والمسلمين بحيث لا يجوز لأحد من الفريقين أن يتعداه إلى الآخر. وقد صور الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالساً في ملكه. فرضي أوب عبيدة، واتفق أن نفر من المسلمين كانوا يتمرنون على الفروسية إذ مر أحدهم وهو أبو جندل سهل بن عمر على العمود. فوضع زج رمحه في عين تلك الصورة غير متعمد لذلك ففقأ عين التمثال. فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة: غدرتمونا يا معشر المسلمين ونقضتم الصلح وقطعتم الهدنة التي كانت بيننا وبينكم. فقال أبو عبيدة: فمن نقضه؟ قال البطريق: الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: فما تريدون؟ فقال: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة: صوروا بدل صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم. فقال لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر. فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك. فصورة الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود. واقبل رجل ففقأ عين الصورة برمحه. فقال البطريق: قد أنصفتموه وبعد سنة أقاموا على الصلح والذمة وبهذه المثابة استبقى أبو عبيدة بسياسته أهل البلد فلم ينزحوا عنها.
وقرأت في كتاب الدروس الجغرافية لتلامذة المدارس الابتدائية لسيدي وأخي رشاد بك المطبوع في سنة 1889 أن مدينة بلبيس هي ثاني موضع قاتل فيه عمرو بن العاص بأرض مصر نحواً من الشهر ولما فتحها ورأى في جملة سباياها ابنة المقوقس ردها في جميع مالها مكرمة إلى أهلها.
وروى المكين أنه حينما كان عمرو بن العاص محاصراً للإسكندرية اقتحم حصناً منها فجاشت الروم عليهم وأخرجوا العرب منه وفي أثناء ذلك أسروا عمر بن العاص ومسلمة ابن مخلد ووردان مولى عمرو ورجلاً آخر. ولم يعرف الروم من هم فقال لهم البطريق: إنكم قد صرتم أسارى فعرفونا ما الذي تريدون منا؟ فقال لهم عمرو: إما أن تدخلوا في ديننا وإما أن تعطوا الجزية وإما أن نقاتلكم إلى أن نفيء لأمر الله. فقال واحد من الروم للبطريق: أتوهم أن هذا الرجل أمير القوم فاضرب عنقه. ففطن وردان لكلامه وكان يحسن الرومية وعمرو بن العاص لا يعرف شيئاً منها. فجذب عمراً جذبة شديدة ولكمه. وقال له: ما لك ولهذا القول وأنت أدنى من الجماعة وأقل فاترك غيرك يتكلم فقال البطريق في نفسه. لو كان هذا أمير القوم ما كان يفعل به هكذا. وقال مسلمة أن أميرنا قد كان عزم على أن ينصرف عن قتالكم وبهذا كتب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأراد أن يوجه(31/29)
إليكم بعشرة قواد من أكابر القوم من يتفق معكم على شيء تتراضون عليه. فإن أحببتم ذلك فأطلقونا حتى نذهب إلى أميرنا ونعلمه بما صنعتم بنا من الجميل ويتفق الأمر بينكم على ما نحب وتحبون وننصرف عنكم. فتوهم البطريق أن هذا الكلام حق فأطلق سبيلهم رجاءً أن يأتي العشرة قواد فيقتلهم ويتمكن حينئذ من العرب. فلما خرجوا قال مسلمة لعمرو يا عمرو لقد خلصتك لكمة وردان.
أقول وشبيه بذلك ما رواه ابن العبري من أن حاتماً ملك الأرمن خرج عن مدينة سيس قاصداً معسكر المغول ليؤدي الطاعة لملكهم. فخرج متنكراً مع رسوله له بزي بعض الغلمان وأخذ على يده جنيباً يجذبه خلف الرسول لأنه كان خائفاً من السلطان صاحب الروم. وكان الرسول كلما مر ببلد من بلاد الروم (آسيا الصغرى) يقول أن الملك حاتم أرسله على ملك التتار ليأخذ له الأمان فإذا أمنه توجه هو بنفسه إلى حضرته. قال ابن العبري: حدثني الملك حاتم عند اجتماعي به بمدينة طرسوس بعد سنين من عودته من خدمة مونككاقاآن. قال عبرت بقيسارية وسيواس مع الرسول ولم يعرفني أحد من أهلها قط غلا لما دخلنا مدينة أرزنكان عرفني رجل من السوقية كان قد سكن عندنا. فقال: إن كانتا هاتان عيني فهذا ملك سيس. فلما سمع الرسول كلامه التفت إلي ولطمني على خدي وقال: يا نذل صرت تتشبه بالملوك فاحتملت اللطمة لأزيل بها ظن من كان ظنه يقيناً.
(للكلام صلة)(31/30)
تهذيب الكلام
قال زكي الدين عبد العظيم بن عبد الواحد المشهور بابن أبي الإصبع المتوفى سنة 654 في كتابه تحرير التحبير الذي فرغ من تعليقه بمصر في مستهل سنة أربعين وستمائة وهو من أجمل كتب البديع ومن أهم مخطوطات دار الكتب المصرية في باب التهذيب والتأديب: التهذيب عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله لينقح ويتنبه منه لما مر على الناثر أو الشاعر حين يكون مستغرق الفكر في العمل فيغير منه ما يجب تغييره ويحذف ما ينبغيب حذفه ويصلح ما يتعين إصلاحه ويكشف عما يشكل عليه من غريبه وإعرابه ويحرر ما لم يتحرر من معانيه وألفاظه حتى تتكامل صحته وتروق بهجته.
فإن رزق من ارباب البلاغة وأصحاب الفصاحة جودة ذهن وغوص فكر وكمال عقل واعتدل مزاج وحسن اختيار ووقف على أقوال النقاد في حقيقة لابلاغة وكنه الفصاحة وما عُدَّ من محاسن الكلام وعيوبه ووقي شح نفسه بحيث يطرح ما لا يقدر على تغييره من كلامه فإن كلامه موصوفاً بالمهذب منعوتاً بالمنقح وإن قلَّ ابتكاره للمعاني. وقد كان زهيراً معروف بالتنقيح فإنه يروى أنه كان يعمل الفصيدة في شهر وينقحها في أحد عشر شهراً حتى سمي شعره الحولي المحلى ولا جرم أنه قلما سقط منه شيء ولهذا أشار أبو تمام بقوله:
خذها ابنه الفكر المهذًَّب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب
فإنه إنما خص بتهذيب الفكر في الدجى لون الليل أنه تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعاً والخاطر خالياً ولاسيما في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من راحة وتنال قسطها من النوم ويخف عليها ثل الغذاء فحينئذ يكون الذهن صحيحاً والصدر منشرحاً والقلب منبسطاً. واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهماً من الراحة لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات وتقشع الظلماء بطلائع الضوء وببعض ذلك يتقسم الفكر ويتذبذب الخاطر ويشتغل القلب ويتفرق مجتمع الهم ووسط الليل خال عما ذكرناه ولهذا خص أبو تمام تهذب الفكر بالدجى عادلاً عن الطرفين لما فيهما من الشواغل.
قال وكنت قد اطلعت على وصية وصى بها أبو تمام أبا عبادة البحتري في عمل الشعر. كان أبو تمام ارتجلها فجاءت محتاجة إلى تحرير بعض معانيها وإيضاح ما أشكل منها(31/31)
وزيادات يفتقر إليها فحررت منها ما يجب تحريره وأضفت غليها ما يتعين إضافته وذكرتها في كتابي المنعوت بالميزان في الترجيح بين كلام قدامة وخصومه. وعلمت أن هذا الباب من هذا الكتاب أحوج غليها من ذلك فأثبتها ها هنا بعد أن رأيت تقديم مقدمة يحتاج إليها ويجب الاعتماد عليها وهي أن الذي يجب على كل من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء النثر أن يعتبر أولاً نفسه ويمتحنها بالنظر في المعاني وتدقيق الفكر في استنبطا المخترعات إذا وجد لها فطرة سليمة وجبلة موزونة وذكاءاً وقاداً سمحاً وفكراً ثاقباً وفهماً سريعاًً وبصيرة مبصرة وألمعية مهذبة وقوة حافظة وقدرة حاكية وهمة عالية ولهجة فصيحة وفطنة صحيحة.
ولو كانت بعض هذه الأوصاف غير لازمة لرب الإنشاء ولا يضطر إليها أكثر الشعراء لكنها إذا أكملت الشاعر والكاتب كان موصوفاً في هذه الصناعة بكمال الأوصاف النفسية التي إذا أضيفت لها الصفات الدرسية تكمل وتجمل من حفظ اللغات العربية وتوابعها من العلوم الأدبية كالنحو والتصريف والعروض والقوافي وما سومح به الشعراء من الضرورات التي يلجيء إليها ضيق الوزن والتزام التقفية ليعلم بما يجوز له استعماله وما يجب عليه إهماله ولينعم النظر في كتب البلاغة ليعرف محاسن اللفظ مفرداً وتركيباً ومعانيه ويحيط بما يتفرع من أصول النقد في البديع الذي هو رقوم الكلام ونتائج مقدمات الإفهام.
وليجعل عمدته على كتاب الله العزيز وليميز إعجازه وأدق تمييز فإنه البحر الذي لا تفنى عجائبه ولا يظمأ فيه راكبه. منها استخرجت درر المحاسن واستنبطت عيون المعاني وعرف كنه البلاغة وتحقق سر الفصاحة وكذلك سنة الرسول عليه السلام. . وليحفظ أشعار العرب وأمثالها وأنسابها وأيامها وسائر أخبارها ومحاسن آثارها ومقاتل فرسانها الأنجاد ونوادر سمحائها الأجواد ولا غنى به عن معرفة النجوم والأنواء وعلم هيئة السماء وتعقل الآثار العلوية والحوادث الرضية والمشاركة في الطب والطبائع والحساب وما يحتاج إليه الكتاب من الفقه والحديث ونقل التاريخ الصحيح. ويكون ذلك المكتسب من وراء أشياء لا تكتسب ولا تحصل بالطلب بل هي مما يجبل عليه الإنسان من مواهب الرحمن من عقل راجح وذهن صاف ورأي سديد ينتج ذلك مزاج معتدل فيحسن اختياره(31/32)
ويجود انتخابه فيتخير الألفاظ الرقيقة والمعاني الرشيقة ويتقن تأليف الكلام وتركيب الألفاظ وما بإيراد أبيات قلتهن في هذا المعنى من بأس وهي:
انتخب للقريض لفظاً رقيقاً ... كنسيم الرياض في الأسحار
فإذا اللفظ رق شفَّ عن ال ... معنى فأبداه مثل ضوء النهار
مثل ما شفت الزجاجة جسيماً ... فاختفى لونها بلون العقار
هذا إن أراد أن يُنعت فاضلاً أو يسمى أديباً كاملاً فتعلو بين العلماء درجته وتطير بين الفضلاء سمعته ويقل فتوره في لفظ الكلام ومعناه. وليحذر من أن يقف خاطره بسبب معاندة الزمان وتواتر ضروب الحدثان وتعذر المكسب وعز المطلب وتقدم الجهال واختصاص الأرزال بالأموال فيكون ذلك داعياً له إلى ترك الاشتغال وسبباً في فتور عزمه عن تحصيل العلوم وذريعة لقعوده عن رياضة نفسه واستعمال خاطره فيلحق بالأخسرين أعمالاً والمخطئين أفعالاً وأقوالاً. بل يكون اجتهاده في ذلك اجتهاد راغب في الأعمال شديد الأنفة من مساواة الجهال عاشق في تزكية نفسه مايل للتقدم بنفس العلم على أبناء جنسه وما أحسن قول القائل:
تعلم فليس المرء يولد عالماً ... وليس علم كمن هو جاهل
وإن كبير العلم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل
ولا بد للمجتهد من يوم يحمد فيه عاقبة اجتهاده ويحصل فيه على مراده وإن كان قصير الهمة مهين النفس قد أوتي طبعاً في العمل سليماً وذهناً مستقيماً فظن أنه يستغني بذلك عن الاشتغال ويبعد عن مماثلة الجهال إدلالاً بطبعه واتكالاً على حذقه واتكالاً على حذقه كأكثر شعراء زماننا وكتابه المنتظمين في سلك آدابه حاشا من احتفل بالأدب احتفالاً أوجب لذوي الآداب الانتفاع بهذا الكتاب فلا يأنف من عرض ما يسمح به خاطره على من يحسن الظن بمعرفته ويتحقق أن مرتبته في العلم فوق مرتبته ولا يهمل ذلك فإن خطره عظيم وفوق كل ذي علم عليم. وإن كنت في ذلك كمن يصف الدواء ولا يستعمله ويأمر بالمعروف ولا يمتثله غير أني أنهج الطريق وأحض على التوفيق لتحصل لي مثوبة الدلالة وأكسب أجر الهداية فإن الدال على الخير كفاعله والمحرض على العمل كعامله.
ويعتمد الراغب في نظم الشعر وإنشاء النثر في وقت العمل على وصية الإمام أبي تمام(31/33)
الذي وعدت سلفاً بنشرها وهذا أوان ذكرها وهي ما أخبر به الثقة عن أبي عبادة البحتري الشاعر أنه قال: كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع فيه على طبع سليم ولم أكن وقفت على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت على تعريفه عليه فكان أول ما قال لي يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حصتها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء وسلبت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم وتغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يحسن فيه.
اجتهد في الإيضاح فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم والبروق اللامعة والنجوم الطالعة والتبرم بالعذال والعواذل والوقوف على الطلل الماحل. وإذا أخذت في مدح سي ذي أياد
فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقاومه وأرهف من عزائمه ورغب في مكارمه وتقاض المعاني واحذر المجهول منها. وإياك أن تشوب شعرك بالعبارة الزرية والألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح خاطرك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر لشعرك بما سلف من أشعار الماضين فما استحسنه العلماء فاقصده وما استقبحوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى.
وكنت قد جمعت فصولاً يحتاج إليها العاقل في البلاغتين والراضع في الصناعتين من عدة كتب من كتب البلاغة وصرفت منها ما لا يحتاج إليه ونقحتها وحررتها وها هي:
ينبغي لك أيها الراغب في العمل السائر فيه من أوضح السبل بأن تحصل المعنى عند الشروع في تحبير الشعر وتحرير النثر قبل اللفظ والقوافي قبل الأبيات ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص وروي مقصود وتوخ الكلام الجزل دون الرذل والسهل دون الصعب والعذب دون المستكره والمستحسن دون المستهجن. ولا تعمل نظماً ولا نثراً عند الملل ولا(31/34)
تؤلف كلاماً وقت الضجر فإن الكثير معه قليل والنفيس معه خسيس. والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت وإذا عُنف عليها نزحت. واكتب كل معنى يسنح وقيد كل فائدة تعرض فإن نتائج الأفكار تعرض كلمعة البرق ولمعة الطرف إن لم تقيد شردت وندّت وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت والترنم بالشعر مما يعين عليه قال الشاعر:
تغنَّ بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار
وقد يكلُّ الشاعر حيناً ويستعصي عليه الشعر زماناً كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر عليَّ الزمن وإن قلع ضرس من أضراسي لأهون علي من أن أقول بيتاً واحداً فإن كان كذلك فأتركه حتى يجيئك عفواً وينقاد إليك طوعاً. وإياك وتعقيد المعاني وتقعير الألفاظ واعمل في أحب الأغراض إليك وفيما وافق طبعك والنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطي على الرهبة. واعمل الأبيات متفرقة بحسب ما يجود بها الخاطر ثم انظمها في الآخر واحترس عند جمعها من عدم الترتيب. وتوخ حسن النسق عند التهذيب ليكون كلامك آخذاً بعضه بأعناق بعض فهو أكمل لجنسه وأمتن لرصفه. واجعل المبدأ والمخلص والمقطع فإن ذلك أصعب ما في القصيد. واجتهد في تجويد هذه المواضع وتجنب معاريض أرباب الخواطر وتعاودهم عليها وميز في فكرك محط الرسالة ومصب القصيدة قبل العمل فإن ذلك سهل عليك واستعدها أولاً ونقحها ثانياً وكرر التنقيح وعاود التهذيب ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر.
فقد كان الحطيئة يعمل القصيدة في شهرين وينقحها في شهرين اقتداء بزهير فإنه كان راويته. وقد كان زهير يعمل القصيدة في شهر واحد وينقحها في حول كامل حتى قيل لشعره المنقح الحولي أو الحولي المحلى. واحذر إذا كاتبت من الإسراف في الشكر فإنه إبرام يوجب للكلام ثقلاً ولا تطل الدعاء فإنه يورث مللاً. ولا تجعل كلامك مبنياً على السجع كله فتظهر عليه الكلفة ويبين فيه أثر المشقة وتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط واللفظ النازل بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني واجتهد في تقويم المباني فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان وإن عسر ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه وتباينت في التقفية مقاطعه فقد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة ولا يقصدونه بتة إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام(31/35)
واتفق من غير قصد ولا اكتساب وإن كانت كلماتهم متوازنة وألفاظهم متناسبة ومعانيهم ناصعة وعباراتهم رائقة وفصولهم متقابلة وجمل كلامهم متماثلة. وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عثمان الجاحظ وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.
ولا تجعل كل الكلام عالياً شريفاً ولا وضيعاً نازلاً بل فصله تفصيل العقود فإن العقد إذا كان كله نفيساً لا يظهر حسن فرائده ولا يبين كمال واسطته. وانظر إلى نظم القرآن العزيز كيف جمع صفات البلاغة الثلاث ليظهر فضل كل طبقة في بابها ويبين محكم أسبابها ويعلم أن أدناها بالنسبة إليها تعلو على أعلى الطبقات من كلام البلغاء ويربي عليها فإن الكلام إذا كان منوعاً افتتنا الأسماع فيه ولم يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه.
واعلم أن الألفاظ أجساد والمعاني أرواح. فإذا قويت الألفاظ فق المعاني وإذا أضعفتها فأضعفها لتتوازن قوى الكلام وتتناسب في الإفهام. واقصد القوافي السهلة المستحسنة دون المستصعبة المستهجنة والأوزان المستعملة الحلوة دون المهجورة الكزة فإن الشعر كالجواد والقوافي حوافره والألفاظ صورته والمعاني سرعته والأوزان جملته.
واجعل كلامك كله كالتوقيعات وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أحلى وأكمل وفي المحاسن أرشق وأجول وبالأسماع أعلق وبالأفواه أعبق. وإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره إلى قوافي سجعه وإذا أخذت معنى بيت من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت أو معظمها وغير القافية والوزن وزد في معناه وانقص من لفظه واحترس مما طعن عليه به لتكون أملك له من قائله وإذا تقربت الديار تقاربت الأفكار. ولهذا قيل الشعر محجة يقع فيها الخاطر على الخاطر.
واعلم أن من الناس في شعره في البديهة أبدع منه في الروية ومن هو مجيد في رويته وليست له بديهة وقلما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع وإذا كاتب قصر. ومنهم ن بضد ذلك. ومن قوي نظمه ضعف نثره ومن قوي نثره ضعف نظمه وقلما يتساويان. وقد يبرز الشاعر في معنى من معاني مقاصد الشعر دون غيره ولهذا قيل أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب والنابغة إذا رهب وعنترة إذا كلب والأعشى إذا طرب.
وإياك وتعقيد المعاني بسوء التركيب واستعمال اللفظ الوحشي فإن خير الكلام ما سبق معناه(31/36)
القلب قبل وصول جلته إلى السمع. وليكن كلامك سليماً من التكلف بريئاً من التعسف. وليحظ لفظك بمعناك وتشتمل عبارتك على مغزاك. واحذر الإطالة إلا فيما تحمد فيه فإن البلاغة لمحة دالة. وقيل سرعة جواب في صواب. وقيل أن تقول فلا تبطئ وأن تصيب فلا تخطئ. والصحيح من حدها أنها إيضاح المعنى بأقرب الطرق وأسهلها. والعي إكثار من مهذار وأخطء بعد إبطاء كما جاء في في المثل سكت ألفاً ونطق خلفاً وقدر اللفظ على قدر المعنى لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه كما قيل في مدح بعض البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانية. وقيل في آخر: كان إن أخذ شبراً كفاه وإن أخذ طوماراً أملاه. واستعمل التطويل في مكانه والتقصير في مكانه فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافياً كان التطويل عياً وإذا كان التطويل واجباً كان التقصير عجزاً. وإياك أن تفرط فإن فرطت قصرت أو تفرط فإن أفرطت كثرت وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت وجيزة ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد
وطوراً بإيجاز تبث لذي حجى ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد
وفي الجملة مهما كان الإيجاز كافياً والمعنى به واضحاً فالإحاطة إن لم تكن عياً كانت عبأ ولم يزل إجلاء المتقدمين يحمدون ذلك ويذمون ما سواه ويدل على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى. ويصعد فيه نظره ويصوبه وقال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلي وقال: يا أحمد أراك مفكراً فيما تراه مني فقلت: نعم وقى الله أمير المؤمنين المكاره وأعاذه من المخاوف فقال: إنه لا مكروه في الكتاب ولكن قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله بقوله في البلاغة فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة والقرب من البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى. وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب ورمى به إليّ وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا قال: فقرأته فإذا فيه: كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون عليه طاعة جند حُزنت أرزاقهم وانقياد كافة تراخت أعطياتهم فاختلت لذلك أحوالهم والتأثت معه أمورهم. قال: فلما قرأه قال لي: يا(31/37)
أحمد إن استحسان هذا الكلام بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطياتهم لسبعة أشهر وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه محله في صناعته.
وروي أيضاً عن المأمون أنه أمر عمرو بن مسعدة الكاتب هذا أن يكتب لرجل يُعنى به إلى بعض العمال بالوصية عليه وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد فكتب عمرو بن مسعدة: كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه معني بما كتب به ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله إن شاء الله تعالى.
وقد كان جعفر بن يحيى مع تقدمه في هذه الصناعة يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيعات فافعلوا. وأما قول قيس بن خارجة لما قيل له ما عندك من حمالات داحس فقال عندي قرى كل نازل ورضى كل ساخط وخطبة من له من طلوع الشمس إلى ا، تغرب آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع فإن ذلك لم يخرجه مخرج المدح للإطالة المذمومة لأن الإطالة المذمومة هي إطالة العبارة عن المعنى الواحد بالألفاظ الكثيرة. وإنما أراد قيس الإكثار من المعاني فإذا كثرت المعاني احتاج المتكلم إلى كثرة الألفاظ للعبارة عنها ولإيضاحها وليوفي بمقصوده فيها. ومتى أطال الكلام لذلك كانت إطالته بلاغة لا عياً فإن حقيقة البلاغة إيجاز من غير إخلال وإطناب من غير إملال لاسيما خطب الإملاكات والسجلات التي تقرأ على رؤوس الجماعات. أهـ.(31/38)
أقسام التاريخ
التاريخ فرع واسع من أهم فروع الأدبيات المنثورة ينتهي بوقائعه المتسلسلة إلى درجة المشاهدات من حيث التحقيق والبحث. وعليه فتكون كلمة استوريا التي يقصد بها الروم البحث عن الحقيقة ـ منطبقة كل الانطباق على هذا العلم وموافقة كل الموافقة لموضوعه.
وبعد فإنا نرى أن التاريخ تلك الأقاصيص والنقول التي تأتي في عرض أناشيد الملاحم وعلى ألسن الفصحاء بل لا بد للحوادث التي يرويها التاريخ من الاستناد على أبحاث علمية معروفة وشهادات مزكاة وثيقة فله في البحث عن الوقائع وتثبيت الحادثات مقاصد كما أن لأصول ضبطه شرائط عامة كثيرة.
ليس للتاريخ أن يوغل في زوايا هذه الطبيعة الغنية فيضبط من حوادثها ما يتجلى كل يوم في مئات من ألوانها وصورها والألوف من أشكالها وهيئاتها بل أن غايته الوحيدة تدوين حياة الأفراد المتميزين بقوة ذكائهم وقوة إرادتهم أولئك الذين تقدموا أشواطاً في سبيل النشوء ولو عادت ثانية مضت من الزمان لرأتهم أرقى مما كانت تعهدهم.
أما الكائنات التي لم تمنحها العوامل والمؤثرات خاصة التدبير والذكاء فتسير وقائعها بسائق طبيعي متأثرة بمؤثر واحد سارية على مجرى واحد وماثلة في صورة واحدة. وإن البحث في ماضي هذه لا يجدي التاريخ نفعاً لأن هذا القسم من الخليقة متساوي النسق والأسلوب في كل زمان ومكان. فإن أفاد البحث فيها فالفائدة تعود على العلم وليس للتاريخ منها شيء ولعل بعضهم يسأل هنا قائلاً: إذا كان التاريخ لبا يبحث في حوادث الطبيعة المطردة فلماذا دعي القسم الكبير من علومها ـ الحيوان والنبات والجماد ـ بالتاريخ الطبيعي وأي علاقة للتاريخ بهذه الحوادث القانونية المطردة؟ والجواب عن ذلك أنه لا محل لهذه التسمية هنا وليس للتاريخ فيها دخل البتة وإنما هو اسم اصطلح عليه خطأ في هذا القسيم من العلم فحادثات تكون الكائنات ونشوؤها وتبدل المواسم وفصولها وكل قطعة محدودة من الأرض وكل ما عظم أو دق مقياسه ومقداره من سيارات السماء وثوابتها الزاهية وصفحات الفضاء ومناظرة البهجة كل هذه ليست من التاريخ في شيء ولئن دخل قليل منها في التاريخ فإنها تدخل بعض أحوالها المتعاقبة ومكتشفاتها المهمة التي لا تزال أدوارها مجهولة عندنا.
وعلى هذا فالتاريخ يبدأ من حيث ينتهي العلم وليس في أقسام التاريخ (تاريخ إلهي) لأنه لا ماضي للألوهية فيسطر ولا حال لها فيحرر بل هي هي المتجلية في كل شيء وما أجمل(31/39)
قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وبذلك استبان أن مجال التاريخ هو (ساحة التبدل الاختياري) ليس إلا. وإن للنوع البشري قوة إرادة وإن اختلفت قوة وضعفاً لا تكون فيما هو عامل فيه من النواميس العامة بل في غير ذلك من حركاته وسكناته. من أجل ذلك ترى هذا النوع معرضاً للبحث التاريخي من حيث علم أجناس البشر والبحث العلمي من حيث علم النفس.
هذا يبحث في الإنسان من حيث العوامل الناشئة عن القوانين العامة المنقاد لها وذاك يشتغل بفحص ما في حركاته الاختيارية من الأسباب المتحولة من السباب المتغيرة ونتائجها ويظهر لنا ما قرب إلى التوفيق من هذه الحركات وما لم يقرب وما كان مصيباً منها وما كان مخطئاً وهو يضبط الروابط الموجودة بين هذه الحركات كلها.
كانت الأمم فيما مضى تجل التاريخ وتعظمه حتى فتحت لتقدمه السبل وأزالت من طريق رقيه الموانع قال شيشرون الخطيب الروماني الشهير التاريخ شاهد الأزمنة ونور الحقيقة وحياة الذكرى وحاكم العمر وبريد القرون وكان هذا الخطيب ينظر إلى التاريخ بأنه ظهير الفلسفة وأنه مدرسة الفضيلة.
وكان يعد التاريخ منهجاً من مناهج البيان وقسماً من أقسام الفصاحة لعظمة الدروس التي ألقاها التاريخ وفخامة موقعها ولطالما قال: لا خطيب أكثر عظمة وأوفر احتشاماً من التاريخ.
بمثل كلمات شيشرون هذه انتشر بين أهل العلم في العصور الموغلة في القدم أن التاريخ محل البلاغة وأدخله تلاميذ أيزوقراط في عداد العلوم التي يجب على الخطيب أن يعنى بها فكان بذلك ركناً للأدب.
كان الأقدمون من المؤرخين يتعمدون في التاريخ إجادة البيان من جهة والمحافظة على الواجبات الوطنية والنتائج الأخلاقية من جهة أخرى. أما الحقائق الواقعة في نفس الأمر فقلما كان يبحث عنها فكانت مصنفاتهم إذن تزدان في نظرهم إذا خدمت الفلسفة أو ذبت عن شرف القومية والوطنية ليس إلا.
هم يسلكون في التاريخ طريقاً توصلهم إلى الذروة القصوى من الفصاحة فيفرغون أضخم كلمات المجد وأكبر ألفاظ الفخفخة كما هو الحال في نقلهم حياة الرؤساء والأمراء وأنهم(31/40)
لينسبون إليهم جملاً وقطعاً ما قالوها ولن يقدروا على أن يأتوا بمثلها وأنك لترى المؤرخ منهم يفادي بالحقيقة التاريخية سعياً وراء كلمة جميلة يلذ له طنينها في أذنيه ناسياً أو متناسياً أن ما يسمى بالتاريخ هو علم الكوائن وتصوير الحقائق وأنه في حاجة قبل كل شيء على مظان صحيحة ومستندات موثوق بها وأسس راسخة فيجب من ثم على المؤرخ مهما كانت نحلته وشعوره ومقصده أن يبحث في مثل المظان من غير تطرف ولا تعصب.
وذلك لأن التطرف والتعصب والذلاقة ليست من حاجيات المؤرخ ومذهبه في شيء وإنما البلاغة والتأنق في القول من صنعة الأدباء والشعراء والمطالبة بالفضيلة من وظائف الأخلاقيين والدفاع عن شرف الوطنية والمكانة القومية من واجبات رجال السياسة فيها وما المؤرخ إلا الذي يمحص الحقيقة ويتمحض لإثباتها.
ولقد التزم فنيلون أحد فلاسفة لويس الرابع عشر أسلوب شيشرون الخطابي في كتابه مبحث الوجود الإلهي فاتخذ ذلك دليلاً على أن التاريخ كان على عهد فينلون في دور صباه ولا يكون المؤرخ مؤرخاً حتى يثبت الوقائع التي يناقش في صحتها مناقشة منطقية ويفحصها فحصاً علمياً مدققاً ببيان سلس ونثر مرسل وسليقة معتدلة.
قال المسيو باتان المشهور بمباحثه في أصحاب الملاحم من الروم المتوفى سنة 1876: ليس التاريخ عبارة عن سرد بعض القصص وذكر الأيام المشهورة والحوادث المأثورة ولا تلفيق ما يسقط عليه الرجل عرضاً من الأقوال عن حياة المشاهير بل التاريخ هو ذلك الميدان الذي تظهر فيه الأمم بعاداتها وأخلاقها ومزاياها ومعايبها مشروحة تتجلى بكل وسائل العلم حتى كأن القارئ من أهل البلد الذي يكتب تاريخه أو من معاصري من يدون ماضي حياتهم وكذلك يجب التاريخ أن يكون. وإنك لتعلم أن مدون هذا التاريخ تعوزه المواهب النادرة والنظر البعيد وسبر غور الأمور.
لا يبحث التاريخ اليوم عن طرز معيشة الأمم والبيوت فقط بل يتجاوز ذلك إلى تعريف درجة الرقي العام في الأشياء أيضاً فإذا بحث المؤرخ في ماضي شعب يجتهد
في أن لا يجمد أمام وقائعه المهمة وحوادثه الكبيرة بل ينتقل من ذلك بغتة إلى وزن أخلاقه وعاداته ومشاربه وإلى ذكر روابطه مع سائر الأمم الأخرى. هذه المباحث هي ألياف النسيج الحيوي في الأمم المتحضرة وغير المتحضرة.(31/41)
ومن هنا يتجلى للقارئ أن هذه المواد المنوعة في حاجة إلى ترتيب حسن وفكرة نافذة دقيقة وحكم عقلي متين قادر على البحث عن الأسباب المتضاربة ووضعها موضع النظر وإلى قلم بعيد عن الأغراض كأنه جلمود إذا كان سبيل لتغلب العواطف عليه ومثل هذه المزايا متوقفة على مقدار قابلية أولئك المؤرخين الذين جمعوها في نفوسهم فاستخرجوا من كتلة الحوادث المتسلسلة سديماً نقياً وأرسلوها نفثة البيان والوضوح النوراني على العالمين. وإن للتاريخ من حيث موضوعه وأصوله أقساماً عديدة أهمها انقسامه إلى عام وخاص يبحث الأول في أدوار البشر الثلاثة المعلومة ويشمل تاريخ عامة الشعوب والدول. أما الثاني فلا يعنى إلا بأمة واحدة أو بلدة معينة أو بأسرة معروفة ووقعة مشهورة.
ويسمون التاريخ الذي يذكر الحوادث مرتبة حسب زمن حدوثها كرونولوجيا وإذا بحث في نشوء شعب واحد وانتشاره يقال له أيتنوكرافيا وإذا أفاض في كوائن الأمم كلها الحادثة في زمن معين يدعى سينكروفيا. وإذا قايس بين وقائع مختلفة ظهرت في أزمنة متباينة سمي التاريخ القياسي وإذا أظهر الأشياء في صورتها الأصلية فهو التاريخ المصور وإذا توحى إرجاع نتائج الوقائع إلى أسبابها يقال له براكماتيك وإذا ربط الأسباب بالنواميس العامة في البشر والطبيعة يسمى التاريخ الفلسفي وهكذا تختلف أسماء المصنفات التاريخية باختلاف موضوعها فتسمى تقويماً ومذكرة وترجمة حال وما أشبه.
ولا نقصد هنا إلى أن نطيل القول فنكتب تاريخ التاريخ. على أننا لو بحثنا في مبدأ التاريخ لوجدناه ممزوجاً بالشعر كما هو الحال في جميع أنواع الأدبيات المنثورة فابتداء التاريخ إذن هو الملاحم التي هي من أنواع الشعر وذلك هو ابتداؤه في الأدوار القديمة عند الهنود واللاتين والفرس ولم يتجرد كثيراً عن هذه الكسوة القصصية عند بعض أمم المشرق إلى يوم الناس هذا لأن التاريخ لم ينسلخ عن منظومات الملاحم عندهم إلا قليلاً وأن ذبالة التاريخ الحقيقي لم تكد تضيء عندهم حتى أطفئت وكذلك هيرودتس وتوسيديدس وكسنوفون كلهم لم ينجوا من دس الأساطير بين طيات الحقائق التاريخية في كتبهم الثمينة وإن كانوا كلهم استحقوا لقب المؤرخ. الأول بذكائه النقاب والآخران بتجاربهما ومتانة بيانهما. أما دانيس داليكارناس فلا أثر للتحقيق في مصنفاته وإن كان قد تلافى هذا النقص بتتبع بعض الأخبار. وكذلك شأن تيودورس من وجه هذا النقص وما يسده وان دروس(31/42)
بلوتارك في الأخلاق لتستر أيضاً نقائض تاريخية أخرى وقع فيها. ثم جاء بعد هؤلاء أزمان ظهر فيها مؤرخون مدرسيون مثل كيشاردن وماكيافيل فإنهما كانا في زمانهما مقلدين خالص التقليد للأسلوب القديم. 3
وعلى هذا بقيت المصنفات التاريخية كتب بلاغة ولكنها عارية عما يؤهلها للدخول في علم التاريخ إلى فجر القرن السابع عشر حتى أن المؤرخ المشهور بوسويه نفسه كان على مثل تلك الحال ولو تناولنا أحد مصنفاته كخطبته في التاريخ العام لوجدناها نموذجاً للآداب ولكنها بعيدة كل البعد عن التاريخ. ثم جاء فولتر ووضع كتابه كارلوس الثاني عشر وكتابة لويس الرابع عشر فأظهر نموذج التاريخ الصحيح. وعندما عرف حق المعرفة أن أكثر الذين كانوا يسمون في فرنسا مؤرخين إلى القرن الثامن عشر براءٌ من هذه النسبة. وعلى العكس ترى بعض رهبان ديكتن الذي لم يكن ذكر اسمهم بتلك الدبدبة والعظمة قد تحقق اليوم أنهم هم الشيوخ الذين طرحوا بين أيدينا أصول التاريخ صامتين ساكتين. ومن هؤلاء الرجال المؤرخ جيبون الإنكليزي مشيد القصر التاريخي على الأساس المتين.
عصرنا الحاضر هو مؤسس التاريخ ومحييه فعلم الآثار وعلم الألسنة والجغرافيا، وكل هذه العلوم أخذت بيد التاريخ وصعدت به درجات عالية وإن التحقيقات الصحيحة التي وضعها حكماء هذا العصر وعلماؤه قد نفحت الوقائع الماضية روحاً حية وكستها حلة ثابتة حتى تمثلت الذراري القديمة بعاداتها وأخلاقها ومطامعها وأفكارها على أسلوب أقلام تيرس وتييري وميشله وكيزومينيه. فعصرنا هذا ولا مراء عصر التاريخ قبل كل شيء.
الحديدة (جزيرة العرب)
محب الدين الخطيب(31/43)
إصلاح التعليم في الصين
كتب أحد الباحثين من الأوروبيين رسالة في معنى نهضة الصين إلى إصلاح التعليم القديم عندها فقال أن هذه المملكة كانت لها طريقة تامة في التعليم منذ القرن الرابع والعشرين قبل التاريخ المسيحي على عهد حكم ملوك هيا فكان لكل أسرة قاعة للدرس ولكل كورة كتاب ولكل مقاطعة مدرسة فيمتحن المتعلمون كل سنة ويرتقي الأكفاء إلى مناصب الحكومة وفي القرن الثمن قبل المسيح بطلت طريقة إعطاء الوظائف بالاستحقاق العلمي وأصبحت وراثية إلا أن كنفوشيوس حكيم تلك الأمة جاء في القرن التالي وأحيا معالم التعليم على الأصول القديمة ونظمها فأحسن تنظيمها حتى أصبحت بعده محترمة في أقطار المملكة وما زالت تعاليمه معمولاً بها وتختلف لضعف أنصارها وقوتهم في بعض القرون وبقوة البوذية والتاوستية حتى كانت سنة 1904 فأصدر الإمبراطور أمره بإلغاء الأوامر القديمة الصادرة بشأن التعليم التقليدي وبذلك ألغى نظاماً اجتماعياً جرت عليه أمته منذ خمسة وأربعين قرناً.
وقد شعرت الصين منذ حروبها الأولى مع أوروبا بقلة التعليم في موظفيها وتبين للبلاط الإمبراطوري أن ذلك كان السبب الرئيسي في ضعف المملكة ولذلك عزم الإمبراطور منذ سنة 1898 أن لا يمنح الوظائف إلا لمن اطلعوا على العلوم الحديثة الأوروبية فأصدر أمره بإنشاء مدارس على الطراز الحديث وإقامة كلية في بكين على مثال كليات أوروبا وفي سنة 906 ألف نظارة معارف عمومية وكان من أثر ذلك أن توفرت العناية بتعليم البنات وكانت النساء من قبل مقصورات في بيوتهن معتبرات في نظر الصينيين أحط من الرجال وأهم ما يعلمنه في المدارس الكثيرة التي أنشئت لتخريجهن الأخلاق والمالية وأعمال البيوت والرياضيات الجسدية ويمنعن من تضييق أرجلهن منعاً قطعياً.
وكثر عدد المدارس الخاصة والعامة التي أنشئت مؤخراً لتعليم الفنون المختلفة كالفصاحة والملاحة وعمل الخطوط الحديدية والبحرية والشرطة وعلم التربية واللغات الأجنبية. وساعد الأدباء والعلماء والصحافيون على خدمة أفكار الحكومة في هذا الشأن وأخذوا يؤلفون الكتب والمعاجم ويترجمون من لغات أوروبا كل مفيد لكيانهم وأخذت الحكومة والأهالي يحاولون إيجاد الأموال لهذه المشاريع ومن جملة الذرائع التي عمدوا إليها ضربهم الضرائب على محال تناول الشاي لتصرف في سبيل تعليم الأمة. وقد خطر على الأساتذة أن يهينوا التعاليم القديمة فجاء في لوائح المدارس بهذا الصدد إن للنظام الاجتماعي(31/44)
والسياسي في ممالك أوروبا وأميركا واليابان صيغة خاصة به كما أ، إدارة الصين وأخلاقها لها صفة خاصة بنا فعلى كل أستاذ صيني أن لا يتفوه بكلام يعد مروقاً وكفراً ليدك بما يثبت من أفكاره بناء الصين الاجتماعي والسياسي فإذا انتقد الفضائل الأصلية والصلات العامة مع الفلسفة المشهورة (فلسفة علماء الأدب وكنفوشيوس) يحقق أمره فإذا ثبتت إدانته يحكم عليه بحسب ذنبه وحظر على التلاميذ أن يشتغلوا بالأمور السياسية ويعقدوا اجتماعات وينشروا جرائد.
ولا يخطرن على بال أحد أن التعاليم القديمة سقطت في الصين بالمرة بل بالعكس زادت العناية بها على قدر العناية بالعلوم الغربية الجديدة ولا تأتي سنة 1900 حتى ينتظم أساس الإصلاح الذي وضعته مملكة ابن السماء وهي تأخذ العلم الآن عن أربع دول اليابان والولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا ولكن اليابان أقدموا على تعليم الصينيين إقداماً غريباً وفتحوا لهم المدارس في عاصمتهم بكين بالذات وغيرها من الحواضر وكل يوم يزداد عدد الطالبين والطالبات من الصينيين الذين يأتون كليات اليابان ويدرسون فيها كما أن المعلمات اليابانيات والمعلمين اليابانيين يفدون بالعشرات على المملكة السماوية ولا سيما على جنوبها.(31/45)
الكتاب
حدثنا القراء في النسخة الماضية بشيء مما عربناه من الكتاب الذي صدر حديثاً للمسيو البرسيم وها نحن ننقل لهم بعض فوائده جديرة بالنظر والاعتبار فقد قال في تأثيرات المطالعة في المرء ولاسيما ما يطالعه في صغره نقلاً عن كتاب عشاق الكتب لألفرد دي ماترون العارف بالتآليف والتصانيف: إن المرء في صباه لا يهتم بشكل الكتاب جميلاً كان أو بشعاً حسن التجليد أو سيئه بل يضحك ممن يقول له أن طبعة هذا الكتاب أصبحت نادرة وأن هذه الفقرة غريبة وأن هذه الأسفار نال مؤلفوها الجوائز عليها ولا يحتفل إلا بالفكر ولاسيما بما فيه شعور وعواطف ولا يعبأ إلا بما يرضي فؤاده ويثير عواطفه ويحركها. فأف من الفكر والجمال والتذهيب الجميل. ولذلك لا ترى مولعاً في الكتب وهو في سن العشرين لأن المرء في صباه لا يستطيع أن يعاود قراءة كتاب قرأه فلا يكاد يحسن القراءة حتى يأتي على آخر ما يقرأ ولا سبيل إلى الحكم جيداً على كتاب إلا بمطالعته ثانية وفي أدوار مختلفة من الحياة ومن ثم كان من الكتب ميزان حرارة للعقل أو للقلب.
قال ألفرد دي ماترون: إن المرء في العشرين من عمره لا يكون من غلاة الكتب وأحبابها وما قاله يصح أن يكون قاعدة في هذا الباب لأن العواطف في سن العشرين تحكم على العقل بل تحكم على كل شيء فيسرع المرء في تلك السن إلى الوقوف على كل شيء ويعرف كل شيء ويقرأ كل شيء ون شئت فقل يقلب صفحات كل كتاب. ويندر في تلك السن السعيدة من يستطيعون أن يعادوا قراءة كتاب ثانية بدون أن يكرههم مكره فيأتون ذلك إما مدفوعين برغبة منهم أو لقلة ما لديهم من الكتب الجديدة أو كتب لم يقرأوها بعد ولم يتصفحوها.
وقال آخر: لا يشرع المرء بمعرفة القراءة إلا بعد خروجه من المدرسة. وفتيان المطالعين لا يحبون من الكتب إلا ما حدث وضعه وقلما يرجعون إلى الكتب المؤلفة قديماً. وأورد المؤلف أسماء كثيرين أولعوا بالمطالعة منذ عرفوا القراءؤة بل منذ فطموا عن أثداء أمهاتهم مثل أسقف دافرانش هويه (1630 ـ 1721) والفيلسوف جان جاك روسو (1712 ـ 1778) والشاعر يوحنا أنطون بوشه (1745 ـ 1794) وبنيامين فرنكلين (1706 ـ 1790) وهنري بيل القصصي النقاد الفرنسوي (1783 ـ 1842) ولامارتين الكاتب الفرنسوي (1790 ـ 1869) وسيلفيو بلليكو الأديب الإيطالي (1789 ـ 1854)(31/46)
وجورج ساند قصصية الفرنسوية (1804 ـ 1876) وشارل ديلون وكلهم ما كادوا يفتحون عيونهم إلا والكتاب بأيديهم بفضل تربية آبائهم وأمهاتهم الذين كان بعضهم يقرأ لهم ليسمعهم سير العظماء وأقوال الحكماء فانغرست البذور الصالحة في عقول أبنائهم وجاء منهم فلاسفة وكتاب متفردون وتبين مما استشهد به لهم من تذكراتهم أن معظمهم كانوا يعيشون الخلاء بين الرياض والغياض يطربهم صوت العندليب ويؤرقهم صوت القمري ويستفزهم خرير الماء وعليل الهواء.
وقال في فصل المطالعة والتصفح: جعل سلس الطبيب الروماني في القرن الأول قبل المسيح القراءى بصوت عال من جملة الرياضيات النافعة للصحة وأن المطالعة على هذه الصورة ضرورية للفهم والذوق وذلك لأن جرس الصوت يساعد كل المساعدة على تعليق الجمل في الذهن. وقد قال العالم أرنست لوكوفه أنه لا شيء ينير عقلنا مثل القراءة بصوت جهوري ويقفنا على ضعف الإنشاء إن كان ضعيفاً وقوته إن كان قوياً وفساد الشعور المصور فيه. ففي الكلام تنشيط وفيه للأفكار إيضاح بل تحقيق وكل من يتعاطون عملاً شاقاً كالحطابين والخبازين يتحمسون بما يلقيه بعضهم على بعض من الأصوات ولا يرى دودان أن يقرأ قارئ للإنسان بل أن يقرأ بنفسه ويرى أن الطريقة الأولى أجدر بالمرضى والعميان لأن لكل قارئ نغمة يكون بها التأثير في عقله وله طريقة في الفهم والتمعن لا يقوم بها سواه.
ومن العادة في بعض المدارس والأديار أن يقرأ قارئ شيئاً من الأدب والقصص والتلاميذ جلوس على المائدة وكان ذلك شأن شارلمان يتلى على مسامعه وهو على الخوان كتاب القديس أوغسطينس وكان الفيلسوف فولتير يؤثر أن يقرأ له وقال: إنني أحب هذه الطريقة لأنها كانت مألوفة للقدماء وأنا منهم. وكان الكردينال موري (1746 ـ 1718) يقول أن المرء إذا خلا بنفسه يجب أن يطالع كتباً تفيده حقيقة وإذا كان مع أخوانه فالأجدر أن يتلى عليه ما يحمسه ويهيجه لأن الناس في انفرادهم غيرهم في اجتماعهم.
قال مؤلفنا: أما كتب الحكم والآراء فالأحرى بل الأفيد بأن تتلى قطعة قطعة لا دفعة واحدة وأن ترسخ بكميات قليلة فكما أن المرء لا يبلع أقراص المعاجين إلا واحداً واحداً هكذا يجب عليه أن يسير في الأخذ من كتب الحكماء. وقال الأميرلين (1735 ـ 1814) أن(31/47)
الطريقة الوحيدة في مطالعة كتاب من الحكم بدون أن يمل هو أن يفتح كلما سنحت الفرصة وبعد أن يسقط فيه على ما يهمه منه يطبقه بعد تصفه صفحة أوص فحتين ويأخذ يفكر فإذا تصفحا كلها يكون أشبه بمن قلب مجموعة صور دفعة واحدة فلا يرتسم بمخيلته واحدة منها.
وتختلف طريقة المطالعة بسرعة أو بتأن بلا فاصلة أو بفاصلة بقلة أو بكثرة وهذا تابع لحالة القارئ وما يقرأ وحالة بصره وقوة انتباهه وأوقاته وخطر ما يتلوه وتأثير الكتاب فيه. وإن كتاباً في الفلسفة لا يقرأ كما تقرأ قصة وخير في الكتب المملة أن تتصفح تصفحاً وكل من يعيشون بين الكتب والمطبوعات والمخطوطات ويبحثون كثيراً فيما بين أيديهم لا يسعهم إلا أن يتصفحوا تصفحاً.
وكان لما كليابشي العالم الفلورنسي قيم الكتب (1633 ـ 1714) طريقة خاصة في المطالعة فإذا وقع له تأليف جديد ينظر في عنوانه ثم يرجع إلى الصفحة الأخيرة منه ويتصفح المقدمات والفهارس والتقدمات. ويلقي نظرة على كل التفاصيل الرئيسية وكان له من الوقوف على التأليف ما يتمكن معه من معرفة حقيقة المصنف في لحظة بل أنه يعرف المصادر التي أخذ منها المؤلف. ومن أرباب الاختبار في معرفة القراءة من يعرفون ماهية الكتاب من تقليب أوراقه ويدركون ما في صفحة منه من الفوائد بمجرد إلقاء النظر عليها ومنهم من يعرفون كيف يتصفحون الجرائد فلا يقع نظرهم إلا على ما يهمهم منها ولا يضيعون ثانية من أوقاتهم في النظر بما لا يفيدهم.
ورأى بعض أهل العلم أن الذهن مهما بلغ من حدته يخون صاحبه في تذكر الفوائد التي قرأها فالأولى له أن يقيدها ولذلك كانت الفهارس مما يعين كثيراً على الرجوع إلى مضامين الكتاب. ومن عشاق المطالعة من لا يكتفون بتقييد الفوائد في تذكراتهم بل هم يكتبون على كل صفحة تهمهم كتابة تعلمهم على الكتاب نفسه ولكن أكثر باعة الكتب يرون هذه الطريقة مما يعوق الكتب عن بيعها إلا أن المؤلف ومحبي الاستفادة لا يهمهم إلا أن ينتفعوا من كتبهم ولو بتمزيقها وتشويهها وما الكتاب إلا أداة للتعلم يجب استخدامها على النحو الذي ينتفع به نفعاً حقيقياً بل هو رفيق وصديق تحب معارضته ومناقشته أحياناً وأن لا يسلم له كل ما يورده.(31/48)
يقول الفيلسوف سينيك والأديب بلين لجون أن الإكثار من الكتب يشتت الفكر وأن عادة القراءة كثيراً تفضل قراءة أشياء كثيرة وقال لبعضهم: لا نهاية للاستكثار من الكتب ومعلوم أنه في هذا العصر الذي دعي بعصر الورق بل في هذا العصر الذي اشتدت فيه تباريح مرض جديد أي الجنون في الطبع والنشر أن الكتب تنمو وتتضاعف من يوم إلى يوم. وما أجمل ما قالت أريستيب الفيلسوف اليوناني (390ق. م) أحد تلاميذ سقراط وصاحب المذهب الأبيكوري المنسوب لمدينة سيرين: ليس من يأكلون كثيراً هم أسمن من غيرهم وأصح منهم أجساداً بل السمان هم أولئك الذين يهضمون. وهنا استشهد المؤلف بإحصاء غريب لبعض المشتغلين منذ اخترع الطباعة على القرن الماضي فقال أنه طبع في جميع أنحاء الأرض من سنة 1436 إلى سنة 1536، 42 ألف مجلد وفي سنة 1536 إلى سنة 1636، 575 ألفاً وفي سنة 1636 إلى سنة 1736 مليون و225 ألفاً وفي سنة 1736 إلى سنة 1822 مليون و839960 فيكون مجموع ما طبع زهاء ثلاثة ملايين ونصف مليون مجلد وإذا قدر معدل هذه المصنفات بثلاثة مجلدات وإن أقل ما يطبع من كل كتاب 300 نسخة فيكون قد خرج من المطابع كلها في نحو أربعة قرون 3313764000 وقدر أن ثلثيها حرق أو استعمل صرراً عند البدالين والباعة فلم يبق منها إلا ثلثها. وزيف بعضهم قوله بأن التوراة وحدها طبع منها زهاء 36 مليون نسخة وأن كتاب الاقتداء بالمسيح طبع منه وحده ستة ملايين وأنه إذا كان كتب على تاريخ فرنسا وحده ثمانون ألف مجلد فكم تكون كتب الأرض. وقدر أحد الأميركان عدد المجلدات في الولايات المتحدة كما يأتي 420 مليوناً في البيوت و150 مليوناً عند العلماء والكتاب والمخترعين و60 مليوناً عند الكتيبة والطابعين و50 مليوناً في خزائن الكتب العامة و12 مليوناً في مكتب المدارس والجامعات و8 ملايين عند التلاميذ وأن في أوروبا الغربية ملياراً وثمانمائة مليون مجلد وفي أوروبا الشرقية أربعمائة وستين مليون مجلد و240 مليوناً في سائر أقطار العالم. قال المؤلف: وبينا أهل الإحصاء يحصون ترى المطابع تصدر الكتب بالألوف فيقدر الآن ما يصدر كل سنة من الكتب في الشرق والغرب بخمسة وسبعين ألف كتاب جديد منها 25 ألفاً في ألمانيا و13 ألفاً في فرنسا و10 آلاف في الولايات المتحدة و7 آلاف في إنكلترا فلو فرضنا أن معدل ما يطبع منها ألف نسخة تكون كتب العالم قد زادت كل عام 75 مليون(31/49)
مجلد.
قال مؤلفنا في اخاتيار الكتب وهل تفضل القديمة أم الحديثة فرأى أن الشبان ومن قل علمهم وأدبهم يؤثرون الجديد على القديم وإن كان الجديد في الغالب غثاً بارداً والقديم سميناً مملوءؤاً بصحيح الفكار ومتين الإنشاء. وفي كتب القدماء كنوز قديمة لا مثيل لها في آثار المحدثين. قال: وعندي أن يختار من الكتب العلمية أحدثها التي أخذت بأطراف ارتقاء العلم عامة وآخر ما وصل إليه كماله أما في الأدب فيختار أحسن كتابه مهما قدم عهدهم فالآداب القديمة كما قيل كلما قدمت تتجدد.
ولا مراء في أن المطالعة تؤثر في عقولنا واضطراباتنا وتورثنا القلق والحزن فمن الفضول أن نزيد على ذلك ما تدخله علينا من السرور والنفع قال جول لبتي في كتابه علم خب الكتب ومعرفتها ما أكثر من يبرؤون أمراضهم بفضل الكتب التي يطالعونها ولو عرف الناي ذلك حق معرفته لزاد عدد المولعين بالكتب زيادة عظمى. وتكلم المؤلف على الروايات وقال أن بعضهم يراها سموم الهيئة الاجتماعية وذكر كيتي الفيلسوف النقاد الألماني أنه من العبث أن يقول القائلون أن من الكتب ما يؤثر في إفساد الأخلاق وما الفساد إلا متوفر كل يوم في هذا المحيط وعندي أنه لا يجب التحرس كثيراً من ذكر ما لا يجدر أمام الأولاد من الأحاديث فإن الأولاد كالكلاب لهم حاسة قوية في الشم ويكتشفون كل شيء ولاسيما ما كان من أمور الشر. وللعلماء أراء مختلفة في هذا الشأن والأكثر على أن الروايات خيرها أقل من شرها وقشرها أضعف من لبها أما مطالعة الجرائد فهي لا تعد في باب مطالعة الكتب لأنهها تكتب بسرعة دون أن ينظر فيها النظر البليغ وما الجريدة كما قال بايل إلا فاكهة الفكر. وقال سانت بوف: يجب بادئ بدء أن نتزود من الخبز واللحم الطيب قبل أن نضع الفاكهة والحلواء. كتب تيوفيل غوتيه الكاتب الصحافي الفرنسوي أن مطالعة الجرائد تحول دون نبوغ القرائح القوية الشكيمة التي لا تريد غلا عشاقاً اقوياء في جدة الشباب فالجريدة تقتل الكتاب كما أن الكتاب قتل الهندسة وكما قتلت المدفعية الشجاعة وقوة الأعصاب. وقال جبرائيل هانوتو العالم: إن الجريدة هي المنافس الحقيقي للكتاب وما النجاح الذي أحرزته الجريدة غلا لرخص أثمانها وعندي أن الديمقراطية يجب أن يرخص فيها كل شيء لمداواة أمراض النفوس وأن المستقبل لا يبقى إلا على نوعين من الكتب(31/50)
المزخرف والمبهرج الذي تطبع منه كميات قليلة ليقتنيها أرباب القصور والغنى والكتب البسيطة التي تباع بأرخص ما يمكن من قيمة ليسوغ للجمهور اقتناؤها من أيبسر سبيل وبهذا الضرب من الكتب يحفظ للعلم رونقه وتبقى له حياته فالفلاح والعامل يجب أن يقرأ شيئاً وأن يخرج لهما ما يقرأان وحاجتهما ماسة إلى غير كتب التقاويم وبهذا تبين أنه لا يخشى على الكتب من قلة عشاقها في المستقبل بل أن النفوس تظل عليها مقبلة ما بقي الدهر.
وقال مؤلفنا في الفصل الذي عقده للكلام على ممزقي المكتب وأعدائها أن أعظم ما عرف من المصائب التي أصابت المكاتب على ما ذكر بيروز المؤرخ الكلداني من أهل القرن الثالث قبل المسيح (عليه السلام) واسكندر بوليستور الكاتب العالم اليوناني من أهل القرن الأول قبل الميلاد أن ملك بابل بختنصر الذي أرخ به منذ سنة 747 ق. م قد أمر بإحراق جميع تواريخ أسلافه ليسدل بذلك حجاباً كثيفاً على الماضي ويكون عهده مبدأ يجرون على التاريخ به في جميع العالم. وأحرق الإمبراطور شي هونغ تي الصيني سنة 213 ق. م جميع الكتب التي في مملكته ولم يستثن منها إلا المصنفات التي فيها تاريخ أسرته وعلم النجوم والطب وذلك بغضاً منه للمتعلمين والمتأدبين.
قال المؤلف: وأعظم ما أصاب الكتب نمن البلايا في التمزيق والتحريق الفتن الدينية وذلك لأن الكتاب خير ناطق عن الإنسان. له من الصفات ما يخوله المثول في كل مكان ومن القوة والجرأة ما لا نظير له فاقتضت الحال أن يبدأ بإسكاته قبل كل لسان أي أن يحرق لأنه الناطق الذي لا يسأم كما يسأم المخالفون والمناهضون. فقد أحرق الرومان كتب الإسرائيليين والمسيحيين والفلاسفة وأحرق الإسرائيليون كتب المسيحيين والوثنيين وأحرق المسيحيون كتب الوثنيين والإسرائيليين وأحرق المسيحييون معظم كتب أوريجين أحد زعماء الكنيسة في القرن الثلاث للمسيح وكتب قدماء الملاحدة وأحرق الاردينال كسيمنيس (وزير إسبانيا والمفتش الديني 1436 ـ 1517) عندما استولى الإسبان على غرناطة خمسة آلاف مصحف وأحرق أهل المذهب البروتستانتي من البروتانيين في إنكلترا على أوائل عهد الإصلاح ما لا يحصى من الأديار والآثار القديمة وأحرق كرمفل مكتبة أوكسفورد وكانت من أعجب خزائن الكتب في أوروبا.(31/51)
ثم عاد المؤلف إلى الكلام على نمكتبة الإسكندرية ثانية وبرأ المسلمين من إحراقها فقال: تكلمنا على مكتبة الإسكندرية التي شاع بأنها أحرقت بأمر الخليفة عمر عند استيلائه على الإسكندرية سنة 640 وقلنا أن هذه المكتبة لم يكن لها وجود في ذاك العهد البتة وأن أحد قسميها حرق قضاء وقدراً سنة 47 قبل المسيح عند هجوم جند يوليوس قيصر وأن القسم الآخر حرق بعد هذا التاريخ بنحو أربعة قرون أي سنة 360 على يد الأسقف أو البطريرك تيوفيل الذي كان يرمي إلى إبادة الوثنية في أبرشيته. ولم يعثر على كلمة واحدة قالها مؤرخوا ذاك الزمن من عهد حريقها إلى قدوم عمرو بن العاص عامل الإمام عمر ما يستدل منه ويحمل على الفرض بأنه أنشئت في الإسكندرية مكتبة ولا ينبغي أن يعجب من ذلك إذ من أسبابه أن الآداب والفلسفة الوثنية كانت في تلك الحقبة من الدهر قد حكم عليها بالتبديد في كل مكان حتى أن جوستيناينوس أمر بإغلاق مدارس آثينة.
ومعلوم أن ما ينسبونه لعمر من الجواب الذي أجاب به عمرو بن العاص وقد سأل عما يعمل بمكتبة الإسكندرية فقال له: انظر فإذا مكان ما فيها من الكتب يوافق ما في كتاب الله فلا فائدة منها وإذا كانت مخالفة له فليس لنا بها حاجة فأحرقها. وعلى الجملة فقد قال من أورد هذه القصة أن عمرو بن العاص وزع هذه المكتبة على حمامات الإسكندرية فاستعانت بها على إحماء حماماتها ستة أشهر مع أن الورق دع عنك الرق إذا صلح لإشعال النار فلا يصلح لأن تدون به طويلاً.
ثم استشهد بقول جان جاك روسو في خطابه في العلوم والفنون: ولو كان غريغوريوس الكبير مكان عمر والإنجيل محل القرآن لكانت مكتبة الإسكندرية بدأت أيضاً على أن البابا غريغوريوس المشار غليه (540 ـ 604) متهم بإحراق كتب القدماء ظلماً كما اتهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكلن التاريخ لا يظلم أحداً.
وقال في كلامه على ما يكتب عليه الكتاب أن الرق هو من اختراع فرغامس (برغامة) في آسيا الصغرى والمطنون أنه عرف قبل خمسة عشر قرناً أما الورق فالأرجح أن الصينيين هم الذين اخترعوه وأن العرب نقلوه إلى أوروبا كما قال الدكتور غستاف لبون في كتابه حضارة العرب: إن الكتاب المخطوط العربي الذي عثر عليه القصيري (الطرابلسي) في مكتبة الإسكرويال مكتوب على ورق من القطن ويرد تاريخه إلى سنة 1009 هو أقدم مما(31/52)
عرف من المخطوطات المحفوظة في مكاتب أوروبا تدل على أن العرب كانوا أول من استعاضوا عن الرق بالورق وذلك أن الصينيين كانوا يصنعون الورق من الحرير منذ أزمان بعيدة فدخلت صناعته إلى سمرقند منذ أوائل الصدر الأول للهجرة حتى إذا جاءت العرب تلك المدينة فاتحة رأت فيها معملاً للورق ولكن هذا الاختراع الثمين يصعب الانتفاع به في أوروبا لأن الحرير كان غير معروف فيها اللهم إلا إذا استعيض عن الحرير بمادة أخرى. وقد ظهر من البحث في مخطوطات العرب القديمة أنهم وصلوا في الحلال من صنع الورق إلى درجة من الكمال لم يتجاوزوها ويظهر أنه من الثابت أيضاُ أن صنع الورق من الخرق هو من اختراع العرب على ما في صنعه من التعب وما يحتاج إليه من المهارة وذلك لأن ورق الخرق عرف عند العرب قبل أن يعرفه المسيحيون بأزمان أهـ.
وبعد فهذا ما ساعد المقام عليه من الاقتباس من فوائد الكتاب وكنا نود لو عربنا أكثر ما عربنا مما يفيدنا في اجتماعنا وتاريخنا ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله وهذا القدر الذي أوردناه كاف في الدلالة على فضل مؤلفه.
والكتاب يطلب من مكتبة أرنست فلاماريون في باريز وثمنه كله اثنان وعشرون فرنكاً ونصف ملا عدا أجرة البريد فنحول أنظار من يعرفون الإفرنسية إلى اقتنائه.(31/53)
رسالة رشيد الدين الوطواط
فيما جرى بينه وبين الإمام الزمخشري من المحاورات
عني بنشرها أحمد بك تيمور
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب العلامة رشيد الدين محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري المشهور بالوطواط إلى الإمام سديد الدين بن نصر الحاتمي: طلبت مني زينك الله تعالى بأنوار المزايا وحماك من كل حادثة ملمة وكل طارقة مهمة ولا أخلاك من فخر تجتليه وجميل ذكر تكتسيه وجزيل أجر تحتسبه وأثر جهل تجتنبه أن أهدي إليك وأملي عليك ما قاله جار الله سقى الله ثراه في كتاب الكشاف في وجه انتصاب شهر رمضان وما قلته من الاعتراض على كلامه واستبعاد مدعاه عن مرامه مما جرى بيني وبين أعز أصحابه أفضل القضاة يعقوب الجندي من السؤال والجواب وها أنا مطبق فيما أقوله مفصل السداد والصواب وقد ذهب من عندي إلى جار الله وأخبره بما قلت فأنصف وأنصت وأبدى خضوعاً لاستماع الصدق وإتباع الحق وقال له: ذكرني هذا الأمر بعض أيام فراغي حتى أصلح من كتابي هذا الفصل وأغير هذا القول فإنه غلط شنيع وخطأ فظيع إلا أنه مرض في تلك المدة ونزلت به المنية وما حصلت تلك الأمنية وقد علم كل من شاهد أحوالي مع جار الله أني كنت عند معظم القدر مفخم الأمر مقبول الكلمات متبوع الإشارات لم يرمني كلمة في أي علم إلا قيدها ببنانه وضبطها في جنانه وأثبتها في دفاتره وأحكمها في خواطره وعدها غنيمة من غنائم عمره وتميمة من تمائم نحره وقد جرى بيني وبينه في حياته وأوقات راحاته مما يتعلق بفنون الأدب وأقسام علوم العرب مسائل أكثر من أن يحصى عددها أو يستقصى أمدها رجع فيها إلى كلامي ونزل على قضيتي وأحكامي فالسعيد من إذا سمع الحق سكتت شقاشق لجاجه وسكنت صواعق حجاجه فمنها مسألة الظبي التي هي جمع ظبة فإنه كتب بخطه أنها من ذوات الياء وأصلها ظبية فقلت أنا أنها من ذوات الواو وأصلها ظبوة فلما امتدت المناظرة واشتدت المذاكرة بعثت إليه كتاب الصحاح يصدق قولي فهجن الكتاب وقال أنه محشو بالتحريفات مشحون بالتصحيفات فبعثت إليه سر الصناعة لابن جني فقال هو رجل وأنا رجل فبعثت إليه كتاب العين فوضع للحق عنقه وسلك مناهج الإنصاف(31/54)
وطرقه واسترد خطه ومزقه تمزيقاً وخرقه تخريقاً بمرأى ومسمع من صدر الأئمة ضياء الدين أدام الله إجلاله وزاد إقباله.
ومنها مسألة كلا الرجلين إذ كتب في حالة الجر والإضافة للمظهر بالألف فقلت الصواب أن يكتب بالياء وأيدت قولي بنص ابن دستورية في كتابه الموسوم بكتاب الكتاب وجرى هذا بحضرة الإمام الأجل زين المشايخ البقالي أدام الله سعادته وحرس سيادته ومنها مسألة نسر وفرقد في تثبيتهما بغير ألف ولام في شعري فأنكره وقال لا يجوز هذا في الشعر ولا في غيره فأريته ذلك في شعر المعري وأبي تمام فقال أخطآ حتى أراه سلمان بيته وصدى صوته الإمام فخر الإسلام المؤذني ذلك في شعر الأعشى فعند ذلك لانت خشونته وسهلت حزونته ومنها مسألة الضرب بين المحذوف والضرب الصحيح في شعر واحد من الطويل وقع له في ديوانه في قوله:
جوار فريد العصر خير جوار ... ودار فريد الدهر أكرم دار
ثم قال:
فلله من جار حمدنا جواره ... ولله من فرد ولله من دار
فضرب الأول محذوف وضرب الثاني صحيح ولا يجوز اجتماعهما في هذا البحر باتفاق العروضيين فلما نبهته على لسان تلميذه المحسن الطالقاني طلب ديوانه وغيره هكذا ولله من نار وموقد نار فاستقام وزنه ومنها مسألة الحادي عشرة والثانية عشرة ومنها مسألة التحية ومنها مسألة تجريد الإمالة ومنها مسألة إدخال الوليد بن الوليد في جملة الكفرة من أولاد الوليد ابن المغيرة وسيأتي ذكره في رسالته إلى الحاتمي. ولو نقلت ما في كنانتي من المكنونات ونثرت ما ادخرته في خزائن المخزونات طال الكلام وكلت الأقلام وإنما ذكرت هذا القدر اليسير ليعلم فتيان هذه الخطة أن هذا الإمام كان صبوراً على مرارة الحق وحرارة الصدق مع أن رب هذه البضائع وصاحب هذه الوقائع. فصل قوله قرأ أبي شهر رمضان بالنصب على تقدير صوموا أو على الإبدال من أياماً معدودات أو على انه مفعول أن تصوموا وأوله قولاه الأولان صحيحان ولا مطعن فيهما وأما الثالث فموضع بحث إذ لا يجوز مثله البتة لأنه لو كان كما زعم كان شهر رمضان تتمة لأن تصوموا ولكن مجموعها في حكم مبتدأ واحد وصار تقديره صوم رمضان خير لكم وليس بجائز أن تجعل المبتدأ(31/55)
نصفين وتفصل بينهما وتدخل الخبر في وسطهما أما يكون خبر المبتدأ متأخراً عن المبتدأ وهو الأصل أو مقدماً عليه بشرط التعريف وغيره من الشروط وهذا هو الفرع وأما أن يكون واقعاً بين شرط من المبتدأ فليس من كلام العرب كقول القائل لمن ينفعه اللحم أن تأكل اللحم خير لك صحيح وقوله خير لك أن تأكل اللحم صحيح فأما قوله أن تأكل خير لك اللحم فغير صحيح وهذا قولي استحسنه جار الله والله أعلم بكتابه وأعرف بأسرار خطابه. وقد كتبت هذه الرسالة فعليك بحفظها عن هؤلاء الذين لا يفهمون الدقائق ولا يعلمون الحقائق فإني حررتها لأمثالك من ذوي الفهم والهداية وأشكالك من أولي العلم والدراية لا لهؤلاء الذين عميت أبصارهم وبصائرهم وصدئت أفكارهم وخواطرهم فإن رياض العلم لا تفتق للمجانين وحياض الرحمة لا تدفق للشياطين والسلام.(31/56)
وقفة في الروض
ناح الحمام وغرّد الشحرور ... هذا به شجن وذا مسرور
في روضة يشجي المشوق ترقرق ... للماء في جنباتها وخرير
ماء قد انعكس الضياء بوجهه ... وصفا فلاح كأنه بلور
قد كاد يمكن عند ظني أنه ... بألماس يوشر منه لي موشور
وتسلسلت في الروض منه جداول ... بين الزهور كأنهن سطور
حيث الغصون مع النسم موائل ... فكأنهن معاطف وخصور
ماذا أقول بروضة عن وصفها ... يعيا البيان ويعجز التعبير
عني الربيع بوشيها فتنوعت ... للعين أنوار بها وزهور
مثلت بها الأغصان وهي منابر ... وتلت بها الخطباء وهي طيور
متعطر فيها النسيم كأنما ... جيب النسيم على الشذا مزرور
للنرجس الملطلو ترنوا أعين ... فيها وتبسم للأقاح ثغور
اتخذت خزاماها البنفسج خدنها ... وغدا يشير لوردها المنثور
وكأن محمر الشقيق وحوله ... في الروض زهي الياسمين يمور
شمع توقد في زجاج أحمر ... فغدا حواليه الفراش يدور
وتروق من بعد بها فوارة ... في الجو يدفق ماؤها ويفور
يحكي عمود الماء فيها آخذا ... صعداً عمود الصبح حين ينير
ناديت لما أن رأيت صفاءه ... والنور فيه مغلغل مكسور
هل ذاك ذوب الماس يجمد صاعداً ... أم قد تجسم في الهواء النور
تتناثر القطرات في أطرافها ... فكأنما هي لؤلؤ منثور
ينحل فيها النور حتى قد ترى ... قوس السحاب لها بها تصوير
كم قد لبست بها الضحى من روضة ... فيها علتني نضرة وسرور
فأجلت في الأزهار لحظ تعجبي ... ولفكرتي بصفاتهن مرور
فنظرتهن تحيراً ونظرنني ... حتى كلانا ناظر منظور
فكأن طرف الزهر ثمة ساحر ... لما رنا وكأنني مسحور
إن الزهور تكنهن براعم ... مثل العلوم تجنهن صدور(31/57)
وتضوع النفحات منها مثله ... تبيينها للناس والتقرير
وبتلك قلب الجهل مصدوع كما ... ثوب الهموم بهذه مطرور
والزهر ينبته السحاب بمائه ... كالعلم ينبت غرسة التفكير
إن كان هذا في الحدائق بهجة ... يزهو فذلك في النهى تنوير
أو كان هذا لا يدوم فإن ذا ... ليدوم ما دامت تكر عصور
بغداد
معروف الرصافي(31/58)
مطبوعات ومخطوطات
سياحة في تركستان أو بلاد كشغر
نشر الأستاذ هارتمان من علماء المشرقيات الألمان سياحة له بالألمانية إلى بلاد كشغر أو تركستان وصف فيها جغرافية تلك البلاد وحكوماتها السالفة وطرقها وعلائقها مع الأمم وتاريخها القديم والحديث وإدارتها الصينية وما كان له من الصلات مع موظفيها وعلاقة الكشغربين بالأجانب ولغتهم وآدابهم ودينهم وتعليمهم ودروسهم وارتقاءهم العقلي. والسارتيين والمبشرين الأوروبيين من الإنكليز والسويديين والألمان وصادرات تلك البلاد ووارداتها وتجارتها وما يرجى لها من التقدم وقد جعل كتابه هذا لخدمة أمته في سياستها وتجارتها فوجه أنظار حكومته ومواطنيه لبلاد خاضعة بالاسم للصين ولكنها تخالفها من حيث أصول سكانها ولغتها ودينها. وبلاد تركستان الصينية أو كشغر أتى عليها زمن كانت مستقلة منذ بضعة قرون على عهد سلاطين ويغور أما اليوم فإن الإسلام قتل فيها على رأيه حالتها العقلية والصناعية فليس فيها ما تستطيع أن تنهض به وحدها وتستعيد سالف استقلالها. فأصبح من اللازم إنشاء مملكة حسنة الإدارة في تلك البلاد بين آسيا الشرقية وآسيا الغربية أي في طريق الحرير وما من دولة أوروبية تحدثها نفسها في الاستيلاء على تلك البلاد لأن روسيا ضعيفة وإنكلترا لها من المشاغل بغيرها ما يصدها عن اكتساحها والصين ليس في وسعها أن ترمي بقسم من شعبها ثمت وأن تجعل لها جيشاً ضخماً من أبنائها يكون على قدم الدفاع عنها وهي عارفة بأن مركزها مقلقل. ولذلك احتاجت بلاد كشغر إلى الغريب لينهضها من كبوتها.
ولو كان فيها بعض الأهلين من المسيحيين لكان المرسلون المسيحيون ينفعون البلاد كما هو الحال في سورية ولكن الشعب هناك مسلم كله فليس في الإمكان أن يدعى إلى النصرانية لما أن ذلك يهيج تعصبه ولا يأتي بنتيجة. ومن خرج من الإسلام فجزاؤه القتل عند المسلمين. فليس إذاً غير المرسلين البروسيين يعرفون من أين تؤكل الكتف ويتخذون طريقة توصل إلى المقصود فلا يدعون إلى الدين بل يتوفرون فقط على تقوية التجارة والصناعات.
وستجد ألمانيا في تلك البلاد مصارف مهمة لتجارتها تنتفع بها كل الانتفاع ولاسيما إذا(31/59)
كانت كل ذاهبة إليها على شرط أن تؤسس فيها مملكة مستقلة تحت حماية الصين ولا يكون الإسلام دين حكومتها الرسمي بل تكون على الحياد تجري فيها الحرية المطلقة على أصولها لجميع النحل والملل وتتعاهد الدول بينها على ضمانة ذلك كله. والترك والتاتار هناك قد أفسدهم الحشيش والقمار فلا يستطيعون إدارة البلاد بيد القرغيز هم أكثر عدداً وأكثر متانة وقوة وليس عندهم أثر للتعصب.
أ. ج
الترغيب والترهيب
طبع هذا الكتاب الجيد التأليف في الهند وهو من تأليف الإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المتوفى سنة 656 وأعاد طبعه الآن أحمد ناجي أفندي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي الكتبي وأخوه فجاء في مجلدين من القطع الكبير تبلغ صفحاتهما معاً زهاء 660 صفحة وقد قسمه مؤلفه إلى أبواب كثيرة تدور على ما ورد في الترغيب والترهيب صريحاً بدون ذكر الأسانيد المطولة وميز بين الأحاديث الصحيحة والحسنة أو ما قاربها وبين ما كان إسناده ضعيفاً وإن كان من تقدم من العلماء أساغوا التساهل في أنواع الترغيب والترهيب حتى أن كثيراً ذكروا الموضوع ولم يبينوا حاله وقد استوعب فيه جميع ما كان متداولاً في كتب الحديث لعهده. وهو يطلب من طابعيه بالحلوجي بمصر.
لا مساسية
الأستاذ أغناس غولدسهير المجري من أفراد علماء المشرقيات في أوروبا اليوم عرف بأبحاث كثيرة كتب بعضها بالألمانيبة وبعضها متلق بالملل والنحل وأمامنها الآن من أبحاثه الأخيرة رسالة في مسألة السامري وعجل الذهب وروايات الكتب السماوية والتاريخية فيها وقد نشرها في المجلة الإفريقية باللغة الإفرنسية أولاً ثم أفردها على حدة فجاءت شاهدة بسعة اطلاعه.
دروس القراءة
أهدينا القسم الأول والقسم الثاني من هذه الدروس للشيخ محي الدين الخياط محرر جريدتي(31/60)
بيروت والإقبال وفي القسم الأول خمسة فصول الفصل الهجائي والأخلاقي والفكاهي والحكمي والديني وفي القسم الثاني الفصل الأخلاقي والحيواني والفكاهي والحكمي والديني وكلها مشكولة بالشكل الكامل مطبوعة على نفقة محمد شاكر أفندي ياسين طبعاً متقناً تسهل على الصغار القراءة من أيسر السبل فعساها تلاقي في المدارس إقبالاً.
كشف الستار
صنف السيد أحمد بك الحسيني الفقيه الأصولي المشهور نبذة من حكم القابض على المستجمر بالأحجار وأنه لا تبطل صلاة حامل الصبي إلا إن تحقق نجاسة ثوبه وأتى على ذلك بنصوص المتقدمين والمتأخرين عراقيين وخراسانيين وما رجحه في هذا الباب فجاءت رسالة مستوفاة في بابها ترفع الحرج عن المصلين وتشهد لمؤلفها بالفضل المبين وهي في نحو 180 صفحة مطبوعة طبعاً متقناً بمطبعة كردستان العلمية بالقاهرة على ورق جيد.
الإنشاء العصري
طبع محمد عمر أفند نجا من أدباء بيروت كتابه الإنشاء العصري طبعة ثانية مضيفاً إليها زيادات لم تكن في الأصل فتوسع في القسم التجاري منه فمثل أكثر قواعد كتاب التجارة في معاملاتهم وأتى على جدول الأوزان والقياسات فكانت الزيادة في صفحات الكتاب 171 فأصبح أربعمائة صفحة متوسطة الحجم مطبوعاً في المطبعة الأهلية طبعاً متقناً وفي الكتاب رسائل تجارية وأخوانية ورسمية وغيرها وأنموذجات من المعاملات وأكثرها في اصطلاح سورية بالطبع وهذا الكتاب في بابه مستوفى الشروط فنثني على همة مؤلفه وهو يطلب من المكاتب الشهيرة بمصر والشام وثمنه هنا سبعة قروش.
المقصور والممدود
هذا الكتاب تأليف أبي العباس أحمد بن محمد بن الوليد بن ولاد النحوي المتوفى سنة 332 طبع للمرة الأولى في اوروبا وأعاد طبعه الآن محل محمد أمين أفندي الخانجي وشركائه. ذكر مؤلفه فيه من المقصور والممدود ما كان منه مقيساً وغير مقيس وألفه على حروف المعجم مثال ذلك الثر فإنها تكتب على وجهين فالثرى من الندى مقصور يكتب بالياء لأنهم يقولون في تثنيته ثريان ويقال كأنه مطر التقى منه الثريان يريدون الظاهر والثرى الباطن(31/61)
وثري الكثيب يثرى فهو ثريان والثرء في كثرة المال ممدود. والكتاب نافع للمشتغلين باللغة لأنه يوفر عليهم عناء الرجوع إلى المعاجم للتمييز بين المقصور والممدود من الأسماء إذا اشتبهت عليهم.
فن الرسم
نظم الشيخ حسين محمد الجمل أرجوزة من 160 بيتاً ضمنها قواعد فن الرسم والإملاء ليسهل حفظها على المبتدئين بالعربية قال إنه أقرأها التلاميذ حفظاً وفهماً فلم يقعوا بعد ذلك فيما كانوا يتخبطون فيه من الخطأ فنشكر له همته.(31/62)
سير العلم والاجتماع
الجمعية الخيرية الإسلامية
أصدرت هذه الجمعية تقريرها عن سنه 1908 جاء فيه أن أملاكها بلغت 518 فداناً و18 قيراطاً و4 أسهم ودفعت كل ما كان باقياً عليها من ثمن أطيانها وبقي معها 7555 ج. م وبلغ ريع أطيانها 3539 ج. م وإيرادها من أوقافها 509 ج، م وخصص لها في السنة ألف جنيه من الأوقاف الخيرية إعانة وعدد مدارسها في القطر المصري ثماتن فيها 1338 تلميذاً منهم 648 يتعلمون بالمجان وصرفت على مدارسها 6744 ج. م وستنشئ مدرسة لتعليم الفقيرات الخدمة المنزلية وتربيهن التربية الأدبية للخدمة في بيوت الأغنياء ووزعت في السنة الماضية 945 ج. م إعانات وعدد أعضائها الآن 546 عضواً والمساعدين 122 وبلغ إيرادها من احتفالها السنوي 2448 وما تبرع به المحسنون 5970.
وقف خيري
وقف أحمد مظلوم باشا ناظر المالية المصرية وقرينته 1750 فداناً من أجود أطيانهما وقصرهما برمل الإسكندرية على ذوي قرباهما ومن بعدهم إلى جمعية العروة الوثقى لتصرف ريعه في شؤون التربية وخصصا للجمعية حصة يقدر ريعها بألف جنيه سنوياً تتناولهما وبعدهما.
مدرسة الفنونالجميلة
فتحت مدرسة للفنون الجميلة التي أنشأها في القاهرة من ماله الأمير يوسف كمال لتعليم التصوير والنقش وهي تسع ثلثمائة طالب وطالبة وقد دخل هذا القدر منهم لتعلم هذهالفنون التي هي بنت الحضارة والارتقاء.
ورق من تراب النفط
يصنعون الآن في ضواحي كاباك من أعمال ولاية مشيغان في الولايات المتحدة نوعاً من الورق بحيث لا تمضي ساعتان على وضع المادة المؤلف من هذا الورق حتى يخرج ورقاً للصر أرقى من الورق المصنوع من الخشب وأل منه كلفة وهو لا ينفذ ولا يرشح ويصلح لوضع الفراء والأصواف فيقيها العث وغيره من الحشرات وقد أخذوا يصنعون منه علباً(31/63)
ومقويات يتطلبها باعة الفرو والثياب ولكن لونه أزرق وهم يحاولون أن يجعلوا منه نوعاً أبيض.
معدن جديد
اكتشف أحد الفرنسيس معدناً جديداً اسمه البلانشييت وهو مركب من حامض الصوان ومادة أخرى نحاسية أزرق اللون وهو موجود في بلاد الكونغو.
اساقفة الكثلكة
يبلغ عدد الكرادلة الكاثوليك الآن 561 كردينالاً منهم 36 إيطالياً هذا مع أن إيطاليا ليس فيها سوى 30 مليوناً ممن ينتحلون الكثلكة من مجموع 230 مليوناً من الكاثوليك في العالم وللكثلكة 605 أساقفة من الأوروبيين منهم 258 إيطالياً على حين ليس من كاثوليك ألمانيا وفيها 22 مليوناً منهم سوى 25 أسقفاً.
ثروة روسيا
أحصى أحد المدققين ما دخل على روسيا من المال وما خرج منها في خلال السنة الماضية فكان مجموع ما دخل عليها من أموال القروض وغيرها من الواردات غير المقررة عشرة مليارات ومائتين وأربعة ملايين روبل صرفت مشرة مليارات وأربعمائة وخمسة عشر مليوناً. وتبلغ ديونها تسعة مليارات وثمانمائة مليون روبل أي 26 مليار فرنك أنفقتها في ثلاثة فروع منها أربعة مليارات وستمائة مليون في سبيل الحروب الخارجية وأصاب الحرب اليابانية منها مليارين ومنها ثلاثة مليارات على إنشاء الخطوط الحديدية وابتياع بعض ما في بلادها منها وأسلفت المصارف العقارية للأشراف والفلاحين 1225 مليون روبل كما أعطت مليارين ثمن أراضي في سيبيريا إلى أصحابها المستعبدين وفي بلاد روسيا 44 الف كيلومتر من السكك الحديدية ريعها السنوي 65 مليون روبل وتعطي 2. 12 في المئة من أصل المبلغ المستقرض لإنشائها والباقي تدفعه الخزينة وتزيد واردات سككها حيناً عن آخر بزيادة سكانها وكثرة تنقلاتهم وجودة المستغلات. وتبلغ مساحة أراضيها الزراعية في أوروبا 430 مليون هكتار منها 165 مليون للحكومة والمدن والإقطاعات وغيرها والأراضي في روسيا كثيرة والناس لا يشكون من قلتها بل من قلة توفر بعض الفلاحين على حسن الانتفاع بها. والفلاح الروسي أغنى فلاحي العالم بكثرة ما(31/64)
يملك من الأراضي وأقلهم ثروة.
تربية الجنسين
مضت الشهر الأخيرة والنزاع على أشده في الولايات المتحدة بين المعلمين والمعلمات للبحث عما إذا كان الإنصاف يقضي بأن ينال المعلمات من المشاهرات بقدر ما يقبض المعلمون. ومعلوم أن الولايات المتحدة تصرف القسم الأعظم من واردات بلدياتها على التعليم. فقد كان سكان مدينة نيويورك سنة 1900، 3437202 وميزانيتها 118740596 ريالاً تنفق منها على المدارس 19731629 والباقي على الدين العام والشرطة ورجال المطافئ والمستشفيات والملاجئ الخيرية وغيرها هذا ما عدا الخمسة ملايين ونصف ريال التي أنفقتها تلك السنة على إنشاء مدارس جديدة وكانت ميزانية فيلادلفيا في تلك السنة 34605948 وعدد سكانها 1293697 أنفقت منها 4186000 على المدارس وكان سكان بوسطون في تلك السنة 580893 وميزانيتها عشرين مليون ريال خصصت منها ثلاثة ملايين للمدارس وعلى هذا فتنفق نيويورك التي ثار فيها النزاع بين المعلمين والمعلمات أكثر من جميع الولايات على المعارف فهي تصرف واحداً من ستة من وراداتها وبوسطون واحداً من سبعة وفيلالفيا واحداً من ثمانية.
ثم أن عدد المعلمات في أميركا أكثر من عدد المعلمين وما زال عددهن آخذاً بالازدياد أكثر فقد كان عدد المعلمين في الولايات المتحدة سنة 1870، 77529 معلماً وعدد المعلمات 122986 فأصبح المعلمون في سنة 1904، 113744 والمعلمات 341498 وعدد المعلمين إن لم يكن في نقص فهو لا ينمو على العكس من عدد المعلمات فقد كان عددهن منذ ثلاث سنين يربي على عدد المعلمين ثلاثة أضعاف.
قامت إنثا عشر ألف معلمة في نيويورك يطالبن بحقوقهن قائلات: إذا تساوى العمل وجب أن تتساوى أجرته فليس من العدل أن يعمل النساء في هذا المعنى كالرجال ولا ينلن من الأجور إلا ثلث ما ينال الرجل وإذا قدر لهن أن بلغن إحداهن الدرجة الأولى تقبض 2500 دولار على حين يقبض الرجل 3000 فاضطرت حكومة نيويورك إلى أن يجيبهن إلى مطالبهن وزادت ثلاثة ملايين دولار على ميزانية معارفها وكانت عشرين مليون دولار في نيويورك وحده كما تقدن وقد تلكأ مجلس الأمة أولاً على الموافقة على هذه الزيادة للمعلمات(31/65)
ورأى رفضه من الحكمة مخافة أن يتدرج ذلك إلى الأعمال الأخرى التي تشارك فيها المرأة الرجل في تلك الديار ويقوم النساء يطالبن بزيادة فيختل نظام البلاد الاقتصادي غلا أنه لم يسعه بعد الإقرار على زيادة ميزانية المعارف إلا أن يأخذ الرجال والنساء بحظ منها على السواء.
كتب مفوض الولايات المتحدة في الإشراف على العمل والعمال سنة 1896 تقريراً على 1069 مركزاً في ثلاثين ولاية من ولايات أميركا جاء فيه أن النساء يربحن في المغاسل أقل من 23 في المئة من الرجال مع أنهن يعملن عملاً واحداً وأن النساء يقبضن 24 في المئة أقل من الرجال في المطاعم و28 في المئة في معامل الأحذية و46 في صنع العلب و61 من صنع الفرش والأثاث وفي معامل السكاكين 116 في المئة والورق 117 ومثلها في المخازن والمكاتب وفي مكاتب الضمان 29 في المئة وفي مكاتب الوكالات عن أدوات الخياطة 66 في المئة. ولئن كانت الولايات المتحدة تزيد ميزانيتها في المعارف سنة عن سنة فإن هذه الزيادة تصرف في الغالب في بناء مدارس فخيمة وابتياع أدوات فاخرة فقد بلغ ما صرفته الحكومة هناك على المصارف سنة 18903، 7105999190 ريالاً ولم يأخذ المدرسون والمدرسات سوى نحو 36 مليون دولار. وتبين بالإحصاء أن إقبال الرجال على التعليم قل بعد حرب أميركا مع إسبانيا ولم يعد يتمحض للتعليم إلا من شغفوا به ورغبت النفوس عن اتخاذه حرفة للارتزاق بها وذلك لأن المتعلم من الطراز الأول كألئك الأساتذة قد يربح أضعاف ما يتناول من التدريس إذا انصرف للأعمال الحرة. وقلق رجال العلم في أميركا من دوام إقبال النساء على التعليم وانصراف وجوه الرجال عنه وقالوا بأنه سيجيء زمن ينحصر التعليم في أميركا بأيدي النساء وقال رؤساء الكليات ومديرو المدارس ونظارها أن تدريس الرجال أرقى من تعليم النساء. وأثبتوا أن من الضروريات في التعليم البيان والنظام وأن صبر المرأة ووجدانها وإدراكها ربما كانت أرقى من طبيعة الطفل المتعلم ولكن كل هذه الصفات لا تجبر النقص المحسوس في أسلوبها في التعليم وذلك لأن ضعفها المحسوس عن التفصيل يزيد هذا النقص استحكاماًُ ويجيء ضغثاً على إبالة فيما يتجلى في دروسها من الإبهام.
تقوم المدرسات في المدارس الابتدائية بأعمالهن خير قيام لما أن الموضوع واضح في ذاته(31/66)
وما هو إلا حروف وأرقام ولكن إذا عهد إليهن تدريس النحو يوردن القاعدة وشواذها ويضعفن عن التبيان وتخونهن أساليب التفهيم وبيان الروابط بين الموضوعات وقد ظهر أن الفتيات يفضلن الأخذ عن المعلمين إذا أردن تعليماً سليماً بسيطاً والفتيان لا يؤثرون التخرج بالمعلمات وغذا كانت الكتب المدرسية واضحة الأسلوب لا يقتضي لها إلا تقرأها المعلمة فتقوم قراءتها مقام الشرح والعبارات المنطقية. ولكن كتب التدريس في أميركا إذا قوبل بينها وبين أمثالها في ألمانيا وفرنسا يتبين أنها أحط بكثير.
ولا يجب أن يؤخذ من هذا بأن الواجب إيصاد أبواب التعليم في وجوه النساء فإن المرأة يحق لها أن تعيش كالرجل. ولكن ظهر أن النساء في البلاد الإنكليزية السكسونية حيث صحت عزائمهن على منافسة الرجل لا يصلن إلى المناصب السامية إلا نادراً وهذا مما يثبت ما هن عليه من الانحطاط العقلي. وإنا نرى المرأة تنجح أحياناً أكثر من الرجل في الأعمال التي يكون الدافع غليها الغرام والهوى أكثر من إعمال الفكر والقوى كأن يكون منهن ممثلات ومغنيات يفقن الممثلين والمغنين ومنذ استولين على هذين الفرعين في أميركا وإنكلترا أنزلن درجة فن الأدب فيهما وسبب نجاحهن بل تفردهن بهذين الفرعين ناشئ في الأغلب من درجة مالية وذلك لرضاهن بالقليل من المال على ما هو العكس في الرجال. ومستحق ألمانيا وإنكلترا وأميركا في هذا الشأن فيكون نساؤها قابضات على أزمة التمثيل والغناء فيها بعد قليل من الزمن. والعلوم التي تبرز فيها النساء حقيقة على صورة مدهشة هي الرياضيات لأن موضوعها يعصمهن من الغلط وتدقيقهن فيها ناشئ من نفس الموضوع لا من قوة عقل المرأة.
وحري بالرجال في الشؤون العقلية على الأقل أن لا يحرموا من حقوقهن ولا دليل ينهض على هذه القضية أكثر من أن الأميركي فإنه لم يأت بشيء خارق للعادة حتى الآن في عالم العلم وذلك لأن المرأة تعده للسير في هذا السبيل قبل دخوله الكليات. وليس النساء مسئولات عن الميل في إهمال التهذيب المنظم للذاكرة ولكنهن لم يخلقن على ما نرى ليعلمن الولد طريقة صالحة في تصحيح الأفكار أما من حيث الأخلاق فإن تعليم النساء للرجل ليس طالع خير فمنذ سنين ذهب بضع مئات من الأساتذة والمعلمين الإنكليز إلى أميركا على نفقة المستر موسلي أحد أغنياء الإنكليز للبحث عن طريقة التربية في الولايات(31/67)
المتحدة ومما لاحظوه ملاحظة خاصة في تقريرهم تأثير التربية التي تربيها النساء الرجال وأثرها المدهش في المجتمع الأميركي ونعني بهذا التأثير قلة أخلاق الرجولية فيه وما كانت ملاحظة تلك اللجنة هي الأولى من نوعها بل أن غير الأميركيين كثيراً ما كانوا يدهشون مما يبدو لأنظارهم من هذا القبيل.
رجال الأميركان يعنون من وراء الغاية في المحافظة على الست وثلاثين ألف قاعدة في مصطلحات المدنية الاجتماعية فيبالغون في التأنق بلباسهم مبالغة مفرطة ويدققون كل التدقيق في القيام بأقل ما تقتضيه سنة الأزياء ويرققون ألفاظهم ترقيقاً يقربها أبداً من التكلف ولا ينسب ذلك غلا لتسليم مقاليد التربية للمرأة. ولو استطاع المرء أن يكون تاماً في هذا المعنى لما كان ذلك بأس بل قد يحدث كثيراً أن المبالغة في التزيي والمنافسة في الحصول على صفات الظرف الذي لم تجعله الطبيعة من خصائص الرجل تعبث بمروءته ولكن إذا كانت أخلاقه من المتانة بحيث لا تفسد رجوليتها لا تلبث الرجولية أن تزيد فيه مستقلة عن كل تأثير من تأثيرات الحضارة ولا يكون تكلف الظرف واللطف إلا ظواهر خداعة ويبعد عن درك علاقة التمدن والتجمل في الحياة الاجتماعية بحياة الأعمال. وقد أدرك بعض الأميركان نتيجة هذه التربية النسائية وسجلوا شيئاً من سيئاتها متى جاوزت حد القراءة والكتابة والحساب.
ومن سوء أثر هذه التربية في الأميركان أن الرجل يرى نفسه أحط من المرأة مهما تصنع لها ويرى من كرمها أن تعطف عليه وهكذا حتى أصبح المجتمع الأميركي أنثوياً فيه من ضروب التكلف والغرابة أشكال وألوان.
انتهى ملخصاً من مقالة لأحد علماء فرنسا.(31/68)
العدد 32 - بتاريخ: 1 - 9 - 1908(/)
صدور المشارقةوالمغاربة
مومسن
حدث في أوروبا منذ عام 1825 بما تجدد في الحياة الاقتصادية من النواميس انقلاب هائل بفضل تمديد الأسلاك البرقية وتمهيد الطرق الحديدية وتكاثر الآلات الميكانيكية واستخدامها في العمليات أكثر من النظريات فقامت الصناعة والتجارة والطرق البحرية والسكك الحديدية والبواخر والمرافئ والترع والمعامل والمصنوعات والمستودعات بل وكل ما يدعى بلسان الاقتصاد الصناعات الكبرى وأخذت كلها تظهر على الولاء بظهور الأفكار والآثار. حدث هذا الانقلاب في ألمانيا بعد أن تأخر قليلاً أي بعد عام 1840 قال هنري تريشك: كانت الانتخابات في ذلك الزمن والمناقشات في الأمور الإدارية مطمح أنظار الرجال وموضوع تأملهم حتى جفت الحياة العائلية أو كادت. . أما النساء فإنهن أخذن بالإشرئباب إلى الدخول في الأعمال التي كان قبض عليها الرجال إلى ذاك الحين وتتطاللن للتنقيب عن السبيل المؤدية بهن إلى مضارعتهم ضاربات صفحاً عن دعوى ما يحدث مما تصفن به من صفات الأنوثة وحدها فقط من التأثير في حياة المجتمع الإنساني وقد كانت أيقظت المطبوعات العامة والآداب في الخلق لذة العمل والهمة والثبات حتى إن ميزات ذلك الزمن العظيمة قد تمثلت في الأثاث والرياش.
وقع هذا الانقلاب في حياة الشعب العلمية والفكرية والصناعية أيضاً أيام كانت ألمانيا مدينة الفلسفة والأدبيات والعلوم التاريخية فقط ومكان لها بعض الصيت في فروع العلوم الطبيعية الأخرى.
فلم يمض على الألمانيين بعد أن وجهوا نحو هذه العلوم وجهة السعي والتفكير حقبة من الزمن حتى أخذوا منها السهم الأوفر فبزوا بها وبرزوا وأتيح لفريق منهم بعض ما هو جدير بالدهشة من المخترعات والمكتشفات: فما ظهر من مستحضر وأعني بذلك المكتشف المهم في تحولات المادة العضوية بدل نواميس الحياة وما وجده دود من ناموس سير الرياح في الفلسفة الطبيعية كان أساً لعلم الظواهر الجوية الجديد.
وتبدلت الفلسفة أيضاً تبدلاً كلبيراً فقد بدأت أولاً بتعديل نمظريات الفيلسوف هيكل بعض التعديل بإخراجها من دائرة الفلسفة المحضة على أيدي تلاميذه الأفاضل وتطبيقها على(32/1)
الحياة العامة. وعلى أثر هذا أخذ ملشوت ينظر في قوى الدماغ وحركاته حتى وفق إلى تحليله تحليلاً كيماوياً وقام العالم كارل فوغت وأسس قبل داروين مذهب التحول ترانسفورميزم في كتابه أوقيانوس والبحر بينا كان داو سارتاوس يحدث ثورة هائلة بمصنفه حياة عيسى وتناول نظريات ديدرو وهلوشيوس المادية وانفرد ناظراً في الجزء الفرد والهيولى وأثار العالم فورباخ في ذاك الزمن عالم البابوية بمؤلفه المسمى حقيقة النصرانية.
هذه هي نسمات الأفكار التي كانت تهب في عامة أنحاء ألمانيا والآداب أول ما استهدفت لمؤثراتها فقد حل محل ذلك الجيل الخيالي جيل مفتتن بالحقائق غير المجردة مولع بالوقائع والحادثات الطبيعية وهو الجيل المادي الذي لا يعرف غير التحقيق مشرباً.
وإنك لترى حينئذ الأدبيات الخيالية أشيه بأُلهية بسيطة يما هي بها الفتيات وقد نضبت مياه الشعر المترقرقة وجف نبعه السيال.
أعظم أدباء هذا الدور غستاف فريتغ الذي كان نابغة في بث روح الحقيقة على ما هي عليه فيما كان يرويه عن سذاجة حياة الطبقة الوسطى من الناس في قصصه الهزلية ورواياته وكثيراً ما كان يكافح مذهب الخياليين.
ولقد هم فريتغ بالقضاء على هذا المذهب فقام وأسس في ليبسيك بمعونة صديقه جوليان أشميد مجلة تدعى: كرازتدن وكان صبغة هذه المجلة سياسية ونزعتها بروسية علناً.
دخل غستاف فريتغ عالم الكتابة عام 1844 بمؤلفه القصصي المسمى العالم وهو عبارة عن سلسلة أبحاث في التربية العامة. وكان رجلاً من أقوياء الفكر وعباد الحقائق غيوراً ليس في نفسه أثر للرحمة في مقاومة ما بطل من الأفكار والخيالات وبه أصبحت بلدة ليبسيك مركزاً نارياً لإذاعة الدعوة البروسية ونشرها في الأنحاء فاجتمع حول مجلته عام 1848 شرذمة من أولي الفضل الواسع ممن يحبون بروسيا وأوضاعها حباً جماً.
ومنهم فؤدالب وكاتوليك اللذان شهرا على مذهب الخياليين حرباً عواناً أدارت رحاها الأقلام وأزمعا كما قال أشميد أن يبترا تلك القطع الفاسدة من آداب الألمان وينبذاها نبذ النواة فكان يجدان في أن يكتب القول الفصل للسياسة البروسية في كل صقع آتيين على كل ما فيه أثر التصنع ومسحة التكلف والتعمل وغير ذلك مما كانا يعدانه من الآفات المجتاحة لعواطف(32/2)
الجرمان وأخلاقهم ومبايناً لسعادة الأمة وحسن نظامها. وعندهما أن لبروسيا فكراً سيحمل إلى ماضيها تاريخ مجد مؤثل بالرغم من مقاطعاتها الناقصة وحدودها المتنائية. ولهذا فإن الألمانيين راغبون من أجل سعادتهم عامة وسلامتهم في إعلاء اسم الجرمان باتحادهم تحت لواء تقدم بروسيا نابذين امتيازاتهم وشعورهم الشخصي ظهرياً. ولما أثنى فريتغ لأول مرة في ليبسيك على مهمة بروسيا وموقعها من ألمانيا حول قسم كبير من منوري الأفكار في ألمانيا أنظارهم نحو بروسيا التي كانت جندية الحلية أريستوكراتية المنزع غير مفكرين فيما يتخلل نظرياتهم السياسية ومذاهبهم من التناقض على أن الفرق طفيف جداً بين عالم الألمان ـ ذلك الجيل الناشئ على أفكار داروين واستراوس الفلسفية وبين جنود بروسيا: فكلاهما مولع في التقاط الحقيقة ومن ذوي القوة والبطش والاقتدار. أما بروسيا فقد كانت هيئة مسيطرة على ضروب المذهب الحقيقي: على السياسات والإدارة والجندية والاقتصاد وبالجملة فقد كانت متشبعة الروح بجميع أنواع مذهب الحقيقيين. وامتازت بخصلة هي فوق ذلك كله وهي أنها كانت تحس بوجود ميل خارق لسحق الفرنسيس كلما اقتربت منهم.
ذلك هو الفكر الذي جال في خاطر طلاب كلية ألمانيا الجديدة بروسيا منذ عام 1850 وأول من كان موفقاً لإيفاء هذه الوظيفة على غاية ما يمكن أن يكون من الإتقان والكمال المؤرخ مومسن:
تيودور مومسن من أغرب الألمانيين خُلقاً وخَلقاً اجتمعت في نفسه الأضداد بأجمعها فهو عالم كبير كما هو خيالي كبير ومع هذا فقد كان يوصي الناشئة الجديدة في أن يتلقوا ماله من الخيالات نموذجاً ليس من ورائها فائدة تذكر. وهو ديمقراطي على حين لم يوفق أحد إلى خدمة المذهب القيصري سراريزم تماثل ما عمله في مصنفه تاريخ رومية. ولد عام 1817 ومات سنة 1903 في مقاطعة غاردينغ من أعمال شلزويق حيث كان أبوه راهباً. ونشأ على هذه القطعة الساحلية الغريبة التي كانت ترى بمراعيها الواسعة وحقولها الشاسعة ذات غضار ونضارة من الداخل أشبه بلون بحيرة تضطرب بأمواج كالجبال من الخارج وإذا عمنا بآراء أحد القائلين بمذهب تين من المؤرخين كان من تنفجر عنهم الحياة في محيط كهذا مكتئبين مكدرين في حين كان مومسن من أبدع أنموذجات الإبداع البشري حياة وابتهاجاً وابتساماً. والصحيح أن هذه النموذجات غير نادرة في ألمانيا.(32/3)
يظن الفرنسيس أن إقليم البلاد الشمالية البارد الذي يتخلل سكوته حزن مهيب يلد أناساً قد لعبت بهم الهموم وتقسمتهم الغموم على العكس في إقليم البلاد الجنوبية الزاهر المستنير بأشعة الشمس المشرقة فإنه يلد عنصراً خفيفاً أرعن. والحال أن عكس هذا في الغالب واقع في ألمانيا ولا سيما في الجنوب فإن في صحاري سواب الخصبة المعشبة وفي الكروم التي تروى بنهري الرين وموزل قد نشأت عقول واسعة رصينة وفي وسعها أن تحيط بالعالم بأسره. والشعراء الذين نبغوا ثمة قد تغنوا بماهية حياة الجرمان وحقيقتها بأناشيد لطيفة خفيفة غير أنها ثقيلة الأوزان. أما في الأنحاء الشمالية فإن صحاري بوميوراينا وبراندنبورغ المبتورة حدودها قد أنشأت قادة عاملين وساسة جسورين وكانت هنا حتى الأدبيات تلعب بها أميال الحرب والجدال وسرعان ما كانت تدخل في شكل المعارضة.
مومسن هذا من نابته ذاك الجنس إذا رأيته رجلاً مقداماً إن تحرك فكأنما يتهيئ لعمل جديد. وإنه بسيمائه العصبي الذي ينم عن كل خير وعينيه اللتين تبرق منهما أشعة الحيلة والمكر وشفتيه اللتين ترتسم عليهما ابتسامة الاستخفاف والاستهزاء يذكر بفولتير العظيم وهو ببعض أطواره المنبعثة منها عوامل القسوة والغدر حتى في حالة السرور والنشاط وبوجهه الذي نال منه المقراض فلم يبق ولم يذر أشبه بمولتكه القائد حذو القذة بالقذة. أما سيماؤه الذي يتراءى من خلال مصنفاته فهو عبارة عن شخصية غريبة مؤلفة من طبيعة متسرعة منفعلة متوقدة أي من حدة المزاج ممزوجة بطبيعة أخرى حقيقية ماهرة في استخراج المغالطات المادية العملية ونفخ المناطيد التي وسع نطاقها حب التفاخر والغرور.
في مومسن شخصان لا يجتمعان كل الاجتماع ولا يفترقان: عالم وصانع. ولا شبهة في أن العالم مومسن هو من خوارق القرن التاسع عشر ومن أعظم من هم جديرون بالتجلة والاحترام فإن معارفه وسعة اطلاعه منوعة تنوعاً غريباً وإنك لترى مجلته التي رأسها خمسين سنة وطاباً حفل بما لا يكاد يتناهى من الكتابات في تلك الموضوعات المختلفة كآثار رومية القديمة وعلم الألسنة وعلم المخطوطات وعلم المسكوكات والحقوق وعلم الأساطير هذا عدا () العظيم الذي جمع فأوعى من التدقيق والتحقيق العلمي الواسع وغزارة المادة وجودة المصادر مما أهله لبلوغ أقصى درجات الارتقاء. ولقد كانت للمترجم به ملكة كبيرة وقدرة باهرة في قراءة الألسنة القديمة الميتة ومؤلفاته برمتها شهادة ناطقة بالبرهان(32/4)
على أنه كان موسوعة من موسوعات العلوم.
كان مومسن يرى مع من يرى أن العلم غير منحصر في دائرة محدودة وأنه علم مشاع لهذا كان لا يستحسن تهافت الألمانيين على تعميم فكر الإخصاء ولا يقيم لتهالكم على انتشاره وزناً. فقد فقد قال في خطاب أورده في مؤتمر برلين العلمي في اللغة اللاتينية: الإخصاء في فرع من العلوم فقط واجب ولكن ليس من الواجب الاقتصار على ذلك الفرع والضرب دون غيره بإسداد بل يجب على الطالب لسعي لأن تتوفر لديه المعارف في هذا الفرع وأن يصيب حظاً من كل شيء. . فما أصغر هذه الكرة الرضية وأحقرها في نظر من لا يرون غير كتاب اليونان واللاتين وطبقات الأرض والمسائل الرياضية في هذا العالم الفسيح. . .
ومن غريب التضاد كون مومسن مفنناً خيالياً مع سعة اطلاعه العلمي المدهش. وإنك لتذهل عندما ترى هذا الرجل في نفس الأمر الذي يحمل تلك الجبهة ذات القوة والتؤدة والوقار من الشعراء المتأثرين غير أنه ليس نظير ميشله المؤرخ الفرنسوي الشهير تأخذه الهزة والانفعال لكل جميل فهو لا تأخذه رحمة ولا شفقة لآلام من يفترشون الأرض ويلتحفون السماء من بني آدم ولكنه صاحب عقل متأثر لا يتبين غلا بمتانته وقوة دهائه فقط في هذا العالم وهو من أجل الأشياء التي تنثر ضياءً وشرراً أشد ما يكون احتداماً هياماًَ. كان من المحتمل بقاء غرائز مومسن في العلم والصناعة طي الخفاء لولا أن قيض الله لها رجلاً في برلين عام 1850 يعنى بنشر المؤلفات فرغب إليه كتابة تاريخ لرومية إذ كان يبحث عن كاتب يشغله في كتابه أمهات التاريخ. فأصاب ذلك الرجل المرمى في اختياره هذا لأن المترجم من المشاهير الباحثين المدققين أرباب الاطلاع على تاريخ رومية. ومن المعلوم أن أساطين العلم لا يقدمون في الغالب على تأليف كتب تتناولها الأيدي عامة وتتداولها الطبقات كافة. وقد حصلت له ملكة سامية جداً عندما كان يعاني من صناعة الصحافة ما يعاني ولهذا ظهر تاريخ رومية مؤلفاً ثميناً. وليس مومسن من تلك الطائفة الشائخة أساتذة الجرمان التي اتخذت العلوم المنتسبة إليها ديدنها وقضت حياتها وقفاً خالصاً عليها بل هو أشد ما يكون تأثراً وانفعالاً للمسائل العامة.
ربى مومسن في كلية كيل فجهزته بجهاز حب بلاده حباً جماً ولطالما قرّع أولئك الذين يقولون أنه يجري في عروقه الدم الدانيماركي بقوله: إن من يدعون أن مدينتي شلزويق(32/5)
وهولستاين ليستا من تراب ألمانيا هم في الحقيقة معتوهون مفتونون. ولم يدخل مومسن في السياسة خلال سنة 1848 وهو وإن لم يحضر بصفة عضو رسمي في مؤتمر فرانكفورت فقد كان من أدهش المحامين عن حقوق الأفراد في ذلك الحين. فقد دافع أشهراً عن قواعد السياسة الحرة وانقطع هو ورفيقان له في مدينة زوريخ من أعمال سويسرا عندما نحي عن منصب تدريس حقوق رومية وكان أستاذاً له في كلية ليبسيك عام 1851 ولم يعتم أن أعيد كرسي التعليم ثمة وأصبح يشتغل بتدريس ذلك الدرس نفسه زهاء سنتين. وفي عام 1854 غادر سويسرا بدعوة من حزمة بروسيا إلى كلية برسلو. وكان يرجو دائماًُ تقدم شبان هذه المملكة ولطالما قال: إن حياة بروسيا تتوقف كل التوقف على سلوكها سبيل التقدم الذي مهده لها فريديك الكبير.
هذا وإن بين مومسن وبين أبناء صناعته فرقاً بعيداً وذلك أنه ظل صادقاً مستقيماً حتى نهاية زهو شبابه ولم يكن ليحفل مثلهم بفخفخة ما أتاه من إمارات النصر ولا عظمة ما ناله من بوارق التوفيق.
كان بدء احتفاظ مومسن بأفكاره على ما شوهد أشد الاحتفاظ بين سنة 1866 و1870 الأمر الذي كان يتطلبه هو أن تكون ألمانيا عظيماً سلطانها منيعاً جانبها تضيء بأشعتها العلمية العالم المتمدن بأسره. ومما حكاه: إن تلك الشؤون السياسية قد شغلت حتى علماء المملكة سنين كثيرة. وهذا وإن كان يستند على أسباب معقولة مشروعة غير أنه حان زمن الإقدام والرجوع إلى الأعمال بعد ما تبينت نتيجة كل شيء. . . وكان يقول: من الواجب معالجة ينابيع قوى ألمانيا بالقوة وتوسيع نطاق علوم الألمان وكشف غطائها بالعمل. ولطالما حقر مومسن أولئك المتعصبين الذين كانوا يناهضون الموسويين بأبلغ ما يمكن تصوره من عبارات التحقير عاداً أنواع المبارزات الجنسية والدينية من رجوع القهقرى لأظلم أيام القرون الوسطى وأشدها أسى وبؤساً. فمن ثم ندد ببعض ضعاف الفكر من حسدة حزب الوطنيين مبيناً بطلان دعاوي تلك الفئة الواهية الواهنة ممن ادعوا بأن الموسويين عقبة كؤد في سبيل تكوين أمة قوية المنعة مصونة الحمى ويبين بمستندات تاريخية جمة أنهم مستعدون لكل ضروب التقدم والارتقاء وأنهم على العكس مما يظنون وانتقد سياسة بسمرك انتقاداً شديداً فحاكمه الوزير إلى المحاكم فحكمت ببراءة ساحته وكان عضواً في(32/6)
مجلس الأمة.
ليس بين المؤرخين من يقاس بمومسن في تحبير الصفحات التاريخية العظيمة أو تحريرها غير أرنست رنان فقط. فتلك التصورات الواسعة واحدة والنسبة فيما بينهما واحدة كما أن قوتهما في البيان والأداء سواء. أما المهارة في إشراب روح الحياة للأشياء كما كانت بإظهار دقائق التفاصيل والفروع الواسعة التي من شأنها أن تبقى في الحافظة منقوشة فواحدة أيضاً في المؤرخين مومسن ورنان.
ولما كان مومسن أيضاً كسائر مؤرخي الألمان المتفرغين عن نيبور يهتم كثيراً بحياة الأمم الشخصية وكيفية نشوئها وانتشارها فإنه وجد تاريخ رومية مساعداً كثيراً لإيفاء هذا المقصد الذي يتوخاه. ولما حل مسألة الوطنية ووضعها رغب في تعليمها معاصريه وكان مثل هيبولت تين يستمد من المخترعات العلمية والمكتشفات الفنية بأجمعها لأن تقدم العلوم ولا سيما ما يتعلق منها بعلم الحياة قد ساعد التاريخ كثيراً. فقد نقب مومسن أولاً عن بعض ما لخصت به ولم يقبل ما في مذهب تين من المادية البحتة بل ولا جميع أفكار المؤرخين في هذا الباب ومن جملتها إمكان استخراج خصوصيات أمة من أخلاقها الخاصة بها بل من الأمور التي هي من قبيل الأسباب المادية كالتراب والهواء ونمط الغذاء.
وكان نظره متجهاً نحو الحجرة الابتدائية للأمة الرومانية لأن بها فقط أمكن لرومية أن تحكم إيطاليا فالعالم أجمع. فاجتهد في كشف أسرار الرومانيين وسبب تفوقهم على الأمم القديمة متخذاً ذلك له أساساً متيناً فإذا أراد تعليل فوز الرومانيين وغلبتهم يبدأ في إظهار ذكاء هذا الجنس البراق وما فطر عليه من حب الإقدام والعمل وما يشعر به من تقديس الواجبات والقيام بها حق القيام وهكذا بعد أن تتبع كما رأيت أحوال الأمة الروحية في سائر مظاهرها أيام كانت عروق الحياة تنبض في جسمها وهو راغب في أن يجلو تاريخه على هذه الأفكار كلها ثم يزفه للناظرين.
على هذه الأصول نفسها جرى تين أيضاً في عامة مؤلفاته الانتقادية المهمة ولاسيما تاريخ أدبيات إنكلترا. وهذا الأسلوب من جياد الأساليب غير أنه له محذوراً واحداً وهو أن الحادثات تلد طبيعية والرابطة التي في خلالها تأخذ شكلاً منطقياً متسلسلاً بحيث يخيل أن هذه كلها قد أعدت من ذي قبل والنصر المتولي الذي بدأ من أبواب رومية ثم وقف في(32/7)
أقصى تخوم العالم المتمدن يشبه مصوراً خارطة قد رسمت بداءة بدء وعول فيها بعد على إدخالها إلى حيز العمل.
فالمترجم نظر إلى تاريخ رومية من نقطة سياسية تماماً ويشاهد ما بذله من العناية في جماع مظاهر الحياة اليومية للنظرة الأولى. وفصول كتابه في الزراعة والتجارة والصناعة والآداب أجمع ما كتب في مصل هاته الموضوعات حتى الآن. ومما كان يرتئيه أن السياسة هي أهم واسطة لبيان أحوال حياة الأمم وهي التي تحدث تجديداً وانقلاباً في جميع الشؤون.
لتتبع التاريخ السياسي وتدقيقه خطتان الأولى: خطة توكفيل الفلسفية وهي عبارة عن اتخاذ أوضاع الأمة وقوانينها المادية والفكرية أساساً والعمل على كشف أسرار تولدها ونتائجها أكثر من النظر في حوادثها وكائناتها ويصح أن يقال أن هذه الخطة علمية لأن الكاتب لا يظهر نفوره أو ارتياحه لحالة سياسية معينة. ومن ثم كان ذلك المؤلف غيرياً لا أنانياً. والثانية تعليل الحوادث التاريخية ببعض أفكار تنطبق على آراء سياسية واجتماعية أو دينية وبها يختلف التاريخ حسب المنظر ووجهته.
ولقد وقى مؤرخو الألمان أنفسهم في الربع الأول من القرن التاسع عشر من هذا الأسلوب التاريخي الذي اتخذه كتاب الإنكليز والفرنسيس مثالاً يحتذونه. وهذا نيبور ورانك المؤرخان الألمانيان يصفان الوقائع التاريخية ويصورانها دون أن تشتم من تضاعيف سطورهما رائحة تحزب أو تعصب بتاتاً.
وفي عام 1850 نشأ صنف من المؤرخين على غير تلك الطريقة والسبب في ذلك اجتماع طائفة من الأساتذة الأفاضل في مؤتمر فرانكفورت واشتغالهم بالسياسة بعض الاشتغال حتى إذا ما نقلوا مشاغلهم الخارجية إلى أرائك تدريسهم أخذوا يضعون موضع المذاكرة والبحث هاته الأحوال السياسية الحاضرة التي أورثت المسائل السياسية الغابرة تلك أطماع وذلك هو نتيجة الثورة السياسية سنة 1848.
هذا هو مومسن قد حاز الأولية بين فريق هؤلاء المؤرخين هذا الرجل الذي كان يتخيل حينما يكتب تاريخه أن تعليلاته تنطبق على التجارب الماضية على حين أن القسم الأعظم منها كان ناشئاً في الغالب من شعوره الذاتي وتابعاً لأحوال محيطه وقوته المخيلة.(32/8)
زبده فلسفة تاريخ مومسن براز في سبيل الحياة براز دائم من أجل تكوين جامعة سياسية وضمان عظمة قومية. وعنده أن تاريخ رومية يمكن تلخيصه بعدة فتن وحروب بدأت فيما فرط بإعداد الجيوش وسوقها كما بنيت على أساس تجاري ودولة رومية الزراعية التجارية التي تحيط بها قبائل الأعداء من كل ناحية وجهة تحارب أولاً صوناً لتجارتها من أن تبور حتى إذا انصبغت السياسة إذ ذاك بصبغة حكومة مطلقة تعمل على القيام على التهام ما حولها مما لا يزال فتياً.
وكثيراً ما تجد مومسن يرجع إلى هذا ناموس حياة الأمم فيتعبره بمثابة ناموس الثقل في موقعه ومساس الحاجة إليه. وكان يقول: لما كان المقصود الأعظم من التاريخ المدنية والمدنية تعمل على تشذيب ما ليس فيه قابلية للنمو واستعداد للنشوء من الأغصان كما ينبغي كانت الحرب عبارة عن آلة جسيمة من الإصلاح لإنشاء الرقي العام وإن سعادة مملكة ليتوقف على تبدل مبارزاتها إلى حروب!. . . .
إلا وأن فلسفة تاريخ كهذي تناسب جداً حال أمة بروسيا تحارب نفسيها بنفسها مرات ثلاثاً متتالية وتساعد كثيراً على تعميم الرقي والتقدم في ألمانيا أولاً ثم في أوروبا والعالم أجمع. ومع هذا فالمترجم لا يضم صوته إلى صوت الفيلسوف هيكل في قوله: إن وراء كل حرب فكراً أخلاقياً والقوة والفضيلة (لفظتان مترادفتان) ولا هو أيضاً من أرباب الاشتغال بالأخلاق. وكان يقول بهذا الناموس التاريخي: الحق مع القوة والتاريخ يكسر في مهب عواصفه العاتية الأمم التي لا صلابة فيها ولا مرونة كسر الفولاذ دون أن يشعر بأثر رحمة أو شفقة مطلقاً.
هذه هي نظرياته التاريخية التي يظل الإنسان حائراً حينما يرى أنها وأمثالها يدافع عنها ويحامي في وطن رجل مثل ذلك الفيلسوف كانت. لكن مظهر ألمانيا عام 1850 تغير عما كان عليه على عهد الفيلسوفين العظيمين فيختي وكانت. إذ أن فلاسفتها المحدثين أروها أن الأحوال والمواقع في تبدل دائم وأن قيمة الحقوق نسبية والقابض على أزمتها هي القوة فقط. ذلك هو ناموس العام الذي ليس في إمكاننا مهما أحسنا النقد نقضه أو تبديله. وناهيك بناموس كانت فلسفة بسمارك بأسرها عبارة عنه.
أول درس رغب مومسن في إلقائه على مواطنيه وصيته العظيمة: لا تكونوا بلهاً أغراراً(32/9)
ولقد تحققت أمنيته تلك. فإن الجنس الذي أوجد بسمارك لا يمكن أن ينسب إليه بله أو غباوة في حال من الأحوال. وإن تقدم أمة الجرمان ليصادم النظر في أغلب فصول كتابه فبينا هو يبحث عن الغاليين مثلاً إذ يشرع في وصفهم بقوله: إنهم شعراء أذكياء ذوو قلوب صافية سرائرها وليس بهم قوة ولا طاقة غير أنهم طائشون يرتاعون من العمل في الحقول والمزارع ويرتاحون للحانات والعربدة ويعتبرون قسيسهم أباً ومنه يرجون النصح في كل شيء. وكان مومسن لا يحب الفرنسويين بتة ومن أجل هذا فإنه أحيا تلك المعركة التي نشبت سنة 1870 على أنها للألمانيين مخلصاً لهم يحررهم من داء تقليد فرنسا. وقد بحث في كتاب كتبه لإرجاع الإيطاليين عن فكر اتفاقهم مع فرنسا في اضمحلال بابل الجديدة (باريز) وسقوط أدبيات فرنسا التي هي أشبه بنهر السين اتساخاً ودنساً.
هذا الميل الذي كان يشعر به مومسن نحو بلاده كان يجول في خلال كل سطر من تاريخه وفوق ذلك فإنه كان يرى العناصر الأخرى بجاني العصر الجرماني منحطة جداً.
ولم يكن يميل للأمة اللاتينية وإن كان يتظاهر بذلك أحياناً ولم يكن مصدر ذلك هو حب حقيقي وزد على ذلك فإنه كان لا يرتاح إلى أفكار هذه الأمة مع ما أوتيه من المواهب الطبيعية وما فيه من المبادئ السامية وما أتيح له من معرفة العظماء ومما قاله في ذلك إن الإيطاليين لا يمكن أن يدخلوا في مصاف الأمم التي تلعب في طبائعها الغرائز الشعرية لفقدان تأثر أفئدتهم إنما لا تقاس أمة الإيطاليين في البلاغة والفاجعات. . . .
وأنت لتجد لسانه الجائل في تلك الأبحاث وهو يحكم حكماً باتاً قاطعاً مرتبطاً بفكره وشعوره تمام الارتباط. فهو مثل تين حذو القذة بالقذة لا ينحرف عن الأسلوب الذي تمسك به فيد شبر. وفيما هو يكتب في التاريخ يبين الآراء ويثبت ما أتى به من نظرياته الخاصة تراه يطرح من الوقائع كل ما يوشك أن يوقع في هذه الآراء والنظريات خللاً.
فهو يريد أن تكون الأمة الرومانية سالكة السبيل الذي اختطه لها لا تحيد عنه ذات اليمين أو ذات الشمال. خذ إليك مثلاً ذهابه إلى أن الدهاء في غير السياسة لا أثر له في الرومانيين وجزمه بما ذهب إليه جزماً باتاً تجده يعزز هذا الحكم باستنتاجات قوية وبراهين جلية متينة. وأن الألمان ليتراؤن له من جهة الانتظام أتم من الرمانيين الذين هو وألئك في السياسات والمعارك سواء وكذلك يشعر المطالع من طرف خفي بمدحه الألمان من خلال(32/10)
حطه من العنصر اللاتيني وأنه ليفاخر قائلاً: إن القسم الذي وقف سداً منيعاً بكل ما فيه من قوة ورابطة جأش أمام هجمات المغول على رومية كان مؤلفاً من جماعة الوطنيين فقط الذين يجري في عروقهم دم الجرمان.
وهكذا جاء الكتاب من أوله إلى آخره على هذا المنوال فهو أشبه بقصيدة نظمت للذب عن ألمانيا والألمانيين. وبعد فليس بالنزر التافه القليل الذين استفادوا من تلك الدروس التي ألقاها مومسن في تاريخه وأفادوا بما جمعوا من المؤلفات الجمة في أحوال عصر الجرمان الروحية التي دعت أساتذة التاريخ والجغرافيا وأهل الإخصاء في علم الحيوان إلى أن بينوا أفضل عنصر الجرمان على رؤوس الأشهاد فعلت الضوضاء حتى في الكتب الجغرافية المدرسية بأن ألمانيا قلب أوروبا حقيقة وأن ما في فرنسا من كل شيء جميل إنما هو مدين لعنصر الجرمان.
معربة عن التركية
دمشق
ص(32/11)
المسلمون والذميون والمعاهدون
الإحساس دليل الحياة
التضامن رائد العمران
(تابع لما قبله)
جاء في عرض كلامي عن الأقباط في الجلسة الماضية أنهم يعاقبة واعتمدت على المقريزي وابن خلدون وسائر المؤرخين. فلم ترق هذه الكلمة في عين حضرة صاحب المجلة القبطية فاستدركها وقال أنهم أرثوذكس. ولكن رأي المقريزي في ذلك يؤيده العلامة القبطي ابن البطريق وقد اعترف حضرته بذلك. فليكن الأقباط أرثوذكساً أو ملكيين أو ملكانيين أو نساطرة أو كاثوليك أو بروتستانت أو يعاقبة أو موارنة أو مرقولية وليقولوا ما شاؤوا في اللاهوت والناسوت والحلول والاتحاد والمشيئة والأقنوم والطبيعة فإنما هم مصريون قبل كل شيء وتلك أمور داخلية وعقائد تعبدية ليس لها مساس بموضوعنا الذي نحن فيه اليوم.
ولكنني لا أترك هذه الفرصة دون الوقوف معه ومناقشته في قوله كان عددهم عند الفتح الإسلامي ثلاثين مليوناً. وغاية ما أقول أن عبارته عليها مسحة من المبالغة الشرقية التي لا مصداق لها سوى الخيال. أنا لا أحب المناظرة لأنني أعتقد أن تولع الشرقيين بها قد أوجب ما نراهم عليه من التقهقر والانحطاط. ولكنني لا يسعني أن أمر على هذه الكلمة بدون احتجاج ولو كانت من غيره لكانت مما لا يؤبه له ولا يعتد به أما وقد صدرت من فاضل مشهور بالتدقيق والتحقيق ومعروف بسعة الاطلاع وكثرة التنقيب فليس له أن يرسل القول جزافاً دون أن يعززه بدليل أو بشبه دليل.
وقال ابن البطريق القبطي أن المقوقس اجتمع مع عمرو بن العاص على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر من أعلاها إلى أسفلها من القبط دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ الحلم وليس على الشيخ الفاني ولا على الصبي الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النهى شيء وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة ممن بلغ منهم فكان جميع من أحصي ستة آلاف ألف إنسان فكانت فريضتهم إثني عشر ألف ألف دينار وفرض عليهم هذين الدينارين ودفع ذلك عن رقابهم بالأيمان المؤكدة.(32/12)
وقد أجمع المؤرخون من المسلمين وغير المسلمين على أن رجال مصر البالغين لم يزيدوا في ذلك العهد عن ستة ملايين. وليس يصح في الأحلام أن يقال أن النساء والأطفال والشيوخ الفانين كان عددهم أربعة وعشرين مليوناً أي أربعة أضعاف هذا العدد. وأنا أقول أن الأقباط أهل ذمة ووفاء فلا يصخ أن يقال أن دلسوا في الحساب وخانوا في الإحصاء فضلاً عن قيام العرب عليهم لأن مصلحة الفاتحين كانت تقضي بزيادة عدد الرؤوس لتتضاعف لهم الأموال وتبلغ الجزية ستين مليوناً من الدنانير بدلاً من اثني عشر ألف ألف دينار.
فنحن اليوم في عصر النور والتحقيق ويا حبذا لو أننا نربأ بأنفسنا عن تلك المبالغات الشرقية. وسعيد بن البطريق هذا هو قبطي مصري قال المكين أنه تولى بطريركية الأقباط فكان في أيامه شقاق كثير وشر متصل بينه وبين شعبه أدى بمحمد بن طغج صاحب مصر إلى إرسال قائد من قواده إلى تنيس فخيم على الكنائس وما بها وكان فيها شيء كثير من الذخائر حتى أن ذهبها وفضتها وزنت بالقبان لكثرتها وعبى القائد جميعها في الأقفاص وتوجه بها إلى مصر فمضى أسقف تنيس على جماعة الكتاب فتوسلوا لدى الأمير سنقر واستقر الرأي على إعادة كل هذه الذخائر في نظير خمسة آلاف دينار فباعوا من الأوقاف والعقارات التي للكنائس بقيمة المبلغ وحملوه إليه وبلغ الأخشيد أن الأسقف باع الأملاك بدون قيمتها فأرسل إلى تنيس وطالب المشترين بفرق الثمن. فلما علموا أن شقاقهم أوجب هذا اصطلحوا واجتمعوا في كنيسة واحدة. كان مولده في يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 263 وفي أول سنة من خلافة القاهر العباسي صار بطريركاً على إسكندرية وسمي أتوشيوس وذلك في 8 صفر سنة 321 وبقي في الكرسي والرئاسة سبع سنين ونصفاً ثم أصابه إسهال بمصر فحدث أنها على موته فصار إلى كرسيه بالإسكندرية وأقام به عدة أيام عليلاً وتنتح في آخر رجب سنة 328.
والبطريرك تعريب للفظ رومي معناه أبو الأسرة أو رب البيت قال المسعودي في كتاب التنبيه والإشراف أنه بالرومية بطرياركس تفسيره رئيس الآباء ثم خفف وقد سماه المسعودي والإسلاميون بطريرخ ثم بطريرك ثم خفف في الاستعمال فصرنا نقول بطرك ونكتبها بطريرك كما نقول جنبية ونكتب جنباواي وكانوا يكتبون جنبويه وكما نقول أبشيه(32/13)
وأبشاي ونكتب أبشواي وكانوا قبلنا يكتبون أبشويه وكما نقول بيه ونكتب بك وهكذا. وأما البطريق فهو تعريف للفظة رومية هي كما جاء في دائرة المعارف البستانية فإن لفظة هي خاصة بفريق الأعيان عند الرومان أهل رومية وأما فهي عنوان على المتقلد بوظيفة كبرى في الإدارة أو في العسكرية عند الروم أهل القسطنطينية وهم الذين كان لهم بالعرب اشتباك واختلاط وعنهم عربوا هذه الكلمة بلفظة البطريق. وإن كانت اللفظتان مشتقتين من مادة واحدة لكن الاصطلاح لم يكن واحداً عند الأمتين. فإذا جمعوا اسم أصحاب الوظيفة الدينية فقالوا بطاركة وإذا جمعوا اسم أصحاب الوظيفة المدنية أو العسكرية قالوا البطارقة. وقد يخلطون بينهما في الجمع كما قال المستهترون بحقيقة الألفاظ المعربة اسم أعجمي إلعب به كيف شئت.
وقد كان ابن البطريق صاحبنا معاصراً للإمام المسعودي وصديقاً له وقد اجتمعا معاً بالفسطاط. وقال في التنبيه والإشراف ما نصه: وأحسن كتاب رأيته للملكية في تاريخ الملوك والأنبياء والأمم والبلدان وغير ذلك كتاب محبوب بن قسطنيطين المنبجي وكتاب سعيد بن البطريق المعروف بابن الفراس المصري بطريرك كرسي مارقس بالإسكندرية وقد شاهدناه بفسطاط مصر انتهى تصنيفه إلى خلافة الراضي. وقد اشتهر بين المسلمين كثير من النصارى بهذا الاسم فأولهم ابن بطريق النصراني الذي كان أمين سر سليمان بن عبد المكل الخليفة الأموي بدمشق. كما كان سرجون بن منصور الرومي النصراني أمين سر من قبله للخلائف معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم. وكان في أيام أبي الدوانيق المنصور العباسي رجل اسمه البطريق أمره بنقل أشياء من الكتب القديمة. واشتهر في أيام المأمون رجل اسمه يحيى بن البطريق كان في جملة الحسن بن سهل وتحت رعايته وكان لا يعرف العربية حق معرفتها ولا اليونانية وإنما كان عليماً باللغة اللاتينية وهو من جملة الوفد الذي أرسله المأمون إلى ملك الروم عندما غلبه واستظهر عليه وتوالت بينهما المراسلات فكتب غليه المأمون يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلاد الروم فأجاب الملك إلى ذلك بعد امتناع فأخرج لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر ومسلمة (سلم صاحب بيت الحكمة) وغيرهم فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل وقيل أن صاحبنا يوحنا بن ماسويه(32/14)
الذي وصف أحسن دواء لأوجاع المعدة كان من جملة ذلك الوفد. وقد نقل ابن البطريق هذا واسمه يحيى من مؤلفات أرسطوطاليس إلى العربي كتاب السماء والعالم وهو في أربع مقالات وكتبا لحيوان وهو تسع عشرة مقالة ولخص جوامع كتابه في النفس وصله في ثلاث مقالات ثم نقل إلى العربي أيضاً كتاب البرسام للاسكندروس الطبيب الذي كان قبل جالينوس. وقد أرسله المأمون في مهمة أخرى للبحث عن كتاب لأرسطو. وعندي نسخة من كتاب بخط اليد عنوانه كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار وهو من الكتب المنسوبة لأرسطو وقد ترجمه ابن البطريق هذا على اللغة العربية وإليكم ما قاله في مقدمته مخاطباً المأمون:
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر
أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين وأيده على حماية الدين والرعاية لأحوال المسلمين فإن عبده امتثل أمره والتزم ما حده عن كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار الذي ألفه الفيلسوف الحكيم الفاضل أرسطو طاليس لتلميذه الملك الأعظم الإسكندر المعروف بذي القرنين حتى كبر سنه وضعفت قوته عن الغزو معه. وكان الإسكندر استوزره واصطفاه لما كان عليه من صحة الرأي واتساع العلم وقوة الفهم وتفرده بالخلال السنية والسياسة المرضية والعلوم الإلهية مع التمسك بالورع والتقى والتواضع وحب العدل وإيثار الضمير. . . فلم يدع الترجمان يحيى بن البطريق هيكلاً من الهياكل التي أودعت الحكماء فيها أسرارها إلا وأتاه ولا عظيماً من عظماء الرهبان الذين لطفوا (انقطعوا) لمعرفتها إلا أتاه وقصده وانتحاه حتى وصل هيكل عبدة الشمس الذي كان بناه هرميس الأكبر لنفسه فظفر فيه بناسك مترهب ذي علم بارع وفهم ثاقب فتلطف به واستنزله وأعمل الحيلة حتى أباح له المصاحف المودعة فيه فوجد في جملتها الكتاب المطلوب الذي كان أمره أمير المؤمنين بطلبه مكتوباً في رق مصبوغ بالفرفير بالذهب المحلول منقوطاً بالفضة البيضاء المحلولة. فرجع إلى الحضرة المنصورة ظافراً بالمراد. فسعى بعون الله وبسعد أمير المؤمنين وجدّ في ترجمته ونقله من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي.
أفرأيتم كيف تطرق بنا الحديث والحديث ذو شجون من ابن البطريق المصري إلى سميه البغدادي إلى الخليفة المأمون. وهل علمتم أن هذا الخليفة ورد على وادي النيل وكان له في(32/15)
رحلته بها شؤون يا لها من شؤون.
ففي سنة 217 هجرية وقع أمران عظيمان اضطرب لهما بال المأمون ولم ير في أحد من أهله ولا من ذوي عمله الكفاءة لهما فندب نفسه وعزم على الخروج من بغداد. وذلك أن ملك الروم كتب إليه يسأله الموادعة والمهادنة وبدأ في كتابه بنفسه وكانت قد حصلت بمصر فتنة عظيمة واضطرب أمرها. فعزم المأمون على الخروج لغزو ملك الروم ولإصلاح ذات البين بمصر. فأمر بعقد الألوية السود وهي شعار بني العباس كما تعلمون (ونقول بهذه أن بني العباس كان لهم لوآان فابيض يعقدونه لمن يولونه الأعمال والحكومات وأما الأسود فهو خاص يعقدونه لولاية العهد على الخلافة) ثم أمر بجمع المسودة وهم جيوش بني العباس وشعارهم السواد.
وقبل أن أسوق إليكم الحديث عما جمعته من شوارد هذه الرحلة العجيبة أخركم يا بني أمي ويا بني عمي بأمر هو من باب تحصيل الحاصل فأنتم تعلمون جميعاً أن أهل مصر عموماً يهيمون بالبصل غراماً تستوي في ذلك الطائفتان الصغرى والكبرى، بل إن بني إسرائيل حينما هاموا في التيه ولم يجدوا عن البصل من بديل ولم يعثروا على شبيه حردوا على موسى الكليم. وبما أننا سنحضر ركاب المأمون فلا بأس من ذكر نادرة من نوادره الكثيرة في إكرامه للعلماء حتى ولو كانوا ممن يأكلون البصل والثوم ويشربون النبيذ ويقومون للحنزير الحنيذ.
فقد كان بلغه قبل ذلك أن الشيخ كلثوم بن عمرو العتابي قد توفي ثم بلغه أنه لا يزال على قيد الحياة وهو من أكابر الشعراء المرسلين وأفاضل البلغاء المطبوعين فأرسل إليه لينادمه قبل سفره حتى لا تفوته مجالسته إذا مات الرجل وهو في الغزاة أو في مصر فلما دخل عليه أدناه وقربه حتى قرب فقبل العتابي يده ثم أمره بالجلوس فجلس وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي نديم الخلفاء ونادرة زمانه حاضراً فقال له المأمون: بلغتني وفاتك فساءتني ثم بلغتني وفادتك فسرتني. فقال العتابي: يا أمير المؤمنين لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتاها فضلاً وإنعاماً وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية ولا يبسط لسواه أمل لأنه لا دين إلا بك ولا دنيا غلا معك. فقال له: سلني. فقال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسؤال. فوصله صلات سنية وبلغ به التقديم والإكرام أعلى(32/16)
محل. ثم أقبل عليه يسائله عن حاله وهو يجيبه بلسان ذلق طلق فاستظرفه المأمون وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح فظن العتابي وكان شيخاً جليلاً نبيلاً أنه استخف به. فقال: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس. وهذا مثل مشهور ولكن المأمون اشتبه عليه قول الرجل فنظر إلى نديمه إسحاق مستفهماً فأومأ إليه وغمزه على معناه حتى فهم. فقال: يا غلام ألف دينار. فأتى بالذهب وصبه بين يدي الأديب. ثم أخذوا في المفاوضة والحديث وغمز المأمون إسحاق بن إبراهيم الموصلي عليه فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه إسحاق وزاد عليه. وبقي العتابي يزداد عجبه من إسحاق حتى لم يطق صبراً. فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه؟ فقال: نعم. فقال: يا شيخ من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من الناس واسمي كل بصل فتبسم العتابي وقال: أما النسبة فمعروفة وأما الاسم فمنكر. وما كل بصل من الأسماء؟ فقال إسحاق: ما أقل إنصافك! أتنكر أن يكون اسمي كل بصل واسمك كل ثوم وكل ثوم من السماء؟ أو ليس البصل أطيب من الثوم. فقال كلثوم العتابي: لله درك فما أحجك! يا أمير المؤمنين ما رأيت كالشيخ قط. أتاذن لي في صلته بما وصلتني به فقد والله غلبني. فقال المأمون: بل ذلك موفر عليك فنأمر له بمثله. فقال إسحاق: أما إذا قررت بهذه فتوهمني تجدني. قال: ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره من العراق ويعرف بابن الموصلي. قال: أنا حيث ظننت فأقبل العتابي عليه بالتحية والسلام فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا قد اتفقتما على المودة فانصرفا سالمين.
وخرج المأمون من بغداد بجيوشه وجحافله حتى دخل بلاد الروم غازياً لينتقم من ملكها الذي قدم نفسه عليه في المخاطبة وهنالك تناهت إليه الأخبار باستفحال الثورة في مصر وتعاظم الخطب وتفاقم الأمر حتى خرج أهلها من مسلمين وأقباط عن طاعة الخليفة لما نابهم على السوء من ظلم عامله عليهم وهو عيس بن منصور الرافعي. فامتنع المصريون كافة عن وزن الخراج وطردوا العمال. فترك الجنود ببلاد الروم لمحاصرة القلاع وتتميم الغزوة وسأتبعه في طريقه خطوة خطوة وأذكر ما فعله ببلادنا لخير الأقباط والمسلمين وما أبقاه فيها من المآثر التي دوى ذكرها وطمس خبرها وتنوسي أمرها على أن يخرج من وادي النيل مرموقاً بالعيون مشيعاً بالقلوب محموداً من جميع الشعوب.(32/17)
ذهب المأمون إلى الشام فاشتاق للمنادمة فطلب رجلاً شامياً لمجانسته ومحادثته فأدخل له خواصه أديباً منهم وقالوا له: يا شامي أنت داخل على أمير المؤمنين فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك فإننا أعرق الناس بمسألتكم يا أهل الشام. فقال: لا أتجاوز أمركم. فلما استدناه المأمون وكان على شغله من الشراب قال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثتي فقال الشامي: يا أمير المؤمنين إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة فأمر له بخلعة. فداخل الذي أدخله غضاضة ورعدة شديدة من هذا التهجم. فلما لبس الشامي الخلعة ورجع إلى مجلسه قال يا أمير المؤمنين: إن قلبي إذا كان متعلقاً بعيالي لم تنتفع بمحادثتي. قال الخليفة: احملوا إلى منزله خمسين ألفاً. فقال الشامي ولي عليك يا أمير المؤمنين خصلة ثالثة أرجو أن تنعم بها أيضاً. قال: وما هي؟ قال قد دعوت بشيء يجول بين المرء وعقله فإن كانت مني هنة فأغتفرها. قال: حباً وكرامة. فكانت الثالثة برداً وسلاماً على الذين أدخلوه وعجبوا من حلم المأمون وكرمه.
وقد اغتنم الخليفة فرصة وجوده بالشام لتحقيق مقدار السنة الشمسية فرصد ذلك بدار الرصد بدمشق المعروف بالشماسة وكانت له دار رصد أخرى ببغداد.
فلما كان في دمشق قل المال عنده حتى أضاق فشكا ذلك لأخيه المعتصم الذي تولى الخلافة بعده وكان المعتصم قد ورده خبر بأن ثلاثين أل ألف قد حملت إليه من خراج الأعمال التي يتولاها للمأمون فقال له: يا أمير المؤمنين كأنك بالمال قد وافاك بعد جمعة. فلما ورد خرج المأمون والقاضي يحيى ووجوه خاصته وسائر الناس لاستشرافه فوردت الصناديق محمولة على أباعر بأحلاس موشاة وجلال مزوقة وعليها شقق الحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر فكان منظرها يروق العيون ويأخذ بمجامع القلوب فضلاً عن العجب بما عليها من الذهب. فقال المأمون ليحي: هل يصح أن ينصرف أصحابنا هؤلاء خائبين على منازلهم وننصرف نحن بهذه الأموال قد تمسكناها دونهم إنا إذا للئام. ثم دعا كاتبه فقال: وقع لآل فلان بألف ألف ولآلا فلان بمثلها ولآل فلان بخمسمائة ألف وما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألفاً ورجله في الركاب ثم أمر بدفع الباقي للجند. وكان رجل من الكتاب حاضراً وهو العيشي صاحب إبي إصحاق النديم فأخذ ينظر للمأمون ولا يرد طرفه عنه بحيث كان الخليفة لا يحول نظره إلى جهة ولا يلتفت إلى شيء إلا وقعت عينه عليه فقال لكاتبه وقع(32/18)
لهذا بخمسين ألف من الستة آلاف الألف لا يختلس ناظري.
ثم أتى مصر فكان كلما دخل قرية أو مدينة ينزل على دكة قد بنيت لأجله ليكون مقامة مرتفعاً عن رطوبة الأرض فتضرب له على الدكة قبة بسرادق عظيم وتقيم العساكر حوله وكان يقيم في القرية يوماً وليلة فجاء عن طريق الفرما وفيها حضره الشعر فقال:
لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسدما
والسدم هو الهم مع الندم والحزن والغيظ والميدان موضع ببغداد اسم لبلد بكورة سابور من أعمال فارس ولا شك أنه تفكر أثناء وجوده بها في فتح قنال السويس الموجود فقد روى أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الشطيبي (كذا) الأندلسي وقيل شهاب الدين أحمد المقري الفاسي في كتاب الجمان في مختصر أخبار الزمان المحفوظ منه نسخ متعددة بمكتبة باريس الأهلية أنه سعى في توصيل البحر الأحمر (بحر القلزم) بالبحر البيض المتوسط (بحر الروم) ولكنهم صرفوه عن هذه العزيمة خوفاً من الروم على مكة والمدينة كما خوفوا عمر بن الخطاب من قبله وهو أول من فكر في ذلك في الإسلام. ومر على دمياط ونزل عند قرية صغيرة اسمها بوره (وهي التي تنسب إليها العمائم البورية والسمك البوري وقد انحلت هذه العمائم باندثار القرية ولا يزال السمك باقياً يستطيبه المصريون إلى اليوم) فدخل عليه بكام القبطي من أهلها وكان ذا ثروة واسعة فخطب من المأمون عمارة بورة فقال له أسلم فتكون مولاي وأوليك فقال بكام: لأمير المؤمنين عشرة آلاف مولى مسلم أفلا يكون له مولى نصراني. فضحك منه المأمون وولاه عمالة بورة وما حولها. فبنى الرجل بها كنائس كثيرة حساناً وكان على باب داره المسجد الجامع فقال لأهل بورة من المسلمين أنا أبني لكم مسجداً جامعاً غير هذا واهدموا هذا المسجد من على باب داري فقالوا له ابن المسجد ونحن نصلي في هذا حتى إذا فرغت من بنيان ذاك صلينا به وهدمنا هذا المسجد. فبنى مسجداً كبيراً حسناً فلما فرغ منه ثقال لهم: فوالي بما وعدتموني فقالوا لا يجوز لنا في ديننا أن نهدم مسجداً قد صلينا فيه وأذنا وجمعنا فبقي المسجد على حالة وصار في بورة مسجدان تقام فيهما الجمعة فكان المسلمون يصلون جمعة في هذا وجمعة في ذاك. وكان بكام في يوم الجمعة يلبس السواد شعار بني العباس ويتقلد السيف والمنطقة ويركب برذوناً وبين(32/19)
يديه أصحابه فإذا بلغ المسجد وقف ودخل خليفته وكان مسلماً فيصلي بالناس ويخطب باسم الخليفة. ثم استمر الخليفة في سيره حتى جاء إلى قرية حقيرة فلم ينزل بها وهي طا النمل من مديرية الدقهلية وقد حرفنا اسمها تبعاً لأهلها فصار المشهور الآن (طنامل) وهما قريتان إحداهما شرقية والأخرى غربية وكلتاهما تبعدان عن مدينة المنصورة نحو ثلاث ساعات ولم تكن المنصورة موجودة في عهد المأمون لأن بناءها كان بعد ذلك في أيام الملك الكامل الأيوبي أثناء هجمات الصليبيين على مصر. فلما مر على القرية لم يدخلها لحقارتها فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح. فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف لها وكان لا يمشي أبداً إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس فذكر له ان القبطية قالت: يا أمير المؤمنين نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي والقبط تعيرني بذلك، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ولعقبي ولا تشمت الأعداء بي. وبكت بكاءً كثيراً فرق لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله: كم تحتاج منم الغنم والدجاج والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة وغير ذلك مما جرت به العادة. فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة. وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن أبي داؤد فأحضرت القبطية لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ولم تكل أحداً منهم ولا من القواد إلى غيره. ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئاً كثيراً حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشرة وصائف مع كل وصيفة طبق فلما عاينها المأمون من بعد قال لمن حضر: قد جاءتكم القبطية بهدية الريف: الكامخ والصحناه والصير فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب. فاستحسن ذلك ومرها بإعادته. فقالت لاوالله لا أفعل. فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله. فقال: هذه والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك فقالت يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا فقال: إن في بعض ما صنعت كفاية ولا نحب التثقيل عليكي فردي مالك بارك الله فيك فأخذت قطعة من الأرض وقالت يا أمير المؤمنين هذا (واشارت للذهب) من هذا (واشارت للطين) ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها وقطعها(32/20)
ضياع وأعطاها من قريتها طا النمل مائتي فدان بغير خراج وانصرف متعجباً من كثرة مروءتها وسعة حالها.
ثم سار حتى وصل الفسطاط عن طريق المطرية وعين شمس متبعاً في ذلك خط السير الذي اتبعه الجيش الإسلامي مع عمرو بن العاص في أيام الفتح في سنة 20 هجرية فدخل الفسطاط يوم الجمعة 9 المحرم سنة 217 وكانت قد بنيت له قبة على الجبل المقطم فنزل فيها وكانت تسمى قبة الهواء وكان مع المأمون فراشون من النصارى فبعدت عليهم الكنائس التي في القصر فاستأذنوا المأمون في بناء كنيسة يصلون بها تكون بالقرب من قبة الهواء فإذن لهم فبنوا من فضلات قبة الهواء كنيسة مرتمريم التي في القنطرة وهي التي عرفت في ما بعد بكنيسة الروم.
وفي أثناء إقامته في الفسطاط أرسل ملك النوبة وفداً إلى المأمون ذكروا عنه أن ناساً من مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم لمن جاورهم من أهل أسوان وأنها ضياعه والقوم عبيده ولا أملاك لهم وإنما تملكهم على هذه تملك العبيد العاملين فيها فحول المأمون على عامله بأسوان تحقيق هذه المسألة وأمره بالاستئناس بمعلومات من بها من الشيوخ وأهل العلم فوصل الخبر إلى أهل أسوان الذين اشتروا تلك الضياع وعلموا أن عدل المأمون سينزعها من ايديهم ويردها على صاحبها فأعملوا الحيلة حتى لا يضيع عليهم الثمن الذي دفعوه وتذهب عليهم الأعيان التي تملكوها فتقدموا إلى البائعين من أهل النوبة واتفقوا معهم على أنهم إذا أحضرهم الحاكم المولى من قبل المأمون يقولون بأنهم ليسوا عبيداً لملك النوبة وأن يقولوا بحضرته وبحضرة الشيوخ والشهود والعدول: سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم مع ملككم ويجب علينا طاعته وترك المخالفة له فإن كنتم أنتم عبيداً لملككم وأموالكم له فنحن كذلك. فلما جمع حاكم أسوان بين البائعين وبين رسول ملك النوبة والنائب عنه في هذه القضية المهمة اعتمدوا على هذه الحجج ونحوها مما لقنها لهم أصحاب الحظ والمصلحة في ثبوت البيع ونفاذه فصح البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم.
هذا وقد أنشأ المأمون أثناء مقامه بمصر جسراً (كوبرياً) يصل بين مصر القديمة وبين جزيرة الروضة وانتقل إلى المنيل فأعجبته هذه الجزيرة الجميلة فبنى بها جامعاً ومقياساً كما ذكره عبد الرشيد صالح بن نوري الباكوبي المولود في مدينة باكو من بلاد الروسيا(32/21)
وهو من أعيان القرن التاسع للهجرة في كتابه المسمى بتلخيص الآثار في عجائب الأقطار المحفوظ منه نسختان في مكتبة باريس الأهلية ولم يتم هذا المقياس في أيام المأمون فأتمه المتوكل العباسي وهو الباقي إلى اليوم. وقد كان القبط يتولون مقاييس النيل إلى أيام المتوكل في سنة 247 فتولاه المسلمون بعد تمام مقياس الروضة وأولهم أبو الرداد المعلم الذي كان مؤذناً في جامع عمرو يعلم الصبيان القرآن واستمرت هذه الوظيفة في ذريته حتى سنة 938 ويقول الموكلون به في أيامنا هذه أنهم من عقبة.
ثم عدا المأمون إلى بر الجيزة وذهب إلى الأهرام. قال شيخ الربوة الصوفي الدمشقي في كتاب نخبة الدهر في عجائب البر والبحر المطبوع في بطرسبورغ ما نصه: ولم تزل همم الملوك قاصرة عن تعرف ما في هذين الهرمين إلى أن ولي المأمون الخلافة وورد مصر فأمر بفتح واحد ففتح بعد عناء طويل واتفقن له لسعده المعين على تحصيل عرضه أن فتح في مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب فانتهى بهم الطريق إلى موضع مربع في وسطه حوض من رخام مغطى بالكف عما سواه. ويا ليت لو كان أمر بفتح هرمين أو ثلاثة من الأهرام الصغار المبثوثة فيرهما لكي يبين الأمر جلياً له وللناس.
وروى المقريزي عن صاحب تحفة الألباب أن المأمون أصعد بعضهم لتعرف ما بداخله وبعضهم لذرعه من الخارج.
فأفضى الذين صعدوا إلى القبة التي في أعلى الهرم من الداخل إلى قبة صغيرة فيها صورة آدمي من حجر أخضر كالدهنج فأخرجت على المأمون فإذا هي منطبقة فلما فتحت وجد فيها جسد آدمي عليه درع من الذهب مزين بأنواع الجواهر وعليه حلة من ذهب قد بليت ولم يبق منها سوى سلوكها من الذهب وكان على هذه الموميا طلاء بمقدار شبر من المر والصبر وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له وعند رأسه حجر ياقوت أحمر كبيضة الدجاجة يضيء كلهب النار فأخذه المأمون وقال هذا خير من خراج الذهب. وقال كثير من المؤرخين أن هذا التمثال الأخضر لم يزل معلقاً عند دار الملك بمدينة مصر إلى سنة 611 هجرية.
أما الذين صعدوا فوقه فقد انتهوا إلى قمته بعد ثلاث ساعات فوجدوا رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال. وبناءً على أمر أمير المؤمنين أرسلوا إلى أسفله حبلاً فكان طوله ألف ذراع(32/22)
بالذراع الملكي وهو ذراع وخمسان.
وقد قاس المأمون تربيع الهرم فكان أربعمائة ذراع في مثلها. ولقد أجمع مؤرخو العرب على أن المأمون توصل إلى فتح هذا النقب الموجود إلى يومنا هذا بعد جهد شديد وعناء طويل فكان بداخله مهاوي ومراقي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها وأن النفقة على نقبه كانت عظيمة والمؤونة شديدة.
هذه هي الحقيقة التاريخية مجردة من المبالغات الشرقية. ولما كان أمر الأهرام قد بقي مكتوماً على الخاص والعام حتى فتحه المأمون فلا غرابة إذا رأينا أهل الشرق وهم مغرمون بالأوهام شطحوا مع تيار الخيال فلفقوا على ذلك أقاصيص وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان ولكنها لعمر الحق فيها عبرة وحكمة كبيرة لقوم يفقهون. ذلك أن كتاب العرب أرشدوا أرباب الألباب إلى أن السعيد بن السعيد هو الذي يتوصل للعثور على ما يوازي نفقته عند تطلبه الكنوز والدفائن ولذلك قالوا بأن المأمون وجد وراء الباب حوضاً من حجر مغطى بلوح من رخام وهو مملوء بالذهب وقالوا أن المأمون أمر بحسبان ما صرف على النقب فبلغ قدر ما وجد في الحوض من غير زيادة ولا نقص.
ولعل هذا الرمز البديع يكون راجعاً لمن ينفق العمر والمال في تطلب الدفائن والكنوز والمطالب والخبايا فليس لكل الناس سعد كسعد المأمون وقد رأيناهم جميعاً يعودون بصفقة المغبون فلعلهم بعد هذا البيان يفكرون ويتدبرون ويسعون لاكتساب المال من طريقه المشروع وسبيله المأمون.
ثم توجه المأمون إلى الصعيد فأحل ركابه بمنف حضره الشعر في الحال فقال على سبيل الارتجال:
سألت أطلال مصر ... عن عين شمس ومنف
فما أحارت جواباً ... ولا أجابت بحرف
وفي السكوت جواب ... لذي الفطانة يكفي
ثم استمر حتى وصل إلى مدينة فقط من أعمال الصعيد بمديرية قنا. ومن لفظة فقط اشتق اسم القبط. ومنه أخذ الروم لفظة إيجيبتوس للدلالة على مصر والمصريين.(32/23)
اتقاء الشقاء
نشر المسيو نوفيكوف العالم الاجتماعي الروسي هذا الشهر كتاباً سماهالظواهر الاقتصادية والطبيعية ومسألة شقاء الناس قال في بعض فصوله أن أمر بؤس البائسين وغنى الموسرين قد شغل بال كثيرين وهي من المسائل المعقدة ذات الأطراف والتضاعيف. فيرى بعضهم أن الشقاء من الأمور الطبيعية كالفيضانات والزلازل وقلة الأمطار وأن من يحاول إبطاله من لاعالم كالذي يتخيل أن يجري أنهاراً من اللبن ويغرس أشجاراً تأتي بأرغفة من العجين مخبوزة. ومنهم من يقول أنه ليس ثمت شقاء على حين تثبت الإحصائيات أن تسعة أعشار الناس لا يأكلون عندما تطلب معدهم الأكل أو هم فقراء مقتر عليهم في أرزاقهم ويرى بعض أرباب الأديان أن الشقاء أمر تقضي به المشيئة الربانية ولكنهم لم يستطيعوا أن يدعوا أن الشقاء حسنة من الحسنات لئلا ينسبوا إلى المولى تعالى الظلم لعباده بل أنهم وقفوا عند حد الجنات التي وعد بها البائسون وأن العالم دار محن وأكدار وغربة لا دار قرار وراحة وأن الحياة الحقيقية السعيدة يتمتع بها المرء بعد وفاه. بيد أن كثيرين من رجال الدين وإن قالوا بأن الشقاء مما يثاب عليه صاحبه إلا أنهم ينعمون ويترفهون يأكلون الأطايب ويسكنون القصور ويلبسون الوشي والديباج ولذلك ما قط منع رجال الدين الناس من السعي في الخلاص من مخالب الشقاء وتحسين معاشهم وتكثير أرزاقهم. وأرى أن الأنفع أن يقضي المرء حياته في هذه الدنيا في رفاهة لأن ذلك لا يمنعه من ممارسة الفضائل ثم إذا كتبت له الجنة يذهب إليها ويتمتع بما وعد فيها من النعيم وهذا خير له من أن يعيش في دنياه شقياً لينعم باله في الآخرة. ولكن من لا يقولون بخلود النفس وعددهم آخذ بالنمو يرون هذه الفلسفة خيالية.
ويرى بعضهم أن الشقاء آت من استئثار بعض أشخاص بأموال طائلة وحرمان الفقير منها وأنه لو كفت أيدي الأغنياء عن احتكار القسم الأعظم من الثروة ولم يحرم منها السواد الأعظم بل قسمت بينه قسمة عادلة لأصبح الناس كلهم في سعة وفارق الشقاء بين بني آدم أخر الدهر. وليس احتكار أولئك الأفراد لثروة المجموع هو الحل الوحيد لهذه المعضلة بل أن الفقر ناشئ على الأرض من قلة الأرزاق اللازمة للحياة وإذا كانت هذه القلة ناشئة من أسباب المحيط والبيئة يصح أن يقال أن البشر في شقاء لأنهم لم يحسنوا استخدام الأرض وتسخيرها لحاجياتهم.(32/24)
لا يبطل البؤس بتقسيم الأموال على السوية لأن تلك الأموال غير كافية لرفع الشقاء كما علم بالإحصاء فقد تبين بأنه إذا حجزت جميع الأرباح والمداخيل التي تزيد عن خمسة آلاف ليرة لتوزع على من تقل مداخيلهم عن هذه القيمة لا تزيد مداخيلهم أكثر من 12 بالمئة عما هي عليه الآن ولذلك اقتضى زيادة الثروة عشرة أضعاف ما هي عليه اليوم لإنقاذ البائسين من بؤسهم ونحسهم. ولعمري أي رفاهية ينالها العامل الذي يربح الآن ثمانية قروش في يومه إذا صار يربح تسعة وهل بهذا القرش يكون مرفهاً من أهل الطبقة الوسطى؟ وبعد فلا سبيل إلى حل المسألة الاجتماعية لا بزيادة الأرباح ألفاً في المئة والسبب الثاني في سقوط دعوى من يدعون بأن في تقسيم ثروة الأغنياء تفريجاً لكربة البائسين أن ثروة الأغنياء ليست بحراً لا ينضب وبراً لأحد له فلو فرضنا أن مورغان المثري الأمريكي له دخل سنوي قدره 38 مليون فرنك ووزعه على أهل الولايات المتحدة لما أصاب الفرد سوى فرنك على أن هذا الغني لا يتأتى له أن يوزع على أهل بلده هذا القدر من الملايين إذا صودرت أمواله في السنة السابقة. وهكذا العمل بجميع الثروة فإنها إذا حجزت دفعة واحدة ووزعت دفعة واحدة لا يكون منها دواء مسكن لهذا الجرح المؤلم إلا مؤقتاً لما عرف من أن مطالب الحياة غير متناهية وغنى يوم لا يعد غنى لأيام.
ويغلط الاشتراكيون في خلطهم بين الثروة والمال وما الثروة إلا نتيجة تغيير المحيط بأن يقوم عمل الإنسان على قاعدة معقولة. وجمهور الناس يخطئون في تصورهم الثروة أنها ليرات وجنيهات موضوعة في صناديق أرباب المال فكما أن هذه النقود لا تحتاج إلى التجديد كل سنة وكما أنها كمية معروفة لا يمكن زيادتها يتوهم الناس أن الثروة كذلك وأنها إذا حصلت في اليد تبقى أبد الدهر. الثروة مؤلفة من بعض الوجوه من مجموع الغلات التي جعلت في الأسواق وينبغي أن تستخرج على الدوام من المحيط الطبيعي. لنفرض أن محصول القطن في سنة بلغ 12 مليار كيلو وأن هذه الكمية تسد حاجة البسر فليس هذا بشيء بل يقتضي أن تغل السنة التالية مثل هذه الكمية لأن محصول السنة السابقة قد استهلك وفني ولنفرض بأن في الإمكان توزيع الغلات على مساواة غلات السنة السالفة فإن مسألة الثروة العامة لا تنحل أيضاً إذ يلزم إعداد كمية مثلها للسنة التالية ولكن إذا لم يجر تقسيم السنة الماضية بحسب أدق قواعد العدل ومن غير أقل شدة تقل غلة السنة التالية(32/25)
ويعدو الشقاء فيبدي نواجذه.
وما المسألة في الحقيقة متوقفة على توزيع الأموال بين الناس بل أن المسألة آتية من عدم كفاية ما تنتج الأرض من الضرورات ولو غلت ما يسد عوز الناس لما عادت الغلات تساوي شيئاً بل تصبح إذ ذاك كالماء في الأنهار والحصا في شواطئ البحار. وعلى ذلك فالواجب أن نحسب ما ينبغي لنا من بر وأرز ولحم وقطن وغير ذلك لنضع ميزانية مدققة لموارد البشر وهذا لا يتيسر الآن في دور الفوضى والطفولة الذي نحن فيه. ويؤخذ من أحدث الإحصائيات أن على الحنطة سنة 1907 بلغت 1086 مليون هكتو لتر موزونها 87 مليار كيلو وإذا فرضنا أن في كل هيكتو لتر 80 غراماً فلو فرضنا كل إنسان يحتاج لغذائه إلى مائتي كيلو في السنة لاقتضى لنا ثلاثمائة مليار كيلو في السنة. وبهذا ترى أن على الحنطة أقل مما يلزم بثلاثة أضعاف. ولعلك تقول أن بعض الشعوب تتغذى بالجاودار والذرة والأرز والمانيوك (شجيرة في أميركا يستخرج من جذعها دقيق مغذ) والموز وغيره ولكن تلك الشعوب لو تيسرت لها الحنطة ما اتخذت عنها بديلاًُ ولو اعتبرنا شعوب أوروبا وأميركا وحدها وهم نحو ستمائة مليون نسمة لاقتضى لهم على هذا المعدل 120 مليار كيلو مع أن محصول الحنطة في العالم 87.
وهكذا في سائر لوازم الحياة فالسكر مثلاًُ لا يحصل منه إلا على نحو 12 مليون كيلو في السنة ويقتضي 50 كيلوغراماًَ في السنة لكل إنسان تمكنه حالته من استعماله أي أنه يقتضي للبشر 75 مليار كيلو منها لأوروبا وحدها 30 ملياراً. فما لدينا من السكر لا يكفي سدس البشر إذا حسبنا مجموعهم وإذا حسبنا أهل أوروبا فعندهم ثلث ما يلزمهم منه.
ثم أن محصول القطن في العالم أربعة مليارات كيلو فتجد من مليار وخمسمائة مليون نسمة وهم سكان الأرض خمسمائة مليون مكتسون كسوة تامة و75 مليوناً نصف كسوة و250 مليوناً عراة بالمرة. ولكي نكسو البشر عامة يقتضي تسعة مليارات وخمسمائة مليون كيلو من القطن. ومتى تأملنا أن القطن لا يستعمل فقط في الثياب بل أنه يدخل في ألف صنف من الحاجيات المنزلية والصناعية يسوغ لنا أن نحكم بأن محصوله غير كاف وربما لا يبلغ ثلث ما ينبغي لنا منه. وهكذا لو نظرت في جميع المواد اللازمة لجاء الحساب بمثل هذه النتيجة.(32/26)
وتدل الإحصاآت أن 401 من كل ألف ألماني يربح الفرد منهم 246 فرنكاً في السنة و538 يربحون 345 و48 يربحون 1120 و13 يربحون زهاء 3476 و93 في المئة من النمساويين يربحون أقل من 1266 فرنكاً في السنة. ويبلغ معدل ميزانية الأسرة الموسع عليها في رزقها 1150 فرنكاً في السنة هذا ووربا بالنسبة لسائر الكرة تعد غنية فقد حسبوا دخل الهندي فكان سبعة سنتيمات في اليوم على حين يحتاج إلى مائتي فرنك لمعاشة في السنة على أقل تعديل وهو لا يربح فيها إلا 23 والحال في الصين أتعس وأنحس فلو عدلنا بين ثروة الفرد في البلاد الغنية كالولايات المتحدة مثلاً والبلاد الفقيرة كالصين والهند لا يصيب الأسرة أكثر من ألف فرنك وهذا القدر على قلته في عصر مثل هذا العصر يصعب نيله ولو كان لكل أسرة ألف فرنك في السنة وهو بعيد الحصول لما ساغ لها أن تأكل ما يغذيها فقط دع عنك بقية لوازم الحياة.
وقد انتهت بنا الحال أن صرنا نعد الهواء في هذا العصر إذا كان مباحاً من النعم وكذلك الماء بعد أن أصبح 12 مليون كيلومتر مربع من أصل ثلاثة وثمانين مليوناً محرومة في أوروبا من الهواء وأصبحت تباع زجاجة الماء القراح في كولكاردي في أستراليا الغربية في أول أيام تعدين مناجم الذهب بسبعين سنتيماً وأصبح الماء العذب في باكو على ضفاف بحر الخزر مما يفاخر به ويعد من دواعي الرفاهية. وليست الإنسانية سعيدة بمساكنها أيضاً فالروسي يسكن في كوخ مغطى بالقش أضيق من أفحوص القطا ولو اقتضى له أن يبدل هذا المسكن بمسكن مغطى بالقرميد مصنوعاً بالحديد لوجب على روسيا صرف ستة عشر ملياراً من الفرنكات وهذا لا يتيسر إلا بعد أن تمر الأجيال أثر الأجيال.
وبعد فليس الشقاء حادثاً منن قلة موارد الأرض ولو كان كذلك لما تطالت نفوسنا إلى الخلاص منه وكان علينا كالموت قدراً مقدوراً ولكن الأرض إذا أحسن استخدامها تعطينا عشرة أضعاف ما تعطينا الآن ويعيش الناس في بلهنية وسعادة فإن موارد هذه الكرة لا حد لها إذا عملنا لها عملها كما قال لي اليزة ركلوس الجغرافي الفرنسوي الكبير. فلو أتقنت الطرق الزراعية باستعمال الأسمدة الكيماوية وتطبيق الزراعة على العلم أي بسقيا الأراضي الجافة المياه وتجفيف الأراضي المغمورة بها لأتت الأرض من الغلات والثمرات ما تعد معه غلات اليوم وثمراته مضحكة من حيث كمياتها. هذا وفي الأرض منابع للثروة(32/27)
غير ما ذكرنا ففيها معادن لم تمسسها يد البشر. وإنك لتجد في جبال الأورال بروسيا من المعادن كميات وافرة لم يقم في فكر أحد أن يستخرجها ومثل ذلك في أفريقية وأميركا بحيث يصح أن نقول أن ما استخرج من ركاز الأرض ومناجمها أقل بقليل مما لم يزل مدفوناً في صدرها وبطنها فنحن لسنا في شقاء إلا لسوء تصرفنا في استخراج خيرات الأرض والانتفاع بنعم السماء لأن طريقتنا في أعمالنا ليست موافقة لمصلحتنا ومتى تعلمنا معرفة تطبيق أعمالنا على المصلحة الحقيقية فالشقاء يرحل عن هذه الكرة.
وإذا نظرنا إلى حقيقة الشقاء نراه يرجع إلى ثلاثة أصول رئيسة وهي المصائب الطبيعية والفساد والأحوال الاجتماعية فالأولى وهي من الغرق والشرق والحرق والزلزال وانفجار بركان والموت يمكن تلافي خطرها باقتصاد كل فرد عشرة أو عشرين في المئة من دخله يدخرها لحين الحاجة وبذلك إن لم يرفع عنه ثقل المصيبة فإنه يخففها على الأقل ويأمن تغييرات الفلك وسوء الطالع. والفساد يمكن تلافيه أيضاً كتلافي المصائب الطبيعية بأن يزيد الصالح من عمله قليلاً وينفق ما يفيض منه على أخيه. فرفع المصائب وتخفيف ويلات الفساد هو إذاً مناط بكثرة الإنتاج.
وما الخطأ الذي يحول دون الانتفاع بثمرات الأرض وثروتها إلا ناشئ مما يذهب إليه أكثر الناس من أنه لا يغتني مغتن بسرعة إلا إذا طالت يده لسلب مال أخيه لا بأن هو بنفسه. وهذا الفكر هو الذي جعل السرقة والغش واللصوصية والتعدي والامتياز وبعبارة أوجز جعل الاختلاس نافعاً لمن يأتيه. فإذا قدر للإنسانية أن تنجو من هذا الخطأ الفادح فالرفاهية العامة مضمونة للكافة. وما دام البشر ينظرون إلى الاختلاس على ضروبه بأنه نافع فسوف يبقون في شقاء وعلى العكس يكونون أغنياء سعداء متى اعتبروا الاختلاس ضاراً ومتى زاد التناسب حدة أورث الحياة ضعفاً تاماً أي موتاً. والتناسب بين المخلوقات والمحيط من حيث علم النفس هو الحقيقة وعدم التناسب هو الخطأ. ومن هنا كانت الحقيقة مولدة للاستمتاع والخطأ آتياً بالتألم فالخطأ هو مثل مرض عقلي ونتيجته بالطبع ضعف التركيب النامي إفرادياً كان أو إجماعياً قال بوهن: أليس الذكاء الإنساني الذي يراه كثيرون حاسة من شأنها الإحاطة بالأمور هو الأحرى بأن يكون قلة الكفاءة في إدراك الحقائق وذلك لأن الحيوانات تعرف أموراً قليلة ولكنها تسقط في أمور أقل منا فهي تفوقنا على ما فينا من(32/28)
ذكاء لأنا معشر البشر نعرف أموراً كثيرة ولكننا نخترع نظريات كثيرة حشوها الخطأ والخطل. فحالة الإنسان من بعض الوجوه أتعس من حال الحيوان لأن المصائب الناتجة من سوء تأويل الحوادث أعظم ن المصائب التي يكون منشؤها الجهل مباشرة فكما أن الصحة والمرض أمران متوازيان متعاقبان في هذه الحياة يسيران كنهرين يمزجان مياههما بعضها ببعض هكذا الحياة الطبيعية تمشي مع الحقيقة والباطل كتفاً إلى كتف منذ قرون وسنين وسوف تسير كذلك إلى آخر الأزمان.
والخطأ الأساسي في الاقتصاد أن فكر الاختلاس والنفع المرجو منه هو في الحقيقة روح الشر ويحول دون سعادة البشر فإذا تمكنا من شفاء نفوسنا من هذا المرض العقلي فالمسألة الاجتماعية تنحل لساعتها. ودواء الباطل بالدعوة إلى الحق. فالباطل يشفى لأنا نرى منه جزءاً يضمحل كل يوم بفضل انتشار العلم فلا ينبغي اليأس من القضاء عليه ولا بد من أن يأتي يوم تتغلب فيه الحقائق الاقتصادية على الناس ويرون الاختلاس ضاراً فيجندل الشقاء أبد الدهر.(32/29)
المنازل الرخيصة في الغرب
قال اللورد روزبري: إن من يبعمل لما فيه إنهاض تلك الجماعات من الناس الذي قضي عليهم أن تصفر وجوههم وتذل نفوسهم وتنحط مداركهم في المساكن القذرة التي ينزلونها هو بلا شك عامل على ما فيه نفع الجنس البشري عامة.
ولقد نشأت الفكرة الأولى لإنشاء بيوت العملة حوالي سنة 1810 وزادت حركتها سنة 1835 على يد شركات المناجم بني الحدود الفرنسوية البلجيكية واحتذى أحد أرباب المعامل الألمانية سنة 1835 حذو الشركات الفرنسوية فأنشأ في مولهوس إحدى مدن ألمانيا مسكناً كبيراً في حديقة تشمل على 36 منزلاً فتم عمله على أحسن الأساليب واقتدى به كثير من أهل المقاطعات في الشرق والشمال في فرنسا.
وفي سنة 1851 توسع أحد الفرنسيس في هذا الفكر وأنشأ شركة عمرت لألف ومائتي أسرة ألفاً ومائتي مسكن منفرد بعضها عن بعض ولكل منها حديقة يصبح ساكنها مالكاً لها وللمنزل بعد مدة يدفع ثمنها على نجوم مقررة.
وبدأت إنكلترا في سنتي 1841 و1848 بالاقتداء بالفرنسيس والألمان في هذا السبيل وأنشأت إحدى شركات فرنسا مساكن طيبة للعملة كل منها مؤلف من حديقة وطبقة أرضية ومطبخ وغرفتين وفي الطبقة الثانية ثلاث غرف وبيت مؤونة وقبو ولم يكلف المسكن أكثر من 293 جنيهاً يضاف إلى ذلك ثمن الأرض التي لم يكلف مترها أكثر من خمسة إلى ستة فرنكات وجعلت إيجارها الحقيقي كل سنة 230 فرنكاً أي أقل من فرنك كل يوم عن مسكن يؤوي عائلة مؤلفة من خمسة إلى ستة أشخاص وإذا أراد الساكن أن يملك المسكن في خمس وعشرين سنة يجب عليه أن يؤدي زيادة عن الأجرة 169 فرنكاً فإذا كان الساكن من العملة الذين يربحون في الساعة 60 إلى 80 سنتيماً أي لا أقل من ستة فرنكات في اليوم يتأتى له أن يسكن في مثل هذه الدار ويملكها بعد ذلك إن أراد بتوفير شيء قليل من نفقاته.
وكانت هذه البيوت في ضاحية باريز ولما ارتفعت أسعار الأراضي هناك أحبت الشركات أن تبتعد عن العاصمة أكثر فأصبحت تبني بيوتاً لا يكلف الواحد منها أكثر من خمسة آلاف فرنك. كما أنشأت أيضاً بيوتاً لم تكلفها أكثر من 3200 فرنك وبيوتاً لم تكلفها أكثر من 2800 جعلت إيجار الأخيرة منها 140 فرنكاً في السنة وفيها معظم ما يحتاج إليه من الغرف والمطبخ والأنبار وحديقة لطيفة.(32/30)
وأنشأ الإنكليز بيوتاً رخيصة في جنوبي لندن كما أنشئوا منذ سنة 1867 في شمالي إنكلترا في بعض المدن الصناعية بيوتاً يقل ثمن الواحد منها عن ستة آلاف فرنك جعلوها درجات فالدرجة الأولى لا تتجاوز أجرتها في اليوم فرنكين وهكذا في الدرجة الخامسة. وسكان هذه البيوت أو مستأجروها لا يقبضون في يومهم أكثر من عشرة فرنكات ولا أقل من سبعة. وأقيم في وسط تلك الحدائق التي أنشئت البيوت عليها منتزه عام تكون فيه الاجتماعات وتقام فيه الشعائر الدينية وخصص محل منه للسماع والمراقص والمجامع وفي جانب ذلك خزانة كتب عامة وغرفة كبرى للمطالعة وغرف للعب البلياردو وحذا حذو هذه الشركات كثير غيرها في جميع الأقطار الإنكليزية وبعضها يدفع نحو خمسة في المائة فائدة الأموال التي يستخدمها في هذا السبيل. قال اللورد بيكنسفيلد سنة 1874 عندما رأى حياً من تلك الأحياء التي أنشأتها إحدى الشركات ليقيم فيها العملة: إنني لم أشعر في حياتي بدهشة أشد من دهشة عرتني عندما زرت هذه المدينة الصغرى (شهافتسوبورغ بارك) وقد تجلى لناظري نجاح ساكنيها الذي هو ولا شك ضمان لارتقاء الأمة. ولطالما جال في خاطري أن لا شيء يحمي حمى المدينة مثل البيت فهو مدرسة جماع الفضائل الأهلية وبدون مسكن لطيف الباطن يتعذر عليها في الحقيقة الوصول إلى هذه الفضائل.
وكان يقتصر في أمثال تلك المساكن سابقاً على الضروري من الحجرات ويعني بأسباب الراحة فقط أما الآن فقط ارتقت الحال في تلك الشركات شأن كل حي في الوجود فصارت لا تقتصر في بنائها على الضروري بعض الشيء بل رأت التأنق والزخرف لازم لحياة الساكنين أيضاً.
جرت عادة بعض السكك الحديدية أو التراموايات في أوروبا أن تسقط كثيراً من أجورها لمن يشترك بها من العملة لأن الدور الرخيصة التي بنيت لهم تكون في الغالب بعيدة عن المدن الكبرى وحالتهم المالية لا تساعدهم على اداء أجورها كسائر الناس فكان من شركات تلك البيوت أن عقدت مع إدارات السكك الحديدية مقاولات لمراعاة الساكنين في بيوتها مراعاة لا تكاد تصدق.
ومن لم تساعدهم حالهم من العملة والفقراء في الغرب للابتعاد عن المدن كثيراً فقد جعلوا لهم مساكن متلاصقة بعضها ببعض. وكل ساكن حر في منزله وفيه يجد ما يلزم للبيوت(32/31)
فيتيسر بذلك للساكن أن يجيء نصف النهار إلى بيته ليتناول الطعام مع أهله وفي ذلك من الاقتصاد ما فيه إذ يمتنع رب الأسرة عن الذهاب على المطاعم أو الحانات وكلها مما تضر بصحته وكيسه معاً وبذلك لا يصعب عليه أن يدفع أجرة أغلى من الأجرة التي يدفعها البعيد عن مسكنه. وقد أسست شركات عظمى غنية في لندن منذ سنة 1845 وكثرت في المدن البريطانية ورأس مال كل شركة من هذه الشركات لا يقل عن مليوني جنيه وتدعى أمثال هذه الدور دور الثكن (القشلاقات) وهي أبنية عظمى ذات خمس طبقات كل طبقة منفردة عن بعض يفصل بينها فناء متسع يلعب فيه الأولاد وقد فتحت فرج في الأدراج وجعلت في بعضها ممرات ومنافذ يدخل إليها النور والهواء وليس فيها دهاليز مظلمة وهي على غاية النظافة على أنواعها مستوفاة شروط الصحة كل الاستيفاء.
ومعدل أجرة مسكن ذي ثلاث غرف من مثل هذه المساكن هو 400 فرنك وأجرة الغرفة الواحدة نحو 137 فرنكاً ومعدل أجحرة من يسكنون في أمثال هذه المنازل ستة فرنكات في النهار يدفعون أجورها صباح كل إثنين من كل أسبوع. وتسأل الشركة عن سلوك من يريد السكنى في بيوتها وعن مسكنه وذمته في أداء الحقوق وهي تؤثر الأسرة التي لها أولاد على غيرها على حين أن أكثر المؤجرين لا يرضون أن يكروا بيوتهم لمن كثر أولادهم فكان ذلك في فرنسا من جملة الأسباب في قلة النسل فيها.
وقد أوصى المستر بابودي الأميركي سنة 1862 باثني عشر مليون فرنك لإنشاء دور من هذا النوع في وسط مدينة لندن ينفق ريعها كل سنة لإنشاء بيوت جديدة وقال في وصيته أنه بعد انقضاء قرن يكون الريع السنوي الناتج من الإيجارات قد بلغ مبلغاً عظيماً فلا يكون في لندن عامل فقير واحد لا يحصل على مسكن صحي موافق له ولأسرته بأجرة تناسب ما يقبضه.
ولو لم ينزل كما قال الخبيرون معدل الفائدة بعد مرور مائة سنة على موت هذا الكريم لجاوز ما جاد به مليارين وأسكن 350 ألف أسرة. وقد ظهر بالإحصاء أن الوفيات ولاسيما وفيات الأطفال تقل في بيوت المحسن بابودي أكثر من غيرها وأن المواليد فيها أكثر وأن مساكنه كان لها تأثير حسن في الصحة.
والغالب أن هذه المساكن ناجحة في إنكلترا أكثر من غيرها في البلاد الأخرى وفي مثل(32/32)
هذه البيوت بقليل من الذكاء والعمل يمكن للأمم التي تقول عن نفسها أنها متمدنة وأنها تتقي ذاك الجذام الخبيث من المساكن الضيقة التي تموت فيها الصحة وتفنى القوى بما ينبعث من روائحها الخبيثة وما يتزاحم فيها من الأقدام والأنفاس وما يتجلى عليها من الوحشة والبشاعة وما تكون سبباً له من الأمراض والاختلاط الضار والانحطاط الطبيعي والأدبي.
