وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد فطالعت فهرست كتب الأوائل وطلبت ما احتجت إليه منها ورأيت من الكتب مالم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته أيضاً من بعد.
ولما كتب نوح بن منصور إلى الصاحب بن عباد وزير بني بويه المتوفي سنة 385 ورقة في السر يستدعيه ليفوض إليه وزارته وتدبير مملكته كان من جملة اعذاره إليه أنه يحتاج لنقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل فما الظن بما يليق بها من التجمل. وكان سيف الدولة بن حمدان مولعاً بجمع الكتب ولوع نوح بن منصور فكانت في داره خزائن كبيرة جمع فيها الأمهات المفيدة.
وقيل إن وزير الواثق بالله كان ينفق ثلاثين ألف دينار كل شهر على ترجمة الكتب ونسخها. وكان للفتح بن خاقان وزير المتوكل خزانة كتب جمعها علي بن يحيى لم ير أعظم منها كثيرة وحسناً وكان يحضر داره فصحاء العرب وعلماء البصرة والكوفة قال ابو هنان ثلاثة لم ار قط ولا سمعت بأكثر محبة للكتب والعلوم منهم الجاحظ والفتح بن خاقان واسمعيل بن اسحق القاضي وكان الفتح يحضر لمجالسة المتوكل فإذا أراد القيام لحاجة اخرج كتاباً من كمه او جيبه وقرأ فيه إلى حين عودة المتوكل - قاله ابن الكتبي في الفوات.
وذكر المبرد مثل هذه الرواية فقال أنه مارأى احرص على العلم من ثلاثة الجاحظ والفتح بن خاقان واسمعيل بن اسحق القاضي. فأما الجاحظ فإنه كل إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره أي كتاب كان وأما الفتح بن خاقأن فإنه كان يحمل الكتاب في خفه فإذا قام بين يدي المتوكل للبول أو الصلاة اخرج الكتاب للنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريده ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه. واما سمعيل بن اسحق فإني ما دخلت عليه قط الا وفي يده كتاب ينظر فيه او يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه. وبلغ من ولوع بعض الخاصة بالتوفر على خدمة العلم انهم كانوا يفتحون أبواب خزائنهم لكل مستفيد فقد جعل حنين بن اسحق النسطوري في بغداد داره مكتبة عامة تفد إليها طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بماذا كرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه. وكان لافرائيم بن الزفإن الإسرائيلي من أطباء مصر همة عالية في تحصيل الكتب الطبية وغيرها وكان(23/12)
أبداً عنده النساخ يكتبون ولهم ما يقوم بكفايتهم منه. وقال ابن أصيبعة وحدثني أبي أن رجلاً من العراق كان قد أتى إلى الديار المصرية ليشتري كتباً ويتوجه بها وانه اجتمع مع افرائيم واتفق الحال فيما بينهما أن اباعة افرائيم من الكتب التي عنده عشرة آلاف مجلد.
وكأن ذلك في أيام ولاية الأفضل بن أمير الجيوش فلما سمع بذلك أراد أن تبقى تلك الكتب في الديار المصرية ولا تنتقل إلى موضع آخر فبعث إلى افرائيم من عنده بجملة المال الذي كان قد اتفق تثمينه بين افرائيم من الكتب ما يزيد على عشرين الف مجلد. وكان للصاحب امين الدولة السأمري همة عالية في جمع الكتب وتحصيلها قال ابن أبي اصيبعة: واقتنى كتباً كثيرة فاخرة في سائر العلوم وكأنت النساخ أبداً يكتبون له حتى أنه أراد مرة نسخة من تاريخ دمشق للحافظ بن عساكر وهو بالخط الدقيق ثمانون مجلداًً فقال: هذا الكتاب الزمن يقتصر أن يكتبه ناسخ واحد ففرقه على عشرة نساخ كل واحد منهم ثمان مجلدات فكتبوه في نحو سنتين وقد اجتمع عندما كثر من عشرين الف مجلد وفي رواية انها بلغت مائة الف مجلد لا نظير لها في الجودة. ووقف موفق الدين أبي طاهر بساوة دار الكتب. قال ابو بكر بن شإذان: وكان ممن أخذ عن الصولى وكان يتباهى كثيراً بالكتب وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان كل صف من الكتب لون فصف أحمر وصف أصفر وغير ذلك قال فكان الصوفي يقول هذه الكتب كلها سماع وكان ابو منصور الخوافي كثير الرواية وأكثر رواياته كتب الأدب وكان قد جمع كتباً من كل جنس. وكانت لبني موسى بن شاكر همم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل وأتعبوا انفسهم في شأنها وانفذوا إلى بلاد الروم من اخرجها لهم واحضروا النقلة من الاصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني فاظهروا عجائب الحكمة - قاله ابن خلكان وكانت لموفق الدين بن المطرأن المتوفي سنة 587 على ما في تاريخ الأطباء همة عالية في تحصيل الكتب حتى أنه مات وفي خزائنه من الكتب الطبية وغيرها ما يناهز عشرة آلاف مجلد خارجاً عما استنسخه وكانت له عناية بالغة في استنساخ الكتب وتحريرها. وكان في خدمته ثلاثه نساخ يكتبون له أبداً ولهم منه الجامكية والجراية وكان من جملتهم وكان من جملتهم جمال الدين المعروف بابن الجمالة وكان خطه منسوباً وكتب المطران أيضاً بخطه كتباً كثيرة وكان كثير المطالعة للكتب لا يفارق ذلك في أكثر اوقاته وأكثرالكتب التي كانت عنده توجد وقد صححها واتقن(23/13)
تحريرها وعليها خطة بذلك وبلغ من كثرة اعتنائه بالكتب وغوايته فيها أنه كتب لكثير من الكتب الصغار والمقالات المتفرقة في الطب وهي في الأكثر يوجد جماعة منها في مجلد واحدا استنسخ كلاً منها بذاته في جزء صغير قطع نصف ثمن البغدادي بمسطرة واضحة وكتب بخطه أيضاً عدة منها واجتمع عنده من تلك الأجزاء الصغار مجلدات كثيرة فكان أبداً لا يفارق في كمه مجلداً يطالعه على باب دار السلطان او اين توجه.
وكان للقاضي الفاضل من رجال صلاح الدين يوسف ولع بتحصيل الكتب ولعه بالكتابه قيل إن كتبه التي ملكها تكون مئة ألف مجلد وليس هذا يبعد على من كان له من صلاح الدين المكانة المعروفة فقد كان دخله ومغله على ما في كتب التاريخ نحو خمسين ألف دينار سوى متاجر الهند والمغول وغيرهما. وكان جمال الدين بن القفطي الصعيدي وزير حلب المعروف بالقاضي الاكرم المتوفي سنة 646 جماعاً للكتب جمع منها ما لا يوصف وكانوا يحملونها إليه من الآفاق وكانت مكتبته تساوي خمسين ألف دينار ولم يحب من الدنيا سواها وله حكايات غريبة من غرامه بالكتب ولم يخلف ولداً فاوصى بمكتبته لناصر الدولة صاحب حلب.
وكان ناصر الدين العسقلاني المتوفي سنة 723 جماعاً للكتب خلف ثمان عشرة خزانة مملوءة كتبا نفيسة أدبية وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب وبقيت تبيع منها إلى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان إذا أراد أي مجلد قام إلى خزائنه وتنأوله كانه الآن وضعه بيده قال ابن الكتبي: وكان يباشر الإنشاء بمصر زماناً إلى أن اضر لأنه أصابه سهم في نوبة حمص الكبرى فعمي وبقي ملازماً بيته. وخلف ابو زكريا يحيى معين المعري البغدادي الحافظ المشهور من الكتب مائة قمطر وأربع حباب شبأبية مملوءة كتباً وكان الأمير ابن فاتك من افاضل اعيان مصر محباً لتحصيل العلوم وكانت له خزائن كتب فكان في أكثر اوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها وليس له دأب الا المطالعة والكتابة ويرى أن ذلك أهم ما عنده وكانت له زوجة كبيرة القدر أيضاً من أرباب الدولة فلما توفي نهضت هي وجوار معها إلى خزائن كتبه وفي قلبها من الكتب وإنه كان يشتغل بها عنها فجعلت تندبه وفي اثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها ثم شيلت الكتب المبشر ابن فاتك يوجد كثير منها وهو بهذه الحال.(23/14)
وجمع الوزير الفاضل ابو نصر المنازي كتباً كثيرة وفقها على جامعة ميا فارقين وجامع آمد قال ابن خلكان وهي إلى الآن موجودة بخزائن الجامعين ومعروفة بكتب المنازي.
وكان الأستاذ أبو الفتوح برجوان من خدام العزيز صاحب مصر ومديري دولته مولعاً بالكتب ولعه بالطرائف والأثاث والرياش والآلات وخلف منها مالا يحصى كثيرة واقتنى تاج الدين البغدادي اوحد عصره في فنون الآداب وعلو السماع من كتب خزائن مصر كل نفيس. وكان ابو موسى سليمان بن محمد الحامض النحوي المتوفي سنة305 صاحب الكتب الحسأن في الأدب اوصى بكتبه لأبي فاتك المقتدري بخلاً بها إلى أن تصير إلى احد من أهل العلم.
وذكر صاحب نفح الطيب أن جده كان غنياً جداً حتى أن المقري هذا لم يدرك من ثروة جده الا أثر نعمة اتخذ فصوله عيشاً وأصوله حرمة ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب.
ومن جملة ذخائر قصر العاضد آخر ملوك العبيد بين بمصر التي استولى عليها صلاح الدين يوسف خزانة كتب من الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة الف مجلد. وكان ابو سعد السماني صاحب كتاب الانساب يحصل الكتب. وكان ولد القاضي الفاضل الأشرف بهاء الدين مثابراً على تحصيل الكتب مثل والده. وكان في دار أبي المظفر بن معروف من افاضل مصر واطبائها مجلس كبير مشحون بالكتب على رفوف فيه ولم يزل في معظم اوقاته في ذلك المجلس مشغلاً في الكتب والقراءة والنسخ قال في طبقات الأطباء: ومن اعجب شيء منهم الا وقد كتب على ظهره ملحاً ونوادر مما يتعلق بالعلم الذي قد صنفت ذلك الكتاب فيه وقد رأيت كتباً كثيرة من كتب الطب وغيرها من الكتب الحكمية كانت لأبي المظفر وعليها اسمه ومامنها شيء الا وعليه تعاليق مستحسنة وفوائد متفرقة مما يجانس ذلك الكتاب.
قال الذهبي وسنة اثنتين ومائة مات الضحاك بن مزاحم الخراساني صاحب التفسير وكان علامة وكان مؤدباً عنده ثلاثة آلاف صبي ومكتبة كالجامع كان يدور عليهم قلت: ومن العجيب وجود كتب في القرن الأول تكون من الكثرة بحيث صح أن تدعى مكتبة وكان اسحق بن إبرأهيمالنديم الموسيقي المتوفي سنة 235 كثير الكتب حتى قال أبو العباس ثعلب رأيت لاسحق الموصلي الف جزء من لغات العرب وكلها سماعه وما رأيت اللغة في(23/15)
منزل احد قط أكثر منها في منزل اسحق ثم منزل ابن الاعرأبي. وكانت صاحب القاموس الفيروز ابادي لا يسافر الا ومعه احمال من الكتب. وكتب ابن قيم الجوزية بخطه مالايوصف وكان محباً للعلم ومطالعته وكتابته واقتناء كتبه واقتنى من الكتب مالا يحصل لغيره. وكان عند محمد ابن سيد الناس كتب كبار وأمهات جيدة وهو من الحفاظ والمحدثين ورأى ابن النديم صاحب الفهرست مكتبة ابن أبي بعرة من أهل مدينة الحديثة في الموصل وقال: إنه لم ير لأحد مثلها. ومدح ياقوت الحموي مدينة مرو فقال: ولولا ما عرا من ورد التتر إلى تلك البلاد واخراجها لما فارقتها إلى الممات لما في أهلها من الرقة ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها فإني فارقتها وفيها عشرة خزائن للوقف لم ار في الدنيا مثلها كثرة وجودة منها خزانتأن في الجامع إحداهما يقال لها العزيزية وقفها رجل يقال له عزيز الدين ابو بكر عتيق الزنجاني وعتيق بن أبي بكر وكان فقاعيا للسلطان سنجر وكان في أول أمره يبيع الفاكهة والريحان بسوق مرو ثم صار شرأبياً له وكان ذا مكانة منه وكان فيها اثنا عشر الف مجلد او ما يقاربها والأخرى يقال لها الكمالية لا ادري إلى من تنسب وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعد محمد منصور في مدرسته ومات المستوفي هذا في سنة 494 وكان حنفي الذهب وخزانة نظام الملك الحسن بن اسحاق في مدرسته وخزانتأن للسمعانيين وخزانة أخرى في المدرسة العميدية وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها والخزانة الخاتونية في مدرستها والضميرية في خانكاه هناك وكانت سهلة التنأول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت ارتع فيها واقتبس من فوائدها وإنساني حبها كل بلد والهاني عن الأهل والولد وأكثر فوائد هذا الكتاب (معجم البلدان) وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن.
وفي خطط مصر ومزاراتها للسخاوي أن المدرسة المحمودية بخط الموازينيين انشأها محمود الاستادار في سنة 797 ورتب بها درساً للسادة الحنفية وللحديث النبوي وعمل بها خزانة كتب لم تحو خزانة مثل ما فيها من الكتب وهي كلها كتب قاضي القضاة إبرأهيمبن جماعة وكان الأمام زين الدين ابو حفص عمر بن مسلم القرشي من علماء دمشق المتوفي سنة 792 مولعاً بالكتب وملك من نفائسها شيئاً كثيراً حتى أنه لما اعتقل هو وابنه بقلعة(23/16)
دمشق في دولة الظاهر برقوق رهن كثيراً من كتبه على المبلغ الذي طلب منهما. وأولع الأمام المقري الواعظ المفسر الخطيب الصوفي شيخ العراق عزالدين أبو العباس احمد الفاروقي الواسطي بالكتب كثيراً قال ابن كثير: إنه خلف الفي مجلد ومائتي مجلد وتوفي سنة 694 واحب بدر الدين بن غانم احد كتاب الإنشاء بدمشق الكتب وعني بجمعها وخلف الفي مجلدة. ووقف فخر الدين المارديني الفيلسوف سنة 594 جميع كتبه في مدينة ماردين في المشهد الذي وقفه حسام الدين بن ارتق الفيلسوف والكتب التي وفقها فخر الدين هي من اجود الكتب وهي نسخة التي كان قد قرأ أكثرها على مشايخه وحررها وقد بالغ في تصحيحها واتقانها. وحصل عمرأن الإسرائيلي الطبيب المتوفي سنه 637 من الكتب الطبية وغيرها مالا يكاد يوجد عند غيره. وأحصيت الكتب التي وجدت في خزانة نور الدين على بن جابر فكانت نحو ستة آلاف مجلد. وبامثال هؤلاء راجت صناعة الوراقة والنسخ في البلاد الإسلامية وراج المطابع اليوم او أكثر حتى كان الوجيه بن صورة المتوفي سنة 607 سمساراً في الكتب بمصر (وله في ذلك حظ كبير وكان يجلس في دهليز داره لذلك ويجتمع عنده في يوم الأحد والأربعاء اعيأن الرؤساء والفضلاء ويعرض عليهم الكتب التي تباع ولا يزالون عنده إلى انقضاء وقت السوق فلما مات السلفي سار إلى الأسكندرية لبيع كتبه)
وبعد فقد أولع أهل الأندلسين بالتطريس على أثار المملكة الإسلامية الشرقية في علومهم صناعتهم وزراعتهم حتى كان لبعض العظماء منهم في كل عاصمة من عواصم العلم في الشرق مساخ متوفرون على نقل الكتب التي يؤلفها المشارقة والا يصح أن تخلو منها مكاتب المغاربة فكان الأندلسين كسائر الغربيين الاوروبين من الإفرنج يولعون من الفطرة بالأخذ عن الشرق كليات الحضارة وجزئياتها. وترى اليوم مثالاً من ذلك يشبه حال الأندلسيين مع سكان المشرق قديماً فإن أهل الغرب ما برحوا ييتبعون أثار السلف في الشرق على ارتقاء العلوم عندهم وايغالهم في مرامي المدينة.
ذكروا إنه كان في الأندلس وحدها سبعون مكتبة عامة فيها مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة. قال ابن الخطيب كانت في سبته خزانة كتب العلوم وكذلك في مكناسة الزيتون خزائن الكتب. وكان الحكم بن الناصر المتوفي سن جماعاً للكتب يبذل الأموال في(23/17)
استجلابها من الاقطار قال الذهبي: ولعل كتبه كانت تساوي أربعمائة ألف دينار وقال لسأن الدين بن الخطيب إنه كان محباً في العلم والعلماء مثيراً للرجال من كل بلد جمع العلماء من كل قطر ولم يكن في بني امية الأعظم همة ولا اجل منزلة في العلوم وغوامض الفنون منه قال ابن حزم: اخبرني تليد الخصي وكان على خزانة العلوم والكتب بدار مروان أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها الا ذكر اسماء الدواوين لا غير.
وقال ابن خلدون أن الحكم كان يبعث في شراء الكتب إلى الاقطار رجالاً من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس مالم يعهدوه قال جمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والاجادة في التجليد فاوعى من ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده الا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن يبيع أكثرها في حصار البربر وأمر باخراجها وبيعها الحاجب واضح ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة.
ونقل المقري أن الحكم جمع الكتب مالا يحدولا يوصف كثرة ونفاسة حتى قيل انها كانت أربعمائة الف مجلد وانهم لما نقولها أقاموا ستة أشهر في نقلها قال: وكان ذا غرام بها قد أثر ذلك على لذات الملوك فاستوسع علمه ودق نظره وجمعت استفادته وقلما يوجد كتاب من خزائنه الا وله فيه قراءة او نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد الا عنده لعنايته بهذا الشأن. وكان ابو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن أحد ملوك المصامدة شديداً الولع بالعلم والأدب طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة فجمع كثيراً من اجزائها وبدأ من ذلك بعلم الطب ثم تخطى ذلك إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة وأمر بجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي قال صاحب المعجب: اخبرني أبو محمد عبد الملك الشذوني أحد المتحققين بعلمي الطب وأحكام النجوم قال: كنت في أيام شبيبتي استعير كتب هذه الصناعة يعني صنعة الأحكام من رجل عندنا بمدينة إشبيلية اسمه يوسف يكنى أبا الحجاج يعرف بالمراني كانت عنده منها جملة كبيرة وقعت إلى أبيه في الفتنة(23/18)
بالأندلس فكان يعيرني اياه في غرائر أحمل عرارة واجيئ بغرارة من كثرتها عنده فاخبرني في بعض الأيام أنه عدم تلك الكتب بجملتها فسألته عن السبب الموجب لذلك فاسر الي أن خبرها انهي إلى أمير المؤمنين فارسل إلى داري وانا في الديوان لا علم عندي بذلك وكان الذي ارسل كافور الخصي مع جماعة من العبيد الخاصة وأمره أن لا يودع أحداً من أهل الدار وأن لا يأخذ سوى الكتب وتوعده والذين معه أشد الوعيد أن نقض أهل البيت ابرة فما فوقها فأخبرت بذلك وانا في الديوان فظننته يريد استصفاء أموالي فركبت وما معي عقلي حتى اتيت منزلي فإذا الخصي كافور الحاجب واقف على الباب والكتب تخرج إليه فلما رآني وتبين ذعري قال لي لا بأس عليك واخبرني أن أمير المؤمنين يسلم علي وانه ذكرني بخير ولم يزل يبسطني حتى زال ما في نفسي ثم قال لي: سل أهل بيتك هل راعهم احدا اوة نقصه شيئاً.
جاء أبو المسك حتى أستأذن علينا ثلاث مرات فاخلينا له الطريق ودخل هو بنفسه إلى خزانة اكتب فأمر باخراجها فلما سمعت هذا القول منهم زال ما كان في نفسي من الروع وولوه بعد أخذهم لهذه الكتب منه ولاية ضخمة ما كان يحدث لها نفسه. ولم يزل يجمع الكتب من اقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له منهم مالم يجتمع لملك قبله من ملوك المغرب. ولماتغلب السلطان يعقوب بن عبد االحق صاحب المغرب الأقصى على ملك قشتالة في أواخر المئة السابعة سأله أن يبعث إليه يكتب العلم التي بايدي النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام فبعث إليه منها ثلاثة عشر حملاً فأمر السلطان بحملها إلى فاس وتحبيسها على المدرسة التي اسها بها لطلبة العلم. وكان احمد بن الرومية احد اعلام المحدثين المتوفي سنة637 وهو النباتي الذي وقف على مالم يقف عليه غيره ممن تقدم في الملة الإسلامية حتى صار فرداً لايجار به احد بإجماع من أهل هذا الشأن - كثير الكتب جماعاً لها كما قال في الأحاطة وذلك في كل فن من فنون العلم وربما وهب منها لملتمسه الأصل النفيس الذي يعز وجوده احتساباً واعانة على التعليم قال: وانتشرت عنه تصانيف أبي محمد بن حزم واستحسنها واظهرها واعتنيى بها وأنفق عليها أموالاً جمة حتى استوعبها جملة فلم ينشد له منها الا ما لا يخطر له مقتدراً على ذلك بجدته ويساره. قال: ولما وصل إلى المشرق لقي مئتين من شيوخها فقفل برواية(23/19)
واسعة وجلب كتباً غريبة.
وذكر صاحب الأحاطة أن ذا الوزارتين أبي عبد الله اللخمي المتوفي سنة 708 اكرم العلم والعلماء ولم تشغله السياسة عن النظر ولا عاقة تدبير الملك عن المطالعة والسماع وافرط في اقتناء الكتب حتى ضاقت قصوره عن خزائنها وأثرت انديته من ذخائرها. قال ابن خاتمة: كان للشيخ أبي بكر الحكيم الرندي عناية بالرواية وولوع بالأدب وصبابة باقتناء الكتب جمع من أمهاتها العتيقة وأصولها الرائقة الانيقة ما لم يجمعه في تلك الاعصر سواه ولا ظفرت به يداه وكان اقتناء الكتب عند الأندلسين من شارات الوجاهة وامارات الظرف وقد يجمع الغني ما شاء من كتب وقماطر وهو لا يعلم الفائدة المترتبة عليها وكان أهل قرطبة ارغب في مقتنايتها من أكثر البلاد الأندلسية. جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بن الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة ما ادري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فاريد بيع آلاته حملت إلى قرطبة وإن مات مطرب بقرطبة فاريد بيع آلاته وكتبه حملت إلى إشبيلية حتى تباع فيها قال أبو الفضل التيفاشي: وقرطبة أكثر بلاد الله كتباً. وروى المقري أن ذلك صار عندهم من آلات التعين ورئاسة حتى أن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب وينتخب فيها ليس الا لأن يقال فلان عنده خزانة كتب والكتاب الفلاني ليس عند احد غيره والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به. قلت: وهذا الغلو يشبه لعهدنا غلو جماع الطوابع والعادات والصور وممن كان جماعاً للكتب والدواوين العلمية بالأندلس احمد بن عباس الانصاري فكان معتنياً بها مغالياً بها نفاعاً بها من خصه لا يستخرج منها شيئاً لفرط بخله بها الا لسبيلها حتى لقد أثرى كثير من الوراقين والتجار معه فيها وجمع منها ما لم يكن عند ملك - قاله لسأن الدين. وقال في ترجمة احمد بن الصغير الخزرجي من علماء الأندلس المتوفي سنة 559 إنه كان مولعاً بالأسفار كتب من دواوين العلم ودفاتره مالا يخفى كثرة بشدة ضبط وحسن خط وعد في جملته محتنه أن ضاعت له في ذلك وفي غيره كتب كثيرة بخطه مما تجل عن القيمة. وقال وكان احمد ابن إبرأهيممن أهل الأندلس امتحن بان نشأ بينه وبين المتغلب بمالقة من الرؤساء وحشة فكبس منزله واستولت الايدي على ذخائر كتبه وفوائد تقييده عن شيوخه ما(23/20)
طالت له الحسرة وجلت له الرزية ولما سريت عنه النكبة كانت له الطائلة على عدوه والطائلة الحسنى بعد الثياب أمره والظفر بكثير من منتهب كتبه وتوفي سنه 708.
وكان ابو جعفر احمد بن الجواز من أهل القيروان عالماً وجد له خمسة وعشرون قنطاراً من كتب طبية وغيرها. وكان القاسم بن محمد الاشبيلي الأمام الحافظ المحدث المؤرخ باذلاً لكتبه واجزائه ووقفها. وكان ابن نعزله اليهودي كاتب باديس الصنهاجي احد رؤساء الأندلس جماعاً للكتب وكان ضليعاً في العلم كتب عنه وعن صاحبه بالعربي فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله تعالى والصلاة على رسوله والتزكية لدين الإسلام.
وكان محمد بن حزم جماعاً للكتب. وكان ابو بكر محمد بن يحيى والد أبي زكريا الراوية من حفاظ النحو واللغة والشعر مولعاً بالكتب جمع منها شيئاً عظيماً.
وكان عبد الله محمد بن عبد الله السلمي المرسي احد ائمة العلم كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث لا يستصحب كتباً في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه. وكان الوزير الكاتب ابو جعفر احمد بن عباس وزير زهير الصقلى ملك المرية من بلاد الأندلس جماعاً للدفاتر حتى بلغت أربعمائة الف مجلد وأما الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها. وكان المظفرين الافطس صاحب بطليوس كثير الأدب جم المعرفة محباً لأهل العلم جماعة للكتب ذا خزانة عظيمة لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة - قاله ابن حيان. وقال ابن بسام: كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق المترجم بالتذكرة والمشتهر أيضاً اسمه بالكتاب المظفري في خمسين مجلداً يشتمل على فنون وعلوم من مغازي وسير ومثل وخبر وجميع ما يختص به علم الأدب.
هذا ما ظفرنا فيه من اسماء غلاة الكتب في عصور الارتقاء في هذه الملة فليته يعود للشرق بعض هذه الهمة في اقتناء المفيد.(23/21)
نظام الشرب
لماذا نشرب
الماء ضروري للحياة. وقد ثبت أن بعض المخلوقات المنحطة كذوات الثديين تصبر على قلة الماء حتى إذا بللت به تعود إلى الحياة في الحال. وفي الواقع انها تموت بعد أن تترك بيوضاً ذات قشرة ثخينة تبقى في الجفاف وتنقف في الرطوبة. وترى الحيوانات المائية في البلاد الحارة عند ما يقل الماء تتخذ لنفسها وقاية من مادة ملتحمة ثم تخلد إلى السبات. ففي بطائح السنيغامبيا التي تجف ثلاثة ارباع السنة سمك غريب (بروتو بتروس انيكتانس) متى اعوزه الماء وينغمس في قالب من الطحين الملتحم الأجزاء وينام نوماً طويلاً. ولا يعيش الإنسأن في القفار وبلاد السهوب المعشبة الا بفضل بعض الينأبيع القليلة. والحيوانات على اختلاف أجناسها تردها وهي تربد بل صداها.
تحمل الحيوان على الشرب ضرورة دفع العطش والمرء وحده هو الذي يتوقع من الشراب لذائذ أخرى. فهو يتطلب اشربة تبعث شهوته للطعام فيختار لذلك في العادة من الادوية المفتحة مما يتألف من الالكحول ممزوجاً بنباتات مرة كثبات كف الذئب وغيره مما يوصي به الأطباء. يتطلب الاشربة التي تسهل الهضم. والمرق من أكثرها تأثيراً وتغذيته متوسطة ولكن ينشأ عنه ترشح عزير في الاخلاط فتكثر العصارة المعدية ولذلك جرت العادة أن يتناول في بدء الطعام. ويتطلب المرء أيضاً اشربه تسره وتطيب بها نفسه كالقهوة والشاي واللوز الهندي تحسن صوت القلب وتدفع التعب وتهيج الرأس.
وفي بعض الأمثال أن من يقتصرون على الماء تعروهم الكآبة. فإذا كان العامل يتعاطى الالكحول بعد معاطاة عمله الشاق فذلك لأنه يريد أن يرى نضرة الحياة. والبحث عن المسكرات من مبادئ أعمالنا. ثم أن المرء يتطلب اشربة تغذية طبيعية كاللبن ومحضرة كالشوكولاتا ومخمرة الالكحول. وقد تبين اليوم أن الالحكول مادة تدب منها الحرارة في احسامنا ولكن الإفراط في تنأوله ملازم لاستعماله.
مدة بقاء الاشربة في المعدة
تقضي الحال بهضم الاشربة كما تهضم الاغذية ويقول الفسيولوجيون أن درجة هضم الطعام تختلف فهي تتبع لمكثها في المعدة. وقد رأى بعض الباحثيين باستعمالهم آلة الفوناند(23/22)
سكوب أن للمعد اطواراً في هضم الشراب فإذا فرغت الا تستغني في العادة عن أن يكون فيها كمية قليلة من الشراب فمتى تنأول المرء شراباً يسقط إلى المعدة في الحال على خلاف رأي الاقدمين ويمكث فيها زمناً. ويرون أن المعدة تنقبض وتصعد وتستطيل مارة بالعرض ويرتفع معدل ما فيها حتى يبلغ فم المعدة وهكذا ينزح الشراب على طريقة لا تنقطع
إذا عرفت هذا فلك أن تقول أن الشراب الممزوج بالاطعمة يمر في المعدة قبل الطعام لقلة كثافته ويشغل الطبقة العالية منها. ويرى أحد الباحثين من الألمان أن المعدة تهضم نصف لتر من الماء في نصف ساعة على حين يبقى اللحم فيها مدة ثلاث ساعات. وإذا جرب البحث في الاشربة المختلفة يتجلى أن مقامها في المعدة يختلف كاختلاف الاطعمة في سرعة هضمها وعدمه وقد جرب الطبيبان بيانشي وكونت فعل الاشربة في إنسان على الريق فأخذا يعطيانه نصف لتر من الماء فتمددت المعدة ككيس وبعد ساعتين فرغ معظم الماء وعادت المعدة إلى صورتها السالفة. وتمدد المعدة بالاشربة الغازية مثل ماء سلتز مثلاً تمدداً كثيراً وتتسع دائرتها ويطول زمن امتلائها فتجدها بعد ساعتين من تنأول الماء وهي محتوية على كمية كبيرة منه. وعليه فالواجب اتقاء الاشربة الكثيرة الغازية كماء سلتز الصناعي الذي ينعش شهوة الطعام الضعيفة قليلاً ثم يحدث عنه في الحال كسل دائم في المعدة. وليس في الخمور المزبدة هذا العائق فإن الاكحول الذي يحتوي عليه يقبض المعدة ثم أن مدمنيها يتعاطونها باردة جداً على درجة برودتها من 8 او 10 درجات واحياناً على معدل درجتين كماتشرب الشمبانيا المبردة. أما المرق فإنه يحدث غازات فتمدد المعدة ويطول أمر تفريغها فإذا هاج المرق ترشيح عصارة المعدة فإنه على العكس يبطئ الانقباضات المعدية. بمعنى أنه يسكن شهوة الطعام على حين يظهر أنه يغذي وليس في تغذيته كبير أمر بل أن المرء يشعر بالجوع بعد تنأوله سريعا وعليه فمن الواجب أن يتناول من المرق كمية قليلة كمايجب أن يكون قليل المائية يتناول على أنه مسهل للهضم زائد في العصارة المعدية لا على أنه غذاء.
أما الاشربة المغذية كاللبن والشكولاته فإنها تجري في المعدة فتتقلص بها مسرعة بعد ساعتين من هضمها ولا يعود فيها غير جزء ضعيف والاشربة الحارة والعطرة تبقى في المعدة أقل من جميع أنواع الاشربة ونعني بالاشربة الحارة القهوة اللوز الهندي والشاي(23/23)
والماتي والاشربة الأخيرة أي القهوة والشاي وللوز الهندي ولماتي نافعة للاعصاب بل انها ملينة لها وذلك أن المعد الكسلانة تحسن حالتها إذا استعملتها على ما أثبتته التجارب واعترف به العامة والخاصة في كل زمن.
في أي وقت يسوغ الشراب
لايكفي بيان أي شراب ينبغي الاعتماد عليه بل ينبغي أن يعرف في أي وقت يناسب تعاطيه. لا جرم أن في العادة قاعدة لذلك. فاللبن والشكولاتا يتنأولهما الناس في الصباح والخمر مع الغداء والقهوة بعدالطعام. وإذا عرفت هذه القواعد فإن السبب في بقائها مجهول على الجملة وذلك لانا نخضع للعادات بدون أن نبحث عن سرها فالمرق والحساء من المقبلات المعينة على الهضم وهو على جودته يمدد المعدة وهذه تصلح بالخمر الذي يقبضها فإذا لم تكف الخمور المألوفة في تنبيه المعدة الكسلانة فإن القهوة التي نشرب بعد الطعام تقوم مقامها وذلك لأنها تؤخذ على درجة 45 من الحرارة. والاشخاص المصابون بضعف في اعصابهم يستعيضون عن القهوة بقدح من منقوع الاقحوان إذا كأنت القهوة تهيج معهم وذلك لأن في الاقحوان مواد عطرة وحرارتها نافعة كحرارة القهوة. قليل من الخمر على الطعام خير مم يأتيه المدمنون فإنهم يتنأولون منها في الصبوح والغبوق فيأخذون قدحاً في الصباح على الريق لبيعثوا النشاط في أجسامهم ويتنأولون المقبلات والمشبهات والاكحول طول النهار. وهذه الاشربة إذا جمعت تهيج المخاط المعدي كما تهيج عروق الكبد فيتأتى عنها وجع في المعدة ومرض في الكبد أما المعارف بأشكال الخمر فإنه يحافظ على أصول الطبخ فيتسير له أن يتناول كمية كبرى من الكحول بدون أن يشعر بتأثيرات ضارة.
كيف ينبغي الشرب
لا تكفي معرفة الساعة التي يجد ربها الشرب بل ينبغي أيضاً أن تعرف طريقته. كما أنه ينبغي تنأول الطعام بتأن ينبغي كذلك شرب الماء بتأن فالعارف بالشراب إذا ذاق قدحاً منالخمر الجيد بشربه نغبه ويضعه في فمه شيئاً فشيئاً ويترشفه ليدرك رائحته وتصل به الحال أن يحسن ذوقه بحيث يعرف أصل ما يتناول من الخمر وحالته من القدم وهذه المعرفة تبلغ أرقى درجاتها عند المتتدوقين.(23/24)
فالسير على هذه الصفة التي ما شأنها التلذذ مما يساعد على الهضم كثيراً وتأثر الاعصاب الذوقية يهيج ترشح الريق فياتي الماء إلى الفم ويحلل الشراب. وقد ابأن الفسيولوجيون أن المعدة وإن كانت فارغة ترشح عصارة معدية بكثرة. وعند ما يصل إليها الشراب فإن كل من المغذيات يهضم بسرعة وإذا كان من المهيجيات كالاكحول يتحلل ولا يؤثر أصلاً في المخاط.
ومن سوء الحط أن قليلين من المتذوقين يحسنون معرفة طعم الاشربة وذلك لاننا جمعنا الا نادر منا نشرب كما نأكل بسرعة زائدة دون أن نفكر فيما نعمل حتى إذا اصبنا بسوء الهضم نسرع إلى استشارة الطبيب وهذا لا يلبث أن يوصينا بالتأني ونحن لا نعمل بما يرسم لأن الأقلاع عن العادات السيئة يصعب مباشرة الاجدر استعمال الملعقة او طاس ذي عنق طويل كالذي يستعمله المرضى او يستعمل النبيذ الذي يجفف عنبه على القش. ومعلوم أن الطريقة الأخيرة تستعمل في احتساء الاشربة المبردة والاحتياط في ذلك مطلوب وإذا تنأولها المرء بسرعة تؤثر البرودة في المعدة وتحدث فيها اضطرابات تضربها.
واصعب من ذلك المدمن الذي يتناول القدح دفعة واحدة فتفتح المعدة وتقفل بسرعة كالآلة فلا يشعر المسكين الا بالحرارة التي تنشأ عن الاكحول فإذا جرى تنأوله على هذه الصورة من السرعة ودخل على معدة فارغة من الطعام لا يحلله اللعاب فيدخل إلى معدة جافة فيكون من ذلك ما يزيد في المضرة.
المدمن كالشره لا صواب في عمله فالأول مدخول في عقله والثاني شهواني. وارضاء شهوة أقل خطراً من الإفراط. وتكفي الشره كمية قليلة من الطعام فإذا أكثر منه تضعف حواسه وينقطع المجنون بالسكر هو ولا شك مصاب في عقله حقيقة لا يشبع مهما كبرت وأحسن الطرق في معالجة دائه أن يمنع من السكر على رغم انفه.
الإكثار من الاشربة
يشرب الناس كما يأكلون بسرعة بدون أن يتمهلوا في ذوق ما يتنأولون وبعد ذلك يكثرون من العجلة في طعامهم وشرابهم وكلتاهما عادتان رديئتان متلازمتان. فيشرب الشارب شرابه بدون شعور منه كلما رأى كأسه فرغ يملأوه حتى إذا استوفى حظه يكون قد ملا معدته بشراب والقى الاضطراب في عقله بابخرة خفيفة من السكر. ومن اصعب الأشياء(23/25)
أن يلح عليك من دعاك إلى تنأول طعامه وشرابه بالإكثار فتضطر إلى امتثال أمره أدباً وما هو إلا أن تنقلب إلى أهلك مريضاً لكثرة ما شربت.
ليست الاشربة الروحية ضارة فقط لما فيها فإن التسمم الالحكول بل القهوة بل بالشاي مشهور لدى الخاصة والعامة بل أن ضررها يكثر من تنأول الكميات الوافرة منها حتى أن الماء العذب النقي إذا جرى تنأوله با فراط يصبح ضاراً فيحل العصارة المعدية ويمنع الهضم ويتعب المعدة والطعام الكثير لا يستلزم أكثر من ثمانمائة غرام من الشراب ولكن الشراب لا يلبث أن يتناول ضعف هذا الوزن او ثلاثة أضعافه على أن قدحين من الشراب أي من ثلثمائة إلى خمسمائة غرام تكفي في غذاء منوسط والمكثرون من تنأول الجعة يصابون بتمدد المعدة وتضخم البطن وارتخاء البدن وتعب الكلى ويصابون بالزحير وانبساط القلب المفرط فالإكثار ضار على كل حال.
الاشربة الشافية
إذا كان الإفراط في تنأول الاشربة قتالاً فإن استعمالها في بعض الاحيان قد يشفى وكلامي هنا لا يتناول الادوية العديدة كالمياه المعدنية ومياه البروز واللعوق وغيرها من الاشربة التي تجهز على صورة سوائل بل أن المياه الصرفة وحده مساعداً حسناً على التداوي. فقد قام في الازمأن السالفة أطباء عالجوا الادواء بالماء وأول من سن هذه الطريقة فلاح من أهل العقول الكبيرة اسمه بريسينز اشتهر في أوائل القرن التاسع عشر بعد أن كان خاملاً في قرية صغيرة من سيلزيا من أعمال بروسيا وراح الناس من كل مكان يفزعون إلى تعاطي التداوي بالماء للاستحمام او للشرب منذ ذاك العهد أكثر الأطباء من وصف التداوي بالماء.
وكيفما كانت طريقة استعماله فإن الماء إذا أخذ بكثرة يجلب الانحطاط والسميات ويكثر الاخلاط الضارة بالحياة على الكلى والجلد. فمن الضروري أن يشرب الماء على الريق لينفع في غسل المعدة فإن المصأبين بضعف المجموع العصبي تجود صحتهم بتنأول قدح من الماء البارد صباحاً عند القيام من النوم وينبغي اختيار ماء ثقل فيه المعادن والا فتتعب الكلى. ولقد قام في عصر بريسينز من ينافسه ويصف غير طريقته في نفس قريته التي نشأ فيها وأخذ يحظر على الناس الشرب ينأهم في التعريق والتعريق يزعمه يدوم من ست(23/26)
إلى ثمان ساعات وكان يوعز بالأقلال من الطعام كثيراً وقد فاخر بان كثيرين شفوا على يده بهذه الطريقة ولكن الناس الذين يتحملون طريقته قلائل.
اماالأن فقد لطفت طريقة الأمتناع عن الشرب لأن الطبيب يصف للمصاب بسوء الهضم الذي ثقل فيه العصارة المعدية أن يخفف من السوائل كما يصف ذلك لأرباب المعد المصابة بالتمدد والمصأبين بالضعف الذين يحاذرون الأمتلاء والكظة. ولاسيما للشرهين ممن نرى حرمانهم من الاشربة يعدل شهواتهم للطعام بالقوة وفي تلك الحال يكفي تنأول قدح في خلال الطعام ولكن ينبغي أن يمتنع عن الشراب ساعتين او ثلاثاًُ بعده وهكذا اصدق المأثور عن النبي محمد (عليه السلام) (الماء في خلال الطعام يعطي قوة)
المشروبات القتالة
ثبت الآن أن الماء تنبعث الجراثيم الباثولوجية كالهواء الأصفر والحمى والتفوئيد وغيرها وقلما يعرف الناس أن الماء ينقل بيوض جراثيم الاحشاء كما اوضح ذلك العالم متشنكوف حديثاً وكثيراً من الناس من يحملون في احشائهم جراثيم التفوئيد بل والكوليرا ولا تضر بهم. فالماء يحتوي على حلمات طفيلية بقدر ما يحتوي من الباشلس فاضافة شيء من الالحكول عليه في صورة خمر اوغيره من الاشربة المخمرة لا تأثير له ولا نفع. اما تقطيره الذي طالما دعا إليه الأطباء فلا يؤثر إلا إذا بولغ في التدقيق فيه وهو ضاراً إذا كان هناك تربة ترشح وفيها شقوق.
وأحسن الطرق في تنأول أفضل الماء سالماً من المضار أن يطال تعريضة للهواء والشمس فهما يقللان سمية الجراثيم ويقيضان عليها. وبذلك يفهم القارئ كيف أن أهل مدينتي كفرسان وانجر إحداهما تشرب من نهر السين والثانية من نهر اللوار هم أقل أصابة بالحمى التيفوئيدية من غيرهما من المدن التي يستقي ماءها من الينأبيع وذلك لان بينك المدينتين تشربأن الماء بعد أن يمر على مرشحات متسعة من الرمل والفحم فيتعرض للهواء ويتصفى. أما من حيث الحلمات الطفيلية فإن الهواء والنور لا يؤثرأن فيها ويقول متشنكوف ينبغي غلي الماء للوقاية منه لكن هذا الاحتياط يصعب اتخاذه اذ أن الناس إذا تنأولوا طعامهم مطبوخاً وامكنهم الاستغناء عن البقول الفجة الا بغسلها بالماء المغلي وإذا أكلت من الفواكه ما طبخ او كان قابلاً للتقشير ولم يؤخذ اللبن الأمغلياً فإن استعماله الماء(23/27)
المغلي هو في العادة ثقيل تفه لا لذة فيه. نقول تفه لأن فقد الحامض الكربونيك الذي يوليه الطعم وثقيل لأنه زالت عنه مواده المعدنية. على أنه يمكن على حال أن لا يغإلى برداءة الماء المغلي وذلك بان يهوى بالتكرير ويحفظ في مكان رطب.
ويستعمل الجنس الأصفر الشاي الخفيف في امصارهم لأن الماء النقي من الشوائب يصعب ايجاده في بلادهم الكثيرة السكان ولكننا لا نرى استعماله في بلادنا لان تأثير الشاي إذا أضيف إلى تأثير الاشربة المخمورة والإكثار من اللحوم يضرنا أكثر مما ينفعنا. وانه ليطول العمل بهذه النصائح ولكنها تنفع ضعاف الأجسام ممن يريدون عود العافي عليهم كما تنفع صحاح الجسم ممن يتعرضون لانتهاك القوى والضعف إذا استرسلوا بلا وازع ضمعي. وحفظ الصحة عدو اللذة.(23/28)
سياحة العقل
لا تقبل الاجرام عدا ... كلا ولا الابعاد جداً
العقل يرجع خاسئا ... عنها وأن لم يأل جهدا
يرقى إليها موريا ... بالفكر في الظلماء زندا
متجهزاً بضياء ان ... ظار بها إن ضل يهدي
وقد استعد وكل سا ... ع يستعين بما استعدا
فيسيح في ليل به ... زهر النجوم يقدن وقدا
ويجوز اجوازاً لها ... متعسفاً فيكاد يردى
مهما ترقى صاعداً ... الفي وراء البعد بعدا
يسمو وينفذ موغلا ... فيصده الاعياء صدا
حكت المجرة صارما ... وحكت سحائبها فرندا
نفسي تود وكيف ام ... نع في نفسي أن تودا
لو انها وجدت طري ... قاً منه للشعرى يؤدى
وتصعدت فتقلدت ... من انجم الجوزاء عقدا
وبكفها لمست من ال ... قرب السماء اللازوردا
خادعت نفسي حين لم ... ار من خداع النفس بدا
اني إذا خالفتها ... كانت لي الخصم الالدا
يانفس بعد الموت ذا ... لك كائن فاليك وعدا
والعقل يعلم من سيا ... حته التي أولته مجدا
أن المجرة لم تكن ... الا عوالم فقن عدا
والسحب فيها انجم ... هن الشموس بعدن جدا
متحركات في السما ... ء تخال أن لهن قصدا
متنقلات في فس ... يح فضائها عكساً وطردا
فلها مجاز في مجا ... هلها تسير به ومعدى
زرقاً وحمراً زاهيا ... ت في مجاريها وربدا
متجاذبات لو تخل ... ف واحد عنها ولا ودى(23/29)
وهناك اجرام على ... كر الدهور جمدن بردا
ستعيد يوماً ما حرا ... رتها القديمة او أشدا
وتمد ثانية اشع ... تها إلى الأطراف مدا
اني لاحسب أن ها ... ذا الكون حي سوف يردى
وكذاك احسب كل نج ... م جوهراً للكون فردا
والأرض بنت الشمس تر ... ضع من حرارتها وتغذى
وتدور في أطرافها ... مشدودة بالجذب شدا
فتطوف مثل فراشة ... لاقت بجنح الليل وقدا
وبدور محورها توج ... هـ نحو نور الشمس خدا
لولا دليل الجذب ما ... ملكت بهذا السعي رشدا
ولا بعدت عن امها ... فمضت وما الفت مردا
بل تاه حامد جرمها ... او صادممت في السير ضدا
فهناك يهلك أهلها ... وتكون للسكان لحدا
ويلي لها أن صادمت ... جرماً من الاجرام صلدا
لهفي على الشبان تخ ... مد منهم الانفاس خمدا
وعلى الحسأن الكاعبا ... ت عرضن كالرمان نهدا
والورد خداً والظبي ... عينا وخوط البان قدا
تردى وأكبر في نفو ... س العاشقين بذاك فقدا
فتموت سلمى في الشبا ... ب وزينب وتموت سعدى
كشفت بهم غماؤها ... واحيل بؤس العيش رغدا
هم البسوا الاقواماذ ... فسدوا من الإصلاح بردا
وبنوا بفضل الذب بي ... ن الظلم والضعفاء سدا
مثل السيوف المصلتا ... ت لهم تكون الأرض غمدا
وعلى الفلاسفة الإلى ... كشفوا من الاسرار عدا
وعلى الرجال الماحص ... ن العلم تحقيقا ونقدا(23/30)
ويلي له من حادث ... يستفيد الاعمار حصدا
أن لم يمت في يومه الان ... سأن فهو يموت بعدا
ما الموت الا منهل ... نأمنه وفداً فوفدا
قد مر للمتنعمي ... ن وطاب للبؤساء وردا
حمداً لك اللهم في الس ... راء والضراء حمدا
ماذا تكون الأرض بع ... د صلائها اتعود تهدا
اتجد بعد خرابها ال ... مظنون للعمران عهدا
الها إذا بلغت بها ... ية دورها المسعود مبدا
اني لآمل أن تعي ... د قوى الحياة وتستردا
وتعيش حيواناً بها ... وتكون للإنسان مهدا
وتعيد اباء كلما ... كانوا بها وتعيد ولدا
الأرض بالإنسان تك ... سب بهجة وتنال سعدا
ياارض لولا سعيه ... لم تدركي يا ارض مجدا
هو ذلك السر الذي ... افشاه مبدعه وابدى
لا تحتقره لكونه ... في زعمهم قد كان قردا
فلقد تقدم في الكما ... ل وبالفضائل قد تردى(23/31)
تهذيب الفرد في المجتمع الإنساني
تهذيب الفرد لفظ يراد منه معاونته على التذرع بالذرائع التي تؤهله إلى حياة تامة في هذا الوجود. والتهذيب من حيث هو يشمل على أمرين أحدهما أن يكسب الفرد شيئا من العلم ثم يصحبه بشئ من العمل وكلأهما نافع. بل هما من الأمور التي يترتب عليها قوام معش الفرد والاسرة والأمر الآخر يتضمن ترقي القوى المودعة في الفرد على اختلاف أنواعها وهذا الترقي يمكن تلك القوى من نيل اللذائذ التي تهديها طبيعة الوجود والبشر إلى نفوس تقبلها وتستطيع أن تستمع بها.
النوع الأول تحث عليه الأخلاق وتوجبه لان به يحصل التلاؤم بين الفرد ومحيطه ويصبح خليقاً بالوجود. ولما كان لهذا النوع علاقة بالحياة كان الحصول عليه من واجبات الفرد نحو نفسه ثم نجو المجتمع. وأصحاب العمل اليدوي لا ندحة لهم عن احراز هذا النوع من التهذيب لان به معاشهم ولا غنى عنه بكل فرد من البشر اللهم الا لمن انتقل إليه شئٌ من الرزق بالارث فيمكنه أن يعيش به. اما سائر الأفراد فإنهم إذا اغفلوه ولم يتعنو له يتعذر عليهم مناصبة الطوارئ الطبيعيه التي تقضي بنسخ الضعيف ليقوم مقامه القوي. وينتج من هذا أن الفرد الذي لا يكون متأهباً التاهب التام بهذا التهذيب يصبح كلاً على كأهل ثائر الناس هو واسرته وولده فإذا هم ابوا تقديم الضرورات له ولنسله فلا يتخلصون من قلق وسآمة ينالأنهم عند مشاهدة عجزهم وألمهم. وهو بلية على البشر مصدرها أولئك الذين عاثو في الأرض فسادا او بخسو التهذيب حقه وخلطو فيه اذ وهمو فيما يتقاضونه فأطلقوه على ملعومات ربما حملت في مطاويها ضر أكثر من نفع وربما كانت وسيلة لإكثار القاعدين الذين لا طاقة لهم بهذا الوجود. هؤلاء باسم العلم والتهذيب يثقلون مناكب البشر ويكلفونهم بتقديم القوط وسائر الحاجات. يتسمون بسمات لون نزعنها عنهم لرايت تحتها العجب العجاب.
أما النوع الثاني فليس له نهج خاص ولا يجب أن ينحى في طلبه طرق معلومة والأولى أن تترك القوى وشأنها فلا يكون الواجب مسيطراً عليها رد ليلها الطبيعة والسليقة وهما تسوقأن الفرد إلى معرفة اللذائذ التي هوأهل أن يمتع نفسه بها والتي إذا تغاضى عنها ولم يبالي بها كأن ذلك باعثا في انتقاص سرورة وزياة المهم أن أهل الزهد يتخلون عن البشر ويعمدون إلى مسخ جسومهم وتعذيب ابدانهم على أتباعهم أي ملذة كانت وينفرون من كل ما(23/32)
يطلق عليه هذا اللفظ على أن تعظيم العامة لهم ومجرد ذهابهم إلى أن العناية الغيبية راضية عنهم فيه من اللذة ما فيه هذا مع أنه لا دليل لهم على قهر انفسهم وكراهتهم للذة وغلوّهم في الزهد حدا بفرقة الكوكر أن ينددو بهم ويخطوهم. وقد رأينا طائفة من الفلاسفة مذهبهم أن السعادة هي أسمى فضيلة وفلسفتهم تدعي الهدونية فهوُّلاء يحرضون يحرضون على ترقية المدارك والعواطف وتمرينها على معالجة المحسوسات بحيث تصبح خليقة إن تكب منها كل ما من شانه جرُّ سرور لصاحبها او رفع الم عنه وعلى التمادي تصل به إلى السعادة المنشودة وكله استعداد لحياة تامة وهذا مما يقتضيه التهذيب على ما مرّ بك وتحث عليه الأخلاق.
تر مما تقدم اننا وصفنا التهذيب وصفاً عاما ونتوخى الان أن نورد لمعاً عن فروعه المتفاوتة ومأخذه المتعددة فمن جملة هذه الفروع التهذيب العملي وهو أعظمها خطراً على لمن الناس لا يقدرونه حق قدره وقد كاد يهمل أمره في كثير من معاهد الطلب وتلافى هذا الخطر أهل النظر فقاموا بشدون ازره وسعوا بإدخاله في لوائح المدارس. على أن المنافع التي تنجم عن التمرين العملي والمهارة اليدوية تتجلى لمن توقف معاشه عليهما وانحصرت مصادر ضرورات حياته فيها على أنه لا يسع من كانو في غنا عنها لما توفر عنهم من دواعي الثروة وأسباب الدعة الا الاقرار بالنفع الذي يتأتى من التحصن بهما.
ولا نزاع في أن هذا التهذيب ياتي بمرأفق خطيرة ينصرفون إلى الاشتغال بالصنائع وسائر الأعمال البدنية على أنه لا ينبعي أن يعني به كثيراً في تربية الطلبة الذين عقدوا النية على معطاة الصنائع في المستقبل لان هؤلاء يتيسر لهم فرص لاتمامه وحسبهم التمرن على شئ طفيف منه. أما الطلبة الذين يتوخون ولوج الدوائر العلية من المجتمع كوظائف الحكومة وسائر الأعمال العقلية فيجب أن تربى فيهم المهارة الفنية والقوة المدركة على السواء لان محيطهم المنتظر لا يمكنهم من الرياضة العضلية وإنهماكهم بمعضلات المسائل بنسيهم الواجب عليهم لابدانهم.
ثم أن الفرد الذي يهذب علقه وبدنه يكون أقل عرضة لعوامل الوجود وعوارض الطبيعة من مشوه الجسم واندهمته نكبة او بغتته حادثة فهو اقدر على درء ضرها عنه وقد يكون عوناً لاخوانه في كثير من الاحايين بيدان الضعيف من البشر يعرضه ضعفه إلى الوقوع(23/33)
في حبائل النوائب وقد يؤدي به إلى الهلكة إن يم يغثع قريبه المقتدر فترى من هذا أن مشاعر الفرد وأعضاء بدنه لها غاية واحدة وهي المناسبة والمطابقة بين افعال الفرد وبين الأشياء والحركات التي تتنأولها افعاله فوجب أذن على البشران يرقوا مداركهم وجسومهم على السواء لتكون خليقة بافعال ذات شأن حتى يكمل التناسب بين الفرد والمحيط
أن في الطرائق التي تتخذ الأن في تروية الطلبة نقص محسوماً. وما استخف تربيه نلقن برمتها بمثائل تلقى على الطالب ليعيها في حافظته فالعلم معلا شانه والعمل مهمل أمره ولا يسوغ الشطط في وجوه التهذيب فالتمرين العملي واجب وينبغي أن ينظر فيه إلى الغاية التي ينشهدها الفرد ويردها أن تكون اسا بحياته ثم هو يتروى في فوائد التمرين ويأخذ منه قدرا ينفعه في إدراك غايته ويهمل مالا يجديه أما المنافع التي تكون من تهذيب القوى باسرها فمما لأمراء فيه وهي تظهر في كل عمل من أعمال البشر.
التهذيب العقلي هو الفرع الثاني من تهذيب الفرد ولعله ينطبق في مأخذه على الفرع الأول فكما أن في التهذيب العملي ريضاة لأعضاء بصور تعدها لمعالجة الأشياء مباشرة فهكذا التهذيب العقلي يوجب تمرين العقل وتجهيزه للمطابقة بينه وبين الأشياء لمعالجته اياها بواسطة الأعضاء. على أن التهذيب العقلي بأعلى صوره هو فوق طاقة العامة فيكاد يخفا عليهم أن ثمة علاقة بينه وبين الحياة العملية وأن بينهما مطابقة وأنه نافع للبشر في تحصيل معايشهم وما ذلك لضعف نظرهم في الأمور وجهلهم بطبائع الأحوال. فقد نسو أن العود الذي يرفع به ثقل وأن الدولاب والجذع اللذين يستخدمأن في باخرة ماهي كلها تطبيق لمبادئ العلم في نظريات المخل. نسو أن تثقيف النبال يقتضي علم ببعض مبادئ القوى والحركة في العلم الطبيعي واننا نحن نتدرج من هذه المبادئ البسطية في العلم ثم نتطرق إلى نتائج رياضية وفلكية وأن العلم نفسه نشا نشوءاً وما زال يترقى حتى بلغ حاله المعهودة الان وأن المعارف المشوشة التي ابتدا العلم بها قد كانت للبشر أساسا لاكتشاف العلم المنظم والنافع للفرد وبدونه لا يقوى على الحياة الا ترى أن المعارف العالية في الفلك وسائر الرياضيات هي دليلنا الأمن في المعامل والمكاتب أهل العمل التجاري وفي تسيير السفائن والبواخر. وإن علم الحكمة والكيمياء ليس عنهما غنى في التجارب العلمية والتحليل المادي وعلى الجملة فالتهذيب العقلي يوجب ترقيه قوة الفرد ومواهبه وبذلك يؤثر(23/34)
في محيطه ثم يستعد لان ينفع نفسه ويحيى حياة تامة. ولما كأنت التهذيب العقلي وسيلة لمعرفة طبائع الأشياء وجب توسيع نطاقه مهما امكن فلا يجوز للفرد أن يتخذ جزء منه ويغفل أجزاء ولعل هذا من نقائض الأساليب الحاضرة في تعلم الصنائع. فإن العلم ببضعة من المظاهر الطبيعية مع جهل سائرها قد يؤدي إلى سقطات فادحة في ابداء الأحكام في أحوال الموجودات وقد يتعذر بقاؤه في الذاكرة.
ثم أن لكل شئ وكل عمل في هذا الوجود روابط تربطه إلى ظواهر الكون على تباين صنوفها فمنها ما هو رياضي ومنها ما هو طبيعي ومنها ما هو كيماوي ومنها ما هو حيوي وهذه الظواهر جميعها مشتبكة بعضها ببعض حتى أن العلم التام بجملة منها يقتضي العلم بمبادئ بقيتها. وقد يستغرب بعضهم من الحث على توسيع التهذيب إلى هذا الحد ويخيل لهم أن ذلك لا ضرورة تدعو إليه على أن تعميم التهذيب على هذا الاسلوب يمكن الفرد من إدراك حقائق كل علم على حدته دع عنك ما فيه من إدراك النتائج الأصليه التي تتفرع عن هذه الحقائق ولا يجب عليه أن يبحث عن تشعباتها ونسبها وتفاصيلها فليس ذلك من شانها وبعد أن يقف على مبائ العلوم باسرها يصبح ذا المام بمظاهر الكون جميعها وإذ ذاك يكون قد استعد استعدادا تاما للاخصاء فيصرف نفسه إلى جملة من ظواهر الطبيعة ويعمد إلى درسها واتقانها.
نرى من هذا أن الاجتماع نفسه يحث على التهذيب العقلي من وجه مضمن لأنه كلما عظم شانه سهل أمر معاش الفرد والاسرة. وبالجملة استدر المجتمع النفع العام. وهنالك وجه آخر ظاهر يؤيد التهذيب العقلي على أنه ليس له علاقة بالحياة العملية وهو مستقل عنها كل الاستقلال وهاك ما نقصد على سبيل الايضاح: - أكثر البشر لا يدركون عظمة الكون وذلك لقلة مادة العلم وكساد بضاعة التهذيب بينهم فالخادم وصاحب الحانوت وحامل العلم والأديب جميع هؤلاء لا يدكون عظمة مافي هذا الوجود من حي وجماد ولا يدكون ما يستطيع إدراكه ناس انقطعوا إلى درس حركات الطبيعة وظواهرها. هؤلاء يقدرون أن يبحثوا في دقائق الطبيعة ويسرحوا مخيلتهم في الكون بعد أن يكونوا قد اقصوا عن عقولهم المباحث والخواطر التي تتعلق بالحياة العملية. تصور ردهة مزدانه حوائطها بانوع الزين وقد دخلت إليها في جنح الدجى ولم يكن فيها الا شمعة منارة موضوعة بقرب زاوية في(23/35)
الحائط فبأن لك شئ من الزينة والنقوش وخفيت عنك أشياء وبينما أنت في هذا الحال انيرت مئة قنديل كهربائي فازالت من الردهة رداء الظلام الحالك ومثلتها لعينيك بما فيها من الزين والنقوش. هذا مثال ينطبق على ظواهر الكون كل الانطباق فالعلم يعلي شأن الحياة العقلية وكلما كان تهذيب الفرد اتم كل نظرة في الكون اوسع.
ينتج من هذا أن درس نظام المظاهر الطبيعية يوجد في الفرد علما عاما بأحوالها علي أنه يؤدي به إلى حدود يقف عندها العقل البشري في دهشة ويتقاصر عن تجاوزها كل بحث وعبروا عنها بقولها ما وراء الطبيعة. وهذا الدرس يمكننا من إدراك العلاقة بين الفرد واسرار الوجود ويخولنا أن نشارك الطبيعة ونتمتع بما تفيضه علينا من سوابغ النعم وعظيم اللذائذ.
أما العلم الذي يجب عل الفرد أن يتطلبه قعلم الاجتماع وهذا يتضمن الاطلاع على التاريخ ولاسيما ما كان يبحث منه عن الوطن وماله علاقة به وينبغي تتبع اصار الأمم والرجوع بها القهقرى إلى ما قبل انبلاج فجر حضارتها والبحث عن أثارها في ابان بدوتها لان هذا البحث هو المصدر الذي نشات منه الحقائق الاجتماعية المتفرقة وهو مهمل في دوائر التربية الحاضرة. ثم أنه يجب الوقوف على أحوال الأمم الشرقية لأن ذلك يفتضيه علم العمران ويوجبه. ودرس التاريخ يجب أن يتناول بالأكثر أحوال الأمة وكل ما ليس له علاقة بالاشخاص على أنه لا يجوز اغفال سيرة الرجال بتاتا ولا يجب أن يبخس حقه غير أن المؤرخين افرطو في الاهتمام به حتى انهم حصروا علم التاريخ بتراجم العظماء ومازال الاغمار في كل عصر يؤيدون هذا الرأي. وقد صرح كارليل أن علم التاريخ كتابة عن تدوين حوادث قام بها الملوك مضافا إليه ترجمة حالهم والناس الآن يميلون إلى الاطلاع على تواريخ الرجال الغابرين كما يرغبون في الاطلاع على أحوالهم المعاصرين. والغرض من درس التاريخ هو الاطلاع على نواميس النشوء الاجتماعي وهذا لا يتيسر بالوقوف على ترجمة حال الملوك والوزراء والبابوات والقواد ولا بالعلم بما شنوه من الغارات او قاموا به من الحصارات او احدثوه من المؤأمرات وابرموه من المخالفات والمعاهدات.
ثم انك إذا تدبرت الطرق التي ترقي بها المجتمع ت أن رقيه كان بادئ ذي بدُّ في تقسيم(23/36)
الأعمال وتوزيعها على الأفراد وكثيراً ما حدث التقدم بدون رضى الحكام. هذا يدلك على أن النشوء العمراني يجري مجراه فيكيف المجتمع وينوعه غير مبال بالعوائق التي يحاول الكبراء صده بها. ويليق بنا أن نعلم شيئا من الأعمال التي قام بها بعض الملوك ونطلع على أخلاقهم لما في ذلك من النفع لنا في إدراك مشاهد النشوء لتي حدثت في زمانهم والتي إن هي قصلت عن حوادثها وعن اشخاص كان لهم علاقة بها تعذر إدراكها حق الإدراك ثم أن المعرفة المتوسطة من هذا العلم تعيننا على إدراك الطبع البشري وتق بنا على بقاع نشرف منه على ما بلغه الإنسان عن طرفيق متناقضين وهما الصبر والخير فمن البشر من يسعى إلى دمار العمران وخرابه ومنعم من يسعى إلى إعلاء شانه وتوسيع نطاقه.
اما علم الأدب فلا ريب أن له شانا عظيما في تهذيب الفرد وأعداده لحياة تامة ولا يجب مع هذا أن يخص بوقت طويل لاسيما في تهذيب الرأشدين واعني بهم من بلغوا من العمر ما يناهز العشرين وذلك لأن البشر عموماً يرغبون العمل في أمور تلذهم ويستسهلون معاطاتها. فالتاريخ المتعارف والشعر والروايات وتراجم العظماء طالما عني بها كثيرون وانصبوا عليها وانصرفوا إليها أما العلم الذي يبحث عن طبيعة وظواهر الكون فليس للبشر ميل إليه ولذا وجبت العناية به أكثر من الأدبيات. على أن للدأبيات قدرا عظيماً عند أصحاب الهدونية يتخذونها من وسائل بلوغ السعادة لان عليها تترتب البلاغة في الحديث والطلاقة في اللسان ومنها تكتسب العبارة جزالة ورقة وبها تتولد اللذائذ العقلية وتنصبغ المشاريع الاجتماعية ولولاه لكان الحديث كناية عن ألفاظ يتفأهمون بها وهي خلو من الحياة كالجسم إذا فقد الروح.
بيد أن البشر يتطرفون جدا في متابعة تهذيب الفرد فمنهم من يفرط فيه ويغفله بتاتاً فيخسر فوائده جهلا. ومن سلك هذا المسلك هم السواد الأعظم من البشر ومنهم من يفرط فيه كان ينصرف بكليته إليه فيؤدي به هذا الإفراط إلى اضرار ربما كانت مهلكة.
قال أميرسون: إن من شرائط التهذيب الأولية أن يكون الفرد حيواناً قوياً وهو قول ينطبق على أفراد البشر بدون تفرقة. فالحياة التي تزري بالوجه الحيواني من الفرد ليست حياة. وإن كان يعذر صاحبها في بعض الاوال فإنه ملوم على وجه العموم ولو تقصينا أحوال البشر ومعارفهم لظهر لنا أنه لا يمكن انفصال العقل عن الحياة ولا أنفصال الحياة عن(23/37)
الأجسام وتتبين أنه لا يمكن أن يحيا الفرد يحاة تامة إلا إذا كان قوي البنية شديد العضل وأن الاعتداء على شرائع الصحة الطبيعية يؤدي بالفرد إلى مضار طبيعيه ويجلب مع الزمن مضار تشوش العقل وتضعضع أحواله. ثم إنه لا ينبغي للفرد أن ينصرف إلى التهذيب الأعلى الا بعد أن يكون عرف أنه اكمل الواجب عليه من سائر مطالب الحياة ولا يجب أن يكون تهذيبه عقبة أمام نشوء الجسم ولا أن يتوخى منه التمرين على الحركات القانونية التي تتضمن الالعاب اليدوية فإن هذه لا تنقع في الحياة الا قليلاً. ومن الخطأ الفادح الاهتمام االمفرط بالتهذيب بحيث تنتهي الحال بالإنسان أن ينصرف به عن سائر اللذائذ الطبيعيه وقد يولد فيه هذا الإفراط سآمة تناله في نفس الموضوعات والأشياء التي أخذ النفس بها ولعل هذا الكره متأت عن الضغط الشديد على النفس واكراهها على سلوك مسلم مذموم. وأن الإفراط في تهذيب النساء تهذباً عاليا مذموم في ذاته لما يجلب عليهن من الاضرار الجسيمة قال بعضهم: إن جامعتي غرتون وننهم في كمبردج ليستا على صواب في تهذيب البنات لإنهما متطرفتان والتهذيب الذي تستعملأنه مناف للصحة الجيدة. وهو قول حق إذا أخذ على بابه. على أن قائليه يخلطون في فهم معني الصحة الجيدة ويعنون بها سلامة الجسم من التوعك والانحراف الظاهرين. اما نحن فنريد منها أن يكون الفرد ذا مزاج قوي وأن يكون فيه نشاط الحركة. فنرى أن القول المار ذكره صحيح وإن كان فكره مغلوطاً فيه. وإن هناك بوناٌ شاسعاً بين معاني الصحة فالناس ينظرون إلى الظواهر.
ومن الغريب أن كثيراً من النساءِ يخدعن بظواهرهن فيظن الناظر إليهن انهن ممتعات بصحة جيدة غير أنهن في الحقيقة غير خليفات بإنشاء نسل صالح لحفظ النوع ذلك أن في المرأة فضلة من الكريات الحيوية ليست في الرجل خلقت لإنشاء النوع البشري فإذا ارهقت الأعضاء بالأهمال والإفراط في التهذيب الأعلى كان ذاك باعثاً على نقصان تلك الفضلة وقد تبقى المرأة قادرة على التوليد لبقاء ما يقتضيه في بدنها من القوة الحيوية فلا يشعر بذلك النقصان. ثم إن تتلف من الجسم مقادير عظيمة من الكريات في أعمال اخر غير أعمال التوليد كالحركات اللأزمة للحياة العميلية وما يندثر من الدماغ عند أعمال الفكرة وأعمال الروية وانفعال المتأثر به وما شاكل من الإتلاف الحيوي الذي يؤثر على التمادي(23/38)
في كريات التوليد فيضعفها. فنرى من هذا أن قوة التوليد في المرأة تضعف على نسب متفاوتة فطورا تضمحل فلا تستطيع المرأة الولادة وتارة تولد ولكنها لا تستطيع الأرضاع وفي بعض الأحوال تتأتي اضرار لا اقدر أن اصرح بها ومن العواقب السيئة التي تنجم عن الإفراط في تهذيب النساء وقوع النفرة والتباعد بين الزوجين وهو من النتائج الدقيقة التي لا تظهر الا لأصحاب التروي.
ولو هذبت لوائج المدارس عندنا (إنكلترا) بطرق مطابقة للعقل ولتأتي للنساء التهذيب الضروري لهن وتخلصن من مضار التربية الحاضرة ويجب أن يلغى منها كل ما يعبث بها من المضار ويبقى كل نافع. ولا يمنع ولاة الأمور من الغاء الطرائق الحضارة الا زعمهم انها موافقة لمقصود التربية.
على أن التربية بأسمى معانيها تقتضي الحصول على شئ من العلم ضروري لكيأن البر نافع لإنارة الاذهان وتوسيع العقول مقصود به أعداد الفرد بحياة كاملة وما تجاوز ذلك كان فيه غلو عقيم وإفراط سقيم.
سبق لنا في هذه المقالة أن الأخلاق توجب تهذيب الفرد وتحث عليه وهناك موجبات عمرانية فمنها ما هو غيري ومها ما هو اناني. أما الانانية فهي تحتم على الفرد أن يتحلى بالتهذيب العقلي لان به تترقى قواه ويطيب له المعاش وإن هو اغفله وجهله كان أشبه بالحيوان منه بمخلوق عأقل. والغيرية تتقاضى الفرد أن يبل من قواه شيئا في سبيل سرور غيره فإن لم مهذباً يستحيل عليه نفع المجتمع الإنساني.
وأفضل أنواع التهذيب هو التهذيب الفني واعتي به درس الفنون الجميلة كالموسيقى والتصوير والشعر ولا يجب أن يتوخى فيه فقط النفع الشخصي والسعادة الذاتيه وإنما ينبغي ايضا أن يعني به لأنه يهيئ الفرد لنفع محيطه وهذا هو الموجب الغيري. على أن للوجه الاناني شانا عظيما في هذا التهذيب لأن الفرد الذي يتعلم الموسيقى وسائر الفنون ينال من اللذة ما يتعذر استمتاع غيره بها ممكن ليس على شيئ من العلم بها.
إلا أن الإفراط في التهذيب الفني ليفضي بصاحبه إلى اضرار شأن الإفراط في سائر أنواع التهذيب العقلي ولذلك وجب الاعتدال لأن التطرف فيه يذهب الوقت ويضيع العمر سدى. واقبح المضار التي تنجم عنه مشاهدة في النساء اللواتي انصرفن إلى الفنون الجميلة(23/39)
واغفلن سائر الأعمال. ومع أن الأخلاق تحث على التهذيب الفني فهي تشدد النكير على الإفراط فيه ولا ترضى عن أساليبه في هذا العصر. وما أحسن البحث في الرذائل التي انبعثت عن الغلو في حب الموسيقى فأن ذلك يظهر كل الظهور أن المغالاة سوس ينخر عظام الأمم حتى ينتهي بها إلى العدم.(23/40)
المطلقة
بدت كالشمس يحضنها الغروب ... فتاة راع نضرتها الشحوب
منزهة عن الفحشاء خود ... من الخفرات آنسة عروب
نوارٌ تستجد بها المعالي ... وتبلى دون عفتها العيوب
صفا ماءُ الشباب بوجنتيها ... فحامت حول رونقه القلوب
ولكن الشوائب أدركته ... فعاد وصفوه مدر مشوب
ذوى منها الجمال الغض وجدا ... وكاد يجف ناعمه الرطيب
أصابت من شبيبتها الليالي ... ولم يدرك ذؤَابتها المشيب
وقد خلب العقول لها جبين ... تلوح على اسرته النكوب
إلا أن الجمال إذا علاه ... نقاب الحزنمنظره عجيب
حليلة طيب الاعراق زالت ... به عنها وعنه بها الكروب
رعى ورعت فلم تر قط منه ... ولم ير قط منها ما يريب
توثق حبل ودهما حضورا ... ولم ينكث توثقه المغيب
فغاضب زوجها الخلطاءُ يوما ... بأمر للخلاف به نشوب
فاقسم بالطلاق لهم يمييناً ... وتلك إليه خطأ وحوب
وطلقها على جهل ثلاثاً ... كذلك يجهل الرجل الغضوب
وافتي بالطلاق طلاق بت ... ذوو فتيا تعصبهم عصيب
فبانت عنه لم تأت النايا ... ولم يعلق بها الذام المعيب
فظلت وهي باميه تنادي ... بصوت منه ترتجف القلوب
لماذا يانجيب صرمت حبلي ... وهلق أذنبت عندك يا نجيب
ومالك قد جفوت جفاَء قالٍ ... وصرت إذا دعوتك لا تجيب
ابن ذنبي اليَّ فدتك نفسي ... فإني عنه بعدئذ اتوب
اما عاهدتني بالله أن لا ... يفرق بيننا الا شعوب
لئن فارقتني وصددت عني ... فقلبي لا يفارقه الوجيب
وما ادماه ترتع حول روضٍ ... ويرتع خلفها رشأ ربيب
فما لفتت إليه الجيد حتى ... تخطفيه بآزمتيه ذيب(23/41)
فراحت من تحرقها عليه ... بداءٍ مالها فيه طبيب
تشم الأرض تطلب منه ريحاً ... وتنحب والبغام هو النحيب
وتمزع في الفلاة لغير وجه ... وآونةٌ لمصرعه تؤُوب
يا جزع من فؤادي يوم قالوا ... برعم منك فارقك الحبيب
فاطرق رأسه خجلاً واغفى ... وقال ودمع عينيه سكوب
نجيبة اقصري عني فإني ... كفإني من لظى الندم اللهيب
وما والله هجرك باختياري ... ولكن هكذا جرت الخطوب
فليس يزول حبك من فؤادي ... وليس العيش دونك لي يطيب
ولا اسلو هواك وكيف اسلو ... هوى كالروح في له دبيب
سلي عني الكواكب وهي تسري ... يجنح الليل تطلع او تغيب
فكم غالبتها بهواك سهداً ... ونجم القطب مطلع رقيب
خذى من نور رنتجن شعاعاً ... به للعين تنكشف الغيوب
والقيه بصدري وانظريني ... ترى قلبي عليك به ندوب
وما المكبول القى في خضم ... به الأمواج تصعد او تصوب
فراح يغطه التيار غطاً ... إلى أن تم فيه له الرسوب
بأهلك يا ابنه الأمجاد مني ... إذا انا لم يعد بك لي نصيب
الا طل في الطلاق لموقعيه ... بما في الشرع ليش له وجوب
غلوتم في ديانتكم غلواً ... يضيف ببعضه في الشرع الرحيب
أراد الله تيسيراً وانتم ... من التعسير عندكم ضروب
وقد حلت بامتكم كروب ... لكم فيهن لا لهم الذنوب
وهي حبل الزواج ورق حتى ... يكاد إذا نفخت له يذوب
كخيط من لعاب الشمس ادلت ... له في الجو هاجرة حلوب
يمزقه من الأفواه نفث ... ويقطعه من النسم الهبوب
فدى ابن القيم الفقهاء كم قد ... دعأهم للصواب فلم يجيبوا
ففي (اعلامه) للناس رشد ... ومزدجر ملن هو مستريب(23/42)
نحا فيما اتاه طريق علم ... نحاها شيخه الحبر الاريب
وبين حكم دين الله لكن ... من الغالين لم تعه القلوب
لعل الله يحدث بعد اكراً ... لنا فنجيب منهم من يخيب(23/43)
مخطوطات نادرة
اما وقد خصصنا شطرا من هذا الجزء للكلام على محاسن الكتب وغلاتها فيجدر بنا أن ننقل هنا من كناش الشيح طاهر الجائري وناهيك بما يقع عليه اختيار هذا الأستاذ الكبير بعض المخطوطات النادرة من الأسفار المحفوظة في خزائن الكتب العامة في الاتسانة ودمشق وحلب والقاهرة وبايز نسوقها هنا ليرجع إليها من يتصدون لطبع الكتب او يرغبون في الاستنساخ تعميماً للفائدة
علم الحكمة
من الجدير بالطبع والاحياء في دار الكتب الخديوية بالقاهرة في هذا الفن
تلخيص كتب أرسطو الأربعة وهي المقولات والقضايا والقياس والبرهأن لابن رشد
تلخيص كتب أرسطو الأربعة وهي السماع والسماء والعالم والكون والفساد والأثار العلوية لابن رشد ويلي ذلك كتابأن له أولهما في اثبات اقاويل المفسرين والمطابقة لما قاله أرسطو
في العلم الطبيعي ثانيهما في التقاط الاقاويل العلمية من مقالات أرسطو الموضوعه في علم ما بعد الطبيعة مقالات أرسطو الموضوع في علم ما بعد الطبيعه مقالات أرسطو لأبي الفرج عبد الله بن الطيب كتب سنة 480 الانصاف لابن سينا التعليقات له.
وفي مكتبه اللاله لي بالاستانة شرح الإشارات لابن كمونة اليهودي شرحها للسيف الأمدي المعارف العقلية للغزالي في مكتبة اياصوفيه بالاستانة الحكمة المشرقية لابن سينا كتاب في الحكمة الجديدة لابن كمونة اليهودي 676 كتاب في الناظر للحسن بن الهيثم العمل بالكره الفلكية لقسطا بن لوقا البعلبكي تحرير أقليدس لمحيي الدين المغربي مجموعة الرئيس اين سينا فيها رسالة في معرفة الله وصفاته وافعاله وأخرى في قصائد الشيخ وأخرى في مسائل درات بينه وبين بعض المتكلمين وأربعة في خطبة الشيخ وخامسة في أمر المهدي ومجموع اخر للرئيس أيضاً فيه رسالة في الارزاق وفي إيراد البراهين على مسائل عويصة وثالثه في اثبات النبوة ورابعة في اقسام العلوم العقلية وخامسة في حل مشكلات في الهيئة.
وفي المكتبة العثمانية بالاستانة ترجمة كتب أرسطو لاسعد اليانيوي 1134 وفي مكتبة الفاتح مختصر صوأن الحكمة لحجة الحق عمر بن سهلان. وفي مكتبة راغب باشا شرح(23/44)
النجاة للشيرازي المدخل في الموسيقى للفارأبي في مكتبة بني جامع بالاستانة نهاية الإدراك للقطب الشيرازي. في مكتبة الكوبرلي الكاشف لانب كمونة سعد بن منصور اليهودي المنتخب من صوأن الحكمة لأبي سليمان محمد بن طاهر السبحستاني. في المكتبة الاحمدية في حلب المباحث المشرقيه للفخر الرازي.
علم التاريخ
في دار الكتب الخديوية الاعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام ليوسف البياسي ج2 در السحابة في مواضع وفيات الصحابة للصغناني طبقات فقهاء اليمن تجارب الأمم وتعاقب الهمم لابن مسكيه طبع منه الجزء السادس المغرب في حلي أهل المغرب لستة سادسهم ابن سعيدة سنة 672 كتبه بخطه للخزانة الكمالية بحلب نهاية المشتاق للادريسي محلي بالذهب كتب سنة 748 الدرر الكامنة في المائة الثامنة للحافظ ابن الحجر المقتضب من كتاب جمهرة النسب لياقوت الحموي.
في مكتبة بشير اغا بالاستانة منتخب تاريخ الحكماء ويسمى صوأن الحكماء لأبي القاسم البيهقي. في مكتبة الكوبرلي أحوال الهند للبيروني (لعله المطبوع في أوروبا) انباء الغمر بأبناء العمر للحافظ ابن حدر سنة 852 تاريخ بغداد للخطيب البغدادي نسخة 4 تاريخ مصر ودمشق للعلم البرزالي 738 تنبيه الملوك لعمر والجاحظ(23/45)
الكتاب
كتابي لا اروم سوى كتأبي ... فكم خففت فيه هموم مأبي
اجيل الطرف فيه فيجتلي لي ... مخائل حكمة في كل باب
إذا غمزت فناة الدهر قلبي ... اداوي في مباحثه مصأبي
لان اخطأت في فكري يبحث ... ففيه قد هديت إلى الصواب
وان شاهدت من قومي جفاءً ... يسليني باقوال عذاب
حوى خبر الزمان بما اتاه ... وما يأتي إلى يوم الحساب
غدا عمن تقدم ترجماناً ... يخبرنا بأخبار عجاب
اعاتيه إذا خطب دهاني ... فليس يمل من كثر العتاب
تراه اخرساً وتراه يحكي ... بابلغ ما تريد من الخطاب
كتوم أن فشيت له بسر ... وان حأبيت غيرك لا يحأبي
فكم نادمته بالليل وحدي ... فيغنيني عن الخلزد الكعاب
وكم فيه سكرت من المعاني ... فعفت لطيبها طيب الشراب
تكفل لابالعلوم فكل علم ... حواه لا يؤُل إلى ذهاب
فما حاسبته الاَّ تراه ... خبيرا بالدقيق من الحساب
فمن والاه نال هدى وفضلاً ... ومن عاداه راح إلى عذاب(23/46)
اليونان
الأعضاء الثلاثون - لما غدا القائد ليزاند صاحب أثينة اكره أهلها على تنظيم حكومتهم بحيث لا يخرجون عن حكمه بتاتاً. فإنشؤا مجلساً مؤلفاً من ثلاثين عضواً انتخبوا من أعداء الحكم الديمقراطي وكانوا قبل حأولو النزوع إلى الثورة ليفصموا عرى الدستور وعهد إلى هذا المجلس أن يؤلف دستوراً جديداً ويحكم أثينة بدون أن يرجع إلى رأي احد ولا أن يراعي قانوناً واقيمت لحماية هذا المجلس من سطوة الأثينيين حامية من الجند تحت أمرة قائد اسباركي في قلعة الاكروبول المشرفة على المدينة. وهذه كانت طريقة الحكم التي وضعها وهذه كانت طريقة الحكم التي وضعها ليزاند في المدن اليونانية في آسيا والجزر عند ما اخرجها من محالفة أثينا.
خول هؤلاء الأعضاء سلطة لا نهاية لها وشعروا بانهم مؤيدون بالجيش الاسبارطي فإنشؤا بحكمون حكم السادة القادة ويقبضون على اشياع الحكم القديم وينفذون عليهم الأحكام وربما كانت سيطرتهم تتنأول الأغنياء متخذين ذلك حجة في مصادرة أموالهم فمن ثم لقب أولئك الأعضاء بالثلاثين ظالماً. وانتهت الحال بترامين أحد الأعضاء وكانت تأمر على الديمقراطية واتفق مع الاسبارطين أن قال لرصافئه بانه قتل أناس كثيرين فيجب الكف عن ازهاق الارواح فما كان منهم إلا أن اتهموه بالخيانة وطردوه من المجلس وحكمو عليه بالإعدام.
وقد وفر كثير من الوطنيين من أثينة ولجؤا إلى البلاد المجاورة ولاسيما إلى ميكار وثيبة واستولى احد هؤلاء النازحين المدعو ترازيبول في 70 من أصحابه على قلعة من أعمال اتيكيا في الجبال على طريق بيوسيا عنوة فجاء الأعضاء الثلاثون في اشياعهم يدأهمونه إلا أنهم ردوا على اعفابهم وحأولوا أن يحاصروا القلعة ولكن رجع رجالهم إلى أثينة لما هطل الثلج وبعثوا بالحامية الاسبارطية وبالفرسأن فهجم ترازيبول نازحون جدد فلما اجتمع له منهم الف رجل اجتاز اتيكا فاستولى على مرفأ بيريه ونزل في مونيشي وراء معأقل اتخذها للتحص فقدم الأعضاء الثلاثون في رجالهم إلا أنهم ردوا على الاعقاب. وعندئذ نزع اشياعهم السلطة منهم واعطوها إلى مجلس مؤلف من عشرة طلب معونة اسبارطة فبعث هذه إليها بليزاند حاكما من قبلها وحاصرا بيريه بالسفن. ثم وصل ملك اسبارطة في جيشه ووصل إلى أثينة وأمر بالكف عن القتال وفصلت حكومة اسبارطة ببين الفريقين ورخصت(23/47)
لجميع النازحين أن يعودوا إلى أثينة فدخل ترازيبول ورجاله إليها وهم مدحجون باسلحتهم وصعدوا إلى قلعة الاكروبول يقدمون ضحية للمعبود. ثم اعاد الأثينيون الدستور القديم وتراجع الأعضاء الثلاثون في اشياعهم إلى الوزيس فقصدهم الأثينيون وهاجموهم وقتلو الزعماء وارجعوا الباقين ثم اقسموا كلهم أن لاتنزع الاحقاد من صدورهم لما أنتشب من الحرب الأهلية وهو مما دعي بالهدنة بالنسيان ولم تعد تحدث ثورة في أثينة بعد.
ضعف المملكة الفارسية_شغل اليونان بقتال بعضهم بعضاً فكفوا عن مهاجمة الخاقان الأعظم بل وأخذوا يسعون في مخالفته. وكأنت المملكة الفارسية لا تقل عن ذلك في تيهاء الضعف فأصبح الحكام لايخضعون للحكومة بتاتاً ولكل منهم بلاطة وخزانته وجيشه يحارب من يشاء وقد امسى قيلاً ملكاً صغيراً في ولايته وكان الملك إذا أراد أن يعين والياً مكان اخر لايجد إلى ذلك سبيلاً الا بقتل السلف ففقدت ملكة الحرب من نفوس الفرس بعد أن كانوا امة يرتجف لذكرها جميع شعوب آسيا. وهاك كيف وصف الفرس كسينوفون احد ضباط اليونأن الذي كان موظفاً عندهم: انهم ينامون على البسط ويلبسون فقاقيز في ايديهم ويتدثرون بالفرو ويلبس الكبراء حجابهم وخبازيهم وطباخيهم وحماميهم واخدمة الذين يخدمونهم على موائدهم ويطيبونهم ويعطرونهم ليجعلوا منهم فرساناً موظفين ويربحوا أجورهم ولئن كانت جيوشهم كثيرة العدد فلم ينتفع بها في شيئ وسهل على المرء أن يحكم عندما يرى أعداءهم يطوفون بلا فارس احراراً أكثر من أصحابهم ولايجرؤن أصلاً على ى قتال بعضهم بعضا عن امم والفرسان مسلحون كما كانوا سابقا بالسيف والترس والفأس ولكن لم تكن لهم الجرأة على استعمالها. وكان سائقو المركبات الحاصدة قبل أن تصل إلى العدو تلقي بنفسها عمداً او تفتقر إلى الأرض
بحيث أن تلك المركبات إذا خلت من سائقيها تجدث لهم ضرراً أكثر مما ينشأ منها للأعداء على أن الفرس لا يكتمون انفسهم ضعفهم العسكري ويعترفون بانحطاطهم في هذا الشأن ولا يجرأون على الدخول في المعارك بدون أن يكون بعض الروم في جيوشهم ومن قواعدهم أن لايقاتلوا اليونانيين بدون أن يكون لهم منهم مساعدون.
حملة العشرة الاف_شوهد هذا الضعف عندما سار كيكاوس سنة 400 اخو الخاقان الأعظم ارتاكسركيس ليخلفه وكان فبي تلك البلاد إذ ذاك ألوف مؤلفة من نزاع الآفاق أو المنفيين(23/48)
من اليونانيين يؤجرون انفسم اجناداً فدعا كيكاوس عشرة آلاف رجل منهم حتى أن أحدهم كسينوفون كتب يصف حملتهم. فاجتازوا بلاد اسيا إلى حدود الفرات بدون أن يقف احد في وجوههم ثم اقتتلوا بالقرب من بابل. وأخذ اليونان جريا على عادتهم يعدون مسرعين وهم يصرخون صريخ الحرب وقبل أن يكون البرابرة على قيد غلوة بادروا إلى الهزيمة فلحقهم اليونان وهم يتصارخون أن لايفارق أحدهم صاحبه. ولما أنتهت إليهم مركبات الحرب فتحوا صفوفهم ليتركوا لهم سبيلاً إلى المرور ولم يصب يوناني بادنى ضرب ماخلا وأحداً جرح بسهم.
جرح كيكاوس وتشتت جيشه بدون أن يقاتل وظل العشرة آلاف يوناني وحدهم في داخلية بلاد محاربة أمام جيش عظيم ومع هذا لم يجسر الفرس ايضا على مهاجمتهم ولكنهم غدروا فقتلوا خمسة قواد لهم وعشرين ضأبطأ ومائتي جندي جاؤا لعقد محالفة. ولا أصبح أولئك المستأجرون من الجند بلا قواد وضباط انتخبوا زعماء جدداً وحرقوا خيامهم ومركباتهم وركنوا إلى الفرار ودخلوا في جبال ارمينية الوعرة وعلى مانالهم من جوع وكثرة الثلوج وسهام القبائل الوطنية التي لم ترض أن تفسح لهم مجالاً للمرور وصلوا إلى البحر الاسود ورجعوا إلى الأرض يونان بعد أن قطعوا مملكة فارس وبقي منهم عند عودتهم سنة 399 8000 جندي.
اجازيلا_وبعد ثلاث سنين دأهم اجازيلا ملك اسبارطة في جيش صغير بلاد آسيا الوسطى وليديا وفريجيا المشهورة بغناها وخصبها وقاتل الولاة والعمال وراح يدخل إلى اسيا ولكن الاسبارطيين ارجعوه ليقاتل جيوش التيبيين والأثينيين. وكان اجازيلا أول يوناني قام في ذهنه أن يفتح بلاد فارس فحزن أن راى اليونانيين بقتل بعضهم بعضاً ولما اختبروه بماتم لغلبة كونت قائلين له أنه هلك فبها ثمانية من الاسبارطيين فقط وعشرة الاف من العدو لم يفرح بهذا النصر بل تنفس الصعداء وقال: مسكينة انت يا بلاد اليونأن التعيسة لقد اضعت رجالك وكان لك فيهم وحدهم غناءٌ في اخضاع عامة البربر.
وإلى ذات يوم أن يخرب مملكة يونانية قائلاً: إذا ابدنا جميع اليونأن الذين لايقومون بواجبهم فأين نجد رجالاً للتغلب على البرابرة؟ وهذا الشعور كان قليلاً على عهده. قال مترجمه كسينوفون عندما أورد هذه الكلمات لاجازيلا هاتفاً من كان غيره يرى من المصيبة(23/49)
أن يغلب عندما كان يحارب شعوبا من جنسه.
عظمة ثيبية. ايبامينوداس
مقاومة اسبارطة_جاء من زمن كانت فيه اسبارطة صاحبة السيادة براً وبحراً. قال كسينوفون: وكانت على ذلك العهد جميع المدن تخضع لأمر يصدر عن أحد الاسبارطيين ولما ضاقت صدور المتحالفين مع اسبارطة من الخضوع لها الفوا عصابة لمقاومتها فكان من ذلك أن طرد الاسبارطيون أولاً من اسيا ولم يسلم لهم سلطانهم على بلاد اليونان بضع سنين الا بمحالفتهم لملك الفرس 387 بيدان استيلاءهم لم يدم طويلا فكان في سهل بيوسا شعب شديد الباس شجاع النفس وهؤلاء البيوسيون الذين شهرهم جيرانهم الأثينيون وربما على غير استحقاق قد ظلوا منقسمين بين إحدى عشرة مدينة وكانت ثيبية اقواها سقطت على حين غرة في ايدي الاسبارطين فادخل زعيم حزب الإشراف المحاربين من الاسبارطيين القلعة واوقف زعيم حزب الديمقراطيين ونفذ عليه القضاء المبرم.
واذ لم يرض أربعمائة رجل من اهالي ثيبة أن يظلموا تحت حكم الاسبارطيين لجؤا إلى أثينة. فعزم أحدهم المدعو بيلوبيداس وهو شاب من اسرة شريفة غنية أن ينقذ بلاده كما فعل ترازيبول في تخليص وطنه فراح يقيم في قرية مع جماعة من المنفيين واتفق مع الثيبيين الذين بقوا في ثيبية فدخل في إحدى ليالي الشتاء إلى المدينة في رجاله ودأهم الحكام وهم في مأدبة فذبحهم ومن الغد دعا مجلس الأمة فهتف له هذا بانه محررها من اسره العبودية. وعندها سلمت الحامية الاسبارطية التي كانت في القلعة. وعادت ثيبية مستقلة وعملت على أن تجمع تحت ادارتها جميع مدن بيوسيا لتسير جميع البيوسيين تحت لواء احد لحرب اسبارطة.
ايبامينوداس_كان ايبامينوداس هو الرجل الذي نظم حاله الثيبيين فحفخفقت به لهم اعلام النصر. وكان من اسرة شريفة إلا أنها غنية فاعتاد نوعاً من الحياة القاسية وظل يعيش فيها مقلاً من الطعام لايتنأول الخمر وليس له غير رداء واحد ولامال لديه. فصيح اللسأن الا أنه يندر أن تراه يتكلم ولايقول الا الحق وهذا مما لم يكن من عادة اليونان شجاعٌ جداً في الحروب ولكنه مفرط في الإنسانية متضع شديد البأس يحبه ويحترمه كل من يراه. ولم يكن يعنى بصراع المصارعين الذي كان يشوق شائر أبناء يونان بل اعتاد السباق واللعب(23/50)
بالسلاح واخترع ضرباً جديداً من القتال. وكان الثيبيون كسائر اليونانيين قد اختاروا العادة الاسبارطية فيصطف الجند الرجلى منهم كتائب كتائب على ثمانية إلى عشرة صفوف وكانت جيوشهم في كل مكان في تعبئتها نمطاً وأحداً تؤلف مثلثاً ذا زاوية قائمة مستطيلة ورقيقة فكانوا إذا حمل جندهم على العدو يشعرون بان تروسهم المعلقة على اذرعتهم الشمال تحميهم من اليسار ومن اليمين صفوف رفاقهم يحمون الميمنة بالطبع بحيث أن الجناح الايمن من الكتيبة يشعر بأنه أقوى ما يكون في عادة. فتخيل ايبامينوداس أن يعبئ رجاله على شكل زاوية قائمة مؤلفة على طولها من صفوف متساوية في عدد ها بل أن يضع في الجناح الايسر صفوفاً أكثر من الايمن فتأخذ الكتيبة شكلاً غير متناسب يشبه شكل زاوية قائمة. فيكون الجناح الايسر اضخم من الايمن ومؤلفاً من أحسن المحاربين يحمل حملة منكرة على جناح العدو الذي يكون اضعف منه فينكس وسط جيش العدو وياخده من جنبه فدافع الثيبيون عن بلادهم بادئ بدء من الجيش الاسبارطي الذي بقي يدأهم بيوسيا في ربيع كل سنة اعواماً كثيرة ويقطع الشجر ويحرق الغلات ولم يجسر أن يقاتل قتالا منظما بل كانت غاراته مناوشاتٍ فقويت شكيمتهم وتمرسو في الحرب. رأى ايبامينوداس أن جيشه قد اعتاد قراع الأبطال وقوي ساعده في حومة النزال وكأنت الرجال من جند الاسبارطيين اصطفت على عمق اثني عشر مقاتل بالقرب من لوكترس وكانت رجالة السيبيين أقل وفرسانهم أكثر لان بيوسيا كانت بلادً تربى فيها الخيول الجياد فاستطاع ايبامينوداس أن يحمي المسيرة وكان من ذلك أن اختصر خط الحرب وحمل الجناح الايسر من جيشه وكان مؤلفا من خمسني صفاً فبدد شمل الجناح الايمن من الاسبارطيين حيث كان الملك واقفا فقتل 371 وهذه كأنت المرة الأولى التي تغلب فيها جيش يوناني على حيش اسبارطي وأصبحت ثيبيا المدينة المقدسة أكثر من جميع مدن يونان وصارت لها الأمرة على بيوسيا كلها وكأنت الشعوب اليونانية في المورة إلى ذاك العهد خاضعة لاسبارطة فالتمست معونة الثيبيين لنيل استقلالها. فإنشات مدينة ماتينيه في بلاد اركادية اسوارها على الرغم من دفاع اسبارطة وزبحت تيجة الأغنياء. احلاف اسبارطة وكان الاركاديون من سكان الجنوب مشتتين إلى ذاك العهد في القرى فإنضمو بعضهم إلى بعض وانشؤا مدينة حصينة سموها ميكالوبوليس ثم أراد ايبامينوداس جمهور الثيبين على أن يذهبو إلى(23/51)
غزو الاسبارطيين في عقل دراهم فدخل الجيش البيوسي إلى بلاد المورة وكثر سواده بالاركاديين واهالي ارغوث وتوغل في أقليم لاكونيا وطفق يعسكر أمام اسبارطا 270 وكانت هذه هي المرة الأولى التي راى فيها الاسبارطيون العدو في ارضهم. ولم يكن لاسبارطا اسوارٌ فسلح اجازيلا وكان قد بلغ إذ ذاك من العمر 76 سنة جماعة الهيوليتين وحصن الاكام المحيطة بالمدينة.
ولم يجسر ايبامينوداس على الهجوم وإذ كان عاجزا عن اطعام جيشه في البلاد التي استباح حماها وجعل عإليها سافلها استراجعه ادراجه وقبل أن يغادر المورة جمع المسينيين وقد أصبحوا منذو ثلاثة قرون رعايا الاسبارطيين واعانهم على أنشاء مدينة قوية سميت ميسين وعادو يلمون شعثهم وتحالفت اسبارطة مع الاثنيين الذين كانو يحسدون الثيبيين كما حالفو أهل سيراكوزة ومع الجبارديس الذي بعث إليها للمحاربين الغاليين فغلب الاركاديون احلاف ثيبة. وعندها حاولت ثيبة أن تنال معونة ملك الفرس وارسل القائد بيلوبيداس إلى اسيا وآيب يحمل كتاباً من الخاقان الأعظم الذي وعد أن يحارب اليونأن الذين لايقبلون بمحالفة ثيبة 367 اما سائر المدن فلم تكن تخشى ملك الفرس وابت أن تخضع له.
ولم تكن ثيبية من القوة لتخضع إلى سلطانها جميع بلاد اليونأن فظهر ايبامينوداس على أحسن حال في بلاد المورة مع الجيش البيوسي وحالف المسينيين ثانية وحاول أن يدأهم اسبارطة واذ بلغ ذلك اجازيلا كرّ راجعاً وراح ايبامينوداس يهجم على جيش العدو في اركاديا بالقرب من مدينة ماتينه وظفر في هذه المعركة باتخاذه الأسباب التي اتخذها في لوكترس ولكن أصابه سهم فمات بيومه. وفقد الثيبيون به قائداً يقودهم وانتهت أيام عز ثيبة ولم يبقى مما قام به القائد ايبامينوداس الا مدينة مسسينا التي أصبحت مملكة مستقلة وسقط سلطان اسبارطة من بلاد المورة كما سقط من بلاد اليونان.
نتائج الحروب - لم تؤدي هذه الحروب إلى تاليف اليونانيين كافة امة واحدة اذ لم يكن لمدينة من مدنهم لااسبارطة ولا أثينة من القوى ما تكره به سائر المدن على الطاعة لها والخضوع لسلطانها وما كان منه إلا أن ينهك بعضهن قوى بعض ويكافح بعضهن بعضاً وكأن ذلك من حظ ملك الفرس الذي استفاد من هذا الانقسام ولم تبلغ الحال بالمدن اليونانية انها لم تتفق عليه بل انها كانت على حدتها تحالفه للانتقام من سائر أبناء اليونان وقد(23/52)
صرح الخاقان الأعظم 387في معاهدة انتالسيداس بان جميع المدن اليونانية في اسيا هي ملك له ولم تخالف اسبارطة قول ذلك ولنقضت زعمه وكذلك كان شان أثينا وثيبية بعض بضع سنين فقد قال خطيب أثيني: ان ملك الفرس هو الذي يحكم بلاد اليونان ولم يبقى عليه إلا أن يقيم له عمإلا في مدننا. اليس بيده الحل والعقد في بلادنا؟ اما نحن فندعوه الخاقان الأعظم كما لو كنا عبيده؟ وهكذا اضاع اليونان بتفاشلهم وتدابرهم ما كانو غنموه في حرب مادي(23/53)
سير العلم
وفق الأستاذ بو بعد اشتغال ثلاثين سنة الا تكميل الة التنفس الاصطناعي وهي مؤلفة من اسطوانتين صغيرتين لهما بوقان موضوعان بحيث يمكن تحريكهما معاً فأحدهما توصل كمية من الاوكسجين والأخرى تاتي بالهواء ويناط في كل مهما أنبوب توضع طرفه على منأخير الذي يراد تنفسيه وقد جربت هذه الالة في الارانب والكلاب فحسنت نتائجها.
حامض الكربون
انشأ معمل في اوفرن من أعمال فرنسا لصنع حامض الكربون السائل وهو يكثر في ارض تلك الناحية وكان من قبل يضيع منه في الهواء ملايين من الأمتار المكعبة وهذا الغاز أحسن بطبيعته من المصنوع فأخذت فرنسا تحذو حذوا ألمانيا في الانتفاع من انحائها البركانية فتصنع في اليوم ملايين الكيلو غرامات من حامض الكربون السائل وعدد ينأبيع الغاز التي يمكن الانتفاع بها ستة وستكون لأهل تلك الناحية مورد ربح عظيم.
جوهر صناعي
الكوروندون خجر لطيف يعتبر بعد الالماس بقيمته ويسميه صياغ الإفرنج الحوهر الشرقي وهو ذو ألوان مختلفة فمنه الوردي والأصفر والازرق والبنفسجي والاخضر واللازوردي وقد اكتشفت إحدى الشركات في أمريكا معدن تستخرج منه بطرق صناعية ما يشبه الجوهر الشرقي بصلابته ولا يقل عنه رواء ومتى كثر انتشاره تسقط قيمة الماس الطبيعي أكثر مما سقطت.
كتب العميان
الآنسة هيلانة كلير هي ممن ابتلاهن الله بالعمى والصم والبكم وقد خدمت أبناء جنسها بان سعت إلى تعليمهم خدماً تذكر فتبين لها بعد الاختباران أن الطرق المؤلفة لتعليمهن بحروف ناتئة او محفورة أو غيرها ليست من السداد في شيئ وتؤدي إلى أن الأعمى الألماني لايستفيد من مثيله الفرنساوي ولا الأمريكاني من الإنكليزي ولذلك ترى توحيد طريق تعلم العميان والصم البكم على طريق برابل الفرنسوية وربما عقدت مؤتمرات لذلك.
التدفئة الكهربائية
اصطنعت شركتأن للكهربائية في أمريكا ادوات من الكهربائية تستخدم للتدفئة وتوليد(23/54)
الحرارة ارخص من توليد الحرارة من الغاز بثلاثة مرات
عالمة عاملة
ذكرت الصحف أنه عهد للآنسة هاس أن تنظم مجموعة المستندات الرسمية في نيويورك لأنها اقدر قيمة على الكتب والدفاتر في جميع الولايات المتحدة وهي مديرة دار الكتب العامة في نيويورك وقد عجبت المجلات من أن تكون مجموعة الأعمال الرسمية في الولايات المتحدة من ترتيب امرأة أديبة ولكن هو العلم يشترك بعد الأخذ منه الاسود والأبيض والنساء والرجال.
الرقص
انشأت فرنسا في بعض فيالقها مدرسة لتعليم صغار اضباط الرقص على أنواعه وكان لها من قبل في كل معسكر مدرسة للرقص اذ ثبت أن الرقص ينفع الصحة ويزيد انشراح النفس وهو من المتممات للرياضة الصحية المسلية وكان نابليون الأول يكره جنده على الرقص قبل انتشاب المعركة وبعدها في كل فرقة في روسيا معلم للرقص.
قضاة الإنكليز
ينسبون معظم الفضل في تحري قضاة الإنكليز الحق في بريطانية لكثرة الرواتب التي يتقاضاها الفرد منهم فإن قاضي القضاة يقبض 350 الف فرنك في السنة والقضاة العاديون 150 ألفاً وفيهم من يقبض 300 الف وقضاة المقاطعات يتنأولون 37500 فرنك وعند الإنكليز 60 قاضيا يقضون في خمسمائة محكمة وعند فرنسا 1600 قاض لثلاثمائة وخمسة وسبعين محكمة وهم يقبضون أقل من ذلك بكثير ولكن إنكلترا وتعطي قضائها رواتب باهظة وتطلب منهم عملا حسناً كثيراً
مدرسة المثريات
اقسمت الولايات المتحدة أن تكون رأسا في عامة أسباب الحضارة والعمران فمن جملة مدارس البنات العالية عندها مدرسة اكوتز في ضواحي فيلادلفيا بنيت وسط حدائق ذات بهجة وهي عبارة عن قصور ملوكية حوت أرقى درجات الترف والرفاهية وفيها دار تمثيل كبري وحديقة للشتاء واجرة تعليم الفتاة الواحدة فيها عن السنة المدرسية وهي ثمانية أشهر(23/55)
عشرة آلاف فرنك
الطب في البلاد العثمانية
كتب احد أطباء العثنانين فصلا ضافيا في مجلة العالم السلامي الفرنسوية تكلم فيه على طلب التجارب والطب الأصولي ومدارس الطب والمستشفيات في الاستانة والولايات وصناعة الطب فقال أن الطب في البلاد العثمانية قبل افتتاح المدرسة الطبية في الاستانة سنة 1827 كان عبارة عن تجارب وما كأنت الأمة تعتقد على ذاك العهد بالطب الغربي بل ولم يكن لها ثقة حتى بالطب التجربي وكانت تكفي بالعقاقير تأخذها من دساتير الدجالين على غير جدوى والمسلمون يضيفون إلى هذه الطريقة المالوفة في القرون الوسطى في التداوي القول بالادعية للاستشفاء وكانو يرونها نافعة في أمراض كثيرة ولاسيما الأمراض الباطنية والعصبية وأن هذه العادات ما برحت شائعة على كثرة المعتقدين بتأثيرات الطب وليس هذا الاعتقاد خاصا بالمسلمين بل أن المسيحيين كان لهم مثال منها في حضارتهم وتاريخهم واستشهد بحديثهم اخر الدواء الكي وقال أن بعض القوم يصفونه فينفعهم وأن الحكومة لما أنشات المدرسة الطبية الأولى في الاستانة كان اساتذتها اجانب وكانت تدرس بالفرنساوية ولم تدرس بالتركية الا سنة 1873 ولم يكن رغبة للمسلمين في تعلم هذه الصناعة فشق على الأساتذة الذين أخذو بالتدرس الطب بالتركية بادئ بدء ثم أخذو يتعلمون المصطلحات الطبية ويؤلفون لها مفردات من العربية والفرنسية والتركية وإذا صعب عليهم التعبير عنها يلفظ عربي او تركي او فارسي ياتون باللفظ اللاتيني أو الفرنسوي بدون أن يعمدون إلى أخذ شئ عن الإنكليزية والألمانية.
وبعد أن ذكر كيفية تدريس الطب وأورد اسماء مشاهير الأطباء العثمانيين من المسلمين والارمن والروم ومعاملة الطلبة المدارس او أحوالهم قال أن في البلاد العثمانية مدرستين طبيتين ملكتين أحدهما في الاستانة والثانية في دمشق. وعدد المستشفيات العثمانية ووصفها فقال أن في الاستانة وضواحيتها عشر مستشفيات ما عدا المستشفيات المدارس وفي الولايات وهي إحدى وثلاثين ولاية 122 مستشفى وأهمها في الحواضر وقال أن تشريح الجثث ممنوع في المستشفيات العسكرية والملكية ولا يجري اذ حدثت جناية أو في السجون وقد عاق منع التشريح تقدم الطب مع أنه من جملة برنامج دروس المدرسة الطبية الكبرى(23/56)
وهو غير مناف الإسلام لأن السلطان محمود الثاني استصدر فتوى من شيخ الإسلام في التلخيص بالتشريخ فافتاه بذلك وقال إن المستشفيات البلدية في الاستانة أربعة وإن عدد المستشفيات في الولايات الأربع والعشرون وفي الاستانة ثلاث مستشفيات خاصة واحد للارمن والثاني للاسائيليين والثالث للروم وفيها مستشفيان أحدهما ألماني والثاني فرنسوي وختم كلامه بالكلام على الدحالين من الرجال والنساء والعثمانيين والأجانب ممن يمارسون أعمالهم في السر سواءٌ كان في الاستانة أو في الولايات وبربحون ما يربحون لفرط استسلام الناس إليهم وتفضيلهم احيانا على غيرهم
تحريم التقبيل
رأى كثير من الأطباء في مؤتمر لهم عقدوه في إحدى مدن أميركا أن يسن قانون يحظر التقبيل على المتزوجين بل على الأمهات وعلى ذوي القربى والاخدان والمتحابين ورأوا أن تعلق على حوائط المدينة إعلانات يذكر فيها عدد الجراثيم التي يلصقها المقبل بشفتيه على خد المقبل. قالت المجلة التي ننقل عنها وماهو يا ترى رأي هؤلاء النطاسيين لو حضروا عيد القبل في رومانيا وهو الذي يجيءُ فيه البنات والفتيات زرافات من جميع أطراف القرى المجاورة تحمل كلا منهن سجلا اودلوا من الخمر مزيناً بالرياحين ويقبلن كل من يضادفنه في طريقهن من شفتيه ثم يقدمن له السجل ليسقي منه ويرتوي ومن أبى أن يتناول وما يقدم له يعد عمله إهانة. ويارب كم من الجراثيم تنتقل من فم إلى آخر يوم ذاك العيد في تلك العادة الغريبة
كلام النساء
كان يظن أن كثرة كلام النساء أتى من ضيق عقولهن أما الأن فقد أثبت الأستاذ ماراج من كلية السوربون بباريزان اقتدارهن على الكلام ناشئ من متانة صدورهن وذلك أنه بحثص في اصوات الرجال واصوات النساء وقاص مقدار ضغط الهواء الصادر من الفم فظهر له أن المتكلم من الرجال يتعب أربع أضعاف المتكلمات من النساء وأن النساء لا يتعبن من الكلام صح بقدر ما يتعبن إذا استعملن مراوحهن
المناطيد
كان لسباق المناطيد شان عظيم في فرنسا وألمانيا في العهد الأخير وتفننت الأمم في(23/57)
تطييرها تفننا ذكرت الجرائد السيارة أكثره اخر سرعة فقطعتها المناطيد الألمانية كانت 110 كيلو مترات في ساعتين و17 دقيقة والمنطاد الديد أشبه بسفينة طوله 128 متراً وعمقه 11 متراً و70 سنتيمتراً وقطراه 11430 مترا مكعباً وهو على شكل اسطواني ينتهي بمخروط سنيني وفي ستة عشر غرفة في كل منها منطاد من القماش المنفوخ بالهيدروجين.
جريدة بالتلفون
الف احد كتاب الأميركان سنة 1888 كتاباً خيالياً ذكر فيه كيف يعيش الإنسان بعد مئة سنة ومما قاله أن طريقة تبليغ الأخبار وسماع الموسيقى وخطاب الاندية والمؤتمرات ستنقل إلى الناس بواسطة التلفون فضحك بعضهم من هذه النبؤة ولكن مدينة بودانست عاصمة المجر قامت تحقق اليوم ما تنبأ بحدوثه ذاك الكاتب فاسست شركة تلفون تنقل لاهالي تلك العاصمة بواسطة مائتي عامل لها يعملون بلا انقطاع في اسلاك تلفونية طولها ثلثمائة كيلو متر إلى خمسة عشر الف مشترك أخبار العالم وانباءه البرقيه وحوادث اليوم وانباء المجالس النيابية والخطب السياسية وأخبار البورصة والأسواق وحوادث الشرطة والقضايا المرفوعة أمام المحاكم وشذرات من صحف بست وفينا وأبناء والظواهر الجوية والإعلانات وغيرها كل يوم من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة العاشرة مساءً وتنقل للمشتركين ألفاظ الممثلين في أشهر دور التمثيل كما يلقونها والمواعظ كما يفوه بها أصحابها وغيرها والمشترك لا يدفع لقاء هذه الأخبار التي تنقل إليه بأسرع ما يكون سوى عشرين سانتيماً في اليوم وستسارع باريز وشدن وبرلين وغيرها من العواصم إلى تأليف شركات من هذا الطراز
نظافة الشوارع
أصبحت نظافة شوارع لندن وبرلين المثل المضروب عند الأمم بنظافتها على كثرة الحركة فيها ولاسيما لندن أعظم عواصم الأرض فإن برلين تمنع المارة من القاء الورق دع عنك الفضلات في الشوارع ولندن تستخدم ألوفاً من الاطفال يحمل كل منهم مكنسة ورفشاٌ لتناول السرقين حالة وقوعه وجعله في علب كبيرة تجمع وتباع من أرباب الحدائق سمادا للارض من انفع ما يكون.(23/58)
تبخير الموتى
يقول كوى المستشرق بان عادة حرق الخشب الذكي الرائحة اكراما للاموات كانت مألوفة في المدينة قبل الإسلام وبقيت لعده راسخة.
نفقات التعليم
في إحصاء أخير أن المدارس الابتدائية البلدية في إنكلترا تسع 3520000 الف تلميذ والمدارس الأهلية 3509914 تلميذاً وقد كان معدل من اختلفوا إلى المدارس الأولى سنة 1905 - 3199050 تلميذاً وإلى المدارس الأهلية 2842654 تلميذاً وبلغت نفقاتها 21323274 جنيهاً منها 11022600 دفعتها الحكومة و10300674 دفعتها المجالس البلدية وبلغ سائر ما أنفق على التعليم 3040964 جنيهاً منها 1556481 جنيهاً دفعتها الحكومة و 1484476 جنيهاً من موارد معينة أي أن برنامج معارف إنكلترا بلغ خمسة وعشرين مليوناً من الجنيهات في حين أن حكومة مصر تنفق على ضروب التعليم أقل من أربعمائة الف جنيه. بل الانكى من ذلك أن ولاية فيكتوريا في اوستراليا وسكانها مليون وربع تنفق على تعليم أولادها عشرين مليون فرنك.
التعليم في الهند
يؤخذ من الإحصاء الأخير أن عدد المدارس في ولاية مدارس من أعمال الهند قد كأن سنة 1906 - 839910 وكان قبل 841034 مدرسة ونزل معدل الصبيان الذين يتعلمون فيها فصار 29 بالمئة كما زاد معدل المتعلمات من البنات فأصبح خمسة وكسوراً في المئة وكان يجب أن يكون في المدارس تسعمائة الف متعلمة فلم يأتها غير ثمانية وأربعين ألفاً بحيث اضطرت مدارس كثيرة إلى اقفال أبوابها والحكومة لم يتيسر لها أن توزع ما خصصته للانفاق على المتعلمين والمتعلمات اما في أقليم بنجاب فقد ساءت حالة التعليم أكثر وذلك أن 14 في المئة من البنين يختلفون إلى المدارس و28 - 2في المئة من البنات.
ثروة فرنسا
يؤخذ من احصاآت المواريث أن ثروة الأفراد تكثر في فرنسا فبعد أن كأنت الإيرادات أربعة مليارات فرنك سنة 1873 أصبحت سنة 1902 ستة مليارات وارتقت واردات(23/59)
المنقولات من مليار سنة 1873 إلى مليار وثمانمائة الف فرنك سنة 1903 وليس لامة بقدر ما لفرنسا من المنقولات خارج بلادها وقد زادت وارداتها من مليار و58 مليوناً سنة 1873 إلى مليار و894 مليونا سنة 1903 وكان دين فرنسا سنة 1904 ملياراً ونحو نصف مليار
اتحاد التربية
تحاول دوقيه باد في ألمانيا أن تدخل إلى مدارسها طريقة الوحدة في التربية بحيث يتعلم الاناث بجانب الذكور في مدرسة واحدة وقد كان عدد البنات اللاتي تعلمن سنة 1906 في المدارس العلمية والصناعية مع الصبيان 53 ابنة وأخذت المدارس العالية تقبلهن ويقبلن على التعليم فيها.
البطالة في إنكلترا
بلغ هذا العام عدد من ليس لهم عمل في بلاد الإنكليز مليون نسمة أيأنوأحداً من كل أربعين ليس لهم عمل وربما يستكثر بعضهم هذا العدد وهو كثير إلا أن جميع الممالك مصابة بداء البطالة والسبب في ذلك أن القرى يقل سكانها ويكثر سكان المدن وليس في هذه أعمال تقوم باعالتهم فقد كان الفلاحون سنة 1890 ثلث مجموع سكان بريطانيا فهم الان خمسهم وكذلك الحال في ألمانيا فقد بلغ عدد المشتغلين بالزراعة فيها 21 مليوناً من أصل 62 مليوناً والباقون يعملون في التجارة والصناعة
التيسير في السياحة
كتب أحدهم في بعض المجلات العلمية في تيسير السفر في النصف الأخير من القرن الماضي والاقتصاد والراحة التي نشأت فيه قال أن المسافر كان يقضي ستين ساعة في قطع المسافة بين بايز وبوردو وهي 685 كيلو متراً أي أنه يقطع نحو عشرة كيلو مترات في الساعة وكان يدفع اجرة عن كل ساعة في المركبة لا تقل عن 14 سانتيمتراً ما عدا الا كل ومن يسافر مع البريد يؤدي ضعف هذه الاجرة كما يقطع المسافة في أقل من ذلك بقدر النصف أما الأن فإن المسافة تقطع في السير السريع بالسكة الحديدية في سبع ساعات وعشرين دقيقة والاجرة ليست فاحشة
الكتابة على الزجاج(23/60)
الكتابة على الزجاج تسليه لا تتطلب غير أن المران عليها ولكي ينجح الإنسأن فيها ينبغي له قلم رصاص من معدن الالومنيوم يمكنه صنعه بنفسه وذلك بان يلف عليه شيئاً من هذا المعدن ثم يبلُّ الزجاج بلا خفيفا او يغشيه يمحلول ملح القلي ويبرع في هذه الكتابة من سبق لهم انهم عانو التصوير قليلا.
مدرسة الممرضات
اقتبست فرنسا من انكترا إنشاء المدارس لتعليم الممرضات وفد أنشئت مدرسة في بوردو منذ ثلاث سنين تخرج فيها من الممرضات أحسنهن وأفضلهن وقد جعلت هذه المدرسة داخل مستشفى فتتولى مديرتها أمر ممرضاتها وتعلمهن وتمرنهن كانهن تلميذات في الطب ومتى تمن حصصهن ينقلبن إلى غرفهن او يصرفن اوقاتهن في قاعة كبيرة جعلت فيها خزانة كتب ومحال للمطالعة والكتابة أو إلى الضرب على البيانو.
الموظفون الفرنسيون
تحصى أحد الباحثين عدد الموظفين في الجهورية الفرنسوية فقال أنهم كانو سنة 1846 188 ألفاً فأصبحوا الان 400 الف وإذا عد فيهم موظفو المقاطعات والعمالات بلغوا 530ألفاً والشفاعات وعطف أصحاب المناصب على ذوى قربأهم. . . . . . . . . . . . . . . . . .
هي السبب في عذة الزيادة المفرطة التي تكلف نحو مليار فرنك في السنة إذا اضيفت إليها روابت المتقاعدين.
مكتبة تجدد
وصف احد فضلاء الفرنسيس المكتبة التي انشأها كارنجي الغني الأميركي في مدينة اديمبرغ التي هي من بريطانيا كمدينة أثينة من يونان أيام عزها فقال أن ليس فيها كتب نفيسة كثيرة بل فيها ادلة وكتب إرشادات وتقاويم وخطط وغيرها معروضة على المناضد للمطالعة ليرجع إليها المختلفون إلى تلك المكتبة لأول ساعة وعددهم كمل يوم لا يقل عن 7000 وإن 4 من 7 يترددون على غرفة المجلات وهناك غرفة لاعلاق الكتب لمن يطلبها قيها 52 الف مجلد وهي تتمزق وتعتق فتجدد كل مدة ويؤتى بأحسن منها اما قاعة(23/61)
المراجعة ففيها 101396 مجلداً من المعاجم والموسوعات ومجاميع القوانين وغيرها.
فقراء الهند
نشرت إحدى المجلات الألمانية بحثاً في حكماء المسليمن في الاصقاع الهندية الذين يدعون بالفقراء فقالت أن الاوروبيين الذين يزورون الهند زيارة سطحية بدون أن يسبروا أخلاقها يرون من هؤلاء الفقراء مجانين مختلة شعورهم ولكن لهؤلاء الصالحين الشخاذين دخلا في الدين وعددهم بحسب الإحصاء الأخير نحو خمسة ملايين نسمة في الهند ومن أشهرهم كوريسإنكار وكان من قبل وزيراً لبهافنكار وهو ذو حظوة عند الإنكليز ومؤسس مدارس وسجون كانت انموذجا في انتظامها ثم نفض يده من الدنيا وانقطع إلى غابة سنة 1879 وكتب إلى ماكس موللر الفيلسوف اللغوي الألماني: لقد عشت ستين سنة في الحياة الخارجية فاريد الآنأناصرف عمري في التأمل.
العرب والغوط
بين أحد الباحثين الإنكليز النسبة بين الهندسة الغوطية والعنصر الغوطي وبين الهندسة العربية والعنصر العربي والغوط وهم شعب كان ينزل في جرمانيا واغار على المملكة الرومانية سنة 410م فقال إن الهندسة العربية غير ثابتة ولذلك فنيت واضمحلت أما الابنية الغوطية فهي على العكس تنيئُ بعقول بناتها من أهل الشمال وبشدة أخلاقهم وإن ما خص هذا العنصران أي الغوطي والعربي مما أنبأ به تاريخهما من قلة نظامهما يقرأه المرءُ فيما بقي من مصانعهما وأثارهما.(23/62)
العدد 24 - بتاريخ: 1 - 1 - 1908(/)
حالتنا العلمية والاجتماعية
حري بنا والربح الأول من القرن الرابع عشر ينتهي بانسلاخ هذا الشهران نذكر بعض ما تم للبلاد العربية في خلاله من أسباب النهوض وتحسين الملكات والارتقاء العلمي والأدبي فنثبت من ذلك ما نعرفه عن مصر والشام بالعيان وما يبلغنا عن بلاد القاصية من ثقات من رحلوا إليها او اطلعنا عليه فئة من أهلها فنقول:
كان حظ مصر من هذا الارتقاء عظيما إذا قيس بالخطوات التي خطتها الاقطار الأخرى ومصر لاتزال منذ سقوط الدول الأولى محط رحال العالمين والمتعلمين ومقصد أهل الإسلام من أهل أفريقية وأوروبا واسيا وجزائر المحيط. فقد زاد فيها عدد المتعلمين وبعد أن كانوا واحدا او اثنين في المئة أصبحوا الان نحو عشرة وزاد المتأدبون والقراء ايضا فبعدان كأنت الجرائد لايتنأولها أكثر من الفي قارئ ومعظمهم لايكادون يفقهون مايقرأون زاد عددهم زيادة كبرى حتى جاوزوا فبما احسب ثلاثين ألفاً وكثير منهم يعقلون ما يلقى عليهم كما زاد تحسين الصحافة العربية وأخذ تجري على مثال الصحافة الغربية وصار لها صوت وتأثير في الأمة. وعلى تلك النسبة نما فريق الكتاب والأدباء والمعربين والمصنفين بعد أن كان الكتاب في مصر أواخر القرن الثالث عشر يعدون على الأصابع معضمهم ضعاف يكثر في كلامهم اللحن والركاكة كما تقل الأفكار السديدة ولو لم يكن المصريون منصرفين إلى تولي أعمال القضاء والإدارة والطب والهندسة في الحكومة لرأيت الكاتبين والمفكرين منهم أكثر سواداً وأعظم نفعاً ولكن الأمال معقودة بان يزيد عددهم ويكثر الانتفاع بثمرات عقولهم وتجاربهم في الربع الثاني من هذا القرن أصبح بعضهم يشعرون بأن الاعتماد في تعليم أبنائهم على الحكومة وحدها ليس من السداد في شئ ومتى أخذت الوظائف كفايتها من العمال يغدو المتعلمون وقد سدت في وجوههم الأبواب في الحكومة فلا يعود أمامهم غير الصناعات الحرة ومنها القيام على التأليف والكتابة وهي من المعايش التي يزهدون فيها الان
ساعد مصر على النهوض انتشار الحرية وكثرة احتكاك الأهلين بالأجانب فنشأ من ذلك نشئٌ أن لم يكن في الغاية بتعلمه فهو أهل للعمل لو درب عليه. وعرف أكثرهم منزلتهم ومنزلة قومهم من القصور فهموا أن يعملوا وحاولوا أن ينفعوا وأصبح الناس يبحثون في الشؤن العامة أكثر من ذي قبل وإن كان بحث عامة الناس في الشؤن السياسية عقيم في(24/1)
الاغلب والجرائد هي السبب في غرس هذا الميل في نفوس القوم فهي المدرسة اليومية بعد المدارس الأميرية والأجنبية والكتاتيب الأهلية ولطالما أكثرت من ترديد عبارات التحميس والنقد والتنديد والنعي والعويل ففعلت اقوالها في الاذهان بقدر تأثير كتابها حتى خاف العقلاء أن تكون الاراء السياسية مشغلة للقوم عن النظر في شؤن التجارة والزراعة والصناعة. وقد أخذت بعض الجرائد الخطيرة تحاول سد هذه الثملة فإنشأت تكثر من نشر الموضوعات الاجتماعية والتاريخية والأدبية على نحو ماتفعل الصحف في بلاد الغرب. وكما كان للجرائد العربية تأثير في الأفكار فقد فعلت فعلتها في الألسن والأقلام بإستعمالها الكلام الفصيح كل يوم بحيث علق من تراكيبها ومطلحاتها جملة صالحة صار العامة يدمجونها في تضاعيف كلامهم وخطابهم وترقت بواسطتها لغة الدواوين وكانت من قبل في احط دركات الركاكة.
نشأ لمصر مهندسون وأطباء وقضاة متعلمون كأحسن أبناء صنفهم في بلاد الغرب لولا أن رجالنا يصابون في الأكثر بشيئ من الفتور ووقوف عقيب سن الدراسة قد يعوقهم ةعن الجري في العمل بعد أن يستوفوا النظريات ولولا ذلك لرأينا من أثارهم في نشل أبناء بلادهم من سقطتهم أكثر مما رأينا. وأبناء مصر لايزالون مقصرين فيما يربى النفوس على حب العمل الحر النافع ولم يقبلوا حتى الآن على اتقأن العلوم الزراعية والصناعية وما ينبعي لهم إقبالهم على الحقوق مع شدة حاجة القطر إلى الزراعة قبل كل علم.
ويسرنا أن نرى كثيرين من المصريين يقصدون بلاد الغرب للتعلم قي مدارسها وبعضهم من أبناء الاعيان وكيفما كأنت الغاية من تعلمهم فهم فخر من مفاخر بلادهم ولابد أن يكون السابقون مقصرين فيما يجب عليهم أتباعه والاضطلاع به بداءة بدء ولكن الجيل المقبل سيكون انشط في عمله واسراع إلى تلقف مايلزمنا من مدنية أوروبا وما يضر بنا منها وهو كالصدأ عليها وعقلاء أهلها ينادون بالتخلي عنه في كل شارقة وبارقة.
قلت أن الجرائد أثرت في نهضة المصريين ولم أقل المجلات لأن هذه مقصورة على طبقة خاصة من القراء وبعضها منتشر خارج القطر أكثر من انتشاره داخله لأن العمليات والاجتماعيات والدينيات والأدبيات ليس لها في نفوس العامة تلك المنزلة التي يجدها القارئ فيما يقرأه للتفكهة من الأخبار والمناقشات السياسية ويجده منه قيد النظر ويكبر فيه(24/2)
الأماني. على أن لبعض المجلات الكبرى التي ظهرت في مصر على قلة انصارها فضلاً كبيراً في التعليم والتربية.
ومن الترقي في الأفكار أن بعض أهل الجمود ممن كانوا لايقولون بتلاوة الصحف والكتب الحديثة أخذوا يقرؤنها اضطراراً وسمحوا او تسامحوا بمطالعتهم فكان من أثارها أن عرف بعض طلبة العلوم الدينية تقصيرهم في الأخذ من علوم الدنيا بحظ وافر يعينهم على فهم اسرار الشريعة ونشأ من هذه الحركة أن دخل شئٌ من الإصلاح طفيف على طريقة التعليم في الازهر وادخل في قاعة دروسه من علوم الرياضة وتقوم البلدان والتاريخ وفن الأدب ما كانت تلك المدرسة الكبرى محرومة منه زمناً طويلاً. وانه على عقم طريقتها إلى الآن يرجى أن ينشأ منها ناشئة يفضلون بما تعلموه اخوانهم الذين سبقوهم خصوصاً وقد وفرت العناية بمدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم وهما من انفع المدارس لاتمام دروس من يتخرجون في الازهر وانشأت مدرسة أبي العباس المرسي في الأسكندرية تخرج من طلبة الدينيات من لهم مشاركة في شيئ من علوم الدنيا. فكان مشايخ العلوم الدينية وكانوا لايسفون للتنازل إلى تعلم ما فاتهم من أسباب العلم بزمانهم رأوا الآن وقد قامت المدارس المنظمة على طريقة الأوروبية بعض التنظيم تنازعهم فضل تربية الأمة وأعداد رجالها أن لامندوحة لهم عن دعوة صغار الطلبة ولو بلسان الحال أن ينظروا نظراً اجمالياً فيما لاغنية عنه من علوم العصر.
فعسى أن تتم للناهضين من هذه الأمة امنيتهم من الاهابة بالمتعلمين إلى الأخذ من علوم الدنيا والدين على حد سواء ثم يتمحص منهم من يريد أن يتمحص لفرع من الفروع التي تجد فيها له الغناء. ومن قرأ تاريخ أوروبا في القرن السادس عشر يجده كتاريخنا في هذا الربع الأول من القرن: عراك بين القديم والحديث وقلة اتقأن لهما كليهما والنفوس أخذة بالشعور تلوب على ما يليها نهوضاً. وإدراك الفرد نقصة وسعيه إلى كماله ولو اخطأ الطريق بادئ بدء فأل خير وبشرى سعادة. والقول أول مراتب العمل والشك أول درجات اليقين. ولا بقاء لهذه الأمة إلا إذا ابقت على النافع من قديمها ولم تستهن به واضافت إليه من الحديث مالا عهد لها به وفيه قوام اجتماعها.
ان اختلاط مصر بالغرباء والإفرنج منهم خاصة ممن كثر إقبالهم عليها أكثر من كل بلد(24/3)
يتكلم أهله بالعربية اللهم الا الجزائر وتونس وتعلم جانب من ناشئتها في مدارسهم واتقانهم للغاتهم وذهاب أهل السعة منهم كل صيف للاصطياف في أوروبا وإرسالهم بعض أولادهم يغترفون من معين العلم في مدارسها وشلن - كل هذه الأسباب دخلت مصر في طور البلاد الإفرنجية ولاسيما حواضرها وأمهات مدنها حيث يكثر المتعلمون وأهل اليسار وتصدر الصحف والمطبوعات ويجتمع الموظفون والمزارعون والمضاربون وأهل التجارة.
ومما يعد في باب الارتقاء في الفكر الديني بفضل ما انتشر بالطبع من أمهات الكتب الدينية وتناقلها الايدي على اختلاف الطبقات أن أخذ بعض العامة دع عنك الخاصة يدركون أن في بعض معتقداتهم شوائب وفي الكتب المعتمدة في القرن الماضي من مؤلفات المتأخرين اغلاطاً لا بدّ من نزعها والرجوع فيها إلى الأصول الصحيحة. وهذا الاعتقاد سرى في النفوس لأسباب منها انسيال تيار الفلسفة الجديدة واحياء الأمهات من أسفار السلف وانتبهاء أهل العقول إلى أن الرجوع بالناس إلى الأصول خير من الضلال بها في مهامه الفروع المشوبة والمعتقدات الضارة.
وقد دخلت المطبوعات في دور جديد فبطل بعض الطبع السقيم وأخذ أرباب المطابع يحأولون تجويد الطبع وانتقاء المصنفات النافعة فاحيوا كثيراً من الأمهات القديمة في الشريعة والأدب والتاريخ كما ترجمو بعض المترجمات الجليلة في الحقوق والطب والكيمياء والطبيعة والاجتماع والقصص. وكان الفضل في تحريك نفوس المسلمين هنا وايجاد حركة أدبية بينهم لأحد أرباب النفوس الكبيرة والحكمة ونعني به السيد جمال الدين الافغاني فإنه هبط مصر في الربع الأخير من القرن الثالث عشر ولقي فيها من بقايا أهل العلم والذين تعلموا في أوروبا من ساعدوه على قبول دعوته وكأنت العجلة من طبعه يريد التاثير والإصلاح مباشرة ولو لم يكن كذلك لدل الأمة أكثر مما دلها على معاييبها ووصف لها من أسقامها بنغمة لم تكن تالفها وقد نفعت دعوته في تهيئة الملكات فربى له رجالاً يغلبوا عليهم النشاط والعقل في الجملة ومنهم أكبر مريديه الشيخ محمد عبدو الذي ووفق إلى تولي منصب الافتاء فكان له فيه أعظم تاثير ومضى ذهاء عشرة سنين على مصر كان فيها زعيم الحركة الإصلاحية كما كان شيخة جمال الدين من قبل ومن أعظم أثار الشيخ المفتي إنشاء الجمعية الحيرية الإسلامية وهي عمل نافع تثلج له الصدور وتقر العيون.(24/4)
أما القطب السوري فكانت حركته العلمية والأدبية جيدة على الجملة ولاسيما في بيروت مدينة العلم والمدارس في الشام ومركزها الحركة العقلية التي نشأت في الحقيقة بفضل مدارس مرسلي الأمريكان والفرنسيس وطبعتيهما العظيمتين وسائر المطابع والجرائد التي نشات فيها أواخر القرن الماضي وبعده وثلت من الافاضل الذين خدموا العربية خدمة نافعة كفإنديك وورتبات وبوست والبستاني والاسبر والأحدب واليازحي والحوراني والشرتوني وشيخو وبلو واضرابهم الثائرين على أثارهم.
ومما ساعد على تحسين الاذواق ببيروت ولبنان كثرة ولوع سكان الجبل بالهجرة إلى أمريكا منذ أوائل القرن كما أولع اجدأهم الفينيقيون بها من قبل وعودة بعضهم بأموال أقاموا فيها القصور والمباني على النسق الغربي وحأولو العيش على المناحي الإفرنجيه وجلبوا معهم عادات ومعارف جديدة نفعت في إنشاء ملكاتهم وادابهم. والفلاح السوري على الجملة أرقى من الفلاح المصري واذكى منه ولكن أهل الطبقة الوسطى والعليا من المصريين أرقى من أهل جنسهم في الشام وقد سرت من حب الهجرة شظية إلى داخلية سوريا وهب المسلمين إلى الاغتراب بعد أن كان المسيحيون وحدهم يضربون في اكناف الأرض ولاسيما في أمريكا ومصر كما سرت عدوة العلوم الحديثة وحب تعلم اللغات الأوروبية ولكن هذه الجراثيم ما زالت قليلة الانتشار بينهم. ممن كان لهم اليد الطولى في الدعوة إلى تصحيح الأفكار في سوريا ولاسيما في دمشق وأعمالها الشيخ طاهر الجزائري فإنه نفع بتآليفه وإرشاده وخطبه في الاندية الخاصة حتى كان سبباً في إنارة عقول جمهور كبير من المتعلمين والمتأدبين والمتصدين للنفع والتدريس فكان العضو العامل في إنشاء المدارس الابتدائية في سوريا واحياء كتب السلف بعد أن بددهم الخلف وجعلها في خزائن عامة كالمكتبة العمومية في دمشق وغيرها. ولكن سوريا منيت بالمراقبة على المطبوعات فهجرها أكثر المفكرين والكاتبين من أبنائها بحيث صح أن تدعى سوريا مدرسة وميدان العمل مصر وأمريكا وغيرها. ولأن لم يأتي المسلمون في سوريا إلى الأن في عمل يدل على فضل وعقل فإن الانتباه للذي حدث في هذا العهد يدعو إلى الأمل بانه سيكون منه عما قريب أحسن أثر يعود على البلاد بما ينفعها في مادياتها ومعنوياتها. ومتى ايقن المرء بجهله تعلم والجهل البسيط خير من الجهل المركب ونريد للجهل البسيط هو أن لا يعلم(24/5)
صاحبه ويعلم أنه لا يعلم والجهل المركب هو أن لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم.
هذا في العلوم الدنيوية أما العلوم الشرعية فقد قل المشتغلون بها كثيراً لأن الناس مفرطون على حب المنفعة العاجلة. وذلك أن فريق المتعلمين رأوا العلوم الشرعية أصبحت لا يرزق صاحبها منها بقدر رزق صاحب العلوم الدنيوية فرغبوا عن الأولى إلى الثانية وفشا فيهم داء الاستخدام كمصر فضعفت بذلك العلوم الإسلامية التي كانت تعد دمشق وحلب مثلا من أمهات مدنها وأسواقها في العصور السالفة.
وإذا تقدمنا إلى العراق نجده يشبه حال الشام وإن بقي له شئ من العلوم القديمة ولم يأخذ من الحديثة بقسط وافر على أن ذكاء العراقي ونشاطه معروفإن موصوفإن ولا يبعد إذا تهيئت أسباب واحدة للقطرين الشقيقين أن يسبق العراق الشام. ومثل ذلك يقال في نجد واليمن والحجاز فإن الذكاء موجود في أهلها على اتمه ولكن أسباب التعلم ضعيفة جداً والعأقلون العاملون لا يهتدون إلى طريقة تنفتح أمامهم سبيل الوصول.
وأقليم نجد ما برح على الفطرة حتى أن علوم العربية ضعيفة فيه وليس هناك غير العلوم الشرعية من الفقه الحنبلي وغيره مما بثهُ فيهم أمامهم محمد بن عبد الوهاب في القرن الثالث عشر وكانوا من قبل فيه جاهلية جهلاء وهم لا يزالون بعيدين عن تعلم العلوم العصرية مع كثرة تجول بعضهم في الاقطار المجاورة في التجارة ورؤيتهم في الهند ومصر وغيرهما من أثار العلم الغربي ما يبهج ويدهش. وكذلك الحال في اليمن إلا أن العلوم الإسلامية على كثرة الفتن هناك ما فتئت بين الزيدية أرقى مما هي في غيرها من الاقطار وهي منحطة عند غيرهم ويمتاز عامة أهل نجد واليمن عن عامة غيرهم بمعرفتهم المبادئ الأولى التي هي أساس لما بعدها بحيث أن عامتهم يشاركون اعلا طبقات العلماء في المبادئ الصحيحة حتى أن كثيراً من عامتنا بل من علمائنا يتوهمون في كثير من عامتهم بانهم علماء فخواصنا أرقى من خواصهم وعامتهم أرقى من عامتنا. والحجاز ما برح كما وصفه الكتاب العزيز واديا غير ذي زرع كما أنه لا يزال واديً غير مخصب بالعلم والأدب وإن كان كما قال لي أحد الثيقات بانه قد ينزل في علماء كبار ولكن يقصدونه للعبادة والتخلي عن الدينا لا ليعملوا ويجدو فترة فيه الافغاني والهندي والمغربي وغيرهم ممن صرفوا اعمارهم في النافع واحبوا أن يختموها بالعبادة. أما السواد الأعظم من السكان(24/6)
هناك فبعيدون الان عن التغيير ولعل السكة الحجازة متى وصلت بلادهم ببلاد الشام تنقل إليهم من وراء البحار ما تستنير به عقولهم كما ستنقل إليهم الغلات والثمار.
هذه أحوال جزيرة العرب من الارتقاء وهو احرى كما رأيت أن يدعى وقوفا. واما شمال أفريقيا فحالتها ليست الا دون ما يرجى فإذا نظرت إلى المغرب الأقصى ترى الفوضى السياسية تمزق احشائها منذ سنين بل منذر اعصار والقول الفصل فيها لمشايخ الطرق منذ خمسة قرون وليس لعلماء الدين الحقيقين سلطة تنفع أما العلوم العصرية فعدومة بالجملة وإذا نظرت إلى فاس وغيرها من أمهات مدن العلم في ذاك الصعق الواسع لا تجدها قد اختلفت شيئا عما كانت عليه منذ قرون اللهم إلا في انحطاط العلوم الدينية مع أن المغرب الأقصى من أوروبا على قيد غلوة ولكنه ضرب دونه ودون المدنية باسوار منيعة وحرم أهل الشأن فيه.
ما لم يحرمه دين ولا عقل كقراءة الكتب الجديدة والصحف بل وصل الغلو بهم إلى تحريم تفسير القرآن لخيالات يتخخيلونها من قراءته.
وإذا جئت المغرب الاوسط وهو الجزائر ترى العلوم الإسلامية منحطة فيه والعلوم الجديدة ليس منها شيء إلا في المدارس الفرنسوية على قلة جدواها ولم يصل منها إلى أهل البلاد النافعين في انهاضها غير نور ضئيل جداً لان أكثر الدول المستعمرة تذهب إلى أن العلم يرفع ريقتها عن المسعمرين وكذلك الحال في المغرب الادنى وهو تونس وبرقة أي طرابلس وما والاها من بلاد الصحراء إلا أن أهل تونس هم بالنسبة للمغربين المجاورين لها أرقى في العلوم الدينية والدنيوية. وجامع الزيتونه يكاد يكون أرقى من الجامع الازهر على أن تونس كانت منذ القدم تعنى بالعلوم الإسلامية أكثر من غيرها من الاقطار وحسن الترتيب بين التوانسة في طريقة التعليم قديم العهد كيف لا وهم في الا كثر من نسل الفينيقيين وجالية الأندلسيين. ويرجى لهم بعد أن نفس عنهم الخناق بعض الشيء أن تنفعهم الحرية فيفكر قادتهم لهم وإن ما نسمع به ونراه من الصحف والجمعيات التي أكثروها من تأسيسها مؤخراً ليدعونا إلى الرجاء بأن يكون الربع الثاني من القرن أحسن فائدة وأكبر عائدة عليهم أن لم يعاودهم الضغط والمراقبة.
هذه الحال البلاد التي يتكلم فيها باللغة العربية بقي السودان وزنجبار وحالهما حال سائر(24/7)
البلاد العربية واضعف وكنا نأمل لأهل زنجبار أن يكونوا كأهل اليمن في العلم والانتباه والاندري ما احاق بهم حتى تأخروا عن اللحاق بهم. وإذا احصيت العرب لا ترأهم يقلون عن خمسين مليوناً ولو قست حالهم العلمية والمادية بأصغر الشعوب الأوروبية كلبلجيك او هولانده او سويسرا لبكيت وانتحبت هذا ولغة العرب ينطق بها نحو مئتين وخمسين مليوناً فهي أقوى اللغات واضعفها اقواها بأساسها الثابت المتين واضعفها بأهلها المشتتين. فنسأل الله أن يهيء لهذه الأمة من يرشدها ولا خير لها الا من نفسها لان سيادتها وكبراءها ناموا عن رعايتها.(24/8)
مصائب المكاتب
ليس أعز على عالم من كتب وأوراق كتبها هو أو كتبها هو غيره ولذلك نجد المصنفين في كل عصر ومصر يختارون أجود الورق وأثبت المداد وأجمل الخطوط تخليدا لجدهم وحرصا على بنات أفكارهم أو أفكار من عاصرهم أو تقدمهم ولما كان لكل شيء في العالم عمر طبيعي يقضيه حيوانا كان أو نباتا أو جمادا لم تخرج الكتب عن حد كونها عرضة للفناء وإن طالت أعمارها أكثر من غيرها في عالم الكون والفساد بيد أن المصيبة بها جليلة لأنها ثمرة عقول البشر وزبدة أقوالهم وأفعالهم، وأفضل ما في المرء عقله ولا يتم له حفظ ثمراته في الغالب إلا بكتاب.
حدثت الكتب في الإسلام في أواخر القرن الأول ولم يمض قرن أوقرنان حتى عدت بالأولوف وصار لها شأن عند القوم بعد أن كانوا أمة أمية لايقرأون ولا يكتبون قيل أن الكتب التي كتبها أبوعمرو بن العلاء المتوفي بعد الخمسين ومائة عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب السقف ثم أنه تقرأ أي تنسك فأخرجها كلها وفي رواية أحرقها فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده الا ما حفظه بقلبه ومعلوم أن أصحاب السلطان في الإسلام عنوا بأقامة الخزائن وتسليبها على المطالعة والمراجعة والنسخ ينتابها خاصة الناس وعامتهم لندرة الكتب وعزة الظفر بها إذ ذاك وقد أصاب تلك الخزائن ما أصاب غيرها من مخربات العمران وأقلها التجريف والتمزيق والضياع والتفريق ولذلك طالت لها الحسرة وهلاك فرد لا يوازي هلاك أفراد وإن عد الفرد أحيانا بأمة وكذلك الحال في الكتب فإن ذهاب مكتبة أومكاتب برمتها لا يشبه ذهاب كتاب أوبضعة كتب وأهم المآتم التي أقيمت على الكتب الإسلامية ثلاثة.
الأول يوم دخل هولاكو سنة 656 إلى بغداد وقتل الخليفة العباسي وأزال الخلافة جملة وخرب دار السلام فألقيت الكتب في دجلة حتى قيل أن لونه مائه على غزارته بقي أياماً أسوداً مكمداً بما تحلل فيه من مداد الأسفار التي ابتلعها وبالغ المؤرخون فيما ذهب في تلك النكبة ويكفي بأن بعض تلك الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة على زمن هؤلاء التتر قد أنشأ بها نصير الدين الطوسي أحد فلاسفة الإسلام خزانة عظيمة اتخذها بمراغة في القبة والرصد الذي أنشأه هناك فيجتمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد. والمأتم الثاني يوم دخل الإفرنج مدينة طرابلس الشام في الحروب الصليبية فأحرقوا مكتبها بأمر(24/9)
الكنت برترام سنت جيل وكان قد دخل غرفة فيها نسج كثيرة من القرآن فقضى بإحراق المكتبة كلها وفيهأعلى ما قيل ثلاثة ملايين مجلد. وأصاب البلاد غير هذين الرزيتين ما أصابها من الخراب بأيدي التتر وأهل الصليب. والمأتم الثالث نكبة الأندلس وداهيتها الدهياء فقد وقعت كتب المسلمين في أيدي أعدائهم وقد أعمأهم الجهل والتعصب فجعلوها طعاماً للنار.
قال قوندي في تاريخه إن مسيحي إسبانيا لما استولوا على قرطبة حرقوا كل ما طالت إليه أيديهم من مصنفات المسلمين وعددها مليون وخمسون ألف مجلد جعلوها زينة وشعلة في يوم واحد ثم رجعوا على سبعين مكتبة في الأندلس وأنشئوا يتلفون كل ما عثروا عليه في كل أقليم من مؤلفات العرب.
وقال أحد مؤرخيهم ربلس أن ما أحرقه الأسبانيول من كتب الأندلسين بلغ ألف ألف وخمسة آلاف مجلد. وذكر بعض المؤرخيون أن أحد جثالقتهم أمر بإحراق ثمانين ألف مجلد في ساحات غرناطة عقيب استيلائهم عليها وأنهم قبضوا على ثلاث سفن قاصدة مراكش تقل ما عزّ على المسلمين أن يخلفوه ورائهم من أسفارهم فألقوها في قصر الأسكوريال ثم لعبت فيها النيران وبقيت منها بقية رتب فهرستها أحد مسيحي سورية وجعلوها إلى اليوم مكتبة ينتابها علماء الأرض وكان بقي منها على عهد من رتبها 1851 سفرا.
وقد ادعى قوم أن المسلمين حرقوا كتب الأمم الأوائل وأنه أمر عمرو بن العاص بإحراق مكتبة الأسكندرية وفيها قسم كبير من حكمة اليونان وغيرهم من الأمم الخالية وإنهم حرقوا مكاتب فارس في خلال الفتح وأن عبد الله بن طاهر قائد المأمون حرق في خراسأن سنة 213 ما كان باقياً من مؤلفات المحبوس إلى غير ذلك مما يتذرعون به من الحجج وهو من الحجج وهو مردود عند أهل التمحيص ونقدة الأخبار.
ولو كان لما ادعوه ظل من الحقيقة لذكر قدماء المؤرخين من المسلمين ذلك ولو بإشارة طفيفة. ولماذا يا ترى لا نرى لهذه الدعوى ذكراً فيما بين أيدينا من كتب التاريخ كابن جرير والمسعودي والبلاذري وغيرهم كما أنا لا نجد لذلك أثراً في كتب سيرة العمرين وكان على مؤلفيها لو كانت رويت هذه الأخبار لهم من طريق صحيحٍٍٍٍٍٍ وتوارت في زمانهم أن يعدوها في باب مناقب الخليفة الثاني ويوردها بسلامة صدر على عادتهم في بعض(24/10)
أخبارهم بل كان على أصحاب الكتب الستة مثلا أن يفردوا لإحراق الكتب باباً لو كان صدر من بعض الخلفاء الرأشدين مثل هذا العمل كل هذا لم يرد شيء منه في تضاعيف كتب الثقات وإنما هم الوضاعون وضعوا هذا الخبر كما وضعوا مئات مثله وألصقوه بالأمام فتلقفه من لا عهد له بوضع الأخبار على محك النقد من مؤرخي القرون الوسطى قضية مسلمة وراح بعضهم يتذرعون به إلى النيل من الأئمة بإحراقهم الكتب ليحولوا دون العقول والأخذ من علوم الأوائل وكل مانسب للمؤرخين المتأخرين منقول عن القفطي من أهل القرن السادس ولايبعد أن يكون تلفقه من كتب الواعظين وتابعه عليه من بعده. يؤيد ذلك ما مُني به المسلمون من التفرق إلى شيع يضاد بعضها بعضاً وما ثبت في التاريخ من أن الحريق طرأ على هذه المكتبة مرات قبل الإسلام ولما فتحت الأسكندرية في الصدر الأول لم يكن في مكتبتها من الكتب ما يدعو إلى مد
يد الفاتح إليها بشيءٍ من الأذى والحرق ولذا لم يذكر هذا الخبر أحد من معاصري الفتح من المؤرخين سواء كانوا من الروم أو غيرهم.
هذا ما وقع للكتب العربية من النكبات العامة في القرون الوسطى وقد وقع لها ما بعده نكبات أعظم وأدهى نريد بها جهل القوم وزهدهم فيها ومفاداتهم بها ويبعثها بثمن بخس لكل طالب. وما زال الشيوخ من أهل هذا الجيل يحدثوننا بما وقع لكتبنا في مصر والشام وأقله السرقة والحرق الإختياري ويبعثها من الدلالين لينقلوها إلى الأجانب.
حدثني ثقة أن دلال كتب في دمشق كان يغشى منازل أهل العمائم ممن يعرفون بين القوم بالعلماء
ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس فيبتاع منها ما طاب له من كتب القوم المخطوطة
بأثمان زهيدة إذ لم يكونوا يحرصون إلا على كتب الفقه وكانوا أبيع من إخوة يوسف لكتب التاريخ
لأنها كذب بزعمهم والكذب لا ينبغي أن يوضع في قماطرهم وخزائنهم وهناك فنون كثيرة تلحق
فن التاريخ بالطبع وهي كتب الحكمة والأدب. قال وقد ابتاع معظم هذه الكتب قنصل ألمانيا(24/11)
إذ ذاك
بما يساوي ثمن ورقها أبيض وبقي سنين يتلقطها من أطراف سورية حتى اجتمع له منها خزانة
مهمة رحل بها إلى بلاده فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها والغالب أن معظم ما في مكتبته
برلين العربية هو من بقايا الكتب. التي كان يعدها أولئك المتعالمون أضاليل وأباطيل والتخلص
منها بدارهم معدودة خير وأبقى.
ومثل هذا وقع في كثير من بلادالشرق العربي ولاسيما القاهرة فإن ما تدورك أمره وجمع في
خزانة الكتب الخديوية هو غيض من فيض. وكذلك ما جمع في خزانة الكتب العمومية في دمشق
وما بقي في بعض مدارس حلب وغيرها وما أظن إلا أن حظ سائر البلادالإسلامية كان كحظ
هذين القطرين في كتبه لأن الداء واحد وهو عموم الجهل.
أما مكاتب الأستانة وهي نحو أربعين مكتبة الآن ويبلغ ما فيها نحو مائة ألف مجلد ففيها النفيس
الذي لا خطر له ولكنها مغلقة تأكلها الأرضة ولا ينتفع بها وكثيراً ما سطا عليها شياطين الأنس
من الغربيين وابتاعوا بعضها من القوّام عليها لقاءَ ريالات يرضخون بها ولا يزال معظمها في
حكم العدم وتوشك إذا دامت كذلك أن تفنى مع ما فني وترحل مع ما رحل.
إلا فلتعمر مكاتب موينخ وبرلين وستراسبورغ وليبسيك وليدن وفينا وبودابست واكسفورد ولندن وباريز والأسكسوريال وبطرسبرج ونيويورك وشيكاغو وغيرها من المكاتب العامة والخاصة
فإنها هي التي عرفت قدر ما احتقرناه وبواسطة رجالها يحيا كل كتاب انتقل إليهم وينتفع(24/12)
به ولو
بعد حين وآمالنا في انتشار مدينة الإسلام على يدنا وإن كنا نود مشاركة أولئك الغيومرين في أحياء مدينتنا وصاحب الحاجة أولى بها.(24/13)
نظام العمل
للدكتور موريس دي فلوري في (المجلة) الفرنسية
لا أرى إنساناً يصف نفسه بأنه يقتلها في العمل خليقاً بأن يكون حكمه معقولاً لأن العمل في ذاته لا يقتل بل هو على العكس شرط الصحة وموازي القوى. إذاع في العهد الأخير أحد الدعاة إلى نزع الملكية المتحمسين المخلصين بأن دور السعادة أتى وأنه سيكفي المرء بعد
الآن أن يعمل كل يوم ساعة وثلثاً ليقوم بحاجاته الخاصة ويوفي ما للمجتمع عليه من المطالب.
وهو نظر في المستقبل لم أحفل به بتة إذ لم يقع من قلبي موقعاً لعلمي بأن الأنقطاع عن العمل اثنين وعشرين ساعة وأربعين دقيقة هو مما يؤدي بالإنسانية إلى مواقع الضعف الطبيعي المحزن
والغفلة التي تغشى الأبصار والبصائر سيئاتها. هذا إذا لم أقل أن هذه البطالة والإغراق في عدم
استعمال قوانا ربما يدفعاننا إلى السقوط فيما سقط فيه أسلافنا الأول من الوحشية. على حين نرى
العمل اليومي الطويل ضرورياً لتجديد قوانا وهو منظم غريب في جهادنا العصبي فعلينا والحالة
هذه أن لا نتطال إلى الأقلال منه بدون تبص.
لا يموت كبار العاملين شباباً كما يموت أسوأ الخاملين والأمراض السارية لا تبقى على النساء المنقطعات عن العمل وتتنأول الرجال المجدين في تعاطي أعمالهم. وكذلك الحال في رجل له دخل يعيش في إحدى الولايات فتراه لا عمل له إلا أن يقرأ جريدة ويذهب ليتفرج على مرور القطار السريع تراه يشيخ بسرعة على نحو ما يشيخ ذاك الطبيب من معارفي وهو يستيقظ الساعة السابعة صباحاً من نومه ويذهب ليقوم بوظيفته في المستشفى ثم يلقي درساً في المدرسة
الطبية ويسأل المرشحين في الفحوص ويطب عشرين مريضاً أحسن تطبيب ويكتب عشر رسائل ويدير دفة أعمال المباحث في معمل كيماوي ويرأس لجنة طبية وينشر كل سنتين أوثلاث سنين مجلداً ممتعاً من قلمه. نعم إنك لترى الشعوب المفرطة في الكسل مهما كان(24/14)
هواءُ بلادها جيداً يموت منهم أكثر مما يموت من الشعوب المتوفرة أبداً على تعاطي الصناعات.
ومن المحق أن من الصنائع ما يضر بالصحة تعاطيه. والمرءُ قد يمرض لأنه استنشق زمناً غباراً
أو أبخرة مضرة مهلكة. ولا يختلف اثنان بأن للعمل العقلي والعضلي شروطاً وأرى أن أنصح للعاملين بما لديَّ من النصائح لأعلمهم أن لا يعرضوا أنفسهم للأعياء والأعنات. ولابدَّ لي أن أقول في فاتحة كلامي لمن اتخذوا الكسل شعاراً أن كل حاسة من حواس الإنسان إذا انصرفت زمناً إلى الراحة تهزل على أن الحاسة التي تعمل على الدوام تحفظ وتزداد وتكمل.
يقول علماءُ منافع الأعضاء أن صرف القوى بالعمل المعتاد يكاد لا يدرك إذا كان قانونياً ويعوض النوم والغذاء ما فقد منها. وأن المرء إذا كان صحيح الجسم وجرى في تدبير صحته على قاعدة معقولة يقوم بعمل يوازي على الأقل يومي العمل المقنن في العادة وهو ما تراه نقابات العملة الآن مغايراً للمعتاد وذلك بدون أن تنفذ قواه. وأرى أن هذه الكمية من العمل هي في الواقع نافعة لقوام البنية الحيوية القانونية.
نشر الأستاذ لاندوزي في مؤتمر السل الأخير خلاصة أبحاثه المهمة التي عُني بتحقيقها هو واثنين من تلاميذه المسيو هنري والمسيو مارسيل لأبي وأورد الصورة التي يغتذي بها في العادة العملة الباريزيون. فدلت تحقيقاتهم على أن معظم العاملين بقوأهم يبذلون تقريباً من الدراهم ضعفي ما يقتدي لغذائهم اليومي وأن انتقاء أنواع الأطعمة كما هو الآن ينافي كل المنافاة قواعد تدبير الصحة الغذائية وهي مبادئُ قلما يعنى بها علماء الاجتماع لهذا العهد.
ومن المحقق بعض التحقيق أن العمل الصناعي إذا قام به المرءُ وعمل فيه التركيب النامي على حد الكفاية لا يستلزم شيئاً من التعب العصبي الكثير لأنه يكاد يجري على وتيرة واحدة بدون وساطة الفكر الاختياري ولا تتعب سوى المصاعب التي لم تنتظر والصعوبات غير المألوفة لأنها تستلزم من القوى تطبيقاً جديداً لتجري نحو غاية تحدث ولم تكن متوقعة فالطعام القليل الذي يسوءُ
انتقاؤُه وكميته هو الذي بتعب الجسم ويمرضه نعم أن الضرر نشأ من الإفراط في استعمال(24/15)
المقويات الرديئة والمهيجات والكحول وفساد المسكن وازدحامه وقلة نفوذ الهواء إلى محل العمل حيث يعمل العامل مع إخوانه ممن يكونون مصأبين بالسل. ولقد أحسن من سنوا قانوناً لعمل صغار الأولاد إذ دل الإختبار على أنه لا يتأتى إكراه الأعصاب التي لم تتكامل على العمل الطويل بدون أن يحدث فيها ضرر ويستندون في ذلك على أن عظام الأطفال تكون أخذة بالنمو. ولكن رجلاً بالغاً صحيح الجسم يحسن ما يعمل من الصنائع ولا يسمم جسمه في حانة بما يتنأوله من المشروبات الروحية لا يتعب بمقدار ما يكون عمله منتظماً.
يذهب المديرون للطبقة العاملة الأن إلى اعتبار العمل اليومي أسراً وظلماً ينبغي الخلاص منه بالسرعة الممكنة. وهذه المزاعم منافية من كل وجه لمبادئِِِ علم منافع الأعضاء الحديث الثابتة المحسوسة إذ ثبت أن العمل مبعث السرور والصحة يطيل فينا حبل الحياة وينهضنا من خمولنا وبدونه لا يتأتى لنا أن نعيش في المجتمع. أليس العمل هو السبيل الوحيد الذي ينسينا شقاءَنا فلا نفكر في الأمنا ويحملنا على مداواتها بأن نلجأ إلى بعض الرفاهية والدعة.
من شأن المؤثرات الخارجية أن تديم أعصابنا على أنكماشها فالقوة البشرية فينا تنشأ من قوة الإدراك بالحواس لا لتعمل تلك القوة عملها وتفنى في مكانها بل لتصدر عنا وتقوم بما قدر لها وتتبع الأعمال بنتائجها. ولا بد من الوقوع في خطر إذا تركت تلك الحاسة تتجمع في مراكز أعصابنا فالفتور يؤدي بادئ بدء إلى الغضب ثم ينتهي بالهزال.
فعلينا والحالة هذه أن ندعو إلى حب العمل فإنه مصدر القوة المتجددة النامية والرضى والأمان.
وعلينا أن نعني كل العناية بتحسين حال العمل وتعميم قواعد تدبير الصحة في الحرف الشاقة وأن
نطالب بتطهير المعمل والمسكن ونضاعف عدد المطاعم الصحية الرخيصة وأن نغلق أبواب كثير من الحانات وأن نلقن العملة مبادئ التمدن ونعلمهم أن يعيشوا بعقل وحشمة وأن لا ينهبوا حياتهم نهباً وأن نجعل لهم سلاحاً يجاهدون به البؤس والمرض وأن نصرح على رؤُوس الملأ ولو ساءَ
ذلك بعضهم بأن من يفتري بأن العمل مذلة ومنقصة كاذب في مذهبه ختار في مبدأه.(24/16)
يظهر أن نوع العمل الذي اعتاد الناس أن يدعوه عقلياً لأنه يستدعي شيئاً من الجهاد العصبي هو أقل موافقة لقواعد الصحة وأقل نفعاً من عمل الحقول والمعامل. فحياة من يقضون أوقاتهم في الغرف فيها ما يعوّد التركيب النامي على كسل الأعصاب وليس فيها بوجه من الوجوه ما يبعث النشاط في إسقاط المسممات وقلما يطعّم طعاماً أو يشرب شراباً ويدخن وهو يعمل.
فمن يقضي نهاره في أماكن ضيقة غير معرضة للهواء ولا يجري من أنواع الرياضة إلا ما يأتيه كل يوم من القفز إلى الحافلة ليصل بها إلى داره لا شك إنه يصاب بوجع المفأصل وما إليه من الأوجاع الكثيرة ولا تلبث حواس الإفراز مثل الأحشاء والكبد والكلية أن تتدرن فلا تعمل عملها وينتهي ذلك بفساد الصحة عامة والهرم العاجل.
فإذا كان من يعمل بعقله حامي الرأس بارد الأرجل ضعيف المعدة متداعي الأحشاء رخو الأعصاب ضعيف السوق فهو بلا مراءٍ عرضة أكثر من عامل المدينة والحقول لسوءِ الهضم والبدانة والصلع والنقرس وضعيف المجموع العصبي ولأمراض كثيرة سببها البطءُ في التغذية.
هذا حظ العاملين بعقولهم ممن يعملون لغيرهم ولا يتحملون أقل مسؤولية أما من يعملون بعقولهم ويديرون حركة أشغالهم فيكون لهم خيرها وشرها وخلها وخمرها فأولئك أناس تضطرهم الدواعي إلى إجهاد القوى والدقة وتجديد جُدة الأرادة والخوف من السقوط والقلق مما يأتي به الغد ويكثر المصابون بضعف المجموع العصبي من أرباب الأشغال العقلية من مثل المهندسين وأصحاب الصنائع والسياسة والشبأن الذين يستعدون لتقديم الأمتحانات أو الدخول في المسابقات.
ولقد كنت لأول أمري مثل كثير من رصفائي في طب الالأم العصبية أذهب إلى أن ضعف الجهاز العصبي كان ينبعث في الغالب من الإجهاد في العمل والإفراط فيه أما الأن فقد علمت بالتجربة خمس عشرة سنة أن الإعتقاد بأن أهم سبب في المتاعب العصبية ناتج في الأكثر من عمل مؤَثر وغم وشدة الجد وكد الذهن في موضوع مخصوص والعمل القلق والمؤثرات من الأفكار والملقيات في الإضطراب والتذبذب من مثل النظر إلى الغاية وتوقع الثمرة.(24/17)
فمن ورثوا عن والديهم مرض النقرس والأعصاب هم عرضة للتألم من الحياة خاصة فتسوّد أيامهم في عيونهم وتبهظهم فيستطيلون حياتهم فتنحل قوأهم الدماغية.
وبهذا عرفت أن طريقة العمل هي التي تولد الأعياءَ لا العمل نفسه. يتظاهر الإنكليز السكسونيون أن تبدو عليهم إمارات العجلة والقلق ولا يتجلى الإضطراب على محيأهم وأن يسلكوا مسلك التؤدة والعقل. ومن المحقق أن برودة الطبع في الظاهر تكره صاحبها على استعمال السكون في الباطن وتقمع الجهاز العصبي. فقلة الصبروالخمول والحمية تجيءُ بالتعود والمران أكثر مما تنشأ بعامل الطباع والأمزجة ومن يتأمل يتضح له أن السيئات التي تحملها لنا حوادث الحياة يكون شرها الأصلي لا بذاتها بل بالكيفية التي نحلها منا ومعظمها لا يفعل فينا إلا بقدر تجسيمها في أنفسنا.
على أن من يعملون قليلاً هم الذين يعجلون في استنفاذ قوة حواسهم العصبية وذلك لأن تثأقلهم عن العمل يلقي في قلوبهم الخوف حتى ليغصون بالماءِ الفرات ومن يقع في نفسه أنه قام بكل ما يقدر عليه يتوقع أبداً والسكون رائدة نتيجة اجتهاده الذي قلما يضيع بأسره.
والحال سواءٌ في الأعمال العقلية والأعمال اليدوية وجميع أعمال حياتنا على أنواعها وفي جملتها الحب وما يتصرف عليه لا تتعب إلا إذا كانت متقطعة نادرة أوغير مألوفة وعارضة بدون تسلسل بينها. والعادة والميل يزيلان مفعول المؤَثرات العصبية. ولقد بحثت قديماً في حالة المشاهير والطريقة التي يجري عليها كبار المفكرين من كتابنا في حياتهم فما رأيتهم يتوقعون أن يوحى إليهم من السماءِ بالخواطر والأفكار بل إنهم كانوا ينشدونها بطول الثبات وانتظام أعمال انتظاماً تاماً فكان أعاظمهم يبدأُون بعملهم كل صباح في ساعة معينة على نحو ما يشرع المستخدمون في مكتب تجاري بعملهم وكان دوام تحديقهم في شيءٍ واحد يضاعف أفكارهم بحيث تكون عالية عظيمة وكان الصبر الطويل عند معظمهم أول الملهم القويّ في عقولهم وقد عمروا إلا قليلاً منهم أمثال بالزاك الذي قتلته همومه وزولا الهالك بعارض طرأَ وموسيه قضى من تعاطي المسكرات وبولير وجول دي كونكور والفونس دودى وموباسان قضوا نحبهم عقيب أمراض طرأت عليهم عرضاً وما قط نسب موتهم قبل استيفاءِ سني حياتهم للعمل الذي كانوا يتعاطونه؟
وهنا نأتي على التدأبير التي تعين العاملين فلا يلاقون نصباً ولا صباً. فاعلم أنه ليس(24/18)
أحسن في شرع العمل من توفر المرءِ على عمله وأن ما يجلب التعب في العمل الطبيعي أوالعقلي هو كيفية تعاطي العمل أي أن اجهاد الذهن وحصره في موضوع يعطي المرءَ قوة فعلى الأرادة ريثما يستحضر الذهن ويشرب حب الميل إلى العمل الذي ينوي استخراج شيءٍ منه أن تتوسط في الأمر للحال لتستدعي انتباه الفكر واجتماعه وهذا مما يجلب التعب ولكن متى تهيأ سبيل الموضوع الذي يقضى الشروع به ومتى أعددت للموضوع عدته وأسبابه يجري العمل فيه بذاته ويعمل الدماغ فلا يعود يتأثر بالفكر وحصر الذهن فعلى المرء والحالة هذه أن يعمل بمضاءٍ وتسلسل ويجدر به أن يحاذر استنزاف قواه. خيرٌ لمن لم يرزق أرادة ثابتة وقوَّة أدبية عجيبة ومن لم يؤت فضائل سامية خارقة أن يعتاد عادات نافعة فإن العادة الحسنة والضارة سواءٌ في تأثيرهما في النفس. وبعد فلنتعلم تنظيم حياتنا بتدقيق وأن نجلس إلى منضدة العمل كل يوم في وقت معين ليتراكم الدم من ذاته في دماغنا ويستعد لعمله وتعد المعدة جهازها الهضمي للطعام وتجوع من نفسها في الوقت المعين لغذائها. حقاً ما قيل أن العادة طبيعة ثانية بل هي قوة جميع الضعفاء وهي سر الأقوياء إذ أن أرباب العقول الكبيرة يكرهون أنفسهم عليها عند ما تحدثهم نفوسهم بإبراز تأليف مطول ممتع.
قال موسو الإيطالي عند كلامه على التعب أن أطالة الفكر في موضوع واحد تضاعف في قيمة الوقت مضاعفة خاصة. وهو كلام لطيف لأنك ترى الإنسأن في تعاطي العمل ثلاث ساعات شديدة التي تأتي بها المداومة على الفكر النافع يعمل عملاً أكثر وأحسن من عمل عشرين ساعة متقطعة وتفكر لا طائل تحته وفي أحلام مختلفة غير مقررة التي يقضي فيها المرءُ وقته في انتظار الوحي والإلهام.
ولقد كانت طريقة مشاهير كتاب العالم على هذا النحو ومعظمهم لم يصرف أكثر من ساعتين أوثلاثاً في عمله اليومي أما سائر ساعات الفراغ فكانوا يقضونها بالطبع في التدبير وهو من توابع الأعمال العقلية.
وهنا مجال لأن أبين أنه ينبغي تدبير الصحة ومن اللازم على ابن الكتابة أن يتربص كل يوم بعص الرياضة العضلية مخافة أن يتسخ التركيب النامي كله وفي جملة ذلك الدماغ الذي يتحتم إحراق فضلاته وإسقاطها فإن المشي وركوب الدراجة والإرتياض والفروسية(24/19)
نافعة لأرباب العقول على شرط أن يعتدل فيها فلا يكون في معاطاتها تعب عضلي يزيد التعب العقلي.
وجميع حركاتنا الإختيارية ناشئة من قشرتنا الدماغية. وإني لا أعرف أناساً فرطوا كثيراً في حصر أذهانهم في السباق فأضاعوا قوّة أفكارهم وعلينا أن لاننسى أن الحركة العضلية ينبغي أن تجري بالطبيعة لادخل للأرادة فيها ليحسن أثر الرياضة ولا يقع المرءُ في الإفراط.
وعلى المرءِ أن يلتزم القصد للغاية تحامياً من الوقوع في بطاءة التغذية والربالة ووجع الأعصاب وتجمد الشرايين وجميع ما يجري هذا المجرى من الأمراض فإن الأطعمة المعتادة والخمور الجيدة والمشروبات والإفسنتين كلها مما يورث حواسنا أذى كبيراً فتغير الدماغ وتضر بالإعتدال والصفاءِ وحضور الذهن وإذا ثارت في متعاطيها ثائرة الغضب تورث رأسه ثقلاً وسباتاً مضراً فإن الإفراط وسوء الهضم مضران بأرباب العقول الكبيرة لما أنه ثبت أن جميع كبار كتابنا على التقريب اقتصروا على تنأول الماءِ ولم يتعاطوا المشروبات الروحية.
أما العفة التي يراها بعضهم غير ضرورية للقرائح فإنا لا أراها إلا نافعة فإن المرءَ الذي يقضي حياة طيبة في العمل لا تأتيه المفاسد والإستهتار إلا بالضرر وهي إمارة نقص فيه أما الحب الشريف فإنه يرفع قدر الإحساس ويسمو بالنفس وينبه الأرادة للإنتقال من عمل إلى آخر.(24/20)
ارتقاء الفكر
ترجمة مقدمة كتاب أمانية الحديثة ونشوؤها
إذا قيس العصر الحاضر بالقرون الوسطى فأول ما يبدو للناظر كالشمس الرائعة ازدياد مقدرة البشر في خلال القرن الأخير. ولعلَّ في الناس من يرتاب في تقديم الإنسانية من هذا الوجه فيقول أن ابن اليوم إذا قيس بابن أمس فليس أسعد منه حالاً ولا أوسع عقلاً ولا أكثر أمناً وطمأنينة.
على أننا نعتقد اعتقاداً لا تردد فيه بأن القوة المشتركة التي يتمتع بها المتمدنون ويكافحون بها عناصر الوجود قد زادت زيادة كبرى. فتنسى للذكاء الإنساني أن يخطو خطوة عظيمة خلال القرن التاسع عشر في سبيل تسخير القوى الطبيعية وحسن الانتفاع بها والتغلب عليها.
فغدا المرء لا ينظر للعالم على ما كان ينظر إليه ابن القرون الغابرة ولايشعر بمثل شعوره نحوه سابقاً بل ارتقى عقله وأي ارتقاء وتقدم كما يقول نقدة كتبه الألمان فصار كل شيءٍ ذاتياً في الإنسان.
عرفت القرون الوسطى بعدم استقلال شعورنا وبتبعيته لقوى الوجود التي تربو على قوانا كثيراً. وإذا حللنا العقل الذي أخذ يقوى حوالي القرن الخامس عشر يثبت لدينا بأن ما يزيد في مساحة الخلاف بيننا وبين أهل القرون السالفة نشأ من عدم توفقهم إلى معرفة مبدأ تحليل عناصر المادة وتعليل المسببات. نحن نقول بوجود رابطة سببية مستحكمة بين جميع الظواهر الحسية بدون استثناء ونسعى جهدنا بما لدينا من التجارب أن ندرك جميع هذه الصلات والأسباب والنتائج حق الإدراك. ولا نزال في حال عدم اطلاعنا على تلك الصلة موقنين بوجودها وأن العلم الناضج يتمكن من تحليلها وتعليلها. وهذا اليقين الأساسي هو الذي نقص ابن القرون الوسطى. فكانت معرفته بالعالم الخارجي ضيقة النطاق ولم يكن لديه كما لابن هذا العصر تجارب جمة مبنية على قواعد راهنة منظمة بنظام معقول ومرتبة يبحث عن شرح الأسباب وتعليلها بل كأن يكتفي كل حين في باب التبصر في وجوه الأمر وكشف غامض كل سر يعرض في فضاء الظواهر بأن يعللها بأقيسة مختلفة وقد تكون سطحية لا قائمة على استدلال مدقق واستنتاج متين.(24/21)
وأي شيءٍ أعجب مما كان عليه ابن القرون الوسطى أمام مجموع حوادث ما زالت ضيقة المضطرب علمته العادة أن يميز فيها بعض النظام فجزم من تلقاء نفسه بوجود عالم المعجزات والخوارق وبأنه فسيح المدى غير خاضع للنواميس الطبيعية على قربه منا وفي مكنته أن يفرط كل حين السلسة القانونية من هذه الظواهر. وأي شيءٍ أعجب من حال ابن القرون الوسطى وقد فقد الحلم الحسي المنظم فكان من قلة اختباره أن أثر فيه كل التأثير ما ورثه من الحكمة التقليدية. وأي شيءٍ أعجب من مذهب قائم على الاعتقاد بالخوارق ومؤسس على سلطة تقليد قديم يستولى على العقول وتلزم به الأذهان والأرادات بقوة لا تغالب. أما العقل الحديث فيختلف عن ذلك كل الاختلاف.
وذلك أن العقول كانت في القرون الوسطى تذل برضاها أمام سلطة التقاليد وتعترف في كل مكان بالخوارق وبتأثيرات السحر والتنجيم والأمور الغيبية المطلقة التي تشير إلى أن هناك قوى سامية في عالم الكون والفساد.
غير أن العقل الحديث غدا أكثر استقلالاً وامتد فضاءُ التعقل في الإنسانية أيما امتداد وأخذت تجاربه الكثيرة تنظم وصار لها قانون تكثر به وتزيد وانتشر العلم والميل العلمي على موازاة ذلك.
وحل بالتدريج الاعتقاد بالمقدور محل الاعتقاد بما فوق الطبيعة وقام البرهان بالاستدلال المسدد مقام البرهان بالقياس. وانتظمت إذ ذاك معرفة العالم معرفة مبنية على العقل والتجارب التي ما زالت تكثر وتتم ولاسيما في خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
فألقت الرياضيات الميكانيكة في خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بما قام به من الاكتشافات العظيمة كل من (سيمون ستيفن) و (غاليلة) و (نيوتن) و (ديكارت) و (لايبنز) و (أولر) و (لابلاس) وخرجت العلوم التجربية أيضاً في أواخر القرن الثامن عشر من دور الشك والحيرة وبدأ تاريخ الكيمياء الحديث بلا فوازيه كما بدأ علم الكهرباء بكالفإني وفولتا. وفي خلال القرن التاسع عشر نضجت المواد واتسعت الآراء في المجموع الميكانيكي في العالم وعرف العقل الإنساني تصور جميع العوامل الطبيعية في الوجود والأعمال الميكانيكة والحرارة والصوت والكهربائية كانها مرادفات كثيرة مختلفة ترجع إلى شيءٍ واحد وأنها قوة سياسية تظهر متحدة الذات والمعنى بنفسها في جميع الظواهر الطبيعية.(24/22)
وهكذا برهن العقل البشري على وحدة قوى الطبيعة وأثبت أن القوة في كل مكان على تباين أشكالها تخضع لناموس القواعد الأساسية في الطبيعيات ولقانون حفظ القوة وبقائها ومعرفة المادة. ثم توسع أكثر من ذلك في اكتشافاته فحاول أن تعم هذه القوانين الطبيعية العضوية وأظهر في أحد الأجسام البسيطة التي لاتتجزأ بأن الكربون وهو الجسم الغريب الذي يدل على تكون المجموع الحيوي وتنوعه إلى ما لأنهاية له بأنه يمثل أساس الكيمياء في الحياة (رأي هيكل الألماني) واكتشف في الخلايا البسيطة الفردة جسماً حيوياً صغيراً تتولد منه باجتماعه المتصل جميع الأنسجة التي تتألف منها التراكيب النباتية أو الحيوانية وتوصل العقل الإنساني بنظرية النشوءِ التي كان تنبأ بها الشاعر كيتي في أواخر القرن الثامن عشر وقررها داروين سنة 1859 بأن قدّم لعلم الحياة (بيولوجيا) مسألة التحليل والتركيب وأعلن بأن العالم إذا أخذ بمجموعه فليس إلا نشوءاًًًًًًً دائماً من المادة.
ولكن العقل لم يقف عند حد العناية بشرح العوالم المؤسسة على مبادئ تعليل الأشياء ولم يكتف بالنظريات بل تعداها إلى العمليات فأصبح يعمل ويوجد. فكان كلما أحسن معرفة النواميس الفعالة في حوادث أيضاً أخضع قوى الوجود إليه وأدخلها تحت نظام وترتيب وشغلها فيما ينفعه فكما أنه أوجد العلم فقد رتب الفنون العقلية.
وكأنت الفنون القديمة تجربية صرفة يعرف الصانع كيف يتصرف بما لديه من المصنوعات جارياً في ذلك على الطريقة التي تعلمها ممن سبقه وذلك لأن معلمه نقل إليه بالعمل الطرق التجربية وعلمه كيف ينبغي له أن يتعاطى العمل ليتمكن من صنع الشيء الفلاني.
وكان على جهله بنواميس الوجود يطبق طريقته في العمل بدون أن يعرف في الأكثر كيف تبلغ به النتيجة المطلوبة وعلى أي وجه تسير. وكثيراً ما كان يعثر بالعرض على طريقة جديدة للوصول إلى الغاية المنشودة من أسرع سبيل فينبغي في الحال مجموع قوانين الفن بقاعدة جديدة يخلفها لأعقابه وأخلافه ولكن مجموعة القوانين التي اهتدى إليها بالصدفة وانتقلت إليه من أسلافه لم تبرح على الدوام طريقة تجربية اكتشفت عرضاً لا مجموعاً حسن التنسيق بالمعارف المبنية على العقل المؤَيدة بالعلم والتجربة.
وبعد فإن مما تمتاز به الفنون الحديثة التوسع كل حين باستبدال العلم المبنيّ على العقل(24/23)
بالعلم الذي كان يقوم على النظر وإحلال الطريقة العلمية محل الطريقة التقليدية فمن ثم كان من توابع معرفة الوجود معرفة علمية أن عدلت جميع الفنون التي برزت في شكل أعرق في الحداثة والجدة. ما هي الغاية التي يرمي إليها علم الوجود؟ إنه يعنى بالذات أن يُرجع اختلافات الكيفية إلى اختلافات الكمية وبإيجاد طريقة رياضية توضح بإسلوب تام إحدى الظواهر الطبيعة وأن يرجع جميع ظواهر الحياة العضوية في ذاتها إلى حركات تكون أكثر تركباً من المواد الأولية التي ما كانت تختلف في جواهرها عما تتألف منه الأجسام غير الآلية.
حتى أن العلم الحديث على اختلاف أشكاله ميكانيكية كانت أو طبيعة كهربائية أوكيماوية وغيرها ترمي إلى أن تسقط في كل مكان العوامل الحيوية لتسنعيض عنها بعناصر ميتة فتبدل مثلاً القوة المحركة الإنسانية أو الحيوية بقوة البخار أو الكهرباء وتستبدل عوامل الحديد أو الفولاذ أي الأدوات بالعملة الذين خلقوا من لحم وعظم وتستعين عن الحأصلات الآلية والطبيعية كالخشب والألوأن النباتية والأسمدة بحأصلات غير آلية وصناعية كالفحم الحجري والفحم وفحم القلي النيلي والأسمدة الكيماوية. فأصبحت الإنسانية بذلك على التوالي معروفة المقاصد لا تعلق لها بشيءٍ مستقلة عن المسافة أو الزمن غير تابعة للكفاءات الطبيعة أو الكسبية من مثل رشاقة اليد وحدة البصر والسمع والذوق والشم ولا وقفاً على فئة خاصة من الناس بل تجري بدقة شديدة لا تتغير حركتها وأعني بها الآلة والأداة.
