة وعلى أميركا الجنوبية يصح إطلاق المثل القائل (هذا دم لاماء).
ومثل هذه الجمعيات نفعتنا في القارات والأقطار الأخرى فقد كانت جمعية (افريقية الفرنسوية) أعظم معاون للحكومة في أعمالها الاستعمارية وجمعية (آسيا الفرنسوية) أخذت(46/38)
على عاتقها مثل هذه المهمة و (جمعية مراكش) تعمل على نشر الأفكار الفرنسوية في الغرب الأقصى فنحن بجمعيتنا هذه لا نأخذ إلى أميركا من معارفنا بقدر ما نأخذ عنها. فلا نرمي إلى الدخول فيها ونشر كلمتنا بين أبنائها بل نود أن نعاونها ونحالفها نريد أن نتعلم عليها ونحن أبناء المدينة القديمة درساً في النشاط والمضاء فإن كان لمدننا القديمة كنائسها وبيعها فللمدن الحديثة معاملها ومصانعها فنحن نقنع بامتصاص التاريخ أما هم فينشقون لوج المستقبل.
قام في واشنطون مثل عملنا هذا يرمي إلى التقرب بين جميع العناصر في العالم الجديد سموه مكتب الجمهوريات الأميركية أنشأته الولايات المتحدة بمعونة الحكومات الأخرى ومنحه المستر كارنجي مبلغاً جسيماً من المال وهو يفتح قاعات لإلقاء المحاضرات الاجتماع ومكاتب لأخذ المواد والتعليمات وخزانة كتب ومجلات كبرى وينشر مجلة للدعوة إلى هذا الغرض وذلك عَلَى صورة رسمية كما إن اسبانيا أشأت مثل ذلك للتوفيق بين اسبانيا وأميركا وبمثل ذلك قامت البرتغال للتوفيق بينها وبين البرازيل. وفي ألمانيا اتحدت الكليات وأعمال الرجال على جلب أبناء الأميركان وتلقينهم التربية الجرمانية أما شعار جمعيتنا فهو أن نحبب فرنسا إلى نفوس أميركا ونعرفهم بها ونحبب أميركا إلى نفوس الفرنسويين ونعرفهم بها.
ولا بأس هنا بذكر شيء من تلك العظمة الأميركية التي أدهشت العالمين المدني والوحشي فإن مدائن نيويورك وشيكاغو وسان لوي وسان فرانسيسكو قد امتازت بغناها في زراعتها ومعادنها وصناعتها وأعمالها التجارية الخارقة للعادة فقد كان في الثماني والأربعين ولاية ومقاطعة كولومبيا والأرض الهندية وألاسكا وجزائر هافاي ومنها تتألف الولايات المتحدة 5739687 مزرعة سنة 1900 ومعدل سعة كل واحدة 146 فداناً (آكر) وثمنها 20 ملياراً نصف مليار دولار أي 106 مليارات من الفرنكات وكان مجموع محاصيل هذه المزارع سنة 1908 8مليارات دولار منها 2668 مليون مكيال من الذرة و664 من الحنطة و807 من القرطمان و31 من الجاودار و166 مليوناً من الشعير و13 مليون بالة قطن و70 مليون طن من العلف و718 مليون لبرة من التبغ و278 مليون مكيال من البطاطا و135 مليون لبرة من الصوف النقي.(46/39)
وكانت مساحة الغابات الأهلية 168 مليون فدان تغل كل سنة 666 مليون دولار د عنك الصيد في بحار أميركا وأنهارها وهو يباع بعشرات الملايين من الدولارات.
وبلغ سنة 1905 مجموع ما في الولايات المتحدة من المعامل 216 ألف معمل رأس مالها 12686 مليون دولار يعمل فيها 5470000 يتقاضون أجوراً يبلغ مقدارها 2611 مليون ريال وتبتاع بثمانية مليارات ونصف من المواد الأولية وتبيع بما قيمته خمسة عشر ملياراً. وفي سنة 1908 أعطت الحكومة 163 ألف رخصة لإنشاء محال وأماكن قيمتها 546 مليون ريال.
وبلغ طول الخطوط الحديدية في هذه الولايات سنة 1907: 237 ألف ميل أي 381 كيلو متر لها 55، 388 قاطرة و 2، 126، 00 مركبة فيها من المستخدمين 1672، 000 يقبضون 1072 مليون دولار مشاهرات وبلغ عدد من نقلتهم تلك الخطوط من الركاب 874 مليوناً وثقل البضائع 1796 مليون طن وثقل الطنات الألفية (الألف 1608 أمتار) 236 ملياراً ورأس مال شركات السكك الحديدية 16 مليار دولار وصافي ريعها أربعة في المئة. وفيها ما عدا هذه السكك الحديدية 38812 ميلاً من الخطوط الكهربائية.
وبلغت صادرا الولايات المتحدة سنة 1908 1194 مليون دولار والواردات 1860 ومجموع تجارة أميركا الخارجية 3315 مليوناً.
وكل هذه القوة الاقتصادية ليست بشيء لو لم تكن الأخلاق أساس عظمتها الاقتصادية وقد أخذ مقام المفكرين والعالمين يعظم في أميركا كما عظمت منزلة رجال المال والأعمال والصناعة والتجارة.
وكثير من سكان المدن يعنون بالموضوعات الأدبية والفنية والعلمية وأصبحت بعض المدن مثل بوسطون التي هي مقر الحركة العقلية منذ زمن طويل ميدان الآداب والعلوم. وأن كثيراً من الأسر لينزلون مدينة واشنطون عاصمة الولايات المتحدة في سياستها ويعيشون فيها بعيدين عن اضطرابات نيويورك وسان لوي وشيكاغو. وليس للأميركان مثل فرنسا بلاداً يغترفون منها مادة علم ولا يجدون بلداً مثل فرنسا تتلقاهم بقبول حسن وتوفر الإرادات على حبهم. وفرنسا تتعلم كذلك من نشاط رجالهم فكما أن طلابهم يجدون في بلادنا ما يتعلمونه كذلك أولادنا يستفيدون من تعلمهم في كليات أميركا فينشأون بين شبان يشعرون(46/40)
منذ صغرهم باستقلال الفكر وأنهم حاملون تبعة أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
لما وصل النقل إلى هذا الحد وقف القلم فذكرت شيئاً من حال الشرق. ذكرت حال العثمانيين والإيرانيين وأنهم وإن كانوا من أمم مختلفة فجامعتهم الكبرى وهي الإسلام لا تقول بجنس ولا عنصر فلو كنا وكانوا عَلَى شيء من العلم الحقيقي أما كنا ندعو إلى إنشاء جمعية عثمانية أيرانية كما ينشئ هانوتو اليوم جمعية فرنسوية أميركية.
ولكن ضعف عقول رجالنا ورجالهم وتعصبنا وتعصبهم وجهلنا وجهلهم لا تلبث أن تنفجر براكينها إذ ذاك ويتذرع بعضهم بالسياسة يتوكأون على عكازها لينافروا بين القلوب ويفرقوا بين أبناء الأب الواحد وهناك تدخل الدول ذوات الشأن والغايات في البلادين وينفخن في أبواق الشقاق مستعينات ببعضنا عَلَى البعض الآخر. وإن العاقل ليربط عَلَى قلبه بيده عندما يفكر في عاقبة سعي الجهلاء لإبقاء سوء التفاهم بين العثماني والعثماني فكيف يتمنى هذه الأمنية البعيدة اليوم من ربط العثماني بالإيراني. فاللهم علمنا علماً نحسن به التفاهم حتى يتآخى الشرقيون كما يتآخى الغربيون.(46/41)
سير العلم والاجتماع
عادات الكتاب
لكل كاتب عادة في كتابته هي الزم له من شعرات فصه لا يستطيع بدونها أن تفتح قريحته فإن تربستان برنارد يخلع أكمام قميصه وقت الكتابة وقبته ثم يكتب بدون أن يحذف حرفاً فإذا ما تشتت ذهنه يمسح قلمه بلحيته الجميلة الطويلة وأديمون روستان الشاعر يخلع نظارته عن عينه الواحدة. وراول بونشون لا يفتح عليه في محل القهوة كما يقال بل يأخذ شراباً منبهاً ويكتفي أحياناً بنسخ الأشعار التي يعميها (يخربشها) بقلم رصاص في دفتر له صغير. ويكتب موريس باريس بالحبر البنفسجي على ورق أزرق ذي حواشي من الوسط عَلَى عادة رجال السياسة وترى رسوم نسور من الذهب عَلَى منضدته التي يبلغ طولها ثلاثة أمتار. وهو مخطيءٌ في استعمال الحبر البنفسجي لأن إيبل بونارد قد عدل عن استعماله من تلقاء نفسه لأنه يتغير كلما قدم عهده وتزول كتابته التي خلعتها أنامله في أسرع وقت. ولا يكثب جول كلارسي مقدمات الكتب التي تعرض عليه إلا إذا لبس طاقيته واكتسي بصدرته. ولا يخط جان ريشبن كلمة قبل أن يتزيا بمشلح صنع من جوخ أحمر وكذلك الكونت مونشكيو يلبس قميصه الروماني وهو مستطيل أبيض وطرز بالزرقة والحمرة. وكثر هانري باتايل من صرف الأقلام والأوراق وتشمئز نفسه من صرير القلم ويود لو تيسر له ورق من الجلد الرقيق. أما بول بورجيه فلا يكثب ولكنه يملي عَلَى إمناءِ سره فيكتبون بسرعة وقد أملى روايته الباريكاد الأخيرة على رجل بنديكي هو أمهر في الاستملاءِ من خطاطي القرن الخامس عشر ويستعمل فيليه كريفن الغليون للتدخين أثناءَ الكتابة عَلَى أنه لا يدخن إلا اللفائف.
ويحس بول هرفيو نفسه عندما يريد معالجة القلم وأرنست لاجونس لا تسيل قريحته إلا أمام الناس ومارسيل برفوست بشرب الشاي ويشرب كابوس شراب الكينا وهانري لافدال الماءَ المعدني. هذه عادات بعض كتاب الفرنسيس المشاهير.
قاطرة كبيرة
صنعوا في أميركا قاطرة ثقلها ثلثمائة طن لها 16 دولاباً و10 محركات وطولها 32 متراً ويمكنها أن تحمل 18150 لتراً من البترول و540 هكتولتراً من الماء بحيث يتأتى لها أن(46/42)
تسير بدون وقوف وهي خاصة لنقل الركاب وقطر عجلاتها متر و83 سانثيماً وهذه القاطرة تسير بالبترول لا بالفحم الحجري.
الفراعنة والفينيقيون
نشرت المجلة الآسياوية الفرنسوية بحثاً في علاقة المصريين بسورية في القديم جاءَ فيه أنه كتب في ورقة البردي المحفوظة في متيحف برلين المعروفة باسم وقائع سنوحيت أن رجلاً من سادات مصر غادرها سراً من نحو ألفي سنة قبل المسيح عَلَى عهد أمنماحيت الأول ولجأَ إلى الحدود الآسياوية إلى إقليم اسمه كدم وهو جزء من تونو الأعلَى وقد كرم أمير تونو وفادة سنوحيت واسم الأمير أموياناسحي الذي قال له أنك ستكون عندنا عَلَى خير حال لأنك تسمع بيننا أناساً يتكلمون باللغة المصرية وقد وصف هذا المصري مقامه في ذاك الصقع ووصف خيراته ونعمه وبعض عاداتهم التي لا تخرج عن عادات البدو هذه الأيام في غزواتهم وغدواتهم وروحاتهم. ويقول بعض علماءِ الآثار أن بلاد تونو التي وصفها المصري مخففة من لوتانو وهي الأرض الواقعة بين البحر الميت وصحراء جبل سينا ويؤيد ذلك ما ورد عَلَى إحدى المسلات الرسمية المؤَرخة من زمن أمنماحيت الثالث أن أهل سينا كانت لهم صلات مع أخي زعيم لوتانو.
وجاءَ في اكتشاف حديث من أوراق البردي اسم مدينة كبني وجبلى وجبيل وهي كما قال ماسبرو مدينة بيبلوس على شاطيء سورية وبيبلوس هي مدينة جبيل في جبل لبنان وأن في ضواحي هذه المدينة يجب أن تكون مشاهد المدينة الرعائية التي وصفها سنوحيت فإذا صح هذا فتكون فلسطين عَلَى عهد السلالة الثانية عشرة المصرية متأخرة العمران إذ لم يكن في داخل البلاد مدن وأهلها يعيشون عيش الرعاة والرحالة وهذا الرأَي لا يخلو من صعوبة عَلَى من يحتجون بورقة البردي المحفوظة في برلين ومنها يفهم أنه لم يكن بين السلالة الثانية عشرة المصرية وبين السلالة الثامنة عشرة سوى قرنين إذ ظهر من الرسائل التي عثر عليها في تل العمارنة مؤَخراً أن فلسطين كانت خاضعة للحياة البلدية ولوصولها إلى هذه الحياة والنظام يقتضي لها أكثر من قرنين من الزمن. عَلَى أن بيبلوس كانت في الزمن المذكور آنفاً معروفة عند المصريين إذ قد اكتشف مؤَخراً على ذكر حملة مصرية إلى بيبلوس على عهد السلالة المصرية القديمة أي قبل بضعة قرون من رحلة سنوحيت.(46/43)
وذلك أن المصريين لما بدأُوا عَلَى عهد توتيمس الأول أي نحو سنة 1550 قبل المسيح بغزواتهم التي أدت بهم من سواحل سورية إلى وادي الأُردن فشواطيءِ الفرات قد استولوا قروناً عَلَى إقليمي لوتانو وخارو ولما توطدت أقدامهم فيهما حملهم حب الاكتشاف إلى التقدم إلى الأمام فقصدوا نهر الفرات الذي وصفه توتميس الأول في مسلة تومبوس بأن الماء يتراجع فيه ثم ينزل وهو صاعد ثم قصدوا غابات لبنان حيث وضع الشريف سنوفري أحد جلساء توتميس الثالث خيمته في علو شاهق فوق السحاب ثم تقدموا إلى الغابات وكانوا يأتون إلى بيبلوس بأحسن الأخشاب التي بلغ طولها 60 باعاً مصرياً (نحو 31 متراً) وكان ساقها غليظاً حتى نهايته وكانوا يحملون خشب الأرز من جبيل إلى مصر. فكانت هذه البلاد مسرحاً للصيد والغزو وقد كتب قدماءُ المصريين وقائعهم وأساطيرهم في هذا الشأْن ولم ينته إلينا إلا القليل منها ويقل فيها وصف البلاد التي كانت تجري الغزوات فيها ومما وصلنا قصة قائد المشاة على عهد توتميس الثالث وكيف استولى بأعمال الحيلة عَلَى الزعيم الثائر في ثغر يافا وكيف ضربه بعصا فرعون الأكبر ولكنه لم يرد في هذه القصة وصف يافا وإقليمها.
ويفهم من مجموع الأساطير والرحلات الباقية أن فرعون مصر كان يبعث بأعوانه يطوفون البلاد بلداً بلداً في آسيا ليطبعوا النفوس عَلَى احترامه وذكروا فيها ما لقوه من النصب في أسفارهم ولا سيما في اجتياز الغابات والشواطيء الجبلية أو القفار التي تفصل بين المدن المذكورة وبينهم مثل جبيل مدينة الآلهة ومدينة صور حيث كان السمك أكثر عدداً من الرمل والماء يحمل إليها في قوارب من اليابسة.
وقصارى القول أن أبناء الرحلات التي رحلها المصريون عَلَى عهد الرعامسة أخلاف رعمسيس قد وصفوا آسيا وصفاً خيالياً تكاد لا تكون له صبغة خاصة ليس فيها إلا حروب ورحلات وحب وعشق. وفي أوراق البردي التي قرئت من مجموعة كولانيشف وصف رحلة مصري إلى آسيا في القرن الحادي عشر قبل الميلاد وهي عبارة عن رحلة تاجر. وذلك أن رجلاً اسمه أونامونو عميد قاعة الكرنك في السنة الخامسة من حكم رعمسيس الثاني عشر وفي الزمن الذي كان فيه الكاهن الأعظم للرب عمون واسمه هريهور يحكم في طيبة وكان سمندس أول ملوك التانيتيين يحكم الدلتا وعاصمة مدينة تنيس ركب أونامونو(46/44)
البحر إلى سورية للبحث عن الخشب اللازم لإنشاء قارب الرب عمون را فوقف أولاً عَلَى دور إحدى مدن زقالا في شمالي يافا ثم بلغ مدينة صور ثم جبيل ثم بلاد الأزيا وهي ليست محققة فبعضهم يقول أنها قبرص والآخر يقول أنها في مضيق نهر العاصي. وذكر هذا السائح أن أحد الملاحين سرق له أواني وسبائك ذهبية ولم يستطع أن يأْخذها منه في دور ولا في صور حتى إذا بلغ جبيل وقابل أميرها ذكر له هذا ما كان فراعنة مصر يبعثون به لآبائه من الهدايا وأنه لا يتيسر له أن يقبله بدون هدية مصرية تذكر واراه جريدة الهدايا التي كانوا يبعثون بها ولما وعده بمثلها عَلَى أن يرسل أناساً من قبله إلى ملك تنيس أمر له بثلثمائة رجل من رجاله وثلثمائة ثور وبعض ضباط لقطع الخشب من الغابات ليحمل من قابل على القوارب إلى مصر ثم استعمل أمير جبيل جفاء في مخاطبته رسول مصر وأخافه لما أَراه ما حل بمن جاء قبله من قبل الفراعنة بدوس أرض بلاده وأجداده وكل هذا مما يستأْنس به في العلائق التي كانت منذ القديمين المصريين والفينيقيين وإن فراعنة مصر عَلَى قوتهم وغناهم وأربلبهم وكهنتهم وسحرتهم لم يكونوا يرهبون سكان صور ودور وجبيل بل كان المصريون لا يقطعون الخشب من غابات لبنان إلا بما يقابلها من الهدايا والتحف المصرية ويؤخذ من كل هذه الروايات أن قدماء المصريين لم تكن لهم معرفة أكيدة إلا عن سورية أو الأصقاع القريبة منهم ولم يكن لهم معرفة أكيدة إلا عن سورية أو الأصقاع القريبة منهم ولم يكن لهم معرفة فيما وراءَ لبنان معرفة ينتفع بها في التاريخ الصحيح.
مكتبة الإسكندرية
كتب عبد الوهاب أفندي سليم التنير في مجلة النبراس بحثاً في موضوع حريق مكتبة الإسكندرية جاء فيه نقلاً عن كتاب ارتكابات الأوروبيين لصاحبيه جورج فوت وجمس أهلويلر ما تعريبه بالحرف.
لقد قام الإفرنج بحرب طاحنة عَلَى الوثنيين وسفكوا الدماء وقد أمر الإمبراطور تيود وسيس بتحطيم أصنام الوثنيين وغيرها مما هو للوثنيين فقام بطريرك الإسكندرية وقاد أُمته وذهب بها إلى هيكل سيرابيس فدمروه ولما انتهى من خراب هياكلهم ذهب إلى المكتبة وأحرق ما فيها من الكتب حتى أصبحت رفارفها فارغة فلم يرها أحد بعد ذلك إلا تأسف(46/45)
عليها غاية التأسف. فالذي أحرق مكتبة الإسكندرية هو البطريرك ثيوفيلوس بأمر الإمبراطور ثيوديس قبل دخول المسلمين إلى إسكندرية بسنين كثيرة ومعلوم أن الدين الإسلامي يمنع إحراق الكتب.
وقال في كتابه المسمى (خرافات الأوربيين) ما ترجمته ملخصة: إن المكتبتين اللتين اسمهما البطالسة في الإسكندرية كان إحراقهما عن يد جيوش قيصر لما حاصر الإسكندرية وللتعويض عن هذا الخطأ أُهديت المكتبة التي جمعها يومياس ملك برغامة إلى الملكة كليوبطرا عن يد الملك أنطوني لكن حكم الدهر أو الجهل أن لا تبقى هذه المكتبة العظيمة أجيالاً فقد أحرقها البطريرك فيوفيلوس وأقام عَلَى أنقاضها كنيسة سماها كنيسة الشهداء.
وجاء في دائرة المعارف طبع تشمبيرس وشركائه في المجلد الأول عند كلمة الإسكندرية ومكتبتها: ولما حاصر يوليوس قيصر مدينة الإسكندرية احترق قسم عظيم من هذه المكتبة غير أنها أُعيدت إلى ما كانت عليه بسبب الكتب التي جمعها ملك برغامة وأهداها إلى الملكة كليوبطرا وقد بقيت إلى زمن سيوديسيس الكبير ولما أمر هذا الإمبراطور بهدم معابد الوثنيين في أنحاء المملكة كافة هدموا هيكل سيرابس حيث المكتبة موجودة فهدموا الهيكل وأحرقوا المكتبة في سنة 391 بعد المسيح وليست العرب هي التي أحرقتها كما ينسب إليهم زوراً وبهتانا. وقال جون مسبرك في كتابه المسمى الإدعاآت الكاذبة: (إن الإفرنج هم الذين أحرقوا المكتبة الإسكندرية والمسلمون هم الذين أدخلوا العلم إلى أوربا) وقال المسترهلسلي أستيفونس في كتابه المسمى التفكر والأديان: (لقد أَحرقت مكتبة الإسكندرية أيدي الجاهلين وهي مكتبة مهمة وبفقدانها فقد العلم وبقيت أوربا تتخبط في ظلمات الجهل إلى أن أنارها المسلمون بعلومهم) وقال بيتنس في دائرة معارفه: (ولما افتتح يوليوس قيصر مدينة الإسكندرية احترقت المكتبة الأولى وبقيت المكتبة الثانية التي أُسست بعدها وقد زادت كتبها بالمجلدات التي أُهديت للملكة كليوبطرا عن يد مارك أنطوني وصارت أعظم من التي احترقت وبقيت إلى سنة 390 بعد المسيح حين قام الإفرنج على الوثنيين وهدموا معابدهم التي كان في جملتها هيكل سيرابيس وأحرقوا المكتبة) وقال جورج مرتين في كتابه درياق الخرافات ما ترجمته بالحرف: يا ترى ماذا صار بمكتبة الإسكندرية قل لقد أحرقها المتوحشون من الإفرنج بأمر ثيودوسيوس سنة 390 بعد المسيح. وهذه الكتب(46/46)
الصامتة التي أُحرقت تشهد على الكذب الذي اختلقوه في رومية وقالوا أنها أُحرقت بأمر الخليفة عمر بن الخطاب ولقد نسبوا هذه النسبة الكاذبة الخاطئة إليه زوراً وبهتاناً.
وقال فوت واهوبلر في كتابهما ارتكابات الإفرنج: قضى ثيودوسيوس عَلَى ما كتبه بوفيري كافة من كتب العلم بواسطة الإحراق وأمر أيضاً بإحراق كل الكتب التي تشتمل عَلَى شيء يخالف معتقدهم وقال أيضاً: والذي أحرق مكتبة الإسكندرية هو ثيوفيلوس لا المسلمون لأنو الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب وعدا هذا فإن المؤرخين الأول كافة الذين كانوا في عصر بدءِ الإسلام لم يذكروا مكتبة الإسكندرية قط مع أنهم ذكروا أموراً وشؤوناً طفيفة لا يؤْبه لها.
وقال المطران يوسف الدبس في كتابه تاريخ سورية بعد أن ذكر ما ذكره لبعضهم من كيفية إحراق مكتبة الإسكندرية ونسبتها للمسلمين: روى هذه القصة كثير من المؤرخين النصارى وبعض المسلمين أيضاً عَلَى أن المدققين لم يقطعوا بصحتها.
وقال رنان في خطاب له في العلم والإسلام: لقد قيل أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية وهذا كذب محض والمكتبة المذكورة قد أُحرقت قبل زمانه بسنين عديدة.
وقد أورد الباحث نقولاً عن علماء الإفرنج يزيفون أقوال بعض أرباب الأهواء في نسبة الحريق للمسلمين ويبينون مأْخذ عبد اللطيف البغدادي وابن القفطي وابن العبري والحاج خليفة وليس لمكتبة الإسكندرية ذكر في عبارة أبي الفرج بن العبري الأصلية السريانية والنسخة العربية منقولة عنها كما أن بعض الخطوطات من تاريخه العربي لا أثر لهذه الرواية فيها والحاج خليفة لا ذكر للإسكندرية ومكتبتها في كتابه والبغدادي والقفطي نقلا عن رواية دسها عليهم بعض المتعصبين أو دسوها في عباراتهما. والمبحث مهم في ذاته يبين تعصب الإفرنج عَلَى الإسلام وبه يتم هذا المبحث الذي نشر المقتبس فيه عدة أبحاث أيضاً في سنيه الثلاث الأولى.
حياة الرسول
ينشر المسيو فيكتور شوفين من المستشرقين البلجيكيين منذ مدة كتاباً في أجزاءَ كثيرة يأْتي فيه عَلَى أسماء الكتب العربية التي نشرت في أوروبا المسيحية منذ سنة 1810 إلى 1885 والجزء الحادي عشر منه هو في الكتب والرسائل التي نشرت بشأْن الرسول (عليه(46/47)
الصلاة والسلام) وعددها ثمانمائة كتاب ورسالة وربما نشر بعض الجمل المهمة منها. نشر الآراء عَلَى اختلافها ولم ير بأْساً من الإشارة إلى الكتب التي كتبت في القرون الوسطى عَلَى خاتم النبيين أيام كانت علوم أوربا وكلياتها وجامعاتها بيد رجال الدين فقط.
انكلترا والشرق
شعرت انكلترا بتخلفها عن أمم الغرب الراقية في معرفة علوم الشرق ولغاته فرأَت أن خير ذريعة لذلك إنشاءُ مدرسة للغات الشرقية الحية حتى لا تنازع نفوذها دولة في الشرق ولا سيما في الهند فعهدت إلى لجنة النظر في ذلك فقررت إنشاء مدرسة لهذا الغرض تضاف إلى كلية لندن عَلَى أن تكون مستقلة بأعمالها يتخرج فيها الموظفون والضباط الذين ترسلهم إلى الشرق بعد أن يتمكنوا من اللغة التي يريدون الخدمة بين أهلها لا أن يكتفوا كما كانوا باستظهار بعض الكلمات والجمل المحرفة. قال الأستاذ هدلم إن الواجب يقضي أن يكون الرجل الذي يذهب إلى الخارج مقتدراً عَلَى التكلم كما يتعلم الرجل المنوّر الفاضل ويكون شعوره وفكره كذلك لا إن يذهب فقط يتكلم التركية كما يتكلم بها جمال. وقد سئلت الحكومة في مجلس النبلاء عن الغرض من هذا العمل فابانت فوائده وعضده لورد مورلي حاكم الهند ولورد كرزون حاكمها السابق ولورد كرومر حاكم مصر وأبانوا النتائج الحسنة منه وقد استقلت بعض الجرائد المبالغ التي خصصت لذلك ولكن التيمس قالت إن هذه النبتة ستكبر من نفسها فإن المملكة البريطانية التي يتكلم باللغات الأجنبية ثلاثة من كل أربع من سكانها سيشير لها ذات يوم أن تنفق في سبيل تعلم اللغات مثل ما تصرف ألمانيا وفرنسا.
العلوم والتربية الوطنية
كتب المسيو إبيل في مجلة الأفكار الحديثة مقالة تحت هذا العنوان قال فيها: لكل أمة في كل عصر من عصورها نمط من التربية تختارها متناسبة مع حالتها الفكرية وحا أنها وضرورات بقائها والدفاع عن حوزتها وتأييد كلمتها وبيد الحكومة تحقيق هذا النموذج وتعيينه. نحن أمة ديمقراطية فيجب أن تكون غاية تعليمها الوطني أن يهي للأمة بأسرها أسباب حكم نفسها بنفسها وأن تعمل أصلح الأعمال بأقل جهد ويضمن لكل واحد أن يكون ما أمكن ممتعاً بشخصيته مطبوعاً بطابع الواجب الاجتماعي والواجب الوطني فيوجه إلى وجهة واحدة العنصرين اللذين بهما تتعلق حياة البلاد وأعني بهما نشاط الأفراد وهو موجد(46/48)
القوة وفكر الاشتراك الذي يدعو أبناءَ النبعة الواحدة إلى التكافل والتضامن في أعمالهم ويكون رائدهم الوئام لئلا يدخل فيهم الخصام والانقسام بكون تعليمهم حقيقياً كما يقول الألمان ونافعاً في مجموعه وجهته بحيث ينبه في كل مكان روح التفكر والاعتماد عَلَى النفس والإقدام على العظائم.
إبان البحث في المدنيات القديمة التي كان أساسها حتى الآن من الفلسفة أو من الدين إن الإلحاد والاعتقاد لم يستطيعا أن يؤلفا وحدة باقية بين فكر الاشتراك وعمل الفرد وإن تربية هذا أساسها تؤَدي عاجلا أو آجلاً إلى الضعف والاختلال ولا سيما في العصر الحاضر فإنها تؤَدي إليهما أكثر من الحرية الغير المحددة في التفكر والكتابة ونشر الآراء عَلَى اختلاف أنواعها بواسطة الصحافة الرخيصة. وليس كالعلم دواءٌ أنجح من هذا الداء فالعلم منبع التفكر والعمل والإخلاص الذي لا يطلب به صاحبه غرضاً وبالعمل النافع وبطريقة العلم تنتظم الأفكار العامة بنظام حسن وبها تضمن له وحدة الاتقاء مع ترك الحرية المطلقة لفكر الفرد. وبطريقة التعليم ينتفع من المتوسطين في ذكائهم المواظبين على أعمالهم فيخدمون خدماً حقيقية في الأعمال الصناعية والزراعية. إن صاحب الذكاء الحدود إذا جمع إليه عامة صفات العمل المتصوَّر لا يكون منه في الأدب ولا في الفلسفة إلا أمور تافهة. وعندما يجيءُ زمن تزول فيه كل سلطة قائمة عَلَى العهود الاجتماعية يؤَسس العلم سلطة لأراد لحكمها ولا أسطع من نورها تنشأُ عَلَى أصول راسخة عَلَى الأكفاء العاملين. وبتنظيم طريقة التعليم يجتنب الإسراف في الوقت والقوة بتلقين عادات التؤدة والنظر والتدقيق والبساطة في الأذواق منبهة شعور الظلام والجهل مع الرغبة في إمحائهما داعية المرءَ بما فيه من الصفات الأخلاقية والعقلية لا بما فيه من القوى الطبيعية ووجدانه في العمل وصدقه في الحكم وطريقة التعليم تورث العقل نظاماً وتعود الفكر عَلَى البحث والقلب عَلَى الصبر والجسم عَلَى النشطة وهي الكفيلة بتربية أبناءِ المدينة الفاضلة.
ولقد اضطر المربون الأول في فرنسا أن يقبلوا إرث اليونان والرومان في العلم عَلَى ما فيه من الجاذبية والمخاطر وكانت دراسة اللاتينية أولاً فرضاً ثم ضارعتها اللغة اليونانية وحذفت من الدروس تعلم اللهجة الفرنسوية وظلت المناقشات السفسطائية والجدالات المذهبية زهاءَ ألف سنة مستولية عَلَى القوى العقلية في الأمة فأصبحت الواسطة غاية(46/49)
وكان النقد الأدبي أول ما يعنى به فلم يكن للعلوم مقام في تعليم محدود بهذا القدر بل أنها أصبحت مجهولة في الأديار مهملة في الكليات وتابعة للفلسفة السكولاستيكية ولما غدا النظر في الطبيعة لا يعد سحراً أمسى العمل يوصم بوصفة الكفر ولكن النقد الأدبي ظل هو العلم ولم يقدر هذا إلا في أواخر القرن الثامن عشر أن يكون له كيان أمام ما كان يعتقد أنه علم وليس هو منه في شيء.
وتكلم عَلَى التعليم في فرنسا وقسمه إلى ابتدائي ووسط وعالٍ وقال إن تعليم اللغة الفرنسية المقام العالي لأنه من البين أن أصل كل تهذيب يجب أن توضع معرفة لغة الإنسان في المقدمة معرفة حقيقية وقال إن العلوم الأدبية في درجات التعليم الثلاث هي موضوع الاهتمام والعناية ودارسوها أكثر من دراسي العلوم مع أن حضارة هذا القرن تقضي بأن تكون العلوم قبل كل شيء هي المعول على دراستها. فالأدب عند الفرنسيس هو الملجأُ المضمون لكل فرنسوي هو ملجأُ الأطباءِ الذين لازُبن لهم والمصورين الذين يئسوا من الكسب والضباط الذين عزفت نفوسهم من خدمة الجيش بل وكل من خانتهم قواهم ولم يجدوا لهم عملاً.
الأخلاق الحربية
قوة كل أمة بقوة أفرادها وجنديتها مناطة بقوة عضلات من تتألف منهم أكثر من كثرة عددهم فالجيش الألماني غلب الجيش الفرنسوي في حرب سنة السبعين بقوة أفراده وتنظيم كتائبه وأسباب راحته مع أن فرنسا كانت إذ ذاك تخرج من الجند عدداً أكبر والسر في تغلب الجيش الياباني عَلَى الجيش الروسي هو أنه مؤَلف من جند مختارين فيابان وهي أربعون مليوناً لم تخرج سوى ثلاث عشرة فرقة من أبنائها لحمل السلاح في حين أن تسعاً وثلاثين مليوناً من الفرنسيون يختارون لحمل السلاح من 42 إلى 45 فرقة أي ثلاثة أضعاف ما تخرج اليابان هذا مع أن الصناعات تكثر في يابان كثرة زائدة ومعلوم انحطاط قوى الصناع عن الزراع فيما يتعلق بالشؤون الحربية. وقد انحطت قوى الجند الفرنسوي اليوم عن مثلها منذ خمسين سنة كما يرى ذلك الضباط عياناً عند ما يقضي عَلَى الجند أن يعلموهم ويشغلوا أذهانهم كما يشغلوا عضلاتهم فليس الاستعداد العسكري هو الذي يرغب فيه بل تربية الجنس تربية طبيعية.(46/50)
أما الانكليز فقد امتاز جندهم بطول القامات وصباحة الوجوه وحمرة الخدود ومن جال في انكلترا بل في البلاد التي استعمرتها هذه الدولة يتجلى له أنها توصلت بالمحافظة المعقولة عَلَى صحة أبنائها وبكثرة تمرينهم عَلَى الألعاب الرياضية حتى أصبح لديها جند مختار.
دربوا البشر كما لدرب الخيول المطهمة وهل الإنسان إلا حيوان ناطق ولقد قال روسكين فيلسوف الإنكليز المشهور أن نتيجة كل ثروة إخراج خلق كثير من تكون صدورهم متسعة وعيونهم حادة براقة وقلوبهم فرحة.
فاليابان هم أكثر الأمم عناية بالأمور الصحية وليست عنايتهم بها دون عنايتهم بتلقين العلم حتى إن بعض الدساكر والقرى من أواسط بلادهم قد حملت كلها السلاح للدفاع عن الوطن عندما نادى نذير الحرب. وكم من أمة جادت صحتها وقويت عضلات أبنائها ونشأَت فيها الأخلاق الحربية بفضل الرياضة المعقولة ومن تلك الأمم السويد فإنها كانت منهوكة القوى بالكحول فأبطلتها وما هو إلا جيل وآخر حتى أصبحت أمة قوية العضلات آية في الكر والفر ومثل ذلك رومانيا التي انبعثت فيها الحياة بعد أن كانت خمسة عشر قرناً ميداناً للغارات الكثيرة ولحكم الغرباء عليها فجعلت منذ ثلاث سنين التعليم العسكري الاستعدادي إجبارياً في جميع المدارس الابتدائية والثانوية والصناعية والعامة والخاصة يتولى ذلك معلمون يعينون خاصة لهذا الغرض وكثيراً ما يعضدهم الضباط.
وجرى الطليان منذ سنتين عَلَى نشر مباديء الرماية والتعليم الطبيعي لتعد الشبان للخدمة العسكرية وتحافظ عَلَى ما تعلمه من التدريب الحربي من ليسوا تحت السلاح من أبناء إيطاليا ويكون التعليم إجبارياً في المدارس الابتدائية والوسطى بل في الكليات يعنى فيها عناية خاصة بمن يترشحون ليصبحوا أساتذة فيزيدون لهم درساً في حفظ الصحة والتعليم الطبيعي حتى لقد أصبحت مدارس المعلمين الثلاث في تورين ورومية ونابلي عبارة عن مجامع علمية لتخريج أساتذة. وعنيت البلجيك منذ سنة 1908 بأن أضافت إلى مدرسة الطب في كلية غاند مجمعاً علمياً عالياً للتربية الطبيعية واخترعت شهادات للمتخرجين في التربية الطبيعية.