ولم تكتف إحدى الشركات في لندن بإنشاء بيوت رخيصة بل أنشأت مطاعم رخيصة للعملة. وأنك لتدخل تلك البيوت والمطاعم فلا تشهد أثراً للفاقة والفقر. وقد نظرت بعض تلك الشركات إلى مصلحتها المادية وإلى مصلحة الساكنين ورأت أن أعمالها لا تدوم غلا إذا كان ربحها معتدلاً فكان معظمها يعطي أرباحاً ثلاثة ونصف في المائة وبعضها أكثر من ذلك أي بقدر ما يعطي القنصليد الإنكليزي أو غيره من أوراق بعض الحكومات وفي ذلك من الفائدة للعملة البائسين ما يخفف عنهم شقاء الحياة وفيه خدمة المجتمع بأسره وأي فائدة له أكثر من أن يرى الشقاء يقل فتقل معه الأحقاد والحسد والثورات ويكون أرباب الأموال آمنين على أموالهم من الضياع وهم يتجرون في غرض شريف. وقد أسفرت مشاريع إنشاء هذه الدور عن ربح معتدل لمن قاموا بها ولذلك أقبل عليها هناك من لا يحبون المخاطرة بأموالهم في المضاربات وغيرها.
وما عدا هذه المنازل والدور الخاصة بالأسرات فإن القوم أقاموا غرفاً مفروشة للإيجار يسكنها رجل واحد أو امرأة واحدة أو فتاة أو فتى. فقد أنشأت جمعية الإحسان في باريز نزلاً أو حياً في مثل هذا وأخذت تؤجر الغرفى الكبرى بفرنك في اليوم والغرفة الصغرى بستين سنتيماً وهذا النزل عبارة عن خمس طبقات نظيفة يكثر فيها النور والظرف وغرفة المائدة متصلة بأحد المطاعم بشروط عقدتها معه وتقدم لها الأطعمة الجيدة بثمن بخس ومثل ذلك تجد في شيكاغو بأميركا وغلاسكو في إنكلترا وغيرها في غيرها.
ومما تفننوا بإنشائه من المساكن منازل للعزاب أقامها في لندن اللورد روتون فبلغت اليوم نحو خمسمائة مسكن يسكنها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مستأجر ينزلون فيها ما أحبوا ثم يغادرونها. وهذه المساكن أشبه بثكن جميلة آخذة من القوانين الصحية بنصيب وافر وكل مقصورة أو غرفة منها أشبه بمربط الحصان يسكنها الفرد وتكون مفتوحة من أعلاها. والمغاسل وغرف الاجتماع والطعام مشتركة بين الساكنين وهي معرضة للهواء النقي(32/33)
والنور الذي ينعكس عليها من القرميد الأبيض المعمول بالمينا على السطوح وغرف الاجتماعات فيها مزدانة بالصور ومزخرفة أي زخرف ويباع فيها الطعام والثياب بأثمان بخسة وأجرة الغرفة في اليوم ستون سنتيماً. ومع كل هذا الرخص لا تخلو الشركة القائمة بأمر هذه المساكت من ربح تجنيه. وبالسكنى في تلك البيوت يتخلص العامل أو المستخدم من قسوة المؤجرين وطمعهم الأشعبي وينزل غرفة لا أوساخ فيها ولا أقذار بعيدة عن منهكات الصحة.
وأمثال هذهالشركات كثيرة في إنكلترا وتفوق ما هو من نوعها في فرنسا وقد أنشئ معظمها وأدير بيد مشاهير من النبلاء كان لهم البرنس ألبرت والبرنس دي غال أحسن قدوة يقتدون بها وقد حملتهم على الاستكثار منها أسباب كثيرة منها الخوف من ازدياد البؤس هناك وما أحدث في قلوب العقلاء من القلق ولا سيما كثرة السكان في لندن ونمو طبقات العملة.
بلغ رأس المال الموضوع في إنكلترا لإنشاء بيوت رخيصة للعملة ملياري فرنك وفي فرنسا مائة مليون فرنك ومعظم تلك الأموال تدفعها الحكومة كما هو الحال في ألمانيا وتدفع أحياناً من دوائر البلديات كما يجري في ألمانيا وإنكلترا وروسيا. وتقوم بذلك في بعض الأحوال شركات مختلفة النوع والصفة. وما أحلى ما تقوم به ألمانيا وتسلفه لعملتها ومستخدميها المساكين من الأموال لتقيم لهم بيوتاً رخيصة ما أمكن. وما عملها هذا لو دققنا النظر إلا الاشتراكية العملية على ما تتجلى في العادة الاشتراكية في شمال أوروبا الاشتراكية ليس سداها ولحمتها كلاماً ولا خصاماً قلما ينتفع بها إلا نافخو ضرامها ثم خصومهم ثم العدو القريب.
قال جان لاهور وإني وإن رأيت أن تسير الأمور أولاً بمعونة الحكومة وحمايتها ولكني أوثر أن تعمل عزائم الأفراد عملها مستقلة فإن العزائم إذا جمعت عظمت بالاشتراك وإنكلترا أعظم مثال في هذا الباب. نعم إن الإقدام الشخصي والشركات الخاصة أنفع للأمة في هذا الشأن. لأن إلقاء المسئولية على عاتق الحكومة لا يكون منه إلا سوء إدارة وقلة اقتصاد وعمل متوسط وأكلاف مفرطة فيما تتولاه. ثم أن الاعتماد أبداً على الحكومة يورث الأمة عادات ضارة تنزه منها الشعور بالاستقلال الذي هو أحرص ما تحرص عليه نفوس العقلاء ويعبث بالتربية الحرة ولا سيما في بلاد دستورية.(32/34)
إن معنى مطالبة الحكومة أن تعمل كل شيء أو مطالبتها بمعظم شؤون الأمة هو تعويد الأمة على أن لا تعلم لنفسها بنفسها شيئاً أو أنها تعمل التافه والحقير من الأعمال ولا يجب أن تدخل الحكومة إلا حيث يضعف عمل القوة الفردية ويخفق اتحاد الشركات.
الحكومة إذا نافست الأفراد توشك أن تنزع منهم الهمة وتضعف فيهم الجهاد وإذا تولت إدارة مثل هذه الدور تنتهي بأن تعين لها عمالاً كثيرين من لدنها على أن كثرة الموظفين هي اليوم الضربة القاضية على الأمم كانتشار المشروبات الروحية وربما كانت من مفاسد عصرنا وأمراضه الوبيلة وفيها الخطر كل الخطر علينا. الكحول سم الإرادة والاحترام الشخصي والتوظيف كما هو الآن عندنا لا يقل عنها ضرراً. وما التوظيف في الحكومة لقاء رواتب تدفعها لموظفيها إلا صورة من صور الرق والعبودية القديمة في مظهر جديد يضطر فيه صاحبه أن يطلق حرية روحه وفكره على حين ترى الخدام ممتعين بها. ولقد نرى حكومات في الغرب كحكومة ألمانيا مثلاً فد انتبهت لهذا النقص فما أحبت أن تكثر من جيوش الموظفين كما هو الجاري في فرنسا وأن تنهك ميزانيتها بالملايين للإدرار عليهم بل خصصت ملايين في ميزانيتها لأعمال من مثل هذه مصبوغة بصبغة الديمقراطية والاشتراكية العملية. وأما إنكلترا فلحسن طالعها أن نفوذها في رعاياها قليل والقول الفصل فيها لهمة الأفراد.
وقد قررت دار الندوة الإنكليزية سنة 1890 أن تمنح المجالس البلدية حق نزع ملكية البيوت القذرة وأن تمديد معونتها للشركات وتسلفها أموالاً في مقابلة رهن لإعادة تلك البيوت إلى حالة حسنة تجمع إلى النظافة الرخص ويعود الفقراء فيسكنوها فكان في ذلك من المنافع الصحية العامة ما ظهر أثره في وجوه السكان وصحتهم. ولا معنى لتساهل الحكومة وقلة عنايتها وهي المسيطرة على القانون أن تترك الناس وشأنهم إذا بلغت بهم الحال إلى هذه الدرجة من البؤس على أن هذا البحث كان موضوع المناقشة في المؤتمر الدولي سنة 1900 وانقسمت الآراء فيما إذا كان يجب صرف أموال الضرائب في إقامة بيوت رخيصة كما يجري في لندن وبرمنغهام من بلاد الإنكليز وفي فريبورغ وأولم في ألمانيا وفي غوتسبورغ في السويد على يد المجالس البلدية إلا أن الرأي العام كان مناقضاً لهذه الاشتراكية.(32/35)
وإنك لتجد الممالك الصغرى في أوروبا من العناية بأمثال هذه المشاريع ما للممالك الكبرى وزيادة. فإذا كنا نسمع بنور المدينة ينبعث من ألمانيا وانكلترا وفرنسا في أوروبا فإن سويسرا والدانيمرك والسويد والبلجيك وهولاندة لا تقل عنها في المشاريع العامة الخيرية إن لم نقل تفوقها في أكثر حسنات المدينة لأن اللقمة الصغيرة يسهل ازدرادها أكثر من الكبيرة كما يقولون ولأن الصغير المدبر يتيسر له ضم أطرافه أكثر من الكبير المتوسع في أملاكه. وخذ مثلاً لذلك البلجيك فإنها بفضل صندوق التوفير العام فيها قد أصبح خمسة عشر ألف عامل فيها يملكون بيوتاً يسكنونها وذلك في مدة عشر سنين أسلف هذا الصندوق في خلالها اثنين وثلاثين مليوناً من الفرنكات للعملة والشركات وبواسطتهم عمرت هذه البيوت الرخيصة على أن مثال فرنسا وألمانيا وغيرهما من الممالك الكبرى مهما عنين بإعانة البائسين وإيواء المساكين فلا يبقين إلا مقصرات فإن شركات ألمانيا وغيرها من الأفراد سلفت العملة ثمانمائة مليون مارك لمثل هذه الأعمال الاجتماعية وكذلك فعلت إنكلترا وأقرضت عملتها. فترى بعض شركات كشركة البناء فيها لا تبين بيوتاً بل تقرض مالاً للعملة يبنون لأنفسهم به فيؤذي العامل كل يوم اثنين عشرة فرنكات مثلاً أي 520 فرنكاً في السنة بحيث يجتمع له بعد ثلاث سنين 1600 فرنك وبذلك يبين بأنه يستطيع أن يقتصد وعند ذلك يعمد إلى شركة من شركات بناء الدور الرخيصة ويطلب إليها أن تقرضه مالاً لإنشاء مسكن فيؤدي إليها أولاً الـ 1600 فرنك التي اقتصدها وثانياً مبلغ 2400 فرنك يدفعها بعد فتكون مكلها أربعة آلاف فرنك ويظل على تأدية عشرة فرنكات كل يوم اثنين من الاستهلاك وقد كثرت أنواع هذه الشركات وكان عددها في إنكلترا 2243 شركة لا يقل رأس مالها عن مليار فرنك حتى أن بعضهم رأى أن بعض تلك الشركات تقبض من العملة المشتركين معها كل يوم اثنين مليون فرنك.
كل هذه الأعمال لا ترى فيها الحكومة إلا أثراً ضئيلاً ما عدا ذلك فالأفراد والشركات سيديرون ما يديرون وكذلك رؤساء المعامل فإن منهم من يهتمون هناك بمصالح من يعملون عندهم اهتمامهم بمصالح أولادهم ولاسيما في البلاد الجبلية التي لا ترى فيها إلا صخوراً أو مضايق وأودية.
وقد استعمل بعضهم البيوت النقالة التي اخترعها الأميركان لتكون عوناً على استعمار(32/36)
بعض الأطراف البائرة والأصقاع المتنائية في الولايات المتحدة وهي مصنوعة من خشب الصنوبر وتختلف فيمتهات بحسب ما فيها من الغرف من 2500 فرنك إلى 9500 فرنك ينقله الإنسان حيث أراد وكذلك البيوت الخشبية التي اصطلح عليها في بلاد النرويج والسويد والروس وكلها من أحسن النموذجات في البيوت الرخيصة.
رأى بعض الاجتماعيين أن تولي رؤساء المعامل من أمر عملتهم ما يتولون في بعض بلاد الغرب فيقتطعون جزءاً من أجورهم لسداد ما عليهم من أثمان مساكنهم التي يكون ملكاً لهم بعد قليل من السنين ـ أن هذا العمل يفقد العملة استقلالهم بعض الشيء فيضطرون أن يعملوا في معامل رؤسائهم ريثما يوفون ما عليهم أو يخرجون منها قبل وفاء ما عليهم فيلقون المشاكل وما عدا هذا المحذور فإن تولي الرئيس أو المعلم أمر عملته والنظر في مستقبلهم وإنشاء بيوت لهم أو حملهم على الاقتصاد هو السداد بعينه.
وفي بعض البلاد لا يتأتى إلا أن يتداخل رؤساء المعامل في أحوال مستخدميهم كبلاد روسيا مثلاً. ولذلك كانت مساكن العملة في أكثر أرجائها بديعة مستوفاة شروط الصحة ولا سيما في الأماكن البعيدة عن السكان والعمران مثل معمل (داغوكردل) لصاحبه البارون إدنجرن ستمبرغ فإنه أنشأ لكل عامل داراً منفصلة عن دار جاره فبلغ عددها 237=داراً فيها عامة مرافق البيوت وحديثة للثمار وأخرى للبقول وغيرها يقتطع من أجرة العامل خمسة وعشرين في المائة فما هو إلا كلا ولا حتى يصبح العامل صاحب دار فسيحة وحديقة أنيقة ويشرب السكان من آبار ارتوازية طاهرة بحيث تكاد لا تجد للحمى التيفوئيدية بينهم أثراً مع أن هذه الحمى يكاد يكون انتشارها عاماً في البلاد الروسية وأعمار من يعيشون في هذه المساكن أطول من أعمار من يسكنون في غيرها. وكم للعملة من بيوت لا يفتحون عيونهم عليها بعد حين إلا وهي ملك لهم يخلفونها لذراريهم جيلاً بعد آخر. وأن أفاضل الروس وأجدادهم لم يفتهم أن يبسطوا أيديهم بالعطاء للمساكين ينشئون لهم به دوراً حسنة يؤويهم فقد أوصى سولودفنكيوف لمدينته باثني عشر مليون روبل لإنشاء بيوت يسكنها البائسون المحاويج.
ومن المعامل التي وسعت على عملتها ونظرت في رفاهيتهم معمل كروب الألماني فإنه مثال المشاريع العظيمة ونموذج من حماية صاحب المعمل لعملته وعدم احتفاله ب المال(32/37)
في سبيل راحة من يقومون بأعمالهم لنفعه ونفعهم. فإن هذا المعمل وإن شئت فقل المعاملة المعروف بمدافعه وعدده الحربية صعب عليه أن يرهق العاملين فيه كما يرهق البشر بمصنوعاته فأنشأ لعملته في ميدنية أسبين الجميلة على نهر الروهن ثماني مدن وخمسة مستعمرات وبيوتاً منفردة يسكنها العاملون آمنين مطمئنين. فهناك زهاء خمسة آلاف مسكن يقطنها زهاء ستة وعشرين ألف نسمة وقد ازدانت بالنباتات المعرشة والزهور البديعة واستوفت من داخلها وخارجها أسباب الظرف والزينة وكل ما يملأ العين قرة والصدر مسرة وأقامت إدارة المعمل بالقرب من تلك البيوت بيوتاً أخرى جميلة فسيحة للعملة العاجزين والأيامى من نساء العملة. ويتصل بالمعمل شركة تبيع المأكولات كما تتصل به مستشفيات تامة العدة وبيوت للنقاهة وقاعات الاجتماع والمطالعة وقد صرفت إدارة المعمل على إنشاء هذه الدور نحو مليون جنيه.
وتفوق دور معامل كروب دور معامل الصابون في بورت سونلخت وقد عرضت إدارة هذا المعمل أنموذجاً من الدور التي تؤجر في الأسبوع من أربعة إلى خمسة فرنكات في معرض باريز سنة 1900 فكانت محل العجب وربما كانت هي المعول عليها في المستقبل لإيواء العملة وراحتهم ففيها جماع مرافق الحياة وفي كل منها حديقة للبقول تؤجر على حدة بأجرة طفيفة جداً. وهذه الحدائق يمكن زرعها على أيسر سبيل بما أنشأته عقيلة من عقيلات الكرم والعقل من شركة تؤدي للعملة ما يلزمهم من الأرض والبذور (التقاوي) والنباتات لغرسها في حدائقهم أو لتزيين بيوتهم بها.
في إنكلترا قرية لا تقل في الغرابة عن معامل كروب ومعامل الصابون المذكورة آنفاً وهي القرية التي أنشئت في تورنفيل على يد طائفة الكواكز البروتستانتية أعني بها معامل الشوكولاتا فإن هذه الشركة رأت أن جمال مناظر المساكن مهما كان نازلوها فقراء مطلوب لذاته فبذل أفراد من هذه الطائفة مالهم لإنشاء هذه المدينة النادرة في شكلها وأقامت لها أندية وألعاباً وخزائن كتب ومحال للسباحة وبيوتاً تحف بها الخضرة والنضرة على طريقة جميلة ليس فيها مظهر من مظاهر الزخرف الكاذب بل فيها جميع ما يلزم الحياة وبعضها مزين مبهرج منقوش ولا يكلف السكنى فيها كل أسبوع أكثر من 8 إلى 11 فرنكاً.
وقد قال مدير المعمل لأحدهم بمناسبة إنشاء هذه الدور أن المذاهب السياسية لا تأثير لها(32/38)
ولو كنا كلنا نقوم بالواجب علينا لبطلت الحروب بين طبقات الناس وليت شعري إذا لا تقوم المجالس البلدية بمثل ما جرأنا نحن على القيام به؟ وإن الشرح ليطول لو عددنا المدن التي أنشأها أرباب المعامل في الولايات المتحدة لعملتهم حتى أن حي العملة في شيكاغو يعد من أهم أحياء تلك المدينة الصناعية العظيمة وأجملها. ولا تنس البيوت التي أقامها بعض أرباب المعامل في فرنسا ولا سيما شركة معادن لانس فإنها أحدثت أربعة آلاف مسكن وأجرة الواحد منها 150 فرنكاً. وبعض المعامل تقرض عملتها الدراهم لابتياع أرض وبناء مسكن فيكونون في الحال مالكين لها ويختارون الهندسة التي يريدونها وبعضهم يؤجر كل بيت في الشهر من فرتك وربع إلى ثمانية فرنكات وربما أعطوه بالمجان في بعض الأحوال وقد استلف عملة منجم كرونري مليوناً وستمائة ألف فرنك لإنشاء بيوت لهم كما اقترض عملة مونسوليمين زهاء مليون.
وفي مدينة سوشار من أعمال نوشاتل في سويسرا في معمل الشكولاتا حي عظيم لعملة المعمل ومستخدميه جاءت بيوته على صور مختلفة منها ما أجرته سبعة عشر فرنكاً ونصف ومنها ما أجرته ثمانية عشر فرنكاً ونصف تدفع الشركة نصف أجرتها من عندها. ومن بيوت العملة التي استحقت الثناء مدينة فيلبرون من أعمال البلجيك في معمل الزجاج وفي مدينة ولفت في هولاندة وغيرها. وكلها بيوت إن أمعنت النظر فيها تقضي بالثناء على الكثير للساعين بها على خدمتهم الحقيقية للإنسانية والوطن والاشتراكية العملية.
وما عدا دور العملة والعناية بأمرهم تجد في أوروبا جمعيات إحسان أخذت على نفسها إنشاء بيوت رخيصة يسكنها كل فقير بدون استثناء. وقد بلغ عددها في فرنسا 67 جمعية وأقدمها جمعية باريز التي أنشئت سنة 1780 فأنشأت بيوتاً مشتركة لا يكلف السكنة فيها كل أسبوع أكثر من ثلاثة فرنكات وربع إلى سبعة وربع في مساكن فيها ثلاث غرف ومطبخ وقد استوفت شروط الراحة من هواء طلق ونور كثير ومحال يسرح فيها النظر وماء كثير طاهر يجري لمن يريد وكان للمنافسة القائمة بين تلك الجمعيات أثر مهم في نجاحها وسعيها كل حين لتحسين حالتها. والمنافسة أساس عظيم من أسس النجاح. وقد بلغ رأس مال بعضها زهاء مليون من الجنيهات ومائة ألف مشترك وبعضها يبيع طعاماً وثياباً بثمن بخس وما تربحه الشركة من ذلك تعود فتبني به بيوتاً. وقد ثبت بالإحصاء في بضع(32/39)
سنين أن عدد الوفيات في الألف من سكان هذه البيوت دون عدد الوفيات في غيرها من المساكن غير الصحية.
ومثل هذه البيوت في نظامها وفائدتها كثير من الممالك الصغرى في أوروبا فتجد في كوبنهاغ شركة بيوت العملة وقد أقامت ألوفاً من المساكن للعملة والشركة مؤلفة من العملة أنفسهم وهي لهم بمثابة صندوق اقتصاد فيدفع كل عامل في الأسبوع قرشين أي نصف فرنك حتى يبلغ ما جمع من ذلك سنة 1900 مقدار 5769930 كورونا (الكورون فرنك وأربعون سنتيماً) فيشغلون هذه الدراهم ويعملون يانصيب فيجتمع من ذلك عشرون كوروناً في ستة أشهر لكل عامل وبعد عشر سنين يعطى إذا أراد ما دفعه مع أرباحه أو يأخذ داراً وإذا مات يأخذ ورثته هذا المبلغ ومما هو حري بالنظر في كوبنهاغ بيوت البحارة ومستخدمي البحرية التي أنشأها الملك كريستيان الرابع.
وشركة تحسين المنازل في سويسرا وميلان ونابولي ونيويورك حرية بالذكر أيضاً وكلها تدور على تحسين مسكن الفقير وبعضها يعنى بالتدفئة أيام الشتاء وبإعطاء الماء الساخن لمن شاء من الساكنين بلا مقابل وإلقاء الحرارة المعتدلة في مساكنهم وقد قامت بعض تلك الشركات بيد النساء فنجحت كما تنجح شركات الرجال. مثل شركة الآنسة كولنس في نيويورك التي أنشأتها على مثال شركة الآنسة أوكتافيا في لندن لتطهير المساكن القذرة من قذارتها وتطهير نفوس ساكنيها من حمأة الرذيلة فنجحت كلتا الشركتين وأتتا بأرباح حسنة. وقد بدأت حكومة البرازيل منذ سنة 1882 تساعد في إنشاء البيوت الرخيصة فأصبح عددها في ريودجانيرو وحدها سنة 1897، 5000 مسكن. ومن تلك الشركات جمعيات أخذت على نفسها نشر الدروس الاجتماعية والدعوة إلى تعلمها فكانت من أنفع ما يكون من الإصلاحات العظيمة التي أدخلت على بيوت الفقراء وجعل بعضها غايته درس الأسباب التي تنشأ الأسرة على أساس طبيعي وهو تمليكها أرضاً تحرثها وداراً تسكنها. تتذرع للوصول إلى هذا الغرض بكل وسيلة ممكنة تمكنها من نشر المطبوعات ودعوة الحكومات أو البلديات أو أرباب الغنى إلى إنشاء صناديق لإيجار بيوت بثمن بخس وتطالب بسن قانون تعفي الحكومة فيه من الضرائب ما يملكه الفقراء من المساكن والأراضي وتتخذ كل سبب ليتيسر للناس اقتناء مثل هذه البيوت أو بقاؤها أو انتقالها ومنها ما يعطى للمحاويج(32/40)
بيوتاً يسكنونها وتحميهم بدون واسطة الحكومة مما يصيبهم من الفاقة أيام عطلتهم ومن الشقاء وموت رب البيت قبل الأوان وهكذا تجد الحركة قائمة في جميع البلاد الفرنجية لتعميم هذه المبادئ وتحسين حال البائس الفقير وهي كل يوم في انتشار وكثرة بحيث ينسلخ هذا القرن العشرون في أوروبا إلا وقد انحلت فيها المسألة المعروفة بالمسألة الاجتماعية وإن شئت فقل أهمها إذ يكون جميع العملة ممتعين ببيوت يسكنونها والشركات والجمعيات تحميهم من الفقر المدقع بعض الحماية وتقل بذلك الأمراض كما يرى الباحثين في أحوال تلك المجتمعات إذ استدلوا على ذلك بأن المساكن الطاهرة الصحية قد قلت فيها الوفيات عن المساكن القذرة والأكواخ الحقيرة التي هي في الحقيقة منبعث السل وغيره من الأدواء المنهكة لجسم المجتمع وقد قال الدكتور روم أن المسكن والطعام والمعمل هي السبب في كثرة الوفيات بين العملة فالواجب الإسراع في إصلاحها وبغيرها لا إصلاح ولا فلاح وكل ذلك متوقف على الإرادة إذا صحت والأفراد إذا أقدمت وتكاتفت.
ولم تكتف الجمعيات في أوروبا وأميركا بإنشاء المساكن للفراء ونقشها والاستكثار لها من مرافق الراحة وأسباب الصحة بل أحبت تنجيدها وتزييبها والتأنق في داخلها وخارجها لأنهم رأوا السكنى في بيوت رخيصة لا تغني الغناء المطلوب وحده.
أرادت من الدور أن تكون معرضة للهواء محببة إلى القلوب وأن لا يكون أثاثها وفرشها كئيباً قذراً بل أن تكون مائلة إلى البساطة تجمع إليها حسن الذوق والظرف لأن عصر البيوت القذرة الضارة قد انقضى كما ينبغي القضاء على المساكن البشعة من داخلها الكئيبة التي تهزل الساكنين فيها من البائسين وهم لا يشكون كالدود الذي يعيش في القاذورات.
أرادت تلك الشركات أن تستعيض عن الأثاث البشع السيئ الصنع بأثاث يكون بسعره أو أقل ولكن على صورة حسنة وتزيين ضروري وأن لا يفرشوا بيوتهم فرشاً رديئاً كما هو الحال في بيوت الفقراء في أكثر بلاد الشرق. وذلك لأن النظر إلى هذه البشاعة مما تضيق به الصدور ويجرح القلوب كما تتأذى به العيون وتتقزز منه النفوس ولأن لتحسين الذوق دخلاً كبيراً في نهضة الأمة.
ترى في البلاد الديمقراطية أن الفقراء من الرجال والنساء يحاولون أن يكونوا في ملابسهم كأهل الطبقة الوسطى على أن الألبسة التي كانوا يألفونها فيما مضى لها من الرونق ما(32/41)
ليس لما يلبسونه اليوم على تكلفهم التقليد. وقد رأت بعض الجمعيات إنشاء ألبسة لأهل الطبقة الدنيا خاصة يشاركها في لبسها أهل الطبقة الوسطى وتكون رخيصة الثمن نافعة في صحة الأجسام وصحة الأكياس وأن يكون لمنزل أهل الطبقات النازلة ما لأهل منازل الطبقات الوسطى حتى لا ينكسر خاطر الفقير ولا ينقصه شيء من راحة الأجسام ولذلك كان أول عمل يعملونه إيجاد طريقة لتنجيد البيوت الفقيرة وتزيينها كما تنجد بيوت الأغنياء وتزين.
خذ مثلاً لذلك الجدران فإنهم رأوا أن تزين أو يوضع عليها ما يزينها من البسط. وقانون الصحة يقضي أن يتيسر غسل الجدران وقد رأوا أن الورق الذي يجعل على الحيطان ويغسل لا ينفع الفقراء لأنه غالي الثمن وأن الأحسن أن تنقش بالزيت وربما كان هذا النقش غالياً ولكنه أثبت وأفرح للنظر ولا يصعب تطهيره كل مدة ويجعل الساكن عليها صوراً ورسوماً ومصورات وأصونة للثياب وغيرها مما لا يتعذر في أوروبا اقتناؤه لرخصه وهو يزيد المكان رونقاً وبهجة.
ورأوا أن النوافذ ينبغي أن تكون ستائرها من قماش يمكن أن ينفض أو يغسل بسهولة فيكون من البفتة لا من الحرير والأطلس أو الشاش المزين بأنواع النقش والزينة أما النوافذ التي في أعلى المنازل فتترك بلا ستائر والأولى أن تكون الستائر متناسبة مع نقش الغرفة وتعلق بسيخ وحلقة.
أما سرر النوم فيجب أن تكون بحسب رأي بعض أهل الصحة مكشوفة بدون كلة (ناموسية) من أعلاها لأنه ثبت أن هذا القماش الموضوع يحبس نفس النائم ويحفظ الجراثيم الضارة بل يساعدها على النمو والتعشيش وينبغي أن تناط من عند رأس السرير قطعة من القماش تنزل وترفع بحيث تمنع مجرى الهواء عن رأس النائم فقط ولا تكون هذه القطعة طويلة وتكون من ناحيتين بحيث أن النائم حيثما انقلب لا تؤذيه أشعه النور إذا اتجهت نحوه. وينبغي التقليل من الفرش ما أمكن بحيث يسهل نفضه أو غسله. كل هذا ويراعي في الأثاث الاقتصاد والجودة فيكون متناسباً مع نقش المنزل. وتخبر الأشياء المنطبقة على الذوق لا يكلف إلا بعض عناية وبذلك تعود بعض العادات في بساطة البيوت التي كانت مألوفة. وليس الجمال في الأثاث والرياش المتكلف في صنعه والمزين من وراء(32/42)
الغاية بل الجمال في الفرش البسيط الاقتصادي النافع المناسب. وإنا لنرى أحسن زينة في البيوت بإنكلترا هي ما كان منها من أصل ريفي مألوفاً في القرى والدساكر إلا أنه يجمع إلى البساطة نظافة وحسن ذوق.
وقد حسب ما ينبغي لفرش بيت الفقير على هذه الصورة وهو أن تفرش غرفة المائدة وغرفة الاستقبال صغيرة وثلاثة غرف للنوم فرشاً بسيطاً كما يكون البناء رخيصاً بألف وخمسمائة فرنك إما أن يدفعها الساكن دفعة واحدة وإما أن يستلفها من الجمعيات والشركات التي أخذت على نفسها في أوروبا تقديم أحسن الفرش للبيوت بأثمان متهاودة فيدفع عن هذا المبلغ فائدة طفيفة وهي خمسة بالمائة. وإذا استأجر العامل أو الفقير داراً من مثل هذه فلا تتجاوز أجرتها وهي مفروشة أحسن فرش صحي فرنكاً وثلاثين سنتيماً.
وبهذا رأيت أن لفرش البيوت في أوروبا جمعيات كما أن فيها شركات وجمعيات لتقديم الطعام الرخيص والألبسة الرخيصة والمساكن الرخيصة بحيث آلى بعض أرباب العقول في أكثر الممالك الإفرنجية أن لا يتركوا بيتاً قذراً ولا بشعاً وأن تكون بيوت الفقراء كبيوت الأغنياء لطيفة الداخل والخارج فمتى يا ترى ينسج الشرق على مثال الغرب في مثل هذه الأعمال النافعة والحضارة الرافعة.(32/43)
مثال الأمة الراقية
جرت العادة أن تقتدي الأمم بعضها ببعض ولا سيما فيما فيه إعلاء كلمتها وتمام سعادتها فتطرس الأمم النازلة على آثار الأمم الناهضة. قال هنري ليشتنبرجه أحد أساتذة كلية باريز في خاتمة كتابه ألمانيا الحديثة ونشوئها ما تعريبه:
لم يكن لألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر كيان يدل على أنها دولة عظمى بل كانت أشبه ببناء يتداعى والناس من حوله لا يعبؤن بما يجري له. فلم يكن هناك دولة يضخ أن تسمى ألمانيا بلا كان أمراء من الألمان منشقين على أنفسهم يتحاسدون وقلما يحرصون إلا على مطامعهم السافلة في الحكومة وهم أهل لكل تسفل لا يتحامون ارتكاب الخيانات على ضروبها للاحتفاظ بسلطتهم الثمينة وتقوية أمرهم وليس لهم من الكفاءة ما يستطيعون معه توجيه مطامعهم المنبعثة عن أناينتهم المجسمة نحو ما فيه نفع الأمة بل كانوا يؤهلون بالغريب ويحالفونه لقضاء مآربهم يعلنون الحرب على أبناء وطنهم إذا سما له أمل بحلب بعض النفع من غدرهم وخيانتهم. وبين ظهراني مثل هذه الأمة المنقسمة الضعيفة لا يرجى أن تقوم قائمة للحياة السياسية وأنى يكون لها ذلك ونظام الحكومة المطلقة فيها ضارب بجرانه وكثيراً ما يستحيل إلى استبداد يبيد الخضراء والغضراء والناس مع هذا خاضعون وخانعون حتى كادوا يقربون حد الرق والعبودية.
ابتعد الفلاحون وسكان المدن وأرباب الصنائع وأهل الطبقة الوسطى عن الاشتراك في الشؤون العامة واستسلموا لظلم الحكومة وطبقة الأشراف على ما فيه من النكد وهم ضعاف الحول والقوة لا قبل لهم برد عاديتهم عنهم ولم يعودوا يبالون بتة بالحياة الوطنية بل تنحوا إلى دائرة أشغالهم الخصوصية.
كل هذا الحياة الاقتصادية في الأمة ضيقة النطاق حقيرة الشأن والشعب مشتت مبعثر والبلاد فقيرة والمال قليل والصناعة تكاد تكون عدماً. فلم يبق للخروج من مأزق هذا الشقاء إلا مخرج واحد وهو تنمية العقل والصناعة فنزلت طبقة الخاصة المتعلمة إلى هذا الميدان وهبت هبة حماسية صالحة.
وفي تلك البلاد الألمانية المشتتة المغلوبة على أمرها التي كاد بوم الخراب ينعق فيها بما تواتر عليها من الحروب والغارات أزهر التهذيب الأدبي والفلسفي الذي ربما كان أجم سطور بحد الذي تفاخر به هذه الأمة. ودخلت ألمانيا من ذاك العهد في ميدان العمل وتخلت(32/44)
عن عالم الخيال والأحلام. وإذ كانت إنكلترا استولت على البحر وفرنسا على البر لم يبق لألمانيا كما جاء في بعض أقوالهم المعروفة إلا أن تؤسس لها ملكاً في الهواء فأنشئت مملكة لا نظير لجلالها ولا قرين لعظمتها.
ولم تلبث هذه الأمة المتقهقرة الساقطة من حيث إدراك الحقائق الأرضية المولعة على ما يظهر بالخيالات والترهات أن نشأت فيها فكرة الإقدام على الأعمال وظهر للحال بأن الشعب الألماني ربما كان الوحيد بين شعوب أوروبا في استعداده للتقدم في الجهاد الاقتصادي. فهو لم يقتصر في نهضته الغريبة على اللحاق بالأمم اللاتينية التي سبقته زمناً إلى طريق الارتقاء المادي بل تقدم عليها حتى جعلها وراءه. وكاد يهدد اليوم إنكلترا أيضاً فيما كانت لها المكانة المكينة فيه منذ القديم في الأمور الصناعية والتجارية.
فبدا هذا الشعب البطيء الثقيل بعض الشيء القوي في ذاته السالم في نفسه أنه مستعد لترقية المدنية وأن بلاده صالحة لغرس بذورها. وهو لا يعشق مثلها البطالة والفراغ ولا يرغب في العيش في التغزل بالجمال وحسن العشرة بل أنه يميل من فطرته إلى الجد وهو قوي الشكيمة عامل لا يعرف الملل سليم الطوية.
سار منذ القديم على نظام دقيق في الأخلاق. وخضع منذ أزمان لقانون قاس في التدريب على الجندية. وفي مثل من كانت هذه طيبته خالية من الزهو والظرف ولكن فيها المتانة وطول الأناة كبرت إرادة قوية صبورة منظمة لها من الكفاءة ما تستطيع معها أن تأخذ سبيلها الذي سلكته والغاية التي قصدت إليها من دون أن يلهيها الهوى والشهوة وبغير أن يثنيها ثان من صعوبة أو تحول دون أمانيها عقبة.
تطمح ألمانيا إلى بسطة سلطانها مدفوعة إلى ذلك لا بعامل الرغبة في أن تكون في مقدمة الأمم وأن تظهر شأنها وأمرها ولا من أجل المنافع المادية التي تحاول نيلها بل أنها تريد رفعة الشأن لذاتها لأنه مقياس حقيقي لما يساويه رجل أو جماعة أو حزب أو أمة.
ألمانيا مسوقة إلى المشاريع التجارية بنابل من ناموسها الاقتصادي تضطرها إليه ضرورة ملازمة لها ملازمة محتمة. الألماني كثير النسل للغاية. فقد ازداد سكان ألمانيا من نحو 25 مليوناً سنة 1846 إلى زهاء 36 مليوناً سنة 1855 إلى 60 مليوناً سنة 1905 وأنت أعلم بأن هذه الزيادة تزيد في عدد الأسر والبيوت.(32/45)
وهذا النمو من الأمور التي ساعدت على نماء الثروة بينهم لأن الزائد كل سنة من أبناء الأمة ينشأ منهم لألمانيا جيش من العاملين الذين تحتاج إليهم الصناعة في ترقية شؤونها وقد انتشر فكر الإقدام على الأعمال في الطبقة الغنية من الأمة انتشاراً كثيراً. وإنك لترى رب الأسرة منهم غير طامع أن يترك لأبنائه كما هو الحال عند الفرنسيس مقاماً كريماً يعده لهم ودخلاً مضموناً يتمتعون به بعده بل أنه يربيهم تربية متينة ويجهزهم لجهاد الحياة بأقوى جهاز ثم يتركهم وشأنهم يجدون في الأرض مرتزقاً.
فيروح الشاب يتعب ويفرغ الجهد مخافة أن يسقط عن المكانة التي بلغها أهله. وهكذا كانت كثرة النسل في هذه الأمة مهمازاً قوياً يحث ألمانيا على النهوض إلى طلب الثروة والشوكة. وهذا الجهاد في سبيل العظمة يكبر ويضخم في عامة شؤون الحياة الألمانية وفي جميع فروع الجهاد البشري. فتراه متجلياً في الأفراد وفي الأحزاب السياسية وفي الطوائف الاجتماعية وفي الحكومات المتحدة وثابتاً بمجموع الأمة الألمانية بأسرها فيما تظهر فيه من مظاهر بسط السلطة وما حازته من الاشتراك في سياسة العالم. هذا الجهاد يرمي إلى رفعة شأن الجندية والبحرية والنفوذ السياسي والقوة الاقتصادية والصناعية والتجارية والتقدم العلمي. لأن العلم أيضاً صورة من صور السلطة البشرية ولا شك أن ألمانيا حازت قسطاً كبيراً من نجاحها بواسطة علمها.
صحت العزائم على التدريج وقويت إرادة السيادة وأُشربتها روح الألماني فمال إلى التهذيب بكليته. ولم يكن ميل الألمانيين إلى الفنون ميلهم إلى القوة لأن الفنون كالدواء المتمم لدواء أفعل منه فهي لا تقصد من ثم لذاتها. على أنه مما يجب أن يعرف أن رغبتهم في القوة لم تكن رغبة في القوة الوحشية الظالمة ذات الأهواء والأحكام العرفية التي تظلم عن تغفل وهوى وهي منافية للحق والعدل بل أن رغبتهم كانت مصروفة إلى القوة الذكية المفكر فيها التي تقبل لأنها مشروعة بفضيلتها الذاتية لا لأنها نافعة عاقلة. ومن العادة أن تقوى القوة على الضعف وأن تخضع الطبقة النازلة للطبقة العالية. الألمان احترموا القوة التي هي حق أيضاً ولأنها تعبر عن تقدم حقيقي يقضي العدل بأن يعترف به ويحترم.
جهاد الألمانيين لبسط سلطانهم يجري على ترتيب وتنسيق ما أمكن فإن نظام حرية المنافسة وهي عبارة عن محاربة الفرد للمجموع وتحريك الأنانية الشخصية يحتوي في مطاويه ولا(32/46)
شك مبدأً فوضوياً أقرب إلى الانحلال منه إلى التماسك. فيتأتى له أن يكون كما كان سابقاً في إيطاليا على عهد النهضة مثاراً للشخصيات الساخطة التي تنازع غيرها للتفوق عليه واليأس آخذ مأخذه ويهلك بعضها بعضاً بلا شفقة. بيد أنه من الثابت أن ارتقاء مبدأ حرية العمل في ألمانيا لم يؤدي إلى نتائج من هذا القبيل. فإن المنافسة بين الأفراد وبين المجموع على كثر ما تكون من الشدة ولكن لا يستحيل أبداً إلى فتن لا نظام فيها.
طال جهاد ألمانيا في سبيل الوحدة السياسية واستعر النزاع بين حكوماتها في أمره فانتهت حالة بحرب. ولما أصدر المحكمون من النائبين عن الأهلين حكمهم في هذا الشأن سكنت الكراهية وزالت الأحقاد ورضيت الأمة في الحال بما وضع لها من نظام جديد وبدلاً من أن تضيع الوقت في شحناء لا فائدة منها وتنهك قوتها في الانتقاض العبث راحت تجمع قواها لدفع غارة الحروب السياسية التي يشتد بينها الخصام ويدوم ولكنه لا ينتهي في الغالب بفتن شعواء. وربما كان بين الطبقات المختلفة عندهم أشد مما هو عند غيرهم ولكنك لا تجد فيه ما يستشم منه ريح الثورة حتى أن الفكر الإصلاحي يقوى شيئاً فشيئاً بين الحكومات التي ترى التوسع في جمع رؤوس الأموال وبين الاشتراكيين الألمان ممن آلوا على أنفسهم ألا أن ينافروا الحكومات فتراهم يقضون بدون تقية على كل ما من شأنه أن يدعو إلى القسوة ويتحامون الوقوع فيما يؤدي إلى اتخاذ سلاح القوة ولو كان فيه تحقيق أمانيهم وإبلاغهم غاياتهم وهم يصرحون جهاراً بكرههم لمقاومة روح الجندية وللاعتصاب العام.
ترى المنافسة الصناعية والتجارية مشتد \ ة كل الاشتداد وهمم الأفراد بالغة أقصى الشدة والجرأة ولكن ألمانيا وهي مهد الشركات العظمى المؤلفة من أرباب المعامل أو العملة هي على التحقيق من البلاد التي بذل فيها الجهد لتنظيم أسباب الإنتاج ووضع المراقبة على أسواق المقايضات ليكون من ثم للمنافسة حد محدود ويقلل من معاودة الأزمات وإضعاف شدتها إذا حدثت.
وعلى الجملة الجهاد الشخصي على أشده في ألمانيا ولكن لا يؤدي فيها إلى فوضى الأفراد وربما كان ذلك من الصفات التي اختص بها هذا العنصر.
اللماني يقلى شعوره بالنسبة لغيره من الأمم الأخرى في الحاجة إلى ترقية شخصيته ترقية تامة فيختار برضاه أن يحشر نفسه في بعض أعمال خاصة ينصرف إليها بجملته. ويؤثر(32/47)
عن طيب خاطر أن يفادي بجزء من شخصيته وذاتيته ويكتفي كما يقول التعبير الألماني بأن يكون منه جزء من إنسان بل أن يكون منه أخصائي يقوم أحسن قيام بعمل اختص به كل الاختصاص دون أن يعني بما يخرج عن الدائرة التي وضع نفسه فيها وآلى أن لا يتعداها. ومن أجل هذا السبب يختار أن يشرك غيره معه وأن يكون تبعاً له ولا يرى حرجاً في الانضمام إلى الجماعات التي تكثر في ألمانيا.
يؤثر الألماني أن يجعل نفسه جزءاً متمماً لبناء متسع تتألف منه آلة تختلف الحاجة إليها والاستغناء عنها. وهو يسعد بأن يفادي بحظ نفسه من أجل منفعة تأتي ببعض الأعمال الكبرى ويخلص في سبيل نجاحها. وبالجملة إن في الألمان غريزة التهذيب بنظام واحد فيحسن الألماني الطاعة كما يحسن الأمر ويعرف كيف ينفذ الأوامر الصادرة إليه على غاية التدقيق كما يعرف بذل الهمة في الدائرة المختصة به.
الشعب الألماني يخرج الأعضاء النافعة الرائعة من بنيه ممن هم عمد أبنية المجتمع الضخمة اللازمة للقيام بالأعمال المهمة من جيوش وطنية وإدارات كبرى ومشاريع متسعة من مالية وصناعية وتجارية ونقابات.
الألماني لا ينفك عن الانضمام والتآلف حتى في الفنون التي من شأنها الانفراد وإنك لتراه حتى في الموسيقى يجري على نغمة واحدة. وهذا الذوق في الاشتراك والخضوع طبيعي فيه فهو لا يكره على الخشوع للنظام صاغراً بل يقوم به والسرور ملء جوانحه. هو أخصائي يلذه ما هو فيه ولا يأسف على ما يبقى خارج أفقه على الدوام. نعم هو يقتنع بالوقوف دون حدود كفاءته والسرور يبدو عليه ممزوجاً بالزهد وربما ظهر عليه شيء من الاحتقار والاستهزاء بالذي يعرف القشور ويحشر نفسه فيما لا يعلم ويدعي أنه يناقش بل يحل المسائل السياسية والدينية والفنون والأخلاق. صاحب الجد في الألمان يحتقر بفطرته المرتجلين والمقتنصين الذين يخبطون ويخلطون ومعلوماتهم ناقصة وسطحية ممن يعانون كل موضوع ويتسلقون عليه وليس لهم سلاح ماض من الكفاءة ومن خلق اللماني أن لا يلقي بنفسه خارج المحيط الذي يعرفه وإن شئت فقل أنه يقل فيه الفضول ويرى ن غاية العالم هو ما اختص به وتفرد بعلمه.
كان من نتائج هذه الغريزة في الألمان من الخضوع للنظام وترتيب طبقات المجتمع عندهم(32/48)
أعظم حافظ للأمة. الفكر الشخصي في ألمانيا ثاقب للغاية ولا يتلكأ أمام مشكلة مهما كانت ويبحث فيها كلها مستقلاً كل الاستقلال. على أنه يكره التطرف في حلها. فليست ألمانيا من حيث الأمور الدينية مثلا جاحدة ولا كهنوتية ولا تنبذ اكتشافاً من مكتشفات من ينكرون الوحي من طريق العلم بل ترى أبداً إبداء شيء من الاحترام للحكمة الغريزية الظاهرة في الشعور الديني في الإنسانية وهي تحاول أن توفق ما أمكن بين العلم والإيمان والحقيقة العقلية الحقيقة التقليدية كما أنها في الشؤون السياسية تقصد إلى أن تمتع رعاياها بمبدأ السلطة ومبدأ الديمقراطية فلا تقبل أصلاً السلطة الاستبدادية المطلقة بل ترى احترام الحكومة المطلقة لما فيها من ترتيب الطبقات. فالديمقراطية الألمانية لا تطلب أن بيدها وحدها سعادة الأمة بل ترى عن رضا أن يشترك في السلطة معها زعيم عالي المقام لا توجده هي بل يكون مما أوجدته التقاليد.
وبعد فنه يتجلة أن ألمانيا بفضل معنى النظام والترتيب المغروس في أبنائها آخذة في الترقي لإدراك معنى التكافل في الحياة الذي هو على التدريج مهذب بل متمم لمذهب حرية المنافسة ومن هذا على ما أرى كان ارتقاءها موضوع إعجابنا في الأكثر. فإن انتشار الأحزاب السياسية والعصابات الاجتماعية ونقابات أرباب الأعمال والمعامل والعملة واتساع دائرة أعمال الضمانات الاجتماعية كلها تدل على ما تم لفكر التكافل من النجاح النامي. فحل بالتدريج الشعور بضرورة الجهاد في التكافل لإحراز القوة محل هيجان المنافسة العامة والحرب التي يثيرها الفرد على المجموع. فألمانيا تتوقع وترجو أن يكون لها بعد دور الانقلابات العظيمة والتقلقل وقلة الأمن الناشئين من ارتقاء مذهب حرية العمل ما تدخل معه في دور النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يكون إلى السلامة مرتباً على قانون ثابت وإيمان وخلق أقل تردداً. فهي تطمح بذاك الجهاد العظيم في سبيل الوحدة السياسية والثروة المادية أن تنهض نهضة الشمير نحو الكمال في التهذيب والتكمل في التفنن. ولا شك ن هذا مما تقرأ في صفحته جمال المستقبل. ويكفي في هذه الآمال على ما يتسرب إليها من الريب أنها لا تبدو غير ممكنة التحقيق في عيون الألمان فينظرون الطريق التي قطعوها بما يحق لهم من الإعجاب ويرون المستقبل الذي إليه يسيرون بشيء من حسن الظن فيه.(32/49)
بقي علينا الآن أن نثبت أن الشعور التكافلي لم يبرح وطنياً صرفاً عند الألمان فالألماني يشعر بأن مسئوليته في التكافل مع ابن جنسه لا تزال في زيادة أما مع سائر الأمم فإنه لا يرى بأساً من الانطلاق في حريته ومنافستها.(32/50)
سير العلم والاجتماع
خرائب منفيس
قدم الأستاذ فليندرس بتري تقريره عن أعمال البعثة الإنكليزية الثرية في مصر وقد جاء فيه أن هذه السينة صرفت كلها في البحث في خرائب منفيس القديمة فعنيت البعثة أولاً أن تعين مواقع الأبنية المهمة المختلفة التي ذكرها كتاب الروم ولاسيما هيرودتيس فوجدت مذبح معبد باتا العظيم وبيت الحياة الذي كان سطحه عبارة عن ستمائة متر طولاً وأربعمائة وخمسة وستين متراً عرضاً. وعثروا على عدة شهادات تدل على ارتقاء التمدن ولا سيما على مصانع ترجع إلى الدولة الثامنة عشرة (1800 سنة قبل الميلاد) ومن جملة هذه المصانع رفوف لتوضع عليها النذور يشاهد عليها آذان نقشت عليها هذه العبارة: يا بانا اسمع لدعوة من يدعونك ممن يعبدونك وأهم اكتشاف في هذه المصانع اكتشاف الحارة التي كان التجار الغرباء مقيمين فيها وموضع معبد الزهرة الآسياوية هاتور. وفي هذه الأماكن ظفروا بأوان خزفية والظاهر أنها مما صنع في غير مصر ومنها يستدل على ما كان بين سكان منفيس والأمم القاصية من الصلات كما عثروا هناك على تماثيل لملوك الفرس وعساكر الفرس وقبائل السيتيين وعلى تمثال لا شك في أنه هندي الصل وهو يمثل رجلاً بوذياً. وعثروا أيضاً على رؤوس يونانية مختلفة الأشكال. وكل هذه الآثاؤ وغيرها تثبت أن سكان منفيس كانوا أخلاطاً من النزلاء والدخلاء واكتشفوا ما لم يكونوا يتوقعونه وهو مصنع جميل أنشأه آخر ملك من السلالة التاسعة عشرة المصرية واكتشف بالحفر في ضواحي سوهاج في مكان مدينة أتيبري القديمة بقايا معبد للبطالسة الذي أنجزه بعد زمن كلود وهاردين ثم اكتشفوا بقايا كنيسة كاتدرائية أنشئت على عهد قسطنطين.
العدوى من الحمى
كان المقرر عند الأطباء أن ن يصاب الحمى التيفوئيدية ويبرأ منها لا يحمل جراثيمها إلى غيره ويبقى جسمه مطعماً بها ولكن ثبت في إنكلترا الآن أن من تصيبه هذه الحمى الخبيثة وينجو من أخطارها يبقى مدة ولو عوفي كل المعافاة والاقتراب منه ينقل العدوى إلى السليم المستعد لقبول جراثيمها فرأت إنكلترا أن تسن قانوناً يمنع الناقهين من الحمى التيفوئيدية من الاختلاط بغيرهم وقد كانت ألمانيا سبقت منذ بضع سنين وقضت على من يسلمون من(32/51)
فتكات هذه الحمى أن يخضعوا زمناً لنظام التطهير وتفحص أجسيامهم في محطات بكترولوجية تقام في جميع البلاد المصابة بالحمى.
إصلاح الساعات
أجرى الأستاذ بيكوردان الفرنسوي في فيينا تجارب بالتلغراف اللاسلكي لأجل إصلاح الساعات الدقاقة والكبيرة بحيث يتيسر بعد الآن حتى على من لم يسعدهم الحظ بمعاناة صناعة الساعات أن يصلحوا بأنفسهم ساعاتهم.
جرذان الماء
هذا الجرذ يسمونه يشبه جرذان الماء وهو في الأصل من جبال نروج وكثير التناسل جداً ولذلك يضطر إلى الهجرة فينزل من الأعالي أسراباً أسراباً يخرب ما في طريقه من الغلات حتى ينتهي إلى شاطيء البحر فيقذف نفسه فيه حتى يغرق أحياناً وكثير منه تسطو عليه أثناء مسيره العقبان والبواشق والنسور والبوم أو غيره من الكواسر ولكن منه ما يصل إلى السويد ويتناسل فيها أي تناسل على كثرة محاربة السكان له لإبادته ومن المحتمل أن هذا الجرذ ينقرض بعد بضع سنين من تلك البلاد إن لم يهرب على بلاد أخرى في أوروبا وينتشر بين أهلها على غرة منهم.
غرفة ساكتة
أنشؤوا في مدينة أوترخت غرفة مبنية على صورة تمنع وصول الأصوات من خارج مهما بلغت من الشدة وتؤلف جدرانها من حائطين جعل كل منهما من عدة طبقات من المواد المنفصلة بعضها عن بعض بفراغ والحائط الداخلي منها قد جعل ظاهره وباطنه من القش والطباشير والحائط الخارجي من الخشب والرمل وحجر الكذان والجبس فيكون مجموع الطبقات ستاً ما عدا طبقات الهواء وكذلك يصنعون سقف تلك الغرفة وأرضها وطولها متران وربع ويدخل إليها من بابين وهي لأجل التجارب الفسيولوجية.
فسيفساء رومية
وفق المسيو تورنو المهندس في سلانيك إلى تنظيف قطع من الفسيفساء البيزنطية في كنيسة سالت صوفي (ايا صوفيا) في سلانيك وكانت مغطاة بدهان من الزيت وأرجعها إلى(32/52)
حالتها الأولى وقد تبين له أن صورة العذراء الموضوعة في صدر الكنيسة قد صنعت في القرن الثامن للميلاد. وهذه القطعة ثمينة جداً لأنها من صنع ذاك العصر.
رواتب الملوك
يقبض قيصر روسيا أربعين مليون فرنك راتباً سنوياً ويقبض إمبراطور النمسا والمجر ثلاثة وعشرين مليوناً وإمبراطور ألمانيا عشرين مليوناً وملك إنكلترا اثني عشر مليوناً وملك إيطاليا عشرة ملايين أما رئيس جمهورية الولايات المتحدة فيأخذ ربع مليون ورئيس جمهورية فرنسا مليوناً ومائتي ألف فرنك.
الخادمات الفرنسويات
تشكو فرنسا من قلة خادماتها مع أن فيها سبعمائة ألف امرأة تخدم في البيوت إلا أن عدد الخادمات كان فيها منذ عشرين سنة ضعفي ما هو عليه الآن ولذلك كثر الخادمات الألمانيات والسويسريات في فرنسا حتى أصبحن عشر الخادمات من أبناء البلاد لأن أكثر بنات الفقراء في فرنسا أصبحن يؤثرن الخدمة في المعامل ليكون لهن أوقات يصرفنها في الراحة على النحو الذي يرون بدون تقيد في الخدمة.
البرتستانت
أحصى أحد علماء كوتنغن عدد من يدينون بالمذهب البرتستانتي فقال ان الولايات المتحدة 65 مليون من أهلها الذين يبلغ مجموعهم 79 مليوناً وفي إنكلترا 37 نمليوناً من أصل 42 مليوناً وفي ألمانيا 35 مليوناً من أصل 56 مليوناً وفي فرنسا سبعمائة ألف فقط وعددهم لم ينم منذ قرن فمجموع من ينتحلون البرتستانتية في العالم 180 مليوناً منهم 114 مليوناً يتكلمون الإنكليزية.
أرباح الأمم
معدل ما يصيب الفرد في إنكلترا من الأرباح نحو 28 غرشاً في اليوم وفي الولايات المتحدة 24 وفي فرنسا والبلجيك نحو 22 وقد قدر أحد علماء الاقتصاد من الألمان مجموع ثروة العالم بألف ومائتين وخمسين ملياراً من الفرنكات أي بنحو ثلاثين ضعفاً مما يستخرج كل سنة من مناجم الذهب منذ عرف فن الإحصاء. والحبوب والمواشي من أعم عوامل(32/53)
الثروة.
اتقاء الانتحار
أنشأ جيش السلام في لندرا منذ سنة مكتباً للانتحار أتى بفوائد جليلة فجاءه 1125 رجلاً و90 امرأة شكوا غليه أمرهم وباحوا إليه بما انطوت أنفسهم عليه من اليأس فخفف عليهم ما نابهم. وهذا المكتب لا يوزع على من تحدثهم أنفسهم بالانتحار مالاً بل نصائح وحكماً فقد كان منه أن أعان كثيراً من السوداويين على الخلاص مما نالهم فهو يقوي الأمل في القلوب الميتة وأعضاؤه يدلون على شعور إنساني وفراسة في أحوال النفس ولذلك نبه أولئك الأعضاء راقد الشجاعة وتلافوا مصائب كثيرة.
أكلة الأعشاب وأكلة اللحوم
أظهرت أبحاث أحد علماء الصحة في الولايات المتحدة في التفضيل بين أكل الأعشاب وأكل اللحوم وأيهما أنفع للإنسان فتبين منها أنه ربى إوزاً باللحوم وإوزاً بالحبوب فأثبت الاختلاف الذي نتج عن تربيته في تراكيبها التشريحية وأن ما غذاه منها باللحوم أصبح أسفل معدها رقيقاً جداً وما غذي بالحبوب أضحت غليظتها وأن الأحشاء تطكول بحسب نوع الغذاء الذي يتناوله الحيوان فالإوز الذي غذي باللحم كانت أحشاؤه أطول من غيره وقد تناقل العلماء تجارب العالم الأميكي وقالوا أنها فتحت لهم باباً جديداً للنظر في أيهما أسلم التغذية بالأعشاب والبقول أم التغذية باللحوم والشحوم.
التماسيح والنوام
يهلك بالنوام أو مرض النوام كل سنة ألوف من البشر في أفريقية ولذلك تتحد الحكومات التي لها أملاك في هذه القارة جميع الذرائع لاستئصال هذا المرض وقد استبان من تجارب لافران أن هذا المرض ينشأ من دخول جرثومة في الدم يحملها البعوض المسمى تسي تسي وأن هذه الجراثيم تختار النزول في فك التمساح فتنمو فيه أولاً.
الصينيون في يابان
أصبحت بلاد اليابان في الشرق مثل برلين وباريز في الغرب مدرسة ترسل النور إلى الأقطار فلم يدن في مدارسها منذ ثماني سنين غير ثمانية تلاميذ من أبناء الصين وأصبح(32/54)
فيها الآن عشرة آلاف وزاد فيها تلاميذ الهنود ثلاثة أضعاف ما كانوا منذ حرب الروس الأخيرة.
مركبة ضخمة
أنشؤا في إنكلترا مركبة ضخمة تجرها الخيول فتطوف القرى والمدن وتبيع المشروبات والمأكولات وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسم قاعة كبرى وغرفة للنوم وغرفة تعرض فيها النموذجات والأمثلة وهي مفروشة أحسن فرش فهناك يكرعون المشروبات ويدخنون ويقصفون على ما يشتهون.
إبادة الجرذان
لم تجد نظارة المالية في إنكلترا المال اللازم لإعانة الشيوخ المعدمين وقد اقترح عليها أن يجبي رسماً تستخدمه في هذا السبيل من إبادة الجرذان لأنها تخرب كل سنة ما يقدر بعشرة ملايين جنيه وقد ثبت أن ميكروب نومان يبيدها فلا يبقى منها ولا يذر فإذا خلصت إنكلترا من جرذها تستطيع حكومتها أن تضرب ضريبة تعادل ما كانت الجرذ تخضمه وتقضمه في العام فتستعمله في إعالة البائسين من الهرمين.
فراش موسيقي
اخترع أحد العملة في جنوة فراشاً لا يكاد يستلقي عليه الإنسان حتى يأخذ بضرب موسيقى متساوقة الألحان تطرب سامعها ولاسيما من كان مؤرقاً فيزور الكرى مقلتيه. وعلى العكس فيمن كان كسلاناً لا يريد فراق فراشه فإن ذاك العامل المخترع ابتكر فراشاً آخر ذا ساعة دقائقه توقظه من نومه في الساعة المعينة على نغمات منكرة فلا يسعه إلا أن يبادر بالنهوض.
تعليم الفلاحين
ارتقى التعليم كثيراً في شمالي أوروبا ولاسيما في الدانيمرك فإنك تجد فيها مدارس خاصة للمزارعين فيختلف الرجال والنساء منهم إليها يتعلمون فيها الكيمياء وفن الطبخ وكل ما له علاقة بالزراعة وتربية المواشي ويلقى كل شهر محاضرات عليهم جماعة من المحامين أو من الطلبة الدارسين وهكذا بلغ الفلاحون درجة من الارتقاء العقلي تفيدهم في أعمالهم.(32/55)
البيوت في أميركا
تقول إحدى المجلات الأوروبية أن مساكن أهل الطبقة الوسطى في أميركا أحسن حالاً ونظاماً مما هي في أوروبا والسبب في ذلك أنها مبنية على شكل لا يحتاج معه إلى عمل زائد فلا ترى فيه أشياء تعلق على الجدران ولا غرفاً للتزين والتبرج وأن سر هذا الانتظام ناشئ عن أن كل فرد في البيت يعمل فغي ترتيبه بحسب حاله وشأنه حتى أن رب الأسرة نفسه يتعاطى في إصلاح فرش داره وأثاثه ما تتعاطاه زوجته.
مدفع سريع
صنع أحد مخترعي الإنكليز مدفعاً تقطع قذائفه ثلاثين ألف قدم في الثانية بحيث أنه يتأتى للإنكليز أن يحاصروا باريز من لندرا وهم في بلادهم فيرسلون على أعدائهم القذائف فتسير بقوة الكهرباء كالبرق الخاطف.
السمك النافع
قالوا أن جزائر بارباد هي السالمة وحدها من بين جور الأرخبيل من حمى الملاريا فليس فيها البعوض ذو الجناحين الذي ينقل عدوى هذهالحمى وقد بحث أحد ضباط الإنكليز في تلك الجزائر عن سر نجاة بارباد من هذه الحمى فتبين له أن في جميع بطائح تلك الجزائر أسماكاً كثيرة يسميها السكان لكثرتها الملايين وهذا السمك يأكل ديدان البعوض الناقل للحم، وقد نقلت كمية وافرة من هذه الأسماك إلى جزائر الجامايك وكولون وكوبان وغيرها من جزر أفريقية فعساها تأتي على تلك الديدان فلا تبقى للملاريا أثراً وتوفر الأنفس بحسناتها وقدومها الميمون.
التنويم والجرائم
أعلن الدكتور هبرت خلاصة أبحاثه في الاستهواء بالتنويم المغناطيسي فاستنتج بأنه في عدة أحوال في الجرائم يجب البحث عن التأثيرات التي تأثر بها القاتل بإرادة أقوى من إرادته والنظر فيما دعاه إلى ارتكاب ما ارتكب وفيما إذا كان المجرم في أول أمره حسن المنازع ففسد بالقدوة أو بقوة الاستهواء المغناطيسي الآتية عليه من غيره ودلت التجارب التي جرت مؤخراً في باريز على أناس متهمين بالاشتراك ببعض الحوادث الكبرى(32/56)
بواسطة تنويمهم لتعديل حالتهم النفسية كل التعديل على أن التأثيرات ممكنة كما دلت أيضاً بأنه كان كثيراً ما يصعب جداً إرجاع المنومين على هذه الصورة إلى حالتهم الطبيعية الاعتيادية. وقد ثبت من بحث الدكتور هبرت بأن عصابة من اللصوص أو القتلة مثلاً يؤثر فيها زعيمها تأثيراً يخضع إرادات أصحابه لسلطانه فيحركهم كما يحرك نوابض (زنبلكات) ساعة دقاقة فتطيعه وتجري طوع يديه. ثبت ذلك بعدة حوادث في تاريخ الجرائم. وأورد الباحث المشار إليه عدة أمثلة غريبة جداً في الاستهواء فقال أن فتاة كانت تطرب الناس بالضرب على الكمنجة مع جوق موسيقى ولكنها لم تكد تستطع أن تبرهن على اقتدارها وذكائها إلا إذا انفردت وحدها بدون أن يختلط ضربها بضرب رفيقاتها وعندما كان يخلو لها الجو ولا ينغص عليها عملها منغص ولا تخضع لإرادة إرادتها لأحد كانت آية في ضربها وكلما كانت تشعر بأن رفيقاتها مسلطات عليها كان يستحيل عليها أن تبدي مواهبها فكانت من ثم ضرباً من ضروب الاستهواء ومن أهم ما لاحظه الدكتور بأن بين الرجل والمرأة عداوة طبيعية في تنازع البقاء فإن أحدهما يحاول بدون شعور منه أن ينزع من صاحبه أو يقلل من اقتداره الشخصي والعقلي ومن رأيه أن هذا أحد نتائج قانون بقاء الأنسب واستدل من ذلك بأنه يجب على كل امرئ أن يحذر من الاستسلام لغيره في مقاصده وعمله على غير روية وسعة نظر.
مخدر جديد
جرب المستشفى الوطني في لندرا مخدر جديد اسمه نوفوكايين ويظهر أنه سينافس مادة الكوكايين المخدرة المعروفة وذلك لأن تأثيره مثلها ولكنه يدوم التخدير به أكثر والتسمم به أقل وثمنه ارخص وهو ينفع في تخدير الأسنان كما ينفع في غيرها.
الذهب الأبيض
اكتشف في كولومبيا منجم جديد من البلاتين أو الذهب الأبيض وكان لا يعدن في تلك الأقطار حتى الآن غير الذهب المعروف ومعلوم أن كولومبيا غنية بمناجمها المختلفة وأن كثيراً منها لم يجر تعدينه بهد وأن ندرة هذا النوع من الذهب وكثرة استعماله قد زادت في قيمة هذا الاكتشاف.
الإلحاد في ألمانيا(32/57)
تنادي الصحف المعتدلة في ألمانيا الآن بالويل والثبور على تسرب الإلحاد إلى نفوس الطبقة المستنيرة من الأمة حتى كاد أهل هذه الطبقة في ألمانيا يشبهون بأمثالهم في فرنسا قائلة أن الإلحاد يودي بالأمم ويجعلها أسفل سافلين وقد نسب أحد علمائهم انهيال الزندقة على الألمانيين لمجلة شهرية اسمها طريقة العالم الجديدة جعلت ديدنها الاكتفاء بذكر النظريات الجديدة التي اكتسبتها العقول والشبان من ارتقاء العلم ولاسيما علم الباليانتولوجيا (علم المطمورات من نباتات وغيرها) والجيولوجيا (طبقات الأرض) ومذهب النشوء وهذه المجلة انتشرت في كليات الألمان ومدارسهم انتشاراً كان منه تأثيرها السيء في الأفكار. وشتان بين أمة تدخل إليها الزندقة فتسعى إلى مداواتها والنظر في أسبابها وبين أخرى تدخل إليها فتعدها من دواعي المدنية والارتقاء.
مكتبة الجيب
يتحدثون في أوروبا بطبع كتب على صور مصغرة جداً لا يتمكن من قراءتها إلا بالمجهر ولهذه الطريقة من تصغير حجم الكتب فوائد كثيرة أقلها أنك تستطيع معها أن تحمل في جيبك مكتبة برمتها. فلله در التفنن.
الجمال عند المالايو
يرى أهل شبه جزيرة مالايو في الهند الصينية أن الجمال بطول العنق على العكس مما يراه بعض أمم الشرق وأكثر أمم الغرب بقدود ممشوقة وعيون دعج وتناسب في الأعضاء ولذلك يضع أهل المالايو في أعناق بناتهم منذ ولادتهن أغلالاً من الحديد تضطرهن إلى أن يجعلن رؤوسهن مستقيمة.
إطالة الشباب
يرى الطبيب تراسي الأميركي أن الإنسان لا يعاجله الهرم إذا لم يعش هذه العيشة الحديثة التي تخل بتركيب جسمه وأن معظم الهرم العاجل يجيء من الإفراط في المأكل واستعمال الكحول فيمتزج الدن بمواد سامة لا تفرز منه وتتفقد الشرايين مرونتها وتتصلب بما يتوالى عليها من الضغط ولا يخفف هذا الضغط عن المجاري إلا بالتدقيق في الأكل والشرب واستعمال الكهربائية وبذلك يطول أمد الشباب لأن هذه المجاري تقلل من ضغط الدم وتقوي(32/58)
الإفرازات وتؤثر تأثيراً ميكانيكياً في الأنسجة.
رعاية الأطفال
اسفت مجلات إنكلترا لفقدها رجلاً كبيراً اسمه بنيامين وغ كان الحركة الدائمة في جمعية رعاية الأطفال في إنكلترا فبفضله قويت قوة عظيمة ولها الآن في إنكلترا 1137 مأوى للبنات وترعى مائة ألف طفل وتحميهم من بوائق الأيام وأنواع الفظائع والآثام.
الخيول
ظهر إحصاء بعدد الخيول في العالم المتمدن فتبين منه أن الجمهورية الفضية أكثرها خيولاً ففيها 4762340 أي 112 حصاناً لكل مئة ساكن ثم تجيء سيبريا وفيها يصيب كل مئة ساكن 85 حصاناً ثم الولايات المتحدة وفيها 62 في المئة ثم إنكلترا وفيها 13 في المئة ثم فرنسا 7 وألمانيا 5.
وادي موسى
عني المسيو ألوا موزيل العالم النمساوي بالرحلة إلى وادي موسى في بلاد العرب المعروفة عند الإفرنج ببترا أي العربية الصخرية وقد أصدر الجزء الثالث من رحلته الآن فجاء فيه أن مجموع سكان تلك البلاد يبلغ سبعين ألف نسمة ينقسمون إلى 48 بطناً يجمعها جد واحد يحترمون قبره. وكان من انقطاع هؤلاء السكان عن الاختلاط بغيرهم أن حفظت لهم أخلاقهم الأصلية حتى أن كثيراً من الأشياء التي لا تفهم من شعر الجاهلية إذا درس المرء ما كتبه هذا العالم عن أخلاق سكان وادي موسى وآثارهم وأصولهم ولغتهم وشعائرهم الدينية تتجلى له كل التجلي فقد بقي في أعمالهم الدينية وفي ذبائحهم وضحاياهم خاصة علامات جوهرية من الأديان السامية القديمة حتى أن تاريخ الخرافات عندهم يرد إلى عهد قديم جداً فمنها أنهم يعتقدون بأم المطر عندما يضر الجفاف بمزروعاتهم فيعمد النساء إلى اتخاذ عصاوين يجعلونهما على شكل صليب ينطن به قميصاً ويطفن الأرض التي تشكو قلة المطر منشدات أغاني أوردها المؤلف. ولم يقف تأثير عادات الجاهلية فقط عند هذا الحد في عادات سكان وادي موسى ومعتقداتهم بل أن النصرانية أثرت في مسلمي الكرك آثاراً لم تبرح بادية للأعين فمنها أنهم يعمدون أولادهم على يد قسيس مسيحي ليضمنوا لهم بذلك صحة جيدة وقد أثنت المجلات العلمية على مؤلف هذا الكتاب وقالت أنه منجم فوائد(32/59)
ولم تكن للغربيين معرفة بها من قبل.
أندية العملة
جعلت للعملة في بلاد الإنكليز منذ سنة 1862 أندية خاصة يأوون إليها آونة فراغهم ولا يكونون فيها عرضة لتعاطي المشروبات الروحية وما برح المشتركون فيها ينمون حتى غدت وارداتها تكفيها. وفي إنكلترا 1100 ناد ينفق الفرد فيها كل أسبوع ثمن مشروبات ودخان ومياه معدنية شليناً واحداً ومنها مائتا ناد لها صفة سياسية وجميع هذه الأندية تمثل عامة الآراء والمذاهب وتنشئ محاضرات ومسامرات وسماعاً ومعارض زهور وأعياد إحسان ولكل ناد مال خاص ينفق منه على فقراء المقاطعة التي هو فيها. وأهم ما تمتاز به أندية العملة الامتناع عن المشروبات الروحية والإحسان لمن جار عليه الزمان من أبناء بلادهم ولبعضها خزائن كتب سيارة تطوف البلاد ليطالع فيها الناس مجاناً.
أخلاق المالغاشيين
المالغاشيون سكان جزيرة مدغسكر لهم أخلاق وعادات غريبة من حيث عفة لنساء وإليك ما وصفهم به أحد علماء الإفرنج قال: إن ما يطلب من المرأة المالغاشية هو أن تطبخ في أوقات معينة الأرز والمرق الذي يؤكل معه في العادة وعلى ما ينبغي وأن ترتب شؤون البيت وترتب الثياب وتدير بحكمة أملاك بيتها وهذا في الغالب من خصائصها وأن تلد لزوجها أولاداً كثيرين هذه وظيفة ربة المنزل الأساسية وما عدا ذلك فإنها إذا حافظت على عفتها فبها ونعمت ويعد كمالها نوراً على نور مع أنه قلما يلتفت إليه أو يقلق من أجل فقده. الفتاة المالغاشية حرة باستخدام جسمها على النحو الذي تريده. وليس في اللغة المالغاشية لفظ مرادف للعفة والبكارة حتى المرسلين في بعض أنحاء تلك البلاد التي دانت حديثاً بالنصرانية اضطروا إلى أخذ كلمة بكارة من اللغة الإفرنجية يستعملون جملة للدلالة على لفظها فيقولون طهارة السلوك وطهارة القلب للتعبير عن العفة. ولم يستطع أولئك المرسلون أن يعبروا عن تبتلهم إلا بأنهم قالوا أن الله بعث بهم ليكون آباء للمالغاشيين فلا يجدر بالأب أن يتزوج من بناته.
يبلغ الولد سن الحلم هناك في الثامنة أو العاشرة من عمره والبنت قبل هذه السن أحياناً. ولا سبيل إلى تحديد وقت يرتكب فيه الأولاد ما يرتكبون من الخطيئة للمرة الأولى والأم(32/60)
تنظر إلى بنتها إذا أتت منكراً نظرة المسرورة المغتبطة كما أن الأب ينظر لابنة إذا فعل ذلك نظرة تفاخر إلا أن بعض الأمهات يدفعن عن بناتهن عشرة الصبيان الذين هم أكبر سناً منهن. وإنك لتجد هناك في مدارس القرى والمدن النبات والصبيان المتزوجين يتعلمن معاً والزوج في العاشرة والمرأة دون ذلك فإذا جاء المساء تهيء الزوجة لزوجها طعامه وهو يكدح لها بأن يجلب الرز واللحم ويحتطب أو يكتسب بعض دريهمات. وعبثاً حاول المرسلون والمعلمون ورجال الحكومة والإدارة هناك أن يعدلوا من هذه العادات في المالغاشيين ولكنها ما تزال راسخة.
على أن هذا الاقتران قليل البقاء وكلا لازوجين متقلب وكل أمر سائغ بدون أن يمس شرف أحد الزوجين. وتحسن المرأة سلوكها بعض التحسين عندما تلد أولاً وليس من العار أن ترزق أولاداً من آباء مختلفين بل أن زوجها لا يرى من الشنار أن يقبل أولاد غيره مع إيقانه بذلك ويعاملهم كما يعامل من تلدهم زوجته منه من الأولاد.
وهذه الحال في أخلاق المالغاشيين وإن كانت أقل مما هي عفي أوروبا ولكنها غير مموهة وليس فيها رياء كما في أوروبا حيث تحتقر الابنة التي تلد من السفاح ويحتقر ابنهم ويستنكف الناس من الاقتراب منه أما المالغاشي فيرى أن الوليد غير مسئول عما نقص من عدم مراعاة أبويه لشروط الزوجية وهي التي ينبغي أن تسبق ولادته في العالم المتمدن بيد أن كثيرين من الأوروبيين على ما فيهم من التقى جديرون بأن يأخذوا في هذا المعنى عن المالغاشيين المتوحشين. والداعي إلى هذه الحالة في المالغاشيين هواء بلادهم الذي يحرك النفوس منذ الصغر ثم أن الأزواج لا يرون بأساً في أن يناموا مع أولادهم ولو كبروا في محل واحد بل على حصير واحد. فيتعلم الطفل ما يتعلم منذ يأخذ في الإدراك. والجنود الأوروبيون المقيمون هناك لا يسعهم إلا أن يتزوجوا المالغاشيات ويلد لهم منهن. والبنت إذا حملت قبل أن يعرف لها زوج تفرح بما تلد هي وأهلها ن الناس في تلك الأصقاع يرون أن الغاية من الزواج تكثير النسل فلا بأس بالأطفال من أي الطرق جاؤوا.
ثم أن المعيشة هناك سهلة للغاية، فطعام الجميع الأرز ملتوتاً بشيء من مرق اللحم أو اللحم أو السمك والبقول المعروفة عندهم والماء الصرف يتساوى في ذلك الفقير والغني ولماذا يهتم المالغاشيون إذا كثر أولادهم ما دامت غاباتهم مملوءة بالشمع والمطاط بحيث لا تنضب(32/61)
مهما نقلوا منها وباعوا وبيعها ميسور لهم ثم أن الأولاد لا يلبسون ثياباً غلا بعد السنة الثانية من أعمارهم ويظلون كما ولدتهم أمهاتهم عراة فإذا جاوز الولد هذه السن يعطى قطعة من الخيش أو الجنفيس يلبسها أوي فتقتطع له قطعة من ثياب أمه وأبيه. وإنشاء البيوت هناك سهل للغاية ففي الغابات متسع ليقطع منها خشب البناء وفي المروج من جذوع أشجارهم ما يجعلونه حواجز وحيطاناً ومن الخيزرو ما يفرشونه حصيراً.
ثم أن القوم لا يهتمون بمسألة المواريث وقل أن يهتم الآباء أن يتركوا لأولادهم إرثاً قل أو كثر لأن هؤلاء لا يعرفون كيف يتصرفون به فالدراهم نادرة جداً عندهم والأرض لا قيمة لها وأراضيهم تكثير فيها البقاع التي تصلح لزراعة الأرز والمراعي. والماشية وحدها هي من العلائم الظاهرة على الثروة ولكنها شائعة بين أهل القرية لا يقسمونها ولا يدعى الأولاد لآبائهم بل على العكس يطلق على الأب والأم اسم والديهم وليس بينهم أثر للأسماء التي تنقل خلفاً عن سلف ويطلق على كل إنسان اسم خاص وله أن يغيره على ما يشاء متى شاء.
وبالجملة فإن أخلاقهم وعاداتهم على غرابتها أقرب إلى الطبيعة. هكذا قال الكاتب(32/62)
مطبوعات ومخطوطات
كتاب تأويل مختلف الحديث
للإمام أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ مصنفات كثيرة قبل أنها تربى على ثلثمائة مصنف وهذا الكتاب من أجودها. الفه بعد أن رأى ثلب أهل الكلام لأهل الحديث وإسهابهم في ذمهم ورميهم برواية المتناقض حتى كثر الاختلاف بين الأمة وقد تعرض في مقدمته لجل ما قاله علماء الكلام في حق رواة الحديث من الجمهور ومراده بأهل الكلام علماء المعتزلة إذ لم يكن هذا اللقب يطلق قديماً على غيرهم وأجاب عن اعتراضاتهم فيها بجواب مجمل وجعل تتمة الكتاب لتأويل الأحاديث التي ادعوا عليها التناقض أو المخالفة للكتاب العزيز أو المخالفة لصريح العقل الذي دل على اعتباره صحيح النقل. وأكثر في ذلك وأظهر ما اشتهر عنه من البراعة والإجادة فيما ينحو إليه ولكلامه وقع في النفوس وناهيك بمن قيل فيه أنه لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة. وهذا الكتاب يجدر بكل من له ميل إلى علم الحديث أن يطلع عليه. وهنا نكتة مهمة وهو أن ابن قتيبة كغيره من العلماء قد كثر الناقدون عليه في أكثر كتبه شأن كل عالم أطلق لقلمه العنان فينبغي للمطالع في كتبه أن يكون ممن له قوة في النظر (نظار) والكتاب وقع في 464 صفحة صغيرة مطبوع طبعاً في الغاية من الصحة والإتقان مقابلاً على ثلاث نسخ إحداها بغدادية والثانية دمشقية والثالثة مصرية وقد علق عليه مصححه الشيخ إسماعيل الخطيب السلفي الإسعر دي شرح بعض الألفاظ اللغوية وطبع علىنفقة محمود أفندي شابندر من تجار بغداد بمطبعة كردستان العلمية بمصر لصاحبها الشيخ فرج الله زكي الكردي فجاء من إنموذجات الكتب المعتنى بها فنشكر للقائمين بالإنفاق عليه وتصحيحه وطبعه كل الشكر.
المنهج المسلوك في سياسة الملوك
ألف علماء العرب عشرات من الكتب والرسائل أهدوها ملوكهم وبعضها لم يزل محفوظاً في خزائن الكتب ومن هذه الأسفار التي لم تمثل بعد بالطبع كتاب المنهج المسلوك لمؤلفه عبد الرحمن بن عبد الله من علماء القرن السادس ألفه برسم خزانة الملك الناصر صلاح الدين يوسف وقسمه على عشرين باباً منها بيان افتقار الرعية إلى ملك عادل وافتقار الملك إليه ومعرفة قواعد الأدب وأركان المملكة ومعرفة الأوصاف الكريمة والحث عليها ومعرفة(32/63)
الأوصاف الذميمة والنهي عنها وكيفية رتبة الملك مع أوليائه حال جلوسه وفضل المشورة وأوصاف أهلها وأصول السياسة والجلوس لكشف المظالم وسياسة الجيش ومصابرة المشركين واستماع المواعظ بعبارة سلسلة وأمثلة كثيرة. والكتاب في 140 صفحة متوسطة الحجم مطبوع بمطبعة الظاهر طبعاً نظيفاً متقناً على نفقة أحمد زكي أفندي أبو شادي ومحمد أفندي رشدي وثمنه خمسة قروش ويطلب من إدارة هذه المطبعة ومن المكاتب الشهيرة.
رسائل البلغاء
جردنا ما نشر في المقتبس من رسائل عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى الكاتب وحكمهما المثقفة ولكماتهما المأثورة حباً بأن تتناول جميع الأيدي من معين بلاغتهما وتنطبع الملكات بطابع الكتابة العربية البحتة فجاءت في مائة صفحة من مثل هذه الصفحات وبحرف كحرفها فعساها تنفع طلاب الآداب العربية والباحثين في الاجتماع والتاريخ والأخلاق وهي تطلب من إدارة المقتبس في القاهرة ومن وكلائه من الجهات ومن المكاتب الشهيرة في مصر والشام والعراق وثمنها فرنك واحد يضاف إليه ربع فرنك أجرة بريد.(32/64)
العدد 33 - بتاريخ: 1 - 10 - 1908(/)
الحسبة في الإسلام
وأربعة مخطوطات فيها
عني المسلمون في القرون الأربعة الأولى خاصة بإقامة شعائر الدين على أصوله لتكون مدنيتهم فاضلة كما عنوا بوضع القوانين المدنية استخرجوها من روح الكتاب والسنة ليعملوا بها في معاشهم ومدنيتهم واجتماعهم. وكان يتولى ذلك في الأكثر ولاة الأمر بمعونة العلماء العاملين فإذا ما ضعفوا في بلد أو ناحية يتولى علية القوم من عامتهم ما يصدهم عن خرق سياج الشريعة وإخلال قواعد المدنية الفاضلة حتى لا يجوز قويهم على ضعيفهم ولا يجاهر أحد بمنكر ولا يعتدي على حق ولا يعمل عملاً من شأنه أن يجعل المدينة فاسقة فاجرة لئلا تهلك كما هلك القوم الفاسقون. وقد سموا هذا العمل الحسبة بالكسر وهو الأجر وهو اسم من الاحتساب أي احتساب الأجر على الله تقول فعلته حسبة واحتسب فيه احتساباً والاحتساب طلب الأجر.
وقد وردت في الكتاب العزيز عدة آيات صريحة في وجوب الحسبة وورد عن الشارع الأعظم آثار كثيرة وكذلك عن السلف الصالح والعلماء والعاملين من أهل الصدر الأول. والحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً قسمت كما قسم الأمر بالمعروف إلى ثلاثة أقسام أحدها يتعلق بحقوق الله تعالى والثاني ما يتعلق بحقوق الآدميين والثالث ما يكون مشتركاً بينهما ويمكننا أن نقسمها إلى دينية ومدنية فالديني منها بطل من بلاد الإسلام منذ أصبحت حكوماتها لا تحافظ على جوهر الدين بالذات. والمدنية بقي أثر ضئيل منها في مصر خصوصاً إلى نحو أواسط القرن الثالث عشر للهجرة واستعيض عنها في بعض البلاد العثمانية بمجالس البلديات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن أصل الحسبة أن يعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك وبه أنزل الكتب وبه أرسل الرسل وعليه جاهد الرسول والمؤمنون. وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة غلا بالاجتماع والتعاون والتناصر فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم والتناصر لدفع مضارهم ولهذا يقال الإنسان مدني بالطبع فإذا جمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة وأمور يجتنبونها لما(33/1)
فيها من المفسدة ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد فجميع بني آدم لا بد لهم من إطاعة آمر وناهٍ فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياهم وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت ومنهم من لا يؤمن وما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت ولكن الجوزاء في الدنيا متفق عليه من أهل الأرض فإن الناس لم يتنازعوا إن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا روي أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة.
قال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره والقدرة هو السلطان والولاية فذوو السلطان اقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم فإن مناط الوجوب هو القدرة فيجب على كل إنسان بحسب قدرته أن يقول وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر وأولو الأمر أصحاب الأمر وذوو القدرة وأهل العلم والكلام فلهذا كان أولوا الأمر صنفين العلماء والأمراء فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس كما قال أبو بكر رضي الله عنه للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الأمر قال: ما استقامت لكم أئمتكم. ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر. أهـ.
وقال ابن الأخوة: الحسبة من قواعد الأمور الدينية وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن منكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية والكشف عن أمورهم ومصالحهم وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم وملبوسهم ومساكنهم وطرقاتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وقال الماوردي: الحسبة واسطة لين أحكام القضاء وأحكام المظالم فما ما بينها وبين القضاء فهي موافقة لأحكام القضاء من وجهين ومقصورة عنه من وجهين وزائدة عليه من وجهين فأما الوجهان في موافقتهما لأحكام القضاء فأحدهما جواز الاستعداء إليه وسماعه دعوى المستعدي علىالمستعدى عليه في(33/2)
حقوق الآدميين وليس هذا على عموم الدعاوي وإنما يختص بثلاثة أنواع من الدعوى أحدها أن يكون فيما يتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن والثاني ما يتعلق بغش أو تدليس في مبيع وثمن والثالث فيما يتعلق بمطل وتأخير لدين مستحق مع المكنة وللناظر في الحسبة من سلاطة السلطة واستطالة الحماة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة لأن الحسبة موضوعة على الرهبة فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلظة تجوزاً فيها ولا خرقاً والقضاء موضوع للمناصفة فهو بالأناة والوقار أحق وخروجه عنهما إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق أن موضوع كل واحد من المنصبين يختلف فالتجاوز فيه خروج عن حده.
وقال ابن خلدون أن الحسبة وظيفية دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها من الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين. ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع غليه. وليس له إمضاء الحكم فغي الدعاوي مطلقاً بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها وفي المكاييل والموازين وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره ثم لما تفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاماً في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية.
قلنا أن الناس كانوا يتولون الحسبة بأنفسهم عندما تضعف الحكومات لأن مصلحة أهل كل بلد لا تتم إلا بذب ذي بعضهم عن بعض والتواصي بالحق والجري من العدل على عرق.(33/3)
قال ابن الأثير في حوادث سنة إحدى وثمانين ومائتين أن المتطوعة تجردت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان سبب ذلك أن فساق بغداد والشطار آذوا الناس أذى شديد وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية وكانوا يأخذون ولد الرجل وأهله فلا يقدر أن يمتنع منهم وكانوا يطلبون من الرجل أن يقرضهم ويصلهم فلا يقدر على الامتناع وكانوا ينهبون القرى لا سلطان يمنعهم ولا يقدر عليهم لأنه كان يغريهم وهم بطانته وكانوا يمسكون المجتازين في الطريق ولا يعدي عليهم أحد وكان الناس معهم في بلاء عظيم وآخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطر بل وانتهبوها علانية وأخذوا العين والمتاع والدواب فباعوه ببغداد ظاهراً واستعدى أهله السلطان فلم يعدهم فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا إنما في الدروب الفاسق والفاسقان إلى العشرة وأنتم أكثر منهم فلو اجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفساق ولعجزوا عن الذي يفعلونه فقال رجل فدعا جيرانه وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجابوه إلى ذلك فشد على من يليه من الفساق والشطار فمنعهم وامتنعوا عليه وأرادوا قتله فقاتلهم فهزمهم وضرب من أخذه من الفساق وحبسهم ورفعهم إلى السلطان إلا أنه كان لا يرى أن يغير على السلطان شيئاً ثم قام بعده رجل من الحريبة من أهل خراسان فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بالكتاب والسنة وعلق مصحفاً في عنقه وأمر أهل محلته وهاهم فقبلوا منه ودعا الناس جميعاً الشريف والوضيع من بني هاشم وغيرهم فأتاه خلق عظيم فبايعوه على ذلك وعلى القتال معه لمن خالفه وطاف ببغداد وأسواقها.
إليك مثالاً مما حدث في حكومة الشرق الإسلامية عندما ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعض الشيء ومثله جرى في الغرب في مثل هذه الحالة فقد قال ابن خلدون أنه كانت لعهده في القرن التاسع للهجرة بالمغرب نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر ويعتني بذلك ويكثر تابعه وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعةا إلا أن الصيغة الدينية فيهم لم تستحكم لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة(33/4)
والنهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم فتجد ذلك المنتحل للدعوة القائم بزعمه بالسنة غير متعمق في فروع الاقتداء والاتباع وإنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم. انتهى.
هذا غاية ما يقال في تعريف الحسبة وشيء من تاريخها ولمعة من حالتها وقد ألف علماؤنا ما يربي على عشرين كتاباً في الحسبة المدنية خاصة أظفرنا البحث بأربعة منها حتى الآن وها نحن نتكلم على الكتاب الأول منها قال مؤلفه في مقدمته بعد البسملة والحمدلة والصلولة: أما بعد فقد رأيت أن أجمع في هذا الكتاب ما يستند من الأحكام إلى الأحاديث النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام مما ينتفع به هذا المنفذ لمنصب الحسبة والنظر في مصالح الرعية وكشف أحوال السوقة وغير ذلك على الوجه المشروع ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرياسته فاستخرت الله تعالى في ذلك وضمنته طرفاً من الأخبار وطرزته بالحكايات والآثار ونبهت فيه على غش المبيعات وتدليس أرباب الصناعات مما يستحسنه من تصفحه من ذوي الألباب والمعلوم المشهور أن الكتاب عنوانه عقول الكتاب وجعلته سبعين باباً يشتمل كل منها على فصول شتى.
الباب الأول: في شرائط الحسبة وصفة المحتسب
الثاني: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الثالث: في الخمر والآلة المحرمة
الرابع: في الحسبة على أهل الذمة
الخامس: في الحسبة على أهل الجنائز
السادس: في المعاملات المنكرة
السابع: فيما يحرم على الرجال استعماله وما لا يحرم
الثامن: في الحسبة على منكرات السواق
التاسع: في معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم
العاشر: في معرفة الموازين والمكاييل والأذرع
الحادي عشر: في الحسبة على الطحانين والعلافين(33/5)
الثاني عشر: في الحسبة على الفرانين والخبازين
الثالث عشر: في الحسبة على الشوائين
الرابع عشر: في الحسبة على النقانقيين
الخامس عشر: في الحسبة على الكبوديين والبواريين
السادس عشر: في الحسبة على الجزارين
السابع عشر: في الحسبة على الرواسين
الثامن عشر: في الحسبة على الطباخين
التاسع عشر: في الحسبة على الشريجيين
العشرون: في الحسبة على الهراسيين
الحادي والعشرون: في الحسبة على قلائي السمك
الثاني والعشرون: في الحسبة على قلائي الزلابية
الثالث والعشرون: في الحسبة على الحلاويين
الرابع والعشرون: في الحسبة على الشرابيين
الخامس والعشرون: في الحسبة على العطارين والشماعين
السادس والعشرون: في الحسبة على البياعين
السابع والعشرون: في الحسبة على اللبانين
الثامن والعشرون: في الحسبة على البزازين
التاسع والعشرون: في الحسبة على الدلالين
الثلاثون: في الحسبة على الحاكة
الحادي والثلاثون: في الحسبة على الخياطين والرفائين والقصارين
الثاني والثلاثون: في الحسبة على الحريريين
الثالث والثلاثون: في الحسبة على الصباغين
الرابع والثلاثون: في الحسبة على القطانين
الخامس والثلاثون: في الحسبة على الكتانيين
السادس والثلاثون: في الحسبة على الصيارف(33/6)
السابع والثلاثون: في الحسبة على الصاغة
الثامن والثلاثون: في الحسبة على النحاسين والحدادين
التاسع والثلاثون: في الحسبة على الأساكفة
الأربعون: في الحسبة على البياطرة
الحادي والأربعون: في الحسبة على سماسرة العبيد والجواري والدواب والدور
الثاني والأربعون: في الحسبة على الحمامات
الثالث والأربعون: في الحسبة على السدارين
الرابع والأربعون: في الحسبة على الفصادين والحجامين
الخامس والأربعون: في الحسبة على الأطباء والكحالين والمجبرين
السادس والأربعون: في الحسبة على مؤدبي الصبيان
السابع والأربعون: في الحسبة على القومة والمؤذنين
الثامن والأربعون: في الحسبة على الوعاظ
التاسع والأربعون: في الحسبة على المنجمين
الخمسون: فصول تشتمل على معرفة الحدود والتعزيرات وغير ذلك
الحادي والخمسون: في القضاة والشهود
الثاني والخمسون: في الولايات والأمراء وما يقلدونه من حالهم وما يتعلق بهم من أمور العباد
الثالث والخمسون: فيما يلزم المحتسب فعله
الرابع والخمسون: في الحسبة على أصحاب السفن والمراكب
الخامس والخمسون: في الحسبة على باعة قدور الخزف والكيزان
السادس والخمسون: في الحسبة على الفاخرانيين والغضاريين
السابع والخمسون: في الحسبة على الأبارين والمسلاتيين
الثامن والخمسون: في الحسبة على المردانيين
التاسع والخمسون: في الحسبة على الحناويين وغشهم
الستون: في الحسبة على الإمشاطيين(33/7)
الحادي والستون: في الحسبة على معاصر السيرج واللزيت الحار
الثاني والستون: في الحسبة على الغرابليين
الثالث والستون: في الحسبة على الدباغين والبططيين
الرابع والستون: في الحسبة على اللبوديينن
الخامس والستون: في الحسبة على الفرانين
السادس والستون: في الحسبة على الحصريين والعيداني والكركر
السابع والستون: في الحسبة على التبانين
الثامن والستون: في الحسبة على الحشاشين والقشاشين
التاسع والستون: في الحسبة على النجارين والنشارين والبنائين
السبعون: يشتمل على تفاصيل من أمور الحسبة لم تذكر في غيره
هذه أبواب الكتاب ومنه يفهم ما بني عليه ولا بأس بإيراد فصول منه للدلالة على أسلوبه قال في الباب الأربعين في الحسبة على البياطرة: البيطرة علم جليل سطرته الفلاسفة في كتبهم ووضعوا فيها تصانيف وهي أصعب علاجاً من أمراض الآدميين لأن الدواب ليس لها نطق تعبر به عما تجد من المرض والألم وإنما يستدل على عللها بالجس والنظر فيحتاج البيطار لى حسن بصيرة بعلل الدواب وعلاجاتها فلا يتعاطى البيطرة إلا من له معرفة وخبرة فالتهجم على الدواب بفصد أو قطع أو كي أو ما أشبه ذلك بغير مخبرة يؤدي إلى هلاك الدابة أو عطبها فيلزمه أرش ما نقص من قيمتها من طريق الشرع ويعزره المحتسب من طريق السياسة.
فصل وينبغي للبيطار أن يعتبر حافر الدابة قبل تعليمه فإن كان أحفاً أو بلا (كذا) نسف من الجنب الآخر قدراً يخ \ حصل به الاعتدال وإن كانت الدابة قائمة جعل المسامير المؤخرة صغاراً والمقدمة كباراً وإن كانت يدها بالضد من ذلك صغر المقدمة وكبر المؤخرة ولا يبالغ في نسف الحافر فتغمز الدابة ولا يرخي المسامير فيحرك النعل ويدخل تحته الحصا والرمل ولا يشد الحافر بقوة فتزمن الدابة واعلم أن النعال المطرقة ألزم للحافر واللينة أثبت للمسامير الصلبة والمسامير الرفيهة خير من الغليظة وإذا احتاجت الدابة إلى تسريع أو فتح عرق أخذ المبضع بين إصبعيه وجعل نصابه في راحته وأخرج من رأسه مقدار(33/8)
نصف ظفر ثم فتح العرق تعليقاً إلى فوق بخفة ورفق ولا يضرب العرق حتى يحبسه بإصبعه سيما عروق الأوداج فإنها خطرة لمجاورتها للمري فإن اراد فتح شيء من عروق الأوداج خنق الدابة خنقاً شديداً حتى تندر عروق الأوداج فيتمكن حينئذ مما أراد.
فصل وينبغي للبيطار أن يكون خبيراً بعلل الدواب ومعرفة ما يحدث فيها من العيوب ويرجع الناس إليه إذا اختلفوا في الدابة وقد ذكر بعض الحكماء في كتاب البيطرة أن علل الدواب ثلثمائة وعشرون علة تذكر ما اشتهر منها فمنها الخناق الرطب والخناق اليابس والجنون وفساد الدماغ والصداع والحمر والنفخة والورم والمرة الهائجة والديبة والخشام ووجع الكبد ووجع القلب والدود في البطن والمغل والمغص وريح السوس والقطاع والصدام والسعال البارد والسعال الحار وانفجار الدم من الدبر والذكر والنحل والحلق وعصار البول ووجع المفاصل والرهصة والرحس والداحس والنملة والنكب والجلد واللقوة والماء الحار في العين والناحر ورخاوة الأدنين والضرس وغير ذلك مما يطول شرجه فيفتقر البيطار إلى تحصيل معرفة علاجه وسبب حدوث هذه العللل منها ما إذا حدث في الدابة صار عيباً دائماً ولولا التطويل لشرحت من ذلك جملاً كثيرة وتفاصيل فلا يهمل المحتسب امتحان البيطار بما ذكرناه ومراعاة فعله بدواب الناس والله أعلم.
وقال في فصل في الحسبة على الحمامات وقوامها وذكر منافعها ومضارها: وقد ذكر عن بعض الحكماء أنه قال خير الحمامات ما قدم بناؤه واتسع هواؤه وعذب ماؤه وأعلم أن الفعل الطبيعي للحمام التسخين بهوائه والترطيب بمائه فالبيت الأول مبرد مردب والبيت الثاني مسخن مجفف والحمام يشتمل على منافع ومضار فأما منافعها فتوسع المسام واستفراغ الفضلات وتحلل الرياح وتحبس الطبع إذا كانت سهولته عن هيضة وتنظيف الوسخ والعرق وتذهب الحكة والجرب والإعياء وترطب البدن وتجود الهضم وتنظج النزلات والزكام وتنفع من حمى يوم ومن حمى الدق والربع بعد نضج خلطها عند طول المقام فيها وتسقط شهوة الطعام وتضعف الباه وأعظم مضارها صب الماء الحار على الأعضاء الضعيفة وقد تستعمل على الريق والخلاء فتجفف تجفيفاً شديداً أو تهزل وتضعف وقد يستعمل الحمام على قرب عهد بالشبع بعد الهضم الأول فإنه يرطب البدن ويسمنه ويحسن بشرته.(33/9)
فصل وينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل الحمام وكنسها وتنظيفها بالماء الطاهر غير ماء الغسالة ويفعلون ذلك مراراً في اليوم. ويدلكون البلاط بالأشياء الخشنة لئلا يتعلق ماء السدر أو الخطمى فينزلق الناس عليها ويغسلون كل يوم حوض النوبة من الأوساخ المجتمعة فيه وكذلك الفساقي والقدور من الأوساخ المجتمعة من المجاري والعكر الراكد في أسفلها في كل شهر مرة لأنها تركت أكثر من ذلك تغير الماء فيها في الطعم والرائحة ولا يسد الأنابيب بشعر المشاطة بل يشدها بالخرق الطاهرة أو الليف الطاهر ليخرج من الخلاف ويستعمل فيها البخور في اليوم مرتين بالحصالبان الذكر أو المصطكى أو اللادن ولا يدع الأساكفة وأصحاب اللبد يغسلون شيئاً من اللبد ولا من الأديم في الحمام فإن الناس يتضررون برائحته ولا ينبغي أن يدخل الحمام مجذوم أو أبرص وينبغي أن يكون للحمامي ميازر يؤجرها للناس وتكون عريضة حتى تستر ما بين السرة والركبة ويأمر بفتح الحمام في السحر لحاجة الناس إليه للتطهر قبل وقت الصلاة ويلزم الوقاف حفظ أقمشة الناس فإن ضاع منها شيء لزمه ضمانة على الصحيح. ويتخذ بالحمام زيراً كبيراً برسم الماء الحلو أو عذباً إن كان يشرب برسم شرب الناس لاسيما في زمن الحر فإن ذلك من المصالح وكذلك فليكن عنده السدر والادلوك فقد يحتاج الإنسان له ولا يمكنه الخروج مإلى ظاهر الحمام ولو رتب سداراً دائماً على الباب الحمام لبيع السدر وآلة الحمام كان ذلك حسناً.
فصل ويلزم صاحب النوبة باستعمال الأمواس الجيدة الفولاذ حتى ينتفع الناس بها وينبغي أن يكو المزين خفيفاً رشيقاً بصيراً بالحلاقة ويكون حديده قاطعاً كما ذكرناه ولا يستقبل الرأس ومنابت الشعر استقبالاً ولا يأكل كل ما يغير نكهته كالبصل والثوم والكراث وغيره في يوم نوبته لئلا يتضرر الناس برائحة فيه عند الحلاقة ولا يحلق شعر صبي إلا بإذن وليه ولا عبداً غلا بإذن سيده ولا يحلق عذار أمرد ولا تحت مخنث.
فصل ويلزم المحتسب أن يتفقد الحمام في كل وقت ويعتبر ما ذكرناه وإن رأى أحداً قد كشف عورته عزره على كشفها لأن كشف العورة حرام وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناظر والمنظور والنساء في هذا المقام أشد تهاتكاً من الرجال ولهن محدثات من المنكر أحدثها الآن من الملابس ما لم يخطر للشيطان في حساب وتلك لباس الشهرة التي لا يستتر منه أسبال مرط وأدنى جلباب ون جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثال الأسنمة(33/10)
ويخرجن من جهارة أشكالها في الصورة المعلمة.
وقال في الحسبة على الأطباء الطبائعية والكحالين والجرايحيين والمجبرين: الطب علم نظري وعلم أباحت الشريعة تعلمه لما فيه من حفظ الصحة ودفع العلل والأمراض عن هذه البنية الشريفة وقد ورد في ذلك أحاديث منها ما ورد عن عطاء بن السائب قال دخلت على أبي عبد الرحمن السلمي أعوده فأراد غلام له أن يداويه فنهيته فقال: دعه فإني سمعت عبد الله بن مسعود يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء. وربما قال: سفيان شفاء علمه من علمه وجهله من جهله إلى أن يقول: والطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عما لم يوجد منها والوجه في استخراجها وطريق مداواتها ليساوي بين الأمراض والأدوية في كمياتها ويخالف بينها وبين كيفياتها فمن لم يكن كذلك فلا يحل له مداواة المرضى ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه ولا يتعرض لما لا علم له فيه وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم. فقد حكي أن ملوك اليونان كانوا يجعلون في كل مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة ثم يعرضون عليه بقية أطباء البلد ليمتحنهم فمن وجده مقصراً في محله أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة. وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سب مرضه وعما يجد من الألم ثم يرتب له قانوناً من الشربة وغيرها من العقاقير ثم يكتب نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض فإذا كان من الغد حضر ونظر إلى دائه ورفع قارورته وسأل المريض هل تناقص به المرض أم لا ورتب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال وكتب له نسخة وسلمها لأهله وفي الثالث كذلك وفي اليوم الرابع كذلك وهكذا إلى أن يبرأ المريض أو يموت فإن برئ من مرضه أخذ الطبيب أجرته وكرامته وإن مات حضر أوليائه عند الحكيم المشهور وعرضوا عليه النسخ التي كتبها الطبيب فإن رآها على مقتضى الحكمة وصناعة الطب من غير تفريط ولا تقصير من الطب قال: هذا قضى بفروغ أجله وإن رأى الأمر بخلاف ذلك قال لهم خذوا دية صاحبكم من الطبيب فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه. فكانوا يحتاطون(33/11)
على هذه الصورة الشريفة إلى هذا الحد حتى لا يتعاطى الطب من ليس من أهله ولا يتهاون الطبيب في شيء منه. وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط الذي أخذه على سائر الأطباء ويحلفهم أن لا يعطوا أحداً دواءاً مضراً ولا يركبوا له سماً ولا يصفوا السموم عند أحد من العامة ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة ولا للرجال الذي يقطع النسل وليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى ولا يفشوا الأسرار ولا يهتكوا الأستار ولا يتعرضوا لما ينكر عليهم فيه.
فصل وأما الكحالون فيمتحنهم المحتسب بكتاب حنين أعني العشر مقالات في العين فمن وجده قيماً فيما امتحنه به عارفاً بتشريح طبقات العين وعدد السبعة وعدد رطوباتها الثلاثة وما يتفرع من ذلك من الأمراض وكان خبيراً بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس ولا يفرط في شيء من لات صنعته مثل صنانير النشل والظفر ومباضع الفصد ودرج المكاحل وغير ذلك وأما كحالو الطرقات فلا يوثق بأكثرهم إذ لا دين لهم يصدهم عن التهجم على أعين الناس بالقطع والكحل بغير علم ومخبرة بالأمراض والعلل الحادثة ولا ينبغي لأحد أن يركن إليهم في معالجة عينه ولا يثق بأكحالهم وأشيافهم فإن منهم من يضع أشيافاً أصلها النشا والصمغ ويصبغها ألواناً مختلفة فيصبغ أحمر بالسيلقون والأخضر بالكركم والنيل والأسود بالقافيا والأصفر بالزعفران ومنهم من يجعل أشيافاً من مائها ويعجنه بالصمغ ومنهم من يعمل كحلاً من نوى الإهليلج المحرق والفلفل وجميع غشوش أكحالهم لا يمكن حصرها فيحلفهم المحتسب على ذلك إذ لا يمكنه منعهم من الجلوس.
فصل وأما المجبرون فلا يحل لأحد أن يتصدى للجبر إلا بعد أن يعرف المقالة السادسة من كتاب قوانين الجبر وأن يعلم عدد عظام الآدمي وهي مائتا عظم وثمانية عظام وصورة كل عظم منها وشكله وقدره حتى إذا انكسر منها شيء أو انخلع رده إلى موضعه على الهيئة التي كان عليها فيمتحنهم المحتسب على ذلك.
فصل وأما الجرايحيون فيجب عليهم معرفة كتاب جالينوس المعروف بفاطاجالس في الجراحات والمراهم وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان وما فيه من العضل والعروق والشرايين والأعصاب ليتجنب بذلك في وقت فتح المواد وقطع البواسير ويكون معه دست(33/12)
المباضع فيه مباضع مدورات الرأس والموربات والحربات وفاس الجبهة ومنشار القطع ومخرقة الأذن ورد السلع ومرهمدان المراهم ودواء الكندر القاطع للدم ومنهم من يتهرجون على الناس بعظام تكون معهم فيدفنونها غي الجرح ثم يخرجونها منه بمحضر من الناس ويزعمون أن أدويتهم القاطعة أخرجتها. ومنهم من يضع مراهم الكلس المغسول بالزيت ثم يصبغ لونه أحمر بالمغرة وأخضر بالكركم والنيل والأسود بالفحم المسحوق فيعتبر عليهم ذلك.
وقال في الحسبة على الزعاظ: يجب على المحتسب أن ينظر في أمر الوعاظ ولا يمكن أحداً ممن يتصدى لهذا الفن إلا من اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة عالماً بالعلوم الشرعية وعلم الأدب حافظاً للكتاب العزيز ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأخبار الصالحين وحكايات المتقدمين ويمتحن بمسائل يسأل عنها من هذه الفنون فإن أجاب وإلا منع كما اختبر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الحسن البصري وهو يتكلم على الناس فقال له: ما عماد الدين، قال: الورع. قال: فما آفته. قال: الطمع. قال: تكلم الآن إذا شئت. ومن كانت هذه الشرائط فيه مكن من الجلوس على المنبر في الجوامع والمساجد وفي أي بقعة أحب ومن لا يدري ذلك كان جاهلاً بذلك أمنع من الكلام فإن لم يمتنع ودام على كلامه عزر ومن عرف شيئاً يسيراً من كلام الوعاظ وحفظ من الأحاديث وأخبار الصالحين مثل ذلك وقصد الكلام يسترزق به ويستعين على وقته فسح له بشرط أن لا يصعد المنبر بل يقف على قدميه فإن رتبة صعود المنبر رتبة شريفة لا تليق أن يصعد عليه إلا من اشتهر بما وصفناه وكفى به علواً وسمواً أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد عليه والخلفاء الراشدون من بعده والعلماء والأئمة وكان العصر الأول لبا يصعد فيهم المنبر إلا أحد رجلين خطيب في جامع يوم جمعة أو عيد أو رجل عظيم الشأن يصعد المنبر يعظ الناس ويذكرهم بالآخرة وينذرهم ويحذرهم ويخوفهم ويحثهم على العمل الصالح وكان للناس بذلك نفع عظيم.
وفي زماننا هذا لا يطلب الواعظ إلا لتمام شهر ميت أو لعقد نكاح أو لاجتماع هذيان ولا يجتمع الناس عنده لسماع موعظة ولا لفائدة وإنما صار ذلك من نوع الفرح واللعب والاجتماع وتجري في المجلس أمور لا تليق من اجتماع الرجال والنساء ورؤية بعضهم(33/13)
لبعض وأشياء لا يليق ذكرها وهذا من البدع المضلة وكان الأولى حسم الباب في ذلك والمنع منه وإن تعذر فلا يمكن (المحتسب) من ذلك إلا رجلاً مشهوراً بالدين والخير والفيلة كما تقدم من شرطه ن يكون عاملاً لله مجتهداًُ قولاً فعالاً. قال الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} والفقهاء والمتكلمون والأدباء والنحاة يسمون أهل الذكر والوعاظ قصاصاً. قال بعض العلماء: مجالس الوعاظ خير المجالس وملابسها أفخر الملابس فيها ترق قسوة القلوب وفيها يتاب عن الذنوب ويعترف بالعيوب.
وقال في معرفة القنطار والأرطال والمثاقيل والدراهم: لما كنت هذه المعاملات وزنها اعتباراً للمبيعات لزم المحتسب معرفتها وحقيقتها لتقع المعاملة بها على الوجه الشرعي وقد اصطلح أهل كل إقليم على أرطال تتفاضل في الزيادة والنقصان ونحن نذكر من ذلك ما لا يسع المحتسب جهله ليعلم تفاوت الأسعار أما القنطار الذي ذكره الله العظيم في كتابه الكريم فقد قال: معاذ بن جبل هو ألف ومائتا أوقية وهو قول ابن عمر ورواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك ألف ومائتا مثقال ورواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو نصره هو ملء مسك ثور ذهباً أو فضة وعن أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم القنطار ألف دينار وعن ابن عباس والضحاك إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية الرجل المسلم وعن أبي صالح مائة رطل وهو المتعارف بين الناس. والرطل اثنتا عشر أوقية والأوقية اثنا عشر درهماً وهذا لا خلاف فيه لكن الرطل فيه اختلاف كثير في الأمصار والبلدان فالرطل الحجازي مائة وعشرون درهماً والرطل المصري مائة وأربعة وأربعون درهماً والرطل البغدادي مائة وثلاثون درهماً والرطل الدمشقي ستمائة درهم والرطل الحلبي سبعمائة وعشرون درهماً والرطل الحموي ستمائة وستون درهماً والرطل الحمصي سبعمائة وأربعة وتسعون درهماً والرطل الليتي مائتا درهم والجروي ثلاثمائة واثنا عشر درهماً والرطل الحراني سبعمائة وعشرون درهماً والعجلوني والرومي ألف ومائتا درهم والرطل الغزاوي سبعمائة وعشرون درهماً والرطل المقدسي والخليلي والنابلسي ثمانمائة درهم والرطل الكركي تسعمائة درهم.
وفي المحلات أرطال مختلفة فالمتعامل بها في الأسواق ما يذكر: مدينة قوص ولها أحوال(33/14)
رطل اللحم والخبز والخضر ثلاثمائة وخمسة وعشرون درهماً وباقي الحوائج مائتا درهم. مدينة أسيوط بمختلف الأحوال فالخبز واللحم ألف درهم ويسمى مناً وباقي الحوائج ليتي مائتا درهم. ومنفلوط اللحم والخبز ليتي مائتا درهم وباقي الحوائج مصري مائة وأربعة وأربعون درهماً. أخميم مدينة مختلفة احوال: الخبز واللحم ألف درهم ويسمى منا والباقي ليتي مائتا درهم. منية بني خصيب على رطل مصر مائة وأربة وأربعون درهماً. ديروط الصربان على رطل مصر مائة وأربعة وأربعون درهماً. مدينة المحلة رطلان وثلثا رطل يكون أربعمائة درهم. ثغر الإسكندرية رطلان وأوقيتان ثلاثمائة واثنا عشر درهماً. ثغر دمياط رطلان وربع ونصف أوقية ثلاثمائة وثلاثون درهماً. البلبيسي رطل وربع مصري مائة وثمانون درهماً. منية سمنود رطلان وسدس ثلاثمائة درهم. مدينة الفيوم مائة وخمسون درهماً ولم أسمع أن بلدة وافق رطلها البلدة الأخرى إلا نادراً أو قرية لقرية لا يؤبه بهما والأوقية م نسبة رطلها جزء من اثني عشر جزءاً.
وأما المثقال فاتفق على أنه درهم ودانقان ونصف وهو أربعة وعشرون قيراطاً والقيراط ثلاث حبات أو أربعة أسباع حبة وهو خمسة وثمانون حبة وخمسة أسباع حبة ووزن كل حبة منها مائة حبة من حبوب الخردل البري المعتدل قال بعض العلماء: الدرهم خمسون حبة وهمسا حبة من حب الشعير كما ذكرنا. ووزن كل حبة من الدرهم سبعون حبة من حب الخردل البري المعتدل والدينار مثل الدرهم وثلاثة أسباعة والدرهم ثم الدينار بنصفه وخمسه وهذا يفيد تقريباً على ما ضبطه الأئمة فإن عرف الدرهم الإسلامي بطريق غير هذه الطريق وتحقق قدره كان ذلك معتمداً في معرفة المثقال وإلا فلا ضابط إلا بما تقدم ذكره من حب الشعير. واختلفت في سبب استقراره على هذا الوزن فذكر أن عمر بن الخطاب رضي اللهعنه لما رأى اختلاف الدراهم وأن منها البغلي وهو ثمانية دوانيق ومنها الطبري وهو أربعة دوانيق ومنها ما هو ثلاثة دوانيق ومنها اليمني وهو دانق قال: انظروا الأغلب مما يتعامل فيه الناس من أعلاها وأدناها فكان الدرهم البغلي والطبري بينهما فكانا اثنى عشر دانقاً فأخذ نصفها فكان ستة داوانيق فجعل الدرهم الإسلامي ستة دوانيق ومتى زدت عليه ثلاثة أسباعه كان مثقالاً ومتى نقصت من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهماً وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهماً وسبعان والله أعلم.(33/15)
وحكى سعيد بن المسيب أن أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان وكانت الدنانير ترد رومية وكانت الدراهم ترد كسروية وحميرية قليلة فأمر عبد الملك الحجاج بضرب الدراهم بالعراق فضرب بها سنة أربع وسبعين وقيل خمس وسبعين ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين وكتب عليها الله أحد الله الصمد. وحكة يحيى بن النعمان الغفاري أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة وعليها بركة من جاني والله من جانب ثم غيرها الحجاج بعد سنة وكتب بسم الله الحجاج وهذه فائدة ذكرت هاهنا لتعلقها بذكر الدراهم فيجب على المحتسب أن لا يهمل أمر هذا الباب وينظر فيه كل وقت والله أعلم.
وقال في معرفة الموازين والمكاييل والأذرع: أصبح الموازين وما استوى جانباه واعتدلت كفتاه وكان ثقب علاقته في وسط العمود ويحدد الثقب ويجعل المسمار فولاذاً حتى تكون سريعة الجريان فمتى لم يفعل ذلك كانت تسكن فيضر بالمشتري.
فصل ويأمر أصحاب الموازين بمسحها وتنظيفها من الأدهان والأوساخ في كل ساعة فإنه ربما يجمد شيء من جرمها فيضر كما ذكرنا وينبغي إذا شرع في الوزن أن يسكن الميزان ويضع فيها البضاعة من يده في الكفة قليلاً قليلاً ولا يهمز الكفة بإبهامه فإن ذلك كله بخس وتكون موازين الباعة معلقة ولا يمكن لأحد من الباعة أن يزن بميزان الأرطال في يده ومن البخس الخفي في ميزان الذهب أن يرفعه بيده تلقاء وجهه ثم ينفخ في الكفة التي فيها المتاع نفخاً خفيفاً فيرجح بما فيه وذلك أن المشتري يكون عينه على الميزان لا إلى فم صاحبه.
ولهم في الميزان صناعة يحصل بها البخس مثل أن يلصق شمعة تحت أحد كفتي الميزان أو يشكل رزة الميزان العليا بخيط شعر رقيق لا ينظره المشتري فيحصل له في ذلك تفاوت. ولهم أيضاً العلاقة التي تسمى الموى وهو أن يكون عمود الميزان فولاذاً ويعمل لسانه أرمهان أو يعوج رأس اللسان إلى الجانب الذي يردي أن يأخذ به فيحصل له ذلك القدر الحرام فيلزم المحتسب مراعاة ذلك في كل وقت. واعلم أنك وليت من الكيل والميزان أمراً من أجله هلكت الأمم السالفة فباشرهما بيدك مباشرة الاختبار ولا تقل أهلها عثرة فإن الإقالة لا تنهى عن العثار وكل هؤلاء من سواد الناس فمن لم يفقه نفسه وليس همته إلا(33/16)
فرجه أو ضرسه فحدهم التعزير التي هي نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى.
فصل والقبان القبطي فينبغي للمحتسب أن يختبره بعد كل حين فإنه يفسد بكثرة استعماله في وزن الحطب والبضائع الثقيلة ويتخذ عنده عيارات من حصى في خرائط ليف هندي أو خيش ويضعها في موضع لا تصل إليها النداوة ولا الغبار ويعين لعيار القبانين رجل يوثق بدينه وأمانته ولا يشوبه في ذلك رياء ولا محاباة لأحد من أبناء جنسه ويلزم المحتسب أن لا يمكن أحداً من الوزن بالقبان إلا من ثبتت أمانته وعدالته ومعرفته بالعدول من أهل الخبرة في مجلسه فإنها صناعة عظيمة والبائع والمشتري واقفان لا يعلمان صحة ذلك من سقمه إلا من لفظه فيعتبر فيه ما ذكرناه.
فصل وينبغي أن يتخذ الأرطال من حديد ويعتبر المحتسب ويختم عليها بختم من عنده ولا يتخذوها من الحجارة لأنها إذا قرع بعضها ببعض فتنقص فإذا دعت الحاجة إلى اتخاذها لقصور يده عن اتخاذ الحديد أمره المحتسب بتجليدها ثم يختمها بعد العيار ويجد النظر فيها بعد كل حين لئلا يتخذوا مثلها من الخشب ورؤوس اللفت ولا يكون في الحانون الواحد دستان من ارطال أو صنج من غير حاجة لأنها تهمة في حقه ولا يتخذ عنده إلا ما جرت العادة باتخاذه مثل ثلث الرطل وثلث أوقية وثلث درهم لمقاربة النصف وربما اشتبه ذلك عليه بالنصف في حال الوزن عند كثرة الزبون والله أعلم.
فصل وينبغي للمحتسب أن يتفقد عيار المثاقيل والصنج والرطال والحبات على حين غفلة من أصحابها فإن في الصيارف من يأخذ حبات الحنطة فينقعها في الماء ثم يغرز فيها رؤوس الأبر الفولاذية ثم تجفف فتعود إلى سيرتها الأولى ولا يظهر فيها شيء ويأمرهم أن يجعلوا لون صنج الفضة مخالفاً للون صنج المثاقيل فربما وضعوا صنجة النصف درهم عوض الرباعي وبينهما تفاوت وكذلك صنجة الثمن عوض صنجة القيراطين والله اعلم.
فصل في المكاييل قال الله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} وقال صلى الله عليه وسلم: المكيال على مكيال المدينة والوزن على وزن مكة. والمكيال الصحيح ما استوى أعلاه وأسفله في الفتح والسعة من غير أن يكون محصور الفم ولا يكون بعضه داخلاً وبعضه خارجاً وينبغي أن يشده بالمسامير لئلا يصعد(33/17)
فيزيد أو ينزل فينقص وأجود ما عيرت به المكاييل الحبوب الصغار التي لا تختلف في العادة مثل الخردل والبرسيم والبزرقطونا والكسفرة وما أشبه ذلك يكون في كل حانوت من المكاييل الصحيحة مكيال وربع مكيال وثمن مكيال مختوم عليها بختم الحسبة لأن الحاجة تدعو إلى اتخاذ ذلك.
وينبغي للمحتسب أن يجدد النظر في المكاييل فإن من الحمصانيين والفوالين والعلافين من يأخذ قطعة خشب يحفرها مكيالاً فيكون طولها شبراً مثلاً والمحفور في داخلها أربع أصابع فيغتر الناس بسعتها وطولها ولا يعلمون المقدار المحفور وهذا تدليس لا يخفى ويراعى أيضاً ما يلصقونه في أسفل المكيال فإن منهم من يلصق في أسفله الجبر أو الجبس الأسود فيلصقونه لصقاً لا يكاد يعرف منهم من يلصق في جوانبه الكسب فلا يعرف لهم ولهم في مسك المكيال صناعة يحصل بها البخس فلا يدع الكشف عليهم في كل وقت وأما الكيالون فلا خير فيهم ولاسيما في هذا الزمان فإن أكثرهم يكتال ما يقبضه زائداً ويسمى عندهم الفرز والطرح وعند الصرف يجعله ناقصاً ويسمى عندهم المسفق وقد ذمهم الله تعالى بما ذكرنا في أول الفصل فينبغي للمحتسب أن يحذرهم ويخوفهم عقوبة الله تعالى وينهاهم عن البخس والتطفيف في ذلك كله ومتى ظهر له من أحدهم خيانة عزره على ذلك وينهره حتى يرتدع به غيره.
وخرّج أبو داو عن أحمد بن حنبل قال صالح بن أبي ذئيب: خمسة أرطال وثلث واسند البخاري إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل ذكر لي أبي أنه عير مد النبي صلى الله عليه وسلم فوجده رطلاً وثلثاًوفي كتاب عقد الجوهر أن أهل المدينة لا يختلف اثنان أن مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي يؤدى به الصدقات ليس أكثر من رطل ونصف ولا أقل من رطل وربع وقال بعضهم: رطل وثلث وهو الذي عليه أكثر العلماء. والولبة ستة عشر قدحاً من نسبة كيل البلد.
فصل الأذرع سبع أقصرها القاضية ثم اليوسفية ثم السوداء ثم الهاشمية الصغرى وهي الثلاثية ثم الهاشمية الكبرى وهي الزيادية ثم العمرية ثم الميزانية فأما القاضية وهي تسمى ذراع الدور وهي أقل من ذراع السوداء بإصبع وثلثي إصبع وأول من وضعها ابن أبي ليلى القاضي وبها يتعامل أهل كل وادي وأما اليوسفية إلي يذرع بها القضاة الدور بمدينة(33/18)
السلام وهي أقل من ذراع السوداء بثلثي إصبع وأول من وصفها القاضي أبو يوسف وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بإصبع وثلثي إصبع وأول من وصفها الرشيد وقدرها بذراع خادم أسود على رأسه وهي التي يتعامل بها النسا في ذراع البز والتجارة والأبنية وقياس نيل مصر.
وأما الذراع الهاشمية الصغرى وهي البلالية فهي أطول من الذراع السوداني بإصبعين وثلثي إصبع وأول من أحدثها بلال ابن أبي بردة وذكر أنها ذراع جده أبو موسى الأشعري وهي أنقص من الزيادية بثلاثة أرباع عشر وبها يتعامل الناس بالبصرة والكوفة وأما الهاشمية الكبرى فهي ذراع الملك وأول من نقلها إلى الهاشمية المنصور وهي أطول من الذراع السوداء بخمس أصابع وثلثي إصبع ويكون ذراعاً وثمناً وعشراً بالسوداء وينقص منها الهاشمية الصغري بثلاثة أرباع عشر وسميت زيادية أن زياداً مسح بها أرض السواد وهي التي تذرع بها أهل الأهواز أما الذراع العمرية وهو ذراع عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي مسح بها السواد قال موسى بن طلحة: رأيت ذراع عمر بن الخطاب التي مسح بها أرض السواد وهو ذراع وقبضة وإبهام قائمة قال الحكم: إن عمر عمد إلى أطولها وأقصرها وأوسطها فجمع منها ثلاثة وأخذ الثلث منها وزاد عليها قبضة وإبهاماً قائماً ثم ختم طرفيه بالرصاص وبعث ذلك على حذيفة وعثمان بن حنيف حتى مسحا بها أرض السواد وكان أول من مسح به بعده عمر بن هبيرة وأما الذراع الميزانية فيكون بالذراع السوداء ذراعاً وثلثي ذراع وثلثي إصبع وأول من وضعها المأمون وهي التي يتعامل بها الناي في ذراع البريد والسكور والسوق وكري الأنهار والحفائر والذراع المقدر الشرعي الذي ذكره الإمام الغزالي وغيره فهو أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع ست شعيرات بطن حبة لظهر أخرى والشعيرة ست شعرات بشعر البغل الناعم والله أعلم.
وقد وردت أسماء في الأبواب المتقدمة في أول هذا المبحث نسيت لطول العهد بها وكثرة دخول الألفاظ الأعجمية بدلها مثل البوارديين الذين يطحنون السدر وهو من المطهرات كالصابون إذا غش يضر ولا ينفع والفاخرانيين والغضاريين وهم الذين يصنعون الزبادي السلطانيات من الحصا المطحون والغضارون باعة الكيزان والمسلاتيين صناع المسلات والمرادنيين الذين يعملون المرادن آلات الغزل القديمة تعمل من خشب السماسم أو من(33/19)
السنط الأحمر، وتمثيل المؤلف بالكيل المصري بدل غيره كما رأيت فيالحسبة على الموازين والمكاييل وكما جاء في الحسبة على الهراسين فيه دلالة على انه مصري من أهل القرن السابع ومما يستأنس به أن الكتاب ألف لمصر ما ورد أيضاً في الحسبة على الكتانيين فقال إن أجود الكتان المصري الجنوبي الغض وأجوده الناعم المؤرق وأردأ القصير الخشن الذي يتقصف ولا يخلطون جيده برديئه ولا الكتان البحري بالصعيدي ولا الصعيدي بالكوري وقال في الحسبة عل معاصر السيرج والزيت الحاروعيارة الجرة بالركل المصري ستة وعشرون رطلاً وربع الرطل وسكت وكذلك مثل بالرطل المصري في عصر الزيت وفي غيره.
للبحث صلة(33/20)
الرومان
معربة من كتاب تاريخ الحضارة لشارل سليوبوس
رومية الأصلية
رمية: على تخوم قطر اللاسيوم من ناحية بلا الإيتروسكيين يمتد سهل ذو بطائح تتخلله أكمات وتامات هناك على ضفة نهر التيبر أشئت مدينة رومية مقر الشعب الروماني المتفرق في الخلاء. ولقد كانت الحميات تنتاب تلك البلاد وحالتها من الكآبة والبؤس على جانب ولكن كان موقعها جميلاً ونهر التيبر بمثابة هوة قائمة في وجه الإيتروسكيين كما كانت تلك الآكام كالحصون وبين تلك المدينة والبحر ستة أميال وهو بعد لا يكاد ينجيها م سطوة قرصان البحر ويقربها قليلاً من تناول البضائع الواردة إليها. وكان مرفأ أوستي عند مصب نهر التيبر حياً من أحياء رومية كبير مثل بيرة مرفأ آثينة. فموقع رومية كان والحالة هذه مناسباً لحال أمة حربية تجارية.
تأسيس رومية: لا نعرف من حال القرون الأولى لرومية غير أساطير. والرومانيون أنفسهم لا لم يعرفوا عنها شيئاً مثلنا. قد اعدوا أن رومية كانت لأول أمرها مدينة صغيرة مربعة المساحة قائمة كلها على رابية بالاتين ويدعى مؤسسها رومولوس وهو الذي اختط سورها بمحراث مراعياً تخطيطها الشعائر الإيتروسكية. وكان الرومانيون يحتفلون كل سنة يوم 21 ابريل (نيسان) بعيد هذه المدينة فيطوفون حول سورها الأصلي فيدق أحد الكهنة مسماراً في بعض المعابد تذكاراً للحفلة. وكان يقدر أن الاحتفال بتأسيس تلك المدينة قد وقع في سنة 754 قبل المسيح.
أنشئت على الروابي الأخرى قبالة جبل بالاتين عدة مدن صغرى ونزلت عصابة من سكان الجبال من السابنيين في معبد الكابيتول كما حلت عصابة أخرى من متشردي الأيتروسكيين في جبال سليوس وربما كان ثمة أيضاً شعوب أخرى. وانتهت الحال بجميع أولئك الجماعات الصغيرة أن يجتمعوا في مدينة رومية الواقعة على رابية بلاتين ثم أنشئ سور جديد أحاط بالسبع أكمات. أما ساحة المريخ حيث يقف الجيش فكانت ممتدة إلى نهر التيبر من الشاطئ الآخر من النهر خارج السور فكان الكابيتول في رومية مثل الأكروبول في آثينة. ولقد قامت على هذا الصخر معابد الأرباب الثلاثة حامية المدينة وهي المشتري(33/21)
وجونون ومنيرفا وهنالك القلعة التي حوت خزانة الحكومة وسجلات الأمة. وفي أساطيرهم أنهم عثروا عندما حفروا أسس المدينة على رأس رجل قطع حديثاً فكان هذا الرأس فألاً حسناً أولوه بأن رومية ستغدو رأس العالم.
تقاليد بشأن الملوك وإنشاء الجمهورية: جاء في هذه التقاليد أنه حكم رومية ملوك مدة قرنين ونصف ولم تذكر فيها أسماؤهم وتاريخ وفياتهم بل ذكرت تراجمهم وقيل أنهم كانوا سبعة ملوك خرج الأول وهو رومولوس من مدينة آلب اللاتينية فأنشأ مدينة بالاتين وقتل أخاه الذي ارتكب محرماً بأن قفز من فوق خندق سور المدينة ثم حالف أحد ملوك السابنيين المدعو تاتيوس. وفي تقليد آخر أنه أنشأ في سفح المدينة حياً محاطاً بسياج حشر إليه جميع المتشردين الذين أحبو الانضمام إليه.
أما الملك الثاني وهو نومابومبيليوس فقد كان سابنياً وهو الذي رتب الديانة الرومانية آخذاً برأي إحدى الربات إيجري التي كانت تسكن في غابة وكان الملك الثالث المدعو تولوس مارتيوس حفيد نوما الموما إليه بنى جسراً من خشب على نهر التيبر وأنشأ جسر أوستي وعليهما كانت تمر تجارة رومية منذ ذاك الحين. وكان الملوك الثلاثة الآخرون من الإيتروسكيين وحدث من أمر تاركين القديم أن توسع المملكة الرومانية وأدخل الاحتفالات الدينية الشائعة في بلاد إيتر وريالو الإيتروكسكيين ونظم سرفيوس توليوس الجيش الروماني بان أدخل فيه جميع أهل البلاد بدون تمييز في موالدهم وأعمارهم. ووزعهم مئات مئات بحسب ثروتهم أما الملك الأخير المدعو تاركين الباهر فقد ظلم الأسرات الكبرى في رومية فتآمر عليه بعض الأشراف ووفقوا على طرده.
ومذ ذاك العهد (51) لم يملك الرومانيين ملك فكان البلاد الرومانية أو كما يقال الملك العام يحكم عليها حاكمان يختاران كل سنة ويسميان (القناصل). وليس من الممكن أن نعلم ما في هذا التقليد من الحقيقة لأنه نشأ قبل أن يبدأ الرومان في وصف تاريخهم بزمن طويل وفي هذا التقليد من الأساطير ما لا يسعنا قبوله برمته. وقد حاول بعضهم أن يفسر أسماء هؤلاء الملوك ويستدل منها بأنها رمز إلى جنس أو على طبقة خاصة كما حاول بعضهم أن ينشئ تاريخ رومية في عهده الأول على ضروب من الصور ولكن كلما بذلت العناية للنظر فيه صعب الاتفاق بين المشتغلين في ذلك على تقرير أمر وكثر الخلاف بينهم.(33/22)
وصف ترتيبات الرومانيين على سبيل الإيجاز: كان في رومية نحو القرن الخامس قبل المسيح طبقتان من الناسي وهما الباترسين والبلبين (أي الأشراف والعامة) فكان الباترسيون من نسل قدماء الأسرات المقيمة منذ القدم في البقعة الضيقة في ظاهر مدينة رومية وكان لهم وحدهم الحق أن يظهروا في مجمع الأمة وأن يحضروا الحفلات الدينية وأن توسد غليهم الوظائف. ويعتقدون أن أجدادهم أسسوا المملكة الرومانية أو كما يقال المدينة الرومانية وأوصوا بها لهم فكانوا هم من ثم الشعب الأصلي في رومية أما البلبين فهم من نسل الغرباء النازلين في المدينة ولاسيما من المغلوبين من سكان المدن المجاورة إذ أن رومية أخضعت بالتدريج جميع المدن اللاتينية وضمن سكانها إليها بالقوة فأصبحوا رعايا لرومية لكنهم ظلوا غرباء عنها يخضعون لحكومة رومية دون أن يشركوها في شيء من الأمر فلا يدينون بالدين الروماني ولا يسوغ لهم أن يحضروا الحفلات الدينية ولا أن يتزوجوا من الأسرات الشرئفة وكانوا يدعون بالبلب أي الجمهور ولا ينظر إليهم بأنهم جزء من الشعب الروماني. وقد وجدت في الصلوات القديمة هذه العبارة لخير الشعب وخير البلبين في رومية.
وكان يجتمع أبناء البلاد وعليهم أسلحتهم كل سنة خارج المدينة في ساحة المناورات (ساحة المريخ) ينتخبون زعيمين يطلقون عليهم لقب القضاة أو القناصل. وكان هؤلاء القناصل في خلال السنة التي يتوظفون بها يحكمون رومية ويقودون جيشها وبيدهم حياة جميع أفراد الأمة وموتها. يرافقهم إثنا عشر رجلاً من حملة الفؤوس إشارة لما لهم من السلطة فيحمل كل منهم فأساً وحزمة قضبان لجلد المجرمين أو ضرب رقابهم. فيجلس القناصل على عادة قدماء الملوك على دكة تشبه العرش وهي كرسي عال من العاج. ويستعاض في أوقات الحروب الخطرة عن القنصلين بحاكم واحد يلقون إليه بزمام السلطة فيصبح الحاكم المتحكم والآمر الناهي وحده ويكون في قبضته الأربعة والعشرون جلاداً ولكن سلطته لا تدوم إلا ستة أشهر.
فيجمع القناصل مجلس الشيوخ وهو مؤلف من رؤساء الأسرات وكبار أرباب الأملاك للمفاوضة في المسائل المهمة ويدعى هؤلاء بالآباء ويدعى نسلهم بالأشراف فكان مجلس الشيوخ يصدر رأيه ويطلقون عليه رأي الشيوخ ومن العادة أن يلتزم القناصل امتثاله(33/23)
فكانت من ثم رومية محكوماً عليها من القناصل ومجلس الشيوخ في آن معاً.
النزاع بين طبقات الشعب: كان العامة وأهل الطبقة الوسطى عبارة عن شعبين متبايني سادة ورعية. ومع هذا كان حال أهل الطبقة الوسطى يشبه كثيراً حال الأشراف فهم يخدمون في الجندية مثلهم ويخدمون في الجيش على نفقتهم ويفادون بأرواحهم في خدمة الشعب الروماني وهم مثلهم من أهل الفلح والكرث يعيشون في قراهم وأماكنهم وكان كثير من أهل الطبقة المتوسطة أغنياء ومن أسرة قديمة والفرق بين الطبقة المتوسطة وبين الأشراف أن الأول كانوا من نسل أسرة عظيمة من بعض المدن اللاتينية المغلوبة على حين كان الأشراف من نسل أسرة قديمة من سكان المدينة الغالبة. ولم ترض نفوس أهل الطبقة الوسطى أن تظل ساكتة على ما قضي به عليها من المهانة بل ثار بينهم وبين الأشراف نزاع دام قرنين من نحو 293 إلى سنة 500 وإليك كيف بدأ ذلك على نحو ما ورد في أساطيرهم.
رأى أهل الطبقة الوسطى ذات يوم أنفسهم مهانة فاعتصموا في جبل هناك وعليهم أسلحتهم وعزموا أن يناوئو الشعب الروماني فهال عزمهم جماعة الأشراف فبعثوا إليهم بالقائد منينوس أغريبا ليقص عليهم قصة الأعضاء والمعدة فرضيت الطبقة الوسطى بالدخول في الطاعة وعقدت محالفة مع الشعب فمنح رؤساء هذه الطبقة الحق في أن يمدوا يد المساعدة لأهل الطبقة الوسطى للأخذ بيدهم من حيف خحكام الأمة ولأجل أن يحولوا دون قيام أمر يخالف رغائبهم. وقد كان يكفي أن يلفظ أحدهم قوله فتو أي إني أعارض فيتوقف البت في الأمر. وقد كان الدين يحظر الانتقاض على المدافع عن حقوق الشعب ومن فعل ذلك استحق العقاب من أرباب الجحيم.
فضل أرباب الطبقة الوسطى آخذين أنفسهم بمجاهدة خصومهم من أهل الطبقة العالية وإذ كانوا أعز منهم نفراً وأكثر غنى وأيداً انتهت بهم الحال أن ظفروا بهم فتوصلوا أولاً إلى وضع قوانين عامة للجميع وأن يسمح بالزواج بين أهل الطبقة العالية والطبقة والوسطى وكان أصعب ما في هذا التغيير نزع الاستئثار بسلطة الحكم أو الذهاب بفضل الشرف وقد كان الدين يأمر بأنه يجب قبل ن يعين رجل حاكماً أن يطلب من الأرباب فيما إذا كانت توافق على انتخابه أم لا. فيسألون الأرباب عن رأيها في ذلك بزجر الطيور ويسمونه أخذ(33/24)
الفأل. بيد أن الديانة الرومانية القديمة لم تكن تسمح بأخذ الفأل إلا على اسم رجل من أهل الطبقة العليا وما كان يخطر في بال القوم بأن الأرباب يقبلون بحاكم من أهل الطبقة الوسطى. وكان ثمت أسر كبرى من الطبقة الوسطى تحرص على أن تصبح مساوية لأسر الأشراف في تولي المناصب كما كانت تساويها في الغنى والمكانة فاضطر أهل الطبقة الأولى إلى أن تفتح لهم جميع المناصب شيئاً فشيئاً فبدأوا يدخلون في مجلس القناصل سنة 366 وفي مجلس الحكم 355 والقضاء سنة 337 والمراقبة سنة 331 وزعامة الدين الكبري سنة 302 ومن ذاك العهد امتزج الأشراف أهل الطبقة العليا بأهل الطبقة الوسطى وأصبحوا شعباً واحداً.
الديانة
أرباب الرومان: اعتقد الرومان كاعتقاد اليونان بأن كل ما يحدث في هذا العالم هو مما قضت به إرادة خالق ولكنهم لم يعتقدوا بإله واحد يدبر العالم بل قالوا بتعدد الرباب بتعدد المظاهر المختلفة التي تتجلى فيها أوامرهم ونواهيهم. فهناك رب ينبت البذر وآخر يحمي حدود الحقول وثالث يحرس الثمار. ولكل رب اسمه وجنسه وعمله. وأهم الأرباب المشتري رب السماء وجانوس ذو الرأسين والمريخ رب الحرب وعطار رب التجارة وفولكان رب النار ونبتون رب البحر وسريس ربة الحصاد والأرض والقمر وجونون وومنيرفا.
ثم يجيء الأرباب من الدرجة الثانية فكانت تتجسد في بعض تلك الأرباب صفة من الصفات كالفتاء والاتحاد والراحة والسلام ويشرف بعضها على عمل من أعمال الحياة فعندما يولد المولود يأتيه رب يعلمه النطق وربة تعلمه الشرب وأخرى تقوي عظامه وربان يرافقانه إلى المدرسة وآخران يرجعان به وبالجملة فإنهم كانوا يعتقدون بوجود جيش من الأرباب من الدرجة الثانية. ويعتقدون بأن هناك أرباباً تجمي مدينة وحارة وجبلاً وغابة. ولكل نهر ولكل نبع ولكل شجرة رب خاص بها حتى لقد قالت امرأة صالحة في إحدى القصص من تأليف بترون الكاتب اللاتيني: إن بلادنا غاصة بالأرباب بحيث يسهل عليك أن تلقى فيها رباً من أن تصادف رجلاً.
ولم يتمثل الرومانيون كاليونان أربابهم على صورة مخصوصة فقد مضى زمتن طويل ولم(33/25)
يكن في رومية صنم فكانوا يعبدون المشتري في صورة حجر ومارس على صورة سيف. ولم يقتدوا إلا مؤخراً باتخذا الأصنام من الخشب على مثال أصنام الإيتروسكيين وأصنام الرخام على مثال أصنام اليونان ولم يتصوروا على العكس في اليونان أن بين الأرباب صهراً ونسباً ولا عزواً إليهم قصصاً كما كان يفعل اليونان مع أربابهم ولا يعرفون لهم جنة يعقدون فيها مجالسهم. وكان في اللغة اللاتينية لفظة مشهورة للتعبير عن الأرباب وهي (التجليات) فكانوا يعتقدون أنها تجليات قوة إلهية مجهولة. ولذلك لم يصورهم الرومان في صورة من الصور ولا نسبوا إليهم رحماً ولا صهراً ولا تاريخاً وكل ما كان يعرف عن الأرباب الرومانيين هو أن كل واحد منهم يسيطر على قوة من قوى الطبيعة ويستطيع أن يعمل للناس الخير والشر على ما يحب ويهوى.
العبادة: قلما يحب الروماني أولئك الأرباب المجهولين الصفر الباردين. والظاهر أنه كان يخاف منهم فيخبأ وجهه عندما يتوسل إليهم وربما أتى ذلك لئلا يقع بصره عليهم ولكنه يذهب إلى أن الأرباب قادرون وأن من يرضيهم يخدمونه. قال بلوت (الشاعر الهزلي اللاتيني) إن الرجل الذي يرضى عنه الأرباب يكسبونه مالاً. ويعتقد الروماني بأن الدين عبارة عن مقايضة المنافع فيقدم المرء للرب نذوره وقرابينه ويمنحه هذا بعض المنافع فإذا ثقدم المرء ما يجب تقديمه للرب ولم يظفر بمتمناه يعتبر نفسه قانطاً مخدوعاً. ولقد قدم الشعب للأرباب من خلال مرض القائد جرمانيكوس نذوراً لتمن عليه بالشفاء ولما ذاع خبر موته سخط العامة وقلت المذابح وألقت في الشوارع بتماثيل الأرباب لأن هذه لم تعمل ما كان يرجى منها أن تعمله وهكذا فإنا نرى الفلاح الإيطالي لعهدنا هذا يشتم القديس الذي لم يعطه ما طلبه منه.
فالعبارة إذاً عبارة عن القيام بما يرضى عنه الأرباب من الأعمال والشعب يأتيهم بالثمار واللبن والخمر ويضحى لهم بالحيوانات. وفي بعض الأوقات يخرجون تماثيل الأرباب من معابدهم ويجعلونها على سرر ويولمون لها وليمة ويقومون بما يقوم به الشعب في بلاد اليونان فيبنون لهم دوراً جميلة وهي المعابد ويحتفلون بأربابهم.
ولم يكن يكفي في تعظيم أرباب الرومانيين أن ينفق الناس مالاً في سبيل إكرامهم بل كانت تنظر إلى الصور التي يقوم بها ذلك الإكرام فتقضي إرادتها أن تجري جميع أعمال التعبد(33/26)
والنذور والألعاب بما رسمته القواعد القديمة (الطقوس) فمتى أريد تقديم ضحية للمشتري كان عليهم أن يختاروا حيواناً أبيض وأن يذروا على رأسه دقيقاً مملحاً وأن يضرب بفأس وأن يقف المقدم لهذه الضحية على قدميه ويداه مرفوعتان إلى السماء حيث يقيم المشتري وأن يلفظوا بجملة تقديساً لاسمه. فإذا غلط المقدم بما يقول فمعنى ذلك أن الضحية لا تساوي شيئاً ويذهب القوم إلى أن الرب لا يرضى عما يقدم له. ولقد قام أحد الحكام بألعاب إكراماً للأرباب الحامية لرومية فقال شيشرون: إذا غيرت عبارة وإذا وقف اللاعب بالشباب أو انقطع الممثل فتكون الألعاب غير موافقة للشعائر الدينية فيجب إذ ذاك إعادتها. ولذلك كان أهل الرأي من الناس يحضرون كاهنين أحدهما يتلو الصلاة والآخر يتابعه فيما يقول.
يجتمع الكهنة وهم يدعون أخوة رافال كل سنة في معبد بجوار رومية فيرقصون رقصاً مقدساً ويتلون الصلوات وهي مكتوبة بلغة قديمة لا يفهم منها أحد شيئاً ويقتضي في أوائل الصلاة أن يدفع إلى كل كاهن مجموع قوانين مكتوبة في أول الجلسة. وظل الرمانيون بعد أن نسيت هذه اللغة بقرون يتلونها كل سنة دون أن يغيروا منها حرفاً. ومما يدل على أن الرومانيين كانوا يرمون إلى الوقوف عند حد ما رسمه أربابهم هو أنهم كانوا يقومون أحسن قيام بقواعد الدين. ولذلك يرى الرومانيون أنفسهم من أكثر البشر تديناً. قال شيشرون: إننا أحط من جميع الأمم أو مساوون لهم من كل وجه ولكننا نفوقهم من كل وجه في أمور الدين أي بعبادة الأرباب.
الصلاة: إذا صلى الروماني فليست صلاته لتزكية نفسه ومناجاة ربه بل ليطلب منه معونة ويسأل حاجة له. فمن ثم تراه قبل كل شيء عن الرب الذي يستطيع أن ينيله رغبته. قال فارون (الشاعر اللاتيني): يلزمنا أن نعرف أي الأرباب يتيسر له أن يعيننا في أحوال مختلفة كما نعرف أين يقوم النجار والخباز وهكذا قضت الحال بأن يعمد إلى سيريس للحصول على زروع جيدة وإلى عطارد لاكتساب المال وإلى نبتون للمعونة على ركوب البحار. فيلبس المستغيث ألبسة نظيفة لما وقر في الأذهان من أن الأرباب يرغبون في النظافة. ويقدم بين يدي نجوه ضحية لأن الأرباب لا يحبون أن يجيء وأيديه فارغة ويقف المستغيث ويكشف رأسه فينادي الرب إلا أن لا يعرف اسم الرب الذي يناديه ويقول(33/27)
الرومانيون أنه ما من أحد يعرف أسماء الأرباب الحقيقية. بل يكتفى بأن يقول له مثلاً: أيها المشتري الأعظم الرحيم أو بأس الأسماء التي تحب أن تدعى بها ثم يعرض عليه ما يريد عرضه متوقياً استعمال جمل صريحة كل الصراحة حتى لا ينخدع الرب فإذا قدم له خمر يقال له: تقبل طاعة هذا الخمر الذي أهرقه لأنه يسهل على الرب الاعتقاد بأنه يقدم له خمر آخر غير الذي قدم له وأن يعاقب به. ولذلك كانت صلواتهم مطولة كثيرة الحشو مملوءة بالمترادفات.
الفأل: يعتقد الرومان كاليونان بالفأل فيذهب إلى الأرباب يعرفون المستقبل ويرسلون للناس آيات يدركونها فيستنصح الروماني الأرباب قبل أن يشرع في عمل فإذا ما أزمع القائد فيهم أن يهجم على عدوه يبحث في أحشاء الموتى والحاكم قبل أن يجمع لديه مجلساً ينظر إلى الطيور السائرة (وهذا ما يدعونه أخذ الطالع والفأل) فإذا كان فيها إشارة موافقة يدركون بأن الأرباب استحسنت المشروع وإلا فمعناه أنهم غير راضين عنه.
وكثيراً ما يرسل الأرباب آيات من قبلهم ومن دون أن يسألوا إرسالها. وكل ظاهرة لم تكن متوقعة تعد فألاً على حادث غير منتظر. فقد ظهرت نجمة مذنبة قبل موت قيصر فذهب القوم إلى أنها إشارة إلى نعيه وإذا أرعدت السماء عندما كانت الأمة تجتمع للمفاوضة في أمر فمعنى ذلك أن كوكب المشتري لا يحب أن يبتوا أمراً ذلك اليوم ولذلك يبغضونه كل حادث طفيف ويؤلونه بأنه رمز إلى أمر يقع. فإذا أبر البرق أو سمعت كلمة من متكلم أو وقف جرذ في الطريق أو شوهد عراف فكل ذلك يأخذون منه العبر حتى أن مارسلوس كان إذا عزم على البداءة بعمل أمر بأن يحمل في محفة مغلقة ليكون على ثقة من أنه لا يرى شيئاً يتفاءل به.
وما كان ذلك مجرد خرافات للعامة بل كان للجمهورية الرومانية ستة طوالع تتنبأ لها بالمستقبل فكان لها كتاب للنبؤات تبالغ في العناية به دعته كتاب سيبيلين وكان لها فراخ مقدسة يقوم على تربيتها الكهنة وما كان يجري عمل عام ولا تلتئم جمعية ولا يشرع بانتخاب ومفاوضة بدون أن يعمدوا إلى أخذ الطالع أي أنهم ينظرون إلى السارح والبارح. وقد شاع سنة 195 أن الصاعقة انقضت على معبد للمشتري وأنه نبتت شعرة على رأس تمثال هركول فكتب أحد الولاة بأنه ولدت فرخة ذات ثلاث أرجل فاجتمع مجلس الأمة(33/28)
للمفاوضة في هذه الفؤل.
الكهنة: لا يقوم الكاهن في رومية بما يقوم به في بلاد اليونان من الأعمال الروحية بل كان ينقطع فقط لخدمة الرب فيلاحظ معبده ويدير شؤون أملاكه ويقوم بالاحتفالات لإكرامه وهكذا كانت جمعية الساليبن (الرقاصين) تحتفظ بترس سقط عليها من السماء كما زعموا وكان يعبد كما يعبد الصنم وكانت تقيم تلك الجمعية كل سنة حفلة رقص بالسيوف وهذا ما كان يتوفر عليه أعضاء تلك الجمعية. والأحبار يراقبون الحفلات الدينية فيضعون تقويماً للسنين ويحددون أوقات الأعياد التي يجب الاحتفال بها في أيام مخصوصة من السنة ورئيسهم هو الحبر الأعظم.
وما كان الكهنة ولا العرافون ولا الأحبار يؤلفون طبقة خاصة بهم بل كان يجري اختيارهم من كبار الرجال ويبقون على القيام بجميع وظائف الحكومة فمنهم من يتولى القضاء ومنهم رئاسة الجمعيات ومنهم قيادة الجيوش. ولذلك لم يتألف من الكهنة الرومانيين على قوتهم كما تألف من الكهنة المصريين طبقة كهنوتية فقد كان لحكومة رومية دين خاص بها ولم يكن للكهنة حق الحكم فيها.
عبادة الموتى: اعتقد الرومانيون كما اعتقد الهنود واليونان بأن الروح تبقى بعد موت الجسد فإن عنوا بدفن الجثة بحسب العادات فقد اعتقدوا بأن الروح تذهب لتحيا تحت الأرض وتصبح ربة وإلا فالروح ليس في استطاعتها الدخول إلى عالم الأموات بل كانت تعود إلى الأرض تدخل الرعب في قلوب الأحياء وتعذبهم ليدفنوها. حكى بلين لجون قصة شبح كان يختلف إلى أحد البيوت ويهلك سكانه هلعاً فاكتشف أحد الفلاسفة ممن كان له قوة قلب تمكنه من اقتفاء أثره إلى المكان الذي وقف فيه ذاك الطيف ـ عظاماً لم تدفن بحسب العادات المتبعة. وهكذا كانت روح الإمبراطور كاليجولا تطوف في حدائق القصر فاقتضى إخراج جثته ودفنه ثانية على ما رسمته الشعائر الدينية.
فمن ثم كان مما يهم الأحياء والأموات على السواء المحافظة على العادات الدينية فكانت أسرة الميت تنصب كومة من الحطب يحرقون فيها الجسد ويجعلون الرماد في صندوق يضعونه في القبر. وكان لهم معبد خاص بدفن الأرباب أي الأرواح التي أصبحت أرباباً فيأتي أهل الميت في أوقات معينة إلى زيارة القبر حاملين طعاماً. ولا جرم أنهم اعتقدوا(33/29)
قديماً أن الروح محتاجة إلى الغذاء لأن القوم كانوا يهرقون الخمر واللبن على الأرض ويحرقون لحم المنكوبين ويتركون في الأواني لبناً وحلويات. وكانت هذه الاحتفالات بالموتى تدوم ما شاء الله أن تدوم وما كان لأهل بيت أن يتخلوا عن أرواح أجدادهم بل يظلون على العناية بقبورهم ويأتونهم بالغذاء لإطعامهم. ثم أن تلك الأرواح التي تتأله أو تصبح في عداد الأرباب تحب ذريتها وتحمي أحفادها من البوائق وهكذا كان لكل أسرة أرباب يحمونها يدعونهم آلهة البيت.
عبادة البيت: اعتقد الرومان كاعتقاد الهنود بأن اللهيب رب كما أن البيت مذبح فكان لكل أسرة بيت تعبده وتقوم على العناية به ليل نهار تحمل إليه الزيت والشحم والخمر والبخور فيتصاعد اللهب ويسطع كأنه منبعث من الضحية. فكان الروماني قبل أن يبدأ بتقديم الطعام للميت يشكر لرب البيت ويدفع له جزءاً من الأطعمة ويصب له قليلاً من الخمر وهذا ما يدعونه بالصب والإهراق حتى أن هوراس نفسه على قلة اعتقاده كان يتعشى أمام بيته مع خدمته ويصب الطعام ويصلي الصلاة المعتادة.
وكان لكل أسرة رومانية في بيتها قبر يجعل فيه أرباب البيت وأرواح الأجداد ومذبح البيت. وكان لمدينة رومية بيت مقدس في قبر الآلهة فستا وهي عبارة عن أربع عذارى من أعظم الأسرات الرومانية عهد إليهن حراسته وذلك لأنهم يرون أن لا ينطفئ اللهيب المقدس مطلقاً ولا يعهد بالقيام عليه إلا الأناس من الأطهار فإذا أبت إحدى تلك العذارى أن تقوم بما فرض عليها التوفر عليه من هذه الخدمة يدفنونها حية في قبو لأنها ارتكبت عملاً طالحاً وأوقعت الشعب الروماني في خطر.
الجيش الروماني
الخدمة العسكرية: لم يكن يكفي لقبول الرجل في خدمة الجيش الروماني أن يكون وطنياً رومانياً بل يجب أن يكون له بعض الموارد ليجهز نفسه بالسلاح على نفقته لأن الحكومة لم تكن تعطي الجندي سلاحاً حتى أنها لم تكن تعطيه جراية يأكلها إلى سنة 403 وعلى هذا فلم يكن يجند من الوطنيين إلا من كانوا يملكون بعض ثروة أما الفقراء فكانوا يعفون من الخدمة العسكرية وبعبارة ثانية ليس لهم الحق في خدمتها ويحق لكل وطني له بعض الغنى أن يقبل في الجيش بعد أن يكون أبلى بلاء حسناً في عشرين حملة وإذا لم يقم بذلك فهو(33/30)
تبع للقائد أي منذ سن السابعة عشرة إلى السادسة والربعين فكل فرد في رمية كما في المدن اليونانية وطني وجندي في آن واحد والرومان أمة مؤلفة من صغار أرباب الأملاك المدربين على القتال.
التجنيد: متى احتاجت الحكومة إلى جند يصدر القنصل أمره إلى جميع الوطنيين اللائقين للخدمة بأن يجتمعوا في معبد الكابيتول وهناك يلتئم ضباط تختارهم الأمة وهم يختارون من ينبغي لهم من الجند لتأليف جيش وهذا هو التجنيد عند الرومانيين ويسمونه الاختيار. ثم يجري التحليف العسكري فيبدأ الضباط أولاً يقسمون اليمين المألوفة ثم الجند وكلهم يقسمون الطاعة للقائد وأن يقاتلوا دون أعلامهم حتى يكونوا في حل من إيمانهم في نضره. فيتلو رجل عبارة ويتقدم كل فرد في نوبته فيقول: وأنا أيضاً فيرتبط الجيش إذ ذاك بالقائد ارتباطاً دينياً.
دعي الجيش الروماني أولاً الفرقة أو التجنيدة ولما نما الشعب أصبح يؤلف بدل الفرقة فرقاً والفرقة الرومانية عبارة عن 4200 أو 5000 رجل كلهم من أبناء البلاد. وكان أصغر جيش على الأقل عبارة عن فرقة وكان كل جيش بقيادة قنصل عبارة عن فرقتين على الأقل. ويتألف نحو نصف الجيش من هذه الفرق وكان على جميع شعوب إيطاليا الخاضعة لرومية أن تبعث إليها ببعوثها ويدعى هؤلاء الجنود المحالفون وهم تحت قيادة الضباط الرومانيين. وكنت ترى المحالفين في الجيش الروماني أكثر عدداً من كتائب الوطنيين. وجرت العادة أن يبعثوا مع كل أربع فرق (16800 جندي) عشرين ألف راجل من المحالفين وهكذا كان الشعب الروماني في حروبه يستخدم رعاياه أكثر من مواطنيه.
التسليح: اعتاد الرومان كاليونان أن يحاربوا مترجلين متدرعين بالدروع والخوذ والمسامي (الطماقات) قابضين بأيديهم اليسرى على ترسة ليدفعوا بها الضربات. مضى عليهم زنمن وهم يقاتلون بالرمح والسيف فكانوا إذا تلاقوا بالعدو يجتمعون كتيبة واحدة على نحو ما كانت تجتمع الكتائب الرومية ثم عمدوا إلى استعمال ضرب آخر من ضروب الكر والفر. وتقسم الفرقة على سرايا صغيرة كل سرية مؤلفة من 120 جندياً مانييول أي الفريقة لأن علمهم عبارة عن حزمة من الحشيش فتصطف كل فرقة منفصلة عن جارتها بحيث يكون المجال أمامها متسعاً للعمل على حدتها فيضرب جنود فرق الصفوف الأولى بحرابهم(33/31)
ويضعون سيوفهم في أيديهم ويبدؤون القتال. فإذا اندحروا يتراجعون إلى الفضاء الذي وراءهم فيزحف الصف الثاني من الفرق في نوبته إلى القتال فإذا ما دحر ينكفئ راجعاً نحو الخط الثالث وهذه الفرق هي خيرة رجال الجيش يحملون الرماح وهم واسطة لقيادة أخوانهم الآخرين لقتال الأعداء بهم.
وبعد فإن الجيش الروماني لا يتألف جملة واحدة للقتال في آن واحد بل أن القائد يعبئ جنوده مراعياً حالة الأرض التي يتخذها ساحة لقراع الأعداء. ولما التقى كتائب جنود الرومانيين وفرق المكدونيين في جبال سينوسيفال في تساليا للمرة الأولى وهما أشهر ما عهد من الجيوش في العهد القديم كان ميدان القتال عبارة عن أكمات وتلعات فلم يكن في إمكان الستة عشر ألف محارب من المكدونيين أن يظلوا متماسكين متجمعين بل كان صفوفهم ذات فروج فزحفت الفرق الرومانية ودخلت الفضاء الذي كان يتخلل صفوفهم ومزقت شملهم كل ممزق.
التمرينتا: لم يكن لرومية محال للألعاب الرياضية فكان الجنود يتمرنون في ساحة المناورات أي في ساحة المريخ في الضفة الثانية من نهر التيبر وهناك كان الشاب يسير ويعدو ويقفز وعليه العدة الكاملة من السلاح يلعب بسيفه ويضرب بحربته ويستعمل معوله فإذا ما علاه الغبار والعرق يجتاز نهرالتيبر عائماً. وكثيراً ما كان الرجال المدربون بل والقواد يشاركون فتيان الجند في تمريناتهم إذ كان من دأب الروماني أن لا ينقطع عن التمرين حتى كانت القاعدة المتبعة إذ ذاك أن لا يترك الجنود حتى في الحرب بلا عمل فيمرنون مرة في اليوم على الأقل فيشغلونهم بإنشاء الطرق والجسور والمجاري إذا لم يكن أمامهم عدو يقاتلونه ولا متاريش يقيمونها.
المعسكر: يحمل الجندي الروماني حملاً ثقيلاً مؤلفاً من سلاح وأوان وأطعمة تكفيه أياماً ووتد يبلغ وزن مجموعها ستين رطلاً رومانياً وإذا تلاقى الجيش بجيش العدو يسهل عليه الحرب بسرعة إذ لا يكون له من الأثقال ما يشغله.
وكل مرة كان يريد الجيش الروماني الوقوف ليعسكر يخط المساح نطاقاً مربعاً ويحفر الجند في محيط ذاك النطاق هوة عميقة ويبقون التراب في ناحيتهم في الداخل يكون منحدراً ويضربون فيه أوتاداً وهكذا يكون المعسكر محمياً بنطاق من أوتاد وأرض ذات وهاد وفي(33/32)
داخل هذه القلعة المؤقتة يضرب الجنود خيامهم ويجعلون سرادق القائد في الوسط ويبقى العيون والحراس طوال الليل يحرسون المعسكر وهكذا يكون الجيش في مأمن من كل عدو مفاجئ.
تعليم الجند: يعلم الجيش الروماني تعليماً قاسياً فيحق للقائد أن يميت جنده أو يبقي عليهم والجندي الذي يترك محله أو يركن إلى الفرار في الزحف يحكم عليه بالموت فيربطه حملة الفؤوس بعمود ويضربونه بالعصي ويقطعون رأسه أو يقع عليه الجند فيضربونه بالعصي.
وإذا تمردت كتيبة من الجيش يقسم القائد المجرمين إلى عصابات كل عصبة مؤلفة من عشرة أشخاص يقترعون في كل عصابة على واحد يكون نصيبه الإعدام ويسمون هذا التعشير أي أخذ واحد من عشرة أما الباقون فيقضى عليهم أن يعطوا خبز شعير ويزكوهم يعسكرون خارج المعسكر ليكونوا أبداًُ على خطر من مفاجأة العدو لهم.
لا يقبل الرومانيون أن يغلب جندهم ولا أن يؤسروا فقد سلم من القتل ثلاثة آلاف جندي بعد وقعة كان وراحوا يهيمون على وجوههم إلا أن مجلس الشيوخ أرسلهم يخدمون في صقلية بدون جرايات ولا ألقاب شرف ريثما يخرج العدو من إيطاليا وبقي ثمانية آلاف جندي في المعسكر فقبض عليهم وقد عرض هانيبال أن يعيدهم إلى الحكومة لقاء فدية طفيفة تدفعها عنهم فأبى مجلس الشيوخ أن يفتديهم.
الغلبة: متى كتب الظفر لأحد القواد يصدر مجلس الشيوخ أمره إليه بأن يحتفل بما تم له من الغلبة دليلاً على تشريفه فيحتفل بذلك احتفالاً دينياً في معبد المشتري فيسير في المقدمة الحكام والشيوخ ثم تأتي العجلات مملوءة بالغنائم والأسرى مقيدين من أرجلهم وفي المقدمة عربة مذهبة تجرها أربعة جياد يأتي القائد الغازي متوجاً بالغار وجنده يتبعونه مترنمين بأدوار دينية يرددون فيها اسم الظفر فيجتاز هذا الموكب المدينة بهذا الاحتفال ويطلع إلى معبد الكابتول وهناك يضع الغازي أغصان الغار على أرجل المشتري ويحمده على أنه كان سبباً في نصرته وعند انتهاء الحفلة تضرب أعناق الأسرى كما فعلوا مع الزعيم الغالي فرسختوركس أو أن يلقوا الأسير في مطبق (حبس مظلم) يموت جوعاً كما فعلوا مع جوكورتا ملك فوميديا أو أنهم يكتفون بأن يسجنوا الأسير. وقد دام ظفر بولس أميل الذي تغلب على ملك مكدونية (167) ثلاثة أيام مرت في اليوم الأول 250 مركبة تحمل لوحات(33/33)
وتماثيل وفي الثاني ما غنمه من الأسلحة و75 برميلاً من المال وفي اليوم الثالث 120 ثوراً من ثيران الضحايا والملك البرسي في المؤخرة لابساً السواد يحف به خاصته مقيدين وثلاثة أولاد له مدوا أيديهم للأمة يضرعون إليها وأخذوا يحركون شفقتها.
فتح إيطاليا: كان في رومية معبد خاص بالرب جانوس تبقى أبوابه مفتحة ما دام الشعب الروماني في الحرب. ولم يغلق هذا المعبد إلا مرة واحدة دامت بضع سنين في خلال خمسمائة سنة التي طال فيها عمر الجمهورية الرومانية وعليه فإن رومية عاشت في حرب دائمة وإذا كان جيشها أقوى جيش ي عصره انتهت بها الحال أن تتغلب على جميع الشعوب الأخرى وأن تفتح العالم القديم.
فبدأت بإخضاع جيرانها أولاً فأخضعت اللاتينيين أولاً ثم الشعوب الأخرى النازلة في الجنوب مثل الفولسكيين والإيكيين والهريكيين ثم الإيتروسكيين والسامنتيين ثم المدن اليونانية. وكان هذا الفتح من أشق الفتوح وأبطئه. بدأ على عهد الملوك ولم ينتهي إلا في سنة 266 أي بعد قرون ذلك لأنه كان على الرومانيين أن يقاتلوا شعوباً هم وإياهم من عنصر واحد على شاكلتهم في القوة والنجدة والشجاعة. ومن هذه الشعوب من أبى إباؤها أن تخضع للرومان فما كان من رومية إلا أن أبادتهم فأصبحت سهول فولسكا الغنية قفراً ذات بطائح ومستنقعات ولم تعد بطائح بونتين صالحة للسكنى حتى يوم الناس هذا وقد كانت بلاد السامنتيين تعرف بعد ثلاثمائة سنة من الحرب التي وقعت فيها بما بقي فيها من بقايا المتاريس أكثر مما تعرف بخلو جوارها من السكان وكان فيهخا 45 معسكراً للإمبراطور دسيوس و86 للقائد فابيوس.
الطرق العسكرية: أقام الرومانيون في جميع إيطاليا طرقاً عسكرية ليتسنى لهم أن يبعثوا بالبعوث القاصية وكان هذه الطرق عبارة عن طرق مستقيمة مرصوفة بالجير والحجر والرمل وبلغ من متانتها أنها صبرت على اليام خلال ذلك العهد برمته. وقد أكثر الرومان منها في عامة بلاد إيطاليا فليس فيها بقعة لا ترى فيها إلى اليوم أثراً من آثار تلك الطرق الحربية وكانوا يسمونها باسم الوالي الذي أمر ببنائها وأهم هذه الطرق طريق أبين الممتد إلى الجنوب إلى البطائح بوتين حتى ترانتا وبرندس ثم طريق فلامنين الذي يجتاز طريق أبنين ويصل إلى بحر الإدرياتيك وطريق أورلين الذي يقطع إقليم طوسكانيا آخذاً إلى(33/34)
الشمال على طول الشاطئ حتى بلاد الغول ثم طريق أملين الممتد من بحر الإدرياتيك مجتازاً جميع سهل بو.(33/35)
مثنيات شعرية
أشر فعل البرايا فعل منتحر ... وافحش القول منها قول مفتخر
إن التمدح من عجبومن أشرٍ ... والمرء في العجب ممقوت في الأشر
يا راجي الأمر لم يطلب له سبباً ... كيف الرماية عن قوس بلا وتر
ليس التسبب من عجز ولا خورٍ ... وإنما العجز تفويض إلى القدر
دع الأناسي واسنبني لغيرهم ... إن شئت للشاء وإن شئت للبقر
فإن في البشر الراقي بخلقته ... من قد أنفت به أني من البشر
ألبس حياتك أحوال المحيط وكن ... كالماء يلبس ما للظرف من جُدر
وإن أبيت فال تجزع وأنت بها ... عارٍ من الأنس أو كاسٍ من الضجر
إن رمت عزّاً على فقر تكابده ... فاستغن عن مال أهل البذخ والبطر
فإنما النفس ما لم تنأ عن طمع ... فريسةٌ بين ناب الذل والظفر
إذا نظرت إلى الجزئي تصلحه ... فارقبه من مرقب الكلي في النظر
فإن نفعك شخصاً واحداً ربما ... يكون منه عموم الناس في الضرر
قد يقبح الشيء وضعاً وهو من حسن ... كالنعش يدهش مريء وهو من شجر
فالقبح كالحسن في حكم النهى عرض ... وليس يثبت إلا عند معتبر
لا تعجبن لذي عقل يروح به ... لينتج الشر خبراً غير منتظر
فإنما لمعات الخير كامنة ... بين الشرور كمون النار في الحجر
سبحان من أوجد الأشياء واحدة ... وإنما كثرة الأشياء بالصور
هب منشأ الكون يبقى مبهماً أبداً ... فهل ترى فيه عقلاً غير منبهر
الحب والبغض لا تأمن خداعهما ... فكم هما أخذا قوماً على غرر
فالبغض يبدي كدوراً في الصفاء كما ... أن المحبة تبدي الصفو في الكدر
وأشنع الكذب عندي ما يمازحه ... شيءٌٌ من الصدق تمويهاً على الفكر
فإن إبطال هذا في النهى عسرٌ ... وليس إبطال محض الكذب بالعسر
قالوا عشقت معيب الحسن قلت لهم ... كفوا الملام فما قلبي بمنزجر
ما العشق إلا العمى عن عيب من عشقت ... هذي القلوب ولا أعني عمى البصر
قالوا ابن من أنت يا هذا فقلت لهم ... أبي امرؤٌ جده الأعلى أبو البشر(33/36)
قالوا فهل نال مجداً قلت واعجبي ... أتسألوني بمجدٍ ليس من ثمري
لا درَّ درّ قصيد راح ينظمه ... من ليس يعرف معنى الدرّ والدرر
يبكي الشعور لشعر ظل ينقده ... من لا يفرق بين الشعر والشعر
قالت نوار وقد أنشدتها سحراً ... ممن تعلمت نفث السحر في السحر
فقلت من سحر عينيك الذي سحرت ... به المشاعر من سمع ومن بصر
بغداد
معروف الرصافي(33/37)
مآكل العرب
الأطعمة في الأمم تابعة لحضارتها تكون بسيطة في الأمة البدوية ومركبة منوعة في الأمة الحضرية كما هي إلى السذاجة في الريف والتنوع في المدن. ولما كانت البداوة أصلاً والحضارة فرعاً وكانت القرى هي المعول عليها في حياة المدن كان الناس يطعمون في أيام خشونتهم ورفاهيتهم مما تنبت لهم الأرض من بقل وثمر وتنتج من مواشيهم من ألبان ولحوم وتقذف أجواؤهم وسهولهم وأجبلهم وبحيراتهم وأنهارهم وبحارهم من طيور وأسماك وصيود ولا يكادون يعدون ذلك بحال.
فأطعمة العرب في جاهليتها على النزر القليل الذي انتهى إلينا من أخبارها قبل الإسلام كانت إلى السذاجة والفطرة خصوصاً في البلاد التي هي إلى الإجداب أقرب منها إلى الإخصاب لقلة أمطارها وعصيان تربتها على الاستنبات. ونعني بالعرب هنا سكان جزيرة العرب من تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن وكلها قاحلة إلا بعض بلاد اليمن التي سميت الخضراء لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها وفي بعض كورها ما هو كبلاد الشام باعتدال أهويته وزكاء تربته. قال الصمعي جزيرة العرب أربعة أقسام اليمن ونجد والحجاز والغور وهي تهامة فمن جزيرة العرب الحجاز وما جمعه وتهامة واليمن وسبأ والأحقاف واليمامة والشجر وهجر وعمان والطائف ونجران والحجر وديار ثمود والبئر المعطلة والقصر المشيد وإرم ذات العماد وأصحاب الأخدود وديار كندة وجبال طيء وما بين ذلك.
ومتى أطلقنا العرب هنا فإنا نريد بهم سكان الحجاز ونجد وتهامة وهم صميم العرب العاربة ومن بلادهم انبعثت النبوة وفي الحجاز قريش أشرف القبائل ومن قريش بني هاشم أكثر من كانوا يطعمون الطعام ويقرون الضعيف وكنا نود أن يتناول بحثنا أهل كل قبيلة وأهل كل كورة من كور العرب ولكن ليس في الكتب التي بين أيدينا ما يدعونا إلى التوسع في القول.
وغاية ما اتصل بنا علمه أن الإسلام وإن أصلح من نفوس العرب فإن طبيعة بلادها لم تتغير منذ قرون ولذلك كان بعض العرب يأكل اليربوع والضب والجراد والرنب ويعدها نعمة وبسطة في العيش حتى قال مديني لأعرابي: أي شيء تدعون وأي شيء تأكلون. قال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين فقال المديني: لتهن أم جبين العافية. ولذلك كنت ترى العرب ولا تزال تراهم إذا أصابتهم سنة مجاعة وعالة على جيرانهم من سكان الشام(33/38)
والحيرة واليمن وقد عيرهم بذلك ملك الفرس لما جاؤه فاتحين يوم القادسية وذكر لهم كيف كان يوسع عليهم عندما كانوا ينزلون بلاده منتجعين مستطعمين.
وقول المديني أن العرب يأكلون ما دب ودرج لا يؤخذ منه أنهم كلهم لأن منهم من كانوا يتقززون من أكثر الدويبات والصيد قال الجاحظ: ومن الطعام المذموم الخزيرة التي تعاب بأكلها مجاشع بن دارم وكنحو السخينة التي تعاب قريش والسخينة كانت من طعام قريش وتهجى الأنصار وعبد القيس وعذرة وكل من كان يقرب النخل بأكل التمر وتهجى أسد بأكل الكلاب وبأكل لحوم الناس والعرب إذا وجدت رجلاً مت القبيلة قد أتى قبيحاً ألزمت ذلك القبيلة كلها كما تمدح القبيلة بفعل جميل وإن لم ذلك إلا بواحد منهم فتهجو قريشاً بالسخينة وعبد القيس بالتمر وذلك عام في الحيين جميعاً وهما من صالح الأغذية والأقوات كما تهجو بأكل الكلاب والناس وإن كان ذلك إنما كان رجلاً واحداً فلعلك إذا أردت التحصيل تجده معذوراً وتهجى أسد وهذيل والعنبر وباهلة بأكل لحوم الناس. وقال قد يصيب القوم في باديتهم ومواضعهم من الجهد ما لم يسمع به في أمة من الأمم ولا في ناحية من النواحي وإن أحدهم ليجوع حتى يشد على بطنه الحجارة وحتى يعتصم بشدة معاقد الإزار وينزع عمامته من رأسه فيشد بها بطنه وإنما عمامته تاجه والإعرابي يجد في رأسه من البرد إذا كان حاسراً ما لا يجده أحد لطول ملازمته العمامة ولكثرة طيها وتضاعف أثنائها ولربما اعتم بعمامتين ولربما كانت قلنسوة خدرية.
ومهما يكن فإن العقل يحكم بأن عرب الشام كغسان كانوا لمجاورتهم للروم يأخذون عنهم كل شيء طريف ولقمة كريمة ومضغة شهية أكثر من عرب الحجاز وإنه كان لعرب الحيرة من المطاعم ما ليس لأهل نجد لقرب بلاد الأولى من بلاد الأكاسرة وأخذهم عنهم رفاغة العيش والناعم من الطعام ومطاعم العرب في جملتها لا تتعدى اللحوم والالبان والبر والتمر. والإبل عندهم أفضل من عامة الذبائح إذا ضاف أحداً رجلاً من أهل السعة ولم ينحر له عدَّ ذلك إهانة.
نزل عمرو بن معدي كرب برجل من بني المغيرة وهم أكثر قريش طعاماً فأتاه بما حضر وقد كان فيما أتاه به فضل فقال لعمر بن الخطاب وهم أخواله: لئام بني المغيرة يا أمير المؤمنين قال: وكيف. قال نزلت بهم فما قروني غير قريين وكعب ثور قال عمر: إن ذلك(33/39)
لشعبة وكم قد رأينا من الأعراب نزل برب صارمة فأتاه بلبن وتمر وحيس وخبز وسمن سلاء فبات ليلته ثم أصبح يهجوه كيف لم ينحر له وهو لا يعرف بعيراً من ذوده أو من صرمته ولو نحر هذا البائس لكل كلب مر به بعيراً من مخافة لسانه لما دار الأسبوع إلا وهو يتعرض للسابلة يتكفف الناس ويسألهم العلق.
وإذا اعتبرت أسماء الأطعمة عندهم تجدها دائرة على تلك المواد الأولية ومتى رأيت تكرر المعنى الواحد بألفاظ كثيرة فمنشأ ذلك والله أعلم تعدد لغات قبائل العرب لأن ما عرفته قبيلة باسم تعرفه أخرى بآخر. فمن أطعمتهم (الوشيقة) وهو لحم يغلى إغلاة ثم يرفع و (الصفيف) مثله ويقال هو القديد قال ابن السكيت: إذا شرح اللحم وقدد طوالاً فهو القديد فإذا شرح عراضاً فهو الصفيف والوشيق يجمعهما إذا جفا (والتثمير) أن يقطع صغاراً ثم يجفف و (الوزيم) المجفف و (العفير) لحم يجفف على الرمل في الشمس و_الجبجبة) كرش البعير يغسل بالماء والملح ثم يشرح أعلاه ثم ينفخونها ويحشونها بالشجير أو بعر افبل اليابس ثم تعلق حتى تضربها الريح وتجفف ثم يأخذون اللحم فيقددونه ويجعلونه على حبال حتى يذبل ذبله ويذهب ماؤه وكذلك يفعلون بالشحم ثم يطبخون لحمها بشحمها جميعاً ثم يفرغونه في القصاع حتى يبرد ويصفون الإهالة على حدة فإذا برد كثبوا اللحم والشحم في الجبجبة وصبوا عليه الودك ثم بردوه حتى يجمد ويصير كالحجر ثم يلقى في جوالق (أكياس) ويستر من الحر أن يفسد فيأكلون منه جامداً ومن شاء أذاب منه على القرص.
و (الأرة) لحم يطبخ في كرش و (الهلام) طعام يتخذ من لحم عجلة بجلدها. والشبارق الألوان من اللحم المطبوخة فارسي معرب. والخضيعة طعام يتخذ بالشام والقلية مرقة تتخذ من أكباد الجزور ولحومها. والحنيذ الشواء الذي لم يبالغ في نضجه وقد حنذت أحنذ حنذاَ قال ابن السكيت: الحنيذ أن يؤخذ اللحم فيقطع أعضاء وينصب له صفيح الحجارة فيقابل يكون ارتفاعه ذراعاً وعرضه أكثر من ذراعين في مثلهما ويجعل له بابان ثم يوقد في الصفائح بالحطب فإذا حميت واشتد حرها وذهب كل دخان فيها ولهب أدخل فيه اللحم وأغلق البابان بصفيحتين قد كانت قدرتا للبابين ثم صربتا بالطين وفرث الشاة وأدفئت شديداً بالتراب فيترك في النار ساعة ثم يخرج كأن البسر قد تبرأ العظم من اللحم من شدة نضجه. والحند أيضاً أن يأخذ الرجل الشاة فيقطعها ثم يجعلها في كرشها ويلقي مع كل(33/40)
قطعة من الكرش رضفة وربما جعل في الكرش قدحاً من لبن حامض أو ماء ليكون أسلم للكرش من أن تنقد ثم يخلها بخلال وقد حفر لها بؤرة أحماها بها فيلقي الكرش في البؤرة ويغطيها ساعة ثم يخرجها وقد أخذت من النضج حاجتها. و (شواء ملعوس) إذا أكل بالسمن وهو العلس و (الصلائق) اللحم المشوي المنضج وقيل الرقاق الخبز وفي حديث عمر رضي الله عنه لو شئت أمرت بصلائق وصناب.
