والخبل. وكذلك بعض النساء في حال الحبل. ويكثر الميل إلى ذلك بالأكثر في الأمراض التي تحدث عنها اضطراب في المعدة ويشكو أربابها بضيق وجوع واحتراق في القسم الشراسيفي فيتوهمون أنهم إذا ابتلعوا جسماً ثقيلاً تسكن آلامهم وهذا ضرب خاص من ضروب الطوى الشديد وجوع البقر
ومن جملة الأمراض الشائعة في أقطارنا ما ينجم عنه حالياً إفراط في اشتهاء الطعام وميل إلى ابتلاع ماد صلبة ولو لم تكن مغذية هو مرض الأنيميا المصرية داءٌ عني بالنظر فيه بعض أهل العلم منذ بضع سنين فثبت الهم أنه يحدث من ديدان صغيرة قليلة كانت أو كثيرة تعلق في الغشاء المخاطي المعدي على مساواة الإثني عشري (أي القسم الأول منت المعي الرقيق) ولا يصاب به في البلاد الأوروبية غير عملة المناجم ولذلك يدعى أيضاً هزال المعدنين. كما يصاب به العملة الذين يشتغلون في الأنفاق ومعامل الخزف والقرميد. والحرارة والرطوبة هي من الأسباب الجوهرية في نمو هذه الديدان. فتعيش الدودة وتبيض في معي المرء كما تنمو في الطين الذي هو إلى الحرارة وتدخل الجسم عن طريق الجلد أو عن طريق الفم وبهذا عرفت أن دودة الأحشاء هذه التي يقل نموها في البلاد الباردة للأسباب المقدمة آنفاً يكثر نموها في الأصقاع الحارة والرطبة.
وبعد فقد ثبت وجود الأنيميا المصرية مثلاً في مصر وعلى ساحل إفريقية تقريباً وإنه يصاب بها الزنوج أحياناً بصورة شديدة للغاية. وقد وجد الباحثون بين المصابين بها أناساً من أكلة التراب كانوا يحملون داء الأنيميا في أحشائهم.
ومن السهل أن نتصور مبلغ ما يتعرض له أكلة التراب من الأخطار إذا عرفنا أنه مملوءٌ بالدويبات والجراثيم. ولا يعد أن ينجلي البحث في المستقبل عما إذا كانت نسبة بين الأصقاع التي ينتشر فيها مرض الأنيميا المصرية وبين الأصقاع التي يؤثر عن أهلها أكل التراب. وإنا لنرى أكلة التراب على كثرة في الهند كما نجد مرض الأنيميا. وكذلك الحال في الصين والهند الصينية وسيام واليابان. وقد بحث سنتيل في مرض الأنيميا في أمريكا فثبت له أنها منتشرة في الأرجاء التي شوهد فيها أكلة التراب وأنه لا يصاب بها الهنود فقط تتناول الزنوج والبيض أيضاً.
ويروى أن أكلة التراب يموتون في أمريكا شر ميتة فتبدو عليهم أعراض الهزال فيهلكون.(12/28)
هذا وقد ثبت أن الأنيميا تسبق في الغالب عادة أكل التراب وقيل أنه سبب الأنيميا ولا يدرك ذلك في الأنيميا البسيطة وتظهر كل الظهور إذا كانت الأنيميا ناشئة عن ديدان.(12/29)
تراسل الأفكار
حدث مرةً أن أميراً شهيراً من أمراء بلاد بعث بنفر من أخص اتباعه إلى إيالة يتولى أمرها رجل وافر الثروة عظيم الجاه نافذ الكلمة حتى صبح نداً للأمير المشار إليه يخشى بأسه ويحذر جانبه فلم ير الأمير من وسيلة للتفرد بالحكم والسلطان سوى التخلص من ذلك الند بطريقة من الطرق وبعد التروي في الأمر عول على اغتياله فأسر ذلك إلى الأتباع المنوه عنهم وبقي سراً مدفوناً في قلوبهم لا يعلم به أحد من البشر. وبينما الأتباع سائرون لقضاء مهمتهم في وسط واد وإذا برجل واقف على صخر شاهق يناديهم قائلاً أيها القوم ألا يكفي اثنان منكم لقتل فلان وذكر اسم الرجل فعرتهم الدهشة وتولاهم الهلع والذهول لأن رجلاً آخر في العالم وقف على سر الدسيسة وهم على يقين أنه لم يعلم أحد سواهم به إلا الأمير.
وهذه الحقيقة وأمثالها التي كان يسخر منها العلماء منذ بضع سنين وينسبونها إلى الصدفة أو الأوهام قد أصبحت شغلاً شاغلاً لعلماء ما وراء المادة وسيكون لها شأن خطير في رفع ستار الإبهام عن حقيقة القوى العقلية التي لا نعلم من أمرها حتى الآن سوى النزر اليسير.
الطريقة التي جرى عليها البشر في نقل الأفكار من دماغ إلى دماغ أو من عقل إلى عقل هي واحدة من اثنتين وهما اللفظ والكتابة ففي الأولى يكون عضو السمع هو الواسطة في نقل الفكر إلى الدماغ وفي الثانية يكون الواسطة عضو البصر إلا أنه قد تبين الآن بعد طول البحث والاختبار أن هنالك طريقة ثالثة ينتقل بها الفكر من دماغ إلى آخر في الفضاء على مسافة ألوف من الأميال دون وسيلة من الوسائل المادية وهذه الظاهرة الغريبة من ظواهر علم ما وراء المادة التي لم يتفق العلماء حتى الآن على وضع لفظ لها في اللغات الأجنبية يقع عليه الإجماع قد أطلقنا عليها في العربية لفظ تراسل الأفكار وهي الغرض من هذه المقالة.
والمراد بتراسل الأفكار انتقال فكر من دماغ إلى دماغ دون توسط إحدى آلات الحس المعروفة فقد يتفق أن ينقل شاب في القاهرة وهو في حال النزع شعوره في لحظة حدوث تلك الأعراض لوالدة له قد تكون في باريس مثلاً فتشعر بنزع ابنها في تلك اللحظة عينها وليس فقط بل قد يتاح له أن ينقل إليها في تلك اللحظة أيضاً وصيته وأمانيه الأخيرة بحيث تتجلى لوالدته واضحة كل الوضوح وليس هذا من باب التخرصات والأوهام ولكنه حقيقة(12/30)
علمية أجمع جلة الفلاسفة على الإقرار بصحتها ولكنهم اختلفوا في تعليلها وهم في ذلك فريقان فريق الماديين وفريق الروحيين.