ولم تعمل بلد من بلاد الأرض ما عملته سويسرا في مسألة التربية الطبيعية للشبان وتدريبهم عَلَى الفنون العسكرية فقضت على كل طفل منذ سن العاشرة إلى خروجه من(46/51)
المدرسة الابتدائية أن يحضر درساً في الرياضة الاستعدادية للخدمة العسكرية ويقوم بهذه الدروس أساتذة يتعلمون التعليم الكافي في دور المعلمين من كل إقليم وفي مدارس الجند. ويبلغ عدد المجندين كل سنة من 16 ألف إلى 18 ألف جندي تعلم نحو نصفهم الرماية من قبل.
وأُنشئت في فرنسا جمعيات لإعداد الشبان للخدمة العسكرية والجيش حتى قال أحد القواد لأحد رجال سياسة فرنسا (هيأُوا لنا رجالاً لنجعل منهم جنداً) ومن هذه الجمعيات جمعيات الرياضة البدنية والتعليم والاستعداد العسكري والرماية والسيف والترس والبوكس والصراع وركب الدراجات والعوم إلخ. بلغ عدد أعضائها كلها 900 ألف رجل وامرأة من أعمال مختلفة ومظاهر وطبقات متباينة والحكومة تساعدها فتعطيها مليوناً وسبعمائة ألف فرنك كل سنة فضلاً عن وارداتها التي هي خمسة ملايين فرنك عدا ما يرد عليها من إعانات الأقاليم.
المجالس النيابية
مضت العشر سنين الأولى أو العقد الأول من القرن العشرين وقد كثرت المجالس النيابية أو امتدت سلطة الموجود منها ففي 10 أيار 1900 افتتح أول مجلس نيابي لجمهورية أوستراليا وفي 21 آذار 1907 افتتح مجلس جمهورية الترنسفال واجتمع في جتينة عاصمة الجبل الأسود منذ شهر تشرين الثاني 1906 إلى شهر نيسان 1907 أول مجلس نيابي فيها ولم تطل مدة الدوما الأولى الروسية سنة 1906 سوى مئة يوم وحدثت بعدها الثورة ثم خلقتها الثانية والثالثة وأُصيب القانون الأساسي في فنلندا سنة 1908 بما كاد يقضي عليه ثم عادت إليه حياته في الحال وبعد أن كان الدستور في الصرب والبلغار ساقطاً غير معمول به زمناً مثل دستور البرتقال عادت إليهما حياتهما بموت الملك إسكندر وكارلوس وافتتح الشاه المجلس النيابي الفارسي ثم أطلقت عليه القنابل وقتل أحرار الأمة الفارسية بيد المعطلين منها وسرت روح التجديد إلى البلاد العثمانية فأعيد قانونها الأساسي إلى العمل به يوم 23 تموز 1908 وفي هذه السنة أعلن القانون الأساسي في الصين.
وما برحت المجالس النيابية معرضاً للتبديل والتغيير فتوسعت السويد بدستورها الذي نشرته سنة 1866 وقبلت بالانتخاب العام كما قبلت النمسا والدانيمرك (1907 ـ 1908)(46/52)
وأصلح مجلس الرشسناغ في برلين بعض خصائصه مثل مجلس همبورغ والإلزاس لورين والمجر وأصبحت فنلندا تنتخب إلى مجلسها النيابي اثنتي عشرة امرأَة منذ سنة 1907 وكذلك تريد أن تطرس على آثارها النروج والدانيمرك والولايات المتحدة والبلجيك وإيطاليا واسبانيا ليشارك النساءُ الرجال في التشريع لبلادهن.
ثم إن أول مجلس نيابي أي مجلس لندرا لم يخل من إدخال بعض إصلاحات عليه مثل مطالبته بإعطاء إيرلندا استقلالاً إدارياً وربما منح مصر مجلها النيابي لولا شؤُون وشجون كما أن مجلس النبلاء يوشك أن يدخله إصلاح ديمقراطي ثم إن النيابة الاسمية في الآراءِ قد انحلت مسألتها في نوشاتل وجنيف وتسين والبلجيك واسبانيا والبرتقال والدانيمرك والسويد وايلينوا وكليفورنيا وبرازيل ومملكة بونس أيرس ومملكة الرأْس كما أدخلت إلى فرنسا وإيطاليا وبعض الأقاليم السويسرية بعض التعديل في النيابة ونالت البوسنة والهرسك من دولة النمسا والمجر بعد انسلاخها رسمياً عن المملكة العثمانية مجلساً نيابياً أيضاً.
غلاء الحاجيات
تصاعدت أثمان الحاجيات في الغرب وأكثر بلاد الشرق منذ عشر سنين إلى الآن فارتفعت أسعار البقول ثلاثين في المئة وأسعار الحبوب عشرين والزيت خمسة عشر والسمك البحري عشرة والسمك المقدد خمسة وثلاثين والقهوة والشوكولاتا خمسة وعشرين والشحوم أربعة وثلاثين. وقد قسم بعض الباحثين بلاد العالم في غلائها إلى ست مناطق فجعل في المنطقة الأولى بلاد البلجيك واسبانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ والبرتقال وسويسرا وفرنسا. وفي الثانية ألمانيا وبافيرا والدانيمرك والجبل الأسود ونروج وأسوج وفي الثالثة النمسا وبريطانيا العظمى واليونان والمغرب الأقصى وهولاندة ورومانيا والصرب والعثمانية. وفي الرابعة مصر وإيران وروسيا. وفي الخامسة أوستراليا والصين وكوريا والهند الانكليزية والهند الهولاندية واليابان وسيام. وفي السادسة إفريقية الشمالية والغربية وأميركا الشمالية وكندا وجزائر الانتيل وأميركا الجنوبية. وبلاد الترنسفال أكثر بلاد الأرض غلاءً لأن الذهب فيها مبذول لكثرة مناجمه فيها ويليها في تفاحش الأسعار بلاد الهند بل جميع المستعمرات الانكليزية وفي استوكهلم عاصمة السويد غلت الحاجيات وأجور المساكن إلى درجة غير معقولة فأجرة الغرفة فيها كل شهر في حي الأغنياء خمسون ليرة وبيوت هذه(46/53)
العاصمة للبلدية أو لنقابات وشركات حتى كاد العامل الفقير يهلك فيها والحكومة هناك تفكر في طريقة لتنفس خناق السكان من غلاءِ المأْكل والمسكن.
الماء الغالي
لا يخفى أن ثلاثة أرباع الجسم الإنساني مركب من الماء والربع فقط من المواد الآزوتية والكربونية وغيرها. وهكذا الحال في غذائنا وكثرة السوائل المائية فيه فإن في الكيلو من لحم البقر أو الغنم 250 غراماً من المواد اللحمية و750 غراماً من الماء ولحم السمك وهو كثير التغذية جداً يحتوي أيضاً عَلَى كمية أكثر من الماء ففيه منه من 770 إلى 780 غراماً في كل كيلو أما اللبن الحليب فيكاد لا يحتوي عَلَى أكثر من 120 غراماً من المواد المغذية والبقول أكثر مائية من غيرها فإن عشرة كيلو من البطاطا تحتوي عَلَى نحو 8 كيلو من الماء وفي عشرة كيلو من الملفوف أو الشوندر 9 كيلو من الماء.
معدل القهوة
لا يخفى أن القهوة من الأشربة المهيجة للأعصاب وإن كثيراً من الناس الذين يحبون طعمها ورائحتها الذكية تضطرهم الحال أن يحرموا منها لأنها تورثهم أرقاً واضطرابات عصبية. وفي سنة 1820 اكتشف (رونج) المادة المعروفة في القهوة واسمها الكافيين وأنها هي من أهم العوامل المؤثرة في هذه البزرة ولكن روبر هاس قد أبان أن في القهوة ما خلا الكافيين عدة مواد أكثر سمية منها وهي غير معروفة. فإن كان استعمال القهوة بكثرة أو بقلة يحدث لبعض متناوليها شيئاً من الاضطراب أحياناً فإن الدكتور كوفيه حقن أرنباً في أعصابه الوداجية بنقيع القهوة فاضطرب جسمه أولاً ثم اهتز ثم عرته تشنجات ثم الموت عَلَى أن القهوة إذا عزلت من مادتها السامة أيضاً وهي الكافيين تظل عَلَى ضررها.
وعلى هذا رأى علماء الصحة أن دعوة الناس إلى الإقلاع عن شراب القهوة من العبث ما دام استعمالها شائعاً في الأرض عَلَى ما هو معلوم وأثبتوا أنه يتأتى تناولها بدون أن تؤثر في الأعصاب إذا كانت محضرة جيداً. ولئن خلطوا القهوة بالهندباء الناشفة المحمصة أو البلوط الحمص وبذر الجاودار والتين المحروق والشيل (عرق الإنجيل) والشعير والذرة والأرز والدخن والفاصوليا والحمص والعدس والفول والبطاطا والهليون ونوى التمر والكستانة ليخدعوا الناس ولكن أحد الفرنسيس عثر عَلَى نبات اسمُه (المقري) باسم وزير(46/54)
الحربية المراكشية إذا مزج بالقهوة لا يغير من طعمها ورائحتها الذكية بل يقلل من تأثيرها في الأعصاب وثمن هذا النبات معتدل مثل الهندباء واستعمال هذا النبات معدل اقتصادي وصحي فحبذا يوم يأتينا بكثرة إلى هذه الديار.
الذهب والفضة
قالت مجلة الطبيعة الفرنسوية: بلغت قيمة ما استخرج من الذهب سنة 1909 2300 مليون فرنك أكثر من ثلثها من إفريقية الجنوبية فزاد المستخرج منه من بلاد الترنسفال وحدها ثلاثين مليوناً كما زادت كل من كندا والولايات المتحدة والمكسيك من 6 إلى عشرة ملايين أما أوستراليا فقد نزل محصولها عَلَى هذه النسبة وزاد المستخرج منه في روسيا خمسة عشر مليوناً. وقد كان المستخرج من الترنسفال 765 مليون فرنك ومن رودوسيا 64 ومن غربي إفريقية 23 ومن كندا 53 ومن الولايات المتحدة 490 ومن أوستراليا 363 ومن المكسيك 130 ومن الهند 52 ومن روسيا 171 ومن الصين واليابان وكوريا 55 ومن سائر الممالك 137.
أما الفضة فإن استعمالها يكثر في الصناعات ويقلُّ في النقود وأثمانها في انخفاض وربما انخفضت أكثر وإن كان المستخرج منها منذ عشرين سنة أقل من المستخرج من الذهب بالنسبة فيكاد وزن الفضة المستخرج اليوم يعادل ثمانية أضعاف ما يستخرج من الذهب عَلَى حين كان منذ 17 سنة أكثر من ذلك باثنين وعشرين مرة وبلغ المستخرج سنة 1909 من الفضة 6600 طن أو 214 مليون أونس أو نصف الأوقية وقد كانت الولايات المتحدة الأولى في كثرة ما يستخرج منها فأصبحت منذ ثلاث سنين الثانية وزاد المحصول في المكسيك ضعفين كما كثر في كندا ولم تكن مناجم الفضة معروفة فيها قبل سبع سنين وتستخرج الفضة من مقاطعة كوبات في ولاية أونتاريو كما يستخرج من بروكن هيل في شاطيء أوستراليا الجنوبية وغاليا الجديدة في الجنوب.
والطلب قلَّ عَلَى الفضة لأن الممالك الكبرى لا تبتاع منه إلا ما تصوغ منها نقوداً ونصفه يصرف في بلاد الصين والهند فإن بلاد الهند وحدها تبتاع 2870 طناً للحلي حتى أن حكومتها اضطرت أن تضرب رسماً فاحشاً عَلَى الوارد منها أي 17 في المئة لسد العجز الذي يبدو من الصين في مقاومة الأفيون.(46/55)
أثر روماني
قطعت الصخور الموجودة في طريق سوق وادي بردى من أعمال دمشق وكان في زمن الرومانيين من المراكز المهمة ويدعى هابيلا ليزانيا أو هابيلا نوزيوم وقد عثر فيه عَلَى كتابات منقوشة في الصخور باسم مارقوس أورليوس إمبراطور الرومانيين.
أثر فينيقي
عثر في ضواحي بيروت في قرية برج عمود من أعمال الساحل على مغارة قديمة وجدوا فيها سلماً ينزل منه إلى مغارة مربعة ووجدوا في الجهات الأربع منها أضرحة محفورة في صخور منحوتة نحتاً جميلاً ووجدت فيها بعض العظام ويقال أن هذه المغارة يرد عهدها إلى الرومانيين.
أعمق بئر
أعمق بئر في العالم ذاك الذي حفر في كزوشي من أعمال بولونيا فهو عَلَى 2100 متر من سطح الأرض. وثم يجيءُ بئر باروشوفيز في سليزيا العليا وعمقه 2003 أمتار ثم بئر شالوباش في بلاد ساكس البروسيالية وعمقه 1748 متراً. وسيزيد في نقب البئر الأول لأن طبيعة الأرض تساعد عَلَى ذلك أما عرضه فهو 67 ميلمتراً فقط.
مملكة بردسي
قليل من الناس من يعرفون أن لملك انكلترا زميلاً وجاراً ونعني به ملك جزيرة بردسي الواقعة على نحو ثلاثة كيلومترات من شبه جزيرة لوين من أعمال كارنافون في بلاد الغال. وهذ المملكة الصغرى مستقلة كل الاستقلال ولا تعترف بسلطة ملك بريطانيا العظمى عليها. وليس في هذه المملكة سوى 77 ساكناً يدخل فيهم الملك والملكة اللذان حكم أجدادهما هذه الجزيرة الصغرى منذ عهد عريق في القديم. أما لسانهم فهو لهجة تخالف اللهجة الانكليزية كل المخالفة. ولهذا القيل أو الملك الصغير عدا إدارة ملكه أعمال منها أنه معلم المدرسة وضابط في الأركان حرب ولا يخضع للقوانين الانكليزية ولا يدفع السكان خراجاً ما ويعيشون مرفهين بتناول خبز الشعير والحليب والزبدة. ولهم من الصخور المحيطة بهم مادة للسرطان البحري يتناولون منها ما شاؤا ويبيعونها من الأجانب عنهم(46/56)
بسعر بخس ولا يهتمون بتاتاً بما يحدث خارج بلادهم ولا تدخل جريدة إلى هذه الجزيرة التي لا مثيل لها ولا يخرج ملاح منهم عندما تشتد أنواءُ البحر بسبب الصخور المحدقة بالجزيرة.
رجل القطعان
رجل القطعان من الغنم والخرفان في العالم هو روسي اسمه غستاف كوفانونيش يملك في سهول سيبيريا ألوفاً من الأفدنة ترعى فيها قطعانه البالغ عدد غنمها مليوناً وسبعمائة ألف يحرسها زهاء ثلاثين ألف كلب من هجمات الذئاب والحيوانات المفترسة.
معدل الأعمار
تؤَكد بعض صحف ألمانيا أن معدل الحياة آخذ بالازدياد فقد زاد في ألمانيا من سنة 1891 إلى 1900 زيادة تذكر بالنسبة للعشر سنوات التي مضت بين سنة 1871 و1881 فصار متوسط حياة الرجل 48 سنة و85 يوماً وكان 38 سنة ويوماً واحداً ومتوسط حياة النساء 54 سنة و9 أيام وكان 42 سنة و5 أيام وذلك بفضل الوسائط الصحية في البيوت والشوارع والمحال العامة.
صحة العين
كتب الدكتور تروسو أن 43 في المئة من العمي يمكن إنقاذهم مما نالهم وكتب الدكتور موتي الفرنسوي أن ثلاثة ملايين من العملة والمستخدمين والطلبة يتعرضون كل يوم لما يجلب الأخطار عَلَى عيونهم وقد رأَى الدكتور بولي أن الواجب عَلَى كل ولد واطيء النظر أو لا يميز الأشياء جيداً أن يعرض عينيه عَلَى طبيب العيون ويضع نظارات عَلَى عينيه ومن كان أحسر قصير البصر فاستعماله للنظارات أحسن واقٍ لعينيه والواجب ملاحظة الولد بعناية دائمة خلال القراءة والكتابة وأعماله الجزئية وألعابه وإذا أصيب بالحميراء أو القرمزية أو الجدري أو غيره من الأمراض المعدية تجب العناية بعينيه من وراء الغاية وأن أقل التهاب في الملتحمة يعدي ويكون فيه حبيبات ينبغي أن تتخذ لها أنواع الوقاية والعزلة ويجبر العملة أثناءَ العمل أن يقفوا مستوية قاماتهم وأن يكون النور في النهار عن شمال المرء ومن ورائه قليلا ونور الليل عن الشمال وقليلا إلى الأمام والكوى (آباجور) نافعة عَلَى أن لا تكون شفافة وتختبيءُ وراءَها الوجوه وإذا كان ضوءُ الكهرباء مضراً(46/57)
للعيون كثيراً بما فيه من الأضعة البنفسجية الكثيرة فالواجب استعمال زجاجات ملونة بالصفرة لا ترسل النور إلا خالياً من أشعته. والواجب في جميع الصناعات التي يلحظ أنها تحمل أشياء ضارة للعيون أن يضع المرءُ عَلَى عينيه نظارات تقيه منها وإذا لوحظ ضعف في بصر الولد فالواجب استشارة الطبيب لاتخاذ الصنعة التي يختارها.
الماء السائغ
ألقى المستر هوبارد محاضرة أمام جمعية الفنون الانكليزية فقال أنه يتأتى في الأقاليم التي بقيت قفراء لقلة مائها أن يجمع فيها الماء الذي يجمع من الندى عَلَى مثال الطريقة التي جروا عليها في قلعة جبل طارق وذلك بأن يحفر في الأرض على سطح كافٍ وأن يغطى المحل المحفور بقش ناشف تمد عليه طبقة من الخزف أو تراب الفخار فيكون القش عبارة عن مولد للحرارة يفصل بين الخزف والأر وبعد غياب الشمس يبرد هذا الخزف عَلَى أسرع ما يكون وذلك ببروز الأشعة وتنزل حرارة في الحال عن درجة تبخر الهواء المحيط بذاك المكان فيتراكم البخار المائي ويتجمع في الحفرة. ويحسن أن يوضع عَلَى الأرض طبقة من الإسفلت حتى لا يضيع القش بندواته خاصية نقله للحرارة. وفي جبل طارق يستعيضون عن القش أو التبن بخشب وعن طبقة الخزف بصفائح حديد.
التفنن في الإحسان
اخترعوا في ألمانيا طريقة حسنة للإنفاق منها عَلَى المعوزين والبائسين فوضعوا في كل حانة علبة من المعدن جعلوها في زاوية منها فإذا دخن الإنسان لفافته يقوم فيطرح عقبها في العلبة. وهذه الطريقة من اختراع إحدى جمعيات الإحسان فتستخرج هذه الأطراف وتبتاع بها ألبسة لكسوة الأولاد المحاويج وبهذه الواسطة كست الجمعية في العام الماضي 1726 ولداً.
أثمن النصائح الصحية
هذه هي العشر النصائح في حفظ الصحة التي علقتها السويد في جميع مدارسها وهي حرية بأن يجعلها نصب عينه كل من تهمه صحته من الكبار والصغار:
1ـ الهواءُ الجديد في الليل والنهار من الشروط اللازمة للصحة فهو أحسن واقٍ من مرض الكلى.(46/58)
2ـ في الحركة الحياة. فالواجب كل يوم الارتياض في الهواء الطلق بتحريك الأعضاء والنزهة وهذا مما يعدل مزاج العاملين وهم قعود.
3ـ الزم القصد والسذاجة في طعامك وشرابك فمن يفضل الماء والحليب والثمار عَلَى تعاطي الكحول يقوي صحته ويزيد في كفاءته عَلَى العمل وسعادته.
4ـ إليك ما تجب العناية به لتقوية بشرتك: الجلد لا يقوى عَلَى ألا يغسله بماء بارد كل يوم والاستحمام بالماء الحار كل أسبوع عَلَى مدار السنة. وبذلك يتيسر لك حفظ صحتك وتقي جسمك من البرد.
5ـ يجب أن لا تكون الثياب سميكة كثيراً ولا محكمة كثيراً.
6ـ ينبغي أن يكون المسكن معرضاً للشمس جافاً واسعاً نظيفاً نيراً لطيفاً صحياً.
7ـ عليك بالتشدد بالنظافة في كل أمر كالهواء والغذاءِ والماء والخبز والثوب والفراش والنار فإذا توخيت الطهارة في كل أمر وفي الأخلاق أيضاً تصبح بمأْمن من الهواءِ الأصفر والحمى التيفوس وعامة الأمراض السارية.
8ـ العمل المنظم الشديد من أحسن الواقيات من أمراض العقل وأمراض الجسم فهو العزاء في الشقاءِ والسعادة في الحياة.
9ـ لا يرى المرءُ الراحة والتسلية بعد العمل إلا في الأعياد العظيمة. فالليل للنوم وساعات الفراغ والأعياد يجب صرفها مع الأُسرة وفي الملاذ الروحية.
10ـ من أول شروط الصحة الجيدة: حياة تصرف في العمل والشرف بالأعمال الصالحة والأفراح الخالصة. ورغبة المرءِ في أن يكون خير عضو في بيته وعاملاً صالحاً في دائرته ووطنياً مستقيماً في وطنه وذلك مما يورث الحياة قيمة لا تقدّر.
مخطوطات نادرة
من كتب اللغة في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بك
في المدينة المنورة
شرح كفاية المتحفظ لأبي الطيب الفاسي.
شرح فصيح ثعلب لابن دستورية نسخ سنة 561.
كتاب الضاد والظاء لابن سهل النحوي نسخ سنة 595 نحو ثلاث كراريس.(46/59)
كتاب الأجناس من كلام العرب وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى لأبي عبيد القاسم بن سلام.
تهذيب اللغة للأزهري.
بصائر ذوي التمييز عَلَى لطائف التنزيل العزيز للفيروزبادي.
كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام أحد عشر كراساً نسخ سنة 546.
الغريب المصنف له اثنان وعشرون كراسا.
مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين عبد المؤمن مدرس الحنابلة بالبشرية سنة 742.
من فن الكلام
شرح اشتقاق الأسماء الحسنى وصفائه المذكورة في الأثر لأبي القاسم الزجاجي نسخ سنة 434.
سراج العقول في منهاج الأصول للقزويني ومعه شجون المسجون وفنون المفتون للصفدي.
موضحات المتشبهات في الإنجيل للدرويش علي مجلد واحد مذهب.
كتاب إيثار الحق عَلَى الخلق لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الشهير بابن الوزير اليمني نسخ في سنة 1114 وفي أوله ترجمة المؤلف تأْليف ابنه في نحو نصف كراس.
رسالة في التوحيد لابن فورك.
من المجاميع
رسالة وقصائد شتى للجاحظ.
رسالة أرسلها ابن زيدون إلى أستاذه.
مجموع فيه عدة كتب من مصنفات البيهقي.
منها كلام الشافعي في أحكام القرآن وخطأ من أخطاء الشافعي والانتقادات التي انتقد بها عَلَى الشافعي.
مصارع المصارع لنصير الدين الطوسي.
كتاب في أسماء الصحابة لأبي حاتم محمد بن حيان.
رسالة من نسب إلى أمه من الشعراءِ لابن جني.(46/60)
الإبانة لأبي الحسن الأشعري.
رسالة في مكارم الأخلاق للثعالبي.
أوصاف الأشراف للنصير الطوسي.
كتاب النبات للأصمعي.
مختلف الأسماء والأنساب والكنى والألقاب للذهبي.
رسالة في عدم جواز الجمعة في موضعين الشيخ جلال الدين التباني.
رسالة في اختلاف علماء الحنفية في الديار المصرية للبقاعي.
أرجوزة تسمى الإتقان في علم الألحان.
منظومة في علم القلم والحبر والكتابة والورق تصنيف الشيخ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي المعروف بابن البواب وعليها شرح مستمد من شرح ابن بصيص ومن شرح ابن وحيد.
من المكتبة المحمودية في المدينة المنورة
جوار المسجد الشريف
شرح المقنع لشمس الدين بن قدامة المقدسي.
اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية.
مختصر فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية المصرية.
جزء من فتاوية الكبرى.
كتاب القواعد لابن رجب.
كشف المسائل له أيضاً.
تقرير القواعد له أيضاً.
كتاب المحلى لابن حزم مجلد8.
سنن البيهقي الكبرى مجلد10.
كتاب أقضية الرسول لابن فرح الإشبيلي.
وقد بلغ مجموع ما في المكتبة المحمودية من الكتب (4569) وما في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بك (5404).(46/61)
ويوجد مكتبات أخر كمكتبة بشير آغا عند باب السلام ومجموعها (2063) ومكتبة شيخ الإسلام فيض الله أفندي ومجموعها (1246) ومكتبة عمر أفندي قره باش أحد كبار العلماء ومجموعها (1269) ومكتبات أخر معروفة يتراوح عددها ما بين المائة والألف.(46/62)
إصلاح غلط
وقعت لنا أغلاط مطبعية كثيرة في بعض الأجزاء الماضية ولا سيما في الجزء الخامس والسادس الذي ظهر خلال تغيبنا عن هذه البلاد فتركنا إصلاحها لفطانة القاريء وقد كتب لنا أحد أصدقائنا في بغداد يقول:
1000 إلا أن الطبع لا يشبه ما طبع من المقتبس في السابق. وكثيراً ما يقع أغلاط طبع في الأسماء العلمية الأعجمية. وكذلك في الأسماء العربية. ومن ذلك ما وجدته في نبذة ري العراق ص525 ـ 526 بحيرة عكاركوف. والأصح: هور عقرقوف. والاسم مشهور في كتب العرب القديمة كياقوت والبلاذري والبكريّ وغيرهم. وصبارة والأصح أبو حبة (وهو الاسم الحالي) أو سبارة (وهو الاسم القديم) ونفور. والأصح نفر. وأرخ والأصح: وركاء. وتل سكرخ. والأصح سنكرة. وتل لو والأصح تلو أه فنشكر للناقد الكريم عنايته ونرجو أن يتفضل وسائر من أوتوا العلم أن يصححوا لنا ما يبدر منا ومن مؤازرينا من الهفوات فالعلم لاحيا إلا بالنقد الصحيح.(46/63)
العدد 47 - بتاريخ: 1 - 1 - 1910(/)
كتاب العرب
أو الرد عَلَى الشعوبية
لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة من أهل القرن الخامس
تتمة ما في الجزءِ الماضي
ومنهم الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه فقال في أمه:
تنحي فاقعدي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء مني ... ولكن لا أخالك تعقلينا
أغر بألا إذا استودعت سراً ... وكانوناً عَلَى المتحديثينا
وقال لأبيه:
لحاك الله ثم لحاك حقا ... أبا ولحاك من عمر وخال
فبئس الشيخ أنت عَلَى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي ... وأبواب السفاهة والضلال
وقال لنفسه:
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله
وأتى عيينة بن النهاس العجلي مادحا فقال عيينة لوكيله أذهب معه إلى السوق فلا يشيرن إلى شيء ولا يومن به إلا اشتريته له فلما انصرف عنه قال:
سئلت ولم تبخل ولم تعط طائلا ... نسيان لاذم عليك ولا حمد
ومن لؤم الغرائز أيضا في الناس أن منهم من يؤثر ريح الكرابيس عَلَى ريح اليلنجوج وريح الحشوش عَلَى نفحات الورد، ويهتاج من النساءِ لذات القبح والدفر، ويكسل عن الحسناء ذات العطر، ومنها أن الرجل يكون في رخاءِ بعد بؤس وسعة بعد ضيق فيسأَم ما هو فيه ويرغب عنه إلى ما كان عليه، وقال أعرابي قدم المصر فحسنت حاله:
أقول بالمصر لما ساَءني شبعي ... إلا سبيل إلي أرض بها جوع
إلا سبيل إلى أرض بها غرث ... جوع يصدع منه الرأس برقوع
وهذا وأشباهه من لئيم الغرائز كثير في الأمم وهذه الطبائع هي أسباب الشرف وأسباب(47/1)
الخمول فذو الهمة تسمو به نفسه إلى معالي الأمور وترغب به عن الشائنات فيخاطر في طلب العظيم بعظيمته، ويستخف في ابتغاء المكارم بكريمته، ويركب الهول ويدرع الليل، ويحط إلى الحضيض، وتأْبى نفسه إلا علواً حتى يسعد بهمته، ويظفر ببغيته، ويحوز الشرف لنفسه وذريته، ومن لا همة له جثامة لبد يغتنم الأكلة ويرضى بالدون ويستطيب الدعة وإن أعدم لم يأْنف من ذل السؤال والجبان يفرعن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه والشجاع يحمي من لا يناسبه بسيفه وبقي الجار والرفيق بمحبته والبخيل يبخل على نفسه بالقليل والجواد يجود لمن لا يعرفه بالجزيل وقال الله عز وجل (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) يريد قد أفلح من أنمى نفسه بالمعروف وأعلاها وقد خاب من أسقطها بلئيم الأخلاق وأخفاها وقد يكون الرجل مخالفاً لأبيه في الأخلاق وفي الشمائل أو في الهمم أو في جميع ذلك لعرق نزعه من قبل أجداده لأبيه وأمه وقال الشاعر:
وأشبهت جدك شر الجدود ... والعرق يسري إلى النائم
ومن الناس الشريف الحسيب وذلك الذي جمع إلى محاسن آبائه محاسن ومنهم الشريف ولا حسب له وذلك إذا كان لئيم النفس ومنهم من لا شرف له ولا حسب وذلك إذا كان لئيم النفس لئيم السلف.
وقال قيس بن ساعدة لأقضين بين العرب قضية ما قضى بها أحد قبلي ولا يردها أحد بعدي (أيما رجل رمى بملأَمة دونها كرم فلا لؤم عليه وأيما رجل ادعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له) يعني أن أولى الأمور بالمرء خصاله في نفسه فإن كان شريفاً في نفسه وآباؤُه لئام لم يضره ذلك وكان الشرف أولى به وإن كان لئيماً في نفسه وآباؤُه كرام لم ينفعه ذلك.
ومثله قول عائشة: كل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لؤُم دونه شرف فالشرف أولى به: وقال الشاعر في مثله
ومن بك ذا لؤُم ومجد يعده ... فأولى به من ذاك ما كان أقربا
فلا لؤُم عوداً بعد مجد يده ... ولا مجد معدوداً إذا اللؤم عقبا
والحسب مأْخوذ من قولك حسبت الشيء أحسبه حسباً إذا عدوته وكان الرجل الشريف يحسب مآثر آبائه وبعدهم رجلاً رجلاً فيقال لفلان حسب أي آباء يعدون وفضائل تحسب فالمصدر مسكن والاسم مفتوح كما تقول هدمت الحائط هدما فتسكن المصدر وتقول لما(47/2)
سقط إلى الأرض هد فتفتح الدال من الاسم وكذلك الأمم فيها أمة كرم بلبانها كالعرب فإنها لم تزل في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمم وتتعاير بالبخل والغدر والسفه وتتنزه من الدناءَ والمذمة وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة وتوجب للبحار من حفظ الجوار ورعاية الحق فوق ما توجبه للحميم والشفيق فربما بذل أحدهم نفسه دون جاره ووقي ماله بماله وقتل حميمه. منهم كعب بن مامة وكان إذا جاوره جار فمات بعض لحمته وداه وإذا مات له بعير أو شاة أعطاه مكان ذلك مثله. ومنهم عمير بن نسلي الحنفي أحد أَوفياء العرب وكان له جار فخالفه أخوه قرين إلى امرأَة فاشتد الرجل في حفظ امرأَته فقتله وكان عمير غائباً فلما قدم وخبر بذلك دفع قريناً إلى ولي المقتول فقتله واعتذر إلى أمه وعظم جرمه فقالت:
تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما
ومن أعجب أمر في الجوار قصة أبي حنبل حارثة بن مرَّ وكان الجراد سقط بقرب بيته فقصد الحي لصيده فلما رآهم قال أين تريدون قالوا نريد جارك هذا فقال أي جيراني قالوا الجراد فقال أما إذ جعلتموه لي جاراً فوالله لا تصلون إليه ثم منع عنه حتى انصرفوا ففخر بعضهم فقال:
لنا هضبة ولنا معقل ... صعدنا إليه بصم الصعاد
ملكاه في أوليات الزمان ... من بعد نوح ومن بعد عاد
ومنا ابن مرَّ أبو حنبل ... أجار من الناس رجل الجراد
وزيد لنا ولنا حاتم ... غياث الورى في السنين الشداد
وقال قيس بن عاصم يذكر قومه:
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
وقال مسكين الدارمي:
ناري ونار البحار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جاراً لي يجاورني ... أن لا يكون لبابه ستر
وقال الحطيئة بعد محاسن قومه:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا(47/3)
وإن كانت النعماء فيهم جروا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
يسوسون أحلاما بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم ... من اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا
ولهم الضيافة عامة شاملة في جميع البادين منهم والإيثار عَلَى النفس والجود بالموجود وأفضل العطا جهد المقل.
وقال عثمان بن أبي العاص: لذرهم يخرجه أحدكم من جهد فيضه في حق خير من عشرة آلاف درهم يخرجها أحدنا غيضاً من فيض: ولولا ما تواصوا به من الضيافة وتحاضوا عليه من الإيثار لمات الخير وأبدع به دون غايته.
وقال أرطاة بن سهية:
وما دون ضيفي من تلاد تحوزه ... إلى النفس إلا أن تصان الحلائل
وقال ابن أبي الزناد قال عبد الملك بن مروان ما يسرني أن أحد من العرب ولدني إلا عروة بن الورد لقوله:
وإني أمروءٌ عافي إنائي شركة ... وأنت امروءٌ عافي إناؤُك واحد
أتهزأُ مني أن سمنت وإن ترى ... بجسمي مس الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
يريد أنه يقسم قوته على أضيافه فكأَنه قسم جسمه لأن اللحم الذي ينبت ذلك الطعام يصير لغيره ويحسو قراح الماءِ في الشتاء ووقت الجدب والضيق لأنه يؤَثر باللبن فتوقف عَلَى هذا الشعر وعَلَى ما فيه من شريف المعاني.
وقال آخر:
إذا ما عملت الزاد فالتمس له ... أكيلا فإني غير آكله وحدي
بعيداً قصياً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
فكيف يسيغ المرءُ زاداً وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد
ولعل الطاعن أن يقول في هذا الموضوع فأين هو من ذكر مزرد وحميد الأرقط وهجائهما للأضياف وأين هو من مطاعمهما الخبيثة من الحيات والضباب واليرابيع والعلهن وشربهم الفظ والمجدوح وأكل ميلسرهم لحوم الإبل حيذاً غير نضج ونيا والعروق والعلابي وسقط(47/4)
المائدة لا يعافون شيئاً ولا يتقذرون أكل السباع ونهش الكلاب ويفخر عليهم بأطعمة العجم وحلوائها وآدابها عَلَى الطعام وكلها باليارحين والسكين فإما هذان الشاعران اللذان يهجوان الأضياف ويصفانهم بكثرة الأكل وجودة اللقم فإن أحدهما كان فقيرا ضعيف الحال فإذا نزل به الضيف لم يجد بداً من إيثاره بقليل ما عنده أو مشاركته فيه فيبيت طاوياً ويصبح جائعاً ويجيش صدره بما حل به والشاعر بمنزلة المصدور لابد من أن ينفث فيستريح إلى ذكر لقم الضيف ووصف أكله وحديثه قال هو أو غيره بذكر الضيف:
تجهز كفاه ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت إليه الأنامل
يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... ابن لي ما الحجاج بالناس فاعل
فقلت له ما إن لهذا طرقتنا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
وقال أيضاً يذكر الأضياف:
باتوا وجلتنا الشهرين بينهم ... كأَن أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقى المساكين
أراد من الأضياف من يأْكل التمر بالنوى وهذا يدل عَلَى شدة فقره. وأما مزرد فكان شرهاً منهوماً والشره رفيق البخل وهو القائل:
لبكت بصاعتي صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربع
فقلت لبطني أبشر اليوم إنه ... حوى أمنا مما تحوز وترفع
فإن يك مصبوراً فهذا دواؤه ... وإن يك غرثاناً فذا يوم يشبع
وقال الحطيئة:
أعددت للضيفان كباً ضارياً ... عندي وفضل هراوة من أرزان
ومعاذراً كذباً ووجهاً باسراً ... وتشكياً عض الزمان الألزان
وهذا شر القوم وليس من الناس صنف إلا وفيه الخير والشر عَلَى ذلك أُسست الدنيا وعليه درج الناس ولولا أحدهما ما عرف الآخر وإنما يقضي بأغلب الأمور ويحكمون بأشهر الأخلاق. وليس في ثلاثة من الشعراء أو أربعة ما هدر مكارم الأخلاق آلاف من الناس وبدد صنائعهم. فهذا كعب بن مامة آثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري حتى مات عطشاً.(47/5)
وهذا حاتم الطائيّ قسم ماله بضع عشرة مرة ومرة في سفره عَلَى عنزة وفيهم أسير فاستغاث به ولم يحضره شيءٌ فاشتراه من العنزيين فخلاه وأقام مكانه في القد حتى أدى فداءه. وكل فخر في طي فهو راجع إلى نزار ولهم الجبلان وهما بنجد وأخذهم بآدابهم وتخلقهم بأخلاقهم. وهذا عديُّ شاطر ابن دارة الشاعر ماله. وهذا معن في الإسلام كان يقول فيه حدث عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج. وأتاه رجل يستحمله فقال يا غلام أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعيراً وجارية ولو عرفت مركوباً غير هذا لأعطيتكه. وهذا نهيك بن مالك بن معوية باع إبله وانطلق بأثمانها إلى منى فانهبها والناس يقولون مجنون فقال:
لست بمجنون ولكني سمح ... أنهيكم مالي إذا عز القمح
وهذا شيء بكثر جداً ويتسع القول فيه ويخرج الكتاب من فنه باستقصائه وكان غرضنا في هذا الكتاب أن ننبه بالقليل من كل شيء في عيون الأخبار. وأما تعييرهم إياهم بخبيث المطعم كالعلهز والحيات وخبيث المشرب كالفظ والمجدوح فإن هذا وأشباهه طعام المجاوع والضرورات وطعام نازلة الفقر والفلوات وقال الشاعر:
إذا السنة الشهبآء حل حرمها
يريد أنهم يأْكلون فيها الميتة وقال الراعي:
إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها ... وقد يكرم الأضياف والقد يشتوي
وإنما كأن يكون هذا عيباً لو كانت العرب مختارة له في حالة اليسر كما تختار بعض العجم الذباب وبهم عنه غنى والسراطين والدجاج لهم معرضة فأما حال الضرورة فالناس كلهم يعسرون فمن لم يجد اللحم أكل اليربوع والضب ومن لم يجد المآء شرب المحدوح والفظ.