ولم تقتصر الإنسانية على الإستسلام لا حوال الزمان والمكان التي جعلت نمّو الأحياء الحيوانية والنباتية الطبيعي تحت تصرفها ولكنها انتجت الحأصلات التي أرادت إيجادها بأن ركبت تركيباً صناعياً من العناصر والقوى التي لها. ولم يقف الأمر عند حد صناعة دقيقة يوشك سرها أن يضيع بل أصبح ذلك من الاكتشافات التي لا نزاع فيها النافعة في علوم البشر على مر الأزمان كلها وبين ظهراني جماع الأمم.
وهكذا بلغ انتشار العلم والفنون العقلية في قدرة الإنسان وتسلطه على الطبيعة إلى التي لاتصدق ودخل القلب والإبدال على أسلوب العلم بأسره وتنأول فهم أسرار الحياة والعالم. كنا نقول بأن الإنسان شعر في القرون الوسطى بأنه مستقل بالذات بعد أن كان خاضعاً في(24/24)
جميع أطوار حياته المادية والروحية لله أو لتعاليم الكنيسة حل تام لا جدال فيه لجميع المسائل العويصة في مسائل ما وراءِ الطبيعة وهذا الحل أوحى به المولى بالذات فكان على ابن تلك القرون أن يقبل ذلك بدون نظر أو مما حكة فيه. فقانون الأخلاق مفروض عليه كانه أمر إلهي وما عليه إلا الخضوع له صاغراً. وكان النظام الإجتماعي مؤسساً على تعاليم قديمة له صفة نصف مقدسة فيخضع الإنسأن في جميع أعماله المهمة في حياته لأمر صادر من قوة وأرادة أسمى من قوته وأرادته لا يسعه معها إلا الخضوع المطلق والاستسلام التام.
بيد أن حالته هذه من الخضوع لسلطة خارجية هي التي تعدلت كلما أيقن المرءُ بقوته ولقد مضت القرون والنصرانية تأتي أبناء الغرب بقواعد تكون المادة وتشرح النشوء تأتي أبناء الغرب بقواعد تكون المادة وتشرح النشوء التاريخي وتأويل معنى الحياة وتسن السنن وتشرع الآداب. مضت قرون وكانوا يضعون الإيمان في رأس كل شيءٍ وكلما ازداد انتشار العلم العقلي والسلطة المنظمة التي يوليها هذا العلم تزداد ثقة المرء بنفسه فأصبح العلم من ثم خصماً للإيمان وراح العقل يعجب بما أوتيه من آيات الغلبة وكتب له من أسباب الفلج والنجح طامحاً إلى أن يحل محل الدين في كل ما له علاقة بالحياة البشرية وطامعاً أن ينزل المقام الأول من صحيفة أعمال الناس.
وما جاء القرن السابع عشر والثامن عشر حتى أدت الحركة العقلية إلى تأليف مبادئ واسعة وانتهت بإنشاء فلسفة ديكارت وسبينوزا ولايبنز وطفق العقل ينزل منزلة القاضي المسيطر على الحق وأخذ على نفسه إنشاء مذهب يجري عليه العالم وُعدَّته ما رزقه من نور المعرفة مستقلاً عن كل سلطة نازعاً من كل تقليد ووحي.
وفي أوائل العهد الحديث أعلن الفكر الألماني على روؤُس الملأ بلسان (كانت) و (فيختي) بالمبدأ العظيم في استقلال الأرادة فعكس العلاقة التي كانت مقبولة إلى ذلك العهد بين الدين والأخلاق. وكان اللاهوت الأدبي القديم يرى مبدأ الأخلاق في الأرادة الإلهية ويخضع الأرادة البشرية لأرادة الله وهذا ما رآه (كانت) أدباً مختلف القانون قائماً على مبدأ السلطة وقضى عليه بكل جهده حاكماً بأن الأرادة الخالصة المقررة خاصة بحدود العقل الصرّف تكون وحدها الفاعلة العاملة فيه بما تسنه لنفسها بنفسها من قانون تجعله مبدأ كل أدب(24/25)
حقيقي معلناً بأنه ليس في الأرض سلطة لها حق التسلط على الحرية البشرية وأن المرءَ يشرع لنفسه ويقنن لإجتماعه وأنه إذا خضع لقانون الأدب فإنه يخضع بذلك لعقله الخاص فكان من (كانت) أن تم على يده في دائرة اللاهوت الأدبي عمل قريب المأخذ وفتح بذلك عصراً جديداً في تاريخ الوجدان الأدبي وبفضله تم للإنسانية استقلالها وللعقل تحريره.
وأنشأت الإنسانية بعد ذلك تتناغى بهذا العقل وتؤيده بمضاءٍ دائم وفضت زيادة على ذلك الاعتقاد بأن الشخص المفكر العامل لا يعترف بسلطة فوقه يجب عليه الخضوع لها وزاد في ابن العصر الشعور بأنه لا يجب أن يخضع بل أن يدير وينظم ووطد نفسه على تجشم المشاق في استخراج خيرات الأرض بقوة الفكر وعلى العمل لتنظيم الحياة في كل مظاهرها بقانون العقل وذلك من حيث الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة. وقام الفيلسوف نيتش ونادى بإنكار الألوهية في فلسفته الذاتية العصرية على صورة متطرفة غربية ولم ينكر من يقول أهل اللاهوت بوجود بل مجد المولى الفاعل الذي يعتقد به علماءُ ما وراءِ المادة وأخذ يدعو الإنسان أن يبقى (مخلصاً للأرض) وأن يطرح جانباً كل اهتمام بمسائل الآخرة وأن يفهم بأنه هو موجد الأشياء قائلا أن ليس فيما عداه حقيقة مرئية أدبية أوطبيعية يجب عليه الخضوع لها بل عليه أن يشرع لنفسه شريعته حراً مستقلاً.
وأن ليس في العالم إلا مركز قوى لاتزال في نشوءٍ وهي أبداً في تفاعل وتدافع يؤَثر بعضها في بعض. فالجد في إحراز الحول والمنعة المتزايدة على المدى تلك المنعة التي تُخضع لسلطانها جزءاً عظيماً من القوى هو العمل الرئيسي في الحياة العامة. وبذلك صح قولنا أن المباينة تمت على أشدها بين العقل في القرون الوسطى والعقل اليوم. فصار المؤمن وهو يشعر من جهة بأنه محاط بأسرار وأعاجيب ويخضع مختاراً لسلطة التقليد الديني والأدبي والعملي ومن جهة ثانية يرى الشيطأن المريد الذي لا بعترف أصلاً بقانون ولا يد فوقه ويرى في الجهاد المتوأصل لإحراز المنعة أنه هو حظ الإنسان على الدوام بل قسط الإنسانية من العالم أجمع.
وإذا عارضت على هذه الصورة بين السلطة القديمة والذاتية الحديثة فلا أدعي بحال من الأحوال أنني أثبت أن لأحد هذين الرأيين في الحياة قيمة خاصة به تسمو منزلتها عن الأول ولا أن أحدهما يجب بطبيعة الحال أن يختلس مكان الثاني ولا أن التاريخ يدلنا على(24/26)
أن ثمت نشوءاً دائماً لا حد له نحو (الذاتية) العقلية. وغاية ما أريد أن أقول أن المرءَ في العهد الحديث ولاسيما في خلال القرن التاسع عشر أحس من نفسه بأنه اتسع في صدره على نسبة كبيرة الشعور بالقوَّة المنظمة للذكاء وللأرادة الإنسانية فصرف همته من وراءِ الغاية إلى إحراز القوَّة العلمية أو الفنية والاقتصادية أو السياسة فالجهاد ربما كان أعظم حادث في القرن التاسع عشر وبه تمت الغلبة للعقل العلمي المستقل على ما عداه. على أنه من الثابت أن الغريزة الدينية التي كانت تخضع الأرواح في القرون الوسطى للأسرار الإلهية وتحملها على تبجيل هذا التقليد في الدعوة الربانية وتخنعها للعبادة والخضوع للنظام العام وتحملها على الخضوع لقانون العالم بل على الخشوع المحترم أمام معميات العالم لا بالسلطة والعنف_هذه الغريزة لم تبرح تسمع لها إلى عهدنا ركزاً. يعمل ابن العصر بما فيه من قوّة على تسخير العالم لذكائه وأرادته وهو يفاخر بقوَّته ولكنه يظل محساً بما في نفسه من ضيق مضطربة في الإستيلاء على المادة ولم سيما في القوى اللامتناهية المخوفة التي تحيق به ويشعر بها في النفس التي تتجلى من التقاليد العظيمة الدينية أوالأخلاقية السياسة أو الاجتماعية مضيفاً هذا إلى سنن السلوك التي أملاها العقل.
يهم البحث في حالة ألمانيا في القرن التاسع عشر من وجهتين وذلك لأن الألمان كانوا في أوروبا الشعب الذي أبلى بلاءً حسناً في خدمة الفنون العقلية والأرادة المنظمة والأمة التي تفتحت بينها (الذاتية) الحديثة على أدهش صورة وهم مع ذلك من الأمم التي حفظت للفكر الديني والاحترام التقاليد الدينية قوّة أكثر من غيرها. فقد ساعد الفكر الألماني كل المساعدة على أنتشار العلوم الحسية وأحكام التفسير العقلي للعالم. فإنتظمت القوّة الألمانية على طريقة حسنة المنهاج هائلة الحول والطول فقصدت بجد لا نظير له إلى إحراز القوّة الاقتصادية والقوّة السياسة. بما أصبحت به ألمانيا إحدى الدول التي هي أعظم الناس انتشاراً وارتقاءً على نحو ما هي إنكلترا والولايات المتحدة. وهكذا رسخ العقل الألماني بتأثير من الطراز الأول وأداة من القوّة ومن قلة تسامحه سلاحاً.
ولطالما حاول العقل الألماني أن يتفق ما أمكنه مع السلطات القديمة وحاول في الدينيات عقد عهود التحكيم مع المعتقدات التقليدية وذلك بأن يصلح النصرانية لا أن يشتد في حربها وكان من العقل الألماني في السياسات أنه لم يجعل من كل قطعة مملكة تقوم بنظام العقل(24/27)
وتحافظ على التقاليد مراعياً إياها كل المراعاة وأبدى احترامه للسلطة الملوكية وتلطف فلم يعتد على الحقوق المكتسبة ولا غإلى في نشؤها السياسي الذي يؤدي إلى الديمقراطية في الأمم الحديثة.
أيعد كل هذا ضعفاً أم قوة؟ سؤَال فيه نظر. يعجب بعض الناظرين من استمرار النشوء السياسي والديني في ألمانيا ويرون من أعظم المنافع التي نالت هذه الأمة أنها لم تأت على قديمها فتدكه من أساسه وبهذا لا يستبعدون بأنها ستظل في تقدمها على النحو الذي نحته آمنة العوادي والصدمات باحثة وظافرة عن قانون يقبله السواد الأعظم في المعضلات الديمقراطية والاشتراكية أو الإقطاعية والإكليريكية. ويرى آخرون على العكس من ذلك بأن ألمانيا اليوم وهي على إغراقها في أعداد معدات الحرب وشدة احتفاظها بإقطاعاتها وثقافتها في بسط سلطانها وتغإليها في فلسفتها العقلية وولوعها بإحراز السلطة واحتجأن المال مزدرية بالديمقراطية أو الإنسانية بحيث أصبحت نأقلة بنظريات الأفكار في وسط أوروبا الحديثة القديم الذي كان من حقه أن يضمحل إلى هذه القرون الحديثة وربما لا تلبث أن يصيبها قريباً تغيير عظيم يكون عليها شديداً. وهذا أمر طالما تنأوله النظار بالبحث وإلى الأن لم يسفر عن نتيجة.(24/28)
اللغات الإفرنجية
لهجت بعض الألسن في منافع اللغات الأوروبية ومضارها في مجتمعنا عقيب أن قام صاحب المؤيد في الجمعية العمومية في الربيع الماضي وناقش ناظر معارف مصر في وجوب تعليم العلوم في المدارس الأميرية باللغة العربية فكان من أثر ذاك الحوار أن بطلت دروس الأشياء وجعل تدريس علم تقويم البلدان باللغة العربية في المدارس الإبتدائية كما شرع بتعليم الرياضيات في السنين الأولى من المدارس الثانوية باللغة العربية أيضاً.
فقام بعض الناس متخذين من هذا الإصلاح حجة على قلة غناء اللغات الإفرنجية زاعمين أن في العربية ما يكفيها من العلوم. على حين كان ما دعا إليه الداعون من التدريس بالعربية لمقصد آخر أُريد به أحيله لغة البلاد إذا درست العلوم بها وإشراب نفوس المتعلمين حب أمتهم ليعم النفع مما يتعلمون لا التنفير من تعلم اللغات الإفرنجية التي لا يمتري عأقلأن في وجوب تعلمها على فريق كبير من الناس ولاسيما من تصدوا للنفع والتأليف والكتابة على نحو ما يفعل علماء اليابأن فيتعلمون الإنكليزية كما يتعلمون لغتهم الأصلية.
نقول تعلم اللغات الأجنبية وما أحرانا أن نقول إتقانها لأن المبادئ البسيطة منها قد لا تفيد المتعلم إلا توهمه أنه أصبح من العارفين. فإن تعوذ علماؤنا قديماً من نصف فقيه ونصف صوفي ونصف كاتب ونصف شاعر فما أحرانا أن نتعود من ناشئ يتعلم طرفاً من لغة لا يستفيد منها ولا يفيد.
وليس معنى هذا أنه يتحتم وجوباً على كل متعلم للغة أجنبية أن يكون فيها مؤلفاً خطيباً كاتباً مترجماً فهذا مناف لسنة الكون ولكن المطلوب أن يعرف الناس في تعلم إحدى اللغات الأوروبية القدر الذي يؤهلهم للانتفاع منها في التجارة وأعمال الإدارة والقضاء والعلم.
ولا مشاحة في أن أكثر من تعلموا اللغات الأجنبية من أبنائنا لم يتقونها وأن حذقوها فلا يكون لهم من المعرفة بلغتهم ما يستطيعون معه أن يعبروا به عن أفكارهم وينقلوا إليها ما يعوزها من علوم الغرب وحضارته. بيد أن اللغة وأن أتقنها صاحبها لا تنفعه وينتفع بها النفع المطلوب إلا إذا أضاف إليها علماً أو فناً أخصى فيه واللغة آلة لا غاية وإن كان من يتقن لغة أوروبية لا يتسنى له ذلك إلا بعد أن ينظر نظرة إجمالية في الفنون المتعارفة.
أما ما يقوله بعض من لا يساعدهم الوقت على تعلم لغة أجنبية من أنه ليس في النقل من(24/29)
اللغات الغربية كبير أمر وأن العالم يستفيد من الوجود أكثر من استفادته مما دوّنه كبار أرباب العقول من أمم الحضارة فهذا من الآراء التي يقصد بها الاعتذار عن التقصير ومن جهل شيئاً عاداه. إذ من الثابت المقرر أننا مهما تأملنا في صحيفة الكون لا نستطيع أن ندرس فيه نظام الإجتماع ولا تقننين القوانين ولا الطب والهندسة ولا الفلك والطبيعة والكيمياء وفنون الأدب والتاريخ ورسم الأرض وغيرها من الفروع الكثيرة التي لا أسماء لها في العربية إذلم يكن للعرب عهد بها ولا تتم سعادة مجتمع اليوم إلا بتعلمها وإتقانها.
ومن قال بأن أسلافنا من العرب قد أجالوا في هذه العلوم قداح أنظارهم ووضعوا فيها ما وضعوا من رسائلهم وأسفارهم فهو على صواب وخطاءٍ. وذلك أن أجدادنا قاموا بالواجب من خدمة هذه العلوم في عصر تماسكهم وانبساط ظل دولتهم إلا أنه انقطعت سلسلتها بعد القرن السادس إلى منتصف القرن الثالث عشر للهجرة وهي القرون التي كانت فيها الأمة العربية في غفلة والأمم الغربية في انتباه فأخذ الغرب عن الشرق ما عنده من حضارة وزاد عليها أضعافاً ولايزال يركض طرف عقله في مضمار البحث والاستقراء ويعاني من ضروب العلم ما نحن فيه معه أجهل من تلميذ مبتدئ بالتهجئة بالنسبة إلى عالم يكتب الكتاب ويقصد القصيد.
فالأمة العربية إذا أرادت النهوض العقلي والعملي يجب عليها أن تأخذ من كل علم بالسهم الأوفر ولا يتم لها ذلك إلا بالنقل عن الأمم الغربية وهذا لا يتأتى إلا بعد أن تخرج مدارسنا الألوف من الطلبة المتعلمين على الأساليب الحديثة لينشأ لنا منهم عشرات يكونون لنا عوناً على ما ينقصنا من أسباب نهضتنا وما تشتد حاجتنا إليه. ويكاد ذلك إلى الآن يعد مفقوداً بيننا اللهم إلا طائفة من أسفار نقلها بعض المولعين بالعربية وما تيسر للمجلات تعريبه من حين إلى آخر من علوم الغرب. وكله دون حد الكفاية بكثير. قال ابن رشد في فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال:
(إذا تقرر أنه يجب بالشرع النظر في القياس الفقهي فبين إنه أن كان لم يتقدم أحد من قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه وأن يستعين في ذلك المتقدم بالمتأخر حتى تكمل المعرفة فإنه عسير أوغير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقاء نفسه وابتداء على جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي بل معرفة(24/30)
القياس العقلي أحرى بذلك وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة فإن آراءَه التي تصح بها التذكية ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونه آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبلة ملة الإسلام).
(وإذا كان الأمر هكذا وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فتنظر فيما قالوه من ذلك فإن كان كله صواباً قبلناه منهم وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه فإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر وحصلت عندنا الآلات التي بها يقدر على الاعتبار في الموجدات ودلالة الصنعة فيها فإن من لا يعرف المصنوع ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع فقد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجدات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية ونبين أيضاً أن هذا الغرض إنما يتم لنا في الموجدات بتدأول الفحص عنها وأحداً بعد واحد وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم على مثال ما عرض في علوم التعاليم فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة وكذلك صناعة علم الهيئة ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وإبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض وغير ذلك من مقادير الكواكب ولو كان أذكى الناس طبعاً إلا بوحي أوشئ يشبه الوحي بل لو قيل أن الشمس أعظم من الأرض بنحو 150 ضعفاً أو ستين يعد هذا القول جنوناً من قائله.
وهذا شئ قد قام عليه البرهأن في علم الهيئة قياماً لا يشك فيه من هو من أصحاب هذا العلم
(قال وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط وفي العملية فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة. وإذا كان هكذا فقد يجب علينا أن القينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجدات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرنأهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرنأهم).(24/31)
هذا ما قاله الفيلسوف الإسلامي في عصر كان العرب أساتذة العلم في العالم وقوله كما رأيت غاية غايات الحكمة. وما الغربيون الآن بالنسبة إلينا إلا قدماء متقدمون وبهديهم يجب علينا أن نهتدي في العلوم. وهذا لايقدح فيما خلفه لنا أسلافنا من أثارهم أيام استئجار عمرانهم واتساع سلطانهم. أما اللغات الحديثة التي تشتد حاجتنا إلى الأخذ منها فهي الإنكليزية والإفرنسية والألمانية. وفي كل لغة من هذه اللغات من أنواع المعارف ما لا يكاد يحلم به من لا يعرف لغاتهم.
وليت شعري إذا كان بعض أهل الغرب والعلوم قد بلغت عندهم ما علمت من الإرتقاء الغريب يتعلمون لغات الشرق لينقلوا منها إلى لغاتهم بعض الكتب التاريخية والأدبية والأخلاقية والشرعية ويستعينوا بها على قراءة أثاره وما زبر على أحجاره أفلسنا نحن أحرياء بأن نتعلم لغاتهم على فقرنا الثابت ونقتبس منهم ما يعوزنا من علوم البشر؟
إلا أن ما نفاخر به من علم أسلافنا وحضارتهم العظيمة إنما قام بإحيائهم مدينة من قبلهم من الأمم كالروم والفرس وغيرهم ولم يتأت لهم ذلك إلا بترجمة علومهم والزيادة عليها وتحسينها فكانوا بذلك أحسن صلة وعائد بين أمم الحضارة السالفة والأمم الأوروبية الخالفة. فحضارة الإسلام أن أنصفنا قامت بفضل التراجمة والنقلة من اليعاقبة والإسرائليين والمسلمين لا بأيدي علماء الكلام مثلاً وقد كان على يد هؤلاء التشتيت وعلى يد أولئك الجمع وشتان بين المفرق والمجمع.
وليس معنى هذا أنكار فضل من تمحضوا لخدمة الشريعة واللغة في القرون الأولى للإسلام وما في الناظرين من يقول بأن الخليل والجاحظ والغزالي والمأوردي هم في حسن بلائهم في خدمة هذه الأمة دون أبي الريحان البيروني ونصير الدين الطوسي وحنين بن اسحق وثابت بن قره. وما كان قط أهل الفريق الأول يحتقرون علم الفريق الثاني ولا العكس لما وقر في النفوس من أن المجتمع لا يقوم على أمتن الدعائم إلا إذا أتقن كل ذي علم عمله. قال الجاحظ: (الإنسان وإن أضيف إلى الكمال وعرف بالبلاغة وفاتش العلماء فإنه لا يكمل أن يحيط علمه بكل ما في جناح بعوضة أيام الدنيا ولو استمد بكل نظار عظيم واستعان بكل بحاث واع وكل نقاب في البلاد ودراسة للكتب وما أشك أن عند الوزراء في ذلك ما ليس عند الرعية من العلماء وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء وعند الأنبياء ما ليس عند(24/32)
الخلفاء وعند الملائكة ماليس عند الأنبياء وما عند الله عزَّ وجلَّ أكثر والخلق في بلوغه أعجز وإنما علم الله كل طبقة من خلقه بقدر احتمال فطرهم ومقدار مصلحتهم).
وقال الراغب الأصفهاني في الذريعة: العلم طريق إلى الله تعالى ذو منازل قد وكل الله تعالى بكل منزلة منها حفظة كحفظة الرباطات والثغور في طريق الحج والغزو فمن منازله معرفة اللغة التي عليها بني الشرع ثم حفظ كلام رب العزة ثم سماع الحديث ثم الفقه ثم علم الأخلاق والورع ثم علم المعاملات وما بين ذلك من الوسائط ومعرفة أصول البراهين والأدلة ولهذا قال (هم درجات عند الله) وقال (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وكل واحد من هؤلاء الحفظة إذا عرف مقدار نفسه ومنزلته في حق ماهو بصدده فهو في جهاد يستوجب من الله أن يحفظ مكانه ثواباً على قدر علمه لكن قلما ينفك كل منزل منها من شرير في ذاته وشره في مكسبه وطالب لرياسته وجأهل معجب بنفسه بصير لأجل تنفيق سلعته صارفاً عن المنزل الذي فوق منزلته من العلم وعائباً لما فوقه وصارفاً عمن رامه فإن قدر أن يصرف عنه الناس بشبهة مزخرفة فعل أويبفر الناس عنه فعل
وإن ما في عبارة هذين الحبرين ليذكر بما يجب للمجتمع من مراعاة مبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي وقد قال أحد كبار شيوخ العلم من المعاصرين إن مما يؤخر الشرق في العلم عدم مراعاة أبنائه لمبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي ففيه من يحسن التفصيل كما فيه من يحسن الخياطة وليس بينهما من يضم أعمال الفئة الأولى للثانية لينتفع بها المجتمع حق الانتفاع ومثل لذلك بمن نقلوا لنا العلوم على عهد الحضارة الإسلامية الأولى فقال إنه كان يندر أن يجمع المترجم بين معرفة العلم الذي يترجمه واللغتين اللتين ينقل منهما فمن كان يجيد السريانية لا يحسن العربية إلا أنه كان يترجم ما يفهم بعبارة ركيكة أو عامية فيجئ المصححون يصلحون العبارة على الأسلوب العربي فتجئ معرباتهم من أصح ما يكون لفظاً ومعنى وعلى هذا درج ديوان الترجمة في الدولة العلوية الخديوية في القرن الثالث عشر في مصر فكان المترجم غير المصحح ولذلك جاءَ فيما نقلوه روح العربية أكثر من المصنفات التي نقلت إلى العربية حتى في هذا القرن قال وهكذا عرفت دولة العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس والأسرة العلوية في القاهرة أن تجمع بين من يحسن التفصيل ويحسن الخياطة فكان من هذا الجمع ما كان كما حسن النفع من كل ما تصرف تحت اسم(24/33)
علم.(24/34)
الشعر الاجتماعي
ليس جميع ماخلد في بطون الاوراق من شعر شعرائنا الغابرين هو في المديح والهجاء والرثاء والغزل والنسيب والخمريات والزهديات والخلاعيات بل كان منهم ذوو أخلاق طاهرة يتأثرون بمحيطهم ويشعرون بشعور امتهم يشساركونها في الأمها وأسقامها ويسعون إلى صلاحها وإصلاحها وإن ماانتهى الينا من شعر الجاهلين والمخضرمين والمولدين أن صح اصدار الحكم عليه لقتله ليدعو إلى القطع بان معظم الشعراء اميل إلى الخصوميات منهم إلى العموميات 0وابوالعلاءالمعري رأسهم في تشريف الشعر والتفادي من ابتذاله وجل لزومياته من الشعر الاجتماعي الصادر عن نفس أبيه مشرفة على ما يعبث بجسم المجتمع من الشرور والغرور والقصور ولذلك لم يبرح يضرب على نغمة التنديد وكثيراً يخرجه النقد إلى الغلو واي شعر خلا من الغلو
ولو خلت نفس أبي الطيب المتنبي من المطامع والتغالي في حب الجاه والغني لساغ أن يكون من مجموع حكمياته ديوان شعر اجتماعي ينفع الأمة في تكبير نفوسها وتحسين ملكاتهها ولاسيما لوكأنت الحكمة مختلطة بأجزاء نفسه اختلاطها بأجزاء روح المعري وكانت اقواله على قدر افعاله. فقد رأينا يملا الدنيا مديحا بسيف الدولة ثم يهجره ويمدح كافورا والاخشيدي لما كان يرجو أن يوليه ولاية ثم يهجوه اقبح هجو لما يئس منه فكيف يثق العقلاء باقواله وتفعل أشعاره في النفوس فغلامحمودا.
وإذا تقدمنا إلى ما وراء ذينك العصرين وبحثنا في شعراء أوائل العباسية كأبي العتاهية وأبي نواس لانعتم أن نقول فيهما مأقلناه في أبي الطيب وإن كانت الزهديات غالبة على شعر الأول والخمريات متحكمة من شعر الثاني. أما من كانوا بعد ذلك العهد من الشعراء كأبي فراس الحمداني فإنك تجد شعرهم بحسب محيطهم فتقرأ في شعر هذا علو النفس والشمم وشيئامن روح الاجتماع وبحق ماقيل بديء الشعر بملك وهو أمرؤ القيس وختم بملك وهو ابوفراس وبحق ماقالوا كلام الملوك ملوك الكلام. وانك لاتجد في نفسك النشأة التي تجدها بتلاوة شعر الشريف الرضي وابن الرومي ماتجده بكلام صريع الغواني وناصح الدين الارجاني. اما ما إذا جئت تقرأ الشعر في القرون الخمسة الأخيرة وهي عصور انحظاظ اللغة وانحطاط الأفكار فتكاد لاتجد الجيد واحدا من مائة وأكثر من اجادوا في الاجتماعيات من كانوا على شيء من معرفة زمانهم من الشعراء وتأثروا بتأثر امتهم(24/35)
مثل تلك الزمرة من الشعراء التي سقطت الأندلس في أيامها فبكوها ورثوها او كانوا قبيل سقوطها فحذروا ملوكهم عاقبة التفاشل وبينوا لهم مواضع الضعف واي شعر واقع في النفس وافعل في أثارة الشجون من قصيدة ابن الابار لما اوفده صاحب بلنسية عندما حاصرها ملك برشلونة إلبرتغالي إلى ابن أبي حفص صاحب أفريقية التي يقول في مطلعها.
أدرك بخيلك خيل الله أندلس ... أن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر مالتمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
ياللجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للحادثاتوامسى جدها تعسا
في كل شارقة المام بارقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربة اخجال شائبة ... لثني الأمان حذرا والسروراسى
وفي بلنسية منها وقرطبة ... ماينسف النفس او ماينزف النفسا
واي شعر اصدق من رقعة وجدت في جيب أبي عبد الله الفازازي يوم موته يقول فيها
الروم تضرب في البلاد وتغنم ... والجور يأخذ مابقي والمفرم
والمال يورد كله قشتالة ... والجند تسقط والرعية تسلم
وذوو التعين ليس فيهم مسلم ... الا معين في الفساد مسلم
اسقي على تلك البلاد وأهلها ... الله يلطف بالجميع ويرحم
قال المقري أن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده فلما وقف عليها قال بعد ما بكى صدق رحمه الله تعالى ولو كان حيا ضربت عنقه. ولم يزل أهل الأندلس بعد ظهور الإفرنج على كثير منها يستنهضون عزائم الملوك والسوقة لأخذ الثأر بالنظم والنثار فمن القصائد الموجهة في ذلك قول بعضهم لما أخذت بلنسية يخاطب أفريقية أباحفص ويقول فيها.
ياحسرتي لعقائل معقولة ... سئم الهدى نحو الضلال هداءها
ايه بلنسية وفي ذكراك ما ... يمري السؤن دماءها لا ماءها
كيف السبيل إلى احتلال معاهد ... شب الاعاجم دونها هيجاءها
وإلى ربا واباطح لم تعترض ... حلل الربيع مصيفها وشتاءها(24/36)
طاب المعرس والمقيل خلالها ... وتطلعت غرر المنى اثناءها
ومن ذلك قول بعضهم يندب ظليطلة
لثكلك كيف تبتسم الثغور ... سرورابعد مايئست ثغور
أما وأبي مصاب هد منه ... ثبير الدينفاتصل الثبور
إلى أن يقول
فإن قلنا العقوبة أدركتهم ... وجاءهم من الله النكير
فإنا مثلهم وا شد منهم ... نجور وكيف يسلم من يجور
أنأمن أن يحل بنا انتقام ... وفينا الفسق اجمع والفجور
واكل للحرام ولا اضطرار ... إليه فيسهل الأمر العسير
ومما قبل في ذلك قصيدة أبي البقاء الرندي وهي ممااشتهر
لكل شيء إذا ماتم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته ازمان
وهذه الدار لاتبقي على احد ... ولايدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة ... إذا نبت مشرفيات وخرصان
ومن هذا الباب قصيدة العقيلي يتوسل بسلطأن فاس التي يقول فيها
كنا ملوكا لنا في ارضنا دول ... نمنا بها تحت افنان من النعم
فايقظتنا سهام للردى صبب ... يرمي بافجع حتف من بهن رمي
فلاتنم تحت ظل الملك نومتنا ... واي ملك بظل الملك لم ينم
وهكذا كانت تلك الطبقة من الشعراء على ذلك العهد في الأندلس على نحو ما كان بعض شعراء ألمانيا في القرن الماضي وقد قاموا يحمسون الأمة والحكومة في معارضة الدين ومناهضة الحكم المطل مثل ستراوس والاخوان بوير وارنولدروج وكارل ماركس وفورباخ وكجمهور من الشعراء السياسين مثل هوفمأن فون فالرسلبين ونجلستيد وفرايليجرات وميسنير وكارل بيك وعوتفريد وكاين كيل ممن أخذوا على أنفسهم الدفاع عن حقوق الأمة والحرية وأخذوا ينشرون في أوروبا دعوات حماسية ولكن شتان بين من يسعون إلى تأسيس ملك ضخم وسلطان عظيم العلم رائده والعقل قائده يقولون فتسمع(24/37)
اقوالهم وتؤثر الأثر المطلوب وبين من يقولون كبقايا أولئك الأندلسين وهم خائفون فلا تؤثر اقوالهم ويمسون ينشدون ويصبحون يندبون بلادا سقطت واطفالا يتمت ونساء ايمت وعمرانا اضمحل وساكنا ابذعر. وليس معنى هذا أن الشعركله يجب أن يكون اجتماعيا بل أن أكثره أصبح كذلك ينفع ويرقي. والشعر ادعى إلى التأثير واسرع أن يعلق في الذهن من النثر. والشعراء إذا أحسنو القصيد وصرفوه فيما يفيد تقطف البلاد بثمرة اقوالهم ماتقطفه من ثمرات اقوال الخطباء والكتاب أن لم نقل أكثر. الشاعر الاجتماعي هو الذي يدل امته على عوارها وعارها ويبين لها طريق نجاتها وعثرتها وينوع الأساليب في تعليمها وتهذيبها. وماانس لاانس غوركي شاعر الروس وقد كان منذ سنين يؤلف القصيدة الثورية الاجتماعية يلقنها الفلاحين حتى إذا استظهروها يرحل عنهم وقد ظل اعواما على هذه الدعوة ورجال الشرطة يطاردونه وهو بجربذته يفلت من بين ايديهم حتى كانت اقواله من جملة مأولد الثورة الروسية الأخيرة وقد اذكرني غوركي بعمارة اليمني الشاعر الذي دعا في مصر للدولة الفاطمية بعد أن حل عراها صلاح الدين يوسف وماقال في ذلك من قصائد ومقاطيع كانت سبب صلبه ومن جملة شعره القصيدة التي توضح عذر السلطان صلاح الدين في قتله وقتل من شارك في ذلك قال في مطلعها
رميت يادهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلي الحسن بالعطل
سعيت في منهج الرأي العثور فإن ... قدرت من عثرات البغي فاستقل
جدعت مارنك الاقنى فإنفك لا ... ينفك مأبين نقص الشين والخجل
لهفي ولهف بني الأمال قاطبة ... على فجيعتنا في اكرم الدول
إلى أن يقول
ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي
بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لأعلى صفين والجمل
وقل لأهليهما والله ما التحمت ... فيكم قروحي ولا جرحي بمندمل
ماذا ترى كأنت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما ... ملكتم بين حكم السبي والنفل
وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد وأبيكم غير منتقل(24/38)
مررت بالقصر والاركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الاعادي ووجه الود لم يمل
اسبلت من اسف معي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل
ابكي على ماترا آى من مكارمكم ... حال الزمان عليها ولم تحل
دار الضيافة كانت انس وافدكم ... واليوم اوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إن اصغت مكارمكم ... تشكو من الدهر ضيما غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قددرست ... ورث منها جديد عنهم ويلي
وموسم كان في كسر الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل
وختمها بقوله
وماخصصتم ببرأهل ملتكم ... حتى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للذمتين ولل ... ضيف المقيم وللطاري من الرسل
وللجوامع من احباسكم نعم ... لمن تصدر في علم وفي عمل
وربما عادت الدنيا لمعقلها ... منكم واضحت بكم محلولة العقل
ولسائل أن يقول اما في شعراء العربية اليوم من تقع لهم ياترى مثل هذه القصائد الحماسية الاجتماعية يحسنون بقريضهم الملكات ويضمون الشتات قبل الفوات. فالجواب أن هذه الروح ضئيلة جدا في شعرائنا فإن غلبت على شعر حافظ أفندي إبرأهيمحتى جاز أن يدعى الشاعر الاجتماعي بلا مدافع وقرئت في قصائد جميل صدقي أفندي الزهاوي ومعروف أفندي الرصافي من شعراء بغداد فإنها تقل في شعر الشيخ عبد المحسن الكاظمي واحمد بك شوقي والأمير شكيب ارسلان ومصطفى صادق أفندي الرافعي والسيد توفيق البكري والسيد مصطفى لطفي المنفلوطي وخليل أفندي مطران والأمير نسيب ارسلان ونقولا أفندي رزق الله وعبد الله أفندي البستاني وإبرأهيمأفندي الحوراني وفارس أفنديالخوري وعيس أفندي أسكندر معلوف ورزق أفندي حداد واحمد أفندي محرم وامين أفندي حداد واسمعيل باشا صبري وحفني بك ناصف والياس أفندي فياض ومحمد أمام أفندي العبد وطانيوس أفندي عبده وقسطاكي بك الحمصي واحمد أفندي الكاشف واضرابهم المجيدين في شعرائنا ممن لم تحضرني أسمائهم فإنك لاتقرأ لأحدهم المقطوعة أو القصيدة الفذة حتى(24/39)
تقرأ له عشرات غيرها في أغراض أخرى فيا حبذا لو توخى قيادة القريض بما ينظمون النفع العام ونحوا في أشعارهم منحى السداد لتفعل في عقول منشديها وراويها فتسدد خطأهم وتصحح أفكارهم وتقوي قلوبهم وتصلح عيوبهم. فعصرنا هذا عصر الحقائق لاعصر الخيالات والعأقل ينتفع باقواله بحسب نيته وهيهات أن نقول أن للشعرالعربي دولة إلا إذا حسنت أثار اقوال زعمائه في أبنائه وقديما قالوا اعذب الشعرا كذبة اما نحن اليوم فنقول اعذب الشعر اصدقه وعهدنا هذا يفتح بما فيه من دواعي القول قرائح من لم يحلم بانه يقول الشعر.(24/40)
الغروب
نزلت تجر إلى الغروبذيولا ... صفراء تشبه عاشقا متبولا
تهتز بين يد المغيب كانها ... صب تململ في الفراش عليلا
ضحكت مشارقها بوجهك بكرة ... وبكت مغاربها الدماء اصيلا
مذ حان في نصف النهار دلوكها ... هبطت تزيد على النزول نزولا
قد غادرت كبد السماء منيرة ... تدنو قليلاللافول قليلا
حتى دنت نحو المغيب ووجهها ... كالورس حال به الضياء حيولا
وغدت بأقصى الأفق مثل عرارة ... عطشت فابدت صفرة وذبولا
غربت فابقت كالشواظ عقيبها ... شفقا بحاشية السماء طويلا
شفق يروع القلب شاحب لونه ... كالسيف ضمخ بالدما مسلولا
يحكي دم المظلوم مازج ادمعا ... هملت بها عين اليتيم همولا
رقت اعإليه واسفله الذي ... في الأفق اشبع عصفرا محلولا
شفق كان الشمس قد رفعت به ... ردنابذوب ضيائها مبلولا
كالخود ظلت يوم ودع إلفها ... ترنو وترفع خلفه المنديلا
حتى توارت بالحجاب وغادرت ... وجه البسيط كاسفا مخذولا
فكانها رجل تخرم عزه ... قرع الخطوب له فعاد ذليلا
وانجط من غرف النباهة صاغرا ... وأقام في غار الهوان خمولا
* * * * * * *
لم انس قرب الأعظمية موقفي ... والشمس دانية تريد افولا
وعن اليمين أرى مروج مزارع ... وعن الشمال حدائق ونخبلا
وتروع قلبي للدوالي نعرة ... في البين يحسبها الحزين عويلا
ووراء ذاك الزرع راعي ثلة ... رجعت تؤم إلى المراح قفولا
وهناك ذو برذونتين قد انثى ... بهما العشي من الكراب نحيلا
وبمنته نظري دخان صاعد ... يعلو كثيراً تارةوقليلا
مد الفروع إلى السماء ولم يزل ... بالأرض متصلايمد أصولا
وتراكبت في الجو سود طباقه ... تحكي تلولا قد حملن تلولا(24/41)
فوقفت ارسل في المحيطإلى المدى ... نظرا كما نظر السقيم كليلا
والشمس قد غربت ولما ودعت ... ابكت حزونا بعدها وسهولا
غابت فاوحشت الفضاء بكدرة ... سقم الضياء بها فزاد نحولا
حتى قضت روح الضياء ولم يكن ... غير الظلام هناك عزرائيلا
وأتى الظلام دجنةفدجنة ... يرخي سدولا جمة فسدولا
ليل بغيبه الشخوص تلفعت ... فظالمت احسب كل شخص غولا
ثم انثنيت اخوض غمر ظلامه ... وتخذتنجم القطب فيه دليلا
ان كل اوحشني الدجى فنجومه ... بععثت لتؤنسني الضياء رسولا
سبحان من جعل العوالم انجما ... يسجن عرضافي الاثير وطولا
كم قد تصادمت العقول بشأنها ... وسعت لتكشف سرها المجهولا
لاتحتقر صغر النجوم فإنما ... أرقى الكواكب مااستبان مااستبان ضئيلا
دارت قديما في الفضاء رحى القوى ... فغدا الاثير دقبقها المنخولا
فاقرأ كتاب الكون تلق بمتنه ... آيات ربك فصلت نفصيلا
ودع الظنون فلا وربك انها ... لم تغن من علم اليقين فتيل
معروف الرصافي
* * * * * * * *(24/42)
الشمس في الطلوع
طلعت في جلالة ووقار ... من وراء التلول شمس النهار
طلعت من حجابها كآلة ال ... حسن في موكب من الانوار
وتجلت مثل العروس بوجه ... نوره باهرا أولي الابصار
فكست منكب الربى وحوإليها ... رداء مطرزا بالنضار
وادرت على الرياض شعاعا ... لج في لثم مبسم الازهار
كلما مس ظاهر الأرض اعطى ... رونقا للتراب والأحجار
ماتدانىالا واهدى نشاطا ... لحياة الحيوان والأشجار
وله في جدأول الروض رقص ... فوق سطح الماء الزلال الجاري
واضاء الهواءفهوكبحر ... ماج في لج نوره الموار
أن للشمس منظراسوف يلغي ... مثله في النجوم والاقمار
منظرا راق حسنه غير أني ... كل يوم اراه بالتكرار
انما الشمس مركز لنظام ... سابحفي بحر بعيد القرار
ليس في عالم المجرة الا ... قدراصاغرامن الاقدار
نحن من ارضنا نعيش جميعا ... فوق جرم محقر سيلر
طاف يسعى على ذكاء دا ... ت بليل فراشة حول نار
الشمس في المغيب
اترى افزع الغزالة ذيب ... فهي تسعى شريدة وتغيب
وقد أصفر وجهها كفتاة ... قلبها من وشك الفراق كئيب
ام قضت نصف دورة هذه الار ... ض دنا فيه من ذكاء غروب
وعلاها السحاب فأحمر منه ... لدواع ذوائب وجيوب
صاح ماهذه الدماء اراها ... بعيوني افي السماء حروب
ام ترى ابدت الطبيعة لوحا ... نظر الروح نجوه مجلوب
تقف العين نحوه وهي حيرى ... يستبيها جماله المحبوب
حار في وصفه الأديب فلايع ... لم ماذا عسى يقول الأديب(24/43)
وانظر البر في مقابلة الشم ... س تجدماتذوب منه القلوب
بقر الحي من مرتعها تر ... جع في مشية خطاها قريب
وقطيع الاغنام من وجهة الشر ... قإلى جانب الخيام يؤب
وصغار الحملان مربوطة تص ... بو إلى اماتها وتلوب
تسمع الأمهات وهي إليها ... مسرعات بغامها فتجيب
منظر الغروب في البر يشجي ... فتكاد القلوب منه تذوب
منظر يعجز المصور والشا ... عر عن رسمه ويعيا الخطيب(24/44)
اليونان
عظمة مكدونية
فيليب - الأسكندر - فتح آسيا
انهكت الحروب المتصلة مدة قرن بين اسبارطة وأثينة قوى تينك المملكتين فتركتاقتال ملك الفرس إلا أن شعباجديدا وهم المكدونيون عاودوا قتاله حتى نالوا منهوكانو على خشونتهم وقسوتهم أشبه بقدماء الاوربيين شعبا مؤلفا من رعاة وجند. ولقد سكنوا شمال بلاد يونأن في واديين عظيمين مطلين على البحر. وقلما كان اليونانيون يحلونهم محل الاعتبار بل ينظرون إليهم نظرا ثانويا كما ينظرون للبرابرة وإذا المكدونيون يدعون انهم من نسل هيراكليس سمح لهم اليونان بان يركضوا خيولهم في سباق الالعاب الأولمبية وبذلك اعترف بهم ضمنا بانهم من أبناء اليونان.
فيليب - قلما كان هؤلاء الملوك النازلون في بلاد الداخلية بعيدين عن البحر يشتركون في حروب اليونان وفي سنة 360 تسلم اريكة العرش المكدوني شاب نشيط شجاع طموحونعني به الملك فيليب فطمحت به نفسه إلى القيام بثلاثة أمور
(ا) أن ينشىء جيشا قويا
(2) أن ينشىء جميع المواني على شاطىء مكدونية
(3) أن يكره سائر اليونان على الانضواء تحت لوائه لقتال الفرس
فصرف في هذا الشأن أربعا وعشرين سنة ونجح فيما قصد له. واستسلم اليونأن اليه بل واعانه كثير منهم واتخذ له انصارا ببذل المال في جميع المدن يحسنون الظن فيه ويمتدحونه قال: {مامن قلعة يتعذر الاستيلاء عليها إذا استاع المرء أن يدخل إليها بغلا مثقلاباذهب} وهكذا استولى على جميع مدن شمالي اليونانية واحدة بعد أخرى. وقد كان الخصم اللدود لفيليب الخطيب ديموستين وهو ابن صانع اسلحة تيتم في السابعةمن عمره واختلس اوصياؤه جزءا من ماله بلغ أشده أقام عليهم قضيةواكرههم على أن يعيدوا إليه مااختلسوه منه وكان درس خطب ايزيه واستظهر تاريخ توسيديد بيد أنه عندماخطب على المنبر العام قوبل كلامه بالقهقهة إذ كان صوته ضعيفا جدا ونفسه قصييرا فتوفر عدة سنين على ترويض صوته. ويروي إنه كان ينقطع شهورا طويلة ونصف رأسه محلوق لئلا(24/45)
يحاول الخروج ويلقي خطبا وفي فمه حصا وهو على شاطىء البحر ليمرن نفسه على التغلب بصوته على جلبة الناس ولمل رجع إلى المنبر كان قد اخضع صوته لاراته وإذا كان يحافظ كل المحافظة على أعداد جميع خطبه قبل القائها غدا أرقى خطيب وأعظم مفوه في بلاد اليونان. وكان الحزب الذي يرجع إليه أمر أثينة على ذاك العهد بزعامة فوسيون يطمح في السلم اذ لم يكن لأثينة جند كاف ولا مال وافر يقاف ملك مكدونية عند حده فكان فوسيون يقول سأشير عليكم بالحرب متى صرتم بحيث تستطيعون القيام باعبائها. وكان ديموستين على العكس يحتقر فليب ويراه كانه من المتوحشين فتطوع في خدمة الحزب الذي يطلب محاربته واستخدم مافيه من فصاحة لاخراج الأثينين من سياسة المسالمة ولم يدخر وسعا مدة خمس عشر سنة في تحريضهم على ذلك. وانك لتجد مضوع كثير خطب ديموستين الحملة على الملك فيليب وكأن يسميهاالفلبية. قال في خطابه الأول سنة352: متى تقومون ايها الأثينيون بواجباتكم؟ اتريدون أن تسرحوا وتمرحوا في الساحات وبعضكم يسأل بعضا بقوله: ماوراءك من الأخبار؟ اما أنا فأقول لكم ليس من جديد إلا أننا نشاهد مكدونية يتغلب على أثينة ويستولي على ارض يونان؟ أقول لكم إنه من الواجب تسليح خمسين سفينة وأن تعقدوا العزم إن تركبوها بالذات عند مسيس الحاجة. جنبوا مسمعي جيش مؤلف من عشرة او عشرين الفا من الأجانب ولا حقيقه له الا على الورق فإني لا اريد الاجنود من الوطن متطوعين في خدمته. وقال ديموستين في الفيليبيات الثالثة سنة341 يذكر الأثينيين بما حازه فيليب من الظفر عليهم لغفلتهم وقلة حركتهم {كان اليونان قديما عندما يسيئون استعمال سلطتهم ليظلمواغيرهم تقوم بلادهم كلها على ساق وقدم لمنع هذا الظلم ونحن اليوم نقاسي مانقاسي من مكدوني حقير متوحش من أصل ملعون فيخرب المدن اليونانية ويحتفل بالالعاب البيتية او يأمرخدمه بالاحتفال بها وهذا ماينظر إليه اليوناني بدون أن يأتي أمراكما ينظر إلى البرد يتساقط وهو يضرع بأن لايصيبه. والسلطة تعظم بدون أن يخطو احد خطوة لايقافها. وكل ينظر من عهد إليه في تمزيق شمل غيره كما لو كان يعد ذلك ربحافي وقته بدلا من أن يفكر ويعمل لسلامة اليونان عندما يعرف الناس المصيبة ستنال البعيدين}. ولما استولى فيليب على الاتيه في مدخل بيوسيا (339) ازمع الأثينيون بما نصح به ديموستين أن يشهروا الحرب ويبعثوا بوفود إلى ثيبة وذهب(24/46)
ديموستين زعيما للوفد ولقي في ثيبة وفدا جاءه من قبل فيليب فتردد الثيبيون واردهم ديموستين على أن يتناسوا جميع احقادهم القديمةوأن لايفكروا في غير سلامة الوطن اليوناني وفي الدفاع عن الشرف والحرية فعزموا بمساعيه أن يعقدوا محالفة مع أثينة وأن يظلوا على المقاومة والحرب. وبعد سنة (338) نشبت الحرب في شيرونيه من أعمال بيوسيا وكان عمر ديموستين إذ ذاك ثمانيا وأربعين سنة فخدم في الجيش جنديابسيطا وإذ كان جيش الأثينين والثيبيين قد دعي إلى حمل السلاح بسرعة لم يعادل جند فيليب المدربين ولذلك كأنت الهزيمة الأول.
الاستيلاء المكدوني_واذ ظفر فيليب أقام حامية في ثيبة وصالح أثينة ثم دخل إلى ارض المورة فاستقبله أهلها كانه المحسن إلى الشعوب التي اضطهدها اسبارطة ومن ذاك العهد لم يصادف أقل مقاومة فجاء إلى كورنت (337) وجمع فيها مندوبي جميع المدن اليونانية (ماخلا الاسبارطيين فإنهم لم يبعثوا بمندوبين قط) وعرض عليهم مشروعه وهو أن يتوبى زعامة جيش يوناني لغزو فارس فاستحسن المندوبون رأيه وعقد محالفة عامة بين المدن اليونانية كافة وذلك على أن تحكم كل مدينة نفسها بنفسها وتعيش بسلام مع غيرها وأنشىء مجلس لتلك الوحدة لمنع الحروب والفتن الأهلية والقتل والمصادرة وهذه الوحدة كان من شأنها الاتحاد مع الملك مكدونيا والاقرار له بالزعامة على جميع الجنود والسفن اليونانية وحظر على كل يوناني أن يحارب فيليب وإذا فعل تضرب عنقه دون محاكمة.
الأسكندر - خنق فيليب ملك مكدونية سنة 334 وكان ابنه الأسكندر إذ ذاك ابن عشرين سنة وكان مثل جميع اليونان من أبناء البيوت الشريفة ماهرا في الالعاب الرياضية شديد القوى في الكفاح يحسن ركوب الصافنات الجياد (وهو الذي وحده استطاع أن يكبح جماح حصانه بوسيفال في الحرب) وكان زيادة على ذلك عارفا بالسياسة حسن البيان يعلم التاريخ الطبيعي وكان أستاذه من سن الثالة عشرة الفيلسوف أرسطو أعظم عالم في اليونأن فكان يتلو الالياذة بشوق ويدعوها دليل فن الحرب ويريد أن يتشبه بالأبطال الذين ورد ذكرهم فيها. فكان خلق ليكون فاتحا لأنه مغرم بالقتال مولعبحب الشهرة وكان ابوه يقول له (ان مكدونية ضيقة النطاق فلاتسعك)
الجحافل المكدونية - ترك فيليب لابنه الأسكندر اداة من ادوات الفتح ونعني بها الجيش(24/47)
المكدوني وهو أحسن جيش عهد في بلاد اليونان يؤلف جيش المشاة وجيش الفرسأن فكان الجحفل المكدوني مؤلفا من16 الفا من الرجال مصفوفين ألوفا ألوفاستة عشر صفاويحمل كل واحد منهم رمحا طوله ستة امتار وكان المكدونيون في ساحة الغي بدلا من أن يسيروا إلى العدو كلهم من جهة واحدة يقفون لاحراك بهم ويضربون برماحهم العدو منكل صوب وكان جنود المؤخرة يرفعون رماحهم من فوق رؤوس الصفوف الأولى بحيث كان ذاك الجيش يشبه حيوانا عظيما وقد انتصب وعليه الحديد والعدو يدأهمه فبتحطم. وكنت ترى الأسكندر بينما كان الجيش في ساحة الحرب يوقع بالعدو وهو في مقدمة فرسانه وكانت هذه الكتيبة من الفرسان مؤلفة من خيار الفتيان الإشراف.
فتح آسيا - سافر الأسكندر في ربيع سنة 334 في ثلاثين الف رجل (معظمهم من المكدونيين) وفي 4500 فارس لايحمل معه غير 70 تالونا من المال (أقل من أربعمائة فرنك) وذخيرة تكفي هذا الجيش الضخم أربعين يوما. ولم يكن عليه أن يقاتل ذاك الغوغاء من الشعوب التي لاسلاح لها وقد سخرها كنجسر الفارسي لأمره فقط بل كان أمامه خمسون الفا من اليونأن المجندين في خدمة الخاقان الأعظم تحت قيادة حاذق يدعىممنون الرودسي فقد كان في مكنة هؤلاء اليونان أن يصدوا المكدونيين عن العبور ولكن صادف أن مات ممنون وتشتت جيشه شذر مذر فتخلص الأسكندر من خصمه الوحيد العنيد وفتح المملكة الفارسية في سنتين. وذلك بعد أن ظفر في ثلاث مواقع فبدد في آسيا الصغرى الجيوش الفارسية الرابطة وراء نهر غرانيك (في مايو333) وهزم الأسكندر دار يوس ملط فارس وجيشه الذي يقال إنه كان مؤلفا من ستين الفا من مضايق سيليسيا في ايسوس (نوفمبر 332) وشتت في اربل بالقرب من دجلة جيشا أكثر عددا (331).
فكانت هذه الغلبات مثالا من الحروب المادية فالجيش الفارسي لاسلاح له ولايحسن الرماية وهو مشوش بنفسه في اخلاط من الجنود والاجراء والاثقال وكأنت الجنود المختارة وحدها التي تقاتل والباقي يشتت ويقتل ولم يكن الفتح في غضون الحرب الانزهة يكتب فيها الظفر وهذا الفاتح لايجد أمامه مقاوما وماذا يهم شعوب المملكة أن يخضعوا لداريوس او للأسكندر كان يفتح بها مملكة برأسها فموقعة الغرانيك استولى قيها على آسيا الصغرى ومعركة ايسوس افتتح فيها سورية ومصر ومعركة اربل بقية البلاد.(24/48)
ولما صار الأسكندر الحاكم المتحكم في المملكة الفارسية اعتبر نفسه وارثا للخاقأن الأعظم صاحب فارس فلبس اللباس الفارسي واستعمل عادات البلاط الفارسي في الاحتفالات الرسمية واكره قواده أن يركعوا أمامه على السنة الفارسية وتزوج من بنات الفرس وزوج ثمانين من ضباطه من ثمانين من بنات إشرافهم وأراد أن يوسع مملكته إلى أقصى الحدود كما فعل الملوك القدماء وتقدم فاتحا نحو الهند وهو يقاتل القبائل المحاربة ولما عاد في جيشه إلى بابل (324) هلك بالحمى في بضعة أيام في الثالثةوالثلاثين من عمره (321)
مقصدالأسكندر - من المتعذر جدا أن نعرف ما كان يقصد الأسكندر. هل كان يفتح حبا بالفتح؟ او إنه كان له مقصد آخر؟ وهل كان يريد أن يجعل جميع تلك الشعوب شعبا واحدا ومملكة واحدة؟ هل اتخذ المناجي الفارسية ليكون مثالا لغيره؟ او أنه قلد الخاقان الأعظم صلفاوإعجابا؟ اننا لن نقف على نياته إلا أن أعماله كانت لها نتائج عظيمة وقد اسس سبعين مدينة وعدة مدائن في مصركالأسكندرية وفي بلاد التتر حتى بلاد الهند ووزع على رعاياه الكنوز التي وجدها في خزائن الخاقان الأعظم وكانت مطروحة فيها لاينتفع بها وأخذ معه علماء يونانيين لدرس نبات آسيا وحيوانتها وجغرافيتها وهيأالملكات في الشوب الآسيوية إلى تعلم لغة اليونان والتخلق بأخلاقها ولذلك أطلق على الأسكندر لقب الكبير
تأسيس الممالك اليونانية
الأسكندرية - المتحف - ممالك آسيا - التمدن اليوناني في الشرق
خراب مملكة الأسكندرية - جمع الأسكندر تحت علم واحد جميع بلاد العالم القديم من بحر الادرياتيك إلى نهر الاندوس ومن مصر إلى القأفقاس. ولم يدم الملك العظيم الابدوامة فلما هلك اختلف قواده فيمن يولى الملك بعده وحارب بعضهم بعضا مدة عشرين سنة واتخذوا بادىء بدء حجة لحروبهم بانهم يتقاتلون لمعاضدة احد أسرة الأسكندر كاخيه وابنه واخوته وإحدى زوجاته ثم تقاتلوا علنا بأسمائهم وتوطيدا لدعائم الملك لسلطانهم فكان لكل واحد منهم جزء من الجيش المكدوني او جنود يونان مأجورون فكان اليونانيون يتقاتلون فيمن يستأثر بآسيا ويحكم عليها والناس ينظرون إليهم غير محتفلين بما يأتون كما كان لو كان اليونان يقاتلون الفرس أعداءهم. ولما وضعت الحرب اوزارها لو يبق الا ثلاثة قواد وقد هيأ له كل منهم مملكة واسعة مما خلفه الأسكندر فحكم بطليموس مصر وسلوقس سورية(24/49)
وليزيماك مكدونية وكانت انفصلت بعض الممالك الصغرى او أخذت بالانفصال عنها مثل أبير أوروبا ومثل بون وبيتيني وغالاسيا وكابادوس وبرغام في آسيا ومثل مقاطعتي باكتريان وبارسيا من بلاد الفرس وبذلك تم تقسيم مملكة الأسكندر.
التمدن اليوناني في الشرق - كان الملك من أبناء اليونان ويعيش عيش اليونان ويحافظ على لغته ودينه وعاداته. من الآسياوين أي من البرابرة وهو يحاول أن يجعل له حاشية من جنسه ويجند جنوده من أبناء يونان بالاجرة ويتخذ موظفين يونأن لادازة البلاد ويجلب إلى عاصمته شعراء وعلماء وأرباب فنون من اليونان. وكان في البلاد على عهد ملوك الفرس كثير من اليونانوالطوأرىء والتجار ولاسيما من الاجناد فأكثر ملوك اليونان من جلبهم وانتشروا في جميع أطراف آسيا وكثر سوادهم حتى انتهت الحال بالوطنين أن يلبسوا اللباس اليوناني وينتحلوا الديانة اليونانية والأخلاق اليونانية واللغة اليونانية ولم يعد الشرق آسياويابل أصبح يونانيا حتى أن الرومانيين لم يجدوا في آسيا في القرن الأول شعوبا يشبهون اليونانية باسرهم
الأسكندرية - لقب ملوك اليونان من مصر وهم خلفاء بطليموس بلقب الفراعنة على نحو ما كان يلقب ملوكها الاقدمون ولبسوا التاج ودعوا الناس إلى عبادتهم باسم أبناء الشمس ولكنهم كانوا محاطين باليونانية وأقاموا عاصمتهم على شاطىء البحر في مدينة يونانية وهي الأسكندرية. تلك المدينة الجديدة التي أنشئت بأمر الأسكندر. بنيت الأسكندرية على سطح مستو فكانت ذات نظام أكثر من غيرها من المدن اليونانية وكأنت الشوارع تنقسم إلى زاوية قائمة ويشقها من وسطها شارع وعرضه ثلاثون مترا وطوله ستة كيلو مترات وعلى جانبيها ابنية عظيمة مثل بناء الستاد حيث كانت تقام الالعاب العامة والجمناز والمتحف والارسينوم. وكان المرفأ مؤلفا من سد طوله الف وثلثمائة متر يصل بين اليابسة وجزيرة فاروس وفي طرف هذه الجزيرة أقيم برج من الرخام جعل في قمته مكان بنبعث منه ضوء على الدوام لتسير به السفن التي تريد دخول المرفأ ومن هناك جاء اسم المنارة. فقامت الأسكندرية مقام المدن الفينيقية وغدت المينا العظمى للتجارة في العالم باسره.
المتحف - كان المتحف بناء عظيما من الرخام متصلا بقصر الملك وقد أراد ملوك مصر أن يجعلوه معهدا علميا عظيما. وفيه مكتبة عظيمة وكان القوام عليها أن ببتاع جميع(24/50)
مايتسنى له الظفر به من الكتب فكل كتاب يدخل مصر يحمل إلى المكتبة والنساخ وينقلون المخطوطات ويرجعون نسخة لصاحبها مع التعويض عليه واتصلت الحال بان جمع على هذا النحو عددمن الجلدات لم يسمع بمثله (وهو أربعمائة الف مجلد كما قيل) وكأنت الكتب المخطوطة لكبار المؤلفين إلى ذاك العهد مبعثرة مشتتة وعرضة لخطر الضياع فأصبحت يعرف لها مقر يرجع إليه.
وكان في المتحف ايضا حديقة للنبات والحيوان ومرصد فلكي وقاعة للتشريح اقيمت علىالرغم من اوهام المصريين كما أقيم معمل كيماوي (كان الملك بطليموس فيلادلف يخشى كثيراًمن الموت فقضى بضع سنين في البحث عن اكسير لأطالة الحياة) وكان في المتحف العسكري مساكن للعلماء والرياضين والفلكيين والأطباء ويقدم لهم غذاؤهم على نفقة الحكومة وكثيراً ما كان الملك يتناول الطعام معهم دليلا على احترامه لهم وكانوا يقضون اوقاتهم في المحاورة والمطالعة ويجيء الناس من جميع بلاد اليونأن ليستمعوا لما يلقون وكان الشبان يبعث بهم اباؤهم إلى الأسكندرية ليتعلموا. ويقال إنه كان فيها نحو 14الفا من الطلاب. ومن ثم كان المتحف مكتبة ومجمعا علميا ومدرسة في آن واحد فهو أشبه بمدرسة جامعة وهذا الوضع الذي هو عام بيننا مألوف كان على ذاك العهد من الاوضاع الجديدة التي لم يسبق لها نظير. ولقد أصبحت الأسكندرية بفضل متحفها مقصد جميع المشارقة من يونان ومصريين وأسرائليين وسوريين يحمل كل منهم دينه وفلسفته وعمله ويختلط بعضهم ببعض فغدت الأسكندرية إذ ذاك وظلت قرونا كثيرة عاصمة العلم والفلسفة في العالم.
برغامة - كانت برغامة في آسيا الوسطى من ممالك الصغرى ولم تعد لها سطوة بيدان عاصمتها برغامة كانت كالأسكندرية مدينة أرباب الصنائع والأدب وانشأ نقاشو برغامة في القرن الثالث قبل الميلاد مدرسة مشهورة. وقد ملكت برغامة كما ملكت الأسكندرية مكتبة كبرى جمع إليها الملك اتال الكتب المخطوطة لقدماء المؤلفين وفي برغامة اخترعت الكتابة على الجلود لاستعاضة عن ورق البردي وكان هذا الورق الجديد ورق برغامة هو الورق الذي حفظت به المخطوطات القديمة
الحروب الأخيرة في يونان(24/51)
العصابات - الفتح
الحروب الأهلية - كانت بأيدي بضع أسرات غنية من اليونانيين في جميع المدن اليونانية على التقريب جميع الأعمال والمعامل الصناعية والسفن التجارية وعامة مصادر الربح وموارد العيش اما سائر الاسرات أي السواد الأعظم فلم يكن لهم ارض ولامال وماذا كان الوطني الفقير بعمله ليكسب رزقه؟ لم يكن له إلا أن يؤجر نفسه زراعا او عاملا او ملاحا. بيد أن عبيد أرباب الثروة في مصانعهم ومعاملهم وسفنهم وكانوا يقومون بهذه الأعمال ولايكلفون للانفاق عليهم غير شيء زهيد بالنسبة للنفقات التي كان على السادة أن ينفقوها إذا استخدموا الاحرار في أعمالهم لأنهم كانوا يطعمون عبيدهم طعاما غليظا ولا يؤدون إليهم أجورا. ثم إنه من الصعب على الفقير أن يعمل لحسابه لندرة الدراهم ولم تكن الفائدة من عشرة في المئة وهيهات أن يقرضه إنسان مايعوزه. على أن العادة لم تكن تسمح للوطني أن يتعاطى الصنائع لأن الفلاسفة كانوا يقولون بانها تفسد الجسم وتضعف النفس ولاتترك في وقت صاحبها متسعا للنظر في الشؤون العامة ولذلك قال أرسطو أن المدينة الحسنة النظام لايجب عليها أن تعد الصانع فيها وطنيا. فكانت من الوطنيين في يونان طبقة شريفة ترى كما يرى الإشراف في فرنسا قديما أن لها الحق أن تحكم وتحارب وفي ذلك شرفها اما تعاطيها الأعمال بايديها فيعد تنازلا واتضاعا ومن اجل هذا حالف البؤس معظم الوطنيين بما كانوا عرضة له من منافسة العبيد في أعمال الحياة وما وقر في نفوسهم من شروط الشرف والنباهة فحكم الفقراء المدن ولم تكن أسباب عيشهم متوفرة وخطر لهم أن يسلبوا الأغنياء فألف هؤلاء شركات منهم لمقاومة أولئك وعند ذلك انقسمت كل مملكة يونانية إلى قسمين الأغنياء ويدعون (الأقلية) والفقراء ويدعون (الأكثرية) أو الشعب. وبدأ الأغنياء والفقراء يتباغضون ويتقاتلون فإذا صار الحكم للأغنياء يطردون الأغنياء ويصادرون أموالهم وربما اتخذوا واسطتين بالغتين في التطرف وهما الغاء الديون وتقسيم الاراضي من جديد. فإذا عادت السلطة للأغنياء يطردون الفقراءوكانوا يتعاهدون بينهم في كثير من المدن قائلين (اقسم باني اظل ابدا معاديا للشعب واؤذيه مااستطعت) ولم ثمت من سبيل إلى التوفيق بين الفريقين فلا الأغنياء يستطيعون أن يستسلموا للتخلي عن ثروتهم ولا الفقراء يرضون أن يموتوا جوعا. قال أرسطو (أن الثورات تنشأ من سبب تقسيم(24/52)
الثروات) ويقول بوليب (ان حرب أهلية تنشب فهي لنقل الثروات من يد إلى أخرى)
ومن ثم كان الفريقان يقتتلان أشد قتال على نحو مايحدث ابدا بين الجيرأن فتغلب الفقراء بادىء بدء في ميلت واكرهوا الأغنياء على الهرب من المدينة ثم اسفوا لأنهم لم يذبحوهم فأخذوا أولادهم وجمعوهم في الانأبير تحت ارجل البقر ودخل الأغنياء المدينة فأصبحوا أصحابها الحاكمين فيها وأخذوا هم ايضا أبناء الفقراء وزفتوهم (دهنوهم بالزفت) واحرقوهم احياء.
الحكم الجمهوري والحكم الأفرادي - كان لكل من الأغنياء والفقراء شكل خاص في الأحكام يجرونها في المدينة عندما يقوى أحد الفريقين. فكانت حكومة الأغنياء من نوع الحكم الأفرادي (أوليكارشي) تعهد بالأحكام إلى بعض أفرادها اما حكم الفقراء فكان حكمهم ديمقراطيا يكلون حكمهم إلى مجلس الأمة وكل واحد من الفريقين يتفق مع الفريق المماثل في المدن الأخرى وبذلك تألفت عصابتان تقاسمتا بينهما جميع المدن اليونانية: عصابة الأغنياء أو الحكم الأفرادي وعصابة الفقراء أو الحكم الجمهوري. وبدأت هذه الطريقة في الحكم خلال حرب المورة فكانت أثينة تعضد الحزب الديمقراطي واسبارطةتماليء الحكم الأفرادي فاتحدت المدينة التي فيها للفقراء سلطة مع أثينة كما اتحدت المدن التي تسلط عليها الأغنياء مع اسبارطة. ولقد قامت الحروب الأهلية بين الأغنياء والفقراء ثلاثة قرون (من 430إلى 150) ذبح في خلالها كثير من أبناء البلاد وطرد منهم عدد أكثر من ذلك فأخذوا يهيمون في أطراف الأرض على وجوههم لأمورد لهم يعيشون منه ولا يعرفون الاصناعة واحدة وهي الجندية فينخرطون متطوعين في الجيش الاسبارطي والأثيني وفي جيش الخاقان الأعظم والجيش الفارسي بل وفي كل جيش يدفع إليهم أجورهم فكان من أبناء يونان خمسون الفا في خدمة عندما قاتل الأسكندر وهم لايكادون يعدون إلى بلادهم متى خرجوا منها.
العصابات - ضعف الشعوب التي حكمت بلاد اليونان واسبارطة وأثينة وثيبة ولم يبق في القرن الثالث من أهل الشدة والبأس غير سكان غرب البلاد فالايتوليون يسكنون الجبال في شمالي خليج كورنت والآسيون النازلون في شاطىء المورة في جنوبي هذا الخليج وقد نظموا أحوالهم عصابات لامدنا فاحتفظت كل مدينة بحكومتها وكان لها كلها مجلس للعصابة(24/53)
يقرر فيه الحرب والعهود ويفرض الجند الذي تقدمه وينتخب القائد الذي يقضى عليه أن يقود جيش العصابة.
فإنقسمت المدن اليونانية بين هاتين العصابتين المتعاديتين. من العادة أن تعضد العصابة الايتولية الحرب الديمقراطية والعصابة الآشية الحزب الاليكارشي. وقد رأس العصابة الآشية ضأبطأن شهيران إحداهما ارتوس في القرن الثالث وهو الذي طاف بلاد اليونان سبعاوعشرين سنة (251 - 224) طاردا الظالمين من جيع المدن أخذا بيد الأغنياء معيدا إليهم أموالهم ومقلدهم حكم للبلاد والقائد الثاني فيلوميان قام في القرن الثاني وقاتل الظالمين في اسبارطة فقتله السينيون.
احلاف الرومانيين - لم يكن احد من تينك العصابتين من القوة بحيث يجمع جميع المدن اليونانية وعندئذ ظهر الرومأن فحاربهم من ملوك اليونأن فيليب ملك مكدونية (192) ثم ملك سورية انطيوخس (193 - 169) فنكست اعلامهم كليهما ودمرت رومية جيوشهما واستولت على اساطيلها وقاتلت (برسي) ملك مكدونية الجديد وأسرته وخربت مملكته (167).
ولم يحاول اليونان قط أن يجتمعوا للدفاع عن انفسهم وظل فقراؤهم واغنياؤهم يقتتلون وكل حزب يمقت الحزب المعادي له أكثر من بغضه الغريب وتحالف الحزب الديمقراطي مع ملك مكدونية ودعا الحزب الأوليكارشي للرمانيين. وبينما الثيبيون من الديمقراطيين يقاتلون في جيش فيليب كان مواطنهم من الأوليكارشيين يفتحون أبواب المدينة للقائد الروماني وقد حكم بالإعدام في رودس على كل من قاموا او تكلموا بما يخالف رضى رومية وكتب كاليكرات احد اشياع الرومانيين من الآشيين قائمة بالف وطني اتهمهم بانهم كانوا يميلون للبرس فارسلوا إلى رومية وأمسكوا فيها عشرين سنة بدون أن يحاكموا.
الفتح - لم يظهر الرومانيون أولا في مظهر الأعداء وقد ذهب القنصل فلامانيوس سنة197 بعد أن غلب ملك مكدونية إلى برزخ كورنت واعلن أمام اليونأن المجتمعين للالعاب البرزخية بان جميع الشعوب اليونانية حرة فطرب الجمهور لقوله واقتربوا منه ليشكروه يريدون أن يسلموا عليه وهو محررهم وأن يروا صورته ويلمسوا يده ويلقوا عليه اكاليل النصر وباقات الزهور فازدحم الناس عليه حتى كاد يختنق. ولم يلبث الرومانيون(24/54)
أن أصبحوا سادة فحدثتهم انفسهم بان يقودوا البلاد فاطاعهم الأغنياء عن رضى لان رومية كانت لهم واسطة للخلاص من حزب الفقراء ودامت هذه الحال أربعين سنة. ولما شغلت رومية بقرطجنة سنة 147 للحزب الديمقراطي حياته في بلاد اليونان فاعلن الحرب على الرمانيين فذعر لذلك فريق من اليونانيين وتقدم كثيرون إلى الجند الروماني ووشوا إليهم بمواطنهم بل وشوا بانفسهم وبعضهم فروا إلى اقاصي المدن وآخرون القوا بانفسهم في الآبار أو الهوات وصادر زعماء المقاومين أموال الأغنياء والغوا الديون واعطوا سلاحا للعبيد وكان الجهاد شديدا واذ غلب الآشيون للمرة الأولى عادوا فحشدوا جيشاوساروا إلى القتال مستصحبين نساءهم وأولادهم وحبس القائد دبوس نفسه وجميع عياله في بيته والقى فيه النار. وكانت كورنت مركز المقاومة فدخلها الرومانيون وذبحوا الرجال وباعوا النساء والأولاد (146) ونهبت المدينة وحرقت وكانت مملوءة بالنفائس وكنت ترى صور كبار المصورين مطروحة في الغبار والجند الروماني مستلقيا فوقها يلعب بالنرد.(24/55)
صحف منسية
وصف الهرمين
قال القاضي الفاضل: الهرمان قداقد الأرض (؟) وكل شيء يخشى عليه من الدهر الا الهرمأن فإنه يخشى على الدهر منهما (وللمتنبي)
اين الذي الهرمان من بنيانه ... من قومه مايومه مايومه ما المصرع
تتخلف الأثار عن أصحابها ... حينا ويدكها الفناء فتتبع
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز
بعيشك هل ابصرت أحسن منظرا ... على مارأت عيناك من هرمي مصر
انافا عنانا للسماء وأشرفا ... على نحو إشراف السماك أو النسر
وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كانهما نهدان قاما على صدر
وقال الفقيه عمارة اليمني
خليلي ماتحت السماء بنية ... تماثل في اتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه وكل ما ... على ظاهر الدنيا يخاف الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري
وقال اخر
انظر إلى الهرمين اذ برزا ... للعين في علو وفي صعد
وكانما الأرض العريضة اذ ... ظمئت لفرط الجزر والمد
حسرت عن الثديين بارزة ... تدعوالاله لفرقة الولد
فأجابها بالنيل يشبعها ... ريا ويشفيها من الكمد
وقال ظافر الحداد
تأمل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب
كعمار يبتن على رحيل ... بمحبوبين بينهما رقيب
ودونهما المقطم وهو يحكي ... ركاب الركب ابلغها الركوب
وظاهر سجن يوسف مثل صب ... تخلف وهو محزون كئيب
وقال ابن الساعاتي(24/56)
ومن العجائب والعجائب جمة ... دقت عن الإكثار والاسهاب
هرمان قد هرم الزمان وأدبرت ... أيامه ويزيد حسن شباب
لله أي بنية ازلية ... تبغي السماء بأطول الأسباب
وكانما وقفت وقوف تبلد ... اسفاعلى الأيام والاحقاب
كتمت عن الاسماع فضل جهادها ... وغدت تشير إليه بالالباب
وقال سيف الدين بن جبارة
لله أي غريبة وعجيبة ... في صنعة الاهرام للالباب
اخفت عن الاسماع قصة أهلها ... ونضت عن الابداع كل نقاب
فكانما هي كالخيام مقامة ... من غيرما عمد ولا اطناب
وقال بعضهم واجاد
تبين أن صدر الأرض مصر ... ونهداها من الهرمين شاهد
فوعجبا وقد ولدت كثيراً ... على هرم وذاك النهدناهد
ولما عدى القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى الاهرام كتب الأمير الجأولي الدوادار وذلك في سنة تسع وعشرين وسبعمائة قال
لي البشارة أن امسيت جاركم ... في ارض مصر باني غير مهتضم
حفظتموا لي شبأبي في ظلالكم ... مع انكم قد وصلتم بي إلى الهرم(24/57)
مطبوعات ومحفوظات
بهجة الصيانة في عجائب مصر والكنانة
هذا الكتاب من جملة مخطوطات خزانة الكلية الأمركية في بيروت لمؤلفه احمد محمد القزوبني أوله: الحمد الله الذي خلق الإنسان من صلصال من حماء مسنون وفضا بعضهم على بعض فهم بذلك يتفاوتون. (فجعل منهم الخادم والمخدوم والحاكم والمحكوم وخص بالنبوة والخلافة بعض أولاده وخص بالسلطنة والعبودية منهم على مراده)
ذكر فيه المؤلف المواضع التي وقع بها ذكر مصر في القرآن والاحاديث المنقولة فيها ثم ذكر جغرافيتها وبلادها وأول من نزل فيها ومن ملكها ودخلها من الأنبياء والعلماء وذكر عجائبها وأثارها ومن دخلها من الصحابة والتابعين وحكمها من الملوك والسلاطين إلى زمن الملك الأشرف قابتباي في النصف الأخير من القرن التاسع. والكتاب كله موجز العبارة تسهل قراءته كتب سنة 1085 هـ ولايخلو من خرفات وموضوعات كما أنه لايخلو من حقائق حربة النشر. وقد رأينا علماء المشرقيات ينشرون الكتاب من اجل مسألة او بعض مسائل فمن لنا من أرباب مطابعنا من يطبع لنا كتابا من مثل هذا له علاقة كبرى بتاريخ بلادنا وقد نقلنا عنه ماجاء فيه في وصف الهرمين في باب الصحف المنسية.
المستصفى
يكفي في شرف علم أصول الفقه ماقاله الغزالي مؤلف هذا الكتاب من أن (أشرف العلوم ماازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لايتلقاه الشرع بالقبول ولاهو مبني على محض التقليد الذي لايشهد له العقل بالتأييد والتسيد) وقد ذكر لنا احد كبارالعلماء أن أهم الكتب التي ألفت في هذا الفن على طريقة المتكلمين أربعة كتب كتاب البرهأن لأمام الحرمين والمستفي للغزالي وهما من أهل السنة وكتاب العمد للقاضي عبد الجبار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة وما بقي فهو متفرع عن الأربعة وهي قواعد هذا اافن واركانه. وقد أصبحت أكثر هذه الأربعة كالمفقود أن لم تكن مفقودة وتدارك احد اركانها وهو الركن الأهم فيما يبدو لنا كتاب المسصتفى لحجة الإسلام الغزالي الذي هو من آخر مؤلفاته واجودها وكلها جيد السيخ فرج(24/58)
الله زكي الكردي وطبع معه كتابا آخر يسمى فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت للشيخ محب الله بن عبد الشكور. وكان بودنا لو طبع مع هذا الكتاب كتابا يناسبه مثل المنخول للأمام المشار إليه او لو طبعه مجردا على عادة أرباب المطابع الراقية. وقد طبع في المطبعة الأميرية طبعا جيدا مما يوجب الشكر للطابع وحبذا لو اتبعه بامثاله من أمهات الكتب النافعة في الفنون المختلفة خصوصا مايخشى فقده منها والكتاب في مجلدين وقعا في نحو ثمانمائة صفحة من قطع الربع وثمنه45 قرشا أميريا من الورق الجيد و35 قرشا من الورق العادي.
الفوائد السمية
في شرح النظم السمى بالفرائد السنية في فروع الفقه على مذهب الأمام أبي حنيفة الشيخ محمد الكواكبي المتوفي سنة 1096ويليه منظومة الفرائض للشيخ عبد الله الحنبلي وبهامشة إرشاد الطالب إلى منظومة الكواكب في علم الأصول للكواكبي ايضا طبع الجزء الأول منه بالمطبعة الأميرية الشيخ فرج الله زكي وهذا الجزء في 376 صفحة ويطلب من طابعه ب35 قرشا من جيد الورق من عاديه وسينجز الجزء الثاني قريبا.
تقريب المرام
تهذيب الكلام كتاب مشهور لسعد الدين التفتازاني وهو من اخصر مألف في هذا الفن واجمعه ولما كان يحتاج إلى شرح يبن مقاصده ويشيد قواعده تصدى لذلك الشيخ عبد القادر السنندجي من علماء الاكراد وطبعه الشيخ فرج الله زكي ويطلب منه وثمنه 12 قرشا.
رسائل وكتب منوعة
كتاب العقد الثمين في بيان مسائل الدين تأليف الشيخ علي السويدي من أهل القرن الثالث عشر للهجرة طبع طبعا متقنا بمطبعة مصطفى أفندي وعيسى أفندي وبكري أفندي البأبي الحلبي وهو في 223 صفحة ويباع في مكتبهم بستة قروش ونصف مجلد ا. ويطلب منها ايضا كتاب كشف الظلمة لحسين أفندي قلي الداغستاني وهو بثلاثة قروش. والرحلة الشنقيطية لفقيد الرواية واللغة الشيخ محمد محمود الشنقيطي تباع بمكتبتهم بثلاثة قروش.
واهدينا الكتاب المفيد الكافي للتعليم الجغرافي تأليف محمود أفندي عابدين في مائة صفحة صغيرة.(24/59)
ورسالة في التنويم المغناطيسي لمحمد أفندي مختار البأجوري وثمنها قرشان. ومنظومة في الإنسان والسلم والحرب لناظمها الشيخ سليمان ظاهر.
ونبذة من شعر الشيخ عبد السلام الشطي نشرها حفيده جميل أفندي.
والتقرير الرابع عن أعمال مشيخة علماء الأسكندرية سنة 1324 وفيه أن عدد الطلاب إلى نهاية العام الماضي 576 والذين استمروا على الدراسة منهم 324 وتقدم للمشيخة هذا العام 485 استمر منهم على الطلب 293 وفي التقرير فوائد كثيرة تدل على سلوك هذا المعهد العلمي سبيل النجاح.(24/60)
سير العلم
العلم في مصر
مما يسجل بالحمد ويدعو إلى توسيع الأمال في مستقبل مصران نظارة معارفها وفرت العناية هذه السنة بالتعليم باللغة العربية في المدارس الأميرية وارسلت ثمانية عشر تلميذا من نبهاء المصريين إلى بعض مدارس إنكلترا يتعلمون فيها كما كأنت العادة جارية منذ زمن محمد علي إلى عهد قريب بإرسال طائفة من التلاميذ الأذكياء إلى مدارس الغرب ليعودوا منها فينفعوا بلادهم بفضل علمهم وقد انشأت المعارف بقوة أرادة ناظرها تتوسع بالتعليم المجاني وانشأت مدرسة القضاء الشرعي وشرع في التدريس فيها منذ أول السنة المدرسية والرجاء أن يأتي من هذه المدرسة من المنافع مثل ماأتى من مدرسة دار العلوم ومدرسة الألسن. ومما يدعو إلى الرجاء في اعتماد الأهلين على أنفسهم لتعليم أولادهم أنه زادت العناية بإنشاء الكتاتيب الأهلية في ارجاء القطر ولاسيما في مديرية الدقهلية حيث بلغ عددها ازهاء ثلثمائة كتاب صرف على بنائها نحو مائة وخمسين الف جنيه ووقف عليها من الاطيان والعقارت مايبلغ إيراده السنوي ثلاثة آلاف جنيه والقطر في أشد الحاجة إلى الاستكثار من امثال هذه الكتاتيب المنظمة المتقنة ولو كأنت البلاد مستعدة لإنشاء مدرسة جامعة لرأينا الأمة تقوم قومة رجل واحد للبذل في السبيل ويقال أن عدم مد الايدي بالاعانة لإنشاء مدرسة جامعة ناتج من الضائقة الماليةالتي اهتزت لها اعصاب القطر هذه السنة ولم تتجاوز الاعانة التي جمعت حتى الأن السبعة والعشرين الف جنيه ماعدا المئة فدان التي وقفها عليها احد أغنياء الغربية.
ومما ييذكر في باب ارتقاء مصر الاجتماعي قيام عدة أحزاب سياسية فيها من أهلها. وفي ذلك دليل بأن القوم بدأوا يعرفون الاجتماع وأن قوى الفرد ضائعة إذا لم تكن مجموعة كما أنشأ المتخرجون من دار العلوم ناديا في القاهرة واختاروا أناسا ومن غيرهم من الافاضل ليتولوا من الأعمال مايرقي اللغة العربية فيكون مجمعهم هذا نسخة مصغرة من المجامع العلمية في أوروبا فالرجاء أن تكون الفائدة من اجتماعهم لمجموع الأمة أكثر من نادي المدارس العليا الذي أسس في القاهرة منذ ثلاث سنين ولم بأت بفائدة عامة حتى الان. ومن هذا القبيل مجيء اسماعيل بك غصبرنسكي صاحب جريدة ترجمأن التركية في باغجة(24/61)
سراي من بلاد القريم ومن رجال النهضة التترية إلى القاهرة وخطبته في نزل كنتننتال أمام مئات من العلماء والكتاب والاعيان يدعو مسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى عقدمؤتمر إسلامي عام ينظر فيما طرأ على المسلمين من الأمراض الاجتماعية فجعلهم في مؤخرة الأمم على استعداد فيهم ومالهم من التاريخ المجيد. ومما يعد خسارة على الآداب العربية هذه السنة وفاة حسن باشا عاصم والمطران يوسف الدبس ورشيد أفندي الشرتوني والسيد محمد ابن الخوجة والشيخ طه محمود خليل أفندي الخوري ونجيب أفندي حبيقة وكانوا اخلف الله علينا من يقوم مقامهم أعضاء نافعة في جسم المجتمع خدموه جهد طاقتهم بعقولهم. أما البلاد العربية الأخرى فلم يحدث فيها هذه السنة ماهو جدير بالدوين هنا.
العلم في ألمانيا
ساعد على ارتقاء ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر أن التعليم العام فيها انتشر انتشارا لايكاد يتصوره العقل فبعد أن كان فيها سنة 1882 - 20440 مدرسة ابتدائية تحتوي على 1427045تلميذا أصبح فيها سنة 1901في المدن 4413مدرسة فيها 35733فرقةوفي القرى32332مدرسة فيها 68349 فرقة وفي مجموعها كلهازهاء5680000تلميذا وهكذا الحال في التعليم الثانوي فقد كان فيها سنة1835 - 136مدرسة عالية فغدا فيها سنة 1905 - 363 مدرسة يضاف إليها 335 مدرسة يسمونها المدارس الحقيقية المجردة وزاد عدد طلاب الكليات فكان فيها سنة1830 - 15870طالبا فصار عددهم سنة 1905 - 37677وبعد أن كانت نظارة المعارف والأديأن في بروسيا تنفق في سنة 1850عشرة ملايين مارك أصبحت تنفق سنة 1905 - 185 مليون مارك ماعدا مانشيء فيها من المدارس العالية الفنية والزراعية والتجارية ومدارس الكبار وكليات الشعب وقاعات الخطب والمحاورات المجانية والمكاتب المجانية والمتاحف وغيرها فإن ألمانيا أكثر البلاد اصداراللكتب وتجارتها عندهم رائجة إلى التي لابعدها فلم يكن في أوائل القرن الماضي عدد المصنفات الجديدة التي تصدر في ألمانيا سوى 3900 - 24792وسنة1904 - 28886 على حين لم يصدر سوى 12139 مصنفا وإذا فرضنا أنه يطبع من كل كتاب في ألمانيا الف نسخة فيصيب كل اثنين من سكانها مجلد واحد هذا على أقل تعديل وكان في ألمانيا سنة 1905 - 7152 محلا لتصريف الكتب اصدرت إلى البلاد الخارجية كتبا(24/62)
بمائتين وتسعين مليون مارك والكتب والصحف والمجلات في ألمانيا كثيرة جدا ففي أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر كان في ألمانيا 845 جريدة فارتفعت سنة 1869إلى 2127 جريدة وفي سنة 1891 صارت 7082 جريدة يزيد ماتطبعه شهرا عن شهر وبعد أن كان الاشخاص الذين يعيشون من التمثيل والموسيقى والمعارض الصناعية سنة 1882 - 46508 اشخاص أصبح سنة 1899 - 65565
استحالة الطماطم
بلغ من تفنن بوربانك مؤلف كتاب الفواكه أن اخرج من الطماطم (البندورة) عنبا واجاصا وكمثرى وتفاحا ودراقا وغيرها من الفواكه مما إذا رأيته ظننته أصليا. وكان من اجود اختراعته في ذلك الطماطم بالعنب والطماطم بالكمثرى ومنها الأصفروالأحمر ويستخدم الأصفر في المربيات لجودة رائحته وكأنت الطماطم بهذه الأنواع من الفاكهة تخرج كل نبتة منه من مئة إلى مائتين وخمسين وتعطي أرباحا عظيمة وهي تنبت من شهر يوليو إلى اكتوبر بعد أن تزرع من ابريل إلى مايو.
الاستصباح الصناعي
نشر احد مهندسي الأمريكان بحثا في هذا المعنى قال فيه أن الاستصباح بالاضواء الصناعية المتعارفة يجب أن يكون إلى الانوار الطبيعية اقرب وأن يجمع بين الفائدة والجمال وأن الطريقة المتبعة الأن في تنوير المساكن والمحال العامة في الليل سواء كان بالاضواء الكهربائية أو الغازية أو الزيتية أو غيرها ليست من الاضواء الطبيعية في شئ وينبغي أن يستعمل من مواد الإنارة مايقربها من الطبيعي لئلا تتضرر العيون ورأى أن الاجدر بالنور الصناعي أن يكون مستورا او معتدلا وبذلك يجب التخلي عن المصابيح الشائعة بالاستعمال الآن وإن اضواء المسكن يجب أن تكون متناسبة مع أثاثه وفرشه كما تكون متوأفقة مع عدد الاشخاص الساكنين فيه وهو يحاول ابدال الطريقة المستعملة في الإنارة بغيرها.
طول العمر
نصح أحد الأطباء لمن أراد أن يطول عمره مئة سنة أن يقوي حواس جسمه وانسجته برياضات يومية في الهواء الطلق وذلك باستعمال الالعاب الجسدية أو التنفسية وأن يعتدل(24/63)
في اكله وشربه ولذائذ الطبيعة وأن يهوي المساكن ويقيم ماامكن في العراء وأن يقاوم الأمراض والاستعداد لما ورثه من آبائه وأن يباكر النوم ويباكر اليقظة ولاينام أقل من ست ساعات ولاأكثر من ثماني وأن يعزز القوى العقلية بعمل منظم وأن يحتفظ بأسباب الصلاح والسرور وسكون الروح والأمل في الحياة وأن ينبه في نفسه الشعور بالواجب كل وقت من أوقات الحياة ويقوي العزيمة في مجاهدة المصائب وينشطها على فعل الخير واتقاء الصبر. قال أحد الظرفاء وعندي شرط عاشر لطول الحياء وهو أن لايشتغل المرء بالسياسة فإن الاشتغال بها يقصر الاعمار.
دواء الكلب
اخترع احد أطباء نيويورك دواء جديد للكلب. وقد زاد عدد المصأبين بهذا الداء الذي ينسب انتشاره لرداءة الأسباب الصحية التي تعيش فيها الكلاب في العادة فيحبس بعضها في الدور ويغذى باخبث المآكل. ولاحظ بعضهم أن الكلاب تعيش ستين ايسلاند وهي جزيرة واقعة بين لون ايسلاند وجون راريتأن في المحيط الاتلانتيكي اهنأ عيشة ويعنى بأمرها من وراء الغابة ومع هذا فهي تصاب بالكلب. ورد بعضهم على هذه الحجة قائلا أن الكلب ينتقل إلى تلك الكلاب المرفهة بالعدوى. ويقول الأميركيون أن الدواء الذي اخترعه باستور الفرتسوي لمعالجة الكلب يطول به الشفاء ولايهتدى لمعالجة المصاب لأول أصابته به أما الطبيب النيويوركي فإنه يفحص رأس الحيوأن لأقل شبهة تقع في النفس من ناحيته فحصا ميكوسكوبيا ليعرف بذلك فيما إذا كان فيه بعض الأجسام النيجرية نسبة للبكتريا ومتى وجدت هذه الأجسام في الكلب فهو مصاب بالكلب لامحالة وبذلك لايعتمد إلى استعمال الطريقة المتبعة الأن في كشف حال الكلب يحقن عين ارنب والانتظار خمسة عشر يوما لتحقيق إلأصابة بل أن المصاب يعرف في اليوم الذي يشتبه فيه.
دواء للصمم
منذ خمسة عشر سنة اكتشف دواء يعين بعض الشيء على الشفاء من الصمم سموه التيوزينامين ولم يثبت نفعه الافي هذه السنة بفضل محلول مائي منه اخترع حديثا ويؤكدون أن هذا الدواء يسكن بعض التسكين ولايفيد كل الفائدة.
أعظم ضوء(24/64)
هو الذي ينبعث من الكرة المعلقة في أعلى برج من المحطة الجديدة في مدينة لاكاوانا في ولاية نيوجرسي من أعمال الولايات المتحدة فقد جعل داخل هذه الكرة التي يبلغ قطرها مترين 49 مصباحا ذا اقواس يكون منها نور يعادل مليون ونصف مليون من الشموع وينير الضواحي والاقاصي.
مكتبة العميان
اغتنت مكتبة العميأن في نيويورك المؤسسة من اعانات المحسنين بقائمة جديدة من كتبهم مؤلفة من ثلاثة آلاف كتاب جعلت في جرار خاصة يكفي الأعمى أن يمر يده على احدها حتى يفهم موضوعه وهذه الكتب تساعد الاكمة كثيراً على التعلم وعدد العميأن في الولايات المتحدة نحو سبعين الفا.
نبوغ الكاتبات
قالت إحدى المجلات الفرنسوية من الصعوبة أبداً أن يبدأ المرء في عمل ويبرز فيه والبداءة بالأدب من جملة الأمور المتعذرة وقد كان شأن القصصية هانري كريفيل شأن غيرها من الكاتبات والكاتبين في ذلك فطافت لأول عهدها إدارات تحرير الجرائد والمجلات فلم تقبل لها شيئا من رواياتها فاضطرت أن تعيش في مسكنة وتسكن مسكنا حقيرا وقد قبلت (مجلة العالمين) وهي من أهم مجلات فرنسا ذات يوم من هذه الكاتبة أن تنشر لها إحدى قصصها بعد أن فحصتها وماهي الاعشية او ضحاها حتى اختلف إلى المؤلفة الطابعون في باريز يسألونها أن تخصهم بشيء من مؤلفاتها وإذ كانت هي على ثقة من نفسها ويقين من جودة منثورها خطر لها أن تشترط على أولئك الطابعين بان تتقاضى منهم ضعف ما اتفقت معهم عليه عند ما يتجاوز المطبوع من قصصها الطبعة العاشرة وكأن ذلك كما خطر لها إذ أنها لم تمت حتى رأت معظم ما كتبت وقد طبع أربعين مرة فاتاها بثروة عاشت فيها في خفض وسعة.
الراحة الأسبوعية
نشرت جريدة الاقتصاديين مقالة في فضل الراحة يوماً في الأسبوع وشيء من تاريخها وأوردت صورة المحضر الذي وقع عليه في لندن سنة 1851 بقلم 640 طبيباً وما كتبته(24/65)
الفلاسفة في هذا الشأن مثل روسو علماء الاجتماع مثل ما كولي ولنكلن والاقتصاديون مثل برودون ورجال السياسة مثل بالمرستون وروبرت بيل وكلهم يثبتون ضرورة راحة يوم في الأسبوع ومنافعها الطبيعية والأخلاقية وحسناتها الاقتصادية والاجتماعية.
نساء أميركيا
بحثت إحدى المجلات الألمانية في حالة النساء في الولايات المتحدة فقالت أن عددهن فيها بالنسبة لعدد الرجال يقل نحو مليون نسمة أما التعليم فإن عدد المتعلمات منهن هو ضعفا عدد الرجال ولذلك يقوى الميل كل يوم في تلك البلاد في تقليل تربية البنات مع الصبيان وإنشاء مدارس للبنات خاصة.
حب الوطن
أسف أحد المفكرين المجلات الألمانية من أن محبة الوطن لا تلقن الناس إلا بتجميد أبطال الحروب فيعلم التلميذ الإعجاب بالغالب في ساحة الوغى وما المجد الحقيقي إلا لتلك الأجيال من الفلاحين والعملة ممن عملوا بسلام على إغناء بلادهم وراحة أفرادها ولاسيما أولئك العلماء ممن تجردت نفوسهم عن الأغراض فنفعوا بما أتوا من أعمالهم الجليلة أبناء البشر عامة ولا يحتفظ بحب الوطن الحقيقي إلا بإلقاء النظر على أعمال السواد الأعظم من الأمة. وقد قال الاشتراكي فولمار منذ أيام: أن محبة الإنسانية لا تمنعا مطلقاً من أن تكون من أحسن الألمان عراقة في الوطنية.
استعارة الكتب
نشرت مجلة التعليم الدولية مقالة ف نظام إعارة الكتب من مكاتب باريز وجميع أنحاء فرنسا وكلياتها وبلدتها سواء كان لأبناء البلاد أو لمن يطلبها من العلماء في الخارج لقاء رهن وشروط تشترط نظارة معارف فرنسا على المستعير وعلى دولته المتوسطة في الأمر فقالت أن الحكومة هناك بذلت ومازالت تبذل منذ ثلاثين سنة كل ما يساعد المؤلفين والعالمين على الانتفاع بالكتب أيا كانت جنسيتهم وبلادهم والقيود التي وضعتها سهلة ولم تستثن إلا بعض المخطوطات التي كتبت على الورق قبل اختراع الطباعة وقال أن في مكتبة الأمة بباريز من المخطوطات 108500 وذلك عدا ما في الولايات المتحدة وخزائن الكليات والبلديات وأن الفرنسيس مقصرون في الاستعارة من مكاتب الأمم الأخرى مع أن(24/66)
مكاتب الأمم المتمدنة مفتحة أبوابها لهم ماخلا مكاتب إنكلترا واسبانيا فإن هاتين الحكومتين لم تريا من العقل أن تخرجا الكتب الثمينة وتعرضها لخطر الضياع والحوادث باعارتها. أما الأمم الغربية فتستفير من فرنسا أكثر مما يستعير علماء الفرنسيس من غيرهم وقد كان عدد الكتب التي أعارتها مكاتب باريز والولايات سنة 1906 - 488 وما اعارته فرنسا للخارج 121 اما عدد ما استعارته من الخارج فهو 11 كتاباً.
الشعر والثورة
ألف احد علماء الفرنسيس مجلداً ضخماً أثبت فيه بالبرهأن التاريخي تأثير الثورة الفرنسوية الأولى في عقول بعض الشعراء الإنكليز المعاصرين لها حتى صارت روحها تظهر على أسلات أقلامهم وتتجلى في إبداعهم ونظامهم ولاسيما ورتسورت وسوتني وكولريج وقال أن الاضطرابات والشعور الذي نالهم من ذاك الحادث قد ساعدهم على تجليد حياة الشعر الإنكليزي المعروف بالرومانتك أي الجديد الخالي من التقليد. وبين المؤلف تأثير الثورة الفلسفي أي الأفكار الأدبية والاجتماعية التي نتجت منها ورددها أولئك الشعراء وتغنوا بها بين قومهم.
محصول السكر
كان محصول السكر في العالم سنة 1870 - 2. 600. طن فبلغ سنة 1905 10. 086. طن.
مسكرات العالم
في إحصاء أخير إنه كان مجموع الوارد من المشروبات على أوروبا سنة 1906 633566 هيكتولتر منها 4764 على البلاد العثمانية في أوروبا و 979 على بلادها في آسيا والهيكتولتر مئة ليتر.
مدارس الأجانب
بلغ عدد التلاميذ الذين يدرسون اللغة الفرنسوية في مدارس فرنسوية 90 ألفا في البلاد العثمانية و16753 في مصر. وإيطاليا وألمانيا تحأولان أن تتقدما على فرنسا في هذا الباب ولاسيما بعد فصل فرنسا الدين عن السياسة وإعلانها الحرب على الدين وأهله فقد(24/67)
بلغ ما خصصته إيطاليا سنة 1904 لإنشاء مدارس لها في اسكوب واشقودرة والاستانه وسلانيك وازمير 1112000 لير واللير معاملة طليانية قدرها فرنك وبلغ ما خصصته ألمانيا 650 ألف مارك للانفاق على مدارسها في فلسطين وغيرها والمارك فرنك وربع.
الخطوط الحديدية
بلغ ما مد إلى الآن من السكك الحديدية في السلطنة العثمانية 6100 كيلو متر وبلغ طول السكك الحديدية في الديار المصرية5252 كيلو متراً.
شاعر مضحك
عثروا في إحدى القرى التي غابت عن الأنظار في ضفة النيل على أربع قطع للشاعر اليوناني الهزلي مياندر المتوفي قبل 2200 سنة وقد فرح أهل الأدب بهذا الاكتشاف لأنهم لم يروا مما خلفه مياندر حتى الأن الا محاورات طفيفة والمأثور عنه أنه ألف ثمانمائة رواية ويقول مؤرخو الأدب إن مياندر جاء العالم بقصائده المضحكة قبل ترأس الشاعر الهزلي وقبل شعراء اللاتين.
التلغراف اللاسكي
من أهم ما وفق إليه العلم في الأيام الأخيرة ربط أوروبا بأميركا بالتلغراف اللاسكي الذي اخترعه ماركوني الإيطالي وبه ينقل الكلام بأسرع مما كان ينقل بواسطة الأسلاك البحرية وبه يمكن إرسال رسالتين في آن واحد ومعنى مختلف وهذا الاختراع سيغير أحوال المخابرات بعض التغيير.(24/68)
العدد 25 - بتاريخ: 1 - 2 - 1908(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
تعالى جدك اللهم خلقت الجماد والنبات والحيوان. وكرمت ابن آدم بنور العقل وفضل البيان، فاستخدم عناصر الأرض وجواهر السماء، وأدرك سر الفلك وسير الفلك ودقائق الماء والهواء، طوى البحار، بالبخار، والبيداء، بالكهرباء، وسوى الأوطاد، والأنجاد، فأصبحت بعد الجهاد، بعض الوهاد، وأحال اليابسة بحراً، والبحر براً، وصير من المجاهل الخالية، معالم نافعة، ومن القفار الخاوية، رياضاً ممرعة، فجمع بعلمه إلى المخلوق مصنوعاً، وغدا الوجود من مادتي الطبيعة والعقول مجموعاً.
سبحانك أبدعت نظام الكون والفساد، وجعلت لكل شيء سبباً من المعاش والمعاد، فلم تفقر فقيراً إلا لحكمة، ولم تغن غنياً إلا بتيسيرك له أسباب النعمة، ولا أهلكت من الأمم إلا الظالمة لنفسها، ولا رفعت منها إلا الناظرة في يومها وأمسها، فمن قانونك أن يسعى كل حي لبقائه بالفطرة، وأن لا يكون النشوء لساعته بالطفرة، ومن استهان بالجزئيات لا يحرز الكليات، ومن لم يعمل الفكر السليم لا يعرف حقائق الكائنات، ناموس مطرد لا تغيره الأزمان، ولا يبليه الجديدان، فتقدست أسماؤك ما أعظم سلطانك في السماء والأرض، وما أبهر آثار هديك في الرفع والخفض.
وبعد هذا المقتبس على رأس عامه الثالث يدعوا إلى ما أنشيء للأخذ به من مذاهب التعليم والتهذيب، والعلم والعمل مقدمة الإصلاح وبغيرهما كل سعي ضائع والسلم لا يصعد إليه من رأسه، والبناء لا يقوم على غير أسسه فلسان حاله ومقاله ربو البنين، تصلح لكم الحكام والحكومات وقوا الوجدانات، وحسنوا الملكات، تصح الآداب وتسلم الديانات.
يتوفر على إحياء القديم القويم، واحتذاء مثال الجديد المفيد، ويقتبس من كل نافع كيف كان قائله، ويمثل بعض ما جدَّ للأنظار وإن تشعبت مسائله، يورد الحاضر ويذكر بالغابر زيادة في الاعتبار والاستبصار، وينشر ما انطوى مما فيه حياة اللغة وجدتها، واللغة مبدأ سيادة الأمة ومفتاح سعادتها، يخاطب الأفراد قبل المجموع، ويقدم تعليم الصغار على الكبار، يقين أن الضعيف لا يتغلب على القوي بغير سلاح، ولا يكتب النصر لمن لا يستحقه، والأجسام تتكون من الذرات، كما تقوم المجتمعات بقوى أفرادها، وبصرهم مما ينمي الثروة ويحفظ البيضة ويجود على الأخلاق.
ولقد أرادنا بعض المفكرين على أن نتمحض في هذه المجلة لفرع خاص تعرف به،(25/1)
وموضع معين لا تتعداه، ليكون ذلك أجمع للفائدة. وأنفع في الأثر. وعذرنا إليهم بأن الإخصاء في علم واحد والبحث فيه من عامة أطرافه يستدعي مواد كثيرة وقراء يتلون ما يكتب بالقبول ليرجى معها حياة العمل طويلاً، ولو اقتصرنا على البحث في آداب اللغة مثلاً كما أشار بذلك بعض النبهاء لاقتضى لنا مادة واسعة يكاد يكون أكثرها مفقوداً وأن نستعين بخمسة على الأقل من المؤازرين المتمكنين في هذا الفن. ثم أين مجامعنا العلمية وخطب العلماء ومحاوراتهم في هذا الموضوع ليتسنى لنا نقلها أو تحصيلها كل مدة فإنا نرى مجلات الأخصائيين في الغرب ينشئها على صغر حجمها عشرات من المشتغلين المنقطعين وهناك الجمعيات والمجامع تعد منها ولا تعدها.
هذا ما نقوله لمن نصحوا لنا بالتمحض لفرع من الفروع التي تخوض فيها المجلة الآن في جملة ما تخوض فيه بقدر ما تسمح به الحال. وأنا على يقين من أنه متى كثر سواد المنورين على الأساليب الصحيحة تصدر لهم بطبيعة الحال عشرات من أمثال تلك المجلات المنشودة باللسان العربي وإذ ذاك يعرف الناس أن للمطبوعات ثمناً لابد من قضائه في أوقاته ولا يقع لأربابها مثل ما وقع لنا في السن الغابرة من حذف أربعمائة اسم من سجل المشتركين وكان نصفهم طلبوا الاشتراك برسائل منهم فلما ذكروا بوفاء ما عليهم سكتوا اللهم إلا بضعة عشر واحداً منهم.
على أن طلبات الاشتراك ما زالت ترد علينا من بلاد ما كنا نظن أهلها يقرأون العربية ويرغبون في المجلات مصحوبة بقيمتها على الطريقة الغربية يشترك بعضهم عن رغبة من تلقاء أنفسهم وبعضهم بإرشاد بعض الغيورين وعددهم لا يزال في نمو. ولا نكتم القراء أن مجموع ما ورد على الإدارة في الحولين الماضيين لم يوف حتى الآن ثمن ما صرف في الورق والطبع والبريد فقط.
كل هذا ونحن نعد ما لقيناه ضرباً من ضروب الرقي في الأفكار ونرى المقتبس ينجح نجاحاً كبيراً يوم يقوم بنفقاته. إذ من العبث الاعتماد على العلميات الآن وما عداها مذهباً من مذاهب المعاش الطبيعي ما دام الشرق العربي متأخراً بمعارفه هذا التأخر المحسوس لاسيما وأن المتصدين للتأليف في الغرب قاسوا قبلنا من أممهم ما لم نقاس نحن بعضها وما زال حال من ينقطعون عندهم للأبحاث التي يقتضي فهمها شيئاً من العلم بالنسبة لمن(25/2)
يشتغلون بالموضوعات الساذجة الهزلية دون ما نوهم بكثير فلا فضل لنا إذاً فيما نفادي به.
وهنا نتقدم إلى من يتناولون المجلة في هذا القطر وغيره من الأقطار أن يعودوا أنفسيهم إرسال اشتراكاتهم في أول السنة بدون مطالبة على نحو ما تجري عليه الأمم المتمدنة خصوصاً وكلهم الآن من أهل الرغبة المختارين. وقد زدنا من حجم المقتبس بحيث يقع مجلده آخر السنة في ثمانمائة صفحة جيدة الطبع والورق وكان في السنتين السالفتين ستمائة واثنتين وسبعين صفحة واستكثرنا من المواد التي نقتبس منها أو نعرب عنها من مجلات وموسوعات أفرنجية وأسفار ممتعة عربية مع إبقاء قيمة الاشتراك بحالها. والله نسأل أن يحقق آمالنا لنقوم ببعض الواجب وهو يهدي السبيل.(25/3)
الأدب الصغير
لابن المقفع
عني بنشره الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري
توطئة الناشر
من أعظم ما تدعو الحاجة إليه علم تهذيب الأخلاق لتوقف نجاح الأمم عليه وهو فن ذو أفنان تحتاج إليه الأفراد على اختلاف طبقاتها. ومع قلة ما انتشر من كتبه ففي جلها من عدم التنقيح وانسجام العبارات ما يصد كثيراً من الطالبين عن الإقبال عليها. ومن ثم كثر بحثنا عن كتب تفي بهذا المطلب مع رشاقة مبانيها لتكون الفائدة مزدوجة وهو أقصى آمال الذين يسعون في إحياء اللغة العربية وإعادتها إلى ما كانت عليه في عهدها الأول.
ولما ذهب إلى مدينة بعلبك سنة 1233 رأيت عند بعض الأفاضل الواردين عليها مجموعاً استعاره من بعض أعيانها فرأيت فيه الضالة المنشودة وهي رسالة الأدب الصغير لعبد الله بن المقفع الكاتب الذي يضرب ببلاغته المثل فكتبتها بخطي في نحو يوم وأرجو أن ييسر لنشرها من عرف بحسن الطبع ليعم بها النفع والله الموفق.
وهذا بيان الرسائل التي في المجموع المذكور:
1 ـ كتاب عجائب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو في نحو ثلاث كراسات يشتمل على ما نقل عنه من بدائع الأحكام.
2 ـ ذكر الخلائف وعنوان المعارف تأليف الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أوله الحمد لله الواحد العدل وصلى الله على النبي وخيرة الأهل وقد أسعفنك بالمجموع الذي التمسته في نسب النبي عليه السلام وبنيه وبناته وأعمامه وعماته وجمل من غزواته وسائر ما يتصل بذلك وهو إثنتا عشرة ورقة وفي آخره. وكتب في رجب سنة عشرين وأربعمائة.
3 ـ رسالة إلى أحمد بن أبي داؤد في فضل العلم وهي 3 أوراق وفي آخرها: وكتب في شهر ربيع الأول سنة عشرين وأربعمائة.
4 ـ ويتلوها كتاب الأدب الصغير الذي نقلناه وهو في الصفحة اليسرى من آخر ورقة من الرسالة السابقة بخط كاتب واحد فتكون كتابتها في التاريخ المذكور ولم يذكر في آخرها تاريخ.(25/4)
5 ـ ويتلوه كتاب ذخائر الحكمة تأليف أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي وهو في نحو ثلاث وعشرين ورقة.
6 ـ مختصر من كتاب جاويدان خرد في حكم الفرس والهند والروم والعرب تأليف أحمد بن مسكويه وهو أكثر من كراس.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فإن لكل مخلوق حاجة ولكل حاجة غاية ولكل غاية سبيلاً والله وقت للأمور أقدارها وهيأ إلى الغايات سبلها وسبب الحاجات ببلاغها فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد. والسبيل إلى دركها العقل الصحيح. ومارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر. وتنفيذ البصر بالعزم. وللعقول سجيات وغرائز تقبل الأدب وبالأدب تنمي العقول وتزكو فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر على أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها ونضرتها وريعها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها في القلب لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدب الذي هو نماؤها وحياتها ولقاحها. وجلُّ الأدب بالمنطق وكل المنطق بالتعلم ليس حرف من حروف معجمه ولا اسم من أنواع أسمائه غلا وهو مروي متعلم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم. فإذ خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم وإن أحسن وأبلغ ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل ووضع كل فص في موضعه وجمع إلى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسناً فسمي بذلك صائغاً رفيقاً. وكصاغة الذهب والفضة صنعوا فيها ما يعجب الناس من الحلي والآنية. وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلاً جعلها الله ذللاً فصار ذلك شفاء وطعاماً وشراباً منسوباً إليها مذكوراً به أمرها وصنعتها فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع فإنه إنما اجتباه كما وصفناه.
ومن أخذ كلاماً حسناً عن غيره فتكلم به في موضعه على وجهه فلا يرين عليه في ذلك(25/5)
ضؤولة فإنه في أعين على حفظ قول المصيبين وهدي للاقتداء بالصالحين ووفق للأخذ عن الحكماء فلا عليه أن لا يزداد فقد بلغ الغاية وليس بناقصه في رأيه ولا بغائضه من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه وإنما حياة العقل الذي يتم به ويستحكم خصال ست: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتقاد للخير، وحسن الوعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه قولاً وعملاً.
أما المحبة فإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته فلا يكون شيء أمرأ ولا أحلى عنده منه. وأما الطلب فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه ولا يدرك لهم بغيهم نفاستها في أنفسهم دون الجد والعمل. وأما التثبت والتخير فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه فكم من طالب رشد وجده وألغي معاً فاصطفى منهما ألذ منه هرب وألغى الذي سعى فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد وهو لا يشك بالظفر فما أحقه بشدة التبيين وحسن الابتغاء. وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته. وأما الحفظ والتعهد فهو تمام الدرك لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة فلا بد له إذا اجتبى صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجة شديدة فإننا لم نوضع في الدنيا موضع غناء وخقض ولكن موضع فاقة وكد ولسنا إلى ما يمسك بأرماقنا من المطعم والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول وليس غذاء الطعام بأسرع من نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضر والعيلة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا.
وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً فيها عون على عمارة القلوب وصقالها وتجلية أبصارها وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق إن شاء الله.
الواصفون أكثر من العارفين. والعارفون أكثر من الفاعلين، فلينظر امرؤ أين يضع نفسه فإنه لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيباً من اللب يعيش به لا يحب أن له به من الدنيا ثمناً. وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي اللباب ولا أن يوصف بصفاتهم. فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلاً فليأخذ له عتاده وليعد له طول(25/6)
أيامه وليؤثره على أهوائه فإنه قد رام أمراًُ جسيماً لا يصلح على الغفلة ولا يدرك بالمعجزة ولا يصير عليه الأثرة وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
وليعلم أن على العامل أموراً إذا ضيعها حكم عليه بمقارنة الجهال. فعلى العامل أن يعلم أن الناس مشتركون مستوون في الحب لما يوافق والبغض لما يؤذي وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطإ وعندهن تفرقت العلماء والجهال والحزمة والعجزة.
الباب الأول في ذلك
أن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره فيعلمك أن أحق ذلك بالطلب إن كان مما يحب وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره أطوله وأدومه وأبقاه فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا وفضل سرور المروءة على لذة الهوى وفضل الرأي الجامع العام الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمع به قليلاً ثم يضمحل وفضل الأكلات على الأكلة والساعات على الساعة.
والباب الثاني هو أن ينظر فيما يؤثر من ذلك فيضع الرجاء والخوف فيه موضعه فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف ولا رجاءه في غير المدرك فيترك اللذات طلباً لآجلها ويحتمل قريب الأذى توقياً لبعيده فإذا صار إلى العاقبة بدا له أن فراره كان تورطاً وأن طلبه كان تنكباً.
والباب الثالث من ذلك هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانه محروم. وعلى العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها والقضاء عليها والإبانة لها والتنكيل بها.
أما المحاسبة فيحاسبها بما لها فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهب منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق فيتنبه لهذه المحاسبة عند الحول وإذا حال والشهر إذا انقضى واليوم إذا ولى فينظر فيما أفنى من ذلك وما كسب لنفسه فيه وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا فيجمع ذلك في كتاب فيه(25/7)
إحصاء وجد وتذكير وتبكيت للنفسي وتذليل لها حتى تعترف وتذعن.
وأما الخصومة فإن من طباع النفس الأمارة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى والأماني فيما بقي فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها.
وأما القضاء فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة فبأنها فاضحة مردية موبقة وللحسنة بأنها زائنة منجية مربحة. وأما الإبانة والتنكيل فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات ويرجو عواقبها وتأمين فضلها ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات والبشع بها والاقشعرار منها والحزن لها.
فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بهذا أخذاً وأقلهم عنها فترة ولى العاقل أن يذكر الموت كل يوم وليلة مراراً ذكراً يباشر القلوب ويقذع الطماح فإن كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر وأماناً بإذن الله من الهلع.
وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الرأي وفي الأخلاق وفي الآداب فيجمع ذلك كله في صدر أو في كتاب ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها صلاحه ويوظف ذلك عليها توظيفاً في إصلاح الخلة أو الخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر فكلما أصلح شيئاً محاه وكلما نظر إلى ثابت اكتأب.
وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس ويحفظها ويحصيها ويصنع غي توظيفها على نفسه وتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس ما استطاع إلا ذا فضل في الدين والعلم والأخلاق فيأخذ عنه أو موافقاً له على صلاح ذلك فيؤيد ما عنده وإن لم يكن له عليه فضل وإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمى إلا بالموافقين والمهذبين والمؤيدين وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو أقرب إليه وأحب ممن وافقه على الخصال فزاده وثبته ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.
وعلى العاقل أن لا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى وأن ينزل ما أصاب من ذلك ثم انقطع عنه منزلة ما لم يصب وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها ولا يبلغن سكراً ولا طغياناً فإن مع السكر النسيان(25/8)
ومع الطغيان التهاون ومن نسي وتهاون خسر.
وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها حتى يصيروا حرساً على سمعه وبصره ورأيه فيستنيم إلى ذلك ويريح له قلبه ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على نفسه أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يقضي فيها إلى أخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمل فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل لغة وعلى العاقل أن لا يكون راغباً إلا في إحدى ثلاث خصال تزود لمعاد أو مرمة المعاش أو لذة في غير محرم.
وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين مختلفتين متباينتين ويلبس لهم لباسين مختلفين فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف كلهم ذو فضل في الرأي وثقي في المودة وأمانة في السر ووفاء بالإخاء.
وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئاً في الخطأ والزلل في العلم والإغفال في الأمور فإن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيراً وصغيراًَ فإذا الصغير كبير وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع فإذا لم تسد أوشكت أن تنفجر بما لا يطاق ولم نر شيئاً قط قد أتى إلا من قبل الصغير المتهاون به.
قد رأينا الملك يؤتى من قبل العدو المحتقر ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به وأقل الأمور احتمالاً للضياع الملك لأنه ليس منه شيء يضيع وإن كان صغيراً وإلا اتصل بآخر يكون عظيماً.
وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقاً وإن ظن أنه على اليقين، وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان وأن من شأن الناس تسويف الرأي وإسعاف الهوى فيخالف ذلك ويلتمس أن لا يزال هواه مسوفاً ورأيه مسعفاً.(25/9)
وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره.
من نصب نفسه للناس إماماً في الدين فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه فإنه كما أن كلام الحكمة يونق الأسماع فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.
ولاية الناس بلاء عظيم.
وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه التي بها يقوم وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير ـ والمبالغة في التقدم ت والتعهد الشديد ت والجزاء العتيد.
أما التخير للعمال والوزراء فإنه نظام الأمر ووضع مؤونة البعيد المنتشر فإنه عسى أن يكون بتخيره رجلاً واحداً قد اختار ألفاً لأنه من كان من العمال خياراً فسيختار كما اختير ولعل عمل العامل وعمل عماله يبلغون عدداً كثيراً فمن تبين التخير فقد أخذ بسبب وثيق ومن أسس أمره على غير ذلك لم تجد لبنيانه قواماً. وأما التقديم والتوكيل فإنه ليس كل ذي لب وذي أمانه يعرف وجوه الأمور والأعمال ولو كان بذلك عارفاً لم يكن صاحبه حقيقاً أن يكل ذلك إلى عمله دون توقيفه عليه وتبيينه له والاحتجاج به عليه وأما التعهد فإن الوالي إذا فعل ذلك كان سميعاً بصيراً وأن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصداً حريزاً وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن والراحة من المسيء.
لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان ولا تنفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف وأعمال السلطان كثيرة وقلما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد وإنما الوجه في ذلك والسبيل إليه الذي يستقيم به العمل أن يكون صاحب السلطان عالماً بأمور من يريد الاستعانة به وما عند كل رجل من الرأي والغناء وما فيه من العيوب فإذا استقر ذلك عنده عن علمه وعلم من يأتمن وجه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة والأمانة ما يحتاج إليه فيه وإن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك ويتحفظ من أن يوجه أحداً وجهاً لا يحتاج فيه إلى مروءة إن كانت عنده ولا يأمن عيوبه وما يكره منه.
ثم على الملوك بعد ذلك تعهد عمالهم وتفقد أمورهم حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا(25/10)
إساءة مسيء.
ثم عليهم بعد ذلك أن لا يتركوا محسناً بغير جزاء ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على الإساءة والعجز فإنهم إن تركوا ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وفسد الأمر وضاع العمل. اقتصاد السعي أبقى للجمام ومن بعد الهمة يكون النصب ومن سأل فوق قدرة استحق الحرمان.
سوء حمل الغنى أن يكون عند الفرح مرحاً وسوء حمل الفاقة أن يكون عند الطلب شرهاً وعار الفقر أهون من عار الغنى والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة. والدنيا دول فما كان منها لك أتاك على ضعفك وماكان عليك لم تدفعه بقوتك. إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق وأبين في المعنى وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث.
أشد الفاقة عدم العقل وأشد الوحدة وحدة اللجوج ولا مال أفضل من العقل ولا أنس آنس من الاستشارة مما يعتبر به صلاح الصالح وحسن نظره للناس أن يكون إذا استعتب المذنب ستوراً لا يشيع وإذا استشير سمحاً بالنصيحة مجتهداً بالرأي وإذا استشار مطرحاً للحياء ومعترفاً بالحق.
القسم الذي يقسم للناس ويمتعون به نحوان فمنه حارس ومنه محروس فالحارس العقل والمحروس المال.
والعقل بإذن الله هو الذي يحرز الحظ ويؤنس الغربة وينفي الفاقة ويعرف النكرة ويثمر المكسبة ويطيب الثمرة ويوجه السوقة عند السلطان ويستنزل للسلطان نصيحة السوقة ويكسب الصديق وينفي العدو.
كلام اللبيب وإن كان نزاراً أدب عظيم ومقارفة المآثم وإن كان محتقراً مصيبة جليلة ولقاء الأخوان وإن كان يسيراً غنم حسن.
قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثيراً أما الصالح فمدعو وأما الطالح فمقتحم وأما ذو الأدب فطالب وما من لا أدب له فمحتبس وأما القوي فمدافع وأما الضعيف فمدفوع وأما المحسن فمستثيب وأما المسيء فمستجير فهو مجمع البر والفاجر والعالم والجاهل والشريف والوضيع.
الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مدخولون في أمورهم فقائلهم باغ ـ وسامعهم عياب ـ(25/11)
وسائلهم متعنت ـ ومجيبهم مكتف ـ وواعظهم فغير محقق لقوله بالفعل ـ وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف ـ والأمين منهم غير متحفظ من إتيان الخيانة ـ وذو الصدق غير محترس من حديث الكذبة ـ وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة ـ والعازم منها غير تارك لتوقع الدوائر ـ يتناقضون البنى ـ ويترقبون الدول ـ ويتعاطون القبيح ـ ويتعاينون بالغمز ـ ويرعون في الرخاء بالتحاسد ـ وفي الشدة بالتجاذب.
ثم قد انتزعت الدنيا ممن قد استمكن منها واعتكفت له فأصبحت الأعمال أعمالهم والدنيا دنيا فغيرهم وأخذ متعهم من لم يحمدهم وخرجوا إلى من لا يعذرهم فأصبحنا خلفاً من بعدهم نتوقع مثل الذي نزل بهم فنحن إذا تدبرنا أمورهم أحقاء أن ننتظر ما نغبطهم به فنتبعه وما نخاف عليهم منه فنجتنبه.
كان يقال أن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله وينهى عن الشيء ويبتلي بشهوته فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيت ولا تترك من الشر إلا ما كرهت فقد أطلعت الشيطان على عورتك وأمكنته من أزمّتك فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير فيكرهه إليك وفيما تكرهه من الشر فيحببه إليك. ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما تحب منه.
للدنيا زخرف يغلب الجوارح ما لم تغلبه الألباب والحكيم من لم يغض عليه طرفه ولم يشغل به قلبه أطلع من أدناه فيما وراءه وذكر في بدئه لواحق شره فأكل مره وشرب كدره ليحلولي له ويصفو في طول من إقامة العيش الذي بقي ويدوم غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه ولم يأته من طريق هواه.
ولا تألف المستوخم ولا تقم على غير الثقة. فقد بلغ فضل الله على الناس من السعة وبلغت نعمته عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظاً وأقلهم منه نصيباً وأضعفهم علماً وأعجزهم عملاً وأعياهم لساناً بلغ من الشكر والثناء عليه بما خلص إليه من فضله ووصل إليه من نعمته ما بلغ له منه أعظمهم حظاً وأوفرهم نصيباً وأفضلهم علماً وأقواهم عملاً وأبسطهم لساناً لكان عما استوجب الله عليه مقصراً وعن بلوغ غاية الشكر بعيداً ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمه والثناء عليه والتمجيد له فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله(25/12)
والقربة عنده والوسيلة إليه والمزيد فيما شكره عليه خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
أفضل ما يعلم بع علم ذي العلم وصلاح ذي الصلاح أن يستصلح بما أوتي من ذلك ما استطاع من الناس ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله وحب حكمته والعمل بطاعته والرجاء لحسن ثوابه في المعاد إليه وأن يتبين الذي لهم من الأخذ بذلك والذي عليهم في تركه وأن يورث ذلك أهله ومعارفه ليلحقه أجره بعد الموت.
الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله تعالى إلى خلقه وأعظمها منفعة وأحمدها في كل حكمة فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنة الجهال على جهالتهم بهما وعماهم عنهما.
أحق الناس بالسطان أهل الرأفة وأحقهم بالتدبير العلماء وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديباً وأحقهم بالغنى أهل الجود وأقربهم من الله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله تعالى وأصوبهم رجاء أوثقهم بالله وأشدهم انتفاعاً بعلمه أبعدهم من الأذى وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفاً وأقواهم أحسنهم معونة وأشجعهم أشدهم على الشيطان وأفلجهم بالحجة أغلبهم للشهوة والحرص وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حياء وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالاً وأقلهم دهشاً أرحبهم ذرعاً وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي وأخفضهم عيشاً أبعدهم من الإفراط وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة.
وآمنهم في الناس أكلهم ناباً ومخلباً.
وأثبتهم شهادة عليهم أنطقهم عنهم.
وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم.
وأحقهم بالنعم أشكرهم لما أوتي منها.
أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع والأخوان الصالحون.
فصل ما بين الدين والرأي أن الدين يسلم بالإيمان وأن الرأي يثبت بالخصومة فمن جعل الدين خصومة فقد جعل الدين رأياً ومن جعل الدين رأياً فقد صار شارعاً ومن كان هو يشرع لنفسه الدين فلا دين له.
قد يشتبه الدين والرأي في أماكن لولا تشبههما لم يحتاجا إلى الفصل.(25/13)
(للكتاب بقية).(25/14)
الخاصة والعامة
قال الراغب: الناس ضربان خاص وعام فالخاص من قد تخصص من المعارف بالحقائق دون التقليدات ومن الأعمال ما يتبلغ به إلى جنة المأوى دون ما يقتصر به على الحياة الدنيا والعام إذا اعتبر بأمور الدين فالذين يرضون من المعارف بالتقليدات ومن أكثر الأعمال بما يؤدي إلى منفعة دنيوية وإذا اعتبر بأمور الدنيا فالخاص ما يتخصص بأمور البلد مما ينخرم من افتقاده إحدى السياسات المدنية والعام ما لا ينخرم بافتقاده شيء منها. وهم من وجه آخر ثلاثة خاصة وعامة وأوساط والأوساط هم المسمون في كلام العرب بالسوقة فالخاص هو الذي يسوس ولا يساس والعام هو الذي يساس ولا يسوس والوسط هو الذي يسوسه من فوقه وهو يسوس من دونه. ومن وجه آخر ثلاث أضرب أصحاب الشهوات وهمهم الجدة واليسار والأكل والشرب والبعال وأصحاب الكرامة والرياسة وهمهم المدح واستجلاب الصيت والمحمدة وأصحاب الحكمة وكل واحد منهم يستعظم من هو من جنسه. قال بعض الحكماء: ما من إنسان إلا وفيه خلق من خلاق بعض الحيوانات وبعض النبات لكون الإنسان مشاركاً لها في الجنسية وإن كان مبايناً لهما في النوعية فمن الناس غشوم كالأسد وعائث كالذئب وخب كالثعلب وشره كالخنزير وجامع كالنمل ووقح كالذباب وبليد كالحمار وألوف كطير الوفاء وصنع كالسرفة وآنف كالأسد والنمر وغيور كالديك وهادئ كالحمام ومنهم حسن المنظر والمخبر كالأترج ومنهم بخلاف ذلك كالعفص والبلوط ومنهم قبيح المنظر حسن المخبر كالجوز واللوز ومنهم حسن المنظر قبيح المخبر كالحنظل والدفلى والمؤمن الخير هو في الحيوانات كالنحل يأخذ أطايب الأشجار ولا يقطف ثمراً ولا يكسر شجراً ولا يؤذي بشراً ثم يعطي الناس ما يكثر نفعه ويحلو طعمه ويطيب ريحه وهو في الأشجار كالأترج يطيب حملاً ونوراً وعوداً وورقاً والمنافق الشرير هو في الحيوانات كالقمل والأرضة وفي الأشجار كالكشوت فلا أصل له ولا ورق ولا نسيم ولا زل ولا زهر يفسد الثمار وييبس الأشجار وكالشجرة التي قل ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها.
هذا ما ذكره الأصفهاني في وصف طبقات الناس وما يرجى منهم من المنافع وما يخشى من مضارهم قاله منذ زهاء ثمانمائة سنة ويقال مثله بعد قرون كما يصح إطلاقه على ألوف من السنين من قبل. ويرى الناظر في هذه الحياة الدنيا من سلطان الأوهام الكثيرة تأثيراً في دفع الناس بعضهم عن بعض ولولا ذلك لاختل النظام أو كاد. وكان معظم تأثير الأوهام في(25/15)
خلال القرون الوسطى أيام انتشار الإقطاعات وتسلط الأشراف ورؤساء الديانات في الغرب أما في الشرق ـ ونريد به البلاد العربية ـ فإن الأوهام كانت تتسلط على الناس بعد الإسلام بحسب حال الحكومات المتغلبة من العقل والجهل والدين والإلحاد ولذلك أتت على العامة أدوار كانوا يعتقدون أن الخاصة من طينة غير طينة البشر فهم أحق بالتقديس فقدسوهم ورفعوهم فوق أقدارهم ولم تكن نفوس الطبقة العالية من التهذيب بحيث تحسن استعمال هذه الامتيازات التي امتازت بها بل استعملتها ذرائع إلى الاستكثار من الثروة من غير حلها وللتبجح بالباطل بما لم يأمر به شرع إلهي ولا عقل إنساني ولذلك صرت ولا تزال ترى بين الطبقة العليا والدنيا من الفروق ما لا تراه في أكثر الأمم اللهم إلا الهنود والصينيين فإن مسافة الخلف بين طبقات الناس هناك مما يعجب منه أيضاً.
انتبه أهل الغرب لسر الاجتماع البشري أكثر منا. والغالب أن سلطة الأشراف أو أهل الطبقة العالية بلغت عندهم قبيل نهضتهم مبلغاً لا تطيقه نفس بشرية فكان القيام على نزع تلك السلطة من أول الإصلاح عندهم ثم بقيت الطبقات تتقارب بعضها مع بعض وإلى اليوم لم يبلغ هذا التقارب أشده عندهم ولكنه لو قيس بما بين مختلف الطبقات في شرقنا لعد غاية الارتقاء.
إذا تقارب الخاصة من العامة وعرف كل حقه ولم يتعده تستقيم أحوال المجتمع وتقوى دعائمه وتثبت في نفوس أبنائه روح التضامن الحقيقي وإذا بقيت كل طبقة مقتصرة على أهل طبقتها يحدث بين الطبقات سوء التفاهم ما لا يكون منه حضارة ولا غبطة والعامة هم سواد كل أمة وهم القائمون على الزراعة والصنائع المختلفة والأعمال الصعبة والخاصة أفراد قلائل وقوتهم بأفكارهم وعقولهم في الأعم الأغلب من أحوالهم. والعاقل ينبغي له أن يحسن الانتفاع من كل شيء في هذا الوجود فما الحال بانتفاعه من مخلوق مثله لو علمه بعض الضروريات لكان عمله له ولغيره أتم وأعم.
مضى العهد الذي كان العلم فيه مقصوراُ على أهل طبقة خاصة ككهنة قدماء المصريين وأشراف اليونان والرومانيين ورهبان الأديار والصوامع في القرون الوسطى. مضى ذلك الزمن وما نظن يعود مثله على البشر بعد وقد أخذت حضارة الغرب تنفذ أنوارها حتى إلى القفار ويستنير بها المتمدن والمتوحش بحسب ما رزق من قوة بصر وبصيرة. طوي ذلك(25/16)
البساط بما عليه جملة ولن يعود إلى سالف حاله بعد أن توفر جمهور كبير من علماء الغرب يخطبون العامة في مجالسهم بما لا يعلو عن أفكارهم ويعلمونهم في مدارس ليلية أقاموها لتعليم من لم يسعده الحظ بالتعليم وبعد أن أنشؤا جرائد خاصة ووضعوا المجلات والكتب ليلقنوهم الأفكار الصحيحة والمعارف اللازمة من أيسر الطرق وأخصرها وبعد أن فتحوا لهم المعارض والمتاحف ودور التمثيل لتكون منهم مقومات العقول على طرف الثمام وبعد كل ما أقاموه لمنفعتهم من أسباب التعليم يستحيل أن يغالط عامتهم في حقائق الأشياء بعد اليوم وقد غولطوا فيها زمناً طويلاً.
قال سيايل: لا غنية للديمقراطية عن خيرة رجال كما لا يسعها إلا أن تقدر الذكاء والعلم والفضيلة حق قدرها. ولا مشاحة في أن الديمقراطية تأتي على الحواجز التي كانت تحول بين الطبقة العالية وجمهور الأمة فتدكها من أساسها وذلك لأن المجتمع يختار كبار الرجال من جمهور أهل البلاد ممن ينشؤون أبداً بين ظهراني عامة الناس ولا يزالون ينمون ويتجددون بما يصدر إليهم من حوض القوة والنشاط وأعني بهذا الحوض العامة. فإذا اعتزل أولئك الرجال واقتصروا على الاجتماع بأبناء طبقتهم محتقرين ما عداها فإنهم يقضون على أنفسهم بالضعف وعلى أمرهم بالفشل. ليس الشعب هو الجمهور بل هو الأمة وهو الحاكم المتحكم. والفكر لا يكون إلا مجردات ونظريات إذا لم يكن له كيان وحقيقة تؤثر في عقول أبناء الأمة وإرادتهم. وعلى الطبقة الخاصة من الناس وهي في الأصل ممتزجة بجهلاء الأمة وأهل الوضاعة منهم أن يكون لها اتصال بالشعب وعليها أن تعمل على إقناعه لتنال ثقته تتصل به وتشركه في معرفة الحقيقة السامية التي تخضع لناموسها الإرادات مختارة وعلى مجموع من يتألف من هم المجتمع الديمقراطي أن يشتركوا في الحياة الوطنية. أهـ.
ولقد وقر في نفوس خاصتنا زمناً طويلاً بأن اجتماعهم بالعامة يعد منقصة وسبة لذلك كانوا وأكثر من يتطاولون إلى التشبه بهم من أهل الطبقة الوسطى في العقول يشمئزون من الاختلاط بغير طبقتهم كأن العلم بزعمهم يفسد إذا ألقي على من ينتفع به أو أنه تذهب بركته ويزول بهاؤه ورواؤه وقد كان هذا الخلق يقوى في الشرق على عهد ضعف الوازعين الديني والسياسي وانحلال التربيتين البيتية والمدرسية.(25/17)
وما مجالس الوعظ أيام الحضارة الإسلامية إلا من بركة تلك العقول الكبيرة والتربية الراقية فكنت ترى أمثال الحسن البصري والفخر الرازي وابن الجوزي ومئات غيرهم في المساجد والمنابر يعظون العامة ليعلموهم ما حرموا منه فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم. بدأ ذلك على عهد الخليفة الرابع فكان يأتي بواعظ العامة ويسأله فإن رآه متمكناً من العلم بحيث لا يضل الناس بكلامه أذن له بالوعظ وإلا منعه وما كان جلة العلماء يبستنكفون من تفهيم العامة كما كانوا يعلمون الخاصة.
وظاهر أن ما كانوا يلقونه على مسامع جمهور الناس من أنواع العلوم لم يكن في صعوبته كالذي يلقونه على خواصهم ولذلك قلما كان يتأتى العبث بعقول العامة في القرون الستة الأولى للإسلام فقربوا من الخير والسلامة من أكثر خاصة العصور المتأخرة ممن جعلوا الدين سلماً إلى الدنيا وقشور العلم للمباهاة. ومقادير الخاصة والعامة في كل أمة نسبية في الغالب فقد يكون رجل من طبقة الخواص في أمة فإذا قيس بغيرها من الأمم الراقية لا تنزله إلا منزلة العوام.
قال الصفهاني: لا شيء أوجب على السلطان من مراعاة المتصدين للرياسة بالعلم فمن الإخلال بها ينتشر الشر وتكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة ظاهرهم وباطنهم والولاة وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة والوعظة وحكمهم على بواطن العامة وصلاح العالم بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة وتسوس الخاصة العامة وفساده في عكس ذلك ولما تركت مراعاة المتصدي للحكمة والوعظ ترشح قوم للزعامة بالعلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلها بدعاً استغووا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم:
فكل قرين إلى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب
وفتحوا بذلك طرقاً منسدة ورفعوا بها ستوراً مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيها من الشره فبدعوا العلماء وكفروهم اعتصاباً لسلطانهم ومنازعة لمكانهم وأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام.(25/18)
أهـ.
ولقد بقي من دروس الوعظ أو القصاصين كما كانوا يدعون قديماً أثر ضئيل في بعض البلاد الإسلامية ولكن ضررها يربو على نفعها لأن من يتولون أمرها في الأكثر قلما يدركون مبلغ أقوالهم وتأثيراتهم ومعظمهم ممن تزييوا قبل أن يتحصرموا فراحوا على قلة علمهم وعملهم يدعون إلى الخرافات في الأغلب يستسهلون الكلام في الزهد في الدنيا وذكر فضائل الأيام والمواسم وأكثر خطب الجمع من هذا القبيل أو هي أدهى وأمر. وأما الخاصة الحقيقيون في الأمة فقد اضطرتهم الفوضى في العلم والنظام إلى أن يقبعوا في بيوتهم ويكونوا أحلاسها واقتصروا اليوم في تعليم العامة على من يلوذون بهم من أهلهم وأصحابهم وجيرانهم والعشرة تعدي جراثيمها.
القيام على تعليم العامة عندنا ليس بالأمر الحديث كما هو في الغرب ولكن أصوله بليت بين أظهرنا ونمت أي نمو عندهم شأن الأمم الراقية والنازلة هذه يمسخ فيها كل شيء حتى جمال وجوه أهلها وتلك يرتقي فيها كل شيء حتى موبقاتها وشرورها. ولا نقصد بتعليم العامة أن نعلمهم ما يصدهم عما هم بسبيله من أمور المعاش ولكننا نقصد أن يعلموا كعامة أبناء اليابان القواعد الأساسية القليلة ليستحيل بعدها التلاعب بأهوائهم ويكونوا عوناً للخاصة في كل عمل نافع لا عثرة في سبيل كل مشروع ينهضون بلا سبب معقول ويسكنون كذلك.
نريد أن يعلم العامة القراءة والكتابة البسيطة ومبادئ التاريخ والجغرافيا والحساب والاقتصاد والصحة وتدبير المنزل وشيئاً من آداب الدين التي لا تعلو عن أفهامهم وعندما يشاركون الخاصة في الفهم إن لم يكن في معظم مسائل الوجود
ففي بعضها وهناك من الفائدة للخاصة ما لا ينكره عاقل ويكفي أنهم لا يعدون غرباء كأنهم من عالم أخر إذا نزلوا بين قوم في الأرياف والقرى والدساكر إذ يجدون فيها من يزيل عنهم موجبات الوحشة ويقدرهم قدرهم في الجملة. هذه الطبقة من العامة إذا كثرت في الشرق العربي مثلاً تكون حاله أحسن مما هي عليه بما لا يقاس ويقل تبرم المتعلمين النورين من عشرة الأميين العاميين ولاسيما في المدن الصغرى حيث لا عقل يفكر إلا في الأمور البسيطة من المعاش وقل من يشارك في الشؤون العامة.(25/19)
قال الجاحظ تقول العرب: لولا الوئام لهلك الأنام وقال بعضهم في تأويل ذلك لولا أن بعض الناس إذا رأى صاحبه قد صنع خيراً فتشبه به لهلك الناس وقال الآخرون إنما ذهب إلى أنس بعض الناس ببعض كأنه قال إنما يتعايشون على مقادير الأنس الذي بينهم ولو عمتهم الوحشة عمتهم الهلكة.
وإذا لم يتيسر لبلادنا الآن أن نؤسس لها مجامع ومدارس لهذا الضرب من التعليم فما أحرى كل من رزق علماً خرج به عن العامية أن يجمع حوله طائفة من أهله وجيرانه يرشدهم ويلقنهم بحسب ما يعرف ويصحح لهم أفكارهم إلقاءً ويعلمهم ما لم يسعدهم الحظ بتعلمه في كتاب. ولا أعلم في بلادنا أحداً يهتم لتعليم العامة وتصحيح الأفكار مثل الشيخ طاهر الجزائري على اتساع مادته في العلوم المختلفة اتساعاً لم أره في عالم عربي وقد انتبه بعض علماء فارس لهذه النكتة فأخذوا ولاسيما في العهد الأخير يخدمون العامة بما ينفعهم ويطبقون لهم المدنية على حسب عقولهم وهم هناك بضعة عشر رجلاً ورأسهم المجتهد السيد جمال الدين فقد قرأت له خطباً في هذا الموضوع لا تقل في جودتها عن خطب أرنست لافيس وجبرائيل سيايل وغيرهما من فلاسفة فرنسا المعاصرين ممن لا يرون حطة في أقدارهم أن يتنزلوا لتعليم العامة لاعتبارهم إياهم عمد أخبية المجتمع وقواعد بنيان بني الإنسان.
إن يوماً نرى فيه هذه البلاد مملوءة بخزائن كتب يختلف إليها العامة فيتناولون فيها ما شاؤوا من المطبوعات والأسفار البسيطة النافعة ومدراس ليلية أو نهارية ابتدائية لتعليم الكبار والصغار والبنات والصبيان ومعارض ومتاحف في كل مديرية أو متصرفية أو عمالة لهو يوم سعيد يسوغ بعدها لأمتنا أن تدعي أنها راقية تستحق استقلالها في سياستها إذ حررت العقول من ظلمتها.(25/20)
الرياضة المعقول
قل استعمال الألعاب الرياضية في هذه البلاد لأن الفقير لا يقدر فوائدها قدرها ويروض جسمه من حيث لا يشعر بأعماله اليدوية وحركاته اليومية أما الغني فيرى في الأكثر أن اللعب لترويض الجسم منقصة وسبة لا ينطبق مع الوقار والرزانة. ولما كان أجدادنا ينصرفون إلى الألعاب المختلفة آونات فراغهم كانت أجسامهم أصح وأمراضهم أقل. دام ذلك إلى عهد قريب وضعفت اللعاب الرياضية بيننا بضعف العلوم ويدلك على عناية قومنا بالرياضة قديماً أنهم أفردوها بالتأليف وعددوا ضروبها وأساليبها.
ولقد كان صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي إذا استراحا قليلاً من جهاد الصليبيين يصرفون شطراً من أوقاتهما في ركوب الجياد والسباق في سهل اللوان بظاهر دمشق ولا يريان ذلك نكيراً. ولما أنكر أحد علماء ذاك العصر على احدهما ما يأتيه من هذه المسليات المضيعة للأوقات قال له: إننا نستعين على تقوية أجسامنا لئلا نضعف عن النزال ومقارعة الأبطال. ولم يزل في بعض بلاد الشام أثر من آثار هذه الألعاب بين أبناء الطبقة المتوسطة والدنيا ومن أهمها ركوب الجياد للسباق والركض والوثب والسبحة ولعب العصا والصراع كما ترى منها بعض الشيء في هذا القطر.
بيد أن الغربيين سبقونا أشواطاً إلى كل محمدة ومن جملة ما يمتاز به خاصتهم وعامتهم عن خاصتنا وعامتنا الألعاب الرياضية يأتونها كأنها من الضروريات كالأكل والشرب والنوم حتى قال بعضهم أن على نسبة ارتقاء الألعاب الرياضية في أمة تقوي أجسامها وتطول أعمارها وتصح عقولها والعقل السليم في الجسم السليم. أدركوا أن غاية الحركات الطبيعية بث القوة في عامة الجسم لا جعلها قاصرة على بعض الأعضاء فانبساط القلب المفرط ينشأن من الإفراط في إنهاك أحد الأعصاب بالعمل وإفناء قوى بعض الحواس. فترى الجبار ممن اعتاد رفع الأثقال قوي العضلات ولكنه ضعيف الساقين إذا أريد على الجري انقطع نفسه وخانته رجلاه ولئن كانت أعضاؤه متينة فآلته التنفسية سيئة السير ولا يعالج هذا النقص إلا بتمرينات منظمة حتى أن المصارع نفسه ليحتاج إلى الرشاقة في حركاته إذا عرض له أوتوموبيل في سكته أو حريق في داره ليتأتى له أن يقفز ويصعد الدرج ويزحل على الحبل. أما عامة الناس فهم كلما استحكمت قوتهم وزادت خفة أجسامهم يستعدون لتسلق الجبال وحمل الأحمال والقفز والسباق. وهذا الميل إلى كل ضرب من(25/21)
ضروب الرياضة وإن أريد به التسلي فهو من الضروريات لقوام البنية حتى يكون من الناس كما يقول الفيلسوف هربرت سبنسر (حيوانات صالحة) أي أناس لهم في تراكيبهم الطبيعية ومن أعصابهم وحواسهم الباطنية ما يؤهلهم للقيام بما في طاقتهم بدون أن ينقص عضو من عضو شيئاً أو يقوى عصب بضعف أخيه. ولذلك كثرت أساليب الرياضة وكلها تدور على قوانين طبيعية مبنية على علم التشريح والحياة والميكانيك. وممن قام يدعو إلى طريقته في الرياضة رجل من أهل السويد اسمه لنج نظر في الطرق المتبعة في التريض فخالف المتبع منها في التربية الطبيعية التي من شأنها إعداد أناس منبسطة قلوبهم فاستعاض عما كان أهل الرياضات يستعملونه من قبل بالتجارب من الألعاب بأساليب له معقولة معتقداً أن أحسن رياضة لتحسين الجنس الإنساني في مجموعه تقليل أسباب الضعف وتقوية الأبدان تقوية تامة. تعلم هذا الرجل التعليم العالي وانصرف إلى اللاهوت والأدب لأول أمره فصنف فيهما وألف فشغله ما هو فيه من الأشغال العقلية عن النظر في الألعاب الرياضية إلى أن التقى بمهاجرين فرنسويين في كوبنهاغ أوائل القرن الماضي فعلماه المسايفة لعب السيف والترس فمهر فيها حتى عين معلماً لحمل السلاح في كلية لوند وكان حاد الفكر والتصور صعب المراس لا يقف في أمر يتعاطاه عند حد التوسط فاهتدى بذكائه إلى أن وراء المسايفة وإحسان الكر والفر مقصداً أسمى فأخذ نفسه بدرس منافع هذا الفن ونظر في التشريح وعلم النفس وتوغل في التاريخ فرأى أن السكنديناويين كانوا يستعملون الرياضة واليونان من قبلهم كذلك وتبين له أن ما هو ماثل في مصانع اليونان وتماثيلهم من جمال الوجوه وتناسب الأعضاء وصحة الجسوم إنما كان بفضل الرياضات التي يرتاضونها وثبت له أن تحسين النسل وجماله وجودة الصحة الطبيعية والأخلاقية تنشأ من استعمال الرياضة المعقولة.
قام هذا الخاطر في ذهنه ولم يرتح وجدانه إلا عند ما تعدم إلى حكومة السويد أن تمنحه شيئاً من المال يستعين به على نشر طريقته فردته رداً غير جميل وعدته ممخرقاً أخرق فسخط من ذلك وهو غضوب عبوس إلا أنه لم ييأس. وكان نجاحه في ثباته على المطالبة فصدر الأمر الملوكي سنة 1813 بإنشاء مجمع علمي للألعاب الرياضية في استوكهلم عهد إليه إدارته ووفق إلى تحقيق الأفكار التي كانت تخالج صدره وإن كانت تلك الأفكار(25/22)
مشوشة مرتبكة لأول أمرها إلا ا، العمل يجليها والبحث يهذب أصولها وفروعها وساعده على نياته ما تم للعلم من الاكتشافات الحديثة وزيادة انتشار فن الطب ومعرفة ما بين أعضاء الجسم من الصلات.
أما طريقته فهي في الحقيقة مجموع أعمال صحية غايتها تقوية الأعصاب وأن يقاوم المرء المؤثرات المضرة ويستعد لدفع الأخطار التي تحيق به. وبفضل الجهاد الذي جاهده لنج في أعماله زاد في مدة نصف قرن معدل قامات الجنود في تلك البلاد ثلاثة سانتيمات وطالت الأعمار فصار معدل الزيادة تسع سنين عن ذي قبل. ولما بت ذلك بالبرهان والإحصاء أرادت بعض دول الغرب أن تجري على طريقة السويديين فأدخلت طريقة لنج إلى المدارس الجامعة وثكن الجند ولكن العنصر اللاتيني لم يفلح كثيراً في الجري على تلك الخطة لأن أهل شمالي أوروبا أرقى منه في معنى التوفر على الواجب والمبالغة في الخضوع لضروب السخرة المملة فلا يتبرمون من تكرار حركات واحدة وحضور جلسات طويلة على نمط واحد كما يتبرم أهل العنصر اللاتيني.
وبعد فإن من فوائد السباق وفضائله في التربية أنه يضطر صاحبه إلى تعلم النظام ويعده للقيام بالفروض الجندية ولذلك ترى الجدافين في القوارب وهم مضطرون إلى تطبيق حركاتهم بعضهم على بعض وأن يسيروا بنظام تام يأتون في ذلك مثالاً من أمثلة النظام والتكافل وكذلك الحال في لاعبي الكرة بخضوعهم لأمر زعيمهم. هذه الألعاب أحسن مدرسة للشبان كل يوم لأنها لا تبقي عضلة لا تتحرك في خلالها وتثير الحركات التنفسية مع رفع الأعضاء وبذلك يقوى الصدر وتكبر رقعته وتتحسن ضربات القلب وتتصلب الأعصاب وتمرن المفاصل.
ولكن هذه الطريقة في الألعاب على ما هي عليه من النفع بحيث جرى العمل بها في الثكن والمدارس يصعب أن يجري عليها من يتعلمونها بعد لأن الثكنة أو المدرسة إذا خصصت للجندي والتلميذ ساعة كل يوم للرياضة فمن الصعب على من يدخل في مدرسة هذا العالم أن يصرف هذا القدر من وقته كل يوم. بيد أن القوم اخترعوا صوراً من الألعاب لا يحتاج معها المرء إلى شيء من الأدوات ولا تأخذ له من الوقت أكثر من عشر إلى خمس عشرة دقيقة.(25/23)
وقد كثر تحدث الناس في إسكاندينافيا مهد طريقة لنج بطريقة اخترعنها موللر الدانيمركي وما وفق إلى إتقانه في كل فرع من فروع الألعاب وهذا الرجل يحسن تعاطي المجداف والسباحة والتزحلق والصراع والمشي وحمل الأثاقل والقفز والملاكمة والسير السريع وقد نال في ذلك 123 جائزة حتى قال فيه أحد المصورين: إنك يا هذا أجمل مخلوق رأيته في حياتي. بل أنه كتب مؤخراً أنه سيزيد نفسه جمالاً ورقة مع أنه الآن في الأربعين من سنه. وتاريخ هذا الرجل غريب في بابه وذلك أن أباه كان مختل الصحة مبتلى بعدة أمراض وهو كان في صغره كثير الأمراض أيضاً وقد قال عن نفسه: إني لما ولدتني أمي لم يكن وزني أكثر من ثلاث لبرات ونصف بحيث كانت علبة لفائف تسعني وفي السنة الثانية أصبت بزحير كدت أهلك عقيبه كما أصبت في تلك السن بجميع أمراض الأطفال. ولما دخلت المدرسة أصبحت أمرض كل سنة مرتين أو ثلاثاً بالحمى والبرداء والإسهال وغيرها فأنت ترى أن مالي من الصحة والقوة الآن لم أرثهما وأني لم أكن من أهل العافية والسلامة في طفولتي.
ففي سنة 1874 وكان عمره إذ ذاك ثماني سنين وقعت إليه كتب بالألعاب الرياضية مترجمة من الإنكليزية والألمانية ولما قرأها ربت فيه ذوق التمرينات الطبيعية وأخذ يتمحض لها وترك دروس اللاهوت التي كان أخذ بدراستها لأول أمره وتعلم الهندسة العسكرية صم صار مهندساً ملكياً وبعد أن قضى عشر سنين في هذه الصناعة عين مديراً لمصح في جوتلاند شبه جزيرة دانيمركية وهناك نشر كتاباً في الأعلاب الرياضية سماهطريقتي انتشر انشتاراً غريبلاً فطبع منه في 3 أغسطس سنة 1904 إلى شهر مايو من السنة التالية ثلاثون ألف نسخة هذا وسكان الدانيمرك نحو مليونين ونصف فقط. وترجم إلى الألمانية فطبع منه 70 ألفاً وإلى الإنكليزية فطبع منه 25 ألفاً وإلى السويدية 20 ألفاً وإلى الإفرنسية 20 ألفاً. ولئن كان لنشر هذا الكتاب يد في التفنن بالإعلان عنه فإن سهولة طريقته كانت أعظم سبب لانتشاره إذ ليس فيها قيود ولا تعقيد بل أن الربع ساعة يقضيها المرتاض في غسل جسمه ومحن جلده (دعكه) وتغمير بدنه تكفي فيمحن جسمه وهو يستلقي على قفاه ويتلوى ويتوتر ويتثنى بحيث لا ينتهي من اغتساله إلا وقد تحركت جميع أعضائه وأعصابه ويكون قد نظف جسمه وبشرته.(25/24)
وهذه الطريقة نافعة أكثر من غيرها من الألعاب الرياضية لأنها تجعل تنعيم البشرة وغسلها من الأعمال الرئيسية وتلين أعصاب البطن وتجعل لتنفيس الجلد شأناً عظيماً وقد كتب موللر إني ضحكت من أناس في أرباب المسابقات والصراع يغتبطون بأن أجسامهم لا ترشح عرقاً عندما يتعاطون أعمالهم مع أني موقن بأن مسام أجسامهم متسخة بالأدران والأدهان البشرية وصفرة وجوههم واكمداد ألوانهم أكبر دليل على سوء صحتهم. وقد علق موللر على ترويض البطن شأناً كبيراً في تحسين الهضم والعون على انتظام وظائف الأحشاء وتحسين حالة الكلى والكبد.
وسواء شاعت طريقة لنج أو طريقة موللر أو طريقة الجيوجيتسو اليابانية في الألعاب الرياضية فإن ما يهم في هذا الباب انتشار الرياضة البدنية بين جميع الطبقات لا أن تبقى محصورة في طبقة خاصة فيجب أن يتعلم الطفل اعتياد العناية بجسمه وغسله وتقويته ومحنه وأن يواظب على ذلك ما دام حياً. ومن أجل هذا تجد الحكومات الأوروبية تنشط جمعيات الألعاب الرياضية. وقد كتب وزير حربية فرنسا إلى جمعية اتحاد الألعاب الرياضية في العهد الأخير يقول: يجب أن لا تبقى بعد الآن غير طريقة واحدة في التعليم الطبيعي تستعمل في الثلاثة أدوار من أدوار التربية الوطنية وهي المدرسة والمجتمع والجندية وهذه الطريقة هي كبر الصدر وسلامة الرئتين والقلب وتقوية الساقين طريقة تحسن جسم المرء أدبياً وصحياً وتعده كأحسن الناس للحياة والعمل والقتال إذا اقتضت الحال.(25/25)
رب إسرائيل في جزيرة أسوان
جزيرة أسوان هي أول الجزر العظيمة الواقعة في مصب الشلال وتدعى أيضاً الجزيرة وكانت قديماً مأهولة بجماعة من النوبيين وهي عبارة عن قريتين تابعتين لأسوان وتعد عاصمة تخونت (التخوم) ومدينة (أبو) أو (كوبهو) العظمى قال لاروس في معجمه الأوسط: وكان أمراؤها نحو آخر السلالة الخامسة أو السادسة يغزون الصحاري المجاورة أو شواطئ البحر الأحمر ويتجرون معها وكانت ملوك السلائل المنفية تنزلها عندما تريد الإشراف على أحوال التخوم واستعمر سكان هذه الجزيرة بلاد النوبة الشمالية بين السلالة السادسة والحادية عشرة. ولقد ضعفت مكانتها عندما توسعت في التخوم نحو الجنوب على عهد ملوك الثيبيين وأصبحت مدينة يرحل إليها للتجارة والزيارة ولما جاء المصريون إلى جوار الشلال عندما انفصلت الحبشة عنهم في الدولة الثانية عشرة استعادت مركزها الحربي إلا أن ارتقاء أسوان المعدودة من جملة أحيائها على الحدود بين الحبشة ومصر على عهد الدولة الفارسية ثم على عهد الدولة اليونانية قد أضر ضرراً بليغاً بحالتها كما سقطت على عهد الرومان ولم تكن على عهد الفتح البيزنطي والعربي غير أنقاض وقد بقي من المعبد الكبير قطعة من بابه أنشأها توتموسيس الثاني وجددت على عهد الإسكندر الثاني ولا يرى من عادياتها إلا صخور مشتتة بين خرائب المدينة أو مسدودة بالرصيف القديم ومقياس النيل الذي جدد على عهد القياصرة وعني بأمره أحد علماء الفلك من العرب محمود باشا الفلكي سنة 1870 وقال بوليه في معجمه التاريخي والجغرافي أنه كان في جزيرة أسوان قديماً معبدان جميلان يرد عهدهما إلى زمن أماناهوبتو الثالث وقد خربا سنة 1818 لتبنى بأنقاضهما ثكن في أسوان.
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان وأسوان بالضم ثم بالسكون وواو وألف ووجدته بخط أبي سعيد السكري بغير الهمزة وهي مدينة كبيرة وكورة في آخر صعيد مصر وأول بلاد النوبة على النيل في شرقيه وهي في الإقليم الثاني طولها سبع وخمسون درجة وعرضها اثنان وعشرون درجة وثلاثون دقيقة وفي جبالها مقطع العمد التي بالاسكندرية. قال أبو بكر الهروي وبأسوان الجنادل ورأيت بها آثار مقاطع العمد في جبل أسوان وهي حجارة ماتعة ورأيت هناك عموداً قريباً من قرية يقال لها بلاق أو براق يسمونها الصقالة وهو ماتع مجزع بحمرة ورأسه قد غطاه الرمل فذرعت ما ظهر منه فكان خمسة وعشرين ذراعاً(25/26)
وهو مربع كل وجه منه سبعة أذرع وفي النيل هناك موضع ضيق ذكر أنهم أرادوا أن يعملوا جسراً على ذلك الموضع. وذكر آخرون أنه أخو عمود السواري الذي بالاسكندرية وأشار ياقوت إلى ما بأسوان من التمور المختلفة وأنواع الأرطاب وقد ذكرها البحتري في مدحه خمارويه ابن طولون بقوله:
هل يلقيني إلى رباع أبي الجي ... ش حظار التغوير أو غرره
وبين أسوان والعرا ... ق رعية ما يغبها نظره
ونسب إلى أسوان قوم من العلماء وقال المقريزي في الخطط ما يقرب من هذا القول في أسوان وبتطويل أكثر. هذه هي أسوان وقد قرأنا في جريدة الطان للمسيو كلرمون كانو من أعظم علماء الآثار الشرقية في الغرب فصلاً وصف فيه ما عثر عليه من آثار تلك الجزيرة الأزلية فرأينا تعريبه مع مراعاة الأصل قال: إن مجموع الاكتشافات الحديثة التي ظفرنا بها في هذه الجزيرة قد وقعت بين العلماء أعظم موقع وهي تهم تاريخ التوراة في الغاية. هذه الاكتشافات اليهودية لم يعثر عليها في طور سيناء مهد اليهودية ولا في القدس مقرها بل عثر عليها فيما وراء ذلك من البلاد على تخوم مصر والنوبة على بضع دقائق من دائرة الانقلاب في جزيرة للشلال الأول على النيل في مكان لم يكن يتوقع أن يرى فيه رب إسرائيل يهوه بعيداً إلى هذا الحد ويرد عهده إلى خمسة قرون قبل المسيح. وقد قام يقول لنا بلسان من يتعبدون به ممن رافقوه إلى تلك البلاد من أبناء إسرائيل أموراً جديدة ربما تغير بها تفسير الكتاب المقدس وبذلك صح لنا أن نقول أن النور جاءنا من الجنوب اليوم ولم يكن ينتظر أن يجيئنا بعد منه شيء.
ومعلوم أن بلاد الفراعنة ما زالت قديماً وحديثاً مخصبة بضروب الاكتشافات الأثرية فهي البلاد التي أزهر فيها ورق البردي فكانت ميداناً مباركاً لعلم الآثار آتانا ولم يبرح يأتينا بكتابات قديمة خطت على هذه المدارج الرقيقة من ضروب الكتابات المصرية واليونانية واللاتينية والقبطية والعربية وغيرها فكان لنا منها كنوز أدبية حقيقية في صورة أوراق من البردي ولنا منها كل يوم قطعة جديدة ومادة ندهش بها ونسر. فبالأمس اكتشفت قطع من روايات مياندر الشاعر الهزلي ففرح بها أهل الأدب. وقبلها بقليل كان اكتشاف آثار للمسيح تصل بنا إلى أصول النصرانية وما يدرينا ماذا خبأته لنا مصر غداً من الآثار ولعل(25/27)
اكتشاف اليوم سيكون توراة أقدم من التوراة المعهودة وإن ما اكتشف حتى الآن ليدعو إلى الأمل في ذلك.
ولكي نمثل للأنظار طبيعة الصكوك اليهودية وخطارتها التي ظهرت للوجود في أسوان تقضي الحال بأن نرجع قليلاً إلى البحث في المسألة من أصلها. فقد كانت مصر عجيبة بما اكتشف فيها من أوراق البردي التي كتبت عليها لهجات أجناس من البشر مختلفة كثيرة ممن تعاقبوا احتلالها فيما سلف إلا أنها ضنت إلى اليوم كل الضنانة بإخراج كتابات باللغات السامية القديمة اللهم إلا بضعة عشر قطعة من البردي كتبت بحروف آرامية عثر عليها منذ نحو ثلاثين سنة. ولئن اختلف علماء المشرقيات في أمر هذه الكتابات لصعوبة حلها فالرأي المجمع عليه يكاد يكون متفقاً على أمر واحد وهو أن تلك الأوراق هي من عهد البطالسة اليونان كما هو الحال في بعض المنقوشات على الخزف والمزبورات على الحجر المخطوطة بلغة وحرف مشابه لها مما عثر عليه حتى الآن في مصر.
وإذ سنح لي الزمن منذ سنين بالتوفر على البحث في هذا الموضوع تبين لي حل آخر يخالف رأي غيري واستندت على أمور مختلفة استنتجت منها بأن جميع هذه الصكوك الآرامية يجب الرجوع بها إلى أقدم مما قدر لها من العمر أي إلى عهد الفرس الحجمانيين وعهد دارا وكسركس وأرتاكسركس.
وإذا صح أن الأمر كذلك فيكون منها أثر تاريخي لأنها لم تقف عند إبدال شيء من التاريخ بل يكون منها تغيير تام في المحيط السياسي والديني. تبين لي هذا الرأي المخالف للآراء كلها من تأويل إحدى قطع تلك الأوراق من البردي المكتوبة بالآرامية المعرفة ببردي تورين فقد قرأت فيها رأس محضر رسمي أرسل إلى أحد المرازبة في مصر وعليه اسم ميتراوهيشت وهو اسم آرامي لا محالة. ورأيت تناسباً في التعبير المستعمل بين هذا المعروض وبين الذي أرسله إلى الملك أرتاكسركس حاكم بلاد السامرة بشأن منع إعادة بناء معبد القدس الذي شرع فيه اليهود ثم تم على يد نيحيميا وهو المعروض الذي حفظ بنصه الآرامي في كتاب أسترادس المتعلق بالتوراة. وظاهر أن هذا الاستنتاج التاريخي يتناول مجموع النصوص الأخرى المماثلة لها التي صدرت في تلك البلاد ولم تلبث أن تحقق أمرها بما تهيأ لها من الاكتشافات المتعاقبة في مصر وغير ذلك من الكتابات والرقوق(25/28)
الآرامية التي كتب عليها التاريخ بحروف جلية من عهد كسركس ودارا وأرتاكسركس فثبت ما قلناه بالبرهان.
ومن جملة أوراق البردي المكتشفة مؤخراً ورقة ذكرت فيها بعض الحوادث التي حدثت سنة أربع عشرة لعهد الملك دارا الثاني الموافقة لسنة 411 قبل التاريخ المسيحي وقد غلط المسيو أوتنج أحد علماء الألمان الذي عهد إليه نشر هذه الأوراق في قراءة عدة فقرات منها وإذ أخذت أنظر فيها بعده تبين لي أنها عبارة عن شكوى عامة أو معروض عام أرسله إلى المرزبان في مصر جماعة من غير المصريين وربما كانوا من اليهود لإقامة الحجة على اعتداء مدرسة الكهنة المصريين وعبثهم بقبور الرب خنوم في جزيرة أسوان وبذلك عرفت هذه الجزيرة بأنها مركز سامي آرامي جليلة القدر جداً من العهد الفارسي لاسيما وقد أسعد الحظ باكتشاف صكوك مماثلة لها. وقد أرادت الحكمة إذ ذاك علي المبادرة في الحفر والبحث في تلك الرجاء التي هي كالمعدن المملوء بالخيرات ولكني كنت كمن يعظ في قفر أو يصرخ في واد. وما جاء ربيع سنة 1904 حتى تبين أني لم أكن ضالاً فيما دعيت إليه فعثر بالعرض بعض الوظنيين ممن كانوا يحفرون في خرائب أسوان في تربة نشادرية يسمونها سباخاً ويستعملونها في تسميد الزرع على نحو عشر قطع من أوراق البردي مطوية مختومة فابتاعها في الحال المسيو موند واللادي ويليام سيسيل وكانا إذا ذاك في مصر وبعد مدة نشرها المستر كولي في كلية أكسفورد. وكان فيها نصوص سالمة عظيمة بحروف آرامية لطيفة تشبه القطع المعروفة حتى الآن من كل وجه وكلها بلا شك من صنع اليهود النازلين في جزيرة أسوان ومدينة أسوان الواقعة على الشاطئ الشرقي للنيل أمام الجزيرة. لا جرم أن هذا الحادث مهم في ذاته ولكنه ليس مما يدهشنا لأننا نعرف بأن اليهود في سفر الخروج تركوا لغتهم العبرانية القديمة الوطنية وتعلموا اللغة الآرامية وكتابتها وكانت هذه اللغة شائعة في مديريات المملكة الفارسية. كما ترك اليهود أموراً كثيرة أخرى ليس هذا محل ذكرها.
هذه الخطوط المكتوبة على البردي هي حجج حقيقية مسجلة غريبة للغاية يرد عهدها بالتدقيق إلى كسركس وأرتا كسركس ودارا بالسنين والشهور والأيام مع بيان موافقة حساب السنين الآرامية والمصرية وهي مرتبة على ستين سنة مضت بين سنة 470 إلى سنة(25/29)
410 قبل المسيح وقد دونت بطلب الأحزاب بمعرفة أحبار اليهود ووقع عليها توقيعات جمة للتصديق عليها بشهادة كثيرين وهي تدور على مسائل كثيرة في التعامل كالبيوع والشراء والهبة في العقارات والأراضي ومسائل الأسواق والأحكام وحل الاختلافات أمام المحاكم أو على طريقة ودية وعقود زواج ونظر في مسائل الطلاق مع خلاصتها الشرعية سواء كان للمتزوجين أولأولادهما ووصف من أدق ما يكون وأفيد لجهاز المتزوجين وتقدير أثمانه قطعة قطعة والمواريث وقسمة العبيد المنتقلين بالإرث إلى غير ذلك.
وبعد فإن مجموع هذه المستندات المنقطعة القرين التي ظهرت سالمة في بعض دفاتر بعض البيوت قد أتتنا بجملة من الفوائد هي غاية في مكانتها وذلك لأنها دلتنا على وجود شعب عظيم من الإسرائيليين في أسوان قبل المسيح بخمسة قرون وعرفتنا بلغته وكتابته وأخلاقه وأوضاعه ومعتقداته وصلاته مع الحكومة الفارسية والشعب المصري وغير ذلك. ومن جملة المسائل التي تنحل بواسطة هذه الأوراق أو توضع موضع البحث مسألة دونها كل المسائل ألبا وهي التي لها علاقة برب إسرائيل وما له في تلك البلاد من الشأن. فقد رأينا اسمه مذكوراً فيها عدة مرات بدون حرج كما صار ذكره بعد. فكان القوم هناك يقسمون برب إسرائيل كما يقسم
بالأرباب المصرية (كانت ساتي ربة جزيرة أسوان) عندما يراد القسم ثم أنهم لم يبالوا بالحظر التقليدي عليهم وأنشئوا في ذاك الرجا البعيد معبداً لرب إسرائيل غير مبالين أن ينافس معبد القدس وليس المعبد الذي أقاموه عبارة عن كنيس بسيط أو مصلى صغير بل هو معبد حقيقي مستوفٍ للشروط وفيه مذبح تراق فيه دماء الضحايا ويصعد منه دخان البخور كأن اليهود إذ ذاك في هاتيك الجزيرة هم في عهد عزهم واسعد أيامهم كما كانوا في صهيون.
أصغت الحكومة الفرنسوية لطلبي وأرسلت بعثة علمية تحت رئاستي إلى أسوان في السنة الماضية للبحث عن حارة اليهود فيها أو لتحديد موقع معبد رب إسرائيل إن أمكن وكانت هذه المسألة من أعقد المسائل لأن معرفة موقع المعبد كانت معلقة على معرفة ما إذا كان موجوداً في مدينة أسوان المنفصلة عن الجزيرة بذراع من النيل أو على العكس كما كنت أظنه في الجزيرة نفسها. وأنا أقطع مذ الآن أن المسألة مبتوتة في هذا الشأن.(25/30)
ولقد دامت الحفريات أربعة أشهر يعاونني فيها أخلص تلاميذي وأقدمهم المسيو كليدا فقاسينا في عملنا عرق القربة وكانت أعمالنا لأول عهدها تدعو إلى اليأس ولاسيما فيما يتعلق بغايتي الخاصة. وذلك أنا لما وصلنا الجزيرة رأينا بعثة ألمانية قد سبقتنا إليها منذ سنة واختصت دوننا بطبيعة الحال بالموقع الحسن لإجراء الحفر واختارت أقدم بقعة يرجى أن يكون فيها خير كثير ويسعل على المعاول أن تحفر فيها.
فاكتفينا بما أغفلته تلك البعثة من الأراضي وأخذنا نجيل فيها قداح أنظارنا ونضرب فيها معاول عمالنا ولم يأتنا الحفر مدة شهرين بغير بعض الآثار المصرية واليونانية ولكنها كانت بكثرة ونادرة بنوعها ومنها عدة مسلات فرعونية وتمثالان جميلان لتوتمس الثالث مصنوعة من حجر الكرانيت الأسود ولاسيما قبر الرب خنوم أوشنوب أكبر أرباب أسوان وهو الذي لم يكن على اتفاق مع اليهود الذين وقعوا على الشكوى المذكورة آنفاً. وعثرنا على قاعة تحت الأرض لم تمس بأذى تحتوي على نواويس من الكرانيت والحجر الرملي جعلت عليها أغطية مذهبة وجملت بأجمل زينة من الصور والنقوش وهناك خمسة عشر كبشاً محنطاً مقدمة للثور أبيس على نحو ما اكتشف مثالاً من ذلك قديماً ماريت الفرنسوي في مدينة منفيس.
كل هذا حسن ونافع في ذاته ولكنه لم يقف دونه غرضي. لأني لم أتحمل مشقة السفر إلى أسوان للبحث عن العاديات المصرية بل للبحث عن الآثار اليهودية. وبعد أن كدنا نصل إلى أخريات وقت بعثتنا عثرنا بعد الجهد الجهيد على حارة اليهود الآرامية وظفرنا بكمية من النقوش المزبورة على الفخار مغشاة بكتابات آرامية يهودية. وقد كتب معظمها في وجهين. وهذه الكتابات النادرة على كثرة الخرق فيها قد أطلعتنا على جزء من المراسلات الودية اليومية التي جرت بين يهود جزيرة أسوان وأخوانهم يهود مدينة أسوان وقد كتبت في زمن واحد هي وأوراق البردي الآنف بيانها وبخط واحد ولغة واحدة حتى أن جملة الموقعين عليها نفس الأشخاص الذين عرفناهم بتلك الأوراق البردية، وذكر فيها اسم رب إسرائيل بصورة من الإملاء خاصة لم تكن تعهد. ولاشك أنه متى تمت قراءة هذه الآثار الفخارية نطلع على أمور جديرة بالنظر وكبيرة الخطر والقيمة.
وقد كان داهمنا الحر بخيله ورجله فأوقفت العمل في شهر أبريل وسنعادوه بعد أسابيع(25/31)
بفضل ما جاد به المجمع العلمي ووزارة المعارف من المال وما مد به يده من المساعدة رصيفي المسيو أدمون روتشيلد وإني على ثقة من أننا نوفق هذه المرة إلى الظفر بموقع معبد رب إسرائيل وقد اكتشفت البعثة الألمانية التي كانت تعمل بالقرب منا برئاسة المسيو روبنسون أوراقاً من البردي الآرامية اليهودية ووكل أمر قراءتها للمسيو ساشو من برلين وقد نشر كلامه على ثلاثة منها. وأهمها صك رسمي ذو شأن عظيم يفيد فوائد كثيرة في تاريخ اليهود والتوراة وهذا الصك عبارة عن محضر مؤرخ في اليوم العشرين من شهر مارهزوان من السنة السابعة عشرة لحكم دارا (408 قبل المسيح) بعث بها إلى السيد باكوهي والي الفرس في بلاد فلسطين أرسلها إليها يدوناه ورصفاؤه من كهنة أسوان باسم جميع تلك المدينة من اليهود ولقد أتى الموقعون على ذلك المحضر بعبارات تكاد تكون بمعناها مشاكلة لما في ورقة البردي المعروفة باسم تورين وكلها دائرة على الدعاء له بأن يمنحه رب إسرائيل بركاته ودعاء له أن يحفظ عليه رضا دارا مولاه ورضى الآل الملوكي وقد ذكروا له أن الكهنة المصريين للمعبود خنوم في أسوان قد كادوا لهم مكيدة عندما تغيب مرزبانهم في مصر المدعو أرسام الذي كان قصد الملك بدعوة منه وتربصوا بهم الدوائر عند واليها المدعو ويدانج الذي رشوه بالمال فحصلوا منه على أمر يوعز إلى قائد أسوان العسكري أن يذهب لتخريب معبد رب إسرائيل في جزيرة أسوان قائلين أن هذا المعبد كان أنشئ قديماً على يد آبائهم وكان موجوداً قبل أن يفتح كمبيز مصر فلم ير بداً من احترامه على حين خرب سائر معابد المصريين ويفهم من ذلك ضمناً أن المعبد كان بناءً هائلاً مبنياً بالحجر النحيت وهو ذو سبعة أبواب أثرية وعمد من الحجارة وسقف من خشب الأرز. وقد نفذ أمر الوالي ويدرانج بلا شفقة في الحال وأعان الجند جمهور من المصريين فخربوا المعبد المقدس وحرقوا ما فيه وحطموه ونهبوا الأواني الذهبية والفضية وسائر الأعلاق النفيسة. فعم الحزن سكان أسوان بأسرهم رجالهم ونسائهم وأولادهم من أجل خراب معبدهم ولبسوا الحداد وأخذوا ينتحبون بكاءً وصاموا وضرعوا إلى رب إسرائيل أن ينتقم من الظالمين. واضرب القوم عن التزين وتعاطي الخمر فأصبح النساء كالأيامى. وبعد حين نكب الوالي زيدرانج وجاد بنفسه مضطراً وهلك جميع من نفذوا أمره ف يخراب معبد أبناء إسرائيل فكفروا بذلك عما جنت أيديهم بيد أن أصحاب المحضر لم ينالوا إلى ذاك(25/32)
اليوم على كثرة ما بذلوا من المساعي رخصة بإعادة بناء معبدهم بحيث قضوا ثلاث سنين في حزن لأنهم لا يتمكنون من تقديم الضحايا الدينية وإيقاد البخور وعرض الذبائح على معبد رب إسرائيل. وعبثاً توسلوا أيام نكبتهم بخراب معبدهم بباكوهي والي بلاد اليهودية ويوهوهان الكاهن الأعظم في القدس وبسائر الكهنة رصفائه وبأخيه أستان أناني وأمراء اليهود في فلسطين فلم يأتهم جواب ولذلك وضعوا آمالهم ثانية في باكوهي أن يرضى عنهم ويجعلهم في حل من إعادة بناء معبدهم في أسوان كما كان من قبل وهم لقاء هذا المعروف الذي يسديهم إياه يقدمون لاسمه الضحايا إلى رب إسرائيل على المذبح الذي يقيمونه لتمجيده وعبادته قالوا وأن جميع يهود أسوان رجالاً ونساءً وأولاداً لا ينفكون يباركون على باكوهي ويدعون له ثم هم زيادة على الضحايا والذبائح يقدمون له دخلاً قدره ألف بدرة من الفضة خل عنك الذهب الذي أخبروه بأنهم سيؤدونه إليه إذا رضي بإجابة طلبهم (ما أقدم البخشيش في الشرق) وذكروا في الختام بأنهم أطلعوا على ذلك كله كلاً من دلاياح وشلماياح ابني سانالايات حاكم بلاد السامرة وأن الكاهن أرسام لا يعرف من ذلك شيئاً.
أما الصك الثاني فيكاد يكون مخرقاً كله ويحتوي مع بعض اختلاف على صورة ثانية من هذا المحضر الذي احتفظ مرسلوه بصورته ومسودته. وفي الصك الثالث عبارات كثيرة تشير إلى أن يهود أسوان رخص لهم بإعادة معبدهم بفضل توسط باكوهي ودلاياح فأعادوه إلى ما كان عليه وعمروه بالعبادة ومما لا شك فيه أن بعض الأوراق التي لم تقرأ قد ذكرت فيها أكلاف المعبد ونفقات بنائه.
وهنا لا أرى بيان فائدة هذه الأوراق وموقعها من نفوس العلماء فقد أحيت في نظرنا رجالاً اشتهر أمرهم في التاريخ وهم من الطراز الأول وذكر فيها اسم يوهوهانان الكاهن الأعظم في بيت المقدس وسانابالات والي السامرة وهما مذكوران في التوراة ووالي اليهودية باكوهي وقد ذكره فلافيوس جوزيف المؤرخ اليهودي باسم محرف عن اليوناني وهو باكواس وهذه الورقة هي صفحة صحيحة من عهد حوادث ينبغي إضافتها إلى سفر نيحيميا. فهل يكون من حظ البعثة الإفرنسية أم من حظ البعثة الألمانية يا ترى الظفر هناك بتوراة يرد عهدها إلى ما قبل المسيح بخمسة قرون في حفرياتنا الجديدة؟.(25/33)
مطبخ الفقير
من مبحث للدكتور فيليكس رينيول في المجلة الباريزية
طعام المتوحش غليظ كبنيته
أصبح أفقر البائسين لعدنا في مأمن من الجوع على أن المتوحش لا يزال عرضة للمجاعة لا لأن الطعام المدخور عنده قليل بل لأنه يجهل الزراعة وتربية الماشية وتختلف موارد عيشة من الصيد والقنص كثيراً إذ ليست أبداً منه على طرق الثمام. وما مثل المتوحش إلا كالجوارح الكبيرة من النمر والفهد يصيد الصيد تلذذاً بالقتل وهو لا يحسب للغد حسابه ولما كان على جهل بطريقة تجفيف اللحم والتقديد أصبح من الصعب عليه أن يدخر اللحوم لأوقات القلة. وهناك أمورمن الخرافات المضحكة تزيده بلاء وذلك أنه يرى بعض الحيوانات مقدسة ويعتقد أنها اجداد قبيلته فإذا رآها اتخذها طوتمه وحاميه ويعد نفسه إذا قتلها كلها بأنه خرق الحرمة وعبث بأقدس المقدسات. يتقزز المتوحش من جميع الأطعمة التي لم يعتد تناولها قد فإن تغذى بلحوم الصيد تأنف نفسه من تناول السمك وإن اغتذى من السمك يعاف اللحم. ومع هذا تراه يعمد إلى اختيار الأطعمة الغليظة. إن جاع عمد إلى الحبوب البرية والجذوع الخشبية واسترط الحشرات والديدان وأخذ القمل عن أخيه يقضمه. ومعلوم أن لا شيء يخلو من صوالة مغذية حتى التربة الصلصالية التي تغتدي منها ديدان الأرض أحسن تغذية والإنسان يسير على مثالها فيكون من أكلة التراب ولكن أمعاءه لا تهضمها فينتفخ بطنه ويحدث التهاب في الأحشاء يكون منه الموت.
إذا أسعد المتوحشين الحظ فقتلوا حيواناً كبيراً أو صادوا سمكة ضخمة يقعون عليها كالحيوانات الجائعة. فقد وصف لنا أرباب الرحلات شراهتهم الحيوانية فإن الصانيين من قبائل الهوتنوت في أفريقية الشرقية إذا ضربوا فرس بحر يفتحون جثته وهو حار ويأكلون أحشاؤه كما تأكلها الكلاب. وإذا سقط حوت على الشاطئ يخف سكان أوستراليا الجياع عراة كيوم خلقوا وينغمسون في الدهن ويبلعون قطع الحوت الكبير بلعاً ولا يرجعون عنه إلا وقد امتلأت كراشهم وشبعوا وانتفخت بطونهم فينامون بعد ذلك طويلاً. بيد أنه لا يجب علينا أن نسخط مما يبلغنا عن أولئك المنحطين في سلم المدنية فإن فلاحينا يأتون في ولائمهم من الإكثار من الطعام والشراب ما لا يقفون فيه عند حد ولولا أن أنواع الأطعمة(25/34)
تختلف لقلنا أنهم المتوحشون بعينهم.