والشواهد على صحة ما تقدم كثيرة تعد بالألوف نجتزئ هنا بذكر واحدة منها يكون بمثابة أنموذج للمطالع اللبيب وهو أن شقيقة أحد الجنود الذين توجهوا إلى الترنسفال أثناء حرب البوير شعرت فجأة في لندرا أن أخاها أصيب برصاصة في صدره والدم ينزف غزيراً من جرحه وأفادها في تلك اللحظة عينها أنه عندما سقط جريحاً في ميدان الوغى عاونه رفيقان احتملاه من موضعه وأغاثاه جهد الطاقة وذكر اسميهما لها دون أن تكون قد سمعت بهما قبلاً على الإطلاق وأوصاها أن تخصهما بهبات مخصوصة من ملكه عينها لها تكون بمثابة تذكار منه إليهما اعترافاً بشهامتها فدونت الشقيقة هذا الشعور والتاريخ بالدقة ولم يكن سوى بضعة أسابيع حتى وردتها التفاصيل مؤيدة لما تقدم كل التأييد.
وليس من داع إلى الأغراب في إيراد الأدلة والشواهد فقد جرى في نفس القاهرة منذ عام أو عامين ما هو بمثابة ثبت لما تقدم إذ جاء رجل وامرأة وأظهرا من البراعة في قراءة الأفكار ما حير الحاضرين وأدهشهم ولقد تفنن الحضور في الإضمار تفنناً حتى أن أحدهم أخذ دبوساً ووضعه ضمن لفافة وضعها مع لفائف أخرى في علبة جعلها في جيبه فلما اقتربت المرأة من الرجل اعترتها هزة عصبية كمن هو في حيرة ثم ما لبثت أن وضعت يدها في جيب الرجل وأخرجت منها اللفافة فقطعتها قطعاً وأخرجت من وسطها الدبوس وهي تنتفض انتفاضاً.
ومن أهم شروط قراءة الأفكار أن يكون القارئ معصوب العينين لكي لا يستعين بقوة فراسته والاستدلال بملامح الوجه على ما يدور في خلد من أمامه وليتمكن من جمع قوى الذهن حتى تكون أشد تأثيراً وانفعالاً إذا كان مفتوح العينين وقد جلس مشاهير قراء الأفكار في حضرة أعظم ملوك العالم والقابضين على أعنة أحكامه فأدهشوا الحضور بما كانوا يأتونه من الإصابة في الحكم وكشف مخبآت الأفكار.
غير أن هنالك فرقاً جوهرياً بين قراءة الأفكار وتراسلها إذ أنه لابد في الحالة الأولى للقارئ من لمس أطراف أنامل الشخص أو جبهته أما في الحالة الثانية فلا شيءٌ من الملامسة بل تنتقل الأفكار من دماغ إلى دماغ آخر على بعد ألوف من الأميال دون توسط(12/31)
آلة من آلات الحواس المعروفة على ما مر بيانه وهو العقدة التي وقفت عندها الباب علماء ما وراء المادة حيارى يتلمسون لها حلاً ينطبق على شرائع الطبيعة ونواميسها.
إذا رميت حجراً في بركة ماء ساكن تكونت نقطة الوقوع في دوائر لا تحصى من التموجات تزيد كل منها عن التي ضمنها حتى تتلاشى في المحيط وذلك لأن دقائق السوائل سهلة الحركة فتفعل فيها القوة فعلاً متساوياً إلى كل الجهات وهذا هو السبب في تكون الحركة الناشئة من سقوط الحجر على شكل دوائر مختلفة الحجم لها مركز واحد وهو نقطة الوقوع ونفس هذه التموجات التي تحدث في الماء تحدث أيضاً في الهواء الذي هو في عرف علماء الطبيعة سائل لطيف فإذا صفقت كفاً بكف أحدث الصفق تموجات في الهواء إلى سائر الجهات فتقع على الأذن فتهتز طبلتها اهتزازاً يختلف باختلاف شدة الصفق وتنتقل الاهتزازات المذكورة على طرق لا مجال لتفصيلها إلى العصب السمعي الذي ينقلها إلى حاسة السمع في الدماغ فيشعر بالصوت.
إلا أن هناك سائلاً آخر في غاية اللطافة يملأ جوانب الفضاء ويتخلل إبعاد الأجرام السماوية ومسافات الكون لم تشاهده عين ولم تسمعه إذن ولم يخطر على قلب بشر في العصور السالفة أطلق عليه العلماء اسم الأثير واستدلوا على وجوده بأدلة ليس هنا محل شرحها فإذا تموجت دقائق هذا السائل تموجات خصوصية أحدثت الظاهرة الطبيعية التي نسميها بالنور وما اختلاف ألوان النور التي نشاهدها في قوس قزح سوى اختلاف تموجات الأثير فإذا انخفضت إلى درجة معلومة أصبحت حرارة أي أمواجاً لا تدرك بالعين بل يشعر بها بأعصاب الحس فالنور والحرارة إذاً صنوان إنما يدرك أحدهما بحاسة البصر والآخر بحاسة اللمس تبعاً لتموجات هذا الوسط اللطيف المسمى بالأثير.
واعتقاد الفريق الأكبر من العلماء الآن هو أن الفكر الذي يتولد في الدماغ يحدث أمواجاً خصوصية في الأثير شبيهة بأمواج النور التي مر بك بيانها ولكل فكر تموجه الخاص كما أن للأزرق من النور تموجات خصوصية في الأثير وللأحمر مثلها فكذلك لكل نوع من الأفكار تموجه الخصوصي في الوسط المشار إليه وكما أن النور يسير بسرعة مدهشة تبلغ نحواً من مائتي ألف ميل في الثانية حتى يتاح لنا إبصاره لحظة حدوثه فكذلك يتاح للفكر أن يحدث تموجاته الخصوصية في الأثير سائراً بمثل هذه السرعة العجيبة وكما يتأتى للقوة(12/32)
الباصرة في الدماغ أن تشعر بالنور على مثل هذه المسافة فكذلك يتأتى للدماغ أن يشعر بتموجات الفكر الصادر إليه من دماغ آخر لحظة حدوثها ولو كان أحدهما في جانب من الكرة الأرضية والآخر في الجانب المقابل.
فإذا أدركت ذلك هان عليك أن تقفه كيف تنتقل الأفكار لحظة حدوثها من دماغ إلى دماغ على مسافات شاسعة وكيف يمكن لقريب أن يشعر بما يجول في دماغ قريب له يقضي نحبه غير أن ذلك لا يتأتى لكل فرد الحصول عليه إذ لابد هنالك من استعداد خاص في الدماغ يؤهله لهذا الشعور البالغ منتهى الرقة ولولا ذلك لكان كل فرد من البشر قارئ أفكار والواقع يدلنا على أن ذلك محصور بفئة قليلة جداً ثم إن هذا الشعور دليل على وجود نفس للإنسان تتجلى لقريبها لحظة انفصالها عن الجسد أو هو ظاهرة طبيعية محضة يكفي التعليل عنها بما تقدم فهو مما لم يقطع به العلماء حتى الآن وليس من راضنا الخوض به في هذه المقالة فلكل فريق أدلته ولكل عالم دينه.