قال ابن سيده في باب ما يعالج من الطعام ويخلط نقلاً عن أبي علي أن أكثر هذا الباب على فعيلة أما بناؤهم على هذا البناء فلأنه في معنى مفعول ألا ترى أن البسيسة في معنى مبسوسة وكلها مطبوخ ملتوت أو مليون أو متمور أو مسمون أو معسول والجنس الغالب العام له قولنا مخلوط ودخلت الهاء للمبالغة. وذلك مثل (الضبيبة) وهي سمن وربٌّ يجعل للصبي في العكة يطعمه يقال ضببوا لصبيكم. (والربيكة) شيء يطبخ من بر وتمر وقد ربكته أربكه ربكاً مثل غراثان فأربكوا له. قال ابن السكيت الربيكة تكر بعجن بسمن وأقط فيؤكل وربما صب عليه الماء فشرب شرباً. والبسيسة كل شيء خلطته بغيره مثل السويق يلت بالسمن أو الزبد ثم يؤكل ولا يطبخ وهو أشد من اللت بللاً والأقط يدق ويطحن ثم يلبك بالسمن المختلط بالرب و (البكيلة) السويق والتمر يؤكلان في إناء واحد وقد بلا بللبن وقد بكل الدقيق بالسويق خلطه. و (الغثيمة والغبيثة) طعام يطبخ ويجعل فيه جراد و (الفريقة) شيء يعمل من البر ويخلط فيه أشياء للنفساء و (الفئرة والفؤارة) حلبة وتمر يطبخ للمرض أو النفساء و (الرغيدة) اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق لعقاً و (الحريرة) الحساء من الدسم الدقيق و (السريطاء) حساء شبيه بالحريرة أو نحوها و (الصية) طعام كالحساء يصنع بالتمر وقد يقال له الرغيغة و (العكيس) الدقيق يصب عليه الماء ثم يشرب و (الوجيئة) التمر يدق حتى يخرج نواه ثم يبل بلبن أو سمن حتى يتدن ويلزم بعضه بعضاً فيؤكل والوجيئة أيضاً جراد يدق ثم يلت بسمن أو بزيت فيؤكل و (الخزيرة أو الخزير) الحساء من الدسم أو الدقيق والخزيرة مرقة تصفى بلالة النخالة ثم تطبخ تسميه الفرس سيوساب والخزيرة أن تنصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم و (العصيدة) السمن يطبخ بالتمر و (الرهيدة) برٌ يدق ويصب عليه الماء و(33/41)
(الوديكة) دقيق يساط بشحم شبه الخزيرة و (اللهيدة) الرخوة من العصائد ليست بحساء يحسى ولا غليظة فتلقم و (الخطيفة) الدقيق يذر على اللبن ثم يطبخ فيلعقه الناس لعقاً و (اللفيتة) العصيدة المغلظة من لفت الشيء ألفته لفتاً إذا لويته و (النحيرة) ماء وطحين يطبخ وقيل هو لبن حليب يجعل عليه سمن و (الحسيلة) حشف النخل إذا لم حلا بسره فيبسونه فإذا ضرب أنفت عن نواه ويدفونه باللبن ويمردون له تمراً حتى يحليه فيأكلونه لقيماً وربما ودن بالماء و (النهيدة) أن يغلى لباب الهبيد وهو حب الحنظل فإذا بلغ أناه من النضج والكثافة ذرت عليه قميحة من دقيق ثم تحل و (الفهيرة) مخض يبقى فيه الرضف فإذا ذر عليه الدقيق وسيط به ثم أكل و (السخينة) التي ارتفعت عن الحساء وثقلت عن أن تحسى وهي دون العصيدة و (النفيتة والحريقة) أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب حتى ينفت تتجبس من نفتها وهي أغلظ من السخينة يتوسع فيها صاحب العيال إذا علبه الدهر و (الخضيمة) حنظة تؤخذ فتنقى وتطيب ثم تجعل في القدر ويصب عليها الماء فتطبخ حتى تنضج و (الوهية) جراد يطبخ ثم يجفف ثم يدق فيقمح أو يبكل ويخلط بدسم و (الصحبرة) من المحض إذا أسخن يقال اصحروا لنا لبناً وربما جعل فيه دقيق وربما جعل فيه سمن إذا سخن فيه الحليب خاصة حتى يحترق فهو صحيرة وقد صحرته أصحره صحراً و (الغميم) اللبن يسخن حتى يغلظ و (القطيبة) لبن المعزى والضأن و (الأخينخة) دقيق يصب عليه ماء بر بزيت أو سمن ويشرب ولا يكون إلا رقيقاً و (الوظيئة) تمر يخرج نواه ويعجن بلبن و (العجة) دقيق يعجن بسمن ثم يشوى و (الوليفة) طعام يتخذ من دقيق وسمن ولبن و (اللوقة) زبد ورطب و (الألوقة) كل ما لين من الطعام وفي الحديث لا آكل إلا ما لوَّق لي. و (الرهية) بر يطحن بين حجرين ويصب عليه لبن و (الحيس) تمر وأقط وسمن و (الغذيرة) دقيق يحلب عليه لبن ويحمى بالرضف و (المجيع) التمر واللبن و (الصعقل) التمر ايابس ينقع في اللبن الحليب و (القشيمة والقميشة) هبيد يحلب عليه لبن و (الوضيعة) حنطة تدق ثم يصب عليها سمن فتؤكل و (القفيخة) طعام من تمر وإهالة و (البغيث) الطعام المخلوط بالشعير و (الشقدة والقشدة) حشيشة كثيرة الإهالة واللبن يصبخ مع دقيق وأشياء تؤكل و (الدليك) طعام يتخذ من الزبد واللبن شبه اللبن.
إذا أخذ الحليب فأنقع فيه تمر برني فهو (طكديراء) و (الرض) التمر يدق فينقى عجمه(33/42)
ويلقى في المحض و (الوغيرة) اللبن محضاً يسخن حتى ينضج وربما جعل فيه السمن. وفي لغة الكلبيين الإيغار أن تسخن الحجارة ثم تلقى في الماء لتسخنه وفي اللبن أيضاً لينعقد ويطيب و (الحليجة) عصرة نحي أو لبين أنقع فيه تمر و (غنية) هي السمن على المحض و (الدبوس) خلاص التمر يلقى في مسلا السمن فيذوب فيه وهو مطيبة للسمن و (الرضيف) اللبن يصب على الرضف وهي حجارة تحمى فيوغر بها اللبن. و (الحميمة) المحض يسخن وقد حممته وأحممته. مش الشيء يمشه مشاً إذا دافه في ماء حتى يذوب. و (العجال والعجول) تمر يعجن بسويق و (العمص) ضرب من الطعام تقول عمصت العامص وأمصت الآمص وهي كلمة تجري على ألسنة العامة وليست فصيحة يعنون الخاميز وربما قالوا العاميص و (العويثة) قرص يعالج من البقلة الحمقاء بزيت و (العلهز) وبر مخلوط بدماء الحلم كان يؤكل في الجدب و (المجدوح) دم يخلط بغيره كان يؤكل في الجاهلية وأصله من الجدح والتجديح وهو الخوض بالمجدح وهي خشبة في رأسها خشبتان معترضتان و (الخردق) طعام يعمل شبيه الحساء والخزيرة و (الوزين) حب الحنظل المطحون يبل باللبن فيؤكل و (الفرني) واحدته فرنية وهي خبزة مسلكة مصغنة تسوى ثم تروى سمناً ولبناً وسكراً قال ابن سيده وأهل الشام يتخذون الخبزة الفرنية على صنعة كير الزجاجين يخبزون فيه الفرنية ويسمون ذلك المخبز فرناً و (الطعام مبروت) مصنوع بالمبرت وهو السكر الطبرزد و (البهط) فارسي وهو الأرز يطبخ باللبن والسمن خاصة واستعملته العرب تقول بهطة طيبة و (سويق مقنود ومقند) مخلوط بالقند والقنديد وهو عصير قصب السكر و (البريقة) وجمعها برائق وهي التباريق وهي شيء قليل من الدسم ولم يسفسفوه أي لم يوسعوه دسماً. و (المشنق) العجين الذي يقطع ويعمل بالزيت واسم كل قطعة منه فرزدقة وجمعه فرزدق (وعامة أهل الشام يقولون الآن جردقة وجرادق) و (الفرفور والفرافر والفرافل) سويق يتخذ من ثمر الينبوت و (الحلواء) من الطعام ما عولج بحلاوة يمد ويقصر ومنها الفولذ والفالوذق وهو فارسي معرب زعم الفارسي أن معناه حافظ للدماغ بالفارسية وهو الفالوذج والطائفة منه فالوذجة وهو الصفرق. و (القبيطي) الناطف و (اللمص) كالفوذ معرب ولا حلاوة له يأكله الصبيان بالبصرة بالدبس و (الكامخ) من الأدم منهم من خصصه بالمخللات التي تستعمل لتشهي الطعام و (الصير والصحناءة) ضربان(33/43)
من الكامخ وفي القاموس والصحناء والصحناة ويمدان ويكسران أدام يتخذ من السمك الصغار مشه مصلح للمعدة قال في التاج الصحناة فارسية تسميها العرب الصير وقال ابن الأثير الصير والصحناة فارسيتان و (الصير) السميكات المملوحة تعمل منها الصحناة ومن أطعمتهم (الدرامك) وهي الحواري أي الدقيق الخالص قال زياد بن فياض:
فأطعمها شحماً ولحماً ودرمكاً ... ولم يثننا عنه النسيم الحنادس
ومن مآكلهم (المضيرة) مريقة تطبخ باللبن المضير أي الحامض وهي مثل اللبنية المعروفة في بلاد الشام عقد لها البديع مقامة ولعنها أبو الفتح الإسكندري عندما دعاه وأصحابه بعض تجار البصرة فرفعوها عن الخوان مجارة له: فارتفعت لها الأفواه تلمظت لها الشفاه واتقدت لها الأكباد ومضى في أثرها الفؤاد و (السكباج) معربة كما في التاج عن سركة باجة وهو لحم يطبخ بخل مثل (السكرجات) وهي التوابل والسكرجة قصاع يؤكل فيها صغار وليست يعربية وهي كبرى وصغرى وفي حديث أنس لا آكل في سكرجة ومعناه أن العرب كان تستعملها في الكوامخ وأشباهها من الجوارش على الموائد حول الأطعمة للتشهي والهضم فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل على هذه الصفة. ومنها (الفانيد) قال في التاج ضرب من الحلواء معرب بانيد و (الهلياثا) وردت في كلام الجاحظ فقال: إذا أطعمتهم اليوم البرني أطعمتهم غداً السكر وبعد غد الهلياثا. والغالب أن الهلياثا طعام ثمين عندهم. و (الطفيشل) كسميدع نوع من المرق و (الهريسة والفجلية والكرنبية) أولان ولعل أسماء البقول المطبوخة تسمى بالاسم الذي صنعت منه مثل الباقلاء والقرع والفول والملفوف والسلق وغيرها مما كان معروفاً للعرب وينبت في بعض بلادهم.
سئل بعضهم عن حظوظ البلدان في الطعام وما قسم لكل قوم منه فقال ذهبت الروم بالجشم والحشو وذهبت فارس بالبارد والحلو وقال عمر لفارس الشبارق والحموض فقال دوسر المديني: لها الهرائس والقلايا ولأهل البدو اللباء والسلاء والجراد والكمأة والخبزة في الرائب والتمر بالزبد وقال الشاعر:
ألا لبت خبزاً قد تسربل رائباً ... وخيلاً من البرنيّ فرسانها الزبد
ولهم البرمة والخلاصة والحيس والظطيئة. وقد علم بهذا أن الحلويات عند العرب ما يعملونه بالدقيق والتمر ويدخل أكثرها الدبس أو العسل أو السكر وهذا كان نادراً في الجملة(33/44)
عندهم لأنه يأتيهم من فارس كما دل عليه اسمه عندهم إذ أخذوا عن جيرانهم الاسم ونقلوا المسمى. ويحكى أن عبد الله بن جدعان أحد اشراف قريش ذهب مرة إلى كسرى فأطعمه الفالوذج فاستطابه وسأل كيف يصنع فقيل له أنه لباب البر يلبك بالعسل فابتاع غلاماً يصنعه له ورجع إلى مكة وصنع الفالوذج ودعا إليها أصحابه وممن أكلها أمية بن أبي الصلت فقال يمدحه:
لكل قبيلة رأس وهادي ... وأنت الرأي تقدم كل هادي
له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزى ملاءٍ ... لباب البر يلبك بالشهاد
قال الجاحظ ومن اشرف ما عرفوه من الطعام ولم يطعم الناس أحد منهم ذلك الطعام إلا عبد الله بن جدعان وهو الفالوذق.
هكذا كانت الأطعمة في الجاهلية وأما في الإسلام فكان فيها في أخبار أهل الصدر الأول وخصوصاً في أخبار أبي بكر وعمر وعلي وعمر بن عبد العزيز من الزهد والتقشف ما يعجب منه كل من عرف أنهم فتحت لهم كنوز الأرض فعفوا عنها. ولما اشتدت حاجة عمر بن الخطاب أراد بعض الصحابة ومنهم عثمان وعلي وطلحة والزبير أن يزيدوه في رزقه فعزموا أن يأتوا حفصة ويسألوها ويستكتموها فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر ولا تسمي له أحداً إلا أن يقبل وخرجوا من عندها فلقيت عمر في ذلك فعرفت الغضب في وجهه وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك. فقال: لو علمت من هم لسوءت وجوههم أنت بيني وبينهم. أنشدك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع فقالت: خبزنا خبزة شعير نصيبنا عليها وهي حارة أسفل عكة لنا فجعلناها هشة دسمة فأكل كنها وتطعم منها استطابة لها قال: فأي مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ قالت كساء لنا ثخين كنا نربعه في الصيف فنجعله تحتنا فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه قال: يا حفصة فأبلغيهم عني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالترجية وإني قدرت فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالترجية وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ(33/45)
ثقم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه ثم أتبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما.
ولقد كان عمر بن الخطاب يشدد على عماله حتى لا يسترسلوا في التنعم بالأطايب فتقسى قلوبهم ويكونوا قدوة في الترف للرعية قال الربيع بن زيادة الحارثي: كنت عاملاًً لأبي موسى ألشعري على البحرين فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله وأن بيستخلفوا جميعاً قال: فلما قدمنا أتيت يرفأ فقلت يا يرفأ مسترشد وابن سبيل أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله: فأومأ إلي بالخشونة فاتخذت خفين مطارقين ولثت عمامتي على رأسي فدخلت على عمر فصففنا بين يديه فصعد فينا وصوب فلم تأخذ عينه أحداً غيري فدعاني فقالك من أنت. قلت: الربيع بن زياد الحارثي قال: ما تتولى من أعمالنا. قلت: البحرين. قال: كم ترزق قلت: ألفاً. قال كثير فما تصنع به قلت: أتقوت منه شيئاً وأعود على أقارب لي فما فضل عنهم فعلى فقرءا المسلمين قال: فلا بأس ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي في الصف فصعد فينا وصوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال: كم سنك قالت: خمس وأربعون سنة قال: الآن حين استحكمت ثم دعا بالطعام واصحابي حديث أمرهم بلين العيش وقد تجوعت له فأتى بخبز وأكسار بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت آكل فأجيد فجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت أني سخت في الأرض فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال: كيف قلت فقال: أقول يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز ليناً واللحم غريضاً فسكن من غربه وقال: أههنا غرت قلت نعم: فقال ريا ربيع أنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم فقال: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي.
نعم لو أراد عمر أن يملأ داره من هذهالطيبات التي عدها وهي أتقن شيء في نظره وأغلاه لما تعذر عليه بعد أن فتح المسلمون فارس والشام في عهده ولكن نفسه العظيمة أبت إلاالتقشف ومثله بعض عماله حتى أن أبا عبيدة لما هزم الفرس في كسكر من أعمالهم جمع(33/46)
الغنائم فرأى من الأطعمة شيئاً عظيماً فبعث بمن يليه من العرب فاقتسموا خزائنها وجعلوا يطعمونه الفلاحين وبعثوا بخمسه لعمر وكتبوا أن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها وأحببنا أن تروها ولتذكروا إنعام الله وأفضاله. ثم أن بعض الفرس حملوا إلى أبي عبيد بآنية فيها أنواع أطعمة فارس والألوان والأخبصة وغيرها فقالوا هذه كرامة أكرمناك بها وقرى لك فقال: أأكرمتم الجند وقريتوهم مثله قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون قالوا فرده وقال: لا حاجة لنا فيه بئس المرء أبو عبيدة إن صحب قوماً من بلاده أهرقوا دماءهم دونه أو لم يهرقوه فاستأثر عليهم بشيء يصيبه لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم غلا مثل ما يأكل أوساطهم. قال زياد بن حنظلة في فتح عمر بن الخطاب لإيلياء من أبيات:
وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها ... وعيشاً خصيباً ما تعد مآكله
وبذلك عرفت أن معظم الأطعمة الشهية فارسية أو رومية استعملها العرب في البلاد التي نزلوها ومنها ما عربوه ومنها ما أبقوه على حاله ولكل بلد خصائصه في مآكله ومن تعمد استقصاءها يضطر بعد البحث الشديد إلى وضع مصنف فيها يكون من أنفع الدروس الصحية والاجتماعية لا محالة. ومن المجالس الغريبة المجلس الذي عقده المستكفي بالله ليتذاكر مع ندمائه أنواع الأطعمة وما قال الناس في ذلك منظوماً وقد أورد المسعودي في مروج الذهب هذه القصائد ومنها قصيدة لابن المعتز يصف سلة سكارج كوامخ وأخرى لكشاجم في صفة سلة نوادر وثالثة لابن الرومي في صفة وسط ورابع لإسحاق الموصلي في صفة سنبوسج وأخرى لكشاجم في وصف هليون وغيرها للحافظ الدمشقي في وصف إدريسة وغيرها في وصف المضيرة ولغيرة قصيدة في جوزابة.
ومن القصائد التي ورد فيها ذكر بعض الأطعمة الدمشقية حوالي القرن الرابع للهجرة قصيدة أبي القاسم الحسين بن الحسين بن واسانه بن محمد المعروف بالواساني الذي كان في زمانه كما قال الثعالبي في اليتيمة كابن الرمي في أوانه وصف ما جرى عليه في الدعوة التي عملها في قرية جمرايا من أعمال دمشق وقد أخذها صاحب اليتيمة برمتها: فقال أنه أحسن فيها غاية الإحسان وأبان فيها عن مغزاه أحسن بيان وتصرف فيها وأطال وأمكنه القول فقال وإذا تخلص الشاعر عن الإطالة والوصف هذا التخلص وسلم مما يؤديه إلى التكلف والتلصص فهو الذي لا يدرك غوره ولا يخاض بحره.(33/47)
جيران الفراعنة
نشر المسيو جبرائيل مدينا في المجلة التونسية فصلاً إضافياً في أصول شعوب الأرخبيل في البحر الرومي وأحلافهم الليبيين الأفريقيين مستنداً فيه إلى ما عرف من الآثار المصرية والمصانع المصورة في آسيا الصغرى قال فيه ما تعريبه:
عرض المسيو إيفانس في مؤتمر الجمعيات العلمية الدولي الذي التأم في موناكو سنة 1907 نتيجة أعمال الحفر التي قام بها في كنوس عاصمة جزيرة كريت القديمة وهي حفريات ظهر بها مواد كثيرة يرجع عهدها إلى قدم الأزمنة في تاريخ كريت ويستدل منها على أمور كانت غير معروفة عن حال مدينة قامت في تلك البقاع. وقد أطلق هذا المكتشف على ما عثر عليه من بقايا الآثار اسم المينوئية وإن دلت كلها في الجملة على أنها صنعت على مثال الآثار الليبية المصرية دلالة لا يتمارى فيها اثنان.
وقد نشر الآن المسيو هوغو ونكلر أستاذ كلية برلين كراسة صغيرة ذكر فيها ما عثر عليه أثناء حفرياته في بوغاز كوي وهي مشهورة بنقوشها البارزة الهيتية وكان من حظ هذا العالم أن يضع يده على السجلات السياسية لملوك الهيتيين مما يرجع على الأقل إلى خمسمائة سنة قبل الميلاد.
وبين الألواح التي ظفر بها الأستاذ ونكلر الصور الأصلية من الرسائل التي بعث بها ملك الهيتيين إلى الأمراء الخاضعين له ونسخة من المعاهدة التي عقدت بينه وبين رعمسيس الثاني بعد موقعة قادش وهي المعاهدة التي عرفناها من الترجمة البديعة التي ترجمها المسيو ماسبرو منقولة عن الأصل المصري الذي وجد في الكرنك. ولقد عثر المسيو ونكلر أيضاً على نحو مائة قطعة من القرميد محفورة من أطرافها فيها بضع مئات من السطور المكتوبة بحروف المسند ولكنها كتبت باللغة الآشورية والهيتية وهي اللغة التي لم تنحل حتى الآن.
وقد ظهر من حال بعض الألواح الآشورية أن بليدة بوغاز كوري كانت عاصمة المملكة الهيتية على عهد عظمتها وارتقائها أي في القرن السادس عشر إلى القرن الثلاث عشر قبل المسيح لا مدينة كركميس كما كان يظن من قبل. وأن تلك العاصمة كانت تسمى خاتي وبهذا استبان مقر تلك الأمة وعليه فإنا نقول أنها كانت في إقليم كابودسيا لا في الوادي الغربي من الفرات الأوسط كما كانوا يزعمون حتى الآن.(33/49)
وإذا اغتبطنا بهذين الاكتشافين فذلك لأنهما يقفان بنا على حقيقة تاريخية في منشأ الليبيين وأصولهم كما عرف تاريخ مصر عندما انجلت الكتابة التي كانت كتبت بها مدارج البردي والكتابات المزبورة على مصانعها وعادياتها.
ذكرنا في كتابنا مملكة البحار المصرية على عهد توتيمس الثالث كيف كانت حال مصر من حيث جنديتها على عهد الدولة الثامنة عشرة من الارتقاء والعظمة ولاسيما في زمن توتيمس هذا. أما في زمن الدولة التاسعة عشرة والدولة العشرين فقد انحطت جندية مصر. وتبعث الكتابات المصرية القديمة التي كتبت على ذاك العهد على التخمين بأنه لم يكن للفراعنة إذ ذاك أساطيل في استطاعتها أن تؤيد سلطان مصر على البحر المتوسط وتحاول أمم الأرخبيل (بحر ' يجي) في الشمال أن تهاجم مصر من طريق الدلتا. والهيتيون من الشرق والليبيون من الغرب والعنصر القوشي نسيب الليبيين من الجنوب وكلهم يحاولون الإغارة على وادي النيل. والظاهر أن هذه الأساطيل وهذه الجيوش وإن كانت تعمل كل منها منفصلة عن الأخرى لكنها كانت تعمل بإشارة خاتي عاصمة مملكة هيت وهي العدوة الزرقاء لملوك مصر منذ سقوط ملوك الرعاة.
وقبل درس حال هؤلاء المتحالفين أو الأمراء التابعين لمملكة هيت جماعة جماعة يجب أن نبين عناصرهم وأصولهم أولاً. فإذا أخذنا شعوب الأرخبيل وهذا الجزء من قارة آسيا فإنك لا تراهم إلا مزيجاً من الشعوب البحارة الذين كان يطلق عليهم في القديم البلاسج فكان أصل بعضهم من كريت وبعضهم من الشوطئ الغربية في آسيا الصغرى فهذا الشعبان بحسب رأي الباحث أربوا دي جونيفيل من أصل واحد بيد أن التاريخ اليوناني إذا طبقناه على الاكتشافات الأثرية الحديثة يداخلنا الشك في صحته وكذلك المكتوبات المصرية المزبورة على المصانع والمعاهد فإنها تميز الشعب الأول باسم بلست والثاني باسم تورسها ويظهر أن الأول كان من الفيلستينيين الذين هم معدودون من سلسلة النسب بحسب رواية سفر التكوين من أخلاف مصرائيم ومن فرع كسلوحيم. ويظهر لنا أنهم ليسو سوى ليبيين مصريين الذين قال المؤرخ بلين والجغرافي بومبينوس ميلا أنهم نازلون على التخوم الغربية من مصر وسماهم المؤرخ هيرودوتس بالأدرماشيديين. وبهذا عرفت أن أصل الكريتيين والفيلستينيين ليبي مصري على ما ثبت من الحفريات الحديثة التي حفرها(33/50)
المسيو إيفانس في جزيرة كريت إثباتاً لا يحتمل الأخذ والرد.
ولكن هل نشأن احتكاك ليبيا ببلستا في زمن سبق عهد أمم البيلاسج بما كان بين القطرين من لاصلات أو هو ناشئ من صلات تجارية ليس إلا؟ أما نحن فلا نسلم بهذا الفرض بل نقول فقط أنه ناشئ من وحدة أصولهما واتحادهما في المعتقدات وتذكرهما بأن لهما أصلاً واحداً بين السكان المتاخمين للآريين في الشاطئ الشمالي من آسيا الصغرى وكريت وليبيا.
فالبيلاسج الكريتيون يمتازون عن البيلاسج التورسانيين بأخلاقهم النابية عن الآداب والحشمة مثل مخالفتهم الفطرة في الشهوات وتصويرهم أعضاء التناسل في كل مكان فترى في ليبيا وكريت وآسيا الصغرى أن هذه العادة شائعة في كل مكان وقد ذكر هيرودتس أن في كل مكان انتشرت فيه عبادة الكابيريين الكنعانية سواء كان في كريت وساموتراس ولمنوس كنت ترى أن رمز أعضاء التناسل معروضة على صورة تعبدية. ويقول المؤرخ سترابون أن مثل هذه الصور كانت تنقش على الحجر في أبواب مدينتي لامبساك بانوبوليس احتراماً لها وإكراماً.
وقد ذكر المسيبو ستارك فيما جمعه من الساطير عن صقع جبل سيبيل أن الملك تانتال الذي كانت عاصمته على خمسة كيلومترات من أزمير تجاسر في خلال إحدى الحفلات أن ينازع الرب زيوس في النعم التي أسداها إلى الأميرة جانيد فأهلكه المشتري عقوبة له ولأمته. وقد زرت بلاد سيبيل منذ بضع سنين وتعهدت خرائب تانتاليس وقبر ملكها تانتال وكلها تدل على قدمها وتدل جميع القبور التي كشفت بالحفر على عبادة آلات التناسل كما أن أديم الأرض يدل على حقيقة لا جدال فيها وهي أن تلك البلاد كانت عرضة للحوادث الأرضية.
وفي التقاليد اليونانية أن أصل تانتال هذا من جويرة كريت وهو مننسل الرب زيوس وأبوه زحل رب ليبيا وهذه القصة أشبه بما ورد في التوراة من قصة قوم لوط في سدوم الذين غضب الله عليهم فأهلكهم ولم نذكر قصة تانتال للدلالة على أن أقدم تقاليد مبونيا (وأليديا) تشعر بأن ما أتاه قوم لوط قد انتقل إلى سكان هذه البلاد وليس هو من اختراعهم.
أما البلاسج التورسانيون الذين يمتازون كما قلنا عن البلاسج الكريتيين فالظاهر أن العبادة المألوفة عند الكريتيين كانت مألوفة أيضاً عند التورسانيين بدون أن يصوروا الرجال عراة(33/51)
وكانت الصور عندهم على جانب من الوقار والطهر وسلامة الأدب على أنهم لم يستنكفوا عن تعرية النساء وقد اكتشفت في جزائر الأرخبيل من مدينة تارس مئات من تماثيل النساء عاريات وقد جعلن أيديهن على صدورهن. وهذه التماثيل ليست من التماثيل الفينيقية فكان على ما يظهر من طبيعة هذا الشعب أن يعنى كثيراً بجنس النساء ولذلك وجد في بلادهم ويظهر أنها سيلسيا عدة بيوت خاصة بالنساء كما وجد في أقليم كابادوسيا مدن مثل زليا وكومونا وبسينونت سكانها كلهم من أهل الفاحشة من الجنسين وكهنتها خصيان والفجور فيها مقدس وشائع. وأكد الجغرافي سترابون الذي ولد في أمازا في وسط بلاد البحر السود أنه مكان في عصره في مدينة فنازا من أعمال موريمينيا معبد كان فيه ثلاثة آلاف فاحشة ومثل هذا القدر في مدينة بسينونت وفي مدينة كونا ستة آلاف.
أما زيليا فإنها كانت مأهولة خاصة بالمقدسات من المومسات وهذه المدينة معتبرة بأنها مقر هذه العبادة حيث كان يقيم حبرها الأعظم تحيط به خدمة كثيرون ويحكم حكماً مطلقاً على اولئط الفاشقات المعروضات لكل قادم. وكانت هذه المعابد منتشرة فيالخمس ممالك الآسياوية يعني في جميع آسيا السالفة ومنها أودية ما وراء سلسلة جبال طوروس وطوروس أمازيوس ويظهر أن وجود هذه المعابد في جميع الطريق الآخذة من تارس إلى خليج فارس ومنها إلى البحر الأسود يدل على وجود هذه الأسواق الكبرى من النساء المستعبدات الفاسقات اللائي كن يقربن التجار من جميع الأمم الذين يأتون مع القوافل أو في البحار وربما نشأ من هنا ما نراه الآن من الأسواق العامة والخانات التي لم يزل لها أثر حتى اليوم في آسيا الصغرى.
أما البيلاسج التورسانيون فقال هيرودتس في سبب أصلهم أنه حدثت مجاعة هائلة خربت إقليم ليديا على عهد الملك أتيس ابن مانيس فاستسلمت الأمة لها زمناً ولكنها ما فتئت تفتك بهم ولما لم يجدوا سبيلاً للخلاص منها أخذ كل واحد يفكر في طريق لنجاته وعلى ذلك العهد اخترعوا زهر النرد والكعاب والكرة وسائر اللعاب فكانوا يتراوحون كل يومين بين اللعب والأكل فيقضون اليوم الأول بطوله في اللعب لئلا يفكروا في الطعام وفي اليوم التالي يتوقفون عن اللعب ويأكلون. وبفضل هذه الواسطة دام القحط ثماني عشرة سنة وهي بحالها لا تزداد إلا شدة فعندها نادى الملك في قومه فقسمهم شطرين ثم اقترع بينهما فقسم(33/52)
وقعت عليه القرعة بالسفر وقسم بقي في البلاد.
أما الملك فبقي مع المقيمين وأقام ابنه تورسينوس ملكاً على المهاجرين فذهب هؤلاء إلى أزمير وأنشئوا سفناً جعلوا فيها كل ما يحتاجون إليه من الزاد في رحلتهم الطويلة وأقلعت سفنهم تطلب أرضاً تطعمهم وشطأوا (حاذوا شواطئ) أمماً كثيرة حتى بلغت بهم خاتمة مطافهم إقليم أومبيريا (من إيطاليا وهي ولاية بروز اليوم) فأنشئوا فيها بيوتاً لم يزالوا ساكنين فيها حتى الآن وغيروا اسمهم وتسلموا باسم ملكهم فدعوا التورسانيين.
هذه القصة التي أوردها هيرودتس على حقيقتها لا تقبل بجمالها وذلك لأن هذه المجاعة التي دامت ثماني عشرة سنة وهذه الحيلة الصبيانية من اختراع الألعاب ليدفعوا عنهم آلام الجوع قد ظهرت للعلماء من العبث وتجلى أصل الإيتروسكيين الليدي من أساطير الأقدمين للقدماء والمحدثين. وللوقوف على ذلك لا يرجع إلا التقاليد القديمة بل إلى ما ظهر من المكتوبات والآثار المحفورة في مصر وآسيا الصغرى وبالمقابلة بينها يستنتج بأن أتيس الذي ذكر خبره هيرودتس لم يكن ليدياً بل أن الآثاؤ التي وجدت في مدينة خاتي عاصمة الهيتيين ومدينة عبو والألواح التي اكتشفها ونكار في بوغاز كوي كلها تدل على أن أتيس لم يكن ملكاً لميوبيا فقط بل ملكاً على مملكة واسعة كانت ليديا بأجمعها من جملتها وتدجل الكتابات المصرية والرسوم البارزة في آسيا الصغرى على ذلك كل الدلالة. والمصانع المرسومة كتاب من التاريخ لا يكذب ولا تجد له مثيلاً في الأساطير القديمة والتقاليد المتعارفة عن الأمم البائدة بواسطة هذا الكتاب تضمحل النظريات والأفكار الواهية المبنية على تخمينات لا يمكن الجمع بينها وتنجلي الحقيقة كالشمس رأد الضحى.
في الطريق الموصلة من ساردس إلى أزمير قرية معروفة عند الروم اليوم باسم نينفي ويسميها الأتراك قره بكلي وهناك ساعد من سواعد نهر الهرموز يخرج من صخرة ويشرف على مجرى طوله خمسون متراً وترى داخل تلك الصخرة كوة علوها متران ونصف وفيها صورة تمثل محارباً يلبس على رأسه تاجاً مقرناً على مثال قبعات ملوك الهيتيين وهو لابس قميص قصير على مثل ما نراه في المصانع المصورة في أيوك أو بوغاز كوي وهذا التمثال يحمل بيده قوساً وفي الأخرى رمحاً ويلبس في رجله حذاءً ذا رأس طويل منحن. وقد كتبت من جانب رسم الصورة ستة حروف باللغة الهيتية إلا أنها لا(33/53)
تقرأ ولم يستطع أحد أن يحلها. وقد قال هيرودتس نقلاً عما ذكره له كهنة المصريين من غزوات رعمسيس الثاني الموهومة في آسيا الصغرى أن هذه النقوش البارزو هي رسم سروستريس ملك مصر أما اليوم فلا يتردد أحد من الاعتراف بأن هذا الرسم هو رسم مجاهد هيتي وربما كان تي خاتي بالذات أو أتيس الذي ذكره هيروديتس وهما وليست هذهالصورة وحيدة في بابها بل أن المسيو هومان اكتشف واحدة مثلها في أفيس وهاتان الصورتان هما صورتان مزورتان لسروستريس خدع بهما هيرودتس وهما شاهدتان للأعقاب بامتداد سطوة الهيتيين العسكرية في آسيا الصغرى. ويستفاد من تطبيق تاريخيهما أن هذين النقشين البارزين يرد تاريخهما إلى القرن الخامس عشر قبل المسيح.
وقد ذكر في الآثار المصرية التي وجدت في مدينةعبو في ذاك التاريخ نفسه خبر ثورة عظمى بين الشعوب في تلك البلاد من قارة آسيا واسم هذه الشعوب الثائرة المنيريون والميونيون والليسيون والموشيون والدرادانيون والكاريون الببدارزيون. وقد قيل أن جميع هذه الشعوب كانت من تراسيا أو فرغانة على أنه لميجر ذكر للبريج أو التراسيين بين تلك الأسماء ويحق ما لاحظه المسيو جورج برو بقوله: أليس من المحقق أن الفرغانيين لو سكنوا شبه الجزيرة الشرقية (بين الإدرياتيك والأرخبيل) لكانوا انجذبوا طوعاً أوكرهاً بالحركة العظمى بين تلك الأمم وأكرهوا أو أغووا على الانضمام إلى النزول إلى سورية على أنه ليس في قائمة الشعوب التي دعاها الهيتيون إلى مساعدتهم ولا في تسمية كهنة الهيتيين لهم فيما بعد بشعوب البحار ذكر لاسم الفرغانيين.
وإذا لم نجد في كتابات تلك الأعصر إشارة للهيتيين ألا نستنتج من ذلك أن التراسيين لم يجتازوا بوغاز الدردنيل وأن أحلاف الخاتيين لم يكونوا أوروبيين ولا تراسيين؟ وغذا تركنا الكتابات المصرية جانباً ونظرنا في كتابات التوراة التي هي أحدث منها فإنا نبدأ بحسب الطريقة التي اختارها كاتب الإصحاح العاشر من سفر التكوين أي بأن نتتبع أجيال الناس من الغرب إلى الشرق فيتجلى لنا أنه جعل في مقدمة أولاد يافث الشعوب التي هي نمن بلاد الشمال وفي سكان الجنوب الجافانيين أو الروم وقد أتى بهم بجانب التيرانيين والموشيين الذين ذكرهم هيرودتس. ولم نر للفرغانيين أو الكومريين ذكراً لهم وهم شعوب وسط بين سكان الأرخبيل والآسياويين. ويرى أحبار اليهود أنالتراسيين هم الإسكينازيون(33/54)
إلا أن هذا مجرد فرض منهم لا يفهم من نصوص العهد القديم وإذا أطلق هنا على إقليم فرغانة اسم أفريقية فهذا أيضاً ري من الآراء لا حقيقة من الحقائق الثابتة. ثم أن بعض الشراح من الربانيين قالوا بأن الترشيشيين هم من التراسيين بدون أن يدركوا أن التوراة قد جعلت ترشيش بن جافانا واسكنار بن كومر على أن هذين الفرضين لا يمكن تطبيقهما من الوجهة الجغرافية والشعبية على نصوص شرح التوراة.
وليس في الكتابات اآشورية شيء بشأن التراسيين أو البيرجيين سكان آسيا الصغرى. جاء في التواريخ الآشورية المحفورة على اسطوانات من الأجر (الطوب) المحفوظة في المتحف البريطاني ذكر ملك مداس أوميتا وورد على صورتين (ميتا) ملك الموسخو وميتا ملك الموسخاي أي ميداس ملك الموشيين أو ميداس الموشيني لا ميداس الفرغاني كما يزعم ذلك كتاب اليونان.
وقد طاف المسيو بيرو إقليمي ليديا وكابادوسيا طواف عالم أثري وقابل بين مصانعها المختلفة فرأى أن هذه التناقضات لم تنشأ إلا من ضعف إرادة هوميرس في نسبة أصل أبناء وطنه إلى فرع أوروبي لا إلى فرع آسياوي. ومن تأمل فرأى أن ليس من أحد بين اليونان كان يود مناقضة هوميروس كما أن الباحثين في أوروبا قديماً عن أصول التاريخ كانوا يعنون قبل كل أمر بتوفيق أقوالهم على نصوص التوراة ـ يدرك في الحال السب الذي دعا إلى التفاسير القديمة والحديثة لم يتيسر لها أن تخلص من هذه الوجهة المهمة من سلطة التقليد.
وكذلك الحال في البيتيتيين والتينييين والميزيين والذيم أرادوا أن يلصقونهم بالأصل التراسي. وإنما نكتفي هنا فقط بأن نقول أن في اللواح الآشورية ذكراً لبلاد في آسيا الصغرى اسمها بيت أني أو أنو وهي على التحقيق ليست من أصل تراسي وقد رسم أنو هذا في الأساطير الكلدانية على صورة رب سمكة أو رب السواحل البحرية. على أن الأثري شلمان اكتشف في اليسيرليك على بضعة كيلومترات من المكان الذي يزعمون أنه مقر الفرغانيين على عمق ستة عشر متراً في الأساس الذي دعاه قصر بريان على عدد كثير من الأواني والصحاف عليها صورة سواستيكا أوالصليب (المقلوب) الذي يرى بريخ مدير المتحف البريطاني أنه رمز أنو. وأنت ترى أن في مسائل أصول الشعوب صعوبات(33/55)
جمة واختلافات كثيرة في التأويل أما نحن فلا نجزم فيما نقول بل نقول بأنه من المحتمل كل الاحتمال أن الشعوب البائدة كان بينها قرابة ويجب التوفيق في ذلك بينها إلا فإذا خانتنا النصوص الموروثة عن عصورهم وظهورهم في التاريخ أو إذا رأيناها تسكت عنهم فإن الشك يسمح به والتأكيد المطلق غير مقبول.(33/56)
سير العلم والاجتماع
تعليم الشعب
كثرت مدارس الشعب في أوروبا كثرة زائدة بفضل المنورين من أهلها. ومدارس الشعب هي مدارس تعليم عامة الناس في المدن والأرياف ما فاتهم أن يتعلموه في المدارس في صباهم تنوع فيه التعليم على أساليب كثيرة وقد كانت انتشرت أول الدعوة إلى إنشاء مدارس العشب أو العامة في الممالك الصغرى سنة 1810 في الدانيمرك على يد رجل منها اسمه كرواندويك وما برحت المدارس فيها تكثر حتى أصبح فيها نحو تسعين مدرسة عالية لتعليم العامة يتخرج منها كل سنة نحو سبعة آلاف طالب وطالبة وكلهم لا تقل سنهم عن 18 ولا تزيد عن 25 ولو لم يتعلم أبناء الفلاحين هذا التعليم العالي بعد فوات السن ما تيسر لهم تصدير حاصلات بلادهم ومصنوعاتها إلى الخارج والغاية الأولى التي يرمي غليها السائرون على خطة كرواندويك أن ينشروا المعارف بين جميع الطبقات وقد انتقلت طريقتهم هذه من الدانيمرك إلى نروج والسويد وإلى فنلندا وكل بلد من هذه البلاد تحاول صبغ مدارس الشعب بصبغة تلائمها وتلقى فيها من العلوم ما له مساس بقيام عمرانها واجتماعها كأن تعلم فنلندا مثلاً الموسيقى لأنها محبوبة من الأمة وفيها أربعمائة جمعية لتعليم العامة فن الموسيقى وفي فنلندا ونفوسها لا تتجاوز الثلاثة ملايين 35 مدرسة عالية لتعليم الكبار من عامة الشعب ما يلزمهم من هذه الحياة مما لم يسعدهم الحظ بتعلمه صغاراً.
الأولاد الفاسدون
استعمل الدكتور بريللون طريقة جميلة في التربية لإصلاح نفوس الأولاد الفاسدين كالذين اعتادوا السرقة دون أن يستفيدوا مما يسرقون ويسمي الأطباء عملهم كبتوماني أو الذين يألفون بعض العادات الضارة كقضم الأظافر وغيرها فعمد إلى تنويم من أراد إصلاحه تنويماً مغناطيسياً وألقى إليه قطعة من النقود وأوعز إليه أن يتناولها فيسرقها ثم يقول له أن يرجعها فيرجعها ويوبخه على عمله ويقول له عليك أن لا تعود إلى مثل عملك هذا. . وهكذا يتعلم السارق بالاستهواء أن يكف عن عادته قال وهذه الطريقة أنجع من جميع الطرق الأدبية والطبيعية التي اتخذت في إصلاح مثل هذه النفوس حتى الآن.
الزجاج في مصر(33/57)
كتب أحد علماء الآثار في المجلة الثرية الفرنسوية يقول أنه كان من التقاليد الشائعة أن الفينيقيين هم الذين اخترعوا الزجاج ومنذ حل الخط المصري القديم تبين أن كثيراً من الأواني الزجاجية الملونة التي اشتهرت بأنها فينيقية قد نقش عليها اسم فراعنة مصر وقد أبان أحدهم أنه وإن ثبت وجود أواني زجاجية مصرية أو يونانية صنعت قبل الإسكندر فلم يثبت وجود معمل فينيقي في فينيقية وبذلك تبين أنه لم تنتشر صناعة الزجاج في سورية إلا على عهد السلوقيين خلفاء الإسكندر ولاسيما على عهد الرومانيين وقد ثبت الآن أن سورية وبلاد دجلة والفرات لم تعرف الزجاج قبل العهد اليوناني وأن الآنية الآشورية الوحيدة التي نقش عليها تاريخ وحفظت في المتحف البريطاني وكتب عليها اسم سراغون الثاني هي بدون ريب من أصل مصري كما ثبت ذلك من شكلها ووضعها. وكما يؤخذ من علبة مرصعة بالزجاج الأسود والأخضر وجدت في حفريات أبيدوس. وقد اقتنى متحف برلين مؤخراً عصا قائمة الزوايا طولها بضعة سنتمترات نقش على وجهها بالأبيض اسم لامار أحد فراعنة الدولة الثانية عشرة ولامار لقب له واسمه الأصلي أمنيس الثالث وكان يعبد في الفيوم. وما وجد في هذه المدينة من الزجاج القديم يدعو إلى الجزم بأنها كانت في القديم مصنع الزجاج وإن صنع الزجاج بلغ درجة عالية في مصر على عهد الدولة الثامنة عشرة وأقدم ما وجد من الأواني الزجاجية ثلاث قطع حفظت فإحداها في القاهرة والأخرى في لندرا والثالثة في ميونيخ.
وقد استدل الكاتب بأن ما لاحظه يتري من أنه كان في تل العمارنة هي عاصمة أمينوفيس الرابع معمل للزجاج على أن هذه الصناعة كانت فيها على أتم الرواج في الدولة الثامنة عشرة الفرعونية وأن المصريين كانوا يصنعون الأقداح والتعاويذ من الزجاج. ومعمل تل العمارنة دليل واضح على أنه كان في مصر معامل كثيرة للزجاج والعقل يقضي بأن ما عثر عليه من الزجاج أقدم من هذا التاريخ وهو من صنع مصر أيضاً كالزجاج الذي عثر عليه في قصر أمينوفيس الثالث في ثيبة. وقد بيعت مصنوعات مصر الزجاجية في شواطئ البحر الرومي فنسبت للفينيقيين لأنهم هم الذين كانوا يحملونها على سفنهم ثم أثبت أن صناعة الزجاج ازدهرت في زمن الدولة الساميتية وكانوا ذاك العهد يفضلون التعاويذ الصغيرة والتمويه والتزيين بأنواعه على الأواني الملونة يتخذون من ذلك ما يزينون به(33/58)
بيوتهم وفرشهم بل ويتزين به صاحب الدار نفسه. ومن الصعب التمييز بين عصر البطالسة وعصر الرومان. ومن رأيه أن نفخ الزجاج اخترع في معامل فينيقية بعد عهد الإسكندر وهذا السبب في أرجحية معامل فينيقة على غيرها.
وتكلم عن الزجاج المعمول بالفسيفساء فقال أن ما وجد منه قد كتبت عليه كتابات مصرية ويونانية وكثير منها من صنع الإسكندرية والفيوم وواحة سيوة ومنها نقلت إلى بلاد اليونان وإيطاليا وغاليا ولا يبعد أن تكون أوروبا نسجت على منوال صناع الزجاج المصريين وهؤلاء علموا الأوروبين على عهد الإمبراطورية الرومانية صنع الزجاج وقد كانت مدينة أكيلة القديمة على شاطيء الإدرياتيك مركزاً في أوروبا لصناع الزجاج ومنها هاجر البنادقة الذين صنعوا الزجاج للشرق الإسلامي وأصبحت مصنوعاتهم نموذجاً تقلده جميع معامل أوروبا وكانت الصلات مستحكمة بين أكيلةومصر. وظل الزجاج يصنع في مصر حتى في عهد استيلاء الرومان وفتح العرب وهذهالثناعة رائجة فيها كما أن العرب عنوا بالكاشاني وتغيرت طرق صنعه وأشكاله،. واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية والمصابيح العربية الملونة التي انتقلت إلى معامل البندقية وأصبحت تطرس على آثارها ثم كتب التقدم لمعامل البنادقة وعرفت تقلد النموذجات الشرقية أحسن تقليد وما زالت معامل الشرق في انحطاط حتى زالت جملة واحدة واليوم بعد أن كان الشرق يصنع لأوروبا منذ عهد الرومان أوانيه الزجاجية أصبح يجلب من إيطاليا وألمانيا وفرنسا ما يلزمه من الأواني في حاجاته اليومية.
التربية الحرة
لكل أمة ضرب من التربية فالأمة الديمقراطية أو الجمهورية لا تشبه تربية الأمة الدستورية المقيدة أما تربية الأمة المطلقة فنمطها مختلف عن تينك التربيتين وقد كتب أحد علماء الفرنسيس مقالة في التربية الديمقراطية فقال أن الديمقراطية وهي كمال الحياة التي سعى إليها الكل لفائدة الكل يجب أن تعتبر التربية أس أساسها ولا تحصل الغاية من التربية في أمة ديمقراطية بكثرة المواد التي يتعلمها أبناؤها فقد اختلف مشاهير علماء الأخلاق في النوع اللازم للديمقراطية من التربية وإن كانت مبادئهم بحسب الظاهر تؤدي إلى غرض واحد.(33/59)
الناس يخلطون بني التربية والتعليم فيرونهما شيئاً واحداً على أن التربية غاية والتعليم واسطة فالغرض من التربية أن تربي في الطفل شعور مكارم الأخلاق فتكون سلماً يصعد به على ذرى التعلم فتصرف وكدها في إنارة عقله وحكمه عندما يتجليان وتكون أخلاقه رقيقة متينة فيصبح الطفل على ثقة من تنبه الشعور والعقل والعمل عندما يبلغ سن الرجولية ويتعلم عمل الخير والإدراك والتأمل كما يتعلم الإرادة وصحة العزيمة فتربية الوجدان تهم كما تهم تربية العقل وكثر المدارس لا تعنى بالتربية الأولى فتأتي أمراً أداً يجب أن يعلم الأطفال مكارم الأخلاق فإن صلاح المرء بأن يكون عادلاً وحكيماً ويجب أن يربى في المرء قوة التمييز وتنمى فيه قوة الانتباه وهي القوة التي تنفع أكثر من تحصيل المعارف الجديدة كما يجب تربية دائرة العقل وإمداده بالأدوات الأولى التي يهيء أمامه سبل العمل فالأرض الزراعية مهما بلغت من الخصب تحتاج أن تعد لها المعدات وإلا فلا تنبت فيها البذر الذي يبذر فيها.
ثم أن حسن العشرة والسلوك في المجتمع مناطان بأخلاق الفرد وعلى قدر أخلاقه في الغالب تكون أعماله وجهاده. ومتى ظهرت في الطفل علائم إرادته الأولى كان منها توجه نفسه إلى العمل فإن لين أخلاقه ومضاءها تعلمانه أن يعنى بالضروريات الخارجية بدون أن تؤثر فيها كل التأثير. فحربتنا الأدبية هي عبارة عن اعتمادنا على أنفسنا.
فإن قيل هل يجب أن تكون التربية عامة أم أهلية أي أن تربية الأطفال في المدارس العامة خير أم تربيتهم في بيوت أهليهم فقد ذكر الفيلسوف ديدرو كلمات في هذا الصدد هي جماع الحكمة في التربية وهي على اختصارها أجمل جواب على هذا السؤال قال: لقد قضيت السنين الأولى من حياتي في المدارس العامة ورأيت أربعة أو خمسة تلاميذ من الطبقة العالية يتناوبون في غضون السنة المكافآت ويتناولون الجوائز فيدخلون بتقدمهم اليأس على نفوس رفاقهم وتأخر هؤلاء عن اللحاق بهم، رأيت عناية الأستاذ مصروفة إلى تخريج هذا العدد المختار القليل من الطلبة ويهمل من عداهم ورأيت معظم هؤلاء الأولاد يخرجون من المدرسة بلهاً مغفلين وجاهلين فاسدين فقلت في نفسي: يا لشقاء أب يستطيع أن يربي ابنه في بيته فيرسله إلى مدرسة عامة. ليت شعري من أين أخذ البشر المعارف التي تميز بها في الآداب بعض الرجال الذين ربوا في المدارس ومن السبب في وصولها إليهم؟ لا جرم(33/60)
أنها ابنة دروسهم الخاصة. ولطالما أسفوا وهم في حجراتهم للوقت الذين قضوه على دكات المدرسة. فكيف السبيل إذاً؟ هل تصلح الحال بتغيير طريقة التعليم العام ومتى اغتنى المرء يربي ابنه في منزله. أنا لا أستحسن تربية الدير للبنات إلا إذا كانت أخلاق الأمهات فاسدة ولا أستحسن المدرسة للبنين إلا إذا كان الآباء مسرفين يعطون ألف ريال للحوذي الذي يسوق مركباتهم وألفي ريال للطاهي الذي يطبخ طعامهم.
هذا ما قاله ديدرو وقال مونتين يجب أن تصرف خمس عشرة أو ست عشرة سنة للدرس والباقي للعمل. وما قطبا الحياة في الحقيقة إلا الفكر والعمل فالأول يولد الثاني والثاني متمم للأول. ويقول بعضهم أن التربية لا ينتهي دورها إلا بانقضاء أجل الحياة على أنه من اللازم أيضاً أن ينظر بأن التجربة التي يحرزها المرء كل يوم يكون لها عمل لتنوب مناب التربية كلما تفهمها ولا تربي إلا إنساناً ناقصاً.
أما فيما يتعلق بالمواد التي يجب تعليمها فيجب أن يتوسع فيها ما أمكن فمن الميسور تلقين الطفل أموراً كثيرة إذ القوة الحافظة فيه على أتمها وقد أخطأ روسو في كتابة (أميل) في رأيه أن الاستظهار يضعف الذاكرة على أن الذاكرة ليست خزانة يحشر إليها الطفل صنوفاً من المبادئ يرجع إليها الطفل فيما بعد. فبعد أن يلقن الطفل واسطة للحصول على معارف حقيقية بتعليمه القراءة والكتابة يجب أن يعلم لغة بلاده ومبادئ العلوم الطبيعية والظواهر الجوية والرياضيات وذلك إما بدرسها في كتاب أو في نقشها ورسمها والعلم ينزع الخرافات ويودع في النفس فكر الارتقاء الثابت والنشوء البطيء المنظم بنواميس. يصدق هذا على الحالة الاجتماعية والسياسية كما يصدق على الحالة الطبيعية والجيولوجية. ويعلم الطفل الأعمال اليدوية والرياضية. ويعلم التاريخ لا التاريخ المملوء بالشوائب بل التاريخ الحقيقي. فبالتاريخ يتجلى له بأن الكمال ممكن وأن الناس آخذون في السير نحوه فيحب المتعلم طريقة الحكم الديمقراطي ويؤثرها على غيرها من أنواع الحكم كما يعلم أن يحب كل من قضوا نحبهم في سبيل ترقية البشر وكل من نقلوا إلينا حرية الوجدان. ويجب أن يعلم الطفل مع هذه المواد فن الآداب حتى لا يكون غريباً عن مظهر من مظاهر الجمال ويمتزج في روحه الفتية حب الكمال قال بول برت: من الواجب أن يتعلم الطفل اللغات الأجنبية بل اللغات الميتة حتى لا يفوته شيء مما أنتجته المدارك البشرية ولا يكون بعيداً(33/61)
عما مر على أسنة اقلام العظماء في تبيانهم وبيانهم وأرى أن هذه المعارف توسع ذهنه وتفتح أجنحة تصوره فبالآداب وحدها تهتز القلوب وتحيا الوجدانات ولقد كانت مصنفات اليونان واللاتين مؤثرة في أجيالنا معاشر الإفرنج وفي مصنفاتنا منها مسحة خاصة فنحن واللاتين واليونان من فصيلة عقلية واحدة.
ويضاف إلى المعلومات التي يعلمها الطفل أمور يجب أن تنضجها الحياة والعمل وهناك تعليم وطني أدبي ينبغي أن يشرب الطفل حبه ألا وهو معرفة قوانين بلاده السياسية وحالة الطريقة التي تدار بها شؤونها وتراعى في كل تعليم أميال الطفل قابليته فقد قيل أن في الإنسان وفي أعماله المختلفة في الحياة ألف نوع من التفنن ولكل ذوقه. وأمانينا لا ينطبق بعضها على بعض.
وتجب العناية بتقوية جسم الطفل ووقاية صحته وأن لا يكون حظ النبات في التربية كحظ البنين ويكون التعليم عامياً (علمانياً) لا دخل للدين فيه يكون كذلك في المدرسة كما يكون في البيت وأن يجد الطفل في بيت أبيه متمماً لدروسه في المدرسة. وخير ما ينفع الطفل أن لا تكون المدرسة والبيت وهما مبعث التربية متناقضتين غي المبادئ بل متحدتين فيها وأن تدرس الفنون بحيث يتمكن التلميذ من إظهار عواطفه بواسطتها فتقوى بها شخصيته وميزته ويعنى بتنمية ملكته في الشعر والتصوير والموسيقى فقد قالب شوبنهور الفيلسوف الألماني: إن استماع الأنغام الجميلة هو حمام يغسل أدران العقل. نعم إن الموسيقى تغسل كل وسخ وتنبذ ما يحط بالنفوس ويشقيها فالموسيقى ترفع مقام الإنسان وتجمع بينه وبين الأفكار النبيلة التي هو أهل لها فيشعر إذ ذاك كل الشعور بما يتأتى له أن يساويه في هذه الحياة.
هذا ما قاله العالم الغربي وفيه درس لكل شرقي وجدير بنا أن نجعل قوام تربيتنا على تقوية الإرادة والاحتفاظ بالقديم والأخذ بحظ وافر من المعارف البشرية اللازمة وتربية روح الوطنية والعواطف السامية بالفنون الجميلة فهي وحب الجمال والكمال من العوامل القوية في أسباب الرقي المادي والمعنوي.
حماه وحمص
اكتشف المسيو بونيون من علماء الآثار أربعة أحجار كانت في عمود كتبت بلغة آرامية(33/62)
ممزوجة بالكنعانية والعبرية وذلك في خلال رحلته إلى سورية منذ خمس سنين وهذه الأحجار هي عبارة عن تقدمة قدمها زاكير الملقب بملك حماه ولانش أولاعوش وقالوا أنها مدينة حمص إلى الرب آلور يتضرع إليه فيها أن يكتب له النصر على الملوك الذين اتحدوا وحاصروه في مدينة خرزك وكان أكبر أعدائه ملك آرام (دمشق) المدعو بارحداد ابن خزائيل وقد تولى هذا الملك منذ سنة 805 إلى نحو 780 ق. م أي على عهد ملك إسرائيل جوهاشاز ابن جيهو وقد كتب المسيو دوسو من علماء الآثار في المجلة الأثرية بحثاً في مملكة حمض وحماه قبل المسيح بثمانية قرون فقال أن مملكة حماة لم تكن تتناول فقط السهول الغنية التي كانت تؤدي الجزية من بلاد نهر العاصي الوسطى بل كانت تمتد أحياناً في وادي هذا النهر إلى البقاع بحسب ما كانت دمشق وهي الخصيمة القوية تتركها تتنفس الصعداء. وفي القرن الثالث أضافت مملكة حماه إليها بلاد لاعوش أو أرض خزرك فأعادت بذلك مملكة أمورو (الأمهوريين) العظمى التي كان خربها الهيتيون في القرن الرابع عشر قبل المسيح وقد كتم المكتشف اسم المحل الذي اكتشف فيه تلك الحجارة واكتفى بأن قال في كتابه الذي نشره حديثاً في المزبورات السامية في سورية وبين النهرين وكور الموصل أنه عثر عليها في سورية على مائتي كيلومتر من البحر الرومي وأنه يأمل أن يذهب ذات يوم لإكمال الحفر فيكتشف ما ينقصه من هذه الآثار إلا أن كاتب المقالة أدرك من حل الكتابات المزبورة على الأحجار أنها آتية من مدينة خزرك فقال أن المكتشف وفق إلى كشف محل هذه المدينة القديمة وهذا الأثر التاريخي العظيم وخزرك مدينة شرقي العاصي بين حماه ودمشق وقد كانت مملكة حماه وهي عبارة عن بلاد لاعوش وأراضي خزرك وكانت في القرن الثامن قبل الميلاد أقوى مملكة في سورية وقد حاول الملك زاكير وأخلافه أن يحصنوا مملكة خزرك لتكون منيعة الحمى حتى أصبحت من بعد سنة 772 مدة خمسين سنة والآشوريون لا يغيرون إلا عليها أثناء غاراتهم على سورية وقد عزم توغلات بالازار الثالث ملك آشور سنة 730 أن يقسم مملكة حماه فجعلها مقاطعات كثيرة تابعة لمملكة آشور مباشرة ثم دثرت هذه المدينة (خزرك) وفقد اسمها من التاريخ ثم انتفضت مملكة حماه فأمر الملك سراغون الثاني أن ينزع جلد ملكها إيلوبيدي وهو حي وجعل في هذه المدينة حامية آشورية كبرى.(33/63)
سر الجنسين
قضت مصاعب الحياة أن أصبحت كثير من الأسر في الغرب تتمنى لو ترزق بنين بدل البنات ولكن الخالق تعالى لم يمنح سر كثرة البنات وقلة البنين أحداً من المشتغلين بعقولهم من خلقه. وكانالرأي الشائع من قبل أن أقوى الأبوين هو الذي يولد الولد ذكراً كان أم أنثى. وقد كتب الدكتور روم أن من القضايا التي لا تكاد تختل في جميع العالم بأن في كل مئة طفل يولد 105 أو 106 بنات ولا يختل هذا التعديل غلا في الحرب فثبت بالإحصاء أن بعد الحروب يولد للمحاربين ذكوراً أكثر من الإناث فقد زاد عدد البنات في سنة 1869 في بروسيا وبعد حرب سنة 1871 زاد عدد الذكور وفي ثناء حروب الإمبراطور نابليون الأول حدث نقص في البنات وزيادة في الأولاد في فرنسا حتى خيف على مستقبل البلاد من ذلك، وقد ثبت جميع أرباب الرحلات والباحثين بأن جميع القبائل التي لا تفتأ تحارب غيرها يزيد عدد مواليدها من أولادها أكثر من بناتها فمواليد القبائل الماوري في زيلاندا الجديدة هم في الأكثر ذكور ومعلوم أن قلة النساء هي من أعظم السباب في انتشاب الحروب بين القبائل ولذلك كان المحلفون الذين لا يذهبون إلى دار الحرب في الغالب أقل قوة وصحة ونشاطاً ممن حملوا السلاح وذهبوا لقتال العدو فيجيء الأولاد الذين يولدون لهم ذكوراً. وقد شوهد منذ زمن أن سكيراً طاعناً في السن إذا تزوج امرأة شابة يكون أولاده في الأكثر ذكوراً على العكس مما يحدث إذا كانت الزوجة أسن من زوجها. قال سادلير في إحصاء له أنه مقابل كل ألف بنت يوجد 865 صبياً يكون أبوه أفتى من أمه و948 صبياً يكون أبواه في سن واحدة و1037 صبياً يكون أبوه أسن من أمه من سنة إلى ست سنين و1267 صبياً يكون أبوه أسن من أمه من ست عشرة فأكثر.
وإذا أرضعت الأم ولدها الأول فتلد بعده بنات وكذلك الأمهات اللائي يحبلن في أوقات متقاربة فإنهن يلدن البنات لأن تكرار الرضاع والحمل هو من أسباب ضعف الأم ومتى حبلت تكون في حالتها الطبيعية أضعف من الزوج فتلد بنتاً وتكون شبيهة بصورتها. وقد لوحظ بأن المرأة إذا حملت عقيب العادة أو في خلالها فتلد إناثاً في الغالب وهذا الضعف المؤقت فيها لا يرزقها إلا بنات. وقد جرت عادة من يربون المواشي أن يفصدون في أوقات خاصة البقرة إذا أرادوا أن تلد لهم عجلة وأن يفصدوا الثور إذا أرادوا أن يلقح(33/64)
عجلاً. ولاحظ أحدهم بأن المولود الأول يكون طفلاً في الزواج غير الشرعي وعلل ذلك بأن الأم تكون في تلك الحالة أفتى من الأب وتكون منهوكة القوى مضطرة إلى إتيان ما أتت بإغواء الرجل. وقد ذكر الدكتور بيلون أن إحدى قبائل مصر القديمة سبت مئات النساء فحمل في الطريق معها 482 ولما وضعن كان عدد الذكور 79 وعدد الإناث 403 وذلك لما كن عليه من الضعف والإعياء مدة الحمل.
قال الكاتب رلوكان ثمت ميزان توزن فيه العناصر التي تتكون منها الصحة والنشاط في كل من الزوجين لتيسر أن يتنبأ المرء تنبؤاً صحيحاً فيما إذا كانت الأم تلد ذكراً أم أنثى ولكن القوة والصحة وشدة الحب لا توزن بميزان ولا تقاس بمقياس. ثم أن العناصر التي تتركب منها تختلط وتتداخل على شكل ملتبس حتى أن أدق بحث في صحة الزوجين وعمرهما ونوع معيشتهما ووراثتهما لا يأتي إلا بفرضيات وظنيات لا بحقائق ثابتة ولو عرف المرء حقيقة الأسباب التي بها يستطيع أن يعرف ما يولد له أما كان يخشى أن يقل البنات لأن أحدنا إذا بشر بها ظل وجهه مسوداً وهو كظيم.
مطبوعات ومخطوطات
تاريخ الأمم والملوك
اشتهر هذا التاريخ بأنه من أعظم الأمهات الصحيحة التي يرجع إليها في دراسة تاريخ الإسلام في القرون الثلاثة الأولى وهو من تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وقد طبع للمرة الأولى في ليدن طبعه المستشرق كوي وأعاد طبعه ع \ هذه الآونة بالمطبعة الحسينية المصرية محمد أفندي عبد اللطيف الخطيب وشركاؤه فجاء متقن الطبع مشكولاً محال الإشكال منه وأحلق به كتاب صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي المنتخب من كتاب ذيل المذيل من تاريخ الصحابة والتابعين تصنيف أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري فتم التاريخ الأصلي في 11 جزءاً والذيل في جزئين وهو يطلب من طابعه بمئة وأربعين قرشاً صحيحاً فنحث أهل العلم والأدب على اقتنائه فإنه أصبح الآن قريب المنال على كل مطالع لرخص ثمنه بالنسبة لطبعة أوروبا. أما وصف الكتاب وفوائده والكلام على مؤلفه فسنعقد له هنا فصلاً إضافياً بحول الله. وهنا نثني الثناء الطيب على(33/65)
الطابع ونرجو له أن يوفق لطبع أمثاله من أمهات كتب العرب فينتفع وينفع.
التصحيف والتحريف
هو من الكتب المنسوبة لأبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري شرح فيه الألفاظ والأسماء المشكلة التي تتشابه في صورة الخط فيقع فيها التصحيف ويدخلها التحريف مما يعرض في ألفاظ اللغة والشعر وفي أسماء الشعراء وأيام العرب وأسماء فرسانها ووقائعها وأماكنها وما يعرض في علم الأنساب وغيرها من الأشكال فيصحفها عامة الناس ويغلط فيه بعض الخاصة وقد جعله أبواباً فمنها ما جاء في قبح التصحيف وبشاعته وذم المصحفين ونكد التصحيف ومن ابتلي به ونوادر من التصحيف وما وري من أوهام علماء البصرة ومن أوهام علماء الكوفة وما روي من تصحيفات شتى فجاء في أحد وأربعين باباً تجمع إلى الفائدة العلمية اللذة الفكاهية والأدبية طبعته مطبعة الظاهر طبعاً متقناً وجعلته في ثلاثة أجزاء نجز منها الجزءان الأولان إلى الآن. ونعماً تفعل إدارة مطبعة الظاهر في إحياء الكتب العربية النفيسة فمن أعظم الأيادي التي يسديها امرء لأمته إحياء ما كاد يندثر من آثارها ومفاخرها وقيمة اشتراك الكتاب قبل الطبع 15 قرشاً وبعد الطبع 20 قرشاً فنتقدم إلى كل متأدب في اقتنائه.
سر تقدم الإنكليز
أعاد خليل بك صادق صاحب مجلة مسامرات الشعب طبع هذا الكتاب النفيس لمؤلفه أدمون ديمولان من علماء التربية في فرنسا ومترجمه أحمد فتحي باشا زغلول من علماء الحقوق بمصر فتأنق ما شاء وشاءت الإجادة في طبعه وتخير له الورق والحروف فجاء بديعاً شكلاً ووضعاً وتعريباً وأصلاً. وهذا الكتاب من أحسن ما أخرج للغة العربية من اللغات الأوروبية وما قرأه رجل بإمعان إلا وتغير فكره في الحياة وأصلح من أخلاقه وعاداته ما يقدر عليه وفيه من وصف الإنكليز والأميركان والألمان في أخلاقهم ومناحيهم ما هو حري بأن يدرسه كل شرقي المرة بعد المرة. وقد قدم له معربه مقدمة من أبدع ما كتب في حالتنا حاءت والكتاب في النفع سواء فنثني على المعرب والطابع بما هما أهله والكتاب يطلب من مكتبة مسامرات الشعب في باب الخلق بمصر بعشرين قرشاً صحيحاً.
مبادئ الاقتصاد السياسي(33/66)
ألف محمد أفندي فهمي حسين هذا الكتاب المفيد ـ والذي نقل إلى العربية من كتب هذا الفن قليل لا يفي بالحاجة ـ فتوسع في أبوابه مستنداً إلى ما كتب باللغات الإفرنجية في هذا الفن وقد كتبه بعبارة سهلة وأسلوب قربه من الأذهان على من لم يسبق لهم أن قرؤا فيه كتاباً. ودرس كتب الاقتصاد لأهل هذه البلاد أنفع من إلقاء ألف خطبة سياسية خيالية وتلاوة ألف رواية غرامية وهو يطلب من مكاتب القاهرة الشهيرة ومن نادي المدارس العليا بعشرة قروش صحية فنحث الأدباء على اقتنائه والاستفادة منه ونثني على غيرة مؤلفه الأديب ونرجو له التوفيق إلى إتمامه.
عقود الجوهر
من ترجمة من لهم خمسون تصنيفاً فمائة فأكثر
وضع هذا الكتاب جميل بك العظم من أفاضل أدباء دمشق وموضعه كما يدل عليه اسمه جليل نافع يبعث الهمة في صدور الناشئة ويطلعهم على ما قضاه أسلافنا من العناء في النفع وفي هذا الجزء أربعون ترجمة لأربعين عظيماً من عظماء الإسلام واليونان والقدماء والمحدثين فمن القدماء الغزالي وابن تيمية والرازي وابن الجوزي وحنين بن إسحق ويعقوب الكندي وثابت بن قرة والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وابن الخطيب والزمخشري والمعري ومن المحدثين السيوطي وابن كمال باشا وابن طولون والمناوي ومنلا علي القاري ونوح أفندي وأحمد مدحت أفندي والعيدروس. فيترجم المؤلف ترجمة موجزة ثم يسوق كتبه على حروف المعجم ليسهل الاهتداء إليها في الحال. ويشتمل الجزء الثاني وهو الآن تحت الطبع على فهر س عام في الكتب والرسائل التي ذكرت أسماؤها في الكتاب وما يوجد منها في خزائن الكتب العمومية مما لم يطبع. وهمي همة للمؤلف تدل على فضله وغيرته. وقيمة الاشتراك بالجزئين معاً ريال وربع ريال مجيدي ويضاف إليها أجرة البريد وقد طبع في المطبعة الأهلية ببيروت طبعاً متقناً نظيفاً كسائر مطبوعاتها وهذا الجزء من 340 صفحة صغيرة فنحث المتأدبين على اقتنائه.
افسلام روح المدنية
كتاب في 288 صفحة صغيرة ألفه الشيخ مصطفى الغلاييني من أفاضل ادباء بيروت رداً على ما جاء في كتاب (مصر الحديثة) تأليف لورد كرومر معتمد إنكلترا في مصر سابقاً(33/67)
من الحمل على مدنية افسلام أورد فيه أقوال الغربيين أنفسهم وأتى من الشواهد والحجج الكثيرة ما يناقض ما ذهب إليه مؤلف (مصر الحديثة) ولو عرف لورد كرومر اللغة العربية ودرس تاريخ افسلام درس المجرد عن النزعات السياسية والأهواء الاستعمارية لما كتب ما كتب ولو أعطي وادياً من ذهب. قال الفاضل البيروتي: وإني أعتقد اعتقاداً جازماً أن جميع الأديان تأمر بالخير والسلام وهي وإن اختلفت في بعض اعراض فهي متفقة في الجواهر إذ الغاية منها تهذيب النفس ورفعها من وهاد الشرور والفساد فمن يسعى بهدم أركان الأديان هو كمن يسعى لتقويض العمران لأن في المدنية الحديثة من المفاسد ما لا يحصى ولولا سلطان الأديان القاهر لأبيحت الأعراض والدماء والأموال وفي ذلك من الخراب والدمار ما لا يصلحه الدرهم والدينار فبقاء الإنسان في جهل بعلوم الدنيا مع التمسك بأي دين خير من حياته عالماً طبيعياً مهندساً الخ وهو لا دين له. وقد غلبت الحدة على صاحب الرد فظهرت آثارها على أسلة قلمه أحياناً وكنا نود أن تحذف من كتابه بعض ألفاظ أدعى إلى القبول وإنا نثني على غيرته وفضله ويطلب كتابه من المكاتب الشهيرة بالقاهرة بخمسة قروش.
أبو العلاء المعري
كراسة في 72 صفحة باللغة التركية التاتارية فيها ترجمة مستوفاة لأبي العلاء المعري من قلم رضاء الدين أفندي بن فخر الدين من علماء أورنبورغ في روسيا وقد تصفحناه فرأيناه قد نسق كلامه على هذا العظيم ورتبه ترتيباً مقبولاً صوَّره للقارئ أحسن تصوير وتطلب من طابعها صاحب مكتبة الشرق في أورنبورغ.
اللزوميات
اختار موسى أفندي بيكييف من أفاضل قازان أبياتاً كثيرة من لزوميات أبي العلاء المعري ونقلها إلى التركية كما فعل أمين أفندي الريحاني فاختار أبياتاً منه ونقلها شعراً إلى اللغة الإنكليزية. فجاءت في زهاء مائتي صفحة مطبوعة طبعاًُ متقناً على نفقة مكتبة الشرق في أورنبورغ وترجمة أمثال هذه الكتب يساعد أبناء تلك البلاد على تعلم العربية فعسى أن يكثر القائمون بنهضة أهلها من نقل بعض الكتب العربية المفيدة إلى لغتهم وينشروها مع أصلها كما فعل مترجم اللزوميات.(33/68)
ليالي سطيح
نشر حافظ أفندي إبراهيم الشاعر الاجتماعي الكبير قصة نثرية رواها عن لسان سطيح الكاهن فجاء فيه كلام لطيف على العادات المصرية والأحوال الاجتماعية والسياسية في مصر والسودان صورها تصويراً بديعاً وأودعها من أفكاره ودرر نثاره ما رآه نافعاً وثميناً ومما ننتقده عليه اعتماده على التسجيع في بعض محال من كتابه بحيث كاد يخل بأسلوب البلاغة والفصاحة ولم يناسب العبارات المهذبة التي جاءت في عرضه. أما مرامي الكتاب فكانت أعم نفعاً لو خلت من الغلو في مدح أشخاص والإيغال في الحط من آخرين وكتاب بكتب لينفع الناس في اجتماعهم لا يصح أن يظهر فيه شيء من هذا القبيل. ومنتقدنا عليه من الألفاظ ما يقع مثله لأكثر كتابنا وشعرائنا مثل قوله التنكيت وهولم يرد في اللغة. وقوله كنتم منذ بضع سنين لا تجارون ستة آلاف عداً وعداً هذه ليست من التراكيب الفصيحة وقد وقعت في كلامه أربع مرات وهي من عبارات الجرائد واستعمل لفظة منتزه والضمائر والقواميس والتكتيك والظروف والنقط وحصل بها وجهاراً نهاراً وضحى مصلحة أمة وصوالح القوم وصوالحنا والصواب أن يقول متنزه والقلوب والمعاجم وعلم التعبية والمصافات والأحوال وكان يمكن الاستعاضة عن النقط في قوله نقط تنفيذ الحكم بتركيب آخر ومثلها حصل بها جهاراً نهاراً. وله أن يقول بدى ضحىة فادى بمصلحة أمة ومصالح القوم بدل صوالحهم. وهذه الخرزات لا تقدح في فضل هذا العقد النفيس. فالنقد لا يوجه إلا إلى الثمين والركاكة لا تعاب إلا في كلام أهل البيان والتبيين.
النظرات
أصدر مصطفى صادق أفندي الرافعي الشهير الجزء الأول من ديوان جديد له سماه النظرات أودعه مثالاً مما وعاه ديوانه المعروف بديوان الرافعي الذي كان أصدره في ثلاثة أجزاء ـ من ضروب الشعر في الاجتماع والرقائق والمديح والغزل والوصف وقدم له مقدمة في حقيقة الشعر لم يكرر فيها ما أودعه من معناها كل جزء من أجزاء ديوانه السابق. ومعظم قراء المقتبس يعرفون طبقة شعر الرافعي مما نشر له فيه. ومما انتقدناه عليه تسرعه في إخراج الشعر للناس حتى أن بعض أبياته يظهر فيها شيء من الغموض لا يكاد يهتدي إليه القارئ إلا بإعمال النظر كما أنا لا نستحسن إكثاره من الاستعارات(33/69)
والمجازات على طريقة أكثر الشعراء المحدثين وكتابهم على حين نراها قليلة في شعراء الصدر الأول وكتابه وإن جاءت فإنما تجيء عرضاًُ اعتبر ذلك بكلام ابن المقفع والجاحظ وأبي تمام والمتنبي وغيرهم. ومن الاستعارات البعيدة قوله أشبه شيء بالنور الذي يتألق فيه ماء الصورة وماء الصورة أشبه بماء الملام التي انتقدها البيانيون على أبي تمام ومثلها أجنحة الخواطر وقوله فما أحسن الوجه وهو روضة مصورة وزجاجة منورة وشهادة على الله مزورة وينتقد عليه من الألفاظ الوحشية لفظ مختشب أي غير منقح ومرسل. واختيار لفظ واحد لمعنى واحد لا يحرص عليه في كل اللغات لا في أسماء الفنون والصناعات ونحوها فلا يصح مثلاً أن نقول هات الأداة التي يكتب بها بل نقول هات القلم ومختشب مثل مخشلب التي وردت في شعر المتنبي وسواءٌ في الثقل والوحشية. ومثله قوله رجع بمقصر مما كان يحاول ولنا عن مقصر هذه مندوحة في الاستعمال وكذلك تأنيثه البلد وهو مذكر. وجمعه عادة على عوائد والصواب عادات وعاد وقوله ينطقونها والصواب ينطقون بها وتوريق الشجر والصوب غيراق الشجر والروضة الشجية بمعنى مطربة والشجي المحزن والجرائد تغلط في قولها وكانت الموسيقى تطرب الأسماع بألحانها الشجية والأولى أن يقال المطربة أو ما إليها. وفي الديوان من جيد المنظوم ما يجدر بالأدباء الأخذ منه والنظر فيه خصوصاً والرافعي من الشعراء الذين تفاخر بهم العربية.
المسألة الاجتماعية في سورية
كتب خير الله أفندي خير الله من أساتذة بيروت هذا الكتاب باللغة الإفرنسية وصف فيه الحالة الاجتماعية وطرق التدريس في سورية قال فيه وإذا كانت الضرورة تقضي بأن نخرج من مدارسنا سوريين لا إفرنسيين ولا إنكليز ولا أميركانيين قضي علينا أن نخرج من النساء كذلك وإلا كانت البيوت جحيماً لا نعيماً. والمدرسة الحسنة التنظيم هي المجتمع المنظم بعينه فإذا لم يكن للمدرسة نظام نافع يجب علينا أن نعمل يداً واحدة على تقويضها من أساسها فخير لنا أن نكون بلا مدارس جملة واحدة من أن تخرج مدارسنا من لا نريدهم من الرجال والنساء. سعت مدارسنا فقد فينا دائرة التعليم ولم تنفحنا مثل ذلك من التهذيب على أن ذاك التعليم نفسه سطحي غير موافق لحاجاتنا.
وأجمل الكلام على المعلمين في المدارس والدروس وقال أن المجتمع غير عادل في معاملة(33/70)
المدرسين وكان عليه أن يعطيهم من الأجر أكثر مما يعطيهم ويرفع مقامهم أكثر مما رفعهم. كما تكلم على إدارة المدارس وترتيباتها وأصولها الصحية وقال أن الواجب أن لا نستسلم للأجانب ونأخذ عنهم قضية مسلمة كل ما يدعون أنه لازم لقوام حياتنا العملية. وأننا يجب أن نضع نظام دروسنا بأيدينا وإلا فإن الدروس التي نتلقاها في المدارس لا تخرج رجالاً تامة أدواتهم بل كثيراً ما تضطرهم إلى الهجرة ولا يكون منهم خير لبلادهم.
ومن رأيه أن يعقد مؤتمر وطني أو عام للنظر في إصلاح التعليم حتى لا يسوغ لكل قادم علينا بحجة تعليمنا أن يعبث بعقول فتياتنا على هواه ليجعلهم على مثاله ويقتل في عقولهم الحمية والشجاعة والشعور بالوطنية وعزة النفس لتأتي منهم رؤوس فارغة من التعليم والإحساس مملوءة بالعجب والإعجاب ويجب أن يقرن تعلم اللغة العربية بلغة أجنبية على أن لا يعلم من لغة البلاد إلا ما يتمكن معه التلميذ من الكتابة فيها بسهولة على نحو ما يكتب بالإفرنجية وأن يعلم الأخلاق بأصولها على طريقة موجزة متينة تكون الوطنية شعارها حتى إذا خرج التلميذ من المدرسة يكون عارفاً بحقوقه وواجباته وتاريخ بلاده مجسماً وله فكر إجمالي في التاريخ العام متقناً جغرافية بلاده مع إجمال عن الجغرافية العمومية وبعض مبادئ العلوم لئلا تستولي عليه الخرافات.
ورأى أن تعلم العربية بدراسة كتب المتأخرين لأن إنشاءهم وشعرهم أحسن مما كتبه المتقدمون من العرب. وهذا رأي لا يوافقه عليه أحد من أهل العلم لما عرف من أن المتأخرين هم سبب فساد اللغة والرجوع بالمتعلمين إلى كتبهم رجوع القهقرى وعنده أن يعتني باللغة العامية السورية ويقابل بينها وبين اللغة الفصحى لأن في العامية أشياء لا ينبغي الزهد فيها وأن الواجب تدريس العلوم العربية لتقوى ملكتها في المتعلمين. وتكلم على ما ينبغي للسوري أن يتعلمه من اللغات فجعل المقام الأول للإفرنسبة ثم للإنكليزية فالألمانية فالإيطالية.
وأجاد الكلام على التربية وتلقين العادات النافعة وختم بقوله أن مجتمعنا متألم مما صارت إليه حاله وحاجته ماسه على الشفاء مما أصابه والدواء هو الإصلاح وأحسن أداة له إصلاح المدرسة. وقد تجلى لنا من تصفح الكتاب أن مؤلفه ذو خبرة بأمور المدارس ومواد التدريس وحالة المدرسين فنشكر له حسن أدبه في بيان أفكاره وكنا نود أن يكتبه باللغة(33/71)
العربية ليستفيد منه من كتب لهم أولاً بالذات وعساه أن يقله إليها قريباً ليعم نفعه لأن موضوعه جديد مفيد.(33/72)
العدد 34 - بتاريخ: 1 - 11 - 1908(/)
الطالع السعيد
من المخطوطات النفيسة التي كادت تعبس بها يد الضياع كتاب الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد لكمال الدين أبي الفضل جعفر بن تعلب الأدفوي المولود في نصف شهر شعبان سنة 685 والمتوفى في سابع عشر شهر صفر سنة 748 ألفه بإشارة من شيخه أثير الدين أبي حيان النحوي الأندلسي وقصره على تراجم النابغين من إقليم قوص وما يتبعه من البلدان والقرى وهو أول ما ألف من نوعه خاصاً بأهل الصعيد. ولم يكن بمصر من نسخ هذا الكتاب غير اثنتين بدار الكتب الخديوية كلتاهما ناقصة وما زلت في شوق إليه وبحث عنه حتى ظفرت بنسخة منه كاملة كتبت سنة 880 برسم الفقيه مجد الدين أبي عبد الله بن شرف الدين حمزة الخطيب الواعظ وهي كغالب المخطوطات لا تخلو من التحريف والتصحيف خصوصاً في مواضع أهمل الناسخ إعجامها فلا تتيسر قراءتها إلا بضرب من العنت وتدقيق النظر.
افتتح المصنف كتابه بمقدمة تشتمل على مسافة هذا الإقليم وتفصيل ما اختص به من المزايا فذكر أن مسافته تبلغ في الطول اثني عشر يوماً بسير الجمال السير المعتاد وتبلغ في العرض ثلاث ساعات وأكثر أو أقل تبعاً للأماكن العامرة وأنه ينقسم إلى كورتين يفصل بينهما النيل فالشرقية منهما تتصل شرقاً بالبحر الملح (هو بحر القلزم المسمى الآن بالبحر الأحمر) وأولها من الشمال أرض أفنو وآخرها من الجنوب أبهر الشرقية بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة وضم الهاء ومن مدنها قنا وقفط وقوص وهي قاعدة الإقليم في عصره وكان بها أربعون مسبكاً للسكر وست معاصر للقصب وبها قباب بأعالي دورها قيل أن من ملك عشرة آلاف دينار يجعل له قبة في داره وإليها تكاتبه ستة ملوك. ومنها الأقصر وأسوان قال وأهلها يوصفون بالمحك في المعاملة وشدة المخاصمة وفيها يقول دعبل بن علي الخزاعي وكان أقام بها والياً كما نقل أهل التواريخ:
وإن امرأ أمست مساقط رأيه ... بأسوان لم يترك له الحزم معلما
حللت محلاً يقصر الطرف دونه ... ويعجز عنه الطيف أن يتجسما
ولهم لغة يجعلون الطاء تاء فيقولون التريق في الطريق والتاق في الطاق ويبدلون الفاء بالباء والباء بالفاء فيقولون ضربته في هذا بعنوان بهذا أهـ. والكورة الغربية أولها شمالاً برديس وآخرها جنوباً أبهر الغربية ومن مدنها أدفو بلد المصنف وعشة الذي درج منه. ثم(34/1)
أفاض في محاسن هذا الإقليم من عذوبة ماءٍ وطيب هواءٍ ووفرة غلةٍ وكثرة فاكهة قال وأظن مساحة أرض بساتينه ونخله تقارب عشرين ألف فدان ونقل غرائب في حمل أشجاره قد يعد بعضها من المبالغة والغلو ولا غرو فكل فتاة بأبيها معجبة. وذكر في معادنه معدن البروم بالقرب من قنا ومعدن الزمرد وحجر البازهر والنفط والنطرون والرخام ومن معاهد العلم ست عشرة مدرسة بقوص وثلاثاً بأسوان واثنتين بأسنا وواحدة بالأقصر وأخرى بأرمنت واثنتين بقنا وواحدة بهو وأخرى بقمولا.
أما ترتيب الكتاب فعلى حروف المعجم ابتدأه بإبراهيم وختمه بيونس وذيله بباب في الكنى ذكر به من كنيته اسمه وغالب تراجمه مختصرة يقتصر فيها على المولد والوفاة وشيء من أخبار المترجم وروايته إن كان من المحدثين. على أنه خالف ذلك في البعض فأطال فيهم كالنويري صاحب نهاية الإرب والرشيد بن الزبير وأخيه المهذب الشاعر والتاج بن المفضل وعبد الرحمن النخعي وذكر من سعة تبحره في الفقه أن الفتوى كانت ترفع إليه ورجله في الركاب فيكتب عليها بدون توقف وابن الحاجب مؤلف الكافية وقيصر المعروف بتعاسيف العالم الرياضي الذي عمل لسلطان حماه كرة عظيمة صور عليها الكواكب المرصودة وصنع له طاحوناً على العاصي وبنى له أبراجاً وتحيل فيها بحيل هندسية ومجد الدين بن دقيق العيد وابنه تقي الدين الإمام المشهور وترجمته أطول ترجمة في الكتاب والقفطي صاحب التاريخ وغيرهم ممن استحقت أعمالهم إطالة الكلام فيهم. ولم يهمل النساء فذكر منهم من اشتهرن بالعلم والفضل كتاج النساء ابنة عيسى القوصية وأختها مظفرية وخديجة بنت علي بن وهب ورقية بنت محمد بن علي بن وهب وكلهن من أسرة بني دقيق العيد.
وأعجبني منه التزامه الصدق وميله مع الحق فيما كتب فترجم كل إنسان بما له وعليه حتى تقي الدين بن دقيق العيد لم يمنعه ذكره لمناقبه وحسناته وشهادته له ببلوغ رتبة الاجتهاد من أن يقول فيه: ولكنه تولى القضاء في آخر عمره وذاق من حلوه ومره وحط ذلك عند أهل المعارف والأقدر من قدره وحسن الظن ببعض الناس فدخل عليه إلباس وحصل له من الملامة نصيب والمجتهد يخطئ ويصيب ولو حيل بينه وبين القضاء لكان عند الناس أحمد عسره ومالك دهره الخ. . وترجم عبد القادر بن المهذب وهو ابن عمه فوصفه بالذكاء(34/2)
النادر وسعة الإطلاع إلا أنه أنحى عليه لسوء عقيدته وقال في آخر ترجمته ومرض فلم أصل إليه ومات فلم أصلِّ عليه.
وفي الكتاب رسائل وخطب وقصائد ومقطعات لا تخرج عن الأسلوب المألوف لأهل ذلك العصر ومنها وصية لجلال الدين الدشنائي كتبها لابنه تاج الدين يقول فيها:
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً. يا بني أرشدك الله وأيدك أوصيك بوصايا إن أنت حفظتها وحافظت عليها رجوت لك السعادة في دينك ومعاشك بفضل الله ورحمته إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله. أولاها وأولاها مراعاة تقوى الله تعالى تحفظ جوارحك كلها من معاصي الله عز وجل حياء من الله والقيام بأوامر الله عبودية لله. ثانيتها لا تستقر على جهل ما تحتاج إلى علمه وثالثتها أن لا تعاشر إلا من تحتاج إليه في مصلحة دينك ومعاشك. وراعتها أن تنصف من نفسك ولا تنتصف لها إلا لضرورة وخامستها أن لا تعادي مسلماً ولا ذمياً وسادستها أن تقنع من الله بما رزقك من جاه ومال وسابعتها أن تحسن التدبير فيما في يديك استغناء به عن الخلق وثامنتها أن لا تستهين بمنن الرجال عليك وتاسعتها أن تقمع نفسك عن الخوض في الفضول بترك استعلام ما لم تعلم والإعراض عما قد علمت وعاشرتها أن تلقى الناس مبتدئاً بالسلام محسناً في الكلام منطلق الوجه متواضعاً باعتدال مساعداً بما تجد إليه السبيل متحبباً إلى أهل الخير مدارياً لأهل الشر متبعاً في ذلك السنة اللهم أهله لامتثالها.
وغالب ما ورد فيه من المنظوم أشبه بشعر العلماء منه بشعر الشعراء على أنه لا يخلو مما يستجاد كقول الأمير مجير الدين بن تميم اللطمي:
أعيذك أني بين أهلي وجبرتي ... وحيد لديهم عادم ودٍّ مشفق
اقلب طرفي لا أرى لي مؤنساً ... لعمرك فيهم غير طرس منمق
يحدثني عن حسن أحوال من مضى ... ويخبرني عن قبح أحوال من بقي
وقول تفي الدين بن دقيق العيد:
تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرَّب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره
وقول فتح الدين القنائي:(34/3)
بعادم علم الطرف السهادا ... ونفر عنه في الليل الرقادا
وبات بليل أرمد ليس يرجو ... لليل بات يشهره نفادا
كأن الليل فارقه حبيب ... فلم ينزع لفرقته الحدادا
فما للدهر لا ينفك يهوى ... مخالفة الذي أهوى عنادا
يباعد من أريد له دنواً ... ويدني من أريد له بعادا
كأن عليه ميثاقاً ووفى ... به أن لا يبلغني المرادا
ومن طريف ما رواه أن ناظم هذه الأبيات ادعى أنه كان ينظم القصيدة ويجعلها في ديوان أبي تمام ثم يعرضه على الناس فلا يميزون بين الشعرين فقال له أحد الأدبلاء أنت لا تمدح شعرك وإنما تذم الناس.
وقول أنجب الدين الإسنائي:
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود
هكذا نسبهما لأنجب الدين نقلاً عن العماد في الخريدة. قلت وقد وهم الشيخان فالبيتان لولادة بنت المستكفي لا يكاد يختلف في ذلك اثنان وقد وقفت على أوهام من هذا القبيل فرطت من بعض الأئمة فنسبوا أشياء لغير قائليها أما لاشتباه في الأسماء أو لسهو عرض وحلّ من لا يسهو وربما أفردت نبذة لذكرها إن شاء الله.
ومن غريب ما رأيته فيه من المنظوم نوع من الزجل تكرر ذكره سماه المصنف (بليقة) وجمعها على بلاليق مما يدل على أن اللام في المفرد مشددة ولا أدري أكانت البليقة تطلق عندهم على كل ما نسميه اليوم زجلاً أو هي خاصية بنوع منه فمنها قول هبة الله الأفودي وقد سئم من قراءة الفصول لابن معظ في النحو:
يا قوم واش هذا الفضول ... نقرا الفصول
الملحة نقرا يا فلا ... أو مختصر شيت والبيان=هذا يجنن بالضمان
لسائر أرباب العقول
من قوله معد يكرب ... القلب أضحى منكرب=وبيت عقلي قد خرب
وشرح حالي فيه يطول(34/4)
من صحروات مع حبليات ... ومد وشد مع حات بات=من الذي عنده ثبات
يفهم مفاعيل مع فعول
ومنها مطلع بليقة لبعضهم في هجو قاض:
قاضي القضاة أعزل نفسه ... لما ظهر للناس نحسه
ولا يستقيم الوزن إلا بإسكان آخر الكلم كما تنطق العامة. ومما استفدته من هذا الكتاب عثوري فيه على كلمات عامية مستعملة إلى الآن بمصر أدمجها المصنف في عبارته مما يدل على أنها أقدم في الاستعمال من عصره حتى صارت من المألوف عندهم وإلا لما جرى بها قلم مثل هذا الإمام في مثل هذا التأليف. وبالجملة فمحاسن الكتاب كثيرة وفوائده غزيرة فلعل أحد المشتغلين بالطبع من الوراقين يتنبه له فيطبع ليعم نفعه.
القاهرة
أحمد تيمور(34/5)
جالينوس العرب
أو
أبو بكر الرازي
ألا لفتة منا إلى الزمن الخالي ... فنغبط من أسلافنا كل مفضال
تلونا أناساً في الزمان تقدموا ... وكم عبرة فيمن تقدم للتالي
ألا فاذكروا يا قوم أربع مجدكم ... فقد درست ألا بقية أطلال
تتطلبتمو صفو الحياة وأنتمو ... بجهل وهل تصفو الحياة لجهال
وما أنتمو إلا كسكران طافح ... تحسى من الصهباء عشرة أرطال
مشى بارتعاش في الطريق فتارة ... يقوم وأخرى ينهوي فوق أوحال
يمد إلى الجدران كف استناده ... فتقذفه الجدران قذفة إذلال
ويفتح للطراق مقلة حانق ... فيغمضها خزيان عن شتم عذال
رمى الدهر قومي بالخمول فلمتهم ... وأوسعتهم عذلاً فلم يجد تعذالي
فهاج البكا يأسي فلما بكيتهم ... بدمعي حتى بلَّ دمعي سربالي
نظرت إلى الماضي وفي العين حمرةٍ ... كأن على آماقها نضج جريال
فشمت بروق الأولين منيرةً ... على أفق من ذلك الزمن الخالي
تنورتها في أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقلبت طرفي في سماء رجالها ... وهم فوق عرش للجلالة محلال
فآنست آثاراً وهم سلك درها ... وأبصرت أعمالاً وهم جيدها الحالي
ولما طويت الدهر بيني وبينهم ... على بعد أزمان هناك وأجيال
قعدت بأوساط القرون فجاءني ... (أبو بكر الرازي) فقمت لإجلال
فتى عاش أعمالاً جساماً وإنما ... تقدر أعمار الرجل بأعمال
حكيمٌ رياضيٌ طبيبٌ منجمٌ ... أديب وفي الكمياء حلال إشكال
أتى فيلسوفاً للنفوس مهذباً ... بأفضل أفعال وأحسن أقوال
لقد طبب الأرواح من داء جهلها ... كما طبب الأجسام من كل إعلال
مولده(34/6)
تولد عام الأربعين الذي انقضى ... لثالث قرن ذي مآثر أزوال
إلى زكريا ينتمي أنه له ... أب تاجر في الريّ صاحب أموال
على حين كانت بلدة الريّ غادةً ... إلى العلم يعطو جيدها غير معطال
مدارس بالشبان تزهو ودونها ... كتاتيب للتعليم تزهو بأطفال
بها جل درس القوم طب وحكمة ... وفلسفة فيها لهم أي إيغال
وكانت نفيسات الصنائع عندهم ... يحاولها ذو الفقر منهم وذو المال
وما كان هذا الحال في الريّ وحدها ... بل الحال في البلدان طر كذا الحال
فإن هدى الإسلام أنهى فتوحه ... وأوصلها للحد أحسن إيصال
وبدل أبطال الحرب من الورى ... بأبطال علم للجهالة قتال
فدارت رحى تلك العلوم وقطبها ... ببغداد مركوز بربوة إجلال
وكانت يد المأمون في ذاك أخجلت ... لسنا العلى في شكره أي إخجال
منشؤه
تدرج في تلك المدارس ناشئاً ... مترجمنا يسعى بجد وإقبال
تعلم فن الصوت بديء بدئه ... ومارس تفضيلاً به بعد إجمال
فكانت بموسيقى اللحون دروسه ... تغني بإهزاج وتشدو بإرمال
وقد جاوز العشرين سناً ولم يكن ... لشيء سوى فن الغناء بميال
فرام أبوه منه تحويل عزمه ... بجذب إلى شغل التجار وإدخال
غفال له دعني مع العلم إنني ... إذا ما أمتُّ الجهل أحييت آمالي
وهل يستطيع المرءُ شغلاً إذا غدا ... له شاغل بالعلم عن كل إشغال
هناك استقى الرازي من العلم شربة ... فجاد بإعلال له بعد إنهال
سعى سعيه نحو التعلم بادئاً ... بعلم لدى أهل التفلسف ذي بال
وقد كان مفتاح العلوم تفلسف ... تفك به من جهلهم كل أغلال
فزاول أنواع العلوم تنقلاً ... بابين أوضاح لها غير أقفال
نضا همة في العلم مشحوذة الشبا ... جلت ما لحرب الجهل من ليل قسطال
وقد أكمل الطب المفيد قراءة ... على الطبري الحبر أحسن إكمال(34/7)
سياحته
ومذ جاوز الرازي الثلاثين واغتدى ... مدلاً على أقرانه أي إدلال
رأى في تمام العلم للمرء أنه ... يسيح بضري في البلاد وتجوال
ما العلم إلا بالسياحة إنها ... لمن علموا في علمهم درس أعمال
فقام وشد الرحل والغرز وامتطى ... لقطع الفيافي متن هوجاء شملال
فجاء بلاد الشام تواً وجازها ... إلى مصر في وخد حثيث وأرقال
وخاض عباب البحر للغرب قاصداً ... مواطن للإسلام لم يسلها السالي
ففيها اجتلاه العز مذ لاح طالعاً ... لها كهلال يجتلى عند إهلال
وحل حلول البدر في السعد نائلاً ... بقرطبة آماله ناعم البال
وهب هبوب الريح ثمة ذكره ... يطير على صيت من العلم جوال
وودعها من بعد ذلك راجعاً ... إلى مصر لا توديع مستكره قال
ومنها إلى بغداد سافر قاطعاً ... إليها الفلا ما بين حل وترحال
فألقى عصا التسيار في عرصاتها ... بمغرس عرفان ومنبت أفضال
وبغداد كانت وهي إذ ذاك جنة ... بها العلم أجرى منه أنهار سلسال
كأن رجال العلم في غرفاتها ... بلابل تشدو غدوة بين أدغال
فكم محفل للكتب فيه خزانة ... وكم مرصد دان وكم مرقب عال
ولما غدا الرازي ببغداد باسطاً ... من العلم أبواعاً له ذات أطوال
أقيم لمارستانها عن كفاءة ... رئيساً بتطبيبي وتدبير أحوال
فرتب مرضاه وأصلح شأنه ... بما كان لم يخطر لسابق أجيال
وظل به يسعى طبيباً ممرضاً ... ويبذل جهداً لم يكن فيه بالآل
ويلقي السريريات وهي مسائل ... لدى سُرر المرضى تقرر في الحال
قثد كان يلقيها على القوم ناطقاً ... بأوضح تبيان وأحسن إملال
مآثره العلمية
لقد أشغل الرازي ببغداد شغله ... عدا الطب فغي الكمياء أعظم أشغال
فقضى بها أيامه في تجارب ... وواصل أبكاراً لهن بآصال(34/8)
فلقب فيها بالمجرَّب حرمةً ... تفرد مخصوصاً بها بين أمثال
وأصبح مشهوراً بأسنى مآثرٍ ... من العلم لم يسبق إليها وأعمال
فإن أبا بكر لأول مفصح ... إلى الناس بالدرس السريري مقوال
وأول من أبدى لهم كيف يبتني ... ويفرش مارستانهم قصد إبلال
وألف في المستشفيات مؤلفاً ... تقصى به وصفها دون إغفال
ولا تنسى للرازي الكحول فإنه ... يجدد طول الدهر ذكراه في البال
ومن عمل الرازي انعقادٌ لسكر ... وما كان في محصوله غير سيال
أخلاقه
أرى العلم كالمرآة يصدأ وجهه ... وليس سوى حسن الخلائق من جال
أخو العلم لا يغلو على سوء خلقه ... وذو الجهل أن أخلاقه حسنت غال
ولو وازن العلم الجبال ولم يكن ... له حسن خلق لم يزن وزن مثقال
وإن المساوي وهي في خلق عالم ... لا قبح منها وهي في خلق جهال
ولكنما الرازي قد ازدان علمه ... بأحسن أخلاق وأشرف أفعال
خلائق غرّ إن أردت بيانها ... بدأت بحرف الحاء والميم والدال
فتى كان مملوء الجوانح رحمة ... بكل هزيل الجسم من سقم إقلال
يزور بيوت البائسين بنفسه ... ويفتقد المرضى بفحص وتسآل
ويأتيهم بالمال والعلم مسعداً ... لتطبيب أوجاع وتأمين أوجال
وما كان يقنو المال إلا لبذله ... لتعليم علم أو لإعطاء سؤال
وكان حليف الجد لم يأل جهده ... بدحض خصوم العلم من كل هزال
فكم راح مخذولاً به متطبب ... سعى كاذباً في طبه سعي إضلال
وكان سليماً غي العقيدة ينسبونه ... لزيغ فقد أغناك عنهن إجمالي
عوده إلى الري
ولما قضى الرازي ببغداد برهة ... مضى قافلاً للريّ شوقاً إلى الآل
فلما أتى تلك البلاد غدا بها ... طبيباً لدى المنصور صاحبها الوالي
وألف للمنصور إذ ذاك باسمه ... كتاباً حوى في الطب أحسن أقوال(34/9)
ولم تصف للرازي أواخر عمره ... وعاد أخا همّ شديد وبلبال
فقد عميت عيناه من بعد واغتدى ... يجول من الفقر بأسمال
وإن عداء الدهر شنشنة له ... يصول بها قهراً على كل مفضال
ولما انتهى نحو الثمانين عمره ... قضى نحبه من غير مال وأنسال
ولكنه في الناس خلف بعده ... من العلم آثاراً قليلة أمثال
فكم كتب أبقى بها الذكر في الورى ... وألفها نسجاً على خير منوال
وما ضرّ من أحيا له العلم بعده ... على الدهر ذكراً أنه ميت بال
وإني إن أطنبت في بحر علمه ... لمقتصرٌ منه على بعض أوشال
وها أنا أنهي القول لا لتمامه ... ولكن لعجزي عن نهوض بأجبال
وأجعل هذا الشعر مسكاً ختامه ... بما قال في بيتين معناهما حال
لعمري وما أدري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه ... من الهيكل المنحل والجسد البالي
بغداد
معروف الرصافي(34/10)
الحسبة في الإسلام
وأربعة مخطوطات فيها
وصفنا في الجزء السالف المخطوط الأول الذي عثرنا عليه في فن الحسبة وما نحن أولاء نصف المخطوط الثاني. قال في مقدمته:
نحمد الله الحسيب الرقيب على نواله إيماناً واحتساباً والصلاة على رسوله محمد الحبيب النسيب وآله ما لا يحصى كتاباً ولا حساباً أما بعد فقد جمع عبده الغريق في بحر فضله الطامي عمر بن محمد بن عوض الشامي ألهمه الله تقواه فيما يكتسب ويجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب في تصنيف هذا الكتاب وهو نصاب الاحتساب مسائل اختصت بالنسبة إلى منصب الحسبة من كتب معتبرة بين الفقهاء معول عليها عند العلماء بعدما تحمل في جمعه نصباً وكمل في قيده نصباً وصرف إلى تنقيحه وتصحيحه مدة وتكلف في ترتيبه وتهذيبه شدة شديدة ليكون للمبتلى آية يعرف بها فيما يحتاج إليه غاية وهو مرتب على أبواب الأول في تفسير اللفظين المتداولين في هذا الكتاب أحدهما الاحتساب والثاني الحسبة فالاحتساب لغة يطلق على معنيين أحدهما من العد والحساب ذكر في المغرب احتسب بالشيء اعتد به وجعله في الحساب ومنه احتسب عند الله خيراً إذا قدمه ومعناه اعتده فيما يدخر عند الله وعليه حديث أبي بكر الصديق رضي اله تعالى عنه إني أحتسب خطاي هذه أي أعتدها في سبيل الله وقول النبي عليه السلام من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه أي صام وهو يؤمن بالله ورسوله ويعتقد صومه عند الله والثاني الإنكار على الشيء ذكر في الصحاح احتسبت عليه كذا إذا أنكرته عليه قاله ابن دريد والحسبة معنيين أيضاً أحدهما بمعنى الحساب مصدر كالعقدة والركعة والثاني التدبر يقال فلان حسن الحسبة في الأمر أي حسن التدبير له وفي الشرع هما الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله في كتاب أحكام السلطان ووجه الاستعارة أما الاحتساب فلأنه إن كان من الاحتساب بالمعنى الأول وهو يتعدى بالباء فهو يحتسب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الله أجراً فكان من قبيل تخصيص العام وإن كان من قبيل الإنكار فهو من قبيل تسمية المسبب بالسبب لأن الإنكار على الغير سبب للأمر بإزالته وهو الاحتساب لأن المعروف إذا ترك فالآمر بإزالة تركه آمر بالمعروف والمنكر إذا فعل فالأمر بإزالته هو النهي عن المنكر.(34/11)
أما الحسبة فلأنه إن كان بمعنى الاحتساب فهو نظير الأول من الاحتساب وإن كان بالمعنى الثاني فهو كذلك وإن كان التدبير عاماً ولكنه أريد به تدبير خاص وهو تدبير إقامة الشرع فيما بين المسلمين وإنما سمي به لأنه أحسن وجوه التدبير فصار كتسمية القود به ثم الحسبة في الشريعة عام يتناول كل مشروع يفعل الله تعالى كالآذان والإقامة وأداء الشهادة إلى كثرة تعدادها ولهذا قيل القضاء باب من أبواب الحسبة وقيل القضاء جزء من أجزاء الاحتساب وفي العرف اختص بأمور أحدها إراقة الخمور كلها والثاني كسر المعازف والثالث إصلاح الشوارع وذلك باب كبير فيه مسائل إحداها أمر الميزاب والثانية أمر الأوحال والأرداغ والثالثة أمر الدكانجة على الباب والرابع منع جلوس الباعة عليها والخامسة منع سوق الحمير والبقر للخشابين والآجريين ونحوهم والسادسة منع ربط الناس دوابهم فيها والسابعة منع عمارة الحيطان في شيء من الشوارع والثامنة منع شغل هواء الشارع بالجناح ويسمى بون داشت والتاسعة منع المبرز في الجدار بحيث يكون إزالة النجاسة منه بالوقوف في الشارع والعاشرة منع الظلة والرابع في التقسيم الأول النظر بين الجيران في التصرفات المضرة كالنظر وسد الضوء إلا فيما يرجع إلى الملك كغصب قطعة من الأرض والخامس تقويم الموازين والسادس تفحص الصنجات والسابع تنقية دكان الطباخين والخبازين ونحوهم والثامن تفحص نظافة الفقاع ودكانه والتاسع منع إسبال الإزار ونحوه على الكعبين والعاشر زجر الناس عن الغناء والنوحة والحادي عشر منه الرجال من التشبه بالنساء ومنع النساء عن التشبه بالرجال والثاني عشر أمر التنبوليين بطهارة مائهم وثيابهم وتنقية نورتهم عن الحصاة والثالث عشر إحراق المعازف وكسرها يوم الأضحى في المصلى وغيرها والرابع عشر منه الناي عن تطيير الحمامات والخامس عشر منع البغايا وتعزيرهن ومنع أوليائهن ومواليهن وأزواجهن والسادس عشر أمر أهل الذمة بتطهير الأواني التي يبيعون فيها المائعات من الدهن واللبن والسابع عشر أمر الغسالين بإقامة السنة واجتناب البدعة في غسل الموتى وحفر القبور والحمل وزجرهم عن الغلاء في أخذ الأجرة ونصب الصلحاء وذوي الخبرة بهذه الأمور في هذه المصلحة والثامن عشر تفحص الجامع يوم الجمعة والمصلى يوم العيدين وإخلاؤهما عن البيع والشراء ومنع الفقراء عن التخطي ومنع القصص المفتراة ومنه النساء السائلات عن الدخول ومنع الصبيان(34/12)
والمجانين فيه والتاسع عشر دفع الحيوانات المؤذية عن العمرانات كالكلاب العقور والعشرون النهي عن النجس (والأمر بالتنظيف) والحادي والعشرون منع الناس عن الوقوف في مواضع التهم كتحدث الرجال مع النساء في الشوارع والثاني والعشرون منع النقاشين والصباغين والصواغين عن اتخاذ تماثيل ذات الروح وكبر الصور. والثالث والعشرون منع المسلمين عن الاكتسابات الفاجرة كاتخاذ الأصنام والمعازف والصنج وبيع النبيذ والبختج والرابع والعشرون منع الطباخين والخبازين في أول نهار رمضان عن بيع الطعام على مثال غير رمضان والخامس والعشرون منع الناس عن اتخاذ القبور الكاذبة وخروج الناس إلى زيارة بعض المتبركين أو بعض المساجد على مشابهة الخروج إلى الحج والسادس والعشرون منع النساء عن التبرج والتفرج بالخروج إلى النظارات وزيارة القبور والسابع والعشرون منع الناس عن التصرفات في المقابر بلا ملك والثامن والعشرون منع المطلسمة والسحار والكهان عن منكراتهم والتاسع والعشرون نهي أصحاب الحمام عن منكراتهم وأمرهم بتطهير المياه وإخلاء الحمام عن المرد ودخول العراة فيه ونهي الحجام عن حلق العانة واللحية وأمرهم باتخاذ الحجاب بين الرجال والنسار الثلاثون منع أهل الذمة عن الركوب بهيئة المسلمين ولباس الصالحين واتخاذهم معابدهم في بلاد المسلمين الحادي والثلاثون منع المسلمين عن الدخول في معابدهم للتبرك والتماس الحوائج من نساكهم والثاني والثلاثون منه الناس عن الترسم برسوم الكفار في ولادتهم ومرضهم وصحتهم وصحة صبيانهم وعماراتهم وزراعاتهم وركوبهم في البحر والثالث والثلاثون منه الناس عن تعلم علم النجوم مما لا يحتاج إليه في الدين وتصديق الناس للكهنة والمنجمين والرابع والثلاثون منع الناس عن بدعة ليلة البراءة. والخامس والثلاثون منع أهل الذمة عن إظهار شعائرهم في مواسمهم في بلاد المسلمين والسادس والثلاثون منه الناس اللعابين بالنرد والشطرنج وتفريق جمعهم وأخذ بساطهم وتماثيلهم السابع والثلاثون منع القوابل عن إسقاط جنين الحوامل والثامن والثلاثون منع الجراحين عن الجب والخصاء في الناس والتاسع والثلاثون منع الحجامين عن مس الأجنبيات إلا لضرورة لا بد منها وعن حجامة الحبالى في أوان مضرتها بالحجامة والأربعون منع الناس من الإقامة في المساجد ووضع الأمتعة فيها والحادي والأربعون منع الذي مسه الشيطان باللمم عن التكلم بالغيب واجتماع(34/13)
الناس عنده زاعمين أنه صادق في أخباره بالغيب وهو كفر واستحل له والمصدق به مرتد والثاني والأربعون منع الخطاط ومعلم القرآن ومعلم النحو بأجر عن الجلوس في المساجد الثالث والأربعون منع المعلم ونحوه عن أخذ شيء باسم النيروز والمهرجان والرابع والأربعون تعزير الآبق وإن كان من باب الاحتساب لإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
هذه أبواب الكتاب الثاني وهي كما تراها مخالفة للأول من وجوه وموافقة له من أكثر الوجوه. أما الكتاب الثالث فهو: نهاية الرتبة في طلب الحسبة تأليف الشيخ عبد الرحمن ابن نصر بن عبد الله بن محمد الشيزري الشافعي قال في أوله بعد البسملة والحمد له والصلاة: وبعد فقد سألني من استند لمنصب الحسبة وقلد النظر في مصالح الرعية وكشف أحوال السوقة وأمور المتعيشين أن أجمع له مختصراً كافياً في سلوك نهج الحسبة على الوجه المشروع ليكون عماداً للسياسة وقواماً للرياسة فأجبته إلى ملتمسه ذاهباً إلى الوجازة لا إلى الإطالة وضمنته طرفاً من الأخبار وطرزته بحكايات وآثار راجياً بذلك ثواب المنعم يوم الحساب واقتصرت فيه على ذكر الحرف المشهورة دون غيرها لمسيس الحاجة إليها وجعلته أربعين باباً يجري المحتسب على مثالها وينسج على منوالها وهي نهاية الرتبة في طلب الحسبة.
وقد جعل في الأول الكلام فيما يجب على المحتسب من شروط الحسبة ولزوم مستحباتها والثاني النظر في الأسواق والطرقات والثالث معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم قال فيه: لما كانت هذه أصول المعاملات وبها اعتبار المبايعات لزم المحتسب معرفتها وتحقيق كميتها لنفع المعاملة بها من غير غبن على الوجه الشرعي وقد اصطلح أهل كل إقليم وبلد في المعاملة على أرطال تتفاضل في الزيادة والنقصان سيما أهل الشام خاصة وسأذكر من ذلك ما لا يسع المحتسب جهله ليعلم تفاوت الأسعار أما القناطير القنطار الذي ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم فقد قال معاذ بن جبل هو ألف ومائتا أوقية وقال أبو سعيد الخدري ذهباً وأما القنطار المتعارف عليه فهو مائة رطل والرطل ستمائة وأربعة وثلاثون درهماً وهو اثنا عشر أوقية والأوقية سبعة وخمسون درهماً هذا رطل شيراز (شيزر) الذي رسمه فيها بنو منقذ وأما رطل حلب فهو سبعمائة وأربعة وعشرون درهماً وأوقيتها ستون درهماً ورطل دمشق ستمائة درهم وأوقيتها خمسون درهماً ورطل حمص(34/14)
سبعمائة درهم وأربعة وتسعون درهماً وأوقيتها سبعة وستون درهماً وحبة وثلثا حبة ورطل حماه ستمائة وستون درهماً والرطل البغدادي نصف المن والله اعلم.
فصل وأما المثقال فهو درهم ودانقان ونصف وهو أربعة وعشرون قيراطاً وهو خمسة وثمانون حبة والدرهم الشامي ستون حبة وقد اختلف صنج الشام أيضاً فالمثقال بمحروسة شيزر يزيد على مثقال حلب نصف قيراط ومثقال حماه مثل الشيرزي ومثقال دمشق يزيد على الشيزري ومثقال المعرة مثقال الدمشقي.
فصل وقفران المكيلات ومكاكيكها مختلفة أيضاً فالقفيز بمحروسة شيزر ستة عشر كيلاً وهو مكيال متعارف فيها يسمع رطلاً ونصفاً بالشيزري والقفيز الحموي ينقص عن الشيزري شنبلان والقفيز الحمصي مثل الحموي والمكوك الحلبي يزيد عن القفيز الشيزري ثلاثة شنابل والمعري مثله وهو أربع مرازب من كل مرزبان أربعة أكيال بالحلبي والغرارة ثلاثة مكاكي بالحلبي وجميع ما ذكرته غير مستقر في جميع الأزمان وإنما اصطلح كل قوم على شيء في زمن كل سلطان ثم يغير ذلك بتغير السلطان.
وتكلم في الباب الرابع على معرفة الموازين والمكاييل وعيار الأرطال والمثاقيل وفي الخامس على الحسبة على الحتويين والدقاقين والسادس في الحسبة على الخبازين ثم الفرانين فصناع الزلابية فالجزارين والقصابين فالشوايين فالرواسين فقلايي السمك وفالطباخين فالهرايسيين وفالنقانقيين فالحلوانيين فالصيادلة فالعطارين فالشرابيين فالسمانين فالرزازين فالدلالين والمنادي فالحاكة فالخياطين فالقطانين فالكتانيين فالحريريين فالصباغين فالأساكفة فالصيارف فالصاغة فالحدادين فالبياطرة فنخاسي العبيد والدواب فالحسبة على الحمامات وقوامها وذكر منافعها ومضارها ثم الحسبة علا الفصادين والحجامين والأطباء والكحالين والمجبرين والجرايحيين ومؤدبي الأطفال والحسبة على أهل الذمة.
وفي الباب الأربعين جمل وتفاصيل من الحسبة ذكر فيها ميالزم المحتسب فعه من أمور الحسبة في مصالح الرعية غير ما ذكره فمن ذلك السوط والدرة والطرطور أما السوط فيتخذه سوطاً لا بالغليظ الشديد ولا بالرقيق اللين بل يكون سوطاً بين سوطين حتى لا يؤلم الجسم ولا يخشى منه غائلة وأما الدرة فتكون من جلد البقر والجمل محشوة بنوى التمر وأما الطرطور فيكون من اللبد منقوشاً بالخرق الملونة مكللاً بالخرز والودع والأجراس(34/15)
وأذناب الثعالب والسنانير وتكون هذه الآلة كلها معلقة على دلبة ليشاهدها الناس فترعد منها قلوب المفسدين وينزجر بها أهل التدليس.
وعدد أوراق هذا الكتاب 33 صفحة وهو بخط مقروء لم تكتب سنة كتابته ولا تاريخ تأليفه والصحة تغلب عليه بالجملة.
أما الكتاب الرابع فهو المعروف باسم نهاية الرتبة في طلب الحسبة أيضاً تأليف محمد بن أحمد بن بسام المحتسب قال في مقدمته بعد البسلمة والحمد له والصلاة: قال الله تعالى الذين أن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور فأمر بذلك مع القدرة عليه والتمكن منه ومن الأمر بالمعروف أيضاً نصفح أحوال السوقة في معاملاتهم واعتبار موازينهم وغشهم ومراعاة ما تجري عليه أمورهم وقال تبارك وتعالى ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وقال عز من قائل حكاية عن بيه شعيب عليه السلام ويا قوم أوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين وقد رأيت المؤلفين من المتقدمين سبقوا إلى ذكر كثير مما يحتاج إليه وينتفع به ولم أجد أحداً منهم ذكر ما ينبغي ذكره من الغبن والفحش والخيانة بين الناس في المعاملات والمبايعات.
وقد قسم كتابه إلى مئة وأربعة عشر باباً: (1) فيما يجب على المحتسب من أمور الحسبة، (2) في النظر في الأسواق والطرقات (3) في الخبازين والخبز (4) في السقايين والماء (5) في الشسوقية وغشهم (6) في جزاري الضأن والمعز وغيرهم (7) في الشوائين وتدليسهم (8) في الهرايسيين وغشهم (9) في الزلبانيين وغشهم (10) الرواسين وغشهم (11) الطباخين وغشهم (12) الحلوانيين وغشهم (13) هرايسي التمر وغشهم (14) الباقلانيين وغشهم (15) السماكين وحماليه (16) الملح والصبر والبوري (17) قلائي السمك (18) الطيور وصياديها (19) الطحانين وغشهم (20) الفرانين (21) الحطابين (22) القصابين (23) الجبانين (24) الجبارين (25) الحمامات (26) الغزالين (27) الكتانيين (28) الحريريين (29) القطانين (30) القلانسيين (31) الخياطين (32) سماسرة البز (33) البزازين (34) الغسالين (35) القصارين (36) المرزين (37) الرفائين (38) الصيادلة والعقاقير (39) الأشربة والمعاجين (40) العطر والعطارين (41) الصيارف(34/16)
(42) الصباغ والصباغين (43) الأطباء والفصادين (44) الكحالين والكحل (45) المجبرين (46) الجرايحيين (47) البياطرة (48) صباغي الحرير والغزل (49) الخزازين وصناع الشراك (50) الأساكفة وصناع الخفاف (51) عمل الإسقاط وغيره (52) عمل البطط (53) الحناطين والعلافين (54) صنعة السرابات (55) الزتهار وغشه (56) الأبزار والإبزاريين (57) السماسم وبايعيه (58) الخشب وباعته (59) الزفاتين (60) الحدادين (61) السامريين وغيرهم (62) النحاسين وسباكي النحاس (63) النجارين والبنائين والفعلة والنشارين (64) نجاري الضبب (65) نجاري المراكب (66) النخاسة باعة العبيد (67) النخاسين باعة الدواب (68) الطوابين وغشهم (69) الدلالين ودلالي العقارات (70) تقديرات المراكب (71) باعة الفخار (72) سقائي البرام (73) الزجاجين وغشهم (74) معلمي الصبيان من الفقهاء ومعلمات البنات (75) الدهانين وغشهم (76) المكارية وغشهم (77) النحاتين والمصولين في التراب (78) كساحي السماد وحمالته (79) الغرابيل ومناخل الشعر (80) حافري القبور (81) الوراقين والمبهرجين (82) فيمن يكتب الرسائل على الطرق والرقاع والدروج (83) كتاب الشروط (84) الوكلاء بأبواب القضاة وتدليسهم (85) الميازين ومضرتها (86) إصلاح الجوامع والمساجد (87) قراءة القرآن قدام الموتى (88) غسالي الموتى (89) المراصد والمراقب (90) طباخي الولائم (91) معرفة الموازين (92) معرفة المكاييل (93) معرفة مثاقيل الذهب (94) معرفة الأرطال والقناطير (95) معرفة الأقساط (96) معاصر الزيت وغشها (97) التبن والتبانين (98) القرط والقراطين (99) الأنماط (100) صناع الأخمرة (101) الحصر العبداني (102) اللبود واللبادين (103) الأرجوان وصباغه (104) العصارة (105) الأبارين (106) الحلفاء (107) المحامل وصناعها (108) الروايا والقرب (109) الدباغين (110) في أهل الذمة (111) التعزير (112) مجالس الحكام (113 مجالس الولاة والأمر لهم بالمعروف والنهي عنالمنكر.
هذا فهرست كتاب الحسبة وأنت ترى فيه كما رأيت في الكتاب الأول بعض أسماء صناعات لا عهد لنا بها اليوم مثل عمل البطط ونجاري الضبب وغيرهما وهناك عشرات من الفصح والمفردات التي نكاد لا نجد له مرادفاً في العربية اليوم إذا عربنا أو كتبنا في(34/17)
مثل هذه الموضوعات كضروب الآنية والماعون.
قال في الفصل الرابع من السقايين وغشهم: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ويعرفه أنه لما كانت الأمواج تجيب الأوساخ والأقذار إلى الشطوط وجب أن تكون يدخل السقاؤن في الماء إلى أن يبعدوا عن الأوساخ وأن لا يستقوا من مكان يكون قريباً من سقاية ولا مستحم ولا مجراة حمام ومن اتخذ منهم راوية جديدة فلينقل بها الماء إلى الطين أياً فإن ماءها يكون متغير الطعم والرائحة من أثر الدباغ فإذا زال التغير أذن له المحتسب في بيع مائها وينبغي أن يكون في أوساطهم التبابين ليستروا عوراتهم وسقاة الماء بالكيزان أصحاب القرب يؤمرون بنظافة أزيارهم وصيانتها بالأغطية وتغطية قربهم التي يسقون منها في الأسواق بالميازر ويمنعهم أن يسقوا بكيزانهم المجذم والأبرص وأصحاب العاهات والأمراض الظاهرة وجلاء الكيزان النحاس كل ليلة وتطيب شبابيكها بشمع المسك واللادن الطيب العنبري وافتقاد الخوابي بالبخور والغسل كل ثلاثة أيام.
وقال في جزاري الضأن والمعز والإبل والقصابين وغشهم: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ثقة من أهل معيشتهم ثم بعد ذلك يستحب أن يكون الجزار مسلماً بالغاً عاقلاً يذكر اسم الله على كل ذبيحة وأن يستقبل القبلة وأن ينحر الإبل معقوله من قيام والبقر والغنم مضجعة على الجانب الأيسر لأن ذلك وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأمرهم أيضاً أن لا يجر الشاة برجلها جراً عنيفاً وأن لا يذبحوا بسكين كالة فإن في ذلك تعذيباً للحيوان وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان ويلزمه في الذبح أن يقطع الودجين والمري والحلقوم ولا يشرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرأ الشاة وتخرج منها الروح لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر منادياً ينادي في المدينة أن لا تسلخ شاة مذبوحة حتى تبرد وتجوز الزكاة بكل شيء إلا الألسن والظفر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزكاة بهما ويمنعهم أيضاً أن لا يذبحوا جملاً يكون مقرح الجسم إلى أن يبرأ جميع ما فيه من القروح وقد كان أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله في سجل مجلد في ديوان الإنشاء بأن لا يذبح من البقر إلا المخلوع الورك والأعور والأعمى والمقلوع السن والمريش العين والمجفون والجرب وكل مشقوق الحافر والمقطوع والمكوي كل شيء كانت عيونه ظاهرة والصحيح الرقاد والمعلوفة إذا كان بها شيء من هذه العيوب المذكورة(34/18)
فينهاهم المحتسب عن ذلك جميعه وينهاهم أن لا ينفخوا شاة بعد السلخ فإن نكهة ابن آدم تغير اللحم وتزفره ومنهم من يشق اللحم من السفاقين وينفخ فيه الماء ولهم أماكن يعرفونها في اللحم ينفخون فيها الماء فيجب مراعاتهم في ذلك ومنهم من يشهر في الأسواق البقر السمان ثم يذبح غيرها وهذا تدليس وأما القصابون فيمنعهم من إخراج توالي اللحم على حد مصاطبه والركبتين فلا يلاصقوا ثياب الناس فيضرون بها ويأمرهم أن يفردوا لحوم المعز من لحوم الضأن وأن لا يخلطوا بعضها ببعض وينقطوا لحوم المعز بالزعفران ليتميز عن غيره وتكون أذناب المعز معلقة على لحومها إلى آخر البيع ولحم المعز يعرف برقة لحمه وعظمه وبياض شحمه ويأمرهم أن لا يلصقوا على شيء من سائر اللحوم شيئاً من القزدير فإن الحكماء قد ذكروا بأنه يسمه ولا يخلطوا اللحم السمين بالهزيل بل يباع كل واحد منهما على حدته ويمنعهم أيضاً أن لا يخلطوا شحم المعز بشحم الضأن وعلامة شحم المعز صفو لونه وبياضه وشحم الضأن تعلوه الصفرة وكذلك بطون المعز لا تختلط ببطون الضأن وكذلك الأليات تباع مفردة لا يخالطها جلد ولا لحم وإذا فرغ من البيع وأراد الانصراف أخذ ملحاً مسحوقاً ونثره على القرمة لئلا تلحسها الطلاب أو يدب عليها شيء من الهوام فإذا لم يجد ملحاً وإلا الأشنان والمصلحة أن لا يشارك بعضهم بعضاً لئلا يتفقوا على واحد ويمنعهم أيضاً من بيع اللحم بالحيوان وهو أن يشتري الشاة بأرطال لحم معلومة ويدفع إليه كل يوم ما يتفقان عليه من اللحم فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وقال في عمل البطط: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً يمنعهم أن يعملوا من جلود الجمال الميتة ويحلفون بما لا كفارة لهم منه أنهم لا يعملونها من الميتة ويفتش دكاكينهم كل وقت وبيان ذلك عليهم أنهم إذا عملوها من الميتة كان لونها مائلاً إلى السواد ويعتبر عليهم بالرائحة وخشونة اللمس وأيضاً أنه لا بد أن يبقى عليه اليسير من الشعر لأن الصانع لا يقدر على إنقاء الشعر من الميتة وما عمل من جلود الميتة يمكن عند جفافه والصواب أن يمنعوا من عمل المصاصات لأن كل من يمص بها لا بد ينزل شيء من بصاقه في أطعمة الناس من الزيوت والعسل وغيرهما وذلك ضرر ووسخ ولاسيما إن كان الفاعل أبخر فالصواب أن يمنعوا من ذلك.
وقال في الزتهار وغشه: ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً عارفاً بغش صناعاتهم فقد يغش(34/19)
بالسبك بتربة تعرف بالشمعة تكون إلى الحمرة مائلة بدقيق الرمل حتى ينقل وقد يغش العصفر بالتراب الأحمر وهو يزيده المثل أو قريباً منه فينبغي أن يحلف من يبيعه بما لا لهم منه كفارة أنهم لا يخلطون فيه شيئاً مما ذكرنا ولا يخلطوا دقيق الفول وأيضاً قد ندق قشور الرمان ويغش به الكركم المطحون ويغش أيضاً بالتربة المصرية وقد يغش بالحناء وبالرمل.
وقال في نجاري الضبب ينبغي أن يعرف عليهم عريفاً ثقة عارفاً بمعيشتهم بصيراً بهذه الصناعة وينشر جواسيسها وهو باب جليل يحتاج إلى ضبطه لأن فيه حفظ أموال الناس وصيانة حريمهم فينبغي أن يراعي حفظ أموال الناس ويحلفوا بحضرة عريفهم بما لا كفارة لهم منه أن لا يعملوا لرجل ولا امرأة مفتاحاً إلا أن يكونا شريكين مشهورين ويؤمرون أن لا يثقبوا رأس الأبيات لطرح الأسنان التي فيها سريعة الرؤوس مدورة الأسافل مبرودة مجلسة وكذلك أسنان المفتاح مبرودة مجلسة حتى لا يخرب ذكر الغلق لا من فوقه ولا من تحته ويؤمروا أن يغمسوا الأغلاق بالجواسيس المختلفة حتى لا يعمل مفتاح على مفتاح ومن خالف ذلك أدب.
هذا ما ساعد عليه المقام من البحث في هذه المخطوطات النادرة وفيها فوائد كثيرة غير التي ذكرناها فعسى أن يتصدى بعض من يهمهم إحياء آثار السلف إلى تمثيلها كلها بالطبع لتستفيد بها اللغة والتاريخ والمدنية والاجتماع والغيض لا يغني عن الفيض والجملة لا تنفع مع التفصيل والله أعلم.(34/20)
الرومان
فتح حوض البحر المتوسط
صبغة السياسة الرومانية: لم يخطر للرومان أن يفتحوا العالم أولاً حتى أنهم تمهلوا بعد أن بسطوا حكمهم على إيطاليا وقرطاجنة مدة مئة سنة قبل أن يخضعوا الشرق إلى سلطانهم والظاهر أنهم فتحوا فتوحاتهم دون أن يختطوا لها خطة من قبل لأن مصلحتهم كلهم كانت بأن يفتحوا الفتوح ويدوخوا الممالك.
فكان يرى الحكام وهم قواد الجيوش من الفتوحات فرصة لنيل علائم التشريف بالظفر الذي يكتب لهم ويكونون على ثقة من الاشتهار بين أمتهم والتأثير فيها. وكان أعظم رجال الحكومة في رومية مثل بابيرويوس وفابيوس وسيبيون الأول والثاني وكانوا من القواد الذين فتحوا الفتوح وكتب الظفر لأعلامهم ويربح الأشراف الذين يتألف منهم مجلس الشيوخ إذا كثر سواد رعايا رومية فيذهبون كما يذهب الحكام لقبول احتراماتهم وهداياهم. وأما الفرسان أي الصيارف والتجار وأرباب المشاريع فإن كل فتح حديث كان لهم بمثابة مشروع جديد يستثمرونه.
والأمة نفسها تنتفع من الغنائم التي تؤخذ من العدو وقد رفعت الضرائب بصورة دائمية بعد أن دخلت خزانة الدولة الرومانية كنور ملك مكدونية. أما الجنود فكانوا يقبضون رواتب عالية من قوادهم وقد أخذوا يحاربون البلاد الغنية دع عنك ما كانوا يمدون إليه أيديهم من مال المغلوبين. وعلى هذا فقد فتح الرومان العالم للفوائد المادية أكثر من المجد.
قرطاجنة: لما امتد سلطان روية إلى جزيرة صقلية حملت على قرطاجنة وعندئذ بدأت الحروب الفينيفية فحدثت ثلاثة حروب فكانت الحرب الأولى من سنة 264 ـ 241 حرباً بحرية ولا نعرف عنها شيئاً إلا ما روته الأساطير بعد زمن من حدوثها. فذكروا أن الرومانيين لم يملكوا سفناً حربية قط وأنهم جعلوا سفنهم على مثال سفينة قرطاجنة وقامت بالعرض على الشاطئ فأخذوا يمرنون فجذفيهم على استعمال المجاذيف في اليابسة هذه القصة لا أساس لها لأن بحرية رومية قديمة أما الرومان فقد نقلوا أخبار هذه الحرب كما يلي: غلب القنصل دوبليوس الأسطول القرطاجني في ميلي (260) وكان نزل إلى أفريقيا من البحر جيش روماني على عهد الحاكم رجولوس فغلب وتمزق شذر مذر (255) وأشر(34/21)
رجولوس وأرسل إلى رومية ليعقد الصلح وقرر مجلس الشيوخ إباء الصلح فرجع هذا إلى قرطاجنة حيث قضى نحبه في العذاب ثم حمي وطيس الحرب في صقلية فكتبت الغلبة للأسطول القرطاجني أولاً (249) ثم دمر بالقرب من جزائر إيغات (241) وبعد ذلك حوصر هامليكار في جبل أركيس فوقع على الصلح ودخلت صقلية في حوزة رومية.
ونشبت الحرب الثانية من سنة (218 ـ 201) وكان قائدها هنيبال من نسل الأسرة القرطاجنية صاحبة الحول والسطوة في بادكاس وكان قاد أبوه هاميلكار إلى صقلية جيشاً قرطاجنياً في الحرب الفينيقية الأولى ثم عهد إليه أن يفتح أسبانيا وكان هانيبال إذ ذاك طفلاً فصحبه أبوه. وكانت العادة أن تقدم الضحايا للأرباب عندما يغادر الجيش البلاد ويقال أن هاكليكار بعد تقديم الضحايا حلف ابنه أن يكون أبداً عدواً أزرق للرومان.
ربي هانيبال وسط الجند فأصبح أحسن قائد وأمهر راجل في حرب. ولم يكن يعرف من الحياة إلا أنه محارب وكانت عنايته منصرفة إلى تعهد حصانه وأسلحته واشتهر أمره كثيراً حتى إذا هلك القائد اسدروبال الذي كان يقود الجيش الإسباني انتخبوه قائداً عليهم دون أن ينتظروا أوامر مجلس الأعيان القرطاجني في ذلك، وهكذا أصبح هانيبال في الحادية والعشرين من عمره قائد جيش لا يطاع أحد سواه فدخل غمار الحروب على الرقم من مجلس الشيوخ في قرطاجنة وراح يحاصر ساغونت حليفة رومية فاستولى عليها وخربها.
ومما كتب به المجد لهانيبال أنه عوضاً عن أن ينتظر الرومانيين جرأ على أن يقتحمهم في عقر دارهم في بلاد إيطاليا ولم يكن له أسطول يحمله وجيشه إليهم فعزم على اجتياز البلاد إليهم فقطع جبال البيرنيه ونهر الرون وجبال الألب وضمن لنفسه محالفة الشعوب الغالية وقطع جبال البيرنيه دون أن يلقى فيها مقاومة في جيش مؤلف من ستين ألف مقاتل من الجنود المستأجرة من الفريقيين والأسبانيين ومعه سبعة وثلاثون فيلاً مدربة على الحرب وقد طمع بع الشعب الغالي أن يحولوا بينه وبين المسير في نهر الرون فأرسل فرقة من جيشه تقطع النهر على مسافة بضعة أميال من أعلاه وتهاجم الغاليين من ورائهم على حين يجتاز معظم جيشه النهر على زوارق وتجر الفيلة على أرماث كبيرة. ثم صعد وادي أيزر وانتهى إلى جبال الألب في أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر) فقطعها على ما كانت مغشاة به من الثلوج وعلى الرغم من غارة السكان الجلبليين عليه فوقع الكثير من الرجال(34/22)
والخيول في الهاويات. وقضى تسعة أيام لبلوغ قمة جبل الألب وصعب عليه النزول لأن المضيق الذي كان يجب عليهم السير فيه غطته الثلوج فاقتضى لجيشه أن يتخذ له طريقاً يحفره في الصخر ولم يصل إلى السهل إلا وقد أصبح جيشه نصف ما كان. ثم لقي هانيبال ثلاثة جيوش رومانية في مسافة متدانية على شاطئ نهر تيسين وضفة نهر ترييا بالقرب من بحيرة ترازيمين في أوترويا فهزمها كلها وكان كلما تقدم إلى الأمام يزداد جيشه وينضم المحاربون من الغاليين (إيطاليا الشمالية) تحت لوائه ليخدموه وينصروه على الرومانيين.
فاجتاز هانيبال إيطاليا واتخذ لنزوله إقليم أيوليا في الجهة الثانية لرومية فهاجمه فيها الجيش الروماني. وكان جيشه نصف جيش ولكن كان معه فرسانه الغريقيون يركبون خيولاً سريعة وقد رابط في سهل (كان) بحيث جعل الرومانيين يقابلون بوجوههم الشمس والتراب الذي تثيره الريح فأحاط الفرسان بالجيش الروماني إحاطة السوار بالمعصم وذبحوه عن آخره (216) وكان يظن أن هانيبال سيزحف على رومية إلا أنه لم يكن على تعبية تامة. وهكذا ظل هانيبال في إيطاليا الجنوبية تسع سنين يحاول أن يفصل عن رومية الشعوب المحالفة لها ولم ينجح إلا بالاستيلاء على بضع مدن حاصرها الرومان وخربوها.
وبعد ذلك سافر أخور أسدروبال في جيش أسبانيا للالتحاق به فوصل إلى أوساط بلاد إيطاليا فسار الجيشان القرطاجنيان أحدهما على الآخر يقابل كلاً منهما جيش روماني بقيادة أحد حكام الرومان وكان نيرون محاذياً لهانيبال فجرأ على قطع إيطاليا الوسطى لينضم إلى رصيفه مقابل أسدروبال. ولقد سمع أسدروبال في صبيحة ذات يوم الأبواق تبوق مرتين في المعسكر الروماني وكان في ذلك إشارة إلى أنه كان في المعسكر قنصلان أو حاكمان فوقع في نفسه أن أخاه غلب وانهزم وأن الرومان يطاردونه وأنه قتل وذبح جيشه عن بكرة أبيه ثم رجع نيرون إلى الجيش الذي غادره أمام هانيبال وألقى في معسكر قرطاجنة رأس أسدروبال (207) فلم يبق لهانيبال غير قوته يعتصم بها وأقام خمس سنين في إقليم كالابرا وما أكره على الخروج من إيطاليا إلا لما علم أن جيشاً رومانياً كان نزل إلى أفريقية وأخذ يهدد قرطاجنة فذبح هانيبال الجند الإيطالي الذي أبى الالتحاق به وركب البحر إلى أفريقية (203) وانتهت الحرب بواقعة زاما (203) وكان هانيبال اعتمد بحسب عادته أن يسوق الجيش الروماني إلى الدخول في صفوفه ولكن القائد الروماني سبيون ثبت مع جيشه وما(34/23)
طكانت إلا هجمة وأختها حتى ركب هذا أكتاف عدوه وهزم جيشه شر هزيمة.
فاضطرت قرطاجنة إلى عقد الصلح وتنازلت عن كل ما تملكه خارج أفريقية وتركت أسبانيا للرومانيين. واضطرت زيادة على ذلك إلى تسليم سفنها وفيلتها وأن تدفع مبلغاً من المال يربو عن خمسين مليوناً من الفرنكات وتعهدت بأن لا تعلن حرباً قبل الاستئذان من رومية وكانت عاقبة الحرب الثالثة من سنة 149 إلى 146 القضاء على قرطاجنة فطال حصار الرومان كثيراً لها حتى أخذوها عنوة وجعلوا عاليها سافلها وفتحوا إقليمها وأعمالها وجعلوها ولاية أفريقية خاضعة لسلطانهم.
مكدونية والشرق: كان ملوك اليونان أخلاف قواد الاسكندر اقتسموا الشرق وحارب أعظهم سطوة مملكة رومية وغلبوا مثل ملك مكدونية فيليب سنة 197 وابنه برسي سنة 168 وملك سورية أنطيوشوس سنة 190 وهكذا خلا الجو للرومانيين فأخذوا يفتحون البلاد التي يرونها تناسبهم واحدة بعد أخرى فافتتحوا مكدونية سنة 148 ومملكة فرغانة 129 وبقية آسيا من سنة 74 إلى 64 بعد هزيمة ميترايداتس ومصر 30 وما عدا مكدونية لم يندب الشرق لقتالهم غير جنود مستأجرة أو برابرة غير منظمين يتفرقون أيدي سيا لأول صدمة يلقونها. ولم يقتل في الغلبة العظمى على أنطيوشوس في مانيزيا سوى 350 جندياً رومانياً وافتخر سيللا بأنه لم يفقد من جيشه في شيرونيا سوى اثني عشر جندياً.
ودخل الرعب قلوب سائر الملوك فخضعوا لسلطان مجلس الشيوخ من دون مقاومة فإن أنطيوشوس العظيم ملك سورية بعد أن فتح جزء من ديار مصر جاءه بوبيليوس مندوباً من قبل مجلس الشيوخ يأمره بالجلاء عما بسط يده عليه من البلاد فتردد أنطيوشوس وكان بيد بوبيليوس مجنة فاختط بها في الأرض خطوطاً حول ملك سوريا وقال له أجب مجلس الشيوخ قبل أن تخرج من هذه الدائرة التي رسمها لك. فلم يسمع أنطيوشوس إلا الخضوع وألقى حبل مصر على غاربها وجاء بروزياس ملك بيتنيا وقد حلق رأسه ولبس ثياب العبد المطلق وركع أمام مجلس الشيوخ الروماني. وحاول ميترايدتس ملك بون أن يقاوم وحده فطرد من بلاده بعد حرب خمس وعشرين سنة (63 ـ 89) واضطر إلى أن يتناول السم ويقول بيدي لا بيد عمرو.
إسبانيا وغاليا الجنوبية: لم يستطع الرومان أن يتغلبوا على الشعوب البربرية والمحاربين(34/24)
في الغرب بأدني سبب كما تغلبوا على غيرهم فقضوا قرناً لإخضاع إسبانيا لسلطانهم. وقد ناوشهم الحرب في جبال البرتقال رجل من الرعاة اسمه فيرياث (149 ـ 139) وهزم خمسة جيوش وأكره أحد قناصل الرومان على عقد الصلح معه ولم يتخلص مجلس الشيوخ من شره إلا بقتله. وأهلك الأريفاكيون وهم شعب صغير في الشمال الشرقي عدة جيوش رومانية واقتضى لرومية أن ترسل أحد قوادها سبيون للاستيلاء على عاصمة تلك البلاد وهي المدينة الصغرى المسماة نومانس. وكانت الشعوب الصغيرة الخاملة في صيتها المعتصمة في جبال جين كثيراً ما تناوش الرومانيين القتال. وكان الغاليون أشد الأعداء على رومية وهم منتشرون في جميع سهل بو ويزحفون على إيطاليا الجنوبية وقد استولت إحدى عصاباتهم على رومية سنة 390 فكان جندهم يدخل الذعر في قلوب الجند الروماني بأجسامهم الضخمة البيضاء وسبلاتهم الطويلة الشقراء وعيونهم الزرقاء وأصواتهم التي تعج فيبلغ صداها عنان السماء. والخوف يستولي على رومية عندما يبلغها مجيء العسكر الغالي فيصدر مجلس الشيوخ أمره بجمع عامة الجند.
وكانت هذه الحروب شديدة جداً ولكنها تضع أوزارها في الحال ففي الحرب الأولى استولى الرومان على إقليم غاليا المعروف بسيزالبين أي إيطاليا الشمالية ونشبت الحرب الثانية (120) للدفاع عن مارسيليا حليفة رومية فدمر الجيش الغالي وأخضعت رومية بلاد الرون وشاطيء البحر الرومي (إقليم لانكدوك وبروفانس ودوفينه)
عواقب الفتوح
سريان الإصطلاحات اليونانية: إن الفتوح هي التي دعت الرومان إلى رؤية الروم والمشارقة عن أمم فاستوطن رومية ألوف من اليونان جاؤوها أسرى أو للإتجار وتعاطى بعضهم الطب وآخرون التعليم وغيرهم العرافة وغيرهم التمثيل. وكان القواد والضباط والجنود الرومانيون يعيشون في آسيا وسط الشعوب التي تتكلم اليونانية فتخلقوا بأخلاق اليونان وهكذا عرف الرومان عادات حديثة ومعتقدات جديدة لم يكن لهم عهد بها وأخذوا يعملون بها على التدريج وقد بدأ هذا التبدل بعد الحرب المكدونية الأولى (200) ودام إلى أواخر المملكة الرومانية.
القائدان كاتون وسيبون: بينا كانت الأخلاق تتغير اشتهر أحد رجالهم كاتون باحتفاظه(34/25)
بعادات أسلافه. ولد هذا الرجل سنة 252 في بلدة توسكولوم وقضى شبيبته في الحرث والكرث وفي السابعة عشرة من سنه دخل في الجيش بحسب العادة المتبعة واشترك في عامة الحملات على هانيبال. ولم يكن من الأشراف ولكنه اشتهر بقوته واستقامته وزهده وقد انتخب مرات وزيراً للمالية وناظراً للأبنية والملاعب وقاضياً وقنصلاً ووكيلاً للإحساء وشغل مناصب الشرف عامة وكان في جميع حالاته على قدم قدماء الرومان قاسياً جافاً محتشماً وقد وبخ قنصله عندما كان وزيراً للمالية وكان القنصل سبيون غالب هانيبال فأجابه لست في حاجة إلى ناظر مدقق مثلك إلى هذا الحد. ولما عين ناظراً للأبنية والملاعب في ساردينيا أبى أن يمس المال الذي دفعته إليه تلك الولاية للنفقة. ولما صار قنصلاًَ تكلم بشدة عن قانون أوبيا القاضي بالحظر على النساء الرومانيات بأن لا يتزين بالحلي الثمينة فظفر النساء بمطلبهن وألغي ذلك القانون. ولما ذهب لقيلدة الجيش الروماني في إسبانيا أتى بأموال طائلة ودفعها إلى خزانة الإمبراطورية وباع حصانه عندما ركب البحر ليقتصد في نفقات نقله ولما عين وكيلاً للإحصاء أسقط من قائمة مجلس الشيوخ عهدة من الأعاظم لما عرفوا به من الترف والبذخ وأحال جباية الأموال الأميرية بثمن عال وقدر حلي النساء وزينتهن وعرباتهن بعشرة أضعاف ما تساوي وبعد أن خفقت له أعلام النصر لم يستنكف من الخدمة في الجيش الروماني ضابطاً بسيطاً.
صرف كاتون حياته في مناهضة الأشراف والبغض من بذخهم وترفهم وتجملهم وحمل خاصة على أمثال القائد سبيون متهماً إياه بالاختلاس إلا أنه لم ينج هو أيضاً من إلصاق التهم به فاتهم أربعاً واربعين مرة ولكنه كان يبرأ كلما اتهم. وكان يحرث أرضه مع عبيده ويواكلهم ويضربهم بالعصي منى رآهم يحيدون عن جادة الصواب وقد ذكر في رسالته في الزراعة التي كتبها إلى ابنه جميع ما كان يأتي الفلاحين الرومانيين من الإيرادات ويرى أن من الواجب على المرء أن يغتني وكان يقول: للأرملة أن تصرف من مالها وعلى الرجل أن يزيد وكل من شهدت دفاتر حساباته بعد موته بأنه ربح أكثر مما ورث جدير بالشهرة وملهم من الأرباب ولما رأى أن الزراعة لا تأتيه بأرباح طائلة أخذ يقرض ماله ليجهز به سفناً تجارية واتخذ له خمسين شريكاً جهزوا كلهم معاً خمسين سفينة ليتقاسموا بينهم الأخطار التي تنال سفنهم والأرباح التي تأتيهم بها. وعلى هذا كان كاتون زارعاً(34/26)
ماهراً وجندياً عظيماً عدواً للبذخ حريصاً على الكسب فهو مثال الروماني الأصيل وأنموذج الفضيلة والثبات.
وعلى العكس منه كان القائد سبيون مثالاً للاهتمام بالفنون والأفكار الفلسفية وهو صديق المؤرخ اليوناني بوليب الذي أمسك رهينة في رومية. ولم يكن يهتم بجمع المال وقد دفع إلى شقيقاته دفعة واحدة من المال كان عليه أن لا يدفعه إليهن إلا في أوقات مختلفة وتنازل لأخيه وكان أقل منه مالاً عن حصته في إرث أبيه ولم يخلف سوى كمية قليلة جداً من الأواني الذهبية والفضية.
الأخلاق القديمة: مضى زمن طويل على قدماء الرومانيين وهم يتوفرون على زرع حقولهم وقتال عدوهم والقيام بفرائض دينهم حتى كانوا حقاً الريفيين العاملين والجفاة. فكانوا يزرعون جانباً صغيراً منن إقليم لاتيوم ولاسابين وهم من نسل اللاتين والإيطاليين الذين تغلبت عليهم رومية وقد صور لنا الشيخ كاتون في كتاب له في الزراعة شيئاً من أخلاقهم بقوله: كان أجدادنا إذا أرادوا الثناء على رجل يصفونه بأنه زارع ماهر وحراث مجيد وهذا غاية ما يمدح به الإنسان.
فكان هؤلاء الزراع أشداء في أعمالهم وأهل طمع في مكاسبهم وتنظيم في شؤونهم واقتصاد في نفقاتهم وبذلك كانوا قوة الجيوش الرومانية. ولطالما تألف منهم مجلس الأمة أيضاً وكانت لهم القوة العظمى في الانتخابات. . فيجيء الأشراف الذين يطمعون في أن ينتخبوا حكاماً إلى ساحة السوق ليهزوا أيدي هؤلاء الفلاحين. رأى أحد المرشحين أنفسهم للانتخابات يد أحد الزراعين وهي شثنة غليظة فسأله: هل تمشي على يديك؟ وكان السائل من الأشراف ينتسب إلى أسرة كبيرو ولكنه لم ينتخب.
سكن الرومان بيوتاً ضيقة ذات طبقة واحدة لا نظام في بنائها وكان الأتريوم أهم ناحية من الدار وفيه المكان المقدس وهو مكشوف من أعلاه ينزل منه ماء المطر. والأثاث عبارة عن بضعة صناديق ومقاعد من الخشب. طعامه بسيط مؤلف خاصة من حساء معمول بالبر ومن خبز وبعض بقول وما كانوا يتناولون اللحم إلا في الأعياد وما شرب النساء الخمر قط والرجال يتناولون منه على الندرة. ولباسهم عبارة عن قميص يلبسون فوقه رداء من صوف زمن البرد. ويلبس الوطنيون في أيام الأعياد حلة من الصوف مزينة من جهة العنق(34/27)
ويلبسون في أرجلهم نعالاً منوطة بسيور. ويقضون حياتهم في التوفر على أعمالهم فالرجال يصطادون دون أن يحرثوا أو النساء يغزلن الصوف وينسجن الأقمشة ويطحن الحبوب ليجعلنها براً. ولم يكن للرومانيين من ضروب التسلية إلا أن يذهبوا كل تسعة أيام إلى السوق أو يحضروا الأعياد التي تقام إكراماً للأرباب.
كان يرى قدماء الرومان أن الرجل الشديد هو غاية ما تطمح إليه الآمال ويقال أن سينسيناتوس كان يسوق محراثه بنفسه عندما أتاه نواب الأمة من قبل مجلس الشيوخ يدفعون إليه الأمر بتنصيبه. ولم يكن عند فابريسيوس من الأواني غير كأس ومملحة من فضة. وكان كوريوس وأنتاتوس وهو غالب السامنتيين جالساً على مقعد يأكل بقولاً في قصعة من خشب عندما أتاه مندوبو السامنتيين ليقدموا له المال فقال لهم: اذهبوا وقولوا للسامنتيين أن كوريوس يؤثر أن يقود من عندهم ذهب أكثر مما يؤثر أن يكون هو مالكاً له. هذه هي بعض الأقاصيص التي يروونها عن قواد الأزمنة القديمة وسواء أكانت حقيقة أو ملفقة فإنها تدل على ما كان الرومانيون بعد يذهبون إليه بشأن قدماء أجدادهم.
الأخلاق الجديدة: أخذ كثير من الرومانيين بعد القرن الثاني ولاسيما طبقة الأشراف يقلدون الأجانب. وكان زعماؤهم قواداً رأوا بلاد اليونان والشرق عن أمم فكتبت الغلبة لسبيون على ملك سورية ولفلامنيوس وبولس أميل على ملوك مكدونية ثم للوكلوس على ملك أرمينية. فعزفت نفوسهم عن الحياة القاسية الصعبة التي كان عليها أجدادهم وأخذوا يسيرون في حياتهم على البذخ والرفاهية وما زال الحال كذلك حتى نسج على منوالهم عامة النبلاء والأغنياء بحيث لم يطلع فجر القرن الأول حتى لم يعد في إيطاليا إلا سادة عظام يعيشون المعيشة الشرقية أو اليونانية.
يرى الشرقيون من دواعي العجب أن يعرضوا للأنظار الأقمشة البديعة والأحجار الكريمة وأثاث الفضة وأواني الذهب وأن يستكثروا في بيوتهم من الخدم على غير طائل وأن ينشروا على الشعب المجتمع دراهم ليدهشوهم فكانوا يرغبون في الأعلاق النفيسة النادرة أكثر من رغبتهم في النفائس الجميلة المناسبة.
وأصبح للرومان على شدة عجبهم وضعف استعدادهم في الصناعات ذوق في هذا الضرب من البذخ فكانوا قلما يحفلون بالجمال أو بالموافق ولم يعرفوا قط إلا الأبهة والفخفخة(34/28)
فأنشؤوا لهم بيوتاً ذات حدائق واسعة وحشروا إليها التماثيل وأقاموا فيها المصايف الزاهية التي تمتد إلى البحر وسط الحدائق المتسعة واستكثروا من الخدم والحشم وأخذوا هم ونساؤهم يعتاضون عن ألبستهم المعمولة من الصوف بالشفوف (بزنجك ـ أكريشة) وأكسية الحرير والقصب. ويفرشون في ولائمهم بسطاً مطرزة ودثارات من الأرجوان وأواني من ذهب وفضة (وكان عند الحاكم سيللا مئة وخمسون صحفة من الفضة ووزن ما عند ماركوس وروزوس من الأواني الفضية عشرة آلاف ليرة وإذا ظل العامة يأكلون قعوداً بحسب عادة الشعوب الإيطالية القديمة فالخاصة من الأغنياء اتبعوا العادة الشرقية في الأكل مضطجعين على سررهم ثم سرت عادة التأنق في المآكل على الأسلوب الشرقي والاستكثار من المطاعم من الأباريز والصباغ (سلسا) والصيد والسمك الغريب ومخاخ الطواويس وألسنة الطيور.
واستحكم فيهم السرف حتى لقد مات أحد الحكام سنة 152 وقد ذكر في وصيته قوله لما لم يكن الإكرام الحقيقي عبارة عن أبهة باطلة بل هو لتذكر أقدار المتوفى وأجداده فأنا آمر أولادي أن لا ينفقوا على جنازتي أكثر من مليون آس (مئة ألف فرنك).
العلوم الأدبية اليونانية: رأى الرومانيون في بلاد اليونان المصانع والتماثيل والألواح التي كانت منذ قرون تغص بها المدن وعرفوا الأدباء والفلاسفة فصار لبعضهم ذوق في الصنائع النفيسة وأولع آخرون بالحياة العقلية فجعل أمثال القائد سبيون حولهم أناساً من اليونان المنورين ولم تطمح نفس بولس أميل من جميع الغنائم التي غنمها جيشه من مكدونية إلا إلى الاستيلاء على مملكة الملك برسي وعهد بتربية أولاده إلى أساتذة يونان وبذلك صارت الكتابة والتكلم باللغة اليونانية من الأمور المستحسنة في رومية. وأراد الأشراف أن يظهروا في مظهر العارفين بالتصوير والنقش فجلبوا بالألوف التماثيل وقلز كورنت المشهور وملؤوا بها بيوتهم. ودخل في ملك الحاكم فريس شيء كثير من النفائس والأعلاق جعلها في رواق وكانت مما نهبه من صقلية
وهكذا أخذ الرومان على التدريج من الفنون ظواهرها ومن الآداب اليونانية قشورها وسمي هذا التهذيب الجديد فن الأدب معارضة للخشونة التي كان عليها أهل الريف من الرومان ومع هذا لم تكن إلا قشوراً فقط فلم يعرف الرومان أن الجمال والحقيقة يرغب فيهما لذاتهما(34/29)
بل كانت الصناعات والعلوم عندهم أموراً يقصد بها الزينة والبذخ ليس إلا. ولم يكن الرومان على عهد شيشرون يعتبرون من أهل الأعمال غير الجندي والحراث والسياسي والناجر أو المحامي أما الكتابة والتأليف والاشتغال بالعلم والفلسفة والنقد فكل ذلك يسمى عندهم بطالة. وما قط أصاب أرباب الفنون والعلماء من الاعبار في رومية ما يسويهم بتاجر غني. قال لوسين أحد كتاب اليونان: متى صرت مثل فيدياس النقاش اليوناني تصنع ألف قطعة بديعة من النقوش لا يرغب أحد أن يتقبل مثالك لأنك مهما بلغت من الخدمة لا يطلق عليك إلا لقب صانع ولست إذ ذاك غير رجل يعيش بكد يمينه.
لوكلوس: ولد لوكلوس وهو مثال الروماني الحديث سنة 145 من أسرة شريفة وغنية جداً ولذا سهل دخوله في سلك أرباب المناصب والشرف واشتهر في غزواته الأولى بأنه يعطف على المغلوبين ويعاملهم باللطف ثم عين قنصلاً وقاد الجيش الذي انتدب لقتال ميترايدانس. وقد رأى سكان آسيا ساخطين من كثرة السرقة وفظاعة العشارين فعني بجعل حد لتلك الأعمال وحظر على جنده أن ينهبوا المدن المغلوبة وبذلك جلب لنفسه حب الآسياويين الباطل وبغض العشارين والجنو الخطر. فدست الدسائس لتستدعيه حكومته وكان قد هزم ميترايدانس وأخذ يطارده وهو سائر إلى حليفه ملك أرمينية وقد هزم جيشاً من البرابرة بجيشه الصغير المؤلف من عشرين ألف مقاتل فسلبت منه القيادة وسلمت إلى نديم العشارين وحبيبهم بومبي.
وإذ ذاك اعتزل لوكلوس الأعمال للاستمتاع بما جمعه في آسيا من الثروة وأصبح يملك في أحياء رومية حدائق غلبا وله في نابولي مصيف قام في البحر مبنياً بالحجر الصلد.
وفي توسلكولوم قصر صيفي وفيه متحف للأعلاق والنفائس فكان يقضي الصيف في توسكولوم بين أصحابه وجماعة العلماء وأهل الأدب يطالع مصنفات اليونان ويبحث في الأدب والفلسفة.
وتروى عن بذخه حكايات كثيرة منها أنه كان ذات يوم يتغدى وحده فرأى مائدته أكثر بساطة من العادة فوبخ الطاهي فاعتذر بقوله أن عدم وجود الضيوف هو الذي دعاه إلى تقليل المآكل فأجابه لوكلوس: أما علمت أن لوكلوس يتغذى اليوم عند لوكلوس؟ ودعا يوماً قيصر وشيشرون فقبلا دعوته على شرط أن لا يغير شيئاً من عادته فاكتفى لوكلوس بأن(34/30)
يقول لأحد الخجمة فقط اجعل الطعام في قاعة أبولون وكانت المأدبة على غاية من التأنق بحيث عجب منها المدعوان. ولما سئل عن إخلاله بشرط الضيافة قال أنه لم يأمر بشي وإن نفقات طعامه محددة بحسب القاعة التي تجعل فيها وإن بسط الموائد في قاعة أبولون لا يمكن أن يكلف أقل من خمسين ألف فرنك.
وظل لوكلوس في رومية ممثل الأخلاق الجديدة كما كان كاتون يمثل الأخلاق القديمة. ويرى قدماء الرومان أن كاتون هو الروماني الصالح وأن لوكلوس هو الروماني الفاسد ومع هذا فقد كان لوكلوس يبتعد عن عادة الأجداد ولذلك كان واسع المدارك حسن التربية لطيف المأتى مفطوراً على العطف على الخدم والرعايا.
الانقلاب الديني والعقلي
العبادات الجديدة: لم يكن بين أرباب الرومان وأرباب اليونان من الشبه حتى في الأسماء ومع هذا اعتقد اليونان بأن معظم الأرباب المعبودة في رومية كانت أربابهم أحبوا أن يعترفوا بأنها كذلك. وإلى ذاك العهد لم يكن للأرباب الرومانية شكل خاص ولا تاريخ معين وهذا ما دعا إلى الارتباك في حالتها فجرى تمثيل كل رب روماني على صورة رب يوناني واخترعوا له تاريخاً وحكايات.
فخلطوا بين المشتري اللاتيني وزيوس اليوناني وجونون مع هيرا ومنيرفا ربة الذاكرة مع بالاس ربة الحكمة وديان زوجة جانوس مع أرتيمس الصيادة البديعة وزجوا هركول رب السواد بهيراكليس الغالب على الغيلان. وهكذا دخلا المثولوجيا اليونانية تحت أسماء لاتينية واستحال أرباب رومية إلى أرباب اليونان. وامتزجت الأرباب بعضها ببعض حتى اعتدنا أن نطلق على الأرباب اليونانية أسماء لاتينية فلا نزال نقول أرتيمس ديان وبالاس منيرفا. وبالميثولوجيان اليونانية اعتاد الرومان أن يصوروا أربابهم في تماثيل كما اقتبسوا بعضاً من الاحتفالات اليونانية وكانت الحكومة الرومانية أدخلت إلى بلادها عبادة أبولون وبدأ بعض الأفراد يعبدون باخوس رب الكرمة. ويحتفل من يعبدون باخوس بعبادته في الليل سراً ولا يطلعون أحد على خفايا العبادة الباخوسية وأخذ المجلس يحقق فرأى المتعبدين بهذه العبادة سبعمائة شخص بين رجال ونساء اشتركوا معاً في هذه الأسرار فقضى عليهم بالموت.(34/31)
ثم أن الرومان أخذوا أيضاً يعبدون ما يعبد شعوب الشرق فقد كان سنة 320 في رومية معبد للرب سبريبس المصري فأمر مجلس الشيوخ بهدمه فلم يجسر أحد الفعلة على ذلك وبقي المعبد لا يمس بسوء حتى جاء القنصل بنفسه فضرب أبوابه بالفأس.
وبعد سنين أي في سنة 204 خلال حرب هانيبال بعث مجلس الشيوخ إلى آسيا الصغرى بوفد للبحث عن المعبودة سيبيل وكانت هذه الأم الكبرى كما كانوا يدعونها مصورة على حجر أسود فأتى بها مندوبو مجلس الشيوخ باحتفال حافل وجعلوها في رومية وقد لحق بها كهنتها وأخذوا يطوفون الشوارع على أصوات المزامير والصنوج لابسين ألبسة شرقية يستوكفون الأكف على الأبواب.
ثم غصت بلاد إيطاليا بالسحرة من الكلدان ولم يكن العامة يعتقدون وحدهم بهؤلاء العرافين. ولما هدد برابرة السمبر مدينة رومية سنة 104 تقدمت عرافة من سورية اسمها مارت فعرضت على مجلس الشيوخ الروماني بأن تتوسط في غلبة رومية على عدوتها فطردها مجلس الشيوخ ولكن النساء الرومانيات بعثن بها إلى المعسكر فأبقاها مازيوس القائد العام لديه وما فتئ يأخذ رأيها إلى أن وضعت الحرب أوزارها. ورأى سيللا في نومه ربة كابودسيا فعمل بنصيحتها وسار إلى إيطاليا.
السفسطائيون: لم يكن يأتي إلى رومية كهنة وعرافون فقط بل كان ينزل فيها فلاسفة يحتقرون الدين القديم. ومن أشهرهم كارنياد سفير الآثينيين فإنه كان يصرح بأفكاره في رومية أمام الجمهور فيخف شبان الرومان إلى سماع أقواله حتى أراده مجلس الشيوخ على الخروج من المدينة إلا أن الفلاسفة ظلوا على بث مبادئهم في رودس وأثينة حتى أصبح من السنن المألوفة أن يبعث الرومان بفتيانهم إلى تينك المدينتين يتعلمون فيها الفلسفة.
وفي القرن الثالث قبل المسيح ألف إيفهمير اليوناني كتاباً ينفي وجود الأرباب وأنها ليست إلا رجالاً ألههم الناس حتى أن المشتري نفسه كان ملكاً على كريت فانتشر كتابه أي انتشار ونقله الشاعر أنيوس باللاتينية. وعلى هذا النحو أخذ أشراف رومية يسخرون من أربابهم ولم يبقوا من الدين القديم إلا على مراسيمه وظواهره. وكان أهل الطبقة العالية في المجتمع الروماني مدة زهاء قرن يعتقدون بالخرافات اعتقاد سفسطائيين لا يؤمنون بشيء.
الحياة العقلية: كان غاية ما يعلم اليونان الأقدمون أولادهم القراءة فقط في الزمن الذي كان(34/32)
فيه بوليب في رومية (قبل سنة 150) ويعهد المحدثون من الرومان بتعليم أبنائهم إلى مربين من اليونان ولذلك افتتح أناس من اليونان في رومية مدارس لتعليم الشعر والبلاغة والموسيقى. وكانت الأسرات الكبرى تنقسم إلى أنا س يتعلمون على الطريقة القديمة وآخرين على الحديثة. ولكن بقي في الأذهان شيء من الموسيقى والرقص فكانوا ينظرون إليهما بأنهما من الصناعات المهينة بمن يتعاطاها إذا كان كريم المحتد. قال سبيون أملين حامي اليونان في كلامه على مدرسة رقص كان يختلف إليها بنون وبنات من الخاصة: ما كنت أتوهم عندما ذكر لي ذلك أن أناساً من الأشراف يعلمون مثل هذه الأمور لأولادهم ولما أخذوا بيدي إلى مدرسة الرقص رأيت فيها زهاء خمسمائة صبي وبنت وفي جملتهم ولداً شريفاً في الثانية عشرة من عمره وهو أحد المرشحين للانتخابات يرقص على نغمات البوق كروتال وقال سالست في كلامه على عقيلة رومانية قليلة الاعتبار أنها كانت تضرب على الطنبور وترقص أحسن مما يليق بامرأة محتشمة.
التربية: استهوى نساء الرومان حب الأديان الشرقية والبذخ الشرقي في أسرع ما يكون فكن يذهبن زرافات زرافات إلى معابد باخوس ومساجد إيزيس. وقد سنت لهن قوانين ليمنعهن من لبس الألبسة الثمينة وركوب العجلات واتخاذ الحلي والجواهر ولم تلبث أن ألغيت فصار النساء في حل من أن يلبسن كالرجال ما يشأن وانقطع النساء النبيلات عن العمل والجلوس في بيوتهن وأنشأن يخرجن في أبهة ويختلفن إلى دور التمثيل والملاعب والحمامات والمجتمعات وإذ كن بلا عمل ومن الجهل على جانب سرى الفساد إليهن في الحال حتى أصبح النساء الطاهرات في طبقة الأشراف ن النوادر.
سقط النظام القديم في تربية الأسرات وجعل القانون الروماني الزوج سيد زوجته وابتدعوا ضرباً جديداً من الزواج يجعل المرأة تحت تصرف أبيها ولا يكون للزوج أدنى سلطة عليها وكان الآباء يجهزون بناتهم بجهاز وصداق ليجعلوهن أكثر استقلالاً.
وكان من حق الزوج وحده أن يطلق امرأته ومن العادة أن لا يحاد عن هذا الحق إلا في أحوال استثنائية شديدة فصار للمرأة الحق أن تترك زوجها وأصبح مذ ذاك العهد من الهين اللين أن يفصم الزوجان عرى ارتباطهما ولم يعودا يحتاجان إلى حكم حاكم ولا إلى سبب مشروع ويكفي أحد الزوجين متى استاء من زوجه أن يقول له: احمل ما يخصك وأعد لي(34/33)
ما أملكه. وبعد الطلاق يتيسر لكل منهما بل للمرأة أيضاً أن يتزوجا في الحال.
وبلغت الحال في الطبقة الرومانية العالية أن تعتبر الزواج عقداً مؤقتاً فقد تزوج سيللا بخمس نساء وقيصر بأربع وبومبي بخمس وأنطونيوس بأربع وتزوجت ابنة شيشرون من ثلاثة رجال وطلق هورتانسيون زوجته ليزوجها من أحد اصدقائه.
بيد أن هذا الفساد لم يصب غير أشراف رومية ومن حذا حذوهم من أهل النعمة الحديثة أما في أسر رومية والولايات فقد حفظت قروناً آداب الدور القديم القاسية الشديدة وأخذت تربية الأسرة ترق شيئاً فشيئاً والمرأة تحرر من استبداد الرجل ببطء.
التبدل الاجتماعي
زوال الطبقة الوسطى: كان الشعب الروماني القديم مؤلفاً من صغار أرباب الأملاك وهم يتعاطون زراعة حقولهم بأنفسهم ومن هؤلاء الفلاحين الصالحين الأقوياء يتألف الجيش والمجلس. وكان عددهم كثيراً سنة 221 خلال الحرب الفينيقية الثانية. وفي سنة 133 لم يبق منهم أحد. لا جرم أنه هلك منهم كثيرون في الحروب التي أعلنتها رومية على البلاد القاصية ولكن هلاكهم يحمل في الأكثر على أنه كان من المتعذر عليهم البقاء.
فقد كانوا يعيشون من زراعة القمح عندما أخذت ترد على رومية حبوب صقلية وأفريقية فسقطت أسعار الحنطة بحيث لم يتيسر للحراثين الإيطاليين أن يستخرجوا من غلاتهم ما يغذون به أسراتهم ويتحملوا أعباء الخدمة العسكرية فقضي عليهم من ثم أن يبيعوا حقولهم فيبتاع كل غني من جاره الفقير أرضه فغدت الحقول الصغيرة ملكاً عظيماً لواحد وصير أرباب الأملاك من تلك الأراضي مروجاً يقيمون فيها ماشيته وإذا عن لهم أن يزرعوها فيبعثون إليها برعاة وحراثين من العبيد بحيث لم يمض قليل حتى لم يبق على أرض إيطاليا إلا بعض كبار الأملاك وجماعات من العبيد وكان بلين القديم يقول أن الأملاك العظيمة قد أخطأت إيطاليا ومع هذا فالدوائر العظمى هي التي قضت في الأرياف على أحرار الفلاحين. فصاحب الأرض القديم الذي باع حقله لم يستطع أن يبقى أجيراً بل قضي عليه أن يتخلى عن مكانه ليحل محله العبيد وبذا أصبح هائماً على وجهه لا عمل له ولا شغل قال فارون في رسالته في الزراعة أن معظم زعماء الأسرات دخلوا بيوتنا تاركين المنجل والمحراث وآبوا يؤثرون التصفيق بأيديهم في الملاعب على العمل في حقولهم(34/34)
وكرومهم.
الطبقات الاجتماعية: ليس الشعب في رومية كما هو في يونان عبارة عن مجموع السكان بل هو مجموع الوطنيين ولا يعد وطنياً كل رجل ينزل بأرض البلاد بل الوطني هو الذي له حق التمتع بحقوق الوطنية. وللوطني عدة امتيازات فله الحق وحده أن يكون عضواً في الهيئة السياسية وله الحق وحده أن يقترع في مجالس الشعب الروماني وأن يخدم في الجيوش الرومانية ويحضر احتفالات رومية المقدسة وينتخب حاكماً رومانياً وهذا ما يسمونه بالحقوق العامة وللوطني الحق وحده أن يحميه القانون الروماني ويحق له فقط أن يتزوج على طريقة مشروعة ويكون رب أسرة أي حاكماً مطلقاً على زوجته وأولاده وأن يوصي بما يشاء ويبيع ويبتاع ممن يشاؤ وهذا ما يسمونه بالحقوق الخاصة.
ولا يحرم من لم ينالوا حق الوطنية الرومانية من الخدمة في الجيش والمجلس فقط بل لا يسوغ لهم أن يكونوا أزواجاً ولا آباء ولا أصحاب أملاك مشروعة ولا أن يتقاضوا إلى القانون الروماني ويحاكموا في المحاكم الرومانية ولذا تألفت من الوطنيي طبقة من الأشراف بين سواد الأمة من غير طبقتهم وهم لا يتساوون بينهم أيضاً. وبينهم فرق في الطبقات أو كما يقول الرومان في الصفوف.
النبلاء: النبلاء هم في الصف الأول من الأمة فكل وطني يعد في النبلاء إذا سبق لأحد أجداده أن تولى شيئاً من أمر الأمة لأن الحكم في رومية من علائم الشرف ينبل به من تولاه كما يكون بضعة شرف لا خلافه من بعده. إذا أنصب أحد من الوطنيين ناظراً للملاعب والأبنية أو قاضياً أو قنصلاً تخلع عليه خلعة مطرزة بالأرجوان ويمنح كرسياً كالعرش ويحق له أن يرسم ويصور. وهذه الصور عبارة عن تماثيل صغيرة تعمل من الشمع أولاً ثم تطلى بالفضة وتجعل في مزار الدار (أتويوم) بالقرب من الكانون وأرباب البيت وتجعل في مخادع خاصة بها كما تجعل الأصنام ويعبدها الذرية من أهل البيت. ومتى مات أحد في الأسرة يخرجون الصور ويجرونها على مركبه في موكب ويأخذ أحد أنسباء المتوفى يعدد صفاته ويرثيه. وهذه الصور هي التي تشرف الأسرة كلما احتفظت بها وكلما كثرت الصور في أسرة تزداد شرفاً فيقولون فلان شريف بصورة أو شريف بعدة صور. والأسر الشريفة في رومية قليلة جداً (ولم يكن فيها أكثر من ثلثمائة أسرة لأن(34/35)
المناصب التي تولي صاحبها شرفاً توسد في الغالب إلى أناس حازوا الشرف من قبل.
الفرسان: تجيء طبقة الفرسان بعد طبقة النبلاء وهم أغنياء الوطنيين الذين لم يعد لهم جدود من الحكام فتقيد ثرواتهم في سجلات الإحصاء وينبغي أن لا يقل ما يملكه أحدهم عن أربعمائة ألف سترس (أو مئة ألف فرنك) منهم التجار والصيارف والملتزمون وهم لا يحكمون بل يغتنون. ولهم في التمثيل أماكن خاصة بهم تقع إلى ما وراء مقاعد طبقة الأشراف. وربما ساغ للفارس منهم أن ينتخب حاكماً وعندها يدعونه الرجل الحديث النعمة ويصبح ابنه شريفاً.
العامة: العامة هم غير طبقة الأشراف والفرسان فهم جمهور الأمة ويكونون من نسل أبناء البلاد في إيطاليا ويتنقلون من فلاحين أصحاب أملاك إلى وطنيين رومانيين ويعد في طبقتهم العبيد المعتوقون أو قدماء العبيد وأبناؤهم. ويحافظون على مميزات أصولهم ولا يقبلون في خدمة الجيش الروماني ولا ينتخبون إلا بعد غيرهم. ولقد مضت أزمان وصغار أرباب الأملاك يؤلفون السواد الأعظم من الأمة. وبينا كانت الأرياف تصفر من قلة الناس غصت رومية بالواردين عليها فانهال عليها اليونان والسوريون والمصريون والآسياويون والأفريقيون والإسبانيون والغاليون ممن أخذوا من بلادهم وبيعوا بيع العبيد ثم أعتقهم مواليهم وأصبحوا وطنيين ضاقت بهم المدينة فهم كانوا شعباً جديداً ليس له من الرومانية غير اسمها.
خطب سيبون غازي قرطاجنة ولومانس جمهوراً من الناس في إحدى الساحات فقاطعه العامة بأصواتهم فقال لهم: صه أيها الأبناء الأدعياء المنتسبون لإيطاليا زوراً فمن العبث ما تفعلون لأن من جلبتهم إلى رومية مقيدين لا أهابهم ولو حلت قيودهم وهذه الطبقة الجديدة من السوقة تعيش بكدحها أو يقضي على الحكومة أن تطعمها وقد أخذت الحكومة سنة 125 تقدم لعامة الوطنيين حنطة بنصف ثمنها المعتاد تأتي بها من صقلية وأفريقية ومنذ سنة 63 أخذت توزع الحنطة مجاناً وتشفعها بزيت. ورأى قيصر سنة 46 أن من كانوا يتناولون هذه الجراية بلغوا 320 ألفاً.
العبيد: جميع الأسرى وسكان البلد المفتوح ملك الفاتح يتصرف فيهم فإذا أبقى عليهم ولم يقتلهم يستعبدهم له. هكذا كان الحق القديم. وقد ظل الرومان يعملون به بالحرف يعاملون(34/36)
الأسرى كأنهم بعض الغنيمة يبيعونهم من النخاسين الذين يتبعون الجيش وإذا حملوهم إلى رومية فإنهم يحملونهم ليبيعوهم في المزاد وهكذا كان يبيعون عقيب كل حرب ألوفاً من الأسرى رجالاً ونساءً والأولاد الذين يولدون من أسيرات يكونون أسرى كأمهاتهم فالأمم المغلوبة للرومانيين هي مادة لرقيق الروماني.
العبد ملك صاحبه فهو لا يعتبر اعتبار شخص بل اعتبار متاع فمن ثم ليس له حق من الحقوق فلا يكون وطنياً ةلا ملكاً ولا زوجاً ولا أباً. قال أحد الأبطال في رواية هزلية رومانية: أي شيء هذا أعرس عبيد! ما أعجب عبد يتزوج! إن هذا مخالف لعادة جماع الأمم.
وللمولى جميع الحقوق على عبده يرسله حيث يريد ويشغله على ما يرى بل شغله أكثر من طاقته ويطعمه أخشن طعام ويضربه ويعذبه ويقتله دون أن يسأله أحد عما جنى وعلى العبد أن يخضع لرغائب سيده كلها. ويقول الرومان أن العبد لا وجدان له وأن الواجب عليه أن يطيع مولاه طاعة عمياء فإذا قاوم أو أبق من بيته فالحكومة تعاون سيده على قمع جماحه والقبض عليه وكل من يؤوي عبداً آبقاً تجري علبه أحكام اللصوص كأنه سرق بقرة أو حصاناً لغيره.
والعبيد في المملكة الرومانية أكثر من الأحرار ويملك أغنياء الوطنيين من عشرة إلى عشرين ألف عبد وعند بعضهم منهم ما يكفون لتجنيد جيش كامل. وكان لسليوس إيزدوروس أحد قدماء العبيد زهاء أربعة آلاف عبد وكان عند هوراس سبعة أعبد فكان يشكو من فقره. ومن علائم الفقر في رومية أن لا يملك المرء سوى ثلاثة أعبد.
وإذا كان العبيد يعملون أشق الأعمال أو يسترسلون في البطالة مكرهين وهم ابداً عرضة للضرب بالسياط والتعذيب أصبحوا بحسب فطرهم إما متوحشين أغبياء أو أ، ذالاً مستعبدين ومن كان منهم على شيء من الشهامة ينتحرون وغيرهم يعيشون كالآلة الصماء. وكان الشيخ كانتون كثيراً ما يقول: على العبد دائماً أن يعمل أو ينام. ومعظم العبيد يفقدون الإحساس والشرف ولذلك كانوا يقولون هذا عمل عبيد يريدون به أنه دنيء ورذل.
الحياة السياسية
لحكام: ينتخب الشعب كل سنة رجالاً يتولون أمره ويفوض إليهم السلطة المطلقة ويطلق(34/37)
عليهم اسم الحكام أي ولاة الأمر فيسير أمامهم حملة الفؤوس يحملون حزمة من القضبان وفأساً ومعنى هذا الرمز لأأن للحاكم أن يضرب ويقتل على ما يراه مناسباً ومن حق الحاكم أيضاً أن يرأس مجلسي الأمة والشيوخ وأن يكون له محل في المحكمة ويقود الجيوش وهو السيد المسود في كل مكان فيجمع المجلس ويفضه بحسب ما يرى ويصدر الأحكام برأيه وحده.
وفي زمن الحرب يفعل ما يشاء بالجند ويقتلهم دون الرجوع إلى رأي ضباطه. وقد كان مافيوس القائد الروماني في إحدى الحروب التي أعلنت على اللاتين حظر على الجنود الخروج من المعسكر فدعا أحد المقاتلين من جيش العدو ابنه إلى المبارزة فخرج لبرزه وقتله فلم يعتم مافيوس أن قبض على ابنه وأعدمه في الحال.
وللحاكم بحسب التعبير الروماني سلطة ملك ولكن هذه السلطة قصيرة موزعة وذلك لأنه لا ينتخب إلا لسنة واحدة وله رصفاء لهم مثل سلطته ففي رومية قنصلان أو حاكمان يتوليان أمر الأمة وقيادة الجيش وفيها عدة قضاة يتولون الحكم أو القيادة بالنيابة ويصدرون الأحكام وهناك كثير من الحكام ومراقبان واربعة نظار للأبنية والملاعب للنظر في الطرق العامة والأسواق وعشرة محامين عن حقوق السوقة وصيارفة يتولون النظر في خزائن المملكة.
الإحصاء: أرقى الحكام هما الوكيلان المسيطران وهما مكلفان كل خمس سنين بتنظيم إحصاء للشعب الروماني فيتمثل أمام المكلفين بإحصاء جميع أبناء البلاد ليذكروا لهما وهم يقسمون الإيمانات أسماءهم وعدد أولادهم وعبيدهم ومقدار ثرواتهم ويقيد كل ذلك في سجلات خاصة. والقائمان بإحصاء الأمة هما اللذان يكتبان قائمة بأسماء أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان والوطنيين ويحددان لكل واحد مقامه في المدينة ثم هما مكلفان أيضاًَ بأن يحتفلا احتفال الثريا وهي حفلة عظمى تقام للتزكية كل خمس سنين فيجتمع ذاك اليوم عامة الوطنيين في ساحة المريخ اجتماعهم في حرب ويطوفون ثلاث مرات حول المجلس يحملون ثلاث ضحايا لتكفر عن السيئات وهي عبارة عن ثور ونعجة وخنزير يخنقونها ويرشون المجلس بدمها وبذلك تصبح المدينة مزكاة مطهرة وسلماً مع الأرباب.
وللقائمين على الإحصاء الحق أن يقدان وأن يسجلا كل إنسان في المنزلة التي يريدانها ولهما أن يجردا أحد الشيوخ بإسقاطه من قائمة مجلس الشيوخ وأن لا يحسبا أحد الفرسان(34/38)
في جملة أهل طبقته أو يحرمان أحد الوطنيين بأن يحذفا اسمه من سجلات القبائل. ويسهل عليهما عقاب من يرونهم مجرمين ويتجاوزان عن السيئات التي لا تقدح بمنطوق القانون. ولطالما رأوهما يجردان الوطنيين لأنهم لم يحسنوا التوفر على مقولهم ولصرفهم كثيراً على خدمهم وسجنوا أحد الشيوخ لأنه كان يملك عشر ليبرات من الأواني الفضية وآخر لأنه أهمل تعهد قبور أجداده. وغيره لأنه طلق زوجته هذه السلطة المفرطة هي ما يطلق الرومان عليه حكومة الأخلاق فوكيلا الإحصاء عما سيدا المدينة على الجملة.
جلسة مجلس الشيوخ: يتألف مجلس الشيوخ من نحو ثلثمائة رجل يعينهم وكيل الإحصاء إلا أن هذا لا ينصبهم كيفما اتفق فلا ينتخب من أبناء البلاد إلا الأغنياء أصحاب المكانة وسلالة الأسرات الكبيرة ومعظمهم من قدماء الحكام ويختار على الأغلب دائماً أناساً كانوا في المجلس من قبل بحيث أن عضو مجلس الشيوخ يبقى في هذا المنصب طوال حياته فمجلس الشيوخ هو محل اجتماع أهم رجال رومية ولذلك كانت لهم سلطة وسطوة.
فإذا حدث أمر يجمع أحد الحكام أعضاء الشيوخ في أحد المعابد ويعرض عليهم المسألة ثم يسألهم رأيهم فيها فيجيبه كل واحد بمفرده مراعين في ذلك مراتبهم في الشرف وهذا ما يدعى أخذ رأي مجلس الشيوخ ويسطر الحاكم بعد ذلك رأي الأكثرية وهذا ما يسمونه مرسوم ديوان الأعيان أو الشيوخ ويكون قرارهم عبارة عن رأي لأن ليس من حق مجلس الشيوخ أن يقنن القوانين. بيد أن رومية تعمل بهذا الرأي عملها بأمر مفروض. وللشعب ثقة بشيوخه لعلمه أنهم أكثر خبرة منه ولا يجرأ الحكام على مقاومة مجلس مؤلف من أكفاء يساوونهم في الشرف. ولذلك كان المجلس يفض جميع المسائل فيقرر الحرب ويعين عدد الجيوش ويقبل السفراء ويعقد السلم ويفرض الدخل والخرج فيصدق الشعب على مقراراتهم والحكام ينفذونها. وفي سنة 200 قرر مجلس الشيوخ إعلان الحرب على ملك مكدونية فأوجس الشعب خيفة ولم يوافق على ذلك فصدر أمر مجلس الشيوخ بجمع المجامع من جديد وأن يلقى عليهم خطاب يكون أبلغ في إقناعهم من الخطاب الأول وعندها لم يسع الشعب إلا الموافقة. وبذلك رأيت أن الشعب في رومية كان يحكم كما يحكم الملك في إنكلترا ولكن كان الحكم لمجلس الشيوخ.
المجالس والانتخابات: تسمى حكومة رومية الجمهورية أي متاع الشعب وجماعة الوطنيين(34/39)
المدعوين شعباً كأنهم سادة مستقلون في المملكة فمنهم الذين ينتخبون الحكام ويوافقون على الحرب والسلام ويسنون الشرائع ويقول الفقهاء أن القانون هو ما أمر به الشعب والشعب في رومية كما في أثينة لا يعين نواباً عليه أن يوافق على كل شيء بنفسه حتى أن حكومة رومية بعد أن قبلت في المدينة زهاء خمسمائة ألغ رجل كانوا مشتتين في أطراف إيطاليا كلها اضطر الوطنيون للحصول على حقوقهم أن يحضروا بالذات إلى رومية.