قال الأصمعي أغير عَلَى إبل حريثة فذهب فركب بحيرة فقيل أتركب الحرام فقال يركب الحرام من لا حلال له: وقال الشاعر:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
ومما يدلك عَلَى أن أهل الثروة منهم على خلاف ما عليه الصعاليك والغثر قول الشاعر:
فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان أنهار البريض
فالتقى من أكل لحوم الغربان وعير بها قوما.(47/6)
وقال آخر لامرأَة:
أكلت دماً إن لم أرعك نصرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فلو كان شرب المجدوح عنده محموداً لم يجعل يمينه شرب الدم كما يقول القائل شركت بالله إن لم أفعل كذا وكذا.
وقال آخر:
نعاف وإن كانت خماصاً بطوننا ... لباب النقي والعجاب المجردا
يريد أنه يرغب وإن كان جائعاً عن أكل الخبز بالتمر إلى أكله بالشحم ونزل رجل من العرب فقدم إليه جراداً فعافها وأنشأ يقول:
لحى الله بيتاً ضمني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل المظلم
فأبصرت شبحاً قاعداً بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم
أتاني بيرقان الدبا في إنائه ... ولم يك في برق الدبا لي مطعم
فقلت له غيب إناءك واعتزل ... فهل ذاق هذا إلا أبا لك مسلم
وأما أكلهم العلابي والعروق واللحم النيء وتركهم طيبة الأطعمة والأطبخة وحسن الأدب عند الأكل فهذا لعمري هو الأغلب على من الأغلب عليه الفقر فأما ذووا النعمة واليسار والأقدار فقد كانوا يعرفون أطايب الطعام ويأْكلونها ويأْخذون بأحسن الأدب عليها.
فالمضيرة لهم واسمها يدلك على ذلك تطبخ باللبن الماضر وهو الحامض فاشتق اسمها منه.
والهريسة لهم سميت بذلك لأنها تهرس أي تدق ويقال للمدق المهراس والوشيقة لهم والعامة تسميها العشيقة سميت بذلك لأنها توشق أي تقطع صغاراً والعصيدة لهم وسميت بذلك لأنها تعصد إذا عملت أي تلوى وكل شيءٍ ألويته فقد عصدته ومنه قيل للمائل عنقه عاصد وقال مرود:
لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربع
وهذا هو العصيدة وقال أمية ابن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان:
له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي
إلى روح من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد
وهذا هو الفالوذ وهم أوصف الناس للطعام وألطفهم في ذكره. حدثني أبو حاتم قال حدثني(47/7)
الأصمعي قال حدثنا أبو طفيلة قال حدثنا شيخ من أهل البادية قال ضفنا فلاناً بحنطة كأَنها مناقير النغران وتمر كأَنها أعناق الورلان يوحل فيها الضرس.
وحثنا الأصمعي أيضاً عن أعرابي أنه قال تمرنا خرس فطس يغيب فيه الضرس كأَن نواهن السن الطير تضع التمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبك.
وحدثني عبد الرحمن عن عمه قال قال شيخ من أهل المدينة فأتاني بمرقة كأن فيها مشقاً فلم أر الأكبداً طافية فغمست يدي فوجدت مضغة فمددتها فامتدت حتى كأَني أزمر في ناي ولهم أطبخة كثيرة من أطبختهم الغسانية وهي لا تعرفها عامتنا كالحيسة والربيكة والخزيرة واللفيتة تركت ذكرها واقتصرت عَلَى ما تعرف وكانوا يقولون:
أطيب اللحم عوذه: يريدون أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذ به. وكانوا يقولون إذا كنتم فسموا وادنوا يريدون بادنوا كلوا مما بين أيديكم وكانوا يكرهون أكل الدماغ ويرون استخراجه رغباً وحرصاً وقال قائلهم:
ولا يتقى المخ الذي في الجماجم
ومن قبائل العرب من يعاف إليه الشاة ويقولون هي طبق الاست وقال قائلهم:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل عَلَى عمد
وكانوا يمدحون بقلة الأكل وقال أعشى باهلة:
تكفيه حزة فلذان ألمّ بها ... من الشواءِ ويروى شربة الغمر
ويعيبون بالشره والنهم والكسل ويقول للبخيل الأكول أبرماً قروناً يريد أن لا يخرج مع أصحابه شيئاً ويأْكل تمرتين واسل البرم الذي لا يسير مع القوم وقال بعض الرجاز:
تسأَلنا عن بعلها أي فتى ... خب جبان وإذا جاع بكى
لا حطب القوم ولا القوم سقى ... ولا ركاب القوم إن ضلعت بغى
ويأْكل التمر ولا يلقي النوى ... ولا يواري فرجه إذا اصطلى
كأَنه غرارة ملأَى حثا
وقال الأحنف جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام فإني أبغض أن يكون الرجل وصافا لبطنه وفرجه.
وأن من المرؤة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه وقال قائلهم: أقلل طعاماً، تحمد مناما،(47/8)
وقال أيضا: غلبت بطنتي فطنتي.
وقال عمرو بن العاص لمعوية يوم حكم الحكمان: أكثروا الطعام فوالله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا.
ومثل هذا كثير لمن تتبعه فكيف تكون المعرفة بالطعام والأدب عليه إلا كما وصفنا فأما تركهم أنضاج اللحم فلا أعلمه إلا في موضع واحد وهو إذا سافروا وغزوا فإنهم يتمدحون بترك الأنضاج لعجلة الزماع وقال الشماخ:
وأشعث قد قدَّ السفار قميصه ... يجز الشواء بالعصا غير منضح
وقال الكميت:
ومرضوفة لم تون في الطبخ طاهياً ... عجلت إلى محورها حين غرغرا
ولم يزل الشرب إذا اجتمعوا والأحداث من أولاد الملوك وغيرهم يبادرون بالنشيل قبل النضج.
قال أعرابي نحر بعيره وشرب:
عللاني إنما الدنيا عُلل ... ودعاني من ملام وعذل
وانشلا ما أغبر من قدريكما ... وأسقياني أبعد الله الجمل
وأما أكلهم سقط المائدة فإنه أكرام للطعام وإعظام للنعمة وجنس من الشكر لواهبها ونبذه في المزابل استخفاف به وتصغير له وبخس بمؤْتيه حق عطيته، ومن وهب لك شيئاً صنته وعظمته سمحت لك نفسه بالزيادة منه، وإن احتقرته وازدريته كان حريا أن يقطعه والطعام أعظم نعم الله عَلَى خلقه بعد معرفته لأنه مثبت الروح وممسك الرمق فمن صانه فقد عظم نعمة الله واستوجب زيادة الله ومن امتهنه في غير ما خلق له فقد صغرها واستوجب سخط الله.
حدثنا يزيد بن عمرو قال حدثنا أيوب بن سليمان عن محمد بن زيادة عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال ولا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم بأكل سقط المائدة وزغبنا فيه.
والعجب عندي من قوم نحلتهم الإسلام ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم تتابعت الأخبار عنه بشيء أمر به أو نهى عنه فيعارضون ذلك بالعيب وبالطعن من غير أن يعرفوا العلة(47/9)
ولا أن يكون لهم في الإنكار له نفع أو عليهم في الإقرار به ضرر.
وأما أكلهم باليارحين والسكين فمفد للطعام ناقص للذته والناس يعلمون إلا من عاند منهم وقال بخلاف ما تعرفه نفسه أن أطيب المأْكل ما باشرته كف آكله ولذلك خلقت الكف للبطش والتناول والتقذر من اليد المطهرة وعجب وأولى بالتقذر من اليد الريق والبلغم والنخاع الذي لا يسوغ الطعام إلا به وكف الطباخ والخباز تباشره والإنسان ربما كان منه أقل تقذراً وأشد إنساً.
وأما الشجاعة فإن العرب في الجاهلية أعز الأمم أنفساً وأعزها حريماً وأحماها أنوفاً وأخشنها جانباً وكانت تغير في جنبات فارس وتطرقها حتى تحتاج الملوك إلى مداراتها وأخذ الرهن منها والعجم تفخر بأساورة فارس ومرازبتها وقد كان لعمري لهم البأْس والنجدة غير أن بين العرب وبينها في ذلك فرقاً منه أن العجم كانت أكثر أموالاً وأجود سلاحاً وأحصن بيتاً وأشد اجتماعاً وكانت تحارب برياسة الملك وسياسة سلطان وهذه أمور تقوي المنة وتشد الأركان وتؤَيد القلوب وتثبت الأقدام والعرب يومئذ منقطعة ليس لها نظام ومتفرقة ليس لها التئام وأكثرها يحارب راجلا بالسيف الكليل والرمح الذليل والفارس منها يحارب عَلَى الفرس العربي الذي لا سراج لع وعَلَى السرج الرث الذي لا ركاب له والأغلب عَلَى قتال العجم الرمي والأغلب عَلَى قتال العرب السيف والرمح وهما أدخل في الجلد وأبعد من الفرار وأدل على الصبر.
وشجعاؤُهم في الجاهلية مثل عتيبة بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس وبسطام بن قيس وبجير وعفاف ابني أبي مليل وعامر بن الطفيل وعمرو بن ود وأشباههم وفي الإسلام مثل الزبير وعلي وطلحة ورجال من الأنصار وعبد الله بن حازم السلمي وعباد بن الحصين وقال ما ظننت أن أحداً يعدل بألف فارس حتى رأَيت عباداً ليلة كإبل وقطري ابن الفجاءة وشبيب الحروري وأمثال هؤُلاء عدد الرمل والحصا ليس منهم أحد إذا أنت توقفت عَلَى إخباره وحاله في شجاعته إلا وجدته فوق كل أسوار والرجليون للعرب خاصة.
قال أبو عبيدة رجليو العرب المشهورون المنتشر بن وهب الباهلي وسليك بن عمير السعدي ولوفى بن مطر المازني وكان الرجل منهم يلحق بالظبي حتى يأخذ بقرنيه وإذا كان زمان الربيع جعلوا الماء في بيض نعام مثقوب ثم دفنوه فإذا كان الصيف وانقطع الغزو(47/10)
غزوا وهم أهدى من القطا فيأْتون عَلَى ذلك البض ويستثيرونه ويشربونه وحدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي أن السليك كان يعدو فتقع سهامه من كنانته بالأرض فترتز وكان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من الخيبة وأما الهيبة فلا هيبة.
وقرأْت في كتب العجم بهرام جور كان في حجر ملك العرب بالبادية فلما بلغه هلاك أبيه وأن الفرس عزموا عَلَى أن يملكوا غيره سار بالعرب حتى نزل السواد وصالبهم بالملك وجادلهم عنه حتى اعترفوا له بالحق وملكوه.
وقد كان كسرى أغزى بني شيبان جيشاً فاقتتلوا بذي قار فهزمت بنو شيبان أساورة كسرى فهو يوم ذي قار ثم كان من أمر العرب وأمر فارس حين جمعهم الله لقتالهم بالأمام وساسهم بالتدبير مالا حاجة بنا إلى الإطالة بذكره لشهرته.
ومما يدلك عَلَى تعزز القوم في جاهليتهم وأنفتهم وشدة حميتهم أن أبرويز ملك فارس وأشدها سطوة وأثخانا في البلاد خطب إلى النعمان بن المنذر إحدى بناته فرده رغبة بها عنه ولم يزل هاربا منه حتى ظفر به فقتله.
وكان لقريش بيت الله الحرام العتيق من الجبابرة المنصور بالطير الأبابيل لمْ يزالوا ولاته وسدنثه والقائمين لأموره والمعظمين لشعاره وكان يقال لهم أهل الله وجيران الله لنزولهم الحرم وجوارهم البيت وكان فيهم بقايا من الحنيفية يتوارثونها عن اسمعيل صلى الله عليه وسلم منها حج البيت الحرام وزيارته والختان والغسل والطلاق والعتق وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر.
وقد كان حاجب بن زرارة وفد عَلَى كسرى فرأَى العجم ينكحون الأخوات والبنات فسولت له نفسه التأسي بهم والدخول في ملتهم فنكح ابنته ثم ندم عَلَى ذلك فقال:
لحا الله دينك من أغلف ... يحل الخوات لنا والبنات
أحشت عَلَى أسرتي سوءةً ... وطوقت جيدي بالمخزيات
وأبقيت في عنقي سبة ... مشاتم يحيين بعد الممات
فتاة تجللها شيخها ... فبئس الشييخ ونعم الفتاة
ومما كان بقي فيهم من الحنيفية أيمانهم بالملكين الكاتبين حدثني بعض أصحابنا عن عبد الرحمن بن خالد الناقد قال كان الحسن بن جهور مولى المنصور خرج إلى بعض ولد(47/11)
سلمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب كتابا كان لعبد المطلب بن هلثم كتبه بخطه فإذا هو مثل خط النساء وإذا باسمك اللهم ذكر حق عبد المطلب ابن هاشم من أهل مكة عَلَى فلان بن فلان الحميري من أهل زول صنعآء عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه شهد الله بذلك والملكان: وقال الأعشى
ولا تحسبني كافراً لك نعمة ... عَلَى شاهدي يا شاهد الله فاشهد
قوله عَلَى شاهدي أي عَلَى لساني شاهد الله يعني الملك.
ومن ذلك أحكام كانت في الجاهلية أقرها الله في الإسلام لا يبعد أن تكون من بقايا دين اسمعيل صلى الله عليه وسلم منها دية النفس مائة من الإبل ومنها أتباع حكم المبال في الخنثى ومنها البينونة بطلاق الثلاثة وللزوج عَلَى المرأَة في الواحدة والاثنتين فهذه حالها في الجاهلية مع أحوال كثيرة في العلم والمعرفة سنذكرها بتمامها بعد إن شاء الله ثم أتى الله بالإسلام فابتعث منها النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياءِ وخاتم الرسل وناسخ كل شرعة وحائز كل فضيلة ونشر عددها وجمع كلمتها وأمدها بملائكته وأيدها بقوته ومكن لها في البلاد وأوطأَها رقاب الأمم وجعل فيها خلافة النبوة ثم الإمامة خالدة تلدة حتى يأتي المسيح صلى الله عليه وسلم فيصلي خلف الإمام منها فاردة لا يستطيع أحد ان يأْتي بمثلها وخاطبها وهي يوئذ لا عجم فيها فقال (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فلها فضل هذا الخطاب والأمم طراً داخلة عليها فيه وأما قوله لبني إسرائيل (وفضلتكم عَلَى العالمين) فإنه من باب العلم الذي أريد به الخاص كقوله حكاية عن إبراهيم (وأنا أول المسلمين) وحكاية عن موسى (وأنا أول المؤمنين) وقد كانت الأنبياء قبلهما مؤمنين ومسلمين فإنما أراد موسى زمانه وكذلك قوله (وفضلتكم عَلَى العالمين) يريد عالمي زمانهم وقوله لقريش (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم) ليس فيه دليل عَلَى أن أهل اليمن خير من قريش في الحسب ولا أنهم مثلهم وهم من ولد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومن الذرية التي اصطفى الله عَلَى العالمين وليس لليمن والد من الأنبياء دون نوح وإنما خاطب الله بها مشركي قريش ووعظهم بمن قبلهم من الأمم الهالكة لمعصيته وحذرهم أن ينزل بهم مثل ما أصابهم فقال (أهم خير) من أولئك الذين كانت فيهم التبابعة والملوك ذوي الجنود والعدد فأهلكناهم بالذنوب والخير قد يقع في أسباب كثيرة يقال هذا خير الفارسين يريد أجلدهما وهذا خير(47/12)
العودين يريد أصلبهما وكانت قريش كما قال الله قليلا فكثرهم ومستضعفين فأَيدهم نصره وخائفين أن تتخطفهم الملوك فآمنهم بحرمه بمارهصه لهم وأراد من تمكينهم وإعلاءِ كلمتهم وإظهار نوره لهم وتغيير ممالك الأمم لهم ومن ذا من المسلمين يصح إسلامه ويصح عقده يقدم عَلَى قريش أو يعادل بها وقد قضى الله لها بالفضل عَلَى جميع الخليقة إذ جعل الأئمة منها والإمامة فيها مقصورة عليها أن لا تكون لغيرها والإمامة هي التقدم وهذا نص ليس فيه حيلة لمتأَول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش وروى وكيع عن الأعمش عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في الخير والشر وروى وكيع عن سفيان عن ابن خشيم عن اسمعيل عن عبد الله عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً أهل صبر وأمانة فمن بغاهم الغوائل كبه الله لوجهه يوم القيمة وروى عن عبد الأعَلَى عن معمر عن الزهري عن سهل بن أبي حشمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشاً ولا تؤخروها وروى يزيد بن هرون عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن طلحة بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال أن لقرشي قوة رجلين من غير قريش قيل للزهري ما عنى بذلك قال فضل الرأْي قال وكان يقال قريش الكنية الحسبة ملح هذه الأمة علم عالمها طباق الأرض.
وحدثني يزيد بن عمرو عن محمد بن يوسف عن أبيه عن إبراهيم عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقومن أحد لهاشمي.
وحدثني يزيد بن عمرو قال حدثنا نصر بن خلف الضبي قال حدثنا علي بن عبد الله ابن وثاب المدني عن مطرف بن خويلد الهذلي قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل وهو يقول:
إني امرؤ حميري حين تنسني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر
فقال ذاك اضرع لخدك وأبعد لك من الله ورسوله.
وحدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا أبو زيد شجاع بن الوليد قال حدثنا أبو قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن سليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا سليمان لا تبغضني فتفارق دينك قال قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال لا تبغض العرب(47/13)
فتبغضني.
وروى محمد بن بشر العبدي قال حدثنا أبو عبد الرحمن عن حصن بن عمير عن مخارق بن عبد الله بن جابر عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي.
وروى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن المؤمل عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلف الناس فالحق في مضر.
وروى أبو نعيم عن الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث عن المطلب بن أبي وداعة والمطلب بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقاً فجعلني في خيرهم فرقة وخلق قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً.
ثم يتلو العرب في شرف الطرفين أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة فإنهم لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا لا يؤدون إلى أحد أتاوة ولا خراجا وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ. ثم نزلوا بابل ثم نزل أزدشير بابك فارس فصارت دار ملكهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجر بن بهر مملك فارس وكان غزاهم فكادوه في طريقه بمكيدة حتى سلك سبيلاً معطشة مهلكة ثم خرجوا إليه فأسروه وأكثر أصحابه فسأَلهم أن يمنوا عليه وعَلَى من أسر معه وأعطاهم موثقاً من الله أن لا يغزوهم ولا يجوز حدودهم ونصب حجراً بينه وبين بلدهم جعله الحد الذي حلف عليه وأطلقوه فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة والحمية بما أصابه فعاد لغزوهم ناكثاً لأَيمانه غادراً بذمته وحمل الحجر الذي كان نصب أمامه في مسيره يتأول أنه ما تقدم الحجر فإنه لم يجزه فلما سار إليهم ناشدوه الله وأذكروه ما جعل عَلَى نفسه من عهده وذمته فأبى الإلجاجا ونكثا فواقعوه فقتلوه وقتلوا حماته وكماته واستباحوا عسكره وأسروا ضعفته ولبثوا في أيديهم أسرى ثم أعتقوهم وأطلقوهم وعبروا بعد ذلك زماناطويلا وقتلوا كسرى بن فيروز وهذا شيء يخبر به عن فارس فيما دونوا في سير ملوكهم من أخبارهم ومن أقر بهذا عَلَى نفسه لعدوه وإباحة لخصمه فما ظنك بما ستر وزين من أمره.
وكان فيما حكوا من الكلام الدائر بين ملك الهياطلة وبين فيروز كلام أحببت أن أذكره في(47/14)
هذا الموضع لأدل به عَلَى حكمة القوم وحزمهم في الأمور وعلمهم بمكايد الحروب قالوا لما التقى الفريقان ثم تصافوا للقتال أرسل أخشنوار ملك الهياطلة إلى فيروز أن يسأله أي يبرز فيما بين الصفين ليكمله فخرج إليه فقال أخشنوار قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنف مما أصابك ولعمري لئن كنا احتللنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه وما ابتدأْناك ببغي ولا ظلم ولا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا ولقد كنت جديراً أن تكون من سوء مكافأَتنا عليك وعَلَى من معك ونقض العهد والميثاق الذي أكدت عَلَى نفسك أعظم أنفاً وأشد امتعاضاً مما نالك منا فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى ومننا عليكم وأنتم مشرفون عَلَى الهلكة وحقنا دماءكم وبنا عَلَى سفكها قدرة وإنا لم نجبرك عَلَى ما شرطت لنا بل كنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه ففكر في ذلك ومثل بين هذين الأمرين فانظر إليهما أشد عاراً وأقبح سماعا إن طلب رجل أمراً فلم يتح له وسلك سبيلاً فلم يظفر فيها ببغية وأستمكن منه عدوه عَلَى حال جهد منه وضيقة ممن معه فمن عليهم وأطلقهم عَلَى شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه فاصطبر لمكروه القضآء واستحيا من الغدر والنكث أم أن يقال نقض العهد وختر بالميثاق مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما تراه من حسن عدتهم وما أجدني أشك في أنهم وأكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم عَلَى غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله فهم في حربنا غير مستبصرين ونياتهم اليوم في مناصحتك مدخولة فانظر ما غناء من يقاتل على هذه الحالة وما عسى أن تبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفاً أنه إن ظفر فمع عار وإن قتل فالي النار فأنا أذكرك الله الذي جعلته عَلَى نفسك كفيلاً ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشرافكم على الممات وأدعو إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مضوا عَلَى ذلك في كل ما أحبوا وكرهوا فاحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره ومع ذلك إنك لست عَلَى ثقة من الظفر بنا والبلوغ لبغيتك فينا وإنما تلتمس منا أمراً نلتمس منك مثله وتبادي عدواً لعله يمنح النصر عليك فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك ببالغ لك أكثر منها ولا زائد لك عليها ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه لا يزري بالمنافع عند ذوي الرأَي أن تكون من الأعداء كما لا يجب المضار إليهم أن تكون عَلَى أيدي الأولياء ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه ووثقنا بما جعلت لنا من(47/15)
عهده إذا استظهرت بكثرة من مقالتي ضعف أحسه من نفسي ولا قلة من جنود ولكني أحببت أن أزداد بك حجة واستظهاراً وأزداد به للنصر أه.(47/16)
المرأة
(علمها علماً صحيحاً أو دعها عَلَى سذاجتها)
لأن تبقى المرأَة جاهلة خير من أن تتعلم تعلماً ناقصاً. أو تتربى تربية تافهة.
المرأَة التي تظل محافظة عَلَى سذاجتها الأولى: فلم تتلق شيئاً من مبادئِ العلوم والفنون. ولم تمارس القراءة والكتابة قد يتيسر لنا أن نقنعها بأنها جاهلة. ثم نوصيها بلزوم الرجوع في تربية طفلها إلى رأْي من هو أعرف منها بشؤون التربية.
ومثل تربية طفلها تدبير منزلها وإدارة أحوالها ورؤية مصالحها: نحسن لها في جميع ذلك أن تعتمد عَلَى مشورة زوجها والخبيرين من ذوي قرابتها. أما تلك التي تعلمت تعلماً ناقصاً ورأى أولياؤها أن لا يعطوها من مباديءِ العلم سوى قراءة القرآن. وكتابة (أبجد هوز) و (جناب الأكرم) حاسبين أن ذلك القدر أليق بها وأحوط في سلامة دينها وآدابها ـ هذه المرأة تصبح بهذا التعلم الخداج ذات عجب وعناد ولجاج. فلا تعود تصغي لمشورة من هو أعلم منها. ولا تقف في إفساد ابنها وتدبير منزلها عند حد!
تسيء الظن بزوجها فتغل يده عن استثمار مالها والإنفاق عَلَى أطيانها لتحسينها وتنميتها. تدير شؤون المنزل عَلَى غير ما تقتضيه قواعد الاقتصاد وأصول الصحة ووسائل التطهير والنظافة. تحاول تربية أولادها فتخل بقوانين التربية وتفتات عَلَى المربي الخبير اعتداداً بكفاءتها وإن معرفتها لقراءة القرآن جعلتها أهلاً لكل شيء، وعالمة بكل شيء، وخبيرة بكل شيء أيضاً.
تريد أن تلقن ابنها المراهق شيئاً من مباديء الأخلاق والآداب فتحكي له قصص العفاريت والأساطير المكذوبة أو تملي عليه أبيات عُشق وغرام كانت سمعتها من بعض أترابها في كتاب سخيف ركيك وضعه واضعه لتعليم الأحداث صناعة الترسل والإنشاء ها هي واقفة في رأس السلم تقول لابنها وهو ذاهب إلى المدرسة. حرطتك بكلمات الله التامة. سلمتك إلى واحد أحد. امسك يا بني بالدرابزين جيداً لئلا تزلق رجلك.
خرج الولد من باب الدار فإذا أمه تهتف به من النافذة وتوصيه بالابتعاد عن شاطيء البحر لئلا يفرق. وعن الكلاب لئلا تزعجه أو تعضه. وعن الحفر لئلا يقع فيها. ثم تلح عليه أن يشد المنديل عَلَى عنقه خوف لذع البرد وأن يطبق المظلة عَلَى رأَسه خشبة أذى الحر(47/17)
رجعت الأم بعد هذه الوصاية المتكررة إلى غرفتها. أرادت الإدلال عَلَى زوجها والتباهي عَلَى جارتها فرفعت صوتها بتلاوة القرآن تارة ودلائل الخيرات تارة أخرى أواني المطبخ لم تزل من دون تنظيف. أرض الدواليب لم تزل من دون مسح. طعام الغداء لم يزل الزوج يجهل أمره. ويتساءل ماذا عساه يكون؟ وضيوفه كرام يجب أن يتجمل أمامهم ويكافئهم عَلَى أياد لهم عليه. الطفل الصغير غلبه النوم في إحدى زوايا تلك الدار والذباب يتطاير من فوقه. والروائح الخبيثة تنبعث من تحته.
رأى الرجل الحالة عَلَى ما وصفنا فنادى امرأَته ورغب إليها أن تنهض لمراقبة أمور البيت وتهيئة الطعام.
تغافلت المرأَة عن زوجها. أو أن دوي صوتها بقراءة دلائل الخيرات حال بينهما وبين سماع النداءِ!
هتف بها ثانية فردت عليه بخشونة. وجعلت تؤنبه عَلَى اساءته الأدب مع مؤلف دلائل الخيرات وأنها تخشى عليه أن يبطش به!!
ضاق صدر الرجل فكاد يتفوه بما لا يليق في حق أهل الله ثم سكت عَلَى مضض ولا نعلم ماذا جرى بين الرجل وامرأَته. ولا كيف كان أمر الغداء. ولكن نذهَب مع القاريء إلى تلك المرأَة التي عرف أولياؤُها كيف يعلمونها وكيف يجعلونها تستفيد من الذي تلتقه.
تزوجت فيا سعد زوجها بها. رزقت أولاداً فيا لسعادة أولادها من أجلها.
تعلمت القراءة والكتابة ولكن لم تتعلمهما لذاتهما وإنما تتعلمهما لكي تتوصل بهما إلى درس حقائق أعلى وتحصيل فوائد أغلى.
قرأت القرآن بإمعان وتفهم: فكانت تتناول بعض الآيات وتشرح معناها لأولادها شرحاً مفيداً غاية في السهولة والتقريب، غرست في نفوس أولادها عظمة الله تعالى ووجوب خشيته واستمداد المعونة والتوفيق منه.
وكثيراً ما أَسمعتهم الآيات التي تحض عَلَى ممارسة الخير والفضيلة. وتطلب منهم أَن يستظهروا أَلفاظها ويتفطنوا لمعانيها.
ولم نكتف من العلم بهذا القدر فقط بل رأت (من الواجبات) عليها باعتبارها ربة منزل أَن يكون لها إِلمام ومشاركة بفن الهيجين (حفظ الصحة) ثم لاحظت أَنها لا تقدر عَلَى تربية(47/18)
أولادها تربية صحيحة ما لم تدرس فن الأخلاق وعلم النفس ومعرفة.
قالت: إنما أَكون سعيدة إذا كان زوجي وأولادي أصحاء الأجسام ولا تدوم الصحة لهم ما لم أَكن عارفة بالأصول والقوانين التي قررها العلماء في حفظ الصحة.
ثم ماذا تكون فائدة الصحة إذا لم يقترن بها أَخلاق حسنة وتربية فاضلة؟ فمن ثم كان الواجب عليّ أن أجمع بين درس الفنيين فن الصحة وفن التربية.
كانت تختلس فرصاً من وقتها ثم تقبل عَلَى مطالعة الكتب التي وضعت في هذين الفنين الجليلين. وكثيراً ما كان يستعصي عليها فهم بعض المسائل فتستأْذن زوجها أَن تكتب لبعض الأخصائيين في هذين الفنين. فكان يأْذن لها منشرح الصدر هاديء البال.
قالت إذا كان الحجاب يحول بيني وبين التردد على أَفاضل العلماء في منازلهم فها أنا ذا بحمد الله أَستطيع الكتابة إليهم بعبارة فصيحة فلا أَدع الحجاب يحجبني عن القيام بالفريضة الدينية وهي (طلب العلم).
وقد كتبت مرة إلى بعض نطس الأطباء تسأله رأْيه في مهد طفلها عل تتخذه مما يهزُّ باليد هزاً أَو يكون ثابتاً يتحرك فكتب إليها يقول: (الأفضل أَن يكون المهد ثابتاً لأنو الولد إِذا اعتاد الترجح في الأرجوحة اضطرب نومه. وغلب عليه القلق والأرق أو تبقى يد الأم قابضة عَلَى دفة السرير طول الليل وهذا مما يذهب براحتها ويحرمها طيب المنام. وإذا أرادت الأم أن تستزيد من الراحة لها ولطفلها فلا تستعمل عادة التقميط فتشد إلى أعضاء الطفل وتجعله كطرد) البوسطة (أو كالمومياء المصرية. وشد الطفل عَلَى هذه الصورة يضايقه ويضطره إلى البكاء ومتابعةِ الشكوى من هذا الظلم الفادح. ولكن الأم الجاهلة لا تنتبه لسبب بكائه فتحسبه إنما يبكي فجوراً منه أو نكاية بها فتأخذ في هز المهد والتسخط عليه وعلى القدر طول الليل أه.
ومما رأت هذه الأم الفاضلة أنها في حاجة إلى تعلمه ـ مباديءُ الكيمياء ودرس طباع المعادن وخواص الأجسام فتعرف الضار منها من غير الضار والسام من غير السام. وبعد خمس عشرة سنة من زواجها صار لها بضعة أولاد فكانت بعد رجوعهم من المدرسة تكثر من مفاكهتهم ومداعبتهم ثم في غضون ذلك تودع نفوسهم مسائل العلم واحدة فواحدة.
ولا أنسى إذ كانوا مرة في صحن الدار وكانت الحاجة (طباختهم) قد ذهبت إلى بيت(47/19)
الجيران في بعض شأْنها.
فنادت الأم أولادها قائلة ذهبت (الحاجة) وسوف تمكث عند الجيران أكثر من ساعة إذ أننا نعرفها تكثر الحديث وتحسن الأقاصيص فلنغتنم فرصة غيابها أيها الأولاد ولننزل إلى المطبخ ونشاهد ما فيه من الأواني والأدوات المختلفة. أظنكم أيها الصغار لا تعرفون أنواع المعادن. وأن في المطبخ من المعادن مجموعة نفيسة: هلموا معي إليها ـ فتراكض الأولاد وراء أمهم مسرعين.
آه ما أحسن تصفيف هذه الأواني وما أشد ما اعتنت الحاجة بتنظيفها. شكراً لك أيتها العجوز.
انظروا هذه المقالي والقدور الصغيرة فهي من النحاس. والنحاس معدن نافع جداً يستخرج من جوف الأرض والذي يصنع منه الأواني يسمى نحاساً. وهذا النحاس يتوصل إلى صنع القدور النحاسيةِ بوضعها على السندان وضربها بالمطرقة الضخمة ثم التفتت إلى ابنها الصغير (وهبي) وقالت هل تعرف يا وهبي ما هو السندان وما هي المطرقة؟ قال نعم يا أماه كنت أريتنيهما في حانوت الحداد القريب من دارنا.
انظروا هذه القدر التي وضعتها (الحاجة) في ناحية بعيدة عن سائر القدور.
أتعرف السبب في ترك استعمالها؟
كلا يا أماه!
ألستم ترونها كامدة اللون؟
بلى يا أماه.
احترزوا أيها الأولاد من أن تضعوا شيئاً من هذه المادة الخضراء في أفواهكم: هذه البقع يسمونها (الزنجار) وهو أحد السموم القتالة لننظر الآن في القدور الأخرى النظيفة التي نطبخ فيها.
داخلها لامع نظيف. وهو مغطى بطبقة رقيقة من معدن أبيض وهذا المعدن يسمى (قصديراً) وليس القصدير كالنحاس في تولد سم الزنجار عليه ولذلك يطلعون به النحاس إذا طليا النحاس بطبقة رقيقة من القصدير قيل أنه (مبيض) أما إذا مزجنا النحاس والقصدير معاً بعد صهرهم كان لنا منهما معدن يسمى (برنزاً). والفتت إلى ابنها (حسني) وسألته هل(47/20)
تعرف معنى الصهر؟ قال لا. قالت الصهر تذويب المعادن وجعلها بحالة السيلان. ثم قالت لهم هو ذا شمعدان من معدن البرونز. والجرس الصغير المعلق على باب الدار يعلن مجيء القادمين من وقت إلى آخر هو من البرنز وأجراس الكنائس التي تسمعون أَصواتها متخذة من البرنز أيضاً. وكانوا قديماً يصنعون المدافع من البرنز وبقوا عَلَى ذلك زمناً.
وكان الشر في أول أمرهم يستخدمون شظايا الأحجار (أي قطع) في ضروب مرافقهم فكانوا يتخذون منها سكاكين وفؤوساً ويسمى ذلك العصر بالعصر الحجري. ثم اهتدوا إلى النحاس ومزجوه بالقصدير فحصلوا عَلَى معدن البرنز ومن هذا البرنز كانوا يصطنعون أسلحتهم وأدواتهم وما زالوا عَلَى استعماله حتى عرفوا الحديد في العصور الثالثة ويسمى هذا الطور الثالث للبشر (العصر الحديدي).
والحديد أنفع المعادن قال تعالى (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس). فاعترض (حسني) والدته وكان أكبر أخوانه قائلاً: يا أماه وهل نزل الحديد من السماءِ؟ قالت كلا وإنما خرج من الأرض قال فكيف يقول الله تعالى (وأنزلنا) قالت أن معنى (أنزلنا) هنا وهبنا ومنحنا.