المتوحش إذا لم يتخير رديء الأطعمة فهو لا يعرف الطبخ ولا أعني بذلك أنه لا يجيد طبخ طعامه بل أنه لا يعرف كيف ينضجه ولا شك أنه لم يعهد إلى الآن قوم مهما انحطوا في دركات التقهقر يجهلون إيقاد النار. ولكن من القبائل من لا تحسن الانتفاع بها وهي توقد جذوة على الدوام لتظل النار عندها بلا انقطاع. ولا عهد لهم بأواني الطبخ لما ثبت من أن بعضهم يجهلون صنع الفخار فيلقون حجراً محمى في الماء إذا أرادوا تسخينه وهم على جانب من الكسل بحيث يؤثرون أن يأكلوا معظم المآكل النيئة كالديدان والهوام والأسماك ويقضمون بفكوكهم القوية الجذوع القاسية والأثمار الليفية.
قال المترفه بيريللا سافارين الفرنسوي مؤلف كتاب فسيولوجيا الذوق (1755 ـ 1826) قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت. وهذه الحكمة يتيسر لعلماء الإنسان أن يطبقوا عليها أبحاثهم وذلك أن طعامه قلما يكون صالحاً للأكل وأن للمتوحش فكوكاً ضخمة مستطيلة وأضراساً غليظة وأعصاباً للمضغ قوية. وعندما يتحضر تتحسن أطعمته وتخف قوة شدقيه وأسنانه.
يقول المسيو حنا فينو أنه ليس بين الأجناس المتمدنة من البشر فروق كثيرة وعلى العكس في الأجناس المتوحشة فإن بينها وبين المتمدنة اختلافاً كثيراً في الصور الظاهرة والحواس الباطنة وظن بعض علماء الإنسان بأن هذه الاختلافات هي على إطلاقها على أنها مما يمكن تعديله وبذلك يتسنى لنا تعليلها. ولقد كانت أول الاكتشافات في أول عهد الحضارة هي اكتشافات الطبخ فقد رفع القدماء إلى مصاف الأرباب الأذكياء الذين علموهم زراعة الأرض وتدجين الحيوان وصنع الخبز وتخمير المشروبات.
إفراط المتمدنين في المآكل الأطعمة التي يتقزز منها والتر يرغب عنها:
قلنا أن المرء اليوم يكاد يكون في مأمن من الجوع ولكن الشر الذي عجز الوجود أن يسومه إياه أصبح خاضعاً له بواسطة الحروب مختاراً. فإذا حوصرت مدينة يعمد الجياع من أهلها إلى تناول الأطعمة القذةر كالكلاب والقطط وجرذان المجاري وسائر أصناف الحيوان ويذكرون أن الجلد والعشب والخشب لها بعض الخصائص في التغذية وللضرورة أحكام.
تجد مائدة الفقير في الأوقات المعتادة مغشاة بالأطعمة التي هي أكثر تغذية والطف طعوماً(25/35)
مما يقنع به أخوه الفقير الحقير ولذلك يستهين بالأغذية التي تطيب بها نفس أخيه المتوحش فتعاف نفسه الحبوب وجذوع الأشجار والحشرات والديدان وكل ما يدب ويطير علماً منه بأن مثل هذا الغذاء لم يخلق له. على أن جودة التحضير قضت على الفرنسيس أن يتناولوا أفخاد الضفادع والحلزون. والإنكليز يتقززون من الفرنسيس مع أنهم لا يستنكفون من تناول فطير الغراب.
الفقير كالمتوحش عدو التجديد في كل ما له علاقة بغذائه يأبى تناوله أحسن طعام لم يعتده منذ طفولته. ولم ننس ما قاساه بارمانتيه في القرن الثامن عشر حتى صير البطاطا مألوفة بالاستعمال بين الناس. وقد مضت أعوام قبل أن يقبل الفقير باستعمال لحوم الخيل مع أنها مغذية جداً ولا نزال إلى الآن في جهاد حتى يألف الناس استعمال السمن النباتي المستخرج من الجوز الهندي على أن في استعماله اقتصاداً وهو سهل الهضم لذيذ الطعم يأبى العملة الاعتماد عليه وبعض أهل الطبقات الوسطى تقبل عليه.
نحن كالمتوحش نسرف في الطعام ويصعب تقدير كمية الطعام التي تلقى كل يوم في علبة الفضلات وليتنا نحسب الأرغفة البائتة التي تطرح طرح الزوائد وليت جمعيات الإحسان تتمكن من جمعها لتعمل بها ثريداً أو حساءً لألوف الفقراء. ولا يخلو واحد فينا من الإسراف في الطعام حتى الجند في ثكنهم فإنهم يلقون بفتات الخبز الأسمر. أما سائر الأطعمة فلا ينتفع بها لكثافتها على أن فيها ما لا يزدري به وينفع كل النفع. تملأ كل صباح في أسواق باريز عجلات الصوالات والفضلات بمواد يسهل استعمالها وذلك أن القوم يطرحون رؤوس الأسماك ولا سيما (الكابيلو) و (الكولين) ولو أخذت لصنع بها حساء لطيف.
وربما اعترض معترض فقال إن هذه الفضلات قليلة وإذا صارت تباع ترتفع أثمانها على أننا لو فرضنا أن رأس سمكة الكولين بيع بخمسة وعشرين سنتيماً وصرف في الرز والطماطم والبصل والبقدونس والصعتر والملح والثوم والنار فرنك يكفي الحساء المستخرج من هذه الصورة بفرنك واحد لإطعام ثمانية أشخاص.
نعمل سلاطة مقبلة بأوراق القضبارون (سفورجنة) وإن سفير (الأوراق الذابلة) الفجل إذا استعملت كما يستعمل السبانخ تطيب وتلذ وإن الجزء الأخضر من الكراث الذي يطرح في(25/36)
العادة يمكن الانتفاع به في الحساء حتى أن الأوراق الخارجية وبقايا (قرمية) الملفوف تحتوي على مواد مغذية. نعم إن الناس يخشون من أليافها الصلبة ولكن إذا أجيد طبخها وأطيل الإطالة اللازمة وسحق سحقاً كافياً لا يخشى منها. والناس يلقون أيضاً فضلات رؤوس البقر على حين تستخدم في زيادة طعم حساء البقول ولكن العامل يصنع منها مرقاً بالخضر وهو لا يعرف إلا المرق المطبوخ بالبقول الناشفة المقسمة أحسن تقسيم ويأبى إباؤه أن يغتذي بمثل هذه الفضلات.
وهناك بعض المواد يمكن الانتفاع بها في الغذاء على شرط أن تحضر تحضيراً خاصاً ولطالما بحث الباحثون من أجل الانتفاع بالألياف العظمية فإن الكلب يأكلها جيداً وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري على مثاله فذلك لأن ماضغيه وأحشاؤه ضعيفة. ولقد حاول كثيرون منذ قرون أن ينتفعوا بالعظام أو بالهلام (الجلاتين) المستخرج منها ليطعمها الفقير واستعملت طريقة الكيماوي (أبرت) في استخراج الهلام من العظام لحفظ المأكولات ولكن الجلاتين أقل تغذية مما كان يذهب إليه الناس من قبل فهو يزيد الحرارة في الجسم ولكنه لا يقوى على تقوية أنسجتنا ولا تجد فيه خاصية اللحم والألبومنيد وإذا تغذى الكلب بالجلاتين خاصة يموت لساعته.
جمود الفقراء وغيرهم على أحسية واحدة
يقول علماء الاقتصاد حيثما يخرج رغيف يولد إنسان. يريدون بذلك أن سكان كل بلد على نسبة غناها في غذائها وإذا كان الجمهور يزهدون في جميع هذه المواد النافعة في التغذية التي تكثر سواد الناس أما في طاقة دور الإحسان أن تستخدمها وتحسن استعمالها كانت العقيلة روبرت أول من فكر سنة 1840 في تحضير وجبة طعام لفقراء باريز لقاء أربعة فلوس وطعامها مؤلف من حساء بالملفوف وقطعة من الثريد والخبز وقدح من الحمر. ثم كان عقيب ذلك أن صار يقد حساء بلا مقابل للفقراء وكان بريبان أول رجل من أصحاب مطاعم الفقراء أخذ يوزع الطعام على المساكين. ومع ما دخل هذه المطاعم من الأدوات التي تهيئ الأطعمة أسرع من ذي قبل وعلى صورة أحسن مثل أدوات القطع والفرم والسحق فإن هذه المطاعم لم ترتق الارتقاء المطلوب وأمثال هذه الأدوات تستخدم للانتفاع بالمواد التي تطرح ولا تستعمل بالنظر لصلابتها وذلك بأن تحيلها إلى ثريد يسهل تشبيهه(25/37)
بالثريد المعروف وهكذا الحال في أنواع الأطعمة فإن مطاعم الشعب لا تبحث لصنع حسائها عن الحبوب التي تكثر تغذيتها وتقل قيمتها كالأرز والشعير والقرطمان.
ولعل هذا ناتج من أن للفقير من عزة النفس ما يجعله يأنف من بعض الأطعمة حتى أنك لو قدمت له طعاماً مؤلف من الفضلات اللذيذة لرأى في المسألة نظراً. وكثير من الفنادق توزع بقايا الطعام على الفقراء. وقد قال أحدهم يوماً وخدام أحد الفنادق يريدون أن يطعموه: إنهم أكلوا الأطايب ولم يتركوا إلا الأخابث. وأظهر من هذا صراحة ما قاله الدكتور فيرون: أريد أن أعرف ماذا جرى للكمأة فإنني لا أجدها قط.
إلا وأن كل اختراع في هذا السبيل ليصعب ويسوء قبوله بين هؤلاء الزبن وما أظن أنه لو قام أحد المحسنين في هذا القرن وأنشأ يطعم الفقراء من الفضلات التي تطرح في الأزقة على طريقة علمية إلا ويكون شأنه شأن سويه الفرنسوي منذ ستين سنة. وهذا الرجل كان من أعظم الطهاة اشتهر في وقته وله شراب منسوب إليه كما له مرق اشتهر به فقد كان مديراً لمطابخ ريفورم كلوب في لندن فزعم أنه اكتشف طريقة لمكافحة القحظ في إيرلاندا وأسس في أحد شوارع دوبلين بأمر الحكومة مطعماً للشعب واحتفل بافتتاحه فحضر الاحتفال جمهور كبير من الناس ومنهم رئيس أساقفة دوبلين ونائب ملك إيرلاندا وقدم للناس سبعة أنواع من الطعام على أخونة لطيفة وفي أوان حسنة وكانت نكهة أنواع الحساء تنبعث كالعطر واستطاب الناس تلك الأحسية وأقبلوا على محله إقبالاً غريباً يفدون خماصاً ويروحون بطاناً. دام الحال على هذا المنوال شهراً وأولمت الولائم لسويه في المدينة حتى أن نائب الملك دعاه لتناول الطعام على مائدته. وأخذ الفقراء يباركون اسمه لأنه كان لهم بمثابة المسيح الذي أنقذهم من مخالب الجوع والمخمصة وفي خلال ذلك عزمت دار الندوة أن تقرر إنشاء مطابخ للشعب تشبه مطاعم سويه في بلاد الأقاليم إنقاذاً للناس من فتكات الجوع وعندما خطر لسوئه أن ينشر كراسه يكتب فيها كيفية تحضيره هذه الأنواع من الأحسية قائلاً أن لحومها قليلة وكثير منها خال من اللحم بالمرة فقامت الجرائد المعارضة تشهر عليه حرباً عواناً قائلة أن أنواع هذا الحساء لا تغذي طاعمها وتفسد بنية الإنسان وينشأ عنها أمراض شديدة بل مهلكة وذهبوا إلى أن انكلترا رأت في هذا الطعام القتال أحسن واسطة لإلقاء السلام في إيرلاندا للتخلص بصور شريفة من ألوف البائسين(25/38)
المعربدين لأن وجودهم كان على الدوام سبب القلق على سياستها وحملاً ثقيلاً على الميزانية، فاضطر صاحبنا سويه إلى السفر خلسة توقياً مما يلحقه من الأذى وربما كان صلب.
تعليم العامل كيف يحسن ابتياع طعامه وإجادة طبخه
لسنا ندعو المحاويج وحدهم إلى الانتفاع من علم التغذية بل أن العامل والمتوسط على اختلاف طبقاتها بل جميع أبناء الوطن يتيسر لهم أن يستفيدوتن منه فقد أجاد لاسال أحد زعماء الاشتراكية في ألمانيا (1825 ـ 1864) بقوله أن المسألة الاجتماعية هي أولاً مسألة طعام وأكل. وقد أثبت الأطباء لاندوري ولابي وروم هذه النظرية التي قال بها ذاك الاشتراكي فإذا كان السل منتشراً في المدن الكبرى فهو ناشئ في الأكثر من قلة التغذية ويضاف إليها أسباب أخرى من البؤس كالتعب والإدمان على الشراب والعادات الرديئة.
والذي يظهر لمن ينظر في الأمور نظراًُ سطحياً أن العامل يغتذي أحسن تغذية ويختار أجود أنواعها وأن امرأته تبتاع للبيت يوم يقبض زوجها أجرته أحسن الحاجات البيتية فيكثر أهل البيت من الأكل ومن الغد تنقلب وليس عندها شيء فتحمل زوجها على الاقتراض ريثما يقبض عمالته ومن أجل هذا تجد في حي الفقراء في باريز أجود أنواع البطاطا وأحلاها وأحسن أجناس السمن والسمك فتبتاع زوجته ما شاءت منها بدون حساب وكيفما اتفق لها على حين لو اشترت بالجملة ودققت في حسابها لكان ما يكلفها بالمفرق فرنكاً وربعاً لا يكلفها أكثر من خمسة وثمانين سانتيماً في الجملة.
ثم أن العامل معتقد بأن كل طعام رخيص الثمن فيه ربح له وهو لا يحسب تلك الفضلات التي لا تؤكل. فمن وزن اللحم يجب إسقاط العظام والجلود الجلاميط والعراقيب ومن السمكة أحشاءها وحسكها ومن البيض فشره ومن الجبن قشرته ولكل خضرة نفاية ولكل ثمرة قشرة أو بزرة أو ساق عقب ثم ينبغي أن تلاحظ كمية الماء الموجودة في المواد وأن لا ينسى أن البقول الناشفة ولو كان ثمنها أغلى فإنها خير من الطرية لقلة المائية فيها ولحم العجل وإن كان أرخص من لحم البقر فليس هو أحسن منه لما فيه من المائية وقلة التغذية وهكذا لكل بقل ولحم فضلات وحثالات وعندي أن تجمع هذه المعلومات في شكل قائمة تنشر في كراسة ليعرف الناس أن مئة غرام من أضلاع العجل تعادل في تغذيتها 129(25/39)
غراماً من صدره ولا يفوت الناظر قيمة التتبيل والوقود. على أن علماء الاقتصاد لا يحسبون في العادة حساب هذه النفقات ويعدونها طفيفة مع أن لها شأناً في تحضير الطعام.
وهناك شيء آخر لا يحفل به عيال العملة وأعني به الوقت وذلك أن نساء العملة يشتغلن أيضاً في المعامل حتى إذا جاء المساء يضررن لأن يسرعن في تحضير الطعام فلا يجدن أيسر من البفتيك والأضلاع والمشوي ولذلك يكثر استعمال هذه الأنواع في أحياء العملة وربما ابتعن اللحم المقدد والثريد المصنوع والبقول المطبوخة الحاضرة. أما وإنه يصعب فصل النساء الفقيرات عن معاطاة الأعمال فمن العبث أن يعلمن أساليب الطبخ والتفنن فيه فما أجدر أن يعنى الطباخون بتحضير أطعمة خاصة بالطبقات النازلة بثمن بخس ومؤلفة من مواد جيدة.
من المتبلات اللذيذة التي ذقتها واستطبتها وهي من تحضير المسيو مونتانيه ولا تكلف الإنسان أكثر من عشرة سانتيمات مربب التفاح وكيفية صنعه أن تأخذ 500 غرام من التفاح من الجنس المعروف برينت و200 غرام من الخبز البائت و25 غراماً من السمن و50 غراماً من السكر و3 ديسلترات من الماء. وهذه الماء لا تكلف أكثر من خسيم سانتيماً بالجملة وتكفي لطعام ستة أشخاص. وكيفية تحضيرها أن تقشر التفاح وتقطعه قطعاً كبيرة وتقع الخبز قطعاً ناعمة وتلت أسفل الصفحة الطبق أو الصحن بعشرة غرامات من السمن وترش ملعقة صغيرة من السكر ثم تضع سافاً من الخبز وسافاً من التفاح وهكذا إلى أن تأتي عليهم ثم تضيف إليهما ما بقي من السكر والسمن وتقسمه إلى قطع وتبله بالماء وتضع الصفحة عشرين دقيقة في الفرن وتتناول ما فيها في الحال. ثم أنه يمكن أن يجود هذا المريب أكثر من ذلك بزيادة نفقة قليلة وأن يجعل دسيلتران من اللبن بدل الماء ويضاف إليه بيضة محلولة ويمكن زيادة كمية السكر وأن تحسن رائحته بأن يوضع فيه قشرة من الليمون أو البرتقال أو القرفة.
يجب تغيير الطعام بحسب العمل وما يجب على العامل معرفته
هب أن العامل يعرف أن يبتاع طعامه ويطبخه فإن المسائل الاقتصادية والصحية ليست وحدها هي التي تطلب حلها بل أن الأهم منها هي المسألة الفيزيولوجية التي يجب أن يكون لها مبدأ صريح إذا أراد العامل أن يضمن صحته وعمله. فإن الفيزيولوجي يعلمنا بأن(25/40)
الطعام يجب تنويعه بحسب نوع العمل بحيث يكون منه ثلاث منافع: إصلاح الأنسجة التي تبليها أعمال الحياة وإعطاء الحرارة التي تحفظ على الجسم حرارته وإيراث القوة اللازمة لكل عمل عضلي. فنحتاج للقيام بهذه الحاجيات الثلاث إلى ثلاث عناصر أولية الألبومنيد من اللحم والبيض والبقول والدهن الحيواني أو النباتي وهيدرات الكربون أو الدقيق الذي يكثر في البقول فالألبومنيد يصلح من أنسجتنا والدهن يعطي الكالوري والدقيق يعين على العمل ويعطي المرء كمية من الحرارة. ولجعل التغذية على نظام مخصوص يجب أن يوضع موضع العناية لا المناخ والفصل (إذ من البين أن في الشتاء يحتاج الجسم إلى كمية من الكالوري أكثر من الصيف) ولا اختلاف أحوال الأحياء (إذا أن المرأة الحبلى أو التي ترضع والولد الذي ينمو يحتاجان إلى إنشاء أنسجة جديده فيهما) بل ينبغي أن ينظر إلى نوع العمل.
ومنذ مدة بحث الدكاترة لاندوزي وهنري ومارسل لابي في تغذية مئة من العملة والمستخدمين في باريز فكان لبحثهم رنة كبرى وذلك أنهم قسموا العملة إلى أربع طبقات جعلوا في الأولى جميع العملة الذين يعملون أعمالاً بدنية كالنجارين والحفارين والنقالين والحمالين وصناع الحديد الخ. هؤلاء العاملون يكثرون من تناول اللحم فيأكلون مئتي غرام في اليوم وقلما يتناولون المعجنات المغذية والبقول ونصف لتر من الحساء ولا يتناولون سكراً مكعباً من الإنسنت و40 سانتمتراً مكعباً من الكحول على درجات مختلفة. والطبقة الثانية العملة الذين يعملون أعمالاً معتدلة كمن يشتغلون في المصانع أو المعامل الميكانيكية والنجارة الخفيفة والقفالين وغيرهم فهؤلاء يتناولون أيضاً لحماً كثيراً فيأكلون 225 غراماً منه وقليلاً من المواد النشوية والمعجنات المغذية والأحسية والبقول والأطعمة المعمولة بالسكر فيأخذون 400 غراماً من الخبز و7 غرامات من السكر وربع لتر من الحساء ولتراً من الخمر و50 سانتمتراً مكعباً م الكحول في درجة خمسين.
والطبقة الثالثة من العملة الملازمون للجلوس ككتاب الإدارات ومستخدمي المخازن وعملة المكاتب التجارية وغيرهم فهؤلاء يكثرون من كل شيء ولاسيما من اللحم والألبومين النباتي والبيضي فيأكلون 510 إلى 540 غراماً من الخبز و40 غراماً من السكر والشوكولاتا ولا يأخذون حد الكفاية من البقول الطرية والمأكولات العمولة بالسكر ويكثرون(25/41)
من المقبلات الكحولية والمشروبات فيأخذون ثلثي لتر من الخمر و80 سانتمتراً مكعباً من الكحول على خمسين درجة وعلى العكس ن ذلك فإنهم لا يشربون ماءً نقياً بقدر ما يجب ومعلوم أن الماء ينفع في تنقية الأنسجة غير العاملة في الجسم. والطبقة الرابعة عبارة عن العملة والمستخدمين كالخياطات وبائعات الأزياء ومستخدمات المحال التجارية وغيرهن فإنهن أيضاً يرتكبن أغلاطاً كبيرة تخالف قواعد صحة الغذاء فيأكلن أطعمة كثيرة قليلة التغذية والأدام كالسلاطة والفجل والمرق المخلل والقثاء والثمار الرديئة وأثل من حد الكفاية من كل نوع فيتناول الفرد منهم 250 غراماً من الخبز و7 غراماً من اللحم و80 غراماً من لابقول وربع لتر من الخمر.
ولا يفوتك أن المستخدمين الملازمين للجلوس وحدهم يأكلون في الصباح قبل تعاطي أعمالهم وما عداهم فإنهم يبدأون بأشغالهم على الريق.
ويرى الأطباء المشار إليهم أنه يلزم العامل الذي يبذل من قوة جسمه 3600 من الكالوري كل يوم وللعامل المعتدل 12600 وللعاملين الجالسين على كراسيهم 2100 ولبائعي الأزياء 2090 وهو حد الوسط الكافي ولا ينبغي تطبيقه بالحرف بل أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص وقاماتهم ووزنهم وأعمالهم. فإذا أحب العامل الألبومين لتغذيته فغلبه بسمك الأرنكة والجبن وفخذ الخنزير والبقول الناشفة فإنه فيها بغيته بثمن معتدل على العكس من اللحم والبيض فإنها مواد غذائية تعد من نعيم البطون. ولكي يحصل على الهيدروكربون عليه أن يستعمل البطاطا فإنها في الدرجة الأولى برخصها ثم الرز والخبز والسكر والبقول والثمار الناشفة. وإذا أراد الأدهان فليعمد إلى دهن الخنزير وشحمه وأنواع الجبن والشوكولاتا.
هذا وقد عرف جميع المشرعين مكانة تنظينم التغذية وقد حرم موسى على العبرانيين لحم الخنزير والحيوانات المقدسة لفكر ديني كما حظر ما نوي على الهنود لحم البقر. وما زالت معتقدات المتوحشين بشأن الحيوانات التي يعدونها أجدادهم واعتقادهم بالطوتمية موجودة إلى اليوم عند أبناء هاتين النحلتين وتجعل لهذا الحظر وجهاً من الشرع. وقد كان ليكورك أول من سن للإسبارطيين أن يتخذوا أطعمة عامة يعتمد عليها كالحساء الأسود أما الآن فإن الأفكار أكثر حرية في هذا المعنى فلا تقدر الحكومة أن تستعبد أرادة المحكوم عليهم في(25/42)
طعامهم فليس أحسن من أن نعمد إلى طريقة الامتناع من طريق الخطابة والكتابة وعلى أندية كليات الشعب خاصة أن تبين أمثال هذه الموضوعات وأن تنشر كراريس رخيصة لنشر هذه الأفكار والتعليم الديني الذي يعلم في المستقبل هو تعليم التغذية في الحقيقة.(25/43)
الأسرة
قامت الاجتماعات البشرية الأولى على مناسبات طبيعية منشؤها روابط عصبية وميل إلى أرض واحدة واتحاد في العادات واجتماع على أسباب المعاش ولم تتألف لأول أمرها إلا من أسرات منفردة ثم تقارب بعضها من بعض فتألفت جماعات جدد. وما احتيج في العقود الزوجية بادئ بدء إلى أقامة الحفلات لأن الرجل والمرأة كانا يعملان كلاهما أعمالاً شاقة تضطرهما إلى جهاد متواصل ويختلطان أكثر من اختلاطهما اليوم. وما كان يطلب من النساء ما يطلب منهن على عهد التمدن الحديث أو ما يطلبنه لأنفسهن فيه من أساليب الظرف والكمال فإن هذا كله لم يكن في تلك الأدوار معروفاً كما لا يشاهد الآن في العناصر المنحطة من البشر. وكان بين الرجال والنساء من التماذج الذي يسقط دونه التمايز والنساء هن صلة القربى والأبناء ينسبون لأمهاتهم.
ثم حدثت رغبة التزاوج بزوجة فنشأ من ذلك الزواج بالبيع أي ببيع حقيقي عند الشعوب الأولى وبالبيع في الظاهر فيما بعد ثم نظم الزواج بأنواع التنظيم المختلف. فتيسر بذلك للأغنياء وزعماء القبائل أن يأخذوا عدة زوجات ونشأ من أجل ذلك الضر بعد أن كان الأبناء يدعون لأمهاتهم. وما زال الضر أي تعدد الزوجات شائعاً في آسيا وأفريقية وذلك للعادة المتبعة في تسليم الأعمال اليدوية للنساء بحيث يكون منهن أعظم مساعد وينتفع بجهادهن أحسن انتفاع.
الطر وإن كان من طبيعته جائراً فهو خطوة نحو التقدم إذا قيس بما كان البشر يألفونه من قبل من نسبة الابن لأمه وذلك لأن الأب والأم معروفان فيه. فقويت درجات القرابة أكثر من ذي قبل وغدا من السهل على الناظر إذا رجع إلى الماضي أن يأتي بسلسلة متصلة من الأبناء ونشأت من احترام الأجداد ولاسيما في الشرق عبادة خاصة ما زالت في بعض أنحائه على قوتها.
جرت عادة الشعوب الآرية منذ عهد بعيد أن تقتصر على زوجة واحدة وكان من نتائج هذه العادة إكرام المرأة واحترام حريتها ورضاها كل الاحترام وحل الشعور بالحب محل توحش القرون الأولى وأصبحت المرأة ملكة في بيت زوجها وإن تكن مستعبدة من حيث الأخلاق. وحدث من عواقب الاقتصار على واحدة من النساء في أوروبا نظام الأسرات ففرضت على كلا الزوجين واجبات كثيراً ما كانت موضع المناقشة وقد تعدل فيقبلها الرأي العام(25/44)
والقانون. وهكذا جرى عقد تبادل الواجبات بين الزوجين على غير قاعدة المساواة فاليونان والرومان لم يقولوا بتعدد الزوجات ولكنهم لم يمنعوا التسري ولطالما رأوا أن لا مانع من التزوج بامرأة غير المرأة الأصلية على طريقة نصف شرعية ولذلك لم تكن الفتاة اليونانية محررة من قيود العبودية كل التحرير فهي في طفوليتها طوع إرادة أبيها وإذا تزوجت أصبحت تحت حكم زوجها وإذا ترملت يكون أمرها بيد أقربائها أو بكر أولادها. ولم تمتز العقيلة الرومانية على ما كان لها من الحرمة عن الرجال بأمر ولا خلصت من وصايتهم عليها.
وكان نفوذ المرأة في شمالي أوروبا بين البرابرة ضئيلاً وكذلك عند أمم السلت والغاليين وحالها أحسن بقليل عند الجرمانيين ولذلك اقتضى لها حركة عقلية قوية للاستمتاع بحريتها ولقد كانت النصرانية بتمجيدها الأمومة عوناً على رفعة شأن المرأة الأدبي وإعلاء مقامها وتكريمه أكثر مما كانت. ومع هذا فتكاد لا تخلو حالها من نقد ويوشك أن لا يكون موقفها معه بعيداً عن الحرج. ويكفي للاقتناع في هذا الباب أن يدرس المرء ما يتعلق بالمرأة من مواد القانون درساً موجزاً ليعرف حالها إذ ذاك. على أن هذه القوانين ما برح حكمها إلى اليوم نافذاً في معظم الممالك الأوروبية.
فقد جاء في تلك القوانين بشأن المرأة بأن عليها أن تطيع زوجها وتفقد بعقدها عليه جنسيتها واسم أسرتها واسم بلدها وحرية التمتع بحقوقها وليس للزوج أن يتنازل عن الحقوق التي منحه القانون إياها ويحظر على المرأة أن توقع على عهد مدني أو شرعي بدون إذن من زوجها أو ممن يرجع إليه أمرها. وتفضل القانون عليها فمنحها حق الإيصاء وهي لا تستطيع وإن تجردت عن مالها أن تكون لها صفة أمام المحاكم ولا أن تمنح مالها وتبيع وترهن وأن تأخذ شيئاً بثمن أو بلا ثمن دون توسط زوجها فيه وإذا لم يكن لها زوج فالشرع يتولى ذلك منها وإذا كان الزوج يشرك زوجته في الأموال ساغ له أن يتصرف لا بريع أملاكها فقط بل أن يملك في بعض الأصقاع وارداتها الناتجة عن عملها بالذات.
ولا يحق للمرأة أن تنظر في مستقبل أولادها. ويحظر عليها إذا كانت أميرة ملكية أن تجلس على سرير الملك في كثير من الممالك وإن دل تاريخ بعض الملكات في إنكلترا وألمانيا وروسيا على أن صولجان الملك في أيدي النساء لم يكن دونه في أيدي الرجال قوة(25/45)
وسطوة وقد بذلت العناية من وراء الغاية ولاسيما في العهد الأخير في تعديل القانون الذي لا يمنح الزوجة وهي في حجر الأسرة إلا شطراً محدوداً من العمل فسوغ المعارضون تلك القيود الموضوعة وعللوها بقلة حنكة المرأة وتجاربها وما يعتريها من التأثرات النفسية والبواعث المحركة لها بدون أن ينظروا إذا كانت هذه الدواعي من الخطأ والأعمال النابية عن التدبر كثيراً ما أثرت أثرها وإن معظمها ناتج عن ذاك القانون نفسه الذي يزعم بأنه غير جائر. ولا جرم أن التعليم الذي تتعلمه المرأة اليوم على قلة كفايته وغنائه إذا توسع فيه جرى تحسينه بحسب سنة العقل لا يلبث أن تظهر نتائجه في الحال. وإذا ربي عقل أم البيت المقبلة وأشعر قلبها الإحساس بما لها من المكانة ينشأ عن ذلك أساس تربية الولد الذي يطلب إليها أن تراقب تأثراته الأولى ويديرها بيدها.
يجب أن تكون المرأة رفيقة الزوج لا خادمته. وإذ أنها شاركته في نعيمه وبؤسه فلها الحق أن تشركه في حياته وأعماله وأمانيه في المستقبل وأن تستند إلى معونته وحمايته في جميع الأحوال وإذا احترمت في ذاتها تظل أمينة معه فهي حاؤرسة التقاليد البيتية فإذا خانت وأدخلت عنصراً أجنبياً إلى بيتها في وقت ضعفها فتكون قد ارتكبت عملاً شائناً توبخها نفسها عليه ويؤدي ذلك بها إلى نفاق وكتمان لا ينطبقان مع طبيعتها الشريفة وتضطرب نفسيها أي اضطراب كلما تمثلت لها فعلتها.
فالزواج على ما يتمثل لفكر عادل مستقيم يفرض أن هناك حساساً حقيقياً بين الزوجين المقبلين وأنهما على كمال الاستمتاع بقواهما في المال والقدرة على العمل ليضمن بقاء الأسرة وهذا الشرط الأخير كثيراً من يصعب تنفيذه ويا للأسف ومنه ينتج أن بعضهم قد يطيلون أمد عزوبيتهم إلى أجل غير مسمى مع ما في امتناعهم عن الزواج من الاستهتار والشذوذ. ويعقد بعضهم من العقود الزوجية كل ضعيف ضئيل يكون الداعي الأعظم فيها مصلحة خاصة وأغراض ذاتية. ومن هناك أتت المفاسد وهي ناشئة من عادات رديئة وكثيراً ما تكون هي الجرائم بعينها. وقد ظهر في بعض الزواج من التنافر في الطباع والأخلاق ما اقتضى معه أن يتلافى أمره بالسماح بحل رابطته. وما الإذن بطلاق الزوجين المتنافرين إلا إقرار شرعي على أمر ثابت أصبح دوامه لا يطاق.
وكل ما يفصم عرى عهود الزواج وإن كان معقولاً في ذاته لا يخلو من حسرة تلحق الأبناء(25/46)
الذين ولدوا من أبوين يريدان الطلاق والانفصال. وبهذا النظر تعين على زوجين يرغبان في الطلاق أن لا يقدما عليه إلا بعد التأمل الكثير ليتحاميا الوقوع في مصائب تربو آلامها على ما صارت إليه حالهما.
ولقد دعا تعدد الزواج المتسرع في عقده دون النظر في المستقبل والتدبر في قلة ملائمته إلى القدح في نظام الزواج نفسه في صورته الحاضرة وتعظيم أمر الزواج المدني الحر إذا ضمنت فيه حالة الأولاد الذين يولدون منه ببعض ضمانات خاصة فلا يقوم الزواج بعد ذلك بإجراء شعائره المدنية أو الدينية بل بإنشاء صك بسيط تكون شروطه معلقة على إرادة المتعاقدين. ولعله يأتي من هذا التغيير المتطرف ضرر بالطريقة المستعملة الآن في الزواج. على أني قلت آنفاً أن الزواج الذي لا يفكر في عاقبته ويتم الرضى فيه دون العناية بما يحدث عنه من المسؤوليات قد أصبح سائغاً فليس من العبث إذن أن يجعل للمراسيم الزوجية بعض الشروط ليفهم المتعاقدان أن كل الفهم خطارة ما عقد لهما عليه. وبذلك يصبح احترام المرأة على أساس راهن. فإذا كانت الوعود التي تسبق الزواج الحر هي بحيث تضمن للمرأة مكانة اجتماعية فلا تعرضها لاحتمال أهواء النفوس التي يصعب الاعتذار عنها فإنها لا تختلف عن الشروط الزوجية الشائعة ولا موجب إذ ذاك للتغيير وإذا نقص من حرية الطرفين شيء يلحق المرأة من ذاك القسط الأعظم. فهي التي تستفيد في الواقع من الزواج خاصة لأن الزواج يعود منه في الغالب على الرجل زيادة موارد ثروته. وإن المرأة لا تتمتع بجمالها وتستوفي شروط التحبب إليها زمناً طويلاً فماذا تكون حالها يا ترى إذا شاخت ولم يكن لها بمقامها الطويل في بيت زوجها والتمتع بما تستحقه من الحقوق في يحاتها ما يجعلها موضوعه الحب الدائم والاحترام من زوجها؟ فكل عقد لا يوليها حالة ثابتة لا يتأتى لها معه مهما بلغ من جمالها وطهارة أخلاقها أن تأمل الوصول إلى أنواع سعادات الأمومة التي هي خاصة بالزوجة الشرعية. تستدعي حالة الولد عناية فائقة من الأب والأم حتى ينمو النمو القانوني في طبيعته وأخلاقه على أنه لا يستطيع أن يسير بما أمكن من الحكمة والتعقل ليجعل قياده بيده إلا إذا بلغ أشده أو كاد. فالمصلحة الاجتماعية تقضي أن يعيش أبواه معاً حتى يبلغ تلك السن ويستلزم ذلك قضاءهما أعواماً معاً فإذا انقضى ذاك الدور أيمكن النصح للزوجين بأن يفترقا ليبدأ حياة جديدة بعد فوات(25/47)
الوقت. وإنه ليرجى حرصاً على مصلحة الزوج وزوجه أن يكون الزواج دائمياً ولا ينحل عقده إلا في أحوال نادرة.
قلت أنه يجب أن يفرض في الزواج وجود عواطف في الحب متبادلة بين الراغبين فيه مصحوبة بحرية التمتع بمال يكفي لإعالة الأسرة ولا يلزم أكثر من ذلك في الحقيقة للأفراد حتى يكون الزواج شرعياً. وهنا سؤال وهو أنه هل تكفي هذه الشروط من حيث الاجتماع ألا يلزم النظر في صحة الزوجين لمصلحة الأولاد الذين يولدون منهما؟ أيسمح لبعض من أصيبوا بأمراض تنتقل بالوراثة أو معدية أن يعٍدوا زواجاً وينقلوا بأثرتهم وسوء غفلتهم العدوى إلى أسرة جديدة أخرى؟ هذه مسألة حرية بأن توضع محل النظر لأنها من أدق المسائل ولا يتعذر حلها لو جرى فيها كما يجري في دور تربية الحيوانات حيث يعزل السقيم عن السليم لأول وهلة أما في المبدأ الذي يستلزم أولاً العناية بتحسين النوع فإنه تحذف منه بحسب القياس الأعضاء الضعيفة الكثيرة أو السيئة التركيب لما في وجودها من الضرر الذي يلحق بالمجموع. لك أن ترجع إلى القواعد الطبيعية الظاهرة لتبرير هذا العمل فترى قاعدة الانتخاب الطبيعي تجري مجراها حولنا في ذوات الأعضاء فتشاهد أبداً في طبقة الكائنات النباتية والحيوانية فناء كمية عظيمة من الجراثيم لقلة غنائها في المحيط الذي تظهر فيه أو لضعف تركيبها عن المقاومة.
ألا يكون المرء قد عمل بسنة العقل وبما يقضي به الواجب إذا أرجأ بذاته ومحض إرادته وإخلاصه عدم إيلاد أشخاص يصبحون عرضة لعامة المصائب الطبيعية منذ ولادتهم. ومن المحقق أن المرء لم يتأثر وجدانه من هذا القبيل. فكان الحق للأب في الأزمان السالفة أن يستحبي من يولد من البنين والبنات أو يقتلهم ومتى رأى ولده ضعيفاً ضئيلاً يقدمه للموت بلا شفقة. ولقد نشأ في القرون الحديثة شعور وإن لم يكن حديثاً في الناس إلا أن ارتقاء التمدن جعله عاماً ونعني بهذا الشعور (الرحمة) في اليوم تعارض ما كان يجري سالفاً من قتل الأحياء الساقطة. لأن من لا يعجبك ظاهر حاله لفساد تركيبه الطبيعي لا يجب أن تحكم عليه بإسقاطه من المجتمع بل يتيسر أن يشغل من أعمال الاجتماع الكثيرة حيزاً يعمل فيه عملاً. فالحال تقتضي إذا إيجاد وسائط أخرى تكون إلى الاعتدال لتحسين أجناس الناس.
وقد اقترح بعضهم أن يفحص المرشحون للزواج فحصاً طبياً تفادياً من سوء الاستعمال ولو(25/48)
أمكن تطبيق هذه الطريقة الواقية لنشأ عنها نتائج حسنة إذ الظاهر أن تطبيق القول على العمل لا يخلو من شبهة. وذلك لأن الأهواء البشرية إذا ضيق عليها على هذه الصورة لا تلبث أن تخرج عن حد ما رسمه القانون وتعمد إلى التزويد وإلى الشهادات الطبية التي تنال بالشفاعات لتتجنب هذه القيود والأوامر. ومتى أصبحت هذه القوانين معمولاً بها وتعذر الزواج الشرعي على بعض الناس لا يلبثون أن يعمدوا إلى الزواج الحر فيخلصون على هذا الوجه من كل قيد وسلطة.
ولا دواء لهذه الأدواء إلا التربية إذا سارت على سنة العقل وكانت الغاية منها ترقية العواطف الشخصية بالآداب العالية. فالتربية هي التي تعلم أولئك الذي حظر عليهم الزواج لضعف فيهم أنه إذا جاز القانون عليهم ولم يرض لهم الاشتراك في النسل والحب فهو يوجب عليهم إذا أرادوا الخضوع لما أوصى به الشرف والواجب أن يمتنعوا عما يجعل العاهات فيهم دائمة.
أتجد تناقضاً في هذا الاستنتاج وفي شعور الآداب العالية التي دعوت إليها؟ لا أظن ذلك بل إني أعتقد أيضاً في بعض الأحوال الخاصة مثل قلة أسباب معاش الأسرة أنه يستحب لربها أن يتجنب زيادة عدد أولاده بدون روية لعلمه بأنه يحكم عليهم بالحرمان والفقر منذ ولادتهم. وليس معنى هذا أن نقبل رأي مالتوس كأنه حقائق في قوله بعدم التناسب بين نمو السكان ومواد معاشهم وأن نقص التوازن بين الأحياء وما يحيون به لا بد من وقوعه على أنه إذا ظهر ذلك فيكون من عدم التساوي في توزع الأجناس البشرية على سطح الكرة الأرضية.
ترى العناصر الإنسانية تتكاثف في بعض المحال بحيث يؤدي بها ضيق مضطربها إلى النزاع على صغر قطعة من الأرض التي كادت تفقد قوتها الإنباتية على حين أن هناك أراضي واسعة نادرة بخصبها وهي لا تزال بوراً. بيد أن مصاعب كثيرة تحول دون الإفراط في الإكثار من الجنس الإنساني. وبعد فإن للطبيعة أسباباً ملطفة ما زالت نواميسها غير معروفة حق معرفتها ولكن لها عمل لا يسع أحداً إنكاره على ضروب التناسل في عالم النبات كما في عالم الحيوان.
وقد ذكرت بعض الحوادث النادرة فيجب الآن أن أدخل في التعميم بأن أصور سلطة الأب(25/49)
على نحو ما ذكر ما هي معروفة عند أرباب الأفكار الحديثة. كانت سلطة الأب على أولاده مطلقة في القديم وجعلت الوصايا العشر بر الوالدين من أقدس واجبات الأبناء فإذا قال الولد لأبيه أفٍ وخرج عن طاعته يعاقب بالموت. ومثل هذا القانون كان نافذاً في أثينة وإن كان بشدة أقل. وكان لرب الأسرة في رومية الحق المطلق أن يقمع ما ارتكب أبناؤه وأهله من الأغلاط ولم تكن صلة القربى منظور لها بأنها نتيجة عقد بين الزوجين ولا يتيسر حلها اللهم إلا عند الجرمان والصقالبة (السلافيين) وما كان الابن حراً بالخروج من أسرته بمحض إرادته بل من الضروري استحصال رضى والده يمنحه إياه في صورة كأنه يحرره من رقه.
وغير نكير أن الطفل على جهله في كل شيء محتاج للتعليم والتهذيب فيجب عليه الطاعة لوالديه ويجب عليهما أن يحباه كثيراً ويحترماه بما بينهما من الصلات وبما يعاملانه به من المعاملة الحسنة لتكون تلط الطاعة مبنية على العطف والطبيعة. يجب أن تقوى فيه الرغبة في التعليم والعادة على الافتكار والشعور بالعدل وطيب السريرة تلك الصفات التي تضيق الخناق على أهوائه وتجعله عضواً نافعاً في حياته المستقبلية. فإذا اعتاد ذهنه الاشتغال يقوى ويجود كما يقوى الشعور بالمسؤولية. يجدر أن تترك له حريته وأن يستعاض عن إخضاعه لأوامر والديه بنصائح فيها العطف والحنان. فإذا طلب إلى الولد وقد استكملت سنه أن يحتفظ كل الحفظ بما يلزم من الطاعة وهو على كمال الاستحكام في قواه فيعد ذلك إجحافاً بحقوقه وإحراجاً لصدره. وعلى الوالد في تلك الحال أن لا يكون إلا بمنزلة صديق يؤخذ كلامه بالإجلال لا أن يكون بمنزلة معلم يسيطر على مستقبل ليس له منه ناقة ولا جمل.
كان التبني يسهل كثيراً في القديم فوضعت له القوانين اليوم قيوداً وشروطاً. وأخذت الصلات العائلية في الانحطاط عند الطبقات التي هي أكثر من غيرها انغماساً في الحضارة في أوروبا وأميركا فكان للحياة الخاصة في سالف الأزمان صفة ثابتة نتجت من النظام الاجتماعي الموضوع الذي فقد في المدن الكبرى لهذا العهد. وكان من ازدياد صلات الأمم بعضها مع بعض وتمازج العناصر المختلفة تعديل كثير من العادات المتأصلة والآراء التي كانت تتخيل سابقاً فزاد الارتباط بين الأفراد والمجموع الذين هم بعضه ودعت سهولة(25/50)
التنقل إلى حدوث تغييرات في المحيط فنشأ عن ذلك بحكم الطبع تأثرات جديدة أثرت في الحركة العقلية فاتسع مداها وانصبغت بصبغة الإنسانية. على أن موازنة الأخلاق القديمة قد سرت إليها أمور كثيرة ألقت فيها الاضطراب وزعزعت منها الأركان وستصلح بالضرورة. إذا لا يقوم مبدأ الأسرة على أساسه الطبيعي بدون شيء من التضامن. وكل اجتماع بشري عرض للزوال يعد عقيماً ولا ثمرة فيه بتاتاً.(25/51)
نبأ مصر
(وحالة الاجتماع فيها للسنة الماضية)
نسيمٌ بوادي النيل غير بليلِ ... وظلٌّ بهذا الروض غير ظليل
فلا الأرض تلك الأرض خصباً لأهلها ... ولا النيلُ في أرض البلاد بنيل
نفضنا يدينا وانزوينا مذلةً ... وأضيع ما في الناس حقُّ ذليلِ
لنا كل يوم ألفُ رأي وما لنا ... عليها من الأفعال فرْدُ دليل
نقلد ألفاظ السياسة عمرَنا ... ونذهل عند الحزم أيَّ ذهولِ
ويا بعد ما بين (الصليل) وهوله ... وإن قربا لفظاً وبين (صهيل)
فلاسفةٌ فيما نقول فلم نزل ... نصول على الدنيا ببعض ما نقول
وما من حديث بات غير مشقق ... ولا من جدال بات غير فصول
أفي كل يوم كاتبٌ يشرع القنا ... ليقلب جنب الأرض بعد قليل
أفي كل يوم صارخٌ ذو حميةٍ ... يضجُّ بقال في البلاد وقيل
أفي كل يومٍ شاعرٌ ذو حفيظةٍ ... يخط سطوراً من دماء قتيل
أيحسب ميزان السياسة في الورى ... كميزان مفعولاته وفعول
وأنبئتهم يستصرخون ليوقظوا ... نياماً بليلٍ في المطال طويل
فيا باذخ اليمّ اضطربت ولم تزد ... على نزوات أُعقب بخمول
أألآن والغرس والذي تمطرونه ... ملايين لم تثمر ببعض عقول
صغارٌ وجبنٌ خالعٌ في كبارهم ... وأصغرهم غالته لفظة غول ... كما خال قصراً ناظرٌ لطلول
ولا طول فينا غير نوع تطاولٍ ... ولا فضل فينا غير بعض فضول
بكل سبيل نزمع السير للعلى ... ونرتدُّ للسفلى بكل سبيل
تآدوا لغايات المنى بأداتها ... فما جلَّّّ لا يبغيه غير جليل
ألا إنما الداءُ الغميض عقولنا ... وما شجرٌ ينمو بغير أصول
وأهون بتفريج الأمور ولفها ... إذا لقيت يوماً لغير جهولِ
تباين ما بين الرجال وكلهم ... على زعمه بالأمر خير كفيل(25/52)
فيا عصبة الأحزاب ردوا حلومكم ... وجرُّوا على غير الثرى بذيول
فقد سطعت في مصر منك عجاجة ... ولكنها لاحت بغير صليل
عجاجة صيفٍ قد أثارت قتامها ... خيول سباقٍ لا ضراغم غيل
وما أنتم في أمر شيءٍ من الهوى ... فما بال واشٍ بينكم وعذول
وأحييتموها سنةً جاهليةً ... عداء أصيل فيكم ودخيل
تخلوا بأمر العلم واستجمعوا له ... قواكم فإن العلم خير دليل
ولا تخلطوه بالنفاق تقيةً ... وجبناً فظهر الحق غير ذلول
فما لكم إلا الذي تعملونه ... وإن تبدلوا منه قشر بديل
ألما تزالوا قاصرين فأمركم ... ضياعٌ إذا لم يعتصم بوكيل
تقوا عارها من سُبةٍ تتركونها ... لجيلٍ ويلقيها الزمان لجيل
أرى فئةً كالغانيات تدللاً ... تميل مع الأهواء كل مميل
تخال الفتى منهم على ظلمة النهى ... لألوان ثوبيه سماء أصيل
ملولٌ كما شاء الهوى واقتداؤه ... بمن حوله من خلةٍ وخليل
وما وجد الأعمال يوماً إنما ... ليستحسنوا فيه دلال ملول
وظن الفتى أن التمدن أثوي ... فتابع فيه كل ذات حليل
تماجن في أشكالها من صبغٍ ... إلى كل مجلوٍ وكل صقيل
إلى اللفظ حتى ما تكاد شفاهه ... تبين بلفظٍ منه غير نحيل
دلال جميل بالجمال مهنا ... فآهٍ عليه من دلال جميل
أولئك هم شبابنا لو عرفتم ... وهم كل من في مصر غير قليل
مظاهر نبلٍ نافقوا في اصطناعها ... ألا قبحت من صنعة لنبيل
أحلنا على غيب القضاء همومنا ... وأية سلوى في القضا لمحيل
وما نحن أهل الحكم ندفع دفعهم ... فإن لم ينيلونا فأيّ منيل
هم عوَّدونا الذل ثم تطوّلوا ... فمنّوا علينا بين كل قبيل
ومن عوَّد الذل الرجال حلاله ال ... فخار إذا ما قابلوا بقبول
فيا مصر أنت السيف صقلاً وجلوةً ... ولكن بلا حدّ (ولو بفلول)(25/53)
ويا كفَّ مصر ذلك السيف والوغى ... فإن تستطيعي بعد ذاك فصولي
فجعنا بما لا تضمرون حِذارَهُ ... وأكثرنا من عالةٍ ومعيل
فيا شؤمها من أزمة تركتكم ... وأولاكم بالفخر كل بخيل
وكم أسرةٍ تمسي المضاجع منهم ... تقلب طول الليل كل هزيل
يعدُّ رغيف الخبز فيهم وليمة ... لدى كل منضم هناك ضئيل
أخاف على أرض البلاد ونيلها ... ذهابهما رهناً لكل نزيل
فنمسي على نيل البلاد وأرضها ... كأنا على ماء (وبعض وحول)
جربتم سراعاً للغنى تطلبونه ... بكل طريق فاهنأوا بوصول
وإما أراد المقعدون سلامةً ... فما لصعود بينهم ونزول
تصيحون بالمحتل تستعبدونه ... مراغمة ما أنتم بعدول
ألا فاطلبوا إثباتنا في بلادنا ... فإن ضياع الملك بدءُ رحيل
ومن يطلب الأمر البعيد ويهمل ال ... قريب يُضع أمريه بعد حصول
أتظما نفسي الآن والماء في يديّ ... وأترك للأنهار بلَّ غليلي
فلا تتوانوا إنما الوقت فرصةٌ ... تمرُّ ومرُّ الوقت غير ثقيل
مصطفى صادق الرافعي(25/54)
على رمل الاسكندرية
إيه أيتها الأمواج الخالدة كم شاهدنا من أمواج الإنسانية ومن بحورها الفانية.
أمام عيونك الزرقاء وفي ظل ابتسامتك الفضية كم تبخر بحر ونضب وكم تبددت تحت أقدامك موجة هادرة شامخة من أمواج البشرية.
على هذا الساحل الذهبي الجميل قاتلت الملوك قديماً فتغنت بأخبار مواقعها أرباب الفنون ورددت صدى غزاتها ألسن الشعراء.
بالقرب من صدى هديرك الهائل هاجت أمواجهم وماجت فعادت إلى حيث لا تبلغ مدك ولا تبصر عيونك الرمل والصخور.
عادت أمواج أنفسهم المضطربة إلى حيث لا نبع إلا نبعك الدافق من ميازيب ذهبية في بساتين من النور الأزلي الروحاني
هناك نبعك أيتها الأمواج وهناك أيضاً نبع الإنسانية.
أنت هجت قديماً في صدر الإسكندر فجئت به إلى هنا ليبنى لك هذه المدينة الزاهرة.
أنت حملت أنطونيوس إليها ليطفئ لوعة غرامه.
أنت منحت القيصر قسطاً من عظمتك فخاض عبابك طمعاً بملك عظيم بل شغفاً بوجه وسيم.
وأراك الآن هائجة في قلوب الصغار والأذلاء كما هجت قديماً في قلوب الملوك والأمراء.
أراك مضطربة مبتسمة معاً إذ تشاهدين على ساحلك هذه الأمواج المزدوجة من بحر الإنسانية.
هي تتمازج على الرمل في كنف الصخور تمازجك في بطن أمك.
هي أمواج من النفس يحن بعضها إلى بعض ويهيج بعضها على بعض ويختفي زبد الواحدة تحت زبد الأخرى ويذوب زجر الهائجة تحت مدّ المدبرة.
الحب أيتها الأمواج يؤيدك.
والحب يحمل إليك هذه الأمواج القلقة الفانية.
ومهما عظم اضطرابها على سواحلك الذهبية فراحتها أخيراً تحت ابتسامتك الفضية الأزلية.
لا تعجبني من هياج هذا الإنسان واضطرابه فما هو سوى طوائف من الأسماك والحيوانات البحرية تختبط في بحر النفس لا يرى مدينتنا من المدن الكائنة تحت أمواجك.(25/55)
أيها البحر العائل أيها الرقيب الأزلي وفيها من الحيتان والدلافين ما يزري بحيتانك ودلافينك.
فيها يهدر بحر من هذه الإنسانية المتكالبة. .
لكل موجة صوت لا يشبه أخاه.
لكل موجة شكل ومنهج وعبوسة وابتسامة.
هذه الاسكندرية وفي بحرها تشاهدين الآن ما لم تشاهديه فيما مضى من الزمان.
أمامك الآن أمواج مزبدة من نهر التايمس الهادئ. . وأمواج هادئة من نهر المسيسبي المتدفق وأمواج كرواسي الحبال من نهر الرون والرين والدانوب والسين. . وأمواج عليلة لطيفة من بحر الأحمر وبحر الهند وبحر فارس.
هي الأمواج يتلاطم بعضها ببعض ويمتزج بعضها ببعض ويبتلع بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً أو يعطف بعضها على بعض والكل يهلك نفسه في هذه الحركة الدائمة. في هذا العراك الشديد والضجيج المديد.
يشيدون الصروح ويهدمونها. ويؤسسون الممالك ويبيدونها. فيتلاشون أخيراً تحت أقدامك. وأنت باسمة ضاحكة تسخرين منهم وأمواج منك كالظلل تحمل إليهم نبأ الأبدية.
بحر الإنسانية يفيض ويزبد ويهيج ويهدأ ويتبخر ويتصبب ويعكر ويرسب ويتلاشى وأنت باقية إلى الأبد.
تشاهدين هذا الزمان كما شاهدت أباطيل الأزمنة الغابرة.
تسمعين ضجيج أبطال هذا الجيل في البورص كما سمعت صليل رماح أبطال الأجيال الماضية في ساحات القتال.
وتستقبلين الشمس كل مساء كما تستقبلينها يوم لم يكن على سواحلك مدن ولا عمران ولا نبت ولا حيوان.
لبنان
أمين الريحاني(25/56)
نحن على منطاد
نحن من أرضنا على منطاد ... جائل في شواسع الأبعاد
طائر في الفضاء عرضاً وطولاً ... بجناح من القوى غير باد
أيها الأرض سرت سيرك مثنى ... ذا نتاجين في زمان أحاد
فتقلبت في نهار وليل ... ذا مضل وذاك للناس هاد
في بلاد يكون سيرك تأوي ... باً على أنه سرىً في بلاد
فيك دفع وفيك يا أرض جذب ... لك ذا سائق وذلك حاد
فلك دائر على الشمس طوراً ... في اقتراب وتارة في ابتعاد
ليت شعري وما حصلت في الآ ... راء إلا على خلاف السداد
لبقاء تقلنا الأرض في تس ... يارها أم تقلنا لنفاد
نحن في عالم تقصف فيه ... عارض النائبات بالأرعاد
شأننا العجز فيه نوجد أنى ... قذفتنا يد الخطوب الشداد
ضاع جذر الحياة عنا فخلنا ... أنها كالأصم في الأعداد
شغلتنا الدنيا بلهو ولعب ... فغفلنا والموت بالمرصاد
ضلَّ من رام راحة في حياة ... نحن منها في معرك وجلاد
كلما قد أجلت في أم دفر ... فكر مستبصر بها نقاد
قلت قولاً أفاد من قبل فيه ... فيلسوف القريض غير مفادي
إذا نجحا في اسعة الموت أضع ... اف خيار في ساعة الميلاد
إنما هذه الحياة جروح ... أثخنتنا والموت مثل الضماد
كل أسر يهون إن أطلقت أر ... واحنا الموثقات بالأجساد
لا تلمني إذا جزعت فإني ... ما ملكت الخيار في إيجادي
طال عتبي على عدات الليالي ... مثلما طال مطلها بمرادي
كدرت عيشي الحوادث حتى ... لا أرى الصفو غير وقت الرقاد
صاح ما دلّ في الأمور على الأش ... كال إلاَّ تفحص الأضداد
فاعتبر بالسفيه تمس حليماً ... وتعرّف بالغيّ طرق الرشاد
واللبيب الذي تعلم إتيا ... ن المعالي من خسة الأوغاد(25/57)
أيها الغرّ لا تغرك دنيا ... ك بكون مصيره لفساد
خفَّ من غاص في الغرور كما في ... لجة الماء خف ثقل الجماد
يا خليليَّ والخليل المواسي ... منكما من يقوم في إسعادي
خاب قوم أتوا وغى العيش عُزّلاً ... من سلاحي تعاون واتحاد
قد جفتنا الدنيا فهلاَّ اعتصمنا ... من جفاء الدنيا بحبل وداد
لو عقلنا لما اختشى قط محسو ... دون وقع الأذاة من حساد
فمتاع الحياة أحقر من أن ... يستفز القلوب بالأحقاد
أنا والله لا أريد بأن أو ... قع شراً ولو على من يعادي
أنّ لي إن سمعت أنة محزو ... نٍ أنيناً مرجعاً في فؤادي
إن نفسي عن همها ذات شغلٍ ... بهموم العباد كل العباد
لا أحب النسيم إلا إذا هـ ... بّ على كل حاضر أو باد
أيها الناس إنّ ذا العصر عص ... ر العلم والجدّ في العلى والجهاد
عصر حكم البخار والكهربائي ... ة والماكنات والمنطاد
بنيت فيه للعلوم المباني ... وأقيمت للبحث فيها النوادي
فاض فيض العلوم بالرغم ممن ... ضربوا دونهن بالأسداد
إن للعلم من الممالك سيراً ... مثل سير الضياء في الأبعاد
اطلع الغرب شمسه فحبا الشر ... ق اقتباساً من نورها الوقاد
إن للعلم دولة خضعت دو ... ن علاها عوالم والأضداد
ما استفاد الفتى وإن ملك الأر ... ض بأعلى من علمه المستفاد
لا تسابق في حلبة العز ذا العل ... م فما للهجين شأو الجواد
إن أموات أمة العلم أحيا ... ء حياة الأرواح والأجساد
وكأين في الناس من ذي خمول ... صار بالعلم كعلة القصاد
ربَّ يوم وردت دجلة فيه ... مورداً خالياً عن الوراد
حيث ينصبُّ في سكوت عميق ... ماؤُها لاثماً ضفاف الوادي
وهبوب النسيم يكتب في الما ... ء سطوراً مهتزة في اطراد(25/58)
ينمحي بعضها ويظهر بعض ... فهي تنساب بين خافٍ وباد
وتئن المياه لي بخرير ... كأنين السقيم للعُوَّاد
قمت في وجهها أردّد طرفي ... ساكناً والضمير مني ينادي
واقفاً تحت سرحة ناح فيها ... طائراً فوق غصنها المياد
منشداً في النواح شعراً غريزي ... اً حزيناً كأنه إنشادي
جاوبته أفنانها بأنين ... من حفيف الأوراق والأعواد
أيها الطائر المرجع فوق ال ... غصن هل أنت نائح أم شاد
بين ماء جارٍ ولحن شديّ ... منك يا طائر استطار فؤادي
يا مياهاً جرت بدجلة تجتا ... ز مروراً بجانبي بغداد
إن نفسي إلى الحقيقة عطشى ... أفتشفين على من صاد
كنت تجرين والرصافة والكر ... خ خلاءٌ من رائح أو غاد
أيها الماء أين تجري ضياعاً=وحواليك قاحلات البوادي
فمتى تفطن النفوس فيحيا ... بك سقياً موات هذي البلاد
لو زرعنا بك البقاع حبوباً ... لحصدنا النضار يوم الحصاد
أفيدري خليج فارس ماذا ... فمه منك بالع بازدراد
أنت والله عسجد ولجين ... لو أتينا الأمور باستعداد
فاجر يا ماءُ ' ن جريت رويداً ... بأناة ومهلة وأتاد
علنا نستفيق من رقدة الفق ... ر فنغنى بفيضك المزداد
سلكتك السما ينابيع في الأر ... ض أمدّتك أيما إمداد
فتفجرت في السفوح عيوناً ... نبعت من مخازن الأطواد
وإذا ما نتهيت في جريان ... عدت للبدءِ في متون الغوادي
= هكذا دار دائر الكون من حي_ث انتهى عاد راجعاً للمبادي
بغداد
معروف الرصافي(25/59)
مطبوعات ومخطوطات
الحياة الاجتماعية وتقلباتها
هذا كتاب أخرجه مؤلفه للناس باللغة الفرنسية في الشهر الماضي في نحو أربعمائة صفحة وقسمه إلى عشرة أجزاء ذكر في الأول الأسرة ومقر الأسرة وفي الثاني طوائف الناس وتاريخهم وحالة العالم الحاضرة وفي الثالث العواطف الدينية ومظاهرها وتأثير المعتقدات الدينية الاجتماعي وفي الرابع الأوضاع القانونية وتعديل تنظيم القانون وفي الخامس المصالح المادية واتساعها ومكانتها بين الأمم والحملات البحرية والاستعمارية ونتائجها وفي السادس الصنائع والفنون والهندسة والنقش والتصوير والموسيقى وفي السابع الآداب وانتشار القديم والحديث منها وفي الثامن نظرة في العلوم وما نتج من الأخطاء فيها على التوالي وفي التاسع طريقة التعليم على اختلاف العصور وفي العاشر نشوء الأفكار السياسية والمنازع الاجتماعية. هذه فصول الكتاب وكلها مفيد نافع توخى مؤلفه بعد التجارب الطويلة أن يجعله معلماً للقارئ يتناول تعليمه لا أن يلقى عليه مسائل قد لا يفهمها إلا كبار العلماء. فجاء كتابه نافعاً للخاصة والعامة جامعاً العمليات إلى النظريات قال المؤلف في مقدمته:
كنت في قرطجنة على شاطئ البحر والظلام ملق سدوله على السماء فلا ترى فيها إلا ما ازدانت به من زينة الكواكب والسكون يحف بي وقد ملئ أسراراً وساد الآكام والسهل حيث كانت هذه المدينة الفينيقية في سالف العصور محاطة بأسوارها الثلاثة وفيها معابدها وقصورها وأرصفتها الزاهية واليوم لا يرى فيها إلا بضعة حوائط مبعثرة يرد عهدها إلى العصر الروماني وأكوام من الأنقاض يحدق بها فلاح عربي بمحراثه وقباب باهتة وأحواض نصفها مملوء وقبور مدنسة وقطع من عمد ملقاة بين باقات نبات البرواق والفحم.
رأيت ثمة صورة لا تنسى فذكرت بتلك الخرائب المبعثرة ما طرأ من التبديل العظيم على الحياة الاجتماعية فكان منه انحلال في بعض الأصقاع وتحسين في أخرى وما برح قابلاً للتحول بما فيه من النقص الظاهر لاتساعه وانبساط محيطه فأدى بي التأمل إلى أن أخذت أفكر في القوانين التي لا تتبدل أحكامها في هذا الوجود ولم يبرح أمرها مجهولاً في الأغلب.(25/60)
وما تاريخ الإنسانية في الحقيقة لا سلسلة من الحوادث لو بحثنا فيها بحثاً منطقياً لرأينا بعضها متشعباً من بعض فإذا أوردت هذه الحوادث الغزيرة فلا ترى فيها إلا إتعاباً للذاكرة بدون أن يستنير بها الفكر وإذا جمعت على ترتيب حسن بقطع النظر عن تفاصيلها العديدة فتكون مملؤة بالفوائد. إلا وأن الاشتغال في إتمام هذه الباكورة العامة التي تتضمن درس المجتمعات البشرية منذ ابتدائها وتتبعها في نشوئها التدريجي وتضعها موضع التطبيق والعمل بحيث تصف ما فيها من المنازع والمناحي لمما يساعد على نشر هذه الأفكار الكثيرة ويدعو إلى التوفر على أبحاث أهم وأحدث.
خطر لي هذا الخاطر وأنا في خلوة وأمامي ماضي البشر الذي يوحي إلى القلب ما يوحي. فأهاب بي أن أشرع بمثل هذا العمل على حين لم أجهل صعوبته وذلك لأنه اقتضى أن أوضح فيه مجموع ما ظهر من بدائع عقول البشر في السياسة والعلوم والفنون والأدب وهو متوقف على جميع أنواع البحث على صورة تكاد تكون مكدائرة المعارف بما تجمع وتضم. وفي هذا التأليف من الفائدة ولو لم يستوف حقه أنه يسهل تقويم كثير من المشاكل الاجتماعية التي لا تزال موضوع البحث وأن يرسم قانوناً صريحاً لمجموع الأعمال العقلية أمام الناظر لأحدث الاضطرابات الدنيوية الحديثة والإخلاص رائد القول في الاستنتاج بحرية فكر فلا تورد إلا بعد تمحيصها كل التمحيص. هذه الأمور حملتني على أن أتمم ما قام في ذهني وأن أضم نتائجه في الصفحات التالية أهـ. وقد عربنا منه في غير هذا المكان مبحث الأسرة وسننقل للقراء أهم مباحثه.
المزهر
للسيوطي كتب لا تحصى أفردها بمؤلف خاص ومنها الجيد ككتاب المزهر وكتاب الإتقان في علوم القرآن. أجاد في المزهر كل الإجادة فأفاض في متعلقات علم اللغة وكتب فيه فصولاً بديعة انتقاها من الكتب المعتمدة فجاء الكتاب مفرداً في بابه وقل من كتب فيه من المتأخرين مع أنه من أجل الفنون التي أعني بها المتقدمون. وقد تعرض فيه للكثير من أسرار اللغة العربية وهو من أهم ما يعنى به المستشرقون في هذا العصر.
وهنا كلمة ينبغي أن تقال وذلك أن كثيراً من المؤرخين ومنهم أناس من مؤرخي عصر السيوطي قد بخسوه بعض حقه فزعموا أنه نقال غير نقاد يجمع بين الغث والسمين وهذا(25/61)
على إطلاقه مما ينتقد عليهم لأنه قد أجاد الانتقاء في مثل هذا الكتاب على أنه قد أظهر أعظم اجتهاد في أصول اللغة العربية وذلك في الاقتراح في أصول النحو.
(ناظر)
طبع هذا الكتاب الشيخ محمد سعيد الرافعي على أجمل شكل وحرف بعد أن طبعت الطبعة الأولى في المطبعة الأميرية منذ زمن وقد اختار له ورقاً صقيلاً رقيقاً فوقع الجزآن منه في قدر سبعمائة صفحة متوسطة القطع خفيفة الحمل ويباع في المكتبة الأزهرية بالقاهرة بعشرة قروش مجلداً وهو من الأمهات التي لا يسع أحداً من المشتغلين بالعلم أن يزهد فيها.
الأضداد
بلغت عناية العلماء باللغة أن أفردوا كل فرع من فروعها بكتاب وهو غاية ما يتصور في العناية ومن ذلك الأضداد وهي الكلمات التي تدل على الشيء وعلى ضده كالحون فإنهم قالوا أنه يطلق على الأبيض والأسود. وقد أنكر ذلك ابن دستوريه والف كتاباً في إنكار بناه على أن ذلك مناف لحكمة الوضع وخالقه الأكثر في ذلك وألفوا فيه ومنهم قطرب والتوزي وأبو بكر ابن الأنباري وأبو البركات ابن الأنباري وابن الدهان والصاغاني فإنهم أثبتوا ذلك وألفوا فيه وكتاب الأضداد لابن الأنباري المتوفى سنة 318 هـ من أنفس ما ألف في هذا النوع وقد تعرض في نوله لسبب وقوع مثل هذا في اللغة ودفع اعتراض المعترضين وأفاض في هذا الموضوع إفاضة واسعة وكتابه من أهم ما كتب
(ناظر)
طبع هذا الكتاب الشيخ محمد سعبد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية وكان طبع في أوروبا من قبل وقد عني الشيخ أحمد الشنقيطي بضبطه وشكله وتصحيحه فجاء في 380 صفحة متوسطة جيد الطبع وهو يطلب من طابعه بمصر بإثنى عشر قرشاً فنحض على اقتنائه.
رسائل الفارابي
هي ثمان رسائل منسوبة للحكيم أبي نصر الفارابي المشهور بالمعلم الثاني الأولى في الجمع بين رأيي إفلاطون وتلميذه أرسطاطاليس فيما يظن أنهما اختلفا فيه وذلك في مسألة حدوث العالم وقدمه وفي إثبات المبدع الأول وفي وجود الأسباب منه وفي أمر النفس والعقل وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية(25/62)
والمنطقية والرسالة الثانية في الإبانة من غرض أرسطاطاليس في كتابه المعروف بما بعد الطبيعة أشار فيه إلى الغرض الذي وضع فيه هذا الكتاب النبيل المقصد. والرسالة الثالثة في معاني العقل قال في أولها اسم العقل يقال على أشياء كثيرة الأول الشيء الذي يقول به الجمهور في الإنسان أنه عاقل الثاني العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقول هذا مما يوجبه العقل أو ينفيه العقل الثالث العقل الذي يذكره أرسطاطاليس في كتاب البرهان الرابع العقل الذي يذكره في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق الخامس العقل الذي يذكره في كتابه النفس السادس العقل الذي يذكره في كتابه ما بعد الطبيعة ثم أفاض في بيان كل واحد منها ناهيك ببيان مثل أبي نصر. والرسالة الرابعة فيما ينبغي أن يقدم قبل الفلسفة ذكر فيها الأشياء التي يحتاج إلى تعلمها ومعرفتها قبل تعلم الفلسفة قال فيه: أصحاب أفلاطون يرون أنه عم الهندسة ويستشهدون على ذلك بقول أفلاطون (لأنه كتب على باب هيكله من لم يكن مهندساً فلا يدخل علينا) وذلك أن البراهين المستعملة في الهندسة أصح البراهين كلها وأما آل أثوفرسطس فيرون أن يبدأ بعلم إصلاح الأخلاق وذلك ن من لم يصلح أخلاق نفسه لم يمكنه أن يتعلم علماً صحيحاً والشاهد على ذلك أفلاطون في قوله من لم يكن نقياً ذكياً فلا يدن من نفي ذكي وبقراط حيث يقول أن الأبدان التي ليست بنقية كلما غذوتها زدتها شراً وأما بواتيس الذي هو من أهل صيدا فيرى أن يبتدأ بعلم الطبائع لأنها أعرف وأقرب عنده وألف وأما أنرونيقس تلميذه فيرى أن يبتدأ بعلم المنطق إذ كان الآلة التي تمتحن الحق من الباطل في جميع الأشياء. قال أبو نصر وليس ينبغي أن يرذل واحد من هذه الآراء ومنها الحال التي يجب أن يكون عليها الرجل الذي يؤخذ عنه علم أرسطو قال فيه: هي أن يكون في نفسه ما قد تقدم وأصلح الأخلاق من نفسه الشهوانية كيما تكون شهوته للحق فقط اللذة وأصلح مع ذلك قوته الناطقة كيما تكون إرادته صحيحة. والرسالة الخامسة في مسائل مهمة في علم الحكمة عبر عنها بأوجز عبارة قال في آخرها عناية الله تعالى محيطة بجميع الأشياء ومتصلة بكل أحد وكل كائن فبقضائه وقدره. والرسالة السادسة فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم ومما قال فيها: التجارب إنما تنفع في الأمور الممكنة على الأكثر فأما الممكنة في الندرة والممكنة على التساوي فإنه لا منفعة للتجربة فيها وكذلك الروية وأخذ التأهب والاستعداد إنما ينتفع بها في الممكن على الأكثر لا(25/63)
غيره وأما الضروريات والممتنعات فظاهر من أمرهما أن الروية والاستعداد والتأهب والتجربة لا تستعمل فيهما وكل من قصد لذلك فهو غير صحيح العقل وأما الحزم فقد تنفع به في الأمور الممكنة في الندرة والتي على التساوي. والسابعة في مسائل متفرقة سئل عنها الحكيم الثاني ومنها أي أفضل الحفظ أم الفهم فقال: الفهم أفضل من الحفظ وذلك لأن الحفظ فعله إنما يكون في الألفاظ أكثر وذلك في الجزئيات والأشخاص وهذه أمور لا تكاد تتناهى ولا هي تجدي وتغني لا بأشخاصها ولا بأنواعها والساعي فيما لا يتناهى كباطل السعي والفهم فعله في المعاني والكليات والقوانين وهذه أمور محدودة متناهية وواحدة للجميع والذي يسعى في هذه الأمور لا يخلو من جدوى ثم قال: فإذا كان معوله على الأصول والكليات وعرض له أمر من الأمور أمكنه أن يرجع بفهمه إلى الأصول فيقيس هذا بهذا وقد تبين أن الفهم أفضل من الحفظ. والرسالة الثامنة في فصوص الحكم وهو كتاب من كتبه المهمة شرحه السيد محمد بدر الدين النعساني ومنه: إذا عرفت أولاً الحق عرفت الحق وعرفت ما ليس بحق وإن عرفت الباطل أولاً ولم تعرف أحق على ما هو حقه فانظر إلى الحق فإنك لا تحب الأفلين بل توجه بوجهك إلى وجه من لا يبقى إلا وجهه.
هذه هي الرسائل كما ترى وللفارابي كتب كثيرة مهمة من أهمها بالنسبة إلينا كتاب إحصاء العلوم وترتيبها وبلغنا أنه طبع في أوروبا وشرح كتاب الخطابة لأرسطاطاليس وكتاب الألفاظ والحروف وكلام في الملة والفقه المدني جمعه من أقاويل النبي صلى الله عليه وسلم وكلام له في الشعر والقوافي وكتاب في اللغات وكتاب شرائط اليقين ورسالة في ماهية النفس. وقد قدم له طابعه محمد أمين أفندي الخانجي مقدمة ثناها بترجمة الحكيم أبي نصر وترجمة أفلاطون وأرسطاطاليس وهو يطلب من مكتبته بالقاهرة بقرشين ونصف وعدد صفحاته 176 صفحة صغيرة.
أمالي السيد المرتضى
من أشهر كتب الأمالي أمالي السيد المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسين المتوفى سنة 436 وهو في التفسير والحديث والأدب طبع في بلاد فارس فأعاد طبعه أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخوه في مصر في أربعة أجزاء من قطع الوسط وبلغت صفحاته نحو سبعمائة صفحة. وقد سبق لنا أن وصفنا هذا الكتاب ببيان(25/64)
أطول عند صدور الجزء الأول منه وقد كانت قيمته بالاشتراك عشرين قرشاً وهي الآن بعد تمام طبعه بخمسة وعشرين يطلب من مكتبة الخانجي بالحلوجي.
الإيمان
كل ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 738 في الشريعة والفقه والرد على المخالفين هو آية في حسن أسلوبه وغنائه وكتاب الإيمان هذا من جملتها طبع في الهند للمرة الأولى وأعاد طبعه هذه الأونة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخوه بمصر وهو يباع عندهم بستة قروش وعدد صفحاته 190 صفحة من القطع الكبير.
منجم العمران في المستدرك على معجم البلدان
عني محمد أفندي الخانجي بطبع معجم البلدان لياقوت الحموي الذي كان طبع في أوروبا وأرخص ثمنه فأقبل على ابتياعه المغرمون بآثار السلف وقد جمع مجلدين جاءا في نحو 750 صفحة ما فات المؤلف من ذكر الممالك الأوروبية والأميركية لأن تقاسيمها حدثت بعد زمنه كما اكتشفت أميركا بعده بسنين طويلة مستنداً في ذلك من كتب المتقدمين على كتاب جزيرة العرب للهمداني وكتاب معجم ما استعجم للبكري وكتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي وكتاب الأشراف للمسعودي وكتاب البلدان لابن الفقيه وغيرها من الكتب القديمة كما اعتمد في الجمع على زهاء ثلاثين كتاباً من كتب المحدثين في الجغرافية والتاريخ ولم يتعرض لذكر القرى والمحال والهضاب والجبال لأن المؤلف الأصلي بالغ في البحث عنه وإنما عمد إلى ما للناس فيه فائدة من حادثة تاريخية أو أثر جميل أو شيء غريب من أحوال الصناعات والتجارات والمنتزهات وغير ذلاك. وكنا نود لو صرف العناية أكثر من ذلك في تمحيص المنقول فإني في أكثر المؤلفات الحديثة في العربية في هذا الشأن من الأغلاط ما يكاد يرفع الثقة إلا قليلاً. وعلى كل فنشكر لأمين أفندي توفره على إحياء الكتب النافعة للخاصة والعامة ونرجو أن يكثر في طابعينا وكتبيينا من ينظرون إلى منفعة المطالعين نظرهم إلى منفعتهم الخاصة ليستفيدوا بذلك ويفيدوا. ويطلب معجم البلدان وذيله من الطابعين بمئة وعشرين قرشاً بدون تجليد.
الركوسية
عرف الأب أنستاس الكرملي في بغداد بسعة الفضل وبعد الغور في المباحث اللغوية(25/65)
والتاريخية بما نشره حتى الآن في المجلات العربية والإفرنجية. وأمامنا الآن من قلمه هذه النبذة التاريخية بالإفرنسية نشرت في مجلة الأنتروبوس (الإنسان) الصادرة في النمسا في الركوسية وهم فئة قال بعض علماء العرب أنهم طائفة بين النصرانية والصابئة وقال آخرون والحق معهم وعليه الأب أنستاس أنهم كانوا طائفة نصرانية فقط بدون أن يعرفوا ما هي معتقداتهم. ومن رأي المؤلف أن الركوسيين ليسوا إلا كروسيين قلب اسمهم من كبروس بطريرك الإسكندرية الذي أعلن سنة 633 للمسيح عقيدة وحدة الإرادة في السيد المسيح عليه السلام وإذا صح رأيه في هذه الطائفة وهو ما نسلمه له فإنا نرى استنتاجه بأن عدي بن حاتم الطائي هو من أبناء هذه الطائفة وهو ما نسلمه له فإنا نرى استنتاجه بأن عدي بن حاتم الطائي هو من أبناء هذه النحلة كما استشهد ببعض الأحاديث في ذلك مردود لما أن الحديث المستشهد به غير معروف. وكيف يمكننا أن نقول أن عدياً كان كروسياً أو ركوسياً قبل وفاة النبي (عليه السلام) أي قبل سنة 632 وهي قبل إعلان المجمع الاسكندري لهذا المذهب بسنة. وكذلك الحال في الأخطل فليس لدينا ما يثبت أنه كان من أهل هذه الطائفة بمجرد أنه كان يلبس لباس عدي.
مخطوطات إسبانية
هي رسالة بالإفرنسية كتبها المسيو لوسين بوفا أحد علماء المشرقيات الذي عرف القراء بعض فضله بما نشرناه معرباً من بعض أبحاثه وقد امتاز بالشرقية منها عامة والإسلامية خاصة.
تكلم في هذه الكراسة على بعض كتب عربية كان أهداها اللورد كينغسبورغ الإيرلندي للجمعية الآسياوية سنة 1824 أي بعد تأسيسها بسنتين في جملة ما أهدانا من الكتب الإسبانية والعربية والفارسية والتركية والهندية واليابانية. وقدم المؤلف مقدمة في ذكر المتبرع بتلك الكتب فقال أنه طبع كتاباً ضخماً في العاديات في المكسيك لم يتمه أنفق عليه لا أقل من اثنين وثلاثين ألف جنيه فكان فيه إفلاسه وموته سجيناً لعجزه عن قضاء دينه وأثبت فيه أن التمدن المكسيكي انتشر بفضل أناس من مستعمري الإسرائيليين. وأفاض الناشر في وصف تلك المخطوطات العربية التي لها علاقة بإسبانيا وأكثرها مطبوع في أوروبا ونقل منها شذرات بالعربية وقد نشرتها المجلة الإسبانية وأخرجت منها نسخاً على(25/66)
حدة فجاءت ناطقة بفضل مؤلفها وتحقيقه فيما يخوض عبابه من الأبحاث.
تقرير المجمع العلمي السمشوني
انتهى إلينا تقرير هذه الدار العلمية في واشنطون وهي التي أسست سنة 1846 بـ 515169 دولاراً أوصى بها لها أحد أهل الخير من الأميركان المدعو سميشون لتنفق في مشروع علمي يكون منه زيادة انتشار العلوم بين الناس ومساعدة رجال العلم على البحث ونشر مباحثهم في مجلدات وإرسالها إلى كل مكتبة مهمة في العالم والعلوم التي يجيز هذا المجمع عليها في الأكثر هي الحيوان والنبات والجيولوجيا وعلم الآثار والفلك وقد وقفت عليه أموال أخرى فجاوز رأس ماله الآن زهاء مائتي ألف جنيه. ونسبت الجمعية لواضع أساسها الأول. وأعضاء هذه الجمعية المؤسسون رئيس الولايات المتحدة ونائبه وقاضي القضاة ورؤساء الدوائر التنفيذية وقد وقع هذا التقرير في 576 صفحة متوسطة مطبوعاً أجود طبع وفيه خلاصة أعمال الجمعية ونفقاتها ومقالات العلماء وأبحاثهم كما أن فيه رسوماً كثيرة ومصورات جميلة جدير بأن تزدان به المكاتب ليكون من جملة العبر للشرق تنعي عليه توانيه عن اللحاق بالغرب في العلم والعمل.(25/67)
سير العلم
التمتمة
عنيت لجنة التعليم الابتدائي في مدينة لانكاستر بإنكلترا بالبحث في أحوال الأولاد الذي يتلجلجون في إلقاء دروسهم فثبت لمن عهدت إليه النظر في ذلك أن الأطفال يتمتمون ولا سبيل إلى نزع هذه العادة منهم إلا بالتمرين ورياضة الصوت وتعويده على عدم التردد في الكلام فجمع لذلك صفاً مؤلفاً من أربعين من البنات والبنين وأخذ يعلمهم على أساليبه في تقوية التنفس وتحسين التلفظ وبعد عناية ستة أسابيع طفق الأولاد يقرؤون بصوت جهوري ساعات بدون تلعثم ثم زودهم الأستاذ بنصائح يجرون عليها في بيوتهم بمراقبة أهلهم. وهذه الطريقة تستدعي عناية فائقة من المعلم والمتعلم وكثيراً من الثبات ولا بد من التوفر على ترويض الصوت على هذا النحو حتى تزول التمتمة كل الزوال وقد ارتأت اللجنة المشار إليها أن تنشأ فرق خاصة في كل مدرسة لهذه الغاية كما تؤسس فرق استعدادية في جميع مدارس المعلمين.
حواس النبات
قال علماء النبات منذ نحو خمسين سنة أن للنبات حياة كحياة الحيوان وقام اليوم أحدهم في هولاندة ليثبت أن للنبات كما للحيوان حواس وإن خفيت عن الأنظار فلها حاسة الذوق وحاسة السمع وحاسة اللمس. فالنبات على ما يقول بحسب الفصيلة التي ينسب إليها يتغذى بمواد يؤثرها على غيرها لأنه يرى فيها لذته ويستطيبها. وللنبات حاسة الذوق والدليل على ذلك الطحلب فإن نموه معروف بتزاوج الذكر بالأنثى وهكذا أيد مدعاه في قوله أن للنبات ذوقاً وسمعاً ولمساً.
الانحطاط البشري
نشر الدكتور إميل كنج أحد علماء الفسيولوجيا في برلين كراسة ليس فيها علامة خير على مستقبل البشر فقال إن الإنسان قد أنهك قواه وتركيبه الفسيولوجي فأصبح عرضة للأمراض حتى أنك لترى هذا الانحطاط بادياُ على كثير من الناس وإذ كانت هذه الحال تنتقل من أجيال إلى أخرى فقد نشأت عنها تغير عام في النوع الإنساني يؤدي ذلك تعدد الإصابات بالسرطان الذي نسبه في الأكثر لحياة الإنسان على هذا العهد الحديث وزاد بأن أمراض(25/68)
القلب قد كثرت وإن معظمها ناشيء عن ضغط الدم على الأوعية الدموية الناتج عن الإفراط في العمل والجهاد والإسراع والتعب على اختلاف ضروبه. وأثبت بأن معدة الإنسان تسوء حالها من حين إلى آخر وأن سوس الأسنان وسقوطها قبل الأوان مما يزيد من ضعف المعد زيادة محزنة. وزاد بأن الناس إذا ظلوا يعيشون كما يعيشون وسط هذا التمدن الموهوم فسيجيء يوم ليس ببعيد كما يظن الظانون فيكثر فيه الانتحار كل يوم بسبب ما يلقاه المنتحرون من الأوصاب والأوجاع التي لا تطاق. وقالت المجلة التي عربنا عنها المقال: لا شك أن رأي العالم الألماني لا يخلو من مبالغة وغرابة ولكن فيه شيئاً من الحق أيضاً وذلك لأن حياة البشر في تناقص وتشوه ما عدا أحوال استثنائية فبعد أن أدرك المرء أن خير ما له صحة يتمتع بها تراه مع هذا يسرف فيها أي إسراف كولد طائش ورث من أهله مالاً فتوفر على إنفاقه بكلتا يديه. وقد جرت عادة الصينيين أن يضعوا جوائز سموها جوائز الفضيلة يمنحونها لمن يحس الخلاص من الأمراض فهلا اقتدت أوروبا بهم في هذا السبيل؟.
البيوت الغريبة
اخترع شيخ الكهربائية في هذا العصر المستر أديسون الأميركي قوالب تكلف ثمانية آلاف جنيه وتبنى بها مساكن ذات ثلاث طبقات لا يكلف واحدها أكثر من مائتي جنيه ويتم في أربع وعشرين ساعة في أرض رملية يستعمل ما يستخرج من رملها في بناء حوائط الدار وأسسها كالسمنت وبهذا الاختراع قد خدم الإنسانية أجل خدمة خصوصاً وهو يقول أنه لا يريد أن يربح من اختراعه بل يجعله وقفاً على نفع البشر فبارك الله به وباختراعه وإنسانيته.
حاصلات البن
بلاد البرازيل أعظم الممالك إخراجاً للقهوة في الأرض والبن المعروف بالسانتوس مشهور في جميع الأسواق التجارية في العالم. وسانتوس مرفأ تجاري من مرافئ تلك البلاد تجيء إليها القهوة من أطراف الجمهورية البرازيلية ومنها تصدر إلى أقطار المعمور فتنسب القهوة إليها. وقد قدر محصول القهوة في العالم سنة 1901 إلى 1902 بنحو تسعة عشر مليون كيس وبـ 17685000 كيس من سنة 1902 إلى 1903 وبـ 15730000 كيس(25/69)
من سنة 1903 إلى 1904 وبـ 14900000 كيس من سنة 1904 إلى 1905 وكان حظ البرازيل من هذا المحصول أكثر من حظ الأمم جمعاء فأصدرت سنة 1902 أربعة عشر مليوناً ونصف مليون من الأكياس التي يبلغ واحدها ستين كيلو وسنة 1903 1، 12380000 كيس وسنة 1904، 10300000 كيس وسنة 1905، 9640000 كيس.
البحرية الألمانية
من القاعدة التي اتخذتها إنكلترا في استعمارها أن تكون بحريتها موازية لبحرية دولتين عظيمتين من دول أوروبا إلا أن ألمانيا قد كادت تخل لها تلك القاعدة فقد قررت أن تبني سنة 1908 ثلاث دراعات كبرى وفي كل من سنة 1909 و 1910 ثلاثاً مثلها ومدرعتين سنة 1911 ومن سنة 1912 إلى 1917 كل سنة دارعة عظمى وطراداً عظيماً فيكون مجموع ما ستبنيه في تسع سنين 17 دارعة و6 طرادات عظمى و29 طراداً صغيراً وقد بلغت ميزانيتها البرية والبحرية زهاء مليار مارك أي ما يربو على 1200 مليون فرنك فزادت 122 مليون مارك عن السنة الماضية ولا تزال الزيادة تزيد سنة عن سنة وألمانيا تريد أن يكون لها المقام الأول ببحريتها كما لها المقام الأول ببريتها وهناك مؤتمر السلام في مدينة الهاي ينادي أعضاؤه بنزع السلاح والاجتماعيون ينادون بالسلم والسياسيون ولا يرتاحون إلا للحرب.
تجارة كريت
في إحصاء أخيراً أن واردات هذه الجزيرة المعروفة عند كتاب العرب بجزيرة أقريطش قد بلغت في السنة الماضية 15185073 فرنكاً وصادراتها 11224449 فرنكاً وأهم ما يرد إليها الدقيق والأنسجة وأهم ما يصدر منها زيت الزيتون ثم الخروب والزبيب والصابون. قالت مجلة الاستعمار أن تجارة هذه الجزيرة وزراعتها وعدد سكانها ليست متناسبة مع سعتها وخصب أرضها وجودة مناخها وموقعها الجغرافي فإن مساحته تبلغ نحواً من عشرة آلاف كيلومتر مربع وليس فيها من السكان أكثر من ثلثمائة ألف نسمة.
لغة الجغطاي
كتب المسيو لوسين بوفا في مجلة العالم الإسلامي بحثاً في هذه اللغة قال فيه: إن معنى جغطاي في الأصل المحتشم الشجاع وهذا الاسم إذا أطلق على إنسان عند الترك في آسيا(25/70)
الوسطى يراد به مدحه ولذلك دعي جنكيز خان بجغطاي وسميت هذه اللغة باسم المملكة العظمى التي شاعت فيها وقد قسمها بيرسين منذ ستين سنة في كتابه البحث عن اللهجات التركية إلى ثلاث فصائل الأولى الجغطائية الشرقية أو التركستانية وهي عبارة عن لغة الويكور والكومان والجغطائي والأوزبك والتركمان والتركستاني ولغة قازان المكتوبة والفصيلة الثانية هي التتارية أو المشالية (كيشاك) وهي عبارة عن لغة القرغيز والباشكير والنوجاي والكوموك والكاراتشاي والشيرياك والبيري والفصيلة الثالثة التركية أو الغربية وهي عبارة عن اللهجات الداغستانية والأزيرية المنتشرة في بلاد القرم والأناضول والروم إيلي. وقسمها أرمنيوس فمبري المستشرق المجري بعد عشرين سنة من ذاك التاريخ إلى ثلاث فصائل رئيسية وهي الصيني التاتاري الترك الكشغري والجغطاي الصرف أو الأوزبكي والتركماني يضاف إليها في الدرجة الثانية لغة القبشان والقرغيز والقره قالباق كما يضاف إليها لغتان قريبتان من التركية كل القرب وهما اللغة الياقوتية والشوفاشية.
قال وقد اعتبرت لهجة الويكور أقد ضروب اللهجات التركية واكتشف بعضهم مخطوطات نادرة في أورخون من بلاد المغول منذ نحو عشرين عاماً كتبت بلغة تركية أقدم من جميع تلك اللهجات خالية من الألفاظ العربية التي طرأت على اللهجات التركية عقيب أن دان أهلها بالإسلام. ومن الغريب أنها أقرب إلى التركية العثمانية من لغة الويكور واللهجات التركمانية ويقال على الجملة أن لهجات سكان الشرق من الأتراك تمتاز عن لهجات سكان الغرب بما فيها من الألفاظ العويصة المهجورة ولها ألفاظ خاصة بها استعاض عنها الترك العثمانيون بألفاظ عربية وفارسية أو أفرنجية (إفرنسية وإيطالية وإنكليزية ويوناينة وصقلية وغيرها) ولفظ سكان الشرق شديد حلقي وبعض اللهجات كلغة القرم وآذربايجان مثلاً هي رابطة بين اللهجات.
ثم وصف اللغة البخارية واللغة الخوقندية واللغة الأوزبكية الشائعة في خيوة وما تمتاز به كل منهن وقال أن الأحوال السياسية التي جرت في آسيا الوسطى في القرون الأخيرة كان من نتائجها التأثير في كل لهجة من تلك اللهجات فلم تحفظ كيانها كما كانت. أما الجغطاي اليوم فهو اللغة الأوزبكية يتكلم بلها ثلاث إمارات تحكم عليها الآن روسيا وهي خوقند وبخارة وخيوة ما عدا من نزح ممن يتكلمون بلغتهم إلى الأفغان. ولئن ساغ تحديد البلاد(25/71)
التي يتكلم فيها بتلك اللهجة فإن عدد من يتكلمون بها كثيرون وقد قدر فمبري عدد من يتكلمون بالأوزبكية بمليوني نسمة منهم مليون في بخارى وحواليها وسبعمائة ألف في خيوة ومائة ألف تحت حكم الأفغان. وقدره آخرون بثلاثة ملايين وثلثمائة ألف ولكن بدون أن يذكر فيه العناصر واللغات.
وقد وصف الأستاذ فمبري أخلاق الأوزبكيين وعاداتهم فقال أن سكان المدن منهم ما برحوا إذا نظرت فيهم ترى عليهم آثار المدنية الزردشتية ومن ذلك أنهم ما زالوا محافظين كل المحافظة على عيد النوروز وهو أول يوم في السنة عند الفرس الموافق للاعتدال الربيعي وما برح أوزبك بخارى كمجوس الفرس في يزد وكرمان يرقصون حول نار يوقدونها من القش ويجب على العروس عندهم أن توقد ناراً لطرد الأرواح الشريرة عندما تدخل للمرة الأولى إلى بيت زوجها ولا يسوغ لها أن تستدبر تلك النار. ويتوقى أهل البادية منهم أن يبصقوا في النار أو يلقوا في قاذورات ويعزون للشمس كما يعزون للنار أن فيها خاصية شفاء الأمراض كما يعتقدون معتقدات قدماء الإيرانيين في الرواح والجن. وذكر من عاداتهم في مآكلهم ومشاربهم وقال أن التدين يغلب عليهم كثيراً بدون تعصب ولا يكادون يعرفون الرياء وهم يقدسون الأولياء ولكن أقل من خيوه وبخارى وخوقند وقلما يحجون وهم أشبه بأتراك الأناضول منهم بأتراك بخارى.
ثم قال أن الترك العثمانيين كانوا يحتقرون قديماً المتكلمين بلغة الجغطاي أو الأوزبك أي التركية الأصلية القديمة ويصفونها بالغلظة ويسمون لغتهم بالجفاء على أن تجافيهم عن أصل لغتهم لم يزدهم إلا انهيال الألفاظ الدخيلة عليهم حتى صارت اللغة التركية العثمانية مزيجاً من لغات أمم شرقية وغربية ولو احتفظوا بأصول لغتهم لكان لهم من ألفاظها مادة يمكنهم أن يعبروا بها عن أفكارهم ومع هذا انتبهوا في العهد الأخير وأخذ بعض علمائهم يبحثون في الرجوع بها إلى أصولها ونشروا نصوصاً قديمة من اللغة الجغطائية كما ينشر علماء المشرقيات آثار الشرق القديمة. ثم وصف مملكة الخوجة في تلك البلاد وما تعاقب عليها من الملوك وكيف سقطت الآن في يد الروس وقال أنه لا يرجى لأهلها بعد الآن نفوذ ديني ولا سياسي.
نظر الوقادين(25/72)
قدم أحدهم إلى جمعية أمراض العيون في باريز رسالة قال فيها أن كثيراً من الوقادين في الأتومبيل والأومنيوس مصابون بأمراض في عيونهم فينشأ منهم لضعف أبصارهم ضرر على الراحة العامة وخطر على حياة الركاب والمارة ومن العجب أن يطلب من الميكانيكي أن يكون حاد النظر وتفحص عيناه فحصاً طبياً دقيقاً ولا يطلب مثل ذلك من الوقاد والسواق وأبت أن 8 في المئة من الوقادين ضعاف البصر. وصادف أن رأى وقادين كانت مقلهم (قرنيتهم) كثيفة بحيث لا يبصرون وبعضهم مصابون بتغبش النظر وبلغ الحسر أي قصر النظر ببعضهم أنهم إذا رأوا في رابعة النهار قطيع غنم ظنوه غباراً وإن وقع نظرهم على جبل اتخذوه سحاباً ومنهم من لا يبصرون إلا بعين واحدة فإذا أصيبت الصحيحة بعارض يصبحون كالعميان لا محالة. وفي رأيعه أن تفحص عيون الوقاد والسواق قبل أن يناط بهم العمل فلتجعل هذه الرسالة موضع التنفيذ لأن الحوادث التي نشأت من ضعف الأبصار من هذا القبيل طالما جلبت المضار والأخطار.
تلفون جديد
اخترع الأخوان لوريمة اللذان لهما في تاريخ التلفون يد طولى آلة تخاطب بها الإنسان من يريد من تلقاء نفسه بدون أن يخاطب مركز إدارة التلفون أولاً لتفتح له طريق من يحب مخاطبتهم. وقد جعلت الآلة بحيث لا يحدث منها لبس في التخاطب ولا انقطاع ولا يفهم أحد ما يدور بين المتخاطبين كما هو الحال الآن وذلك على طريقة تسهل على المتخاطبين وتوفر م العاملين وتكون سرعة التخاطب بهذا التلفون في الليل أكثر من سرعتها في النهار وقد جرب اختراعهما في كندا فظهرت نتائجه الحسنة.
طباعة العميان
كان العميان في أكثر مدارس الغرب يتعلمون القراءة في كتب جعلت لهم خاصة بحروف ناتئة عرفت بحروف برايل أما الآن فقد اخترع أحدهم اختراعاً جديداً بحيث يمكن للعميان أن يقرؤا الخطوط التي تطبع بحروف كالعادة إلا أن نصف الحرف الأول يجعل بطبع ناتئ ونصفه الآخر بطبع عادي غير ناتئ وبذلك يمكن للمبصرين والعميان أن يقرؤا الكتب المطبوعة على هذا النحو.
ورق النرد الطبي(25/73)
ثبت بالفحص الطبي أن جراثيم العدة يكثر انتقالها بورق النرد لتنقلها من يد إلى أخرى خصوصاً وبعض الناس يبلون أصابعهم بريقهم ليتناولوا الورق ويناولوه بسرعة فتساعد على نقل جراثيم النزلات والسعال وأمراض الحلق وغيرها رطوبة الأماكن التي يلعب بها اللاعبون والرطوبة من أشد المعينات على نماء الأحياء الضارة. وقد ارتأى أحد الأطباء الإنكليز أن يجعل ورق اللعب من القماس ليمكن تطهيره وتعقيمه بعد كل لعبة وربما كان باستعمال هذه الأوراق الصحية شيء من النفع لصحة الأجسام.
إنقاذ السفن
اخترعت آلة لتعويم السفن الغرقى وذلك بجعل الهواء مضغوط في جدران السفينة الغارقة ضغطاً اشد مما يقابله من العمق وقد جربت في تعويم الغواصات وربما نفعت في تعويم البوارج.
حوادث الخطوط الحديدية
جربت حكومة ألمانيا من مدينة برلين إلى ستيتين عدة طرق لتعريف سائق القطار ما أمامه من الإشارات أثناء الضباب توقياً من الأخطار فلم تر أحسن من وضع كل مئة متر صفارة من الكهربائية تجعل على علو ثلاث مترات فتصفر وتنبه السائق إلى الإشارات التي أمامه.
عدو المحار
أصيب المحار والسمك البدلان في شواطيء فرنسا ولاسيما في بحر المانش بعدو أزرق من الخث (نبات الماء) الذي يعلق بالحصا فلا يرتفع عنه كما يعلق على المحار فإذا امتلأ هذا الخث ماء بلغ بحجم البيضة وأحياناً بحجم اليد فإذا علق بالمحار لا يتركها حتى يقتلها وقد قدر ما فسد من هذا السمك في شهر مايو من سنة 1906 بأربعمائة ألف سمكة وذلك في (بارك بروتون) وحدها ولم يجدوا طريقة للخلاص من هذا العدو إلا إلقاء حرم من الشوك في الماء تمزق الخث.
ألمانيا والسل
يؤخذ من تقرير الصحة في ألمانيا أن فيها 87 مصحاً للشعب فيها 8647 سريراً منها(25/74)
5772 للرجال و2658 للنساء و292 للرجال والنساء بدون استثناء وفيها 35 مصحاً خاصاً يحتوي على 2118 سريراً و17 مصحاً للأولاد المسلولين فيها 650 سريراً و67 مصحاً للأولاد المصابين بداء الخنازير فيها 6092 ويعمر فيها اليوم 11 مصحاً للأمة فيها ثمانمائة سرير وعشر دور خاصة بمداواة هذا المرض وداران آخران تشيدان حديثاً هذا ما عدا دور النقاهة التي أقامتها ألمانيا وجمعياتها في الغابات وغيرها.
سماعة جديدة
اخترع أحد جراحي لندن سماعة جديدة استعاض فيها عن المعدن بالمطاط وكان المعدن يتأثر منه حاسة السمع بعض التأثر والمطاط يسهل مسه ويلطف وضعه.
أهم الكتب
قيل أن الصاحب ابن عباد كان يستصحب في سفره أحمالاً من الكتب للتسلية والاستفادة فلما ظفر بكتاب الأغاني استغنى عنها كلها واكتفى بحمله معه والغالب أن الناس في أوروبا سئمت نفوسهم من كثرة الكتب أو كادت وخافوا أن تكون لهم كما قال ابن خلدون عائقة عن التحصيل فعرضت إحدى المجلات الدولية التي تخوض المباحث الحرة على المعاصرين من العالمين أن يبينوا لها آراءهم فيما يختارونه من الأسفار التي تؤلف مكتبة يعتمد عليها المرء في خلوته وجلوته ولا تكون أكثر من أربعين كتاباً تبحث في الفلسفة والأخلاق والفنون والأدب.
التصوير عن بعد
هذا اللفظ الإفرنجي معناه التصوير عن بعد اخترع مسماه أحد علماء الألمان منذ مدة فقام مخترع فرنسي اليوم يتمم ما بدأ به السابق فتمكن من نقل مسودة فوتغرافية بالفحم إلى مسافة بعيدة وأخرج صورة منها في صورة تشبه الصل وليس في القيام بذلك أدنى صعوبة.
تلوين الجوهر
ثبت أن الحجر اللطيف المعروف بالكوروندون المعتبر بعد الماس بقيمته يتأتى تلوينه حتى يصير جوهراً لطيفاً وكذلك بعض الأحجار الكريمة ولكن الأحجار الكريمة تبقى على(25/75)
نفاستها وغلائها ويمكن تلوين الياقوت الأحمر بلون آخر وإن كان من الثابت أن الأحجار تعيش وتموت كالنباتات فإن ذلك مما يسر السبيل على المخترع أن يلون الأحجارة الكريمة ألواناً غريبة.
غذاء الإنسان
نشر شبتدن من أساتذة كلية يال الأميركية كتاباً في الإكثار من التغذية ولاسيما في الإكثار من تناول اللحوم وأورد أمثلة كثيرة في هذا الباب. وأثبت الآن أن التغذية المعتدلة هي من الشروط المهمة في حسن الصحة ومتانة الأعضاء ومرونتها. وقد استعمل هذا الأستاذ بذاته مع بعض رصفائه من الأطباء طريقة التقدير في الطعام ولا سيما في الألبومين اللازم كل يوم فجادت صحتهم ايما جودة وطبقت هذه القاعدة على جنود في الخدمة مضطرين كل يوم إلى معاناة الأعمال الصعبة فثبت أن أعصاب ظهورهم وسوقهم وصدروهم وأذرعهم قد قويت أي قوة وأن خير طريقة لاتقاء الأمراض أن تقدر كمية الطعام على ما ينبغي ولاسيما اللحم.
الديكتوغراف
آلة اخترعت مؤخراً في أميركا تمنع أن يسمع أحد صوتك وأنت تكلم أحداً بالتلفون أو يفهم كلامك أو يجعل الهواء التباساً في حديثك وحديث من تكلم.
تقهقر إنكلترا
قالت المجلة الباريزية أن إنكلترا لم يعد لها المقام الأول في التجارة والصناعة كما كانت منذ مئة سنة فقد بلغ ما أصدرته سنة 17820 من المصنوعات مليار فرنك أي أنه يعادل ما أصدرته فرنسا والولايات المتحدة معاً والنمسا وألمانيا أو يوازي مصنوعات العالم أجمع إذا أخرجت منه تلك الدول الأربع. ونزل ما أخرجته سنة 1880 إلى خمس الحاصلات الصناعية وفي سنة 1894 إلى السدس ولم تبلغ الصادرات الإنكليزية منذ سنة 1894 إلى 1903 سوى ثلاثة عشر في المئة. وكانت اليابان قديماً من أحسن الزبن للمصنوعات القطنية الإنكليزية إلا أنها أخذت تصنع مثلها في بلادها من ذاك العهد وتقدمت صنائعها تقدماً غريباً فكانت تنسج سنة 1886 ستة ملايين لبرة من القطن فأصبحت تنسج سنة 1895، 135 مليون لبرة أي أن مصنوعاتها زادت أربعة وعشرين ضعفاً في تسع سنين(25/76)
وغدت اليابان التي كانت تبتاع سنة 1884 بثمانية ملايين دولار من المصنوعات القطنية لا تشتري سنة 1895 سوى نصف ذلك.
الجزائر والصحراء
نشرت مجلة العلم في القرن العشرين مقالة بحث فيها كاتبها في أصول سكان جنوبي الجزائر والصحراء فقال أن أهم عنصر في سكان الجزائر هم البربر والعرب والأول زارع والآخرون يقيمون على تربية المواشي وكثيراً ما كان هذان العنصران يتمازجان وقد أثر هناك الدم الزنجي أيضاً قال ومنذ استولت فرنسا على تلك الأنحاء أخذ كثير من قبائل الطوارق يعتاشون من رعي الماشية أو يسيرون القوافل وأصبح بعضهم زراعاً يحرثون ويفلحون.
الدين في الصين
نشر أحد الباحثين من الإنكليز مقالة قال فيها أن الدين يرجع القهقرى في الصين فلا يقل فيها المتدينون بالكونفوشيوسية والبوذية والطاوسية بل أن النصرانية هناك لا مستقبل لها أيضاً.
أولاد الفقراء
بحث بعض العلماء في السنين الأخيرة في قامات أولاد الفقراء ووزنهم ونسبتهم مع أولاد الأغنياء فثبت أن الأغنياء أعظم وأقوى (المقتبس 2 ـ 444) وقد عينت الحكومة الإنكليزيية نخبة من الأطباء والعلماء ففحصوا 72848 صبياً في المدارس العامة في غلاسكو سنة 1905 ـ 1906 فنظروا إليهم من حيث مساكنهم لأن سعة المسكن دليل على سعة العيش في الغالب فثبت لهم أن 8 في المئة يعيشون في مسكن ذي غرفة واحدة و58 في المئة في مسكن ذي غرفتين و24 في المئة في مساكن ذات ثلاث غرف و10 في المئة في مساكن ذات غرف كثيرة وأثبتوا أن قامات البنين والبنات من الخامسة إلى الثالثة عشرة تضعف بحسب صغر المساكن التي يسكنونها وأيدوا بالبرهان أن عظم المساكن إذا كانت دليلاً عاماً واضحاً على حالة الثروة فإن قامات الأطفال ووزنهم تضعف بحسب ضعف الأسرة في السعة وبسطة العيش.
ترجمة التوراة(25/77)
قالت المجلة: ترجمت التوراة الآن إلى أربعمائة لغة وقد أورد الباحث فيزجيرالد بعض المصاعب العظيمة التي تحول دون نقلها إلى اللغات الهمجية التي كثيراً ما تعوزها أهم الكلمات اللازمة. مثال ذلك أن أهل تاهيتي ليس عندهم لفظ يعبر عن الحشمة ولعلهم لا يعرفون هذا المعنى ومتوحشو الماوريس في زيلاندا الجديدة ليس عندهم كلمة شريعة والبلاد التي لم تدخل إليها التوراة بعد هي بلاد العرب والفرس والسودان.
مطاط جديد
اكتشف في التونكين شجر جديد من المطاط من النوع الجيد وهو كثير في عدة ولايات من تلك المستعمرة ولم يكن يعرف من شجره في الهند الصينية غير نوع كان يصعب استثماره كثيراً وقلما يأتي بمطاط جيد.
ضرائب فرنسا
كان سكان فرنسا سنة 1808 يدفعون ضرائب للحكومة 21 ملياراً فأصبحوا يدفعون سنة 1896، 142 ملياراً من الفرنكات ولم يتضاعف في خلال تلك الحقبة من القرن عدد سكانها على حين أنشؤوا يدفعون سبعة أضعاف ما يدفعون وزاد عدد الدفاتر التي أخذت من صناديق التوفير منذ سنة 1869 ـ 1898 من ثلثمائة ألف إلى ستمائة ألف وبلغت المبالغ المودعة 148 مليوناً وكانت 52.
تشغيل الأولاد
عدوا من دواعي الخجل على القرن التاسع عشر أن ينصرم ويخلف للقرن العشرين مسألة من أصعب مسائله الاجتماعية ألا وهي تشغيل الأطفال من البنين والبنات في المعامل والمصانع والمناجم بأيديهم وهم ضعاف الأجسام ولما يبلغوا نموهم المطلوب فتستولي عليهم الأمراض المختلفة. وقد دلت الإحصاءات في فرنسا سنة 1905 على أن عدد العاملين من الأولاد بلغ ثلثمائة ألف وعدد العاملات من البنات مائتين وستين ألف عاملة وأن بعض المعامل يكتفي أصحابها بعامل كبير لقاء ثلاثين من هؤلاء الصغار لرخص أجورهم وشدة همتهم ولطالما أظهرت تقارير مفتشي المعامل أن بعضها يستخدم في السر أولاداً من ابناء الثمانية إلى العاشرة وتطعمهم خسيس الطعام وتشغلهم عشر ساعات ولذلك(25/78)
صدق ما قاله أحد أساتذة العلم في المجمع الطبي الباريزي من أن 141 من كل 896 ابناً وابنة يموتون بالسل الظاهر.
نفقات الكليات
أحصى أحد أساتذة التعليم العالي ما تنفقه فرنسا وألمانيا على كلياتهما فتبين أن ألمانيا تصرف 31 مليون فرنك على التعليم العالي في السنة وفرنسا تنفق 21 مليوناً على حين يبلغ سكان الأولى 56 مليون نسمة والثانية 39 مليوناً هذا ما خلا بعض الكليات القديمة في ألمانيا التي لها واردات سنوية تبلغ خمسة ملايين فرنك فمعدل ما يصيب المكلف في ألمانيا نفقة على التعليم العالي 54 سنتيماً ومعدل ما يصيب الفرنسوي 56 سنتيماً ونصف. وقد قالت بعض المجلات وليس هذا مما يعاب على الفرنسيس ولكن الحقيقة أنه ينشر كل سنة في ألمانيا ثلاثة أضعاف ما ينشر في فرنسا من المطبوعات في التاريخ الحديث وينشر في ألمانيا خمسون ضعف ما ينشر في فرنسا من المطبوعات في التاريخ القديم ولكن ترى هل ما تنشره ألمانيا عقود ودرر.
عمال التجارة
رأى سفير فرنسا في لندن أن خير واسطة لنشر تجارة أمته في بريطانيا أن تبعث إليها بأناس من بينها تدربهم على الأعمال التجارية على الأسلوب الإنكليزي وعندها تعهد إليها أن يكونوا وكلاء عع بيوتها التجارية وإن نقل الأشخاص الذين يصرفون المصنوعات ينفع أكثر من الاعتماد على أناس من الإنكليز لتصريف المصنوعات الفرنسوية وما حك جسمك مثل ظفرك. ولذلك بدأ المجمع التجاري في باريز بإرسال كثيرين إلى ليفربول يدرسون الأعمال على الأسلوب الإنكليزي وسيكون ذلك مقدمة لنشر البضائع بين أمة أخرى.
تجارة الكتب
لم تكن فرنسا تصدر إلى إيطاليا من الكتب سنة 1903 سوى نصف ما تصدر ألمانيا إليها أي أن الأولى تصدر إلى إيطاليا بأربعمائة ألف فرنك وألمانيا تصدر إلى إيطاليا بثمانمائة فأصبحت فرنسا تصدر إلى إيطاليا في السنة الماضية 636 ألف فرنك وألمانيا 916 وورد على فرنسا في السنة الماضية 7817 قنطاراً من الكتب المغلفة ومثل هذا القدر ورد على ألمانيا وفرنسا وألمانيا في مقدمة بلاد أوروبا بإصدار الكتب.(25/79)
المعتوهون
تبين أن أحسن طريقة في اختبار المعتوهين ممن وقعت لهم عوارض وقتية وليسوا من العته في شيء هي التي جرت عليها مدينة غلاسكو في بلاد الإنكليز فإنهم هناك قبل أن يلقوا المصاب في مستشفى المجاذيب يجعلونه تحت المراقبة بضعة ايام وبذلك كان يظهر أن خمسين في المئة لا يصلحون للبيمارستانات وستجري أكثر مدن أوروبا على هذه الطريقة في استثبات حال المجانين.
الملكة فكتوريا
نشر في العهد الأخير في إنكلترا كتاب ضخم في ثلاثة مجلدات وهي رسائل الملكة فيكتوريا والدة الملك إدوارد السابع ملك الإنكليز الحالي التي تولت الملك 64 عاماً مما لم يعهد لملك في تاريخ إنكلترا أن تولى أمر الناس هذا الزمن الطويل وكان ابنها هو وكاتم أسراره مساعدين في إعداد هذه المفكرات ليكون منها الشعب الإنكليزي صورة حقيقة من قلب الملكة فكتوريا وأفكارها بدون تغيير الحقيقة التاريخية أو تعديلها وبدون أن يغفلوا عن ذكر الأوهام التي كانت مستحكمة فيها لأول عهدها وهذه المجلدات هي عن الخمس والعشرين سنة الأولى من حكمها.
الانتحار والتربية
ألف أحد علماء الإفرنج كتاباً في التربية وانتحار الأولاد فأثبت أن عدد المنتحرين من الأطفال يزداد سنة عن سنة وأن الداعي إلى الانتحار هو الغيرة والغضب والكبر والخصومات الأهلية ومضادة الأميال والإجهاد العقلي وسوء معاملة الوالدين وفي تضاعيف ذلك ما يبدو في المنتحر من ضعف الإرادة الناتج من مجتمع قليل المتانة وبالجملة فإن القرف من الحياة يأتي أبداً من ضعف المزاج ولا وسيلة لدفع الأولاد عن الانتحار إلا بإطعامهم جيداً وتنويمهم طويلاً وتقوية أعصابهم بالجري على التدابير الصحية والمعالجة بالماء البارد وإدخال السرور على قلب من كان فيه استعداد لذلك والتخفيض عليه إذا ضاق صدره. ومن رأيه أن تاثير المعتقدات الدينية والقراءة في الكتب الصحيحة من أحسن المؤثرات في عقل المستعد للانتحار وأبان بالأمثلة والشواهد ما ينال الشبيبة من المخاطر إذا حشيت عقولهم بالمعارف فوق طاقتها.(25/80)
أخطار المسكرات
ذكرت مجلة المعين الاجتماعي أنه أحصيت محال بيع المسكرات في فرنسا سنة 1905 فكانت 476593 محلاً وما برحت آخذة بالزيادة منذ قرن قالت: وإن الحكومة لا تجهل أن جميع إصلاحاتنا الاجتماعية تكون من العبثيات وجميع تربيتنا لجمهور الأمة وحرياتنا السياسية والمدنية ونظامنا الدستوري تصبح أبهة باطلة وأثراً بعد عين إذا ظل بائعو المسكرات يسممون الناس عندنا كما هم الآن. وقد أمر وزير الداخلية بأن تحقق أحوال دور المجانين فأثبتت اللجنة التي عهد إليها النظر في ذلك في 36 ولاية أنه زاد عدد المعتوهين بتعاطي المسكرات منذ عشر سنين 57بالمئة وأن نصف المصابين بالجنون كان لتعاطيهم الإبسنت والأشربة المقبلة. وفرنسا ساعية في إبطال المشروبات الضارة وإغلاق معظم محال بيعها جرياً على مثال معظم الأمم الراقية في الغرب.
القرى والمدن
تشكو معظم بلاد الغرب من كثرة زهد الفلاحين في قراهم وانقلابهم إلى المدن يتعاطون فيها الأعمال الصناعية وغيرها وقد وضعت فرنسا إحصاءً لذلك فظهر لها أن سكان الأرياف كانوا فيها سنة 1846، 75 في المئة من مجموع الأمة فنزل معدلهم اليوم إلى ستين في المئة هذا مع أن فرنسا أرقى البلاد الأوروبية بزراعتها. وقد غادر الحقول من سنة 1872 إلى 1891 نحو أربعة ملايين ونصف من الريفيين ولحقوا بالمدن والعواصم وفي الإحصاء الذي تم سنة 1891 كان سكان باريز 2300000 منهم 800000 باريزيون أصليون والباقون ريفيون.
غلاء المعيشة
يقول الاقتصاديون أن السبب في غلاء الحاجيات هذه الأيام كثرة الذهب في الأيدي فقد زاد محصول الذهب في العشر سنين الأخيرة ضعفي ما كان عليه فكان مجموع ما في العالم من الذهب سنة 1896 عشرين ملياراً فأصبح في العام الماضي ثمانية وثلاثين ملياراً من الجنيهات فالجنيه وقيمته قيمته ولكن ما كان يتيسر للمرء أن يبتاع به من البضاعة لا يتيسر له أن يبتاعها به الآن لأنها قلت وعلى هذه النسبة تضاعفت أثمان اللحوم والفراخ أو زادت الثلث عما كانت عليه منذ عشر سنين. والمتأخر في هذا الباب آخذ باللحاق بالمتقدم.(25/81)
الدعوة إلى السلم
أول من دعا إلى السلام هو الفيلسوف الهولاندي إيراسم المدعو فولتير اللاتين فرأى سنة 1517 أن يجتمع ملوك الأرض إلى مؤتمر عام في مدينة كامبري الفرنسوية تحت زعامة الإمبراطور ماكسيميليان وفرنسيسن الأول وهنري الثامن ملك إنكلترا.
مطاعم الشعب
كانت مدينة ليون سنة 1892 أول من فتح مطاعم للشعب تبيع الوجبة بأربعين سنتيماً وهي تحوي على لحم وبقول وجبن وخمر فيربح المطعم من كل وجبة سنتيمين ونصف ويربح من يقومون بهذا العلم ستة في المئة إلا أن سويسرا أرادت أن تفوق فرنسا في هذا السبيل فأنشأ بعض أهلها في مدينة زوريخ مطعماً ونزلاً للشعب مطلين على رابية هناك من أجمل المناظر البديعة وجعلت الأجرة عن كل يوم ثلاث فرنكات ونصفاً عن الطعام والشراب والمنام ومن أراد أن يمسك له محلاً يجب عليه أن يخابر إدارة الفندق قبل ستة أشهر.
العلم والإحسان
تبين بالإحصاء أن النفوس رغبت في الثلاث سنين الأخيرة عن مد يد المعونة لدور الإحسان فقد كان ما جادت به النفوس في فرنسا سنة 1904، 24 مليون فرنك من الوصايا والمنح في سبيل الخير فنزلت سنة 1906 إلى ثمانية عشر مليوناً ولكن ثبت أن من يوصون لدور العلم والمجاميع العلمية يكثر عددهم وما تجود به ايديهم فقد كان ما جادت به نفوس الفرنسيس في هذا السبيل سنة 1905 مليوناً ونصفاً من الفرنكات فبلغ سنة 1906 مبلغ 2. 389. 000.
الأميون في بولونيا
ثبت بالإحصاء ان سكان فارسوفيا عاصمة بولونيا قديماً التي هي اليوم من أعمال روسيا يكثر عدد نفوسها كثرة غريبة فقد بلغوا مليوناً من النفوس ولكن الأميين فيهم كثار بلغ معدلهم 41 في المئة من الرجال و51 من النساء وإن عدد الأميين في بولونيا أكثر منه في جميع الولايات الروسية في أوروبا الغربية فإن صح ما قالوا فما تقول مصر والأميون فيها تسعون في المئة والبلاد العثمانية وما نظن الأميين فيها يقلون عن ثمانين في المئة.(25/82)
الإحسان العام
ذكر بعض المحققين من الإنكليز أن إنكلترا في مؤخرة الشعوب الراقية من حيث جودها بالمال على البائسين فإن فينا من هذا القبيل خيرا من لندرا وبرلين خير من فينا وكوبنهاغ خير من برلين فترى الشيخ العاجز في بلاد الدانيمرك موضوع العناية العظمى ولا يكلف أكثر من سبعة فرنكات على صناديق الإحسان على حين أن الرجل في إنكلترا يموت جوعاً إذا لم يمد يده فيشحذ ويكلف العاجز فيها على المكلفين من الأهلين زهاء عشرة فرنكات.
الورق في أميركا
أكدت مجلة المجلات النيويوركية أن مجاعة من الورق ستنتشر في الولايات المتحدة بعد بضع سنين وذلك أن صنع الورق من الأشجار قد كاد يفنيها فإذا دامت الحال على هذه الصورة في قطع الأشجار لصنع الكاغد لا يمضي ربع قرن حتى لا يبقى شجر ولا ورق وقد أوردت مثالاً لذلك إحدى جرائد نيويورك التي تطبع ثمانمائة ألف نسخة في اليوم على ثمانين صفحة كبيرة قالت أن هذه الكمية من الورق التي تصرفها جريدة واحدة تحتاج إلى 9779 شجرة من علو عشرين متراً ثخينة وطلب الكاتب من الحكومة أن تنظر في حال الغابات التي تحطم لتصنع منها تلك الورقات والصفحات.
معامل اللبن
رأى أحد المفكرين أن مراقبة الحكومات لمعامل اللبن (الحليب) من أهم الخدم التي تخدمها لأممها وذلك لأن اللبن يستعمله الناس عامة فإذا لم يكن سليماً يزيد في عدد الوفيات وقد ظهر بالإحصاء أن معدل وفيات الأطفال قد نزل في روشتر من أعمال ولاية نيويورك إلى أربعين في المئة لأن حكومتها راقبت اللبن مراقبة صحية دقيقة.
سياح اليابان
ينتشر ميل اليابانيين إلى السياحة في الأرض ولم يقصروا سياحاتهم على بلاد الصين والشرق الأقصى بل هم يقصدون بلاد الغرب أيضاً وقد رأى أحد عظماء مفكريهم أن السياحة تطلب لكل من يشتغل طوال السنة بالأشغال العقلية وإن في المدن اليابانية المنقطعة كمدينة كيتو ونيكو وهاكون غنية عن ارتياد البلاد البعيدة إلا أنه ينقصها فنادق(25/83)
من الطراز الحديث ومحال للسماع ومحال للسباق وقال أن اليابان من هذه الوجهة متقهقرة فرثى لها من أجل ذلك.
المدنية الحديثة
بحثت إحدى المجلات اليابانية عن الطرق الحقيقية التي يجب سلوكها للأخذ بأهداب هذا التمدن الحديث فقالت كل ما يسلك في هذا السبيل لغو وإثم إن لم ينظر فيه لسعادة البشر وهذه السعادة لا تنال إلا بترقية الأخلاق الشخصية وتحسين الذوق وهذا لا يتأتى إلا بنشر التعليم والتهذيب.
خطب ومحاضرات
أخذ حديثاً نادي المدارس العليا في هذه العاصمة يدعو بعضاً من المشتغلين بالعلم والأدب لإلقاء خطب ومحاضرات على بعض أعضائه فممن خطبوا فيه رفيق بك العظم وأحمد بك كمال وأحمد بك زكي وعمر بك لطفي وهم من أساطين النهضة المصرية اليوم. فقد خطب الأول في التدوين في الإسلام خطبة قال فيها: إذا قيل أن العرب أمةأمية فليس هذا القول على إطلاقه بل ربما طلق هذا الوصف على عرب البادية إطلاقاً أعم من إطلاقه على غيرهم من سكان المدن والدول البائدة كسكان اليمن ومدن نجد والحجاز والعراق والجزيرة وأطراف الشام الذين عرفت لهم دول ذات حضارة ومجد كالتبايعة في اليمن والمنادرة في العراق والحوارث في أطراف الشام الذين منهم ملوك تدمر في شرقي سوريا وإليهم تنسب الزباء زنوبيا وزوجها أذينة (أوزينوس) ومنهم ملوك غسان في جنوب سوريا وتاريخهم مشهور معروف.
فهؤلاء الشعوب لا يجوز أن يطلق عليهم وصف الأمية إلا بالنسبة لحالة كل عصر كانوا فيه وإنما غموض تاريخهم وطموس آثارهم أضاف تاريخهم إلى التاريخ القديم فكان مجهول الحقيقة إلا قليلاً مما وقف عليه الباحثون من الآثاؤ الكتابية للحميريين في اليمن والكتابات النبطية في شمال الحجاز وسيكشف دؤوبهم على البحث وتتبع الآثار أكثر من ذلك. وحسبكم شاهداً على أن الأمية لا يجوز إطلاقها على كل العرب ما كان موجوداً من كتب أهل الحيرة إلى أوائل القرن الثالث الهجري بدليل ما قاله هشام بن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأنساب وهو إني كنت أستخرج أخبار الغرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن(25/84)
ربيعة ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة.
أما عرب الحجاز فالمعرف عن الكتابة عند سكان المدن منهم قبيل البعثة أنها كانت موجودة ولو مع الندرة يدلك عليه كتابة المعلقات السبع التي كانت على الكعبة والصحيفة التي عاقدت فيها قريش على رد حقوق وإنصاف المظلوم وعلقوها على الكعبة والمعروف أنهم كانوا يكتبون العربية تارة بالخط النبطي وأخرى بالخط الحيري الذي عرف بعد ذلك بالكوفي ومرة بالخط العبري. ثم ذكر أن الحديث كتب إن لم يكن كله فجله على عهد الرسول وأصحابه والحديث يشمل أكثر تاريخ الخلفاء وكذلك كتب فن النحو الذي أملاه علي بن أبي طالب على أبي الأسود الدؤلي وأما في عصر التابعين وتابعيتهم فقد كانت العناية بكتابة الأخبار أكثر وأقبل الناس على اقتناء الكتب وجمع المكتبات ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة وكان يقول وددت لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين في خلافة يزيد بن معاوية وكان ابن شهاب الزهري إذا جلس في بيته وضع الكتب حوله فشغلته عن كل شيء وهو من أهل المئة الأولى ولم يأت القرن الثاني حتى كثرت الكتب في فنون شتى خصوصاً فنون العربية والأدب فإذا كان ذلك كذلك هل يبقى مجال للريب في أن العرب دونوا علومهم في الصحف من ابتداء القرن الأول وهل يستراب في صحة هذه العلوم على ما ثبت معنا من أنها كتبت مدعومة بالرواية لتكون أبعد عن سهو الكاتبين وتحريف الناسخين.
قال وهذه الطريقة في النقل لا تعد ثلمة في تاريخ الإسلام يتطرق منها إليه الوهن والتجريح بل تعد تحقيقاً للأخبار بالغاً حد الأمانة والتمحيص لم تسبق إليه أمة من الأمم غير المسلمين أما تلك الكتب التي دونت في الصدر الأول فإنها أدمجت في الكتب الجامعة التي ألفت بعد ارتقاء التأليف كما يرى في كتب الفنون التي اشتغل بها العرب ودونت بعد القرن الثاني معزوة لقائليها.
وخطب أحمد بك كمال في التوحيد عند قدماء المصريين وتكوين أرض مصر والنيل وفي أصل الخليقة وأصل المصريين فقال أن صيغة التوحيد عند المسلمين موافقة تقريباً للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الملوك ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وجدت(25/85)
في أوراق البردي القديمة فترجم صورة هذه الصيغة عندهم بما يأتي: الله وحده لا ثاني له يودع الرواح في الأشباح أنت الخالق تخلق ولا تخلق خالق السموات والأرض وقال أن علماء الآثار المصرية كانوا يعتقدون إلى ما قبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنيون ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة وإن التوحيد أتاهم من نوح عليه السلام بدليل قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً إذا قيل أن الشرك كان شائعاً عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار فيقال أن يوسف كان سجيناً عند فرعون مصر وأن عقيدة الشرك لم تدخل مصر إلا مع الرعاة (الهكسوس) الذين دخلوا مصر قبل عصر الأسرات ولذلك كان المصريون يطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية وقال أنه جمع أسماء الأصنام بالعربية فرأى أسماء تشابهها بالهيروغليفية واستطرد إلى ذكر البردي فقال أنه كان يزرع في الوجه القبلي وأن اللوتس (له ثمر كالشعير يقتات به) كان ينبت في الوجه البحري وأن المصريين سطروا علومهم من طب وهندسة وحساب على أوراق البردي واللوتس. وهذا النباتان رمزان على من يحكم الوجه البحري والقبلي فإذا رأيت كرسياً مرسوماً عليه صورة البردي واللوتس فاعرف أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين القبلي والبحري.
وقال أن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن النيل ينبع عند أسوان ثم علموا أنهم مخطئون في اعتقادهم وأن منبع النيل أبعد مما كانوا يتوهمون فلما وصلوا إلى بحيرة نو اعتبروها أصلاً وأطلقوا عليها هذا الاسم ومعناه ماء والمصريون هم الذين عرفوا الجهات الأربع فكانوا يطلقون على الجهة التي يأتي منها النيل قرن الأرض أي طرفها ولذلك قيل عن ذي القرنين أنه ملك المعمور ولكونه أخذ بطرفيها ويطلقون على المقابلة لها بحري والشرق على مطلع الشمس وقالوا عنه بخ أي الميلاد. وعرف المصريون الجنة والنار لأنه وجدت رسوم للنار والزبانية والحساب الأخروي في آثارهم. وأن النيل لم يكن له مجرى ثابت بل كان يفيض سيحاً وكان منحصراً بين جبال برقة وليبيا. والبحر الأبيض يضرب إلى الفيوم واسم الفيوم بالهيروغليفية بيوم ومعناه الماء وكان هناك للنيل خزان كبير وما زال طمي النيل يرسب في قطعة الدلتا ويتقدم نحو البحر حتى تكون الوجه البحري وكان يتفرع عند(25/86)
أكاسور أمام أنبابة إلى فرعين فيذهب إحداهما إلى دمياط والثاني إلى أبي قير وكان يتولد عند بنها فرع ثالث يسمى فرع سمنود الذي طم بعد ذلك فتكون من الفرعين الباقيين والبحر شكل الحرف اليوناني المسمى دلتا وأول بلد أنشئت في مصر لصلاحية أرضها للزرع هي أسيوط.
وكان موضوع محاضرة أحمد بك زكي هل تخيل العرب اكتشاف أميركا قبل كريستوف كولومب فقال أن نقطة تاريخ ليست عربية وأن الهرمزان الفارسي الذي كان في مجلس عمر بن الخطاب عندما جمع هذا الصحابة يشاروهم في أمر التوقيت قال أننا معاشر الفرس نأخذ مبدأً معلوماً نجعله بداية التوقيت ونسميه ماه روز فاصطلح العرب على هذا وجعلوا يوم الهجرة النبوية أول التوقيت الإسلامي وخرج لفظة ماه روز بأن الهاء حرف صامت أو ناطق عند الإفرنج وكذلك عند العرب فتسقط الهاء على أنها حرف صامت فتصير ماروز ونسمح لأنفسنا في إبدال الزاي خاء فتصير ماروخ ويتصرف منها أرخ يؤرخ تأريخاً.
ثم تكلم على شغف العرب بنقل كتب الفلسفة والعلم وكيف كان المأمون يحارب فتزهد نفسه في أخذ البلاد أو تكثير الجزية ولا يريد من المغلوبين على أمرهم من الملوك والأقيال إلا كتب العلم وإن هذا مما لا يعهد له نظير في فتوح العصور المتأخرة وذكر كيف أن هذا الخليفة انتدب يوحنا ابن البطريق المصري إلى بلاد الروم ليبحث له عن كتاب أرسطو في السياسة فأخذ يتنقل من دير إلى دير ومن عالم إلى عالم حتى عثر عليه ونقله إلى العربية وقال أن البحر المتوسط كان على عهد المأمون بحيرة محاطة بملكه وجزيرة صقلية من جملة ملك العباسيين ثم استطرد على عادة محاضرات العرب إلى ذكر صقلية لما ملكها روجر الثاني وقال أن عماله كلهم كانوا من المسلمين وبهم كان يقتدي ويهتدي كما نحن اليوم نأخذ عن الإفرنج كل شيء. وتكلم عن الأخوة المغرورين أو المغرورين وهم جماعة من قبيلة واحدة من العرب قاموا من لشبونة معتمدين على الصبا وعددهم ثمانون عربياً للبحث عن أرض جديدة في المحيط فلم يتمكنوا إذ هاجمهم في الطريق عدد لا يحصى من البواشق فرجعوا وقصوا أشياء غريبة فسموا بالمغرورين وسمى دربهم في لشبونة بدرب المغرورين وهذا ما أيده الشريف الإدريسي في جغرافيته. وفي رواية ثانية أن المغرورين(25/87)
كانوا ثمانية رجال كلهم أبناء عم ركبوا البحر في أول هبوب الريح فجروا بها نحواً من 11 يوماً فوصلوا إلى بحر كريه الرائحة كدر الماء كثير الطروش قليل الضوء فعادوا ونزلوا بجزيرة كثيرة الأغنام وأخذوا لملكها فأكرمهم ولما سألهم عن حالتهم قصوا عليه ما حدا بهم فلم ير إلا أن يركبهم في سفينتهم ويصحبهم بجماعة من عنده عصبوا عيونهم أياماً فلما توسطوا البحر تركوهم لشلوهم عن الطريق ولما وصلوات إلى مكان هناك سألوا جماعة من البرابرة عن المسافة بينهم وبين لشبونة فقال الزعيم مسيرة شهرين فقال القوم وا أسفي وسمي المكان أسفي والمغاربة يحذفون منها الألف. وبذلك تبين أن الثمانية أو الثمانين المغرورين قد ساورا أحد عشر يوماً حتى وصلوا إلى جزيرة آسور سنة 1433م وأن العرب لم يستطيعوا مواصلة سيرهم لضعف الوسائل.
وكانت محاضرة عمر بك لطفي في أصل البنوك والمصارف فقال كان في القرون الوسطى في إيطاليا أناس يحترفون بإبدال العملة يجلسون في الطرقات العامة وأمامهم منضدة (ترابيزة) موضوع عليها نقود للصرف وتلك المنضدة تسمى بالإيطالية (بانكا) ثم ترقت وظيفة هذه الطائفة واتسعت فأخذ الناس يحفظون نقودهم عند هؤلاء الصيارف وصارت مصارفهم محلاً للودائع والأمانات ثم أخذوا سكة (عملة) وهمية بدل السكة الحقيقية التي كانت معرضة للتلف فأصبحت كأوراق البنوك اليوم وأول مصرف حاز اسم بنك مصرف مدينة البندقية سنة 1157 والصين أول البلاد التي أحلت حكومتها سنة 807 م العملة الاصطلاحية محل عملة النحاس ورأى ابن بطوطة هذه العملة الاصطلاحية كما وصفها الرحالة جون مورفيل سنة 1427م ولم يظهر أثر للعملة الاصطلاحية في البلاد الغربية إلا في سنة 1122 أثناء حصار أهل البندقية لصور فإن الدوق ميكيلي الذي كان قائماً بأعمال الحصار أصدر إذ ذاك عملة من الجلد عليها علامات الدوقية ورسومها فصرفت بالنقد لأربابها عند ما وردت على البندقية وسنة 1240 أصدرت مدينة ميلانو لأول مرة في أوروبا أوراقاً لها حكم العملة الحقيقية. ولعل النادي يطبع خطبه ومحاضراته تعميماً لفائدتها.(25/88)
العدد 26 - بتاريخ: 1 - 3 - 1908(/)
الأدب الصغير
لابن المقفع
عني بنشره الشيخ طاهر الجزائري
العجب آفة العقل واللجاجة قعود الهوى.
والبخل لقاح الحرص والمراء فساد اللاسان والحمية سبب الجهل والآنف توأم السفه والمنافسة أخت العداوة.
وإذا هممت بالخير فبادر هواك لا يغلبك وإذا هممت بشر فسوّف هواك لعلك تظفر فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغنم.
لا يمنعنك صغر شأن امريء من اجتباء ما رأيت من رأيه صواباً واصطفاء ما رأيت من أخلاقه كريماً فإن اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها.
من أبواب الترفق والتوفيق في التعليم أن يكون وجه الرجل الذي يتوجه فيه من العلم والأدب فيما يوافق طاعة ويكون له عنده محمل وقبول فلا يذهب عناؤه من غير غناء ولا تفنى أيامه من غير درك ولا يستفرغ نصيبه فيما لا ينجح فيه ولا يكون كرجل أراد أن يعمر أرضاً تهمة فغرسها جوزاً ولوزاً وأرضاً جلساً فغرسها نخلاً وموزاً.
العلم زين لصاحبه في الرخاء ومنجاة له في الشدة.
بالأدب تعمر القلوب وبالعلم تستحكم الأحلام فالعقل الزاكي غير الصنيع كالأرض الطيبة الخراب. ومما يدل على معرفة الله (وهو) سبب الإيمان أن وكل بالغيب لكل ظاهر من الدنيا صغير أو كبير عيناً فهو يصرفه ويحركه فمن كان معتبراً بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء فيعلم أن لها رباً يجري فلكها ويدبر أمرها. ومن اعتبر بالصغير فلينظر إلى حبة الخردل فيعرف أن لها مدبراً ينبتها ويزكيها ويقدر لها أوقاتها في الأرض والماء يوقت لها زمان نباتها وزمان تهشمها. وأمر النبوة والأحلام وما يحدث في أنفس الناس من حيث لا يعلمون ثم يظهر منهم بالقول والفعل ثم اجتماع العلماء والجهال والمهتدين والضلال على ذكر الله تعالى وتعظيمه واجتماع من شك في الله تعالى وكذب به على الإقرار بأنهم أنشؤوا حديثاً ومعرفتهم أنهم لم يحدثوا أنفسهم فكل ذلك يهدي إلى الله ويدل على الذي كانت منه هذه الأمور مع ما يزيد ذلك يقيناً عند المؤمنين بأن الله حق كبير ولا يقدر أحد أنه(26/1)
باطل.
إن للسلطان المقسط حقاً لا يصلح خاصة ولا عامة أمر إلا بإرادته فذو اللب حقيق أن يخلص لهم النصيحة ويبذل لهم الطاعة ويكتم سرهم ويزين سيرتهم ويذب بلسانه ويده عنهم ويتوخى مرضاتهم ويكون من أمره المواتاة لهم والإيثار لأهوائهم ورأيهم على هواه ويقدر الأمور على موافقتهم وإن كان ذلك مخالفاً. وأن يكون منه الجد في المخالفة لمن جانبهم وجهل حقهم ولا يواصل من الناس إلا من لا تباعد مواصلته إياه منهم ولا تحمله عدواة أحد له ولا إضرار به على الاضطغان عليهم ولا مواتاة أحد على الاستخفاف بشيء من أمورهم والانتقاص لشيء من حقهم ولا يكتمهم شيئاً من نصيحتهم ولا يتثاقل عن شيء من طاعتهم ولا يبطر إا أكرموه ولا يجترئ عليهم إذا قربوه ولا يطغى إذا سلطوه ولا يلحف إذا سألهم ولا يدخل عليهم المؤونة ولا يستثقل ما حملوه ولا يغتر بهم إذا رضوا عنه ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه وأن يحمدهم على ما أصاب من خير منهم أو من غيرهم فإنه لا يقدر أحد أن يصيبه بخير إلا بدفاع الله عنه بهم.
مما يدل على علم العالم معرفته بما يدرك من الأمور وإمساكه عما لا يدرك وتزيينه نفسه بالمكارم وظهور علمه للناس من غير أن يظهر منه فخر ولا عجب معرفته بزمانه الذي هو فيه وبصره بالناس وتحريه العدل في كل أمر ورحب ذرعه فيما نابه واحتجاجه بالحجج فيما عمل وحسن تبصيره من أراد أن يبصر شيئاً من علم الآخرة فبالعلم الذي يعرف ذلك.
ومن أرادج أن يبصر شيئاً من علم الدنيا فبالأشياء التي هي تدل عليه.
ليكن المرء مسؤولاً وليكن فصولاً بين الحق والباطل وليكن صدوقاً ليؤمن على ما قال وليكن ذا عهد ليوفى له بعهده وليكن شكوراً ليستوجب الزيادة وليكن جواداًُ ليكون للخير أهلاً وليكن رحيماً بالمضرورين لئلا يبتلى بالضر وليكن ودوداً لئلا يكون معدناً لأخلاق الشيطان.
وليكن حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه لئلا يؤخذ بما لم يجترم وليكن متواضعاً ليفرح له بالخير ولا يحسد عليه وليكن قنعاً لتقر عينه بما أوتي وليسر للناس بالخير لئلا يؤذيه الحسد.(26/2)
وليكن حذراً لئلا تطول مخافته.
ولا يكن حقوداً لئلا يضر بنفسه إضرارً باقياً.
وليكن ذا حياء لئلا يستذم للعلماء فإن مخافة العالم مذمة العلماء أشد من مخافته عقوبة السلطان.
حياة الشيطان ترك العلم وروحه وجسده الجهل ومعدنه من أهل الحقد والقساوة ومثواه من أهل الغضب وعيشه من المصارمة ورجاؤه في الإصرار على الذنوب.
وقال: لا ينبغي للمرء أن يعتد بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذوو الألباب ولم يجامعوه عليه فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد.
أعدل السير أن تقيس الناس بنفسطك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك.
وأنفع العقل أن تحسن المعيشة فيما أوتيت من خير وألا تكترث من الشر بما لم يصبك.
ومن العلم أن تعلم أنك لا تعلم ما لا تعلم.
ومن أحسن ذوي العقول عقلاً من أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده تقديراً لا يفسد عليه واحد منهما الآخر فإن أعياه ذلك رفض الأدنى وآثر عليه الأعظم.
وقال: المؤمن بشيء من الأشياء وإن كان سحراً خير ممن لا يؤمن بشيء ولا يرجو معاداً.
لا تؤدي التوبة أحداً إلى النار ولا الإصرار على الذنوب أحداً إلى الجنة.
من أفضل أعمال البر ثلاث خصال الصدق في الغضب والجود في العسرة والعفو عند القدرة.
رأس الذنوب الكذب وهو يؤسسها وهو يتفقدها ويثبتها ويتلون ثلاثة ألوان بالأمنية والجحود والجدل يبدأ صاحبه بالأمنية الكاذبة فيما يزين له من المسوآت فيشجعها عليها بأن ذلك سيخفى فإذا ظهر عليه قابله بالجحود والمكابرة فإن أعياه ذلك ختم بالجدل فخاصم عن الباطل ووضع له الحجج والتمس به التثبت وكابر الحق حتى يكون مسارعاً للضلالة ومكابراً بالفواحش.
لا يثبت دين المرء على حالة واحدة أبداً ولكنه لا يزال إما زائداً وإما ناقصاً.
من علامات اللئيم المخادع أن يكون حسن القول سيء الفعل بعيد الغضب قريب الحسد حمولاً للفحش مجازياً بالحقد متكلفاً للجود صغير الخطر متوسعاً فيما ليس له ضيقاً فيما(26/3)
يملك.
وكان يقال إذا تخالجتك الأمور فاستقل أعظمها خطراً فإن لم يستبن ذلك فأرجاها دركاً فإن اشتبه ذلك فأجدرها أن لا يكون له مرجوع حين تولي فرصته.
وكمان يقال الرجال أربعة اثنان يختبر ما عندهما بالتجربة واثنان قد كفيت تجربتهما فأما اللذان يحتاجان إلى تجريبهما فإن أحدهما برٌّ كان مع أبرار والآخر فاجر كان مع فجار فإنك لا تدري لعل البر منهما إذا خالط الفجار أن يتبدل فيصير فاجراً ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدل فيصير براً فيتبدل البر فاجراً والفاجر براً.
وأما اللذان قد كفيت تجربتهما وتبين لك ضوء أمرهما فإن أحدهما فاجر كان في أبرار والآخر براً كان في فجار.
حق على العاقل أن يتخذ مرآتين فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر بها ويصلح ما استطاع منها وينظر من الأحرى في محاسن الناس فيحليهم بها ويأخذ ما استطاع منها.
احذر خصومة الأهل والولد والصديق والضعيف واحتجج عليهم بالحجج.
لا يوقعنك بلاء تخلصت منه في آخر لعلك أن لا تخلص منه.
الورع لا يخدع والأريب لا يُخدع.
ومن ورع الرجل أن لا يقول ما لا يعلم ومن الإرب أن يتثبت فيما يعلم.
وكان يقال عمل الرجل فيما يعلم أنه خطأ هوى والهوى آفة العفاف وتركه العمل بما يعلم أنه صواب تهاون والتهاون آفة الدين.
وإقدامه هلى ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح والجماح آفة العقل.
وكان يقال وقر من فوقك ولِن لمن دونك وأحسن مواتاة أكفائك وليكن أثر ذلك عند مواتاة الأكفاء فإن ذلك هو الذي يشهد لك أن إجلالك من فوقك ليس بخضوع منك لهم وإن لينك لمن دونك ليس لالتماس خدمتهم.
خمسة مفرطون في خمسة أشياء متدمون عليها الواهن المفرط إذا فاته العمل والمنطقع من أخوانه وصديقه إذا نابته النوائب والمستمكن منه عدوة لسوء رأيه إذا تذكر عجزه والمفارق الزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحة والجريء على الذنوب إذا حضره الموت.
أمور لا تصلح إلا بقرائنها لا ينفع العقل بغير ورع ولا الحفظ بغير عقل ولا شدة البطش(26/4)
بغير شدة القلب ولا الجمال بغير حلاوة ولا الحسب بغير أدب ولا السرور بغير أمن ولا الغني بغير جود ولا المروءة بغير تواضع ولا الخفض بغير كفاية ولا الاجتهاد بغير توفيق.
أمورٌ هن نبعٌ لأمور فالمروءات كلها تبع للعقل والرأي تبع للتجربة والغبطة تبع لحسن الثناء والسرور تبع للأمن والقرابة تبع للمودة والعمل تبع للقدر والجدة تبع للإنفاق.
أصل العقل التثبت وثمرته السلامة.
وأصل الورع القناعة وثمرته الظفر.
وأصل التوفيق العمل وثمرته النجح.
لا يذكر الفاجر في العقلاء ولا الكذوب في الأعفاء ولا الخذول في الكرماء ولا الكفور بشيء من الخير.
لا تؤاخين خباً ولا تستنصرن عاجزاً ولا تستعينن كسلاً.
إن من أعظم ما يروّح به المرء نفسه أن لا يجري لما يهوى وليس كائناً إلا لما لا يهوى وهو لا محالة كائن.
اغتنم من الخير ما تعجل. ومن الأهواء ما سوّفت. ومن النصب ما عاد عليك. ولا تفرح بالبطالة ولا تجبن عن العمل.
من استطعم من الدنيا شيئاً فبطر واستصغر من البر شيئاً فتهاون واحتقر من الإثم شيئاً فاجترأ عليه واغتر بعدوّ وإن قل فلم يحذره فذلك من ضياع العقل.
لا يستخف ذو العقل بأحد وأحق من لم يستخف به ثلاثة الأتقياء والولاة والأخوان فإنه من استخف بالأتقياء أهلك دينه ومن استخف بالولاة أهلك دنياه ومن استخف بالأخوان أفسد مروءته.
من حاول الأمور احتاج فيها إلى ست الرأي والتوفيق والفرصة والأعوان والأدب والاجتهاد وهن أزواج فالرأي والأدب زوج لا يكمل الأدب إلا بالرأي ولا يكمل الرأي بغير الأدب.
والأعوان والفرصة زوج لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة ولا تنفع الفرصة إلا بحضور الأعوان. والتوفيق والاجتهاد زوج فالاجتهاد سبب التوفيق وبالتوفيق ينجح الاجتهاد.(26/5)
يسلم العاقل من عظام الذنوب والعيوب بالقناعة ومحاسبة النفس.
لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد ما لا يجد إنجازه ولا يرجو ما يعنف برجائه ولا يقدم على ما يخاف العجز وهو يسخي نفسه عما يغبط به القوالون خروجه من عيب التكذيب ويسخي نفسه عما ينال به السائلون سلامته من مذلة المسألة.
ويسخي نفسه عن فرح الرجاء خوف الأكداء.
ويسخي نفسه عن محمدة المواعيد براءته من مذمة الخلف.
ويسخي نفسه عن مراتب المقدمين ما يرى من فضائح المقصرين.
لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجده من لذة دنياه وليس من لا عقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها.
حاز الخير رجلان شسعيد ومرجو والسعيد الفالج والمرجو من لم يخصم والفالج الصالح ما دام في قيد الحياة وتعرض الفتن في مخاصمة الخصماء من الأهواء والأعداء.
السعيد يرغبه الله في الآخرة حتى يقول لا شيء غيرها فإذا هضم دنياه وزهد فيها لآخرته لم يحرمه الله بذلك نصيبه من الدنيا ولم ينقصه من سروره فيها والشقي يرغبه الشيطان في الدنيا حتى يقول لا شيء غيرها فيعجل الله له التنغيص في الدنيا التي آثر مع الحزن الذي يلقى بعدها.
الرجل أربعة جواد وبخيل ومسرف ومقتصد فالجواد الذي يوجحه نصيب آخرته ونصيب دنياه جميعاً في أمر آخرته.
والبخيل الذي لا يعطي واحدة منهما نصيبها.
والمسرف الذي يجمعهما لدنياه.
والمقتصد الذي يلحق بكل واحدة منهمات نصيبها
أغنى الناس أكثرهم إحساناً.
قال رجل لحكيم: ما خير ما يؤتى المرء قال: غريزة عقل قال: فغن لم تكن قال فتعلم علم قال: فإن حرمه، قال: صدق اللسان، قال فإن حرمه، قال: سكت طويل، قال: فإن حرمه، قال: ميتة عاجلة.(26/6)
من أشد عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه فإنه من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسن غيره ومن خفي عليه عيب نفسه ومحاسن غيره لم يقلع عن عيبه الذي لا يعرف ولن ينال محاسن غيره التي لا يبصرها أبداً.
خصال يسر بها الجاهل كلها كائن عليه وبالاً منها أن يفخر من العلم والمروءة بما ليس عنده ومنها أن يرى بالأخيار من الاستهانة والجفوة ما يشمته بهم.
ومنها أن يناقل عالماً وديعاً منصفاً له في القول فيشتد صوت ذلك الجاهل عليه ثم يفلجه نظراؤه من الجهال حوله بشدة الصوت وكثرة الضحك.
ومنها أن يفرط منه الكلمة والفعلة المعجبة للقوم فيذكر بها.
ومنها أن يكون مجلسه في المحفل أو عند السلطان فوق مجالس أهل الفضل عليه.
من الدليل على سخافة المتكلم أن يكون ما يُرى من ضحكه ليس على حسب ما عنده من القول أو يجاذب الرجل الكلام وهو يكلم صاحبه ليكون هو المتكلم أو يتمنى أن يكون صاحبه قد فرغ وأنصت له لم يحسن الكلام.
فضل العلم في غير الدين مهلكة وكثرة الأدب في غير رضوان الله ومنفعة الأخيار قائد إلى النار.
والحفظ الذكي الواعي بغير العلم النافع مضر بالعمل الصالح والعقل غير الوازع عن الذنوب خازن للشيطان.
لا يؤمننك شر الجاهل قرابة ولا جوار ولا ألف فإن أخوف ما يكون الإنسان لحريق النار أقرب ما يكون منها وكذلك الجاهل إن جاورك أنصبك وإن ناسبك جنى عليك وإن ألفك حمل عليك ما لا تطيق وإن عاشرك آذاك وأخافك مع أنه عند الجوع سبع ضار وعند الشبع ملك فظ وعند الموافقة في الدين قائد إلى جهنم فأنت بالهرب منه أحق منك باهرب من سم الأساود والحريق المخوف والدَّين الفادح والداء العياء.
كان يقال قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك عدوك وتذل نفسك ويرغب عنك ناصرك ومثل ذلك العود المنصوب في الشمسي إن أملته قليلاً زاد ظله وإذن جاوزت الحد في إمالته نقص الظل.
الحازم لا يأمن عدوه على كل حال إن كان بعيداً لم يأمن من معاودته وإن كان قريباً لم(26/7)
يأمن مواثبته فإن رآه متكشفاً لم يأمن استطراده وكمينه وإن رآه وحيداً لم يأمن مكره.
الملك الحازم يزداد برأي الوزراء والحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار.
الظفر بالحزم. والحزم بإجالة الرأي. والرأي بتكرار النظر وبتحصين الأسرار.
إن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأياً فهو يزداد برأيه رأياً كما تزداد النار بالودك ضوءاً وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى والرفق به في تبصير خطأ إن أتى به وتلقيب الرأي فيما شكا فيه حتى يستقيم لهما مشاورتهما.
لا يطمعن ذو الكبر في حسن الثناء ولا الخب في كثرة الصديق ولا الشيء الأدب في الشرف ولا الشحيح في المحمدة ولا الحريص في الأخوان ولا الملك المعجب بثبات الملك.
صرعة اللين أشد استئصالاً من صرعة المكابرة.
أربعة أشياء لا يستقل منها قليل النار والمرض والعدو والدين.
أحق الناس بالتوفير الملك الحليم العالم بالأمور وفرص الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضا والمعاجلة والأناة الناظر في الأمر يومه وغده وعواقب أعماله.
السبب الذي يدرك به العاجز حاجته هو الذي يحول بين الحازم وبين طلبته.
إن أهل العقل والكرم يبتغون إلى كل معروف وصلة وسبيلاً والمودة بين الأخيار سريع اتصالها بطيء انقطاعها ومثل ذلك مثل كوب الذهب الذي هو بطيء الانكسار هين الإصلاح والمودة وبين الأشرار سريع انقطاعها بطيء اتصالها كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث ثم لا يوصل له أبداً.
والكريم يمنح الرجل مودته عن لقاءة واحدة أو معرفة يوم واللئيم لا يصل أحد إلا عن رغبة أو رهبة وإن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما ذات النفس وذات اليد فأما المبتذلون ذات اليد فهم المتعاونون المستمتعون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع متاجرة ومكايلة.
ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال ولا يُظهر المروءة إلا للمال ولا الرأي والقوة إلا بالمال ومن لا أخوان له فلا أهل له ومن لا أولاد له فلا ذكر له ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة ومن لا مال له فلا شيء له والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس وهو مسلبة للعقل والمروءة ومهذبة للعلم والأدب ومعدن للتهمة ومجمعة للبلايا ومن نزل به الفقر(26/8)
والفاقة لم يجد بداً من ترك الحياء ومن ذهب حياؤه ذهب سروره ومن ذهب سروره مقت ومن مقت أوذي ومن أوذي حزن ومن حزن ذهب عقله واستنكر حفظه وفهمه ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا له فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً واساء به الظن من كان يظن به حسناً فإذن أذنب غيره أظنوه وإن كان للتهمة وسوء الظن موضعاً وليس خلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب.
فإن كان شجاعاً سمي أهوج.
وإن كان جواداً سمي مفسداً.
وإن كان حليماً سمي ضعيفاً.
وإن كان وقوراً سمي بليداً.
وإن كان لسناً سمي مهذاراً.
وإن كان صموتاً سمي عيباً.
وكان يقال من ابتلى بمرض في جسده لا يفارقه أو بفراق الأحبة والأخوان أو بالغربة حيث لا يعرف مبيتاً ولا مقبلاً ولا يرجو إياباً أو بفاقة تضطره إلى المسألة فالحياة له موت والموت له راحة.
وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره فلا يزال صاحب الدنيا يتقلب في بلية وتعب لأنه بخلة الحرص والشره.
وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق ولا غنى كالرضا وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره.
وأفضل البر الرحمة ورأس المودة الاسترسال ورأس العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون وطيب النفس وحسن الانصراف عما لا سبيل إليه وليس في الدنيا سرور يعدل صحبة الأخوان ولا فيها غم يعدل غم بفقدهم.
لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل كالمريض الذي قد علم دواء نفسه فإذا هو لم يتداو به لم يغنه والرجل ذو امروءة قد يكرم على غير مال كالأسد الذي يهاب وإن كان عقيراً والرجل الذي لا مروءة له يهان وإن كثر ماله كالكلب الذي يهون على الناس وإن طوق وخلخل.
ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلاً فإنك إن فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما(26/9)
يطلب الماء السيل إلى الحدور.
إن أولى النسا بفضل السرور وكرم العيش وحسن الثناء من لا يبرح رحله من أخوانه وأصدقائه من الصالحين موطوءاً ولا يزال عنده منهم زحام يسره ويسرونه ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم فإن الكريم إذا عثر لم يستقلل إلا بالكرام كالفيل إذا وحل لم تستخرجه إلا الفيلة.
لا يرى العاقل معروفاً صنعه وإن كثر كثيراً ولو خاطر بنفسه وعرضها في وجوه المعروف لم ير عيباً بل يعلم أنه أخطر الفاني بالباقي واشترى العظيم بالصغير.
وأغبط الناس عند ذوي العقول أكثر سائلاً منجحاً ومستجيراً آمناً.
لا تعد غنياً من لم يشارك في ماله ولا تعد نعيماً ما كان فيه تنغيص وسوء ثناء.
ولا تعد الغنم غنماً إذا ساق غرماً ولا الغرم غرماً إذا ساق غنماً ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة.
ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ببثه وإذا فرق بين الليف وألفه فقد سلب قراره وحرم سروره.
وقال: ما نرانا نخلف عقبة من البلاء إلا صرنا في أخرى لقد صدق القائل الذي يقول: لا يزال الرجل مستمراً حتى يعثر فإذا عثر مرة واحدة في أرض الخباء لج به العثار وإن مشى في جددلان. هذا الإنسان موكل به البلاء فلا يزال في تصرف وتقلب لا يدوم له شيء ولا يثبت معه كما لا يبدوم لطالع النجوم طلوعه ولا لأفلها أفوله ولكنها في تقلب وتعاقب فلا يزال الطالع يكون آفلاً والآفل طالعاً.
(انتهى)(26/10)
الأخصاء في العلوم
المخصي هو الذي يتفرد بدراسة فن واحد من أخصى الرجل إذا تعلم علماً واحد والنتفة (كهمزة) من ينتف من العلم شيئاً ولا يستقصيه قال في التاج: وكان أبو عبيدة إذا ذكر له الأصمعي يقول ذاك الرجل نتفة قال الأزهري: أراد أنه لم يستقص كلام العرب إنما حفظ الوخز والخطيئة منه أي القليل. فالأخصاء هو موضوع بحثنا هنا يتوقف عليه نجاح العلم وارتقاؤه ولا يقال عن أمة أنها مرتقية في علومها إلا إذا كثر فيها الأخصائيون في كل علم من علوم الحياة والاجتماع وكل من تفردوا في الغالب وطار ذكرهم في الآفاق وتناقلت أعمالهم الأجيال بعد الأجيال والعصور غبَّ العصور وكانوا بلا مراء من أهل الأخصاء صرفوا وكدهم إلى معاناة علم واحد والنظر في دقائقه وخفاياه ودرسه من عامة أطرافه.
وَهِم قوم أن الأخصاء في العلوم يرتجل ارتجالاً فالمهندس يتعلم الهندسة وحدها والأثري يدرس علم الآثار والمؤرخ التاريخ والكيماوي الكيمياء والطبيعي الطبيعيات والفلكي الأفلاك فيبرزون وترتقي مداركهم. ولكن دل تاريخ العلم في الأمم القديمة والحديثة على أن لا يخصي في علم إلا من سبق له أن شارك في علوم كثيرة ولو مشاركة بسيطة لأن للعلوم علاقة بعضها ببعض كعلاقة البشر بعضهم ببعض فكما أنه لا يتيسر النفع لأمة أن تبقى وراء تخومها منعزلة عن جاراتها فكذلك العلم الواحد وهو ثمرة عقول العالمين لا يتقن إلا إذا قدمت له المقدمات وشدا صاحبه شيئاً من أكثر ما ينفع وقلما سمع بأن رجل أثر في إنهاض أمة أو خدم علماً أنفع نفعاً بذكر وكان ما تميز به وحده هو كل رأس ماله العلمي والعقلي حتى أن نفس علماء الدين في الإسلام الذين أثروا تأثيراً كبيراً كانوا مشاركين في علوم الدنيا مشاركة تامة والغزالي والماوردي والفخر الرازي وابن تيمية وابن حزم وابن القيم وأبو حاتم الرازي والجاحظ وغيرهم كثيرون لم يؤثروا في قومهم ولم يزالوا مؤثرين لا لأنهم سعوا في تنمية ملكات عقولهم بالعلوم الرياضية والتاريخية فعرفوا كيف يسلكون ولذلك ترى لكلامهم قبولاً لا تراه لغيرهم ممن لم يشاركوا مشاركتهم في العلوم الدنيوية.
وكذلك الحال فيمن عرفوا بالعلوم المدنية كنصير الدين الطوسي وابن رشد وابن سينا والفارابي وعبد اللطيف البغدادي وابن الهيثم والبتاني والبيروني ومئات غيرهم لم ينفعوا في علومهم التي تفردوا فيها إلا بعد أن عرفوا من علوم الدين ما حسنت معه سيرتهم وسريرتهم.(26/11)
وإذا أمعنا النظر في تاريخ هذه الأمة نجدها لم تعهد الأخصائيين في العلوم المدنية إلا في أواخر القرن الثاني أو في منتصف الثالث على حين بدأت بالنقل وتعلم علوم الحضارة منذ القرن الأول للهجرة ولما عمت هذه العلوم وخصوصاً الفلسفية نشأ بحكم الطبع أناس متفردون ودام هذا التفرد على أشده إلى أواخر القرن السادس ثم أخذ يضعف بضعف طرق التعليم وزهد الحكومات في العلم إلا ما كان منه تحت ستار الآخرة تمويهاً على عقول السذج وفساد السياسة فساد العالم فكيف بالعلم وهو الذي لا تنفق سوقه إلا في أرض الراحة والطمأنينة ولا يقوى إلا بالبواعث والدواعي.
وكأن العقول في أهل هذه البلاد ضعفت بعد اشتغالها الطويل قروناً فأخلدت إلى الراحة طوعاً أو كرهاً في القرون الخمسة الأخيرة التي لم تبق منها إلا حثالة من فروع الدين واللغة فقط وقلَّ في كبار المشتغلين من أهلها بعقولهم من أصبح يدعى نتفة من علم فضلاً عن أخصائي. أو كأن ضعف أمة قوة أخرى كما قال بعضهم:
حياةُ بعض ممات بعضٍ ... حياةُ كلّ محالُ فرض
فقد كنا هنا كلما ضعفت عقولنا وزهدنا في ترقية مداركنا وانصرفنا إلى التافه الذي لا يؤبه له قويت الأمم الغربية بعلومها ومدارك أهلها وطفق العلم يعم أفرادها جيلاً بعد جيل حتى جاء القرن الثامن عشر الميلادي وقد كثر الأخصائيون فيهم وزادوا في القرن التاسع عشر أي زيادة وأتى هذا القرن العشرون وقد كاد يعم العلم قضهم وقضيضهم وذكورهم وإناثهم. ومن جمهور المتعلمين يخرج في العادة الأخصائيون وهم إما مسوقون بنابل من طبيعتهم إلى إتقان فن أو فنين والتبريز فيهما على الأقران أو أن أحدهم ينمي في نفسه الميل إلى فن ينفع الناس نفعاً حقيقياً. قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: من أراد أن يكون عالماً فليطلب فناً واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فليتفنن في العلوم. وقال احد الحكماء: اقصد من أصناف العلوم ما هو أشهى لنفسك وأخف على قلبك فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك له وسهولته عليك.
ما ظهر في الغرب أمثال نيوتن ولابلاس وكيتي وشيلر وهيكل وهيجل وفيختي وماكولي ولايبنز وسبينوزا وكانت وكونت وديكارت وشوبنهور وروسو وفولتير وديدر ودروين وهاكسلي ومئات غيرهم إلا بعد أن نظم التعليم عندهم تنظيماً حسناً وعم الإصلاح أصوله(26/12)
وفروعه فصار الأخصاء في أفراد منهم الآن على ما يعجب منه بل أصبح العلم الواحد ينقسم إلى فروع كثيرة ويشتتغل في كل فرع منه عدة أفراد. فواحد للميكروبات وآخر للعدسيات وبعضهم للأجواء وآخرون للأضواء وغيرهم للماء وفريق للسماء وافراد للكهرباء وطائفة للكيمياء وآخرون للعيون وبعضهم للجنون وهكذا تجد لكل ما يخطر ببالك وما لا يخطر من فروع المعرفة مئات من الأخصائيين ومئات من المجامع العلمية الخاصة بها والمدارس الموقوفة عليها. وبحق ما قال أحد أساتذة كلية أكسفورد في مأدبة أقيمت لجماعة من أساتذة الإنكليز في كلية السوربون بباريز منذ شهور أن كانت القرون الوسطى هي قرون التعميم في التعليم فإن هذا العصر عصر الأخصاء فيها.
أما هذه البلاد على ما دخل إليها حتى الآن من قشور علوم الغرب فليست إلا كأوروبا في قرنها الخامس عشر أو السادس عشر تحتاج الآن إلى تعلم ما يخرجها عن حد الأمية ثم أن تتعلم البسائط من أوليات العلوم واللغات فإذا تمت لها هذه الأمنية ينشأ فيها بحكم الطبع أولئك الأخصائيون الذين تتطالُّ نفوسنا إلى الاستكثار منهم بين أظهرنا لقيام جامعتنا وأحكام ملكات العلوم فينا والانتفاع بحقائقها ودقائقها في العمليات لا الاقتصار على النظريات منها كما نحن فيها حتى اليوم اللهم إلا الطب والهندسة والحقوق.
إن من يقول بأن الأخصائيين اليوم بيننا ينبغي أن يكثروا بين أظهرنا وجمهور الأمة في التعليم كما ترى هو كمن يريد أن يعلم التعليم العالي لمن لم يتعلم مبادئ القراءة والكتابة. فحالنا الآن إذا قست ما أخذناه من بحور العلوم الزاخرة إلى ما عليه حقيقتها حال من لم يعرف القراءة البسيطة وأهله يريدون أن يعلموه الفلسفة التي هي علم العلوم أو كمن هو في سفر بعيد وتريده أن يقطع في اليوم في دقيقة وأن يعدي من سيف البحر إلى سيفه الآخر ولا سفينة لديه أو كمن تريده على أن يخطب في علم ما وراء الطبيعة في صحراء أفريقية.
قال لاروس في معجمه الكبير: اتسعت معارف البشر النظرية والعملية بعد استقرار أمرها فاحتاج الناس ن يقسموها بحسب استعدادهم وحاجاتهم إلى أقسام لا آخر لها ينقطع إليها أفراد ويبحثون في مضامينها فالأصول من المعارف هي المعلومات العامة وتفرعاتها هي الأخصائيات. لقد كان بادئ بدءٍ كل شيء مفهوماً في الفلسفة فكانت لفظة عام عند الأمم(26/13)
الجاهلة تتناول جميع العلوم وتنقسم إلى قسمين المحسوسات والمعقولات ودعيت علوم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة. أما الصنائع اليدوية فلم تكن منظمة تنظيماً معقولاً ولا جارية على طريقة معقولة وكان أرباب الأفكار يحتقرونها فلا يمارسها إلا الصعاليك ينصرفون إليها تقليداً ويخلفون في تعلمها آباءهم بدون وقوف على القوانين الميكانيكية أو الطبيعية التي كانوا يعملون بها على الدوام.
ثم حسنت حال الإنسان بالتدريج ودخلت الأعمال في طور نظام وانتظمت العلوم الرئيسة لاسيما الآداب والفنون وعلوم النظر والعلوم العملية أي التجارة والصناعة والحرف ونشأ الأخصاء في كل فرع من فروع هذه الطبقات. فالطبيب مضطر إلى تعلم أمور كثيرة ولا يخصي في تعاطي فرع واحد إلا في المدن أما في القرى فيمارس كل فرع من فروع الأمراض الباطنية والخارجية. وهكذا الحال في الأعمال التجارية والصناعية فإن كل حرفة أو مهنة تنقسم على أقسام تدعى تقسيم الأعمال. وقد دخل كل علم اليوم في دائرة الأخصاء حتى ما يلزم الطاهي والبائع والسوقي في المعارف فأصبح من الضروري بالنظر لتكاثر أعمال البشر وانتشارها أن يزيد أبداً الأخصاء في كل علم وشأن. وإذا نظرت إلى الأخصاء من حيث العلم فإنه دليل الكفاءة وبدونه لا يكون عالم فإن المبادئ الأولية من جميع العلوم هي ولا شك نافعة لكل الناس حتى العامة ومتى حاز المرء قسطاً من هذه العلوم السطحية ورأى أن يتبحر فيها يجب عليه تعيين الموضوع الذي سينصرف إليه وبدون ذلك يتقدم المرء في علمه تقدماً بطيئاً ويخلط فيه ويبقى متوسطاً إلى الضعف. والأخصاء ضروري أيضاً في العلم العملي أي في المعامل والأعمال اليدوية وذلك للإسراع فيها ويرى أرباب معامل الأبر والخياطة في لندرا أن في تقسيم الأعمال اقتصاداً كبيراً.
إذا قسمت الأعمال وأخصى المشتغلون بالعلوم وتوسعوا فيها فالأخصاء يؤدي ولا جرم إلى الضعف الأدبي. وذلك أن العاملات مثلاً إذا قضين نهارهن في عملهن السهل اللطيف في الظاهر كأن يتوفرن على إدخال الخيوط في أبرهن فإنهن لا يفقدن شيئاً من حواسهن ولكن ثبت بالإحصاء أنهن يفقدن حاسة النظر في أقرب وقت أما القوى العقلية والقوى المماثلة لها فإنها تتأذى أيضاً. أما في العلم المحض فإن من ينصرفون إلى الأخصاء ككثير من الرياضيين والمهندسين والفلكيين يعيشون في العالم كأنهم ليسوا منه ويدهشون معاصريهم(26/14)
بغرابة أخلاقهم وتشتت أفكارهم التي جرت مجرى الأمثال. وبالجملة فيقضى على كل مخص في العلم أو في الصناعة أن يحرز حظاً من المعارف لأول أمره وأن يخصي في علمين أو ثلاثة فإذا مارس أحدها أراح غيره أهـ.
وقال الراغب الأصفهاني في الذريعة: حق الناس أن لا يترك شيئاً من العلوم أمكنه النظر فيه واتسع العمر له ألا ويخبر بشمه عرفه وبذوقه طيبه ثم أن ساعده القدر على التغذي به والتزود منه فيها نعمت وإلا لم يصر لجهله بمحله وغباوته عن منفعته إلا معادياً له بطبعه
فمن يكُ ذا فم مرّ مريض ... يجد مراً به الماَء الزلالا
فمن جهل شيئاً عاداه والناس أعداء ما جهلوا بل قال الله تعالى وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم. وحكي عن بعض الفضلاء أنه رؤي بعد ما طعن في السن وهو يتعلم أشكال الهندسة فقيل له في ذلك فقال: وجدته علماً نافعاً فكرهت أن أكون لجهلي به معادياً له ولا ينبغي للعاقل أن يستهين بشيء من العلوم بل يجعل لكل حظه الذي يستحقه ومنزله الذي يستوجبه ويشكر من هداه لفهم وصار سبباً لعلمه. ولقد حُكي عن بعض الحكماء أنه قال: يجب أن نشكر أيادي الذين ولدوا لنا الشكوك إذ كانوا سبباً لما حرك خواطرنا لطلب العلم فضلاً عن شكر من أفادنا طرفاً من العلم ولولا مكان فكر نم تقدمنا لأصبح المتأخرون حيارى قاصرين عن فهم مصالح دنياهم فضلاً عن مصالح أخراهم. فمن تأمل حكمة الله تعالى في أقل آلة يستعملها الناس كالمقراض حيث جمع سكينين مركباً على وجه يتوفى حداهما على نمط واحد للقرض أكثر تعظيم الله تعالى وشكره ويقول سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
ومن أجمل ما يروى في باب الانفراد بعلم والإلمام بعلوم أخرى ما قاله أبو حاتم السجستاني قال: قدم علينا عامل من أهل الكوفة لم أر في عمال السلطان أبرع منه فدخلت عليه مسلماً قال: يا سجستاني من علماؤكم بالبصرة قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الصمعي والمازني أعلمنا بعلم النحو وهلال الرازي أفقهنا والشاذكوني أعلمنا بالحديث وأنا أنسب إلى علم القرآن وابن الكلبي أكتبنا للشروط فقال لكاتبه: إذا كان غداً فاجمعهم لي فجمعنا فقال: ايكم المازني فقال أبو عثمان أنا. فقال: هل يجزئ في كفارة الظهار عتق عبد أعور. فقال المازني: أنا صاحب عربية لست بصاحب فقه. فقال: يا زياد كيف تكتب بين رجل وامرأة خلعها(26/15)
زوجها على الثلث من صداقها، فقال: ليس هذا من علمي هذا من علم أبي حاتم. فقال لي: يا أبا حاتم كيف تكتب إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة وما أصابهم في الثمرة من الجوائح وتسأل النظر لهم فقلت: أنا صاحب قرآن لست بصاحب بلاغة وكتابة فقال: أقبح بالرجل يتعاطى العلم خمسين سنة ولا يعرف إلا فناً واحداً حتى إذا سئل عن غيره لم يجر فيه جواباً لكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا لأجاب.
ومن استقرى تاريخ العرب يجد من أمثال الكسائي مئات كما قلنا ممن كتب لهم التقدم في علوم كثيرة فقد ذكر ابن خلكان وابن أبي أصيبعة في ترجمة كمال الدين بن يونس المتوفى سنة 639 وهو ممن لم يشتهروا كثيراً بيننا أنه تبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة وكان الفقهاء يقولون أنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة منها المهب والخلاف العراقي والبخاري وأصول الفقه وأصول الدين والحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي والصب وفنون الرياضة من إقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والرثماطيقي وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً مستوفياً وكان له في التفسير والحديث وما يتعلق به وأسماء الرجال يد طولى وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً وكان أهل الذمة يقرؤن عليه التوراة والإنجيل وشرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما له مثله وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه قال صاحب وفيات الأعيان: وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه قد جمعه قال أبو بشر ثمامة بن الأشرس الخميري المعتزلي وكان خصيصاً بالمأمون: رأيت رجلاً يتردد على باب المأمون ورأيت عليه أبهة أديب فجلست إليه فناقشته في اللغة فوجدته بحراً فاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم وبالنجوم ماهراً وبالطب خبيراً وبأيام العرب وأشعارها فقلت له من تكون وما أظنك إلا الغراء فقال: أنا هو.(26/16)
وكان القاضي أبو الفرج المعافي النهرواني فقيهاً أديباً شاعراً عالماً بكل فن قال ابن خلكان ذكر أحمد بن عمر بن روح أن أبا الفرج المذكور حضر في دار لبعض الرؤساء وكان هناك جماعة من أهل الأدب فقالوا: في أي نوع من العلوم نتذاكر فقال: ابو الفرج لذلك الرئيس خزانتك قد جمعت أنواع العلوم وصناف الأدب فإن رأيت أن تبعث غلاماً إليها فتأمره أن يفتح بابها ويضرب بيده إلى أي كتاب منها فيحمله ثم يفتحه وينظر في أي العلوم فنتذاكره ونتجارى فيه وقال ابن روح: وهذا يدل على ان أبا الفرج كان له أنسة بشائر العلوم وكان أبو محمد الباجي يقول إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها. وقال: لو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس لوجب أن يدفع إلى أبي الفرج المعافى وكان ثقة مأموناً في روايته. هذا ما حضرنا من أمر الأخصاء والأخصائيين ولعل بعض مؤازرينا يكتبون فصلاً واسعاً في حالة الأخصاء عند الغربيين والطرق التي يعتمدون إليها بتفصيل أوسع وأشفى.(26/17)
تاريخ ابن الساعي
وقفنا على قطعة من كتاب الجامع المختصر في عنوان التاريخ وعيون السير قال في كشف الظنون أنه تأليف الشيخ تاج الدين علي بن أنجب بن الساعي البغدادي المتوفى سنة 674 (خازن الكتب المستنصرية) وهو تاريخ كبير في خمسة وعشرين مجلداً بلغ فيه إلى آخر سنة 656 والتاريخ مرتب على السنين وهذا الجزء وهو مخروم من أوله وآخره ويبدأ من حوادث سنة 595 وينتهي في حوادث سنة 606 أي أن فيه حوادث عشر سنين تامة ذكر فيه ما وقع فيها من الكوائن السياسية والطبيعية وترجم كثيراً ممن توفوا في تلك الحقبة من الزمن ولاسيما القاضي الفاضل والعماد الكاتب والفخر الرازي وأبو السعادات ابن الأثير الجزري صاحب النهاية وهو موجز العبارة سهل الإنشاء.
ومعلوم أن الدولة العباسية كانت على ذاك العهد آخذة في الضعف ولذلك تقرأ نموذجاً من هذا الضعف في مسطور هذا التاريخ منها أن ابن ليون صاحب أرمينية أغار على أطراف حلب وغنم ونهب وقتل ومنها أن صاحب الكرج كان يغير على بلاد المسلمين ومنها أن ملوك الطوائف كصاحب غزنة وهراة والشام ومصر كانوا يتقربون لبغداد تقرباً ظاهرياً وفي تلك المدة بدأ الصوفية يرد ذكرهم مع الفقهاء والوعاظ والقراء. وأخذت العادة تسري بتقبيل العتبة الشريفة بباب النوبي الشريف حتى أن نظام الدين محمد بن عبد الكريم السمعاني لما أنفذ رسولاً من علاء الدين محمد خورازمشاه وتلقى بموكب الديوان العزيز ونزل بباب النوبي الشريف وأريد على تقبيل العتبة امتنع عن تقبيلها فأهين ألزم بتقبيلها مكرهاً ولما جاء رئيس علماء بخارى قبل تلك العتبة أسوه غيره من العامة والخاصة. وفي هذا التاريخ ألفاظ واصطلاحات لذاك العصر منها ما ورد في ترجمة بي منصور بن نقطة المشحبر وأنه كان مجيداً في صنعة الغناء وعمل الكانو منها ما ذكره في ترجمة الأمير قيصر العوني نسبة إلى الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة كان مملوكاً إفرنجي الجنس إلا أنه كان موصوفاً بالحسن والملاحة واللطف فقدمه على جميع مماليكه وكان يخرج في الأعياد في صدور موكبه بالقباء والعمامة القصب الكحلية وإلى جانبه خادم له من خدم الوزير بالأهبة أيضاً.
وقد كذر فيه ما وقع سنة 597 في مصر من الغلاء العظيم الذي أهلك معظم أهلها وهو جملة من كتاب الاعتبار في أخبار الديار المصرية لموفق الدين عبد اللطيف البغدادي.(26/18)
وهذا الكتاب طبع قديماً في مصر وترجم كثيراً من المسيحيين والإسرائيليين وغيرهم من غير أهل الإسلام ووفاهم حقهم وإليك مثالاً على ذلك بالحرف: أبو سعيد الحسن ابن خالد بن المبارك بن محضر النصراني المارديني الملقب بالوحيد كان مؤثراً للوحدة والانقطاع واظب على الاشتغال بالعلم في أول شبابه وأتقن علم الأوائل وبرز فيه ثم رفض الاشتغال وكان بينه وبين قطب الدين بن إيلغازي بن ارتق ملك ديار بكر صحبة في سن التربية فكان يعاتبه على الانقطاع عنه ويندبه إلى خدمته إلى أن أجاب فتقدم عنده وصارت له المنزلة الرفيعة والاحترام والتقدم وندبه بارق شاه بن قلج لوزارته فأبى ثم قصد بغداد وأقام بها مدة عند الجاثليق أبي حكيم ماري بن إيليا بن الحديثي ثم عاد إلى بلده وكان قد رزق طبعاً في نظم الشعر فمن ذلك قوله:
ومعتدلٍ ساجي الجفون كأنما ... بعينيه سيفٌ سُلَّ للقتل والفتك
إذا رام عند الوصل ترك دلاله ... ترد عليه طبعه صولة الترك
وما عذل العذال إلاّ جهالة ... إذا لم أزل معزى الحشاشة بالهلك
وما تركت مني الصبابة في الهوى ... سوى جسد مثل الخلال أم السلك
أشفعه فيما يريد بحسنه ... ولا أتعدى في الهوى طاعة النسك
ولكنني أرعى مباسم ثغره ... وألثم لآلئها موضع الضحك
وقوله:
لقد أثرت صدغاه في لون خده ... ولاحا كفيءٍ من وراء زجاج
ترى عسكراً للروم في الزنج قد بدت ... طلائعه تسعى ليوم هياج
أم الصبح بالليل البهيم موشح ... حكى أبنوساً في صفيحة عاج
لقد غار صدغاه على ورد خده ... فسيجه من شعره بسياج
وقوله في جواب كتاب:
وقفت على فحوى كتابك معلناً ... بشكرك أني بالثناء خليق
وما خلته إلا كأكناف روضة ... تناثر فيها لؤلؤ وعقيق
وراق بسمعي منه لفظ كأنما ... معانيه سحر للقلوب وثيق
وإن تك أفعال الجميل تقدمت ... فإنك في بحر الوفاء غريق(26/19)
فلا تولني فوق الوداد تفضلاً ... فليس بأعباء الثناء أطيق
ولم يك لبدعاً ما قصدت من العلى ... فإنك بالطبع الكريم خليق
وقوله في مثله:
أتاني كتاب أنشأته أنامل ... حوت أبحراً من فيضها يغرف البحر
فواعجباً أنَّى التوت فوق طرسه ... وما عودت بالقبض أنمله العشر
وكان مولد أبي سعيد هذا في سنة سبع وأربعين وخمسمائة وتوفي في سنة ستمائة
وللمؤلف عناية بأخذ التقاليد الصادرة عن الملوك وغيرها من الصكوك الرسمية ولو كتب لكتابه كله البقاء لانتفع به كثيراً في هذا الباب لأن فيه ولا شك ما يغفله أكثر المؤرخين.