القاهرة
الدكتورخليل سعادة(12/33)
شاه إيران
فقدت بلاد فارس صاحبها الحكيم ومدبرها العظيم وأباها البر الرحيم الطيب الذكر مظفر الدين شاه. توفاه الله في الشهر الماضي عقيب مرض طالت به برحاؤه واشتدت عليه بلواؤه. داء النقرس والكليتين. فشق نعيه على كل من عرف ما لاقته أمته في عهده من صلاح الحال وحسن المآل.
ولد في 14 جمادى الثانية سنة 1269 وأمه أميرة من الأسرة المالكة ولما شب أخذ في تلقينه العلوم الابتدائية ثم نصب وهو يافع ولياً للعهد وجعل والياً على أذربيجان وأقام في قاعدتها مدينة تبريز معهد أولياء العهد في الحكومة الفارسية وهناك أخذ يتلقى اللغات والعلوم فاحكم منها الفارسية والعربية والتركية والفرنسية وحذق الرياضيات والعقليات والتاريخ والجغرافيا وفن المدفعية وبقي يمارس أعمال الإدارة تسعاً وثلاثين سنة كان في خلالها مظهر العطف والرأفة ومثال العدل والحكمة حتى يروى أنه كان يقول لا وليت ملكا أبناؤه فيه عبيد.
تولى عرش السلطة في 23 ذي القعدة سنة 1313 وإبان فيها عن دراية واسعة ولقد حاول لأول أمره أن يدخل إلى بلاده من الإصلاحات ما تأمن به عوادي الأغيار ويعيش أهلها في نعيم وغبطة لكنه حاذر من نفوذ رجال الدين والإشراف في مملكته وتعصبهم الذي يمازحه جهل بالحديث وجمود على القديم فعزم أن يمهد لذلك بأن يرحل إلى أوربا ويصحب معه زمرة من رجال قصره وأكابر دولته ليروا بأعينهم ما في الغرب من حضارة رافعة وانتظام شامل فيعودوا وقد تشبعوا بفكر الإصلاح ويكونون يده اليمنى في العون عليه ولكن لم يجد منهم في رحلاته الثلاث ما كان يتوقعه وانصرف هناك معظمهم إلى شهواتهم وما خصوا للنظر فيما يقصد إليه مولاهم ولا نزراً من أوقاتهم ولا أعاروه نظرة من التفاتهم.
حتى إذا كانت هذه السنة نزع جماعة من الأمة في طهران إلى الثورة ولجأ قسم منهم إلى السفارة الإنكليزية وهاجر قسم إلى الأماكن الطاهرة في العراق أو يدخل الشاه الإصلاح المطلوب وعندها وجد وسيلة إلى منح الأمة ما كان يجول في صدره منذ سنين فمنحها الدستور وشرع لها قاعدة الشورى الإسلامية ولقد خاف أن يدركه الأجل ولم تستحكم من مجلس الأمة قواعده ولما اشتد عليه المرض دعا إليه ولي عهده وأمره بأن يوقع على ورقة كان ألقاها إليه فوقع عليها بدون أن يراها تأدباً وقال له هذا هو الدستور الذي منحناه للأمة.(12/34)
ولما بلغه وهو على فراش الموت أن ولي عهده غير راض عن الدستور سأله عن معنى ذلك فقال له والعبرات تتساقط من مآقيه: أيجدر بالمملوك أن يخالف أمر مولاه.
ومن جملة ما قام به من أعمال الإصلاح أنه تنازل عن راتبه الملوكي وكان خمسة ملايين فرنك فأنزله إلى 75 ألفاً بما له من الثروة العظيمة الخاصة وألغى كثيراً من المكوس والضرائب وأسس في عاصمته مدرستين على الطراز الحديث ليعلم أولاد الفقراء مجاناً وحبس لهما ما يكفيهما من ماله وحث قومه على إنشاء المدارس فنشئت في طهران عشرات من المدارس على الأصول الجديدة وكذلك في معظم المدن الفارسية ما خلا مدارس الحكومة وكان طاب ثراه متديناً غيوراً مفكراً جداً يقرب العلماء والشعراء ويغدق عليهم من جوائزه وعطاياه وهو ثاني ملك شرقي منح أمته الدستور عن طيب خاطر ومات وهو حريص على تنفيذه محاذر أن ينقض ما أبرمه ويهدم ما أقامه. ولذلك كان خطبه جسيماً والأسف عليه عميماً.
أما خلفه الشاه محمد علي فقد ولد في 14 ربيع الثاني سنة 1289 وأقيم ولياً للعهد وحاكماً على أذربيجان يوم وفاة جده ناصر الدين شاه وتولي والده منصة العرش الفارسي وقد تعلم حد الكفاية من العلوم واللغات وهو يعرف العربية والإنكليزية والروسية والفرنسية مولع بالضرب على بعض أدوات الطرب موصوف بالنباهة قوي البنية تغلب عليه حدة الشباب في الأحايين ولعل بلاد الأكاسرة تلاقي منه خير نصير في إتمام ما بدأ به والده من الإصلاحات النافعة في عمران ذلك الملك وارتفاع شأنه.(12/35)
المسلمون في الفيليبين
الفيليبين هي أرخبيل أو مجموع جزائر في الإقيانوس الكبير تتألف من نحو ألف ومائتي جزيرة صغرى وكبرى. وهذه الجزر هي القسم الشمالي من ماليزيا اكتشفها ماجللان الملاح البرتغالي ودعيت باسم فيليب الثاني ملك إسبانيا وهي ممتدة على 1500 كيلومتر من الشمال الشرقي من بورنيو بين بحر الصين والمحيط الباسيفيكي وتبلغ مساحتها السطحية 296. 000 كيلومتر مربع وأهم محاصيلها البن والأبازير البهارات وقصب السكر والأرز والتبغ والقنب ومن بحرها وأنهارها يستخرج عرق اللؤلؤ والدر بكثرة ومناخها شديد ولذلك كان أهلها وعددهم زهاء سبعة ملايين نسمة أشداء أقوياء. وقد اضمحل سكانها الأصليون إلا قليلاً بما داهمهم من بأس الفاتحين من الماليزيين وأكثر سكانها تمدناً اليوم هم التاغال وعددهم مليون ونصف والفيزايا وعددهم مليونان ونصف والفيكول وعددهم أربعمائة ألف والمورو أي المغاربة وهم المسلمون وعددهم كثير في الجزائر الجنوبية. وهم أخلاط من الماليزيين والصينيين والهنديين والعرب والجاحدين من الأوربيين ويعد في جملة المسلمين قوم من الجورامانتادو يقدمون أرواحهم فدية لله ويتقربون إليه بقتل الكافرين وهم متعصبون على الجملة على ما وصفهم أكثر من كتبوا عنهم.