ويجتمع الشعب في الساحة ويسمى المجلس المجتمعات يدعوه الحاكم إلى الالتئام برئاسته وكثيراً ما يدعى الوطنيون للاجتماع بصوت البوق فيذهبون إلى ميدان العمل (ساحة المريخ) يصطفون فرقاً تظللهم أعلامهم وعندما يتألف منهم مجتمعات ذات فرق وكثيراً ما يجتمعون في ساحة السوق (الفوروم) منقسمين إلى 35 جماعة يسمونهم القبائل فتدخل كل قبيلة في نوبتها إلى مكان مسور بسدود لتوافق على ما تقرر به وتسمى المجتمعات بحسب القبائل. والحاكم الذي جمع المجلس يبين له المسألة التي يجب عليه الموافقة عليها ومتى فعل ذلك ينفض. فمن ثم كان الشعب حاكماً ولكنه اعتاد الخضوع لزعمائه.
والمجلس أيضاً هو الذي يختار كل سنة الحكام فينتخب بحسب الفرق جميع الحكام الذين كان انتخبهم الشعب قديماً مثل القناصل والقضاة ووكلاء الإحصاء ونظار الأبنية والملاعب ومجلس القبائل ينتخب حكام أهل الطبقة المتوسطة ومحامي الشعب ونظار أبنية الشعب. وقد ضاقت ساحة الفوروم منذ القرن الثاني فأخذت تجتمع جميع مجالس الانتخابات في ساحة المريخ تنقسم الرحبة بحواجز ذات مرابض صغيرة تلقب بحدائق الغنم فتنقطع كل قبيلة إلى إحدى تلك الرحاب وتلاحظ كل قبيلة أكثرية الوطنيين في التصويت إذ ليس لكل قبيلة غير صوت واحد.
سلك المناصب: ليس تولي الحكم أو المشيخة عن الأمة في رومية صناعة من الصناعات فإن الحكام والشيوخ يصرفون وقتهم ومالهم دون أن ينالوا أجراً فمنصب الحكم في رومية يعد من دواعي الشرف فلا يتطال إليه غير الأشراف او الفرسان على الأقل على شرط أن يكونوا أغنياء ثم لا يطمع امرؤ أن يبلغ أرقى مناطب الحكم إلا بعد أن يتقلب في المناصب الأخرى.
ومن أراد يوماً أن يحكم على رومية يجب عليه أولاً أن يكون له في الجيش عشر وقائع(34/40)
وحملات وبعدها يسوغ له أن ينتخب صرافاً فيعهد إليه النظر في إحدى خزائن المملكة. ثم يصير ناظراً للأبنية والملاعب فينظر في أمور الشرطة والبياعات وبعد ذلك ينتخب قاضياً فيجري أحكام العدل وعقيب ذلك يصبح قنصلاً فيقود جيشاً ويرأس المجالس وعندئذ تحدثه نفسه بأن يكون وكيل إحصاء وهذه هي الدرجة التي دونها في العلو كل درجة لا يبلغها المرء قبل أن يبلغ الخمسين من العمر فترى بهذا أن رجلاً واحداً يكون مالياً إدارياً وقاضياً وقائداً وحاكماً قبل أن يتولى وظيفة وكيل الإحصاء الغريبة وهي عباة عن تنظيم المجتمع وتسمى سلسلة هذه الوظائف سلك المناطب ولا تدوم كل وظيفة من هذه الوظائف إلا سنة واحدة للارتقاء للوظيفة التالية يقتضي انتخاب جديد. ويجب على الموظف في خلال السنة التي تتقدم انتخابه أن يظهر في الشوارع بلا انقطاع ويسير كما يقول الرومان أو يطمع في امتياز المنصب أن يلتمس أصوات الشعب والعادة في خلال هذه المدة أن يلبس حلة بيضاء وهذا معنى مرشح باللغات الإفرنجية أي المكتسي بالبياض.
إدارة الولايات
الشعوب الخاضعة: ما انقضى القرن الأول قبل المسيح إلا وقد أخضعت رومية عامة الأقطار الواقعة حول البحر الرومي من إسبانيا إلى آسيا الصغرى ولم تضف هذه البلاد إلى المملكة الرومانية ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين ولم تغد أرضهم أرضاً رومانية بل ظلوا غرباء وانضموا فقط إلى هذه المملكة أي أنهم أصبحوا تحت استيلاء الشعب الروماني كما أن الهنود اليوم ليسوا وطنيين إنكليز بل هم رعايا إنكلترا والهند جزء لا من إنكلترا بل من المملكة الإنكليزية فقط.
فلا يصبح سكان البلاد المغلوبة وطنيين في رومية بل يبقون غرباء أجانب ولكنهم رعايا الشعب الروماني يؤدون إليهم الجزية وعشر غلاتهم وأتاوة من المال ورسماً على كل رأس وعليهم أن يخضعوا لجماع ما يأمرونهم به إذا ليس في استطاعة الشعب أن يحكم بالذلات ليبعث بحكام ينتدبهم لأن يحكموا عنه وكل بلد خاضع لوال كان يسمى ولاية ومعناها المهمة.
كان في أواخر عهد الجمهورية (في سنة 46) 17 ولاية منها عشر في أوربا وخمس في آسيا واثنتان في أفريقيا ومعظمها متنائية الأطراف جداً فلم تكن بلاد الغال كلها سوى أربع(34/41)
ولايات وإسبانيا ولايتين. قال شيشرون أن الولايات أملاك الشعب الروماني فإذاً أخضع هذه الشعوب بأسرها فذلك طمعاً في فائدتها لا لأجل منفعتهم ولذلك لا يتوخى أن يدير تلك الولايات بل يحرص على استثمارها.
الولاة: يتخذ الشعب حاكماً لإدارة كل ولاية وهو إما أن يكون قنصلاً أو قاضياً خرج من الوظيفة فيطيل أمد سلطته وليس هذا الموظف الكبير قنصلاً بل هو وال ينوب عن القنصل.
وللوالي كما للقنصل سلطة مطلقة يسير فيها على هواه لأنه وحيد في ولايته وليس لديه حكام آخرون ينازعونه السلطة ولا محامون عن الطبقة الوسطى ليصدوه عما يريد ولا مجلس شيوخ يسيطر على أعماله فهو وحده يقود الجيوش ويحملهم على القتال وينزل بهم حيثما يشاء فيتخذ له مقاماً في محكمته حاكماً بالغرامة والسجن والموت ويصدر أوامر تكون قانوناً متبعاً وله وحده السلطة العالية لأنه فيه يتجسد الشعب الروماني.
وكان هذا الحاكم الذي لا يقاومه مقاوم مستبداً حقيقياً فيقبض على من يريد ويحبس ويضرب بالعصي ويعدم من لا تروقه حالتهم وإليك مثالاً من ألوف الأمثلة التي كان الحكام يجرون فيها مع الهوى كما رواه أحد الخطباء الرومان قال: جاء القنصل مؤخراً إلى تيانوم فخطر لامرأته أن تتلذذ بالاستحمام في حمامات الرجال فأخرج من الحمام الرجل الذين كانوا يستحمون فيه فشكت المرأة من إبطائهم وقلة استعداد الحمام فنصب القنصل عموداً في الساحة العامة وأحضر أشهر رجل في المدينة ليجعل عليه فجرد من ثيابه وضرب بالعصي.
والوالي يأخذ من ولايته ما يستطيع من المال وينظر إليها كأنها ملك له ولا تعوزه الوسائط لاستثمارها بل يمد يديه إلى خزائن المدن وينزع التماثيل والحلي الموضوعة في المعابد ويجبي من السكان الأغنياء أتاوات من المال أو البر. وإذا كان له الحق أن ينزل جنوده حيث أراد فالمدن تقدم له المال لتعفى من قبول جنوده وإذا كان فغي حل من أن يعدم كل من يترآءى له فالأفراد يعطونه المال ليأمنوا غائلته. وإذا طلب شيئاً نفيساً أو مبلغاً من المال يجاب في الحال إىل ما طلب ولا يجرأ امرؤ أن يأبى عليه طلبه. وأتباعه يسيرون على مثاله وينهبون باسمه بل بحمايته ويسرع الوالي في جمع المالي إذ الواجب عليه أن(34/42)
يغتني في سنة وبعدها يعود إلى رومية ويخلفه آخر يعود بمثل ما بدأ فيه سلفه.
على أن هناك قانوناً يحظر على كل وال أن يقبل هدية ومحكمة مخصوصة (منذ سنة 149) تنظر في دعاوي الاختلاس. بيد أن هذه المحكمة تؤلف من طبقة الأشراف والفرسان الرومانيين فلا يرون أن يحكموا على ابن بلدهم والعاقبة المهمة في هذه الطريقة كما قال شيشرون أن يضطر الوالي إلى بسط يده في السلب من ولايته ليتسنى له ان يرشي المحلفين في المحكمة ولا ينبغي العجب إذا رأينا اسم الوالي مرادفاً لاسم مستبد ومن أشهر هؤلاء اللصوص فيريس والي صقلية وقاضيها وقد خطب في بيان أعماله الخطيب شيشرون لأسباب سياسية فطباً اشتهر بها ومن المحتمل أن كثيرين مثله قد أتوا ما أتاه.
العشارون: كان للشعب الروماني في كل ولاية مواد مهمة من الجمارك والمناجم والضرائب والحقول الصالحة لزرع الحنطة والمراعي يؤجرونها من شركات متعهدين يسمونهم العشارين فكان هؤلاء مثل المزارعين العموميين في فرنسا قديماً يبتاعون من الحكومة حق جباية الخراج ويجب على سكان الولايات أن يطيعوهم كأنهم وفود الشعب الروماني.
وكان في كل ولاية عدة شركات من العشارين ولكل شركة مستخدمون من الكتاب والجباة يظهرون في مظهر السادة ويتناولون أكثر مما يأخذون في آسيا حتى السكان بدون سبب ولما طلب ماروس من ملك بيتينا أن يقدم له جنداً أجابه الملك أن العشارين لم يبقوا عنده م الرعايا غير النساء والأطفال والشيوخ وقد عرف الرومان هذه المظالم حق معرفتها وكتب الخطيب شيشرون إلى أخيه وكان هذا حاكماً إذ ذاك: إذا وفقت إلى طريقة ترضي بها العشارين بدون أن تهلك سكان الولايات فتكون قد رزقت مهارة رب بيد أن العشارين كانوا قضاة في محاكمهم حتى أن الولاة أنفسهم خاضعون لهم. وقد أراد سكاروس والي آسيا المشهور بالإفراط في العفة أن يمنع العشارين من إطالة يد الأذى في ولايته فلما عاد إلى رومية رفعوا عليه شكوى وحكموا عليه.
ولطالما أثار العشارون سخط سكان الشرق الخاضعين الساكنين فقد ذبحوا بأمر ميتيريداتس في ليلة واحدة مئة ألف روماني وبعد قرن أي على عهد المسيح كان اسم عشار مرادفاً لاسم لص.
الصيارف: جمع الرومان في بلادهم ثروة الأمم المغلوبة ولذلك كانت الدراهم كثيرة جداً في(34/43)
رومية ونادرة جداً في الولايات فكان في رومية يمكن الاقتراض بفائدة أربعة أو خمسة في المئة أما في الولايات فلا يجد المستدين مالاً يقترضه بأقل من اثني عشر في المئة. وكان الصيارف الرومان يقترضون مالاً من رومية ويقرضونه للولايات ولاسيما باسم الملوك او المدن.
وإذا لم يستطع المستدين أن يوفي رأس المال ورباه يعمد الصيارف في تقاضي أموالهم إلى الطرق التي يستعملها العشارون فقد اقترضت مدن آسيا سنة 84 على نية ان تدفع مبلغاً كبيراً لتستعين به على الحرب فبعد أربع عشرة سنة فقط أي في سنة 70 صار المبلغ بفوائده ستة أضعاف ما كان فاضطر الصيارف مدن آسيا أن تبيع حتى التحف والطرف وقد شوهد أبوان يبيعان أبناءهما وبناتهما. وبعد بضع سنين أقرض برونوس من حكماء الرواقيين ومن أشهر رجال عصره من الرومان وأعلاهم كعباً ومكانة لمدينة سلامينة في قبرص مبلغاً من المال بفائدة 48 في المئة (أي 4 في المئة كل شهر) فلما طالب وكيله سكابتبوس بالمال مع فائضه تعذر على المدينة أن تؤدي إليه مطلوبه فقصد سكابتبوس الوالي أبيوس فأصبحه هذا بفرقة من الفرسان فجاء إلى سلامينة وحاصر مجلس شيوخها وكان أعضاؤه في قاعة الجلسات فمات خمسة منهم جوعاً.
رعايا رومية: كان سكان الولايات لا حول لهم ولا طول مع هؤلاء الظالمين بأسرهم وذلك لأن الولاة كانوا يمالئون العشارين والصيارف على رغائبهم ويأخذون بأيديهم في كل ما يطلبونه ووراء الوالي الجيش والشعب الروماني يعضدانه فكان يسمح للوطني الروماني أن يشتكي السلابين في الولايات ولكن لا يمس الوالي بأذى ولا تتأتى شكايته إلا مرة واحدة عندما يخرج من الخدمة فيصبر عليه الرعايا يسلبهم ويعتدي كما يشاء ريثما تنقضي مدته وإذا اتهم عند عودته إلى رومية فتكون محاكمته أمام محكمة مؤلفة من الأشراف والعشارين ممن تكون مصلحتهم في معاضدته لا في إحقاق الحق ورفع ظلامة أهل الولاية التي كان فيها وإذا صادف أن حكمت عليه المحكمة يستعيض عن الحكم بالنفي فيذهب إلى إحدى مدن إيطاليا يتمتع بها بما نهبه أيام ولايته وهذا القصاص لا يوازي ما أتاه بتة ولا يعد انتقاماً ولذلك كنت ترى سكان الولايات يؤثرون أن يقمعوا ولاتهم بخضوعهم لهم فيعاملونهم كما يعاملون الملوك وينافقونهم ويهادونهم ويقيمون لهم التماثيل وربما نصبوا للوالي في(34/44)
آسيا هياكل وبنوا لهم المعابد وعبدوهم كما يعبد الرب.
ولئن عامل الشعب الروماني رعاياه بقسوة فلم يكن يأبى عليهم الانضمام إليه كما كان شأن المدن اليونانية بل أن الغرب يصبح وطنياً رومانياً بإرادة الشعب الروماني والشعب يمنح هذه العاطفة أحياناً وكثيراً ما يمنحها إلى شعب برمته فمنح حق الوطنية الرومانية إلى اللاتين أولاً سنة 89 ومنح هذا الحق للطليان في سنة 46 ومنحه لأهل غاليا فأصبح سكان إيطاليا والرومانيين سواء حتى أن العبد الذي يعتقه سيده يسوغ له أن يكون وطنياً في الحال. وكلما عرضت للشعب الروماني عوارض الضعف ونقص في الأنفس يزيد عدده برعايا جدد وعبيد جدد فكان عدد الوطنيين يزيد في كل إحصاء ولا ينقص فبلغ عددهم في قرنين من 250 ألفاً إلى 700 ألف. وهكذا ظلت رومية غاصة بالسكان ولم تخل منهم كما خلت إسبارطة بل كانت تمتلئ بالقادمين إليها من المغلوبين على التدريج.
قانون الأراضي
الأملاك العامة: متى طلب شعب غلبته رومية على أمره أن يعقد معها الصلح يجب على نوابه أن يلفظوا الجملة التالية: نتخلى لكم عن الشع والمدين والحقول والمياه وتماثيل الأرباب الحامية للحدود والأثاث وجميع ما يملكه الأرباب والناس قد جعلناه بيد الشعب الروماني وبهذا التسجيل تصبح الأمة الرومانية مالكة لما يملكه المغلوبون لهم بأسره بل مالكة حتى لأشخاصهم. وكثيراً ما يبيعون السكان وقد باع بولس أميل مئة وخمسين ألفاً من أهل أبير على هذه الصورة كانوا استسلموا إليه. ومن العادة أن تمنح رومية لمن تتغلب عليهم حريتهم وأن تبقي أملاكهم ملكاً للشعب الروماني يجعلونها ثلاث حصص متساوية فيعطى للأهالي قسم من أراضيهم على أن يدفعوا شيئاً معلوماً من المال أو الحبوب عنها وتحفظ رومية لنفسها الحق أن تأخذ منها كما تشاء. وتؤجر الحقول والمراعي إلى أناس من الملتزمين وتترك الأراضي البائرة شاغرة يأخذها من يريد ويحق لكل وطني روماني أيقيم فيها ويزرعها.
قوانين العقارات: شملت قوانين الأراضي التي اختل بها نظام رومية الأملاك العامة وما كان لأحد الرومان أن يخطر في باله نزع الأملاك من أربابها لأن حدود تلك الأملاك نفسها كانت أرباباً يدعونها آلهة التخوم والدين يمنع من نزعها. إلا أن الشعب كان يستولي(34/45)
بموجب قانون الأرضي على أرض من الأملاك العامة فقط ويوزعها بصفة ملك على مواطنيه وللشعب من حيث الشرع الحق في ذلك لأن الأراضي كلها ملكه إلا أن الرومانيين تسامحوا قروناً بأن تركوا أناساً من رعاياهم أو ابناء وظنهم يتمتعون بغلات تلك الأراضي وقد انتهت بهم الحال أن صاروا ينظرون إلى تلك الأراضي كأنها ملكهم يحبسونها ويبيعونها ويبتاعونها ولو أخذت منهم لقضي على جمهور عظيم من الأمة بالإفلاس في الحال. وقد حدث في إيطاليا خاصة أن ينزع من أهل المدينة بأسرها جميع ما يملكون. هكذا نزع أغسطس جميع أراضي مانتو من سكانها وكان الشاعر فرجيل من جملة المنكوبين فتوصل بفضل شعره إلى أن تعاد أملاكه ولكن سائر الشعب الذي لم يكن شاعراً كفرجيل بقي مسلوباً من أملاكه. وتوزع هذه الأراضي المأخوذة على تلك الصفة أحياناً على أناس من فقراء الوطنيين في رومية وفي الأغلب على جماعة من قدماء الجند وقد وزع سيللا أراضي أهل إيتروريا على 20 ألفاً من قدماء الأجناد.
الأخوان الاشتراكيان: كان الشقيقان تيبريوس وكايوس غراشوس من أشرف أسرات رومية ولكن حاول أحدهما بعد الآخر وقد تولى زعامة السوقة أن ينزع الحكومة من يد الأشراف الذين يتألف منهم مجلس الشيوخ.
وكان في ذلك العهد في رومية بل في إيطاليا جمهور كبير من الوطنيين لا سيد لهم ولا لبد يطمحون إلى إحداث ثورة ومنهم الأغنياء ومعظمهم من طبقة الفرسان الذين يشكون من حرمانهم من الحكومة. فعرض تيبريوس غراشوس نفسه على أن يتولى الدفاع عن العامة وسعى إلى وطيد سلطته هذه وكان في قلق مما يراه في بلاد الأرياف في إيطاليا من إقامة الرعاة العبيد يخلفون قدماء أصحاب الأملاك الفلاحين ومن رؤية رومية غاصة بأناس من الوطنيين لا يملكون فتيلاً ولا نقيراً.
قال مرة في خطاب له يخاطب به العامة: للوحوش البرية في إيطاليا مغاور تأوي إليها والرجال الذين يهرقون دماءهم في الدفاع عن بيضة إيطاليا ليس لهم إلا النور والهواء الذي يستنشقونه يهيمون على وجوههم مع أزواجهم وأبنائهم لا بيوت تؤويهم ولا منازل يسكنونها. إلا وأن القواد الذين يحرضونهم عل الدفاع عن مدافنهم ومعابدهم ليكذبون في أقوالهم. وليت شعري هل ملك واحد منهم حتى الآن مذبحاً مقدساً في بيته ومدفناً يضم(34/46)
رفات أجداده، يدعونهم سادة الأرض وهم لا يملكون مدرة منها.
فاقترح على الشعب سن قانون للأراضي وذلك بأن تأخذ الحكومة من الأفراد جميع الأراضي التي هي من المنافع العامة فتضع يدها عليها ويترك لكل فرد منهم خمسمائة فدان ويوزع الباقي من الراضي حصصاً صغيرة على فقراء الوطنيين فوافق المجلس على هذا القانون فحدث بذلك اضطراب عام في نظام الثروات لأن معظم أراضي المملكة على التقريب كانت من الأملاك العامة ولكن وضع الواضعون أيديهم عليها واعتادوا أن يعتبروا أنفسهم مالكيها. على أنه كان كثيراً ما يصعب التمييز بين الملك الخاص والملك العام إذ لم يكن للرومانيين سجلات للأراضي.
فأقام تيبريوس ثلاثة مفوضين عهد إليهم قسمة الأراضي كما أن الشعب أعطاهم سلطة مطلقة. وكان هؤلاء المفوضون هم تيبريوس نفسه وأخوه وعمه. فقام خصوم تيبريوس يتهمونه بأنه سن قانون الأراضي ليتخذ من ذلك حجة لتكون له بها السلطة. فمضت سنة وهو السيد المتحكم في رومية ولكنه لما أراد أن ينتخب محامياً من العامة عن السنة التالية أقام أعداؤه الحجة (وهذا كان منافياً للعادات المتبعة) فنشأت من ذلك فتنة انتهت باستيلاء تيبريوس وأصحابه على معبد الكابتول فنهض أنصار مجلس الشيوخ وعبيدهم مسلحين بالدبابيس وخشب المقاعد وطاردوا تيبريوس وأتباعه وضربوهم.
وبعد عشر سنين انتخب كايوس أصغر الأخوين غراشوس محامياً عن الشعي وجدد التصديق على قانون الأراضي وقرر توزيع حنطة على فقراء الوطنيين وقرر أن يجري انتخاب القضاة ن طبقة الفرسان ليتوصل بذلك إلى هدم سلطة الأشراف فكانت كلمته هي العليا مدة حولين كاملين ولكنه لما قصد قرطاجنة ليسكن فيها جماعة من الطوارئ (المستعمرين) الوطنيين تخلى الشعب عنه مدة غيابه جتى إذا عاد لم يتيسر له أن يعاد انتخابه إذ كان أعداؤه اغتنموا تلك الفرصة للتخلص منه وعندها أمر الحاكم بتسليح أشساع مجلس الشيوخ وزحف على كايوس وأحبابه وكانوا اعتصموا في جبل أفنتين فقتل كايوس بيد أحد العبيد وذبح أشياه أو أعدموا في السجون ونقضوا بيوتهم من أسسها وصادروا أملاكهم.
ماريوس وسيللا(34/47)
لم يكن النزاع بين الشقيقين غراشيوس ومجلس الشيوخ إلا عبارة عن هرج في شوارع رومية ينتهي بفتنة تنشأ بين العصابات المسلحة على عجل أما الفتن التي حدثت بعد فكانت حروباً حقيقية بين جيوش منظمة وكان رؤساء الأحزاب من القواد.
الحروب المدنية: ليس الشعب الروماني سوى مجموعة فقراء لا عمل لهم وما الجيش إلا حفنة من المتشردين نزاع الآفاق فلا المجلس ولا الكتائب خاضعة لمجلس الشيوخ لأن الأشراف الفاسدين فقدوا كل سلطة أدبية فلم يبق ثمة سوى قوة حقيقية واحدة نعني بها الجيش ولم يبق سطوة إلا للقواد وقد أبى القواد أن يخضعوا فتعذر الحكم بواسطة مجلس الشيوخ حتى أصبح بيد القائد. وغدت الثورة لا مناص منها ولكنها لم تنشأ دفعة واحدة بل تخمرت زهاء مئة سنة وكان مجلس الشيوخ يقاوم وقد أمسى من الضعف بحيث لا يتيسر له أن يجري الأحكام بذاته على أنه ما زال على شيء من القوة تحول دون غيره من القبض على قياد الأمة والقواد يتنازعون بينهم فيمن يكون السيد المتحكم وهكذا قضى الرومانيون قرناً يتخبطون في الفتن والحروب المدنية.
ماريوس: كان أصل ماريوس القائد الأول الذي جعل جيشه تحت أمرة في رومية من أربينوم وهي مدينة جبلية صغيرة ولم يكن من سلالة شريفة واشتهر بأنه ضابط وانتخب محامياً عن العامة ثم قاضياً بمساعدة الأشراف له. ثم انقلب عليهم وانتخب قنصلاً وعهد إليه محاربة جوكورتا ملك النوميديين الذي بدد شمل عدة جيوش رومانية.
وعندها جند ماريوس جماعة من فقراء الوطنيين ممن أصبحت الخدمة العسكرية صناعتهم فتغلب ماريوس بجيشه على جوكورتا وأهلك الشعوب البربرية كالسمبريين والتوتون ممن أغاروا على غاليا وإيطاليا الشمالية. وإذا لم يكن للشعب ثقة من غيره لقيادة الجيش انتخبه قنصلاً ست مرات متولية خلافاً للقوانين المتبعة.
عاد إلى رومية بعد هذه الانتصارات فأصبح مطلق اليد في الحكومة وعندئذ تألف في تلك العاصمة حزبان دعيا أنفسهما باسم حزب الشعب (وهو حزب ماريوس) وحزب الأشراف (وهو حزب مجلس الشيوخ).
الحرب الاجتماعية: ارتكب أشياع ماريوس من الفظائع ما انتهى بتلويث شهرته بين الناس فاغتنم أحد الشراف من أسرة كورنيوليوس الكبيرة واسمه سيللا هذه الفرصة لينازعه(34/48)
السلطة وكان هو أيضاً من جملة القواد. وفي خلال ذلك استشاط الطليان غيظاً من قيامهم بمثل ما يقوم به الرومانيون من التكاليف دون أن يكون لهم مثل امتيازاتهم فنزعوا إلى مقاومته لينالوا حقوقهم المدنية وهذا ما دعوه بالحرب الاجتماعية أي حرب مقاومة المتحالفين فجيشوا جيوشاً كبيرة قدمت إحداها على مقربة من رومية وكان سيللا هو الي أنقذ رومية بقتاله الطليان أشد قتال. وبعد حرب دامت سنتين (91 ـ 89) خضع الطليان بيد أنهم نالوا ما طلبوه وغدوا وطنيين رومانيين.
سيللا: طارت شهرة سيللا في هذه الحرب فنصب قنصلاً وعهد إليه أن يزحف على ملك بحر الخزر ميتريدانس الذي أغار على آسيا الصغرى وذبح فيها الرومانيين عن بكرة أبيهم (88) فحمل الحسد ماريوس على أن يثير فتنة في رومية فخرج سيللا للالتحاق بجيشه الذي كان ينتظره في إيطاليا الجنوبية وعاد معه وكان الدين الروماني يحظر على الجنود الدخول إلى المدينة وعليهم أسلحتهم وعلى الحاكم نفسه قبل أن يجتاز الباب أن يخلع عنه رداء الخرب ويلبس الحلة الرومانية فكان سيللا القائد الأول الذي جسر على خرق سياج هذا المنع ودخل إلى رومية فانهزم ماريوس أمامه.
ولما وصل سيللا إلى آسيا عاد ماريوس في جيش له من المتشردين ودخل رومية بالقوة (87) وعندئذ بدي بقتل المعتدين قبل محاكمتهم وجعل خاصة أشياع سيللا تحت الأحكام العرفية بل صدرت أوامر الحكومة أن يقتلوا حيثما وجدوا وصودرت أموالهم ومات ماريوس بعد بضعة أشهر وظل سين أهم أنصاره يجري أحكامه في رومية ويقتل كل من لا تروقه حالته وكان سيللا في خلال هذه المدة قد تغلب على ميترايداتس وضمن إخلاص جنده له بأن أباح لهم نهب آسيا على ما يشاءون. وقد عاد (83) في جيشه إلى إيطاليا فبعث عليه خصومه بخمسة جيوش فانهزم بعضها وانحاز الآخر إليه ثم دخل سيللا إلى رومية وذبح الأسرى وخنق أنصار ماريوس.
الأحكام العرفية: بعد أن مضت بضعة أيام في المذابح شرع سيللا ينفذ الأحكام العسكرية على الأصول وعلق ثلاث قوائم بأسماء من يريد إهلاكهم قال: أعلنت أسماء جميع من ذكرتهم وقد نسيت كثيراً منهم وسأعلن أسماءهم كلما خطروا في بالي. وكل من علق اسمه في قائمة المحكوم عليهم كان معداً للقتل ومن أتى برأسه ينال مكافأة وتصادر أموال القتيل(34/49)
وكان يقتل الواحد بدون محاكمة بل بمجرد هوى القائد وبدون أن ينذر بالقتل. وعلى هذا الوجه لم يكتف سيللا بذبح أعدائه فقط بل قتل الأغنياء الذين كان يطمع في ثروتهم ويرى أحد الوطنيين البعيدين عن السياسة نظر وهو مار إلى قائمة المحكوم عليهم بالقتل فرأى اسمه مسطوراً في أول القائمة فهتف قائلاً: ما أتعسني فقد قتلني بيتي في آلب ويقال أن سيللا قتل ألفاً وثمانمائة ألف فارس.
قوانين سيللا: بعد أن تخلص سيللا من خصومه حاول أن ينظم حكومة تكون الكلمة فيها لمجلس الشيوخ، فعينوه حاكماً مطلقاً (ديكتاتور) ويطلق هذا اللقب قديماً على القواد في أيام الشدة والخطر ممن تكون لهم السلطة المطلقة فاستخدم سيللا هذه السلطة ليسن قوانين تغير النظام الدستور القديم وذلك بأن ينتخب القضاة بموجب هذا القانون من مجلس الشيوخ ولا تجري المناقشة في قانون قبل أن يوافق عليه مجلس الشيوخ ولا يحق لمحاميي الشعب بتة أن يقترحوا شيئاً وبعد هذه الإصلاحات التي خولت مجلس الشيوخ سلطة مطلقة استقال سيللا من منصبه وأخذ نفسه بالانقطاع إلى داره والعيش في العزلة (79) وكان يعرف بأنه في مأمن إذ كان له مئة ألف من جنوده في إيطاليا.
بومبي
بومبي: عاد مجلس الشيوخ فقبض على السلطة لأنه حسن في رأي سيللا أن يعيدها إليه ولكنه لم يكن له من القوة ما يستطيع معه المحافظة على تلك السلطة متى قام أحد القواد ينازعه إياها. ودامت حكومة مجلس الشيوخ أيضاً في الظاهر أكثر من ثلاثين سنة وذلك لأنه كان ثمة عدة قواد وكل منهم يحول دون خصمه أن يستأثر بالحول والطول. ولما هلك سيللا كان في البلاد أربعة جيوش على قدم الاستعداد اثنان منها خاضعين لقائدين من أنصار مجلس الشيوخ وهما كراسوس وبومبي والآخران بقيادة قائدين خصمين لمجلس الشيوخ وهما لبيدوس في إيطاليا وسرتوريوس في إسبانيا. والمأثور أنه لم يكن أحد في تلك الجيوش على استعداد ونظام وإن ليس في أولئك القواد حاكم له الحق بقيادة الجند.
وكان القواد إلى ذاك العهد أبداً من القناصل أما الآن فأصبحوا من الأفراد ينضم إليه الجند لا ليخدموا الجمهورية الرومانية بل ليغتنوا بسلب الأهلين.
ولقد انهزمت جيوش خصوم مجلس الشيوخ وبقي القائدان كراسوس وبومبي وحدهما واتفقا(34/50)
بينهما على الزعامة وجرى انتخابهما قنصلان.
سبارتاكوس: تكرر حدوث عصيان العبيد مرات (حروب العبيد) وكان ذلك في الأغلب في جزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا حيث كان العبيد يحملون السلاح لحراسة القطعان. وبعد أن ولي الولاية القائدان كراسوس وبومبي بدأت أشهر تلك الحروب وذلك أن عصابة مؤلفة من 70 مصارعاً هربت من كابو ونهبت عربة تحمل أسلحة وأنشأت تحمل على البلاد حملاتها فخف العبيد وانضموا إليها زرافات زرافات فلم تلبث تلك العصابة أن أصبحت جيشاً. وقد هزم هؤلاء العبيد على الولاء ثلاثة جيوش رومانية أرسلت لتأديبهم وكان سبارتكوس زعيمهم أسر في الحرب وهو من إقليم تراسيا جيء به إلى إيطاليا ليستخدم في الصراع فحدثته نفسه أن يجتاز بلاد إيطاليا كلها للعود إلى تراسيا بلده. بيد أن جيش كراسوس قاوم عصابات سابرتاكوس مؤخراً وكانت مختلة النظام فقتلها عن آخرها وبعدها حظرت رومية على العبيد أن يحملوا سلاحاً. ويحكى أنه أعدم راع من العبيد لأنه قتل خنزيراً برياً بحربة كانت معه.
حروب في الشرق: عهد مجلس الأمة لبومبي أن يتولى قيادة الجيوش في حربين متعاقبتين في الشرق الأولى (67) كانت مع قرصان البحر في شواطئ آسيا الصغرى وقد غزوا شواطئ إيطاليا ونهبوها والثانية (66) كانت مع ميترايداتس الذي لم يبرح على ما أصابه من الفشل يدافع عن حوزته في أطراف آسيا الصغرى.
ولقد عاد بومبي من آسيا في جيش يتفانى في الإخلاص له وكان في بضع سنين السائد المسود في رومية وإذ كان ينظر إلى الشرف أكثر منه إلى السلطة لم يدخل أدنى تعديل في الحكومة. وفي خلال ذلك نال الحظوة في الأمة شاب الأشراف اسمه قيصر فاتفق بومبي وكراسوس وقيصر بينهم على اقتسام السلطة (60) فانتخب قيصر قنصلاً ثم والياً على غاليا وتولى كراسوس قيادة الجيش الذي أرسل إلى آسيا للحملة على البارثيين ولقي حتفه سنة 53 وبقي بومبي في رومية.
كاتالينا: بينما كان بومبي يحارب في الشرق حدثت في رومية أزمة كادت تؤدي إلى ثورة وذلك أن أحد الأشراف من قدماء أنصار سيللا واسمه كاتالينا كان فقد ثروته لاسترساله في الشهوات فحاول أن يسترجع ماله بالقبض على أزمة الأحكام وكان رجلاً قوي الشكيمة(34/51)
جريء النفس مقداماً لا يتطرق إلى قلبه وسواس وله أصدقاء كثيرون من أشراف الشبان المستهترين الفاسقين أخلصوا في حبه إذ كان يقضي معهم أوقات صفائه ويقرضهم مالاً ويهديهم خيولاً وكلباب صيد. وله من الأنصار قدماء أشياع سيللا وقدماء الجنود الذين أسكنهم سيللا في إيطاليا ممن باعوا أراضيهم وأخذوا يبحثون عن مورد يعيشون منه.
فاتفق كاتالينا مع جمهور من هؤلاء الساخطين على أن يذبحوا في آن واحد القنصلين يوم يذهبان معاً على معبد الكابتول فلم يفلحوا فيما دبروه لأن الخبر ترامى إلى القنصلين غلا أن كاتالينا احتفظ بأنصاره وظل يدس الدسائس وكان أعداء مجلس الشيوخ وربما قيصر أيضاً يعضدونه سراً فقدم نفسه لينتخب قنصلاً فكان خصمه في هذا الانتخاب شيشرون أشهر محام وأعظم خطباء الرومان وكان هذا توصل إلى ينتخب حاكماً لأن الأسرات الشريفة غدت منذ عهد ماريوس لا تسمح إلا بانتخاب أناس من الأشراف.
وساعد أشياع مجلس الشيوخ الخطيب شيشرون فجرى انتخابه وسقط كاتالينا إلا أن القنصل الآخر رصيف شيشرون وهو أنطونيوس كان ممالئاً سراً للحانقين، فدر كاتالينا مكيدة أخرى على أن يذبح أصحابه شيشرون وأعضاء مجلس الشيوخ في رومية ويحرقوها بينا يكون قدماء أجناد سيللا المقيمين في أتروريا زاحفين على رومية فبلغ الخبر شيشرون فلم يخرج إلا في كوكبة من الفرسان محدقة به إلا أنه لم يكن عنده جيش لقتال قدماء الأجناد الذين شرعوا يتجمعون ويتسلحون والعبيد الذين أخذوا يسلحونهم في كابو فقضى جزءاً من السنة التي تولى فيها القنصلية وهو في قلق مستمر.
وأخيراً رجع واليان يقودان جنوداً فشعر شيشرون بقوة تمكنه من الدفاع فاستدعى مجلس الشيوخ ليوافق على قيام القناصل بما فيه سلامة الجمهورية الرومانية وأن يعطي القناصل سلطة ليتخذوا عامة الأسباب التي يرونها مناسبة وأدخل الجند إلى رومية يرابطون في الساحات ودعا مجلس الشيوخ إلى الاجتماع ثانية وفي هذه الجلسة ألقى خطبته الأولى في مقاومة كاتالينا وسأله مشعراً إياه بما دبره من المكيدة التي افتضح أمرها وأنذره بالانصراف.
فغادر كاتالينا رومية وذهب للالتحاق بقدماء الأجناد المتمردين في أتروريا وظل أشياعه في المدينة فاتفقوا سراً مع وجود الألوبروج بأن يقدموا لهم فرساناً ثم غيروا آراءهم وأفشوا(34/52)
سر المتآمرين. فطلب شيشرون خمسة من رؤوس زعماء المؤامرة واضطرهم إلى الإقرار. ثم أخذ رأي مجلس الشيوخ فيما يجب أن يعاملوا به فأجاب بأنه يجب إعدامهم ولكن أحد المجرمين واسمه لاتنتولوس قاضياً، ولا يحق لأأحد أن يوقفه إلا حاكم له مقام أرقى من مقامه فذهب شيشرون بذاته لتوقيف المجرمين الخمسة وأخذهم إلى سجن الكابتول وخنقهم وعاد ليقول لمجلس الشيوخ: لقد عاشوا.
فأعلن كاتالينا الحرب ولم يكن سوى جزء من رجاله يحملون سلاحاً ومعظمهم انفضوا من حوله وزحف عليه جيش بقيادة القنصل أنطونيوس آتياً من الجنوب وزحف آخر من الشمال ولم يبق لكاتالينا سوى ثلاثة آلاف رجل حاول بهم الفرار نحو الشمال فرأى جبال ابنين في وجهه مسدودجة فانفض على جيش أنطونيوس وهاجمه وقتل مع أصحابه جملة واحدة (63) فنال إذ ذاك شيشرون من مجلس الشيوخ لقب أبو الوطن دلالة على أنه أنقذ رومية من مخالب العدو ولكن لما انتهت سنة حكمه لم يعهد له بسلطة.
فتح بلاد الغال
دخول قيصر إلى غاليا: اتفق قيصر مع بومبي وكراسوس أن يتولى كل منهم القيادة في إحدى الولايات العظمى على أن يكون له الحق في أن يجيش جيشاً فوضع كراسوس يده على سورية وبومبي على إسبانيا وقيصر على الثلاث ولايات المجاورة لغاليا وذلك لمدة خمس سنين. وقد ذهب قيصر لما انقضت سنة حكمه بصفته والياً إلى مقر ولايته لينشيء فيها جيشاً ويكون هو قائده ودخل في الحال في عدة حروب وظل عشر سنين بعيداً عن رومية (ولم يدم حكمه أكثر من خمس سنين إلى سنة 53 ولكنه جدده دفعة ثانية إلى سنة 48).
وكانت رومية إلى ذلك العهد لم تخضع غير جزء من البلاد التي تنزلها الشعوب الغالية بل لم يكن لها سوى ولايتين غاليتين: غاليا سيزالبين وهي مؤلفة من البلاد الواقعة بين جبال البنين والألب (وهي اليوم إيطاليا الشمالة) والبروفانسيا وهي عباورة عن شواطئ البحر المتوسط وبلاد الرون من جبال الألب إلى جبال البيرنيه. وكانت هذه البلاد مع إقليم إيبيريا (الجبال الواقعة في شرقي الإدرياتيك) هي الثلاث ولايات التي تولاها قيصر.
أما باقي بلاد فرنسا الحالية التي دعاها الرومانيون غاليا فكانت مستقلة بعد يسكنها ثلاث(34/53)
عناصر من الناس، أحدهم الغاليون وهم يشغلون القسم الأعظم من البلاد أي جميع فرنسا الواقعة بين نهر الغارون ونهر السين ويصفهم اليونان والرومان بأن هؤلاء السكان من الرجال العظام بيض البشرة شقر الشعور زرق العيون طوال السبلات يأكلون اللحوم ويسكرون بنبي السرفواز (ضرب من الجعة) أو بشراب الأيدرومل وهم أشد شبهاً بالجرمانيين منهم بالفرنسيس اليوم. وكان السواد الأعظم من هذه الأمة يعيش شقياً في الأكواخ لا شأن لهم في إدارة شؤون بلادهم يخضعون لكبار أرباب الأملاك الذين يقاتلون راكبين صهوات خيولهم ويدعوهم قيصر بلافرسان ويذكرهم كما يذكر محاربين شجعاناً للغاية ولا يبعد أن يكون هؤلاء الفرسان الغاليون شبيهين بالجرمانيين هم من الفاتحين نزلوا وسط شعب أصغر منهم أجساماً أشقر أصهب يشبه الشعب النازل اليوم في البلاد الغربية أي فرنسا وإيرلاندا وبلاد الغال.
والقسم الثاني من تلك العناصر الثلاثة هم البلجيكيين نزلوا البلاد الواقعة في شمالي السين إلى نهر الرين وهم يشبهون كما كان يقول الرومان الجرمانيين النازلين في الشاطئ الآخر من نهر الرين والظاهر أنهم كانوا أقل اختلاطاً بالشعب القديم من الغاليين وأحسن الفرسان فيهم كانوا يقاتلون راكبين.
والقسم الثالث من تلك العناصر هم الآكيتيون نزلوا في جنوبي نهر الغارون وهم ضئال الأجسام شجعان يشبهون الإيبريين في إسبانيا ويتكلمون بلغة إيبرية ويعتبرون سائر شعوب غاليا كأنهم غرباء وهؤلاء خضعوا لقيصر أول الأمر. وبعد فلم يكن الغاليون والبلجيكيون والآكتيون أمماً معدودة بل لم يكن ثمة غير شعوب صغيرة يسمو إلى قدرها على نحو ثلاث أو أربع من مقاطعاتنا اليوم وكل مقاطعة تؤلف حكومة مستقلة ودعاها قيصر سيفيتا أي التي يحكمها كما يشاء وتحارب غيرها. وكان لبعض تلك الحكومات ملك ويحكم معظمها مجلس من الأشراف (الفرسان) وكان للكهنة عند الغاليين سلطة كبرى.
لم تبرح تلك الشعوب على حالة من التوحش بعد تعيش بما تنتجه لها ماشيتها وما مدنها إلا أسوار صغيرة محصنة يجعلون فيها مواشيهم وعيالهم إبان الحرب ولئن كان معظم البلاد غابات وحراجاً فقد بدؤا يزرعون حنطة ليتيسر أن تطعم جيشاً رومانياً بأسره.
جاء قيصر ينوي فتح غاليا في جيش اختاره من سكان الولايتين الغاليتين والخاضعتين(34/54)
لرومية خاصة وكان مؤلفاً بحسب العادة الرومانية من مشاة منظمين كتائب وعليهم أسلحتهم وهم مدربون أكثر من جيوش الشعب الغالي ولقد عني قيصر بذكر خبر الفتح في مفكراته فأوهم القارئ بأن الغاليين ساقوا عليه جيوشاً أكثر عدداً من جيشه ومن المحتمل بأنه لم يقل الحقيقة إذ لم يكن في استطاعة غاليا أن تطعم غير عدد قليل من الناس ومعظم سكانها ليسوا محاربين.
غارة الهيلفتيين والسويفيين: عندما وصل قيصر إلى بلاد الغال كان الإيدوانيون النازلون في جبال مورفان أشد شعوب أواسط غاليا بأساً وعاصمتهم بيبراكت بالقرب من أوتون وبلادهم واقعة بين نهر السون واللوار. ومن أشداء البأس الأرفرنيون النازلون في البلاد الجبلية التي أطلق عليها اسم (أوفرنيا) وكانوا حاكمين على الأمم النازلة في البلاد الصخرية الوسطى.
فحارب الإيدوانيون السكانيين النازلين في جبال جورا لاختلاف طرأ بينهم على الملاحة في نهو سون فاستدعى السكيانيون من ألمانيا زعيماً سويفياً وهو الملك أريوفيست فأتى بعصابة من خيرة المحاربين مؤلفة من العامة خاصة وهم السويفيون. وبعد أن تغلب الأيدوانيين طلب الملك أيوفيست إلى السيكانيين جزءاً من أرضهم لينزل فيها جيشه. وكان السكيانيون صالحوا الإيدوانيين لقتال أريوفيست الذين نزلوا عليهم وعندما استنجد الإيدوانيون برومية ولما قاد قيصر جيشه إلى بلاد سون تقدم على أنه حليف شعب غالي لمقاومة غارة جرمانية وفي غضون ذلك أخذ الهيلفتيون وهم شعب غالي يسكن سويسرا بالهجرة من بلادهم فانقلبوا منها يحملون أسراتهم ومواشيهم وأمتعتهم محمولة على مركبات قائلين أنهم يريدون مهاجمة بلاد الغال ليستوطنوا شواطيء المحيط. وربما كان ذلك حيلة منهم ليذهبوا لنصرة الأيدوانيين على أريوفيست وتقدموا إلى قيصر أن يسمح لهم باجتياز تلك الولاية الرومانية فأبى عليهم ذلك فلم يبق أمام الهيلفتيين إلا أن يقطعوا وادي سون فداهمهم قيصر بالقرب من نهر سون وحمل أولاً على ساقة جيشهم ثم هاجم مجموعهم فذبح منهم جزءاً عظيماً واضطر من أفلتوا من القتل إلى الرجوع إلى بلادهم ثم ارتد على أعقابه لقتال أريوفيست وأسرع حتى بلغ في جيشه إلى فيرونوسيو (بزانسون) وحاذر جنده من هول هذه الحرب وهم في بلاد جبلية مغشاة بالغابات يهاجمون برابرة أشداء على أهبة تامة(34/55)
فجمع قيصر قواد المئة من جنده (يوزباشية) وقال لهم على ن يوجسون خيفة أن يسافروا مع الفرقة العاشرة فأجابه قواد المئة بأنهم يتبعونه حيثما ذهب.
وقطع الجيش الروماني مجاز جبال الفوسج ونزل إلى سهل الإلزاس وجاء يعسكر أمام العدو. وألف أريوفيست معسكره من مركباته وتحصن وراءها وكان قيصر يمرن جيشه في السهل ويعبيه للقتال ثم صحت عزيمة أريوفيست على الخروج من المعسكر فداهم الجيش الروماني في فرسانه فجرح وفر جنده فطارده العدو حتى نهر الرين. وكان المهاجمون الجرمان يطردون إلى خارج غاليا ولكن قيصر لم يأت مع جيشه إلى ولايته بل رابط معه ي وادي سون حيث قضى الشتاء وقد أخذ يعامل بلاد غاليا كالبلاد المغلوبة فاضطرت الشعوب الغالية أن تحالف رومية.
فتح شمال غاليا: أبى البلجيكيون النازلون بين نهري السين والرين وهم أشجع شعوب غاليا كافة أن يدخلوا في محالفة رومية فتعاهدوا بينهم وتحالفوا وجمعوا جميع المحاربين من أبنائهم في بلاد لاون. فجاء قيصر في الربيع في ثماني فرق من الجند وعقد محالفة مع أحد هذه الشعوب وهم الريمسيون ونزل في معسكر حصين على رابية يفصلها عن معسكر البلجيكيين واد ذو بطائح وظل الجيشان زمناً أحدهما قبالة الآخر وإذ كان الجيش الروماني منظماً كانت تأتيه النجدات من الطعام تباعاً أما البلجيكيون فشق عليهم أن يتغذوا في تلك الأدغال والحراج فأنفذ قيصر الإيدوانيين أحلافه يخربون بلاد الييلوفاكيين أهم تلك الشعوب المتحالفة ولما بلغ البلجيك ذلك انفضت جموعهم ليذهبوا للدفاع عن بلادهم فتخلص قيصر من جيش العدو بدون قتال وراح يطوف بلاد البلجيكيين ويهاجم مدنهم الواحدة بعد الأخرى مكرهاً كل أمة أن تكون حليفة لرومية وأن تعطيها على سبيل الرهن رجالاً من الأسر النبيلة في بلادها.
وقد داهم النيرفيون (أهل بلاد السامبر) أحد هذه الشعوب الجيش الروماني في غابة على شاطيء نهر السامبربينا وكان يبني معسكره وهزم الفرسان الغاليين أحلاف الرومان وعساكر الرجالة الخفيفة إلا أن الكتائب حمت المؤخرة وحالت دون الهزيمة فأخذ قيصر يحارب النيرفيين حرباً يريد بها إبادتهم عن آخرهم. ولما أخضع الجيش الروماني الشعوب البلجيكية قضى الشتاء في وسط بلاد غاليا على شاطيء اللوار.(34/56)
فتح الغرب: قبلت الشعوب النازلة على ضفاف البحر المحيط أن تحالف رومية وتقدم لها رهائن وما جاء الشتاء حتى تحالفوا بينهم وأبوا أن يرسلوا حنطة لإطعام الجيش الروماني وأسروا عندهم مندوبي الرومان الذين جاؤوهم في طلب ذلك ليكرهوا قيصر على أن يعيد إليهم من استبقاهم عنده من رجالهم رهينة. وكان للفنتيين (سكان فان) وهم من الشعوب الخطير في ذاك الحلف سفن حربية صنعوها من شجر البلوط وجعلت بحيث تسير على إرادة ربانها ولها مقدم مرتفع يقاوم الأمواج وطبقات سفلى منبسطة تستطيع أن تبحر على قيعان الشاطيء وفي البحار الصغيرة فأنشأ قيصر سفناً ذات قلوع في مصب نهر اللوار هاجم بها أسطول الفنتيين. وصعب عليه أن يحطمه لأن سفنه لم يكن لها من العلو ما يكفي للوصول إلى ساماة تلك السفن الفنتيية وكانت مراكبه داخلة في الماء كثيراً بحيث لا يتسنى لها أن تطارد مراكب عدوه في وسط الصخور والقيعان وبعد اللتيا والتي صنع الرومان مناجل ذات مقابض وعصي طويلة قطعوا بها الحبال التي كانت تمسك قلوع سفن الفنتيين فلما سقطت القلوع من هذه السفن. ولم يكن عندها مجاديف تقذف بها وقفت لا تبدي حراكاً فداهمها الجيش الروماني وأخذها عنوة فطلب الفنتيون الصلح إلا أن قيصر أمر بأشرافهم فضربت أعناقهم وباع سائر الشعب بيع العبيد. وفي تلك السفن أيضاً كان اقتطع قيصر فرقة صغيرة من جيشه لتخضع لسلطان رومية جميع الشعوب النازلة في الإقليم المعروف اليوم بإقليم نورمانديا وهناك فرقة أخرى له تحارب شعوب الأكتيين في جنوب نهر الغارون وعلى هذا فقد أخضع قيصر في ثلاث حملات (58 ـ 56) عامة بلاد غاليا واغتنم فرصة الشتاء للعودة إلى ولايته في إيطاليا المعروفة بسيزالبين.
وفي العام التالي (56) ضرب موعداً للقائدين الآخرين اللذين كانا يقاسمانه الحكم وهما بومبي وكراسوس فاجتمع ثلاثتهم على تخوم ولايته في ولاية لوكس وقرروا تجديد حكومتهم لخمس سنين أخرى.
حملات إلى خارج غاليا: حارب قيصر خارج ولاية غاليا دلالة على سطوته وإشغالاً لجيشه وكان شعبان جرمانيان اجتازا نهر الرين وهاجما بلاد البلجيك فسار قيصر في جيشه وفرسان شعوب غاليا على نهر الرين بالقرب من ملتقى نهر الموز وهاجم الجرمان وذبحهم مع نسائهم وأولادهم ثم بنى على الرين جسراً من جذوع الأشجار وذهب لتخريب الشاطيء(34/57)
الأيمن.
ولما عاد إلى غاليا ركب البحر مع فرقتين (55) واجتاز بحر المانش ونزل إلى بريطانيا (إنكلترا) ولما أنشأ في السنة التالية سفناً متسعة قليلاً لنقل الأثقال والخيول عاد إلى بريطانيا في جيش كبير واجتاز الغابات التي دافع عنها المحاربون البريطانيون حتى بلغ نهر التيمس (54).
قيام الغاليين: كان الأشراف في معظم الشعوب الغالية من أشياع رومية يقاتلون في الجيش الروماني على أنهم رديءٌ من الفرسان ويعاشرون الضباط الرومانيين وكان بعضهم من اصحاب قيصر إلا أن السواد الأعظم من تلك الأمم كانوا يتبرمون بأولئك الجنود الغرباء الذين يسيرون سير السادة فانشق بعض الزعماء من حزب الأشراف واتفقوا بينهم سراً على تهييج الشعب. وكان قيصر قد وزع جيشه على شعوب كثيرة لقضاء فصل الشتاء وذلك لأن القمح كان نادراً في تلك السنة فقرر زعماء الغاليين أن يغتنموا هذه الفرصة لمهاجمة الفرق المنعزلة وقطع مواصلاتهم فانتظروا ريثما يبتعد قيصر إلى ولاية سيزالبين حيث ذهب لقضاء الشتاء.
إلا أن شعب الكارلوت (شارتر) أبدى نواجذ العصيان قبل أن يتم ما دبروه مستشيطاً غضباً من ملكه الذي نصبه قيصر وحاكمه فحكم عليه بالإعدام وقتل. فبلغ قيصر هذا النبأ فاستعد للحرب ولما أزمعت الفرقة الرابطة في بلاد السامبر الخروج من معسكرها داهمها الأيبورون وذبحوها. ورأت فرقة رومانية أخرى أن تبقى في معسكرها فأحاط بها الغاليون فأسرع قيصر وتمكن من إنقاذها وعند ذلك استراحت الجنود الرمانية إلى آخر الشتاء.
ولما طلع الربيع أبى عدة شعوب غالية من الشمال أن يبعثوا وفودهم إلى قيصر فجمع جيشه برمته وسحقهم واحداً بعد واحد فانتقم من الأيبوريون بتخريب زروعهم وحرق قراهم وبح السكان وطارد المنهزمين إلى غابات آردن وما جاء الخريف إلا وقد خضعت غاليا الشمالية بأسرها.
الفارس فرسنجتوريكس: أجمع شعوب أواسط البلاد في خلال الشتاء أمرهم بينهم على العصيان ثانية وبدأ الكارنتيون أولاً فداهموا مدينة سنابوم على نهر اللوار فقتلوا فيها تجار الطليان كافة. وفي هذه المرة تسلح عامة الشعوب النازلين بين نهر السين والغارون لقتال(34/58)
الرومان وبقي الأكتيون على الحياد. وبدأت الشعوب المحالفة لرومية تنزع السلطة من يد الأشراف أشياع قيصر وأقاموا زعماء جدداً ودخل هؤلاء في التحالف الغالي.
وكان زعيم الثورة شاباً من أسراف أرفرنا اسمه فرسنجتوريكس وهو فارس يحسن الفروسية خدم في الجيش الروماني وكان صديق قيصر وأحدث ثورة في بلاده أولاً وما هاج سكان القرى حتى نزع السلطة من أيدي الأشراف وأصبح ملكاً على أرفرنا ثم بعث برسل إلى الشعوب الأخرى وجمع جيشاً وجعل من نظامه أن يحرق الخائنين ويصلم آذان الآبقين ويسمل عيونهم، فداهم الغاليون الرومانيين في آن واحد في الجنوب من ولاية بروفنسيا (من إقليم لانكدوك) وفي الشمال من البلاد الواقعة بين هري السين والسون حيث كانت ترابط الفرق الرومانية، واضطر قيصر أن يجتاز جبال سيفين وهي مكللة بالثلوج وأكره فرسنجتوريكس من رجاله أن يعود للدفاع عن بلاده فاتسع الوقت لقيصر أن يجمع جيشه بالقرب من سانس ويذهب فيه إلى إقليم اللوار فخرب فرسنجتوريكس جميع البلاد وجعل المدن قاعاً صفصفاً لتكون قفراً لا يجد فيها العدو سيئاً يطعمه بيد أن البيتوريجيين لم يقبلوا بتخريب مدينتهم أفاريكوم ودافعوا قيصر عنها زمناً.
بعث قيصر في الربيع (52) فيلقاً لمباغتة شعوب السين وذهب بنفسه في معظم جيشه للهجوم على جركوفيا قلعة الأرفرنيين فرد على أعقابه وحرج موقفه إذ لم يكن لديه طعام (لخراب مخازن ذخائره في نرفر) وهو محصور بين شعورب الأرفرنيين والأيدوانيين الذين ذبحوا التجار الطليان ومع ذلك أصر على عدم إخلاء غالياً وتمكن من الوصول إلى سانس. وفي خلال ذلك عين المجلس المؤلف من مندوبي جميع الشعوب الغالية الزعيم فرسنجتوريكس قائداً عاماً على الجيوش الغالية.
فاستدعى قيصر من جرمانيا فرساناً أخذهم لحساب رومية وقاد جيشه من ناحية سون ولعله فعل ذلك ليتمكن من مراسلة بروفنسيا فتبعه فرسنجتوريكس في جيشه وحاول أن يقطع عنه مواد الطعام ورمى الجيش الروماني وهو في مسيره بفرسانه الغاليين فهزمهم فرسان الجيش الغالي ورجع فرسنجتوريكس على أعقابه إلى مدينة أليزيا الحصينة في بلاد الآكام بين نهر السون ومصب نهر السين فتبعه قيصر وحاصره فيها جاعلاً حول أليزيا سوراً تعلوه دائرة مجنحة ذات أبراج يحميها بخندق.(34/59)
وصل جيش من الغاليين لرفع الحصار عن جيش فرسنجتوريكس وداهم الرومانيين ولكن حال دون الوصول إليه ذاك السور الذي أقامه قيصر من ناحية الخلاء. وبعد اشتباك القتال بين الجيشين رد الجيش الغالي على أعقابه وتفرق شذر مذر فلم يبق عند الجيش المحاصر في أليزيا شيء من الزاد فسلم فرسنجتوريكس (52) فبعث به قيصر إلى رومية حيث قضى ست سنين سجيناً ثم شهد حفلة انتصار قيصر وضرب عنقه.
وهكذا انتهى العصيان العام. وقضى قيصر سنة أخرى في إخضاع الشعوب التي كانت تقاوم واحداً بعد الآخر فأبادها. وكان يفاخر بأنه ذبح في ثماني سنين مليوناً من السكان وأنه أسر منهم مليوناً آخر باعه بيع العبيد وقضى سنة أخرى لتنظيم شؤون حكومة غاليا وبعد ذلك صفا الجو لرومية بهلاك أعدائها. وقد وسد قيصر الحكم إلى الأشراف أشياع الرومان وألف فرقة من الغاليين لقبوها بالسنونو وكان جيشه المدرب يحبه فحدثته نفسه أن يستخدمه في الاستيلاء على المملكة الرومانية بأشرها فخضعت غاليا لرومية مباشرة وتقسمت ولايات ولكن تنظيمها لم يتم إلا على عهد أغسطس.(34/60)
جيران الفراعنة
بقية ما في الجزء السالف
تقدم أن اكتشافات المستر ونكلر في بوغاز كوي كانت ذات شأن سام لعلاقتها بالتاريخ القديم لشعوب البحر المتوسط وها نحن أولاء نشرح نظريتنا من هذه الوجهة المهمة ونبينها على قدر الطاقة.
لما كان من المسلم أن عاصمة مملكة الهيتيين ليست كما ظن حتى الآن جرابيس في شمال الفرات الأوسط بل هي بوغاز كوي من أعمال كابادوسيا لم يبق صعوبة في أن نقول بأن ملك الهيتيين امتد سلطانه إلى ليديا. وهذا التغلب على الساحل الآسياوي من بحر إيجي ظاهر في نفسه لا يحتاج إلى شرح بعد أن عرف بأن كابادوسيا كانت متاخمة لإقليم ميونيا أو تكاد. وإذ ضاق ذرع الهيتيين من اتصال اعتداء الفراعنة على أملاكهم الجنوبية أجمعوا أمرهم بينهم على إشهار الحرب على مصر وطرد الفراعنة منها وإذ لم يتأت كتم استعدادهم للغارة في وسط بلادهم فقد أصبح هجومهم على الفراعنة بحراً ضربة لازب ليحولوا دون اعتداء الفينيقين وهم تابعون لمصر لئلا يكونوا السبب في إخفاقهم في غزوتهم. فبدلاً من أن يستخدموا ثغر تارس مرفأهم الحربي العظيم لإرسال أسطول ضخم اختاروا ثغر أزمير وهي تقع في وسط خليج مشيعين بأنهم رأوا من الضرورة أن يهاجروا لأن السكان نمو كثيراً فضاقت بهم البلاد. ولئن لم يكتب لثغر تارس أن يجتمع المحاربون فيه فإن بحارته وربابنته وفيهم وحدهم كالهيبينيين الثقة التامة تولوا أمرة الأساطيل وإبحارها. ومن هنا جاء اسم تورسها الذي أطلقوه على غارتهم على مصر. ولا شك أنهم بعد انكسارهم قصدوا إيطاليا لاستيطانها مع بقائهم مرتبطين ارتباطاً محكماً ببلادهم الأصلية وذلك لأن دخول السادرسيين والسيكوليين بعد قرن في اتحاد شعوب البحر يحمل على هذا الظن.
وليس التناسب الظاهر بين رواية هيرودتس وآثار الكرنك المزبورة هو من فعل الاتفاق. فقد قال هيرودتس أن عهد أتيس أو الأتيين قد تقدم عهد أرغون مؤسسة الدولة الهيراكلية وفي ذلك مجال إلى القول بأن استيلاء الهيبتيين سبق استيلاء الآشوريين على آسيا الصغرة وأهم نقطة جوهرية في رواية هيرودتس المؤرخ اليوناني هي الصفات المميزة للعمل الذي قام به تورسنوس في توليه زعامة الأسطةل الذي أقلع من أزمير فقد ورد في نصوص(34/61)
الآثار المصرية أن التورسهانيين كانوا عقدوا العزم على أخذ أساطيل شعوب البحر المتجمعة تحت حمايتهم.
وهنا ننتقل إلى الكلام على شعب آخر جعله بانتاور في شعره في مصاف الهيتيين على عهد رعمسيس الثاني. وهذا الشعب هو الدرداني الذي تنسب إليه كتابات الكرنك التقدم على جيرانه لأنه قبض على قياد الجيوش للالتحاق بملكهم الخاضعين له في سورية.
والظاهر أن هؤلاء الدردانيين الذين ورد ذكرهم في شعر هوميروس وجاء في تقليد صحيح منذ القدم بأنهم سكنوا شاطيء الدردنيل وأنهم كانوا من أصل تراسي.
ولا نكتم ما يخالج ضميرنا من التردد إذا أردنا أن نحيد عن هذه الوجهة عن تأثيرات التقاليد ولا سيما إذا جاءت متوافقة متناصرة. ومع ذلك فإن اعتقادنا بعدم قبول مثل هذا الأصل راسخ ولكن لا نستنكف من جعله قيد النظر والبحث على ضعف فيه.
وبعد فيظهر لنا أن دخول التراسيين أو الفرغانيين في أصل جميع الشعوب الصغيرة التي كانت تسكن إذ ذاك الشاطيء الآسياوي من بروبوتيد ناشيء كما قلناه من رغبة الآسياويين بالاتصال باليونان عندما أتوا لاستعمار هذا الجزء من آسيا الصغرى بعد حرب تروادة بمئة وأربعين سنة ومن هنا دخل في علم أصول سكان هذه البلاد وامتزاجهم تقليد أصبح له مع الزمن صبغة تاريخية وإن تطرق الشك إليه كثيراً.
نحن نرى أن الدردانيين ليسو تراسيين ولا كربتيين بيلاسجيين بل كانوا إيرانيين ودليلنا على ذلك ما رواه هيرودتس. وفي الحقيقة أن هذا المؤورخ لا يعرف إلا اسم مدينة واحدة باسم الدرداني كانت في عهده على الشاطيء الآسياوي من الدردنيل أما الدردانيون الصرف فقد ذكر أنهم في أودية جبال ماتين التي يجري فيها نهر جينديس الذي يصب في دجلة الوسطى وهو أهم مصب له. ويسوقنا هذا الموطن الأصلي للدردانيين إلى الجزم إلى الجزم بأنهم فرع من العنصر البروتو الأرمني. ويقول ماسبر أن الماتيين الذين ورد ذكرهم في الكتابات الأكادية أو الماتيين الذين ذكرهم هيرودوتس كانوا أنسباء الدردانيين سكنوا أولاً في جنوبي بحيرة أورومية بين أرمينية قديماً وميديا فحدا الميل إلى اقتحام المخاطر بالماتيين وجيرانهم إلى مغادرة جبالهم وأوديتهم منذ القدم وأن يضربوا في شواطئ قزل إيرمق حيث استوطنوا منذ ألفي سنة قبل المسيح. وإن ما يدعونا إلى أن نرتئي بأن تاريخ(34/62)
ذلك قديم هو أنه ورد في الكتابة التي ذكرت فيها نصرة توتيمس الثالث أحد الفراعنة فإنه بعد أن نكل بقبرص والآز أرعد أرض ماتان في مرافئها وأنحائها كما ورد في تلك الآثار. إذاً فأي معنى للفظ ماتان إن لم يكن الماتانيون من الذين ذكرهم هيرودتس. إذا صح هذا فيكون الماتيون منذ الزمن الأطول قد اجتازو نهر قزل إيرمق وضربوا إلى البحر المتوسط وذلك قبل أن ينشأ التراسيون حتى في أوروبا. وربما جاء من هناك خلط قدماء المؤلفين في دعواهم بوجود قرابة بين الفرغانيين والأرمن وهي قرابة ينفيها مؤرخ الأرمن موسى بن خورين لأنه يرى أن أصل الأرمن من تيراس لا من كومر. ومن المحتمل كثيراً أن تشابه النطق بتراس وتيراس قد أوقع في الخلط بهذا التفسير وبحسب العلم الحاضر تكون تيراس في إقليم طوروس لا في تراسيا.
ولقد أقمنا زمناً في أزمير كانت لنا في خلالها خلاصات دائمة مع الآباء الميخيتاريستين ولذلك ألفنا اللغة الأرمنية فلم نتبين في هذه اللغة تناسباً لغوياً بين اللسان الفرغاني الذي كتبت به المكتوبات الآسياوية واللغة الأرمنية. وإذا كان ثمة بعض الألفاظ سرت فمنشأوه من وحدة البلاد التي سكنوها بعد عهد نزول التراسيين إلى آسيا الصغرى بزمن طويل بيد أن المصانع الأرمنية كثيرة في أيامنا هذه في هذا الجزء من قارة آسيا وقد قيل أيضاً أن اللغة الأرمنية المدرسية الحديثة قد نشأت في القرن الخامس للميلاد وبذلك كان من المتعذر معرفة أي لغة يتكلم بها البوروتو الأرمن. وهناك خطأ آخر وهو أن اللغة الأرمنية ليست وحدها معروفة في القرن الخامس ب. م بل أن حروف هجائها واللغة الأرمنية متشابهة الأصوات بحيث يعسر أن تكتب بحروف أوروبية ولذلك واقتضى لها إيجاد حروف خاصة للاستعمال.
ومن المحقق أنه لا توجد كتابة صخرية يرد عهدها إلى العهد البورتو الأرمني وجميع الكتابات التي وجدت في مدينة وإن قد رسمت بالخط المسند ولما أراد مسروب في القرن الخامس أن يؤلف لأمته آداباً وطنية لم يجد المواد لتأليفها من أصولا حروف الهجاء الأوروبية كلغة الروم وآسيا الصغرى وإيطاليا بل وجد الأصول لتأليفها في فرع اللغة الآرامية مثل البهلوية والزندية والكرجية وإذ كانت هذه اللغات أيضاً غير كافية للتعبير عن الأصوات الأرمنية اضطر أن يزيد سبعة حروف صوتية وسبعة حروف ساكنة ليمثل بها(34/63)
الأصوات التي لا توجد في حروف الهجاء المعروفة من أصل آرامي وبذلك تبينت أن لا علاقة للغة الأرمنية مع اللغة الفرغانية لأن هذه لغة لم يكن لها غير تسعة عشر حرفاً وكانت غير كافية للإعراب عما فيها.
بقي علينا الآن أن نشرح الداعي إلى الاستعمار الإيراني لتروادة وعلاقة هذه مع الدولة التي حكمت في أليون وهي علاقة كانت السبب في تقدم ذاك الاستعمار على غيره من المستعمرات الكريتية البيلاسجية في هذا الجزء من آسيا الصغرى.
وليس غير الاستدلال نعمد إليه في بحثنا في هذا الماضي الذي لا تاريخ له ولا ندعي بأننا نضع نظرية لعرضها كأنها حقيقة أساسية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ويتيسر لنا الحكم على ذاك الماضي بما تدل عليه بقايا ما عثر عليه من الكتابات التي ورد فيها خبر الانتصارات في الكرنك وفي النصوص اليونانية والظاهر أن أهل الطبقة الحاكمة من الهيتيين كانت لا تنظر إلى تطبيق المبادئ السياسية بالحرف بل تتوخى تطبيقها مع الأحوال والزمن ولذا كان يسكن جزءاً من بلادهم شعب ضعيف كان في إخلاصه له نظر فأدى ذلك إلى خلع ربقة دولتهم الحاكمة وتسليم مقاليد الحكومة إلى دولة أخرى يتيسر الاعتماد على إخلاصها أكثر. ومن صعب مراسهم من الشعوب يطردونهم من بلادهم وهذه السياسة تشرح كيف تنقل الشعوب في بلاد الهيتيين من ناحية إلى أخرى من أنحاء مملكتهم. وبهذه الحجة دخل اللوكوسيريون إلى كابادوسيا لمعاضدة الدولة الهيتية الحاكمة التي هي من جنسهم ودخل الميونيون الذين ردهم الهيتيون على أعقابهم واستعاضوا عنهم بالعنصر السامي اللودي ومثلهم التركريانيون الذين طردوهم للاستعاضة عنهم بادردانيين للمحافظة على ممر الدردانيل ومنع أساطيل الأعداء والمزاحمين من الدخول في البحر الأسود وهو مركز تجارة كبرى لمنافسة الفينيقفيين. كل ذلك يحمل على الظن بأن قبيلة أولية اجتازت خليج الدردنيل على عهد الملك توسر لأن المؤرخ هيرودتس يؤكد أنه رأى في كولشوس مستعمرة مصرية حبشية كانت هناك منذ الزمن الأطول.
وإذا توسعنا في البحث في أصول الشعوب التي تبعث الجيش الهيتي إلى سورية مكن طريق البر نجد ثمة جماعات أخرى وإن كان قدومها آخر الآمر من كريت فليست على ما يظهر كالفيلستيين من أصل ليبي مصري. وهؤلاء الجماعات هم الكاريون والليسيون(34/64)
والكوكونيون الذين يظهر أن بينهم قرابة ونسباً. قال هيرودتس فيهم أن الكاريين والكوكونيين والليسيين غادروا الجزائر ليستوطنوا القارة الآسيوية وكانوا في القديم رعايا مينوس (ملك كريت) ولم يكونوا يدفعون خراجاً ولهم في ميلاسا معبد قديم للمشتري الكاري وهو بينهم مشترك لما بينهم من القرابة ولذلك كانوا مستأثرين بهذا المعبد وحدهم دون جيرانهم الذين ليسو وإياهم من أصل واحد. وكانت لهم عادة قلما توجد عند غيرهم من الناس وهو أنهم يدعون الأبناء إلى أمهاتهم لا إلى آبائهم وإذا سئل أحدهم عن نسبه ذكر والدته وسلسلة نسبها. وعندهم إذا تزوجت امرأة وطنية بعبد يجيء أولادها أحراراً أشرافاً وأما إذا تزوج وطني ولو كان سيد قومه من امرأة أجنبية أو من سبية فأولاده ساقطون لا شرف لهم وليسو أحراراً.
وقد ألف البارون دي كستين كتاباً مستوفى في الكاريين قديماً فبحث في أصل حكم المرأة في الأسرة وفي تأثيرها في المجتمع المدني ونفوذها في المملكة وأثبت بأن هذه العادة كانت مستحكمة عند الأمم الليبية القديمة وعند قسم عظيم من شعوب آسيا الصغرى وقد جمع بين هاته الشعوب ليرجعها إلى أصل واحد هو في رأيه الجنس الأسمر النازل في أوساط آسيا المعرف باسم العنصر الطوشي.
وقد كانت عبادة الكوشيين عبادة أرباب البحار كما كانت عبادة الفوتيين والإيبريين ونشأت هذه العبادة عغلى شواطئ المحيط الهندي وانتشرت في عامة أنحاء الخليج الفارسي وبلاد العرب الجنوبية ومن هناك انتقلت إلى بلاد الحبشة ومنها سرت إلى أطراف موريتانيا في المحيط الأطلانطيكي وانتقل مكار وهو معبود الليبيين والإيبريين إلى اليونان مع تعديل كثير فيه وكان حيثما انتشرت عبادته تؤوي المعابد المعمورة باسمه من يمر بها من البحارة.
ومن الصعب أن نصور كيف عمت عبادة مكار في البلاد ذات الأنهار والجزائر الواقعة في البحر المتوسط حتى بلغت جزائر مكار في المحيط الإطلانطيقي. فقد ترك الكاريون والماريون حيثما نزلوا بنايات متسعة صبرت على الدهر بمتانتها. فإذا سرنا من ليبيا نجتاز أولاً واحة عمون الذي سمي أولاً باسم مكارونيسواو جزيرة مكار. وقد كان في برقة نهر اسمه نهر مكار وفي خليج قابس بحيرة مكار وفي زوجيتانيا نهر آخر اسمه نهر مكار.(34/65)
وعلى الشاطئ الإطلانطيقي في موريتانيا (شمالي مراكش وغربي الجزائر) نهر وبحيرة باسم مكار. وقد اكتشف هانون القرطاجني في تلك الأصقاع في القرن السابع قبل المسيح نهر لوكوس وخرائب مدينة أسوارها كارية ولا تزال هذه الأسوار موجودة إلى يومنا هذا وإذا تركنا وراء ليبيا ومررنا بأوروبا نجد في مدخل الأرخبيل اليوناني جزيرة لمكار. ونعني بها جزيرة كريت وربما جاء من هنا اسم كانتور أو جزيرة سيفين الكبرى على ما قال ذلك إيبرس الأثري الألماني وإذا تقد إلى الأمام نجد نهراً لمكار في إقليم تساليا وآخر في بيوسيا وثالثاً في بروبوتيدا. ويؤخذ من قول هوميروس أن لسبوس (جزيرة مدللي) كانت مقراً لمكار.
ولا يقف إنشاء عبادجة مكار وراء تخوم بلاد اليونان بل كانت شائعة في إقليم أومبريا بإيطاليا وساردينيا وإبيريا (الأندلس) ولا شك أن أسواء جزيرة تارتاسوس لم يستطع أهل صيدا أن يدكوها إلا باختراع المنجنيق وما تعاصت عليهم إلا لأنها بنيت معبداً لمكار.
وإذا سألت عن مكار هذا الذي يكاد يكون أثراً خالدجاً في كل مكان فهو بحسب الألواح الآشورية المحفوظة في المتحف البريطاني مكار أوانو ـ كما جاء في أحدها ـ سيد المياه ورب الأنهار وسلطان البحار وزعيم الأعماق وربها وحاكمها. وفي الأساطير البابلية أنه أحد الأرباب التي بدت في صورة أسماك يحرس منازله الرجال الذين خلقوا على هيئة أسماك ويتصل نسب مكار كما في الأساطير الهندية بفرع الكوشيين. وإذا عرفت هذا فلا يسوغ لك أن تخلط بين مكار بعد ما ذكرت لك من وصفه وبين بوسيدون وهو رب ليبي صرف رآه اليونان في جميع الحار واتخذوه وصبغوه بصبغتهم. وكان على الشاعر هوميروس أن يعرف تلك الأرباب القديمة التي كان تعبد في ليبيا لأنه كثيراً ما يذكر في الأوديسية اسم الحبشان الآسياويين والحبشان الأفريقيين.
ولغة الكاريين هي لغة البربر وهي لغة أحد الفروع القديمة للجنس البشري كان يطلق عليهم جيرانهم في آسيا وإفريقية بارباروئي. وهذا الاسم القديم (البربري) لم يطلقه على عمومه إلا اليونان واللاتين أما هوميروس فإنه يعني ببربر ذاك الفرع الليبي من الناس المعروف باسم بربر حتى اليوم. وبين بارباروئي كما أطلقه هوميروس بعض ألفاظ تقرب كل القرب من اللغات السامية حتى لقد قال أحد العلماء أنه إذا كان النحو اليوناين يدل على(34/66)
تراكيب تشبه النحو السنسكريتي واللاتيني والسلافي فإن معجمه وإن حوى مفردات كثيرة جداً ولاسيما في المصادر الصوتية وهي آرية بالطبع قد أطلعنا على قليل من المعاني الغريبة عن جميع اللغات الهندية الأوروبية والألفاظ السامية. وليست هذه التعابير مقصورة على الألفاظ الدالة على حيوانات ومعادن ونباتات بل أن منها ما يدل على المبادئ الضرورية للحياة المدنية والسياسية وفيها خالف اليونان وحدهم إجماع الأمم الأوروبية. أهـ
وقد تبين أن بين خط ميونيا وخط ليبيا القديم تناسباً وأن هذا الخط ليس له علاقة بالحروف الهيتية أو الحروف الفرغانية في آسيا الصغرى بل هو مشتق من الخط الهندي الحميري. والظاهر على ما قاله نورمان أن الخط الهندي الحميري جاء في الأصل من جنوبي بلاد العرب ومن هناك انتقل إلى أفريقية ـ حيث كان الخط الحبشي والليبي فرعاً خاصاً برأسه ـ مع الخط الحميري أو هجاء سكان اليمن القدماء.
وهذا التعريف الذي عرفه لنورمان من تعيينه سير هذه الحروف الهجائية هو مثل تعريف البارون دي كوستين للخط الكوشي في تنقله إلى أن بلغ البحر المتوسط فساغ لنا من ثم أن نقول أن اللغة الحميرية اشتقت منها الغسانية والغزية والليبية والكريتية والإمحرية والتيفنغية.(34/67)
مطبوعات ومخطوطات
العرب قبل الإسلام
ألف جرجي أفندي زيدان منشيء الهلال هذا الكتاب وهو يبحث في أصل العرب وتاريخهم ودولهم وتمدنهم وآدابهم وعاداتهم من أقدم أزمانهم إلى ظهور الإسلام ويدخل هذا الجزء الأول تاريخ دول العمالقة في بابل ومصر وفي بطرا وتدمر وغيرهما وتاريخ العرب القحطانية في اليمن ودولها المعينية والسبأية والحميرية وتمدنهم في مآرب وظفار وحضرموت وفيه أخبار عرب الشمال وعدنان وما كان لهم من الدول في الحجاز ومشارف الشام والعراق وحروبهم وغير ذلك. وقد زينه ببعض الرسوم والخرائط وجعله هدية لمشتركيه عن السنة السادسة عشرة فجاء في زهاء 250 صفحة يشهد بطول باع المؤلف وبحثه فنحث على اقتنائه.
فلسفة العمر
قل فينا المؤلفون الذين يؤلفون للذة والفائدة فقط وقل فينا من يحبون العلم للعلم ولا سيما من أهل السعة. وصالح بك حمدي حماد من أهل هذه العاصمة هو من الكتاب الذين وقفوا أيامهم ولياليهم على هذا الغرض الشريف نقل حتى الآن عدة كتب من اللغة الفرنسوية إلى اللغة العربية ولو كان يعمل عمله كل من تعلموا لغة أجنبية منا فينقلون لنا ما يلزمنا لغنيت لغتنا بآداب الأمم الغربية وتاريخها واجتماعها وآخر ما نشره رسالة في فلسفة العمر في أدوار الحياة الأربعة أي الطفولية والشبيبية والكهولة والشيخوخة وما في طيها بحسب الأحوال الاجتماعية الراقية من عبر وحكم أضاف إليها بعض تراجم المشاهير الوردة أسماؤهم في الكتاب وطبعه طبعاً جميلاً في 141 صفحة ويطلب منه.
نور اليقين في سيرة سيد المرسلين
هو كتاب في السيرة النبوية لمؤلفه الشيخ محمد الخضري من أفاضل هذه العاصمة طبعه للمرة الثالثة أجمل طبع حسنين أفندي محمد صاحب مكتبة المؤيد في 334 صفحة. وهذه السيرة على إيجازها من أنفع ما كتب في هذا الموضوع الشريف ولذلك راجت وطبعت ثالثة.
عفة الأولاد(34/68)
عرب سليم أفندي خوري هذه الرسالة من الإنكليزية فيما يجب على الأولاد معرفته وعي في صورة مخاطبات ورسائل حوت نصائح كثيرة لطيفة وتطلب من معربها بمصر وهذا هو الجزء الأول ويليه ثلاثة أجزاء وفقه الله تعريبها ونشرها.
رحلة ابن جبير
من أجمل الرحلات وأنفعها رحلة ابن جبير الأندلسي من أهل القرن السابع طبعت في أوروبا مرتين وأعيد طبعها ثالثة الآن ونطلب من طابعها مصطفى أفندي فهمي الكتبي بالحلوجي بخمسة قروش أميرية وشهرة ابن جبير تغني عن التنويه بكتابه الذي طار صيته وحلت في الأسماع نغمته.
الدرر السنية
ألف حسين أفندي فتوح ومحمد علي أفندي عبد الرحمن هذه الرسالة باللغة العامية وما يقابلها من العربية وقد اعتمدا على لغة العامة في مصر وقابلاها بما استحسناه وعرفاه من الفصيح فجاءت في 64 صفحة فنثني على همتهما ونرجو أن يتوسعا في هذا الموضوع الجليل هما وسائر المشتغلين به.
الحمويات
هو ديوان الشيخ محمد الحسن الحموي فيه ضروب من شعره وأكثره في المديح وقد صدره بترجمة نفسه وحلاه ببعض الرسوم وهو في زهاء مائتي صفحة صغيرة ويطلب من طابعه بمصر فله الشكر على هديته.(34/69)
سير العلم والاجتماع
بنات أميركا
أزهر تعليم البنات في الولايات المتحدة ففيها 179 مدرسة تضم وراء جدرانها 30 ألف طالبة يعلمهن 2600 معلم ومعلمة وينسب الفضل في تأسيس معظم هذه المدارس لعقائل وأوانس من ربات الخير جدن في هذا السبيل بملايين الريالات دفع إلى ذلك بعضهن دافع علمي وبعضهن دافع إنساني أو ديني أو مدني. قال بعض الاجتماعيين ومن عيوب هذه المدارس كثرة البذخ والإنفاق فيها حتى أنك لا تجد في المتخرجات من مدرسة ولسلي منذ خمس وعشرين سنة وعددهن إثنا عشر ألفاً سوى سبعمائة تعاطين مهنة الصحافة والتدريس والباقيات عانسان ينتظرن أن يتزوجن من رجل غني.
وفرة الأطباء
تشكو ألمانيا الآن من كثرة أطبائها ففيها بحسب التقرير الطبي السنوي 21416 طبيباً وفي بروسيا وحدها 19 ألف وفي فرنسا 20 ألفاً ومثلها في كل من إيطاليا وروسيا.
وعدد الأطباء في أوروبا 162334 طبيباً وعددهم في العالم كله 230 ألفاً قالت المجلة التي ذوي عنها والظاهر أن هذه الصناعة في أكثر البلاد لا تقوم بنفقة صاحبها.
أوقات الزواج
بحسب إحصاء أخير يتزوج الشبان في ألمانيا وفرنسا نحو السنة التاسعة والعشرين وفي الدانيمرك والسويد نحو الثلاثين ويتزوج الصربيون في الرابعة والعشرين وهم أسرع أعل أوروبا للزواج الباكر. أما أهل المشرق فأسرع بكثير إلى الزواج.
عناصر الولايات المتحدة
في هذه الولايات 15 مليون غريب ومعظمهم بقيت بينهم وبين أهلهم في أوروبا صلات مستحكمة فيرسلون إليهم بما يقتصدونه من المال ليعيشوا به وقد قدروا على وجه التقريب ما يخرج من مال أمريكا إلى أوروبا كل سنة بخمسين مليون جنيه تأخذ إيطاليا القسم الأعظم من المال فيصيبها 70 مليون دولار في السنة ويصيب النمسة 65 ويصيب بريطانيا العظمى 25 وروسيا 25 وألمانيا 15 مع أن في أميركا مليونين من الطليان وأربعة ملايين من الألمان ولعل الطليان يطول عليهم الأمد حتى ينسوا أهلهم كما ينسى(34/70)
الغريب أهله وخلانه إذا طال عهده بهم في العادة أو ينسونه.
المداواة بالجوع
قال الأستاذ كارنجتون من علماء النفس أن عامة الأمراض يتيسر شفائها بالجوع ومن رأيه أن جميع الأسقام على اختلاف أشكالها ونشوئها متشاكلة من حيث أسبابها وعللها وما عدا بعض الأوجاع الناتجة عن جراحات فإن أسباب الأمراض هي انحباس مواد لم تفرغ في التركيب الإنساني لانسداد المصارف الطبيعية أمامها. وما المرض نفسه إلا عمل يجري في الجسم لعمل هذا الدفع وعلى هذا فإذا أزيل السبب زال المسبب. والشياء الضارة تدخل الجسم من طريق الرئة باستنشاق هواء فاسد أو من طريق المعدة بتناول أو شرب ما يضر وينتج من ذلك بأنه ليس ثمة سوى واسطة واحدة لإخراج المواد الضارة ألا وهي إسقاط الفضلات.
فيقتضي ترك الرئتين والمعدة لتتخلص من تلقاء نفسها مما يعوقها أو يلقيها في خطر وليس ما نسميه مرضاً في الحقيقة سوى تنظيف طبيعي نقوم به ولا بد من فعله ومن الخطأ أن نعتقد أنه يجب مكافحة المرض بأدوية وعقاقير وغاية ما يجب علينا في تلك الحالة أن لا ندخل على الجسم مواد أخرى تزيد الكثافة فيه من حيث الهواء أو من حيث الغذاء.
وليس من سبيل إلى ذلك إلا بأن يدفع المرض عن المريض بأن لا يستنشق هواءاً فاسداً وأن يمتنع عن الأكل البتة. ولم يصف الأستاذ المشار إليه طريقته للأصحاء بل وصفها للمرضى فلا يتناول المريض طعاماً أياً كان نوعه فيقل فيه ثقل الرأس الذي يصحبه ثقل المعدة ويصبح بصره حاداً وسماعه أحد وذاكرته أحد فيشعر المريض بالتدريج بأن صحته أحسن.
أعمال الفلاسفة
سئل بعض الفلاسفة كيف يكتبون فقال تيودور ريبو من فلاسفة فرنسا أن يجمع المواد اللازمة ثم يستخرج منها الموضوع الذي يريده ولكنه بطيء في الإنشاء فلا يكاد يكتب أكثر من ساعة في اليوم وعلى العكس لا يفتأ يعمل عقله في النزهة والسكة الحديدية.
وقال الفرد فوليه الفيلسوف الفرنسوي أنه سريع الكتابة فإذا جمع معه الفكر يندفع يكتب ساعات طويلة ولكنه لا يحتمل حصر الذهن طويلاً فيسرع إلى مغادرة مقصورته ويسير(34/71)
في الخلاء ركضاً. ويكتب الفيلسوف هوفدنغ الألماني في أوقات متقطعة فيسهل عليه التأليف في الخريف والشتاء أكثر من الصيف والربيع وفي المدينة أكثر من الريف ولا يستطيع الفيلسوف كوميرز الألماني أن يكتب إلا إملاءً إذ يستطيل المسافة بين التفكر والكتابة.
الهند الإنكليزية
بلغت مساحة الهند مع عدن وجزائر أندمان ونيكوبار 4592505 كيلومترات مربعة وكان عدد سكانها 1906، 294361000 أي أن كل كيلومتر مربع 640 ساكناً وقد كان فيها 1881، 129941890 رجلاً و123951010 امرأة فأصبح فيها سنة 1901، 149902599 رجلاً و144389834 امرأة ولا يدخل في ذلك سكان عدن وجزائر أندمان ونيكو بار وهم 68683 بل تدخل فيها الممالك الوطنية وأكثر العناصر هناك العنصر الهندي وهو يبلغ 20735037 ثم المسلمون وعددهم 62420291 والبوذويون والجنيون 10808652 والمسيحيون 2918786 ومن هذا العدد العظيم 195666845 نسمة يتعاطون الزراعة و 17953230 من طبقة العملة في الأعمال الزراعية و45719645 يعيشون من الصناعة و7725737 من التجارة وفي الهند 78 مدينة يتجاوز سكان كل منها خمسين ألفاً منها 27 مدينة فيها زهاء مئة ألف وتسع مدن فيها مائتا ألف.
تحسين الأذواق
في أميركا مئات من أرباب النقد والأساتذة آلوا على أنفسهم أن يصرفوا أوقات فراغهم في تحسين أذواق الشعب وغرس الميل فيه إلى الفنون فيزورون خاصة المتاحف ويشرحون للزائرين من العامة ما يجهلونه ويتعرضون لحل سؤال كل من يسأل عن أمر غامض لم يفهمه فيذكرون للسائلين في بضع كلمات تاريخ الفن ويتوسعون في ذكر محاسن الأثر المعروض بحيث يفتح عيون الجاهلين. وفي المدارس ولاسيما الابتدائية منها يعرضون من المصورات وغيرها ما يربي في الأولاد ملكة الميل إلى الفنون والطرائف فيشركون غيرهم فيما تعلموه عند الحاجة. كل هذا يقوم به أهل أميركا لتكثير سواد النوابغ في الفنون الجميلة والصناعات النفيسة.
تماثيل قرطاجنية(34/72)
ظفر الباحثون في عرض البحر على سبعة كيلومترات من قرطاجنة بعدد عظيم من التماثيل المصنوعة من القلز وهذا الاكتشاف مهم لأنه يكشف القناع عن أشياء مجهولة في الحضارة القرطاجينية.
معدة غريبة
قدم أحد الأطباء لمؤتمر الجراحة الألماني معدة من أعجب المعد. وهي معدة رجل مريض استخرج منها 1670 قطعة من حديد مثل مسامير وكلابات وأسلاك وغيرها.
درس السعادة
قال أحد علماء الألمان في بحث له أن من أحب الاقتراب من معاهد السعادة يجب عليه أن يحسن كيف يستقي من مصادر الحياة الأربعة وهي السعادة الأخلاقية والسعادة العقلية مادة الشعور وسعادة الحواس وأن يكون حراً في باطنه أي يعرف كيف يتخلص من الأفكار والأوهام الموروثة. والتقوى والصلاح والإخلاص مصدر السعادة الحقيقية وعلى منن طالت بنفسه إلى بلوغها أن يهذب نفسه بنفسه.(34/73)
العدد 35 - بتاريخ: 1 - 12 - 1908(/)
المجلس العمومي
يا شرق بشراك أبدى شمسك الفلك ... وزال عنك وعن آفاقك الحلك
أضحى بك القوم أحراراً قد اعتصموا ... من النجاة بحبل ليس ينبتك
ماذا أقول وقد فزنا بمؤتمر ... في جانبيه ترى الآراء تشتبك
نادٍ] به القول من أهليه مستمع ... والحق متبع والأمر مشترك
نادٍ إذا نفرت عنا الأمور به ... لهنَّ يمتد من نسج النهى شرك
يصطاد فيه شرود الحق عن كثب ... كالماء يُصطاد في ضحضاحه السمك
إن السحائب لم تظهر بوارقها ... ما لم يكن للقوي فيهن معترك
وللتدابير حرب لا يخيب بها ... قوم بمستنقع الآراء قد بركوا
هذا هو المجلس الرحب الذي وسعت ... أحكامه الناس من عاشوا ومن هلكوا
هو السماء التي تعلو السما بها ... تبدو من العدل في آفاقها حبك
دارت بها شمس عز الملك حيث لها ... حرّية العيش برج والنهي فلك
قد أصبح الأمر شورى بيننا فيه ... على الرعية لا يستأثر الملك
وأصبح الناس في قربى وإن بعدت ... أديانهم ما بهم حقد ولا حسك
هذا الذي جاءنا الدين الحنيف به ... وحياً من الله مبعوثاً به الملك
هذا به نهض الإسلام نهضته ... من قبل إذ قام يستولي ويمتلك
يا قوم قد حان حين تسخرون به ... ممن بكم سخروا من قبل أو ضحكوا
مات الزمان الذي من قبل كان به ... يحيى امرؤٌ لم يكن في السعي ينهمك
هلاَّ نظرتم ما في الغرب من سنن ... كلٌ به سائرٌ طلقاً ومسلك
لم تلق للحق وجهاً فيه محتقراً ... ولم تجد حرمةً للعلم تنتهك
في الغرب أصوات علم يبعثون بها ... من القبور فهل في سمعكم سكك
فشمروا يا رجال الشرق عن همم ... حجابها عند أهل الغرب منهتك
ولست أطلب منكم فعل ما فعلوا ... ولا أحاول منكم ترك ما تركوا
بل فاذكروا أوليكم كيف قد سلفوا ... ثم اسلكوا في المعالي أية سكوا
واستخلصوا عسجد المجد الذي بلغوا ... سبكاً على قالب العلم الذي سبكوا
لا عذر للشرق عند الغرب بعدئذٍ ... إن لم يتم له في شأوه الدرك(35/1)
واستنجدوا العلم إن العلم شكته ... في حومة العيش تبلى دونها الشكك
ما المدارس فلترفع قواعدها ... حتى تقوم وطود الجهل مؤتفك
منابع العلم إن غاضت بمملكةٍ ... فاضت بسيل الدواهي حولها برك
من شاد مدرسةً للعلم هدَّ بها ... سجناً لمن أفسدوا في الأرض أو فتكوا
وكم أثارت رياح الجهل من سحب ... تهطالهن دمٌ في الأرض منسفك
فالعلم والجهل كل البون بينهما ... هذا الفسوق وذاك الفوز والنسك
ضدّان ما استويا يوماً ولا اجتمعا ... وهل ترى يتساوى النور والحلك
نادوا البدار البدار اليوم إنكم ... يا قوم ساهون حيث الأمر مرتبك
كم رددت كلمات الناصحين لكم ... حتى لقد ملّ من مضغ لها الحنك
يا قوم قد طلعت شمس الهدى وبها ... للناس قد وضحت من رشدهم سكك
وأنشد الشرق مسروراً يؤرخها ... حرية الملك أهدى شمسها الفلك
بغداد
معروف الرصافي(35/2)
منتخب من عبد أزدشير بن بابك الملك
في السياسة
عني بنشره أحمد بك تيمور منقولاً عن نسخة كتبت سنة هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
من ملك الملوك أزدشير بن بابك إلى من يخلف من الملوك
السلام عليكم إن من أخلاق الملوك الأنفة والجراءة والبطر والعبث وكلما دامت سلامة الملك في ملكه قويت هذه الأخلاق عليه حتى يغلب عليه سكر الملك الذي هو أشد من سكر الخمر فيظن أنه قد أمن من النكبات والعثرات فيبسط يده ولسانه بالقبيح فيفسد باعتماده جميع ما أصلحه قبله فتعود المملكة خراباً.
وأفضل الملوك الذي يتذكر في عزّه الذل وفي أمنه الخوف وفي قدرته العجز فيجمع بين بهجة الملوك وحذر الرعية ولا خير إلا في جمعهما فإن رشاد الملك خير من خصب الزمان.
الدين أساس الملك. والملك حارس الدين فلا يقوم إحداهما إلا بالآخر.
إياكم أن تتهاونوا بمن يطلب الرئاسة بإظهار الزهد والغضب للدين فما اجتمع الناس على رئيس في الدين إلا انتزع ما في يد الملك من ملكه فإن الناس إلى رئيس الدين أميل. فتعهدوا طبقات الناسي وتفقدوا جماعاتهم فإن فيهم من قد حقرتم وجفوتم.
وإذا آذن الملك للعقلاء من مناصحي دولته في إنهاء ما يتجدد عندهم من النصائح التي لا يعلمها خواصه أو يعلمونها ويكتمونها انفتحت له أبواب من الأخبار المحجوبة عنه فيحذر وزراءه وخواصه من الاتفاق على ما يسترونه عنه ولا يقدمون على أمر يكرهه خوفاً من أن يطالع به فيأمن مكايدهم وتسلم الرعية من ظلمهم.
ومن غلبت عليه خواصه حتى منعوا عنه الناس فلا يصل إليه إلا من يحبون أطبقت ظلم الجهالة عليه.
ولا ينبغي للملك أن يعتقد أن تعظيم الناس له هو بترك كلامه ولا أن إجلالهم له هو بالتباعد عنه ولا أن محبتهم هي بموافقته على جميع ما يحبه. وإنما تعظيمهم له بتعظيم عقله وصواب سياسته وإجلالهم له إجلال منزلته من الله بما يجريه على يده ولسانه من(35/3)
العدل ومحبتهم له بما يتألفهم بكريم خلقه وصادق المحبة هو الذي يعينه على العدل وحسن التدبير بمحض النصيحة.
إن في الرعية وحملة السلاح من الأهواء الغالبة والفجور ما لا بد للملك معه من أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة وباب الأنعام بباب الانتقام فإن القصاص من المفسدين حياة لبقية الأمة. ومن لم يقم حدود الله تعالى في من له فيه هوى لم تثبت هيبته في قلوب الخاصة والعامة ولن يستطيع الملك أن يقوّم العامة حتى يقوّم الخاصة.
وإن من كان من الملوك قبلنا قد رتبوا الناس أربع طبقات فالأمراء والجند صنف والعباد والفقهاء صنف والكتاب ولحكماء صنف والتجار والفلاحون صنف فلم يمكنوا صنفاً منها أن يدخل في الصنف الآخر لتتفرغ كل طبقة للقيام بما يلزمها.
وليس أضر على الملك من رأس صار ذنباً أو يد مشغولة وجدت فراغاً من شغلها.
وخير الملوك من بعث العيون على نفسه ليعلم عيوبها فيكون أعلم بعيون نفسه من غيره ثم يجتهد في مداواة عيب بعد عيب حتى لا يجد أحداً فيه مطعناً فهذا الذي تمت سيادته.
وإن ابتهاج الملك المسدَّد الرأي القاهر لهواه بوفور عقله وشرف نفسه بارتفاعها من النقائص أعظم من سروره بملكه.
ومن الرعية من يقارب الملك في مأكله وملبسه وشهوته وليس فيهم من يقدر كقدرته على اجتناء المحامد وإصلاح الرعية بالعدل عليها وتأمين السيل وصيانة الحريم وكف أيدي الظالمين فاجتهدوا معشر الملوك في بسط العدل الذي لا تقدر عليه الرعية وتنافسوا في اقتناء الذكر الجميل.
وليس للملك أن يبخل فإنه لا يخاف الفقر وإذا عرف بالبخل انقطع الرجاء من خيره فانسلت الأيدي من طاعته ولا يجتهد أحد في خدمته وانحلت النيات عن مناصحته.
ولا ينبغي له أن يغضب لأن الغضب مع القدرة يوجب السرف في العقوبة ثم يعقب الندامة مع ما فيه من الطيش والخفة وقبح السمعة.
ولا ينبغي له أن يلعب لأن اللعب والعبث من أعمال الفراغ والفراغ من عمل السوقة وفي ذلك من ذهاب الوقار وإسقاط الهيبة ما ينافي جلال السيادة.
وليس له أن يحسد إلا ملوك الأمم على حسن التدبير وإصابة السياسة ومكارم الأخلاق ولا(35/4)
ينبغي له أن يجبن عند وجوب الإقدام فإن الشجاعة عز وهي من أهم شروط الملك.
زين الملك أن يحفظ نظام أوقاته المقدرة لأشغاله وركوبه وراحة بدنه فتكون معينة لا تختلف فإن في اختلافها خفة وليس للملك أن يخف.
وينبغي أن يكون حذره لمن بعد عنه أكثر من حذره لمن قرب منه وأن يتقي بطانة السوء أشد من اتقائه لعامة السوء. ومن الناس صنف أظهروا الزهد في الجاه ولم يتقربوا بالخدمة وادعوا التواضع وهم قد أسروا التكبر واستدعوا إلى أنفسهم الجاه بوعظ الملوك وقد ينفعهم ذلك عند المغفلين فيقربون منهم من حسن ظاهره وتلطف حتى اعتقد خواصهم تعظيمه وإن كان ناقصاً في عقله عبداً لشهوته متهافتاً على الرئاسة فإن أسكته الملك قيل قد استقل الموعظة وإن أطلق لسانه قال بوعظه بين الملأ ما أفسد حال الدولة فالرأي أن لا يهمل الملك أمر هذه الطائفة فإنهم أعداء الدولة وآفات قوية على الملوك.
اعلموا أنه لا بد لكم من سخطة على بعض أنصاركم ونصاحكم وأعوانكم ولا بد من رضا يحدث لكم عن بعض أعدائكم المعروفين بالغش لكم إذا فعلتم ذلك فلا تنقبضوا عن المعروف بالنصيحة ولا تسترسلوا إلى المعروف بالغش وقد خلفت عليكم رأيي إذ لم أقدر على تخليف بدني فاقضوا حقي بالتمسك بعهدي والسلام على أهل الموافقة من يأتي عليه هذا العهد من الأمم.(35/5)
الرومان
عاقبة الجمهورية
كاتون الأوتيكي: بينا كان القواد يتنازعون بينهم فيمن يستأثر بالسلطان على العالم الروماني اشتهر رجل بتعلقه بالدستور الجمهوري القديم الذي أخذ يمزق لما رآه آخذاً في التداعي لم يلبث أن انتحر وكان كاتون هذا هو الملقب بكاتون الأوتيكي باسم المدينة التي انتحر فيها.
كان هذا الرجل من أسرة شريفة من أخلاف كاتون وزير الإحصاء الشهير والمدافع عن الأخلاق الرومانية القديمة كتب له أن يكون صاحب ثروة طائلة وهو شاب بعد. وكان قد تعلم فلسفة الرواقيين وجرى عليها فأنشأ يعيش عيش الزهاد يأكل قليلاً ويشرب قليلاً ولا يتطيب وعوّد نفسه احتمال الحر والبرد الشديد يسافر ماشياً في كل فصل من فصول السنة حتى مع أصحابه الراكبين خيولهم ولا يلبس إلا ثياباً بسيطة رثة وقد وقع له أن خرج بدون حذاء.
ولما أرسل قائداً لأحد الجيوش إلى إحدى الحروب (بموجب امتياز فتيان الأشراف) أحبه جنده واحترموه إذ رأوه يعيش مثلهم عيشاً بسيطاً ولما وسدت إليه نظارة المالية عُني بالنظر في الحسابات بنفسه على العكس فيمن كان قبله من الأشراف يتولون هذه النظارة فإنهم كانوا يتركون للكتاب ينظرون في شؤون المالية وحدهم وبذلك اكتشف تزويرات الكتبة وحاكم المرتكبين واشتهر بغيرته وكان لا يتأخر عن جلسة من جلسات مجلس الشيوخ أو مجلس الأمة فصار يضرب المثل بشرفه وأصبح القوم يقولون عن الأمر المتعذر لا يمكن تصديق هذا ولو قاله كاتون.
وكان كاتون يقوم بما يعتقد أنه واجب عليه دون أن تأخذه رأفة أو تناله رهبة. وحاول أن يحكم على مورينا لأنه ابتاع أصوات الأمة حتى انتخبته قنصلاً فبرأه شيشرون وكان إذ ذاك قنصلاً بخطاب سخر فيه من فلسفة الرواقيين فقال كاتون: حقاً أن لنا قنصلاً مضحكاً واقترح قيصر في مسألة المشتركين في قتل كاتالينا أن يتأخر إعدامهم لأنهم رفعوا قضية فاشتد كاتون على قيصر وأشار إلى مجلس الشيوخ أن يأمر بإعدام الجناة في الحال فلم يسع المجلس إلا أن يقرر قتلهم.
ولما اقترح بومبي سن قانون يسمح له بإدخال جيشه إلى رومية خلافاً لما رسمه الدستور(35/6)
استشاط كاتون غضباً في جلسة مجلس الشيوخ من المحامي متلوس الذي اقترح وضع القانون وصرح بأنه ما دام حياً لا يدخل بومبي إلى المدينة مسلحاً ولما جاء متلوس إلى الساحة في جيش العبية المسلحين للموافقة على القانون اخترق كاتون صفوف جماعة وقعد بالقرب من متلوس ومنعه من قراءة مشروعه فجاء العبيد إذ ذاك صارخين يرمون بالحجارة ويضربون بالعصي فهرب الشعب وبقي كاتون فأنقذه مورينا بأن جره إلى أحد المعابد وعاد الشعب فصعد كاتون على المنبر وخطب في سيئات هذا القانون فأبى متلوس أن يعرضه وذهب إلى آسيا ليلحق ببومبي.
ولما التق قيصر وبومبي وكان قيصر اقترح سن قانون لم يجرأ غير كاتون على قتاله فأنزله قيصر من المنبر بواسطة رجال الشرطة وبعث به إلى السجن وظل كاتون يتكلم في الطريق وقد تبعه جمهور من أعضاء مجلس الشيوخ فعزم قيصر أن يخلي سبيله وللخلاص منه أرسلته الحكومة إلى قبرص ليطرد منها الملك بطليموس دون أن يعطوه جيشاً وإذ كان هذا الملك انتحر لم يبق على كاتون إلا أن ينظم قائمة بما خلف الملك من الكنوز فأتى إلى رومية بمبلغ كبير فاستقبله مجلس الشيوخ أحسن استقبال وتقدم للانتخاب قاضياً وكانت القبيلة الأولى وافقت على انتخابه وإذ كان بومبي رئيس المجلس لم ير بداً من أن يدعي أن السماء ترعد وأعلن بانفضاض الجلسة (والرعد طالع شؤم كما عرفت في بعض الفصول السابقة). وعندما اقترحوا أن يعطوا لقيصر جيشاً تقدم كاتون إلى بومبي ولطالما شغل الأول بقتال الثاني وحضه على الحذر من قيصر فبقي بومبي عدواً لهذا. وهذا لم يمنع كاتون عندما رأى المنافسين في الحكومة يقتتلون في المدينة من معاضدة اقتراح المقترحين أن يعينوا بومبي وحده قنصلاً عندما اقترب أحدهما من صاحبه ولما زحف قيصر على رومية بجيشه نصح كاتون لمجلس الشيوخ أن يلقي إلى بومبي بمقاليد الحكم بأجمعه على من عمل الشر أن يتلافاه. وتبع بومبي إلى خارج إيطاليا ومنذ ذاك العهد أطلق شعره ولحيته علامة على الحزن وأشار بإطالة زمن الحرب وكان يخاف من عاقبة قتال يقتل فيه الرومانيون بعضهم.
ولما بلغته هزيمة فارسال سافر إلى مصر يريد الالتحاق ببومبي ووقف في إفريقية حيث كان لأحد أشياع بومبي جيش وتولى الدفاع عن مدينة أوتيكيا.(35/7)
وإذ هزم قيصر جيش إفريقيا اقترح كاتون على الرومانيين النازلين في أوتيكيا أن يحاصروا فأبوا فأطلق كاتون جميع أعضاء الشيوخ الذين لجؤوا إليه ثم استحم وتعشى مع أصحابه وأخذ يخوض في المباحث الفلسفية ولما حان وقت النوم طالع محاورة أفلاطون في خلود النفس والتمس سبفه الذي كان نزعه ابنه عنه مغاضباً فأحضروه إليه فجعل على مقربة منه ونام فاستيقظ عند الفجر ثم طعن نفسه في صدره وكان عمره 48 سنة.
فارسال: لم يبق في البلاد بعد وفاة كراسوس غير بومبي وقيصر وكلاهما يود الاستئثار بالسلطة وكان من تقدم بومبي على صاحبه أنه كان في رومية مستولياً على أزمة مجلس الشيوخ وكان مع قيصر جيش غاليا المدرب على الحروب منذ ثماني سنين قضاها في الحملات.
فاتخذ بومبي خطة الهجوم واستصدر من مجلس الشيوخ أمراً بأن يترك قيصر جيشه ويجيء إلى رومية فعقد قيصر إذ ذاك عزمه على اجتياز حدود ولايته (وكان الحد هو نهر ريبكون) وزحف على رومية. ولم يكن عند بومبي جيش في إيطاليا للدفاع فركن إلى الفرار مع أكثر الشيوخ من الشاطئ الآخر من بحر الأدرياتيك وكان له عدة شيوخ في إسبانيا واليونان وأفريقية شتت قيصر شملهم واحداً بعد الآخر فهزم جيش إسبانيا سنة 48 ثم جيش اليونان في فارسال سنة 48 فجيش إفريقية سنة 46 ولما غلب بومبي في فارسال لجأ إلى مصر فقتله ملكها.
حكم قيصر: ولما رجع قيصر إلى رومية عهد إليه بالأمر لمدة عشر سنين فصار الحاكم المطلق ثم حارب جيوش أشياع بومبي في إفريقية وساد جميع البلاد الخاضعة للرومان واحتفل في رومية بظفره بأربعة أعداء الغاليين والمصريين وملك بحر الخزر في آسيا الصغرى وملك النوميديين حليف البومبيين في أفريقية (لم يكن من اللياقة بأن يفاخر بتغلبه على جيش روماني).
فقام مجلس الشيوخ لقيصر بالتشريفات الدينية فأعطاه أولاً كرسياً أعلى من مقاعد القناصل ولقبه بالأول ثم خوله الحق بأن يحمل تاجاً من الغار (وكان ذلك من حق الأرباب) ومنحه لقب أبو الوطن وابتدع احتفالات وألعاباً إكراماً له وأقام له تمثالاً خطوا فيه ألفاظ التعظيم وعهدوا إلى الكهنة للاحتفال بعبادة رب يوليوس قيصر. ومن الممكن أن يكون قيصر طمع(35/8)
في لقب ملك ومع هذا دعا نفسه بالإمبراطور وقبل أن يلبس ثوباً أرجوانياً وأن يجلس على عرش من ذهب ويرسم خوذته على النقود.
واحتفظ قيصر بمجلس الشيوخ وجميع المناصب وهو الذي كان يعين المرشحين الذين يقضي على الشعب انتخابهم وهو الذي وضع قائمة بمجلس الشيوخ وكان هلك كثيرون من الشيوخ فأبلغ عدد الأعضاء إلى تسعمائة ومعظمهم من انتخابه وكثيرون منهم من الغاليين ولم يقض في رومية غير خمسة عشر شهراً من حيث المجموع فما اتسع له الوقت أن يقوم بالإصلاحات التي كان ينويها (ما عدا تقويم السنين) ثم قتله ندماؤه الذين كانوا يرغبون في إعادة حكومة مجلس الشيوخ.
أحد الحكام الثلاثة: اضطر الشعب الروماني وكان يحب قيصر زعيمي قتلته وهما بروتوس وكاسيوس أن يهربا فتنحيا إلى الشرق حيث جيشا جيشاً عظيماً وظل الغرب تحت حكم أنطونيوس الذي اعتمد على جيش قيصر فحكم رومية حكماً استبدادياً.
وكان قيصر تبنى ابن أخته أوكتاف وعمره ثماني عشرة سنة بوصية أوصى بها فسمي بحسب العادة الرومانية باسم متبنيه ودعا نفسه يوليوس قيصر الأوكتافي. فضم إلى حزبه جند قيصر وعهد إليه مجلس الشيوخ أن يحارب أنطونيوس وبعد أن تغلب عليه آثر الاشتراك معه لاقتسام السلطة فاتحدا مع لبيدوس ودخلا ثلاثتهم إلى رومية واستولوا على الأمر استيلاءً مطلقاً مدة خمس سنين تحت اسم الحكام الثلاثة المعهود إليهم تنظيم المسائل العامة. وشرعوا في نفي خصومهم وأعدائهم الخاصة (فأمر أنطونيوس بضرب عنق شيشرون) ثم ذهبوا إلى الشرق لتشتيت جيوش المتحالفين وبعد ذلك اقتسموا المملكة بينهم. ولم يدم الوفاق بينهم طويلاً بل قاتل بعضهم بعضاً في إيطاليا حتى توسط جندهم في الأمر واضطروهم إلى العودة لما كانوا عليه من الاتفاق ثم جرى تقسيم المملكة من جديد فأصبح أنطونيوس ملك الشرق وأوكتاف ملك الغرب.
حرب الأكتيوم: دام السلم بضع سنين فأخذ أنطونيوس يعيش عيش ملك شرقي مصاحباً لكلوبطرة ملكة مصر وشغل أوكتاف بقتال ابن بومبي الذي كان تحت أمره أسطوله يخرب به شواطئ إيطاليا. وانتهت الحال بهذين الملكين بانقطاع علائقهما فنشبت آخر حرب بينهما وكانت حرباً بين الشرق والغرب تمت بحرب أكتيوم البحرية وأسلم أطول كلوباطرة(35/9)
أنطونيوس صاحبها فلجأ إلى مصر وانتحر وبقي أوكتاف وحده صاحب المملكة المطلق وكان قد انتهى أمر حكومة مجلس الشيوخ.
تقرير السلطة المطلقة: شكا الناس كلهم من هذه الحروب وكان سكان الولايات يؤخذون فداءً ويسيء الجنود معاملتهم ويقتلهم تقتيلاً يضطرهم كل فريق من الحكام أن ينحازوا إليه ويعاقبهم الغالب على انضمامهم للمغلوب. وكان القواد يعدون الجند بأن يكافئوهم بإعطائهم أراض يستغلونها فيطردون منها عامة سكان مدينة ليحل محلهم قدماء الأجناد. وكان أغنياء الرومان يخاطرون بثرواتهم وحياتهم ومتى غلب حزبهم يصبحون ألعوبة في يد الغالب يتصرف بعم بما يشاء. فقد وضع سيلا مثلاً من المذابح المدبرة (81) وبعد أربعين سنة (43) جدد أنطونيوس أوكتاف أمر القتل بدون محاكمة.
ولقد كان شعب رومية نفسه يشكو من سوء هذه الحالة فلا تصل إلى رومية الحبوب التي هي مادة غذائه على طريقة مطردة بل كانت تقع في يد قرصان البحر أو ينهبها أسطول العدو فبعد أن مضى قرن على طريقة هذا الحكم لم يعد للجميع من الرومان وسكان الولايات والأغنياء والفقراء رغبة في غير السلام وعندها تقدم إلى ذاك الشعب المنهوك بالفتن الأهلية وارث قيصر ابن أخته أوكتاف أحد الحكام الثلاثة تقدم إليهم بعد أن تغلب على رصيفيه قال المؤرخ تاسيت وقبض بيده على جميع سلطات الأمة ومجلس الشيوخ والحكام ولم تمض بضع سنين إلا وقد أصبح سيداً على رومية وليس بعد هذا من لقب فلم يعد يفكر أحد في مقاومته وقد أغلق معبد جانوس ونشر في العالم ألوية السلام وهذا ما كان يطلبه العالم بأجمعه وذلك لأن حكومة الجمهورية بواسطة مجلس الشيوخ لم تكن تمثل غير النهب والحروب المدنية فكانت النفوس تطمع في رجل يكون من القوة بحيث يحول دون الحروب والثورات وعلى هذا الوجه أسست الإمبراطورية الرومانية.
أغسطس
تنظيم الحكومة الملكية: يقضي نظام الحكم الجديد الذي وضعه وريث قيصر أن يكون الحكم المطلق بيد رجل واحد يدعى الإمبراطور أي الرجل المدبر الآمر وله الحق أن يتولى السلطات بأسرها التي كانت موزعة بين الحكام القدماء فيرأس مجلس الشيوخ ويجمع الجيوش كلها ويقودها ويضع قائمة بأسماء أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان والظنيين(35/10)
ويجبي الضرائب وهو القاضي الأكبر والحبر الأعظم وله سلطة القضاة. ولبيان أن هذه السلطة قد جعلته رجلاً فوق الرجال من البشر لقبوه بلقب ديني وهو أغسطس أو أغست ومعناه المحترم.
لم تنتظم شؤون المملكة بثورة أتت على كل اصطلاح قديم ولم يلغ اسم جمهورية وانقضت ثلاثة قرون وأعلام الجنود لا يزال يكتب عليها أربعة حروف من أول أربع كلمات ومعناها مجلس الشيوخ والشعب الروماني ولكن اجتمعت السلطة التي كان يتقاسمها أشخاص كثيرون في يد واحد وبدلاً من أن يتولاها سنة فقط أصبح يتولاها طول حياته فالإمبراطور هو الحاكم الفرد مدى حياته في الجمهورية وفيه يتجسد الشعب الروماني ولذلك كان له مطلق التصرف.
مجلس الشيوخ والشعب: بقي مجلس الشيوخ الروماني على ما كان عليه قديماً مجلس أعيان الأغنياء وأكثر الوجوه حرمة في المملكة فكانت عضوية المجلس تعد من الشرف المرغوب فيه فإذا أرادوا أن يقولوا الأسرة الفلانية كبيرة يقولون هي أسرة شيوخ ولكن مجلس الشيوخ على حرمته لم تعد له سلطة لأنه لا يتأتى للإمبراطور أن يستغني عنه ولم يبرح مع هذا أول قوة حاكمة في الحكومة وإن لم يكن المسيطر عليها وكان يتظاهر الإمبراطور أحياناً بأنه يريد أخذ رأيه ولكنه لا يعمل بمشوراته.
فقد الشعب كل سلطة إذ ألغيت مجالسه منذ عهد تيبر. وأصبح جمهور الأمة المزدحم في رومية لا يتألف إلا من بضعة ألوف من كبار السادة مع عبيدهم ومن خليط من الشحاذين وكانت الحكومة قد تعهدت بإطعامهم ودام الإمبراطرة يوزعون عليهم الحنطة ويرضخون لهم بشيء من النقود فأعطى أغسطس سبعمائة فرنك عن كل رأس سبع مرات وأعطى نيرون 250 فرنكاً ثلاث مرات عن كل رأس.
ثم أن الحكومة كانت تقيم مشاهد لتسلية هذا الغوغاء. وكان عدد المشاهد النظامية 66 يوماً في السنة على عهد الجمهورية فبلغت بعد قرن ونصف على عهد مارك أوريل 135 يوماً وفي القرن الخامس وصلت إلى 175 يوماً دع عنك الأيام الإضافية.
وتدوم هذه المشاهد منذ شروق الشمس إلى غروبها فيتناول المتفرجون طعامهم في الساحات. وهذا ما كان الإمبراطرة يتخذون منه طريقة أمينة لإشغال العامة. قال أحد(35/11)
الممثلين لأغسطس: لفائدتك يا قيصر يعتني الشعب بنا. بل كانت تلك المشاهد واسطة لاستمالة قلوب الأمة للإمبراطور فكثيراً ما كان أقبح الإمبراطرة أكثرهم حظوة عند الشعب فكان نيرون الظالم يعبد لأنه قام بألعاب لطيفة فلم يصدق العامة بأنه مات وكان ينتظر قدومه بعد ثلاثين سنة من موته.
وما كان العامة في رومية يبحثون عن تولي الأمور بل غاية ما تطال إليهم نفوسهم أن يتسلوا أو يأكلوا كما قال جوفينال في عبارة له شديدة: خبز وألعاب الميدان.
التأليه: الإمبراطور وحده سيد المملكة ما دام حياً لأن الشعب الروماني يتخلى له عن كل سلطة ومتى مات يبحث مجلس الشيوخ فيما أتاه في حياته ويحاكمه باسم الشعب فإذا حكم عليه تبطل جميع أعماله وتتحطم تماثيله ويمحى اسمه من المصانع والآثار وإذا أقر على أعماله (وهو يحدث غالباً) يقرر مجلس الشيوخ بأن الإمبراطور مات وقد ارتقى إلى مصاف الأرباب.
وقد غدا معظم الإمبراطرة أرباباً بعد موتهم على هذه الصورة فكانت تقام لهم معابد وعهد إلى كاهن أن يقيم لهم الشعائر الدينية وقد كان في جميع أجزاء المملكة معابد رسمت باسم الرب أغسطس والربة رومية واشتهر عن أشخاص أنهم قاموا بوظائف كاهن للآلهي كلو وللآلهي فنزبازين وهذه العادة في تأليه الإمبراطور المتوفى كانت تسمى التأليه والكلمة يونانية. وانتقلت عادتها من يونان الشرق على ما يظهر.
إدارة الولايات: كان ثلثمائة أو أربعمائة أسرة شريفة في رومية تحكم البلاد وتستثمر باقي المعمورة منذ الفتح الروماني فجاء الإمبراطور ينزع منهم الحكومة ويخضعهم لسلطان ظلمه. حتى أصبح كتاب الرومان يثنون من فقد حريتهم المسلوبة ولم يكن لسكان الولايات ما يأسفون عليه بل ظلوا رعايا ولكن بدلاً من أن يرأسهم عدة مئات من الرؤساء يتناوبون الحكومة على الدوام ويجيئونهم نهمين للغنى أصبح لهم رئيس واحد وهو الإمبراطور يهتم بالنظر في أمرهم. ولقد أوجز تيبر السياسة الإمبراطورية بما يأتي: الراعي الصالح يجز صوف غنمه ولا ينتفه فمضى زهاء قرنين وقد اكتفى الإمبراطرة بجز سكان مملكتهم يسلبون منهم كثيراً من الأموال ولكنهم يحمونهم من العدو الخارجي بل من عمالهم أنفسهم. وعندما كان سكان الولايات يشكون من الفظائع ومن سرقات حكامهم كانوا يستعدون(35/12)
الإمبراطور فيعديهم. وكان من المعروف عند القوم أن الإمبراطور يقبل الشكوى على ضباطه وهذا كان يكفي لإدخال الرعب على قلوب الولاة الفاسدين وإدخال الطمأنينة على رعاياهم.
الولايات كلها ملك الإمبراطور لأنه يمثل الشعب الروماني فهو قائد جميع الجنود وسيد الناس طراً ومالك الأراضي كافة (قال الفقيه كايوس ليس لنا في أراضي الولايات إلا التمتع بها والإمبراطور وحده مالك لها. وإذ كان من المتعذر أن ينصب الإمبراطور في كل ولاية عنه الوكلاء الذين يختارهم بنفسه يرسل إلى كل ولاية ضابط يسمونه مندوب أغسطس لتولي وظيفة القضاء) وهذا المندوب يحكم البلاد ويقود الجيش ويطوف في ولايته ليقض المصالح المهمة وبيده الحياة والموت كالإمبراطور. ويبعث الإمبراطور أيضاً بمحافظ لجبي الخراج وإدخال المال في صندوق الإمبراطور (ويسمونه نائب أغسطس).
فالضابط والمحافظ يمثلان الإمبراطور ويحكمان على رعاياه ويقودان جنده ويثبتان ملكيته. ويختارهم الإمبراطور من الفرسان ولهؤلاء العمال مراتب للتشريف على نحو ما كان الحكام في رومية القديمة يتدرجون من ولاية إلى أخرى ذاهبين من طرف المملكة إلى طرفها (فمن سوريا إلى إسبانيا ومن إنكلترا إلى إفريقيا) وإنك لتقرأ في الكتابات المكتوبة على قبور رجال ذاك العهد جميع المناصب التي شغلوها مبينة أحسن بيان وكتابة قبورهم تكفي لبيان تراجمهم وما تولد من أعمالهم.
الحياة البلدية: وكان تحت هؤلاء العمال الكبار الذين يمثلون الإمبراطور وهم لا يسألون عما يفعلون أناس من العامة الخاضعين يديرون شؤون أنفسهم بأنفسهم وللإمبراطور الحق في أن يتداخل في شؤونهم الداخلية إلا أنه لا يسيء في العادة استعمال هذا الحق. فيطلب إليهم فقط أن لا يحاربوا وأن يدفعوا على وتيرة واحدة ما يفرض عليهم من الأموال وأن يحاكموا أمام محكمة الوالي. وكان في كل ولاية كثير من الحكام المحكومين ويسمون أهل المدينة أو البلديون ومن هنا جاءت كلمة الحكم البلدي والمجلس البلدي.
تجري كل مدينة خاضعة للإمبراطورية في ترتيباتها على مثال رومية نفسها فيكون لها مجلس الشعب وتنتخب حكامها لسنة ويقسمون إلى فرق في كل فرقة عضوان ومجلس الشيوخ مؤلف من كبار أرباب الأملاك والأغنياء وأرباب الأسر القديمة وفي الولايات كما(35/13)
في رومية ليس مجلس الأمة إلا صورة والحكم لمجلس الشيوخ أي للأشراف.
من العادة أن يكون مقر الولاية مدينة أي مثل مدينة رومية مصغرة ولها معابدها وأقواس نصرها وحماماتها العامة وأحواضها ودور تمثيلها وميادين قتالها والعيشة فيه عيشة مصغرة من عيش رومية فتوزع الحنطة والدراهم على الفقراء وتولم الولائم العامة وتقام الحفلات الدينية الكبرى والألعاب الدموية. إلا أن رومية تقوم بما يجب لذلك من النفقات تأخذه من مال الولايات أما في الولايات فإن الأشراف يقومون بالإنفاق على حكومتهم وأعيادها. والخراج الذي يجيء لحساب الإمبراطور يحمل كله إليه ولذلك يقضى على أغنياء كل مدينة أن يقوموا بما يقتضي من النفقات للاحتفال بالألعاب وإحماء الحمامات وتبليط الشوارع وبناء الجسور والمجاري والساحات. قاموا بذلك مدة تزيد عن قرنين وأنفقوا عن سعة شهدت بذلك المصانع المنبثة في أرض المملكة وألوف من المكتوبات على الأحجار.
المستعمرات: تقيم رومية في البلاد التي تشك في خضوعها جيشاً صغيراً تسكنه فيها فيبني مدينة تكون حصناً حصيناً وتبعث إليه بأناس من الوطنيين الرومانيين يكونون جنداً وفلاحين في آن واحد ويجزئ الجيش الأراضي المجاورة إلى حصص متساوية توزعها عليهم وهذا ما يسمونه مستعمرة.
ويبقى المستعمرون وطنيين رومانيين ويخضعون لجميع ما تأمر به رومية. وتختلف المستعمرة الرومانية عن المستعمرة اليونانية ـ التي كانت كثيراً ما تشق عصا الطاعة حتى أنها لتحارب آثينة نفسها بأن تكون أبداً ابنة خاضعة لأمها فليست المستعمرة إلا حامية رومانية مرابطة بين الأعداء. وكانت أكثر هذه المحطات العسكرية في إيطاليا ولكن كان منها في مكان آخر مثل مستعمرة فاربون وليون وآرك فإنها كانت مستعمرات رومانية.
جيش التخوم: لم يكن في المدن الداخلية جيش روماني لأن سكان المملكة لا يرون الانتقاض على الحمومة فلم يكن للملكة أعداء إلا على الحدود وكان الأجانب أبداً على استعداد من مهاجمتها فالجرمان وراء نهري الرين والطونة ورحالة الصحراء وراء رمال أفريقية ووراء الفرات جيوش المملكة الفارسية.
ولذا كان من اللازم اللازب إقامة جند يكون على قدم الاستعداد على تلك التخوم المعرضة أبداً للتهديد، أدرك أغسطس ذلك فأنشأ جيشاً دائماً فلم يكن جنود الإمبراطورية من أصحاب(35/14)
الأراضي يؤخذون من حقولهم ليخدموا في الجندية بعض حملات بل كانوا أناساً من الفقراء جعلوا الحرب صناعة لهم فيدخلون الجندية ليخدموا فيها ست عشرة سنة أو عشرين سنة وربما جددوا هذه المدة.
وعلى هذا كان للإمبراطورية في رومية ثلاثون فرقة من الوطنيين أي 180 ألفاً ولهم بموجب العادة الرومانية مساعدون فيبلغ مجموعهم نحو 400 ألف رجل على التقريب وكان هذا الجيش قليلاً بالنسبة لعظم تلك المملكة.
ولكل ولاية على الحدود جيش صغير بعيد في معسكر دائم يشبه قلعة يجيء الباعة ينزلون بقربها فلا يعتم المعسكر أن يصبح مدينة وهكذا يعسكر الجند بإزاء العدو فيحفظون شجاعتهم ودربتهم. مضت ثلاثة قرون والجند الروماني يدخل في كل حرب زبون مع البرابرة المتوحشين ولا سيما على ضفاف الرين والطونة في بلاد ندية قاحلة مغشاة بالغابات والمستنقعات. وربما بذل الجند الروماني في هذه الحروب التي لا نتيجة لها من الشجاعة والشهامة أكثر مما بذل قدماء اليونان في فتح العالم.
الآداب: لم يكن الرومان بالطبع أمة فنون وقد أصبحوا كذلك فيما بعد مقتفين فيها أثر اليونان. فمن يونان أخذوا نموذجاً من فاجعاتهم وقصصهم الهزلية وملاحمهم وأناشيدهم وأشعارهم الفلسفية والعامية والتاريخية. واقتصر بعضهم على ترجمة الأصل اليوناني (كما فعل هوراس في أناشيده) وكلهم اقتبسوا من اليونان أفكارهم ومناحيهم ومزجوها عندما احتذوا مثالها بما عرف فيهم من صفات الصبر والشهامة حتى صارت بعض آثارهم غريبة الغرائب في أسلوبها.
واتفق الرومان على أن العهد الذي أزهرت فيه الآداب اللاتينية حقيقة كانت الخمسين سنة التي قضاها أغسطس في الحكومة فهو الوقت الذي نبغ فيه فرجيل وهوراس وأوفيد وتيبول وبروري وتيت ليف ولكن عصر أغسطس (كما يسمونه) قد سبقه ولحقه قرنان ربما عادلاه في إخراج النوابغ ففي الجيل الأول (القرن الأول قبل المسيح) ظهر الشاعر الغريب المدهش لوكريس وقيصر رانير ناثر وشيشرون أخطب خطيب وفي الجيل اللاحق كتب سينيك ونوكين وتاسيت وبلين وجوفنال ما كتبوا.
وبعض هؤلاء المؤلفين العظام فقط من أسرة رمانية ومعظمهم إيطاليون وكثيرون من(35/15)
الولايات مثل فرجيل من مانتو وتيت ليف من بادو (في غاليا) وسينيك إسباني. وكأن الفصاحة هي الفن الوطني حقاً في رومية فكان الرومان كالطليان في أيامنا يحبون الكلام. وكان الخطباء يأتون إلى ساحات الاجتماع حيث تلتئم مجالس الأمة في أواخر عهد الجمهورية يخطبون ويكثرون من الحركات وسط دوي القوم وشيشرون أعظم أولئك الخطباء وهو الوحيد الذي بقيت بعض قطع من خطبه.
ولما سقطت الجمهورية انقضت أيام المجالس ففقدت الفصاحة لقلة المادة.
اللغة اللاتينية: انتفعت آداب اللغة اللاتينية بفتوحات رومية فنقلها الرومان مع لغتهم إلى رعاياهم المتوحشين في الغرب فتناسى جميع شعوب إيطاليا وغاليا وإسبانيا وإفريقية وضفاف الطونة لغاتهم الخاصة وتعلموا اللغة اللاتينية. ولما لم يكن لهم آداب وطنية خاصة اقتبسوا آداب حاكميهم فتكلم أهل الإمبراطورية إذ ذاك بلغتي الشعبين الكبيرين القديمين فظل الشرق يتكلم اليونانية وأخذ الغرب بأجمعه يتكلم باللغة اللاتينية.
فلم تكن اللاتينية اللغة الرسمية للوطنيين وكبار الرجال فقط كما هي الإنكليزية لعهدنا في الهند بل أن الأمة نفسها تتكلم بها ما أمكن من الصحة بحيث أن القوم في أوروبا اليوم وبعد انقضاء ثمانية عشر قرناً ما برحوا يتكلمون إلى اليوم بخمس لغات مشتقة من اللاتينية وهي الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والفرنسوية والرومانية.
وانتشرت الآداب اللاتينية مع اللغة اللاتينية في عامة أنحاء الغرلاب فما كانت يدرس في القرن الرابع في مدارس بوردو وأوتون غير شعراء اللاتين وخطبائهم وظل الأساقفة والقسيسون بعد هجوم البرابرة يكتبون باللغة اللاتينية ونقلوا هذه العادة أيضاً على شعوب إنكلترا وألمانيا الذين احتفظوا بلغتهم الجرمانية. فبللاتينية كتبت في القرون الوسطى السجلات والعقود والشرائع والتواريخ والكتب العلمية. وفي الأديار والمدارس لا تقرلاأ ولا تنسخ ولا تعتبر غير الكتب اللاتينية ما عدا كتب العبادة لم يعرف غير مؤلفي اللاتين أمثال فرجيل وهوراس وشيشرون وبلين لجون وما كانت النهضة العصرية الأوروبية إلا عبارة عن إحياء ما فقد من آثار أقلام كتاب اللاتين وأصبح النسج على منوالهم أكثر من ذي قبل. فكما أن الرومان أنشؤا لأنفسهم آداباً خاصة لتقليدهم اليونان هكذا صار المحدثون من الأوروبيين ينسجون على مثال كتاب اللاتين. وليت شعري هل عاد ذلك بخير أم بشر؟(35/16)
ومن يجرؤ أن يفوه بذلك؟ فمما لا جدال فيه إذاً أن لغاتنا الرومانية الأضل في بنات اللاتينية وأن آدابنا طافحة بالأفكار والمنازع الأدبية الرومانية وأن العالم الغربي بأسره مصبوغ بصبغة الآداب اللاتينية.
الصناعات: عثر الباحثون بكثرة على تماثيل وصور بارزة رومانية أبقتها الأيام من عهد تلك الحكومة منها ما نقل عن الآثار المصرية ويكاد يكون معظمها تقليداً لها ولكنها أقل من الأصل لطفاً وذوقاً. ومن أغرب الأنموذجات الباقية النقوش البارزة والصور النصفية.
فالنقوش البارزة كانت تزدان بها المصانع (كالمعابد والعمد وأقواس النصر) والقبور والنواويس تمثل بها أحسن تمثيل مشاهد حقيقية وحفلات ونذور وحروباً ومآتم وكل ما يحيطنا علماً بالحياة السالفة. وأن النقوش البارزة التي جعلت حول أعمدة تراجان ومارك أوريل لتجعلنا كأننا نشاهد مشاهد حروبها العظيمة وبتلك الرسوم تتمثل لك الجنود تقاتل البرابرة ويحاصرون قلاعهم ويأتون بالأسرى كما تشاهد النذور العامة والإمبراطور يخطب شعبة.
والصور النصفية هي في الأكثر صور الإمبراطرة ونسائهم وأولادهم وإذ كثرت تماثيلهم في أطراف المملكة بأسرها وعثر على كثير منها حتى أن عند جميع المتاحف اليوم مجموعة من الصور النصفية الإمبراطورية وهي صور حقيقية وربما كانت شبيهة بأصحابها كل الشبه نرى فيها سيماء كل إمبراطور واضحة أي وضوح وكثيراً ما تكون بشعة مستكرهة بحيث لم يحاول النقاشون أن يزينوها ويخفوا من سحنات المصورين.
فعلم البناء هو الفن الروماني الحقيقي لأنه يقوم بحاجة عملية وفيه أيضاً قلد الرومان اليونان باتخاذ الأروقة والعمد ولكن كانت لهم طريقة لا يستعملها اليونان وهي العقود (الأقبية) أي فن وضع الأحجار المنحوتة تدعم بعضها بعضاً على شكل قوس مربع. فبالعقود تسنى لهم أن ينشئوا أبنية أوسع وأكثر تفنناً من أبنية اليونان.
المصانع: إليك أهم أنواع المصانع الرومانية منها المعبد وهو كثيراً ما يشبه المعبد اليوناني وله دهليز متسع ويكون أحياناً أكثر سعة تعلوه قبة. ومن هذا النوع معبد البانثيون الذي بني في رومية على عهد أغسطس. ومنها الكنيسة الكبرى وهي بناء مستطيل طويل يعلوه سقف وتحيط بها أروقة وفيها يتصدر الحاكم يحيط به نوابه وفيها يجتمع التجار لتيجادلوا(35/17)
في ثمن البضائع فالكنيسة هي بورصة ومحكمة معاً. وفي الكنائس الكبرى أقيمت بعد ذلك مجالس المسيحيين وظلت الكنائس النصرانية قروناً محتفظة بأسماء الكنائس الرومانية وأشكالها.
ومنها المرازح (المرسيح) ذات الدرجات (انفتياير) والملعب وهي مؤرلفة من عدة طبقات وأروقة وضعت بعضها فوق بعض تحيط بالملعب وكل طبقة من هذه الأروقة يعلوه عدة صفوف من الدريجات وذلك مثل الكوليزة في رومية ويمادين أرل ونيم. ومنها قوس النصر وهو باب شرف له بعض سعة بحيث يكفي لمرور مركبة منه وهو مزين بعمد ومزخرف بنقوش كثيرة ومن هذا النوع قوس النصر في أورانج. ومنها الجسر وهو يبنى على صف من الحنايا وسط النهر. ومنها المجاري التي تجلب فيها المياه وكثيراً ما تكون على شكل جسر لتمر فوق دار ومن هذا الضرب من المجاري القطعة من الجسر المسماة كارد.
وقد كان الإمبراطور أغسطس يفاخر أنه افتتح في رومية زهاء ثمانين معبداً قال: لقد وجدت مدينة من القرميد وهاآنذا أترك مدينة من الرخال وعمل أخلافه كلهم على زخرفة رومية وقد ازدحمت المصانع حوالي الفوروم (الميدان) خاصة وأصبح الكابتول مع معبده المعروف بمعبد المشتري أشبه شيء بالأكروبول في أثينة. وفي ذاك الحي أنشئوا عدة ساحات ذات مصانع مثل ساحة قيصر وساحة أغسطس وساحة نرفنا وساحة تراجان وهي أزهاهن.
استخدم الرومان في أبنيتهم الحجارة التي وقعت تحت أيديهم في البلاد يرصفونها بملاط متين صنع بالكلس والرمل بحيث أتت عليه آلف وثمانمائة سنة وهو لم يتحتت بما أصابه من الرطوبة. ولا تقرأ في مصانع الرومان تلك البهجة التي تتجلى في المصانع اليونانية بل إنها متسعة متينة راسخة القواعد شأن الفتح الروماني. وما زالت أرض البلاد إلى يومنا هذا طافحة بأنقاض تلك المصانع. ولم يبرح الباحثون يعثرون حتى في قفار أفريقيا والدهشة آخذة منهم على مصانع رومانية محفوظة سالمة. ولما أريد جلب الماء إلى تونس لم يعملوا إلا أن أصلحوا مجرى النهر الذي أنشيء بالعهد الروماني.
التجارة: أصبحت رومية أعظم مدينة في العالم (ويذهبون إلى أن أنه جاء عليها زمن كان فيها مليون نسمة) فكانت بالطبع مركز تجارة المملكة. ولقد مضت العصور القديمة(35/18)
والمتاجر تنقل في الماء أي في البحار وفي الأنهار أكثر من الطرق التي يقتضي لها عجلات ثقيلة لنقل تلك المتاجر. فكانت المتاجر تنقل إلى رومية من طريق البحر خاصة فتقلها السفن إلى مرفأ أوستي عند مصب نهر التيبر ومنها توسق في قوارب تصعد النهر حتى تصل إلى سفح جبل أفنتين وتنزل شحنها في مرفأ رومية. وكانت البضائع الخاصة ببقية إيطاليا تفرغ في مرفأ بوزول في خليج نابولي ومنها يرسلونها في الطرق وإذا تيسر لهم يرسلونها في قوارب تسير على الشاطيء أو تجري صعداًَ في الأنهار تجرها الخيول.
وكانت رومية وأيطاليا تصرفان أكثر مما تنتجان فتجارتهما خاصة تجارة واردات وكان تجار من الطليان ينزلون في أهم مرافئ العالم يجمعون فيها حاصلات كل بلد ليبعثوا بها إلى رومية. وكنت تجد في كل بلد مركزاً للتجارة مثل بلرمة في صقلية وقرطاجنة في أفريقية والإسكندرية في مصر ومن هذه البلاد كانت تجلب إلى رومية الحبوب والزيت والفاكهة والقول الناشفة ومن المراكز التجارية أفيز في آسيا الصغرى وإنطاكية في سورية ومنها كانوا يرسلون الأصواف والأقمشة والحنطة التي تخرجها البلاد الداخلية. ومن هذه المراكز أولبيا على شاطئ البحر الأسود وإليها كانت تأتي حنطة روسيا. ومنها قادش في إسبانيا كانت ترسل إلى رومية فضة المناجم وأوباربتنكيا (في الأندلس) ومن هذه المراكز ناربون وأرل في غاليا كانا يجلب إليهما من نهر الرون جلود بلاد الغال وأخشابها (أما مارسيليا فكانت سقطت منزلتها القديمة ومرسى فريجوس أصيح ميناءً حربياً).
وكان الرومانيون يجلبون أيضاً بضائع من خارج فيبعث إليهم الشرق بأدوات الزينة والرفاهية كالعطور والباريز (الفلفل وجوز الطيب والزنجبيل) والنيلة والعاج والأحجار الكريمة وأقمشة الصوف والحرير والعبيد السود والحيوانات النادرة (ولا سيما القرود فكانت تجلب إلى افسكندرية من طريق البحر الأحمر أو في النيل وتأتي إلى إنطاكية من طريق الخليج الفارسي وبادية الشام (مع القوافل) أو إلي أولبيا من طريق بلاد فارس وبحر الخزر وكان الرومان يستخرجون من بلاد الشمال المواد التي لم تهذبها يد الصناعة مثل عنبر البلطيق وقصدير إنكلترا وكان يأتي من طريق غاليا الجلود والأديم والشمع وشعور النساء والعبيد.
أغسطس: مات أغسطس ولم يخلف وريثاً يرثه مباشرة فخلفه ابن زوجته تيبر وهو الذي(35/19)
تبناه ومضى نصف قرن والإمبراطور أبداً رجل من أسرة أغسطس وأدرك الرومان منذ ذلك فساد هذه الطريقة.
فكان للإمبراطور مدة حياته سلطة متناهية لا حد لها فهو الحاكم على هواه في الأشخاص والأحوال يحكم بالقتل ويصادر الأموال ويهلك من يريد إهلاكه بدون رقيب ولا يقف أمام إرادته حاجز من نظام ولا قانون. حتى قال المشرعون الرومان: إن لأمر الإمبراطور قوة القانون. وبذلك عرفت رومية الاستبداد الذي لا نهاية له على نحو الاستبداد الذي كان يجري في المدن اليونانية استبداداً لم ينحصر في سور ضيق من مدينة بل كان عظيماً كالمملكة. فكما كان في يونان ظالمون أهل حشمة ووقار كان في رومية إمبراطرة حكماء محتشمون ولكن قل في هؤلاء من لم يستهوهم دوار السلطة عندما يرون أنهم بلغوا أرقى رتبة يصل إليها إنسان. ومن إمبراطرة رومية من لم يستخدموا سلطتهم التي لم يسمع بمثلها إلا لترسل أسماؤهم كالأمثال فضرب المثل بنيرون وظلمه وبكلود خليفة تيبر وسخافته وكاليجولا وجنونه المطبق وتقليده حصانه رتبة قنصل وتطاوله إلى أن يعبد كالأرباب. فكان الإمبراطرة يضطهدون الأشراف خاصة ليحولونهم عن كيد المكايد ويضغطون على الأغنياء ليصادروا أموالهم.
وكانت هذه السلطة المتناهية سيئة النظام وهي تتمثل كلها في شخص الإمبراطور ومتى هلك يبحث فيما أتاه من الأعمال. كان القوم عارفين بأن العالم لا يستغني عن سيد ولكن ليس في شريعة ولا عادة ما يستدل به على ماهية ذاك السيد. فكان من حق مجلس الشيوخ وحده أن يعين الإمبراطور ولكنه يختار أبداً بالقوة من اختاره الإمبراطور السالف أو رضي عنه الجند.
ولقد عثر حراس القصر الإمبراطوري بينا كانوا يبحثون فيه عقيب وفاة الإمبراطور كاليجولا على رجل اختبأ وراش الفرش وهو ترتعد فرائصه فرأوا أنه من أنسباء كاليجولا فعينه الحرس إمبراطوراً وكان هو الإمبراطور كلود.
الحرس الإمبراطوري: كان يحظر زمن الجمهورية على القائد أن يأتي في جيشه إلى المدينة فأصبح الإمبراطور رئيس الجيوش كلها وله في رومية حرس عسكري مؤلف من نحو عشرة آلاف رجل أقاموا منذ عهد تيبر في ثكنة حصينة بالقرب من المدينة. وينتخب(35/20)
هذا الحرس من قدماء الأجناد وتدر عليهم الرواتب الكثيرة وتتوالى عليهم الإحسانات وبهؤلاء الجنود يعتز الإمبراطور فلا يخاف بائقة تصيبه من الناقمين عليه من أهل رومية بيد أن الخطر كان يأتي من الحرس نفسه وإذ كانت القوة معهم اعتقدوا بأنه يحل لهم أن يأتوا كل شيء وكان زعيمهم أوسع سلطة من الإمبراطور.
الثورات والحروب: استشاط أشراف الرومان غضباً مما أتاه نيرون من الفظائع وضروب الجنون فحدا سخطهم ببعض الولاة إلى الانتفاض وخلع الطاعة فشعر إذ ذاك مجلس الشيوخ بقوة يستند إليها فأعلن بأن نيرون عدو عام فلم يسعه إلا الهرب ثم الانتحار.
وبعد موته وقع اختيار مجلس الشيوخ على والي إسبانيا المدعو غاليا فعينوه إمبراطوراً ولكن الحرس الإمبراطوري لم يره كريماً جواداً فذبحه ونصب مكانه أحد ندماء نيرون واسمه أُتون ثم أن الجنود المرابطة في تخوم جرمانيا أرادت أن تنصب بنفسها إمبراطوراً فدخلت فرق نهر الراين إلى إيطاليا فصادفوا الحرس الإمبراطوري بالقرب من كريمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة في وقعة شعواء أخذت بطرفي الليل ثم نصبوا الإمبراطور الذي اختاره مجلس الشيوخ وهذا القائد فينليوس.
وفي ذاك الحين انتخب جيش سورية زعيمه فسباسين الذي قاتل فيتليوس وعين مكانه (69) وهكذا نصبت رومية ثلاثة أمبراطرة في سنتين وأنزل الجند ثلاثة أمبراطرة عن عروشهم. وفي خلال هذه الحروب نهب جنود جرمانيا مدينة وحرق معبد الكابتول.
الفلافيون: نصب فسباسين إمبراطوراً فوطد أركان السلم وكان إيطالياً وهو حفيد أحد الفلاحين حافظ على عادات له في الاقتصاد والسذاجة في عيشه. فرأى القسم الأعظم من مجلس الشيوخ قد تمزق شملهم والأسرات القديمة قد بادت أو هلكت فاستعاض عنها بأسرات إيطالية أو من أهل الولايات ولما تجدد مجلس الشيوخ على هذه الصورة كفَّ عن إبداء العداء للإمبراطور فخلف فسباسين أولاً (79) ابنه تينوس الذي مات للحال ثم ابنه دومنسين (81) الذي كان قاسياً غداراً مثل ظلمة اليونان.
الأنطونيون: اشتهر الخمسة الإمبراطرة الآتون وهم نرفاوترا جان وأدريان وأنطونين ومارل أوريل (96 ـ 180) بالحشمة والحكمة ويدعونهم الأنطونيين (وهذا الاسم لا يوافق في الحقيقة إلا الآخرين مهمم) ولم يكونوا من نسل البيوت القديمة في رومية بل كان(35/21)
تراجان وأدريتن إسبانيين وولد أنطونين في نيم ولم يكونوا أمراء من أسرات إمبراطورية خلقت لكي تتولى رقاب الناس منذ ولادتها. وقد تولى الحكم أربعة أمبراطرة وهم عقيمون فلم يتسن نقل الحكم بالوراثة. وكان الإإمبراطور يختار كل مرة من قواده وولاته أقدر رجل يخلفه ويتبناه ويعينه باختيار مجلس الشيوخ له وهكذا لم يبلغ عرش الإمبراطورية إلا أناس محنكون يخلفون آباءهم في مركزهم بدون قال وقيل.
ولقد كان عصر الأنطونيين أهدأ العصور التي عرفها العالم القديم والحروب تنشب بعيدة عن تخوم المملكة ولم يحدث في الداخلية شغب عسكري بتاتاً ولا مظلمة ولا أحكام جائرة فكبح النطونيون جماح الجند بتدريبهم على النظام ونظموا المحاكم ومجل الإمبراطورية وهو مؤلف من الفقهاء والمشرعين واستعاضوا عمن حرروهم من العبيد الذين طالما سخط الرومانيون عليهم على عهد الاثني عشر قيصراً بأناس من الموظفين النظاميين اختاروهم من أشرف الطبقة الثانية (يعني الفرسان) وما عاد الإمبراطور ظالماً يخدمه جند بل كان حقاً الحاكم الأول في الجمهورية لا يستعمل سلطته إلا لما فيه نفع شعبه.
حارب الأنطونيون حروباً كثيرة ليدفعوا الشعوب المحاربة التي كانت تحاول مهاجمة الإمبراطور من ناحيتين. فحاربوا في أسفل نهر الطونة الداسيين وهم شعب بربري سكن البلاد الجبلية ذات الغابات التي نسميها الآن ترانسلفانيا كما حاربوا على الفرات حكومة البارثيين العسكرية الكبرى التي جعلت المدائن عاصمتها قرب بابل وكان مملكتهم تمتد على طول بلاد فارس.
ولقد حمل تراجان على الداسيين عدة حملات واجتاز الطونة وربح في ثلاثة مواقع واستولى على عاصمة ملك الداسيين (101 ـ 102) وتفضل عليهم بالصلح ولما عاود الداسيون الحرب عمد تراجان أن يأتي عليهم فأنشأ على نهر الطونة جسراً من حجر وهاجم ولايتهم فضمها إلى المملكة الرومانية (106) وأنزل فيها طوارئ \ ومستعمرين أنشئوا فيها مدناً وأصبحت ولاية داسيا بلاداً رومانية تكلم أهلها باللاتينية وتخلقوا بالأخلاق الرومانية.
ولما انجلت الجيوش الرومانية في أواخر القرن الثالث كانت قد استحكمت اللغة اللاتينية من الداسيين وظلت شائعة في بلادهم خلال القرون الوسطى على الرغم من غارات برابرة(35/22)
الصقالبة. وقد أطلق على الشعب الذي يسكن اليوم السهول في شمالي الدانوب اسم رمية فيدعى الروماني ويتكلم بلغة مشتقة من اللاتينية كالإفرنسية والإسبانية.
حارب تراجان البارثيين أيضاً فجاز الفرات واستولى على المدائن وهي عاصمتهم وتوغل في إحصاء البلاد إلى فارس ودخل إلى سوس وأخذ منها عرش ملوك فارس المعمول من الذهب الأصم. وأنشأ أسطولاً على دجلة ونزل في النهر حتى مصبه وأبحر في خليج فارس واستخلص من البارثيين البلاد الواقعة بين بلاد الفرات ودجلة وجعلها ولايتين رومانيتين بيد أن هاتين الولايتين انتفضتا بعد سفر الجيش الروماني.
أما الأنطونيان الأخيران وهما أنطونين ومارك أوريل فقد شرفا الإمبراطورية بفضائلهما وكان كلاهما يعيش ببساطة كما يعيش الأفراد على غناهما دون أن يكون لهما ما يشبه قصراً أو سراياً وأن يشعرا بأنه كانت لهم سلطة وسيادة.
ولقد لقب مارك أوريل على العرش بالحكيم وكان يحكم البلاد مدفوعاً بعامل الواجب على غير إرادته ومع أنه كان يؤثر هذا قضى حياته في الحكم وقيادة الجيوش. وإنك لترى فيما خطه في تذكرته البيتية من أفكاره صورة الفيلسوف الرواقي الصالح الزاهد العازف عن العالم وهو على جانب من اللطف والحلم قال: أحسن الأساليب في الانتقام من الأشقياء هو أن لا يعمل المرء عملهم والأرباب أنفسهم يعطفون على الأشقياء فلك أن تقتدي بالأرباب.
ولقد كان مارك أوريل يأخذ برأي مجلس الشيوخ في عامة المسائل ويحضر جلساته بدون انقطاع. ولقد وقف في وجه كثير من الشعوب البربرية الجرمانية يرد غاراتها ويدفع عادياتها تلك القبائل التي اجتازت الطونة على الجليد ودخل إلى شمالي إيطاليا واقتضى له أن يؤلف جيشاً فجند عبيداً وبرابرة (172) فانسحب الجرمانيون ولكن بينا كان مارك أوريل مشغولاً في سوريا بقتال أحد القواد المتمردين عادوا على أعقابهم وهاجموا الإمبراطورية ومات مارك أوريل على ضفاف الطونة (180).
ولما وقفت الفتوح (بعد تراجان) كانت الإمبراطورية تمتد على طول جنوبي أوروبا كلها وعلى طول الشمال من إفريقية والغرب من آسيا ولا يقف في سبيلها إلا الحدود الطبيعية فمن الغرب البحر المحيط ومن الشمال جبال إيكوسيا ونهر الرين والطونة وقافقاسيا ومن الشرق بوادي الفرات وبلاد العرب من الجنوب شلالات النيل والصحراء الكبيرة. فكانت(35/23)
الإمبراطورية الرومانية عبارة عن البلاد التي تتألف منها اليوم كل من إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا والبلجيك وسويسرا وبافيرا والنمسا والمجر والبلاد العثمانية في أوروبا ومراكش والجزائر وتونس ومصر وسوريا وفلسطين والأناضول أي أنها ضعفا مملكة الإسكندر.
السلم الروماني: أبطل الرومان الحروب في داخلية بلادهم بإخضاع جميع الشعوب لسلطانهم فتوطد السلم الروماني الذي وصفه أحد كتاب اليونان بما يأتي: لكل فرد أن يذهب حيث يشاء فالمرافيء غاصة بالسفن والجبال أمينة على سالكيها أمن المدن لساكنيها ولم يبق داع للخوف وقد طرحت الأرض سلاحها الحديدي القديم وتجلت في ثياب الأعياد وها أنتم أولاء قد حققتم قول هوميروس بأن الأرض ملك للجميع.
وأصبح الناس في الغرب للمرة الأولى في حل من إنشاء بيوتهم وزرعه حقولهم والاستمتاع ب أموالهم وأوقاتهم دون أن يكونوا كل ساعة عرضة لمهدد يتهددهم باستلابها منهم أو أن يذبحوا ويقادوا كالأسرى والعبيد. وهذا أمان قلما نقدره قدره إذ قد تمتعنا به منذ الصغر ولكن الظاهر أنه كان يعد من حسنات الأمور النادرة عند القدماء.
سهلت الرحلة في تلك الإمبراطورية المسالمة وأنشأ الرومان طرقاً في كل مكان مع محطات ومواقف وصنعوا مصورات (خرائط) لطرق المملكة وكان كثير من أرباب الصناعات والتجار يرحلون من طرف إلى طرف آخر من المملكة. ويرحل علماء البيان والفلسفة في بلاد الإمبراطورية ذاهبين من مملكة إلى أخرى وهم يلقون المحاضرات.
وكان ينزل في كل ولاية أناس من أهل الولايات القاصية فقد دلت الكتابات على الأحجار أنه كان في إسبانيا أساتذة ومصورون ونقاشون من اليونان وفي غاليا صياغ وصناع آسياويون.
وجميع هؤلاء كانوا ينقلون عاداتهم وصناعاتهم وأديانهم ويمزجونها بما يرونه عند الأمم التي ينزلون عليها ثم يعتادون بالتدريج على التكلم باللغة الرومانية وما انبلج فجر القرن الثالث عشر حتى غدت اللاتينية لغة بلاد الغرب المشتركة كما أصبحت اليونانية لغة الشرق منذ قام خلفاء الإسكندر. فنشأت في رومية كما نشأت في الإسكندرية حضارة مشتركة سموها الحضارة الرومانية ولم تكن كذلك إلا باسمها ولغتها واجتمعت حضارة(35/24)
العالم القديم في قبضة الإمبراطور.
الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث
السيفيريون: بدأت الفتن الأهلية بعد عهد الإمبراطرة الأنطونيين فذبح الحرس الإمبراطوري سنة 193 الإمبراطور برتيناكس ورأوا أن يضعوا المملكة في المزاد فتقدم طالبان يريدان ابتياعها أحدهما سولبسين تقدم على أن يعطي كل جندي خمسة آلاف فرنك والثاني ديديوس رفع ما يدفعه لكل جندي إلى ستة آلاف فرنك فحمله الحرس إلى مجلس الشيوخ وعينوه إمبراطوراً ثم لم يستطع القيام بما تعهد به فذبحوه.
وفي خلال ذلك بويع بالملك ثلاثة قوادة لثلاثة جيوش وهما قائد برتانيا وقائد إيليريا وقائد سوريا وسار هؤلاء الثلاثة المتنافسون إلى رومية فوصلت فرق إيليريا قبل غيرها فعين مجلس الشيوخ القائد سبستم سيفير إمبراطوراً على رومية فنشبت عند ئذ حربان سالت فيهما الدماء أنهاراً إحداهما لمدافعة جيش سوريا والأخرى لمدافعة جيش برتانيا وظلت لسيفير الكلمة النافذة مدة سنتين وهو الذي أوجز سياسته في كلمتين فقال أيها الأبناء ارضوا الجند واهزؤوا بمن بقي.
الفوضى والغارة: مضى قرن ولم يكن قاعدة في الحكومة غير إرادة الجند وكان في الإمبراطورية ما خلا جيش الحرس الصغير في رومية عدة جيوش كبيرة على نهر الرين والطونة والشرق وإنكلترا. وكل جيش يود أن يجعل قائده إمبراطوراً والمتنافسون يتقاتلون حتى كتبت الغلبة لواحد فحكم بضع سنين ثم قتل وإذا أسعده الحظ بنقل السلطة إلى ابنه من بعده فالجيش يتمرد على ابنه ذاته وتعود نار الحرب تستعر.
وفي ذاك الحين نشأن أمبراطرة غرائب في أطوارهم فكان إيلاجابال كاهناً سورياً لبس ثياب امرأة وترك أمه تؤلف مجلس شيوخ من النساء (مجلس شيخات وعجائز) ومنهم الإمبراطور ماكسيمان وهو جندي بالعرض وجبار قاس وسفاك كان يأكل على ما يقال 30 لبرة من اللحم ويشرب عشرين لبرة من الخمر. وجاء زمن على هذه المملكة والذين يدعون الإمبراطوية ثلاثون إمبراطوراً انقطع كل منهم إلى ناحية من المملكة (278 ـ 360) وسمى كل واحد نفسه إمبراطوراً فدعي هؤلاء الثلاثون بالثلاثين ظالماً.
وبينا جند البلد مشغولون بقتال بعضهم كان يرى البرابرة أن التخوم خالية من الحامية(35/25)
فيجتازون أرض الإمبراطورية ويخربونها. وكان إقليم غاليا خصوصاً هو الذي يقاسي الأمرلاين من هذه الغارات في القرن الثالث فتجتازها عصابات من المحاربين الجرمان كالألمان والفرنك وإذ لم يجدوا فيها مدناً حصينة ولا جيوشاً نهبوا المدن وحرقوها وأخذوا ما شاؤوا من أهلها أسرى معهم وذبحوا الباقين. وقرصان الساكسون يخربون شواطئ بحر المانش.
كان هذا القرن الذي انقضى في حروب قرن خرافات فكنت تجد في كل مكان أناساً يعبدون أرباب المشرق مثل الرب إيزيس وأوزيريس والربة الكبرى ولكن ميترا وهو رب فارسي رب عام أكثر من الأرباب قاطبة في الإمبراطورية. وميترا الشمس وهي مصورة في المصانع النس أنشئت إكراماً لها وهي تصرع ثوراً وقد كتب عليه ما يأتي:
للشمس التي تغلب للرب ميترا وقد عثر على مثل هذه الرسوم في جميع أجزاء الإمبراطورية. وعبادة الشمس ملتبسة مبهمة فهي أحياناً أشبه بالشعائر النصرانية فيكون فيها عماد وولائم مقدسة ومسحة وتوبة وشموع ولأجل أن يقبل المرء في جملة أهل هذه العبادة يجب القيام بأعمال من صوم ومحن مخوفة.
وقد كان دين ميترا في أواخر القرن الثالث الدين الرسمي في المملكة ودان الإمبراطرة والجيش بهذا الرب القهار ولهذا الرب في كل مكان معابد على شكل مغاور ذات مذابح ونقوش بارزة وكان في رومية أيضاً معبد فخيم أنشأه الإمبراطور أورليان. وكان من أشد الحاجات الماسة في ذاك العهد البقاء مع الأرباب على صلح ووئام فاخترعوا حفلات لتزكية النفس فيلبس المؤمن ثوباً أبيض مزيناً بالذهب ويقعد في أسفل هوة فيطبقونها على رأسه بلوح من الخشب مثقوب ويأتون بثور يقفونه على هذا اللوح فينخره الكاهن فيجري دمه من الثقوب على أثواب المؤمن ووجهه وشعره. وكانوا يعتقدون أن هذا التعمد بالدم يطهر المرء من السيئات كافة ومن يجري له يكون كيوم ولدته أمه في حياة جديدة ويخرج من الحفرة بشع الصورة ولكنه سعيداً مغبوطاً.
اختلاط الأديان: أخذت الأديان كلها في هذا القرن الذي تقدم فيه فوز النصرانية على غيرها بالاختلاط فتعبد الشمس تحت أسماء منوعة (وهي التربية وهليوس وبعل وإيلكابال وميترا) وجميع هذه العبادات منسوخة بعضها عن بعض وكثيراً ما تجري على مثال العبادات(35/26)
النصرانية ومن أعظم الأمثلة في هذا الاختلاط الديني ما كان يتوفر عليه اسكندر سيفير الإمبراطور المحتشم الطيب ذو الذمة فقد كان في قصره مصلى يعبد فيه المحسنين للإنسانية وهم إبراهيم وأورفيه ويسوع وأبولونيوس دي تيان.
ديوكسين: بعد مرةر زمن في الحروب الأهلية قام أمباطرة تمكنوا من وضع حد للشغب وكانوا قساة عاملين وجنداً ترقوا في درجات الجندية حتى أصبحوا زعماء وقواداً ثم صاروا أمبراطرة. ويكاد يكون منشأ معظم أولئك الإمبراطرة من ولايات نصف متوحشة كولايات الطونة وإيليريا وبعضهم كانوا في طفولتهم رعاة أو مزارعين. وكان في سذاجة أخلاقهم على مثال قدماء قواد الرومان ولما طلبت وفود ملك فارس أن يروا الإمبراطور بروبوس رأوه شيخاً أصلع يلبس عباءة صوف ويضطجع على الأرض ويتناول حمصاً وشحم خنزير وكانت هذه سيرة كوريوس دانتاتوس قبل خمسة قرون.
ولقد كان هؤلاء الأمبراطرة أشداء على الجند فأحدثوا في الجيش نظاماً وفي البلاد أماناً ولكنه بشأت بحكم الضرورة ثورة أضرم نيرانها الإمبراطور ديوكسين الذي تدرج من الجندية إلى تولي مقام الإمبراطورية (285) وتنازل عن الملك بعد أن نظم شؤون الإمبراطورية.
ولم يعد يكفي رجل واحد لتولي شؤون الحكم في تلك البلاد المتسعة والدفاع عنها فاتخذ كل إمبراطور له كما اتخذ ديوكسين من أنسبائه وأصحابه اثنين أو ثلاثة يؤازرونه وعهد إلى كل واحد النظر في جزء من مملكته. وفي العادة أن يدعوا باسم قيصر ويحدث أحياناً أ، يتولى إمبراطوران متكافئان يدعى كلاهما باسم أغسطس ومتى هلك أحدهما يخلفه أحد القياصرة أما الجيوش فلا تستطيع أن تنصب أمبراطرة.
واتسعت الولايات أي اتساع حتى أدى ذلك بديوكلسين إلى تقسيمها فكان عددها 48 ولاية في القرن الثاني فأصبحت زهاء 90 ولاية (وغدت غاليا سبع عشرة ولاية بعد أن كانت سبعاً) وأمسى الحرس الإمبراطوري في رومية خطراً على البلاد فاستعاض الإمبراطور ديوكلسين عنه بفرقتين سماهما فرقتي القصر.
المدنية الرومانية على عهد الإمبراطورية
مدينة بومبي: ذكر بلين الفتى في كتاب له قصة ثوران بركان فيزوف (سنة 79) الذي هلك(35/27)
فيه خاله بلين القديم. وكان المعلوم أن هذا البركان أخرب مدينتين صغيرتين نزهتين وهما هركولانوم وبومبي ولكن لم يعرف أحد موقعهما. واكتشفت في القرن الثامن عشر بالعرض مدينة هركولانوم مغشاة بطبقة من الحمم ثم كشفت مدينة بومبي مدفونه تحت طبقة من الرماد وحجر الكدان. وبدئ البحث في هركولانوم فعثر فيها على تماثيل صغيرة جميلة ومدارج مخطوطة محروقة توصل العلماء إلى حل بعضها ولكن حالت صعوبة العمل في الحمم فوقف الباحثون عن التوافر على ما كانوا بدؤوا به. وآثروا أن يبحثوا في بومبي حيث يسهل نزع الرماد وقد مضى القرن التاسع عشر بأجمعه والهمم متوفرة على نزع الرماد عن المدينةحتى كادت تظهر بأسرها الآن كما كانت.
ظهرت بومبي للأنظار على ما كانت عليه قديماً وقد سقطت السقوف من ثقل الرماد وفر السكان من كثير من البيوت عند وقوع هذا البلاء ثم عادوا يفتشون عن أهم الأعلاق وأنفس النفائس. وما برحت الحيطان قائمة ولم تمح منها الإعلانات المكتوبة بالحمرة بل ما زلت ترى فيها الخطوط التي خطها المارة بالفحم وسلمت الشوارع وبلاطها المحفور بسير المركبات والعجلات. وقد وجدوا أيضاً على الرماد ما تركته جثث الذين هلكوا اختناقاً من الرسوم وقد توصلوا بأن جعلوا جبساً مائعاً في تلك الرسوم وأخرجوها فكانت قوالب لتلك الأجساد الميتة.
العيشة الرومانية: تصور بومبي للفكر كيف كانت العيشة في مدينة رومانية صغيرة فقد كانت هذه المدينة حديثة البناء ذات شوارع مصفوفة مقطوعة إلى زوايا قائمة ومبلطة ببلاط محكم الأجزاء ولها أرصفة إلا أن الشارع الأعظم كان معرجاً وبلغ من ضيقه أن كان يتعذر على مركبتين أن تلتقيا في وسطه.
ولم يكن للمساكن غير نوافذ صغيرة وقليلة تطل على الشارع بل كانت للغرفة كلها نوافذ من وسط الدور يدخل إليها النور. وبهذا عرفت أن الشوارع كانت محاطة بحيطان ما عدا الشوارع الرئيسية وعلى طولها صفوف من الحوانيت يستأجرها السوقة والباعة.
وساحة المدينة متوسطة الحجم تحيط بها المباني والمصانع مثل ديوان مجلس شيوخ المدينة ومعابد صغيرة ومحاكم وسوق مسقوف ورواق ذو عمد وفيه كان يجتمع أهل البطالة وفيها داران للتمثيل حفر القسم الأعظم من الكبير فيهما في أكمة وهو يسع خمسة آلاف متفرج(35/28)
والصغير يسع ألفاً وخمسمائة وفيها مشهد ذو درجات على شكل نصف دائرة إنفيتياتر تقام فيه الألعاب ويتصارع فيه المصارعون. وفيها ثلاثة حمامات عامة (على الأقل) لأصغرها وهو الذي حفظ أكثر من غيره مقصورة للاستحمام وأخرى للحمام السخن وثالثة للبارد وصوان (محل الثياب) وليس في الدور غير أخونة ومقاعد وصناديق وسرر وشمعدانات وكثير من المصابيح إذ لم يكن القدماء يكثرون من الأثاث. أما الغرف فصغيرة ويجعلون الزينة كلها في قاعة الاستقبال الكبرى إلا أن مصايف أغنى أغنياء السكان مبلطة بالفسيفساء والجدران مغشاة بصور جميلة فيها مشاهد اساطير وتزيينات من أكاليل وأزهار أما الحوانيت فحالتها تشعر بضعف التجارة ولحوانيت باعة المشروبات إشارات مصورة وقد صورت في إحداها صورة باخوس (رب الكرمة) يعصر عنقوداً. وكتب على حانوت آخر: هنا فندق يؤجر غرفة ذات ثلاثة سرر وقد عثروا في تلك المدينة على مخبز فيه رحيان اداران باليد وعلى معمل لقصر الثياب ودكان حلاق وبيت جراح وأدواته من القلز (النحاس الأصفر) ومعمل نقش ودباغة.
المشاهد: كان للمشاهد في حياة هذا الشعب العطل من الأعمال في رومية شأن يصعب علينا تصوره فكانت المشاهد كما في يونان عبارة عن ألعاب أي حفلات دينية وتتعاقب المشاهد طول النهار وتعود من الأيام التالية مدة أسبوع على الأقل.
والمشهد عبارة عن موعد تتواعد عليه الأمة الحرة بأسرها وهناك كانت تقام المظاهرات ففي خلال الحروب المدنية سنة 196 أخذ المتفرجون بلسان واحد يهتفون: السلم والمشهد (الفرجة، كان يحسب ما تميل إليه النفوس في ذاك الزمن فقد مثل فيه ثلاثة أمبراطرة فمثل كاليجولا في هيئة حوذي ونيرون ممثلاً وكومود مصارعاً. وللمشاهد ثلاثة أضرب وهي المرزح أو المسرح (المرسح) والملعب وشكل نصف الدائرة (أنفيتياتر).
وكان المرزح على الأسلوب اليوناني والممثلون يمثلون وقد جعلوا أوجهاً مستعارة على وجوههم يشخصون قصصاً أخذوها من اللغة اليونانية. وقلما كان الرومان يقدرون مثل هذه الروايات قدرها لأنها تعلو من عقولهم وكانوا يؤثرون الروايات المضحكة الجافة المعروفة بالميم ولاسيما البانتوميم التي يشخصها المشخص دون أن يتكلم ويظهر عواطف الأشخاص الذين يمثلهم بحركاته وسكناته. تمتد بين أكمتين من جبل أفانتين وبالاتين ساحة السباق(35/29)
تحيط بها أروقة علتها مراق وأدراج. وهذا المكان هو الملعب الأعظم أصبح يسع منذ وسعه نيرون 250 ألف متفرج. ثم وسع في القرن الرابع حتى صار صالحاً لإجلاس 385 ألف شخص وهناك كانوا يمثلون الفرجة التي يحبها الشعب الروماني وهي سباق المركبات ذات الأربعة خيول فالمركبة الواحدة تطوف الملعب من أقصاه إلى أقصاه ثلاث مرات وعليها أن تقطع 25 شوطاً في اليوم الواحد. وسائقو المركبات تبع لشركات تزاحم كل منها الأخرى ويلبسون لوناً من الألبسة خاصة بشركتهم فكانت الشركات أربعاً بادئ بدء ثم استحالت اثنتين وهما الزرقاء والخضراء ولكليهما شهرة في تاريخ التمرد. ولقد أولع القوم في رومية بسباق المركبات كما يولع الناس اليوم بسباق الخيل حتى كان موضوع الحديث النساء والأولاد أيضاً كثيراً ما يتعصب الإمبراطور لفريق دون آخر في السباق وتتكون من النزاع بين الزرق والخضر مسألة سياسية.
أنشأ الإمبراطور فسبازين على أبواب رومية بناء الكوليزة وهي عمارة ضخمة ذات طبقتين تسع سبعين ألف متفرج كانت عبارة عن ملعب مستدير حول ميدان يصطادون فيه ويتقاتلون فإذا أرادوا الصيد يجعلون الميدان غابة يطلقون فيها الوحوش الكاسرة فيجيء رجال مسلحون بحراب يصيدونها. وكانوا ينوعون المشهد بجعل الحيوانات الكثيرة في هذا المكان ولاسيما النادر منها كالأسود والفهود والفيلة والدببة والجواميس والكركدن والزرافة والنمور والتماسيح. وظهر في الألعاب التي احتفل بها الإمبراطور بومبي 17 فيلاً و500 أسد في الميدان وكانت لبعض الأمبراطرة دار لغرائب الوحوش. ثم رأى القوم بدلاً من أن يجعلوا الرجال المسلحين أمام الحيوانات أن يطلقوا الحيوانات على الرجال وهم عراة مقيدون. وشاعت العادة في جميع مدن الإمبراطورية باستخدام المحكوم عليهم بالإعدام في هذه التسلية فافترست الحيوانات ألوفاً من الناس من كل جنس وسن ومنهم كثير من شهداء المسيحيين على مرأى من الحضور.
المصارعون: كان قتال المصارعين (رجال بأيديهم سيوف) من أجل المشاهد الوطنية عند الرومانيين فينزل رجال مسلحون إلى الميدان يتبارزون حتى يقتل بعضهم بعضاً وبلغ الحال بالرومانيين على عهد قيصر أن صاروا يفتلون 320 زوجاً من المصارعين في آن واحد وقد قتل أغسطس في حياته كلها عشرة آلاف رجل وقتل تراجان مثل ذلك في أربعة(35/30)
أشهر. وكان المغلوب يذبح في الحال إلا إذا عفا الشعب عنه.
وكثيراً ما يأتون بأناس من المحكوم عليهم في ميدان الصراع ولكن المتصارعين يكونون في الغالب من العبيد وأسرى الحرب. وكل انتصار يجلب إلى ميدان الصراع عصابات من البرابرة يقتل بعضهم بعضاً ليتلذذ المتفرجون وكان في رومية مصارعون من كل بلد فمنهم الغاليون والجرمان والتراسيون وربما كان منهم الزنوج فيقتتلون بأسلحة مختلفة عن أسلحتهم الوطنية عادة. وكان يحب الرومان أن يرو هذه المقاتلات في صورة مصغرة.
وكنت ترى بين هؤلاء المقتتلين في الملعب أناساً من المتطوعة الأحرار حدا بهم حبهم للخطر أن يقدموا أنفسهم للصراع وقواعده القاسية. وأن يقسموا لزعمائهم بأنهم يقدمون ليضربوا بالعصي ويحرقوا بالحديد المحمى ويقتلوا تقتيلاً. وقد تجند غير واحد من أعضاء مجلس الشيوخ في هذه العصابات من العبيد والمتشردين بل تجند في زمرتهم الإمبراطور كومود ونزل إلى الميدان بذاته. ولا تقام هذه الألعاب الخطرة في رومية فقط بل في جميع مدن إيطاليا وغاليا وإفريقيا (أما اليونان فقد استنكفوا من قبول هذه الألعاب).
وإليك صورة كتبت على تمثال أقيم لأحد أعيان بلدة منثورة: قد أظهر في أربعة أيام أحد عشر زوجاً من المصارعين ما برحوا يقتتلون حتى بعد أن سقط نصفهم في الميدان وصاد عشرة دببة هائلة ولا شك أنكم تذكرونهم أيها الوطنيون الأشراف.
كان العشب يهوى إهراق الدماء على نحو ما يجري اليوم بإسبانيا في سباق الثيران. وينبغي للإمبراطور كما ينبغي لملك إسبانيا أن يحضر هذه المجازر. ولقد فقد الإمبراطور مارك أوريل ثقة العامة في رومية لأنه أظهر مللاً من مشاهدة تلك الألعاب فكان يقأ ويتكلم ويقابل الناس بدلاً من التفرج. ولما صحب معه المصارعين ليستخدمهم في قتال البرابرة الذين هاجموا إيطاليا أوشكت الغوغاء أن تتمرد وصرخوا قائلين: أنه يريد أن يسبنا تسليتنا ليضطرنا إلى التفلسف.
المدارس: لم يخطر للقدماء قط أن يعلموا الأولاد كلهم فليس العبيد وحدهم بل السواد الأعظم من سكان الإمبراطورية لم يتعلموا القراءة. على انه لم يكن في المملكة غير مدارس الأغنياء والوطنيين الرومانيين. وقلما نعرف المدارس التي يتعلم فيها أبناء الوطنيين والأجناد القراءة والكتابة. وقد كان راتب معلم المدرسة قليلاً جداً وآباء الأولاد هم(35/31)
الذين يؤدون إليه راتبه. وطريقة التعليم عبارة عن ضرب الأولاد بمقرعة أو بالعصي. وقد مثلوا في صورة وجدت في مدينة بومبي ولداً يمسكه أترابه بينا كان المعلم يضربه بالسوط.
وتعلم الأسرات الغنية أولادها عند مؤدب يكون رومياً في الغالب فيعلمهم النحو واللغة اليونانية. والمدارس العامة تقبل الشبان الأغنياء خاصة يرسلهم آباؤهم إليه ليتعلموا فيها الخطابة. وإلغاء المنابر لم ينزع من الناس ذوقهم للخطابة ومرانهم عليها. وعلى ذاك العهد بدأ المفوهون أو الخطباء يكثرون ويعلمون الناس كيفية الأداء فافتتحوا منذ القرن الأول في رومية مدارس يقبلون فيها الفتيان الأغنياء. وكان بعضهم يمرن تلاميذه على إنشاء المرافعات في موضوعات خيالية في الخطابة وقد حفظ لنا الخطيب سليك عدة من هذه الدروس الخطابية وموضعها أولاد مخطوفون ولصوص ومتشردون على أساليب مختلفة.
أسست على الولاء مدارس من هذا الطراز في جميع أقطار المملكة فكان في غاليا مدرسة قديمة في مدينة مارسيليا اليونانية يقصدها الطلاب من إيطاليا. وأصبحت مدرسة أوتون منذ زمن أغسطس عامرة أكثر من غيرها بالطلاب وهي التي بقيت عامرة إلى آخر أيام الإمبراطورية.
ثم أنشئت مدارس من هذا النوع في الشمال منها مدرس في ريمس وأخرى في تريف. وكانت في الجنوب لعدة مدن مدارس من مثل هذه وأشهرها هي التي أصبحت مدرسة بوردو بعد ذلك.
تنفق المدن على هذه المدارس فتيعين لها الأساتذة وتدفع لهم أجورهم والمقصد الأول منها تعليم أبناء الأسرات الغنية التكلم باللاتينية واليونانية وأن يكتبوا فيهما ليتمكنوا من أن يكونوا موظفين. ويعلم فيها النحو البيان خاصة. وكان أشهر أستاذ في مدرسة أوتون في القرن الرابع الخطيب أومين أرسله الإمبراطور قسطنطين وكان مدحه. وأعظم رجل في مدرسة بوردو هو أوزون مربي ابن الإمبراطور (369) ومؤلف عدة مقاطيع شعرية لاتينية متكلفة.
الأشراف: دثرت الأسرات القديمة الغنية في رومية إلا قليلاً ولكن قام غيرها من الأسر الحديثة التي أغتنت بالصيرفة والتجارة والتزام الجباية واستثمار الأراضي المفتوحة. وكلما تمكن غني من أرباب الأملاك من أن يعينه الإمبراطور حاكماً تشرف أسرته وبذلك شرفت(35/32)
جميع الأسرات الغنية في إيطاليا والولايات (حتى لم يبق في أواخر القرن الثالث أسر من الفرسان العاديين) وكان كل عظيم من كبراء هؤلاء الملاك يعيش بين عبيده ملكاً صغيراً لا عمل له إلا إتباع الشهوات وداره في رومية أشبه بقصر تغص غرفة التشريفات (لاتريوم) كل صباح بأناس من الزبن (الزبونات) وهم أناس من الوطنيين يختلفون إليه لأمور طفيفة صباح كل يوم يسلمون عليه بالسيادة ويسايرون موكبه في الشارع. لأن الاصطلاح يطلب أن لا يظهر الغني أبداً أمام الجمهور إلا ويحيط به جماعة. وقد ضحك هوراس من أحد القضاة لمروره بشوارع تيبور في خمسة من العبيد فقط. وللكبراء خارج رومية مصايف بهجة على شواطئ البحر أو في الجبال ينتقلون فيها لا عمل لهم والضجر آخذ منهم.
ولم تكن واجهات لبيوت هؤلاء الأغنياء من الرومانيين على العكس من بيوتنا الحديثة بل كانت كلها دائرة من داخل أما الخارج فلم تكن سوى حيطان عارية لا شيء فيها والغرف صغيرة وفرشها قليل وهي مظلمة لا يدخلها الضوء إلا في قاعة التشريفات وهي في وسط البيت وفيها نصب تماثيل الأجداد وفيها يستقبل الزوار ويدخل إليها النور من شق في السقف ووراءها البيريستيد وهي حديقة محاطة بصفوف من العمد وعليها تطل غرف الطعام المزينة أفخر زينة وفيها سرر لجلوس الضيوف ويتناولون فيها الطعام لأن ذلك كان من عادة أغنياء الرومان كما كان من عادة اليونان في آسيا. وكثيراً ما يكون بلاد الدار معمولاً بالفسيفساء.
الأخلاق: وصف سينيك في رسائله وجوفنال في أهاجيه الرجال والنساء في عهدهما وصفاً مزعجاً حتى أصبح فساد رومية القياصرة مثلاً سائراً في الغابرين. على أن هذا ناشئ من دواء اضطرابات القرون الأخيرة للجمهورية مثل بذخ الأغنياء الغليظ وقسوة السادة مع عبيدهم وطيش النساء الممزوج بجنون. فلم يأت الشر من طريقة الحكم الإمبراطورية بل من الإفراط في جمع ثروات العالم أجمع بيد بضعة ألوف من الأشراف أو أدعياء الشرف وتحتهم بضع مئات من الأحرار يعيشون عيشاً سافلاً وملايين من العبيد يظلمون ظلماً هائلاً.
وكانت الأسرة الكبرى تندثر بسرعة حتى هال الإمبراطور أغسطس ما رأى من نقص عدد الرجال الأحرار فسن قوانين لحمل الناس على الزواج والعقاب على العزوبة وإذ كان تأثير(35/33)
هذه القوانين يحتاج إلى زمن لم تنجع أصلاً. ولقد كثر عدد العزاب من الأغنياء حتى غدت مداهنتهم من الصناعات الرابحة وذلك ليوصي لهم من يدهنون لهم بشيء من المال يأخذونه بعدهم. ون حسن التدبير أن لا يرزق الغني ولداً فيكون محاطاً بالمرائين والمتقربين. قال أحد القصصيين الروحانيين: ينقسم الناس في هذه المدينة إلى طبقتين منهم من يصطاد ومنهم من يصاد. وقال سينيك: إن في حرمان الأولاد زيادة نفوذ المرء.
الطبقات النازلة: فقد التمييز بين الوطنيين الرومانيين والغرباء موقعه ومكانته إذ لم يعد في رومية انتخابات وشمل حق التملك على التدريج سكان الولايات. وجاء زمن عهد كراكالا (212) صدر فيه أمر بمنح حق الوطنية لجميع سكان الإمبراطورية ولم يشعر بهذا الأمر كثيراً لأن العمل كان جارياً عليه من قبل بالفعل.
ويمتاز الرجل امتيازاً خاصاً بثروته التي يملكها ويقسم الناس إلى طبقتين: الأغنياء ويدعون اشرف الشرفاء وهم أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان وأعضاء مجالس الشيوخ في المدن وتتألف منهم طبقة القواد العشرة أما بقية الشعب وهم العامة فيتألف منهم الفقراء المدقعون والسوقة الحقيرون.