ومما ذكر تقليد فخر الدين أبي الحسن محمد بن محمد المختار الكوفي نقابة الطالبين ببغداد قال المؤرخ: وقد وقفت عليه وهو بخط لنكين أبي الحسن محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي كاتب ديوان الإنشاء المعمور حينئذ ومن إنشائه ومن خطه نقلت. وهنا أورد العهد وهو في أربع ورقات ولولا أن في بعض الكتب المطبوعة ما يماثله من التقاليد وربما فاقه بأسلوبه وبلاغته لاقتبسناه.
ومن فصول الكتاب المهمة ما ذكره في نقل الفتوة وما تجدد فيها سنة أربع وستمائة والفتوة كما في التاج لغة الكرم والسخاء وفي عرف أهل التحقيق أن يؤثر الخلق على نفسه بالدنيا والآخرة وصاحب الفتوة يقال له الفتى ومنه لا فتى إلا علي وقول الشاعر:
فإن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوٍّ أو نفع صديق
وعبر عنها في الشريعة بمكارم الأخلاق ولم يجيء لفظ الفتوة في الكتاب والسنة وإنما جاء في كلام السلف وأقدم من تكلم فيها جعفر الصادق ثم الفضيل ثم الإمام أحمد وسهل والجنيد ولهم في التعبير عنها ألفاظ مختلفة والمآل واحد. قلنا والفتوة فيما نرى كما يظهر من هذا التقليد الصادر عن الناصر أشبه بجمعية سياسية. والعهد الصادر عن الخليفة الناصر لدين الله الذي نحن بصدده هو في هذه السنة أهدرت الفتوة القديمة وجُعل أمير المؤمنين الناصر لدين الله رضي الله عنه القبلة في ذلك والمرجوع إليه فيه وكان هو قد شرف عبد الجبار بالفتوة إليه وكان شيخاً متزهداً فدخل في ذلك الناس كافة من الخاص والعام وسأل ملوك الأطراف الفتوة فنفذ إليهم الرسل وقد ألبسهم سراويلات الفتوة بطريق الوكالة الشريفة(26/20)
وانتشر ذلك ببغداد وتفتى الأصاغر إلى الأكابر واتفق أن الفاخر العلوي كان رفيقاً للوزير ناصر بن مهدي وكان له رفقاء فاختصم أحد رفقائه مع رفيق لعز الدين نجاح الشرابي وصار بذلك فتنة عظيمة بمحلة قطفتا حتى تجالدوا بالسيوف فانتهى ذلك إلى الإمام الناصر لدين الله رضي الله عنه فأنكره وتقدم إلى الوزير يجمع رؤوس الأحزاب وأن يكتب في ذلك منشور يؤمرون فيه بالمعروف والألفة وينهون عن التضاغن ويقرأ بمحضر منهم ويشهد عليهم بما يتضمنه فمن خالفه أخذ سراويله وأبطلت فتوته وعوقب بما يرى من العقوبة وأحضر الفاخر العلوي وقال الوزير للحاضرين اشهدوا عليّ أني قد نزلت عنه وقرأن المنشور عليهم لنكين أبو الحسن محمد بن محمد القمي كاتب ديوان الإنشاء المعمور وهو من إنشائه وهذه نسخته:
بسم الله الرحم الرحيم، من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته ولا يرتاب في وضوح براهينه وأدلته أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو أصل الفتوة ومنبعها ومنجم أوصافها الشريفة ومطلعها وعنه تروى محاسنها وآدابها ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها وإليه دون غيره ينسب الفتيان وعلى منوال مؤاخاته الشريفة النبوية نسج الرفقاء والأخوان وأنه كان عليه السلام مع كمال فتوته ووفور رجاحته يقيم حدود الشرع على اختلاف مراتبها ويستوفيها من أصناف الجناة على تباين جناياتها ومللها ومذهبها غير مقصر عما أمر به الشرع المطهر وقدره ولا مراقب فيما رتبه من الحدود وقرره امتثالاً لأمر الله تعالى في إقامة حدوده وحفظاً لمناظم الشرع وتقويم عموده فإنه عليه السلام فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع ومشهد من أخيار الصحابة ومجمع فلم يسمع أن أحداً من الأمة لامه ولا طعن عليه طاعن في حد أقامه وحقيق بمن أورثه الله مقامه وناط به شرائع الدين وأحكامه وانتمى إليه عليه السلام في فتوته واقتفى شريف شيمته وكريم سجيته أن يقتدي به عليه السلام في أفعاله ويحتذي فيما استرعاه الله تعالى واضح مثاله غير ملوم فيما يأتيه من ذلك ولا معارض فتوة ولا شرعاً فيما يورده ويصدره وقد رسم الله على المراسم العلية المقدسة النبوية الإمامية وزادها نفوذاً معضوداً بالصواب وتأييداً ممتد الأطناب محكم الأسباب على كل من تشرف بالفتوة برفاقة الخدمة الشريفة المقدسة المعظمة الممحدة المكرمة الطاهرة الزكية الإمامية الناصرة الدين الله تعالى شرف الله مقامها وخلد(26/21)
أيامها وأعلى كلمتها ونصر رايتها أن من قتل له رفيق نفساً نهى الله تعالى عن قتلها وحرمه وسفك دماً حقنه الشرع المطهر وعصمه وصار بذلك ممن قال الله تعالى في حقه حيث ارتكب هذا المحرم واحتقب عظيم هذا المأتم ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ثلاثة أن ينزل عنه في الحال في جميع الفتيان عند تحققه لذلك ومعرفته ويبادر إلى تغيير رفقته مخرجاً بذلك عن دائرة الفتوة التي كان متسماً بها مسقطاً له عداد الرفاقة التي لم تعم نواحيها ذلك خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وإن كل فتى يحوي قاتلاً ويخفيه ويساعده على أمره ويؤويه تنزل كبيرة عنه ويغير رفاقته ويتبرأ منه وأن من حوى ذا عيب فقد عاب وغوى ومن آوى طريد الشرع فقد ضل وهوى والنبي عليه السلام يقول من آوى محدثاً فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا حدث أكبر من قتل النفس عدواناً وظلماً ولا ذنب أعظم منه وزراً وإثماً فإن الفتى متى قتل فتى في حزبه سقطت فتوته ووجب أن يؤخذ منه القصاص عملاً بقوله وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص وإن قتل غير فتى عوناًُ من الأعوان أو متعلقاً بديوان في بلد سيدنا ومولانا المفترض الطاعة على كافة الأنام الناصر لدين الله أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين فقد عيب هذا القاتل في حرم صاحب الحرب بالقتل فكأنما عيب على كبيرة فسقطت فتوته بهذا السبب الواضح واجب القصاص منه عند كل فتى راجح وليعلم الرفقة الميمونة ذلك وليعملوا بموجبه وليجروا الأمر في أمثال ذلك على مقتضى المأمور به وليقفوا عند المحدود في هذا المرسوم المطاع ويقابلوه بالانقياد والاتباع إن شاء الله تعالى وكتب في صفر من سنة أربع وستمائة وسلم إلى كل واحد من رؤوس الأحزاب منشور بهذا المثال فيه شهادة ثلثين من العدول ثم كتب تحت كل مرسوم ومنشور ما هذا صورته: قابل العبد بما تضمنه هذا المرسوم المطاع وقابله بما يجب عليه من الانقياد والاتباع والامتثال وهو الذي يجب العمل به فتوة وشرعاً وهذا المعروف من سيرة الفتيان المحققين نقلاً وسمعاً وقد ألزمت نفسي إجراء الأمر على ما تضمنه هذا المرسوم الأشرف فمتى جرى ما ينافي المأمور به المحدود فيه كان الدرك لازماً لي والمؤاخذة مستحقة على ما يراه صاحب الحرب ثبت الله دولته وأعلى كلمته وكتب فلان بن فلان في تاريخهأهـ.(26/22)
ومن العهود ما صدر عن الخليفة العباسي لرئيس اليهود قال ابن الساعي: وفي تاسع ذي القعدة المذكور ولي ابن وهبة رأس مثنية اليهود وكتب عهده بذلك وسلم إليه فقرأه على اليهود في الكنيسة وهذه نسخته: بسم الله الرحمت الرحيم الحمد لله الواجب شكره الغالب أمره العلي شأنه القوي سلطانه السابغة نعمته البالغة حكمته المتفرد بالجلال والاقتدار والمصرف على مشيئته مجاري الأقضية والأقدار الدال على وحدانيته ببديع فطرته المانع لعجائب صنعته من أن تتعذر في الأوهام كنه معرفته الهادي إلى سبيل الرشاد من شاء من خلقه الهاي سحاب فضله على كل مقر بربوبيته عارف بحقه الذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وعلى آله من أكرم أرومة وأعلى محتد وجرثومة وأشرف العرب منصباً وأمجدها أماً وأباً وأعزها قبيلاً وأوضحها في المكارم سبيلاً وأرسه إلى الأحمر والأسود نبياً اختاره من أصناف الأمم عربياً وأيده بالحكم أمياً وجعله منصوراً بملائكته محمياً وابتعثه بالبرهان الساطع والدليل القاطع ونسخ بشريعته المطهرة مالل السالفة والشرائع فلم يزل صلى الله عليه وسلم وعلى آله بأمر الله صادعاً ولأنف الباطل جادعاً ولما أنزل الله مبلغاً ولجهده في نصح الأمة مستفرغاً فصلى الله عليه وعلى آله وعلى سلالة عمه ووارثه وصنو أبيه العباس الذي طهره من الأدناس وفرض مودتهم وطاعتهم على جميع الناس الخلفاء الراشدين وأئمة الحق المجتهدين صلاة لا انقشاع لغمامها ولا انقطاع لتوصل دوامها والحمد لله الذي أصار إلى خليقته في أرضه ونائبه في خلقه الإمام المفترض الطاعة على سائر الأمم الناصر لدين الله أمير المؤمنين ووارث الأنبياء والمرسلين حجة الله على الخلق أجمعين من مواريث أنبيائه ومآثر خلفائه في أرضه وأمنائه ما هو أحق بحيازة مجده وارتداء علائه وأخذ ميثاق طاعته على الأمم في الأزل ألزم أواخر منهم ما ألزم الأول وفرض على خلقه الاقتداء به والائتمام وحاز له وراثة الخليفة عن الخليفة والإمام عن الإمام زاده الله شرفاً إلى شرفه وأدام على العالمين ما منحهم به من شمول عدله وحصانة كنفه فالمسلم والذمي والمعاهد في ظل أياديه الشريفة وادعون وفي رياض الآمنة راتعون ومما يكلأهم من عين رأفته اليقظى هاجعون لا يكدر لهم شرب ولا يذعر لهم سرب وحكم عدله يوجب النظر العام في مناظر أمرهم وجوامع مصالحهم ورعاية جمهورهم لما وطله الله تعالى إليه من سياسة عباده وناطه بشرف آرائه واجتهاده. ولما ضرع دانيال بن ألعازر(26/23)
بن هبة الله في ترتيبه رأس مثنية عوضاً عن ألعازر بن هلال بن فهد الدارج على قاعدته وجاري عادته وانتهى ما يتحلى به عند أهل نحلته ويتصف به واستحقاقه لما ضرع فيه بحسن طريقته فيهم وسلامة مذهبه رسم أعلى الله تعالى المراسم الشريفة المقدسة المعظمة الممجدة المكرمة النبوية الإمامية الطاهرة الزكية الناصرة لدين الله زادها الله إجلالاً ممتد الرواق ونفاذاً في الأقطار والآفاق ترتيبه رأس مثنية على عادة الدارج المشار إليه حيث كان ابن الدستور رأس مثنية أيضاً وأن يكون له النظر في الولاية عليه في جميع الأماكن التي جرت عادته بتوليها والتصرف فيها وأن يتميز عن نظرائه وأشكاله باللبسة التي عهدت لأمثاله وسبيل طوائف اليهود وحكامهم بمدينة السلام وكناف العراق الانتهاء في ذلك إلى المأمور به والرجوع إلى قوله في توسط أمورهم والعمل بموجبه وأن يخرجوا إليه من الرسوم التي جرت عادة من تقدمه بها بالأماكن التي كان يتصرف فيها من غير معارضة له في ذلك مع قيامه فيما يأتيه ويدبره بشرائط الذمة والتزامه ومحافظته بالامتثال وبواجب الاعتصام والإجلال إن شاء الله تعالى وبه الثقة وكتب في تاسع ذي القعدة من سنة خمس وستمائة والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الذي ختم النبيين وهو سيد المرسلين المصطفى على سائر الخلق أجمعين.
والخليفة الناصر لدين الله هذا هو الذي تقدم كما قال ابن الساعي بإنشاء دور ضيافة لفطور الفقراء في شهر رمضان في سائر محال بغداد شرقيها وغربيها فوقع الشروع في ذلك على يد قوام الدين نصر بن ناصر صدر المخزن المعمور وسلم إلى كل ثقة أهل محله مقدار من العين وأمر بإثبات فقراء أهل كل محلة وأن يجري لكل واحد في كل يوم رطلين من الخبز الفائق وقدح طبيخ فيه نصف رطل لحم ضأن فأثبت في كل دار مقدار خمسمائة نفس زائداً وناقصاً فعم الفقراء والضعفاء هذه الصدقة وانتفعوا بها وتفرغ بالهم في هذا الشهر واستراحوا من السعي في تحصيل القوت والاهتمام به فالله تعالى يجعل ذلك نوراً يسعى بين يديه هذا سوى ما يفرق على الفقهاء في جميع المدارس والصوفية في سائر الربط والمنقطعين في الجوامع والمساجد والزوايا م الغنم والدقيق والذهب أجزل الله بذلك ثوابه وخفف به حسابه.(26/24)
كيف كانوا يسيحون
كتب أحد الباحثين فصلاً إضافياًُ تحت هذا العنوان في المجلة فآثرنا تحصيله لجمعه بين الفائدة والفكاهة قال: إن السفر اليوم لا يتعدى حد السباق السهل اللطيف فهو قليل النفقة وفي مكنة كل إنسان أن يقوم به ولم يكن كذلك في الأزمان السالفة. بل كان التنقل ولا تدعو إليه إلا الحوادث والأشغال لا اللذة وحب الانتقال يستلزم صنوفاً من المتاعب والمصاعب والمخاطر يصعب علينا الآن تصورها.
لم تكن وسائط النقل في القديم لتتعدى الحمار والحصان والجمل والعجلات والهوادج فينزل المسافرون في فنادق لم تكن وافرة العدد. ولقد كان عند العبرانيين فنادق غير مستوفية لشروط النزول فيها حتى أن أرباب الحشمة كانوا يربأون بأنفسهم عن قصدها فكان لهم في كل مدينة أحباب يستقبلونهم فينزلون عليهم وهم يقابلونهم بالمثل وينزلونهم في بيوتهم عندما يسافر هؤلاء أيضاً. دام هذا الحق بين الأسرات مرعياً معمولاً به وأصبح القرى عندهم من أقدس الفروض ولكنه لم يلبث أن اعتوره القلب والإبدال.
ولم يمض زمن حتى انقلبت كيفية الضيافة في بلاد اليونان والرومان والعبرانيين وذلك لأنه من الصعب أن يؤوي الإنسان كل قادم واقتصروا في إنزال الضيوف على معارفهم وأصحابهم ومن لهم مقام سام في قومهم أو يحملون وصية لا بد من تنفيذها وكانوا يرسلون بمن عداهم إلى الخانات على نحو ما يقوم اليوم أبناء القرى في إيواء الجند وضباطهم خلال الحرب. وعمت هذه العادة على عهد الفيلسوف اليوناني تيوفراست (374 ـ 387 ق. م) وقد وصف المؤرخ توسيديد هذه الخانات أو المضافات بأنها دور كبيرة طولها مائتا قدم وهي مقسومة إلى مساكن عالية وسفلية مفروشة فيها سرر من حديد وقلز.
لم تكن تعرف الفنادق في أرض اليهودية ولكن كان منها على طريق مصر رأى بعضها موسى وامرأته صنورة على أنها لم تكن ذات بهجة ونيقة بل هي عبارة عن مرابط للبهائم وبالقرب منها آبار فيقضي على المسافر أن يأتي معه بجميع ما يلزم لغذائه. ولا تزال الخانات في المدن والمضافات في الأرياف ببلاد الشرق إلى عهدنا هذا على هذه الصورة لا تفوق القديمة بوضعها ولا باستعدادها.
وكانت فنادق الأجرة عند العبرانيين سيئة السمعة وقد صرح بلوتارك المؤرخ اليوناني بأنه لا يجب أن يتعب المرء نفسه بل عليه أن يعمل ما يهوى ولا يحفل بجيرانه فكنت ترى(26/25)
فيها محلاً للمائدة واصطبلاً للبهائم ومكاناً للمركبات. وقد وصف أفلاطون أصحاب الخانات في عصره بأنهم لصوص متجبرون أهل قحة وسلاطة يزدرون بمن يعطيهم قليلاً من الأجرة وهي صورة تصدق ولا جرم على بعض أصحاب الفنادق في عصرنا.
من كان يظن أن البلاد التي تفردت في تلك الأعصر براحة السائحين فيها هي بلاد فارس؟ فقد كان البريد ينقل فيها (ولا يزال كذلك) مع السعاة على الخيل فينقلون من محطة إلى أخرى الأوامر وقد توفرت أسباب الرفاهية في تلك الفنادق الفاخرة. وعهد عند الرومانيين ضربان من الفنادق منها الفاخر وهو ما كان ينزل فيه السائحون والجند وكانت تحت مراقبة الحكومة وقد ذكر مسيو كالي بأنه رأى مثالاً عنها عندما أقام في البوسنة والهرسك. والحكومة النمسوية تلاحظ تلك الفنادق وتشرف عليها ولكن كانت تلك الفنادق للطبقة العالية من الناس وربما حل فيها الملوك فهل يسوغ أن ينزل هؤلاء مع الصعاليك وربما وصل إليهم منهم أذى. أما الفنادق العامة فكانت منازل حقيرة قال فيها هوراس الشاعر اللاتيني: إذا رغب المرء أن ينزل في أحد هذه الفنادق التي يراها على طريقه من كابو إلى رومية فالعقل أن يترجل وإذا لارضي لنفسه النزول أحياناً فلا ينزلها إلا ذا بلغت به الحال أن تلوث بالوحل إلى ظهره وتبلل بالمطر إلى عظمه وكنت ترى أمثال هذه الأكواخ على الطريق في إيطاليا بكثرة وهي ممقوتة حتى لقد شكا بلين العالم الروماني من أن الفراش لم تكن وثيرة بل كانت محشوة بعيدان القصب على مثال الريش وكان طعامها غليظاً. ومن أجل ذلك كان الأغنياء السائحون يحملون معهم أدوات مطابخهم وبعض أرباب الشرف يصحبون معهم عجلات تحمل البطيخ والثمار التي لم تنضج لئلا يحرموا الفاكهة ويحمل كل منهم معه أواني السفرة كما لا تزال العادة في روسيا إلى اليوم أن يأتي المسافر معه بأدوات الفراش لنومه. وكانت فنادق رومية وخاناتها كثيرة ولاسيما من طريق إبين وهي كأمثالها في بلاد الغاليين سكان فرنسا الأقدمين من حيث قلة العناية وسوء الخدمة. وعلى عهد المؤرخ بوليب اليوناني (204 ـ 122 ق. م) أحدثت طريقة أخذ شيء من الدراهم من كل مسافر أجرة مبيته في أحد الخانات وكان ثمن غذاء الرجل ومبيته يعادل في اليوم ثلاثة سنتيمات بسكة زماننا.
وفي القرن السابع للميلاد بدأ المسيحيون في الغرب يحجون إلى الأرض المقدسة وفي(26/26)
تأليف أدمان وويلبالد أسقف أشتياد سنة 730 إشارات كثيرة تدل على ما كانت عليه أسباب التنقل في القرن السابع والثامن على أن الحج إلى البيت المقدس بدأ قبل ذلك العهد ببرهة طويلة فقد كتب كاهن لم يذكر اسمه منذ سنة 333 جدولاً ذكر فيه الطريق من بوردو إلى القدس ذكراً مجرداً. وفي خلال تلك المدة كان للنورمانديين فضل السبق على سائر الأمم الأوروبية بتحمسهم في مثلب هذه الزيارات يضاف إليها في الغالب رغبتهم في جمع المال والإتجار فكانوا يتحاشون تجسم أهوال البحر ولذلك كنت تراهم يقطعون المسافة براً فيمرون بفرنسا وبجزء عظيم من إيطاليا ثم يركبون البحر من نابولي أو كايت أو سالرنا وهي المواني التي كانت تتقايض المتاجر مع سورية. وفي السنين الأولى من القرن الحادي عشر للميلاد اجتمع أربعون سائحاً من النورمانديين وردوا العرب على أعقابهم عندما أغاروا على سالرة وأشؤوا لهم دولة نورماندية في جنوبي إيطاليا.
وكانت الحملات الصليبية الأولى على الشرق تسير براً في طرق متعددة. وقد ساعدت العادة في الحملة الثالثة على إدخال تسهيلات كثيرة في تسفير تلك الحملات الضخمة فأنشؤوا يؤثرون الرحيل من البحر. وكانت المدن أو بعض أفرادها تتعهد بتقديم لوازم السفر فقد قال ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنكليز في حرب الصليب ميناء مارسيليا على أن تقدم له عشرين سفينة وثمانية مراكب متوسطة الحجم لتقله وتقل أتباعه إلى الأرض المقدسة وكان قد تقدم فن الملاحة وكثر التفنن في إحداث السفن الكبيرة والصغيرة وبلغ عدد الأسطول الذي اجتمع في إيكومورت في الحملة الصليبية السابعة ألفاً وخمسمائة سفينة وقد قضى الصليبيون الذين سافروا إلى فلسطين من طريق الأستانة ثمانية أشهر.
وما لنا ولتلك الحملات وما قاسته من المتاعب في قطع المساوف فإن أخبار الأفراد الكبراء ومنهم من كانوا يسيحون لأشغال لهم أو للزيارة أحق بالتدوين. فقد كانت الهوادج والمحفات مألوفة لكبار الأغنياء يركبونها في أسراتهم ولهم عجلات ضخمة خاصة بهم غريبة في شكلها وبطئها ومهما كانت البقر التي تجرها قوية فإنها لا تكاد تجتاز بضعة كيلومترات في النهار إلا بشق الأنفس وذلك لوعوثة الطرق وكثرة البطائح ولطالما اضطرت السائحين أن يحملوا على ظهورهم ما كان يحملهم.
وقد كثرت الأديار والصوامع في القرون الوسطى في أوروبا فكنت تراها حيثما انقلبت في(26/27)
المدن والقرى تؤوي المسافرين وتطعمهم (على نحو أديار جبال سورية لى اليوم) وإذا دفع المرء من تلقاء نفسه شيئاً من الدراهم للدير الذي أطعمه وآواه فإنما يدفع ما لا يتجاوز القدر الذي كان يلزمه لو نزل في خان أو فندق بعد أن ينزل على الرحب والسعة. ويكفي المؤونة بفضل أصحاب الدير وهذه الأديار على الصورة التي وصفناها تعد والحق يقال أعظم حسنات القرون الوسطى تأتيها تلك الأدباؤ ضاحكة مستبشرة وهي لا تريد ممن تسدي إليهم معروفها جزاءاً ولا شكوراً.
ولقد كان الحاج إلى البيت المقدس يدفع في القرون الوسطى خمساً وخمسين دوكاً (سكة ذهبية تختلف باختلاف البلاد) ليركب البحر من مدينة البندقية إلى يافا وذلك ثمن الطعام. وكان المترفون من الفرنجة يتزودون باللحوم والمآكل المغذية كما يحملون الحصر والفرش والخمور والماء وتحمل السفينة مائة راكب. وقد صرفت إحدى السفن سنة 1481 خمسين يوماً في البحر للسفر من البندقية إلى يافا وفي هذه المدينة يتلقاهم العرب وبعد أن يبقوهم خمسة أيام في مكان رديء يركبونهم الحمير إلى القدس ويحمونهم من البدو ومن الباعة. قال أحد الرهبان ممن رافقوا تلك العصابة ولم يكن العرب يعتدون إلا على المأكولات والمشروبات يطيلون أيديهم عليها ليملؤوا بطونهم.
وقد كثر التأنق في السياحات خلال القرن الخامس عشر على كثرة الاضطرابات التي حدثت فيه بحيث أصبحت أساليب النقل أكثر رفاهية من القرون التالية. وشاع على عهد الملك شارك السادس (1380 ـ 1422) استعمال الجياد والبغال وكان النساء يركبن رديفات للرجال ومن بعده كثر ولوع الناس بالبغال منذ سنة 1540 وصار الناس يسيحون على ظهورها لا فرق في ذلك بين الأساقفة ورؤساء الأديار والحكام ومستشاري المملكة والزعماء. وسهل على الناس إنشاء محطات كثيرة للبريد بين البلاد أن يسيحوا بسرعة. والأثقال (العفش) يحملها الخدم على ركائب أخرى يتبعون ساداتهم وعلى ذلك العهد قل الأمن في الطرق وشاعت الخرافات في فرنسا بما حملت إليها ألمانيا من الأفكار فأصبح القوم يكثرون من الاعتقاد بالسحر والسحرة والطوالع السيئة وشاع أن أصحاب الفنادق على وفاق مع الشياطين ومع ذلك كان القتل يكثر في الفنادق وتزورها الأرواح فيفزع السياح ولا يسع أصحابها أن يأخذوا النازلين فيها إلى دورهم ويوهمونهم بأنهم ما داموا(26/28)
معهم فلا تسطو عليهم الشياطين ويتلاعبون بهم ويستعملون من أساليب الدهاء والجربذة ألواناً فصار القوم يعتقدون أن الفنادق مسكونة بالجن.
وفي أواخر القرن الخامس عشر عنيت الحكومة الفرنسوية بالسائحين وأخذت توعز إلى أرباب الفنادق أن يرفقوا بمن ينزل عليهم فحددوا أسعار المآكل والنوم وكتبوها على واجهات نزلهم وكانت الأجور غالية بالنسبة لذاك العصر وكانت فنادق إسبانيا سيئة الحال إذا قيست بالفنادق الفرنسوية وذلك من حيث الوساخة وسوء الخدمة وكآبة الداخل من بنائها والخارج منه. أما فنادق ألمانيا وإيطاليا فكانت أحسن من فنادق تينك المملكتين لكثرة اختلاف السائحين إليها.
جاء القرن السادس عشر وقد اشتهرت أوروبا بنهضة الآداب والفنون ولكن الأخلاق بقيت على توحشها على المبالغة في التنطس في إبداء الأفكار. وكلما كان ينتشر الأدب والعلوم والفلسفة واللاهوت والتصوير بين الناس وتصفو النفوس وتسمو لى قمم الحقائق والعظمة والكمال كانت العادات تنحط إلى دركات التوحش فتكثر الحروب والسلب والقتل من أجل أمور تافهة وكل اختلاف في الأذواق يسوى بحد الخناجر وأقل نزاع ديني يكفي لنشوب ثورة في البلاد.
يلبس الرجال ثياب الديباج والمخمل ويزين الظرفاء آذانهم بأقراط ويعطرون شعورهم ويمسكون بأيديهم الخناجر وهم يلبسون القفافيز (الكفوف) بسرور يوازي سرور من يحمل آنية الملبس أو يروح بمروحة. أما النساء فكن يكتسين الألبسة الحريرية والأطواق الغليظة اللؤلؤ والزنانير المحلاة بالجواهر ولم تكن تلك الأبهة لتخفي أخلاق الرجولية فيهن بل كن يطلقن العيارات النارية كما يطلقها فرسان الألمان ممن جعلوا إطلاق النار صناعة لهم وعندئذ أخذت الأذواق تتحسن في فرش الدور والقصور وتسير نحو الرفاهية والملائمة بيد أنه لم ينشأ من ذلك تحسين في أسباب السياحة ولا في موارد الفنادق والخانات وظلت على حقارتها على نحو ما كانت عليه في القرون الماضية أو أكثر.
وقد كثر إقبال الفرنسيس على السياحة في القرن السادس عشر ومن أهم السياحات التي تؤثر عن ذاك القرن سياحة الرحالة الجسور آرامون فإنه خلف إيضاحات نافعة عن زيارته للأستانة سنة 1518 ومما أدهشه ما شاهده من حذق بعض أبطال العثمانيين إذ ذاك ورشاقة(26/29)
أيديهم فقال أنه رأى أحدهم بلع بيضة بدون أن يكسرها وبعد ربع ساعة أخرجها سالمة. ووصف القافلة عند منصرفه إلى فارس فقال أنه كان معهم عشرة أعلام وأربعون جملاً وثمانية عشر بغلاً وإحدى عشر دابة أخرى وهودج يقله بغلان وكانوا خمسة وخمسين سائحاً راكبين على أحسن صورة مسلحين سافروا من الأستانة سنة 1548 فرجعوا إلى فرنسا في أوائل سنة 1550 بعد أن زاروا البلاد العثمانية والفارسية والقدس ومصر.
ورحل الرحالة فيليب دي فرسن سنة 1572 إلى الأستانة فرأى سوق النخاسة قائمة فيها والإماء والعبيد من أطراف الأرض يعرضون للبيع ومن أراد ابتياع أمة يكشف عن وجهها القناع ولكي يتمكن من معرفة سحنتها وصباغها لا يستنكف عن البصاق عليه ليتأكد فيما إذا كان صبغة أم هو خلقة بلا تصنع. وقد سار في الطريق التي كانت متبعة في القرن السادس عشر للذهاب من فرنسا إلى الشرق براً وهو راغوس ـ نوي بازار ـ اسكوب ـ تاتار بازارجق.
ولا يذهبن الفكر إلى أن جميع السائحين كانوا يصرفون وقتاً طويلاً لقطع المسافات فلم يكن جميع الناس كالرحالة مونتين في رفاهيته وبطئه يسيرون على هواهم فإن البارودي لا كارد قضى اثنين وعشرين يوماً للذهاب من الأستانة إلى فونتينبلو في فرنسا وقد عدت هذه السرعة من الغرائب التي يفتخر بها. وبعد أن زار برتراندون دي لابروكيير القدس رجع راكباً من الأستانة إلى فرنسا من طريق بلاد الفلاخ وبلغراد وبست في خمسين يوماً وقف في الطريق أياماً كثيرة.
وكثرت على ذاك العهد الرحلات العظيمة فرحل يعقوب كارتيه ثلاث رحلات متوليات إلى كندا وطاف دراك الإنكليزي الهند الغربية وطاف الهولنديان بارنتز وهمسكرك للبحث عن منفذ إلى بلاد الهند من شمالي أميركا وفي رحلتهما أمور نافعة فقد كتبا رحلتهما سنة 1596 وكأنهما دوناها أمس بل أنك إذا تلوت ما كتباه يتجليان لك كأنهما الرحالتان المتأخران نوردا لسكيولد ونانسن فقد أعربا فيها آمال كآمال هذين الرحالتين وقاسيا مثل ما قاسيا من قلة الجوع وبرد ونصب.
كل هذا والمركبات قليلة فلم يكن في أوائل سنة 1600 في باريز سوى أربع مركبات منها واحدة للملك والفنادق فيها مما يضحك ومضى قرنان بعدها والقوم في أوروبا عدتهم البغال(26/30)
والخيل والمركبات وسياحتهم تختلف باختلاف أغراض السائحين ومبلغهم من الشجاعة حتى جاء البخار والكهرباء فقصروا المساوف وسهلا السفر بعد أن كان قطعة من العذاب وبعد أن كانت تصرف الأيام الطويلة في الرحلات ويتعارف الناس إلى بعضهم ويقضون الأيام والليالي في المحادثات أصبحوا الآن يصلون أسرع من البرق الخاطف ولعل الأتوموبيل الذي رغبت النفوس في السفر فيه اليوم بدل السكك الحديدية سيبطل بعد حين كما بطلت العربات والهوادج والمحفات ويرى أبناء أبنائنا ما لا يخطر لنا ببال فقد أصبحت الخانات قصوراً فيها كل ما لذ وطاب والحوافل بعد أن كانت يجرها البقر والخيل أصبحت تجر بقاطرة بخارية.(26/31)
القضاء على الشقاء
كتب فريديك بياسي أحد أعضاء مجمع العلوم الأدبية والسياسية في باريز مقالة في الشقاء الإنساني وتخفيف ويلاته أو نزع شأفاته فقال أنه على كثرة الباحثين في تخفيف ويلات الإنسان والكاتبين فيه ما زال الناس يقولون بأن الشقاء إن لم يزد عما كان فهو لم ينقص ولم يوفق أحد من أولئك العالمين إلى فتح دور النعم والرضى العام. ومهما كان من حسن نية واضعي القوانين وواضعي الأدوية فليس من السهل الاهتداء إلى طريقة تنهض الإنسانية من كبوتها المزمنة في يوم وليلة ولا من الهين اللين القضاء على ما يحف بالبشر من الآلام والأوصاب.
ومع هذا فلا أزال أقول أن هذه المعضلة ليست مما يتعذر حله وهذا الداء لا بد من شفائه وهو مما يجب على كل ذي ذمة يحترم طبيعته ويهتم لما يلقى عليه من أعباء المسؤولية أن يسعى إلى بلوغ تلك الضالة المنشودة سعيها ويعقد ناصية الأمل بشفاء الداء. ولا يتم ذلك بسن القوانين واتخاذ الذرائع الخارجية للحيلولة دون هذه الويلات لتقف عند حد القشور دون النفوذ إلى اللباب بل لا يرجى الفوز بهذه الأمنية إلا إذا غيرت الأفكار والأخلاق ولا يدخل التغيير والإصلاح اللذان يقللان من الشر ويدفعانه إلا إذا أدخل الإصلاح من الداخل لا من الخارج على من يتألف منهم المجتمع. وما على من يود الوقوف على أسباب هذا الشر والشقاء إلا أن يبحث ويستقصي وعندها يتجلى له فيما إذا لم تكن الأسباب كلها اختيارية ومعظمها مما يدخل في طوقنا ويصدر عن إرادتنا. فإذا صحت إرادتنا وطردنا شيطان الجهل الذي يضل عقولنا وابتعدنا عن الشهوات المفسدة والسيئات والخطيئات المهلكة وكلها مولدة للشقاء فنكون قد قضينا على الداء في موطنه واجتثثنا عرق الفساد من أصله.
لا ينبغي الخلط بين لفظتي الشقاء والفقر واختلاف طبقات الناس فالفقر نسبي وليبس من لوازمه أن يكون مضنياً. قد قال البارون روتشيلد الغني المشهو في نحو النصف من القرن الماضي عندما بلغه موت أغادو من أغنياء الإسبان: يا حسرتا على أغادو فقد كنت أظنه في سعة من العيش أكثر من ذلك. وذلك لأنه بلغه أنه لم يترك سوى ستين مليوناً من الفرنكات. وقالت عجوز للفيلسوف جول سيمون عندما زار منازل مدينة ليل للبحث في حالة ساكنيها: الحمد لله على أن لنا أحذية من قش. تريد ذلك تشبيه نفسها بجيرانها الذين(26/32)
قضي عليهم أن يضطجعوا على الأرض بلا غطاء ولا وطاء. ومن المحقق أن الفقر يحالفنا من بعض الوجوه إذ ليس من الناس إنسان إلا ويحرم من الاستمتاع بلذة شريفة ولا يصد عن أمنية مطلبوة. ولكن هذا الحرمان إذا لم يبلغ حده فينا وفي الموجودات التي نعزها لا يمس جوهر الحياة ومتى حصلنا بفضل العمل والعناية الكثيرة اليومية على ما يبلغنا الضروريات إلى حد محدود وأخذنا بحظ من الطعام واللباس والمسكن والمنام لنا ولذوينا. متى حصلنا بفضل الكد على ما نقدر به قدر كفاية أنفسنا بأنفسنا ونستحق به أن نحيا فلا يحق لنا أن نتكلم في الشقاء وإذا فعلنا فنكون قد جلبنا على أنفسنا الإهانة. وما على المرء إلا أن يغتبط وهو في ثيابه القليلة بل وعليه أن يفاخر بها ويباهي بسعادتها إذا كان غنياً عن مسألة أحد على حين لا يظفر بزخارف الحياة الدنيوية والبذخ العالمي إلا بإراقة ماء الوجه ومقاساة الهموم والغموم.
الشقاء حالة تصيب المرء بغلطات ارتكبها هو مباشرة أو هو نتيجة سيئة لأغلاط ارتكبها من يلوذ به أو هو عقبى سوء سلوك سببه الجهل والفساد والشهوة والمطامح السيئة وانحلال عرى التضامن فيصير به الإنسان كلاً على غيره عاجزاً مادياً أو أدبياً عن كفاية نفسه وآله تنقطع حيله عن المقاومة وتحرير النفس من ربقة العبودية والانحطاط الذي أصابه أو قبل به فأمسى غريقاً في لجة مزبدة بالنقص الإنساني وما هو إلا الفضيحة والألم والخطر على مجتمعاتنا. بيد أني أكرر ما قلت بأن هذا الانحطاط وذاك التسفل الذي يصيب كثيرين من البشر يسهل تعيين تأثيراته المضنية التي كانت سبباً فيه وإن من السهل وضع الدواء لداء هذه العوارض ما خلا الحوادث والنكبات التي قد يتأتى تخفيف ويلاتها أيضاً.
قال الكاتب لابولاي إذا أردت أن تنزح بحر الآلام البشرية فلا تحاول أن تأتي ذلك باتخاذ بعض الكؤوس الكبيرة تجعلها سلاحاً في يد المشرّع فإن البحر تجري إليه المادة على الدوام وخير ما تأتيه أن تحول دون تلك المصادر التي تأتي إليه بالمياه. أصلح الغلط وافثأ سورة الغضب وسدد الأميال الفاسدة واجعل الحكمة عوضاً عن الجنون وحسن الألفة بدل الشقاق وعندها ينزل ذاك البحر اللجي عن معدله بالطبع وتتحسن الحالة العامة. ولنفهم هذه النصيحة ولننظر ما هي تلك المجاري والأنهار التي تجري إلى ذاك البحر الذي لا يغاث الناس فيه ويهلك من يهلك.(26/33)
فالحرب هي أول المدمرات والمهلكات. أما الحرب فلا أحاول أن أقضي عليها بعد الذي علم من تنافس الأمم فيما تتخذه من أسباب الحذر والحيطة. وما دام يخشى شر الحريق فلا أحسن من الاستسلام الآن على أصحاب المضخات ودفع مبالغ لضمانة البيوت والمحال وإذا لم نؤد إليهم ما يلزم لإعالتهم فلا نلومن إلا أنفسنا ولعله يقال بأن المال الذي يصرف في هذا السبيل فاحش ولكن إذا توصلنا إلى إلغاء الخطر فلا معنى إذ ذاك للإنفاق على الضامنين وأرباب المضخات وإذ أن خطر الحرب صعب تقليله وهي مخاطرة يمكن توقي الوقوع فيها أكثر من خطر الحريق لأن الحرب توقد نارها الحكومات والأمم فهي ذاً شر لا يجري دائماً بالرضى لأن كثيراً ما يتحمل الناس مصائبها مكرهين وما الحرب إلا صناعية تضمحل ذات يوم فتصل الأمم بكثرة ما تعلمها التجارب إلى درجة تعلم معها أنها لا تربح شيئاً من تحاسدها وإلحاق الأضرار وأن الأريح لها أن تحترم أنفسها وتتعاون وما يقال في تحاسد الأم ومنافستها وتباغضها يقال أيضاً في الأحقاد الاجتماعية وشدتها وما سبب ما نرى من بوادي الحرب وبواردها مهما كان من تجليها أو خفائها بين الأمم والجماعات إلا أننا نعتقد في الغالب بأن الأغراض والحقوق متغايرة ويصعب بث روح السلام فيها لأن عظمة الأمة وقدرتها وثروتها تتجلى لنا كأنها غنائم قضي علينا أن نتضارب من أجلها وليست إرثاً عاماً عهد إلينا تنميته بحسن العشرة والمعونة المتبادلة فبدلاً من أن نفتح تخومنا للتجارة لتأتينا بما ينقصنا من الغلات ونفتح لنا مصارف نصرف فيها ما يزيد عندنا منها لا نفكر إلا في وضع العقبات في تلك التخوم لأنا موقنون بأن الواحد إذا كسب يلزم عليه أن يخسر الثاني وهذا لأننا لا تعلم أن رأس المال هو ثمرة العمل وبذر لا يحفظ وينمو إلا إذا استجال إلى أجور وبذلك يضم إلى العمل المنتج قوة أخرى تقضي قضاءها على الهموم والأحقاد. ألا فلنصلح الأفكار والعدل والإحساس لنحكم الرضا والمعونة المتبادلة بدلاً من التخوف والحسد.
ليس ثمة غير الخطيئات العامة كعداوة الأجناس بعضها لبعض وعداوة أهل اللغات المتباينة وعداوة الدين وعداوة الطبقات وهناك خطيئات شخصية كلما زادت تصبح خطيئات عامة ولا تبقى قاصرة على فاعليها. كان علماء الأخلاق هم المتشددين سابقاً في النقمة على انتشار المسكرات والموبقات ولكن من منا اليوم لا يشعر بما شعروا هم به من قبل ونددوا(26/34)
بسيئاته.
ليست الحكومات وحدها هي التي تبوء بتبعة إكثار الضرائب على الناس كما قال فرنكلين بل هناك ضرائب كثيرة وضعناها بأنفسنا على عواتقنا وذلك إن كسلنا يتقاضانا مما يعادل تلك الضرائب وشراهتنا تسلبنا ضعفي ذلك وعُجبنا ثلاثة أضعافه.
وهناك سلسلة من سلاسل المصائب الإنسانية هي هي سبب البلاء واللأواء وأعني بها الخصومات وضروب القسوة وسوء معاملة النساء والأولاد والأمراض التي تنجم عن الخصومات وقلة العفة وضعف البصر ورجفان اليد وأعمال تؤدي بفاعلها إلى الجنون وتضعف الجنس وتورث الأبناء بجهل الآباء أمراضاً يجنيها عليها آباؤهم. ولا تنس أن تذكر في تلك السلسلة نهب الوقت والمال وصرفهما في الملاذ والبذخ والإسراف وما يصرف في الحفلات والأعياد مما جمع بعرق القربة وإنهاك القوى وكذلك ما يجري في سباق الخيل فإن أدعى قوم بأن السباق نافع للجياد فهو ولا جرم غير نافع للناس.
وسواء كان المرء بيده شقاؤه أم لم يكن وهو به جدير أم لم يكن فينبغي النظر إلى الأصل فيه فإن من الناس من يقولون بأن للأقدار أيضاً يداً في الشقاء وإسعاد السعيد وذلك لأن العوارض والأمراض والمصائب هي التي تحمل على البيوت فتخربها وتعبث بالنفوس فتشقيها. أما أنا فأقول أن معظمها صادر عنا ونتيجة لازمة لسيئاتنا نحن لا نحسن تناول الغذاء وجعل نسبة بين طبيعة الأغذية اللازمة للقوة العضلية والعصبية والدماغية وبين كميتها. نحن لا نحسن لبس الثياب ولا نجيد التصرف ولا نُعنى بأمور الصحة والنظافة المطلوبة واستجادة الهواء والمسكن الذي يقينا التعرض لضروب الأدواء نحن وعيالنا. لا نحسن انتخاب دور نسكنها وأهلنا بحيث تضمن لنا الهواء النقي والتعرض المطلوب للنور الذي يلقي الحياة. ولا تحفل بالأسباب المختلفة اللازمة للرفاهية كل حين وبدونها تهزل الحياة ولا تنمو ويصبح المرء عرضة للأمراض على اختلاف أنواعها كالحميات الطفحية والرمد والخناق والسل. ومتى دققنا النظر في الشؤون وأعملنا العناية معملها نجد أننا لو أحسنا العناية والحذر والعلم لكنا نجونا من تلك السيئات والنزلات.
بقي هناك شيء لا ينبغي لنا أن نغلو فيه لأنه قليل وأعني به المصائب التي لا ضامن من الوقوع فيها كالأمراض التي تصيب أعقل العقلاء وأكبر أرباب الانتباه. هناك الموت الذي(26/35)
لا ينجو منه إنسان والحريق الذي لا يكون أبداً نتيجة سوء التدبير. والغرق والفيضانات والمقذوفات وسقوط السكك الحديدية. فهذه المصائب لا ينفع فيها إلا التسليم وهذا ما أعنيه بتولي القضاء على الشقاء لا تلك الضروب من الحوادث التي ليست في الحقيقة مادة الشقاء وأس أساس كل بلاء. على أنها ليست كلها مما يتعذر شفاؤه بل أن العلم بما بلغه من الارتقاء قد أحدث أساليب كثيرة لاستئصال شأفة تلك المواد فإذا لم تستطع أن تمنعها كلها ففي وسعك على الأقل أن تقلل صدماتها وتعدل من نتائجها. نعم إن الحذر قد لا يمنع من قدر. ولكن ليس هناك ما يمنع من التوقي منه بأن يبذل في سبيله ما لا بد منه من العناية ما أمكن. والضمان إذا لم يحل دون حرق العقار وضياع السفينة والموت بأخذ المرء من وسط أشغاله وعياله فهو على الأقل يهيئ السبل لإعادة بناء البيت وفتح المعمل والاستعاضة عن تلك السفينة فلا يدخل المرء إلى داره مع الحزن والخراب والفضيحة فيكون قد أتى بحشف وسوء كيلة.
وما أسباب الشقاس في الحقيقة إلا نتيجة أغلاط ناشئة من الجهل وأغلاط ناشئة من سلوك إذا تدبرنا مصيرها وتعلمناه وكانت لنا إرادة في إصلاح النفس كان في الإمكان الخلاص من الشقاء. فالمسألة متوقفة على قليل من المعرفة وقليل من الإرادة فعلينا أن نثير بصائرنا وبصائر غيرنا. والإرادة الثابتة تحول دون الشقاء. وجماع النجاح في ثلاث كلمات: المعرفة والإرادة والقدرة. والعلم والإرادة تولدان القدرة. ويقول تولستوي: إن داء الدواء لا يخرج عنا وليس هو محصوراً في تدابير الإدارة التي تتخذها الحكومات ولا في إدخال الإصلاح على المجتمع بطريقة عرفية قاسية وما الدواء إلا بيدنا بل القسم الأعظم منه فينا
فإذا أريد تحسين حالة الإنسانية فالواجب أولاً تحسين حالة الإنسان. وربما قام المشككون وقالوا وهل في الاستطاعة تغيير الناس فنقول لهم نعم نحن نستطيع تغييرهم بتأن ويجب علينا أن نسعى إلى تغييرهم وهذا في الإمكان.(26/36)
الرومان
وصف إيطاليا
شعوبها القديمة: سكنت إيطالي عدة أجناس من الأمم لم يتحدوا في عاداتهم ولغاتهم فكان يعتبر السه لالعظيم الشمالي بين جبال الألب والأبنين جزءاً من إيطاليا وهناك نزل شعوب من الغاليين أتوها من الشمال. فكان الأتروسكيون ينزلون في البلاد الواقعة بين جبال الأبنين والبحر (هو إقليم توسكانيا) إلى نهر التيبر وفي جنوبه ينزل اللاتين. ولقد سكنت قبائل كثيرة في جبا الأبنين الوعرة وراء السهول الرومانية في الشرق والجنوب ولم تدع كل هذه الشعوب باسم واحد ولم تؤلف أمة واحدة بل كانت تنقسم لى أومبريين وصابنيين وفولسكيين وإيكيين وهرنكيين ومارسيين وسامنتيين ولكنهم يكادون كلهم يتكلمون بلغة واحدة ويعبدون أرباباً واحدة ولهم عادات واحدة. يتكلمون كالفرس والهنود واليونان بلغة آرية ولبعدهم وراء جبالهم عن الاختلاط بغيرهم احتفظوا بعاداتهم القديمة وعاشوا عصابات مع قطعانهم مشتتين في الخلاء ولم يكن لهم مدن ولا حواضر بل كانوا يلجؤن زمان الحرب إلى حصون أقيمت في الجبال وقد عرفوا بالشجاعة والقتال وبسلامة الأخلاق ومتانتها وكان منهم بعد حين أعظم قوة للجيش الروماني وفي أمثالهم: من يستطيع أن يتغلب على المارسيين أو أن يغلب بدونهم.
جاء في إحدى أساطيرهم أن الصابنيين نزل بهم خطب فادح فاعتقدوا أن الأرباب ساخطون عليهم فعقدوا العزم على أن يسكنوا غضبها وأن يقدموا ضحية إلى رب الحرب والموت كل من يولدون من الأولاد في إحدى فصول الربيع. ودعيت الضحية الربيع المنذور فأصبح جميع الأطفال الذين وضعتهم أمهاتهم تلك السنة ملكاً للرب حتى إذا بلغوا سن الرجال غادروا البلاد وبعدوا عنها إلى القاصية فتألفت عصابات فاختارت كل عصابة أحد حيوانات إيطاليا المقدسة دليلاً من مثل الصرد والذئب والثور وهي تتبعه كأنها تتبع مرسلاً من الرب وحيثما وقف الحيوان تنزل العصابة وتتخذه موطناً لها. وقيل أن عدة شعوب من إيطاليا كان أصلها من تلك الأسرات من النازحين وما زالت محافظة على اسم الحيوان الذي كان أجدادها اتبعوا آثاره في القديم وذلك مثل الهربينيين (شعب الذئب) والبيسانتينيين (شعب الصرد) والسامنتيين وكانت عاصمتهم تسمى بوفيانوم أي مدينة(26/37)
البقرة.
السامنتيون: كان السامنتيون من أقدر تلك الشعوب وقد سكنوا في إقليم الأبروز وهو معصى حقيقي فينزلون إلى السهول المخصبة في نابلي وبويل وينهبون المدن الأتروسكية والمدن اليونانية. جاهدوا قرنين في الرومانيين فكانوا كل مرة يردون على أعقابهم خاسرين إذ لم يكن لهم موطن ولا نظام ثم يعاودون القتال. وكان جهادهم الأخير شديداً. ولقد أتى شيخ إلى زعماء الجيش بكتاب مقدس كتب على نسيج من الكتان فأقاموا داخل المعسكر سوراً من نسيج الكتان وجعلوا في وسطه مذبحاً والجند واقفين من حوله شاهرين سيوفهم فيدخل أشجع المحاربين إلى السور وتؤخذ عليه العهود أن لا يهربوا من الزحف أمام العدو وأن يقتلوا المنهزمين فأخذ من أقسموا الإيمانات المغلطة وكانوا ستة عشر ألفاً ألبسة من الكتان فتألف منهم (كتيبة الكتان) وشرعت في القتال فقتلت عن آخرها.
يونان إيطاليا: سكن إيطاليا الجنوبية طواريء من اليونانيين كما سكن بعضهم مدينة سيباريس وكروتون وتارانت وقوي فيها أمرهم وكثر سوادهم. بيد أن اليونانيين لم يلقوا بأنفسهم قط إلى الوقوع في التهلكة إذ لم يقصدوا رومية خوفاً من الأتروسكيين وما عدا مدينة كومس فإن المستعمرين من أبناء يونان كانت لهم إلى القرن الثالث صلات قليلة مع الرومانيين.
الأتروسكيون: أطلق اسم الأتروسكيين إلى الآن على أقليم توسكانيا فسمي تروسكي وهو إقليم حار رطب مخصب للغاية. وظلت حال الأتروسكيين إلى الآن طلسماً من الطلاسم لم نفكه فهم لم يكونوا يشبهون جيرانهم ولا يعلم من أين أتوا بل أننا لا نعرف اللغة التي كانوا يتكلمون بها إلا أن أبجديتهم تشبه أبجدية اليونان ولكن الآثار التي عرفت عن هذا الشعب قصيرة لا نتمكن معها من استثبات لغتهم.
كان الأتروكسيون يحسنون استخدام أرضهم في الزراعة على أنهم عرفوا بالبحارة والتجارة أيضاً وكانوا يذهبون كالفينيقيين إلى البلاد القاصية للبحث عن عاج الهند وعنبر البلطيق وعن القصدير والأرجوان الفينيقي والحلي المصرية المكتوب عليها حروف هيروغليفية وعن بيض النعام. وإنك لتجد من جميع هذه الأشياء في قبورهم. وكانت سفنهم تتقدم نحو الجنوب حتى جزيرة صقلية. وقد كان اليونان يكرهونهم ويدعونهم (التيرينيين المتوحشين)(26/38)
أو القرصان الأتروكسيين. وكل بحار في تلك العصور ساعدته الأحوال يأتي منه قرصان بحر فكان من مصلحة الأتروسكيين خاصة أن يردوا البحارة اليونان ويصدوهم ليخلوا لهم الجو في الشاطيء الغربي من إيطاليا ويستأثروا بتجارته. ولم يبقوا من آثارهم إلا حوائط حصينة وقبوراً وعندما فتح قبر أحد الأتروكسيين تشاهد وراء باب ذي عمد غرفاً فيها سرر وقد امتدت عليها جثث وحواليها حلي من الذهب والعاج والعنبر وأقمشة الأرجوان وفرش وأوان كبيرة منقوشة ما الجدران فيرسمون عليها صور حروب وألعاب وولائم ومشاهد غريبة.
وإن ما استخرج من القبور بالألوف هومن صنع الأتروسكية فازدانت به متاحفنا وصنع على مثال الأواني اليونانية هو من صنع الأتروسكيين أنفسهم وفيها مشاهد ميثولوجية يونانية ولا سيما صور الحروب التي جرت حول طروادة والأشخاص ناتئة حمراء على صفيح أسود وقد أسس الأتروسكيون فقي طوسكانيا اثنتي عشرة مدينة ولكل منها ملكها وحكومتها وكان لهم من الجانبين مستعمرات فلهم اثنتا عشرة مستعمرة في إقليم كامبانيا في جوار نابولي واثنتا عشرة في سهل البو.
ديانتهم: اعتقد التروسكيون بأرباب جبارين وربما كانوا أشرارً وأرقى أولئك الأرباب الأرباب المستورون المجهول أمرهم ثم يجيء بعدهم الأرباب الذين يرسلون الصاعقة وعددهم اثنا عشر رباً يؤلفون مجلساً لهم ويعتقدون أنه يقيم تحت الأرض في مدافن الأمواب أربائب مشائيم وكثيراً ما كانوا يمثلون صورهم على أوان من صنع أيديهم فيمثلون ملك الجحيم المدعو مانتوس في صورة جبار مجنح جالس وتاج على رأسه ومشعل بيده كما يمثلون شياطين آخرين مسلحين بسيف ومطرقة والحيات يقبضون عليها بأيديهم وهم يتلقون أرواح الموتى وأهمهم الشيطان شارون المعروف عند اليونان بهذا الاسم أيضاً وقد تخيلوه على صورة شيخ ذي هيئة قبيحة يحمل مطرقة ثقيلة ليضرب بها ضحاياه. ويعتقدون أن أرواح الموتى وتسمى (المان) تخرج ثلاثة أيام في السنة من مقرها في عالم الظلمات وتطوف الأرض تروّع الأحياء وتؤذيهم فيقدم لهم الأتروسكيون ضحايا بشرية تسكيناً لغضبهم لأنهم يحبون الدم. وكانت معارك المصارعين المشهورة التي اصطلح عليها الرومان ضحايا دموية إكراماً للميت في أصل نشأتها وكان للعرافين الأتروسكيين الذين(26/39)
دعوا بالهاروسبيسيين أو أهل الفل قواعد يجرون عليها للتنبؤ عن المستقبل فيرصدون أحشاء الضحايا كما يرصدون الصاعقة وطيران الطير فيقف العرف ويدير وجهه نحو الشمال ماسكاً بيده عصا معقوفة ويخط خط يقطع به السماء شطرين فشطر الشرق وهو على اليمين يكون فأل خير وفأل الشمال يكون فأل شر ثم يقطع الشطر الأول على قطع الصليب ويؤلف خطوطاً متوازية يكون منها في السماء شكل مربع يدعونه المعبد فيرمي العرّاف ببصره إلى الطيور التي تمر في ذاك المربع فبعضها كالنسر علامة خير وأخرى كالبومة طالع شؤم.
ولقد تنبأ الأتروكسيون عن مستقبلهم بأنفسهم فهم الشعب الوحيد من بين الشعوب القديمة الذي لم يعتقد بأنه خالد وكانوا يقولون أن بلادهم يدون أمرها عشرة قرون وهذه القرون لم يكن كل واحد منها مؤلفاً من مئة سنة ولا تعين مدة القرن إلا بعد أن يجري له فأل. ففي سنة 44 وهي سنة وفاة قيصر ظهر في السماء نجم مذنب فقال أحد العرافين من الأتروسكيين في رومية في جمع من الأمة أن هذا النجم يشير إلى نهاية القرن التاسع وابتداء القرن العاشر وهو آخر قرن يستقيم فيه أمر الأتروسكيين.
نفوذ الأتروسكيين: كان الرومان أمة نصف متوحشة فاقتدوا كثيراً بالأتروسكيين وهم أكثر منهم تمدناً وأخذوا عنهم بعض المصطلحات الدينية خاصة مثل ألبسة الكهنة والحكام والشعائر الدينية وعلم معرفة الغيب وزجر الطيور وعندما كان الرومانيون يؤسسون مدينة يجرون على شعائر الأتروسكيين فيخط المؤسس لها بالمحراث سوراً مربعاً وللمحراث سكة من النحاس يجرها ثور أبيض وبقرة بيضاء فيتبع الناس المؤسس ويلقون بمزيد من العناية جميع مدر الأرض من ناحية السور وتصبح كل الهوة التي يشقها المحراث مقدسة لا يستطيع أحد أن يتعداها للدخول في السور ولذلك اقتضى أن يقطع المؤسس تلك الأثلام أو الهوى المقدسة من عدة مواقع فكل مكان يتخطاه المحراث يفتح فيه باب وكل فرجة لم تمسسها السكة تبقى غير مقدسة وتكون باباً يسوغ منه الدخول. ولقد أسست رومية بحسب هذه المراسيم الدينية وكانت تسمة رومية المربعة ويقولون أن مؤسسها قتل أخاه عقاباً له عن تجاوزه السور المقدس الذي خطه ثم جرى الاصطلاح أن تخطط أسوار المستعمرات والمعسكرات الرومانية بل وحدود المساكن بحسب هذه القواعد الدينية وبخطوط نصف(26/40)
هندسية. وكان دين الرومانيين من أصل أتروسكي فنقلوه إلى أرجاء العالم القديم بأسره ولذلك حق لآباء الكنيسة أن تسمي بلاد الأتروسكيين أم الخرافات.
اللاتينيون: نزل اللاتينيون في بلاد الآكام والشعاب الواقعة جنوبي نهر التيبر وهي يطلق عليها اليوم اسم برية رومية وكانوا قليلاً عددهم ولم تكن مساحة البقعة التي يسكنونها أكثر من 270 كيلومتراً مربعاً وكانوا من عنصر واحد كسائر الطليان يشبهونهم باللغة والدين والأخلاق ولكنهم يفوقونهم بالتمدن بعض الشيء يزرعون الأرض ويبنون المدن الحصينة وينقسمون إلى شعوب صغيرة مستقلة ولكل شعب أرضه الخاصة به ومدينته وحكومته وتدعى تلك المملكة الصغيرة مدينة.
ولقد قامت ثلاثون مدينة لاتينية فألفت منها مجتمعاً دينياً يشبه مجتمع الأمفكتيون اليوناني وأخذوا كل عام يحتفلون احتفالاً عاماً بعيد لهم وتندب كل مدينة عنها من يمثلها في مدينة ألب فيذبحون صوراً ضحية للرب المشترك بينهم وهو كوكب المشتري اللاتيني.(26/41)
وقفة في الأجداث
حاطت بليل اليأس مني غياهب ... تضيءُ من الآمال فيها كواكب
وجاءت أخيراً من همومي سحائب ... فحجبت الآمال تلك السحائب
فما بان لي إلاّ شبحاً متكاثف ... ولا لاح لي إلاّ دجلاً متراكب
فيا لك من ليل هناك حالكٍ ... بأهواله ضاقت عليّ المذاهب
وطال إلى أن لاح لي في سمائه ... على الأفق فجرٌ من رجائي كاذب
قول لعيني حين جفت دموعها ... أأمسكت لما أفجعتنا النوائب
لقد غاب من تهوين مرأى وجوههم ... كأنهم زهر النجوم الغوارب
وما كان ظني أنه بعد ساعة ... تجف كذا منك الدموع السواكب
جمودك يا عيني وقد وقع النوى ... على غير ما وعدٍ لهم لا يناسب
وأني على هذا الجمود وطوله ... ألومك يا عيني وإني عاتب
فلست براض عنك يا عين بعدهم ... لأنكِ ما أديتِ ما هو واجب
وللقلب مني بعد أن كرّ راجعاً ... وقد رحلت أظعانهم والركائب
عهدتك تمشي أيها القلب خلفهم ... فقل لي لماذا أنت يا قلب آيب
سألتك يا قلبي عن السبب الذي ... رجعت له إني لعودك عاجب
فما لك تجثو راجفاً متغيراً ... وما لك ترنو ساكتاً لا تجاوب
أجئت تعزيني لأني آسفٌ ... وإني مفجوعٌ وإني خائب
فقال بصوت هزَّ أوتاره الأسى ... فرنت رنيناً أكبرته المصائب
تبعتهم حتى ثووا في حفائر ... وحجبهم عني من الترب حاجب
وقفت على الأجداث حيث تغيبوا ... وصحت فما ردَّ الجواب مجاوب
فجئتك كيما أخبر الحال أنها ... شجتني فمرني بالذي أنت طالب
ورأيي أن نسعى معاً لقبورهم ... فقلت له يا قلب رأيك صائب
أصبت نعم يا قلب فيما رأيته ... فلي بني هاتيك القبور مآرب
تقدَّم أمامي ماشياً لتدلني ... عليهم فسرنا والحنين مصاحب
فلما وصلنا ساء عيني أن ترى=هنالك أجداثاً عفاهن حاصب
سطور قبور في العراء تناسقت ... كما نمق العنوان في الطرس كاتب(26/42)
قبورٌ بها نامت أوانس خرَّدٌ ... ونامت بها في جنبهن الذوائب
فجاشت هناك النفس من لاعج الجوى ... وقلت لهاتيك القبور أخاطب
هنا فيك قد غابت حسان كواعب ... فما فعلت تلك الحسان الكواعب
وما فعلت تلك السوالف في الثرى ... وما فعلت في الترب تلك الترائب
إلى من تشير اليوم فيك عيونها ... وفوق العيون النجل تلك الحواجب
نجوم جمالٍ أمعنت في غروبها ... وأنت لهاتيك النجوم المغارب
وكانت مشيدات القصور بروجها ... فمن أين جاءتها تصيب المعاطب
لقد كنّ أما ودهن فحاضرٌ ... قريبٌ وأما صدهن فعازب
وفي كل يوم كان للزي مطلبٌ ... لهن تجلى منه فيما يناسب
ولكنكما اليوم انتهت لتعاستي ... بثوب الأكفان تلك المطالب
وكنَّ كأزهار الربيع مبادياً ... أهذي لهاتيك المبادي عواقب
قد انتزعتها من حياتي يبد الردى ... كما ينهب العقد المفصل ناهب
هنالك جادت أعيني بدموعها ... فهن على الخدين مني سوارب
هنالك من نفسي وصدق طويتي ... تمنيت لو أن المنون تقارب
نظرت إلى قلبي وكان بجانبي ... إذا هو من فرط الكآبة ذائب
فلملمت ذوب القلب ثم سكبته ... على جدث فيه حبيبي غائب
وألفيت في نفسي العزاء كمعبدٍ ... قد انهدَّ منه جانب ثم جانب
وفارقني لبي لهيبة مصرعي ... فأبعد عني في الفلا وهو هارب
وجدت على الأيام والطب والغنى ... وقلت لهم إني عليكم عاتب
وأوحشت الدنيا كأن بيوتها ... بعيني وإن كانت قصوراً خرائب
مكثت إلى أن أقبل الليل زاحفاً ... وأظلم منه في عيوني الجوانب
فأبت لي داري وفي شعب الحشى ... لهيبٌ من الحزن المبرّح لاهب
وليس معي في أوبتي لا نهىً ولا ... عزاءٌ ولا قلب لشخصي صاحب
سوى نفس في الصدر مني مردد ... فذلك طول الليل آت وذاهب
ستبسم في وجهي المنون كأنّها ... محب يسي أو صديق يراقب(26/43)
وتدركني قبل الصباح ونهضه ... فأنجو من الهمّ الذي هو ناصب
بغداد
ج. ص(26/44)
الصديق المطاع
علام حرمنا منذ حين تلاقيا أَفي سفرٍ أم كنت لاهيا
عهدناك لا تلهو عن الخلّ ساعةً ... فكيف علينا قد أطلت التجافيا
ومالي أراك اليوم وحدك جالساً ... بعيداً عن الخلان تأبى التدانيا
أنابك خطبٌ أم عراك تعشق ... فإني أرى حزناً بوجهك باديا
وما بال عينيك الاتين أراهما ... تُديران لحظاً يحمل الحزن وانيا
وأي جوىً قد عدت أصفر فاقعاً ... به بعد أن قد كنت أحمر قانيا
تكلم فما هذا الوجود فإنني ... عهدتك غرّيداً بشعرك شاديا
تجلد تجلد يا (سليم) ولا تكن ... بما ناب من صرف الزمان مباليا
ولا تبتئس بالدهر إن خطوبه ... سحابة صيف لا تدوم ثوانيا
فقال ولم يملك بوادر أدمع ... تناثرن حتى خلتهن لئاليا
لقد هجبتني يا (أحمد) اليوم بالأسى ... وذكرتني ما كنت بالأمس ناسيا
أتعجب من حزني وتعلم أنني ... قريع تباريج تشيب النواصيا
لقد عشت في الدنيا أسيفاً وليتني ... ترحلت عنها ولا عليّ ولا ليا
لقد كنت أشكو الكاشحين من العدا ... فأصبحت من جور الأخلاء شاكيا
وما رحت أستشفي القلوب مداوياً ... من الحقد إلا عدت عنها كما هيا
وداريت حتى قيل لي متملق ... وما كان من داء التملق دائيا
وحتى دعاني الحزم أن خلّ عنهم ... فإن صريح الرأي أن لا تداريا
وربّ أخٍ أوقرت قلبي بحبه ... فكنت على قلبي بحبيه جانيا
أراد انقيادي للهوان وما درى ... بأني حر النفس صعبٌ قياديا
إذا ما سمائي جاد بالذل غيثها ... أبيت عليها أن تكون سمائيا
ألا فابك لي يا (أحمد) اليوم رحمة ... ودعني وشأني والأسى وفؤاديا
فإن أحق الناس بالرحمة امرؤٌ ... أضاع وداداً عند من ليس وافيا
وما كان حظي وهو في الشعر ضاحكٌ ... ليظهر إلاّ في سوى الشعر باكيا
ركبت بحور الشعر رهواً ومائجاً ... وأقحمت منها كل هول يراعيا
وسيرت سفني في طلاب فنونه ... وألقيت في غير المديح المراسيا(26/45)
وقلت اعصني يا شعر في المدح إنني ... أرى الناس موتى تستحق المراثيا
ولو رضيت نفسي بأمرٍ يشينها ... لما نطقت بالشعر إلاّ أهاجيا
وكم قام ينعي حين أنشدت مادحاً ... إليّ الندى ناع فأنشدت راثيا
وكم بشرتني بالوفاء مقالةٌ ... فلما انتهت للفعل كانت مناعيا
فلما بكى أمسكت فضل رداءه ... وكفكفت دمعاً فوق خديه جاريا
وقلت له هون عليك فإنما ... تنوب دواهي الدهر من كان داهيا
وما ضر أن أصفيت ودك معشراً ... من الناس لم يجنوا لك الود صافيا
كفى مفخراً إن قد وفيت ولم يفوا ... فكنت الفتى الأعلى وكانوا الأدانيا
لعلَّ الذي أشجاك يعقب راحةً ... فقد يشكر الإنسان ما كان شاكيا
ألا رُبَّ شر جرَّ خيراً وربما ... يجر تجافينا إلينا التصافيا
فلو أن ماء البحر لم يك مالحاً ... لرحنا من الطوفان نشكو الغواديا
ولولا اختلاف الجذب والدفع لم تكن ... نجومٌ بأفلاكٍ لهن جواريا
وكيف ترى للكهرباء ظواهراً ... إذا هي في الإثبات لم تلق نافيا
تموت القرى إن لم تكن في تباين ... ويحيين ما دام التباين باقيا
فلا تعجبن من أننا في تنافر ... ألم تر في الكون التنافر ساريا
وهبهم جفوك اليوم بخلاً بودهم ... ألم تغن عنهم إن ملكت القوافيا
فطرْ في سموات القريض مرفرفاً ... واطلع لنا فيها النجوم الدراريا
فأنت امرؤٌ تعطي القوافي حقها ... فتبدو وإن أرخصتهن غواليا
يجيئك عفواً إن أمرت شرودها ... وتأتيك طوعاً إن دعوت العواصيا
فقال وقد ألقى على الصدر كفه ... فشدّ بها قلباً من الوجد هافيا
لقد جئتني بالقول رطباً ويابساً ... فداويت لي سقماً وهيجت ثانيا
فإني وإن أبدى لي القوم جفوة ... أُمني لهم مما أحب الأمانيا
وما أنا عن قومي غنياً وإن أكن ... أطاول في العز الجبال الرواسيا
إذا ناب قومي حادث الدهر نابني ... وإن كنت عنهم نازح الدار نائيا
وما ينفع الشعر الذي أنا قائلٌ ... إذا لم أكن للقوم في النفع ساعيا(26/46)
ولست على شعري أروم مثوبة ... ولكن نصح القوم جل مراميا
وما الشعر إلا أن يكون نصيحة ... تنشط كسلاناً وتنهض ثاويا
وليس سري القوم من كان شاعراً ... ولكن سري القوم من قام هاديا
فعلمهم كيف التقدم في العلى ... ومن أي طرق يبتغون المعاليا
وأبلى جديد الغي منهم يرشده ... وجدد رشداً عندهم كان باليا
وسافر عنهم رائداً خصب نفعهم ... يشق الطوامي أو يجوب المواميا
وإن أفسدتهم خطة قام مصلحاً ... وإن لدغتهم فتنة قام راقيا
بغداد
معروف الرصافي(26/47)
التربية والتعليم
تهذيب البنات
كنا منذ مدة نقرأ في إحدى المجلات الفرنسوية المصورة أن في فرنسا خمسة آلاف كاتبة وأديبة ما منهن إلا وقد ألفت كتاباً أو كتابين وخاضت عباب الأدب إلى الركب وقلبت القلم بيدها كل مقلب وما كدنا ننسى هذا الارتقاء الغريب ونتمنى لو كان لهذه البلاد جزء من مئة جزء منه فقط حتى وافتنا مجلة التعليم الدولية تحمل في صدرها بحثاً ضافياً لإحدى تلكن الأديبات العالمات العقيلة هيلانة مونيز أفاضت في وظائف المرأة الفرنسوية وقصورها فقالت: من الأسف أن بعض النساء يذهبن إلى أنهن لا يعملن عملاً نافعاً في المجتمع إلا إذا خرجن عما قدر لهن من الأعمال ودخلن في سلك أعمال الرجال وتعاطين الصنائع الحرة. يزيد كل سنة عدد الأديبات والعالمات ومتعاطيات الصنائع الحرة فنفقد بهن ما كان يرجى منهن أن يأتينه في الحياة الاجتماعية من المساعدة على تبديل حال البلاد أحسن مما هي عليه.
إن نساءنا لا يدركن في العادة معنى الحياة الاجتماعية ولا خطارتها فيتخيلن أنهن لا يقدرن على الاشتراك فيها إلا إذا دخلن غمار السياسة فأصبحن منتخبات ومنتخبات ونائبات ووزيرات وكان عليهن أن يتخلين عن هذه التصورات وينصرفن إلى حماية الأطفال وبذلك يخدمن جنسهن ويسهرن عل مستقبله ويمددن يد معونتهن للبائسين وفي هذا حل للمسألة الاجتماعية.
ليس من الغريب أن أقول أن تهذيب البنات من حيث الوجهة الاجتماعية هو أهم من تربية البنين وذلك لأن الشاب إذا خرج من المدرسة يستطيع إتمام دروسه بإعداد نفسه للأعمال التي يتعاطاها ويقوي عقله بدروس التجارب التي تأتيه بها الحياة وعلى العكس في الفتاة إذا تعلمت وأتمت دروسها وقد تكون من بنات العملة أو من أهل اليسار فلا تعود تتعلم شيئاً إلى حين زواجها والغالب أن أسرتها وزوجها تتضرران من قلة اختبارها إذا انقطعت سلسلة تعلمها.
إن الدروس التي تلقتها في المدرسة تشبه الدروس التي يتعلمها الفتى ولكن ما يقضي عليها تعلمه أكثر من غيرها لم تتعلمه ونعني به كيفية إرضاع الطفل وحفظ صحة المولود فإذا(26/48)
رزقت ولداً لا تحسن تربيته لنقص في مواد تعليمها وإذا كانت موسرة فإنها لا ترضع ابنها في الغالب وكثيراًً ما تخالف القانون الذي يقضي عليها بأن ترضع طفلها إلى الشهر السابع من عمره فتجلب له مرضعة عتق لبنها فتؤذيه لا محالة.
البنات عندنا يتعلمن في المدارس واجباتهن نحو آبائهن وأمهاتهن أسرهن ووطنهن ولكنهن لا يلقن أن أهم واجباتهن الأدبية أن يرضعن أولادهن ويربينهم ليقينهم من العوارض بتقوية أبدانهن وبذلك يخدمن البلاد بأن يعطينها قوة أخرى زيادة على قوتها.
فإن كان تهذيب الفتيات لا يعدهن عندنا إلى أن يشغلن في بيوتهن العمل الذي خلقن له فمن المتعذر أن يرجى أن يعنين بغير أبنائهن فإن ما جرى عند ما أريد إشراك النساء في حماية الأولاد يسجل بالأسف وكان على النساء أن يدركن أن محبة الوطن ليست بالأعمال الحماسية بل أن تنوب المرأة ولو ساعة واحدة مناب أم طفل طرحته أمه أو ماتت عنه. ولا أنكر أن ما جبل عليه قلب المرأة من الشفقة هو غريب وإخلاصها لا حد له.
ومن عني المربيات والمعلمات والتلميذات والفتيات والأمهات بالمسائل الاجتماعية الكبرى ومددن أيديهن للبذل في الأمور الخيرية العامة أو الخاصة وشاركن في الخيرات والمقومات نستطيع أن نقاوم جميع الأخطار التي تتهدد عنصرنا كالضعف من البؤس وكثرة موت الأطفال والسل والكحول.
برنامج التعليم عندنا غير ناقص ليزاد فيه مواد أخرى ولكنه يجب تخفيفه وحذف بعضه فإن العناية في مدارسنا متوفرة اليوم لتوسيع حواس بناتنا العقلية ولم تصرف لتحسين ملكاتهن الأخلاقية. نعم إن فلسفة الأخلاق هي أساس تعليمهن ولكن هذه الأخلاق هي بالنظريات أشبه منها بالعمليات وهي أرقى من أن تتغلب على ما يستولي على نفوس الفتيات في سني الدراسة الأولى من أنواع التعاليم فينبغي إشراب قلوبهن الشفقة فإن الشفقة كما قال أحد علماء الأخلاق من الألمان تزيد وتتضاعف.
يجب أن نعلم بناتنا أن كل فلسفة تؤدي إلى إنكار فعل الخير فلسفة كاذبة خطرة وإن تطبعهن على حب المرحمة. الرحمة مخصبة الرباع وبها تقوى الأمة بإنقاذ ألوف من المخلوقات وهي تسكن أحقاد الطبقات أو تقللها.
ألا وإن المخلوقات التي رزقن جمال الطبع وحسن الخلق هي المحسنة الحقيقية للإنسانية(26/49)
فإن أهل الخير الذين عملوا الإحسان منذ كان العالم قد ساعدوا على سعادة البشر أكثر من أرباب العقول السامية الذين تتمثل أسماؤهم في التاريخ فلو كانت ارتقت أخلاقنا منذ أوائل القرن الماضي كما ارتقت علومنا ولو كملت قلوبنا كما كملت قوانا العقلية لكنا منذ زمن خففنا مصائب الناس إلى أدنى ما يمكن. وإن يوماً نتوصل فيه إلى تأليف إنسانية كاملة لا يرى السواد الأعظم من أعضائها بؤس فرد بدون أن يعينه من تلقاء نفسه نكون قد ظفرنا فيه بالسعادة على هذه الأرض وحللنا بالسلم الأزمة الاجتماعية التي تقودنا إلى المهالك.
وعندي أن يعمم تعليم تربية الأطفال ويتعلم بنات المدارس ما ينبغي للمرضعات وأن يعلمن كيف يغاث البائسون وأرباب الأدواء يطلعن على تاريخ الجمعيات الخيرية ودور الإحسان وإن عمل الفرد وحده ضعيف في نتائجه وإن لم يضم عمله إلى عمل غيره فيكون للمجتمع أعمال منظمة بنظام الذكاء والتعقل وأن لا يعود البنات على الاعتقاد بفعل الخير نظرياً بل أن يعملن بأنفسهن الخير في المدارس ويشتركن في إعانة المجتمع.
مدح التأني
كتب هنري لافدان أحد أعضاء المجمع العلمي الباريزي في جريدة (الآنال) يذم العجلة ويمدح التأني قال: لو كنت غنياً ما تأخرت عن أن أوصي بمبلغ يخصص ريعه كل سنتين أو ثلاث جائزة لم يجيد في مدح التأتي وذلك لأنا نرى هذه المحمدة آخذة ويا للأسف بالتناقص فمن اللازم اللازب أن تعاد إليها الثقة الماضية والشرف الدراج لأنا إذا ظللنا على هذه الحال نهلك بالعجلة لا محالة.
كلما قضى أحدنا بضعة أشهر في الضواحي وعاد إلى باريز يأخذه العجب من تموجها في أعمالها ويشعر بالقلق والاضطراب والسرعة والحركة والآلام ويدهش من السرعة الجديدة المنظمة الممرضة في جميع أعمال الحياة. ولا يزال هذا الجنون يزداد على نسبة مخوفة ويكثر ويزيد سخط القادم من العجلة المتضلة التي تطوح بنا في هذه المهاوي المنوعة التي نكاد لا نراها لسرعة مرورها على بصرنا ولأن وقتنا لا يسمح لنا بإمعان النظر.
نحن نسرع في كل أمر وكلما حركنا جنون السرعة أثبتنا أن الحكمة تقودنا فلا يقنعنا إلا أن نصل قبل أن نسافر وآراؤنا مضطربة تود السباق وتتضارب أولئك السذج الذين يتدافعون ليلقوا قبل غيرهم رسائلهم في صندوق البريد وقد كتبوا عليها معجلة وهماً منهم أنهم إذا(26/50)
سارعوا إلى وضعها وكتبوا عليها تلك الكلمة تصل إلى مقصدها قبل غيرها على أن البريد والقدر لا يعطيان على الخاطر ولا يعملان لرضى الناس.
ولكن من يتطالّ إلى نيل كل شيء لا ينال شيء وماذا تجديه السرعة الفائقة للعادة التي تؤذيه وتضعف قيمة كل ما ينوي القيام به. وبعد فلا يفوتنا أن قاطرة بخارية إذا تركت على سرعتها الفائقة تنتهي بها الحال أن لا تمس قضبان الحديد ولا تكاد تقف على الأرض كأنها في الخلاء وهكذا الحال في الأعمال فإن الرجل بكثرة إسراعه في الذهاب يطير ويعثر بالحوادث ويقع فيها وهكذا شأنه في أوجاعه وأفراحه وكل ما يناله. فهو لا يحفل بتأثراته وشعوره ولا يتوسع فيهما بل يمسها مساً خفيفاً لا يأخذ منها ولا يترك ولا يستفيد الدرس النافع الذي يفيده عبرة وحكمة فهو كالريشة بل كالقذيفة الطائشة العمياء تطير على العماية في الفضاء الذي يتقاذفها ويخمد أنفاسها في جميع المحطات التي تقف فيها من الحب والبغض والشر والخير فلا يميز بينها ويخلط فيها إلى أن يناديه داعي الأجل المحتوم فلا يجعل له من الوقت متسعاً يتنفس فيه.
ولا يقولن قائل أني أغالي فيما أقول فالحوادث تؤيد قولي: نحن نأكل سراعاً فلا نهضم. قال مونتين أن الحياة تمضغنا ونحن لا نمضغها بل نبلعها فنختنق أحياناً. نشرب سراعاً ونرسل الطعام إرسالاً إلى معدنا وما الغذاء إلا عمل مقدس نأتيه ونحن جلوس على طرف المائدة في أغلب الأوقات لا نفتح فانا فنتكلم ولا نقول كلماً طيباً ولاسيما في البيوت فإنا نتغدى ونتعشى بأسرع ما يمكن كأننا في مقصف محطة سكة حديدية والمنادي ينادي لم يبق إلا دقيقتان لسير القطار فنأكل ونحن سكون لا نتكلم وقد استغرقتنا الصفحة قبل أن نستغرقها نفكر فيما يهمنا ونحلم فيه وقد عبست جبهتنا وسدت معدتنا وألقينا الطرف إلى أبعد مما نحن فيه بدون أن نأخذ مقعدنا ونتناول الحلواء والفاكهة بل نقوم سراعاً ونهب خماصاً أو بطاناً.
سقى الله أزماناً كان الناس يرتاحون فيها إلى الجلوس على الموائد يتناولون طعامهم وهم يتضاحكون ويتمازحون ويقصون من الأحاديث ما يكون تسلية لقلوبهم وراحة لنفوسهم.
سقى الله أياماً كان أحدنا يسير وأنفه في الهواء وقد تأبط كتاباً. ما هذا الوقاد في القطار الحديدي ألا مهلك المتنزهين في الحقيقة بما خفف عليهم من مؤونة المشي فقد بطلت عادة(26/51)
النزهة في الشوارع والأزقة وباليد عصا وبطلت المظلات أو كادت كما بطلت العصي وبطلت عادة السير على الأقدام وعادة الراحة والغداء على العشب. فأصبحنا والفرد منا إذا جلس على الأرض يصعب عليه النهوض بحيث تخدرت على التوالي أرجلنا ووهنت قوانا. خل عنك تلك المصعدات التي تحملنا من الأدنى إلى الأعلى فقد نزعت من سوقنا قوتها على العمل ومن رئاتنا ما ينفعها في تصعيد السلالم.
ولا أكتمكم أنني كلما زرت بيتاً من البيوت القديمة التي لا تزال محافظة على إدراجها وسلالمها الرخام أجد في الصعود عليها نشأة وتجلى لي الحكمة الغريبة التي اهتدى إليها المهندسون وأنشؤوا تلك الأدراج ليصعد عليها بين الزهور بدون هزة وعلى مهل. وما أحلى ذلك وأنفعه. لا جرم أنه يعينك على أن تجمع فكرك وحواسك قبل أن تقرع جرس دارك أو دار من تزوره وتختلف إليه.
ولم يقف الأمر في سرعتنا عند هذا الحد بل تعداها إلى كلامنا فصرنا نتكلم بإيجاز ولا إيجاز صغار الزنوج في كلامهم. وأمسينا نسرع في نومنا ونقوم مذعورين ونحلم والضغط آخذ منا فنحن في المساء كالصباح لا نحسن الاضطجاع على سريرنا ولا نقرأ والقلم بيدنا نشير إلى ما يجدر نقله واقتباسه ولا نفكر الأفكار النافعة بل نسرع في الراحة أي سرعة.
وإذا رجعنا البصر في الأمور العقلية فإنك تجدنا نفاخر بما يعرض لأفكارنا كل يوم بل كل ساعة من التنوع فقد غدا الكاتب لا يعيد نظره فيما يكتب فنحن مضطرون إلى أن نجيد فيما نكتب كل يوم وكل من لا يؤلف روايتين في السنة أو ثلاث روايات مضحكة يعد مقلاً جاف القريحة. الكتب اليوم لا تؤلف بل تتساقط كما يتساقط الجوز. والغاية أن نكتب ولا عبرة بما نكتب ونتائجه. ومهما كان من اعتبار الإكثار والإخصاب فمن العقل أن نتحرز ونأخذ من عنان الأقلام مخافة أن نمسي للحال كالأم الضعيفة التي تأتي بالأولاد ضعافاً محتقرين. وما كل عمل جميل عظيم إلا ابن التأمل والصبر والجلادة ولطالما كان للوقت تأثير في تجويد الأعمال.
فالوقت جائزة تنال بأسرها والجمال أعظم العوامل فيها. فكما أن الوقت يوجد الجمال وينميه ويقيه العوادي وينحو به مناحي الكمال فكذلك الخرائب لا تكون خرائب إن لم يأت عليها الزمن ويمتد لها إلى ما شاء الله والأيام والشهور لا تكفيها بل يقتضي لها عدد لا(26/52)
يحصى من السنين لتستحق أن تذكر بين الخرائب وأن تخفق فيها الرياح ويثار عليها الغبار ويعبث بها الهواء وينزل عليها الماء والشمس وينبت فيها الطحلب والسندر المعرش وكل ذلك من عوامل البطء والجلادة.
ثم أن الناس أصبحوا يريدون الاستمتاع والانتفاع في الحال وإن يكون لهم أكثر من الدخل قبل أن يضعوا رأس المال وأن يجنوا بعد عشر دقائق من البذر. نقرأ مسرعين هذا إذا تظاهرنا بأننا نقرأ ونلقي نظرة على العنوان والفهرس ونقلب الطرف في بعض صحفات من الكتاب وهذا كل ما نقرؤه أغرقنا في حب العجلة حتى صرنا لا نقطع أوراق كتابنا بيدنا بل نوعز إلى الخادم أو كاتب سرنا أن يقطعها لنا.
أنا لا أجهل ما يجيبني به القارئ فيقول بأن الكتب كثرت وكذلك الجرائد والملاذ والسخرات والواجبات وإن الحياة قصيرة وإن الحال تقضي بأن نسترط الثلاث أو الأربع لقم في لقمة ولكن الحقيقة ليست كذلك فإن الحياة كلما تضاعفت وكثرت بحيث تجزأت كان علينا أن نقتصرها ونضم شملها. فها إنه تصدر كل صباح أربعون جريدة وهذا من جملة الأسباب الداعية إلى أن نزهد في قراءتها وكل أسبوع يصدر خمسون كتاباً ونحن لا نعرف منها إلا عشرها نعرفه أحسن معرفة فإن المفكرين أصبحوا يفكرون بسرعة ففدوا خاصية التفكر.
أصبح الواحد يحب ويبغض سريعاً ويسرع في التصديق كما يسرع في الجحود ويعطي ويمنع كذلك غير مكترث بنصائح الليل ومواعظ النهار. وأخذ الغضب يسارع إلينا ونحن لا نعرف كيف نغضب وعلى من نصب جام غضبنا. وليت شعري من يحتفل بالحب البطيء الصادر من أعماق القلب المتأني؟ ومن يحيكه أحسن حياكة وأمتنها ويبالغ في أحكامها خيطاً خيطاً باليد لا بآلة؟ ومتى نرضى الوقوف والتريث لنذوق طعم المواقف ونجني برسيم السعادة ونجلس هنيهات في الواحات؟
الحياة أقصر طريق يسلك من نقطة إلى أخرى ونحن نريد أن نقتصرها أيضاًَ؟(26/53)
مطبوعات ومخطوطات
غياث الأمم في التياث الظلم
تصنيف إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني المتوفى سنة 478 وضعه في الإمامة وإن قدمه_كتب سنة أربع وأربعين وسبعمائة) ليحملنا على ذكر موضوعه. ومعلوم أن هذا المبحث خاتض فيه الخائضون ومنهم الإمام الماوردي. وكتاب الجويني هذا في مثل موضوعه وقد حمل فيه على الماوردي حملة غريبة واستفدنا منه ما كنا نعرفه عن حرية عصر المأمون قال إمام الحرمين: وقد اتفق للمأمون وكان من أنجد الخلفاء وأقصدهم خطة ظهرت هفوته فيها وعسر على من بعده تلافيها فإنه رأى تقرير كل ذي مذهب على رأيه فنبغ النابغون وزاغ الزائغون وتفاقم الأمر وتطوق خطباً هائلاً وانتهى زلله وخطله إلى أن سوغ للمعطلة أن يظهروا آراؤهم ورتب مترجمين ليردوا كتب الأوائل إلى لسان العرب وهلم جراً إلى أحوال يقصر الوصف عن أدناها ولو قلت أنه مطالب بمغبات البدع والضلالات في الموقف الأهول في العرصات لم أكن مجازفاً.
قال فيه: الحمد لله القيوم الحي الذي بإرادته كل رشد وغي وبمشيئته كل نشر وطي كل بيان في وصف جلاله وحصر وعي بين عيني كل قيصر وكي من قهر تسخيره وسم وكي فاطر السموات والأرض جعل لكم أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيءٌ فالعقول عن عز جلاله معقوله ومعاقد العقود في نعت كماله محلوله. وبعد أن بالغ في وصف كتابه وقدمه لنظام الملك الوزير صاحب المدرسة النظامية ببغداد وغيرها ذكر فيها أبياتاً منها:
وأني لغرس أنت قدماً غرسته ... وربيته حتى علا وتمددا
لأنك أعلى الناس نفساً وهمةً ... وأقربهم عرفاً وأبعدهم مدى
وأوراهم زنداً وأرواهم ظبا ... وأسجاهم بحراً وأسخاهم يدا
وما أنا إلاَّ دوحة قد غرستها ... وأسقيتها حتى تمادى بها المدى
فلما اقشعر العود منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وقال في موضوع كتابه: أقسام الأحكام وتفاصيل الحلال والحرام في مباغي الشرع ومقاصده ومصادره وموارده يحصرها قسمان ويحويها متضمن هذا المجموع نوعان أحدهما(26/54)
ما يكون ارتباطه وانتياطه بالولاة والأئمة وذوي الأمر من قادة الأمة فيكون منهم المبدأ والمنشأ ومن الرعايا الاتسام والتتمة والثاني ما يستقل به المكلفون ويستبد به المأمورون المصرّفون. والكتاب من 130 ورقة تغلب عليه الصحة في الجملة والغالب أنه وقع في يد عالم فصححه.
التلميذ
رسالة في معنى التلميذ للفاضل عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب بحث فيها عن لفظ التلميذ ومعناه في أمهات كتب اللغة فلم يجد فيها ما يشفي فرجع إلى تتبع بطون الدفاتر فوجده في كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري فإنه ساق فيه شعراً للبيد بن ربيعة وفيه هذا البيت:
فالماءُ يجلو متونهن كما ... يجلو التلاميذ لؤلؤاً قشباً
قا التلاميذ غلمان الصناع ووجده أيضاًَ في شعر أمية بن الصلت في قصيدة له قال فيها:
والأرض معقلنا وكانت أُمنا ... فيها مقامتنا وفيها نولد
وبها تلاميذ على قذفاتها ... حبسوا قياماً فالفرائص ترعد
قال شارح ديوانه التلاميذ الخدم وقال أمية في هذه القصيدة:
فمضى وأصعد واستبد إقامة ... بأُولي قوى فمبتل ومتلمذ
قار لشارحه يردي متلمذ أي خادم من التلاميذ وتلمذ جعل للخدمة قال البغدادي ويؤخذ مما مضى أن تاه أصلية وإن له فعلاً متصرفاً هو تلمذه تلمذةً فهو متلمذ بمعنى خادم وذاك متلمذ أي جعل خادماً فأطلق التلميذ على المتعلم صنعة أو قراءة لأنه في الغالب يخدم أستاذه وقول الناس تلمذ له وتلمذ منه خطا.
الكون والمعبد
أو الفنون الجميلة والكنيسة نظم الخورفسقفوس جرجس شلحت السرياني الحلبي وهي أرجوزة في 34 صفحة مطبوعة طبعاً نفيساً بالشكل الكامل وثمنها فرنك تطلب من بيروت.
الطرف الأدبية
هي رسائل كثيرة في اللغة والأدب لمشاهير أئمة العربية عزم محمد أمين أفندي الخانجي(26/55)
الكتبي أن ينشرها تباعاً في أجزاء صغيرة وقد انتهى إلينا منها الآن الجزء الأول وهو يحتوي على كتاب فصيح اللغة لأبي العباس ثعلب وشرحه لأبي سهل الهروي وذيل الفصيح لعبد اللطيف البغدادي وكتاب فعلت وأفعلت لأبي إسحاق الزجاج وهذا لم يطبع حتى الآن فيما نعلم عني بتصحيحها السيد محمد بدر الدين أبو فراس النعساني وشكل محل الأشكال منها وقد جاءت في 188 صفحة متوسطة الحجم حرية بأن ينتفع بها المتأدبون في هذا الوضع الجديد وثمنها مجلدة سبعة قروش وتطلب من طابعها.
محو الألفاظ العامية
رسالة جمع فيها محمد الحسني أفندي مائتين وعشرين كلمة من الكلمات العربية المقابلة لبعض الألفاظ العامية مثل بوفيه فقال أنها الخورنق وسماها بعضهم بالمقصف وسكرتير ناموس وشكمجية فسماها مسفط أو عكم وأورد ألفاظاً مشهورة في الجرائد أو بين كتب الغابرين أو المعاصرين مثل صيدلاني للأجزاجي ومستشفى أو مارستان للاسبتالية وقفاز للكف وبالتركية الدون وغرفة أو حجرة لأودة ومرفأ أو ميناء للأسكلة وقمطر لدولاب الكتب ورتاج لخوخة الباب وسماد للسباخ وفرلسان للسواري ورجالة للبيادة وحبذا لو يكثر استعمال من نشر مثل هذه الألفاظ بكمية أوفر ينشرها في الجرائد والمجلات ليثبت صحيحها بالاستعمال أو يسقط.(26/56)
سير العلم والاجتماع
عرب الدنادشة
يبحث بعض العلماء عن أصل قبيلة الدنادشة الساكنة في متصرفية طرابلس الشام فتشوقت لمعرفة أخبار حقيقية عنهم فأتحفني بعض سكان تلك الجهات بالتفصيلات الآتية فالرجاء إدراجها في مجلتكم خدمة للعلم.
كان جد عشيرة الدنادشة من اليمن جاء البلاد الشامية ونزل بحوران منذ نحو ثلاثمائة سنة وساد على تلك البلاد حتى لقب بالفحيلي وأكره العربان الضاربة خيامها هناك أن يدفعوا له خوة ومنع العرب من غير حيه من المرور بأراضيه إلا إذا دفعوا له رسوماً مقطوعة من المواشي ولقد أهان مرة أحد مشايخ عشيرة من العرب يدعى المساليخ من الحسيني فاغتاظ هذا وعمل على كيده فأتى يوماً وعرض عليه حضور جميع شيوخ عشيرة الحسين ليعطوه عهداً بالخضوع له فقبل بذلك ولما وصل القوم هجموا عليه وذبحوه في بيته وفتكوا بجماعته ونهبوا متاعهم وفر من بقي منهم وأتى إلى جهات قضاء حسن الأكراد وسكنوا في مكان يدعى الآن برج الدنادشة وهو فق تل كلخ مسكنهم الحالي وكان إذ ذاك مأهولاً بجماعة من المتاولة والتركمان فطردوهم واستولوا على محالهم ورئيسهم على ذاك العهد رجل يدعى الشيخ إسماعيل على جانب عظيم من البسالة والشجاعة فأعطته الحكومة لقب آغا ووهبته خمس قرى وهي الفتايا والحوز ومدان وحير البصل والموح التابعة لقضاء حمص وبموجب فرمان من السلطان محمد خان الرابع عهد لإسماعيل آغا وجماعته بالمحافظة على تلك النواحي.
أما لقب دندشلي فقد سماه التركمان ممن لا يزال لهم إلى الآن بعض قرى يسكنونها في القضاء المذكور وذلك أن إسماعيل كان يتقن زينة خيوله ويجللها بأقمشة لها أطراف ودنادش فلذلك أطلق عليهم هذا الاسم ولم يبرحوا يلقبون به حتى اليوم وبعد أن سكنوا مدة قرن في تل كلخ رجع أحد أخوان إسماعيل آغا مع قسم من قبيلته إلى حوران وبقي فيها واسم عشيرته الفحيلية وفي كل سنة يأتي من حوران جمع من الفحيلية لزيارة الدنادشة في ديارهم ويتوجه آخر من تل كلخ إلى حوران. والدنادشة الساكنون في جهات الهرمل ليس لهم قرابة مع دنادشة تل كلخ هؤلاء سنية وأولئك شيعة.(26/57)
ثم ظهر ثلاثة أخوة من الدنادشة لهم شهرة مستفيضة واسم أحدهم حمزة آغا والثاني إبراهيم آغا والثالث حمود آغا فأحبوا تقسيم أملاكهم لمنع الشقاق بينهم فألقوا قرعة وتفرقوا فبنى حمزة محلاً وسكن فيه فدعاه باسمه أي مشتى حمزة وسكن إبراهيم قرية تل كلخ وسكن حمود في محل سماه مشتى حمود وأسماء هذه المحال التي أصبحت الآن عامرة بذ ريتهم ما فتئت باقية إلى اليوم وكل من هؤلاء الثلاثة أصبح مديراً ولكل قرية الآن من هذه القرى رئيس من نسل الأخوة الثلاثة الأكبر فالأكبر ورئيس الجميع يسكن تل كلخ لأنها أهم منازلهم وهي واقعة إلى جنوبي قلعة الحصن مركز القضاء الآن تبعد عنه نحو ساعة ونصف على طريق العجلات الممتد من طرابلس إلى حمص وأما مشتى حمزة ومشتى حمود فموقعهما شرقي تل كلخ وعلى مسافة زهاء ساعتين منه. ورئيسهم في تل كلخ اليوم هو على جانب عظيم من الكرم ودماثة الأخلاق محب للفقراء والمحاويج بيته مفتح أبواب لكل من قصده وهو عبد الله آغا وله من العمر نحو الستين أو أكثر ومنازل الآغوات مبنية على نسق الجديد ومنها ما كلف ألوف الليرات وأملاك الدنادشة كثيرة ومتسعة لاسيما أراضيهم في سهل البقيعة المشهور بخصبه وأكثر خبزهم من طحين الذرة الصفراء وقلما يستعملون دقيق الحنطة. ولكل من الأغوات مضافة لقبول الزائرين ومن عاداتهم أن لا يتناولوا طعام الصباح والمساء مع حريمهم بل يأكلون في مضافاتهم وجد فيها ضيوف أم لم يوجد. ولهم ولع عظيم بركوب الصافنات الجياد يعنون كثيراً بتربيتها وقل فيهم من لا يركبها ويتفنن فيها وعند محمد بك صاحب بيت تل كلخ فرس أصلها حمدانية زرقاء اللون لا يبيعها ولو دفع له فيها خمسمائة ليرة وعند ركوبهم يحملون الرماح والسيوف وفي أعراسهم يدقون الطبول وينفقون على خيولهم وأفراحهم نفقات باهظة. وفي منتصف حكم السلطان محمد خان الرابع الذي جلس على تخت السلطنة سنة 1059 منحهم فرماناً بملك القرى المذكورة آنفاً.
بيروت
جرجي ديمتري سرسق
تحريف الأعلام
كتب الأستاذ نالينو مدرس اللغة العربية في كلية بلرمة حاضرة صقلية رسالة بالإفرنسية(26/58)
في نشرة الجمعية الجغرافية الخديوية في مصر سماها (إعلام البلاد في بلاد الإسلام) أتى فيها بأمثلة كثيرة على تحريف بعض الأعلام في كتب الجغرافية والتاريخ والمصورات الحديثقة تحريفاً يلتبس به وجه الصواب ويضيع به تصور مواقعها وتاريخها وأصلها على وجه الصحة وقال أن المشتغلين بالعربية من الإفرنج قد لا يهتدون إلى كثير من المواقع إذا نظروا في تلك المصورات الحديثة وقابلوها بما كان كتاب العرب يطلقونه عليها فذكر من ذلك أمثلة غلط فيها بعض علماء المشرقيات فادعى أن لفظ المولوية المستعمل في حكومة مراكش مضافاً كالحضرة المولوية أو المقام المولوي جاءت من ملويا وهو أهم نهر في بلاد مراكش يخرج عن حكم السرة المالكة ولذلك يطلق سلاطين المغرب على أنفسهم الأمراء المولوية ليؤيدوا حكمهم على تلك البلاد التي يجتازها النهر. وقال والحقيقة أن قولهم الحضرة المولوية مشتق من المولى ولفظ النهر ملوية وذكر كيف أن بعضهم حرف لفظ (تل العمارنة) فجعلها (تل أمرنا) عند الترجمة وأنه وقع في كتاب في التاريخ والأدب قررته نظارة المعارف المصرية سنة 1893 من الأغلاط الشائنة في أسماء الأعلام ما حرف التاريخ ولا سيما فيما تيعلق بجزيرة العرب ومثل ذلك بأنه جاء فيه (زادة) بدل (صعدة) و (دراما) بدل (ظرما) و (زهاد) بدل (صحار) و (بجا) بدل (بيشة). ثم ذكر أمثلة لذلك من المصورات الجغرافية فقال أنهم حرفوا اسم ذوي متيع وهي قبيلة مشهورة في المغرب الأقصى وجعلوها دوي منية وحرفوا لفظ نهري صا ومسون فقالوا زا ومصون وحرفوا اسم قبيلة بني يزناسن فقالوا بني سناسن وقالوا عن سهل تفراته تافراطا وحرفوا أبت سغروشن وأيت شخمان في بلاد المغرب فقالوا أيت سورشن وأيت شكمان نقلاً عن المصورات الفرنسوية ولفظة ضاية مستعملة في الجزائر للقيعان التي يجتمع فيها ماء المطر في الشتاء بلفظ داية وكيكو بجيقو وغياثة برياطة ومكس بمكاس والنجاة بنجا وارضم بردم وبهت ببجط وصفر بسفر ومدينة وازان بوزان وقبيلة غصاوة بغزاوة وتافيلالت بتفيللت وتعلالن بتيالالين والرتب بالرطب ومرغاد بمراد وتادغوست بتدروشت وتدغة بطدرة وعطة بأطا وتيزيمي بتزيمى. وقال أنهم حرفوا في الأعلام المغربية بششاون وتسنت بتيسينت وسكتانة بسقطانة ومجاط بأمجات وكليميم بأوقليميم وسكسيوة بسقصاوة والشياظمة بالشيادمة ورهونة برحونة وكرفط بقرفيت وتسول بتصول وزيان بزايان(26/59)
ووزغت بواويزت وكرط بقرط وشالة بشلة وقرباطة ببرج غربالة وسيدي صيد عقارب (محل في تونس) بسيدي العقاربة ويونقا بعنقا وبلاد الحضر ببلاد الحيدر وتبلبو وكتانة وعرام بطبلبو وكتنة والعرم وهداج وشعبة السماعلة وغنوش بحديج وشابة الزمالة وقنوش وطبرقة بتبرئة وتوكابر بتكابر ومكتار بمثر وجبل ساغرو بجل سارو والخيثر بالكريدر وخنق النطاح بكاركنتا والسوارقية بالسويرجية والأكرة بالعكرة والشرفة بالشرفا والخضيراء والصفينة بالخضيرة والسفينة. وقال أن المصورات الجغرافية والكتب المطبوعة في علم تقويم البلدان المترجمة حديثاً في الأستانة وسورية مملوءة بالأغلاط الشائنة ولذلك تجافى عن نقل شيء منها لتفاهتها وأن خير طريقة يعمد إليها لإصلاح هذه الأعلام ورد كل شيء إلى أصله العربي عند الترجمة أن تنظر مصر في ذلك لأنها مجمع العالم الإسلامي وفيها صفوة من رجال العلم من المسلمين الذين يساعدون بمعارفهم في هذا السبيل كما أن فيها المجمع المصري والجمعية الجغرافية الخديوية التي ساعدت كثيراً على ارتقاء المعارف الجغرافية.
الحكومات والأوبرات
تعطي حكومة برلين للأوبرا الألمانية 1. 125. 000 فرنك وتعطي حكومة باريز 800. 000 وحكومة درسد 600. 000 وحكومة فيينا 600. 000 وتعطي حكومة مصر 125. 000 لجوق الأوبرا ولكنه أوروبي يمثل في الشتاء لتفكهة السياح فقط.
جرائد العالم
تبين أن في إيطاليا 3330 جريدة وجلة منها 134 يومية تقسم إلى أقسام في مبادئها منها 3232 من حزب رجال الدين و295 من المحافظين و260 من الاشتراكيين وفي ألمانيا 5500 جريدة ومجلة وفي فرنسا 2819 وفي إنكلترا نحو 2500 وفي النمسا والمجر 1200 وفي روسيا 800 وفي سويسرا 450 وفي الولايات المتحدة 50000 (كذا) جريدة ومجلة.
عاصمة الألمان
يطعم المجلس البلدي في برلين الأولاد الفقراء ويكسوهم ولذلك لا ترى في شوارعها شحاذين فتيان يدعون كما في بعض عواصم أوروبا أنهم يبيعون جرائد أو زهوراً وإذا(26/60)
شاهد الشرطي ولداً يدخن يتقطع له اللفافة وهي في فمه.
العمل بالأيدي
أبان تقرير العمل في الولايات المتحدة الفرق بين ما تكلف بعض أصناف التجارة إذا صنعت بالأيدي أو بالأدوات فظهر لها أن عشرة محاريث زراعية إذا أريد صنعها بالأيدي يشتغل فيها عاملان يعملان فيها أحد عشرة نوعاً من الأعمال ويصرفان 1180 ساعة وتكلف 272 فرنكاً أما بالآلات فإن هذه العشرة محاريث يعمل فيها 52 عاملاً يتعاطون 97 عاملاً مختلفاً يصرفون في صنعها 37 ساعة فتكلف 39 فرنكاً. وأن المئة زوج من النعال ليصنعها عاملان بأيديهما فتكلفتهما ألفي فرنك ولكن إذا صنعت بالآلات يعمل في صنعها 113 عاملاً فتكلف 117 فرنكاً وهكذا فإن تقسيم العمل بفضل الأدوات والآلات الحديثة أعظم وفر ودخل.
العلم في مصر
صدر الأمر الخديوي بأن يخصص من الأوقاف الخيرية مبلغ خمسة آلاف جنيه مسانهة لمشروع المدرسة الجامعة المصرية المزمع إنشاؤها في القاهرة. ووقف الأمير حسين باشا كامل زهاء 76 فداناً من أطيانه في البحيرة على مدرسة دمنهور الصناعية وإيراد كل فدان ثمانية جنيها في السنة فيكون قيمة ما أعطاه عشرة آلاف جنيه كما أن قيمة العقارات والأطيان التي خصصت مداخيلها للجامعة تساوي مئة ألف جنيه بحسب وارداتها. ولا يزال الأربعة عشر مديراً من مديري القطر يتفننون في تشويق علية القوم لإنشاء الكتاتيب على أساليب مختلفة فبارك الله بهذه النهضة العلمية المنتجة.
السياح ونفقاتهم
كثير من البلاد تنتفع بالقادمين عليها كل سنة للسياحة ومنها سويسرا في أوروبا ومصر في أفريقية فإن القطر المصري يربح كل سنة نحو مليون وربع من الجنيهات من المال الذي يصرفه فيه السياح. وقد ذكرت مجلة المجلات النيويوركية أن السياحة من أعظم المساعدات على انتقال المال من يد إلى أخرى فقدرت ما يصيب فرنسا كل السنة من القادمين عليها ن السياح بمليارين ونصف مليار فرنك ويصيب إيطاليا خمسمائة مليون فرنك وقد زار سويسرا سنة 1906 أربعمائة ألف سائح فصرفوا فيها مائة وخمسين مليون(26/61)
فرن. وقدر عدد الأميركيين الذين كانوا في أوروبا هذه السنة بمئة وخمسة وعشرين ألفاً على مئة وخمسين ألفاً نالت من مالهم إنكلترا 125 مليون فرنك ونالت فرنسا ثلاثة أضعاف ذلك ونال ألمانيا 125 مليوناً وإيطاليا 250 مليوناً فالارتحال هو من الدواعي الكبرى في نقل المال ومن أعظم المنافع في الحياة الاقتصادية.
البيض
قدر بعضهم أن محصول البيض في أوروبا يبلغ في السنة أربعة مليارات وأربعمائة مليون بيضة وزعم أن ما تخرجه إنكلترا هو أحسن بيض ثم يجيء بالجودة بيض فرنسا فالدانيمرك وقال أن مجموع ما يتجر به في إنكلترا وخارجها من البيض الإنكليزي يبلغ مليارين ومائتين وسبعين مليون بيضة تساوي ستة ملايين جنيه وترسل روسيا إلى إنكلترا كمية وافرة من البيض إلا أن بيضها دون بيض بريطانيا بجودته ومح بيض إسبانيا من أجمل بيض في العالم والرديء من البيض يدخل المعجنات.
المسكرات
ثبت أن المسكرات في أوروبا هي السبب في موت ثلث الوفيات وقد قدم بعضهم إلى المجمع الطبي الباريزي رسالة يقول فيها أن الكحول هو السبب الرئيسي في عشر الوفيات والسبب المساعد على أكثر من اثنين في العشر الآخر فهو من المجانين سبب هلاك نصفهم وتأثيره في الرجال أكثر منه في النساء.
الضرائب والموظفون
ترى بعض المجلات الباريزية أن فرنسا إذا ألغت وسام جوقة الشرف توفر عليها ملاً يوازي ما تتقاضاه من الضريبة على الثقاب (عيدان الكبريت) فإن عندها 45 ألفاً يحملون هذا الوسام منهم 30 ألفاً من رجال الجندية يتناول الفرد منهم راتباً يختلف بين 250 إلى 3000 فرنكاً والباقون ملكيون. وقد بلغ عدد الموظفين في فرنسا 870589 موظفاً وقريباً يبلغون المليون فماليتها محتاجة لمئة ألف موظف وحربيتها لمئة وخمسين ألفاً منهم 35 ألفاً من الضباط الموجودين وإدارات البريد والبرق لمئة ألف والمعارف لمائة وثلاثين ألفاً وفي نظارة الخارجية 918.
زيت البترول(26/62)
لم يكثر منذ عشرين سنة من المواد الأولية غير صنف واحد وهو زيت البترول فقد كان محصوله سنة 1888 في العالم أجمع ستة ملايين طن فصار سنة 1897 خمسة عشر مليوناً وارتقى في السنة الماضية إلى ثمانية وعشرين مليوناً ويرجى أن يكون الاعتماد على البترول أكثر من غيره إذا ظلت العناية بالأتوموبيل متوفرة حيناً بعد آخر.
أشد البقاع حرارة
قالت إحدى المجلات الباريزية أن أشد الأصقاع حرارة في العالم هو مدخل الخليج الفارسي في جزيرة كشم العظمى لا يكاد الإنسان يستطيع أن يسكن هناك لشدة الحرارة إلا أن فيها أناساً مشتتين هنا وهناك لا يكادون يخرجون من أكواخهم المبنية بالطين ويتغذون بالأسماك خاصة ويمكن لسكان تلك البلاد أن يسكنوها من شهر نوفمبر إلى مارس وقد كان أقيم فيها محطة للسلك البحري فترك بعد ذلك لأن جميع المستخدمين قضوا نحبهم حرقاً بالشمس وبعضهم فروا ولكنهم جنوا. وقد جرى البحث في خلال المفاوضات التي جرت مؤخراً بين إنكلترا وروسيا على أن تنشأ فيها إصلاحية إلا أنه لم يتيسر تحقيق هذا الفكر إذ لم يرض أحد أن يحكم على نفسه بالموت في تلك النار المحرقة ولو مهما كانت مشاهرته.
الحيوانات البائدة
بادت عدة أجناس من الحيوانات في بعض أصقاع الكرة الأرضية بعد أن كانت فيها كثيرة ومن العجيب أن العلماء يبحثون عن الحيوانات النافعة فلا يجدون لها أثراً واختلفت آراؤهم فيما إذا كانت تنسب هذه الإبادة للإنسان أم لفطرة الوجود ومعظمهم على أن للسببين يداً في قرض الحيوانات فقد كان في جزيرة سان توما إحدى جزائر الأرخبيل التابعة للدانيمرك أربعة عشر نوعاً من الأيائل لم يبق منها الآن غلا ثمانية ولم يبق من البائدة غير وصفها الذي وصفها به السائحون إلى تلك الجزر، وقد كان شأن قارة أفريقية من هذا القبيل أتعس من شأن القارات الأربع الأخرى كما كان شأنها في استيلاء الغريب على معظم أصقاعها. فقد كان من أمر الملعب الروماني المدعو كوليزة في رومية أن كانت تعرض فيه الحيوانات الكاسرة خصوصاً فكان بذلك انقراض بعض الأجناس التي كانت في هذه القارة السوداء. أما قارة آسيا فقد نجت حيواناتها أكثر من أفريقية اللهم إلا جنساً واحداً من الحيوانات وهو الفرس الوحشي ذو اللون الشهب. ومنذ عهد شارل الأول لا يرى أثر للخنزير البري ومنذ(26/63)
سنة 1860 لا يرى أثر للذئب في إيكوسيا وكان آخر ذئب وجد في إيرلاندا منذ ثلاثين سنة.
المال في أمريكا
اشتدت العسرة المالية في أميركا حتى أقفلت معامل كثيرة وأفلست بيوت تجارية ومالية بالمئات واضطر كثير من الأوروبيين إلى العودة إلى بلادهم حتى بلغ عدد من هاجروا منها في الشهور الأخيرة نحو مليون رجل وقد نسب بعض الاجتماعيين هذه الأزمة لاجتماع رؤوس الأموال في أيدي أفراد وهو ما توفر الرئيس روزفلت في عهد رئاسته الثانية على مكافحته أشد كفاح على ما يظهر لمن يطلع على الجرائد السيارة ويؤخ1ذ في إحصاء جرى سنة 1903 أن إثني عشر في المئة من مجموع ثروة الولايات المتحدة بيد مديري احتكار الفولاذ أو ملوكه فهم يديرون نصف الخطوط الحديدية في أميركا الشمالية ولهم أهم سلك تلغرافي وهم مديرو خمس شركات كبرى للضمان ويملكون كثيراً من المناجم والمقالع وغيرها ويديرون احتكارات يتجاوز رأس مالها التسعة مليارات دولار أي ما يوازي الدين العام في إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة إذا أضيف معاً وهؤلاء المديرون أو المحتكرون هم أربعة وعشرين رجلاً زعيمهم مورغان وهو وركفلر صاحبا القول الفصل ومن أكبر قادة الأموال وهكذا الحال في انضمام السكك الحديدية واحتكارها فقد كان عدد الشركات في الولايات المتحدة سنة 1904 اثني عشر ألف وعشرين شركة فيها 327851 مساهماً منهم ثمانون ألفاً من الأهالي فقط، وفي الولايات المتحدة سبعة آلاف رجل يملك كل فرد منهم زهاء مليون ريال ويدعون أصحاب الملايين.
الأعمال في إيطاليا
تشكو إيطاليا من دائين كثرة المحامين عندها وقلة المهندسين فقد بلغ طلاب الحقوق فيها هذه السنة نحو عشرة آلاف طالب وطلاب الطب نحو خمسة آلاف وبلغ طلاب الأدب ألفاً وخمسمائة طالب ومثلهم طلاب الهندسة. وتطلب نظارة الأشغال هناك مهندسين وميكانيكيين فلا تجدهم حتى تعطلت هذه السنة بعض المسابقات التي فتحتها لطالبي الدخول لقلة الأكفاء المتعلمين.
أفكار في الشقاء(26/64)
كتب فريدريك باسي الذي عربنا له مقالة القضاء على الشقاء في هذا الجزء مقالة افتتاحية في مجلة الاقتصاد الاجتماعي العامية فآثرنا تعريبها وضمها إلى أختها السالفة بياناً لتفنن الإفرنج في الكتابة في موضوع واحد قال فيها ما ترجمته: يقول علماء الأخلااق المتدينون أن كل شر ينشأ من الخطيئة فهم على سداد إذا أريد بالخطيئة كل ما من شأنه الخروج عن القوانين التي يجري عليها نظام الأخلاق ونظام الماديات في العالم. ومن المحقق أن ثمت شروراً لسنا نحن السبب فيها كالعواصف والزلازل والفيضانات والحرائق والأوباء وآفات الفلك التي تأتي على الغلات وتنقص الثمرات. ومن هذه المصائب الطبيعية ما نستطيع التوقي منه أو من تقليل أثره فينا إلى حد محدود. وأن كثيراً من الحرائق والأمراض وأنواع الهلاك هي نتيجة غفلتنا فإذا لم نستطع أن نعرفها قبل وقوعها ففي وسعنا أن نقلل من تأثيرها إذا ضمننا الضامنون وتعهد لنا المتعهدون فاتقاء الفيضانات يكون على الجملة بإقامة السدود وإصلاح مجاري المياه وتمكن الوقاية من الأنواء بالدخول إلى المرفأ او بالابتعاد عن الشواطئ الخطرة عملاً بما تنقله الأسلاك البرقية والأسلاك البحرية من الأخبار الواجب تصديقها. وتحمي الغلات والثمرات من بوائق الجو بما يعلم من الإشارات التي تؤخذ عن المراصد الجوية المؤذنة بقرب الزعازع وتتقى الأمراض بالامتناع عن التعرض لموجبات العدوى على غير ضرورة.
وتتأتى النجاة من معظم أسباب الفاقة والألم إذا صحت عزيمة المرء وقويت إرادته لأن أغلبها صناعي غير طبيعي فالكسل هو الذي يضيع الوقت والفراغ وهو الذي يسيء استعماله ويصرفه فيما لا ينتج وأعظم من ذلك استعماله فيما يؤذي النفس والغير ولا يعود منه فائدة على عامل أخرق جاهل لا نفاذ في بصيرته ولا مضاء في عزيمته فقد يصرف بعضهم في المشروبات الضارة التي تنهك الصحة والعقل بقدر ما يدفعون إلى خزانة الحكومة من الضرائب عن يد وهم صاغرون متململون بل أكثر بكثير. وقد يقضون أوقاتهم وهم يتفرجون على الخيل تعدو مسرعة وهم لا يعرفون منها أعيانها ولا أعيان أصحابها ويحضرون تمثيل روايات أو يستمعون لشتائم وسباب ويصرفون أياماً وليالي كان في وسعها أن يقضوها في عمل مثمر.
ترى بعضهم يلقون بما لهم من المضاربات والمراهنات التي كثيراً ما تكون ضرباً من(26/65)
ضروب السرقات المدبرة. يأتي المرء هذه المنكرات بسائق الجهل ويرمي بنفسه في هذه المهالك التي كان في وسعه اتقاؤها فلا يظلم نفسه فقط بل يظلم المجتمع بما يرتكب من سخف ليس هو إلا اعتداءً عاماً هائلاً يورث تلك المجتمعات التي هو أحد أفرادها ضعفاً في رفاهيتها ونقصاً في ثروتها بل إنهاكاً لقواها ودفناً لحياتها. ليس من العقل في شيء أن يسوق المرء نفسه إلى مواطن الهلاك ويفادي بروحه وروح جيرانه بما يبذله من أحسن موارده المالية وقواه الكثيرة فيروح بعد ذلك ينفق على سعة على الجيوش المؤلفة من شجعان الشبان يرابطون على الحدود ويعهد إليهم أن يطردوا عن تخطيها كل وطني أو غريب يريد دخولها وهو يحمل أطعمة للجائعين وألبسة للعريانين وأدوات وآلات لمن لا سلاح لهم مواد أولية لمن يستخدمونها وسماداً للأراضي التي ضعفت قوة إنباتها ومواد كيماوية للأعمال الصناعية المختلفة. ولو حسن استخدام تلك الساعات الضائعة أو التي تصرف في الباطل والمواد أو الثروة المبددة للقضاء العام على بني الإنسان وبذل ذاك النشاط الكثير ووجهت وجهة العلم نحو الغاية المقدسة التي تطلب من تحسين حالة البشر والبعد بهم عن فساد الأخلاق والتباغض ـ لو تم كل ذلك لما صعب أن يقدّم لعامة من خانهم دهرهم ما يتبلغون به بل ما يصل بهم إلى الرفاهية والاحترام والسعة.
نعم ادعُ ما تقدم بما شئت من خطيئة أو جهالة أو جنون فالشر كل الشر الذي ابتلينا به إنما جاءنا من قبل أنفسنا إلا ما حدث بحسب الظاهر قضاء وقدراً ولكن يمكن على الجملة التعديل من حاله أو ما نشأ من البوائق الخارجية التي هي مناط عملنا وبيدنا أمرها. قالوا قديماً أن المرء لا يموت إلا إذا كانت له إرادة في الموت يريدون بذلك إثبات قوة الجهاد الأدبي. الشعوب لا تتألم إلا بسيئات ترتكبها وهي تنزع الشقاء من أساسه متى عرفت أو أرادت أن تقاتله بالفعل.
صناعات الملوك
رأى بعض ملوك الأرض أن الحكمة تقتضي عليهم بأن يتجروا لأنفسهم ويدخروا المال للطوارئ ولذلك كان مما يملك ملك إنكلترا سكة حديدية في الكندا ولإمبراطور ألمانيا معظم الأسهم في مجلتين تأتيانه بواردات وافرة ولملكة هولاندة مزرعة واسعة في قصرها في لو وللبابا مبالغ جسيمة وضعها في مصرف إنكلترا لحين الحاجة. ولكن بعض ملوك الإسلام(26/66)
كانوا لا يرون أن يتجر الملك ويزارع فكان أدنى فرد في حواشيهم يملك مالاً أكثر منهم لأن هذا من شأن الرعية ومن ملك الرقاب يعاب عليه أن يملك المال والعروض ومن أخذ الممالك لا يجمل به أن ينلك قطعة أرض منها. هكذا كان شأن كثيرين ومنهم صلاح الدين يوسف ونور الدين محمود بن زنكي. وفي التذكرة الحمدونية أنه كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعها وهو واليها فحدثه محمد بن كعب القوطي عن النبي عليه السلام أيما عامل تجر في رعيته هلكت رعيته فأمر بما في السفينة فتصدق بها وفكها وتصدق بخشبها على المساكين.
الفولاذ والحديد
إذا برد الجو كثيراً ونزلت درجة الحرارة إلى 20 تحت الصفر تقل مقاومة الفولاذ خمسة أسداس ما كانت عليه من قبل وقد ثبت في الجليد الأخير أنه تتحطم الخطوط في السكك الحديدية والتراموايات فيتكسر الحديد المصفح كما يتكسر الزجاج ولا سبيل إلى ملاقاة ذلك إلا بإحماء الخطوط كأن يصب عليها ماء حار للغاية وإلا كانت حياة الركاب في القطارات التي تمر بعد ذلك عليها في خطر مبين.
مضار التدخين
ثبت أن الدخان أو التدخين يضر بالنساء أكثر من ضرره بالرجال ولاسيما في أبان حملهن وحبلهن فكثيراً ما كان بعضهن يسقطن الحمل من رائحة الدخان حتى ن بعض النساء المستخدمات في معامل الدخان كن يسقطن حملهن قبل الأوان وإذا ولدن فلا يولدن إلا أولاداً مشوهة صورهم وكثيراً ما يموتون صغاراً جداً قبل غيرهم من الأولاد قال العالمان اللذان أثبتا ذلك وعلى هذا فيجب على الأطباء أن ينبهوا الحبالى ألا يدعن أثناء الحمل إن كن ممن يدخن.
فقر الشعراء
مات في لندرا منذ ثلاثة أشهر في مستشفى المجاذيب شاعر اسمه فرنسيس طومسون كانت حياته على أدب فيه أشبه بالشاعرين جيلبر الفرنسوي وشاترتون الإنكليزي فقد كان أبوه طبيباً في منشستر فأراد أن ينصرف لتعاطي الكتابة وقد تخلى عنه أبواه فعاش في لندن(26/67)
عيشة ضنكى فتعاطى أولاً بيع الثقاب (عيدان الكبريت) ثم صار بواباً ثم خادماً في أبواب دور التمثيل وقد عزم ذات ليلة أن يسمم نفسه إلا أنه ذكر قصة شاترتون الشاعر الذي سمم نفسه وما جرى له فعدل عن ذلك ولم يعلم أن السعادة كانت في انتظاره في الغد وقد تناول جائزة عن قصيدة نشرتها مجلة إنكليزية وبعثت له بها وبعد ذلك أخذ يكتب وينظم ونظم أغنية سماها غروب الشمس لم ينظم أحسن منها منذ عهد شيلي كما قال بذلك كبار النقاد إلا أن عقله قد أصيب بشيء من الخلل فقضى في مستشفى المجاذيب. وبعد هذا فلا يحسبن أحدٌ أن جميع الشعراء والكتاب ينامون في الغرب على فرش من ورد كما يقول الفرنسيس بل طالما أقض مضجعهم وخوى مربعهم.
العملة
كتب أحدهم في مجلة إنكليزية أن العملة يزداد اتحادهم في القيام على أرباب الأموال في الغرب فالنازعون إلى هذه الثورة هم ثلاثة ملايين عامل في ألمانيا ومليون في فرنسا وثمانمائة ألف في النمسا وأربعمائة ألف في روسيا وثلثمائة ألف في البلجيك ومائتان وخمسون ألفاً في إيطاليا ومائة ألف في إنكلترا ومئة ألف في سويسرا وخمسة وثلاثون ألفاً في الدانيمرك وخمسون ألفاً في السويد وأربعون ألفاً في هولاندة وثلاثون ألفاً في إسبانيا.
الكبراء وما يشربون
طلب أحد كتاب الفرنسيس إلى كبار كتاب بلاده وعلمائها وشعرائها والمتفننين فيها يسألهم ما يعولون عليه من المشروبات فكان معظمهم على أن الماء هو خير ما يتعاطاه الإنسان وقد نشرت المجلة الباريزية أجوبتهم فجاء في اجوبة العازفين عن المشروبات الروحية كلمات حري بكل شرقي يقلد الغربيين فيما يشكون منه في العادات أن يعتبر به فمن لا يتعاطون الكحول إلا في الندر: جول كلارسي فهو لا يرى أنها تفيد في فتح القرائح وتوقد شعلة الذكاء كما يدعي من يتعاطون المسكرات ومثله أرنست هربرت وكاميل فلاماريون وأميل زولا وسولي برودوم وماسنيه وجول لميتر وهنري لافدان وفيكتورين ساردو وموريس بولينا وبول بورجه وأدمون هاركور ودالو وبول وفيكتور مارغريت وبنيامين كونستان وبيرلوتي وأوجين كاريير وأميل أوليفييه. ويكاد أن يكونوا كلهم مجمعين على أن الكحول مضر حتى القليل منه والأحسن الامتناع عنه دفعة واحدة.(26/68)
الصينيون واليابانيون
كتب أحدهم في بعض المجلات الإفرنجية الكبرى مقالة قابل بها بين الصينيين واليابانيين فقال أنهم ليسوا من عنصر واحد فالأول من عنصر مغولي والآخرون من عنصر ماليزي واختلافهم في الأصول كان سبب اختلافهم في الفروع أي العادات والأخلاق وكان من اليابانيين أن تحرروا من قيودهم وقبلوا المدنية العربية لأنه لم يكن لهم مدنية أما الصينيون فهم ما زالوا يتناغون بمدنيتهم ويعتمدون على قوتهم ولهم من معتقداتهم ما يتفانون معه في الخضوع للكبير والفناء فيه. ومن القواعد المتبعة في شريعة كونفشيوس أن تكون الشفقة الأخوية أساس كل عمل فالشفقة تجمع بين الأب وأولاده والشفقة تربط بين الملك ورعيته والشفقة تجمع بين الزوج وزوجته والشيخ والفتى والصاحب وصاحبه. والصينيون يرضون بالقليل ضعاف الإرادة لا شجاعة فيهم ولا يحبون أن يلقوا بأنفسهم في المخاطر والمخاوف ولئن أخذوا الآن يعملون في تقليد الأوروبيين في الجندية فإن أمر تشبههم بالأوروبيين يطول ويصعب دخول المدنية الغربية عليهم.
وعلى العكس في اليابانيين فإنهم من عنصر منوع فكرياً يفكر الياباني فيما تعرضه عليه من الأفكار ويحاول أن ينقل عنك ما يليق بالمتمدنين أن يعملوه من العادات والأخلاق والأفكار وهو يتروى في كلامه فيزنه في ميزان التعقل ولا سيما أمام الغريب عن جنسه واليابانيون ليسوا خفافاً في حركاتهم فلا ييأسون ولا تسمع لهم صوت تألم وقد يموت الياباني ولا تسمع له ركزاً بل تراه باسماً والرضا هو أساس طبيعته ولا ترى الياباني متجبراً غضوباً وإذا غضب فلا يغضب إلا عن سبب قوي جداً ولا يهرق في سيبيل غضبه دماً. ولئن أخذ بعض العملة في بلاد اليابان يعتصبون الآن إلا أن اعتصابهم ليس كاعتصاب العملة الأوربيين قد يؤدي إلى الخصام وتجريد الحسام بل أنه ينفض في يومه. الياباني فرح مسرور في حاله يعتاد كل عيش مهما كان فيه من الشظف والقلة والتعب والنصب هذا ولا يفوته أن هناك مطالب سامية وعيشة راضية أكثر مما هو فيه ولا ترى الياباني ينتحر من أجل شيء إلا إذا أصيب بما يثلم شرفه فيختار أن ينتحر على صورة لا يسمع به أحد. واعتقاد اليابانيين بتناسخ الأرواح هو سبب غلبتهم الروس في كوريا ومنشوريا والتناسخ عندهم بعد موت الإنسان يكون على ست صور فإذا كان الميت ممن(26/69)
عاش في تقى في الحياة الدنيا تنتقل روحه أو تتقمص في جسم أمير أو شريف أو رئيس أو وزير وإذا لم تكن سيرته حسنة في الدنيا تتقمص روحه في أجسام أيامى ويتامى وعميان وعجزة وإذا كان رجلاً شريراً تتقمص روحه في جسم حصان أو حمار أو دابة تكفيراً عن سيئاته وإذا كان بين بين في الشر والخير يتقمص كالطيور الداجنة أو سمكاً أو غيره من حيوانات الماء أو هواماً وحشرات.
المطبوعات الاشتراكية
للاشتراكيين جرائد ومجلات في عامة مدن أوروبا وأميركا ودعوتهم ما برحت في انتشار متزايد سنة عن سنة حتى أن جريدة من جرائدهم اسمها الدعوة إلى العقل في مدينة جيرارد من أعمال الكنساس في أميركا قد بلغ المطبوع منها كل يوم 350 ألفاً فأصبحت أكثر الجرائد الاشتراكية انتشاراً وقد أسست سنة 1895 ولا تزال في نمو.
نفقات الجيوش
زار أحد قواد الأميركان بلاد الألمان والفرنسيس وحضر مناورات الجيوش فعاد يقول لأمته أن جيشها من أضحك جيوش العالم أكثرها نفقة وأقلها فائدة قال: خمسمائة ألف جندي فرنسوي يكلفون أمتهم في السنة خمسمائة مليون فرنك وستمائة ألف جندي ألماني يكلفون حكومتهم خمسمائة وخمسين مليون فرنك وستون ألف جندي أميركاني يكلفون الولايات المتحدة أربعمائة مليون فرنك وإذا أضيف إلى ذلك ما تنفقه أميركا في الشؤون العسكرية الأخرى يبلغ سبعمائة مليون مسانهة. تنفق كل هذا من أجل جيش يبلغ معدل من يفرون منه في السنة ستة آلاف جندي.
نساء أميركا
يؤخذ من إحصاء سنة 1900 أن النساء في الولايات المتحدة أقل من الرجال فقد كن 33 مليون امرأة مقابل 34 مليوناً وثلثمائة ألف رجل وأن نحو خمسة ملايين ونصف من النساء يضطررن إلى الكدح لمعاشهن وأن عدد العاملين من الرجال 23 مليوناً وبلغ النساء هناك نحو نصف الرجال في معاطاة الأشغال العقلية فهن 430 ألفاً لقاء 820 ألفاً من الرجال وعدد المعلمات منهن ثلاثة أضعاف عدد المعلمين فهناك 27 ألف معلم و115 ألف معلمة والقاعدة العامة في المدارس الأميركية تربية البنين مع النبات.(26/70)
محصول النحاس
كان النحاس غالي الثمن في السنة الماضية وقد زاد محصوله ثلاثة أضعاف ما كان عليه منذ عشرين سنة فصار سنة 1906، 700 ألف طن بعد أن كان سنة 1886، 217 ألف طن كما أن استعماله في الأمور الصناعية كثر على تلك النسبة على أن بعض مناجمه كادت تنضب مادتها منه فكانت قديماً كورنوايل في إنكلترا تصدر أكبر كمية من النحاس أما الآن فالولايات المتحدة هي أكبر مصدرة له وكذلك المكسيك وبيرو أما مناجم إسبانيا فإنها إلى الضعف.
صنع الألبان
تبين أن الطريقة المستعملة في بلادنا لصنع الجبن والسمن من الألبان المختلفة قد تخلصت منها بلاد الغرب كل الخلاص بفضل الأدوات الجديدة فلم يبق أحد هناك يعاني الألبان كما يعانيها فلاحنا وراعينا بيده ويد ذويه.
الجرائد الأميركية
ذكروا أن عدد الصحف الأسبوعية في الولايات المتحدة بلغت الخمس والعشرين سنة الأخيرة مبلغاً من الارتقاء لم يسمع به فمنها ما يباع بقرش واحد ولا يكون أقل من مئة صفحة كبيرة حوت ضروب الإعلانات كل غريب وكل ما يهم القارئ معرفته من أخبار البورصة والفضائح والهذر والإفادات العالمية والحوادث المنوعة محلية كانت أو خارجية والقصص والصور الهزلية وألعاب الأولاد وصفحات تقطع لتكون كتباً فهي غذاء رواح الملايين من الناس وكثيراً ما تملأ بالسخيف ولكن الأمة ترغب فيها وتجعلها سمرها ولذتها.
الإنسان والمحيط
رأت إحدى المجلات الروسية أن حالة الإنسان آخذة بالتعدل في كل مكان بفضل أساليب الارتقاء التي تكاد تكون متحدة في الأمم حتى أن أهل البلد الواحد يقلُّ بينهم الشبه إذا تعاطوا صناعات مختلفة بخلاف ما يكثر الشبه بين أهل البلاد المتنائية ممن يتعاطون أعمالاً متشابهة فلذلك تجد رجال الطب والمحاماة في إنكلترا وألمانيا وفرنسا يشبه بعضهم بعضاً في منازعهم وعيشهم أكثر مما يشبه الإنكليزي الإنكليزي والألماني الألماني(26/71)
والفرنسوي الفرنسوي وهي ترجو أن يجيء على العالم زمن أحسن من هذا تنتشر فيه الحضارة في جميع أنحاء الأرض فترتفع من بين أهلها العداوة والبغضاء والإنسان ابن محيطه لا ابن طبيعته.
خزانة أديسون
أهم ما أعلنه أديسون مخترع الفونوغراف أنه وفق إلى اختراع خزان للكهربائية سيوضع عن قريب موضع العمل فيغير نظام المواصلات الكهربائية لأنه يرخص سعرها بنقلها من ممكلة إلى اخرى ويقول أهل العلم أن عجلات الأتوموبيل ستقل أثمانها فيتيسر لأهل الطبقة الوسطى أو الدنيا أن يقتنوها ويركبوها وهكذا أقسم العلم أن يسوي بين طبقات الناس في الاستمتاع بملاذ هذا الوجود ومنافعه.
مطبوعاتنا في أميركا
يسرنا أن نبشر القراء أن علماء المشرقيات من الأميركان أخذوا في العد الأخير يعنون بطبع مؤلفات العرب فقد طبع ريشاردس كوتهيل أحد أساتذة كلية كولومبيا في نيويورك كتاب تاريخ قضاة مصر تأليف أبي عمر محمد بن يوسف ابن يعقوب الكندي مع شروح لأبي الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن برد عن نسخة وجدت في المتحف البريطاني وهو في 150 صفحة وثمنه ثمانية فرنكات.
الفحم الحجري
نشرت إحصائية المجلس التجاري في أنفرس إحصاء بحاصلات الفحم الحجري في العالم من سنة 1850 إلى سنة 1906 فدلت على أن محصوله كان في منتصف القرن الماضي 89881357 طناً وما برح ينمو حتى بلغ سنة 1906، 1893249557 طناً أي أنه زاد عشرة أضعاف عما كان يستخرج من الولايات المتحدة 375397000 طن وتجيء بعدها بريطانيا العظمى فتستخرج 25105000 ثم ألمانيا تخرج 136480000 ثم فرنسا فالبلجيك.
مقاومة السكيرين
سويسرا من أكثر البلاد الأوروبية مقاومة للمسكرات ومما رآه الأستاذ فوريل أحد أطباء(26/72)
المجاذيب فيها لمقاومة السكيرين وتحقيرهم أن تجعل إدارة السكك الحديدية مساء كل أحد مركبة أو مركبتين تكتب عليهما (للركاب السكارى) فكل من شوهد أنه سكران أو شرب مسكراً يدعى إلى الجلوس في تينك المركبتين إن أراد السفر وهي طريقة تندى لها وجوه من لهم إحساس من الركاب الذي يتعاطون المسكرات فيقلعون عنها.
سكة حديد بغداد
كثر الباحثون في هذه السكة ومستقبلها وجلهم يحسنون الظن بها ويعلقون الآمال الواسعة على ما سيتم من العمران في البلاد التي تجتازها. وهذا الخط هو أعظم خط حديد أنشيء في البلاد العثمانية بل أهم خط قام لأنه يربط أقصى المملكة بأقصاها ويمر في أصقاع كان لها مجد قديم وحضارة زاخرة وطوله ألفان وثمانمائة كيلومتر ويكلف خمسمائة مليون فرنك أو أمكثر ويقتضي له العمال والأعمال والأدوات والآلات الجسور والقاطرات وغيرها ما لا يكاد يقع عليه الحصر ويتيسر أن تقطع المسافة بين الأستانة وبغداد في خمسة أيام وهي الآن لا تكاد تقطع في خمسين يوماً لراكب المطايا.
يقولون أن بلاد بابل وآشور ستحيا بعد مواتها بهذا الخط الحديدي وأن آسيا الصغرى سيرجع لها ما فقدته من أسباب العمران وسيكون من العراق مصر جديدة تزرع القطن والحنطة على شطوط الرافدين ودجلة والفرات فتخسر بذلك مصر بعض وارداتها ولاسيما أن السكة البغدادية ستتولى نقل البريد إلى الهند وتختصر الطريق من البحر فتفقد السويس بعض مكانتها لأن البريد الهندي ينقل عن طريق الأستانة فبغداد فالكويت فبمباي في عشرة أيام وهو الآن لا ينقل من طريق السويس بأقل من أربعة عشر يوماً.
وتقول مجلة العالمين أن مخبآت مدينة هارون الرشيد وما يروى عنها من الأقاصيص الشعرية ويجري في مخيلات العامة من ذكرى عظمتها الغريبة على عهد الخلفاء ومساجدها العربية ذات القباب والتيجان وأسواقها وفنادقها ـ كل ذلك أثر في عقول كبار ملتزمي مد هذا الخط الحديدي فحلموا بتمديده إلى بغداد وما أكثر المطامع التي أخرجت هذا المشروع من القوة إلى الفعل. وقد نشأت فكرة الملاحة في نهر الفرات وربط الهند ببغداد منذ ستين سنة فنالت شركة إنكليزية سنة 1851 امتيازاً بإنشاء خط حديدي من السويدية أي سيلوسيا القديمة في خليج الإسكندرونة إلى الكويت على الخليج الفارسي وإذ لم تحصل على رهن(26/73)
للضمانات الكيلومترية سقط امتيازها. وفي سنة 1872 عاد مشروع سكة السويدية والكويت إلى الحياة وقدرت نفقاته بعشرة ملايين جنيه وطوله بألف وأربعمائة كيلومتر ولكن قلة ما في طريقة من البلاد العامرة التي يرجى الانتفاع منها صرفت القلوب عنه.
وتحدث الناس في لندن بعد فتح ترعة السويس أن تربط الإسماعيلية بالكويت بخط حديدي يمر بصحارى بلاد العرب وكان هذا الفكر من الأحلام ولا يبعد أن يتحقق أمره بعد زمن. وحاولت روسيا أن تمد سكة من طرابلس الشام إلى الكويت مع إنشاء ناشطة (فرع) منها إلى كربلا بحيث يجتاز بادية الشام وطوله ثمانمائة كيلومتر فسقطت أماني الشركة التي تألفت بطبيعة الحال ثم تعاقب نيل الامتيازات في آسيا الوسطى فأنشأت شكرة إنكليزية سنة 1856 سكة حديد أزمير ـ دينار وقامت بعدها شركة إنكليزي أخرى فنشأت سكة حديد أزمير ـ قصبة وهي ساردس عاصمة كيريزوس ثم امتدت إلى مدينة الأشهر وتعاقبت الشركات الفرنسوية والبلجيكية والعثمانية في الأناضول والروم إيلي.
ولقد شبه بعضهم البلاد التي مر بها خط إسكي شهر ـ قونية بمضايق سويسرا إذ ضل فيها الصليبيون بزعامة غودفري دي بوليون وقاسوا الأمرين من الجوع والعطش ولذلك تحامى الدخول فيها كونراد الثالث أحد ملوك الصليبيين من الألمان وفريدريك الأول الألماني الملقب ببربروس وقيل أنهما خفا إلى الخروج منها.
فمشروع السكة البغدادية اليوم ألماني وفي ألمانيا نشأ وكبر حتى أخرج من القوة إلى الفعل ولا سيما بعد أن كثرت صنائع الألمان وصادراتهم وهم يلوبون على مصرف يصرفونها فيه فنظروا ذات اليمين وذات الشمال فلم يروا أحسن من هذه البلاد وخصوصاً وقد نالت الشركة احتكار مخازنها ومستودعاتها والانتفاع بالشلالات والمعامل الكهربائية والمناتجم المختلفة على طول هذه السكة وما يتفرع منها على مسيرة عشرين كيلومترً من كل جهة عن يمين الطريق وشماله.
فاستفاد التجار الألمان وسيستفيدون من هذا الخط كثيراً لأن الأقطار التي سيجتازها ما زالت بكراًُ لم تمس فآسيا الصغرى لم تستثمر إلا من جهتها الغربية على يد شركات إنكليزية وفرنسوية. أما أرمينية وبين النهرين والعرق فإنها لم يدخلها إلى الآن غير علماء الآثار فقط وما أشبه آسيا الصغرى ببلاد إسبانيا فهي محاطة بجبال شاهقة وحيث يقل(26/74)
المطر فهناك القفر. والسكان بادية رحالة يقتاتون بمواشيهم وينتجعون لها الكلأ فهذه القطعة من تلك البلاد هي أشبه بمملكة قشتالة لقلة خصبها وأمراعها ولكنك ترى فيما يحيط بتلك الشبه جزيرة في سفوح تلك الجبال وما يتخللها حيث تنساب المياه على أعلى قمم الأطواد وتتحلل من ثلوجها الحدائق الغلب والحقول العامرة بالذرة والحنطة والشعير والكرمة والرمان والزيتون والبرتقال والنخيل فهذه البلاد أشبه ببلاد الأندلس.
ولقد عرف الرومان واليونان أن يحسنوا الانتفاع من تلك الأصقاع الغنية قديماً وسيكون من نصيب الخط البغدادي اليوم أن يعيد إليها بهاؤها فهو سيجتاز مملكة كريزوس أي قونية وقيصرية وأرغلي وما دامت البلاد قريبة من الساحل فبشرها بالرخاء وبشر حاصلاتها بالتصريف وكلما بعدت عنه فهناك الشقاء المبين. ومنذ سنين كنا نسمع بأن بعض العمال يحرقون الحنطة التي يأخذونها عشوراً لأنهم لم يجدوا سبيلاً على نقلها إلى البلاد التي تحتاج إليها وكذلك قل عن الفلاحين وزهدهم فيما تخرج أرضهم من الغلات والثمار بعد أن يفيض عنهم أضعاف أضعاف ما يلزمهم.
هذا ما كان من آسيا الصغرى أما بلاد أرمينية وآشور وبابل فستحيا حياة طيبة بعد أن حربت منذ خمسة آلاف سنة وزيادة وبعد أن دام عمرانها الغريب ثلاثة آلاف سنة فعدت من أعظم الممالك تمدناً وحضارة. هذا وشمس تلك البلاد شمسها ومياهها مياهها وارضها أرضها. والبلاد من حلب إلى الموصل ينبت فيها القطن وفي الموصل كان يعمل الشاش الرفيع وإليها نسب اسمه الغربيون كما نسبوا اسم الدمقس عندهم إلى دمشق.
وقال بعض الباحثين في هذا الخط أن العراق كان على عهد العباسيين يغل عشرة ملايين طن من الحنطة ويطعم ستة ملايين من السكان وليس فيه اليوم أكثر من نصف مليون نسمة يعيشون في مسكنة وأن السكة البغدادية ستضمن الأمن والتجارة في تلك الربوع فتعود غليها حياتها السالفة وتكون بقطنها ونخيلها وحبوبها مصراً ثانية وتستثمر مناجم الحمر الموجودة على الضفة الشمالية من دجلة في سفوح سلاسل جبال فارس ومنابع زيت البترول التي يعبث بها الآهلون فيوقدون فيها النار للتسلية إذا مر بهم سائح عظيم ويقتضي ذلك عشرين سنة من الزمن فيأتي الماليون بأموالهم ليستثمروها في تلك البلاد كما استثمروها في عبر القافقاس وتركستان وإسبانيا ومصر وتأتي البضائع الألمانية لتصرف(26/75)
على أهل تلك البلاد وينهال علماء الألمان للبحث عن آثارها وعظمتها ويخلدون لأمتهم من المفاخر مثل ما خلد ماريت وشامبليون الفرنسويان في مصر من الآثاؤ والمحامد. إن الألمان في مدهم الخط الحديدي في بلاد يكاد يكون أكثرها خراباً الآن قد تعلموا بما استفادوه من دروس ملوك السكك الحديدية في الولايات المتحدة أمثال فندربلت وهاريمان ممن أثبتا لأوروبا بأن السكة الحديدية ولو مدت في قفر تكفي لأن تحيله روضاً ممرعاً آهلاً بالسكان وآية من آيات العمران.
قدر العمر
تحت هذا العنوان نشرت مجلة الحياة البيتية الفرنسوية مقالة لطيفة قالت فيها ما تعريبه: قال طبيب إنكليزي اسمه أوسلر منذ عهد ليس ببعيد في خطاب فاه به أمام طلاب إحدى المدارس الجامعة في أميركا رأياً أحدث بعض الهياج في الأفكار وهو أن الرجل إذا بلغ سن الأربعين يقل الانتفاع به على الجملة وإنا لو تأملنا مجموع الاكتشافات والأعمال البشرية وأسقطنا منها ما تم للناس بعد بلوغ هذه السن لتجلى لنا أن عمل الناس بعد الأربعين لا يعد شيئاً مذكوراً. فالعظائم قام بها العظام قبل أن يتجاوزوا الأربعين من أعمارهم والعمر الحقيقي الذي ينتج فيه المرء ويبني به المجد هو ولا جرم بين الخامسة والعشرين إلى الأربعين وإن المرء إذا جاوز الستين ينقطع عمله ولا يستفاد منه بتة. قال وقد نرى من بلغوا هذه السن من الأمم الراقية يعهد إليهم بإدارة الحياة السياسية والتجارية أو الصناعية ولكنهم قلما أغنوا الغناء المطلوب وأثمروا ثمرة جنية.
على أن بعض المناصب قد يعهد بها إلى أناس من أبناء الستين ولو وسدت إلى أقل منهم سناً لحسن أثرها أكثر ولكن أناساً كثيرين أتوا بعد الستين من جلائل الأعمال ما هو من مفاخر الدهر أمثال غلادستون وبسمرك ومولتكه. وبديهي أن ذلك لا يثبت أن أعمال الشيوخ أرقى من الرجال الذين استكملوا قوتهم وفي ذلك ما يدل على أن الرجل قد ينيف على الستين وهو حافظ لقواه العقلية في معاناة المطالب العالية.
لا جرم أن دعوى الأستاذ أوسلر منقوضة برجال جاؤوا والنفع تم على أيديهم بعد أن شابوا ووهن العظم منهم. ومن هذه الفئة كانت ملك الفلاسفة فإنه لما نشر كتابه (فقد العقل المحض) كان ابن سبع وخمسين سنة ولو صحت قضية أوسلر لكان كانت معدوداً في(26/76)
الغابرين منذ سبع عشرة سنة. ومن المحقق أن كانت قضى حياته كلها في التأمل بفلسفته وليس ثمت دليل على أنه قضى عمرها بعد سن الأربعين منقطعاً عن كل عمل ولا يتأتى أن ندعي أن كانت لو مات في الأربعين لما خسر العالم بموته شيئاً من كتاباته.
وإذا بحثنا في حياة لابلاس الفلكي فإنا نجده قد قال رأيه في نظام العالم حوالي سن الخمسين ولم ينجره إلا عندما أناف على السبعين. وكذلك الحال في حياة ليل العالم بطبقات الأرض مجدد هذا العلم فإنا نراه قد أتم معظم أعماله بعد سن الأربعين ولم يتخلص من قيود تقليد ما تعلم غلا بعد أن جاوزت سنة الربعين ودخل في دور التجديد.
وهكذا قل في داروين فإنه لما بلغ التاسعة والأربعين لم يكن قد أتى غير البحث وجمع الحوادث ففي سن الخمسين طتب كتابه (صل الأنواع) وكلنا نعلم أنه نشر أهم أعماله من سن الخمسين إلى السبعين وكان عمره اثنتين وستين سنة عندما كتب كتابه (أصل الإنسان) ويصدق على هربرت سبنسر ما يصدق على داروين في قوة العقل في الشيخ وقتها في الكهل والشاب أو أكثر فقد بلبغ الحكيم الأربعين من عمره ولم يعمل غير استعداد لما يريد القيام به وهو لا يهتدي إلى السبيل المؤدية إليه. أتت عليه أربعون سنة وهو لم يرسم (فلسفته التأليفية) إلا رسماً خفيفاً وفي الثانية والأربعين نشر المبادئ الأولية وفي الثانية والخمسين نشر مبادئ علم النفس وفي السادسة والخمسين نشر كتابه (علم الاجتماع) وفي الحادية والستين نشر كتاب (العدل) ولما أتم أعماله كانت قد بلغت سنه الثمانين. وذا تخطينا رجال العلم والحكمة إلى النظر في تراجم الساسة وأرباب الرجل نجد كثيراً أمثال بسمارك وتيرس بل وفرنطكلين الذي خدم بلاده في السبعين من عمره وكان سبباً في تأسيس الوحدة الأميركية كما نجد خريستوف كولمب قد اكتشف أميركا في السادسة والخمسين من عمره وطاف ماجلان حول الأرض وهو في التاسعة والربعين ولعل صاحب تلك الدعوى يقول أنه لو كان غير هؤلاء واصغر منهم سناً مكانهم لعمل عملهم ولكن من الثابت أن من كانوا قبلهم وعلى عهدهم أصغر منهم عمراً ولم يأتوا ما أتوا.
ولا يفوتنا هنا ذكر العالم الألماني هومبولد فإنه كتب أهم كبته (الكوسموس) وهو في السادسة والسبعين ولو صح قول الأستاذ المشار إليه لكان هومبولد منذ 36 سنة قليل الفائدة على الجملة. وقليل في أسفار العلماء يحوي ما حواه كتاب هومبولد من بعد النظر وسعة(26/77)
المدارك. وكذلك كان شأن كيتي فإنه كان ينيف على الستين عندما رسم نظريته في الألوان وفي الخامسة والستين انصرف إلى أعمال علمية ولم يكن يعانيها من قبل وبرَّز فيها وكان في الثمانين عندما أنجز كتابه (فوست) وأحسن فصوله ما كتبه في آخر أمره.
ومن جملة علماء الموسيقى وانيير الألماني فإنه لم يبلغ قمم مجده إلا في الخمسين ومعظم كتبه النافعة نشرها بعد الستين وكذلك الحال في هايدن الموسيقي الألماني وهاندل وفيكتور هوغو كان في الخمسين غيره قبلها وكذلك باستور.
وبهذا رأيت أن رأي الأستاذ أوسلبر لا يخلو من غرابة كان فيه بعض الحق. فالأمر موقوف على نوع العمل الذي يُعمل والصفات التي يحرزها العامل. ومن الثابت أن كثيرين يعجلون كثيراً في الانقطاع عن تنمية قوتهم العقلية ويدخلون في مضمار فيعلمون في الحال ما يلزم له دون أن يتمكنوا من زيادة شيء يذكر بعد
ذلك فهؤلاء هم من الفئة التي يعجل لها قلة الفائدة.
ولكن الرجال الذين يثابرون على التعلم إلى الخمسين أو الستين ويظلون يبحثون ويوجدون الحقائق أو يخزنون الأفكار والقضايا وينسقون وضعها ـ الرجال الذين لا ينفكون عن تنمية عقولهم على الدهر بما يعانونه من الأعمال التي تستدعي اهتمام الذهن وانصراف القلب هؤلاء يدوم أمد الانتفاع بهم ولو بلغوا أرذل العلم وكثيراً ما يتأخرون في الإبداع والإيجاد إلى الربعين والخمسين ويظلون يبدعون إلى خاتمة أعمارهم أي السبعين والثمانين. وما رأيناه من أعمال بسمرك وغلادستون ومولتكه في تغيير حال السياسة في أيامهم أكبر دليل على أن المعمرين ليسوا بنتائج عقولهم دون من لم يعمروا مثلهم في النشاط والفضل وأن الشيوخ لا يلزمون بيوتهم بدون استثناء ويجلسون إلى مواقد النار للدفء وقضاء الوقت في التسلية.(26/78)
نفاضة الجراب
ويل للمطففين
قامت مدينة أييري التجارية الصغيرة في جزيرة أيسلاندا في مكان بهيج على لسان من اليابسة يدخل في البحر ويتمثل للأعين ضيقاً يكتنفه من التلعات والمنحدرات العالية ولم يكن في هذه المدينة قديماً غير محل تجاري واحد وجواز تجاري صادر عن ملك الدانيمرك وهذا المحل يعرف من النظر إليه لأول وهلة. والمعروف في تلك البلاد أنه ملك رجل اسمه كريمور أنشأ هذا البيت التجاري في دار قديمة العهد على ما تشهد بذلك أعلامها وراياتها وكانت تمتاز بقلة ارتفاع حوائطها المتناسبة مع علو السقوف وكان في الشبابيك السفلى ألواح صغيرة من الزجاج وفي الطبقة العليا غرف صغيرة وزوايا صغرى كأن الظلمة من مميزاتها.
أما الآن فإن كريمور التاجر كان قد شاخ وابيضت لحيته كلها وكان ابن زهاء سبعين سنة ولكنه لم يكن في الحقيقة يعرف عمره على وجه الصحة إذ قد مضى عليه زمن طويل وهو لا يحسب أيامه وأعوامه لأنه قضى حياته في حساب أمور أخرى أهم في نظره من غيرها.
مضى عليه نحو نصف قرن عندما فتح مخازنه في آييري ولم يصرف ساعة من هذا الزمن إلا في ادخار المال بكل الوسائط وكان ذلك من السهل عليه إذ لم يكن ثمة أحد يباريه في تجارته بل لم يخطر على بال أحد أن يناهضه. وتعاقب جيلان من الناس بدون أن يحاول فرد فذ أن يقيم في تلك البلدة لينازعه في زبنة (زبائنة).
فكان وحده مستأثراً بحلواء الأرباح عرف من أين تؤكل كل الكتف فلم يراع في جميع أعماله إلا مصلحة نفسه فكان الحاكم المتحكم في مدينته يقنن قوانينها ويتصرف بحلوها ومرها. فكل شيء يباع في محلة بضعفي قيمته أو بثلاثة أضعاف والبضائع التي يبيعها من الناس تساوي ثلاثة أضعاف أقل مما تساوي في أي محل من المحال التجارية في أيسلاندا وكان مع هذا لا تأنف نفسه من غش زبنه في كمية البضائع وكيفيتها ويتقاضى عند الحساب ثمن بضائع لم يبعها ولا استلمها المبتاع. ولذلك لم يكن مما يدعو إلى العجب أن تقل البركة في آييري وضواحيها ولا يجد أهلها فلاحاً. كل ذلك وكريمور لا يهتم لما يجني(26/79)
على الناس ويكفيه على الدوام أن يزيد أعماله وأرباحه.
وبديهي أن كريمور لم يكن محبوباً في بلدة آييري إذ كان زبنه يعرفون كيف يعاملهم قبل أن يدخلوا مخازنه التي كانت قطعة من جهنم. ولقد شكا الناس كلهم من حاله إلا أن الفقراء كانوا أحق بالرثاء من غيرهم من السكان. وزد على ذلك فإن كريمور تولى منذ زمن طويل زمام جمعية الإحسان العام وأصبح يجز صوف الفقراء ويختلس الأموال المجموعة لإعالتهم والإدرار عليهم حتى لقد شاع على الألسن بأن ليس في آييري بائس يلجأ إليه إلا ويرجع من لدنه أفقر مما أتاه وكان من مبدأ كريمور أن الفقر مفسدة أبداً وأن المحاويج كلهم من الكسالى والمسرفين وكل من يطلب معونته يعامله أسوأ معاملة فلا يعود إليه بعدها مهما برحت به تباريح الفقر المدقع. ومن أخباره أن بعض البائسين مدوا أيديهم إليه يستنجدون نواله فضربهم عليها ضربة كسرها وبقي أثر الكسر بادياً عليها. بيد أن المضروبين ما قط شكوا أمرهم لأحد. وذلك لما وقر في نفوسهم من أن دعواهم عليه لا تسمع لأنه غني وتجارته ناجحة. فالقضاء إن لم يكن له فلا يكون عليه من أجل مظهره.
ومما لا شك فيه أن كريمور كان آية في نشاطه لا ينازعه في ذلك منازع يعمل حتى يكاد يتصبب عرقاً كما يعمل الوحش الضاري وقد قبض بكلتا يديه على فريسته. فيباكر بكور الزاجر إلى مخزنه قبل جميع مستخدميه ويخرج منه بعدهم كلهم ويتعب تعباً لا مزيد عليه بحيث لو جمع تعبه وقيس بتعب بضعة أفراد من مستخدميه لرجح تعبه لات محالة. فكان يضع بيده المعاجين ويكيل بيده الخمر ويزن القهوة ويخاطب الفلاحين ويمسك دفاتره بيده ليقيد فيها ولم يكن بحاجة إلى التقييد والحساب لأنه يأخذ ما يشاء وهو لم يتعلم ولا يحسن الكتابة إلا قليلاً. ولا يمنعه ذلك من أن يضع بيده الصوف والشحم في ميزان ويدفعه بيده قليلاً ليرجح ومن العادة أن يطالب المبتاع أن يحسن الكيل والوزن ولكنه إذا طالب بذلك يضحك منه كريمور ويجيبه باسماً رافعاً كتفيه أو مردداً بعض الألفاظ، فإذا ذهب الزبون يلتفت كريمور إلى مستخدميه ويوعز إليهم أن يستعملوا الكيل والميزان كما يستعملهما هو ويريدهم على أن يطففوا ويتلاعبوا ويقول لهم أن مهارتهم في ذلك متوقفة على حسن التخلص بلباقة. ومع هذا فقد كان قاسياً من وراء الغاية في معاملة مستخدميه وقد يقعد أحد منهم عنده زمناً مع أنه من الصعب إيجاد تجار آخرين يخدمونهم إذا خرجوا من محله وما(26/80)
كان يناديهم بغير الفظاظة والألفاظ الفجة الوحشية ويطعمهم أردأ طعام ولا يمتنع في الأحايين من صفعهم ليثبت لهم بأن يده خفيفة في الضرب خفتها في النشل والنهب.
وما كان كريمور يعنى بطعامه ولكنه قد يتأنق بعض الأيام ويتناول قطعة من اللحم المحمر وقدحاً من الشراب وفي ذلك اليوم يدعو بعض أغنياء الفلاحين من أهل تلك الناحية لتناول الطعام معه ولكن هذه المآدب الخارقة للعادة تنتهي في الغالب على أسوأ حال وذلك أن الفلاح يذكر له في خلال الحديث الغلط الذي وقع في ورقة الحساب الذي كان بعث به إليه التاجر فيجيبه كريمور بحدة وتنتهي حالهما من الكلام إلى الشتائم ومن الشتائم إلى الملاكمة وينهال الضرب على المدعو ويطرد من بيت التاجر طرداً.
ومن المحقق أنه لم يلتئم أحد معه قط وقد تزوج أربع مرات وماتت أزواجه الأربع سأماً من الحياة معه. وكان كريمور يتعزى عن فقدهن في الحال إذ لم تأت السنة على فقد الواحدة حتى يكون عروساً في آخرها. دام ذلك إلى أن ترمل للمرة الرابعة وقد رزق ولدين من زوجه الأولى ماتا كلاهما واسم البكر آرني كان ساقطاً حقيراً شريباً خميراً يكره كل عمل حتى انتهت الحال بوالده أن طرده من بيته فأخذ يقرع البيوت ويستجدي الأكف في آييري وهو يسكر حيثما نزل وكيفما اتجه. ثم سدت في وجهه جميع الأبواب فرجع إلى دار أبيه طافحاً سكراً فطرده أبوه ولما لم يقدر أن يقف على رجليه زحف إلى السرب (قبو) وكان غير مقفل كما ينبغي فشوهد في الغد ميتاً وهو ملقى على كوم من الصوف أما ابنه الثاني المدعو يوحنا فكان على العكس من أخيه حسن السلوك ذكياً للغاية لا يكل ولكنه غرق بينا كان يسبح في البحر في العشرين من عمره في آخر سنة له في المدرسة فكان فقده على كريمور أول يوم حزن فيه مدة حياته.
فقد تلقى مصابه بفقد زوجاته الأربع غير مكترث لما أصابه ولكنه لما كان يذكر أمامه ابنه يوحنا كان وجهه يتغير على أن حزنه عليه لم تبد في وجهه إماراته بكثرة واكتفى بأن يقول أن دفن الميت يكلف كثيراً وأن جميع الشعائر التي تقام في الجنازة لا تفيد الميت شيئاً ومن رأيه أن يجعل الميت في تابوته وأن يحمله أهله إلى المقبرة بدون توسط أحد من رجال الدين لما في ذلك من الاقتصاد في النفقة والتخفيف عن الميت وآله.
وكان اسم زوجته الأخيرة كودرون وهي أنشط نسوانه الأربع ولما بنى بها كريمور شعر(26/81)
بالشيخوخة وضعف الذاكرة وتقهقر الأشغال. ولكنها عندما استلمت إدارة بيته وضعت كل شيء موضعه وسار كل شيء على نظامه وأخذت تجارته حياتها السالفة وذلك أنها كانت منتبهة للغاية فتدخل مرات كل يوم إلى المخازن على غفلة لتفاجئ المستخدمين وتنظر في الدفاتر وتحقق الحسابات وتكلم الزبن إذ كان لسانها فصيحاً كما كانت يدها رشيقة وحركتها خفيفة. على أن الشيخ كريمور لم يرض عن زوجه لأنها كانت تتراءى له بأنها تكلفه من النفقة أكثر ممن تقدمها من زوجاته. ويعتقد أنها مسرفة لأنها تريد أن يكون لزوجها ما يجب أن يكون له وأن يقبض كل واحد أجرته وهو مما يسميه جنوناً وقلة تدبر.
وعندما كانت تطلب منه دراهم كان يردد أبداً عليها نغمة واحدة وهي: أن القليل الذي استطعت أن اقتصده سيبذر في الحال عندما أقضي نحبي. . بيد أنه ما تنبأ به لم يتحقق قط فماتت كودرون ولداً فانحصرت ذرية كريمور في طفل اسمها ماركوس وهو ابن ابنه يوحنا المتوفى وكان ولداً متعقلاً ولكن صورته مزرية وقليل النشاط والحركة فتبناه جده بعد أن فكر زمناً أن يتركه عالة على المدينة ولم يرض بقبوله في بيته غلا تخلصاًُ من أن يكون فريداً وحده لا عقب له.
(2)
ماتت كودرون فكان موتها فاتحة سوء الطالع على كريمور فاتخذ خادمة بعد أخرى وكلما غير خادمة تزداد حال بيته اختلالاً فهن لا يعرفن إلا الإنفاق ولم تجرأ واحدة منهن أن تعمل له عملاً نافعاً لأن الشيخ كان كثير الظنون والسارقات والسارقون يعبثون بأمواله في كل مكان. على أن حذره لم يحل دون دخول فساد على أعماله فأخذ المستخدمون لا يخافون بأسه وكل منهم يسرق من المخازن ما يروقه ناسياً بالقصد أن يقيده فدخلت تجارته في دور الانحطاط وأصبح كريمور إذا غضب وأراد أن يعاقب المتلاعب من كتبته وخدامه يمسكون بذراعيه ويديه فلا يفلتونها إلا إذا رضي بأن يعود إلى السكون ولا يعود إلى العربدة.
وحدث في غضون ذلك حادث كان فيه القضاء المبرم على هذا التاجر ومحله وذلك أن تاجرين غريبين جاءا ذات يوم إلى آييري وأنشأا محلاً تجارياً فأخذ زبن كريمور يتخلون عنه واحداً بعد واحد فخفض أسعار بياعاته إلى أرخص مما يبيع ذانك التاجرين وزاد في رواتب مستخدميه إلا أن ما أتاه لم يأته بفائدة وارتفعت ثقة الناس من محله منذ زمن(26/82)
وأصبح في الحور بعد الكور وفي الخسران بعد الربح حتى لم يعد يرض أحد من الفلاحين أن يعامله مخافة أن يعود ثانية فينشب فيه مخالبه ولكن كريمور بذل جهده في مقاومة سوء البخت فكان يدفع كل سنة من ماله عجزاً كبيراً.
وكان من هذا الجهاد أن قل ماله بالتدريج وكل ما يصرفه من ثروته على هذه الصورة كان في الحقيقة من لحمه ودمه فاستولى الضعف على قواه الطبيعية وحل الوهن محل القوة التي كانت عضده في شؤونه خلال خمسين سنة وأقام عنه وكيلين لإدارة أعماله ولم يكن منهما إلا أن زادا الطين بلة وأخذا بسوء سلوكهما يبعدان الفلاحين عن معاملة المحل كما كانوا من قبل وكانا يصرفان معظم النهار في ملاطفة صاحب المحل ليحلا من قلبه مكاناً يتذرعان به إلى نيل مآربهما منه ومن ماله فيحتالان على مدح جميع أعماله ليحرزا ثقته ولم يكن إلى ذلك العهد قد وضعها في إنسان وما اقتربا منه إلا ودعواه بيا صديقي العزيز ويقال أنهما كانا يسرقان من الصندوق أكثر مما يضعان فيه من الدراهم.
وبعد ذلك وفق كريمور إلى الظفر بخادمة على هواه تتولى أمور بيته اسمها مريم جاوزت الخمسين من سنها وتمرنت في خدمة البيوت ومعاناة الرجال وكان ما يرضيه من طبعها في الأكثر هو أنها تمقت كل المقت ما كان يسميه بالنظافة والنظام اللذين لا فائدة منهما فلا تمسح أرض الدار إلا في الأعياد الكبرى ولا تكنس الغرف إلا صبح الأحد ولا تعنى بزينتها إلا إذا بقي لها وقت فكانت (فرشات) الثياب يطول عمرها معها لأنها قلما تستعملها في نفض الثياب. تخف أبداً إلى الاقتراب من ذاك الشيخ وتطيعه لأول كلمة يفوه بها وتقص عليه ما يجري في الدار والمخزن والمدينة وما يقال فيها وما لم يقل وتنسب سوء القصد لكل من كان لكريمور بعض الثقة فيه وتزيف أقوالهم وتوردها في قالب لا يفهم منه لا عكس ما يراد منها ثم تعرض عليه بأن الناس كلهم يسرقونه إذا لم يعهد إليها بأن تراقبهم.
فوقع كلامها من قلب الشيخ موقع التصديق حتى زادت ثقته بالناس ضعفاً واقتنع بأنه محفوف بفئة لا غاية لها إلا أن تنهب ماله حاشا مريم فإنها الوحيدة التي ما عراه شك في أمانتها ولم تكن مريم تسرق مالاً بل توفر من جميع النفقات ولاسيما من الطعام وخصوصاً طعام المستخدمين فبدخولها بيت التاجر دخله الجوع. ومن المميزات التي اختصت بها(26/83)
مريم أنها كانت تحسن الانتفاع بكل شيء وما قط طرحت بقية من بقايا اللحم ولذلك كانت تستنشق في غرفة كريمور التي يقف فيها عندما يترك مراقبة المستخدمين روائح كريهة منبعثة من تلك اللحوم المدخرة.
عرفت مريم كيف تحسن معاملة زوجها وتستولي على عقله كما تحسن معاملة الناس وتخدعهم وكان صوتها رقيقاً تتلطف مع الزبن وتلاطف الأولاد وتوهم كل من يكلمها لتتوسط له أمام كريمور أنها مساعدته فيما يريد وأنها مبرأة من كل غاية إلا من النفع العام على أنه لم يحدث من أثر هذه الغيرة كلها ما يعود على محل التاجر بالفلاح وأخذ الانحطاط يزادا في أشغاله يوماً فيوماً على ما تبذله هذه الخادمة من وسائط نجاحه.
وكان لكريمور في غرفة مجاورة للغرفة التي ينام فيها خزانة من شجر الكابلي جعلها صندوقاً لوضع ماله ولما كانت أعماله سائرة على قدم لنجاح كنت ترى جرار الزانة طافحة بالنقود الذهبية والفضية وفي وسطها أكياساً ملأى فأخذت هذه الأكياس تنقص شيئاً فشيئاً منذ انحطت تجارته حتى لم يبق واحداً منها بل قل ما كان في الجرار من النقود وفرغ كثير منها بتة.
(3)
حدث ذات يوم من أيام الخريف بعد أن عادت القطعان من المراعي أن منافسي كريمور في تجارته باعوا من فلاحي آييري كثيراً من البضائع أتتهم بأرباح وفيرة ولما نمي الخبر إليه انزعج انزعاجاً شديداً وأصابته سكتة دماغية فوقع في مخزنه لا حراك فيه فنقل إلى غرفته وأضجعوه في سريره واستدعوا الطبيب. وكان هذا شاباً لم تمض بعد سنوات قليلة على نيله الشهادة سكن في تلك البلدة حديثاً. فخف لفحص المريض فرآه غائباً عن رشده فقضى الليل كله بالقرب من سريره وهو يمرضه ولما طلع النهار رجع إلى الشيخ كريمور صوابه.
ودام دور نقاهته طويلاً وأنشأ كريمور يسير على رجليه قليلاً حتى استطاع أن يطوف محله زاحفاً وكان الطبيب يعنى بصحته كثيراً. وكان هذا الطبيب قد حاز ثقة الجمهور لا لحذقه بل أنه اشتهر بالنضج.
وما مكان للشيخ كريمور اعتقدا كبير في الطب لأن صحته القوة قد أعفته من اتلالتجاء إليه(26/84)
على ان الدكتور توردور قد استولى في الحال على عقله وكلما كان يزوره يتهلل وجه الشيخ كريمور بشراً وطلاقة. فكان الناقه ينتظره وهو جالس على كرسيه الكبير طول النهار ساكتاً لا يتكلم كالحجر الأصم وكانت الضربة قد أصبته في جانب فمه فأفلجته فلم يعد يتكلم إلا ببطء شديد ولا يلفظ في الأحايين إلا بعض مقاطع من الحروف كثيراًُ ما تكون مبهمة لا تفهم.
أشار كريمور ذات يوم بعد أن انصرف الطبيب من غرفته إلى خادمته مريم أن تقترب منه وسألها أن تقرأ له شيئاً فأخذت من صندوقها التوراة وكانت الكتاب الوحيد الذي احتفظت به طول حياتها ففتحت باب رؤيا القديس يوحنا الإنجليلي وقرأت الآيات التي ورد فيها ذكر تعذيب من يعذبون في النار والكبريت لا تنالهم الراحة ليلاً ولا نهاراً.
فقاطعها كريمور والغضب آخذ منها قائلاً: ما أنحس هذا النبي يوحنا يتكلم عن هذه النار وهذا الكبريت اللذين ليس لهما أساس. وحدق بها بعينيه اللتين كانت تبرقان بشرر الغضب فذعرت منه حتى ارتجفت كلها وعادت فأخذت بيدها الجورب الذي كانت تحيكه قبل أن تشرع في القراءة له. أما كريمور فلم يرفع نظره منها وظل ساكتاً لا يتكلم وأخذ وجهه يتغضن أبشع تغضن من هنيهة إلى أخرى ويحرك ذراعيه وكأنه يريد طرد أحداً يهدده بالقبض عليه. . وكانت غرفة الخادمة متصلة بغرفة سيدها فذهبت إليها عندما رأته قد نام إلا أن النوم لم يجئه في تلك الليلة ولم يتمكن من إغماض جفنيه وترك نظره يسرح وهو في قلق يبدو عليه في غرفته وأخذ من وقت إلى آخر يتنهد ويلفظ كلمات متقطعة.
وكان بالقرب من سرير كريمور منضدة صغيرة يضيء عليها مصباح في الليل منذ وقع مريضاً ومن عادة مريم أن تنزل الفتيل للاقتصاد من الزيت وهكذا رسمت ظلالاً مشوشة على الحائط. وفي تلك الليلة أراد كريمور مخالفة عادته في ترك الفتيل صغيراً بحيث لا ينطفئ فقد وأراد أن يكون يكبره ليكون ضوءه كثيراً لأن الظلام كان يخيفه.
فظنت مريم أن الشيخ راقد وأخذت تسير نحو غرفته سيراً لطيفاً فلما سمع وقع قدمها صاح والذعر آخذ منه: مريم مريم. فأجابته فقال لها أتظنين بأن الموت سيأخذني؟ فقالت له: إن الموت بعيد عنك لأن صحتك تحسنت كثيراً عن ذي قبل وعما قريب ستشفى كل الشفاء فأجابها بقوله: نعم صحتي أحسن وقريباً اشفى ولا أموت.(26/85)
ثم سكت وخفت مريم بالانصراف من غرفته فناداها قائلاً: أتعتقدين يا مريم أنني سأذهب إلى النار متى حل بي ريب المنون؟ فأجابته: أنت تروح إلى النار سامحك الله على مثل هذا الفكر أما أنا فلا أعتقد بأنه يخشى عليك من النار. ولما سمع ذلك أجابها: نعم لن أذهب إلى النار. ثم غاص في بحر السكوت من جديد وعاد فقال لخادمته: هل عملت شراً وارتكبت كبيرة أعاقب عليها؟ فقالت له: كلا إنك كنت سليم الصدر أبداً وما قط أسأت إلى إنسان وعلى العكس فإن كثيرين قد أساءوا إليك فنهبوا منك مالك وخدعوك بكل حيلة من أحاييلهم. فأجباها بقوله: نعم إن الناس أساءوا لي. أساءوا لي هؤلاء الملاعين. ثم استولى السكوت عليه وقال بعد لحظة: أتظنين أن من خدعوني يروحون إلى جهنم. فقالت له: إذا نجا أحدهم من النار فيكون في نجاته وجه الغرابة. فأجابها: إن المسألة ظاهرة وسينتقم المولى لي منهم إذ يرى أنني عاجز عن الانتقام بنفسي لنفسي وإلا لما كان ثمت عدل. فنهضت مريم ورتبت وسادتي كريمور ووضعتهما وضعاً حسناً تحت إبطيه ليتمكن من الجلوس وتسريح النظر في الغرفة وبعد ذلك انصرفت لتنام وأطبق كريمور جفنيه ولم يعد يتحرك حتى ظنته قد رقد. إلا أنه لم يلبث هنيهة أن فتح جفنيه وأخذ منه الهلع وهو يحدق في زاوية الشباك ويصرخ هناك في تلك الزاوية ضوء أنجدوني فقفزت مريم إلى الأرض وأسرعت فأوقدت المصباح فبدد النور غياهب الظلمة وصارت الغرفة كأنها في رابعة النهار. وكان العرق يكلل وجه كريمور ويحاول أن يمسحه وهو يفيض عليه وعيناه تشخصان إلى كل ناحية من أنحاء الغرفة ذات اليمين وذات الشمال وفي اعلاها وأسفلها وشعره الأبيض كالثلج مسترسل على جبهته وعيناه تنظران وتحدقان والهلع آخذ من قلبه مأخذه. فأخذ يسأل مريم قائلاً: يا مرين أتعتقدين أن هناك جهنم؟ فأجابته أن سؤالك عن النار أشبه بمن يسأل عن وجود الله تعالى. فقال لها: إذاً فأنت أيتها المجنونة المقدسة تروحين إليها والناس كذلك لا سبيل إلى النجاة منها. فلم يسع مريم إلا أن قالت له: لا تفكر في هذا ليس ثمت مسمى لهذا الاسم (جهنم). فأجابها نعم ليس ثمت جهنم. والتفت كريمور إلى الحائط وأطبق جفنيه وقال لها: تسهرين هنا طوال الليل ولا تطفئين المصباح بل اتركيه موقداً يسطع بنوره. قال هذا وهو ينظر إلى السقف ثم تقلب وعندما رأى مريم قد جلست بالقرب من سريره وأنها أضاءت المصباح وأوقدت مصباحاً آخر بدا عليه(26/86)
الاطمئنان واستغرق بعد ذلك في النوم فنام حتى الصباح.
ولما استيقظ أجلسته مريم في كرسيه حضر الطبيب فسأله عن صحته ثم كلمه في شؤون وشجون إلا أن كريمور كان مشغول القلب فلم يجب الطبيب بغير لا ونعم ثم انقطع الطبيب عن كلامه فأنشأ المريض ينظر إلى الطبيب وحاول أن يضحك من شق فمه الذي لم يُفلج وقال له: يقال أيها الدكتور أنك لا تعتقد بشيء. فأجابه الدكتور قائلاً: ما من أحد وهو لا يعتقد بشيء يا عزيزي كريمور. فقال هذا: أعني بقولي يا حكيم أنك لا تعتقد أي أنك لا تعتقد بالشيطان. فاستضحك وقال وهو يدرك ما يجول في خاطر صاحبه: أو تعتقد بأن للشيطان وجوداً؟ فقال كريمور: كلا لا وجود للشيطان. قال هذا وحاول أن ينهض من كرسيه وأمسك يد الطبيب فقال: كنت أعرف حق المعرفة بأن ليس ثمت وجود شيطان ولا جهنم أيضاً. فقال الطبيب: نعم أنا على ثقة من أن الشيطان وجهنم لا وجود لهما. فأجاب الشيخ المريض: إنك تعرف ذلك وأنت الذي درست العلوم وأحكمتها. فقال الدكتور لا يعترف العلم بوجود شيطان ولا جهنم. فقال الشيخ إذا كان العلم لا يعترف بوجودهما فذلك لأنه صحيح. قال هذا وقد أخذ مقعده من كرسيه وأطبق جفنيه وسطع في وجهه بريق الفرح ثم همس قليلاً بصوت يكاد لا يفهم قائلاً: نعم ليس في الوجود شيطان ولا جهنم العلم يعرف ذلك ومن أعرف من العلم بمثل هذه الأمور. ثم فتح عينيه وأخذ يحدق في الطبيب وإمارات الشك تقرأ في وجهه كأنه يريد أن يبحث في ذهنه عن أمر لا يعثر عليه وينتظر الطبيب أن يعينه عليه.
إلا أن الطبيب سكت وهو يتأمل في كريمور ويتلو في جبهته ما ينمُّ به قلبه الذي لا يكتم السر كالصبي. ثم ظهر كريمور مظهر من زال عنه همه وأخذ يد الطبيب وقال له: وماذا يقول العلم عن الحياة الثانية؟ فأجابه الطبيب العلم لا يستطيع أن يبين حقيقة العالم الثاني فإن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية. ثم سأهل: وهل أنت يا دكتور تعتقد بالآخرة؟ كلا لا أعتقد. فقال المريض الظاهر أن ليس هناك آخرة إذ العلم لا يعترف بها ولا يثبتها. ثم ملكت على الشيخ كريمور مشاعره وسكت وأخذ يهز رأسه وفتح فاه وأغلقه ثم فتحه ثانية وأغلقه. وبدا على سحنته أن في قلبه سراً يريد أن يحل مشكلته وحاول الابتسام وإن منعته شفته المفلوجة منه فقال: من البلاهة بل غاية في البلاهة ما يذكرونه عن الجزاء بعد(26/87)
الموت وهل للجزاء من حقيقة؟ فاه بهذا السؤال وهو محتاج لجواب إيجابي فكان جواب الطبيب له: إذا عنيت بالجزاء أن على المرء أن يذكر ما قدمت يداه وأن هذا هو الجزاء فإنني لا أرى فيه شيئاً من البلاهة ولطالما اعتقدت بأن كل امرء في ذاته بل الإنسانية بمجموعها يجب عليهما أن يحاسبا عاجلاً أم آجلاً عما أتياه من الأقوال والأفعال في هذه الحياة الدنيا. ولما سمع الشيخ هذه العبارة قال: إنني لا أفهم. فأجابه الطبيب: ومع هذا فأنت مدرك ما أعتقده من أنه لا بد من وقت يجيء في هذه الحياة أيضاً ويكافأ فيها الخير ويعاقب الشر. فقال الشيخ يجازى في هذه الحياة بالذات هذا غير ممكن بل متعذر كل التعذر.
ولما فاه الشيخ كريمور بهذه الكلمات فاه بها بلهجة الفزع وقد تمسك بذراعي الكرسي وهو يحدج الطبيب ببصره وقالا: كلا أنك لا تقول ما تفكر فيه وما أنت إلا مردد لما كنت سمعته فقل لي ماذا يقول العلم وما أظن العلم يقول بما أنت تدعيه فما يعلمك العلم؟
فأجابه الطبيب: ليس للعلم في هذا الموضوع شأن وما أنا مصرح لك باعتقادي بعد تجاربي الخاصة ومعرفتي في الحياة. فلما سمع المريض ذلك حاول ان يقلل الشدة لأنه لاحظ أن ما صرح به من معتقداته قد أثر تأثيراً شديداً في المريض فاستلقى على ظهره في الكرسي من جديد وأخذ يطبق عينيه ويفتحهما ويطوف الغرفة والفزع الشديد آخذ منه واصفر وجهه أكثر من ذي قبل وأصبحت يديه بلا حراك على ذراعي المقعد وقال: تجاربك أيها الطبيب تجاربك تقول بذلك؟ فقال الطبيب: نعم هذا هو اعتقادي أعتقده وأكرر وأقول غير هياب ولا وجل أن كل امرء في هذه الأرض يجازى عما قدمت يداه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر وتؤخذ منه الفائدة (الربا) وفائدة الفائدة أضعافاً مضاعفة.
فلما فاه الطبيب بهذه الجملة نظر إليه كريمور نظرة من يحب الاقتناع بأن هذه الأفكار هي من الأفكار الخاصة للدكتور ليس إلا وقال: مع الفائدة وفائدة الفائدة ولكن هذا القول فظيع وهو معتقد غير مقبول.