ثم قالت لهم: ليس الحديد جميل المنظر ولا هو بذي لمعان وبريق كغيره من المعادن ولكن مع هذا لا ينبغي لكم أن تحكموا عَلَى الشيء بمجرد النظر إلى هيئته الظاهرة. فإن للحديد مزايا لا توجد في سواه. أعظم تلك المزايا صلابته ومقاومته للضغط الشديد الذي يقع عليه. وهذا الموقد من الحديد. ويستخرج الحديد من الأرض ممزوجاً بشوائب أخر فيصهرونه بواسطة موقد كبير حتى يمحصوه من تلك الشوائب. ويسمى الحديد بعد هذا التمحيص (حديد الصلب) وهذه القدر الصغيرة من ذلك الحديد. وإذا طلينا الحديد بالقصدير خرج لنا معدن هو (الصفيح) وهذه الآنية الصغيرة التي نسوي فيها القهوة من الصفيح. وإذا أضيف إلى الحديد مقدار قليل من الكربون ازداد صلابة وسمي حينئذ (فولاذاً) وهذه السكين التي ترونها عَلَى (الترابيزة) متخذة من الفولاذ.
لنفتح الآن درج) الترابيزة). (هذه ملاعق من القصدير الممزوج بمعدن آخر لين ثقيل هو الرصاص).
ثم قالت لهم مشيرة إلى الجدار: انظروا إلى المرآة. المرآة نديم المرأَة ومن عجيب أخلاق(47/21)
النساء أنهن يحرصن عَلَى اصطحاب هذه الأداة حتى في المطبخ!
هذه الطبقة اللامعة التي تغطي سطح زجاج المرآة من وراء والتي بسببها تنعكس صوركم إلى عيونكم ـ هي مزيج من القصدير والزئبقِ.
والزئبق معدن أبيض لونه كلون الفضة وإذا كانت حرارة الهواء اعتيادية كان الزئبق في حالة ميوعة. حتى إذا أردت القبض عليه بيديك فر وتفلت من بين أصابعك. ومن أجل ذلك كنى عنه غواة الكيمياء القديمة بالعبد الفرار. واشدوا في بعض منظوماتهم:
خذ الفرار والطلقا ... وشيئاً يشبه البرقا
فإن أحكمته سحقا ... ملكت الغرب والشرقا
ومعدن الزئبق يذكرنا بالفضة. انظروا أدوات الفضة. ها هي منضودة بعضها فوق بعض في الخزانة. انظروا الملاعق والشوك ما أشد لمعانها وما أكثر بريقها. والفضة من المعادن الثمينة. وهو قلما يتغير لونه مهما تعرض للهواءِ وهناك معدن آخر أثبت منه وأقل تغيراً. هو معدن الذهب. انظروا إلى خاتمي هذا: فهو من الذهب. ولست في حاجة إلى جلائه أو تنظيفه. فإذا ضفتم إلى هذه المزية مزية لمعانه الجميل ومزية ندرة وجوده عرفتم إذ ذاك مبلغ نفاسته وفضله على سائر المعادن. والنقود ذات القيمة العالية تتخذ من الذهب لكنهم يضيفون إليها قليلاً من معدن النحاس ليكسبها فضل صلابة. هلموا بنا أيها الأولاد تضع كل شيءٍ في محله ونرتب الأدوات الفضية كما كانت أولاً ولنعد النظام إلى هذه المملكة فإن المطبخ هو مملكة (الحاجة) التي لها فيها مطلق التصرف.
كيف أيها الأولاد أما جعتم؟ إن هذه الروائح الطيبة المنتشرة فوق القدور تبشرنا بغذاء شهي لذيذ. ها هو اللحم ينضج. وإني أقول لو كانت طباختنا (الحاجة) هي وقدورها في بلاد (الإسكيمو) لكان لها شأْن بذكر.
قالوا ولماذا يا أماه!
قالت الإسكيمو سكان الشمال حيث الجليد الدائم وليس لديهم معدن يتخذون منه قدوراً ولا تراب يصنعون منه أواني خزفية. فإن التراب إذا استحكم جفافه أصبح صلداً صبوراً عَلَى احتمال النار. ومن لم يقدر عَلَى اقتناء قدر من نحاس اقناها خزفاً. وإذا فقد النحاس والخزف فكيف يمكنه طبخ طعام! والإسكيمو كيف يصنعون؟(47/22)
يتخذ الإسكيمو مكان القدور جراباً من جلد وفي هذا الجراب يطبخون ما يقتاتون به من لحم. فصرخ أحد الأولاد: كيف ذلك يا أماه: إنهم إذا أدنوا الجراب من النار احترق وإذا أبعدوه عنها لا يغلي الماء ولا ينضج اللحم.
قالت أمهم نعم. ولكن الإسكيمو اهتدوا إلى طريقة وافية بالغرض. وذلك أنهم يبحثون في شواطيء البحار عن مقادير من الحصى الصغيرة ثم يطرحونها في النار فتحمى حتى تصل إلى درجة الحمرة فيتناولونها إذ ذاك ويضعونها في جراب الجلد حيث يكون اللحم والماء. فلا تلبث الحصى أن تنطفيءَ وتحدث حرارة قليلة في الماءِ. ثم يكررون العمل ويزاولونه المرة بعد المرة وبهذه الصورة تشتد حرارة الماءِ ثم ينضج اللحم.
ولم تصل أم الأولاد في حديثها إلى هذا المكان حتى سمعت صوت الجرس (البرنز) يرن على باب الدار يعلن رجوع (الحاجة) فصرخت لأولادها هلموا بنا قبل أن ترانا فتزعم أننا أفسدنا مملكتها وشوشنا عليها نظامها. فتراكضوا جميعهم من باب المطبخ مسرورين ضاحكين ولأبيهم المقبل مصافحين ومعانقين.
المغربي(47/23)
الإسلام والمدنية
إذا كان المرء ساعياً في إصلاح داره يجب في الأكثر أن يسترشد بآراءِ من سبقوه إلى إصلاح دورهم ليضم اختباره إلى اختبارهم ويقتصر عليه مسافة عمله وربما أتى ببعضهم وأراهم ما هو آخذ بسبيله فإن قدر أن يعمل بآرائهم كلها إن كانت صائبة وإلا فلا أقل من أن ينتفع ببعضها.
أولع الغربيون منذ حدث انقلابنا العثماني الأخير بالبحث في شؤوننا بعد أن كانوا يئسوا من إصلاحنا فصار بعض خاصتِهم يزورون العاصمة وبعض الولايات ويكتبون تصوراتهم عن السلطة العثمانية ويقيسون الحاضر بالغابر فبعضهم يستهزيء بنا وبانقلاباتنا وهم في الأكثر أرباب الأغراض السياسية وفريق يتوسط فيمزج استحسان ما يستحسنه باستهجان ما يستهجنه ومن هذا الفريق المسيو مارتين هرتمس أحد علماء المشرقيات في برلين. وهو من الذين قضوا سنين طويلة في سورية وعرف طبائع المملكة العثمانية واشتهر بمعرفة العربية من تآليفه التي نشرها وهو يجيد الكتابة والفهم بلغتنا كأَحد فضلاءِ كتابنا في أحوال المسلمين ولا سيما في البلاد العثمانية والتركتان الصينية.
زار هذا المستشرق عاصمة السلطنة وبعض قواعد بلاد الروم ايلي فكتب كتاباً بالألمانية وصف فيه ما شاهده في رحلته وقد اطلعنا عَلَى زبدة من كتابه في مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية فآثرنا الإشارة إليها ثم نعلق عليها ما آخذناه به من حكمه عَلَى المسلمين والإسلام ليرى أهل هذه الديار ما ينصح لنا به جيراننا لإصلاح بيتنا قالت المجلة: أراد بكتابه أن يعرّف ما رآه وما سمع به مدة مقامه في البلاد العثمانية فأورد ما انتهى إليه من المواد عَلَى علاته ولم ينظر فيه نظرة أخيرة ومهما يكن فإن كتابه يتلى بإمعان وفائدة لأنه من أفيد ما ظهر من الأسفار عَلَى البلاد العثمانية حديثاً وربما ظهرت على كلام المؤلف رشاشة من سوءِ النظر في العواقب ولكن ما لا مرية فيه أنه كفوءٌ في الموضوع الذي خاض غماره لا غرض له بل هو نظار جدير أن يحل كلامه موقع الاعتبار.
ربما قيل للمؤلف أن مقامك قليل في تلك البلاد فكيف ساغ لك أن تحكم بهذه السرعة فقد رأينا من يطيلون مقامهم في بلد يبالغون بمنزلة المسائل الرسمية والحياة الإدارية متسرعين ويطرحون النظر في حياة السواد الأعظم من العامة فيفوتهم كثير من المسائل الاجتماعية ذات الشأْن العظيم عَلَى أن السائح قد يلاحظ هذه المسائل أحسن من المقيم.(47/24)
وهناك اعتراض آخر وهو أن المؤلف قال إن كتابة عبارة عن سلسلة رسائل غير سياسية والناظر فيها تتجلى له السياسة من أعطافها وأطرافها لأول وهلة. ويرد هذا الاعتراض بما هو معروف عن المسيو هرتمن من عدم التحزب لفئة وأنه يحاول أن ينصف الكل فهو لا يبغض أحداً ويرمي إلى أن تعمل كل أمة وكل جماعة وكل شخص في خدمة المدنية والحضارة ما ساعدتها أسبابها. فقد رأَيناه يأسف عندما يرى العنصر الإسلامي وهو ممن يحبه لا يسير إلى هذا الغرض لأن الجمع بين الشريعة وبين مطالب الحياة الحديثة لا يخلو من تناقض. وهو يرى أن فكر الارتجاع في الأستانة والمدن الكبرى في الولايات غير موجود ولكن إذا انقضت أيام السياسة الحميدية فإن نتائجها ما انقضت.
قالت المجلة ولو قلنا في العام الماضي أن عَلَى الحكومة العثمانية إذا أرادت الاستمتاع بالبذور التي يحويها القانون الأساسي في مضاويه أن تربي الأمة تربية دستورية ديمقراطية فهذا مما تشتد حاجتها إليه. أَيد المسيو هرتمن هذا الرأُي فقال أن الانقلاب العثماني لا يشبه الانقلاب الفرنسوي فقد كانت الأمة في فرنسا تتبع القائمين بالثورة متحمسة وتشاركهم في آرائهم أما الشعب العثماني فلا يزال عَلَى آرائه القديمة ولذلك أراده المؤلف أن يرجع عنها وأقسم عليه أن ينظر للأمور نظراً صحيحاً لأن ارتفاع كلمة العثمانية معلق عَلَى اعتدالهم ويمكن أن يكون للنساء العثمانيات عمل عظيم في النهضة الوطنية.
وقد درس المسيو هرتمن حالة الاتحاديين السياسية في سلانيك ولا سيما تأْثيرات طائفة الدنمة وفيها وهم شعب إسرائيلي دا ـ بالإسلام. وجاءَ الأستانة يبحث عن كل شيء من سياسة ودين وأدب وصحافة وحياة اجتماعية وعقلية واقتصادية. وانتقد الإسلام انتقاداً شديداً فقال أنه يراه عقبة في سبيل الإصلاح فلا رجاءَ معه لتنظيم الإدارة. والطرق الدينية في الإسلام تختلف عن الطرق الدينية في النصرانية لأن لها تأْثيراً سيئاً وأن ما يظهر من أمرها يفسد الدين ويقلل من اعتباره. فأهل الطرق البكداشية والملامية والمولوية والنقشبندية والقادرية على اختلاف أسمائهم. هم خطر عَلَى الأمة مهما كانت مكانتهم وإن اتفقوا مع أهل التربية الحديثة من العثمانيين وهؤلاءِ ملاحدة يعرفون كيف يتظاهرون بالدين واحترام الشريعة. ورجال الدين عَلَى الجملة هم قوة عاملة محترمة وإن قلَّ التسامح فيهم.(47/25)
يقول المؤَلف أن تسعة أعشار رعايا المملكة العثمانية متعصبون فالأكراد أكثر تعصباً من غيرهم ويقل تمسك العرب بالدين في باطنهم فهم أقل تعصباً وليس المسلمون من الألبانيين من التسامح على جانب عظيم وأهالي البوسنة الذين انفصلوا حديثاً عن المملكة العثمانية موغلون في التعصب وأدعياءُ للغاية. ومن الأسباب التي تساعد عَلَى بقاءِ الحمية الدينية مظاهر شهر رمضان المنوعة فالدين عليه الحكومة ويصعب الآن أن يكون من الأعمال الخاصة بالنفس.
تدخل الأفكار الغربية البلاد العثمانية ببطءِ فالاشتراكية التي ينشرها البلغاريون خاصة في البلاد ومنهم رئيس منتدى سلانيك حيث تقرأُ المطبوعات الفرنسوية والألمانية في هذا الموضوع ولهم أشياع من الروم وتصدر في أزمير جريدة اشتراكية رومية كما تصدر جريدة إسلامية اشتراكية وإذا كان قراؤها على ما هو معلوم من حالتهم صعب أن يكون ارتقاؤُها سرياً بين المسلمين. فليس في البلاد العثمانية طبقة وسطى كما في سائر ممالك أوروبا.
ويتيسر للمرأَة العثمانية أن تكون ذات نفوذ فقد رأَيتها في سلانيك ترقى بسرعة خارقة للعادة. ولكن ارتقاءَها في البلاد الأخرى بطيء جداً. ويمكن أن يقال أن حالة المرأَة العثمانية أحط من المرأَة المسلمة في روسيا التي تستمتع بحرية عظيمة فيتيسر لها أن تدرس في المدارس الثانوية وهم يهتمون بما يجري في آسيا الوسطى والشرق أكثر من كل بلد سواه وربما كان المسلمون في روسيا غالباً أثقب أذهاناً وعقولاً من حكامهم الصقالبة أه.
هذا ملخص كتاب الباحث الألماني وفيه الجيد ولكن فيه مغامز كثيرة لا نحب أن يفوتنا النظر فيها نعرضها عَلَى المؤلف وعلى القائمين بمذهبه وأولها وهو ما كنا نرجو أن لا يقع فيه أمثال الأستاذ هرتمن قوله أن الجمع بين الشريعة وبين طلب الحياة الحديثة لا يخلو من تناقض وأن الإسلام عقبة في سبيل الإصلاح ولعل المؤلف يقصد من ذلك الشريعة النافذة في بلاد الياسمين اليوم وبعضها مما يخالف الأصول الصحيحة وهدي الشارع وأصحابه وتابعيه والأئمة المهديين والعلماء العاملين.
لا جرم أنه دخلت بدع وخرافات وموضوعات عَلَى الإسلام عبثت بجماله وكادت تضيع به أصوله لو لم يقيض له في كل زمن مجددون ومصلحون يدعون الأمة إلى الوقوف عند حد(47/26)
الكتاب والسنة وطرح الزوائد التي تضر ولا تنفع وأكثرها مما تسرب إلى الدين من الوثنية الأصلية وسرى إلى الإسلام كما سرى إلى اليهودية والنصرانية من قبل.
فالإسلام دين التوحيد وهو أكثر الأديان تشديداً فيه وحرصاً عليه ومع هذا نرى بدعاً دخلت عليه تكاد تقربه من الوثنية لولا سلامة الأصول المحررة المعتبرة وقيام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل مصر وعصر.
لم يعهد المسلمون أيام كانوا يدينون بالإسلام الحقيقي أن دينهم كان مانعاً لهم من الرقي الاجتماعي والأدبي والعلمي والسياسي فالدين الذي جعل من أموال الأغنياء صدقة للبائسين والمعوزين قد فرض عَلَى منتحليه ما يسمونه بالتضامن والتكافل فلم تنشأْ فيه الاشتراكية المتطرفة التي تهتز لها أعصاب المفكرين في الغرب اليوم. والدين الذي يأْمر كتابه في الزواج بقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وأن خنتم أن لا تعدلوا فواحدة إلى أن قال ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم قد قلل من العهر والفجور وحفظ نظام البيوت أحسن حفظ وراعى حقوق المرأة ومن سنة الطلاق لزوجين لم يتأَت أن يتعاشروا بالمعروف ليس فيه ما يؤخر المدنية ويحول دون سعادة أهله ولكن خلف بعد السلف خلف أضاعوا الأصل والفرع وانتهكوا حرمات الله وجهلت الأمة فأغلطت حجاب المرأَة بعد أن كان رقيقاً معقولاً حتى منع الرجال من الاختلاط ببنات حواء فنشأَت عن ذلك مضار ومنافع والمضار أكثر ولو وقف الحجاب عند حد ما رسمته الشريعة من أن لا يبدي النساءُ زينتهن إلا لبعولتهن ويضربن بخمرهن عَلَى جيوبهن لكان نظام البيوت في المسلمين اليوم أرقى مما هو وخلصوا من معاكسة الطبيعة في رغائب النفس ولتفاهم الجنسان أكثر من الآن ولما أصبحت حياة رجالنا وحياة نسائنا لا تخلو من نغص وغصص.
والدين الذي يأْمر صاحبه أصحابه أن يتعلموا لغة اليهود والحبشة ويحث عَلَى تفهم أسرار الكون من طرقها حتى لم يأْت عَلَى الإسلام قرنان ونصف إلا وقد تناول أهله بمعونة الخلفاء وما عرف من علوم البشر وتداولوه بينهم وصبغوه بصبغتهم حتى أنشؤُا لهم مدنية لو لم يكتب لها القيام لانقطعت من العالم سلسلة علوم المصريين واليونانيين والرومانيين والفرس والهنود ولاضطر أهل المدنية الحديثة أن يرجعوا مبتدئين بالعلوم بحيث لا يتيسر(47/27)
لهم تأْسيس المدنية التي أسسوها في ثلاثة قرون إلا أن تؤسس في عشْرين أو ثلاثين قرناً ـ إن ديناً هذا شأْنه وهو لم يمنع أيضاً من تعلم العلم والفلسفة ليس من الأديان التي لا تنطبق مع روح هذا العصر.
والدين الذي انتشرت كلمته في الآفاق وسلاحه الهداية والرفق بالمستضعفين وحماية العاجزين وجهاد المنافقين والخائنين حتى دانت به أمم كثيرة عن رضى هو دين لم يخرج عن المعقول من استتباع الناس وإرشادهم ومعظم الفتوح التي ينتقدها عليه الناقدون هي للاستعمار ومع هذا لم يحدث فيها من الويلات ما يحدث لأكثر دول التمدن الحديث عندما تهمُّ أن تستعمر قطراً من أقطار الشرق.
وإنا لنرى الغربيين في أحكامهم عَلَى الشرق يخالفون ما يجرون عليه في بلادهم فترى الدول الراقية منهم في آدابها هي التي تحافظ عَلَى دينها فقد رأينا ألمانيا قد احتفظت بالنصرانية المشربة أي البروتستانية ولم تعقها عن سيرها في مدارج الكمال العلمي والصناعي والاجتماعي وكذلك نرى انكلترا تحرص كألمانيا عَلَى تقاليدها القديمة حتى عد الاجتماعيون من حملة ارتقائهم أنهما لم ينبذا الدين كما نبذه رجال فرنسا فكان منه الويلات حاضرها ومستقبلها. وما نظن النصرانية لو أنصفنا أكثر انطباقاً عَلَى قوانين العلم من الإسلام.
ولو قال الأستاذ هرتمن أن حالة المسلمين اليوم لا تنطبق عَلَى الإسلام أمس ولذلك يصعب قيام الإصلاح بينهم لأصاب الغرض بعض الشيء فقد ذكر الطرق الدينية التي تفسد الدين وتقلل من اعتباره في الأنظار ولو أنصفنا ونظرنا إلى من أسسوا تلك الطرق لرأَيناهم عَلَى جانب من الأخلاق الفاضلة والتدين الحقيقي وأكثرهم كانوا من جملة علماء الإسلام العاملين لا المعطلين الجامدين.
وهذا الجمود لم يحدث إلا في القرون المتأخرة بصنع أناس لأخلاق لهم من الملوك أملوا لرؤساء المذاهب والطرق ليتخذوهم ذريعة إلى السياسة كما اتخذ الشاه عباس الصفوي من مذهب الشيعة مستنداً له في سياسته فاستعمل العلماء واسطة للتفريق بين أجزاء الأمة ونشط كل ما أملاه التعصب الذميم وسكت عن كل قصور وكذلك فعل السلطان سليم العثماني وقتل من الشيعة أربعين ألفاً في وقت واحد في الأناضول بحجة دينية والحقيقة أنه(47/28)
لا يقصد غير السياسة.
فالملوك المتأخرون استعملوا الدين ذريعة إلى الدنيا وعبثوا أسراً بحرم الله وأدخلوا في الدين ما لبس منه وجعلوا العامة مسيطرين عَلَى الخاصة ففسد النظام وعاق ذلك سير الإصلاح في القرون الجامدة وإلا فأي مانع اليوم يمنع العثمانيين ولا سيما المسلمين منهم من الرقي وقد ارتفعت أكثر الحواجز والقيود بفضل القانون الأساسي الذي لا يناقض أصلاً من أصول الشريعة وإذا رأَينا بعض تناقض وجب علينا أن نفسر الشريعة لنطبقها عَلَى العلم كما يأْمر بذلك العلماءُ الراسخون.
أما اغتباط الأستاذ هرتمن بحال المسلمات في روسيا من أنه يباح لهن الدرس في المدارس الثانوية والعالية مع الفتيان فهذا عَلَى إطلاقه لا يصح أن يكون حجة عَلَى المسلمات العثمانيات والاختلاط إلا إلى حد محدود لا يخلو من مفاسد يعرفها علماء الأخلاق في الغرب وهم منها أكثر شكاية منا ويرجى بفضل الأفكار الغربية التي تدخل ببطءٍ إلى بلادنا كما قال المؤَلف أن تكون بعد اليوم حال المرأَة المسلمة أكثر انطباقاً مع المدنية والعقل والشرع فليس كل ما نراه هو ما كان عليه السلف الصالح كما قلنا.
وإن معظم ما نشكو منه من أمراضنا الاجتماعية ليس الدين منشأُوه بل الجهل بأمور الدنيا فينبغي لنا تهذيب نسائنا وتعليمهن عَلَى الأصول الدينية والمدنية ورجالنا كذلك وعندئذ لا يرمي مثل المسيو هرتمن أهل هذا الدين كله بما رماهم به ونحن نرى اليابان وهي الدولة الوثنية من أرقى دول الحضارة الحديثة ولم تعقها وثنيتها عن ذلك ونظن المؤلف يوافقنا عَلَى أن الإسلام بما دخله من خرافات المتأَخرين أكثر اتفاقاً مع المدنية من وثنية يابان.
فحياة الأمم بالدين الذي لا يمازجه تعصب أكثر منها بالانحلال من كل دين وأمة لا قديم لها يصعب عليها الارتفاع بحديثها كما فعلت فرنسا فأرادت نبذ كل قديم وإحلال الحديث مكانه فخسرت الصفقتين أو كادت ولو ربي شعبها تربية دينية خالصة مع ما يلقنه من التربية العصرية لما شكت فرنسا من زيادة العهر فيها وقلة نفوس سكانها سنة عن سنة وإنا لنعتقد أن قلة التسامح الذي نراه في الجامدين من أهل الطرق وأدعياء الدين يقل جداً من السلطنة يوم نعلمهم أو نعلم أبناءهم التعليم الوسط المنظم دع عنك العالي وحياتنا مناطة باستنارتنا ولا جمود إلا مع الجهل. وطريقة دينية عَلَى أصولها يدخلها النشوءُ والإصلاح بحسب سنة(47/29)
النمو والتدريج أنفع من طريقة دنيوية لا تتشربها نفوس من تعرضها عليهم ولا تناسب تقاليدهم وأوضاعهم.(47/30)
الشعرى
إذا غابت الشمس ساعة في هذه الأيام سرح طائر نظرك عَلَى منفسح الأفق تر كوكباً متوقداً يرتفع شيئاً فشيئاً بأبهةٍ وجلال وهو يزيد تأَلقاً كلما زادت الظلمات حلكةً ويرتفع في القبة الزرقاءِ في جهة الجنوب الشرقي. فهذا الكوكب هو الشعرى العبور وهي التي ترصع جهة الرقيع بهذا الفص البديع بحيث يصدق ما قال فيها عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر وهو من ظريف ما قيل فيها:
واعترضت وسط السماءِ الشعرى ... كأَنها ياقوتة في مدري
وقال فيها ابن المعتز:
شربتها والديك لم ينتبه ... سكران من نومته طافح
ولاحت الشعرى وجوزاؤُها ... كمثل نرج جرَّه رامح
وشبه أبو نؤاس الدرهم بها فأنشد:
أنعت صقراً بغلب الصقورا ... مظفراً أبيض مستديرا
تخاله في قده العبورا
فهذا الكوكب لحسنه عبده قوم من العرب في الجاهلية وإليه الإشارة في سورة النجم وإنه هو رب الشعرى وكان العرب قد أخذوا هذه العبارة عن جيرانهم المصريين الذين كانوا قد أَلهوها لأنهم كانوا ينسبون إليها فيضان النيل. وقد زادت شهرتها لهيام شعراءِ الأمم كلها بحسنها ونقاءِ ضيائها الأزهر. وأنبت لهم الخيال أجنحة طاروا بها في عالم المحال. لا رادع لهم يردعهم ولا وازع لهم يزعهم فكم من شاعر ذهب إليها بالوهم فسكن فيها ونظر منها إلى الأرض بل وكم منهم من تعود هذه الفعال بدون أن يتروَّ في ما يقوله من المجال. فهذا فلتير قد وضع أحدوثة اسمها الصغير الكبير (مكروميغاس) جعل المروي عنه واحداً من سكان الشعرى. ثم بنى عَلَى هذا الوهم ما بنى ومثله فعل رنان فإنه قال: إذا أراد الإنسان أن يرى محاسن الأرض فليرق إلى الشعرى فإنه يجد فيها أحسن مرقب يرقب منه هذه الحبة الخضراء المعروفة عندنا باسم الغبراء ولا يخفى ما في ذلك من الوهم المستحيل لأن شدة الحرارة الشعرى تمنع أياً من كان من أن يدخلها إذا ما بلغها. بل تميت أياً من كان قبل البلوغ إليها.
فلندع إذاً أهل الخيال في جوهم يسبحون وأهل المحال في ميدان تصوراتهم يمرحون(47/31)
ولنأْت إلى مجالسة أهل العلم من العصريين ولنسأَلهم عما كشفوا لنا من الأنباء ولنطلب إليهم أن يهتكوا لنا شيئاً من استثار مظاهر الخفاءِ ولنسمع ما يرويه علينا أحد أكابر الفلكيين وهو العلاّمة شارل نوردمان من جلة علماء باربزاد يقول:
إننا نرصد كل مساء الشعرى العبور ونتثبت بواسطة المرقب نورها فنحلله تحليلاً ينبئنا عما هنالك من الغرائب والأسرار الغامضة وتروي لنا هذه الرسول الصغيرة في أعيننا حقائق ودقائق تأخذ من قلوبنا أي مأْخذ حتى أنها ترفعنا إلى أعالٍ لم يرق إليها الخيال بأجنحته الذهبية.
والشعرى تبعد عنا نحواً من خمسمائة مرة من بعد الشمس عنا. ونورها إلينا لا يصل إلا في مدة تسع سنوات. أي أنك إذا رأَيت نورها اليوم فهو لم يشرق عليك إلا قبل تسع سنوات والذي تراه اليوم كان قبل تسعة أعوام. وإذا حدث فيها حادث جديد في يومنا هذا فلا يمكنك أن تراه إلا بعد أن تمشي عليه هذه المدة المذكورة لأن النور يقطع في الثانية ثلثمائة ألف كيلومتر. فالظاهر إذاً أن الشعرى اليمانية بعيدة عنا بعداً عجيباً ومع ذلك فهي قريبة منا بالنسبة إلى سائر الكواكب التي قد ذر قرنها منذ ألوف من السنين ونورها إلى اليوم لم يبلغنا. ونحن نعلم اليوم أن الشمس والشعرى ليسنا إلا كقطرتين من بحر عجاج متلاطم بأمواج الأنوار ذاك البحر الذي نسميه المجرة والحال أن النور لا يقطع عرض المجرة إلا في مدة خمسة وعشرين ألف سنة. والشعرى مع هذا هي إلينا أقرب هذه الكواكب المنتشرة على بساط المجرة من سواها وعليه فرصد الأرض من علو الشعرى لمن التخيلات المتوغلة في المحال. وقد أتيح للفلكي المذكور أن يقيس بوسائط مذكورة في علم البصريات ليعرف درجة حرارة جو الشعرى فوجده لا يقل عن 12000 درجة. ولا يستطيع أن يتصور علو هذه الدرجة البعيدة في الحر إلا إذا قابلنا حالتنا في أيام الصيف عندما يشتد أعظم الاشتداد فلا نستطيع أن نتنفس ولا نتحرك ومع ذلك لم يبلغ الحر إلا 40 ـ 50 درجة. ثم ما الحال لو قابلنا تلك الحرارة بدرجة غليان الماء وهو لا يكون إلا في مائة درجة. وما عسى تكون تلك المقابلة لو علمنا أن أعظم حرارة بلغ الإنسان إلى الحصول عليها عَلَى الأرض هي 3500 درجة وذلك في القوس الكهربائية. وإن حرارة الشمس نفسها لا تزيد على 5300 درجة في جوها المعتدل. وعليه فتكون حرارة الشعرى(47/32)
أقوى من حرارة الشمس ثلاثة أضعاف تقريباً. ومع ذلك فيوجد كواكب أخر أحر جواً من الشعرى وذلك في صورتي الثور وحامل رأْس الغول المعروف أيضاً باسم سياوش. فكيف بعد ذلك يمكننا أن نسمع ظلامات شعرائنا الذين يقولون ببرودة الكواكب والنجوم. نعم إنهم مصيبون إذا أرادوا بذلك أن الكواكب لا تجيبهم بكلمة إذا ما شكوا لها ضيمهم وإلا فلا. والأولى بشعرائنا العصريين أن يستعيروا لهم برودة غير برودة الكواكب.
هذا وقد أدت الحسابات اليوم لا بل وأَبسط الحسابات أن الشمس لو كان لها جوّ مثل جوّ الشعرى لما كانت الحياة ممكنة عَلَى الأرض لتحول إلى البخار جميع العضويات الحية الموجودة عَلَى الأرض. ولما أثر ذلك شيئاً في سير سائر النجوم والكواكب.
وضياء الشعرى يضاهي حالة جوها غرابة وعجباً. فإن فلكينا الباريسي نوردمان قد أثبت بأنها تنير الكون بنور أقوى من نور الشمس خمسة وعشرين ضعفاً فيكون نور الشمس بالنسبة إلى نور الشعرى نسبة شمعة إلى مصباح زاهر أو بعبارة أخرى أخصر وأصح: يجب وضع خمس وعشرين شمساً من شمسنا لنحصل على ضياءٍ يشابه ضياء الشعرى. وإن شئت تعبيراً علمياً فقال: إن كل سنتيمتر مربع من وجهها يبرز نوراً ما يوازي تقريباً ستة ملايين من الشموع العشرية.
كل هذه الحقائق المقررة قد أثبتت بوسائط علمية حديثة في منتهى السذاجة لا محل لذكرها هنا لأن العين لا تستطبب نظر بناية فخمة جديدة إذا كنت تراها مدعمة بأخشابها والأجدر والأحسن أن تنتزع قبل أن ترمقها الأعين لتبدو بهجة منظرها.
ثم إن منظر طيف الشعرى كشف لنا أيضاً أموراً ما كان ليكشفها لنا غيره وهي في منتهى الغرابة أيضاً. فإن المنظار المذكور أظهر لنا أن في الشمس أغلي معادننا الأرضية وأما في الشعرى فإنه كشف لنا عن جو مركب كله تقريباً من كتلة عظيمة من الهدروجين وهو من أخف الغازات المعروفة. فيجب أن نستنتج من ذلك أن سائر العناصر الكيماوية التي هي أثقل قد تفككت وتحولت إلى هدروجين بقوة الحرارة الشديدة حرارة الشعرى. فإذا كان الأمر كذلك فحينئذ عند مرور الأعصار وكرور الأدهار لما يبرد الكوكب وينتقل من حالة الشعرى إلى حالة الشمس كما تحقق هذا الأمر عند جمهور العلماء يجب علينا أن نسلم أن الهدروجين في برودته يسير سيراً معاكساً أي إنه يتخثر رويداً رويداً فتتكون منه سائر(47/33)
المعادن. ومن ثم فإن الكواكب تكشف لنا عن سر طالما كان غامضاً عَلَى أهل العصور الوسطى ألا وهو سر علم الصنعة الذي ترمي غايته إلى تحويل المعادن بعضها إلى بعض وعلمه فوق كل علم بغداد
ساتسنا.(47/34)
أمالي تاريخية
الضريبة
روى المحبي في خلاصة الأَثر: إن العوارض مظلمة سلطانية تؤْخذ من البيوت في الشام في كل سنة ويقال أنها من محدثات الملك الظاهر بيبرس أشار إليها الصفوري بقوله معتذراً:
يا من فضله والجود سارا ... مسير النيرين بلا معارض
وعدتك سيدي والوعد دين ... ولكن ما سلمت من العوارض
والأكرمي بقوله أيضاً وقد أجاد:
لحا الله أيام العوارض إنها ... هموم لرؤياها تشيب العوارض
يضيق لها صدري وإني لشاعر ... خليع وبيتي ما عليه عوارض
القشلق
وروى المحبي أيضاً أن القشلق من عسكر السلطان مراد بن أحمد كانوا قد عينوا لمحاربة شاه عباس فدهمهم الشتاء دون الوصول إلى خطة العجم فأمروا أَن يشتوا في دمشق وأَطرافها من القرى وضيقوا عَلَى الناس أمر المعيشة وبالغوا في التعدي والتجاوز ونهب أَموال الناس وكان قاضي القضاة بدمشق أحمد بن عوض العينتابي تولى هذا المنصب سنة 1041 هـ قسى بقمعهم وكف شرهم فقال إبراهيم الأكرمي في ذلك:
انظر إلى القشلق في ذلة ... العكس من حالهم الحائل
كم رجل منهم بسموره ... عَلَى جواد صائل صاهل
تحل بالجندي غلمانه ... وقد أتى يسأَل عن سائل
ووصفهم أبو بكر العمري بقصيدة بليغة مشيراً إلى عيثهم ومعاونة القاضي في دفع أذاهم مطلعها:
أواه مما حل في جلق ... من العنا في زمن القشلق
رامي البلى مد عَلَى أهلها ... قوساً له قال القضا فوّقي
حتى تنادي الناس مما هي ... باليتنا من قبل لم نخلق
ومنها:(47/35)
كانت دمشق الشام محسودة ... لكونها بالعين لم تطرق
آمنة من كل ما يختشى ... أْمنة للخائف المشفق
مائسة تزهو بسكانها ... مائدة للبائس المملق
لا يعرف الدخل لها مدخلاً ... ولا إلى عليائها يرتقي
وهي عَلَى ما تم من نعمة ... تتيه بالحسن وبالرونق
ومنها في وصف قشلق:
في رقعة الشام غدت خيلهم ... وذلت الأرخاخ للبيدق
أواه من خمدة نيرانها ... يا نار كيف اليوم لم تحرق
إلى أن قال:
يا ويح قوم دعسوا أرضنا ... وأَوقفونا في ردى موبق
وقد أغاروا وبنا أحدقوا ... يا غيرة الله إلينا أسبقي
أجلوا أهالي النور عن دورهم ... بالسيف والدبوس والبندق
واتخذوها سكناً دونهم ... بالفرش من خزّ ومن استبرق
واستوعبوا أكثر أموالهم ... ظلماً بلا عهدٍ ولا موثق
واقتنع الناس بأعراضهم ... فإنها بالثلب لم ترشق
وأرخ ذلك بقوله:
لقد غزينا دون وعد بلا ... لأم فارخ سنة القشلق
وأشار إلى وجوب إسقاط اللام من التاريخ فتبقى سنة 1041هـ 1631م.
زحلة:
عيسى اسكندر المعلوف.(47/36)
غرائب الغرب
كلية باريز
17
كلية باريز من أقدم كليات العالم في التاريخ إن لم تكن أول كلية أُنشئت وقد كانت في القرون الوسطى بلا مراءٍ أشهر كلية وأكثرها إيواءٍ للطلبة فكان علماءُ الوقت كما قال أحد الفضلاء ينظرون إليها بأنها صاحبة الحق في استخراج كنوز العلوم ملكت إرثاً شرعياً صحيحاً وكانت أول كلية أُنشئت في العالم كلية بابل أَسسها نينوس مؤَسس نينوي والمملكة الآشورية الأولى وخلفتها كلية منفيس المصرية وخلفت كلية منفيس كلية آثينا وبعد هذه أُنشئت كلية رومية وبعدها قامت كلية باريز واشتهرت كلية بولونيا في تعليم الحقوق كما سبقت كلية باريز غيرها في الآداب المقدسة والعالمية وكان في جوارها عشر مدارس تحيط بها كأَنها أم القرى وتلك من أعمالها مثل مدرسة الإنكليز ومدرسة الإيكوسيين والألمانيين واللومبارديين واليونانيين ولطالما بعث الملوك إليها بأولادهم ليتخرجوا في المنطق ويتعلموا رقة الجانب وحسن الأدب والعشرة.