ولقد استولت إسبانيا على هذه الجزر زمناً ولكنها لم تعمرها وغاية ما صرفت وكدها إليه تنصير السكان ليدينوا بالكثلكة فأصبح المتظاهرون بها والمنتحلون لها تسعين في المائة من السكان ولما لقي التاغال والميتيون ما لقوا من سيطرة رجال الدين وسوء الإدارة قاموا يريدون تخفيف ما نالهم وأن يعاملوا بالمساواة مع البيض فنشبت ثورة سنة 1896 ولم تنطفئ شعلتها إلا بوعد زعيم الثائرين أن تقوم إسبانيا بالإصلاح المنشود ولما لم تقم هذه الحكومة بوعدها عاد ذاك الزعيم يبدي نواجذ الشر في السنة التالية بمعاونة الولايات المتحدة وبعد أن حاربت الحكومة الأمريكية إسبانيا من أجل هذه الجزائر استولت على الفيليبين وكوبا وبورتوريكو ونكست أعلام إسبانيا وراح الأمريكان يستعمرونها فيحسنون استعمارها.
ولما مد السلام رواقه على هذا الأرخبيل وانتهى دور الكتائب والحسام جاء الدور للكتب والأقلام وأخذت المجامع العلمية تبعث برسلها للبحث والتنقيب لتنظر في تاريخ الفيليبين واجتماعها وعمرانها فانتشر منذ سنة نحو عشرين مصنفاً في الكلام على هذه الجزائر ومن(12/36)
جملتها كتاب المورو أي مسلمي الفيليبين لوطنينا الفاضل الدكتور نجيب صليبي.
ولقد اطلعنا على مبحث في مجلة العالم الإسلامي الفرنسية اقتطفته من مصادر كثيرة ومنها كتاب جزائر الفيليبين الذي ظهر مؤخراً بالإنكليزية من قلم جون فورمان فآثرنا تحصيله للقراء ليقفوا على أحوال أولئك القوم ويعرفوا مبلغ عناية الغربيين بكل فرع من فروع العلم والاجتماع قالت المجلة الباريسية:
شغل المؤلف جزءاً عظيماً من كتابه بالكلام على المسلمين بعد أن أطال عشرتهم وخالط زعماء الثورة ورجال الحكومة منهم فجاء من ذلك ببيان رائده الإنصاف وسداه ولحمته التحقيق وقد أبان في كتابه علاقة مسلمي الفيليبين مع الإسبانيين سابقاً ومع الأمريكيين لاحقاً إلى أواسط سنة 1905.
المسلمون اليوم هم عبارة عن ثمانية أو تسعة أعشار جزيرة مينداناو الكبرى وجميع أرخبيل سولو مع جنوبي بالوان وكانوا منتشرين في الشمال من تلك البلاد على عهد الفتح الإسباني ولما نزلت الحملة الإسبانية الأولى في جزيرة لوسون سنة 1507 اختلطت لأول أمرها مع الراجا (حاكم) توندو وابن أخته الراجا سليمان في مانيلا حاضرة الفيليبين اليوم وكان قائد الجيش الإسباني العام إذ ذاك يرى سكان توندو ومانيلا مسلمين ويطلق عليهم في مكاتباته الرسمية لفظ المورو أي المغاربة ولم يكن لأحد من الإسبانيين شك في ذلك لأن المغاربة لم يطردوا الطرد الأخير من إسبانيا إلا سنة 1492.
ولقد اختلفت الأقوال في دخول الإسلام إلى تلك الجزر والمرجح أن الجزر الجنوبية مثل ميداناو وسولو انتشر فيها الإسلام لقربها من مسلمي شمالي بورنيو فاستولى المسلمون على سلطنة بورنيو عقيب أن خربوا مملكة الماجاباهيت من بلاد جاوه سنة 1473 ولم يتحارب الإسبانيون مع سلاطين المسلمين إلا في سنة 1577 وقد تقدم السلطان عبد القهار عدة ملوك مسلمين ومنه بدأ تاريخ الفتن بين المسلمين والإسبانيين. وبالجملة فإن الإسلام انتشر في مينداناو وبورنيو بمساعي دعاة العرب على أنه لم ينتشر حقيقة في جنوبي الفيليبين إبان الفتح الإسباني ولم تنتحل سولو الإسلام إلا بعد أن جاءها دايكس من بورنيو وتزوج أحد زعمائهم المدعو اندازولان - وكان استولى أولاً على جزيرة بازيلان ثم على سولو - من ابنة زعيم من أعيان المسلمين في مينداناو وانتحل الإسلام وأسس سلطنة سولو ثم(12/37)
قويت شوكته باتحاده مع بورنيو ومينداناو.
وعادت الأحقاد القديمة فتجددت بين الإسبانيين والمسلمين وحمل الإسبانيون على هؤلاء مدفوعين بعامل السخط الشديد وفي سنة 1576 ثار لاكاندولا والراجا سليمان في جزيرة لوسون ولكن قوة الإسبانيين إذ ذاك حالت دون انتشار الكلمة الإسلامية وإن بقيت اليوم بقية من ذرية لاكاندولا في بعض القرى فقد انحط مقامهم وأصبحوا نكرة لا تعرف حتى أن أحدهم كان خادماً في مطعم فرنسي في مانيلا سنة 1885.
وقد بعثت إسبانيا سنة 1596 حملة على مينداناو فقتل قائدها عند نزوله إلى البر وأغار والي سولو بنفسه سنة 1638 فاحتل بعض المراكز في شاطئ ميداناو حيث لقب الراجا سيبوجي سنة 1640 بلقب السلطنة. ولم تكن هذه السلطنة وذاك الاحتلال إلا اسماً لا حقيقة لهما إذ بقيت الفتن قائمة قاعدة بين المسلمين الأصليين والمسيحيين الفاتحين ولاسيما في القرصنة. فدامت الغزوات البحرية بين الفريقين بلا انقطاع مدة ثلاثة قرون فريق يعتقد أنه يجاهد جهاداً مقدساً وهم المسلمون وفريق يدعي أنه يحارب باسم الصليب وهم المستعمرون الإسبانيون.
وفي أواسط القرن الثامن عشر حدثت بين المسلمين والإسبانيين فترة غريبة ذلك بأن المفاوضات بينهم انتهت بأن يكاتب ملك إسبانيا سلطان سولو الذي قاوم أحد أخوته مكانه فجاء مانيلا يطلب مساعدة حاكمها. ورأى السلطان محمد عليم الدين أن يتنصر فتعمد ولحقت به أسرته وبدأت تتعلم في مانيلا التعليم الإسباني المسيحي وبعد سنتين رخص له بأن يذهب من مانيلا إلى سولو وزامبوانكا في موكب له فاضطر أولاً أن يكتب إلى السلطان محمد أمير الدين في مينداناو وينصح له بلسان شديد اللهجة أن ينضم إلى الإسبانيين. وبعد سفره بقليل تبين للحاكم الإسباني أن العبارة العربية كانت مخالفة للعبارة الإسبانية التي كتبها بنفسه ووقع عليها ولذلك أمر بسجنه في زامبوانكا ثم أعيد إلى مانيلا ولم يسع الوالي الإسباني إلا أن يعود إلى تنصير ذاك الحاكم المسلم ولو صورة.