وهنا أدرك الطبيب أن هذا الحديث لا يزيد المريض إلا ضيق صدر فقاطعه وقال: عليك يا صاح أن تطرد من ذهنك الأفكار السيئة وأن لا تفكر إلا في شفاء جسمك وأن تساعد على نقاهتك ما أمكن وها قد أصبحت أحسن صحة من ذي قبل فما عليك إلا أن تعنى بالشفاء كل العناية. ثم سلم وانصرف.(26/88)
فنظر إليه كريمور حتى إذا غاب عن نظره عاد يحدق في كل مكان محاولاً أن يجلس في كرسيه بحيث كان ينظر إلى الغرفة بمجموعها وأنه لكذلك دخلت عليه الخادمة فقال لها أريني ماركوس فقد تاقت نفسي إلى رؤيته. فنادت مريم هذا الولد وكان في غرفة في الطبقة العالية يستعد للذهاب إلى المدرسة وكاد يأتي على صفحة من كتاب النحو اللاتيني ويستظهرها كلها. فخف إلى غرفة جده وكتابه مفتوح في يده وأخذ مقعده في زاوية من زوايا الغرفة. ولما سمع كريمور بقدوم حفيده سكنت نفسه بعض الشيء وأغمض عينيه ليحاول أن ينام ولكن استيقظ مرتجفاً قائلاً: يا ماركوس هل أنت عندي؟ فأجابه الولد نعم يا جداه أنا هنا.
ومنذ ذاك اليوم أصبح يجيء الولد إلى غرفة جده كل يوم ولم تنعكس صحة هذا ولكنها لم تتحسن أيضاً وعلى هذا النحو مضى الأسبوع. والطبيب يعود مريضه كل يوم وقد ظهر له أن كريمور يكاد لم يستعد قواه إلا ببطء شديد ولم يعودا يبحثان فيما بينهما عن المعتقدات وقد حاول المريض أن يعود إلى الخوض في هذه الموضوعات ولكن الطبيب كان يقاطعه ويدخل في شؤون أخرى.
مضت على ذلك أيام والعجوز لا يترك كرسيه إلا للنوم في سريره وقد حدث أنه جر نفسه مرة وحده وساقاه ضعيفتان إلى المخزن وكان متصلاً بداره ولم يلتفت في الحقيقة إلى ما كان يجري فيه أمامه وقد هدد بيده المستخدمين الذين كان يعتقد أنهم يزنون ويقيسون على الصول وعاد فاستشاط غضباً منهم على نحو ما كان يغتاظ أيام صحته عندما دار في خلده بأنهم يحسنون الكيل والوزن والقياس. وأتت عليه ساعات وهو يردد ما قاله لبعض مستخدميه عندما رآهم يزنون بالميزان ويقيسون بالمقياس: لا تزنوا هكذا بل أقل من ذلك وإلا فأنا. . وبقي يردد هذه النصيحة بدون أن يكلم أحداً بعينه ولكن هذا التهديد كان ينبعث من فؤاده كنه عام لجميع من يخالفوه إرادته.
ولم يطل مقامه في غرفته وهو يشعر بأنه أحسن حالاً فيها من حيث الصحة وأخذ يطوف غرفته ويتماسك وكان عليه لما فيه من الضعف أن لا ينهض من سريره ولكنه كثيراً ما يمشي في ألبسته الرثة ويقف أمام الشباك ويهز رأسه ويقول وهو صموت بل يحنق ويقول همساً: مع الفائدة وفائدة الفائدة! يقول هذا ثم يهز رأسه هزة غريبة وينظر إلى كرسيه(26/89)
الكبير فيقع فيه ويطبق أجفانه وينام ولكن نومه لا يطول فيستيقظ في الحال كأن قلقاً عظيماً أخذ من نفسه مأخذاً ويسحب نفسه متثاقلاً نحو الشباك ويطل على ما وراء غرفته ويعاود تلمك الكلمات التي طالما رددها وهي: الفائدة وفائدة الفائدة.
وكان حفيده ماركوس يتالم من أخلاق جده أكثر من غيره لأنها كانت في الغالب سيئة وكان جده إذا استغرق في أفكاره يكلم نفسه ثم ينايد: يا ماركوس يا ماركوس أين أنت يا مضحك؟ فيجيبه ما أنذا يا جداه. ويقب منه وفرئضه ترتعد فيسأله الشيخ الهمُّ ماذا تعمل يا كسلان؟ فيقول أتعلم النحو يا جدي. فيجاوبه: تتعلم النحو ومن هذا يا متوان ذهب وزن لي سكراً ناعماً. يقول هذا وكأنه يمد يده إلى الولد ليصفعه ولكن هذا يغطي أذنيه بيديه لينجو من الصفع. ويذهب إلى المخزن كالسهم المرسل فيأتي جده في أسرع من لمح البصر بالسكر الذي طلب منه إحضاره ويجيء به حاملاً كيساً منه بكل قوته ومعه أكياس صغيرة ويأخذ يملؤها بأن يزنها في ميزان صغير وضع على منضدة فما هو إلا أن يقول له جده لا تكثر يا نحس واجتهد بأن تعطي أبداً قليلاً فالناس لا يدركون الكمية التي أنت تضعها. ثم تكمد جبهة الشيخ وبعد هنيهة يعود هذا فيصرخ: أين أنت يا ماركوس يا غبي؟ فيخف إليه الولد وهو خائف يترقب وقد وضع يديه على أذنيه ويتقدم نحو كرسي جده قائلاً هاأنذا يا جداه فيسأله ماذا تصنع؟ فيقول له إنني أزن سكراً. فيعود ويقول ومن قال لك ذلك؟ وأين كتابك في النحو؟ فأنت تزن سكراً بدل أن تتعلم دروسك يا كسلان وتتظاهر بأنك تتعلم مع أنك لا تصلح لشيء.
وعند ذلك يجر الولد الكيس إلى المخزن ويرجع على زاويته ولكن كريمور لا يتركه زمناً مستريحاً فتارة يطلب منه وزن السكر وأخرى يوعز له بدروسه وهكذا بدون تسلسل في أفكاره ولا رابطة في أوامره.
(4)
ولما نقه كريمور ذات يوم بعض النقاهة طرد ماركوس من غرفته وأغلق الباب إغلاقاً محكماً ثم أخرج من جيبه حزيمة من المفاتيح وكانت مفاتيح خزانة الكابلي وما كان يفارقها قط. حتى كان يذكرها في أضيق حالات مرضه. ويضعها تحت مخدته. فذهب إذ ذاك نحو الخزانة وفتحها وأخرج منها الجرار بعد الآخر وقد أصبحت معظمها فارغة غلا قليلاً وكان(26/90)
بعضها فقط يحوي القليل من النقود الذهبية فجردها كلها بيده ثم وضعها وهو يهمس قائلاً: قد ذهبت كلها ولم يبق إلا القليل! ثم عالج صندوق كبير فأخرج غطاؤه ولم يكن فيه غير كتاب متوسط الحجم فلما رآه وقف قليلاً وهو يحدق فيه ثم أخرج القفاز من يديه وتقدم من الشباك ورفع طاقيته فوضعها على المنضدة وفتح الكتاب ولم يفتحه ليقرأ فيه بل إنه لم صفحة اسمه وهذا الكتاب هو تفسير الكتاب المقدس باللاتيني وكان لابنه الصغير عندما كان في المدرسة. ولم يقرأ ما فيه ولكن نظره وقع على الصفحة التي كتب عليها بيد طفل مبتدئ هاتان الكلمتان يوحنا كريمور وبقي ينظر في الكتاب ملياً وهو يمسكه بيده وعيناه ناظرتان لهذا الاسم وهما لا تريان غيره وعندها فاضت بالعبرات فتساقطت على الاسم وعلى الصفحة وحاول أن يكفكفهما بكم قميصه الممزق. وعند ذلك أطبق الكتاب ووضعه في الصندوق وأدخله في الخزانة وأغلقها ووضع طاقيته على رأسع وقفازه بيده وراح يخطر في الغرفة وسرموجه (شبشب أو صرماية) في رجله ليسمع صوته ووقف جاعلاً رجله على الأخرى بالقرب من النافذة ونظر إلى خارج وتنهد وهو يكلم نفسه قائلاً: مع الفائدة وفائدة الفائدة ولعل هذا صحيح. ثم علت وجهه الكآبة والحزن.
(5)
وفي بعض الأيام دخل ماركوس الصغير وهو يبكي إلى المطبخ حيث كانت مريم قائلاً: إن جدي مات في كرسيه. فقالت له وكيف ذلك ولم تكن حالته في خطر لم يكن وجوده حملاً ثقيلاً علينا ثم قصدت الغرفة فوجدته ملقى على الدف وقد ظهر لها أنه جاءته نوبة وهو في كرسيه وأدركت في الحال أنه لم يمت فحملته إلى سريره واستدعت الطبيب فحضر ورأى كريمور غائباً عن رشده وعيناه مغمضتان وقد فلجت جميع أعضائه. فوقع الطبيب في حيرة ولما سألته مريم بأن يوضع على رأسه خرق تجعل في ماء فاتر وأن يفصد إلا أن كريمور قضى الليل كله وجميع نهار الغد بدون حركة. وعند المساء فتح عينيه قليلاً ورجفت يداه وكان ماركوس جالساً على صندوق بالقرب من سرير كريمور وعيناه تفيضان بالدمع وهو ينظر إلى جده ومريم واقفة بالقرب من الشباك ترتب الكراسي ففتح كريمور شفتيه قليلاً كأنه يريد أن يتكلم وتنفس الصعداء فلم يبن منه إلا مقطع واحد من مقاطع الحروف وهو الفا الفا أي الفائدة وهي الكلمة التي طالما رددها بقوله الفائدة وفائدة الفائدة ثم(26/91)
أغمض عينيه وعاد الفالج فاستولى عليه فجأة وارتعشت أعصابه وأخذت عينه تتجه صوب حفيده قائلاً: مار. . . مار. . ماركوس! فأجابه الطفل: ها أنذا يا جدي فقال وما تصنع؟ فأجابه: لا شيء يا جدي.
ثم ظهر كأن عينا كريمور خرجتا من محجرهما وأكمد وجهه وقال بصوت لا يفهم: الفا. . . حنا! ثم عانى كثيراً وحشرجت روحه وتقلصت شفتاه وحدق بعينيه في السقف وراح لا حراك به. فتقدم كل من مريم وماركوس نحو سريره. فقالت المرأة: لقد مات! فوقع الولد من الصندوق الذي كان جالساً عليه ووضع يديه على وجهه وشهق بالبكاء كأن صدره أوشك أن يتصدع. ما مريم فكانت تنظر إلى تلك الجثة الهامدة ولا فكر لها إلا أن تطمئن وتتأكد أنه مات حقيقة. ولما ثبت لديها موته ألقت بيدها إلى تحت مخدته وتناولت حزيمة المفاتيح ثم أغلقت باب المسكن ودخلت على حين غرة إلى الغرفة التي كانت فيها الخزانة وفتحتها. وصرفت وقتاً في معرفة كل مفتاح وجراره إلا أنها تمكنت من ذلك بعد العناء ولما فتحتها قالت والغضب آخذ منها: فارغة كلها فارغة لعنة الله عليها كلها فارغة.
ورأت في أسفل إحدى الجرار بضعة نقود ذهبية وفضية فأخذتها ووضعتها في جيبها وهي تنظر إلى خلفها مخافة أن يباغتها أحد. ثم نظرت ذات اليمين فبصرت بصندوق فبرقت لرؤيته أسارير جبهتها وقالت كنت على أن أنساه ولعل فيه الخير الكثير وبعد أن عاجلته طويلاً فتح لها ولكنها لم تجد فيه غير كتاب التفسير. فقالت وقد استشاطت غضباً ما هذا الكتاب العتيق وما السر يا ترى في إخفاء هذا الكتاب في الصندوق الكبير فما عتمت أن أخذته وألقته طعاماً للنار وأغلقت الخزانة وعادت إلى غرفة الميت فرأت ماركوس ينتحب ويبكي فوضعت حزيمة المفاتيح تحت مخدة كريمور وخرجت تاركة الباب وراءها مفتوحاً قليلاً وذهبت إلى المخزن تنادي المستخدمين قائلة أن معلمكم قضى نحبه فتعالوا أعينوني حتى نقوم بما يجب إكراماً له فهبوا إلى غرفة الميت أما هي فاقتربت من ماركوس وانحنت عليه بحنان وأخذته إلى ناحية وقالت له: لا تبك يا بني ثم أنشأت تمر يدها على خديه وجعل الولد يتمسك بعنقها فقال له بصوت كئيب: مات المحسن إلينا فيا له من خطب جسيم يا ماركوس عزاؤنا في أننا سنراه في السماء فالله رحيم وهو سيتفضل علينا ذات يوم أن نشاهد من أسدى إلينا أياديه. وما جدك يا ولدي إلا مع الأبرار في السموات العلى!(26/92)
العدد 27 - بتاريخ: 1 - 4 - 1908(/)
المعتزلة
من العادة أن كل فرقة أو أهل مذهب إذا أرادت أن تصف الفرقة المخالفة لها تبخسها حقها وربما نسبت إليها ما لم تقله اعتقاداً منها بأن تنفير الناس عن المخالف والدعوة إلى المذهب لا يتيسران إلا بهذه الطريقة الغثة الباردة حتى أن بعضهم جوزوا الكذب على المخالف وما ندري أي دين سماوي أو مذهب فلسفي يجوز الكذب في أمثال هذه المسائل. والمعتزلة ما خلوا ممن يرميهم بما ليس فيهم خصوصاً أيام استحرت المجادلات بينهم وبين الفرق الأخرى من أهل الإسلام أيام كانوا ممتعين على عهد أوائل الدولة العباسية بحريتهم الدينية على أصولها ولم يلاقوا من أرباب السلطة شدة ولا عنتاً. وقد كثر بحث الغربيين في العصر الأخير عن المعتزلة ومنشأهم حتى قال بعضهم أن من سوء طالع المسلمين أن ينقرض المعتزلة فإنهم كانوا معدلين لأمزجة الحكومات وأرباب المذاهب الأخرى إذ جروا مع العقل وطبقوا المنقول على المعقول ونظروا إلى الجوهر أكثر من العارض ومن حكم العقل في أقواله وأفعاله يحترمه أحبابه وخصومه على السواء.
ولقد استطلعنا رأي أحد كبار علماء الإسلام في أمر المعتزلة فأملى علينا الجملة التالية فكانت خلاصة أحوالهم وغاية الغايات في الإفصاح عنهم. قال دام نفعه:
في أواخر عصر الصحابة ظهرت ثلاث فرق من فرق الإسلام أولاها الخوارج وهذه الفرقة من الفرق التي اعترضت على علي بن أبي طالب في تجويزه التحكيم بأمر الخلافة وكانت تحكم بكفر الفاسق صريحاًُ كشارب الخمر ونحوه فضلاً عمن يسعى في سفك دماء المسلمين لأجل مأرب دنيوي ومذهبها مبني على هذه القاعدة وكان في ذلك العصر قد دخلت الناس أفواجاً في دين الإسلام بسبب الفتوحات العظيمة وأكثرهم ممن لم يتهذب بمكارم أخلاق الدين فكان الناس يسمون المتساهل في الدين فاسقاً ويجعلونه من المسلمين البتة وكان كثير من الناس يصرح بأن الأمور كانت مقدرة عليهم تخفيفاً عنهم من الملام وفي خلال ذلك هبت فرقة لهم شدة تمسك بالدين وتحلاٍ بآدابه فأنكروا ذلك وصرحوا بأن الإنسان مختار في أعماله وأن الله تعالى لو أجبر الإنسان على عمله لم يؤاخذه عليه وجعلوا الناس ثلاثة أقسام مؤمن وكافر وفاسق فالمؤمن من يقوم بجميع شروط الدين والكافر الجاحد مطلقاً والفاسق من أتى بكبيرة ومنعوا من تسمية الفاسق باسم المؤمن واعتزلوا مجلس الحسن البصري لأنه لم يرض بالتصريح بسلب اسم المؤمن عن الفاسق فسميت هذه الفرقة المعتزلة. وفي(27/1)
أثناء ذلك ظهرت فرقة هي بالفرقة السياسية أشبه منها بالفرقة الدينية وهي فرقة الشيعة المشايعة لأمير المؤمنين على بن أبي طالب والشيعة حزبان حزب منهم كانوا يقولون أنه هو الأحق بالخلافة غير ان عوارض الأحوال أوجبت تأخيره لكثرة أعدائه من المنافقين وغيرهم وكانوا لا يطعنون في الذين أخروه عنها وقسم آخر يقولون إنما أخروه لعداوة في أنفسهم لا رعاية لمصلحة الأمة ثم أخذ كل مذهب دوراً من الأدوار كما يعلم من التواريخ المفصلة.؟
وإذا كان الخوارج أرباب حرب وضرب وتحمس في الدين وعبادة ونسك ولم يكن لهم بصيرة في العلم كانت أمورهم العلمية بسيطة جداً وأكثر ما يقابلون به السيف. أما المعتزلة فكانوا في أمرهم أرباب توخي وتأن واستبصار بما يقتضيه الوقت وكان مقتضى مذهبهم القيام بإنكار المنكر ولو أفضى الأمر إلى سل السيف إلا إن كان ذلك مشروط فيه الإمكان فكان المعتزلة بغيضين إلى فريقين العامة والأمراء أما الأمراء فلما يشترطونه في الإمارة من الشروط التي إذا انتشرت في أفكار العامة لم يتيسر لأمير أن ينطلق في أمر الأمة بما يشاء وأما العامة فلأنهم ينفرون ممن يخرجهم عن الدين بمجرد إتيان المنكرات التي أطلق لهم العنان من طرف خفي أمراء السوء الذين يهمهم أن تكون العامة ممن يعينونهم على مقاصدهم وكانت هذه الفرقة أعظم الفرق في المفاضلة عن الدين ورد شبه الملحدين وكان الجمهور يقولون لا حاجة لنا إلى الجدل فإن كل من خالفنا استتبناه فإن تاب فيها ونعمت وإلا طهرنا الأرض بسفك دمه عليها ولم يزل الأمر كذلك حتى أفضت النوبة إلى المأمون وكان ممن خالط ناساً منهم وكان لهم دهاء عظيم في مخالطة الطبقات العالية مع انكماشهم وشدة ورعهم فتلقف المأمون أفكارهم فقويت في نفسه فلما أفضت الخلافة إليه بادر إلى إعلانها وكان مقتضى الحال أن يدعو إلى مذهبهم كما يقتضيه حال كل من أخذ بمذهب إلا أن المأمون للمبدأ الذي كان عليه وهو إطلاق الحرية للموافق له والمخالف وجد من الواجب أن يطلق العنان لكل الفرق فالتي أخطأت يتيسر إقناعها بالحجة والبرهان والتي معها الحق ينبغي أن تتبع على ما معها منه فانطلقت في عصره جميع الفرق وجعل في داره مجالس للمناظرات بين أرباب الملل والنحل وكان العصر المفرد في ذلك.
ثم لما أفضى الأمر من بعده خف إطلاق العنان لهم. غير أنه بقيت في ذلك بقية حتى(27/2)
أفضت النوبة إلى المتوكل فقام في اضطهاد الفرق المخالفة للجمهور رعاية لمشرب العامة وخلاصاً من فرقة إذا قوي أمرها في مشارق الأرض ومغاربها كان فيها الخطر على أمر الخلافة لأنها شرطت فيها شروطاً يصعب القيام بها على كثير ولم تزل حالة المعتزلة بين انخفاض وارتفاع حتى انحطت الأمة انحطاطاً زائداً وقبل انقراضها كان كثير من الملوك يسعى إلى إبادتهم بالسيف كما يعلم من التاريخ ولم يبق لهم ملجأ غير اليمن فإن فيه تكون حزب ذو عدة وعدة يصعب محوه وهم المسمون: الزيدية فما الزيدية إلا فرقة من فرق المعتزلة يخالفون جمهورهم في بعض مسائل الإمامة ونحوها.
ومذهب المعتزلة في كون الإنسان مختاراً ليس كما ينقله عنهم المخالفون لهم فإنهم ينقلونه على صيغة مستبشعة ينفر منها العوام فضلاً عن الخواص فمن ثم وافقهم عليه كثير من علماء أهل السنة كما وافقهم على كثير مسائلهم الفرعية التي استخرجوها وكانت هذه الفرقة كثيراً ما تذكر في التاريخ بأنها معتزلة مع أن المترجم يكون من المخالفين للمعتزلة في باقي مسائلهم أشد المخالفة فكان يقع للناظر في التواريخ اضطراب وحقيقة الأمر تفهم مما ذكر التاج السبكي في الطبقات فقد نقل في ترجمة القفال عن الحافظ ابن عساكر أنه قال في القفال: بلغني أنه كان مائلاً عن الاعتدال قائلاً بالاعتزال في أول أمره ثم رجع إلى مذهب الأشعري. قال السبكي وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة عظيمة وحسيكة في الصدر جسيمة فإن مذاهب تحكي عن هذا الإمام في الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة وطال ما وقع البحث في ذلك حتى توهم أنه معتزلي واستند الوهم إلى ما نقل أن أبا الحسن الصفار قال سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير الإمام أبي بكر فقال قدسه من وجه ودنسه من وجه أي دنسه من جهة نصرة مذهب الاعتزال. والقفال هو أستاذ عصره قرأ عليه الأشعري علم الفقه وقرأ هو عليه علم الكلام وهو معدود من كبار أئمة الشافعية وعلل السبكي ذلك بقوله اعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا في الفقه ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم.
والمعتزل هم الذين أحدثوا علم الكلام وكان الأولون ينهون عنه إلا أن النفوس لما كانت مولعة بالعلم مطلقاً تابعهم عليه غيرهم وألفوا كثيراً وأوهموا اللائمين لهم بأن الكلام انتهى(27/3)
عنه إنما هو الكلام على طريقة المعتزلة غير أن الكتب التي ألفت على طريقة المعتزلة أمتن جداً لما كان في أصولهم من منع التقليد البتة ولذلك لم يكن بعضهم يقلد بعضاً وإن كل إنسان مكلف بقدر ما أداه إليه اجتهاده ووسعه ولا يخفى الفرق بين المقيد والمطلق. وهم الذين وسعوا أصول الفقه حتى أن أكثر المسائل المذكورة فيه هي من مبتكراتهم غير أن الأصوليين لم يحبوا أن يتركوها لهم وهذا ظاهر لمن يتتبع فن الأصول عصراً فعصراً وأما ما يرميهم به خصومهم من أن الاعتزال نشأن من انتشار كتب الفلسفة فهي فرية لأن الاعتزال وقواعده الأصلية نشأت قبل ترجمة كتب الفلسفة المتعلقة بالإلهيات بلا خلاف وكثير مما قالوه كمسألة الاختيار المطلق ومسالة خلود العاصي مؤبداً ونحو ذلك كان يستعين خصومهم في الرد عليهم بها بكلام الفلاسفة وإنما كان دأب المعتزلة بمقتضى متانتهم أن يخوضوا في أي شيء كان من العلوم التي كانت قبل وأن يجرؤوا على ما يظهر لهم لاعتقادهم وجزمهم بأنه لا توجد حقيقة تختلف عن الدين فكانوا أشد الناس إسراعاً للخوض في الفنون وأكثر المؤلفات النهمة في العلوم المنوعة ما عدا الفقه يدهم فيها أطول من يد من يخالفهم إجمالاً. والتاريخ يظهر ذلك بأجلى مظاهره وأما الفقه فإنهم أخذوا فيه بما أخذ به غيرهم لاعتقادهم أن الخطب فيه سهل غير أن لهم في الفقه دقائق غريبة يجدها الإنسان في تضاعيف الكتب هم منشئوها وأما الحديث فإنهم رأوا كثرة الوضع وظهر لهم أن التمييز بين الصحيح وغيره يعسر ولاسيما ما وري من طرق غيرهم فإنهم لا يطمئنون إليه لاعتقادهم أن كثيراً من أهل الورع والصدق من غيرهم ربما يجوزون وضع الحديث للمصلحة وشاهدوا في عصرهم أحاديث وضعت في حقهم مثل القدرية مجوس هذه الأمة فنفروا من المحدثين وثلبوهم أشد ثلب ولما كان علم الحديث أهم علوم الدين وهم أشد الناس ولوعاً به ذهبوا إلى قاعدة غريبة وهي أن كل حديث لا يخالف القرآن وهو قريب من مقاصد الشارع أو كان مما يدل على مكارم الأخلاق سلموا به إجمالاً بدون نظر في رواته وما وجدوه مخالفاً لذلك ردوه البتة ومن هذا نشأ كثرة ما تراه من ذكر الأحاديث في كتب مثل الجاحظ والزمخشري وغيرهما من أئمة المعتزلة فهم يبحثون عن القول لا عن الرواية.
غير أنهم يعتقدون أن من أخذوا بقوله كان على مذهبهم ومشربهم. وقد وقع في التواريخ(27/4)
مناقشات كثيرة في مسألة نحل كثير من المشهورين في العلم والفصل والسبب في ذلك أن كثيراً من المتقدمين كانوا لا يصرحون بما يصرح به المتأخرون فكان كل فريق يدعي أن فلاناً منهم ويظهر لمن راجع كتب مناقب المشهورين على طريقة المتقدمين فإنهم كانوا يفيضون في كل شيء على طريقة المتأخرين الذين يطوون كل شيء لا يوافق مآربهم الخاصة ظناً منهم أنهم بذلك يحسنون صنعاً وكثيراً ما يذكرون منقبة وهي في الباطن مثلبة وربما كانت موضوعة.
ما يبلغ العاقل من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
هذا ما قاله ننقله بلفظه ومعناه من لسان ذاك الإمام الكبير وقد قال المرتضى وإماما أجمعوا عليه فقد أجمعت المعتزلة إلى أن للعالم محدثاً قديماً قادراً عالماً حياً لا لمعنا ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر عيناً واحداً لا يدرك بحاسة عدلاً حكيماً لا يفعل القبيح ولا يريده كلف تعريضاً للثواب ومكن من الفعل وأزاح العلة ولابد من الجزاء وعلى وجوب البعثة حيث حسنت ولا بد للرسول صلى الله عليه وآلة من شرع جديد أو إحياء مندرس أو إفادة لم تحصل ن غيره وأن آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن معجزة له وإن الإيمان قول ومعرفة وعمل وأن المؤمن من أهل الجنة وعلى المنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق لا يسمى مؤمناً ولا كافراً إلا من يقول بالإرجاء إنه يخالف في تفسير الإيمان وفي المنزلة فيقول الفاسق يسمى مؤمناً وأجمعوا على أن فعل العبد غير مخلوق فيه وأجمعوا على تولي الصحابة واختلفوا في عثمان بعد الأحداث التي أحدثها فأكثرهم تولاه وتأول له وأكثرهم على البراءة من معاوية وعمرو بن العاص وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي تعداد علمائهم مصنفات عدة كالمصابيح لابن يزداذ وغيره. أهـ. هذا ما قاله واحد منهم في حقيقة ما أجمعوا عليه.
وإليك ما قاله الشهرستاني صاحب الملل والنحل وهو ليس منهم: والمعتزلة ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً وقالوا لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى احترازاً عن وصمة اللقب إذ كان الذم به متفقاً عليه لقول النبي عليه السلام القدرية مجوس هذه الأمة وكان الصفاتية تعارضهم بالاتفاق على أن الجبرية والقدري متقابلتان تقابل التضاد فكيف يطلق لفظ الضد(27/5)
على الضد وقد قال النبي عليه السلام القدرية خصماء الله في القدر والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على فعل الله وفعل العبد لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم والمحكوم فالذي يعم طائفة المعتزلة م الاعتقاد القول أن الله تعالى قديم والقدم أخص وصف لذاته ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا هو عالم بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة وهي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في الدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه فإنما وجد في المحل عرض فقد فني في الحلل واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته ولكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ونفي التشبيه عنه من كل وجه جهة ومكاناً وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها وسموا هذا النمط توحيداً واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً واتفقوا على أن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير ويحب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم وسموا هذا النمط عدلاً واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعداً ووعيداً واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام امتحاناً واختباراً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة واختلفوا في الإمامة والقول فيها نصاً واختياراً.
وهنا ذكر الشهرستاني مقالة كل طائفة من طوائف المعتزلة مثل الوصلية أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء والهذيلية أصحاب أبي الهيل حمدان بن أبي الهذيل العلاف(27/6)
والنظامية أصحاب إبراهيم بن سيار بن هاني النظام والحائطية أصحاب أحمد ابن حائط والحدثية أصحاب فضل بن الحدثي والبشرية أصحاب بشر بن المعتمر والمعمرية أصحاب معمر بن عباد السلمي والمزداربة أصحاب عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى الملقب بالمزدار والثمامية أصحاب ثمامة بن أبي أشرس النميري والهشامية أصحاب هشام بن عمرو الفوطي والجاحظية أصحاب عمر بن بحر الجاحظ والخياطية أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط والجبائية والبهشمية أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام.
ومن ورجال المعتزلة الحسنان عليهما السلام ومحمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب وأبي الأسود الدؤلي وعلقمة والأسود وشريح من أصحاب عبد الله بن مسعود والحسن البصري وعبد الله بن عمر وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري وعبد الله بن عباس وغيلان بن مسلم الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك وقتل صاحبه صالحاًَ في أبشع صورة لأنه أنكر على بني أمية سوء سياستهم في الرعية وواصل بن عطاء وهو الذي أنفذ أصحابه إلى الآفاق وبث دعاته في البلاد فبعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير وبعث إلى خراسان حفص بن سالم وبعث القاسم إلى اليمن وبعث أيوب إلى الجزيرة وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة وعثمان الطويل إلى أرمينية ومنهم عمرو بن عبيد وكان المنصور العباسي يبالغ في تعظيمه ورثاه وقلما عهد أن الخليفة رثى رعية بقوله:
صلى الإله عليك من متوسد ... قبراً مررت به على مُرَّان
قبراً تضمن مؤمناً متخشعاً ... عبد الإله ودان بالقرآن
وإذا الرجال تنازعوا في شبهة ... فصل الحديث بحجة وبيان
ولو أن هذا الدهر أبقى صالحاً ... أبقى لنا عمراً أبا عثمان
ومنهم أبو الهذيل العلاف الذي قال فيه المأمون أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام. ومنهم إبراهيم النظام وهو الذي يقول فيه الجاحظ. الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحاً فهو أبو إسحاق النظام وبشر بن المعتمر الهلالي وأبو عمرو بن بحر الجاحظ وعبد الرحمن بن كيسان الأصم وأحمد بن أبي داؤد وثمامة بن الأشرس ومنهم الجعفران اللذان يضرب المثل بعلمهما وزهدهما كما يضرب(27/7)
المثل في حسن السيرة بالعمرين وهما أبو محمد جعفر بن مبشر الثقفي وأبو الفضل جعفر بن حرب ومنهم أبو جعفر الإسكافي وأبو عبد الله الدباغ وأبو علي الجبائي ومنهم أبو العباس الناشيء ومحمد بن عمر الصيمري والسيرافيان أبو القاسم وأبو عمران وقاضي القضاة عبد الجبار الهمداني ومنهم الصاحب بن عبدا والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني والجوهري صاحب الصحاح والشريف المرتضى وأبو بكر الرازي وأبو بكر الدينوري.
ومما يؤثر في أخلاق أئمة المعتزلة وورعهم ما قاله الواثق لأحمد بن أبي داؤد لم لا تولي أصحابي (أي المعتزلة) القضاء كما تولي غيرهم فقال يا أمير المؤمنين إن أصحابك يمتنعون من ذلك وهذا جعفر بن مبشر وجهت إليه بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها فذهبت إليه بنفسي واستأذنت أن يأذن لي فدخلت من غير إذن فسل سيفه في وجهي وقال الآن حلَّ لي قتلك فانصرفت عليه فكيف أولي القضاء مثله. وروي أن أحد أئمتهم جعفر بن مبشر أضرت به الحاجة حتى كان يقبل القليل من زكاة أخوانه فحضره يوماً بعض التجار فتكلم بحضرته في خطبة نكاح فأعجب به ذلك التاجر فسأل عنه فأخبر بمسكنته فبعث إليه بخمسمائة دينار فردها فقيل له قد عذرناك في رد مال السلطان للشبهة وهذا تاجرماله من كسبه فلا وجه لردك فقال جعفر إنه استحسن كلامي افتراني أن آخذ على دعائي إلى الله تعالى موعظتي ثمناً لو لم أكن فعلت هذا ثم ابتدأني لقبلت. وروي أن بعض السلاطين وصله بعشرة آلاف درهم فلم يقبل وحمل إليه بعض أصحابه بدرهمين من الزكاة فقبل فقيل له في ذلك فقال: أرباب العشرة أحق بها مني وأنا أحق بهذين الدرهمين لحاجتي إليهما وقد ساقهما الله إلي من غير مسألة وأغناني بهما عن الشبهة والحرام.
وفي طبقات السبكي: قال ابن الصلاح هذا الماوردي عفا الله عنه يتهم بالاعتزال وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه وأتأول له وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منهما وأقول لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل ولهذا يورد من أقوال المشبهة أشياء مثل هذا الإيراد حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة ومن ذلك مصيره في الاعتراف إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان(27/8)
قال في قوله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الأنس والجن وجهان في جعلنا أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء والثاني تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحوناً بتأويلات أهل الباطل تلبيساً وتدليساً على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هولهم فيه موافق ثم هو ليس معتزلياً مطلقاً فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرن كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وغير ذلك ويوافقهم في القدر وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديماً. انتهى. .
هذا ما سمح به الوقت الآن من الكلام على هذه الفرقة وعسانا نوفق إلى درس كتبهم وما قيل فيهم فنعود إلى موضوعهم بأجلى بيان وأوسعه برهان.(27/9)
إكرام الشعراء
ما ندري متى نشأت في العرب الإجازة على الشعر في المديح. والغالب أن هذه القاعدة قديمة في أمرائهم رؤسائهم قبل الإسلام ولما جاء كعب بن زهير إلى الرسول عليه السلام وأنشد بين يديه قصيدته المشهورة خلع عليه خلعة سنية. حتى إذا كان عهد الحضارة أخذ بعض الكبراء يغالون في عطاء الشعراء لما وقر في نفوسهم من تأثير أقوالهم في الناس. والشعراء يقولون كلما زدتمونا عطاءً زدناكم مديحاً وثناءً. حتى اصبح الشعراء على عهد بعض الخلفاء والملوك والأمراء أشيبه بجماعة من ولاة الأمر وقوام الدولة تطلق لهم الجرايات والمشاهرات ويأخذون الجوائز والأعطيات ويرجع إليهم في المهمات ويثيرون النفوس في الملمات. وكم من ملك لولا أماديح شعرائه لكان خامل الذكر لا نسمع به إلا في الندر وكم من شاعر شرَّف ممدوحه بما صاغ له من عقود الثناء.
إلا أن الشعراء في هذه الأمة قد ابتذلوا في العصور المتأخرة شعرهم حتى أصبحت تستنكف من سماعه. والأمة إذا ضعفت سياستها يضعف فيها كل شيء على نسبته فكيف يتأتى للشعراء أن يضعوا أماديحهم في محلها ومحيطهم كما رأيت من الانحطاط نعم ضعفت ملكة الشعر وقلت قيمته بقلة أقدار الأمراء وشعرائهم حتى أصبح الشعراء والحال لم يزل لها بقية في بعض البلاد أشبه بشحاذين يستوكفون الأكف بما ينظمون ويضعون من المعاني والألفاظ ما يعد غلواً لو أطلق على أعظم رجل في الأرض فما الحال بممدوحيهم ولو أنصفوهم لهجوهم بدل أن يمدحوهم. نعم هزلت حالة الشعر واشمأزت نفوس المتأدبين الحقيقيين من الأماديح فأصبحوا لا يجوزون المديح حتى على من يستحقونه وعدوه من سخف القول وهجره.
ولقد رأينا الشعراء في القرن الرابع والخامس والسادس مثلاً يصونون الشعر عن الابتذال فكانت له قيمة عند الناس ولاسيما عند من يرجون نوالهم فكنت ترى أبا الطيب المتنبي لا يجوّز أن يمدح غير أرباب الدولة والزعامة وقل أن قال شيئاً يذكر فيمن دونهم مع أنه طالما أريد على ذلك، وأن رجلاً استنكف بداءة بدءٍ أن يمدح الصاحب بن عباد وهو في الفضل ما هو لجدير بأن يوقر شعره والقول يشرف بشرف قائله والمقول فيه. ولو ابتذل المتنبي شعره في عصره ومدح به كل من يعطيه لما كان له هذا الرونق والطلاوة ولما أجزل الأمراء له العطاء على ما رأينا في سيرته. فقد رأينا أبا شجاع فاتكاً يبعث إليه بألف(27/10)
دينار عندما هبط مصر بعد أن فارق سيف الدولة بن حمدان فلم يسعه إلا مدحه. واتصل بكافور ملك مصر فأعطاه ومدحه ثم لما أراده على أن يوليه ولاية صيدا وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم أما يدعي المملكة مع كافور فحسبكم هجاه أقبح هجو لما لم يرضه ورحل عن مصر فبعث على أثره من يقبض عليه ولكنه كان خلص إلى بلاد أخرى. وهكذا لو استقريت أحوال الشعراء في تلك العصور لوجدت شعرهم يعلو على حسب أقدار من يمدحونهم من معاصريهم من الملوك وكلما اقترب الشاعر من كبير كبر كما قيل جاور السعيد تسعد. ومن أعظم الشعراء الذين اشتهروا وصار لشعرهم موقع لقربهم من الكبراء وأخذهم الجوائز على قصائدهم عمارة اليمني من أهل القرن السادس وهذا الرجل كان كالمتنبي غريباً في أطواره. كان كما قال عن نفسه من قحطان ثم الحكم بن سعد العشيرة المذحجي من مدينة في تهامة في اليمن يقال لها مرطان من وادي وساع وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً وكان أهلها بقية العرب في تهامة لأنهم لا يساكنهم حضري ولا يناكحونه ولا يجيزون شهادته ولا يرضون بقتله قوداً بأحد منهم ولذلك سلكت لغتهم من الفساد وإذ كان من أهل بيت مجد وعلم انتدبه صاحب الحرمين إلى السفارة عنه والرسالة منه إلى المصرية فقدمها في شهر ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة والخليفة بها يومئذ الإمام الفائز بن الظافر الفاطمي والوزير له الملك الصالح طلائع بن رزيك فلما أُحضر للسلام عليهما في قاعة الذهب في قصر الخليفة أنشدهما قصيدة أولها:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أولت من النعم
لا أجحد الحق عندي للركاب يدٌ ... تمنت اللجم فيها رتبة الخطم
قرّين بُعد مزار العزّ من نظري ... حتى رأيت إمام العصر عن أمم
ورحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم
فهل درى البيت أني بعد فرقت ... ما سرت من حرم إلاّ إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سُرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوار مقدسةٌ ... يجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم(27/11)
وللنبوة آيات تنص لنا ... على الخفيين من حُكم ومن حِكم
وللمكالارم أعلام تعلمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلى ألسن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم
وراية الشرف البذَّاخ ترمقها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم
إلى آخر مدح به الخليفة ووزيره فأفيضت عليه الخلع المذهبة وأعطي خمسمائة دينار من مال الخليفة وأخرج له مثلها من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ وأطلقت له من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبله وتهاداه أمراء الدولة على منازلهم للولائم وانثالت عليه صلات الخليفة فمن بعده من الوزراء ومكبار عماله وقضى في مصر تسع عشرة سنة والدولة الفاطمية في أواخر أيامها تضعف وتقوى وتسفل وتعلو وكلما مدح كبيراً نال جزيلاً وجميع شعره وفيه المعاني الجيدة المصورة أحسن تصوير يدور على غرض مديح الكبراء وأغراض من السياسة تقتضيها حال من يدخل في غمارها.
جاء عمارة سفيراً إلى ملك مصر فطاب له المقام فيها وأوسعه أرباب السلطان براً لا على أنه شاعر يطلب الجوائز بل على أنه سياسي له ضلع في أحوال اليمن والحجاز وقد كان الفاطميون على عهده يملكون الحجاز وتطمح نفوسهم إلى امتلاك اليمن فحري بمن كان مثل عمارة أن يؤمل منه أن يسهل لهم أسباب فتحها ولذلك انهالت عليه الصلات أي انهيال وعاش عيشة أمير لا عيشة شاعر. ذكر ذلك في كتاب النكت العصرية وكثيراً ما يذكر مقدار ما تجود به عليه أيدي الأمراء من الأرزاق والأموال حتى صار إذا تأخروا عنه حفزهم بنابل من شعره فيعودون إلى ما عودوه عليه. قال عمارة في مدح شاور وزير الفاطميين:
حمي الوطيس فخاضه بعزائم ... علمن حسن الصبر من لم يصبر
ضجر الحديد من الحديد وشاورٌ ... في نصر آل محمد لم يضجر
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفِّر
يا فاتحاً شرق البلاد وغربها ... يُهنئك أنك وارث الاسكندر
قال وكانت هذه الأبيات من أحد السباب التي قوت عزمي على الاستغناء عن عمل الشعر لأن الناس فيما تقدم كانوا يغنون الشعراء بما ليس فوقها في الجودة إلى أن يقول: ورأيته(27/12)
(شاور) يوماً وقد انشرح صدره فقلت له أن لي مدة تنازعني النفس في الحديث معك في حاجة وقد عزمت أن اقولها لك فإن قضيتها وإلا كنت قد أبليت عن نفسي عذراً قال: وما هي؟ قلت: تعفيني من عمل الشعروتنقل الجاري على الخدمة راتباً على حكم الضيافة فإني أرى التكسب بالشعر والتظاهر به نقيصة في حقي قال: ما منعك أن تستعفي في ايام الصالح وابنه قلت: كانت لي أسوه وسلوة بالشيخ الجليس ابن الحباب وبابني الزبير الرشيد والمهذب وقد انقرض الجيل والنظراء. قال: تعفى ثم أمر بإنشاء سجل بإعفائي وأخذ عليه خط الخليفة وخطه بذلك.
وبهذا عرفت أن أخلاق عمارة كانت لأول أمرها تأبى الدخول في زمرة الشعراء والارتزاق من طريق الشعر ولكن عاد يتناول الجوائز من الخليفة فمن دونه من أرباب الدولة إلا أنه لم يكن في أخلاقه كالشعراء في العادة بل كان كثيراً ما ينصح للعظماء من الفواطم ولا يخاف بأسهم وسطوتهم قال: ولما عاد (شاور) من حصار الإسكندرية أكثر من سفك الدماء بغير حق وكان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة ثم تسحب القتلى إلى خارج الدار فسألني الجماعة أن أعمل قصيدة في هذا المعنى فقتل:
ألا أن حد السيف لم يبق خاطراً ... من الناس إلا حائراً يتردد
ذعرت الورى حتى لقد خاف مصلح ... على نفسه أضعاف ما خاف مفسد
فأغمد شفار المشرفيّ وعُد بنا ... إلى عادة الإحسان وهي التغمد
فإن بروق الماضيات وصوتها ... رواعد منهن الفرائص ترعد
وإن صليل السيف أفحش نغمة ... تظل تُغني في الطلى وتغرد
تجاوز وإلا فالمقطم خيفةً ... يذوب وماء النيل لا شك يجمد
ومع ما كان يقرّع به رجال الفاطميين ويخوفهم من ارتكاب الظلم كانوا يرتاحون إليه هذا وهو سني قح وهم شيعة محض حتى أراده بعض أمرائهم وهو الصالح بن زريك أن يعود متشيعاً ويأخذ منه ثلاثة آلاف دينار فأبى.
ولطالما كانوا يطلقون له الرواتب ويخلعون عليه الخلع ويرسلون إليه بإردبات من الحنطة والشعير وأباليج من السكر ودكاكيج كبار من الزيت الطيب وخرفان رضع سمان وله قصائد ومقطوعات يصح أن تدرج في باب الشعر الاجتماعي لما فيها من المعاني الغريبة(27/13)
ففما قاله في مدح شمس الدولة:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم
وخير خليك إن صاحبت في شرف ... عزم يفرق بين الساق والقدم
إن المعالي عروس غير واقعة ... إن لم تخلق رداءيها برشح دم
ترى مسامع فخر الدين تسمع ما ... أملاه خاطر أفكاري على قلمي
فإن اصبت فلي حظ المصيب وإن ... أخطأت قصدك فاعذرني ولا تلم
ومنها:
لا يدرك المجد إلا كل مقتحم ... في موج ملتطم أو فوج مضطرم
لا ينقض الخطوة الأولى بثانية ... ولا يفكر في العقبى من الندم
كأنما السيف أفتاه وقال له ... في فتح مكة حل القتل في الحرم
ولم يراعوا لعثمان ولا عمرٍ ... ولا الحسين ذمام الشهر الحرم
فما تروم سوى فتح صوارمه ... يضحكن في كل يوم عابس إليهم
حتى كأن لسان السيف في يده ... يروي الشريعة عن عاد وعن إرم
هذا المحدَّث عنه في ثيابك يا ... شمس الهدى والعلى يصغي إلى كلمي
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحماً على وضم
وقد ترامى إلى أن أمسكت يده ... من الكواكب بالأنفاس والكظم
وكان أول هذا الدين من رجل ... سعى لى أن أدعوه سيد الأمم
والغيث فهو كما قد قيل أوله ... قطر ومنه خراب السد بالعرم
والبدر يبدو هلالاً ثم يكشف ... الأنوار ما سترته شملة الظلم
تنمو قوى الشيء بالتدريج إن رزقت ... حظاً ويقوى شرار الزند بالضرم
حاسب ضميرك عن رأي أتاك وقل ... نصيحة وردت من غير متهم
وقال في قصيدة:
هل القلب إلا بضعة يتقلب ... له خاطر يرضى مراراً ويغضب
أم النفس إلا وهدة مطمئنة ... تفيض شعاب الهم منها وتنضب
فلا تلزمن الناس غير طباعهم ... فتتعب من طول العتاب ويتعبوا(27/14)
فإنك إن كشفتهم ربما انجلى ... رمادهم عن جمرة تتلهب
فتاركهم ما تاركوك فإنهم ... إلى الشر مذ كانوا من الخير أقرب
ولا تغترر منهم بحسن بشاشة ... فأكثر إيماض البوارض خلب
واصغ إلى ما قلته تنتفع به ... ولا تطرح نصحي فإني مجرب
فما تنكر الأيام معرفتي بها ... ولا إنني أدرى بهن وأدرب
وإني لأقوام جُذيلٌ محكك ... وإني لأقوام عذيق مُرَّجب
عليم بما يرضي المروءة والتقى ... خبير بما آتي وما أتجنب
حلبت أفاويق الزمان براحة ... تدر بها أخلافه حين تُحلب
وصاحبت هذا الدهر حتى لقد غدت ... عجائبه من خبرتي تتعجب
ودوخت أقطار البلاد كأنني ... إلى الريح أعزى أو إلى الخضر أنسب
وعاشرت أقواماً يزيدون كثرة ... على الألف أو عد الحصا حين يحسب
فما راقني في ارضهم قط مرتع ... ولاشافني في وردهم قط مشرب
تراني وإياهم فريقين كلنا ... بما عنده من عزة النفس معجب
فعندهم دنيا وعندي فضيلة ... ولا شك أن الفضل أعلى وأغلب
على أن ما عندي يدوم بقاؤُه ... عليَّ ويفنى المال عنهم ويذهب
أناسٌ مضى صدرٌ من العمر عندهم ... أصعد ظني فيهم وأصوب
رجوت بهم نيل الغنى فوجدته ... كما قيل في الأمثال عنقاءُ مغرب
وكسل عزم المدح بعد نشاطه ... لذي ذمه عندي من المدح أوجب
كان القوافي حين تدعى لشكرهم ... على الجمر تمشي أو على الشوك تسحب
أفوه بحق كلما رمت ذمهم ... وما غير قول الحق لي قط مذهب
وأصدق إلا أن أريد مديحهم ... فإني على حكم الضرورة أكذب
ولو علموا صدق المدائح فيهم ... لكانت مساعيهم تهش وتطرب
وله في الوصف أشعار منها قصيدة يذكر فيها حريق منظرة بدر بن رزيك على الخليج ويذكر داره الأخرى وما فيها من الستور وتصاويرها ومقاطعها قال فيها:
لم تحترق دار الخليج وإنما ... شبت لمن يسري بها نار القرى(27/15)
طلبت يفاع الأرض دون وهادها ... فتوقدت في رأس شامخة الذرى
أو هل تزور النار ساحة جنة ... أجريت فيها من نداك الكوثرا
أنشأت فيها للعيون بدائعاً ... زفت فأدخل حسنها من أبصرا
فمن الرخام مسيراً ومسهماً ... ومنمنماً ومدرهماً ومدنرا
والعاج بين الأبنوس كأنه ... أرض من الكافور تنبت عنبرا
قد كان منظرها بهياً رائقاً ... فجعلتها بالوشي أبهى منظرا
وكذاك جيد الظبي يحسن عاطلاً ... ويروقك البيت الحرام مسترا
ألبستها بيض الستور وحمرها ... فأتت كزهر الورد أبيض أحمرا
فمجالس كسيت رقيماً أبيضاً ... ومجالس كيت طميماً أصفرا
لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصورا
فيها حدائق لم تجدها ديمة ... أبداً ولا نبتت على وجه الثرى
والطير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها لم تستطع أن تنفرا
لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثاً ولا ظبياً بوجرة أعفرا
أنست نوافر وحشها بسباعها ... فظباؤها لا تتقي أسد الشرى
وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألوية تؤم العسكرا
نوبية المنشي تريك من المها ... روقاً ومن بُزل المهارى مشفرا
جبلت على الإقعاء من أعجابها ... فتخالها للتيه تمشي القهقرا
دارت الأيام دورتها وكتب لصلاح الدين يوسف أن يقلب الدولة الفاطمية ويديل منها الأمر للعباسية فأصبح شاعرنا بعد أن كانت عطايا الفاطميين تغدق عليه إغداقاً مقتراً عليه في الرزق يسأل فلا يجاب ويهز الأكف فلا تندى ويعرض حاله ويعرّض بنواله فلا يؤبه له وبقي أشهراً على هذه الحال وقد انقطعت عنه النعم السالفة فلم يجد له أهل الحل والعقد في مصر من يعوضه عن بعض ما كان يتناوله فصار إلى الحور بعد الكور ونعوذ بالله من زوال النعم. فكتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف قصيدة لم ينشدها وقد ترجمها بشكاية المتظلم ونكاية المتألم وهي تعرب عما لقي من الألاقي والشدائد قال:
أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي ... لنفثة مصدور وأنة موجع(27/16)
وعي كل صوت تسمعين نداءه ... فلا خير في أذن تنادي فلا تعي
تقاصر بي خطب الزمان وباعه ... فقصر عن ذرعي وقصر أذرعي
وأخرجني من موضع كنت أهله ... وأنزلني بالجود في غير موضعي
بسيف ابن مهدي وأبناء فاتك ... أقض من الأوطان جنبي ومضجعي
فيممت مصراً أطلب الجاه والغنى ... فنلتهما في ظل عيش ممنع
وزرت ملوك النيل إذ واد نيلهم ... فأحمد مرتادي وأخصب مرتعي
وفزت بألف من عطية فائز ... مواهبه للصنع لا للتصنع
وكم طرقتني من يد عضدية ... سرت بين يقظي من عيون وهجع
وجاد ابن رزيك من الجاه والغنى ... بما زاد عن مرمى رجائي ومطمعي
وأوحى إلى سمعي ودائع شعره ... لخبرته مني بأكرم مودع
وليست أيادي شاور بذميمة ... ولا عهدها عند بعهد مضيع
ملوك رعوا لي حرمة صار نبتها ... هشيماً رعته النائبات وما رُعي
وردت بهم شمس العطايا لوفدهم ... كما قال قوم في على وتوسع
مذاهبهم في الجود مذهب سنة وإن خالفوني في اعتقاد التشيع
فقل لصلاح الدين والعدل شأنه ... من الحكم المصغي إليّ فادعي
سكت فقالت ناطقات ضرورتي ... إذا حلقات الباب علقن فاقرعي
فدللت إدلال المحب وقلت ما ... أبالي بعفو الطبع لا بالتطبع
وعندي من الآداب ما لو شرحته ... تيقنت أني قدوة ابن المقفع
أقمت لكم ضيفاً ثلاثة أشهر ... أقول لصدري كلما ضاق وسع
أعلل غلماني وخيلي ونسوتي ... بما صغت من عذر ضعيف مرقع
ونوابكم للوفد في كل بلدة ... تفرق شمل النائل المتوزع
وكم من ضيوف الباب ممن لسانه ... إذا قطعوه لا يقوم بإصبع
مشارع من نعمائكم زرتها وقد ... تكرر بالاسكندرية مشرعي
وضايقني أهل الديون فلم يكن ... سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي
فيا راعي الإسلام كيف تركته ... فؤقي ضياع من عرايا وجوًّع(27/17)
دعوناك من قرب ومن وبعد فهب لنا ... جوابك فالباري يجيب إذا دُعي
إلى الله أشكو من ليالي ضرورة ... رجعنا بها نحو الجناب المرجع
قنعنا ولم نسألك صبراً وعفةً ... إلى أن عدمنا بلغة المتقنع
ولما أغص الريق مجرى حلوقنا ... أتيناك نشكو غصة المتوجع
فإن كنت ترى الناس للفقه وحده ... فمنه طرازي بل لثامي وبرقعي
ألم ترّعني للشافعني وأنتم ... أجلُّ شفيع عند أعلى مشفع
ونصري له في حيث لا أنت ناصر ... بضرب صقيلات ولا طعن شرع
ليالي لا فقه العراق بسجسج ... بمصر ولا ريح الشآم بزعزع
كأني بها من أهل فرعون مؤمن ... أصارع عن ديني وإن حان مصرعي
أمن حسنات الدهر أم سيئاته ... رضاك عن الدنيا بما فعلت معي
ملكت عنان النصر ثم خذلتني ... وحالي بمرأى من علاك ومسمع
فحالك لم توسع عليّ وتلتفت ... إليّ التفات المنعم المتبرع
فأما لأني لست دون معاشر ... فتحت لهم باب العطاء الموسع
وإما لما أوضحته من زعازع ... عصفن على ديني ولم أتزعزع
وردي ألوف المال لم ألتفت لها ... بعيني ولم أحفل ولم أتطلع
وإما لفن واحد من معارفي ... هو النظم إلا أنه نظم مبدع
فإن سمتني نظماً ظفرت بمغلق ... وإن سمتني نثراً ظفرت بمصقع
طباع وفي المطبوع من خطراته ... غني عن أفانين الكلام المصنع
سألتك في دين لياليك سُقنه ... وألزمتنيه كارهاً غير طيع
وهاجرت أرجو منك إطلاق راتب ... تقرر من أزمان كسرى وتبع
وليتك فيمن أطلق الشرق مطلعي ... لتعلم نبعي إن عجمت وخروعي
وما أنا إلا قائم السيف لم يعن ... بكفٍ ودر لم يجد من مرصع
وياقوتة في سلك عقد مداره ... على خرزات من عقيق مجزع
وكم مات نضناض اللسان من الظما ... وكم شرقت بالماء أشداق الكع
فيا واصل الأرزاق كيف تركتني ... أمد إلى نيل المنى كف أقطع(27/18)
أعندك أني كلما عطس امرؤٌ ... بذي شمم أقنى عطست بأجدع
ظلامة مصدوع الفؤاد فهل له ... سبيل إلى جبر الفؤاد المصدع
وأقسم لو قالت لياليك للدجى ... أعد غارب الجوزاء قال لها اطلعي
غدا الأمر في إيصال رزقي وقطعه ... بحكمك فابذل كيف ما شئت وامنع
كذلك أقدار الرجال وإن غدت ... بحكمك فاحفظ كيف شئت وضيِّع
فيا زارع الإسلام في كل تربةٍ ... ظفرت بأرض تنبت الشكر فازرع
فعندي إذ ما العرف ضاع غريبه ... ثناء كعرف المسكة المتضو
وقد صدرت في طيّ ذا النظم رقعة ... غدا طمعي فيها إلى خير مطمعي
أريد بها إطلاق ديني وراتبي ... فأطلقهما والأمر منك ووقع
وبيني وبين الجاه والعز والغنى ... وقائع أخشاها إذا لم توقع
وما هي إلا مدة نستمدها ... وقد فجت الأرزاق من كل منبع
إلى هاهنا أنهي حديثي وأنتهي ... وما شئت في حقي من الخير فاصنع
فإنك أهل الجود والبر والتقى ... ووضع الأيادي البيض في كل موضع
هذا ما قاله عمارة لما ضاقت عليه الدنيا والغالب أنه في تلك الحال نظم قصيدته المشهورة يرثي بها الفاطميين ويعرض بصلاح الدين التي يقول في مطلعها:
رميت الدهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلي الحسن بالعطل
وفي ذاك الحين أخذ يدبر مكيدة على صلاح الدين يريد وجماعة من رجال الفاطميين الوثوب به واتفق رأيهم كما قال ابن الأثير على استدعاء الفرنج من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد فإذا قصدوا البلاد فإن خرج صلاح الدين بنفسه إليهم ثاروا هم في القاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية وعاد من معه من العسكر اللذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقابل الإفرنج وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به وأخذوه باليد لعدم الناصر له وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفاً أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده وارسلوا إلى الإفرنج وصقلية والساحل في ذلك وتقررت القاعدة بينهم ولم يبق إلا رحيل الفرنج وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم زين الدين علي بن نجا الواعظ والقاضي(27/19)
المعروف بابن بحية ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقضاة إلا أن بني رزيك قالوا يكون الوزير منا وبني شور والقاضي قالوا يكون الوزير منا. فلم علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين وأعلمه حقيقة الأمر فأمره بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون يفعلونه وتعريف ما يتجدد أولاً بأول ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه ثم وصل رسول ملك الفرنج بالساحل بهدية ورسالة وهو في الظاهر إليه والباطن إلى أولئك الجماعة وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال فوضع صلاح الدين على الرسول من يثق به من النصارى وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة ومنهم عمارة.
وذكر صاحب الكامل أنه كان بين عمارة والقاضي الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها فلما أراد صلاح الدين صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه وظن عمارة أنه يحرضه على هلاكه فقال لصلاح الدين: يا مولانا لا تسمع منه في حقي فغضب الفاضل وخرج وقال صلاح الدين لعمارة: إنه كان يشفع فيك فندم ثم أخرج عمارة ليصلب فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل فاجتازوا به عليه فأغلق بابه ولم يجتمع به فقال عمارة:
عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب(27/20)
الدرة اليتيمة
لابن المقفع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلواته على نبينا محمد وآله الطاهرين. قال عبد الله بن المقفع: وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساداً وأوفر مع أجسادهم أحلاماً وأشد قوة وأحسن بقوتهم للأمور إتقاناً وأطول أعماراً وأفضل بأعمارهم للأشياء اختباراً فكان صاحب الدين منهم أبلغ من أمر الدين علماًُ وعملاً من صاحب الدين منا وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة فكتبوا به الكتب الباقية وكفونا به مؤونة التجارب والفطن وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب وهو بالبد غير المأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده. فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال والعقد إرادة أن لا تكون عليهم مؤونة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمن أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسنينا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور ومنهم يستمع غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتحل في آرائهم والمنتقى من أحاديثهم ولم نجدهم غادروا شيئاً يجدوا بليغٌ في صفة له مقالاً لم يسبقوه إليه لا في تعظيم لله عز وجل وترغيب فيما عنده ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها ولا في تحرير صنوف العلم وتقسيم أقسامها وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها وتبيين مآخذها ولا في وجوه الأدب وضروب الأخلاق فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.
يا طالب الأدب اعرف الأصول والفصول فإن كثيراً من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول فلا يكون دركهم دركاً ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل.(27/21)
فاصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب وتجتنب الكبائر وتؤدي الفريضة فالزم ذلك لزوم من لا غناء به عنه طرفة عين ومن يعلم أنه إن حُرِمه هلك ثم إن قدرت أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضل وأكمل.
وأصل الأمر في إصلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافاً وإن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد ومضاره والانتفاع بذلك فهو أفضل.
وأصل الأمر في البأس ألا تحدث نفسك بالإدبار وأصحابك مقبلون على عدوهم ثم أن قدرت أن تكون أول حامل وآخر منصرف من غير تضييع للحذر فهو أفضل.
وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق عن أهلها ثم إن قدرت أن تزيد ذا الحق على حقه وتطول على من لا حق له فافعل فهو أفضل.
وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط بالتحفظ ثم إن قدرت على بارع الصواب فهو أفضل.
وأصل الأمر في المعيشة أن لا تني عن طلب الحلال وأن تحسن التقدير لما تفيد وما تنفق ولا يغرَّنك من ذلك سعة تكون فيها فإن أعظم الناس في الدنيا خطراً أحوجهم إلى التقدير والملوك أحوج إلى التقدير من السوقة لأن السوقة قد يعيش بغير مال والملوك لا قوام لهم إلا بالمال ثم إن قدرت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بالمطالب فهو أفضل.
وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة التي لو حنكتك سن كنت خليقاً أن تعلمها وإن لم تخبر عنها ولكن أحببت أن أقدم إليك فيها قولاً لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادة مساويها فإن الإنسان قد تبتدر إليه في شبيبته المساويء وقد يغلب عليه ما يبدر إليه منها.
إن ابتليت بالإمارة فتعوذ بالعلماء واعلم أن من العجب أن يبتلى الرجل بها فيريد أن ينتقص من ساعات نصبه وعمله فيزيدها في ساعات دعته وشهوته وإنما الرأي له والحق عليه أن يأخذ لعمله من جميع شغله فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه فإذا تقلدت شيئاً من الأعمال فكن فيه أحد رجلين إما رجلاً مغتبطاً به فحافظ عليه مخافة أن يزول عنك وإما رجلاً كارهاً فالكاره عامل في سخرة أما للملوك إن كانوا هم سلطوه وإما لله إن كان ليس فوقه غيره.(27/22)
إياك إذا كنت والياً أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية وأن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يتقحمون عليك منها باباً يفتتحونك منه وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منها. اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه والمرء جدير ن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده فإن الراد له محمود والقابل له معيب.
لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال رضا ربك ورضا سلطان إن كان فوقك ورضا صالح من تلي عليه ما عليك إن تلهى عن المال والذكر فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب واجعل الخصال الثلاث بمكان ما لا بد لك منه والمال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بداً.
اعرف أهل الدين والمروءة في كل كورة وقرية وقبيلة فيكونوا هم أخوانك وأعوانك وبطانتك وثقاتك ولا يقذفن في روعك أنك إن استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك فإنك لست تريد الرأي للافتخار به ولكن تريد للانتفاع به ولو أنك مع ذلك أردت الذكر كان أحسن الذاكرين وأفضلها عند أهل الفضل أن يقال لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي.
إنك أن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك وكيف يتفق لك رأي المختلفين وما حاجتك إلى رضا من رضاه لجوروالي موافقة من موافقته الضلالة والجهالة فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤونة ما سواه.
لا تمكن أهل البلاء من التذلل ولا تمكن من سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم.
لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها. احرص الحرص كله على أن تكون خبيراً بأمور عمالك فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك وإن لمحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك.
ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
عوّد نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم ولا تسهلن سبيل ذلك إلاّ لأهل العقل والسن والمروءة لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخف له شأنٌ.(27/23)
لا تتركن مباشرة جميع أمرك فيعود شأنك صغيراً ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعاً.
اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم وأن مالك لا يغني الناس كلهم فاختص به ذوي الحقوق وأن كرامتك لا تطيق العامة فتوخ بها أهل الفضائل وإن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وإن دأبت فيهما وأنه ليس لك إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة فأحسن قسمتها بين دعتك وعملك.
واعلم أنك ما شغلت من رأيك بغير المهم أزرى بالمهم وما صرفت من مالك بالباطل فقدته حين تريده للحق وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرَّ بك من العجز عن أهل الفضل وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.
اعلم أن من الناس ناساً كثيراً يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في وجه غير من أغضبه وسوء اللفظ لمن لا ذنب له والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته وسوء المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك ثم يبلغ به الرضا إذا رضي أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده ويعطي من لم يكن أعطاه ويكرم من لا حق له ولا مودة فاحذر هذا الباب كله فإنه ليس أحد أسوأ حالاً من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم وسرعة رضاهم فإنه لو وصف بصفة من يتلبس بعقله أو بتخبطه المس من يعاقب في غضبه غير من أغضبه ويحبو عند رضاه غير من أرضاه لكان جائزاً في صفته.
اعلم أن الملك ثلاثة ملك دين وملك حزم وملك هوى فأما ملك الدين فإنه إذا أقيم لأهله دينهم وكان يدنهم هو الذي يعطيهم مالهم ويلحق بهم الذي عليهم أرضاهم ذلك ونزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم وأما ملك الحزم فإنه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والتسخط ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر
إذا كان سلطانك عند جدَّة دولة فرأيت أمراً استقام بغير رأي وأعواناً جزوا بغير نيل وعملاً أنجح بغير حرم فلا يغرنك ذلك فلا تستنم إليه فإن الأمر الجديد مما تكون له مهابة في أنفس أقوام وحلاوة في أنفس آخرين فيعين قوم بأنفسهم ويعين قوم بما قبلهم ويستتب بذلك الأمر غير طويل ثم تصير الشؤون إلى حقائقها وأصولها فما كان من الأمر بني على غير(27/24)
أركان وثيقة ولا عماد محكم أوشك أن يتداعى ويتصدع.
لا تكونن نزر الكلام والسلام ولا تفرطن بالهشاشة والبشاشة فإن إحداهما من الكبر والأخرى من السخف.
إذ كنت لا تضبط أمرك ولا تصول على عدوك إلا بقوم لست منهم على ثقة من رأي ولا حفاظ من نية فلا تنفعك نافعة حتى تحولهم إن استطعت إلى الرأي والأدب الذي بمثله تكون الثقة أو تستبدل بهم إن لم تستطع نقلهم إلى ما تريد ولا تغرنك قوتك بهم وإنما أنت في ذلك كراكب الأسد الذي يهابه من نظر إليه وهو لمركبه أهيب.
ليس عملك أن يغضب لأن القدرة من وراء حاجته. وليس له أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد. وليس له أن يبخل لأنه أقل الناس عذراً في تخوف الفقر وليس له أن يكون حقوداً لأن خطره قد عظم عن مجازاة كل الناس. وليتق أن يكون حلافاً فأحق الناس باتقاء الإيمان الملوك فإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى هذه الخلال إما مهانة يجدها في نفسه وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه وأما عيٌّ بالكلام حتى يجعل الإيمان له حشواً ووصلاً وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه منزلة من لا يقبل منه قوله إلا بعد جهد اليمين وأما عبث في القول أو إرسال اللسان على غير روية ولا تقدير.
لا عيب على الملك في تعيشه وتنعمه إذا تعهد الجسيم من أمره وفوض ما دون ذلك إلى الكفاة.
كل الناس حقيق حين ينظر في أمر الناس أن يتهم نظره بعين الريبة وقلبه بعين المقت فإنهما يريان الجور ويحملان على الباطل ويقبحان الحسن ويحسنان القبيح وأحق الناس باتهام عين الريبة وعين المقت الملك الذي ما وقع في قلبه لاربا مع ما يقبض له من تزيين القرناء والوزراء وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل في النظر والقول والفعل الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمراً نافذاً غير مردود.
ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الود فليكابد نقض قولهم وليبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يوصفون بها.
ليتفقد الوالي فيما يتفقد من أمور الرعية فاقة الأحرار منهم فليعمل في سدها وطغيان السفلة(27/25)
منهم فليقمعه وليستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشبعان فإنما يصول الكريم جاع واللئيم إذا شبع.
لا يحسدن الوالي من دونه فإنه في ذلك أقل عذراًُ من السوقة التي إنما تحسد من فوقها وكلٌّ لا عذر له.
لا يلومن الوالي على الزلة من ليس بمتهم على الحرص على رضاه إلا لوم أدب وتقويم ولا يعدلن بالمجتهد في رضاه البصير بما يأتي أحداً فإنهما إذا اجتمعا في الوزير أو الصاحب نام الوالي واستراح وجلبت إليه حاجاته وإن هدأ عنها وعمل فيما يهمه وإن غفل.
لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيباً موفوراً يروّح به عن قلبه ويصدر به أعماله.
لا يضيعن الوالي التثبت عندما يقول وعندما يعطي وعندما يفعل فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه وكل الناس محتاج إلى التثبيت وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع وليس عليهم مستحث.
ليعلم الوالي ن الناس على رأيه إلا من لا بال له منهم فليكن للبر والمروءة عنده نفاق فيكسد بذلك الجور والدناءة في آفاق الأرض.
جماع ما يحتاج إليه الوالي رأيان رأي يقوي سلطانه ورأي يزينه في الناس ورأي القوة أحقهما بالبداءة وأولاهما بالأثرة ورأي التزيين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعواناً مع أن القوة من الزينة والزينة من القوة لكن الأمر ينسب إلى أعظمه.
إن شغلت بصحبة الملوك فعليك بطول الرابطة من غير معاتبة ولا يحدثن لك الاستئناس غفلة ولا تهاوناً.
إذا رأيت أحدهم يجعلك أخاً فاجعله أباً ثم إن زادك فزده.
إذا نزلت في ذي منزلة أو سلطان فلا ترين أن سلطانه زادك له توقيراً وإجلالاً من غير أن يزيدك وداً ولا نصحاً وأنك ترى حقاً له التوقير والإجلال وكن في مداراته والرفق به كالمؤتنف ما قبله ولا تقدر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه فإن الأخلاق(27/26)
مستحيلة مع الملك وربما رأينا الرجل المدِلّ على ذي السلطان بقدمه قد أضر به قدمه.
لا تعتذرن إلا إلى من يحب أن يجد لك عذراً ولا تستعينن إلا بمن يحب أن يظفر لك بحاجتك.
لا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنماً ما لم يغلبك الاضطرار.
إذا غرست من المعروف غرساً وأنفقت عليه نفقة فلا تضنن بالنفقة في تربية ما غرست فتذهب النفقة الأولى ضياعاً.
إذا اعتذر إليك معتذر فتلقه بوجه مشرق وبشر طليق إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة.
اعلم أن أخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا. زينة في الإخاء. وعدة في الشدة. ومعونة في المعاش والمعاد فلا تفرّطن في اكتسابهم وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم.
اعلم أنك واجد رغبتك في الإخاء عند أقوام قد حالت بينك وبينهم بعض الأبهة التي قد تعتري أهل المروآت فتحجز منهم كثيراً ممن يرغب في أمثالهم فإذا رأيت أحداً من أولئك قد عثر به الزمان فأقله.
إذا عرفت نفسك من الوالي بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق ولا تكثرن من الدعاء له في كل كلمة فإن ذلك شبيه بالوحشة والغربة إلا أن تكلمه على رؤوس الناس فلا تأل عما عظمه ووقره.
إن استطعت ألا تصحب من صحبت من الولاة إلا على شُعبة من قرابة أو مودة فافعل فإن أخطأك ذلك فاعلم أنك تعمل على عمل السخرة وإن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك منهم بصالح مروءتك قبل ولايته فافعل.
إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته فأما إذا ولي الناس فكل الناس يلقاه بالتزيين والتصنع وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه غير أن الأرذال والأنذال هم أشد لذلك تصنعاً وعليه مكابرة وفيه تمحلاً فلا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثيرٌ من الأشرار بمنزلة الأخيار وكثيرة من الخانة بمنزلة أمناء وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء ويغطي عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنع.
لا يعرفنك الولاة بالهوى في بلدة من البلدان ولا قبيلة من القبائل فيوشك أن تحتاج فيها إلى(27/27)
حكاية أو مشاهدة فتتهم في ذلك وإذا أردت أن يقبل قولك فصحح رأيك ولا تشوبنه بشيء من الهوى فإن الرأي يقبله منك العدو والهوى يردُّه عليك الولي وأحق من احترست من أن يظن بك خلط الرأي بالهوى الولاة فإنها خديعة وخيانة كفر.
إن ابتليت بصحبة والٍ لا يريد صلاح رعية فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس بينهما خيار إما ميلك مع الوالي على الرعية وهذا هلاك الدين وإما الميل مع الرعية على الوالي وهذا هلاك الدنيا ولا حيلة لك إلا بالموت أو الهرب. واعلم أنه لا ينبغي لك إن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحبله إلا المحافظة عليه إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلاً.
تبصر ما في الوالي من الأخلاق التي تحب والتي تكره وما هو عليه من الرأي الذي يرضى له والذي لا يرضى ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحب ويكره إلى ما تحب وتكره فإن هذه رياضة صعبة تحمل على التنائي والقلى.
اعلم أنك قلما تقدر على رد رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة والمناقضة وإن لم يجمح عن السلطة ولكنك تقدر أن تعينه على أحسن رأيه وتسبب له منه وتقويه فيه فإذا قويت منه المحاسن كانت هي التي تكفه عن المساوي وإذا استحكمت منه ناحية من الصواب كان ذلك هو الذي يبصره الخطأ بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك في نفسه فإن الصواب يردي بعضه بعضاً ويدعو بعضه إلى بعض فإذا كانت له مكانة اقتلع الخط فاحفظ هذا الباب وأحكمه. ولا يكونن طلبك ما عند الوالي بالمسألة ولا تسبطئه وإن أبطأ ولكن اطلب ما قبله بالاستحقاق واستأن وإن طالت الأناة فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب وإن لم تستبطئه كان أعجل له.
ولا تخبرن الوالي أن لك عليه حقاً وأنك تعتد عليه ببلاء وإن استطعت أن ينسى حقك وبلاءك فافعل وليكن ما تذكره من ذلك تجديدك له النصيحة والاجتهاد ولا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره أول بلائك.
واعلم أن ولي الأمر إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول وأن الكثير من أولئك رحامهم مقطوعة وحبالهم مصرومة إلا عمن رضوا عنه وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم.
إياك أن يقع في قلبك تعتب على الوالي أو استزادة له فإنه إن أنست أن يقع في قلبك بدا(27/28)
في وجهك إن كنت حليماً وبدا على لسانك إن كنت سفيهاً وإن لم يزد ذلك على أن يظهر في وجهك لآمن الناس عندك فلا تأمنن أن يظهر ذلك للوالي فإن الناس إليه بعورات الأخوان سراع فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبه هو أسرع إلى التعتب والتعزز من قلبك فمحق ذلك حسناتك الماضية وأشرف بك على الهلاك وصرت تعرف أمرك مستدبراً وتلتمس مرضاته مستصعباً.
اعلم أن أكثر الناس عدواً مجاهراً حاضراً جريئاً واشياً وزير السلطان ذو المكانة عنده لأنه منفوس عليه بما ينفس على صاحب السلطان ومحسود كما يحسد غيره غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على ذلك أن من محاسديه أحباء السلطان الذين يشاركونه في المداخل والمنازل وهم وغيرهم ما عدوه الذين هم حضاره ليسو كعدو من فوقه التنائي عنه المتكتم منه وهم لا ينقطع طمعهم من الظفر به فلا يغفلون عن صب الحبائل فاعرف هذه الحال وألبس هؤلاء القوم الذين هم أعداؤك سلاح الصحة والاستقامة ولزوم الحجة فيما تسر وتعلن ثم روح من قلبك كأنه لا عدو لك ولا حاسد وإن ذكرك ذاكر عند ولي الأمر بسوء في وجهك أو في غيبتك فلا يرين منك الوالي ولا غيره اختلاطاً لذلك ولا اغتياظاً ولا يقعن ذلك موقع ما يكرثك فإنه إن وقع منك ذلك الموقع أدخل عليك أموراً مشتبهة بالريب مذكرة لما قال فيك الغائب وإن اضطرك الأمر في ذلك إلى الجواب فإياك وجواب الغضب والانتقام وعليك بجواب الحجة في حلم ووقار ولا تشكن في أن القوة والغلبة للحليم أبداً.
لا تحضرن عند الوالي كلاماً لا يعني ولا يؤمر بحضوره إلا لعناية به أو يكون جواباً بالشيء سئلت عنه ولا تعدن شتم الوالي شتماً ولا إغلاظه إغلاظاً فأن ريح العز قد تبسط اللسان بألفاظ في غير سخط ولا بأس.
جانب المسخوط عليه والظنين به عند الولاة ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا تظهرن له عذراً ولا تثنين عليه خيراً عند أحد من الناس فإذا رأيته قد بلغ من الإعتاب مما سخط عليه فيه ما ترجو أن يلين له الوالي واستيقنت أن الوالي قد استيقن بمباعدتك إياه وشدتك عليه فضع عذره عند الوالي واعمل في إرضائه عنه في رفق ولطف.
ليعلم الوالي أنك لا تستنكف عن خدمته ولا تدع مع ذلك أن تقدم إليه القول عند بعض حالات رضاه وطيب نفسه في الاستعفاء من الأعمال التي يكرهها ذو الدين وذو العرض(27/29)
وذو المروءة من ولاية القتل والعذاب وأشباه ذلك.
إذا أصبت الجاه والخاصة عند الملك فلا يحدثن لك ذلك تغيراً على أحد من أهله وأعوانه ولا استغناء عنهم فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذل لهم فيها وفي تلون الحال عند ذلك من العار ما فيه.
ليس مما تحكم من أمرك أن لا تسار أحداً من الناس ولا تهمس إليه بشيء تخفيه عن السلطان فإن السرار مما يخيل إلى كل من رآه أنه المراد به فيكون ذلك في نفسه حسيكة ووغراً وثقلاً.
لا تتهاونن بإرسال الكذبة عند الوالي أو غيره في الهزل فإنها تسرع في رد الحق وإبطال الصدق مما تأتي به.
تنكب فيما بينك وبني الوالي خلقاً قد عرفناه في بعض الأعوان والأصحاب في ادعاء الرجل عندما يظهر من صاحبه من حسن أثر أو صواب رأي أنه هو عمل في ذلك أو أشار به وإقراره بذلك إذا مدحه مادح بل وإن استطعت أن يعرف صاحبك أن تنحله صواب رأيك فضلاً عن أنك تدعي صوابه وتسند ذلك إليه وتزينه فافعل فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثر مما أنت معطٍ بأضعاف.
إذا سأل الوالي غيرك فلا تكونن أنت المجيب عنه فإن استلابك الكلام خفة بك واستخفاف منك بالمسؤول والسائل. وما أنت قائل إذا قال لك السائل ما إياك سألت أو قال لك المسؤول عند المسألة يعاد له بها دونك فأجب. وإذا لم ينصب السائل في المسألة لرجل واحد وعم بها جماعة من عنده فلا تبادر بالجواب ولا تسابق الجلساء ولا تواثب الكلام مواثبة فإذن في ذلك مع شبن التكلف والخفة أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصماء فيتعقبونه بالعيب والطعن وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخليته للقوم اعترضت أقاويلهم على عينك ثم تدبرتها وفكرت فيما عندك ثم هيأت من تفكيرك ومحاسن ما سمعت جواباً رضياً واستدبرت به أقاويلهم حتى تصيخ إليك الأسماع ويهدأ عنك الخصوم وإن لم يبلغنك الكلام حتى يكتفي بغيرك أو ينقطع الحدي فيل ذلك فلا يكون من العيب عندك ولا من الغبن في نفسك فوت ما فتك من الجواب فإن صيانة القول خير من سوء وضعه وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خيرٌ من مئة كلمة أمثالها في غير فرصها(27/30)
ومواضعها مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل وسوء التقدير وإن ظن صاحبه أن قد أتقن وأحكم.
واعلم أن هذه الأمور لا تنال إلا برحب الذرع عندما قيل وما لم يقل وقلة الإعظام لما ظهر من المروءة أو لم يظهر وسخاوة النفس عن كثير من الصواب مخافة الخلاف والعجلة والحسد والمراء.
إذا كلمك الوالي فأصغ إلى كلامه ولا تشغل طرفك عنه بنظر ولا أطرفك بعمل ولا قلبك بحديث نفسك واحذر هذا من نفسك وتعهد ما فيه.
أرفق بنظرائك من وزراء السلطان ودخلائه واتخذهم أخواناً ولا تتخذهم أعداء ولا تنافسهم في الكلمة يتقربون بها والعمل يؤمرون به فإنما أنت في ذلك أحد رجلين إما أن يكون عندك فضل على ما عند غيرك فسوف يبدو ذلك ويحتاج إليه ويلتمس منك وأنت مجمل وإما أن لا يكون ذلك عندك فما أنت مصيب من حاجتك عندهم بمقاربتك وملاينتك وما أنت واجد في موافقتك إياهم ولينك لهم من موافقتهم إياك ولينهم لك أفضل مما أنت مدركه بالمنافسة والمناظرة.
لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي ثقة باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك فإنا قد رأينا الناس يعرفون فضل الرجل وينقادون له ويتعلمون منه وهم أخلياء فإذا حضروا ذا السلطان لم يرض أحد منهم أن يقر له وأن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل فاجترؤوا عليه بالخلاف والنقض فإن ناقضهم كان كأحدهم وليس بواجدٍ في كل حين سامعاً فهماً وقاضياً عدلاً وإن ترك مناقضتهم صار مغلوب الرأي مردود القول.
إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك أو هوى يكون له فيك فلا تطمحن كل الطماح ولا تزينن لك نفسك المزايلة له عن أليفه وموضع ثقته وسره قبلك بأن تقتلعه وتدخل دونه فإن هذه الدخلة خلة من خلال السفه قد يبتلى بها الحكماء عند الدنو من ذي السلطان حتى يحدث الرجل منهم نفسه أن يكون دون الأهل والولد لفضل يظنه في نفسه أو نقص يظنه بغيره ولكل رجل من الملوك أو ذي هيئة من السوقة أليف وأنيس قد عرف روحه واطلع على قلبه فليست عليه مؤونة في تبذل بتبذل له عنده أو رأي يستنزله منه أو سر يفشيه إليه غير أن تلك الأنسة وذلك التبذل يستخرج من كل واحد منهما ما لم يكن(27/31)
ليظهر منه عند الانقباض والتشدد ولو التمس ملتمس مثل ذلك عند من يستأنف ملاطفته ومؤانسته إن كان ذا فضل من الرأي والعلم لم يجد عنده مثل ما هو منتفع به ممن هو دون ذلك في الرأي ممن قد كفي مؤانسته ووقع على طباعه لأن الأنسة روح القلب والوحشة روع عليه لا يلتاط بالقلوب إلا ما لان عليها ومن استقبل تأسيس الوحشة استقبل أمراً ذا مؤونة فإن كلفتك نفسك السمو إلى منزلة من وصفت فاقذعها عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس وإذا حدثتك نفسك أو غيرك ممن لعله يكون له فضل في الموءة أنك أولى بالمنزلة عند الكبير من بعض دخلائه وثقاته فاذكر الذي عليه من حق أليفه وثقته وأنيسه في التكرمة والذي يعينه على ذلك من الرأي أنه يجد عنده من اللف والأنس ما ليس واجداً عند غيره فليكن هذا مما تتحفظ فيه على نفسك وتعرف فيه عذر الرجل ورأيه والرأي فيه لنفسك في مثل ذلك إن أرادك مريد على الدخول دون أنيسك وأليفك وموضع ثقتك وجدك وهزلك.
اعلم أنه تكاد تكون لكل رجل غالبة حديث أما عن بلد من البلدان أو ضرب من ضروب العلم أو صنف من صنوف الناس أو وجه من وجوه الرأي وعندما يغرم به الرجل من ذلك يبدو منه السخف ويعرف منه الهوى فاجتنب ذلك في كل موطن ثم عند أولي الأمر خاصة.
لا تشكون إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطلعت عليه من رأي تكرهه له فإنك لا تزيد على أن تفطنهم لميله وتغريهم بتزيين ذلك له والميل عليه معه.
اعلم ا، الرجل ذا الجاه عند الوالي والخاصة لا محالة أنه يرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناسي والأمور فإذا آثر ذلك يكره كل ما يخالفه أو يمتعض من الجفوة يراها في المجلس أو النبوة في الحاجة أو الرد للرأي أو الإدناء لمن لا يهوى إدناءه والإقصاء لمن يكره إقصاءه فإذا وقعت في قلبه الكراهية تغير لذلك وجهه ورأيه وكلامه حتى يبدو ذلك للوالي وغيره وكان ذلك لفساد منزلته سبباً فذلل نفسك باحتمال ما خالفك من رأي الولاة وقررها بأنهم إنما كانوا أولياءك لتتبعهم في أرائهم ولا تكلفهم إتباعك وتغضب من خلافهم إياك.
اعلم أن الملوك يقبلون من وزرائهم التنجيل ويعدونه منهم شفقة ونظراً ويحسدونهم عليه وإن كانوا أجواداً فإن كنت مبخلاً غششت صاحبك بفساد مروءته وإن كنت مسخياً لم تأمن(27/32)
أضرار ذلك بمنزلتك عنده فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها والتماس المخرج فيما تترك من تنجيل صاحبك بأن لا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلاً إلى شيء من هواك ولا طلباً لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه.
لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك وموافقتهم فيما خالفك وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك وعلى أن لا تكتمهم سرك ولا تستطلع ما كتموه وتخفي ما أطلعوك عليه من الناس كلهم حتى تحمي نفسك الحديث به وعلى الاجتهاد في رضاهم والتلطف لحاجاتهم والتثبت لحجتهم والتصديق لمقالتهم والتزيين لرأيهم وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا وترك الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا وكثرة النشر لمحاسنهم وحسن الستر لمساويهم والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيداً والمباعدة لمن باعدوا وإن كانوا أقرباء والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا به والحفظ له وإن ضيعوه والذكر له وإن نسوه والتخفيف عنهم لمؤونتك والاحتمال لهم كل مؤونة والرضا عنهم وبالعفو وقلة الرضا من نفسك لهم بالمجهود فإن وجدت عنهم وعن صحبتهم غنى فأغن عن ذلك نفسك واعتزله جهدك فإن من يأخذ عملهم بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة ومن لا يأخذ بحقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة. إنك لا تأمن أنفهم إن أعلمتم ولا عقوبتهم إن كتمتم ولا تأمن غضبهم إن صدقتم ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم. إن لزمتهم لم تأمن تبرمهم بك وإن زايلتهم لم تأمن عقابهم، إنك إن تستأمرهم حملت المؤونة عليهم وإن قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم. إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق فإن كنت حافظاً إن بلوك جلداً وإن قربوك أميناً وإن ائتمنوك تشكرهم ولا تكلفهم الشكر بصيراً بأهوائهم مؤثراً لمنافعهم ذليلاً إن ظلموك راضياً إن أسخطوك وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر كل الحذر
باب الصديق
ابذل لصديقك دمك ومالك ولمعرفتك رفدك ومحضرك وللعامة بشرك وتحننك ولعدوك عدلك واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد.
إن سمعت من صاحبك كلاماً أو رأيا يعجبك فلا تنتحله تزيناً به عند الناس واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته وتنسبه على صاحبه. واعلم أن انتحالك ذاك سخطة(27/33)
لصاحبك وإن فيه مع ذلك عاراً فإن بلغ ذلك بك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه وهو يسمع جمعت مع الظلم قلة الحياء وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس. ومن تمام حسن الخالق والأدب أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك وتنسب إليه رأيه وكلامه وتزينه مع ذلك ما استطعت.
لا يكونن من خلقك أن تبتدئ حديثاً ثم تقطعه وتقول سوف كأنك روأت فيه بعد ابتدائه وليكن ترويك فيه قبل التفوه فإن احتجان الحديث بعد افتتاحه سخف.
اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع فإنه ليس في كل حين يحسن كل الصواب وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع فإن أخطأك ذلك أدخلت المحنة على عملك حتى تأتي به إن أتيت به في غير موضعه وهو لا بهاء ولا طلاوة له.
لتعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول.
إن آثرت أن تفاخر حداً ممن تستأنس إليه لهو الحديث فاجعل غاية ذلك الجد ولا تعدونّ أن تتكلم فيه بما كان هزلاً فإذا بلغ الجد أو قاربه فدعه ولا تخلطن بالجد هزلاً ولا بالهزل جداً فإنك إن خلطت بالجد هزلاً هجنته وإن خلطت بالهزل جداً كدرته غير أني قد علمت موطناً واحداً إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي وظهرت على الأقران وذلك أن يتوردك متورد بالسفه والغضب فتجيبه إجابة الهازل المداعب برحب من الذرع وطلاقة من الوجه وثبات من المنطق.
إن رأيت صاحبك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك فإنما هو أحد رجلين إن كان رجلاً من أخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أرقبها من عدوك لشر يكفه عنك وعورة يسترها منك وغائبة يطلع عليها لك فأما صديقك فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك وإن كان رجلاً من غير خاصة أخوانك فبأي حق تقطعه عن الناس وتكلفه أن لا يصاحب ولا يجالس إلا من تهوى.
تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب وطب نفساً عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي مدارة لئلا يظن أصحابك أن ما بك التطاول عليهم.
إذا قبل إليك مقبل بوده فسرّك ألا يدبر عنك فلا تنعم الإقبال عليه والتفتح له فإن الإنسان طبع على لؤم فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به ويلصق بمن رحل عنه.
لا تكثرن ادعاء العلم في كل ما يعرض فإنك من ذلك بين فضيحتين إما أن ينازعوك فيما(27/34)
ادعيت فيهجم منك على الجهالة والصلف وإما ألا ينازعوك ويخلوا الأمور في يديك فينكشف منك التصنع والمعجزة.
استحي الحياء كله من أن تخبر صاحبك أنك عالم وأنه جاهل مصرحاً أو معرضاً وإن استطلت على الأكفاء فلا تثقن منهم بالصفاء.
إن آست من نفسك فضلاً فتحرج أن تذكره أو تبديه فاعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك في قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل واعلم أنك إن صبرت ولم تعجل ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف ولا يخفين عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده وقلة وقاره في ذلك باب من البخل واللؤم وأن من خير الأعوان على ذلك السخاء والكرم.
إن أحببت أن تلبس ثوب الوقار والجمال وتتحلى بحلية المودة عند العامة وتسلك الجدد الذي لا خبار فيه ولا عثار فكن عالماً كجاهل وناطقاً كعي. فأما العلم فيرشدك وأما قلة ادعائه فينفي عنك الحسد وأما المنطق إذا احتججت إليه فسيبلغ حاجتك وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار.
إذا رأيت رجلاً يحدث حديثاً قد علمته أو يخبر خبراً قد سمعته فلا تشاركه فيه ولا تتعقبه عليه حرصاً على أن يعلم الناس أنك قد علمته فإن في ذلك خفة وشحاً وسوء أدب وسخفاً.
ليعرف أخوانك والعامة أنك إن استطعت أن تكون إلى ان تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل فعلت فإن فضل القول على الفعل عار وهجنة وفضل الفعل على القول زينة وأنت حقيق فيما وعدت من نفسك أو أخبرت صاحبك عنه أن تحتجن بعض ما في نفسك إعداداً لفضل الفعل على القول وتحرزاً بذلك عن تقصير فعل إن قصر وقلما يكون إلا مقصراًُ.
إحفظ قول الحكيم الذي قال لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل وفيما بينك وبين صديقك الرضا وذلك أن العدو خصم تضربه بالحجة وتغلبه بالحكام وأن الصديق ليس بينك وبينه قاض فإنما حكمه رضاه.
اجعل عامة تشبثك في مؤاخاة من تؤاخي ومواصلة من تواصل ووطن نفسك على أنه لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك وإن ظهر لك منه ما تكره فإنه ليس كالمرآة التي تطلقها إذ شئت(27/35)
ولكنه عرضك ومروءتك فإنما مروءة الرجل أخوانه وأخدانه فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلاً من أخوانك وإن كنت معذراً نزل ذلك عند أكثرهم بمنزلة الخيانة للإخاء والملال وإن أنت صبرت مع ذلك على مقارنة على غير الرضا عاد ذلك إلى العيب والنقيصة فاتئاد الاتئاد والتثبت التثبت.
إذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائك فإن كان من أخوان الدين فليكن فقيهاً ليس بمراء ولا حريص وإن كان من أخوان الدنيا فليكن حراً ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير ولا مشنوع فإن الجاهل أهل لأن يهرب منه أبواه وأن الكذاب لا يكون أخاً صادقاً لأن الكذب الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذب قلبه وإنما سمي الصديق من الصدق وقد يتهم صدق الكلب وإن صدق اللسان فيكف إذا ظهر الكذب على اللسان وأن الشرير يكسبك العدو ولا حاجة لك في صداقة تجلب العداوة وأن المشنوع شانع صاحبه.
تحرز من سكر السلطة وسكر العلم وسكر المنزلة وسكر الشباب فإنه ليس من هذا شيء إلا وهو ريح جنة تسلب العقل وتذهب الوقار وتصرف القلب والسمع والبصر واللسان عن المنافع.
اعلم أن انقباضك عن الناس يكسبك العداوة وأن تفرشك لهم يكسبك صديق السوء وفسولة الأصدقاء أضر من بغض الأعداء فإنك إن واصلت صديق السوء أعيتك جرائره وإن قطعته شانك اسم القطيعة وألزمك ذلك من يرفع عيبك ولا ينشر عذرك فإن المعايب تنمى والمعاذير لا تنمى.
البس للناس لباسين ليس للعاقل بد منهما ولا عيش ولا مروءة إلا بهما لباس انقباض واحتجاز تلبسه للعامة فلا تلفين إلا متحفظاً متشدداً متحرزاً مستعداً ولباس انبساط واستئناس تلبسه للخاصة من الثقات فتتلقاهم ببنات صدرك وتفضي إليهم بموضوع حديثك وتضع عنك مؤونة الحذر وتحفظ فيما بينك وبينهم وأهل هذه الطبقة الذي هم أهلها قليل لأن ذا الرأي لا يدخل أحداً من نفسه هذا المدخل إلا بعد الاختبار والسبر والثقة بصدق النصيحة ووفاء العقل.
اعلم أن لسانك أداة مغلبة عليه عقلك وغضبك وهواك وجهلك فكل غالب عليه مستمتع به وصارفه في محبته فإذا غلب عليك عقلك فهو لك وإذا غلب عليه شيء من أشباه ما سميت(27/36)
لك فهو لعدوك فإن استطعت أن تحتفظ به فلا يكون غلا لك ولا يستولي عليه أو يشاركك عدوك فيه فافعل.
إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية فاعلم أنك قد ابتليت معه إما بالمؤاساة فشاركه في البلية وإما بالخذلان فتحتمل العار فالتمس المخرج عند اشتباه ذلك وآثر مروتك على ما سواها فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسك مشاركة أخيك فيها فأحمل فلعل الإجمال يسعك لقلته في الناس.
إذا أصاب أخاك فضل فإنه ليس في دنوك منه وابتغاؤك مودته وتواضعك له مذلة فاغتنم ذلك واعمل فيه.
إذا كانت لك عند أحد صنيعة أو كان لك طول فالتمس إحياء ذلك بإماتته وتعظيمه بالتصغير له ولا يقتصرن في قلة المن على أن تقول لا أذكره ولا أصغي بسمعي إلى من يذكره فإن هذا قد يستحي منه بعض من لا يوصف بعقل ولا كرم ولكن احذر أن يكون في مجالستك إياه وما تكلمه به أو تستعينه عليه أو تجاريه فيه شيء من الاستطالة فإن الاستطالة تهدم الصنيعة وتكدر المعروف.
احترس من سورة الغضب وسورة الحمية وسورة الحقد وسورة الجهل وأعدد لكل شيء من ذلك عدة تجاهد بها من الحلم والتفكر والروية وذكر العاقبة وطلب الفضيلة واعمل أنك لا تصيب الغيبة إلا بالجهاد وأن قلة الإعداد لموافقة الطبائع المتطلعة هو الاستسلام وأنه ليس أحد إلا فيه من كل طبيعة سوء غريزة وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء فإما أن بسلم أحد من أن تكون فيه تلك الغرائز فليس في ذلك مطمع إلا أن الرجل القوي إذا كابرها بالقمع لهالكها كلما تطلعت لم يلبث أن يميتها حتى كأنها ليست فيه وهي في ذلك كامنة كمون النار في العود فإذا وجدت قادحاً من غير علة أو غفلة استورت كما تستوري عند القدح ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها كما لا تبدأ النار إلا بعودها التي كانت فيه.
ذللك نفسك بالصبر على جار السوء وعشير السوء وجليس السوء فإن ذلك ما لا يكاد يخطئك فإن الصبر صبران صبر الرجل على ما يكره وصبره عما يحب فالصبر على المكروه أكثرهما وأشبههما أن يكون صاحبه مضطراً واعلم أن اللئام أصبر أجساداً والكرام أصبر نفوساً وليس الصبر الممدوح بأن يكون جلد الرجل وقحاً أو رجله قوية على المشي(27/37)
أو يده قوية على العمل فإنما هذا من صفات الحمير ولكن أن يكون للنفس غلوباً وللأمور محتملاً وفي الضر متجملاً ولنفسه عند الرأي والحفاظ مرتبطاً وللحزم مؤثراً والهوى تاركاً وللمشقة التي يرجو عاقبتها مستخفاً وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظباً ولبصره بعزمه منفذاً.
حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه ويكون هو لهواك ولذتك وسلوتك وبلغتك. واعلم أن العلم علمان علم للمنافع وعلم لتزكية العقل وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير ان يحرض عليه علم المنافع وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها وجلاؤها فضيلة منزلة عند أهل الفضل في الألباب.
عود نفسك السخاء واعلم أنهما سخاآن سخاوة نفس الرجل بما في يديه وسخاوته عما في أيدي الناس وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما واقربهما من أن تدخل فيه المفاخرة وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم وأنزه من الدنس فإن هو جمعهما فبذل وعف فقد استكمل الجود والكرم.
ليكن من تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسوداً فإن الحسد خلق لئيم ومن لؤمه أن يوكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكفاء والخلطاء فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع من هو خير منك وأن غنماً يكون أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من علمه وأفضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته وأفضل منك في المال فتفيد من ماله وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجتك بجاهه وأفضل منك في الدين فتزداد صلاحاً بصلاحه.
ليكن ما تنظر فيه من أمر عدوك وحاسدك أن تعلم أنه لا ينفعك أن تخبر عدوك أنك له عدو فتنذره نفسك وتؤذنه بحربك قبل الأعداء والفرصة فتحمله على التسلح لك وتوقد ناره عليك.
اعلم أن أعظم خطرك أن تري عدوك أنك لا تتخذه عدواً فإن لك غرة له وسبيل لك إلى القدرة عليه فإن أنت قدرت فاستطعت اغتفاراً لعداوته عن أن تكافئ بها فهنالك استكملت عظيم الخطر وإن كنت مكافئاً بالعدوة والضرر فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية وعداوة الخاصة بعداوة العامة فإن ذلك هو الظلم والعار واعلم مع ذلك أنه ليس كل العداوة(27/38)
والضرر يكافأ بمثله كالخيانة ولا تكافأ بالخيانة والسرقة لا تكافأ بالسرقة ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه وتؤاخي أخوانه فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتجافي فإنه ليس رجل ذو طرق يمتنع عن مؤاخاتك إذا التمست ذلك منه وإن كان أخوان عدوك غير ذوي طرق فلا عدو لك.
لا تدع مع السكوت عن شتم عدوك إحصاء معايبه ومثالبه وإتباع عواراته حتى لا يشذ عنك من ذلك صغير ولا كبير من غير أن تشيع عليه فيتقيك به ويستعد له أو تذكره في غير موضعه فتكون كمستعرض الهواء بنبله قبل إمكان الرمي.
لا تتخذ اللعن والشتم على عدوك سلاحاً فإنه لا يجرح في نفس ولا في مال ولا دين ولا منزلة.
إذا أردت أن تكون داهياً فلا تحبن أن تسمى داهياً فإنه من عرف بالدهاء خاتل علانية وحذره الناس حتى يمتنع منه الضعيف وإن من إرب الأريب دفن إربه ما استطاع حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة والطريقة في إربه ألا يؤارب العاقل المستقيم له الذي يطلع على غامض إربه فيمقته عليه.
إن أردت السلامة فاشعر قلبك الهيبة للأمور من غير أن تظهر منك الهيبة فيفطن الناس لهيبتك ويجرئهم عليك ويدعو ذلك إليك منهم كل ما تهاب فأشعب لمداراة ذلك من كتمان المهابة وإظهار الجراءة والتهاون طائفة من رأيك. وإن ابتليت بمجاراة عدو مخالف فالزم هذه الطريقة التي وصفت لك في استشعار الهيبة وإظهار الجراءة والتهاون وعليك بالحذر في أمرك والجراءة في قلبك حتى تملأ قلبك جراءة ويستفرغ عملك الحذر.
إن من عدوك من تعمل في هلاكه ومنهم من تعمل في البعد عنه فاعرفهم على منازلهم ومن أقوى القوة لك على عدوك وأعز أنصارك في الغلبة أن تحصي على نفسك العيوب والعورات كلما أحصيتها على عدوك وتنظر عند كل عيب تراه أو تسمعه لأحد من الناس هل قارفت مثله أو مشاكله فإن كنت قارفت منه شيئاً فأحصه فيما تحصي على نفسك حتى إذا أحصيت ذلك كله فكابر عدوك بإصلاح عيوبك وتحصين عوراتك وإحراز مقاتلك وخذ نفسك بذلك ممسياً مصبحاً فإذا آنست منها دفعاً لذلك أو تهاوناً به فأعدد نفسك عاجزاً ضائعاً جالياً معوراً لعدوك ممكناً له من رميك وإن حصل من عيوبك بعض ما لا تقدر على(27/39)
إصلاحه من أمر من حسبك أو مثالب آبائك أو عيب أخوانك ثم اجعل ذلك كله نصب عينيك واعلم أن عدوك مريدك بذلك فلا تغفل عن التهيؤ له والإعداد لقوتك وحجتك وحيلتك فيه سراً وعلانية فأما الباطل فلا تروعن به قلبك ولا تستعدن به ولا تشتغلن به فإنه لا يهولك ما لم يقع وإذا وقع اضمحل.
اعلم أنه قلما بده أحد بشيء يعرفه من نفسه وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس فيعيره به معير عند السلطان أو غيره إلا كاد يشهد به عليه وجهه وعيناه ولسانه للذي يبدو منه عند ذلك والذي يكون من انكساره وفتوره عند تلك البداهة فاحذر هذه وتصنعها وخذ أهبتك لبغتاتها.
اعلم أن من واقع الأمور في الدين وأنهكها للجسد وأتلفها للمال وأضرها بالعقل وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار الغرام بالنساء ومن البلاد على المغرم بهن أن لا ينفك يأجم ما عنده وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن. وإنما النساء أشباه وما يرى في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه وإنما المترغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس كالمترغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلاً وتفاوتاً مما في رحالهم من النساء. ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس في لبه يرى المرأة من بعيد ملتففة في ثيابها فيصور لها في قلبه الحسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح وأدم الدمامة فلا يعظه ذلك عن أمثالها ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق وهذا هو الحمق والشقاء ومن لم يحم نفسه ويظلفها ويجلها عن الطعام والشراب والنساء في بعض ساعات شهوته وقدرته كان أيسر ما يصيبه من وبال أمره انقطاع تلك اللذات عنه بخمود نار شهوته وضعف عوامل جسده وقل من تجد إلا مخادعاً لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحمية والدواء وفي أمر مروءته عند الأهواء والشهوات وفي أمر دينه عند الريبة والشبهة والطمع.
إن استطعت أن تنزل نفسك دون غايتك في كل مجلس ومقام ومقال ورأي وفعل فافعل فإن(27/40)
رفع الناس إياك فوق المنزلة التي تحط إليها نفسك وتقربهم إياك في المجلس الذي تباعدت عنه وتعظيمهم من أمرك ما لم تعظم وتزيينهم من كلامهم ورأيك ما لم تزين هو الجمال.
لا يعجبنك العالم ما لم عالماً بمواضع ما يعلم. إن غلبت على الكلام وقتاً فلا تغلبن على السكوت فإنه لعله يكون المراء واعرفه ولا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة والمجادلة واعلم أن المماري هو الذي لا يحب أن يتعلم ولا يتعلم منه فإن زعم زاعم أنه إنما يجادل في الباطل عن الحق فإن المجادل وإن كان ثابت الحجة ظاهر البينة فإنه يخاصم إلى غير قاض وإنما قاضيه الذي لا يعدو بالخصومة إلا إليه عدل صاحبه وعقله فإن آنس أو رجا من صاحبه عدلاً يقضي به على نفسه فقد أصاب وجه أمره وإن تكلم على غير ذلك كان ممارياً.
إن استطعت أن لا تخبر أخاك عن ذات نفسك بشيء إلا وأنت محتجن عنه بعض ذلك التماساً لفضل الفعل على القول واستعداداً لتقصير فعل إن قصر فافعل واعلم أن فضل الفعل على القول زينة وفضل القول على الفعل هجنة وإن أحكام هذه الخلة من غرائب الخلال.
إذا تراكمت الأعمال عليك فلا تلتمس الروح في مدافعتها بالروغان منها فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها وأن الصبر عليها هو يخففها وأن الضجر منها هو يراكمها عليك فتعهد من ذلك في نفسك خصلة قد رأيتها تعتري بعض أصحاب الأعمال أن الرجل يكون في أمر من أمره فيرد عليه شغل آخر ويأتيه شاغل من الناس يكره تأخيره فيكدر ذلك بنفسه تكدير يفسد ما كان فيه وما ورد عليه حتى لا يحكم واحداً منهما فإن ورد عليك مثل ذلك فيكن معك رأيك الذي تختار به الأمور ثم اختر أولى الأمرين بشغلك فاشتعل به حتى تفرغ منه ولا يعظمن عليك فوت ما فات وتأخير ما تأخر إذا أعملت الرأي معمله وجعلت شغلك في حقه.
اجعل لنفسك في كل شيء غاية ترجو القوة والتمام عليها واعلم أنك إن جاوزت الغاية في العبادة صرت إلى التقصير وإن جاوزتها في حمل العلم صرت من الجهال وإن جاوزتها في تكلف رضا الناس والخفة معهم في حاجاتهم كنت المصنع المحشود.
اعلم أن بعض العطية لؤم وبعض البيان عي وبعض العلم جهل فإن استطعت أن لا يكون(27/41)
عطاؤك خوراً ولا بيانك هذراً ولا علمك جهلاً فافعل.
اعلم أن ستمر عليك أحاديث تعجبك إما مليحة وإما رائعة فإذا أعجبتك كنت خليقاً بأن تحفظها فإن الحفظ موكل بما راع وستحرص على أن تعجب منها الأقوام فإن الحرص على ذلك التعجب من شأن الناس وليس كل معجب لك معجباً لغيرك وإذا نشرت ذلك مرة أو مرتين فلم تره وقع من السامعين موقعاً منك فازدجر عن العود فإن العجب من غير عجيب سخف شديد وقد رأينا من الناس ن يعلق الشيء ولا يقلع عن الحديث به ولا يمنعه قلة قبول أصحابه له من أن يعود ثم يعود.
إياك والأخبار الرائعة وتحفظ منها فإن الإنسان من شأنه الحرص على الأخبار لاسيما ما راع منها فأكثر الناس من يحدث بما سمع ولا يبالي ممن سمع وذلك مفسدة للصدق ومزراة بالرأي فان استطعت ألا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدق وألا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل.
ولا تقل كما يقول السفهاء أخبر بما سمعت فإن الكذب أكثر ما أنت سامع وإن السفهاء أكثر من هو قائل وأنك إن صرت للأحاديث واعياً وحاملاً كان ما تعي وتحمل عن عن العامة أكثر مما يخترع المخترع بأضعاف.
انظر من صاحبت من الناس من ذي فضل عليك بسلطان ومنزلة ومن دون ذلك من الخلصاء والأكفاء والأخوان فوطن نفسك في صحبته على أن تقبل منه العفو وتسخو نفسك عما اعتاص مما قبله غير معاتب ولا مستبطئ ولا مستزيد فإن المعاتبة مقطعة للود وإن الاستزادة من الجشع وأن الرضا بالعفو والمسامحة في الخلق مقرب لك كل ما تتوق ليه نفسك مع بقاء العرض والمودة والمروءة.
اعلم أنك ستبتلى من أقوام بسفه وأن سفة السفيه سيطلع لك منه فإن عارضته أو كافأته بالسفه فكأنك قد رضيت ما أتى به فاجتنب أن تحتذي مثاله فإن كان ذلك عندك مذموماً فحقق ذمك إياه بترك معارضته فأما أن تذمه وتمتثله فليس ذلك لك.
لا تصاحبن أحداً وإن استأنست به أخاً قرابة وأخا مودة ولا والداً ولا ولداً إلا بمرة فإن كثيراً من أهل المروءة قد يحملهم الاسترسال أو التبذل على أن يصبحوا كثيراً من الخطباء بالإدلال والتهاون ومن فقد من صاحبه صحبة المروة ووقارها أحدث له في قلبه رقة شأن(27/42)
وخفة منزلة.
لا تلتمس غلبة صاحبك والظفر عليه بكل كلمة ورأي ولا تجترئن على تقريعه وتبكيته بظفرك إذا استبان وحجتك إذا وضحت فإن أقواماً يحملهم حب الغلبة وسفه الراي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعدما تنسى فيلتمسوا فيها الحجة ثم يستطيلوا بها على الصحاب وذلك ضعف في العقل ولؤم في الأخلاق.
لا يعجبنك إكرام من يكرمك لمنزلة أو سلطان فإن السلطة أوشك أمور الدنيا زوالاً ولا يعجبنك إكرامهم إياك للنسب فإن الأنساب أقل مناقب الخير غناء عن أهلها في الدين والدنيا ولكنم إذا أكرمت على دين أو مروءة فذلك فليعجبك فإن المروءة لا تزايلك في الدنيا والدين لا يزايلك في الآخرة.
اعلم أن الجبن مقتلة وأن الحرص محرمة فانظر فيما رأيت أو سمعت أمن قتل في القتال مقبلاً أكثر أم من قتل مدبراً وانظر أمن يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو إليك نفسك بطلبته أم من يطلب إليك بالشره.
اعلم أنه ليس كل من كان لك فيه هوى فذكره ذاكرٌ بسوء وذكرته أنت بخير ينفعه ذلك أو يضره فلا يستخفنك ذكر أحد من صديق أو عدة إلا في موطن دفع أو محاماة فإن صديقك إذا وثق بك في موطن المحاماة لم يحفل بما تركت مما سوى ذلك ولم يكن له عليك سبيل لائمة وأن الأحزم في أمر عدوك أن لا تذكره إلا حيث يضره وألاَّ تعد يسير الضرّ ضراً.
اعلم أن الرجل قد يكون حليماً فيحمله الحرص على أن يقال جليدٌ والمخافة أن يقال مهين على أن يتكلف الجهل وقد يكون الرجل زميتاًً فيحمله الحرص على أن يقال لسنٌ والمخافة أن يقال عيٌّ على أن يقول في غير موضعه فيكون هذراً فاعرف هذا وأشباهه واحترس منه كله.
إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى.
ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم فيكون افتقارك إليهم في لين كلمتك وحسن بشرك ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك.
لا تجالس امرءً بغير طريقته فإنك إذا أردت لقاء الجاهل بالعلم والجافي بالفقه والعيّ بالبيان(27/43)
لم تزد على أن تضيع عقلك وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف وغمك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له ونقضوه عليك وحرصوا على أن يجعلوه جهلاً حتى أن كثيراًَ من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس ليحضره من لا يعرفه فيثقل عليه ويغتم به. ليعلم صاحبك أنك حَدِبٌ على صاحبه وإياك إن عاشرك امرؤٌ ورافقك أن لا يرى منك بأحد من أصحابه وأخدانه رأفة فإن ذلك يأخذ من القلوب مأخذاً وإن لطفك بصاحب صاحبك أحسن عنده موقعاً من لطفك به بنفسه.
اتق الفرح عند المحزون واعلم أنه يحقد على المنطلق ويشكر للمكتئب.
اعلم أنك ستسمعه من جلسائك الرأي والحديث تنكره وتستجفيه من محدث عن نفسه أو عن غيره فلا يكونن منك التكذيب ولا التسخيف لشيء مما يأتي به جليسك ولا يجرئنك على ذلك أن تقول إنما حدث عن غيره فإن كل مردود عليه سيمتعض من الرد وإن كان في القوم من تكره أن يستقر قلبه ذلك القول لخطأ تخاف أن يُعقد عليه أو مضرة تخشاها على أحد فإنك قادر على أن تنقص ذلك في سر فيكون أيسر للنقض وأبعد للبغضة. واعلم أن البغضة والخوف والمودة أمن فاستكثر من المودة صامتاً فإن الصمت يدعوها إليك وناطقاً بالحسنى فإن المنطق الحسن يزيد من ود الصديق ويسل سخيمة الوغر.
واعلم أن خفض الصوت وسكون الريح ومشي القصد من دواعي المودة إذا لم يخالط ذلك بأوٌ ولا عجب أما العجب فهو من دواعي المقت والشنآن.
تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ون حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه وقلة التلفت إلى الجواب والإقبال بالوجه والنظر إلى المتكلم والوعي لما يقول.
واعلم أن المستشار ليس بكفيل والرأي ليس بمضمون بل الرأي كله غرر لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة ولأنه ليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز بل ربما أعيا الحزمة ما أمكن العجزة فإذا أشار عليك صاحبك برأي فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمل فلا تجعل ذلك عليه لوماً وعذلاً تقول أنت فعلت هذا بي وأنت أمرتني ولولا أنت ولا جرم لا أطيعك فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة وإن كنت أنت المشير معمل برأيك أو ترك فبدا صوابك فلا تمتن ولا تكثرن ذكره إن كان نجاح ولا تلم عليه إن كان استبان(27/44)
في تركه ضرراً تقول: ألم أقل لك ألم أفعل فإن هذا مجانب لأدب الحكماء.
اعلم فيما تكلم به صاحبك أن مما يهجن صواب ما تأتي به ويذهب بهجته ويذري بقبوله عجلتك في ذلك قبل أن يفضي إليك بذات نفسه. ومن الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه والاعتراض فيه والقطع فيه ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها إذا حدث الرجل حديثاً تعرفه ألا تسابقه إليه وتفتحه عليه وتشاركه فيه حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم من مثل الذي يعلم وما عليك أن تهنئه بذلك وتفرده به وهذا الباب من أبواب البخل وأبوابه الغامضة كثيرة.
إذا كنت في قوم ليسوا بلغاء ولا فصحاء فدع عنهم التطاول عليهم في البلاغة أو الفصاحة.
اعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك فيما تحذر وإن شدة الاتقاء يدعو إليك ما تتقي.
إن رأيت نفسك تصاغرت إليها الدنيا ودعتك إلى الزهادة فيها على حال تعذر منها عليك فلا يغرنك ذلك من نفسك على تلك الحال فإنها ليست بزهادة ولكنها ضجر واستخذاء وتغير نفس عند ما أعجزك من الدنيا وغضب منك عليها مما التوى عليك منها ولو تممت على رفضها وأمسكت عن طلبها أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع أشد من ضجرك الأول بأضعاف ولكن إذا دعتك نفسك إلى رفض الدنيا وهي مقبلة عليك فأسرع إجابتها.
اعرف عورتك وإياك أن تعرّض بأحد فيما شاركها وإذا ذكرت من أحد خليقته فلا تناضل عنه مناضلة المدافع عن نفسه فتتهم بمثلها ولا تلحَّ كل الإلحاح وليكن ما كان فلا تعمن جيلاً من الناس أو أمة بشتم ولا ذم فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك ولا تعلم. ولا تذمن مع ذلك اسماً من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول أن هذا لقبيح من الأسماء فإنك لا تدري لعل ذلك موافق لبعض جلسائك في بعض أسماء الأهلين والحرم ولا تستصغرن من هذا شيئاً فكله يجرح القلب وجرح اللسان أشد من جرح اليد.
اعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثالبهم ومساويهم ونقيصتهم وكل ذلك أبين عند سامعيه من وضح الصبح فلا تكونن من ذلك في غرور ولاتجعلن نفسك من أهله.
إني مخبرك عن صاحب كان أعظم الناس في عيني وكان رأس ما أعظمه عندي صغر(27/45)
الدنيا في عينه كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر ذا وجد وكان خارجاً من سلطان فرجه فلا يدعو إليه مؤونة ولا يستخف له رأياً ولا بدناً وكان خارجاً من سلطان الجهالة فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة وكان أكثر دهره صامتاً فإذا قال بذَّ القائلين كان يُرى متضعفاً مستضعفاً فإذا جاء الجد فهو الليث عادياً وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراءٍ ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضياً عدلاً وشهوداً عدولاً وكان لا يلوم أحداً على ما فقد يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره وكان لا يشكو وجعاً إلا إلى من يرجو عنده البقرء ولا يصحب إلا يرجو عنده النصيحة لهما جميعاً وكان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشهى ولا يتشكى ولا ينتقم من الولي ولا يغفل عن العدو ولا يخص نفسه دون أخوانه بشيء من اهتمامه بحيلته وقوته فعليك بهذه الأخلاق إن أطقت ولن تطيق ولكن أخذ القليل خيرٌ من ترك الجميع وبالله التوفيق.(27/46)
يتيمة ثانية
لابن المقفع
وقعت شبهة لبعض أهل العلم فيما إذا كانت هذه الرسالة المنشورة قبل هي اليتيمة بعينها أم هي يتيمة ثانية لابن المقفع ويزول هذا التناقض إذا لوحظ ما قاله إمام المتكلمين أبو بكر الباقلاني البصري المتوفي سنة ثلاث وأربعمائه فإنه ذكر في كتابه إعجاز القرآن أن الدرة اليتيمة كتابان أحدهما يتضمن حكماً منقولة والآخر في شيء من الديانات. غير أنه يبقى هناك إشكال في أنه ليس في إحدى الرسالتين ما يتعلق بالديانات كما قال الباقلاني وإذا رضينا بالظن فنقول أن هذا الاسم وضعه أناس لبعض رسائل ابن المقفع ومن هنا نشأ الاشتباه فعددها الناظرون. ويبعد أن يقال أن ابن المقفع سمى الرسالتين معاً باسم واحد لمخالفته في الظاهر لمقتضى الحكمة. ولو قلنا أنه سمى إحدى الرسائل فيبعد مع قرب عصر الناقلين عنه وقوع الاشتباه في المسمى مع شدة عنايتهم بجميع ما قال. أما الرسالة الثانية فمنقولة عن كتاب المنثور والمنظوم المحفوظ في دار الكتب المصرية لمؤلفه أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور من أبناء خراسان ولد كما جاء في فهرستها سنة 204 وتوفي سنة 280 وهاك ما أورده ولم نحذف منه إلا بعض جمل أسرنا إليها بحرف (فـ) لأنها محرفة جداً ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: ومن الرسائل المفردات اللواتي لا نظير لها ولا أشباه وهي أركان البلاغة ومنها استقى البلغاء لأنها نهاية في المختار من الكلام وحسن التأليف والنظام الرسالة التي لابن المقفع وهي اليتيمة فإن الناس جميعاً مجمعون أنه لم يعبر أحد عن مثلها ولا تقدمها من الكلام شيءٌ قبلها ومن فصولها قوله في صدرها ولم نكتبها على تمامها لشهرتها وكثرتها في أيدي الرواة فمن فصولها قوله في صدرها:
وقد أصبح الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مدخولين منقوصين فقائلهم باغ وسامعهم عياب وسائلهم متعنت ومجيبهم متكلف وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل وموعوظهم غير سليم من الهزء والاستخفاف ومستشيرهم غير موطن نفسه على إنفاذ ما يشار به عليه ومصطبر للحق مما يسمع ومستشارهم غير مأمون على الغش والحسد وإن يكون مهتاكاً للستر مشيعاً للفاحشة مؤثراً للهوى والأمين منهم غير متحفظ من ائتمان الخونة والصدوق غير محترس(27/47)
من حديث الكذبة وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة ويتقارضون الثناء ويترقبون الدول ويعيبون بالهمز يكاد أحزمهم رأياً يلفته عن رأيه أدنى الرضا وأدنى السخط ويكاد يكون أمتنهم عوداً أن تسخره الكلمة وتنكره اللحظة وقد ابتليت أن أكون قائلاً وابتليتم أن تكونوا سامعين ولا خير في القول إلا ما انتفع به ولا ينتفع به إلا بالصدق ولا صدق إلا مع الرأي ولا رأي إلا في موضعه وعند الحاجة إليه فإن خير القائلين من لم يكن الباطل غايته ثم لزم القصد والصواب وخير السامعين من لم يكن ذلك منه سمعة ولا رياءً ولم يتخذ ما يسمع عوناً على دفع الهدى ولا بلغة إلى حاجة دنيا فإن اجتمع للقائل والسامع أن يرزق القائل من الناس مقةً وقبولاً على ما يقوله ويرزق السامع اتعاظاً بما يسمع من أمر دنياه وقد صلحت نياتهما في غير ذلك فعسى ذلك أن يكون من الخير الذي يبلغه الله عباده ويعجل لهم من حسنة الدنيا ما لا يحرمهم من حسنة الآخرة كما أن المريد بكلامه أن يعجب الناس قد يجتمع عليه حرمان ما طلب مع سوء النية وحمل الوزر. وقد وافقتم في مسارعة فيما سألتموني فطمعاً في أن ينفع الله بذلك من يشاء فإنه ما يشاء يقع.
أما سؤالكم عن الزمان فإن الزمان الناس. والناس رجلان والٍ ومولى عليه. والأزمنة أربعة على اختلاف حالات الناس فخيار الأزمنة ما اجتمع فيه صلاح الراعي والرعية فكان الإمام مؤدياً إلى الرعية حقهم في الرد عنهم والغيظ على عدوهم والجهاد من وراء بيضتهم والاختيار لحكامهم وتولية صلحائهم والتوسعة عليهم في معايشهم وإفاضة الأمن فيهم والمتابعة في الخلق لهم والعدل في القسمة بينهم والتقويم لأودهم والأخذ لهم بحقوق الله عز وجل عليهم وكانت الرعية مؤدية إلى الإمام حقه في المودة والمناصحة والمخالطة وترك المنازعة في أمره والصبر عند مكروه طاعته والمعونة له على أنفسهم والشدة على من أخل بحقه وخالف أمره غير مؤثرين في ذلك آبائهم ولا أبنائهم ولا لابسين عليه أحداً. فإذا اجتمع ذلك في الإمام والرعية تم صلاح الزمان وبنعمة الله تتم الصالحات ثم أن الزمان الذي يليه أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس ولا قوة بالإمام مع خذلان الرعية ومخالفتهم وزهدهم في صلاح أنفسهم على أن يبلغ ذات نفسه في صلاحهم وذلك أعظم ما تكون نعمة الله على الوالي وحجة الله على الرعية بواليهم فبالحري أن يؤخذوا بأعمالهم وما أخلقهم أن لا تصيبهم فتنة أو عذاب أليم.(27/48)
والزمان الثالث صلاح الناس وفساد الوالي وهذا دون الذي قبله فإن لولاة الناس يداً في الخير والشر ومكاناً ليس لأحد وقد عرفناه فيما يعتبر به أنه ألف رجل كلهم مفسد وأميرهم مصلح أقل فساداً من ألف رجل كلهم مصلح وأميرهم مفسد. والوالي إلى أن يصلح أدبه الرعية أقرب من الرعية إلى أن يصلح الله بهم الوالي. وذلك لأنهم لا يستطيعون معاتبته وتقويمه مع استطالته بالسلطان والحمية التي تعلوه. وشر الزمان ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية (فـ) فقولي في هذا الزمان أنه ألا يكن خير الأزمان فليس على واليكم ذنب وألا يكن شر الأزمان فليس لكم حمد ذلك غير أنا بحمد الله قد أصبحنا نرجو لأنفسنا الصلاح بصلاح إمامنا ولا تخاف عليه الفساد بفسادنا وقد رأينا حظه من الله عز وجل في التثبت والعصمة فلم يبرح الله يزيده خيراً ويزيد به رعيته مذ ولاه فعندنا من هذا وثائق من عبر وبينات ونحتسب من الله عز وجل أن لا يزال أمامنا يسارع في مرضاة ربه بصلاحه لرعيته والصبر على ما يستنكر منهم وقلة المؤاخذة لهم بذنوبهم حتى يقلب الله له بصلاحه قلوبهم ويفتح له أسماعهم وأبصارهم فيجمع ألفتهم ويقوم أودهم ويلزمهم مراشد أمورهم وتتم نعمة الله على أمير المؤمنين بأن يصلح له وعلى يده فيكونوا رعية خير راع ويكون راعي خير رعية إن شاء الله وبه الثقة.
والذي يحمد من أمير المؤمنين أنا ذاكر ما تيسر منه (فـ) وقلما نلقى من أهل العقل والمعاينة منكراً لنعمة الله بأمير المؤمنين على المسلمين (فـ) ومن أشد جهلاً وأقطع عذراً ممن لم يعرف النعمة ولم يقبل العافية نعوذ بالله أن نكون من الذين لا يعقلون فتفهموا ما أنا ذاكر لكم وتدبروه بالحق والعدل فإن المرء ناظر بإحدى عيون ثلث وهما الغاشتان والصادقة وهي التي لا تكاد توج=د. عين مودة تريه القبيح حسناً. وعين شنآن تريه الحسن قبيحاً. وعين عدل تريه حسنها حسناً وقبيحها قبيحاً. فتفكروا فيما جمع الله لأمير المؤمنين في معدنه وفي سيرته وفيما ظاهر عليكم من النعمة والحق والحجة بذلك فيما عسى القائل أن يبتغي فيه المغمز والمقال فلعمري أن الشيطان من أهواء الناس وألسنتهم في الأمر لمصيب وأن له لمستراحاً حين يستوفي أمنيته ويصدق عليهم ظنه ويوحي إليهم بمكايده فيجعل الله كيده ضعيفاً وحزبه مغلوباً وجعله وإياهم نصيباً لجهنم من أجزائه المقسومة لأبوابها وحطبها ووقودها وحصيها ليعدَّ لها فمن كان سائلاً عن حق أمير المؤمنين في(27/49)
معدنه فإن أعظم حقوق الناس منزلة وأكرمها نسبة وأولاها بالفضل حق رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة وإمام الهدى ووارث الكتاب والنبوة والمهيمن عليهما وخاتم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بعثه الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ثم هو باعثه يوم القيامة مقاماً محموداً شرع الله به يدنه وأتم به نوره على عهده ومحق به رؤوس الضلالة وجبابرة الكفر وخوَّله الشفاعة وجعله في الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.(27/50)
الصنائع الإسلامية
نشرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية فصلاً مهماً للمسيو كليمان هوار من علماء المشرقيات في الأدوار التي تقلبت على الصنائع الإسلامية قال: أصدر كل من المسيو سالادين والمسيو ميجون مختصراً في الصنائع الإسلامية وقع في مجلدين ضخمين أحدهما في الهندسة الإسلامية والآخر في فن التصوير والنقش. ولقد لفت أنظار الناس معرض الصنائع الإسلامية الذي أقيم في قسم مرسان سنة 1903 والمعرض الذي وافق وقته زمن انعقاد مؤتمر المستشرقين الدولي في الجزائر سنة 1905 لأعلاق الصنائع الإسلامية التي كانت حتى الآن مزهوداً فيها اللهم إلا عند بعض الغلاة في جمعها ممن حصلوا على مجاميع بديعة منها. ففي البحث في هذا الموضوع تتجلى لنا القرون الوسطى في الشرق وتحيا أمامنا على مثل ما كانت عليه. وما من أحد يصدق اليوم بأن العاديات القديمة تستحق إعجاب أرباب الصنائع والمولعين في اقتنائها فقط بل أن ارتقاء فن الآثار ارتقاءً خارقاً للعادة بفضل الاكتشافات المدهشة في السنين الأخيرة والبحث في آثار القرون الوسطى اليونانية والغربية قد وجه أنظار المتعلمين. فمن الواجب من ثم أن يجعل حظ عظيم من البحث للقرون الوسطى الإسلامية لأنها من أجمل الأدوار التي يتأتى للإنسانية أن تفاخر بها وكانت مراكز الحضارة التي أنشأتها قديماً تلك المدنية في آسيا حلقة ضرورية لنا تربط أوروبا بالشرق بل تقرب بين القرون الحديثة والقرون القديمة وتصل عمران البحر المتوسط بتمدن آسيا العليا.
إن درس الصنائع المصورة اليوم هو من المتممات الضرورية للتاريخ كما كانت الجغرافية ولا تزال كذلك فدرسها نافع للنظر في الآثار القديمة التي عرفناها منذ القدم كما هو ألزم بالشرق مما هو موضوع الأبحاث الأخيرة وقبل أن يبدأ بها لم يكد يعرف عنها شيء. وقد جعل المؤلفان النبيهان المشار إليهما من التصوير الشمسي أكبر مساعد لهما في كتابهما الوجيز فجاء الأول من نوعه وكان من هذين المجلدين مجموعة تصاوير إذا فتحها المرء تتمثل لعينيه مصانع الشرق وشؤونه عياناً إن لم يكن رآها من قبل ويتذكر بأعيانها إذا كان أتيح له متع نظره فيها ذات يوم. سهلت أسباب التنقل وأصبحت قريبة المنال فغدت الأستانة والقاهرة والهند غير بعيدة المزار كما كانت. وربما غدت كذلك طهران وأصفهان عما قريب ولذلك جاء الزمن الذي تعرض فيه على الجمهور في صورة كتاب مجموع(27/51)
الأطراف زبدة ما يعرف عن ارتقاء الصنائع وترتيب المصانع الإسلامية.
لم يتأت والإسلام في مبدأ ظهوره وشعشعته الأولى محصور في حدود شبه جزيرة العرب ولم ينتشر بعد في البلاد المجاورة أن ينشأ شيء من الصنائع في تلك الأصقاع المقفرة التي تطوفها العرب الرحالة على قلة مدنها وبلدانها ويقضي فيها التجار عيشة بسيطة خالية عن أبهة الحضارة. وكان المعبد العظيم في الحجاز عبارة عن مكعب من الصخر خال من الزينة وقد بقي زمناً طويلاً بدون سقف ثم غطي بسقف من الخشب على يد عامل من القبط نجا من سفينة يونانية غرقت فألقته الأقدار في بلاد العرب وجذبته مكة إليها لأحوال فغير معلومة. وكانت القوافل عند عودتها من سورية وقد سرحت الطرف في المصانع العظيمة فيها على العهد الإمبراطوري تقص أحاديث عجيبة مما رأت فأشربت نفوس الشعب تلك القصص وكان منها أن أنشئوا في صحاري شمالي بلاد اليمن جنات النعيم وهي إرم ذات العماد الغريبة وقد بًنيت في غالب الظن على مثال دمشق وتدمر وبعلبك وكانت العرب الرحالة ترى أن القبور التي نحتها في الصخر في مدائن صالح جماعة من المستعمرين الآراميين في صميم بلاد العرب أنها بيوت الثموديين وذكرها محمد (عليه السلام) بأن الغضب الإلهي نالها لأنها أنكرت لأأن ناقة صالح غير مقدسة. وكانت المصانع التي خلفتها الشعوب القديمة البائدة تنسب إلى عاد ممن بادوا فلم يبقوا من الآثار غير ما خلفوه من أعمالهم التي حيرت عقول البدو.
أما الآن فليتمثل القارئ الفاتحين العرب يجولون في أكناف سورية ومصر وفارس وافريقية الشمالية وإسبانيا وكلها بلاد متحضرة مملوءة ببدائع الصنائع وأعمال الهندسة. ولكم كان العربي الرحالة يندهش عندما كان يقع نظره على بيوت ذات ثلاث طبقات في مكة ويثرب فتترآى له أنها قلاع وهو لا عهد له من قبل إلا بخيمته السوداء أو الدكناء المصنوعة من وبر العنز. وبعد أن كان المسجد البسيط الذي يسع النبي وأصحابه وهو عبارة عن كوخ خال من الزخرف مبني باللبن وجذوع النخل ليس فيه ساف من الحصا على التراب المرصوص ظهر للحال بأنه غير كاف لاستيعاب جمهور من دانوا بالإسلام وغير لائق بأن يكون بيت الواحد الأحد. وزد على ذلك فإن الفاتحين من المسلمين كانوا يشاهدون الكنائس الجميلة التي أنشأها المتقون من النصارى ويقابلون بين التأنق فيها وبين شقائهم في سكنى(27/52)
البادية.
اكتفى الخلفاء الأول بأن سكنوا بيوتهم التي يأوون إليها كما فعل أباطرة رومية الأول لأن المسجد كان لهم ميداناًُ ومحكمة وندوة. ولما صار الأمر إلى معاوية طمحت بهم نفوسهم إلى اتخاذ القصور يعمدون إليها ليستروا فيها غفلتهم وبذخهم وزهوهم.
فبالهندسة بدأ نمو الصنائع التي دعا إليها الفتح الإسلامي وما كان للعرب صنائع خاصة بل استخدموا باديء بدء من المهندسين وأرباب الصنائع من وجدوهم في البلاد التي افتتحوها فكان أسلوب البناء الإسلامية في الأمر سورياً في سورية وقبطياً في مصر وبيزنطياً في آسيا الصغرى ورومانياً بربرياً في أفريقية ورومانياً أيبرياً في إسبانيا وبارتياً وساسانياً في فارس وبين النهرين.
رأينا صوراً من الهندسة الآسياوية تنقل إلى البلاد المغلوبة على أمرها عند ما كان الشرق أولاً ميداناً للفاتحين. وأنك لتشاهد في أقدم المصانع المنقوشة المزينة فقي المغرب والمسجد الأعظم في قرطبة ومسجد سيدي عقبة في القيروان مسحة من الزينة الشرقية نقلها إليها صناع صحبوا الفاتحين أو نسجت على مثال صور الأقمشة والزرابي المطرزة والبسط المجلوبة من الشرق.
ومن مميزات الهندسة الإسلامية القبة ذات الشكل البيضوي وهي منقولة بلا مراءٍ عن أصل جاء من بين النهرين أي آشوري بابلي. وقد بقي منها نموذج سالم من الصورة البارزة في قيونجق زمن الدولة الساسانية كما هو المشاهد في صور أقواس المدائن وساروستان وفيروز آباد فتبين بهذا أن ماضي الهندسة الإسلامية كان عظيماً والتمدن الإسلامي جدد استعمالها. وإنا لنجد منارات جوامع سامر وابن طولون في القاهرة أبراجاً ذات أدراج على شكل حلزوني وبعيد أن لا نعترف فيما رأيناه بأنها بقايا من معابد رصد الأفلاك الكلدانية التي نجد برج بابل مثالاً مشهوراً منها.
رأت العرب في سورية ومصر الصناعة البيزنطية ودرسوها عن أمم وما هي إلا تشويه آسياوي للصناعة الرومية الرومانية أهم آثارها جامع أيا صوفيا في الأستانة. وبقيت الصناعة اليونانية آخذة في التبدل بعد فتوحات الاسكندر وظلت كذلك على أن خطر للملك قسطنطين أن ينقل عاصمة المملكة إلى ضفاف البوسفور ولا يخفى ما حدث من السرعة(27/53)
في تمازج العنصر اليوناني بالعناصر اللاتينية واللغة اللاتينية. فالتقاليد العسكرية والقضائية والإدارية فقط بقيت زمناً قصيراً بحالها أما الصلات المتصلة التي كانت لمملكة الروم بيزانس مع المملكة الفارسية فقد كان منها أن بدلت الصنائع بتأثيرات آسياوية وتقدمت فيها تقدماً هائلاً حتى أن الألبيسة وتزيين الأبنية الداخلي وقصور الأباطرة وأدوات تنعمهم وبذخهم كلها لم يكن فيها شيء يشير إلى أنه روماني.
سلمت عهدة مصانع ومعاهد من أوائل الهندسة الإسلامية وأعجبها المسجد الأقصى في القدس وإن شئت فقل قبة الصخرة إذا أردت أن تسميها باسمها الحقيقي. وليس هذا المسجد في الواقع جامعاً لأن هذا النوع من الأبنية معروف بما يماثله مثل مسجد عمرو بن العاص في القاهرة الذي أنشأ سنة 642م وهو عبارة عن حائط له عدة محاريب لضبط سمت القبلة التي توجه إليها الوجوه للصلاة. وكانت القبلة إلى القدس أولاً فأصبحت منذ ألف وثلاثمائة وخمس وعشرين عاماً إلى مكة ثم هناك صفوف من الأعمدة ومكان مربع مكشوف وفي وسطه صهريج ماء للوضوء. وعلى العكس من قبة الصخرة كان يستفاد من اسمها على ما هو المعروف فإنها تشغل فسحة المعبد. وهذا الشكل وطني جعل على رسم كنيسة العذراء في إنطاكية في شكل بيت مدور ذي قباب وعده المسعودي المؤرخ من أعاجيب الدنيا. ويوجد من هذا الشكل أيضاً في أواسط سورية وحوران وآسيا الصغرى وقد أنشئ هذا البناء على عهد الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي سنة 684 ولما رمم بعضه الوليد سنة 707 جعل من خارجه الفسيفساء صنعها له صناع يونان بعث بهم إليه إمبراطور القسطنطينية. وعلى عهد السلطان سليمان القانوني استعيض عن أحجار الفسيفساء بكاشاني محلى بالمينا. فالقبة والحالة هذه هي صوان أو وعاء مقدس للصخرة والمسجد الحقيقي هو الذي يشرف على حوائط المكان في الجنوب ويدعى بالمسجد الأقصى وقد أشير إليه في القرآن والمراد به معبد سليمان.
بُنيت المساجد في المغرب على مثال جامع عمرو فجامع الزيتونة في تونس المؤسس سنة 732 مؤلف من أفنية موازية لحائط المحراب وفناء (صحن) أوسط كبير وصفوف من العمد مؤلفة من مواد قديمة أو بيزنطية جاءت من قرطاجنة الرومانية وأنشئ المسجد الأعظم في قرطبة سنة 785 على ذاك المثال ولكن زينته تختلف عن غيره من المساجد(27/54)
اختلافاً كلياً فإن القطع العديدة التي بقيت من آثار الغوط الغربيين واستخدمت في البناء تدلنا على أن المصانع المسيحية في إسبانيا قبل القرن الثامن كان لها أثر كبير في الهندسة العربية الأصلية.
والبحث في الهندسة الفارسية نافع على وجه خاص وذلك لأنها حفظت لنا تقاليد قديمة لها علاقة بالهندسة فأحسنت الانتفاع بها ورقتها وأكملتها. فإن بناء القباب كانت الطريقة التي اختيرت من بين أساليب البناء لقلة الخشب الذي يصلح للبناء في معظم أقطار تلك البلاد.
وبلغ من حذق الفرس الغريب أنهم يتمثلون لعينيك ذا نظرت إلى أبنيتهم كأنهم يلعبون بالمصاعب لعباً. ولم تبلغ أمة من الأمم مبلغهم في إيجاد طرق متنوعة غريبة في القباب على أشكال غير متناسقة إلا فرنسا فإنها قلدتهم في القرون الوسطى. وإلى الفرس يرجع الفضل في اختراع المقرنصات وهي من الصنائع الغريبة ذات النقوش التي تستر البناء البارز المشبك. وأكثر ما فاقت به فارس تفننها في تزيين الأبنية بالكاشاني (القيشاني وهو نقش رائع إلا أنه سريع العطب تبتهج العيون به ما دام الملاط (المونة) الذي يلصقه بالبناء الأصلي على حاله متماسكاً فإذا قلع لقلة العناية به وسقط وتناثر من آفات أصابته ودفن في الأرض نبت العيون عنه واستوحشت من النظر إليه.
وصناعة الكاشاني قديمة جداتً في البلاد الإيرانية فقد زين ملوك الأخمانيين قصورهم بنقوشها البديعة التي جعل بعضها في قاعات متحف اللوفر المظلمة ولا يزال يأسف على الهواء المضيء والشمس المشرقة في سهول فارس. وبدأ استعمال الكاشاني في فارس بعد ظهور الإسلام فيها فجعل القرميد أولاً محلى بالمينا في أطراف الأحجار مفصولاً من داخله بآجر أو بملاط من الجير والرخام ثم استعملوا نوعاً من البناء ملوناً مؤلفاً من قطع صغيرة مجزءاً موضوعاً بعضه بجانب بعض. كما فعلوا في أبنية الرخام أو الخشب في إيطاليا توصلاً إلى تزيينها بصفائح من الكاشاني على سطوح متسعة وقد شوهدت منذ القديم عندهم بنايات بارزة داخلها أزرق كالفيروز وأبيض كالعاج ويكثر انعكاس الأشعة التي تلمع فيها كلمعان السيوف كما تشهد في إمام زاده يحيى وفي ورامين وهو فقي القرن الثالث عشر. وأبنية أصفهان التي أنشئت على عهد الشاه عباس الأول أجمل مثال من هذه النقوش العجيبة وتتمة ارتقاء طويل في الصناعة. ويتيسر تتبع أدوار هذه الصناعة إذا بحث في(27/55)
مصانع السلجوقيين في قونية التي أنشئت في القرن الثالث عشر وفي البنايتين اللتين أنشئتا على الطراز الفارسي في مدينة بورصة وفي المسجد الأخضر وقبر محمد الأول اللذين أسسا في القرن الخامس عشر.
بنيت جميع المساجد التي أنشأها سلاطين بني عثمان على مثال كنيسة أياصوفيا. وقد كثر البناء على هذا الشكل في جميع المساجد التي أسست في المملكة العثمانية بعد القرن السادس عشر فالصورة الأصلية من هذا البناء هي إذاً بيزنطية ولكن الأسلوب الفارسي يظهر في بعض أنواع الزينة كالأبواب والكوى المقرنصة مثلاً. ومسجد بايزيد أقد أسلوب من هذا النوع عمره المهندس خير الدين. ومسجد محمد الثاني الغازي أنشأه خريستو دولو محل كنيسة الحواريين وخرب كله في زلزال سنة 1763 ثم أعيد بناؤه على عهد السلطان مصطفى الثالث إلا أنه لم يرجع إلى ما كان عليه من أسلوب البناء.
وأقدم المصانع الإسلامية في الهند مسجدا دهلي وأجمير اللذان أنشئا في القرن الثالث عشر. وهما من المصانع التي قامت على أسلوب جينا كما أثبت ذلك الرحالة فرغوسن والرسم العام منه ندي ثم أثرت فيه الأساليب الإيرانية والغربية وظهرت فيه النقوش المشجرة وهي تذكر بقصر ماشيتا وهو ساساني أو ببعض محال من أيا صوفيا.
وقد كان أول سلطان لبيجابور (كذا) ابن السلطان العثماني مراد الثاني الذي ارتقى من رتبة ضابط في الحرس إلى عرش الملك فأنشأ له دولة وبنى حفيد حفيده عادل شاه أجمل مصانع تلك المدينة. وطرز بنائها مأخوذ من أسلوب غربي حتى لقد ذهب الرحالة فرغوسن عندما ذكر أصل هذه الدولة وكيفية نشأتها إلى أنها اختارت من الصناع فرساً وأتراكاً. ودخل التمدن الإيراني والصناعة الفارسية إلى الهند على عهد فتح بابر (ظاهر الدين محمد من أحفاد تيمورلنك) وتأسيس مملكة المغول العظمى. وعلى عهد السلطان أكبر انتشر الأسلوب الهندي في البناء فظهر بمظهر بديع مع المحافظة على أشكاله الغربية وعرف كيف يمزج في المصانع التي لها صورة خاصة الظرف والبهجة عن الفرس ويضمها إلى متانة الأسلوب الجيني والأفغاني. فقد قال مؤرخ فنون البناء الهندية (فرغوسن) أنهم كانوا يبنون كالجبابرة وينقشون كالصياغ. ولا يفوتنا النظر هنا بأن استعمال الكاشاني على طريقة عامة لم يبق له أثر في تلك البلاد بل أخذت الهند تبني بالحجارة والرخام وهو أدل على البراعة(27/56)
في الصناعة وأمتن وأفخم. وأما النقش الفارسي على جماله فقليل البقاء ويا للأسف أشبه بزينة مسرح التمثيل تزول إذا صفر لها من عهدت إليه إدارة حركة التمثيل ليجعل غيرها مكانها. ولا يعلم لأي أمة ينسب مهندس بناء تاج محل في آكرا (الهند) ولكن المعلوم أن السلطان محمد الرابع بعث إلى شاه جنان مهندساً يبني له في أحمد آباد قبة نور محل ولا ينبغي العجب إذا رأينا من بعد هذا العصر الأشكال الفارسية مطبقة على البناء من الرخام في حجم كبير. ويقال أيضاً أن رجلاً فرنسوياً من بوردو اسمه أوستين أو أوغوستين الذي لقب نادر العصر قد عهد غليه النظر في أعمال ترصيع الحجارة الكريمة التي ازدان بها تاج محل من داخله وخارجه. ولذلك كان الحق مع المسيو سلادين في قوله بأنه يظهر بأن يد مهندس أوروبي قد رسمت الصور الواضحة ورسوم جانب البناء الكثيرة التدقيق في هذا المصنع ولعل هناك أثراً من التأثير الغربي.
أما في الصين فإن هندسة الجوامع صينية محضة ولم تقتبس شيئاً عن البلاد التي يتكلم أهلها بالعربية ولا عن فارس ولا الهند.
لم يكن للنقش إذا قيس بالهندسة شأن ظاهر. ولا يسعنا هنا أن نبحث في استعماله للتزويق فإن ما لدينا منه قليل لا يعتد به وقد ازدانت حوائط قصر عمراً بالنقوش ولكنها بيزنطية وكان ملوك الفاطميين يزوقون قصورهم في القاهرة بصور ذات أرواح كما قال المقريزي. وجلب اليازوري وزير المستنصر بالله إلى مصر ابن العزيز والقصير وهما نقاشان مشهوران الأول من البصرة والثاني من العراق فكانا يمثلان بما ينقشان نساءً يرقصن ومشاهد مأخوذة من التواريخ المنقولة عن التوراة على نحو ما أوردها القرآن ولكن لم يبق شيء مما نقشاه. وما على من أرد أن يتمثل كيف كان النقش عند العرب إلا أن ينظر إلى نقش المخطوطات ولا سيما الصور المصغرة التي تستعمل فيها رسوم الأشخاص والحيوانات دليلاً. ويرتقي عهد أقدم المخطوطات العربية من هذا النوع إلى صلاح الدين وبعبارة ثانية إلى الدولة الأيوبية وهي من أصل بيزنطي على ما يتجلى كمها كل التجلي. ومن أهم الأمثلة في هذا الباب كتاب مقامات الحريري المخطوط وهو مما ملكه شفر (العالم الفرنسوي) وألحق بمجامع خزانة كتب الأمة بباريز كتب كاتبه اسمه في آخر ورقة منه واسمه يحيى بن محمود بن يحيى بن أبي الحسن نشأ في واسط من بلاد ما بين النهرين.(27/57)
ومما حواه صفحة تمثل جيشاً للعباسيين يحملون العلم الأسود ويضربون بأبواق ضخمة فارسية كما رسمت أيضاً مشاهد من غير هذا الشكل وتجد فيها كلها أثراً ظاهراً من تأثيرات الرسم البيزنطي وذلك للتوسع في صنعها الذي يشبه رسوم الحيطان على الكنائس الكبرى.
إن ما كتب في مصر من المصاحف هو من الصنائع البديعة فتراها محلاة بالعناوين المزوقة والنقوش المدورة الموضوعة في الحواشي من أجمل ما تخط يد وهي من زمن المماليك ولا يعرف المرء بما يعجب في صناعة مزج الذهب بالأولوان بدقة الرسم ولطفه أو بالذوق العظيم الذي أوجد ألوفاً من التراكيب المزينة الهندسية. وقد انتشر الرسم المصغر في فارس أكثر من غيرها فظهرت الكتب المزينة بالرسوم بظهور دولة المغول التي أسسها هولاكو حفيد جنكيز خان. وربما كان هذا النقش قد ظهر بتأثير الصنائع الصينية (لأنه كانت للساسانيين كتب مزينة بصور لم يذكر عنها كتاب مجمل التواريخ غير أخبار ركيكة) أما الاكتشافات الحديثة في خوقند التي لم يطلع عليها المؤلفان المشار إليهم (ظهر مصنف المسيو ستين حديثاً) فقد أوردت لنا أمثلة من الصناعة البوذية والفارسية معاً ويجب أن يبحث فيها عن الأصل الذي أخذت منه فارس طريقتها في النقش وعلى هذا فتكون تركستان الصينية هي الطريق التي دخل منها إلى إيران تأثير آسيا الشرقية.
ومهما يكن من منشأها فمن المحتمل أن فارس نقلت طريقة التصوير المصغر عن مملكة إيلخان. وبذلك ساغ لنا أن نجعل الرسم ثلاث طرق أو ثلاثة مذاهب وهي المغولي والتيموري والصفوي ومن الجنس الأول الصورة المصغرة الوحيدة التي رسمت في تاريخ جهان خوشاي لعلاء الدين الجويني (المحفوظة في مكتبة الأمة بباريز) وهي تمثل المؤلف يقدم نسخة من كتابه إلى آراغون. وقد تجلى تأثير الصين كل التجلي بعد عهد تيمور بحيث أن النفس لتحدث المرء إذا نظر إلى رسوم ذاك الدور فيما إذا كان هناك أناس من أرباب الصنائع من الفرس تخرجوا على أيدي أناس من الصينيين أو أن هؤلاء النقاشين هم صينيون في الأصل جيء بهم إلى فارس فرسموا ما رسموا.
بين العصر الماضي وهذا العصر بون بعيد لأنه دور التوسع الصناعي الموافق للعهد الذي كانت فيه بلاد فارس وتركستان غاصة ببدائع المصانع. ولقد غصت بخارى وخيوه(27/58)
وطاشقند بالصناع الذين ازدانت بمصنوعاتهم دور الكتب في أوروبا ثم أن عصر الصفوية السعيد قد أزهرت فيه صناعة بديعة غريبة تعلم أربابها في سمرقند وبخارة ولما انتقلت إلى الهند مع سلاطين المغول همايون وأكبر وجهانكير وأورنك زيب أنشأت فيها بدائع في الرسم والنقش بأسلوب يتنافس الناس في أوروبا في الحصول عليه. وما هذه الرسوم إلا مستندات ثمينة لا تقدر بقيمة سواء كان من حيث التاريخ أو للوقوف على الأحوال الاجتماعية في الهند في القرن السابع والثامن عشر. والصناعة الصفوية لينة سهلة تتجلى فيها العواطف الرقيقة ذات بهجة فاتنة. واشتهرت النقوش التي كتبت بقلم رصاص بوضوح التقاطيع وثبات الشكل والصورة.
وانتقل النقش على عهد الشاه عباس الأول الذي كان يحب الأبهة وهو على شيء من الأفكار العالية والمدارك الواسعة من الكتب المخطوطة إلى حوائط القصور في أصفهان وما زال من هذه النقوش بقايا في قصر علي قبو وقصر الأربعين عموداً. وقد كان السائح الروماني بيترو دلافال استصحب معه نقاشاً في رحلته إلى بلاط فارس فمن الممكن أن يكون الشاه أخذ رأي النقاش وباحثه في الرسوم الكبرى التي اعتاد الطليان رسمها على الجدران فنبه فكره إلى أن يزوق قصوره على مثالهم. ولكن هذا القياس الفرضي وكان على بيترو وقد أطال رحلته بوصف ما عمل ورأى أن لا يقصر في ذكر ذلك. على أن كثيراً من النقوش الفارسية تشعر بتأثيرات النقش الإيطالي.
وكثيراً ما تكون جلود الكتب غاية في الجمال ومن الخسارة أن مؤلفي كتاب الوجيز المشار إليهما لم يدخلا في تفصيل ذلك. ولقد شاهدت في الأستانة بعض المولعين بالآثار يأخذون الجلود القديمة كافة ليجعلوها في المتاحف مثالاً من أمثلة الحذق في الصنائع. والجلود المصمغة عند الفرس غاية في الجمال ويتألف من بعضها جداول حقيقية.
(الباقي للآتي).(27/59)
اللغة والدخيل
في مصر اليوم حركة فكرية مدارها الائتمار فيما وصلت إليه اللغة العربية في هذا العهد من العجز والتقصير والنظر فيما ينشطها من عقالها ويخرج بها من هذا المأزق الحرج بعد ما استحدث من المخترعات والمكتشفات والمصطلحات العلمية وما ضاق عطنها عن قبوله.
فكتب الكاتبون في ذلك ما كتبوا وذهب كلٌ مذهبه وأبان عن رأيه حتى أوشكت هذه الفكرة أن تتعدى حد القبول فيؤذن مؤذن الفلاح بحي على خير العمل. ولنا في النهضة الكريمة التي قام بها رجال نادي دار العلوم خير شاهد على ما نقول.
وقد كنت ممن خاض هذا الغمار وأجال القلم في هذا المضمار فنشرت صحيفة المؤيد عشرين كلمة من العامي والدخيل أردفتها بما يرادفها من العربي الفصيح وقصدت بذلك عرضها للنقد والتمحيص حتى يتبين الصحيح من الزائف إذ لا ينبغي للفرد الواحد أن يستبد بمثل هذا العمل. ثم عنَّ لي أن أضم إليها عشراً أخرى وأنشرها في المقتبس الأغر ليطلع عليها أفاضل العلماء والكتاب في الأنحاء العربية فيمدونا بآرائهم فيها خدمة لهذه اللغة الشريفة وهي:
(مُدة القلم): المدة بضم أوله وهي ما يعلق بالقلم من المداد بعد غمسه في الدواة.
(بوية الجزم أو طلاء الأحذية): اليرندج أو الأرندج بفتحتين وهو السواد يسود به الخف.
(صحبة الورد): الطاقة وهي الحزمة من الريحان ونحوه ولعلها أقرب لفظة لمعنى الصحبة وقد اصطلح الكتاب على تسميتها بالباقة وهو خطأ لأن الباقة خاصة بحزمة البقل.
(نشان التعليم): الدريئة بفتح فكسر وهي الحلقة يتعلم الرامي عليها.
(الكشك): أصله بالفارسية كوشك وهو القصر الصغير وقد عربوه بالجوسق.
(العطفة): الردب بفتح الراء وسكون الدال وهو الطريق الذي لا ينفذ.
(العديل): السلف أو الظأب من المظابة وهي أن يتزوج إنسان بامرأة ويتزوج آخر باختها. أما التجاب بتشديد الباب من باب التفاعل فهو أن يتزوج كل من الرجلين بأخت الآخر.
(قشرة الجرح): الجلبة بضم فسكون وهي القشرة تعلو الجرح عند البرء.
(الطاقية): السكبة بفتح فسكون وهي خرقة تقور للرأس كالشبكة.
(ناظر العمارة أو مقدم الفعلة): الوهين كأمير وهو الرجل يكون مع الأجير يحثه على العمل.(27/60)
(اليشمق): اللفام بكسر أوله وهو النقاب يكون على طرف الأنف فإن كان على الفم فهو اللثام.
(السردين): الصير بكسر أوله وهو كما في القاموس السمكيات المملوحة يعمل منها الصحناة وفسر الصحناة بأنه أدام يتخذ من السمك الصغار مشه مصلح للمعدة. فعلى هذا يجوز إطلاق الصحناة على كل ما يقدم أمام الطعام من المشهيات كالصير وحوه والمسمى عند الأعاجم ويمكن أن يسمى السردين أيضاً بالطريخ كسكين وهو سمك صغار تعالج بالملح وتؤكل.
(العزبة): كأنها محرفة عن العزوبة بالفتح وهي الأرض البعيدة المضرب إلى الكلأ وصوابها الضيعة وهي الأرض المغلة وقد استعملت قديماً بمعنى (العزبة) وأظنها مستعملة إلى الآن بهذا المعنى بالبلاد الشامية.
(مضرب الكورة): الطبطابة بفتح فسكون وهي خشبة عريضة يلعب بها بالكرة ويقال لها أيضاً الميجار بكسر أوله وهو كما في المخصص الصولجان الذي تضرب الكرة.
(المزَّة) النقل بالفتح او بالتحريك وهو ما يعبث به الشارب أو ينتقل به على شرابه من فاكهة ونحوها. والعامة تقول نقل بضم فسكون وهو خطأ قديم نبه عليه أئمة اللغة.
(اللباس الرسمي) السواد وهو لون اتخذه بنو العباس شعاراً لهم ثم أطلق عندهم على لباس أسود خاص بالأمراء والعلماء وذوي الأخطار وكان الرجل إذا أراد الذهاب إلى ديوانه أو مقابلة خليفته قال لغلامه عليَّ بسوادي وسيفي.
(ثياب الحزن): السلاب بكسر أوله وهي ثياب سود تلبسها النساء في المآتم واحدتها سلبة بفتحتين وتسلبت المرأة وسلبت بتشديد اللام إذا لبستها وهو مثل أحدّت إلا أن الإحداد يكون على الزوج خاصة والتسلب على الزوج وغيره.
(الحبل الحاجز في الطريق): عند إصلاحها أو في احتفال كبير. الماصر وهو كما في مختصر العين للزبيدي حبل على الطريق أو نهر تحبس به السفن أو السابلة. واقتصر في اللسان على أنه الحبل يلقى في الماء لمنع السفن عن السير.
(المعدية): المعبر كمنبر وهو المركب الذي يعبر به.
(عقدة أو شنيطة): الأنشوطة بضم فسكون وهي عقدة يسهل انحلالها إذا مددت بأحد طرفيها(27/61)
انحلت. وتقول نشطت الأنشوطة من باب نصر إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها.
(الحصان البوني أو المكبون والأنثى المكبونة وهو الفرس القصير القوائم الرحيب الجوف الشخت العظام ولا يكون المكبون أقعس ومعنى القعس في الخيل المطمئن الصهوة المرتفع القطاة.
(الشال): الطيلسان وقد فسره اللغويون أنه ضرب من الأكسية واقتصروا على ذلك إلا أن الشيخ إبراهيم السجيبيني فسره في كتابه المسمى بالعمى الأكبر في عين من أنكر ليس الأصفر بأنه ثوب طويل عريض كالرداء يجعل على الرأس فوق نحو عمامة ويغطي أكثر الوجه ثم يدار طرفه تحت الحنك إلى أن يحيط بالرقبة ثم يلقى طرفاه على الكتفين أهـ وهو كما نرى قريب جداً من معنى الشال.
(رخو الكرباج): الشيب بكسر أوله وهو سير السوط. وفي اللسان وشيبا السوط سيران في رأسه وشيب السوط معروف عربي فصيح أهـ.
(الجرسون أو السفرجي): لم أقف على لفظ مرادف مفرد يدل على دلالة تامة على (الجرسون) وقد ذكر اللغويون الندل بضمتين وفسروه بخدم الدعوة قالوا سمو نُدُلاً لأنهم ينقلون الطعام إلى من حضر الدعوة وأصله من ندلا يندل إذا تناول أهـ. إلا أنهم لم يذكروا مفرده فأرجو ممن وقف على لفظة أخرى أو على مفرد الندل أن يتفضل بنشره للجمهور. على أني رأيت بهامش اللسان أن هذا اللفظ وجد مضبوطاً بخط الصاغاني بفتحتين وعليه فلا يبعد أن يكون اسم جمع لنادل كخادم وخدم إلا أن مثل هذا لا ينبغي الحكم فيه غلا بالنصر الصريح.
(القطن الزهر): اصطلح المصريون على تسمية القطن قبل حلجه بالزهر وعربيته الفصيحة المكمهل بصيغة اسم المفعول وهو كما في القاموس القطن ما دام فيه الحب والقطن الحليج كأمير هو ما استخرج حبه ويسميه المصريون بالشعر. أما شجرة القطن فتسمى الزعبل بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه.
(السنارة) الشص بفتح أوله أو مكسره وهي حديدة عقفاء يصاد بها السمك. وأما بالصنارة بكسر الصاد المهملة وتخفيف النون ومنع في اللسان تشديدها فهي الحديدة الدقيقة المعقفة التي في رأس المغزل فاستعارتها العامة لمصيدة السمك وأبدلوا صادها سيناً ولا داعي(27/62)
للاستعارة متى وجدت الكلمة الموضوعة.
(الجاكيتة اصطلح الكتاب على تسمية البالطو بالمعطف ومن المعلوم أن الجاكيتة كالبالطو الصغير فلا حرج إذا سميناها بالعطيف تصغير ترخيم للمعطف.
(البيرة السوداء): البيرة خمر الشعير وعربيتها الجعة وزان هبة فيجوز أن يقال الجعة السوداء إلا أن العرب سمت الخمر السوداء بأم ليلى فما المانع من إطلاقها على هذا النوع من البيرة.
(عمود الغاز): الماثلة وهي منارة المسرجة كما في القاموس.
(البونية الجمع بضم فسكون وهو من الكف حين تقبضها قال طرفة بن العبد:
بطيءٍ عن الجلى سريعٍ إلى الخنا ... ذلولٍ بأجماعِ الرجال مُلهدِ
ويقال فيه أيضاً الصقب بفتح فسكون وصقبه أي صربه بجمع كفه. والله أعلم.
القاهرة
أحمد تيمور(27/63)
مطبوعات ومخطوطات
كتاب البدء والتاريخ
لم نكد نقرأ مبحث الصنائع الإسلامية الذي نقلناه إلى العربية في هذا الجزء حتى جاءنا البريد من باريز يحمل الجزء الرابع من كتاب البدء والتاريخ لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي الذي نشره المسيو كلمان هوار كاتب تلك الرسالة وأحد أساتذة مدرسة الألسنة الشرقية الحية في باريز مترجماً بقلمه إلى الإفرنسية. أخذه عن نسخة وحيدة في مكتبة الداماد إبراهيم باشا بالأستانة وطبع الأجزاء الأربعة التي صدرت منه إلى الآن نحو ثلثيه وبقي الثلث الآخر.
وقد كان ناشره العلامة يرى أولاً أن الكتاب للبلخي لأن النسخة المنقول عنها كتب عليها اسمه ثم تبين من بعض القرائن التي ذكرها في مقدمة الجزء الثاني والثالث أن الكتاب للمطهر بن طاهر المقدسي المقيم ببست من أعمال سجستان. ساعد على هذا الشك أمور منها أن ابن النديم صاحب الفهرست لم يذكر كتاب البدء والتاريخ في جملة مصنفات البلخي ومنها أن كتاب خريدة العجائب المنسوب لابن الوردي الذي اقتطع منه بعض فقرات من البدء والتاريخ وإن قال انه للبلخي إلا أن أبا منصور الثعالبي في كتابه الغرر في سير الملوك وأخبارهم ذكر كتاب البدء والتاريخ مرتين وقال أنه للمطهر بن طاهر. والثعالبي ثقة لقدمه. فقد كان بعد تأليف البدء والتاريخ بخمسين سنة وابن الوردي كان في القرن التاسع للهجرة. وأن ياقوت الرومي يقول في كتابه معجم الأدباء أن البلخي توفي سنة 322 على حين انتهى هذا الكتاب إلى سنة 355 بيد أن من نسب إليه الكتاب مشهور بين أهل العلم في عصره بالفضل والفلسفة وأحكام النجوم والرحلة وله مصنفات في الجغرافية وغيرها والمطهر بن طاهر غير معروف ولم يعثر له على ترجمة.
وكيفما كان الحال فقد بذل ناشره جزاه الله خيراً من العناية بتصحيحه ما وصل إليه ذرعه مستعيناً ببعض أئمة التاريخ والأدب العربي من علماء المشرقيات في أوروبا أمثال كوي الهولاندي وغولدسير المجري ومرجليوث الإنكليزي ودارنبورغ وبارييه دي مينار الفرنسويين. كل هذه العناية وقد اعتذر عن نفسه وعدّ منها الجرأة أن ينشر كتاباً من القرن الرابع منقولاً عن نسخة مخطوطة واحدة فقال أنه لم يرَ بداً من نقل العبارة بنصها وعلى(27/64)
علاتها بل على أغلاطها النحوية وأن يقتصروا على التصحيح الظاهر مشيراً في الحاشية للأصل وكيف ورد.
قال المؤلف في المقدمة: تسلق الزائغون عن المحبة في التلبيس على الضعفاء وتعلق المنحرفون عن نهج الحق في إفساد عقيدة الأغبياء من طريق مبادئ الخلق ومبانيه وما إليه مآله تعلقاً به ينبهون غرة الغافل ويحيرون فطنة العاقل وذلك من أنكى مكايدهم للدين وأثخن لبلوغهم في انتقاص الموحدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته ويفلج حجته ولو كره الكافرون وأن من أعظم الآفة على عوام الأمة تصديهم لمناظرة من ناظرهم بما تخيل في أوهامهم وانتصب في نفوسهم من غير ارتياض بطرق العلم ولا معرفة بأوضاع القول ولا تحكك بأدب الجدل ولا بصيرة بحقائق الكلام ثم إلقاؤهم بأيديهم عند أول صاكة تصك أفهامهم وقارعة تقرع أسماعهم ضارعين خاشعين مستجدين مستقلين إلى ما لاح لهم بلا إجالة روية ولا تنقير عن خبيئة وعلى أهل الطرف والشرف منهم التخصيص بالنادر الغريب والرغبة عن الظاهر المستفبض والإيجاب بغوامض الألفاظ الرائقة والكلم الرائعة وإن كانت ناحلة المعاني نحيفة المغاني ضعيفة الضمائر واهية القواعد فقصارى نظرهم الاستخفاف بالشرائع والأديان التي هي وثاق الله تعالى في سياسة خلقه وملاك أمره ونظام الألفة بين عباده وقوام معاشهم والمنبه على معادهم الرادع لهم عن التباغي والتظالم والمهيب بهم إلى التعاطف والتواصل والباعث لهم على اعتقاد الذخائر من مشكور صنائع العاجل ومحمود ثواب الآجل.
إلى أن قال: وجمعت ما وجدت في ذكر مبدأ الخلق ومنتهاه ثم ما يتبعه من قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبار الأمم والأجيال وتواريخ الملوك ذوي الأخطار من العرب والعجم وما روي من أمر الخلفاء من لدن قيام الساعة إلى زماننا هذا وهو سنة ثلاثمائة وخمس وخمسين من هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما حكي أنه واقع بعد من الكوائن والفتن والعجائب بين يدي الساعة على نحو ما بين وفصل فقي الكتب المتقدمة والأخبار المؤرخة من الخلق والخلائق وأديان أصناف الأمم ومعاملتهم ورسومهم وذكر العمران من الأرض وكيفية صفات الأقاليم والممالك ثم ما جرى في الإسلام من المغازي والفتوح وغير ذلك الخ. ويشتمل الكتاب على اثنين وعشرين فصلاً يجمع كل فصل أبواباً وأذكاراً من(27/65)
جنس ما يدل عليه. قدمه مؤلفه إلى احد ملوك عصره إلا أنه لم يذكر اسمه ويرى الناشر أن المقدم إليه ربما كان وزير المنصور بن نوح الساماني.
والجزء الرابع الذي أهدي إلينا يبدأ من الفصل الثاني عشر بذكر أديان أهل الأرض ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم من أهل الكتاب وغيرهم وانتهى بالسادس عشر لسنة إحدى عشرة من الهجرة قال في ذكر المعطلة والملاحدة أو الدهرية أو الزنادقة أو المهملة: وقط ما انتشروا في أمة من الأمم ولا أقروا في وقت من الأوقات انتشارهم في هذه الأمة لإعطائهم الإقرار بالديانة ظاهراً (وهو ما نسميه اليوم بحرية الأديان) وحقن الشريعة دم من أجاب إليها وهم هؤلاء الباطنية الباطلية الذين تخلعوا عن الأديان ومرجوا نفوسهم في ميادين الشهوات فحظوا عند الظلمة بترخيصهم لهم في ارتكاب ما يهوون وتهوينهم عليهم عواقب ما يحذرون حتى ترى المظالم قد فشت والقلوب قد قست والمنكرات قد ظهرت والفواحش قد كثرت وارتفعت الأمانة وغلبت الخيانة وعطلت المروءة واستخف بالربانيين واهتضم المستضعفون وأميت العدل وأحيي الجور فظهر ما لم يذكر في عهد ملك من الملوك في قديم الدهر وحديثه ولا في زمن نبي من الأنبياء عليهم السلام. . .
وفي الكتاب فوائد كثيرة جغرافية وتاريخية واجتماعية وعمرانية وهو من أهم الكتب في النحل والملل وخوضه فيها يدل على أن المؤلف هو البلخي لما عرف من ترجمته أنه طالما اجتمع بزعماء أرباب الملل واستوصفهم معتقداتهم قال في طورسينا: يخرج الرجل من مصر إلى قلزم في ثلاثة أيام ومن قلزم إلى الطور طريقان أحدهما في البحر والآخر في البر وهما جميعاً يؤديان إلى فاران وهي مدينة العمالقة ثم يسير منها إلى الطور في يومين فإذا انتهى إليه صعد ستة آلاق وستمائة وستاً وستين مرقاة وفي نصف الجبل كنيسة لإيليا النبي وفي قلة الجبل كنيسة مبنية باسم موسى عليه السلام بأساطين من رخام وأبواب من صفر وهو الموضع الذي كلم الله عز وجل فيه موسى وقطع منه الألواح للتوراة ولا يكون فيها إلا راهب واحد للخدمة ويزعمون أنه لا يقدر أحد أن يبيت فيها فيهيء له بيت صغير من خارج بناء فيه.
والكتاب كما رأيت لطيف الأسلوب في إنشائه. وإنشاء القرن الرابع مهما انحط أرقى من إنشاء الأعصر التي تليه. وقد اتضح أن مؤلفه معتزلي من نسبة الاختيار المطلق للإنسان(27/66)
ورعاية الأصلح لله سبحانه وتعالى ونحو ذلك مما ذكره في المعراج النبوي فإنه قال: والوجه في هذا وما أشبهه أن لا يجاوز فيه نص الكتاب ومستفيض السنة مع المخالف المنكر المستعظم لما يخرج عن العادة المعهودة والطبع القويم وقال أن المسرى قد يكون بالروح والجسم وأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الرؤيا في المنام لا غير وإن كان جاء في التفسير أنه رؤية العين فحكم العقل أن يخاطب كلاً على قدر فهمه.
فهذا الكلام يدل على أن المؤلف معتزلي فإن كان المطهر الذي نسب إليه التأليف معتزلياً تقوى الشبهة في أن الكتاب له وإلا فيبقى هناك مجال للقول في أنه للبلخي. ولعل الذي أحيا هذا الكتاب الذي كاد يدفن يوفق إلى تصفح بعض ما يعثر عليه من مصنفات البلخي فيقابل بين أسلوبه فيها وأسلوبه في كتاب البدء والتاريخ ليتجلى له إن كان هذا المؤلف له أو نسب إليه وهو لغيره. فإن المدقق لا يلبث أن يدرك من بعض الألفاظ والتعابير أن المؤلف واحد ولكل كاتب ألفاظ تكاد تكون خاصة به يستعملها في معظم ما تخطه يراعته.
وقد تصفحنا جملة صالحة من الترجمة الإفرنسية فرأيناها موافقة للأصل العربي اللهم إلا إذا كان في هذا بعض التباس فهناك المترجم يعذر لا محالة. ومهما يكن فإنا نهنيء المسيو هواء على إحياء هذا الأثر النفيس وما أحرى أن تكون مبالغته في العناية بما نشر معلمة لطابعينا ومؤلفينا كيف نطبع الكتب إذا أريد بها النفع الحقيقي لا مجرد النسخ والإلقاء للطبع كيفما اتفق. ونشكر لمدرسة اللغات الشرقية على طبعها هذا السفر الجليل ونرجو أن يوفق أمثال المسيو هوار وغيره من رصفائه الجهابذة إلى نشر كثير من آثار الشرق على النحو الذي طبع به هذا الكتاب من الإتقان والجودة. وكل جزء منه يباع بعشرين فرنكاً. فنحث طلاب العلم والأدب على اقتنائه فإنه من خير الكتب التي تزين المكاتب والقماطر ويسر بوضعها وطبعها الخاطر والناظر ومن جملة فوائده أنه يعين من أراد أن يتعلم الترجمة من الإفرنسية إلى العربية وبالعكس.
بلاغات النساء
هو كتاب حوى طرائف كلام النساء وملح نوادرهن وأخبار ذوات الرأي منهن وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام تأليف أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المتوفى سنة 380 هـ نقله عن نسخة مخطوطة في خزانة الكتب الخديوية أحمد أفندي الألفي من أفاضل أدباء(27/67)
مصر وقدم له مقدمة رشيقة وصف فيها الأصل الذي اهتدى إليه وحافظ على كلام المؤلف فلم يحذف منه ما لا ينطبق مثلاً على عادات هذا العصر في التآليف فأبقى قسم المجون بحاله لأنه داخل في أنواع الأحوال الاجتماعية والبلاغات اللغوية المروية عن النساء ليتم للمطالع الإشراف على هذه الأحوال والبلاغات في قسميها الجدي والفكاهي وقد يستغرق المطالع في مطالعة هذا الأثر النفيس فيحار في التفضيل ولا غرو فإن كلام عائشة وفاطمة وزينب وأم كلثوم وحفصة وأروى بنت الحارث وسودة بنت عمارة والزرقاء بنت عدي وبكارة الهلالية وأم الخير لبنت الحريش البارقية والحجانة بنت المهاجر وأم معبد ورقيقة بنت بنانة وامرأة أبي الأسود الديلمي وصفية بنت هشام المنقرية وجمعة وهند بنتا الحسن وآمنة بنت الشريد وأم سنان بنت خيثمة بن خرسة ونائلة بنت القرفصة وعائشة بنت عثمان بن عفان وفاطمة بنت عبد الملك وعكرشة بنت الأطش والدارمية الجحونية وجروة بنت مرة بن غالب وأم البراء بنت صفوان إلى غيرهن من الأديبات الحكيمات هو للبلاغة معين وعلى الأدب أكبر معين يقل وقوع مثله للرجال دع عنك ربات الحجال. وقد جاء الكتاب في زهاء مئتي صفحة مطبوعة جيداً وعلق عليه ناشره بتفسير بعض الألفاظ العويصة وبذل الجهد في إرجاع النصوص إلى الصواب ما أمكن لأن النسخة الأصلية محرفة تحريفاً مشيناً فجزاه الله خيراً والكتاب يطلب من المكاتب الشهيرة بمصر وثمنه عشرة قروش.(27/68)
سير العلم والاجتماع
قوة الحياة في العالمين
ادعى جون بورغوس من مشاهير علماء الطبيعة في أميركا أن الأحياء من الإنسان والحيوان في أوروبا أقوى وأعظم وأكثر نسلاً مما عي في أميركا فأثبت الرئيس روزفلت عكس هذه القضية ونشر كل من المدعي والمنكر مجلدات في هذا الصدد فقال روزفلت: إن كثيراً من الحيوانات والطيور التي تنسب بأن أصلها من أوروبا قد وردت عليها في الحقيقة من بلاد أخرى كما هاجرت إلى الولايات المتحدة وأوستراليا مثال ذلك الأرنب والجرذ والفأرة فإنها كانت تأوي باديء بدء إلى شمالي أفريقية أو جنوبي آسيا. واستنتج من ذلك أن الضعف في هذه الحيوانات إذا قيس بالحيوان الأميركي لا تكون منه قاعدة عامة كما يكون وجه الشبه بين الحيوانات المتوحشة التي ما زالت في فرنسا وألمانيا وإنكلترا. أما ذوات الثديين من الحيوانات فلا يعرف فيما إذا كانت في أميركا تمتاز عن بنات نوعها في مكان آخر من حيث القوة والنشاط. فترى الوعل والإيل في أميركا أعظم جثة مما هما في أوروبا وزهكذا الحال في كلب الماء وجرذ الحقل فإنك تشاهد أعظمهما جثة ما كان أصفر أبقع وهو يكثر في جون هدسون ولئن كان الأرنب الأميركاني في الشمالي أحط بقوته وجرأته من الأرنب في شمالي أوروبا وآسيا فإن الدب الأميركي أرقى من الدب الأسفع الأوروبي. وإذا بدا البقر الوحشي في أوروبا وآسيا وأفريقية أنه أضخم من البقر الذي من جنسه في أميركان فالأيل في أميركا أعظم من الذي من جنسه في غيرها. ويكاد الثعلب الأميركي يكون مساوياً في قده للثعلب الفرنساوي وأصغر من الأرنب الأيكوسي ولكن هذا دون الأرنب في أعالي ميسوري. وما من شيء يدعو للاعتقاد بأن الثعلب الأحمر جيء به من أوروبا إلى أميركا لأن سكان كندا كانوا يصيدون الثعالب منذ أزمان متطاولة ويتجرون بقروها.
هذا رأي الرئيس روزفلت في الحيوانات وأما في الإنسان فقد استعان على صحة مدعاه بالإحصاءات الطبية من عهد حرب الرقيق لأنه اشتركت فيها أمم من جميع أهل أوروبا وعامة أقطار الولايات المتحدة وجرى البحث في أجسامهم على طريقة طبية تشريحية فنتج من البحث أن الجسم الإنساني في شرقي الولايات المتحدة قد فسد فساداً محسوساً. فقامات(27/69)
سكان ولاية نيويورك مثلاً أصغر من قامات الإنكليز والإيرلنديين واتساع صدورهم أقل وأجمل الناس صورة هم سكان ولايتي كنتكي وتنيسي ثم السويديون والإيكوسيون والأميركيون في ويسكنسن ومينوستا ويليهم الإيرلنديون والألامان والإنكليز ثم الفرنسيس اللهم إلا سكان كندا منهم. وأكثر الناس نسلاً سكان كنتكي وتنيسي وفيرجينا وكرولينا وكندا. واستنتج الرئيس من ذلك أن ليس ثمت قاعدة مطردة يتأتى السير عليها للحكم على قوة الحياة في الحيوان والإنسان إذا كان الاستناد في ذلك على هواء البلاد فقط. ونحن نستنتج معجبين بالرئيس روزفلت الذي يباري العلماء ويبذهم في علمهم كما هو أعظم سياسي. فسبحان من خص الرئيس روزفلت بعد أن كنا نقول الرئيس ابن سينا.
مزارع النعام
لئن كان أصل النعام من سهول أفريقية وبلاد العرب الرملية فقد ربي في الناتال سنة 1874 وكثرت الاستفادة منه حتى بلغ رأس المال المخصص لتربيته سنة 1879 ثمانية ملايين جنيه ويصدر منه كل سنة زهاء خمسة وعشرين مليون ريشة إلا أن حرب الزولو لاند وغيرها من الحوادث قضت بتخريب تلك المزارع فانتقل بعض أصحابها إلى زلاندا الجديدة فأخذوا يربون النعام وقد أنشئت شركة سويسرية لتربية النعام فيها أتت بأرباح وافرة واقتدى بهم بعض الناس في أوستراليا فأصبح فيها زهاء ألف نعامة وتباع الواحدة التي يبلغ عمرها ثلاثة أشهر بخمسة جنيهات ويباع زوج من ذكر النعام وأنثاه بمئة جنيه وما زال في نمو. والنعام ثروة لمربيه ولكن لا في أفريقية.
المستعمرات الفرنسوية
كتب أحد أعضاء مجلس النواب الفرنساوي تقريراً قال فيه أن المستعمرات الفرنسوية أخذت تزيد بأراضيها وسكانها وغناها فلم يكن لفرنسا سنة 1870 ما خلا الجزائر وتونس غير مستعمرات لا يتجاوز سكانها الميونين ونصفاً أما اليوم فسكانها يبلغون خمسة وثلاثين مليوناً نصفهم في الهند الصينية وهي أكثر البلاد الآهلة بالسكان وأفريقية الغربية والكونغو أوسع المستعمرات الفرنسوية وذكر ما قصرت فيه الحكومة في مدغسكر من تعليم سكانها على حين أخذ مرسلو البرتستانت من الإنكليز والفرنسيس يكثرون من المدارس وفيها من يحنق على من يأتي الخير لأنه أتاه باسم الدين وما على الطبيب الطيب إلا أن يقول في(27/70)
نفسه ماذا يهم من الدواء إذا كان فيه الشفاء.
دعاة الدين
يقولون أن إيطاليا اليوم تحارب رجال الدين كما حاربتهم فرنسا من قبل ولكن الدين مع هذا لم يبرح منتحلوه يكثرون في عدة جهات وإن قلوا في بعضها فقد كان عدد من دانوا بالبرتستانتية في النمسا 3431 في السنة الماضية وبلغ مجموع من انتحلوها هناك في تسع سنين 45 ألفاً وفي فيينا دان سنة 1907، 227 إسرائيلياً بالنصرانية منهم بالبرتستانتية ومنهم بغيرها. وذكروا أن في البلجيك اليوم 2474 جمعية دينية على حين ليس فيها سوى 2623 مركزاً.
حجر السماء
اكتشف بالعرض حد سكان كاليفورنيا جوهراً جديداً معدنياً لم يكن من قبل معروفاً وسينافس عما قريب أحجار الياقوت والزمرد وهو أزرق كالصفير أو الياقوت الأزرق وزرقته كزرقة السماء في الصيف. وقد كتم المكتشف سر اكتشافه إلا أنه عرض بعض الأحجار فتنافس فيها غلاة الجواهر من كبار أغنياء الأميركان. وفي تلك الناحية من كليفورنيا اكتشف منذ عشر سنين زمرداً أخضراً كما اكتشف حديثاً في تلك البقعة نفسها حجر الكونزيت الذي يختلف بلونه من الأرجوان إلى الوردي.
أكبر باخرة
أكبر باخرة تسير في الأنهار هي التي صنعتها أميركا وتستخدم للملاحة قريباً من جون هدسون وهي تقل خمسة آلاف راكب وطولها 120 متراً وعمقها 13 ومجموع علوها 24 وتقطع 38 كيلومتراً في الساعة ويزيد قطر دواليبها على سبعة أمتار.
تجارة تونس
أحصيت تجارة الصادرات والواردات معاً فقي القطر التونسي سنة 1906 فبلغ مجموعها 170 مليون فرنك منها 90 مليوناً للواردات والباقي للصادرات وقد كانت الواردات سنة 1901، 65 مليوناً والصادرات 105 ملايين وما برح الارتقاء في الواردات آخذاً في النمو وأهم الممالك التي تعامل تونس فرنسا وإيطاليا وإنكلترا والجزائر ثم البلجيك وألمانيا(27/71)
والولايات المتحدة. يصيب كل مملكة منها بحسب نشاط أفرادها وما لديهم من الغلات والمصنوعات.
تطهير الكتب
اخترعت عدة طرق لتطهير الكتب من الجراثيم التي يلحقها بها المطالعون من أرباب الأمراض المعدية ولكنها لم تأت بالغرض المقصود وقد اخترع الدكتور برليوز الفرنسوي آلة جديدة أسهل على العمل وأضمن للنتيجة من جميع ما اخترع من نوعها وذلك بأن تبخر الكتب بسيائل خاص على درجة من الحرارة لا تقل عن 75 وبدون ضغط على الكتاب ولا فتح لأوراقه ولا ضرر على جلده وورقه والكتب المجلدة تجليداً نفيساً يكتفى بتغليفها بورقة رفيعة فيذهب بذلك من الكتب كل جرثومة ضارة بلى إن هذا العمل بها يساعد على زيادة بقائها وحفظها.