ظلت هذه الكلية منذ القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر تربي معظم الرجال الذين يختلفون إلى التعلم فيها وفيهم الشعراءُ والعلماء والفلاسفة ومن مشاهير من تخرجوا فيها غليوم أوكام ورايمون لول وتوما داكين وبنوا دانانيي وبونيفاس الثامن وبرونوتو لاتيني ودانت وتوما موروس وإيراسم وغيرهم وجميع طلابها عَلَى اختلاف أصقاعهم كانوا يرتاحون في حماها وكان مطمح أنظارهم حب الحقيقة وهي القاعدة الأصلية فيها وكل منهم يتمتع بحقوقه. ولقد جاءَ زمن كانت الحياة العقلية محصورة في جدران المدارس إلا أن كلية باريز أعظم منبعث لبث الدعوة إلى الأفكار الفرنسوية وكانت وحدها تكفي لإنارة العالم إلا قليلاً وكان رجال تلك الأزمان ينسبون العلوم إلى مواطنها ويرجعون الأمور إلى مصادرها فيقولون أن رومية مقر البابوية وألمانيا مقر السلطة وباريز مهد العلم.
وكانت الأفكار الفرنسوية ـ كما قال أحدهم في المجلة الباريزية ـ هي أكبر معين في القرون الوسطى عضد إلى النهاية الصليبيين في نشاطهم وهيأَ أسباب الحماسة الدينية وفتح لأمم المغرب ونشاطهم طرقاً جديدة في العمل ومن الأفكار الفرنسوية نشأت بعد نزاع قديم(47/37)
فكرة الوطنية متجلية في صورة مؤثرة ذات بأْس ومضاءٍ بحيث خضعت السياسة لسلطانها ووضعت أسس الوحدة الوطنية. والأفكار الفرنسوية هي التي طهرت رياح الإصلاح والنهضة وقادت الأفكار القديمة إلى التجديد وأنارت العالم بقبس أنوارها. والأفكار الفرنسوية هي التي حملت إلى العالم في عهد فولتير ومونتسكيو أفكار التسامح الديني والعدل الاجتماعي والحق والإنسانية. والفكر الفرنسوي هو الذي سنّ المباديء الخالدة في دساتير الأمم المتمدنة بأسرها. فمن فرنسا نشأت حرية البلجيك وحرية اليونان وحرية إيطاليا وحرية العثمانية. وفرنسا مهد الأدب تنشر أنواره فتتناوله الأجانب وتتقبله بقبول حسن وهي البلاد التي اشتهرت بعلمائها وصناعها.
ومن كلية باريز اخترع أمبير اختراعاته التي لولاها لما اخترع التلغراف اللاسلكي والسلكي والتلفون ولم تتم عجائب الكهربائية الصناعية. وفي كلية باريز أحدث باستور انقلابه العظيم في علم الحياة الذي جعله المحسن إلى الإنسانية في العالم أجمع. وفي كلية باريز حقق برتلو الطريقة الصناعية في المواد العضوية فنشأت منها الكيمياء الحديثة. وفي كلية باريز اخترع كوري وقرينته الراديوم واهتزت في أيديهما ذراته. وفي معامل كلية باريز أوقد مواسان للمرة الأولى التنور الكهربائي كما اخترع غيره التصوير الشمسي بالألوان كانت هذه الكلية كما قلنا أعظم كليات القرون الوسطى فجعلوها سنة 1896 كلية تليق بعظمتها الماضية بحيث لم تفقد مكانتها العلمية وفيها اليوم زهاء ثلاثمائة أستاذ يفيضون كما أفاض أسلافهم عَلَى العالم من علومهم ولا سيما على أميركا الجنوبية وبوهمييا والبلاد المصرية والعثمانية وكانت هذه الدار رسول السلام بين الأنام ومعلمة الناس كيف يكون التجانس الروحي والإخاء العام. ولكم كان أساتذتها يسيحون في بث ما علمهم الله في البلاد التي يقل فيها العالمون ولكم أنشئت في حجر هذه الدار جمعيات تريد التقريب بين الشعوب وتعليم الجاهل منهم ولكم رنت في غرفها وقاعاتها أصوات الخطاء من علماء الأرض أتوها يحملون إليها نتائج أبحاثهم ودروسهم. فإن كانت كلية باريز أمَّ كليات براغ والأستانة ومصر وغيرها من كليات البلاد اللاتينية وأميركا اللاتينية فهي تفاخر بأنها أم كليات إنلكترا وإيكوسيا.
ويؤخذ من إحصاء سنة 1907 ـ 1908 أنه كان في هذه الكلية 17303 طلاب منهم(47/38)
3361 من الأجانب فتيان وفتيات ومن هؤُلاءِ 926 يدرسون الحقوق و520 يدرسون الطب و773 العلوم و1062 الآداب ولم تقصر كليات الولايات وعددها اثنان وعشرون كلية في بث روح التكافل الأخلاقي والعقلي فأنشأت كلية تولوز جمعية اجتماع الطلاب الفرنسويين في اسبانيا وأنشأَت كلية بوردو مدرسة الدروس الاسبانية العالية في مدريد وأنشأت كلية كرنوبل المجمع العلمي في فلورنسة وكلية نانسي وهي على الحدود الألمانية تعلم قاصديها احترام فرنسا وخدمتها للعلم. وهكذا الحال في كلية مونبليه وليل وليون فكليات فرنسا تعلم في السنة سبعة آلاف طالب وهو عدد ليس بقليل يدل عَلَى تفردها في هذا الشأن من بين أكثر الممالك الراقية.
هذه شذرة صغيرة في وصف كلية باريز التي ما زالت الحكومة الفرنسوية تنفق عليها النفقات الطائلة والمحسنون لا ينفكون عن إعطائها المنائح الكبيرة فقد وهبها كارنجي المحسن الأميركي كثيراً كما أن بعض الروسيين منحوها مالاً جزيلاً والفرنسيس يعطونها عن سعة. فحيا الله يوماً تقام لكل قطر من أقطار البلاد العربية كلية مثل هذه تدرس أبناءها علوم البشر بلغتهم وتكوّن مجتمعنا بالوطنية الصحيحة كما تكونها كليات الممالك الصغرى في الغرب كالبلجيك وهولاندة والدانيمرك والسويد ونروج وسويسرا والمجر وبولونيا وفنلندا والبرتقال.
حدائق باريز ومتاحفها
18
يطول بنا نفس الكلام إذا أردنا الإفاضة في كل فرع من فروع العمران بباريز وكلها مما يحتاج إلى صفحات كبيرة وربما ملّ القاريء قبل أن يمل الكاتب. ولقد عنيت مدة مقامي في هذه العاصمة أن لا أضيع ساعة من وقتي إلا في البحث عن جمعية أو إنسان وزيادة معهد فيه نموذج من ارتقاء العقول ووفرة العلم وحذق الأبدي وبسطة العيش وفضل الرفاهية ومما جعلته لأوقات الفراغ غشيان الحدائق والمتاحف ودور التمثيل والسماع.
في باريز حدائق كثيرة عامة ومنها الصغير الخاص بحي أو شارع صغير ويسمونها سكوار وهي كلمة إنكليزية معناها ساحة مربعة أو حديقة يحيط بها حاجز من قضبان حديد وتكون في ميدان عام وعددها 36 حديقة تتمنى كل حاضرة من حواضر البلاد العثمانية أن يكون(47/39)
لها من نوعها واحدة فقط بانتظامها وحسن تعهدها. أما الحدائق الكبرى فعددها تسع تصرف في كل واحدة الساعات وأنت تسرح ظرفك فيما خصتها به يد الصانع وأيدي البشر من مجالي الظرف والجمال.
زرت منها حديقة الحيوانات وحديقة النباتات وحديقة كلوني وحديقة لوكسمبورغ وعجبت لمن يزور هذه الحدائق مرات لم لا يكون عارفاً بالنبات والحيوان وتاريخ مشاهير فرنسا أحسن معرفة فمثل هذه الحدائق التي يتنزه فيها المتنزهون هي في الحقيقة مدارس عملية يدرس فيها المتنزه كبيراً كان أو صغيراً ما ينبغي له من هذه العلوم درساً عملياً لا يحتاج فيه إلا إلى انتباه فكر قليل حتى إذا أسعده الحظ ونظر في المدرسة أو خارجها في كتب هذه العلوم يصبح وهو مطبق العلم عَلَى العمل.
ولقد رأَيت في حديقتي الحيوان والنبات أسماء كنت أقرأها ولا أعرف أعيانها فلما وقع النظر عليها تبينت فضل عرضها وأن العلم النظري إذا لم يشفعه علم عملي يبقى كالسيف في غمده أو البندقية في معملها أو الكهربائية قبل توليدها. وليس في البلاد العثمانية أو المصرية ما يشبه هذه الحدائق الله إلا أن تكون حديقة الجيزة والجزيرة والقناطر الخيرية في مصر وحديقة الأمة وغيرها في الأستانة ولكن أين الثريا من يد المتناول ما ينظمه الباريزيون لأنفسهم وينظمه الإنكليز أو الطليان والنمسويون لنا. وما حك جسمك مثل ظفرك.
وإنك لترى في بعض الحدائق العامة تماثيل مشاهير رجال فرنسا في السياسة والعلم مجسمة من رخام مجزع أو حديد مصنع كأَن ساحات باريز وشوراعها العظمى لم تستوعب وحدها كبار رجالهم حتى هرعوا إلى الحدائق يضعون فيها التماثيل والنصب لمن أحسنوا اللامة أو سادوها زمناً وأصبح لهم في تاريخها ذكر يردد. ففي ساحات باريز وشوارعها 68 مشهداً لمشاهير علمائهم ورجال سياستهم ومنهم أوغست كونت والفرد دي موسه وشاركو وكورنيل ودانتون وغامبتاوكي دي موباسان وجول سيمون ولافييت وواشنطون ولافوازيه وباستور وفيكتور هوغو وغيرهم وفيها 68 تمثالاً اثنان منها لاسكندر دوماس الابن والأب. وواحد لبالزاك وبوفون وبرانجيه وشارلمان وكلود برنار وكوندورسه ودانت وديدرو وغاريبالدي وجورج ساند وجان جاك روسو وجان دارك ولامارتين ومارات(47/40)
وموليير وباسكال وشاكسبر وفولتير وتمثال الحرية والقانون والجمهورية هذا داخل العاصمة أما خارجها فلها من غابتي فنسين وبولونيا أعظم فسحة ونزهة وغابة فنسين في شرقي باريز على بضعة كيلومترات من نقطة دائرتها ومساحتها 927 هكتاراً وفيها من أنواع الراحة وتنويع المناظر المفيدة ما هو العجب العجاب وأعجب منها غابة بولونيا في غربي باريز ومساحتها 873 هكتاراً زرتها ثلاث مرات وإن كانت في الشتاء ليست مثلها في الصيف عَلَى أنها ما خلت من الأنيس والجليس وكان أحد تلك الأيام يوم عيد رأْس السنة والسماء مصحية والشمس طالعة مريضة صحيحة والعيون المراض الصحاح خرجت من كناسها تستنشق الهواء النقي. وهناك منظر من بحيرات بولونيا وطرقها لا أدري كيف يصوره الشاعر إذا كان الوقت ربيعاً أو صيفاً أو خريفاً ولو كنت شاعراً لحبرت في وصفه القصيدة وإن زرتها في الفصل الميت كما يقول الفرنسيس.
أما المتاحف الباريزية فهي أيضاً قصور نزهة وحدائق صفاءٍ وعددها 31 متحفاً يحتوي كل منها عَلَى أقصى ما يتصوره العقل من ارتقاء البشر في الصناعات والفنون على اختلاف الأعصار زرت بعضها وقضيت أوقاتاً طويلة في متحف اللوفر العظيم يالقرب من نهر السين ومتحف فرسال عَلَى ثلاثة أرباع الساعة من باريز. أما متحف اللوفر فهو من أجمل قصور العالم وأوسعها عرف سنة 1204 عَلَى عهد فيليب أوغسطس وما زالت أيدي الملوك تتعاوره بالإصلاح أو التدمير حتى إذا كان عهد فرنسيس الأول أصبح اللوفر متحفاً يقسم اليوم إلى سبعة متاحف في متحف بحسب أصول آثارها وزمنها وطبيعتها وهي متحف التصوير ومتحف الرسوم ومتحف النقش ومتحف النحت القديم ومتحف النحت في القرون الوسطى وعَلَى عهد النهضة ومتحف النحت الحديث ومتحف العاديات الآسياوية ومتحف العاديات المصرية ومتحف العاديات الإفريقية ومتحف العاديات النصرانية ومتحف الفخار والأواني الخزفية القديمة ومتحف القلز والحلي والرخام القديم ومتحف عاديات القرون الوسطى والنهضة والقرون الحديثة ومتحف تير ومتحف البحرية ومتحف الشرق الأقصى. وكل متحف تصرف فيه الساعات الطويلة ولا تستوفي النظر فتأْخذك الدهشة من رؤية المكان ورؤية المكين وتقضي بالعجب من كل ما يقع عليه بصرك إذ تتمثل لك عظمة الإنسان وتفننه فيما تصنعه يده وعينه وذوقه أما متحف فرسال فهو في مدينة فرسال(47/41)
وكانت في القرن الحادي عشر للميلاد قرية فأصبحت بعناية لويز الثالث عشر مدينة صغرى لأنه أقام فيها قصراً للراحة أثناء الصيد وأراد لويز الرابع عشر أن يجعل فرسال مركز حكومة فرنسا فأنشأَ فيها أبنية ومصانع عظيمة وكذلك فعل لويز الخامس عشر حتى أصبح عدد سكانها ثمانين ألفاً على عهد الثورة. وهكذا إذا أراد الملوك أن يعمروا بلداً أحيوه وإذا شاؤا أن يخربوه أماتوه. واشتغل في إقامة قصر فرسال الذي جعل المتحف فيه اليوم ثلاثون ألف رجل وسنة آلاف دابة في اليوم مدة سنين طويلة وقد فتحت أبواب المتحف سنة 1837 وفيه اليوم. 5600 أثر تاريخي.
أما مجموعة الصور البديعة التي فيه فعددها 2400 صورة ليس لها نظير في العالم ومن يمعن النظر فيها كثيراً يخرج من المتحف وقد درس تاريخ فرنسا ووقائعها الحربية بالعمل والنظر.
ومن جملة ما حواه أسلحة ببيوت الشرف التي اشترك فرد أو أفراد منها في الحروب الصليبية. ومنها أبواب مستشفى فرسان رودس الذي أهداه السلطان محمود العثماني سنة 1836 إلى لويز فيليب صاحب فرنسا. وفيه صور كثير من مشاهير الشرق كأنك تراهم عياناً وفيه صورة تمثل القائد كلبر الفرنسوي وسليمان الحلبي يقتله في حديقته في القاهرة زمن الاحتلال الفرنسوي في مصر.
أطلت الرواية في كل هذا وأنعمت النظر في النفقات الطائلة التي أنفقت على هذه القصور المزخرفة والمصانع العظيمة فأعطيت بعدها الحق لمن قاموا بالثورات الفرنسوية يريدون إنزال الملوك عن عروشهم وفصم عرى السلطة الفردية لتنقل إلى أيدي الأمة. نعم إن أقل نظرة إلى هذه القصور يستغرب معها المرء كيف لم تحدث تلك الثورات قبل حدوثها بزمن طويل ولكن الحوادث كالحبال لا تلد إلا بعد إتمام مدة الحمل أو كالثمر لا ينضج قبل إبانه.
ولم أتمكن يوم زيارتي لفرسال من رؤية كل حدائقها ومرافقها لنزول الثلج ولكني عَلَى الجملة أخذت منها صورة إجمالية كافية. شأني في كل ما زرته من المعاهد ورأَيته من المشاهد فلم يتيسر لي أن أُلقي عليه سوى نظرة واحدة لضيق الوقت وكثرة ما يجب أن يدرس من آثار هذه الحضارة الغربية الغريبة.
وبعد كل هذا صرت أَرى الاشتراكيين عَلَى حق فيما يطالبون به المجتمعات الحديثة في(47/42)
الغرب وهم يرون مئات الفدادين من الأرض تجعل حدائق قد لا يختلف إليها إلا أفراد في حين يهلك مئات الألوف من المحاويج والفقراء ولا من يرحم ضعفهم المادي والصحي أو يرثي لبكائهم وتسبل عَلَى النظر هذه التحف والعاديات التي لا تقدر بثمن وحكومة الجمهورية تفترض مئات الملايين من الفرنكات لسد العجز في ميزانيتها. وهكذا نظام المجتمع الغربي ولعلّ عقول أهله المفكرة تحرر في الأجيال المقبلة الفقير من فقراه أو تقوى عَلَى الأقل عَلَى تعديل هذا النظام الجائر الذي يسلب من كثيرين السبد واللبد ليعمر به قصر البلد ويلعب في حدائقه وساحاته الوالد والوالدة والولد.
مكاتب باريز ومكتباتها
19
لو لم يكن في باريز إلا مكتبة الأمة التي حوت في قصرها الفخيم زهاء ثلاثة ملايين كتاب مطبوع ومئة ألف كتاب مخطوط ومليونين ونصف صورة مختومة وألوفاً من الأيقونات والأنواط القديمة وغير ذلك من التحف والآثار ومجاميع الصحف والمجلات لكفاها جالباً للسائحين ولافتاً لأنظار أهل العالمين من العالمين.
مكتبة أسست منذ نحو ستة قرون وملوك فرنسا وعلماؤها وأشرافها يتبارون في أن يجعلوا في كل فرع من فروع العلم واللغات وصنوف المخطوطات والمطبوعات حتى إذا جاء القرن العشرون أصبحت مكتبة الأمة أكبر مكاتب العالم وأهمها بندرة كتبها ومخطوطاتها ففيها من نوادر المخطوطات والمطبوعات العربية ألوف.
اختلفت إليها غير ما مرة ولم أتمكن من مطالعة كل ما أريد لضيق الوقت وضخامة الفهارس وكثرة المؤلفين والناقلين في قاعات المطالعة. وبلغني أن الكتب التي أهديت إلى مكتبة الأمة في العهد الأخير لم يتيسر إدخالها في قوائم الكتب عَلَى كثرة موظفي المكتبة وكادت مطبعة الأمة الأميرية تعجز عن طبع فهارس هذه الخزائن ولا غروفان ما رأَيته منها مطبوعاً إلى عهد ليس ببعيد وحده مكتبة برأْسه ويقضي فيه المرء الساعات ولا يستطيع أن يستوفي النظر الإجمالي.
ولو صرف طالب العلم عمره كله ببحث في مخطوطات مكتبة الأمة ويستعين بمطبوعاتها لما تيسر له أن يأْتي إلا على قسم ضئيل جداً مما حوته في بطنها من معارف البشر ولا(47/43)
نعد المكتبة الخديوية في مصر ومكاتب الأستانة التي تتجاوز الأربعين مكتبة ومكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ومكاتب دمشق وبيروت وحلب وبغداد والمدينة ومكة وغيرها من بلاد الشرق الأدنى إذا جمعت كلها في صعيد واحد وجعلت لها فهارس وقوائم منظمة إلا جزءاً صغيراً من ذاك الجسم الكبير. وعَلَى تلك النسبة قس المطالعين والمراجعين في مكتبة الأمة بالنسبة لأمثالهم في البلاد العثمانية والمصرية فتراهم عند الساعة الرابعة بعد الظهر يخرجون رجالاً ونساء شيوخاً وعجائز شباناً وشابات كالقطيع الكبير لا يقل عددهم عن خمسمائة وربما الألف أحياناً وتجد فيهم الغرباء من أمم أوروبا وآسيا وأميركا وإفريقية ممن تجمع بينهم كلمة العلم الجامعة وكلهم يتنافسون في البحث والدرس ويستخرجون من ركاز تلك الكنوز ما يصوغونه عقوداً ثمينة وتعاويذ محلاة تقي البشر شر الجهل والخرافة ولعله يخطر ببال بعضهم أن هذه المكتبة هي كل ما في فرنسا من خزائن كتب صرف الفرنسيس فيها قواهم وجمعوا لها من أقطر الأرض كل غال ونفيس عَلَى عادة الإفرنج في التغالي بفخامة مصانعهم وضم شتيت متفرقهم وحرصهم على الاجتماع للانتفاع ولكن في باريز وحدها من المكاتب العامة ما لو جمع أيضاً لكان منه مكتبة كمكتبة الأمة بكثرة أسفارها إلا أن هذه تفوقها بالنوادر من المخطوطات.
ولباريز عشر مكاتب أخرى في كل واحدة منها عشرات الألوف من المخطوطات والمطبوعات دع عنك خزائن كتب الجمعيات والمدارس والكليات والمجامع فإن لكل واحدة منها ما يقتضي للمطالع من أسفار المراجعة وغيرها. أما خزائن كتب الأفراد فهذه لا يحيط بها إلا علاّم الغيوب أو من يدعي أنه يعرف ما حوت باريز من علم وأدب وذهب ونشب.
ويقول العارفون أن قواعد بلاد الإنكليز السكسونيين كألمانيا وإنكلترا والولايات المتحدة تحسن استخدام أسفارها أكثر من الجنس التوتوني اللاتيني كالفرنسيس والطليان والاسبان وغيرهم إذ ثبت أن تلك الأمم العظمى الراقية أكثر إحساناً للانتفاع من قواها الطبيعية والصناعية على أسلوب حديث لم يخطر ببال الفرنسويين الذين جروا في أوضاعهم وترتيب مصانعهم وتنظيم شؤونهم عَلَى تقاليد لهم قديمة وإن عرف عنهم أنهم أسبق الأمم إلى الجديد ولكن تجديدهم في أمور دون أخرى.
والانتفاع من الكتب أيضاً لم يخرج عن هذا النظام حتى قالوا أن نفائس المخطوطات(47/44)
والمطبوعات الموجودة في مكتبة الأمة في عاصمة الفرنسيس لو نقلت إلى ليبسيك أو مونيخ أو برلين أو فينا أو أكسفورد أو مانشستر أو لندرا أو نيويورك أو شيكاغو لانتفع بها وتيسر سبيل الوصول إليها لأنها تكون هناك مفهرسة مبوبة عَلَى طريقة فيها روح القرون الوسطى وقد جعلت هنا على أسلوب قريب المأخذ سهل التناول خال من القيود التي تقيد المطالع والمراجع. فإن كانت فرنسا في مقدمة شعوب الأرض من وجوه كثيرة ولا سيما في الأمور الذوقية وبدائع الصناعات والإصلاحات الدستورية والإنسانية فقد فاقها غيرها من الممالك المجاورة من حيث الفنون والاقتصاد والاجتماع فعرفوا كيف يطبقون أنفسهم عَلَى الذوق العصري.
مثال ذلك صناعة الوراقة أو بيع الكتب فإنا نجد ألمانيا أرقى من فرنسا فيها مع كثرة تفنن الفرنسيس فيما يدل على سلامة الذوق حتى أن ليبسيك في ألمانيا تبيع وحدها من الكتب قدر ما تصدر فرنسا كلها ومن الغريب أن الكتبية الألمان في نفس باريز تجدهم أمهر في تصريف كتبهم فيبيعون كمية أوفر من كتبية الباريزيين.
جاء في كتاب ألمانيا الحديثة أن ألمانيا أعظم البلاد إصداراً للكتب فقد كانت أوائل القرن الماضي لا تخرج في السنة سوى 3900 كتاب فأصدرت سنة 1905 28886 كتاباً في حين أن فرنسا التي في الدرجة الثانية بكتبها لم تصدر سنة 1904 سوى 12139 كتاباً فإذا قدّر أنه يطبع من كل كتاب في ألمانيا ألف نسخة فيصيب كل شخص فيها عَلَى أقل تعديل مجلد واحد فصناعة الكتب في ألمانيا رابحة جداً. وقد كان عدد المحال التي تتعاطى تجارتها سنة 1905 7152 محلاً تصدر إلى الخارج فقط ما قيمته 290 مليون مارك.
زرت في جملة الكتبية الذين زرتهم أو ابتعت منهم بعض الكتب مكتبة هاشيت المشهورة في جادة سان جرمان وهي ثلاثة طوابق وفيها نحو ألف وخمسمائة موظف ومستخدم وتطبع فيها بضع جرائد ومجلات كما تطبع الكتب المدرسية والأدبية والتقاويم السنوية المشهورة في العالم وهي مؤسسة منذ نحو ثلاثة أرباع قرن ويعد هاشيت من أعظم كتبية العالم إن لم يكن أعظمهم ومع هذا يقول العارفون أن مكتبته عَلَى حالتها الحاضرة لو كانت لجماعة من الألمان أو الأميركان لأدهشوا العالم بنظامهم وأرباحهم. فكأن دم الفرنسيس الذي على زمناً قد برد اليوم وأصبح الدم الجديد غيره الآن يغلي فيدهش بحرارته. ومن مكتبات(47/45)
باريز المشهورة مكتبة فلاماريون ولمكتبته فروع كثيرة في مدينة باريز وبلاد فرنسا وهذه المكتبة فيما رأَيت أقرب إلى التجديد منها إلى الجمود على القديم.
مجامع باريز العلمية
20
عَلَى الشاطيء الأيسر من نهر السين مقابل قصر اللوفر الفخيم قام قصر عظيم عمر في النصف الثاني من القرن السابع عشر بمال أوصى به السياسي مازارين الذي جمع بطمعه وجشعه ثروة عن خمسين مليون فرنك عَلَى عادة عظماء القرون الوسطى. وأراد أن تنفق بعده في الخيرات وحسن الأثر ومن جملة خيراته هذا القصر الذي أوصى له بمليوني فرنك فضة وخمسة وأربيعن ألف ليرة دخلاً سنوياً ليكون منه مدرسة عالية يتعلم فيها ستون طالباً من أبناء الولايات الأربع التي أضيفت إلى فرنسا بموجب معاهدة البيرنيه وروسيللون.
وهذا القصر هو الذي نقل إليه مجمع فرنسا العلمي سنة 1806 ذاك المجمع الذي أُسس سنة 1795 فكان مفخراً من مفاخر الفرنسيس وحق لهم أن يفاخروا به. وهو مجلس أو ديوان مؤلف من خمسة مجامع فالأول المجمع العلمي الفرنسوي المعروف بالأكاديمي أَسسه ريشليو سنة 1635 وهو يشتغل خاصة بتأليف معجم اللغة الفرنسوية وإدخال المفردات الجديدة ونبذ القديمة أو إصلاحها وأعضاؤه أربعون رجلاً ويقال لهم المخلدون عَلَى سبيل الدعابة لأنهم إذا خلا موضع واحد بالموت ينتخب سائر الأعضاء في الحال من يخلفه والمجمع الثاني مجمع الصناعات النفيسة أسسه مازارين سنة 1648 باسم مجمع التصوير والنقش والمجمع الثالث مجمع الخطوط والآداب أنشأه الوزير كولبر سنة 1664 ومجمع العلوم أَسسه كولبر أيضاً سنة 1666 ومجمع العلوم الأخلاقية والسياسية أنشيء سنة 1832 وجميع هذه المجامع ينتخب أعضاؤها بعضهم بعضاً مدى العمر وينظرون في العلوم الآنف بيانها ويعطون جوائز للمحسنين من المؤلفين والعاملين وبعضها لا يستهان به. وفي باريز مجامع علمية كثيرة غير هذه منها مجمع باستور العلمي مكتشف الميكروب والمجمع الكيماوي ومجمع فتيان العميان ومجمع الزراعة ومجمع البحار ومجمع العيون ومجمع الصم البكم ولكل منها أنظمة وقوانين وأعمال يطول شرحها وأكتفي فقط بوصف جلسة عامة حضرتها من جلسات مجمع العلوم الأخلاقية والسياسية في اليوم الرابع من(47/46)
كانون الأول سنة 1909 عقد هذا المجمع جلسته السنوية تحت قبة المجمع وهي القبة التي تجتمع فيها المجامع الخمسة المعددة فيما تقدم اجتماعها السنوي وقدر الجمع بأربعمائة نسمة رجال ونساء. جلسوا على مقاعد من المخمل على ترتيب بديع بحيث يسمع كل واحد منهم ويرى وكان أكثر أعضاءِ هذا المجمع بلباسهم الرسمي فجلس على كرسي الرئاسة المسيو رني ستورم وتلا كما هي عادة هذا المجمع منذ القديم أو منذ إنشائه قائمة بأعمال المجمع منذ اثني عشر شهراً وصفق لمن نالوا جوائز على كتب أَلفوها وأعمال قاموا بها لخدمة الإنسانية وتعليم البائسات وإطعام الجائعات واليتامى والعمي وبين من نالوا الجوائز أربع عقائل عدا من أثنى الرئيس عَلَى أياديهن البيضاء كالأم أرنستين التي أنشأَت معملاً وملجأً في مدينة روان والعقيلة بيكوين التي أنشأَت في باريز ملجأً سمته معمل الجهاز والآنسة دي رشمون التي أنشأَت في مدينة كرنيل منذ أربع وعشرين سنة ملجأً للبنات تأوي إليه أربعمائة ابنة من بنات العملة وأنفقت عليه ثروتها. ومن المعاهد التي أخذ هذا المجمع النظر فيه معهد كارنو وهو الذي منحته العقلية كارنو امرأَة أحد رؤساء الجمهورية رأْس مال يأْتي بثمانية عشر ألف فرنك دخلاً سنوياً وقضت بأن تقسم إلى 90 إعانة كل واحدة بمائتي فرنك توزع كل سنة يوم 24 حزيران وهو يوم مقتل كارنو على تسعين امرأَة من نساء العملة ممن لهن أولاد. ومن جملة الجوائز التي منحها المجمع للمؤلفين جائزة الإجادة لمن أَلف كتاب إفريقية للأوروبيين وكتاب أوربا والمملكة العثمانية.
ثم قرأَ المسيو دي نوفيل أمين سر المجمع الجديد ترجمة حياة صديقه وسلفه في هذه الوظيفة جورج بيكو فاثر في السامعين وأبكاهم وتفنن ما شاء وشاء البيان في وصف حسنات المتوفى واقتداره. وكانت الخطب يتلوها أولئك الشيوخ في الورق بنغمة تأخذ بمجامع القلوب ويطرب لها العالمون العاملون طربهم بنغمات الأوتار وتغريد الأطيار في الأسحار.
وهكذا انصرف القوم ونصفهم من النساء يرددون محامد أعضاء المجمع أما أنا فتمثات لي أرواح أولئك العلماء العاملين الذين سنوا لمعاصرينا أخلافهم سنن الارتقاء وخدمة العلم والحق والفضيلة والآداب والفنون وحدثتني النفس ببلادنا الشرقية وقلت هل يكتب لها في المستقبل تأليف مثل هذه المجامع فنعمل فرادى ومجتمعين كالغربيين أو نظل كما نحن لا(47/47)
نعمل فرادى ولا مجتمعين ونكتفي بالتفاخر بأجدادنا نجعله عدتنا في شدتنا ومثالنا في نهضتنا ونحن عن اقتصاص آثارهم غافلون.
كنائس باريز ومعابدها
21
من المعاهد التي يقضى عَلَى من يزور باريز أن يختلف إليها ولو مرة بيعها وكنائسها فإنها من الأماكن التي يقرأ فيها نموذجاً من النموذجات البناءِ في القرون الوسطى ويطلع فيها عَلَى فلسفة الفرنسيس الروحية خصوصاً والمأْثور عنهم في الشرق أنهم أمة لا تقيم لغير العقل وزناً تجردت من العواطف الدينية حتى لم يبق فيها سوى العجائز من النساء يختلفن إلى المعابد للإنابة إلى الله وتقديس يسوع وأمه عليهما السلام.
بيد أن من تعمق في البحث عن حال الفرنسويين الروحية يتجلى له أن جمهوراً عظيماً لم يبرح متشبثاً بدينه متشبعاً بصحة يقينه ولا سيما في القرى والبلدان الصغرى فأغلب الخاصة والطبقة العليا عندهم نزعوا كل نحلة حتى لم يعودوا يعرفون غير المادة ديناً وأغلب الطبقة الوسطى يغلب عليها التدين أما العام في المدن فكالسائمة لا تعرف غير الأَكل والشرب واللهو واللذائذ وأكثر أهل طبقتهم في القرى متعصبون لدينهم والسواد الأعظم من النساء متدينات. وتساوى متدينهم والمنحل من كل دين منهم أو الخاصة والعامة بالتظاهر في مراعاة الشعائر الدينية ولا تختل هذه القاعدة قليلاً إلا في المدن والحواضر ولا أثر للتعليم الديني في المدارس الأميرية وهو عَلَى أشده في مدارس الرهبنات وغيرها من المدارس الخاصة عَلَى أن نزعة التعصب التي عرفت بها فرنسا منذ صبأَت عن الوثنية لتنتحل النصرانية في القرن الثالث للمسيح ما برحت لها في نفوس أبنائها حتى في هذا القرن العشرين آثار راسخة وإن عبثت حكومتهم بقانون الحرية الشخصية غير ما مرة ودمرت بيوت الرهبان والنسك وجردت الكنائس والبيع والمدارس الأكليركية من كل ما يدخل في حوزتها.
يحتفل الفرنسيس يوم 14 تموز بسيد الجمهورية احتفالاً يقدسونه ويمجدونه وفي ذاك اليوم تشهد كل أرض فيها بضعة منهم أو رفع لهم فيها علم نموذجاً من وطنيتهم وكيف يرى جمهورهم بالجمهورية حياته ولكن احتفال هذه الأمة بأعيادها الدينية لا يقل عن احتفالها(47/48)
ذاك اليوم وأعيادها كثيرة هي صورة من صورتها في القرون الوسطى بل في القرون الحديثة قبل أن تنادي فرنسا بتأليه العقل وتعلن الحكومة علناً نزعها ريقة الدين.
نعم إن زائر كنائس باريز تتجلى له فلسفة القوم النفسية. ومما زرته من كنائس باريز كنيسة نوتردام والمادلين وعدد الكنائس الباريزية سبعون كنيسة أسقفية للكاثوليك ما عدا بيع الروم والبرتستانت ومعابد اليهود الأربعة وما عدا المصليات والبيع الصغرى ونوتردام هي من أعظم الكنائس وهي أجمل إنموذجات البنايات القديمة تجيء بمكانتها بعد كنيسة مدن شارتر وريمس وأمين وبورج وتفوقها بآثارها التاريخية وكفى بأنها أُنشئت في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني عشر ولم تزل تتعاورها الأيدي بالنقش والتزيين والترخيم والتعريق حتى يوم الناس هذا وفيها من بدائع ما صنعت الأيدي وتفننت فيه العقول ما يدهش ويبهر.
زرتها قبيل صلاة المساءِ مع صديقي عثمان بك ووقفنا نستمع لوعظ الواعظ عَلَى جمهور المصلين وأكثرهم من النساء. يعظهن واصفاً لهن غرور الحياة الدنيا بالقياس مع الآخرة ومنهن من تغر ورق عيناها بالدموع أو تجهش بالبكاء خصوصاً عندما يذم بلسان بليغ غرور أهل باريز. فهو داخل الكنيسة يقوم بالواجب ليدعو الناس إلى الزهادة ويجيب إليهم العبادة ووراءَ سور الكنيسة تجري كل ساعة شؤون وأعمال دنيوية هائلة كلها ما كانت تقوم لو عمل الناس بمثل هذه المواعظ وآثروا الباقية على الفانية. إن ما رأَيته من انتظام البيع الباريزية وتفنن البانين في إبداعها وتفانيهم في توفير قسطها من الجمال دلني بلسان حاله عَلَى أن مدينة القرون الوسطى قامت باسم الدين ولذلك جاءت المعابد أجمل مصانع تلك القرون وكان أكثرها إلى الزوال لو لم تتدارك في القرون الحديثة ببلسم من إنارة العقول بالفلسفة والعلم المادي أما مدينة هذا العصر فلا أدلّ عليها إلا بما ينفع الناس في دنياهم كالسكك الحديدية والبوارج والبواخر والمرافيءِ والمعامل والثكن والمستشفيات والمدارس والكليات ودور البائسين والحقول الأنموذجية والمتاحف وحير الوحوش والمكاتب ودور التمثيل. فهل يأْتي عَلَى البشر عصر يا ترى يكون فيه ما ينمّ عن مدينتهم غير ما ذكرنا قديماً في الدين واليوم في الدنيا ويخف تكالبهم على مظاهر هذا العالم وينسون بتاتاً تعظيم ما خلفته عصور التدين من المصانع والعبادات التي انتقلت إلى أكثرهم بالعادة أو يمزجون(47/49)
القديم بالحديث فيكون شأنهم غير شأنهم الآن في تصور ماضيهم وحاضرهم. هذه أسئلة ليس غير الزمان كفيلاً بالإجابة عنها والله أعلم بمصير عباده.