ولما احتل الإنكليز مانيلا سنة 1763 وجدوا السلطان مسجوناً فأطلقوا سراحه فراح إلى سولو وأقام على استئصال شأفة الإسبانيين في مينداناو وأصاب الإنكليز أيضاً شيءٌ من شره وإن أحسنوا معاملته. وقد بعث الإنكليز إلى سولو بمائة وخمسين رجلاً لتوطيد قدمهم(12/38)
فيها فدعاهم أحد زعماء المسلمين إلى مأدبة وذبح منهم 144.
وبعد أن انجلت إنكلترا عن قاعدة تلك البلاد عدل الإسبانيون من معاملتهم للمسلمين فاعترفوا سنة 1836 باستقلال سلطانهم هناك حتى إذا كان عام 1884 سيروا عليه حملة واستولوا على حاضرة بلاده فراح السلطان وخاصة رجاله يحتفظون بألقابهم فأدرت حكومة إسبانيا عليهم رواتب ومشاهرات إلا أن المسلمين لم يبرحوا يلجؤون إلى الغارة والنهب في السواحل حتى قيل أن غارات المسلمين قويت شوكتها سنة 1876 فلم يعد حكم إسبانيا في سولو إلا اسمياً.
وهكذا جرت حوادث بين الحكام الإسبانيين والسلاطين المسلمين يخضع هؤلاء تارة وينتقضون أخرى مثل سلاطين باكات وبوهاين وكودارنكان المتحالفين مع داتواوتو ولما ضاقت إسبانيا ذرعاً ببعض القبائل المسلمة وانتقاضها الحين بعد الآخر عزمت غداة ثورة سنة 1896 أن تطرد المسلمين من عقر دارهم وتسكن فيها جماعة من المسيحيين الوطنيين ثم خضع بعض أولئك الأمراء للإسبانيين خضوع حب لأن منهم من كان يقدر المدنية الغربية قدرها ولذلك ظلوا على موالاة الأمريكيين أيضاً بعد أن استولوا على هذه الجزائر.
ويؤخذ مما كتبه فورمان أن الأحقاد القديمة بين الإسبانيين والمسلمين دامت على أشدها مدة ثلاثة قرون وظل المسلمون هناك يذكرون ما وقع لإخوانهم مسلمي إسبانيا. ومما كانت تجري الشروط عليه بين مانيلا الإسباني وحاكم سولو المسلم أن لا تمس شعائر المسلمين. وعلى ما حاولته إسبانيا من تنصير المسلمين فقد خرجت من الجزائر كيوم دخلتها ولم تفلح فيما قصدت إليه. ولا شك أن جمهورية الفيليبين تحسن معاملة المسلمين كالإسبانيين وكذلك المسلمون لم يكونوا أقل عداء لسكان البلاد المسيحيين من معاداتهم للبيض.
ولما استولى الأمريكيون على الجزائر لم يمسوا المعتقدات الإسلامية ولا عملوا على نقض شرع أهل الإسلام وإن كانوا ينكرون عليهم ترتيباتهم في حكومتهم وهي حكومة أعيان ارستوكراطية وقد انتقد أحدهم على حكومة الولايات المتحدة أن وطدت نفسها على انتظار إدخال تعديل في حال المسلمين هناك وتعليلها الأمل بأن نشر التعليم العام بينهم سيؤدي بعد إلى نتيجة حسنة. على أن الأمريكان كانوا يوجسون خيفة من نظام الإقطاعات الشائع بين المسلمين هناك. وقد نادت حكومة أميركا بأن يظل أهل ولاية المسلمين يحكمون أنفسهم(12/39)
بأنفسهم ولم تتداخل إلا بعض الشيء في حكومتهم وإدارة بلادهم وتمتاز حكومة أميركا عن إسبانيا بأن طريقتها في حكم تلك الجزيرة والمسلمين من أهلها خاصة هو بتدريب الأهلين على المبادئ الديمقراطية أما إسبانيا فقد أرادت أن تحمل على الإسلام نفسه لتخلص من المسلمين. ولو اقتربت بعض الزعماء المسلمين من الأمريكان سياسياً مع احتفاظهم بأخلاقهم من الوجهة الاجتماعية لما طال على البلاد عهد السلام.
وقد عنيت الحكومة الأمريكية بتنظيم شؤون المسلمين وتأسيس بلديات لهم في الجزر تقيم مع المجالس الوطنية وتعمل بالعادات الوطنية ما أمكن وهي العادات التي لا تنافي عادات الشعوب المتمدنة ولا أخلاقها وقد بلغ عدد جيش الاحتلال الأميركي النازل في جزيرة سولو وحدها 4839 رجلاً و294 ضابطاً على أن المحاربين من أهلها لا يتجاوزون العشرين ألف رجل. وفي تلك الولاية 41 مدرسة فيها 2114 تلميذاً و15 معلماً أمريكياً و50 معلماً مسيحياً وطنياً و9 معلمين مسلمين والمدارس غاصة بالتلاميذ والمتعلمين حتى أن 240 طفلاً من المسلمين حرموا من الدرس الآن فباتوا ينتظرون لأن المدارس ملئت بالتلاميذ والطلاب من المسلمين.(12/40)
إحدى نقائص الاجتماع
2
شيخ كثير الذكر والتسبيح ... ينهى عن المنكر والقبيح
يقول قال الله والرسول ... وأثبت المنقول والمعقول
ويكثر الصلاة في المساجد ... والدور إذ يدعى إلى الموائد
وربما أزورّ عن الطعام ... مخافة الوقوع في الحرام
وصدَّ ظمآناً عن الشراب ... كيلا تطول مدة الحساب
صارت له منزلة جليلة ... وشهرة عريضة طويلة
فأمه الغنيّ والفقير ... وزاره الكبير والصغير
هذا يريد مطلباً عسيراً ... وذاك يرجو نشباً وفيراً
وذا يروم البرء من أدوائه ... إذ عجز الأساة عن دوائه
وازدحمت في دارة النساءُ ... فما لهنَّ دونه رجاءُ
هذي جفاها الزوج منذ حين ... ولجَّ في الغلظة بعد اللين
وتلك لا تُملاءُ الأولادا ... فقلبها يتقد انقادا
وهذه قد رغب الخطاب ... عنها فأشقى عيشها العذاب
وهكذا استسلمت العقول ... للشيخ فهو الله والرسول
وكاد أن يعبد دون الخالق ... سبحانه عن عمه الخلائق
وإنني لفي ممرّ خال ... ساق إليه سائق الأحوال