فأشرف الأشراف وحدهم يحسبون في المجتمع وهم يقومون بعامة الوظائف المدنية وجميع موظفي الإمبراطورية من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ أو طبقة الفرسان وجميع حكام المدن من قواد العشرة. ولهم كلهم إمتيازات رسمية ومحال خاصة بهم في دور التمثيل وحضور الحفلات وإذ حكم عليهم بالإعدام لا يصلبون ولا يلقى بهم للوحوش في الملعب لأن هذه العقوبات المخزية كانت خاصة بالغوغاء والعامة.
ولقد عاش الفقراء في هذا المجتمع الأرستوكراسي عيشة ضنك فيعيش فقراء رومية من الصدقات العامة أو بالاختلاف إلى الأغنياء ومداهنتخم وهذه العيشة كانت ضرباً مستوراً من الشحاذة. ويصبح الفقراء في القرى مستعمرين في أراضي كبار الأملاك الذي يعاملونهم معاملة تقرب من معاملة العبيد. وترى الفقراء في المدن صناعاً أو مرتزقة ومنزلتهم منزلة المعتقين من العبيد. وإذا حسنت حال المدينة يكون لهم نصيب فيما يوزعه الحكام من الصدقات ويدخلون دون أجرة إلى مشاهد التمثيل والألعاب والحمامات العمومية وكنت ترى في جميع المدن حمامات حارة مؤلفة من مقاصير للاستحمام ذات أحواض تأتيها الحرارة(35/34)
من موقد جعل تحت الأرض. والحمامات في مدينة رومية كمحال الرياضة في المدينة اليونانية هي مكان اجتماع من لا عمل لهم. بل كانت الحمامات في مدن الرومان أعظم من محال الرياضة عند جيرانهم اليونان مئات من المقاصير على اختلاف أجناسها فمن مقصورة باردة إلى فاترة إلى حارة إلى صوان للثياب ومقصورة لدلك البدن بالزيت ومحل للمحادثة ومقاصير للرياضة وحدائق يحيط بكل ذلك سور عظيم. وقد شغلت خرائب حمامات كاركالا بالقرب من رومية مساحة عظيمة من الأرض.
العبيد: ويأتي تحت طبقة الأحرار الفقراء الطبقة الأخيرة وهي طبقة العبيد الذين هم في بعض البلاد معظم السكان. والسادة من الرومانيين كالشرقيين لعهدنا كانوا يحجبون أن يحيط بهم جمهور من العبيد. ففي البيت الكبير الروماني يعيش مئات العبيد ينقسمون بحسب خدم التي يتولونها فمنهم الموكلون بالفرش وتعهد الأواني الفضية والأعلاق والتحف ومنهم حفظة للثياب ومنهم وصائف ووصيفات ومنهم القيمون على المطبخ والحمام ومنهم رئيس المتكأ ومعاونوه ومنهم عبيد الموكب الذي يرافق سيد البيت وسيدته في الشوارع ومنهم حملة المحفة (المحارة) ومنهم الحوذيون والسواس ومنهم أمناء السر والثراء والنساخ والأطباء والمربون والممثلون والموسيقيون وأرباب الصناعات من كل صنف لأنهم في كل بيت كبير يطحنون الدقيق ويحيكون الصوف وينسجون الثيابي. ومن هؤلاء العبيد من حبسوا أنفسهم في المعامل يصنعون أشياء يبيعها سادتهم ويكون ربحها لهم ومنهم من يؤجرهم أصحابهم إلى الخارج على أنهم بناؤون أو بحارة فقد كان لكراسوس خمسمائة عبد من المهندسين. وكل هؤلاء يدعون عبيد المدن.
عبيد الريف: كل ملك (تفتيش) كبير يتوفر على زراعته عصابته من العبيد فهم الحراثون والرعاة والكرامون والبستانيون والصيادون ويجعلون شراذم تؤلف كل شرذمة من عشرة أشخاص. ويلاحظهم وكيل منهم يهيمن عليهم. ويرى صاحب الملك أن من دواعي إعجابه أن تخرج أرضه كل شيء فهو لا يبتاع شيئاً وكل حاجياته تنبت في أرضه وهذا مما يجعلونه من جملة الثناء على الأغنياء فصاحب الأرض يؤوي إليه عدداً عظيماً من عبيد الريف كما يسمونهم والملك الروماني أشبه بقرية ويسمى مصيفاً (فيلا) وقد بقي اسمها فأطلق عليه اسم مدينة (فيل) منذ القرون الوسطى وهو الملك الروماني القديم مكبراً.(35/35)
معاملة العبيد: يعامل العبيد بحسب أخلاق سيدهم فمن السادة المنورين الذين اشتهروا بالإنسانية شيشرون وسينيك وبلين فقد كانوا يطعمون عبيدهم طعاماً جيداً ويحادثونهم وربما أجلسوهم معهم على موائدهم ويسمحون أن يكون لهم أسرة وثروة صغيرة. وهناك سادة علىالعكس من هؤلاء عاملوا عبيدهم معاملة الحيوانات وعاقبوهم أشد العقوبات بل ربما قتلوهم لهوى في النفس. والأمثلة على ذلك كثيرة فقد كان فويوس بوليون عيتق أغسطس يطعم السلور البحري (سمك مرينة) في بركته فكسر له أحد عبيده آنية على غير قصد فما هو إلا أن ألقاه في البركة ليكون طعماً لسمكه.
وصف الفيلسوف سينيك فظائع السادات بهذه العبارة: إذا سعل أحد العبيد أو عطس خلال المأدبة أو طرد الذباب متهاوناً أو رمى مفتاحاً وسمع له صوت لكلب في الاقتصاص منه وأي كلب فإذا أجاب رافعاً صوته قليلاً ودلت تلاميح وجهه على سوء خلق أيحق لنا أن نضربه بالسياط؟ وكثيراً ما نبالغ في الضرب ونقطع له عضواً ونقلع سناً. وهكذا رأينا الفيلسوف أيبكيت وكان عبداً كسر مولاه ساقه. أما النساء فلم يكن أيضاً على شيء من الشفقة وإليك كيف امتدح أدفيد إحدى العقائل قال: مشطوا رأسها أمامي مرات وما قط غرزت الأبة في ذراع العبد الذي يمشطها.
وما كان الرأ ي العام ليحول دون هذه الفظائع فقد مثل جوفنال عقيلة غضبى على أحد عبيدها وهي تقول اصلبوه ـ وأي جريمة أتاها العبد حتى استحق هذا العذاب؟ ما أنحسه وهل العبد من البشر؟ وسواء أتى أمراً أم لم يأت فإني أريد عقابه وآمر به وإرادتي هي الحجة في هذا الباب.
أما الشريعة فلم تكن ألطف من الأخلاق فكانت في القرن الأول قبل المسيح توجب بأن صاحب البيت إذا ذبح يقتل عبيده كلهم به. ولما أريد إلغاء هذا القانون خطب ترازيا أحد معتبري الفلاسفة في مجلس الشيوخ مطالباً ببقاء هذا القانون.
وللعبيد مطبق تحت الأرض يدخله النور من نوافذ ضيقة بعدية بحيث لا يتيسر الوصول إليها فإذا أتوا ما يغضب ساداتهم يسجنونهم فيه بالليل وفي النهار يبعثون لهم ليشتغلوا مقيدين بسلاسل من حديد ثقيلة. وكثير منهم من وسمت وجوههم بحديدة محماة.
لم يعرف القدماء المطاحن الميكانيكية بل كانوا يطحنون الحنطة بمطاحن باليد يديرها العبيد(35/36)
وكان ذلك من أشق الأعمال يندبون إليها عقوبة لهم في العادة. وكانت المطحنة قديماً مثل محبس (لومان) وقال بلوت: كان يبكي أشقياء العبيد الذين يطعمون البولانتا (سويق من دقيق الذرة) وهناك يرن دوي الأسواط وقعقعة السلاسل والأغلال. وبعد ثلاثة قرون أي في القرن الثاني بعد المسيح وصف القصصي أبوليه داخل مطحنة بقوله: أيها الأرباب ما أتعس هؤلاء المساكين من البشر فقد اسودت جلودهم وتبرقشت من ضرب السياط ولا تستر أبدانهم غير خرق من قميص مدموغة جباههم محلوقة رؤوسهم مقيدة أرجلهم مشوهة أبدانهم من النيران مقروضة جفونهم من الدخان وقد علاهم غبار الدقيق.
ولم يكن العبيد يكتبون لذلك لا نعرف ما هو رأيهم بأنفسهم في معاملة ساداتهم لهم. إلا أن الموالي أنفسهم كانوا يشعرون بحقد عبيدهم عليهم. ولما انتهى إلى بلين لجون ما أصاب أحد أرباب الأملاك من ذبحه في حمام بيد عبيده قال ملاحظاً: أصبح كثير من الرومان عرضة لحقد عبيدهم أكثر من حقد الظالمين.
الشركات: كان في جميع بلاد الإمبراطورية في الشرق اليوناني أكثر من الغرب اللاتيني عدد كبير من الشركات مختلفة الضروب والأشكال. فمنها شركات لأرباب الصناعة الواحدة وشركات للممثلين والمصارعين وشركات أدبية وشركات لاجتماع السكيرين على الشراب ولبعض هذه الشركات أعضاء من الرجال الأغنياء مقل جمعيات الجباة وكان أعضاؤها يلتزمون الأموال الأميرية. ومثل جمعيات التجار الذي يتجرون بين إيطاليا وغاليا ولكن معظم تلك الجمعيات كان مؤلفاً من صعاليك القوم.
ولقد طال منع الحكومة الرومانية لهذه الجمعيات والشركات ثم تسامحت بها حتى إذا كان القرن الثالث أخذت تمد إليها يد مساعدتها ولكن الحكومة لم تمنع قط الجمعيات لدفن الموتى وكانت هذه الجمعيات تتألف من أناس مساكين لا يستطيعون أن يقتنوا أرضاً لتكون لهم قبراً فكانوا يشتركون ويدفعون أقساطاً للحصول على سرب يكون مشتركاً بينهم ليدفنوا فيه أمواتهم. فالمغارة أو السرب المعد لدفن الموتى هو عبارة عن بناء مقبب وفيه صفوف كثيرة من المقاصير يجعل في كل واحدة منها رفات ميت ويسمونها برج الحمام بسبب شكلها.
وعلى هذا كان أعضاء جمعية الموتى على ثقة من الحصول على مدفن لائق بعد موتهم(35/37)
وقبر دائم لهم على الدهر وهو ما كان القدماء يحرصون عليه كل الحرص ويسمون هذه الشركات لا بأسماء حزن لئلا تكون شؤماً بل يسمونها بأسماء أرباب ويسمونها شركات الصغار وكان يدخل فيها كثير من العبيد. وتجعل جميع الشركات إلا قليلاً تحت حماية أحد الأرباب يحميها (مثل جمعيات الأطباء التي أطلقوا عليها اسم أسكولاب) وما كان لكثير من هذه الشركات من غاية إلا أن يتعبدوا كلهم جماعة. والحكومة لا تدر الأرزاق إلا على المعابد والكهنة وبعض الشعائر الرسمية. وجميع الأديان الأخرى كانت منظمة على هيئة جمعيات. ولأهلها صندوقهم وكاهنهم ومصلاهم ومذبحهم وحفلاتهم. وكانت الكنائس النصرانية أولاً شركات من هذا النوع.
وأهم الشركات شركات أرباب الصناعات فكان منها في عامة المدن حتى أن العواصم كان فيها عدة شركات من نوعها وأعضاؤها في العادة من أرباب الصناعة الواحدة وتسمى كل شركة بأسماء صناعات أعضائها فقد كان في أفيز شركة حلاجي الصوف وفي جنيف شركة الملاحين وفي ليون شركة عملة البناء. وتقبل كل شركة في أعضائها أناساً من أهل صناعة أخرى. ومن العادة أن يكون لكل شركة عبادة فتعبد رباً وتقيم عيداً للاحتفال ويحملون فيه علمه ودامت هذه العادة في القرون الوسطى في شركات الصناع المسيحيين وهذه الشركة تقوم بدفن أعضائها متى ماتوا في مدافن لائقة ولكل شركة مديران يختاران من المعلمين ويكونان في العادة وكيلاً وأمين صندوق ينتخبهما الأعضاء كلهم إلا أنه لم يكن لهما أدنى سلطة على أرباب الصناعة وما كان أحد يكره أحد على الدخول معهم.
الحقوق الرومانية
دين البيوت: يعبد أعضاء كل أسرة بأجمعهم أجدادهم ويجتمعون حول مزار واحد فأربابهم واحدة ولهم وحدهم أن ينظروا إليها ولا يحق لأحد أن يعبد أجداد أسرة غلا إذا كان من فرع أولئك الجدود. ويقام المزار الذي يجعل فيه أرباب البيت في مكان منفرد م الدار لا يقترب منه غريب. والأسرة الرومانية تختلف كثيراً عن الأسرة الحديثة لأن نظامها ديني.
الزواج: أخذ الزواج الروماني يصير احتفالاً دينياً فيسلم الأب ابنته المخطوبة إلى خارج الدار فتحمل في موكب إلى دار زوجها ويقدمون لها الماء والنار وهناك يقتسم الزوجان بحضور أرباب الأسرة قطعة من الحلواء معمولة من الحواري وكان يسمى الزواج إذ ذاك(35/38)
شركة الحلواء.
وقد اخترع الرومان منذ الزمن الأطول ضرباً من لازواج يسوغ للطبقة الوسطى فقط وهو إما أن يبيع المخطوبة أحد أوليائها واقربائها بحضور شهود من قبل زوجها ويصرح هذا بأنه ابتاعها على أن تكون زوجة له وهذا زواج البيع وإما أن تجيء الزوج فتساكن زوجها ومتى قضيا سنة معاً يعتبران متزوجين وهذه الزواج بالعادة.
الرومان كاليونان يرون الزواج فرضاً دينياً والدين يأمر بأن لا تندثر الأسر. وعند ما يتزوج الروماني يصرح بأنه اتخذ زوجته ليكون له منها أولاد. وقد \ لق أحد أشراف الأغنياء زوجته وكان يحبها حباً جماً لأنه لم يرزق منها أولاد.
المرأة: ليست المرأة الرومانية حرة أصلاً فهي في شبيبتها ملك أبيها يختار لها زوجاً وإذا تزوجت يصير أمرها بيد بعلها ويقول الفقهاء أنها في يده وأنها مثل ابنته وبالجملة فللمرأة سيد على الدوام بيده موتها وحياتها.
ومع هذا لم يعاملوا المرأة قط معاملة الرقيق وهي مساوية في المكانة لزوجها ويدعونها أم الأسرة كما يدعون الرجل أباً لأسرة فهي سيدة في البيت كزوجها تسيطر على النساء الرفيقات فتكلفهن بجميع الأعمال الشاقة كطحن الحب وخبز الخبز وعجنه. وتجلس في قاعة التشريفات من الدار تنسج وتحيك وتوزع الأعمال بين الإماء وتلاحظ الأولاد وتدبير شؤون البيت وليست المرأة الرومانية كالمرأة اليوناينة بعيدة عن الرجال بل تتناول الطعام على المائدة مع زوجها وتستقبل الزائرين وتذهب لتناول الطعام في المدينة وتظهر أمام الناس في الحفلات وفي دور التمثيل وأمام المحكمة. إلا أنها في العادة تكون جاهلة أمية وذلك لأن الرومانيين لا يهتمون بتعليم بناتهم. وأهم صفة يعتبرونها في المرأة أن تكون زاهدة فإذا ماتت يكتبون على قبرها إشارة إلى مدحها: أنها التزمت بيتها ولم تخرج منه وغزلت الصوف.
الأولاد: الولد الروماني لأبيه بمثابة ملك له وللوالد الحق في أن يعرضه في الشارع فإذا أخذه يربيه في بيته أولاً والبنات يبقين في البلاد ريثما يتزوجن وهن يغزلن ويحكن تحت ملاحظة أمهاتهن والبنون يعملون في الحقول مع آبائهم ويتمرنون على استعمال السلاح.
ليس الرومان شعباً مفنناً في الصناعات وغاية أمانيهم أن يعرف أبناؤهم القراءة والكتابة(35/39)
والحساب وهم لا يطلبون على ذلك مزيداً فلا يعلمونهم الموسيقى ولا الشعر ويلقنونهم القناعة والصمت والحشمة في مآتيهم والطاعة في منازعهم.
أبو العائلة: إن من يطلق عليه اسم سيد البيت يدعوه الرومان أبا الأسرة فأبو الأسرة مالك للأملاك وكاهن في عبادة الأجداد وسلطان الأسرة فهو الحاكم المتحكم في بيته يحق له أن يطلق زوجته ويطرد أبناءه وأن يبيعهم ويزوجهم بدون أن يأخذ رأيهم. ويحق له أن يستأثر بما يملكونه لنفسه بل وكل ما تحمله إليه زوجه وكل ما يكسبه أولاده. إذ لا يسوغ للمرأة ولا لأولادها أن يملكوا شيئاً وبالجملة فبيده حياتهم ومماتهم أي أنه قاضيهم الوحيد وإن ارتكبوا جريمة فرب الأسرة يحكم عليهم لا الحاكم.
أصدر مجلس الشيوخ 186 الروماني أمره ذات يوم بإعدام جميع من اشتركوا في الاحتفال بعبدة باخوس فنفذ الحكم على الرجال أما النساء اللائي اشتركن في الحفلة مع المجرمين فعمد المجلس إلى آباء الأسرات في أمرهن وهم الذين أعدموا نسائهم وبناتهم وكان الشيخ كاتون يقول: إن الزوج قاضي امرأته له أن يعمل بها ما يشاء فإذا ارتكبت غلطاً يعاقبها وإذا تناولت الخمر يحكم عليها بالإعدام وإذا خانت يقتلها ولما كان كاتالينا يكيد المكايد لمجلس الشيوخ لاحظ أحدهم أن ابنه اشترك في المدية فأوقفه وحاكمه فحكم عليه بالموت. وتدوم سلطة أبي السرة بدوام حياته والابن يخلص من عبوديته له حتى أنه إذا أصبح قنصلاً يظل خاضعاً لسلطة أبيه. ومتى مات الأب يصبح الأولاد أصحاب بيوت أما امرأته فلا تكون حرة أصلاً بل تكون تحت سيطرة وريث زوجها بل تخضع لابنها نفسه.
التملك: كانت الثروة في القرون الأولى لرومية عبارة عن ماشية وعبيد خصوصاً واللفظ الذي دل بعد على الدراهم معناه قطع ويسمى المالك رب الأسرة. ومن المحتمل أن الأرض لم تكن تنتقل بالإرث لأن لفظة إرث عندهم تدل على أرض مساحتها فدانان وهو المكان الذي يكفي لإنشاء بيت وحديقة. ولم يلبث الرومانيون أن قبلوا عادة اعتبار المالك لحقل صاحباً له وعندئذ وضع حق التملك للماشية والعبيد والأراضي والبيوت وكانوا يعرفونه بأنه حق الانتفاع والتخريب (الاستعمال وسوء الاستعمال).
ثم صار لهذا الحق أن يتناول كل شيء من الحاجات والأثاث والدراهم والعقود والديون وحقوق الاستمتاع. ويجب على من أراد أن يملك شيئاً أن يملكه على الصورة التي عينتها(35/40)
العادة. وإليك مثلاً كيف يجري صفقة المبيع: يضع البائع أمام خمسة من الوطنيين ينوبون عن مجمع ومعهم سادس يمسك الميزان بيديه قطعة من النحاس في هذا الميزان تعادل ثمن المبيع. فإذا كان هذا حيواناً أو عبداً يمسكه البائع بيده ويقول: هذا لي بموجب القانون الروماني ابتعته بهذا النحاس الموزون وزناً حسناً.
ثم ابتدعوا طرقاً أسهل لنقل الملك من يد إلى يد فصاروا يكتفون بدفع المبيع إلى المبتاع. وهذه الطرق لا تملك تمليكاً رسمياً بل يكون المقتني للملك متمتعاً به ولكن هذا التمتع يخوله نفس الحقوق كما لو كان مالكاً رسمياً له.
ولصاحب الملك الحق في أن يعطي أملاكه من بعده لمن يشاء وإذا لم يوص بشيء من هذا القبيل يقتسم أولاده ثروته وإذا أراد أن يغير نظام الوراثة يكتب وصيته. وكان يجري ذلك بمحفل أمام مجلس الأمة زمناً طويلاً ثم اصطلحوا على صورة متكلفة في البيع كأن يبيع المالك ماله لمن يريد أن يجعله وريثاً له وانتهت الحال بأن أصبحوا يكتفون بوصية مسطورة وكان يحق لصاحب الملك خلال القرون الأولى أن يوصي لمن يشاء وأن لا يترك شيئاً لأولاده ثم أكره القضاة آباء الأسر بالتدريج على أن يوصوا لكل واحد من أولادهم بقسم من ثروتهم فأخذ ينال كل ولد قسماً من الإرث.
ألواح الوصايا الاثنتا عشرة: لم يكن عند الرومان في مبدأ أمرهم كسائر الشعوب القديمة شرائع مكتوبة بل كانوا يجرون على عادات الأجداد أي أن كل جيل يجري في كل شأن من شؤونه كما جرى السجيل السالف. وقد سن حوالي سنة 450 عشرة حكام منتخبين شرائع كتبوها في اثنتي عشرة لوحة من الحجر. وكانت هذه شريعة الاثنتي عشرة لوحة أنشئت أحكاماً موجزة شديدة وقطعية وما هي إلا تفنين جاف قاس مثل الشعب النصف البربري الذي وضع له. فبموجب هذه الشريعة يعاقب الساحر إذا تلا كلمات سحرية ومر على حقله بغلة جاره. وإليك حكم هذا القانون في المدين الذي لم يؤدي ما عليه من دين: إذا لم يدفع يرفع أمره إلى القضاء وإذا عاقه المرض أو السن عن الحضور يركب حصاناً أو محفة وتهل ثلاثين يومً فإذا لم يوف ما عليه يربطه الدائن بسيور أو سلاسل وزنها 15 لبرة وبعد ستين يوماً يبيعه فيما وراء نهر التيبر وللدائنين إذا تعددوا أن يقطعوا المدين إرباً إرباً ولا غبن إذا قطعوا منه قليلاً أو كثيراً. قال شيشرون كانت شريعة الاثنتي عشرة لوحة(35/41)
منبع التقنين الروماني بأسره وكان الأولاد في المدارس يستظهرونها بعد أربعة قرون من وضعها.
الإشارات في الدعاوي: لا يكفي بموجب هذا القانون الروماني القديم اتفاق الأشخاص في مسائل البيع والشراء والإرث فلا يكفي لأجل أخذ حكم المحكمة الرومانية أن يعرض الإنسان قضية بل يجب عليه أن يلفظ عدة كلمات ويقوم ببعض إشارات تقضي بها العادة وكل قضية تقام أمام المحكمة يجري تمثيلها بالإشارات. فللمطالبة بشيء يمسكه المدعي بيده وللاحتجاج على جار رفع حائطه على جاره يرمون بحجر على الحائط. وهاك ما يجري إذا اختلف اثنان في ملكية حقل. يأخذ الخصمان بأيديهما كأنهما يريدان أن يتضاربا ثم يفترقان. ويقول كل منهما: أصرح بأن هذا الحقل لي بموجب حقوق الرمانيين فأنا أدعوك باسم محكمة القاضي إلى مكان الحقل ليفصل فيه بيننا فيأمرهما القاضي أن يذهبا إلى الحقل قائلاً لهما: اذهبا فهذا طريقكما أمام الشهود الحاضرين. فيخطوا المتخاصمان بضع خطوات كأنهما ذهبا وفي ذلك رمز إلى ذهابهما. فيقول لهما أحد الشهود: ارجعا. وبذلك إشارة إلى أنهما ذهبا إلى الحقل فيقدم كل من الخصمين مدرة من التراب وهي إشارة للحقل. وهكذا تبدأ الدعوى وعندئذ يستمع القاضي للمتخاصمين. والرومانيون كسائر الشعوب القديمة لا يحسنون فهم غير ما يقع تحت أنظارهم فبالماديات يتمثلون الحق الذي لا يرى.
ولقد كان الرومان يحترمون هذه الأشكال القديمة من الأحكانم من وراء الغاية فكانوا في القضاء كما هم في الدين يطيعون نص القانون دون أن يهتموا بالبحث عن معناه وعندهم أن كل دستور مقدس تجب المبالغة في تنفيذه ومن الحكم الجارية في قضاياهم أن كل ما يفوه به اللسان يكون حقاً. فإذا غلط صاحب الدعوى في إيراد مدعاه يخسر قضيته وإذا أقام رجل قضيته على جاره لأنه قطع له كرمة يجب أن تكون الصورة التي يوردها أمام المحكمة حاوية لكلمة (شجرة) فإذا استعاض عنها بكلمة (كرم) لا يحكم له.
واحترام هذه المراسيم على إطلاقها فتح للرومانيين سبيل الوفاق الغريب في أمور كثيرة فالشريعة تقول أن الأب إذا أباع ابنه ثلاث مرات يحرر الولد من سلطة أبيه ومتى أراد روماني تحرير ابنه يبيعه ثلاث مرات متوالية وهذا العمل المضحك في بيعه يكفي(35/42)
لتحريره.
وكانت الشريعة تقضي قبل البداءة بحرب أن يرسل مناد ينادي بها على تخوم العدو. ولما أرادت رومية إعلان الحرب على بيروس ملك إبير الذي كانت مملكته في عبر الأدرياتيك رأت الحكومة الرومانية القيام بهذه المصطلحات أن يبتاع أحد رعايا بيروس وربما كان من الآبقين من الجندية حقلاً من رومية فأوهموا بأن هذا الحقل أصبح أرضاً من بلاد أبير وراح المنادي يلقي فيها حربة ويدعوا فيها للحرب علناً. وكان الرومانيون مثل جميع الأمم الفتية يعتقدون باطلاً أن للمراسيم المقدسة فضيلة سحرية.
الفقه: كانت شريعة الاثنتي عشرة لوحة والشرائع التي وضعت بعد موجزة ناقصة فكانت تعرض مسائل كثيرة لا حل لها في قانون من القوانين الموضوعة. ففي مثل هذه الأحوال الصعبة كانت العادة متبعة أن يعمد إلى الأخذ برأي بعض أشخاص اشتهروا بمعرفتهم في مسائل الحقوق. وكانوا من أهل الاعتبار ومنهم قناصل قدماء أو أحبار فيكتبون آراءهم كتابة وتسمى فتاويهم أجوبة العقلاء. ومن العادة أن يكون لهذه الأجوبة شأن وقيمة لأن أصحابها الحكماء على جانب من الاعتبار والحرمة. وقد زاد الإمبراطور أغسطس بأن عين بعض هؤلاء الحكماء وقرر أن تكون أجوبتهم قانوناً يعمل به. وعلى هذا صار الحقوق علماً وعلماء الحقوق أو الفقهاء المشرعون يضعون القواعد الجديدة التي أصبحت سارية فنشأ بذلك علم الفقه.
أمر القاضي: دعت الحال في رومية إلى نصب حاكم أعلى لينفذ قواعد الحقوق المقدسة وللقنصل أو القاضي فقط أن يديرا شؤون محكمة أو يحقان الحقوق. وإذ كان القناصل يعنون بقيادة الجيش فهم يعهدون في العادة بالنظر في الحقوق إلى القضاة. وكان في رومية قاضيان حاكمان على الأقل يبفصل أحدهما في المسائل التي تحدث بين الوطنيين ويسمى قاضي المدينة وينظر الآخر في الدعاوي التي تنشأ بين الوطنيين والأجانب ويسمى قاضي الأجانب وهناك محكمتان لأن الغريب لا يحاكم أمام محكمة الوطنيين.
وهذا القاضيان بالنظر لما لهما من السلطة المطلقة يفصلان القضايا على ما يتراءى لهما. بل أن قاضي الأجانب لم يكن مقيداً بقانون لأن الشرائع الرومانية لم توضع غلا للوطنيين الرومانيين. ولما كان كل قاض يتولى منصبه في القضاء سنة واحدة فهو يكتب عند دخوله(35/43)
أمراً يبين فيه القواعد التي ينوي اتباعها في الأحكام ويسمون هذا الأمر أمر القاضي. وبعد سنة عندما تنتهي مدة القاضي يسقط قانونه فيحق لخلفه أن يسن قانوناً مخالفاً لقانون سلفه جملة واحدة ولكن جرت العادة أن يحتفظ كل قاضي بما صدر عن أسلافه من الأوامر فيدخل فيها بعض التبديلات ويضيف إليها بعض الزيادات. وهكذا تجمعت أوامر القضاة قروناً ثم أنشأ الإمبراطور هاردن في القرن الثاني براءة القاضي وجعلها قانوناً مرعي الإجراء.
وإذا كان هناك محكمتان منفصلتان أحداهما عن الأخرى وضعت قاعدتان متباينتان وقانونان مختلفان فتتألف من القواعد المتبعة التي يجري عليها قاضي المدينة في مسائل الوطنيين الحقوق المدنية أي حقوق المدينة ومن القواعد التي يجري عليها قاضي الأجانب تتألف حقوق الناس أي الشعوب (الغريبة عن رومية) فأدرك القوم إذ ذاك أن عدل هذه القواعد في الحقوق وأبسطها وأعقلها وبالإجمال أفضلها الحقوق الأجنبية وأن حقوق الوطنيين المأخوذة ضمن قواعد محصورة عن قدماء الرومان كان فيها خشونة وقواعد بربرية. أما حقوق الناس (الأجانب) فكان أساسها على العكس عادات التجار وعادات أناس من بلاد مختلفة نزلوا رومية وهي عادات سالمة من كل شائبة ووهم وطني أخذت بكرور الأيام وأقرها الاختبار قروناً كثيرة. ورأى القوم كيف كانت الحقوق القديمة مخالفة للعقل. فقد جاء في بعض الأمثال الرومانية أن الحق الناصع هو الذي تفضه سلطة عليا ظالمة وعلى هذا أنشأ قضاة الوطنيين نفس القواعد التي كان قاضي الأجانب يجري عليها في محكمته.
مثال ذلك أن القانون الروماني يقضي أن يرث الأقارب من الذكور فقد إلا أن القاضي دعا الأقارب من النساء أن يشتركن في الإرث. ويقضي القانون القديم بأن لا يكون المرء صاحب ملك إلا إذا قام بالاحتفال في المبيع فاعترف القاضي بأنه يكفي المبتاع أن ينقد البائع ثمن ما ابتاعه وأن يضع يده على الملك حتى يعد مالكاً ـ وأنت ترى أن حقوق الأجانب تغلبت على الحقوق المدنية وأبطلتها.
القانون المسطر: أنشئت الحقوق الرومانية على عهد الإمبراطرة خاصة فأصدر الإمبراطرة الأنطونيون كثيراً من الأوامر واللوائح وكانت هذه رسائل تصدر عن الإمبراطور جواباً(35/44)
عن الموظفين الذين يستطلعون طلع أرائهم فيساعدهم على القيام بهذا الإصلاح القضائي أناس من المتشرعين عندهم وظل بعض المشرعين في أوائل القرن الثالث زمن من حسنت سيرتهم أو ساءت من الإمبراطرة يضعون القوانين الجديدة في الحقوق ويصلحون ما وجدوه منها قديماً ومن أشهرهم بابنين وأوليين ومودوستين وبولس فإن تآليفهم هي التي كانت أساساً للحقوق الرومانية بعد.
وهذه الحقوق التي نظمت في القرن الثالث لا شبهة بينها وبين الحقوق الرومانية القديمة بحال من الأحوال إذ القديمة لمن تكن ترحم الضعفاء فاقتبس المتشرعون أفكار فلاسفة اليونان ولا سيما الرواقيين منهم وذهبوا إلى الحرية حق طبيعي لكل من يولد حراً أي أن العبودية مخالفة للطبيعة ولذلك رأوا أنه يحق للعبد أن يطلب إنصافه حتى من سيده وأن هذا إذا قتل عبده يجب أن يعاقب عقاب القاتل وكذلك حموا الولد من ظلم أبيه.
وهذا القانون الجديد هو الذي سموه بعد بالقانون المسطور وهو الحقيقة في قانون جروا فيه مع الفلسفة على نحو ما يأمر به العقل الناس كافة ولذا لم يبق في أثر للقانون الجائر المعروف بقانون الاثنتي عشرة لوحة. فليس القانون الروماني الذي حكمت به بلاد الإمبراطورية بأسرها زمناً طويلاً ذاك القانون الذي لم يبرح بعضه داخلاً في قوانيننا بل هو قانون قدماء الرومان وضع بحسب عادات جميع الشعوب القديمة ونسج فيه على مثال الحكم المأثورة عن حكماء اليونان ثم مزج كل ذلك مزيجاً واحداً وكتبه أناس من الحكماء والفقهاء الرومانيين قروناً طويلة.
النصرانية
تعليم المسيح (عليه السلام): كان الإسرائيليون ينتظرون المسيح من نسل داود ملكاً لهم ومخلصاً فظهر عيسى في الناصرة في ولاية صغرى في الشمال اسمها الجليل لا تكاد نعرف بأنها يهودية. ولد من أسرة وضيعة تحترف بالنجارة. فسماه أتباعه من الروم المسيح أي الممسوح يعنون الملك الممسوح بالزيت المقدس كما دعي السيد والرب المخلص. كلنا نعرف الديانة المسيحية. فيكفي إذاً أن نبين ما هي التعاليم الجديدة التي نشرتها في العالم. فقد أوصى المسيح أولاً بالمحبة فقال: إنك تحب الرب إلهك من كل جوارحك وفكرك وستحب قريبك كما تحب نفسك فجماع الشريعة وتعاليم الأنبياء داخلة في هاتين الوصيتين.(35/45)
فمن الواجب محبة الغير وإسعافهم ومتى قضى الله بين عباده ويجعل على يمينه من أطعموا الجياع وسقوا العطاش وكسوا العراة. ويقول المسيح لمن يريد ابتاعه أولاً: إذهب فبع مالك وادفعه للفقراء ولقد كان القدماء يعتبرون الشريف والغني والشجاع هو الرجل الصالح إلا أن هذا الاسم تغير معناه منذ جاء المسيح فأصبح الرجل الصالح هو الذي يحب غيره. فعمل الخير هو محبة الغير والسعي في نفعهم. والإحسان (وهو باللاتينية مرادف للحب) أساس التقوى. وغدت لفظة محب مرادفة للفظة محسن. وضع المسيح تعليمه في الإحسان بدلاً من التعليم الإسرائيلي القديم في الانتقام فقال: عرفتم بأنه قيل العين بالعين والسن بالسن أما الآن فأقول لكم إذا ضربكم أحد على خدكم الأيمن فقدموا له الأيسر. وقيل أحبوا بعضكم وابغضوا عدوكم أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وافعلوا الخير مع من يبغضونكم وباركوا لمن يضطهدونكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي ينزل المطر على العادلين والظالمين. حتى أن المسيح وهو على الصليب استغفر لجلاديه فقال: اعف عنهم يا رب فإنهم لا يعرفون ما هم فاعلون.
أحب المسيح الناس قاطبة ومات لا من أجل شعب واحد بل من أجل الإنسانية كلها. وما قط ميز بين الأشخاص فكلهم سواء أمام الله. ولقد كانت الأديان القديمة حتى دين إسرائيل دين شعب يحتفظ به ويكتمه بعناية احتفاظه بكنز ثمين دون أن تحدثه نفسه في تبليغه شعباً آخر فقال المسيح لتلاميذه اذهبوا إذاً وعلموا جميع الأمم.
وبعد ذلك قام بولس أحد الحواريين وقرر تعليم المساواة النصرانية بقوله: لم يبق أولون ولا آخرون كما لم يبق روم ولا يهود ولا مطهرون ولا قلف ولا برابرة ولا عبيد ولا أحرار فقد أصبح المسيح هو الكل في الكل.
كان القدماء يذهبون إلى أن الثروة تعلي شأن الإنسان وينظرون إلى أن الكبر عاطفة شريفة فقال المسيح: طوبى للفقراء فإن لهم ملكوت السموات من لم يتنازل عما يملكه لا يكون تلميذاً لي حتى أنه هو أيضاً كان ينتقل من مدينة إلى مدينة ولا سبد له ولا لبد وعندما كان تلاميذه يهتمون للمستقبل كان يقول لهم: لا تقلقوا لما تأكلون ولا لما تلبسون وألقوا بأنظاركم إلى الطيور في السماء فهي لا تزرع ولا تحصد ومع هذا فإن أباكم السماوي متكفل برزقها.
فعلى المسيحي أن يحتقر الثروة وأن يشتد في الازدراء بالعظمة. كان تلاميذه يتنازعون(35/46)
ذات يوم فيمن يكون له المقام الأول في السماء فقال: إن أعظمكم هو الذي يخدم غيره لأن من يرتفع يسقط ومن يسقط يرتفع وما زال البابا إلى اليوم وهو خليفة القديس بولس يدعى بخادم خدمة المولى. كان المسيح يؤثر أن يجتذب إليه المساكين والمرضى والنساء والأولاد بل والضعاف والمحرومين واختار حواريه من عامة الناس وكان يكرر على مسامعهم تلطفوا وألينو قلوبكم.
ملكوت الله: كان المسيح يقول أنه جاء إلى الأرض ليؤسس ملكوت الله. فظن أعداؤه أنه طامع في ملك وعندما صلب كتبت على صليبه هذه العبارة: يسوع الناصرة ملك اليهود وهذا كان خلاف ما يقصده. فقد صرح المسيح نفسه بأن ملكوتي ليس في هذا الأرض فلم يجيء ليقلب الحكومات ولا ليصلح المجتمع وأجاب من سأله فيما إذا كان يجب أداء الجزية للرومانيين بقوله: ادفع لقيصر ما لقيصر وأد ما لله لله. ولذا رضي المسيح بما رآه موجوداً وعمل على تهذيب نفسه وتكميلها لا على إصلاح المجتمع.
ولأجل أن يفوز المسيحي بمرضاة الله ويكون أهلاً لبلوغ ملكوته لا يقتضي له أن يقدم النذور ويقف عند حد ما رسمته الشريعة كما فعل الفريسيون اليهود أو عبدة الأرباب القديمة فإن المتعبدين الحقيقيين يعبدون أباهم بالفكر وبالحقيقة وكلمة المسيح هي جماع آدابهم وهي: كونوا كاملين مثل أيكم الذي في السموات فإنه كامل.
الحواريون ـ عهد إلى الاثني عشر حوارياً الذين كانوا ملتفين حول المسيح أن يبشروا بتعاتليمه في الأمم بأسرها. فدعوا بالحواريين المرسلين) سكُن معظمهم القدس ودعوا إلى ديننهم فقي أرض اليهودية. زكان المنتصرة الأول من الإسرائيليين.
وكان شاول أول من دان بالنصرانية وخف يحمل تعاليم هذا إلى أمم الشرق فقضي بولس (هو الاسم الذي اتخذه) حياته يطوف المدن اليونانية في آسيا الصغرى وبلاد اليونان ومكدونية داعياً إلى الدين الجديد لا الإسرائيليين فقط بل أبناء الأمم الأخرى قائلاً كنتم فيما سبق بدون المسيح بعيدين عن المحالفات والوعود وها قد التأم شملكم بدم المسيح لأنه هو لا يميز بين الشعبين وينظر إليهما كأنهما شعب واحد. ولم يعد من حاجة أن يكون المرء إسرائيلياً حتى ينتحل النصرانية فإن الأمم الأخرى التي نبذتها شريعة موسى قد تقاربت فيما بينها بفضل شريعة المسيح. وهذا الامتزاج هو بصنع القديس بولس ولذا سمي رسول(35/47)
الأمم.
كان المنتحلون للنصرانية بادئ بدءٍ من يونان آسيا الصغرى ثم تنصر كثيرون في جميع المدن الكبرى وأتى زمن طويل والطائفة المسيحية في رومية أيضاً مؤلفة من أبناء يونان. فاتنتشر دين المسيح أولاً ببطء على نحو ما بشر بذلك المسيح بقوله: يشبه ملوك الله حبة من الخردل فهي أصغر الحبوب ومع هذا يييينبت منها نبات أطول من جميع البقول فتؤدي طيور السماء إلى ظلها.
الكنيسة الأصلية ـ كان المسيحيوين في جميع البلاد التي نزلوها يجتمعون للصلاة جماعة وإنشاد أماديح المولى وللاحتفال بالعشاء السري وهي أكلة يتناولونها بالاشتراك تذكاراً الآخر أكلة للمسيح وتسمى اجتماعاتهم الكنيسة (المجلس).
ومن العادة أن يعامل المسيحيون في كنيسة واحدة بعضهم بعضاً معاملة الأخوة ويأتون بالعطايا لينفقوها على الأرامل والفقراء والمرضى. وأكثر رجالهم احتراماً بينهم الرهبان ومعنى ذلك القدماء يديرون شؤون الطائفة ويقومون بالفروض الدينية. ويتولى آخرون النظر في أملاك الطائفة وكانوا يدعون الشمامسة (الملاحظون) ثم كثرت أعمال الكنيسة حتى انقسم سواد المسيحيين إلى فرقتين إحداهما جماعة المكلفينة بالنظر في وظائف الطائفة وسموهم رجال الكهنوت (أي خدمة الرب) والباقون المؤمنين سموهم العامة (العلمانيين)
كان لكل مدينة كنيسة مستقلة فيقولون كنيسة أنطاكية وكنيسة كورنت وكنيسة رومية وكلها في الحقيقة كنيسة واحدة وهي كنيسة المسيح حيث كان يربط الجميع الاعتقاد بإيمان واحد.
فالاعتقاد العام أو الكاثوليكي كان هو المعول عليه دون سواه أما الآراء الخاصة (الهرطقات والإلحاد) فكان يحكم عليها بأنها أوهام وأغلاط.
وبقي الكتاب المقدس عند اليهود أي العهد القديم مقدساً عند المسيحيين وصار لهؤلاء كتب أخرى جمعتها الكنيسة في مصحف واحد وسمتها العهد الجديد.
فالأناجيل الأربعة تقص حياة المسيح والبشارة لما حمله من السلام وأعمال المرسل تذكر كيف انتشرت هذه البشارة في العالم. ورسائل الرسل هي رسائل أرسلها الحواريون إلى مسيحي العهد الأول والأبوكاليبسيس (رؤيا القديس يوحنا الإنجيلي أو الجليان) هو ما أوحاه(35/48)
القديس يوحنا إلى السبع كنائس في آسيا. كتبت جميع كتابات العهد الجديد باليونانية وهي اللغة التي كانت لغة المسيحيين إلى أواخر القرن الثاني وقد انتشر بين المسيحيين كثير من الكتب زعموا أنها مقدسة فرفضتها الكنيسة كلها وسموها بالمزورة.
الاضطهادات ـ اضطهدت الديانة المسيحية منذ ظهورها فكان اليهود أعداءها الأول واضطروا الحاكم الروماني في بلادهم إلى صلب المسيح ورجموا القديس اتين (الشهيد الأول) واشتدوا في طلب القديس بولس وكادوا يقتلونه ثم وقع الاضطهاد على النصرانية من الرومان فإن هؤلاء كانوا يتسامحون مع جميع الأديان لأن عبدة اوزيريس وميترا والربة الصالحة كانوا يعترفون بالأديان الرومانية مع أربابهم إلا أن المسيحية عبدة الله الحي كانوا يزدرون بالمعبودات الصغيرة القديمة بل أن الجريمة الكبرى التي تعد على المسيحيين في نظر الرومانيين أنهم كانوا يأبون عبادة الإمبراطور كما يعبدوا رب وأن يحرقوا البخور على مذبح ربة رومية.
وقد أصدر الكثير من الأباطرة أوامر إلى ولاتهم يأمرونهم بالقبض على المسيحيين وإعدامهم. وقد كتب بلين وكان والياً في آسيا إلى الإمبراطور تراجان كتاباً يدل على الطريقة التي كان يعامل بها المسيحيون قال: جربت الآن مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية وهي أن أسألهم عما إذا كانوا مسحيين فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة مهدداً إياهم بالقتل فإن أصروا أنفذ عقوبة الإعدام عليهم مقتنعاً بأن غلطهم الذين يعترفون به مهما كانت فظاعته وإن عنادهم الشديد وعدم طاعتهم يستحقان العقوبة.
وقد وجهت الشكوى إلى كثيرين بكتب لم تذيل بأسماء أصحابها فأنكروا بأنهم نصارى وكرروا الصلاة على الأرباب الذين ذكرت أسماءهما أمامهم وقدموا الخمر والبخور لتمثال أتيت به عمداً مع تماثيل الأرباب بل إنهم شتموا المسيح.
ويقال أن من الصعب إكراه النصارى الحقيقي. ومنهم من اعترفوا بأنهم نصارى ولكنه كانوا يثبتون بأن جريمتهم وخطأهم محصوران في أنهم اجتمعوا بضعة أيام قبل طلوع الشمس على عبادة المسيح على أنه رب وعلى إنشاد الأناشيد إكراماً له وتعاهدوا بينهم مقسمين على الإيمانيات لا على ارتكاب جريمة بل على أن لا يسرقوا ولا يقتلوا ولا يزنوا ويوفوا بوعودهم. ورأيت من الضرورة للوقوف على الحقيقية أن أعذب امرأتين أمتين(35/49)
دعوهما خادمتي الكنيسة بيد أني لم أقف على شيء اللهم إلا ما كان من خرافة سخيفة مبالغ فيها.
وعلى هذا فقد كانت الحكومة هي المضطهدة إلا أن العامة في المدن الكبيرة كانوا أكثر اضطهاداً للمسيحيين فلم يكونوا يتسامحون مع هؤلاء الذين يعبدون إله أخر غير أربابهم ويحتقر هذه الأرباب. وكنت تسمع القوم إذا وقع قحط ومجاعة ووباء يهتفون هتافهم الذي اشتهر آمره النصارى للأسود والشعب يكره الحكام على البحث عن المسيحيين ومطاردتهم.
الشهداء ـ هلك ألوف من المسيحيين في خلال قرنين ونصف نالهم فيها الاضطهاد في طول المملكة الرومانية وعرضها وكان الهالكون من كل سن وجنس وطبقة.
فالوطنيين الرومانيين تضرب أعناقهم كما جرى للقديس بولس والباقون يصلبون ويحرقون وكثيراً ما يلقون للوحوش الكاسرة تنهشهم. وإذا أبقوا عليهم يبعثون بهم إلى الأعمال الشاقة في المناجم وكثيراً ما كانوا يبالغون في عقاب النصارى بإيجاد وسائل لإهلاكهم من كل نوع. ففي المقتلة العظمى التي وقعت في ليون سنة 177 أخذ المسيحيون بعد أن عذبوا وسجنوا في مطبق ضيق إلى الملعب فأخذت الحيوانات الكاسرة تمزق أوصالهم ولا تقتلهم ثم أجلسوهم على كراسي من حديد محماة بالنار. وإذ قاومت فتاة من الإماء اسمها بلاندين أن تعذب على هذه الصورة جعلوها في شبكة ووضعوها أمام ثور غضبان.
وكان المسيحيون يتلقون بسرور هذا التعذيب الذي يفتح لهم أبواب السموات ويرون فيه وسيلة إلى الإستشهاد علناً في حب المسيح ولذلك كانوا يسمون أنفسهم بالشهداء أي الشهود لا بالمنكوبين وعقوبتهم شهادة. بل أنهم كانوا ينظرون إلى تعذيبهم نظرة نظرهم إلى قتال الألعاب الأولمبية ويرون أنهم كالمصارع الظافر ينالون الفخار والتاج. وما برحوا حتى اليوم يحتفلون بعيد الشهداء وأعيادهم موافقة للأيام التي قتلوا فيها وكثيراً ما كان أحد من يحضرون تعذيب أحد الشهداء يكتب قصته وكيفية توقيفه واستنطاقه وتعذيبه وعقوبته وهذه الكتابات على اختصارها طافحة بالعبرة وكانت تسمى أعمال الشهداء وتنتشر حتى بين الطوائف البعيدة من أقصى المملكة إلى أقصاها وما هي إلى مرددة المجد الذي أحرزه المعترفون بالإيمان الصحيح وداعية إلى الترغيب في الجري على مثالهم.
ولقد حدا حب الشهادة بألوف المسيحيين بأن يعلنوا أمرهم بأنفسهم ويطالبون بالحكم عليهم(35/50)
وأمر أحد حكام آسيا ذات يوم بإلقاء القبض على بعض مسيحيين فجاء جميع منتصرة المدينة يتقدمون للمحكمة طالبين إليها محاكمتهم.
فاستشاط الوالي غضباً فقتل بعضهم وطر الآخرين قائلاً: ارجعوا أيها الأسافل إن كنتم تحرصون كثيراً على الموت فهل عندكم قبور تسعكم وحبال تقيدكم.
وكان بعض المسيحيين يدخلون المعابد ويقلبون فيها أصنام الأرباب ليكونوا على ثقة أنهم يشنقون حتى قضت الحال أن تمنع الكنيسة مرات تعرض النصارى لنيل الشهادة.
الدياميس ـ كان المسيحيون ينكرون العادة القديمة في إحراق الموتى فأخذوا يدفنون موتاهم كاليهود في نواويس بعد أن يكفنوهم في أكفان فاحتاجوا إلى قبور. وإذا كانت الأرض غالية الثمن جداً نزل المسيحيون إلى تحت الأرض وحفروا في الأرض الرخوة التي كانت رومية قائمة عليها دهاليز طويلة وغرف أرضية وهناك كان المسيحيون في مقاصير حفروها على طول الحواجز يدفنون موتاهم وإذا أخذ كل جيل يحتفر لنفسه دهاليز جديدة صارت مع الزمن مدينة أرضية سموها الدياميس. ومثل هذه الدياميس كان نابولي وميلان والإسكندرية إلا أن أشهرها كان في رومية. وقد فتحت في أيامنا فرأوا فيها ألوفاً من القبور والكتابات النصرانية وباكتشاف هذا العالم المدفون تحت الأرض نشأ فرع جديد من فروع العلوم التاريخية وهو علم الكتابات والآثار النصرانية. وقد شوهد أن قاعات المدافن في الدياميس منقوشة برسوم بسيطة وصور ولكنها تمثل مشاهد واحدة إلا قليلاً وهي أن تصور المؤمنين من المسيحيين في الصلاة أو الراعي الصالح وهو رمز للمسيح. وكانت بعض هذه القاعات أشبه بالمعابد وفيها دفنوا جثث القديسين الشهداء والمؤمنين الذين رغبوا في أن يدفنوا في جوارهم وكانوا يأتون كل سنة لتناول الأسرار. وكثيراً ما التجأ المسيحيون في رومية خلال اضطهادات القرن الثالث إلى هذه الكنائس الأرضية للقيام بصلواتهم أو للفرار من الطلب عليهم.
قسطنيطين
تغلب النصرانية ـ مضى القرنان الأولان للميلاد والمسيحيون ضعاف الشأن في الإمبراطورية الرومانية وجمهورهم من السوقة والعملة والعبيد المعتقين والعبيد ممن يضعون في غمار الناس بالمدن الكبرى وقد مضى زمن والطبقة العالية تنكر وجودهم حتى(35/51)
أن سويتون في القرن الثاني لما تكلم في تاريخ القياصرة على المسيح قال أنه رجل اسمه كريستوس يلقي الاضطراب بين سكان رومية. ولما أخذ الأغنياء والأدباء يعنون بأمر الدين الجديد لم يكن ذلك منهم إلا ليهزؤوا به ولا يذكرونه إلا أنه دين فقراء وجهلة. وإذ جاء النصرانية لمساكين هذا العالم بأن وعدتهم الجزاء عن هذه الحياة في الآخرة كثر أشياعها والقائلون بالتدين بها ولم تحل الاضطهادات دون انتشارها بل قوتها وبعثت كلمتها فقد كان المسيحيون يقولون بأن دم الشهداء بذر للمسيحيين ولقد ظل الاهتداء إلى النصرانية ينتشر خلال القرن الثالث كله بين رجال الأسرات الكبيرة لا بين الفقراء فقط وما جاءت أوائل القرن الرابع إلا وقد أصبح الشرق كله أي البلاد التي تتكلم باليونانية مسيحياً بأسره.
وكانت هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين مسيحية فجعلتها الكنيسة في مصاف القديسات ولما زحف هذا الإمبراطور على مزاحمه ملك رومية وصغ على علمه شارة الصليب وشعار المسيح وكانت الغلبة التي كتبت له غلبة للنصرانية فسمح للنصارى أن يقوموا بشعائر دينهم دون أن يعارضهم أحد بأمره الصادر سنة 313 ثم أخذ يعطف عليهم جهاراً. ومع هذا لم يتخل عن الدين القديم (الوثنية) فحينناً كنت تراه يرأس مجلس أساقفة المسيحيين كان يلقب بلقب الحبر الأعظم ويحمل على خوذته مسماراً من الصليب الحقيقي ونقوده منقوش عليها صورة رب الشمس. وقد أنشأ في القسطنطينية كنيسة نصرانية كما أنشأ معبداً تذكاراً لهذه الغلبة. ومضى نصف قرن كان فيه من الصعب معرفة دين المملكة الرسمي في الإمبراطورية.
تنظيم الكنيسة ـ لم يخطر في بال المسيحيين حتى في الأزمان التي نالهم فيها الاضطهاد أن يقلبوا كيان الإمبراطورية ومنذ بطل اضطهادهم أصبح أساقفتهم حلفاء للإمبراطور وعند انتظمت حالة الكنيسة بصورة قطعية على الصورة التي بقيت عليها إلى يومنا هذا. فصار لكل مدينة أسقف يقيم في الحاضرة ويقيم على المسيحيين التابعين لهل وتسمى الأرض الخاضعة لأسقف أبرشية. وكان في أقطار الإمبراطورية الرومانية أبرشيات وأساقفة على قدر ما فيها من مدن وهذا هو السبب الذي أجله كان الأساقفة كثيرين والأبرشيات صغيرة في الشرق وفي ايطاليا حيث كثر عدد المدن. وعلى العكس في مدن غاليا فإنه لم يكن بين الرين والبيرنيه سوى 120 أبرشية ومعظمها ما عدا أبرشيات الجنوب في الجسامة كولاية.(35/52)
أصبحت كل ولاية مقاطعة كنائسية وسمي أسقف العاصمة وأسقف المركز بعد رئيس الأساقفة. وكثيراً ما ينظر إلى أسقف أعظم مدينة في بقعة بأنه أرقى الأساقفة في تلك الأرجاء وكان أساقفة المدن الرئيسية بالشرق في القدس وانطاكية والإسكندرية والأستانة يدعون بالبطاركة وفوقهم كلهم البابا أسقف رومية وهو الرئيس الأعظم في الكنيسة.
وفي هذا القرن أنشئت المجامع الدينية الكبرى فكان في آسيا الصغرى أولاً مجامع خاصة يجتمع فيها أساقفة ناحية من النواحي وكهنتها. وفي سنة324 دعا قسطنطين للمرة الأولى مجمعاً دينياً عاماً من أهل الأرض إلى مدينة نيقية في آسيا الصغرى فحضره 318 رجلاً من رجال الكنيسة فتناقشوا في المسائل اللاهوتية وانشؤا لاعتراف بإيمان الكاثوليك الذي سموه قانون نيقية وما زال المسيحيون ينشدونه إلى اليوم في قداس كل أحد. ثم كتب الإمبراطور إلى عامة الكنائس أن تتمثل إرادة المولى التي تجلت فيما أجمع عليه المجامع العام وكان هذا هو المجمع المسكوني الأول. وأصبحت القرارات التي تقررها المجامع شريعة ويجب على المسيحيين قاطبة أن يعملوا بها وسموها القوانين أو القواعد. ويتألف من مجموع هذه القواعد القوانين الكنائسية.
الملاحدة (الهراطقة) ـ نشأ منذ القرن الثاني بيم المسيحيين ملاحدة يخالفون في أرائهم السواد الأعظم من أبناء الكنيسة. وكثيراً ما اجتمع الأساقفة في بلد ليعلنوا للمؤمنين بأن المذهب الجديد باطل ويكرهوا مبتدعيه على الرجوع عنه وإذا أبى يخرجونه من الوحدة المسيحية. وقد يستجيش صاحب البدعة أعواناً يقتنعون بصحة دعوته فلا يرون الرجوع عما وافقوه علية ويظلون يدينون بمحاكم المجمع برده من الآراء. ومن هنا نشأت العداوات والفتن الشديدة بينهم وبين المتعلقين برأي الكنيسة (الأرثوذكس) وإذا كان المسيحيون ضعافاً ومضطهدين لم يتنازعوا بينهم إلا بالكلام والكتابة ولكن لما أصبحت البلاد مسيحية كلها استحال النزاع بين المسيحيين والمخالفين منهم في بعض الآراء إلى اضطهاد الملاحدة وكثيراً ما تنشب منه حروب أهلية.
وتكاد تنشأ جميع البدع في ذلك العهد بين يونان آسيا ومصر على يد أناس من الأذكياء والسفسطائيين والمجادلين وقد نشأت تلك البدع في العادة من محاولة فهم أسرار التثليث والتجسيد. وكانت بدعة آريوس أقوى جميع البدع فمن مذهبه أن الله الأب خلق المسيح(35/53)
وليس هو مثله فحكم المجمع النيقي بتبديعه ولكن مذهبه انتشر في بلاد الشرق عامة. ومنذ ذاك العهد ظل الكاثوليك والآريوسيون يتنازعون بينهم أيهم يستأثر بالسلطة في الكنيسة والحزب الأقوى يعزل وينفي ويحبس وأحياناً يذبح زعماء الحزب المخالف.
ومضى زمن والقوة للآريوسيين وتحزب لقولهم عدة من الأباطرة ثم أن الآريوسية كانت تقوى بكثرة دخول البرابرة في الإمبراطورية وتمذهبهم بهذا المذهب ومعاضدتهم لأساقفته. فقضى الكاثوليك زهاء مائتي سنة حتى قضوا على هذا المذهب المبتدع.
أواخر أيام الإمبراطورية
لما ذبح الجنود أخوة قسطنطين وأبناء أخته سنة 328 أفلت منهم طفل في السادسة من عمره اسمه جولين فجعله الإمبراطور نسيبه في أقاصي آسيا الصغرى ورباه على يد قسيسين مسيحيين فبعث به هؤلاء إلى قبر الشهداء ينشد المزامير ويتلو الكتاب المقدس أمام الشعب ولما شب رخص له بالقدوم إلى الأستانة فانشأ يدرس كتب بلغاء الروم وفلاسفتهم وأولع بأحد الفلاسفة الأفلاطونيين فانصرفت نفسه عن النصرانيين. وأتم دروسه في أثينا وتعلم فيها أسرار معبد أوزيس بأنه من أشياع الدين القديم علناً وأخذ يحتفل بعبادة الأرباب فلقبه المسيحيون بالمرتد.
كان جولين أخر من بقي حياً من الأسرة الإمبراطورية وإذ لم يكن للإمبراطور قسطنطين وارث يرثه غير هذا أجمع أمره على أن يلقبه باسم قيصر وبعث به قائداً على جيش غاليا (355) وكانت البرابرة قد هاجمت هذه البلاد وجاءت عصابة من الألمانيين على مقربة من مدينة أوتون. وإذ لم يكن لجولين خبرة بالحرب انصرفت همته إلى درس الفلسفة فصرف شتاءً بطوله في تعلم صناعة الكر والفر وأنشأ يريض نفسه ويتمرن ويتلو سيرة مشاهير الغزاة فلما تم له ذلك حمل على الألمان في جيش صغير من المشاة الرومانيين والفرسان البرابرة فكتب له الظفر في حملته الثانية في سهل بالقرب من مدينة ستراسبوغ وركب أكتاف الألمان ورجعوا يجتازون نهر الرين (357) وقضى جولين في غاليا ثلاث سنين أخرى وجعل مشتاه في بلدة لوتيس حاضرة الشعب الباريزي وهي مبنية في جزيرة من جزر السين وكان يدعوها (لوتيس المحبوبة) وهو أول من وصفها.
وفي هذه المدينة أتاه أمر الإمبراطور أن يبعث إليه بقسم من جيشه إلى الشرق ليقاتل(35/54)
البارثيين الذين داهموا بلاد الإمبراطورية فلم يرد الجند أن يبتعدوا عن بلادهم إلى مثل تلك القاصية وأبوا أن يقاتلوا ثم أخذوا جولين ورفعوه على ترس (وكان هذا الأسلوب هو الذي يجري عليه المحاربون الجرمانيون في مبايعة ملوكهم) وحملوه وهم ينادون جولين أغسطس.
فكتب جولين إلى الإمبراطور يريده على أن يرتضيه رصيفاً له فأبى قسطنطين عليه ذلك فزحف جولين في جيشه على القسطنطينية وكان قسطنطين قد قضى نحبه قبل وصوله.
ولما خلا الجو لجولين وأصبح إمبراطور وحده أقام في الشرق وحاول أن يعيد الدين القديم (الوثنية) فأرجع إلى الكهنة أملاكهم ومناصبهم وأعاد تقديم النذور الأرباب بل أصدر أمره إلى المسيحيين بأن يرجعوا المعابد التي كانوا حولوها إلى كنائس.
وأنشأ يناهض النصرانية مباشرة وأبى أن يعين بعض المسيحيين في الوظائف وطرد المعلمين المسيحيين من المدارس قائلاً أنه لا يحق لهم أن يدرسوا كتباً يذكر فيها اسم الأرباب وهم لا يعتقدون فيها. وسعى إلى إعادة الدين القديم إلى حاله بأن عهد إلى الكهنة أن يقرؤوا على العامة مواعظ ودروس دينية إلا أن الزمن خانه فسافر في حملة على البارثيين وغلبهم وأصيب بسهم في إحدى المعارك. وقيل انه صرخ وهو يجود بنفسه (لقد غلبت يا غاليي).
القضاء على الوثنية ـ لم يقض على دين السوقة القديم لأول مرة فقد اهتدى الشرق في الحال أما في الغرب لم يبقى مسيحيين إلا في المدن بل أن الأمة ظلت هنا تعبد الأصنام وذلك لأن الإمبراطورة الأولى المسيحيين لم يريدوا أن يقضوا القضاء الأخير على دين المملكة القديم بل كانوا يحمون القسيسين المسيحيين كما يحمون كهنة الأرباب يرأسون المجامع الدينية ويبقون أحباراً عظاماً.
وكان الإمبراطور فراسين سنة 384 أول من أبى بأن يلقب بالحبر الأعظم وإذ عم التسامح في ذاك القرن بدئ باضطهاد الدين الروماني منذ غدا غير رسمي.
وأطفئ الموقد المقدس الذي كان يشتعل في رومية منذ أحد عشر قرناً وطردت الكاهنات اللاتي كن في معبد فستا يوقدون النار كلما خمدت. واحتفل أخر مرة بالألعاب الأولمبية في بلاد اليونان سنة 394 وعندئذ خرج النساك في مصر من الصحراء لينقضوا مذبح(35/55)
الأرباب المزورة ويجعلوها بقايا في قبور أنوبيس وسيرابيس. وقام وأرسل الأسقف السوري في مقدمة عصابة من الجند والمشعوذين فخرب معبد المشتري في أفامية. وأنشأ يجوب البلاد ويخرب المزارات فقتله الفالحون فجعلته الكنيسة من القديسين.
فما هو إلا قليل حتى لم يبقى عبدة أوثان إلا في القرى يأوون إليها فراراً من المراقبة وهم فلاحون ممن بقوا يعبدون الأشجار المقدسة والينابيع ويجتمعون في المزارات البعيدة.
وأخذ المسيحيون يطلقون اسم الوثنيين (الفلاحين) على من كانوا سموهم إلا ذلك العهد بالظرفاء وبقي ذلك الاسم يطلق عليهم. وهكذا اشتدت الحال على الوثنية في ايطاليا وغاليا واسبانيا إلى أواخر القرن الرابع وطوي بساطتها تحت طي السكوت.
التنظيم الجديد في الإمبراطورية
رومية والقسطنطينية ـ خرب الغرب وقل سكانه في القرن الثالث بما تواتر عليه من الحروب والغارات فأصبح الشرق اليوناني القسم المهم من الإمبراطورية. وكان ديوكلسين قد تخلى عن رومية وجعل عاصمته في نيكوميديا في آسيا الصغرى. أم قسطنطين فتوسع في الأمر أكثر من ذلك فأنشأ رومية جديدة في الشرق وكانت القسطنطينية على رأس من البحر لا يفصل أوربا عن آسيا غير خليج البوسفور الضيق في أرض كثيرة الكروم والغلات وتحت سماء صافية وأنشأ طواري من الروم مدينة بيزانس وكان لها من الإحكام ما يجعلها سهلة على الدفاع ومرفأها المعروف بقرن الذهب من أحسن مرافئ العالم يؤوي 1200 سفينة ويمكن سده بسلسة طولها 250 متر لئلا تتخطاه أساطيل العدو. فهناك أنشأ قسطنطين مدينته الجديدة القسطنطينية (مدينة قسطنطين) وجعل في أطرافها أسواراً عالية وأنشأ فيها ساحتين تحيط بهما أروقة. وأنشؤوا فيها قصراً وملعباً ودور تمثيل وأقنية وحمامات ومعابد وكنيسة مسيحية.
ونزع قسطنطين من المدن الأخرى ما كان فيها من التماثل والنقوش البارزة المشهورة ليزين بها مدينته ولأجل إسكانها نقل إليها سكان المدن المجاورة بالقوة وقدر مكافأت وألقاب تشريف للأسر الكبرى التي تنتقل إليها وقرر كما كان الحال في رومية توزيع الحنطة والخمر والزيت على الناس وتوفير المشاهد والفرج لهم.
فكان تأسيس تلك العاصمة من السرعة الغريبة على نحو ما يحب القوم في الشرق فبدأ(35/56)
العمل بذلك في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 326 واحتفل بافتتاحها في 11 أيار (مايو) سنة 330 ولكن أسست بحيث تبقى على الدهر فقد صبرت القسطنطينية على هجمات المهاجمين عشرة قرون وبقيت بمقام عاصمة أبداً والمملكة الرومانية تمزق ولا تزال إلى اليوم أول مدينة في الشرق.
ولما ترك الإمبراطور رومية لم تعد مقر للحكومة وظل فيها مجلس أعيانها وإن لم تعد له سلطة وبقيت مزاراتها واحتفالاتها كما بقيت إلى أواخر القرن الرابع مركز الحزب الديني القديم.
القصر ـ أخذ الإمبراطورة الذين نزلوا الشرق في التعود بعادته وأنشؤوا يلبسون ثياباً إضافية من الحرير والقصب ويجعلون على رؤوسهم تاجاً مرصعاً باللؤلؤ ويتحجبون في قصورهم حيث كانوا يجلسون على عرش من ذهب يحف بهم وزرائهم ويفصلهم عن الناس جمهور من الحشم والخدم والموظفين والحرس.
وعلى من ينال شرف الحظوة من مواجهتهم أن يسجد أمامهم ويمرغ وجهه في الأرض علامة العبادة والخضوع ويطلقون عليهم ألقاب المولى والجلالة ويعاملونهم معاملة الأرباب وكل ما يمس أشخاصهم مقدس فيقولون القصر المقدس والغرفة المقدسة. ومجلس الإمبراطور المقدس والخزانة المقدسة.
فكان عيش الإمبراطور في الإمبراطورية الغربية (ايطاليا) من القرن الأول إلى الثالث شبيه بحياة حاكم أو قائد أما قصر الإمبراطور في الإمبراطورية الشرقية (القسطنطينية) فهو أشبه بقصر ملك فارس. وقد أطلق على طرقة الحكم في الإمبراطورية الشرقية اسم الإمبراطورية الواطئة معارضة لطريقة الحكم السالفة في القرون الثلاثة التي لقبوها بالإمبراطورية العالية.
الموظفون ـ أصبح الموظفون أكثر عدداً مما كانوا ويحف بالإمبراطور جيش صغير من الخاصة يحرسون قصره وهناك حرس ووكلاء وخدم ومجلس عالي وحجاب وسعاة وأمناء سر ينقسمون إلى أربع مكاتب. وأصبح الموظفون في الولايات أكثر سواداً إذ رأى الإمبراطور ديوكلسين الولايات متسعة فقسمها إلى عدة قطع ففي غاليا مثلاً قسم ولاية ليون إلى أربع واكيتين إلى ثلاث. وبعد أن كان في الإمبراطورية 46 والياً أصبح فيها 117 ثم(35/57)
فصلوا الوظائف فجعلوا مع الولاة والوكلاء قواداً عسكريين من دوقات وكنتية في الولايات الواقعة على التخوم.
وأصبح جميع الموظفين لا تصلهم أوامر الإمبراطور مباشرة فلا يخاطبون إلا كبار الموظفون رؤسائهم فيخضع الولاة لقائدي حرس القيصر والموظفون في الأشغال العمومية لحرس المدينة. وجباة الأموال إلى الكونت الذي يتولى الأعطيات المقدسة. والوكلاء للكونت المشرف على الأملاك والضباط إلى موالي الأجناد وجميع موظفي القصر يرجعون إلى مولى التشريفات وخدمة القصر إلى رئيس الخدمة المقدسة. وهؤلاء الرؤساء كالوزراء.
وهذه الطريقة لا يصعب علينا فهمها فقد اعتدنا أن نرى موظفين وقضاة وقواداً وجباة ومهندسين على اختلاف في أعمالهم التي يتولونها ولكل واحد عمله الخاص ويرجع أمرهم إلى ناظر هو رئيس ديوانه بل إن عندنا من النظارات أكثر مما في الأستانة. إلا أن هذه الإدارة الإدارية التي ألفناها لأننا نعرفها منذ الطفولة ليش فيها التباس ولا خروج عن حد الطبيعة. فقد كانت الإمبراطورية الشرقية أنموذجاً في هذا الباب واحتفظت به المملكة البيزنطية ومن ذلك العهد حاولت جميع الحكومات المطلقة أن تنسج على منوالها لأن في ذلك من التسهيل في العمل ما ينتفع به من يتولون أعمال الحكم.
المجتمع في الإمبراطورية الشرقية ـ كانت هذه الإمبراطورية هي الحد الفاصل في تاريخ الحضارة اجتمعت فيها سلطة الحاكم الروماني المطلقة مع فخفخة ملوك الشرق يتألف منها سلطة لم يكن بها عهد إلى ذلك العهد. وهذه السلطة التي لم يسمع بمثلها تأتي على كل شيء في يدها فلم يعد سكان الإمبراطورية وطنيين رومانيين منذ القرن الرابع بل صاروا يدعون باللاتينية الرعايا (الخاضعين) وبالرومية العبيد فكانوا كلهم من ثم عبيد الإمبراطورية ولكنهم يختلفون بالمقام وهم درجات في الشرف الذي يوليهم إياه مولاهم ويورثونه أبنائهم وإليك تلك المناصب حسب درجاتها.
1 ـ أشرف الأشراف وهم لأسرة الإمبراطورية.
2 ـ المشاهير وهم وزراء ورؤساء الدواوين
3 ـ المعتبرون وهم كبار أرباب المناصب.(35/58)
4 ـ الممجدون وهم كبار الموظفين (ويدعون الأعيان).
5 ـ أهل الكمال.
ولكل صاحب شأن مقامه ولقبه ووظائفه. وأكثر الناس احتراما الندماء والموظفون حتى صح أن يدعى ذلك العهد عهد الألقاب والتشريفات. وما قط شوهد إلى حد تبلغ السلطة المطلقة إذا دعمها الجنون في الألقاب والميل إلى ترتيب كل أمر بالإكثار من القوانين وعليه فقد كانت الإمبراطورية الشرقية مثالاً تاماً لمجتمع يدار بالآلة الصماء ولحكومة فنيت في إرادة قيصرها فحازت أقصى ما يتطال إليه حتى اليوم أنصار السلطة المطلقة وسيكافح بعد أشياع الحرية زمناً طويلاً تلك التقاليد التي أبقتها إمبراطورية الشرق.
حكومة المدينة ـ لم يعتن الرومان بجباية الأموال الرعايا بأنفسهم بل كان الإمبراطور يكتفي ببيان الخراج المطلوب من كل ولاية (وذلك كل خمس سنين في الغالب) ويحدده كما يرد. ويعلم الوالي كل مدينة ما يجب عليها أداؤه. فحكومة المدينة هي التي تقدم المبلغ المطلوب. وما دامت المدينة غنية يجبي الوالي خراجها موزعاً له بين السكان فإذا عجزوا عن الدفع يتحتم على من تولوا الخراج أن يسددوا العجز لأنهم مسئولون عن الخرج وخزانة الإمبراطورية لا تتنازل عن حقوقها.
ولقد كان منصب الجباية حتى القرن الثالث مرغوباً فيه كأنه من أسباب الشرف فيعد الجابي في مدينته كأنه كعضو الشيوخ في رومية. وإذا افتقرت البلاد يعود منصب الجباية من المناصب التي تكسر متوليها فترهق النفوس في توليتها.
فرأى الإمبراطرة أن يسنوا قانوناً لعقاب من يأبى جباية الخراج فصار الجابي يتولى ذلك رغم أنفه ويجب على كل من يملك خمسة وعشرين فداناً من الأرض أن يكون أحد الجباة طوعاً أو كرهاً.
وكثير من الجباة كانوا يؤثرون أن يخرجوا عما يملكون من الأراضي ويهربوا ويدخلوا في سلك الرهبنة والخورنة أو الاستخدام والجندية. أصدر الأباطرة أوامرهم بالبحث عن هؤلاء الفارين وأن يعادوا إلى مدنهم بالقوة. وقد جاء في أحد القوانين المسئولة أنهم عبيد الإمبراطورية.
فكانت الحكومة تحاول أن تبقي محابس الشيوخ في المدن على هذه الكيفية وإذا كانت(35/59)
تخرب بيوتهم بخراجها أصبح عدد الجباة أبداً في قلة. وكان مجلس الشيوخ يتألف على عهد الإمبراطورية الغربية من مئة عضو. وفي القرن الرابع نشبت فتن في إحدى الولايات فأمر أحد الأباطرة أن يأتوه برؤوس ثلاثة من الجباة من كل مدينة فكتب إليه الوالي (ليسع حلمكم أن يقرر ما الذي يجب أن نعمله في المدينة التي ليس فيها ثلاثة من الجباة).
المستعمرون ـ وقع في الإمبراطورية الرومانية مثلما وقع في عامة المجتمعات القديمة مثل إسبارطة ويونان وايطاليا وهو أن يضمحل الأحرار ويخلفهم العبيد ويبقى في القرى ما يكفيها من الحراثين. لا جرم أن المدينة الرومانية لم تخرب بل كانت أخذة بالنماء. فقد كان عدد الوطنيين في القرن الأول زهاء مليون نسمة وفي القرن الثالث صدر أمر الإمبراطور بمنح جميع سكان الإمبراطورية حق الوطنية فصار الوطنين الرومانيين يعدون بالملايين ويبدءون باضمحلال سائر سكان العالم بيد أن الحكم الروماني كان سبباً في اضمحلال شعوب المملكة كما اضمحل به من قبل أهل ايطاليا وكان يقتضي له كثير من الجنود وكثير من العبيد.
وبهذا الحكم يفلح الأغنياء ويصعب على صغار أرباب الأملاك أن يقفوا أمام الكبراء فيستخدمون في الجندية أو يخربون بيوتهم بأيديهم. ويقتني صاحب الأملاك الواسعة أراضيهم حتى أتى زمن لم يبقى في بعض البلاد غير أملاك واسعة يحرثها العبيد. وهؤلاء السكان من العبيد لا يتجددون فإذا عرض عارض من العوارض المألوفة إذ ذاك من مثل وباء وحرب وغارة برابرة وهلك جمهور من الحارثين في إحدى الأملاك تبقى الأرض بوراً.
فخلت القرى على التدريج ولا سيما ما كان على التخوم من الناس ولم بيقى سكان إلا في المدن بل صار في عدة أنحاء من المملكة قفار حقيقية خلت من السكان والعمران.
فانشأ الأباطرة يسكنون فيها عصابات من البربر ممن ضربوهم وأسروهم ليحيوا بهم موات تلك القرى. إلا أن هؤلاء البرابرة لا يملكون الأراضي بل يستعمرونها فقط مثل الهيلوتبين في إسبارطة ويقضى عليهم أن يبقوا في الأرض التي أنزلوا فيها لا يفارقونها ولا أولادهم بحال يؤدون إلى صاحب الأرض مالاً مقرر فمن ثم كانوا مستأجرين إلى الأبد بالقوة. وليس هذا النظام جديد بل كان في ايطاليا على عهد الإمبراطورية الشرقية أناس من(35/60)
الطوارئ من الأحرار الفقراء قيدوا أنفسهم في خدمة صاحب ملك عظيم لينالوا منه أرضاً يزرعونها. وزاد سواد الطوارئ زيادة كبرى لما ضموا إليهم الأسرى من البربر.
وهذه الطريقة الشديدة لم تكف في إحياء أمة لأن أولئك الحراثين كانوا يفرون أو يهلكون. وفي القرن الخامس بعد مرور الجيوش العظيمة من المخربين (داكيز وأتيلا) كان في أراضي المملكة فراغ كبير تعذر على الأباطرة أن يسدوه.
وبقي في غاليا واسبانيا وايطاليا وفي الغرب كله جزء من الأراضي بوراً لقلة العاملين فيها وأقفرت ولايات التخوم وقد اضمحل الشعب الروماني في جميع حوض الطونة من سويسرا إلى البلقان منذ القرن السادس فلم يكن في تلك البلاد إلا الأمم الجرمانية أو السلافية. حتى أن الفرنك لم يجدوا في البلجيك غير قفر.
البرابرة في الجيش الروماني ـ هذه الأراضي الخالية تستدعي سكاناً جدداً فكان البرابرة يحاولون على الدوام أن يتخطوها وما دام للحكومة الرومانية بعض جيش لا يصعب عليها أن تردهم على أعقابهم. إلا أن الأمر في التجنيد صار كالصعوبة كإيجاد المال. وألف سكان الإمبراطورية حياة السكون ولم يعودوا يهتمون بخدمة الجندية. حتى اضطرت الحكومة أن تطلب جنداً من كبار الأملاك فيأخذ هؤلاء بعض الطوارئ الذين يعملون في أراضيهم فكان هؤلاء المساكين المأخوذين بالقوة من وراء محاريثهم جنداً غير كفؤ للقتال. وغدت الجنود منذ القرن الرابع من الضعف بحيث لا تستطيع حمل الدروع واستعاضت عن الخوذ بالقبعات.
وبسلاحهم وزعمائهم ويدعون المحالفين وبلغ الإمبراطور أنه أخذ يقبل منهم في جيشه شعوباً برمتها مثل الوزيغوت والبورغند وكانوا اجتازوا التخوم بالقوة أحياناً ثم أثروا أن يكونوا في خدمته على أن يقاتلوه. فأصبحت إذ ذاك جيوش رومية مؤلفة من شعوب بربرية يقودها قائد بربري. ولفد كان الجيش الروماني الذي رد غارة أتيلا سنة 451 مؤلفا من الزيغت والبورتمند صار كثير من القواد الرومان منذ القرن الرابع سيلفانوس واريوكست أو معظمهم ف القرن الخامس (مثل ستيلكون ورسيمير وادواركو) من أصل بربري ولم تعد الإمبراطورية الرومانية محمية إلا بأناس من المحاربين البرابرة فاحتلها بعدهم أبناء جنسهم.(35/61)
طبقات الأطباء
من الكتب ما لو ظفر به المرء أغناه وكم من مكتبة لا تغني عن كتاب. والكتب كالناس واحد بألف وألف لا يساوي واحد. ومن الكتب التي تعد بألف كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لمؤلفه موفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668 بصرخد من أعمال جبل الدروز في بلاد الشام ألفه في دمشق برسم أمين الدولة بن غزال بن أبي سعيد وزير الملك الصالح ابن الملك العادل.
صاحب هذه الطبقات من الأطباء العلماء منقح الفكر والعبارة منظم الأسلوب حسن الطريقة ذكر في كتابه كما قال نكتاً وعيوناً في مراتب المميزين من الأطباء القدماء ونوادرهم ومحاوراتهم وشيئاً من أسماء كتبهم ليستدل بذلك على ما خصهم الله تعالى به من العلم قال فإن كثير منهم وإن قدمت أزمانهم وتفاوتت أوقاتهم فإن لهم علينا من النعم فيما صنفوه والمنن فيما قد جمعوه في كتبهم من هذه الصناعة ما تفضل المعلم على تلميذه والمحسن على من أحسن إليه. وقد أودع كتابه جماعة من الحكماء والفلاسفة ممن لهم نظر وعناية بصناعة الطب وجملاً من أحوالهم ونوادرهم وأسماء كتبهم وجعل ذكر كل واحد منهم في الموضوع الأليق به على حسب طبقاتهم ومراتبهم وقسمه إلى خمسة عشر باباً.
الباب الأول في كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها. الثاني في طبقات الأطباء الذين ظهرت لهم أجزاء من صناعة الطب وكانوا المبتدئين بها وهم ثلاثة.
الثالث في الأطباء اليونانيين الذين هم من نسل اسقيلبيوس وهم ستة. الرابع في الأطباء اليونانيين الذين أذاع أبقراط فيهم صناعة الطب وهم تسعة. الخامس في الأطباء الذين كانوا من زمان جالينوس وقريباً. والسادس في الأطباء الاسكنداريين ومن كان في أزمنتهم من الأطباء النصارى. السابع الأطباء الذين كانوا في أول ظهور الإسلام من أطباء العرب وغيرهم وهم عشرة. الثامن في الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العباس وهم أربعة وثلاثين.
التاسع الأطباء النقلة الذين نقلوا كتب الطب وغيره من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي وذكر الذين نقلوا لهم وهم سبة وثلاثون. العاشر الأطباء العراقيين وأطباء الجزيرة ودياربكر وهم اثنان وثمانون طبيباً. الحادي عشر الأطباء الذين ظهروا في العجم وهم(35/63)
ثلاثة وعشرون. الثاني عشر الأطباء الذين كانوا في الهند وهم ستة. الثالث عشر الأطباء الذين ظهروا في بلاد المغرب وأقاموا بها وهم تسعة وثمانون. الرابع عشر الأطباء المشهورون من أطباء مصر وهم سبعة وخمسون.
الخامس عشر الأطباء المشهورون من أطباء الشام وهم تسعة وخمسون. ورتبهم المؤلف على سنين وفياتهم.
كل من استعملوا عقولهم جادت والأطباء هم ممن يستعملون عقولهم ولذلك كان في ما كتبه ابن أبي أصيبعة برهان على صحة العقل وجودة التأليف بحيث أنك تقرأ كتابه وهو في ستمائة صفحة فلا تكاد تجد فيه مغمزاً اللهم إلا بعض ألفاظ وأشعار قليلة بذيئة رواها لبعض المترجم بهم ولعل ذلك لم يكن نكراً في عصره أو إطالة في إيراد بعض التراجم مثل إطالته في ترجمة أبي الحكم الأندلسي ونقل شعره وسديد الدين ابن رقيقة وشعره وأكثر ما رواه من الشعر لأبي القاسم هبة الله ابن الفضل وغيرهم ممن جاد شعرهم ولكنه لا يخلو من بعض سخافات وعذره في ذلك أنه يريد التنويه بالأطباء كيف كان حالهم ويود لو أتى لهم بكل ما قالوه.
قلت مرة لأحد أساطين العلم ما بال ابن أبي أصيبعة استعمل بعض أشعار ونوادر سخيفة نقلها كأنه راضٍ عنها على حين أنه غاية في الكمال والعلم الصحيح فقال إن المؤلف أراد أن يجعل كتابه مرجعاً كبيراً ومورداً فائضاً في كل أطروفة وأطروبة وذلك لما أهدى نسخاً لبعض من يغلب عليهم الوقار حذف هذه الزائدات ومن رآهم يحبون الأشياء على أصلها استنسخ لهم من كتابه نسخة تامة وهذا هو السبب في اختلاف النسخ التي ظفر بها طابع الكتاب.
وقصارى القول أن هذه الطبقات هي من الكتب الممتعة فلا تعد كتاباً للطب والأطباء بل هي كتاب في الحكمة والحكماء والمفننين من العلماء يتمثل فيه المطالع طرفاً من مدنية الإسلام ويقرأ فيه براهين دامغة على إن الناس في تلك القرون السبعة الأولى كانوا سواء على اختلاف مللهم ونحلهم يصف المؤلف المخالف بأنه أوحد العلماء فاضل كامل ويذكر له من الصفات ما يتراءى معه لقليل الخبرة بإخبار تلك الأزمنة أن المؤلف ينقل عن أهل دين المترجم بهم ويأتي بصفاتهم مجردة دون أن يلحقه شيء من تبعتها على أن ذلك كله من(35/64)
بنات أفكار المترجم.
ساوى العلم في نظره بين ابن دينه ومخالفه مساواة لم يغم طبها حقاً لمخالف ولم يبالغ بمن يود ويحالف كما يرى في ترجمة جبرئيل بن بختشيوع ويحنا بن ماسويه ومفق الدين بن مطران وأمين الدولة ابن التلميذ وحنين بن اسحق وهناك تجد كثير من تراجم العلماء ممن كان الطب بعض علومهم مثل الرئيس ابن سينا وأبي نصر الفارابي وابن الهيثم ويعقوب ابن اسحق الكندي وثابت بن قرة وكمال الدين ابن يونس وأبي بكر الرازي وأبي بكر ابن زهر وأبي الوليد ابن رشد والسهروردي وعبد اللطيف البغدادي وغيرهم من الأعلام الذين ترجمهم فأحسن ترجمتهم حتى لم يبق حاجة في النفس من أمرهم.
تقرأ في هذا السفر تعريب التراجمة الأول في الإسلام مشفوعاً بنبذة من أخبارهم وتتراوح بين تلاوة الحكم المستعذبة والأشعار اللطيفة والنثر البديع بحيث تحكم بين الطبقات هي كتب أدب ومحاضرة كما هي كتاب حكمة وطب تتنقل بين الاستفادة من هذا وترويح النفس بتلك فمن الحكم ما أوصى به أبقراط الأطباء فقال: ينبغي أن يكون المتعلم للطب في جنسه حراً وفي طبعه جيداً حديث السن معتدل القامة متناسب الأعضاء جيد الفهم حسن الحديث صحيح الرأي عند المشورة عفيفاً شجاعاً غير محب للفضة مالكاً لنفسه عند الغضب ولا يكون تاركاً له في غاية ولا يكون بليداً وينبغي أن يكون مشاركاً للعليل مشفقاً عليه حافظاً للأسرار لأن كثير من المرضى يوقفونا على أمراض بهم لا يحبون أن يقف عليها غيرهم وينبغي أن يكون محتملاً للشتيمة لأن قوماً من المبرسمين وأصحاب الوسواس السوداوي يقابلونا بذلك وينبغي بنا أن نحتملهم عليه ونعلم أنه ليس منهم وأن السبب فيه المرض الخارج عن الطبيعة وينبغي أن يكون حلق الرأس معتدلاً مستوياً لا يحلقه ولا يدعه كالجمة ولا يستقصي قص أظافر يديه ولا يتركها تعلو على أطراف أصابعه وينبغي أن تكون ثيابه بيضاً نقية لينة ولا يكون في مشيه مستعجلاً لأن ذلك دليل على الطيش ولا متباطئ لأنه يدل على فتور النفس وإذا دعي إلى المريض فليقعد متربعاً ويختبر منه حاله بسكون وتأن لا يقلق واضطراب فإن هذا الشكل والزي والترتيب عندي أفضل من غيره. هذا ما قاله أبو الطب ولو عمل الأطباء طراً بمشورته لما ساءت ظنون العامة والخاصة ببعضهم.
ومن مواعظ أفلاطون: إذا هرب الحكيم من الناس فاطلبه وإذا طلبهم فهرب من.(35/65)
وقال من لا يواسي الإخوان عند دولته خذلوه عند فاقته. وسئل من أحق الناس أن يؤتمن على تدبير المدينة فقال من كان في تدبير نفسه حسن المذهب. وقال الملك هو كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغيرة فإن كان عذباً عذبن وإن كان ملحاً ملحت وإذا أردت أن تدوم لك اللذة فلا تستوف الملتذ أبداً بل دع فيه فضلاً تدم لك اللذة. وقال لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس ليس يسألون في كم فرغ من هذا العمل وإنام يسألون عن جودة صنعته وقال إذا طابق الكلام نية المتكلم حرك نية السامع وإن خالفها لم يحسن موقعه مما أريد به. وقال رجل جاهل لأفلاطون كيف قدرت على كثرة ما تعلمت فقال لأني أفنيت من الزيت بمقدار ما أفنيته من الشراب. وقال إذا صادقت رجلاً وجب عليك أن تكون صديق صديقه وليس يجب عليك أن تكون عدو عدوه. وقال الإفراط في النصيحة يهجم بصاحبها على كثير من الظنة.
ومن حكم أرسطو أن من علامة تنقل الدنيا وكدر عيشها أنه لا يصلح منها جانب إلا بفساد جانب أخر ولا سبيل لصاحبها لعز إلا بالإذلال ولا استغناء إلا بافتقار وأعلم ربما أنها أصيبت بغير حزم في الرأي ولا فصل في الدين فإن أصبت حاجتك منها وأنت مخطئ أو أدبرن عنك وأنت مصيب فلا يستخفك ذلك إلى معاودة الخطأ ومجانبة الصواب. وقال لا تبطل لك عمراً في غير نفع ولا تضع لك مالاً في غير حق ولا تصرف قوة في غير غناء ولا تعدل لك رأياً في غير رشد فعليك بالحفظ لما أتيت من ذلك والجد فيه وخاصة في العمر الذي كل شيءٍ مستفاد سواه وإن كان لا بد لك من إشغال نفسك بلذة فلتكن في محادثة العلماء ودرس كنب الحكمة. وقال: العالم أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبعاً لك.
وقال: العلم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً والجاهل يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً. وقال من نازع السلطان مات قبل يومه. وقال أي ملك نازع السوقة هتك شرفه. وقال أي ملك يسف إلى المحقرات فالموت أكرم له.
كتب إلى الإسكندر في وصايا له أن الأردياء ينقادون بالخوف والأخيار ينقادون بالحياء فميز بين التطبيق واستعمل في أولئك الغلظة والبطش وفي هؤلاء الأفضال والإحسان. وكتب أيضاً أن الأمور التي يشرف بها الملوك ثلاثة سن السنن الجميلة وفتح الفتوح المذكورة وعمارة البلدان المعطلة.(35/66)
ومن كلام عبد اللطيف البغدادي: اجعل كلامك في الغالب بصفات أن يكون وجيزاً فصيحاً في معنى مهم أو مستحسن فيه الغاز ما وإيهام كثير أو قليل ولا تجعله مهملاً ككلام الجمهور بل رفعه عنهم ولا تباعده عليهم جداً. وقال وإياك والهذر والكلام فيما لا يعني وإياك والسكوت في محل الحاجة ورجوع النوبة إليك إما لاستخراج حق أو اجتلاب مودة أو تنبيه على فضيلة وإياك والضحك مع كلامك وكثرة الكلام وتبتير الكلام بل اجعل كلامك سرداً بسكون بحيث يستشعر منك أن وراءه أكثر منه وأنه عن خميرة سابقة ونظر متقدم.
وقال: وإياك والغلظة في الخطاب والجفاء في المناظرة فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام ويسقط فائدته ويجلب الضغائن ويمحق المودات ويصير القائل مستثقلاً سكوته أشهى من السامع من كلامه ويثير النفوس إلى معاندته ويبسط الألسن بمخاشنته وإذهاب حرمته وقال لا تترع بحيث تستثقل ولا تتنازل بحي وتستحقر.
ومن كلام رشيد الدين بن خليفة: احترم المشايخ ولو سكتوا عن جواب سؤالك فلعل ذلك لبعد العهد وكلال القوى أو لأنك سألت عما لا يعنيك أو معرفتهم بعجز فهمك عن الجواب أو إن فوائدك أكثر من ذلك. وقال: اشتغل بكلام المشهورين الجامعة أولاً فإذا حصلت الصناعة فاشتغل في الكتب الجزئية من كلام كل قائل.
وقال: خذ كلام كل قائل عارياً عن محبة أو بغضة ثم زنه بالقياس وامتحنه إن أمكن بالتجربة وحينئذ اقبل الصحيح وإذا أشكل فأشرك غيرك فيه فإن لكل ذهن خاصية بمعان دون معان.
قال: الأمراض لها أعمار والعلاج يحتاج لمساعدة الأقدار وأكثر صناعة الطب حدس وتخمين وقلما يقع فيه اليقين وجزآها القياس والتجربة لا السفسطة محب الغلبة ونتيجتها حفظ الصحة إذا كانت موجودة وردها إذا كانت مفقودة وفيهما يتبين سلامة الفطر ودقة الفكر ويتميز الفضل من الجاهل والمجد في الطلب عن المتكاسل والعمال بمقتضى القياس والتجربة عن المحتال على اقتناء المال وعلو المراتب. وقال ما أكثر الملتذين بالآمال من غير الشروع في بلوغها.
وقال: الآمال أحلام اليقظان وكنب بعضهم إلى شيخه يشكو إليه تعذر أموره فكتب إليه أنك لن تنجو مما تكره حتى تصبر عن كثير مما تحب ولن تنال ما تحب حتى تصبر على كثير(35/67)
مما تكره ومما كاد يخلص إليه كتاب الطبقات أنك قد تأتي على ترجمة الرجل والرجلين لا تفهم مذهبه إذا لم يكن في اسمه أو كنيته أو لقبه ما يشعر بأنه مسلم من غير مسلم وربما اشتبه الاسم أيضاً فإن من الصابئة من اسمه حسن ومن المجوس من اسمه عثمان وعلي والعباس والنصراني يكنى بموفق الدين وقطب الدين.
ومن عجب ما قرأت أن قسطا بن لوقا البعلبكي وكان مسيحي النحلة كتاباً له في علة الموت فجأة لأبي الحسن محمد بن أحمد كاتب بطريقة البطارقة والغالب أن اسم هذا أبو غانم العباس بن سنباط. وقد استفدت منه ألفاظ لم تكن مألوفة لزمننا مثل الجوارشنات للحبوب لمستعمله والأقراباذينيات أي تركيب الأدوية والساعور وهو مقدم النصارى في الطب وفي التاج وأن أصله ساعوراً ومعناه متفقد المريض وقد اشتق منه فعلاً فقال: كان جميعاً يسعران المرضى أي يتفقدانها إلى غير ذلك من الفصح والشوارد مثل قوله عن اسم كتاب لأحد مشاهير (المنمس) أي المحتال بالدين ونحوه على شيء يستره.
والغلاب إن المؤلف لم يدخر وسعاً في تنقيح كتابه وتصحيحه إلى أن هلك فجاء زبده في موضوعه فيه كل ما طالب وحلا فمن منظومة وهو مما تأخذه فيه وخير الشعر ما زاد معناه على لفظه وقصدت به غاية كما قال يعقوب بن اسحق الكني
أناف النابي على الاروس=فغمض جفونك أو نكس
وضائل سوادك واقبض يديك=وفي قعر بيتك فاستحلس
وعند مليكك فبغي العلو=وبالوحدة اليوم فاستأنس
فإن الغني في قلوب الرجال=وأن التعزز بالأنفس
وكائن ترى من خي عسرة=غني وذي ثروة مفلس
ومن قائم شخصه ميت=على انه بعد لم يرمش
فإن تطعم النفس ما تشتهي=تقيك جميع الذي تحتسي
وكما وصى يحيى بن عدي أن يكتب على قبره
رب ميت قد صار حيا ... ومبقى قد مات جهلاً وعيا
فاقتنوا العلك كي لا خلودا ... لا تعدوا الحياة في الجهل شيا
وكما قال أبو طاهر بن البرخشي وقد رأى إنساناً يكتب كتاباً إلى صديق له فكتب في(35/68)
صدرة العالم.
لما انمحت سنن المكرم والعلى ... وغدا الأنام بوجه جهل قاتم
ورضوا بأسماء ولا معنى لها ... مثل الصديق تكاتبوا بالعالم
وكما قال العنتري
الحق ينكره الجهول لأنه ... عدم التصور فيه والتصديق
فهو العدو لكل ما هو ... فإذا تصوره يعود صديقا
أو كما قال
كن غنياً إن استطعت وإلا ... كن حكيماً فما عدا ذين غفل
إنما سودد الفتى المال والعمل ... لم وما ساد قط فقر وجهل
وقوله
ومن نكد الدهر الغشوم وصرفه ... يجاور رغماً فيلسوف لأحمق
وكقول أبي بكر الرازي
نهاية أقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في غفلة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبان
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال
وكقول أمية بن عبد العزيز
مارست دهري وجربت الأنام فلم ... احمدهم قط في جد ولا لعب
وكم تمنيت أن ألقى به أحداً ... يسلي من الهم أو يعدي على النوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا ... كانت مواعيدهم كالآل في الكذب
وكان لي سبب قد كنت أحسبي ... أحظى به وإذا دائي من السبب
فما ملقم أظفاري سوى قلبي ... ولا كتائب أعدائي سوى كتبي
وكقول عبد المنعم الجلياني
من لم يس عنك فلا تسألن ... عنه ولو كان عزيز النفس(35/69)
وكن فتى لم تدعه حاجة ... إلى امتهان النفس إلا نفر
وكقوله
قالوا نرى نفراً عند الملوك سموا ... وما لهم همة تسمو ولا روع
وأنت ذو همة في الفضل عالية ... فلم ظمئت وهم في الجاه قد كرعوا
فقلت باعوا نفوساً واشتروا ثمناً ... وصنت نفسي فلم أخضع كما خضعوا
قد يُكرم القرد إعجاباً بخسته ... وقد يهان لفرط النخوة السبع
ومثل قول أمين الدولة بن التلميذ
سق النفس بالعلم نحو الكمال ... تواف السعادة من بابها
ولا ترج ما لم تسبب له ... فإن الأمور بأسبابها
وكقوله
لا تحقرن عدواً لان جانبه ... ولو يكون قليل البطش والجلد
فللذبابة في الجرح المدّ يد ... تنال ما قصرت عنه يد الأسد
وكقوله
وأرى عيوباً العالمين ولا أرى ... عيباً لنفسي وهو من اقرب
كالظرف يستحلي الوجوه ووجهه ... منه قريب وهو عنه مغيب
وكقول سعيد بن عبد ربه وكان جميل المذهب معبضاً عن الملوك
أمن بعد غوصي في علوم الحقائق ... وطول انبساطي في مواهب خالقي
وفي حين إشراف على ملكوته ... أرى طالباً رزقاً إلى غير رازقي
وأيام عمر المرء متعة ساعة ... تجيء حثيثاً مثل لمحة بارق
وقد أذنت نفسي بتقويض رحلها ... وأسرع في سوقي إلى الموت ساقي
وإني وأن أوغلت أو صرت هارباً ... من الموت في الآفاق فالموت لاحقي
وكقول أبي فرج بن هندو
قوض خيامك من أرض تضام بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب
ورحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فمندل الهند في أركانه حطب
وكقوله(35/70)
أطال بين البلاد تجوال ... قصور مالي وطول آمالي
إن رحت عن بلدة غدوت إلى ... أخرى فما تستقر أحمالي
كأنني فكرة الموسوس لا ... تبقى مدى لحظة على حال
وكقوله وكتبها على عود
رأيت العود مشتقاً ... من العود بإتقان
فهذا طيبٌ أناف=وهذا طيب آذان
وكقوله
لا ملك ما فيه كملوك آلة ... سوى أنه يوم السلاح متوج
وقيم لإصلاح الورى وهو فاسدٌ ... وكيف استواء الظل والعود أعوج
وكقول الرحبي:
إذا تقضى شباب المرء في نغص ... فما له في بقايا العمر من إرب
وهناك من المنظومات الطويلة ما هو السحر الحلال. أما المنثور فطريقته طريقة التسجيع التي غلبت على أهل اقرن الخامس فمن بعدهم إلا أن فيه المرسل مثل كلام لأمين الدولة ابن التلميذ كتبه في ضمن رسالة على ولده وكان يعرف برضي الدولة أبي نصر قال والتفت هناك عن هذه الترهات إلى تحصيل مفهوم لتميز به وخذ نفسك من الطريقة بما كررت بذهنك عليه وإرشادك إليه واغتنم الأماكن واعرف قيمته وتشغل بشكر الله تعالى عليه وفز بحظ نفسي من العلم تثق من نفسك بأن عقلته وملكته لأقرته ورويته فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ المذكور وتلزم صاحبه ومن طلبه من دونه فإما أن لا يجدها وإما أن لا يتعمد عليها إذا وجدها ولا يثق بدوامها وأعوذ بالله أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعول همته وشدة أنفته وغيرته على نفسه ومما قد كررت عليك الوصاة به على أن لا تحرص على أن لا تقول شيئاً لا يكون مهذباً في معناه ولفظه ويتعن عليك إيراده فأما معظم حرصك فتصرفه إلى أن تسمع ما تستفيده لا ما يلهيك ويلذ للاغمار وأهل الجهالة نزهك الله عن طبقتهم فإن الأمر كما قال أفلاطون الفضائل مرة الورود حلوة الصدر والرذائل حلوة الورد مرة الصدر وقد زاد أرسطوطاليس في هذا المعنى فقال: عن الرذائل لا تكون حلوة الورود عند ذي فطرة فائق بل يؤذه تصور قبحها إذا يفسد عليه ما(35/71)
يسلتذه غيره منها وكذلك الصحة يكفي حسه في تعريفه النافع والضار فلا ترض لنفسك حفظك الله إلا بما تعلم انه يناسب طبقة مثالك واغلب خطرات الهوى بعزمات الرجال الراشدين واطمح بنفسك إليها تتركك في طاعة عقلك فإنك تسر بنفسك وتراها في كل يوم مع اعتماد ذلك في رتبة عليا ومرقاة من سماء.
ومن رسالة في السعادة كتبها المؤلف إلى رشيد الدين الصوري وقد أهدى إليه تأليفاً له يحتوي على فوائد ووصايا طبية وهي من السجع على خلاف عادته: أدام الله أيام الحكيم الأجل الأوحد الأمجد العالم العامل الفاضل الكامل الرئيس رشيد الدنيا والدين معتمد الملوك والسلاطين خالصة أمير المؤمنين بلغه في الدارين نهاية سؤله وكبت حسدته وأعاديه ولا زالت الفضائل مخيمة بفنائه والفواضل صادرة منه إلى أوليائه والألسن مجتمعة على شكره وثنائه والصحة محفوظة بحسن مرعاته والأمراض زائلة بتدبيره ومعالجاته المملوك ينهي ما يجده من الأشواق إلى خدمته والتأسف على الفائت من مشاهدته ووصلت المشرفة الكريمة التي وجد بها نهاية الأمل والإرشاد إلى المطالب الطبية الجامعة للعلم والعمل وقد جعلها المملوك أصلاً يعتمد عليها ودستوراً يرجع إليه لا يخليها من فكره ولا يخص بما تتضمنه في سائر عمره ومال المملوك ما يقابل به إحساناً مولانا إلا الدعاء الصالح والثناء الذي يكتسب من محاسنه النشر العطر الفائح وكيف لا أشكر أنشر محاسن من لا أجد فضيلة إلا به ولا أنال الراحة إلا بسببه فالله يتقبل من المملوك صالح أدعيته ويجزي مولانا كل خير على كمال مروءته إن شاء الله.
وأما فوائد الكتاب الطبية والاجتماعية فما ينبغي أن يفرد بالبحث ولا يسع الطبيب والأديب جهله فمن ذلك ما قال به ثابت بن سنان قال ولما كان سنة تسع عشرة ثلاثمائة اتصل بالمقتدر إن غلطاً جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل فأمر إبراهيم بن محمد___بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه والدي سنان بن ثابت وكتب له رقعة بخطه بما يطلق له من الصناعة فصاروا إلى والدي وامتحنهم وأطلق لكل واحد ما يصلح أن يتصرف فيه وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجلاً ونيفاً وستين رجلاً سوى من استغنى عن محنته باشتهاره بالتقدم في صناعته وسوى من كان في خدمة السلطان. قلت وهذه الشهادة الطبية نالها من أطباء بغداد بعد العلم والعمل ولا عجب(35/72)
أن يكون لبغداد هذا العدد الدثر من الأطباء والقاهرة على ما بلغت إليه من الحضارة في هذا العهد لا يتجاوز أطباءها نصف هذا القدر. وقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب وما والاها كان إذا أكل الطعام حضر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطي علمين ومن يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم.
ونقل المؤلف من كلام لأبي نصر الفارابي في معنى اسم الفلسفة قال اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية وهو على مذهب لسانهم فيلسوفياً وعناه إيثار الحكمة وهو في لسانهم مركب من فيلا ومن سوفيا ففيلا الإيثار وسوفيا الحكمة والفيلسوف مشتق من الفلسفة وهو على مذهب لسانهم فيلسوفوس فإن هذا التغيير هو تغير كثير من الاشتقاقات عندهم ومعناه المؤثر للحكمة والمؤثر بالحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة. وحكى أبو نصر الفارابي في ظهور الفلسفة ما هذا نصه: قال إن أمر الفلسفة اشتهر أيام الملوك اليونانيين وبعد وفاة أرسطوطاليس إلى أخر أيام المرأة وأنه لما توفي بقي التعليم فيها على حاله إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكاً وتوالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنى عشر معلماً أحدهم معروف باندرنيقوس وكان هؤلاء الملوك المرأة فغلبها أوغسطس الملك من أهل رومية وقتلها واستحوذ على الملك فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصنعها فوجد فيها نسخاً لكتب أرسطوطاليس قد نسخت في أيامه وأيام ثاوفرسطس ووجدوا المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتباً في المعاني التي عمل فيها أرسطو وتلاميذه وأن يكون التعليم منها وأن ينصرف عن الباقي وحكم أندرونيقوس في تدبير ذلك وأمره أن ينسخ نسخ يحملها معه إلى رومية ونسخاً يبقيها في موضع التعليم في الإسكندرية وأمره أن يستخلف معلماً يقوم مقامه بالإسكندرية ويسير معه إلى رومية فصار التعليم في موضعين وجرى الأمر على ذلك إلى أن جاءت النصرانية فبطل التعليم من رومية وبقي بالإسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا التعليم وما يبطل فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى أخر الأشكال الوجودية ولا يعلم ما بعده لأنهم أن في ذلك ضرراً على النصرانية وإن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان به على نصرة دينهم فبقي الظاهر من هذا التعليم هذا المقدار وما ينظر فيه من الباقي مستوراً إلى كان الإسلام بعده بمدة طويلة فانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية وبقي بها زمناً طويلاً إلى أن(35/73)
بقي معلم واحد فتعلم منه رجلان وخرجا ومعهما الكتب فكان أحدهما من أهل حران والآخر من أهل مرو فأما الذي من مرو تعلم منه رجلاً. أحدهما إبراهيم المروزي والأخر يوحنا بن حيلان وتعلم من الحراني إسرائيل وسارا إلى بغداد فتشاغل إبراهيم بالدين وأخذ قدري في التعليم وأما يوحنا فإنه تشاغل أيضاً بدينه وانحدر إبراهيم إلى بغداد وأقام بها وتعلم منه متى بن يونان وكان الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى أخر أشكال الوجودية. وكان ما يسمى ما بعد الأشكال الوجودية الجزء الذي لا يقرأ إلا أن قرأ ذلك وصار الرسم بعد ذلك حيث صار الأمر إلى معلمي المسلمين أن يقرأ من الأشكال الوجودية إلى حيث قدر الإنسان أن يقرأ فقال أبو نصرانه قرأ إلى أخر كتاب البرهان.
ومن فوائد التاريخية في الكتاب ما ذكره صاعد بن بشر في مقالته في مرض البراقيا ما عاينه في ذلك الزمان من أهوال وجدها ومخاوف شاهدها. هذا نصه وقال وأنه عرض لنا من نضايق الزمان علينا والتشاغل بالتماس الضروري ولما قد شملنا من الخوف والحذر والفزع واختلاف السلاطين وما قد بلينا به مع ذلك من التنقل في المواضع وضياع كتبنا وسرقتها ولما قد أظلنا من الأمور المذعرة المخوفة التي لا نرجو من كشفها إلا الله نقدس اسمه قال ابن أبي أًصيبعة هذا ما ذكره أي صاعد وما كان في أيامه إلا الاختلاف ملوك الإسلام بعضهم مع بعض وكان الناس سالمين في أنفسهم آمنين من القتل والبغي فكيف لو شاهد ما شاهدناه ونظرا ما نظرناه في زماننا من التتار الذين أهلكوا العباد وخربوا البلاد وكونهم إذا أتوا إلى مدينة فما لهم إلا قتل جميع من فيهم من الرجال وسبي النساء والأولاد ونهب الأموال وتخريب القلاع والمدن لكن استصغر ما ذكره واستقل ما عاينه وحقره ولكن ما الطامة إلا ما فوقها طامة أعظم منها ولا حادثة إلا غيرها تكبر عنها والله الحمد على السلامة والعافية
ومن فوائده التاريخية أيضاً ما ذكره في ترجمة ابن بطلان قال إن مشاهير الوباء في زمانهم وباء سنة ست وأربعين وأربعمائة فإنه دفن في كنسية لوقا بعد أن امتلأت جميع المدافن التي في القسطنطينية أربعة عشر ألف نسمة في الخريف فلما توسط الصيف في سنة سبع وأربعين لم يوف النيل فمات في الفسطاط والشام أكثر أهلهما وجميع الغرباء إلا ما شاء الله وانتقل الوباء من العراق فأتى على أكثر أهله واستولى عليه الخراب بطرق(35/74)
العساكر المتعادية واتصل ذلك بها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة وعرض للناس في أكثر البلاد قروح سوداوية وأورام الطحال وتغيير الترتيب نوائب الحميات واضطراب نظام البحارين قال وتكامل خراب العراق والموصل والجزيرة واختلت ديار بكر وربيعة ومضر وفارس وكرمان وبلاد اليمن والمغرب والفسطاط والشام واضطربت أحوال ملوك الأرض وكثرت الحروب والغلاء والوباء.
ومن فوائده الاجتماعية ما ذكر في ترجمة اسرائيل بن الطيفوري أن الوزير الفتح ابن خاقان كا كثير العناية به فقدمه عند المتوكل ولم يزل حتى انس به المتوكل وجعله في مرتبة بختيشوع وعظم قدره وكان متى ركب إلى دار المتوكل يكون موكبه مثل موكب الامراء وأجلاء القواد وبين يديه أصحاب المقارع. قلت ولعل أصحاب المقارع مثل الذين يمشون أمام عجلات الأعيان والامراء ومركباتهم في هذا القطر وهذه العادة من أبشع العادات التي أبقتها الأيام. كما أنه كان يحمل بين يدي الكبراء مشاعل في الليل كما ذكره في ترجمة أبي الفرج بن توما ومن فوائده الأدبية قوله: ذكروا أن الأصل كان في اسم جالينوس غالينوس ومعناه الساكن او الهادي وقيل أن ترجمة اسم جالينوس معناه بالعربي الفاضل وقال أبو بكر محمئد بن زكريا الرازي في كتاب الحاوي أنه ينطلق في اللغة اليونانية ان ينطق بالجيم غينا وكافا فيقال مثلا جالينوس وغالينوس وكالينوس وكل ذلك جائز وقد تجعل الالف واللام لاماً مشددة فيكون ذلك أصح في اليونانية أقول وهذه فائدة تتعلق بهذا المعنى وهي حدثني القاضي نجم الدين عمر بن محمد الكريدي قال حدثني ابنا غانوس المطران بشوبك وكان أعلم أهل زمانه بمعرفة لغة الروم القديم وهي اليونانية إن في لغة اليونان كل ما كان من الأسماء الموضوعة من أسماء الناس وغيرهم فآخرها سين مثل جالينوس وديسقوريدس وانكساغورس وأرسطو طاليس وديوجانيس واريباسيوس وغير ذلك وكذلك مثل قولهم قاطيغورياس وبارينتياس ومثل اسطوخودس واناغالس فان السين التي في آخر كل كلمة حكمها في لغة اليونان مثل التنوين في لغة العرب الذي هو في آخر الكلمة مثل قولك زيد وعمرو وخالد وبكر وكتاب وشجر فتكون النون التي تتبين في آخر التنوين مثل السين في لغة أولئك أقول ويقع لي أن من الالفاظ التي في لغة اليونانيين وهي قلائل ما لا يكن في آخره مثل سقراط وأفلاطون وأغاثاذيمون واغلوقن(35/75)
وتامور وياغاات وكذلك من غير أسماء الناس مثل انالوطيقيا ونيقوماخيا والريطورية ومثل جند بيدستر وترياق فإن هذه الاسماء تكون في لغة اليونانيين لا يجوز عندهم تنوينها فتكون بلا سين وذلك مثل ما عندنا في لغة العرب وأن من الأسماء ما لا ينون وهي الأسماء التي لا تتصرف مثل إسماعيل وإبراهيم وأحمد ومساجد ودنانير هذه كتلك
إما فوائد الكتاب الطبية فكثيرة جداً فمنها ما رواه عن جالينوس إن كل بيت لا تدخله الشمس يكون وبيئاً وهو مثل قول الفرنسيس في أمثالهم حيث لا تدخل الشمس يدخل الطبيب ومما ذكره ابن بختويه في كتاب المقدمات صفة لتجميد الماء في غير وقته زعم أن إذا أخذ الشب اليماني الجيد رطل ويسحق جيداً ويجعل في قدر فخار جديدة ويلقى عليه ستة أرطال ماء صافي ويجعل في تنور ويطين عليه حتى يذهب منه الثلثان ويبقى الثلث لا يزيد ولا ينقص فإنه يشتد ويرفع في قنينة ويسد رأسها جيداً فإذا أردت العمل به أخذت تلجية جديدة وفيها ماء صافي الماء عشرة مثاقيل من الماء المعمول بالشب ويترك ساعة واحدة فإنه يصير ثلجاً وكذلك أيضاً زعم بعض المغاربة في صنعة تجميد الماء في الصيف.
قال: اعمل إلى بذر الكتان فانقعه في خل خمر جديد ثقيف فإذا جمد الماء فألقه في جرة أو اوجب مليء ماء قال فإنه يجمد ما كان فيه من الماء ولو انه في حزيران أو تموز.
بقي في الكتاب كثير من النكات المضحكة ننقل بعضها للأحماض وترويحاً للنفوس فمما رواه يوحنا بن ماسويه العالم الطبيب المشهور وكان فكهاً ادعابة وظرف قال: شكا إليه رجل جرباُ قد اضرّبه فأمره بقصد إلا كحل من يده اليمنى فأعمله أنه قد فعل فأمره بقصد الأكحل أيضا من يده اليسرى فذكراه قد فعل فأمره بشرب الطبوخ فقال قد فعلت فأمره بشرب الاصطمخيقون فاعلمه انه قد فعل فأمره بشرب ماء الجبن أسبوعاً وشرب مخيض البقر أسبوعين فأعلمه انه قد فعل فقال له لم يبق شيءٌ مما أمر به المتطيبون إلا وقد ذكرت انك فعلته وبقي شيءٌ مما لم يذكره بقراط ولا جالينوس وقد رأيناه يعمل على التجربة كثيراً فاستعمله فغني أرجو أن ينجح علاجك إن شاء الله فسأله ما هو فقال ـــــ زوجي قراطيس وقطعهما رقاعاً صغاراً واكتب في كل رقعة رحم الله من دعا لمبتلى بالعافية والق نصفها في المسجد الشرقي بمدينة السلام والنصف الآخر في المسجد الغربي وفرقها في(35/76)
المجلس يوم الجمعة فأني أرجو أن ينفعك الله بالدعاء إذ لم ينفعك بالعلاج.
وعلى الجملة فالكتاب مادة واسعة في علوم واسعة في علوم الحضارة فنشكر لناشره العالم الألماني الذي سمى نفسه امرأَ القيس الطحان وهذا الاسم ترجمة اسمه الحقيقي ماكس ماللر فقد طبعه في مصر وصححه على عدة نسج وأمهات صحيحة وألحقه بفهرس الإعلام بحيث جاء مفيداً يكاد غلطه لا يذكر وبذل وقته وماله فيه حتى نفع العلم والأدب وجلا كثيراً من الحقائق التي كانت مستورة وها قد اخذ الألمان اليوم يترجمونه إلى لغتهم وسيتم طبعه قريباً وأني لأوصي كل طالب علم وعاشق معرفة أن يقتنيه فهو من الكتب التي لا يليق بمنضدة أن تكون خالية من نسخة منه يأخذ كل مطالع منها ما يغلب عليه دع عنك ما هنالك من تاريخ يلقح كل حين فكراً جديداً ولو كان في موضوع هذا المصنف المفيد مئة كتاب من أمهات كتبنا جميلة الطبع والوضع لعدت العربية في التاريخ والسير من أغنى لغات العصر.(35/77)
سيرة العلم والاجتماع
تربية الحواس
لم يعن علماء التربية حتى الآن بأن يجعلوا من جملة تربية الحواس ولايعلمون الولد في المدارس الابتدائية كيف يبصر ويسمع ويلمس ويشم ويميز الطعوم فيأتي الطفل من ذلك ما يروقه ويكون الجهل من هذا القبيل عاماً. فقد يبصر المبصرون بدون مبصر فسيعيشون البصر وليس غير العادة من قاعدة للمشمومات والمطعومات ولا يعرف الناس استعمال أصابعهم لتمييز الأشياء بمجرد لمسهم. وقد عني الأستاذ المرغاتس من أعضاء المجمع العلمي السميثوني في أميركا منذ بضع سنين بتلاقي هذا النقص في تربية الحواس فوضع طريقة جربها في أولاده البنين منهم والبنات فجمع إلى تمرين الحواس تهذيب العقل وهو مقر الحواس بل المركز العام لكل باصرة وسامعة ولامة وأخذ يعلم الأطفال على التفكر بسرعة وأن يستخدموا كل حاسة بسرعة فرلي خلايا الدماغ وأول ماكان يعلم الطفل التمييز بين الألوان فإنه استعمل لذلك أطر لذلك منوعة الألوان واطراً من ألوان واحدة تختلف بعض الشيء ويكرر من هذه الأُطر نحو ثلاثين ألف لون على نظر الطفل يعلمه التمييز بين ألوانها بأعيانها بحيث تتربى فيه ملكة النظر فلا يرتكب خطأ بعد في التمييز بينها.
ويبدأ بتعليم الطفل تمييز الألوان وهو في الثانية أو الثالثة عند ما يأخذ يتكلم وينتهي من التعلم في السابعة أو الثامنة وفي الرابعة من عمره تربى فيه ملكة السمع بواسطة آلة الاستماع التي تحقق الأصوات وتقيها الارتجاجات ولتقوية العقل يضعون بين أيدي الطفل ألعاباً عملية من نحو خشبة مثقوبة ثقوباً كثيرة يدخل فيها مسامير مختلفة الحجم على أسرع ما يكون فيتربى بصره على التمييز في الحال بين المسار الصالح للثقب الذي يريده وأن تتناوله يده بسرعة وتدخله في محله. وهناك لعبة الخاتم وهي عبارة عن هدف تجعل فيه كلابات فيقضى على الولد أن يرمي بالخواتم بحيث تعلق في الكلابة الخاصة بها. وقد ذكر الأستاذ غرائس بأن قوة العضلات يمكن إنقاصها وزيادتها بزيادة الحرارة والبرودة في الأعضاء بل بواسطة المنبهات كالشاي والقهوة وذكر أن الصباح خير الأوقات للرياضة العضلية بعد أن يكون الإنسان استوفى حظه من نوم الليل وأنه لابد من أن يعقب تلك الرياضة بعد أن يكون الإنسان استوفى حظه من نوم الليل وأنه لابد من أن يعقب تلك(35/78)
الرياضة شيءٌ من الراحة. وقد أخذت هذه الطريقة تسري في الولايات المتحدة وأخذوا هناك يزهدون في أنواع الرياضيات القليلة الجدوى ليستعيضوا عنها بتربية الحواس والقوة فكانت النتيجة باهرة.
الاستقامة في الخط
تألفت في باريز جمعية من كبار العلماء والأطباء تدعو الناس إلى تعليم أولادهم الخط وهم على وضعه مستقيمة في أجسامهم لأن اعوجاج الجسم وانحناء مضران بصحة الكاتبين وهم يرون أن يلاحظ الولد الذي يكتب وهو منحن مستنداً على طرف واحد وذراعه اليسرى بعيدة وذراعه اليمنى قريبة ملصوقة بالجسد ورجله اليسرى موضوعة أمام اليمنى فبدلاً من أن يحمل ثقل الجسد على طرفي الإنسان ينزل على الذراع وحق الفخذ الأيسر وإذ كانت سلسلة الظهر سريعة العطب في الطفل لا تلبث أن تخرج عن اتجاهها الأفقي فتلوى وتنحني ويصيب الفقرات التواء ويقع اليسار من الصدر على طرف المنضدة فيضغط على الرئتين فيتولد من ذلك تشويه في الأعضاء وقص الصدر. وبهذا الوضع المائل يضطر الرأس إلى الانحناء إلى اليسار وإلى الأمام وتقترب العينان من الورق فيضعف البصر فأخط باحناء الجسم يورث انحراف سلسلة الفقار والحسر (ضعف البصر). أما الخط يجعل الجسم مستقيماً والورق أمام الكاتب مستقيماً فتستقيم به بالطبع وضعة الجسم والرأس وسلسلة الفقار ولاينشأ عن ذلك ضيق ولا انحراف ولاعائق يضر بالصدر وقد كاد هذا الرأي يعم الأساتذة والتجار والصناع ولذلك قامت هذه الجمعية تدعو إلى تعليم الكتابة والأجسام مستقيمة والاستقامة شرط في كل شيء لا في الكتابة فقط.
فائدة الدموع
ادعى أحد الأطباء أن إرسال العبرات مفيد لصحة الباكي فكتب أحد مشاهيرهم مقالة في تأييد رأي صاحبه قال فيها: أن الدموع تجري في حالتين متناقضتين الحزن الشديد والفرح العظيم ففي الحزن يصحبها صراخ وعويل وفي السرور يشفعها ضحك وقهقهة وإذا نظرنا في طبيعة الإنسان الضاحك وطبيعة الباكي يتجلى لنا كيف يضحك ويبكي من خد واحد.
ليس الضحك الشديد من حيث النظر الفسيولوجي إلا تأثيراً وجهداً ففي حالتي الجهد والضحك تنقبض الأعصاب فتطبق فتحة الحنجرة ثم تخفض الحجاب الحاجز وتقف حركة(35/79)
الأعصاب التي يكون من تحركها تحريك الترقوة ثم يزيد الضحك فنستعين بتحريك أعصاب أخرى فتنثني سوفنا وأفخاذنا وننكث بأرجلنا الأرض.
ويتخلل التنفس شيء من الوقوف ولكنه لايزيل حالة الإغماء التي تحدث في الضاحك ويكفيك أن تنظر إلى عروق جبهته كيف تنتفخ وإلى شفتيه كيف تكلح وإلى وجهه كيف يحمر لتدرك الانقباض الشديد الذي يصيب دماغه وعندما تنقبض الأوداج الخارجة بكثرة الضحك وينقلب الدم من الودج الأصلي إلى الودج الداخلي ويتراكم على الدماغ فيطفح هذا بالدم الذي لايجري بما يحول دونه ودون التنفس وينفجر بما يدفق الدم الشرياني الواصل إليه بواسطة عصب البصر الواقع بين الودجين يتجه الدم نحو الدماغ من جهة العيون ويحقن الملتحمات والغدد الدمعية وعندها تفيض الدموع بتواتر الدم على تلك الصورة بمعنى أن الغدد الدمعية تحيل الدم الذي ينهال عليها إلى دموع لأن تركيب الدموع كتركيب الجزء السائل من الدمع. وفي تلك الحال يؤثر جريان الدمع في الدماغ المحتقن على صورة فصد أبيض يفصل دماغ الضاحك الذي يوشك أن يغمى عليه بما يتواتر إليه من الدم.
والدموع نافعة في حالة الحزن ولكن عملها في تلك الحالة مخالف لعملها في حالة السرور فإن كان الدماغ يحتقن في حالة الضحك فإنه يقل دمه في حالة الحزن فجريان الدموع على صورة فصد لايزيد الدم إلا فقراً في المراكز العصبية ولكن هذا الفقر في الدم ينتج ضرباً من ضروب السبات في الدماغ ونوعاً من الكسل الطبيعي وقلة المبالاة والإحساس في الدماغ فيقل بذلك التأثر من المصاب أو الألم. وقلة الإحساس هذه في تخفيف ما أصاب المرء أشبه بمخدر صناعي كالكلوروفورم والإثير والكحوا فيضيع الحزن في العبرات كما يضيع في الكحول. ومن العجيب أن التقطيب الذي نقطبه عندما نبكي يحدث من انقباض الأعصاب الذي تفعل فعلها في الغدد الدمعية والشرايين البصرية وجميع أعصاب الجفون والأهداب وغيرها إذا انقبضت تؤثر في الغدد الدمعية وهكذا كانت الدموع فرجاً للمحزون كما هي فرج للطفل وسلامة دماغه فهو لها نعم المخدر وأحسن مداوٍ من الاضطرابات كما يرى في النساء أيضاً وهن لا يقللن عن الأطفال بتأثراتهن.(35/80)
مكتبة الاسكندرية
لما ظهر (الكتاب الذي تكلمنا عليه في فصلين إضافيين (صفحة 376 و 457) من مقتبس هذه السنة أُعجبنا به وبما ظهر من أنصاف مؤلفة في كلامه على حريق مكتبة الاسكندرية الذي نسبه بعضهم وزراً لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فبادرنا إلى كتابة كلمات للمؤلف العالم نشكر له حسن صنيعه فجاءنا منه الكتاب الآتي ننشره بحرفه تتمة لهذا المبحث الذي خبط فيه بعضهم تقليداً وبعضهم تعصباًُ قال حفظه الله:
وهذا تعريبه باريز في 14 أغسطس (آب) 1908
سيدي
كان لما أظهرتموه في كتابكم وأبديتموه من عواطف ودكم موقع كبير من نفسي على نحو ما كان لما تفضلتم به عليّ في رسالتكم من الثناء على تأليفي (الكتاب) فثقوا كل الثقة من أني أعد هذا المديح أحسن مكافأة على عملي وأغلى باعث على التنشيط الذي أطال إلي نيله.
لشد ما استحكم الوهم التاريخي زمناً بشأن عمر ومكتبه الاسكندرية وهاهو آخذ بالاضمحلال. أما أنا فقد اغتبطت بماسخ لي من الفرصة فكنت من العاملين على مكافحة هذا الوهم وأثبت بالبراهين التي وصلت يدي إليها مااعتقدت أنه هو الحقيقة. وتفضلوا إلخ
التوقيع
البرسيم(35/81)
العدد 36 - بتاريخ: 1 - 1 - 1909(/)
الحافظة والحفاظ
أي نعمة ينالها المرء أعظم من أن تعي ذاكرته كل ما تريد وعيه وتدخره إلى ساعة حاجة للانتفاع به. الحافظة من العوامل المؤثرة في ترقية الأفراد والجماعات وبدونها يصعب الوصول إلى إدراك الحقائق وتمحيصها لانا إذا لم نستعن في كل مطلب من مطالب الحياة بتجارب من سبقونا ونحفظ المأثور عنهم لننسج على منواله كنا أشبه بمن يريد أن يبني له يوم بناء وظلت العلوم والصناعات والآداب في طفولتها الأولى تجري على نظام مضطرب إذ يكون كل امرىء وما يختار.
والذاكرة والحافظة حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أموراً مضت وتأثرت وقعت فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف (1532 ـ 1592) وعاء العلم وصوان الحكمة. وقال لارشفوكلد الكاتب (1615 ـ 1680) جميع الناس يشكون من حافظتهم وما قط شكا أحد من عقله. وقال آخر: إن الذكاء بدون حافظة أشد بغربال لايكاد يمسك ما تضعه فيه. وقال أحدهم: الحافظة واسطة من وسائط الكمال وبدونها لا يستطيع امرؤ أن يقلد شيئاً وينسج على منواله. وقال لاكورنيل الشاعر: يجب لمن يعتمد الكذب أن يكون ذا ذاكرة جيدة. وهذا مثل قولهم إذا كنت كذوباً كم ذكوراً. وقال بيكته الأديب السويسري (1799ـ 1875): لقد كان للحافظة شأن مهم جداً عند الناس في العصور الأولى أكثر مما صار لها في القرون اللاحقة. كانت الحافظة قبل اختراع الكتابة هي التي تتولى خاصة نقل التقاليد الوطنية والدينية وعامة القوانين والعادات والشعر ولذلك كانت هذه الحاسة التي قلما نحفل الآن بأمرها عند قدماء الآريين مشابهة للفكر نفسه. اختلفت مذاهب الفلاسفة فيما إذا كانت الحافظة حاسة قائمة بذاتها أو فيما إذا كان لكل حاسة فينا ذاكرة معينة ومعظم الحكماء وعلما النفس على أن الحافظة حاسة مستقلة عن بقية حواس الإنسان ولا يكاد أحد يدرك كيف تعي الحافظة الأرقام والأعداد وتحفظ العبارات والمفردات وتحكم اللغات واللهجات وتردد الألحان والأصوات. ويقول علماء النفس أن الشروط النفسية اللازمة لجودة الذهن متوقفة على جودة تركيب أنسجة الدماغ وحسن تغذية هذه الأنسجة. والتعب والشيخوخة من العوامل المؤثرة في ضعف الحافظة لأنهما ملازمان لضعف تغذية هذه الأنسجة ولذلك قالوا درجة الحافظة لا تختلف بحسب الأشخاص بل تختلف في الشخص الواحد في أدوار مختلفة من حياته وإذا صرفنا النظر عن الآفات العضوية التي تضر بها فمن هناك أيضاً(36/1)
أحوالاً أقل منها تزيدها ضعفاً إلى ضعفها مثل اضطرابات المعدة وسوء الهضم والشقيقة فإن جميع هذه العوارض على الجسم تغيرها تغييراً محسوساً.
ولتركيب الدماغ وحالته تأثير ظاهر في الحافظة فقد ذكر بلين الطبيعي الروماني أن رجلاً نسي حتى رسائله بعد أن أصيب بشجة في رأسه. وزعم البابا كليمان السادس أن حافظته قويت قوة عجيبة عقب أن أصيب برضة شديدة في دماغه. وكيفما كانت الحال فللتمرين يد طولي في تخصيص الحافظة بشيء معين فالممثلون تقوى فيهم الملكة الحافظة الشفاهية وهي من اللوازم لهم في صناعتهم ورجال الشرطة تقوى فيهم الحافظة في تذكر صور الأشخاص وليس البشر كلهم سواء في الحفظ والاستظهار فمنهم من يحفظون الأشكال الهندسية وهم اللذين خلقوا رياضيين بالفطرة ومنهم من يرزقون حافظة قوية في الأنغام كالموسيقيين. وغيرهم في ذلك من الناس من يذكرون الكلمات بسرعة غريبة ومن الأطفال من تقرأ لهم بصوت عال عدة صفحات فيستظهرونها في الحال ويتلونها على مسامعك لأول مرة. وتذكر الألفاظ خاصة يمتاز بها الأولاد في العادة أكثر من الكبار في السن ممن لا تكون قويت فيهم حاسة التفكر فيحفظون الكلمات التي يسمعونها على أيسر وجد بدون أن يفهمونها والسبب في سهولة الحفظ عليهم فقدان قوة التفكر فيهم وعندما يبدأ التفكر في معظم الناس تضعف الحافظة فيهم وقد تزول من بعضهم. والحافظة الشفاهية إذا كانت هي وحدها في الإنسان لا تكون له سبيلاً إلى التفكر ومن فقد الأولى فلا يأسف لحاله لأنه يستطيع بقوة التفكر أن يأتي بالجيد من الأفكار ولكن الحافظة وحدها قد تكون من أكبر العوائق عن جودة التصور.
وبعد فإن للحافظة شأناً عرقية الفكر الإنساني وبدونها يكون كل شيء عقيماً لا ثمرة لأنها واسطة لبقاء الأفكار التي صدرت وأحسن ذريعة للحصول على أفكار جديدة ولم يعرف القانون الذي تسير عليه كما أن جوهرها لم يدرك الباحثون حقيقته وغاية ما عرف من أمرها أنها بالانتباه والتمرن وأن الكسل ابن الترف والكسل يجرح الحفظة أن لم نقل يقتلها.
ذكر التاريخ كثيرين من رباب الحافظة النادرة فمنهم في القديم ميتر يدانس الكبير ملك شمالي غربي آسيا الصغرى (123ـ 63 ق. م) فقد كان يحكم على اثنين وعشرين أمة مختلفة ويخطب أمام كل منها بلغتها ويدعو كل واحد من جنده باسمه. وذكروا مثل ذلك عن(36/2)
قورش ملك الفرس وليموسنقلس وسيبيون الآسياوي وإلا إمبراطور أدريان ويقال أن مزية الحافظة هيأت لاوتون الروماني تولي الملك. وتعلم ليموسنقلس اللغة الفارسية في سنة وكان ليبس اللغوي الأديب البلجيكي (1547ـ 1606) يحفظ تاريخ تاسيت المؤرخ اللاتيني بألفاظه حرفاً بحرف وقد قال أنه يرضى أن يقف جلاد وبيده سيف على رأسه وهو يتلو هذا التاريخ فإذا أخل بحرف واحد يضرب عنقه.
وكان لرينودي بون حافظة سعيدة يذكر جميع الأبيات اللاتينية واليونانية التي قرأها في صباه ويتلو صفحات برمتها من ديوان هوميروس وان كان مضى عليه أربعون سنة وهو لم ينظر فيه نظرة واحدة. وكان هوج دونو الفقيه المشهور في القرن السادس عشر يستظهر القوانين المعروفة في عصره بالحرف الواحد. وحفظ يوسف سكاليجة الأديب (1540ـ 1609) الإلياذة والاوذيسية في أحد وعشرين يوماً. ومن ألطف ما يروى في باب الحافظة أن أحد الفلاحين في فرنسا جاء إلى باريز يقصد صاحباً قديماً له قد استلف منه خمسة فرنكات منذ خمسة عشرة وطلب إليه أن ينقده ماله فتركه وعاد فدفع إليه ليرة واحدة وخمسة فرنكات وقال له: هذا يا صاح قد كنت نلت وأنا في المدرسة ليرة جائزة عن حافظتي فرأيتك أحد مني ذاكرة وأنك أحق بهذه الجائزة مني.
ليس في الدنيا خير محض فقد اخترعت الطباعة منذ نحو خمسمائة سنة فعم نفعها أهل الأرض كافة ولكن ما عتمت أن نتج عنها بعض شر إذ أصبح الناس يعتمدون على الكتب في جماع علومهم وآدابهم بعد أن كان جل اعتمادهم على محفوظاتهم ومخطوطاتهم. والغالب أن الاعتماد على الحافظة والحفاظ كان في الإسلام على أشد قبل تدوين الكتب وتأليف الرسائل والمصنفات ولما بلغ بعض الأئمة تدوين الكتب أسفوا وعدوه من دواعي تقهقر العلم وانقطاع سند الرواية وما زالت الحال ترتقي بعض الشيء في بعض الأعوام ثم يزهد في الحفظ حتى انتشرت الطباعة في بلادنا بانتشار الصناعات الفكرية فأمسى الناس يستندون إلى السطور بدل الصدور والقراطيس والأسفار بدل الحفظ والاستظهار فضعفت بهذا الضعف الحافظة وان قويت المفكرة وقلت الرواية وان لم تقل الدراية.
انقطع سند الحفظ إلا في بعض ما لا يسع الأمة جهله من القرآن وعلومه فأخذ بعضهم يفتاتون على من عرفوا قديماً بسعة محفوظهم ويزيفون ولكن بدون برهان ما رواه طائفة(36/3)
الراوين من أبناء الأذكياء الحافظين. ولو صح الاعتماد على إلقاء الكلام على عواهنه في هذا الباب إذاً لسقط التاريخ وارتفعت الثقة من كل خبر حتى من مجيء الرسم وحروب الملوك ودثور الشعوب والمدن وما إليها. وما أشبه من يكذب بادىء الرأي بلا دليل قاطع بمن يؤثر الهدم على البناء. وشتان بين المخرب والمعمر والمتلف والمخلف والمفسد والمصلح.
ما عُنيت امة بتدين دينها وحفظه ولغتها وضوابطها عناية المسلمين بدينهم ولغتهم فكان أمر حفظة الكتاب العزيز ما اشتهر في كل مصر وعصر ولا يزال في البلاد اثر من آثر تلك العناية. أما الأحاديث فقد عنوا بها قديماً وجمعوا أشتاتها وبينوا صالحها من موضوعها وضعيفها من قويها مما يدركه كل من كان له إلمام بالمراجعة ونظر في كتب القوم.
لم يكن العلم في القرون الأولى للإسلام بالإرث ولا بالمظاهر ولا بالوساطات والشفاعات بل كان بالاستحقاق وكدّ القرائح سير على قوانين بقيود وروابط ولذلك لم يكن ينال لقب حافظ من لم يحفظ ألوفا من الأحاديث بأسانيدها فقد كانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد رواية ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه والعالم على من يعلم المتن والإسناد جميعاً والفقيه على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد والحافظ على من يعرف الإسناد ولا يعرف المتن والراوي على منة يعرف المتن ولا يعرف الإسناد. وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى. والمحدث من عرف الإسناد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند أحمد بن حنبل وسنن البيهقي ومعجم الطبراني هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين. وكان السلف يستمعون فيقرون فيرحلون ويحفظون فيعملون قال بعضهم.
إن الذي يروي ولكنه ... يجهل ما يروي وما يكتب
كصخرة تنبع أموالها ... تسقي الأراضي وهي لا تشرب
سأل تقي الدين السبكي الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل الذي جاز له أن يطلق عليه الحافظ قال: يرجع إلى أهل العرف فقلت وأين أهل العرف(36/4)
قليل جداً قال: اقل ما يكون الرجال اللذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من اللذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب فقلت له: هذا عزيز في هذا الرمان أدركت أن أحداً كذلك فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة. قال فتح الدين بن سيد الناس وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل في الحديث رواية ودراية وجمع رواة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من علل طبقته أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك بحسيب أزمنتهم.
وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث قيل له وما يدريك قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب: احفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. وقال الحاكم في المدخل: كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث سمعت أبا جعفر الرازي يقول سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول كنت عند اسحق ابن إبراهيم بنيسابور فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول صح من الحديث سبعمائة ألف وكسروا هذا الفتى يعني ابا زرعة قد حفظ سبعمائة ألف حديث. قال البيهقي: أراد ما صح من الأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين وقال غيره: سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل يحنث قال لا. ثم قال: احفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة قل هو الله أحد وفي المذاكرة ثلثمائة ألف حديث وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان يحفظ مائة وأربعين ألفاً في التفسير والقرآن. وكان اسحق بن راهوية يملي سبعين ألف حديث حفظاً وأسند ابن عدي عن ابن شبرمة عن الشعبي قال: ما كتبت سواداً في بيضاء إلى يومي هذا ولا حدثني رجل بحديث قط الا حفظته فحدثت بهذا الحديث اسحق بن راهوية فقال: تعجب من هذا قلت: نعم قال: ما كنت لأسمع شيئاً إلا حفظته وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث او قال أكثر من سبعين حديث في كتبي. واسند عن أبي داود الخفاف قال: سمعت اسحق ابن راهوية يقول: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي(36/5)
وثلاثين ألفاً أسردها. وأسند الخطيب عن محمد بن يحيى بن خالد قال: سمعت اسحق بن راهوية يقول: أعرف مكان مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي. حفظ أربعة آلاف حديث ضرورة وقال عبد الله أحمد بن حنبل قال أبي الداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع: كان يحدثكم إسماعيل بن عباس هذه الأحاديث بحفظه قال: نعم ما رأيت معه متاباً قط قال له: لقد كان حافظاً كم كان يحفظ قال شيئاً كثيراً قال: كان يحفظ عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف فقد كان أبي هذا كان مثل وكيع. وقال يزيد بن هرون احفظ خمسة وعشرين ألف حديث وقال الآجري: كان عبد الله بن معاذ العنبري يحفظ عشرة آلاف حديث.
قال السبكي لم تر عيناي احفظ من أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي والوالد وغالب ظني أن المزي يفوقهما في العلل والمتون والجرح والتعديل مع مشاركة كل منهم لصاحبه فيما يتميز عليه المشاركة البالغة سمعت شيخنا الذهبي يقول: ما رأيت أحداً في هذا الشأن حفظ من الأمم أبي الحجاج المزي وبلغني عنه أنه قال ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد والدمياطي وابن تيمية والمزي فالأول أعرفهم بالعلل وفقه الحديث والثاني بالأنسب والثالث بالمتون والرابع بأسماء الرجال. وكان الدمياطي يقول: ما رأى شيخنا أحفظ من زكي الدين عبد العظيم وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي بن المفضل ولا رأى ابن المفضل أحفظ من الحافظ عبد الغني ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني ألا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر ولا رأى ابن عساكر والمديني أحفظ من أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفاضل محمد بن طاهر المقدسي ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر بن ماكولا ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبين بكر الخطيب ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم وأبو نعيم ما لرأى أحفظ من الدارقطني وأبي عبد الله بن مندة ومعهما الحكم مكان ابن مندة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي اسحق بن حمزة الأصبهاني وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحي بن زهير القشيري وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي وأما الدارقطني فما رأى أحفظ من نفسه وأما الحاكم فما رأى أحفظ من الدارقطني بل وكان يقول الحاكم ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر ابن الجعابي وما رأى الثلاثة أحفظ من(36/6)
أبي العباس بن عقدة ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي ولا رأى النسسائي مثل اسحق بن راهويه ولا أرى أبو زرعة احفظ من أبي بكر أبي شيبة وما رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة وما رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري ولا رأى البخاري فيما ذكر مثل على بن المديني أولا رأى أيضاً أبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود مثل أحمد بن حنبل ولا مثل يحيى بن معين وابن راهويه ولا
رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطان ولا أرى هو مثل سفيان ومالك وشعبة ولا رأوا مثل أيوب السختياني نعم ولا رأى مالك مثل الزهري ولا رأى الزهري مثل ابن المسيب ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين ولا رأى مثل أبي هريرة نعم ولا رأى الثوري مثل منصور ولا رأى منصور مثل إبراهيم ولا رأى إبراهيم مثل علقمة ولا رأى علقمة كابن مسعود.
هذا كان مبلغ القوم في حفظ الحديث وروايته على كثرة المتشابه فيه وتوفر الأسانيد والرواة بحيث لو أراد أحد لهذا العهد أن يحفظ شيئاً مما كانوا يحفظونه لاختار استظهار اللغة الصينية واستسلها أكثر وذلك لضعف الحافظة من هذا المعنى وانقطاع سند هذه العلوم الجليلة إلا قليلاً.
كان الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون من أعيان حفاظ الإسلام قال ابن عساكر أنه أحفظ شيخ لقيه وشيوخ ابن عساكر زهاءُ ألف ومائتي شيخ وكان الفقيه أعلم الدين القمني يحفظ ما يسمعه من مرة واحدة. وكان الشافعي من أحفظ أهل دهره قضى عشرين سنة في تعلم الأدب والتاريخ وقال ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه ويروى أنه نظر في دريد صاحب المقصورة من علماء اللغة كان آية من آيات الله في اتساع صدره للرواية تقرأ عليه دواوين العرب فيسارع إلى إملائها من محفوظه.
وقيل أن أحمد بن حنبل إمام المحدثين كان يحفظ ألف ألف حديث. قال سعيد بن جبير من أعلام التابعين قرأت القرآن في ركعة البيت الحرام وقال اسمعيل بن عبد الملك كان سعيد بين جبير يؤُمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءَة غيره هكذا أبداً ولا عجب وهو الذي قال فيه أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا هو مفتقر إلى علمه.(36/7)
وكان على الرازي يقول من فهم الكتاب (يعني الجامع الصغير لمحمد) فهو من أصحابنا ومن حفظه كان أحفظ أصحابنا وأن المتقدمين من مشايخنا كانوا لا يقلدون أحداً القضاءَ حتى يمتحنوه فإن حفظه قلدوه القضاء وإلا أمروه بالحفظ. وذكر صاحب نفح الطيب أنه كان خارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص تكن الفتيا في الأحكام والشرائع له وكان لا يجعل القالص منهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث والمدوّنة.
كان بديع الزمان الهمذاني يحفظ خمسين بيتاً بسماع واحد ويؤديها من أولها إلى آخرها وينظر في كتاب نظراً خفيفاً ويحفظ أوراقاً ويؤديها من أولها إلى آخرها وينظر الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذها عن ظهر قلبه هذّا ويسردها سرداً وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها. وكان أبو رياش أحمد بن إبراهيم من رواة الأدب يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة وعشرين ألف بيت شعر إلا أن أبو محمد المافروخي بزَّ عليه لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة فتذاكرا أشعار الجاهلية وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها فيقول أبو محمد إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها فينشد معه ويتناشدان إلى آخرها ثم أتى أبو محمد بعدة قصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما ـ قاله ياقوت في معجم الأدباء.
وكان الحفظ في كل فن شائعاً بين أهل الأدب وطلاب العلم على اختلاف ضروبه عند العرب على نحو ما يتضح من تصفح سير رجالهم ولو لم يكن استناد المؤلفين في الأغلب الأعلى ما في لوح محفوظهم لما تيسر لهم أن يؤلف أحدهم عشرات من المجلدات يعجز العالم اليوم عن نسخها وعن تصفحها.
فقد كان العرب قبل البعثة يروون قصائد شعرائهم وأغاني حداتهم كما يؤخذ من اجتماعاتهم في سوق عكاظ ومِربد البصرة ولم تكن بضاعتهم من ذلك كثيرة لأن أمراء الكلام لم ينبغوا إلا في الإسلام بظهور نور النبوة وفصاحة الكتاب العزيز. ولقد كان الراوية والنسابة ينشد عشرات بل مئات من القصائد كما يحفظ أحدنا لها العهد الأبيات القليلة غير متعلثم ولا متردد. خذ مثالاً لذلك حماد الرواية المتوفى سنة 155 فقد كان على قلة بضاعته من(36/8)
العربية يروي المئات من القصائد للجاهلين والمخضرمين كما يروي فاتحة الكتاب ويذر أشعار العرب وأيامهم وأنسابهم ولغاتهم كأنه يروي قصة وكان ملوك بني أمية يرجعون إليه في هذا المعنى ويحلونه منزلة عالية من الآجلة والإكرام روى الوليد ابن يزيد الأموي قال له يوماً وقد حضر مجلسه: بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم من المحدث فقال: ثم فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال: كثير ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام قال سأمتحنك في هذا ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفى عليه فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم ونوادره كثيرة.
وكان الأصمعي المتوفى سنة 211 أو قبلها صاحب لغة ونحو وإماماً في أخبار العرب وملحهم وغرائبهم قال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة وقال اسحق الموصلي: لم أرَ إلا الأصمعي يدعي شيئاً من العلم فيكون أحداً أعلم به منه وحضر يوماً عند الفضل بن الربيع هو وأبو عبيدة معمر بن المثنى فقال له: كم كتابك في الخيل فقال الأصمعي مجلد واحد فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلدة فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً عضواً منه وسمه فقال: لست بيطاراً وإنما هذا شيءٌ أخذته عن العرب فقال للأصمعي: قم وافعل أنت ذلك فقام الأصمعي وامسك ناصيته وشرع يذكر عضواً عضواً ويضع يديه عليه وأنشد من قالت العرب فيه إلى أن فرغ منه قال: أبو حمدون الطيب بن إسماعيل شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريباً من ألف جلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصة ويكون ذلك نحو عشرة آلاف ورقة لأن تقدير الجلد عشر ورقات.
قال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهم الخنساءُ وليلى فما ظنك بالرجال. قلت ولذلك جاء شعر أبي نواس أحسن شعر المولدين كما شهد له بذلك أصحاب الشأن في هذه الصناعة وفي مقدمتهم الجاحظ الذي فضل شعره على شعر العرب(36/9)
العرباء قال اسمعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علماً من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطراً فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو.
قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب دخل أبو عمرو اسحق بن مراد الشيباني البادية ومعه دستجيتان من حبر فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب وكان أبو عمرو علاماً بأيام العرب جامعاً لأشعارها ويروي عن عمرو بن أبي عمر وقال: لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفاً وثمانين قبيلة وكان كما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً بخطه ويحكى أنه أخذ عن المفضل الضبي ودواوين العرب وسمعها منه أبو حيان وابنه عمرو بن أبي عمرو وحكى أبو العباس قال كن مع أبي عمرو والشيباني من العلم والسماع أضعاف ما كان مع أبي عبيدة ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم قال سلمة: أملى الفراءُ كتبه كلها حفظاً لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة وكان مقدار الكتابين خمسين ورقة. ويقال أن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة وكان الخليل يحفظ نصف اللغة وكان أبو فيد يحفظ الثلثين وكان أبو مالك يحفظ اللغة كلها وكان الغالب على أبي مالك حفظ الغريب والنوادر. وكان ابن الأعرابي أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي سمعت من ألف إعرابي خلاف ما قاله الأصمعي.
وكان قتادة عالماً نحريراً وأجمع الناس في أشعار العرب وأنسابهم وقال أبو عبيدة: ما كنا نفقد في كل يوم راكباً من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر وكان من أنسب الناس. وكان ابن الكنبي النسابة واسع الرواية من أعلم النسب بالنسب وكان من الحفاظ المشاهير قال: حفظت ما لم يحفظه أحد ونسيت ما لم ينسه أحد. كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن فدخلت بيتاً وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن فحفظته في ثلاثة أيام وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفاً وتوفي سنة 204.
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارهم وأشعارهم قال(36/10)
الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه ومع أن كان يلحن ويخطي: إذا قرأ القرآن وإذا أنش بيتاً لا يقيم وزنه وإذا تحدث أو قرأ لحن اعتماداً منه لذلك فقد صنف قرابة مائة مصنف وكان يرى رأي الخوارج ولذلك كثر الطاعنون في نسبه ومشربه ومذهبه وتوفي سنة 209.
كان أبو المحاسن الرُّوياني المتوفى سنة 502 من رؤوس الأفاضل في أيامه يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري. وقال أبو بكر النحوي: لما قد أحسن بن سهل العراق قال: أحب أن أجمع قوماً من أهل الأدب فأحضر أبا عبيدة والأصمعي ونصر ابن علي الجهضمي وحضرت معهم وأفضنا مرة في ذكر الحفاظ فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا فالتفت أبو عبيدة فقال: مال الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول ما قرأ كتاباً قط فاحتاج إلى أن يعود فيه ولا دخل قلبه شيءٌ فخرج عنه فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير والأمر في ذلك على ما حكى وأنا أقرب إليك قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع ـ وكان نظر قبل أن يلتفت إليهم في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها فكانت خمسين رقعة ـ وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة قال فأمر وأحضرت الرقاع قال: الأصمعي سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل ابقِ على نفسك من العين فكف الأصمعي.
ومالي وتعداد الأسماء على هذا النحو فكتب القوم طافحة بها وإنما يكفي منا التمثيل والقليل يغني. ولقائل أن هذا القدر من الحفظ كان بعضه شائعاً في القرنين الأولين والقرون الثلاثة وقد بالغ فيه الرواة حتى اتصل بنا على هذه الصورة وما حجتي في نقض هذا إلا وقوع أمثال أمثاله في كتب أهل القرون المتأخرة مما تواطأ الثقات على نقله وتحرزوا في إثباته. ولقد كان الغرب في هذه المزية كالشرق إذ قد حذا المغاربة في حضارتهم وعلومهم حذو المشارقة. فقد كان ابن عبدون أحد فحول شعراء الأندلس وكتابها متكثراً من الحفظ. قال الوزير أبو بكر بن زهر فبينما أنا قاد في دهليز دارنا وعندي رجل شيخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني فجاءَ الناسخ بالكراريس التي كتبها فقلتُ له: أين الأصل الذي كتبت عنه لأقابل معك به قال: ما أتيت به معي فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل رجل بذ الهيئة عليه(36/11)
ثياب غليظة أكثرها صوف وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان وقال لي: يا بني استأذن لي على الوزير أبي مروان فقلت له: هو نائم هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف حملتين على ذلك نزوة الصبا وما رأيت من خشونة هيئة الرجل ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بيديكم فقلت له: ما سؤالك عنه فقال: أحب أن أعرف اسمه فإني كنت أعرف أسماء الكتب. فقلت هو كتاب الأغاني فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه قلت: بلغ موضع كذا وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه فقال: وما لكاتبك لا يكتب قلت: طبعت الأصل منه الذي يكتب من لأعارض به هذه الأوراق فقال: لم أجيء به معي فقال: يا بني خذ كراريسك وعارض قلت: بماذا وأين الأصل قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي قال: فتبسمت من قوله فلما رأى تبسمي قال يا بني أمسك عليّ قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ فو الله إن أخطأ واواً ولا فاءً قرأ هكذا نحواً من كراسين ثم أخذت له في وسط السفر وآخره فرأيت حفظه في ذلك كله سواءً فاشتد عجبي وقمت مسرعاً حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر ووصفت له الرجل فقام كما هو من فوره وكان ملتفاً برداءٍ ليس عليه قميص وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه ويقول: يا مولاي اعذرني فو الله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة وجعل يسبني والرجل يحفض عليه ويقول: ما عرفني وأبي يقول: هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأب. ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلاً ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافياً حتى بلغ الباب وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت وحلف عليه ليركبنها ثم لا ترجع إليه أبداً فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا العظيم قال لي: اسكت ويحك هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الأدب هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر محفوظاته كتاب الأغاني ـ رواها المراكشي.
وروى أيضاً قصة تشبهها قال: أنه لزم أبا جعفر الحميري آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس المتوفى سنة 610 نحواً من سنتين فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة من أدرك جلة من مشايخ الأندلس فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب وأعانه على ذلك طول عمره وصدق محبته وإفراط شغفه بالعلم قال لي ولده عصام وقد رأيت عنده نسخة من(36/12)
شعر أبي الطيب قرئت عليّ أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة فقلت له: لقد كتبتها من أصل صحيح وتحرزت في نقلها فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصح من الأصل الذي كتبت منه فقلت له: أين وجدته قال هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا وكنا في المسجد في زاوية فقلت له: أين هو فقال لي: عن يمينك فعلمت أنه يريد الشيخ فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ فقال لي: هو أصلي وبإملائه كتبت كان يملي عليَّ من حفظه فجعلت أتعجب فسمع الأستاذ حديثنا فالتفت إلينا وقال: فيم أنتما فأخبره ولده بالخبر فلما رأى تعجبي قال: بعيداً أن تفلحوا يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي والله لقد أدركت أقواماً لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظاً ولا يرونه مجتهداً.
ومن نظر فيما أُثر عن الأندلسيين وحدهم من هذا القبيل يكتب أوراقاً كثيرة وكنت قرأت في الاستقصا أن من جملة من غرق مع السلطان أبي الحسن لما قصد المغرب في البحر بأسطوله الغريق وكان مؤلفاً من نحو ستمائة قطعة مع من غرق من الفقهاء والعلماء والكتاب والإشراف أبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث يا أبا عمير ما فعل النغير أربعمائة فائدة.
وقيل أن صدر الدين بن الوكيل ويعرف عند المصريين بابن المرجل من أئمة الشافعية حفظ المفصل في مائة يوم ويوم والمقامات الحريرية في خمسين يوماً وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة.
وذكر المقريزي عن حكايات أهل الأندلس في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ اشبيلية بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية لأشعار والأخبار قال ابن سعيد: أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساءِ اشبيلية فجرى ذكر حفظه وكان ذلك في أول الليل فقال لهم: إن شئتم تخبروني أجبتكم فقالوا له: بسم الله إنا نريد أن نحدث عن تحقيق فقال اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا فاختاروا القاف فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن (أرق على أرق ومثلي يأرق) وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما فارق قافية القاف وقال أبو عمران بن سعيد: دخلت عليه يوماً بدار الإشراف باشبيلية وحوله أدباءٌ ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكورة فمنعه من أحد الأدباء فقال:(36/13)
يا أبا عمران أواجب أن يمنعه منى وما يحفظ منه بيتاً وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة فقال اسمعوني. وأمسكوه فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه فأقسمنا عليه أن يكف وشهدنا له بالحفظ وكان آية في سرعة البديهة مشهوراً بذلك قال أبو الحسن ابن سعيد: عهدي به في اشبيلية يملي على أحد الطلبة شعراً وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلاً كل ذلك ارتجالاً.
ل ابن خلكان: كان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أرَ قط من يحفظ مثله ويحفظ دون ذلك من علوم آخر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وذكر صاحب الصبح المنبي أن العلم الفرد في قوة الحافظة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ولقد شرط الملك المعظم عيسى لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة فحفظه لهذا السبب جماعة.
قال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون عليَّ الغريب المصنف فقلت انظروا من يقرأ لكم وأمسكت أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده (وهو صاحب المخصص في اللغة الذي طبع مؤخراً) فقرأه عليَّ من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه. ولقد لازمن ثعلب ابن الإعرابي فما رآه نظر في كتاب. وأخبار الأصمعي في الحفظ والرواية أشهر من أن تذكر وكذلك خلف الأحمر والكلبي وعبيد ودعبل. وكان أبو تمام لا يلحق في محفوظاته وقيل أن كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع. قال أبو الحسن محمد بن علي العنوي كان المتنبي يلازم الوراقين فأخبرني وزان كان يجلس إليه: قال ما رأيت أحفظ من هذا الفتى بن عبدان السقا (المتنبي) قلت له: كيف قال اليوم كان عندي وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي يكون نحواً من ثلاثين ورقة لبيعه فأخذه فنظر فيه طويلاً فقال له الرجل أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون إن شاء الله تعال بعد شهر قال فقال له ابن عبدان: فإن كنت قد حفظته في هذه المدة فمالي عليك قال: أهب لك الكتاب قال: فأخذته من يده فأقبل يهذه عليَّ إلى آخره ثم استلمه فجعله في كمه وقام فتعلق به صاحبه طالباً بماله فقال ما إلى ذلك سبيل وقد وهبته لي قال: فمنعناه منه وقلنا: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام فتركه(36/14)
عليه. والأمثلة كثيرة في هذا الباب والله أعلم.(36/15)
حماسة الخالديين
الخالديان أخوان شقيقان من أهل القرن الثالث كتبا بعض المؤلفات ونسبت إليهما آداب وغرر ولم يكونا يفترقان في حال من الأحوال ولا نعرف في أدباء العرب شقيقين آخرين اتفقا على إخراج بنات أفكارهما في مجلد واحد كما اتفقا على الخروج من بطن واحد إلا أولئك الأدباء الأخوة المشهورون عند الفرنسيس باسم كونكور وبول وفيكتور مارغريت ورسني.
قال الثعالبي في اليتيمة: أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان: أن هذان الساحران يغربان بما يجلبان ويبدعان فيما يصنفان وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب مثل ما ينظمهما من أخوة النسب فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة ويشتركان في قرض الشعر وينفردان ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان وكانا في التساوي والتشابك والتشاكل والتشارك كما قال أبو تمام:
رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاءِ
بل كما قال البحتري
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد
بل كما قال أبو اسحق الصابي فيهما:
أرى الشاعرين الخالديين سيرا ... قصائد يفنى الدهر وهي تخلد
جواهر من إبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصر
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومر جدال بينهم يتردد
فطائفة قالت سعيد مقدم ... وطائفة قالت لهم بل محمد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلا بالتي هي أرشد
هما في اجتماع الفضل زوج مؤلف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد
كذا فرقدا الظلماء كلا ... علاً أشكلا هل ذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله في اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقدا الأرض فرقد
وما أعدل هذه الحكومة من أبي اسحق فما منهما إلا محسن ينظم في سلك الإبداع ما فاق وراق ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الإفراد من شعراء الشام والعراق وقد ذكرت ما شجر بينهما(36/16)
وبين السري في شأن المصالتة والمسارقة وما أقدم عليه من دس أحسن أشعارهما في شعر كشاجم وكان أفضل الشام والعراق إذ ذاك فرقتين إحداهما وهي في شق الرجحان تتعصب عليه لهما لفضل ما رزقاه من قلوب الملوك والأكابر والأخرى تتعصب له عليهما. ثم أورد صاحب اليتيمة من أشعارهما ما هو السحر الحلال وما اتفق لهما من التوارد مع السري أو التسارق في زهاء عشرين صفحة. وقد ظفرنا للخالديين بكتابهما الحماسة أو الأشباه والنظائر فرأيناه جمع فأوعى من شعر الجاهليين واستشهد عليه بما أخذه عنهم المولدون أو زادوه عليهم من المعاني والتصورات قالا في مقدمته:
الحمد لله بلا كيفية تقع بها الإحاطة عليه والأزلي بلا وقت تنسب الصفات إليه حمداً يورد من حليل نعمه وجزيل قسمه مشرباً عذباً ومسحباً رحباً وصلى الله على سيدنا محمد ما أورق شجر وأينع ثمر وعلى الطاهرين من عترته وسلم تسليماً وبعد فسبح الله لنا في مدتك ووفقنا لما نؤثره من خدمتك فإنا ك بأشعار المحدثين كلفا وعن القدماءِ والمخضرمين منحرفاً. وهذان الشريجان هما اللذان فتحا محدثين باب المعاني فدخلوه ونهجوا لهم طريق الإبداع للمعاني فسلكوه أما زاد الله قدرك علواً ورفعة وسمواً قول الشاعر:
فهو قبل مبكاها بكيت صبابة ... إليها شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
ومن أمثالهم السائرة ما ترك الأول للآخر شيئاً إلا أن أبا تمام لم يرض بهذا المثل حتى
قال يصف قصيدة له:
لا زلتَ من شكري في حلة ... لابسها ذو سَلب فاخر
يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر
ومن المعنى الأول قول عنترة هل غادر الشعراء من متردم أي ما تركوا كلاماً لمتكلم فإذا كان عنترة وهو في الجاهلية الجهلاء وما لهم من فصاحة الفصحاء يقول مثل هذا القول فما ظنك بهذا العصر وقبله بمائتي سنة فلسنا بقولنا هذا أيدك الله نطعن على المحدثين ولا نبخسهم تجويدهم ولطف تدقيقهم وطريف معانيهم وإصابة تشبيههم وصحة استعاراتهم إلا إنا نعلم أن الأوائل من الشعراء رسموا رسوماً تبعها من بعدهم وعول عليها من قفا أثرهم وقلَّ شعر من أشعارهم يخلو من معان صحيحة وألفاظ فصحية وتشبيهات مصيبة(36/17)
واستعارات عجيبة ونحن أطال الله في العز بقاك وكبت بالذل أعداك نضمن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية ومن تبعهم من المخضرمين ونجتنب أشعار المشاهير لكثرتها في أيدي الناس ولا نذكر منها إلا الشيء اليسير ولا نخليها من غرر ما رويناه للمحدثين ونذكر أشياءَ من النظائر إذا وردت والاجازات إذا عنت وتتكلم على المعاني المخترعة ولا نجمع نظائر البيت والمتبعة في مكان واحد ولا المعنى المسروق في موضع بل نجعل ذلك في موضع ذكره وإن كنا نعلم أنك أدام اله تأييدك أعلم بما نحمله إليك ونعرضه منا عليك ومن أين لنا قرائح تنتج ما لا تزال تريناه وتسألنا عنه من دقيق المعاني وبعده في النوعين من دقة النظر ولطيف الفكر ما لا يتوهم أنه يطرد لسواك ولا يغن لغيرك وهو أنك أيد الله عزك قلت لنا من أين أخذ البحتري قوله:
ركبنا القنا من بعد ما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر
فإن يكن عندنا فيه شيءٌ من الاستحسان والتقريظ فعرفتنا أيدك الله أنه مأخوذ من قول أبي تمام:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماءُ الروض ينهلُّ ساكبه
ولا نعرف في النظر أدق من هذا ولا ألطف إلا إنا نوفي الخدمة حقها بما نتكلفه من الاختيار والكلام على ما ذكرناه وبالله التوفيق.
هذه هي المقدمة ومنها تفهم العرض وتدرك صعوبة ما سلكه المؤلفان وما يحتاج إليه هذا البحث من بعد النظر وسعة الاطلاع ولقد تتصفح الصفحات الكثيرة من هذا الكتاب فتقرأ فيها أشعاراً لم تكن معهودة لنا لقلة ما طبع من شعر العرب العرباء قالا بعد المقدمة.
قال المهلهل بن ربيعة:
بكره قلوبنا يا آل بكر ... نغاديكم بمرهفة النصال
لها لون من الهامات جون ... وإن كانت تغادي بالصقال
ونبكي حين نذكر كم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي
أبيات المهلهل هذه هي الأصل في هذا المعنى ومثله قول الحصين بن الحمام المري.
نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فأخذه بعضهم فقال(36/18)
قومي هم قتلوا ميم أختي ... فإذا رميت أصابني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن رميت لأوهنن عظامي
وأخذه مالك بن مطفوف السعدي فقال:
قتلنا بني الأعمام يوم أٌوارة ... وعز علينا أن نكون كذلكا
هم أخرجونا يوم ذاك وجردوا ... علينا سيوفاً لم يكن بواتكا
وأخذه حرب بن مسعر فقال:
ولما دعاني لم أجبه لأنني ... خشيت عليه وقعه من مصمم
فلما أعاد الصوت لم أك عاجزاً ... ولا وكلاً في كل دهياَء صيلم
عطفت عليه المهر عطفة محرَج ... صؤول ومن لا يعشم الناس يعشم
وأوجرته لدن الكعوب مقوماً ... وخر صريعاً لليدين وللفم
وغادرته والدمع يجري لقتله ... وأوادجه تجري على النحر بالدم
فأخذ هذا المعنى ديك الجن فقال في جارية كان يحبها فقتلها:
قمر أنا استخرجته من دجنة ... لبليتي وجلوته من خدره
فقتلته وله عليّ كرامة ... ملَء الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتاً كأحسن نائم ... والحزن ينحر عبرتي في نحره
وإلى المعنى الأول نظر أبو تمام فقال:
قد انثنى بالمنايا في أسنته ... وقد أقام حياراكم على اللقم
جذلان من ظفر حران أن رجعت ... أظفاره منكم مخضوبة بدم
ومن هذا المعنى أخذ البحتري قوله:
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
وبيت البحتري أظرف وأبدع من بيت المهلهل إلا أنه هو الذي أرشده إلى المعنى ودله عليه ومثله لقتال الكلابي:
فلما رأيت أنه غير منته ... أملت له كفي بلدن مقوَّم
فلما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم
ولبعضهم:(36/19)
أتتني آية من أم عمرو ... فكدت أغص بالماء القراح
فما أنسى رسالتها ولكن ... ذليل من بنوا بلا جناح
قول ذليل من يبوء بلا جناح الأمثال الجياد المختارة.
وقال جران العود النميري ولا يعرف في نسيب الأعراب وغزلهم أحسن ألفاظاً من هذه القصيدة ولا أملح معاني والمختار منها قوله:
ذكرتَ الصبا فأنهلت العين تذرف ... وراجعك الشوق الذي كنت تعرف
وكأن فؤادي قد صحا ثم هاجه ... حمائم ورقٌ بالمدينة تهتف
فبت كأن العين أفنان سدرة ... عليها سقيط من ندى الطل ينطف
أراقب لوحاً من سهيل كأنه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف
فلا وجد إلا مثل يوم تلاقحت ... بنا العيس والحادي يشل ويعطف
وفي الحي ميلاءُ الخمار كأنها ... مهاة بهجل من ظباءٍ تعطف
تقول لنار العيس صعر من السرى ... فأخفافها بالجندل الصم تقذف
حمدت لنا حتى تمناك بعضنا ... وقلنا أخو جدّ عن الهزل يصدف
وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مراراً وما نهوى الذي يتعجرف
فموعدك الوادي الذي بين أهلنا ... وأهلك حتى نسمع الديك يهتف
ويكفيك آثار لنا حين تلتقي ... ذيول نعفيها بهن ومطرف
فنصبح لم يشعر بنا غير أنه ... على كل حال يحلفون ونحلف
فأقبلن يمشين الهوينا تهاديا ... قصار الخطا منهن راب ومزحف (؟)
فلما هبطن السهل واحتلن حيلة ... ومن حيلة الإنسان ما يتخوف
حملن جران العود حتى وضعنه ... بعلياَء في أرجائها الجن تعزف
فبتنا قعوداً والقلوب كأنها ... قطاً شرع الإشراك مما تخوف
علينا الندى طوراً وطوراً يرشنا ... رذاذ سرى من آخر الليل أوطف
ينازعنا لذاً رخيماً كأنه ... عوابر من قطر حداهن صيف
رقيق الحواشي لو تسمع رهاب ... يبطنانَ قولاً مثله ظل يرجف
ولما رأين الصبح بادرن ضوَءه ... كمشي قطا البطحاء أوهن أقطف(36/20)
وما بنَّ حتى قلن بالبيت إننا ... تراب وإن الأرض بالناس تخسف
فأصبحن صرعى في الحجال كأنما ... سقاهن من ماء المدامة قرقف
يبلغهن الحاج كل مكاتب ... طويل العصا أو مقعد يتزحف
رأى ورقاً بيضا فشد جزيمه ... لها فهو أمضى من سليل وألطف
ولن يستهيم الخرد البيض كالدمى ... هدان ولا هلباجة الليل مقرف
ولكن رقيق بالصبا متطوف ... خفيف لطيف سابغ الذيل أهيف
يلم كإلمام القطامي بالقطا ... وأسرع منه لمة حين يخطف
فأصبح في التقينا غدية ... سوار وخلخال وبرد مفوف
أما قوله:
فبت كأن العين أفنان سدرة ... عليها سقيط من ندى الليل ينطف
فمن أحسن ما قيل في الدمع وأجوده وشبيه به قول الآخر
لعينك يوم البين أسرع وأكفا ... من الفنن الممطور وهو مروَّح
وقيل هذا البيت قد جوّد أيضاً وزاد على من تقدمه وأتى بعده وذاك أنه لم يرض أن يكون دمعه مثل الفنن وهو الغصن الذي يقطر المطر على ورقه فهو يجري حتى قال وهو مروح أراد أن الريح تحركه فهو لا يهدأ من القطر وليس بعد هذا نهاية في تحاور الدمع وسرعته وقوله:
أراقب لوحاً من سهيل كأنه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف
مليح التشبيه صحيح لأن من تأمله رآه كأنه عين تطرف وقوله يصف قولها له
وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مراراً وما نهوى الذي يتعجرف
يقال أن النساء يملن إلى من كان فيه دعابة ولهو ولا يملن إلى غير ذلك فذكر جران العود عنهن أنهن قلن له لست على ما وصف لنا لأن فيك عجرفية وقد وصفت لنا بغيرها حتى تمنيناك وما نحب الذي يتعجرف ويذكر أن كثيراً أنشد بعض نساء الأشراف قوله:
وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأعرضن عنه هيبة لا تجهما
يحاذرن مني نبوة قد عرفنها ... قديماً فما يضحكن إلا تبسما
فقالت له يا ابن أبي جمعة أبهذا القول تدعى الغزل والله لا نال وصلنا وحظي بودنا إلا من(36/21)
يجري معنا كما نريد ويجعل الغي إذا أردناه رشدا قم لعنك الله فقام منقطعاً وإلى قولها نظر البحتري فقال:
ولا يؤدي إلى الملاح هوى ... من لا يرى أن غيه رشد
وقوله:
ويكفيك آثار لنا حين تلتقي ... ذيول نعفيها بهن ومطرف
معنى مليح وقد اشترك فيه جماعة من الشعراء فأول ذلك أمرؤ القيس في قوله:
فقمت بها أمشي تجر وراءنا ... على أثرنا أذيال مُرط مرجل
وقال ابن المعتز:
فقمت أفرش خدى في الطريق له ... ذلاً وأسحب أكماماً على الأثر
ولابن المعتز في هذا المعنى زيادة حسنة على من تقدمه وقوله:
فنصبح لم يسعر بنا غير أنه ... على كل حال يحلفون ونحلف
كلام ظريف ومعنى مليح لأنه قال لابد من تهمة تلحقنا فنحلف أنا لم نفعل ويحلفون أنا قد فعلنا وقوله:
فأقبلن يمشين الهوينا تهاديا ... قصار الخطا منهن راب ومرجف
من أحسن ما يكون في صفة المشي وقد أكثرت الشعراءُ في هذا الباب فمن مليحه قول بعضهم:
يمشين مشي قطا البطاح تأدوا ... قب البطون رواجح الأكفال
وإنما شبهوا مشية المرأة بمشية القطاة لأن فيها سرعة وتأيدا قال المنخل:
ودفعتها وتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
وللأعشى في المشي شيءٌ حسن وأشياءٌ يفرط فيها فمن الجيد قوله:
غراءُ فرعاءُ مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
وقد شبه بشار بن برد خفقان القلب بالكرة في تدورها وهو قوله:
كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين إن نفع الحذار
وهذا لعمري تشبيه جيد ومعنى صحيح وقال آخر وهو غير هذا المعنى فجود(36/22)
كأن فؤادي في مخاليب طائر ... إذا ذكرت ليلي يشد به قبضا
هذا ذكر أن فؤاده إذا ذكرت عشيقته قبض عليه ولم يذكر أنه شديد الخفقان وهو يدخل في هذا المعنى أو يقاربه فجود وأحسن وزاد وأورد معنى ثانياً وهو قوله:
من (757_767) غير مكتوبين
رجعا فسار أبو دلامة ظاهراً ... والمهر يجفل تحته أجفالا
حتى إذا وافي الأمير وقام عن ... كثب ترجل دونه إجلالا
وغدا يقول وكان روح ضاحكاً ... إني كفيتك قرني الرئبالا
وقتلته بالقول لا بمهندي ... والحرب أحرىى أن تكون مقالا
وأخذت في الهيجا عليه مواثقاً ... أن لا يعود ينازل الأبطالا
إن الهواتف لا تزال بمسمع ... مني تقول إذا شكوت الحالا
لا تيئسن فللزمان تنفس ... فأرقبه أن يتبدل الإبدالا
والدهر طاه سوف ينضج أهله ... بالحادثات يزيدها إشعالا
إن الدهور وهن أمهر سابك ... سترد أضداد الورى أشكالا
حتى كأني بالطباع تبدلت ... غير الطباع وزلزلت زلزالا
وكأنني ببني الملاحم أصبحوا ... لأبي دلامة كلهم أمثالا
معروف الرصافي(36/23)
حكومة الشورى في المملكة العثمانية
من أدق المسائل وأعضلها مسألة توليته الملك واختيار الأصلح لحكم الناس بالعدل والعقل. مسألة شغل بها البشر في كل دور من أدوارهن فقضت ولا تزال تقضي في تأييد سلطة الملوك ملايين من الناس. على هذا كان الحال في حكومات العرب بعد الإسلامية في القرون الوسطى والحكومات الإفرنجية في القرون الحديثة.
الناس بخير ما حافظ ملوكهم على النظام في الجملة فإذا استرسلوا في شهواتهم وأهوائهم واستهانوا بمن تولوا رقابهم فعاملوهم معاملة الأنعام التي يرثها الابن عن أبيه ويتصرف فيها بما يشاء يفسد الأمر وتنتشر الفوضى ويتراجع ىالعمران ويذعر السكان. سنة من سنن هذا الكون مذن قامت المجتمعات الأولى وما من شيء بدل الآن على زوالها من العالم كل الزوال.
لابد للناس من طاعة زعيم يرجعون إليه ببعض أمور دنياهم ولو صورة فإذا استقام هذا الزعيم وسار بمشورة أهل الرأي من قومه استقامت شؤونهم مراميهم. وقد كان من الخلافة الإسلامية وهي تجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية أثر عظيم من الجري على هذه الطريقة بإشراك الخليفة أصحابه وسروات بلاده في حربه وسلمه وغنمه وغرمه إلا أن هذه الصورة من الحكم لم يطل عهدها كثيراً فانقلبت بعد زمن قليل إلى ملك عضوض بسعي معاوية بن أبي سفيان وغدا يتقلدها صاحب القوة بل كل ابن يوصي له بها أبوه مهما كانت أخلاقه وكفاءته وسنه.
قال ابراهيم الأنصاري وهو ابراهيم بن محمد المفلوج من ولد زيد القاري: الخلفاء والأئمة وأمراء المؤمنين ملوك وليس كل ملك يكون خليفة وأماماً قال: ولذلك فصل بينهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه في خطبته فإنه لما فرغ من الحمد والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة فرفع الناس رؤوسهم فقال: ما لكم أيها الناس أنكم عجلون أن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما عنده ورغبه فيما في يدي غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير ويسأم الرخاء وتنقطع عنه لذة الباه لا يستعمل العبرة ولا يسكن إلى الثقة فهو كالدرهم القسي (الرديء) والسراب الخادع جذل الطاهر حزين الباطن فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحي ظله حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه إلا أن الفقراء هم المرحومون وخير(36/24)
الملوك من آمن بالله وحاكم بكتابه وسنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة النبوة ومفرق المحجة وسترون بعدي ملكاً عضوضاً وملكاً عنوداً وأمة شعاعاً ودما مفاحا فإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو بها الأثر ويموت لها البشر فالزموا المساجد واستشيروا القرآن والزموا الطاعة ولا تفارقوا الجماعة وليكن الإبرام بعد التشاور والصفقة بعد طول التناظر أي بلاد كمخرسة (إن الله سيفتح عليكم إفصاحاً كما فتح عليكم أدناها).
وبعد فإن معاوية مبدأ شقاء هذه الأمة بملوكها أفسد أمرها كما قال الحسن البصري ليحقق أطماع نفسه ولم يكفه سفك دماء المسلمين في وقعة صفين حتى قام يعهد بالخلافة لابنه يزيد من بعده وفي العرب وقتئذٍ من رجالات قريش والصحابة بقية صالحة اضطرهم إلى مبايعة يزيد والسيوف مصلته على رقابهم في مسجد المدينة واحتال لذلك بكل حيلة تأبى النفس الشريفة أن تأتيها. فأصبح خلفاء الإسلام بعد أن كانوا مساوين للرعية أرباباً يتحكمون بالأموال والدماء والأعراض تحكم الحر المطلق الذي لا يسأل عما يفعل يقومون بضعف الناس ويغتنون بإفقارهم ويعتزون بإذلالهم.
جاء خلفاء من بني أمية وبني العباس عقلوا معنى الخلافة وأدركوا حقوق الرعية وعرفوا أن الشورى لا تستقر إلا إذا كان الخليفة كاملاً في ذاته وصفاته فأحبوا أن يجعلوا الملك بانتخاب الأصلح بعدهم كعمر بن عبد العزيز الذي مثل الخلافة الإسلامية على قاعدة الشورى أحسن تخيل ولطالما قال وقد رأى محمد بن أبي بكر: لو كان لي من الأمر شيء لقلدته أخلاقه بعدي. ولكن بني مروان يشق عليهم أن تخرج الخلافة عن رسمها القيصري الذي رسمه كبيرهم لتكون كالبقرة الحلوب ينتفع بها الأقرب فالأقرب من خليفة.
وكذلك فعل المأمون وقد رأى على بن موسى الرضا أعقل أهل السنة بالتشيع والشيعة بالاعتزال وهو المفرد العلم في عدله وسيرته وإيثار مصلحة الأمة على مصلحة نفسه، ىلة.
ومنذ ضعف أمر بني العباس واستولى ملوك الطوائف ضعف أمر الخلافة بن ذهب رسمياً جمعة وأصبح الملوك بحسب الاتفاق أن صلح واحد من مئة يجيء أخلاقه يفسدون ما وضعه. ساعد على ذلك في الأكمثر ضعف الآداب والأخلاق وزهد المتأخرين بعلوم الدنيا(36/25)
فصح فينا قول ذي عمرو من أمراء اليمن لجرير بن عبد الله إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتمة إذا هلك أمير مرت تم في أواخر فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوكثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب وضربهم بالفاقة وملأ قلوبهم رعباً.
ولقد كتب لبني عثمان أن يتغلبوا على معظم بلاد الإسلام ويبنوا دولتهم على أنقاض حكومات كثيرة فدان لهم المغرب الأوسط ومصر وبلاد اليونان ورومانيا والصرب والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وكريت وقبرص فانسلخت عن جسم الدولة بمساعدة أوروبا لها من الخارج ومناعي سكانها من الداخل.
والسبب الأعظم في ذهاب القاصية من بلاد الدولة كونها ما برحت منذ أول تأسيسها دولة سيف وسنان لا دولة علم وعرفان. وضخامة الملك لا تجدي إذا لم تنظم شؤونه بنظام الاجتماع والعلم الصحيح. فجربت البلاد بسياسة التفريق بين العناصر والأجناس بيد أن دوام الحال على ذلك محال مادامت أوروبا شاخصة أبصارها نحو الشرق تتحفز كل ساعة لاكتساحه منذ زهاء مئة سنة وتتطال إلى استعماره القطعة بهد القطة.
عرف وخامة العاقبة أهل الرأي في الأمة العثمانية فقاموا منذ نحو أربعين سنة ينادون في الدعوة إلى لم التعث ومجاراة الحكومات الأوروبية في نظامها فدعا شناسي وكمال ومدحت وفاضل وسعاوي وهم طليعة الأحرار الأبرار إلى نبذ الحكم المطلق والاستعاضة عنه بالحكم المقيد أي ترك الحكومة الاستبدادية الشخصية والأخذ بسنن الحكومة المدنية الثورية لتشارك الأمة سطلنها في إدارة شؤون البلاد وهو يشرف عليها إشرافاً وينفذ ما تقرره تنفيذاً كما هو حال أعاظم ملوك الأرض لهذا العهد إمبراطور الألمان وملك الإنكليز وميكاد واليابان ورئيس جمهورية أميركا على اختلاف طفيف في كيفية تأليف مجالسهم وإشراك ذوي الرأي من أهلهم في سلطانهم.
وما فتئ الأحرار ينشرونة دعوتهم في جرائد لهم أنشؤها وجمعيات الفوها وكلمتهم تزيدم انتشاراً كلما اشتدت الحكومة في إرهاقهم ولاسيما في المدارس العالية في الاستانة.
والمدارس العالية مجمع شمل أذكياء الطلاب من الترك والعرب والجركس والأرناؤود واللاز والروم والأرمن حتى إذا عادوا إلى بلادهم وتفرقوا في الولايات يضيفون إلى تذمر(36/26)
الأهلين من فساد الأحكاتم تذمراً ويكثرون سواد الحانقين على ذاك النظام الرث القديم.