قصور باريز وسراياتها
22
من القصور العامة وأملاك الحكومة في هذه الحاضرة: مصرف فرنسا وقصر الإليزه حيث يقيم رئيس الجمهورية وقصر الأنفاليد والتويليري وقصر العدلية وقصر ساحة المريخ وقصر التروكادير والقصر الملكي وفيه دائرة شورى الدولة ومحكمة التجارة والبانتيون مدفن العظماء وقصر مجلس النواب وقصر مجلس الشيوخ وقصر المجلس البلدي.
ونتكلم هنا عَلَى القصور الثلاثة الأخيرة فقد كتبت لي زيارة مجلس نواب الأمة الفرنسوية ومجلس أعيانها خلال انعقاد المجلسين فلم أسر بمشهد أجمل ولا أفخم وقلما ثمثل لي معنى النيابة عن الأمة إلا ذاك اليوم. ومجلسا النواب والأعيان هما مفخر من مفاخر هذه الأمة ونموذج تقدمها ودليل أخلاقها السياسية ففي مجلس الأمة الحركة والمضاءُ وفي مجلس الشيوخ التؤدة والروية فالأول يقيم في قصر البوربون والثاني في قصر اللوكسمبورغ وكلا القصرين من أجمل قصور الحكومة في هذه العاصمة العظيمة وعدد النواب خمسمائة تغلب عليهم همة الشباب وعدد الأعيان ثلثمائة تقرأْ في وجوههم المغضنة وشعورهم البيضاء سعة العقل والتجارب الكثيرة.
وما أنس ولا أنس يوم كانت المناقشة في مجلس النواب في وضع ضريبة على العملة وقد تدفقت أقوال بلابل المجلس عَلَى المنبر وما فيهم إلا الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والسياسي والإداري.
وإن ما تلي في تلك الجلسة فقط من الخطب وجرى الحوار فيه بين الأعضاء لو جمع في كتاب يرأْسه لجاء منه أحسن كتاب اجتماعي اقتصادي عن فرنسا ومن أراد أن يعرف ما هو البيان الحقيقي والعلم الذي تشربته أجزاءُ النفس فليزر مجلس النواب الفرنسوي في فصل اجتماعه يشهد ارتقاء الغرب ويدرك سر الشورى.
أما المجلس البلدي فهو معيار العمران وبيده إسعاد باريز وإشقاؤها. يزار كما تزار أكثر المعاهد الكبرى في باريز بطلب من الزائر يقدمه إلى أمين سر المعهد فيرسل هذا إليه(47/50)
ورقة يعين له فيها الميعاد الذي يأْتي فيه.
يدخل الزائر هذا القصر المدهش فيتجسم في نظره الذوق الفرنسوي وعظمة هذه الأمة لكثرة ما يقع عليه نظره من الردهات والقاعات والغرف وكلها مزدان بنقوش وصور ورسوم من أجمل ما خطته أنامل النقاشين والمصورين وتدل كلها على الذوق والمعاني اللطيفة والإشارات الحسنة.
فمن رسم يمثل الغناء والعشرة وآخر يمثل الزهور والثمار وغيره يصور أغاني شواطيء السين وآخر يمثل التجارة والصناعة فالأشهر الجمهورية ومناظر كثيرة لأجمل قصور باريز ومعاهدها وأصقاعها وهناك صور رسمت عَلَى الحيطان والسقوف في القاعات التي تستقبل بها مدينة باريز في العادة من يزورها من ملوك الأرض وأمرائها ومنها ما يمثل أفراح الحياة وآخر يمثل العمل ومغيب الشمس والرقاد والحلم وغيرها يريك الطبيعة الملهمة المربية فالرياضيات الطبيعية فالرياضيات العقلية وآخر يمثل الطبيعة والكيمياء والفلسفة والنجوم وفيها ما يمثل المساء في باريز والخيال والولادة فيها والجهاد والنهضة والشعر والفلسفة والتاريخ والعلم والفنون والسلام واليقظة وذكرى عيد وطني وعيد الخلاءِ في ضاحية باريز. وبعضها يمثل أبولون وعرائس الشعر والتصوير والأدب والموسيقى والنقش والهندسة ومنها رمز القصائد الغنائية والأنغام والكدر والتأمل ومن التماثيل ما يرسم التمثيل بالإيماء والقصص الهزلية والموسيقى والرقص والألعاب ومنها ما يصور الحصاد وقطف العنب والغناء والصيد وتعاطي الشراب. ومنها الموسيقى عَلَى اختلاف العصور والطبوب والعطور ومدينة باريز تدعو العالم إلى أفراحها والزهور والرقص في كل عصر من أعصار التاريخ وصور تمثل أهم أقاليم فرنسا مثل الفلاندر وبيكارديا والجزائر وليون ولانكدوك وغاسكونيا والبروفانس وكوسين وبرى وشامبانيا وبرتانيا وبورغونيا وأوفرن واللورين ونورمانديا وكونتية نيس. ومن صورها ما يمثل الصيف ومنها الشتاء ومنها ما يمثل آسيا وأوروبا وأميركا وإفريقية ومنها ما يصور تأليه العلوم وهو رمز لعلم الأحداث الجوية والكهربائية وتعليم العلم وتمجيد العلم وأربع أيقونات تمثل علم الطبيعة والنبات في شخص أراغو وأمبر وكوفيه ولافوازيه. ومنها رمز إلى ساعات الليل والنهار ومشاهد الأفراح والأعياد وفي ردهة الآداب صور ترسم لك عرائس الشعر والإلهام والتفكر وتاريخ(47/51)
الكتابة وأعظم الأعمال الأدبية وأربع أيقونات لأربعة أدباء وهم مولير وديكارت وفيكتور هوغو وميشله ثم صور الفلسفة والشعر والفصاحة والتاريخ وهناك رمز بديع يشير إلى أن التاريخ يجمع دروس الماضي والفلسفة تحرر الأفكار من قيودها وعَلَى مقربة من ذلك رسمان اثنان نائمان وهما يمثلان الأدب وفي سقف ردهة الفنون والنقش والموسيقى والهندسة والرسم وغير ذلك من رسوم الوقائع الكبرى التاريخية والصور والتماثيل التي تشير كل واحدة منها إلى معنى من المعاني وفائدة من الفوائد وكلها من حفر أو رسم أو نقش أعظم رجال هذا الشأْن في العالم ولا سيما من أهل فرنسا جعلت هناك نموذجاً مما خصوا به من المزايا وسعة العلم وبعد النظر وحسن الذوق.
وعلى الجملة فإن الشرقي الذي يزور قصر المجلس البلدي في باريز تصغر بلاده في عينه ويكاد ييأس من ارتقائها ونهضة أبنائها.
أما أعمال هذا المجلس الذي تبلغ ميزانيته مئات الملايين فلا أقول فيها إلا أنها عظيمة جداً ويكفي أن المجلس طلب من الحكومة هذه الأيام أن تسمح له بعقد قرض قدره تسعمائة مليون فرنك ليطهر بعض أحياءِ باريز فأذنت لأنه ثبت أن بعض الأمراض تكثر في حي دون آخر فالواجب العناية بها حتى لا تعلو يد الفناءِ عليها أما أنا فلم أر على كثرة تجوالي راكباً وماشياً في شوارع باريز وأحيائها موضعاً تحدثك النفس أنه محتاج للإصلاح بعد لكثرة ما ترى كل شيء في مكانه وإن مدينة باريز لتنفق على أضواء الكهرباء والغاز الذي تنير به شوارع هذه المدينة السعيدة كل ليلة ما يبلغ مقدار ميزانية بلدية دمشق طول السنة فتأمل.
تاريخ الحضارة الفرنسوية
23
بسطنا القول في الفصول السالفة في كل ما يهم عن معرفة باريز وها نحن أولاءِ نتوخى في هذا الفصل أن نلم بطرف من عمران فرنسا بأسرها وأثرها في الحضارة منذ قامت للعلم والعمل سوق رائجة معتمدين فيما ننقل على معجم لاروس الجديد وما هذه النبذة إلا احتذاءٌ لما ورد في الفصل الفرنسوي بتصرف كثير وزيادات.
فرنسا مملكة عظمى في أوربا الغربية يحدها المحيط الأطلانطيقي وبحر الشمال أو المانش(47/52)
من الغرب ومن الجنوب جبال البيرنيه والبحر المتوسط ومن الشرق جبال الألب والجورا والفوسج ويفصل بينها وبين البلجيك وألمانيا خط اتفق عليه من الشمال الشرقي والشمال ومجموع مساحتها 536. 418 كيلومترات مربعة وسكانها نحو أربعين مليوناً أي نحو أربعة أضعاف ونصف مساحة سورية ومساحة سورية 115. 000 كيلو متر مربع والفرنسيس كجميع سكان سوريا أخلاط من العناصر مزجتهم بودقة واحدة فجاء منهم شعب ذي قوة عقلية حقيقية واختلفت صفاتهم وميولهم لمذاهب المعاش وإن فرنسا لغنية بزراعتها أكثر من غناها بمناجمها ومع هذا فهي تعد من أغنى البلاد وزراعتها أرقى زراعة في الأرض و. . . في أرضها الذهب والفضة والزئبق والنحاس والزنك والرصاص والقصدير والزرنيخ والنيكل والأنتيموان والكبريت ولكن عندها ما يلزمها من الحديد والفحم الحجري.
وإنك لتدهش إذا عرفت أن جزئين من ثلاثة عشر جزءاً من أرضها تزرع وتشجر وفيها نحوة عشرة ملايين هكتار من الغابات والعوسج ولها في تربية المواشي والحيوانات يد طولى وتجد المعامل الكبرى قائمة في الضواحي الغنية بالفحم الحجري والحديد والمحاصيل الزراعية القابلة للتحول وقد امتاز كل إقليم بصناعة وباريز هي ملكة المدن الصناعية في فرنسا لأنها محط الخطوط الحديدية ومنتهى المواصلات.
امتازت الجنوب بصناعاتها لكثرة الفحم الحجري وكثرة السكان وفيها صناعات اشتهرت شهرة الشمس والقمر كما امتاز إقليم الآردن بالجوخ وأعمال الحديد والألواح الحجرية وامتاز إقليم شامبانيا ونورمانديا بالجوخ وأعمال الحياكة والنسيج وإقليم فرانش كونتيه بعمل الساعات وليون وسان إتين بالمنسوجات الحريرية وامتازت المقاطعات المجاورة لها بتربية الحرير والغزل وامتازت البلاد الوسطى بالفخار والخزف والصيني والكاشاني وفي ضواحي الكمولم عَلَى الينابيع ذات المياه الشفافة معامل الورق ولمرسيليا الميزة بصابونها ولإقليم البروفانس بزهوره العطرة التي تستعمل في الطيب وعَلَى الجملة فإن صناعات فرنسا من أنفس ما تصنع صنع الأيدي في العالم ولا سيما في منسوجاتها الحريرية وصناعة الجوهرية والبلور والأواني الصينية الدقيقة وكلها مما جعل فرنسا في مقدمة ممالك أوربا.
تقسم فرنسا من حيث أمورها الإدارية إلى 87 إيالة وهذه تقسم إلى 362 ولاية و2899(47/53)
كورة و36170 مديرية ولها مجلس نواب ومجلس شيوخ ينتخب أعضاء الأول كل أربع سنين وأعضاء الثاني كل تسع سنين وهذان المجلسان هما اللذان ينتخبان رئيس الجمهورية لسبع سنين والقوة الإجرائية بيد الوزارة وهي المسؤلة أمام القوة التشريعية وتقسم هذه البلاد من حيث المعارف والأديان والبحرية والبرية إلى مناطق كثيرة تخالف ترتيب الإيالات وكلها لسان واحد وتربية تكاد تكون واحدة ونظامها واحد.
ومن نظر إلى تاريخ فرنسا السياسي والاجتماعي يتجلى له أنها هي بلاد غاليا المستقلة وهي عبارة عن ولاية رومانية عَلَى عهد مملكة الرومان افتتح الرومانيون منذ سنة 125 قبل المسيح البلاد الواقعة عَلَى شواطيء البحر المتوسط ثم افتتح قيصر البقية سنة 58 ـ 51 ق. م ولم تكن إذ ذاك إلا خليطاً من العناصر والقبائل لا وحدة بينها ولا جامعة تجمعها ففي الشمال قبائل جرمانية وفي الوسط سلتية وفي الجنوب الغربي إيبرية وفي الجنوب الشرقي ليكورية وفي الولايات الرومانية مدن يونانية ومستعمرات إيطالية يتكلمون بنحو عشر لغات مختلفة ولم تكن لهم وحدة سياسية ولا رئيس أعلى بل كانوا عبارة عن نحو مئة من الشعوب لهم أوضاع مختلفة ويحكم عَلَى معظمهم مجلس شيوخ ومن هذه الشعوب من يعيش عَلَى حال انفراد ومنها متحدة بينها عَلَى التساوي ومنها من يشترك مع غيره ويترك الزعامة لمن يراه أحق بها.
وكانت المدن قليلة جداً في بلاد غاليا وغاية ما كان فيها ملاجيءٌ لأوقات الغارات وهي مراكز الأسواق والزيارات فبلاد غاليا كانت بلاداً زراعية وسكانها ثلاث طبقات الأشراف والمحاربون ومنهم ينتخب أعضاء مجلس الشيوخ والملوك والفرسان وعامة الشعب كانوا فدادين تقرب حالهم من العبودية ولم يكن يملك الأراضي ثم أصبحت ملكاً للأسرات الشريفة.
أما الحراثون فهم من توابع الأرض ويجيءُ بعدهم العبيد ويعدل من حال الأشراف طبقة الدرويد وهم الكهنة والأطباء والمنجمون والقضاة ولا سيما في أوسط البلاد.
ولما استقام أمير الرومانيين أقاموا زعيماً عاماً على البلاد ممتعاً بالسلطة المطلقة متصرفاً بالقوة الحربية والمدنية والدينية ونعني به الإمبراطور وهو زعيم الحرب والمشرع المطلق والقانون الحي والرئيس الروحي والرب ثم امتزجت البلاد بالعادات الرومانية واللغة(47/54)
الرومانية بما أتاها من جيوش الرومان وتحرفت لغة الفاتحين فأصبحت اللغة اللاتينية الحقلية وغدت كل أمة غالية مقاطعة برأْسها يرأَسها زعيم وأخذت التجارة والصناعة ترتقي ولولا أنه كان من حق المالك أن يبيع الأرض بفلاحيها وهو الحاكم المتحكم في حياتهم ومماتهم لركن الفلاحون إلى الفرار.
ولما أخذت النصرانية بالانتشار كانت قاصرة على المدن ولم تتعداها إلى الأرياف إلا بعد زمن وكان من فوائد انتشارها أنها أعلنت بأن الأحرار والعبيد سواءٌ أمام الله هذه هي الفائدة الأخلاقية أما الفائدة السياسية والاجتماعية فقد نشأَ منها تأليف طبقة رجال الدين بنظامهم الذي أخذوه عن نظام الحكومة ولم يمض إلا زمن قليل حتى أصبحت الكنيسة حكومة وسط حكومة تجبي أموالاً من الناس ويغدق المؤمنون وأحياناً الإمبراطورة عليها من المال ما تكوّنت منه ثروة طائلة وتعفى أملاكهم من الخراج كما يعفى خدمتها من المحكمة مع الشعب بل كثيراً ما يحاكم الشعب نفسه في الكنيسة ولطالما كان الأسقف في ابرشيتة خصماً للحاكم السياسي ورقيباً عتيداً عليه. ولما سقطت المملكة الرومانية تجزأَت غاليا إلى عدة ممالك بربرية كالفرنك والبورغوند والفيزغوت وعادت كلمة البلاد إلى الانتشار بعد الاجتماع ولم يكن ملوك الفرنك يدركون معنى الوحدة كسائر الملوك البرابرة ولا يقيمون للحكومة وزناً ولئن يلبسون الثياب الأرجوانية ويضعون التيجان عَلَى رؤوسهم كإمبراطور الرومان إلا أنهم لم يكن لهم جيش دائم وليست لهم طريقة منظمة في الجباية كما أن اللغات في البلاد تعددت وكلها لهجات من أصل روماني تمازجها لهجات بربرية وعادت سلطة الأشراف وسلطة رجال الدين تقرى حتى لم يعد يعترف السواد الأعظم من الناس بالزعامة عليه إلا لهم ومنهم يطلبون الإنصاف ولهم يدفعون الجزية والخراج وخربت المدن وهاجر رؤساء الجيش والأديار إلى الحقول وضعفت الصناعة والتجارة باختلال الأمن في البلاد وكاد الفلاح يكون عبداً لسيده كما في سابق الأعصار وفي اليمين الذي أقسم سنة 842 في ستراسبورغ ظهرت لأول مرة لغة اشتقت من اللاتينية المستعملة عند الفلاحين ومنها نشأت اللغة الإفرنسية وفي معاهدة فردون سنة 843 اعترف بوجود مملكة فرنسا وعاصمتها باريز.
وما زالت الملوك تتوالى عليها وتختلف في المباديء والأطوار حتى قبيل نهاية القرن(47/55)
الثامن وقد حسنت فيه حال الفلاح الفرنسوي وزاد عدد المالكين من أبناء القرى زيادة مهمة وارتقت الصناعة والتجارة عَلَى ما كان يقف في سبيلها من القيود الكثيرة والأنظمة المنوعة وارتقت الأدبيات وتحررت من قيودها القديمة وأخذت الفلسفة تبحث في التسامح الديني والحرية والسياسية وإصلاح القوانين الجنائية وتمايز الطبقات الاجتماعية وعارض مونتسكيو نظرية أن الملك ملهم من الله وحقه إلهي عَلَى سكان الأرض بنظرية الحكم الملكي النيابي ووضع روسو نظرية العهد الاجتماعي.
نبهت البارلمانات في مكافحتها سلطة الملوك (سنة 1788) أفكار وكلاءِ الشعب فبدأَت الأمة ترفع صوتها وكان الملوك يخفتونه ولا يرون لها حقاً في مطالبتها بحق واتفق أن وقعت البلاد في عسر مالي فاجتمع وكلاءُ الأمة ينظرون في حل ما أصابهم فنشأَت بعد حين الثورة الأولى (1789) وأعلن لويز الرابع عشر أن الأمة كلها للملك ولكن جاء في قانون حقوق الإنسان والوطني أن مبدأَ كل سلطة ينبعث من الأمة بجوهره فما من جماعة ولا من شخص يستطيع أن يحكم حكماً لا يكون صادراً عنها بالفعل وهكذا مات حق الملوك الإلهي المزعوم وأتت الثورة عَلَى أعشار رجال الدين والإقطاعات والسخرات والأحكام التي يحكمها أرباب الإقطاع وساوت بين الناس في الواجبات والضرائب وقضت على قليل الكفاءة من أرباب الغنى أن توسد إليه الوظائف الكنائسية والحربية بدون استحقاق وحمت الحرية الشخصية وحرية الضمير وحرية التكلم والكتابة وحرية المسكن وتساوي كل وطني من أكبر كبير إلى أصغر صغير في الخدمة العسكرية ودفع الضرائب كل بحسب طاقته وثروته.
هذا موجز الأساس الذي قام عليه بناء النظام الجمهوري ثم عراه قليل من التعديل بتقلب أنواع الحكومات وقيام بعض الأدعياء بالملك إلى عهد الجمهورية الثالة بعد حرب السبعين مع ألمانيا وعندها استقرت الحال عَلَى ما تراها إلى اليوم.
أما نشأَة الآداب والعلوم فلكل منها تاريخ ويقال على الجملة أن اللغة الفرنسوية هي بنت اللغة اللاتينية تكوّنت عَلَى صورة غريبة إلى أن وصلت في عشرين قرناً إلى حالتها وكانت أدبياتهم دينية لأول أمرها وبعضها شعري ونثري وأكثرها خرافي ولم تخلص اللغة من القيود العائقة إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. وتاريخ العلم(47/56)
ونشؤُه فيها طويل كتاريخ الأدب ويقال على الجملة فيه أن مرسيليا كانت مدة قرون منبعث العلم الوحيد في بلاد غاليا واشتهرت مدرستها كما اشتهرت كليات آثينا وكلية الإسكندرية وكان بيتياس أحد أبنائها الذي ولد نحو سنة 830 قبل المسيح لا يقل عن أعاظم الفلكيين في القديم وكانت بيوت العلم تفتح عَلَى العهد الروماني في البلاد المهمة والتعليم فيها عبارة عن مباديء عملية من الحساب والمساحة والبناء ثم جاء دور الانحطاط التام فأصيب الغرب بغارات البربر ولم تخرج فرنسا من ظلماتها الفكرية إلا بعد ثمانية قرون بفضل العرب وبينما كان التمدن الإسلامي بالغاً أوجه كانت العلوم منحطة كل الانحطاط في أرض فرنسا. ولم ينتشر الطب والصيدلة في فرنسا إلا بمساعي أطباء اليهود الذين طردهم المسلمون من آسيا الصغرى في القرن الحادي عشر فاعتصموا باسبانيا أولاً ثم بإقليم لانكدوك حيث أَسسوا عدة مدارس ومن جملتها مدرسة مونبليه. وهذا كان مبدأَ انتشار العلم في هذه الأرض. فمن العرب أخذ الفرنسيس فيما مضى حضارتهم ونحن العرب اليوم نأخذ عنهم وندهش بحضارتهم فسبحان المعز المذل القابض الباسط.
الصحافة الباريزية
25
نشأت الصحافة هنا في مبدأ أمرها بنشر أخبار الملوك والوزارت والموظفين والحروب والدول ثم ارتقت بارتقاءِ المدارك إلى أن صارت تلم بمعظم الموضوعات التي تهم القراء وتعلمهم وعلى عهد الثورة اشتد ولوع الناس بالاطلاع على الحوادث والآراء السياسية وإلى هذا العهد ظلَّ الصحافي في وراء منضدته يكتب ليفيد مثل الأستاذ عَلَى منبره والواعظ في معبده لا يقصد إلا تثقيف عقل وتربية النفس.
ولما تكالبت النفوس على المال واتسع للصحافة المجال بكثرة المواصلات والبرقيات وأخذت التجارة ترقى دخلت الصحافة في طور جديد فبعد أن كانت هي خادمة لتجارة أصبحت هي بنفسها تجارة لا يقصد منها إلا الربح وأول من أنزل أجور اشتراكاتها إميل جيراردين مؤسس جريدة لابريس سنة 1836 من 80 أو 66 فرنكاً قيمة الاشتراك بالجرائد الكبرى إلى 40 فرنكاً وهي قيمة زهيدة لا تعادل النفقات أنزلها ليكثر قراؤها وإذا كثر قراء جريدة أقبل الناس عليها بإعلاناتهم ومنشوراتهم فاستطاعت بعض الصحف أن(47/57)
تعيش مستقلة عن معونة الأفراد والحكومة والأحزاب.
ولكن هذا الاستقلال وإن لم يكتب لها كلها إلا أن سعيها وراء الإعلانات وخدمة الشركات والبيوت المالية قيدها أكثر من قبل بل أخرجها عن المقصد منها حتى صارت العشرون الجريدة الكبرى الباريزية اليوم عبارة عن سمسار لا يهمه إلا أن يقبض العمالة من البائع والشاري وغدت الجريدة من مقالتها الافتتاحية إلى أنبائها البرقية فرفرف قصصها وتقاريظ الكتب والحوادث الداخلية والخارجية والأنباء المنوعة والمقالات الأدبية والاقتصادية والسياسية والإعلانات والمنشورات وغير ذلك مما تخوض الصحف عبابه مثل أخبار دور التمثيل والرياضيات البدنية والسباق لا ينشر منها اسم ولا سطر إلا قبل أن يذهب صاحبه الذي يهمه وينقد أمين صندوق الجريدة مبلغاً معلوماً عنه وعند ذلك ينشر له من الأفكار والمحامد ما يشاء وتشاء الأهواء.
فإن كتبياً أو طابعاً لا يقدر أن ينشر كتاباً طبعه إلا إذا انتقده كاتب أو عالم كبير وهذا إذا فرض أنه رضي بأن يخدمه بالمجان يسأَله مدير الجريدة عن ربح الإدارة من ذلك. فمقالة في تقريظ كتاب قد تكلف الطابع ألفي فرنك يأخذ نصفها كاتبها الموقعة باسمه والنصف الآخر مدير الجريدة ومثل ذلك يتناولون من المصورين والموسيقيين والممثلين والراقصات والعقيلات والآنسات والأعاظم والأصاغر لا تدون أسماؤهم بالطبع قبل أن يرشوا إدارة الجريدة بمال ترتضيه وكل ما تراه من أخبار الدعوات والرياضيات والمآدب ووصف الأزياء مع بائعات الزهور والجوهريين والخياطات والخياطيين يدفعه أرباب المأدبة وتجار هذه الأصناف بل أن أخبار الأعراس والأفراح وأخبار المناعي والأموات لا تكتب إلا لمن تؤخذ منه أجرتها والأعمال الأدبية مهما بلغ من مكانتها لا تذكر بكلمة قبل أن يدفع صاحبها جعالة لقاءَ ذكر اسمه وهناك الماليون وأرباب التجارة يريدون أن يعبثوا بحوالة الأسواق ويعرفون أن السياسة تؤثر كثيراً في أعمالهم فيعمدون إلى ابتياع الجرائد لتكتب في السياسة عَلَى هواهم فيرفعون الأسعار يوم يريدون الرفع ويخفضونها كذلك بمالهم بواسطة هذه الجريدة من التأثير في الأفكار العامة ومنهم من يبتاع من الجرائد كلامها كما يبتاع منها سكوتها فدار اللعب في إمارة موناكو تدفع مشاهرات إلى جميع الصحف الكبرى لتسكت عما يحدث فيها من ضروب الانتحار والخراب والنجائع التي تنشأ من المقامرة كما تدفع(47/58)
مبالغ جسيمة أيضاً في أوقات معينة لتأخذ الصحف في حمد مرافق مونتكارلو ونزلها ودور تمثيلها وسواحلها وصفاء العيش فيها.
وإن أعظم علماء الاقتصاد لا تنتشر له مقالة في موضوع مالي قبل أن يوافق عليها المصرف الذي ابتاع من تلك الجريدة روحها المالية ليصرفها كما يشاءُ وبعد حادثة بناما التي ظهرت فيها رشاوي الصحف الإفرنسية لم يعد يقدر الإنسان أن يقرأَ سطراً في شأن مالي في جرائدهم إلا ويشك فيه.
وهكذا أصبحت الصحافة الباريزية مقيدة في صورة حرة مطلقة ففي وسعها أن تصرب في كل ما تريد وتنزع كل أَساس وتهاجم كل موضوع وتغتاب كل امريءٍ وتنم عن كل عمل وتفتات عَلَى كل فرد ولا يحظر عليها إلا شيءٌ واحد وهو أن تكشف الغطاء عن الأسرار المالية فإذا فعلت يحكم عَلَى الكاتب والناشر والجريدة بأشد عقوبات العطل والضرر وكذلك إذا دلت عَلَى الطرق الاحتيالية التي يعيش بها المحل الفلاني منذ سنين.
وعَلَى ذلك فالجرائد هنا يجب أن لا تقرأ إلا بحذر شديد حتى مقالات لها في الكيمياء أو التاريخ فإنها لا تنشرها إلا ولها منها مآرب يظهر بعد أعمدة من نفس العدد أو في عدد تال. وخف كل الخوف من الصحف التي تخدم الأحزاب جهازاً فإن هذه تقلب الحقائق الناصعة وتجسم الحوادث أو تضعفها بحسب هواها وتستعمل من السفسطة ما يضحك ويبكي.
فكأن الصحافة الباريزية جعلت لقلب الحقائق لا لقدر أن تسقط فيها عَلَى حقيقة خالصة من الشوائب فهي تزيد إلى ضعف البشر الطبيعي وغلطهم وخطأهم أموراً تأتيها بذاتها بالقصد لتحريف الحق وتشويهه فمنها ما يخضع لحكومة في كل ما يكتب ومنها ما يخضع للأحزاب وكلهم خاضعون لزبنهم وكثير منهم يقولون كل ما يريدون عَلَى شرط أن يحسن المرءُ دفع المطلوب منه. فقد قيل أن الرياء تكريم الرذيلة للفضيلة والصحف الفرنسوية تكرم الحقيقة من هذا النوع أي أنها هي الرذيلة.
هذا ما اقتبسته من فكر الكاتب الفرنسوي في هذا الباب وصاحب الدار أدرى بالذي فيه وقد أجمع العقلاء الذين لقيتهم من أهل العلم والمطبوعات وغيرهم عَلَى أن الصحافة الفرنسوية كلها ترتشي وتلفق في أحاديثها وتكذب في رواياتها ما عدا جريدة لاومانيته أي الإنسانية(47/59)
وهي لجوريس أحد زعماء الاشتراكيين تعيش من وارداتها الشرعية ولا تسفّ لتناول رشوة من أحد وإن الصحافة الإنكليزية أشرف غاية وأنبل قصداً وأكثر مادة وأوسع مصادر أما أنا فعللت هذا التصريح من أصدقائي الفرنسويين بأن إنكلترا هي أرقى الأمم بأخلاقها والأخلاق هي معيار الأمم والجرائد مرآتها.
ومن الصحف الباريزية ما يصدر صباحاً وأكثرها جرائد لا تهتم بالمسائل السياسية بل بالأمور المالية والحركة الأدبية كدور التمثيل والخطب وغيرها أما جرائد المساء فأكثرها يهتم بالسياسة فالطان والديبا من الجرائد المسائية والجورنال والماتين والبتي باريزين والبتي جورنال من الجرائد الصباحية والجرائد طبقتان قسم لعامة القراء وهي التي ينادي عليها المنادون في الشوارع بأعلى أصواتهم وتباع في كل مكان فيقرأها البواب والحوذي والمساح والكساح وسائق الأتوموبيل والشرطي والمرتزق وبعض التجار وذلك ككثير الجرائد الصباحية وقسم للطبقة العالية وأبحاثها لهم بالطبع مثل الطان والديبا والغولوا والفيغارو وهذه لا ينادى عليها وتباع بثمن أغلى فالطان يبتاع عددها بثلاثة فلوس أو خمسة عشر سنتيماً في حين تباع تلك الجرائد العامية بفلس واحد وهي أكبر حجماً وأوسع مادة من هذه ولكن شتان بين مادة ومادة وحجم وحجم.
وجريدة الطان هي الجريدة الوحيدة التي تعنى كثيراً بأخبارها هذا الشرق الأدنى خاصة والسياسة الشرقية عامة وهي جريدة وزارية تقدس كل وزارة تأْتي وهذه بالطبع تعطيها أخباراً وربما أمدتها بمعونة مالية وهي لا تذيل المقالات السياسية والإخبارية بأسماء كتابها على عادة معظم الجرائد السياسية وبذلك قد يقع لها أن تؤيد اليوم في مقالتها الأولى فكراً مخصوصاً ثم يجيءُ كاتب آخر من الغد في نفس ذاك المكان من الجريدة فيضعف ذاك الرأْي بعينه وينتقده. وأعرف الجرائد بالشرق عَلَى التحقيق هي هذه وربما كانت جريدة الإيكو دي باري من جرائد الصباح أكثر منها مادة برقية إخبارية عنه بدون تعليق على الحوادث. ومقالات الطان عن السياسة الشرقية تتناقل لأنها أقرب إلى الثقة والتعقل من غيرها ومع هذا تؤخذ بكل حذرٍ شأننا مع عامة الصحف الإفرنجية التي تقول الحق ولكن إذا صادف هوى لها وهيهات أن تقوله بدون عوض. ولقد كنت أظن جريدة الديبا وحدها ترتشي من السلطان عبد الحميد المخلوع ولكن علمت هنا أن الطان أيضاً عَلَى ما فيها من(47/60)
الغمز واللمز بالدولة كانت لا تستنكف من قبض الخمسة آلاف ليرة من أعوان ذاك السلطان لتكتب على هواه يوماً لعلم المخلوع بمكانة أقوالها في الأندية السياسية.
وأنواع الجرائد هنا كثيرة ومنها اليومي الذي لا يكتب إلا في موضوع واحد مثل جريدة كوميديا وهي تبحث في دور التمثيل والقصص التمثيلية والفاجعات وغيرها ومنها جرائد للسباق مثل جريدة الأوتو وهي لنشر أخبار سباق الحوافل الأتوموبيل وغيرها من أنواع السباق ومن جرائدهم ما هو خاص بتأجير الأملاك والعقارات ومنها الخاص بطلاب الزواج وطالباته ومنها للأزياء وأخرى للعطور والطيوب ومنها للأخبار الخلاعية ولكنها مقصورة على طبقة خاصة تطبع سراً وتوزع كذلك وإذا رآها الشرطة صادروها وأنزلوا العقوبة الشديدة بكاتبها وبائعها ومشتريها.
أما تنظيم إدارات الجرائد الكبرى فهو الغاية ولا سيما الأمهات منها مثل الماتين وهي في أعظم جادة وبنايتها أجمل بناية وآلاتها الطابعة أحسن الآلات فيها اثنتا عشرة واحدة تطبع الواحدة مئة ألف نسخة في الساعة زرتها مع زهاء سبعين رجلاً وامرأَة رأيتهم سبقوني إلى زيارتها فما رأَيت نظاماً أتم ولا استعداداً استوفى من الكمال أوفى القسم ومن أحسن ما قرأته. مما كتب فوق غرف المحررين خلق المحرر ليكتب فلا تشغله فيما لا يعنيه وزرت أيضاً إدارة البتي باريزين وهي دونها في الاستعداد وإن لم تكن دونها في الانتشار والنفاد.(47/61)
تربية البنات
لحافظ أفندي إبراهيم
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق
إني لأحمل في هواك صبابة ... يا مصر قد خرجت عن الأطواق
لهفي عليك متى أراك طليقة ... يحمي كريم حماك شعب راق
كلف بمحمود الخلال متيم ... بالبذل بين يديك والإنفاق
إني لتطربني الخلال كريمة ... طرب الغريب بأوبة وتلاق
ويهزني ذكر المروءة والندى ... بين الشمائل هزة المشتاق
مالبابلية في صفاء مزاجها ... والشرب بين تنافس وسباق
والشمس تبدو في الكؤُوس وتختفي ... والبدر يشرق من جبين الساقي
بالذ من خلق كريم طاهر ... قد مازجته سلامة الأذواق
فإذا رزقت خليفة محمودة ... فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظهُ مال. وذا ... علم. وذاك مكارم الأخلاق
والمال إن لم تدخره محصناً ... بالعلم كان نهاية الإملاق
والعلم إن لم تكتنفه شمائل ... تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ... ما لم يتوج ربه بخلاق
كم عالم مد العلوم حبائلاً ... لوقيعة وقطيعة وفراق
وفقيه قوم ظل يرصد فقههُ ... لمكيدة أو مستحل طلاق
يمشي وقد نصبت عليه عمامة ... كالبرج لكن فوق تل نفاق
يدعونه عند الشقاق وما دروا ... أن الذي يدعون حلف شقاق
وطبيب قوم قد أحل لطبه ... ما لا تحل شريعة الخلاق
قتل الأجنة في البطون وتارة ... جمع الدوانق من دم مهراق
أغلى وأثمن من تجارب علمه ... يوم الفخار تجارب الحلاق
ومهندس للنيل بات بكفه ... مفتاح رزق العامل المطراق
متعنت تندى وتيبس كفه ... بالماء طوع الأصفر البراق(47/62)
لا شيء يلوي من هواه فحده ... في السلب حد الخائن السراق
وأديب قوم تستحق يمينهُ ... قطع الأنامل أو لظى الإحراق
يلهو ويلعب بالعقول بيانهُ ... فكأَنه في السحر رقية راق
في كفه قلم يمج لعابه ... سماً وينفثه على الأوراق
يرد الحقائق وهي بيض نصع ... قدسية علوية الإشراق
فيردها سوداً عَلَى جنباتها ... من ظلمة التمويه ألف نطاق
عريت عن الخلق المطهر نفسه ... فحياته ثقل عَلَى الأعناق
لو كان ذا خلق لأسعد قومهُ ... ببيانه ويراعه السباق
من لي بتربية النساءِ فإنها ... في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض أن تعده الحيا ... بالري أورق أيما إيراق
الأم أستا الأساتذة الأولى ... شغلت مآثِرهم مدى الآفاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً ... بين الرجال يجلن في الأسواق
يدرجن حيث أردن لا من وازع ... يحذرن رقبته ولا من واق
يفعلن أفعال الرجال لواهياً ... عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهن شؤونهن كثيرة ... كشؤون رب السيف والمزراق
كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا ... في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكم أثاثاً يقتنى ... في الدور بين مخادع وطباق
تتشكل الأزمان في أدوارها ... دولاً وهن عَلَى الجمود بواق
فتوسطوا في الحالتين وانصفوا ... فالشر في التقييد والإطلاق
ربوا البنات عَلَى الفضيلة أنها ... في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكم أن تستبين بناتكم ... نور الهدى وعَلَى الحياء الباقي(47/63)
مطبوعات ومخطوطات
(معذرة إلى المؤلفين والطابعين الذين أهدونا مؤَلفاتهم لنتكلم عليها في هذه المجلة فعاقت الأحوال التي طرأَت علينا دون القيام بما اعتدناه في السنين السالفة من التوسع في نقد الكتب وتقريظها والمبادرة إلى النشر في حينه ولذا نرجوهم أن يعذرونا عَلَى إيجاز القول ونعدهم بأن كلامنا يكون من قابل أطول نفساً وأوسع مادة. وها نحن أولاءِ نبدأُ بجملة مما كتب في الغرب على الشرق أو نشر في ديار الغرب من علوم الشرق ثم نتبعه بما صدر من المصنفات الجديرة بالنظر في هذا الشرق الأقرب ونستميح عذراً ممن تفضلوا بإهدائنا ما عربوه من القصص ونشروه من الروايات عَلَى إغفال ما نشروه لأن المجلة لا تشير إلا إلى المصنفات التي توافق موضوعاتها في الأدب والاجتماع والعلم وتعنى بما يصنف رأْساً في الأدب أكثر من عنايتها بما يعرّب فيه كما أنها تعنى بالكلام عَلَى ما يكتب أو يعرب في الاجتماع والعلم عَلَى حد سواء).