في ليلة أودى شقاء أجد ... بحليها فاستسلمت للوجد
أحزنها تصرف الخطوب ... فدمعها منهمر الشؤبوب
إذ عنّ شيخ لو بعيني نائم ... مرَّ لكان مثل وهم الواهم
فكان لي من أمره المريب ... وشغفي بالنادر الغريب
داع إلى السير على آثاره ... لا عرف الغائب من أخباره
فانسرب الشيخ إلى مضيق ... أفضى به وبي إلى طريق
لمحت فيه وجهه المقنعا ... فخلت أن ناظري قد خدعا(12/41)
فمن يظن ذلك الإماما ... يرضى الخنا ويؤثر الحراما
قال لمومس هناك تخطر ... لعلها بابن غنيّ تظفر
عمي مساء وهلمي فأنا ... نعم المرجى للفسوق والخنا
سلي ألم أبل البلاَء الحسنا ... واجتن الحمد فنعم المجتنى
لا تزعميني وكلاً ضعيفاً ... إن صار هذا الشيب لي حليفا
ولا شحيحاً أو أخا أعسار ... لكن حياً ينهلُّ بالنضار
لاسيما حين تدار الاكؤُس ... ويستقرّ بكينا المجلس
قالت أصبت فالمراد المال ... هو الشباب الغض والجمال
لولا طلاب القوت لم تجدني ... بحيث أبلي صحتي وأفني
وأبذل العرض وما إدراكاً ... ما العرض أغلى ما رأت عيناكا
لو رام مني ولك الكرامة ... ما رمت كلب مفرط الدمامة
لم يك مني دونه امتناع ... مادام لي بماله انتفاع
ودخلا البيت فعدت واجماً ... احسبني فيما رأيت واهماً
ما أولع النفوس بالحرام ... وأسرع النقص إلى التمام
بل ما أشد نكد الأيام ... وأتعب العاقل في الأقوام
فاز المراءون وخاب الصادق ... والتبست على النهى الحقائق
وانتشر الفساد والضلال ... وخرجت عن حكمها الأحوال
فيا سماءُ أمطري الأرضينا ... ناراً تبيد الخلق أجمعينا
أما لهذا الحلم والإغضاءِ ... من غاية ترجى أو انتهاءِ
دمنهور
أحمد محرم(12/42)
ضمان الحياة
أفاضت المجلة الفرنسية في وصف شركة لضمان الحياة أنشئت في مدينة تورين من أعمال إيطاليا في العهد الأخير وقد خالف القائمون بها جميع شروط الشركات المؤسسة من هذا النوع حتى الآن وإليك محصل ما قالت: من نقص شركات ضمان الحياة الحالية أنه لا يمكن للفقراء أن ينتفعوا منها فلو فرضنا أن أحدهم مثلاً أراد أن يضمن حياته على عشرة آلاف فرنك عند إحدى الشركات المعروفة يقضى عليه أن يؤدي مسانهة خمسمائة فرنك فإن مات قبل الأجل المضروب وهو عشرون سنة مثلاً تقبض أسرته عشرة آلاف فرنك وإن عاش إلى ما بعد هذه المدة يقبض رأس ماله أي عشرة آلاف بدون فائدتها. وفائدتها مهما قلت لا تنزل عن ثلاثة ونصف في المائة فيكون مجموع فائدة هذا المبلغ في خلال هذه المدة ألفا فرنك على أن شركات الضمان الكبرى تأخذ فائدة أموالها من خمسة إلى ستة في المائة.
وهاك إحصاء فيما وزعته شركات الضمان الرئيسة في العالم منذ تأسيسها حتى 31 ديسمبر سنة 1904.
اسم الشركة وزمان تأسيسها ما أعطته للمساهمين ما دفعته للمضمونين
فرنك فرنك
العمومية (باريس) 1819 131. 503. 706104. 687. 153
الاتحاد 182919. 435. 88818. 778. 917
الوطنية 1830103. 402. 75077. 338. 122
عنقاء مغرب 184426. 505. 84739. 725. 045
نيويورك لم تعط شيئاً 411. 574. 943
ومن هذا الإحصاء يتضح لك أن شركات الضمان أخذت ممن ضمنت لهم حياتهم ملياراً من الفوائد وزعت منها 280 مليوناً على المساهمين و240 مليوناً على المضمونين ولذا كان من يضمنون حياتهم آلة لهذه الشركات المالية تستعملها لتنال منها كل فائدة وعائدة ولا بدع إذا حرصت كثيراً على أن يعيش المضمونون المدة المتفق عليها لئلا تعطيهم قبل الوقت ما لم تكن قبضته كله منهم وربحت منهم الفائدة.
أما الشركة الجديدة فقد أسست بدون رأس مال ورأس المال يستدعي أناساً يقومون على(12/43)
استثماره. بل أن أعضاء صندوق الضمانة هم متكافلون متضامنون فيصفي كل سنة حساب ما يجمع من جميع المضمونين أي أنه يوزع بين أسرات من ماتوا في خلال السنة من المشتركين فيعود المجموع من المال على عيالهم إذا مات أحدهم وربما بلغ المال مبلغاً حسناً. ويشترك في هذه الجمعية الرجال والنساء والشبان والشيوخ والأغنياء والعملة فإذا مات من كل ألف شخص منهم في خلال السنة اثنتان وعشرون نسمة وهو معدل الوفيات في كل ألف ساكن في إيطاليا وفي جملتهم الأولاد الذين يكثر الموت بينهم واستثني من ذلك من استثنتهم الشركة من الأطفال والشيوخ وكان المشتركون كما هي قاعدة الجمعية من أهل سن العشرين إلى الخامسة والأربعين ممن لا يتجاوز المتوفى منهم عشرة في الألف - إذا كان هذا فيصيب أسرات من مات عميدها مبالغ من المال وهذه الجمعيات تنقسم إلى طبقات لا يسوغ لكل طبقة أن تعمل ما خصصت نفسها له قبل أن يبلغ عددها ألف نسمة فإذا فرضنا أن أعضاء طبقة يدفع كل منهم فرنكاً في الشهر أو اثني عشر فرنكاً في السنة فيكون مجموع ما يدفعون كلهم في السنة 12000 فرنك. يوزع هذا المبلغ على العشر أسرات التي يموت أربابها في خلال السنة بحسب التقدير فيصيب كل أسرة مات أحد من ضمنوا حياتهم لمنفعتها بعدهم ألف ومائتا فرنك.