ولما أوشكت الدولة العلية أن تسقط سنة 1293 باجتماع كلمة أوروبا عليها أعلن القانون الأساسي بسعي مدحت باشا وأعوانه ولم تتمتع الأمة أربعة أشهر بافتتاح مجلس قبل ففسدت النيات والتأثت الأحوال وتنتكرت الأخلاق وهزلت الفضيلة وباب القول الفصل للرشى والمحاباة والشفاعات وراجت سوق النفاق رواجاً سوق النفاقات رواجاً لم تعهده آثينة في آخر أيامها ولا رومية عند زوال سلطانها بل ولا فروق لما تأذن الله بانحلال الدولة البيزنطية منها وكثر الغش والخديعة وغلوا في التجسس والوقيعة وكثرت الهجرة من البلادم فهجرها قسم عظيم من العاملين والمفكرين من أهلها وتقهقهر عمرانها فوصلت بعض أقطارها إلى درجة من الفقر لم يعرف التاريخ أنها بلغتها في وقت من الأوقات وأمسى العاقل يعجب من بقاء الدولة العثمانية لم يعرف التاريخ أنها بلغتها في وقت من الأوقات وأمسى العاقل يعجب من بقاء الدولة العثمانية على هذه الحال وما بقي منها إلى اليوم هو من أخصب بقاع الأرض جمعت أطيب الكور من القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقية وهي الصلة والعائد بين شرق المعمور وغربه وأهلها من أقوى العناصر ذات الحضارة القديمة المستفيضة كأن لها أيامها الغر العجلة وفيها العرب والفينيقيون والحيثيون والروم والبابليون والآشوريون والكلدانيون والأرمن واليهود.(36/27)
بين العرب والفرس
من أشهر القصائد الاجتماعية العربية قصيدة لقيطو بن يعمر الأيادي ينذر قومه غزو كسري إياهم وكان لقيط كاتباً في ديوان كسرى فقطع لسان لقيط وغزا إياداً. قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق الذي نشره سنة 1854: ومن رجالهم لقيط بن معبد صاحب القصيدة التي أنذر بها إياداً لما غزتهم الفرسي وهي:
كتاب في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد
يعني جزيرة العرب وله قصيدة أخرى على العين مشهورة. وقد تيسرت لنا عدة مظان ومنها بعض مخطوطات فعارضنا القصيدة عليها منها هنا أصح الروايات وأضفنا إليها بعض زيادات وها هي بنصها المعجب:
يادار عمرة من محتلها لجزعا ... هاجت لي ألهم والأحزان والجذعا
تامت فؤادي بذذات الجذع خرعبة ... مرت تريد بذات العذبة البيعا
بمقلتي خاذل أدماء طاع لها ... نبت الرياض تزجي وسطه ذرعا
وواضح أشنب الأنياب ذي شر ... كالأقحوان إذا ما نوره لمعا
جرت لما بيننا حبل الشموس فلا ... يأساً مبيناً ترى منهما ولا طعما
طوراً أراهم وطوراً لا بينهم ... إذا تواضع خدر ساعة لمعا
يا أيها الراكب المزجي على عجل ... نحو الجزيرة مرتاداً ومنتجعا
أبلغ إياداً وخلل في سراتهم ... إني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا
يا لهف نفسي إن كانت أموركم ... شتى وأحكم أمر الناس ما اجتمعا
إني أراكم وأرضاً تعجبون بها ... مثل السفينة تغشى الوعث والطبعا
إلا تخافون قوماً لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا
أبناء قوم تآووكم على حنق ... لا يشعرون أضر الله أم نفعا
أحرار فارس أبناء الملوك لهم ... من الجموع جموع تزدهي القلعا
فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكاً وآخر يجني الصاب والسلعا
لو أن جمعهم راموا بهدته ... شم الشمايخ من ثهلان لا تصدعا
في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غفى شجعا
خزر عيونهم كأن لحظهم ... حريق نار ترى منه السنا قطعا(36/28)
ويحققون حيال الشول آونة ... وتنتحون بدار القلعة الرتعا
وتلبس ثياب إلا من ضافية ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا
أنتم فريقان هذا لا يقوم له ... عصر الليوث وهذا هالك صقعا
وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هم له ظلل تغشاكم قطعا
مني أراكم نياماً في بلهينة ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
فأشفوا غليلي برأي منكم حسن=يضحي فؤادي له ريان قد نقعا
ولا تكونوا كمن قد بات مقتنعاً ... إذا يُقال له أدفع غمة كنعا
يسعى ويحسب أن المال تخلده ... إذا استفاد طريفاً زاده طمعاً
فقنوا جيادكم واحموا ذماركم ... واستشعروا الصبر لا تشتشعروا الجزعا
وشروا تلادكم في حرز أنفسكم ... وحرز نسوتكم لا يهلكوا هلعاً
ولا يضع بعضكم بعضاً لنائبة ... كما تركتم بأعلى عيشة نجعا
اذكوا العيون وراء السرح واحترسوا ... حتى ترى الخيل من تعدائها رجعا
فإن علبتم على ظن بداركم ... فقد لقيتم بأمر حازم فزعا
هيهات لا مال من زرع ولا أبل ... يرجى لغابركم أن أنفكم جدعا
لا يلهكم أبل ليت لكم أبلا ... أن الغدور بخطب منكم قرعا
لا تثمروا المال للأعداء أنهم ... أن يظفروا يحتووكم واليلاد معاً
والله ما أنقلب الأموال منذ بدا ... لأهلها أن أصيبوا مرة تبعا
يا قوم إن لكم من قوم أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا
ماذا يردّ عليكم عزّ أولكم ... مجداً قد أشفقت أن يفنى وينقطعا
فلا تغرنكم دنيا ولا طمعٍ ... أن تنعشوا بزماع ذلك الطمعا
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا
يا قوم بيضتكم لا بها ... أني أخاف عليها الأزلم الجذعا
هو العناء الذي تبقى مذلته ... إن طار طائركم يوماً وإن وقعا
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
قوموا قياماً على أمشاط أرجكم ... ثم أفزعوا قد ينال الأمن من فزعا(36/29)
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً أن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... همّ تكاد حشاه تحطم الضلعا
مسهد النوم تعنيه أموركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا
ما أنفك يحلب در الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعا
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا
قد أثمر على شزر مريرته ... مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا
كمالك بن سنان أو كصاحبه ... زين القنا يوم لاقى الحارثين معا
إذ غابه غائب يوم فقال له ... دمث لجنبك قبل النوم مضطجعا
فساوروه فألفوا أخا علل ... في الحرب يحتمل الرئبال والسبعا
مستنجداً يتحدى الناس كلهم ... لو قارع القوم عن أحسابهم قرعا
هذا كابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى مثل ذا رأباً ومن سمعها
فقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا أن خير العلم ما نفعا(36/30)
الاكتشافات الحديثة في القطب الشمالي
قالت مجلة مستندات الترقي ما مثله: كانت أول حملة أرسلت لاكتشاف القطب الشمالي سنة 1553 فقام شانسلور ودورفورث وويلوغبي من الإنكليز يحاولون الاهتداء من طريق الشمال إلى طريق بحري للوصول إلى آسيا الشرقية ودعي هذا الطريق بطريق الشمالي الشرقي. وما برح حب اكتشاف القطب آخذا بمجامع العقول حتى ساق كثيرين إلى تقحم تلك الصحاري الجامدة في الشمال لكشف ما وراءها من أسرار. ولئن فترت الهمم في سبيل اكتشاف القطب من سنة 1650إلى 1750 بالنسبة لبقية الأدوار إلا أن الرغبة في اكتشافه لم تنقطع منذ ذاك العهد ومهما أعتقد الناس بأن ما ورد في أسطورة قديمة من أن في بحار الشمال جبلاً من المغناطيس كان يدعو السفن والملاحين إلى اكتشافه فتهلك فيه ـ وهي أسطورة من الأساطير الخيالية العارية من كل حقيقة ـفان القطب الجغرافي من الأرض وإن لم يره أحد حتى الآن قد أثر في العقول تأثير ذاك الجبل من المغناطيس وكان من قوة الجاذبية إن كانت السبب في هلاك أرواح كثيرة من البشر.
وظل ذاك اللغز القديم بدون حل بعد جهاد لا يوصف مدة من ثلاثة قرون ونصف ووقعت مصائب هائلة في القطب والقطب نفسه لم يكتشف على أن هذه المسألة قد فقدت في العهد الأخير شيئاً كثيراً من شأنها العملي ومع هذا فلم يفلت الباحثين علم ما يصادفونه في القطب ونزعوا من الأفكار ما كان علق فيها مدة قرون من أن وراء تلك الأسوار الكالحة من الجليد مناخاً معتدلاً وعدوه من باطل التقدير وقالوا ليس فيها إلا الجليد والثلوج وبحر عميق فيه بعض جزر تختلف كبراً وصغراً ولا تزال مجهولة وهذا ما يرونه في جوار القطب كما رأوا مثله حتى الآن في الأصقاع القطبية.
ولا يرجى من اكتشاف القطب الشمالي حل متكل ينفع العلم وما يتنافس فيه الذاهبون في هذا السبيل لبلوغ القطب ليس سوى عبارة عن ضرب من ضروب الأرتياض اللهم إلا ما كان من حيث الفائدة الجغرافية الصرفة. بيد أن الإنسانية لا يقر لها قرار إن لم يكتب لأحد شجعان الزمان أن يدوس ذلك الطرف الآخر من محور الأرض والظاهر أن هذا اليوم وإن طال العهد على قدومه غير بعيد الآن فإن ما تم من تقدم اكتشافات القطب في الخمس عشرة سنة الأخيرة قد بلغ حداً لم يكن يظن بلوغه حتى قري الأمل بأن ستكافئ تلك الهمم الماضية على جهادها قريباً والزمن حلال كل معضل. يعلم ذلك بأدنى نظر يلقي ببصره(36/31)
على تاريخ القطب والبعثات إليه وما بلغه الباحثون من العرض الشمالي.
قام المقدام بارنتس الهولاندي فبلغ المرة الأولى سنة 1596 الدرجة الثمانيين من العرض ومضى الناس زهاء مائتي سنة حتى تيسر لهم أن يتقدموا إلى الإمام ثلاث درجات أخرى وكان الصياد سكورسبي أول من وصل في الحقيقة إلى الدرجة الثالثة والثمانين من العرض سنة 1822ولم يصل الرحالة مارخام الأميركي إلا في سنة 1876 إلى شمالي غرانلاندا أي إلى درجة 20/ 83وبعد ستة سنين بلغ وطنية سوكفود الدرجة 24/ 83 وهكذا مضت ثلاثة قرون ولم يصل البشر إلى أكثر من الدرجة 83 في التقدم نحو القطب ولكن لم تمض أقل من خمس عشرة سنة حتى كثر التقدم في أصقاع القطب وزاد شأنه أكثر من القرون الثلاثة الأخيرة فكان الرحالة نانسن أعظم فاتح فتح عهد سيؤدي ولاشك إلى الاهتداء للقطب وافتتاحه افتتاحا أخيراً فوصل مع رفيقه جوهانسون في 7نيسان (أبريل) إلى درجة 14/ 86في شمال الأرض المعروفة بأرض فرنسيس يوسف ولكنه أضطر إلى الرجوع على أعقابه وتقدمت بعثة الدوق دي زلبروز إلى أبعد من ذلك نحو الشمال فبلغ بعض أعضائها الدرجة 33/ 86إلى شمالي أرض فرنسيس يوسف وقليلاً نحو الغرب من الجهة التي وصل إليها نانس. ووصل الأميركي في مارس 1906 إلى الدرجة 6/ 86وكان بلغ سنة 1902 إلى درجة 17/ 87
وهذا جدول بأسماء البعثات إلى القطب وما تم فيها من التقدم منذ بديء بإرسالها إلى عهدنا.
تاريخ البعثة أسم رئيس البعثة جنسيته أقصى ما وصلت إليه من درجات العرض الجهة
1553 شانسلوردورفورثوويلوغبي إنكليزا 70/ 71 شمالي أوروبا
1587 دافيس إنكليزي 20/ 72 بحر بافين
1594 بارنتس هولاندي 55/ 77 زامبل الجديدة
1596 بارنتس هولاندي 11/ 80 سبيتزبرغ
1607 هودسون إنكليزي 28/ 80 شرقي غرانلاندا
1773 فيبس إنكليزي 48/ 80 سبيتزبرغ
1806 سكورسبي البكر إنكليزي 30/ 81 شرقي غرانلاندا
1817 سكورسبي الفتى إنكليزي نحو82 شرقي غرانلاندا(36/32)
1822 سكورسبي الفتى إنكليزي 83 شرقي غرانلاندا
1834 غراه دانيمركي إلى ما بعد83 شرقي غرانلاندا
1876 ماركام أميركي 20/ 83 شمالي غرانلاندا
1882 سوكود أميركي 24/ 83
1895 نانسن نروجي 14/ 86 أرض فرنسيس يوسف
1900 كاني إيطالي 33/ 86 أرض فرنسيس يوسف
1906 بري أميركي 6/ 87 شمالي غرانلاندا
ومن الفوائد التي حدثت من السعي في اكتشاف القطب للعلوم ولاسيما للجغرافية أننا عرفنا من بعثة نانسن أن رأس القطب الشمالي ـ ربما كان مقابلاً من الجهة الثانية للقطب الجنوبي. مغشى من كل مكان يبحر قليل العمق ليس فيه إلا بعض جزائر وأرض عظيمة ذات اتساع كبير هي غرانلاندا. وقد أثبت سفردروب وهو صديق نانس المخلص بعد بضع سنين أن الشاطئ الشمالي من غرانلاندا لوم يكن يعرف منه إلى ذاك العهد غير قسم صغير ـ لا يمتد نحو الشمال. وقد قط ع الدوق دورليان سنة 1905 جزءاً من الشاطئ الشرقي الذي لم يعرف في شمال رأس بسمرك. وأحدث الاكتشافات اكتشاف بري الذي أبان أنه يوجد في شمالي غرانلاندا بحر عميق وتيار عظيم يذهب إلى الشرق. وتبين من البعثات إلى أرجاء شمالي القارة الأميركية بأن الشاطئ الشمالي الأميركي من الغرب متصل كل الاتصال ببحر القطب الذي يسمى هناك بحر بوفور على حين أن مجموع الجزائر الغربية الموجودة في الشرق تمتد ولا شك إلى أبعد من ذلك نحو الشمال نحو أكصر مما كان يظن حتى الآن. إذ قد شوهدت في شمالي أرض اكل هبرغ في المحل الآخذ نحو الشمال جزيرة جديد سموها أرض كروكر.
وبينما كانت الفوائد كثيرة مهمة من السعي في ارتياد الأرجاء القطبية خلال السنين الأخيرة في شمالي أميركا كان ما بذل من الجهاد في شمالي آسيا للوقوف على أسرار المحيط المتجمد غير مثمرة أدنى ثمرة. وقد هلك سنة 1903 البارون تول الروسي الألماني ولم يبقِ أثراً وهو يحاول بلوغ أرض سانيكوف والغالب أنه هلك وأتباعه جوعاً.
ولقد حصرت دائرة الأرجاء القطبية التي لا تزال غير معروفة في دائرة ضيقة في غضون(36/33)
السنين الأخيرة بفضل الرحالتين نانسن وبري خاصة. وما برح القطب يغر كثيرين من أرباب الرحلات فقد مضت على الرحالة أندره الذي سافر يوم 11 يوليو 1897 من سبيتزبرغ في منطاده إحدى عشر سنة ولم يأت خبر عنه وربما لم يتعد أكثر من الدرجة الثالثة والثمانين من العرض وهو الذي ساق نفسه إلى الحتف هذا لم نقل إلى أن إقدامه على ما أقدم عليه كان من الجنون المطبق إن لم يكن الانتحار بعينه. وليس هو وحده الذي حاول أن يقطع ثلوج القطب في منطاد تخلصاً من ركوب البحر والمركبات التي لا عجل لها فقد حاول ذلك غيره كالأميركي ولمان الذي أخفق في المرة الأولى ويحاول في الثانية بلوغ النجاح.
والآمال معقودة الآن بأن النجاح ينال بري وامندسون وتكتب أسماؤهم في سجل أعظم العاملين في خدمة العلم باكتشاف القطب وكلاهما الآن يُعد بعثة إلى تلك الأرجاء المتجمدة وسيسافر الأول هذه السفرة للمرة السابعة على باخرته ليبحث عن طريق ليبزغ القطب والناس يؤملون له الخير لأنه إبان رحلاته السابقة عن حذر عظيم وهمة عالية وكانت رحلاته مفيدة فكاد يبلغ الدرجة التي يرمي إليها لو لم يداهمه الشتاء وتيارات الثلوج وإذا أسعده الحظ وبدونه لا يستطيع أكبر الرجال عقلاً أن يعمل عملاً يذكر ـ فإن سفرته ستكون بعد سنة مسفرة عن افتتاح القطب وإذا خانه الحظ أيضاً في رحلته هذه فإن رصيفه أمندسون النروجي الذي يعمل لهذا القصد منفرداً سيجني ثمار هذا الظفر أول الجانين من الناس. وللأميركان والنروجيين في الثلاثين سنة الأخيرة يد في السعي لاكتشاف القطب. ويرجى أن يكون لامندسون ثمرة النجاح بعد بري إذا أخفق هذا. وبعثتا هذين الرجلين هما أهم البعثات الأخيرة وأغناها وأنفعها ويؤمل أن تنحل بهما هذه المشكلة التي شغلت بال الناس أعواماً وقروناً.(36/34)
التأليف في الملوك
كان لكثير من الملوك رغبة في العلم لإشراف نفوسهم الملكية على علو قدره وجلالة أمره فمنهم من كان يرغب فيه ويقرب أهله ويسعى في نشره. ومنهم من اشتغل به وسعى في تحصيله حتى فاز بحظ وافر منه. ومنهم من زاد على ذلك فألف فيما عُني به من العلوم غير أن المؤلفين فيهم قليلون لمنع شواغل تدبير المملكة والقيام بأعباء أمورها في أكثر الأوقات من التفرغ للتأليف. ومن الملوك الذي ألفوا عمر بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن. وفي الكثير من خزائن الكتب شيءٌ من مؤلفاته وأغرب مؤلفاته كتاب عثرنا عليه في هذه المدة ألفه في صنع الإصطرلاب بعد أن زاول عمله مدة وأتقنه وقد أجاد في هذا الكتاب إجادة وافرة بحيث قرب هذه الصناعة على الراغبين فيها ولم يستعمل الإيهام الموجب للإيهام. فأحببنا أن نورد منه ما ذكره في المقدمة لنقف على أسلوب الكتاب والغرض منه قال:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه العون والثقة يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عمر بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول غفر الله له الحمد لله الذي لا يبلغ أداء حمده الحامدون وشكراً على نعمه فوق ما شكره الشاكرون فهو الواحد الذي لا تحيط به الظنون جعل النجوم دلائل يهتدي بها المهتدون فقال سبحانه وعلامات وبالنجم هم يهتدون. أحمده حمد مقصر واستهديه إلى طريق الصواب واستنصر وصلواته على محمد النبي الكريم الذي أثنى عليه في كتابه العزيز الحكيم فقال مادحاً له: وإنك لعلى خلق عظيم. وعلى آله المنتخبين صلوة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين ورضي الله عن الصحابة أجمعين. وبعد فلما كان الاصطرلاب أشرف آلة وضعت في علم الفلك وطريقه أوضح طريق بين في هذا الفن سُلك أحببت أن أجمع في علمه رسالة موضحة قريبة المسلك بطريقة مصححة فما زلت أداخل أصحاب هذا الفن واستحلب درَّهم بالبحث المستحسن لنعرف من منهم بورد من فنونه ويُبين ويصوّر خلاف غيره ويبرهن حتى آيست النفس بما مثلوه وعرفت نقل الأصل الذي أصلوه فتشجعت بأن كررت التعلم والتحرير والتصوير لأشكاله الموضوعة والتقدير إلى أن حسنت ما لم يحسنوا من آلته وعرفت ما يختار من عمله وصناعته ولم يذكروا في علمهم بالتحقيق سوى المقنطرات والبروج والكواكب بالتدقيق واستكفوا فيا عداها بحسن الروية من غير تقدير فلم أزل أفكر فيما أهملوه حتى وضعت له المقادير تابعاً(36/35)
لما رسمه الأولون من الحساب مكتسباً ما أمكنني منه الاكتساب فوضعت على غاية ما بلغ الاجتهاد إليه ووقع عن التخير الاختيار عليه ما يغني الصانع في تيسير المعرفة ويكفيه عن كثير من الكتب المصنفة وعليه في وضع المقنطرات والكواكب المعول والعمدة على وضعها وتحريرها على المصنف الأول مع معرفتي بفك حروفها وإعدادها وإبعاد مراكزها وأنصاف أقطارها ولست بالمدعي في معرفة هذه الصناعة ولا ممن يتخذها حرفة وبضاعة بل اجتهدت فيها والتمست واحتذيت من ضوء سناها واقتبست فألفت هذه الرسالة لتكون للصانع أوضح دلالة وسميتها معين الطلاب على عمل الاصطرلاب فمن وقف عليها فليتسامح عما فرط وليكن أو من لعذر بسط فإن الحليم إذا رأى حسناً مخفياً أظهره وإذا رأى قبيحاً منشوراً ستره ونسأل الله الهداية في الصلاح والبلوغ إلى أفضل المقاصد والنجاح أنه العظيم الحنان والكريم المنان.
فاعلم أن الاصطرلاب يعمل بمجالات فمنها ما يكون تاماً وعدد مقنطراته تسعون منها ما يكون ثنائيا وعدد مقنطراته خمسة وأربعون ومنها ما يكون ثلثاً وعدد مقنطراتها ثلثون ومنها ما يكوون خمساً وعدد مقنطراته ثمانية عشر ومنها ما يكون سدساً وعدد مقنطراته خمسة عشر ومنها ما يعمل عشراً لصغره وضيق مداراته وعدد مقنطراته عشرة فالتام هو الذي يكون درج بروجه ومقنطراته مقسومة على درجة درجة والنصف ما كان بروجه ومقنطراته مقسومة على درجتين ودرجتين والثلث ما كان درج بروجه ومقنطراته مقسومة على ثلاثة ثلاثة والخمس ما كان درج مقنطراته وبرجه مقسومة على خمسة خمسة والسدس ما كان عشرة عشرة وأما الرسوم التي لا يقع فيها اختلاف في جميع الاصطرلابات فهي دوائر المدارات أعنى مدار السرطان والحمل والجدي وخط نصف النهار وخط الاستواء فإن هذه الخطوط كلها في جميع الاصطرلابات لا يقع فيها خلاف التبة وإنما تختلف دوائر المقنطرات وهذا الذي اتصل إلى علمنا من أعمال الإسطرلابات وأعمال التارجهار فإنه لا يمتنع أن يكون قد زيد على هذه الأقسام التي ذكرناها ولم نطلع عليه فليس لنا أن نقطع بأن هذه الأقسام التي ذكرناها هي التي تعمل فقط فعلى هذا ما كان صغيراً وقسم على درجة أو درجتين أو ثلاث تزاحمت خطوط المقنطرات لاسيما عند المركز فلا جل ما صغر منها على عشر عشر وأصحها ما كانت مقنطراته مقسومة على(36/36)
درجة درجة ليتحقق منها الصحة لأن ما كبر منها وكان فتحه ذراعاً بالحديد خلص نصف درجة يا تقسم درجته الواحدة بنصفين لسعة ما بينها وبين المقنطرة الثانية وما كان فتح ذراعين جديد خلص عشر دقائق أي تقسم درجته الواحدة بستة أقسام كل قسم منها عشر دقائق وما كان منه أربع أذرع أو خمسة بالحديد خلص دقيقة أي تقسم الدرجة الواحدة بسنين قسماً كل قسم منها دقيقة لأن كل ما اتسعت الآلة صح تقسيمها ويؤدي إلى الصواب لإحاطة النظر وإحاطة الصانع بالصنعة والتمكن من قسمة الدقائق بين الدرجات لكبر الآلة فيؤدي ذلك إلى الضبط وإلى الصحة فقد قيل أن الحاكم من خلفاء المصريين عمل ذوات الحلق وهي تسع حلقات الحلقة يدخل فيها الفارس راكباً برمحه فيكون وزن الحلقة الواحدة نفسها ألفي رطل وكانت جوانبها محزوزة مربعة على زوايا قائمة حتى إذا ركب بعضها في بعض كان كصفيحة واحدة فيرصد بها وبها حققوا طول مصر وعرضها ثم أن التتر لما طلبوا الرصد صنعوا دائرة بناءٍ طول حلقة سعتها عشرون ذراعاً فاستخرجوا ربع دائرة من محيطها ثم بنوا جداراً طوله مائة ذراع ونصبه مائة ذراع مربع وضعوا عليه ربع دائرة طول قائمها على زوايا قائمة ستون ذراعاً وطول القطر الآخر الممتد على الأرض مثل ذلك والقوس تسعون درجة كل درجة ذراع قوسية أي قطعة من قوس هذا الربع ودرجوه درجاً كدرج القطر من أسفله إلى أعلاه ليعملوا أشغالهم لأخذ الارتفاع وأنفقوا على ذلك أموالاً طائلة وقيل أن هلاوون أخذ آلة الحمالين وجعلها على رأسه ليرد عنه ألم الحجر وحمل حجراً كبيراً فلم يبق أحد إلا وحمل وبهذه الآلة الارتفاعية حصل الارتفاع بدقائقه وربما بثوانيه فقوس كل درجة هي ذراع فتمكنوا بهذه الآلة واستخرجوا بها أعمال الرصد وطوله وما ارادوا من باقي الأعمال. وأوردنا هذه الحكاية ليعلم منها فائدة كل ما كبر من الاصطرلابات وزيادتها فائدة في التحقيق ومع ذلك إذا كان الاصطرلاب سعته كما قلنا في فتح ذراعين وما فوقه إلى خمسة فلا يمسك باليد وقت أخذ الارتفاع لكبره هو عظمه بل يرفعه شخص بيديه وآخر يأخذ به الارتفاع فإن عظم عُلق على سيبا بقدر ما يتمكن منه الناظر وهو معلق بالسيبا فعند أخذ الارتفاع يرفع الناظر العضادة ويخفضها حتى يصبح له أحد ارتفاعه من الشمس أو الكواكب وأول ما يبتدئ به الراسم من العمل يخط خطاً بأي قدر شاء ثم يقسمه بتسعين قسماً أجزاءً صحيحة محكمة بقدر الجهد والطاقة فإن صحة(36/37)
العمل موقوفة على قسمة الخط المذكور فمتى كان في القسمة خلل لم تصح بها الأعمال والخط هو المسطرة المقسومة وهذا مثالها (وهنا أورد صورتها) وإن كانت هذه المسطرة بخلاف المسطرة الستينية التي ذكرها الفرغاني في كتابه فإن تلك مقسومة بستين قسماً فإذا أردت عمل هذه المسطرة الستينية التي يقاس منها أعمال الاصطرلاب فإنك تبدأ أولاً بعمل مسطرة صحيحة من خشب صلب.
إلى أن قال: فإذا أردت عمل الاصطرلاب كبيراً كان أو صغيراً على أي قدر شئت عمله من الأقدار فإنما يكون كبره وصغره من حساب هذه المسطرة لأنه متى أراد الاصطرلاب كبيراً كبر في طول المسطرة ليتباعد ما بين أقسامها ومتى أراد الاصطرلاب صغيراً صغر المسطرة ليتقارب ما بين أقسامها لأن فتح نصف قطر دائرة الاصطرالاب بقدر الثلث من طول المسطرة المقسومة بتسعين جزءاً ويكون قسمة هذه المسطرة إما في مسطرة من خشب صلب كالأبنوس والعاج أو ما كان في صلابتهما من الخشب والعاج وماشا كله في الصلابة واللون والعاج أجود من الأبنوس لكونه أسود لا تتبين فيه أجزاء المسطرة وإن كانت من نحاس كانت أجود من الجميع إذ المراد بالصلابة أن لا ينزل شيءٌ من رأسي البيكار في الخشب فيخل العمل فإذا أراد قسمة الصفائح فإنه يبدأ أولاً بفتح البيكار بقدر ما يغلب على ظنه أنه نصف قطر الصفيحة أهو في آخر الكتاب شهاداتان من أهل هذه الصناعة تشهدان له بإتقانها والبراعة فيها وهذه الصورة الأولى منها:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي در مقادير الكواكب وظهر من مكنونات الغيب أسرار العجائب وسير النيرين كتهادي الكواعب وأجرى المتحيرات كجري القواضب وقدر بروجها بين السابق واللاحق والطالع والغارب وجعل النجوم السبعة متحيرة بالقواعد والمراتب فنسبة الشمس كالسلطان والقمر كولي العهد والصاحب وزحل كالقهرمان والمشتري كالحاكم والمريخ كصاحب الجيوش والكتائب والزهرة كالخادم والمطرب وعطارد كالوزير والكاتب فسبحان خالق هذه المحاسن والغرائب ووصفها في كتابه المنزل على سيد الأنباء والشهداء والأباعد والأقارب فقال عز وجل: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله الكرام وأصحابه الأطايب وبعد فأقول وأنا أقل عباد الله وأصغرهم إبراهيم بن ممدود الحاسب الملكي(36/38)
المظفري الأشرفي: إني لما شاهدت الاصطرلابين قسمة السدس من عمل مولانا الملك الأشرف عمر بن مولان ومالك رقنا السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول خلد الله ملكهما وطول عمره من سنة 689 وصحة جميع ما عمله بهما من صحة الدوائر والمقنطرات والمراكز وأنصاف الأقطار والكواكب والحجرة والصفائح سبكاً وضرباً قسمة ووضعاً وصحة قسمة دائرة البروج وصحة العضايد وعيار المجموع فيهما ولم أجد فيهما مأخذاً إلا أن كان اليسير من جهة الصانع الخراط ومولانا خلد الله ملكه عارف به وبإصلاحه فشهدت له بالفضيلة وبتجويده في صناعة الاصطرلاب ووضعت له خطي هذا شاهداً على صحة ذلك وأجزت له أن يعمل ما شاء من ذلك أي من الاصطرلابات بم استقريته من إتقانه ومعرفته وذكائه وخبرته واختباري له في ذلك وامتحاني إياه وكذلك في اصطرلابين عملهما في سنة 689 أحدهما أصغر من الآخر قسمة السدس والأكبر فيهما قسمة الثلث أجزته وشهدت له بالصحة في الأربع اصطرلابات المذكورة وكذلك أجزته في عمله لساعات مستوية يستخرجها بترجهار يعمله علماً وعملاً وأن يعمل منها ما شاءَ لوثوقي بعلمه وعمله فيما استقريته من أعماله في جميع ما ذكرته عنه نفعه الله بما استفاده ونفعنا بما أفدناه وكتب أقل العبيد المظفري الأشرفي إبراهيم بن ممدود الجلاد الموصلي الحاسب في شهور سنة 690 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين وشرف وعظم ثم أقول وأنا أقل عباد الله إبراهيم الحاسب الملكي المظفري الأشرفي أن مولانا الملك الأشرف بن مولانا السلطان الأعظم الملك المظفر خلد الله ملكهما جدد اصطرلاباً قسمة السدس سنة 691 هجرية صحيحة وتحرير بالغ أعظم مما قبله مما استدللت على زيادة فضائله فالله تعالى يزيده من فضله وينور باطنه بعلمه بمنه وكرمه وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم.
وأقول أيضاً أن مولانا الملك خلد الله ملكه أوقفني على سموت باصطرلاب قسمه الثلث سنة 692 والسموت لعشرات فاستقريت الكثير منها أعني من السموت التي عملها بالآلات الصحيحة وبالحساب فوجدتها في غاية الصحة والتناسب مما استدللت بصحة يده وجودة ذهنه وتمكنه في العمل فحكمت بصحة ما يعمله من السموت وأجزت له أن يعمل بعد ذلك(36/39)
ما شاء من الاصطرلابات المسمتة وكذلك مما يعمله من الساعات الزمانية والمستوية وخطى الفجر والشفق بأي اصطرلاب شاء وذلك من جمادى الآخرة سنة 692 والحمد لله حق حمده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه كتب ذلك أقل العبيد المظفري الأشرفي إبراهيم الحاسب في التاريخ المذكور.
وهذه صورة الشهادة الثانية مهما: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعى آله وصحبه وسلم تسليما وكذلك يقول العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن علي الفهري المظفري أني شاهدت الاصطرلابات التي أتقن إحكامها ووضعها مولانا ومالكنا السيد الأجل العالم الأنبل الملك الأشرف ممهد الدنيا والدين عمر بن مولانا ومالكنا السلطان الأجل السيد الأوحد العالم العادل الملك المظفر شمس الدنيا والدين يوسف بن عمر بن رسول خلد الله مملكتهما فمنها اثنان قسمه السدس عملا في سنة تسعين وستمائة واثنان أحدهما قسمة السدس والآخر أكبر منه قسمة الثلث عملا في سنة تسع وثمانين وستمائة واصطرلابان قسمه السدس أيضاً عملا في سنة إحدى وتسعين وستمائة وشاهدت جميع ما عمل بها من صحة الدوائر والمقنطرات والمراكز وأنصاف الأقطار والقطرين المتقاطعين على ظهورها وامتحنت حروف العضائد المستعملة واعتبرت كل واحد من ربعي الارتفاع فيها وأدراجها من الواحد إلى التسعين ومربعات الظل وأصابعها الإثني عشر وإقدام الظل واعتبرت أرباع الحجرة في جميعها وأدراجها الثلاث مائة وستين وخط وسط اسماء مع وتد الأرض وخط المشرق والمغرب وانتهاء أطراف كل واحد من هذين القطرين إلى محاذاة أرباع الحجرة ودوائر المقنطرات ودائرتي مداري المنقلبين ودائرة مدار أول الحمل وأول الميزان وخط العصر وخط الفجر ومغيب الشفق والساعات الزمانية وفي الاصطرلاب السداسي الصغير المعمول في سنة تسع وثمانين وستمائة خطوط للساعات المستوية متقاطعة مع خطوط الزمانية ثم بعد أيام قريبة شاهدت الاصطرلاب قسمه الثلث المعمول في سنة تسع وثمانين وستمائة وقد سمت صفائحه الثلث لست عروض وهي عرض يج. . وعرض يج. وعرض يد هـ وعرض يد ل وعرض. . وعرض كاه فوجدت سموتها متقنة العمل صحيحة محققة قسمتها بعشر قسي عشر قسي من قسي السموت ووجدت الجميع من الاصطرلابات المذكورة بقسمتها وتاريخها كاملة الجودة والتحقيق والصحة وأجزتُ له صناعة(36/40)
الاصطرلاب ووضعها سبكاً وضرباً ورسماً مما استقريته من إتقانه ومعرفته وذكائه وفطنته واختباري لأعماله التي أحكمها وامتحاني إياها ثم أجزي له أن يعمل ما شاء من الساعات المستوية يستخرجها بطرجهار بحكمه علماً وتحقيقاً وشاهدت جهازين من إحكامه وعمله أحدهما فضة والثاني نحاس فوجدتهما في غاية التحقيق فليعمل ما شاء منها فقد وثقت بما استقريته منه في جميع ما ذكرته في خطي هذا ووثقت بثقوب معرفته وفطنته نفعه الله بالعلم والعمل آمين وذلك بتاريخ اليوم الثاني من رجب الأصب سنة اثنتين وتسعين وستمائة أحسن الله خاتمتها وصلى الله على سيدا محمد وعلى آله أجمعين.
وفي الكتاب تساهل كثير في المواضع واللغة والإعراب وهو مما يغمض عنه في مثل هذه الكتب لاسيما إن كان من طبقة الملوك الذين لا يساعدهم الوقت على التنقيح والمهم في مثل هذا هو تعليم الصناعة بأي عبارة كانت.(36/41)
مطبوعات ومخطوطات
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة
طبع أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخوه هذا الكتاب للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 وجلال الدين هذا من المكثرين من التأليف وبعضها جيد ممتع. أما هذا الكتاب فهو ظاهر من اسمه جمع فيه تراجم مختصرة للنحاة في كل عصر مستنداً فيه على ما انتهى إليه من كتب طبقاتهم على اختلاف العصور وقد تبين من الكتب التي سردها في المقدمة أن معظم كتب التاريخ المفقودة الآن كانت في عصره موجود بكثرة فاستدللنا على أن الزهد في الفن كثر بعد التسعمائة. والأربعة القرون الأخيرة هي عصور الظلمات لا محالة. وقد بدأه بالمحمديين ثم ذكر الأحمديين ثم ساق أسماء الرجال على حروف المعجم ووقع في 461 صفحة بالقطع الكبير وهو يطلب من مكتبه محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي الشهير في الحلوجي باثني عشر قرشاً ورقاً وخمسة عشر قرشاً مجلداً وهو من الكتب التي يجدر بكل طالب نحو أن يقتنيه ليعرف رجال فنه ويطلع على أحوالهم ونكاتهم وآدابهم. وقد اعتمد الطالبون في طبع هذا الكتاب على نسخة دار الكتب المصرية وصححوها بقدر الإمكان على ما ظهروا به من النسخ وأجادوا انتقاء حروف طبعها فشكراً لهم.
نهضة الأمة وحياتها
هي مقالات كانت دبجتها براعة الشيخ طنطاوي جوهري المشهور بكتبه العصرية ونشرها تباعاً في جريدة اللواء الغراء فحازت استحسان القراء وهي في موضوعات شتى اجتماعية وعلمية. وقد قدم له صالح بك حمدي حماد من أرباب الأقلام في هذه العاصمة مقدمة ذكر فيها ما حواه الكتاب فقال أنه ضم ثلاثاً وخمسين رسالة أو بحثاً جمعت فأوعت مما يهمنا معاشر المسلمين في جميع أقطار المعمور معرفته والإطلاع عليه فصور رجال الأمة أجمل تصوير وارشد الحكام أيما إرشاد ووصف الأمم المظلومة أحسن وصف وقال في المدنية وعلومها ما شاء أن يصوغ قلمه البليغ وجال جولة في علوم الإسلام والأزهر ورجال الدين وأفاض في شرح المجالس النيابية ببيان لم ينسج على منواله وذكر تأليف الكتب وتصنيف الأسفار وبيان التأليف عند الأمم ويكف يؤلف التاريخ ثم الشعر ودرجاته وذكر نظام الجندية(36/42)
والقرعة العسكرية إلى غير ذلك من الأفكار العالية التي تدل على علو كعبه في البيان والتبيين وقد وقع هذه السفر في 284 صفحة ويطلب من إدارة اللواء والمكاتب الشهيرة فنثني على مؤلفه وناشره وطابعه بما هم أهله ونشكرهم على هذه الهدية النفيسة.
تاريخ الحضارة
للمسيو شارل سنيوبوس أحد أساتذة كلية السوربون في باريز كتاب في ثلاث مجلدات سلسل فيه تاريخ الحضارة فالأول في الحضارة عند الأمم القديمة والثاني في الحضارة في القرون الوسطى والعصور الحديثة والثالث في الحضارة العصرية. وقد عرب صاحب هذه المجلة الجزء الأول منه الآن وبعد أن نشر في المقتبس تباعاً أفردناه في كتاب على حدة وهذا المجلد فيه ذكر الحضارة عند أمم الشرق القديمة من المصريين والكلدانيين والأشوريين والبابليين واليهود والفينيقيين والفرس وأمم الغرب القديمة وهم اليونان والرومان وقد توسع المؤلف كثيراً في الكلام على هاتين الأمتين حتى لم يبق في النفس شيءٌ من أمرهما كل ذلك على أسلوب لطيف وتنسيق في الغاية من الجودة وقد التزمنا فيه التعريب بالحرف مخافة أن يضيع شيءٌ من معانيه وإن كان هذا النوع من الترجمة لا يُحمد في الأغلب. وهو في زهاء 220 صفحة من صفحات المقتبس ويطلب في القاهرة بستة قروش أميرية من مكتبة المؤيد بشارع محمد علي بالقاهرة ومكتبة هندية بالموسكي ومكتبة البابي الحنبي. ومن دمشق من مكتبة محمد أفندي هاشم الكتبي.
الدين الإسلامي والتمدن
كراسة ألفها باللغة الإفرنسية السيد أبو بكر عبد السلام بن شعيب من تلمسان أتى فيها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تثبت أن الإسلام موافق كل الموافقة لروح التمدن الحديث فضلاً عن منافاته للمدنية كما يدعي بعضهم في أوروبا وقد أورد بما أورده خلاصة الشرع الإسلامي رداً على من يصوّرونه في صورة تغاير حقيقته وقيل أن فرنسا إذا أحبت أن لا يعود المسلمون من أهل الجزائر إلى ما كان عليهم أجدادهم العرب من الهمجية قبل الإسلام وجب عليها أن تضاعف عدد المدارس وتسهل على أبنائهم دخولها وتجعلهم بحيث يكونون على استعداد لإدراك مبادئ دينهم والتسامح رائدهم. وقد نشرت هذه الرسالة في المجلة الوطنية بباريز أولاً فنشكر لغيرة كاتبها وأدبه الغض وهي تطلب منه في تلمسان(36/43)
إحدى ولايات الجزائر.(36/44)
سير العلم والاجتماع
آثار خوزستان
إقليم خوزستان في فارس من الأقاليم التي رخصت حكومتها لفرنسا أن تأخذ منها جميع ما تعثر عليه من الآثار كما عقدت معها عقداً سنة 1900 يكون بموجبه لفرنسا حق استخراج العاديات من فارس كلها دون غيرها وقد حفر المسيو مورغان العالم الأثري في سوس عاصمة ذاك الإقليم فظفر بآثار مهمة حملها في ثمانين صندوقاً وراح يعرضها في متحف اللوفر بباريز وقد كتب عنها بعضهم في جريدة الآنال فصلاً إضافياً قائلاً أن الحفر ما زال في سوس قائماً على ساق وقدم منذ بضع سنين برئاسة هذا العالم الأثري وسوس هي المدينة الغريبة التي خربت مراث وأعيد بناؤها فأنشأ بالآجر المستخرج من أنقاض الأسوار في تلك المدينة قصراً حصيناً أشبه بقلعة ليكون في مأمن للقيام بمهمته وقد نجز بناءُ هذا الحصن وكانت هذه البعثة الأثرية من قبل عرضة لنهب الناهبين من سكان البوادي. واكتشف في الحفريات الحديثة بقايا المدينة الأولى التي كانت قبل المسيح بخمسة آلاف سنة واكتشفوا كمية من الخزف والأواني المنقوشة التي رسمت على مثال الصناعة اليونانية مما استدل منه على أن الصناعة الكلدانية أساس الصناعة اليونانية فإن ملوك خوزستان بعد أن خربوا بلاد الكلدان أخذوا إلى عاصمتهم سوس كل ما كان عند المغلوبين من الأعلاق والنفائس وزينوا به قصورهم. وأنك لتجد هذه الأعلاق المذكرة بتلك الحضارة في سوس أكثر مما تجد منها في بابل نفسها. وقد جمعت تلك البعثة ما طالت إليه يدها من الخزف المنقوش الذي كانت جعلت منه جدران قصر ملوك الإخمانيين ومتى جمعت كلها يكون منها صورة تامة يتأتى الوقوف بها على واجهات ذاك القصر وكيف كانت. قال ولقد دهشنا بما شاهدناه من تلك الأواني والأكواب والصحاف المنقوشة بالمشجر اللطيف وبصور الحيوانات التي جُعلت على نسق دلَّ على ذوق أكيد وذكاءٍ حقيقي وتحققنا أن هذا الخزف صنع بحذق يوازي حذق صناعنا في صنع الصيني وقد جعلوا منه أشكالاً كثيرة فمنه تماثيل دينية أو ألعاب للأولاد أو عجلات صغيرة أو غير ذلك من التحف والطرائف. وفي هذه المجموعة النفيسة تماثيل لمشاهير منها بعض رجال معروفين مثل تمثال الملك مونيشتوزو الذي أتى المسيو مورغان بقانونه الذي كتبه منذ أربعين قرناً قبل المسيح وقد(36/45)
كتبت على التمثال كتابة تؤكد أن ملك سوس بعينه.
الانتحار
أثبت الأستاذ قيصر لومبروز الفيلسوف الطلياني أن الحب هو أول باعث على الانتحار وإذ أن الرجال في العادة أكثر إقداماً على الانتحار من النساء في الغالب فقد بلغ عدد المنتحرين في إيطاليا في سنة 1875 و77 و78 ـ 2516 مقابل 569 منتحرة وإن عدد المنتحرات بعوامل الحب هو من 70 إلى 75 في المئة. وعدد الرجال من 20 إلى 40 في المئة وكذلك الحال في فرنسا فإن عدد المنتحرين 17000 مقابل 6000 من النساء فينتحر بدواعي الغرام 28 في المئة من النساء وسبعة في المئة من الرجال فقط وبهذا صدق المثل الإفرنجي القائل (فتش عن المرأة) إشارة إلى أنها السبب في كل بلية.
مساوئ الملح
ثبت بالتجارب الكيماوية والفسيولوجية مؤخراً أن الملح المستعمل في المطابخ لأجل تحضير الأطعمة يأتي في بعض الأحوال بأضرار شبيهة بالتسمم. ويكفي أن الكلى لا تفرز الفضلات من كلور الصوديوم بكمية كافية وتبقى في الجسم فتحدث فيه اضطرابات. وكان الأطباء يصفون لمن يصاب بهذا التسمم الاقتصار على اللبن لأن فيه راحة للكلى ولا ينشأُ من تناوله أقل تأثير في إخراج الفضلات. فيقل بالتدريج معد الألبومين الذي يخرج في البول بواسطة استعمال اللبن ويزول التورم والاستسقاء. إلا أن الناس لا يروقهم تناول اللبن ويريدون إبدال غيره به ويسوغ لهم استعمال اللحوم والخبز والسكر والأرز والمعجنات على شرط أن لا يكون فيها ملح قبل الطبخ ولا بعده. وقد قال الدكتور فندال القائل بحذف الملح من الطعام أن أحدهم أصيب بانتفاخ في كعبه ثم سرى إلى ساقه فكان يألم كثيراً فوصف له استعمال الخبز واللحم والبطاطا والزبدة ولكن بدون ملح فأسرع شفاؤه أكثر من اللبن ولكن ما أضافوا إلى الطعام شيئاً من الملح عاود المرض المريض. فمن ثم يرى الطبيب المشار إليه أن يمتنع تماماً عن أخذ الملح في بعض الأمراض.
الكنس
رأت بعض المجلات العلمية أن خير واسطة لدفع مضار الغبار من الدخول عند كنس الشوارع من النوافذ والأبواب بل من السريان إلى أنوف المارة وأفواههم هو أن لا يكنس(36/46)
الكناسون إلا بعد أن يرش الرشاشون وكذلك الحال في نفض البسط والأثاث فإن على من أراد أن لا يضر بصحة الناس أن لا ينفضها قبل أن يرشها بماءٍ لتصبح ندية وأن من الواجب على البلديات أن لا تغفل هذا الأمر الصحي.
اللبن الحليب
منذ تبين أن في بعض البقر جراثيم السل تنقل عدواها بواسطة لبنها أخذ الغربيون وهم أئمة في الوقاية يحترزون من أخذ الحليب من بقرة مريضة ويبالغون في التوقي إلا أن النفوس ما زالت على كثرة النظافة التي أصبحت طبيعية في الفلاحين وأهل المدن في الغرب غير مطمئنة في هذا السبيل فأنشأت مدينة روبيه في فرنسا محلاً لتربية البقر يعني فيه بصحتها ونظافتها عناية لا يكاد يصدقها العقل كما يعنى بصحة من يحلبونها ونظافة أجسامهم وأطرافهم.
أجور الكتاب
فرنسا من أكبر بلاد الحضارة كتاباً ولذلك قلت فيها أجورهم حتى لا تكاد تقوم بنفقات الطبقات الوسطى منهم أما في انكلترا فإن الكتاب قلائل وهم يعيشون في سعادة أكثر فقد ذادت أجورهم خمسين في المائة منذ خمس عشرة سنة. ونسب بعضهم ذلك لوجود نقابات للكتاب تنظر في مصلحتهم كما تنظر في مصلحة أرباب المطابع. ويقال أن تسعين في المئة من المسائل المادية في لندرا تفض بواسطة ست نقابات تمخضت هذا الغرض فتدفع المجلات ثمن القصة في الغالب من ثلاثة جنيهات إلى خمسة في كل ألف كلمة وممن يربحون كثيراً من كتاباتهم كبنغ الكاتب فإنه يأخذ شلناً عن كل كلمة تخطها يده ويأخذ كونان دويل ثلاثة فرنكات عن كل كلمة من سلسلة رواياته شارلوك هولمز. أما في هذا الشرق الأدنى فقد ارتق أجور الكتاب في السنتين الأخيرتين فابتدأت مصر تدفع للطبقة العالية من كتاب الجرائد رواتب متناسبة مع ثروة الصحف وحالة البلاد وتتبعها الأستانة الآن التي تنسج على منوال الصحف الأوروبية في محرريها ومؤازريها ومكاتيبها.
غلاء المنازل
ارتفعت أجور المنازل في جميع عواصم الأرض في هذا القرن الازدحام والاجتماع وقد نشرت نظارة الأشغال في باريز إحصاءً جاء فيه أن المنزل الذي كان يؤجر بثمانين فرنكاً(36/47)
سنة 1810 أصبح يؤجر بمئة وعشرين سنة 1850 وبمائتين وعشرين سنة 1870 وبثلثمائة وعشرين سنة 1900 وبثلثمائة وخمسين سنة 1903 ومثلها قواعد الولايات وإن تكن بنسبة أقل.
النساء والأطفال
قررت فرنسا أن يمنع العاملات إذا كانت سنهن أقل من 14 من حلم رزم وزنها أكثر من خمسة كيلو غرامات والأولاد أن لا تتجاوز حمولتهم أكثر من عشرة كيلو غرامات. كما حظرت على الفتيان والفتيات أن لا يستعملن الدراجات الحمالة التي تسير بالبترول إلا إذا تجاوزن سن الثامنة عشرة.
المواليد
يولد في كل ألف امرأة تختلف أعمارهن من 25 إلى 50 في برلين 47 مولوداً من عائلة غنية و157 من عائلة فقيرة وفي باريز يولد في طبقة الأغنياء 37 مولوداً و108 أولاد في الطبقة الفقيرة ويولد في فيينا 71 مولوداً في كل بيت غني و200 في الألف في البيوت الفقيرة وفي لندرا 63 مولوداً غنياً في الألف و147 مولوداً فقيراً.
الهواء
حملت بعض الصحف الباريزية حملة صالحة على قلة الهواء الذي يتخلل الأحياء والشوارع وقالت أن الفراغ آخذ بالقلة مع الزمن وأن قلة الساحات العامة والحدائق هو الذي يكثر من الأمراض ولاسيما السلُّ وأنه ثبت أن الأحياء القليلة الساحات والفسحات كانت أكثر تعرضاً لهذا الداءِ الوبيل. وللندرا 1168 هكتاراً من الأرض البراح ما عدا إحدى عشرة حديقة في وسطها وفي باريز 214 هكتاراً من الفراغ ما عدا غابة بولونيا التي تحسب ضاحية فالواجب الإكثار من الحدائق لأن الهواء هو الصحة.
التمثيل للأولاد
رأى مارك توين الكاتب الأميركي المشهور أن تقام دار للتمثيل خاصة بالأطفال والشبان فلبي طلبه وأنشئوا دار تمثيل سموها مسرح تربية البنين والناشئةت ولا يمثل فيها إلا المولعون بفن التمثيل ويقتصرون في تمثيلهم على الروايات المدرسية وبذلك يمتنع كثير(36/48)
من الشبان عن غشيان دور التمثيل التي لا تمثل فيها إلا الخلاعة والرقاعة.
جيش المتمردات
قال أحد كتاب الانكليز لا يزال عدد المتمردات من العاملات الانكليزيات في ازدياد ففي انكلترا زهاءُ خمسة ملايين ونصف من النساء العاملات وهو جيش أضخم من جيش كسركس ملك الفرس بل أكثر من سكان لندرا. فمنهن 867000 عاملة في معامل القطن و903000 في المصنوعات اليدوية و80500 في التجارة ونحو مئة ألف في الزراعة و55784 حاسبة و200000 معلمة و44000 موسيقية وممثلة و79000 مرضعة و292 طبيبة. ومن هؤلاء النساء ثلاثة ملايين لم يتزوجن وإن كن جاوزن العشرين من العمر ومنهم مليون رضين أن يبقين عانسات بعد بلوغهن الخامسة والثلاثين وعدد الأيامى منهن 124647 أيامى.
العامل العظيم
تبين أن أديسون مخترع الكهربائية. .
ساعة أي أنه عمل ما يوازي عمل العامل الهم في مئة سنة بيد أن المرء لا يعجب من عظمة أعمال كبار الرجال بقدر ما يعجب من مقدرتهم على معاناة العمل.
مطاعم الشعب
أي امرئٍ فيه ذرة من الإنسانية يمر بجماعة من العملة وقت الظهر هو يتغذون ولا تأخذه الشفقة عليهم ويتأثر لجور هذه المجتمعات في قوانينها. تعطي الغني حتى تتخمه وتمنع الفقير حتى تميته. ولكن ابن هذه البلاد جبل على القناعة من طبعه إذا حاز الخبز القفار عده نعمة وإن تيسر له أن يلته بشيء من مرق المخلل أو يجمع معه الزيتون أو البصل أو الفجل اغتبط وعد ذلك سعادة. واليوم الذي يتناول فيه اللحم والأرز والبقول والفول هو يوم عيده وهنائه.
بيد أن ابن الغرب ليس كابن الشرق في هذه الحال وذلك لأن مناخ الغرب يقتضي من جيد الأطعمة ما يقدر معه العامل أن يقاوم هواءَ بلاده ويتحمل مشاقها ولاسيما عملة المعامل. وهناك جمعيات وأفراد كثيرون ممن أسبغ الله عليهم نعمه يفكرون للبائس الفقير أكثر مما يفكر لنفسه ويأسفون لحرمانه فيسعون لتنعيمه حتى يساوي أهل السعة في بعض ما يجب(36/49)
لقوام جسمه من المطعم والمسكن لتستفيد بلاده منه إذا جادت صحته وسلمت آدابه.
هناك من يتأثر المحسن إذا رأى أولاداً يأكلون قليلاً لفقرهم ويطعمون أردأ الأطعمة ويشفق الفسيولوجي على الفتيات العاملات لقلة ما يدخل معدهن من الطعام المغذي ويهتم الأخلاقي إذا رأى ابنة تهيم في الشوارع على وجهها لتملأ بطنها. ولذلك قام فيهم أمثال الأميرة دي غال (الملكة فيكتوريا) في لندره ومرغريتا مورجانستين في برلين وروتشيلد في باريز وغيرهم أو غيرهن في عواصم الغرب وقواعده حيث تصعب المعيشة لازدحام أقدام السكان.
ولم يرَ القوم هناك أحسن من إنشاءِ مطاعم الشعب على النحو الذي أسسه جماعة من محسني اليونان في الإسكندرية يأكل كل فيها العامل أو العاملة هنيئاً مريئاً لقاءَ دريهمات تمكنه حالته من أدائها كل يوم. وكانت سويسرا هي السابقة إلى إنشاء أمثال هذه المطاعم والاستكثار منها وبعضها مما أنشأه النساء. وكم للنساء في الغرب من يد في الخبرات كما لهن أيد في غيرها.
رأى أصحاب المعامل هناك أن مصلحتهم تقضي عليهم بأن يتغذى عملتهم تغذية جيدة فأنشئوا لهم مطاعم يبيعونهم فيها جيد الطعام بثمن بخس وذلك لأن هذه المطاعم لا يقيد من أربابها ربحاً كثيراً بل يطلبون أن تقوم بنفقاتها فقط وتسر عملتهم وتقتصد لهم من أوقاتهم ومالهم وتنفعهم في صحتهم وتدفع عادية الأمراض عنهم. وقد أسست في باريز مدرسة عالية أشبه بكلية للشعب وفي جوارها مطاعم للتلاميذ يتناولون طعاماً جيداً بثمن بخس كما يتعلمون مجاناً.
وزاد عدد هذه المطاعم في أوروبا في العهد الأخير ولاسيما في انكلترا والسويد والنروج وسويسرا وألمانيا وفرنسا بسبب كثرة المدارس التي يتعلم فيها الفتيات فن الطبخ وتدبير المنزل فيعانين صنع ألوان الطعام ليتعلمن بالعمل وكل ما زاد منه ترسله إدارات المدارس إلى مطاعم أنشأتها في الجوار لتبتاعها العملة والعاملات ولاسيما العاملات بثمن قليل.
ولا تتوخى معظم تلك الشركات والجمعيات الربح من تأسيس مطاعم الشعب وقد رأت بعضها أن تحدد القدر المقتضي لرأس المال من الأرباح وما زاد عنه وهو قليل أيضاً يستعين به على إنشاء مطاعم أخرى في أحياء أخرى أو مدن أخرى. وكانت انكلترا بدأت(36/50)
بإنشاء هذه المطاعم على عهد الملكة فيكتوريا أميرة دي غال قبل توليها عرش أجدادها ففتحت هي وزوجها المطعم بيدها وأكلت منه وجبة كلفتها أربعة بني ونصفاً (45 سنتيماً) ثم كثرت المطاعم على هذا النحو في انكلترا وأكثرها لا يكلف زيادة عن نصف فرنك كل وجبة تحتوي على بقول ولحوم وجزءٍ من لبن.
وفي ألمانيا جمعيات كثيرة من النساء أنشأت في أمهات المدن الألمان ولاسيما الصناعية مطاعم كثيرة تكلف الوجبة فيها أربعين سنتيماً والطاهيات والخادمات هناك من النساء. وقد أنشئ فيها محال لبيع اللبن والشاي والزبدة والقهوة بأثمان رخيصة لتقاوم أعمال المحال التي تبيع المسكرات. وتفردت ألمانيا وحدها بإنشاء مطاعم للمرضى الناقهين تقدم أطيب الأطعمة بحسب وصية الطبيب بأثمان لا تزيد الوجبة منها على ستين سنتيماً. والفضل في ابتكارها أولاً لمعمر كروب المشهور ثم عمت هذه الطريقة معظم أقطار ألمانيا.
وللنساء السويسريات يد طولى في إنشاء مطاعم للشعب. ومن جملة الفنادق التي أنشأتها فنادق ينام فيها المرء ويأكل ويشرب ولا يدفع أكثر من ثلاثة فرنكات ونصف وترى فيها النظافة على أتم ما يمكن أن يكون والمواد جيدة ولا تجد في معظم هذه المطاعم أثراً للمشروبات الروحية وفي بعضها محال للمطالعة والتسلية المشروعة. وقد نجحت مطاعم الشعب في ولايات فرنسا أكثر من نجاحها في باريز لغلاء الأجور فيها وارتفاع أسعار مواد الأجور وثبت بالاستقراء للباحثين أنه لا يتأتي إطعام شاب في مطعم طعاماً كافياً بأقل من فرنك و15 سنتيماً إلى فرنك وربع.
ويرى بعض الاجتماعيون أن مطاعم الشعب يجب أن لا تحصر عملها في إطعام الطعام الجيد للفقراء ممن ينتابونها بل أن تعلمهم وتربيهم وأن لا يكتفى فهيا فقط بحظر بيع المشروبات الروحية بل أن يستعاض عنها بالأشربة والحواء المحللة الصحية ما ينسى معها الذين اعتادوا تناول الكحول أن لا يعاودوا احتساءها. والسكر أحسن مولد للحرارة في الجسم ومعين على الهضم ولذلك رأت ألمانيا أن تدفع كل يوم ستين غراماً من السكر لكل جندي يتناوله مع الماء والقهوة والشاي. وأن البلاد التي لا يطيب ماؤها حريٌّ بها أن تغلي الماء على النار في الأوقات التي إلا تنتفع بها وتمزجه بقشر البرتقال أو الأقحوان فإذا جاء المستطعمون يتناولون منه فيجمعون فيه سكراً أو يكرعونه صرفاً وهو يغنيهم عن كل(36/51)
شراب وينشط أجسامهم. وظهر من فوائد مطاعم الشعب أن الأمراض كانت تقل من يطعمون فيها لأنهم يكرهون على غسل أيديهم قبل الجلوس إلى الموائد. ومعلوم أن طريق الفم هو الواسطة العظمى في العدوى من الأمراض ولاسيما الهواءُ الأصفر فكان من هذه المطاعم أن علمت المختلفين إليها أن يطهروا أيديهم طوعاً أو كرهاً.
هكذا يعمل الغربيون وعلى هذه السنة جرى بعض النزالة اليونانية في الإسكندرية منذ أشهر ففتحوا مطاعم لأمتهم يصرف فيها القليل وينتفع فيها بالجزيل. فهل الأفراد في أمتنا أن ينهضوا بدافع الشفقة على مثال الأمم الناهضة فيؤسسون مطاعم للبائسين ولاسيما في العواصم ومدن الأقاليم الكبرى حيث الغلاء ضارب بجرانه بما يعد معه غلاءُ أكبر مدينة في أوروبا رخصاً وسعة.
آداب الجرائد
كتب الدكتور رنيول في مجلة مستندات الترقي مقالة في الجرائد السياسية وآدابها قال فيها وهو يقصد في الأكثر صحف فرنسا: إن المرء يقع اختياره في الغالب على مطالعة جريدة من الجرائد تطلعه على الشؤون السياسية والحوادث المنوعة والعلوم والآداب بل على كل مطلب من المطالب اللازمة ولذلك كانت الجرائد هي المهذبة العظمى للأمة إلا أنها تستعمل مالها من التأثير في الشر أحياناً فمن جرائدنا من جعلت همها الوحيد لغت الأنظار إلى مطالعتها فهي تبذل في هذا السبيل كل شيءٍ فتدعو من أجل ذلك أشرف العواطف وتقلبها إلى شهوات ضارة فتجعل الوطني مهووساً والمؤمن متطرفاً والمتسامح مبتدعاً والمنتخب المتعقل سياسياً ناقصاً وتوقد النيران التباغض بين الأجناس والطبقات والأديان والآراء وبفضل الجرائد تنقسم الأمة إلى شطرين متعاديين يوشك أن يحمل أحدهما على الآخر في المسائل العادية كإعادة النظر في إحدى القضايا.
هذه الجرائد تعظم الحوادث الساذجة لتستكثر من القراء. أن دعت إلى الاجتماع لسباق الخيل تقلب علم الفروسية ظهراً إلى بطن وإن أحبت عقد مؤتمر من التجار تضاعف ثروة الأمة عشرة أضعاف ما هي عليه وأن اقترحت الاحتفال بسباق السيارات تزعم أنها أحيت هذه الصناعة. نعم هي تدعي أيضاً أنها تظهر المحكوم عليهم من الأبرياء وتشهر الصناعات السامة وتشرف على المطاعم المغشوشة.(36/52)
للاستكثار من القراء تقيم الجرائد مسابقات سخيفة فهي تقترح عدَّ حبات الدخن الموجودة في زجاجة وأن تحزر الكلمات المحذوفة من رفرف (قصة في أسفل الجريدة) تافه وأن يعثر على كنز مخبوء في إحدى المتنزهات العامة وذلك بأن تعلن بأنها تدفع جوائز تقدرها بمئات الألوف من الفرنكات. هي تعمل ذلك ولا حرج عليها لأنه لا يكلفها غير الوعد فإذا ما انحل الإشكال المطلوب حله فلا يكون إلا على يد شريك لها تقاسمه الربح أو لا تعطيه منه شيئاً.
لأجل أن تحبب الجرائد قراءتها تغرس فيهم الميل إلى قلة الرصانة وسماع اللغو والعبث فتقص عليك كيف أن إحدى الممثلات تلبس قفازيها (كفوفها) وتركب في المركبة وتذكر كل تفصيل عن غانية اشتهرت وتورد لك أسماء أشأم الأشرار مورية أنهم من الأبطال تستجلب عليهم الرحمة وتفاوضهم بعناية. لإكثار هذه الجرائد قراءها تستخدم رقة القلب الكاذبة في العامة بأن تأتيهم بحوادث غريبة منوعة ومدهشة تقيم وتقعد. فإن مخبري الجرائد يجتمعون كل مساءٍ في القهوة فإذا لم تحدث في المدينة حوادث خصام ولا توقيف أحد بالقوة ولا انتحار ولا فجائع عشق ولا غيرها مما يقضي عليهم أن ينشروه في جرائدهم يخترعون شيئاً منها بالاتفاق بينهم اتفاقاً لا يخرج عنه أحد.
هذه الجرائد تدعو الناس إلى قراءتها بنشر أنباء الاكتشافات الكاذبة والمبالغة في رفع أقدار أدعياء العلم إلى السماكين وتتملق للمتأدبين المنحطين والموسيقيين الساقطين. نعم هي تساعد على نمو الفضائح مدعية أنها مولعة بالحق ولكنها تتحرز من إفشائها إذا كان فيه مس إحساس بعض الشركات الكبرى. وحدث ما شئت أن تحدث عن تلطفها في ذكر نقابات باعة الخمر فهي تتوقى من ذكر اسم سكير وتستعيض عنه عندما يأتي في باب الأخبار المنوعة بلفظ المغضوب أو فاقد الصواب.
ومتى أفلحت تلك الجرائد بكثرة سواد قرائها لا تستنكف من بيع أعمدتها للإعلان عن أرباب الموبقات وبائعي السميات واللصوص. لا تراعي فيما نشر إلا ولا ذمة ما دام المعلنون يدفعون لها أجور إعلاناتهم. وليس أحسن من الجرائد للرقيق إلا بيض يطلب على لسانها أحدهم على صفة أنه رجل في بلد بعيد يريد فتاة لتكون في بيته وصيفة أو معلمة أو مؤنسة فإذا حُملت إليه لا تجد المسكينة غير بيوت الريبة تنتظرها وكذلك الحال في(36/53)
المتجرات بالأعراض من النساء فإنهن يعمدن إلى الصحف فيجعلنها وسيطة بينهن وبين زبونهن مقترحة بأنهن يعطين دروساً في اللغة أو يعرضن تحفاً ونفائس.
ولقد يجعل باعة الترياق والأدوية الشافية من الصحف واسطة لممارسة طبهم ولا ينالهم عقوبة فيوصون باستعمال العقاقير الضارة مثل خلاصة التيروييد والمسهلات السريعة وغيرها. وكذلك يفعل الماليون فيها للإعلان عن مسائل لهم تحوي في مطاويها الغش والخديعة وتخرب بيوت السذج من الناس.
وكثيراً ما تبلغ الحال بتلك الجرائد أن تهدد بعض الناس أو يرضونها بما تريد وتنشر خبر فضيحة وقعت واعدة أن تأتي من الغد بشرح واف على ما جرى والله أعلم متى يجيء هذا الغد إذا خف إليهم المفضوح فرشاهم ليسكتوا.
أيها القارئ أنك إذا ابتعت الجريدة الفلانية تعتقد بأنها لا تكلفك غير فلس واحد فانزع هذا الوهم من نفسك فكثيراً ما يكون منها أضرار بصحتك وثروتك وشرفك فما تدفعه من ثمنها يجعلك شريكاً في جرائمها.
ولقد سرى فساد هذه الجرائد ولصوصيتها في الأخلاق حتى أن القوم لم يعودوا يفكرون في لومها. ولما اتهم في قضية برزخ باناما أناس من مشاهير كبار رجال السياسة طالب الصحافيون منهم بأجرة المقالات المنشورة كأنهم يطلبون بحق ولكن تلك المبالغ التي قبضوها تجاوزت الأجرة المعتادة بما لا يقال.
هذا والحكومة تعين الجرائد على ما هي في سبيله فهي لا تكتفي بإعطائها مبالغ من المال سراّ بل توافقها على جميع مطالبها فتساعدها حين الحاجة بجندها لتستخدمها إعلاناً عن نفسها وتضع قسماً من أسطولها تحت أمر أرباب الجرائد ليجعلوا صفة رسمية لسباق القوارب الذي يقومون به وتسحب الحكومة يانصيب باسمها إكراماً للصحف. قال لي أحد مديري الجرائد ذات يوم: أنا لا أدعو إلى الفنون ولا إلى الآداب ولا إلى العلم إنني تاجر وأريد أن أنظر في مصلحتي وما جريدتي إلا حائط يعلق إعلانه عليه كل من يؤدي أجرته. قال هذا ولكن فإنه أن هذا الحائط متحرك يدخل في كل مكان ويزيد عدده إلى ما لا نهاية له يبيعه من القارئ. فأنت أيها الصحافي مسمم لعقول العامة لا تقل في ضررك عن ذاك (البدّال) الذي يغش المأكولات.(36/54)
سأل أحد كبار الأغنياء الأميركان ذات يوم عن أحسن الطرق التي يتيسر له أن يصرف فيها جزءاً من ثروته في عمل خيري ولو سمع مني لرأى حاجتنا الماسة كل المساس إلى تأسيس جريدة سياسية ذات وقار وحشمة وأعني بها جريدة تقول الحقيقة أبداً أو ما تعتقد أنه الحقيقة ولا تنشر إلا الإعلانات التي تعترف بصحة ما فيها.(36/55)
صدور المقتبس
نحمد الله على ان وفقنا إلى الجري على سنة النمو الطبيعي في هذه المجلة وهدانا إلى سبيل التسهيل في اقتباس الفوائد وأقباسها جهد الطاقة على صورة مقبولة في الجملة ولم يزين لنا الخوض إلا فيما درسناه واعتقدنا فيه الغناء. ونشكر لمؤازرينا من أهل العلم وحملة الأقلام الذين جعلوا من المقتبس مباءة لبنات أفكارهم وخزانة لخلاصة أبحاثهم كما نثني على من نشطونا على أطراد الخطة التي سلكناها ونوهوا بها ولاسيما تلك الفئة الفاضلة العاقلة من علماء المشرقيات من الغربيين سواءٌ كان بما نشروه في مجلاتهم أو بتفضلهم بمكاتبنا بما يشف عن حسن ظن بضعفنا وفضل أدب فطرت عليه نفوسهم. ولقد لقينا في عامنا هذا من إقبال القراء في كل قطر تقام فيه للعربية سوق ما اغتبطنا به فزاد الطلب على السنتين السالمتين حتى اضطررنا إلى إعادة طبع عدة أجزاء كانت نفدت من عندنا فاستقام بذلك حسابنا ووازى الدخل الخرج في نفقات الطبع والنشر.
ونرجو من المشتركين أن يعذرونا على إسراعنا في إصدار الأربعة الأجزاء الأخيرة من السنة الثالثة دفعة واحدة. . فقد اضطررنا بسبب ارتفاع الضغط عن العقول وانتشار حرية المطبوعات في البلاد العثمانية إلى مغادرة هذا القطر السعيد وسيصدر المقتبس إن شاء الله في غرة محرم القادم من مدينة دمشق قاعدة بلاد الشام بعد أن صدر في عاصمة القطر المصري ثلاث سنين آخذين على النفس أن لا نحيد قيد شبر عن الخطة المرسومة فنصرف العناية في تمحيص المسائل بقدر ما تسمح به الحال ونتخير الموضوعات التي تفيد وتلذ. وفي الختام نودع وادي النيل ونهدي سلامنا لأهل علمهم الله علماً يحفظون به كيانهم ويعلي بين المتحضرين شأنهم. ونستغفره عز سلطانه مما طغى به القلم وزلت به القدم أنه أكرم مسؤول.(36/56)
العدد 37 - بتاريخ: 1 - 2 - 1909(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
سنتنا الرابعة
يفتتح المقتبس عامه الرابع بحمد الله ثناؤه والشكر على ما وفق إليه من نشر الحقائق التي يهديه إليها البحث والدرس لاهجاً بالدعوة التي طالما دعا إليها مجملاً ومفصلاً من أن مقصده نبث دفائن المدينة العربية وبث خزائن الحضارة الغربية مع ما يقتضي لذلك من النظر في تاريخنا وتاريخ الغربيين وآدابنا وآدابهم ومناحينا وأعمالنا وأعمالهم ناعياً عَلَي الجامدين عَلَى القديم إذ الاقتصار عليه وحده هو العقم بعينه داعياً إلى تناول الضروري من الحديث لأن القديم وحده يبلى ولا حديث لمن لا قديم له ومن لم يحرص على جديده فهو أقرب إلى الزهد كل حين بقديمه.
ندعو إلى الأخذ بمعارف الغربيين لأن ما أصاب هذا الشرق من ضعف العقول والملكات نشأ عن انصراف القلوب عن الاهتداء بهديهم ونهج سبيلهم في مادياتهم ومعنوياتهم والوقوف عند حد ما رسمه المخرفون والمخرقون فصدونا عن سبيل الانتفاع بالماضي وبالحاضر وحرموا بالتعصب الممقوت ما لم يحرمه عقل ولا نقل وسدوا الآذان عن سماع داعي المدنية وغضبوا عن الإبصار عن النظر في بدائع العلم والصناعة.
وإن المقتبس ليغتبط اليوم بصدوره من ضفاف بردى بعد أن انتشر عَلَى ضفاف النيل ثلاث سنين ولئن كان بردى بعض جداول النيل وترعه فإن المسك بعض دم الغزال ولئن قدر لمصر اليوم أن تسبق الشام في قوتها الأدبية والعلمية فليس ذلك من الجديد لما عرف به قديمها وإن كان وادي النيل أفسح وأخصب فوادي جلق الفيحاء أثمر وأعشب والسر في السكان لا في المكان. فعسى أن لا تكون أرض الشام أقل استعداداً لقطف ثمرات العلوم والمعارف وأن يظل مؤازرونا على إتحاف هذه المجلة بنتائج عقولهم فلا تعظم فائدة العمل إذا استقل به الفكر الواحد ولا تتنزع بفرد أفانين الفنون والآداب ونسأله تعالى تسديدنا وهدايتنا.(37/1)
الشام والحرية
سادتي الفضلاء
أحمد إليكم الله الذي آخى بينكم فجمعكم في صعيد واحد بعد أن كانت كلمتكم متفرقة وأشكره تعالى الذي جعل لي لساناً ناطقاً في هذه الدار الكريمة المشرقة بأنواركم المتألقة وأتقدم إليكم بالثناء الصادر من صميم الفؤاد على تنازعكم بإجماعكم على طلب مقولة مني في هذا المقام وقد سئمت الكلام فهربت من مصر إلى الشام ولكنني أظن أن الله كتب عليّ الكلام حتّى يوم الحمام فليس من مفر والسلام.
بيد أني أسألكم بالصفح يا نجوم الفيحاء عما تجدونه في محاورتي لكم من التقصير فعذري ظاهر وأنتم أنتم الكرام.
لعل هذه تكون أول محاضرة في ربوع هذه الحاضرة بعد أن هبت عليها نسمات الحرية العاطرة وقد طال عليها الاستعباد. والحرية خلق شريف يجاهر بسلطانها الإنسان بما يريد ما دام داخلاً في حدوده المرسومة له ولا يتعدى على دائرة غيره فلذلك أردت أن أتكلم عن شيءٍ من حضارات الإسلام التي توطدت دعائمها في دمشق الشام وفي دار السلام وفي القاهرة الفاطمية وفي قرطبة الأموية. فلأجدادكم في هذه الحاضرة الباهرة فضلان بدمشق وبقرطبة وأنتم البقية الصالحة لهؤُلاء الأسلاف الأشراف والأمل معقود بكم أن تقتدوا بهم وتزيدوا عليهم كما هي سنة الترقي وكما هو شعار الاتحاد.
فلم يبق لكم عذر بعد اليوم في وضع دعائم النهضة الحديثة بدياركم الشجراء الزهراء وقد كمنت فيكم تلك البذرة الصالحة على ما شاهدته بعيني وخبرته بنفسي.
ألا ترون من الفضول أيها الفضلاء أن يقوم فيكم نزيل من النزلاء ويناجيكم بما أنتم أهله بلا مراء. لعمري هذا منتهى الفضول من الواقف بينكم وهو ضعيف وصوته أضعف لأنه لا يتكلم أمام مائة ألف إذ يعتقد أن كل واحد منكم بألف. فأنتم إن لم يكن لكم عذر بعد اليوم في النهوض بأمتكم وبلادكم فلي ألف عذر في هذا المقام وأنتم أنتم الكرام. خصوصاً إذا اعترفت لكم بأنني من الطائفة الثالثة التي أشار إليها الخليل بن أحمد في قوله أن الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك غافل فنبهوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك جاهل فعلموه ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك مائق فاحذروه. لا أريد الافتخار بقولي لا أدري لأنني لا(37/2)
أرضى بذلك المذهب الذي يزعم أصحابه أن من قال لا أدري فقد دري أصف العلم وإنما أرتضي مذهب إبراهيم بن طهمان الخراساني فإنه ولد بهراة ونشأ بنيسابور ورحل في طلب العلم ونال منه قسطاً وافراً حتى كان له ببغداد جراية فاخرة من بيت المال فسئل يوماً في مجلس الخليفة فقال لا أدري فقالوا تأخذ في كل يوم كذا وكذا ولا تحسن مسألة فقال إنما أخذت على ما أحسن ولو أخذت على ما لا أحسن لفني بيت المال ولا يفنى ما لا أدري. فأعجب أمير المؤمنين جوابه وأمر له بجائزة وزاد في جرايته.
فلذلك أرى في إجماعكم عليّ إلزامي بمحاضرتكم على ما أنا فيه من تشتت البال بالأسفار والحنين إلى الديار إنكم إنما قصدتم أن تشجعوا القائمين بالعمل على إحياء حضارة الإسلام وشد أزر الطالبين للعلم فلذلك امتثلت أمركم لئلا أخرق الإجماع ولئلا أكون شاذاً عن رأي الجماعة وتمثلت بما قاله الخليل أيضاً فقد قال ثلاثة تيسر المصائب سهر الليالي والمرأة الحسناء ومحادثة الرجال. فقد جئت لأحادثكم وأستفيد منكم فأردتموني على الخطابة بينكم فكان مثلي معكم كمن يحمل الصدف إلى عمان ولا أقول الدرر أو كمن يحمل الغرض من علوم الشرق إلى أهل دمشق ولا أقول الجوهر.
سادتي الكرام
مصر والشام توأمان ربطتهما الطبيعة والأخلاق قبل الإسلام وبعد الإسلام بعروة وثقى ليس لها انفصام فلا عجب إذا كانت كل منهما تحن للأخرى وتشاركها بعاطفة الود والقربى فيما يحل بها من سعد ورخاء أو ما ينزل عليها من نحس وشقاء لهذا تروني يا أبناء الأكرمين لا أستغرب منكم هذا الحنين لرجل من أبناء النيل أتاحت له الأيام أن يحل بركابه في أرض الشآم وقد كان آلى على نفسه أن لا يضع قدماً في أرض سورية ولا في غيرها من أرجاء السلطنة لما لاقاه من صنوف الحيف حينما غرر بنفسه في أحد فصول الصيف فولى وجهه شطر قبة الإسلام منذ بضعة أعوام.
أما الآن قد تفككت قيود الاستعباد ودالت دولة الاستبداد وزالت سلطة الفرد وقامت شورى الأمة على أساس ثابت كالجبال الرواسي وأعني به القانون الأساسي فأشرق نور الدستور على الجمهور فقد انفك عنه قسمه وصار في حل من العهد الذي أخذه على نفسه فلم يتمالك من الشخوص في أول فرصة إلى تلك الربوع التي خفقت عليها رايات الحرية في صدر(37/3)
الإسلام فمرحت تحت ظلالها ونالت بها أقصى آمالها ونثرت ثمراتها في الشرق ثم أرسلت فروع هذه الشجرة الزاكية النامية إلى ما وراء البر فصادفت خير مغرس في رياض الأندلس فإن الحرية الإسلامية أينعت لأول مرة في الفيحاء فتأرجحت بأريجها الأرجاء وأنبتت حضارة الإسلام في أرض جلق فازدهى بها المغرب كما اختال بها المشرق.
امتازت دولة العرب القائمة في دمشق على عهد معاوية ومن تلقى صولجانه بنعمة الحرية التامة حتى كانت هذه البقعة المباركة عروس الدنيا وقرارة المجد وكهف الشرف وأشرق سناها على الدنيا من أدناها إلى أقصاها.
غير أن الإنسان جبل على الاندفاع مع التيار وعدم الوقوف عند الحدود فلم تلبث هذه الحرية أن انقلبت إلى الإباحة فصار الناس فوضى وكان رؤوس الدولة أول من أسرف في الإساءة إلى الحرية فتابعتهم الأمة والناس على دين ملوكهم فانهار هذا الملك العظيم وغاضت عيون الحضارة في دمشق التي تزدان على الدهر بعيونها الفياضة.
لذلك أناشدكم الله أن تتعهدوا الحرية التي عادت إلى ربوعكم في هذا العهد السعيد فتحافظوا عليها ولا تفرطوا في العناية بها حتى لا تعود إلى الذبول فكفاكم ما حاق بكم من الخمول بسبب الانحراف عن صراطها المستقيم وهذه نصيحة خالصة أنحضكم إياها يا وجوه العرب لئلا تضيع منكم الحرية بتجاوز الحدود الذي يجعلها إباحة فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وكفاكم موعظة ما قاله مروان آخر الأمويين حينما ضاع ملكه في الشام وفر إلى وادي النيل فالتجأ هو وأهله وشيعته إلى كنيسة في قرية بوصير من صعيد مصر فلحقه المسودة أي جنود بني العباس وشعارهم السواد وكانوا في نفر قليل جداً بحيث كان من أسهل الأمور على مروان ومن معه أن يبيدهم عن آخرهم لولا أن دولته كانت في أدبار ودولتهم في إقبال فلم يمهلوه حتى يطلع النهار فلجأُوا إلى شجر ونخل ثم ناوشوه القتال فخرج إليهم وهو يقول: كانت لله علينا حقوق فضيعناها ولم نقم بما يلزمنا فحلم عنا ثم انتقم منا. ثم فكر في كثرة جيوشه بالشام فقال: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة. وذلك أنه كان عندما استفحل أمر بني العباس استعرض جيوشه بالرقة فمر به من العرب وحدهم ثمانون ألف فارس على ثمانين ألف فرس عربي. ثم احتزوا رأسه وأخرجوا أكبر بناته من الكنيسة وهي ترعد فقيل لها لا بأس عليك فقالت أي بأس أعظم من إخراجي حاسرة من حيث لم(37/4)
أر رجلاً قط. ثم أجلسوها ووضعوا الرأس في حجرها. فصرخت واضطربت. فقيل لهم ما حملكم على هذا. قالوا كفعلهم بيزيد بن علي حين قتلوه فإنهم جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي (صاحبة المقام المشهور في القاهرة) ثم أرسلوا الرأس إلى مدينتكم هذه فنصب على باب المسجد الأموي ثم بعثوا به إلى الكوفة فخر السفاح ساجداً لله وتصدق بعشرة آلاف دينار.
هذا الذي قاله مروان شبيه بمقوله هرقل حينما جاء أهل الإسلام وأجلوا الأروام عن بلاد الشام. ركب البحر وهو ينظر إلى الشام ويقول الوداع يا سوريا يا سلام عليك يا سوريا. ويشبه أيضاً قول أم أبي عبد الله آخر سلاطين بني الأحمر بغرناطة حينما أجلاه الإسبنيول عن تلك البقعة الباقية للعرب في ديار الأندلس. فإنه بعد أن سلم البلاد إلى فرديلند وإيزبلا وخرج في حاشيته وأهل بيته. أعاد نظرات كلها حسرات وأرسل رائد الطرف بمزيد الأسف وهو يتلهف على الحمراء فتهاطلت دموعه على خديه فقالت له أمه:
أبك مثل النساء ملكاً مضاعاً ... لم تحافظ عليه مثل الرجال
إن الذكرى تنفع المؤمنين لذلك أردت أن أسرد عليكم هذا النبأ الذي كان فيه ضياع الملك من دمشق ونزولها عن درجتها السامية التي لم تعد لها إلى الآن لئلا يتجاوز الناس حدود الحرية وقد أشرقت عليهم وعلينا في هذا العهد النوراني المجيد فيقعوا في شر أعمالهم كما وقع الأولون والعاقل من إذا مرت به العبرة ازدجر أو قيلت له الموعظة ادكر.
فلقد بلغ ملك بني أمية ما بين قرني الشمس ثم زال لأنهم أساؤا إلى الحرية التي نشروا أعلامها ورفعوا منارها حتى بلغت دولتهم من المجد أعلا ذراه فتقرب إليهم ملك الروم بإرسال مائة عامل من مهرة الصناع وأرسل إليه مائة ألف مثقال من الذهب الأحمر وبأربعين حملاً من الآلات حينما أراد الوليد تجديد الروضة الشريفة والزيادة فيها فبعث بهم إلى واليه عمر بن عبد العزيز فاستخدمهم وأنتم تعلمون ورع عمر بن عبد العزيز الذي لا يشبهه ورع مع ما تعلمون من شدة الخلف بين العرب والروم على امتلاك آسيا الصغرى التي كانت بين الفريقين حاجزاً حصيناً يرد العرب عن امتلاك فروق وهي كانت ولا تزال مطمح الأنظار.
ومما يدل على بلوغ الحرية في دمشق نهاياتها دون أن تتجاوز حدودها أن معاوية كان يمد(37/5)
الأسمطة للعامة ويؤاكلهم وأن الوليد بن عبد الملك بنى في مدينتكم دار الضيافة العامة وهو أول من فعل ذلك في الإسلام وذلك للتحبب إلى الرعية بمخالطتها وتعرف أحوالها وكان الخلفاء يسائلونهم في العلم والسياسة بهذه الوسيلة وها هو التاريخ وها هي كتب الأدب تخبرنا بكثير من الإصلاحات التي حدثت بهذه الواسطة الشريفة التي كانت تربط الأمة بالخليفة وسرت من الأمويين إلى العباسيين فكان الرشيد يجالس الناس على المائدة فكانت حكومة المسلمين في الصدر الأول وفي أيام السلف الصالح أشبه بشيء بالحكومة الديموقراطية أي حكومة الأمة بالأمة كما هو الحاصل الآن في دولتنا العثمانية فلم يكن فيها من القاب الشرف ولا رتب ولا يكون التعظيم إلا بالكنية وهي من المفاخر التي استأثر بها العرب دون سائر الأمم إلى هذا الزمان فكانوا يقولون أبو فلان فإن لم يكن له ولد قيل أبو فلان باسم أبيه هكذا كان الناس في أيام بني أمية مهما بلغت درجاتهم وعلت مناصبهم كما هو الشأن الآن في بلاد الأميركان التي هي بلاد الحرية الحقيقية بأكمل معانيها فليس منهم إلا مستر فلان حتى رئيس الجمهورية فنازلاً من الوزراء إلى كل أرباب الوظائف إلى عامة الناس وكذلك الحال في بلاد سويسرة التي تتفجر منها ينابيع الحرية الصحيحة في أوربا فلا يمتاز فيها ولا في أميركا رجل بأي لقب اللهم إلا باللقب الذي يطابق رتبته في العسكرية فقط. فأما أول من تلقب من الخلفاء فهو عبد الله أبو جعفر وقد غلب لقبه حتى أنني لو اكتفيت بهذه الإشارة عنه لما عرف من هو إلا الأقلون وأما ما ذكرت لكم اللقب الذي اشتهر لعرفتموه لأنه أصبح له علماً في التاريخ وهو المنصور ثاني الخلائف من بني العباس ثم تغلغلت الدول الإسلامية في الألقاب فكثرت وتنوعت وتعددت حتى صرنا إلى ما ترونه الآن فصار الجوهر تغشاه أعراض براقة خلابة ضغطت عليه وطمست معالمه حتى كاد يضيع إن لم نقل ضاع فصرنا ولنا الألقاب نتهافت عليها ونتطلبها من سبيل الحرام أكثر مما نتطلبها من سبيل الحلال بل أصبحنا وعدم الالتقاب هو اللقب فيا حبذا الرجل منا الذي يشابه الحرف عند النحاة فيكون عدم العلامة له هو العلامة.
أما وقد تنبهنا من رقدتنا وأخذنا بأسباب الرجوع إلى الحياة فقد أشار إلى محو الرتب وإلغائها كاتب مجيد في جريدة شوراي أمت التي تطبع بالتركية في عاصمة الإمبراطورية العثمانية فأستميحكم أن أقول كلمة في هذا الموضوع.(37/6)
فقد جاء الوقت الذي نجاهر فيه بضمائرنا وأميالنا ونقول الحق ونصدع به فقد كان هذا العاجز يقول لكثير من أصدقائه في مصر أنني والله أحب أن أتخلى عن هذا اللقب الذي نلته بجدي واجتهادي ولطالما جاهدت بالتأفف منه استنكافاً منه لأنني أراه فوق قدري ولكن استنكافاً لكثيرين ممن حازوه أو حازوا أعلا منه وهم إنما شروه بفضل الدراهم أو ببعض المساعي الممقوتة. كثيرون من أصدقائي وهم أحياء يرزقون يشهدون لي بأنني طالما تمنيت على الله أن يزول عني هذا اللقب لا بالتجريد فإنه مشين ولكن بالتسليم فإنه شريف بحيث أرجع إلى اسمي أحمد أفندي أو أحمد بن إبراهيم أو أبو إبراهيم أحمد زكي فأتكنى باسم والدي إذ قد جعلني الله في نعمة وافية من عدم الحصول على خلف لي ولكن الآن يجب أن نشير في محو الألقاب بطريقة معقولة مقبولة فلا نلغيها مرة واحدة من الحاصلين عليها لأنهم ربما لا يرضيهم ذلك وهم إن لم يعبروا عن عدم رضاهم جهراً فربما يكون فيهم كثيرون لا يرضون به سراً ونحن في عصر الحرية ينبغي أن نحترم إرادة كل إنسان وأن لا يقتات البعض على البعض ولو في الألقاب. وأحسن وسيلة هي أن لا نسلك في هذا الموضوع شططاً بل نسير فيه سيراً وسطاً وذلك في رأيي هو تخبير أصحاب الألقاب في التنازل عنها فمن رضي فيها ونعمت ولا ريب أن الأكثرين يرضون التجرد من هذه الألقاب التي قد ترهقهم عسراً أما الذين يريدون حفظها فأمرهم إليهم. ولكن الدولة تقرر أنها من الآن فصاعداً تلغي الرتب فلا ألقاب عندها منذ اليوم بحيث لا يأتي زمن طويل حتى تنقرض الألقاب ويبقى الناس كلهم أفندي أو سيد أو خواجه أو شيخ أو أبو فلان وتصبح الأمة كلها سواء تحت هلال الدستور لا يتميز بعضهم على بعض إلا بالعمل النافع للمجموع فتكون الأمة كلها راقية لأن كل فرد يتطلب النبوغ ويسعى إلى التفوق بكده وجده وحسبنا ذلك فخاراً.
بهذه الوسيلة يزداد سواد أهل الفضل في هذه البلاد فيكون لأهل العلم والعمل دلال على أرباب الدولة كما كان لأمثالهم في أيام عز الإسلام فإن الخليل بن أحمد الذي ذكرته في صدر هذه المحاضرة كتب إليه سليمان بن علي الهاشمي يستدعيه لتعليم ولده بالنهار ومنادمته بالليل وبعث إليه بألف دينار ليستعين بها على حاله فأخرج للرسول زنبيلاً فيه كسر بالية وقال: إني ما دمت أجد هذه الكسر غني عنه وعن غيره ورد الألف دينار على(37/7)
الرسول وقال أقرأ على الأمين السلام وقل له أني قد ألفت قوماً وألفوني أجالسهم طول نهاري وبعض ليلي وقبيح بمثلي أن يقطع عادة عودها إخوانه وإني غنيّ عنه وعن غيره وكتب إليه بهذه الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
وأن بين الغنى والفقر منزلةً ... معروفة بجديد ليس بالبال
سما بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والفقر بالنفس لا بالمال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
والرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
والخليل هذا كان يقسم الأيام إلى ثلاثة: معهود ومشهود وموعود وكان دائماً يتمثل بقوله:
يكفيك من دهرك هذا القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
ولم ينفرد الخليل بهذه المزية الفاخرة في التكبر والدلال على أهل الدولة وأرباب المال فأمثاله كثيرون أذكر منهم من يحضرني ذكره في هذا المقام فمنهم حماد بن أبي سلمة دخل عليه مقاتل بن صالح الخراساني فإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه وبيده مصحف يقرأُ فيه وبجانبه حراز فيه علمه ومطهرة يتوضأُ فيها. قال مقاتل فبينا أنا عنده جالساً دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا قالت: رسول محمد بن سليمان قال قولي له يدخل وحده فدخل فناوله كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن سليمان إلى حماد بن أبي سلمة أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فإنا نسألك عنها والسلام.
فقال يا صبية: هلمي بالدواة. ثم قال لي اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت صبحك الله بما صبح أولياءه وأهل طاعته. إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً فإن كانت وقعت مسألة فأتنا وسلنا عما بدا لك وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي والسلام.
فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي انظري من هذا قالت: محمد بن سليمان قال: قولي له ليدخل وحده فدخل فسلم ثم جلس بين يديه. فقال مالي إذ نظرت إليك(37/8)
امتلأت رهباً قال: سمعت عن ثابت الغسائي عن مالك أن رسول الله قال: أن العالم إذا أراد وجه الله هابه كل شيء فإذا أراد أن يكنز الكنوز هاب كل شيءٍ. فقال أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه قال ارددها على من ظلمته قال: والله ما أعطيك إلا ماورثته قال: لا حاجة لي فيها ازوها عني زوى الله عنك أوزارك قال فتقسمها قال فلعلي أن عدلت أن يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل ازوها عني وزى الله عنك أوزارك.
هذه السنة الصالحة انتشرت بين علماء المشرق فارتقت بهم الأمة وكان لها شأن كبير لأنهم كانوا يطلبون العلم للعلم وقد انتشرت هذه السنة الحميدة في عامة أمصار الشرق وشاعت أيضاً في بلاد الأندلس حتى في أيام تقهقرها. فقد ألف أحد العلماء الأندلسيين كتاباً في اللغة فبلغ ذلك مجاهداً العامري صاحب الجزائر جزائر ميورقة ومنورقة المعروفة الآن بجزائر الباليار فوجه للعالم بألف دينار وبكسوة وخلعة وتحف كثيرة وطلب منه أن يتكرم بوضع اسمه في صدر الكتاب وأنه ألفه برسمه. فرد المال وهو في حاجة إلى أقله وقال: كتاب صنفته لله ولنفع الناس لا أفرده لواحد منهم. ويقرب من هذا مالك من دينار فإنه ترفع عن الملوك ونصح اللصوص. دخل اللصوص داره فلم يجدوا شيئاً يسرقونه. ولما هموا بالخروج قال لهم ماذا عليكم لو صليتم ركعتين فتابوا وأنابوا وقد كان لهذه السجية في مصر شأن كبير فلا أحدثكم إلا بحادثة واحدة من هذا القبيل. فأنتم تعلمون من هو شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقد كان أهل الدولة يتسابقون إليه ويقبلون عليه وهو عنهم معرض أيما إعراض. مع أنه كان يقتات بقشور البطيخ الملقاة في الطريق ولا يكفيه النهار للدوس وليس لديه شيءٌ من الدنيا يقتني به مصباحاً لنفسه فكان يأخذ الكراريس ويدرس على ضوءِ القناديل المعلقة على أبواب البيوت.
وأمثال شيخ الإسلام كثيرون في مصر وغير مصر يطول بذكرهم المقام وربما كان في إيرادها ما يدعو إلى الملل والسآم غير أني أستميحكم الآن في ذكر نادرتين وأقول نادرتين لأنه بعد ذلك السلف قد خلف من بعدهم خلف فصار شمم العلماء وترفعهم بعلمهم في هذا الزمان الأخير كالكبريت الأحمر بل هو أندر.
فالأولى تقضي عليّ صلة الرحم أن أغتنم هذه الفرصة لإذاعتها ولست أخشى تكذيباً لها لأن الذين رأوها أو علموا بها علم اليقين لا يزالون أحياء يرزقون وهم في مصر كثيرون.(37/9)
وذلك أن جدي لأمي الشيخ ابراهيم سويدان حضر إليه برشيد والي مصر عباس الأول وقد انتهى إليه عمله وصلاحه وزهده وانعطافه على المساكين فأعطاه مالاً كثيراً فلم يرضَ فألح عليه وقال له أهل البطانة خذ هذا المال فإنه حلال وهو يساعدك على نفع المساكين فامتثل بشرط أن يضع الأمير المال في كمه فرضي الوالي وأخذ جدي المال فطاف به في الأسواق يفرقه بواسطة غلامه على هذا وذاك حتى فرغ المال كله ثم ذهب إلى النيل فغسل هذا الكم الذي لامسته دراهم الوالي.
وأما الثانية فهي معلومة لكم جميعاً وهي واقعة بينكم هنا وبيننا في مصر. ذلك أستاذ الشام على الإطلاق العلامة الشيخ طاهر الجزائري فهو يضم بين طمريه العلم الجم والخلق الأشم. أنا لا أدري كيف يعيش هذا الرجل في بلد مثل مصر قد اشتد فيه الغلاء حتى شكا منه الأغنياء وقد بذلت ما في وسعي كما يعلم الأستاذ كرد علي صاحب المقتبس وأمام المقتبسين ورب هذا البيت الكريم في أن يناله شيءٌ من الأوقاف الخيرية على أن يكتب عريضة لذوي الحل والعقد وقد تلطفت معه كثيراً بواسطة رب هذه الدار فلم يرض إلى الآن. فماذا أقول عن هذه البقية الصالحة. لا أقول سوى كلمة واحدة تخرج من صميم الفؤاد بحب وإخلاص فليعش الشيخ طاهر الجزائري هذه الحرية وهذا الشمم هما جرثومة من ذلك الماضي المجيد وقد صادفت في عصر الدستور المنير أرضاً خصيبة فلعلها تتأصل في نفوسنا ونفوس الناشئين ليكون لقومنا ما كان للأسلاف من العز الذي ضرب رواقه في المشرقين وفي المغربين.
هذه الحرية هي التي جعلت الأخلاف من بني أمية يحتملون الكلم الشديد والقول المر من العلويين ومن سائر الناس. لو فرضنا أن احتمالهم للعلويين كان من قبيل المداراة ومن باب المحافظة على الملك فماذا نقول عما سجله التاريخ من معاملتهم للعامة. أفليس أبو صخر الشاعر الخزاعي المشهور بكثير عزه هو الذي كان يجاهر بالتشيع لعلي وبنيه وقد كانوا يسبونه على المنابر بأمر الخلفاء الأمويين. أفليس هو الذي قام في يوم من الأيام فصعد المنبر في بيت الله الحرام وأخذ بأستار الكعبة وقال:
لعن الله من يسب علياً ... وبنيه من سوقة وإمام
أيسب المطهرون أصولاً ... والكرام الأخوال والأعمام(37/10)
يأمن الطير والحمام ولا يأمن آل الرسول عند المقام
فأنزلوه من المنبر وأثخنوه ضرباً بالنعال وغيرها فقال:
إن امرأً كانت مساوئه ... حب النبي لغير ذي عتب
وبني أبي حسن ووالدهم ... من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن أحبهم ... بل حبهم كفارة الذنب
ومع أنه سب الإمام جهاراً وفي الكعبة وضربه القوم خوفاً من الخلافة فقد دعاه عبد الملك ليستوزره ثم ازدراه لدمامته وقال تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال كثير: مهلاً يا أمير المؤمنين فإنما الرجل بأصغريه قلبه ولسانه فإن نطق نطق ببيان وإن قاتل قاتل بجنان ثم أنشد:
وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور
وما تخفى الرجال عليّ إني ... بهم لأخو مثابته خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلاة نزور
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرف لديه ولا نكير
فناشده عبد الملك الأشعار في الإخوان ثم قال: إن كنا أسأنا اللقاء فلسنا نسيء الثواء. حاجتك. قال: زوجتي عزة فأراد أهلها على ذلك فقالوا: هي بالغ وأحق بنفسها فقيل لها فقالت: أبعد ما شبب بي وشهرني في العرب ما لي إلى ذلك سبيل ولعلها أحسنت في التنصل والاعتذار وتلطف فلم تذكر أن سبب امتناعها هو دمامة خلقه.
وبقي كثير مع تشيعه للطالبين مرعي المقام نافذ الكلمة على خلفاء بني أمية مع أنه سبهم ولعنهم في البيت الحرام فإن يزيد بن عبد الملك حينما جاؤا إليه بأسارى بني المهلب أمر بضرب أعناقهم وكان من حسن حظهم أن الأمر صدر بحضرة كثير فقام وأنشأ يقول:
فعفواً أمير المؤمنين وحسبة ... فما تحتسب من صالح لك يكتب(37/11)
أساؤا فإن تعفوا فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب
هذه الحرية التي اشتهرت بها الدولة الأموية في دمشق هي التي جعلت الناس أحراراً في أعمالهم وفي اعتقاداتهم فقد كان كثير هذا يقول بالرجعة على مذهب الهنود ويخالف الملة الإسلامية كلها في ذلك كما كان يخالف سنة الدولة ويتشيع لعلي ولكن الخلفاء عرفوا فضل الحرية فتركوا الناس يعتقدون كما يشاؤون ويكتفون منهم بتوحيد الكلمة من جهة السياسة.
إنني أيها السادة أرى الدين لم يخلق إلا ليقرب المخلوق من الخالق فلا يمكن ولا يجوز أن يكون الدين سبباً في ابتعاد المخلوق من المخلوق فالدين لله وللأمة الوطن فعلينا أن نتمسك بعروة الوطن ليعود لأمتنا فخارها السابق وتكون لنا منزلة سامية بين الخلائق. وقد بدت علينا علائم هذه النعمة المباركة فالواجب يقضي بتعهدها وإنمائها ليكون المسلم والمسيحي والإسرائيلي أخوة في الوطن فإنهم أخوة في الإنسانية أبوهم آدم والأم حواء أفنكون في هذا العصر الزاهر أقل احتمالاً وتسامحاً من أجدادنا الكرام في صدر الإسلام فقد وسعت صدورهم أهل الملل والنحل ووضعوا أيديهم في أيدي بعضهم بعضاً فكان منهم سور منيع لحفظ الدولة ورفع راية الوطن.
هذا صدر الدولة العربية قد وسع كثيراً من أمثال كثير وقد كان يقول بالتناسخ والرجعة ومع تشيعه كان يخالف جمهور أهل الشيعة فكان مخالفاً لأهل السنة ولأهل الشيعة ومع ذلك كان له في الدولة العربية ذلك المقام الكريم. كان يقول بإمامة محمد بن الحنيفة وأنه أحق من الحسن ومن الحسين ومن سائر الناس وأنه حي مقيم بجبل رضوى لا يموت. وكان يقول عن نفسه أنه يونس بن متى بمعنى أن روح هذا الذي التقمه النون نسخت فيه فصار هو هو. ولقد سأل يوماً ماذا تقول الناس عنه فقيل يقولون إنك الدجال فقال إني لأجد في عينيّ ضعفاًَ منذ أيام (إشارة إلى أن الدجال أعور كما يقال) وحينما حضرته الوفاة كان يقول لا تبكوا عليّ لأني بعد أربعين يوماً أرجع إليكم.
كل هذه الأقاويل لم تمنع الناس عن القول حينما مات هو وعكرمة في يوم واحد بعد الظهر: لقد مات أفقه الناس وأشعر الناس.
لم يكن كثير وحيداً في القول بالرجعة والتمتع بالحرية في الرأي فقد تمسك بمذهبه بعده كثيرون منهم السيد الحميري الشاعر المجيد وهو أبو هاشم اسمعيل بن محمد بن يزيد بن(37/12)
ربيعة كان يقول أيضاً بإمامة محمد بن الحنيفة وأنه لم يمت بل هو مقيم بجبل رضوى وقال في ذلك:
إلا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشر والوك منا ... وسموك الخليفة والإماما
فعادوا فيك أهل الأرض طرا ... مقامك فيهم ستين عاما
وما ذاق ابن خولة طعم موت ... ولا ذاقت له أرض عظاما
لقد أمسى بمورق شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكراما
هدانا الله إذ حزتم لأمر ... به ولديه نلتمس التماما
تمام إمامة المهدي حتى ... يروا آياتنا تترى نظاما
وكان الحميري يشرب الخمر جهاراً ويقول بالرجعة ليلاً ونهاراً. قال لرجل تعطيني ديناراً بمائة دينار إلى الرجعة قال إن وثقت لي بمن يضمن لي أنك ترجع إنساناً إنما أخشى أن ترجع كلباً أو خنزيراً فيذهب مالي.
هذه الحرية في الفكر والاعتقاد كانت لذلك السيد الحميري في أيام الأمويين فلما دالت الدولة وتغيرت الأيام وانتقل الملك إلى بني العباس بقي الرجل على حريته في نحلته ولم يعارضه أحد من أهل الدولة الجديدة لأن الحرية كانت شعار الدولة العربية فإن انتقل السلطان من بيت إلى بيت فالحرية ثابتة الدعائم هنا وهناك والناس بفضلهم لا بمذهبهم ورأيهم. انظروا إلى السيد الحميري ودلاله على أهل الدولة الناشئة كما كان لأمثاله في الدولة البائدة ذلك لما استقام الأمر لأبي العباس السفاح خطب يوماً فأحسن في خطبته. فلما نزل عن المنبر قام إليه السيد الحميري فأنشد:
دونكموها يا بني هاشم ... فجددوا من آيها الطامسا
دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا
دونكموها لأعلا كعب من ... أمسى عليكم ملكها نافسا
خلافة الله وسلطانه ... وعنصراً كان لكم دارسا
لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا
والملك لو شور في ساسة ... ما اختار إلا منكم سائسا(37/13)
فقال له السفاح: سل حاجتك فقال ترضى عن سليمان بن حبيب بن المهلب وتوليه الأهواز فكتب له منشوراً بالولاية ودفعه إليه فأخذه وقدم به على سليمان بالبصرة فلما وقعت عينه عليه أنشده:
أتيناك يا قرم أهل العراق ... بخير كتاب من القائم
أتيناك من عند خير الأنام ... وذاك ابن عم أبي القاسم
أتينا بعهدك من عنده ... على من يليك من العالم
يوليك فيه جسام الأمور ... فأنت صنيع بني هاشم
فقال له سليمان شريف وشافع ووافد وشاعر ونسيب سل حاجتك فقال:
سأحكم إذ حكمتني غير مسرف ... ولا مقصر يا ابن الكماة الأكارم
في أبيات طلب بها جارية فارهة جميلة ومن يخدمها وبدرة ومن يحملها وفرساً رابعاً وسايسه وتختاً من صنوف الثياب وحامله قال قد أمرت لك بجميع ما سألت ولك عندي في كل سنة مثله.
هذه هي الحرية التي جعلت هشاماً الخليفة الأموي يعطي الكميت وقد أنشده مائة ألف درهم وقد كان الكميت مجاهراً بحب العلويين وبذم الأمويين.
هذه هي الحرية التي أشرقت اليوم شمسها على دولة آل عثمان وهي التي نرجو بها ارتفاع الدولة ومجد الوطن لا نفرق بين دين ودين ولا نعرف شيئاً آخر سوى أننا نستظل كلنا براية الهلال.
فحذار حذار من التهاون بها أو الاستهتار في سبيلها حتى لا تعود تلك الأيام السود وما فيها من ظلم وظلام.
إن الأمة العثمانية قد أثقلتها المظالم وأخنت عليها يد الاستبداد حتى كادت تقضي عليها ولكن العناية الربانية تداركتها بنفحة من نفحات الحرية فعادت إليها الروح ودب في جسمها الانتعاش فظهرت بهذا المظهر البديع الذي يعجب به من في الأرض ومن في السموات. فاحرصوا يا رعاكم الله على الحرية فإنها ملاك السعادة.
إياكم ثم إياكم أن تنقلب هذه الحرية إباحة فتتدهور الأمة في هاوية ليس لها قرار.
يقولون أن هذا الانقلاب سلمي لم تسفك فيه قطرة من الدماء. نعم ولكن المقامات التي(37/14)
أوصلت الأمة العثمانية إلى هذه الغاية المجيدة كانت محفوفة بالحبس والكبس. بالتشريد والتجريد. بالإحراق والإغراق. بالتيتيم والتلطيم.
أفلم يكن في هذه الشناعات وفي تلك الدماء الزاكيات وفي ذلك الصراخ الذي بلغ عنان السماوات ما يكفي لشراء هذه الحرية الثمينة بأغلى الأثمان يا آل عثمان.
وفي هذا المقام أتقدم إلى أهل الأدب منكم وكلكم أهل الأدب في تدوين تلك الحوادث التي هي أشبه بالخرافات لأنها لا تكاد تدخل في دائرة المعقولات دونوها ولكن بالصدق والإخلاص ليعرف المعاصرون لكم والناشئون بعدكم أنكم اشتريتم هذه الحرية بأغلى الأثمان ودونوا هذه النكت وتلك النوادر مع الأمانة والصدق حتى لا تنعكس النتيجة فكل شيء جاوز الحد انتهى إلى الضد. لا تكتفوا بروايتها فإن الذاكرة أصبحت في هذه العصور ضعيفة والمطالب كثيرة وإنما هو التدوين عرفنا به مفاخر الأولين وإن كان لم يصل إلينا منه إلا القليل. أصبحنا في عصر تشعبت فيه المعارف وكثرت أمامنا الحاجيات فلا مناص لنا من التدوين الذي يحفظ الحوادث للدهور الآتية والأجيال المستقبلة.
نعم نحن في حاجة إلى تدوين كل شيء إذ قد صار من المستحيل علينا أن نضارع الحفاظ الذين اشتهرت بهم حضارة الإسلام. بل أين لنا لن نكون مثل عامر بن شراحيل أو ابن إدريس الشافعي أو ابن حزم الظاهري وأمثالهم ممن يعدون بالألوف هذا عامر بن شراحيل كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته وما أحببت أن يعيده عليّ. وما أدري شيئاً أقل من الشعر ولو شئت لأنشدتكم شهراً ولا أعيد ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان عالماً. وهذا الشافعي يقول:
علمي معي حيثما يممت ينفعني ... صدري وعاءُ له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وهذا ابن حزم الظاهري الأندلسي أحرق القوم تواليفه فقال:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل أن أنزل ويدفن في قبري
ومع ذلك فقد دون الناس من أجدادنا في كل فن وفي كل شيء حتى أننا بفضل القليل الذي خلص إلينا من مدونات الأقدمين عرفنا أموراً خصوصية لا يمكننا أن نبدي شيئاً مما يماثلها(37/15)
في عصرنا هذا فمثال ذلك أننا عرفنا أن السيدة سكينة المدفونة بمصر القاهرة كان مهرها ألف ألف درهم (خمسين ألف ليرة فرنساوية تقريباً) وعلمنا أنها ولدت الرباب فكانت تلبسها اللؤلؤ وتقول ما ألبسها إياه إلا لتفضحه. وكان مجلسها بالمدينة كعبة للأدباء والشعراء وأخبارها معهم أشهر من نار على علم وخصوصاً مع الفرزدق.
هذا من الأمور الخصوصية الداخلية وأما الأمور العمومية فقد علمنا منها مثلاً أن الخليفة الأموي هشام كان إذا صلى الغداة بجامع دمشق فلول من يدخل عليه صاحب حرسه فيخبره بما حدث في الليل. ثم يدخل عليه موليان له مع كل واحد منهما مصحف فيقعد أحدهما عن يمينه والآخر عم شماله حتى يقرأ عليهما جزأه ثم يقومان فيدخل الحاجب فيقول فلان بالباب وفلان فيقول ائذن فلايزال الناس يدخلون عليه حتى إذا انتصف النهار وضع الطعام ورفعت الستور ودخل الناس وأصحاب الحوائج وكاتبه قاعد خلف ظهره فيقوم أصحاب الحوائج فيسألون حوائجهم فيقول لا ونعم والكاتب خلفه يوقع ما يقول حتى إذا فرغ من الطعام وانصرف الناس صار إلى قائلته فإذا صلى العصر دعا بكتابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس فإذا كانت العشاء الآخرة ثم اختلى بسماره من رجال العلم والأدب.
واتفق أنه بعد أن صلى العشاء الآخرة وأقبل سماره كعادتهم جاءه الخبر بأن خاقان ملك الترك خرج بأرمينية فنهض في الحال وحلف لا يؤويه سقف حتى يفتح الله عليه.
بمثل هذا التدوين عرفنا أيضاً كيف كان الخليفة العباسي يجلس للناس ويشتغل بأمور الدولة فقد كان المنصور العباسي مثلاً يشتغل صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات وشحن الثغور والأطراف والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف وشاور سماره وكان ولاة البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدام وسائر المأكولات. ويحيطونه علماً بكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم وبما يرد إلى بيت المال وعلى العموم بما يتجدد من الحوادث في دائرة إدارتهم. فينظر في كتبهم بعد صلاة المغرب فإن رأى تغيراً في الأسعار كتب إلى العامل يسأله عن العلة ومتى ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله. وإن شك في شيءٍ مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك فإن أنكر شيئاً كتب إليه يوبخه ويلومه فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فتوضأ وتبوأ(37/16)
المحراب حتى يطلع الفجر فيعود إلى عمله في الأمس.
ومشى العباسيون على هذه السنة حتى أن المعتصم عندما جلس مع سماره في أواخر الثلث الأول من الليل ومعه كأس يشربها قال أحد سماره: أنه سمع من رجل قادم من الثغور ثغور الروم أن في عمورية امرأة مسلمة في الأسر قالت وامعتصماه فختم على الكأس وقام من فوره وأخذ الجند حتى استولى على عمورية وخلص الأسيرة ثم شرب كأسه.
ومثلهما المنصور بن أبي عامر في الأندلس فقد بلغه أن بأرض الجلالقة أسيراً يستنجد به فقام من مجلس سمره لا يلوي على شيء حتى فتح تلك الحصون وخلص الأسير.
بهذه العناية من العلماء على طلب العلم ومن الرؤساء على حفظ بيضة الدولة كان للأمة الإسلامية مقام كبير حتى إذا ما تولاها التراخي فأهملت شؤونها سقطت إلى الحضيض. أما وقد رأيناها وهي تتأهب بفضل الدستور وفي ظل الهلال المنير لاسترجاع مجدها فقد وجب علينا أن نتعاون قلباً وقالباً على العمل فيما يرفع شأنها فبإعمال الإفراد يرتقي المجموع وترتفع منزلة الدولة.
وكيف لا نصل إلى هذه الغاية من أيسر طريق وفي أقرب وقت وقد رجعت دولتنا إلى السنة القديمة المجيدة تلك السنة التي قامت بفضلها الدولة العربية في أبهى المظاهر وأبهر المناظر ـ تلك السنة يا سادتي هي سنة الشورى التي أمر الله بها المسلمين وقامت بها دولتهم فعنت لها المشارق والمغارب.
فإن الدين الإسلامي يأمر بالشورى فإذا نظرنا إلى التاريخ نجد أن دولة الإسلام بعد أن ذهب صاحب هذا الدين إلى الرفيق الأعلى قد قامت بالشورى وبالمبايعة من الجماعة فقد اتفقوا كلهم على أبي بكر ثم تسلسلت الحوادث وصارت الخلافة ملكاً عضوضاً يتوارثها الأبناء أو الأعمام أو أبناء الأعمام في الشرق والغرب في دمشق وفي بغداد وفي القاهرة وقرطبة في المغرب الأقصى وفي القسطنطينية يتوارثونها بالبيعة ولكنها بيعة مزدوجة تكون أولاً من الخاصة الذين يتفقون على الخليفة ثم من العامة الذين يقرون على ما أقره الخاصة ولا نجد لذلك استثناء إلا في دمشق فإن عمر بن عبد العزيز بعد أن جاءته الخلافة عفواً تنازل عنها وقصة ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما مرض كتب كتاب العهد لابنه أيوب ولم يكن بالغاً فرده عن ذلك رجاء ابن حياة فقال له ما ترى في ابني داود فقال له(37/17)
بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أم ميت فقال فمن قال رأيك يا أمير المؤمنين قال ما ترى في عمر فقال أعلمه والله صالحاً فاضلاً خيراً فقال إن وليته ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه فكتب له وجعل من بعده يزيداً أخاه وختم الكتاب وأمر بجمع أهل بيته فقال لهم هذا عهدي فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا على من فيه فغفلوا. فجاء عمر بن عبد العزيز لرجاء بن حياة فقال يا رجاء قد كان لي عند سليمان حرمة وأنا أخشى أن يكون قد أسند إليّ من هذا الأمر شيئاً فإن كان فأعلمني أستعف فقال رجاء والله لا أخبرك بحرف واحد فمضى. ثم جاءه هشام فقال لي حرمة وعندي شكر فأعلمني فقال لا والله لا أخبرك بحرف فانصرف هشام وهو يضرب بيد على يد ويقول: فإلى من. ثم جددت البيعة ومات سليمان. فقرأ رجاء بن حياة الكتاب فلما ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام والله لا نبايعه. فقال له رجاء والله إذن اشرب عنقك. قم فبايع. فقام يجرر رجليه ويسترجع إذ خرج عنه هذا الأمر وعمر يسترجع إذ وقع فيه. ثم جيءَ بمراكب سليمان بن عبد الملك مراكب الخلافة فقال عمر قربوا إليّ بغلتي ثم خطب فقال: أيها الناس قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني ولا مشورة وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين تلي أمرنا باليمين والبركة. فقال أوصيكم بتقوى الله خلف من كل شيء ليس من تقوى الله خلف وبعد أن أتم خطبته نزل فدخل داره فأمر بالستور فهتكت وبالثياب التي كانت قسطاً للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال. ولما بلغ الخوارج سيرته وما رد من المظالم قالوا ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.
وقد حدثنا التاريخ بأن عمر بن عبد العزيز اشترى ملطية من الروم بمائة ألف أسير فأرضاهم وجعل لدولته سداً منيعاً دونهم فكانت أيامه كلهاً سلاماً في سلام فانظروا إلى ما جرى في هذه الأيام فقد قامت النمسا بالتهام البوسنة والهرسك غنيمة باردة وبغير ثمن فهل عندها مائة ألف أسير أو أسير واحد فقط.
ولعمري ما كان أغناها عن الدخول في هذه الورطة التي أوقعت نفسها فيها بلا طائل ولا فائدة معجلة أو مؤجلة ظاهرة أو باطنة لأنها تحتل هاتين الولايتين بمقتضى معاهدة برلين فأي فائدة لها في هذا التملك الذي لا يرضى به حر عاقل أو ذو ضمير حي ولذلك قابلتها(37/18)
الأمة العثمانية بحرب سلمية ولكنها كانت على النمسا شراً من امتشاق الحسام تلك هي المقاطعة التجارية التي نرى آثارها في طول البلاد وعرضها هذه المقاطعة ليست من مستحدثات هذا الزمان فإن أول من سنها هو نبي الإسلام عليه السلام. فقد غضب على رجل من أهل المدينة فأمر الناس بمجافاته فما كان أحد يتعامل معه على الإطلاق ولا كان أحد يقرؤه السلام حتى تاب واهتدى فعسى أن تكون النتيجة في هذه الأيام الأخيرة مثل ما كانت في تلك الأيام الأولى وليست المقاطعة هي السنة الشريفة الوحيدة التي أحياها بنو عثمان في هذا الزمان.
فإننا إذ تصفحنا التاريخ وجدنا أن الدول تقوم على ربوات من الجثث والهامات وإذا اقتصرنا على ذكر الإسلام نرى أن دولة الأمويين قامت بالسيف والنار فحروب صفين وغيرها معلومة للخاص والعام وكل الناس يعلمون أن الحجاج قتل 120 ألف نفس في توطيد دعائم الدولة المروانية. كذلك دولة العباسيين قامت على قتل الأمويين وقد سفك أبو مسلم الخراساني دم 60 ألف إنسان. وكذلك دولة الأمويين في الأندلس قامت على أطلال الحرب وأشلاء القتلى. ومثل هذا وقع بمصر حينما دالت دولة الفاطميين فإن صلاح الدين رحمه الله وأكرم مثواه اضطر بحكم السياسة لارتكاب هذا الأمر ولكنه تلطف فلم يدع للوم سبيلاً وذلك أن حبس الفاطميين والفاطميات في قصر كبير ومنع الرجال عن النساء وصبر عليهم حتى قضوا نحبهم حتف أنفهم. وكذلك حدث في القاهرة حينما تبوأَ محمد علي سريرها فإنه أخذ في مداراة المماليك واكتساب ثقتهم فلما أعيته الحيل اضطر لإبادتهم في وقعة القلعة المشهورة. هذه الأمثال وقد ذكرت منها القليل تدلنا على صحة قولهم أن الملك عقيم وأن تأسيس الدول لا يقوم إلا على الدماء. حتى جاءت هذه الأيام فرأينا دولة الشورى قد قامت بسلام على سلام في سلام فعليها ألف تحية وسلام.
لعمري إنها معجزة غريبة في بابها. نعم رأينا معجزة المعجزات فكيف لا نصدق بما رواه لنا التاريخ من المعجزات.
بلاد الشام هي موطن المعجزات ففيها قام الأنبياء. بلاد العرب كانت لها أكبر معجزة بظهور أحمد. بلاد أوربا وأميركا جاءتنا بمعجزات العلوم والصناعات والفنون. بلاد اليابان في أقصى الشرق كانت لها في هذه الأيام نهضة تفوق المعجزات. فلم يبق إلا آل عثمان(37/19)
وكأنهم عجزوا عن المعجزات حتى أتونا بالأمس بمعجزة هي نهاية ما يصل إليه أهل الأرض فقيامهم بإقامة دولة الشورى هو معجزة المعجزات.
لذلك حضرت إليكم لأهنئكم أيها السادات بمعجزة المعجزات. بأعجوبة الأعاجيب وإنني أرجو لدولتنا بقاء ليس له انتهاء والسلام عليكم ورحمة الله.(37/20)
القديم والحديث
لم يأت على هذه الأمة دور مثل هذا اشتد فيه النزاع بين القديم والحديث وانهزم القديم بضعف القائمين وقوة أنصار الحديث. عنينا بذلك أرباب التقليد ممن يرون السعادة في الاكتفاء بما تعلموه من آبائهم وورثوه عن أجدادهم من العلوم والآداب ويعدون ما عداها ضرراً يجب البعد عنه ومحاربته بكل وسيلة كما عنينا أرباب التجديد الذين يزعمون أن الاكتفاء بعلوم أهل الحضارة الحديثة وحدها كافية في رفع شأننا.
نشأت للأمة ناشئة بعد أن كثر احتكاكنا بأوربا في أواسط القرن الماضي عادت القديم معاداة خرجت فيها عن طور التعقل وذلك نكاية بما رأته من دعاة ذلك القديم وأكثرهم مثال الجمود والبلاهة وأنموذج الفساد وسوء التربية فقامت تزهد فيهم وفيما يدعون إليه تحمل عليهم حملاتها وتتحامل عليهم بحملاتها وكذلك كان شأن أنصار القديم مع دعاة الحديث يرمونهم بكل كبيرة ويسلبونهم كل فضيلة ويطعنون بعلومهم إلا قليلاً ويعدون النافع منها مما لا يضر ولا ينفع.
لا خلاف في أن ملكة الدين والآداب ضعفت في البلاد الإسلامية لضعف حكوماتها والعامل الرئيسي في كل البلاد هو السياسة إذا ضعفت يتبعها كل شيء فجهل الحكام والملوك منذ نحو ألف سنة هو الذي رفع شأن المنافقين من العلماء الرسميين فصار العلم الديني يتعلمه المرء لا لينال السعادتين ويكون عضواً مهما في جسم المدينة الفاضلة بل ليخدم به أغراض أمراء السوء ويستولي على عقول العامة وتقبل يداه ويكرم بالباطل وهذا ما حدا بحجة الإسلام الغزالي وإضرابه في عصره وبعده أن ينحوا على فقهاء السوء أنحاءهم على أمراء السوء لأنهم يتعلمون علوم الفقه والفتيا ليتقربوا بها فقط من السلاطين ويجعلوا من الدين سلاحاً يقاتلون به من يناصبهم في شهواتهم وأهوائهم. ولقد فضل الغزالي في الإحياء وتهافت الفلاسفة من يتعلمون الطب على الفقهاء وقال أن من يقولون أن علوم الدنيا تنافي الدين يجني على الدين.
شغلت الأمة زمناً بنفسها فضعفت ملكاتها وكانت الحروب الصليبية وغارات التاتار من العوامل المنهكة لقواها ثم قام ملوك الطوائف وفرقوا الشمل بعد اجتماعه إلى أن جاءت الدولة العثمانية وهي تاتارية لا تقيم للمدينة وزناً ولا تعرف لعلوم العمران لفظاً ولا معنى قوتها بجندها وعلمها في أرهاف حدها وعظمتها ببطشها ومجدا باكتساح البلاد وإخضاع(37/21)
النفوس لسطوتها فحاول محمد الفاتح أحد ملوكها أن يجعل من القسطنطينية دار علم كما هي دار ملك مجاراة لدولة الجراكسة في مصر والشام وأعظم لذلك الأعطيات والهبات وأنشأ المدارس وحبس الأوقاف ولكن ذلك لم يدم إلا بدوامه حتى إذا مضى لسبيله عادت الحكومة إلى زهدها في العلوم وقد صارت رسمية على عهد المفتي أبي السعود الذي سعى لجعل العلم وراثياً وصار ابن العالم يرث أباه ووظائفه ورواتبه وإن كان أجهل من قاضي جُبَّل. وعالم هذه حاله هو الجناية الكبرى على الدين والدنيا والبلاء العمم على البلاد.
ومع أن الفرس والترك سواءٌ في العجمة فالفرس أقدر من الترك على تلقف اللغة العربية منذ القديم. والعربية لغة الدين لا يبرز في علومه من لم يتعلمها ولا يفهم الكتاب والسنة من لم يحكم بيانها. وما تراه من حال علماء فارس اليوم وإتقانهم العربية وارتقاء علومهم الشرعية وانحطاط العربية في بلاد الترك وضعف ملكة العلوم الدينية فيها لا يرجع إلا إلى أن ميل أبناء فارس إلى إحكام العربية قديم فيهم وأن الترك بأمرائهم المتبربرين جمدوا على فروع قليلة من الفقه والكلام وزهدوا فيما عداها فجنوا على البلاد جناية كبرى.
لما أرادت الدولة أن تنهض وتتشبه بأوربا وأخذت على عهد سليم الثالث تتعلم فنون الحرب والبحر والسياسة وما ينبغي لها من الطبيعة والرياضة والاجتماع أخذت روح التفلسف تسري إلى الأستانة ومنها سرت إلى الولايات ومصر فلم يعبأ أنصار القديم بما رأوه أولاً واحتقروا ذاك السيل الجارف الآتي عليهم من أوربا وارتأى بعضهم أن خير ما يقابل به المتزندقون أن يكفروا أو يحرموا أو يضربوا أو يحبسوا أو يهددوا بالقتل أو يقتلوا ولم يعدوا لذلك من العدد اللازمة لبث دعوتهم وحفظ ملكة الدين في القلوب لتسير مع علوم الدنيا كتفاً إلى كتف وجاءت أدوار أصبح الوزراء وولاة الأمر إلا قليلاً من الطائفة التي نزعت ربقة القديم فلم يبق عليها إلا اسمه بل كان بعض المتطرفين في انحلالهم يدعون سراً وجهراً إلى عدم التأدب بآداب الدين محتجين بما هو مائل للعيان من فساد القائمين عليه وانحطاط المنتسبين إليه.
وها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين والدنيا والأمة شطرين شطر هو إلى البلاهة والغباوة وشطر إلى الحمق والنفرة وبعبارة أخرى نسينا القديم ولم نتعلم الجديد. ومن الغريب أن معظم المستنيرين بقبس العلوم الأوربية منا لا يرجعون إلى آداب دينهم(37/22)
ويميلون في الظاهر والباطن إلى أن يكون الدين فقط جامعة تجمع الأمة على مثال الجامعات السياسية والجنسية وإذا سألتهم عن الحلال والحرام وعما شرعته الأديان صعروا إليك خدودهم وقالوا لك أن الأمة تعيش بحديثها دون قديمها وأن ذاك القديم إن لم يضرنا الأخذ به فهو لا ينفعنا والعاقل لا يقبل إلا على ما ينفعه ويعلي قدره.
تلك هي شنشنة أصحاب الحديث أو الملاحدة والزنادقة الطبيعيون كما يطلق عليهم المتدينون وهذه حالة هؤلاء مع أولئك وستكون الغلبة لأنصار الحديث إذا لم يقم خصومهم لهم شعثهم على صورة معقولة مقبولة وبين هذين الفريقين فريق ثالث اختار التوسط بينهما فلم ير طرح القديم كله ولا الأخذ بالحديث بجملته بل آثر أن يأخذ النافع من كل شيء ويضم شتاته وهذا الفريق المعتدل على قلته لا يقاومه العقلاء من أهل الفريقين الآخرين مقاومة فعلية وعامتها غير راضين عنهم بالطبع لأن أكثر الناس يحبون أن تكون معهم أو عليهم ولا وسط بين ذلك.
ولقد كتب إلينا أحد علماء الشرقيات في برلين وهو ممن طافوا بلاد المشرق وسكنوا فيه زمناً وانقطعوا لدرس أحواله الاجتماعية وعلومه الإرثية كتاباً بالعربية فيه المقتبس وما يجب للمسلمين أن يقوموا به لقيام أمرهم بعد ذاك السبات الطويل قال:
أما الرسائل التي هي لبها (المجلة) فرأيتها تدور أبداً على حث الناس على درس العلوم المدنية التي تركت في العالم الشرقي منذ نحو خمسمائة سنة واقتباس الآثار الإفرنجية الحديثة فيها وإحياء الأدبيات العربية وهذا مطابق بحسب اختياري للطريقة الصحيحة لسعادة الأمم إذ لا فائدة من تقليد الأجانب وحده ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية (الوطنية) وحده بل الخير كل الخير في الأخذ من هنا وهناك وتعميم الدرس والبحث مع إضرام تلك الشعلة العظيمة التي هي ذات نور وذات حرارة وذات إنبات وأعني بها المبدأ الشعبي ولنا أن نسميه الشعوبية على شرط أن نجرده من الرائحة غير المقبولة.
اجتهد الإسلام والنصرانية أن ينشأآ جمعية تقوم بالدين وحده ليكون أصل الشهادة بذلك الدين ظاهرين على الدين كله إلا أنهما فشلا. ولقد تنبأ بعض المسلمين بأن الجامعة الإسلامية التي ستكون في أواخر هذه السنة لن تأتي بما يرجوه أكثرهم من تقوية عروة الدين بل ستقوي الأحزاب الشعبية وربما يتسع الخرق بين الجماعات من جهة المذهب(37/23)
الديني. أما أنا فأقول أن تقوية روابط المسلمين مع من حولهم من غير المسلمين المبنية على وحدة التربية والأخلاق والعادات وعلى وحدة اللسان لا تخلو حقيقة من تقوية الدين نفسه لأن هذا الاجتماع من شأنه أن يدعو إلى نمو عامة القوى فيزيد من له ميل إلى الحياة الدينية اعتقاداً وعملاً كما يزيد من له ميل إلى غير الدين قوة فيما اختاره وعلى هذا فمن مصلحة كل دين أن يكون نصف منتحليه مجتهدين مخلصين من أن يكون الجميع فاترين غير مكترثين بشيء.
هذا ما كتب لنا به العالم الغربي الشرقي منذ أشهر نشرناه ليطلع عليه أنصار القديم والحديث فيعلم الجامدون على مسطور القديم أن لا قيام لأمرنا بغير الأخذ من مدينة أوربا ويدرك أنصار الحديث بأن هذه المدنية الجديدة التي بهرتهم بزخارفها وسفاسفها لا تنفعهم وتنفع بني قومهم إلا إذا رافقها ما يجملها من علوم الأسلاف وآدابهم والأمة التي تنزع ربقة قديمها جملة واحدة وتنتقل إلى طور آخر دفعة قد ينعكس عليها الأمر ويلتوي عليها القصد ولم تنجح اليابان إلا لكونها اقتبست المدنية الغربية ومزجتها بأجزاء مدنيتها وهذا سر قول العالم المشار إليه لا فائدة من تقليد الأجانب وحده ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية أي ما ورثناه عن أجدادنا من التشبث بأهداب الوطنية وذكر القديم والحرص عليه.
ولنا في الغرب دولتان كبريان هما مثال في اقتباس الجديد والحرص على القديم. فقد شهدنا ألمانيا إلى اليوم تجري في مدارسها وكلياتها على آداب النصرانية المنقحة فلا توسد التدريس فيها إلا لرجل عرفت ترجمته وحياته مخافة أن يفسد عليها تربية أبنائها فتكون مدنية دينية أما فرنسا فناهضت الدين منذ زهاء مئة سنة وزادت مناهضتها له في السنين الأخيرة حتى نزعت لفظ الجلالة من المعاهد العامة وأخذت تضيق الخناق على أهل التدين من حملة العلم والأقلام حتى صار المتدين سراً يتجاهر بالانحلال جهراً ليأمن على معاشه ورزقه وسموا هذا حرية ولكن الله يحصي على الأمم ذنوبها كما لا يغفل عن الأفراد وها قد أخذت المدنية الإفرنسية التي بهرت العيون في الزمن الماضي ترجع القهقهرى وعلماء الأخلاق فيها يبكون دماً على انبتات شملهم وتراجع عمرانهم حتى روى بعض الإحصائيين أن عدد الفرنسيس سينزل في أواخر القرن العشرين إلى ثلاثة ملايين لأن المواليد أخذت تنقص عن الوفيات أما في ألمانيا فبفضل التربية الدينية والحرص على الأخلاق قبل(37/24)
الحرص على تلقين العلوم فإن النفوس تتزايد سنة عن سنة بحيث خيف من تكاثر نسلهم على البلاد المجاورة لهم مع ما هم عليه من المدنية الصحيحة والعلم بالصناعات والفنون ولا غرو فإن من خلق الألماني أن يترك من القديم كل ما ينفع منه أما الفرنسوي فيجرف منه النافع مع الضار وشتان بين الخلقين والمدنيتين وها هي النتيجة قد ظهرت للعيان مذ الآن.
وبعد فإن كل عاقل عرف تاريخ هذه الأمة يرى الخير كل الخير في احتفاظها بقديمها وضم كل ما ينفع من هذا الجديد على أن يكون للدين والعلم حريتهما فتكون المعتقدات بمأمن من طعن الطاعنين بها كما تجري المدنية على الشوط الذي تستنسبه وإذا رأى بعضهم في بعض المعتقدات ما لا ينطبق على روح الحضارة والعلوم العصرية فالأولى أن يطبقوا العقل على النقل كما هو رأي كبار علماء الإسلام منذ القديم. وإذا عجزت عقولهم عن ذلك فالأجدر بهم أن يأخذوا بعض القضايا بالتسليم ويتركوا العالم حراً يسير وجده دون أن يعوقه عائق وما نخال وكل عاقل إلا ويعتقد أن صحيح النقل لا يخالف صريح العقل والله أعلم.(37/25)
التربية والأمهات
هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعهدها المربي ... على ساق الفضيلة ثمرات
وتسمو للمكارم باتساق ... كما اتسقت أنابيب القناة
وتنعش من صميم المجد روحا ... بأزهار لها متضوعات
ولم أر للخلائق من محل ... يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت ... بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حسناً ... بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيب عالية المزايا ... كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جنان ... كمثل النبت ينبت في الفلاة
* * * *
فيا صدر الفتاة رحبت صدراً ... فأنت مقرّ أسنى العاطفات
تراك إذا ضممت السفل لوحاً ... يفوق جميع ألواح الحياة
إذا استند الوليد عليك لاحت ... تصاوير الحنان مصورات
لأخلاق الصبي بل انعكاس ... كما انعكس الخيال على المرآة
وما ضربان قلبك غير درس ... لتلقين الخصال الفاضلات
فأول درس تهذيب السجايا ... يكون عليك يا صدر الفتاة
فكيف نظن بالأبناء خيراً ... إذا نشأوا بحضن الجاهلات
وهل يرجى لأطفال كمالٌ ... إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
فما للأمهات جهلن حتى ... أتين بكل طياش الحصاة
حنون على الرضيع بغير علم ... فضاع حنوّ تلك المرضعات
* * * *
أأم المؤمنين إليك نشكو ... مصيبتنا بجهل المؤمنات
فتلك مصيبة يا أم منها ... نكاد نغص بالماء الفرات
تخذنا بعدك العادات ديناً ... فأشقى المسلمون المسلمات
فقد سلكوا بهن سبيل خسرٍ ... وصدورهن عن سبل الحياة(37/26)
بحيث لزمن قعر البيت حتى ... نزلن به بمنزلة الأداة
وعدّ وهن أضعف من ذباب ... بلا جنح وأهون من شذاة
وقالوا شرعة الإسلام تقضي ... بتفضيل الذين على اللواتي
وقالوا إن معنى العلم شيء ... تضيق به صدور الغانيات
وقالوا الجاهلات أعف نفساً ... عن الفحشا من المتعلمات
لقد كذبوا على الإسلام كذباً ... تزول الشم منه مزلزلات
أليس العلم في الإسلام فرضاً ... على أبنائه وعلى البنات
وكانت أمنا في العلم بحراً ... تحل لسائليها المشكلات
وعلمها النبي أجل علم ... فكانت من أجل العالمات
لذا قال ارجعوا أبداً إليها ... بثلثي دينكم ذي البينات
وكان العلم تلقيناً فأمسى ... يحصل بانتياب المدرسات
وبالتقرير من كتب ضخام ... وبالقلم الممد من الدواة
ألم نر في الحسان الغيد قبلا ... أوانس كاتبات شاعرات
وقد كانت نساء القوم قدماً ... يرحن إلى الحروب مع الغزات
يكنّ لهم على الأعداء عوناً ... ويضمدن الجروح الداميات
وكم منهن من أُسرت وذاقت ... عذاب الهون في أسر العداة
* * * *
فماذا اليوم ضر لو التفتنا ... إلى أسلافنا بعض التفات
فهم ساروا بنهج هدىً وسرنا ... بمنهاج التفرق والشتات
نرى جهل الفتاة لها عفافاً ... كأنّ الجهل حصن للفتاة
ونحتقر الحلائل لا لجرم ... فنؤذيهن أنواع الأذاة
ونلزمهن قعر البيت قهراً ... ونحسبهن فيه من الهنات
لئن وأدوا البنات فقد قبرنا ... جميع نسائنا قبل الممات
حجبناهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتكات
ولو عدمت طباع القوم بؤماً ... لما غدت النساء محجبات(37/27)
وتهذيب الرجال أجل شرط ... لجعل نسائهم متهذبات
وما ضر العفيفة كشف وجه ... بدا بين الأعفاء الأباة
فدى لخلائق الأعراب نفسي ... وإن وصفوا لدينا بالجفاة
فكم بزرت بحيهم الغواني ... حواسر غير ما متربيات
وكم خشف بمربعهم وظبي ... يمرّ مع الجداية والمهاة
ولولا الجهل ثمّ لقلت مرحي ... لمن ألفوا البداوة في الفلاة
معروف الرصافي(37/28)
الشعوبية
يقوى تفاخر أهل كل عنصر بعنصرهم وأهل كل جنس بجنسهم كلما كانوا أقرب إلى الهمجية والعصبية الجاهلية. جاء الإسلام فكان من أعظم إصلاحه إسقاط دعوى الجنسيات والقضاء على التفاخر بالآباء والأجداد فساوى بين العربي والفارسي والأحمر والأصفر والأبيض والأسود وكانت قاعدته العامة لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
والظاهر أن دعوى الشعوبية أي عدم الاعتداد بالعرب وتفضيل العجم عليهم دخلت بدخول أجيال كثيرة من الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية فنشأت منها العداوات بين العرب أهل الدولة وبين العجم كما كانت تنشأ في هذه البلاد بين تركي وعربي كلما اشتد الأول في إرهاق الثاني.
سألنا أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري عن الشعوبية فكتب إلينا ما يأتي:
أما الزمن الذي ظهرت فيه الشعوبية فلا يحضرني فيه شيء. والوقوف على أوائل الأشياء من أصعب المسائل وأدقها إلا أن الذي ظهر لي أن ذلك حدث بعيد عصر الخلفاء الراشدين لوجود الداعي إلى ذلك وهو التفاخر بالجنس الذي هو من عادات الجاهلية التي أتى الدين بإبطالها. ومن نظر لمنزلة سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في أوائل الأمة زال عنه الشك في هذه المسألة ولا يدخل في هذا الأمر بحث المؤرخ عن خصائص الأجناس مما يقصد به الوقوف على الحقائق فإن هذا نوع آخر إلا أن من بحث عن أحوال الأمم ووفى النظر حقه تبين له أن العرب في الجملة لا تساميهم أمة البتة.
وأظن أنه لا بد أن تؤلف بعد حين كتب في خصائص الأمم وكتب في خصائص البلاد كما أُلفت كتب في خصائص اللغات وتجعل من الفنون التي يعنى بها وتميز عن غيرها ولا نذكر بطريق العرض إلا أن فن خصائص الأمم تتيسر المشاغبة فيه والمغالطة أكثر من غيره إلا أن كل فن وضعت مقدماته ونقحت مسائله يبدو بسرعة عوار المغالط فيه. هذا وكما حدث بعد عصر الخلفاء أمر المفاضلة بين العرب والعجم حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية وهما الفريقان اللذان يجمعهما اسم العرب ونشأ بسبب ذلك من الفتن ما يعرفه المولع بالأخبار ولم يزل أثر ذلك باقياً في بعض الجهات إلى ما قبيل عصرنا وقد رأيت في بعض البلاد أناساً يقولون إلى الآن نحن قيسية وآخرين يقولون نحن يمانية.
هذا ما قاله أستاذنا وفيه من كشف الغامض ما لم نظفر في كتاب. والشعوبي بالضم محتقر(37/29)
أمر العرب. قال ابن منظور وقد غلبت الشعوب بلفظ الجمع على جيل العجم حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبي أضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد كقولهم أنصاري وهم الشعوبية وهم فرقة لا تفضل العرب على العجم ولا ترى لهم فضلاً على غيرهم وأما الذي في حديث مسروق أن رجلاً من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فأمر عمر أن لا تؤخذ منه قال ابن الأثير الشعوب ههنا العجم ووجهه أن الشعب ما تشعب من قبائل العرب أو العجم فخص بأحدهما ويجوز أن يكون جمع الشعوبي كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.
قال شارح المفصل في شرح قول الزمخشري الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية وجبلني على الغضب للعرب وللعصبية وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز والشعوبية مصدر الشعوبي بضم الشين وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم على العجم فضلاً إذ الفضل بالتقوى وهو منسوب إلى قوله تعالى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال ابن الحاجب في شرح المفصل أيضاً والشعوبية بضم الشين قوم متعصبون على العرب مفضلون عليهم العجم وإن كان الشعوب جيل العجم إلا أنه غلبت النسبة إليه لهذا القبيل ويقال أن منهم معمر بن المثنى وله كتاب في مثالب العرب وقد أنشد بعض الشعوبية للصاحب بن عباد يمدحه:
غنينا بالطبول عن الطلو ... وعن عنس عذافرة ذمول
فلست بتارك إيوان كسرى ... لتوضح أو لحومل فالدخول
وضب بالفلا ساع وذئب ... بها يعوي وليث وسط غيل
إذا نحروا فذلك يوم عيد ... وإن ذبحوا ففي عرس جليل
يسلان السيوف لرأس ضب ... هراشاً بالغداة وبالأصيل
بأية رتبة قدمتموها ... على ذي الأصل والشرف الأصيل
أما لو لم يكن للفرس إلا ... نجار صاحب العدل الجليل
لكان لهم بذلك خير عز ... وجيلهم بذلك خير جيل
فقال له الصاحب قدك ثم قال لبديع الزمان أجبه فأجابه مرتجلاً:(37/30)
أراك على شفا خطر مهول ... بما أودعت رأسك من فضول
طلبت على مكارمنا دليلاً ... متى احتاج النهار إلى دليل
السنا الضاربين جزي عليكم ... فإن الجزي أقعد بالذليل
متى قرع المنابر فارسي ... متى عرف الأغر من الحجول
متى علقت وأنت بها زعيم ... أكف الفرس أعراف الخيول
فخرت بملء ما ضغينتك فخراً ... على قحطان والبيت الأصيل
فخرت بأن مأكولاً ولبساً ... وذلك فخر ربات الحجول
تفاخرهن في خد أسيل ... وضرع من مفارقة رسيل
فقال الصاحب للشعوبي: كيف ترى فقال: لو سمعت ما صدقت ثم قال له: جائزتك جوازك إن وجدتك بعدها في مملكتي شربت عنقك.
وفد النعمان بن المنذر على كسرى فوجد عنده وفود الروم والهند والصين فذكروا من ملوكهم وبلادهم فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارساً ولا غيرهم فقال كسرى وأخذته عزة الملك يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم فرأيت الروم كذا ووصف من حالهم وجعل يثني عليهم ورأيت الهند التي لها كذا وكذا ثم قال مثل ذلك في الترك والخزر والصين متى ذكر قبيلة أثنى عليها ووصف ما يفتخرون به ثم قال ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير وجعل يصف شأنهم وهو يحقرهم ويصغرهم فقال النعمان: أصلح الله الملك وجعل يثني عليه ثم قال: إلا أن عندي جواباً في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له فإن آمنني من غضبه نطقت به قال كسرى فأنت آمن فقال النعمان أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به في عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها قال كسرى: بماذا قال النعمان بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وينها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجنود لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل حصونهم ظهور خيولهم مهادهم الأرض وسقفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر إذ غيرها من الأمم إنما(37/31)
عزها الحجارة والطين وجزائر البحور.
وأما حسن وجوهها وألوانها فقد تعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المتحرقة والصين المحنتمة والترك المشوهة والروم المقشوة وأما أحسابها وأنسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها وآخرها حتى أن أحدهم يسأل عما وراء أبيه دنياً فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أباً أباً حفظوا بذلك أحسابهم وضبطوا أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يدعي إلى غير أبيه وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي يكون عنده البكرة أو الناب عليها بلاغة في حمولته وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزي بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج له من دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الثناء.
وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالإشارة وضرب الأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيءٍ من ألسنة الأجناس ثم خليهم أفضل الخيول ونساؤهم أعف النساء ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة والحجارة جبالهم الجزع ومطاياهم التي لا يبعد عن مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون بها حتى يبلغ أحدهم من تمسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً وبلداً حراماً وبيتاً محجوباً ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك دمه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بالأذى وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومي الإيماء فهي اللب وعقد لا يحلها إلا خروج نفسه وإن أحدهم ليرفع عدداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب فلا يرضى حتى تفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره وأنها ليلجأ إليهم المجرم المحروب من غير معرفة ولا قرابة لتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله وأما قولك أيها الملك أنهم يئدون أولادهم من الحاجة فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضاً وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا آنست من نفسها ضعفاً(37/32)
وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائرهم فيلقون إليهم أمورهم وينقادون إليهم بأزمتهم.
فأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والوطء والعسف فعجب كسرى مما أجابه النعمان به وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في إقليمك ولما هو أفضل ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقيص العرب وتهجين أمرهم بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة وجماعة من رؤوس العرب سماهم فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم وقد سمعت من كسرى مقالة أتخوف أن يكون لها غدر واقتص عليهم مقالة كسرى وما رد علبه فقالوا: وفقك الله أيها الملك ما أحسن ما رددت عليه وأبلغ ما حجته به فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت قال النعمان: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وبما يتخوف من ناحيتكم وليس شيءٌ أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى فإذا دخلتم عليه نطق كل واحد منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته به نفسه ووصاهم بوصايا فذهبوا وقد ساق القصة صاحب العقد وأوردها أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي في كتاب ألف باء.
ومن حجة الشعوبية على العرب أن قالت أنا ذهبنا إلى العدل والتسوية وأن الناس كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد واحتججنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: المؤمنين أخوة لتكافأ دماؤهم ويسعى أدناهم وهم يد على من سواهم. وقوله في حجة الوداع وهي خطبته التي ودع فيها أمته وختم نبوته: أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى. وهذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام موافق لقول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فأبيتم إلا فخراً وقلتم لا تساوينا وإن تقدمتنا إلى الإسلام ثم صليت حتى تصير كالحني وصمت حتى تصير كأوتار ونحن نسامحكم ونجيبكم إلى الفخر بالآباء الذي نهاكم عنه نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا أبيتم إلا خلافه وإنما نجيبكم إلى ذلك لاتباع حديثه وما أمر به صلى الله عليه(37/33)
وسلم فنرد عليكم حجتكم في المفاخرة ونقول: أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكاً أو نبوة فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: وإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سخرت له الأنس والجن والطير والريح وإنما هو رجل منا أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبلغ مطلع الشمس ومغربها وبنى ردماً من حديد ساوى به بين الصدفين وسجن وراءه خلقاً من الناس تربي على خلق الأرض كلها كثرة لقول الله عز وجل (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) فليس شيء أدل على كثرة عددهم من هذا أو ليس لأحد من ولد آدم مثل آثاره في الأرض ولو لم يكن له إلا منارة الإسكندرية التي أسسها في قعر البحر وجعل في رأسها مرآة يظهر البحر كله في زجاجتها وكيف ومنا ملوك الهند الذين كتب أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته بنت ألف ملك والذي في مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والفوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني أردت أن تبعث إليّ رجلاً يعلمني الإسلام ويوفقني على حدوده والسلام. وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوة فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة هوداً وصالحاً واسماعيل ومحمداً ومنا المصطفون من العالمين آدم ونوح وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر فنحن الأصل وأنتم الفرع وإنما أنتم غصن من أغصاننا فقولوا بعد هذا ما شئتم وادعوا.
ولم تزل للأمم كلها من الأعاجم فيكل شق من الأرض ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والإسطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به علم الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف لم يكن للعب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها ويقمع ظالمها وينهى سفيهها ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم وذلك إن للروم أشعاراً عجيبة قائمة الوزن والعروض فما الذي تفخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية والوحوش(37/34)
النافرة يأكل بعضها بعضاً ويغير بعضها على بعضٍ فرجالها موثوقون في حلق الأسر ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي. قال بجير يعير العرب باختلافها في النسب واستلحاقها للأدعياء:
زعمتم بأن الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبة ناسل ... وبرجان من أولاد عمر وبن عامر
فقد صار كل الناس أولاد واحد ... وصاروا سواء في أصول العناصر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر
أتطمع في صهري دعياً مجاهراً ... ولم تر ستراً من دعي مجاهر
وتشتم لؤماً رهطه وقبيله ... وتمدح جهلاً طاهراً وابن طاهر
وقال الحسن بن هانئ على مذهب الشعوبية:
وجاورت قوماً ليس بيني وبينهم ... أواصر إلا دعوة وبطون
إذا ما دعا باسمي العريف أجبته ... إلى دعوة مما عليَّ يهون
لا زد عمان بن المهلب نزوة ... إذا افتخر الأقوام ثم تلين
وبكر يرى أن النبوة أنزلت ... على مسمع في البطن وهو جنين
وقالت تميم لا نرى أنا واحداً ... كأحنفا حتى الممات يكون
فلا لمت قيساً بعدها في قتيبة ... إذا افتخروا أن الحديث شجون
قال ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب: وأما أهل التسوية فإن منهم قوماً أخذوا ظاهر بعض الكتاب والحديث فقضوا به ولم يفتشوا عن معناه فذهبوا إلى قوله عز وجل: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقوله: إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم. وإلى قول النبي عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب. وقوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم وإنما المعنى في هذا أن الناس كلهم من المؤمنين سواءٌ في طريق الأحكام والمنزلة عند الله عز وجل والدار الآخرة لو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فضل إلا بأمر الآخرة لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف ولا فاضل ولا مفضول فما معنى قوله صلى(37/35)
الله عليه وسلم إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه وقوله صلى الله عليه وسلم أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم وقوله صلى الله عليه وسلم في قيس بن عاصم هذا سيد الوبر. وكانت العرب تقول لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا. تقول لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وأخيار فإذا حملوا كلهم جملة واحدة هلكوا أو إذا ذمت العرب قوماً قالوا: سواسية كأسنان الحمار وكيف يستوي الناس في فضائلهم والرجل الواحد لا تستوي في نفسه أعضاؤه ولا تتكافأ مفاصله ولكن لبعضها الفضل على بعض وللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس وقالوا القلب أمير الجسد ومن الأعضاء خادمةٌ ومنها مخدومةٌ.
قال ابن قتيبة: ومن أعظم ما ادعت الشعوبية فخرهم على العرب بآدم عليه السلام وبقول النبي عليه الصلاة والسلام لا تفضلوني عليه فإنما أنا حسنةٌ من حسناته ثم فخرهم بالأنبياء أجمعين وأنهم من العجم غير أربعة هود وصالح واسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام واحتجبوا بقول الله عز وجل إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ثم فخروا بإسحق بن إبراهيم وأنه لسارة وأنا إسماعيل لأمة تسمى هاجر قال شاعرهم:
في بلدة لم تصل عكن بها طنباً ... ولا خباء ولا عك وهمدان
ولا لجرم ولانهد بها وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض تبنى بها كسرى مساكنه ... فما بها من بني اللخناء إنسان
فبنو الأحرار عندهم العجم وبنو اللخناء عندهم العرب لأنهم من ولد هاجر وهي أمة وقد غلطوا في هذا التأويل وليس كل أمة يقال لها اللخناء من الإمام الممتهنة في دعي الإبل وسقيها وجمع الحطب وإنما أخذ من اللخن وهو نتن الريح يقلل لخن السقاء إذا تغير ريحه فأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وارتضاها للخليل فراشاً وللطيبين إسماعيل ومحمد أماً وجعلهما سلالة فهل يجوز لملحد فضلاً عن مسلم أن يسميها اللخناء.
قال بعض من يرى رأي الشعوبية فيما يرد به على ابن قتيبة في تباين الناس وتفاضلهم والسيد منهم والمسود إننا نحن لا ننكر تباين الناس ولا تفاشلم ولا السيد منهم والمسود والشريف والمشروف ولكننا نزعم أن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم(37/36)
ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم ألا ترى أنه من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها ومن أمية في أرومتها ومن قيس في أشرف بطن منها إنما الكريم من كرمت أفعاله والشريف من شرفت همته وهو معنى حديث النبي عليه الصلاة والسلام إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وقوله في قيس بن عاصم هذا سيد أهل الوبر إنما قال فيه لسؤدده في قومه بالذب عن حريمهم وبذله رفده لهم ألا ترى أن عامر بن الطفيل كان في أشرف بطن في قيس يقول:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل مركب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
وقال آخر:
أنا وإن كرمت أوائلنا ... لسنا على الأحساب ننكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال قس بن ساعدة لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي ولا يردها أحد بعدي أيما رجل رمى رجلاً بملامة دونها كرم فلا لوم وأيما رجل ادعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له. ومثله قول عائشة أم المؤمنين كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لؤم دونه كرم فالكرم أولى به. تعني بقولها أن أولى الأشياء بالإنسان طبائع نفسه وخصالها فإذا كرمت فلا يضره لؤم أوليته وإن لؤمت فلا ينفعه كرم أوليته.
وقال الشاعر:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما=وجعلته ملكاً هماما
وقال آخر:
ما لي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
إن انتمى منتم إلى أحد ... فإنني منتم إلى أدبي
روى أبو العيناء الهاشمي عن الفخذمي عن شبيب بن شبة قال كنا وقوفاً بالمربد موضع بالبصرة وكان المربد مألف الأشراف إذ أقبل ابن المقفع فبششنا به وبدأناه بالسلام فرد علينا السلام ثم قال: لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل وسورها المديد ونسميها العجيب(37/37)
فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض وأرحتم دوابكم من جهد الثقل فإن الذي تطلبونه لم تفلتوه ومهما قضى الله لكم من شيءٍ تنالوه. فقبلنا وملنا فلما استقر بنا المكان قال لنا: أي الأمم أعقل فنظر بعضنا إلى بعض فقلنا: لعله أراد أصله من فارس فقلنا: فارس فقال: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيراً من الأرض ووجدوا عظيماً من الملك وغلبوا على كثير من الحق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئاً لعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم قلنا: فالروم قال: أصحاب صنعة قلنا: فالصين قال: أصحاب طرفة قلنا فالهند قال: أصحاب فلسفة قلنا السودان قال: شر خلق الله قلنا: الخزر قال: بقر سائمة قلنا: فقل قال: العرب قال: فضحكنا قال: أما أني ما أردت موافقتكم ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة أن العرب حكمت على غير مثال مثل لها ولا آثار أثرت أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة ويفعله فيصير حجة ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم فلم يزل حياء الله فيهم وحياؤهم في أنفسهم حتى رفع لهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم فقال سبحانه أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فمن وضع حقهم خسر ومن أنكر فضلهم خصم ودفع الحق باللسان أكبت للجنان أهم.
أما عناية الإسلام بإسقاط الجنسية فتراه ماثلاً من حسن معاملتهم للموالي فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش موتة زبداً مولاه وقال إن قتل فأميركم جعفر وأمر رسول اله أسامة بن زيد فبلغه أن قوماً قد طعنوا في إمارته وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار فقال عليه السلام إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله ولقد كان أهلاً وإن أسامة لها لأهل. وقالت عائشة لو كان زيد حياً ما استخلف رسول الله غيره وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة عليّ وأنا وهو سيان فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك وكان أحب إلى رسول الله منك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب فكأنها تكرهته فتولى منه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال لو يوماً ولم يكن أسامة من أجمل الناس لو كنت(37/38)
جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك وفي بعض الحديث أنه قال أسامة من أحب الناس إليَّ. وكان صلى الله عليه وسلم أدى إلى بني قريظة مكاتبه سلمان منا أهل البيت ويروى أن المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة فقال له عمارة انتظرت أنه يقول: ومولاي فانفض والله يدك من يدي فتبسم أمير المؤمنين المهدي ولم يكن الأكرام للموالي في جفاة العرب.
زعم الليثي أنه كانت بين جعفر بن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة وبين يدي مسمع مولى له بهاء ورواء ولسن فوجه جعفر إلى مسمع له لينازعه ومجلس مسمع حافل فقال أن أنصفني والله جعفر أنصفته وإن حضر حضرت معه وإن عند عن الحق عندت عنه وإن وجه إليَّ مولى مثل هذا وأومأ إلى مولى جعفر فقال مولى مثل هذا عاضاً لما يكره وجهت إليه وأومأ إلى مولاه فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه ذلك الموضع الذي تباهي بمثله العرب وقد قيل الرجل لأبيه والمولى من مواليه. وفي بعض الأحاديث أن المعتق من فضل طينة المعتق. ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه فانتزعها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا عبد الله إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا. ويروى أن رجلاً من موالي بني مازن يقال له عبد الله بن سليمان وكان من جلة الرجال نازع عمرو بن هداب المازني وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره فأدخل الفعلة دار عمرو فلما قلع من سطحه سافاً كف عنه ثم قل يا عمرو قد أريتك القدرة وسأريك العفو وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة.
كان نافع بن جبير أحد بني نوفل بن عبد مناف إذا مر عليه الجنازة سأل عنها فإن قيل قرشي قال واقوماه وإن قيل عربي قال وامادتاه وإن قيل مولى أو عجمي قال اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت. ويروى أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمور بن تميم كان يقول في فصصه اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك.
ومثل ذلك ما كان بعضهم يقولونه لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى وكانوا(37/39)
لا يكنونهم بالكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا يمشون في الصف معهم ولا يتقدمونهم في الموكب وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم وإن أطعموا المولى لسنه وفضله وعمله أجلسوه في طريق الخبار لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب وإن كان الذي يحضر عزيزاً وكان الخاطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها وإنما يخطبها إلى مواليها فإن رضي زوج وإلا رد فإن زوج الأب والأخ بغير رأي موليه فسخ النكاح وإن كان قد دخل بها كان سفاحاً غير نكاح.
وذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الموالي والعرب أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود ولقي ما لقي من قراء أهل العراق وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه الفقهاء والمقاتلة والموالي من أهل البصرة فلما علم أنهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم أحب أن يسقط ديوانهم ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا ولا يتعاقدوا فأقبل على الموالي وقال أنتم علوج وعجم وقراؤكم أولى بكم ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب وصيرهم كيف شاء ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل بن لجين يقال له حراش وقال شاعرهم:
وأنت من نقش العجلي راحته ... توفر شيحك حتى عاد الحكم
يريد الحكم بن أيوب التميمي عامل الحجاج على البصرة.
ولد أورد ابن بسام في الذخيرة في ترجمة الأديب أبي جعفر أحمد الدودين البلنسي رسالة ابن غرسية يخاطب بها أبا جعفر بن الجزار في فضل الشعوبية وذم العرب ابتدأها بقوله:
يا ابن الأعارب ما علينا بأس ... لم نجك إلا ما حكاه الناس
ولم أشتم لكم حسباً ولكن ... حدوث بحيث يستمع الحداء
وقال فيها في وصف العجم:
هم ملكوا شرق البلاد وغربها ... وهم منحوكم بعد ذلك سؤددا
حلم وعلم ذوو الآراء الفلسفية الأرضية والعلوم المنطقية الرياضية حملة الأسترلوميقا والجومطريقا والعلمة بالأرتماطيقا والأنولوطيقا والقومة بالموسيقى والطوبيا والنهضة بعلوم الشرائع والطبائع والنفرة في علوم الأديان والأبدان ما شئت من تحقيق وترفيق حبسوا(37/40)
أنفسهم على العلوم الدينية والبدنية لا على وصف الناقة العدنية فعلهم ليس بالسفاف كفعل نائلة وإساف أصغر بشأنكم إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غسانكم وإذا أبو رغالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستئصالكم.
والرسالة كلها على هذا النسق استغرقت مع الردود عليها سبع عشرة ورقة من الذخيرة ولولا غلبة التحريف الكثير عليها لأوردناها برمتها وقد رد عليها كثيرون من أدباء الأندلس في عصر كاتبها ومن جملتهم المخاطلب بها أبو جعفر وردودهم كلها إلى السفاهة والبذاءة أقرب وكتابة ابن غرسية أمتن وحججه أوضح.
وكنا نود أن نشبع الكلام على الشعوبية أكثر مما أشبعناه واكتفينا الآن بمالدينا من النقول الصحيحة ولعل أحد مؤازرينا يكتب في هذا الموضوع ليجلوه أكثر مما جلوناه وفوق كل ذي علم عليم.(37/41)
اللسان
كلُّ حرفٍ تعطي عليه جواباً ... خطأ كان لفظه أو صوابا
فتمعن قبل الإجابة تسلم ... من جواب يجني عليك عذابا
بين فكيك ليث غابٍ إذا ما ... فهت جهلاً في القلب أنشب نابا
من يفه عن روية يقضب الغيظ فتغدوا أعداؤه أصحابا
مقول المرء مثل حانوت عطار حوى ما قد مرَّ طعماً وطابا
فإذا ما أراد يقطر أَريا ... وإذا ما أراد يقطر صابا
رب سهم إن أوترته أناة ... فلج القصد واستقادا الرغابا
وإذا ما رماه طائش فكر ... يتعدى المنى فقاد الصعابا
كم قتيل للفظةٍ لو عداها ... ما عداه برد الصفا جلبابا
غادرته تحت التراب إذا لم ... تلفها غادرت بفيه الترابا
كان قبلا يسقي من المسك كأساً ... صار يروي من الصديد شرابا
أيها اللين الذي هو ذو اللبدة قد حل داخل الفم غابا
قل لنا ما صنعتَ بالناس قدماً ... فلقد قيل قد صنعت عجابا
* * *
لفظ الكيسُ اللطيف أنا من ... ساد أهل العروش والأربابا
أوضح القلب كاشفاً ما حواه ... مطفئاً فيه ثائراً لهابا
بكلام مثل الندى فاق في جلب الأماني هاطلاً سكَّابا
سقطه في السماع خير ونعمى ... مرجعٌ للشيخ العتيّ الشبابا
تجد الملك والمملك في قبضة كفي وما رجوت استجابا
أفتن الكلَّ بافتتاني ومن تلفيه مثلي محبباً خلاَّبا
بي بصبي الملك الرعايا فتبدي ... آي حب إذا دنا أو غابا
ويسوس الشعب الوزير فيحا ... ز المرجي ويبلغ الآرابا
وأخو المتجر الوسيع بي أسلس ... قي الأماني فأمطرته سحابا
كم دعوتُ ابن خيشة في نعيم ... يكتسي فاخر الدمقس ثيابا
كم مني دونها الثريا دنت بي ... فجنت قطفها إلا كفُّ اقتصابا(37/42)
* * *
وإذا ما أطلقتُ من حكماتي ... ضيقت شرتي المغاني الرحابا
ودعوت الصبح المنير ظلاماً ... واعتبرت الحق المبين كذابا
وأطرحت الخل الصفي قصيا ... بعد ما كان يستزيد اقترابا
واتخذت الرأي الضلال دليلا ... وتركت الراضين عني غضابي
واجتلبت الألوف تلقى ألوفاً ... مرويات مناصلاً وحرابا
ناطقات الكرات متقداتٍ ... حاصدات كهولها والشيابا
كم صباح تكسي النهار كستها ... شرتي بردة الظلام إهابا
وبنوها الفراخ أمسوا بيتم ... يتلوَّون حيرة واكتئابا
اترك المعلم الأغن وقد بات بمسعايَ شر مسعى يبابا
فأنا من أُدير خمراً وغسليناً وأجني الزقوم والعنابا
وأنا من يجيب شأني أَني ... انشرُ الميت أو أبين الرقابا
وقصارى أمري مبين ببيت ... لذوي النبل مشرع أبوابا
من تخطي بي الروية أخطا ... من حدا بي نهج الصواب أصابا
دمشق أمين
ظاهر خير الله(37/43)
الحاكي أو الفنغراف
بقلم عيسى أفندي اسكندر المعلوف
(نظم هذه الأبيات ونقشها على أسطوانة بصوته تلبية لاقتراح صديق له)
صوت السلام أميركا حياك ... وبكشفه كولمبسٌ أحياكِ
إن الصحائف والمطابع والمدارس والمعامل زينت مغناكِ
وكذا الزراعة والصناعة والتجارة ... عززت في نجمها مبداكِ
سميت نصف الأرض عن ثقة وقد ... فاخرت كل الأرض في أنباكِ
فعلى أَديسن أَلف أَلف تحية ... وبه اجتنيت من الفنون مناكِ
يكفيه إيجاد الفنغراف الذي ... قد شاع بين العرب والأتراك
أَلفى بنفخ البوق بعثة ميتنا ... فأقامه من قبره الفتاكِ
وتصيد الأصوات من بحر الهوا ... بشباكه كصيد الأسماكِ
فيعي بإذنٍ ما يقال كسامع ... ويعيده بلسانه كالحاكي
هو صادق في نقل أخبار وفي ... حفظ الكلام وليس بالأفاكِ
يتقلد الأصواتَ كيف تلونت ... بفصاحة وهو الضحوك الباكي
ونراه ينطق باللغات كأَنه ... متلقن بالروح وحي ملاكِ
ويدور كالدولاب وقت تكلم ... فكأنه سيارة الأفلاكِ
ومحل حفظ الصوت شبه دماغنا ... في شدة الإحساس والإدراكِ
ولسانه بعد الفكر ناطق ... بعواطف القلب الشكور الشاكي
هذا عجيبة عصرنا وأديسن ... مبدي العجائب فيه كل رجاكِ
لا زال بالعمر الطويل ممتعاً ... ما شنف الآذان صوتُ (الحاكي)(37/44)
سير العلم والاجتماع
حياة النبات
يرى أوسونسكي أحد كبار علماء روسيا أن حياة النبات تشبه بجملتها حياة الإنسان فلها مزاج وشهوات وميل وكراهة كالآدميين وكان علم الزراعة من قبل يرى أن النباتات عارية من هذه القوى فيكتفي الزارعون بزرعها وسقيها أو بتغذيتها وذلك بوقايتها من أخطار رداءة الهواء وتحسين ما يلائم طبيعتها من الأجواء ولكن هذا العالم رأي الآن أن لا سبيل إلى الانتفاع من النباتات واستنبات الجيد منها إلا بمعاملتها معاملة من يعقل ويحس وقد مثل لذلك بنبات البطارس (الخنثار) والفطر والطحلب وقال أنها تنقبض إذا أخذت ووضعت على قطعة من خشب مغشاة بالجلاتين واستدل من تأثر هذه النباتات على أنها حساسة كالحيوان ومن رأيه أن النباتات تتأثر بالنور والهواء أكثر من جميع الحيوانات فمنها ما يتجه نحو الشمس ومنها ما يوجه وجهه قبل المشرق ومنها ما يغلق نفسه عند الغروب ومنها ما يسهر في الليل وينام في النهار نوماً أشبه بالموت. ومن أنواع البقول ما ينام على سوقه ومنها ما يقي نفسه من حرارة أشعة الشمس بأن تجعل أوراقها على صورة لا تتعرض بها للنور مباشرة وأنا لنرى الأزاهير في الأصاصي (أواني الزهور) توجه وجهها نحو النافذة كما نرى الهندباء تتنبأ بسقوط المطر ولا تفتح ونبات المسحية تخاف من الضجة بل قد يغشى عليها متى أطلق أمامها مدفع. ومعظم النباتات تتأثر بالأثير والمورفين والكوكايين. وعلى هذا فقد استنتج العالم بأن أرسطو كان على صواب في قوله أن للنباتات روحاً فقال أن معرفة ذلك من حال النبات يدعو إلى إحسان تربيته وتعهده فإذا فعل المزارعون الفلاحون وأرباب الحدائق ذلك فهناك الغلات الجيدة في الكمية والكيفية.
المجموع العصبي
يحثوا في المؤتمر الطبي في جنيف مؤخراً في ضعف المجموع العصبي (نوراستينيا) والحمر فقال بعضهم أن المكثرين من تناول الماء أكثر عرضة لهذا الضعف من غيرهم ومعلوم أن هذا الضعف لا يتناول القوى الطبيعية فقط بل يتناول القوى العقلية والحماسة الأدبية ويشعر المصابون باضطراب في الوظائف العضوية وجميع هذه الأسباب تؤثر تأثيراً مضعفاً في الجسم والعقل. وجرى البحث فيما إذا كان الاعتماد على المنعشات في(37/45)
مثل هذه الحال لا يفيد المصاب بهذا الداء إذا شفعها بتحسين أصول غذائه لا شك أن المصاب بضعف الأعصاب يشكو من سوء الهضم في الغالب فمن الاحتياط أن لا يعطى من الأطعمة المائعة والسائلة ما يهيج معدته وليس معنى هذا أنه ينبغي حذف جميع المنعشات من طعامه وقد تبين أن الخمور على أنواعها تضر بالمصاب بهذا الضعف كما ثبت أن المكثرين من تناول الماء مصابون بالسوداء وسريعو الانفعال والسخط.
الماء المقدس
لفت راهب إيطالي من المشتغلين بعلم الجراثيم والطب الأنظار للأخطار التي تحدث من أجران الماء المقدس في الكنائس فثبت لديه أن في كل مئة سنتمتر من الماء المقدس في كنيسة القديس كروس في تورين مئة وخمسين ألف جرثومة إذا أخذ الماءُ من سطح الجرن وإذا اغترف من داخله يحتوي على ستة ملايين جرثومة. وقد حقن بهذا الماء حيوانات فكان سبباً في قتلها بالسل أو الخناق أو غيرهما من الأمراض العضالة وقد بين الطرق الواقية من تناول الماء على الصورة المألوفة وأخذ رجال الدين هناك يبحثون في واسطة تدفع الجراثيم عن الماء لا بغسل الأجران بالسليماني فقط بل بالنظر في كيفية تناول الماء.
طهارة برلين
أصبحت مدينة برلين بالنظر للارتقاء الذي ما زال متواصلاً فيها وفضل العناية في تطهيرها ووقايتها من أطهر مدن العالم إن لم نقل أنها أطهر مدينة في العالم فأصاب الصحة من هذه الطهارة حظ وافر فقد كان معدل الموت فيها سنة 1876ـ29 فأصبح سنة 1900ـ35 وصار هذه السنة 38.
الحكم بالإعدام
نسمع الكثيرين من أصحاب الرأي يقولون حينما يبلغهم أن الأشقياء كمنوا لفلان فسلبوه متاعه وقتلوه شر قتلة لو نفذ الحكم بالإعدام لوقف الأشقياء عند حدهم ولما تجرأوا تلك الجرأة على قتل النفوس التي حرم الله قتلها قال أحد نواب الفرنسيس ما جعل الأسافل يغتالون الكرام إلا عدم الشدة في العقوبات وها نحن أولاً نعربه بالحرف الواحد: كل جمعية لها الحق أن تتخذ جميع الوسائل الضرورية لحفظ كيانها وإني لا أظن أنه يمكن أن تعاقب المجرمين كافة لأنه يوجد منهم من يستحيل وجود عقاب يناسب فظاعة جرمهم وإني لست(37/46)
من الذين يقولون أن السبب في كل الجرائم البؤس فلا محل لتلك الأعذار التي ينتحلها لهم بعضهم قبل أن نلغي حكم الإعدام يجب أن نتحقق من أمر العقاب الذي يحل محله. قد لطف قانون السجون ولكل الجرائم لم تخفف بل لا تزال في ازدياد وزاد على ذلك أن الجرائم التي ترتكب اليوم أفظع من التي كانت ترتكب أمس نعم إن البشر ليسوا بمعصومين وقد يغلطون ولكن طرق التحقيق المتبعة اليوم بفرنسا والمرافعات القضائية تجعلنا نقول أن الخطأ أقل من القليل.
وأرجو من زملائي أن يشملوا بنظرهم القوم الصالحين أكثر من أن يشملوا به المجرمين. فالجاني الذي يدخل تحت جنح الليل إلى بيت فيه أسرة آمنة مطمئنة شاهراً بيده مسدساً لا شك أنه يستحق عقاباً على هذه الجريمة الفظيعة بالأشغال الشاقة المؤبدة فإذا لم يجر عليه الحكم بالإعدام فلا شك أن هذا الأثيم يقتل كل من يقع تحت يديه كي لا يكون شاهداً عليه. الحكم بالإعدام وحده كفيل بغل أيدي سفاكي الدماء فأرجو من زملائي أن يزنوا هذه الفكرة بميزان النصفة ولا يسلبوا الهيئة الاجتماعية سلاحها.
مزرعة المستقبل
جربوا الكهربائية على شواطئ البحر المحيط الهادي بأميركا في تعهد المزارع وحرثها وزرعها وحصادها فاستعملوا لذلك أدوات دافعة ورافعة لتحرك بشلالات مجاورة فتحدث منها القوة المطلوبة فأتى ذلك بنتائج مهمة. ولئن كانت النفقة على هذا العمل تستدعي صرف مئات من الريالات إلا أنه يتوفر بها ثلاثة أرباع ما ينفق في العادة على مثل هذه المزارع لاستثمارها واستنباتها فضلاً عما في ذلك من الاقتصاد في الوقت والذين يتبرمون من المزارعين من كثرة النفقات والأيدي العاملة في مزارعهم يعلقون الآمال الكبيرة على أن تكون الكهربائية أعظم عاملة في مزارع المستقبل.
الصحة في السويد
اتفقت المجتمعات كلها على أن الرياضة البدنية من أسلم الرياضات النافعة حتى أن بلاد السويد تعتبر هذه الرياضة اعتبارها للفروض الدينية وتقضي على السكان عامة أن يعمدوا إليها فالرياضة البدنية إجبارية في المدارس على كل طفل منذ صغره فتبعث الحكومة بأساتذة من قبلها إلى كل مدرسة ليشرفوا فيها على تعاطي هذه الرياضة كما أنها تقضي(37/47)
على كل تلميذ أن يسبح سواء خاف من الماء أم لم يخف كمدرسة تكره على. والحكومة هناك تدفع للأطباء المنتشرين في الأقاليم المختلفة من البلاد رواتب من خزانتها لأن ما يتناوله الطبيب في القرى من زبنه لا يكتفيه في معاشه. ومن العادة في البلدان المأهولة بالسكان أن لا يتناول الطبيب أجرة عيادته بل يترك معاشه لذمة زبنه فيدفع له كل زبون بقدر طاقته بحيث يسمن كيسه بدون طلب ولا إبرام ويعيش كالأغنياء أو أحسن.
اللبن الحليب
استبان لأرباب الإحصاء أن الغرام باللبن الحليب في العالم يزيد ولا ينقص فقد بلغ ما يصرف كل يوم منه في العالم كله مليوناً وثلاثمائة وثمانين ألفاً وخمسمائة طن منها خمسمائة ألف طن في الولايات المتحدة. واللبن هو الغذاء الطبيعي المغذي والشافي واللذيذ والبسيط.
احترام الآراء
خطب أرنست لافيس في إحدى المدارس الفرنسوية في معنى احترام الآراء والمذاهب فقال أن القضاء والشرطة لم يجعلا إلالدفع الناس بعضهم عن بعض وإن الأسباب التي تدعوا كبار الرجال إلى أن يتباغضوا بغضة شديدة جداً ترجع إلى أمر واحد ألا وهو الاختلاف في الآراء السياسية والدينية وينشأ عن هذا الاختلاف أحياناً بغض وكراهية. فالناس يختلفون في العقائد فمنهم الملحد ومنهم المحافظ الذي يرى بقاء القديم على قدمه في السياسة وأن الاحتفاظ بالتقاليد من الضروريات في الحياة العامة ومن دافع عنها فيقوم بالواجب عليه وكأنه يدافع عن مصلحة الوطن نفسه ومنهم الثوري الذي لا يرى السعادة في غير إهراق الدماء وأن الخير معقود بنواصي الفتن ولا تستقيم الأمور بدونها أما أنا فأقول أنه من الممكن أن يتخالف الناس بدون أن تسوء حالهم وأنه قد يتأتى للخصوم أن يحب بعضهم بعضاً ويحترم بعضهم بعضاً فإذا قدروا على ذلك فإنه يجب عليهم ولا سبيل إلى أن يعيش الناس بعضهم مع بعض في سلام إلا إذا جعلوا التسامح رائدهم وإذا قضي على أحد الرجلين أن يحكم عليه فمن يفصل بينهما؟ لا شك أن القوة هي الحكم ولكن استعمال القوة في مصادرة الأفكار هو من الأغلاط التي نلوم المستقبل عليها ولكم حكموا بإسقاط بعض الآراء في القدم فما زالت على انتشارها إلى اليوم ولكم حكم القضاة في الأمور الذهنية(37/48)
فعدنا نحن اليوم نحكم عليهم بل ننقم عليهم سوء حكومتهم ولكم أقيمت التماثيل اليوم لرجال ذهبوا بيد الغدر والقهر ورموا في النار فأضحت الساحات التي أعدموا فيها مزدانة اليوم بتماثيلهم التي نصبت لتمجيدهم.
يقول قوم ليس أشق من إرادة المرء أن لا يعمل مع غيره ما لا يريد أن يعملوه معه وأن أنصار الحرية إذا قبضوا على القياد يمنعونها غيرهم فيخالفون بذلك قاعدة الحرية كما يقولون أن الحكم بين المتناقضات ليس له إلا حاكم واحد يخضع له العالم بأسرهم صاغرين ونعني به العالم ولكن من يدعون إلى العلم يجهلون ماهيته فإن الفضيلة الكبرى في العالم هو أنه يبحث على الدوام وربما ضلَّ في أبحاثه ضلالاً بعيداً ولكن من فضيلة العالم هو أنه يجد بنفسه الأغلاط التي ارتكبها وأنه يرجع عن الأوهام التي جاء عليه زمن فأعجبته وأخذت بمجامع قلبه ثم يعود إلى البحث وما موضوع بحثه إلا الحوادث ففي الحوادث التي اكتشفها يتخذها الناس حججاً وبراهين فهم ينظرون مثلاً في حوادث تاريخ الأرض والإنسان التي أبرزها العلماء إلى عالم الوجود خلال القرنين الأخيرين ويتناقشون بما تجدد لهم من هذه الحوادث في معتقداتهم الموروثة ويعزمون إما على رفضها أو على قبولها ولكن العلم لا يكتب الغلبة لدين على آخر بل يأخذ في سبيله باحثاً مستقصياً ولا يعرف أحد إلى أي طريق ينتهي به البحث وما عظمته وجماله وإنسانيته إلا بما يبدو على معاطفه من الشك والريبة. ولا أرى مخلصاً للناس من تعليل فيها للمباحث الدينية صوتاً وأن الحرية إذا لم تكن متأصلة في الأخلاق لا تجدي بنيها نفعاً.
النوم
كتب أحد الباحثين في المجلة الباريزية بحثاً في النوم وما ينبغي للإنسان منه حتى تجود صحته فقال أن النوم هو أحد نواميس الكون وجميع البشر على اختلاف في أعمارهم خاضعون له وأن الرجل العادي يموت من قلة الهواء في خمس دقائق ومن قلة الماء في أسبوع ومن قلة النوم في عشرة أيام أما الإكثار من النوم فيجعل في الرأس ثقلاً وفي الجسم كسلاً. قالت لعقيلة مريم ماناسين في كتاب لها نشرته حديثاً أنه لا ينام نوماً طويلاً إلا من فرغ ذهنه وقلّ فكره وأن أناساً يسترسلون إلى النوم عندما يتفرغون من مشاغلهم لأن طبائعهم مفتقرة بحيث يتعذر عليهم أن يجدوا من أفكارهم الخاصة مادة يهتمون بها وقد أكد(37/49)
سارس من علماء الأخلاق أن أرباب السخافة ينامون طويلاً.
وقد سأل صاحب المبحث جلة من كبار أرباب العلم والفنون في فرنسا في معنى ما يلزم للرجل المفكر من النوم فكانت أجوبتهم متفقة في الجوهر وإن اختلفت في العرض فقال أحدهم: إني متى تعبت يستحيل عليَّ أن أتعاطى أي عمل كان فأراني مفتقراً إلى الراحة. وعليه فالواجب أن ينام المرء ليعيش لا أن يعيش لينام وقال آخر: إنني في حاجة لأن أنام ثماني ساعات على الأقل ولكن كيفية النوم تهم أكثر من كميته ومن رأيي أن لا يعمد طالب النوم إلى استعمال المنومات والمخدرات وقال جول كلارسي أحد أعضاء المجمع العلمي: إني في حاجة إلى النوم كثيراً ويقلُّ تعي عندما أنام وأنام سبع ساعات على الأقل على أني أعمل بلذة إن نمت قليلاً أو كثيراً وأنا لا أشكو إلا من الأرق فإن التفكر في أشغال الغد هي التي تؤرقني حتى السحر. وقال كورمون من مجمع العلوم: أنام من ثماني ساعات إلى تسع ساعات وأتأثر لأقل حركة تحدث أمامي وكثيراً ما أقضي الليل ساهراً كأني ملسوع فإن نمت ليلتي أتعاطى عملي من الغد وإذا أفرطت في نومي لا أحسن العمل أيضاً ومتى تمت لي ثماني ساعات تكون صحتي إلى الاعتدال وقال الأستاذ ديولافوا: أن النوم كالغذاء فبعض الناس يحتاجون لطعام كثير وبعضهم يتبلغون بالقليل كما أن بعضهم ينامون طويلاً وبعضهم يكتفون بقليل من السهاد ومن القواعد العامة أن قلة النوم والأرق يجلبان التعب ويقللان الميل للأشغال العقلية وعلى العكس في النوم الكافي والسهاد المصلح المعوض فإنهما من شروط العمل أما أنا فأنام سبع ساعات. وذكر آخر أنه إذا نام يتضاعف عمله ويجود عشر مرات عما إذا لم ينم وتسهل أموره وأنه على ثقة من أن بلزاك الشاعر لو كان نام القدر اللازم له لجاد شعره أكثر وخلدت آثاره فقد ظن أنه بسهره يقتصد وقتاً وفي الحقيقة أنه أضاعه ويقال أن نابوليون لما أنهك السهر قواه نام في معركة واترلو وهو واقف.