الشرق الإسلامي
كتاب بالألمانية نشره المسيو مارتين هرتمن من علماء المشرقيات وهو ممن يهتمون بمستقبل العرب وكتابه قسمان قسم في تاريخ العرب وينقسم إلى ثلاثة أقسام العربية القديمة والعربية الوسطى والعربية الحديثة واعتمد في سرد التاريخ على الآثار أكثر من النقول التي لا ينهض دليل تطمئن النفس ومتى فقدت المادة التاريخية فليس من تاريخ وخص كلامه عَلَى اليمن لأن ما اكتشف من آثارها الحجرية يسهل البحث في تاريخها وقال أن اليمانيين كانوا شعباً رحالاً ولم يكونوا عرباً كما يفهم من معنى هذا اللفظ في القديم إذ كان معناها البدو أو سكان البادية وما قط كان العرب الرحالة كثار العدد ومن الغلط أن يقال أن القفر كان مادة حياة المدن القريبة منه في سكانه. وقد كان الأشراف في اليمن وهم الأذواء أي ذو يزن وذو رعين وغيرهما هم المحتكرون للتجارة والسواد الأعظم من الأهلين ينقسمون إلى قبائل يخضعون للأشراف ويعيشون بالزراعة وانتشرت الديانة اليهودية في اليمن إلا أنها كانت قليلة البقاء كما أنها لم تطل أيامها في جزيرة العرب وقد أسقط الحبشة دولة ذي نواس وتكلم المؤَلف عَلَى الأسرة والزواج والقبائل وشرح حالة جنوبي الجزيرة العربية من حيث زراعتها وتجارتها وآثارها وديانتها وقال أن أفكار البابليين قد انتشرت(47/64)
في العالم الشرقي كله وأن نهضة البلاد العربية لا تتم إلا بمد الخطوط الحديدية وإنشاء الكليات الإسلامية.
تاريخ الإسلام
نشر المسيو ليون كايتاني من أشراف إيطاليا والمشتغلين بالعلم فيها الجزء الثاني من هذا التاريخ الضخم بالإيطالية وهو يحتوي عَلَى تاريخ 12 سنة من الهجرة أي في أوائل الفتوحات الإسلامية ويقول من درسوا هذا التاريخ أنه من أكمل ما أُلف في تاريخ الإسلام حتى الآن.
الخطاطون والمصورون في الشرق الإسلامي
نشر المسيو كليمان هوار من علماء المشرقيات باللغة الإفرنسية كتاباً في هذا الموضوع ذكر فيه الخطوط العربية ومنشأها ونشوءَها وجعل الخطوط طبقات بحسب ترتيب سني الخطاطين فقال أن الأصل في الخط العربي الكوفي المأْخوذ من الخط السرياني والنبطي ثم قام ابن مقلة فأسس الخط الأول وجاءَ بعده ابن البواب وياقوت المستعصمي ثم قام الأساتذة السبعة في الخط في آسيا الصغرى سنة 1520 ورأسهم الشيخ حمد الله بن مصطفى البخاري نديم السلطان بايزيد الثاني. أما تذهيب الكتب فغير معروف فإن قصر الأمويين المعروف بقصر عمرة الذي اكتشف حديثاً قد وجد فيه صور من أصل بزنطي مثل التي تزدان بها المخطوطات العربية القديمة.
كتاب بغداد
نشر الدكتور كللر من علماء المشرقيات السويسريين الجزء السادس من تاريخ بغداد لمؤَلفه أحمد بن أبي طاهر طيفور من أهل القرن الثالث للهجرة وهو في سيرة المأْمون بدأه بحوادث سنة 204 وختمه بحوادث سنة 218 ففيه ذكر الوقائع الأخيرة من عهد هذا الخليفة الكبير وليس فيه شيءٌ زائد عما عرف من حال ذاك الدور السعيد عَلَى نحو ما ذكر في مطولات التاريخ ولكن فيه فوائد غيرها مثل ترجمة بعض رجال المأْمون ككاتبه أحمد بن يوسف ويقول ناشره ـ الذي استنسخه وطبعه على الحجر وقدم له مقدمة باللغة العربية تبين الغرض من نشره ـ أن ابن جرير أخذ عن ابن أبي طاهر ما يتعلق بتاريخ المأمون وفي ذلك نظر.(47/65)
تاريخ حكام مصر
نشر المستر كونيج من علماءِ المشرقيات الأميركيين تاريخ أبي عمر محمد بن يوسف الكندي وهو تاريخ القرون الثلاثة الأولى للهجرة ومرجع من أحسن المراجع في تاريخ الصدر الأول في وادي النيل لقرب مؤلفه من الوقائع.
تاريخ قضاة مصر
نشر المستر كوتهيل أستاذ اللغة العربية في جامعة كولمبيا الأميركية تاريخ قضاة مصر للكندي الذي اعتمد فيه عَلَى كتاب عبد الرحمن بن عبد الحكيم في كتابه فتوح مصر وأتمه أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن برد إلى سنة 366 هـ وأوصله مؤَلف مجهول إلى سنة 426.
ولاية بغداد
هو كتاب في 338 صفحة طبعه بالعربية حبيب أفندي شيحة وفيه وصف هذه الولاية وماضيها وتاريخها ووصف سكة بغداد الحديدية وبحث في القبائل البادية بين النهرين.
ديوان السموأَل
نشره الأب لويس شيخو اليسوعي في بيروت وقد عثر عَلَى النسخة الأصلية منه الأب ألستاس الكرملي الحافي البغدادي عند أحد كتبية دمشق.
الفرْق بين الفرَق
هو كتاب لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي من أهل القرن الخامس طبعه وعلق حواشيه محمد بك بدر في مصر وفيه ذكر الفرق الثلاثة والسبعين الواردة في الحديث.
طبقات الصحابة
نشرا الجزء السادس من كتاب طبقات الصحابة لابن سعد المتوفى سنة 320 هـ تحت نظارة المسيو شاشو وبناية الأستاذ زترستين من كلية أبسال وفي هذا الجزء تراجم دعاة الإسلام في الكوفة ومنهم أناس من الصحابة مثل ترجمة علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وسلمان الفارسي.(47/66)
مفيد الصم ومبيد النقم
نشر الأستاذ داود مهرمان هذا الكتاب لباج الدين السبكي من أهل القرن الثامن وصاحب جمع الجوامع وفي هذا الكتاب وصف المؤلف الحياة الاجتماعية في عصره فذكر الولاة والقضاة والقواد والمحتسبين والمربين والأساتذة والتجار والدراويش والصناع والأطباء والكحالين والحلاقين وغيرهم وهو في 240 صفحة.
تجارب الأمم
هو تاريخ لابن مسكويه المتوفى سنة 1030 م وهو التاريخ النفيس المنقح الذي فضله بعضهم على تاريخ الطبري بما فيه من صحة الأسانيد والنقد التاريخي نشر في لندن عَلَى نفقة أُسرة جيب الإنكليزية وقدم له الكنت ليون كايتاني المستشرق الإيطالي مقدمة.
تاريخ السلاجقة
هو تاريخ بالفارسية للوزير محمد الحسيني اليزدي من أهل القرن الثالث عشر للميلاد طبعه في مصر الدكتور كارل سوسهيم الألماني في 192 صفحة.
إغاثة اللهفان
هي رسالة في حكم طلاق الغضبان تأْليف شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية عني بتصحيحه الشيخ جمال الدين القاسمي ووقف عَلَى تصحيح طبعه حسين وصفي أفندي رضا طبع بمطبعة المنار بالقاهرة وهو في 48 صفحة.
حياة اللغة العربية
هي مسامرة أو محاضرة للشيخ الخضر بن الحسن في تونس أتى فيها على أطوار هذه اللغة وأساليبها ومطابقتها مع المدنية واتحاد العامية بالفصحى طبعها في تونس في 60 صفحة.
الشهاب في الحكم والآداب
تأْليف أبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن حكمون القضاعي المتوفى سنة 454هـ وهو حكم نبوية مختصرة طبع في بغداد.
وشاح الكاتب(47/67)
وزينة الجيش الغالب
هي رسالة في ملخص القوانين التي سنها الأمير عبد القادر الحسني الجزائري في 33 صفحة طبعت بدمشق.
مرشد العائلات
إلى تربية البنين والبنات
وهو مختصر في التربية الجسمية منذ الحمل إلى سن الولادة تأْليف المرحوم حسن أفندي توفيق طبع في بيروت لإعانة دار العلوم.
تدبير صحة الأطفال
وهو كتاب في صحة الأولاد وما يعرض لهم وما ينبغي وقايتهم منه للدكتور أمين دمر طبع في الاسكندرية.
حالة اليمن
هي رسالة مطولة اسمها يمنه استجلاب نظر دقت كتبها بالتركية جمال الدين أفندي الخطيب ذكر فيها ما صارت إليه حالة اليمن من الانحطاط الإداري وطبعها في الأستانة.
عبرة وذكري
أو كلمة حول الشورى للدكتور أيوب ثابت ذكر فيها المذاهب السياسية وأنه لا دخل للأديان في ترقي نوع الإنسان طبعت في بيروت.
مجلات جديدة
المورد الصافي - كتاب لجرجس أفندي الخوري المقدسي يصدر في بيروت كل أربعة أشهر جزء منه في 104 صفحات يتضمن مختارات من الخطب والمقالات والأشعار والآراء العصرية في التربية والتهذيب.
الهداية - مجلة دينية علمية أدبية اجتماعية لمنشئها الشيخ عبد العزيز جاويش تصدر في مصر كل شهر في 72 صفحة.
الزهور ـ مجلة أدبية فنية علمية لصاحبها أنطون أفندي الجميل تصدر في القاهرة في أول كل شهر في 40 صفحة.(47/68)
الحقوق ـ مجلة حقوقية نصف شهرية لمنشئيها المحاميين سليم بك المعوشي وملحم بك خلف في لبنان وهي في 32 صفحة.
الإنسانية - مجلة علمية أخلاقية اجتماعية انتقادية عمرانية لمنشئها الشيخ حسن الرزق تصدر نصف شهرية في حماة في 32 صفحة.
كتب متفرقة
نشر المسيو كومب باللغة الإفرنسية تاريخ ديانة السين في بابل وآشور ذكر فيه الأنساب والأساطير واللاهوت والآثار والمصانع والعبادات والمعابد وتأْثير الأديان العيلامية والعربية والسورية وغير ذلك من الفوائد.
وكتب أيضاً كل من الكولونيل ألوت ولانوي وجنو يلاك كتابيين عَلَى الصومريين وهم سكان أسفل بلاد بين النهرين وكانوا في رأْي أحدهما قبل المسيح بثلاثة آلاف وخمسمائة سنة مستنداً في ذلك إلى ما عثر عليه من المواد الأثرية ولا سيما في تللو التي ملأَت آثارها متاحف العالم. ونشر أوجين أوبين كتاباً بالإفرنسية في فارس اليوم وما وراءَ النهرين ولا سيما الأماكن المقدسة في العراق وبحيرة أورورمية وبغداد وطريقها إلى همدان ونشر رايموند ويل كتاباً في جغرافية شبه جزيرة سينا وتاريخها. والمسيو أبيل كتاباً في وصف الشعب الإسلامي في تلمسان من أعمال الجزائر. ونشر إيبوليت دريفوس كتاباً في تاريخ البهائية وحالتهم الاجتماعية. ونشر رينه بنون كتاباً بالفرنسية في أوربا والمملكة العثمانية وفيه مستندات تاريخية وسياسية كثيرة.(47/69)
سير العلم والاجتماع
مدارس الفرص
من جملة التعليم الذي كثر بين الأمم الغربية بكثرة المواصلات أن بعض المدارس أو الجمعيات لا تحب أن تصرف التلاميذ إلى بيوت ذويهم في الصيف وتحص عَلَى تعليمهم وتنزيههم والسياحة في هذا الفصل فابن إنكلترا يطوف به أساتذته بعض بلاده أو يأْخذونه إلى فرنسا وإيطاليا وألمانيا واسبانيا وسويسرا وابن ألمانيا كذلك والسكك الحديدية في هذه الممالك تسقط من أجورها قسماً عظيماً لتلك المدارس والجمعيات حتى أن التلميذ لا يدفع عن ستة أسابيع سوى ليرتين إنكليزيتين وعن أربع أشهر أربع ليرات فرنسوية.
تطهير ماء الشرب
رأَى طبيبان إيطاليان أن أفضل الطرق لتطهير ماء الشرب من الجراثيم الضارة أن يجعل فيه محلول فلورور الفضة فلا تمضي نصف ساعة إلا وتهلك الجراثيم كلها ويمكن أن يعرض الماء بعد ذلك زمناً للهواء الطلق بدون أن يكون فيه أدنى خطر من جراثيم جديدة.
اللغات الحية
عقد في باريز هذه السنة المؤتمر الدولي للغات الحية فتباحث أساتذة البلاد المتمدنة في الطرق التي تمكن التلامذة من الاستعداد اللازم لهم في جهاد القرن العشرين فكانت النتيجة أن الواجب تعليم أساتذة المستقبل اللغات الحية تعليماً عالياً لتْرسخ فيهم رسوخ لغاتهم الأصلية فلا يكتفى بتلقينهم من اللغة الأجنبية نحوها وصرفها وشيءٌ من لهجتها والتكلم بها بل يعلمونها أرقى تعلم عام أدبي فلسفي. واتفقت الآراء عَلَى أن اللغات الحية إذا أريد إنزالها منازل التربية تعادل تربية اللغات القديمة فالواجبْ أن يكون بلغ أساتذتها الذين يعهد إليهم تعليمها درجة عالية توازي درجة علماء اللغات القديمة وأجمعوا على أن التعليم الثانوي يجب إصلاحه بحيث يتخرج منه أناس لا ملمون باللغات الأجنبية الحديثة فقط بل ممتازون بها امتيازاً يناسب روح العصر الحاضر ورأَوا أن إحكام اللغة وحده لا ينشأُ منه ما يقال له قيمة مربية ودرجة راقية في المدنية والآداب بل أن يشفعه درس أخلاق تلك الأمة التي يتعلم الطالب لغتها ويتشرب روح آدابها وتاريخها فإن الإطلاع عَلَى لغة حديثة ليس من الغايات بل من الوسائط فهو آلة من أثمن الآلات في جهاد الحياة فلا يكفي أن(47/70)
يتعلم المرءُ كلمات وجملاً وقواعد نحوية وصرفية بل أن يدخل في حياة الشعب الغريب عنه فبعد أن يدرس الطالب قوانين لغة أمة يحيط علماً بأخلاقها وتاريخها وآدابها وكيفية تصورها معنى الحياة وخير الذرائع لبلوغ هذا القصد الرحلة إلى البلاد التي يتعلم المرءُ لغتها فيها زمناً وهذا ما يجب أن يكون من دعائم التربية اليوم كما كان فتيان المتسلمين في رومية يسيحون في بلاد يونان في سالف الأزمان. واستحسن المتآمرون الإكثار من الإنفاق على المتعلمين ما يقوم برحلاتهم ودعوا البلديات والأسرات والجمعيات والحكومات والمحسنين إلى التنافس في هذا المضمار لأن مثل هذه الرحلات توسع الفكر وتشحذ النشاط وتنبه الشعور بالانتقاد وتقوي الوطنية بالمقابلة بين البلاد ومن أهم نتائج هذه التربية الحديثة تقريب ما بين قلوب الأمم المتمدنة.
وانعقدت في أكسفورد ببلاد الإنكليز جمعية اللغات الحديثة فقال الرئيس في خطاب له أن أغنية رولاند ونبلنجن ليد لا تقومان مقام أغاني هوميروس ولا دانتي يخلف فيرجيل مرشده وأستاذه ولا بسكال يضطرنا إلى نسيان أفلاطون ولا بوسويه ينسينا شيشرون ومعنى هذا أن من رأْيه أن التربية الأدبية الكاملة تتطلب دراسة كتب القدماء كما تتطلب درس آثار المحدثين وأفاض على هذا النحو متناولاً الموضوع الذي أجمع عليه مؤتمر باريز ورأَى أن تعليم اللغات كما هو شائع الآن في إنكلترا تعليماً سطحياً ويراد منه التفهم مع الأجانب اللا تجار هو ناقص الجهاز والأولى التعمق في الدراسة.
التربية في الهواء
أخذ علماءُ التربية منذ حين في ألمانيا وفرنسا يبحثون عن الطرق التي يعلمون بها التلامذة في الهواءِ الطلق ويخلصوهم من ازدحام الأنفاس في صفوف المدارس لما فيها من إضعاف أجسامهم وإنهاك صحتهم وذلك بدون أدنى نقص في تعليمهم وممن عني بهذا الموضوع الأستاذ فلات أحد مديري المدارس العالية في ألمانيا فكتب بعد التجارب العديدة في أبناء مدرسته أن تعليم التلاميذ في الهواءِ الطلق لا يناسب إلا الأولاد الذين تقدموا قليلاً في السن وفي هذه الحال يعلم التلامذة أصول الرياضة البدنية ولا يصعب تعليمهم خارج الصفوف دروس العلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا واللغات الحية والرياضيات وقد أَلف في هذا الموضوع كتاباً تداولته الألسن بالثناءِ.(47/71)
التلامذة والأساتذة
كتب أحد علماءِ الإفرنج بحثاً ضافياً أخذ فيه رأْي 87 أستاذاً مع تلاميذهم عن المواد التي يختار التلامذة تعليمها فكانت النتيجة أن المواد التي يحبها التلامذة أكثر من غيرها ليست هي المواد التي يرتاح الأساتذة إلى تعليمها فالتلامذة يحبون الرياضيات البدنية والأعمال اليدوية ثم التصوير والتاريخ ويتأففون من التعليم الديني والإملاء والتاريخ الطبيعي. أما الأساتذة فأحب الدروس إلى قلوبهم التاريخ وليست للرياضة البدنية منزلة من قلوبهم.
تعليم التاريخ
كتب أحد الألمان العارفين مبحثاً في مجلة علمية قال فيها نشأ من تعليم التاريخ أن كثيراً من المعلومات التاريخية بناها المرءُ والضروري منها استظهاره مؤقتاً يساعد عَلَى تربية القلب والذكاءِ والإحساس الإنساني والوطني فيجب عَلَى معلم التاريخ أن يغفل من درسه مالا يضر جهله ويتوسع في المسائل المهمة فيعنى بما ينطبق عَلَى الحال الحاضر من مسائله وعن تعليل أسبابها وتكوينها وينظر نظراً بليغاً فيما تمس حاجتنا إليه في حياتنا ولا يكتفى بالمعرفة البسيطة الغير المعقولة من الماضي ويحب تنبيه الذهن وإعداده لإدراك العالم الحاضر السياسي والاجتماعي والديني وأحوال الرجال المعاصرين وأن تقوى الوطنية بدون أن تكون إلى العصبية الجاهلية ويقصد بالتاريخ تخريج رجال ووطنيين بإطلاعهم عَلَى ما وقع لمن قبلنا وما هو دائر الآن حوالينا. وهذا ما يقصد من روح التاريخ.
المدارس الألمانية في العالم
نشر أحد علماءِ الألمان كتاباً سماه المدارس الألمانية في الخارج جاء فيه أن لألمانيا في روسيا 60 مدرسة فيها 1100 تلميذ وفي رومانيا 30 مدرسة فيها 4200 وفي البلجيك 10 مدارس و1900 تلميذ و6 مدارس في البلاد العثمانية في أوربا فيها 1850 تلميذاً و14 في إيطاليا تحتوي عَلَى 880 تلميذاً ومدرسة واحدة في فرنسا (بباريز) فيها 150 تلميذاً و21 مدرسة في آسيا فيها 1250 منها 9 في أزمير وفلسطين فيها خمسمائة تلميذ و46 مدرسة في إفريقية الجنوبية منها 15 في حكومة الرأس فيها 1100 تلميذ و16 في الناتال فيها 400 و3 في الترنسفال ولها 300 تلميذ و80 في أوستراليا تضم في حجرها 2500(47/72)
و800 في برازيل تجمع 26000 تلميذ و500 في ريو الكبرى لها 15000 تلميذ و60 في الجمهورية الفضية لها 3500 تلميذ و36 في شيلي فيها 2800 تلميذ. أي 1700 مدرسة فيها مالا يقل عن سبعين ألف تلميذ وتمنح الحكومة الألمانية لهذه المدارس 850 ألف مارك في السنة هذا عدا الأساتذة والمعلمين الذين يدرسون في الولايات المتحدة وبذلك تتبين انتشار نفوذ ألمانيا عَلَى بلاد العالم ولا سيما عَلَى الممالك المحتاجة حتى الآن إلى التعلم.
جراثيم التعب
قامت منذ زهاءِ مائة ألف سنة فئة من أطباء الألمان والطليان والأميركان يقولون بوجود جراثيم في أحشاءِ الإنسان تأْتيه من ملامسة الأرض التي يعمل فيها فتحدث فيه الكسل والتعب ثم تنتهي بالموت. وآخر ما قرره أحد أطباء أميركا أن ظاهر أنثى هذه الجراثيم كذكرها أشبه بخيط مغموس بالوحل وهي تبيض حيثما نزلت ألوفاً من البيوض والأجنة التي تخرج منها وتنتشر في الخلايا. وطول الذكر من هذه الجراثيم سانتمتران يعلق بالأحشاء فيتناول أجزاءً صغيرة من الغشاء المخاطي وذلك بثقبها ثقوباً يمتص منها الدم وقد رأَى طبيب إنكليزي بمعاينة شخص مصاب بجراثيم التعب أن فيه 250 جرثومة و575 عضة ورأَى في آخر 863 جرثومة و217 عضة ومعظم هذه الإصابات تكون من باطن القدم أولاً لأنه معرض للاحتكاك بالأرض التي تسكنها الجراثيم ويقدرون المصابين بهذا المرض بمليوني نسمة أكثرها في جنوبي أميركا.
درجات التغذية
ما من شيءٍ مهم في التغذية أكثر من التدقيق في معرفة ما يتركب منه طعامنا حيوانياً كان أو نباتياً أو معدنياً جامداً كان أو سائلاً فالأصل في طول حبل العمر متوقف عَلَى الإحاطة بذلك فقد قال أحد الأطباء أن الواجب عَلَى المرءِ قبل المباشرة في الأكل أن يعرف درجة التغذية فيما يتناوله والمقدار اللازم له منبها. وقال غيره أن من أوائل قواعد حفظ الصحة أن يعرف المرءُ النسبة بين التغذية والإنفاق عليها. ولكن هذه القواعد قلما يعمل بها بالفعل وكثير من الناس يجهلون كل الجهل ما يدخل في الطعام من درجات التغذية وقد نصح الدكتور فيشر من كلية يال في أميركا أن تعلق القائمة الآتية في المدارس وغرف الموائد(47/73)
لمعرفة درجات التغذية في كل طعام وها هي مرتبة بحسب مكانتها من التغذية:
الثمار والجوز والحبوب والعسل والزبدة.
البطاطا وغيرها من البقول التي تقشر.
السمن والملح القليل والقشطة واللبن والحليب والبيض وسكر القصب وشوكولاتو اللوز الهندي.
الجبن المطبوخ واللبن الرائب.
البقول التي تؤْكل بقشورها.
المعجنات.
الجبن المخمر وجبن روكفور وغيره.
التريد.
الحساء باللحم وخلاصة اللحم.
الشاي والقهوة.
اللحم والسمك والطيور.
الكبد.
التوابل ما عدا الملح.
الألكحول.
توراة الشيطان
قالت مجلة مطالعاتنا في البيوت ما تعريبه: من جملة التحف المحفوظة في خزانة الكتب الملكية في استوكهلم كتاب مخطوط أطلقوا عليه اسم توراة الشيطان كما يسمونه مارد الكتب لضخامة حجمه المتناهي ويبلغ طوله 90 سنتمتراً وعرضه خمسون ولا يستطيع نقله سوى ثلاثة رجال وهو ذو 309 صفحات ضاع منه سبع وقد كتبت كل صفحة عَلَى عمودين. وحسبوا ما وضع لهذا الكتاب من الورق فكان 160 حماراً وحروفه من نوع الكوتيك الصغير وأوائل الحروف الكبرى جعلت بالذهب الملون وزينت بالصور وجلده من البلوط الغليظ ثخانته أربعة سنتمترات ونصف وأقفاله من المعدن. ولما حرق القصر الملكي في استوكهلم سنة 1697 أُصيبت هذه التوراة برضوض فطرحوها من النافذة إلى الشارع(47/74)
فتعطلت أقفالها ثم أُصلحت.(47/75)
خاتمة السنة الرابعة
نحمد الله عَلَى أن وفقنا إلى النجاة من مآزق السنة الماضية وأقلها مما يعوق عن التأْليف والطبع والنشر في بلاد أعمتها الجهالة والجهلاءُ وأفسدتها السياسة الخرقاءُ قروناً وأزماناً. فقد اضطررنا بعد نقل المقتبس من القاهرة إلى دمشق أن نعاني السياسة فأصدرنا جريدة يومية باسم المقتبس لتخدم الإصلاح الإداري الاقتصادي كل يوم كما يعالج شقيقها الأكبر الإصلاح العلمي والاجتماعي كل شهر وما أعظم ما قاسيناه من ممارسة أعداءِ الدولة والأمة فتربصوا بنا الدوائر وفي مقدمتهم صنيعة عبد الحميد المخلوع وموجد الجاسوسية في الأستانة ناظم باشا والي سورية السابق فقد شق عليه مطالبتنا بالإصلاح فقام ينصب لنا شراكاً يريد بها إهلاكنا فأنجانا الله منه ولكن بعد أن تحملنا في هذا السبيل وقتاً ومالاً واضطرت هذه المجلة إلى الاحتجاب عن قرائها زمناً ولذلك فإنا نحسب السنة الماضية من أشقى أيام العمر إذا لم نقم فيها بالواجب نحو المشركين بإصدار المجلة في أوقاتها عَلَى الصورة المقبولة التي كانت تظهر بها في سنيها الثلاث الأولى واضطررنا باديءَ بدءٍ إلى رفض الورق الذي أوصينا عليه من معامل النمسا بداعي مقاطعة البضائع بين البلاد العثمانية والنمساوية ولما لم نجد الورق اللازم للمجلة في بيروت ولا في دمشق اضطررنا إلى الطبع عَلَى ورق الكتابة عَلَى نحو ما تراه في الأجزاء الثلاثة الأولى من هذه السنة ثم توقعنا انتظام المطبعة التي أسسناها فما كاد يتعلم عملتها ويستعد القائمون بها حتى أُغلقت ظلماً نحو أربعة أشهر. وها نحن اليوم نصدر آخر جزء من سنة 1327 أي جزء شهر ذي الحجة في جمادى الثانية من سنة 1328 والمأْمول أن نوفق بعد ثلاثة أشهر إلى إصدار كل جزءٍ في شهره خصوصاً وقد تفرغنا أكثر من قبل للتأليف والترجمة في الموضوعات التي نتابع البحث فيها.
ولقد توفرت لنا المواد خلال رحلتنا إلى أوربا وصارت للمقتبس علائق واسعة مع الأندية العلمية في ديار الغرب يتناول مدة الشهر من مطبوعاتها أشياءَ كثيرة وسيتوفر بحول الله عَلَى نقل كل ما يهم هذا الشرق العربي منها ومن المجلات الفرنسوية التي ننقل عنها بعد الآن مجلة العالمين والمجلة الآسياوية ومجلة العالم الإسلامي ومجلة الاقتصاديين ومجلة الطبيعة والمجلة الزرقاء والمجلة الوردية ومجلة انتربية ومجلة المجلات ومجلة العلم الاجتماعي ومجلة مطالعاتنا في البيوت والمجلة التونسية إلى غير ذلك من المجلات التي قد(47/76)
نطلع عليها ولكن عَلَى طريقة غير منظمة دع عنك المجلات التركية والعربية. وسيكون في السنة المقبلة حظ واسع لتلخيص المؤلفات الإفرنجية الحديثة في هذه المجلة والتوسع في الأبحاث التي تؤول إلى ترقية اللغة العربية وآدابها واجتماع العرب وعلومهم مع تطبيقاتها عَلَى حالة الغرب اليوم فنمزج المدنية العربية بالمدنية الغربية لتكون لنا منها مدنية تأْخذ من كل شيءٍ أحسنه ونسأَله تعالى أن يسددنا ويلهمنا رشدنا ويثبت أقدامنا في خطتنا ويقلل خطأَنا وخطيئاتنا إنه أكرم مسؤول.(47/77)
العدد 48 - بتاريخ: 1 - 2 - 1910(/)
سعة التأليف
في الإسلام
من جملة مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق كتابان عظيمان تعددت مجلداتهما فدلا على اتساع نطاق التأليف في الإسلام أيام كان علماؤُه منصرفين إلى العلم والعمل يصرفون أثمن أوقاتهم في خدمة الأمة وهما كتاب الكواكب الدراري في تبويب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري لجامعه الإمام أبي الحسن علي بن عروة الحنبلي من أهل القرن التاسع وكتاب تاريخ دمشق الكبير لواضعه الحافظ أبي القاسم ابن عساكر من أهل القرن السادس.
هذان السفران الجليلان آيتان ناطقتان على طول نفس أجدادنا وشدة وثاقنا وجهالتنا فقد وجد من الأول مجلدات كثيرة ضخمة لا تقل عن ثمانين مجلداً متفرقة ومما وجد منها المجلد الثاني والعشرون بعد المئة بحيث لايظن أن الكتاب بلغ أقل من مئة وخمسين مجلداً في التفسير والحديث والأصول والفقه الحنبلي وتراجم الحنابلة ومباحث في الفلسفة والكلام والتاريخ والأدب فهو دائرة معارف إسلامية حقيقية ضمت بين جوانحها أشهر كتابات علماء الحنابلة وكبار مجتهدي الأمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن رجب وغيرهم من الأعلام.
وأما تاريخ دمشق فمنه الآن نسختان نسخة في عشرين مجلداً ونسخة وقعت في عشرة مجلدات ضخمة وهي تامة وكان كتب في ثمانين مجلداً. ولقد جرى ذكره بين حافظ مصر في عهده زكي الدين المنذري وطال الحديث في أمره واستعظامه فقال حافظ مصر: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه. قال ابن خلكان: ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضيع مثله وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها وله غيره تواليف حسنة.
وبعد فإن الخالق تعالى وضع في أفراد من كل أمة خاصيات وملكات قلما يشاركهم فيها كثيرون وآتاهم هبات يستخدمونها في نفع البشر ونفوساً لا تعرف الملل لدرك مقاصدهم(48/1)
الشريفة. وكلما ارتقت الحضارة في شعب ينبع فيه رجال يصرفون على الإفادة والاستفادة نقد أعمارهم ويتمحصون لإحسان الخدمة حتى لا يكادون يرون السعادة والملاذ والخير وكل ما تطمح إليه نفوس بني الإنسان من المعالي رإلا فيما هم بسبيله.
ومن أنعم النظر في تراجم نوابغ العلماء ودرس حياتهم حق دراستها لا يلبث أن يزول عجبه إذا شاهد كيف كانوا يستغرقون في أعمالهم ويتفانون فيما أخذوا به نفوسهم فيزهدون في المال والبنين ويفطمون أنفسهم عن حب المناصب والمراتب والزخارف والسفاسف.
كنا ذات يوم نذكر لأحد أصدقائنا من الأطباء الذين صرفوا شطراً من حياتهم في الغرب اتساع التأليف في هذه الأمة قديماً فقال أما ما يبلغكم عن أكثر المؤلفين في الغرب اليوم من كثرة المصنفات فليس لأكثرهم منه إلا النظر القليل يكتبه لهم أذكياء المتخرجين بهم بعد أن يكونوا ثقفوا عنهم بعض ماله علاقة في الموضوع الذي ألفوا فيه حتى إذا أتوا على آخره يدفعونه إلى أساتذتهم فيجيلون فيه أنظارهم ويمثلونه للطبع مفتتحاً بأسمائهم والمصنف منهم من يذكر أن تلميذه فلان أعانه في التأليف وبعضهم يضنون بمثل هذه الإشارة.
ولما أوردنا أسماء كثير ممن اشتهروا في الإسلام وألفوا التواليف الممتعة الضخمة وعنوا وحدهم في الأكثر بجمعها وتنسيقها وتصنيفها وتبييضها وتسويدها وإن ما أثر عنهم كان مردوداً لو لم يرد على لسان أهل العدل والصدق من المؤرخين وعلماء التراجم وبعضهم قد يكذبون من أضدادهم وحاسيدهم - عند ذلك اقتنع صاحبنا بصحة رأينا وقال أن حال الإفرنج اليوم يخالف حال سلفنا فإن الإفرنجي مهما بلغ من حبه الحكمة وتفانيه في خدمة المعارف يقتطع له أوقاتاً لراحته وإدخال الفرح على قلبه لينشط إلى متابعة السير في عمله أما الشرقي فإنه يفرط فيما تمحض له فحاله إما تعب ليس وراءه غاية أو راحة ما بعد ورائها وراءٌ.
افتح أي كتاب من كتب التراجم ولاسيما تراجم أهل القرون الستة الأولى للإسلام تسقط على مبلغ عناية رجالنا بالتأليف وتوفرهم على النفع وقد يظن أن معظم ما خلفوه من كتبهم هو ديني محض ولا أثر لهم في العلوم الدنيوية ولكن هذا الظن لا يغني من الحق شيئاً لأن جماهير المؤلفين المجيدين لم يكونوا متمكنين من علوم الدين بإغفال علوم الدنيا بل إنهم كانوا يعتقدون بأن العلوم بأسرها نافعة في الدارين وما نفع في هذه الأولى كان خليقاً بأن(48/2)
ينفع في الأخرى.
هذا أبو محمد حزم الظاهري وأهل الظاهر نفاة القياس والتعليل وهو معدود في الطبقة الأولى بين علماء الدين ومع هذا تجد له تآليف ممتعة فيما نعتبره من علوم الدنيا فقد ذكر غير واحد من علماء الأندلس أن تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين نحو من أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وهذا شيءٌ ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر الطبري فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفاً فقد ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة وهو الذي وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير أن قوماً من تلاميذ أبي جعفر لخصوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي في سنة 310 وهو ابن ست وثمانين سنة ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة ومن جملة تآليفه التفسير الكبير والتاريخ الذي هو أصح التواريخ وأثبتها وكلاهما مطبوع متداول وهو الذي قال لتلاميذه: هل لكم إن أملي عليكم كتاباً في التاريخ قالوا وكم يكون حجمه فقال ثلاثون ألف ورقة فاستعظموا ذلك وأرادوه على الاختصار حتى أملاه عليهم في ثلاثة آلاف ورقة فجاء كما رأيناه اليوم أحد عشر مجلداً ضخماً أعلاه بهذا القدر وهو يحوقل ويقول ماتت الهمم لأن تلاميذه لم يوافقوه على جعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة فماذا كان يقول لو جاء في هذا العصر ورأى انحطاط علوم الدين وعلوم الدنيا بين قومه.
وابن جرير في إجادته في التأليف وإكثاره منه مشهور كسائر من تقدمه ومن تأخر عليه من المصنفين مثل ابن تيمية من أهل القرن الثامن فقد قال فيه أحد واصفيه أن له من المؤلفات والقواعد والفتاوى والأجوبة والرسائل والتعاليق مالا ينحصر ولا ينضبط ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع ولا صنف نحو ما صنف ولا قريباً من ذلك مع أن تصانيف كان يكتبها من حفظه وكتب كثيراً منها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه ويراجعه من الكتب. وقال غيره كان الإمام يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحواً من أربعة كراريس أو أزيد وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد وله في غير مسألة مصنف مفرد في(48/3)
مجلد وجمع بعض الناس فتاويه بالديار المصرية مدة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى فجاءت نحو ثلاثين مجلداً وقيل إن تآليفه تبلغ ثلاثمائة مجلد.