فإذا وضع الفرد في مدة خمس عشرة سنة مائة فرنك في السنة ومات في خلال هذه المدة تأخذ أسرته عشرة آلاف فرنك وإذا عاش فلا يأسف على المبلغ الذي وضعه كل سنة لأنه زهيد. ولا يحتقر مبلغ عشرة آلاف فرنك تناله أسرة بعد فقد ربها وبدونه تتمزق وتتشتت أما هذا المبلغ فيكفيها لوفاء بعض الديون واستئجار مسكن والإنفاق ريثما تجد لها مورداً آخر أو تهاجر بها أو تعلم بها ولداً.
ومن الصعب على صغار المستخدمين كمعلمي المدارس وصغار التجار وفتيان القضاة والأطباء أن يدفعوا كل سنة مثلاً خمسمائة فرنك كما هو الحال في شركات الضمان القديمة في زمان كثرت فيه ضروب النفقات وإذا قدر المشترك أن يدفع سنة لا يستطيع أن يدفع الثانية وإلا فإنه يضطر أن يحرم نفسه من كل لذة ونعيم ليوفي قسطه السنوي وعلى العكس في هذه الجمعية أو الشركة الجديدة. ولذا أخذت شركات الضمان الأخرى تحاربها وتتهمها بسوء القصد على أن الناس لم يدخلوا فيها بالألوف بل بعشرات الألوف ومادام أمرها بيد(12/44)
القائمين عليها فإنها مضمونة النتيجة وقوة المجموع أكثر من قوة الأفراد.(12/45)
حوادث السنة
من الجدير بالتدوين من حوادث هذه السنة ما وقع في هذا القطر من الخلاف في طور سيناء على التخوم المصرية العثمانية فجرى التحديد وكان يخشى حدوث فتنة بين العثمانيين والمحتلين من الإنكليز وكادت تتكدر كأس الصفاء بين المصريين والإنكليز لأن هؤلاء رموا أولئك بالتعصب فقامت الجرائد الوطنية تنفي عن قومها هذه التهمة وكانت مناداة المصريين بحب الدولة هي الباعثة على هذه التهمة. ومن حوادث العلم والاجتماع أن الشركات الأوربية وغيرها كثرت في هذه السنة بمصر لاستثمار أرضها وأموالها وعقاراتها. واهتم بعض أعيان الأقاليم بإنشاء كتاتيب للأطفال وحبس أطيان عليها كما عني بعض أعيان بني يوسف بإنشاء مدرسة صناعية وجمعوا شيئاً من المال اللازم لها واهتم أعيان البحيرة بإنشاء مثلها في إقليمهم بمدينة دمنهور. وقامت فئة من رجال العلم والوجاهة في العاصمة وأرادوا منذ الصيف الماضي إنشاء مدرسة جامعة مصرية تغني أبناء مصر عن التعلم في مدارس الحكومة ومدارس البلاد الأجنبية وكان زعيم تلك الفئة سعد باشا زغلول فلما عين في خلال ذلك ناظراً للمعارف المصرية عهد بإدارة هذا العمل إلى صديقه قاسم بك أمين فأخذ هذا يثير الأرواح بفصاحته ويهز أكفَّ السماح بحميته. والخلف كالسلف مشهور بفضل علمه وقوة إرادته. وقد جمع حتى الآن نحو عشرين ألف جنيه. ووهب روكلفر المثري الأمريكي عشرين ألف جنيه لمدرسة أسيوط الأمريكية دفعة واحدة.
وزادت حركة العمران في ربوع السودان ولاسيما بعد أن فتح بور سودان واتصل بالبحر الأحمر من قرب سواكن بناحية بربر على النيل بالسكة الحديدية التي أنشأتها الحكومة في سنتين وكلفت مليوناً وثلاثمائة وخمسة وسبعين ألف جنيه وطولها زهاء 350 ميلاً.
وتوفر الأهلون في أكثر البلاد العثمانية على الزراعة والتجارة فارتفعت أثمان العقارات في المدن والأراضي في الضواحي والدساكر وارتفعت أسعار الحاجيات بكثرة الاختلاط وسهولة النقل عن ذي قبل فقد مدَّ من خط الأستانة - بغداد قرابة ثلاثمائة كيلومتر ومد من سكة حديد الحجاز نحو ثمانمائة كيلومتر وقطارات البخار الآن يرن صداها في وسط جزيرة العرب. واتصل الخط الحديدي بين بيروت ودمشق بمدينة حلب وأنشئت تراموايات كهربائية في بعض الحواضر العثمانية كما شرع بإنارة بعضها بالكهرباء. وحدث بين الدولة العثمانية والحكومة الإيرانية اختلاف على الحدود لم يسوَ بعد. وضرب الجيش(12/46)
العثماني إمام الزيدية في اليمن يحيى بن حميد الدين والثوار من أتباعه واسترجع صنعاء منه فاكتفى القائم بما كان تحت حكمه من صعدة وأعمالها وظلت الدولة تحكم ما كان لها. وقوي الأمير عبد الرحمن بن سعود وتبعه أهالي نجد فقتل الأمير ابن الرشيد واستولى على معظم الصقع النجدي وأقيم الأمير متعب مكان أبيه أميراً على ما بقي له من البلاد.
ومنح الشاه مظفر الدين صاحب إيران حكومة نيابية لأمته برضاه وطلب بعض المشايخ والأعيان وتوفي في الشهر الماضي وخلفه الشاه محمد علي ثاني أنجاله. وتوفي سيدي محمد الهادي باي تونس وخلفه سيدي محمد الناصر باي وزار الأمير حبيب الله خان اللورد منتو حاكم الهند العام كما زار الهند ومصر البرنس دي غال ولي عهد إنكلترا. وقابل وفد من رجال المسلمين من الهنود حاكم الهند وسألوه أن ينظر في أحوالهم السياسية فوعدوهم خيراً. واجتمع مؤتمر التربية الإسلامية في مدينة دكة الهندية وحضره ثلاثة آلاف مندوب من جميع الأصقاع الهندية. وزار ملك كمبودج من أقيال الهند الصينية بلاد فرنسا وصار فيها أضحوكة كما صار من قبل بهنزين ملك الداهومي وغيره من ملوك الشرق المنحطين. وأخذت اليابان ترقي بحريتها وجنديتها أكثر مما كانت بعد أن نفضت عنها غبار الحرب الروسية اليابانية. وأنفذت الصين لجنة للبحث في قوانين الأمم المتمدنة في الغرب وعادت فأخذت تطبق العلم على بالعمل وصدر أمر الإمبراطور بمنع الأفيون من مملكته. ووافقت الصين على المعاهدة التي أبرمت بين حكومة الهند وحكومة تبت. وكادت العلائق السياسية تنقطع بين الولايات المتحدة واليابان لأن طلاب العلم اليابانيين طردوا من مدارس سان فرنسيسكو الجامعة بدون مسوغ. وعقد في الجزيرة الخضراء من أعمال إسبانيا مؤتمر قوامه نواب من الدول الكبرى للنظر في شؤون الفوضى في مراكش وذلك بتأثير إمبراطور ألمانيا فتقرر أن تنظم شرطة من الإسبانيين والفرنسيين وأن ينشأ مصرف للحكومة المراكشية ولم تزل الفوضى قائمة هناك.