الزراعة في إنكلترا
انحطت الزراعة في إنكلترا انحطاطاً هائلاً فكانت سنة 1870 تقوم بإطعام نصف الأمة ولم تعد تكفي سنة 1900 لغير طعام عشر سكانها وقلت الأراضي التي تزرع حبوباً قلة محسوسة فأصبحت إنكلترا عالة على مستعمراتها إذا قطعت عنها مادة حياتها وحدث ما أخر بريطانيا عن الاستئثار بسلطة البحار يسوء حالها لا محالة. أثبتت ذلك اللجنة الزراعية الإنكليزية في العام الماضي فقالت أن عدد العاملين في الزراعة كان سنة 1871، 1685000 فأصبحوا سنة 1901، 900000 وأكدوا أن زراعة إنكلترا أحط الزراعات في أمم الأرض كلها.(27/72)
العدد 28 - بتاريخ: 1 - 5 - 1908(/)
رسالة ابن المقفع في الصحابة
أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين وأتم عليه النعمة وألبسه المعافاة والرحمة فإن أمير المؤمنين حفظه الله يجمع مع علمه المسألة والاستماع كما كان ولاة الشر يجمعون مع جهلهم العجب والاستغناء ويستوثق لنفسه بالحجة ويتخذها على رعيته فيما يلطف له في الفحص عن أمورهم كما كان أولئك يكتفون بالدعة ويرضون بدحوض الحجة وانقطاع العذر في الامتناع أن يجترئ عليهم أحد برأي أو خبر مع تسليط الديان. وقد عصم الله أمير المؤمنين حين أهلك عدوه وشفى غليله ومكن له في الأرض وآتاه ملكه وخزائنها من أن يشغل نفسه بالتمتع والتفتيش والتأثل والإخلاد وأن يرضا ممن آوى بالمتاع به وقضاء حاجة النفسي منه وأكرم الله أمير المؤمنين باستهانة ذلك واستصغاره إياه وذلك من أبين علامات السعادة وأنجح الأعوان على الخير وقد قص الله عز وجل علينا من نبأ يوسف بن يعقوب أنه لما تمت نعمة الله عليه وآتاه الملك وعلمه من تأويل الأحاديث وجمع له شمله وأقر عينه بأبويه وأخوته أثنى على الله عز وجل بنعمته ثم سلا عما كان فيه وعرف أن الموت وما بعده هو أولى فقال: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.
وفي الذي قد عرفنا من طريقة أمير المؤمنين ما يشجع ذا الرأي على تناوله بالخبرة فيما ظن أنه لم يسبغه إياه غيره وبالتذكير بما قد انتهى إليه ولا يزيد صاحب الرأي على أن يكون مخبراً ومذكراً. وكلٌّ عند أمير المؤمنين مقبول إن شاء الله. مع أن مما يزيد ذوي الألباب نشاطاً إلى إعمال ذوي الرأي فيما يصلح الله به الأمة من يومها أو غابر دهرها الذي أصبحوا قد طمعوا فيه ولعل ذلك أن يكون على يدي أمير المؤمنين فإن مع الطمع الجد ومع اليأس القنوط وقلما ضعف الرجاء إلا ذهب الرخاء. وطلب المويس عجز وطلب الطامع حزم. ولم ندرك الناس نحن وآباؤنا إلا وهم يرون فيها خلاً لا يقطع الرأي ويمسك بالأفواه من حال والٍ لم يهمه الإصلاح أو أهمه ذلك ولم يثق فيه بفضل رأي أو كان ذا رأي ليس مع رأيه صون بصرامة أو حزم أو كان ذلك استئثاراً منه على الناس بنشب أو قلة تقدم لما يجمع أو يقسم لو حال أعوان ينيل بهم الولاة ليسوا على الخير بأعوان وليس له إلى اقتلاعهم سبيل لمكانهم من الأمر ومخافة الدول والفساد إن هو هاجهم أو انتقص ما في أيديهم أو حال رعية متزرة ليس لها من أمرها النصف في نفسها فإن أُخذت بالشدة حميت وإن أُخذت باللين طغت. وكل هذه الخلائق قد طهر الله منها أمير المؤمنين فآتاه الله(28/1)
ما آتاه في نيته ومقدرته وعزمه ثم لم يزل يرى ذلك من الناس حتى عرفه منه جهالهم فضلاً عن علمائهم. وصنع الله لأمير المؤمنين في رأيه وأتباعه مرضاته وأذل الله لأمير المؤمنين رعيته بما جمع له من اللين والعفو فإن لان لأحد منهم ففي الأثخان له شهيد على أن ذلك ليس بضعف ولا مصانعة وإن اشتد على أحد منهم ففي العفو شهيد على أن ذلك ليس بعنف ولا خرق مع أمور سوى ذلك يكفُّ عن ذكرها كراهة أن يكون كأنا نصبنا المدح. فما أخلق هذه الأشياء أن تكون عتاداً لكل جسيم من الخير في الدنيا والآخرة واليوم والغد والخاصة والعامة. وما أرجانا لأن يكون أمير المؤمنين بما أصلح الله الأمة من بعده أشد اهتماماً من بعض الولاة بما لا يصلح رعيته في سلطانه وما أشد ما قد استبان لنا أمير المؤمنين أطول بأمر الأمة عناية ولها نظراً وتقديراً من الرجل منا بخاصة أهله ففي دون هذا ما يثبت الأمل وينشط العمل ولا قوة إلا بالله ولله الحمد وعلى الله التمام.
فمن الأمور التي يذكر بها أمير المؤمنين أمتع الله به أمر هذا الجند من أهل خراسان فإنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام وفيهم منعة بما يتم فضلهم إن شاء الله. أما هم فأهل بصر بالطاعة وفضل عند الناس وعفاف نفوس وفروج وكف عن الفساد وذل للولاة فهذه حال لا نعلمها توجد عند أحد غيرهم. وأما ما يحتاجون فيه إلى المنعة من ذلك تقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم فإن في ذلك اليوم اختلاطاً من رأسي مفرط غال وتابع متحير شالٍ. ومن كان إنما يصول على الناس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرأي والقول والسيرة فهو كراكب الأسد الذي يوجل من رآه والراكب أشد وجلاً. فلو أن أمير المؤمنين كتب لهم أماناً معروفاً بليغاً وجيزاً محيطاً بكل شيء يجب أن يقول فيه ويكفوا عنه بالغاً في الحجة قاصراً عن الغلو يحفظه رؤساؤهم حتى يقود به دهماءهم ويتعهد به منهم من لا يؤبه له من عرض الناس لكان ذلك إن شاء الله لرأيهم صلاحاً وعلى من سواهم حجة وعند الله عذراً. فإن كثيراً من المتكلمين من قواد أمير المؤمنين اليوم إنما عامة كلامهم فيما يؤمر الأمر ويرغم الرغم أن أمير المؤمنين لو أمر الجبال أن تسير سارت ولو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة فعل ذلك وهذا كلام قلما (يرتضيه) من كان مخالفاً وقلما يرد في سمع السامع إلا أحدث في قلبه ريبة وشكاً.
والذي يقول أهل القصد من المسلمين هو أقوى للأمر وأعز للسلطان وأقمع للمخالف(28/2)
وأرضا للموافق وأثبت للعذر عند الله عز وجل.
فإنا قد سمعنا فريقاً من الناس يقولون لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق. بنوا قولهم هذا بناءً معوجاً فقالوا إن أمرنا الإمام بمعصية الله فهو أهل أن يعصى وإن أمرنا الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يطاع. فإذا كان الإمام يعصى في المعصية وكان غير الإمام يطاع في الطاعة فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء. وهذا قول معلوم يجده السلطان ذريعة إلى الطاعة والذي فيه أمنيته لئلا يكون للناس نظائر ولا يقوم بأمرهم إمام ولا يكون على عدوهم منهم ثقل.
سمعنا آخرين يقولون بل نطيع الأئمة في كل أمورنا ولا نفتش عن طاعة الله ولا معصيته ولا يكون أحد منا عليه حسيباً هم ولاة الأمر وأهل العلم ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم. وليس هذا القول بأقل ضرراً من توهين السلطان وتهجين الطاعة من القول بالذي قبله لأنه ينتهي إلى الفظيع المتفاحش من الأمر في استحلال معصية الله جهاراً صراحاً. وقال أهل الفضل والصواب: قد أصاب الذين قالوا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولم يصيبوا في تعطليهم طاعة الأئمة وتسخيفهم إياها وأصاب الذين أقروا بطاعة الأئمة لما حققوا منها ولم يصيبوا ما أبهموا من ذلك في الأمور كلها فأما إقرارنا فإنه لا يطاع الإمام في معصية الله فإنما ذلك في عزائم الفرائض والحدود التي لم يجعل الله لأحد عليها سلطاناً. ولو أن الإمام نهى عن الصلاة والصيام والحج أو منع الحدود وأباح ما حرم الله لم يكن له في ذلك أمراً.
فأما إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يطاع فيه غيره فإن ذلك في الرأي والتدبير والأمر الذي جعل الله أزمته وعراه بأيدي الأئمة ليس لأحد فيه أمر ولا طاعة من الغزو والقفول والجمع والقسم والاستعمال والترك والحكم بالرأي فيما لم يكن فيه أثر وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة ومحاربة العدو ومخادعته والأخذ للمسلمين والإعطاء عليهم. وهذه الأمور وأشباهها من طاعة الله عز وجل الواجبة وليس لأحد من الناس فيها حق إلا الإمام ومن عصى الإمام أو خذله فقد أوتغ نفسه. وليس يفترق هذان الأمران إلا ببرهان من الله عز وجل عظيم. وذلك أن الله جعل قوام الناس وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين الدين والعقل. ولم تكن عقولهم وإن كانت نعمة الله عز وجل عظمت عليهم فيها بالغة معرفة(28/3)
الهدى ولا مبلغة أهلها رضوان الله إلا ما أكمل لهم من النعمة بالدين الذي شرع لهم وشرح به صدر من أراد هداه منهم ثم لو أن الدين جاء من الله لم يغادر حرفاً من الأحكام والرأي والأمر وجميع ما هو وارد على الناس وجار فيهم مذ بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى يوم يلقونه إلا جاء فيه بعزيمة لكانوا قد كلفوا غير وسعهم فضيق عليهم في دينهم وآتاهم ما لم تسمع أسماعهم لاستماعه ولا قلوبهم لفهمه ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغواً لا يحتاجون إليها في شيء ولا يعلمونها إلا في أمر قد أتاهم به تنزيل ولكن الله من عليهم بدينهم الذي لم يكن يسعه رأيهم كما قال عباد الله المتقون: ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ثم جعل ما سوى ذلك من الأمر والتدبير إلى الرأي وجعل الرأي إلى ولاة الأمر ليس للناس في ذلك الأمر شيءٌ إلا الإشارة عند المشورة والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب. ولا يستحق الوالي هذه الطاعة إلا بإقامة العزائم والسنن مما هو معني في معنى ذلك. ثم ليس من وجوه القول وحده يلتمس فيه ملتمس إثبات فضل أهل بيت أمير المؤمنين على أهل بين (من سواه) وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى ذكره ألا وهو موجود فيه من الكلام الفاضل المعروف مما هو أبلغ مما يغلو به الغالون فإن الحجة ثابتة والأمر واضح بحمد الله ونعمته.
ومما ينظر فيه لصلاح هذا الجند ألا يولي أحدا منهم شيئاً من الخراج فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة. ولم يزل الناس يتحامون ذلك منهم وينحونه عنهم لأنهم أهل ذاك ودعوى بلاء وإذا خلا بالدراهم والدنانير اجترأ عليهما وإذا وقع في الخيانة صار كل أمر مدخولاً بنصيحته وطاعته فإن حيل بينه وبين رفعته أمرضته الحمية مع أن ولاية الخراج داعية إلى ذلة وعقوبة وهوان. وإنما منزلة المقاتل منزلة الكرامة واللطف. ومما ينظر فيه من أمرهم أن منهم من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم فلو التمسوا وصنعوا كانوا عدة وقوة وكان ذلك صلاحاً لمن فوقهم من القادة ومن دونهم من العامة.
ومن ذلك تعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه. ولا يزال يطلع من أمير المؤمنين ويخرج منه القول ما(28/4)
يعرف مقته للإتراف والإسراف وأهلهما ومحبته القصد والتواضع ومن أخذ بهما حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه بخلاً أن ينفقه سرفاً في العطر واللباس والمغالات بالنساء والمراتب فإن أمير المؤمنين يؤثر بالمعروف من وجهه المعروف والمؤاساة. ومن ذلك أمر أرزاقهم من يوقت لهم أمير المؤمنين فيها وقتاً يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له وأن يعلم عامتهم العذر الذي في ذلك من إقامة ديوانهم وتحمل أسمائهم ويعلموا الوقت الذي يأخذون فيه فينقطع الاستبطاء والشكوى. فإن الكلمة الواحدة تخرج من أحدهم في ذلك أهل أن تستعظم فإن باب ذلك جدير أن يحسم مع أن أمير المؤمنين قد علم كثرة أرزاقهم وكثرة المال الذي يخرج لهم وأن هذا الخراج إن يكن رائجاً لغلاء السعر فإنه لا بد من الكساد والكسروان وأن لكل شيء درة وغزارة وإنما درور خراج العراق بارتفاع الأسعار وإنما يحتاج الجند اليوم إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر فمن حسن التقدير إن شاء الله أن لا يدخل على الأرض ضرر ولا بيت المال نقصان من قبل الرحمن إلا دخل ذلك عليهم في أرزاقهم مع أنه ليس عليهم في ذلك نقصان لأنهم يشترون بالقليل مثل ما كانوا يشترون بالكثير. فأقول لو أن أمير المؤمنين ما خلا شيئاً من الرزق فيجعل بعضه طعاماً ويجعل بعضه علفاً فأعطوه بأعيانهم فإن قومت لهم قيمة فخرج ما خرج على حسابه قيمة الطعام والعلف لم يكن في أرزاقهم لذلك نقصان عاجل يستنكرونه وكان ذلك. . نزالهم لحمل العدو وإنصاف بيت المال من أنفسهم فيما يستبطئون مع أنه إن زاد السعر أخذوا بحصتهم من فضل ذلك. ومن جماع الأمر وقوامه بإذن الله أن لا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبارهم وحالاتهم وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف وأن يحتقر في ذلك النفقة ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فتصير جُنة للجهالة والكذب.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمتع الله به أمر هذين المصرين فإنهم بعد أهل خراسان أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعته ومعينيه مع اختلاطهم بأهل خراسان وأنهم منهم وهامتهم وإنما ينظر أمير المؤمنين منهم. . صدق ولرابطتهم أو ما أراد من أمورهم معرفته استثقال أهل خراسان ذلك لهم من أمر مع الذي في ذلك من جمال الأمر واختلاط الناس بالناس العرب(28/5)
بالعجم وأهل خراسان بالمصرين.
إن في أهل العراق يا أمير المؤمنين من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئاً لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه فلو أراد أمير المؤمنين أن يكتفي بهم في جميع ما يلتمس له أهل الطبقة من الناس رجونا أن يكون ذلك فيهم موجوداً. وقد أزرى بأهل العراق في تلك الطبقة أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرا الولاة وأن أعوانهم من أهل أمصارهم (كذلك) فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب مما دنا منهم أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيث ما وقعوا في صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا فأبطأ ذلك بهم أن يُعرفوا وينتفع بهم وإن كان صاحب السلطان لمن لم يعرف الناس قبل أن يليهم ثم لم يزل يسأل عنهم من يعرفهم ولم يستثبت في استقصائهم فزالت الأمور عن مراكزها ونزلت الرجال عن منازلها لأن الناس لا يلقونه إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام غير أن أهل النقص هم أشد تصنعاً وأحلى السنة وأرفق تلطفاً للوزراء أو تمحلاً لأن يثني عليهم من وراء وراء. فإذا آثر الوالي أن يستخلص رجلاً واحداً ممن ليس لذلك أهلاً دعا إلى نفسه جميع ذلك الشرح وطمعوا فيه واجترأوا عليه وتوردوه وزحموا على ما عنده وإذا رأى ذلك أهل الفضل كفوا عنه وباعدوا منه وكرهوا أن يروا في غير موضعهم أو يزاحموا غير نظرائهم.
ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ حد اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكون. ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب بما في أيد
يهم والاستخفاف ممن سواهم فأقحمهم ذلك في الأمور التي يشفع بها من سمعها من ذوي(28/6)
الألباب.
أما من يدعي لزوم السنة منهم فيجعل ما ليس له سنة سنة حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بينة ولا حجة الأمر الذي يزعم أنه سنة وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول هُريق فيه دم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى من بعده. وإذا قيل له أي دم سفك على هذه السنة التي تزعمون قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان أو أمير من بعض أولئك الأمراء وإنما من يأخذ بالرأي فيبلغ به الاعتزام عن رأيه أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولاً لا يوافقه عليه أحد من المسلمين ثم لا يستوحش لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه وهو مقر أنه رأي منه لا يحتج بكتاب ولا سنة. فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه القضية والسير المختلفة فترفع إليه كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً صواباً واحداً ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله.
فأما اختلاف الأحكام إما شيءٌ مأثور عن السلف غير مجمع عليه يدبره قوم على وجه ويدبره آخرون على وجه آخر فينظر فيه إلى أحق الفريقين بالتصديق وأشبه الأمرين بالعدل. وأما رأي أجراه أهله على القياس فاختلف وانتشر ما يغلط في أصل المقايسة وابتدأ أمر على غير مثاله. وإما لطول ملازمته القياس فإن من أراد أن يلزم القياس ولا يفارقه أبداً في أمر الدين والحكم وقع في الورطات ومضى على الشبهات وغمض على القبيح الذي يعرفه ويبصره فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس. وإنما القياس دليل يستدل به على المحاسن فإذا كان ما يقود إليه حسناً معروفاً أُخذ به وإذا قاد إلى القبيح المستنكر ترك لأن المبتغى ليس غير القياس يبغي ولكن محاسن الأمور ومعروفها وما ألحق ألحق بأهله. ولو أن شيئاً مستقيماً على الناس ومنقاداًَ حيث قيد لكان الصدق هو ذلك أولى أن يعتبر بالمقايس فإنه لو أرد أن يقوده الصدق لم ينقد إليه. وذلك أن رجلاً لو قال: أتأمرني أن أصدق فلا أكذب كذبة أبداً لكان جوابه أن يقول نعم ثم لو التمس منه قود ذلك فقال: أتصدق في كذا(28/7)
وكذاب حتى يبلغ به أن يقول الصدق في رجل هارب استدلني عليه طالب ليظلمه فيقتله لكسر عليه قياده وكان الرأي له أن يترك ذلك وينصرف إلى المجمع عليه المعروف المستحسن.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أهل الشام فإنهم أشد الناس مؤونة وأخوفهم عداوة وبائقة. وليس يؤاخذهم أمير المؤمنين بالعداوة ولا يطمع منهم في الاستجماع على المودة فمن الرأي في أمرهم أن يختص أمير المؤمنين منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحاً أو يعرف منه نصيحة أو وفاءً فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم فقد رأينا أشباه أولئك من أهل العراق الذين استدخلهم أهل الشام وليس أحد من أمر أهل السلم على القصاص حرموا كما كانوا يحرمون الناس وجعل فيئهم إلى غيرهم كما كان فيء غيرهم إليهم ونحوا عن المنابر والمجالس والأعمال كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة. فإن رغب أمير المؤمنين لنفسه عن هذه السيرة وما أشبهها فلم يعارض ما عاب ولم يمثل ما سخط كان العدل أن يقتصر بهم على فيئهم فيجعل ما خرج من كور الشام فضلاً عن النفقات وما خرج من مصر فضلاً عن حقوق أهل المدينة ومكة بأن يجعل أمير المؤمنين ديوان مقاتلتهم ديوانهم أو يزيد وينقص غير أنه يأخذ أهل القوة والغناء وخفة المؤونة والعفة في الطاعة ولا يفضل أحداً منهم على أحد إلا على خاصة معلومة ويكون الديوان كالغرض المستأنف ويأمر لكل جند من أجناد أهل الشام بعدة من العيال يقترعون عليها ويسوي بينهم فيما لم يكونوا أسوة فيه فيمن مات من عيالاتهم ولا يصنع بأحد من المسلمين.
وأما ما يتخوف المتخوفون من نزواتهم فلعمري لئن أخذوا بالحق ولم يؤاخذوا به أنهم لخلقاء أن يكون لهم نزوات ونزقات ولكنا على مثل اليقين بحمد الله من أنهم لم يشركوا بذلك إلا أنفسهم وأن الدائرة لأمير المؤمنين عليهم آخر الدهر إن شاء الله. فإنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.(28/8)
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر أصحابه فإن من أولى أمر الوالي منه بالتثبيت والتحيز أمر أصحابه الذين هم بهاء فنائه وزينة مجلسه وألسنة رعيته والأعوان على رأيه ومواضع كرامته والخاصة من عامته فإن أمر هذه الصحابة قد عمل فيه من كان وليه من الوزارة والكتاب قبل خلافة أمير المؤمنين عملاً قبيحاً مفرط القبح مفسداً للحسب والأدب والسياسة داعياً للأشرار طارداً للأخيار فصارت صحبة الخليط أمراً سخيفاً فطمع فيه الأوغاد وتزهد فيه من كان يرغب فيما دونه حتى إذا التقينا أباب العباس رحمه الله وكنت في ناس من صلحاء أهل البصرة ووجوههم فكنت في عصابة منهم أبوا أن يأتوه فمنهم من تغيب فلم يقدم ومنهم من هرب بعد قدومه اختياراً للمعصية على سوء الموضع لا يعتذرون في ذلك إلا بضياع الكتب والدعوة والمدخل يقولون هذه منزلة كان من هو أشرف من أبنائنا يرغبون فيما هو دونها عند من هو أصفر أمراء ولاتنا اليوم وقد كانت مكرمة وحسباً إذ الناس ينظرون ويسأل عنهم فأما اليوم ونحن نرى فلاناً وفلاناً ينفر بأسمائهم على غير قديم سلف ولا بلاء حدث فمن يرغب فيما هاهنا يا أمير المؤمنين أكرمك الله أما يصير العدل كله إلى تقوى الله عز وجل وإنزال الأمور منازلها فإن الأول قال:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقال:
هم سودوا نصراً وكل قبيلة ... يُبين عن أحلامها من يسودها
وإن أمر هذه الصحابة قد كان فيه أعاجيب دخلت فيه مظالم. أما العجب فقد سمعنا من الناس من يقول ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور من أهل مصر قد غبر علامة دهره صانعاً يعمل بيده ولا يعتد مع ذلك ببلاء ولا غناء إلا أنه مكنه من الأمر صاغ فاحتوى حيث أحب فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل بيوتات العرب ويجري عليهم من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سروات قريش ويخرج له من المعونة على نحو ذلك لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم ولا فقه في دين ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة ولا غناء حديث ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء ولا عدة يستعد(28/9)
بها وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة إلا أنه خدم كاتباً أو حاجباً فأخبر أن الذين لا يقوم إلا به حتى كتب كيف شاء ودخل حيث شاء.
وأما المظلمة التي دخلت في ذلك فعظيمة قد خصت قريشاً وعمت كثيراً من الناس وأدخلت على الأحساب والمروءات محنة شديدة وضياعاً كثيراً فإن في أذن الخليفة والمدخل عليه والمجلس عنده وما يجري على صحابته من الرزق والمعونة وتفضيل بعضهم على بعض في ذلك حكماً عظيماً على أن الناس في أنسابهم وأخطارهم وبلاء أهل البلاء منهم وليس ذلك كخواص المعروف ولطيف المنازل أو الأعمال التي يختص بها المولى من أحب ولكنه باب من القضاء جسيم عام يقضي فيه للماضين من أهل السوابق والمآثر من أهل الباقين وأهل البلاء والغناء بالعدل أو بما يجال فيه عليهم فإن أحق المظالم بتعجيل الرفع والتغيير ما كان ضره غائباً وكان السلطان شائناً ثم لم يكن في رفعة مؤونة ولا شغب ولا توغير بصدور عامة ولا للقوة ولا أضرار سبب.
ولصحابة أمير المؤمنين أكرمه الله مزية وفضل وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفاً لأهلها وحسباً لأعقابهم وحقيقة أن تصان وتخطر ولا يكون فيها إلا رجل بدر بخصلة من الخصال ومن رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة أو بلاء أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلاً لمجلس أمير المؤمنين وحديثه ومشورته أو صاحب نجدة يعرف بها ويستعد لها يجمع مع نجدته حسباً وعفافاً فيرفع من الجند إلى الصحابة ورجل فقيه مصلح يوضع بين أظهر الناس لينتفعوا بصلاحه وفقهه أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها فإما من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يكتفى له بالمعروف والبر فيما لا يهجن رأياً ولا يزيل أمراً عن مرتبته ثم تكون تلك الصحابة المخلصة على منازلها ومداخلها ألا يكون للكاتب فيها أمر في رفع رزق ولا وضعه ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.
ومما يذكر به أكير المؤمنين أمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس فإن فيهم رجالاً لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوهاً وكانوا عدة لأخرى.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر الأرض والخراج فإن أجسم ذلك وأعظمه خطراً وأشده مؤونة وأقربه من الضياع ما بين سهله وجبله ليس لها تفسير على الرساتيق والقرى فليس للعمال أمر ينتبهون إليه ولا يحاسبون عليه ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض(28/10)
بعدما يتأنقون لها في العمارة ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم. فسيرة العمال فيهم إحدى اثنتين إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع ويترك من لم يزرع فيعمر من عمر ويسلم من أخرب مع أن أصول الوظائف على الكور لم يكن لها ثبت ولا علم وليس من كورة إلا وقد غيرت وظيفتها مراراً فخفيت وظائف بعضها وبقيت وظائف بعض فلو أن أمير المؤمنين أعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة وتدوين الدواوين بذلك وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها لرجونا أن يكون في ذلك صلاح للرعية وعمارة للأرض وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال. وإذا رأي مؤونته شديدة ورجاله قليل ونفعه متأخر. وليس بعد هذا من أمر الخراج غلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به ولم نره من أحد قبله من تخير العمال وتفقدهم والاستعتاب لهم والاستبدال بهم.
ومما نذكر به أمير المؤمنين جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة وما سوى ذلك أن يكون من رأي أمير المؤمنين إذا سنحت نفسه عن أموالها من الصدقات وغيرها أن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق الله أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار والأجناد والثغور والكور. إن الناس من الاستخراج والفساد ما قد علم أمير المؤمنين وبهم حاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون يذكرون ويبصرون الخطأ ويعظون عن الجهل ويمنعون عن البدع ويحذرون الفتن وينتقدون أمور عامة من هو بين أظهرهم حتى لا يخفى عليهم منها مهم ثم يستصلحون ذلك ويعالجون على ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليهم مأمونين على سير ذلك وتحصينه بصراء بالرأي حين يبدو أو أطباء باستئصاله قبل أن يتمكن. وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صُنعوا لذلك وتلطف لهم وأُعينوا على رأيهم وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطهم له. وخطر هذا جسيم في أمرين(28/11)
أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح وأهل الفرقة إلى الألفة والأمر الآخر أن لا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة إلا وعين ناصحة ترمقه ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه. وإذا كان ذلك لم يقدر أهل الفساد على تربيص الأمور وتلقيحها وإذا لم تلقح كان نتائجها بإذن الله مأموناً.
وقد علمنا علماً لا يخالطه شك أن عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها. وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها وأنها لم يأتيها الصلاح إلا من قبل إمامها. وذلك لأن عدد الناس في ضعفتهم وجهالهم الذين لا يستغنون برأي أنفسهم ولا يحملون العلم ولا يتقدمون في الأمور فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون غليهم ويسمعون منهم اهتمت خواصهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة جعل الله ذلك صلاحاً لجماعتهم وسبباً لأهل الصلاح من خواصهم وزيادة فيما أنعم الله به عليهم وبلاغاً إلى الخير كله. وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك فبالإمام يجمع الله أمرهم ويكبت أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم ويبين لهم عند العامة منزلتهم ويجعل لهم الحجة والأيد والمقال على من نكب عن سبيل حقهم. فلما رأينا هذه الأمور ينتظم بعضها ببعض وعرفنا من أمر أمير المؤمنين ما بمثله جمع الله خواص المسلمين على الرغبة في حسن المعاونة والمؤازرة والسعي في صلاح عامتهم طمعنا لهم في ذلك يا أمير المؤمنين وطمعنا فيه لعامتهم ورجونا أن لا يعمل بهذا الأمر أحد إلا رزقه الله المتابعة فيه والقوة عليه. فإن الأمر إذا أعان على نفسه جعل للقائل مقالاً وهيأ للساعي نجاحاً. ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو رب الخلق وولي الأمر يقضي في أمورهم يدبر أمره بقدرة عزيزة وعلم سابق فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد ويحصنه بالحفظ والثبات والسلام ولله الحمد والشكر.
تحميد لابن المقفع
الحمد لله ذي العظمة القاهرة والآلاء الظاهرة الذي لا يعجزه شيءٌ ولا يمتنع منه ولا يُدفع قضاؤه ولا أمره وإنما يقول إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه ودبر الأمور بحكمه وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها وملكة منه لها لا معقب لحكمه ولا شريك له في شيء من الأمور يخلق ما يشاء ويختار ما(28/12)
كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم سبحان الله وتعالى عما يشركون. والحمد لله الذي جعل صفوا ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده فقام به ملائكته المقربون يعظمون جلاله ويقدسون أسماءه ويذكرون ويذكرون آلاءه لا يتحسرون عن عبادته ولا يستكبرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه يطيعون أمره ويذبون عن محارمه ويصدقون بوعده ويوفون بعهده ويأخذون بحقه ويجاهدون عدوه وكان لهم عند ما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاحه حجتهم وإعزازه دينهم وإظهار حقهم وتمكينه لهم وكان لعدوه وعدوهم عندما أوعد هم من خزيه وإحلاله بأسهم وانتقامه منهم وغضبه عليهم مضى على ذلك ونفذ فيهم قضاؤه فيما مضى وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي ليتم نوره ولو كره الكافرون ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور ولا يدبرها غيره ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته وهو وليها ومنتهاها وولي الخبرة فيها والإمضاء لما أحب أن يمضي منها يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون. والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم ذي المن والطول والقدرة والحول الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته ولا ردّ لأمره في ذلك وقضائه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه والمنعم بشكره وعليه جزاؤه والمثني بالإيمان وهو عطاؤه.
كتب ابن المقفع إلى صديق ولدت له جارية:
بارك الله لكن في الابنة المستفادة وجعلها لكم زيناً وأجرى لكم بها خيراً فلا تكرهها فإنه الأمهات والأخوات والعمات والخالات ومنهن الباقيات الصالحات. وربَّ غلام ساء أهله بعد مسرتهم وربَّ جارية فرَّحت أهلها بعد مساءتهم.
تعزية لابن المقفع عن ولد:
أعظم الله على المصيبة أجرك وأحسن على جليل الرزء ثوابك وعجل لك الخلف فيه وذخر لك الثواب عليه.
وله:
وإنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه فلا تجمعن إلى ما فجعت به من ولدك(28/13)
الفجيعة بالأجر عليه والعوض منه. فإنما أعظم المصيبتين عليك وأنكى المرزيتين لك. أخلف الله عليك بخير وذخر لك جزيل الثواب.
وتعزية له عن بنت:
جدد الله لك من هبته ما يكون خلفاً لك بما رزئته وعوضاً من المصيبة به ورزقك من الثواب عليه أضعاف ما رزأك به منها فما أقل كثير الدنيا في قليل الآخرة مع فناء هذه ودوام تلك.
وتعزية له أيضاً:
أعظم الله أجرك في كل مصيبة وأوزعك الشكر على كل نعمة. اعرف لله حقه واعتصم بما أمر به من الصبر تظفر بما وعد من عظيم الأجر.
وتعزية لابن المقفع:
أما بعد فإن أمر الآخرة والدنيا بيد الله هو يدبرهما ويقضي فيهما ما يشاء ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فإن الله خلق الخلق بقدرته ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة لئلا يطمع أحد من خلقه في خلد الدنيا ووقت لكل شيء ميقات أجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فليس أحد من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت لا يرجو بأن يخلصه من ذلك أحد. نسأل الله خير المنقلب. وبلغني وفاة فلان فكانت وفاته من المصائب العظام التي يحتسب ثوابها من ربنا الذي إليه منقلبنا ومعادنا وعليه ثوابنا فعليك بتقوى الله والصبر وحسن الظن بالله فإنه جعل لأهل الصبر صلوات منه ورحمة وجعلهم من المهتدين.
ولابن المقفع في السلامة:
أما بعد فقد أتاني كتابك فيما أخبرتنا عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك وفي الذي ذكرت من ذلك نعمة مجللة عظيمة نحمد الله عليها وليها المنعم المفضل المحمود ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها. وسألت أن أكتب إليك بخبرنا ونحن على حال لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاءٌ للنعمة ولا اعتراف لكنه الحق فنرغب إلى الذي تزداد نعمه علينا في كل يوم وليلة تظاهراً ألا يجعل شكرنا منقوصاً ولا مدخولاً وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءها من المعرفة بفضله فيها والعمل في الأداء إليه حقها إنه ولي قدير.(28/14)
وله كتاب للثقفي في السلامة:
أما بعد فإن مما نمق الله به مناقبك الكريمة المحمودة الغانية عن القول والوصف أنك موضع المؤونات عن أخوانك حمال عنهم أثقال الأمور مما وضعت عنه المؤونة ارتفاعك عن الأمور التي يطأطأ إليها الكلام على ألسنة الناس إذا أباحوه وبهرجوه وضيعوا القول ونسوا القصد فيه وأخذوا به في كل فن وأصفوا بصفوته غير أهلها فيما لا ينبغي لهم من التشبيه والتوفير والتفضيل. كان من خبري بعدك أني قدمت بلد كذا فتهيأ لي بعض ما شخصت له والمحمود على ذلك الله عز وجل وأنا على أن يأتيني خبرك محتاج فأما جملة خبري في فراقك فقلبي مكة كل ما سواك حرام فيها.
وله جواب في السلامة:
أما بعد فقد أتاني كتاب الأمير رجعة كتابي إليه فكان فيه تصديق الظن وتثبيت الرأي ودرك البغية والله محمود فأمتع الله بالأمير وأمتعه بصالح ما آتاه وزاهدة من الخيرات مستعمراً له فيه مستعملاً بطاعته التي بها يفوز الفائزون والذي رزق الله من الأمير فهو عندي عظيم نفيس وكل الذي قبلي عن مكافأته فمقصر إلا أنه ليس في النية تقصير ولا بلوغ لشيء من الأمور إلا بتوفيق الله عز وجل ومعونته والسلام.
وله في السلامة جواب أيضاً:
أما بعد فقد أتاني كتابك فيما أخبرتني عنه من صلاحك وصلاح ما قبلك وفي الذي ذكرت نعمة مجللة عظيمة نحمد عليها الله المنعم بها المحمود ونسأله أن يلهمنا وإياك من شكره وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها نحن من عافية الله وكفايته ودفاعه على حال لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاء للنعمة ولا اعتراف لكنه الحق فنرغب إلى الذي يزيد في نعمه علينا تظاهراً ألا يجعل شكرنا منقوصاً ولا مدخولاً وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءً من المعرفة بفضله فيها والعمل في أدءا حقها.
وفي السلامة أيضاً (ولم يقل أنها له):
كتبت إليك وأمير المؤمنين وما يأتيه من لين الطاعة واتساق الكلمة عمت في الداني والقاصي من بلدانه وحواشي سلطانه على ما يحمد الله عليه فإن نعمة الله على أمير المؤمنين تجري على أذلالها وتنقاد في أسهل سبيلها.(28/15)
قال المؤلف: ومن مختار ما كتب به من باب الشكر ولم أعرف إن كانت له أو لغيره لأنه أورد كتب بضم أولها ومع هذا فهذه هي الرسالة:
أما بعد فقد أعجز تعدادي عما أتعرف منك وأتعرف بك دانياً ونائياً وما أدري ما ابتدأني به من معروفك أرهن لشكري أم ما ثنيت به من برك لبدئك بعنايتك على نأيك أم ما ألبستني جماله على لسانك بإطرائك وثنائك أم ما عقدته لي عند غيرك بتلطيفك وتأتيك غير أني أعلم أنك لم تقصر في استحقاق شكر علي وأرجو ألا أكون مقصراً في معرفة ذلك منك ومن لم يقصر علمه ولم يؤت في شكره إلا من أعظم المعروف عنده مع جهده فقد دخل بالعلم والجهد في الشاكرين. غير أن الذي آنستني به من رفدك وتوطيدك قد زادني وحشة إليك وإن حفظ من حفظني فيك وإن لم يكن مقصراًُ وقد جدد لي المعرفة بوثارة مكاني عندك ولقد بلغت ن اصلحت لي الأمور والرجال وأصلحتني إلى صلاحي لنفسك فليس كتابي هذا باستبطائي لأحد حتى يستبطئه ولا شكري حتى يكون البدء منك ولكن روحت عن نفسي بذكرك وزينتها بشكرك وزكيتها بالإقرار بفضلك.
ولابن المقفع:
إن الناس لم يعدموا أن يطلبوا الحوائج إلى الخواص من الأخوان وأن يتواصلوا بالحقوق ويرغبوا إلى أهل المقامات ويتوسلوا لى الأكفاء وأنت بحمد الله ونعمته من أهل الخير وممن أعان عليه وبذلك لأهل ثقته المصافين وإن بذل النفوس فيه وإعطاء الرغيب ليس منك ببكر ولا طريف بل هو تليد أتلده أولكم لآخركم وأورثه أكابركم أصاغركم ومن حاجتي كذا وأنت أحق من طلبت إليه واستعنته على حوادث الدهر وأنزلت به أمري لقرب نسبك وكريم حسبك ونباهتك وعلو منزلتك وجسيم طبائعك وعوام أياديك على عشيرتك وغيرها فليكن من رأيك ما حملتك من حاجتي على قدر قسم الله لك من فصله وما عودك من مننه ووسع غيري من نعمائك وإحسانك.
ولابن المقفع أيضاً:
أما بعد فإن من قضى الحوائج لأخوانه واستوجب بذلك الشكر عليهم فلنفسه عمل لا لهم. والمعروف إذا وضع عند من لا يشكره فهو زرع لا بد لزارعه من حصاده أو لعقبة من بعده. وكتبت إلينا ولحالنا التي نحن بها نذكرك حاجة أول ما فيها معروف تستوجب بد(28/16)
الشكر علينا وتدخر به الأيادي قبلنا.
ولعبد الله بن المقفع إلى يحيى بن زياد (الحارثي) ابتداءً في المؤاخاة:
أما بعد فإن أهل الفضل في اللب والوفاء في الود والكرم في الخلق لهم من الثناء الحسن في الناس لسان صدق يشيد بفضلهم ويخبر عن صحة ودهم وثقة مؤاخاتهم فيتحير إليهم رغبة الأخوان ويصطفي لهم سلامة صدورهم ويجتبي لهم ثمرة قلوبهم فلا مثني أفضل تقريضاً ولا مخبر أصدق أحدوثة منه. وقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك وبين الناس طريقة محمودة نسبت إلى مزيتها في الفضل وجمل بها ثناؤك في الذكر وشهد لك بها لسان الصدق فعرفت بمناقبها ووسمت بمحاسنها فأسرع إليك الأخوان برغبتهم مستبقين يبتدرون ودك ويصلون حبلك ابتدار أهل التنافس في حظ رغيب نصبت لهم غاية يجري إليها الطالبون ويفوز بها السابقون. فمن أثبت الله عندك بموضع الحرز والثقة وملأ بك يده من أخي وفاء وصلة واستنام منك إلى شعب مأمون وعهد محفوظ وصار مغموراً بفضلك عليه في الود يتعاطى من مكافأتك ما لا يستطيع ويطلب من أثرك في ذلك غاية بلوغها شديد. فلو كنت لا تؤاخي من الأخوان إلا من كافأ بودك وبلغ من الغايات حدك ما آخيت أحداً ولصرت من الأخوان صفراً ولكن أخوانك يقرون لك بالفضل وتقبل أنت ميسورهم من الود ولا يجشمهم كلف مكافأتك ولا بلوغ فضلك فيما بينك وبينهم فإنما مثلك في ذلك ومثلهم كما قال الأول:
ومن ينازع سعيد الخير في حسب ... ينزع طليحاً ويقصر قيده الصعد
ولم أرد بهذا الثناء عليك تزكيتك ليكون ذلك قربة عندك وآخية لي لديك ولكن تحريت فيما وصفت من ذلك الحق والصدق وتنكبت الإثم والباطل فإن القليل من الصدق البريء من الكذب أفضل من كثير الصدق المشوب بالباطل. ولقد وصفت من مناقبك ومحاسن أمورك وإني لأخاف الفتنة عليك حين تسمع بتزكية نفسك وذكري ما ذكرت من فضلك لأن المدح مفسدة للقلب مبعثة للعُجب. ثم رجوت لك المنعة والعصمة لأني لم أذكر إلا حقاً والحق ينفي من اللبيب العُجب وخيلاء الكبر ويجمله على الاقتصاد والتواضع. وقد رأيت إذ كنت في الفضل والوفاء على ما وصفت منك أن آخذ نصيبي من ودك وأصل وثيقة حبلي بحبلك فيجري بيننا من الإخاء أواصر الأسباب التي بها يستحكم الود ويدوم العهد وعلمت أن(28/17)
تزكي ذلك غبن وإضاعتي إياه جهل لأن التارك للحظ داخل في الغبن والعائد عن الرشد موجف إلى الغي فارغب من ودي فيما رغبت فيه من دوك فإني لم أدع شيئاً أستتلي به منك الرغبة وأجتر به منك المودة إلا وقد اقتدت إليك ذريعته وأعملت نحوك مطيته لترى حرصي على مودتك ورغبتي في مؤاخاتك والسلام.
جواب من يحيى بن زياد في صفة الإخاء:
أما بعد فإنا لما رأينا موضع الإخاء ممن يحتمله في تأنيسه من الوحشة وتقريبه لذي البعدة ومشاركته بين ذوي الأرحام في القربة لم نرض بمعرفة عينه دون معرفة نسبته فنسبنا الإخاء فوجدناه في نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء فلما انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى الصبر فوجدناه محتوياً على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنجابة والزكانة وسائر ما لا يأتي عليه العدد من المحامد ثم انحدرنا فيما أصعدنا فيه من هذا النسب فعدنا إلى الإخاء فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلها أخلاقه. ولما استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها رأينا أن نتخير له المواضع في صواب التوزير وأحكام التقدير وعلمنا أن الاحتباس به أحسن من الندم بعد بذله واستوجب إذا كان جماع المحامد أن نتخير له محامله التي كان يحمل عليها فكان الناس فيما احتسبنا به عنهم من الإخاء على صنفين فصنف عذرونا بالتحبس للتخير إذ كان التخير من شأنهم وصنف هم ذوو سرعة إلى الإخاء وسرعة في الانتهاء فقدموا اللائمة واستعجلوا بالمودة وتركوا باب التروية واستحلوا عاجل المحبة ولهوا عن آجل الثقة فكانوا بذلك أهل لائمة ولم يجد المعذورون إلا الصبر على تلك والاستعمال الرأي والاستعداد بالعذر عند المحاجة. وقد فهمت كتابك إليّ بالمودة واسحثاثك إياي في الأخوة وما دنوت به من حرمة المحبة فنازعت إليك نفسي بمثل الذي نازعت به إليَّ نفسك فواثبتني عادة الاستعمال للتروية في الخبرة والتخير للمغبة فجلت عن كتابك جولة غير نافرة ثم راجعت مقاربتك فقلت ألقى إليَّ أسباب المودة قبل كشف الغطاء بالخبرة فخشيت أن تعذر نفسك بالتقدم وتحدث الزهادة للتعسف بالجهالة عند الخبرة فجلت عن هذا جولة كالجولة الأولى ثم عاودت إسعافك وطاعة التشوق ومعصية التحيز ثم قلت ما حال من جعل الظن دون اليقين والتقدم قبل الوثيقة فلما كان الرأي لي خصماً تنكبت الوقوع في خلافه فلم أجد إلا الإدبار عن إقبالك سبيلاً ولا مع ذلك في طاعة الشوق حجة(28/18)
فتغيبت السبيل بين ذلك إلى إعطائك طرف حبل الإخاء في غير الخروج من سبيل التخير وكرهت أن تستعبدني بالإخاء قبل أن أعرفك بحسن الملكة وأن تستظهرني على الأعداء قبل أن أعرفك بعدل السيرة وأن تستضيء بي في ظلم الجهل قبل أن أعرفك بعقد اللب وأن تستمكن بي في المطالب قبل أن أعرفك بقصد الهمة فقدمت إليك الترحيب والعدة وأحسنت عنك المفاوضة والثقة وتنظرت أن تثمر لي فأذوق جناك فأعرفك بالمذاقة في الطعم إما لافظاً وإما مستبلغاً فإن كان اللفظ لم أكن من الرأي في قلبه وإن كان الاستبلاغ ذوقتك ما تشوقت إليه مما ادعيت مني به الخبرة وأول ما أنا معتبر به منك المواظبة على استنجاح ما سألت أو السآمة له فإن كانت المواظبة فأحد الشهود المعدلين وإن كانت السآمة فأنت عن حمل ما تعطي أضعف منك عن جميل ما تطلب. طالعني بكتبك فإنك قد حللت قبلي عقداً من التحفظ وعقدت عقداً من التقرب والسلام.(28/19)
الصنائع الإسلامية
(تابع ما قبله)
إذا أطلق لفظ النقش عند المسلمين فلا ينبغي أن يفهم منه أنه يراد به تمثيل صورة ذات روح بل قد تكون تلك الصور نقوشاً يراد بها أمر آخر. ومما يعجب له أنه يوجد في هذا الكتاب الوجيز إشارة ضعيفة لصورة فارس يمسك رمحه بيده نُقش على القبة في مسجد ببغداد. ولم يزد المسيو ميجون بأن هذا الفارس يشير إلى الناحية التي يجيء منها الهواء. فكان هذا التمثال ضرباً من دوارة على الهواء صنعت من الحديد المصفح وجعلت في الهواء تمثل فارساً والرمح بيده وقد ذكروا أسطورة بشأنها. فكان العامة يعتقدون أن هذا الفارس يدل بقوة تعويذة معه على الناحية التي تنشأ فيها ثورة من مملكة الخلفاء العباسيين.
وليس النقش عند المسلمين إلا خادماً خاضعاً للهندسة على نحو ما كانت الفلسفة من علم الكلام في القرون الوسطى. والأسود التي رآها ابن بطوطة قد صنعت من الرخام المستخرج في أفروجيافرجيا في آسيا الوسطى حيث يكثر فيها. وبلغ من احترام السلاجقة للنقش أن كانوا ينزلونه في الحوائط. وليس للتمثال من الخشب التي صنعها صناع من المسلمين بأمور الطولونيين علاقة بالصنائع الإسلامية بل هي فرع متأخر من فروع الصناعة الوطنية. وقد بدأت في مصر صناعة النقش للزينة باستعمال الكلس والرخام غير المسحوق بالآلة بل بيد صنع الأيدي وأقدم ما وجد من ضروبها شكل مهندس ممزوج بعروق خيالية ظريفة. أما الحجر للزينة فقلما يوجد إلا في المساجد التي يرد عهدها إلى القرن الرابع عشر وعلى العكس في إسبانيا فإنا نرى هذه الصناعة مزهرة فيها منذ أوائل الخلافة الأموية.
وقد بقي لنا شاهد واحد منها وهو مغسل الوضوء المصنوع من الرخام ولا يزال محفوظاً إلى الآن في متحف الآثار في مدريد وجرن الرخام وحوض الأسود في قصر الحمراء معروفان موصوفان. إلا أن تزيين المصانع ما كان إلا من الجبس موضوعاً في القوالب وضعاً محكماً مما يبدو في هيئة بديعة تفوق أجمل نموذجات الهندسة. وإن قصر الحمراء على جماله لم يعمل إلا من معجون الجبس.
لا يأخذنا العجب إذا رأينا السلجوقيين في آسيا الوسطى قد أبقوا لنا صوراً تمثل الصورة الإنسانية. ولئن كان المهندسون في زمنهم سوريين أو روميين فإن الأفكار السائدة في بلاط(28/20)
قونية أن منشأها إيراني زادت انتشاراً بما كان لشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي الصوفيين العظيمين من النفوذ وكان الأول صاحب السر والثاني مؤسس طريقة الدراويش المولوية. وكان سلاطين السلجوقيين مهوسين أشد التهوس بكل ما هو من أصل فارسي حتى أنهم كانوا يدعون أبناءهم بأسماء استخرجوها من قصص البطال في الملاحم. وظلت الصناعة التي انتشرت بهذا التأثير محصورة في آسيا الصغرى ولم تنتشر في سائر البلاد الإسلامية.
أخذت العرب صناعة الفسيفساء عن البيزنطيين فاستجلب من الأستانة الخليفة عبد الرحمن إلى قرطبة صناعاًُ من الروم ليزين مسجدها. وخابر الوليد ملك القسطنيطينية ليبعث له بالعملة والمواد اللازمة لتزويق المسجد الأموي في دمشق وهي كنيسة القديس يوحنا الدمشقي القديمة. تغير هذا المسجد ولم يبق منه حريق 1893 ما كان سلم من آثاره. وفي سنة 418 هـ (1027م) جرى إصلاح فسيفساء قبة الصخرة كما قرأت ذلك في الصورة الشمسية من الصفحة الثالثة والثمانين من الجزء الثاني الرسم 73 وقد كسي داخل المصانع الإسلامية في القاهرة بأنواع من الزينة صنعت من الرخام على أبهج صورة وأزهاها.
إن ما يرى في مصر من الخشب المنفقوش لا يتأتى إلا أن يكون مجلوباً من سوريا أو من آسيا الصغرى. ومعلوم أن في مصر صناعة خاصة بها لا يرى لها أثر في غيرها من الأقطار ألا وهي صناعة المشربيات وهي أقفاص نوافذ على طنف بارزة بحيث تكون للنوافذ التي تطل على الشوارع أقفاص لئلا يتطلع إلى ما وراءها متطلع ولو بدون قصد. من أجل هذا يستعمل القوم (شعريات) من أقفاص خشب رقيق. وفي مصر يستعمل خشب غليظ خرط بالمخرطة وجعل على صورة يتفنن فيها كل التفنن. وفي المتحف العربي في القاهرة حشوات منقوشة غاية في الجمال ومن جملتها ثلاثة محاريب توفر المسيو رافيس على البحث فيها وهي من عهد الفاطميين وقد كانت الحشواتفي القرن الثالث عشر أصغر مما هي الآن وخطوطها أدق وأشكالها أكثر تنويعاً وصورها التزويقية مطلقة. وصورت على أبواب البيمارستان القلاووني صور ذات أرواح. والفرق ظاهر بين طريقة هذه المصانع في الصنع والحشوات التي جعلت على القبور الفارغة في ذاك العهد والصورة العامة مربعة في هذه وذات خطوط مستدير في أبواب البيمارستان. ويتجلى الفرق للأنظار(28/21)
بالمقابلة بين النقوش الصغيرة التي وردت في صفحة 100 و 101 الموضوعة إحداها بجانب الأخرى فإن الحشوات صنعة عربية مصرية أما الأبواب فصنعة فارسية. ومن هنا أتت الصور ذات الأرواح. وظاهر أنه كان في ذاك العهد في القاهرة طريقة فارسية في النقوش جاءت زيادة على ما كان فيها من الصناعة الوطنية وليس ذلك من ارتقاء الصناعة المحلية كما لاحظ ذلك المسيو ميجون. وارى أنه لم يبن رأيه على صورة باتة كافية وإن شئت فقل على صورة ظاهرة. المنبر في المسجد من المواد التي لا يستغنى عنها فمنه ما يبنى بالحجر مثل منبر مسجد يرقوق في الصحراء بالقرب من القاهرة ومن العادة أن يعمل المنبر من الخشب. وقد عرفت من المنابر نموذجات بديعة كمنبر مسجد ابن طولون الذي أمر ببنائه أحد سلاطين المماليك السلطان لاجين ولا تزال حشواته العمودية محفوظة في لندرا ومثل منبر قاتيباي ومسجد علاء الدين الأول قاي قوباد في قونية وجامع الزيتونة في تونس وغيرها. وهناك شيء آخر خاص بمساجد مصر وأعني به الكرسي أو الخزانة المسدسة الزوايا والأضلاع كانوا يضعون عليها المصاحف للتلاوة فإذا فرغوا خبؤوها في داخلها وكانت حشواتها مزينة بتطعيم (تنزيل) من العاج ومن خشب ملون.
ويوضع المصحف في المساجد العثمانية مفتوحاً أو مطبوقاً على دعامة تطبق على شكل تسمى رحلاية. وقد فات المسيو ميجون أن يذكر هذا المتاع الذي يعمل من خشب الجوز المتين ويطعم بأشكال من عرق اللؤلؤ والعاج (صنع الأستانة) على نمط الأخونة الواطئة التي يقال لها اسكملة.
وفي إسبانيا أجمل إنموذجات من النقش على العاج أخذها المسلمون عن الغوط الغربيين ولم يستطع أحد أن يوفق بين معامل هذه الصناعة ومراكز إخراجها بل ثبت من فحص هذه المصنوعات التي لا تزال محفوظة بكمية وافرة أنها صناعة محكمة تدل على فرط مهارة فنية تقلبت عليها الأحوال بأهوالها ومنها الشرقي ومنا البيزنطي. واللوحان البديعان من العاج اللذان لم يبرحا محفوظين في مجموعة كاران في متحف بارجللو في فلورنسة هما من أصل يختلف أحدهما عن الآخر ولا نعلم من أمرهما شيئاً يذكر. بيد أن النسور والأسود المرسومة على اللوحين هي من أصل آشوري وقد رسمت عليها رسماً دل على مهارة تحملنا على المقارنة بينها وبين نحاس الموصل وشواطئ دجلة حيث بقية التقاليد الصناعية(28/22)
القديمة محفوظة بحالها خلال القرون الوسطى.
أما الصياغة فقديمة العهد رأى الشاعر الرحالة الفارسي ناصر خسرو في مدينة صور ثريات من الذهب والفضة وفي القدس أبواباً مغطاة بألواح من النحاس بديعة الصنع وفي القاهرة عرش المستنصر الفاطمي معمولاً من الذهب والفضة الخالصة وقد نقشت عليه كتابات وصورت صور صيد وقنص. وإن سفط العاج في كنيسة بايو (فرنسا) الملبسة بالفضة المنقورة (المخرمة) وأسفاط كنيسة كوار (سويسرا) وسان سيرفي (فرنسا) ومايسترخت (هولاندة) وسان مارك في البندقية لتمثل لأنظارنا ما كانت عليه صناعة الصياغة من البهاء في القرن الثاني عشر. وإلى ذلك العهد يرتقي صنع النحاس الجميل الملبس الذي حفظ على اليوم ولكن مما لا شك فيه أن ازدهار هذه الصناعة أقدم من ذلك وأن ما نعثر عليه من ذاك التاريخ من الأعلاق النفيسة ليس إلا زبدة قرون طويلة وأبحاث متصلة. ولقد تساءل بعضهم عن السبب الرئيسي في انتشار صناعة النحاس المحفور ببلاد ما بين النهرين ولاسيما الموصل. ويوشك أن يكون ذلك من ومجاورة معادن أرغني والخابور بالقرب من مناجم الخابور جبل مغارات الذي يستخرج منه النحاس الخام ويذوب ثم ينقل إلى جميع بلاد آسيا قديماًَ.
وتبين من عرض هذه المصانع بعضها في جانب الآخر أن التزويق المحفور في صور بارزة هو أقدم طرق النقش على المصنوعات النحاسية. أما تنزيل الذهب والفضة فلم يحدث إلا مؤخراً. وقد تغلبت صور البشر والحيوانات في الموصل مما يدل على أن الصناعة فارسية الأصل حفظ فيها الساسانيون تقاليدهم الصناعية التي يرد عهدها كما قال لونكبريه إلى عهد الصور البارزة الآشورية.
وقد ساق البحث المسيو ماكس فان برشم فحلّ الكتابات التي كتبت على أجمل هذه المصنوعات وقسمها قسمين رئيسيين أو مجموعتين أساسيتين إحداهما شرقية انتشرت في خراسان كما انتشرت في الموصل والثانية غربية أي سورية مصرية وهي عبارة عن نحاس صنع في زمن اليوبيين في أوائل القرن الثالث عشر. وكان من غارات المغول أن قطعت زمناً قصيراً سلسلة هذه الأعمال وجاء المماليك في القرنين التاليين فوقوا هذه الصناعة بأعمال اتصل بنا علمها وهي كثيرة. وما صناع الشام ومصر إلا تلاميذ صناع(28/23)
الموصل وبهم تخرجوا.
وإذا بحثنا في القلز (النحاس الأحمر) نذهل من رؤية المصانع المنحطة بجمالها مثل صورة العنقاء في بيز التي جلبت من مصر على عهد الصليبيين وصورة الأيل من صنع الفاطميين الموجود في متحف امة في ميونيخ والجواد المحفوظ في متحف قرطبة والطسوت المعمولة على شكل الأوز والمباخر على شكل الببغاء المحفوظة في متحف اللوفر. وما أعجب مصابيح المساجد المصنوعة من القلز والحديد كالتي لا تزال محفوظة في المتحف الأثري في مدريد وقد جيء بها من غرناطة ومثل الموجودة في دارة الآثار العربية بالقاهرة المأخوذة من جامع السلطان حسن وكثير أمثالها.
أما الأسلحة فلم يجر حتى الآن تنظيم تاريخها ولم يذكر هذا المختصر الذي نحن بصدده سوى إشارات موجزة بشأنها. ويرجى أن يطلعنا المسيو موزر ذات يوم على ما وقف عليه وجمعه من الإيضاحات بشأن صنع الفولاذ فتكون أعماله مساعدة لنا على تنظيم المعلومات المبهمة التي حصلنا عليها حتى الآن. ولطالما تكلم الناس عن فولاذ دمشق لغرابة سقايته. ولما أرسل السلطان بيبرس من سلاطين المماليك هدايا سياسية على باراق سلطان المغول في تركستان لبعث إليه بأسلحة دمشقية. ولما استولى تيمورلنك على دمشق أخذ معه إلى سمرقند صناع الفولاذ الدمشقي. وقد كان في القاهرة في شارع النحاسين الحالي بين القصرين سوق للسلاح رائجة كثيراً إلا أننا لا نعلم شيئاً عن أصل الأسلحة التي كانت تباع فيها. وليس ثمة ما يدل على أنه كان في مصر معامل لصنع نصال الفولاذ وربما كانت تصنع فيها مقابض السيوف وأغمادها ويصلحونها على النحو الذي اختاروه وهذا عمل غير عمل نصال الفولاذ ويجب أن يميز عند تنسيق هذه الآثار في المستقبل بين معالم صنع النصال ومعامل تركيبها. ولم يتعرض لذلك كتاب الوجيز ولا يستطيع أن يتكلم الآن إلا على المعامل المتأخرة. ومع هذا فقد توصل المسيو بوتين بعد البحث في المقابلة بين الصنال إلى أن المعمول منها في دمشق هو مزيج من الحديد والفولاذ وأنه في الأغلب من سكب بلاد الفرس وإذا كانت النصال في الهند ذات لمعة بذوبانها فهي منقوشة بالطرق. وقبل الفتح العربي كانت طليطلة في إسبانيا مشهورة بسقي نصالها. وفتح عبد الرحمن الثاني معملاً لها (822 ـ 852) ولم يبق ولا حسام إسباني مغربي من قبل القرن الخامس(28/24)
عشر وما بقي منها مما يرد صنعه إلى ذاك العهد جيء به من غرناطة وتاريخ الأسلحة في بلاد فارس والمملكة العثمانية غريب والمعلومات عنه أغرب. وكنا نود أن تكون أغزر مما وصلنا ولكن تاريخ الأسلحة كما قلت سابقاً لم يوضع بعد.
يعرف من يسيحون في الشرق اسم الخنجر والقامة ومع هذا لا تجد لها ذكراً بين الأسلحة العثمانية والفارسية. ولم يقولوا كلمة عن الزمان والمكان الذي استعيض فيه عن السيف القديم المستقيم بنصل معوج. وإن أسنة لارماح والبنادق والطبنجات وقطع الخيل (كوباناتها) على خطارتها عند الساسانيين والمصورين بالخطوط اللطيفة من الفرس مما بقي كثير من أمثالها في طي الخفاء قد كان يرجى أن نعرف عنها شيئاً يركن إليه لخطارتها وفائدتها للتاريخ على أنه قد أطيل البحث في صنع الأواني الخزفية وهي صناعة جديرة بأن يفاخر بها. أصلها من فارس وإن لم يذكر المسيو ميجون ذكراً تاماً. وتدل مصانع الأخمانيين في سوس على ذلك دلالة صريحة وربما كانت هذه المصانع موروثة لهم عن الصنائع الآشورية.
وتمتاز مساجد وارمين وأصفهان بما جعل على جدرانها من الطلاء الذي يعكس أشعة ذهبية ولكنها عبارة عن قشرة رقيقة من النحاس. ولقد جلبت المربعات الموضوعة للزينة من مساجد سيدي عقبة في القيروان من مدينة بغداد (وهي المدينة التي أنشأهنا العباسيون بتأثيرات فارسية وكان الفرس الذين أتى بهم أبو مسلم هم سبب رفعتها) جلبها إلى أفريقيا مؤسسة دولة الأغالبة سنة 894 وصنعت معامل مدينة الرقة على الفرات بضع قطع سلمت إلى هذا العهد وكثيراً من بقايا الخزف. وقد الف المسيو فاليس عدة كتب للتوسع في البحث عن الأواني المجلوة في فارس واصلها من الري التي كانت تعرف قديماً باسم راجيس. وإذ كثر البحث في هذا الموضوع ساغ لنا أن نبين تاريخ حدوث هذه الصناعة فقد ذكر أحد الباحثين في هذا الشأن واسمه المسيو أوتوفون فالك في كتابه صناعة الكاشاني القديم أن ألواح الزجاج الملونة البراقة التي بقيت من القرن الثلاث عشر في إيران هي دهان على سطح مستو وإن المصفحات التي كتبت عليها كتابات بارزة لم تظهر إلا في القرن الرابع عشر. ودامت صناعة التلميع خلال القرون الثلاثة التالية وبلغت درجة من التفنن غريبة. وإن طبخ بعض القطع برفع الحرارة فيها إلى درجة عالية قد جعلها كالصيني على ما(28/25)
يتجلى ذلك فيها. وقد بدت على عهد المغول تأثيرات الصناعة الصينية فانتشرت صور التنين وأبي الهول وغصن الخوخ وهو مزهر وكل ذلك من أصل صيني. دلنا ما عثر عليه في مصر في سهل الفسطاط أو مصر العتيقة على ما كانت عليه صناعة الخزف على عهد الفاطميين. وأصل نقوشها على الأقل فارسية وإن كان صنعها يختلف على أن المواد الأولية هي من مصر نفسها. وقد أثبت الرحالة ناصر خسرو أمراً غريباً من الأواني الخزفية ذات الألوان المتغيرة التي شاهدها في القاهرة وهذه الألوان هي من صفات الكاشاني الذي يلمع كحد النصال وعليه فيفهم من ذلك أن نظر هذا السائح الفارسي لم يقع في بلاده على ما يماثلها ون ما وجد منها في الري لا يرتقي عهده في الحقيقة إلا إلى أواخر القرن الثاني عشر. على أن ناصر خسرو رحل في الحادي عشر. وتوجد في هذا النوع صناعة شامية مصرية.
وفي داخل مساجد السلجوقيين في قونية وكلها من القرن الثلاث عشر صور متأنق في صنعها من المربعات على الكاشاني. وكان محمد بن عثمان المعلم الذي كسا الحوائط بهذا النوع من الفسيفساء (أي الخزف المطلي والكاشاني المقطع) في مدرسة صرت شالو في مدينة طوس في خراسان وهي المدينة التي أصبحت مدينة المشهد وبقي من ذاك العهد هذا الضرب من الزينة في بورصة والأستانة من البلاد العثمانية.
بدء بالبحث في الكاشاني الإسباني المغربي منذ عهد طويل وفي سنة 1844 أظهره ريو كرو أمين متحف السيفر للمرة الأولى. أما اليوم فقد أثبت تاريخه أحسن ثبوت. والظاهر أن هذه الصناعة جاءت من بغداد. وربما كان ذلك عن طريق القيروان لا تواً وتعد أواني قصر الحمراء من بدائع صناعة مالقة. ويظهر أنها نشأت في القرن الرابع عشر وهو العهد الذي زار ابن بطوطة في هذه المدينة المعامل التي كانت تصنع فيها الأواني الخزفية الجميلة أو الصيني المذهب. والزينة بتصوير الوعول تدل على بقاء شكل قديم لا يتأتى صدوره إلا من الشرق.
أما صناعة الأقداح المزينة بالمينا فلا يليق إغفال الكلام عليها لخطرها. وقد كانت هذه النموذجات من الأقداح في أوائل الفتوحات العربية تستعمل للعيار على صورة أقراص المعجون الكبير كتبت عليها التواريخ ودرسها المسيو كازانوفا للوقوف على حقيقتها. ثم(28/26)
أنك تجد أكواباً ملونة بضروب الألوان كقوس قزح لطول بقائها في الأرض. وربما اختلطت أحياناً بالأكواب القديمة والأكواب التي نقشت عليها صور مطبوعة يرغب فيها أرباب الفن رغبة خاصة مثل الكأس الصغيرة المرسوم عليها أسود ووعول وقد اقتناها مؤخراً متحف اللوفر. وتشير الأقداح المزينة بالمينا ولاسيما مصابيح المساجد المصنوعة من الزجاج التي ربما كانت مأخوذة عن مملة الروم البيزنطية إلى مهارة صناعها الغريبة على حين تدل مادة الزجاج المملوءة بالفقاقيع والعيوب على أنها ما كانت بجودتها ابداً من الطراز الأول. ومن هذه المصابيح مجموعة فيها ستون قطعة في متحف الآثار العربية في القاهرة وهي أتم مجموعة وجدت.
ومن المحتمل أن هذا الزجاج لم يصنع في مصر حيث اخترع الزجاج على قول سياح الروم. وتكلم مؤلفو العرب على زجاج صور وذكر الرحالة بنيامين دي توديل أيضاً شيئاً عنها وقال أنه صادف أيضاً عشرة معامل للزجاج في إنطاكية كما قال يعقوب دي فيتري أنه رأى منها في عكا. وقد نقلت هذه الصناعة من صور إلى دمشق وفيها رأى الرحالة بوجيبومي سنة 1346 معامل الزجاج تشغل على طول المسجد الأموي وقد أخذ تيمورلنك صناع الزجاج إلى سمرقند كما فعل بصناع الفولاذ. وأثبت كتاب العرب والفرس أنه كان في حلب والعراق معامل للزجاج أيضاً.
يتبين من الأقمشة العربية أنها كنت بديء بدء مصنوعة على طراز ساساني أو قبطي أو رومي ويستفاد من حفريات الصنا أن الأقمشة الرومية والقبطية طارت كلها شيئاً واحداً بعد وكان التأثير الساساني فيها مستحكماً فإن صور الحروب والصيود وصور الفرسان الذين يعدون مسرعين ويرمون الأيائل والظباء بالنشاب هي من الكتابات الفارسية. وقد امتلأت ذخائر كنائسنا بقطع من الأقمشة بقيت زماناً لم تعرف البلد التي صنعت فيه وما هي في الحقيقة إلا من صنع الشرق في القرون الوسطى. ثم اشتهرت فارس بعد حين بالأطلس والمخمل (القطيفة) المقطع وقد رسمت عليه صور أشخاص وسط الأزاهير المتكاثفة واشتهرت مدينة كاشان بصنع الاستبرق والحبر.
ولما فتح السلطان سليمان طوريس أخذ نساج الحرير إلىالبلاد العثمانية وأنشؤا فيها معامل صنعت هذه الأقمشة الحريرية والمخمل الكتب واشتهرت باسم حرير بورصة. وانتقلت هذه(28/27)
المصنوعات من آسيا الصغرى إلى البندقي وفلورنسة وجين وفرنسا ولم يعودوا يرسمون عليها صور أشخاص واقتصر في تزيين الأقمشة على الأزهار جعلوها بلا معنى وضعي كما في قطع الأواني الخزفية ويستفيد مما قاله عماري (العالم الإيطالي) أنه كان في صقلية قبل الفتح النورماندي فندق فرش بالوشي وكان ملاصقاً لقصر الأمراء الذين كانوا يحكمون على الجزيرة باسم الفاطميين. ودعت حملات روجر الثاني على بلاد اليونان إلى أن يجلب معه إلى بلومة صناع الحرير واسم مانيانري الذي يطلق بالإفرنسية على معامل الحرير جاءنا في الأصل من مدينة مان إحدى مدن جنوبي بلاد المورة اليونانية.
ولما غلب هرقل خسرو الثاني عثر الجيش الروماني في قصر يزدجرد (داسكارات الملك) على طنافس مطرزة بالإبرة ووقع في أيدي العرب عندما فتحوا المدائن بسط منسوجة بالذهب والفضة ومرصعة بالأحجار الكريمة. ويعتقدون أن البسط ذات الوبر الكبير من أصل فارسي ومن فارس يجب أن تطلب إلا أنه لم يبق شيء من تلك العصور المتوغلة في القدم. ولأجل تنسيق تاريخ البسط رأوا أن يرتبوها بحسب أشكالها والتواريخ التي اهتدي إليها من صور أساليب التصوير الفلامندي والهولاندي والإيطالي. واخترع هذه الطريقة البديعة المسيو لسينج سنة 1877 وكانت أوروبا إذ ذاك غاصة بالبسط التي تجلبها البندقية وبروج فافتتن المصورون بلطافة ألوانها وجودة نقشها وبادروا إلى إدخالها في نقوشهم ورسومهم. ويظهر أن البساط القديم المزين بالصور على أسلوب بديع الذي دخل مؤخراً في ملك متحف الإمبراطور فريدريك في برلين واهتم به كل من المسيو كاراباسيك والمسيو ريجل كان أصله من قونية من مخلفات سلاطين السلجوقيين الذي حكموا فيها فهو مما صنع في القرن الثالث عشر. أما البسط العجمية المرسوم عليها صور الطيور فإنها من بدائع ما حاكه كبار صُنع الأيدي. وكذلك الحال في البسط المنقوشة بالأزهار الكبيرة ومصابيح المساجد والأواني فإنها تؤلف طبقة بديعة أيضاً وعلى العكس في البسط المزينة بصورة مهندسة فإنها من مصنوعات آسيا الصغرى وما زالت إلى اليوم كل من مدينتي جورودس وعشاق من مراكزها العظيمة.
وبعد فهل من الممكن أن نشير إلى ما أثرته الصناعة الإسلامية في صنائع الغرب. نعم إذا أريد بذلك جمع الصنائع الماضية صبرة واحدة وتوحيدها كلها معاً على محو ما كانت على(28/28)
عهد الفتح العربي وكما يحدث أبداً عندما تنشأ ممالك كبيرة متسعة. وإذ بدل هذا الفتح وجه الشرق كان الداعي إلى اختلاط آسيا العليا بالغرب في عدة أماكن. وإنك لتجد النقوش المسماة (هوم) بلا داع وقد رسمت عليها الشجرة المقدسة أو حياة الآشوريين على نحو ما اقتبسها الساسانيون سواء كانت وحدها أو جعل على جانبيها حيوانات قائمة أو رابضة وكذلك الطريقة القديمة في صراع الحيوانات.
ولقد كانت سفن العرب تتقدم إلى البحر الأتلانتكيكي منذ عهد الأسرة الكاروتنجية فحملت نقود الأمويين بواسطة الصلات التجاري إلى روسيا وبولونيا والدانيمرك والسويد ووجدت أنسجة مكتوب عليها كتابات كوفية محرفة في أطر أبواب الكنائس في نوتردام في بوي نفالي وفي كنيسة فوت شيهان الفرنسويتين وعلى كثير من المصانع وفي بعض المحال كما عثر على مثل ذلك في أبراج كاتدرائية شارتر وتقل المصورون بعض الصور الشرقية بالحرف.
يرى المسيو ميجون أن يدرس صناعنا تلك الصنائع لأنها بقوة جمال أشكالها ودقة وضعها وصنعها المعقول ولمعان ألوانها ليس لها ما يشبهها بكثرة الصور واللطف السامي. وقد جرب بعضهم تقييد تلك الصنائع فأفلحوا في اقتباسها على نحو ما فعلوا في قباب زاوية قصر المعرض العام سنة 1889 فوضعوا فوق الحديد الذي يحول بين الأقسام واتخذوه حيطاناً مصفحات من الكاشاني ذي النقوش الفارسية فكانت بذلك أو تجربة نجحت في هذا السبيل.
كان بذخ ملوك المسلمين من الدواعي للصناع أن يرقوا الأساليب التي كانوا يأخذونها تقليداً عن أجدادهم شفاهاً فجددوها وتفننوا فيها فارتقت مع عدة أشكال قديمة بعضها من أصل بيزنطي وهي وارثة اليونان ورومية والآخر ساساني من أخلاف الدولة الأخمانية ولا سيما (في الأمور الصناعية) أو آشوري أو بابلي. ارتقت عدة فروع من الصنائع الإسلامية المنوعة الأساليب وهي ليست من أصل بيزنطي ولا فارسي فيفضل بعضهم التزيين المهندس أو النقوش التي تجعل على هيئة النباتات والأوراق وهو النمط الوحيد الذي بقي في الحقيقة حيث تأصل مذهب أهل السنة. ويمزج بعضهم فيه صور حيوانات ذات روح وهذه ينبغي نسبتها في أكثر الأحوال إلى تأثير فارس. ومن درس الصنائع القابلة للتشكل(28/29)
والتحول كالهندسة والصنائع اليدوية تتمثل لعينيه القرون الوسطى في الشرق بما أتى به من تمدنه الخاص وما هو إلا مثال المجتمع الذي أوجده القرآن في صورة ظاهرة مؤثرة. فإذا أضيفت إلى ذلك أقوال المؤرخين والجغرافيين لا تلبث أن تطلع على هذا النظام الاجتماعي الذي يختلف من عدة وجوه عن نظامنا وكان ثقلاً على أوروبا كما كان صلة بين العصور القديمة والعصور الحالية.(28/30)
المسلمون والذميون والمعاهدون
الإحساس دليل الحياة
التضامن رائد العمران
يا بني أمي! ويا بني عمي!
تدبروا رعاكم الله فيما ترونه عن أيمانكم. وتبصروا فيما تبصرونه عن شمائلكم وتفكروا فيما بين أيديكم ثم خبروني ماذا تجدون؟
تجدون الشعور القومي قد تجسم معناه حتى كادت اليد تتقراه والعين تراه والإحساس لعمري دليل على الحياة.
ثم ثوبوا إلى أنفسكم وانظروا كيف كنا إلى عهد قريب متنافرين متفككين لا نستمسك بحبل متين من جهة الدنيا أو من جهة الدين حتى قال فينا فيلسوف المشرق: أننا اتفقنا على أن لا نتفق.
فاليوم أحمد الله إليكم يا بني مصر فقد أراد بكم الخير إذ وفقكم إلى سبيل الاتفاق.
اليوم بدأنا نطرح تلك الأهواء التي جعلتنا شيعاً متفرقة. أستغفر الله! بل جعلت كل فرد منا مستقلاً بنفسه منفصلاً عن سائر بني جنسه.
اليوم بدأنا نخالف ما ألفناه من تلك الاختلافات التي علمتنا أفانين العداوات وعبثت بكيان الأمة.
اليوم بدأ الأفراد يتضامنون بعضهم إلى بعض فتألفت منهم أفواج وجماعات بحسب المشار والأميال والغايات.
اليوم بدأت هذه الجماعات تتجاذب وترتبط بما فيه توثيق عرى الجامعة القومية وإظهار الأمة في مظهرها الصحيح.
اليوم أخذت تلك الجماعات في وضع الحجر الأول من هذا البنيان. بلي. فلأن اجتماعنا الآن دليل على أننا قد أدركنا أن التضامن رائد العمران.
أيما أمة تولد فيها الإحساس وسعى أفرادها إلى التضامن فبشرها بخير قريب وفلاح عاجل.
ولكن هنالك شرطاً لا مندوحة عنه: وهو أن يتعهد أهل الرأي فيها وأولو العزم منها هذا المظهر الجديد حتى لا يتغلب الشوك فيقتل النبت الصالح الذي يأتي بالثمر الشهي النافع.(28/31)
ذلك واجب مقدس يتحتم علينا جميعاُ أن نقوم به لخيرنا جميعاً: فكل فرد منا هو في الحقيقة خادم للمجموع كما أن المجموع يتكفل بخدمة كل فرد على السواء.
دعاني ولو الفضل الدين تتألف منهم هذه الجمعية جمعية الرابطة المسيحية لأقف خطيباً بينكم وتركوا لي اختيار الموضوع كما أشتهي وأريد. فلم أر أفضل من المثول بين قومي وهم بنو أمي وبنو عمي داعياً إلى انضمام العنصرين اللذين يتألف منهما كيان الأمة المصرية راجياً أن يقوم غيري من الخطباء المفوهين فينسجون على هذا المنوال حتى نتوصل لتقويض دعائم التفريق التي جعلتنا مضغة في الأفواه وصيرتنا عبرة للناظرين.
لا ينبغي لي أن أقول أن المقام ضيق وأن المركز حرج لأني وجدت مجال القول ذا سعة ولكن هذه السعة كانت سبباً في حيرتي فصرت أتردد وأردد المثل السيار الذي ضربه الفرنساويون وهو: إنما الحيرة في الاختيار.
بيد أني بعد إنعام النظر رأيت أن أجعل خطابي على شكل محاضرة في صور مفاكهة أجاذبكم بها الحديث بذكر نوادر وأخبار حفظها التاريخ. وليس لي من أمل سوى أن نتوصل لجعل الأخلاف يرددون عنا شيئاً شبيهاً بما سأذكره من مآثر الأسلاف فيكون لنا لسان صدق في الآخرين: إذ يشتركون مع أرواحنا بسلام واغتباط في تحية هذا اليوم الذي هو باكورة الارتباط بين المسلمين والأقباط.
المسلم والقبطي: وإذا شئتم قلت لكم القبطي والمسلم. فالأولون الآخرون والآخرون الأولون.
ليس لهما إلا أم واحدة: هي مصر. وليس لهما إلا أب واحد: هو النيل. فهما صنوان بل شقيقان قد فرق بينهما الزمان حينما فسدت الأخلاق وتنكرت المعارف في هذه البلاد فتحكم فيهما الأجنبي والطاريء والدخيل سواء كانوا من هذا الدين أو من ذلك الدين.
بل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: أن لا نقول بغير الوطن وأن لا نفزع لغير الجامعة القومية. هذا تاريخنا وتاريخكم يشهد لأجدادنا وأجدادكم ويشهد علينا وعليكم. فما بالنا لا نرجع لسنة الأسلاف وقد كان فيها مجدنا ومجدكم؟.
سيقولون أن المسلمين اضطهدوا الأقباط. كبرت كلمة تخرج من أفواههم فكلها أغلاط في أغلاط.(28/32)
هلموا يا بني أمي ويا بني عمي إلى قاضي التحقيق أو على قاضي الإحالة ليأمر بحفظ هذه القضية لأنها لم تتوفر فيها أقل دلالة بل لأنها مبنية على الضلالة لا محالة.
من هم المضطهدون ومن هم المضطهدون؟
أولئك نفر قليل من الحكام الغرباء الذين لم يرعوا إلاًّ ولا ذمة لا في المسلمين ولا في أهل الذمة. والمضطهدون (بفتح الهاء) هم المسلمون والأقباط على السواء: اللهم إلا أن يقال على سبيل البسط أن الاضطهاد والضغط كانا أشد وقعاً على رهط الأقباط: لأن اسمهم جاء على حرف الطاء.
كان الحاكم الظالم إذا تولى مصر (والظالم لا دين له) يستنزف الأموال ويستعبد الرجال لا يفرق بين فريق وفريق ولكن أثره لا يظهر ظهوراً واضحاً في المسلمين لأنهم أكثر مالاً وأعز نفراً بخلاف الأقباط فإن أقل حيف يقع عليهم يكون أثره أشنع وأفظع لقلة عديدهم. فلو كان لي تسعون نعجة وكان لأخي عشرة ثم وقع وباء أهلك ثلثي ما أملك وخمس ما لأخي لكانت مصيبتي أجل وأكبر وإن كانت لا تذكر ولا تظهر في جنب ما حاق بأخي الأصغر إذ يبقى لي ثلاثون ويبقى له ثمان. ولو كان لي ثوب ذرعه عشرة أشبار في عشرة أشبار وله ثوب قدره شبر في شبر ثم وقعت نقطة زيت على كل من الثوبين لكان وقعها على ثوبه أعظم أثراً وإن كنا قد تساوينا ضرراً.
تلك هي حقيقة الحال وإن كان هنالك بعض شذوذ نادرة فالنادر لا حكم له. فما بالنا لا نتناسى الأضغان إن كان هنالك أضغان؟ بل ينبغي لنا أن لا نكون أقل في العقل وأحط في الإدراك من ذلك الشرطي وذلك الحوذي: إذ أخذ الأول نمرة الثاني ليحرر فيه محضر مخالفة فأخذ الثاني نمرة الأول ليشكوه إلى العظيم الذي استوقفه. فقال له: إمسح وأنا أمسح
إليكم الآن أحاديث الرسول وما ورد في شريعة المسلمين مشفوعة بنتفٍ من أخبار الماضين علها تكون عبرة وتذكرة وعسى أن يكون من ورائها ما نرجوه من الرجوع إلى توثيق علائق الارتباط بين المسلمين والأقباط.
ورد في الآثار الثابتة الصحيحة أنه قال:
(1) ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها فإن لهم ذمة ورحمة.
(2) إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً(28/33)
(3) إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم منهم صهراً وذمة.
(4) استوصوا بالقبط خيراً فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم.
(5) اتقوا الله في القبط لا تأكلوهم أهل الخضر.
(6) أن الرسول مرض فأغمي عليه ثم أفاق فقال استوصوا بالأُدُم الجعد ثم غمي عليه الثانية ثم أفاق فقال مثل ذلك ثم أغمي عليه الثالثة فقال مثل ذلك. فقال القوم لو سألناه من الأُدُم الجعد؟ فأفاق فقال: قبط مصر
(7) قبط مصر أكرم الأعاجم كلها وأسيمحهم يداً وأفضلهم عنصراً وأقربهم رحماً بالعرب عامة وبقريش خاصة ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنوّر ثمارها.
(8) أنه قال عند وفاته: الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله.
(9) وفي الحديث عن شفي بن عبيد الأصبحي مصر بلد معافاة من الفتن لا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله.
(10) وفي الحديث أيضاً: أهل مصر الجتند الضعيف ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤونته
تلك هي أحاديث الرسول. وهل بعد هذه الوصايا المتكررة من حفاوة ظاهرة. اللهم إنها آية تجعل المسلمين أنفسهم يغبطون عليها أخوانهم الأقباط
ولننظر الآن على ما جاء في الشرع وقرره الفقهاء:
وجه أهل المصيطة سؤالاً إلى الإمام مالك فقالوا إنا نخرج في بلاد الروم (_ آسيا الصغرى) فنلقى العلج منهم مقبلاً إلينا فإذا أخذناه قال: إنما جئت أطلب الأمان فهل نصدقه؟ فقال مالك: هذه أمور مشكلة أرى أن يرد إلى مأمنه.
وبناءً على ذلك أفتى علماء الإسلام بأن الرومي إذا حلَّ يساحل المسلمين تاجراً ونزل قبل أن يعطى الأمان وقال: ظننت أنكم لا تعرضون لمن جاءكم بتجارة حتى يبيع تجارته وينصرف عنكم: فقالوا بأن يقبل منه قوله أو يرد إلى مأمنه. (مدونة جزء3 صفحة10).
فهل بعد هذا بيان في مبالغة المسلمين بالحرص على التجارة وحماية أصحابها ولو اتخذوها حيلة بل أفلا يقال بأنهم السابقون إلى فتح سياسة الباب المفتوح قبل أن يفتحه أهل أوروبا(28/34)
في هذه الأيام.
إنهم توسعوا في سياسة هذا الباب المفتوح فقد ورد عن الإمام مالك أيضاً (في الجزء المذكور صفحة 11) في حق الروم ينزلون بساحل المسلمين بأمان معهم التجارات فيبيعون ويشترون ثم يركبون البحر راجعين إلى بلادهم فإذا أمعنوا في البحر رمتهم الريح إلى بعض بلدان المسلمين غير البلاد التي كانوا أخذوا فيها الأمان. قال مالك: أرى لهم الأمان أبداً ما داموا في تجرهم حتى يرجعوا إلى بلادهم ولا أرى أن يهاجموا.
وأفتى بأن الذمي إذا أسره المحاربون المسلمين ثم غنمه المسلمون فلا يكون فيئاً بل ترجع له حريته كما كانت ويردّ إلى ذمته وأهله وماله. وقد قرر أيضاً بأن أموال أهل الذمة وأموال المسلمين سواء غنم المحاربون شيئاً من أموال الفريقين ثم تغلب المسلمون وغنموا هذه أموال في جملة مغانمهم وأدركها صاحبها قبل القسمة سواء كان مسلماً أو ذمياً كان هذا أولى بها بغير شيء وإذا أدركها بعد القسمة أخذها بالثمن وإن عرف أهل الإسلام أنها أموال أهل الذمة لم يقسموها في الغنيمة ويردونها إليهم إذا عرفوها فمثلهم في ذلك مثل المسلمين سواءٌ بسواء. (راجع المدونة في الجزء المذكور صفحة 13 و14).
ورأيت في كتاب الذخائر الشرقية في ألغاز الحنفية المطبوع على هامش كنز البيان صفة 126: إذا ماتت أم الولد وهو رضيع فأعطاه أبوه ليهودية ترضعه مع ابن لها وغاب أبوه وماتت اليهودية واشتبه الحال أيهما ولد المسلم ولم يحصل التمييز بوجه وبلغا على اليهودية فابن المسلم مسلم تبعاً وقد ارتد ولا يلزم أحدهما بالإسلام للاشتباه فأحدهما مرتد ولا يلزم بالإسلام لعدم تعيينه. وفيه أيضاً أنه إذا كان للعدو حصن وفيه واحد من أهل الذمة لا يعرف وقد افتتحه المسلمون عنوة ولم يؤمنوا من فيه لا يحل لهم قتلهم بسبب هذا الذمي الواحد الذي لا يمكن تعيينه وذلك لقيام المانع بطريقة يقينية وهو وجود رجل غير معين له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وله في عنقهم عهد وذمة.
ولا يلزم اليهودي بالحضور إلى مجلس القضاء في يوم السبت إلا اضطراراً بحيث لا يكون المقصود إيقاع الضرر به تعمداً بهذه الوسيلة ومن المقرر أيضاً أنه إذا دعت الحال لتغليظ اليمين فيكون ذلك في المحل المعظم وهو المسجد الجامع للمسلم ولا يقوم مقامه مطلق مسجد ويحلف اليهودي في بيعته والنصراني في كنيسته والمجوسي في بيت النار(28/35)
وقال الشيخ سراج الدين عمر الحنفي قارئ الهداية إذا بنى الذمي داراً عالية بين دور المسلمين وجعل لها طاقات وشبابيك تشرف على جيرانه هل يمكن من ذلك. فأجاب بقوله: أهل الذمة في المعاملات كالمسلمين وما جاز للمسلمين جاز لهم وإنما يمنع الذمي من تعلية داره إذا حصل لجاره ضرر من منع ضوء أو هواء هذا هو ظاهر المذهب. انتهى. وحكم المسلم كذلك أيضاً في حكم الضرر بالجيران.
وحسبي هذه الشواهد الآن لأنني لست بمتفقه ولا متشرع كما أنني لا أبغي اغتنام هذه الفرصة لإلقاء درس في الشريعة الإسلامية الصريحة السمحاء فاسمحوا لي إذن بأن أطرق باب التاريخ وفيه غناء وكفاء بل هو الموعظة البالغة والحجة الدامغة.
لا حاجة للإشارة إلى العهود الكريمة والمنح الجليلة التي أتحف بها نبي الإسلام كثيراً من النصارى. فأمرها مقرر معلوم وهي أشسهر من أن تذكر. قال المؤرخ القبطي الشهير بالمكين ما نصه: ورد في تواريخ النصارى أنه كان مؤثراً لهم رؤوفاً بهم. . وقال لعمر أن نفوسهم كنفوسنا وموالهم كأموالنا وأعراضهم كأعراضنا. ذكر هذا الحديث صاحب كتاب المهذب وأسلمه (اسنده) إلى مسلم وهو حجة الإمام أبي حنيفة في قتل المسلم بالذمي.
وفد عليه بعض أكابر النصارى فقام له وأكرمه. فقالوا له في ذلك فقال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وهذا كبير قومه. . وقال من ظلم ذمياً كنت خصمه يوم القيامة. وقال من آذى ذمياً فقد آذاني. ولكني لا أرى أبداً من التلميح إلى العهد العمري الذي حعله عمر بن الخطاب في رفقبة المسلمين والكتابيين ما داموا مرتبطين بعروة الوطن التي لا نفصام لها. فإن ثاني الخلفاء الراشدين هو أول من اشتبكت في أيامه مصالح المسلمين وغير المسلمين. فقد روى المقريزي عن علماء الأخبار من النصارى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فتح مدينة القدس كتب للنصارى أماناً على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأمالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن. وأنه جلس وسط صحن كنيسة القيامة ولما حان وقت الصلاة خرج وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده ثم جلس وقال للبطرك. لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي من النصارى وقالوا هنا صلى عمر. وكتب كتاباً يتضمن أنه لا يصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلا واحداً واحداً. ولا يتجمع المسلمون للصلاة فيهلا ولا يؤذنوا عليها. وانه أشار عليه البطرك باتخاذ(28/36)
موضع الصخرة مسجداً وكان فوقها تراب كثير فتناول عمر رضي الله عنه من التراب في ثوبه فتبادر المسلمون لرفعه حتى لم يبق منه شيء وعمر المسجد الأقصى أمام الصخرة.
ثم أن عمر رضي الله عنه أتى بيت لحم وصلى في كنيسته عند الحنية التي ولد فيها المسيح. وكتب سجلاً بأيدي النصارى: أن لا يصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلا رجل بعد رجل ولا يجتمعوا فيه للصلاة ولا يؤذنوا عليه.
وكثيراً ما يشير المؤرخون إلى العهود العمرية وقد ألف أبو العباس أحمد بن محمد بن العطار الدنيسري المتوفى سنة 715 كتاباً سماه العهود العمرية في اليهود والنصارى ولم أظفر بشيء سوى اسمه في كشف الظنون الذي أفادنا صاحبه أيضاً هو والسخاوي في التبر المسبوك أن المقريزي له كتاب اسمه شذور العقود وأكمل صاحب الكشف اسمه في موضع آخر بأنه عقود في تاريخ اليهود وجلها لم تصلنا لسوء الحظ.
فلما ظهر الإسلام وارتفعت كلمته كانت مصر في يد الروم روم الدولة الشرقية وكان عددهم فيها ثلثمائة ألف نفس توزعوا وظائف الدولة فيما بينهم وكانت الأمة كلها مهضومة الحقوق ليس لها سوى الاحتراف بالكتابة في الدواوين والتجارة والبيع والشراء والزراعة والفلاحة والخدمة والمهنة هذا فضلاً عن خدمة الدين فكان الأساقفة والقساوسة وغيرهم من الأقباط فلما قدم عمرو بجيوش المسلمين قاتلهم الروم حماية لملكهم ودفعاً لهم عن بلادهم حتى غلبهم عمرو على أمرهم فطلب القبط من عمرو المصالحة على الجزية فصالحهم عليها وأقرهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها وصاروا معه عوناً للمسلمين على الروم وكتب عمرو لبنيامين بطرك اليعاقبة أماناً في سنة عشرين من الهجرة فسره ذلك وقدم على عمرو وجلس على كرسي بطركيته.
ولما توجه عمرو لفتح الاسكندرية خرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا للمسلمين الطرق وأقاموا لهم الجسور (القناطر) والأسواق وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم حتى تم فتح الاسكندرية ورجع عمرو قاصداً الفسطاط فجاز بناحية الطرانة فاستقبله بها سبعون ألف راهب خرجوا من وادي النطرون وبيد كل واحد عكاز وطلبوا منه الأمان على أنفسهم وأديارهم فكتب لهم بذلك أماناً بقي عندهم وكتب أيضاً بجراية الوجه البحري فاستمرت بأيديهم وقد بلغت في إحدى السنين على خمسة آلاف(28/37)
أردب. قال علي باشا مبارك أنها لا تزيد الآن عن مائة أردب. . وقال المقريزي أن دير أبي قمار الموجود بوادي النطرون فيه الكتاب الذي كتبه عمرو بن العاص لأولئك الرهبان بجراية نواحي الوجه البحري على ما أخبره من أهبر برؤيته فيه. وقد توجهات إلى تلك الجهة في شهر يوليو سنة 1894 بعناية الأب الجليل المثلث الغبطة كيرلس الخامس بابا الكنيسة المرقسية وبمساعدة المطران النبيل يوأنس مطران البحيرة والإسكندرية وزرت هذه الديارات كلها ونقبت فيما بها من الغرائر والزكائب والجوالق الموضوعة فيها الأوراق والكتب والمصاحف أملاً في العثور على ذلك الكتاب فلم أظفر به مطلقاً والغالب على الظن أنه ضاع أو تلقطه أحد سياح الإفرنج. فكان مثل الأقباط مثل المسلمين في التفريط بذخائر الأجداد. فأهل مصر كلهم سواء في ذلك. وإلا فأين المعاهدات والمكاتبات الدولية التي تبادلها ملوك مصر مع أمثالهم في أوروبا وغيرها؟ إننا إذا أردنا لعثور على شيء من هذا القبيل كنا عالة في أخص خصائصنا عن الإفرنج الذين حافظوا على ما وصلهم منا وقد نشره بعض علمائهم في القرن الماضي. فالتفريط والإفراط يستوي فيهما المسلمون والأقباط. فما بالهم لا يتساوون في أحكام علائق الارتباط؟.
اتسع بعد ذلك ملك الإسلام وانتشرت أعلامه في سائر الآفاق. فمان الخلفاء والسلاطين حماة المسيحيين يدفعون عنهم الأذى ويحوطونهم بأصناف الرعاية والإكرام ويعاملونهم مثل المسلمون بتمام المساواة بل ربما زادوا في تعظيمهم وتقريبهم بما لا يكاد يصل إليه سراه المسلمين.
هل أتاكم حديث عمرو بن العاص داهية العرب مع يحيى المعروف عند النصارى بغراماطيقوس أي النحوي؟ دخل هذا الفيلسوف على الأمير وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن للعرب بها أنسة ما هاله ففتن به. قال المؤرخ النصراني الفاضل غريغوريوس أبو الفرج المعروف بابن العبري في كتاب مختصر الدول كان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقه.
وعندي أن يحيى كان يحسن التكلم بالعربية دون عمرو فقد أثبت لنا التاريخ جهله باللغة الرومية وذلك في حادثة الأرطبون التي وقعت له بالشام وفي حديث أسره بالإسكندرية وسنذكره فيما بعد فإنه لم يفطن للمكيدة التي دبرها الروم لاغتياله لولا معرفة صاحبه في(28/38)
الأول ومولاه في الثاني بتلك اللغة وحسن تلطفهما في إنقاذه من التهلكة.
هل أتاكم حديث الحجاج بن يوسف ذلك الداهية الثاني فقد كان ملازماً لتيادوق وثيادون النصرانيين ولهما مكرماً. دخل الثاني عليه يوماً فقال له الحجاج: أي شيء دواء أكل الطين. فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير. فرمي الحجاج بالطين ولم يعد إلى أكله بعدها.
وهل أتاكم حديث الدواوين في صدر الإسلام؟ فقد كان القيمون عليها كتاباً من النصارى وكانوا يكتبون الدفاتر باللغة الرومية حتى جاء عبد الملك بن مروان فألزمهم باستخدام اللغة العربية.
وهل سمعتم في دولة من الدول أو هل جاءكم نبأ عز ملة من الملل بمثل ما حصل للأخطل؟ فإن هذا الشاعر النصراني كان في خصام مستديم مع شعراء المسلمين بل خاض في حق الهاشميين وتهجم عليهم بالمثالب والمطاعهن وهو على نفسه وماله آمن.
هذا بعض ما أمكنني استحضاره الآن فيما يتعلق بالدولة الأموية.
أما الدولة العباسية فحدث عن البحر ولا حرج فقد كان لها في هذا الباب ما هو أعجب وأغرب.
انظروا ماذا جرى للخليفة المنصور وبخله مشهور حتى سماه التاريخ بأبي الدوانيق وبالدوينيقي أكرم طبيبه جيورجيس بن جبريل بن يختيشوع وأمر له بخلعة جليلة وأنزله في أجمل موضع من دوره وأكرمه كما يكرم أخص أهله. فلما مرض الرجل خرج الخليفة بنفسه ماشياً إليه وتعرف خبره. ولشدة شغفه به وتفانيه في حبه قال له: يا حكيم اتق الله وأسلم وأنا أضمن لك الجنة. فقال: قد رضيت حيث آبائي في الجنة أو في النار. فضحك المنصور وأمر له بعشرة آلاف دينار.
والمنصور كان حازم الرأي قد عركته الدهور وخافت الأيام سطوته وروى العلم وعرف الحلال والحرام لا يدخله فتور عند حادثة ولا تعرض له ونية عند مخوفة يجود بالأموال حتى يقال هو أسمح الناس ويمنع في الأوقات حتى يقال هو أبخل الناس ويسوس سياسة الملوك ويثب وثوب الأسد العادي لا يبالي أن يحرس ملكه بهلاك وخلف من الأموال ما لم يجتمع مثله لخليفة قبله ولا بعده وهو تسعمائة ألف ألف وستون ألف ألف ففرق المهدي جميع ذلك حين أفضى الأمر إليه.(28/39)
وشبيه ذلك ما حدث بمصر في القاهرة سنة 385 فإن الطبيب أبا الفتح منصور بن مقشر القبطي كان له منزلة سامية من أصحاب القصر واتفق أنه اعتل وتأخر عن الركوب فلما تماثل كتب إليه العزيز بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. طبيبنا سلمه الله سلام الله الطيب وأتم النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه. والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم وطيبة النفس وخفض العيش بحوله وقوته. وقد دخل ابن مقشر في خدمة الحاكم بأمر الله وكان مكيناً في دولته وبلغ معه أعلى المنازل وأسناها وكان له من الصلات الكثيرة والعطايا العظيمة فلما مرض عاده الحاكم بنفسه ولما مات لم يقبض على تركته كما جرت العادة على كبار المسلمين والنصارى بل أبقاها كلها لورثته وأطلق لهم مالاً وافراً من خزينته.
وشبيه ذلك بل أبلغ منه ما وقع للمعتصم العباسي مع طبيبه سلمويه فإنه مرض فعاده الخليفة وبكى هذا الهمام الجبار عنده وهو الرجل الذي لا يقاس به الرجال قوة بدن وشدة بأس وشجاعة قلب وكرم أخلاق وقال له: أشر عليَّ بعدك بمن يصلحني فقال عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه وإذا وصف لك شيئاً فخذ أقله أخلاطاً. فلما مات سلمويه قال المعتصم: سألحق به لأنه كان يمسك حياتي ويدبر جسمي. وامتنع عن الأكل في ذلك اليوم وأمر بإحضار جنازته إلى الدار وأن يصلى عليها بالشمع والبخور على رأي النصارى ففعل ذلك وهوي راه وهو خليفة لامسلمين. فهل سمعتم بمثل ذلك عند غير أهل الإسلام. نعم سمعنا في هذه الأيام بأن ملك الإنكليز وهو مسيحي بروتستانتي قد انتقل إلى الكنيسة الكاثوليكية في لوندره لحضور الصلاة عن نفس ملك البرتغال فقامت عليه القيامة من جمهور الإنكليز وسوادهم الأعظم وكادوا يجاهرون بخلع طاعته لأنه خالف الدستور.
نرجع بالحديث إلى المنصور العباسي فقد كان في خدمته نوبخت المنجم الفارسي النصراني فطلب ما نسميه الآن الإحالة على المعاش فسأله الخليفة عمن يخلفه فأشار بولده فاستقدمه فاستسماه فقال اسمي خرشاذماه طيماذاه مابازار خسروانشاه فقال المنصور كل ما ذكرت فهو اسمك؟ قال: نعم. فتبسم الخليفة وقال: اختر مني إحدى خلتين إما أن أقتصر بك من كل ما ذكرت على طيماذ وإما أن تجعل لك كنية تقوم مقام الاسم وهي أبو سهل. فقال(28/40)
رضيت بالكنية. فبقيت كنيته وبطل اسمه.
ومن ذلك العهد إلى قرب دخول الدولة العثمانية في مصر كان النصارى واليهود والصابئة يكنون بأبي علي وأبي الحسن وأبي الفضل وأبي النجم وأبي الخير وأبي الفرج وأبي الكرم وأبي البقا وأبي بشر وأبي الحسين وأبي الفضل وأبي العلاء وأبي المكارم وأبي النصر وأبي الفتح وأبي المنا وأبي الحجاج وأبي العشائر وأبي المجد وأبي المعالي وأبي البركات وأبي الفخر وأبي الرجاء ويتلقبون بموفق الدين وجمال الكفاة وصنيعة الخلافة وعماد الرؤساء وأمين الملك وصنيعة الملك وسيف الدولة وشمسي الرياسة وركن الدين وكريم الدين وفخر الدين وشرف الدين وأوحد الدين وأمين الدولة وفخر الدولة وغرس النعمة ويتسمون بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي.
ونحو ذلك من عنوانات الشرف التي نظن نحن وأنتم أنها وقف على المسلمين على أنها أسماء لرجال ورد تاريخهم في عيون الأنباء وفي طبقات الحكماء وفي مختصر الدول وفي الكامل والمقريزي وغيرها من المؤلفات المعتبرة.
ومن ألطف ما يدل على دلال أهل الفضل في تلك الدولة ولو كانوا من غير الملة أن المهدي العباسي هم بالخروج إلى ماسبذان (من إقليم الجبل بفارس) فتقدم إلى حسنة حظيته أن تخرج معه. فأرسلت إلى رئيس المنجمين وهو توفيل بن توما النصراني الماروني قائلة له: أنك أشرت على أمير المؤمنين بهذا السفر فجشمتنا سفراً لم يكن في الحساب فعجل الله موتك وأراحنا منك. فقال للجارية التي أتته بالرسالة: ارجعي إليها وقولي لها أن هذه الإشارة ليست مني. وأما دعاؤك عليَّ بتعجيل الموت فهذا شيء قد قضى الله به وموتي سريع فلا تتوهمي أن دعوتك استجيبت. ولكن أعدي لنفسك تراباً كثيراً فإذا أنا مت فاجعليه على رأسك. فما زالت متوقعة تأويل قوله منذ توفي حتى توفي المهدي بعده بعشرين يوماً. وتوفيل الرهاوي هذا هو الذي نقل كتابي أوميروس الشاعر على فتح مدينة أيليون (تروادة) في قديم الدهر من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة وقد نقل العلامة سليمان البستاني أحدهما في أيامنا هذه إلى اللغة العربية فجاء آية في بابه.
ولما جاء زمن الرشيد كان من أطبائه يوحنا بن ماسويه السرياني وخدم ابنه المأمون إلى أيام المتوكل وكان معظماً ببغداد جليل القدر وكان يعقد مجلساً للنظر ويجري فيه من كل(28/41)
نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة وكان يدرس ويجتمع إليه تلاميذ كثيرون.
وكان فيه دعابة شديدة يحضره من يحضره لأجلها في الأكثر. وكان من ضيق الصدر وشدة الحدة بحيث تصدر عنه ألفاظ مضحكة شكا إليه رجل علة فأشار عليه بالفصد فقال لم أعتده فقال يوحنا: ولا أحسبك اعتدت العلة في بطن أمك. وصار إليه قسيسه وقال: قد فسدت معدتي عليّ فقال له استعمل جوارش الخوزي فقال له: قد فعلت، فقال: فاستعمل الكموني قال: استعملت منه أرطالاً. فأمره باستعمال البنداذسقون فقال: قد شربت منه جرة. قال: استعمل المروسيا فقال: قد فعلت وأكثرت فغضب يوحنا وقال له: يا أبانا يا قسيس إن أردت أن تبرأ فادخل في دين الإسلام فإنه يصلح المعدة.
وفي أيام المأمون وهي الأيام البيض التي يفتخر بها الإسلام كان الحكماء والعلماء وكلهم مقربون لديه ولا يفرق بين أحد وآخر بسبب دين أو مذهب. والإفاضة في هذا الموضوع تطول ولكنني أقتصر على أمر واحد يدل على عداوة أهل الفن. فقد كان في زمنه من الأطباء سهل بن سابور فارسي نصراني في لسانه لكنة خوزية وكان إذا اجتمع مع يوحنا بن ماسوية وجيورجيوس بن يختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري قصر عنهم في العبارة ولم يقصر في العلاج. ولكنه كان يأخذ بثاره بطريق الدعابات فمن ذلك أنه تمارض وأحضر شهوداً يشهدهم على وصيته وكتب كتاباً أثبت فيه أولاده وجعل أولهم جيورجيس بن يختيشوع والثاني يوحنا بن ماسوية. وأرجو إعفائي من السبب الذي انتحله لذلك فعرض لجيورجيس زمع من الغيظ وكان كثير الالتفات فقال سهل: صري وهك المسيه أخرؤا قي أذنه آيه خرسي أراد ابالعجمة التي فيه: صرع وحق المسيح اقرؤا في أذنه آية الكرسي. ومن دعاباته أنه خرج يوم الشعانين يريد المواضع التي تخرج إليها النصارى فرأى يوحنا بن ماسويه في هيئة أحسن من هيئته فحسده على ذلك فصار إلى صاحب مسلحة الناحية أي القره قول وقال له إن ابني يعقني وإن أنت ضربته عشرين درة موجعة أعطيتك عشرين ديناراً ثم أخرجها فدفعها إلى من وثق به صاحب المسلحة. ثم اعتزل ناحية إلى أن بلغ يوحنا الموضع الذي هو فيه فقدمه إلى صاحب المسلحة وقال: هذا ابني يعقني ويستخف بي فجحد أن يكون ابنه وقال يهذي هذا. قال سهل انظر يا سيدي فغضب صاحب المسلحة ورمى يوحنا من دابته وضربه عشرين مقرعة ضرباً موجعاً مبرحاً.(28/42)
تلك أمور مما يتعلق بالأفراد وسنعود إلى شيء منها فيما بعد ولكن لا بأس من توجيه النظر إلى المجموع ففي أيام الرشيد خطب وزيره الفضل بن يحيى البرمكي بنت خاقان الخزر فأرسلها في تجمل عظيم ولكن منيتها وافتها في مدينة برذعة فأهم أعداء الخلافة أباها أن ذلك كان بدسيسة عليه للتنكيل به فخرج في سنة 183 من مدينة باب الأبواب في جيوش كثيفة من قومه فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مائة ألف نفسي وانتهكوا أمراً عظيماً لم يسمع بمثله في الخافقين.
والتاريخ يحدثنا أن بابكاً الخرميّ خرج على خلفاء الإسلام وأبلى في المسلمين ومثل بهم وكاد يهدم خلافتهم ويمحي أثرهم من الوجود. وكان أصحابه لا يدعون رجلاًُ ولا امرأة ولا صبياً ولا طفلاً مسلماً أو ذمياً غلا قطعوه وقتلوه وأحصي عدد القتلى بأيديهم فكان 250500 إنسان. فوجه المعتصم بالله عنايته لاستئصال شأفته وقطع جرثومته حتى ضيق في وجهه المخانق وأخذ عليه المنافذ وسد دونه المسالك. فخرج الخارجي إلى بلاد الروم هارباً في زي التجار ومعه أهله فعرفه سهل بن سنباط الأرمني البطريق فأسره فافتدى نفسه منه بمال عظيم فلم يقبل وبعثه إلى قائد جيوش المسلمين بعدما ما ركب الأرمن من أمه وأخته وامرأته الفاحشة بين يديه وكذا كان يفعل الملعون بالناس إذا أسرهم مع حرمهم فكان أهل الذمة يجدون منه بقدر وجد أهل الإسلام. إذ كانوا سواسية عنده يرتكب فيهم المحارم والآثام. ولولا إخلاص الذمي ما تخلص من هذا الفاسق الكافر لأهل الإسلام.
وكان المسلمون إذا حاربوا أعداءهم في الملك والسياسة وهم الروم لا يستهينون بمعاونة أهل الذمة فكان هؤلاء يصيبهم ما يحل بالمسلمين من ظفر أو نكاية. ولطالما أخذ الروم من أهل الذمة أسارى وعاملوهم بنفس القسوة التي يعامل بها أسارى المسلمين ولكن إذا وقع الفداء بين المتحاربين كان أول ما يشترطه المسلمين استخلاص النصارى الذميين أيضاً.
فقد روى التاريخ أنه في سنة 231 هجرية في أيام الواثق ابن المعتصم كان الفداء بين المسلمين والروم على يد خاقان خادم الرشيد. فاجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يبوم من طرسوس وأمر الواثق بأن يكون فداء أهل الذمة مطلقاً وبلا قيد ولا شرط وأما فداء المسلمين فقد أمر خليفتهم بامتحانهم قبل فكهم من الأسر فمن قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي به بأسير رومي وأعطي ديناراً. ومن لم يقل ذلك ترك(28/43)
في أيدي الروم. فاسمعوا واعجبوا. فلما كان يوم عاشوراء أتت الروم ومن معهم من الأسارى فكان المسلمون هم البادئون بهذا الخير فيطلقون الأسير فيطلق الروم أسيراً فيلتقيان في وسط الجسر فإذا وصل الأسير إلى المسلمين صاحوا: الله أكبر وإذا وصل الرومي إلى قومه صاحوا كيرياليسون حتى فرغوا فكان عدة أسارى المسلمين أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفساً والصبيان ثمانمائة وأهل ذمة المسلمين مائة نفس.
وفي سنة 238 هجرية هجم الروم على دمياط في ثلثمائة مركب فنهبوها وأحرقوا دورها وجامعها وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحو ستمائة امرأة فلم تشف للذميات مقولتهن بالأقانيم الثلاثة عند أولئك الذين قالوا أنا نصارى. بل كن والمسلمات سواء في البؤس والشقاء.
وفي سنة 283 سارت الصقالبة إلى الروم فحاصروا القسطنيطينية وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وخربوا البلاد. فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصاً جمع من عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ففعلوا وكشفوهم وأزاحوهم عن القسطنطينية وانظروا مكافأته لهم على هذه النجدة العربية والشهامة الإسلامية. لما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه فأخذ سلاحهم وفرقهم في البلدان حذراً من جنايتهم عليه فدعا ذلك الخليفة العباسي وهو المعتضد بن الموفق إلى السعي في الفداء فتم الأمر وبلغ جملة من فودي به من المسلمين منن الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس.
وهل يصح لنا أن نقابل تلك النخوة الشرقية لما فعله الإفرنج المقيمون (لا الأسارى) بالقسطنطينية؟ ففي سنة 600 هجرية حاضرها ملك الإفرنج فروى ابن العبري أن الإفرنج المقيمون بها وكان عددهم ثلاثين ألفاً فتواضعوا مع الإفرنج المحاصرين لها ووثبوا في البلد وألقوا فيه النار فاحترق نحو ربع البلد فاشتغل الروم بذلك ففتح الإفرنح الأبواب ودخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام وقتلوا حتى الأساقفة والرهبان والقسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة أيا صوفيا العظمى وبأيديهم الأناجيل والصلبان يتوسلون بها ليبقوا عليهم فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. فأين فعلهم من فعل عمرو بن العاص مع رهبان النطرون.(28/44)
هذا وقد كانت الفتن توالت ببغداد فخربتها فشرع عضد الدولة سنة 369 في عمارتها فعمر المساجد والأسواق وأدر الأموال على الأئمة والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها. ولكن هل وقف ذلك الأمير المسلم عند هذا الحد في عاصمة عواصم الإسلام؟ كلا فقد ذكر ابن الأثير في الكامل أنه أذن لوزيره نصر بن هاردن (وكان نصرانياً) في عمارة البيع والأديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم. فكان المسلمون والنصارى في هذا الرخاء سواء. بل أن المجوس أنفسهم وهم لا ذمة لهم ولا كتاب نالوا من عدل الرجل وإنصافه ما خلدته الدفاتر مع الثناء الوافر. فقد وقعت في تلك السنة فتنة في شيراز بين عامة المسلمين وعامة المجوس فنهب الأولون دور مواطنيهم وضربوا وقتلوا جماعة منهم. فسير عضد الدولة من جمع له كل من له أثر في ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم لأنهم لم يراعوا حرمة الوطن والجوار.
ومما يدل على ارتباط المسلمين بأهل الذمة عند حلول الشدائد بهم جميعاً ما وقع سنة 640 في ملطية بآسيا الصغرى عند هجوم التتار وتوالي نكباتهم بالأرض وبأهل الأرض. فإن المسلمين والنصارى اجتمعوا في البيعة الكبرى وتحالفوا أن لا يخون بعضهم بعضاً ولا يخالفوا المطران في جميع ملا يتقدم إليهم من مداراة التتار والقيام بحفظ المدينة والبيتونة على أسوارها وكف أهل الشر عن الفساد.
وفي حدود سنة 656 هجرية أزاح التتار أميراً مسلماً عن ملطية فلما رحلوا عنها رجع هذا الأمير إليها واسمه علي بهادر. فأغلق أهلها الأبواب في وجهه ولم يمكنوه من الدخول خوفاً من التتار. فشدد عليها الحصار حتى ضجر الناس وضاقت بهم الحيلة. ففتح له العوام أحد البواب فدخل المدينة عنوة. وكان أول همه أنه لم يتربص حتى يجيء الصباح فأصعد بالليل على المنابر جماعة ينادون ويقولون: إن الأمير قد أمن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحد إلى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام.
ولنرجع إلى ذكر الأفراد لنشير إلى مقدار عناية ملوك الإسلام بفضلاء النصارى واحتمالهم منهم ما لا يمكن أن يتصوره عقلنا في هذه الأيام. فقد روى التاريخ أن يوحنا بن ماسويه الذي أشرنا إليه فيما سبق كان مع الخليفة العباسي الواثق في دكان (أي دكة مبنية للجلوس(28/45)
عليها) وكان مع الواثق قضبة فيها شص وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك فحرم الصيد. فالتفت إلى يوحنا وكان على يمينه وقال: قم يا مشؤوم عن يميني. فقال يوحنا: يا أمير المؤمنين لا تتكلم بمحال. يوحنا أبوه ماسويه الخوزي. وأمه رسالة الصقلبية المبتاعة بثمانمائة درهم وأقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء وسميرهم وعشيرهم حتى غمرته الدنيا فنال منها ما لم يبلغه أمله. فمن أعظم المحال أن يكون هذا مشؤوماً. ولكن إن أحب الأمير أن أخبره بالمشؤوم من هو أخبرته فقال من هو؟ فقال: من ولده أربعة خلفاء ثم ساق الله إليه الخلافة، فترك الخلافة وقصورها وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعاً في مثلها في وسط دجلة لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه. ثم تشبه بأفقر قوم في الدنيا وشرهم وهم صيادو السمك فماذا فعل الخليفة؟ نجع فيه الكلام ولكن تشاغل مدة ثم قال ليوحنا وهو على ذلك الدكان: يا يوحنا ألا أعجبك من خلة؟ قال: وما هي؟ قال: إن الصياد ليطلب الصيد مقدار ساعة فيصيد من السمك ما يساوي ديناراً وما أشبه ذلك وأنا أقعد منذ غدوة إلى الليل فلا أصيد ما يساوي درهماً فقال يوحنا: يا أمير المؤمنين وضع التعجب في غير موضعه. إن الله جعل رزق الصياد من صيد السمك. فرزقه يأتيه لأنه قوته وقوت عياله. ورزق أمين المؤمنين بالخلافة فهو غنيٌ عن أن يرزق بشيء من السمك. فلو كان رزقه من الصيد لوافاه مثل ما يوفي الصياد.
ومثل ذلك ما حدث للمتوكل الذي تولى الخلافة بعد الواثق هذا. فقد جرى على سنة أسلافه في تعظيم أهل الفضل مهما كانت عقيدتهم. كان الطبيب يختيشوع إذا دخل عليه في داره الخاصة جلس بجانبه على السدة: وهي منزلة لم يصل إليها وزير من المسلمين. فاتفق يوماً أن الخليفة رأى فتقاً في ذيل دراعة الطبيب وكانت من ديباج رومي. فأخذ يحادثه ويعبث بذلك الفتق حتى بلغ حد النيفق (وهو الموضع المتسع في السراويل والقميص) ودار بينهما كلام اقتضى أن سأل المتوكل يختيشوع: بماذا تعملون إن الموسوس يحتاج إلى السد. فقال يختيشوع: إذا بلغ في فتق دراعة طبيبه إلى حد النيفق شددناه. فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره وأمر له بخلعة حسة ومال جزيل.
وكان يختيشوع هذا قد بلغ في أيام المتوكل العباسي من الجلالة والرفعة وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال مبلغاً يفوق الوصف مع كمال المروءة حتى أنه كان يباري(28/46)
الخليفة في اللباس والزي والطيب والفرش والضيافات والتفسح في النفقات.
وهل سمعتم بمرتبة لمسلم في مسلم أو لنصراني في مسلم مثل المرثية البارعة التي نظمها الشريف الرضي في أبي إسحاق إبراهيم الصابيء المتوفى في شوال سنة 384 ومطلعها:
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياءِ لا نتفرق
ما بيننا يوم العلاء تفوت ... أبداً كلانا في العلاء معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق
وكان للنصارى واليهود في بغداد كلمة نافذة وقول مسموع في شؤون الدولة والعامة والسياسة ويشهد بذلك ما حدثنا به صاحب تاريخ الزوراء عن يوسف بن فيجاس أوبنخاس اليهودي وزكريا بن يوحنا وأبي عمرو سعيد بن الفرُّخان النصراني وهرون بن عمران اليهودي وبشر بن علي النصراني وأبي سهل نصر بن علي النصراني وأبي نصر بن بشر بن عبد الأنباري النصراني وابي الفضل بنان بن بنان النصراني وعلي بن عيسى الزنداني النصراني بل النساء النصرانيات كان لهن يد في سياسة الملك مثقل فرج النصرانية فقد مكان الخليفة المقتدر العباسي ينفذها في أمور الدولة ويعمل برأيها ويرسل خاتمه معها إلى من يريد تقليده الوزارة. وأمثال ذلك كثيرة حتى أن الناصر لدين الله قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه والمعتضد بالله ملك ابن الوليد النصراني كاتب بدر الولاية العامة على الجيش. وكذلك فعل الوزير الكبير ابن الفرات فإنه قلد الولاية العامة على جيش المسلمين لرجل نصراني وجعل أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره بسبب هذه الوظيفة.
وكان بيت مال المسلمين تخرج منه الإنعامات السنية لأكابر الكتاب من النصارى وتقديرها بالمائة ألف دينار كما وقع لأصطفن بن يعقوب كاتب بيت مال الخاصة في أيام ابن الفرات وليعقوب ابنه حتى بلغت ثروتهما ألف ألف دينار.
وكان ابن الفرات قد رسم بأن يدعى في كل يوم إلى طعامه خمسة من أصحابه المسلمين وهم: أبو الحسن موسى بن خلب وأبو علي محمد بن علي بن مقلة وبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني وأبو عبد الله محمد بن صالح وأبو عبد الله الذي روى ولده هذه القصة وهو أبو القاسم ابن زنجي. وأربعة من أخصائه النصارى وهم: أبو بشر عبد الله الفرُّوخان(28/47)
النصراني وأبو الحسين سعيد بن إبراهيم التستري النصراني وابو منصور عبد الله بن جبير النصراني وأبو عمر سعيد بن الفرخان النصراني. وفكانوا يحضرون مجلسه في وقته من جانبيه وبين يديه ويقدم إلى كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في كل وقت من خير كل شي ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف وكل طبق فيه سكين يقطع به صاحبه ما يحتاج إلى قطعة من سفرجل وخوج وكمثرى ومعه طست زجاج يرمي فيه الثفل فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم شيلت لأطباق وقدمت الطسوت والأباريق فغسلوا أيديهم واحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيازر ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها وحواليها مناديل الغمر من الثياب المعصور. فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية وأخذ القوم في الأكل وأبو الحسن ابن الفرات يحدثهم ويباسطهم ويؤانسهم. فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين. ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه ويغسلون أيديهم والفراشون قيام يصبون الماء عليهم والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبيقية ورطليات ماء الورد لمسح أيديهم وصبه على وجوههم.
وقد ذكرت هذه العبارة لأظهر ما كان للقوم من رفاهة وتأنق في داخليتهم كما كان لهم من عظمة وجلال في خارجيتهم فمصل هذا النظام لو حدثنا به أحد لاتهمناه بأنه يصور لنا شيئاً مما يجري في منازل عظماء أوروبا وأميركا ولولا أنه منقول بالحرف الواحد من كتاب تحفة الأمراء في تاريخ الزوراء للصابيء.
ومن المقرر في الشريعة الإسلامية بناءً على ما جاء في القرآن وسنة الرسول وعمل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود ومن ابتعهم من أئمة الهدى أن ذوي الأرحام ترد عليهم مواريثهم. وقد كان العمل في ذلك جارياً على هذه القاعدة بصرف النظر عن ملة الورث سواء أكان مسلماً أو ذمياً. ولكن السنة قد تختفي في بعض الدول فيبطلها الحكام وظلماً وعدواناً. فقد وقع أن بيت المال اغتصب حقوق هؤلاء الوارثين من مسلمين وذميين فأمر المعتضد بالله ثم المستكفي بالله بالرجوع إليها في حق كل منهما ثم تنكرت هذه السنة الشريفة فأعادها المقتدر بالله وأصدر منشوراً جليلاً أمر بإظهاره وقراءته على الناس في المسجدين الجامعين بمدينة السلام وأرسله إلى جميع(28/48)
أصحاب الأعمال في الآفاق ومما ورد فيه بنوع التخصيص قوله: وإن يرد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثاً على أهل ملته.
وكان النصارى وأئمتهم يعرفون حق المسلمين عليهم ويؤازرونهم في الشدة كما يستفيدون منهم في الرخاء فقد اتفق في أيام المقتدر بالله في أوائل القرن الرابع للهجرة أن القسطنطينية تولى على ملكها حدثان فعسفا أسارى المسلمين وشددا في التنكيل بهم وأجاعهم وأعرياهم وطالباهم بالتنصر ولم ير الوزير علي بن عيسى مساعدة من جانب الخليفة على إنفاق الأموال وتجهيز الجيوش. فأشار عليه بعض جلسائه لتصريف الهم عنه بأن يوسط عظيم النصارى بإنطاكية وهو البطرك وعظيمهم بالقدس وهو الجاثليق أو القاثليق لأن أمرهما ينفذ على ملوك الروم ولا يتم لهم أمر إلا بهما والطاعة لا تلزم جمهور رعيتهم إلا بقولهما وربما حرم الواحد منهم فيحرم عندهم فما هو إلا أن أرسل إليهما الوزير على يدي عامليه في إنطاكية والقدس حتى بادر عظيما النصرانية إلى إنفاذ رسول عنهما مع رسول من العامل إلى ملكي الروم وكتبا لهما ما نصه: إنكما قد فعلتما بأسارى المسلمين عندكما ما هو محرم عليكما ومخالف لوصية المسيح عليه السلام في أمثالهم وأمره فيمن جرى مجراهم. فإما زلتما عن هذه الطريقة وعدلتما عنها إلى ما تقتضيه السنة المأثورة وأحسنتما إلى من في أيديكما وتركتماهم على أديانهم ولم تكرهاهم على خلاف آرائهم وإلا لعناكما وتبرأنا منكما وحرمنا كما فلما وصل الرسولان إلى القسطنطينية أوصل رسول البطرك والقاثليق إلى الملكين وحجب صاحبه. وبعد أيام أذن له الملكان في المثول بين يديهما وقالا له: الذي أدى إلى ملك العرب من فعلنا بأسارى المسلمين كذب وشناعة وقد أذنا في دخولك دار البلاط لتشاهدهم وتسمع شكرهم وتعلم استحالة ما ذكر لكم في أمرهم. فذهب فرآهم كأنما هم خارجون من القبور وقائمون إلى النشور ووجوههم دالة على ما كانوا فيه من الضر والعذاب إلا أنهم في حالة صيانة مستأنفة ورفاهة مستجدة. قال الرسول: فتأملت ثيابهم فكانت جدداً كلها فتبينت أنني أخرت ذلك التأخير حتى غُير أمرهم وجدد زيهم. وقالوا لي: نحن شاكرون للملكين. فعل الله بهما وصنع مع إيمانهم إلي بأن حالهم على ما تأدى إلينا وإنما خفف عنهم وأحسن إليهم بعد حصولي هناك. وقالوا لي في عرض قولهم: كيف عرفت صورتنا ومن تنبه على مراعاتنا حتى أنفذك من أجلنا. فقلك: ولي الوزارة(28/49)
والوزير أبو الحسن علي بن عيسى. فبلغه خبركم فأنفذ وفعل كذا وكذا فضجوا بالدعاء له. وسمعت امرأة منهم تقول: مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك ذلك الفعل. فعند ذلك بكى الوزسير بكاءً شديداً ثم سجد لله تعالى شاكراً حامداً.
والبلاط المذكور هنا هو دار كانت بالقسطنطينية مخصوصة لأسارى المسلمين ذكره المتنبي وأبو فراس في أشعارهم وقد ذكره أبو العباس الصفوي شاعر سيف الدولة وكان محبوساً وضربه مثلاً:
أراني في حبسي مقيماً كأنني ... ولم أغزُ في دار البلاط مقيم
ومجمل القول أن أفاضل الروم والسريان والكلدان واليعاقبة والفرس وسائر النصارى على اختلاف مللهم واليهود والمجوس والصابئة كانوا في أيام خلفاء بني العباس موضع التجلة والإعزاز والاحترام ووصلوا بعناية الخلفاء وأكابر الدولة من المسلمين إلى مقام محمود ودرجة لم يكن لها نظير في دولة أخرى شرقية أو غربية ولا حتى في هذه الأيام التي انتشرت فيها أعلام الحرية وانطلقت الأفكار من قيودها القديمة التقليدية.
فكان الخلفاء وملوك المسلمين وأمراؤهم يجعلون ثقتهم فيهم ويسلمون إليهم طبهم وطب نسائهم ويأتمنونهم على حريمهم وأموالهم ويفضون غليهم بأسرار الدولة الإسلامية ويودعون عندهم أموالهم وذخائرهم ولا يجعلون بينهم وبينهم حجاباً بل يستقبلونهم في كل وقت وبغير إذن مثل المسيحي نزيل بغداد وإسحق بن حنين بن إسحق ويختيشوع بن جورجيس وأبي الكرم صاعد بن توما المعروف بأمين الدولة وأشباههم ممن لا نرى حاجة لسرد أسمائهم.
وكان أكابر علماء المسلمين يتلقون العلم عن أفاضل النصارى وغيرهم عملاً بالحديث الشريف كما كان النصارى واليهود وغيرهم يتلقون العلوم الفلسفية وغيرها من علماء الإسلام فإن محمد بن موسى بن شاكر الذي كان أوفر الناس حظاً في الهندسة والنجوم في أيام المأمون كانت له دار في بغداد ككعبة لطلاب الفضل وعشاق العلم وقد تعلم فيها كثيرون ممن جعلوا لتلك الدولة بهاءً ورواءً وعطروا اسم الشرفق والإسلام. نكتفي الآن بذكر ثابت بن قرة بن مروان الصابئ الحراني نزيل بغداد فإن ابن شاكر المسلم لم يكتف بتخريجه في العلم بنفسه والإنفاق عليه من ماله حتى أكمل دروسه في داره عن الأساتذة(28/50)
الذين كان يدر عليهم الأرزاق لتنوير الأذهان بل رأى أن لهذا الصابئ حقاً عليه بهذا الجوار فوصله بالخليفة المعتضد وأدخله في جملة المنجمين فظهر فضله حتى بلغ عنده أجلَّ المراتب وأعلى المنازل وكان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلاً ويضاحكه والخليفة يقبل عليه دون وزرائه وخاصته.
وقريب من ذلك ما وقع في مصر إذ التجأ إليه موسى بن ميمون اليهودي المشهور بعد ما أكره في الأندلس على الإسلام فأظهره وحفظ القرآن واشتغل بالفقه وأسرًّ اليهودية حتى إذا ما تحين الفرصة خرج إلى مصر في أواخر أيام الفاطميين فلما استقر الأمر فيها لصلاح الدين الأيوبي أخذه القاضي الفاضل (عبد الرحيم بن علي البيساني) تحت حمايته واشتمل عليه وقدر له رزقاً من خزينة الدولة لما رآه فيه من العلم الواسع والفضل الكامل. فإنه كان أوحد زمانه في صناعة الطب علماً وعملاً وكان متفنناً في العلوم وله معرفة جيدة بالفلسفة وكان الناصر صلاح الدين وولده الملك الأفضل يجلان قدره كثيراً ويعتمدان على رأيه في الطب وقد تولى الرياسة العامة على جميع اليهود بديار مصر. ولقد ابتلي موسى هذا في آخر زمانه برجل من الأندلس فقيه يعرف بأبي العرب وصل إلى مصر وحاققه على إسلامه وإلزام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له: رجل يُكره على الإسلام لا يصح إسلامه شرعاً. وقد مدحه القاضي السعيد بن سناء الملك فقال:
أرى طب جالينوس للجسم وحده ... وطب أبي عمران للعقل والجسم
فلو أنه طبَّ الزمان بعلمه ... لا يراه من داء الجهالة بالعلم
ولو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم
وداواه يوم التم من كلف به ... وأبرأه يوم السرار من السقم
وأفادنا التاريخ أن الفارابي وهو المعلم الثاني (لأن المعلم الأول هو أرسطو طاليس) دخل العراق واستوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان النصراني وأنه هو أقرأ يحيى بن عدي النصراني اليعقوبي الذي انتهت إليه رياسة أهل المنطق في زمانه. وقيل أن ابا سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني وهو معلم الشيخ الرئيس ابن سينا صناعة الطب وإن كان الشيخ الرئيس بعد ذلك تميز ومهر فيها وفي العلوم الحكمية حتى صنف كتباً للمسيحي وجعلها باسمه. هذا وأنتم تعلمون أن يحيى بن عيسى بن جزالة(28/51)
النصراني قرأ الطب على النصارى وأراد قراءة المنطق فلم يكن فيهم من يقوم بهذا الشأن وذكر له أبو علي بن الوليد شيخ المعتزلة بأنه عالم بعلم الكلام ومعرفة للألفاظ المنطقية فلازمه لقراءة المنطق ثم حسن الشيخ له الإسلام حتى استجاب وكان يطب أهل محلته وسائر معارفه بغير أجرة ولا جعالة بل احتساباً ومروءة ويحمل إليهم الأدوية بغير عوض. وممن درس على شيوخ الأدب المسلمين يحيى بن سعيد ابن مالك النصراني فقد برز في هذا الفن حتى صنف ستين مقامة على مثال البديع والحريري فأحسن فيها وكان فاضلاً في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطب.
وهذا باب كبير جداً يتسع فيه المجال لعشرة أمثال هذا المقال غير أنني ألتمس الإذن من حضرات السامعين لأقص نبأ عليهم من أغرب الأنباء:
أعرف في باريس رجلاً يهودياً من الذين توفروا على درس المشرق وآدابه وتواريخه وعنوا بالتنقيب عن كل شؤونه ونشروا كثيراً من مآثره الخالدة وأسفاره الممتعة وترجموا بعضها إلى اللغات الأجنبية. ذلك الرجل هو زميلي وصديقي العلامة الفاضل هرتويغ درنبوغ ولست الآن في مكان تقريظه وتعديد حسناته وإنما أقول لكن أنني رأيته في باريس قائماً بتفسير القرآن الكريم على جماعة من الطلبة الفرنساويين في مدرسة اللغات الشرقية فعجبت في نفسي من أمر هذا اليهودي الذي يشرح للنصارى في باريس وبلسان الفرنسيس كتاب المسلمين. ولكنني تذكرت تاريخ أجدادي وبه سيبطل عجبكم كما بطل عجبي. فقد كان الشيخ المؤرخ تقي الدين أبو العباس المقريزي المشهور صاحب كتاب الخطط المتوفى سنة 845 من الهجرة له إلمام تام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان أفاضلهم يترددون إليه للاستفادة منه فيما يتعلق بأمور دينهم وشرح مذاهبهم ومعرفة أسرار ملتهم وقد ألف كتاباً سماه شارع النجاة يشتمل على جميع ما اختلف فيه البشر من اصول ديانتهم وفروعها مع بيان أدلتها وتوجيه الحق منها وهذا بخلاف ما نراه في البيانات المفيدة الكثيرة في كتابه المشهور بالخطط الذي طبعه الخواجة روفائيل عبيد القبطي وقد أخذ الفرنساويون يترجمونه في هذه الأيام إلى لغتهم بمعرفة العلامة أوريان بوريان وبمعرفة العلامة كازانوفا المقيم بين ظهرانينا الآن لإكمال هذا العمل الجليل الذي برز في عالم المطبوعات قسم كبير منه.(28/52)
ولكن أين المقريزي وأين علمه من الفقيه الشافعي كمال الدين ابن يونس الذي ثقفه في الموصل ثم توجه إلى بغداد ثم رجع إلى الموصل ومات بها رابع عشر شعبان سنة 639 فقد كان آية ولا كالآيات وأعجوبة ولا كالأعاجيب وموسوعة ولا كالموسوعات تبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد وتفرد بعلم الرياضة واتفق الفقهاء على القول بأنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة فمن ذلك مذهب الشافعي فكان فيه أوحد الزمان وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور وكان يتفنن فن الخلاف العراقي (أي على مذهب الشافعي) والبخاري (أي على مذهب الحنفي) وأصول الفقه وأصول الدين ولما وصلت كتب فخر الدين الرازي إلى الموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحه فيها سواه وكذلك كتاب الإرشاد للإمام ركن الدين العميدي لما وقف عليه حل اصطلاحاته في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوه وكان يدري فن الحكمة والمنطق (أي كتب أرسطو طاليس المنطقية الثمانية) والطبيعي والإلهي وكذلك فنون الرياضة من إقليدس (أي كتبه الرياضية) والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي (أي الفلك) وأنواع الحساب: الحساب منه (أي علم العدد) والجبر والمقابلة والأرتماطيقي وطريقة الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في طواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً وكان له في التفسير والحديث وما يتعلق به وأسماء الرجال يد جيدة وكان يحفظ من التاريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئاً كثيراً وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه وبالجملة فإن مجموع ما يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه جمعه ولقد كان كبار المشايخ الذين لهم القدم الراسخة في العلوم يأخذون الكتاب ويجلسون بين يديه ويقرؤون عليه مع أنه لهم من الكتب الفائقة ما يشتغل به الناس والطلاب بل كانوا يتركون بلادهم وتدريسهم ويحضرون إليه للتلقي عليه ولقد تخرج عليه خلق كثير في كل فن. وليس كل ذلك شيئاً يذكر بجانب أمر صغير كبير اشتهر عنه وهو الذي أردت أن أتخلص إليه بهذه المناسبة. وذلك أن علماء النصارى واليهود كانوا يقرؤون عليه الطب والفلسفة(28/53)
وغيرها من العلوم التي اعتاد أهل ذلك العصر عصر النور أن يقرؤوها لأهل الكتاب ولا يمنعوهم منها. فليس في هذا شيء من الغرابة وإنما الغريب أنه مع كونه معدوداً من الفقهاء والمفسرين كان كما رواه ابن خلكان وهو حجة ثقة يجيء إليه أهل الذمة من اليهو
والنصارى ويقرؤون عليه التوراة والإنجيل وقد شرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. ولو وقع مثل هذا في عصرنا لعد غريباً جداً. وممن قرأ عليه الحكيم تاذري الإنطاكي اليعقوبي الذي أحكم اللغة السريانية واللاطينية بإنطاكية وشدا بها شيئاً من علوم الأوائل ثم هاجر إلى الموصل وقرأ على كمال الدين بن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحل أوقليدس والمجسطي. ثم عاد إلى إنطاكية ولم يطل المكث فيها لما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية إلى ابن يونس وأنضج ما استنهأ من علمه وانحدر إلى بغداد وأتقن علم الطب وقيد أوابده وتصيد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه ولم يقبل عليه فرحل إلى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للإمبرور ملك الفرنج وهو (فريدريكوس الثاني) فنال منه أفضالاً ووجد له به نوالاً وأقطعه مدينة بأعمالها. فلم صلح حاله وكثر ماله اشتاق إلى بلده وأهله فلم يؤذن له بالتوجه فأقام إلى أن مكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته إلى بلد المغرب فضم أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد أعدها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون بر عكة. فبينا هم سائرون إذ هبت ريح رمت بهم إلى مدينة كان الملك قد أرسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئاً من سم كان معه ومات خجلاً لا وجلاً لأن الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله.
وممن جرى على هذا النحو العلامة برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة 885 فإنه فسر القرآن في كتاب له اسمه نظم الدرر في تناسب الآي والسور وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه أسرار القرآن ما تحار فيه العقول وهو محفوظ بالمكتبة الخديوية وفي كثير من مكاتب القسطنطينية ولكي يكون هذا المفسر المحقق على بصيرة من أمره استمد كثيراً من الأمور والبيانات من التوراة والإنجيل وقد أشار في أوله إلى التوراة التي اعتمد عليها فقال ما نصه: واعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم(28/54)
أدر اسم مترجمها وعلى حواشي فصولها الأوقات التي تقرأ فيها والظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جداً فكان في الورقة الأولى منها محوٌ في أطرف الأسطر فكملته من نسخة السبعين ثم قابلت نسختي كلها مع بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعيد الفيومي وهي عندهم أحسن التراجم فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق اللفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب. وسعيد هو المشهور باسم سعديا. وقد ذكره صاحب كتاب الفهرست.
وكان البقاعي كلما ذكر قصة مما ورد في القرآن تتعلق بأهل الكتاب شرح أمرها من التوراة غيرها من صحف الملل المتقدمة مثال ذلك أنه أشار في بعض المواضع إلى إحدى القصص فشرح أمرها من التوراة فقال ما نصه: في آخر السفر الرابع منها في النسخ الموجودة بين أظهر اليهود الآن في هذا القرن التاسع فيما قرأته من نسخة مترجمة بالعربية وخطها كذلك وعليه آثار قرءتهم لها وبيان الأوقات التي يقرأ فيها كل فصل منها ثم قابلتها بالمعنى مع شخص منهم وكان هو القارئ منهم ما نصه: وهذه مظاعن بني إسرائيل حيث خرجوا من أرض مصر بأجنادهم على يدي موسى وهارون وكتب موسى مخارجهم ومراحلهم عن قول الرب: ظعنوا من رعمسيس (وفي نسخة من عين شمس) في خمسة عشر يوماً من الشهر الأول.
ولذلك قام عليه بعض الجهلة من أهل عصره وقبحوا طريقته قبحهم الله وأهانوه وسعوا به لدى الحكام ونفوه واضطهدوه بكل ما في وسعهم ولكن الرجل ثبت غي عمله حتى أتم تفسيره وصنف أيضاً بسبب ذلك كتابين أحدهما مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور والثاني: الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة وهو محفوظ بالكتبخانة الخديوية.
تأتي البقية(28/55)
حكم منوعة
حكم في سيرة الحياة
ملخصة من كتب ديانة الهنود القديمة
تتطهر النفس بمعرفة الذات وضبطها عن الشر وبالاستقامة والأدب والدين.
الأم أثقل من الأرض والأب أعلى من السموات والعقل أسرع من الريح والأفكار أكثر عدداً من العشب.
صديق رب البيت الزوجة وصديق الغريب في بلاد بعيدة الرفيق وصديق المريض الطبيب، وصديق المشرف على الموت الصدفة.
أعظم خير للفضل الكرم. وللشهرة العطاء وللسماء الحق، وللسعادة السيرة الحسنة.
الابن هو نفس الإنسان، والزوجة عطية من الله، وأخص معيشة الإنسان من الغيوم.
خير ما يمدح الحذق وخير ما يُقنى العلم وخير ما يكسب العافية وخير أنواع السعادة القناعة.
أعظم ما يجب على الإنسان الامتناع عن الإضرار بالناس.
إذا أبى الإنسان الكبرياء كان محبوباً وإذا أب الغضب فلا يندم وإذا أبى الهوى صار غنياً وإذا أبى الطمع كان سعيداً.
زجر النفس أحق الزجر، الصفح يقوم بالصبر على العداوة، والابتعاد عن كل عمل معيب يخلص من الخجل والعار. والرحمة قائمة بطلب الخير للكل. والبساطة راحة القلب.
الغضب عدوٌ لا يغلب والطمع داء لا دواء له، والصادق من يريد الخير للخلق عامة وغير الصادق من لا رحمة فيه.
الجهل الحقيقي هو الجهل بما يجب عمله. والكسل عدم القيام بما يجب عمله.
الغسل الحقيقي غسل القلب من أوساخه. والصدقة مساعدة كل مخلوق محتاج.
العالم من علم ما يجب عليه. والحسد ليس إلا حزن للقلب.
الجهل الأعمى هو الكبرياء. ونشر كلام السوء في الغير.
من يعد ولا يفي والغني الذي لا يعطي ولا ينفق على نفسه بخلاً كلاهما في النار الخالدة.
من يقول قولاً شهياً صار شهياً عند الكل ومن عمل بالحزم نال ما طلب ومن كان له خلان(28/56)
كثيرون كان سعيداً ومن تابع الفضل كان له نصيب سعيد في الآخرة.
السعيد من لا دين عليه ومن يلازم بيته.
يذهب اليوم بعد اليوم أناس لا يحصى عددهم إلى منازل الموتى وأما الأحياء المتأخرون فيظنون أنفسهم خالدين في الحياة.
خبر العمل الصالح يبلغ عنان السماء وينتشر في الأرض فما دام هذا الخبر كائناً يدعى الرجل رجلاً.
من استوى عنده الطيب والمكروه والخير والشر والماضي والحاضر فهو المالك لعامة أنواع الثروة.
من أقوال الفلاسفة القدماء
الحواس كالشمس فكما أن الشمس تخفي السموات وتجلي رؤية الأرض هكذا الحواس تخفي الأشياء السماوية وتظهر الأشياء الأرضية.
الاسم الحسن كالنار إذا اشتعلت مرة سهل دوام اشتعالها وإذا انطفأت لم تسهل إعادة اشتعالها.
الحب الذي لا نهاية له هو الحب الذي لا غرض دنيّ منه.
أحوج ما في العلم لفائدة الحياة نسيان ما هو غير صحيح.
يتعلم الحكماء من الجهال أكثر مما يتعلم الجهال من الحكماء.
ليست الرحمة صفة مغصوبة بل هي آتية من السماء كالمطر الرذاذ إلى ما تحتها وبركتها بركتان، بركة للمعطي وبركة للآخذ، وهي أجدر بالملك الجالس على عرشه من تاجه. وهي صفة ذات الله فتصير القوة الأرضية أشبه بقوة الله متى لطفت الرحمة العدل. وإن كان العدل حجتك فاعلم أن من هذا الوجه لا يرى أحد منا نجاة عند الله إلا أننا نلتجيء إلى رحمته وهذا الالتجاء يعلمنا جميعاً أعمال الرحمة. (شكسبير).
بيروت
يوحنا ورتبات
حكم عصرية
للمأسوف عليها العقيلة أنيسة كريمة الشيخ سعيد الخوري الشرتوني(28/57)
أحقر الناس جاهل ابن عالم وفقير ابن غني.
ميراث كبير تعويد الولد العمل واجتناب المحرمات.
من أحرز العلم بلغ ذروة الشرف.
أجلّ الناس من جمع بين العلم والمال والفضيلة.
أفضل رجال الدين من نمت في جوارهم الفضائل وانتشرت في معاشريهم نفحات الصلاح.
معاشرة العلماء ضياءٌ ومعاشرة الجهال ظلام.
جرائد كل عصر أصدق شاهد على أخلاق أهله وطبقاتهم في العلم.
لا مؤونة للقلم واللسان بعد اللغة كالتاريخ والجغرافية.
حافظ التاريخ والجغرافية ولطيف الشعر والأمثال والحكم زينة المجالس وفاكهة المحاضر.
لا يضعف العدل والدين إلا متى كان زمامهما في أيدي أعدائهما.
ما نظر الحكيم في شيء غلا استخرج منه فائدة.
لا يسعد إلا من اعتصم بحبل الله.
الفضلاء في الناس كالجواهر في الحجارة.
قيمة العلماء في الأمم الشائخة قيمة المصابيح عند العميان.
لا يغلب الحق وإن قل أنصاره.
من أفظع العار أن يخالف الديانة من يسود باسم الديانة.
الوعظ في فم الشرير كالماء الطاهر في المجرى النجس.
أفضل ما تعمله المدارس اختيار الفضلاء البارعين للتربية والتعليم.
أثمن الهدايا نصائح الحكام.
مجاورة الصالحين كمجاورة النباتات العطرية.
أملك الناس للقلوب مهذب حميد السيرة.
من أحكم علماً عاش به.
أولى الناس بالتزام السيرة الصالحة الحاكم والكاهن والطبيب فكل منهم مقتدى.
استخدام الفقير أنفع من التصدق عليه.
جدَّة المبادئ كالشباب وقدامتها كالشيخوخة فأصحاب المبادئ الجديدة ذوو همم قوية(28/58)
وأصحاب المبادئ القديمة ضعاف الهمم.
من أحسن وسائل التقويم الترغيب في حسن الذكر.
من أفضل الكتب التي تسمن عليها الآداب كتاب تليماك.
الدين كاللوزة اجتناب المحرمات لبه والتكاليف قشره والمحافظة على القشر بعد إتلاف اللب رياء.
أفضل المنشئين من لا تبلي الدهور كلامهم.
جوامع الكلام
منقولة عن الإنكليزية
خشية الله أصل المعرفة والمجنون من يزدري بها
(رأس الحكمة مخافة الله).
فطرنا على حب الحياة ولو أنها قليلة اللذات.
(جبلنا على حب الحياة وإنها ... مخيفة أحلام أطافت بحالم)
جانب الشرير ولا تسر في سبيل أهل الدعارة فهم لا يأكلون غير الطعام الخبث ولا يكرعون إلا من نبيذ القسوة.
لكل إنسان أن يعيش الدهر إذا كانت حياته روحية لا جسدية: إذا كانت حياته في طلب الحكمة وتخليد المآثر. وهذه حياة العظماء تؤكد لنا ذلك.
الناس دون جهادهم موتى ول ... كن الأُلى عملوا المدى أحياء
وفي هذا المعنى قال الرافعي أيضاً:
وما غير العظائم باقيات ... يكرر ذكرها في كل آن
يعمل المرء في حياته إما أعمالاً حسنة أو سيئة وعلى قدر ذلك يترتب هناؤه أو تعسه في الوجود.
النجاح لا يقع اختياره إلا على رجل واحد من الناس لا يصاحب سواه وهذا الرجل هو الذي لا يعمل عملاً قبل أن يُعمل فكره فيه.
قال وليم شكسبير: إنما العالم مسرح والناس من رجال ونساء ليسو سوى ممثلين يظهر كل عليه ويختفي. والمرء في حياته يمثل سبعة أدوار. فالدور الأول وهو زمن الطفولة إذ(28/59)
يكون رضيعاً يصرخ ويقيء بين ذراعي مرضعه. والثاني حين يصبح تلميذاً يحمل قمطره ووجهه يفيض بشراً وسناءً في الصباح يقفز كطير البجع ويتظلم من الذهاب إلى المدرسة. والثالث دور الهوى وهو الزمن الذي يكون فيه عاشقاً يتنهد تنهدات حارة تحكي زفرات الأفران وهو ينشد أغاني مطربة يخاطب بها لحاظ مالكة فؤاده. والدور الرابع وهو دور الشجاعة والإقدام حين يكون جندياً يقسم الإيمانات ولحيته تشبه لحية النمر: يغار على الشرف ويقتحم الغارات بخفة باحثاً عما يجديه فخاراً ولو في فوهات المدافع. هذا الفخار الذي أراه كجبب الماء لا يدوم ولا يلبث. والخامس وهو الدور الذي يجلس فيه على سرير الأحكام ويقضي بين الناس وبطنه ممتلئ مستدير وبصره حاد ولحيته مقصوصة قصاً مخصوصاً: عقله راجح وفكره ملم بكثير من الحوادث واعٍ لما صدر فيها من الأحكام. والسادس يبدأ باكتسائه الأردية الرفيعة القماش الواسعة الحجم ووضعه المنظار أمام عينيه وتعليقه كيساً بجانبه وقد غدت جواربه التي كان يلبسها وقت الصغر غير ملائمة لرجليه لكبر حجمهما وصوته ضئيلاً متلعثماً يحاكي صوت الأطفال.
أما المنظر الأخير الذي ينتهي به هذا التاريخ المحزن الغريب فهو الطفولة الثانية يعني الشيخوخة والخبل المتناهي يتبعه فقد السنان والبصر والذوق بل وتضعضع جميع الجسد وقال كذلك على لسان ماكبيث:
انطفئ يا ذا السراج انطفئ ... فإن الحياة خيال يسير
وقال أيضاً: تأمل كثيراً وتكلم قليلاً ولا تشرع في تحقيق رأي يعجز عقلك دونه. عامل الناس بالعرف وراع واجبات الصداقة وضم من صادقتهم وتحققت إخلاصهم إلى قلبك وعلقهم بأطواق من الحديد ولاتضع كل إنسان حديث العهد بالمعرفة بك موضعاً علياً فتعلق بيدك الأكدار. حاذر من التشاجر مع أحد وإذا قدر لك هذا فاجتهد في إرهاب خصمك. أعر كل إنسان سمعك ولا تدع صوتك يقرع إلاّ آذان فئة قليلة من الناس.
وقال يوحنا رسكن: خلق الإنسان لثلاثة دواع وهي العمل والأسى (الحزن) والسرور وكل من هذه الثلاثة له درجتان: وضيعة ورفيعة. فهناك عمل وضيع وعمل رفيع. وهناك حزن هين وآخر شديد. وكذاك فرح قليل وسرور مفرط فيلزمك أن لا تنأى عن الجمع بين هذي الثلاث ظناً منك أنه يتأتى لك أن تحيا بدونها فليست هناك نفس خلت من التشبث بها(28/60)
فانجبر وهيها. والعمل بدون السرور رديء وهو بدون الحزن كذلك.
والحزن من غير العمل قتال وكذلك الحبور بدون العمل. وقال: تواضع على قدر ما ترغب فليس التواضع بمؤذ لإنسان ولكن خلّ شرفك في المحل الأول. وقال: لا يتقدم في سبيل الحياة إلا من كان قلبه آخذاً يزداد ليناً ودمه حرارةً وخاطره سرعة ونفسه رغبة في العيش مع السلام وأولئك الذين يوجد فيهم هذا الشعور هم هم ـ لا غيرهم ـ الأمراء والملوك الحقيقيون في الأرض.
القاهرة
أ. ز. أ(28/61)
الساعة
وخرساَء لم ينطق بحرفٍ لسانها ... سوى صوت عرق نابض بحشاها
حكت لهجة التمتام لفظاً ولم تكن ... لتُفصح إلاَّ بالزمان لُغاها
لها ضربانٌ في الحشا قد حكت به ... فؤاداً تغشاه الهوى وحكاها
جزت حركات الدهر في ضربانها ... وبانت مواقيت الورى بعماها
على وجهها خُطت علائم تهتدي ... بها الناس في أوقاتها لمناها
مشت بين آنات الزمان تقيسه ... وما هو إلاَّ مشيها وخُطاها
بها يتقاضى الناس ما يوعدونه ... ويرشد ضُلاّل الزمان هداها
غدت كأَخي الإيمان تأكل في عاً ... وما أكلها إلاَّ التواءٌ مِعاها
تدور عليها عقرب دور حائر ... بتيهاَء غُمت في الظلام صُواها
تريك مكان الشمس في دورانها ... إذا حجبت عنك الغيوم ضياها
فأعجب بها مصحوبةً جاء صنعها ... نتيجة أفكار الورى وحجاها
بَنتها النهى في الغابرين بسيطةً ... فتمَّ على مرّ الزمان بناها
تنادي بني اليام في نقراتها ... أن اسعوا بجدّ بالغين مداها
ولا تهملوا الأوقات فهي بواترٌ ... تقطع أوصال الحياة شباها
بغداد
معروف الرصافي(28/62)
الشرق
رعى الله عهداً بالحمى يرجع ... وهل راجع ما فات والقوم هجع
وقد كان فيه من أقاموا بجدهم ... أراكين مجدٍ دونها القوم خشع
وشادوا قصور المكرمات واطلعوا ... بدور علوم ما لها اليوم مطلع
وقد غربت في الغرب شمس علومهم ... فهل بعد ما تقضي اللبانة تطلع
فإنا عهدنا الشمس تحجب ليلةً ... ولو لبثت عنا ليالي نجزع
فما بالها تمضي القرون ولا نرى ... جمال محياها على الشرق يسطع
فهل لك يا نور الوجود ضغينة ... على أهله أم هم إلى اللهو نُزَّع
سلوك فأسلوك المرابع بعد ما ... سفرت لهم دهراً ومالك برقع
وما الشرق إلا منزل نام أهله ... طويلاً فما يدرون ما الناس تصنع
فيا علماء العصر أشكو إليكم ... فهل عندكم للشكو يا قوم موضع
فإن لم يجيبوا داعي الله للعلى ... فللصبر إن لم ينفع الشكو أوسع
بيروت
الغلاييني(28/63)
مطبوعات ومخطوطات
مبادئ اللغة
للشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 421 هجري مع شرحه له عني بتصحيحه السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي وطبع على نفقة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي وأخيه بمصر عن نسخة جيء بها من بغداد وقد وجد في الأصل المنقول عنه: هذا الكتاب أعني مبادئ اللغة مستخرج من كتاب العين للخليل ونوادر ابن الأعرابي وحروف أبي عمرو الشيباني ومصنف أبي زيد وجمهرة ابن دريد الأزدي. وفي الكتاب كثير من الفصيح الذي أخذه صاحب فقه اللغة وهو مما ينتفع به المترجمون والمؤلفون في هذا العصر وفيه فصح كثيرة وردت في أبواب منه مثل باب الكسوة ويدخل تحتها أصناف الثياب والملابس وباب البسط والفرش ونحوهما وباب الحلي والجواهر وباب الأواني والسراج وأبواب الطعام والطبخ والألبان والشراب وآلات البيت والأدوات وآلات الكتابة والزراع والسلاح وغير ذلك مما يلزم المتخاطبين في سفرهم ومقامهم وليلهم ونهارهم وبيوتهم وأعمالهم وحضارتهم وتأخرهم. وحبذا لو أضاف إليه طابعوه فهرساً بأسماء أبوابه وبيان فوائده وشوراده وأوابده. وقد وقع في 204 صفحات وثمنه سبعة قروش مجلداً.
توفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية
هي رسالة للمرحوم الشيخ محمد الشطي المتوفى سنة 1307 ذكر فيها مادة مما وافق فيها القانون العثماني الشرع الإسلامي قال في مقدمته: ولما نشأ من تضييق بعض العلماء على الملوك السابقين جعل الحكم على قسمين شرعي ونظامي تبادر إلى الأذهان أن الحكم النظامي مخالف للشريعة المطهرة المأخوذة من القرآن والسنة ومن تتبع أقوال الأئمة المجتهدين وأحكام الصحابة والتابعين وجد أن الأحكام كلها مأخوذة عن سيد المرسلين والرسالة مطبوعة طبعاً جيداً في مطبعة الشيخ فرج الله زكي بمصر.
تقويم المؤيد
صدر تقويم المؤيد عن سنة 1326 وهي السنة الحادية عشرة له تأليف محمد أفندي مسعود المعروف بسعة اطلاعه وعلمه وأدبه حافلاً بأجل الفوائد التي يحتاج إليها الخاصة والعامة(28/64)
والرجال والنساء والمصريون والغرباء ولا عجب إذا قلنا أنه صورة مصغرة من تاريخ مصر وما يلزم لساكنها خصوصاً بل لساكن البلاد العربية عامة من المعلومات الفلكية والفنية والأدبية وأخبار الملوك والممالك والحوادث والمعاهدات الدولية والمسائل السياسية وأحوال الزراعة وتدبير المنزل وما تم من أساليب الارتقاء المادي والأدبي في مصر في السنة الماضية وقد طبع في مطبعة المؤيد طبعاً جميلاً ويطلب من إدارتها وثمنه خمسة قروش فنحث على اقتنائه ونرجو أن يوفق مؤلفه إلى إصداره سنين كثيرة ليزيده ارتقاءً فوق ارتقائه خدمة للغة وأهلها.
مجموعة خطب
للشيخ جمال الدين القاسمي وهي خطب جمعية منبرية مقتبسة من خطب نبوية وصحابية وأئمة مشاهير موضوعها العقائد والعبادات والمعاملات والشمائل والأوامر والزواجر والآداب والأخلاق والمواعظ وأحوال المعاد وهي في نحو 130 صفحة صغيرة جميلة الوضع والانتخاب وكنا نود لو كانت كلها مما كتب قبل القرن السادس لتجمع الفائدتين كما هي نافعة في الدارين. تطلب من طابعها محمد أفندي هاشم الكتبي في دمشق.
سياحة في التبت
ترجم عن التركية حكمت بك شريف سياحة مختصرة في بعض مجاهل آسيا كما ترجم من قبل تاريخ زنجبار وسيام فعساه يترجم أو يؤلف لنا رحلة أو تاريخاً عن هذا الشرق الأدنى أو القريب فيكتب بعد تبت عن العراق ونجد والحجاز واليمن ويحدثنا بعد زنجبار وسيام بأخبار آسيا الصغرى وبلاد الشام. تطلب الرحلة من المكتبة الرفاعية في طرابلس الشام.
دليل السلام
أصدرت إدارة جريدة السلام التي تطبع بالعربية في بونس أيرس عاصمة الأرجنتين (الجمهورية الفضية) دليلاً يحتوي على أهم الفوائد التجارية والإحصائية والتاريخية والحسابية والأخبار والفكاهات بالعربية والإسبانيولية جاء فيه أن عدد السوريين في تلك البلاد يربو عن 45 ألفاً وأن عدد الجرائد والمجلات التي صدرت بالعربية منذ سنة 1891 في أميركا الشمالية والجنوبية قد بلغت إلى الآن أربعين بقي منها حياً 21 وفي هذا الدليل فهرس عام لتجار السوريين في الأرجنتين وفيه صور كثيرة وفرائد غزيرة وإعلانات جمة(28/65)
وجاء فيه أن أحوال الجالية هناك على أحسن ما يكون من الارتقاء فمنذ بضعة سني كان يندر أن تجد محلاً تجارياً قائماً بما يتطلبه نظام التجارة من ضبط دفاتر وحسابات واليوم نرى مثل هذه المحال مئات ومنذ بضع سنوات كان تنقضي السنوات ولا تسمع بجمعية أسست أو مشروع قام وفي أيامنا لا تخلو سنة من عشرات المشاريع يقوم بها المتنبهون عن كفاءة وشعور.
اللباب
هي مجلة علمية فلسفية طبية زراعية تصدر في القاهرة في أول كل شهر لصاحبها م. ا. ا. ن ومديرها خليل أفندي مولود جاءتنا الأجزاء الثلاثة الأولى منها فقرأنا فيها عدة مقالات مختصرة في المعنى الذي ترمي إليه قالت في مقدمته: إننا نرمي في كلامنا على بطء مسير حركة العلم ونضوب معين الأقلام في التنقير على استجلاء الحقائق والقحط الذي أصاب أدمغة رجال الأقلام وأرباب الكتابة والتأليف ولم يتناول جميع المطالب العصرية التي عقمت بها أرحام الأقلام وأجدبت عن إنباتها رياض الإفهام وغدت بها مجلات العلم والأدب عالة على النقل والتعريب عن منشآت أوروبا حالة أن مجال الكتابة أرحب من الفضاء وموضوع عمراننا أغزر من الدماء ولم الألسنة قد انفتقت إلا لتزيين التقليد والتقاعد عن ركوب خطة التوليد ولم نر الخواطر قد انفدحت إلا لاختراع ضروب النقل والمسخ مكاثرة لهذا النوع من الكتابة الذي جر على العربية وآدابها معرة النقص وأورث صناعة الأدب كساداً وأي كساد.
وإنا لندعو أن توفق رصيفتنا الجديدة إلى سد هذا النقص المحسوس في اللغة العربية ونعني به التوليد والاختراع والبعد عن مواطن التقليد والجمود من نقل وتعريب. وفي كل جزء من الأجزاء الثلاثة مقالة للأمير شكيب أرسلان الأولى في الانتقاد والثانية في حقيقة التعريب والثالثة في تركة الفضل أخلد الآثار. والمجلة سلسة العبارة لطيفة المنزع تصدر في 56 صفحة في حرف واضح جلي وطبع سليم نقي وقيمة اشتراكها في القطر خمسون قرشاً وسبعون في سائر القطار فنرحب بها ونتمنى لها الثبات في خدمة اللغة والآداب والإقبال الذي تستحقه.
شورا(28/66)
هي مجلة علمية أدبية فيها بعض أبحاث تصدر مرتين في الشهر باللغة التركية في مدينة أورنبورغ من أعمال روسيا لصاحبيها محمد شاكر أفندي ومحمد ذاكر أفندي رامبيف ومحررها رضاء الدين أفندي بن فخر الدين صدر منها إلى الآن ستة أجزاء فتلوناها مسرورين من نشاط أخواننا الروسيين في خدمة المعارف والآداب وعبارتها تركية تترية يسعى كابتها إلى تقريبها من التركية العثمانية ليعم الانتفاع بها وفي هذه الأجزاء مقالات لطيفة تدل على سلامة ذوق الكاتب وأدبه الجم وفيها بعض صور لمشاهير الروسيين المسلمين ممن كان لهم أثر في نهوضهم الاجتماعي والعلمي مثل الشيخ شامل وغيره وتراجم موجزة لهم وقيمة اشتراكها أربعة روبلات وإذا اشترك المشترك بها مع جريدة وقت يؤخذ منه سبعة روبلات ويا حبذا لو جعلت هذه المجلة ملزمة واحدة منها باللغة العربية تنقل فيها أهم ما يهم الأمة من أخبار تلك البلاد ونهضتها العلمية والأدبية تجعلها ملحقاً في كل جزء من أجزائها فيكون لها شأن بين قراء العربية كما لها شأن بين قراء التتارية والتركية.
المفضليات
طبع الشيخ أبو بكر بن عمر داغستاني والشيح حمزة أمين حلواني مختارات المفضل الضبي التي اختارها من شعر العرب للمهدي بطلب من أمير المؤمنين المنصور فجاءت في نحو مئتي صفحة متوسطة مشكولة كلها ما خلا الشرح الخفيف الذي علقه عليها الشيخ أبو بكر الموما إليه والمفضليات غنية عن التعريف وهي تطلب من مكتبة مصطفى أفندي البابي الحلبي وأخويه في مصر بستة قروش.
تقرير المجمع العلمي الشمثوني السنوي
من أعظم المجامع العلمية في الولايات المتحدة المجمع الشمثوني الذي أُسس في نيويورك سنة 1846 بمال جاد به رجل اسمه سمثون ولا تزال أعماله في نجاح سنة بعد سنة كما يفهم من تقاريره السنوية وأمامنا الآن تقريره عن سنة 1906 شرحت فيه الجمعية ميزانيتها التي بلغت مئات الدولارات وذكرت أسماء من تبرعوا لها بالأموال وفيه مقالات كثيرة لمشاهير كتاب الطبيعة والكيمياء والفلك والحيوان والنبات من أميركان وفرنسيس وغيرهم مما تنشر مثله كل سنة ليكون عوناً للناس على التعلم والاستنارة والتقرير يقع في(28/67)
نحو 550 صفحة جيد الطبع جداً نفيس الورق وهو حاو لرسوم علمية ومصورات جغرافية كثيرة فنثني على رجال هذا المجنمع بما هم أهله ونتمنى لشرقنا المسكين ولو مجمعاً واحداً من مثل مجمعهم النافع.
نادي دار العلوم
أحسن هذا النادي بأن طبع ما ألقي فيه من الخطب هذا الشتاء في موضوع اللغة العربية وتسميته المسميات الحديثة فإن فيها من المباحث ما هو جدير بأن تتناقله كل يد فقي كل بلد وقد قرر النادي حلاً لهذا الإشكال أن يبحث في اللغة العربية عن أسماء المسميات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة فإذا لم يتيسر ذلك بعد البحث الشديد يستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية. فنرجو أن يوفق القائمون بهذا المشروع إلى تأليف المجمع الذي ينوون تأسيسه للنظر في هذا الغرض الشريف.(28/68)
سير العلوم والاجتماع
التعليم والذكاء
من المعروف الشائع أن التعليم يزيد الذكاء حدة ويقوي الذهن إلا أن طبيبين نطاسيين قد بحثا بحثاً طويلاً في ذلك فتبين لهما أن الولد ينسى بعد خمس سنين من سنه ما تعلمه من قبل نسياناً تاماً فالذاكرة كما يتوفر على تنميتها في المدارس لا يبقى فيها شيء بل أن العقل لا يحاول أن يعرف ما يجهل وقليل من الأولاد من حازوا من العارف قسطاً مما لم يتعلموه في المدارس وما يعرفونه كله مبادئ ويزول أثره من الذهن في الغالب. وقد سأل أحد الدكتورين تسعة وثلاثين تلميذاً من الصفوف العالية وتسعة وثلاثين تلميذاً من الصفوف الواطئة وثمانية وخمسين تلميذاً من الكليات أسئلة كلها بسيطة فلم يكن الجواب إلا التسجيل عليهم بالجهل المطبق وفي المسائل التي كان ينبغي لها شيء من صحة الحكم كان سكوتهم عليها محزناً فاستنتج من ذلك أن التعليم لا يساعد إلا قليلاً جداً على تقوية العقل وينبغي إصلاحه على صورة عملية أكثر من الآن. وهذا الرأي موافق لرأي هارون غورست الذي يرى المعارف المدرسية للذكاء أشبه بسم حقيقي ولذلك يطلب أن يكون الامتحان محدوداً معيناً وأن كل من يعاني صناعة بموجب شهادة بيده يجب عليه أن يفحص أمام جماعة من المحكمين كل خمس سنين وما هذا إلا لأن التعليم اليوم يقتصر فيه على الإكثار من الكتب والإكثار من الامتحان الشفاهي وتعلم الألفاظ والجمل وإهمال التزود من الأفكار وتمرين العقل على التفنن فيها وإيجادها.
التفروزين
هو نبات ينبت في جزيرة سيلان وكولومبيا وأميركا الوسطى وهو يستعمل للصباغ ويخرج منه نوع صباغ من النيلة ويكون منه مسهل ويستعمله الأميركان لتدويخ السمك ليسهل صيده وقد قرأ أحدهم في مجمع العلوم الباريزي تقريراً جاء فيه أن هذا النبات من السموم الشديدة وأن الصيادين لا يسكرون به السمك بل يسممونها ورأى أن يناقشوا الحساب في استعماله ويمنع بيعه إن أمكن.
بعد الشمس
ثبت أن الشمس بعيدة عن الأرض أكثر مما كان معروفاً فبعد رصدها 2600 مرة(28/69)
بالتلسكوب و11000 مرة بالصور الشمسية تبين أن الشمس بعيدة عنا 149471000 كيلومتر وكانوا يقولون منذ عهد كبلر أنها بعيدة 148500000 كيلومتر والفضل في هذا التحقيق يرجع إلى ما اكتشفه المرصد الفلكي في برلين سنة 1898 من نجم مذنب صغير لم يكن معروفاً من قبل سموه (ايروس) وهو يقترب من الأرض بعد الأحايين فساعد هذا النجم على حساب بعد الشمس.
الأرق
أثبت أحد روّاد الإنكليز خلال صعوده جبل كون كون في بلاد كشمير شمالي الهند أن النوم على علو سبعة آلاف متر يقل ويحالف السهاد المقل لأن الأوكسجين يندر والتنفس يصعب فلا يلبث المرء أن يغفى حتى يستيقظ كالمذعور.
أغنى كلية
أغنى كلية في العالم هي كلية هارفرد الجامعة في الولايات المتحدة فإن رأي مالها خمسة وعشرون مليون جنيه فإذا أضيف إليها ثمن أراضيها وأماكنها وخزائن كتبها ومستشفياتها بلغ مجموعها نحو ثمانية وثلاثين مليوناً وهذه المدرسة بعيدة عن مدينة نيو كبردج. وفي هذه الولاية يُحظر بيع المشروبات الروحية. ويقبض رئيسها راتباً في السنة ستة آلاف دولار وكل أستاذ ثمانمائة جنيه وكل مساعد أستاذ أربعمائة جنيه وفيها نحو 500 أستاذ و 4000 طالب.
تبرج النساء
كتب باولو لومبروزو العالم الإيطالي مقالة في هذا الموضوع قال فيها أنه ثبت أن أصل التبرج المشهود في النساء كان في أول الأمر مألوفاً لهن فأخذن يعمدن إليه استمالة لقلوب الرجال وما زلن في تفنينهن حتى صار فيهن على كرور الأعصار عادة وجبلة. فقد شوهد أن النساء المجنونات يفقدن لأول عهدهن بالجنون الرقة والحشمة والطهارة على أن حب التبرج يبقى مغروساً فيهن فيحرصن عليه. والتبرج مما عمت به البلوى كل النساء بدون استثناء فتراه عند الأميرة الكبيرة كما تراه عند الزنجية الحقيرة ولهن في التفنن بذلك أساليب حتى أن إحدى الغنيات الكبيرات في أميركا أراد أن يزورها ذات يوم أحد الأمراء من بعض الأسرات المالكة فتأهبت لذلك بأن أوصت على قفطانين جميلين إحداهما وردي(28/70)
والآخر أبيض صرفت فيهما ألفي جنيه. ولكن كيف السبيل إلى أن تظهر أمام الأمير بالقفطانين في آن واحد فأوعزت إلى خادم لها وهي على المائدة أن يلقي عليها شيئاً من المرق من صفحة يحملها فعندها انسلت إلى غرفة تبرجها ولبست القفطان الآخر فتم لها ما أرادت من الظهور أمام الأمير في ثوبين ثمينين في آن واحد. وليست المرأة محبة للتبرج في جميع طبقات المجتمع الآن بل كانت كذلك منذ العصور المتطاولة في زمن يكاد يكون فيه اختراع السكة والمحراث جديداً أي في العصر الذي كان الإنسان يسكن فيه المغاور. فقد عثروا في بعض الكهوف على أقراط وحلق وأساور. وترى النساء المتوحشات لا يبالين بالألم ويفادين بكل عزيز في سبيل تبرجهن فيضعن الوشم على أكثر أطراف أجسمهن تأثراً كالفم والصدر ويثقبن الآذان وأنوفهن وشفاههن ويدخلن في لثاتهن قطعة من الخشب ويقلعن أسنانهن ويضغطن على رؤوسهن لتكون مستطيلة ويصغرن أرجلهن تساوي في ذلك الشابات والعجائز وإنك لترى بنات الستين يذكرن أيام شبابهن ولا يقصرن في التبرج كما ترى الطفلة الصغيرة أول ما تفتح عينها عليه أنواع التبرج والزينة. ومن غريب ما شاهد في تبرج النساء أن امرأتين في إحدى مستشفيات المجاذيب توصلن إلى أن يضعن على وجهيهما الأبيض والأحمر مع أن يُحظر على المجذوبات كثيراً أن يُؤتى إليهن بشيء من الذرور البيض والعطور وغيرها من أدوات الزينة فأخذت إحداهن أو بعضهن ينحتن بأسنانهن كلس حيطان غرفهن وجمعنه فصبغن به وجوههن أبيض ناصعاً أما الحمرة فعمدت إحداهن إلى قميص وهو قميص المستشفى وكان فيه بعض خيوط حمر فأخذت تنسلها حتى أتت عليها ثم وضعتها في إناء وصبت عليها ماء فانحل صباغه فصبغت وجهها وقد توصلت إحدى مختلات الشعور إلى أن صنعت لنفسها مشداً من أسلاك الحديد تشد به خصرها فكانت تذنب مرات عمداً حتى تسجن في مكان بعيد عن رفيقاتها وراء حائط من أسلاك الحديد فتنسل كل مرة سلكاً حتى تجمع لها ما أرادت. وقد جرب بعضهم إدخال ثلاث أصناف من الألبسة إلى إحدى مستشفيات المجذوبات أعلى وأوسط وأدنى وقرر أن من كانت منهن حسنة السلوك تعطى الثوب الأعلى فما كان منهن كلهن إلا أن أحسن سلوكهن ليأخذن ثياباً من النمط الجديد.
النساء وإن يكن لا يرين في التبرج حرجاً عليهن إلا أنهن لا يردن أن يقال عنهن(28/71)
متبرجات ويتظاهرن بأنهن لا يصرفن في التبرج أوقاتاً كثيرة مع أن أكثر أوقاتهن تصرف في إعداد معدات التبرج وما شأنهن في ذلك إلا شأن أولئك الشعراء الذين يحذفون ويثبتون من قصائدهم عشرين مرة ثم يدعون أنهم ارتجلوها ارتجالاً. ولطالما تحمل النساء صنوف الأوجاع في سبيل ما يورثهن بهجة ويعددنه من آيات التبرج مثل أولئك الصينيات اللائي يضعن أرجلهن في قوالب خاصة ليصغر حجمها ولكن ذلك يورثهن أمراضاً وإصابات أقلها أنهن يمشين قفراً مشية الكركي الأشل. وكذلك النساء في شبه جزيرة ملقة فإنهن يرين من آيات الجمال أن يكون عنق المرأة طويلاً فصنعن لذلك كلابات يضعن فيها رؤوسهن ليورثن بذلك طولاً لأعناقهن حتى تصير كأعناق الزرافة. والنساء الزنجيات في غانية الجديدة وبريطانيا الجديدة في المحيط الكبير يقعلن أسنانهن ليظهرن أكثر جمالاً بزعمهن بل أن النساء في تونس يطعمن الأرز ليصبحن كالأوز السمين بحيث لا يستطعن الحركة وكذلك نساء الإفرنج يتحملن كل مشقة في سبيل وضع المشد على خصورهن. وعلى كثرة تحذير الأطباء لهن عاقبة ضغط المشد ما برح أكثر النساء يستعملنه ويصبن بأمراض الكبد وتشوه الجسم وأحياناً يفضي بهن إلى الموت وهن لا ينتهين بل يصبرن على آلام المشد صبر أيبوب على بلواه ويكدن لا يتنفسن طول ليلة بأسرها وهن مع الرجال في الأندية. كل هذا مما يستدل به على ضبط النساء لهواهن وقمعن أنفسهن.
وهذا استنتج بأن التبرج مطلوب للنساء وأنهن في حل مما يقمن به ولأأنهن كن قبل ستمائة سنة لا يقرأن ولا يكتبن في أوروبا ومع هذا كن يعنين بالتبرج ولهن فيه أساليب اخترعنها وتقلبن فيها بحسب الأزمان شأن النساء الموغلات إلى اليوم في التوحش من الأمم فإنك تراهن قد يغيرن أساليب التبرج وإن كانت آنيتهن وماعونهن وخرثيهن على الصورة الأصلية.
فالتبرج ضروري للاجتماع يورثه بهجة ونشأة ولولا النساء وتبرجهن ما تجلت لعينيك البيوت والقصور ذات بهجة فالنساء بتبرجهن يدخلن السرور على القلوب والنظام على الأماكن وإذا قارنت بين بيت لا نساء فيه يزدنه بهجة ويزينن غرفه ومقاعده وحوائطه وبين دير ليس فيه إلا الضروريات من لوازم الحياة تجد الفرق بين التبرج وعدمه وزينة النساء ونقيضها مثل الشمس ظاهراً فالتزين والتبرج مطلوبان على كل حال في حياتنا(28/72)
الاجتماعية ولها نفع عظيم لأن فيهما من اللذة وسعادة العيش الخضال.
مآكل العظماء ومشاربهم
بحثت المجلة الباريزية فيما يأكله العلماء والكتاب وارباب الفنون في إنكلترا فقالت أن من صفات الإنكليز والإيكوسيين والغاليين والإيرلانديين ممن تتألف منهم بريطانيا العظمى في الأكثر الثبات وتحمل شدة الهواء فيرون في الأغلب التنزه في الهواء الطلق من الواجبات الصحية مثال ذلك اللورد أفبوري المعروف باسم السير جون لوبوك فإن قوة جسمه ناشئة عن جمعه الرياضات الطبيعية والسياحة إلى الاعتدال والتقلل وقال إن سبب طول حياته عنايته بقواعد فن الحياة فيأكل مآكل بسيطة قليلة ويتناول شيئاً قليلاً من الكحول وأنه يكاد لا يتناولها ولا يدخن وهو مشهور بالسياسة والعلم يتعب كثيراً في أعماله وعمره أربع وسبعون سنة. وقال السير ويليام كروكس وهو من كبار العلماء الذين لا ينفكون عن البحث والدرس والتأليف والاختراع وهو الآن في الخامسة والسبعين من عمره أنه يأكل بسرور كل ما يستطيبه على المائدة ولكن باعتدال ويشرب الخمر ويدخن وكانت صحته في جميع أطوار حياته جيدة جداً. ومثله غي عدم الكلال من العمل فريدريك هاريسون العالم المؤرخ الفيلسوف وهو اليوم في السابعة والسبعين من عمره يقتصر مأكله على اللحم ولكنه مقل في تناوله كما يأكل البقول واللبن والبيض. قال وأرى أن سبب الهرم العاجل الذي يصيب الطبقة العالية الغنية هو ما يتناولونه من المآكل لا ما يتناولونه من المشارب من بلغوا سن السبعين يجب عليهم أن يقللوا كمية طعامهم إلى النصف مما كانوا يأكلونه في فتوتهم. وأول قاعدة في الصحة جربت عليها هي أن أخرج من المائدة بدون أن تكون قابليتي للطعام قد سكنت. وأنا مسلم من حيث تناول الشربة الروحية فلا أتناولها طول نهاري اللهم غلا في المساء فإني أتناول قدحاً أو قدحين من خمر ألمانيا الأبيض أو غيره ولكن لا على أنه يعين القوى الطبيعية أو العقلية. ولا يسعني إلا ن أمدح الاعتدال في تناول الشاي والقهوة في النهار لا في الليل أو المساء. وأنا لا أدخن وأمقت هذه العادة وأعدها مما يتقزز منه ويضر بالحاضرين. فالتدخين كاستعمال السعوط والسكر وحلف الأيمانات كلها من العادات الفاسدة الضارة. وأنا أعرف كثيراً من الناس أثرت في صحتهم عادة استعمال التدخين. أنا اليوم في السابعة والسبعين من عمري لم أمرض في حياتي منذ كنت في التاسعة وقد أصبت(28/73)
بالحميراء وما قط عزفت نفسي عن العمل والكتابة فأنا اليوم أقدم المفروض علي للمطابع من الكتابة بنشاط أكثر من نشاطي أيام حياتي الماضية وعندي أن طول حياتي كان لتقللي وعنايتي بالرياضة كل يوم في الهواء الطلق وربما صعدت الجبل إذا اتسع لي الوقت وما قط تعبت من العمل ولا عملت بدون سرور. وقال الكونت روبرتس وهو الآن في السادسة والسبعين خدم الجندية وقاسى الأهوال في حياته وأكل الخشب وشرب العكر وتعرض للملاريا والأمراض وحضر حصار المدن ومعاركة الأبطال ومع هذا فهو في أجود صحة: إن سبب طول حبل أجله ناشئ من أنه يدخن قليلاً أو لا يدخن وأنه يأكل ويشرب باعتدال. والسير ويليام ميكايل روزتي هو الآن في التاسعة والسبعين من عمره عالم وأديب سئل عن القواعد التي يراها لدوام الصحة فقال أن الاعتدال في مأكله ومشربه هو سبب صحته وقد اعتدت التدخين منذ صباي وأنا أعد مكثراً منه وأرى أنه يشوش علي الهضم في الأحايين ولكني لست مصاباً بسوء الهضم وقال السير شارل ستانلي وهو من كبار الممثلين والمغنين وعمره الآن 74 سنة أنه يأكل كل ما يشتهي ويشرب ويدخن كذلك لكن باعتدال. قال المستر جورج برنارشواف وهو في الثانية والخمسين من عمره خطيب كاتب أديب ناقد قصصي وهو ممن يركب الدراجات ويعاني السياحات والسباحات: إني لم أتناول اللحم منذ 27 سنة وإني لا أشرب الكحول وأرى أنها ضارة في أرباب الأقلام فهي ليست مقوية على العمل بل مخدرة وشاربها لا يُفتح عليه بالأفكار بل يضيع منها أما التدخين فلا أتعاطاه وأراه فقذراً. وترى العقيلة الين تري الممثلة وهي الآن في الستين ولكنها إذا ظهرت على محل التمثيل فلا تظن إلا أنها في السابعة عشرة من عمرها إن أحسن قاعدة للصحة أن يأكل الإنسان في أوقات معينة قالت حاولت أن أنقطع مرة عن اللحوم فضعف جسمي بعد شهر ثم حاولت مرة أن أمتنع عنها فلم أقدر فظهرت لي صحة ما يقال من أن ما ينفع واحداً قد يكون سماً لغيره ولا أتناول مشروباً على الطعام وأنا على ثقة من أن الماء أحسن شراب ولكني أشرب كمية قليلة من الخمر والويسكي على أنني أراهما أضر على الإنسان من طبيخه المملوء بالخرطوش في أيدي أناس لا يحسنون أن يضبطوا أنفسهم ولا أدخن وإن حاولت التدخين. وقال الأستاذ الفرد روسل والاس وهو من أبناء التسعين وخصيم داروين في مذهب النشوء اشتغل بمذهب الانتخاب الطبيعي والجغرافية الجيولوجية وبحث(28/74)
في المادة والصحة الاجتماعية والتنويم المغناطيبسي فقال أنه إلى السبعين من سنه كان يأكل كما يهوى وكان هضمه جيداً ثم ضعف هضمه فاضطر أن يغير نظام طعامه ويقلل من كميته فاتقى بذلك مرض الربو المزمن وكان لأول أمره يشرب المشروبات الروحية باعتدال وفي الخامسة والعشرين من عمره امتنع عنها كل الامتناع فجادت صحته وقال أن التجارب والنظر دلته على أن المرء إذا قرب أن يشيخ ينبغي له أن يمتنع عن الكحول كل الامتناع لأنها تضر به لا محالة وأن يقلل من الطعام وأنا أتناول الشاي والقهوة وأحسن أوقات عملي في الصباح والمساء بعد أن أتناول كأساً من الشاي ومدة صباي لم أدخن قرفت من التدخين لما رأيت من سوء أثره في المدخن.