ومثله أبو الفرج ابن الجوزي الواعظ من علماء القرن السادس صنف في فنون عديدة وكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئاً كثيراً والناس يغالون في ذلك حتى يقولون أنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس وهذا شيءٌ عظيم لا يكاد يقبله العقل ويقال أنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث الرسول فحصل منها شيءٌ كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها.
ومن المكثرين من التأليف ابن الهيثم الرياضي الطبيعي فقد عدد ابن أبي أُصيبعة مصنفاته في زهاء أربع صفحات هذا عدا ما ضاعت دساتيره منه لما فارق البصرة والأهواز وانتقل إلى مصر قال: وما أظنها تنقص عن مئة مجلد. ومثله الفارابي أحد \ فلاسفة الإسلام كان مكثراً من التأليف وقد أضاع أكثرها لأنه كان يكتب في رقاع كيفما اتفق ويختار الفلاة ومجاري الأنهار للتأليف فتطير الأوراق التي يكتبها.
ومثلهما أبو الريحان البيروني قال ياقوت: كان لغوياً أديباً له في الرياضيات والنجوم اليد الطولى ولما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيه فضة فرده للاستغناء عنه وكان مكباً على تحصيل العلوم منصباً على التصنيف لا يكاد يفارق يده القلم وعينه النظر وقلبه الفكر دخل عليه بعض أصحابه وهو يجود بنفسه فقال له في تلك الحال كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة فقال: أفي هذه الحال قال: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بها أليس خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها قال: فذكرتها له وخرجت فسمعت الصريخ عليه وأنا في الطريق. قال ياقوت: وأما تصانيفه في النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فإنها تفوت الحصر ورأيت فهرستها في وقف الجامع بمرو في ستين ورقة. وقال بعض مترجميه: إن كتبه زادت على حمل بعير.
والبيروني أحد كبار فلاسفة العرب يجيءُ في طبقة ابن سينا وابن رشد وابن زهر والفارابي ومثلهم الكندي فيلسوف العرب وكتبه في علوم مختلفة مثل المنطق والفلسفة والهندسة والحساب والأرثماطيقي والموسيقى والنجوم وغير ذلك وقد عدد أسماءَها ابن(48/4)
النديم في ست صفحات. ومثله أبو بكر بن زكريا الرازي صاحب المصنفات الممتعة في الطب والعلوم العقلية والأدب وهو الذي استنار الغربيون لأول نهضتهم بمصنفاته وأول ما طبع عندهم من تأليف العرب كتبه ذكر أسماءها ابن أبي أُصيبعة في نحو سبع صفحات وابن النديم في ثلاث. ومن المكثرين من التأليف في عهد الحضارة الإسلامية حنين بن اسحق وثابت بن قره ويعقوب بن اسحق الكندي وقد ساق ابن أبي أُصيبعة تآليف آخرهم في خمس صفحات وكلها كتآليف حنين وثابت فلسفية علمية وهم أئمة النقل من اليونانية إلى العربية.
ومن المكثرين من التأليف المجودين فيها حجة الإسلام الغزالي والماوردي وعمرو بن بحر الجاحظ وجار الله الزمخشري وهذان الأخيران من أئمة المعتزلة قيل في الأول أن تأليفه تعلم العقل وفي الثاني أن تآليفه يكتفى بها في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان والأدب. ومن المكثرين المجودين من أئمة المعتزلة القاضي عبد الجبار قيل أن تآليفه التي وضعها في كل فن أربعمائة ألف ورقة ومن أئمة المعتزلة كثيرون من جاوزت مؤلفاتهم المئة والخمسين ألف ورقة.
ومن المؤلفين الأول المكثرين من التأليف هشام الكلبي العالم بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها المتوفى سنة 206 ذكر كتبه ابن النديم في نحو ثلاث صفحات وهي تزيد على مئة وخمسين ومنهم المدائني المتوفى سنة 215 في نحو أربع صفحات ومنهم المرزباني من أهل القرن الرابع قال إن تآليفه بلغة ألوفاً من الأوراق ومن الفقهاء والحفاظ المكثرين من التأليف محمد بن إدريس الشافعي وداود بن خلف الأصفهاني وأبو العباس بن سريح المعروف بالباز الأشهب من أئمة الشافعية كانت فهرست كتبه تشتمل على أربعمائة مصنف وقيل أن تصانيف الحافظ أبي بكر ابن البيهقي تبلغ ألف جزء ولأبي بكر ابن الخطيب صاحب تاريخ بغداد المتوفى سنة 463 قريب من مئة مصنف وللنسفي من كتب الأصول والفقه والحديث والأدب والتاريخ متا يقرب من مئة مصنف وكان ابن سبعين ممن صنف تصانيف كثيرة وللأشعري خمسة وخمسون تصنيفاً.
وكان أبو حاتم البستي من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ قال ياقوت وكانت الرحلة بخرسان إلى مصنفاته وروى عن ابن ثابت أن من الكتب التي تكثر منافعها إن(48/5)
كانت على قدر ما ترجمها واصفها مصنفات أبي حاتم محمد بن حيان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر الشجري ووقفني على تذكرة بأسمائها ولم يقدر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معرفة عندنا وأنا أذكر منها ما استحسنت سوى ما عدلت عنه وأطرحته وهنا عدها فجاءت زهاء مائتين وخمسين جزءاً وبلغت مصنفات أبي بكر بن فورك المتكلم الأصولي النحوي الواعظ قريباً من مائة مصنف. ولفظة المتكلم تطلق على من يعرف علم الكلام وهو أصول الدين وإنما له علم الكلام لأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عز وجل أمخلوق هو أم غير مخلوق فتكلم العباس فيه فسمي هذا النوع من العلم كلاماً اختص به وإن كانت العلوم جميعها تنشر بالكلام أهـ ولأبي الحسين الرواندي صاحب المقالة المشهورة في علم الكلام وهو الذي ينسب إليه اليوم ظلماً كل كلام فيه سفسطة ومغالطة وكفر من التآليف نحو مائة وأربعة عشر كتاباً مع أنه لم يتجاوز الأربعين من عمره.
ولرأس المتصوفة محيي الدين بن عربي تآليف كثيرة ومنها الممتع ذكر في إجازة كتبها للملك المعظم أنه أجازه أن يروي عدد مصنفاته ومن جملتها كذا وكذا حتى عد نيفاً وأربعمائة مصنف وألف رسالة عدد فيها كتبه كما جرت عادة بعض المؤلفين أن يترجموا أنفسهم ويذكروا مؤلفاتهم في رسائل خاصة مخافة أن يدس عليهم بعضهم ما لا يروقهم ويقول فيهم ما ليس فيهم.
وابن سعيد الأندلسي المؤرخ من المكثرين من التأليف منها المرقصات والمطربات والمقتطف من أزاهر الطرف والطالع السعيد في تاريخ بني سعيد والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار وهما المغرب في حلي المغرب والمشرق في حلي المشرق وغير ذلك قال لسان الدين حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم أنه خلف كتاباً يسمى المرزمة يشتمل على وقر بعير من رزع الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والإخبارية إلا الله تعالى.
ومن المكثرين من التأليف لسان الدين بن الخطيب وأبو العلاء المعري ولهذا كتاب سماه الأيك والغصون وهو المعروف بالهمزة والردف يقارب المئة جزء في الأدب قال ابن خلكان: وحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف وقال إذا علم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد. ومن المكثرين القاضي الفاضل قال ابن خلكان: أخبرني(48/6)
أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وكان الحاجب المنصور أبو بكر بن عبد الله بن مسلمة المدعو بالأفطس أديباً جليلاً ومن تآليفه الكتاب المظفري المسمى بالتذكرة في خمسين مجلداً. وكتب عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف نحو مئة وخمسين كتاباً وذلك في سياحات له طويلة دامت نحو أربعين سنة ساحها بين العراق والشام ومصر والروم.
ومن المكثرين من التأليف والمتوسعين فيه أحمد بن أبان بن السيد اللغوي الأندلسي يعرف بصاحب الشرطة وهو مصنف كتاب العالم في اللغة نحو مئة مجلد مرتب على الأجناس بدأ بالفلك وختم بالذرة وله في ؤالعربية واللغة كتب أخرى. ومثله ابن سيدة الضرير صاحب المخصص والمحكم وغيره وهو من المكثرين من التأليف والحفظ ومن المكثرين أبو اسحق إبراهيم بن الأعلم البطليوسي له نحو خمسين تأليفاً. وبلغت تآليف محمد أبي طالب القرطبي المتوفى سنة 437 ـ 77 تأليفاً وألف عيسى بن عمر النحوي نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو قال سيبويه جمعها بعض أهل اليسار وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق في الوجود سوى كتابين ولو تنافس أهل العلم وغلاة الكتب بمثل هذه الكتب لتعاورتها الأيدي بالنسخ ولما فقدت.
ومن المكثرين من التأليف عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السلمي المتوفى سنة 238 قال المقري رأيت في بعض التواريخ أن تواليفه بلغت ألفاً ومن أشهرها كتاب الواضحة في مذهب مالك. ولأبي عمرو الداني القرطبي من علماء القرآن مئة وعشرون مصنفاً وكان يقول ما رأيت شيئاً قط إلا كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته وآخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس أبو الحسن القلصادي المتوفى سنة 891 وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض.
وممن عرفوا بسعة التأليف أحمد بن أبي عبد الله على مذهب الإمامية فإن ما كتبه بلغ مائة تصنيف عددها ياقوت في معجم الأدباء ومن فقهاء الإمامية أبو النصر العياشي ذكر ابن النديم أسماء كتبه في نحو صفحتين.
ويقال أن تواليف أبي جعفر بن النحاس تزيد على خمسين منها شرح عشرة دواوين للعرب(48/7)
وذكروا أن محمد بن جماعة من أهل القرن الثامن كان أعجوبة زمانه في العلم وليس له في التأليف والتأليفين والثلاثة التي جاوزت الألف فإن له على كتاب أقرأه التأليف والتأليفين والثلاثة وأكثرها من شرح مطول ومتوسط ومختصر وحواش ونكت إلى غير ذلك وكان يعرف علوماً عديدة منها الفقه والتفسير والحديث والأصلان والجدل والخلاف والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق والهيئة والحكمة والزيج والطب والفروسية والرمح والنشاب والدبوس والثقاف والرمل وصناعة النفط والكيمياء وفنون أخر وعنه أنه قال: أعرف ثلاثين علماً لا يعرف أهل عصري أسماءها.
ومن الذين أكثروا من التأليف أحمد بن مكتوم من أهل القرن الثامن وعبد الرحمن الأنباري من أهل القرن السادس وعيسى الإسكندراني من أهل القرن السادس وتقي الدين السبكي من أهل القرن الثامن وله مئة وخمسون تصنيفاً والجلال السيوطي من أهل القرن العاشر أطلعنا على فهرست كتبه في سبع ورقات وربما لا تقل عن أربعمائة مجلد وفيها الجيد.
وأعجوبة المؤلفين أبو موسى جابر بن حيان قال: ألفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة وألفاً وثلاثمائة كتاب في الحيل على مثال كتاب تقاطر (؟) وألفاً وثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب ثم ألفت في الطب كتاباً عظيماً وألفت كتباً صغاراً وكباراً وألفت في الطب نحو خمسمائة كتاب إلى أن قال: ثم ألفت كتباً في الزهد والمواعظ وألفت كتباً في العزائم كثيرة حسنة وألفت كتباً في النيرنجيات وألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتباً كثيرة ثم ألفت بعد ذلك خمسمائة كتاب نقداً على الفلاسفة ثم ألفت كتاباً في الصنعة (الكيمياء) يعرف بكتب الملك وكتاباً يعرف بالرياض.
وماذا عسانا أن ندون هنا ونقتبس من كلام المؤرخين في المكثرين من المؤلفين العارفين ولو أردنا أن نذكر فقط من لهم منهم إلى عشرة كتب لاستغرق الكلام مجلد هذه السنة برأسه. وإنا ليحزننا بوم نذكر أن كل واحد ممن ذكرنا خلف للأمة خزانة كتب من مصنفاته ونلتفت الآن عن إيماننا وعن شمائلنا فلا نرى المؤلفين في الأقطار العربية يعدون على الأصابع والمكثر منهم من لا تتجاوز مصنفاته العشرة.(48/8)
نشوء اللغات الإسلامية
قضي على اللغات في كل عصر ومصر أن تقتبس بعضها من بعض ما يعوزها من الألفاظ لتعبر بها عن الإكثار الحديثة والعربية والفارسية والتركية لم تخلص من هذا القانون. فاقتبست أولاً من اللغات السامية ومن اليونانية ثم من أهم لغات أوروبا الحديثة ولاسيما من الفرنسوية كما اقتبست كمية وافرة من الألفاظ للإفصاح عن الأفكار التي ليس في معجمها ما يدل عليها ثم هجمت تلك الألفاظ الأعجمية هجوماً كثيراً كادت تأتي معه على مفردات تلك اللغات نفسها فقامت تريد الرجوع إلى أصولها وهبّ القوم ينبذون من اللغات الإسلامية الثلاث تعابير رأوها وحشية ويستعيضون عنها بألفاظ يشتقونها من المادة الأصلية في العربية والفارسية والتركية أو بألفاظ موجودة ولكنها أُطلقت على معاني جديدة.
ومن الضروري أن لا يفوتنا النظر بأن أصحاب هذه اللغات اليوم يريدون الرجوع بلغاتهم إلى أصولها الصحيحة ويطرحون الألفاظ التي ليست لهم مدفوعين إلى ذلك بتأثيرات الدعوة إلى الوطنية في البلاد الإسلامية. وهذه الحركة في الرجوع بهذه اللغات إلى أصولها لا ترمي إلى نبذ الألفاظ الإفرنجية فقط بل إلى أن القوم في فارس يطمحون إلى حذف التعابير العربية وفي البلاد العثمانية كما هو سائر البلاد التركية يحاولون طرح الألفاظ العربية والفارسية. ويبحث الأدباء من أهل هاتين اللغتين فيما لديهم من الألفاظ الإيرانية والتترية عن الألفاظ التي كان من تأثيرات الفاتحين أو من رغبة المغلوبين في إظهار معرفتهم بلغة غالبيهم إن زهد فيها واستعملت ألفاظ أقل منها انطباقاً مع الروح التركية والفارسية وإن كثر استعمالها وعدت أو كادت من مادة اللغة الأصلية.
جرت اللغات الإسلامية كاللغات الأجنبية في اقتباسها على طريقتين علمية وعامية فالعامة يقتبسون على أيسر وجه من الألفاظ ما يتكرر على مسامعهم دائماً أو ما يفصح عن أفكار لا مقابل لها في لغتهم الأصلية ولقد عرفت منذ القديم القوانين التي تجري عليها في الاقتباس فالأسماء تنتقل من لغة إلى أخرى بأعظم ما يكون من السرعة وأقل من ذلك انتقال الصفات وفي النادر اقتباس الظروف ويشذُّ أو لا يكاد يكون أثر لاقتباس الأفعال. ومن اللغات ما إذا نظر فيه إلى المفردات يمكن وصفه باللغات المختلطة وهي تتألف في البلاد التي عرفت بتجارة المقايضة ولا سيما في الموانئ البحرية مثل لغة البيجيين في الشرق الأقصى وهي مزيج من اللغة الإنكليزية والصينية ولغة السابير مؤلفة من العربية والافرنسية والإسبانية(48/9)
والإيطالية أو اللغة الإفرنجية وهي مجموعة من كلمات مقتبسة من جميع لهجات البحر المتوسط من البلاد التي تمتد من سورية إلى مراكش ولا بأس باعتبار اللغة المالطية من هذا الضرب من اللغات وإن أصبح لها صحافة وآداب منذ عهد ليس ببعيد ولكنها لم تعد تحسب لهجة عربية تكون صلة بين لغة مصر والمغرب جامعة إلى نحوها الذي هو كنحو اللغات السامية مفردات إيطالية وبعبارة أصح صقلية في الأكثر وكتابتها لاتينية.
وما عدا هذه اللغات المشتركة البحرية التجارية خصوصاً فقد تألفت في البلاد الإسلامية التي استولى عليها الأوروبيون لهجة عامية دخلتها ألفاظ من لغات الفاتحين واصطلاحات دواوين الحكومة وأرباب الصناعات وهكذا نجد قرارات الحكومة الفرنسوية في الجزائر كانت تكتب زمناً بلهجة محرفة ممزوجة بكلمات فرنسوية نقلها المترجمون بجهل منهم أو كسل فيهم على حالها ولم يعنوا بترجمتها ونرى جند الرماة والمشاة هناك يستعملون لغة هي أحرى بها أن تكون مما تواطأوا عليه بينهم وهي خليط من التعابير الفرنسوية المحرفة كثيراً بحيث يصعب الاهتداء إلى معرفتها غالباً.
ولكن هذا لا يصح على الإطلاق إلا على اللغة المحكية وكتابات من لم يتعلموا. أما اللغة الأدبية التي مست حاجتها كذلك إلى إيجاد تعابير جديدة فقد عمدت إلى طرق عديدة في الاقتباس فبدأت بنقل ألفاظ أوروبية كما هي أو بتعديلها قليلاً حتى توافق التلفظ المحلي وهذه هي الطريقة التي كانت تعمد إليها اللغة العامية ومضى زمن كانت هي المعول عليها أما فكر الرجوع بتلك اللغات إلى أصولها فلم ينشأ إلا في السنين الأخيرة فاللغة العربية الغنية بمفرداتها ولها من الاشتقاق موارد كثيرة فقد عمدت إلى ما في متنها من المفردات فاشتقت منها وكذلك كان من الفارسية وإن كانت لا تستغني بعض الأحيان عن الألفاظ العربية. أما التركية التي افتقرت بتأثير اللغات الأجنبية فيها فقد أخذت بادئ بدء من العربية والفارسية وهي تحاول منذ مدة الاكتفاء بما عندها باستعمال التعابير التترية القديمة التي كادت تتلاشى.
ما هي المؤثرات التي عرضت للغات الإسلامية من اللغات الأجنبية؟ إن أقدم النصوص العربية التي انتهت إلينا هي الأشعار التي قيلت قبل الإسلام والقرآن نفسه لا يخلو من بعض ألفاظ أصلها فارسي. وذلك لأن الصلات بين الفرس والعرب كانت قديمة مستحكمة(48/10)
فأخذت العربية عن اللغة المجاورة لها بعض الألفاظ. فمن ألفاظ القرآن الغير العريقة في العربية إبريق وسجيل. واقتبست اللغة الآرامية اللغة العربية بعض ألفاظها أيضاً فإن اتحاد أصول هاتين اللغتين والمناسبة القوية في تركيبهما قد جعلت الأخذ منها سهلاً للغاية. وكذلك الحال في اللغة العبرانية فقد اقتبست العربية بعض الألفاظ وأكثرها ديني فمنها جهنم وملك واقتبست اللغة الرومية منذ عهد بعيد بعض الألفاظ للغتين العربية والفارسية مثل سجل وسندس وانتقلت هذه إلى العربية ووردت في القرآن عن طريق الفارسية.
ولقد نشأت في فارس لغة صناعية وأعني بها البهلوية واستعملت الخط السامي واستعاضت عن المفردات الإيرانية بما يقوم مقامها من المفردات الآرامية وتصريفها يجمع بين تصريف اللغتين ولكن اللهجة الشائعة من هذه اللغة غير متأثرة كثيراً بالنفوذ الغريب إلى زمن الفتح العربي. ولا حاجة إلى ذكر ما أصاب اللغة الإيرانية من التبدل بالفتح فقد سرت إلى لغة الجمهور ألفاظ كثيرة دينية وعامية. واعتمدت فارس في كتابتها على الخط العربي.
أما الأتراك فالظاهر أنهم لم يقتبسوا ألفاظاً كثيرة من جيرانهم قبل أن يدينوا بالإسلام هذا إذا استثنينا منهم المغول. وربما أخذوا قديماً بعض الألفاظ من الصين وفارس حتى إذا انتحلوا الإسلام كثرت في لغتهم الكلمات العربية والفارسية. ونرى العربية إلى عهد ظهور الإسلام تقتبس من الفارسية والسامية والآرامية خصوصاً واليونانية ودام هذا الاقتباس وارتقى ارتقاءً ظاهراً على عهد خلفاء الأمويين والعباسيين. وظلت اللغات الفارسية والسريانية والرومية بحسب الأقطار لغات الإدارة في المملكة العربية ولا عجب من ثم أن أدخلت إلى لغات الفاتحين عدداً كبيراً من الألفاظ العلمية. وكان من درس فلاسفة يونان ورياضيهم وكيمياوييهم وطبيعييهم أن سرت إلى العربية من اليونانية اصطلاحات علمية.
وفي الحروب الصليبية دخلت إلى اللغة العربية ألفاظ مختلفة اقتبستها من لغات الشعوب التي اختلط بهم المسلمون ولكن ما أخذته هو من الأقاصيص محدود معدود ولم تدخل على اللغة العربية الألفاظ الغريبة إلا في القرون الحديثة الموافقة لارتقاء العمثمانيين في آسيا وأوروبا. أما تأثير اللغات الأوروبية في العربية فلم يكد يشعر به إلى الدور الأخير وهو أقل من ذلك في الفارسية بالنظر لبعدها الجغرافي.
ومن أراد الآن أن يبحث في تأثير كل لغة أوروبية في اللغات الإسلامية منذ زمن النهضة(48/11)
فليقرر ما يأتي: إن أثر اللغة الافرنسية كبير جداً وقد فاق غيره في جميع العالم الإسلامي في البحر المتوسط وآسيا السالفة ولكن أثرها بالنسبة لغيره حديث العهد وكانت البواعث إليها: 1ً ـ الاصطلاحات التي جرت في البلاد العثمانية على عهد السلطان محمود. 2ً ـ تنظيم محمد علي لمصر نحو ذاك العهد أيضاً وما تركه الفرنسيس من ألفاظهم فيها بعد حملتهم على مصر سنة 1799. 3ً ـ فتح الجزائر. 4ً ـ الصلات التي نشأت بين فرنسا وفارس وقد بدئ بها في أوائل القرن التاسع عشر على أيدي بعثة جوبر والقائد غاردان ثم أعيدت بعيد حين. 5ً ـ شدة ميل المسلمين في البلاد العثمانية ولا سيما في فارس لتعلم الآداب الفرنسوية والانطباع بالأفكار الفرنسوية.
وأنت ترى بهذا أن نفوذ فرنسا في الشرق غير بعيد العهد لا يتجاوز القرن الواحد وهو قوي للغاية على الرغم من تقلص ظل سياستنا من البلاد العثمانية مدةً من الزمن وعلى تداخل إنكلترا في مصر وقلة علائقنا مع فارس فتأيد نفوذنا أبداً في تلك البلاد التي لم يبق فيها أولئك الشعوب الذين هم أكثر منا مضاءً في الأمور السياسية والاقتصادية شيئاً من لغاتهم إلا القليل الذي لا يؤبه له ولا ننسى أن تأثير اللغة الفرنسوية قد استحكم في اللغات التترية في روسيا ولكن لا مباشرة بل دخلتها الألفاظ من الافرنسية بواسطة اللغة الروسية أو اللغة التركية العثمانية.
أما تأثير اللغة الإنكليزية فضعيف وهو مقصور على الصحافة العربية في مصر والصحافة الفارسية في الهند (بقطع النظر عن اللغة الهندستانية وسائر لغات الهند الوطنية) التي تعمد كل حين إلى استعمال كمية من الألفاظ الفرنسوية وليس الإنكليزية في فارس غير أثر ضئيل جداً ولا أثر لها في التركية إلا ما كان من بعض التعابير العلمية والبحرية وأكثرها في السباق وأنواع الارتياض.
وبعد ذلك فإن تأثير اللغة الإيطالية قديم ثابت باق فهو يرد إلى الزمن الذي كانت فيه البندقية دولة بحرية قوية في البحر المتوسط وما زالت اللغة التركية العثمانية منذ ذاك العهد تأخذ عن اللغة الإيطالية جملة من الألفاظ لا العلمي منها فقط (مثل ألفاظ الملاحة والتجارة والصناعة وغيرها) بل ألفاظاً شائعة في الاستعمال وكان للغة العثمانية أن تكتفي بما عندها من مقابل لها مثل لفظة فامليا التي تتجلى فيها اللهجة البندقية كل التجلي وكذلك كان من(48/12)
اللغة الصقلية أن شغلت مكاناً مهماً على نحو ما رأيناه آنفاً في أن جزءاً من المفردات المالطية مأخوذ منها. ودخل على اللغة في تونس كثير من الألفاظ الإيطالية وقد لاحظ أحد العارفين أن هذه الألفاظ لا تستعمل إلا في الكلام الدارج أما اللغة المكتوبة فمنقحة للغاية ولذلك لا نستعملها. وفي مصر ترى بعض الألفاظ الإيطالية والظاهر أن بعضها سرت إليها بواسطة اللغة التركية مثل كلمة سيغورتا (الضمان أو التأمين).
واللغة اليونانية الحديثة أدخلت كالإيطالية على اللغة التركية العثمانية ألفاظاً كثيرة فإن ما وصل إلينا من النصوص القديمة يبين أن تاريخ الصلة بينهما يرد إلى ما قبل القرن الخامس عشر ولفظة أفندي الغريبة التي ذكر المسيو جان بسيشاري تاريخها وما تقلب عليها من التبدل الغريب في الصورة والمعنى هي من جملة تلك الألفاظ.
وفي لغة عرب المغرب جملة من الألفاظ ومنها ما هو من أصل إسباني وهي مألوفة الاستعمال في مراكش فقد كان للبرتقاليين أثر كبير في هذه البلاد فكيف يتأتى أن لا يتركوا فيها شيئاً من لغتهم وإذ كانت المناسبة قوية بين الإسبانية والبرتقالية وكان سكان مراكش يحرفون ما يقتبسونه عن الأوروبيين من الألفاظ فمن الصعب أن يميز في هذه الاقتباسات ما سرى إلى تلك اللغة من اللغة البرتقالية خاصة.
ولقد كانت الألفاظ الألمانية التي سرت إلى الشرق قليلة جداً وقال بعضهم أن لفظة غروش التركية مأخوذة من غروش الألمانية ولكن بعد البحث الدقيق في المعجم العثماني تبين أنه لم يسر إلى التركية إلا ألفاظ جزئية من التعابير الجرمانية.
وهنا ننتقل إلى اللغات الصقلبية (السلافية) فنرى لغات البلقان قد نقلت إلى التركية عدداً جزئياً من التعابير ومنها بعض الألفاظ العسكرية وهي من جملة الألفاظ القديمة في تنظيم الجيش العثماني. واللغة الروسية أكثر سرياناً ولكنها مقصورة على اللغات التترية في القريم وقازان وقافقاسيا وآسيا الوسطى فهي لم تتعد تلك التخوم فالألفاظ الروسية في البلاد العثمانية الإيرانية نادرة للغاية. ويجب أن لا يفوتنا أن ما تقتبسه اللغات التترية أو الروسية هي في الأغلب من أصل فرنسوي أو ألماني أو إيطالي. وما ذكرناه فيما تقدم عن اللغات الصقلبية البلقانية ينطبق أيضاً على اللغة المجرية ولكن اللغة الأرناؤدية والأرمنية وغيرهما من اللهجات المحكية في البلاد التي يتكلم فيها بالتركية لم تؤثر إلا قليلاً بهذه(48/13)
اللغة.
وهنا نأتي على تأثير اللغة التركية في فارس حيث تحكم اليوم أسرة قاجار فنجد كثيراً من التعابير والمعاني المختلفة مأخوذة من التركية مثل الأعداد وألقاب الشرف وأسماء المناصب والمراتب. ومثل ذلك يقال عن اللغة العربية في مصر فإنها أخذت أسماء الرتب العسكرية التي دخلت إلى البلاد العثمانية بعد الإنكشارية ولم يدخل على أسماء الرتب من التعديل إلا ما لا غنية عنه للتلفظ العربي. وترى في طرابلس الغرب الخاضعة للحكم العثماني جميع هذه الألفاظ شائعة بالاستعمال وتجد ألفاظاً أخرى تركية مستعملة في تونس بل وفي الجزائر حيث أبقت الحكومة الفرنسوية رسمياً على بعض الألقاب التي اخترعها العثمانيون مثل آغا وباش عدل وخوجه وجاويش وغيرها وما عدا لغة البربر التي سرت بعض ألفاظها إلى اللغة المغربية.
أما اللغة الهندستانية فلم يدخل منها إلا بعض الألفاظ النادرة إلى الفارسية أما اللغات الشرقية الأخرى فلا تعثر عليها بين الألفاظ العربية والفارسية والتركية إلا نادراً جداً.
وها نحن نبدأ الآن بالكلام على كل واحدة من اللغات الإسلامية الثلاث فنستفتح بالعربية. فقد رأينا هذه اللغة قبل ولا سيما بعد ظهور الإسلام قد أخذت عن اللغات السامية كالعبرانية ولا سيما الآرامية والفارسية واليونانية. وحمل الصليبيون إلى العربية بعض الألفاظ الجديدة خلافاً لما يعتقده بعضهم ويظفر بهذه الألفاظ في كلام المؤرخين ولكنها لم تمر إلى اللغة المحكية ولا إلى اللغة المكتوبة فمن الأمثلة الغريبة استعمالهم لفظة ترم بمعنى المدفوع وجمعهم له على تروم كما في تاريخ أبي شامة ولكنه من الصعب أن ترى هذه اللفظة في كلام آخر. وأخذت العربية من الإفرنج بعض الألقاب النصرانية مدنية كانت أو دينية مثل قومس كونت وكاغيكوس أو كاتوغيكوس (بطريرك) وبعض التعابير الحربية واللغة المالطية التي هي لسان شعب خاضع للحكم المسيحي ومتدين بدينه قد اقتبست بالطبع من اللغات الغربية أموراً كثيرة.
ولم يبدأ دخول الألفاظ الأجنبية ولا سيما الافرنسية على العربية إلا في أوائل القرن التاسع عشر دخلت بكثرة حتى أن القائلين بتطهير اللغة من الدخيل قد دهشوا لها. ثم إن دخول تعابير إفرنسية كثيرة إلى اللغة الرسمية أي التركية في سورية ومصر قد نشأ منه أثر في(48/14)
اللغة الوطنية وازدياد صلات الشرق مع أمم الغرب ودخول الأفكار الفرنسوية وتأييد الحكم الفرنسوي على الجزائر وتونس ولا سيما إنشاء صحافة عربية حذا فيها أهلها حذو الصحافة الأوروبية كل ذلك مما دعا إلى تحول اللغة.
وذلك أن الصحافة هي التي أحدثت اللغة العربية الحديثة في الجملة وهي تختلف عن لغة القرآن كما تختلف عن لغة الروماييك عن اللغة الرومية القديمة هكذا قال المسيو واشنطون سرويس الملحق بقنصلاتو البلجيك في بيروت منذ ثلاث عشرة سنة في مقدمة كتاب مهم للغاية وضعه في وصف هذه اللغة الحديثة وعلى ما فيه من الأغلاط والنقص القليل فإن هذا الكتاب الذي لم يؤلف على مثاله قد نفع وينفع كثيراً وهو عبارة عن مقدمة عرض فيها المؤلف هذه المسألة على وجه جلي مفصل مشفوعاً بقائمة للصحف التي كانت تنشر إذ ذاك مع تاريخ إنشائها وهي قائمة ثمينة وإن كانت فهارس الرجوع إليها مختصرة وبعض الانموذجات من كلامها تأليفاً كانت أو ترجمة فأتى فيها أولاً على الجرائد ثم على المواد الرسمية ثم على معجم لغوي مفيد وهو وحده يفسر الكلمات المولدة.
ومن رأي المؤلف أن اللغة الحديثة قد نمت في غضون خمسين سنة بسرعة هائلة وهذا النشوء يظهر خاصة من نشوء العربية المحكية أو المكتوبة قبل ظهور الجرائد فقد كانوا يكتفون بأن يأخذوا عن اللغات الأجنبية بعض المفردات الدخيلة اللازمة لهم من دون أن يعدلوا صورتها التعديل اللازم لها في الظاهر.
(للبحث صلة)(48/15)
مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
ليعلم أن من المسائل الجديرة بالعناية وبذل الجهد للوقوف على ما قيل فيها وكتب عنها (مسألة الجن) فقد تنوعت في شأنها المشارب وتعددت في مباحثها المذاهب وكان للأعراب معها في الجاهلية مخيل ولها في كل عصر نغمات جديدة وعجائب ولا غرو فهي من أقدم المسائل وأرسخها في الأذهان إذ دار اسمها على كل لسان وورد ذكرها في جماع النحل والأديان.
إن مسألة كمسألة الجن ليست مما تدرك بلفظة أو يشار إليها بلحظة حتى لا يرفع لها الحشوي رأساً ولا يقيم لها الجامد وزناً فلو صمت شواردها وقيدت أوابدها وانتظمت فرائدها لعثر على الجم من الطائف الفائقة والنوادر الرائعة مما يملك السمع والبصر إعجابه ويرتفع عن القلب للإصغاء حجابه.
كل مسألة لا يتناولها الفهم في بداية النظر ولا يصل إليها إلا بالاستعانة من درس أمرها وسبر فلا بد من بحث عنها وتنقيب واستقراء وتنقير لا سيما أن ثلث ذات شعوب وأطراف وفروع وأوصاف لا جرم ينبغي استقراؤها وتعرفها واستجلاؤها اكتشافاً لما خبأته كنوز الحقيقة ووقوفاً على كل جليلة دررها ودقيقة.
أكثر من ألف في العلم الإلهي أو ما وراء المادة تكلم في (الجن) فموجز ومسهب ومقارب ومغرب والواقف على ما كتبه فلاسفة الإسلام يراه قريباً مما نحاه علماء أهل الكتاب في شأنهم اللهم إلا في خيالات شط بها البحث فبعدت عن القصد شأن كل شيء جاوز حده.
من استقرأ ما كتب وبذل جهده في التنقيب يمر به من علوم الأوائل ما يغني عن زهر الرياض حسنه وعن فتيق المسك نشره فمن تأمله ازداد حرصاً على تأمله وتصفحه مستعيداً ما يستحليه من فوائده.
الطريقة المثلى والخطة الوسطى هي أخذ المهم وإيثار الأجود من كل شيء وهذا ما توخيناه في هذه المسألة مما طالعاناه وإلا فسعة علم السلف مما يدهش الخلف فليس لنا إلا المختار من آرائهم والمنتقى من أنبائهم ولله ابن المقفع إذ قول فمنتهى عالمنا علم في هذا الزمان ـ زمانه رحمه الله ـ أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم.
إن استقصاءَ ما للقدماء في (مسألة الجن) واستقراءه كله يعوز إلى عدة مجلدات وسعة(48/16)
أوقات والحاجيات كثيرة والمطالب وفيرة لذا آثرنا جمع شذرات تكشف عن وجهها نقابها وتجلي سدف عويصاتها لطلابها.
ينحصر ما نأْثره في هذه المسألة في مقدمة ومقصدين وخاتمة.
أما (المقدمة) فنحكي فيها ما قاله فلاسفة اللغة في شرح المراد من الجن واشتقاقه وعمومه وخصوصه وحقيقته ومجازه.
وأما (المقصد الأول) ففي مذاهب الأعراب ومزاعمهم في الجن وقد حوى أحد وعشرين مبحثاً:
(أ) من ادعى من الأعراب والشعراء أنهم يسمعون عزيف الجان ويرون الغيلان وما يشبهونه بالجن والشياطين وبأعضائهم وأعمالهم.
(ب) إضافتهم مباني تدمر وأمثالها إلى الجن.
(ج) تفرقتهم بين مواضع الجن.
(د) تنزيلهم الجن في مراتب.
(هـ) زعمهم أن الغول من أنثى الجن وكذلك السعلاة.
(و) زعمهم أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم.
(ز) مزاعمهم في الهاتف والناقل والرئي.
(ح) ما روي من هتوفهم بالبعثة المحمدية.
(ط) مزاعمهم في أوصافهم ومن قتلوه.
(ي) من استهووه ومنهم خرافة.
(يا) توصيفهم رجل الغول وعين الشيطان.
(يب) نزاعمهم في أرض وبار وبلاد الحوش.
(يج) مزاعمهم في الصرع.
(يد) مزاعمهم في الطاعون.
(يه) ما يزعمونه في تمثلهم وتصورهم.
(يو) رأيهم في قرناء الشعراء الفحول.
(يز) خيالهم في جن الشام والهند.(48/17)