وذكر الكاتب أسباب الأرق فقال أنها قد تكون أدبية مثل الاهتمام بالأشغال والقلق للمستقبل والتعب العقلي وتعب الوجدان والحزن وتبكيت القلب وقد ينشأ الأرق من أمراض طبيعية صرفة وفي الغالب أن المرء يحرم النوم بتساهله لأنه يحسن الاضطجاع على فراشه ولا يتخذ الأسباب اللازمة فلقد اهتدينا إلى أفضل الطرق في الأكل وأفضلها في الشرب ولم(37/50)
نهتد إلى الطريقة المثلى في النوم فإن أردت يا هذا أن تنام فعليك أن تتخذ لك غرفة بعيدة عن الضجة خالية من الأنوار الصناعية والحيوانات والزهور والأثاث والبسط وأن تكون معرضة كل التعرض للتهوية حتى في الشتاء وأن يكون الفراش منحنياً قليلاً من الرأس إلى الأقدام بحيث ترتاح فيها الأعضاء جيداً وأن يتخذ الفراش من الصوف وتكون المخدة لا رخوة ولا يابسة وأن يختار من الغطاء الخفيف ومن الوسائد القليلة التضاعيف والنعومة وعليك أن تنام بعد الأكل بساعتين أو ثلاث فالأولى أن لا تغفي الجفون إلا بعد أن يتم الهضم على أن الأستاذ هالوبو ينصح للمشتغلين بالأشغال العقلية أن يناموا بعد الأكل ومن رأيه أن الواجب ترك الدماغ يستريح خلال الهضم. وخير طريقة يعمد إليها الفيلسوف والشاعر في نومهما هو أن يقطعا الليل شطرين وذلك بأن يناما بعد العشاء حتى الساعة الواحدة صباحاً (بعد نصف الليل) ثم يأخذان في الاشتغال ثلاث ساعات قبل أن يعاودا النوم وينبغي لهما أن لا يتخليا عن القيلولة في خلال أيام القيظ ويفضل النوم منفرداً وعلى النائم أن يختار وسط الفراش لينام هنيئاً وترتاح أعصابه وتنبسط وأن لا ينهض وذراعاه فوق رأسه كما يفعل بعض النساء تدللاً لأن ذلك مما يخالف نواميس الفسيولوجيا فإذا صدر النائم صفحة وجهه كثيراً يتعب أعصاب ذراعيه وأعصاب صدره وينقبض عنقه ويهز تنفسه فلا يمتد طويلاً وعليه فالواجب أن يكون الرأس واطئاً ما أمكن حتى يتسرب الدم إلى الدماغ على صورة منتظمة وأن يتمدد الجسم كل التمدد وأن لا ينثني الساقان وأن لا يشبك أحدهما مع الآخر وأن لا ترفع الركبتان ولا ينفع النوم مستلقياً على الظهر ويؤكد بعض الأطباء أن هذا الضرب من النوم بالاستلقاء يحدث أرقاً مضنياً أو كابوساً أو أضغاث أحلام والنوم على الشق الأيسر أصعب حالاً من الاستلقاء أيضاً لأنه يوقف الهضم ويؤدي إلى ضيق التنفس والاختناق وإلى حدوث حركات في القلب تضغط عليه وتؤذيه. وعلى النائم أن لا ينام وبطنه منبسط فالأفضل أن ينام المرء على جانبه الأيمن لما في ذلك من النفع للحواس وعلى هذه الطريقة ينبغي لنا تعويد أولادنا وأن نقتصر نحن أيضاً أن ننام مثلهم.
وإذا حدث لنا أرق فالواجب علينا أن نعمد إلى الطرق البسيطة لجلب الكرى إلى العيون وذلك بالمشي والاستحمام قبل النوم ولا ينبغي أخذ شيءٍ من العقاقير والمخدرات لأنها ضارة وتأثيرها مؤقت لا يلبث أن يزول هذا وعلى كل إنسان أن لا يغفل أمر النوم فقد قال(37/51)
ليبسول أن في النوم لصحيحي الجسم قوة وفرحاً وللمريض شفاء وهناء.
البنون والبنات
خطب المسيو أرنست لافيس أحد أعضاء المجمع العلمي الباريزي في معنى وجوب المساواة بين البنين والبنات في إحدى مدارس البنات في فرنسا قال ما محصله: علمت المدرسة أنكن أيتها الفتيات لم تخلقن لتعشن عيشة أصحاب القناطير المقنطرة من المال بل هي تعلمكن استعمال أدوات العمل وأعني بها المقراض والإبرة وتعلمكن مبادئ الاقتصاد المنزلي أي تدبير المنزل وليس من منزل مهما كان صغيراً إلا هو محتاج إلى ربة تدبر أمره وتصلح شأنه وتقوم على تعهده. فالنظام والنظافة والذوق والراحة كلها تدعر المرء لأن يزيد المكث في داره ويحل منزله محلاً رفيعاً من سويداء قلبه ومن حسنت إدارة بيته وكان فيه اللطف والظرف يحسن هندام نفسه.
وحسن تدبير المنزل هو من أكبر الدواعي لإدخال النظام على ثروة البنت وإن قلت ومعنى القيام على تدبير المنزل التفكر للغد والنظر في المستقبل أبداً وحسن استعمال الوسائط التي تدفع اليوم عنا عوادي الحياة وتصرف عنا السوء. وهذه الذرائع هي التي تعلمنا المدرسة. إلا فاستمعن لقولي واليحط علمكن بأنه ما من بيت وإن صغر إلا وفي المكنة أن يكون كبيراً. فالأم المتوسطة الحال إذا قامت بالواجب عليها وراعت قواعد الاقتصاد في دخلها وخرجها ونظرت أبداً في لوح المستقبل يتأتى لها في البلاد الديمقراطية أن ترفع أبناءها مكاناً علياً وتنيلهم من الرغائب ما كان قصياً وعندها لا يلبث ذلك البيت الصغير أن يكبر بفضل السعي والانكماش.
لا تكتفي المدرسة اليوم كما كانت أمس بأن تعلمكن القراءة والكتابة والحساب فإن معرفة الإشارات وتقليدها وإتقان وضع الأرقام هو من الأمور التافهة البسيطة تود المدرسة أن تفهمن ما تقرأن وأن تتعلقن في ما تكتبن وأن تتلقن في حساباتكن حتى تفهمن في حياتكن بعد حين ما يقال لكن وما تقلن وما تعلمن.
فالمدرسة تعلمكن واجباتكن وهي تعتقد كما تعتقد الإنسانية منذ زمن طويل أن هناك شراً وخيراً فالخير هو نتيجة عمل العامل وهذا العمل شريف في ذاته والمدرسة تعلمكن الجمالي فهي تدرسكن تاريخ بلادكن وتملي عليكن بالتعليم الوطني ما هي معاهدنا وتقاليدنا(37/52)
وقوانيننا. ولقد رأى بعضهم أن تعليم البنات هذا القدر من التعليم ليس فيه لهن غناء ولكننا لو تابعناهم على آرائهم لظللنا بدل التقدم إلى الأمام متأخرين إلى الوراء. وأي بلاهة أعظم من أن نترك نصف الشعب الفرنسوي جاهلاً بلاده ونقضي بهذا الجهل على النساء والأمهات أن يخرجن من عداد أبناء الوطن.
المدرسة توسع دائرة أبصاركن بتعليمكن الجغرافيا فتدرسكن المبادئ اللازمة في تصور العالم والنواميس الكبرى في الطبيعة وهي تريد أن تعرفن مسكن الجنس البشري والتخوم الفاصلة بين أقطاره وعرضه وطوله وقرب البلاد من الحرارة والبرودة. تتوخى المدرسة بل تجعل من أهم واجباتها الضرورية أن ترفع الغشاوة عن ذكاء الفتيات وتشركهن ما أمكن بتسهيل طرق التعليم في معرفة الأعمال العظيمة التي يقوم بها الفكر في جميع ضروب المعرفة وأن تنبه فيهن الشعور بالآداب السامية وتعدهن إلى الاطلاع على حقائق الحياة كما هي الآن.
المدرسة هنا لا تميز بين البنات والبنين فقد رأيت في كلية السوربون في إحدى الأيام الآحاد في هذا الربيع مشهداً أخذ بمجامع قلبي. شهدت مئات من العذارى الأوانس وقد تزين وأخذن ينشدن الأناشيد وكن عبارة عن تلميذات المدارس العالية في باريز أقمن حفلة لأسراتهن ولعمري من كان يظن منذ خمسين سنة أن يكون لفرنسا مدارس عالية للبنات. كنت في سنة 1869 أمين سر المسيو دروي ناظر المعارف العمومية فحاول هذا الأستاذ الشهير العظيم وكانت آراؤه كلها صائبة سديدة أن يؤسس مدارسة ثانوية للبنات فوافقه بعضهم على ما ارتأى ولكن ما لبثت الفكرة أن انتشرت بين الناس بأن الأخوات لسن كالأخوة في التساوي وأن المذكر أفضل من المؤنث كما جاء في كتب النحو التي ألفها الرجال. فكان القوم يظنون أنه يكفي الإبنة قليل من التعليم وأن هذا التعليم من خصائص الكنيسة فقط أن تعلمه ولذلك قاوم رجال الدين في إنفاذ مشروع الناظر المشار إليه.
أتت أيام وأزمان فأصبح عدد المدارس العالية للبنات 42 مدرسة جامعة و5 مدرسة داخلية و69 مدسة ثانوية وبلغ عدد المتعلمات فيها 30831 بعد أن كان أقل من النصف قبل عشر سنين وهم يؤسسون هذه السنة أربع جامعات أخرى وربما خمساً وتسع مدارس داخلية وربما عشراً ولم يكن في أول سنة 1903 غير 30 مدرسة داخلية فزادت إلى هذه السنة(37/53)
ثلاثة أضعاف.
النساء فقط هن المعلمات في هذه المدارس يستعددن لهذا العمل الشريف بالدرس والتربية الكثيرة فيعملن ناصحات بإخلاص ونشأة وإنك لتجد مفتش المعارف والرؤساء ونظار المجامع العلمية يمتدحون بلسان واحد المعلمات والمتعلمات لأنهن يتوفرن على تعليم البنات أحسن تعليم بل أقول ولا أخشى من الحق أنهن يعلمن أحسن من تعليم المعلمين من الرجال وقد كان الناس يقولون من قبل أن النساء لا يستطعن أن يفهمن العلوم ولا أن يعلمنها وها هن اليوم يتبحرن في هذه العلوم ويعلمنها كأحسن معلم.
إلا وأن في منافسة البنات للرجال في مضمار العلم لأكبر دليل على صحة ما أقول فقد رأيناهن ينصرفن إلى الدراسة أكثر من الشبان فأصبحن بفضل السهر والدرس وصيفات في الكليات للأساتذة من الرجال وقد خلفت العقيلة كوري زوجها في كلية العلوم الباريزية وكانت شريكته في اختراع الراديوم. كل هذا يدل دلالة صريحة أن النساء مستعدات كل الاستعداد للتعلم وأن من حقهن أن يتعلمن. اعتقد صغار الفتيان منذ خلق العالم بأن البنات من جنس غير جنسهم وأن الرجال أسمى مقاماً وأكبر عقلاً وأقوى جناناً إذا قيسوا بالجنس اللطيف. وما قول الناس هذا من الجنس اللطيف أي النساء وهذا من الجنس القوي أي الرجال إلا من الأوهام في المرأة نشأت من التوحش وما كتب للرجال من قوة العضلات وكانت الأنانية والمصلحة هما المساعدتين على انتشار هذا الفكر.
وها قد ضعف اليوم هذا الوهم وانتشرت الحقيقة كالشمس الساطعة وما أسهلها وأبسطها ولكن الحقائق البسيطة هي التي يطول عهد اكتشافها. الحقيقة التي أعنيها هو أن للبنت كما للصبي ذكاء وإن كانت الكفاآت وأميال الذكاء في الذكور والإناث متفاوتة الدرجات فليس معنى ذلك أن الذكاء الأنثوي أضعف من الذكاء الرجلي بل إن معنى ذلك أن كلاً من ذكاء الفريقين متمم لصاحبه ليتألف من مجموعه ذكاء الإنسانية. والحقيقة بأن للابنة كما للصبي قلباً يحب ويفرح ويحزن بل أن حظ البنات من الأحزان في هذه الحياة أعظم وأشد وفي قلوب الزوجات والأمهات من بنات المستقبل مادة عظيمة من الدموع سيفرغونها في حياتهن المستقبلية. الحقيقة بأن معظم البنات كمعظم البنين مضطرات إلى الكدح لمعاشهن وأنهن يصعب عليهن السير في هذا السبيل ومعزى ذلك أن الواجب يقضي على البنات(37/54)
والبنين أن يجتمعن ذات يوم ليؤسسن معاً أسرة جديدة ويحدث من هذه الحقيقة البسيطة أن البنات كالبنين متساويان في حقوق الإنسانية فلا مسوغ والحالة هذه إلى أن يعاملن معاملة مختلفة في سبيل إعداد الجنسين لجهاد الحياة.
وبعد فإن النساء لا يصبحن كلهن عالمات كما لا يكون المتعجرفات فيهن بقدر المتعجرفين من الرجال والعجرفة من الأمور البشعة والنساء لا يحببن أن يكن بشعات كما أنهن لا يتولين الأعمال كلها لما يقوم في وجوههن من منافسة الرجال منافسة شديدة ولأن الطبيعة تقضي بأن تكون للنساء صناعات خاصة بهن وللرجال كذلك فإذا جاء فيهن النساء المخرفات تضطرهن الحال إلى الاعتدال بيد أن الحقوق المخولة للنساء اليوم لا تكفي لتغيير حالتهن الاجتماعية.
ولقد عنيت دائماً في حياتي الطويلة أن أشوق أفكار الشبان بل الأطفال إلى الحياة وأن أطلعهم على ما عساهم يطلعون عليه في حياتهم وأرى الآن أنه من الواجب أن ألقنهم محبة حب الوقت إذا كان للوقت ثمن عندهم. أنا مقتنع بأن الناشئة متى عرفوا بعد حين الوقت الذي عشنا فيه يعترفون له بالفضيلة الجميلة من أنه عمل على تقوية كل نوع من أنواع الضعف كضعف الولد وضعف المرأة وضعف الشيخ وضعف الفقير وضعف العاجز والزمن.
وهذا العمل الشريف الذي تممته الأزمان لا نلحظه كما أن المتحاربين لا يلحظون في معمعان الحرب كل ما يجري بينهم بل يرون من خلال التراب والدخان حركات لا يميزونها وهجمات وأناساً يفرون وآخرين يركضون وغيرهم يسقطون وهذا الاضطراب العظيم يبعدهم عن تصور ما تم ومع هذا يتم في ساحة الوغى ما انصرف إليه المقاتلة وتخفق أعلام النصر على من كتب لهم.
ولكن قوماً يقولون أن إنهاض الضعيف من كبوته يضعف من قوة الحاكم وسطوته ويرى ولاة الأمر أن هذه السطوة ضرورية مشروعة وأنها إذا فقدت فهناك القضاء على المجتمع وعلى العالم. ولكن الناس لم يسمعوا هذه النبوآت إلا عندما تمس آراءهم أو عاداتهم القديمة أما أنا فأعتقد بأن هذا المجتمع في تبدل ولن يزول فإذا ذهبت صورته يبرز في صورة أخرى.(37/55)
لغة البلاد
كانت اللغة البلجيكية الشائعة هي الإفرنسية مع أن أكثر من نصف أهلها يتكلمون باللغة الفلامندية وقد علم من إحصاء أخير أن 2744000 من أهل البلجيك يتكلمون باللغة الفلامندية و2145000 يتكلمون بالإفرنسية و700000 يتكلمون بكلتيهما والسواد الأعظم من السكان يطلبون فقط أن تكون اللغة الفلامندية اللغة الرسمية للنصف الشمالي من البلجيك وقد صرح النائب الحر المسيو جورج لوراند بأنه يحق لكل فرد أن تدار شؤونه بلغته وأن الموظفين وهم خدمة الناس يجب عليهم أن يكلموا الأمة بلغتها. قالت المجلة التي نقلنا عنها هذا الخبر وهذا من المعقول بمكان وهو الذي سيكون عليه القرار.
الجامعة المصرية
افتتحت المدرسة الجامعة يوم 15 كانون الأول الماضي حساباً غربياً وهي المدرسة التي أنشأها بعض رجال النهضة المصرية وجمعوا لها الإعانات الطائلة من أرباب الخير لتعليم الناشئة تعليماً أوربياً عربياً وطنياً. والدروس التي تلقى فيها الآن محاضرات على الحضارة الإسلامية يلقيها الأستاذ أحمد زكي بك ومحاضرات على الحضارة القديمة في مصر والشرق إلى ظهور الإسلام يلقيها الأستاذ أحمد كمال بك ومحاضرات على آداب اللغتين الإنكليزية والإفرنسية يلقيها الأستاذان مللر وبوفيليه ومحاضرات على أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب وعلاقتها بأوربا يلقيها الأستاذ دي كوبه.
غرف القراءة
افتتح مساء 24 ذي القعدة الماضي بضعة عشر أديباً من شبان دمشق وأعضاء جمعية النهضة السورية غرفاً للقراءة مجانية ووضعوا فيها ما يلزم للمراجعة والمطالعة من الكتب والمجلات والجرائد. وهذه الغرف من أحسن المشاريع الأدبية في هذه الحاضرة بعد إعلان الحرية.
هجرة الإسبانيين
شغلت مسألة هجرة الإسبانيين رجال البحث فيها إذ رأوا أن عدد المهاجرين تضاعف في خمس سنين فكان الراحلون عنها سنة 1900 حسب الإحصاء الرسمي 62482 فغدوا سنة(37/56)
1906 ـ 127000 وهذا القدر فيه نظر لأن كثيرين يفرون بدون أن يأخذوا جوازاً من الحكومة فيسافرون سراً فراراً من وجه رجال الشرطة والذين يعودون من المهاجرين إلى أميركا فقلما يرجعون إلى بلادهم وترى الآن 24 مليون هكتار من الأرض الإسبانية بوراً لا زرع فيها ولا ضرع لقاء 22 مليوناً قابلة للزراعة.
جرائد الهند
تصدر في أقطار الهند 774 جريدة يومية بتسع عشرة لغة مختلفة وأكثرها انتشاراً جريدة كورالدري تصدر في بومباي ويطبع منها كل يوم خمسة آلاف نسخة وفي كلكتا جريدة بازوموتي وهي أسبوعية يطبع منها خمسة عشر ألف نسخة.
الجنون في أميركا
يزداد فقد العقل في الولايات المتحدة بصورة مخيفة. ففي ولاية نيويورك ستة وعشرون ألف وثلاثمائة وسبعة وخمسون مجنوناً وذلك واحد في الثلاثمائة وأغلبهم من المهاجرين.
بيان وإيضاح
نبهت في كلامي عن الطالع السعيد على نوع من الزجل سماه المؤلف بالبليقة ولم أدر إن كان يراد به مطلق الزجل في ذلك العصر أو نوعاً مخصوماً منه ثم وقفت أخيراً على بيان وافٍ لهذا النوع في كتاب الأقصى القريب لأبي عبد الله محمد التنوخي وهو من مقتنياتي الحديثة أحببت أن أتحف به المقتبس الأغر. قال عند كلامه على الموشحات والأزجال ما ملخصه ومنها قرقيات المصريين وبليقاتهم والفرق بينهما وبين الزجل أن الزجل متى جاء فيه الكلام المعرب كان معيباً والبليقة ليست كذلك فيجيء فيها المعرب وغير المعرب ولذلك سميت بليقة من البلق وهو اختلاف الألوان وتفارق البليقة في أن البليقة لا تزيد على خمس حشوات غالباً وقد تنتهي إلى السبع قليلاً والقرقية تزيد كثيراً على حكم الزجل في ذلك وسميت القرقية قرقية من القرقة وهي لعبة يلعب بها صبيان الأعراب انتهى. قلت وهذه اللعبة ذكرها صاحب القاموس ورسم صورتها إلا أنه سماها قِرقاً لا قِرقةً والخطب سهل.
أحمد تيمور
قصيدة للمعري(37/57)
نشر المقتبس قصيدة لأبي العلاء المعري لا توجد بديوانه عثر عليها أحد علماء المشرقيات في كتاب الوافي للصفدي وقد عثرت له على أبيات لامية أيضاً لا توجد بالديوان في كتاب التذكرة لابن العديم وهو من كتب دار الكتب الخديوية وهذه النسخة بخط ابن العديم نفسه ونصها:
قرأت بخط الشيخ أبي الفضل عبد الواحد بن محمد بن العطار الربعي الحلبي على ظهر كتاب أنشد أبو العلاء المعري في من قتل وصلب.
أَبدْرَ دُجى غالته الغوائل ... فأصبح مفقوداً وليس بآفل
أتته المنايا وهو أعزل حاسر ... خفىَّ غرار السيف بادي المقاتل
غلام إذا عاينت عاتق ثوبه ... رأيتَ عليه شاهداً للحائل
يمسّح المسك الزكيّ مرَجلاً ... يرفّ على المتنين مثل السلاسل
سواءٌ عليه في السوابغ جرْأَةً ... ثنى عطفه أو في رقاق الغلائل
وعزّ عَلَيّ العلياءِ إن حيل بينه ... وبين ظبي أسيافه والعوامل
وعريّ من برديه والسيف لم يكن ... ليخضب إلا من دماءِ الأفاضل
أَحلوُّك من أعلى الفضاء محلةً ... نأَت بك عن ضنك الثرى والجنادل
وليس بعارٍ ما عراك وإنما ... حمال اتساع الصدر ضيق المنازل
انتهى
إلا أن قول ابن العديم أنشد أبو العلاء يحتمل أنه أنشدها لغيره وليست له ويتحمل عكسه على أني أرجح كونها له لما عليها من المسحة المعرية وقد عرضتها عَلَى الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري فصوب رأيي فيها وزاد أنه لم يعهد في الغالب أن أبا العلاء ينشد لغير العرب فالراجح أنها من كلامه وقد أعجب بها كثيراً.
القاهرة ـ أحمد تيمور(37/58)
مطبوعات ومخطوطات
التربية الاستقلالية
أو أميل القرن التاسع عشر
لالفونس اسكيروس ترجمه عبد العزيز أفندي محمد
وطبع بمطبعة المنار بمصر سنة 1326: ص466
هذا السفر من أجل كتب التربية عند الإفرنسيس جرى فيه مؤلفه على أسلوب أميل القرن الثامن عشر لجان جاك روسو وصاغه في قالب رسائل ملذة حوت خزانة أفكار ترقي في المرء أدب النفس وأدب الدرس. وقد قدم له رصيفنا صاحب المنار مقدمة ذكر فيها غرض المؤلف وفائدة كتابه وكذلك فعل مترجمه الأديب. وكان نشر هذا الكتاب تباعاً في أجزاء كثيرة من مجلة المنار فأفرد الآن ليعم نفعه فهو من أفضل ما يقتنيه أرباب البيوت ويتلونه على صبيانهم وبناتهم ونسائهم لتنطبع في القارئ والسامع ملكة التربية العملية وصورة من صور الآداب العالمية في المدنية الغربية فعسى أن ينتفع بالفرع كما انتفع بالأصل وأن يلهم العارفون لغات الأجانب منا إلى تعريب مثل هذه الأسفار النافعة.
دلائل التوحيد
تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي
طبع بمطبعة الفيحاء بدمشق (ص207)
عرف مؤلف هذا الكتاب بالهمة العالية في التأليف والنشر والنظر في الفنون الإسلامية واللسانية. وكتابه هذا حوى من أدلة الكلاميين والفلاسفة الإلهيين ما تدحض به حجج المبطلين والسفسطائيين ولنحل به شبهات الجامدين من الماديين وقد التزم في حجاجهم جانب الأدب والحكمة فلا يدفع الشبهة إلا بالحجة ولا يدفع الباطل إلا بسلطان الحق عازياً بعض الشواهد لأربابها مغفلاً الآخر على حسب المال.
دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف
تأليف عيسى أفندي اسكندر المعلوف. طبع في المطبعة العثمانية في
بعبدا (لبنان) سنة 1907 ـ 1908 (ص749)(37/59)
هذا المؤلف من كتاب العربية وشعرائها المجيدين ترجم وكتب كثيراً فعد من جملة من خدموا الآداب العربية وقد اختص هذا التأليف بوصف أسرته الكبرى خاصة وبعض الأسر السورية ولاسيما المسيحية عامة وألمَّ بتاريخ معظم أصقاع سورية قديمها وحديثها ومناشئ سكانها وأصولهم وعاداتهم وحكوماتهم آخذاً عن الشيوخ مشافهة ومن بطون الدفاتر والكتب المطبوعة والمخطوطة مما يصعب وصول كل باحث إليه فجمع شتيتاً من الحوادث والكوائن خدم بها تاريخ البلاد خدمة يشكر عليها وتاريخ الأفراد هو تاريخ السياسة.
تقرير جمعية العروة الوثقى
سنة 1906 ـ 1907
في القطر المصري جمعيتان إسلاميتان قامتا بأجل الأعمال النافعة من تربية البنين والبنات إحداهما الجمعية الخيرية الإسلامية في القاهرة والثانية جمعية العروة الوثقى الخيرية الإسلامية بالإسكندرية. وأمامنا الآن تقرير الثانية الأخير وفيه أن عدد مدارس الذكور التي أسستها كان في السنة الماضية 11 مدرسة فيها 910 أولاد ومدارس البنات 6 عدد تلميذاتها 557 بنتاً وقد تبرع لها المحسنون في خلال السنة الماضية بألف جنيه بعضها من محسني اليونان وغيرهم كما تبرع المسيو موريوندو وحده بألف ليرة إفرنسية وأعطى ورثة المسيو نقولا آبيت إلى الجمعية ألف جنيه وهي مما خصها من توزيع الخمسة آلاف جنيه التي كان أوصى بها لتصرف على الأعمال الخيرية في الإسكندرية وذلك عدا الأوقاف التي وقفت عليها وهي تساوي بضعة ألوف من الجنيهات. وكان المرصد لنفقات التعليم 5646 فبلغت النفقات الحقيقية 5730ج و86م.
رحلة الحبشة
لصادق باشا المؤيد وتعريب رفيق بك العظم وحقي بك العظم. طبعت
بمطبعة الجريدة بمصر سنة 1326 ـ 1908 (ص335)
المؤلف والمعربان ممن اشتهروا بالآداب وخدمة الأقلام. والمؤلف هو أحد أفراد أسرة تعلم معظمهم التعليم العصري وبرزوا في الفنون التي أحكموها. وقد كانت الحكومة العثمانية انتدبته في مهمات السياسة فرحل إلى جغبوب مقر الشيخ السنوسي كما رحل إلى كفرة(37/60)
وآسيا الصغرى والحجاز وآخر رحلاته رحلته إلى بلاد الحبشة في مهمة من السلطان العثماني إلى الإمبراطور منليك الحبشي فلم يشأ أن يضيع رحلاته في الطعام والمنام والسلام والكلام بل قيدها بالورق ونشر بعضها بالتركية فعز على نسيبه أن لا ينتفع برحلته إلى الحبشة عند العرب فعرباها تعريباً متقناً وفيها وصف بلاد النجاشي وصورة مصغرة من تاريخها الحاضر والغابر واجتماعها وأصول سكانها وعاداتهم وإدارتها وصلاتها ببلاد الإسلام ومشاهيرها أمس واليوم بحيث جاء الكتاب مرجعاً لأبناء هذه اللغة وسوف تنتفع به الأجيال المقبلة كما ننتفع نحن الآن برحلة ابن جبير وابن بطوطة وغيرهما من رحالة العرب والعجم. وكتب الرحلات من أنفع كتب العمران والحضارة وفي هذا الكتاب صور بعض المشاهير من الأحباش وغيرهم وبعض الرسوم والمصورات على نحو الرحلات الإفرنجية.
تركيا الجديدة
لجميل أفندي معلوف طبع بمطبعة المناظر في سان باولو من بلاد
برازيل (ص 154)
كتاب أجاد مؤلفه في وضعه أتى فيه على أسباب الانقلاب العثماني وتاريخه وقسمه إلى ستة كتب الكتاب الأول في أسباب الانحطاط في الشرق والثاني في تفرنج الشرقيين والثالث في التعليم والرابع في القانون الأساسي والخامس في الديانة السياسية والسادس أبقاءٌ أم فناء. كل ذلك مكتوب بقلم يدل على أن للمؤلف جولة في المسائل السياسية والاجتماعية وذوقاً في التأليف والتأثير في الأفكار ومن رأيه أن الثورة الأخيرة في السلطنة كانت لقلب مبدأ لا للانتقام من شخص ولو كانت شخصية لفشلت لأن كثيراً من ملوك بني عثمان قتلوا ولم ينتج من قتلهم فائدة للبلاد بخلاف هذه الثورة التي أشبهت ثورتي فرنسا وأميركا اللتين أريد بهما قلب المبادئ لا نقل السلطة من مستبد إلى يد مستبد آخر.
قال ولا بد أن يعقب هذا الانقلاب السياسي الصغير ثورة أدبية عظيمة ضد المبادئ القديمة كلها فيثور الابن عَلَى أبيه والمرأة على زوجها والخادم على سيده والرعية على كاهنها وشيخها ورجال الدين على كتبهم وأبناء اليوم جميعاً سيثورون على خرافات أجدادهم ويبرزون أمام العالم أمة جديدة مجردة من كلا علاقة مع الأجيال الماضية.(37/61)
الفتاوى والنظم
تأليف محمود أفندي الحمزاوي طبع بمطبعة روضة جلق بدمشق
سنة 1326 هـ (ص86)
هي رسالة منظومة في قسم المعاملات من الفقه الحنفي فيها فوائد كثيرة لا يستغني عنها مستفت. ونظم المؤلف وسط ولعله أرقى من كثير من منظوم الفقهاء والمحدثين والمؤلف أحد مفاتي دمشق الذين تفاخر بهم لم يشتهر بالنظم اشتهاره بالفقه والحديث وله رسائل وكتب طبع بعضها وبعضها لم يطبع.
نخبة عقد الأجياد في الصافنات الجياد
تأليف الأمير محمد باشا الحسني الجزائري طبع على نفقة المطبعة
الأهلية في بيروت سنة 1322 (ص304)
هو كتاب موجز من سفر مطول بهذا الاسم ذكر فيه المؤلف نشأة الخيل ونضلها وتكريمها والقول في لحومها وأنواعها وألوانها وأعضائها وصفاتها وتقفيزها وأطوارها وخدمتها والإنفاق عليها وتأديبها وكيفية تضميرها والسباق وما يتعلق به إلى غير ذلك من الفوائد المهمة التي لا يستغنى عنها في هذا الباب فنشكر للأمير المؤلف هديته ونرجو أن ينسج على منواله معظم الأعيان والأمراء فيصرفون شيئاً من أوقاتهم في خدمة الآداب والمعارف.
أبحاث باحث
نشر المسيو لوسين بوفا من المتضلعين من العلوم المشرقية والعارفين بالعربية والفارسية والتركية كراسة أشار فيها إلى أبحاثه ومقالاته في المجلات الإفرنجية مثل مجلة العالم الإسلامي والمجلة الآسياوية ومجلة السجلات المراكشية والمجلة الإسبانية ومعظم هذه الأبحاث مما اشتهر بين أهل الأدب والعلم وقدره الباحثون حق قدره فنثني على نشاط صديقنا المشار إليه.
مجلات وجرائد
لم يكد الكمام الذي وضع على الأفواه والألسن منذ زهاء عشرين سنة في السلطنة يرتفع(37/62)
عن الناس بفضل القانون الأساسي حتى ظهرت جرائد ومجلات كثيرة بلغات مختلفة في قواعد البلاد بل في كورها الصغيرة. ومن الجرائد اليومية التي ظهرت في بيروت جريدة الاتحاد العثماني لمنشئها أحمد أفندي حسن طبارة من قدماء الصحافيين وجريدة الثبات لصاحبها إسكندر أفندي الخوري ورئيس تحريرها خليل أفندي زبيّة من قدماء الكتاب وجريدة الوطن لمنشئيها شبلي أفندي ملاط ونجيب أفندي شوشاني من الأدباء الشعراء وحديقة الأخبار وهي أقدم جريدة سورية صدرت يومية أيضاً لمنشئيها وديع أفندي الخوري وحنا أفندي الخوري وبيروت لصاحبيها عبد القادر أفندي الدنا وأمين أفندي الدنا صدرت يومية أيضاً والحقيقة للشيخ أحمد عباس الأزهري ومديرها حسن أفندي الناطور والمفيد لعبد الغني أفندي العريسي من الأدباء الكاتبين ومدير سياستها حسن أفندي بيهم من قدماء الكتاب. وبهذه الجريدة أصبحت جرائد بيروت ولبنان اثني عشرة جريدة. وصدرت في حلب جريدة يومية لصاحبها حكمت ناظم بك اسمها صدى الشهباء نصفها بالعربية والنصف الآخر بالتركية. وأصدر صاحب هذه المجلة جريدة يومية باسم المقتبس أيضاً في مدينة دمشق.
ومن المجلات الحديثة مجلة المباحث في طرابلس الشام لصاحبها جرجي أفندي يني وصموئيل أفندي يني من قدماء الكتاب المشتغلين بالآداب وهي علمية أدبية سياسية فكاهية تصدر مرتين في الشهر وصدرت في بيروت مجلة النبراس وهي شهرية تبحث في الاجتماع والعمران والعلم والأدب والتاريخ والانتقاد والسياسة لمنشئها الشيخ مصطفى الغلاييني من الكتاب الأدباء. وصدرت في بيروت مجلة المنتقد وهي عمرانية اجتماعية انتقادية فكاهية تصدر مرتين في الشهر لمنشئها محمد أفندي باقر ومديرها كمال أفندي بكداش. وصدرت فيها أيضاً مجلة روضة المعارف لصاحبها محمد علي بك القباني ورئيس تحريرها الشيخ عبد الرحمن سلام الشاعر الأديب وهي تصدر مرتين علمية أدبية فكاهية. وصدرت في مصر عدة جرائد ومجلات أيضاً منها مجلة الجامعة المصرية وهي نصف شهرية لأصحابها محمود أفندي فيضي وعبد الله أفندي أمين وهما من أدباء القاهرة وهذه المجلة تنشر دروس الجامعة المصرية.
والذي يلاحظ على معظم هذه الصحف أنها تكاد تكون متشابهة في موضوعاتها فلو تفننت(37/63)
كل واحدة وخاضت عباب موضوع يخالف أختها لنفعت البلاد نفعاً أكثر وصادفت من الرواج والإقبال ما تستحق.
المنجد
للأب لويس معلوف اليسوعي طبع بالمطبعة الكاثوليكية في بيروت
(ص737)
هو معجم عربي مدرسي موجز مرتب على الأسلوب الحديث مزين بصور بعض الحيوانات والنباتات والأدوات والأعضاء قدم له المؤلف الاصطلاحات التي اختارها وفيها فوائد كثيرة وكنا نود لو كان هذا المعجم أوسع مما هو عليه لئلا تفوته بعض الفصح وأن تكون بعض ألفاظه معززة بالشواهد الخفيفة لتكون اعلق في الذهن. وقد تحرى المؤلف كما قال المحافظة على عبارات الأقدمين ما أمكن وأغفل ذكر ما يمس حرمة الآداب من الكلمات المبذوءة التي لا يضر جهلها وقلما أفاد علمها. قال وإذا شئت البحث عن كلمة فإن كانت مجردة اطلبها في باب أول حرف منها وإن كانت مزيدة أو فيها حرف مقلوب عن آخر جردها وأوردها إلى الأصل ثم اطلبها في باب الحرف الأول من حروفها الأصلية وقد جعل أول كل مادة في صدر السطر بين هلالين وعد اليمين نقطة مربعة الشكل وإن كانت الكلمة من الدخيل فنقطة مستديرة. والكتاب من أجود طبع عهد باللغة العربية وأصغر حرف وأوسط حجم حتى يسهل على الطالب نقله كما ينقل المعاجم الصغيرة الإفرنجية فنشكر للمؤلف عنايته بخدمة اللغة والآداب ونرجو أن يكون مصنفه نافعاً للمدارس والطلاب.(37/64)
العدد 38 - بتاريخ: 1 - 3 - 1909(/)
إيقاظ الرقود
إلى كم أنت تهتف بالنشيد ... وقد أعياك إيقاظ الرقود
فلست وإن شددت عرى القصيد ... تجد في نشيدك أو مفيد
لأن القوم في غي بعيد
إذا أيقظتهم زادوا رقادا ... وإن أنهضتم قعدوا وئآدا
فسبحان الذي خلق العبادا ... كأن القوم قد خلقوا جمادا
وهل يخلوا الجماد عن الجمود
أطلت وكاد يعييني الكلام ... ملاماً دون وقعته الحسام
فما انتبهوا ولا نفع الملام ... كأَن القوم أطفال نيام
تهز من الجهالة في مهود
إليك إليك يا بغداد عني ... فإني لست منك ولست مني
ولكني وإن كبر التجني ... يعز علي يا بغداد أني
أراك عَلَى شفا هول شديد
تتابعت الخطوب عليك تترى ... وبدل منك حلو العيش مرّا
فهلاّ تنجبين فتى أغرّا ... أراك عقمت لا تلدين حرا
وكنت لمثله أزكى ولود
أقما الجهل فيك له شهودا ... وسامك بالهوان له الجسودا
متى تبدين منك له جحودا ... فهلا عدت ذاكرةً عهودا
بهن رشدت أيام الرشيد
زمان نفوذ حكمك مستمر ... زمان سحاب فيضك مستدرّ
زمان العلم أنت مقر ... زمان بناء عزك مشمخر
وبدر علاك في سعد السعود
برحت الأوج ميلاً للحضيض ... وضقت وكنت ذات عليّ عريض
وقد أصبحت فيجسم مريض ... وكنت بأوجه للعز بيض
فصرت بأوجه للذل سود
ترقى العالمون وقد هبطنا ... وفي درك الهوان قد انحططنا(38/1)
وعن سنن الحضارة قد شحطنا ... فقطنا يا بني بغداد قطنا
إلى كم نحن في عيش القرود
ألم تك قبلنا الأجداد تبني ... بناءً للعلوم بكل فن
لماذا نحن يا أسرى التأَني ... أخذنا بالتقهقر والتدني
وصرنا عاجزين عن الصعود
كأن زحل يشاهد ما لدينا ... لذاك أحمر من حنق علينا
قال موجهاً لوماً إلينا ... لو أني مثلكم أمسيت هينا
إذاً لنضوت جلباب الوجود
وكنتم في الجهالة وهي تعشي ... وعشتم كالوحوش أخس عيش
أما فيكم فتى للعز يمشي ... تبارك من أدار بنات نعش
وصفدكم بأصفاد الركود
حكيتم في توقفكم جديَّا ... فصرتم كالسها شعباً خفيا
ألا تجرون في مجرى الثريا ... تؤم بدورها فلكاً قصيا
فنبرز منه في وضع جديد
حكومة شعبنا جارت وصارت ... علينا تستبد بما أشارت
فلا أحداً دعته ولا استشارت ... وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الحدود
حكومتنا تميل لباخسيها ... مجانبةً طريق مؤسسيها
فلا يغررك لين ملابسيها ... فهم كالنار تحرق لامسيها
وتحسن للنواظر من بعيد
لقد غص القصيم بكل نذل ... وأمسى من تخاصمهم بشغل
فريقاً خطتي غيّ وجهل ... كلا الخصمين ليس له بأهل
ولكن من لتنكيل المريد
إليهم أرسلت بغداد جندا ... ليهلك ثم عن عبث ويفدى
لقصد ابن الرشيد أضاع قصدا ... فلا يا ابن الرشيد بلغت رشدا(38/2)
ولا بلغ السعود ابن السعود
مشوا يتحركون بعزم ساكن ... ورثة حالهم تبكي الأماكن
وقد تركوا الحلائل في المساكن ... جنود أرسلت للموت لكن
بفتك الجوعِ لا فتك الحديد
قد التفوا بأسمالٍ بوال ... مشاةً في السهول وفي الجبال
يجدون المسير بلا نعال ... بحال للنواظر غير حال
وزيّ غير ما زي الجنود
مشوا في منهج جهلوه نهجاً ... يجوبون الفلا فجاً ففجاّ
إلى حيث السلامة لا ترجى ... فيا لهفي على الشبان تزجى
عَلَى عبث إلى الموت المبيد
وكلٌ مذ غدوا للبيت أما ... فودع أهله زوجاً وأما
وضم وليده بيد وشما ... بكى الولد الوحيد عليه لما
غدا يبكي على الولد الوحيد
تقول له الخليلة وهو ماش ... رويدك لا برجت أخا انتعاش
فبعدك من يحصل لي معاشي ... فقال ودمعه بادي الرشاش
وكلتكمو إلى الرب الودود
عساكر قد فضوا عرياً وجوعاً ... بحيث الأرض تبتلع الجموعا
إلى أن ضار أغناهم ربوعاً ... لفرط الجوع مرتضياً قنوعا
بقدر لو أصاب من الجلود
هناك قضوا وما فتحوا بلادا ... هناك بأسرهم نفدوا نفادا
هناك لحيرة عدموا الرشادا ... هناك لروعهم فقدوا الرقادا
هناك عروا هناك من البرود
أناديهم ولي شجن مهيج ... وأذكرهم فينبعث النشيج
ودمع محاجري بدم مزيج ... إلا يا هالكين لكم أجيج
ذكا بحشاي محتدم الوقود(38/3)
سكنا من جهالتنا بقاعا ... يجور بها المؤَمر ما استطاعا
فكدنا أن نموت بها ارتياعا ... وهبنا أمة هلكت ضياعا
تولى أمرها. . . . .
أيا حرية الصحف ارحمينا ... فأنا لم نزل لك عاشقينا
متى تصلين كيما تطلقينا ... عدينا في وصالك وامطلينا
فأنا منك نقنع بالوعود
فأنت الروح تشفين الجروحا ... يحرّج فقدك البلد الفسيحا
رأس لبلدة لم تحو روحا ... وإن حوت القصور أو الصروحا
حياة تستفاد
أقول وليس بعض القول جداً ... لسلطان تجبر واستبدا
تعدى في الأمور وما استعدَّا ... ألا يا أيها الملك المفدى
ومن لولاه لم نك في الوجود
أنم عن أن تسوس الملك طرفاً ... أقم ما تشتهي زمراً وعزفا
أطل منكم الريمة خل عرفاً ... سم البلدان مهما شئت خسفا
وأرسل من تشاء إلى اللحود
فدتك الناس من ملك مطاع ... ابن ما شئت من طرق ابتداع
لا تخش إلا أنه ولا تراع ... فهل هذي البلاد سوى ضياع
ملكت أو العباد سوى عبيد
تنعم في قصورك غير دار ... أعاش الناس أم هم في بوار
فإنك لم تطالب باعتذار ... وهب أن الممالك في دمار
أليس بناء قصرك بالمشيد
جميع ملوك هذي الأرض فلك ... وأنت البحر فيك ندى وهلك
فأين لهم علاك وذاك أنك ... لئن وهبوا النقود فأنت ملك
وهوب للبلاد وللنقود(38/4)
التجارة والإسلام
يا كرام الشام أراني كمن هو في المنام يتنقل من أمر غريب إلى أمر أغرب وكل ما أراه من هذه المظاهر يزيدني في كل ليلة سروراً على سرور حتى لا يكاد يوجد موضع لزيادة السرور. رأيت في هذه الليلة مشهداً حافلاً ومثالاً يدل على الوطنية الحقيقية في هذه المعاهد فلذلك لم أتمالك أن أبتدأ كلامي بالإشارة إلى حكمة من رجل قديم وهي أنه جمع أحد الرجال أولاده وأوصاهم بالرمز لأنه وجد الإشارة أفضل من كل عبارة فقدم لهم أعواداً من أغصان الشجر وأعطى لكل واحد منهم عوداً وقال له إقصم هذا فكان ما أسهل عليه من كسره. ثم ضم الأعواد بعضها إلى بعض وأعطاها للقوي من أولاده فالثاني فالثالث فالرابع فكانت النتيجة سلبية فقال بهذا الاتحاد يكون نيل المراد. لذلك أحييكم بوجود هذه العاطفة عاطفة الود والاتحاد التي تربطكم بعضكم ببعض وما افترق عضو إلا وكان مشلولاً والاتجاه ممدوح ويد الله مع الجماعة.
من دواعي السرور التي رأيتها في هذا البلد الأمين أنني اجتمعت بنفر من الخاصة ثم بالعامة أمس واليوم اجتمعت بالوسط وهم التجار وخير الأمور الوسط اجتمعت بهؤلاء في نادي التجارة وهي أساس الملك وركن العمران ولا أطيل الكلام في فوائدها فكلكم أدرى بها مني وتعرفون مزاياها. على التجارة قامت الأمم وارتقت الممالك حتى قيل في الأمثال: إذا كان مجد العالم بكراريسه فمجد التاجر بكيسه ولكن مجد العالم لا يكون له شأن في ترقية الوطن إلا إذا أمده التاجر بكيسه. العلماء قوم يشتغلون بالعلم ولو اشتغل الناس كلهم بالعلم لكانوا في غير هذه الدنيا أو من غير هذا العالم إذ ما الفائدة من الورق المكتوب إن لم ينضمَّ له الورق المضروب وما الفائدة من الطمامير إن لم تؤيدها الدنانير. أم تروا أن سيد الخلق كان تاجراً وأن كثيراً من علماء الإسلام اشتغلوا بالتجارة والعلم لما في التجارة من سعادة الدنيا وحياة الأمم وما في العلم من سعادة الآخرة. إذا نظرنا إلى المسلمين رأينا الخلفاء وأرباب الدولة منهم يتجرون بأمتعة الدنيا ليكتسبوا قوتهم من الحلال لأن التجارة هي المكتسب الحلال الصافي من كل قذر.
تعلمون أن علوم العرب قد أخفى عليها الزمان ولكن بقي لنا شيءٌ من ذلك البحر الزخار. كان ابن جبير الأندلسي وابن حوقل البغدادي والمسعودي يطوفون البلاد للتجارة والمكسب ويدونون كل ما يشاهدونه من المعارف ليفيدوا أبناء جنسيتهم بكل ما استفادوا من التجارة(38/5)
بهذه الوسيلة تملك العرب في أيام مجدهم أطراف الدنيا وارتقى لديهم العلم ولذلك كان الإسلام ذلك المظهر البديع في الدين والسياسة الذي ضمن له كل درجة في ارتقاء العلم.
ما هي الأسس التي قامت عليها الحياة؟ هي الزراعة والصناعة والتجارة. فالزراعة أول مصدر حقيقي لمعيشة الإنسان حتى أخذ في التحضر والتمصر ولكنها كانت قاصرة فجاءتها الصناعة فاشتغلت بما تنتجه الأرض من الخيرات واستحصلت منها خيرات أخرى صناعية. بقيت هذه الحالة في دور الطفولية في أدوارها الأولى فجاءت التجارة وصلةً بين الزارع والصانع سبباً في تقدم العلوم وارتقاء المدارك وحسب التجارة فضلاً أن سيد البشر ونبي العرب والعجم قد اشتغل بها كما ذكرنا.
ليست كل البلاد زراعية بل منها ما هو جبل أو واقع في سفح البحر فلا يمكن أن تنبت لها الأرض شيئاً ونرى الإنسان في مكان كهذا ليس للزراعة فيه أثر ومع ذلك يعيش بفضل التجارة ولهذا يمكن للإنسان أن يستغني عن الزراعة والصناعة ولا يمكنه الاستغناء عن التجارة لأنها تنقل له المحصولات الزراعية والصناعية من البلاد التي تمتاز بهما ولكن إذا بارت التجارة عدمت الزراعة والصناعة فالتجارة والأمر على ما ذكر سيدة المعايش.
كان تجار الشام ملوك التجارة وأعني بالشام تلك البلاد التي يحدها من الشرق العراق ونهر الفرات ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) ومن الشمال بلاد آسيا الصغرى المعروفة عند العرب بأرض الروم ومن الجنوب بادية الشام أو بادية السماوة أو بادية النفود ولا أدري معنى النفود فأغتنم الفرصة لفهم معنى هذه الكلمة:
رأيت في كتب الإفرنج وخرائطهم تسمية هذه البادية ببادية النفود قائلين أن النفود معناه الرمل ولكني بحثت في هذه الكلمة وحورتها وقلبتها فلم أعثر في كتب اللغة على اسم يوازي هذا الاسم الذي هو شبيه بالعربي ونقله جغرافيو الألمان والإنكليز.
وكلامي يسمعه بالطبع كثير من التجار الذين تمر قوافلهم بتلك البادية فعسى أن يحققوا معنى هذه الكلمة حتى لا يقال أن الإفرنج يأتوننا بكلمة عربية ولا نعرف معناها.
وبهذه المناسبة أقول أنا نجد لبلادنا مصورات باللغة الإفرنجية واللغة العربية وإذا نظرنا للعربية نجدها كلها مترجمة عن الإفرنجية وربما كان المترجم يتحرج في بعض الأسماء فيتركها.(38/6)
في أحد دروسي أردت أن أشرح للتلاميذ حالة بلاد العرب عند ظهور الإسلام فرأيت خرائط مصر ودار السعادة كلها خلواً من أسماء البلاد والأماكن لذلك دعوت تلامذتي لأن يتلافوا هذا النقص ويستعينوا بالذي أبقاه لنا مثل ابن خرداذبة والأصطخري والمسعودي لنسد هذا النقص حتى إذا قرأنا شيئاً عن أخبار العرب عرفنا مواطن القبائل والشعوب وقلت لهم إن الذي يساعدنا على العمل الأكبر لهذا المقصد أن نسأل التجار وتلاميذ الجامعة الإسلامية الكبرى وهي الأزهر الذين يأتوننا من سائر البلاد الإسلامية فإنهم إذا سألوا أهل العلم والتجار الوافدين إلى مصر يمكننا أن نرسم خريطة وافية لبلاد العرب كافة أحسن من التي عملها الإفرنج وأضاعوا في سبيلها كثيراً من الأموال والأرواح ثم نعمل خريطة لبلاد العراق والشام وأتمنى من الذين يهمهم ذلك أن يستعينوا بأهل البلاد سواء كانوا من أهل العلم أو التجار لأنا بمجرد انقطاعنا عن طلب العلم والكسب قد نزلنا إلى الحضيض ووقفنا في طريق الجمود بينما كان الإفرنج يكدون.
أنا إذا أردت أن أعرف مواقع دمشق لا أقدر على ذلك إلا بالخرائط الإفرنجية وأما خرائط مصر ودار السعادة فكلها خلو من ذلك. هذا نقص يجب أن نتعاون على سده حتى لا نكون عالة على الإفرنج لا في العلوم فقط بل في مواقع بلادنا.
أول خريطة رسمت في العالم رسمها نفر قليل من أهل الشام وهم الفينيقيون وبلادهم جزر صغيرة متواصل بعضها ببعض ولم يكن لديهم قوة غير التجارة فملكوا بها العالم كله ووصلوا في ذلك الزمان المظلم إلى مضيق جبل طارق ومنه إلى بلاد الإنكليز وهم أول من عرف تلك البلاد وقد ملكوا منها كثيراً كما أسسوا كثيراً من البلاد في إسبانيا وكانت لهم المستعمرات في صقلية وغيرها. ثم نزحوا إلى تونس وأقاموا في قرطاجنة تلك المدينة الكبيرة ولقد كانت هذه المدينة تاج ملك الفينيقيين والدهر تارة لها وتارة عليها. أولئك هم آباء الشام حتى دار الدوروغار منهم الروم واليونان فأتوا أيضاً بطريق التجارة والملاحة وصاروا يأخذون أملاك القرطاجنيين وحينئذ تقدمت رومية وأزالت أثرهم من الوجود لكنا لا ننسى أن آنيبال بفضل التجارة مر من الجزائر ومراكش إلى إسبانيا ومنها إلى فرنسا فإيطاليا ووقف حتى صاح الرومانيون ببعضهم: ما لكم قاعدون والعدو على الأبواب وحينئذٍ لم يتمكن آنيبال من إتمام مقصده ولو كانت عنده السفن الحربية لكان محق رومية ولكنه(38/7)
أبعد عنها كثيراً ولم يأته المدد فذهب فريسة إقدامه الهائل ولا شك أنه فخر لأهل الشام لأنه فينيقي والفينيقيون من الشام.
دار الزمان دورته وجاء المجد للعرب فابتدأت تجارتهم بالصعود وكانوا يقصدون الفتوح والتوسع في الملك بواسطة التجارة ولذلك كان الخليفة العباسي يهدد أهل الهند إذا أقفلوا باب التجارة أمام تجار بغداد والشام.
لكن الهنديين حرفوا اسم الكوفيين وسموهم (كوكل) وكذلك أتاها جماعة هربوا من الحجاج أيام تجبره على الذين يرغبون في مناوأة السلطة المروانية وذلك أنه أجلى نفراً من قريش وكان فخر قريش قبل النبوة بالتجارة كما قال تعالى (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) فلما أجلاهم ذهبوا عن طريق البحر إلى الهند فسماهم أهلها بالنوائت (النوتية) وبقوا فيها زمناً طويلاً حتى انتشروا انتشاراً هائلاً وهم الذين أسسوا الإسلام هناك.
فللتجارة إذن فضل كبير في انتشار الدين الإسلامي أيضاً. كان التجار يذهبون إلى شطوط أفريقية فيرى أهلها من حسن معاملتهم وعظم أخلاقهم ما يزهدهم في دينهم رغبة في انتحال الإسلام ولذلك لم ينجح كثير من النصارى كما نجح تجار الإسلام. فالتجارة هي أساس العمران والتاجر أساس نجاحه الأمانة والصدق في الأخذ والعطاء.
لما دالت الدولة في دمشق وانتقلت إلى بغداد اختار المنصور الموقع التجاري لبناء العاصمة الكبرى وهي بغداد التي قال عنها علماء العرب: إن العراق سرة الدنيا وبغداد سرة العراق فبغداد سرة الدنيا.
كان كرسي الدولة العباسية عند أول قيامها في الكوفة ثم صار في الهاشمية ثم في الأنبار لكن الخليفة رأى عاصمة بلاده في موقع غير تجاري فأراد أن يجعلها في أهم مركز تجاري لتكون مضمونة البقاء على الدوام ولذلك أرسل الرسل ليقفوا على الجهة المطلوبة فاختاروا البقعة التي أقيمت فيها بغداد قائلين للخليفة: هنا تجيئك الميرة من المغرب وطرائف مصر والشام عن طريق الفرات وتجيئك في السفن من الصين والهند عن طريق دجلة. وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة وتجيئك الميرة من أرمينية فما فوقها عن طريق الزاب وأنت بين أنهار لا يصل عدو إليك إلا على جسر أو قنطرة فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لا يصل إليك عدوك وهو محتاج لعبور دجلة(38/8)
والفرات وهما خندقان طبيعيان لبلدة أمير المؤمنين.
فأمر بحشر الصناع والفعلة من الشام والموصل وفارس والكوفة وواسط والبصرة واختار قوماً من أهل الدين والعدالة والمعرفة والهندسة فوكل إليهم أمر العمال وكان فيهم الحجاج بن أرطاة المهندس وأبو حنيفة ابن ثابت الفقيه (وإنما اختار أبا حنيفة لأن المنصور أراد أن يولي أبا حنيفة القضاء فامتنع فضربه فامتنه فحلف أنه لا بد أن يوليه عملاً ولذلك أمره بأن يتولى الطوب واللبن ليبرّ بقسمه) وأمر بتخطيط المدينة كلها فلما تم تخطيطها بالرماد أقبل يدخل من كل باب ويمر في طرقاتها ورحابها فرآها وافية بما تميل إليه النفس فوضع أول حجر بيده قائلاً: بسم الله وبالله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال للعمال: ابنوا على بركة الله. وعند البناء أمر بطبخ الطوب الأحمر (الآجر) وكان يعد على يد أبي حنيفة بالملايين فاستدعى لذلك وزيره جعفر البرمكي وقال له ما رأيك في هدم إيوان كسرى لجلب أنقاضه واستعمالها في البناء فأجابه الوزير: إنه رأي غير صائب لأن الإيوان من آثار الفرس وهذا البناء الذي تقيمه الآن من آثار الإسلام ينبغي أن لا يدخل فيه أثر لغيرهم. فقال له الخليفة: أخذتك النعرة لقومك وحننت إلى العجم فأردت أن تمنعني عن ذلك. ولم يعبأ بقول وزيره وأرسل فعله فنقضوا بغضه وأتوا به إلى بغداد فحسبوا النفقة فوجدوها تزيد بكثير على استحضار أدوات جديدة ولذلك رأى الخليفة أن الأولى جلب الطوب الأحمر الجديد وحينئذٍ استدعى جعفر ثانياً وسأله في ذلك قائلاً: أريد أن أجلب الأحجار من الجبال لا من أنقاض الإيوان فأجابه الوزير: لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين بل ثابر على ما باشرت به لئلا يقال أن ملك الإسلام عجز عن نقض ما بناه ملوك الأكاسرة رأى المنصور أن الكلام صواب ولكن لا يمكنه العمل به لأن المدينة تجارية اقتصادية فلم يسمع قول وزيره.
استمرت دولة العرب على هذه الحال من الترقي في العلم والتجارة في آن واحد والتجارة من فرنسا وروسيا وبريطانيا إلى الهند وغيرها كلها عن طريق بغداد حتى دالت الدولة منها وانتقلت إلى الأندلس فكان للتجارة فيها رقي عظيم لكن أهلها أصبحوا بعد مدة مثل الأعواد التي ذكرتها لكم فدالت دولتهم بسبب التفرق والانقسام.
قامت على أنقاضهم دولة إسبانيا وسعت حتى رقيت بما اكتسبته من علوم الشرقيين وكذلك(38/9)
أخذت في الترقي دولة البرتغال وليس في وسعها التوسع في الملك فهجم أرباب الأقدام فيها على المخاطر ولما كانت الهند أعظم محل تجاري بما ترسل من البهارات والأباريز والفلفل والأفاوية إلى بغداد وأوربا أرادوا أن يذهبوا إليها ليستعمروها وتولدت عندهم رغبة جديدة في أن يصلوا إلى الهند عن طريق آخر لأن الإسلام في المغرب الأقصى ومصر واقفون لهم بالمرصاد لذلك استغنوا عن طريق البر وسلكوا طريق البحر فاكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح وتملكوا موزامبيك وزنجبار ووصلوا إلى الهند وعاملوا تجارهم قائلين لهم لا نزيد سوى الفلفل بهذه الوسيلة صار لهم مع أهل العند معاملة قوية لكن تفرق تجار الهند جعل لهم عليهم كلمة فاستغاثوا بملوك مصر وآل عثمان فلم يجيبوهم لأن العداوة كانت متأصلة بين السلطان سليم والغوري ملك مصر.
وذلك أن الغوري أرسل طائفة من الجند إلى الهند عَلَى سفن (ويسمونها أغربة) صنعها في السويس فلما وصل قائده إلى اليمن حدثت بينه وبين أهلها مناوشات اضطرته لأن ينسى الوظيفة التي أرسل إليها وهي إنقاذ البلاد من البورتقال فبقي في اليمن وفي أثناء ذلك كانت القاهرة في اضطراب شديد أنساها الهند أيضاً لمحاربتها مع السلطان سليم وانتصاره في واقعة (مرج دابق) التي قتل فيها الغوري واستولى هو على حلب ومصر والشام ثم اشتغلت الدولة العثمانية بمحاربة السلطان اسماعيل الصوفي ونسيت الهند فكان هذا التفرق والاضطراب أعظم وسيلة لامتلاك البورتقال تلك البلاد الغنية بتربتها ومحصولاتها.
رأينا بلاد الهند فتحت على يد التجار كما امتلكها الإنكليز اليوم بواسطة التجارة أيضاً لما أصبحت إنكلترا ملكة البحار وأهلها ملوك التجار.
في ذلك الوقت قامت إسبانيا لتوسع دائرة ملكها فرأت أنها لا يمكنها طلب الهند من طريق البورتقال والمنافسة التجارية أساس الاستعمار فقام خريستوف كولمب وجرى في البحر من جهة الغرب ليملك بلاد الهند. بهذه الوسيلة اكتشف أميركا وسماها الهند الغربية. وارتقت إسبانيا حتى كانت كلمتها هي العليا خصوصاً في أيام شارلكان فإنها اغتنت وتدفقت إليها الأموال من جهات الدنيا ولكنها تضعضعت أخيراً بإخراج المسلمين وبالتراخي فألهاها التكاثر حتى دخلت في عداد أهل المقابر. في هذه الآونة كانت أوربا جارية نحو التمدن والشرق قد أخلد إلى النوم والسكون إلى الموت والجمود. وهنا أذكر لكم كلمةً عن تمدن(38/10)
الأوربيين:
كانت أوربا في منتهى التوحش حين كانت بغداد في أوج الحضارة حتى أن تجار العرب لما ذهبوا لاستحضار العنبر من شلسويج وصفوا أهلها بأنهم وحوش عراة لا يسترون عوراتهم إلا بقطع من الجلود (ذكره القزويني في آثار العباد وأخبار البلاد) هذا وصف أحد سياح العرب لتلك الدولة التي هي اليوم في أرقى درجات الحضارة.
تنبهت أوربا من رقدتها باختلاطها مع العرب شرقاً في الشام وغرباً في الأندلس فجمعت الزبدة والخلاصة النافعة من مدنية اليونان والرومان وضمت إلى ذلك ما أخذته من احتكاكها بالشرق أيام الحروب الصليبية فتولدت لديها الحضارة. دخل أحد أمرائها في زمن الحرب الصليبية أحد الحمامات في فلسطين (صور أو صيدا) فاستعمل معه الحمامي النورة فاستعجب الأمير من ذلك وخرج في الحال فأتى بامرأته وقال له افعل معها كمافعلت معي. في تلك الأيام كان تعليمهم مبنياً على أسس العرب مثل كتب ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرها مما ترجموه إلى لغاتهم.
كانت هذه الحركة أول مبدأ لترقيهم بعد أن كانوا عبيداً لقليل من السادة وكانت أوربا ملكاً لأفراد من الملوك. كان السكان عبيداً لهؤلاء السادة فإذا بيعت الأرض بيعت رجالها وحيواناتها وكل شيء معها حتى كان للسادات حق التفخيذ أي أن لا تزف العروس حتى يأخذها الرئيس.
فباختلاطهم بأهل الشرق دفعوا هذه الوصمة عنهم وقامت لديهم شبه حكومات ابتدائية في تلك البلاد ثم عثروا على مصنفات اليونان فصاروا يأخذون عنها مباشرة بعد ما كانوا يأخذون عن العرب واستمروا على هذه الحالة لكن هبت عليهم نفحة من الأفكار الصائبة التي اكتسبوها من المسلمين فأخذوا بالتجارة مع القوم ودرس علومهم بإتقان غير أن ضغط الملوك وخصوصاً الباباوات باسم الدين كان سبباً لتفرقهم على بعضهم إذ كان التعصب آخذاً منهم مبلغاً عظيماً. ومع ذلك فقد أوجدت شدة الضغط أفراداً نوابغ كسروا قيود الاستعباد وفكوا أغلال الجمود مجاهرين بالحرية فكان من أجل ذلك ما كان من أمر ديوان التحري القسيسي وواقعة القديس برثلماوس بين البروتستانت والكاثوليك وواقعة صلاة العصر في صقلية حيث قام الناس بعضهم على بعض. ولذلك اضطر أرباب الأفكار الحرة(38/11)
وهم البروتستانت إلى المهاجرة من ألمانيا وفرنسا إلى إنكلترا وهولاندة حيث نشروا العلوم ووسعوا دائرة الأفكار فترقت بهم البلاد وأفاضت المعارف منها على باقي بلاد أوربا.
سعى القوم وراء العلم والمعارف كثيراً فكان ذلك أسهل طريق لتأصيل دعائم التمدن بينهم حتى أن غاليله لما قال بدوران الأرض وأنكروا قوله وحكموا عليه بالإعدام قدم إلى النطع والسيف وهو يقول: ومع ذلك تدور. وكذلك قام في إيطاليا (جوردانو برونو) فأحرقوه بالنار لأنه نشر أفكاراً حرَّة وأما اليوم فكم له في بلاد أوربا من تماثيل لأنه كان من الذين سعوا في تفكيك الرقاب من ربقة الجهل والعبودية.
ثم قام ميرابو بنشر الأفكار الحرة بين الشعب حتى أن الملك أرسل من قبله إلى هذا الحزب رجلاً يقول لهم (اخرجوا من هذه الدار) فأجابوه نحن هنا نواب الشعب بإرادته فلا نخرج إلا بأطراف الحراب وكذلك قام (دانتون) وكان يخطب بالقوم ويقول: من أراد الظفر فعليه بالجرأة والإقدام وليكن شعاره على الدوام الجرأَة والإقدام ـ جاء فولتير وروسو فأقاموا هذا الصرح العظيم فوق ذلك الأساس المتين وكانت إحدى الجمعيات العلمية حينئذٍ اقترحت وضع كتابٍ في الاجتماع والعمران جاعلة مكافأة كبيرة لمن يسبق في هذا المضمار ويجيد في التأليف فألف عندها جان جاك روسو كتابه (عقد الاجتماع) إلا أنه لم ينل الجائزة المعينة وإنما أخذها رجل آخر لأغراض في النفوس لكن الأفكار لم تستنر إلا بهذا الكتاب ولذلك أسبل الدهر ستره على ما سواه.
انتشرت بهذه الوسيلة روح الحرية في فرنسا فكانت سبباً لتقويض أركان الاستبداد ورفع منار الحرية على تلك البلاد وصار كل واحدٍ يقول ما يريد لأن الأفراد أصبحوا أحراراً في أقوالهم وأفكارهم وبذلك بلغت أوربا ما نراه اليوم من التقدم المدهش وخوارق الأعمال.
انتشرت الحرية من فرنسا إلى أمم أوربا فترتب على ذلك وجود المجالس النيابية وهي حكومة الشعب بالشعب التي كانت السبب لرقي دول أوربا كلها. وهم اليوم على هذه الدعامة الإسلامية فالحمد لله الذي أعاد لنا الشورى في هذه الأيام. في تلك الآونة انفسح المجال أمام التجار وبات لهم طريقان طريق من الشرق وهو طريق رأس الرجاء الصالح وطريق من الغرب وهو طريق أميركا لكن بعد الشقة وطول المدة التي تزيد عن سبعة عشر يوماً ألجأتهم إلى فتح ترعة السويس فكانت أكبر ممهدٍ للتجارة وترقيها على ما نشاهده(38/12)
اليوم بالعيان.
ولكن لدينا طريق أهم وأكثر فائدة وهو طريق بغداد فمتى تمت السكة الحديدية في هذا الطريق تعود لنا التجارة. والسكك الحديدية في الأرض كالشرايين في الجسم فإذا لم يجر شريان في البلد كان ذلك سبباً لهدم الحياة فيه وكلما انتشرت السكك في البلاد كان فيها زيادة الخير. من أجل هذا أرجو من أهل الشام وخصوصاً التجار أن يسعوا في هذه البلاد التي هي من أغنى أقطار الدنيا على الإطلاق ولكن تنقصها السكك الحديدية وأناشدهم أن يهبوا للتعاون على تأليف الشركات الوطنية حتى تبقى ثروة البلاد في البلاد ولا يتمتع بها الأجنبي وأنتم منها محرومون. أؤمل كم أهل الشام أن يضعوا الميامين بعضها في بعض لنقل خيرات البلاد إلى البلاد وبذلك ترقي دور التجارة والصناعة وتنال كثيراً من الفوائد دون أن يشترك فيها الأجنبي إلا بما لا مندوحة عنه.
رأَيت القسم الأعظم من التجارة هنا بيد الأهلين فحذار حذار أيها الكرام من أن تذهب من أيديكم وعليكم بالسعي في إصلاح طرق المواصلات كيلا تكون بيد الشركات الأجنبية.
نحن نسمع في مصر أن التفاح في الشام يعطى بصورة علف للدواب لما في سبيل نقله من الصعوبة، نسمع ذلك ونأسف كل الأسف لأننا نستجلبه من البلاد الأخرى بقيمة غالية. فإذا أصلحت طرق المواصلات تجدون مورداً للرزق واسعاً وبه تنالون الفوائد الجسام وتعيدون للشرق مجده إن شاء الله.(38/13)
الجباية في الإسلام
العشر
العشر: لغة جزوء من عشرة وجمعه أعشار وعشور وفي اصطلاح الفقه ما أخذ عن أرض العشر وأما أرض العشر فكل أرض أسلم أهلها عليها وهي من أرض العرب أو أرض العجم فهي لهم وهي أرض عشر بمنزلة المدينة حين أسلم أهلها وبمنزلة اليمن وكذلك كل من لا تقبل منه الجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل من عبدة الأوثان من العرب فأرضهم أرض عشرأفكارهمأ وإن ظهر عليها الإمام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر عَلَى أرضين من أراضي العرب وتركها فهي أرض عشر حتى الساعة: وأيما دار من دور الأعاجم ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي أرض خراج وإن قسمها بين الذين غنموها فهي أرض عشر وكل أرض من أراضي الأعاجم صالح عليها أهلها وصاروا ذمة فهي أرض خراج. وأما أرض الحجاز ومكة والمدينة وأرض اليمن وأرض العرب التي افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزاد عليها ولا ينقص منها لأنه شيء قد جرى عليه أمر رسولا لله صلى الله عليه وسلم وختمه فلا يحل للإمام أن يحوله إلى غير ذلك كذا فسودا العراق وأرض الشام وأرض مصر وغيرها مما فتحه الإسلام على عهد أو ذمة فهي أراض خراجية يجب عليها الخراج غير أن أبا يوسف رجمه الله جوز للإمام الخليفة أن يصير الأرض الخراجية عشرية فقال: فكل أرض أقطعها الإمام مما فتحت عنوة ففيها الخراج إلا أن يصيرها الإمام عشرية. . . إلخ ومن ثم يتضح أن الخليفة يحق له أن يحول أرض العراق وأرض الشام وأرض مصر وكل أرض خراجية إلى أراضٍ عشرية.
وأما مقدار العشر الشرعي فهو واحد من عشرة عن محصول الأراضي العشرية التي تسقى بماء المطر أو بماء الأنهر سحاً سقياً أو نصف واحد من عشرة عن محصول الأراضي العشرية التي تسقى بالدلو أو الدولاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء أو سقي سحاً العشر وفيما سقي بالغرب أو السواني والنضوح نصف عشر.
وأما العشر النظامي فقد جاء في المادة الأولى من نظام الأعشار الصادر في 9 حزيران سنة 321 ما تعريبه بالحرف يؤخذ العشر عن المحصولات الأرضية ولم يعرفه بغير هذا(38/14)
التعريف لأن ما كان يؤخذ من العشر حينئذٍ اثني عشر وثلاثة وستين سانتيماً من المائة عن المحصول وهذا لا يعبر عنه بالعشر وكانت الدولة عقيب التنظيمات الخيرية تجبي العشر واحداً من عشرة باسم الخزينة ثم أضافت عليه واحداً من المائة باسم المنافع ـ من أجل الأشغال العمومية ـ ونصفاً من المائة باسم المعارف فصار العشر يومئذ 11. 5 من المائة وفي سنة 313 مالية ضمت الدولة نصفاً آخر باسم الخزينة فبلغ العشر اثني عشر:
10. 5للخزينة
1باسم المنافع
0. 5باسم المعارف
ـــــــــ
12
فكانت هذه الزيادة من أجل سد العجز المالي يوم أخذت الجواسيس تتكاثر والاستبداد تشتد وطأته وفي سنة 316 صدرت الإرادة السنية قاضية بأخذ ستة في المائة عن بدل العشر يعني أن تؤخذ الستة عن الاثني عشر من المائة فبلغ العشر يومئذ 12. 63 اثني عشر وثلاثة وستين سانتيماً فصار هذا الكسر سبباً لشدة ظلم ملتزمي الأعشار إذ أصبحوا يأخذون ثلاثة عشر في المائة تفادياً من تشويش الحساب على زعمهم وبعد سنتين أصدرت نظارة المالية أمراً عاماً مبنياً على إرادة سلطانية قاضياً بإسقاط 13 سانتيماً من الشعر تخفيفاً عن الأهالي ودفعاً لتشويش الحساب فأصبح العشر اثني عشر ونصفاً عن المائة وهذا عبارة عن الثمن ولذلك لو أردنا أن نعرف العشر نظاماً لقلنا أن العشر النظامي ثمن أي واحد من ثمانية من عامة المحصول على حصص الأعشار ولذلك وضعت دائرة الديون العمومية دستوراً قاعدة من أجل حساب الحصص فعممته نظارة المالية في جميع دوائرها كي يطبق العمل عليها وهذه صورتها:
ميليم سانتيم عدد تام
60 17 79حصة العشر القديم
00 96 3الضم الجديد الذي وضع سنة 313
ــــــــــ(38/15)
60 13 83حصة العشر القديم والجديد معاً 10. 5 ـ 100
40 98 4حصة التجهيزات العسكرية (المعدات الحربية)
00 88 11حصة المنافع والمعارف
ــــــــــ
00 00 100
وبذلك صارت بدلات الأعشار تحال دفعة وتوزع على هذه القاعدة مثلاً لو أحيلت قرية ببدل قدره أربعون ألفاً يوزع على نسبة الحصص المذكورة أعلاه وهذه أقسام من المائة فلذلك يجب ضرب القسم ببدل القرية وتفريق عددين من حاصل الضرب من أجل المائة فيظهر مقدار الحصة وهذا مثاله:
العشر القديمالضم الجديدالتجهيزات العسكريةالمنافع والمعارف
79. 1763. 96 4. 984 11. 88
4000040000 40000 40000
ـــــ ــــــ ــــــ
__________
31670. 40. 0001584. 00. 001993. 60. 0004752. 00. 00
المجموع
31670. 4 العشر القديم
1584الضم الجديد
1993. 6 التجهيزات العسكرية
4752المنافع والمعارف
__________
40000. 0 بدل عشر القرية
وهذه الأربعون ألفاً هي اثنا عشر ونصف عن محصول القرية أي ثمن محصولها فما أغنى نظارة المالية عن هذا الدستور أو هذه القاعدة لو جعلت هذه الاثني عشر ونصفاً إلى هذا الترتيب:
10 العشر القديم(38/16)
00. 5 العشر المضموم
1. 5 المعارف والمنافع
0. 5 التجهيزات
ـــ
2. 5
فكرت ملياً فلم تتجل لي الحكمة في المحافظة على ذلك التشويش وعلى ما أظن أن هذا التشويش إما حفظاً لأحكام الإرادة السنية أو لمقصد خفي يراد به حفظ زيادة واردات إحدى الحصص والله أعلم.
عرفنا العشر فيما سلف تعريفاً لغوياً وشرعياً ونظامياً وإليك العشر وحالة تلزيمه وإلزامه وجبايته وضرره الذي تئن منه الأمة العثمانية.
يؤخذ العشر عن عامة المحصول بموجب القانون إلا من الحطب والفحم وما فسد بعد زوال الطراوة من الخضر والبقول كالخبازة والباقلاء والخس والكراث والسبانخ وأما ما حفظ بالملح أو الكبيس بماء الملح من الخضر فيؤخذ عنه العشر (أي الثمن).
اختلف الأئمة الفقهاء في جواز أخذ العشر عن الخضر فيجوزه أبو حنيفة رضي الله عنه على أنه عند أبي حنيفة يجب العشر في الخضروات ويخرج حقها يوم الحصاد أي القطع ـ ابن عابدين.
وقد خالف ذلك الإمام أبو يوسف فقال حدثنا الوليد بن عيسى قال: سمعت موسى بن طلحة يقول لا صدقة في الخضر الرطبة والبطيخ والقثاء والخيار. وعن علي رضي الله عنه قال ليس في الخضر زكاة البقل والقثاء والخيار والبطيخ وكل شيءٍ ليس له أصل. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ليس في البقول زكاة اه وفي الخانية لا يجب العشر فيما كان من الأدوية كالموز والهليلج.
ومن هذه العبارة يظهر أن واضع النظام راعى القوانين ولكنه لم يترك ما وجد منه ريعاً مهماً للخزينة ولو كان فيه رحمة للأمة.
وقد يجب العشر في كل ما أخرجته الأرض فالعشر الشرعي الحقيقي هو كما ذكر في الكتب الفقهية قال وحدثنا أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه(38/17)
وسلم أنه قال فيما سقت السماء أو سقي سيحاً العشر وفيما سقي بالقرب (دلو) أو السواني أو النضوح نصف العشر اه كتاب الخراج.
وفسره بقوله إنما جعل العشر في السيح ونصف العشر في الدالية لمؤنة الدابة والسانية:
يجب العشر في الأول ونصفه في الثاني بلا رفع أجرة العمال ونفقة البقر وكري الأنهار وأجرة الحافظ ونحو ذلك (درر). قال في الفتح لا يقال بعدم وجوب العشر في قدر الخارج الذي بمقابلة المؤنة بل يجب العشر في الكل لأنه عليه الصلاة والسلام حكم بتفاوت الواجب بتفاوت المؤنة ولو رفعت المؤنة كان الواجب واحداً وهو العشر دائماً في الباقي لأنه لم ينزل العشر إلى نصفه إلا للمؤنة والباقي بعد رفع المؤنة لا مؤنة فيه فكان الواجب دائماً العشر لكن الواجب قد تفاوت شرعاً فعلمنا أنه لم يعتبر شرعاً عدم عشر بعض الخارج وهو القدر المساوي للمؤنة أصلاً اه حاشية ابن عابدين.
فقد فهم مما تقدم أن صاحب الشرع عليه السلام نظر إلى حالة الزراع وفرض عليهم العشر بالنسبة لريعهم الحقيقي ولا يخفى أن الأرض التي تشرب بالدلو والدولاب ليست كالأرض التي تشرب من الأنهار سيحاً (يعني سقياً) أو من ماء المطر فالأولى تحتاج إلى عمل ودراهم أكثر من الثانية ولذلك عد صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم نصف عشر الأولى بمثابة عشر الثانية اه.
وقد اعتبروا الضم على العشرة أمراً لازماً مشروعاً لاحتياج الحكومة من أجل المعدات الحربية ولتعمير الطرق وإنشائها وتعميم المعارف على أنهم خصصوا نظارة ومستخدمين من أجل المعدات الحربية ليموهوا على الأمة زاعمين أنهم بعملهم هذا يدخرون هذا الضم للمعدات الحربية ويدفعون عنه سوء الاستعمال فهيهات هيهات!
أتدري ماذا كانت النتيجة؟ لم تكن إلا تزييد الضريبة على الأمة وإيجاد وظائف للمقربين والملتمسين وصرف الواردات في غير ما وضعت له ومن أغرب تصوراتهم ظنهم أن حصة التجهيزات إذا دخلت الخزينة تبعت قانون الفوضى في نظارة المالية فكأن الحكومة أرادت أن تعترف بعجزها عن تنظيم أمور ماليتها وحفظ إيرادها من سوء الاستعمال.
وأما حصة المنافع فلم نر ولم نسمع بأنها صرفت في تعمير الطرق أو الجسور وأما ما صرف على الطرق والجسور فهو من بدلات العملة المكلفة التي كانت مأكلاً للولاة(38/18)
والمتصرفين والقائمقامين والمهندسين.
وأما حصة المعارف فكان القسم الأعظم منها يصرف لأولئك الجواسيس الذين تصدروا على كراسي العالم ليمنعوا الجرائد والكتب المفيدة ويلقبوها بذلك التعبير الذي ترتعش لذكره الفرائص وهو (مضرة) كأنهم كانوا نافعين! ويصرفون هذه المبالغ على السفاهة والبذخ. ويحتجون بجواز هذه الضمائم بما يوجد في الضرائب من الضمائم في بلاد الغرب وقد فاتهم أن تحميل أعظم الضرائب على عاتق الفلاح ظلم وضرره في عمران البلاد واضح. أشرت إلى أن الشرط في وضع الضرائب حفظ النسبة بين إيراد الأشخاص الحقيقي فإن حسبنا ريع الفلاح السالم ألغينا ريعه أقل من ثلث ما تأخذه الحكومة باسم العشر وزد عليه أن بذاره وبقره ولباسه ومؤنته قد استدانها بفائض يتجاوز الخمسة والعشرين إذا ما قلت الخمسين في المائة فأي أرض تضمن لفلاحنا التعس هذا العشر الفاحش وهذا الفائض المدهش؟
تلزيم العشر
يعلم العثمانيون كافة أن العشر يؤخذ بطريق البدل إلا في بعض الأنحاء كحوران تدفعه للحكومة عيناً وبدل الأعشار يباع مزايدة وللمزايدة وإلا حالة أوقات محدودة تحددها مجالس الإدارة وعندما تطرح بدلات الأعشار للمزايدة تستدعي الحكومة شيوخ القرى وتكلفهم بوضع بدل عشر قريتهم بزيادة عن بدلها السابق فإن أجابوا تخلصوا ورجعوا إلى قريتهم وإن أبوا أو اعتذروا لقلة المحصول عندهم ضربوا وأهينوا وأدخلوا السجن وهذا العمل مغفور في نظر أولي الأمر لأنه به تزيد واردات العشر.
ولا ينكر أن بعض الأهالي أيضاً يسعون في تخفيف بدل الأعشار فيهضمون حقوق الخزينة فإن كان في قريتهم ربح تهاجم عليها الملتزمون وإن كان فيها خسارة أحيلت على أهلها بالكفالة المتسلسلة بالرغم من أنوفهم في كل قضاء وفي كل مركز متصرفية أو مركز ولاية. في جميع أنحاء المملكة العثمانية أعيان من أرباب النفوذ يلتزمون ضيعهم ويختصون بقرى عدوها من مستعمراتهم وعندما يضع هؤلاء أختامهم في قائمة المزايدة لا يستطيع أحد من الملتزمين أن يزيد عليهم فإن زاد حل به البلاء لأن ذلك الوجيه يستطيع بسيطرته أن يسجنه أو يتهمه بجناية فيتوب عن الالتزام هذا إذا صادف من يرحمه(38/19)
ويخلصه من ذلك الافتراء.
وأرباب النفوذ لا يتعدى بعضهم على بعض لأنهم تقاسموا الغنيمة وكل منهم رضي بما اختص بع واعتاد الملتزمون أيضاً أن يتقاسموا القرى أو يتشاركوا في بدلات القرى التي تربح ربحاً عظيماً ومنهم من جعل السفه مسلكه فتراه يهدد الذين لا نفوذ لهم ولا سيطرة عندهم في التزام ضيعهم ويأخذ منهم دراهم معدودات تحت اسم حق السكوت لئلا يزيد على بدلها وخوفاً من أن يصير البدل قانوناً يطلب الزيادة عليه في السنة الآتية وقد يلتزم ملتزم بدل أعشار قرية من أجل دين له على أهاليها على أمل استيفاء ديونه حتى ولو كان محصولها لا يعادل بدلها.
والمهارة والشطارة التي تطلب من القائمقام والمتصرف أو الوالي الغيرة على تزييد بدلات الأعشار ولو كان فيه ظلم الأهالي وخرابهم وقد تبلغ قرى الأهالي فوق بدلها الحقيقي وربما يدفعون 20 في المائة ويرضون بهذه الخسارة لما صادفوه أثناء الإحالة من الضغط والتضييق والضرب وأما المتوسطون فيكون بدل بلادهم معتدلاً ولكن قرى أرباب النفوذ تحال بأبخس الأثمان فقرية يبلغ بدلها مائة ألف قرش مثلاً تحال عليه بخمسة أو عشرة آلاف قرش فالفقراء يظلمون والأغنياء والوجوه وأرباب النفوذ يظلمون الخزينة ويأكلون حقوقها فإن نظرنا إلى أنحاء المملكة بأسرها نجدها منقسمة بين أولئك المستبدين ولذلك نجد ما خسرته الخزينة بسببهم أعظم مما تستوفيه بالضرب والحبس من أولئك الفقراء المدقعين.
جباية العشر
فبعد إحالة الأعشار يتهاجم الملتزمون على اختلاف طبقاتهم إلى القرى ويستخدمون الأشقياء والمحكومين والفارين من وجه الحكومة ويتخذونهم آلة الجباية وحقهم من العشر ولما يصل الملتزم في جنوده إلى القرية يجمع المختار والشيوخ ويعدهم بأن يترك لهم قسماً مما يترتب عليهم من العشر على شرط أن يقدروا البساتين والصحاري والكروم والخضر بأضعاف أضعاف أثمانها الحقيقية ولذلك ترى الفلاح يدفع عن بساتينه وكرومه وخضره نصف ما أخذه من الثمن إذا لم نقل كله ويعطون الملتزم دفتراً بما رفع قبل الإحالة ويتفقون معه على إعطائه 14 من المائة بدل 12. 5 وهو العشر النظامي والباقي عوضاً عما أكله(38/20)
الدواب ويسمونه إطعامية وتلفية. وهذا المقدار يختلف بحسب رضا الشيوخ ومن البلاء المبرم إذا صاروا شركاء فترى الملتزم يتحكم في الأهالي تحكم النمرود ولذلك تدخل المملكة في حرب داخلية أيام الأعشار فيفتح باب الرزق للمحاكم فيعذبون الزراع حينئذ أنواع العذاب وإن أحيلت القرية على الأهالي فالبلاء الأعظم يأتيهم من شيوخهم ووجوههم والمطلع على أحوال الفلاحين أيام الأعشار وما يقاسونه بعلم منه ومما فصلناه أن إحالة بدلات الأعشار على هذه الصورة مضرة بالأهالي والخزينة أيضاً.
مضرات الالتزام
صاحب المال أي الفلاح يصبح كالمحكوم عليه ريثما تحال القرية ويأتي الملتزم فلا يستطيع الأكل من ماله ولا إطعام دابته فبينما هو يعرف أنه مكلف بدفع العشر للحكومة التي قامت بحفظه وحفظ ماله وعرضه يرى نفسه محكوماً عليه لرجل مثله من أفراد الرعية وهذا ما يصعب على الطبع والإحساس ولما كان إخراج الغلة متوقفاً على الإحالة والمساعدة من الملتزم وقد تمضي شهور ريثما تجري الإحالة فيضيع على الزراع السعر وربما يخسرون ألوفاً وقد تنقص البيادر في هذه البرهة بسبب أكل الدواب والعصافير والطيور وهذه لا تأكل سوى الحبوب ولا ترجح على القمح والشعير شيئاً ومن غرائب الالتزام أن الفلاحين يجبرون على نقل الغلة من مسافة ساعة بحسب المادة 9 من نظام الأعشار وهناك أناس من أصحاب النفوذ أهل البطالة ينتظرون موسم الأعشار ليلتزموا قرية أو قرى باعتبار قيم أراضي آبائهم وهؤلاء قلما تجد في قلوبهم رحمة فيستبدون بالأهالي ويظلمونهم ظلماً لا مزيد عليه والأهالي لا يستطيعون الشكوى فلو تجاسر أحدهم واشتكى من تعدى عليه وغصب ماله الذي أحرزه بعرق جبينه بين شدة الحر وزمهرير البرد كان البلاء عليه من الحكومة ومن ذلك الملتزم.
وإن أرادت الحكومة أن تجبي الأعشار بنفسها (أمانةً) تحتاج إلى استخدام مأمورين ويصعب عليها أن تجد مستخدمين صادقين يحفظون حقوقها وتكون قد سلطت على الأمة أناساً يظلمونها ويسومونها سوء العذاب ويخونونها معاً فتكون حينئذ ظلمت الأهالي وأضاعت إيرادها.
وقد يستحسن بعضهم تلزيم الأعشار لما فيه من الزيادة من سنة أخرى وفاته أن كان ثمة(38/21)
زيادة فذلك من شدة الضغط وإن من نتائج الترقيات التي أخذت تنتشر رويداً رويداً وأن حالة الفلاح أحسن من قبل ولا ننسى أن الزيادة بجانب النقص والخسارة بجانب الربح وخلاصة الكلام أن تلزيم بدلات الأعشار وإحالته على ما ذكرنا وجبايته مضر بالأهالي وببيت المال ايضاً.
ماذا تفعل الحكومة؟
تجعل العشر ضريبة على الأراضي (لا تخميناً كما يظن الناس) وإليك التفصيل.
أما أراضي الحجاز والمدينة ومكة واليمن وأرض العرب فكلها عشرية لا يجوز تحويلها إلى غير ذلك ولا يزاد عليها ولا ينقص منها لأنه أمر جرى عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه فأصبح أمراً دينياً لأنه ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول أي يفترض لقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده فإن عامة المفسرين قالوا أنه العشر أو نصفه وهو مجمل بيّنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بقرب أو دالية ففيه نصف العشر. . إلخ. حاشية ابن عابدين ص53 وعد العشر من العبادة قال ابن عابدين في حاشيته إذا أدى بنفسه فله ثواب العبادة وإذا أخذه الإمام يكون له ثواب ذهاب ماله في وجه الله تعالى ـ بدائع.
وفي البزازية لا يحل الأكل من الغلة قبل أداء الخراج وكذا قبل أداء العشر إلا إذا كان المالك عازماً على أداء العشر اه وقد عد العشر زكاة أو صدقة اه. فأهل تلك البلاد المباركة الذين عرفوا بالتدين والمحافظة على العهود والأقوال لا يتأخرون عن أداء العشر الشرعي بل إنما يأتون به إلى بيت المال ليحل لهم الأكل من المحصول فيجب استيفاء العشر فيها كما وضعه صاحب الشرع عليه السلام ولا يجوز تحويله أو تزييده أو تنقيصه وتجب العناية بتفهيم أهاليها أن العشر فرض ديني لا يجوز أكله والحيلة فيه. وأما ما كان في الأهالي من الخيانة فهو من سوء تأثير الاستبداد وظلم المأمورين وفساد أخلاقهم.
وأما أرض الشام وأرض مصر وسواد العراق وغيرها فأرض خراج يحق للإمام أن يحولها إلى أرض عشرية ويضع عليها العشر كما يشاء وقد سبق ذكره غير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مسح سواد العراق سأل عماله على الخراج حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان حملت الأرض أمراً هي له(38/22)
مطيقة ولو شئت لأضعفت وقال حذيفة وضعت عليها أمراً له هي محتملة فقال: انظرا ألا تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق أما لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعهن لا يحتجن إلى أحد بعدي. فتأمل ومن هذا يتضح أن الإمام لا يجوز له أن يحمل الأرض فوق طاقتها من العشر أو الخراج.
هل يجوز جعل العشر الجاري الآن ضريبة على أراضي الخراج؟
جاء في كتاب الخراج أن عمر رضي الله عنه مسح سواد العراق فبلغ ستة وثلاثين ألف جريب وأنه وضع على جريب الزرع درهماً وقفيزاً وعلى الكرم عشرة دراهم وعلى الرطبة خمسة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب السمسم خمسة دراهم وعلى الخضر من غلة الصيف على كل جريب ثلاثة دراهم ومن جريب القطن خمسة دراهم وجاء في كتاب الخراج أيضاً أن عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أمية حمل الأموال على قدر قربها وبعدها فجعل على كل مائة جريب زرع مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي جريب مما بعد ديناراً وعلى كل ألف أصل كرم مما قرب ديناراً وعلى كل ألفي أصل مما بعد ديناراً وعلى الزيتون على كل مائة شجرة مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي شجرة مما بعد ديناراً وكان غاية البعد عنده مسيرة اليوم أو اليومين وأكثر من ذلك وما دون اليوم فهو في القرب وحملت الشام على مثل ذلك وحملت الموصل على مثل ذلك نتبين مما تقدم ذكره أن الخراج كان عبارة عن ضريبة مقطوعة على الأرض تنوعت بالنسبة للإيراد الصافي وقد سبق أن أرض الشام والعراق ومصر وغيرها كالأناضول والروم أيلي وطرابلس الغرب مما افتتحه المسلمون عنوة كانت أراضي خراجية وقد جوز الإمام أبو يوسف تحويلها لأراضي عشرية وجوز تزييد مقدار العشر وتنقيصه فيها فيتضح لك مما تقدم ومما تقتضيه المصلحة العامة أن تحويل العشر الجاري حتى الآن إلى ضريبة عادلة تطرح على الأراضي الخراجية على شرط أن تطيق حملها وتكون متناسبة مع الريع الحقيقي جائز بل واجب.
ما هي القاعدة في تحويل العشر إلى ضريبة؟
تتألف لجنة قوامها رجال ممن لهم خبرة بفن الزراعة واقتدار بتخمين القيم ويصحبهم(38/23)
مهندس ويرأسهم رجل ذو خبرة واطلاع على أحوال البلاد والفلاحين دارس في المدارس العالية ويشترط في الجميع أن يكون ممن تحلى بشرف النزاهة والصدق والاستقامة فيتجولون في أنحاء الولاية ويفحصون قوة إنبات الأراضي ويقسمونها إلى ثلاثة أو أربعة أقسام أعلا وأوسط وأدنى وضعيفة (يعني قلما تعطي ريعاً) ثم ينظرون في بدل أعشار عشر سنين أو خمس عشرة سنة عن قرية ما على شرط أن ينظروا إلى حقيقة البدلات السابقة فإن كانت للأهالي فلا شك بأنهم يجدون بدلاتها فاحشة فيجب عليهم التخفيف وإن كانت لأرباب النفوذ فلا شك بأنهم يجدون بدلاتها ناقصة فيجب عليهم التزييد وربما وجدوا قرية من قرى الأهالي محفوظة من الغدر الفاحش لاتفاقهم وتيقظهم كما أنهم يجدون بعض قرى الأعيان مظلومة لتجاوز بعض أرباب النفوذ أو لغضب أولي الأمر عليهم ثم يقسمون مجموع البدلات على عشر سنين أو خمس عشرة سنة وبعد ذلك يوزعون خارج القسمة على حسب درجات الأراضي من حيث قوة الإنبات وهكذا يفعلون في الولايات التي هي من الأراضي الخراجية ولا بد من النظر إلى نوع الأراضي إن كانت مشجرة أو غير مشجرة ويجب تفريق الأراضي التي تسقى بماء المطر أو بماء النهر سيحاً من الأراضي التي تسقى بالدلو أو الدولاب وتفريق الأراضي التربية من المدن والمرافئ الأساكل عن الأراضي البعيدة. وخلاصة الكلام يجب على اللجنة أن تحمل الأرض ضريبة تطيقها ولا تتجاوز عشر محصولها فإن فعلوا أراحوا الأمة وتزايدت واردات الخزينة ودخلت تحت قاعدة الانتظام وخف الظلم وصار إيراد الدولة معلوماً فلا تخطئُ في تنظيم ميزانيتها وإن ظلم رجل بضريبة فله أن يراجع ويدفع ظلمه والآن قد فتح باب العدل فلا يبقى مظلوم على غدره إن شاء الله.
منافع الضريبة على الأراضي
يعرف الإنسان ما عليه من الضرائب فيحسب مصروفه على أراضيه وريعه الحقيقي فيسعى في عمارة أراضيه ليخفف عنه ألم الضرائب ويضمن ربحاً عظيماً فإن وصل إلى مرغوبه عمر الأرض فتعمر البلاد وإن خسر ترك الزراعة وانصرف إلى التجارة وعلى ما أظن أن الحكومة الدستورية ستسعى في تخفيف الضرائب عن عاتق الأمة وأخص منهاضرائب الزراع وإذا خفت عنهم أغنتهم وجعلتهم يتزوجون ويعملون الولائم ويكتسون(38/24)
ويصرفون المبالغ في اللبس والفرش فيزيد واردات البلاد مع واردات الخزينة وأكرر قولي أن الحكومة لا تغنى إلا بغنى الأمة والأمة لا تغنى إلا بتخفيف الضرائب. وحينئذ ترى فلاحنا قد أصبح حراً وتخلص من استبداد الملتزمين ومن أسرع في إخراج محصوله فأدرك الأسعار في غلائها ربح الأرباح وصارفي رغد من العيش وهذه النعم لا نجدها في تلزيم بدلات الأعشار وكفى بذلك عبرة.
شكري العسلي(38/25)
عبث الوليد
أبو تمام حبيب الطائي وأبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي وأبو عبادة البحتري هم الشعراء المعول على شعرهم في المولدين جمعوا إلى جزالة الألفاظ وحسن السبك معاني الحضارة وأساليب الحكمة ولذلك كانت دواوينهم من جملة ما يقضي على طالب الأدب أن يتدارسها ويستظهرها وكانت مما أوصى بتعلمه ضياء الدين بن الأثير صاحب المثل السائر كل مشتغل بالمنظوم والمنشور لأنها حوت عامة المزايا اللغوية والأدبية. ومن أجل هذا ترى هذه الدواوين قد خدمت أجل خدمة منذ القديم ولاسيما ديوان أبي تمام وديوان أبي الطيب فنظر فيهما مشاهير اللغويين والعلماء وتعاورتهما الأقلام بالشرح والنقد إلا ديوان أبي عبادة البحتري لم نسمع بأن أحداً من العلماء تصدى لنقده غير أبي العلاء المعري.
فإن هذا العلامة الحكيم اللغوي أبى أن يغفل كلام البحتري من وضعه على محك انتقاده بعد أن ألف في ديواني الطائي والمتنبي كتابين مستقلين دعا الأول ذكرى حبيب والثاني معجز أحمد ـ فألف في الثالث كتاباً سماه عبث الوليد قال في مقدمته: أثبت ما في ديوان البحتري ما أصلحُ من الغلط الذي وجد في النسخة المكتوب في آخرها أنها بخط ظفر بن عبد الله العجلي وإنما أثبت ذلك ليكون مولاي الشيخ الجليل أدام الله عزه كأنه حاضر للقراءة ولم يمكن إثبات جميع الأغلاط لأن أكثرها غير محيل وقد وُصل بذكر شيء مما جرى إليه أبو عبادة من الضرورات وما بجنبه أمثاله وبالله التوفيق.
قال أبو العلاء في الكلام على قول أبي عبادة:
إذا تشاكلت الأخلاق واقتربت ... دنت مسافة بين العجم والعرب
إذا وقعت بين في هذا الموقع فالاختبار خفضها وكذلك ترفع إذا وقعت في موقع وقع كما جاء في الكتاب العزيز لقد تقطع بينكم أكثر القراء على الرفع ويجوز النصب فقال قوم يكون الاسم مضمراً كأنه قال لقد تقطع الوصل بينكم وقال قوم يضمر ما كأنه قال لقد تقطع ما بينكم وحسن حذف ما ههنا كما حسن حذف لا إذا قيل والله أفعل أي والله لا أفعل قال امرؤ القيس:
كلاَّ يمين الإله يجمعنا ... شيءٌ وإخواننا بني جُشما
أي لا يجمعنا. وهذا البيت ينشد بخفض بين ونصبها.
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم(38/26)
فالخفض على الإضافة والنصب وعلى تقدير ما
وقال المعري في مكان آخر: وكان في النسخة هذه الأبيات التي أولها:
يا أمتا أبصرني راكب ... يسير في مسحنفر لاحب
والأبيات الثلثة منها مذكورة في أمالي قوم من العلماء المتقدمة ويجوز أن يكون غلط بها على أبي عبادة فنسبت إليه أو ظنها بعض الناس من شعر العرب فألحقها بما يحكى عنهم والبيت الثالث الثابت في هذه النسخة لا يوجد في الحكاية المتقدمة وقد اختلف في أشياء من هذا الجنس وربما حسد بعض فنسب شعره إلى المتقدمين ليُكاد بذلك وينقص من قدره. وحكى بعض الكتاب أنه رأى كتاباً قديماً قد كتب على ظهره أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب من الجآذر في زي الأعاريب. وذكر خمسة أبيات من أول هذه القصيدة وهذا كذب قبيح وافتراء بيّن. وإنما فعله مفرط الحسد قليل الخبرة بمظان الصواب غرضه أن يلبس على الجهال. وقد رويت أبيات أبي عبادة التي في صفة الذئب لبعض العرب ويجب أن يكون ذلك كذباً مثل ما تقدم في حديث البائية التي لأبي الطيب. وقد نسبوا الأبيات التي في صفة الذئب إلى عبد الله بن أنيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من بني الترك راشد بن وبرة ولا ريب أن ذلك باطل والرواية التي يرويها أصحاب اللغة يجيئون بالبيتين الأولين فيجعلونهما من قول الجارية ثم يقول فأجابتها أمها:
الحصن أدنى لو تأَييته
على أن هذه الأبيات بعيدة من نمط أبي عبادة وإن كان الشاعر المغزر يجوز أن يأتي بكل فن من القول.
وقال المعري في الكلام على بيت البحتري الذي هو:
والحدود الحسان يبهى عليها ... جلنار الربيع طلقاً وورده
جلنار من أطراف كلام العامة وليس هو اسماً موجوداً في الكلام القديم ويجب أن يكون المراد به جل نار أي ما عظم من الجمر ثم كثر في كلام العامة حتى جعلوه كالاسم الواحد وأجروه مجرى الأسماء العربية غير المركبة. والشعراء والمولدون يعربون الراءَ فيقولون كأنه جلنار ورأيت جلناراً ولو أضافوه وقالوا جلَّ نار لكان أقيس ولو أنهم جعلوه بمنزلة حضرموت لوجب أن يقول هذا جلنار ورأيت جلنار ومررت بجلنار فلا يصرفون ولم(38/27)
يأخذوا به في هذا المنهاج بل أدخلوا عليه الألف واللام فقالوا الجلنار واجتروا على توحيده فقالوا جلنارة فأجروه مجرى تمر وتمرة وقال بعض المحدثين:
غدت في لباس لها أخضر ... كما تلبس الورق الجلنارا
ولا أعلم هذا الاسم جاء في شعر فصيح وإنما هو لفظ محدث وكأنه في الأصل جاء على معنى التشبيه شبهوا حمرته بحمرة الجمر وهو جل النار ثم تصرفوا فينقله وتغييره وقالوا في تسمية الطعام الفارسي نيرباج وزعموا أن نير بالفارسية رمان وفارس تنطق بالياء كأنها ألف والألف كأنها ياء فيجوز أن يكون نار في جل نار من هذا النحو فكأنهم أرادوا جل الرمان ويجوز أن يكون جل بلسانهم في غير هذا المعنى على أن لغتهم اختلطت بالعربية وصارت فيها حروف كثيرة من كلام العرب وهم يسمون الفارسية الخالصة الفهلوية والذين يتكلمون بها اليوم قليل تفتقر إليهم الملوك في تفسير سير المتقدمين.
وقال في كلامه على بيت:
أسند صدور اليعملات بوقفة ... في الماثلات كأنهن المسند
أشبه ما يجعل المسند ههنا أن يكون في معنى خط حمير لأن مذهب الشعراء في ذلك معروف وإياه قصد أبو عبادة كما قال ذؤيب:
عرفت الديار كرقم الدواة يزبرها الكاتب الحميري
وكانوا يسمون خطهم المسند وسموا هذا الخط العربي الجزم لأنه جزم من ذلك الفن أي قطع وقد يحتمل أن يعنى بالمسند الحديث المسند أي هذه المنازل قد صار حديثاً يذكر.
وقال في الكلام على بيت:
يغضون دون الاشتيام عيونهم ... فوق السماط للعظيم المؤَمر
الاشتيام كلمة لم يذكها المتقدمون من أهل اللغة فإذا سئل من ركب البحر عنها قال البحريون الذين يسلكون بحر الحجاز يسمون رئيس المركب الاشتيام فإن كانت هذه الكلمة عربية فهي الافتعال من شام البرق لأن رئيس المركب يكون عالماً بشؤون البروق والرياح ويعرف من ذلك ما لا يعرفه سواء فكأنه سمي بالمصدر من اشتئام كما قيل رجل زور وهو مصدر زار ودنف وهو مصدر دنف وفي البحر سمكة تعرف بالاشتيام وهي عظيمة ويجوز أن يكون سميت برئيس المركب كأنها رئيسة السمك وإذا أخذ بهذا القول فهمزة(38/28)
الاشتيام همزة وصل وإن صار في البيت زحاف قد جرت عادته باستعمال مثله وإن كان الاشتيام كلمة أعجمية فألفه ألف قطع كألف إبريسم وإبرهيم ونحو ذلك. وقال في قوله:
إن أتبع الشوق أزراءً عليه فقد ... جافى من النوم عن عيني ما جافا
قوله أزراءً عليه رديءٌ وإنما المعروف أزريت به وزريت عليه وقد عابوا على ابن دريد قوله في رسالة الجمهرة إلى الأزراء على علمائنا وقد حكى بعض أهل اللغة أزريت عليه وليس بمعروف وإنما الفصيح أزري به كما قال الأعشى:
فإن تعهدي لامرئٍ ملةً ... فإن الحوادث أزرى بها
ومثل هذا ما صححه للبحتري في قوله: إذا استقلته جرد الخيل فقال أنها غير مستعملة وإنما المعروف إذا استقلت به ويقولون استقل القوم إذا ساروا غير متعد وإنما أراد بقوله استقلته أقلته ولو قال أقلته لاستقام الوزن ولعل أبي عبادة كذلك قال: كما أنكر عليه لفظة البرطيل الذي تستعمله العامة في معنى الرشوة وقال أنه لا يعرف في الكلام القديم وكذلك وردت لفظة الأطروش فيشعر البحتري فأنكرها المعري وقال أنه لا أصل لها في العربية وقال في:
أخواله للرستمين بفارس ... وجدوده للتبعين بموكل
يروى للرمسين على الجمع وكذاك التبعين ويروى بالتثنية والجمع أشبه لأنه قال أخواله فجمع وكذلك قال جدوده فإن تكون الأخوال والجدود لملوك كثيرة أشبه من أن تكون لملكين وموكل اسم موضع باليمن ويقال أنها دار مملكة جمير وهو مفتوح الميم والكاف وكذلك نقل أهل اللغة وكان أبو عمرو والزاهد يقول الموكل قبة الملك فإن كان ذلك شيئاً قديماً سمعه فقد يجوز أن يكون حمل على أن هذا الموضع يقال له موكل وهو مقر مملكة القوم والذي يتهم به أبو عمرو يتخرج كثير منه على هذا النحو وكأن قبة الملك تسمى موكلاً لأنه يقعد فيها ويكل أموره إلى الخدم والحشم وقدم هذه البلاد رجل من أهل نجران ممن يسكن في البادية فصيح ينتمي إلى زبيد من مذحج فسمع فتى في المكتب ينشد هذه القصيدة فلما انتهى بموكل كسر الكاف فقال النجراني موكل وكذلك حكاه أهل العلم.
وقال في كلامه على:
وكنا نرى بعض الندى بعد بعضه ... فلما انتجعناه دفعنا إلى الكل(38/29)
كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض وروى الأصمعي أنه قال كلاماً معناه قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحناً إلا في موضع واحد وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض وكان أبو علي الفارسي يزعم أن سيبويه يجيز إدخال الألف واللام على كل لا أنه لفظ بذلك ولكنه يستدل عليه بغيره والقياس يوجب دخول الألف واللام على كل وبعض وقد أنشد بعض الناس قول سحيم عند بني الحسحاس:
رأيت الغني والفقير كليهما ... إلى الموت يأتي الموت للكلى معمدا
هذه نموذجات من كتاب عبث الوليد وقد وقع في 94 ورقة وحوى فوائد لغوية وأدبية قلما يعثر عليها في الكتب المتداولة وقد جاء في آخره تم الإملاء المعروف بعبث الوليد وهذه السمة موقوفة بين أمرين أحدهما أن يراد عبث الوليد الذي هو البحتري والآخر أن يعني الوليد الذي هو الصبي وكون الرجل سمي بالوليد يحتمل هذه التسمية.(38/30)
وصف الأسطول
كلما زهت طبيعة قطر وحف بضروب النعيم الصناعي والطبيعي تنفتق ألسن أبنائه في وصفه والميل إلى رباعه ولذلك تجد للشاميين في وصف إقليمهم من الأماديح ما لا تجده للعراقيين وما تجده للأندلسيين لا تراه لأدباء المصريين. والأندلس هي من البلاد التي زهت بنضرتها وتاهت بفطرتها ولذلك ترى شعراءها وكتابها أشبه بالأوربيين في مناحيهم الأدبية لهذا العهد ينطقون بوصف ما تقع عليه أبصارهم وما كانت تقع إلا على أثر في الحضارة وشيءٍ من العمران وإذ قد اضطرتهم الحال أن يخوضوا غمرات البحار كالفينيقيين أيام عزهم والبريطانيين في أيامنا كان لهم من أساطيلهم ما وصفه شعراؤهم فيما يلي.
قال ابن هانئ يصف الأسطول:
معطفة الأعناق نحو متونها ... كما نبهت أيدي الحواة الأفاعيا
إذا ما وردنا الماء شوقاً لبرده ... صدرن ولم يشربن غرقي صواديا
إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعة ... يُرى عقرباً منها على الماء ماشيا
وقال أبو عمرو يزيد بن عبد الله اللخمي الأشبيلي الكاتب:
ويا للجواري المنشآت وحسنها ... طوائر بين الماء والجو عوماً
إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيتَ به روضاً ونوراً مكمما
وإن لم تهجه الريح جاء مصالحاً ... فمدت له كفاً خضيباً ومعصما
مجاذف كالحيات مدت رؤوسها ... على وجل في الماء كي تروي الظما
كما أسرعت عداً أنامل حاسب ... بقبض وبسط ينسبق العين وإنما
هي الهدب في أجفان أكحل أوطف ... فهل صنعت من غندم أو بكت دما
قال ابن الأبار وقد أجاد ما أراد في هذا الوصف وإن نظر إلى قول أبي عبد الله ابن الحداد يصف أسطول المعتصم بن صمادح:
هام صرف الردى بهام الأعادي ... إن سمت نحوهم لها أجياد
وتراءت بشرعها كعيون ... أبها مثل خائفيها سهاد
ذات هدب من المجاذيف حال ... هدب باك لدمعه إسعاد
حمم فوقها من البيض نار ... كل من أرسلت عليه رماد(38/31)
ومن الخط في يدي كل رد ... ألف خطها على البحر صاد
قال ومن حسن قول شيخنا أبي الحسن بن حريق في هذا المعنى من قصيد أنشد فيه:
وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح خشية الطوفان
فإذا رأين الماء يطفح نضنفت ... من كل حرق حية بلسان
قال ولم يسبقهم إلى الإحسان وإنما سبقهم بالزمان على بن محمد الإيادي التونسي في قوله:
شرعوا جوانبها بجاذف أتعبت ... شادي الرياح لها ولما تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طوراً وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنَه ... ليل يقرب عقرباً من عقرب
وعلى جوانبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب
وكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب
ومن هذه القصيدة الفريدة في ذكر الشراع:
ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطارة ... في كل لج زاخر مغلولب
يسمو بآخر ذي الهواء منصب ... عريان منسرح الذوَّابة شوذب
يتنزل الملاح منه ذؤَابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب
وكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواهم بينهم فتقاذفوا ... منها بالسن مارج متلهب
من كل مسجون الحريق إذا انبرى ... من سجنه أنضلت أنضلات الكوكب
عريان يقدمه الدخان كأَنه ... صبح يكر على ظلام غيهب
ومن أولها: أعجب بأسطول الإمام محمد ... وبحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المتعجب
من كل مشرفة عَلَى ما قابلت ... أشراف صدر الأجدل المتنصب
ومنها: جوفاء تحصر موكباً في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بموكب
وقال أبو عمر القسطلي:(38/32)
وحال الموج بين بني سبيل ... يطير بهم إلى الصوب ابن ما
أفر له جناح من سباح ... يرفرف فوق جنح من سماء
وأخذه إسحاق بن خفاجة فقال:
وجارية ركبت بها ظلاماً ... بطير من الصباح بها جناح
إذا الماء اطمأن ورقّ خصراً ... علا من موجه ردف رداح
وقد فغر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح
قال المقري ولا يخفاك حسن هذه العبارة الصقيلة المرآة وقال ابن الأبار وقد قلت أنا في ذلك:
يا حبذا من بنات الماءِ سابحة ... تطفو لما سبّ أهل النار تطفئه
تطيرها الريح غرباناً بأجنحة الحمائم البيض للإشراك ترزؤه
من كل أدهم لا يلغى به جرب ... فما لراكبه بالقار يهنئوه
يدعى غراباً وللفتخاء سرعته ... وهو ابن ماءٍ وللشاهين جوء جوءه
وقال عبد الجليل بن وهبون يصف الأسطول:
يا حسنها يوماً شهدت زفافها ... بنت الفضاءِ إلى الخليج الأزرق
ورقاءُ كنت أيكة فتصورت ... لك كيف شئت من الحمام الأورق
حيث الغراب يجر شملة عجبه ... وكأنه من غرة لم ينعق
من كل لابسة الشباب ملاءة ... حسب اقتدار الصانع المتأنق
شهدت لها الأعيان أن شواهناً ... أسماؤها فتصفحت في المنطق
من كل ناشيرةٍ قوادم أجنحٍ ... وعلى معاطفها وهادق سودق
زأرت زئير الأسد وهي صوامت ... وزحفن زحف مواكب في مأزق
ومجاذفٍ تحكي أراقم ربوة ... نزلت لتكرع من غدير متألق
وقال القسطلي في أسطول أنشأه المنصور بن أبي عامر من قصيدة:
تحمل منه البحر بحراً من القنا ... يروع بها أمواجه ويهول
بكل محالات الشراع كأنها ... وقد حملت أسد الحقائق غيل
إذا سابقت شأو الرياح تخيلت ... خيولاً مدى فرسانهن حيول(38/33)
متحالب تزجيها الرياح فإن وقت ... أطافت بأجياد النعام فيول
ظباء فلاة ما لهن مفاحص ... وورق حمام ما لهن هديل
سواكن في أوطانهن كأن سما ... بها الموج حيث الراسيات نزول
كما رفع الآل هوادج بالضحى ... غداة استقلت بالخليط حمول
أراقم تحوي نافع السم ما لها ... بما حملت دون العداة مقيل(38/34)
العربية والتركية
أصيبت الأمة بعد سقوط دولة بني العباس بفتور غريب في العلم والآراء لما عايشته من أهاويل الحروب والفتن. ولما قامت الدولة العثمانية فجمعت تحت لوائها الأقطار المختلفة نظرت إلى الأقطار العربية من الوجهة السياسية ولم تعن بها ولا بغيرها من الوجهة العلمية الاجتماعية شأنها في عامة أدوارها وأقطارها ولم يشذ عن ذلك إلا مصر فكانت أشبه بمملكة مستقلة حتى بعد استيلاء العثمانيين عليها. وبعيد أن قامت الدولة تؤسس لها مدارس في العاصمة والولايات لتعلم العلوم الحديثة وتستبدل النور بالظلمة والعلم بالجهل قام محمد علي والي مصر فنزع القطر المصري من المماليك في الظاهر ومن الدولة في الباطن وأنشأ فيه مدارس عربية وتوفر بدلالة جماعة من مستشرقي الفرنسيس النبهاء على ترجمة الكتب العلمية من اللغات الأوربية فانتعشت اللغة العربية في مصر فقط وظلت كهف العرب عنها يأخذون علومهم وموطن الطباعة والكتب والصحف وبأنوارها يستضيئون وذلك لغناها العظيم وتاريخها المجيد القديم.
بقي الأمل في نهوض العربية محصوراً في مصر لأن الشام والعراق والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش أمست في فتور. وقد أنشئت في تونس وسورية بعض المدارس والمطابع تدرس بالعربية وتطبع اللازم من الكتب العربية لكنها لم يمضِ على تأسيسها بضع سنين حتى أطفئت شعلتها بما أصاب سورية من بلاء المراقبة وما أصاب تونس من الاحتلال الفرنسوي. والمراقبة واحتلال الغريب مما يقتل روح العلم وينزع حياة النهضة القومية. وقد أوشكت مصر أن تصاب بضعف لغتها لما احتلها الإنكليز لولا أن قامت الأمة وطلبت جعل العربية لغة المدارس الابتدائية والثانوية فلم تر الحكومة بدّاً من إجابة طلبها.
أما هذه الديار فكان أول ما انصرفت إليه الوجوه بعد إعادة القانون الأساسي العثماني مسائل التعليم فالتركية لسان الدولة الرسمي تريد أن تعلمه جميع العناصر العثمانية ليجيء منهم في المستقبل مزيج واحد وتقوي وحدتهم السياسية. وقد نشرت نظارة المعارف برنامجها ولم نشهد فيه ذكراً للعربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية بل قالت أن تعليم العلوم التركية للذكور والإناث وللصغار والكبار وللعرب والترك والروم والأرمن والبلغار والأرناؤد حتى أن المبادئ البسيطة التي سمحت تعلمها من العربية تدرس في كتب(38/35)
ألفها أتراك باللغة التركية. فأدرك بعض الباحثين في أحوال البلاد والعناصر أن غرض الحكومة من هذه الخطة (تتريك) العرب وغيرهم وهو عمل إذا كان نافعاً من حيث السياسة فلا نفع فيه من حيث الاجتماع والعلم خصوصاً بعد أن رأينا أصغر الشعوب الأوربية تحافظ على لغتها الأصلية محافظتها على أعراضها وأموالها وأرواحها.
لا بد للحكومة أن تجعل التعليم إجبارياً في المملكة فإذا جعتله باللغة التركية ولم تراع حالة كل قطر ولغة أهله تسوء العاقبة ولا تأتي الشجرة التي تريد غرسها الآن بثمرة جنية بل يكون شأن البلاد العقم في العلم والفكر ومن لم يتعلم العلوم بلغته هيهات أن يأتي منه عضو يفيد أمته وبلاده. وإذا فعلت الدولة ذلك الآن فتكون في عهدها الدستوري أظلم منها في عهدها الاستبدادي وتكون حكومة مصر أرفق بأهل مصر من حكومتنا بنا لأنها منا فينتظر عن يدها الكثير وتلك ليست منهم وكل شيء تأتي به يعد كبيراً.
وبعد فإن كانت الحكومة العثمانية لم تنشط اللغة العربية في الماضي مع أنها لغة الدين والآداب والحضارة فهي لم تضع العقاب في سبيلها مباشرة ولكن الغلطة الفظيعة التي ارتكبتها ولا يغفرها لها التاريخ هو أن القائمين بأعبائها منذ البدء جعلوا اللغة التركية لغة الدولة الرسمية خلافاً لما جرت عليه دول الإسلام السالفة كدولة المصامدة البربر في الغرب الأقصى والأدنى ودولة الجراكسة في مصر والشام ودولة آل سلجوق التركية في العراق وشبه الجزيرة ودولة بني بويه الفارسية ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها من الدول التي طرحت لغاتها وعمدت إلى اتخاذ اللغة العربية لغة الحكومة والدولة الجراكسة والبربر والفرس والأكراد والأتراك يتخلون عن لغاتهم مختارين ولا يستعملون في الرسميات غير العربية لغة البيان والعلوم أما الترك فجروا على غير سنة الدول السالفة فلم يروا من المصلحة تعلم لغة عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها واكتشفوا بلغة ملفقة بدوية ما برحوا يتوفرون منذ قرون على إصلاحها وهيهات أن تكون كما يحبون.
ولما جاء السلطان سليم الفاتح مصر والشام وكان على شيء من المعرفة يحسن العربية كما يحسن الفارسية والتركية أحب أن يتلافى الغلط الذي سارت عليه دولته وأن يجعل اللغة العربية لغتها الرسمية أسوة الدول الإسلامية البائدة فقام عليه بعض ضعاف العقول من أهل(38/36)
دولته وأرادوه على العدول عن رأيه مخافة أن تندثر لغتهم بل تخلصاً من أن يتعلموا لغة غيرها فكان عملهم هذا من جملة السدود التي حالت دون آل عثمان وبسط أيديهم على الممالك الإسلامية المجاورة لهم واللغة العربية أعظم رابطة بين المسلمين.
ولقد كانت الدولة ولا تزال تعلم في مدارسها الرسمية العربية كما تعلم الفارسية وذلك لأن التركية مزيج من هاتين اللغتين وبدون معرفة قليل من اللغتين لا يتأتى لتركي أن يكتب كتابة صحيحة في لغته فكان شأنها من بعض الوجوه شأن المدارس في أوربا لا تزال إلى اليوم تعلم اللاتينية واليونانية لأنهما أصل لغات أوربا وإن كانتا بادتا أو كادتا. ولكن مدارس أوربا أخرجت كتاباً بهذين اللغتين ولم نعهد من مدارس الحكومة العثمانية كاتباً بالعربية أو الفارسية. هذا والتركية ليست لغة دين ولا لغة علم ولا لغة حضارة قديمة ولا مدنية معروفة كالعربية التي شهد أهل الأرض بأمجاد أهلها وحضاراتهم. ومن الغريب أنه لم ينبغ في الدولة العثمانية كاتب عربي من أصل تركي على حين نبغ وينبغ من الفرس والأكراد وغيرهم أناس يؤبفون بالعربية فتحسبهم عرباً خلصاً. وإنك لتقرأ العجمة في كلام ابن كمال باشا وكاتب جلبي وطاشكو بربلي وغيرهم من الأتراك الذين عانوا القلم العربي وعدوا في المصنفين ما لا تقرأوه في كلام الراغب الأصفهاني وأبي بكر الخوارزمي وحجة الإسلام الغزالي بل إن هؤلاء على منشأهم الفارسي كانوا أئمة الإنشاء العربي.
إذا تعلم أبناؤنا اليوم على الطريقة التركية لا يلبثون أن يجيئوا أتراكاً ويتقنوا التركية كأرقى أبنائها وبذلك لا يخدمون أبناء لغتهم أدنى خدمة وقد رأينا معظم الذين تعلموا من أبناء سورية والعراق في المدارس الرسمية لا يحسنون التكلم بالعربية العامية فضلاً عن أن يكتسبوا سطرين صحيحين بلغتهم بل ربما رأيتهم يمزجون المصطلحات التركية وبعض الألفاظ التركية بينما هم يكلمونك بالعربية فكأن شأنهم في هذا شأن أكثر التوانسة والجزائريين من سكان المدن يتكلمون بعربية تكاد تكون أقرب إلى الإفرنجية لما خالطها من الألفاظ الإفرنسية والإسبانيولية والطليانية.
وقد رأى بعض العقلاء أن أحسن حل لمسألة اللغة العربية في المدارس الرسمية وسلمه عاقبة على أجيال الدولة المختلفة هو أن يجعل تدريس العلوم المادية كلها باللغة العربية كالطبيعيات والرياضيات والفلك والكيمياء والطب وأن تجعل العلوم السياسية كلها باللغة(38/37)
التركية كالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والحقوق والاجتماع وبذلك لا يقع حيف على العرب وهم نصف الدولة أو يزيدون ولغتهم أفضل لغات سائر العناصر العثمانية. والمستقبل كفيل بحل هذه المعضلة العلمية.(38/38)
ضراء العلماء
يلد الإصلاح بادئَ بدءٍ غريباً لا يأنس به إلا ذوو الاستعداد الفطري للمبادئ العالية وأبناء العلم والتهذيب من رجال الأمة والبقية منهم يناهضونه إما بدافع جهلهم وتعصبهم أو لعدم انطباقه مع ما ينزعون إليه من التقاليد التي وجدوا عليها آباءهم ولهذا تعترضه قبل أن يدرج من عشه قوتان متناقضتان: الواحدة تسعى لإنمائه والأخرى تعمل على تلاشيه ويساعد الثانية في الغالب مال وخول في ملك ضخم البنيان وجاء منبسط الظلال. . .
بين هاتين القوتين تشهر حرب شعواء يضطرب لها فلك الإصلاح ولا بد أن تنجلي وقد أزهق الحق الباطل لأن القوة الحقيقية بجانبه. ولقوة الحق حركة كبرى في ميدان تنازع البقاء.
إلا وأن أنصار الباطل كانوا وما زالوا في كل عصرٍ ومصر يوقظون الفتنة ويضرمون جذوة الثورة فيقومون بدعوى الغيرة على الدين مرة وخدمة النفع العام تارة أخرى وما يريدون بذلك كما يشهد الحق إلا منافعهم الشخصية فهي قبلة آمالهم التي يولون شطرها وكعبة أميالهم التي يسوقون نحوها مطايا همهم وهممهم.
وليس أضر شيئاً على العلم والدين من هؤلاء فبمثلهم كسد سوق العلم وراجت بضاعة الجهل المزجاة وهم بما يختلقونه من الأوهام مثلوا الدين بأقبح صورة مشوهة يفر منها الناظر فرار السليم من الأجرب وفسحوا للدين مجالاً واسعاً أمام الأغيار فأخذوا يسلقونه بالسنة حداد وينزلونه في غير المنزلة التي وضعها السلف الصالح أيام كانوا على بيضاء نقية لا يضرهم من خالفهم إذا كانوا هم المهتدين.
منيت الأمم الإسلامية جمعاء بمثل هؤلاء منذ ثلاثة عشر قرناً أو ما يزيد. بيد أنه مع وجود هذه الطغمة بين ظهرانيهم وارتفاع جلبتهم وضوضائهم وعملهم على إطفاء شعاع الأماني الذهبية في مهب تلك العواصف لم تعدم رجالاً توفرت على الأخذ بناصر الحق وسلبت قرارها رغبة فيشد أزره ممن تمحضوا للعلم الخالص واغترفوا من معينه وشلا فكانت القوة بجانبهم ينافحون بها أعداء العلم الألداء ويكافحونهم والغلبة لهم وإن تألبت عليهم الجموع الكثيفة وتحلقت أمامهم الصفوف كالبنيان المرصوص ممن تجمعهم جامعة الجهل تحت لواء الحسد اللئيم.
شهد شيخنا التاريخ منذ نشأ الفكر البشري هذه الأعمال البربرية ولم تزل صفحاته ندية بعد(38/39)
فلم يجف ما أريق من الدماء في سبيل نصرة الحق ولم يتبخر ما أذرف من الدموع الصافية المصدر والمورد على تلك العقول الرصينة التي بينما ترصد فضاء السماء الفسيح إذا بها تفحص أعماق هذه الأرض وتجتهد في استكناه أسرار الحياة المطوية طي كتل تلك الطبقات الصماء. وها هو قد حشد في صدره ألوفاً مؤلفة ممن ذهبوا ضحية الجهل والحسد ما لو جمع وأُفرد بمؤَلفات خاصة لأخرجت للناس مجلدات ضخمة في محكمة التفتيش الإسلامية الكبرى.
وليس بالنزر القليل ما نال الأئمة المصلحين من النكبات التي يسود لها وجه الإنسانية فكم كفر من هو أشد تمسكاً بدين الله وأتوا على من هو أعظم اعتصاماً بحبله المتين وحكم بالزندقة على من كان يحارب الدهريين وضلل من كان يجاهد في سبيل الشرك واضطهد من كان يعمل فكرته للاجتهاد والعمل في كتاب الله وسنة رسوله.
ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد فلم يتخطوا دائرة الإنسانية بتمثيلهم عباد الله المصلحين أقبح تمثيل وضربهم بالأسواط حتى تشل الأطراف أو تعتل إحدى الأعضاء فتفقد وظيفتها وسلخهم جلودهم وهم أحياء مما لم يعهد نظيره إلا بين ظهراني الأمم العريقة في التوحش والعمجية.
وأمامي الآن كثيرٌ من أمثال تلك الحوادث في بطون عدة من التواريخ التي تضم تراجم مشاهير المشارقة والمغاربة آتي على شيءٍ منها مقتصراً على رجال الفريق الأول ممن ذاقوا الأرم ولقوا من معاصريهم إلا لاقي لقآء بث فكرةٍ إصلاحية أو القيام بمشروع جديد ليعلم أن التاريخ هو المحشر الذي ينسل إليه الناس من كل حدب وأنه لا يفلت أحداً دون أن يناقشه الحساب:
هذا مالك بن أنس سعي به إلى جعفر بن علي بن عم أبي جعفر المنصور فدعا به وجرده وضربه سبعين سوطاً ومدت يداه حتى انخلع كتفاه وذلك جزاء قوله الحق حين سئل عن مبايعة محمد بن عبد الله بن حسن وقولهم له: إن في أعناقنا مبايعة أبي جعفر فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى محمد فسعى به فضرب لذلك.
قال صاحب الفلاكة: ثم لم يزل بعد في علو ورفعة كأنما تلك السياط حلياً تحلى بها. وهذا أبو حنيفة النعمان الفقيه الكوفي ضربه يزيد بن عمر بن هبيرة الفرازي وكان أمير(38/40)
العراقيين مائة سوط وعشرة أسواط وكل يوم عشرة أسواط أيضاً وذلك لما أراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية فأبى وبقي على الامتناع وسجنه فتوفي في السجن في أحد القولين. وقيل: أن سبب سجنه الأبدي ما ذكره الزمخشري وهو من كبار الحنفية في تفسير آية: لا ينال عهدي الظالمين إن أبا حنيفة رحمه الله كان يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على بناء آجره لما فعلت اهـ. وحينئذ بعلم الباحث المدقق أن سبب سجنه أمر سياسي.
ومثله أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي ثم البغدادي أمر المعتصم بضربه فأخذ وجيء بالعقابين والسياط وضربه ضرباً مبرحاً حتى أغمي عليه وغاب عقله ثم أمر بإطلاقه إلى أهله فنقل وهو لا يشعر وذلك أنه أبى أن يقول خلاف ما يعلم أو يعتقد حين أجلسه المعتصم ودعاه إلى القول بخلق القرآن فامتنع وقال للمعتصم ما قال ذلك ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن القرآن علم الله ومن علم أن علم الله مخلوق فقد كفر. فناظره أحمد بن أبي دؤاد وغيره وأنكروا عليه الآثار التي أوردها وقالوا للمعتصم هذا كفرك وأكفرنا وقال له إسحق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين فعند ذلك حمي واشتد غضبه وكان ما كان.
وكذلك يوسف بن يحيى البويطي صاحب الإمام الشافعي كان الشافعي يسأل عن الشيء فيحيل عليه فإذا أجاب قال: هو كما أجاب وقال عنه الشافعي هو لساني حمل إلى بغداد في أيام الواثق بالله من مصر وفي عنقه غل وأرادوه على القول بخلق القرآن فامتنع ومات بالسجن في قيوده.
وضم إلى هؤلاء الأئمة من أساطين العلم والعمل من لم يرفعوا الأعمال المفسدين رأساً ولم يقيموا لها وزناً وليس ما أصابهم من المصائب بأقل مما نال الأغمار من معاصري الأخير أن تألبوا عليه وكادوه واستظهروا عليه بالأمراء فأحرقوا كتبه الثمينة ومصنفاته وفي ذلك(38/41)
قال:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القطراس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل أن أنزل ويدفن في قبري إلخ.
وإنك لترى العجب العجاب حينما تأتي على تراجم المشاهير وما تجد في غضونها من المحن والإحن التي قصد من إيقاعها بهم غمط فضلهم والحط من كرامتهم ووضعهم أمام سيل شهرتهم الجارف سوراً من الجمود أركانه التعصب الأعمى ودعائمه الجهل المطبق.
ولقد أفضت ضراء العلماء والوقيعة بهم إلى الطعن بالمذاهب وقيام طائفة على أخرى كلما لاح لها من الفرصة بارق. ومن ذلك قيام الأكابر على محمد بن هبة الله بن محمد بن الحسين الملقب بلقب أبيه جمال الإسلام وحدهم له فإنهم خاصموه واستظهروا بالسلطان عليه وعلى أصحابه وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس وعزلوا من خطابة المجامع وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع فخيلوا إلى ولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عموماً وبالأشعرية خصوصاً قال السبكي: وهذه هي الفتنة التي طار شررها وطال ضررها وعظم خطبها وقام في أهل السنة خطيبها فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح يلعن أهل السنة في الجمع وتوظيف سبهم على المنابر وضار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه واستعلى أولئك في المجامع فقام أبو سهل في نصر السنة قياماً مؤَزراً إلخ. . .
ومما يجدر ذكره في هذا الباب من المتأخرين الشيخ عبد الغني النابلسي فإن أهل الشام تألبوا عليه ووصموه بوصمات لم تكن من الشيخ رحمه الله في شيء. وما دعا أولئك الرعاع إلا حسدهم لمنزلة الشيخ حتى اضطروه إلى مغادرة دمشق والسكنى بالصالحية حيث دفن ثمة. وفي ذلك يقول من قصيدة مطلعها:
يا من تكلم فينا بالذي فيه ... وقعت في كف ضرغام وفي فيه
إلى أن قال:
فقد جحدت الغيور الحق ملته ... هيهات أنك تنجو من أياديه
وإن جهلت فما بالكفر يعذر ذو ... جهل لذي الشرع والشيطان يطغيه
دم في ظنونك مفتوناً فسوف ترى ... من الذي منه قبح الفعل يرديه(38/42)
ولا تقل أي جاهٍ للضعيف يرى ... فإن للبيت رباً سوف يحميه
يا مستبيحين أعراضاً محرمةً ... بسوء ظن وتلبيس وتمويه
أهكذا ملة الإسلام تأمركم؟ ... أم قد سلكتم عن الإسلام في تيه؟
تباً لكم ولمن قد عاد يتبعكم ... والعبد مولاه في الأعداء يكفيه
وبعد فإن التاريخ يعيد نفسه والحوادث لا تفتأ تتعاقب على ممر الأيام وإن الحال صورة من الماضي وإن طرأ عليه من مؤثرات التجديد ما أدخله في طور جديد ولا يخلو كل عصر من شرذمة نفاق واختلاق حتى في هذا العصر يعترضون كل عمل نافع يقوم به المصلحون في مصر وسورية والعراق ويعينهم فيما يطلبون تلكم الرعاع الذين هم أتباع كل ناعق.
ألا فليعلم أولئك الأغرار أن موت المصلحين في سبيل نصرة الحق بعث ونثور وأن رمي الآخرين بالكفر والزندقة هو حياة لهم وذكرى. ولقد كانت لأولئكم الجهلة الأغمار حياة مادية ولكن كانوا يتجرعون منها الحنظل ويموتون في كل يوم مراراً. وكانت لهؤلاء العلماء المصلحين شعلة حياة مادية أطفأها الحسدة فحلت محلها حياةٌ أدبية مملوءةٌ ضياءً ونوراً! دمشق ـ
صلاح الدين القاسمي(38/43)
شرف الموسيقى
كل شيءٍ يشرف ويوضع بشرف القائمين به ووضاعتهم وكل علم يشرف ويوضع على نسبة اعتبارية من فائدة تتوقع منه وغاية تكون وراءه وصناعة الموسيقى هي من إمارات الظرف تعدُّ عند الأمم الحديثة المتحضرة من الفنون الجميلة كما كان يعهدها العرب إبان حضاراتهم من الكماليات.
قال ابن خلدون والغناء يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي وتفتنوا فتحدث هذه الصناعة لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجياته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفتناً في مذاهب الملذوذات وكان فيسلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم وكان ملوكهم يتخذو ذلك ويولعون به حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها.
قال وأما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاءً متساوية لم يزل هذا شأنهم في بداوتهم وجاهليتهم فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته فيترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك كثيراً ما ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وجادوا فيه وطار لهم ذكر ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم وابنه إسحق وابنه حماد.
قال وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها وكان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأثنى له الجوائز(38/44)
والإقطاعات والجرايات وأحله من دولته وندمائه بمكان فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. وطما منها بإشبيلية بجر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد الغدوة بإفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح وهو أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه.
وقال ابن خلدون أيضاً: ولقد عذلت يوماً بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك فقال لي أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين في زمانه فقلت له يا سبحان الله وهلا تأسيت بأبيه وأخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم فصم عن عذلي وأعرض.
هذه زبدة تاريخ الغناء أو الموسيقى في العرب وطرف مما كان من عناية ملوك الإسلام بها أيام الحضارة ولقد انتشرت بعد حتى صار يتعلمها بعض أهل العلم من غير نكير وشرفت بإقبال الكبراء عليها بحيث لم تكن في شرفها دون غيرها من العلوم. فقد ذكر بن أبي أصيبعة أن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى وعملها إلى غاياتها وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحاناً بديعة يحرك بها الانفعالات وله كتاب الموسيقى الكبير ألفه للوزير أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي وكتاب في إحصاء الإيقاع وكلام له في النقلة مضافاً إلى الإيقاع كلام في الموسيقى.
ويحكى أن القانون الذي يضرب عليه للطرب هو من وضعه وأنه كان أول من ركب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم.
وألف يعقوب بن إسحق الكندي فيلسوف العرب في الموسيقى فكتب رسالة في ترتيب النغم الدالة على طبائع الأشخاص العالية وتشابه التأليف ورسالة في المدخل إلى صناعة الموسيقى ورسالة في الإيقاع ورسالة في الأخبار عن صناعة الموسيقى ومختصر الموسيقى في تأليف النغم وصنعة العود ألفه لأحمد بن المعتصم ورسالة في أجزاء جبرية الموسيقى. وألف أحمد بن الطيب السرخسي العالم الحكيم كتاب الموسيقى الكبير ولم يعمل(38/45)
مثله كما ألف كتاب نزهة النفوس ولم يخرج باسمه وكتاب اللوم والملاهي ونزهة المفكر الساهي في الغناء والمغنين والمنادمة والمجالسة وأنواع الأخبار والملح صنفه للخليفة.
وألف ثابت بن قرة كتاباً في الموسيقى ورسالة إلى علي بن يحيى المنجم فيما أمر بإثباته من أبواب علم الموسيقى ورسالة إلى بعض إخوانه في جواب ما سأله عنه من أمور الموسيقى. وكان أبو بكر محمد بن طفيل من فلاسفة المسلمين في الأندلس يأخذ رواتب كثيرة مع الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد وغيرهم ويقول لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عندهم.
وكان ابن باجة الفيلسوف الأندلسي على جلالة قدره متقناً لصناعة الموسيقى جيد اللعب بالعود قال ابن سعيد أن ابن باجة في الموسيقى بالمغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد. وكان ابن يونس المنجم المشهور يضرب بالعود على جهة التأدب. وكان أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين يعرف الموسيقى ويلعب بالعود ويجيد الغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات وعمل أرغناً وبالغ في إتقانه. وكان أبو زكريا يحيى البياسي من أفاضل العلماء جيد اللعب بالعود وعمل الأرغن أيضاً وحاول اللعب به وكان يقرأ عليه علم الموسيقى. وكان أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي العالم الرياضي الطبيب متقناً لعلم الموسيقى وعمله جيد اللعب بالعود. وكان أبو الحكم الأندلسي الطبيب الشاعر يعرف الموسيقى ويلعب بالعود. وكان الحرث بن كلدة الثقفي أحد أطباء العرب يضرب بالعود تعلم ذلك بفارس واليمن. وكان قسطاً بن لوقا البعلبكي العالم الفيلسوف بارعاً في علم الموسيقى. وكان أمين الدولة بن التلميذ يحب صناعة الموسيقى وله ميل إلى أهلها. وكان صفي الدين عبد المؤمن بن فاخر العالم المفنن عالماً بالموسيقى.
وكان نجم الدين بن المنفاخ المعروف بابن العالمة لأنه أمه كانت عالمة بدمشق وتعرف ببنت دهين اللوز فاضلاً في الأدب والطب وله معرفة بالضرب بالعود استوزره الملك مسعود صاحب آمد وحظي عنده. وكان فخر الدين بن الساعاتي الفلكي الفيلسوف الطبيب خدم بني أيوب وتوزر للملك العادل والملك المعظم وكان ينادم هذا ويلعب بالعود. وكان رشيد الدين بن خليفة الطبيب العالم أعرف أهل زمانه بالموسيقى واللعب بالعود وأطيبهم(38/46)
صوتاً ونغمة حتى أنه شوهد من تأثر الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي فكثر إعجاب الملك المعظم به جداً وبعد ذلك أخذه إليه واستمر في خدمته.
وذكر ابن خلكان أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور كان في شبيبته يضرب بالعود ويغني فلما التحى وجهه قال كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستظرف فنزع عن ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة.
وكان أبو الحسين علي بن الحمارة آخر فلاسفة الأندلس آخر من برع في الألحان وعلمها وهو من أهل غرناطة قال في نفح الطيب واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعراء فيقطع العود بيده ثم يصنع منه عوداً للغناء وينظم الشعر ويلحنه ويغني به فيطرب سامعيه. وكان الفاضل أبو الحسين بن الوزير أبي جعفر الوقشي آية في الظرف والموسيقى والتهذيب وشيخه في هذا الفن أبو الحسين بن الحسن بن الحاسب كان ذا ذوق فيها مع صوت بديع أشهى من الكأس للخليع قال أبو عمران بن سعيد ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي:
ومطارح مما تجس بنانه ... لحناً أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لوكره ... طرباً ورزق بنيه في منقاره
وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف اهل الأندلس بالعلوم القديمة المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب فيلسوفاً طبيباً ماهراً يقريء الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها ولما تغلب الإفرنج على مرسية عرف له حقه فبنى له مدرسة يقريء فيها المسلمون والنصارى واليهود قاله في النفح.
وعلى الجملة لم تكن صناعة الموسيقى بالمنزلة التي يصورها أهل جيلنا من الغضاضة والضعة بل عرف بها أناس من أهل الصيانة والعلم وما كان كل من تعاطى صناعة الغناء عارياً من سائر العلوم فقد كان إسحق بن ابراهيم الموصلي نديم الخلفاء وشيخ الغناء ومع هذا كان من العلماء باللغة والشعر وإخبار الناس وله يد طولى في الحديث والفقه والكلام وكان المأمون يقول لولا ما سبق لإسحق على ألسنة الناس واشتهر بالغناء لوليته القضاء فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة ولكنه اشتهر بالغناء وغلب على جميع علومه مع أنه أصغرها عنده.
ومثل هذا ما وقع لقاضي إشبيلية أبي بكر القاضي أبي الحسن الزهري فإنه كان كثير(38/47)
اللعب بالشطرنج لم يكن من يلعب به مثله في بلده قال فكانوا يقولون أبو بكر الزهري الشطرنجي فكان إذا بلغني ذلك أغتاظ ويصعب عليَّ فقلت في نفسي لا بد أن أشتغل عن هذا بشيءٍ غيره من العلم لا نعت به ويزول عني وصف الشطرنج وعلمت أن الفقه وسائر الأدب ولو اشتغلت به عمري كله لم يخصني منه وصف أنعت به فعدلت إلى أبي مروان عبد الملك بن زهر واشتغلت عليه بصناعة الطب وكنت أجلس عنده وأكتب لمن جاء مستوصفاً من المرضى الرقاع واشتهرت بعد ذلك بالطب وزال عني ما كنت أكره الوصف به وهذا هو السبب والله أعلم في إخفاء كثير من أهل الوقار والعلم أنهم على جانب من علم الموسيقى والضرب على العود وغيره من أنواع الملذوذ ولولا التقية لانتهى إلينا أسماء كثير ممن تبلغنا عنهم سوى أخبار العلوم المتعارفة على أن الشرف كله اعتباري ولا مانع من الغناء والتلحين إذا لم يتبعهما التلطخ بحمأة السفاهة والرذيلة.
أما الملوك والأمراء الذين عنوا بالموسيقى قديماً فأكثر من أن يحصوا منهم يزيد ابن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك وأبو عيسى بن الرشيد وعبد الله بن موسى الهادي وابراهيم بن عيسى بن جعفر المنصور ومحمد بن جعفر المقتدر والمتوكل والمهدي والمؤيد وطلحة الموفق والطائع والمقتدر وابن المعتز وغيرهم من الملوك المتأخرين والله أعلم.(38/48)
قوى النساء
كتب باولو لومبروز العالم الإيطالي مقالة في المجلة الباريزية قال فيها ما تعريبه: حكم الناس منذ قرون بأن الرجل من الجنس القوي والمرأة من الجنس الضعيف. فجميع مظاهر النشاط والمتانة والقوة الطبيعية من امتيازات الرجل. عضلاته كالفولاذ ويحمل السيف ويحارب ويتسلق الجبال الخطرة ويتحشم البحار وهي في أشد أنوائها ويرى الموت وجهاً إلى وجه.
أما المرأة اللطيفة المزاج فإنها ترى أن قصم ساق زنبقة يعد منها قوة فهي التي يغمى عليها وهي جالسة على الكرسي وتصرخ مذعورة إذا رأت عنكبوتاً أو فأرة. فلذا يسأل السائل من أين تنبعث قوتها أي جوهر شجاعتها ومقاومتها ورباطة جأشها على أن المرأة في الغالب تظهر بمظهر الغيرية والإخلاص وسلامة العقل وإنكار النفس والمفاداة وكل ما يعرف به الإنسان الخارق للعادة.
القوة والمتانة الطبيعية هما أساس القوة الأدبية وشرط لازم لهما وقد أبان التاريخ والإحصاء والبحث بأن المرأة ليست دون الرجل في المقاومة الطبيعية للأمراض والأوجاع والأتعاب فإنا نرى النساء المتوحشات البربريات يقمن بأشق الأعمال فيحرثن الأرض ويطحنّ الحب ويحملن الأثقال بيناهن مرضعات أو حاملات.
ومن الغريب إنا نرى الضعف في النساء والقوة في الرجال عند بعض الشعوب المتوحشة على صورة معكوسة فنرى المرأة عندهم تضع ولداً فلا تلبث أن تنهض وتتولى في الحال أعمالها على حين يبقى زوجها في الفراش كالنفساء وهذا مما دلّ على مضائها الغريب.
وإنا لنرى النساء في بلاد الهرسك يقرنَّ بالسكة بدل البقر كما نراهن في بلاد الألب ينقلن أحمال العلف عوضاً عن البغال.
وليس من رياضة مهما صعبت واقتضت صاحبها من الجرأة والثبات والشجاعة إلا قامت به المرأة بنشاط وبرزت في مضاميره أي تبريز. فنراها تركب الخيل وتسبح وتلعب بالسيف وتركب الدراجة وترتاض في الجبال وكل ذلك مما يقتضي له عدا أعصاب من حديد ومقاومة فائقة حضور ذهن وحذر واحتقار للموت أي ما لا يمكن القيام به إلا إذا اتفقت القوة الطبيعية مع القوة الأدبية.
وهناك أحوال كثيرة لا ندعوها رياضة لما يقتضي لها من النشاط والشجاعة والثبات في(38/49)
المرأة ونعني بذلك اكتشاف البلاد الجديدة لما فيها من المخاطر وما ينبغي لدخولها من الجرأة. ومن الناس من يظن أن مجد الاكتشاف لا يحرزه إلا الرجال على حين هناك عدد كبير من النساء المكتشفات والسائحات اللائي لم يهبن الأخطار واستهنّ بكل ما ينبغي للنجاح.
فقد رأينا العقيلة كودرو طافت مع زوجها أقطار غويانا الموبوءة واجتازت نهر البرازيل المأهول بالهنود ومات زوجها سنة 1899 فلم تكن أقل منه مثابرة على السياحة وحدها. وليفنكستون وهو أعظم سائح إفريقي في عصرنا كانت ترافقه زوجته في أكثر رحلاته وهي التي أنقذته من الهلاك في شوبانكا وقضت كالأبطال وهي لا تريد أن تغادره في الزامبين. وقد اكتشف بكير سنة 1864 نهرت ألبرت نيانزا وكانت زوجته اكبر مساعدة له بجرأتها ونشاطها. وصحبت جوزفين بري زوجها سنة 1902 إلى القطب الشمالي وهي على قلة ما لقيته من الرفاهية في تلك الرحلة استطاعت أن تربي لها ولداً. ورافق كنود رامومسين أخواته في رحلته إلى غروانلاندا. وطاف بوتانين الروسي وأجفالفي المجري مع زوجتيهما في آسيا الوسطى وكانت زوجة الثاني باريزية الأصل والرتبية فكتب لها السيد أن تعود إلى أوربا فوضعت لها كتاباً بديعاً في رحلتها أما زوجة الأول فبقيت إلى الآخر وقضت وهي لا تخاف دركاً ولا تخشى.
وإن ما حدث لرينهارد زوجة السائح المبشر كان من المدهشات حقيقة فقد كانت ترافق زوجها مع ولد لها في بلاد التبت وكانت سياحتهما خطرة وشاقة من وراء الغاية. ولقد داهمهما لصوص من أهل التبت بالقرب من لاهاسا فهرب جميع من كانوا معهما. وبعد أن بقي المبشر كامناً مع زوجته في السياج خرج قاصداً أحد المساكن القريبة يطلب معونة من فيه وظلت زوجته في انتظاره فلما نفذ صبرها عرفت أن اللصوص قتلوه وعندئذ قامت تسير وحدها عائدة من حيث أتت مع زوجها وهي تتوقع الموت في كل دقيقة وبعد أربعة أسابيع قضتها ماشية في صعبات وآلام لا تصدق بلغت مدينة قاتسين لو ناجية هي وطفلها.
هذا ولا تشارك المرأة الرجل في مخاطر الرحلات والوحدة والحميات المؤذية والجليد والحر والمخاوف بل إن لها في الدفاع عن حياض البلاد يداً طويلة يدعوها إلى ذلك حبها لوطنها أو لأولادها. فقد عرفت جان دارك المحاربة الفرنسوية المشهورة بأيامها الغر(38/50)
المحجلة كما عرفت كاترين سفورزا في القرن الخامس عشر في إيطاليا فإنها بعد أن رأت زوجها يذبح تحصنت في قلعة فورلي وقاومت حصار قيصر بورجيا ثلاثة أسابيع وبقيت في مقدمة رجالها ليل نهار راجلة وراكبة وهي لم تترك سلاحها ولما أعيتها الحيل أرادت أن تقتل نفسها بنسف الحصن ولكنها بقيت حية مع زمرة من أصحابها وعادت تقاتل بين أشلاء القتلى إلى أن أسرت وعندها صاحت إني أسلم نفسي لملك فرنسا.
والتاريخ لا ينسى نساء مدينة سين وقد ضيق الحصار عليها الملك شارلكان فهببن يتألفن ثلاثة توابير مؤلفة من بنات جنسهن خاصة لا يقل عددهن عن ثلاثة آلاف فلبست قائدة التابور الأول لباساً بنفسجياً وقائدة الثاني لباسر حرير أحمر والثالثة اكتست بالبياض. وبمثل هذا قامت حنة هاشيت يصحبها نساء بوفي للدفاع عن مدينتهن وجاكلين روبنس عرضت حياتها للخطر لتخبأ في قاربها الذخائر اللازمة سان أومار خلال حرب انتقال الملك الإسباني.
ولكم من امرأة اشتهرت بإقدامها وشجاعتها بحيث يكاد ينكر عليها المرء ما يصدر عنها وهي التي عرفت بالضعف ووصفت بكثرة التأثر وكان الذي يحملهن فيالغالب على تقحم المهالك تعصب ديني أو كراهة للظلم أو حب للحرية يقيمهن ويقعدهن. وعلى هذا رأينا شارلوت كورداي فأدت بنفسها وقتلت مارات المظالم وحدها ولما سئلت عما أتت أجابت: إن حب الحرية علمني أسباب الوصول إلى الظالم لأقتله. وقالت: ما أتعس بلاد كفرنسا يعجب فيها من امرأة تفادي بحياتها دفاعاً عن بلادها.
ومن النساء صاحبات القوة الأدبية يخرج أولئك الروسيات بالمئات متخليات عن ثروتهن وراحتهن ورفاهيتهن في قصورهن الآمنة الوادعة منذرات على أنفسهن الدعوة إلى الثورة. يعرف الناس اسم صوفيا بوروفيسكايا التي مشت إلى المشنقة هادئة دون أن يبدو عليها الضعف ساعة. ويذكرون فيراساسولتش التي قتلت القائد تريبوف جلاد العدميين في روسيا وبرأتها محكمة المحلفين فأقرت بأنها كانت تؤثر أن يحكم عليها لأنها تكون إذ ذاك آمنة من أنها عملت ما تقدر عليه للدفاع عن حقيقتها. وقضت الفتاة فيرافنير البديعة الطلعة المحببة إلى النفوس ست سنين وهي روح جميع المكائد التي حدثت في روسيا فتجتاز البلاد من أقصاها إلى أقصاها وهي تحمل قذائف في مشدها وتختبئ متوارية عن أنظار رجال(38/51)
الشرطة ولإنقاذ أوراق ومستندات محظورة. وقد سجنت هذه الفتاة الفتانة التي خلقت للحركة والاضطراب والشجاعة والثورة عشرين سنة في سجن شلوسبورج وخرجت منه بحماستها الأولى ومراميها التي طالما سعت لها سعيها.
ويرى العدميون (نيهيلست) أن من الأخلاق التيفطر عليها النساء فكانت من قلواههن الأدبية أنهن إذا سجن والرجال في الحبوس أو نفين إلى سيبيريا يعشن أكثر من الرجال ولا ييأسن كالرجال على حين يموت الرجال أو ينتحرون أو يجنون لا قليلاً أو يغضبن من وحدتهم ومن بعدهم إلى الأبد عن عالم الأحياء.
ولعل أحدهم يقول أن أمثال هؤلاء النساء هن من النادرات يرزقن عاطفة الحب والمفاداة والمقاومة وأنه قد ينشأ مثلهن وكم ترى في النساء من النابغات في الأدب فجورج ساند وأليصابات بروفنيك وجورج أليوت وبشير ستاف ومدام هومفري وأرد كلهن من الأديبات اللائي يقلُّ أمثالهن في الرجال على أن النساء والرجال أيضاً الذين اشتهروا بقواهم الأدبية وأفكارهم السياسية لا ينبغن إلا في مجتمع أو في دور يكون فيه مستوى المكارم والآداب راقياً جداً.
وقد أظهر البحث أن نصف النساء من الشجاعة على جانب عظيم إذا نميت فيهن هذه القوة أتين بالأعاجيب ولكن من ينظر إلى النساء نظراُ مجرداً من التدقيق يراهن إلى الوناء والضعف والجبن والتعلق بأهداب الأمور التافهة والألاعيب الصبيانية.
والفرق عظيم بين القوة الأدبية في الرجل وبينها في المرأة فالرجل ينشأ على ذلك بالفطرة أو بالتربية ويبقى كذلك مهما شقيت حياته أو سعدت بيد أن الرجال الأقوياء من حيث الطبيعة بل من حيث الأدب هم أندر مما نتصورهم. والمرأة لا تعنى بقوتها الأدبية عندما تكون حياتها سعيدة أو عادية إلا أن الحاجة إذا مست وأصابها شقاءٌ وبؤسٌ ومرض في أسرتها ينقلب كيانها في الحال ويصبح المتوسطات والرخوات منهن قويات شديدات يقاومن المصاعب أي مقاومة ويطعن صدور العوائق بسلاح قد يكون غير ماضٍ ولكن له من نار الحمية الموقدة ما يشحذ غراره ولا يطفأ أواره.
ولكم شهدنا النساء يأتين من ضروب الشجاعة حين الحاجة ما لم يخطر ببال فكم رأينا عقائل كان أزواجهن على جانب عظيم من سوء الأخلاق والعشرة معهن وكن صابرات(38/52)
على الأذى حتى إذا فقد بعولتهن ثرواتهن وسيقوا إلى السّجون والمطابق يعطفن عليهم ويأخذن في الإنفاق عليهم من كدهنّ وعملهن.
ورأيت امرأة أخرى كانت شرسة الطباع تناكد زوجها وتسيء عشرته فلما أضاع ماله راحت وهي في سن الأربعين تراجع دروسها التي تعلمتها وتقدمت لنيل شهادة التعليم وأخذت منذ ذاك الحين تصرف على زوجها وأولادها من كسبها القليل وتعمل أعمال المطبخ والبيت بيدها وتشتغل من الصبح إلى المساء وكانت من قبل لم تتنزل لتبل يدها بالماء ولا لترفع ثيابها بنفسها أما زوجها فبقي سنين يعيش من كدح زوجته يلعن الزمان ويدخن الدخان ولا يفارق داره إلا للنزهة.
ورأيت امرأة أخرى كان زوجها أحد رجال الإدارة وكانت مرفهة تعيش عيش الأميرات فأصيب زوجها بالروماتيزم فأخذت تمرضه وتعنى به بنفسها ثماني عشرة سنة ليل نهار حتى أنها لم تنزع عنها لباسها خلال العشر سنين الأخيرة لتكون على مقربة من سرير زوجها وتقوم بخدمته حق القيام بل إنها قضت بعض السنين الأخيرة ولم تخرج إلى الشوارع حتى صار منظر المركبات والقطارات في عينها غريباً. كلمتها ذات يوم وأنا أعجب بها فقالت لي أنها لم تسأم قط لأنها أدركت أنها تقوم بواجب وكانت كل ساعة من ساعاتها ولها ما يشغلها فيها وأنها لم تمرض منذ أخذت في تمريض زوجها وكانت تغتبط عندما ترى زوجها يشكر لها بعينيه عنايتها به قالت وكنت سعيدة أن أتوفر على إطالة حياته فلما قضى نحبه لم يبق لي مطمع في الحياة وأسفت عليه كثيراً وإن أدركت أن آلامه انتهت بالموت.
وغريب أمر النساء في مفاداتهن بكل عزيز عليهن في سبيل ما يوطدن النفس على القيام به فإذا انصرفت أذهانهن إلى عمل من مثل ما تقدم يزهدن في الملاذ والبنين والبنات وينسين أن جمالهن ظل زائل وأنهن يضعن حياتهن بمفاداتهن ولكن ما يلذهن هو أن يغنين فيما صرفن وكدهن له وليس الرجال كذلك ولعلهم يؤثرون الانصراف إلى عمل عام أكثر من الميل إلى عمل خاص.
أعرف أسرة غنية كان لها ابن كف بصره فأرادت أن تصحبه برفيق فاختارت له ابن بستانيها وجعلته له ترباً يغدوان ويروحان معاً فدرسا الحقوق معاً وصرفا على هذه الحال(38/53)
منذ كان الأعمى ابن عشر سنين إلى أن صار ابن أربع وعشرين سنة ولما أتما دراسة الحقوق افتتحا لهما مكتب محاماة وقضيا فيه سنتين ولكن ابن البستاني ضاق ذرعه من تحمل صاحبه وانفصل عنه وإن كان طيب السريرة ولم ينس أيادي أسرته عليه قائلاً أن السأم أصابه فلا يتحمل عشرة صاحبه.
كما أعرف رجلاً غنياً فقد زوجته وهي تضع له ابنة فلم تحدثه نفسه يوماً أن يعنى بتربية هذه مع أنه كان يحبها حباً جمّاً وما ذلك إلا لأن الرجل بما فيه من قوة أدبية يأتي من الأعمال ما يزيد بنتائجه الاجتماعية أكثر مما تقوم به المرأة مع شخص. وعلى ذلك فالواجب على الرجال أن يشفقوا على النساء إذا رأوهن يعشن في الأحايين عيشاً طيباً المرأة لا تنزع بها نفسها إلا أن تكون خادمة خاضعة تقوم بوظائفها اليومية المحدودة ولكنها حين الحاجة يكون شأنها أن تنقل فتكون ملكة وليس غير المصائب تحملها على تغيير كيانها فعلى الرجل أن يحترمها في حال بؤسها وسعادتها.(38/54)
سير العلم والاجتماع
الحروب الإسلامية
قال أحمد زكي بك أستاذ الحضارة في الجامعة المصرية أن الحروب الإسلامية كانت استعمارية أكثر منها دينية: أن الحرب الشرعية هي التي تقام لإعلاء كلمة الله وليس المراد من إعلاء كلمة الله الدعوة إلى الإسلام بالسيف فإن هذا مما لا يكون أبداً وإنما المراد منها ما عرف في تاريخ صاحب الشريعة الإسلامية وبعض خلفائه وذلك أن الدين بني على الدعوة إليه بالحسنى ولكن زعماء المشركين وسائر الممالك وقتئذ كبر عليهم أن يدينوا لدين جاء به يتيم عربي ويسوي بين الملوك والسوقة ويسيغ للخليفة الثاني أن يأمر مثل جبلة ابن الأيهم أن يرفع رأسه لجلف من أجلاف العرب ليثأر لنفسه فيلطمه كما لطمه.
كبر عليهم الإذعان فقاوموا القائمين بنشره وشنوا عليهم الغارات يريدون صدهم عن سبيل الله وإطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فجاز للمسلمين وقتئذ بل وجب عليهم ان يذودوا عن حياضهم ويذبوا عن أعراضهم وإلا لكانوا أخساء جبناء فأعد المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل وصدوا هجماتهم وانتقموا لأنفسهم ممن آذاهم وكذلك الله يفعل بالمعتدين: فكانت تلك الحروب لدفع من يقف في سبيل المسلمين فيمنعهم من نشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة لذلك سميت حروباً شرعية وحق لها أن تسمى كذلك.
ولا يفهم من قول المسلمين للمحاربين: الإسلام أو الجزية أو الحرب: إن حربهم إياهم كان لحملهم على الإسلام فإن الذي اضطر المسلمين إلى الحرب إنما هم المحاربون أنفسهم فلما كانت تشتد الأزمة بالمحاربين كانوا يحقنون دمائهم من المسلمين الذين نصرهم الله بقوة حقهم وبعدم اعتدائهم إلا على من اعتدى عليهم وكان حقن الدماء بأحد أمرين أما الإسلام ليصيروا إخوانهم وأما الجزية التي لا بد منها لأية أمة مغلوبة في كل عصر من العصور وإلا لو كانت هذه العبارة الإسلام أو الجزية أو الحرب لحمل الناس على الإسلام لما خيروهم بين الجزية والإسلام ولم يرضوا منهم دون الإسلام شيئاً.
إن الذي يتأمل في مثير الحروب الإسلامية بادئ الأمر يعلم علماً ليس بالظن أن المسلمين لم يحاربوا إلا من أراد صدهم عن سبيل الله فحاربهم وآذاهم فمن ذلك أن أول الغزوات كانت مع قريش فنتركها ونترك سائر غزواتهم كذلك لما هو معروف من أمر قريش(38/55)
وإيذائها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإخراجهم من ديارهم. ونذكر من بعد ذلك غزوة بني قينقاع من يهود المدينة. فقد حاربهم المسلمون لنقضهم العهد بعد غزوة بدر الكبرى وهتكهم حرمة سيدة من نساء الأنصار ثم غزوة بني غطفان ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا بعد أن علموا أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة دعثور المحاربي للإغارة على المدينة ثم سرية عاصم بن ثابت الأنصاري وكانوا مع رهط عضل والقارة الذين خانوهم ودلوا عليهم هذا بلا قوم سفيان بن خالد الهذلي الذي قتله عبد الله بن أنيس. ثم سرية المنذر بن عمرو وهم سبعون رجلاً يسمون القراء أخذهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة لطمعه في هداية قومه وإيمانهم فلم يرع قومه جواره وقتلوا القراء ثم غزوة بني النضير من يهود المدينة وذلك لنقضهم العهد وإلقائهم صخرة على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه لما كان في ديارهم. ثم غزوة دومة الجندل ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا لما علموا أن في ذلك المكان أعراباً يقطعون الطريق على المارة ويريدون الإغارة على المدينة. ثم غزوة بني المصطلق وهؤلاء ممن ساعدوا المشركين في أحد ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا جمع الجموع للإغارة على المدينة. ثم غزوة الخندق وكانت مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة. ثم غزوة بني قريظة من يهود المدينة لنقضهم العهد واجتماعهم مع الأحزاب ثم غزوة بني لحيان لقتلهم عاصم بن ثابت وإخوانه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غزوة الغابة لإغارة عيينة بن حصن في أربعين راكباً على لقاح للنبي صلى الله عليه وسلم كانت ترعى الغابة. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القصة (موضع) لما بلغ المسلمين أن بذلك الموضع ناساً يريدون الإغارة على نعم المسلمين التي ترعى بالهيفاء (موضع) ثم سرية زيد بن حارثة لمعاكسة بني سليم الذين كانوا من الأحزاب يوم الخندق. ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني ثعلبة الذين قتلوا أصحاب محمد بن مسلمة. ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني فزارة الذين تعرضوا له. ثم سرية عمر بن الخطاب لما بلغ المسلمين من أن جمعاً من هوازن يظهرون العداوة للمسلمين. ثم سرية بشير بن سعد لما بلغهم من أن عيينة بن حصن واعد جماعة من غطفان مقيمين بقرب خيبر للإغارة على المدينة. ثم سرية غالب الليثي ليقتص من بني مرة بفدك لأنهم أصابوا سرية بشير بن سعد. ثم غزوة مؤتة وكانت لتعرض شرحبيل بن عمرو الغساني للحرث(38/56)
بن عمير الأزدي رسول للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أمير بصرى يحمل كتاباً وقتله إياه ولم يقتل رسول للنبي صلى الله عليه وسلم غيره حتى وجد على ذلك وجداً شديداً. ثم سرية عمرو بن العاص لما بلغهم من أن جماعة من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء القرى للإغارة على المدينة. ثم سرية علي بن أبي طالب لما بلغهم من أن بني سعد بن بكر يجمعون الجموع لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين. ثم غزوة خيبر لأن أهلها كانوا أعظم محرض للأحزاب. ثم سرية عبد الله بن رواحة لما بلغهم من أن ابن رزام رئيس اليهود يسعى في تحريض العرب على قتال المسلمين. ثم سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان جزاء إرساله من يقتل النبي صلى الله عليه وسلم غدراً. ثم حرب العراق لما ارتكبه كسرى عندما أرسل إليه كتاب عرض فيه عليه الإسلام فإنه مزق الكتاب وكتب إلى باذان أمير له باليمن يقول له بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إليّ برأسه يكتب إلي هذا الكتاب (أي الذي بدأ فيه بنفسه فقال من محمد الخ. .) وهو عبدي فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع فارسيين وبعث بهما يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى فقدما عليه وقالا له شاهنشاه بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك وقد بعثنا إليك فإن أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك فليس بعد ذلك عذر للمسلمين في امتناعهم عن حرب الفرس. وخصوصاً وقد كان للعرب ثارات كبيرة في ذمة العجم ثم غزوة تبوك لما بلغ المسلمين من أن الروم جمعت الجموع تريد غزوهم في بلادهم. وقد أعقبها فتوح الشام والقسم الأعظم من دولة الروم.
هذه بعض الغزوات الإسلامية بادئ الأمر سردناها غير مرتبة ومنها يرى القارئ ما قصدناه من ذكرها وهو أن الحروب الإسلامية لم تقم لحمل الناس على الإسلام وإنما أقيمت لأسباب أخرى تجلت فيها بأجلى بيان. غير أن أناساً ممن يحطون من قدر الإسلام ويقعون فيه يقولون أن الإسلام لم ينتشر هذا الانتشار في مثل هذا الزمن الوجيز إلا بالسيف فهو دين توحش وهمجية وحجتهم في ذلك غزوات النبي صلى الله عليه وسلم والحروب الإسلامية ورأى ناس من المسلمين آيات في القرآن تحض المسلمين على قتال المشركين والكفار والمنافقين وأمثال هذا كقوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ(38/57)
عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير. وقاتلوا المشركين كافة واعلموا أن الله مع المتقين. قاتلوهم أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم أملهم ينتهون. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. واقتلوهم حيث تقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم.)
ولم يفكروا في سياق الكلام ومواضعه وأسباب نزوله فظنوا أن القتال شرع في الإسلام لحمل الناس على الاعتقاد به فكان ذلك الظن أكبر جرم على ذلك الدين الحنيف الذي تنزه عن مثل هذه الخشونة وتلك القسوة وذلك أن الأمور الاعتقادية لا تقبلها الناس إلا بالبرهان لا بالقوة والسلطان فمن قبلها منهم مكرهاً مرغماً لا يطمئن لقلبه وإذن لا فائدة من قبوله إياها. وإنما كان يتعرض المسلمون لمن آذاهم بسبب الأمور الدنيوية المدنية أو بسبب ظهورهم بدين جديد كانوا يدعون الناس إليه بالحسنى والموعظة الحسنة وليس عليهم هدى الناس وإنما الله يهدي من يشاء فمن آمن بالله فله إيمانه ومن كفر فعليه كفره وليس لهم على أحد من سلطان. هذه حال المسلمين مع من يدعونهم إلى الإسلام ولكن رؤساء بعض المدعوين ضنوا برياستهم على الزوال وأبوا ألا أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله التي تسهل على مرؤوسيهم وعبادهم الفرا من مظالمهم إلى فضاء العدل والإحسان.
غير أن هذه الحروب قد أفادت الأمة العربية الإسلامية فوائد جمة من أجلها الغنائم التي أغنت المهاجرين عما فقدوه بالهجرة والأنصار عما ذهب في إكرامهم إخوانهم المهاجرين فشغل بذلك الرعب عن غزو بعضهم بعضاً وعن إثارة الفتن الداخلية فلما فتروا عن الحرب هنيهة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع كثير منهم عن دفع الزكاة فاستباح أبو بكر رضي الله تعالى عنه قتالهم فردهم إلى الإسلام عنوة ورأى أن يتم بعد ذلك ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من غزو الفرس والشام ليشغل العرب عن التفرق والخصومات والنزاع الداخلي والرجوع إلى التفرق ديناً ودنيا فأنفذ جيش أسامة ليضرب الأعداء بالعرب فإن ذلك خير من أن يضرب بعض العرب ببعض إذا لم يشغلهم بحرب غيرهم وكذلك رأى عمر رضي الله تعالى عنه من بعده فدوخ بجيوشه وأبطالهم خالد والمثنى وأبي عبيدة وعمرو الأعداء وفتح البلاد لتكون موارد خير للأمة العربية وليرفع عن تلك البلاد التي فتحها الإسلام ظلم الرومان والفرس الذي بلغ إذ ذاك أشده كما كانت حاله في فتح مصر وأمرها معروف وأباح له ولأبي بكر حرب الروم وفتح لذانهم ما أباح(38/58)
للنبي صلى الله عليه وسلم من قبلهما وهي التراث التي للمسلمين عند الروم ومعلوم أن المسلمين لما فتحوا مصر وغيرها لم يحاربوا إلا أهل الدولة وهم الروم وذلك لأمرين أولهما إخراجهم من تلك البلاد وذلك كان خيراً للمحكومين وقد كان أهل مصر والشام يساعدون العرب على الروم وكذلك أهل العراق على الفرس. وثانيهما انتفاع العرب بالبلدان التي فتحوها انتفاعهم في الحضارة والمعايش والعلوم وغيرها.
لأجل ذلك يمكننا أن نقول أن حروبهم كانت استعمارية ويتضح ذلك بأجلى وضوح في حروب من بعد عمر من الخلفاء والأمراء. يظهر ذلك لمن ينظر نظراً سطحياً إلى أسباب هذه الحروب وما جرته من الفتوح التي أوجبت نشر الدين وتعميمه بالمخالطة ومظاهر الفضيلة والكمالات التي امتاز بها المسلمون في أيام السلف الصالح والصدر الأول وقد دوّن المسلمون في تلك الأيام الخوالي كل دقيقة وكبيرة مما يتعلق بهذا الموضوع ولا نرى فيها أمراً واحداً يدعونا إلى القول بخلاف مذهبنا وهو أن الحروب كانت حروب مسلمين لا حروب إسلام وأنها كانت حروب توسع في الملك واستعمار للبلدان.
الشمس وطول الحياة
للشمس دخل كبير في إطالة العمر فقد ثبت أن الأعمار تطول في الأصقاع المشمسة أكثر من غيرها كما هو الحال في بعض قرى سويسرا واشتهرت مقاطعة لوكارنو على بحيرة ماجور ومقاطعة لوكانوا ومقاطعة ماجليازو على نهر تيسين في سويسرا بأنها البلاد المشمسة وقد تطلع الشمس في بعضها 331 يوماً في السنة ولذلك ترى أهلها والنازلين فيها أطول الناس أعماراً واختارها المترفون لقضاء فصل الشتاء وربيعها من أعظم المساعدات على طول حبل الحياة في الشيوخ وكثير في أهل مقاطعة تيسين يبلغون المئة سنة من العمر أما أبناء التسعين والثمانين فهم من الحوادث العادية والاستشفاء بالشمس من أفضل أنواع الوقاية الصحية.
تعليم الزنوج
أقام أحد أساتذة كلية هوفارد بأميركا الحجة على من يقول أن الزنجي غير قابل للتربية فقال أن الهمة التي بذلت في سبيل تعليمه منذ أربعين سنة قد أتت بأحسن النتائج حتى جاء من الزنوج أطباء وأساتذة وقضاة ومحامون وطابعون وغيرهم ممن يسعون السعي الحثيث(38/59)
لإنهاض بني جلدتهم بحيث قلّ فيهم عدد الأميين إلى النصف.
أعمال المرسلين
تمتد أعمال المرسلين من دعاة الدين المسيحي كل يوم امتداداً غريباً ولاسيما دعاة البرتستانتية منهم فقد كانت إنكلترا مبعث المرسلين بما يدره عليهم أهل الخير وأنصار الدين من الأموال الطائلة واليوم أخذت الولايات المتحدة تنافسها في هذا السبيل فترسل بمبشر لها إلى الهند الإنكليزية خاصة فالأميركان ينفقون على 1350 مبشراً في الهند وحدها. وبحسب الإحصاءات الأخيرة بلغ عدد المبشرين للولايات المتحدة 6500 ولإنكلترا 8000 ولأوربا كلها 3000 أما الرهبان والراهبات فقد كانوا في أوربا على عهد فولتير ستمائة ألف فقط وما ندري عددهم الآن.
دار الصناعة في إنكلترا
ثبت أن دار الصناعة في برورتثموت هي أقدم وأعظم دار صناعة في العالم كلفت 400 مليون فرنك فقد صرف لارتفاع بنائها زهاء ألف ألف ألف آجرة ويبلغ علوها 600 قدم إنكليزي وأعظم عمارة حربية لا تبلغ ثلث ارتفاعها. فيها من الأدوات والآلات الكهربائية ما لا يوجد في غيرها كما أن فيها 18 ألف عامل يشتغلون 48 ساعة في الأسبوع أي 7 ساعات في النهار وينفكون عن العمل ظهر كل سبت إلى الاثنين. والعامل الذي يغيب 14 يوماً في السنة يطرد. وقد دفع للعملة سنة 1907 ثمانية عشر مليون فرنك وليس للعملة ناظر أو مفتش يراقبهم أثناء العمل إلا ملاحظ خفيف يأتي من حين إلى آخر فمن رأى إحسانه في عمله أعطاه جائزة ثمينة. ومع مكانة هذه الدار تضطر إدارتها أن تصرف بعض عملتها أحياناً وقد اضطرت مرة إنكلترا إلى نزع سلاح مئة بارجة فصرف المعمل أربعة آلاف عامل دفعة واحدة حتى لا يعطيهم رواتبهم بدون عمل ولما طالبوا بحقوقهم قيل لهم أن البحرية الإنكليزية شركة مساهمة فلا سبيل إلى إجابة طلبكم إلا إذا رضي كل إنكليزي بأن تقعدوا وتأخذوا مشاهراتكم بدون عمل. ولكل فرد في هذا المعمل عمله الخاص ومديره نائب أميرال دار الصناعة ببورتثموت وهو في معمله كالملك في قصره. وتقدر إنكلترا أن تستصنع البارجة الحربية في هذا المعمل في سنتين على أن ألمانيا لا تقدر على إيجاد مثلها في أقل من ثلاث سنوات وفرنسا في أقل من خمس.(38/60)
كهربائية الإنسان
كل قوة في حاسة من حواس الجسم البشري فيها شيءٌ من الكهربائية لا تدرك حق الإدراك إلا بآلتين حساستين جداً وهما الإلكتروسكوب والإلكتروميتر وقد اخترع أحد علماء الألمان آلة جديدة تفوق تينك الآلتين بتأثرها وتعريفها المجاري الكهربائية في عمل القلب البشري خاصة وبهذه الآلة يتأتى تشخيص طبيعة مرض القلب.
آلة الكذب
اخترع عالمان من علماء النفس أحدهما ألماني والثاني أميركي آلة سموها البسيكومتر الكهربائي إذا وضعت على الإنسان يتبين بها كلام المرء صدقه من كذبه. وتتركب هذه من كالفانومتر وآلة خاصة تفيد اختلاف الأفكار والإحساس والكالفانومتر مناط بمصباح يرتفع لهيبه وينخفض على حساب قوة المجرى الكهربائي ويقاس ارتفاع هذا اللهيب بواسطة مرآة تعكس اللهيب. فإذا أريد اختبار درجة صدق الرجل توضع إحدى يديه على عمود من الزنك والأخرى على عمود من الفحم فينشأ من ذلك مجرى كهربائي يختلف تأثيره باختلاف قوة الأحوال النفسية التي تحدث في الشخص المفحوص بهذه الآلة فإذا كان يكذب أي إذا فرط منه تناقض بين الفكر المفكر فيه وبين الإرادة التي تغير ذاك الفكر يقوى المجرى ويدل ارتفاع اللهيب على شدته.
بندقية جديدة
لبنادق مكسيم الجديدة خاصة نافعة وهي أنه يكاد لا يسمع لها صوت عند إطلاقها ومهما سمع فلا يسمع إلى مسافة أكثر من 150 قدماً وقد أظهرت التجارب أن هذا الاختراع يعدل في حالة الحركات العسكرية أكثر من البارود بلا دخان فيصعب به معرفة مواقع نزول الأعداء كما أنه يخدم قطاع الطريق واللصوص فيتمكن القاتل بهذه البندقية التي يمكن أن يكون منها مسدس أن يطلق النار في شارع ولا يحس به رجال الشرطة على أن الصياد ينتفع من هذه البندقية إذ أنه يقتل برصاصة قنيصة واحدة بدون أن يفزع أخواتها فتفر. وبهذا صح أن نقول أن فن إطلاق الرصاص آخذ بالانقلاب وهذا الانقلاب له عوائق وله منافع ويصعب في الدنيا إيجاد خير محض.
عمران كريت(38/61)
نشرت مجلة العالم الإسلامي الباريزية مقالة في هذا المعنى قالت فيها ما تعريبه: يبلغ سكان جزيرة كريت 303543 ساكناً منهم 33496 من المسلمين وكان من نتائج ثورة سنة 1896ـ97 أن هاجر المسلمون زرافات من الجزيرة فتضررت كريت من حيث الأمور الاقتصادية كثيراً فقد كان عدد المسلمين فيها بحسب إحصاء سنة 1881ـ73234 فنزل عددهم بحسب الإحصاء الأخير إلى 33496 ولا يزال المسلمون يهاجرون منها ومعظمهم من الزراع إذا غادروا الجزيرة يبيعون أملاكهم أو يتخلون عن أراضيهم تاركيها بوراً حاملين معهم رؤوس أموالهم وقد بلغ ما أباعه المسلمون من المسيحيين من الأملاك منذ سنة 1898 إلى 1902ـ9. 442. 429 فرنكاً على حين بلغت الدراهم التي اقترضها المسيحيون لابتياع هذه الأراضي زهاء ستة عشر مليون فرنك. وكان نزول الجيش العثماني والأسطول العثماني أيام ارتفاع علم الهلال عليها يوسع على الجزيرة فينفق فيها نحو 95 ألف ليرة عثمانية مسانهة فتغيير حكومتها أخر بتجارتها كثيراً وكان مداخيل الجزيرة قبل الاستقلال تصرف فيها على حكم العهد العثماني وربما صرفت فيها مداخيل غيرها من الولايات أيضاً ثم إن الجزيرة لم تبرح تدفع ما عليها للديون العمومية وشركات الفنارات في المملكة العثمانية. وترى المسيحيين الكريتيين ناقمين من الحكم الاستقلالي لأنه أضر بهم أضراراً مالية واقتصادية والمسلمين ناقمين لما يلحقهم من الاضطهاد في عهد الحكم الحالي ومنذ أصبحت الجزيرة مستقلة لم ترتق خطوة إلى الأمام حتى إن حظ ولاية بعيدة من ولايات الأناضول العثمانية أرقى من حظ كريت من حيث الزراعة والصناعة والتجارة والإدارة.
الهند الشرقية الهولاندية
يقدرون عدد المسلمين في جزائر جاوه بـ27. 781. 671 وفي صومطرا بـ3. 275. 000 وفي بورنيو بـ985. 440 وفي سيليب بـ1. 140. 000 وفي بانكا وأعمالها بـ86. 540 وفي ريو وأعمالها بـ93434 وفي بيلينسون بـ34200 وفي أصبهان وأعمالها بـ71204 وفي ترنات وغانة الجديدة وأعمالها بـ108240 وفي تيمور وأعمالها بـ34650 وفي بالي وكومبوك بـ368418 منهم كلهم 33931606 من الوطنيين و33860 من العرب و7531 من الصينيين و5061 من الهنود وغيرهم و774(38/62)
من الأتراك والسوريين وهكذا فقد بلغ عدد سكان جزائر الأرخبيل الهندي التي يخفق عليها العلم الهولاندي أربعين مليون نسمة وبلادهم كنز ثمين لأهل بلاد القاع (هولاندة) وسيكون مستقبلها زاهراً عندما يتم تنظيم شؤونها فتأمل كيف يستولي عدد قليل متعلم كالأمة الهولاندية على عدد كبير متوحش كسكان جزائر ذاك الأرخبيل.(38/63)
مطبوعات ومخطوطات
الأجوبة المرضية
تأليف الشيخ جمال الدين القاسمي طبع بمطبعة روضة الشام بدمشق ص37.
هذه الرسالة وضعها المؤلف جواباً عما أورده كمال الدين ابن الهمام على المستدلين بثبوت سنة المغرب القبلية ولعل بعض المعاصرين ينكرون على بعضهم إذا ناقشوا بعض المتقدمين على عصرهم على حين أن ذلك مألوف معهود منذ القديم فقد ناظر ـ كما قال مؤلفنا المنوه بقدره ـ الإمام الشافعي الإمام محمد بن الحسن وحاور الكناني بشر المرسي وغيرهم وحاور البيهقي الطحاوي وابن حزم الأشاعرة وغيرهم والمازري أمام الحرمين والطبري الطالقاني والنووي الرافعي والأسنوي النووي وشمس الأئمة الكردري الغزالي وابن عبد الهادي السبكي وابن حجر العيني والسيد السعد والفيروز أبادي الجوهري وابن الأثير الصابي وابن عباد وابن أبي الحديد ابن الأثير وأبو حيان ابن مالك والعز ابن عبد السلام ابن الصلاح ومعضد الجار بردي وفضل الله الرومي ابن الملك والناصر ابن المنير الزمخشري وزين العرب الشيرازي والسيوطي السخاوي وابن الجوزي والمؤلفات في هذا الموضوع لا تحصى.
أسباب الانقلاب العثماني
لمؤلفه محمد روحي بك الخالدي ومصححه السيد حسين وصفي رضا طبع بمطبعة المنار في القاهرة سنة 1326 ص182.
مرلف هذا الكتاب من أفاضل سورية عانى صناعة القلم والسياسة ورسالته هذه تدل على علو كعبه في تاريخ الدولة الأخير وحسن مراقبته للحركة الإصلاحية التي قام بها أحرار العثمانيين ووصفها أوجز وصف يرسخ في الأذهان.
تحفة الأنام
للشيخ عبد الباسط الفاخوري طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت ص286
هو مختصر في تاريخ الإسلام فيه مقدمة في أصل العرب وأحوالها قبل الإسلام وبعده وسير الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والملوك العثمانيين وغيرهم بعبارة مختصرة وكلام المؤلف في الغلو بالملوك المتأخرين من بني عثمان يرفع الثقة من كلامه كله فعسى(38/64)
أن يرفع الطابع تلك المبالغات من آخر التاريخ في طبعة ثانية.