نوم النباتات ويقظتها
يختلف ميعاد نوم النباتات بحسب أجناسها فاللبلاب الأحمر يفتح عند الغسق ونبات زهر الربيع يزهر في الشمس عند مغيبها وأزهار النوفر (عرائس النيل) تطبق زهرتها الملونة في آخر النهار وتغوص في الماء في الليل.
الثقاب في يابان
يشتغل في صنع الثقاب أو الكبريت في بلاد اليابان 130 ألف نسمة فتصدر اليابان منه ما قيمته ستة وعشرون مليوناً وربع مليون فرنك هذا مع أن المواد الأولية لصنعه لا توجد في يابان ومع تشدد اليابانيين في أن لا يوقدوا المصابيح التي يوقدونها لأجدادهم إلا من شعلة نار صافية ما برح استعمال الثقاب يزداد في الاستعمال بين اليابانيين.
الممثلون في أميركا
يشكو الممثلون في أوروبا من قلة أرباحهم بالنسبة للممثلين في أميركا فإن كاروزو يتناول خمسمائة ألف فرنك للتمثيل ثماني ليال وأكثر من مائتي ألف فرنك لأغان تغنى أمام آلة الغرامافون ومثل ذلك في الليالي الخاصة ثم أنه يأخذ في الأسبوع ربع مليون فرنك لنفقته الخاصة في الفندق والمطعم ويربح الممثل بادرفسكي في كل شتاء 625 ألفاً وكويليك نصف مليون وبالنظر لكثرة المتفرجين في أميركا ولغلاء أجور التمثيل فالليلة تربح في العالم الجديد عشرة أضعاف ما تربح في العالم القديم.
تفاحة هائلة(28/75)
عرف علماء النبات أكبر شجرة تفاح في العالم وهي في شسهير من ولاية كنتكتيت في أميركا الشمالية غلظتها خمسة أمتار وعلوها خمسة وعشرون متراً وعمرها مائتا سنة وهي تعطي اثنين وخمسين هيكتولتراً من الثمر في السنة وخمسة من أغصانها تعطي ثمراً سنة واحدة والثلاثة أغصان الباقية تعطي في السنة التالية إلا أن تفاحها صغير ويكاد يكون خالياً من الطعم.
سمن قديم
عثر أثنءا الحفر في إحدى المحافر في إيرلاندا على عدة أواق من السمن تبين بالفحص أنه قديم جداً ظاهره أبيض وكأن فيه حبوب وباطنه استحال كتلة شمعية وإن ما وجد ثمت من جلود البقر أزال كل شك في أن السمن أصلي لا شائبة فيه.
أطباء يابان
راجت صناعة الطب في يابان وأي رواج فبينا تجد في فرنسا وهي عش الأطباء خمسين طبيباً لكل مئة نسمة ترى في اليابان تسعين طبيباً لكل مئة ألف وقد زاد أطباء يابان في سنة 1907 وحدها 750 طبيباً.
وقف على العلم
وقف حسن بك زايد من سراة مصر زهاء خمسين فداناً من أجود أطيانه في المنوفية على مشروع الجامعة المصرية. وهذه الأطيان تساوي أحد عشر ألف جنيه بارك الله بمانحها وأكثر فينا من أمثاله.
هبة محمودة
تبرع أحد محسني الأجانب في مصر بخمسمائة جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية ولم يحب أن يذكر اسمه مثل الذي كان تبرع لها في السنة الماضية بخمسة آلاف جنيه ولم يحب أن يذكر اسمه.
مدرسة صناعية بالفيوم
نجز بناء مدرسة صناعية للبنين في الفيوم كلفت عشرة آلاف جنيه جمعها الأهلون ومنها ألف جنيه إعانة من الأوقاف ومدة الدراسة فيها ست سنين ثلاث للقسم العلمي وثلاث(28/76)
للصناعي والصنائع التي تعلم فيها النقش والتجارة والبرادة والخراطة والحدادة والسروجية وستدفع المعارف 850 جنيهاً إعانة سنوية لإدارتها ويدفع الأهلون 350 جنيهاً لهذا الغرض.
مناجم البترول
مناجم البترول كمناجم الفحم الحجري آخذة بالنضوب شيئاً فشيئاً فقد نزل معدل ما يستخرج من مناجم أبالاش وأوهيو وفيرجينيا والتكساس ولوزيانا في الولايات المتحدة كما قل معدله في غاليسيا في بلاد النمسا وكذلك الحال في القافقاس من بلاد الروسي فإن ما يستخرج منه نزل إلى ثلث ما كان يستخرج منه باديء بدء.
ألياف الخشب
أخذوا ينسجون من ألياف الخشب نسيجاً يقوم مقام القطن والكتان ويكلف أقل منهما في الثمن بل أقل من الحرير كما أخذوا ينسجون قماشاً أشبه بالصوف من بعض مواد يمزجونها بماء البحر.
الزرنيخ والحمى
أثبت أحد الأخصائيين من الأطباء أن الزرنيخ هو الدواء الوحيد الذي يقي من الحمى الصفراء فقال أن ألفي شخص في أورليان الجديدة استعملوا الزرنيخ سنة 1905 فنجوا كلهم من هذه الحمى الخبيثة وهم معرضون للعدوى من كل جانب.
مجهر جديد
اخترع مجهر (ميكروسكوب) جديد ترى فيه أدق الدقائق بحيث يكون الانتفاع به ضعفي المجهر الحالي فيه ترى كيف تكبر الجراثيم وكيف تسير العدوى وكيف يسري اللقاح في الجسم.
التصوير البارز
اخترع أحدهم طريقة للتصوير الشمسي البارز يقولون أنها ستكون داعية لتغيير التصوير ظهراً لبطن إلا أن الصور التي ترسم على هذا النحو لا تصور الطبيعة في منظرها الحقيقي كله.(28/77)
عداد جديد
كان باسكال أول من اخترع العداد وما زال المشتغلون فتوفرين على تحسينه وآخر عداد اخترع كان لمهندس روسي ظهرت فوائده العديدة لأنه يعد من الأرقام من عشرة إلى عشرين في وقت واحد ولا يحصل فيه خطأ ولا يتعب عقل المشتغل به.
القطط والكلاب
أخذت المحاجر الصحية منذ مدة تتوفر على إبادة الجرذان والفيران في السفن لأنه تبين أنها ناقلة لعدوى الأوبئة للبشر وقد انتبه أحد أطباء نيويورك إلى الضرار التي تلحق من القطط والكلاب بنقلها في وبرها بعض الجراثيم والديدان التي تجلب الضرر على الصحة وأورد على ذلك عدة أدلة منها أنه حدث سنة 1887 وباء كبير بين القطط في لندرا فكان القط يحمل إلى أخيه العدوى وبالتالي تسري إلى الأولاد الذين يلعبون مع تلك القطط وحدث في سنة 1901 أن الطاعون اشتد في الإسكندرية وما كانت جراثيمه تنتقل أولاً من ملاح إلى ملاح على الباخرة إلا بواسطة قط كانوا يدللونه ويحبونه. وترى بعض الأمم المتمدنة الآن أن تعدل عن حب القطط والكلاب حباً بالتوقي وحرصاً على الصحة وقد بدأن ألمانيا فحظرت دخول والكلاب والقطط إلى الصيدليات ويا حبذا لو حظر دخولها إلى المجازر والمخابز والصيدليات والمطاعم.
بطائح أميركا
ستوافق حكومة الولايات المتحدة على تجفيف البطائح في ولاياتها فيكون منها من الأرض القابلة للزراعة ما يكفي لإعالة اثني عشر مليوناً من النفوس على أن يكون لكل واحد منهم ستة عشر هكتاراً من الأرض وتساوي هذه الأطيان ملياراً من الجنيهات ويستلزم ذلك إنفاق عشرة ملايين فرنك.
حفظ المخطوطات
بعد أن احترقت مكتبة تورين في إيطاليا وذهبت فيها ألوف من المخطوطات النادرة أخذ أهل العلم في أوروبا وأميركا يفكرون في طريقة لحفظ المخطوطات لأنها تكون في الغالب غير متعددة فإذا وجد في إحدى المكاتب مخطو يعد في نظر العلماء كنزاً لأنه لا مثيل له(28/78)
وقد ارتأى بعضهم في نقل صورة من كل مخطوط نادر تطابق الأصل بشكلها وخطها إلا أن هذا العمل يحتاج إلى نفقات طائلة وتقدم المستر غولي إلى حكومة الولايات المتحدة مؤخراً أن يجعل مصفحات (كليشهات) المخطوطات وأمهات الطوابع والنقود في مكان واحد وأن يجعل منها مسودات (بروفات) يتناولها العلماء ويستعيرونها للاستفادة منها لقاء ثمن بخس والغالب أن مكاتب أوروبا تضطر بعد حين إلى الجري على هذه الطريقة لحفظ الكتب النادرة.
مرض جديد
اكتشف مرض في إفريقية جديد اسمه البالري ما يشبه النوام أي مرض النوم وهو عبارة عن نقاعيات تصيب الحيوانات كالخيل والكلاب والحمير والقطط والخنازير فيصاب الحيوان بنزلة في أنفه وأذنه فيضعف في الحال. ويشتد هذا المرض بالقرب من الأنهار بحيث لا يتيسر تربية هذه الحيوانات إلا على بعد خمسة عشر كيلومتراً من المياه ولم يجدوا له حتى الآن دواء.
سرعة البواخر
يتبارى كل من إنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة في سرعة البواخر والبوارج التي تنشئها كل واحدة منهن بحيث يتساءل العارفون قائلين: أما لهذه المباراة في السرعة من حد تقف عنده. أما زيادة السرعة فلا تتأتي إلى بزيادة القوة المحركة فإن قطع اثنتي عشرة عقدة وحمل ستة عشر ألف طن تقتضي قوة 4500 حصان وسرعة خمس عشرة عقدة تقتضي قوة 8700 حصان و20 عقدة يلزم لها 20000 و22 عقدة يقتضي لها 25000 وهكذا يزيد معدل الإنفاق زيادة هائلة.
آلة للكتابة
اخترع أحدهم آلة سماها الستينوتبيا وهي تنقل الكلام بدون استعمال إشارات الاختزال المعروفة وهذه الطريقة تلغي عدة آلات اخترعت من هذا القبيل لنقل الكلام فيقرأ الإنسان الكلام فيها بسرعة كأنه يقرأ إملاءً صحيحاً أو طبعاً حجرياً عادياً.
خسائر مصر(28/79)
فقدت مصر في الأشهر الثلاثة الأخيرة ثلاثة رجال كان لهم أثر مهم في الخطابة والكتابة والتأثير وهم إبراهيم بك اللقاني ومصطفى باشا كمال وقاسم بك أمين.
زوجان معمران
احتفل في إحدى قرى بلاد المجر بمرور مائة سنة على زواج رجل عمره الآن 126 سنة وامرأة عمرها 116 سنة وقد بلغ عدد أولادهما وأحفادهما وأحفاد أحفادهما 712 نفساً وهنأهما الإمبراطور فرنسيس يوسف بعيدهما المئوي.
الكلاب والكلب
أحصيت الكلاب في باريز وضاحيتها فكان عددها 163352 كلباً أصيب بالكب منها 30 عضت 308 أشخاص لم يمت منهم أحد وبذلك ثبت أن العضات البشرية تشفى بأقل سرعة مما تشفى عضة الكلاب.
أشجار أميركا
قدروا أنه لا تمضي خمسون سنة حتى لا يبقى في أميركا الشمالية صقع مشجر لأن المقطوع منها يربى على المغروس فمعدل النمو 23 ونصف في المئة ومعدل النقص 94 في المئة وبعد خمس وعشرين سنة يفنى الصنوبر الأصفر ذو الورق الطويل كل ذلك لما تقتضيه الصناعة هناك من الأخشاب.
الحمى التيفوئيدية
كان الأطباء يقولون أن إغلاء الماء قبل شربه خير وقاية من الحميات والأوبئة إلا أن أبحاث اللجنة الصحية في نيويورك أدت إلى أن الحمى التيفوئيدية فيها قد انتشرت في الناس بواسطة الذباب إذ ثبت أن ظهور الذباب يسبق انتشار هذه الحمى كل سنة بأيام قلائل وثبت لديها أن هذا المرض الخبيث يكثر حيث يكثر الذباب في المستودعات البحرية الكبرى وعلى الأرصفة ورأت بالمجهر (الميكروسكوب) على رجل كل ذبابة وفمها ألوفاً من الجراثيم الخبيثة فإذا زارت ذبابة وجهك أو طعامك ولو قليلاً تترك فيه أثراً لها وذكرى سيئة وتبقى جرثومة معدية تتبعها حمى مهلكة.
الجراد في أفريقية(28/80)
ذهب أحد الإنكليز في إفريقية الجنوبية إلى بعض الأماكن التي انتشر فيها الجراد انتشاراً هائلاً فعمي عليه طريقه ولم يعد يعرف أين يذهب وقد حسب الجراد الذي سقط على ساق شجرة واحدة فكان خمسمائة جرادة فإذا انتشر الجراد في قطر بهذه الكثرة لا ينقضي نصف نهار حتى يجرد جميع غلاتها وثمراتها ويجعل حاصلاتها وخيراتها أثراً بعد عين.
مدرسة للأمهات
أسس بعض أعيان الإنكليز وأطبائهم لجنة ناطوا بها تعليم الأمهات الفقيرات اللاتي لم يسعدهن الحظ أن يتعلمن في صغرهن ما ينفعهن في كبرهن. والتعليم الذي يعلمنه تعليم عملي يلقى عليهن خطباً تدور على تربية الأطفال وحفظ الصحة وتدبير المنزل وتفصيل ثياب أزواجهن بحيث تصلح ليلبسنها أبناؤهن ثم أن الآباء يذهبون أيضاً على تلك المدارس مرة في الأسبوع وتلقى عليهم دروس تنفعهم وتنفع ذويهم كالتي تلقى على أزواجهم وقد أسفرت هذه المدارس عن نفع عظيم في التربية وقللت من الوفيات بين الأطفال ويفكر رجال الإنكليز أن يكثروا من هذه المدارس في جميع أصقاع إنكلترا.
صحافة ألمانيا وأميركا
بلغت الصحافة في ألمانيا أرقى درجات الارتقاء ففيها بحسب إحصاء أخير 8668 جريدة ومجلة منها 2894 صحيفة تنشر باللغات الأجنبية وأقدم جريدة في ألمانيا هي جريدة فرانكفورت وأنشئت سنة 16145 وجريدة ماكوبورغ أنشئت سنة 1626. ويعجب المراقبون للحركة الاجتماعية اليوم من ارتقاء الصحافة الأسبوعية في الولايات المتحدة وهي الجرائد التي تصدر أيام الآحاد فإن ما تطبعه كل واحدة منها يختلف من نصف مليون نسخة إلى مليون وفي نيويورك وحدها من هذا الضرب من الجرائد 15 جريدة وفي فيلادلفيا 11 ومثلها في شيكاغو وهي من أحسن المجلات في الحقيقة لأنها تصدر في مئة صفحة وتحتوي على أربعين صفحة إعلانات والباقي مواد علمية واقتصادية واجتماعية وسياسية وأدبية وغيرها من كل ما يرقي العقل ويهدي السبيل.
محاكم الأطفال
تألفت في روسيا لجان لحماية الأطفال تقوم بوظيفة مستنطق وهي مؤلفة من أساتذة وقسس(28/81)
فإذا ارتكب طفل ذنباً تنظر في جرمه لتحقق فيما إذا كان ارتكبه عن جهل أو خبث فإذا رأته مسؤولاً عما جنت يداه تحيله إلى المحاكم وإذا كان ارتكب ما ارتكب بدون تمييز ترسله إلى الإصلاحية على أن حكومة ألمانيا تفكر في إنشاء محاكم نظامية للأطفال.
الكحول والجرائم
ثبت لأحد قضاة فرنسا أن الجرائم تزيد في أكثر مقاطعاتها على نسبة ازدياد المشروبات الروحية وأن معدل السن التي كانت ترتكب فيها الجرائم كان ثلاثين فأصبح اليوم عشرين سنة وأن عدد الانتحار يزيد وأن كثرة الجنون زادت زيادة هائلة فكان منذ خمسين سنة في فرنسا 33 مختل الشعور في كل مئة ألف ساكن فأصبح سنة 1905 يبلغ 142 بل بلغ في بعض المقاطعات 234 والسبب في ذلك أنه كان في فرنسا خمارة واحدة لكل 113 ساكناً سنة 1880 فأصبح هذه السنة خمارة لكل 78 شخصاً.(28/82)
العدد 29 - بتاريخ: 1 - 6 - 1908(/)
رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة ولي العهد
قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر في كتابه المنثور والمنظوم ومن الرسائل المفردات رسالة عبد الحميد بن يحيى إلى عبد الله بن مروان حين وجه لمحاربة الضحاك الخارجي في تعبية الحروب فإنه يقال أنها لا مثل لها في معناها:
أما بعد فإن أمير المؤمنين عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدو الله الجلف الجافي الأعرابي المتسكع في حيرة الجهالة وظلم الفتنة ومهاوي الهلكة ورعاعه الذين عاثوا في الأرض فساداً وانتهكوا حرمه لاستخفافاًُ وبدلوا نعم الله كفراً واستحلوا دماء أهل سلمه جهلاً أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك وعوام شؤونك ودخائل أحوالك ومضطر تنقلك عهداً يحملك فيه أدبه ويشرع لك عظته وإن كنت والحمد لله في دين الله وخلافته بحيث اصطنعك الله لولاية العهد مخصصاً لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك.
ولولا ما أمر الله به دالاً عليه بتقدمة المعرفة لمن كانوا أولي سابقة في (الدين) وخصيصي في العلم لاعتمد أمير المؤمنين منك على اصطناع الله إياك بما يراك أهله في محلك من أمير المؤمنين وسبقك إلى رغائب أخلاقه وانتزاعك محمود شيمه واستيلائك على تشابه تدبيره.
ولو كان المؤدبون أخذوا العلم من عند أنفسهم ولقنوه إلهاماً من تلقائهم ولم يتعلموا شيئاً من عند غيرهم لنحلناهم علم الغيب ووضعناهم بمنزلة خالقهم المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيته وفردانيته في إلاهيته واحتجاجاً منهم لتعقب في حكمخ وتثبت في سلطانه وتنفيذ إرادته على سابق مشيئته ولكن العالم الموفق للخير المخصوص بالفضل المحبو بمزية العلم ادركه معاداً عليه بلطيف بحثه وإذالال كنفه وصحة فهمه وهجر سآمته.
وقد تقدم أمير المؤمنين إليك آخذاُ بالحجة عليك مؤدياً حق الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقك وما ينظر الوالد المعني الشفيق لولده. وأمير المؤمنين يرجو أن ينزهك الله عن كل شيء قبيح يهش له طمع وأن يعصمك عن كل مكروه حاق بأحد وأن يحصنك من كل آفة استولت على أمريء في دين أو خلق وأن يبلغه فيك أحسن ما لم يزل يعوده ويريه من آثار نعمة سامية بك إلى ذروة الشرف ومنجحة لك ببسطة الكرم لائحة بك في أزهر معالي الأدب. والله استخلف عليك وأسأله حياطتك وأن يعصمك من زيغ الهوى ويحضرك دواعي التوفيق معاناً على الإرشاد فيه فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو.(29/1)
اعلم أن للحكمة مسالك تقضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكاً وركب خيارها قاصداً إلى سعة عاقبتها وأمن سرحها وشرف عزها وأنعها لا تعاف بسخف الخفة ولا تنسى بتقريظ الغفلة ولا يتعدى فيها بأمن حد وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها من غير تعب البحث في إدراكها ولا متطاول المنال لذراتها بل تأثلت منها أكرم معانيها واستخلصت منها أعتق جواهرها ثم شمرت إلى لباب مصاصها وأحرزت منفس ذخائرها فأقعدها ما أحرزت ونافس فيما أصبت.
واعلم أن احتوائك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع أمورك مؤثراً لها واصطبارك على طاعته وإعظام ما أنعم به عليك شاكراً لها مرتبطاً للمزيد بحسن الحياطة له والذب عنه أن تدخلك منه سآمة ملال أو غفلة أو ضياع أو سنة تهاون أو جهالة معرفة فإذ ذلك أحق ما بديء به ونظر فيه معتمداً عليه من القوة والآلة والانفراد من الصحاب والحلمة فتمسك به لاجئاً إليه واعتمد عليه مؤثراً له والتجيء إلى كنهه متحرزاً به أنه أبلغ ما طلب به رضا الله وأنجحه مسألة وأجزله ثواباً وأعوده سعياً وأعمه صلاحاً وأرشدك الله لحظك وفهمك وسداده وأخذ بقلبك على محموده.
ثم اجعل لله في كل صباح ينعم عليك ببلوغه ويظهر منك السلامة في إشراقة من نفسك نصيباً تجعله لله شكراً على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة وعافية بدن وسبوغ نعمٍ وظهور كرامة وأن تقرأ من كتاب الله عز وجل جزءاً تردد رأيك في أدبه وتزين لفظك بقراءته ويحضره عقلك ناظراً في محكمه وتفهمه متفكراً في متشابهه فإن فيه شفاء القلوب من أمراضها وجلاء وساوس الشيطان وسفاسفه وضياء معالم النور تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ثم تعهد نفسك لمجاهدة هواك فإنه مغلاق الحسنات ومفتاح السيئات.
واعلم أن كل أعدائك لك عدو يحاول هلكتك ويعترض غفلتك لأنها خدع إبليس وحبائل مكره ومصائد مكيدته فاحذرها مجانباً وتوقها محترساً منها واستعذ بالله من شرها وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لا ونية فيه وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره عليك وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه ومضاءة صارمة لا أناة معها ونية صحيحة لا خلجة شك فيها فإن ذلك ظهري صدق لك على ردها وقطعها دون ما تتطلع إليه منك وهي واقية لك سخطة ربك داعية لك رضا العامة ساترة عليك عيب من دونك فازدن به ملتحفاً وأصب(29/2)
بأخلاقك مواضعها الحميدة منها وتوق عليها التي تقطعك عن بلوغها وتقصر بك عن ساميها فحاول بلوغ غايته محرزاً لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع محصناً لأعمالك من العجب فإنه رأس الهوى وأول الغواية ومقاد الهلكة حارساً أخلاقك من الآفات المتصلة بمساويء العادات وذميم إيثارها من حيث أتت الغفلة وانتشر الضياع ودخل الوهن فتوق الآفات على عقلك فإن شواهد الحق ستظهر بإماراتها تصديق رأيك عند ذوي النهى وحال الرأي وفحص النظر. فاجتلب لنفسك محمود الذكر وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين متحرزاً من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلة ثقتك بمحكمها.
ومنها أن تملك أمورك بالقصد وتصون سرك بالكتمان وتداري جندك بالإنصاف وتذلل نفسك للعدل وتحصن عيوبك بتقويم أودك. وأناتك فوقها الملال وفوت العمل ومصابك فدرعها رؤية النظر واكتنفها بأناة الحلم وخلواتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة وصمتك فأنف عنه عيّ اللفظ وخف عليه سوء القالة واستماعك فأرعه حسن التفهم وقوه بإشهاد الفكر وعطاءك فانهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب وتحرز فيه من السرف وحياءك فامنعه من الخجل وحلمك فزعه عن التهاون وأحضر قوة الشكيمة وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط وتعمد بها أهل الاستحقاق. وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق وخذ به واجب المفترض وأقم به أود الدين. واستئناسك فامنع منه الذاءة وسوء المنافثة وتعهدك أمورك فخذه أوقاتاً وقدّره ساعات لا يستفرغ قوتك ويستدعي سآمتك. وعزمتك فأنف عنها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام. وفرحاتك فاشكمها عن البطر وقيدها عن الزهو وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستسلام الخضوع وحذارتك (فاصرفها) عن الجبن واعمد بها لمحزم ورجاءك فقيده بخوف الفائت وامنعه من أمن الطلب.
هذه جوامع دخائل النقص منها واصل إلى العقل بلطائف الله وتصاريف حوله فأحكمها عارفاً وتقدم في الحفظ لها معتزماً على الأخذ بمراشدها والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله.
ثم ليكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك ودخلاؤك في سرك أهل الفقه والورع من أهل بيتك وعامة قوادك ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور وخبطته فاصلها بين قرائن البزل وقلبته الأمور في فنونها وركب أطوارها عارفاً بمحاسن الأمور ومواضع الرأي مأمون(29/3)
النصيحة مطوي الضمير على الطاعة.
ثم أحضر من نفسك وقاراً تستدعي منهم بك الهيبة واستئناساً يعطف إليك منهم بالمودة وإنصافاً يغل أقاصيهم عما تكره أن ينتشر عنك من سخافة الرأي ويقطعك دون الفكر.
وتعلم إن خلوت بسر فألقيت دونه ستورك وأغلقت عليه أبوابك فذلك لا محالة مكشوف للعامة ظاهر عنك وإن استترت بما ولعل وما أرى إذاعة ذلك. فاعلم بما يرون من حالات من ينقطع به من تلك المواطن فتقدم في أحكام ذلك من نفسك وسد خلله عنك فإنه ليس حد أسرع غليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت فيه من دين الله والأمل المرجو المنتظر. وإياك أن يغمز فيك أحد من عامتك وبطانة خدمك بضعفة يجد بها مساغاً إلى النطق عندك بما لا يعتزلك عيبه ولا تخلو من لائمته ولا تأمن سوء القالة فيه إن نجم ظاهراً وعلن بادياً ولن يجترؤا على تلك عندك إلا أن يروا منك إصغاء إليها وقبولاً لها وترخيصاً بها.
ثم إياك أن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يستخف بها أهل البطالة ويتسرع نحوها ذوو الجهالة ويجد فيها أهل الحسد مقالاً لعيب يرفعونه ولطعن في حق يجحدونه مع ما في ذلك من نقس الرأي ودرن العرض وهدم الشرف وتأثيل الغفلة وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم كمون النار في الحجر الصلد فإذا قدح لاح شرره ولهب في وميضه ووقد تضرمه. وليست في أحد أقوى سطوة وأظهر توقداً أو أعلى كموناً وأسرع إليه بالعيب منها إلى من كان في سنك من إغفال الرجال وذوي العنفوان في الحداثة الذين لم يقع عليهم سمات الأمور ناطقاً عليهم لائحها ظاهراً عليهم وسمها ولم تمحضهم شهامتها مظهرة للعامة فضلهم مذيعة حسن الذكر عنهم ولم يبلغ بهم الصمت في الحركة مستمعات يدفعون به عن أنفسهم نواطق السن أهل البغي ومواد إبصار أهل الحسد.
ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة من أقطار الذرع ونخوة التيه فإنها تسرع بهم إلى فساد رأيهم وتهجين عقولهم في مواطن جمة منها قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة. فمن مقلقل شخصه يكثر الالتفات تزدهيه الخفة ويبطره إجلاب الرجال حوله ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمصاحبة له(29/4)
والتضاحك إليه والإيجاف في السير مهمرجاً وتحريك الجوارح مستسرعاً يخال له أن ذلك أسرع له وأخف لمطيته فلتحسن في ذلك هيئتك ولتجمل فيه رعيتك وليقل على مسائلك إقبالك إلا وأنت مطرق للنظر غير ملتفت إلى محدث ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته ولا مخف في السير تقلقل جوراحك بالتحريك. فإن حسن مسايرة الوالي وابتداعه في تلك من حالة دليل على كثير من غيوب أمره ومستتر أحواله.
واعلم أن أقواماً سيسرعون إليك بالسعاية ويأتونك من قبل النصيحة ويستميلونك بإظهار الشفقة ويستدعونك بالإغراء والشبهة ويوطئونك عشوة الحيرة ليجعلوك لهم ذرعة إلى استئكال العامة بموضعهم منك في القبول منهم والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة ولا معروف بتهمة ولا منسوب إلى بدعة فيعرضك لابتداع في دينك ويحملك على رعيتك ما لا حقيقة فيه ويحملك على إعراض قوم لا علم لك يدخلهم إلا بما قدم به عليهم ساعياً وأظهر لك منهم متنصحاً.
ليكن صاحبك شرطك ومن أحببت أن يتولى ذلك من قوادك إليه انتهاء ذلك وهو المنصوب لأولئك والمستمع لأقاويلهم والفاحص عن نصائحهم ثم لينه ذلك إليك على ما يرتفع إليه من تأمره بأمرك فيه وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامة فإن كان صواباً () حظوته وإن كان خطأ أقدم به جاهل أو فرطة يسعى بها كاذب فنالت الباغي منها أو المظلوم عقوبة وبدر من واليك إليه نكال لم يعصب ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تقريضه وخلوت من موضع الذم فيه.
فافهم ذلك وتقدم إلى من تولى فلا يقدم على شيء ناظراً فيه ولا يحال أخذ أحد طارقاً له ولا يعاقب أحداً منكلاً به ولا يخل سبيلاً أحد صافحاً عنه لإظهار براءته وصحة طريقته حتى يرفع إليك أمره وينهي إليك قضيته على جهة الصدق ومنحى الحق.
فإن رأيت عليه سبيلاً لمحبس أو مجازاً لعقوبة أمرته ذلك من غير إدخال له عليك ولا مشافهة منك له فكان المتولي لذلك ولم يجر على يدك مكروه ولا غلظ عقوبة وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلاً وكان مما قرف به خلياً كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله والصفح عنه بإطلاق أسره فتوليت أجر ذلك وذخره ونطق لسانه بشكرك فقرنت خصلتين ثواب الله في الآخرة ومحمود ذكره في العاجلة.(29/5)
ثم إياك وأن يصل إليك أحد منن جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك أو حاجة يبدهك بطلبها حتى يرفعها قبل إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له فيعرضها عليك منهياً لها على جهة صدقها ويكون على معرفة من قدرها فإن أردت إسعافه ونجاح ما سئل منها أذنت له في طلبها باسطاً له كنفك مقبلاً عليه بوجهك مع ظهور سرور منك بما سألك بفسحة رأي وبسطة ذرع وطيب نفس. وإن كرهت قضاء حاجته وأجبت رده عن طلبته وثقل عليك إسعافه أمرت كاتبك فصفحه عنها ومنعه من مواجهتك بها فخفت عليك في ذلك المؤونة وحسن لك الذكر وحمل على كاتبك لائمة أنت منها بريء الساحة.
وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك وعلم ما قدم له عليك وجهة ما هو مكلمك وقدر ما هو سائلك إياه إذا هو وصل إليك فأصدرت رأيك في جوابه وأجلت فكرك في أمره وأنفذت مصدر رويتك في مرجوع مسألته قبل ما دخوله عليك وعلمه بوصول حاله إليك فرفعت عنه مؤونة البديهة وأرخيت على نفسك خناق الروية فأقدمه على رد جوابه بعد النظر والفكرة فإن دخل عليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك دفعته عنك دفعاً جميلاً ومنعته جوابك منعاً ودفعاً ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة ومنعه من الوصول إليك فإن ضبطك ذلك مما يحكم لك تلك الأشياء صارفاً عنك مؤونتها إن شاء الله.
احذر تضييع رأيك وإهمال أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما وإياك فلا يزدهينك إفراط عجب تستخفك روائعه ويستهويك منظره ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه وإن حل بك أو حادث وإن طرأ عليك. وليكن لك من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى وتستعهده في مهم نازل وتتعقب به أمورك في التدبير فإن احتجت إلى مادة من عقلك وروية من فكرك أو انبساط من منطقك كان انحيازك إلى ظهريك مزداداً مما أحببت الامتيار منه وإن استدبرت من أمورك بوادر لمهل أو مضي زلل أو معاندة حق أو خطأ تدبير كان ما احتجنت من رأيك عذراً لك عند نفسك وظهري قوة على رد ما كرهت وتخفيفاً لمؤونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر وحصناً من غلوب الآفات على أخلاقك إن شاء الله.(29/6)
وامنع أهل بطانتك وخاص خدمك وعامة رعيتك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة والتقرب إليك بالسعاية والإغراء من بعض ببعض والنميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة. فإنه ابلغ سمواً إلى منال الشرف وأعون لك على محمود الذكر وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمة وقوة التدبير.
واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانقهاق وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله فإن ذلك ضعف في سورة الجهل وخروج من انتحال اسم الفضل.
وليكن ضحكك تبسماً أو كبراً في أحايين ذلك وأوقاته وعند كل مرأى ملهي ومستخف مطرب وقطوبك إطراقاً في موضع ذلك وأحواله بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة دون أن يكنفها روية الحلم وتملك عليها بادرة الجهل.
إذا كنت في مجلس ملاك وحضور العامة مجلسك فإياك والرمي ببصرك إلى خاص من قوادك أو ذي أثرة من حشمك. وليكن نظرك مقسوماً في الجميع وإعارتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة ووقار حسن وحضور فهم مستجمع وقلة تضجر بالمحدث ثم لا يبرح وجهك إلى بعض قوادك وحرسك متوجهاًَ بنظر ركين وتفقد محض فإن وجه أحد منهم نظره محدثاً أو رماك ببصرك ملحاً فاخفض عنه إطراقاً جميلاً بإبداع وسكون. وإياك والتسرع في الإطراق والخفة في تصاريف النظر والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقاً بنظره.
واعلم أن تصفحك وجوه قوادك من قوة التدبير وشهامة القلب فتفقد ذلك عارفاً بمن حضرك وغاب عنك عالماً بمواضعهم في مجلسك ثم أعد بهم عن ذلك سائلاًُ عن أشغالهم التي منعتهم من حضورك وعاقتهم بالتخلف عنك إن شاء الله.
إن كان أحد أعوانك وحشمك تثق منه بغيب ضميره وتعرف منه لين طاعة وتشرف منه على صحة رأي وتأمنه على مشورتك فإياك والإقبال عليه في حادث يرد أو التوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك أو أن تريه أو أحداً من مجلسك أن بك إليه حاجة موحشة وإن ليس بك عنه غنى في التدبير أو أنك لا تقضي دونه رأياً إشراكاً له في رويتك وإدخالاً له في مشورتك واضطراراً إلى رأيه فإن ذلك من دخائل العيوب المنتشر بها سوء القالة عن(29/7)
نظرائك وأنفها عن نفسك خائفاً لإغفالها ذكرك واحجبها عن رؤيتك قاطعاً أطماع أولئك عن مثلها عندك أو غلبتهم عليك منك.
واعلم أن للمشورة موضع الخلل وانفراد النظر فابغها محرزاً لها ورمها طالباً لبيانها وإياك والقصور عن غايتها والإفرط في طلبها.
احذر الاعتزام بكثرة السؤال عن حديث إما أعجبك أو أمر إما ازدهاك والقطع لحديث من أرادك بحديثه حتى تنقضه عليه بالأخذ في غيره أو المسألة عما ليس منه فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة لمساوئها وأنصت لمحدثك وأرعه سمعك حتى يعلم أنك قد فهمت عهنه وأحطت معرفة بقوله فإن أردت إجابته فعن معرفة حالة وبعد علم بطلبته وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعلل من حديثه بالتبسم والإغضاء فأجرى عنك الجواب وقطع عنك ألسن العتب.
إياك وأن يظهر منك تبرم بمجلسك وتضجر بمن حضرك وعليك بالتثبت عند سورة الغضب وحمية الأنف وملال الصبر في الأمر تستعجل به العمل تأمر بإنفاذه فإن ذلك سخف سائر وخفة مريدي وجهالة بادية. وعليك بثبوت المنطق ووقار المجلس وسكون الريح والرفض لحشو الكلام وترديد فضوله والاعتزام بالزيادات في منطقك والترديد للفظك من نحو اسمع أو اعجل أو ألا ترى أو ما يلهج به من هذه الفصول المقصرة بأهل العقل المنسوبة إليهم بالعي المردية لهم في الذكر. وخصال من معايب الملوك والسوقة عيبها. عن النظر إلا من عرفها من أهل الأدب وقلما حامل لها مضطلع بثقلها أخذ لنفسه بجوامعها فأنفها عن نفسك بالتحفظ منها واملك عنها اعتقادك معنياً بها كثرة التنخم والتبزق والتنحنح والتثاؤب والجشاء والتمطي وتنقيض الأصابع وتحريكها والعبث باللحية والشارب والمخصرة وذؤابة السيف والإيماض بالنظر والإشارة بالطرف إلى أحد من خدمك بأمر إن أردته والسرار في مجلسك والاستعجال في طعمك وشربك.
ليكن مطعمك مبتدعاً وشربك أنفاساً وجرعك مصاً وإياك والتسرع في الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور أو الشتيمة باين الهيبة أو العمرية لأحد من خدمك وخاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بمحضرك أو في دارك وبنائك فإن ذلك مما يقبح ذكره ويسوء موقع القول فيه ويحمل عليك معايبه وينالك شينه وينشر عنك سوء نبأه فاعرف ذلك متوقياً له واحذر(29/8)
مجانباً لسوء عاقبته.
استكثر من فوائد الخير فإنها تنشر المحمدة وتقيل العثرة واصطبر على الغيظ فإنه يورث العز ويؤمن الساحة. وتعهد العامة بمعرفة دخلهم وبنظر أحوالهم واستثارة دفائتهم حتى يكون على مرأى العين ويقين الخبرة فتنعش عديمهم وتجبر كسيرهم وتقيم أودهم وتعلم جاهلهم وتستصلح فاسدهم فإن ذلك من فعلك يورثك العزة ويقدمك في الفضل ويبقى لك لسان صدق في العامة ويحرز لك ثواب الآخرة ويرد عليك عواطفهم المستنفرة وقلوبهم المستجنة عنك. (وميز) بين منازل أهل الفل في الدين والحجى والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله والجمود عنه تناها (؟) بأهل الحسب والنظر نصيحة لهم تنال مودة الجميع وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل وتبلغ درج الشرف في الأحوال المتصرفة بك فاعتمد عليهم مستدخلاً لهم وآثرهم بمجالستك مستمعاً منهم وإياك وتضييعهم مفرطاً لهم وإهمالهم مضيعاً.
هذه جوامع من خصال قد لخصها لك أمير المؤمنين وجمع شواهدها مؤلفاً وأهداها لك مراشد تقف عند أوامرها وتنتهي عند زواجرها وتثبت في مجامعها وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الردى وتنل أنفس الحظوظ ومزية الشرف وأعلى درج الذكر وأنه يسأل لك أمير المؤمنين حسن الرشاد وتتابع المزيد وبلوغ الأمل وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها وعافية يحلك أكنافها ونعمة يلهمك شكرها فإنه الموفق للخير والمعين على الإرشاد وبه تمام الصالحات وهو مؤتي الحسنات عنده مفاتيح الخير وبيده الملك وهو على كل شيء قدير.
فإذا قضيت نحو عدوك واعتزمت على لقائهم وأخذت أهبة قتالهم فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها وثقتك التي تأمل النجاة بها وركنك الذي ترتجي به منال الظفر وتكتهف به لمغالق الحذر تقوي الله عز وجل مستشعراً له بمراقبته والاعتصام بطاعته متبعاً لأمره والاجتناب لمساخطه محتذياً سنته والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده وتعدي شرائعه متوكلاً عليه فيما صمدت له واثقاً بنصره فيما وجهت نحوه متبرئاً من الحول والقول فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز راغباً فيما أهاب بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد ورمى بك إليه من محمود الصبر عند الله عز وجل من قتال عدو الله للمسلمين أكلبهم عليهم وأظهرهم عداوة(29/9)
لهم وأفدحهم ثقلاً لعامتهم وأخذة بربقهم وأعلاه عليهم بغياً وأظهره فيهم فسقاً وجوراً على فيئهم الذي أصاره الله لهم مؤونة.
ثم خذ من معك من جندك بكف معرتهم ورد مستعلي جورهم وإحكام خللهم وضم منتشر قواصيهم ولم شعث أطرافهم وخذهم بمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة (وعفة) الطعمة ودعة الوقار وهدي الدعة وجمام (النفس) محكماً ذلك منهم متفقداً الهم فيه تفقدك إياه من نفسك.
ثم اصمد بعدوك المتسمي بالإسلام خارجاً من جماعة أهله المنتحل ولاية الدين مستحلاً لدماء أوليائه طاعناً عليهم راغباً عن سنتهم مفارقاً لشرائعهم يبغيهم الغوائل وينصب لهم المكايد أضرم حقداً عليهم وارصد عداوة لهم من الترك وأمم الشرك وطواغي الملل يدعو إلى المعصية والفرقة والمروق من الدين إلى الفتنة مخترعاً بهواه إلى الأديان المنتحلة والبدع المتفرقة خساراً وتخسيراً وضلالاً وإضلالاً بغير هدى من الله ولا بيان ساء ما كسبت يداه وما الله بظلام للعبيد وبئس ما سولت له نفسه الأمارة بالسوء والله من ورائه بالمرصاد وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
حض جندك واشكم نفسك في مجاهدة أعداء الله وارج نصره وتنجز موعده متقدماً في طلب ثوابه على جهادهم معتزماً في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم فإن طاعتك إياه فيهم ومراقبتك له ورجاءك لنصره مسهل لك وعوده وعاصمك من كل سيئة ومنجيك من كل هوة وناعشك من كل صرعة ومقيك من كل كبوة وداريء عنك كل شبهة ومذهب عنك لطخة كل شك ومقويك بكل أيد ومكيدة ومؤيدك في كل مجمع لقاء وحافظك من كل شبهة مردية والله وليك وولي أمير المؤمنين فيك.
اعلم أن الظفر ظفران أحدهما أعم منفعة وأبلغ من حسن الذكر قالة وأحوطه سلامة وأتمه عافية وأعوده عاقبة وأحسن في الأمور مورداً وأصحه في الرواية حزماً وأسهله عند العامة مصدراً ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة ويمن النقية بغير إخطار الجيوش في وقدة جمرة الحرب ومنازلة الفرسان في معترك الموت وإن ساعدك (الحظ) ونالك مزية السعادة في الشرف ففي مخاطرة التلف ومكروه المصائب وعضاض السيوف وألم الجراح وقصاص الحروب وسجالها بمعاورة أبطالها على أنك لا تدري لأي الفريقين(29/10)
الظفر في البديهة من المغلوب في الدولة ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص فحاول أبلغهما في سلامة جندك ورعيتك وأشهرهما. . . في بادء رأيك واجمعهما لألفة وليك وعدوك وأعونهما على صلاح رعيتك وأهل ملتك وأقواهما في حربك وأبعدهما من وصم عزمك وأجزلهما ثواباً عندك. وابدأ بالأعذار والدعاء لهم إلى مراجعة الطاعة وأمر الجماعة وعرى الألفة آخذاً بالحجة عليهم متقدماً بالإنذار لهم باسطاً أمانك لمن لجأ غليه منهم داعياً لهم إليه بألين لطفك وألطف حيلتك متعطفاً عليهم برأفتك مترفقاً بهم في دعائك مشفقاً عليهم في غلبة الغواية لهم وإحاطة الهلكة بهم منفذاً رسلك إليهم بعد الإنذار تعدهم كل رغبة يهش إليها طمعهم في موافقة الحق وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم من تبعهم موطناً نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بوعدك والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عهدك قابلاً توبة نازعهم عن الضلالة ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة مرصداً للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوتهم إليه وبصرته من حقك وطاعتك بفضل المنزلة وإكرام المثوى وتشريف الحال ليظهر من أثرك عليه وإحسانك إليه ما يرغب من مثله لصارف عنك المصر على خلافك ومعصيتك ويدعو إلا الاعتلاق بحبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام به عاجلاً أو أنجى لك له من العقاب آجلاً وأحوط على دينه ومهجته بدءاً وعاقبة فإن ذلك يستدعي نصر الله عز وجل به عليهم وتعتصم به في تقدمة الحجة إليهم معذراً ومنذراً إن شاء الله.
ثم اذك عيونك إلى عدوك متطلعاً لعلم أحوالهم التي ينتقلون فيها ومنازلهم التي هم بها ومطامعهم التي مدوا بها أعناقهم نحوها. وأي الأمور أدعى لهم إلى الصلح وأقودها لرضاهم إلى العافية ومن أي الوجوه ما أتاهم من قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإبعاد والترغيب والإطماع مستناً في أمرك متخيراً في رويتك متمكناً من رأيك مستشيراً لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم التجربة ونجذتهم الحروب متسرباً في حربك آخذاً بالحزم في سوء الظن معداً للحذر محترساً من الغرة كأنك منزل كله ومنازلك جمع واقف لعدوك رأي عين تنظر حملاتهم وتخوف غاراتهم معداً أقوى مكيدتك وأجد تشميرك وأرهب عتادك معظماً لأمر عدوك لأكثرهما. . . بفرط تبعة له (؟) من الاحتراس عظيماً من المكيدة قوياً من غير أن يفثأك عن إحكام أمورك وتدبير رأيك وإصدار رويتك والتأهب(29/11)
لحربك مصغ له بعد استشعار الحذر واطمئنان الحزم وإعمال الروية وإعداد الأهبة فإن لقيت عدوك كليل الحد ونم النجوم نضيض الوفر (؟) لم يضررك ما أعددت له من قوة وأخذت به من حزم ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه وتسرعاً على لقائه وإن ألفيته متوقد الجمر مستكشف التبع قوي الجمع مستعلي سورة الجهل معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعراً ويتقدم إلى لقاء أبطالها متسرعاً كنت لأخذك بالحزم واستعدادك بالقوة غير مهين الجند ولا مفرط في الرأي ولا متلهف على إضاعة تدبير ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهب مبادرة تدهشك وخوفاً يقلقك ومتى تعزم على ترقيق التوقير وتأخذ بالهوينا في أمر عدوك لتصغر المصغرين ينتشر عليك رأيك ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك وإهمال الحزم في جندك وتضييع له وهو ممكن الإصحار رحب المطلب قوي العصمة فسيح المضطرب مع ما يدخل رعيتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أسرارهم وضبط مراكزهم لما يرون من استنامتك إلى الغرة وركونك إلى الأمن وتهاونك بالتدبير فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف وضياع الأحكام ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره ولا يدفع مخوفه.
احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوك وإياك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتهمته فيه أو سؤت ظناً عليه وأتاك غيره بخلافه وأن تكذبه فيه وترده عليه أن يكوم من محضك النصيحة وصدقك الخبر وكذبك الأول أو خرج جاسوسك الأول متقدماً قبل وصول هذا من عند عدوك. ولقد أبرموا أمراً وحاولوا لك مكيدة وازدادوا منك غرة وإن دفعوا إليك في الأمر ثم انتفض بهم رأيهم واختلف عنه جماعتهم فازدادوا رأياً وأحدثوا مكيدة وأظهروا قوة وضربوا موعداً وأموا مسلكاً لعدد أتاهم أو قوة حدثت لهم أو بصيرة في ضلالة شغلتهم فالأحوال منتقلة بهم في الساعات وطوارق الحادثات ولكن ألبسهم جميعاً على الانتصاح وأرجح لهم المطامع فإنك لم تستعيبدهم بمثله. وعدهم جزالة المثاوب في غير ما استنامة منك إلى أمر عدوك والاغترار بما لم يأتوك به دون أن تعمل رويتك في الأخذ بالحزم والاستكثار من العدة واجعلهم أوثق من يقدر عليه إن استطعت ذلك وآمن من تسكن إلى ناحيته ليكون ما يبرم عدوك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت فتنقض عليهم بتدبيرك ورأيك ما لم يرموا وتأتيهم من حيث أقدموا وتستعد لهم بمثل ما حذروا.(29/12)
واعلم أن جواسيسك وعيونك ربما صدقوك وربما غشوك وربما كانوا لك وعليك فنصحوا لك وغشوا عدوك ونصحوا عدوك وكثير مما يصدقونك ويصدقونه فلا يبدرن منك فرطة في عقوبة إلى أحد منهم ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتهمته على ذلك وابسط من آمالهم فيك من غير أن تري أحداً منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتبع له أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه أو رددته عليه رد المكذب له والمتهم المستخف بما أتاك منه فتفسد بذلك نصيحته وتستعدي غشه وتجتر عداوته.
احذر أن يعرف جواسيسك في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرك ويكون هو الموجه لهم والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم واعلم أن لعدوك في عسكرك عيوناً راصدة وجواسيس كامنة وأن رأيه في مكيدتك مثل ما تكايده به وسيحتال لك كاحتيالك له ويعد لك كاعتدادك له فاحذر أن يشعر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوك ويعرف موضعه فيعد له المراصد ويحتال له المكايد فإن ظفر لبه وأظهر عقوبته كسر ذلك ثقات عيونك وحوله عن تطلب الأخبار من معادنها واستقصائها من عيونها حتى يصيروا إلى أخذها عن عُرض من غير الثقة ولا معاينة لغطائها (؟) بالأخبار الكاذبة والأحاديث المرجفة.
واحذر ان يعرف بعض عيونك بعضاً فإنك لا تأمن تواطئهم عليك وممالأتهم عدوك واجتماعهم على غشك وكذبك وأن يورط بعضهم بعضاً عند عدوك واحكم أمرهم فإنهم رأس مكيدتك وقوام تدبيرك وعليهم مدار حربك وهو أول ظفرك فاعمل على حسب ذلك وجنب (؟) رجاءك به نيل أملك من عدوك وقوتك على قتالهم وانتهاز فرصته إن شاء الله فإذا أحكمت ذلك وتقدمت فيه واستظهرت بالله وعونه فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك وآمنهم نصيحة وأقدمهم بصثيرة في طاعتك وأقواهم شكيمة في أمرك وأمضاهم صريمة وأصدقهم عفافاً وأجرأهم (جناناً) وأكفاهم أمانة وأصحهم ضميراً وأرضاهم صبراً وأحمدهم خلقاً وأعطفهم على جماعتهم رأفة وأحسنهم لهم نظراً وأشدهم في دين الله وحقه صلابة ثم فوض إليه مقوياً وابسط من أمله مظهراً عنه الرضا حامداً منه الابتلاء.
وليكن عالماً بمراكز الجنود بصيراً بتقديم المنازل مجرباً ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة(29/13)
له نباهة في الذكر وصيت في الولاية معروف البيت مشهور الحسب وتقدم إليه في ضبط معسكرك وإذكاء الحراسة في آناء ليلة ونهاره ثم حذره أن يكون له أذن لجنوده في الانتشار والاضطراب والتقدم للطائفة فيصاب منهم غرة يجترئ بها عدوك ويسرع إقداماً عليك ويكسر من أفئدة جنودك ويوهن من قوتهم فإن إصابة عدوك الرجل الواحد من جندك وعبيدك مطمع لهم منك مقوٍ لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك وتوهينهم تدبيرك فحذره ذلك وتقدم إليه فيه ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم والحصر لهم فيعمهم أزله ويشملهم ضنكه يسوء عليه حالهم وتشتد به المؤونة عليهم وتخبث له ظنونهم. وليكن (موضع) إنزاله إياهم مستديراً ضاماً جامعاً. ولا يكون منتشراً ممتداً فيشق ذلك على أصحاب الأحراس ويكون فيه النهزة للعدو والبعد من المادة إن طرق طارق في فجاآت الليل وبغتاته. وأوعز إليه في أحراسه ومره فليول عليهم رجلاً ركيناً مجرباً جريء الأقدام ذكي الصرامة جلد الجوارح بصيراً بموضع أحراسه غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهة والسعة وتقدم العسكر والتأخر عنه فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك وأمنه به على جيشه.
واعلم أن موضع الأحراس من موضعك ومكانها من جندك بحيث الغناء عنهم والرد عليهم والحفظ لهم والكلاءة لمن بغتهم طارقاً وأرادهم مخاتلاً ومراصدها المنسل منها الآبق من أرقائهم وأعبدهم وحفظ العيون والجواسيس من عدوهم (؟) واحذر أن يضرب على يديه أو يشكمه على الصرامة لمواصرتك في كل أمر حادث وطارق إلا في الملم لالنازل والحدث العام فإنك إذا فعلت ذلك به دعوته إلى نصحك واستوليت على محض ضميره في طاعتك واجهد نفسيه في تربيتك وإغاثتك وكان ثقتك وزينك وقوتك ودعامتك وتفرغت لمكايدة عدوك مريحاً نفسك من عم ذلك والعناية به ملق عنك مؤونة باهظة وسلفة فادحة إن شاء الله.
ثم اعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيئاً من الأحكام ولا يمثله أحد من الولاة لما يجري على يديه من مغالظ الأحكام ومجاري الحدود فليكن من توليه القضاء بين أهل العسكر من ذوي الخير والقناعة والعفاف والنزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع والبصر بوجوه القضايا ومواقعها قد حنكته السن وأيدته التجربة وأحكمته الأمور ممن لا(29/14)
يتصنع للولاية ويستعد للنهزة ويجتريء على المحاباة في الحكم والمداهنة في القضاء عدل الأمانة عفيف الطعمة حسن الإنصات فهم القلب ورع الضمير متخشع السمت هادي الوقار محتسباً للخير ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه وفرغه لما حملتهوأعنه على ما وليته فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وثواب الآخرة أو شرف العاجلة وحظوة الآجلة إن حسنت نيته وصدقت رويته وصحت سريرته وسلط حكم الله على رعيته منفذاً قضاءه في خلقه عاملاً بسنته في شرائعه آخذاً بحدوده وفرائضه.
واعلم أنه من جندك ومعسكرك بحيث ولايتك وفي الموضع الجارية أحكامه عليهم النافذة أقضيته بينهم فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه إن شاء الله.
ثم تقدم في طلائعك فإنها أول مكيدتك ورأس حربك ودعامة أمرك فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالاً ذوي نجدة وبأس وصرامة وخبرة وحماة كفاة قد صلوا بالحرب وتذاوقوا سجالها وشربوا من مرارة كؤوسها وتجرعوا غصص درتها وزينتهم بتكرارها وحملتهم على أصعب مراكبها ثم اتبعهم على عينك واعرض كراعهم بنفسك وتوخ في انتقالهم مهور الجلد وسجاحة الخلق وجمال الآلة وإياك أن تقبل من دوابهم إلا إناث الخيول مهلوبة فإنها أسرع طلباً وأنجى مهرباً وأبعد في اللحوق غاية وأصبر في معترك الأبطال إقداماً ونجذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد شاكة السنخ متقاربة الحلق متلاحمة المسامير وأسوق الحديد مموهة الركب محكمة الطبع خفيفة الصوغ وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي رقاق المعطف بأكف واقية وعمل محكم ويلق البيض مذهبة ومجردة فارسية الصوغ خالصة الجوهر سابغة الملبس وافية اللين مستديرة الطبع مبهمة السرد وافية الوزن كتريك النعام في الصنعة معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ فإنها أهيب لعدوهم وأفت لأعضاد من لقيهم والمعلم مخشي محذور له بديهة وادعة معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات مسنونة الشحذ غير كليلة المشحذ مشطبة الضرائب معتدلة الجواهر صافية الصفائح لم يدخلها وهن الطبع ولا عابها أمت الصوغ ولا شانها خفة الوزن ولا فدح حاملها بهور الثقل وقد أشرعو لدن القنا طوال الهوادي زرق الأسنة مستوية الثعالب وميضها متوقد وشحذها متلهب معاقص عقدها منحوتة ووصم أودها مقوم. أجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة. وعقدها حنكة شطبة الأسنان محكمة الجلاء مموهة الأطراف(29/15)
مستحدة الجنبات دقاق الأطراف ليس فيها التواء أود. ولا أمت وصم. ولا لها سقط عيب. ولا عنها وقوع أمنية مستحقب كنائن النبل وقسي الشوحط والنبع أعرابية التعقيب رومية النصول فإنها أبلغ في الغاية وأنفذ في الدروع وأشك في الحديد سامطين حقائبهم على متون خيولهم مستخفين من الآلة والأمتعة إلا ما لا غناء بهم عنه.
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم إلى أحد من أعوانك أو كتابك فإنك إن وكلته إليهم أضعت موضع الحرم وفرطت حيث الرأي ووقفت دون الحزم ودخل عملك ضياع الوهن وخلص إليك عيب المحاباة. وناله فساد المداهنة وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين. ولا عدة ولا حصناً يدرؤون به ويكتنفون بموضعه.
واعلم أن الطلائع عيون وحصون للمسلمين فهم أول مكيدتك وعروة أمرك وزمام حربك فليكن اعتناؤك بهم بحيث هم من مهم عملك ومكيدة حربك ثم انتخب لهم رجلاً للولاية عليهم بعيد الصوت مشهور الفضل نبيه الذكر له في العدو وقعات معروفات وأيام طوال وصولات متقدمات قد عرفت نكايته وحذرت شوكته وهيب صوته وتنكب لقاؤه أمين السريرة ناصح الغيب قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته من لين طباعه وخالص المودة ونكاية الصرامة وغلوب الشهامة واستجماع القوة وحصافة التدبير ثم تقدم إليه في حسن سياستهم واستنزال طاعتهم واجتلاب موداتهم واستعداد (؟) ضمائرهم وأجر عليهم أرزاقاً نسعهم وتمد من أطماعهم سوى أرزاقهم في العامة وفي ذلك من القوة لك عليهم والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهم الأماكن لك وأعظمها غناء عنك وعمن معك وأقمعها كمناً (؟) وأشجى لعدوك ومتى يكون في البأس والثقة والجلد والطاعة والقوة والنصيحة حيث وصفت لك وأمرتك به تضع عنك مؤونة الهم وترخي عن خناقك دروع الخوف وتلتجيء إلى أمر متين وظهر قوي وأمر حازم تأمن به فجاآت عدوك ويصير إليك علم أحوالهم ومتقدمات خيولهم فانتخبهم رأي عين وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علامتك (؟) وحصانة كهوفك وقوة سيارة عسكرك وإياك أن تدخل فيهم أحداً بشفاعة أو تحتمله على هوادة أو تقدمه منهم لآثرة وأن يكون مع أحد منهم بغل نقل أو فضل من الظهر أو ثقل فادح فيشتد عليهم مؤونة أنفسهم ويدخلهم(29/16)
كلال السآمة فيسما يعالجون من أثقالهم ويشتغلون به عن عدوهم لإإن دهمهم منه رائع أو فاجأهم لهم طليعة. فتفقد ذلك محكماً له وتقدم فيه آخذاً بالحزم في إمضائه. أرشدك الله لإصابة الحظ ووفقك ليمن التدبير
ولِّ دراجة عسكرك وأخراج أهلها إلى مصافهم ومراكزهم رجلاً من أهل بيوتات الشرف محمود الخبرة معروف النجدة ذا سن وتجربة لين الطاعة قديم النصيحة مأمون السريرة له بصيرة في الحق تقدمه ونية صادقة عن الإدهان تحجزه وأضمم إليه عدة من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه ثم تقدم إليه في إخراج المصاف وإقامة الأحراس وإذكاء العيون وحفظ الأطراف وشدة الحذر ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم كل قائد بإزاء موضعه وحيث منزله قد شد ما بينه وبين صاحبه بالرماح شارعة والتراس موضونة والبرجال راصدة ذاكية الأحراس وجلة الروع خائفة طوارق العدو وبيانه ثم مره أن يخرج كل ليلة قائداً من أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيراً على غلوة أو غلوتين من عسكرك محيطاً بمنزلك ذاكية أحراسه قلقة التردد مفرطة الحذر ومعدة للروع متأهبة للقتال آخذة على أطراف العسكر ونواحيه متفرقين في أخلافهم كردوساً كردوساً يستقبل بعضهم بعضاً في الاختلاف ويكسع متقدماً في التردد فاجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوباً معروفة وحصصاً مفروضة لا يعد منه مزدلفاً بمودة ولا يتحامل على أحد فيه بموجدة إن شاء الله.
فوض إلى أمراء جندك وقوادهم أمور أصحابهم والأخذ على أيديهم رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم والأتباع لأمرهم والوقوف عند نهيهم وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها والأعمال التي استنجدتهم لها والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم واحذر اعتلال أحد من قوادك عليك بما يحول بينك وبين جندك وتقويمهم لطاعتك وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم فإن ذلك مفسدة للمجند معيّ للقواد عن الجد والمناصحة والتقدم في الأحكام.
واعلم أن استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمرهم دخول الضياع على أعمالك واستخفاف بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي وأوعز إلى القواد أن لا يتقدم أحد منهم على عقوبة أحد من صحابة إلا عقوبة تأديب وتقويم ميل وتثقيف أود فإما عقوبة تبلغ تلف(29/17)
المهجة وإقامة الحد في قطع أو إفراط في ضرب أو اخذ مال او عقوبة في سفر فلا يلين ذلك من جندك أحد غيرك أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك ومتى لم تذلل الجند لقوادهم وتضرعهم لأمرائهم يوجب عليك لهم الحجة بتضييع (؟) وإن كان منهم لأمرك خلل إن تهاونوا به من عملك أو عجز إن فرط منهم في شيء وكلتهم إليه أو أسندته إليهم ولم تجد إلى الإقدام عليهم باللوم وعض العقوبة مجازاً تصل به إلى تعنيفهم بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم وإفسادك إياهم عليهم فانظر في ذلك محكماً وتقدم فيه تقدماً بليغاً وإياك أن يدخل حزمك وهن أو عزمك إمارا (؟) من رأيك ضياع. والله أستودع ديناً في نفسك.
إذا كان من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر وكان من عسكرك مقترباً قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته فتأهب أهبة المناجزة وأعد إعداد الحذر وكتب خيولك وعبّ جنودك وإياك والمسير إلا مقدمة وميمة وميسرة وساقة قد شهروا بالأسلحة وشنروا البنود والأعلام وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال واستعدوا للقاء ملحين إلى مواقفهم عارفين بمواضعهم من مسيرهم ومعسكرهم.
وليكن ترجلهم وتنزلهم على رايات وأعلامهم ومراكزهم وعرّف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة لازمين لها غير مخلين بما استنجدتهم له ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه حتى يكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ومسافة تختارها كأنه عسكر واحد في اجتماعها على العدة وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها ونزولها على مراكزها ومعرفتها بمواضعها إن أضلت دابة موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها وفي أي المحل حلوله منها فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها. فإن تقدمك في ذلك وأحكامك له إطراح عن جندك مؤونة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة. ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذاً ورضا في العامة وإنصافاً من نفسه للرعية وأخذاً بالحق في المعدلة مستشعراً تقوى الله وطاعته آخذاً بهديك وأدبك واقفاً عند أمرك ونهيك معتزماً على مناصحتك وتزيينك نظيراً لك في الحال وشبيهاً بك في الشرف وعديلاً في المواضع ومقارباً في الصيت ثم اكشف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر وأعنه بالأموال واغمره بالسلاح ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ومن رخفت به دابته وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة من غير أن تأذن(29/18)
لأحد منهم في التنحي عن عسكره أو التخلف بعد ترجله إلا المجهود أو المطروق بآفة ثم تقدم إليه محذراً ومره زاجراً وأنهه مغلظاً بالشدة على من مرَّ به منصرفاً عن معسكرك من جندك بغير جوارك شاداً لهم أسراً وموقرهم حديداً ومعاقبهم موجعاً أو موجههم إليك فتنهكم عقوبة وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة.
واعلم أنه لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقاً بنصيحته عارفاً ببصيرته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه وصرامة تؤمنك مهانته ونفاذاً في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته لم آمن تسلل الجند عنك لواذاً ورفضهم مراكزهم وإخلالهم بمواضعهم وتخلفهم عن أعمالهم آمنين تغيير ذلك عليهم والشدة على من اخترمه منهم ما. . . ذلك في وهنك وأخذ من قوتك وقلل من كثرتك.
اجعل خلف ساقتك رجلاً من وجوعه قوادك جليداً ماضيا عنيفاً صارماً شهم الرأي شديد الحذر شكيم القوة غير مداهن في عقوبة ولا مهين في قوة في خمسين فارساً من خيلك تحشر إليك جندك ويلحق بك من يتخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم والنهك لهم والتنكيل بهم وليكن لعقوبتك في المنزل الذي ترتحل عنه والمنهل الذي تتقوض منه مفرطاً في النقض والتبع لمن تخلف عنك مشيداً في أهل المنهل وساكنه بالتقدم موعزاً إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم وإخراجهم من مكانهم وإبعاد العقوبة الموجعة والنكال المنيل في الأشعار وإصفاء الأموال وهدم العقار لمن أوى منهم أحدهم أو ستر موضعه وأخفى محله وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد والمحاباة لذي قرابة والاختصاص بذلك لذي أثرة أو هوادة.
وليكن فرسانه منتخبين في القوة معروفين بالنجدة عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وحب الاستحثاث (؟) متقلدين سيوفهم سامطين كنائنهم مستعدين لهييج إن بدههم أو كمين إن يظهر لهم وإياك أن تقبل في دوابهم إلا فرساً قوياً أو برزوناً وثبجاً فإن ذلك من أقوى القوة لهم وأعون الظهير على عدوهم إن شاء الله.
ليكن رحيلك أباناً واحداً ووقتاً معلوماً لتخف المؤونة بذلك على جندك ويعلموا أوان الرحيل فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم وتسكن أفئدتهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه ويطمئن دوو (الحاجات) أبان الرحيل ومتى يكون رحيلك مختلفاً تعظم المؤونة(29/19)
عليك وعلى جندك ويخلوا بمراكزهم ولا يزال ذوو السفه والنزق يترحلون بالأرجاف وينزلون بالتوهم حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.
إياك أن تنادي برحيل من منزل تكون فيه حتى يأمر صاحب تعبيتك بالوقوف على معسكرك أخذاً بفوهو جنبتيه بأسيلحتهم عدة لأمر إن حضر ومفاجأة من طليعة للعدو إن اراد نهزة أو لمحت عندكم غرة. ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة وأهبتك معدة وجنتك وافية حتى إذا استقللتم من معسكركم وتوجهتم من منزلكم سرتم على تعبيتكم بسكون ريح وهدوء وحملة وحسن دعة.
فإذا انتهتيم إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر فيه فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأن تعرف لك أحواله أو يسير علم دفينه ويستبطن أموره ثم ينهيها إليك وما صارت إليه لتعلم كيف احتمال عسكرك وكيف مأواه وأعلامه وكيف موضع عسكرك منه وهل لك إذا أردت مقاماً به أو مطاولة عدوك ومكايدته فيه قوة تحملك ومدد يأتيه فإنك إن لم تفعل ذلك لم تأمن أن يهجم على منزل يزعجك منه ضيق مكانه وقلة مياهه وانقطاع مواده إن اردت بعدوك مكيدة واحتجت من أمرهم إلى مطاولة فإن ارتحلت منه كنت غرضاً لعدوك ولم تجد إلى المحاربة والإخطار سبيلاً. وإن أقمت به أقمت على مشقة حصر في أزل وضيق فاعرف ذلك وتقدم فيه.
فإذا أردت نزولاً أمرت صاحب الخيل التي رحلت الناس فوقف متنحية من معسكرك عدة لأمر إن راعك ومفزعاً لبديهة إن راعتك قد أمنت بإذن الله وحوله فجأة عدوك وعرفت موقعها من حربك حتى يأخذ الناس منازلهم وتوضع الأثقال مواضعها ويأتيك خبر طلائعك وتخرج دباباتك من عسكرك دباباً محيطين بعسكرك وعدة لك إن احتجن إليهم. وليكن دباب جندك بعسكرك أهل جلد وقوة قائداً أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم في كل ليلة ويوم نوباً بينهم فإذا غربت الشمسي وجب نورها اخرج إليهم صاحب تعبيتك أبداً لهم عسساً بالليل في أقرب من مواضع دباب النهار ويتعاور ذلك قوادك جميعاً بلا محاباة لأحد منهم فيه ولا إدهان إن شاء الله.
إياك أن يكون منزلك إلا في خندق أو حصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدته. إذا وضعت الثقال وخططت أبنية أهل العسكر لم يمد خباء ولم ينتصب بناء(29/20)
حتى يقطع لكل قائد ذرع معلوم من الرض بقدر أصحابه فيحتفروه عليهم (ويبنون) بعد ذلك خنادق الحسك طارحين لها دون أشجار الرماح ونصب الترسة لها بابان وقد وكلت بعد بحفظ كل باب منهما رجلاً من قوادك في مائة رجل من أصحابه فإذا فرغ من الخندق كان ذلك القائدان أهلاً لذلك المركز (ومو) ضع تلك الخيل وكانوا هم البوابين والأحراس لذينك الموضعين نداً إلى (؟) الرفاهة والسعة وتقدم العسكر أو التأخر عنه فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى نمن ولاه ذلك وأمنه بد على جيشه.
واعلم أنك إذا أمنت بإذن الله طوارق عدوك وبغتاتهم فإذا رموا ذلك منك كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالجد فيه وتقدمت في الإعداد له ورتقت مخوف الفتق منه إن شاء الله.
إذا ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعاً في. . . حذراً معداً مشمراً عن ساقك مسرياً لحربك قد قدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفت لك. . التي قدرت لك وطلائعك حيث أمرتك وجندك حيث عبأت قد خطرت عليهم بنفسك وتقدم إلى جندك إن (طرق) طارق أو فاجأهم عدو ألا يتكلم أحد منهم رافعاً صوته بالتكبير مستغفراً (؟) في أجلاب معلناً للإرهاب إلا أهل الناحية (التي) يقع بها العدو طارقاً وليشرعوا رماحهم مادين لها في وجوههم ويرشقهم بالنبل ملبدين ترستهم لازمين لمراكزهم. . . قدم عن موضعها ولا منحازين إلى غير مركزين وليكبروا ثلاث تكبيرات متوليات وسائر الجند هادون. . . عدوك من معسكرهم فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطك ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد وتدس لهم النشاب والرماح وإياك أن يشهروا سيفاً يتجالدون به وتقدم إليهم فلا يكون قتالهم بالليل في تلك المواضع من طرقهم إلا بالرماح مسندين غليها صدورهم والنشاب راشقين به وجوههم قد ألبدوا بالترسة وساتجنوا بالبيض وألقوا عليهم سوابغ الدروع وحباب الحشو فإن صد العدو عنهم حاملين على ناحية أخرى كبر أهل تلك الناحية الأولى وبقية العسكر سكوت والناحية التي صدر عنها العدو لازمة لمراكزها فعلت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم وإياك أن تخمد نار رواقك وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعراً لها وأوقدها حطباً جزلاً يعرف بها أهل العسكر مكانك وموضع رواقك ويسكن نافر قلوبهم ويقوى واهن قوتهم ويشتد منخذل ظهورهم ولا يرجفون فيك بالظنون ويجيلون لك آراء السوء وذلك من فعلك رد عدوك بغيظه ولم يستقل منك بظفر(29/21)
ولم يبلغ من نكايتك سروراً إن شاء الله.
فإن اتنصرف عنك عدوك ونكل عن الإصابة من جندك وكان بخيلك قوة على طلبه أو كانت لك خيل معدة وكتيبة منتخبة قدرت أن تركب بهم أكتافهم وتحملهم على سننهم فاتبعهم جريد خيل عليها لاثقات من فرسانك وأولوا النجدة ن حماتك فإنك ترهق عدوك وقد أمن بيتك وشغل بكلاله عن التحرز منك والأخذ بابواب معسكره والضبط لمحارسه موهنة حملتهم لغبة أبطالهم لما ألفوكم عليه من التشمير والجد وقد عقر الله فيهم وأصاب منهم وجرح من مقاتلتهم وكسر في أماني ضلالتهم ورد من مستعلي جماحهم. وتقدم إلى من توجه في طلبهم وتتبعه (أن يكونوا و) هم في سكون الريح وقلة الرفت وكثرة التسبيح والتهليل واستنصار الله عز وجل بقلوبهم وألسنتهم سراً وجهراًُ فلا لجب ضجة ولا ارتفاع ضوضاء دون أن يردوا على مطلبهم وينتهزوا فرصهم ثم يشهروا السلاح وينضوا السيوف فإن لها هيبة رائعة وبديهة مخوفة لا يقوم لها في بهمة الليل إلا البطل المحارب وذو البصيرة المحامي يستميت المقاتل وقليل ما هم عند تلك المواضع إن شاء الله.
ليكن أول ما تقدم به في التهيؤ لعدوك والاستعداد للقائه انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجد والصرامة ممن قد (اعتا) د طراد الكماة وكشر عن ناجذة الحرب وقام على ساق في منازلة الأقران ثقف الفراسة مستجمع القوة مستحصد المريرة صبوراً على أهوال الليل عارفاً بمظاهر الفرص لم تمهنه الحنكة ضعفاً ولا أبلغت به السن ملالاً ولا أسكرته غرة الحداثة جهلاً ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفاً جريئاً على مخاطرة التلف متقدماً على أدراع الموت مكابراً لمرهوب الهول متقحماً مخشي الحتوف خاتئضاً عمرات المهالك برأي يؤيده الحزم ونية لا يخلجها الشك وأهواء مجتمعة وقلوب موقنة عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين ثم أعرضهم رأي عين على كراعهم واسلحتهم ولتكن دوابهم أناث عتاق الخيول وأسلحتهم سوابغ الدروع وكمال آلة المحارب متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجواهر وصافي الحديد والمتخيرة من معادن الأجناس هندية الحديد أو بدنية يمانية الطبع رقاق المضارب مستوية الشحذ مشطبة الضريبة ملبدين بالترسة الفارسية صينية التعقيب معلمة المقابض بحلق الحديد أنحاؤها مربعة ومحارزها بالتجليد مضاعفة ومحملها مستخف وكنائن النبل(29/22)
وجعاب القسي قد استحقبوها وقسي الشريان والنبع أعرابية الصنعة مختلفة الأجناس محكمة العمل ونصول النبل مسمومة وتركيبها عرافي وترييشها بدوي مختلفة الصوغ في الطبع شتى الأعمال في التشطيب والاستزادة ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض منبسطة السنة سهلة الانعطاف مقربة الإنحناء ممكنة المرمى واسعة الأسهم فرضها سهلة الورود معاطفها غير معنون (؟) المواتاة.
ثم ولِّ على كل مائة رجل منهم رجلاً من هل خاصتك وثقاتك ونصائحك وتقدم إليهم في ضبطهم وكف. . . واستنزل نصائحهم واستعداد طاعتهم واستخلاص ضمائرهم وتعهد كراعهم وأسلحتهم معفياً لهم من النوائب التي تلزم أهل العسكر وعامة جندك ثم اجعلهم عدة لأمر إن فاجأك أو طارق بيتك. ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة وحذرهم فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك فليكونوا كرجل واحد في التشهير والتردف وسرعة الإجابة فإنك عنيت أن لا تجد عند جماعة جندك مثل تلك الروعة والمباغتة إن احتجت إلى ذلك منهم معونة كافية ولا أهبة معدة بل ذلك كذلك فاذكرها ولي الذين نبحث (؟) عدتك وقوتك ثقوباً قد قطعتها على القواد الذين وليتهم أمورهم فسميت أولاً وثانياً وثاتلثاً ورابعاً وخامساً إلى عشرة فإن اكتفيت فيما يبدهك ويطرقك لبعث واحد كان معداً لم تحتج فيه إلى امتحانهم في ساعتهم تلك وقطع البعث عليهم عندما يرهقك وإن احتجت إلى اثنين وثلاث وجهت منهم إرادتك إن شاء الله.
وكل بخزائنك ودواوينك رجلاً أميناً صالحاً ذا ورع ودين فاضل واجعل معه خيلاً يكون مسيرها ومنزلها وترحلها مع خزائنك وتقدم إليه في حفظها والتوفر عليها واتهام من يستولي على شيء منها على إضاعته والتهاون به والشدة على من دنا منها في مسير أوضامها في منزل. وليكن عامة الجند والجيش إلا من استصلحت للمسير معها متنحين عنها مجانبين لها فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل حفزظ لها وذب عنها أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها حتى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير وإنما همتهم الشر فإياك وأن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع أو يجدوا إلى اغتيالها ومررته (؟) إن شاء الله.(29/23)
اعلم أن أحسن مكيدتك أثراً في العامة وأبعدها صوتاً في حسن القالة ما نلت فيه الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة فلتكن رويتك في ذلك وحرصك على إصابته لا بالقتال وأخطار التلف. وادسس إلى عدوك وكاتب رؤوسهم وقادتهم وعدهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراب وضع عنهم الأحن واقطع أعناقهم بالمطامع واملأ قلوبهم بالترهيب وإن أمكنتك منهم الدوائر وأصار بهم إليك الرواجع وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتباً كأنها جوابات كتب لهم إليك وتكتب على ألسنتهم كتباً إليك يدفعها إليهم ويحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده منزلة التهمة فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم وتشتيت جماعتهم واحش قلوبهم سوء الظن من واليهم فيوحشهم منه خوفهم إياه على انفسهم إذا يقنوا بأنهامناياهم فإن بسط يده بقتلهم وأولغ في دمائهم سيفه واسرع في الوثوب بهم أشعرهم جميعاً الخوف وشملهم الرعب ودعاهم إليك الهرب وتهافتوا نحوك بالنصيحة وإن كان متأنياً محتملاً رجوت أن تستميل إليك بعضهم وتستدعي بالطمع ذوي الشر منهم وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم إن شاء الله.
إذا تدانى الصفان وتوقف الجمعان واحتضرت الحرب فعبأت أصحابك لقتال عدوهم فأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله والتوكل على اللته والتفويض إليه ومسألته توفيقك وإرشادك وأن يعزم لك على لارشد والعصمة الكالئة والحيطة الشاملة.
ومر جندك بالصمت وقلة التلفت إلى المشار ليه وكثرة التكبير في أنفسهم والتسبيح بضمائرهم وألا يظهروا تكبيراً غلا في الكرات والحملات وعند كل زلفة يزدلفونها فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن. وليكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل. اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي واكفنا شوكته المستحدة وأيدنا بملائكتك الغاليين واعصمنا بعونك من الفشل والعجز يا أرحم الراحمين.
وليكن في عسكرك مكبرون بالليل والنهار قبل المواقعة يطوفون عليهم يحضونهم على القتال ويحرضونهم على عدوهم ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم ويذكرونهم الجنة ورخاء أهلها وسكانها ويقولون اذكروا الله يذكركم واستنصروه ينصركم. وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبية جندك ووضعهم من راياتك ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو(29/24)
سن وتجربة ونجدة على التعبية وأمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابه هذا إن شاء الله أيدك الله بالنصر وغلب لك على القوة وأعانك على الرشد وعصمك من الزيغ وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشهداء ومنازل الأصفياء والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ومن الرسائل المفردات في الشطرنج رسالة عبد الحميد
أما بعد فإن الله شرع دينه بإنهاج سبله وإيضاح معالمه وإظهار فرائضه وبعث رسله على خلقه دلالة لهم على ربوبيته واحتجاجاً عليهم برسالاته ومقدماً إليهم بإنذاره ووعيده ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة ثم ختم بنبيه صلى الله عليه وحيه وقفى به رسله وابتعثه لإحياء دينه الدارس مرتضياً له على حين انطمست له الأعلام مختفية وتشتت السبل متفرقة وعفة آثار الدين دراسة وسطع رهج الفتن واعتلى قتام الظلم واستنهد الشرك وأسدف الكفر وظهر أولياء الشيطان لطموس الأعلام ونطق زعيم الباطل بسكتة الحق واستطرق الجور واستنكح الصدوف عن الحق واقمطر سلهب الفتنة واستضرم لقاحها وطبقت الأرض ظلمة كفر وغيابه فساد فصدع بالحق مأموراً وبلغ الرسالة معصوماً ونصح الإسلام وأهله دالاً لهم على المراشد وقائداً لهم إلى الهداية ومنيراً لهم سبل الغواية زاجراً لهم عن طريق الضلالة محذراً لهم الهلكة موعزاً إليهم في التقدمة ضارباً لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخضون وما غليه يسارعون ويطلبون صابراً نفسه على الأذى والتكذيب داعياً لهم بالترغيب والترهيب حريصاً عليهم متحنناً على كافتهم عزيزاً عليه عنتهم رؤوفاً بهم رحيماً تقدمه شفقته عليهم وعنايته يرشدهم إلى تجريد الطلب إلى ربه فيما بقاء النعمة عليهم وسلامة أديانهم وتخفيف أواصر الأوزار عنهم حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه ناصحاً متنصحاً أميناً مأموناً قد بلغ الرسالة وأدى النصيحة وقام بالحق وعدَّل عمود الدين حين اعتدل ميله وأذل الشرك وأهله وأنجز الله له وعده واراه صدق أسبابه في إكماله للمسلمين دينه واستقامة سنته فيهم وظهور شرائعه عليهم قد أبان لهم موبقات الأعمال ومفظعات الذنوب ومهبطات الأوزار وظلم الشبهات وما يدعو إليه نقصان الأديان وتستهويهم به الغوايات وأوضح لهم أعلام الحق ومنازل المراشد وطرق الهدى وأبواب النجاة ومعالق العصمة غير مدخر لهم نصحاً ولا مبتغ في إرشادهم غنماً.
فكان مما قدم إليهم فيه نهيه وأعلمهم سوء عاقبته وحذرهم أصره وأوعز إليهم ناهياً وواعظاً(29/25)
وزاجراً الاعتكاف على هذه التماثيل من الشطرنج والمواصلة عليها لما في ذلك من عظيم الإثم وموبق الوزر مع مشغلتها عن طلب المعاش وإضرارها بالعقول ومنعها من حضور الصلوات في مواقيتها مع جميع المسلمين وقد بلغ أمير المؤمنين أن ناساً ممن قبلك من أهل الإسلام قد ألهجهم الشيطان بها وجمعهم عليها وألف بينهم فيها فهم معتكفون عليها من لدن صبحهم إلى ممساهم ملهية لهم عن الصلوات شاغلة لهم عما أمروا به من القيام بسنن دينهم وافترض عليهم من شرائع أعمالهم مع مداعبتهم فيها وسوء لفظهم عليها وإن ذلك من فعلهم ظاهر في الأندية والمجالس غير منكر ولا معيب ولا مستفطع عند أهل الفقه وذوي الورع والأديان والأسنان منهم فأكبر أمير المؤمنين ذلك وأعظمه وكرهه واستكبره وعلم أن الشيطان عند ما يئس منه من بلوغ إرادته في معاصي الله عز وجل بمصر المسلمين ومجمعهم صراحاً وجهازاً أقدم بهم على شبهة مهلكة وزين لهم ورطة موبقة وغرهم بمكيدة حيله إرادة لاستوائهم بالخدع واجتيالهم () بالشبه والمراصد الخفية المشكلة وكل مقيم على معصية الله صغرت أو كبرت مستحلاً لها مشيداً بها مظهراً لارتكابه إياها غير حذر من عقاب الله عز وجل عليها ولا خائف مكروهاً فيها ولا رعب من حلول سطوته عليها حتى تلحقه المنية فتختلجه وهو مصر عليها غير تائب على الله منها ولا مستغفر من ارتكابه إياها فكم قد أقام على موبقات الآثام وكبائر الذنوب حتى مد به مخرم أيامه.
وقد أحب أمير المؤمنين أن يتقدم إليهم فيما بلغه عنهم وأن ينذرهم ويوعز إليهم ويعلمهم ما في أعناقهم عليها وما لهم من قبول ذلك من الحظ وعليهم في تركه من الوزر فآذن بذلك فيهم وأشده في أسواقهم وجميع أنديتهم وأوعز إليهم فيه وتقدم إلى عامل شرطتك في إنهاك العقوبة لمن رفع غليه من أهل الاعتكاف عليها والإظهار للعب بها وإطالة حبسه في ضيق وضنك وطرح اسمه في ديوان أمير المؤمنين وأفطمهم عما بهجوا به من ذلك والتمس بشدتك عليهم فيه وإنهاكك بالعقوبة عليه ثواب الله وجزاءه وإتباع أمير المؤمنين ورأيه ولا يجدن حد عندك هوادة في التقصير في حق الله عز وجل والتعدي لأحكامه فتحل بنفسك ما يسوءك عاقبة مغبته وتتعرض به لغير الله عز وجل ونكاله واكتب إلى أمير المؤمنين ما يكون منك إن شاء والله والسلام.
وله تحميد في أبي العلاء الحروري:(29/26)
الحمد لله الناصر لدينه وأوليائه وخلفائه المظهر للحق وأهله والمذل لأعدائه وأهل البدعة والضلالة الذي لم يجمع بين حق وباطل وأهل طاعة ومعصية الأجعل النصرة والفلج والعاقبة لهل حقه وطاعته وجعل الخزي والذلة والصغار على أهل الباطل والخلاف والمعصية حمداً يتقبله ويرضاه ويوجب به لأمير المؤمنين وأهل طاعته الزيادة التي وعد من شكره والحمد لله على ما يتولى من إعزاز أمير المؤمنين ونصره وإفلاجه وإظهار حقه على ما وقع بأعدائه وأهل معصيته والخلاف عليه من سطواته ونقماته وبأسه فيما ولي أمير المؤمنين من موالاة من والاه وعداوة من بغى عليه وعاداه لا يكله في شيء من الأمور إلى نفسه ولا إلى حوله وقوته ومكيدته فإنه لبا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.
تحميد لعبد الحميد في فتح:
الحمد لله العلي مكانه المنير برهانه العزيز سلطانه الثابتة كلماته الشافية آياته النافذ قضاؤه الصادق وعده الذي قدر على خلقه بملكه وعزّ في سماواته بعظمته ودبر الأمور بعلمه وقدرها بحكمه على ما يشاء من عزمه مبتدعاً لها بإنشائه إياها وقدرته عليها واستصغاره عظيمها نافذاً إرادته فيها لا تجري إلا على تقديره ولا تنتهي إلا إلى تأجيله ولا تقع إلا على سبق من حتمه كل ذلك بلطفه وقدرته وتصريف وحيه لا معدل لها عنه ولا سبيل لها غيره ولا علم أحد بخفاياها ومعادها إلا هو فإنه يقول في كتابه الصادق وعنده مفاتح الغيب إلى آخر الآية.
ولعبد الحميد في فتح يعظم فيه أمر الإسلام:
أما بعد فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام ديناً رضي شرائعه وبين أحكامه ونور هداه ثم كنفه بالعز المؤيد وأيده بالظفر القاهر وآزره بالسعادة المنتجبة وجعل من قام به داعياً إليه من جنده الغالبين وأنصاره المسلطين كلما قهر بهم مناوئاً أورثهم رباعهم المأهولة وأموالهم المثرية ودارهم الفسيحة ودولتهم المطولة أمراً حتمه على نفسه ثم جعل من عاندهم وابتغى غير سبيلهم مسلماً قد استهوته ذلة الكفر بظلمها وحيرة الجهالة بجوارها وتيه الشقاء بمغاويه وكلما ازدادوا لدعوة الحق إباءً ازداد الحق إليهم ازدلافاً وعليهم عكوفاً وفيهم إقامة إلى أن يحل بهم عز الغلبة ونجاة المتجاوز داعين فيما شوقهم إليه محافظين على ما ندبهم له قد بذلوا في طاعة الله دماءهم وقبلوا المعروض عليهم في مبايعة ربهم لهم بأنفسهم الجنة(29/27)
محمود صبرهم مسهل بهم عزمهم إلى خير الدنيا والآخرة.
والحمد لله الذي أكرم محمداً صلى الله عليه بما حفظ له من أمور أمته أن اختار لمواريث نبوته ما أصار إلى أمير المؤمنين من تطويقه ما حُمل بحسن نهوض به وشج عليه ومنافسة فيه إن فعل وفعل (؟).
والحمد لله الذي تمم وعده لرسوله وخليفته في أمة نبيه مسدداً له فيما اعتزم عليه والحمد لله المعز لدينه المتولي نصر أمة نبيه المتخلي عمن عاداهم وناوأهم حمداً يزيد به من رضي شكره وحمداً يعلو حمد الحامدين من أوليائه الذين تكاملت عليهم نعمة فلا توصف وجلت أياديه فلا تحصى الذي حملنا ما لا قوة بنا على شكره غلا بعونه وبالله يستعين أمير المؤمنين على ذلك وإليه يرغب إنه على كل شيء قدير.
ولعبد الحميد أيضاً:
أما بعد فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وارتضاه ديناً لملائكته وأهل طاعته من عباده وجعله رحمة وكرامة ونجاة وسعادة لمن هدى به من خلقه وأكرمهم وفضلهم وجعلهم بما أنعم عليهم منه أولياءه المقربين وحزبه الغالبين وجنده المنصورين وتوكل لهم بالظهور والفلج وقضى لهم بالعلو والتمكني وجعل من خالفه وعزب عنه وابتغى سبيل غيره أعداءه الأقلين وأولياء الشيطان الأخسرين وأهل الضلالة الأسفلين مع ما عليهم في دنياهم من الذل والصغار. فأعجل لهم فيها من الخذلان والانتقام إلى ما أعد لهم في آخرتهم من الخزي والهوان المقيم والعذاب الأليم إنه عزيز ذو انتقام.
وكتب عبد الحميد إلى أخ له في مولود ولد له وهو أولو مولود كان:
أما بعد فإن مما أتعرف من مواهب الله نعمة خصصت بمزيتها وأُصفيت بخصيتها كانت أسرََّ لي من هبة الله ولداً أسمته فلاناً وأملت ببقائه بعدي حياة وذكرى وحسن خلافة في حرمتي وغشراكه إياي في دعائه شافعاً لي إلى ربه عند خلواته في صلاته وحجه وكل موطت من مواطن طاعته فإذا نظرت على شخصه تحرك به وجدي وظهر به سروري وتعطفت عليه مني أنسة الولد وتولت عني به وحشة الوحدة فأنا به جذل في مغيبي ومشهدي أحاول مس جسده بيدي في الظلم وتارة أعانقه وارشفه ليس يعدله عندي عظيمات الفوائد ولا منفسات الرغائب. سرني به واهبه لي على حين حاجتي فشد به أزري وحملني(29/28)
من شكره فيه ما قد آدني بثقل حمل النعم السالفة إلي به المقرونة سراؤها في العجب بتارات ما يدركني به من رقة الشفقة عليه مخافة مجاذبة المنايا إياه ووجلاً من عواصف الأيام عليه.
فأسأل الله الذي امتن علينا بحسن صنعه في الأرحام تأديبه بالزكاء وحرسه بالعافية أن يرزقنا شكر ما حملنا فيه وفي غيره وأن يجعل ما يهب لنا من سلامته والمدة في عمره موصولاً بالزيادة مقروناً بالعافية محوط من المكروه فإنه المنان بالمواهب والواهب للمنى لا شريك له. حملني على الكتاب إليك لعلم ما سررت به علمي بحالك فيه وشركتك إياي في كل نعمة أسداها إلي ولي النعم وأهل الشكر أولى بالمزيد من الله جل ذكره والسلام عليك.
وكتب عبد الحميد عن هشام بن عبد الملك إلى يوسف بن عمر وهو باليمن في السلامة:
فإن أمير المؤمنين كتب إليك وهو في نعمة الله عليه وبلائه عنده في ولده وأهل لحمته والخاص من أموره والعام والجنود والقواصي والثغور والدهماء من المسلمين على ما لم يزل ولي بالنعم (؟) فتولاه من أمير المؤمنين حافظاً له فيه ومكرماً له بالحياطة لما ألهمه الله فيه من أمر رعيته وعلى أعظم وأحسن وأكمل ما كان يحوطه فيه ويذب له عنه والله محمود مشكور إليه فيه مرغوب. أحب أمير المؤمنين لعلمه بسرورك به أن يكتب إليك بذلك لتحمد الله عليه وتشكره به فإن الشكر من الله بأحسن المواضع وأعظم المنازل فازدد منه تزدد به وحافظ عليه وتحفظ به وارغب فيه يهد إليكم مزيد الخير ونفائس المواهب وبقاء النعم فاقريء على من قبلك كتاب أمير المؤمنين إليك ليسر به جندك ورعيتك ومن حمله الله النعم بأمير المؤمنين ليحمدوا ربهم على ما رزق الله عباده من سلامة أمير المؤمنين في بدنه ورأفته بهم واعتنائه بأمورهم فإن زيادة الله تعلو شكر الشاكرين والسلام.
ولعبد الحميد إلى مروان في حاجة:
إن الله بنعمته علي لما رزقني المنزلة من أمير المؤمنين جعل معها شكرها مقروناً بها فهي تنمي بالزيادة والشكر مصاحب لها فليست تدخلني وحشة من أبناء حاجتي وأنا أعلم أنه لو وصل على أمير المؤمنين علم حالي أغناني عن استزادته ولكني تكنفتني مؤن استنفضت ما في يدي وكنت للخلف من الله منتظراً فإني إنما أتقلب في نعمه وأتمرغ في فوائده(29/29)
واعتصم بسالف معروفه كان عندي.
ولعيد الحميد في وصف الإخاء:
فإن أولى ما اعتزم عليه ذوو الإخاء وتوصل إليه أهل المودات ما دعا أسبابه صدق التقوى وبنيت دعائمه على أساس البر ثم انهد إلينا حزين (؟ *) التواصل وشيده مستعذب العشرة فادعم قوياً وصفى مرنقاً وبخاصة (؟) الحقة منعطفة وسكنت به القلوب أنيسة وسمت من مواصلته الهمم مستعلية عن كل زائغ معتاف ومخوف عارض يحترم مسكة الإخاء ويختار مربوب المقة ضناً بما استعذبوا من محمود وثائقه وازدياداً فيما تمطقوا به من حلاوة جناه فإذا استخحكم لهم مدخور الصفاء بثبات أواخيه وظهور أعلامه ومحصول مخبره وثقة مواده كان سرورهم باعتلاقه وابتهاجهم بوجدانه وإنما هم صلته وبذلهم رعايته وحياطتهم محمودة بحيث نالوا من معرفته حظوته واستولوا عليه من مزية كرمه وتعرفوا من ذخيرة عائدته ومأمون حفاظه وكشف لهم عن نفسه مظهراً أعلامه مبدياً دفينته طارحاً قناع سره معلناً مكنون ضميره في نأي الدار وجدان (؟) المجتمع بإظهار ما استتر من المحاسن وبث في الحقب من المكارم قياماً لهم بالنصرة وحياطاً للمودة وترغيباً في العشرة فكان أكهف لجاء وأحرز حصن وأحصف جنة وأعون ظهير وأبقى ذخيرة وأعظم فائدة وأشرف كنز وأفخر صنيعة وآنق منظر وأينع زهرة أكثر الأشياء ريعاً وأنماها وصلاً وأمدها سبباً وأقواها أيداً وأحلاها ذوقاً وأدعمها ثباتاً وأرساها ركناً لا يدخل مستحقها سآمة ملال ولا كلال مهنة ولا تثبيط ونية ولا ضعف خور لنزول بائقة أو طروق طارقة من عوارض الأقدار وحوادث الزمان بل مواسياً في أزمها متورطاً غمرات قحمها متدرعاً هائل بوائقها مستلحماً نواظر مقاطعها حتى تصير به الأقدار إلى تناهيها ويبلغ به القضاة مقداره غير منان النصرة ولا برم التعب يرى تعبه غنماً ونصبه دعة وكلفة فائدة وعمله مقصراً وسعيه مفرطاً واجتهاده مضيعاً عدل الولد في بره والوالد في شفقته والأخ في نصرته والجار في حفظه والذخر في مكه فأين المعدل عن مثله أو كيف الإصابة لشبهه أو أنى عوض من فقده جمعها الله وإياك على طاعته وألفنا بمجاتبه وجعل أخوتنا في ذاته.
قد حددت لك أي أخي الإخاء متشعباً ووصفته لمك مخلصاً وانتهيت بك إلى غاية أهل العقل منه وما تواصل أهل الرأي عليه ودعا إليه الإخاء من نفسه منتطقاً به ضامناً له ما(29/30)
فرط في ذلك تقصير من أهله وداخله تضييع من حملته أو حاطه أحكام وكنفه حفاظ من رعاته.
وافاني كتابك بما سألت من ذلك وعقلي محصور ورأيي منقسم وذهني فيما يتأهب به الأمير. . . والله من خزر الترك واختلاف رسله إلى جبال اللان والطبران وما والاهما بنوافذ أمره ومخارج رأيه فأنا مصيخ السمع للفظه عقل العقل عن سوى أمره محتضر الذهن في تدبيرهم ذهل القلب عن تفنين القول وتشعيب الكلام في تصنيف طبقات الرجال ومن أين دخل عليهم نقص الإخاء وكيف خانهم مونق الصفاء وقد صرحت لك عن رأي ذوي الثفاء وكشفت لك خباء الإخاء وجمعت لك ألف مودة أهل الحجى فتلق ما وصفت لك بقلب فهم عقول ذي ميزة يقظان وذهن جامع حافظ ذي ثقافة راع أحضرك الله عصمة التوفيق وسددك الله لإصابة الرشد ومكن لك صدق العزيمة والسلام.
ومن رسائل عبد الحميد ما كتب عن مروان على هشام يعزيه بامرأة من حظاياه:
إن الله تعالى أمتع أمير المؤمنين من أنسيته وقرينته متاعاً مده إلى أجل مسمى فلما تمت له مواهب الله وعاريته قبض إليه العارية ثم أعطى أمير المؤمنين من الشكر عند بقائها والصبر عند ذهابها أنفس منها في المنقلب وأرجح في الميزان وأسنى في العوض فالحمد لله وإنا إليه راجعون.
وكتب موصياً بشخص يقول:
حق موصل كتابي إليك كحقه علي إذ جعلك موضعاً لأمله ورآني أهلاً لحاجته وقد أنجزت حاجته فصدق أمله.
وكتب في فتنة بعض العمال من رسالة:
حتى اعتراني حنادس جهالة ومهاوي سبل ضلالة ذللاً لسباقه وسلماً في قياده إلى نزل من حميم وتصلبية حجيم سوى ما أنتجت الحفيظة في نفسه من عوائد الحسك وقدحت الفتنة في قلبه من نار الغضب مضادة لله تعالى بالمناصبة ومبارزة لأمير المؤمنين بالمحاربة ومجاهرة للمسلمين بالمخالفة على أن أصبح بفلاة قفر ونية صفر بعيدة المناط يقطع دونها النياط وكذلك الله يفعل بالظالمين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.
وكتب رسالة أخرى إلى أهله وهو منهزم مع مروان:(29/31)
أما بعد فإن الله تعالى جعل الدنيا مخحفوفة بالكره والسرور فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها ومن عضته بنابها ذمها ساخطاً عليها وشكاها مستزيداً لها وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها ثم جمحت بنا نافرة ورمحتنا مولية فملح عذبها وخشن لينها فأبعدتنا عن الأوطان وفرقتنا عن الأخوان فالدار نازحة والطير بارحة. وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعداً وغليكم وجداً فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها يكن آخر العهد بكم وبنا وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم نرجع غليكم بذل الإسار والذل شر جار. نسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين.
وله من رسالة كتب بها عن آخر خلفاء بني أمية وهو مروان الجعدي لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد قائمين بالدولة العباسية:
فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية في يد الفئة العجمية واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السكرة فسينضب السيل وتمحى آية الليل والله مع الصابرين والعاقبة للمتقين.(29/32)
الحماسة البصرية
نقدم أبو تمام الطائي فيما نحسب غيره من زعماء القريض وحملة رايات الأدب فجمع ما وقع اختياره عليه من شعر العرب العرباء وسماه (الحماسة) وحذا حذوه غيره من ضم شتيت شعر العرب ولكل اختياره ومنهم الشيخ أبو الحسن صدر الدين علي بن أبي الفرج بن الحسن البصري ألف حماسته برسم الملك الناصر صلاح الدين بن الملك العزيز بن الملك الظاهر سنة 647 هجرية وسماها الحماسة البصرية.
قال في مقدمته: توخيت في تحرير مجموع محتوٍ على قلائد أشعارهم (العرب) وغرر أخبارهم مجتنباً للإطالة والإطناب بما تضمنته أبواب الكتاب كأمالي العلماء وحماسات الأدباء ودواوين الشعراء من فحول المحدثين وجواهر الكلام غير أهم قد نسبوا فيها أشياء إلى غير قائلها ولم يقيدوا الكتاب بترجمة أبواب فغدت فرائده متبددة الانتظام مستصعبة على الحفظ والإفهام فجاء مشتملاً على غرائب البديع وملح التصريف والترصيع ثم أن الشعر على اختلاف معانيه وأصوله مبانيه ينقسم إلى نعوت وأوصاف فما وصف به الإنسان من الشجاعة والشدة في الحرب والصبر في مواطنها يسمى حماسة وبسالة وما وصف به من حسب وكرم وطيب محتد سمي مدحاً وتقريظاً وفخراً وما أثني عليه بشيء من ذلك ميتاً يسمى رثاءاً وتأبيناً وما وصفت به أخلاقه المحمودة من حياء وعفة وإغضاءٍ عن الفحشاء ومسامحة الأخلاء سمي أدباً وما وصف به النساء من حسن وجمال وغرام بهن سمي غزلاً ونسيباً وما وصف به من إيقاد النيران ونباح الكلاب سمي قرى وضيافة وما وصف به من بخل وجبن وسوء خلق ونميمة سمي هجاءً وما وصفت به الأشياء على اختلاف أجناسها وأنواعها سمي نعتاً ووصفاً وملحاً وما ذكر به الإنابة إلى الله تعالى ورفض الدنيا سمي زهد وعظة وهاك نموذجات منه قال رجل من لخم يحرض الأسود اللخمي وذلك أنه كانت حرب بين ملوك غسان وملوك العراق وهم لخم فظفر الغسانيون باللخميين وقتلوا جماعة منهم ثم في آخر السنة التقوا في ذلك الموضع وكان قد جمع اللخميون جمعاً عظيماً فظفروا بالغسانيين وأسروا منهم جماعة وأراد ملكهم ابن المنذر الأسود البقاء عليهم فقام رجل من قومه وكان قد قتل له أخ يحرضه على قتلهم فقال:
ما كل يوم ينال المرءُ ما طلبا ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا
واحزم الناس من أن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا(29/33)
وأنصف الناس في كل المواطن من ... سقا المعادين بالكأس الذي شربا
ومنها:
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فالحق رأسها الذنبا
ومنها:
وهم أهلة غسان ومجدهم ... عال فإن حاولوا ملكاً فلا عجبا
وعرضوا بفداء واصفين لنا ... خيلاً وإبلاً تروق العجم والعربا
أيحيلون دماً منا ونحيلهم ... رسلاً لقد شرفونا في الورى حلبا(29/34)
المتحفان المصريان
المتحف المصري القديم
من طاف في أرجائه وتجول بين معروضاته وحدق نظره في عادياته وغرائب آثاره ـ أدرك لأول وهلة عجزه عن أن يفي تلك الآثار حقها من الوصف وبيان المعنى الذي وضعت له والغرض الذي اتخذت من أجله. وإن ذلك المتحف بما حواه من الآثار الجمة التي كادت تفوق الحصر كالبحر الزاخر المتلاطم الأمواج: ففيه أدوات وهناك (خرداوات) لا يكاد يتبينها الطرف لدقتها وصغر حجمها كما أن فيه من المحاريب والتماثيل الهائلة والعمد الممدة أو الماثلة ما ينوء بالعصبة أولي القوة ويحتلاج في زحزحته من مكانه إلى تعضيد الآلات وأعمال الماكينات فكيف يتسنى للكاتب أن يودع أوصافاً وملاحظات غير محدودة في مقالة محدودة. ذات سطور معدودة سئل بعض الوعاظ عن معنى قوله تعالى {والسماء ذات الحبك} فأحاب بقوله: السماء التي نشاهدها فوق رؤوسنا وأما الحبك فهو شيء لا نعرفه لا نحن ولا أنتم. وهكذا أراني عاملاً في الاعتذار لأديب كلفني وصف المتحف وآثاره: فأقول: المتحف بناء جليل بجوار قصر النيل وأما العاديات التي فيه فشيء لا أعرفه ولا يتيسر لي وصفه: المتحف المصري مكتبة تاريخ ومعجم هيروغليف ومعرض صناعة وهيكل عبادة. والباحث في عادياته يلزمه أن يعرف ـ عدا عما ذكر ـ التاريخ الطبيعي والكيمياء والهندسة وأن يكون له ذوق خاص في الفنون الجميلة كالنحت والنقش والتصوير وإلا كان شأنه أن يدخل فيرى كل شيء ثم يخرج فلا يبقى في ذهنه شيء اللهم إلا وقفة على رأس رعمسيس الثاني تنتزع المرء من عالم الشهادة فغلى عالم الغيب وتقذفه فيها أمواج اليقين على صخور الريب.
إذا دلنا النيل بصراحة على أن الأمة المصرية القديمة أمة زراعية بطبيعتها فإن هذا المتحف يدلنا أكثر صراحة أنها كانت أيضاً أمة صناعية ضربت في إتقان الصنائع وأحكامها بسهم وافر.
أما الكهانة والديانة والعبادة وسر الروح والموت والحساب والعقاب فهذا يكاد ينطق به كل أثر تقع عينيك عليه في هذا المتحف.
وقد راعت الحكومة النظير في البناء الذي شيدته لتلك الآثار. فكان فخماً مفخماً مثلها: بل(29/35)
ربما قاسمها إعجاب الزائرين ولفت إليه عنها أنظار المتفرجين.
والمتحف قسمان: وقد وضع في القسم السفلي العاديات الضخمة الهائلة: ففيه ألواح وصفائح حجرية كبيرة جداً وقد رسم عليها بالخط البربائي صور طيور وحيوانات وإشارات ورموز أخر يتخللها صور شخوص أيضاً. وهذه النقوش تراها منبثة على ظاهر التوابيت والنواويس والتماثيل وقلما يخلو أثر منها. وأكثر ما يرى بين تلك النقوش من الحيوانات صور الجعلان والعجول والغربان ثم القرود والبواشق وبنات آوى. ولا أذكر أني رأيت ما بين تلك الصور صورة فرس أو فارس فكأن المصريين القدماء ما كانوا يقتنون الخيول ولا يزاولون الفروسية.
وقد ترى في ظاهر التابوت الحجري صورة بقرة يحلبها رجل وقد ربط عجلها من مقوده بإحدى قوائمها كيلا يفلت ويضل.
والفرق بين التابوت والناووس أن الأول على هيئة صندوق من الحجر أو الخشب ويوضع على الأرض كما يوضع الصندوق. أما الناووس فوضعه عامودي وفتحته على طول الإنسان المقابل له بحيث يمكنه أن يدخل تلك الفتنحة كما يدخل من باب الدار. وترى بين المعروضات موائد من حجر على أشكال مختلفة وهي كمذابح يضع عليها كهنة المصريين الأدوات التي يمارسون بها طقوس عبادتهم.
وترى تماثيل حجرية هائلة جداً منها ما هو على اسم المعبودات ومنها ما هو على اسم الملوك والفراعنة. وشأن المصريين كشأن اليونان الأقدمين من حيث أن القبيلين مزجوا بين معبوداتهم وملوكهم حتى اختلط حابلهم بنابلهم. وقد نحتوا من حجر الغرانيت سفينة سموها مقدسة. وكأن المقدسة عندهم هي التي يتخذونها للجنائز ونقل الموتى من شاطيء إلى آخر. ويوجد في تلك السفن زورقان كبيران كالزوارق الاعتيادية وباقيها مثل صغيرة تمثل الكبيرة في سواريها وأشرعتها وملاحيها. وعي في الدور العلوي وليس الأكثر من التوابيت الحجرية والخشبية والأولى مغطاة بأحجار منحوتة على شكل الإنسان تمثل الميت المودع فيها أما الأخرى الخشبية فيرسم على غطائها صور ذات ألوان وأصباغ تمثل الميت أيضاً. وفي هذا القسم كثير من الأحجار المختلفة في الحجم والشكل فمنها العمودي ومنها الهرمي وكثير منها شظايا حفظت لتجمع مع ما يوائمها ويأتلف معها.(29/36)
أما الدور العلوي ففيه معظم العاديات وأنفس ذخائرها وأثمن كنوزها: ومن ذلك مجموعة الحلي والمصوغات ومجموعة المومياوات البشرية وأخرى للمومياوات الحيوانية. ومجاميع للنسيج والخزف وأجناس المعبودات والتوابيت والأمتعة والأدوات والخرثي ـ في نظير ذلك مما كان المصريون القدماء يرتفقون به في منازلهم ويعتمدون عليه في قضاء مصالحهم ومزاولة مختلف مهنهم وأعمالهم. والمومياء كناية عن جثة الميت تعالج بالأدوية والعقاقير ثم تشد وتلف بقطع ولفائف من النسيج شداً ولفاً محكمين على شكل خاص فتحفظ بذلك من البلى وتصل سليمة إلى الدار الأخرى.
ويوجد في المتحف من تلك المومياوات زهاء عشرين مومياء ما بين ملوك وملكات وقواد وكهان وأطفال صغار. وفيها مومياء أعظم وأجل ملك قام في تاريخ مصر القديم وهو رعمسيس الثاني من ملوك العائلة التاسعة عشرة وإذا نظرت إلى تلك الجثث رأيت عجباً وباعثاً على التعاظ والدهشة إلى حد الذهول وانفعال المشاعر. ولم يبق من تلك التجاليد الأرق من جلد على فخ من عظم وقد تترآى لك مزع (قطع) اللحم محمرة أو كامدة اللون لكنها لاطئة على الأعضاء والأفخاذ حتى عادت كالجلد اليابس. ومن تلك الجثث ما هو سليم تام الجوارح ومنها ما تشوه بهتم أسنانه وصلم آذانه أو سمل عينيه أو هشم أنفه ومنها ما أمسى لونه أسود كالزنجي ومنها المحمر والرصاصي اللون وما استولت عليه الكمدة.
وقد قال أبو النجم الشاعر العربي أن جذب الليالي وكرور الأيام عليه حلتت شعر رأسه وميزت عنه قنزعاً عن قنزع فماذا يقول هؤلاء الفراعنة وقد كرت عليهم آلاف السنين فوق الأرض وتحتها ثم فوقها مرة ثانية وإذا رأينا شعورهم مدلاة خصلاً وقنازع ذات ألوان منكرة لا يدري هل هي طبيعية أو نشأت عن جذب دهر الدهارير أو تأثير الأدوية والعقاقير.
وإذا رأى المرء هذه المومياوات تذكر ما قاله ابن خلدون من أن الأقدمين ما كانوا أضخم منا جثة ولا أطول قامة إلى الحد الذي وصفه القصاص والممخرقون وإنما هم أمم أمثالنا بدليل تلك المومياوات التي عثروا عليها في المدافن والنواويس. كما أنتقليب الفكر في هذه الجثث يوحي إلى النفس بأن العذاب الذ أوعد به الكافرون في برازخهم لا يصيب إلا الروح. وإلا فيلزمنا القول بأن أموات المصريين الأقدمين كانوا على عقيدة صحيحة تنجيهم(29/37)
من عذاب البرزخ. أو أنهم لم تبلغهم دعوة رسول فما كانوا معذبين. أو يقال أن صناعة التحنيط المصرية كانت تحول بين القدرة افلهية وبين التنكيل بهذه الموميات فلا يصيبها شر ولا يلحقها أذى اللهم غفراً. أما المومياوات الحيوانية فلها مستودع خاص بها. وترى هناك تمساحين طول الواحد زهاء أربعة أمتار. وسمكة طولها أكثر من متر وطيور ماء ودجاج وأفراخ وكلاب وقطط وقرود وغزلان ووعول وخرفان وهذه الأجناس الأخيرة ماثلة أمام النظارة هياكل عظام مجردة عن اللحم. كما أن بعض الطيور والقرود لها نواويس تناسب حجمها قد أودعت فيها. وبين هذه المومياوات كثير من الأصداف والأبواق والقواقع البحرية وعدة قطع من الذبل (عظم السلاحف) ومن بيض الدجاج وبين آخر أكبر منه وأصغر من بيض النعام. وقد ألحقوا بهذه المومياوات الحيوانية موميات نباتية فترى غصوناً وأورقا شجر وأثماراً وضروباً أخرى من النبات وحبوباً وبذوراً وعدة أقراص من الخبز وقرص عسل من شمع النحل. وكلها معالجة بالأدوية والعقاقير ومحفوظة بذلك من الاندثار.
وإذا حفظ المصريون أجساد أمواتهم من البلى لتقوم سليمة ساعة الحشر والنشر فلا بدع إذا تداركوا لهم من أطايب الزاد وشهي الأثمار ما يقوون به على تحمل أعباء الحساب. ولكن ما الغرض من حفظ جثث الكلاب والقطط والقرود يا ترى؟ وقد خصصوا في المتحف مكاناً للحلي وأدوات الزينة وإنك لترى فيها قطعاً نفيسة جداً. وإذا أدركت كنه بعضها وفقهت الغرض الذي تتخذ لأجله كالأسورة والعقود والخواتيم ـ فإنك ترى منها ما لا تعرف له مغزى ولا تفقه له غرضاً بل إذا حاول المرء وصفه بقلمه أو لسانه فلا يقدر عليه. ومن ثمة كانت الزائرات من نساء الإفرنج يصورون ما يستحسنونه من تلك القطع في مذكراتهن تصويراً. وقد رأيت فتاة تصورا خنجراً له مقبض جميل مطوق بالذهب ومرصع بالأحجار الكريمة. وأخرى تصور عقداً مؤلفاً من عدة أسلاك نظزمت فيها الأحجار الكريمة وفصلت بالجمان وخيوط الذهب تفصيلاً. وليست الأحجار الكريمة مما نعهده بيننا اليوم كالماس واللؤلؤ والياقوت والمرجان وإنما هي أجناس أخر ليست منها وليس لها بريقها وبصيصها. ثم إذا طفت في أرجاء ذلك المتحف وقلبت طرفك بين عادياته وذخائره بصرت بأشياء ودوات كثيرة: منها ماله مثال في مرافقنا وتكاليف مدنيتنا كالجرار(29/38)
والأسرة والمسارج. ومنها ما ليس له مثال كقطع من خزف أو طين على هيئة مخروط لا يعرف المرء منفعتها مهما قلب فيها الطرف وأخرى متخذة من الخزف والإبريز والزجاج والمرمر والحجر والعاج وغير ذلك بحيث لا يدري إن كانت تستعمل في مرافق منزلية أو صناعية وترى أواني خزفية عليها كتابة فينيقية مما يدل على اتصال المعاملة والمتاجرة بين تيك الأمتين القديمتين وزوارق من خشب لها سواء وأشرعة على غير الوضع المعهود في زماننا وفي تلك الزوارق صور رجال تمثل الملاحين والنواخذة وشراذم الجنود بأيديهم الدرق والرماح وآخرون بأيديهم السهام والسيوف.
وهناك تمثال شخص منحن على ركبتيه ويداه في إجانة أو وعاء أمامه كأنه يعجن أو يغسل وآخر بيده حجر كأنه يسحق به عقاراً. وخدم على رؤوسهم كهيئة الصناديق يمشون بها. ونعال من جلد أو خوص ومراوح من خوص وقماش. وكراسي ومقاعد وعربات على شكل غير معهود عندنا وصحاف وأزيار وأسرة لوضع الموميات في الاحتفالات الجنائزية وأمتعة وأوان غريبة الشكل منقوشة ومكتبة بالقلم البربائي. وأدوات وآلات للصناع وأرباب الحرف كالبنائين والنجارين وموازين ومقاييس ومكاييل ومثاقيل ومغازل وصناديق صغيرة من خشب مطعمة بالعاج والعظم. كما أن أخشاب التوابيت والزوارق مجموعة على طريقة التحشية المعروفة لدى أرباب هذه الصناعة اليوم. ورقوق وأدراج من البردي عليها نقوش وتصاوير ملونة بالأصباغ الزاهية ودمى وتماثيل صغيرة من مواد مختلفة من مثل الذهب إلى مثل الخزف تمثل موميات الأموات كأنهم يحفظونها كتذكار لأمواتهم. وأكثر ما ترى بين التماثيل المبثوثة في جنبات المتحف تمثال الجعل والعجل. وهناك تماثيل أخر على شكل الغراب والباشق وابن آوى والقرد وهم تارة ينحتونها من الخشب والحجر وطوراً يصنعونها من المعادن والفلز وآونة من اللازورد والجزع واليشب. وإنك لترى الحجر الضخم بحجم الرحى الكبيرة وقد نحت فيه من أعلاه صورة جعل كبير طوله نصف ذراع أو أكثر. وقد ينقشون الجعل تذكاراً لبعض الحوادث والأمور كالجعل الذي نقش تذكاراً لاقتران أمنوتس الثالث بتي.
أما العجل أبيس فقد أبدعوا في تمثيله وتصويره وتفننوا في الرمز إلى أحواله وأطواره: أبيس وقف ـ أبيس رابض ـ أبيس على شكل رجل برأس ثور ـ أبيس على يمينه(29/39)
أسيس وخلفه نفتيس إلى غير ذلك. وتماثيل المعبودات مختلفات الهيئات متعددات الأشكال: فمعبودة صا الحجر يخالف شكلها معبودة عين شمس وتملاثيل المعبودة سلكيت على وضع غير وضع تماثيل المعبودة صاتحور وغير تماثيل المعبودة نفتيس هنا معبودة في حجرها طفل ترضعه. وهناك معبود له جناحان وقد نجم في رأسه قرنان كقرني الشيطان وقد أشرق من بينهما مثال الشمس والقمر. وثمة آخر يرفع يديه إلى السماء يمنعها أن تسقط على الأرض وأمامه معبود رأس رأس كبش ووراءه آخر برأس سبع. وما هذا المعبود الذي أمسك بكل يد \ من يديه ثعبانين وعقرباً وغزالاً وأسداً وقد وطيء بأخمصيه رؤوس تمساحين. وما هذه المعبودات الأخرى التي نصفها الأسفل أفعى والأعلى امرأة ولها مكان اليدين جناحا نسر وكأن قد بسطهما؟
هذا ما وعته الذكرة أيها الأديب من أمر ذلك المشهد العجيب فإن كان مما يعجبك وإلا فإني قائل ما قاله الواعظ الحبك.
دار الآثار العربية
يتوقف التمكن من علم أو صناعة على معرفة تاريخ 1ذلك العلم أو هذه الصناعة. فإن هذه المعرفة ما يدعو المرء إلى التوسع في علمه أو تحسين صناعته وزيادة البصيرة فيها. وكان التاريخ في القديم مسطوراً ومقروءاً. أما الآن فقد تنبه الإفرنج إلى نوع من التاريخ أقرب تناولاً من الأول وأكثر فائدة منه. ويصلح أن نسميه التاريخ الماثل المنظور ـ ذلك التاريخ هو ما يعرض على طلبة صناعة الكاشاني مثلاً كان عليه أن لا يقتصر على قراءة ذلك في السطور والأسفار بل يزور ما حفظ منها ونضد في دور الآثار: فهي تعرض عليه ما وجد من آثار تلك الصناعة من أول نشأتها وكيف تدرجت إلى أن وصلت إلى حالتها الحاضرة.
وهذا النوع من التاريخ أتقنعه الأوروبيون وشادوا له المباني الفخيمة. والدور العظيمة. وقد تنبهنا نحن إلى ذلك في الأزمنة المتأخرة. فكان في الأستانة وفي القاهرة بعض الشيء من ذلك.
ومن الأسف أن دار الآثار العربية في القاهرة كأنما أنشئت للأوروبيين وللمشتغلين يبالتاريخ والصناعة منهم: فهم الذين يزورونها ويتفقدون معروضاتها ويستفيدون منها وقلما(29/40)
نرى زائراً لها من أهل البلاد أو من أهل الحرف والصناعات فيها.
وإذا سألت عن السبب في وضع فهرست لتلك الآثار الإفرنجية من دون العربية اعتذروا إليك بما قلناه من أن الإفرنج هم الذين يتداولن الفهرست ويحرصون على الاستفادة مما فيه. أما ابناء العرب فإذا وجد منهم بضعة آحاد يحذون حذو أولئك فهم في الغالب على معرفة من اللغة الأجنبية تمكنهم من الانتفاع بما سطر في الفهرست. ومعظم الآثار الموجودة في دار الآثار العربية يرجع عهده إلى القرن السابع والثامن والتاسع من الهجرة: أي هي من مخلفات أمراء المماليك والجراكسة الذين عاشوا الدولتين الصلاحية والعثمانية.
فمن نظر في آثار تلك القرون الثلاثة تبين له من حسنها ونفاستها وإتقان العمل فيها ـ ما يحكم معه بأن عصر أولئك المماليك كان عصر عمران وترق في الصناعة والذوق والترف. وأنه امتاز عن العصور التي سبقته وخلفته في ذلك.
ويمكن تقسيم الآثار إلى خمسة مجاميع:
1) مجموعة الحجر والرخام: ومعظمها يتألف من شواهد القبور وأزيار ماء بينها صفيحة حجر ضخمة عثروا عليها في الإسكندرية. ومكتوب عليهاما يفيد أن البناء التي كانت فيه مما أمر بإنشائه السلطان صلاح الدين. وشاهدة قبر محمد بك أبي الذهب مملوك محمد بك الإلفي. وهي مذهبة ومكتوب عليها شعر يدل على اسمه ووفاته في سنة 1189.
ومعظم الأزيار من رخام. ولها أحواض خاصة بها ترتكز عليها. ومما هو من الغرابة بمكان أن ترى حجراً ضخماً من الرخام نحت منه زير كبير مستطيل أو كروي الشكل. وقد جوف تجويفاً تاماً يحار العقل في الطريقة التي اتخذها صانعوه في تجويفه ثم نحت على ظاهره أشكال نافرة ورسوم متناسبة أو أضلاع مستوية كلها غاية في الحسن ودقة الصنعة. وأحد تلك الأزيار النفيسة اصطنع برسم الخاتون تاتار ابنة السلطان قلاوون وهناك صفائح من الرخام كبيرة حفر على سطوحها نقوش متعرجة متناسبة. وتسمى الصفيحة من تلك الصفائح السلسبيل والغرض منها أن يسيل الماء عليها من أنبوبة فوقها وفي أثناء سيلانه يتكسر بسبب ما تحته من التعاريج ويكون ذلك وسيلة إلى امتزاجه بالهواء ثم يصل إلى حوض رخامي صغير في أسفل الصفيحة فيكون ماء صحياً صالحاً للشرب كذا قالوا. وعندي أن السلسبيل وتحدر الماء عليه مما اتخذ لترويح النفس وإمتاع النظر كما اتخذوا(29/41)
لذلك الفساقي ونوافرها. والسلسبيل في اللغة يوصف به الماء والشراب السائغ السهل المدخل في الحلق.
2) مجموعة الأخشاب: وهي تحتوي على محاريب ومنابر وأبواب وشبابيك ورواشن وكراسي للمصاحف وغيرها منها ما هو جاف غليظ ومنها ما بلغ منتهى الدقة والحسن. وقد ترى أغلاق الأبواب والنوافذ مؤلفة من قطع صغيرة من الخشب ذي الألوان المختلفة بحيث يقوم اختلاف تلك الألوان مقام الدهن بالأصباغ. وتلك القطع متناسقة ومرتبة على أشكال وأوضاع هندسية كصناعة الفسيفساء في الزجاج والرخام. وهي متماسكة الأجزاء لا بالمسامير وإنما بطريق الجمع والتحشية.
فهل كانت المسامير أو مادة الحديد عزيزة وقليلة الوجود في تلك الأعصر إلى هذا الحد؟ أو أن الصناع يريدون أن يظهروا مهارة وبراعة في صناعتهم بحيث يستغنون عما لا غنية عنه في العادة.
3) مجموعة المعدن والبرونز: وهي تتضمن أدوات كثيرة وأشياء مختلفة من ذلك ـ الثريات النحاسية التي قد تحمل الواحدة منها زهاء 360 مصباحاً،. ومنها كرسيان عاليان من نحاس شغل تفريغ مكتب بالذهب والفضة وهما مما صنعهما الصناع برسم ابن قلاوون. ومن الآثار النفيسة في هذه المجموعة مقلمة الغزالي وهي علبة مستطيلة من النحاس كان الإمام يضع فيها دواته وأقلامه ومكتوب على ظاهرها شيخ الإسلام محمد الغزالي الخ وهناك قطعة من الحلي ضخمة محدبة الشكل على هيئة نصف كرة من فضة وذهب ومرصعة بالياقوت والماس أهداها إلى دار الآثار حضرة محمد مجدي بك مستشار الاستئناف بمصر ويقال أن صاحبها في القديم كان يعيرها أو يؤجرها إلى أهل العرس يزينون بها عروسهم ليلة إهدائها إلى زوجها.
4) مجموعة الكاشاني والزجاج: ومعظم هذه المجموعة يتألف من مشكاوات (جمع مشكاة) وقطع آجر منقوشة ومكتبة وملونة بالأصباغ المختلفة. وقد اختلفوا في معنى المشكاة في القرآن اختلافاً كثيراً وأشهر الأقوال فيها أنها الكوة غير النافذة أما المشكاة في دار الآثار فلا خلاف في أنها وعاء من زجاج منتفخ البطن مخصر العنق له عرى حول عنقه يشد منها بالسلاسل إلى السقف ويوضع في جوفه الزجاجة التي يكون فيها المصباح. والمشكاوات(29/42)
في دار الآثار تبلغ المئة. وإنك ترى ظاهرها منقوشاً ومصبغاً بالألوان وبعضها مكتباً بالآيات مثل الله نور السموات إلى قوله تعالى المصباح في زجاجة. ومن نفائس هذه المجموعة قطعة من الكاشاني نصف ذراع في مثله ـ صورت عليها مكة وحرمها ومعاهدها وضواحيها فهي بمثابة خارتة جغرافية لتلك البقاع المباركة وقد نقشت بالأصباغ والألوان المختلفة وعليها كتابات تنبئ بأسماء المعاهد ومكتوب عليها اسم صانعها ـ كل ذلك بمادة المينا أو بالدهان الملون الذي يشوى على سطح الخزف شياً.
وفي هذه المجموعة زير من خزف ضخم كروي الشكل مدهون بدهان قاتم شديد اللمعان وقد عثروا عليه وهم يحفرون في بعض جدران الأزهر وهناك أواني لوضع الزهور (زهريات) وهي كالزير الصغير ولها أعناق مستطيلة على شكل الزهريات التي تصنع في شرقي آسيا وقد صنعت برسم السلطان حسن صاحب الجامع المشهور.
ومما تتضمنه تلك المجموعة هنات مدورة من زجاج كانوا يستعملونها في الموازين مكان الصنوج المعدنية أن هذه يركبها الصدأ أو يأكلها فتزيد أو تنقص وأما تلك فلا تزيد ولا تنقص.
5) مجموعة النسيج: فيها قطعة من ثوب مكتوب عليه اسم قلاوون. وأنفس ما في هذه المجموعة بل أثمن تحفة تنافس بها دار الآثار العربية سائر الدور الأخرى ـ قطعة من حاشية نسيج كان حيك في مصر برسم الخليفة الأمين العباسي ابن هارون الرشيدي المتوفى في أخريات القرن الثاني من الهجرة وقد كتب على هذا النسيج بخيوط السدا واللحمة ما نصه بسم الله بركة من الله لعبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاؤه مما أمر بصنعته في طراز العامة بمصر ـ الفضل ابن الربيع مولى أمير المؤمنين والفضل هذا كان وزيراً للأمين. وقد أريد بطراز العامة دار الطراز التي كان يصنع بها. والطراز من شارات الخلفاء وشعائرهم وهو أن ترسم أسماؤهم أو علامات يخصون بها أنفسهم ـ في حواشي أثوابهم التي يلبسونها ـ بخيوط من ذهب أو حرير ملون فيدل الطراز على لابسه كما تدل شرائط القصب والحرير الملون على مراتب ضباط الجند لهذا العهد. وكان لنسيج الطراز مصانع خاصة به تسمى دور الطراز والقيم الذي يشرف عليها يسمى صاحب الطراز. ويؤخذ مما كتب على قطعة النسيج المذكورة أن دار طراز الخلفاء(29/43)
العباسيين في زمن الأمين ـ كانت في مصر.
هذا مثال مما يمكن أن يقال عن دار الآثار العربية ومن حسن عناية ولاة الأمور بتلك الدار أن اختاروا لها من أبناء البلاد ذوي الكفاءة ممن يعرف كيف يرتب تلك الآثار ويقرأ الكتابات المختلفة التي عليها ويهتم بحل الرموز التي تتراءى فيها ثم يشرح كل ذلك للوافدين فيكثر إن شاء الله ترددهم إليها وانتفاعهم بها.
(المغربي)(29/44)
الفقر والسقام
أيّ مضنى يمدها باكتئاب ... أنة تترك الحشا في التهاب
يتشكى والليل وحف الإهاب ... ضمن بيت جثا على الأعقاب
صفعته فمال كفّ الخراب
تسمع الأذن منه صوتاً حزيناً ... راجفاً في حشا الظلام كمينا
يملأ الليل بالدعاء أنيناً ... ربّ كن لي على الحياة معينا
ربّ إن الحياة أصل عذابي
وجع في مفاصلي دق عظمي ... ودهاني ولم يرق لعدمي
عاقني عن تكسبي قوت يومي ... ربّ فارحم فقري بصحة جسمي
إن فقري أشد من أوصابي
يا طبيباً وأين منّي الطبيب ... حال دون الطبيب فقر عصيب
لا أصاب الفقير داء مصيب ... إن سقم الفقير شيء عجيب
بطلت فيه حكمة الأسباب
رجل معسر يسمى بشيرا ... كان يسعى طول النهار أجيرا
كاسباً قوته زهيداً يسيرا ... مالكاً في المعاش قلباً شكورا
راجياً في المعاد حسن المآب
وله أخت حكته خلقاً نزيهاً ... عانس جاوز الزواج سنيها
لزمت بيت أمها وأبيها ... مع أخيها تعيش عند أخيها
مثله في طعامه والشراب
كل يوم له ذهاب ومأتى ... في معاش من كدّه يتأتى
هكذا دأبه مصيفاً ومشتى ... فاعتراه داء المفاصل حتى
عاقه عن تعيش واكتساب
بينما كان في قواه صحيحاً ... ساعياً في ارتزاقه مستميحا
إذ عراه الضنى فعاد طليحا ... ورمته يد السقام طريحا
جسمه من سقامه في اضطراب
بات يبكي إذا له الليل آوى ... بعيون من السهاد نشاوى(29/45)
فترى وهو بالبكا يتداوى ... قطرات من عينه تتهادى
كشهاب ينقض أثر شهاب
إن سقماً به وعدماً ألما ... تركاه يذوب يوماً فيوما
فهو حيناً يشكو إلى السقم عدما ... وهو يشكو حيناً إلى العدم سقما
باكياً من كليهما بانتحاب
ظلّ يشكو للأخت ضعفاً وعجزاً ... إذ تعزّيه وهو لا يتعزى
أيها الأخت عزّ صبري ... إن للداء في المفاصل وخزا
مثل طعن القنا ووخز الحراب
قد تمادى به السقام وطالا ... وتراءى له الشفاء محالا
إذ قلاباً به السقام استحالا ... كان هيناً فصار داء عضالا
ناشباً في الفؤاد كالنشاب
ظل ملقى وأعوزته المطاعم ... موثقاً من سقامه بالأداهم
منفقاً عند ذاك بعض دراهم ... ربحتها من غزلها الأخت فاطم
قبل أن يبتلى بهذا المصاب
قال والأخت أخبرته بأن قد ... كربت عندها الدراهم تنفد
أخبري السقم عله يبتعد ... أيها السقم خل عيشي النكد
لا تعقني في عيشتي عن طلابي
مرضيني شقيقتي مرضيني ... وعلى الكسب في غد حرضيني
وإذا مسك الطوى فارفضيني ... أو على الناس للمبيع اعرضيني
علهم يشتروني مما بي
رام خبزاً والجوع أزكى الأوارا ... في حشاه فعللته انتظارا
ثم جاءت بالماء تبدي اعتذارا ... وهل الماء وهو يطفيء نارا
يطفئ الجوع ذاكيا في التهاب
خرجت فاطم إلى جارتيها ... وهي تذري الدموع من مقلتيها
فأبانت برقة حالتيها ... من سقام ومن سعار لديها(29/46)
وشكت بعد ذا خلوّ الوطاب
فانثنت وهي بين ذل وعز ... تحمل التمر في يد فوق الخبز
وبأخرى دهناً وبعض أرز ... منحوها به وذو العرش يجزي
من أعان الفقير حسن الثواب
ليلة تنشر العواصف ذعراً ... في دجاها حيث السحاب اكفهرا
ذا هزيم في الأذن وقرا ... حين تبدي صوالج البرق تترى
كهربائية سرت في السحاب
مدّ فيها ذاك المريض الأكفا ... في فراش به الموت أوفى
طرفه كالسها يبين ويخفى ... حيث يغطي طرفاً ويفتح طرفا
عاجزاً عن تكلم وخطاب
فدعته والعين تذري الدموعا ... أخته وهي قلبها قد ريعا
يا أخي أنت ساكت أفجوعاً ... ساكت أنت يا أخي أم عجوعا
فاشفي يا أخي برجع الجواب
قرأت منه أنه لا يجيب ... فتدانت والدمع منها صبيب
ثم أصغت وفي الفؤاد وجيب ... ثم هابت والموت شيء مهيب
ثم قامت بخشية وارتياب
خرجت فاطم من البيت ليلا ... حيث أرخى الظلام سدلا فسدلا
وهي تبكي والغيث يهطل هطلا ... مثل دمع من مقلتيها استهلا
أو كماء جرى في الميزاب
ربّ أدرك باللطف منك شقيقي ... وامنع الغيث أن يكون معيقي
ومر البرق أن يضيء طريقي ... ببريق أثر بريق
فعسى أهتدي في ذهابي
قرعت في الظلام باب الجار ... وهي تبكي الأسى بدمع الجار
ثم نادت برقة وانكسار ... أم سلمي ألا بحق الجوار
فافتحي إنني أنا في الباب(29/47)
فأتتها سعدى وقد عرفتها ... وعن الخطب في الدجى سألتها
ثم سارت من بعد ما أعلمتها ... تقتفيها وبنتها تبعتها
فتخطين في الدجى بانسياب
جئن والسحب أقلعت عن حياها ... وكذاك الرعود قل رغاها
حيث يأتي شبه الأنين صداها ... غير أن البروق كان ضياها
مومضاًَ في السماء بين الرباب
فدخلن المحل وهو مخيف ... حيث أن السكوت فيه كثيف
وضياء السراج نور ضعيف ... وبه في الفراش شخص نحيف
دب منه الحمام في الأعصاب
قالت الأخت أم سلمى انظريه ... ثكلت روح أمه وأبيه
فرأت منه إذ دنت نحو فيه ... نفساً مبطئ التردد فيه
ثم غاله الردى باقتضاب
وجمت حيرة وبعد قليل ... رمقت فاطماً بطرف كليل
فيه حمل على العزاء الجميل ... فعلا صوت فاطم بالعويل
وبكت طول ليلها بانتحاب
فاستمرت حتى الصباح توالي ... زفرات بنارها القلب صال
فأتاها ودمعها في انهمال ... بعض جاراتها وبعض رجال
من صعاليك أهل ذاك الجناب
وقفوا موقفاً به الفقر ألقى ... منه ثقلاً به المعيشة تشقى
فرأوا دمع فاطم ليس يرقا ... وأخوها ميت على الأرض ملقى
مدرج في رثائث الأثواب
فغدت فاطم ترن رنيناً ... ببكاء أبكت به الواقفينا ... أيها الواقفون هل ترحمونا
من مصاب دها وأيّ مصاب
أيها البواقفون لا تهملوه ... دونكم أدمعي بهن اغسلوه(29/48)
ثم بالثوب ضافياً كفنوه ... وادفنوه لكن بقلبي ادفنوه
لا تواروا جبينه بالتراب
بعد أن ظلّ لافتقاد المال ... وهو ملقى إلى أوان الزوال
جاد شخص عليه بعد سؤال ... بريال وزاد نصف ريال
رجل حاضر من الأنجاب
كفنوه من بعد ما تم غسلا ... وتمشوا به إلى القبر حملا
فترى نعشه غداة استقلا ... نعش من كان في الحياة مقلا
دون ستر مكسر الأجناب
ناحت الأخت حين سار وصاحت ... أختك اليوم لو قضت لاستراحت
ثم سارت مدهوشة ثم طاحت ... ثم قامت ترنو له ثم راحت
تسكب الدمع أيما تسكاب
أيها الحاملوه لأمشي ركض ... إن هذا يوم الفراق الممض
فاسألوه عن قصده وأين يمشي ... إنه قد قضى ولم يك يقضي
واجبات الصبا وشرخ الشباب
إن قلبي على كريم السجايا ... طاح والله من أساه شظايا
قاتل الله يا ابن أمي المنايا ... أنا من قبل مذ حسبت الرزايا
لم يكن رزء موتكم في حسابي
إن ليلي ولست من راقديه ... كلما جاءني وذكرنيه
قلت والدمع قائل لي إيه ... يافقيداً أعاتب الموت فيه
ببكائي وهل يفيد عتابي
رحت يوماً وقد مضت سنتان ... أتمشي بشارع الميدان
مشي حيران خطوة متدان ... أثقلته الحياة بالأحزان
وسقته كأساً بطعم الصاب
بينما كنت هكذا أتمشى ... عرضت نظرة فأبصرت نعشا
بادياً للعيون غير مغشى ... نقش الفقر فيه للحزن نقشا(29/49)
فبدا لوح أبؤس واكتئاب
قلت سراً والنعش يقرب مني ... أيها النعش أنت أنعشت حزني
للأسى فيك حالة ناسبتني ... إن بدا اليوم فيك حزن فإني
أنا للحزن دائماً ذو انتساب
رحت أسعى وراءه مذ تعدى ... مسرعاً في خطاي لم آل جهدا
مع رجال كأنجم النعش عدا ... هم به سائرون سيرا مجدا
فتراه يمرّ مرّ السحاب
مذ لحدنا ذاك الدفين وعدنا ... قلت والدمع بلّ مني ردنا
إن هذا هو الذي قد وعدنا ... فأبينوا من الذي قد لحدنا
فتصدى منهم فتى لجوابي
قال إن الدفين أخت بشير ... أخت ذاك المسكين ذاك الفقير
بقيت بعده بعيش عسير ... وبطرف باك وقلب كسير
وقضت مثله بداء القلاب
قلت أقصر عن الكلام فحسبي ... منك هذا فقد تزلزل قلبي
ثم ناجيت والضراعة ثوبي ... ربّ رحماك ربّ رحماك ربّ
ربّ رشداً إلى طريق الصواب
ربّ إن العباد أضعف أن لا ... يجدوا منك ربّ عفواً وفضلا
فاعف عن أخذهم وإن كنت عدلا ... أنت يا ربّ أنت بالعفو أولى
منك بالأخذ والجزا والعقاب
قد وردنا والأرض للعيش حوض ... واحد كلنا لنا فيه خوض
فلماذا به مشوب ومحض ... عظمت حكمة الإله فبعض
في نعيم وبعضنا في عذاب
أيها الأغنياء كم قد ظلمتم ... نعم الله حيث ما إن رحمتم
سهر البائسون جوعاً ونمتم ... بهناء من بعد ما قد طعمتم
من طعام منوّع وشراب(29/50)
كم بذلتم أموالكم في الملاهي ... وركبتم بها متون السفاه
وبخلتم منها بحق الله ... أيها الموسرون بعض انتباه
أفتدرون أنكم في تباب
بغداد
معروف الرصافي(29/51)
الفتوة والفتيان
قرأت ما نقلتموه عن تاريخ ابن الساعي من أمر الفتوة والفتيان وذهبتم إلى أنها بجمعية سياسية والأليق أن يقال أنها جمعية للإنسانية تعاهد المنتظمون في سلوكها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقويم المعوج وإغاثة الملهوف وقرى الضيف وما أشبه ذلك من مكارم الأخلاق ولما كان لا بد لمن نصب نفسه للقيام بهذه المقاصد من فرط القوة والنجدة وتوفر الحمية والحفيظة فكان لا بد في هذه الحالة من أن تثور تلك الحمية التي قد تنقلب أحياناً حمية جاهلية وتدخل فيها المنافسات والمناظرات والتساجل بقوة الساعد ووثاقة العضل أو حسن الرماية أو إتقان المضاربة والمطاعنة مما قد يبعد بالجمعية عن أصل وضعها ويصيرها نوعاً مما يقال له مشيخة شباب في بلادنا فيلبس الفتيان سراويلات مخصوصة ويتنافسون في أمور هي محض جهالة ودعارة وإن كان أصل المقصد سامياً شريفاً فقد احتوت هذه الجمعية في وقتها على ما يمدح ويذم شأن سواها من الجمعيات وقد كان يعاب على الخليفة الناصر العباسي اشتغاله بهذه المسائل فقرأت في تاريخ أبي الفداء صاحب حماه في حوادث سنة سبع وستمائة أنه وردت في تلك السنة رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا لها سراويلها وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم أهـ لا جرم أن هذا مما يترفع عنه الخلفاء ولا يليق بأصحاب هاتيك المقامات ثم أنه يقول عند ذكر وفاة الخليفة المذكور أنه كان قبيح السيرة منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب ويلبس سراويلات الفتوة ومنع رمي البندق لا من ينسب إليه فأجابه الناس إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت وهرب من بغداد إلى الشام أهـ ثم أننا وجدنا آثار هذه الجمعية في القرون المتأخرة فقد أخبر ابن بطوطة من أهل القرن الثامن بوجودها في الأناضول وهي متلونة هناك بلون أبنائها من كرم الخلق وحسن السريرة فإن الجمعيات تدخل كل البلاد فتتلون في كل بلد بأخلاق أهله وتحمل طباعهم ولهذا امتدحها السائح الطنجي امتداحاً فائقاً في رحلته الشهيرة فقال: ذكر الأخية الفتيان واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته(29/52)
وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضاً ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافة لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وإن لم يرد وارد اجتمعوا هم على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدو وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي ولم أر في الدنيا أجمل من أفعالهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر وأعظمهم إكراماً له وشفقة عليه وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي ولم أكن يومئذ أفهمه وكان عليه أثواب خلقة وعلى رأسه قلنسوة لبد فقال لي الشيخ: أتعلم ما يقول هذا الرجل فقلت: لا أعلم ما قال فقال لي: إنه يدعوك لضيافته أنت وأصحابك فعجبت منه وقلت له: نعم فلما انصرف قلت للشيخ: هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا ولا نريد أن نكلفه فضحك الشيخ وقال لي: هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية وهو من الخرازين وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قدموه على أنفسهم وبنوا زاوية للضيافة وما يجتمع لهم بالنهار أنفقوه بالليل فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته فوجدناها زاوية حسنة مفروشة باليسط الرومية الحسان وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي وفي المجلس خمسة متن البياسيس والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب وإلى جانبه آنية من نحاس ملآنة بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل وأحدهم موكل بها ويسمى عندهم الخراجي (الجراغجي) وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم وعلى وسطه سكين في طول ذراعين وعلى رؤوسهم قلانس بيض من الصوف بأعلى كل قلنسوة قطعة موصولة بها في طول ذراع وعرض إصبعين فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوته ووضعها بين يديه وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردحاني وسواه حسنة(29/53)
المنظر وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين ولما استقر بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء ثم أخذوا في الغناء والرقص فراقنا حالهم وطال عجبنا من سماحهم وكرم أنفسهم وانصرفنا عنهم آخر الليل وتركناهم بزاويتهم.
بيروت
ش(29/54)
طبوعات ومخطوطات
العمدة
نص ابن خلدون في المقدمة عند كلامه على صناعة الشهر ووجه تعلمه أن كتاب العمدة لابن رشيق (المتوفى سنة 463) مستوفى في هذه الصناعة وتعلمها وفيه البغية من ذلك. وقد كان طبع الجزء الأول منه في تونس فأعيد طبعه الآن وأضيف إليه الجزء الثاني مصححاً بقلم الشيخ محمد بدر الدين النعساني وذكر في الصفحة الأولى منه أنه قوبل على ثلاث نسخ وكنا نود لو عرفنا هذه النسخ بأعيانها وتواريخا ليظهر فضل العناية. والكتاب شهل الإنشاء آخذ بطرف الموضوع الذي طرقه ابن رشيق والأدب غضّ والنفوس مولعة به. نشأ مؤلفه في مدينة القيروان خامس مدينة في الإسلام ولما خربت رحل عنها إلى صقلية وناهيك بمن يقول فيه الصلاح الصفدي وفي مصنفاته وأكثرها في الشعر والأدب. وقد وقفت على هذه المصنفات والرسائل المذكورة بجميعها فوجدتها تدل على تبحرة في الأدب وإطلاعه على كلام الناس ونقله لمواد هذا الفن وتبحره في النقد. والكتاب لا يسأم المطالع من النظر فيه خصوصاً مع جودة طبعه الآن لأن مؤلفه لا يطيل الأبواب والفصول وينتقل فيه الناظر من فكاهة إلى أطروفة إلى أدب وعلم وشعر وكله مما يروّح به الإنسان عن نفسه وفيه قصص لطيفة تصور حالة العرب في اجتماعهم وتنافسهم في الشعر والأدب قبل الإسلام وبعده وقد وقع الكتاب في مجلدين ويطلب من مكتبة طابعه أمين أفندي الخانجي بالحلوجي.
ديوان الخليل
أتحفنا خليل أفندي مطران الشاعر المشهور في خدمة الأدب والصحافة بنسخة من الجزء الأول من ديوانه الذي طبعه مؤخراً في زهاء ثلثمائة صفحة في الغزل والنسيب والمديح والرثاء والتهنئة ووقائع أحوال وأحسن ما يقال فيه أن نورد للقراء نموذجاً من هذا الشعر العصري المنسجم قال في وصف قلعة بعلبك:
همّ فجر الحياة بالإدبار ... فإذا مرّ فهي في الآثار
والصبي كالكرى نعيم ولكن ... ينقضي والفتى به غير داري
يغنم المرء عيشه في صباه ... فإذا بان عاش بالتذكار(29/55)
إيهِ آثار بعلبك سلام ... بعد طول النوى وبعد المزار
ووقيت العفاء من عرصاتٍ ... مقوباتٍ أو أهل بالفخار
ذكريني طفولتي وأعيدي ... رسم عهد عن أعيني متواري
مستطاب الحالين صفواً وشجواً ... مستحب في النفع والأضرار
يوم أمشي على الطلول السواجي ... لا افترار فيها إلا افتراري
نزقاً بينهن غراً لعوباً ... لاهياً عن تبصر واعتبار
مستقلاً عظيمها مستخفاً ... ما بها من مهابة ووقار
يوم أخلو بهند نلهو ونزهو ... والهوى بيننا أليف مجاري
نتبارى عدواً كأنا فراشاً ... روضةٍ ما لنا من استقرار
نلتقي تارة ونشرد أخرى ... كل ترب في مخباءٍ متواري
فإذا البعد طال طرفة عين ... حثنا الشوق مؤذناً بالبدار
وعداد اللحاظ نصفو ونشقى ... بجوار ففرقة فجوار
ليس في الدهر محض سعد ولكن ... تلد السعد محنة الأكدار
كلما نلتقي اعتنقنا كأنا ... جِدُّ سفر عادوا من الأسفار
قبلات على عفاف تحاكي ... قبلات الأنداء والأسحار
واشتباك كضم غطن أخاه ... بأياد غرّ من النوار
قلبنا طاهر وليس خلياً ... أطهر الحب في قلوب الصغار
كان الهوى سلاماً وبرداً ... فاغتدى حين شب جذوة نار
حبذا هند ذلك العهد لكن ... كل شيءٍ إلى الردى والبوار
هدَّ عزمي النوى وقوض جسمي ... فدمار يمشي بدار دمار
خرب حارت البرية فيها ... فتنة السامعين والنظار
معجزات من البناء كبار ... لأناس ملء الزمان كبار
ألبستها الشموس تفويف در ... وعقيق على رداء نضاء
وتحلت من الليال بشاما ... ت كتنقيط عنبر في بهار
وسقاها الندى رشاش دموعٍ ... شربتها ظوامئ الأنوار(29/56)
زادها الشيب حرمة وجلالاً ... توجتها به يد الأعصار
رب شيب أتم حسناً وأولى ... واهن العزم صولة الجبار
معبد للأسرار قام ولكن ... صنعه كان أعظم الأسرار
مثل القوم كل شيء عجيب ... فيه تمثيل حكمة واقتدار
صنعوا من جماده ثمراً يج ... نى ولكن بالعقل والأبصار
وضروباً من كل زهر أنيق ... لم تفتها نضارة الأزهار
وشموساً مضيئة وشعاعاً ... باهرات لكنها من حجار
وطيوراً ذواهباً آيبات ... خالدات الغدوّ والإبكار
في جنان معلقات زواه ... بصنوف النجوم والأنوار
وأسوداً يخشى التحفز منها ... ويروع السكوت كالتزأر
عابسات الوجوه غير غضاب ... باديات الأنياب غير ضواري
في عرانينها دخان مثار ... وبألحاظها سيول شرار
تلك آياتهم وما برحت في ... كل آنٍ روائع الزّوار
ضمها كلها بديع نظام ... دق حتى كأنها في انتثار
في مقام للحسن يعبد بعد ال ... عقل فيه والعقل بعد الباري
منتهى ما يجاد رسماً وأبهى ... ما تحج القلوب في الأنظار
أهل فينيقيا سلام عليكم ... يوم تفنى بقية الأدهار
لكم الأرض خالدين عليها ... بعظيم الأعمال والآثار
خضتم البحر يوم كان عصياً ... لم يسخر لقوة من بخار
وركبتم منه جواداً حروناً ... قلقاً بالممرس المغوار
إن تمادى عدواً بهم كبحوه ... وأقالوه إن كبا من عثار
وإذا ما ظغى بهم أوشكوا أن ... يأخذوا لاعبين بالأقمار
غير صعب تخليد ذكر على الأر ... ض لمن خلدوه فوق البحار
شيدوها للشمس دارة صلاة ... وأتم الرومان حلي الدار
هم دعاة الفلاح في ذلك العص ... ر وأهمل العمران في الأمصار(29/57)
نحتوا الراسيات نحت صخور ... وأبانوا دقائق الأفكار
وأجادوا الدمى فحاز عليهم ... أنها الآمرات في الأقدار
سجدوا للذي هم صنعوه ... سجدات الإجلال والإكبار
بعد هذا أغاية فترجى ... لتمام أم مطمع في افتخار
نظرت هند حسنهن فغارت ... أنت أبهى ياهند من أن تغاري
كل هذي الدمى التي عبدوها ... لك يا ربة الجمال جواري
رواية هملت
رواية هملت من الروايات التمثيلية منسوبة لشكسبير شاعر الإنكليز كان نقلها إلى العربية نثراً ونظماً الشيخ أمين الحداد المشهور بشعره ونثره وجرى تمثيلها مرات كثيرة وقد طبعت الآن في 70 صفحة جاء فيها على لسان عملت ما ننشره نموذجاً من شعر الحداد قوله:
نجدُّ والدهر بنا يلعب ... لا مانع منه ولا مهرب
والحب يقتاد الفتى مكرهاً ... فكيف ما يكره يستعذب
تحلو الأماني وتحقيقها ... وهي إذا ما حققت تعطب
ضاعت حقيقات المنى في الورى ... فلم تعد تعرف إذ تنسب
والوحش لو أنصفت درى بها ... إذ أنها عند الظما تشرب
ونحن نستأني بحاجاتنا ... والحس لا يمهل إذ يطلب
فاترك غداً إن غداً مدة ... بعيدة فيها الردى الأقرب
واقض الذي تهوى بدنياك لا ... يمنعك الجاه ولا المنصب
ولا تبت مدخراً فالمنى ... تراح ما بتَّ بها تتعب
إن أنت أعيتك سؤالات من ... ترى فسل في القرب من غيبوا
وقل لمن بات غداً ناظراً ... يرقب الموت له يرقب
المس بكفيك تصدق متى ... شككت أن الحس لا يكذب
أجدادنا هذي واماتنا ... تلك وذا الابن وهذا الأب
لا حلقة مفقودة بينهم ... يطرحها في الجمع من يحسب(29/58)
كانوا دليلاً في سبيل الردى ... لنا على آثارهم نذهب
إذا ذوى الأصل غدا فرعه ... يضحك منه المطر الصيب
وقل لمن تاه على غيره ... بنعمة من غيره تسلب
تحت الثرى المثري غدا واغتدى ... في التربة التارب والمترب
هذا هو الحق الذي ما اقتضى ... تفلسفاً ذا العجب الأعجب
دعني أطلب غايتي جاهداً ... أنهبها من قبل أن تنهب
وخذ حياتي وابق لي منه ما ... يمنع ضرَّ الناس إذ أرغب
لو منع الضر الحيا في الورى ... إذن تساوى الكف والمخلب
يا أيها الرأس الذي في يدي ... هل كنت رأساً في الورى ترهب
أم كنت جباراً تذل العدى ... أم كاتباً ينقل ما تكتب
أم فيلسوفاً نافعاً علمه ... تغضبه الدنيا ولا يغضب
أم جاهلاً ما اهتم في دهره ... يخسر فيما عاش أم يكسب
حقيقة الأشياء مجهولة ... كلٌّ على مذهبه يذهب
حقيقة تاهت عقول الورى ... في كنهها واستعجم المعرب
جماجم في التراب مزروعة ... يحصدهن النمل والجندب
بل أنفس في التراب مغروسة ... أثمارها موعظة تخطب
لصورة أخرى تحولتم ... قد كان ماءً في الثرى الطحلب
ثم استحال الكرم حتى اغتدى ... خمراً لأرباب الورى تسلب
دائرة لا ينتهي حدها ... نمشي عليها الدهر ولا نتعب
أعلام الموقعين
للعلامة شمس الدين أبي بكر محمد بن قيم الجوزية المتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة شهرة فائقة بقوة البيان والميل للأخذ بالحجة والبرهان حتى كثر انتفاع الموافق والمخالف بكتبه وله مؤلفات كثيرة في فنون شتى. وكتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين من أهم كتبه أورد فيه علم الفقه على أسلوب قلًّ أن يعهد في كتاب آخر وذلك أنه نقل المسائل المشهورة واختلاف العلماء فيها ثم رجح فيه ما قام عليه الدليل بحسب ما ظهر له بدون(29/59)
التزام مذهب معين وقد أكثر من إيراد العلل وكان مولعاً برعاية المصالح. وكتابه هذا أصبح نادر الوجود فسعى في إحيائه أناس من أهل العند قاموا بجمع أجزائه وطبعها غير أن نسخه مع قلة ورودها إلى هذه البلاد منسوجة على الأسلوب المعروف في طبع أهل الهند فتصدى الشيخ فرج الله زكي الكردي بمصر لإعادة طبعه فطبعه على ورق جيد مع استحضار نسخ خطية ليتم تصحيح الكتاب على طريقة حسنة فجاء وافياً بالمراد ظاهرة عليه علائم الجد والاجتهاد وقد جعله في ثلاثة أجزاء تقع في زهاء 1400 صفحة كبيرة بحرف واضح جلي وأضاف إليه كتاب حادي الرواح للمؤلف فنثني على الطابع بما تستحقه عنايته وهو يطلب منه بخمسين قرشاً.
تاريخ آداب اللغة العربية
هذا الكتاب في موضوع صعب يحتاج في إلى إطلاع وافر وتضلع من فنون الأدب تصدى لجمعه محمد بك دياب المشهور بالفضل والأدب. في مصر فأودعه من بدائع الفوائد ما تقر به عين المطالع وضمنه مطالب شتى يحتاج إليها طالب الأدب. قال المؤلف في بيان سبب تأليفه أن أحد أصدقائه أخبره أن مستشرقي الألمان وكذلك فعل مستشرقو (الإنكليز والفرنسيس والطليان والروس وغيرهم) عنوا بتاريخ آداب لغتنا فوضعوا فيه كتاباً ذا أسفار مطبوعاً بلغتهم وود لو يؤلف بالعربية مثله فلاح بخاطري أن اشق عباب هذا الموضوع الجليل فسرت في سبيله متجشماً الصعاب بضعة أعوام إلى أن اهتديت إلى وضع مؤلف جامع لأشتاته المتفرقة في بطون مئين من أمهات الكتب ذات الاعتبار وقد شرحت فيه نشأة العلوم الأدبية وسيرها في مختلف العصور والكتب التي ألفت فيها وأزمانها وحياة مؤلفيها وذكرت فصولاً في كل فن اقتضاها سير التأليف. والكتاب يقع في نحو 440 صفحة جعلت في مجلدين ويطلب من مؤلفه بالقاهرة فنشكر له هديته وهمته.
أجنيل برنابا
اعترفت الكنيسة بأناجيل أربعة وهي إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا وأبطلت ما عداها من الأناجيل أو عدته مزوراً ومن جملة الأناجيل التي أبطلها البابا في القرن الخامس للمسيح إنجيل برنابا. وبرنابا هذا يهودي من ساكني قبرص دان بالنصرانية وكان من أتراب بولس الرسول طاف آسيا الصغرى وسوريا وبلاد اليونان وقتل في(29/60)
قبرص نحو سنة 63 للمسيح. وقد وجدت نسخة من إنجيل ينسب إليه في مكتبة فيينا الإمبراطورية كتب كما رجح العارفون في القرن السادس عشر باللغة الإيطالية القديمة وعليه حواش بالعربية فقال بعضهم أن لهذا الإنجيل أصلاً عربياً نقل عنه إلا أن العارفين من المستشرقين أمثال الأستاذ مرجليوت وغيره نفوا ذلك وقالوا أنه ليس في العربية كتاب من هذا القبيل ولا إشارة إليه. وقد ترجم في السنة الماضية باللغة الإنكليزي ونقله إلى العربية الدكتور خليل بك سعادة ووضع له مقدمة مطوله ونشره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر بمصر وقد أحسن المترجم بنقله بالحرف وإن خالف الأسلوب العربي أحياناً لأن اللغة العربية يجب أن يكون فيها كل شيء ولا سيما مثل هذا السفر الذي رددت الألسن ذكره وتشوفت النفوس إلى الوقوف عليه. وقد جاء في 225 صفحة مطبوعاً طبعاً حسناً في مطبعة المنار ومنها يطلب بخمسة عشر قرشاً فنشكر للمترجم والناشر همتهما.(29/61)
سير العلم والاجتماع
لغات العالم
أحصي عدد المتكلمين باللغات الرئيسية في العالم فكان المتكلمون بالإنكليزية 136 مليوناً من البشر أي 27 بالمئة من مجموع سكان العالم والمتكلمون بالألمانية 83 ملوناً أي 16 في المئة. ويتكلم الصينية 14 في المئة والمتكلمون بالإفرنسية 28 مليونا (كذا يجيء عدد المتكلمين باللغات الأخرى فتجيء الروسية والعربية والإيطالية والإسبانية والهولندية).
جهنم الحروب
كتب أحد أطباء نيويورك مقالاً يصف فيه الأمراض الكثيرة التي تسطو على أجسام المتحاربين أكثر من أدوات القتال وأسلحة النزال فأثبت أنه مات في الحرب الروسية العثمانية ثمانون ألفاً بالأوبئة على حين لم يمت سوى عشرين ألفاً مجروحين وأنه هلك في حرب الرقيق في الولايات المتحدة أربعمائة ألف بالأمراض على حين هلك مئة ألف في القتال وأهلك المرض في حرب جنوبي أفريقية عشرة أضعاف ما أهلك المدفع وكان معظم الأسباب التي دعت إلى كثرة الهالكين في الحرب الإسبانية الأميركية قلة العناية الطبية على العكس في الحرب الروسية اليابانية فإن اليابانيين لم يفقد منهم سوى سبعة وعشرين ألفاً في المستشفيات لقاء سبعة وخمسين ألفاً قضوا في ساحة الوغى.
مصور الزمن
أسست ألمانيا منذ سنة 1906 ديواناً خاصاً تنقل إليه من أطراف الإمبراطورية الألمانية أخبار الجو والهواء فيؤلف بينها وينشرها في نشرة توزع في أطراف البلاد كما تنشر الأنباء البرقية المهمة وتوزع خاصة على الجرائد وبذلك يتيسر للفلاحين أن يعرفوا أحوال الجو يوماً فيوماً.
بريد الهند
سينتقل بريد الهند عما قريب من البر ليكون أقصد في الوقت منه عن طريق البحر فتتصل لندرا بكلكوتا بالسكك الحديدية عن طريق فرسوفيا في بولونيا فيسافر هذا الخط من كلكوتا حيث تصل صادرات أستراليا بالسفن إلى مدينة دهلي فقندهار فهرات فكوتشكا فسمرقند فمرو فكراسنوفودسك فباكو فكييف ففارسوفيا فبرلين فكالي فلندرا وغندما تصل الركاب(29/62)
والبضائع إلى كراسنوفودسك تنقل على سفن سريعة إلى العدوة الثانية من باكو.
السخاء الأميركي
بلغ ما جاد به الكرماء من الأميركان سنة 1907 على العلم والتربية 354 مليون فرنك وما جادوا به على المعاهد الدينية 41 مليوناً وما منحوه للمتاحف ودور الكتب 100 مليون ولا شك أن هذا السخاء متناسب مع تلك الثروة الهائلة.
مبرة مصرية
وقف مصطفى بك الجوربجي عشرة منازل في كفر الزيات في الوجه البحري لمدرستيه اللتين أنشأهما بماله وبلغ ما أنفق على تشييدهما نحو خمسة آلاف جنيه فلهما الآن إيراد سنوي يربي على ألف جنيه كما أنشأ مدرستين في بريد ووقف عليهما أملاكاً تعيشان به.
ناد للمعارف
تبرع الأمير يوسف كمال بألف ومائتي متر في المنيرة إحدى أحياء القاهرة لينشأ فيها ناد للمعارف يختلف إليه أهل العلم وطلابه وجاد لإنشائه بألفي جنيه وبمكتبة عربية وإفرنجية وهذه المنحة لا تقل عن ثمانية آلاف جنيه.
رواج الكتب
معدل ما يبع سنوياً من كتب شكسبير الشاعر الإنكليزي ثلاثة ملايين نسخة ومن غريب ما يدل على رواج الكتب في ألمانيا أن إحدى جرائد ليبزيك الأسبوعية ستحتفل في أكتوبر المقبل بمرور السنة الخامسة والعشرين على تأسيسها فوضع مديرها ثلاثين ألف مارك جائزة لمن يكتب أحسن رواية ومعلوم أنه إذا لم يكن موقناً بالرواج ما جاد هذا الجود المحمود على أرباب الأقلام والذين يحكمون في الجائزة بعض كبار النقاد من أدباء الألمان.
السلك البرقي النظار
يجرب أحدهم معدن السالانيوم بأن يجعله يتأثر بالنور فإذا تمت تجاربه كما يريد أصبح الإنسان يخاطب صديقه على لسان البرق وهو يراه ويسمعه.
بسطة العيش
افتتح مؤخراً ناد للنساء في نيويورك ليس له مثيل في أندية الأرض ببذخه بل برخاء الحياة(29/63)
فيه فإن كل شيء فيه حتى المائدة وما يتبعها تدار بواسطة الكهربائية ففيه غرف باردة توضع فيها الفراء وقد جعلت حشوات المواضع التي تناط بها الثياب من خشب تقتل رائحته العث.
ديون الممالك
تزيد ديون الممالك أوروبية يوماً عن يوم فدين فرنسا أكثر من جميع الممالك فهي مدينة بتسعة وعشرين ملياراً من الفرنكات وتجيء بعدها روسيا تبلغ ديونها 23 ملياراًُ ودين ألمانيا 21 ملياراً ودين بريطانيا 19 ودين إيطاليا 13 ودين النمسا 10 مليارات ودين إسبانيا9.
مدراس الفلاة
فتحت في مدينة شارتونبرغ في ألمانيا منذ بضع سنين في الضواحي أشبه بأن تكون مدارس تشتغل في العطلة المدرسية فهي لا تفتح إلا سبعة أشهر في السنة فقط وتقبل البنين والبنات وتعلمهم معاً كل ما يلزمهم لقاء قرشين في النهار ويأكلون بها ويشربون فيركبون الترامواي الساعة السادسة صباحاً ويعودون بهم في المساء وأكثر الأولاد من الفقراء والغالب أن بعض مدن ألمانيا وغيرها ستنسج على منوال هذه المدرسة.
حركة العالم التجارية
أحصي مجموع الحركة التجارية والبحرية في العالم مدة العشر سنين الأخيرة فكان مجموع صادرات ألمانيا ووارداتها 11603000000 فرنك سنة 1897 فبلغت سنة 1906 18222000000 وأنفقت وزارة البحرية لحماية هذه الحركة سنة 97 ـ 109400000 فرنك وبلغ ما أنفقته سنة 1906 ـ 331300000 فرنك وكان مجموع حركة الصادرات والواردات معاً في فرنسا سنة 1897 ـ 10782150000 فرنك وأنفقت بحريتها 265250000 فرنك وبلغ مجموع تلك الحركة فيها سنة 1906 ـ 44800750000 فرنك وما أنفقته البحرية في تلك السنة 4123525000 فرنك وبلغ مجموع تجارة إنكلترا سنة 97 ـ 25304725000 فرنك وارتقى سنة 1906 إلى 47656900000 وكان مجموع نفقاتها البحرية سنة 1897 ـ 556775000 فأصبحت سنة 1906 ـ 839375000 وبذلك تبين أن التجارة الألمانية تضاعفت في عشر سنين في حين نفقاتها(29/64)
البحرية زادت ثلاثة أضعاف وأن إنكلترا كانت سنة 1897 تنفق على بحريتها خمس مرات ما تنفقه ألمانيا ولكنها في سنة 1906 لم تنفق في هذا السبيل بالنسبة إلا ثلاثة أضعاف ما كانت تنفقه فزادت من ثم نفقاتها البحرية خمسين في المئة على حين زادت نفقات ألمانيا ثلاثمائة في المئة ولا يزال النمو في ألمانياتزايد وأي زيادة كل سنة.(29/65)
العدد 30 - بتاريخ: 1 - 7 - 1908(/)
صدور المشارقة والمغاربة
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
نشأ للعربية في أوائل القرن الثاني للهجرة كاتبان بليغان يصح أن يدعيا واضعي أساس الإنشاء العربي وناهجي طريقة الكتابة المرسلة فكانا مناراً يهتدى به إلى يوم الناي هذا ونعني بهما عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى الكاتب. ظهر هذان الإمامان واللغة في نضرتها الأولى فكان لهما من فطرتهما السليمة أعظم مساعد لهما على النبوغ وزادت شهرتهما مساعد لهما على النبوغ وزادت شهرتهما لاتصالهما بالخلفاء والأمراء ومرانهما على الكتابة في الأغراض الكثيرة التي كانت تطلب إليهما فيخوضان عبابها مجليين مبرزين.
نشأ ابن المقفع في العراق على ما ينشأ عليه أبناء اليسار وكان والده ينتحل نحلة مجرس الفرس ولي خراج فارس للحجاج بن يوسف الثقفي في الدولة الأموية. ولقب المقفع لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده أي تشخبت لمدها لأخذ الأموال على ما يقال. وربي ابنه عبد الله تربية إسلامية وأولع بالعلم وهو مكفي المؤونة فجاء منه في سن العشرين ما يندر أن يكون مثله لأبناء الأربعين والخمسين. واتصل بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من بني العباس وكاتب له واختص به وأراد أن يدين بالإسلام فجاء إلى عيسى ابن علي وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجس فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام فقال: أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح اسلم على يده فسمي بعبد الله وكني بأبي محمد.
أهم كتب ابن المقفع التي طار ذكرها كتاب كليلة ودمنة الذي نقله عن الفارسية ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. قال القفطي وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور وترجم كتب أرسطو طاليس المنطقية الثلاثة وهي كتاب قاطيغورياس وكتاب باري أرمينياس (أوبارميناس) وكتاب أنا لوطيقا وذكر أنه ترجم إيساغوجي تأليف فرفوريوس الصوري. والأرجح أنه نقل هذه الكتب عن الفارسية(30/1)
أو نقلها له ناقل عن اليونانية وصاغها هو في قالب عربي فنسبت له إذ لم يثبت أنه كان يعرف غير الفارسية من اللغات. وعبارة ابن أبي أصيبعة في تاريخ الأطباء تشبه قول القفطي في تراجم الحكماء والغالب أنهما نقلا عن مصدر واحد مع تغيير طفيف في عبارتيهما.
قال ابن النديم واسمه بالفارسية روزبة وهو عبد الله بن المقفع ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو فلما أسلما اكتنى بأبي محمد والمقفع بن المبارك إنما تقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان ضرباً مبرحاً فتقفعت يده وأصله من خوز مدينة في كور فارس وكان يكتب أولاً لداود بن عمر بن هبيرة ثم كتب لعيسى بن علي على كرمان وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة شاعراً فصيحاً وهو الذي عمل شرط عبد الله ابن علي على المنصور وتصعب في احتياطه فيه فاحفظ ذلك أبا جعفر فلما قتله سفيان بن معاوية حرقاً بالنار وقع ذلك من المنصور بالموقع الحسن فلم يطلب بثاره وطل دمه وكان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي مضطلعاً باللغتين فصيحاً بهما وقد نقل عدة كتب من كتب الفرس منها كتاب خداينامة في السير كتاب آيين نامة في الإصر وكتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك كتاب التاج في سيرة أنوشروان كتاب الآداب الكبير ويعرف بماقراحسيس كتاب الأدب الصغير كتاب اليتيمة في الرسائل.
وقال أن أبا الجاموس ثور بن يزيد أعرابي كان يفد البصرة على آل سليمان بن علي وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة ولا مصنف له وقال: بلغاء الناس عشرة ابن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، محمد بن حجر، أنس بن أبي شيخ، وعليه اعتمد أحمد بن يوسف الكاتب، سالم بن مسعدة الهرير، عبد الجبار بن عدي، أحمد بن يوسف، وذكره في الشعراء الكتاب فقال أنه مقل وقال وقد كانت الفرس نقلت في القديم شيئاً من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية فنقل ذلك إلى العربي عبد الله بن المقفع وغيره وقال في الكتب المصنفة في السماء والخرافات أن عبد الله بن المقفع من جملة من كان يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم.
والراجح أن الحسد غلت مراجله في صدور بعض معاصريه والمعاصرة كما قيل حرمان فنسبوا إليه ما نسبوا من الزندقة لقصورهم عن بلوغ شأوه أو لغرض في أنفسهم قال ابن(30/2)
خلكان نقلاً عن الجاحظ: أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه. قلنا وعبارة الجاحظ في بعض رسائله بشأن ابن المقفع تشير إلى قصوره في علم الكلام فقط فإنه قال:
فصلٌ ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع ويكنى أبا عمرو وكان يتولى لآل الأهتم وكان مقدماًُ في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير وكان جواداً فارساً جميلاً وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلاً ولا كثيراً وكان ضابطاً لحكايات المقالات ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت في خلص المتكلمين ومن النظارين فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم. وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن نفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء غلا بعد به. أهـ.
لا جرم أن إطلاق ابن المقفع لسانه في المعتزلة دعا أحد أئمتها إلى أن يصدر عليه هذا الحكم الغريب ولكن الجاحظ أيضاً على ثبوت تدينه لم يسلم من هذا الطعن كما رأيت. وأن مسألة التهمة في الدين من الأمور التي شاعت في كل عصر ومصر ويكون المتهمون بها في معظم الأحوال أبرياء وإلا فكيف تسجل الزندقة على ابن المقفع إذا جرينا مع الدليل. وليست الزندقة بحثاً عما يضمره الإنسان في نفسه لأن مثل هذا لا يطلع عليه إلا الله تعالى ويكفي أن يقال هلاّ شققت عن قلبه. بل الزندقة التي تذكر في الكتب وتترتب عليها الأحكام ويسوء أن يقال عن فلان أنه زنديق أمور تقوم عليها بينات ظاهرة من أقوال وأفعال وكلام ابن المقفع في الدين يدل على شدة تمسكه وفرط ميله على ما يتجلى لك من رسائله.
ولو كان ثم سبيل لما ينسب إليه لاسيما مع غضب المنصور عليه لكان الأقرب أن يتقرب مثل المنصور بمثل ذلك وفيه ما فيه من إرضاء العامة وشفاء الغليل من العدو بحيث ينتقم منه مع إسقاطه ولا يعدم المنصور حينئذ حيلة في قتله جهاراً بهذه التهمة. أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فتنصرف على القاعدة في اتهامه بالزندقة وما نظن القاضي عياض والباقلاني إلا ناقلين عن أناس من أهل السذاجة ومع ذلك فإنهما قالا أنه أناب.
التهمة بالزندقة أمر نشأت منه مضار كثيرة حتى لم يخل منها مثل الإمام الغزالي الذي كان(30/3)
أعظم أنصار الدين فانظر إلى كتاب فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة الذي ألفه في الرد على أولئك الذين نسبوا إليه ما نسبوا فإن فيه الفناء وأغرب من ذلك القيام على أبي حاتم ابن حيان السبتي إمام المحدثين في عصره وصاحب الصحيح المشهور به والكتب الممتعة الكثيرة واستحصال الأمر بقتله لو لم ينج من ذلك بعوارض لا تخطر في البال.
ومعارضة القرآن أكثر ما تنسب للزنادقة المشهورين بالأدب والفضل يشيع ذلك أناس يقصدون إهلاك عدوهم بأي وسيلة كانت أو ناس هم أقرب إلى الزندقة ممن ينسبونهم إليها حتى أن أبا العلاء المعري على اضطراب الأقوال في نهاية أمره مع ما علم به من أحواله قد عزي إليه كتاب كان معروفاً في بلاد المغرب يسمى بالفصول والغايات ولا يتوقف من كان قريب العهد من عصره في أنه عمله في معارضة السور والآيات وكان كثير ممن يميلون إلى أبي العلاء المعري من أهل المغرب يعجبون مما وقع فيه من سخافة القول الذي ينحط عن جميع كلامه المعروف مع أنه ليس له يد في الكتابة كما علم من كتاب سر الفصاحة وكلامه في رسالة الغفران ينادي بخلاف ذلك.
وعلى الجملة فإن نسبة الزندقة إلى ابن المقفع لا تثبت بوجه من الوجوه التي تعقل في إثباتها وإذا نظرنا إلى ما يتعلق بالغيب فالحكم الشرعي أنه هو والناسبون إليه جميعاً في معرفة ما ينطوون عليه سواء لأنه لم يذهب أحد إلى أن الإيمان يتيسر إثباته بالبرهان إلا إذا ورد عن الشارع في شخص معين إثبات الإيمان أو لوازمه لرجل بعينه.
وتهمة الزندقة الشنعاء كثيراً ما يتهم بها المشتغلون بالفلسفة أمثال ابن رشد والفارابي وابن الصائغ وابن سينا ونسب هذا أنه عارض القرآن وقد كتب رسالة في رد افتراء من افترى عليه ذلك. ومن هنا تظهر لك حسن سياسة المأمون لأن فتح باب البحث عن الزنادقة وقد أوجب من المضار ما لا يحصى كما يعلم من التواريخ وربما كان عصر المأمون أقرب إلى قلة الزندقة في الحقيقة من العصور التي كثر اتهام معظم المفكرين بها وغيرهم ممن يراد الانتقام منهم.
عرفت بهذا أن كلام القائلين بزندقة ابن المقفع مع ما عرف من كلامه هو من ذاك الباب. قال المرتضى في أماليه روى ابن شبة قال: حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلمحه وتمثل:(30/4)
يا بيت عاتكة الذي أتعزَّل ... حذَر العذى وبك الفؤاد موكل
لإني لأمنحك الصدود وأنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
وقال صاحب الأغاني نقلاً عن الجاحظ: كان والبة بن الحباب ومطيع بن إياس ومنقذ ابن عبد الرحمن الهلالي وحفص بن أبي وردة وابن المقفع ويونس بن أبي فروة وحماد عجرد وعلي بن الخليل وحماد بن أبي ليلى الاوية وابن الزبرقان وعمارة بن حمزة ويزيد بن الفيض وجميل بن محفوظ وبشار المرعث وإبان اللاحقي ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون ويهجو بعضهم بعضاً هزلاً وعمداً وكلهم متهم في دينه. قلنا واجتماع المتشاكلين قديم في الناس والغالب أنهم يتحرجون من إدخال من ليس على شاكلتهم في زمرتهم فيتهمون بما هم منه براء كما اتهم جماعة أبي حيان التوحيدي الذي نقل بعض مجالسهم الفلسفية في مقابساته وكانوا من أهل النحل المختلفة تجمع بينهم جامعة العلم والفلسفة كما جمعت بين ابن المقفع وأصحابه جامعة الأدب فقالوا أنهم كانوا يجتمعون على شراب واتهموهم بالمروق. وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ذكر أناس كانوا شديد التصافي والالتحام مع شدة التباين في المذاهب.
أما كيفية مقتل ابن المقفع فقد اجمع مترجموه أنه كان بسبب كتابته أماناً لعبد الله ابن علي قال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طواليق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جداً وخاصة أمر البيعة وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي وهو أمير البصرة من قبله فقتله وكان سفيان شديد الحنق عليه لأن ابن المقفع على ما يقال كان ينال منه ويستخف به حتى عزم على أن يغتاله فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله سراً في داره ويقال أنه عاش ستاً وثلاثين سنة وسأل سليمان وعيسى فقيل أنه دخل دار سفيان سليماً ولم يخرج منها فخاصماه إلى المنصور وأحضره إليه مقيداً وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج فأقاموا الشهادة عند المنصور فقال لهم المنصور: أنا أنظر في الأمر. ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت وأشار إلى باب خلفه وخاطبكم ما تروني صانعاً بكم أأقتلكم بسفيان. فرجعوا كلهم عن الشهادة واضرب عيسى وسليمان عن ذكره وعلموا أن قتله كان برضا المنصور.(30/5)
ولابن المقفع شعر قليل ولكنه جيد نقل له صاحب الحماسة ثلاثة أبيات يقال أنه رثى بها يحيى بن زياد وقال الأخفش والصحيح أنه رثى بها ابن أبي العوجا وهي:
رزئنا أبا عمرو ولا حيّ مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
لقد جر نفقاً ففقدنا لك أننا ... آمنا على كل الرزايا من الجزع
قال ثعلب البيت الأخير يدل على أن مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير ـ فتأمل.
ومما يذكر عن ابن المقفع ما رواه صاحب الأغاني وغيره قال حدثني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أحمد قال سمعت جدي أبا محمد يقول: كنت ألقى الخليل ابن أحمد فيقول لي أحب ن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع فجمعت بينهما فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علماً ثم افترقنا فلقيت الخليل فقلت له يا أبا عبد الرحمن كيف رأيت صاحبك قال: ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت علمه أكثر من عقله. ثم لفيت ابن المقفع فقلت له: كيف رايت صاحبك: قال ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه. وقال المرتضى أن من جمعهما كان عباد بن عباد المهلبي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن.
قال الأصمعي: قيل لابن المقفع من أدبك قال: نفسي إذا رأيت من غيري حسناً أتيته وإن رأيت قبيحاً ابيته. ودعاه عيسى بن علي للغداء فقال: أعز الله الأمير لست يومي للكرام أكيلاً قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار. ومن كلامه شربت من الخطب رياً ولم أضبط لها روياً ففاضت فلا هي نظاماً وليس غيرها كلاماً.
ومما يؤثر عنه وهو ما يدل على رأيه في الإنشاء أنه قال لبعض الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً في نيل البلاغة فإن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر: عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة. وقيل له ما البلاغة فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.
وفي البيان والتبيين عن إسحق بن حسان بن فوهة أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط. سئل ما البلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة. فمنها(30/6)
ما يكون في السكوت. ومنها ما يكون في الاستماع. ومنها ما يكون في الإشارة. ومنها ما يكون في الحديث. ومنها ما يكون في الاحتجاج. ومنها ما يكون جواباً ومنها ما يكون ابتداءً. ومنها ما يكون شعراً ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل فعامة ما يكون في هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة.
فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار من غير خطل والإطالة من غير إملال. قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك كا أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته. كأنه يقول فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواكب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك ولا يشير إلى مغزاك. وإلى العمود الذي غليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت.
قال فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك لامقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنهما لا يرضيهما شيء وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيء لا تناله وقد كان يقال رضاء الناس شيء لا ينال.
وقال عبد العظيم بن أبي الإصبع في تحرير التحبير في البديع في باب التهذيب والتأديب: قد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة ولا يقصدونه بتة إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب وإن كانت كلماتهم متوازنة وألفاظهم متناسبة ومعانيهم ناصعة وعباراتهم واثقة وفصولهم متقابلة وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون وأبي عثمان الجاحظ وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.
وقال الأمين المحبي فيما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه: يتيمة ابن المقفع ـ يضرب بها المثل لبلاغتها وبراعة منشئها وهي رسالة في نهاية الحسن تشتمل على محاسن من الأدب وقد ذكرها أبو تمام وأجراها مثلاً في قوله للحسن ابن وهب:
ولقد شهدت والكلام لآلئٌ ... تؤم فبكر في الكلام وثيب
فكأن قساً في عكاظ يخطب ... وكأن ليلى الأخيلية تندب(30/7)
وكثير عزّة يوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة يسهب
وقال جلال الدين في المزهر نقلاً عن أبي الطيب عبد الواحد اللغوي في مراتب النحويين قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
وقال المعري في عبث الوليد: كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض وروى الأصمعي أنه قال كلاماً معناه قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحناً غلا في موضع واحد وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض.
وروي أن بعضهم ذكر ابن المقفع فقال: ألفاظه معان ومعانيه حكم فصل خطابه شفاء وخصل بيانه كفاء. وسمع أبو العيناء بعض كلام ابن المقفع فقال: كلامه صريح ولسانه فصيح وطبعه صحيح كأن بيانه لؤلؤ منثور وروض ممطور. وقال جعفر بن يحيى: عبد الحميد أصل وسهل بن هارون فرع وابن المقفع ثمر وأحمد بن يوسف زهر.
وعبد الحميد هذا هو الذي يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائل عبد الحميد الفاظ محككة وتجارب محنكة. قال صاحب الوفيات وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماماً وهو من أهل الشام وكان أولاً معلم صبية ينتقل في البلدان وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا وهو الذي سهل البلاغة في الترسل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة.
وقال ابن نباتة: أنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة يقال أنه كان في أول عمره معلم صبيان بالكوفة ثم اتصل بمروان الجعدي قبل أن يصل إلى الخلافة وصحبه وانقطع إليه فما جاء الأمر بالخلافة سجد مروان وسجد أصحابه غلا عبد الحميد فقال له مروان: لم لا سجدت فقال: ولمَ أسجد على إن كنت معنا فطرت عنا يعني بالخلافة فقال: إذاً تطير معي قال: الآن طاب السجود وسجد وكان كاتب مروان طول خلافته.
وهو أول من أخذ التحميدات من فصول الكتب واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ وفي بعضها الإسهاب المفرط على اقتضاه الحال. فمن افيجاز أن بعض عمال مروان أهدى إليه عبداً اسود فأمره بالإجابة ذاماً مختصراً فكتب: لو وجدت لوناً شراً من السواد وعدداً أقل(30/8)
من الواحد لأهديته. وأما الإسهاب فإنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه مروان كتاباً يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم وكان من كبر حجمه يحمل على جمل ثم قال لمروان: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره فإن يك ذلك وإلا فالهلاك فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه وأمر بنار فأحرقه وكتب على جزازة منه إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
ولما اشتد الطلب على مروان وتتابعت هزائمه المشهورة قال لعبد الحميد: القوم محتاجون إليك لأدبك وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي فقال عبد الحميد:
أُسر وفاءً ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
ثم قال يا أمير المؤمنين إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين إليك وأقبحهما بي ولكني أصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك فلما قتل مروان استخفى عبد الحميد فغمز عليه بالجزيرة عند ابن المقفع وكان صديقه وفاجأهما الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا: أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما: أنا خوفاً على صاحبه إلى أن عُرف عبد الحميد فأخذ وسلمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته فكان يحمي له طشتاً ويضعه على رأسه إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل أنه قتل مع مروان في مصر قال المسعودي أنه رأى عقباً بفسطاط مصر يعرفون ببني مهاجر وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون. وكان أبو جعفر المنصور يقول: غلبنا بنو أمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي. وقيل لعبد الحميد: ما الذي مكنك من البلاغة قال: حفظ كلام الصلع يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل له أيما أحب إليك أخوك أم صديقك قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي. وقال أكرموا الكتاب فإن الله تعالى أجرى الرزاق على أيديهم. وقال: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. ومن كلامه خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً.
قال صاحب وفيات الأعيان وكان كثيراً ما ينشد:
إذا خرج الكتاب كانت دويهم ... قسياً وأقلام الدوي لها نبلا(30/9)
ومما نقله عنه أنه ساير يوماً مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه فقال له مروان: قد طالت صحبة هذه الدابة لك فقال: يا أمير المؤمنين إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها فقال له: فكيف سيرها: فقال: همها أمامها وسوطها عنانها وما ضربت قط إلا ظلماً.
ولعبد الحميد كصديقه وضريعه عبد الله بن المقفع شعر نادر فمنه:
كفى حزناً إني أرى من أحبه ... قريباً ولا غير العيون تترجم
فأقسم لو أبصرتنا حين نلتقي ... ونحن سكوت خلتنا نتكلم
هذا ما وصلنا من أخبار هذين الإمامين ونحن نعلم أن ترجمتهما على ما أثبتناها هنا ليست مستوفاة من عامة وجوهها ولكن تلاوة كلامهما أحسن مترجم عنهما إذ كلام المرء قطعة من عقله.(30/10)
رسالة عبد الحميد الكاتب
أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات اللع وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملائكة المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب رزقهم فجعلكم معشر الكتاب من أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم ويعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون ولسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم. فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون مليحاً موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجاماًُ في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف كتوماً للأسرار وفياً عند الشدائد عالماً بما يأتيمن النوازل يضع المور مواضعها والطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار من الحسن واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيراً بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت جموحاً لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوباً اتقاها من بين أيديها وإن خاف منها شروداً توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً ولا تعرف صواباً ولا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها.
ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر واعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيرون منه إلى(30/11)
المؤاخاة والشفقة إن شاء الله تعالى.
ولا يجازون الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعكتم خدمة لا تُحملون في خدمتكم على التقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصنه عليكم واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما ولاسيما الكتاب وأرباب الآداب. وللأمور أشباه بعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة.
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقة وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن إكثاره. وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل أن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقول أحد منكم أنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيء لكل وجه هيئته وعادته.
فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين وابدؤوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسموا إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزهوا صناعتكم عن الدناءة واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أصل الجهالات وإياكم والكبر والسخف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير أحنة وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من(30/12)
سلفكم وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحداً منكم الكبر عن مكسبه ولقاء أخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه وليحذر السقطة والزلة والملل عن تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء وهو لكم أفسد منه لها. فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك تبعاً له عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلك وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمؤاساة والإحسان والسراء والضراء فنعمت التسمية هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة. وغذا ولي الرجل منكم أو صير إليه أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته وليكن على الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقه بعياله.
ثم ليكن بالعدل حاكماً وللأشراف مكرماً وللفيءموفراً وللبلاد عامراً وللرعية متألفاً وعن أذاهم متخلفاً وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقاً وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه التدبير في مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته. فإن أعقل الرجلين عند ذوي اللباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه وأجمل في طريقته وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره.
وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النصيحة يلزمه العمل. وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل فلذلك جعلته آخره وتممته به تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(30/13)
العامية في الفصحى
كثر بحث الباحثين هذه الأيام في المقارنة بين اللغة الفصحى واللغة العامية وقد ظفرنا بكتاب اسمه القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب تأليف الشيخ محمد ابن أبي السرور الصديقي من أهل القرن الحادي عشر قال مؤلفه في مقدمته: وبعد فإني لما طالعت كتاب رفع الإصر عن كلام أهل مصر للعلامة الكامل شيخ أهل الأدب الراقي منه إلى أعلى الرتب الشيخ يوسف المغربي رأيته أتى فيه بالعجب العجاب غير أنه أسهب فيه غاية الإسهاب باستطراده (إلى) بعض الألفاظ اللغوية التي ليست من شرط الكتاب مع ذكره أشعاراً وحكايات من قسم الاستطراد لا معنى لها في هذا التصنيف ولا مدخل لذكرها في هذا التأليف فخطر لي أن ألخص من محاسنه وألتقط درة من مكامنه ولم أذكر فيه من اللغة إلا ما له أصل في اللغة العربية الناطق بها أهل الديار المصرية مرتباً ذلك على ترتيب القاموس كأصله وسميته القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب. والكتاب مرتب على حروف المعجم وهو في بضعة كراريس وهاك نموذجاً منه نقلناه وبعضه لا يخلو مما ينتقد.
يقولون أومى قال في المجرد لا يقال أومى وإنما يقال أومأ أي أشار إليه (قلنا ويقول العامة في الشام فلان كلم فلاناً بالومى أي بالإشارة) ويقولون لقاصد القلعة باباً وفي اللغة العربية بابا الرجل إذا أسرع فيمكن أن يكون البابا منه لأنه يسرع لقضاء الحاجة. ويقولون للولد الصغير إذا أراد المشي تاتا قال في القاموس تاتا الطفل مشى والتبختر في الحرب. ويقولون عند سقي القهوة جبا وهي قرية باليمن يصير فيها البن الصبري وهو عجيب في الحسن فكأن الساقي إذا قال جبا أي هذه قهوة من جبا. ويقولون في سوق الحمار حاحا قال في القاموس حاحا إذا دعي الحمار للشرب وأهل مصر تقول ذلك له إذا أرادوا مشيه وتصحيفه جأجأ (؟) قال في القاموس معناه حمار وثاب، ويقولون لا تتكأ كاد أي لا تتأخر عن السير. ويقولون هاها بالإبل أي زجرها عند ورودها الماء وهأهأ رجل ضحاك، ويقولون يا ما عمل له أصل في اللغة وهو من باب التعجب. ويقولون الأب والأخ مثلاً فيشددون الباء وليس هو خطأ بل له أصل في لغات العرب. ويقولون بيه قال المجدي هو حكاية صوت الصبي والشاب الممتلئ لحماً وصفة الأحمق. ويقولون حوبة ثقال المجدي ومعناه الضعيف عن الشيء والحوبة البعنت والأخت ورقة فؤاد الأم والهم والحاجة والمرأة(30/15)
والسرية كل ذلك يقال له حوبة. ويقولون دُرّاربة وهو كناية عن أحد ألواح الدكان وله أصل في اللغة كذا نقله صاحب الكتاب المجرد في اللغة. ويقولون رجب الموجب أي المعظم وهو صحيح. ويقولو سبب قال بعض أئمة اللغة أي باع واشترى في الشيء. ويقولون شقلبه أي غيره من حال إلى آخر. ويقولون طاب وهو اسم لما يلعبون به واسم الكرة أيضاً ويقولون عرقب في حق الدابة إذا قطع عرقوبها وله أصل في اللغة. ويقولون عِلب قال في القاموس العلبة بالكسر آنية من الشجر غليظة يتخذ منها وعاء للشيء. فائدة: العلبة بالضم النخلة الطويلة وقدح ضخم من جلود الإبل أو من خشب يحلب بها.
ويقولون قب جلدي منه إذا اقشعر وله أصل في كتب اللغة. ويقولون قطب له المزين وهو في صحيح كتب اللغة ويقال قطب الشيء قطعه ثم جمعه وقطب فلان أي غضب. ويقولون للمنعزل عن الناس قطرب وهو صحيح لأنه من جنس الأمراض السوداوية صاحبه يحب الانفراد من الناس وله معان كلها قبيحة وهو بالضم اللص والفأرة والذئب والأمعط والجاهل والجبان والسفيه والمصروع وصغار الكلاب ودويبة لا تستريح نهاراً سعياً. ويقولون فلان أكرب علينا قال في القاموس أي أمرنا بالسرعة. ويقولون كركبة قال المجدي معناه الحركة ويقولون تت قال المجدي معناه اقعد وهو صحيح ورد في بعض كتب اللغة. ويقولون ضربته حَته معناه حتى اكتفيت فله معنى في كتب اللغة والحت الجواد من الخيل والسريع من الإبل وما يلتزق من التمر والميت من الجراد كل ذلك معناه حته. ويقولون الشيت وهو من الأقمشة قال المجدي والشيت نوع من الأقمشة الهندية. ويقولون فلان يشخت مرادهم وينهر من شدة غيظه وهو صحيح. ويقولون غت عليّ بمعنى أدخل عليّ سوءاً وهو صحيح وارد في كتب اللغة. ويقولون للملاح النواتي قال في الزاهر النواتي الملاحون بالبحر الواحد نوتي. ويقولون هتّ علي وهو صحيح في كتب اللفة معناه أسرع في الكلام أو سرد كلامه.
ويقولن فلان هفت من الجوع أي سقط ومنه تهافت الفراش على الفتيلة أي تساقط عليها فكأنه لكثرة جوعه يسقط كذا نقله بعض أئمة اللغة. ويقولون هيّت علينا أي خوفتنا وهو صحيح ورد في بعض كتب اللغة هيت به صاح به ودعاه وهيت قرية بالعراق تنسب إليها الخمرة الطيبة ومنه قول أبي نواس:(30/16)
هات اسقني قهوة صفراء صافية ... منسوبة لقرى هيت وعانات
ويقولون على لون من الطعام عجة قال بعض أئمة اللغة العجة بالضم طعام من البيض. ويقولون لآلة الدراس نورج وهو صحيح لغوي ويقال ذلك أيضاً لآلة الحرث والنورجة والنيرجة الاختلاف إقبالاً وإدباراً والنيرج التمام. ويقولون إذا أُلقي إنسان على وجهه بطحه وهو صحيح لغوي ويردا منه أيضاً الضرب والغيبوبة عند ذلك. ويقولون طرحة قال في القاموس الطرحة الطيلسان وأما لفظ طراحة فليس له أصل في اللغة. ويقولون بربخ للشيء الذي توضع عليه الجرة وهو صحيح لغوي أيضاً هو اسم لمجرى الماء والبالوعة يقال لها بربخ قال ذلك في القاموس. ويقولون في المريض صار مثل الفخ والفخ المصيدة وهو مثل القوس وهو لين فشبه به المريض أي صار مثل القوس اللينة. ويقولون للأطفال بمنى الزجر كخ نقل حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء أن الإمام الحسين عليه السلام أخذ تمرة من تمر الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ فرمى بها من فيه. ويقول زرد عليه إذا خنقه وهو صحيح وارد في كتب اللغة. ويقولون زرد اللقمة إذا ابتلعها وزرد كنصر خنقه والزرد الدرع. ويقولون فلان سرد إذا حصل له النعاس قال في الزاهر السرد يطلق على النعاس في بعض الأحيان. ويقولون همر علينا إذا وثب وصاح وهو صحيح لغوي. ويقولون فلان واكر عند فلان إذا كان ملازماً له وهو صحيح لغوي مأخوذ من وكر الطائر اتخذ له وكراً وكذلك هذا الرجل اتخذ صاحبه مثل وكر الطائر في الملازمة. ويقولون راز الشيء ويروزه يعرف قدره وله أصل في اللغة راز الشيء روزاً جربه ليعرف قدره والراز رئيس البنائين. ويقولون أكلنا عند فلان بسيسة قال في القاموس البسيسة اتخاذ السويق أو الدقيق أو الأقط بالسمن والزيت ويقولون فلان دحس قال المجدي الدحس هو الذي يخفي الأشياء مكراً وقال في القاموس الدحس الدساس شيء في التراب. ويقولون فلان عنده عترسة أي شدة قال في القاموس العترسة الأخذ بالشدة والجفاء والعنف والغلظة. ويقولون ناموسية لشيء يعمل من القماش يدخلون فيه زمن الشتاء وهو صحيح لغوي والناموس عريسة الأسد والناموس جبريل عليه السلام ويقولون فلان هلس وهو صحيح لغوي ومعناه إذا تكلم كلاماً غير منتظم ويطلق على سلب العقل وعلى الهزال. ويقولون فلان خربشني بأظافره أي آذاني بها وهو صحيح قال في مختصر الصحاح(30/17)
الخربشة والخرفشة والخرمشة كلها بمعنى واحد. ويقولون طواشي على الخصي وهو صحيح لغوي وارد في بعض كتب اللغة والذي في القاموس الطوش خفة العقل. ويقولون عفش وهو صحيح لغوي يقال عفشه يعفشه جمعه ومن الناس من لا خير فيهم. ويقولون نتش وهو صحيح لغوي قال في الزاهر النتش كالصرب استخراج الشوكة ونحوها ونتشت اليوم كذا وكذا أي اكتسبت. ويقولون فلان بصبص لي أي نظر إليّ نظراً بعد نظر وهو صحيح لغوي قال في الزاهر البصاصة العين لأنها تبص وبصبص الكلب حرك ذنبه والجرو فتح عينيه. ويقولون فلان ممصوص قال في القاموس الممصوص الرجل المهزول والممصوصة المرأة المهزولة. ويقولون ساباط قال في مختصر الصحاحا الساباط سقيفة بين حائطين تحتها طريق والجمع سوابيط وساباط (في لغة أهل الشام الآن سيباط وبلغة مصر سباط). ويقولون فوط قال في القاموس الفوط الشيء يجلب من بلاد السند وهي مآزر مخططة فصار يطلق على غيرها مجازاً ويقولون فلان فطفاطي قال بعض أئمة اللغة هو الأعوج القليل الثبات أو الذي يتكلم بكلام لا يفهم. ويقولون فلان عنده دلاعة قال في القاموس الدلاعة الغاية في الحمق والغفلة والتصاغر وخروج اللسان. ويقولون أخضر مرعرع قال في الزاهر المرعرع الكامل الحسن في الاعتدال والرعرعة أي عنده عدم في قوته قال في القاموس النعنعة ضعف العزيمة بعد قوة والرتة في اللسان والنعناع نبت معروف. ويقولون وكثيراً ما يقع في الأروام غوغا قال بعض أئمة اللغة الغوغا الشر والحرب والغوغا الجراد وشيء يشبه البعوض لضعفه وبه سمي الغوغاء من الناس. ويقولون فلان مغمغ في كلامه إذا لم يبينه قال في القاموس مغمغ اللحم مضغه ولم يبالغ وكلامه لم يبينه. ويقولون فلان شلام قال المجدي الشلاف هو الذي يأخذ الشيء من غير حساب. ويقولون شاف الشيء أي نظره قال في القاموس شافي الشيء أي نظره وشفته شوفاً جلوته ودينار مشوف مجلو. ويقولون فلان نتيف وأعطاني نتفة وكلاهما صحيح لغوي إلا أنهم يحرفونها فيكسرون النون والصحيح الضم قال بعض أئمة اللغة نتف ما تنتفه بإصبعك من شعر أو نبت والنتفة الشيء اليسير. ويقولون شقة قماش قال في القاموس الشقة من الثياب المستطيلة. ويقولون عفقه قال في المجرد عفقه بمعنى أمسكه ويقولون عفلق قال في مختصر الصحاح العفلق الرجل الطويل المسترخي والعفلق الضخم(30/18)
المسترخي والمرأة الخرقاء السيئة العمل والمنطق والرجل الأحمق. ويقولون فلان ربى على قلي دبلة قال في مختصر الصحاح الدبل الطاعون ويطلق على الداهية وعلى الجمل الصغير. ويقولون فلان زال قال في المجرد الزول الهيبة العظيمة والزول العجب والجواد والكلأ والخفيف الطريف الفطن ويقولون حزام قال في المجرد الحزام ما يشد به الوسط. ويقولون طارمة قال في مختصر الصحاح الطارمة بيت من خشب والغالب أن يكون ذلك في المراكب وحارة بمصر يقال لها اصطبل الطارمة أي الإصطبل الذي فيه بيت من الخشب. هذا غيض من فيض أوردناه على سبيل المثال فعسى أن يبادر القائمون بخدمة اللغة العربية إلى نشر هذا الكتاب بالطبع.(30/19)
الكتاب
إذا بلغت الحضارة أوجها في أمة يتفنن أهل العلم في التأليف المفيد فيضعون المصنفات في الموضوعات التي لا تخطر على بال أحد في مجتمع غير راق ومن كان يظن أن أبا عمرو بن عمر الجاحظ البصري يؤلف كتاباً في مدح الكتب والحث على جمعها عدا ما وقع له من ذكرها مرات في كتبه قبل زهاء ألف سنة ولكن ما كتبه الجاحظ في تلك الأزمان يكتبه مؤلف هذه الأيام ببيان أشفى ومادة أوسع لارتقاء هذه العصور باختراع الطباعة التي عمت بها المطبوعات وسهل بها التأليف والنشر ولاسيما على من كان مثل مؤلف الكتاب الذي صدر هذا الشهر في خمس مجلدات للمسيو البرسيم قيم مكتبة نظارة البريد والبرق في باريز.
قسم كتابه إلى أقسام فتكلم على حب الكتب والمطالعة والكتب في الأزمان السالفة والقرون الوسطى منذ اختراع الطباعة إلى عصرنا هذا وتمييز بعض المؤلفين على بعض وما يجب أنيطالع من الكتب وكيف يجب أن يطالع أو يتصفح وتؤخذ مفكرات بالخط على بعض الكتب وهل ينبغي الاستكثار من الكتب أو افقلال منها وكيف نختار الكتب وهل يجب الإكثار من المطالعة أو الإكثار من إعادة المطالعة. وتكلم على الكتب المزينة والكتب البسيطة والقديمة والحديثة والاستشفاء بالكتب وتاريخ الكتب وذكر الروايات والصحف وتكلم على المجانين بالكتب والهائمين بالكتب وممزقي الكتب وأعداء الكتب وعدّ النساء من أعداء الكتب وأطال في إعارة الكتب وفي ورقها وقطعها وطبعها وتصويرها وتجليدها وابتياعها وترتيبها في قماطرها والعناية بفهرستها وتنسيقها وكيفية استعمالها وحفظها وطبعها واختصارها.
هذه أهم ما تدور عليه أبحاث هذه المجلدات الخمسة الممتعة ويرى مؤلفها أن لا يقتصر في الكتاب على إلباسه لباس الظرف وحفظه في الزجاج والنظر إليه بإعجاب وانعطاف بل أنه خلق ليقرأ أو يتدبر ما فيه ويتلذ1 به قال: فأنما أتخذه بمثابة أداة للدرس والتسلية والتعزية وقرة العين بل هو واسطة للكمال العقلي والأدبي فأنا من ثم لا أفصل بين محبة الكتب ومحبة الآداب بحال وإن شئت فقل بين محبة الجمال والخير والعدل والحق فبين هذه الأمور تشابه.
وقد اعتذر المؤلف عن أن معظم كتابه ليس من قلمه بل هو عبارة عن استشهاد بأقوال أئمة(30/20)
العلم والأدب في كل عصر ومصر وذلك لأن الاستشهاد بكلام الرجل بعينه يصوره كما هو وله وقع في النفس أكثر من إحالة المطالع على الرجوع إلى ما كتبه المؤلف كما قال سانت بوف العالم. وقال شاتوبريان الفرنسوي الكاتب: لا يجب الاعتقاد بأن معرفة إيراد الشواهد هو مما يسع كل أحد من أرباب العقول الضعيفة أن يفعله ممن فرغ وطابهم من كل علم فيستقون من موارد غيرهم ما راقهم وما الاستشهاد حيث يجب غلا دليل العلم. فالذاكرة التي تدخر الشواهد لحين الحاجة هي في الحقيقة قرينة الذكاء بل هي أم الذكاء وجودة الذهن. وقد غذى كبار كتاب عصر لويس الرابع عشر عقولهم بالشواهد وكان شيشرون الخطيب الروماني الذي لم تكن له إلا لهجة واحدة يلهج بها ويتوفر عليها يكثر من الاستشهاد وأنا أيضاً (شاتوبريان) لا أقصر في هذا السبيل.
ولذا سار مؤلفنا في مصنفه الاجليل على هذه الطريقة شأن معظم الكتاب الذين لا يكتبون إلا بتصحيح وإيراد الشواهد والشوارد فيقرأ القارئ فيه من أسماء الكتب المؤلفة بالإفرنجية في هذا المبحث ما يدل على أن الغربيين اليوم سابقون في كل محمدة ويسجل بما بذله بنفسه من الدرس والبحث حتى جاء كتابه آخذاً من كل شجرة ثمرة ومن كل حديقة زهرة.
قال في تاريخ الكتب أنه لم يعرف في الحقيقة إلا منذ ثلاثة آلاف سنة وإن قال أحد علماء الألمان بوجود الكتب قبل الطوفان ووضع لذلك مصنفاً فتاريخ الكتب يرد إلى عهد ملك مصر أوسيماندياس الذي يرى علماء الآثار المصرية اليوم أنه هو رعمسيس الثاني أو سزسترويس وكان له خزانة كتب جعلها في قصره في ثيبة كما قال المؤرخ ديودور الصقلي وقد حكم هذا بوجودها من أثر كان مزبوراً على الحجر في أعلى باب هذه المكتبة وهو قوله: هنا أدوية النفس. فوصف بذلك الكتب أجمل وصف وأوجزه عرف ولا يتأتى أن يقال أحسن منه. ومضت على هذا الوصف الأزمان حتى جاء الفيلسوف مونتسكيو في القرن الثامن عشر فقال: ما قط حزنت إلا وتبدد حزني بساعة من المطالعة أروّح بها عن نفسي ثم جاء بعده القصصي الإنكليزي بولور ليتون في القرن التاسع عشر ووصف مطالعة بعض المصنفات لشفاء بعض الأمراض فرأى المداواة بالكتب كأنها بعض العقاقير والعناصر. وكل من قال كلمة في هذا الباب لم يخرج في وصفه للأسفار عن حد الحكمة التي علقها ملك مصر على مكتبته أو شرحها أو المبالغة فيها. وأسس الظالم بيزايسترات(30/21)
(561 ـ 527 ق. م) مكتبة عامة في آثينة وهي أول مكتبة من نوعها جمع فيها أشعار هوميروس ولم تكن تعيها من قبل إلا ذاكرة القصاصين والمتشاعرين ويؤخذ من بيت للشاعر أريستوفان (قبل المسيح بخمسة قرون) أن الكتب كانت منتشرة جداً في زمنه بمدينة آثينة. وقال كسينوفون في تذكرة سقراط شيئاً عن الكتب والمجاميع وتجارتها.
واستعمل السبيادس على نحو ذلك الزمن (450 ـ 404 ق. م) طريقة لا تخلو من قلة ذوق ليحبب أبناء وطنه في الكتب فدخل مدرسة خاصة بدراسة النحو وسأل المعلم أن يأتيه ببعض كتب لهوميروس فأجابه أن ليس عنده ولا واحد منها فصفعه وخرج. وكان الإسكندر الكبير (356 ـ 325 ق. م) مولعاً من وراء الغاية بدرس أشعار هوميروس وبعد أن هزم دار ملك الفرس وقع كان بين أسلاب المغلوبين فسأل خاصته ماذا ينبغي أن يجعل فيه من مال أو متاع فاختلفت آراؤهم أما هو فقال لهم: أنه يضع فيه إلياذة هوميروس لتحفظ فيه حفظاً جديراً بها. وكان الإسكندر أثنءا رحلته إلى آسيا أمر بأن تجلب له تواريخ فيليست وفاجعات أوربيدس وسوفقلس وأشيل وغيرهم ويحب ستاذه أرسطو كما يحب أباه لأن هذا سبب حياته وذاك سبب سعادته. وأنشأ بطليموس سوتر أحد خلفاء الإسكندر الذي استأثر بملك مصر عندما قسمت المملكة اليونانية مكتبة الإسكندرية وهي أشهر وأغنى مكتبة في الأزمان السالفة وكان ذلك بإشارة ديمتريوس دي فالير (345 ـ 283 ق. م) النحوي المؤرخ البياني حاكم آثينة الذي غدا أول قيم على هذه المكتبة وجرى خلفاؤه من البطالسة على العناية بهذه المكتبة ولاسيما بطليموس الثاني فيلادلفيس (285 ـ 247 ق. م) وبطليموس الثالث أفرجيتس. وكانوا ينشطون زراعة ورق البردي ليتوفر الورق لديهم ويستخدمون كثيراً من النساخ وربما لم يكونوا يستنكفون من السرقة لزيادة ما عندهم من الكتب كما فعل أحدهم فاستعار من مكتبة آثينة كتباً لشعرائهم وفلاسفتهم فاستنسخها ولم يرجع الأصل بل أرجع نسخاً ثانية منها وبطليموس الثاني فيلادلفس ـ لعله لقب بذلك استهزاء به لأنه قتل أخوته أو لأنه تزوج أخته ـ هو الذي أمر بترجمة كتب العبرانيين المقدسة إلى الرومية بمعرفة سبعين من علماء بني إسرائيل وكانت ترجمتهم السبعينية من أهم حوادث التاريخ لأنها سهلت السبيل إلى انتشار اليهودية ومعدت للنصرانية.
ولم تحرق مكتبة الإسكندرية التي قال بعضهم أنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد(30/22)
الإمام عمر ولا بأمره كما جاء في بعض التقاليد فإن هذه الدعوى من الأغلاط التاريخية العظيمة إذ لم يكن أثر لهذه المكتبة عندما فتحت العرب مدينة الإسكندرية سنة 640 وعلى عهد البطالسة أصبح أمر المكتبة إلى ضعف فقسمت شطرين جعل كل منهما في مكان مستقل فحرق القسم الأول قضاءً وقدراً عندما استولى يوليوس قيصر على الإسكندرية سنة 47 قبل المسيح وذهب القسم الثاني وكان جعل في معبد سيرابيس على يد الأسقف تيوفيل بعد ذاك التاريخ بأربعمائة سنة عقيب الأمر الصادر عن تيودوس بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها.
ومن المكاتب الشهيرة في القديم مكتبة فرغامس برغامة في آسيا الصغرى أسسها أومينوس الثاني إبن آتال الأول قبل المسيح بمائتي سنة ويقول بلوتارك أنه كان فيها مائتا ألف مجلد بسيطة أهداها أنطونيوس أحد حكام اليونان إلى كلوبطرة ملكة مصر من نسل البطالسة. وقد نقل كثير من الكتب من مكاتب آثينة والشرق إلى إيطاليا وكانت المكاتب عند الرومان تبنى بالقرب من معابدهم وأول مكتبة أنشئت في رومية على يد أزينوس بولنيوس. ولطالما تنافس ملوكهم في الإكثار منها وفيهن من جعلوا خزائن الكتب العامة في قصورهم. تاسوى في الغلو بحب الكتب عالمهم وجاهلهم وعادلهم وظالمهم.
وتكلم عن الكتب على عهد البرابرة والهونس والغوط والغوط الغربيين والفنداليين وعلى غلاتهم من الإفرنج في القرون المتأخرة وأجاد ما شاء وشاء بيانه في اختيار المصنفات وانتقاء الأجود منها فأتى على ذلك بشيء مما قاله أهل العلم والحكمة منذ الزمن القديم إلى عهدنا هذا فقال أن توسيديد حضر مجلساً لهيرودتس المؤرخ اليوناني يتلو فيه بعض أهل آثينة شيئاً من تاريخه فاهتز وطرب ولم يتمالك أن بكى وكان عمره خمس عشرة سنة وكان ديموستين يغالي في الولوغ بتاريخ توسيديد نسخه بخطه الجميل ثماني مرات ليرسخ إنشاؤه في ذهنه ويطبع عليه. وكان الإسكندر الكبير مهووساً بإلياذة هوميروس يصبحها معه حيث ذهب ويضعها تحت المخدة مع سلاحه عندما ينام وكان شيشرون يرى ديموستين أخطب خطيب في كل ضرب من ضروب الخطابة ويعنى بما كتبه أرسطو وأفلاطون وتيوفراست كل العناية.
وكان شارلمان (742 ـ 814) ملك فرنسا مولعاً بتلاوة كتاب مدينة الله للقديس(30/23)
أوغسطينس كما أن الفريد الكبير ملك إنكلترا (849 ـ 900) يؤثر مطالعة قصص أزوب وترجمتها شعراً إلى اللغة السكسونية وكان يرى تيودور كازا النحوي اليوناني المشهور (1398 ـ 1478) أن كتب القدماء لو ألقي كلها في النار لاختار أن يخلص منها كتب بلوتارك. وجعل شارلكان (1500 ـ 1558) كتب توسيديد رفيقته في أعماله وكان يقرأ تذكرات كومين المؤرخ بولع شديد.
وكان كاتم السر فرنسيس باكون (1561 ـ 1626) يقول ليست الكتب إلا تكراراً فابحث في كتب اليونان والرومان والعرب وجميع مؤلفي القرون الحديثة فلا ترى فيها كلها شيئاً يتعدى ما قاله الفلاسفة أرسطو وأفلاطون وإقليدس وبطليموس. وكان ملتون الشاعر الإنكليزي (1608 ـ 1674) الأعمى يقرأ في الصباح شيئاً من التوراة بالعبرية ثم يدرس شعر هوميروس ويقال أنه استظهره كله وعلم بناته الثلاث ثماني لغات يقرأن فيها عليه بدون أن يفهمنها وكان يقول أن البنت تكفيها لغة واحدة ولكنه لم ير بداً من تعليمهن ليقرأن له ما يحب.
وكان كورنيل الشاعر الفرنسوي (1616 ـ 1684) يؤثر مطالعة تاسيت وتيت ليف المؤرخين اللاتينيين ويعنى عناية خاصة بلوكين الشاعر اللاتيني وسينيك الفيلسوف وسمع لافونتين الشاعر الفرنسوي (1621 ـ 1692) وهو في الثانية والعشرين نشيداً للشاعر مالريب فأخذ العجب بأقوال هذا الشاعر ثم انصرف إلى مطالعة هوراس وفرجيل وتيرانس وكنتيلين واختار من مؤلفي الفرنسيس رابلي ومارو ودورفي وفواتور وقرأ من الإيطاليين أريوست وبوكاس وماكيافيل وتاس. وشغفت العقيلة دي سيفنية الكاتبة الفرنسوية (1626 ـ 1696) بمطالعة أدب نيكول ثم كورنيل وبردالو. وكان الأخلاقي لابرويير (1669 ـ1696) يرى أن موسى وهوميروس وأفلاطون وفرجيل وهوراس لا يفوقون غيرهم من الكتاب والشعراء إلا بجودة تعابيرهم وتصوراتهم.
وكان الشاعر راسين (1639 ـ 1699) استظهر وهو في السادسة عشرة أو السابعة عشرة أشعار سفوقلس وأربيدس وقرأ أفلاطون وبلوتارك على الأصل اليوناني وكان وهو في المدرسة يقرأ رواية تيوجين وشاريكله لهيلودور اليوناني ففاجأه معلمه فتناول الكتاب من يده وألقاه في النار ثم اجتهد راسين أن يحصل على نسخة ثانية من هذه الرواية فعامله(30/24)
أستاذه بمثل ذلك ثم استحصل نسخة ثالثة وأخذ يحفظها سراً ولما أتى عليها حمل النسخة إلى معلمه وقال له: لك أن تحرق هذه كما حرقت أختيها لأني لا حاجة بي إليها.
وقال الكاتب الفرنسوي سان أفرموند (1613 ـ 1703) أن رواية دون كيشوت لسرفانتس هي من المصنفات التي أستطيع تلاوتها طول عمري دون أن أمل ساعة وكنت أود أن أكون مؤلف دون كيشوت من بين جميع الكتب التي طالعتها ومن رأيي أنه ليس من كتاب يساعد كثيراً على تحسين ذوقنا في كل الأمور مثله. ويظهر أنه كوفيدو من حذاق المؤلفين وأني لأعتبره زيادة لأنه أراد أن يحرق جميع كتبه عندما قرأ دون كيشوت وكان يؤثر لو لم يؤلفها قال ثم إني رأيت مما يلذني طول حياتي كتب مونتين وأشعار مالريب وفاجعات كورنيل ومصنفات فواتور.
سئل الشاعر بوسويه (1627 ـ 1704) عن المصنفات التي يتمنة لو قدر له أن يؤلف مثلها فقال كتاب الرسائل الولايات لباسكال وكان يؤثر شعر هوراس وكان بوالو (1636 ـ 1711) يجعل لشعر هوراس المقام الأول ثم لتيرانس ويفضل مشاهير القدماء على مشاهير المحدثين ما خلا باسكال فإنه عده في مصاف العظماء وكانت مكتبة لايبنر الفيلسوف الألماني (1646 ـ 1716) عبارة عن مصنفات أفلاطون وأرسطو وبلوتارك وسكتوس أمبيريكوس وإقليدس وأرخميدس وبلين وشيشرو وسنينك وقد درس منذ نعومة أظفاره اللغات القديمة وآثر التوفر على الأخذ من الشاعرين تيت ليف وفرجيل حتى أنه كان في شيخوخته يسمعك ما قاله فرجيل بالحرف الواحد.
وكان مونتسكيو (1689 ـ 1755) جعل قراءة كتابات تاسيت هجيراه وقال من نفسه: إني لأعترف أن ذوقي أن ذوقي في القدماء وأن الزمن القديم يبهجني وأنا أقول أبداً ما قاله بلين أنكم يا هؤلاء تذهبون إلى آثينة فاحترموا الأرباب. وكان يحتفل من وراء الغاية بكتاب تليماك كما يأنس بكتب آسيل وأربيد وسوفقلس وبلوتارك وأرسطو وأفلاطون وشيشرون وسويتون وفرجيل ويختار من المحدثين كربيليون ومونتين ولاروشفوكولد ويعتقد أن أعظم الشعراء أفلاطون ومالبرنش وشافتز بوري ومونتين.
وكنت ترى على منضدة فولتير (1694 ـ 178) رواية أتالي لراسين وكتاب الصوم الصغير لماسيليون وقال الفيلسوف ديدرو الفرنسوي (1713 ـ 1784) في كلامه على(30/25)
القصصي الإنكليزي ريشارسون أن مطالعة كتبك هي سلوتي في جميع أوقاتي فلو قضت علي الضرورة أن أبيع كتبي لأعلم بثمنها أولادي لاستثنيتك منها وأبقيتك لي أنت وأسفار موسى وهوميروس وأربيدس وسوفقلس وأتناوب قراءتك مرات. وكان العالم بوفون (1707 ـ 1788) يوصي بقراءة أعاظم أرباب القرائح والعقول وقد حصرهم في خمسة وهم نيوتن وباكون ولايبز ومونتسكيو وهو في جملتهم.
وكان كانت الفيلسوف (1724 ـ 1804) يرى أن الأرق إذا استولى على امرئ فليس لصاحبه إلا أن يحصر فكره في موضوع واحد أما هو فكان يجلب النعاس إلى عينيه بأن يتصور شيشرون وحياته وكتاباته وكان كيتي (1749 ـ 1834) يرى أن هي ما يقرأ ما خطته أنامل مولير وفولتير وقال عن هذا أنه صفوة أمته كما أنه لويس الرابع عشر صفوتها في السياسة وذلك لأن الأسرة إذا طال عليها العهد يتسلسل منها فرد يجمع جميع صفات أجداده وكمالاتهم وهكذا كان فولتير أعظم كاتب كانت بينه وبين أمته مناسبة وهو أعظم أديب على اختلاف العصور وأعجب مؤلف في الطبيعة.
وسنحث القراء بشيء من فوائد الكتاب بعد.(30/26)
مجامع الغرب
اشتقت لفظة المجمع التي هي تعريب أكاديميا الإفرنجية من أكاديموس بطل آثينة فكانت الأكاديميا هناك عبارة عن بيت خاص أو ملعب محاط بالأشجار حوى عدة محال لتقديس الأرباب ومنها محراب لربة الشعر أنشأه الفيلسوف أفلاطون فكان يتنزه تحت ظلال أشجاره مع تلاميذه ويذاكرهم في المسائل العلمية ولما هلك دفن في حديقة مجاورة لذاك المكان فتولى سبوزيين بعده أمر المجمع ثم توسع في معنى الأكاديميا فصار يطلق على فريق رجال الأدب والعلم وأرباب الفنون يجتمعون للبحث في موضوعات عامة نافعة.
هكذا كان شأن مجمع البطالسة في الإسكندرية ومجمع الإسرائيلين ومجمع الخلفاء العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس ومجمع شارلمان والفرد الكبير الفرنسويين. وكانت بعض هذه المجامع أشبه بمدارس منها بمجامع علمية كما ترى المجامع اليوم.
نشأت في أوروبا خلال القرن الثالث عشر والرابع عشر مجامع علمية نظرية مثل مجمع فلورنسا إحدى مدن إيطاليا (1270) ومجمع المناظرات البديعة في طولوز في فرنسا (1323) ولم يعن في ذينك المجمعين بغير الشعر لما أن ألشعر والأدب هو أول ما تعانيه الأمة وتحرص عليه ليكون سلماً إلى سائر العلوم التي هي قوام المجتمعات البشرية.
أما الحركة التي أدت إلى إحداث المجامع الحالية في الغرب فيجتمع إليها خاصة أهل كل بلد وتنظر في المكتشفات والمخترعات المهمة فتقر سليمها وتنبذ سقيمها فترجع إلى عهد النهضة التي نشأت من إيطاليا والنهضة إذا أطلقت في أوروبا يراد بها دخول الآداب في طورها الجديد والقيام على الصنائع والعلوم التي نشأت فيها في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر. ومما ساعد على إحيائها اكتشاف الطباعة واختراع النقش وهما الاختراعان اللذان عمما الآداب والصنائع.
نشأت تلك الحركة من إيطاليا فكثرت فيها المجامع العلمية أي كثرة فلم تكن فيها مدينة غلا وفيها مجمعاً واحد على الأقل وربما كان في المدن الكبرى عشرون مجمعاً أو تزيد. ومن المجمعات الإيطالية التي أشبهت المجمع العلمي الفرنسوي الحالي مجمع كروسكا ولم يكتب البقاء لما عداه من المجامع العلمية الإيطالية التي نشأت في القرن السادس عشر والسابع عشر وقلما كانت تلك المجامع تدوم بعد مؤسسيها. وفي القرن السابع عشر حذت فرنسا حذو إيطاليا في مجامعها فكثرت فيها المجامع وحسنت حالها لأن الحكومة في فرنسا أخذت(30/27)
بيدها فكانت نشأتها في بلاد عني فيها بأمرها. فأنشأ ريشليو الوزير الفرنساوي المجمع العلمي وأنشأ لويز الرابع عشر مجمع العلوم والآثار وفروعه التي نشأ منها مجمع الفنون الجميلة.
اختلف بعضهم في فوائد المجامع العلمية ومما قاله رينان الفيلسوف الفرنسوي كثيراً ما يضعف صوت العلم النافع ويتضاءل أمام هجمة المهاجمين وقحة الدجالين. وللعلم صوت متى سكن ضجيج تلك الظواهر يظل ذلك الصوت يسمع فلا يعود أحد يسمع غيره ومن أجل هذا ترى المجامع العلمية على كثرة شكوى أهل الأفكار المنحطة منها فائزة بفضل الغلبة لأأنها حارسة حسن الترتيب الحقيقي وهي قليلة ولكنها مفلحة وليس لغير العقل سلطة تبقى. أهـ.
كانت المجامع العلمية الفرنسوية من أعظم المجامع التي نشأت في عواصم أوروبا وعليها نسج الناسجون وبمثالها اقتدى المقتدون.
نشأ المجمع العلمي الباريزي الذي هو مفخر من مفاخر الفرنسيس سنة 1629 على يد بضعة أشخاص من أهل الطبقة الوسطى كانوا يجتمعون مرة أو مرتين في الأسبوع في منزل لافانتين كونرار أمين سر الملك فيتباحثون كأنهم في زيارة عادية في الأخبار والآداب وإذا ألف أحدهم كتاباً يعرضه على غيره عن طيب خاطر فيقولون فيه رأيهم بحرية وكانوا ثمانية رجال ومعظمهم من أهل الأدب ومن أرباب الذوق وأهل الشعور كما تدل عليه مصنفاتهم فمضى عليهم نحو أربع أو خمس سنين وهم يوالون اجتماعاتهم على هذا النحو والسرور شامل لهم والفائدة يقتطفون من ثمراتها كل جني هني فاتصل خيرهم بريشليو وقد نم على جمعيتهم الصغيرة أحد أصحابه ولعل هذا الوزير أراد أن يكون مرجعاً في كل شيء شأن كبار المستبدين فعرض عليهم إذا كانوا يحبون أن يجتمعوا اجتماعاً عاماً ويتألفوا جماعة وكان ذلك في أوائل سنة 1634 فتردد أولئك المجتمعون أولاً ثم أجابوا دعوة ريسليو فدعاهم أولاً على تكثير سوادهم فبعد أن كانوا من تسعة إلى اثني عشر رجلاً أصبحوا ثمانية وعشرين ثم تفاوضوا في الشكل الذي يجري عليه المجمع وفي مواده وعمله وهو عبارة عن تحسين اللغة الفرنسوية وتأليف معجم لها وكتاب نحو وشعر وبيان لتعم اللغة الإفرنسية ويكون لها من الشأن كما كان في القديم للغتين اللاتينية واليونانية.(30/28)
مات ريشيلو وخلفه في الرئاسة سيكيوه من أصحاب السلطان وأخذ المجمع العلمي صورة من صور ديوان رسمي ثم أخذوا بعد حين ينشرون محضر جلساته واصطلحوا على أن يلقي كل منتخب من زمرة أعضائه خطاباً. وفي سنة 1702 قرر المجمع قبول النساء العالمات فيه. وفي رواية أن النساء كن يقبلن في مجمع التصوير والنقش الملوكي في باريز بصفتهن أعضاء منذ عهد بعيد ولكن لا يقبلن في المجمع العلمي الأدبي أكثر من غيره. ولطالما كافأ هذا المجمع النساء على ما جادت به قرائحهن من الكتب والرسائل ولم يفكر في إيجاد بعض كراسي لهن يجلسن عليها وكان النساء في مجمع التصوير والنقش وما زلن ممتعات بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال.
وكان العقلاء يشتكون في بعض الأحايين من دخول بعض الأعضاء في المجمع العلمي بالشفاعة والوساطة لعظم أقدارهم ولكن كانت الأكثرية في الغالب لأرباب العلم النافعين ممن امتازوا بشيء أو كتبوا آثار نافعة ولم يحرم من الدخول في هذا المجمع من رجال العلم إلا أفراد قلائل امتنعوا هم عن الدخول أو كان المانع من دخولهم سبباً ظاهراً.
نفع المجمع العلمي اللغة الفرنسوية بقاموسه فكانت أقواله محترمة معمولاً بها من الأمة ولطالما أسف الإنكليز والألمان أنفسهم على عدم توفقهم لإيجاد مثل هذا المجمع فكانت لغتاهم لعدم المسيطرين عليهما مادة رخوة قابلة لكل تغير يتصرف فيها على ما يشاء.
وعلى ما يشتغل به المجمع من تنقيح اللغة وتهذيبها ينظر في المصنفات التي تعرض عليه ويكافئ عليها المحسنين بالجوائز. وله الآن ثلاث وعشرون جائزة يعطيها كل سنة. منها سبع عشرة جائزة أدبية وما عداها جوائز سموها جوائز الفضيلة.
أما مجمع الآثار الفرنسوي فقد أنشء سنة 1663 من أربعة أعضاء من أهل المجمع العلمي السالف ذكره وجعل أعماله النظر في حل الآثار والشعار والأيقونات وأن تجعل للعاديات القديمة بساطة وذوق تعظيم بها قيمتها الحقيقية وفي سنة 1701 نظم قانون ذاك المجمع مؤلفاً من أربعين عضواً يقسمون إلى أربع طبقات. ويجتمع هذا المجمع مرتين في الأسبوع وأهم عمله البحث في الآثار الفرنسوية والتاريخ الفرنسوي كما يعنى بالآثار الشرقية والغربية كالأشورية والبابلية والسامية والمصرية وغيرها وفيه فحول من الأعضاء المخصين في كل علم من هذه العلوم وهو يعطي جوائز كسائر الأكاديميات الفرنسوية(30/29)
وينتخب رئيسه لسنة كما في سائر المجامع ما عدا العلمي الكبير ويعاونه كاتم أسرار دائم وهو محسوب من جملة الأعضاء الأربعين.
أما مجمع العلوم في فرنسا فمنشؤه مجهول ولم يعرف له تاريخ في الحقيقة إلا سنة 1666 أيام رخص له الوزير كولبر بأن يجتمع في خزانة كتب الملك لما رأى في أعماله من خدمة الأمة وفي هذا المجمع الفلكيون وعلماء التشريح والنبات والكيماويون والمهندسون والميكانيكيون والطبيعيون. زاره لويس الرابع عشر فوقعت زيارته له موقعاً حسناً. وقد خصصت له فرنسا منذ ألو نشأته اثني عشر ألف ليرة إفرنسية لابتياع الأدوات والآلات اللازمة للتجارب الكيماوية والطبيعية وغيرها وعدد أعضائه أربعون أيضاً كالمجمعين السالفين وهم يقسمون أقساماً.
أما مجمع العلوم الأدبية والسياسية فلم يكن له كيان قبل الثورة الفرنسوية وغاية ما في الأمر أنه أسس نادي الأنترسول للبحث في هذه العلوم على يد الراهب دي لونكور في سنة 1720 فكان يجتمع أعضاؤه وهم مائة من العلماء كل سبت ثلاث ساعات يقضون الساعة الأولى في تلاوة بعض أوراق مقتطعة من الجرائد ويتباحثون في الساعة الثانية في الشؤون السياسية ويصرفون الساعة الثالثة في قراءة مفكرات. فظنت الحكومة الفرنسوية فيه سوءاً فأمرت بإلغائه سنة 1731 حتى إذا كانت سنة 1795 سن قانون لهذا المجمع ينقسم على أقسام قسم العلوم الطبيعية والرياضية وقسم العلوم الأدبية والسياسية وقسم الآداب والفنون الجميلة. وينقسم قسم العلوم الأدبية والسياسية إلى ستة أقسام لكل منها ستة أعضاء في باريس وستة مشتركين في الولايات يشتغلون في تحليل الأفكار والعواطف وهم قسم الفلسفة. والثاني قسم الأخلاق وقسم العلوم الاجتماعية والتشريعية كالتقنين والحقوق العامة والفقه. وقسم الاقتصاد السياسي كالمسائل المالية والإحصائية. وقسم للتاريخ العام والفلسفي وقسم للجغرافيا. ولما قبض نابليون بونابرت على قياد المملكة الفرنساوية أراد أن يلغي هذا المجمع مخافة أن يثير حركة في القلوب الجامدة إلا أنه عاد بعد فتجددت حياته ولما تغيرت أنواع الحكومات في فرنسا تغيرت الأحوال على جميع العلوم الأدبية والسياسية ثم انحصرت أعمال هذا المجمع بعد اللتيا والتي في الاشتغال بخمسة أقسام وهي الفلسفة والأخلاق والتشريع (الحقوق العامة والفقه) والاقتصاد السياسي والإحصائيات والتاريخ(30/30)
العام والتاريخ الفلسفي. وقد كثر ما جاد أهل الخير له بالأموال ومن رصدوا له الأوقاف فضلاً عما وضعته الحكومة الفرنساوية من الاعتمادات من أجله فصار يتأتى له بذلك أن يكافيء المحسنين من المؤلفين. أما مجمع الفنون الجميلة في فرنسا أيضاً فإنه قام مقام عدة مجامع قبله أنشئت منذ عهد لويز الرابع عشر فأضيف إلى مجمع التصوير والنقش مجمع للموسيقى ومجمع للرقص. ومن المجامع الفرنساوية مجمع التصوير والنقش الملوكي أنشء سنة 1468 وألغي سنة 1793.
وهناك الكثير من المجامع مثل أكاديمية سان دوك المؤسسة سنة 1649 والملغاة سنة 1777 ثم المجمع الملكي للرسم الذي أسس سنة 1671 في باريز وألغي سنة 1792 ثم مجمع الفنون الجميلة وقد أسس سنة 1795 ولا يزال حياً. وفي ولايات فرنسا كثير من المجامع العلمية للتصوير والنقش كما فيها مجمع علمي للموسيقى ومجمع للرقص وآخر للجراحة وغيره للطب وهناك جمعيات علمية أيضاً.
قلنا أن إيطاليا كانت مبعث المجامع الأدبية والعلمية على الطراز الحديث وأنها كثرت كثرة عظيمة وكانت هذه المجامع لأول أمرها عبارة عن اجتماع أشخاص انصرفوا إلى العلوم والآداب والفنون وظهرت بأسماء غريبة دام بعضها وبعضها انفض أعضاؤه والزمن جامع ومفرق. وأهم مجمع قام في إيطاليا المجمع الإفلاطوني في مدينة فلورنسا بسعد كوسم دي ميديس كبير دوقات طوسكانيات في عصره وكان هم هذا المجمع درس فقوال أفلاطون ثم تفرق أعضاؤه أيدي سب عقب حوادث سنة 1521 ولم يعودوا يجتمعون ثم أسست مجامع في نابولي ورومية عنيت بالآداب والتمثيل والشعر وأول جمعية أسست في إيطاليا للبحث في العلوم الطبيعية نشأت في نابولي سنة 1560 على يد باتيست بورتا وكانت داره أول مجمع لاجتماع المتحابين في العلم وهم كانوا سداه ولحمته وقد عنيت بالبحث في الطب والفلسفة الطبيعية. ثم اتهم هذا المجمع بالسحر فاضطر مؤسسه أن يذهب إلى حضرة البابا لويز الثالث ويبرئ نفسه مما عزي إليه وانحل المجمع وخلفه في رومية سنة 1603 مجمع لنسي وكان من جملة أعضائه غاليله صاحب الرأي المشهور في دوران الأرض الذي أرداه الجهل في عصره. ثم أنشأ البابا بيوس التاسع سنة 1847 مجمعاً علمياً في رومية سماه المجمع البابوي النيسي الجديد وبعد سنة 1870 نظم هذا المجمع وأطلق عليه اسم القديم(30/31)
المجمع النيسي وهو الآن تحت حماية الحكومة الإيطالية ويتناول نحو عشرين ألف جنيه في السنة من الحكومة وهو قسمان قسم العلوم الأدبية والسياسية وفرع العلوم الطبيعية والظواهر الجوية.
وفي سنة 1657 أنشأ الأمير ليوبولد ميديسي في فلورنسا مجمع سيمنتو للبحث في العلوم الطبيعية ثم انحل وأنشئ في مدينة فلورنسا مجمع كروسكا سنة 1582 وهو مجمع الأدبي أسسه أشهر شعرائها وعني بتصحيح قاموس اللغة الإيطالية وهذا المعجم هو حجة الطليان في لغتهم كمعجم المجمع العلمي الباريزي باللغة الإفرنسية. وقد ضعف هذا المجمع بعض الضعف ولكنه ما زال موجوداً وأعضاؤه على قلتهم نشروا الآن الطبعة الخامسة من معجمه وفي كل من بولونيا وتورين وميلان والبندقية مجامع علمية أدبية كما فيها مجامع خاصة من أمهات المدن الإيطالية ومنها ما يرد تاريخه إلى سنة 1500.
أما مجامع الفنون الجميلة فهي بلا شك وافرة في بلدان إيطاليا وكيف وهي أم الصنائع النفيسة والتفنن والذوق وأهم المجامع من هذا النوع مجمع ميلان أسس سنة 1483 ومجمع الفنون الجميلة في ميلان ومجمع بولونيا المعروف بالمجمع الكليمنتي نسبة للباب كليمان ومجمع جين اللغوي أسس سنة 1751 ومجمع تورين ومجمع البندقية ومجمع نابولي ومجمع بارم ومجمع مودين ومجمع لوك ومجمع سين وأهم المجامع المجمع الروماني لسان دوك أسس سنة 1588 ومجمع الفنون والتصير أسس سنة 1860 في فلورنسا وكان أسس على عهد كوسم الأول أمير ميديسي وغيرها من المجامع الصغيرة وفيه بعض أعضاء من الأجانب ولاسيما من الإسبانيين.
أما مجامع إسبانيا فهي مهمة أيضاً. فقد أسس الدوق إسكالونا في مدريد سنة 1713 مجمعاً علمياً على نسق المجمع العلمي الفرنسوي والإيطالي وذلك لنشر اللغة الإسبانية وحفظها فكان أعضاؤه باديء بدء ثمانية ثم أصبحوا أربعة وعشرين وله رئيس ينتخب كل سنة وكاتم أسرار دائم وقد نشر معجماً. وهناك المجمع التاريخي أسس سنة 1738 وكان لأول مرة جمعية خاصة جعلها الملك تحت حمايته وهو يعني بالمباحث التاريخية وعاديات البلاد الإسبانية وكان أسس في مدريد مجمع للطبيعيات وانفض بعد سنين فخلفه مجمع العلوم الذي أسس سنة 1847 وقد جروا فيه على مثال مجمع العلوم في باريز وهو ينقسم على(30/32)
ثلاثة أقسام العلوم الرياضية والطبيعية والظواهر. وفي سنة 1858 أنشئوا في مدريد مجمعاً على مثال المجمع العلمي الفرنسوي للعلوم الأدبية. وفيها مجمع للفنون الجميلة أيضاً.
ولحكومة البرتقال في لشبونة عاصمتها مجمع للبحث في التاريخ البرتقالي أسس سنة 1720 على يد الملك يوحنا الخامس وأضافت إليه الملكة ماري سنة 1779 مجمعاً للعلوم الزراعية والفنون والتجارة والاقتصاد العام. وقد نظم المجمع العلمي سنة 1851 وهو قسمان أحدهما للعلوم الصرفة والثاني للأدب والتاريخ والحقوق والعلوم الأدبية والسياسية وأخذ منذ سنة 1879 ينشر مذكرات أدبية برتقالية ومجاميع تاريخية مخطوطة ومفكرات اقتصادية.
وتجد في أميركا الجنوبية مجامع علمية في كل عاصمة من عواصم جمهورياتها وأهمها مجمع الفنون الجميلة في ريو دي جانيرو وعاصمة البرازيل أسسها الملك يوحنا السادس البرتقالي وكان مديره وأساتذته من الفرنسيس أولاً.
وأسست البلجيك سنة 1772 المجمع الملكي البلجيكي في بروكسيل على يد الإمبراطورة ماري تريز ملكة بلاد القاع وهو يبحث في العلوم والأدب وما زال إلى اليوم سائراً على قدم النجاح وقد ضم إليه كل ما في بلاد البلجيك من أهل العلم وحملة لواء أدب وفي كل سنة يعين الملك رئيساً للمجمع من أحد أقسامه الثلاثة في الأدب والفنون الجميلة والعلوم. وبينا كانت أوروبا بأسرها تزهر بالعلوم والآداب على عهد النهضة والإصلاح كانت البلجيك وهي تدعى إذ ذاك بلاد القاع الإسبانية قد خربت ومني سكانها بالحروب الدينية ونزلت من أوج السعادة على حضيض الذلة المحزنة. دامت على ذلك طول القرن السابع عشر وفي تلك الحال التي كانت فيها بلاد البلجيك على جانب من ضعف القوى الطبيعية والعقلية سلمت ولاياتها للنمسا بموجب معاهدة أوترخت سنة 1713 وكانت الآداب والفنون قد اضمحلت فيها ولم يبق فيها أثر للعلم إلا في كلية لوفين والتعليم فيها على ضعف. فارق الغنى تلك الأمة وإن لم يفارقها نشاطها واحتفظت بتقاليدها وبفضل الملكة ماري تريز هبت البلاد من رقدتها وانعكس ذاك السبات الطويل إلى يقظة تامة وأعضاء ذاك المجمع 48.
وفي البلجيك مجمع طبي أسس سنة 1841 أعضاؤه أربعون ويقبل أعضاء شرف بقدر ما(30/33)
يستنسبه وأعضاء مراسلين يبلغ معدلهم مائة رجل منهم 40 بلجيكياً و60 أجنبياً. كما أن مجمعاً علمياً للفنون الجميلة من مدينة أنفرس وفيها مجامع للصنائع النفيسة في أمهات المدن البلجيكية. ولكن لمجمع أنفرس فضل التقدم على سائر المجامع التي من نوعه لأن تلك المدينة نفسها امتازت بالصنائع والتفنن فيها منذ خمسة قرون وقد اصبح هذا المجمع بفضل الدروس التي يلقيها في التصوير والنقش والحفر والهندسة كعبة القصاد من مئات من الطلاب في بلاد البلجيك وغيرها. وفي هولاندة مجمعان أحدهما يدعى مجمع بلاد القاع أسسه سنة 1808 الملك لويز بونابرت واستحال سنة 1852 إلى مجمع العلوم والثاني مجمع ليدن أنشئ سنة 1766.
ومن أعظم المجامع العلمية في ألمانيا المجمع الذي أسس في فيينا سنة 1652 على مثال المجامع الإيطالية وليس له مدينة معينة يجتمع فيها بل يغير مقره بحسب إرادة رئيسه ولكن خزانة كتبه لم تزل باقية في درسد عاصمة سكسونيا وقد نشر منذ سنة 1895 سلسلة مفكرات تحت أسماء شتى كلها فيس العلم والطب. ومع انتشار العلم في بلاد الألمان وكثرة الكليات فيها لم يشعر فيها بالحاجة إلى المجامع العلمية لأول ارتقائها فلم تؤسس المجامع في قواعد بلادها إلا في القرن الثاني عشر على مثال المجامع الفرنساوية وذلك في مدن برلين وميونيخ وليبزيك وغوتنغن.
أسس الفيلسوف الألماني لايبنز في برلين بمساعيه وفضل صوفيا شارلوت حامية الآداب والعلوم في عصرها مجمعاً للعلوم. فصد الأمر بإنشائه سنة 1700 ولم يرض فريدريك الأول أن يعد هذا المجمع من جملة دواوين الحكومة إلا بعد اللتيا والتي وإجابة لرغائب زوجته حامية الآداب والعلم فجرى المجمع منذ ذاك العهد على مثال مجمعي لندن وباريز وذلك بجمع المعارف المتفرقة في العالم وتقريبها من الأذهان وتنظيمها وجعل مجموعة لها واضحة سديدة وأن تنمى ويزاد عليها وتوضع موضع الاستعمال ويعم أمرها وتتشربها النفوس على طريقة أمينة مشروعة. قال لايبنز الحكيم في قانون هذا المجمع وهو من إنشائه إن الأسباب التي تبلغ بنا هذا الغرض الذي نرمي إليه هي التأمل ومراقبة صنع الله وعجائبه في الكون ووصف الاكتشافات والاختراعات وما صاغته يد الإنسان من النفائس والعناية بما عني به الناس واعتقدوه من عقائدهم وعلى الجملة النظر في جميع هذه(30/34)
الدروس وتطبيقها على العمل فهي كنز العلم والعمران الاجتماعي وهي المادة التي تساعد على الخير العام والتوفر على الفضيلة وبث الحقيقة وتمجيد الخالق إلى أن قال: ألا وأنه يجب تطبيق العلم على العمل وتكميل الصنائع والعلوم بأساليبها والعناية بكل ما ينفع البلاد والشعب في الزراعة والصناعة والتجارة بل في الطعام والآدام ويعلي شأن ألمانيا.
وما برحت حال هذا المجمع في ارتقاء وملوك ألمانيا يعضدونه مدفوعين إلى ذلك بدافع طبيعي من حبهم للعلم أو بدافع حب الظهور والتباهي في الكمالات حتى جاء زمن على المجمع في القرن الثامن عشر أبدل فيه اللغة اللاتينية التي كان يكتب بها أعماله باللغة الفرنسوي لأن هذه كانت لغة العلم إذ ذاك ولكن استعمال الفرنسية لم يدم غير عشر سنين ثم خلفتها الألمانية وكثرت واردات المجمع كثرة مهمة بما نفحته الحكومة إلا أن كلية برلين قد غطت على شهرته بما قامت به من الأعمال العلمية ومع هذا دام له شأن يذكر بين الخاصة ولا سيما عند علماء الأرض الذين يقدرون أعماله العلمية قدرها وهو اليوم أهم مجمع للمباحث اللغوية والتاريخية وله عناية خاصة بالعربية والسنسكريتية.
وفي برلين مجمع للصنائع الجميلة أنشئ سنة 1703 وكان مديروه فرنسويين باديء بدء. وفي بافيرا مجمع للعلوم اسمه المجمع الملكي وهو في الدرجة الثانية عن الأكاديميات إلا أنه ثقة محترم أسس في ميونيخ سنة 1759 واشتغل لأول أمره بالمباحث التاريخية وفي سنة 1809 نظم شؤونه تنظيماً حسناً وعهد برئاسته إلى الفيلسوف جاكوبي وقسم أعماله إلى ثلاثة أقسام وهي الفلسفة وأصل اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية والتاريخية.
وفي ميونيخ مجمع للفنون الجميلة. وفي إمارة ساكس مجمع للعلوم أنشيء في درسد عاصمتها إلا أن مدينة ليبزيك مركزه الحقيقي وقد أنشيء سنة 1846 وعدد أعضائه سبعون عضواً ينقسمون على قسمين القسم الرياضي والطبيعي والقسم التاريخي واللغوي. وفي كل من ليبزيك ودرسد مجمع للفنون الجميلة. وأنشيء في غوتنغن مجمع للعلوم انتظم أمره سنة 1770 وهو ذو ثلاث شعب: الرياضيات والطبيعيات والتاريخيات وللشعبة الطبيعية فيهم أثر مهم في الحركة العلمية الألمانية. ويمكن أن يلحق بمجامع ألمانيا مجمع فينا عاصمة النمسا اليوم ولغته الألمانية.
وفي فينا ما عدا ذلك مجمع علمي إمبراطوري وضع مشروعه لايبنز الفيلسوف ولكنه لم(30/35)
يؤسس إلا سنة 1846 على يد الإمبراطور فرديناند الأول وهو شعبتان شعبة الرياضيات والطبيعيات وشعبة التاريخ والله وله 60 عضواً مواظبين و24 عضواً بالشرف و120 عضواً مراسلين وكان أول رئيس له المستشرق الكبير هامر بورجستال. وأسس في فيينا سنة 1704 مجمع للفنون الجميلة.
وفي بريطانيا العظمى وإيرلندا تطلق لفظة مجمع على المحال التي تعنى بالفنون الجميلة وما عداها من الجمعيات التي يشترك فيها كثير من رجال العلم والأدب لمقصد يقصدونه وعلم ينمونه وأدب ينشدونه يدعى جمعيات فالجمعية الملكية في لندن لا تقل عن المجمع العلمي في باريز وبرلين ويرد عهد تأسيسها إلى سنة 1616 وقد كان شأن هذه الجمعية على عهد جان الأول وشارل الأول من الضعف على جانب. وكان باكون الفيلسوف اعتاد أن يجتمع هو وأصحابه من أهل العلم والحكمة في أكسفورد على الدوام للبحث في الموضوعات التي لها علاقة بالعلوم العلمية ولما ارتقى شارك الأول إلى عرش إنكلترا أصدر إليهم أمراً يعترف بجمعيتهم وعندها بدأ أمرها بالظهور وما زال شأن هذه الجمعية العلمية زاهراً طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر واشترك فيها كثير من نبلاء البلاد الإنكليزية وجميع علمائها ولكن بدون أن يعطى النبلاء لقباً علمياً. وما برحت منذ سنة 1665 تنشر كتباً تحت عنوان القضايا الفلسفية وقد بلغت إلى الآن زهاء مائتي مجلد. وفي لندن مجمع للتصوير اسمه مجمع أدمبرغ وفي دوبلين عاصمة إيرلندا مجمع اسمه المجمع الملكي الإيرلندي أسس سنة 1786 بجانب كليتها وفيها مجمع للفنون الجميلة. وفي بعض المستعمرات الإنكليزية مجامع علمية مثل المجمع العلمي في مدينة فكتوريا بأوستراليا.
وفي بلاد السويد والنرويج مجامع علمية كثيرة جروا فيها على قدم المجامع الفرنسوية وهي ناجحة للغاية. وفي استوكهلم ثلاثة مجامع فيها ثلاث شعب كالمجمع العلمي الباريزي وفيها مجمع علمي للفنون الجميلة أسس سنة 1733 وهو كمعظم المجامع التي من شكله عبارة عن مدرسة للفنون الجميلة مع متحف وأساتذة وتلاميذ معدل عددهم أربعمائة.
وفي استوكلهم مجمع علمي على مثال مجمع العلوم في باريز وبرلين أسس سنة 1735 على يد العالم تريوالد المشهور في عصره إجابة لدعوة أحد رجال تلك البلاد وعلى نفقاته وكان دعاه إلى إلقاء محاضرات عامة في الطبيعة العلمية فحذا حذو تريوالد كثير من أهل(30/36)
الأدب حتى إذا كانت سنة 1739 أنشأ هؤلاء العلماء في استوكهلم جمعية صغرى غايتها البحث في المباحث العلمية وتعميمها ثم انتظموا في شكل مجمع علمي يجتمع في أوقات معلومة ولا يكتفي بالمحاضرات فنجح في شؤونه ونشر كما تنشر المجامع العلمية خلاصة بأعماله ونمي خبره إلى فريدريك الرابع ملك السويد فجعله تحت حمايته ودعاه مجلس العلوم الإمبراطوري في السويد وإذ لم يغدق الملك على هذا المجمع شيئاً من مال الحكومة بقي حراً في حكم نفسه بنفسه وإدارة شؤونه مستقلاً عن الحكومة وهو الآن يتناول وارداته من الوصايا وممن يحسنون عليه بالأموال ويمنحونه المنح من أهل الخير. ويتعاقب الأعضاء المقيمون في استوكهلم رئاسة المجمع كل ثلاثة أشهر وأعضاؤه من السويديين وغيرهم من الأجانب. وكان هذا المجمع ينقسم سنة 1799 إلى سبعة أقسام وهي الاقتصاد السياسي والزراعي والتجارة والصنائع الميكانيكية والطبيعية والتاريخ الطبيعي والوطني والطبيعة والتاريخ الطبيعي الأجنبي والعلوم الرياضية والطب والأدب والتاريخ واللغات.
وفي أوبسال أحد مدن السويد مجمع اسمع مجمع العلوم الإمبراطوري أسس سنة 1710 ولكنه لم يعترف به رسمياً إلا سنة 1728 وكانت كيفية إنشائه غريبة وذلك أن طاعوناً جارفاً انتشر في أوبسال سنة 1710 فانفض طلاب مدرستها الجامعة وانقطعت ألسنالمدرسين عن التدريس وخلت المنابر من أصوات الخطباء وساد الهلع والقلق في أربجاء البلاد فرأى أحد علماءها المدعو أريك برزيلوس خازن كتب الكلية وهو مؤرخ وفقيه مشهور في قومه أن يجتمع أساتذة الكلية في المدرسة مرة في الأسبوع في قاعة المكتبة ليقضوا الوقت في المحاورات الودية ويخوضوا في الموضوعات الأدبية ويطردوا عنهم كما قالوا شيطان الهموم ويقضوا الوقت بلا ملل فاجتمعوا لأول مرة وسموا مجمعهم مجمع الفضوليين وكان هذا الاجتماع أساس المجمع العلمي الحالي. ثم غيروا اسمه وأخذ بفضل أعضائه ينشر كسائر المجامع مذكراته وأعماله ورسائله ولكن باللغة اللاتينية أولاً وما برحت تصدر مذكراتهم باللاتينية إلى اليوم وإن كان معظم الأعضاء يكتبون مقالاتهم بالألمانية أو بالإنكليزية أو بالإفرنسية.
وفي بلاد النروج مجامع علمية وإن لم تكن في الغاية بموقعها فهي مفيدة وحرية بأن يشار إليها. ففي كرستيانيا مجمع أسس سنة 1857 ومثله في دورنتيم أسس سنة 1760 يعنى(30/37)
بالبحث في الصنائع والتجارة لا بالعلم المحض. وفي كوبنهاغ مجمع العلوم الإمبراطوري أيضاً أسس سنة 1742 على عهد كرستيان السادسي. وهو شعبتان الفلسفة والتاريخ والعلوم الرياضية الطبيعية وينشر مذكرات من أمتع ما يؤلف وينشر. وفيها أيضاً مجمع للفنون الجميلة أسس سنة 1738.
وفي بطرسبرج عاصمة روسيا مجمع للعلوم كان الباديء بإنشائه بطرس الأكبر تأسس سنة 1724 من ثلاث شعب وهي الرياضيات والتاريخ الطبيعي والتاريخ والفقه ويقضي على أعضائه أن ينصرفوا للتعليم ويعنوا بتخريج تلاميذ يختارونهم من شبان الصقالبة السلافيين الأجانب. وكان جميع أعضائه من غير الروسيين لأول أمره أي من السويسريين والألمان. وقد خدم تاريخ روسيا وعلم آثارها أجلّ خدمة في منتصف القرن الثامن عشر وكان أول عضو روسي فيه الشاعر لومونوروف ورأسته الأميرة داشكوف من سنة 1883 إلى 1894 وهي التي نظمت جلساته وجعلتها باللغة الروسية وشرعت في نشر عدة مجلات بالروسية. وأنشئت فيه شعب للعلوم التاريخية والإحصائية والسياسية وقسم للغات الشرقية وقد خدم العلم أعظم خدمة ونشر عدة كتب ولاسيما قاموسه السلافي الروسي وقل بعد ذلك عدد الأعضاء الروسيين فيه وقام بعدة بعثات علمية مهمة. وفي بطرسبرج أيضاً مجمع للفنون الجميلة أسس على عهد الإمبراطورة إليزابيت سنة 1757 وكان أساتذته من الأجانب لأول عهده.
ولقد أنشأت الأمم النازلة في الجنوب الغربي من أوروبا في القرن التاسع عشر وهي الأمم التي أحرزت الاستقلال أو تحاول نيله مجامع علمية لتدل بها على وطنيتها وتجمع شمل العلماء الذين يخاطبون أوروبا في امرها ومن تلك المجامع المجمع المجري أسس سنة 1831 وعاقته حوادث سنة 1848 فلم يصبح عاماً غلا في سنة 1858 ثم قام دعاة الوطنية وأخذوا يستوكفون الأكف فاشترك في الجود له رجال تختلف طبقاتهم من البارون سينا الذي تبرع بثمانين ألف فلوريني إلى الخدام والخادمات الذين كانوا يجودون بالقروش الصغيرة فأنشيء المجمع من جديد وافتتح بناؤه سنة 1865 في بقعة من أجمل بقاع الأرض على ضفاف الطونة بين مدينتي بود وبست. وهو خمسة أقسام قسم في أصل اللغات وآخر في التاريخ الأدبي وثالث في التاريخ والرابع في الاقتصاد السياسي وخامس(30/38)
في الرياضيات والتاريخ الطبيعي وعلم الآثار وله دخل وافر يمكنه من السخاء على العلم وهو يعين ثلاث مجلات مجرية بقدر من المال. منها مجلة بودابست وهي أشبه بالمجلات الإفرنسية تقوم على نشر العلم بين الطبقات المختلفة وتعطي جوائز كبعض المجامع العلمية لمن يبرز في الأدب والعلوم.
وقد أسس سنة 1767 في آغرام مجمع دعي المجمع الجنوبي السلافي في آغرام نشر كثيراً من لالكتب المهمة لقدماء كتاب الكرواسيين والصقلبيين. وفي بلغراد من بلاد الصرب مجمع أسس سنة 1846 يعنى بالتاريخ والعلم واللغة ولاسيما تاريخ بلاد الصرلب وجيولوجيتها وفي كراكوفيا مجمع لهم أنشيء سنة 1816 وجعل سنة 1872 مجمعاً على مثال المجامع العلمية. وأسست في بولونيا عدة مجامع في القرن الثامن عشر ولكنها لم تقم لها قائمة لأسباب سياسية وكانت تنحل بعد اجتماعها بقليل.
وفي رومانيا مجمع علمي أنشأه الوطنيون من الرومانيين لبيان الآداب الرومانية ووضع حدود لهذه اللغة وقواعد ثابتة لها ولاسيما بعد أن انضمت إمارتا مودلافيا إلى الأفلاق واشتغل هذا المجمع زمناً بتحسين اللغة الرومانية وتصفيتها من الشوائب والبحث في اللغة القديمة واللغة الحديثة.
وفي الولايات المتحدة عدة مجامع علمية مهمة منها مجمع نيويورك ومجمع الفنون الجميلة ومجمع الموسيقى.؟ وأول مجمع علمي أنشيء فيها كان على يد العالم فرنكلين سنة 1743 ارتأى تعميم المعارف الزراعية فأسس المجمع الفلسفي الأميركي وقد انضط إليه مجمع آخر فتقوى به وما زال فرنكلين رئيسه يجدد انتخابه كل سنة حتى مات وللمجمع مكتبة فيها زهاء ثلاثين ألف مجلد وأسس سنة 1812 مجمع العلوم الطبيعية في فيلادلفيا. وهو من أهم المجامع الأميركية وقد جمع له متحف ومكتبة لا نظير لهما وفي خزانة كتبه زهاء ثلثمائة ألف مجلد وفيها كثير من الكتب في التاريخ الطبيعي للولايات المتحدةو ومتحفه مفرد في بابه. وأسس في بوستون مجمع للفنون والعلوم سنة 1780 سموه المجمع الأميركي وغايته تنشيط الدروس الأثرية ودرس التاريخ الطبيعي وتطبيق المواد الطبيعية على صنائع البلاد وعلومها وله مكتبة فيها عشرون ألف مجلد وأقيم في بوستون أيضاً سنة 1874 مجمع للتاريخ الطبيعي ثم خلفه مجمع آخر سنة 1830 وله مكتبة مهمة ومتحف(30/39)
وينشر كتباً ومفكرات وفي نوهافن مجمع للعلوم والفنون وفي نيويورك مجمع للعلوم.
وفي سالم من ولاية مساشوست مجمع للعلوم أنشأه الكريم بابودي فمنحه مائة وأربعين ألف دولار. وفي سان لوي مجمع للعلوم وفي شيكاغو كذلك كما في سنيناتي مجمع للتاريخ الطبيعي وفي كليفورنيا كذلك ومجمع هذه يكبر بكثرة ما يمنح من عطايا الأسخياء. وفي أيوفا مجمع للعلوم الطبيعية أسسته عقيلات دافانبور بمالهن. وفي فلادلفيا مجمع لترقية العلوم غرضه أن يطوف أعضاؤه في البلاد ويتباحثوا ويتبادلوا الأفكار. وفي أميركا أيضاً مجمع للعلوم اسمه مجمع العلوم الوطني أعضاؤه مائة يجتمع في واشنطون وفي هذه المدينة المجمع السميثوني أسس سنة 1846 بما وقفه عليه جايمس سيمثون المتوفى سنة 1829 وهو من أهم مجامع الولايات المتحدة وله متحف طبيعي من أعظم متاحف العالم قام بفضل سخاء الأسخياء عليه وهناك عشرات من الجمعيات والمجامع في أمهات المدن الأميركية سواء كان في الكليات أو غيرها تنشر الكتب وتعنى ببث العلم والإفراد يمنحونها المنائح السنية. هذه نبذة من المجامع على اختلاف مقاصدها في العالم المتمدن لخصناها عن دائرة المعارف الفرنسوية الكبرى وربما زاد عددها الآن أكثر من ذلك فعسى أن يكون فيها للشرق درس نافع.(30/40)
كلمة معتبر
أقوى مصيق القوم والمربع ... فالدار قفر بعدهم بلقع
سارت بنا الأرض إلى غاية ... لنا وللأرض هي المرجع
ونحن كالماء جرى نابعاً ... لكن علينا خفي المنبع
والعلم قد أنكر منها جنا ... ولم يبن أين هو المهيع
خرقت يا علم رداء لنا ... كنا ارتديناه فهل ترقع
فجعتنا يا علم في أمرنا ... أمعتب أنت إذا نجزع
لقد طغت حيرة أهل النهى ... هل فيك يا علم لها مردع
كم نشرب الظنّ فلا نرتوي ... ونأكل الحدس فلا نشبع
والناس ويل الناس في غفلة ... ترتع والموت بهم يرتع
والكون قد لاح بمرآته ... للعيش وجه شاحب أسفع
وإن في البدر لخطباً به ... في البدر لاحت بقع أربع
فالعين ما يورث حزناً ترى ... والأذن ما يزعجها تسمع
والأرض في منقلب بالورى ... والشمس من مشرقها تطلع
حتى إذا ما بلغت شوطها ... لاحت نجوم في الدجى تلمع
وهكذا الظلمة تتلو الضيا ... والضوء للظلمة يستتبع
ونحن في ذاك وفي هذه ... بالنوم واليقظة نستمتع
ما بين مسعود يميت الدجى ... نوماً ومنكود فلا يهجع
ومسرع يسبقه مبطيء ... ومبطيء يسبقه مسرع
وشامت يضحك من حادث ... حلّ بباك قلبه موجع
لو كان للقسوة عين وقد ... رأته كانت عينها تدمع
والكل في شغب لهم دائم ... لم يقلعوا عنه ولن يقلعوا
والماء يمسي وشلاً تارة ... وحوضه آونة مترع
والريح تجري وهي ريدانة ... حيناً وحيناً عاصف زعزع
وبعضهم تمرع وديانه ... وبعضهم واديه لا يمرع
قد يحسب الإنسان آماله ... والموت مصغ نحوه يسمع(30/41)
حتى إذا أكمل حسبانها ... وافاه ما ليس له مدفع
فخرّ للجنب صريعاً به ... وأي جنب ماله يصرع
وظلَّ فوق الأرض في حالة ... يزوّر عنها الحسب الأرفع
لا تعمل الأقلام في كفه ... وكان من قبل بها يصدع
ولم تعد تقطع أسيافه ... من بعد ما كان بها يقطع
فاستل مثل السيف من مطرف ... طرائق الوشي به تلمع
ولف في ثوب له واحد ... ليس له رقم ولا ميدع
واهاً له ثوب البلى إنه ... يبلى مع الجسم ولا ينزع
ودس حيث الأرض أمست له ... ملحودة ضاق بها المضجع
حيث البلى يرميه حتى إذا ... لم يبق في قوس البلى منزع
خالط التراب جثمانه ... مطحونة منها بها الأضلع
لله در الموت من خطة ... فيها استوى ذو العي والمصقع
يخون فيها القول منطيقه ... كما تخون البطل الأدرع
ما أقدر الموت فمن هوله ... لم ينج لا كسرى ولا تبع
يا رافع البنيان كم للردى ... من سلم يدرك ما ترفع
ويا طبيب القوم لا تؤذهم ... إن دواء الموت لا ينجع
لا بد للمغرور من مندم ... بالعض تدمى عنده الإصبع
وما عسى تغني وقد حشرجت ... ندامة ليست إذاً تنفع
يا برقع الخلقة واهاً لما ... فيك واهاً منك يا برقع
قد زاغت الأبصار فيما ترى ... إذ فات عنها سرك المودع
وليس في الإمكان عند النهى ... أبدع مما خلق المبدع
بغداد
معروف الرصافي(30/42)
سير العلم والاجتماع
مستقبل علم الاجتماع
نشرت إحدى المجلات الاجتماعية آراء خمسة عشر عالماً من كبار علماء الاجتماع في أوروبا وأميركا سألتهم عن مستقبل هذا العلم الحديث الذي نشأ في الحقيقة منذ ثلاثة أرباع قرن عندما نشر أوغست كونت الفيلسوف الفرنسوي فلسفته الحسية وكان بها واضع أسس علم الاجتماع فكانت أجوبتهم على أن هذا العلم ما زال في حداثته الأولى ويرجى أن يكون له بعد أجيال أساس راسخ وأن القرن التاسع عشر أورث هذا القرن فيما أورث من تركته الضخمة مشكلة كبيرة فإن ترك له ما تم من الارتقاء في العلوم الطبيعية واكتشاف قوانين النشوء التي تشمل العالم فإن أهم مشكلة علمية ترك للقرن العشرين حلها هي تحديد الصلات بين الأسباب وقوانين النشوء السارية على الإنسانية وإن تقسيم العلوم التي يقوم عليها علم الاجتماع والتوفر على خدمتها سيجعل لهذا العلم شأناً غير شأنه الحاضر ويكون كفيلاً بأعظم النتائج وأخص هذه العلوم هي تاريخ الحقوق وعلم الاقتصاد السياسي وعلم الأديان والصنائع والفنون والتاريخ قال أحدهم أن الغاية من علم الاجتماع أن نفهم منه النظامات الاجتماعية الحاضرة بحيث يتجلى لنا ما يكون من أمرها بعد وما نريد أن نحولها إليه ولا بد أولاً لفهم قانون من القوانين من معرفة كيفية تركيبه فالنظام الاجتماعي مركب من أجزاء فيتحتم حل هذه الأجزاء بمفرداتها ليتأتى الحكم على كل منها على حدته ولا يكفي في إظهار ذلك أن ننظر إلى القانون من حيث انتهى غليه حاله فإنه بذلك لا تعرف العناصر المختلفة المؤلف منها كما أنا لا نرى بالعين المجردة الخلايا التي تتألف منها الأنسجة من الأحياء والذرات التي تتألف منها الأجسام فيقتضي أداة للبحث لإظهار ذلك ولا سبيل إليه إلا بالتاريخ فبه تعرف تلك القوانين التي تألفت قطعة قطعة وكيف جاء بعضها أثر بعض وللتاريخ مقام في نظام الحقائق الاجتماعية يشبه مقام الميكروسكوب في نظام الحقائق الطبيعية.
سم الدخان
أنشأ باعة الدخان في فرنسا يبيعون دخاناً خالياً من النيكوتين أي المادة السمية الموجودة فيه وقد جرب أحد علمائهم هذا الدخان في اللفافات والغلايين فتبين له أنه لا يضر أصلاً(30/43)
كالدخان الإنكليزي الذي حقن بمنقوعه بعض الحيوانات فأصيبت بعد 38 إلى 56 يوماً بالتهاب الشريان (الأبهر الشمالي) المزمن أما المحقونة بالدخان الفرنسوي الخالي من النيكوتين فحقنت ستين مرة فلم تزد به إلا سمناً ولم يظهر عليها عرض من أعراض الأمراض.
لغة الاسبرانتو
قبلت مدرسة فرنسا في باريز هذه اللغة التي اخترعها الدكتور زمنهوف الروسي منذ نحو عشرين سنة بصفتها لغة مساعدة عامة وقد أصبح الذين قبلوا هذه اللغة 307 جمعيات علمية وغيرها كما تعلمها 1011 عالماً من علماء الأرض على اختلاف جنسياتهم ولغاتهم.
حدائق الأطفال
أنشئت في منشستر حدائق من الرمل يلعب فيها صغار الأطفال الضعاف البنية فيحضرون إليها يحملون محافر وسطولاً (كرادل) يحفرون ويسقون وتلاحظهم إحدى النساء وفي الأيام الممطرة ينتقلون إلى مكان مسقوف وقد رأى الباحثون أن هذه الطريقة نافعة لتقوية أجسام الضعاف.
التمثيل في آسيا
قال أحد علماء الاجتماع أن الأمم الكبرى المتمدنة في آسيا ترتاح إلى التمثيل ارتياح الأمم الأوروبية إليه ومع هذا فإن رواياتها التمثيلية منحطة عن روايات الغرب اللهم إلا اليابان ففي الهند والصين لا ترى في الروايات التمثيلية أثراً من الآثار التي تشير إلى المطامع الكبيرة التي تسوق أصحابها إلى الفتن ولا أبطالاً يقدمون على المصاعب ويعاندون الأقدار في أحكامها بل أنهم يكتفون هناك بتمثيل فاجعات عامية تصور اضطرابات الحياة اليومية أو عيشة العملة إلا أن الروايات الأوروبية قد أثرت الآن في الهند وإن كان بعض أدبائها يريدون حباً بوطنيتهم أن يحيوا ما كاد يندثر من آدابهم القديمة مما يدعو إلى الأمل بأن التمثيل الهندي سيرجع عما قريب إلى صورته السالفة التي كان عليها أهل الصين فإن الذي يغلب عليها في التشخيص ذكر الحياة اليومية وأحوالها والفقر ومشاكله المؤثرة وتصوير الصدق والخديعة ويرجى للتمثيل في الصين ارتقاء لاسيما إذا دخلت البلاد بفضل الحركة الثورية التي تهز الآن عصابها في فتن وطنية كبرى. والتمثيل في سيام يجمع إلى(30/44)
تمثيل الحقائق كما تمثلها الصين والأفكار الدينية والفنية كما هي في الهند. وكوريا ممتازة بموسيقاها. أما يابان فإن التمثيل فيها صورة صحيحة من صور المطامع التي تجول في صدور اليابانيين والأعمال التي تدور فليها حياتهم فتجده مثالاً من تقاتل الأفكار وعراك الرجال وتأثيرات الجمال والشرف يظهر كل مرة بمظهر أمام المتفرجين. قال ومتى أكثر المترجمون في أوروبا من روايات يابان كثر مما ترجموا تتمثل للأنظار شعور ذاك العنصر وشعره وتمدنه فنرى ذاك العنصر الذي هو أعظم مثال في استقلاله كيف يقترب من تمدننا وشعرنا وشعورنا.
مقاومة الكحول
قدم أحد علماء الألمان إلى مؤتمر مقاومة المشروبات الروحية الأخير تقريراً قال فيه أن الناس كانوا على أن قليلاً من المسكرات لا يضر إن لم ينفع أما هو فقد بين أن تناولها حتى باعتدال مضر جداً بالنسل وذلك بتجارب كثيرة أجراها على الأرانب والكلاب وكان كل حيوان منمها يتعاوره بالاختبار ويحقنه بالكحول من مائتين إلى ثلثمائة يوم فتبين أن نسلها يضعف عقيب ذلك ضعفاً محسوساً
الجمال في الأمم
كتب أحد الباحثين رسالة فيما يراه كل عنصر من عناصر الأرض من أسباب الجمال فقال أن الجمال يختلف الحكم عليه وإن مما أجمع الناس على استحسانه قوة الرجال ومرونتهم فقبائل الهوتنوت يرون أن من كانت وجناتها أكثر نتوءاً من غيرها تعد ربة الجمال عندهم وزنوج أفريقيا يعتبرون الأثداء المستطيلة الرخوة والزنجيات في شواطيء بحيرة تنغانيكا يحاولون نفخ صدروهن ليكن بذلك محل الإعجاب ومن العادة أن تكون شفاه السود مبرطمة ولكي تزيد قبائل الكاسونيكي والسيرير شفاهها برطمة يدخلن شوكاً فيحدث فيها التهاب يؤدي إلى انبساط القلب المقرط. والفكوم في قبائل الولف في السنغال ناتئة كثيراً ويزيدها نساؤهم نتوءاً بأن يكرهوا الثنايا عندما تطلع أن تكون بارزة للأمام وذلك بأن يضغطن عليها بألسنتهم. ومع أن أنوف قبائل المالايو والقرغيز والهوتنوت والبوسهمين مفلطحة يزيدها نساؤهم فلطحة وقبائل الآينوس في جزيرة يزو على كثرة شعورهم فإن نساؤهم يزدن إنماء شعور وجوههن بواسطة خضاب لتكون لهن شنبات غزيرة وهنود أميركا على(30/45)
أن معظمهم جرد قليلو الشعر يتوفرون على نتف شنباتهم وسبلانهم ولحاهم على ما تفعل الأمم المتمدنة من الإفرنج. وأنف الفارسي أقنى رقيق ومع هذا يزيده من ذلك بالضغط عليه كثيراً وللمصريين القدماء عيون نجل ومع هذا كانوا يزيدون شرطتها بطلاء مخصوص والسياميون أرباب أهداب مقوسة ولا تعد المرأة جميلة عندهم إلا إذا كانت أهدابها كهلال القمر.
المعارف في روسيا
عرفت روسيا منذ خمسين سنة أنها كلما فتحت مدرسة في بلادها أغلق سجن من سجونها لأن المعارف خير ذريعة إلى التقوى وإصلاح النفس ثم أدركت أن الغلب الحقيقي في معركة سادوفا بين الألمان والفرنسيس كان بفضل معلم المدرسة الجرماني فالمعلم يكوّن الأمة في سياستها واجتماعها ولذلك بدأت في الإنفاق على المعارف ولكن سكانها الآن 144 مليون وبلادها متنائية الأطراف واسعة المعالم والمجاهل يصعب إعداد معدات تعليمها في بضع سنين وعشرات ولا بد من أيام تمر وأجيال تنقرض حتى يأتي من جمهور الأمة بأناس منورون على النحو الذي تريده الحكومة.
كانت روسيا لما بدأت في عدد أمييها دون إسبانيا وإيطاليا وعلى مستوى البلاد العثمانية فكانت مدارسها الابتدائية والثانوية قليلة جداً وإن تكن كلياتها ومدارسها العالية غاصة بطلابها. فكانت روسيا في تعليمها أشبه ببيت زينت ظاهره وبهرجت أدراجه وحوائطه وموهت سقوفه ولكنها لم تنظر إلى أساس الطبقة السفلى منه.
بلغت المبالغ التي خصصتها روسيا للمدارس الابتدائية حتى سنة 1897 مبلغ 1484673 روبلاً وهو مبلغ زهيد جداً بالنسبة لذاك الملك الضخم فأصبحت سنة 1907 مبلغ 8285000 روبل ما عدا الاعتمادات التي تفتحها في الأحايين لإقامة المدارس وصار عدد مدارسها الابتدائية سنة 1904 تسعين ألف مدرسة فيها نحو مائتي ألف معلم ومعلمة بين كهنة وعامة (علمانيين أو عالميين) ومجموع ما فيها من التلاميذ خمسة ملايين وثلثمائة وتسعون ألفاً. ومع هذا فإذا حسب حساب المتعلمين بالنسبة للسكان كان الواجب أن يكون عددهم نحو ثلاثة عشر مليوناً.
وقد طلب ناظر المعارف من مجلس الأمة الآن أن يقرر في الميزانية ستة ملايين وتسعمائة(30/46)
ألف روبل زيادة على ميزانية الكتاتيب لتكون أساسً في جعل التعليم إجبارياً في روسيا كما أن المجمع المقدس يصرف في السنة عشرة ملايين روبل على مدارسه الدينية ويقول الخبيرون أن روسيا إذا ارادت جعل التعليم إجبارياً في بلادها كألمانيا وفرنسا مثلاً كان عليها أن تصرف كل سنة 120 روبلاً وهو ما لا تقوى ميزانيتها على تحمله هذا عدا ما يلزم لها من الأراضي وإقامة تلك المعاهد اللازمة والألوف من المعلمين ممن يقلون في أبنائها. وكيفما دارت الحال فإن روسيا تلوب على طرق تجبر الأفراد فيها على التعلم قضهم وقضيضهم وذكورهم وإناثهم.
حبوب العالم
أصدرت الغرافة التجارية في لندرا إحصاءً ذكرت فيه ما يستخرج من الحبوب في العالم فقالت أن محصول الحنظة 3160 مليون مكيال تعادل 86000000 طن (والمكيال عبارة 36 لتراً و35 ووزنه في الحنطة 27 كيلوغراماًَ وكسر قليل) ونصف هذا القدر تخرجه ثلاث ممالك فتغل الولايات المتحدة 660 مليون مكيال وتغل أملاك روسيا في أوروبا 541 مليوناً وتغل فرنسا 328 مليوناً وأهم البلاد التي تغل النصف الآخر هي الهند تغلب 286 مليوناً وإيطاليا تغل 159 مليوناً وألمانيا تغل 128 مليوناً والمجر تغل 120 مليوناً وإسبانيا 115 مليوناً والجمهورية الفضية 101 مليون والباقي تغله الممالك الأخرى.
ويقدر محصول الذرة في العالم بـ 2896 مليون مكيال أو 73500007 طنات تغل الولايات المتحدة ثلاثة أرباعها أي 2286 مليون مكيال ويغل الهرطمان 3371 مليون مكيال أو 49000000 طن تخرج الولايات المتحدة منها 871 مليوناً وروسيا 825 مليوناً وألمانيا 494 وفرنسا 268 وكندا 204 والنمسا والمجر 196 وتغل روسيا من الشعير 297 مليون مكيال وألمانيا 145 والولايات المتحدة 114 واليابان 80 وتغل الصين من الأرز 24500000 طن والهند 12700000 ومحصول الأرز في العالم قريب من محصول الحنطة ويخرج من الدخن من بلاد الهند 542 مليون مكيال ومن الصين نحو 500 مليون ومن بلاد روسيا في أوروبا 78 ومن بلاد روسيا في آسيا 15 ومن اليابان 12 ومن الولايات المتحدة 5 وفي هذا الإحصاء لم يذكر لمصر والشام والعراق وآسيا الصغرى ولا لتونس والجزائر لأن محصولاتها في بعض هذه الحبوب تعد حقيرة جداً(30/47)
بالنسبة لتلك المكاييل الضخمة في تلك الممالك الضخمة.
ثلاثة علماء
فقدت ألمانيا المستشرق إدوارغلازر المعروف بالآثار الكتابية التي استخرجها من جنوبي جزيرة العرب وفقدت فرنسا الأستاذين باربيه دي مينار وهرتويغ دارنبورغ من علماء المشرقيات المعروفين بخدمة اللغة العربية وآدابها.
الموسيقى والحيوانات
كان ميشله المؤرخ إذا أراد ذكر الحيوانات قال أخواننا المنحطون وقد كتب كاتب مقالة في تأثير الموسيقى في الحيوانات قال من توغل في البحث في التاريخ والسير يشهد بأن الموسيقى طالما كانت تؤثر آثارها في الحيوانات. ومن فتح سفر أيوب يجد أن جواد الحرب يحفر الأرض في حركته واضطرابه ولا يتمالك إذا ضرب البوق. كما يقرأ فيه أيضاً: متى ضرب البوق يصهل الجواد ويشعر بالحرب من بعيد وبقيادة الرؤساء وصوت الأدوات. ومن الأساطير اليوناينة أخبار عن الحيوانات وتأثراتها بالنغمات والألحان. وقد ثبت غير مرة أن العنكبوت تتأثر بالألحان ومن لا يذكر عنكبوتة بيليسون الأديب الفرنسوي الذي سجن في الباستيل فكان يتسلى بضرب الكمنجة فتقترب منه وتتعزى به حتى أنها لكثرة طربها ذات يوم أغمي عليها فجاء السجان وسحقها. ويظهر أن الحشرات وإن تكن قليلة التأثر بألحاننا البشرية إلا أن لها ألحاناً فللجنادب والصراصر والجراد ألحان خاصة بها لا يلذ سماعها لأنها متساوقة الألحان ولا نظام فيها ولكنها تستجيدها وتستلذ بها وكذلك تسمع للنحل في خلاياها دوياً لطيفاً متصلاً ذا نغمات يدعوه المتوفرون على تربيتها صوت الخلية. أما الأسماك فلم يتحقق أمرها فيما إذا كانت تطرب بالموسيقى وادعى أحد المؤلفين أن سمك الشبوط يطرب لسماع نغمات الرباب.
وأثبت المؤلف شاتوبريان في قصة رواها أن الدبابات تطرب لنغمات الموسيقى وأن بعض الأمم المتوحشة تستخدم الأغاني لتجلب بها الحيات فتأكلها كما يفعل الهنود في صيد نوع من الزحافات يستطيبون لحمها. والضب يتلذذ كثيراً بصوت الموسيقى ولاسيما الغناء الصغير. وسلحفاة البحر تبتهج للصفير وبه يتأتى صديها.
والطيور تطرب كثيراً للأنغام ولا نعني بالطيور تلك التي هي مغنية من طبعها كالشحرور(30/48)
والبلبل والعصفور المعدودة بهجة الغابات والحدائق بل هناك كثير من ضروبها تطرب إذا سمعت أنغامنا كالببغاء ومنها أجناس لا تستطيع محاكاة الأصوات البشرية ولكنها مع ذلك تقلد صوت الآلات التي تسمعها. والحباشة الذي يألف البيوت إذا سمع نغماتنا لا يلبث أن يهيج وينفخ صوته ويكرهه كأنه يريد أن يتمكن من الصوت الذي يسمعه وربما أمكن تعليمه بعض الألحان. والزرزور سماع للأنغام وقد علمه أحدهم نشيد المارسليز فلما نقل الزرزور إلى مكان آخر علمه لرفاقه الزرازير.
وذوات الأربع من البهائم كالبقر مثلاً تطرب للنغمات. والثور يطرب لصوت الحراث عليه فيمشي على نغماته متلطفاً كما أن الجمل يطرب للحداء. ولا يقتصر الطرب فيها على تموجات صوت الإنسان بل إن أي نوع من الأصوات إذا ردد كثيراً يكون سبب السرور وكذلك الحال في الجواد والخيول فإنها تتقحم المهالك إذا سمعت الأصوات ثم أنها تميز بين أصوات أصحابها وغيرهم. والحصان يتألم من الأصوات الرديئة وهو سريع السمع جداً وإذا عود سماع الصوات الرديئة اعتادها وهو يؤثر نغمات الرباب على نغمات الكمنجة ويطرب جداً للبوق.
فإن خيول الجند تظهر الفراهة والنشاط عندما ترى أبواق الأجواق الموسيقية والحمار يحسن السماع والاستماع حتى لقد روي أن حماراً سمع صوت امرأة أطربه فما زال يقترب منه حتى دخل الدار ليسمعها عن أمم. والفيل سماع للأنغام.
وقال بعضهم أن الجرذان تستهويها الأنغام وأن الكلب البحري قد يصاد بسماع الموسيقى والذئب لا يطرب للصوت. وربما فزع ولعله يهرب إذا سمع نغم الكمنجة أو بوق مبوق صوتاً شديداً. ومن الدببة ما يرقص على نغمات الأوتار ولكن ليست هذه هي التي تطربها بل تخاف السياط التي تنهال عليها ممن يضربها فترفع قوائمها على ضخامتها وقلما تخربط إلا عن غير قصد. أما الأسود فيقال أنها تطرب للأنغام وفي إنكلترا أسد جال البلاد وكان من أكثر المخلوقات تأثراً بنغمات البيانو وكانت تظهر منه أعاجيب حين يشرع صاحبه في الضرب على هذه الآلة فيزمجر وتقذف عيونه شرراً حتى يخاف المتفرجون ويضطر صاحبه إلى الكف عن الضرب على آلته.
والهر قليل التأثر بالموسيقى وقيل أن بعض الهررة تموء عندما تسمع الأنغام. والكلب كثير(30/49)
التأثر بالألحان الموسيقية. والقرد يطرب للأنغام بل هو يتعلم الضرب بالآلات فيطرب بها كالإنسان.
وقد قال أحد من يكرهون الموسيقى أن الموسيقى هي الصناعة الوحيدة التي يتأثر بها الحيوانات والمجانين والبله. وبالجملة فإن تأثر الحيوانات بالأنغام دليل واضح على أن الموسيقى عامة لجميع من له سمع.(30/50)
مطبوعات ومخطوطات
معجم الأدباء
هو كتاب إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب أو طبقات الأدباء تأليف ياقوت الرومي من أهل القرن السابع وهو صاحب الكتب الكثيرة في التاريخ والجغرافية وأهم كتبه معجم البلدان الذي نشره الأستاذ وستنفيلد الألماني لأول مرة في ألمانيا وهذا الكتاب معجم الأدباء نشره الأستاذ مرجليوث الإنكليزي. فبأي لسان نشكر علماء المشرقيات لخدمتهم لغات المشرق عامة واللغة العربية خاصة فإنهم بفضل بيض أياديهم على لغتنا نزعوا من أذهان الغربيين أن اللغة العربية قاصرة عن مجاراة غيرها من اللغات الحية وعرّفوهم بأنها لغة فنون وحكمة وتاريخ وأدب كما هي لغة دين وفقه وكلام.
لا جرم أن نفوس أهل العلم اليوم تهتز سروراً لبشرى طبع الجزء الأول من معجم الأدباء لما يعلمون من إجادة ياقوت في تآليفه وذوقه الغريب في الحكم على بلاد الإسلام وسكانها وتواريخها والمادة الواسعة التي توفرت له في عصره فاغترف منها اغتراف حكيم لا يسقط إلا على الدر ويطرح الخرز والصدف جانباً.
وهذا الجزء الأول هو من مخطوطات مكتبة بودلين في أكسفورد وأصله من كتب المطران بارتس في بومبي كتب بخط أعجمي لا يحسن العربية فجاء محرفاً تحريفاً كثيراً وصححه الأستاذ مرجليوث على قدر الإمكان على الأصول المعروفة من دواوين وكتب وأدب ومحاضرات وتاريخ وغيرها فجاء شاهداً بفضله وعلمه وما هي أول حسنة من حسناته في خدمة اللغة العربية ونشر ما نطوى من أقلام مؤلفيها الغابرين وشعرائها المجيدين.
وما قولنا لمن يرون في مثل هذه المطبوعات التي ينشرها علماء المشرقيات بعض تحريف خفيف من نقط أو كلمات قد تدرك بالبداهة أنكم إذا توليتم من هذه الكتب ما يتولاه أولئك الأعاجم الغيورون منها لجاءت أكثر تحريفاً وتصحيفاً من مطبوعاتهم وأحرى بمن يبادرون إلى النقد أن ينشروا للناس ولو كتاباً واحداً يكون في صحته على الرسم الذي يرسمونه ليصدقهم أهل العلم.
في هذا الجزء نحو 130 ترجمة لمن اسمهم إبراهيم أو أحمد منهم المشاهير الذين ترجموا في الكتب المطبوعة التي بين أيدينا ومنهم من لم نعثر على تراجم إلا فيه وقد صورهم(30/51)
المؤلف تصويراً بديعاً لا يقل عن تصوير ابن خلكان وابن أبي أصيبعة وابن بسام والقفطي والسخاوي لمترجميهم إن لم نقل أنه يمتاز على بعضهم.
قال المؤلف: جمعت في هذا الكتاب ما وقع إليّ من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة وكل من صنف في الأدب تصنيفاً أو جمع في فنه تأليفاً مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز ولم آل جهداً في إثبات الوفيات وتبيين المواليد والأوفات وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم والأخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم فأما من لقيته أو لقيت من لقيه فأورد لك أخباره وحقائق أموره ما لا ترى لك بعده تشوفاً إلى شيء من خبره وأما من تقدم زمانه وبعد أوانه فأورد من خبره ما أدت الاستطاعة إليه ووفقني النقل عليه في تردادي إلى البلاد ومخالطتي للعباد إلى أن قال: ولم أقصد أدباء قطر ولا علماء عصر ولا إقليم معين ولا بلد مبين بل جمعت للبصريين والكوفيين والبغداديين والخراسانيين والحجازيين واليمنيين والمصريين والشاميين والمغربيين وغيرهم على اختلاف البلدان وتفاوت الأزمان.
وهذا الجزء في 424 صفحة مطبوعة بمطبعة هندية بمصر طبعاً نفيساً وقد طبع باسم جيب المستشرق وقد كانت العقيلة جيب أم الياس جون ولكنسن جيب وقفت وقفاً بعد موت ابنها هذا وكان مغرماً بدرس علوم الشرق وفلسفته وتاريخه ليطبع بريعه ما يعلي شأن المباحث الفلسفية والتاريخية والأدبية سواء كانت تلك المصنفات للترك أو للفرس أو للعرب وقد طبعت منذ سنة 1901 ستة كتب ومنها معجم الأدباء وهي تعد سبعة عشر كتاباً آخراً للطبع.
لا جرم أن إحياء معجم الأدباء مما يقفنا على أمور كثيرة كنا نجهلها من قبل وفيه من الشعر والنثر والمحاضرات والنكات ما هو مسرة للقلب وقرة للعين وإنك لترى ياقوتاً يأتيك بما قيل في المترجم ذماً ومدحاً ويترك للقارئ الحكم في ذلك. فمعجم الأدباء كوفيات الأعيان كلاهما متمم لصاحبه فنشر لأسرة جيب هذه المبرة الخالدة كما نشكر للأستاذ مرجليوت عنايته وغيرته.
تقرير مصر والسودان(30/52)
صدر تقرير السير ألدون غورست معتمد إنكلترا في هذا القطر عن سنة 1907 وهو في المالية والإدارة والحالة العامة في مصر وفي السودان وفيه فوائد كثيرة عن القطرين في السنة الماضية لا يظفر بها الإنسان إلا في المظان البعيدة المنال ويؤخذ منه أن إيرادات الحكومة المصرية زادت في مدة عشرين سنة نحو ستة ملايين جنيه ولكن ثلثي الزيادة حدث في السنوات الخمس الأخيرة والسبب الأكبر في هذا النمو الارتفاع المستمر في أسعار القطن التي تضاعفت في السنوات العشر الأخيرة وكان متوسط قيمة الصادرات 30920000 ج م والواردات 25066000 ج م ومتوسط زيادة الوارد على الصادر من النقود 5061000 ج م ودفع أربعة ملايين ونصف جنيه للأجانب من فوائد الدين المصري يدخل في خراج الدولة العلية ونفقات الخزان ونفقات جيش الاحتلال وكانت إيرادات الحكومة 16368000ج م ومصروفاتها الاعتيادية 13231000 والخصوصية 1049000 ومعظم الإيرادات في زيادة كما أن معظم النفقات كذلك.
وبلغ مجموع الدين المصري 96. 181000 ج م في 31 ديسمبر سنة 1906 ومال الفائدة والاستهلاك 3699000 ج م وسدد من أصل الدين 347000 ج م فيكون الدين الباقي على مصر 95834000 ج م ومال الفائدة والاستهلاك السنوي 3641000 ج م وعند الحكومة وصندوق الدين سندات من أصل هذا الدين بقيمة 836000 فائدتها 317000 فمجموع الدين الذي كان الجمهور يتداول سنداته في آخر السنة بلغ 87448000 ج م والفائدة التي يدفعها سكان القطر 3324000 ج م.
ومما يدل على ميل الناس إلى التعلم والاستنارة أن عدد من زاروا حديقة الحيوانات في القاهرة بلغوا إلى آخر نوفمبر سنة 1907، 228924 أي بزيادة 24228 عن مثله في السنة التي قبلها ومعظم الزائرين مصريون وكثيرون منهم من أهل الأرياف وبلغ عدد الذين دخلوا غرف القراءة في دار الكتب المصرية 18830 معظمهم مصريون.
وبلغت جملة الواردات التجارية 26120777 ج م بعثت منها إنكلترا إلى مصر 8492847 وجاء من أملاكها في البحر المتوسط 213070 ومن أملاكها في الشرق الأقصى 1086818 وجاء من فرنسا 3166890 ومن البلاد العثمانية 2973108 ومن النمسا والمجر 2059423 ومن ألمانيا 1392381 ومن إيطاليا 1361457 ومن البلجيك(30/53)
1027590.
وبلغت جملة الصادرات 28013185 أصاب بريطانيا منها نحو 54. 3 في المئة ويختلف نصيب كل من ألمانيا وأميركا والنمسا والمجر وفرنسا وروسيا من الصادرات بين مليون ومليونين وقد زادت جميعها إلا فرنسا فإنها نقصت قليلاً عن السنة التي قبلها.
وفي التقرير فوائد لا يستغنى عنها ابن هذا القطر خصوصاً. وهو يطلب من إدارة المقطم بعشرة قروش.(30/54)
العدد 31 - بتاريخ: 1 - 8 - 1908(/)
غرائب القصاص
لعل بعض النفوس تتأذى بقراءة هذا الموضوع لأنه يدور على التفنن في إزهاق الأرواح على أنه لا بأس بشيء من القسوة يقوون بها قلوبهم للنظر في موضوع علمي تاريخي كان الإفرنج بعد الحروب الصليبية يستعملون من أساليب القتل كل غريب عجيب وخصوصاً في عهد ديوان التفتيش الديني في البلاد اللاتينية التوتونية حتى إذا كانت سنة 1792 أخذت بعض البلاد ولاسيما فرنسا عن إيطاليا استعمال آلة يسموها المقصلة تحز رأس المجرم في أقل من ثانية ثم أخذوا يبطلون هذه العادات ولما جاء دور الكهربائية أنشأت بعض بلاد الغرب ولاسيما الولايات المتحدة تعمد إلى إصعاق المجرمين بها ولكن تبين مؤخراً أن المصعوق بإجراء مجرى كهربائي عليه لا يقتل في الحال بل أنه يقاسي أشد العذاب عقيب إصعاقه ولا تزهق روحه حقيقة إلا بعد أن تشرح جثته.
وقد قامت الدكتورة روبينوفيتش وحملت حملة منكرة على القتل بالكهرباء قالت: إن كان لا بد من استعمال هذه الطريقة الوحشية فلا أقل من أن يكون فيها شيء من روح الإنسانية بمضاعفة القوة الكهربائية خمسة أضعاف ما يجري الآن ليتم القتل في أقل من لحظة وقد جربت هذه الطريقة في الأرانب فوقع الاستحسان عليها وأخذوا يستعملونها ولكن في عقاب المجرمين والأعضاء المؤلفة من الناس لتسلم بلادهم من شرور الأشرار.
وبعد فما برح البشر منذ عرف تاريخهم يقتل كبيرهم صغيرهم ويأكل قويهم ضعيفهم يعاقب في التنازع على المحمدة والمجد والمال والدين والعروض بعضهم بعضاً وآخر عقوباتهم ونتيجة إرهاقاتهم الموت اخترعوا إلى الوصول إليه طرقاً ترتعد لسماع أخبارها اليوم الأعصاب وتاريخ الشرقيين والغربيين على غرار واحد من هذا القبيل ترى كلما فتحت صفحاته دماء أبرياء تعج من جور الأقوياء على الضعفاء فتبلغ عنان السماء وتتمثل لعينيك الأمم في ذلك كأسنان المشط في الاستواء قلما يختلف شرق عن غرب أو أسود عن ابيض.
فمن خنق إلى حرق إلى شنق إلى ضرب بالعصي والأكف ورمي بالنبال وهبر بالسيف ودسر بالرمح والحراب والقذائف والبارود والديناميت إلى سم وإجاعة وحز رؤوس وبقر بطون وسمل عيون واستلال لسان وصلم آذان وشتر شفاه وقضقضة أعضاء وجذم أكف وقطع أيد وأرجل وأكحل إلى غير ذلك مما يرجع إلى معنى واحد ألا وهو الإرهاق في العقوبة وبلوغ المرء بأخيه ما يقال له الموت. فكما أن للموات عشرات المترادفات في(31/1)
العربية كذلك تجد في كل لغة ألفاظاً تدل على تلك المسميات التي تهدم الهيكل الإنساني وتطفئ سراج الحياة.
فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التعذيب والتمثيل ومشى بعض أصحابه على هديه زمناً ولكن كان بعض أهل الصدر الأول يرجعون إلى التوحش وإرضاء الشهوات الغضبية فلا يدخرون وسعاً إذا ظفروا بعداتهم في أن يصبوا عليه سوط العذاب فكان معاوية بن أبي سفيان أول من فتح هذا الطريق كما ابتدع بدعاً كثيرة أتى بها على غير مثال احتذاه ممن سلفه فقد ذكر الثقات أنه كان يقرب ابن أثال الطبيب منه ويفتقده كثيراً لأنه كان خبيراً بتركيب الأدوية ومنها سموم قواتل حتى مات في أيامه كثير من أكابر الناس والأمراء المسلمين بالسم وممن قتل في عهد أتباعه عبد الله بن عمر بعثوا إليه من رماه بسهم مسموم في عقبه. والتاريخ طافح بما قام به من ضروب التنكيل والتمثيل وكذلك فعل بعض ملوك دولته من بعده.
ولقد قابل بنو العباس الأمويين ببعض ما عاملوا به غيرهم وعمل السفاح بقول سديف في وصف بعض بني أمية لما ذهب ملكهم.
لا يغرََّنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داءً دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
قال ابن الأثير ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية تسعين رجلاً على الطعام فأقبل عليه شبل فقال:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياس
لا تُقيلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغراس
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها ... الله بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس
= والقتيل الذي بحران أضحى=ثاوياً بين غربة وتناسي(31/2)
فأمر بهم عبد الله فضربوا جميعاً بالعمد وبسط عليهم الإنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنبن بعضهم حتى ماتوا جميعاً.
وأمر عبد الله بن علي بنبش قبور بني أمية في الشام فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه فضربه بالسياط وصلبه وأحرقه وذراه مع الريح وتتبع بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس. وقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة جماعة من بني أمية عليهم الثياب الموشية وأمر بهم فجروا بأرجلهم والقوا على الطريق فأكلهم الكلاب.
وفي مروج الذهب أن الهيثم بن عدي روى عن معمور بن هانئ الطائي قال: خرجت مع عبد الله بن علي وهو عم السفاح والمنصور فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك فاستخرجناه صحيحاً ما فقد منه إلا خرمة أنفه فضربه عبد الله ثمانين سوطاً ثم أحرقه فاستخرجنا سليمان ابن عبد الملك من أرض دابق فلم نجد منه شيئاً إلا صلبه وأضلاعه ورأسه فأحرقناه وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية وكانت قبورهم بقنسرين ثم انتهينا إلى دمشق فأخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره لا قليلاً ولا كثيراً واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شؤون رأسه ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا منه إلا عظماً واحداً ووجدنا خيطاً أسود كأنما خط بالرماد بالطول في لحده ثم تتبعنا قبورهم في جميع البلدان فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم. وكان سبب فعل عبد الله ببني أمية هذا الفعل أن زيد بن زين العابدين علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب سمت نفسه إلى طلب الخلافة فحاربه يوسف بن عمر الثقفي فانهزم أصحاب زيد وانصرف هذا مثخناً بالجراح ولما مات دفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجروا الماء على ذلك فدل يوسف على موضع قبره فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام فكتب إليه هشام أن اصلبه عرياناً وبني تحت خشبته عمود ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وتذريته في الرياح وكان ذلك.(31/3)
وهكذا تجد ضروباً من المنية في تاريخ هذا القسم الصغير من الأرض فقد قتل أبو الجيش أحمد بن طولون أخاه المسمى بالأمين خنقاً بماء مغلي حتى مات. وقتل نصر بن أحمد صاحب خراسان أخاه زكريا بعصر خصاه. وقتلت أم خالد بن يزيد بن معاوية زوجها مروان بن الحكم أبو عبد الملك بأن أمرت خدمها أن يضعن المخاد على فمه حتى مات. وكم من رجل سم في كمثرى أو رمي الزئبق في أذنه أو فصد بمبضع مسموم قيل أن أحمد بن الموفق ابن أخي المعتمد بن المتوكل قتل عمه في حفرة ملأها من ريش ورماه فيها فمات بها. وقتل الشهاب السهروردي جوعاً. وألقي رفيع الدين الجبلي من أعلى مغارة في بعلبك فتعلق في بعض جوانبه فبقي المبصرون ذلك يسمعون أنينه نحو ثلاثة أيام وعذب أعوانه وكان قاضي قضاة دمشق.
ولما غضب الراضي على الوزير أبي علي بن مقله سلمه إلى الوزير أبي علي عبد الرحمن بن عيسى فضربه بالمقارع وأخذ خطه بألف ألف دينار فجرت عليه منه من المكاره والتعليق والضرب والوهق أمر عظيم وقطعت يده اليمنى وكان يقول في سجنه يد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة خلفاء وكتبت بها القرآن دفعتين تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم زيد في إخفائه وجعل في محبس وقطع لسانه.
ولما خرج المصعب بن الزبير في عهد عبد الملك بن مروان في العراق سنة 71 ورأى تحيز الجفرية لعبد الملك أرسل إليهم فنسبهم وسبهم قال ابن جرير ثم ضربهم مائة مائة وحلق رؤوسهم ولحاهم وهدم دورهم وصهرهم في الشمس ثلاثاً وحملهم على طلاق نسائهم وجمر أولادهم في البعوث وطاف بهم في أقطار البصرة وأحلفهم أن لا ينكحوا الحرائر.
ولما دخل مراكش مأمون الموحدين إدريس بن يعقوب أمر بتقليد شرفاتها بالرؤوس فمتها على اتساع الساحة. ولما استولى الغز على نيسابور أخذوا أبا سعد محي الدين النيسابوري ودسوا في فمه التراب حتى مات. وقبض عز الدولة بن بويه على وزيره ابن بقية وسمل عينيه ولما ملك عضد الدولة طلبه وألقاه تحت أرجل الفيلة فلما قتل صلبه. وكان الوزير ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد وأطراف مساميره المحدودة إلى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال في أيام وزارته وكان يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين والمطلوبين بالأموال فكيفما انقلب واحد منهم أو تحرك نمن حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه(31/4)
فيجدون ذلك أشد الألم ولم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة وكان إذا قال له أحد منهم أيها الوزير ارحمني فيقول له: الرحمة خور في الطبيعة. فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد فقال يا أمير المؤمنين: ارحمني فقال له: الرحمة خور في الطبيعة كما كان يقول للناس. قاله ابن خلكان.
ولما استولى أبو عبد الله الشيخ على فاس سنة 961 قتل الفقيهين أبا محمد الزقاق وأبا علي حرزوز ويحكى أنه لما مثل أبو محمد بين يديه قال له: اختر بأي شيء تموت فقال له الفقيه: اختر أنت لنفسك فإن المرء مقتول بما قتل به فقال لهم السلطان: اقطعوا رأسه بشاقور فكان من حكمة الله وعدله في خلقه أن قتل هذا السلطان به أيضاً. قاله في الاستقصا.
وقال فيه: لما كان من السلطان أبي عبد الله الشيخ ما كان من غزوة تلمسان مرتين وكان يحدث نفسه بمعاودة غزو تلك البلاد جرت المخابرة بينه وبين حكومة السلطان سليمان ولما لم يلتزم الأدب اتفق رأي الوزراء على أن عينوا اثني عشر رجلاً من فتاك الترك وبذلوا لهم اثني عشر ألف دينار لاغتيال الشيخ فما زالوا حتى وصلوا إليه وتعلقوا بخدمته ثم اغتالوه وضربوا رأسه بشاقور ووضعوه في مخلاة فأوصلوا الرأس إلى الصدر الأعظم وأدخله على السلطان فأمر به أن يجعل في شبكة من نحاس ويعلقه على باب القلعة فبقي هناك إلى أن شفع في إنزاله ودفنه ابنه عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور.
ومما روى لسان الدين بن الخطيب من فظاظة محمد بن محمد بن يوسف ثالث الملوك من بني نصر أنه هجم لأول أمره على طائفة من مماليك أبيه كان سيء الرأي فيهم فسجنهم في مطبق الري من حمرائه وأمسك مفاتيح قفله عنده وتوعد من يرمقهم بقوت بالقتل فمكثوا أياماً وصارت أصواتهم تعلو بشكوى الجوع حتى خفتت ضعفاً بعد أن اقتات آخرهم موتاً بلحم من سبقه وحملت الشفقة حارساً كان يرأس المطبق على أن طرح لهم خبزاً يسيراً تنقص أكله مع مباشرة بلواهم ونمي إليه ذلك فأمر بذبحه على حافة الجب فسال عليهم دمه. قال ابن الخطيب وقانا الله مصارع السوء وما زالت المقالة عنها شنيعة. والله أعلم بجريرتهم لديه.
وقتل يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقيين خالد بن عبد الله القسري على طريقة غريبة(31/5)
قيل أن وضع قدميه بين خشبتين وعصرهما حتى انقصفتا ثم رفع الخشبتين إلى ساقيه وعصرهما حتى انقصفتا ثم إلى وركيه ثم إلى صلبه فلما انقصف مات. وقال المقري دخل السلطان أبو الحسن سجلماسة عنوة على أخيه السلطان أبي علي عمر سنة 734 وجاء به في الكبل لفاس ثم قتله بالفصد والخنق.
ولقد كان رؤساء الناس وولاة الأمر منهم هم الذين لا يبالون بإرهاق النفوس وإزهاق الأرواح وكثيراً ما يكون ذلك لغير سبب سوى الطيش والجهالة وكان بعضهم يلتذ بإراقة الدماء مثل المعتضد بالله العبادي أحد ملوك الأندلس الذي دانت له الملوك من جميع أقطارها وكان قد اتخذ خشباً في ساحة قصره جللها برؤوس الملوك والرؤساء عوضاً عن الأشجار التي تكون في القصور وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه. وهو من الملوك الذين هابهم القريب والبعيد خصوصاً بعد أن قتل ابنه وأكبر ولده المرشح لولاية عهده صبراً لأن ابنه كان يريد الوقيعة به.
قال لسان الدين وكان المعتضد بالله ابن عباد أبعد ثوار الأندلس صيتاً وأشدهم بأساً وأنجحهم أثراً جمع خزانة مملوءة برؤوس الملوك البائدين بسيفه وكانت وفاته سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وفي رواية المقري أن بني الأحمر لما ظفروا بأعدائهم من ملوك الإفرنج في الأندلس سلخوا دون بطرة وحشوا جلده قطناً وعلق على باب غرناطة وبقي معلقاً لسنوات. ذكر ابن سعيد أن التتار قتلوا المظفر قطز وخلعوا عظم كتفه وجعلوه في أحد الأعلام على عادتهم في أكتاف الملوك. ولما قتل مروان بن محمد الأموي استخفى عبد الحميد الكاتب بالجزيرة فغمز عليه فأخذ ودفعه أبو العباس السفاح إلى عبد الجبار بن عبد الرحمن صاحب شرطته فكان يحمي له طستاً بالنار ويضعه على رأسه حتى مات وقيل أن ابن المقفع قتله عامل البصرة للمنصور بأن جعله في تنور.
ودخل أبو الحسن الملك العادل سيف الدين وزير الظافر العبيدي قبل وزارته بزمان على الموفق أبي الكرم بن معصوم التنيسي وكان مستوفى الديوان. فشكا إليه حاله من غرامة لزمته بسبب تفريطه في شيء من لوازم الولاية بالغربية بمصر فلما أطال عليه الكلام قال له أبو الكرم: والله أن كلامك ما يدخل في أذني فحقد عليه فلما ترقى إلى درجة الوزارة(31/6)
طلبه فخاف منه واستتر مرة فنادى عليه في البلد وهدر دم من يخفيه فأخرجه الذي خبأه عنده فخرج في زي امرأة بإزار وخف فعرف وأخذ وحمل إلى العادل فأمر بإحضار لوح من خشب ومسمار طويل فألقي على جنبه وطرح اللوح تحت أذنه ثم ضرب المسمار في الأذن الأخرى فصار كلما صرخ يقول له: دخل كلامي في أذنك بعد أم لا ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح ثم عطف المسمار على اللوح ويقال أنه شنقه بعد ذلك.
وروى التاريخ ن أخبار من تلقوا نكباتهم بالصبر العجيب ومن أنباء شجعان الزمان ما لا يكاد يصدق إلا أن أهل الأباء منهم كانوا يؤثرون الموت في الزحف ويتفادون من الوقوع في أيدي عداتهم لئلا يمثلوا بهم فقد جاء عبد الله بن الزبير إلى أمه أسماء ذات النطاقين لما خذله أصحابه في مكة فقال: ما ترين يا أمة فقد خذلني الناس. فقالت: لا يلعب بك صبيان بني أمية عش كريماً أو مت كريماً. فقال: أخشى أن يمثل بي بعد الموت فقالت له: إن الشاه لا تألم بالسلخ بعد الذبح فقبل بين عينيها وودعها وخرج يقاتل إلى أن كان من أمره ما كان.
وقلب باسيل الثاني الملقب بقاتل بلغاريا بعد حرب 37 سنة مملكة بلغاريا ومقدونية سنة 1018 وأسر خمسة عشر ألف بلغاري وسمل عيونهم وكان أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم النديم خصيصاً بالمتوكل ونديماً له غضب عليه المتوكل فأمر بقطع أذنه فقطعت من غضروفها من الخارج.
واستعمل القتل بوضع من يراد قتله تحت أرجل الفيلة كما أمر أحد بني بويه بأبي إسحق الصابي لما غضب عليه أن يجعل تحت أرجل الفيلة ولكنهم شفعوا به لديه. وكانوا يعلقون من يريدون قتله أيضاً في ذنب الخيل ويجرونها كما فعل أزدشير بضيزن ابنة الساطرون إذ أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس ثم ركض الفرس حتى قتلها.
ومما ذكر في قانون الصين من أنواع القتل المعروف بلغتهم بالباشب وهو تقطيع الأعضاء إرباً غرباً وصفته أن يشد الذي يراد به ذلك بين خشبتين قائمتين وتربط يداه ورجلاه ووسطه ربطاً محكماً ثم تجزأ أنامله وأصابعه أنملة أنملة وعقدة عقدة ثم تفصل يداه من الرسغين ثم من المرفقين ثم من الكتفين ويفعل برجليه مثل ذلك فإذا قطعت الأطراف جدع(31/7)
أنفه وصلمت أذناه وأخرجت عيناه ثم برش لحمه وجلده بأمشاط من الحديد حتى يفرق بين عظمه ولحمه ويصير كالشاة التي جرد القصاب لحمها ويفعل ذلك به حياً وقد أبطل الإمبراطور هذا العقاب مؤخراً.
وبالجملة فإن أنواع القتل كثيرة وهذا أهمها فيما انتهى إلينا معرفته وذكر ياقوت في معجم الأدباء أن صولاً جد إبراهيم بن العباس الصولي شهد الحرب مع يزيد بن المهلب وأن يزيد وجد مقتولاً بلا طعنة ولا ضرب انسدت أذناه ومنخراه وامتلأ فمه بغبار العسكر فمات فلا يعرف مثله قتيل غبار. قلنا ومثله قتيل الدخان
ونمن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد(31/8)
المسلمون والذميون والمعاهدون
الإحساس دليل الحياة
التضامن رائد العمران
يا ابن أمي! ويا ابن عمي!
نحن صنوان ضمنا عاطف القر ... بى جميعاً في مصر ضم النطاق
فوق هام الأهرام منك ومني ... غرّة طكوكبية الإشراق
فتقدم يا أخي وصافح أخاً ير ... جو صفاء العيش في رضا واتفاق
إنما النجح في اتحاد قلوبٍ ... بولاءٍ ونبذ كل شقاق
عرفكم الله حلاوة الانضمام بعد طول الانقسام وأنعم عليكم ببركة الائتلاف والوئام بقدر ما عرَّفتموني لذة الكلام في هذا المقام وبقدر ما أنعمتم عليّ بالتشجيع والاستحسان!
فلقد رأيت من التفافكم حولي لاستماع قولي ورأيت من قومي حينما أبلغتكم الصحف كلمي أن نغمتي صادفت منك هوىً في الفؤاد وإن صداها قد تردد في جوانب هذه البلاد حينما جهرت بدعوة أهل الشرق على طريق الحق وناديت على رؤوس الأشهاد بتوثيق علائق الارتباط بين المسلمين والأقباط.
نعم نعم! فلقد اهتزت الأمة دانيها وقاصيها وردّدت هذه الكلمة بملء فيها وأصبح شعار كل حي في كل حي: إننا مصريون قبل كل شيء.
لم أكن وحقك! َ أنتظر هذا الإقبال من ابن أمي وهذا القبول من ابن عمي ولم يكن يحدثني به وهني حتى ولا في حلمي أثناء نومي. ولكن كان من حظي أن هذه الكلمة تجسدت وقد تنبهت الأمة بعد استسلمت للجمود وأخلدت للخلود في الخمود بحيث كان الناظر لأبنائها وهم في همود يحسبهم أيقاظاً وهم رقود فحيا الله هذا الشعور! الذي جاء آية على استئناف البعث والنشور. وحبذا هذا اليوم الذي سيبقى غرة في جبين الزمان! فلقد علمنا فيه أن الإحساس دليل الحياة وأن التضامن رائد العمران!
يقول العرب في أشعارهم: إن المهم لمقدم ويقول الفرنساويون في أمثالهم: الأمير أولى بالتصدير.
وأي شيء أولى بالتصدير والتقديم من كلام القديم والتقديم كمن كلام القدير القديم؟ قال(31/9)
تعالى في كتابه العزيز: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً} فجعل الوفاء بالقنطار والغدر بالدينار إشارة إلى أن الوفاء أمكثر شيوعاً في أخلاق أهل الكتاب. وحسبهم ذلك مدحاً وفخاراً. وليس لي أن أتوسع في التفسير وإنما أستشهد على صدق هذه الآية بحادثتين وقعتا في بغداد وفي مصر:
فمصداق الشطر الأول: أن ابن الفرات وزير العباسيين المشهور كان يودع أمواله عند كثيرين من صنائعه المخلصين له استعداداً للطوارئ واستظهاراً من غدر الأيام. أخبر في إحدى نكباته بأن له عند يوسف بن فيجاس (أو بنجاس) وهرون بن عمران الجهبذين اليهوديين سبعمائة ألف دينار فأقرا في الحال بالمال ودفعاه وقدره 420 ألف جنيه مصري.
ومصداق الشطر الثاني: أن زوجة الأخشيد كانت قد أودعت عند رجل من اليهود جرة من النحاس وضعت فيها ثوباً منسوجاً بالذهب وبدائره من الجوهر شيء كثير. فلما زالت دولة الإخشيديين واستولى الفاطميون على مصر ذهبت المرأة بعد زوال عزها إلى ذلك الذي جعلته موضع ثقتها واستأمنته على ذخيرتها فأنكر. فقالت: خذ بعض الثوب فلم يفعل. فالتمست أن ينعم عليهم بكم واحد ويأخذ الباقي حلالاً فلم يقبل وكان في الثوب تسع وعشرون درة من الدرر الغوالي فأتت إلى قصر المعز تتعثر في أطمارها وهي أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء ولسان حالها ينشد بيت بنت ملك العرب التي أخنى عليها الدهر مثلها وهي حُرقة بنت النعمان بن المنذر:
فبينا نسوس الناس والأمر مرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
حتى إذا أتت قصر المعز وهي ذليلة بعد ذلك العز. عرضت عليه قصتها. فأحضر الرجل فأنكر. فبعث إلى داره من خرَّب عض حيطانها. فظهرت الجرة في أحد الجدران ورأى المعز الثوب وتعجب من الجوهر واللؤلؤ الذي فيه. ووجدوا أن اليهودي أخذ من صدره درتين فاعترف أنه باعهما بألف وستمائة دينار فسلم الخليفة الثوب إلى صاحبته فحمدت الله الذي أظهر صدقها واجتهدت في أن يأخذه ويعطيها مهما أراد فلم يفعل. فقالت: يا سيدي هذا الثوب كان يصلح لي وأنا زوجة صاحب مصر فأما الآن فلا حاجة لي به وهو لا يليق(31/10)
بي فأبى أن يأخذه واستلمته صاحبته. وبهذا التقدير يكون ثمن ما فيه من اللؤلؤ فقط نحواً من ثلاثين ألف جنيه مصري.
ومن المعلوم أن العلم من أجلّ الأمانات بين الناس وقد وقف بنا المقال في الجلسة الماضية عند نظرية جديرة بالاعتبار: وهي أن العلم مشاع وأنه ليس له وكن ولا دين بل هو مورد سائغ لكل الأفراد ولجميع الأمم. وقد أطرفتكم بشيء يسير مما وقع في تلك العصور وعصور الحكمة والنور إذ كان المسلمون يأخذون النصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى وهؤلاء يأخذون عنهم ويتلقون عليهم ما يكسبون به أجراً وفخراً.
رأينا علماء النصارى واليهود يأخذون شرائع دياناتهم عن رجلين من فقهاء المسلمين ورأينا أفاضل المسلمين يسعون في طلب الحكمة والفلسفة والطب من نوابغ الذميين. وننتقل الآن على الفقهاء من الطوائف الثلاث الذين استبدلوا علوم الأبدان بعلوم الأديان كما سبق أعشى همدان إلى استبدال الشعر بالفقه فمنهم الإمام العالم الشيخ موفق الدين عبد العزيز بن عبد الجبار بن أبي محمد السلمي المتوفى سنة 604 فقد كان أول أمره فقيهاً في المدرسة الأمينية بدمشق عند الجامع الأموي ثم بدا له الاشتغال بالطب فأعاد نفسه دارساً بعد أن كان مدرساً ورجع تلميذاً بعد أن كان أستاذاً. واشتغل على الياس بن المطران بصناعة الطب حتى أتقن معرفتها وحصل علمها وعملها وصار من المتخرجين السابقين بين أربابها والمشايخ الذين يقتدى بهم فيها وأصبح هذا الفقيه سابقاً وله بعد تلك المجالس الفقهية مجلس عام للطب يحضره المشتغلون عليه بهذه الصناعة من المسلمين والنصارى واليهود.
وقد اشتهر رجل من فقهاء صقلية (من أعمال إيطاليا اليوم) بالطب بقدر ما اشتهر بالفقه حتى كان الناس يفزعون إليه بالفتيا في الطب كما كانوا يفزعون إليه بالفتيا في الفقه. هذا هو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي التميميم المازري نسبة إلى مدينة مازر (بفتح الزاي والراء) من مدن جزيرة صقلية وقد اشتهر باسم الإمام. لأنه كان متقناً للعلوم مقدماً في علم المنطوق والمفهوم. وكان آخر المشتغلين بإفريقية (تونس) بتحقيق العلم ورتبة الاجتهاد ودقة النظر. توفي سنة 536 وقد نيف على الثمانين. يحكى أن سبب اشتغاله بالطب أنه مرض فكان يطبه يهودي فقال له: يا سيدي أمثلي يطب مثلك فاشتغل الشيخ حينئذ بالطب وبرع فيه براعة لا يدانيه فيها أحد. فأين الآن هذه الأيام؟ وهل لنا بمثل أولئك الرجال(31/11)
الذين يفتخر بهم الإسلام.
ولما كان أنشئ بالشيء يذكر فلا أرى بأساً من أن أذكر لكم بمناسبة هذا المسلم المسمى بموفق الدين رجلين يسمى كلاهما بالشيخ موفق الدين أحدهما إسرائيلي والثاني نصراني.
فأما الأول: فهو الشيخ الموفق شمس الرئاسة أبو العشائر هبة الله بن زين بن حسن ابن إفرائيم بن جميع الإسرائيلي المصري. نشأ بفسطاط مصر وانقطع لإتقان العلوم وتفرغ لصناعة الطب وألف فيها كتباً نفيسة مفيدة. كان جالساً يوماً في دكانه بالفسطاط وقد مرت عليه جنازة. فلما نظر إليها صاح بأهل الميت وذكر لهم أن صاحبهم لم يمت وأنهم إن دفنوه فإنما يدفنونه حياً. فبهت القوم من قوله وتعجبوا من أمره ولم يصدقوه في خبره ثم أن بعضهم قال لبعض: هذا الذي يقوله ما يضرنا أننا نمتحنه؟ فإن كان حقاً فهذا الذي نريده. وإن لم يكن حقاً فهو الذي يريده الورثة فأمرهم بالمسير إلى البيت وحمله إلى الحمام بعد نزع الأكفان ثم سكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه ونطله بنطولات (أي رش عليه سوائل وكمده بالمكمدات) فعطس الميت فرأوا فيه أدنى حس وتحرك حركة خفيفة فقال ابن جميع: أبشروا بعافيته. ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصلح. ثم أنه سئل بعد ذلك عن هذه الكرامة: من أين علمت أن الروح لا تزال فيه وهو محمول وعليه الأكفان. فقال إني نظرت إلى قدميه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى تكون منبسطة فحدست أنه حي وكان حدسي صائباً. ومن ذلك الوقت اشتهر بجودة الصناعة والعلم فأقبل عليه الناس للتحصيل فكان له مثل ذلك الموفق المسلم مجلس عام يحضره المشتغلون بهذه الصناعة من المسلمين والنصارى واليهود. وكان في مجلسه هذا لا يفارقه كتاب الصحاح فلا تمر كلمة لا يعرفها حق المعروفة إلا ويكشفها منه ويعتمد على ما أورده الجوهري. فبرع حتى صار من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين والأكابر الذين يشار إليهم بالبنان. وأقبلت عليه الدنيا بهذين السببين حتى تقدم في خدمة الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده جليل القدر نافذ الأمر عالي الهمة. ولما كان الشعراء هم الغاوين قد دبت عقارب الحسد إلى شاعر اسمه ابن المنجم المصري. وكان مشهوراً خبيث اللسان فانبرى يهجوه بكل قبيح فمن ذلك قوله فيه:
لابن جميع في طبه حمق ... يسب طب المسيح من سببه(31/12)
وليس يدري ما في الزجاجة من ... بول المريض ولو تمضمض به
وأعجب الأمر أخذه ابداً ... أجرة قتل المريض من عصبه
دعوا ابن جميع وبهتانه ... ودعواه في الطب والهندسه
فما هو إلا رقيع أتى ... وإن حل في بلد أنحسه
وقد جعل الشرب من شأنه ... ولكن كما تشرب النرجسه
وقال:
كذبت وصحفت فيما ادعيت ... وقلت أبوك جميع اليهودي
وليس جميع اليهودي أباك ... ولكن أبوك جميع اليهود
ولما كانت العدواة في الأهل وفي أرباب الحرفة الواحدة فقد هجاه يهودي تجمعه وابن جميع رابطة الفضل والعلم والدين وهو موفق الدين ابن سوعة الإسرائيلي المصري قال:
يا أيها المدعي طباً وهندسة ... أوضحت يا ابن الجميع واضح الزور
إن كنت بالطب ذا علم فلم عجزت ... قواك عن طب داءٍ فيك مستور
وبقية الأبيات لا أستطيع إيرادها في هذا المقام ولا في غيره. ولكن هذه الخبائث الشعرية لم تمنع أفاضل المسلمين من مدح ابن جميع والاعتراف بحقه والتنويه بذكره حتى أنه لما مات رثاه الشيخ يوسف بن هبة الله بن مسلم بقصيدة غراء في ستة وثلاثين بيت أولها:
أعيني بما تحوي من الدمع فاسجمي ... وإن نفدت منك الدموع فبالدم
فحق بمن تذري على فقد سيد ... فقد نابه فضل العلا والتكرم
ومنها:
وأنجد من يممته لملمة ... وأنجد من أملته لتألم
ولو كان يفدى من حمام فديته ... بنفسٍ متى تقدم على الموت تقرم
ومنها:
فقل معلناً الشامتين بموته ... ذروا الجهل إن الجهل منكم بمأتم
ومنها
أما عجب إذ غاله الحتف رامياً ... وقد كان أرمى الخطوب بأسهم
فويح المنايا ما درت كنه حادث ... رمت سيداً يحيا به كل منعم(31/13)
أما الثاني: فهو الحكيم الإمام العلامة الفاضل الشيخ موفق الدين أبو بصر أسعد ابن أبي الفتح الياس بن جرجس المطران المتوفى سنة 587 فقد كان سيد الحكماء وأوحد العلماء سافر إلى بلاد الروم لإتقان الأصول التي يعتمد عليها في علم النصارى ومذاهبهم. ثم ذهب إلى العراق متشبهاً بموفق الدين المسلم وترك علوم الدين المسيحي واشتغل بعلم الطب على أمين الدولة ابن التلميذ (الذي سنورد شيئاً من أخباره فيما بعد) ثم رجع إلى دمشق وخدم بصناعة الطب السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي فقربه وأدناه وكان عنده رفيع المنزلة عظيم الجاه بحيث كان يقضي حوائج الناس ولا يفارق السلطان في سفر ولا في حضر ولذلك كان الطبيب يدل بمكانته لديه ويتكبر حتى على ملوك المسلمين بل على نفس صلاح الدين وكان صلاح الدين قد عرفها عنه ورضيها منه.
ومن أغرب ما تضمنته بطون الدفاتر في هذا الموضوع أن السلطان صلاح الدين بينا كان يحارب الإفرنج ويرد غوائلهم عن سواحل الإسلام كان يستعين بأهل الذمة في مدافعتهم ويستخدمهم في تطبيب جنوده وتقويتهم على رد أعدائه وأعدائهم. وقد فهم أهل الوطن الواحد في عصره المجيد أنهم لا بقاء لهم ولا جاه إلا بالتفاف حول راية واحدة هي راية الوطن. ومما يتعلق بعجب موفق الدين وإدلاله على صلاح الدين أنه كان معه في بعض غزواته وكانت عادة صلاح الدين في وقت حروبه أن ينصب له خيمة حمراء وكذلك دهليزها وشقتها ليتميز عن سائر العسكر وهذا من أبلغ ما يكون من الشهامة في الحروب فاتفق أنه ركب ذات يوم ليتفقد الجيش فإذا بخيمة تشابه خيمته كل الشبه فبقي متأملاً لها وسأل لمن هي؟ فأخبر أنها لابن المطران الطبيب فقال السلطان: والله لقد عرفت هذا من حماقة ابن المطران. وضحك. ثم قال: فلو جاء رسول من الإفرنج ومر بهذه الخيمة أفلا يخطئ ويظنها لي. بل لو جاء باطني للفتك بي أفلا يجوز أن يتخطاني إلى طبيبي. فإذا كان ولا بد فلا أقل من تغيير مستراحها. ثم أمر به فأزيل. فلما رأى موفق الذين صعب عليه الأمر وامتنع عن خدمة السلطان أياماً حتى استرضاه السلطان ووهب له مالاً. وكان في خدمة السلطان طبيب نصراني آخر يقال له أبو الفرج فاحتاج إلى تزويج بناته وتجهيزهن فطلب من صلاح الدين أن يطلق له ما يستعين به على ذلك، ولما كان السلطان فقيراً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا حتى أنه عند موته لم يترك في خزانته (بشهادة المؤرخ(31/14)
أبي الفرج العبري النصراني) غير دينار واحد وأربعين درهماً. فلذلك أمر أبا الفرج أن يكتب كشفاً ببيان جميع ما يحتاج إليه في تجهيز بناته النصرانيات فكتب من الحلي والقماش والآلات وغير ذلك ما بلغت قيمته ثلاثين ألف درهم. فدفع السلطان هذا الكشف إلى الخزنة دار وأمره بأن يشتري من بيت مال المسلمين جميع ما طلبه أبو الفرج ولا يخل بشيء منه فما هو إلا أن بلغ صاحبنا موفق الدين حتى أخذته الغيرة من زميله فقصر في ملازمة الخدمة وهجر السلطان هجراً ثقيلاً فلم ير صلاح الدين حيلة لاستصلاح موفق الدين سوى إرضائه أيضاً. فأمر الخزنه دار بأن يصرف له من بيت مال المسلمين يوازي جميع النفقة التي صرفت في تجهيز بنات أبي الفرج مهما بلغت قيمتها. ففعل الخزنه دار ورضي صاحب ذلك الدلال.
ومن عجيب أمر موفق الدين هذا أن العجب والتكبر الذي كان يغلب عليه كان يفارقه حينما يذهب لطلب العلم. فكان في هذه الحالة آية في التواضع والخشوع شأن ذوي العقول الصحيحة والأحلام الرجيحة. كان هذا المختل الفخور متى تفرغ من الخدمة في دار السلطان ركب في موكب حافل تحف به جماعة كثيرة من المماليك الترك وغيرهم وذهب بهذه الأبهة الفائقة وهذه العظمة الشائقة إلى جامع المسلمين. فإذا اقترب من الجامع ترجل وأخذ الكتاب الذي يشتغل به في يده أو تحت إبطه. ولم يترك أحداً من الغلمان يصبحه. لا يزال ماشياً والكتاب معه إلى حلقة الشيخ الذي يقرأ عليه النحو والأدب واللغة وهو الشيخ الإمام تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي. فيقرؤه السلام ويقعد بين الجماعة بأدب واحتشام إلى أن يفرغ من الدرس والتحصيل فيعود إلى ما كان عليه الأبهة والعظمة والشموخ على الكبير قبل الصغير.
وقد كان موفق الدين قدوة في هذا الأمر للملك الناصر داود ابن الملك المعظم ابن الملك العادل ابن أيوب صاحب الكرك. فقد حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق أن هذا الملك كان يتردد إلى شمس الدين الخسروشاهي المتوفى سنة 652 يقرأ عليه كتاب عيون الحكمة لابن سينا. وكان إذا وصل إلى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ إلى من معه من الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم. ويترجل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفاً بمنديل ويجيء إلى باب الحكيم ويقرعه فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عما خطر له ثم يقوم(31/15)
ولم يمكن الشيخ من القيام له.
ولله در بني أيوب يرد الله مضاجعهم وطيب ثراهم. فإنهم في هذا الباب خير قدوة لملوك الزمان وخصوصاً ملوك الإسلام. فقد أخذ الحديث برقاب بعضه وجرنا إلى ذكر صاحب مصر وعم الملك المعظم المذكور وأعني به الملك الكامل بن الملك العادل ابن أيوب المتوفى سنة 635. وفد عليه أبو العباس ابن دحية من أكابر علماء المسلمين بالأندلس فاتخذه الملك أستاذاً له في العلم والأدب وجعل له من الإكرام والإجلال غاية ليس وراءها مطلب. وبالغ في تعظيمه وتبجيله حتى كان يسوي له بنفسه مداسه حين يقوم. وهو هو الذي خشي بأسه الصليبيون فتقربوا إليه وهادنوه وخطب وده الإمبراطور فريدريك بعد أن أسر القديس سان لوي وأعاده مكرماً معظماً. وكان هذا الملك يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من فضلاء المسلمين والنصارى واليهود ويشاركهم في مباحثهم كأنه واحد منهم. ومما يؤثر عنه أنه لما تولى سلطنة مصر خفض من ضرائبها بما يقارب الثلث فأفاد بذلك رعيته المسلمين والأقباط على السواء.
نرجع إلى صاحبنا موفق الدين ونقول أنه أسلم وحسن إسلامه وأن صلاح الدين زوجه إحدى حظايا داره المقربة لدى زوجته خوند خاتون فأعطتها الكثير من حليها وذخائرها ومولتها وخولتها. فرتبت أمور موفق الدين وهذبت أحواله وحسنت زيه وجملت ظاهره وباطنه. . وصار له ذكر سام في الدولة وتنافس الأمراء في الإنعام عليه وتوقت حاله حتى كاد يكون وزيراً ولكنه ما زال يتعهد زملاؤه فكان يقدمهم ويتوسط في إدرار الأرزاق عليهم. وكانت له دار بدمشق على غاية من الحسن في العمارة والتجميل وفيها بركة يبرز منها الماء من أنابيب ذهب على غاية ما يكون من حسن الصنعة وفيها مكتبة تحتوي على نحو عشرة آلاف مجلد عدا ما استنسخه. فقد كانت له عناية بالغة باستنساخ الكتب وتحريرها وكان في خدمته ثلاثة يكتبون له أبداً ولهم منه الجامكية والجراية المتصلة. وقد كتب بخطه كتباً كثيرة في نهاية حسن الخط والصحة والإعراب. وصحح بنفسه أكثر الكتب التي عنده وأتقن تحريرها. وذلك كله غير الكتب التي كان يهبها لتلاميذه فضلاً عن الإحسان إليهم والاعتناء بأمرهم. وكان أجل تلاميذه الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم ابن علي المسلم ومن أخص أصدقائه الشيخ موفق الدين بن البوري الكاتب النصراني.(31/16)
قال الحكمي أوحد الدين عمران الإسرائيلي أنه حضر بيع كتب ابن المطران المذكور فوجدهم قد أخرجوا أجزاء صغيرة من الكتب الصغار أو المقالات المتفرقة في الطب مما استنتسخه أو نسخه ابن المطران بخطه وكان عددها كثيراً جداً بلغ الوفا كثيرة وأن القاضي الفاضل بعث يستعرضها فأرسلوا له بملء خزانة صغيرة منها فنظر فيها ثم ردها. فبلغت في المناداة ثلاثة آلاف درهم واشترى الحكيم عمران أكثرها. وقال أنه حصل الاتفاق مع الورثة أنهم أطلقوا بيعها كل جزء بدرهم. فاشترى الأطباء هذه الأجزاء الصغار على هذا الثمن بالعدد.
وهذا الحكيم عمران الإسرائيلي توفي بعد المطران بسنتين وقد أخذ الطب عن الشيخ رضي الدين الرحبي أستاذ أو أستاذ أساتذة الأطباء جميعاً بالشام وتلميذ ابن جميع الإسرائيلي المصري. وقد جرى الحكيم عمران على مذهب شيخه في عدم خدمة الملوك والسفر معهم. ولكنهم (وخصوصاً بني أيوب) غمروه بالإحسان السني والعطايا الجزيلة. حتى حاز من الأموال الجسيمة والنعم ما يفوق الوصف. ولقد حرص الملك العادل أبو بكر بن أيوب أن يستخدمه في الصحبة فما فعل. واجتهد الملك الناصر داود الذي ذكرناه قبل هذا بأن يجعل له في كل شهر ألفاً وخمسمائة درهم وقدم له مرتب سنة ونصف مقدماً فلم يقبل فوهبه مالاً كثيراً وتركه على حريته. وكان السلطان الملك العادل لم يزل يصله بالأنعام الكثير وله منه الجامكية الوافرة والجراية وبقي مرتبه محفوظاً له بعد موت الملك العادل في سلطنة المعظم وليس عليه سوى أن يتردد على الدور السلطانية بالقلعة وإلى البيمارستان الكبير لمقابلة المرضى.
وقد بلغ من إكرام اليوبيين لأهل الفضل أن الحكيم موفق الدين أبا شاكر النصراني حظي عند الملك العادل حظوة عظيمة وتمكن منه ومن دولته تمكناً كثيراً فأنعم عليه بضياع كثيرة وغيرها ولم يزل يفتقده بالهبات الوافرة والصلات المتواترة. وجرى الملك الكامل معه على سنة أبيه وزاد فإنه أباح له الدخول راكباً في جميع قلاعه مثل قلعة الكرك وجعبر والرها ودمشق والقاهرة وكان ذلك منتهى التشريف في تلك الأيام خصوصاً لمن كان متمتعاً بالصحة والعافية مثل ذلك الموفق. ولقد بلغ من أمره أن العادل حينما ترك دار الوزارة التي كانت مقراً لبني أيوب بعد ذهاب دولة الفاطميين واستقر بقصر القاهرة في القلعة أنه(31/17)
أسكن موفق الدين هذا معه في قصره. ركب السلطان مرة بغلة النوبة وخرج إلى بين القصرين (بالجهة التي بها المشهد الحسيني الآن) فركب فرساً آخر وأرسل البغلة التي كان راكباً عليها إلى دار الحكيم بالقصر وأمر بركوبه عليها وخروجه من القصر راكباً،. ولم يزل واقفاً بين القصرين إلى أن وصل إليه فأخذ بيده وسايره يتحدث معه وسائر الأمراء يمشون بين يدي الملك الكامل. والشيء من معدنه لا يستغرب. فقد كان الكامل كاملاً بأكمل معاني الكلمة لا يفرق بين مسلم وذمي ممن تحلى بالفضيلة والكمال.
ذكرت لكم قصة اليهودي الذي أحيا الميت. وبما أنيي في معرض التوفيق بين العناصر المختلفة التي تجمعها راية واحدة هي راية الوطن فأخشى أن يكون المسلمون والنصارى قد نقموا على هذا العاجز أن لا يذكر منهم رجالاً أحيوا الموتى. فاسمحوا لي إذن بذكر حادثتين.؟ وأبدأ بالمسلم لتقدمه في الزمن ليس إلا وأثني بالمثلث وإن كان دينه جاء أولاً.
جلس هارون الرشيد في بعض الأيام وقدمت بين يديه الموائد وجبرائيل بن يختيشوع غائب فامتنع أمير المؤمنين عن الأكل حتى يحضر جليسه وسميره. وأمر بطلبه ليحضر الأكل مع صحابته على عادته. فبحثوا عنه في جميع منازل الحرم والأمراء ولم يقع القوم له على أثر. فتكدر الرشيد وطفق يلعنه ويقذفه وإذا بجبرائيل داخل عليه وقد سمع سبه بأذنه فلم يهلع ولم يتروع بل قال: لو اشتغل أمير المؤمنين بالبكاء على ابن عمه إبراهيم بن صالح وترك ما هو فيه من تناولي بالسب كان أشبه فاستفهم الخليفة عن الواقع فأعلمه أنه خلفه وبه رمق ينقضي آخره وقت صلاة العتمة فاشتد جزع الرشيد وأمر برفع الموائد وأقبل على البكاء حتى رحمه جميع من حضر. فقال جعفر البرمكي: يا أمير المؤمنين إن طب جبرائيل رومي وعندنا صالح بن بهلة وهو في العلم بطريقة أهل الهند مثل جبرائيل في العلم بمقالات الروم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضاره وتوجهه إلى إبراهيم بن صالح لنفهم ما يقول مثل ما فهمنا عن جبرائيل. فأمر الرشيد ورجع صالح الهندي المسلم بعد هنيهة وسأله جعفر وشدد في معرفة الخبر فأبى صالح بن بهلة وأصر على القول بأنه لا يكاشف بما ره غير أمير المؤمنين فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين أنت الإمام وعاقد ولاية القضاء للحكام ومهما حكمت به لم يجز لحاكم فسخه. وأنا أشهدك يا أمير المؤمنين وأشهد على نفسي من حضرك أن إبراهيم بن صالح إن توفي في هذه الليلة أو في(31/18)
هذه العلة إن كل مملوك لصالح بن بهلة حر لوجه الله وكل دابة له فحبس في سبيل الله. وكل مال له فصدقة على المساكين. وكل امرأة فطالق ثلاثاً بتاتاً فقال الرشيد: حلفت ويحك يا صالح على غيب والغيب لا يعلمه إلا الله. فقال صالح: كلا يا أمير المؤمنين. إنما الغيب ما لا علم لأحد به ولا عليه دليل له. ولم أقل ما قلت إلا بعلم واضح ودلائل بينة. فسري عن الرشيد ما يجحد وأكل وشرب وطرب. ولما كان وقت صلاة العتمة ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام يخبر بوفاة إبراهيم بن صالح. فاسترجع الخليفة بالبكاء والعويل وأقبل على جعفر باللوم على إرشاده إلى صالح بن بهلة وأقبل يلعن الهند وطبهم ويقول: واسوأتاه من الله! أن يكون ابن عمي يتجرع غصص الموت وأنا أتحين فرص اللهو والقصف. ثم دعا بمقيءٍ فقذف به ما في جوفه من طعام وشراب وبكر إلى دار إبراهيم بكور الغراب ولم يرض الجلوس على النمارق والمساند بل وقف متكئاً على سيفه. وقال للفراشين: لا يحسن الجلوس في المصيبة بالأحبة على أكثر من البسط. وأمر برفع الفرش والنمارق وجلس بعد ذلك على البساط. فصارت سنة في المآتم لبني العباس ولا يزال أثرها باقياً على اليوم في مصر وغيرها من بلاد الشرق خصوصاً في دور الحريم. وبقي القوم في سكوت وسكون كأنما على رؤوسهم الطير حتى إذا سطعت روائح المجامر صاح صالح ورفع عقيرته وهو يقول كالمجنون: الله الله يا أمير المؤمنين أن تحكم بطلاق زوجتي وهي حلال لي وحرام على غيري. الله الله أن تخرجني من نعمتي ولم يلزمني حنث. الله الله أن تدفن ابن عمك حياً فوالله يا أمير المؤمنين ما مات. فأطلق لي الدخول عليه والنظر إليه. وهتف بهذا القول مرات أزعجت الخليفة والحاضرين. فأمر بالإنعام عليه بما يريد. فدخل وحده ولبث الحاضرون يسمعون ضرب بدن بكف ثم كف. وإذا بتكبيرة ارتجت لها جوانب الدار وخرج صالح يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثم قال: قم يا أمير المؤمنين حتى أريك العجب الأكبر. فدخل الرشيد وخواصه فأخرج صالح إبرة كانت معه فأدخلها بين ظفر إبهام يد الميت ولحمه فجذب الميت يده وردها إلى بدنه. فقال صالح: يا أمير المؤمنين هل يحس الميت بالوجع؟ فقال الرشيد: لا. فقال له صالح: لو شئت أن يكلم أمير المؤمنين الساعة لكلمه. فقال له الرشيد: فأنا أسألك أن تفعل ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين أخاف إن عالجته وأفاق وهو في كفن فيه رائحة الحنوط أن ينصدع قلبه فيموت. ويكون الموت حقيقياً ولا(31/19)
تكون لي حيلة في إحيائه. ولكن يا أمير المؤمنين تأمر بتجريده من الكفن ورده إلى المغسل وإعادة الغسل عليه حتى يزول رائحة الحنوط عنه ثم يلبس مثل ثيابه التي كان يلبسها في حال صحته ويطيب بمثل ذلك الطيب ويحول إلى فراش من فرشه كالتي كان يجلس وينام عليها حتى أعالجه بحضرة أمير المؤمنين فإنه يكلمه من ساعته فأمر الرشيد بامتثال أمر الطبيب ثم دخل على ابن عمه فدعا صالح بكندس (وهو جذر نبات يشبه الخرشوف) ومنفخة ونفخ في الكندس في أنفه فمكث الميت مقدار سدس ساعة (10 دقائق) ثم اضطرب بدنه وعطس وجس قدام الخليفة وقبل يده. فسأله الرشيد عن قصته فذكر أنه كان نائماً نوماً لا يذكر أنه نام مثله قط طيباً إلا أنه رأى في منامه كلباً قد أهوى إليه فتوقاه بيده فعض إبهام يده اليسرى عضة لا يزال يحس بوجعها. وأراه إبهامه التي كان صالح أدخل فيها الإبرة. وعاش إبراهيم بعد ذلك دهراً وتزوج العباسة بنت المهدي وولي مصر وفلسطين وتوفي بمصر وقبره بها لأنه لم يدفن ببغداد حياً.
ومن كانت منيته بأرضٍ ... فليس يموت في أرض سواها
أما الحكيم النصراني الذي أحيا الموتى فهو رشيد الدين أبو الوحش بن الفارس أبي الخبر ابن أبي سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فإنه الذي اشتهر فيما بعد باسم أبي حليقة. كان أبوه الفارس أبو الخير من رؤساء الجيش العاملين فكان يلبس ولده لباس الجندية مثل لباسه ويرشحه للخدمة في العسكرية مع المسلمين في محاربة الصليبيين كما جرت عادة الآباء في الشرق من جعل أبنائهم على حرفتهم. وذلك مصداق لما قاله الإمام النووي في التحفة وللإمام أو نائبه الاستعانة بأهل الذمة والاستئمان على العدو بشرط أن تؤمن خيانتهم بأن يعرف حسن رأيهم فينا. ويشترط في جواز الاستعانة بهم الاحتياج إليهم ولو بنحو خدمة أو قتال لقلتنا. ونفعل بالمستعان بهم الأصلح في إفرادهم أو تفريقهم في الجيش وكانت دار الفارس أبي الخير ملاصقة لدار السلطان العادل بمدينة الرها فاتفق أن الملك الكامل الأيوبي وهو ولي العهد دخل فيها الحمام فأعطى الفارس لولده رشيد الدين فاكهة وماء ورد وأمره بحمله إلى الملك الكامل. فلما خرج من الحمام وقدم الغلام بين تلك الألطاف أخذه معه وفرغ الأطباق من الفاكهة وملأها شققاً سنية وسيرها لوالده. ثم أخذ الكامل بيد الغلام النصراني وعمره يومئذ ثماني سنين ودخل به على السلطان الملك العادل ولم يكن رآه من(31/20)
قبل فلما أبصره قال للملك الكامل: يا محمد هذا ابن الفارس لأنه أخذه بالشبه فقال: نعم.
قال: هاته فحمله الملك الكامل ووضعه بين يدي السلطان فلاعبه ولاطفه وتحدث معه حديثاً طويلاً ثم التفت إلى والده وقد كان قائماً في خدمته مع جملة القيام وقال له: ولدك هذا ولد ذكي لا تعلمه الجندية فالأجناد عندنا كثير وأنتم بيت مبارك وقد استبركنا بطبكم أرسله إلى الحكيم أبي سعيد (أي عمه مهذب الدين الذي ذكرناه في غير هذا الموضع) ليقرأ عليه الطب بدمشق فامتثل والده فتخرج بها ثم جاء إلى القاهرة وكانت كعبة العلوم فأكمل دروسه بها وبرع حتى صار يشار إليه بالبنان هذا مع مواظبته على العبادة وتفقهه في دينه المسيحي وقرض المرقص المطرب من الشعر الرقيق المعجب ثم تولى السلطنة الملك الكامل واستقر بمصر فقرب رشيد الدين أبا الوحش وكان كثير الاحترام له فحظي عنده كثيراً حتى نال منه الإحسان الكثير والأنعام المتصل وأقطعه على سبيل الجراية نصف بلد عامرة بالشرقية تعرف بالعزيزية والخربة (وتعرف الآن بالعزيزية بمركز مينا القمح وهي منسوبة للعزيز الفاطمي) ولم يزل في خدمة الكامل حتى مات فخدم ولده الملك الصالح ثم ولده الملك المعظم تورانشاه حتى قتل وجاءت دولة المماليك واستولوا على البلاد واحتووا على الممالك الأيوبية فأجروه على ما كان باسمه ثم خدم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي وبقي في خدمته على عادته المستمرة وقاعدته المستقرة وله منه الاحترام التام وجزيل الأنعام والإكرام حتى وفاه الحمام.
كانت له اليد الطولى في الطب فقد أمره الملك الكامل بعمل الترياق الفاروقي المشهور فسهر عليه الليالي حتى حتق مفرداته بشهادة أئمة الصناعة أبقراط وجالينوس ولما تعذر عليه حضور أدويته الصحيحة من الآفاق ركب مختصر ترياق توجد أدويته في كل مكان ونوى أن لا يقصد به قرباً من ملك ولا طلب مال ولا جاه في الدنيا ولا يقصد به سوى التقرب من الله بنفع خلقه أجمعين وبذله للمرضى مجاناً فكان يخلص به المفلوجين ويقوم به الأيدي المتقوسة ويسكن وجع القولنج ويفتت الحصى ويزيل ألم الأسنان لوقته وساعته فشاع أمره وتحدث به الخاص والعام حتى سأله السلطان وقال له: يا حكيم إيش هذا الترياق الذي عملته ولم تعلمني به فقال: يا مولانا المملوك لا يعمل شيئاً إلا لمولانا وما تأخرت عن العرض إلا لتجربته أما وقد أصبح هذا لمولانا فصار على ثقة منه فقد حصل المقصود(31/21)
فأمره بإحضاره فلم يكن عنده منه إلا شيء يسير لأن الخلائق كانت قد تهافتت عليه فمضى إلى أصدقائه الذين أهداهم منه حتى جمع من وهناك أحد عشر درهماً وجعله في برنية من الفضة فاحتفظ عليها السلطان وكان يشكو من نزلة في أسنانه فما هو إلا أن وضع جزءاً صغيراً منه حتى زايله الألم وكأنه لم يكن.
أما إحياؤه الميت: فقد مرضت دار من بعض الآدر السلطانية (أعني إحدى حظايا السلطان فإن السر في السكان) وكانت مقيمة بناحية العباسية وكان الملك الكامل لا يشرك مع هذا الطبيب أحداً في مداواته وفي مداواة من يعز عليه من دوره وأولاده فانقطع للعناية بها أياماً. ثم عرض له ما أوجب عليه الرجوع إلى القاهرة لمدة ثمانية عشر يوماً ثم عاد لعيادة مريضته بالعباسية فوجدها قد تولى علاجها جماعة من الأطباء فاشترك معهم فحكموا بأنها تموت والمصلحة تقضي بإعلام السلطان قبل أن يفجأه أمرها بغتة فقال: إنها ليست عندي في مرض الموت فقال أكبرهم سناً (وكان رشيد الدين شاباً): إنني أكبر منك وقد باشرت من المرضى أكثر منك فتوافقني على كتابة هذه الرقعة. فأبى فقرَّ رأي الأطباء على كتابة الرقعة. فقال: لا أضع اسمي على هذه المطالعة. فلما وصل الخبر للسلطان بعث رسولاً ومعه بجار ليعمل لها تابوتاً تحمل فيه جثتها إلى القاهرة. فقال له الحكيم ما هذا النجار؟ قال لعمل التابوت. قال: تضعونها فيه وهي في الحياة؟ قال: بل بعد موته. قال: ارجع بهذا النجار وقل للسلطان عني خاصة أنها في هذه المرضة لا تموت. فلما كان الليل أرسل إليه السلطان بورقة بخطه يقول فيها: ابن الفارس يحضر إلينا (لأنه لم يكن بعد سمي بأبي حليقة) فلما وصل إليه قال له: أنت منعت من عمل التابوت؟ قال نعم. قال بأي دليل ظهر لك من دون الأطباء كلهم. قال: لمعرفتي بمزاجها وبأوقات مرضها على التحرير من دونهم وليس عليها بأس في هذه المرضة. فقال: امض وطبها واجعل بالك لها. فذهب وداواها حتى عوفيت ثم أخرجها للسلطان فزوجها وولدت من زوجها أولاداً كثيرين.
هؤلاء هم الثلاثة الذين أحيوا الموتى على ما وصل إليه علمي. أحدهم مصري وهو يهودي وثانيهم هندي استوطن بغداد وهو مسلم وثالثهم شامي استوطن مصر وهو نصراني. ولعلكم يا بني أمي ويا بني عمي ترشدونني إلى مسلم وقبطي في مصر قاما بهذه الكرامة أو أن يقوم فيكم من يجدد لنا ذكرها والافتخار بها.(31/22)
لعل الشام ترضى؟ كأني بها تقول: مني خرج المسيح وهو الذي أحيا الموتى! أفلا تذكر لي طبيباً واحداً من هذا القبيل حتى لا أكون بين الفسطاط والزوراء لا في العير ولا في النفير.
كان بها فلاح يرتزق وراء المحراث في قرية يبرود صار اسمه فيما بعد أبا الفرج جرجس اليبرودي. رأى فاصداً قد التوى عليه سد العرق فتوالى الرُّعاف على المفصود. فقال له: يا هذا إني أرى أبي في وقت سقي الكرم إذا نفتح شق في النهر لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحاً آخر ينقص به الماء الأول الواصل إلى ذلك الشق ثم يسده بعد ذلك. ففعل الجرائحي بهذه الإشارة وانقطع الرعاف. ثم قال للفلاح: لو أنك تشتغل بالطب لجاء منك طبيب حاذق. فوقرت هذه الكلمة في صدره واقبل على التعلم بدمشق وما كفاه ما حصل عليه حتى أخذ سواراً كان لأمه وذهب إلى بغداد فأنفق ثمنه على استكمال العلم وصار من أكبر النوابغ في هذا الفن. رأى يوماً في سوق جيرون بدمشق إنساناً راهن على أن يأكل أرطالا من لحم فرس مسلوق مما يباع في السوق فوقف ورآه قد أمعن في الأكل بأكثر مما تحتمله قواه ثم شرب بعده فقاعاً كثيراً وماءً بثلج فاضطربت أحواله وتفرس إنه لابد أن يغمى عليه فيصير إلى حالة يكون الموت أقرب إليه أن لم يتلاحق فتبعه إلى منزله واستشرف إلى ماذا يؤول أمره فلم يكن إلا أيسر وقت وأهله يصيحون ويضجون بالبكاء ويزعمون إنه قد مات. فأتى إليهم وقال: أنا أبرئه وما عليه من بأس. ثم أنه أخذه إلى حمام قريب من ذلك الموضع وفتح فكيه كرهاً ثم سكب في حلقه ماءً مغلياً وقد أضاف إليه أدوية مقيئة لطيفة وقيأه برفق ثم عالجه وتلطف في مداواته حتى أفاق وعاد إلى صحته.
ولليبرودي هذا كرامة ثانية من هذا القبيل حكاها الطرطوشي في سراج الملوك:
مر رجل يبيع المشمش على خباز في دمشق فاشترى منه وجعل يأكله بالخبز الحار فلما فرغ سقط مغشياً عليه فنظروا فإذا هو ميت وقضى الأطباء كلهم بموته فغسله أهله وكفنوه وصلوا عليه. ثم خرجوا به إلى الجبانة فاستقبلهم اليبرودي صدفة على باب البلد وسمع الناس يلهجون بقضيته فقال: حطوه ثم أخذ يقلبه وينظر في إمارات الحياة التي يعرفها. ثم فتح فمه وسقاه أو حقنه فاندفع ما هناك فإذا الرجل قد فتح عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى حانوته وأظنه تاب عن أكل المشمش ولو في المشمش. ولا شك أنه يصح لنا أن نقول عن(31/23)
اليبرودي أنه فلاح وفلح.
وبما أننا طرقنا باب الحياة بعد الموت فاسمحوا أن أنتقل بكم بطريق المجاز إلى عالم هو خير وأبقى. ثم نعود إلى هذه الدار بغاية التعجيل. فإنما كلامنا من باب المحاضرة والتمثيل ونحن اليوم في دار التمثيل.
كثيراً ما يمتعض النصارى إذا قال جهال المسلمين عن أحدهم أنه هلك أو أنه هالك وكأني بهم أشبه الناس بعلي بك كشكش. إذ رأى صغار العامة أنه يحرن ويحرد إذا قالوا له: كشكش فصاروا كلما رأوه يقولون له: كشكش كشكش كشكش حتى ضرب أحدهم بحجر فأدماه فأخذه الثؤر والثآرير على رأي الأستاذ البرقوقي والجلواز والجلاوزة على رأيي والشرطة على رأيكم والبوليس على رأينا جميعاً وساقوه كلهم إلى الحاكم فأخذ في تقريعه فقال له: لست بملوم يا سعادة الباشا. فقال: كيف ذلك. قال: صلّ على النبي. قال المحافظ: اللهم صل عليه. قال: زد النبي صلاة. قال: عليه الصلاة والسلام. قال: ثم زده صلاة: قال: صلى الله عليه وسلم. قال: كرر الصلاة فهي عبادة. فانفعل المحافظ وانتهر علي بك. فقال له: ويحك يا مولاي أنت حزنت من الصلاة على النبي وهي خير ما يتقرب به العبد إلى الرب فكيف بي وكلما مشيت خطوة سمعت كشكش كشكش كشكش.
تعلموا يا بني عمي أن كل حي إلى الممات يصير وأن هذا الانتقال إما أن يكون بفعل فاعل أو بحكم انتهاء الأجل. ففي الحالة الأولى يستعمل اللفظ الموافق لإزهاق الروح مثل قُتل، صلب، شُنق، خوزق، الخ. . أما في حالة الجهاد والاضطهاد عند المسلمين والنصارى فيقال: استشهد وتنيح. وفي الحالة الثانية يقالك مات وقبض وتوفي وهلك وحضرته الوفاة وغير ذلك من التعبيرات التي تتحلى بأنواع الكنايات.
نقطة الخلاف في هلك. ولا أكتمكم أنني مع هذه النقطة مثل بعض علماء النحو مع حتى: أعني أنني أهلك وفي نفسي شيء من هلك بل اللهم شيئان أولهما فلسفي اجتماعي وهو الذي نحن بصدده الآن فإنه أوجب انفراج الخلف وسوء التفاهم بين أبناء الوطن الواحد وثانيهما لغوي إذا أزحنا الريب العالق بسببه تبدد الأول وزال.
يقول أهل اللغة في هلك ويهلك (من باب منع وضرب) ثم تكرموا وسوغوا لنا أن نقول في الملك هلك بكسر اللام بشرط أن يكون المضارع مفتوحاً (يهلك) أي من باب علم. ثم(31/24)
أمرونا أن نقول في المصدر هلكاً (بضم الهاء) وهلاكاً (بفتحها) وتُهلوكاً وهُلوكاً (بضم أولهما) ومهلكة ومهلكاً وتهلكة (بتثليت اللام في الثلاثة) واللغة مثل العلم لا دين لها ولكنها قد تكون أيضاً وسيلة للتنطع والحذلقة والسفسطة.
ما هو معنى هلك بهذه التقعرات المتراكمة؟ قال الفيروز أبادي في القاموس. مات. وقال السيد مرتضى في تاج العروس ما نصه: مات تفسير لقوله هلك ولم يقيده بشيء لأنه الأكثر في استعمالهم. واختصاصه بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به بدليل ما لا يحصى من الآي والحديث أهـ. هذا هو المقر في متون اللغة وبطونها ولا أنكر أن اللغة شيء والاستعمال شيء آخر. فلننظر فيه أيضاً.
فهذا كتابنا يشهد علينا فقد جاء فيه: {كل شيء هالك إلا وجهه} {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك من بعده حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله رسولاً}. والأحاديث كثيرة وليس هذا محل إيرادها.
أما استعمال العرب فأكثر من أن يحصر ولكنني أمكتفي بشاهدين فذين أُعززهما بثالث. قال النابغة الجعدي في ملك العرب المنذر بن النعمان المكنى بأبي قابوس (تعريباً للفظة كيكاوس الفارسية):
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... جميع الناس والبلد الحرام
وقال شاعر الإسلام في قيس بن عاصم وهو من أكابر الصحابة:
فما كان قيس هُلكة هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قوم تهدما
والوزن يساعد على قول موته موت واحد وهذا أحد المرشحين للخلافة من بني أمية يقول عن نفسه والأنانية طبيعة في الإنسان
فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
وكان له مندوحة إذا قال: فإن أُقبض وهذا أبو نواس يقول عن سائر الناس:
ألا كل حيّ هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وكان له مندوحة واسعة أن يستعمل: ميت وميت ومائتين. وبعد فها هي كتب السلف الصالح بين أيدينا جميعاً. نرى المسعودي في مروج الذهب والتنبيه والإشراف يقول هلك(31/25)
(بالهاء واللام والكاف) عن خلفاء المسلمين فضلاً عن كثير من الصحابة والتابعين وأكابر الأمة الإسلامية ومثله ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد.
وها هو ابن قتيبة في كتاب المعارف يقول هلك (بالهاء واللام والكاف أيضاً) عن الحارث بن كلدة طبيب العرب وعن عبد الله بن أبي بكر الصديق وعن بلال مؤذن الرسول عن عبد الله وسالم وواقد وبلال أبناء عمر بن الخطاب وعن عمرو وعبد الله وعبد الملك أبناء عثمان بن عفان وعن محسن بن علي بن أبي طالب وعن طلحة بن الحسن بن علي بن أبي طالب وعن عروة ومصعب ابني الزبير بن العوام وعن معاذ بن جبل وابنيه وعن حذيفة بن اليمان وكلهم من جلة الصحابة وأكابرهم.
وهذا مؤرخ المحدثين ومحدث المؤرخين ابن عساكر يروي في تاريخه عن عمر بن الخطاب (وحسبي ن أقول عمر بن الخطاب) ما قاله العباس أخو عمر بن الخطاب. قال سألت الله حولاً بعد ما هلك عمر أن يريني عمر بن الخطاب وقال ابن عساكر في موضعين آخرين: فلما كان اليوم الذي هلك فيه عمر بن الخطاب وهلك عمر بن الخطاب فهذا اللفظ شائع مستفيض ولكن اصطلاح المتنطعين هو الذي جعل في النفوس حزازات لا أصل لها. فإذا رجعنا إلى اللغة الصريحة والسنة الصحيحة زال ما في القلوب من غل فأصبحنا أخواناً على سرر متقابلين. فما أحرانا يا بني أمي ويا بني عمي بعد هذا البيان أن نقول لمن يؤذيه هذا اللفظ من الأقباط وسائر الذميين: كشكش! وأن نقول للمتنطع باستعماله من المسلمين. صل على النبي! ما يحلو الكلام إلا بالصلاة على النبي.
فإن الشيخ المكين جرجس ابن عميد بن أبي المكارم بن أبي الطيب السرياني النصراني المصري كلما ذكر النبي أعقبه بقوله: صلى الله عليه وسلم وبقوله عليه الصلاة والسلام ولما ذكر وفاته قال: انتقل إلى رحمة الله ورضوانه وإذا جاء في سياق الحديث اسم واحد من الصحابة أو الأئمة أو الخلفاء أو شيوخ الإسلام دعا لهم بالرحمة والبركة والرضوان وذلك في كتابه المشهور عند غيرنا المجهول عندنا فقد طبعه أهل أوروبا باللغة العربية مع ترجمته باللاتينية بمدينة ليدن من أعمال هولاندة سنة 1625 ثم نقلوا ترجمته اللاتينية إلى اللغة الفرنساوية في سنة 1675 ولا يزال العرب والمصريون إلى الآن محرومين من ورود مورده الأصلي مع أنه مكتوب بلغتهم وقد جاراه في هذا السبيل ابن العبري في كتاب(31/26)
مختصر الدول الذي طبع مع ترجمته اللاتينية في أكسفورد بإنكلترا أولاً في سنة 1663 ثم ترجموه إلى الألمانية في سنة 1783 وبقي عزيزاً على العرب حتى تفضل بطبعه اليسوعيون في بيروت بالمطبعة الكاثوليكية سنة 1890.
جرنا الكلام بمناسبة أو بغير مناسبة إلى ذكر الشيخ المكين والإشارة إلى تأليفه المفيد الذي سماه تاريخ المسلمين وهو من سوء الحظ عندنا في مصر من أندر النوادر. صدَّر هذا الفاضل كتابه بهذه الديباجة:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيقي
الحمد لله المقدس بجميع اللغات الممجد في سمو عرشه من سائر المخلوقات المتميز بوجوب الوجود عن جميع الكائنات المتفرد ببديع السماء وشريف الصفات المتعالي في عز عزه وجلال كبريائه عن الأشباه والنظراء بماله من الجبروت والعظمة والكبرياء أحمده حكم شاكر على ما أولى من النعماء وأجزل من العطاء. والمكين إنما جاء بكتابه متمماً ومكملاً ومصدقاً لكتاب نظم الجوهر الذي ألفه البطريرك القبطي ابن البطريق المتبحر في فنون الطب وفي مقالات النصارى والاختلافات الديانين الكائنة بين فرقهم المتشعبة. وقد رأيت كتابه في دير النطرون أثناء رحلتي إلى ذلك الوادي في سنة 1894 وتركت عند بعضهم دراهم يسيرة لاستنساخه ثم تولاني وتولى صاحبي القبطي نسيان إلى الآن فلست أذكره ولا هو يذكرني ولن أذكره فإنه لم يذكرني. ولا بأس علينا في بقاء هذا الكتاب في تلك الجوالق والأعدال إذ قد سبقنا الإفرنج فطبعوه مع ترجمة اللاتينية بمدينة أكسفورد إحدى عاصمتي العلم بإنكلترا في سنة 1659 وإن كانت مصر وأهلها لا تزال محرومة منه. ألف البطريرك هذا الكتاب لأخيه عيسى وصدَّره بمخاطبته فقال:
بسم الواحد الأحد السرمدي وبه نستعين
ألهمك الله يا أخي من الأمور البهية أحسنها وأوفقها وصرف عنك من المحزنات الردية أعظمها وأوبقها وجللك من الستر أعمه وأدام لك من العز أعظمه وافاء بالدارين سهمك وفي الحالين قسمك وفهمك جميع ما يرضيه ولا أفرزك من حوله بما يستقصيه فهمت ما أمرت برسمه لك أسعدك الله بلبوس الفضيلة وطهرك من التردي بأطمار الرزيلة. . إلى أن قال أول ما نبتدئ بحمد ربنا ويا ربنا وخالقنا ومحيينا جل ثناؤه إذ كان حمده تقدس اسمه مفتاحاً(31/27)
لجميع الكتب والرسائل نسأله عز وجل العون لنا على ذلك بجميل عاداته والمجد لله أهل المجد ووليه الراجي به شكراً من عباده مقدر الأشياء من قبل كونها ومدبرها من بعد حدوثها الذي جعل الرحمة والعدل من سنن الحق وأمر بهما وجعل الفسق والجور من سبيل الباطل ونهى عنهما. فالحمد لله المتفرد بالوحدانية فهو عز وجل بجوهره الأدبي وحكمته القديمة وحياته الأزلية مستحق الحمد والثناء ومستوجب المحبة والثنا الذي لم يجعل في ناموسه شبهة تقتضي شكاً ولا في شريعته ارتياباً يوجب اختلافاً بل جعله واضحاً بيناً للشعوب على اختلافهم بالأسباب والجهات وعلماً ظاهراً لسائر الأمم على تباينهم في الكلام واللغات بما أظهر على يدي أنبيائه ورسله وما بعثه إليهم من المعجزات ومهولات الآيات ودعا إلى دينه ووعد بجميل النظر لمن آمن به وأوعد بسوء المنقلب لمن انحرف عنه وجحده حمداً يمتري من المزيد لإحسانه ويقتضي الزلفى لديه وإياه أسال وإليه أرغب في خلوص نياتنا لقبول ما يرضيه وصرف طوياتنا إلى ما يعود إلى العمل بطاعته.
أفرأيتم هذا الإنشاء البديع وهذا الدبيج الجميل الذي يرتضيه أكابر العلماء والأدباء من المسلمين؟ بل فما بال أخواننا الأقباط هجروا العناية باللغة وأنزلوها إلى ما هو متعارف في الدواوين وجرونا وراءهم في التدلي حتى إذا حاولنا إعادة بهجتها في الرسميات لم يتفاهموها ولم نتفاهمها؟ أفيظنون أنها من الدين؟ كلا وربكم وقد أتيتكم بشاهد مكين من ابن المكين وعززته بشاهد آخر عن طريق ابن البطريق. فهي الآن لغتهم شاؤوا أو لم يشاؤوا وليس لهم عنها من محيد بل شأنها في رقبتهم وفي لسانهم شأن ذلك الرجل القادم على القطار من الصعيد إذا قال لجماعة من الأقباط المتحذلقين: أسقف على قلبكم. وسأسرد لكم شيئاً عن المكين وابن البطريق فيما يتعلق بعلائق الارتباط بين المسلمين والأقباط لتعلموا أنهم كانوا سواء في الشدة والرخاء. وسأذكر لكم عنها أشياء كثيرة في عرض هذه الخطبة الطويلة أبدأ بالفتح الإسلامي فهو مفتاح كلامي ثم أشرق وأغرب وأصوب وأصعد وأنجد وأتهم وبعد ذلك أكر على مصر حتى أصل إلى هذا العصر.
روى ابن البطريق أن أبا عبيدة بن الجراح خرج من القدس إلى حمص ومنها إلى قنسرين فكتب إليه بطريقها يطلب الموادعة على نفسه سنة حتى يلحق الناس بهرقل الملك ومن أقام فيها فهو ذمة وصلح. فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك فسأله البطريق وضع عمود بين الروم(31/28)