أعظم تذكار للعثمانيين الأحرار أو الحرية والمساواة والمبعوثان
لمؤلفه الشيخ عبد الله العلمي
طبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1326 ص190
كتاب وضعه مؤلفه لما رأى كثيراً من العامة يسألون عن مجلس النواب المبعوثان الشوري هل هو شرعي أم لا وعن الحرية هل هي موافقة للشرع الشريف ولتزييف من قال بأن الإسلام وجد وبجانبه سلطة مطلقة مستدلاً على كل نوع منها بآيات كثيرة من الكتاب. ومما جاء فيه ـ وهو مما ننقله نموذجاً على أسلوبه ـ في باب المساواة وبين المسلم واليهودي والنصراني في أنهم بشر وأن التمسك من كل منهم بالأرومات غلط جاء في الكتاب الكريم خطاباً للعرب (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) الموسويين والمسيحيين إنما (من يعمل) من الطوائف الثلاث (سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى) من الطوائف الثلاث وهو مؤمن بالله ورسله (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً) وأورد آيات كثيرة استنبط منها أموراً من هذا القبيل. وقال في حرية المساواة بين المسلم واليهودي والنصراني في الحكم عليه أو له بالحكم الشرعي: المساواة في الأحكام الشرعية المحكوم بها على الناس على اختلاف عناصرها هي شريعة الله تعالى في كتابه وهي سنته في خلقه جاء في سورة النساء (إنا نزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس) جميعاً المسلم وغيره (بما أراك الله ولا تكن للخائنين) المخالفين لك (خصيماً) بل انهج منهج المساواة والشورى على أسلوب عصري لا يستند فيه إلا على الكتاب واستنتاجه من الآيات الكريمة دل على بعد غوره وحسن الإمعان بمعانيها وتطبيقها على حالة الزمن فتثني على المؤلف لفضله وغيرته ونحث كل من يخامرهم الشك في الحكم الدستوري ومخالفته لروح الإسلام أن يقتنوا كتابه وينصفوه وينصفوا الشريعة المدنية والشريعة الدينية.(38/65)
العدد 39 - بتاريخ: 1 - 4 - 1909(/)
وداع وعتاب
للسلطان السابق عبد الحميد
الله أكبر فالظلاَّم قد علموا ... لأيّ منقلب يفضي إلا لي ظلموا
لقد هوى اليوم صرح الظلم وانتقضت ... أركانه وتولت أهلهُ النقمُ
وحصحص الحق في عزٍّ وفي ظفرٍ ... يحفه خادماه السيفُ والقلمُ
ثارت له عصبةٌ كانت مشردةً ... وقد تهددها الإرهاق والعدمُ
من كل أروع في حيزومة حنقٍ ... في نفسه عزة في أنفه شممُ
عبد الحميد استمع منهم مناقشةً ... فطالما صبروا بل طالما كظموا
غادرت أمتك المنكود طالعها ... تغض مقلتها إن عدَّت الأممُ
أطلقت فيها سيوف الغادرين وقد ... كانت بحبلك بعد الله تعتصمُ
الله الله يا راعي القطيع فقد ... لاقت مصارعها في رعيك الغنمُ
حماتنا ما تنوءُ الراسيات به ... كيف الصنيع وأنت الخصم والحكم
فكم شكونا ولم تسمع شكايتنا ... وكم دعونا وحظ الدعوة الصممُ
وليَّ نعمتنا قل لي أما بطلت ... تلك الولاية لما ضاعت النعمُ
فلو رفقت أمير المؤمنين بنا ... ما كان أنفث مصدور وسال دمُ
محافظ الحرمين أعدل فهل آمنت ... في ظلمك الكعبة الزهراء والحرمُ
أم حج حجاج بيت في دعةٍ ... بدون أن يرهقوا فيه ويهتضموا
وليته فاسقاً لم يرع حرمة من ... في ذمة الله ضاعت عنده الذممُ
كم استجاروا عليه فازدريت بهم ... إن لم تكن ناقماً فالله منتقمُ
رب الهلال أجب هل كنت تمنحه ... ما اعتاد من نصرات ذلك العلم
ماذا فعلت بأحرار البلاد وما ... جنوا على الدين والدنيا وما اجترموا
حتى قسمتهم شطرين فازدحمت ... على جسومهم النينان والرخم
مزقت شملهم في كل ناحية ... فأرغموك بحول الله والتأموا
ويا سلالة عثمان أما اتصلت ... منه إليك الصفات الغر والهمم
أين الغطاريف أرباب العزائم من ... أسلافك الصيد من بالعدل قد عظموا(39/1)
شادوا لك العزة القعساء من قدم ... فجئت تهدم ما شادوا وما رسموا
كانت لهم دولة بالسيف ناهضة ... وفي زمانك لا سيف ولا قلم
حصدت ما زرعوا فرقت ما جمعوا ... هدمت ما رفعوا بعثرت ما نظموا
ملكتنا فرأينا منك طاغية ... لم يدر ندَّاً له المشهود والقدم
نيرون عندك أو فرعون قد غفرت ... زلاته واستحبت شاهها العجم
حجاج عصرك بل تولي العقاب بلا ... ذنب ومزَّاك عنه الجمع والنهم
قد اخترعت ضروباً للمظالم والتنكيل ما فطنوا فيها ولا حلموا
خليفة الله قد خالفت ما أمرت ... به الشريعة والتنزيل والكلم
وسيرة الخلفاء الراشدين بها ... خير المواعظ للظلام لو فهموا
ركبت مركب جوزٍ ليس يقبله ... ممن يخلفه في قومه الصنم
دمرت بيتك يا هذا فأنت إذن ... عدو نفسك أو قد مسك اللمم
حشدت زمرة غدارين كم سفكوا ... واستنزفوا ثم لا قيدوا ولاغرموا
المخلصون تولوا منك وانهزموا ... والخائنون على أبوابك ازدحموا
أسرفت في نهب بيت المال فاستلبت ... منه الجواسيس ما شاؤوا وما غنموا
عصابة ثقلت في الناس وطأتهم ... صموا عن الحق في أغراضهم وعموا
اخترتهم واختيار المرء شاهده ... يا ليتهم رفقوا بالخلق أو رحموا
خانوك لما رأوا منك الخيانة في ... بنيك والمرء موسوم كما يسم
حبست آلك حتى بعضهم هلكوا ... كأنما لم تكن قربى ولا رحم
حاولت إطفاء نور الحق وهو لظى ... تثور أفواهه إن سد منه فم
طال الزمان على جور تعالجه ... وعيل صبر الورى واستحوذ السأم
ضيقت دارتهم في الأرض فاتسعت ... والمرءُ مستبسلٌ إن عضه الألم
قد جمع الظلم منهم كل مفترق ... وشدّ ما استتروا في الأمر واكتتموا
وكلما نام عنهم رهطك انبعثوا ... يدبرون وإن لاحظتهم جثموا
وعند ما اكتملت الموثب عدتهم ... توكلوا واستخاروا بالذي عزموا
سلوا عليك سيوف العدل مرهفة ... كأنها شهب في الأفق أو رجم(39/2)
شقوا بها جلابيب الدجى شفقاً ... بشت له الأرض وانجابت به الظلم
وطالبوك بحق كنت هاضمه ... وحاكموك إلى البتار واختصموا
فأدوا بأرواحهم حباً بأمتهم ... فلتحي تلك السجايا الغر والشيم
قد كان ما كان والرحمان ناصرنا ... فالعدل منتصرٌ والجور منهزم
دبرت فتنة سوءٍ تستعيد بها ... من مجدك الباطل الغرار ما هدموا
مجد كبير طوته ظلمة كثفت ... ثم انجلت فإذا ما تحتها ورم
كروا بعزمة حر جاء منتصراً ... لنفسه واستباحوا منك ما احترموا
فأنزلوك عن العرش الرفيع وما ... كانوا يريدونها لكنهم رغموا
تأبى الشريعة أن تبقيك حافظها ... وأنت بالغدر والإغواء متّهم
فاليوم تعلم عقبى من يخون ومن ... يطغى وتندم إذ لا ينفع الندم
هبطت من قمة الأمجاد منحدراً ... كصخرةٍ حطها من شاهق عرم
ففي هبوطك عاد الملك مرتفعاً ... وفيهلاكك كل الخلق قد سلموا
كانت بإقبالك الأقدار عابسةً ... فأصبحت بعد ما أدبرت تبتسم
دمشق: ف(39/3)
السلطان عبد الحميد المخلوع
قلما جاء في الملوك من ترضيك أخلاقه وأعماله لضعف التربية الدينية والمدنية ولأن الملك يسكر فيقتضي له عقل كبير يحسن به صاحبه التصرف ويراعي فيه حقوق الخالق والخلائق. ولذا ندر في ملوك بني عثمان والملك متسلسل فيهم منذ زهاء ستة قرون من تأهل بالفعل للجلوس على عرش السلطنة فقد رأيناهم وفيهم الأخرق والأحمق والمنتهك والمسرف على نفسه والسفاك ولكن لم يأت فيهم على التحقيق مثل السلطان الخامس والثلاثين عبد الحميد الثاني.
نقول فيهم وما أخلقنا أن نقول في غيرهم من ملوك الإسلام بل وفي الأمم الأخرى فقد تدبرنا تراجم ألوف من الملوك والعظماء ولم نشهد لعبد الحميد مثيلاً في أخلاقه وأعماله. بل رأيناه يشبه الناصر لدين الله العباسي بتجسسه وحرصه والحاكم بأمر الله الفاطمي بهذيانه وتلونه والحجاج بن يوسف الثقفي ببطشه وسفكه والسلطان إبراهيم العثماني بسفاهته وإسرافه. ومن جمع في شخصه هذه الصفات مجسمة كان جديراً بأن يدعى طاغية الملوك والسلاطين.
تولى عبد الحميد زمام السلطنة وكيلاً عن أخيه مراد الخامس لمرض طرأ على عقله وكتب على نفسه عهداً دفعه لمدحت باشا ناشر أعلام الحرية في المملكة العثمانية ثم أرسل على ما يقال من أحرق دار مدحت باشا وحرق العهد في جملة ما حرق وأخذ يستجلب قلوب أهالي الأستانة مدة وكالته حتى اجتمع الصدر محمد رشدي باشا ومدحت باشا فقررا دعوة رجال الدولة إلى الباب العالي للنظر في توسيد السلطنة إلى عبد الحميد أصالةً فاجتمع نحو ألف شخص من الكبراء وقرروا أن جنون السلطان مراد مطبق لا يرجى أن يفيق منه فأفتى شيخ الإسلام بحل إمامته وبويع لعبد الحميد الذي أظهر أولاً بأنه يميل إلى الحكم الدستوري ومنح القانون الأساسي ثم سلبه وأقفل مجلس الأمة وأتعب مدحت باشا في معاناة أخلاقه وكان أول عهد نكثه معه أنه أخذ على نفسه أن يعين لرئاسة كتاب امابين نامق كمال بك الكاتب الشاعر الشهير وضياء بك رئيس المابينية فعين غيرهما ثم أخذ يدس الدسائس ونفى مدحت باشا ثم أرسل به إلى الطائف فسجن في حبسها مدة ثم أمر بخنقه.
وأخذ السلطان يكثر من التضييق على أخيه السلطان مراد وعلى سائر أفراد الأسرة السلطانية ولاسيما ولي عهد السلطنة السلطان الجديد محمد خان الخامس الحالي ويشرد كل(39/4)
من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة ورجال سياستها فأصبحوا يسيرون على رغباته وكل من خالفها ولو فيسره أقصاه وسجنه وعذبه وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مراناً على هذه الفعال ويبالغ في الاحتياط لنفسه وغدا يتولى كل أمر بذاته ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم وما يصطنع إلا الأسافل من كل جنس من أجناس الدولة لعلمه بأنهم يفادون بكل مبدأ في سبيل نصرته على الباطل حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي السفلة من أعوانه الجهلاء الطغاة إلا قليلاً.
وإذ كان مفطوراً على الطمع ويحسب أن المال يعمل كل شيء أخذ يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يحتال لأخذها بلا ثمن إن كانت من الأملاك الأميرية أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد ثم ألف الشركة الخيرية لتسيير السفن في مواني الأستانة وشركة أخرى لحسابه بين البصرة وبغداد وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع ومعامل لصنع السجاد وغيره وضارب بالأوراق المالية وهكذا أصبح عبد الحميد تاجراً مزارعاً مضارباً لا يهتم بشيءٍ من أمر الملك إلا إذا كان تقريراً من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بها خزينة الأمة وكلهم أمناؤه إن أخطأ وأفلهم الأجر وإن أحسنوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. حتى لقد قلَّ جداً في عماله من لم يتجسس له لاسيما بعد أن رأى الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية.
وبهذا استنزل غضب عقلاء الأمة وأحرارها وكان كلما بالغ في الضغط عليهم واشتد في إرهاقهم وإعناتهم ينمو عددهم بنمو الميل إلى التعلم. فكانت مدارس الدولة ولاسيما العالية منها على شدة المراقبة عليها لا يتصور العقل أكثر منها وعلى إصدار إراداته تترى لجعل المعارف صورية لا حقيقية ـ منبعث تلك الشعلة التي قضت على استبداده الذي لم يكد يعهد له مثيل في تاريخ الأمم فزحزح المتخرجون فيها أسس الحكومة المطلقة المدمرة وأقاموا مكانها على التقوى أساس الحكومة المقيدة المعمرة.
عرف عبد الحميد أن بالمدارس والمطبوعات تستنير العقول فيقل الراضون عن حكمه(39/5)
فأنشأ يضيق الخناق على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ وعلوم السياسة والاجتماع لأنها ترقي العقل وتلقح الأذهان وتدعو الأمة إلى سبل الرقي والأمان.
ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء خصوماً يكفي في نعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد حتى أصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه عبارة عن كتب خرافات وزهد وتلفيق أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر أو أموراً عادية لا ترقي عقلاً ولا تزيل جهلاً. ووصلت المراقبة على المطبوعات في أيامه إلى درجة من الهزل لم تصل إليها في أمة مغلوبة على أمرها فرفعت من المعاجم كثير من الألفاظ كالعدل والمساواة والقانون الأساسي والجمهورية ومجلس النواب والخلع والديناميت والقنابل وأصبحت الجرائد أبواقاً تضرب بتقديسه وتأليهه والعياذ بالله أو تكتب في التافه من الأخبار والأفكار. جرى كل هذا برأيه ورضاه لا كما يزعم بعض من يريدون أن يتفحلوا له الأعذار الباردة من أنها كانت من عماله ووزرائه وهو لا علم له بما يأتون.
كثرت في الأيام الحميدية أنواع المظالم وأصبح كلما طال عهده يشتد في إعنات من يخالف له فكراً أو يعرض له في الإصلاح أمراً حتى صار بعض العقلاء من عماله يتظاهرون بالبله أو ينقطعون عن الخدمة لأن سلطانهم لا يرضيه إلا أن يكونوا على قدمه في الظلم وارتكاب المنكرات. ولقد نصح به بعض سفراء الدول منذ بضع سنين أن يكف من شرور بعض العمال لأن استرسالهم فيها مما يسقط شأن المملكة ويضر بمستقبلها فقا لهم وماذا أعمل مع من ذكرتم وهم يحبونني ويتفانون في خدمتي أي إنهم في حلّ من عمل ما أرادوا من العسف في الأمة ما داموا يظهرون له الحب ويخدمون أغراضه.
اشتهر عبد الحميد بالحقد الشديد والحرص الأكيد والحدة المتناهية والاحتيال الذي ينطلي على ضعاف العقول فيقولون أنه الدهاء والحكمة.
وكانت هذه الأخلاق بادية عليه قبل أن يلي أمر الأمر حتى قال نابوليون الثالث فيه يوم رآه مع عمه السلطان عبد العزيز في باريز أن هذا الفتى سيجيء منه داهية باقعة فما هو إلا أن قيض الله له الجلوس على سرير آل عثمان حتى صحت فراسة نابوليون فيه بل برز في هذا المضمار.
كان السلطان عبد المجيد يحب ابنه مراداً أكثر من عبد الحميد لأن هذا كان يبدو عليه(39/6)
الخبث منذ الصغر ولما ترعرع شرع يتجسس لعمه السلطان عبد العزيز على أخوته وآل بيته لينال منه الإحسان ويغلو فيكشف عورات أخيه ماد خاصة وكانت تقاريره للسلطان عبد العزيز متصلة كتقارير جواسيسه في عهد سلطنته ولطالما كدره السلطان عبد العزيز على تشاغله بالسفاسف ويكفي في بيان الفرق بين أخلاق السلطان مراد وأخلاق السلطان عبد الحميد أن الأول كان يعنى في صباه بالشعر والموسيقى ودرس مدنية أوربا وتاريخها على حين كان أخوه لا همَّ له إلا درس السحر والطلسمات وضرب المندل وأخذ الفأل ويتقرب لذلك من المشايخ والبله والدجالين.
مضى ثلث قرن على الأمة العثمانية وهي تفنى في سلطانها فناء جنون لا فناء عقل وكنت إذا خلوت حتى بخاصته وصنائعه يحدثونك من تلاعبه وأخلاقه ما تسأل الله معه السلامة وتسجل على فساد أخلاقنا أكثر من فساد أحكامنا وأعمالنا وكل منهم يورد لك من أسباب اضطراره إلى الصبر على هذه الخدمة ما هو العجب العجاب.
فبالإسراف في مال الأمة استمال عبد الحميد قلوب الأغمار ممن تزيوا بزي العلماء وهم جاهلون فكانوا يكذبون على الله والناس ويذكرون لهم من صفات سلطانهم ما هو الزور البحت وإذا فتح المنصفون أفواههم بالنقد أسكتوهم وحرموا إنكار المنكر عليهم. وبالجواسيس اطلع على الدقيق والجليل من نيات الأمة وما كان يهتم إلا للأمور الصغيرة ولاسيما ما كان منها متعلقاً بشخصه أما عمران البلاد وترقية معارفها وصناعاتها وزراعتها وتجارتها فلم يكن لها قيد في سجل أعماله.
وكفى في عدم احتفاله بأمور الرعية وإصلاح البلاد أنه انسلخت عن جسم الدولة في أيامه المشؤومة بلغاريا والروم أيلي الشرقية ودوبروجه في رومانيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وانضمت بعض الألوية للصرب ولليونان تساليا وابيروفارتا ولفرنسا تونس ولروسيا القوقاس وباطوم وأردهان وقارص ونال الجبل الأسود استقلاله وانفصلت قبرص وكريت لو كادتا واحتل الإنكليز مصر وهكذا انفصل من جسم الدولة نحو ثلثيها بعدد النفوس والعمران.
ماذا تعدد هذه الأمة من سيئات الدور الحميدي ونزع سلطة الحكم من الباب العالي وكانت من قبل فيه على شيء من العقل والقانون وانتقالها إلى المابين يعبث بمصالح الأمة(39/7)
الخصيان والجواري والجواسيس والدجالون والمرتشون والمنافقون والمنطبعون بطابع السياسة الحميدية.
فقد كانت الوظائف والرتب والأوسمة ومظاهر التكريم تباع بالمزاد كما يباع العقار والدار ويقتنيها في الأغلب من لا يهمهم إلا حظوظ أنفسهم وإملاء جيوبهم وبطونهم حتى هلكت البلاد ليغتني عبد الحميد والمنفذون لرغائبه وافتقر الفلاح والصانع وهما مادة حياة الوطن واغتنت تلك الطائفة الفاسدة من الموظفين الذين سماهم غلادستون كبير وزراء إنكلترا جماعة من اللصوص تألفوا في صورة حكومة.
ولكم كان عمال عبد الحميد سبباً في إهراق دماء الأبرياء ونزع روح الحياة الوطنية من الناس وما ننس لا ننس سياسة المابين في المذابح الأرمنية والحروب اليمانية والكريتية وغيرها من الوقائع الأهلية التي ألقى بها السلطان الشقاق بين أبناء هذا البيت الواحد وفرق مجتمع القلوب عملاً بالقاعدة الباردة فرق تسد ولو عقل لجرى على قاعدة اعدل تسد.
نعم كانت المدارس منبعث تلك القوة التي قضت على السلطة الحميدية بل على السلطة الاستبدادية في السلطنة العثمانية. وناشئة الأمة الذين كان يحتقرهم السلطان المخلوع ويغويهم بالمال ويطعمهم بالمراتب والرواتب هم الذين دبروا بسلطان العقل أسباب الانقلاب الأخير في المملكة وغلبوا سلطان الجهل فكان يوم 10 تموز الماضي مبدأ سعادة العثمانيين وتاج الأيام وغرة الشهور والأعوام.
كان الصدر محمود نديم باشا يقول للسلطان عبد العزيز أن بعض الوزراء يخوفونك بالأمة وما الأمة الأكمن تراهم يمشون هناك (وأشار إلى جماعة من فلاحي الأناضول) ومثلهم لا يميز ولا يعقل فاصنع ما بذلك فانتهى الأمر بخلع ذاك السلطان وقتله. وكان أحمد عزت باشا العابد يحقر للسلطان عبد الحميد أمر الأمة ويزين له البطش ويقول له أن المسلمين لا يعرفون غيرك خليفة وسلطاناً ورباً صغيراً فاحكم فيهم بحكمك فهم عبيدك لا ينازعك في التصرف فيهم منازع الأحرار أفراد طائشون. صم أذنك عن سماع خيالاتهم ودعهم يعوون ولا يضر عواء الكلاب بالسحاب. أما حكومات أوربا فأمرها إلى التفاشل إن اتحدت كلمتهن لأقبل لنا بدفعها وما دمن متخاذلات فنحن في مأمن. وهكذا جرى السلطان المخلوع في دوره الأخير على هذه السياسة الخرقاء فكانت سبباً في نزع السلطة الاستبدادية من يده يوم(39/8)
10 تموز الماضي وإنزاله عن العرش يوم 14 نيسان.
يئس الناس من الخلاص من جور هذا السلطان إلا بموته ولكن تلك النفوس الكبيرة من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي التي احتك معظم أعضائها بالأوربيين وبلادهم قطعة من أوربا أبت أن تضيع ملك بني عثمان بالإهمال والتواكل فاضطرت عبد الحميد إلى إعلان القانون الأساسي في الصيف الماضي مرغماً ولما لم تطب نفسه لما جرى وأنشأت تحدثه بإعادة الدور السالف لتكون الأحكام طوع أمره ونهيه وهو الحاكم المتحكم في الأموال والأعراض والأرواح يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل أخذ يوقد نيران الفتن بين الأمة ليقول لها وللأجانب أن العثمانيين لا يليق لحكمهم إلا الحكم الاستبدادي.
ثم احتال للتفريق بين عناصر الدولة أولاً وإغواء بعض الخونة من رجاله بالمال ليبثوا دعوته فتألفت جمعيات عناصر بعد إعلان الحرية ولكل منها نزعة خاصة. يريد الأرمن توسيع الاختصاص المأذونية أو الاستقلال النوعي بعبارة أخرى والعرب ينادون بأن الترك غمطوهم حقوقهم وهم يريدون أن يشاطروهم الوظائف أو ينفصلون عن الدولة وبعض الأرناؤود يدعون إلى مثل دعوة الأرمن. ولما رأى السلطان أن الأمة انتبهت لرد هذه الترهات وقام العقلاء يحاربونها شرع يسلك سبيلاً آخر ويحرك عامة المسلمين باسم الدين بواسطة جمعية ألفها في الأستانة دعت نفسها بالجمعية المحمدية تطالب بالشريعة الإسلامية ولا تريد القانون الأساسي لأنه بزعمها مخالف للإسلام ومن قواعده الحرية والحرية ليست من شأن الدين المحمدي. وهكذا أَلفت الجمعية فروع في الولايات تهيج العامة باسم الدين وتربطهم بالسلطان وذلك على يد زعانف كان للمال الذي بذله تأثير عظيم في نفوسهم ونفوس الغوغاء.
كاد عبد الحميد لأمته بتدبير الفتنة المحمدية بل بالفتنة العسكرية فعصت جنود الأستانة إلا قليلاً بما بذله لهم من الذهب الوهاج ولم ير أعوانه الذين أثاروا الجند واسطة لإضاعة رويتهم أحسن من إسكارهم فأسكروهم ليلة الفتنة وفرقوا عليهم الذهب الكثير الذي جمعه من دماء الفقير ليقوموا بالمطالبة بإعادة الشرع المحمدي أو يوقدون نيران مذبحة عامة يقتل فيها أحرار الأمة أولاً ثم الأقرب فالأقرب من رجال الإصلاح والتجديد ولو وفق عبد الحميد لاستعادة سلطته الاستبدادية وتمت له مكيدته الشيطانية لما هلك في هذه الفتنة(39/9)
الأهلية في أنحاء السلطنة أقل من مليوني رجل كما وقع في ثورة فرنسا الأولى.
ولكن الله أراد لهذه الأمة الخير وقيض لها من رجال الدستور والمتفانين في الاحتفاظ به من كان إخلاصهم الداعي الأكبر في نجاحهم فقامت بعض ولايات الروم إيلي على ساق وقدم تطلب التطوع في الجندية للدفاع عن الدستور وهب جند الفيلق الثاني والثالث أي أدرنة وسلانيك ـ ومنهما انبعثت جذوة الحرية أول مرة ـ وزحفا في جموع المتطوعة على الأستانة بقيادة البطل المغوار محمود شوكت باشا الفاروقي البغدادي فاستوليا على المواقع الحربية في العاصمة في أسبوع وقبضوا على المنتفضين والعصاة من الجند المشاغب وخلعوا السلطان عبد الحميد مدبر تلك المكايد بفتوى من شيخ الإسلام أثبت عليه فيها قتل الأنفس البريئة ومخالفة الشرع وحرق كتب الإسلام والإسراف في مال الأمة وبايعوا باتفاق مجلس النواب والأعيان لولي عهده السلطان محمد الخامس وساقوا ذاك الذي عبث بمصلحة العثمانيين إلى قصر الأتيني في ضاحية سلانيك ليجري عليه ما جرى على كل سلطان مخلوع خان أمته ودولته بدون أن يلحقوا به إهانة. فحق للدولة والأمة أن تدعو بدوام نصر الجيش العثماني المظفر لأنه كان سبب حياتنا اليوم ولطالما كان هذا الجيش سبب رفع هذه الدولة العلية كما كان في بعض الأدوار سبب خفضها.
أعلن جيش الدستور الأحكام العرفية أي عطلت القوانين الموضوعة وجعلت العاصمة تحت الأحكام العسكرية ريثما يستتب الأمر لجيش الفاتح محمود شوكت باشا ويفتك بمن أضاعوا دينهم ودنياهم بممالاة السلطان المخلوع على رغائبه فشنق كثيرون ممن كان لهم ضلع في تشويش نظام الأمة وإهاجة العامة باسم الشريعة وحكم على بعضهم بالأشغال الشاقة وعلى البعض الآخر بالنفي وهكذا تمت الغلبة لكلمة الحق على الباطل وكتب البقاء للحكم النيابي في السلطنة آخر الدهر إن شاء الله.
فكرنا ملياً في أمر عبد الحميد وأردنا أن ننصفه في الترجمة فما رأينا له مزية يذكر بها ويرحم. بلى وجدناه حسوداً يحسد حتى خصيانه وأشق خبر يترامى إليه أن يعلم بأن في إحدى أطراف مملكته عالماً ينفع الناس بعلمه فيحتال عليه ليأتي به إلى الأستانة ليدفنه حياً فإن لم يقدر فلا أيسر عليه من التقول عليه وتزوير حيلة للانتقام منه والحط من كرامته. وكان إذا عزّ لا يلحق غباره نمرود وفرعون وإذا ذل وذله يكون للأدنياء غالباً ينسى(39/10)
منزلته ومقامه. وكان يلذه جداً أن يشهد الشقاق مستحكماً بين حاشيته ويلقي بينهم العداوة والبغضاء. وفي أيامه كثر اختلاف النساء إلى قصره حاسرات متبرجات بدعوى أنه خليفة وللخليفة أن ينظر إلى المحارم ولا حرج عليه وعليهن ولهذا اخترع لهن وسام الشفقة. ولعل بعض من درسوا الأخلاق الحميدية عن أمم يكتبون كتاباً مفصلاً فيها ليقرأ الأخلاف عن الأسلاف ما فعلته في ذلك المخلوع قلة التربية والعلم وفساد الفطرة والله أعلم.(39/11)
في سلانيك
لقد سمعوا من الوطن الأنينا ... فضجوا بالبكآء له حنينا
وناداهم لنصرته فقاموا ... جميعاً للدفاع مسلحينا
وثاروا من مرابضهم أسوداً ... بصوت الاتحاد مزمجرينا
شباب كالصوارم في مضآء ... يرون وكالشموس منورينا
سلانيك الفتاة حوت ثراءً ... يهم فقضت عن الوطن الديونا
لقد جمعوا الجموع فمن نصارى ... ومن هود هناك ومسلمينا
فكانوا الجيش ألف من جنود ... مجندة ومن متطوعينا
تراهم فيه متحدين عزماً ... وما هم فيه متحدين دينا
هي الأوطان تجعل في بنيها ... إخاءً في محبتها رصينا
وتتركهم أولي أنف كبار ... يرون حياة ذي ذل جنونا
وإن الموت خير من حياة ... يظل المرء فيها مستكينا
* * *
مشوا والوالدات مشيعات ... خرجن وراءهم والوالدونا
يقلن وهن من فرح بواكٍ ... وهم من حزنهم متبسمونا
على الباغين منتصرين سيروا ... وعودوا للديار مظفرينا
ولا تبقوا الذين قد استبدوا ... وراموا كيدنا وتخونونا
فإن لم تنقذوا الأوطان منهم ... فلستم يا بنين لنا بنينا
فقد هاجوا على الدستور شراً ... بدار الملك كي يستعبدونا
هم الأشرار باسم الدين قاموا ... فعاثوا في المواطن مفسدينا
فما تركوا من الدستور (شورى) ... ولا أبقوا لنغمته (طنينا)
* * *
وكم قلن من قول شجيّ ... لهم فتركنهم متهيجينا
ومذ حان الوداع دنون منهم ... فقبلنا الصوارم والجفونا
وما أنسى التي برزت وقالت ... وقد لفتوا لرؤيتها العيونا
إلا يا راحلين لحرب قوم ... لئام ضيعوا الوطن الثمينا(39/12)
خذوني للوغى معكم خذوني ... ممرضة لجرحاكم حنونا
وإن لم تفعلوا فخذوا ردائي ... به شدوا الجروح إذا دمينا
* * *
ولما جد جدهم استقلوا ... على ظهر القطار مسافرينا
فطاروا في مراكبه سراعاً ... بأجنحة البخار مرفرفينا
وظل الجيش صبحاً أو مساءً ... تسير جموعه متتابعينا
فلم يتصرّم الأسبوع إلا ... وهم بربى فروق مخيمونا
هنالك قمت مرتحلاً إليهم ... لأبصر ما أؤمل أن يكونا
* * *
وباخرة علت في البحر حتى ... حكت بعبابه الحصن الحصينا
يؤثر جريها في البحر إثراً ... تكاد به تظن الماء طينا
فتترك خلفها خطاً مديداً ... بوجه البحر يمكث مستبينا
ركبت بها على اسم الله بحراً ... غدا بسكون لجته رهينا
فرحنا منه ننظر في جمال ... يعز على الطبيعة أن يهونا
ومرأى البحر أحسن كل شيء ... إذا لبست غواربه السكونا
كأنك منه تنظر في سماء ... وقد طلعت كوكبها سفينا
* * *
أتينا دار قسطنطين صبحاً ... وقد فتحت لهم فتحاً مبينا
وظل الجيش جيش الله يشفي ... بحد سيوفه الداء الدفينا
فأرهق أنفس الطاغين حتى ... سقاهم من عدالته المنونا
ورد الخائنين إلى جزاء ... أحلهم المقابر والسجونا
وحطوا قصر يلدز عن سمآء ... له فانحط أسفل سافلينا
وأصبح خاشع البنيان يغضي ... عيوناً عن تطاوله عمينا
خلا من ساكنيه وحارسيه ... فلم تر فيه من أحد قطينا
هوى عبد الحميد به هوياً ... إلى درك الملوك الظالمينا(39/13)
ونزل عن سرير الملك خلعاً ... وأفرد لا نديم ولا قرينا
فسيق إلى سلانيك احتباساً ... له كي يستريح بها مصونا
ولكن كيف راحة مستبد ... غدا بديار أحرار سجينا
يراهم حول مسكنه سياجاً ... ويعجز أن ينيم لهم عيونا
وموت المرء خير من مقام ... له بين الذين سقوه هونا
* * *
لقد نقض اليمين وخان فيها ... فذاق جزاء من نقض اليمينا
وقد كانت به البلدان تشقى ... شقآءً من تجبره مهينا
فكم أذكى بها نيران ظلم ... وكم من أهلها قتل المئينا
وكان يدير من سفه رحاها ... بجعجعة ولم يرها طحينا
وقد كانت به الأيام تمضي ... شهوراً والشهور مضت سنينا
ولما ضاق صدر الملك يأساً ... وصار يردد الوطن الظنونا
وأضحى سيف قائده المفدى ... على الدستور محتفضاً أمينا
حماه من العداة فكان منه ... مكان الليث إذ يحمي العرينا
وأسقط ذلك الجبار قهراً ... وأنباه بصارمه اليقينا
فقرت أعين الدستور أمناً ... وشاهت أوجه المتمردينا
معروف الرصافي(39/14)
الجباية في الإسلام
الصدقات ورسم التعدد
لما كانت الحكومة متعهدة بحفظ راحة الأمة وحياتها ومالها وعرضها حق لها أن تأخذ من الأمة أجرة خدمتها وقياسها بما تعهدت به نحوها باسم ضرائب وتكاليف أميرية غير أن الحكومة المطلقة كحكومتنا قبل إرجاع الدستور إلى أحكامه اعتبرت الضرائب من حقوقها الاستعبادية وعلى ذلك بنت قواعدها واستحلت أي ضريبة كانت وإذا أزالت ضريبة من ضرائبها تأخرت واعتبرت عملها كرماً منها على الرعية وكانت الأراضي يومئذٍ تعد من جملة الغنائم التي غنمها السلاطين والأمراء ولذلك ادعت الحكومة العثمانية أن جميع الأراضي ملك لبيت المال إلا ما كان ملكاً صريحاً فقسمت الأراضي على خمسة أنواع وهي أراضٍ مملوكة وأراضٍ موقوفة وأراضٍ أميرية وأراضٍ متروكة وأراضٍ موات.
فأما الأراضي المملوكة فهي التي يتصرف بها مالكها كيفما شاء فيبيعها ويقفها ويرهنها ويوصي بها ويحولها إلى بناء ورياض وكروم من غير أن يستأذن فيها أحداً وتجري عليها أحكام الشفعة وغيرها من أحكام الملك وهي على أربعة أنواع: النوع الأول العرصات في القرى والأراضي التي عدت من تتمة السكنى. النوع الثاني الأراضي التي أفرزت من الأراضي الأميرية وجعلت ملكاً صحيحاً على أنواع وجوه الملكية الصرفة وبني تمليكها على المساغ الشرعي. النوع الثالث الأراضي العشرية. النوع الرابع الأراضي الخراجية فرقبة هذه الأراضي الأربعة بملك مالكها وهي كالأموال والعروض يرثها الورثة الشرعيون وتوقف وترهن وتجري عليها الهبة والشفعة وسائر أحكام الملك كما هو مصرح في مجلة الأحكام الشرعية والكتب الفقهية.
وأما الأراضي الأميرية فهي التي أحيلت وفوضت للأشخاص على شروط أن تبقى رقبتها لبيت المال كالأراضي والمروج والمحال التي يقال لها يايلاق منزل صيفي وقيشلاق منزل شتوي والحراج التي تركت للاحتطاب والمراعي أما المنازل الصيفية والمنازل الشتوية والغابات والمراعي والبيادر التي تركت لقرية أو قرى متعددة أو قصبة فهي من الأراضي المتروكة.
وأما الأراضي الموقوفة فهي قسمان القسم الأول الأراضي المملوكة التي وقفت على الوجه(39/15)
الشرعي ويقال لها أوقاف صحيحة فجميع أحكامها تابعة لسرط الواقف والقسم الثاني الأراضي المفرزة من الأراضي الأميرية التي وقفها السلاطين العظام أو وقفت بإذن سلطاني فهذه كالأراضي الأميرية في جميع أحكامها ولم يمش الوقف إلا على أعشارها ومنافعها الأميرية.
وأما الأراضي المتروكة فهي قسمان القسم الأول: الأراضي التي تركت للناس كافة كالطريق العام والأسواق والمرافئ والمساجد والمتنزهات والميادين العامة. والقسم الثاني الأراضي التي تركت لأهالي قرية أو قصبة أو لعامة الأهلين في القرى أو القصبات المتعددة كالمراعي والمنازل الصيفية والمنازل الشتوية والحراج للاحتطاب.
وأما الأراضي الموت فهي الأراضي الخربة التي لم تحرث ولم تزرع وبعيدة عن أقصى العمران.
ولو نظرنا قانون الأراضي ومعاملات الطابو وما تجري عليه المعاملات لوجدنا الحكومة العثمانية تدعي أن جميع الأراضي الخراجية والعشرية والأميرية والوقفية (ما عدا الأوقاف الصحيحة والأراضي المملوكة) والمتروكة والموات كلها ملك بيت المال وليس لمتصرفها إلا التصرف بها والانتفاع منها غير أنها سمحت بتناقلها على حسب قانون الانتقال ولم تحدد مدة التصرف والانتفاع بها فأمنت على عمرانها ولهذه الأسباب عدت الأعشار وضرائب الأملاك أجرة أراضيها وأملاكها لا أجرة خدمتها للشعب وعلى هذا النظر أنشأت القواعد والقوانين على أن أكثر البلاد وأخص بالذكر منها سورية لم تفتحها الحكومة العثمانية عنوةً بل إن أهلها استقبلوا السلطان سليماً بالترحاب وأقروا له بالملك لما كانوا يرون من ظلم ملوكها حينئذٍ.
ولقد أبنت في المقدمة أن مؤسسي الدولة الإسلامية لما فتحوا البلاد وصالحوا أهلها تركوا الأراضي بأيديهم واقتصروا على الخراج أجرة القيام على ذمتهم ومن هنا يتضح أن الأراضي السورية والعراقية أراض خراجية أي من الأراضي المملوكة إلا ما ملكه غزاة المسلمين في صدر الإسلام وتقاسموه أيام الفتوحات الإسلامية وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أن السبب في جعلها أراضي أميرية لأن أصحابها ماتوا بلا وارث وأصبحت محلولة فتملكها بيت المال وجعلها أراضي أميرية على أن العاقل يستبعد موت(39/16)
أهالي العراق قاطبة وأهالي سورية طراً وما شاكلهما عن غير وارث يرثهم فتغدو الأراضي محلولة بأجمعها ولم يكتب لنا المؤرخون عن ذلك شيئاً ولذلك أعتقد أن أراضي سورية والعراق وما شاكلها من الأراضي الخراجية أراض مملوكة يجب أن تكون ملك صاحبها ولا يسعني التفصيل هنا لئلا أبعد عن الموضوع وسبب ذكر أنواع الأراضي تمهيداً لجرح ما قيل من جواز أخذ الضريبة عن المواشي.
وذلك أن الحكومة العثمانية لما كانت مالكة لرقبة الأراضي والغنم والدواب ترعى في بقعة من تلك الأراضي التي تنبت عشباً وإن محصول الأراضي الأميرية تدفع العشر من محصولها غير أن الشب تأكله الدواب وأن الدواب تثمر ولها ريع وثمرها وريعها يتوقفان على الرعي فقد لزم أخذ عشر العشب ضريبة على المواشي وعليه رفع العشر ومنعت الضرائب عن المراعي على أن المراعي والبيادر والحراج المتروكة للاحتطاب ومحال الأسواق والطرق العامة عدت من الأراضي العمومية المتروكة للرعية التي لا يجب أخذ ضريبة عنها إلا ما كان مقيداً بالدفتر الخاقاني بأن يدفع ضريبة وما كان من الأماكن التي تعد يايلاقاً أوقيشلاقاً وخصص لقرية أو قرى متعددة فتؤخذ على ذلك ضريبة يقال لها يايلاقية وقيشلاقية بحسب قانون الأراضي.
بيد أن المواشي التي ترعى في المراعي العمومية والتي لم تكن عليها ضريبة والتي ترعى في المنازل الصيفية والمنازل الشتوية وما شابهها بل حتى التي ترعى في أراضي صاحبها تدفع ضريبة التعداد وقيل أيضاً لما كان تعيين عشر العشب صعباً رأوا أن يؤخذ العشر ممن رعى الأرض بصورة ضريبة على المواشي فجعلوا في بادئ الأمر رسم التعداد عشر الدواب أي نعجة عن كل عشر نعاج أو شاة عن كل عشر شياه فلوا ردنا أن نعرّف ضريبة المواشي على حسب هذه التفصيلات لقلنا أنها عشر العشب غير أن السبب الحقيقي في أخذ هذه الضريبة غير ما ذكرناه لأن الأصل في دعوى ملك الأرض فاسد وعلى ذلك يكون الفرع فاسداً.
ولما كانت الحكومات تحمل الأمة ما تحتاج إليه من نفقة وتأدية ديون وأرادت أن توزع تلك النفقات والديون على ضرائب متنوعة ليخف حملها على الأمة جعلت على المواشي قسماً بدعوى أن المواشي وأصحابها تستفيد من خدمة الحكومة في حفظها من الغارة والنهب(39/17)
وإليك التفصيل:
لو كان لرجل أرض لا تعادل قيمتها أكثر من ألف قرش وليس عنده سوى عشرين رأساً من الماعز وحسبنا ما يدفعه للحكومة سنوياً حسب الجدول الآتي لبلغ مجموع ما يدفعه ستمائة وثمانية وثلاثين قرشاً صحيحاً.
الجدول
غروش
010 خراج أرض إذا كان متساهلاً معه
012 خراج الدار
212 عشر الأراضي إذا كانت مقبلة
108 رسم تعداد الماعز مع ورق طوابع
050 رسم كمرك ملابسه وملابس عائلته
016 بدل طريق
010 رسم باج بقر أو خيل
100 إعانة غير مقننة على الأقل
050 مختارية للمختار
050 رسم دخان إذا كان يدخن دخاناً مهرباً
010 ورق طوابع
638 المجموع
فلو أضفنا مقدار الربا والفوائض الفاحشة التي يدفعها صاحبنا هذا لعلمنا السر في بقائه مديناً أبد الدهر وإن أرادت الحكومة أن يأخذ من كل فرد من الرعية ما أصابه ففلو طلبت من صاحبناً هذا مثلاً (638) قرشاً دفعة واحدة لطار عقله وصرف ذهنه إلى الامتناع واستعد للعصيان وإذا استعدت النفوس لذلك قامت في وجه الحكومة وشقت عصا الطاعة ولكن لما كانت هذه الضرائب موزعة بين أن تؤخذ من الأفراد مباشرة تحت أسماء منوعة وبين أن تؤخذ بالواسطة كرسم المكوس كمرك والدخان والملح فلا يشعر بثقلها أحد وهذه الحكمة في أخذ ضريبة المواشي ولهذا تؤخذ هذه الضريبة تحت اسم خدمة الحكومة لحفظها(39/18)
من التعدي والنهب والسلب وهذا ما أصاب المواشي من نفقات الحكومة وديونها وبعد ذلك أرى أن المراعي والأراضي لا للحكومة لأن الحكومة هي الأمة فلا فرق بين الأمة والحكومة والخزينة هي خزينة الأمة ويظهر مما تقدم أن للحكومة أن تطرح ضريبة على الماشية.
بقي علينا أن نبحث في كيفية تلك الضريبة لتكون عادلة:
سمى الإمام أبو يوسف رضي الله عنه الضريبة المذكورة بالصدقات أي الصدقة في المواشي فقال سمعنا حديثاً عن الزهري عن سالم بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً في الصدقة فقرنه بسيفه أو قال بوصيته فلم يخرجه حتى قبض صلى الله عليه وسلم فعمل به أبو بكر حتى هلك ثم عمل به عمر قال فكان فيه في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة (40 ـ 120) فإذا زادت فشاتان إلى مائتين فإذا زادت فثلاثة شياه إلى ثلاثمائة فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة وفي خمس من الإبل شاة وفي عشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياة وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين فإن زادت ففيها ابنة لبون إلى خمسة وأربعين فإن زادت ففيها حقة إلى ستين فإن زادت ففيها جذعة إلى خمس وسبعين فإن زادت ففيها بنتا لبون إلى تسعين فإن زادت ففيها أربعين بنت لبون ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع اهـ
وعن علي رضي الله عنه وإبراهيم النخعي وأبي حنيفة أنه إذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وكذلك الغنم عنه إذا كثرت ففي كل مائة شاة شاة وليس في أقل من ثلاثين بقرة من البقر السائمة شيء فإذا كانت ثلاثين ففيها تبيع جذع إلى تسع وثلاثين فإذا كانت أربعين ففيها مسنة فإذا كثرت ففي كل ثلاثين تبيع جذع وفي كل أربعين مسنة ولعل معاذ في اليمن مثله وأما الخيل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفوت لأمتي عن الخيل والرقيق وقال أبو يوسف قد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نقله إلينا رجال معروفون أنه قال تجاوزت لأمتي عن الخيل والرقيق وقال عن سفيان بن عبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تجاوزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق وقال أبو يوسف فأما الإبل العوامل والبقر العوامل فليس فيها صدقة وشرط أبو يوسف في أخذ الصدقة(39/19)
شروطاً فقال وأما ما يؤخذ في الصدقة من الغنم فلا يؤخذ إلا الثني فصاعداً ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا عمياء ولا عوراء ولا ذات عوار فاحش ولا فحل الغنم ولا الماخض ولا الحوامل ولا الربي وهي التي معها ولد تربيه ولا الأكيلة وهي التي يسمنها صاحب الغنم ليأكلها ولا جذعة فما دونها فإن كانت فوق الجذع وما دون هذه الأربع أخذها المصدق وليس لصاحب الصدقة أن يتخير الغنم فيأخذ من أخيارها ولا يأخذ من شرارها ولا من دونها ولكن يأخذ الوسط من ذلك على السنة وما جاء فيها ولا تؤخذ الصدقة من الإبل والبقر والغنم حتى يحول عليها الحول والمعز والضأن في الصدقة سواء.
فتبين مما تقدم أن الشارع عليه الصلاة والسلام نظر في قيم المواشي الحقيقية وإيرادها الحقيقي لتكون الصدقة متناسبة مع الإيراد الحقيقي ثم إن الصدقة (أو رسم التعداد) هي شرعاً واحد من أربعين أي اثنان ونصف من مائة فلو نظرنا إلى ريع الغنم وريع البقر وريع الإبل وحسبنا الصدقات لم نجد تفاوتاً بين قيم الصدقات مثلاً فقد جعل عليه السلام شاة على الأربعين شاة وشاة على الخمسة من الإبل المتوسطة بحسب السوق نحو الأربعين ليرة فتكون الصدقة في الإبل والضأن ليرة من أربعين على أن الشارع لم يأخذ الصدقة من دون الأربعين شاة والخمس من الإبل رحمة بالفقراء. اهـ
وأما رسم التعداد النظامي الذي قام مقام الصدقات الشرعية فقد كان من قبل واحداً من عشرة ثم انقلب إلى الرسم فصار أربعة قروش صحيحة عن كل دابة من معز وضأن فإن كان عند رجل مائة وعشرون رأساً من الضأن وجب عليه دفع أربعمائة وثمانين قرشاً صحيحاً رسم تعداد وتسعة وعشرين قرشاً صحيحاً ونصفاً للتجهيزات العسكرية وقرشاً صحيحاً ثمن ورقة سكة حجاز ونصف قرش ثمن طوابع فتبلغ الصدقة عن المائة والعشرين رأساً (511) قرشاً صحيحاً أي نحو خمس ليرات ونصف ريال مجيدي وأما الصدقة الشرعية في هذه المائة والعشرين فهي شاة متوسطة لا تعادل قيمتها ليرة فصار رسم التعداد ستة أضعاف الصدقة الشرعية في الضأن وأما الماعز فعلى المائة وعشرين رأساً منها كذلك (511) قرشاً صحيحاً وهذا بمقام شاة من الماعز المتوسط وثمن الماعز المتوسط لا يتجاوز الثلاثة ريالات أي 57 قرشاً صحيحاً فيكون رسم التعداد عشرة أضعاف الصدقة في الماعز وهذا منتهى الظلم فقد اتضح لنا أن الفرق بين الصدقة الشرعية(39/20)
والضريبة الرسمية عظيم جداً وكنا ذكرنا في المقدمة أنه يجب على الحكومة أن تستوفي رسم التعداد عندما يكبر نسلها ويبيعه صاحبها ليدفع الرسم من ريع ماله غير أن القانون الجاري حتى الآن يجبر أصحاب المواشي على دفع الضريبة في آذار أو نيسان أو قبل آذار حينما تكون الخراف والحملان صغيرة لا تباع فيضطر صاحب المواشي إلى الاستدانة بأرباح فاحشة فيكون تحمل الضريبة مضاعفة ضريبة التعداد وفائضها فيصبح رسم التعداد عشرين ضعفاً من الصدقة الشرعية وهذه الضريبة الفادحة دفعت الأهالي إلى الاحتيال وتهريب الغنم والماعز لأنهم استكثروا الرسوم واعتقدوا أنها ظلم صراح لا صدقة شرعية فأثار هذا التهريب طمع القائممقامين والمتصرفين ومأموري المال فصاروا يبيعون مأموريات التعداد بدراهم معدودات ولا يخفى على أولي البصيرة أن مأمور التعداد الذي لا تزيد أجرته على أربعمائة قرش لا يدفع خمسين ليرة من أجل أن ينال تلك الوظيفة إلا إذا كان يعتقد تحصيل مائة ليرة والمائة لا تؤخذ إلا من أفراد متعددين فيضيع على الخزينة أكثر من مائتي ليرة وعلى ذلك فقس المملكة بأجمعها تجد الحكومة قد أضاعت مبالغ تعادل ما أخذته فوق الصدقة الشرعية ولم تربح إلا شيئاً قليلاً غير أنها حملت الأمة أثقال الضرائب والظلم هذا إذا صرفنا النظر عما يذبحه الموظفون من الخراف فتخسر الأمة مبالغ غير مشروعة بسبب انحراف الحكومة عن أحكام الشريعة انحرافاً كلياً.
ولما كانت القاعدة المشئومة تزييد واردات الخزينة بأي صورة كانت من أجل أن تصرف على بذخ الظالمين في الأستانة وكان بعض القاممقامين والمتصرفين يخشون النقص عن البدل السابق أنشأوا يضيقون على مستخدمي التعداد ليأتوا بزيادة الواردات يحملون الفقراء العاجزين ما ينقصونه عن الأغنياء فتبلغ ضريبة أغنام الفقراء أضعاف أضعاف ضريبة أغنام الأغنياء وأرباب السطوة والصولة ولهذا فقد نقص رسم تعداد الأغنام على توالي الأيام نحو أربعمائة ألف ليرة في المملكة كما أنه قل الخير وهجر الغنم أصحابها وقل اعتناؤهم وقلت المواشي فارتفعت إبان اللحم والسمن وضاق أمر المعاش.
ولو نزلت الضريبة إلى حد الصدقات وفرقت الحكومة بين الضأن والماعز وعدلت في رسم تعداد البقر والإبل المسومة لتنفس الأهالي وهانت عليهم الضريبة واعتقدوا أنها فرض ديني فلا يخفون ولا يهربون مواشيهم بسبب قلة الضريبة وأداء الفريضة فحينئذٍ يرغب(39/21)
الناس في تكثير الغنم والمعز وإصلاحها لكثرة ريعها ووفرة أرباحها فيكثر السمن والصوف والشعر فتسهل المواد الصناعية الابتدائية ويخرج ذلك إلى الممالك الأجنبية فتستفيد الخزينة من تمنع التجار والصناع ورسم الكمرك (المكوس) ويرخص السمن واللحم فتتسع على الناس معايشهم وتقوى على العمل أجسامهم وقد وقفت عند هذا القدر ريثما يتم النظام الجديد وسأعود إلى البحث إذا دعت الحاجة والله الموفق.
شكري العسلي(39/22)
ضراء العلماء
2
بين هذا الجيل الناشئ نفرٌ لم يكتب لهم الوقوف على حضارة المشرق وآدابه بل غاية ما وصلت إليه أفهامهم من البحث والتدقيق أخذهم بغشاء العلوم الغربية الحديثة فقط فراحوا وهم ثملون بحثالة تلك الثمالة يهرفون بما لا يعرفون زاعمين أن المشرق وحده منبعث الأعمال البربرية كما أن البعض حتى من علماء المغاربة يصورون الشرقي ذلك الغر المجرد والعربي ذلك الذي يخوض بحاراً من رمال محرقة وأشعة الشمس المذابة قطراتها تتصبب عليه فتصهر رأسه في فضاء صحاري جرداء تكاد لا تتناهى. . .
ولو تهيأ لذلك العربي ما تهيأ للغربي من التربية والبيئة (المحيط) وتكاثر الوسائل والوسائط ما كان مدعاةً للتأثير في أخلاقه وأفكاره وخيالاته وقوته العقلية وطبيعته الحيوية الخ. . . . لاستعاض عن ظلال الخيام التي كان يستحضر في زواياها بدور الكيمياء ذات البنيان الضخم والمعامل الكبيرة ولكانت له ضفاف الأنهار مباءة يتفيؤ ظلالها الخضراء.
ولقد رأينا العرب لما اختلفت عليهم مؤثرات التربية والبيئة وأنشاؤا يدوخون الممالك ويمصرون الأمصار أمة ناهضة بلغت في التحضر والتمصر شأواً بعيداً وضربت في المدنية والعمران بسهم وافر. ونبغ بين ظهرانيهم من الدهاة من ألفوا في العلم والاجتماع والأدبيات على اختلاف ضروبها فبرز الكندي وجابر الكوفي والطوسي وابن رشد وابن سينا والفارابي وابن أبي أصيبعة والسمرقندي في الرياضيات والطب والفلسفة والغزالي والرازي وابن حزم وابن باجة وابن خلدون والمتنبي والمعري في الاجتماع والتاريخ والأخلاق والشعر وأخذ العظماء من الأمراء يسرفون في إنشاء معاهد العلم في بغداد وسمرقند والشام والأقطار الأخرى وعهدوا وظيفة التعليم إلى من تأفقت شهرتهم في العلم في ذلك العصر مما يدل على نهضة علمية كبرى نشأت في المشرق بقي من آثار القائمين بها أطلال بالية ومن نتائج قرائحهم بقايا ملئت بها مكتبات المشرق والمغرب على كثرة ما عداها من عوادي الأيام.
ألا وإن الأمم تسير في تقدمها وتأخرها على نواميس عامة قد لا تختلف في الغالب إلا بقدر الاستعداد الفطري وتأثير الإقليم. وما يصح أن يقال عن تلك الأمم من الأعمال البربرية أن(39/23)
هو إلا أمر طبيعي لا بد من وقوعه بين أي شعب أسفَّ للانحطاط في العلم وأخلد للجمود في الدين.
مر على أوربا من أدوار الظلم والظلمات ما سجل لنا التاريخ من آثارها في الأمم الغربية ما يصح أن يكون عبرة همجية وذكرى سوء. وذلك في الغالب يرجع إلى عوامل ثلاثة كانت علة العلل لما نجم عنه من سقوط وصعود: الملوك ورجال الكنيسة والنبلاء. أما النبلاء: فلم يؤثر عنهم في الأعم الأغلب من حالهم سوى أنهم كانوا يسعون وراء تأييد نفوذهم ونيل مشتهايتهم وملذوذاتهم بأية طريقة كانت سواءٌ دعا سعيهم هذا إلى إهراق دماءِ الشعب وابتزاز أمواله واكتساح الأراضي الشاسعة من مستعمراته أو إلى مقاومة الملوك إذا آسوا منهم مالا ينطبق على ما ينزعون إليه من حب السلطة والجار الذي كان دينهم وديدنهم حتى أتيح لهم نفوذ قوي كان لهم عوناً في عامة ما تذرعوا به من الذرائع لحفظ سلطتهم وإحرازهم ميزةً على غيرهم من بني البشر حتى في المحاكم ومسائل القضاء.
وأما الملوك: فإن استئثارهم في الملك وإغراقهم في البذخ والترف خملهم على مبالغتهم في الإرهاق والعسف وإتيانهم كل امرء منكر لمطاردة قادة الأفكار من رجال الأمة فكان الملك يذيب أيامه ولياليه التي كان يجب أن يقضيها فيما يعود على الأمة والوطن بالمصلحة العامة في اختراع صنوف الحيل والدسائس تارة وفي أحلام الموبقات مرة أخرى فمن طنطنة أقداح إلى إزاقة ابتسامات بين وصيف وبغا وكثيراً ما كانت الحرب بالباب والسلطان في لعب.
ومما ساعدهم على عملهم هذا غفلة الشعب واتخاذهم من اعتقاده بالملوك والقياصرة والأقيال والأكاسرة إنهم آلهة الأرض والآمرون الناهون في العالمين آله صماء لتنفيذ آمالهم وأعمالهم. فكان الشعب مغلول اليد والفكر واللسان ليس له من الأمر شي إلا الطاعة العمياء. وفوق هذا كله فإنه كان يرى في هذه الطاعة خيراً يصيبه أو ثواباً يناله. ولم يكن من الشعب الغافل إلا أن وسمهم بالألقاب السماوية ووصفهم بعامة صفات الربوبية.
وأما رجال الكنيسة: فكانوا يبالغون أيضاً حفظاً لسلطتهم واستبقاء لعزيز جبروتهم في اضطهاد العلم والعلماء. وتم لهم ذلك بما أسدلوه على الأبصار من السجف المبرقشة التي هي ليست سوى خيالات خداع وختل ونفاق وتلاعب قالوا عنها أنها الدين وليست منه في(39/24)
شيء حتى كان منهم أن كانوا يقسمون الممالك ويوزعونها ويخلعون من الملوك من يشاؤن وكانوا كما قال أحمد شعيب بك حكام أوربا المطلقين (ديكتاتور).
غضب مرة الأب (هيلدي بران) على هنري الرابع وأصحابه فحرمهم جميعاً حتى اضطر الإمبراطور هو وزوجته إلى أن يقصدوه ليغفر لهم سيئاتهم فقطع جبال الألب في أيام الشتاء وقد ارتدى قميصاً أبيض أعد للمجرمين ووقف أمام القصر الذي كان جالساً في صدره ذلك الأب ثلاثة أيام وهو يرتجف من صبارة القر وأخيراً أذن له بالحضور فتمثل بين يديه وقبل قدميه وهكذا استطاع أن يظهر بمظهر العفو.
وإن أعمال رجال الكنيسة في محكمة التفتيش لا تكاد تمحى آثارها من صفحات الوجود فقد كان الغرض من إنشاء هذه المحكمة مقاومة العلم والفلسفة عندما خيف ظهورهما بسعي تلامذة ابن رشد وتلامذة تلامذته خصوصاً في جنوب فرنسا وإيطاليا. وفي مدة ثماني عشرة سنة من سنة 1481 ـ 1499 حكمت على عشرة آلاف ومئتين وعشرين شخصاً بأن يحرقوا وهم أحياء فأحرقوا وعلى ستة آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير فشهروا وشنقوا وعلى سبعة وتسعين ألفاً وثلاثة وعشرين شخصاً بعقوبات مختلفة فنفذت ثم أحرقت كل توراةٍ بالعربية.
وقد قرر مجمع لاتران سنة 1503 أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد وطفق الدومينكان يتخذون من ابن رشد ولعنه من ينظر في كلامه شيئاً من الصناعة والعبادة. قال الأستاذ الشيخ محمد عبده: لكن ذلك لم يمنع الأمراء وطلاب العلوم من كل طبقة من تلمس الوسائل للوصول إلى شيءٍ من كتبه وتحلية العقول ببعض أفكاره ثم قال: وأوقعت هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما خيل لكل من يلمع في ذهنه شيءٌ من نور الفكر إذا نظر حوله والتفت وراءه أن رسول الشؤم يتبعه وأن السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه من ورود الفكرة العلمية إليه.
هذا ولا تنس ما كان للحروب والثورات باديء بدء من التأثير السيء في الحركة العلمية في المدارس فالثورة الفرنساوية دعت إلى إلغاء دار الفنون الذي ظل يختلف إليها الطلبة منذ زمن مديد. وألغيت بالقرار المؤرخ في 10 آذار عام 1794 كلية باريس وثلاث وعشرون جامعة في الولايات الأخرى وصودرت أوقافها وأملاكها وإن حروب التتار(39/25)
الشعواء أغارت على الجامعات التي أُنشئت في مدينة (نوفوغوردو) و (كرسون) و (موسقو) من بلاد روسيا لما فتحها التتار بحد سيوفهم.
ولما دب في بولونيا دبيب الحياة وقامت تطالب باسترداد حريتها أنشأت الحكومة الروسية تتذرع بكل جليل وتافه لصد هجماتهم وأول ما بدأت به إغلاق الجامعات والمدارس ومن ذلك جامعة (فارسوفيا) الشهيرة التي أغلقت عام 1832 وظلت كذلك موصدة سنين وأعواماً. وإنه وإن أذن للجامعات بعدئذٍ أن تفتح أبوابها بيد أنه لم يعد يراعى فيها أصول الحرية في التربية والتعليم في حال من الأحوال.
وإنك لترى الجامعات والمدارس بعد ما توالى على أوربا من الأزمات العلمية والفكرية في حالة النزع والاحتضار إدارة وتعليماً. فأما ما كان من أمر التعليم فأنها كانت تسلك الخطة التي كانت متبعة في القرون الوسطى وكان المتطفلون على موائد العلم يتصافقون الرتب العلمية على رؤوس الأشهاد ولم يكن من المعلمين الحقيقيين من يستطيع أن يدرب التلاميذ على أصول التربية الحديثة وإن كان يوجد فإنهم كانوا يتقاضون مرتباً نزراً يسيراً.
في ذلك الزمن الذي اشتدت فيه الأزمة كانت أوربا تتمخض بالثورات السياسية والدينية. بيد أنها لم تستطع أن تضع حملها إلا بعد أن نبغ فيها فريق من أهل العلم والأدب فبدأوا يجدون بما في طوقهم وطاقتهم وراءَ مكافحة أولئك الخونة المارقين ومنافحتهم في القلم واللسان ليستردوا لبني البشر حقوقهم المغصوبة فكان فيهم العلماء والحكماء والأدباء والقصصيون والشعراء أمثال نيوتن وباكون ويكارت وهيكو وفولتر ولامارتين وتولستوي ولوك وفيختي وكانت وميرابو وموليير وغيرهم من رجال الإصلاح وكذلك كان بين هؤلاء من رجال الإصلاح الديني كثيرون ومن أشدهم جهاداً وجلاداً لوثيروس زعيم المذهب البروتستانتي في البلاد الأوربية والأميركية جمعاء.
فسد هؤلاء العظماء العجز في تربية الشعب وتعليمه واغتنت النفوس بما تجدد في البلاد من الأوضاع وما ظهر في عالم المطبوعات من المصنفات العلمية والأدبية واكتسبت بما اكتسته من الحلل القشيبة ميلاً خاصاً من القلوب فتهافت الناس عليها وهم في أشد الحاجة إلى ما يمحو ما تلطخ على صفحات الأفكار من الشوائب المبهمة. وكان أول انقلاب وقع في نظام الأسرة (العائلة) والمعتقدات. وتمثل هذا الانقلاب بأكمل مظاهره في المبادئ(39/26)
والأفكار وعلم الشعب حق العلم أنه مهضوم الجانب مهيض الجناح وأن الملوك والأمراء بأجمعها ليست سوى إجراء له وآنئذٍ نزع استرداد حقوقه بما مازج روحه من قوة الحرية في القول والعمل.
شعر الملوك ورجال الكنيسة لما آنسوا من الشعب ميلاً إلى الإصلاح ورجاله بالخطر الذي يتهدد سلطتهم الملطقة فأخذوا يضيفون على مظالمهم الأولى ضروباً من الجنايات والخيانات. ألا وإن قيصر الباستيل والآلة المدعوة المقصلة (كيلوتين) ومحكمة التفتيش وفيافي سيبريا وسراي التويليري أعظم شاهد على ما أتوا به من الفظائع والفجائع لمناهضة العلماء والحكماء ورجال الإصلاح:
هذا لافوازيه العالم الكيماوي المشهور الذي عني بهذا الفرع من العلم عناية خاصة واكتشف عناصر جديدة لم تكن معروفة من قبل ووضع نواميس عامة أبان فيها ما خفي تعليله على المتقدمين حتى دعي بـ (واضع الكيمياء الجديدة) ـ هذا الرجل على فضله وعلو كعبه في العلم وخدمته الإنسانية جمعاء حكم عليه بالإعدام وسيق إلى ساحة القتل حيث ذهب ضحية الجهل والغدر والخيانة.
وهذا غاليله العالم الإيطالي الفلكي المشهور عقدت من أجله جلسات متوالية في إيطاليا ضمت أهم رجال الكنيسة وغيرهم وأجمعوا بخروجه عن أوامر الدين في قوله بحركة الأرض ثم حكموا عليه بالإعدام فالتفت إلى الجمهور وهو جذل فرح وقال: هي تدور وفوق ذلك هي كروية.
وكذلك دانتي حكيم إيطاليا وشاعرها أمر الكردينال بورجينو عام 1339 بإحراق بعض مؤلفاته في بولونيا جهاراً وطلب إخراج جثته من القبر وإحراق عظامها انتقاماً من على إلحاده ثم لم تمضِ على هذه الأحكام عشر سنين حتى شعر الشعب الإيطالي بمنزلة هذا الجرل ففي سنة 1350 قررت جمهورية فلورنسا أن تدفع مبلغاً من النقود إلى ابنة له راهبة تدعى بتريس وفي عام 1396 قررت أن يبنى له ضريح ويقام له تذكار في فلورنسا على أنهم ما زالوا يحاولون بذلك إلى أوائل هذا القرن فابتنوا له ضريحاً وقد احتفلوا بافتتاحه في 14 تموز عام 1865 وهو تذكار مضي ستمائة سنة من يوم ولادته.
ومثله فولتر حكيم الأدباء في فرنسا نظم قصيدة هجا بها لويس الرابع عشر ملك فرنسا(39/27)
فحكم عليه بالسجن فسجن في الباستيل سنة نظم أثناءها قصيدة سماها التعاهد (ليبج) ورواية دعاها (أوديبوس) قالوا أنها أحسن ما كتبه من حيث شرح العواطف الحقيقية وذلك عام 1718 ثم أطلق سراحه بدعوى أنه مريض يحتاج إلى تبديل الهواء في (بلومبيار) فسار وقد عول على أن لا يعود إلى فرنسا ولكن قلمه ثنى عزمه فعاد إلى مثل ذلك فأعيد إلى السجن مهاناً بالضرب واللكم عام 1726 فلبث هناك ستة أشهر ثم أطلق سراحه والتجأ إلى إنكلترا لعله يتخلص من دسائس الفرنسويين.
ولقد كتب مقالات فلسفية قيل أنه تعرض فيها للدين والسياسة فأحرقت بأمر مجلس الأمة (البرلمان) واضطر إلى مغادرة باريس خوفاً على حياته وقد ذهب بعضهم إلى أنه ملحد لأن الكهنة لم تأذن بدفنه على العادة المألوفة وإن أحد أبناء أخيه كان رئيساً لدير فأخذ الجثة سراً إلى ديره ودفنها في الكنيسة وفي سنة 1791 نقلت الجثة إلى البانتيون مدفن الملوك والعظماء والكبراء.
وكذلك روسو فإنه نال من نبال الطعن والاحتقار ما لا يكاد يخطر على بال وما ذنب هذا الرجل الكبير ـ كما قال أحد حكماء فرنسا ـ سوى أنه خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتمادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجه خطاباً إلى الوالدات والأطفال وهو أمر هداه إليه ما فطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة ثم قال: وإن أردت أن أبين لك كيف خدم روسو الأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار لهم قلت أن ذلك إنما كان بما ألقنه تلك الكتب في نفوس الفرنسيس من بذور الثورة وهيأتها به لها.
ومثله لوتيروس المصلح الديني الألماني فإنه قام بالدعوة إلى ما صح عن المسيح فطبق ما ورد في الإنجيل ضارباً بتلك الأوهام التي تعلقوا فطفوا بها عرض الحائط. وأول ما ناهضه هو مسألة الغفران ولم ير داعياً للأبوة فألغى الرتب الروحانية وشركات الدنيا والقاعدة التي تخول الرهبان عدم الزواج ظهرياً.
وحملته طبيعة الحال على أن يدعي ويثبت مدعاه بأن كنائس الكاثوليك جمعاء تناقض أحكام الدين المسيحي على خط مستقيم وقد دعا الإمبراطور شارلكان المجلس العام في ألمانيا إلى الالتئام فالتئم وطلب المجلس بأكثرية الأصوات إحراق لوثيروس وقد كاد يقع(39/28)
ذلك لولا أنه أقام سنة كاملة في دار نبورج مختفياً عن أعين الرقباء وأتم خلال هذه المدة ترجمة الإنجيل الذي كان شرع بترجمته بادئ بدء وأحدث انقلاباً كبيراً في الأدبيات الإنكليزية والأفكار.
وبلغ بالقسيسين التعصب في إسبانيا على عهد سكسيمون الثالث مبلغاً هذا حده ولم يكن منهم إلا أن أبعدوا عامة من كانت تهزهم أريحية الوطنية أيام كان القسم الأعظم من واردات الحكوممة مخصصاً لصندوق الكنيسة. وإن شعور التعصب قد بلغ في أوربا أشده حتى كان الوباء إذا فشا نسب إلى الموسويين ومن ثم ترى هؤلاء المساكين يستهدفون لضروب الإيذاء والجفاء ما الله به عليم.
وبعد فإن سلطة العلم لا تقاوم ومن قاومها كان خليقاً بكل أذى يلحقه إن لم يكن عاجلاً فآجلاً. وصوت العلم النافع ـ كما قال رنان ـ كثيراً ما يتضاءل أمام هجمة المهاجمين وقحة الدجالين وللعم صوت متى سكن ضجيج تلك الظواهر يظل ذاك الصوت يسمع فلا يعود أحد يسمع غيره قال: ومن أجل هذا ترى المجامع العلمية على كثرة شكوى أهل الأفكار المنحطة منها فائزة بفضل الغلبة لأنها حارسة حسن الترتيب الحقيقي وهي قليلة ولكنها مفلحة وليس لغير العقل سلطة تبقى.
وإن رجال الإصلاح كلما أغرقوا في الدعوة إليه صموا آذانهم عن جلبة الوشاة والمشائين ولم يحفلوا بما ينزل بساحاتهم من الكوارث وإنهم ليعدون ما يصيبهم من إهانة واحتقار شرفاً لهم وفخراً كما قال الكتاب الفرنسوي: كل قبضة من الوحل تلقى في جبهة صاحب صناعة فهي إكليل من الفخار وقد سيق من سيق من هؤلاء المصلحين إلى القتل وعلى شفاههم تلوح ابتسامة السرور ولسان حالهم يقول كما قال لازوروس: نحن نموت الآن لأن الشعب نائم وتموتون أنتم غداً متى استيقظ الشعب.
هذه آثار الأدوار السوداء ونتائجها ولقد كان للأمم الشرقية من آثار مثل هذه الأدوار حظ وافر ولو لم يزل فيهم من القوة بقية ومن الذكاء الذماء لأودت بحياتهم الأدبية منها والمادية. ومما يقوي آمال رجال الإصلاح ويشد عزائمهم ما رأوه من نهضة المشارقة في هذه القرون الأخيرة فقد تناولت الحركة الإصلاحية الشمس المشرقة (اليابان) ففارس فالأمة العثمانية مما يدل على أن الاستعداد كامن في نفوس البشر التربية تظهره والإهمال يخفيه.(39/29)
ولا بدع إذا قامت تلكم الأقوام بنهضة حديثة اهتزت لها الأرض من أقصاها إلى أقصاها وهم الذين كانت لهم فيما مضى حضارة ضخمة فخمة قضت عليها النواميس الطبيعية بالاندثار والعفاء وقيضت من رجال الغرب عني بأمرها فبزوا بها وبرّزوا. وما على الأمم الشرقية اليوم إلا أن تطرس على آثار الغربيين في العلم والاجتماع وتأخذ بالأمور المعقولة من حضارتهم ومدنيتهم ليكتب لها عمر مديد وتاريخ مجيد!. .
دمشق:
صلاح الدين القاسمي(39/30)
الرتب والأوسمة
كانت الرتب والأوسمة العامل الأقوى في إفساد الأخلاق على عهد الحكومة الاستبدادية الماضية فاستعملها الظالم ذريعة لرفع من شاء ولو كان وضيعاً وتصغير من أراد ولو كان كبيراً وفي تقلد الأوسمة ونيل علائم الرتب كم خربت بيوت وشتت شمل أسرات وكانت أقل الوسائط إليها وأقربها تناولاً أن يعمد من يرغب في التشرف بها إلى التجسس على الأحرار وإيجاد السبل لإرهاق من يطالب الحكومة السالفة بإصلاح المختل ومداواة المعتل.
ومن نظر في التاريخ يجد الألقاب عند العرب والإفرنج من بقايا القرون الوسطى قرون الهمجية والانحلال. فمنشأوها عند العرب كما قال ابن الحاج في المدخل الترك فإنهم لما تغلبوا على الخلافة تسموا هذا شمس الدولة وهذا ناصر الدولة وهذا نجم الدولة إلى غير ذلك فتشوقت نفوس بعض العوام ممن ليس له علم بتلك الأسماء لما فيها من التعظيم والفخر فلم يجدوا سبيلاً إليها لعدم دخولهم في الدولة فرجعوا إلى أمر الدين فكانوا أول ما حدثت عندهم هذه الأسماء إذا ولد لأحدهم مولود لا يقدر أن يكنيه بفلان الدين إلا بأمر يخرج من السلطنة فكانوا يعظمون على ذلك الأموال حتى يسمى ولد أحدهم بفلان الدين فلما أن طال المدى وصار الأمر إلى الترك لم يبق لهم بالتسمية بالدولة معنىً إذ أنها قد حصلت لهم فانتقلوا إلى الدين ثم فشا الأمر وزاد حتى رجعوا يسمون أولادهم بغير ما يعطوه على ذلك ثم انتقل إليه بعض من لا علم عنده ثم صار الأمر متعارفاً متعاهداً حتى أنس به العلماء فتواطأوا عليه. قال أبو بكر الخوارزمي:
مالي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقبوا رجلاً لو عاش أولهم ... ما كان يرضى به للحش بوابا
قلّ الدراهم في كفي خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقابا
أما في الغرب فكانت الرتب العلمية والجندية في القرون الوسطى تباع بيع العروض والعقار يمنحها الملك لمن يريد من حاشيته أو لمن يرى هو ورجاله أنه قام بخدمة لبلاده وربما ورثها عنه أبناؤه وأحفاده من بعده على نحو ما أصبح أولاد العالم في العهد الأخير في هذه الديار يرثون وظائفه ومقامه كما يرثون أرضه ومتاعه وتطلق عليهم ألقاب هي العجب العجاب وأسماءٌ ما أنزل الله بها من سلطان كأن يقال لا جهل الجاهلين أعلم العلماء المحققين وللخالع المارق ناصر السنة والدين.(39/31)
الرتب على النحو الذي يعهد في الشرق والغرب اليوم لم يكن لها ما يماثلها في الدولة اليونانية ولا الرومانية وغاية ما في الأمر أن الظافر في الألعاب الأولمبية في آثينة كان يذكر بالمحمدة ذكراً يورثه الشرف هو وأهل بلاده وينال جائزة سنية وكذلك من كتب به النصر على أعداء رومية ولكن لا يرث أبناؤه وأهله ما كان هو أبا عذرته وداعية مفخرته.
ولما انتظمت حكومات الغرب ألغيت الرتب من معظم الممالك الأوربية ولا يزال لها أثر في بعضها ولكنه ضئيل لا ينمُّ عن شرف ولا ينبئ عن فضيلة ورجع الناس هناك أو كادوا إلى عادة السذاجة التي كانت عليها دولة العرب ثلاثة قرون وأكثر فكان يدعى الكبير باسمه أو بكنيته ولم يكن للألقاب سوق معروفة.
كان براد بالرتب والأوسمة وعلائم التشريف في الأصل تحريك نفوس الناس إلى مباراة بعضهم بعضاً في طلب الكمال والمجد الحقيقي لأن من واجبات الحكومة أن تنشط العامل وتأخذ بيد صاحب الكفاءة ليكون مثالاً صالحاً لغيره والرتب والأوسمة من الأمور التي قد تساعد على هذا الشأن ولكن المتأخرين من أهل الغرب شاهدوا كما شاهد المتأخرون في الشرق أيضاً رداءة تلك الطريقة فأسقطوا بعض تلك الرتب والأوسمة وبقي غيرها عضواً أثرياً من حكومات القرون الوسطى يدل بأصرح بيان على أن من الصعب جداً على حكومة لها بعض التقاليد وإن كانت غير معقولة أن تنسفها جملة واحدة اللهم إلا إذا كانت كحكومة الولايات المتحدة لم تبن أصول حكومتها على أنقاض غيرها بل جعلت فيها العلم قائداً والعقل مرشداً ورائداً ولذلك تساوى بها العامل الصعلوك مع رئيس الجمهورية في الألقاب والتشريف.
قال أحد علماء الفرنسيس: ومن الواجب الاقتصاد في منح الأوسمة والألقاب وأن يتوخى المنعم بها لا يهبها إلا لمن يستحقها ممن لا ينكر عليهم استئهالهم لها أبعد الناس عن معرفة الحقيقة ومن الخطأ الفادح أن يذهب بعضهم إلى أن عدد الراضين يزيد بمضاعفة علائم الشرف إذ الأمر بخلاف ذلك وكلما خفضت المطالب والقيود درجة زادت الدعاوي الطويلة العريضة وما أنت بصاحبها في هذا المطلب إلا كأنه يتقاضى حقاً وأمراً مشروعاً وكلما زاد إعطاء الأوسمة وقعت الحكومات في شر أعمالها فتصبح في ذلك بين أمرين ما أن تعطيها لأناس لأخلاق لهم ولمن لهم علم واقتدار ولكنهم معروفون بالأخلاق السافلة وكلا الحالتين(39/32)
قبيح وأقبح. وما حال الشعب إذ ذاك إلا حال الأطفال في المدرسة يطمحون إلى المكافآت المدرسية ويحرصون عليها أكثر من طموحهم إلى التقدم الحقيقي.
قلنا أن الظافر في الألعاب الأولمبية بآثينة كانت تنظم له الجوائز وكذلك الظافر في البر أو البحر يجازى أحسن الجزاء في رومية ويقلد أوسمة أشبه بأوسمة هذه الأيام علاوة على المكافآت المالية ومنها تيجان للجنود وأكاليل من ورق الزيتون وأكاليل من أغصان البلوط وأسورة وقلائد من الذهب والفضة تناط في الصدور أو في قرون صغيرة تجعل في أطراف الخوذ.
ولم تكد ترفع عن الأفواه والأقلام في البلاد العثمانية كمائم الاستبداد والحجر هذه ألسنة حتى قام عقلاء العثمانيين يكتبون في إسقاط الرتب والأوسمة لأن في إسقاطها رفع شأن أرباب الكفاءآت وتوعوا لذلك الأساليب وفي مقدمة الكاتبين المتخرجون من المدرسة الملكية العالية في الأستانة وهي من أرقى مدارس الدولة فقام من تعلموا فيها وفيهم الولاة وكبار العمال وتجردوا عن رتبهم مختارين قائلين أن الرتب من قبيل الامتيازات الشخصية المخلة بقاعدة المساواة وأن البلاد الشوروية لا يجوز أن يكون فيها فريق من الناس محكوماً لفريق آخر من أجل هذه الامتيازات الوهمية التافهة.
وبعد فإنه لا أثر لهذه الرتب الشخصية في البلاد المتمدنة ولا وجود لها إلا في بلادنا وفي بلاد إيران على أننا نعد هذه المسألة قد حلت حلاً نهائياً لأن مجلس الأمة مصمم على إلغائها بتاتاً وبما أن آخر الشيء ينبه إلى أوائله أحببنا أن نبحث في نبذة من تاريخها ليبقى حسرة في قلوب عشاقها المولعين بوضع القصب على الصدور وفوق العمائم.
كان الرومانيون واليونانيون يوجهون المناصب لغير طبقة العسكرية ولكن لا يوجهون عليهم رتباً شخصية. أما العرب فكانت الرتبة عندهم هي الفضيلة والمزية الشخصية وكانوا يوجهون الرتب العسكرية عند الحاجة مؤقتاً.
وإنا إذا تصفحنا التاريخ نرى النبي صلى الله عليه وسلم عين وزيره ورفيقه في الغار أبا بكر الصديق رضي الله عنه جندياً في الجيش الذي عقد لواءه لأسامة بن زيد وكان هذا ابن أمة ولكن خبرته في أمور الحرب وشجاعته أهلته لقيادة جيش فيه مثل أبي بكر الصديق ونرى عمر بن الخطاب عزل خالد بن الوليد وجعله تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح وكان(39/33)
جندياً في جيش خالد بن الوليد لما عهده عمر في أبي عبيدة من التأني والاحتياط في أمور الحرب.
وأخذت الحكومات في القرون الوسطى بأوربا على عهد الإقطاعات توجه الرتب والألقاب على المأمورين الملكيين قياساً على رتب الرهبان فرتبة فارس (شفالية) كانت شخصية ولها درجات معينة وليس عند الأوربيين اليوم رتب شخصية توجه بالإنهاء بها.
كانت الدولة العثمانية في أول أمرها توجه لقب باشا بمعنى الأخ الأكبر على من يخدم الدولة والدين خدماً فائقة ولقب جاويش وآغا على من يخدم خدماً صغيرة ولما أصلحت الأمور العسكرية والملكية والعلمية في زمن السلطان أورخان ومن يليه من السلاطين أحدثت بعض رتب خاصة بالمناصب لا يتجاوز عددها الأربعة وهي (خوجكانلق) و (قهوجي باشيلق) و (ميرميرانلق) و (الوزارة) ولا يتجاوز أصحاب هذه الترب السبعين أو الثمانين في الغالب فرتبة الوزارة كانت توجه على الصدر الأعظم وعلى (توقيعئ ديوان همايون) وعلى (دفتر دار الشق الأول) يعني ناظر المالية وتوجه نادراً على عامل الولايات الكبرى المهمة وتعلو أقدار رجال الدولة (خواجكان) و (قهوجي باش) وتوجه رتبة (الروم إيلي بكلربكي) التي كانت لها صبغة عسكرية على المتخرجين من أصحاب رتبة (ميرميران).
كان لقب (سعادتلو) خاصاً بالسلطان إلى عهد سليمان القانوني ويخاطب الصدر رجال الدولة بلقب (عزتلو) ومع هذا كله كانت الرتبة توجه وقتئذ في مقابل خدمة مهمة. وفي سنة 1248 أدخل بعض التغيير في الرتب والألقاب رتبة (أولى) مع لقب (سعادتلو) على (كتخدابكي) ناظر الداخلية أو مستشار الصدارة اليوم وعلى (رئيس الكتاب) وهو ناظر الخارجية وعلى ناظر (الضربخانة) وتوجه الرتبة الثانية مع لقب (عزتلو) على (أمين الترسانة) و (أمين دار المدافع) وعلى (الباش جاويش) يعني ناظر العدلية والضبطية وأمثالهم. والرتبة الثالثة مع لقب (فنوتلو) على أمناء المكوس وبقية رؤساء المأمورين. والرتبة الخامسة مع لقب (حميتلو) على مديري الأقلام ومميزيها.
وقسمت بعد ذلك التربة الثانية والثالثة إلى قسمين وجه أول منها على رجال الباب العالي والثاني على أرباب اللياقة من مأموري الولايات وقد أهملت منذ ربع قرن فروع الرتبة(39/34)
الثالثة كما أهملت في زماننا رتبة (خواجكان) و (قهوجي باشى) و (الخامسة). وفي سنة 1255 سمي القسم الأول من الثانية متمايزاً وقسمت الرتبة الأولى إلى قسمين وسمي القسم الأول (أولى أولي) بالإضافة مع زيادة (حضرتلري) على الألقاب و (المشار إليه) بين العبارات وسمي القسم الثاني (أولى ثانيسي) وبالنظر لتكاثر سواد أصحاب الرتب الأولى وتجاوز عددهم الأربعين شخصاً أحدثت في سنة 1261 رتبة (بالا) مع لقب (عطوفتلو) ليكون خاصة بالرجال المحلين والممتازين على شرط أن لا يزيد عدد أصحابها على السبعة. اهـ(39/35)
إسبانيا والعمران العربي
نشر المسيو كاباتون ن علماء المشرقيات بحثاً إضافياً في مجلة العالم الإسلامي الباريزية جاء فيه ما تعريبه: كتب لإسبانيا من دون ساتر بلاد أوربا أن تكون مبعث أشعة التمدن الإسلامي وكهف اللغة العربية على حين ليست هذه الشبه الجزيرة متصلة من حيث موقعها الجغرافي بالشرق الإسلامي مباشرة كما هي حال الممالك البلقانية واليونان مثلاً. وأقرب البلاد بها مساساً وأقربها منها حمى بلاد أفريقية التي كانت منذ قرون ثانوية في النشوء الإسلامي فشغلت إسبانيا مكانة عظمى في تاريخ الإسلام أكثر مما جاور آسيا الصغرى من بلاد الطونة واليونان التي لم تشهد من الإسلام إلا العهد الموغل في التوحش الكثير الفتن القليل المنافع ونعني به عهد الأتراك على حين ذاقت إسبانيا أجمل عهود الإسلام وأخصبها وأعني به عهد العرب فتأصلت مدنيتهم في إسبانيا وأزهرت فيها أي إزهار.
فتح طارق بن زياد وموسى بن نصير إسبانيا من سنة 711 إلى 714 وكانت مستعدة لهذا الفتح لأن الفوضى كانت رافعة عليها أعلامها فاستولى العرب على عرش تلك البلاد من ملكها رودريك الذي هلك في المعركة وأظهر الأشراف ورجال الدين من الإسبانيين من الجبن والنذالة شيئاً كثيراً فهربوا من إشبيلية وقرطبة عندما سقطتا في أيدي العرب ولم يفكروا في الدفاع عنها وبلغ بهم الخوف في طليطلة أن بعضهم هرب إلى غاليسيا ومن رجال الدين من لم يقفوا إلا في رومية لأنهم كانوا يخشون على حياتهم وأموالهم على أن حكومة إسبانيا إذ ذاك كانت مكروهة من العبيد واليهود لأن هؤلاء كانوا مضطهدين. خدم العبيد باديء بدء الدولة الإسبانية قبل دخول العرب ثم قلَّ إخلاصهم لها حتى أن قرطبة سلمها للعرب راهب من العبيد وتمت على أيديهم خيانات أخرى. وكان اليهود أكثر ضرراً على حكومة إسبانيا الغربية ولا يتأتى تقدير عددهم بالتدقيق بل هم فيما يظهر عنصر مهم للغاية انتشروا في قرطبة وإشبيلية والبيرة وغرناطة وطليطلة وغيرها من المدن ولا سيما لوسنا.
وكان اليهود في الأندلس على جانب عظيم من الغنى وحسن معرفة بالتجارة وأرقى علماً من جيرانهم واستحكمت بينهم الصلات حتى أصبحوا حكومة وسط حكومة فخاف الملك ورجال الدين الكاثوليكي من امتداد سلطانهم وأخذوا يضطهدونهم بتحامل شديد فربي الخوف والاضطهاد في نفوسهم البغضاء وحب الانتقام. وفي سنة 694 قبل مجيء طارق(39/36)
والعرب بسبع عشرة سنة دبر الإسرائيليون مكيدة بمعاونة قبائل البربر اليهود من أهل إفريقية وكادوا يستولون على زمام المملكة الإسبانية. فاكتشفت المكيدة التي دبروها وأخذ المسيحيون يعاملون الإسرائيليين معاملة العبيد الأرقاء وكاد يقضى على العنصر اليهودي عندما بدت طلائع الفاتحين من العرب. اعتبر اليهود العرب مخلصين لهم فاطمأن المسلمون إليهم وأخذوا يعاملونهم معاملة حلفاء لهم وكلما كان يفتح العرب مدينة يجعلون نصف حاميتها من اليهود والنصف الآخر من المسلمين ولم يستثن من ذلك إلا مدينة مالقة حيث قصراليهود فلم يتداخلوا في أمرها.
وكان لليهود شأن وأي شأن مع العرب فكان من يناله اضطهاد المسيحيين على أوائل الفتح العربي يدخل في الإسلام ويتحرر من قيود العبودية فمن ثم أصبح اليهود حلفاء المسلمين يتمتعون بأراضيهم وأموالهم وحريتهم في عبادتهم وغدت لهم مكانة في تنظيم شؤون إسبانيا ولاسيما في غرناطة التي ازدهرت بمساعيهم وغدت تسمى في أواخر القرن العاشر مدينة اليهود ثم حدثت م1بحة سنة 1066 فقتل فيها من الإسرائيليين أربعة آلاف رجل في غرناطة وحدها.
ولم يكن المسيحيون الأحرار في الأندلس مثل العبيد واليهود من أعوان الفتح العربي بل كانوا خصومه ومع هذا كنت تراهم على حالة حسنة مع الفاتحين ممتعين بحريتهم المذهبية ومحتفظين بالقسم الأعظم من كنائسهم وكثير منهم دانوا بالإسلام سياسة أو اعتقاداً لاسيما وقد رأوا المسلمين نالوا النصر المؤزر الباهر. والسبب في تسامح العرب مع نصارى إسبانيا أن مركز العرب كان إلى التقلقل وكلمتهم مختلفة وذلك لأن العرب والبربر يكره بعضهم بعضاً. ثم إن العرب بطبيعتهم مفطورون على التسامح الديني وكان النصارى وحدهم يدفعون الجزية حتى إذا أخذوا يدينون بالإسلام فرغت خزائن الحكومة العربية لقلة الجزية الواردة إليها ثم إن المسلمين أخذوا يتزوجون من الإسبانيات اللائي كن بجمالهن أعظم صلة للامتزاج بين الفاتحين وخصومهم.
وكانت تجري على سادات الإسبانيول أحكام الإسلام فيختلطون بأشراف العرب ومن ظل محتفظاً بدينه منهم نسي مبادئه فصار يحجب نساءه كالمسلمين ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم وخلاعتهم ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة(39/37)
العربية وآدابها ويسعى في نيل وظيفة في الجيش الإسلامي أو التعلق بخدمة الخليفة أو أحد رجاله.
ولقد كان القشتاليون والليونيون والنافاريون من سكان إسبانيا المسيحيين يأتون بكثرة للانخراط في خدمة الخليفة المنصور وكان هذا مؤقتاً بأن حب الكسب هو الذي يحمل هؤلاء على الإخلاص له أكثر من أشراف العرب الطائشين فيجري عليهم لذلك الأرزاق والجرايات الوافرة ويشملهم برعايته. وإذا شجر اختلاف بين مسيحي ومسلم من جنده يعطي الحق غالباً للمسيحي. وكانت أيام الآحاد أيام عطلة بدل الجمع. ولما انقسمت بلاد الأندلس بين الطوائف أمسى ملوك المسيحيين يتزوجون من بنات الأمراء المسلمين فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية. وإن إسبانيا على ما كان بين العنصرين المسيحي والإسلامي في الأندلس من الاختلاف الذي لا مناص منه قد أصبحت مدة قرنين ونصف أي منذ الفتح العربي إلى زوال الخلافة الأموية (774 ـ 1031) تحت السلطة العربية والمدنية العربية برضاها لا بالرغم منها وقد مزجت تلك المدنية بالمدنية الإسبانية اللاتينية واليهودية التي كانت هناك قبل الفتح الإسلامي وكان ذلك بفضل العقل العربي.
من الظلم أن يقال أن إسبانيا كانت قبل إغارة العرب عليها في حالة الهمجية فقد كانت المدنية اللاتينية زاهرة فيها بفضل رجال الدين فأصبحت إشبيلية بواسطة أسقفها القديس إيزيدورس مركزاً علمياً قوي الدعائم لم يقو الفتح العربي على زعزعته وأنقذت مدرسة إشبيلية التقاليد اللاتينية من الحركة الشرقية فأصبحت البيع والأديار محال الاعتقادات والمعارف ولاسيما طليطلة وقرطبة وإشبيلية فكان يدرس فيها علم العروض والآداب اللاتينية مع علم اللاهوت. وعلى الرغم من سعي الأساقفة انتشرت المدنية العربية بسرعة وكادت تقضي على الوطنية الإسبانية وانحلت تلك المدنية الأصلية حتى ظلت معاهدها من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر مباءة الانحلال والتنبت.
دان كثير من الإسبانيين بالإسلام فأخذوا يتناسون أصولهم ويستعربون بحضارتهم وأخلاقهم وأنشؤا يتكلمون بالعربية بفصاحة لا غبار عليها وتمكنوا من آداب العرب حتى صار الخلفاء يختارونهم فيما بعد عمالاً لإداراتهم وأمناءَ لمشورتهم وأسرارهم أي في جميع الوظائف التي تقتضي أن يكون لصاحبها معرفة واسعة باللغة العربية ومتى قبل أحدهم(39/38)
مدنية الفاتحين لا يلبث أن يعترف بأنها أرقى من غيرها.
كانت مدنية العرب في إسبانيا محسوسة في الأمور المادية وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البور في إسبانيا بالأساليب العلمية التي اتخذوها لريها وهي أساليب إن لم تكن اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها وأحسنوا استخدامها كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبلور وغزل الصوف والقطن والكتان والقصب وأقاموا ما لا يحصى من البنايات العمومية من مثل الجوامع والحمامات ومنها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من تأسيسه مثل جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة. ثم خدموا العمران بتخطيط المدن الآهلة بالسكان الغنية الرباع التي لم تسترجع بعد الرعب ما كان لها في أيامهم من الحضارة وما برحت أنقاضها وما فيها من جمال رائع وصناعة محكمة ولاسيما في قرطبة وغرناطة شاهدة أبد الدهر بتلك المدنية باعثة على التأسف لزوالها.
نعم إن العرب فاقوا في تقدمهم في شبه جزيرة الأندلس بعلوم الطب والنبات والفلك والطبيعيات سواء كان بالعمليات أو بالنظريات فكيف لا يبتزون في علم البلاغة والفلسفة والشعر وهي العلوم التي كان لهم القدح المعلى فيها. وقد اجتذب حب هذه الحضارة حتى المسيحيين ومنهم من تناسى الأحقاد والمبادئ وما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العبرية وما مضي نصف قرن إلا وقد دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنائسية إلى اللغة العربية ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها.
ولقد اتخذ المسيحيون اللغة العربية ترجماناً لعواطفهم وقلوبهم حتى شكاالفار والقرطبي صديق الشهيد ألوج كما قال دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا من أن المسيحيين في الأندلس قد أفرطوا في حبهم للعربية حتى صاروا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم لا ليردوا عليها بل ليحلوا بها منطقهم. قال وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة ومن منهم يتدارس الأناجيل والأنبياء والرسل ومن الأسف أن جميع صغار المسيحيين الذين اشتهروا بقرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يقرؤن الأسفار العربية(39/39)
ويتدارسونها بنشاط لا مزيد عليه ويقتنونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها خزائن نفيسة ويذكرون في كل مكان أن آداب العربية مما يعجب به وإذا حدثتهم بالكتب المسيحية يجيبونك بازدراء أن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم. وأي ألم أعظم من أن ينسى المسيحيون حتى لغتهم ولا تجد في ألف واحد منهم من يستطيع أن يكتب كتاباً مناسباً باللغة اللاتينية إلى صديق له وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهوراً يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم.
واللوم في قصور الإسبانيين عن شأو العرب أن الحضارة الإسبانية اللاتينية قد نضب معينها وذهبت نضارتها على حين كانت الحضارة العربية على أشد نضرتها على عهد خلفاء بني أمية في الأندلس ولاسيما زمن عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني وفي أيامهما كان الأمويون في إبان عزهم.
فكان في قرطبة وسكانها نصف مليون نسمة ثلثمائة مسجد جامع وأحواض ماء وحدائق وفيها الآكام المزروعة المعروسة والحدائق الأنيقة وعلى نحو فرسخ من قرطبة قصر الملك الزهراء ودائرة الحريم منها تسع ثمانية آلاف امرأة فكانت قرطبة تنازع بغداد الأولية ببهجتها ونضارتها.
وقد عرف عبد الرحمن الثالث أذكى ملوك عهده جناناً وأكثرهم استدارة وأغناهم وكان في خزانته عشرون مليون ذهب (كذا) ـ بسخائه المتناهي في اجتلاب الشعراء وأرباب الموسيقي ومشاهير العلماء يقتدي في ذلك بأسلافه عامة. وإن المتوسطين من هؤلاء الخلفاء ليدرون النفقات الطائلة على أناس لهم في الإسكندرية والقاهرة ودمشق وبغداد وكل إليهم أن يوقفوه على الحركة العقلية فيبعثون إليه بأهم المصنفات وأجمل الآثار. مثال ذلك أن إمبراطور القسطنطينية لم ير أحسن من أن يهدي مصنفاً بديعاً من ديوز كوريد مكتوباً بالذهب وقد حمله مع راهب عهد إليه بتعريبه للملك استجلاباً لرضاه.
فاق الحكم الثاني أباه بولعه بالآداب والكتب النادرة فكان يغص قصره بالنساخ والمجلدين والنقاشين وبلغت فهرست كتبه بحسب رواية معاصريه أربعة وأربعين جزءاً وكل جزءٍ عشرون صفحة وقال آخرون أن في كل جزء خمسين صفحة. ولم يكن فيها غير اسم(39/40)
الكتاب ووصفه. وقد قرأ الحكم هذه المصنفات وشرحها وحشاها وعلق عليها تعليقات تدل على طول باعه في تاريخ الأدب العربي. وبذل لأبي الفرج الأصفهاني من علماء العراق خمسة آلاف دينار ليخص الأندلس بتأليفه وهو عبارة عن دائرة معارف حوت أخبار الشعراء والمغنين. وكان العلماء من إسبانيا وغيرها ينهالون على قصره فيحسن فيه لقاءهم ويفرق عليهم الإحسان واشتهرت كلية قرطبة في العالم بأسره وإن لم تكن معروفة بأنها معهد رسمي للخلفاء أكثر من جميع الكليات العربية. وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني يحميان العلماء فيها من تعصب المتنطعين في العبادة. فيأتي الجامع الأعظم ألوف من الأندلسيين والأجانب من كل البلاد لاشتهاره بأنه معهد علمي وذلك من مدينة الأستانة إلى جرمانيا حيث كان هروفستا بقرطبة وهو فيديره. وفي ذاك الجامع كان أبو بكر بن معاوية القرشي يقريءُ الحديث النبوي وأبو علي القالي البغدادي يملي أماليه المشهورة الغنية بالنكات اللغوية والشعرية المأثورة عن العرب القدماء وابن قوطية أعلم نحوي في عصره يدرس النحو.
ورأى الحكم قبيل وفاته أن من الصعب على من بعده نشر المعارف بين الفقراء فأنشأ فيقرطبة سبعة وعشرين مدرسة ينفق على مدرسيها من ماله. ولئن كانت هذه المدارس الصغرى كالكليات لا تنطبق على ما نريده منها اليوم فكانت المدارس الابتدائية لتعليم القراءة وتفسير بعض آيات من القرآن ومع هذا كانت تشهد بما فطر عليه رعاياه من حب المعارف والتعليم.
وإن ذهاب الخلافة من الأندلس سنة 1031 وتقاسمها بين ملوك الطوائف سواء كانوا من أشراف الأسر العربية أو حذاق البربر لم يقف عثرة في سبيل هذه الحمية بل كان شأن عامة ملوك الطوائف شأن أولئك الأمراء في إيطاليا على زمن النهضة يحاولون أن يبرروا مظالمهم بحمايتهم للعلماء ولاسيما للشعراء الذين كانت أماديحهم وأهاجيهم عند العرب ذات شأن كبير حتى كان أعظم الخلفاء في بغداد ودمشق يحاول أن يسالمهم ليسالموه ويحسن إليهم ليمدحوه.
وتقدمت إشبيلية في تلك القصور الخالعة المتحضرة فكان المعتضد ابن عباد ابن القاضي أبي القاسم محمد مؤسس الدولة العبادية من الأمراء الظالمين المتهتكين يزرع الورد في(39/41)
جماجم أعدائه الكثار ويسرح طرفه بالنظر إلى هذه الحديقة ويدمن الخمر ولكنه ينظم الغزل الرقيق ويمنح الأدباء وظل ابنه المعتمد المحبوب الذي هلك في غارة المرابطين أحد المشاهير بنظم الأغاني في الأدب الإسباني العربي وقد أعطى من أجل بيتين فذين لعبد الجلال ألف دينار. وكان ابن عمار رفيق صباه وحاجبه زمناً شاعراً أيضاً ويساوي مولاه برقة الشعر ورشاقته وكانت رومابيكا السلطانة المحبوبة التي استولت طول حياتها على عقل المعتمد وقلبه مشهورة ببديهتها وهكذا كانت غاية هؤلاء المفتونين الظرفاء من الحياة أن ينصموا ويترفهوا ولو لم يضيفوا إليه محبة الآداب والصنائع الفكرية لكانت حقيرة ومريرة.
ولقد نافست مملكة المرية على صغرها مملكة إشبيلية وكان ابن عباس الوزير الجبار لزهير (1028 ـ 1038) يفاخر ببيانه المبرأ من العيوب وما اقتناه في خزانة كتبه التي تبلغ أربعمائة ألف مجلد أكثر من مفاخرته بغناء العظيم بالنسبة لعصره. ذكر المعتصم الذي طرده المرابطون كما طردوا المعتمد بأنه أحسن الملوك العلماء وأعدلهم في بلاد الأندلس فكان سخاؤه على الشعراء متناهياً حتى وهب ابن شرف قرية برمتها لبيت من الشعر قاله. وكانت قطعة من الشعر أو قصيدة من المدح الرقيق تمطر على ناظمها العطايا. وهو يرغب في سماع الأهاجي ولاسيما إذا دلت على صناعة وخلت من رميه بالبخل ولذا كان الأدباء يهرعون إلى قصره ويخدعونه ويبرمونه بمطالبهم التي لا تطاق فخف إليه في المرية طائفة من الشعراء يتبعهم أناس هاجروا إليه من البلاد الأخرى ومن جملتهم أبو الوليد النحلي الذي أغدق عليه المعتصم عطاياه فضحك منه ولكن المعتصم عفا عنه لا بالحط من قدره بل أنه أتبع العفو بالإحسان والإنعام. ومثله ابن شرف وابن أخت غانم من مالقة وهو ابن أخت اللغوي المشهور وغانم غرناطة وابن الحداد من قادش الذي اشتهر بأنه أعظم شاعر أندلسي.
وكان في الأندلس مثل أبي عبيد البكري ابن أحد ملوك الطوائف وهو أعظم جغرافي عربي في إسبانيا وكان له أيضاً حظ وافر من الشعر وله صداقة أكيدة مع المعتصم وكان هذا أو جميع أسرته يتعاطون الشعر ولاسيما ما كان منه في الغزليات والخمريات ومازال غزل أبيه وابنته أم الكرام معروفاً إلى اليوم عند كل من اطلعوا على الآداب العربية.(39/42)
رسخت قواعد الحضارة العربية منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر وبهرت العقول على ما كان من الفوضى السياسية في جميع إسبانيا الجنوبية بحيث تؤثر تأثيراً شديداً حتى على أعدائها الألداء أي الأمراء النصارى في شمالي إسبانيا. فانتشر هنا استعمال اللغة العربية بكثرة حركة فرسان ليون وأراغون الذين كانوا يذهبون للغزو مع المسلمين. وما كان يراه ملوك نافار وغاليسيا وليون وأراغون من ضرورة الاتحاد مع جيرانهم في الجنوب (العرب) فكانوا يؤدون إليهم الجزية على عهد خلفاء الأندلس وغدا العرب على عهد ألفونس السادس ملك غاليسيا وقشتالة وليون ونافار بعض إقطاعاته فكان في قصر ألفونس السادس ملك أهل الدينين كما كانوا يسمونه أناس من المدققين في اللغة المطلعين كل الاطلاع على دقائق اللسان العربي بحيث تسهل عليهم مكاتبة أمراء الطوائف من المسلمين فقد كان السيد كمبادور يجيد التكلم بالعربية لا فرق بينه وفي العقل والأخلاق وبين مسلمي بلنسية. ولما دخل ألفونس السادس إلى طليطلة سنة 1085 وكانت هذه المدينة عاصمة ألوزغوت القديمة قوي نفوذه من وراء الغاية باستيلائه عليها ولم يأت عملاً يصر بشهرتها بالعلوم الإسلامية وفاءً بعهد تعهده في هذا الشأن وكان نقض العهد من المألوفات في عصره لأن المسيحيين في الشمال ما زالوا متوحشين ينتفعون من الاحتكاك بالعنصر العربي المحط في أخلاقه الراقي بعقله وسار خلفاؤه على قدمه. ناول مدرسة أنشئت في طليطلة أوائل القرن الحادي عشر هي عربية اشتهر أمرها على عهد ملوك قشتالة أي زمن أبي عبد الله محمد بن عيسى المغامي وأحمد بن عبد الرحمن بن المطهر الأنصاري وغيرهما من الأساتذة ومن هذه المدرسة نشأت تربية الإسبانيين على مناحي العرب. وفي سنة 1130 أنشأ ريمون رئيس أساقفة طليطلة في هذه المدينة مدرسة للتراجمة وبها رسخت اللغة العربية والأفكار العربية في إسبانيا المسيحية (للبحث صلة).(39/43)
تاريخ الأمم والملوك
هو أوسع تاريخ عربي أبقته الأيام لصاحبه أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة عشر وثلاثمائة قال ابن خلكان في ترجمته هو صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير كان إماماً في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارة فضله وكان من الأئمة المجتهدين لم يقلد أحداً. . . وكان ثقة في نقله وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها.
هذه خلاصة حال هذا العلامة الكبير وقد أصابه ما أصاب كبار العلماء في الإسلام من الحط من شأنه وإيذائه قال ابن الأثير وفي هذه السنة (310) توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين ودفن ليلاً بداره لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً وادعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد وكان علي بن عيسى يقول والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه هكذا ذكره ابن مسكويه صاحب تجارب الأمم وحاشا ذكر الإمام عن مثل هذه الأشياء وأما ما ذكره من تعصب العامة فليس الأمر كذلك وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم ولذلك سبب وهو أن الطبري جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال لم يكن فقهياً وإنما كان محدثاً فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداءٌ له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً أنه لدميم
وقال الإمام أبو بكر الخطيب كان الطبري أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظاً لكتاب الله عارفاً بالقرآات بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الأحكام ومسائل الحلال والحرام خبيراً بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك والكتاب الذي في التفسير لم يصنف مثله وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة وأخبار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.
وقال ابن خزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبري ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي(39/44)
جعفر ولقد ظلمته الحنابلة وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني بعد أن ذكر تصانيفه وكان أبو جعفر ممن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حق يلزمه لربه وللمسلمين إلى باطل لرغبة ولا رهبة مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد وأما أهل الدين والورع نغير منكرين علمه وفضله وزهده وتركه الدنيا مع إقبالها عليه وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة.
يعد هذا التاريخ من المطولات بل هو أطول وأجمع تاريخ للقرون الأولى الثلاثة وقد كان مؤلفه يريد أن يتوسع فيه أكثر مما توسع حتى عرض على تلاميذه قبل الشروع في تأليفه أن يريد أن يملي عليهم تاريخاً فقالوا له كم يكون حجمه فقال ثلاثون ألف ورقة فقالوا تفنى الأعمار ولا يستوفي مطالعة فقال حسبي الله ماتت الهمم وأملاه في ثلاثة آلاف ورقة كما انتهى إلينا.
فجاء تاريخ ابن جرير مأخذاً للمؤرخين وطالبي التوسع في الوقوف على أخبار القرون الراقية في الأمة وقد كبر حجمه بالأسانيد والروايات على طريقة المحدثين إلا أن الحوادث بادية من خلال سطوره تنال بأدنى نظر. مثال ذلك ما رواه في الجزء الأول من الكلام على خلق العالم نقلاً عن الإسرائيليات فإنه بعد أن نقل الموضوعات كلها قال ابن صح ما روي عن رسول الله (ص) بحيث يتوهم المطالع قبل أن يصل إلى هذا الكلام أن ما أورده وعني به هو الحقيقة التي شائبة فيها.
وتاريخ ابن جرير مرتب على السنين مثل تاريخ الكامل لابن الأثير وتاريخ أبي الفداء والمسعودي وغيرهم ومن تطويله في سرد الكوائن يستفيد المطالع أشياء كثيرة فينتفع الكاتب من حسن العبارة وجودة سبكها ويقف على تعابير فصيحة قد لا يعرفها وليست مألوفة لهذا العهد والشاعر يتعلم ضروباً من الشعر والمقاطيع على اختلاف العصور خصوصاً والشعر كله مشكول كما شكلت الآيات القرآنية والكلمات التي ربما تلتبس بل يستفيد الجندي كيفية تعبئة الجيوش في تلك الأعصر ويتعلم المكايد والباحث في الاجتماع يقع على فوائد مهمة.
وفي هذا الكتاب قصائد نظمت على البديهة لشعراء مشهورين وغيرهم ومقاطيع قيلت في المناسبة وأنشدت بدواع خاصة وفيه رسائل الخلفاء لعمالهم ورسائل العمال لخلفائهم(39/45)
ومعظمها في الغاية إيجازاً وبياناً بنسج متعلم البيان والخطابة والشعر على منوالها وفيه من الحوادث كمقتل الحسين وشيعته مثلاً ما لوجود لكان قصصاً تاريخية حماسية فمن ذلك كلام لحيان بن ظبيان أحد زعماء الخوارج قاله لأصحابه: إنه والله ما يبقى على الدهر باق وما تلبث الليالي والأيام والسنون والشهور على ابن آدم حتى تذيقه الموت فيفارق الإخوان الصالحين ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة ولم تزل ضارة لمن كانت له هماً وشجناً فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى جهاد الأحزاب فإنه لا عذذر لنا في القعود وولاتنا ظلمة وسنة الهدى متروكة وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنون وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا ولنا بأسلافنا أسوة.
وقال زياد لما استعمله معاوية على البصرة وخراسان وسجستان والهند والبحرين وعمان فقدم البصرة سنة 65 والفسق بالبصرة ظاهر فاش فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها وقيل بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه ونسأله المزيد من نعمه اللهم كما رزقتنا نعماً فألهمنا شكراً على نعمتك علينا أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفجر الموقد لأهله النار الباقي عليهم سعيرها ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حكماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى منها الكبير كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرؤا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به من ترككم هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغطون على المختلس كل امريء منكم يذب عن سفيهه صنيع من لا يخاف عقاباً ولا يرجو معاداً ما أنتم بالحكماء ولقد أتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب حرم عليَّ الطعام والشراب أُسويها بأرض هدماً وإحراقاً إني رأيت آخر هذه الأمر(39/46)
لا يصلح إلا بما صلح أوله لين في غير ضعف وشدة في غير جبرية وعنف وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم أن كذبة المنبر تبقى مشهورة فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له إياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليَّ وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوماً غرقته ومن حرق على قوم حرقناه ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه ومن نبش قبراً دفنته حياً فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام أحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراًَ حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلث لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارق بليل ولا حابساً رزقاً ولا عطاءً عن أبانه ولا مجمراً لكم بعثاً فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى تصلحوا يصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم أسأل الله أن يعين كلاً على كل وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه علي أذلاله وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي اهـ.
نقلت هذه الخطبة على طولها لأنها مرآة ذاك الزمان وعلامة على استحكام أزمة الأحكام في رقاب الأمة ولأن فيها من الشدة واللين والتفتن في أساليب التأثير ما لا يتسنى قو مثله اليوم إلا لأناس من رجال الغرب ممن مرنوا على الخطابة ودربوا عليها فكانت ملكة البيان(39/47)
فيهم طبيعية هذا فضلاً عما حوت من البلاغة والفصاحة. وزياد هو الذي وطد الملك لمعاوية ويزيد وقتل الحسين واشتد في استئصال شأقته وكان يقول لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه وكتب خمسمائة من مشيخة أهل البصرة في صحابته فرزقهم ما بين الثلثمائة إلى الخمسمائة فقال فيه حارثة بن بدر الغدّاني:
ألا من مبلغٌ عني زياداً ... فنعم أخو الخليفة والأميرُ
فأنت إمام معدلة وقصد ... وحزم حين يحضرك الأمور
أخوك هليفة الله بن حربٍ ... وأنت وزيره نعم الوزير
تصيب علي الهوى منه ويأتي ... محبك ما يجن لنا الضمير
بأمر الله منصورٌ معانٌ ... إذا جار الرعية لا تجور
يدرُّ على يديك لما أرادوا ... من الدنيا لهم حلب غزيرُ
وتقسم بالسواء فلا غنيٌّ ... لضيم يشتكيك ولام فقير
وكنت حياً وجئت على زمان ... خبيث ظاهر فيه شرور
تقاسمت الرجال به هواها ... فما تخفي ضغائنها الصدور
وخاف الحاضرون وكل بادٍ ... يقيم على المخافة أو يسير
فلما قام سيفُ الله فيهم ... زياد قام أبلج مستنير
قويٌ لا من الحدثان غزٌّ ... ولا جزع ولا فان كبير
ومما ورد فيه من الشعر وهو ما نورد مثالاً ما قالته هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية وكانت تشيع ترثي حجر بن عدي من زعماء الشيعة وقد قتله معاوية بواسطة عامله زياد.
ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجراً يسير
يسير معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير
تجبرت الجباير بعد حجرٍ ... وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد لها محولاً ... كأن لم يحيها مزنٌ مطير
ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى عدياً ... وشيخاً له في دمشق له زئير
يرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شر أمته وزير(39/48)
إلا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير
فإن يهلك بكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير
ومن خطب الحسين خطبة خطبها بأصحابه لما أحيط به وقام أصحابه يدعونه للمطالبة بحقه قال: أيها الناس إن رسول الله (ص) قال من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فسلم يعير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من عير وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببعثكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهلكم فلكم فيَّ أسوة وإن لم تفعلوا أو نقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم منعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومن جملة فوائده ما ذكره في حوادث سنة 71 أن عبد الملك بن مروان لما قتل مصعباً ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصنع وأمر به إلى الخورنق وأذن إذناً عاماً فدخل الناس فأخذوا مجالسهم فدخل عمرو ابن حريث المخزومي فقال إليَّ وعلى سريري فأجلسه معه ثم قال أيّ الطعام أكلت أحبُّ إليك وأشهى عندك قال عناق حمراء قد أجيد تمليحها وأحكم نضجها قال: ما صنعت شيئاً فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه وأحكم نضجه اختلجت إليك فأتبعتها يده غذي بشر يجبن من لبن وسمن ثم جاءت الموائد فأكلوا فقال عبد الملك بن مروان ما ألذ عيشنا لو أن شيئاً يدوم ولكنا كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى بلىً ... وكل امريء يوماً يصير إلى كان
فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث لمن هذا البيت ومن بنى هذا البيت وعمرو يخبره فقال عبد الملك:
وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امريءٍ يوماً يصير إلى كان
ثم أتى فاستلقى وقال:(39/49)
إعمل على مهل فإنك ميتٌ ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكان ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائنٌ قد كان
ومن فوائده سأل المهدي يوماً كاتبه أبا عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى عن أشعار العرب فصنفها له فقال أحكمها قول طرفة بن العبد:
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبرٍ غوي في البطالة مفسدِ
ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح مصمد
أرى الموت بعنام الكرام ويصطفي ... عقيلة مآلِ الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
وقوله:
وقد أرانا همَّ صاحبه ... لو أن شيئاً إذا ما فإما رجعا
وكان شيءٌ إلى شيءٍ نفرقه ... دهر يكر على تفريق ما جمعا
وقول لبيب:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... إنحب فيقضي أم ضلال وباطل
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... ومل نعيم لا محالة زائل
أرى الناس لا يدرون قدر أمرهم ... بل كلُّ ذي رأي إلى الله واصل
وكقول النابغة الجعدي:
وقد طال عهدي بالشباب وأهله ... ولاقيتُ رَوعاتٍ تشيب النواصيا
فلم أجد الإخوان إلا صحابة ... ولم أجدالأهلين إلا مثاويا
ألم تعلمي أن قدرُزِئت محارباً ... فما لكِ منه اليوم شيئاً ولا ليا
وكقول هدبة بن خشرم:
ولست بمفراح إذا الدهر سرَّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أبتغي الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وما يعرف الأقوام للدهر حقه ... وما الدهر مما يكرهرن بمعتب
وللدهر في أهل الفتى وتلاده ... نصيب كحز الجازر المتشعب(39/50)
وكقول زيادة بن زيد وتمثل عبد الملك بن مروان:
تذكر عن شحط أميمة فأرعوى ... لها بعد إكثار وطول نحيب
وإن امرأً قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب
هل الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزيئة آل أو فراق حبيب
وكلُّ الذي يأتي فأنت نسيبه ... ولست لشيءٍ ذاهب بنسيب
وليس بعيدٌ ما يجيء كمقبلٍ ... ولا ما مضى من مفرح بقريب
وكقول ابن مقبل:
رأت بدل الشباب بكت له ... والشيب أرذلُ هذه الأبدال
والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحيوة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
كتب سفيان بن أبي العالية أحد قواد الحجاج وكان بعث به لقتال بعض أعدائه: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقتلتهم فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم فتبينا نحن كذلك إذا أتاهم قوم كانوا غيباً عنهم فحملوا على الناس فهزموهم فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم حتى ضررت بين القتلى فحملت مرتثاً فأتي بي بأول مهروذ فها أنا بها والجند الذين وجههم إليَّ الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف ويعتذر بغير العذر والسلام. فلما قرأَ الحجاج الكتاب قال من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه: أما بعد فقد أحسنت البلاد وقضيت الذي عليك فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجوراً إلى أهلك والسلام. وكتب إلى سورة بن أبجر: أما بعد فيا ابن أم سورة ما كنت خليقاً أن تجتريء عليّ ترك عهدي وخذلان جندي فإذا أتاك كتابي فابعث رجلاً ممن معك صليباً إلى الخيل التي بالمدائن فلينتخب منهم خمس مائة رجل ثم يقدم بهم عليك ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة واحزم في أمرك وكد عدوك فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة والسلام.
ومع أن الحجاج معروف بالشدة فاقرأ ما يلي تعرف أنه للشدة تارة وللين أخرى: كتب إليه شبيب أحد قواده: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند(39/51)
الذي وجهني فيه إلى عدوه وقد كنت حفظت عهد الأمير إليَّ ورأيه فيهم فكنت أخرج إليهم إذ رأيت الفرصة وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك ولقد أرادني العدو بكل إرادة فلم يصب مني غرةً حتى قدم عليَّ سعيد بن مجالد رحمة الله عليه ولقد أمرته بالتوءدة ونهيته عن العجلة وأمرته أن لا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني وتعجل إليهم في الخيل فأشدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى وأني لا أهوى ما صنع فمضى فأصيب تجاوز الله عنه ودفع الناس إليَّ فنزلت ودعوتهم إليَّ ورفعت لهم رايتي وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها فليسئل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده وعن مكايدتي عدوه وعن موقفي يوم البأس فإنه يستبين له عن ذلك أني قد صدقته ونصحت له والسلام. فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد أتاني كتابك وقرأته وفهمت كل ما ذكرت فيه من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه فقد رضيت عجلته وتوءدتك فأما عجلته فإنها فضت به إلى الجنة وأما توءدتك فإنها لم تدع الفرصة إذ أمكنت وترك الفرصة إذا لم تمكن حزمٌ وقد أصبت وأحسنت البلاء وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة وقد شخصت إليك حيان بن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام.
هذه نموذجات من فوائد الكتاب الممتع ولو اتسع المقام لأفضنا فيه أكثر مما أفضنا فإن استيعاب الكلام على اثني عشر مجلداً لا يتأتى في بضع صفحات.(39/52)
مطبوعات ومخطوطات
الاشتقاق والتعريب
تأليف عبد القادر أفندي المغربي
طبع بمطبعة الهلال بمصر سنة 1909 ص146
صاحب هذه الرسالة من بلغاء الكتاب ومصنفه هذا يبحث فيما يعرض اللغة العربية من تكاثر كلمتها بواسطتي الاشتقاق والتعريب وإن هذا الأخير طبيعي في لغتنا وفي غيرها من اللغات وإن استعمال المعرب لا يحط من قدر فصاحة الكلام. وقد أفاض في الاشتقاق والقلب والإبدال والنحت وشروط التعريب ومعربات السنة والكلام المولد والمحدث إفاضة أتى فيها ببعض الشواهد على مقصده. فنثني عليه الثناء الطيب لعنايته بهذا الموضوع ويا ليته رجع إلى ما قاله الباحثون في هذا الفن وأستشهد تأييداً لقوله بكلام الباحثين ولاسيما علماء المشرقيات الذين بحثوا أحسن بحث في أصول اللغات لاسيما السامية منها.
تاريخ النصيرية
للمسيو رني دوسو
هو المستشرق الفرنسوي العالم صاحب كتاب لغة الصفا وغيره من المصنفات المفيدة وله جلد على التأليف وأكثر ما يكتب يتعلق ببلاد الشام وسكانها قدمائهم ومحدثيهم. وقد كتب كتاباً في تاريخ النصيرية وديانتهم فظهر له بعد التحقيق أنهم شيعة إسلامية فساءَ قوله بعضهم فرد عليه بأن أصلهم مسيحيون وهذه كانت بين الفريقين نقطة الخلاف.
وصف دوسو بلاد النصيرية وهي جبلية يحيط بها من الجنوب نهر الكبير ومن الشرق والشمال نهر العاصي ومن الغرب الساحل وجبل النصيرية يمتد من نهر الكبير إلى حوالي صهيون والزاوية التي تهبط بين نهر الكبير من الشمال والعاصي يطلق عليها اسم جبل الأكراد والنصيرية ضاربون أيضاً في أنطاكية حيث اشتهروا بصناعاتهم وسعة عيشهم. وبين سكان الجبال والسهل من التناقض ما يدهش. ذلك أن قلة فائدة العمل في المقاطعات الجبلية أورثت النصيري الكسل والجهل فعاش من غلة وقتية ومن السلب والنهب على حين غدا في أنطاكية ملاكاً وتاجراً مستعداً لأنواع الصنائع وعلى شيءٍ من الغنى وفتح له(39/53)
في مرسين وطرسوس وأذنة أعمالاً رابحة ناجحة. وفي بلاد النصيرية بعض قرى للأرمن حوالي القدموس وفي جبل النصيرية أيضاً بقايا الإسماعيلية القدماء النازلين اليوم في مصيات وقدموس وماوالاهما.
وهم يكتمون نفوسهم فراراً من الجندية ولذلك لا ثقة بالإحصاء فعددهم مائة وثلاثون ألفاً في سورية ويبلغ عددهم إذا أضيف إليه النازلون في تلك المدن مائة وخمسين ألفاً وهم قلائل إذا نسبوا إلى البلاد التي يشغلونها وهي أوسع مجالاً من سائر ما يشغله الشيع والشعوب الراحلة في سورية. وفي رأي المؤلف أن عددهم أيام ارتقائهم كان عشرة أضعافه اليوم. قال وهم بادية قائمون على الفلح والحرث وقلما يسكنون المدن دع عنك أنطاكية وجسر الشغور واللاذقية.
قال وخبط الناس في أصل النصيرية حتى ادعى بعضهم أنهم أخلاط من الوطنيين اختلطوا مع الفرنجة في القرن الثاني عشر والثالث عشر فزعموا أن نصيري أصله من نصراني وهو اسم تصغير. وهذا رأي رنان وقد رده المسيو دوسو بالبرهان القاطع قائلاً أن الرأي الشائع اليوم في الأندية العلمية أن اسم النصيرية أتى من محمد بن نصير ويقول ستانيسلاس كويارد المؤلف المشهور أن الديانة النصيرية نشأت كالإسماعيلية في أواخر القرن التاسع على يد الإمام الحادي عشر من الشيعة حسن العسكري وكان مقيماً في سامراء بالقرب من بغداد. فالديانة النصيرية كان لها إذا أصل مشابه لديانة الإسماعيلية فدعا وجه الشبه بين الفرقتين إلى أن أخطأ أهل التأليف المسلمين بجزمهم أن الديانتين متحدتان جوهراً وعرضاً مع أن بينهما أحناً ومشاكسات.
وقصارى القول فقد فصل المؤلف أحوال هذه الطائفة تفصيلاً شافياً مشفوعاً بأقوال العلماء من مسلمين وإفرنج فذكر فيه اسم مائة وخمسة عشر مؤلفاً ومصدراً ذكرت النصيرية فاستقى المؤلف من مواردها ثم أتبعه بفصل في مسكنهم وأصلهم ومنشأهم منذ العهد الروماني إلى أيامنا ثم أشبع الكلام على عاداتهم وأخلاقهم. هكذا علماء الغرب يبحثون في بلادنا فأين هم منا وأين علماؤنا من علمائهم فشكراً لفضلهم وبيض أياديهم.
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
المعروف بمعجم الأدباء أو طبقات الأدباء لياقوت الرومي(39/54)
عني بنسخه وتصحيحه الأستاذ د. س. مرجليوث
طبع بمطبعة هندية بالموسكي بمصر سنة 1909 ص438
لناشر هذا الكتاب ومعلق حواشيه الأستاذ مرجليوث من علماء المشرقيات الإنكليز فضل على الآداب بإحياء هذا الكتاب النفيس بعد أن كاد يأتي عليه العفاءُ كما ثبت له الفضل بإحياء غيره من آثار العرب وقد توسع ياقوت الرومي صاحب معجم البلدان في ترجمة بعض من خدموا الأدب العربي إلى عهده وذكر من نكاتهم وأخبارهم ومنثورهم ونظامهم ما هو مرآة الحياة الاجتماعية والأدبية والعلمية في الأعصار الستة الأولى للإسلام واختصر في تراجم بعضهم على القدر الذي عرف منهم واشتهروا به بين الناس وفي هذا الجزء بقية من أول أسمائهم ألف إلى من أول أسمائهم جيم وعدد المترجمين فيه 161 ومنهم على شهرتهم وخدمتهم للآداب من لم نظفر لهم بترجمة فيما بين أيدينا من كتب الطبقات والتراجم مثل أحمد بن يوسف بن صبيح كاتب المأمون. وبطبع هذا الكتاب ونشره بين الناس تتم سلسلة مهمة من سلاسل التاريخ العربي وسيكون كله في ستة أجزاء نشر منهما الآن اثنان. وفق الله القائم بنشرهما وأعانه على خدمة الفروع التي أخذ نفسه بها لخدمة العلم والآداب.
ديوان رستم
طبع بالمطبعة الأدبية في بيروت
ص400
أسعد أفندي رستم ممن ولعوا بنظم الشعر الفكاهي العصري وقد أفرد منظوماته في ديوان خاص فجآء مجموعة أدب وظرف وفكاهة. والظاهر أن الناظم توخى في منظوماته الألفاظ العامية ليحكم إيراد النكات والفكاهات ولئلا يستعصي فهمه حتى على الطبقة المنحطة من أبناء الأمة على حين أن في صميم اللغة العربية كما علم الناظم من الألفاظ الجزلة المستملحة ما فيه الغناء دون كبير عناء.
رحلة إلى اليمن سنة 1861
نشرها بالإفرنسية الأب أنستاس ماري الكرملي(39/55)
طبعت أولاً في مجلة الأنتروبوس (الإنسان) في النمسا
هي رحلة رحلها الخواجة ميخا يوسف النجار البغدادي إلى اليمن ولقي فيها ما يلاقيه أرباب الرحلات في البلاد الشرقية عادة وهي لا تخلو من فوائد اجتماعية وغيرها في خصائص البلاد والشعوب.
الحرية في الإسلام
تأليف السيد محمد الخضر بن الحسين التونسي
طبعت بالمطبعة التونسية بنهج سوق البلاط بتونس سنة 1327 ـ 1909
وعدد صفحاتها 64 ص
هذا الموضوع من أجل الموضوعات المثقفة للعقول ذكر مؤلفه حقيقة الحرية والشورى والمساواة والحرية في الأموال وفي الأعراض وفي الدماء وفي الدين وفي خطاب الأمراء وأجاد في كيفية الاستخراج من الكتاب والسنة وتاريخ السلف والتطبيق على حالة العصر مما دل على عراقته في أحوال العصر وتمكنه من أحكام الشريعة وهو من المدرسين بجامع الزيتونة الأعظم له حظ وافر من الإنشاء والتاريخ.
محاضرات
أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب
باعتبار علاقتها بأوربا وخصوصاً بإيطاليا للسنيور جويدي
طبعت في مجلة الجامعة المصرية أولاً ص109
هذه الرسالة في موضوع جليل يكاد يكون بكراً بالنسبة إلينا إلقاء الأستاذ الشيخ المؤلف على طلبة الجامعة المصرية بلغة العرب وهو إيطالي الجنس والمنشأ معدود من أهل الطبقة الأولى بين المستشرقين الأوربيين. وهذه الدروس هي أربعون درساً كلها جعبة فوائد نستدل منها على خدمة العرب لهذه الفنون الجميلة فنشكر له ولأصحاب مجلة الجامعة المصرية التي تنقل إلينا زبدة دروس العلماء في كلية هي أول مفخر من مفاخر مصر.
بلاغة الغرب(39/56)
نحن اليوم في دور مثل صفحة البحر يريد أن لا يترك فروقاً بين أجزاء الناس ولا مميزات في منازعهم وأن لا يدع سمواً في الشعوب ولا انخفاضاً. فهو معمل عظيم الأدوات منوع الآلات يعمل ليل نهار ليبرهن للأدوار الغابرة أنه هو أول ما تغلب بالفعل على إشاعة السوآء والإخاء والتعارف وإطراح التباين والتباعد والانقسام.
فالبخار والكهرباء قد قضيا على استئثار القطر الواحد زرعه وضرعه وصنعه وأشركا أطراف الأرض كلها بالانتفاع مما يخرجه لبنيه كما خول بنيه التمتع بثمرات الطبيعة والناس في الأقطار الأخرى لسد حاجتهم.
والطباعة والصحافة كالبخار والكهربآء تنقلان ثمار العقول ونتائج التفكير من أرض إلى أرض وتشيعانه من شعب إلى شعب كما بتوصل زمننا إلى مآربه من القضاء على التخالف.
على هذه الطريقة تجري روح العصر في حضارتها ولكن كثيراً ما يكون أمام الباخرة فيما بين البحر والبحر برزخ وفي وجه القطار والقاطرة فيما بين البر والبرّ جبل ودون الطباعة والصحافة في نقل التفكير من دماغ إلى آخر عجمة فرأى القائمون بأمر هذا المعمل في القديم والحديث أن لا مندوحة لهم من حفر ترعة في البرزخ بين البحرين ونقب نفق في الجبل بين البرين وفتح منفذ الترجمة بين اللغتين.
وأن الإنسان ليذهل لكثرة ما يراه من تفكيرهم وموازناتهم وحسابهم ومقايساتهم عند اختيار البرزخ ليحفروه ترعة والجبل لينقبوه نفقاً والمصنف أو القطعة لينقلوها من لغة إلى لغة وعدَّ أصحاب الألباب الاختيار دليلاً على اللبيب وميزاناً له.
أمامي الآن كتاب (بلاغة الغرب) وهو مجموع ما اختاره محمد أفندي كامل حجاج المصري من منثور الإفرنسية ومنظومها ونقله على العربية مصدراً القطع بشيء من تاريخ حياة أصحابها وقد جاء فيه نموذج مما كتبه هيكو ولامارتين وألفرد دي موسي وأندري شينيه ودو فيني وكوبه وروستان ودوده وتيوفيل وغوتيه وكورنيل وراسين. وإني أشكر لمحمد أفندي كامل ولكل من يصرف وقتاً في نقل شيء من العلم والأدب إلى لغتنا وفتح منفذ بيننا وبين جاراتنا من الأمم ولكني أنتقد عليه تسميته الكتاب ببلاغة الغرب في حين أنه لم يرفع لنا فيه الستار إلا عن بعض أدباء الفرنسيس وأدبيات هؤلاء غير أدبيات الألمان والروس(39/57)
والإنكليز. كما أني أعجب كثيراً من إغفاله بالزاك وفلوبر وزلا والأخوان غونكور وغيرهم من زعماء مذهب الحقيقيين (ريالزم) وصرفه صفحات الكتاب جزافاً للأدباء الخياليين (رومانتيست) مع أننا في زمان أحوج فيه إلى الهبوط من ثريا الخيال المزوق إلى ثرى الحقيقة المريرة وأن يتعلم القصصيون عندنا من زولا والشعراء من كوبه والمؤلفون من فلوبر كيف يصرفون الأشهر الطويلة والليالي الليلاء الباردة في أعماق المناجم وزوايا القصور وأطراف المعابد وأبواب الحانات ليقفوا على سرائر طبقات الهيئة الاجتماعية ويطلعوا الأمة على ويلاتها وأدوائها وجروحها كما هي لاسيما وهم يريدون أن تكون وهم خلف منضداتهم مرتاحون يتلاعبون بالعقول كما تشاء السياسة طوراً ويغشون القراء بما توحيه أهواؤهم تارة.
وفي الكتاب غير اقتضاب تراجم المشاهير وإغفال البحث في مذاهبهم الأدبية تساهل لغوي في المفردات والتراكيب مثل استعمال مرسح والصحيح مسرح وصبحية والصواب صبيحة ومواضيع بدل موضوعات وإثباته اسم ألفرد موسي كما يستعمله الفرنج دوسوسيه وقوله مذهب المحققين وأحسن أن نقول مذهب الحقيقيين وقوله قبل قطعة الدرس الأخير لألفونس دوده وقد دعاني لكتابة هذا وكان الأولى أن يقول إلى تعريب هذا وقوله المؤلف الرئيسي وهذا تعبير لا نعرفه العرب وتأنيسه الرأس بقوله رأسه الصلعاء وقوله حارب ضد لويس بونابارت حيث كان يقال ناضل عنه وتكريره كلمة هذا في قوله يتلألأ في كبدها بنور (هذا) المولود الذي اختاره القادر ليقبض على صولجان (هذا) الملك الفخم فما كان (لهذا) الشعب الصارخ إلا أن صمت واستكان لظهور (هذا) المولود.
والكتاب جيد الطبع يقع في مائتي صفحة.
محب الدين الخطيب
كتاب خصائص اللغة العربية
في أصول العربية للإمام أبي الفتح عثمان بن جني. هذا الإمام ممن اشتهر بالإجادة بالتأليف وأشهر مؤلفاته هذا الكتاب وهو كتاب تعرض فيه لأصول العربية على نحو أصول الكلام والفقه أبان فيه ما أودعته هذه اللغة من خصائص الحكمة ونيطت به من علائم الإتقان والصنعة وقد قال في أثنائه: أن هذا الكتاب ليس مبنياً على حديث وجوب(39/58)
الإعراب وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام وكيف بديءَ وإلى م نمي. وهو كتاب يتساهم ذوو النظر من المتكلمين والفقهاء والمتفلسفين والنحاة والكتاب والمتأدبين تأملاً له والبحث عن مستودعه فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده ويأنس به ليكون لهم سهم منه.
وقد ألفه بعد أن أناف عمره على الستين كما أشار إليه عند قوله: ومن ظريف حديث هذا الخاطر أنني كنت منذ زمن طويل رأيت رأياً جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر:
وكنت أمشي على رجلين معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر
ولم أثبت حينئذ ضشرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ثم إني إلى الآن وقد مضي لي ستون أعاني الخاطر وأستمده وأعانيه وأتورده على أن يسمح لي بما كان رأيته من الجمع بين معنى الآية والبيت به وهو معتاص منأب وصنين به غير معط.
والكتاب مشتمل على أبواب شتى يصعب إيرادها لكثرتها وهاك شيئاً مما اشتملت عليه بعض الأبواب مما له علاقة بأهل الآداب. ذكر في باب القول على إجماع أهل العربية حتى يكون حجة: اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده أن لا تخالف المنصوص والمقيس على المنصوص فإما أن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه ثم قال إلا أننا مع هذا الذي رأيناه وسوغنا مرتكبه لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها وتقدم نظرها وتتالت أواخر على أوائل وإعجازاً على كلاكل. . . إلا بعد أن يناهضه إتقاناً ويباينه عرفاناً ولا يخلو إلى سائح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره فإذا هو حذاها على هذا المثال وباشر بإنعام تصفحه أضاء الحال أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معازبه ولا غاض من السلف رحمهم الله في شيء منه فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه وشيع خاطره وكان الصواب مئنة ومن التوفيق مظنة وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ما على الناس شيءٌ أضر من قولهم ما ترك الأول للآخر شيئاً وقال أبو عثمان وإذا قال العالم قولاً متقدماً فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له والاحتجاج بخلافه إذا وجد إلى ذلك سبيلاً وقال الطائي الكبير:
يقول من تطرق أسماعه ... كم ترك الأول للآخر(39/59)
وقال في باب الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني: اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يونقك وتذهب في الاستحسان كل مذهب بك وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها وتصلحها وتهذبها وتداعيها وتلاحظ إحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها فأول ذلك عنايتها بلفظها فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها وبالغوا في تجييدها وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا اكن مسجوعاً لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظ كان جديراً باستعماله ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس به ولا أنفت لمستعمله وإذ لم يكن كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيءَ به من أجله. وقال لنا أبو علي يوماً قال لنا أبو بكر إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه (؟) وكذلك الشعر النفس أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعياً جلفاً أو عبداً عسيفاً تنبو صورته وتمج جملته فيقول ما يقول من الشعر فلأجل قوله وما يورده عليه من طلاوته وعذوبة مسمعه وما تصير قوله كلما يرجع إليه ويقاس به ألا ترى إلى قول العبد الأسود:
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وقول نصيب:
سودت ولم أملك سوادي وتحته ... قميص من القوهي بيض بنايقه
وقول لآخر:
إني وإن كنت صغيراً سني ... وكان في العين نبو عني
فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن
حتى يزيل عني التظني
فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا عزوبها وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتكوينه وتقديسه وإنما(39/60)
المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى وعليه وجوازه بما يعطر نشره فلا يعتر جوهره كما قد عد من المعاني الفاخرة ما قد نمقوه وزخرفوه ووشوه ودبجوه ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً بل لا نجده قصداً ولا مقارباً ألا ترى إلى قوله رحمه الله:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان ما هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسألت بأعناق المطي الأباطح
وقد ترى إلى علو هذا اللفظ وما به وصقاله وتلامح أنحائه ومعناه مع هذا ما تحته وتراه إنما هو لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها مشروفة المعاني خفيضتها قيل هذا الموضوع قد سبق إلى التعليق به من لم ينعم النظر فيه ولا رأى ما رآه القوم منه وإنما ذلك لجفاءِ طبع الناظر وخفاءِ غرض الناطق ثم أفاض في بيان معاني البيتين.
وقال في باب إرادة العرب للأغراض التي نسبها إليهم حدثني المتنبي شاعرنا وما عرفته إلا صادقاً قال كنت عند منصرفي في مصر في جماعة من العرب وأحدهم يتحدث فذكر في كلامه فلاة واسعة فقال يحير فيها الطرف قال آخر منهم بلغته سراً من الجماعة بينه وبينه فيقول يحار يحار أفلا ترى إلى هداية بعضهم إلى بعض وتنبيهه إياه على الصواب.(39/61)
سير العلم والاجتماع
أدب السعادة
كتب رئيس تحرير المجلة الباريزية مقالة في هذا الموضوع قال فيها أن السعادة مادة حياتنا وقائد لها وهي تتزيا بأشكال منوعة وإنا إذا رأينا ما يبذله أهل الأرواح الشريفة من الهمم يتراءى لنا أن رغبتهم في أن يعيشوا في شقاء ولكن إذا أمعنا في استقراء أعمالهم نراهم يرمون إلى نيل سعادة أرقى. الغاية العامة من العلم الأدب والغاية الخاصة تخليص الحقيقة من الحوادث والعواطف. المؤُ مدين بكل ما فيه للأجيال الغابرة وهذا دين عليه يجب عليه أداؤه لن يأتي بعده وعلى المرء فروض يجب عليه القيام بها نحو الأموات ونحو الأحياء وهذا واجب يتحتم عليه في أعماله وأفكاره فقد علمه الاختبار أن سعادته ليست إلا نتيجة سعادة مشتركة فهو مخلوق على مثال الأجيال السالفة وهو تابع للإنسانية التي تحيط به. إذا عاد المجتمع إلى عهد اللصوصية واختل نظامه فإن سعادة المرء الخاصة تضمحل في السعادة الاجتماعية وكل احتياط صحي يأتيه المرء يفيد المجموع كما أن صحته مناطة بما يقوم به المجموع من أساليب الصحة العامة والأمثلة كثيرة على أن التكافل مشترك والعلاقة مؤكدة بين مصالحنا الخاصة ومصالح المجموع فليس لامريءٍ حق أن يستمتع بالخيرات التي هي ثمرة عمل الآخرين دون أن يساعد بنفسه وعلى قدر طاقته على رفع منار السعادة وعلم الأمن والسلام.
ليس الأدب أو الأخلاق إلا بعض فكرنا نستطيع أن نصوره أو نقلبه على الصورة المؤلفة منها عناصره. يقول بعضهم أن الأخلاق غريزية في المرء وليست كسبية ولو صح قولهم لكانت الأديان والتربية لغواً لا فائدة منها ولكان على الناس أن يغلقوا المعابد والمدارس أيضاً. نعم إن السعادة مناطة بشعورنا الأدبي والذكاء والسعادة يسيران معاً على خط متوازٍ يتجليان أنهما متشابهان وهما متخالفان جوهراً وعرضاً فالذكاء لا يؤثر في السعادة إلا بالواسطة وذلك بتجهيز حياتنا بسلاح ماض وبالتأثير في أخلاقنا وميولنا.
قال أغوست كونت مؤسس الفلسفة الحسية أن كمالنا الأدبي يعيننا على سعادتنا الحقيقية مباشرة من دون أدنى ريب أكثر مما يعيدنا غيره. وقال الفيلسوف ديكارت صاحب الفلسفة الحديثة: كل من عاش عيشة لا يوبخه عليها وجدانه ولم يقصر في القيام بكل ما يراه(39/62)
أحسن (من الفضائل) ينال عن سعيه جزاءً وفاقاً وتواتيه السعادة.
قال الكاتب ومتى أدركت الإنسانية أن سعادتنا منا وأننا لسنا سعداء لأن لنا إرادة في السعادة تنهار حوالينا ألوف من الأوهام التي تعوقنا عن كمالنا الأدبي وتقف عثرة في سبيل سعادتنا. وما شقاؤنا إلا ثمرة إساءتنا فهم معنى الحياة فنضر غيرنا دون أن يخطر لنا ببال أن شقاءَ غيرنا ضار بنا فالحسد مثلاً مصدر النقائص الاجتماعية وهو ضار بنا أنفسنا. والخير والحب وهما منبع سعادة الغير ينفعان من يأتيهما قبل كل الناس. حياة العائلة المؤسسة على الحب والاحترام المتبادل تنفع أعضاءها وأي نفع. وأنا حيثما التفتنا نرى العبر قائلة بلسان حالها ومقالها بأنه من المتعذر أن نستمتع بسعادة شريفة دائمة دون أن يتمتع بها القريبون منها وكلما امتد ميدان حياتنا وشرفت مبادئها وخواتمها يزداد التكافل بالسعادة فقد قال أفلاطون أن السعادة علم فمن عمل الشر فهو ممن لا يعرف الخير وهكذا الحال في السعادة فإن الشقي هو الذي يجهل كيف يقدر أن يكون سعيداً.
التسمم بالتدخين
جرب الدكتور سرج جبرو وسكي تجارب كثيرة ليبين أن التدخين يحدث في جسم الإنسان آثاراً تسممية وذلك بأن حقن الحيوانات تحت الجلد وفي الدم بالنيكوتين وقد استعمل لذلك جهازاً تمكن بواسطته من أن يضع الأرانب ست أو ثماني ساعات في اليوم في مكان محكم السد يدخل إليه بمضخة دخان اللفافة (سيكارة) فكانت تظهر في غضون الأسبوع الأول على الحيوان آثار القلق ويزيد فيه إفراز الدمع والبصاق وبعد امتصاص الدخان كان يستولي على الحيوان الضعف والبلادة وتتثاقل مشيته وفي الأسابيع التالية تزول هذه الأمارات وتحل محلها قلة القابلية للطعام. وقد مات عند انتهاء الشهرين أرنبان ودل الفحص المجهري (الميكروسكوبي) لقلبهما على تلف الجسم من فعل الدخان على أن الاخرى قاومت خمسة أشهر وظهر فيها فساد الدم ونزل وزنها إلى النصف وبهذا أثبتت تجارب الطبيب الموما إليه أن الحيوانات تعتاد التدخين ولكن فساد نسج قلب الحيوان معادل لما يحصل في الإنسان.
الاستحمام
قال أحد الباحثين في مجلة الحياة البيتية ما تعريبه: يطالب التبرج والزينة أن تصرف(39/63)
العناية في الطهارة خاصة وتكون متناسبة مع السن والمزاج والجنس على حين أن حفظ الصحة يتطلب أن تختلف هذه العناية باختلاف الأمكنة والأزمنة والحرارة. والحمام ألطف جميع ما تقتضيه الزينة من أنواع العناية وأكثرها بساطة وطبيعة فهو الذي يؤثر تأثيراً سريعاً في الصحة. فبالحمام رفاهية لا تنكر مزاياها وذلك لأن المسام إذا فتحت بالحمام تسرع حركة الدم وتعمل في الحال في الجلد بأن تنزع عنه القشور التي تغطي بشرة جسمنا.
وتختلف تأثيرات الحمام بحسب درجة الحرارة أو البرودة في الجو كما تختلف الاحتياطات عند الخروج باختلاف المناخ وذلك لأن الحرارة تشد الجسم والبرودة على العكس تضيقه.
الحمامات الباردة مقوية ويجب أن يغطس الجسم كله بسرعة وقد يحدث من الدخول في حمام بارد بعض الضرر وذلك عندما ينغمس المرء في الماء بالتدريج فتدفع البرودة بالحرارة نحو الأطراف فتصل إلى الدماغ مثلاً. ويقال بوجه عام أن الحمام البارد إذا نفع الأحداث وقوى بنيتهم فلا يليق بالشيوخ ولا بأرباب الصدور النحيفة لأن رد الفعل لا يتم فلا يتأتى أن تعود الحرارة إلا بصعوبة.
إذا أريد الاستحمام بالماء البارد يجب على كل حال أن يكون الجسم مستريحاً والهضم تاماً كل التمام ورشح البدن لا يكون كثيراً من المشي. وإذا بلغت الحرارة درجة لطيفة يمكن أن يبقى فيها المرء نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة ولا يجب أن يتجاوز المستحم هذا القدر من الوقت. وعلى المستحم عندما يخرج من الحمام أن يحتاط بتنشيف بدنه ودلكه جسمه كله لينزع منه الرطوبة ويرفع عن الجلد الأجزاء الصغيرة التي تستخرج منه بفعل الماء. وإذا شعر بأنه برد ينبغي له في الحال أن يدلك جسمه بماء البيون أو ببعض الأرواح الأخرى وعليه لإعادة الرشح تماماً أن يمرن عضلاته تمريناً خفيفاً.
ومن الحكمة أن يمتنع المستحم عن تناول الطعام حال خروجه من الحمام لأن الحرارة تنتقل من وسط الجسم إلى الأطراف فتترك الحواس الهاضمة خالية من جزء من القوة اللازمة للقيام بوظائفها.
وإذا ناسبت الحمامات الباردة الدمويين أو السمان من الأشخاص فقد تضر المستعدين للهزال. وعلى الجملة فإنها قلما تنفع من عودوا الرخاء والجلوس. ومن الاحتياط أن لا(39/64)
يستحموا كذلك إلا بإشارة الطبيب.
الحمامات الحارة تزيد العرق وإذا قلّ تعيده كما كان وتلين الألياف. والواجب أن يستعمل الحمام بحسب الحالة الصحية وإذا أكثر منه يضعف الجسم ويتعب ويعد للنزلات.
أما الحمامات الفاترة أو الحارة فلا يقتضي لها الاحتياط بقدر الاحتياط للحمامات الباردة والاحتياط فيها مطلوب عند الخروج منها ويحسن بعد الحمام السخن أن يقعد المرء في فراشه بعد أن يكون قد نشف جسمه بمناشف غير ندية وحارة وذلك لأن ما يحدث أمراضاً كثيرة هو التعرض لفعل الهواء الخارجي.
ومن القواعد التي يجب مراعاتها أن يستريح المستحم قبل الحمام البارد وبعد الحمام السخن والواجب أن يعنى بدلك الجسم عند الخروج من الحمام حتى لا يتضرر الجلد ويتخلص من الذرات القشرية التي أبقاها الاستحمام على الجسم. وإذا لم يسع المرء أن ينام بعد الحمام فلا أقل من أن يمرن جسمه قليلاً فليشعر في الحال بتأثيرات هذا الاحتياط وينتفع الجسيم من ذلك أحسن نفع.
تنفع الحمامات البخارية في البلاد التي يشتد بردها في إهاجة الرشح البطيء النادر وضروري في الأقاليم المعتدلة الاستحمام بالماء الفاتر لينزع من البشرة الذرات التي تنبعث من الجسم. وفي الأوقات الرطبة يحسن الدلك الناشف. ولما كان الرشح في البلاد الحارة يكاد يكون متواصلاً فمن الضروري أن تكون الحمامات على درجة أقل من درجة حرارة الجو ليحدث بذلك التوازن في الأخلاط ويسكن هيجانها العادي.
وإذا لم يساعد الحال والمكان على استيفاء شروط الاستحمام فالواجب أن يستعاض عنه بغسل بعض البدن بماءٍ حار أو بارد بحسب الموسم وقد لا تستوفى من هذا الاغتسال الشروط الصحيحة الناشئة من الحمامات ولكنها تكفي في صيانة الجسم.
والأشخاص الذين يتعبون أحياناً بما ينهال من الدم على رؤوسهم يجب عليهم أن يستحموا استحماماً تاماً ويغسلوا أرجلهم ويتأتى لهم الاستعاضة عن الأول والثاني بغسل أيديهم بالماء المغلي. وهذا الدواء على سهولته نافع في أمراض الأسنان لا للطاعنين في السن بل لصغار الأولاد.
المحظورات(39/65)
يحظر عليك أن تضع إصبعك أو طرف مظلتك في عين جارك.
كما يحظر عليك أن تضع إصبعك في أنفك حتى ولو كان يحك.
لا تنظف أمام الناس أنفك ولا أذنك ولا أسنانك ولا أظافرك.
لا تدعس على رجل جارك ولا على ثوب جارتك.
لا تجلس على طرف كرسيك ولا تهتز عليه.
لا تعبث بهدب ثوبك ولا بأزرارك.
إذا صافحت فلا تصافح بغصبع واحد بل بجماع راحتك مفتوحة.
لا تدخل إلى قاعة الاستقبال ومعك مظلتك ولا معطفك ولا مشمعك.
غلط الشعر
تختلف ثخانة الشعر من واحد إلى عشرة من الميليمتر إلى أربعين. وقطر خيط الحرير كما تخرجه الدودة هو نحو خمسة مليم من الميليمتر ويمكن أن تحاط الكرة الأرضية بليبرة من خيط العنكبوت كما أن قمحة واحدة من المسك تعطر غرفة مدة عشرين سنة وفي جسمنا 2. 30. 4000 من المسام.
أثقل تمثال
أثقل تمثال من البرونز تجده في بطرسبرج وهو تمثال بطرس الأكبر ثقله زهاء ألف طن.
الطول البشري
تبين من التجارب التي صنعت لاختبار طول قامات الرجال والنساء أن من يولد في الربيع أو في الشتاء أكبر قامة ممن يولد في الفصلين الآخرين والبنات الطويلات القامة يلدن في آب أما البنون فأطولهم قامة من ولدوا في تموز وأصغرهم من ولدوا في تشرين الثاني.
التفنن في التعليم
ورد في قصة لديكنس أن إحدى المعلمات كانت تكرر على تلميذاتها كلمات برون بريسم بوتاتويس ليمددن شفاههن المنضمات بعضها على بعض ويبدو الظرف على أفواههن. وقد توسعت الآن إحدى العقائل فيهذه الطريقة وقامت تدعي أنها تستطيع أن تعيد القبيحة من النساء مليحة وأن تصير الملاح أعجوبة الأعاجيب فأسست لهذه الغاية في إنكلترا مدرسة(39/66)
أخذ الطالبات ينهلن عليها انهيالاً وقد قسمتها صفوفاً فجعلت صفاً لتعليم البنات كيف يلقين نظراتهن الفتانة ويسحرن بها الألباب وصفاً لتعليم البنات تحريك أنوفهن تحريكاً جذاباً خلاباً وصفاً لتعليم الشفاه على الحركة ومتى أتم الفتيات التعليم في هذه الصفوف ينتقلن إلى صف أرقى حيث يعدن نظرة إجمالية على كل ما تعلمن فيأتين فاتنات ساحرات.
النوم الضروري
كلما أمكن ترك الأولاد ينامون كثيراً كلما كان أنفع لصحتهم. ويؤخذ من البحث الذي تم في بلاد السويد أن الأولاد الذين لا ينامون القدر الكافي من النوم تزيد أمراضهم جزئين من خمسة أجزاء. فمعدل ما ينبغي من النوم للطفل الذي يذهب إلى المدرسة اثنتا عشر ساعة لمن كان في الرابعة من سنه وإحدى عشرة لمن كان في السابعة وتسع ساعات لمن كان بين الرابعة عشرة إلى العشرين.
أرجل الصينيات
كنا نسمع بأن من جمال الفتاة الصينية أن تكون صغيرة الرجلين وأن القوم هناك يستعملون لتصغيرهما قوالب مخصوصة وقد ذكرت الصحف أن حكام ولايات كينغ سو وكينغ سي وكينغ هوي وناكان هوي من الولايات الصينية قد أصدروا بياناً يحظرون فيه على النساء أن يعصبن أرجلهن قائلين إن ذلك مما يمس حنان قلب الأم والفتيات يضعن الحياء إذا تكلفن الجمال ويصبحن ضعيفات غير قادرات على العمل ويحسبن فقيرات. وقد وعد أولئك الحكام بمكافآت للصينيات اللاتي يعدلن عن تصغير أرجلهن.
أسماء الأقمشة
سميت كثير من الأقمشة في بلاد الإفرنج بأسماء المدن التي حاكتها أول مرة فعندهم نوع من القماش اسمها دماس نسبة لدمشق حيث كان ينسج الحرير منقوشاً بنقوش بارزة. وعندهم قماش اسمه كاز نسبة لغزة في فلسطين وآخر اسمه أندرينوبل نسبة لأدرنة في الروم إيلي والموسلين وهو الشاش الرفيع صنع لأول مرة أيضاً فيمدينة الموصل فنسب إليها والكاليكو قماش صنع أول الأمر في مدينة كاليكوت من بلاد الهند فنسب إليها.
انقضاء العالم(39/67)
نشر أحد علماء الطبيعة مقالة في مدة بقاء الأرض أو انقضاء العالم ومتى صلحت الأرض لسكنى الحيوانات والنباتات فقال أن من الأسهل أبداً السؤال عن هذه الأسئلة ولكن الصعوبة في الإجابة عنها فقد كان النظام الشمسي في البدء عبارة عن كتلة عظيمة من الأبخرة المتأججة أو منطاداً ضخماً من الغاز حامياً يدور بحركة فوق نفسه. فجمد البرد في الفضاء الغيوم الأصلية وانفصلت السيارات من الأجرام الموجودة في الوسط وأخذت السيارات تبرد على الولاء بقدر أجرامها فيبرد الأصغر ثم الأكبر. وقد طال أمد كل سيارة ونمت على توالي الأزمان فجمدت الأرض وتماسك سطحها السائل وعلى هذه الصورة نشأت القشرة الأرضية.
ويهمنا هنا أن نعرف عمر الأرض أو عدد السنيني التي مضت على تكونها والأعوام التي تفصل العصر الحالي من العصر الذي ظهرت فيه على سطحها الأحياء الأولى ولا سبيل إلى ذلك إلا على وجه التقريب. وإذ كان عمر الأرض مرتبطاً بعمر الشمس كان من الواجب أن نعلم أولاً الحدود التي يجب أن نحصر فيها وجود الشمس فقد حسب علماء الهندسة كمية الحرارة التي ادخرها تقلص السديم الأول في السيارة الوسطى وحققوا قوة الحرارة الحالية وما يفقد منها كل سنة واستنتجوا من ذلك مقدار الزمن الذي وجدت الشمس فيه. وبحسب ما حسبوا تبين أن الشمس موجودة منذ خمسة وعشرين مليون سنة على الأقل أو منذ أربعين مليون سنة على الأكثر. ورأى الطبيعي نوكمب بحسب النور الحاضر أن الكوكب يصغر إلى نحو النصف من قطره في خمسة ملايين من السنين على أكثر التقدير وأنه بعد عشرة ملايين سنة يكاد يكون له قشرة فيحتمل إذ ذاك أن تصلح الأرض للأحياء على الوجه الذي نعرفها به.
وإذا كان جرم كرتنا الأرضية أصغر من جرم الشمس بـ3500. 000 مرة فظاهر أن الأرض بردت قبل غيرها وثبت لعالم آخر اسمه ويليام طومسون بالتحليل الرياضي أن الأرض جمد سطحها منذ عشرة ملايين من السنين أو منذ خمسة عشر مليوناً على التقدير الأكثر فيرد تاريخ أصل الأحياء على الأرض إلى اثني عشر مليون سنة.
وبالجملة فإن لنا أن نستنتج من هذا أن الأرض موجودة منذ خمسة وعشرين مليون سنة على الأقل وأن الأحياء الأولى التي عاشت على سطحها قد ظهرت منذ اثني عشر مليون(39/68)
سنة والغالب أن الكائنات الحية الحاضرة تنقضي أيامها بعد عشرة أو اثني عشر مليوناً من السنين وعلى هذا فآخر أيام الدنيا بعيدة وبحسب ما تقدم تكون الأرض الآن قد قضت نصف حياتها فمضى اثنا عشر مليوناً من السنين وبقي ما يقرب منها بعد وبذلك نطمئن على مستقل الجنس البشري.
جمال النساء
معيار الجمال في الأمم أذواقها ومصطلحاتها فمن الجمال في أوربا أتكون أسنان النساء بيضاء وفي اليابان يؤثرون من اصفرت أسنانهن وفي الهند يصبغنها بالحمرة وفي بوكارات بالسواد والنساء في غروانلاندا يدهن وجوههن بمادة زرقاء صفراء والتاتاريات مهما بلغن من الجمال الطبيعي يرين أنفسهن بشعات إن لم يبيضن وجوههن على مرأى من الناس على حين ترى الأوربيات إذا وضعن الحمرة على وجوههن يخفين أمره ولا يكدن يظهرنه. وفي فرنسا يفضل من النساء الممشوقات القدود وفي البلاد العثمانية يؤثرون السمينات المكتنزات كما يفضلون من استدار وجهها. أما الفرنسيس فيفضلون الوجوه المستطيلة المتناسبة. ويفضل اليونان من النساء من صغرت جبهاتهن أما الفرنسيس فيطلبون أن تكون جبهات النساء عالية مكشوفة. الناس في أوربا يفضلون الشعر الأسود أو الأشقر أو الأسفع ولكن سكان جزائر ماريانا يفضلون من ابيض شعرها من ربات الجمال. وعلى هذا فلا ييسر لامرأة أن تتفق الأمم على جمالها لأن ما يراه قوم حسنة قد يراه غيرهم سيئة فسبحان مقسم العقول والأرزاق.
الآثار العربية
أهدى المسيو كورد مانش لمكتبة الأمة في باريز مجموعة مؤلفة من 158 متاباً من المخطوطات العربية والفارسية والتركية وكان أهدى مثلها من المخطوطات والمسكوكات العربية إلى تلك المكتبة نفسها فكتبت مجلة العالم الإسلامي مقالة في هذه المناسبة قالت فيها أن هذه المخطوطات لا تروق المشتغلين بالعربية من المستشرقين ممن يرون أن المصنفات التاريخية الشائعة هي وحدها تحتوي على بعض الفوائد مدفوعين إلى ذلك بعامل فهمهم لها من دون سائر ما خطته أيدي مؤلفي العرب وزاعمين أن ما بقي من الأدبيات الإسلامية عبارة عن أحاديث ملفقة وهذيان ليست حرية بنظر رجل تمكن من الطريقة القويمة في(39/69)
المعارف وإن مثل هذه الكتب لا يقبل عليها ويصرف أوقاته فيها إلا من تبلد ذهنه أو اختل شعوره فإذا كان التاريخ الإسلامي هو م الفروع المهمة جداً في الآداب الشرقية فإن سائر فروع العلوم كالفقه والنحو (وأكثر مجموعة المسيو كوردمانش منها) ربما لا تقل عنها شأناً لأنها ليست وحدها التي تصور حالة العقل في الرجال الذين أتوا قبل ثلاثة عشر قرناً من الهجرة النبوية وكيف كانوا يفكرون ويذهبون في مذاهب الأمور الذهنية والروحية.
لا جرم أن المشاغل السياسية منذ بضع سنين ولاسيما منذ قتال موكدن قد قلبت الأفكار الإسلامية ظهراً لبطن وأخذ رجال الإسلام يزينون لأبناء دينهم الرجوع إلى الدروس التي انغمس فيها أجدادهم بحيث كادوا يغرقون وتعزوا عن الخيبة التي نالتهم بما قرأوا فيها من الأفكار على أن النظر الصحيح يقضي بأن المهندسين الذين مدوا في بادية بلاد العرب خطوط السكة الحديدية من دمشق إلى المدينة قد أتوا بعمل أنفع مما أتى الزمخشري وجميع شراح الكافية لابن الحاجب. إلا أن الأفكار الحديثة توشك أن تؤدي بالإسلام إلى طرق مخالفة للطرق التي سار عليها إلى أوائل القرن الرابع عشر من الهجرة ويمكن أن يكون المجتمع الإسلامي بعد مائة وخمسين سنة وأعني به الجيل المفكر المهذب من المسلمين مخالفاً للمجتمع الذي عاش على عهد عبد الحميد خان الغازي وناصر الدين شاه قاجار كما نختلف نحن معاشر الفرنسيس اليوم عن أجدادنا زمن لويس الخامس عشر وربما كان اختلاف المسلمين أكثر.
كان المسلمون الذين عاشوا في بلاد ما وراء النهر إلى أواخر القرون الوسطى على عهد أخلاف تيمورلنك قد ورثوا التمدن اليوناني وبلغوا بالعلوم إلى درجة عجيبة من الكمال ثم لم يلبثوا أن ضعف أمرهم وتخلوا عن هذا التراث العلمي وانصرفوا جملة إلى الفقه والنحو فكان ذلك مبدأ سقوط الأمم الإسلامية.
ومهما كانت الطرق التي سيجري عليها أهل الإسلام في ظل العلم والدستور اليوم فإنهم ولا جرم يخالفون المسلمين الذين عاشوا في ظل الاستبداد كل المخالفة ولا يتأتى الآن الوقوف على فكر العالم الإسلامي قبل مضي زمن وتصفح الكتب التي يستخدمونها في تعليم ناشئتهم وطريقة الرجال الذين عاشوا على عهد الخلافة الدينية أو خلافه السلاطين الذين حلوا محل خلفاء بغداد وهكذا فإن هذه الكتب التي تشهد بفضل مؤلفيها وبعنايتهم الفائقة التي بذلوها في(39/70)
وضعها وهي تساوي بأسلوبها وتعليمها أقل مما تساوي بدلالتها على الحركة العقلية في مدنية كانت الحاكمة المتحكمة على العالم زمناً ونعني بها مدنية الإسلام. ومكانة هذه الكتب لا تسقط أبد الدهر حتى ولو أدى الارتقاء العلمي الإسلامي إلى طرحها والاستعاضة عنها بمصنفات تؤلف على غير نسقها وعلى أسلوب يغاير أسلوبها ولا سيما متى انصرفت النفوس عن دراسة علوم اللسان والفقه إلى علوم يكون نفعها عملياً ظاهراً.
لا جرم أن علوم المسلمين ودرسها تشبه ما كان لنا منها في عهد الحكومات البائدة وأن من عانوها وأتقنوها إذا تعلموا جميع دقائق النحو العربي وتبحروا في فقه السنة والشيعة لا يتأتى لهم بذلك أن يقفوا على مطالب الحياة الاجتماعية والعالم الخارجي.
وبعد فإن كتب النحو العربي التي هي مصنفات تامة في بابها يجب الرجوع إليها إذا أريد التعمق في هذه العلوم وفهم فكر العربي وهي تشبه كتبنا التي كانت مستعملة في المدارس قبل إصلاح بور رويال. وربما زهد المسلمون في الاعتماد على الطريقة القديمة والكتب القديمة في هذه الفنون لأن بعضهم يرى أن الألفية والأجرومية قبلاً تستدعي انتباه ذهن الطلبة وذاكرة فائقة لاختيار طريقة تشبه طريقة الكتب التي نعول عليها في دراسة اللاتينية وغيرها من اللغات وربما لا يمضي وقت طويل إلا وتتحسن طريقة دراسة الآداب العربية كما تحسنت عندنا في الغرب. على أنه لا يبعد أن تقل الرغبة في هذه الدروس اللسانية كان درس الفقهية التي كانت الدروس المعول عليها فقط في العهد الماضي ولاسيما في البلاد العثمانية والفارسية ويعتبر القوم علوم الدين واللغة التي كانت موضوع اهتمام المتفقهة والمتصوفة من علوم الرجعة لأن القائمين عليها أناس كانوا في الجملة مراعاة لمصالحهم أصدق أنصار عروش السلاطين الذين يدعون الخلافة عن الله في الأرض.
وكيفما كان الحال فإنه لا يتأتى الوقوف على الفكر الإسلامي في كتب ألفت على النسق الأوربي وسارت في أسلوبها على نسق الخطط الغربية كما أنك لا تسقط على الفكر الياباني قديماً من مراجعة الترجمات الإنكليزية والفرنسوية التي تعين رعايا ميكادو واليابان من اجتياز أبواب المدراس الحربية في مملكة الشمس المشرقة.
ولا يتيسر درس الحضارة الإسلامية القديمة بغير الرجوع إلى هذه الكتب في الفقه معاملاته وعباداته والنحو ومتعلقاته. تلك الكتبالتي يهملها علماء المشرقيات لأنها على غير أسلوبهم(39/71)
ولأنها من بقايا القرون الوسطى على حين أن نشوء الدروس الذي وقع في الغرب منذ عهد النهضة قد صير الكتب المكتوبة باللاتينية بأقلام أساتذة علم الكلام معقدة غير مفهومة إن لم يصرف فيها المرء وقتاً طويلاً.
وفي المجموعة التي أهداها المستشرق المشار إليه عدة كتب مشهورة منها قطع من القرآن ربما كانت بخط ياقوت المستعمي الخطاط الشهير وقطعة من كشاف الزمخشري وقطعة من تفسير القرآن للبيضاوي من أوائل القرن الرابع عشر وقطعة من الحديث من القرن الثالث عشر ونسخة قديمة جداً من مقامات الحريري وكتاب في القرآات فارسي وشرح كافية ابن الجاحب بالفارسي.
وقد ظفروا بهذه المجموعة في سمرقند وهي تمثل صورة من صور علم الفقه والكلام عند السارتيين والتاجكيين في بخارى وسمرقند وكشغر وبعبارة أخرى صورة من صور علوم المسلمين في التركستان الرمسي والتركستان الصيني وبها يتمثل الناظر حالة المعارف عند كل من كانوا يعيشون في تلك الأنحاء من المسلمين لأن جزءاً كبيراً من الكتب التيتألف منها هذه المجموعة قد نسخت هناك.
وليس في هذه المجموعة إلا كتب خاصة بطائفة مهذبة من طوائف المسلمين إلى حد معلوم والنسخ الحديثة من كتب الفقه والنحو تدل على أن معرفة اللغة العربية التيهي أساس الدروس الإسلامية هي في أقصى دركات الانحطاط في تركستان على أن هذا الانحطاط يرد إلى أبعد من ذاك العهد لأنه وجد في عهد التيموريين في الكتب والمكتوبات على الأحجار من الأغلاط الفادحة ما يستدل منه أن معرفة اللغة العربية هو أحط من ذاك العهد مما هي عليه اليوم في فارس حيث أصبح طلاب الفقه دع عنك المجتهدين ولاسيما في النجف وكربلاء أساتذة في أسرار علوم الصرف والنحو.
وهذه النسخ بالإجمال استنسخها أناس لم يعنوا بها حق العناية وليس لهم فيها ذوق حتى إن بعضها لم يكتبوا عليه اسمه واسم مصنفه لجهلهم في الغالب. وهذا الجهل وهذا الإهمال يكفيان لبيان السقوط المريع الذي أصيب به ذاك الذي يسكن تلك الأقطار التي كانت فيما غبر مهد العلوم والآداب.(39/72)
العدد 40 - بتاريخ: 1 - 5 - 1909(/)
المقيم المقعد
للشيخ الإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي البغدادي عليه
الرحمة
هو كتاب جليل نادر الوجود توجد منه نسخة عند بعض طلبة العلم في بغداد. أوله لما كانت العربية تنقسم قسمين أحدهماالظاهر الذي لا يخفى على سامعيه ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني المشتمل على الكنايات والإشارات والتجوز. وكان هذا القسم هو المستحلى عند العرب نزل القرآن بالقسمين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله. فكأنه قول عارضوه بأي القسمين شئتم ولو نزل كله واضحاً لقالوا هلا نزل بالقسم المستحلى عندنا. ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية أو استعارة أو تعريض أو تشبيه كان أحلى وأحسن.
قال امرؤ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
فشبه النظر بالسهم فحلا هذا عند السامع. وقال أيضاً:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازاً ونآء بكلكل
فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه. واستشهد أيضاً بشعر آخرين من شعراء الجاهلية وأطال في الكلام وأطنب. ثم عقد فصولاً في مطالب شتى.
منها فصل في بيان عادة العرب في تكرير الكلام واستشهد على ذلك بمنشور ومنظوم من كلام فصائحهم وخطبائهم.
ثم قال فصل وقد تأتي العرب بكلمة إلأى جانب كلمة كأنها معها وهي غير متصلة بها وفي القرآن (يريد أن يخرجكم من أرضكم) هذا قول الملاء فقال فرعون (فماذا تأمرون) وأورد شواهد أخر من القرآن ومن كلام الفصحاء وأطنب في الكلام.
ثم قال فصل وقد تجمع العرب شيئين في كلام فترد كل واحد منهما إلى ما يليق به وفي القرآن (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) فيقول الرسول (إلا أن نصر اللع قريب). وهو فصل طويل.
ثم قال فصل وقد يحتاج بعض الكلام إلى بيان فيبينونه متصلاً بالكلام ومنفصلاً وجآء القرأن على ذلك فمن المتصل (يسألونك ماذا أحلَّ لهم قل أحل لكم الطيبات). وأما المنفصل(40/1)
الخ وذكر له عدة شواهد من القرآن وغيره.
ثم قال فصل وقد تذكر العرب جواب الكلام مقارناً له وقد تذكره بعيداً عنه وعلى هذا ورد القرآن فإن المقارن من الجواب كقوله تعالى (ويسألونك ماذا يفقون قل العفو) وأما البعيد فتارة يكون في السورة كقوله تعالى (ما لهذا الرسول الآية جوابه بعده باثنتي عشرة آية وهو قوله تعالى (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) الآية.
ثم قال فصل في ذكر أقسام الخطاب في القرآن. الخطاب في القرآن على خمسة عشر وجهاً خطاب عام الله الذي خلقكم. وخطاب خاص (أكفرتم). وخطاب الجنس (يا أيها الناس). وخطاب النوع (يا بني آدم). وخطاب العين (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة). وخطاب المدح (يا أيها الذين آمنوا). وخطاب الذم (يا أيها الذين كفروا). وخطاب الكرامة (يا أيها النبي) وخطاب الإهانة (فإنك رجيم). وخطاب الجمع بلفظ الواحد (يا أيها الإنسان ما غرك بربك). وخطاب الواحد بلفظ الجمع (وإن عاقبتم فعاقبوا). وخطاب الواح دبلفظ الاثنين (ألقيا في جهنم). وخطاب الاثنين بلفظ الواحد (فمن ربكما يا موسى). وخطاب العين والمراد به الغير (فإن كنت في شك). وخطاب التلون وهوعلى ثلاثة أوجه أحدها أن يخاطب ثم يخبر (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم. وما أتيتم من زكوة يريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون). والثاني أن يخبر ثم يخاطب (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم. وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء) والثالث أن يخاطب عيناً ثم يصرف الخطاب إلى الغير. (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله) على قرآءة.
ثم قال فصل في ذكر أمثال القرآن وذكر اثنين وأربعين مثلاً منها وبين ما اشتملت عليه من البلاغة والفصاحة والحكم بما لا يزيد عليه.
ثم قال فصل في الحروف الزوائد والنواقص وذكر هنا مسائل لغوية مفيدة تمس إليها حاجة اللغوي وطلاب علم العربية.
ثم قال فصل في المقدم والمؤخر وذكر ما يجب تقديمه في الكلام وما يجب تأخيره في النظم والنظر وهو بحث لم تطفو به يد غيره من المحققين.
ثم قال فصل واعلم أن لغة العرب واسعة ولهم التصرف الكثير فتراهم يتصرفون في(40/2)
اللفظة الواحدة بالحركات فيجعلون لكل حركة معنى كالحَمل والحِمل والرَوح والرُوح وتارة بالأعجام كالنصح والنضح والقبضة والقبصة والمضمضة والمصمصة وتارة يقلبون حرفاً من كلمة لا يتغير عندهم معناها كقولهم صاعقة وصاقعة وجذب وجبذ وما أيبه وأيطبه وربض ورضب وانبض في القوس وانضب. ولعمري ورعملي. واضمحل وامضحل. وعميق ومعيق. وسبسب وبسبس. ولبكت الشيء وبلكته. وأسير مكبل ومكلب. وسحاب مكفهر ومكرهف. وناقة ضمزر وضمرز إذا كانت مسنة. وطريق طامس وطاسم. وقفا الأثر وقاف الأثر. وقاع البعير الناقة وقعاها. وقوس عطل وأعلط لا وتر عليها. وجارية قتين وقنيت قليلة الززأ (كذا). وشرخ الشباب وشخره أوله. ولحم خنز وخزن. وعاث يعيث وعثى يعثي إذا أفسد. وتنح عن لقم الطريق ولمق الطريق. وبطيخ وطبيخ. وماء سلسال ولسلاس وسلسل ومسلسل وملسلس إذا كان صافياً. ودقم فاه بالحجر ودمقه. وفثأت القدر وثفأتها إذا سكن غليانها. وكبكبت الشيء وبكبكته إذا طرحت بعضه على بعض.
ثم قال فصل ومن سعة اللغة وحسن تصرفها أن العرب تضع للشيء الواحد أسمآء من غير تغير يعتريه فيقولون السيف والمهند والصارم ويغيرون الاسم بتغيير يعتري فيقولون بمن نزل في الركي فملأ الدلو مآئح للمستسقي من أعلاها ماتح فالتاء المعجمة من فوق لمن فوق والياء المعجمة من تحت لمن تحت وتضع العرب للشيء الواحد أسما تختلف باختلاف محاله فيقولون لمن انحسر الشعر عن جانبي جبهته أنزع فإذا زد قليلاً قالوا أجلح فإذا بلغ الانحسار نصف رأسه قالوا له أجلى وأجله فإذا زاد قالوا أصلع فإذا ذهب الشعر كله قالوا أحص والصلع عندهم ذهاب الشعر والقرع ذهاب البشرة ويقولون شفة الرجل ويسمونها من ذوات الخف المشفر. ومن ذوات الظلف المقمة ومن ذوات الحافر الحجفلة ومن السباع الخطم. ومن ذوات الجناح غير الصائد المنقار ومن الصائد المنسر ومن الخنزير الفنطيسة.
ويقولون صدر الإنسان ويسمونه من البعير الكركرة ومن الأسد الزور ومن الشاة القص ومن الطائر الجؤجؤ ومن الجرادة الجوشن وللمرأة الثدي وللرجل ثندوة وهو من ذوات الخف الخلف ومن ذوات الظلف الضرع ومن ذوات الحافر والسباع الطبي وللإنسان الظفر ومن ذوات الخف المنسم ومن ذوات الظلف الظلف ومن ذوات الحافر الحافر ومن السباع والصائد من الطير المخلب ومن الطائر غير الصائد والكلاب ونحوها البرثن ويجوز(40/3)
البرثن في السباع كلها والمعدة للإنسان بمنزلة الكرش للدابة والحوصلة للطائر.
ثم قال فصل المراهق من الغلمان بمنزلة المعصر من الجواري والكاعب منهن بمنزلة الحزور منهم والكهل من الرجال بمنزلة النصف من النساء. والقارح من الخيل بمنزلة البازل من الإبل. والعجل من البقر والشادن من الظباء كالناهض من الفراخ. والبكر من الإبل بمنزلة الفتي من النساء. والقلوص بمنزلة الجارية. والجمل بمنزلة الرجل. والناقة بمنزلة المرأة والبعير بمنزلة الإنسان. والغرز للجمل كالركاب للفرس. والغدة للبعير كالطاعون للإنسان. والهالة للقمر كالدارة للشمس. والبصيرة في القلب كالبصر في العين.
ثم قال فصل وتفرق العرب في الشهوات فيقولون جائع إلى الخبز قرم إلى اللحم عطشان إلى الماء عيمان إلى اللبن قرد إلى التمر خصم إلى الفاكهة شبق إلى النكاح ويفرقون في أسماء الأولاد ليقولون لولد كل سبع جرو ولولد كل ذي ريش فرخ ولولد كل وحشية طفل ولولد الفرس مهر وفلو ولولد الحمار جحش وعلو ولولد البقرة عجل ولولد الأسد شبل ولولد الظبية خشف ولولد الفيل دغفل ولولد الناقة حوار ولولد الثعلب الجرس ولولد الضب حسل ولولد الأرنب خرنق ولولد النعام رال ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوس ولولد اليربوع والفأرة درص ولولد الحية حربش ويقولون البيض للطاشر والمكن للضباب والمازن للنمل والسر للجراد والصواب للقمل ويفرقون في المنازل فيقولون بيت من مدر وبجلد من وبر وخباء من صوف وفسطاط من شعر وخيمة من غزل وقشع من جلود. ويفرقون في الأوطان فيقولون وطن الإنسان وعطن البعير وعرين الأسد ووجار الأسد والضبع وكناس الوحش وعش الطائر وقرية النمل وكور الزنابير ونافقاء اليربوع ويقولون لما يصنعه الطائر على الشجر وكرفان كان على جبل أو جدار فهو وكن فإذا كان في كن فهو عش فإن كان على وجه الأرض فهوأ فحوص والأوحى للنعام خاصة ويقولون عدا الإنسان وأحضر الفرس وأرقسل البعير وعسل الذئب ومزع الظبي وخف النعام ويقولون طفر الإنسان وصبر الفرس ووثب البعير ونفر العصفور وطمر البرغوث ويفرقون في الضرب فيقولون للضرب بالراح على مقدم الرأس صقع وعلى القفا صفع وعلى الوجه صك وعلى الخد ببسط الكف لطم وبقبضها لكم وبكلتا اليدين لدم وعلى الذقن والحنك وهر وعلى الجنب وخزز وعلى الصدر والبطن بالكف وكز وبالركبة زبن وبالرجل ركل وعلى(40/4)
كل ضارب بمؤخره من الحشرات كالعقارب يسلع وكل ضارب منها بفمه يلدغ ويفرقون في الجماعات فيقولون كوكبة من الفرسان وكبكبة من الرجال وجوقة من الظباء وعرجلة من السباع وعصابة من الخيل وصرمة من الإبل وقطيع من الغنم وسرب من الظباء وعرجلة من السباع وعصابة من الطير ورجل ممن الجراد وخرشم من النحل ويفرقون في الامتلاء فيقولون بحر طام ونهر طافح وعين ثرة وإناء مفعم ومجلس غاص بأهله ويفرقون في اسم الشيء اللين فيقولون ثوب لين ورمح لدن ولحم رخص وريح رخاء وفراش وثير وأرض رشة ويفرقون في تغير الطعام وغيره فيقولون أروح اللحم وأسن الماء وخنز الطعام وسنخ السمن وزنخ الدهن وقتم الجوز ودخن الشراب وصدأ الحديد ونغل الأديم ويقولون يدي من اللحم غمرة ومن الشحم زهمة. ومن البيض زهكة. ومن الحديد سهكة. ومن السمك زنخة. ومن الخل خمطة. ومن العسل لزقة. ومن الفاكهة لزجة. ومن الزعفران ردغة. ومن العجين ورخة. ومن الطيب عبقة. ومن الدم ضرجة. وسلطة وسطلة. ومن الوحل لثقة. ومن الماء بللة. ومن الحمأة زفطة. ومن البرد صردة. ومن الأشنان قضضة. ومن المداد وحدة. ومن دهن البزر والنفط نمسة ونسمة. ومن البول قتمة. ومن العذرة طفسة. ومن الوسخ وزنة. ومن العمل محلة.
ويفرقون في الوسخ فإذا كان في العين قالوا أرمص فإذا أجف فهو عمش. فإذا كان في الأسنان فهو حفر. فإذا كان في الأذن فهو أف. فإذا كان في الأظافر فهو تف. فإذا كان في الرأس فهو حزار. وهو في باقي البدن درن.
ويفرقون في الكشف عن الشيء من البدن فيقولون حسر عن رأسه وسفر عن وجهه وافتر عن نابه. وكشر عن أسنانه. وأبدى عن ذراعيه. وكشف عن ساقه وهتلك عن عورته.
ويفرقون في الرياح فإذا وقعت الريح بين ريحين فهي نكباء. فإذا وقعت بين الجنوب والصبا فهي الجريباء. فإذا أهبت من جهات مختلفة فهي المناوحة. فإذا جاءت بنفش ضعيف فهي النسيم. فإذا كانت شديدة فهي العاصف. فإذا قويت حتى قلعت الخيام فهي الهجوم. فإذا حركت الأشجار تحريكاً شديداً وقلعتها فهي الزعزع. فإذا جاءَت بالهباء فهي الحاصب. فإذا هبت من الأرض كالعمود نحو السماء فهي الإعصار. فإذا جاءت بالغبرة فهي الهبوة. وإذا كانت باردة فهي الجرجف والصرصر. فإذا كانت معبردها ندى فهو البليل(40/5)
فإذا كانت حارة فهي السموم. فإذا لم تلقح ولم تحمل مطراً فهي العقيم.
ويفرقون في المطر فأوله رش ثم طش ثم طل ورذاذ ثم نضح ثم نضخ ثم هطل ثم تهتان ثم وابل وجود فإذا أحيا الأرض بعد موتها فهو الحيا. فإذا جاء عقب المحل أو عند الحاجة إليه فهو الغيث. فإذا كان صغار القطر فهو القطقط. فإذا دام مع سكون فهي الديمة. فإذا كان عاماً فهو الجداء. فإذا روى كل شيء فهو الجود. فإذا كان كثير القطر فهو الهطل والتهتان. فإذا كان ضخم القطر شديد الوقع فهو الوابل.
ويقولون هجهجت السبع وشايعت الإبل ونعقت بالغنم وساسأت بالحمار وهاهأت بالإبل إذا دعوتها للعلف وجأجأت بها إذا دعوتها للشرب وأشليت الكلب دعوته أسدته أرسلته.
ويفرقون في الأصوات فيقولون رغا البعير وجرجر وهدر قبقب وأطت الناقة وصهل الفرس وحمحم ونهم الفيل وشهق الحمار وسحل وسحج البغل وجأرت البقرة وخارت وثاجت النعجة. وثغت الشاة ويعرت. ونعم الظبي ونزب. ووعوع الذئب. وضج الثعلب وصنغب الأرنب. وعوى الكلب ونبح ومأت السنور وصأت الفأرة. وفحت الأفعى. ونعق الغراب ونغب. وزق الديك وصعق. وصفغ النسر. وهدر الحمام وهدل. وغلرد المكاء وقبع الخنزير ونقت العقرب. وانقضت الضفادع ونقت أيضاً وعزفت الجن.
ثم قال فصل وللعرب خاص وعام فالبغض عام والفرك خاص. النظر إلى الأشياء عام والشيم للبرق خاص. الصراخ عام والواعية على الميت خاص الذنب للحيوان البهيم عام والذنابي للفرس خاص السير عام والسرى لليل خاص الهرب عام والأباق للعبيد خاص الرائحة عام والقتار للشواء خاص.
ثم قال فصل ومن جماة المسلم للعرب أنهم لا يقولون مائدة إلا إذا كان عليها الطعام وإلا فهي خوان ولا للعظم عرق إلا ما دام عليه لحم ولا كأس إلا إذا كان فيها شراب وإلا فهي زجاجة ولا كوز إلا إذا كانت له عروة وإلا فهي كوب ولا رضاب إلا إذا كان في الفم وإلا فهو بصاق ولا أريكة إلا لسرير عليه قبة فإذا لم يكن عليه قبة فهو سرير ولا ريطة إلا إذا كانت لفقين وإلا فهي ملاءة ولا خدر إلا إذا كانت فيه امرأة وإلا فهو ستر. ولا للمرأة ظعينة إلا إذا كانت في الهودج ولا قلم إلا إذا كان مبرياً وإلا فهو أنبوبة ولا عهن إلا إذا كان مصبوغاً وإلا فهو صوف ولا وقود إلا إذا اتقدت فيه النار وإلا فهو حطب ولا ركية(40/6)