ومن كوائن أوربا هذا العام تولي الأحرار زمام الوزارة الإنكليزية بعد الاتحاديين وكانت فاتحة أعمالهم منح الترنسفال مجلساً نيابياً ودستوراً تجري عليه أمورها. وزيارة الإمبراطور ادورد السابع لأكثر مدن أوربا واجتماعه بالإمبراطور غليوم الثاني في ألمانيا والإمبراطور فرنسيس يوسف في النمسا. ووفاة الملك كرستيان التاسع صاحب السويد(12/47)
وكان محباً للعرب مولعاً بآثارهم وخلفه ابنه فريدريك الثامن. ومنها تتويج هاكون الأول ملكاً على بلاد نروج بعد أن انفصلت عن السويد أو أسوج. وأمر القيصر نقولا الثاني بحل الجمعية العمومية (الدوما) التي كان منحها لأمته وهي بمثابة مجلس نيابي معتدل عقيب الثورات التي نشبت في بلاد روسيا بعد حربها مع اليابان وبعد انقضاض الدوما حدثت ثورات في هلسنفورغ وكرونستاد بيعت فيها الأرواح بيع السماح كما بيعت في بطرسبرج وموسكو وفرسوفيا وغيرها من أمهات المدن الروسية وقويت نفوس الثوار على البطش بالأشراف وزعماء الحكومة ومن ذلك الاعتداء على رئيس النظار والقائد تريبوف والكونت ابناتيف وغيرهم كثيرون.
وانتخب المسيو فاليير رئيس مجلس الشيوخ في فرنسا رئيساً للجمهورية عوضاً من المسيو لوبه الذي انتهت مدته وتألفت الوزارة الفرنسية مرتين ثم سقطت وجردت فرنسا الكنائس وفصلتهما عن الحكومة وضيقت السبل في وجوه رجال الدين وطردتهم وشردتهم.
وأهم ما حدث في ألمانيا حل مجلس الأمة وانتخاب آخر مكانه. وفي إسبانيا زواج ملك إسبانيا وكاد يلاقي حتفه في موكب زواجه بقنبلة ألقاها أحد الفوضويين فنجا هو وزوجته بعد أن قتل عشرات من الأنفس. واستقال البرنس جورج حاكم كريت وأقيم مكانه رئيس وزارة اليونان السابق المسيو دليانس. وانتخب الدكتور بينا رئيساً لجمهورية برازيل وهو رابع رئيس تولى زمام جمهوريتها منذ سنة 1889 عندما حدثت الثورة بالمطالبة بالجمهورية.
وأهم الأحداث الطبيعية انفجار مناجم لاكوريير في فرنسا هلك فيه زهاء ألف عامل وثوران بركان فيزوف في إيطاليا وزلزال مدينتي فالباريزو وسان فرنسيسكو في أميركا وهما الزلزالان اللذان قضي فيهما ألوف من الأنفس وراحت فيهما أموال وعروض كثيرة ودمرت مدينة كنغستون عاصمة جزائر الجاماييك الإنكليزية. وانتشرت المجاعة في بعض بلاد روسيا وقحطت بعض ولايات اليابان فتداركت الحكومتان أمر ذلك كما قحطت بعض ولايات الصين. وحدثت ثورة في الناتال كما حدثت فتنة في جزيرة كوبا.(12/48)
الشيخ إبراهيم اليازجي
فجعت العربية في الشهر الماضي بكبير من أكابر أهلها المنشئين وأستاذ من جهابذة المعربين والمؤلفين الطيب الذكر والأثر الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء. توفاه الله في هذه العاصمة عن ستين عاماً قضاها بين المحابر والدفاتر وقد وقف حياته على الإفادة والاستفادة فانتفع به خلق كثير في جميع البلاد التي تقرأ فيها العربية ولاسيما في مصر والشام.
ولقد عزَّ نعيه على كل من عرف فضله وأخلاقه وما خصَّ به من دماثة الخلق ولين الجانب وعزة النفس وحسن العهد ولا عجب فقد فقدت المطبوعات بفقده عضواً عاملاً ورجلاً نافعاً. ورثاه جمهور كبير من العلماء والفضلاء وابنته الصحف والمجلات على اختلاف الملل والنحل واللغات لأن المصيبة بفقده كانت عامة جازاه الله أفضل ما يجازي المحسنين على إحسانهم.
وهاك ما كتبناه في المؤيد الأغر يوم وفاة هذا الفقيد العزيز من تأبينه وترجمة حياته:
كان فقيد اليوم عالماً مدققاً ولغوياً ضليعاً ومترسلاً تحريراً ومفتناً فكهاً ونقاداً غيوراً وكاتباً فريداً وشاعراً مجيداً قضى حياة المتعلم والمعلم والعالم على أكمل وجوهها وبرز خاصة في علوم العربية على أقرانه فعد من آحاد زمانه.
نشأ من بيت كان ربه يتغنى ليله ونهاره بالشعر والأدب فشبَّ وشاب فيما نشأ عليه أنشئ له. وناهيك بمن يرضع اللغة من صغره ويعاني الأدب في جميع أدواره لا يصل إلى وسمعه غيره ولا تقع عينه على ما سواه والجميع مستحسن له ومصفق ومؤمن على أقواله ومصدق.
فانصرف في مدينة بيروت كوالده الشيخ ناصيف إلى التعليم والتصنيف فتخرج به جهابذة أدباء وأكثرهم اليوم هم الحركة الدائمة في مصر والشام وألف على ذاك العهد كتباً وصحح أخرى منها شرح ديوان المتنبي. وصحح التوراة كما نقح كتب والده المدرسية في الصرف والنحو والبيان والعروض ووقعت له محاورات مع صاحب الجوائب وغيره كطرفة الطرف وكتب مجلة الطبيب سنة كاملة بمساعدة صديقيه العالمين الدكتورين زلزل وسعادة.
هبط مصر في شتاء سنة 1897 لإنشاء مجلة علمية وطبع معجم عربي كان عني بتأليفه منذ سنين ولكن خانته الأقدار فرأى ما كان يسمعه عن نهضة مصر العلمية مبالغاً فيه وأن(12/49)
سوق العلم والأدب كاسدة لا لإقبال عليها فأصدر أولاً مجلة البيان سنة بمعاونة الدكتور زلزل ثم أصدر وحده مجلة الضياء فدامت مطردة الصدور إلى صيف هذه السنة وقد شحنها من عرائس أفكاره وتحقيقاته اللغوية وأماليه الأدبية ما لو كتب بغير هذا اللسان لأعجب به أهله وكبروا مثل مقالات اللغة والعصر ولغة الجرائد وأغلاط العرب وأغلاط المولدين وطبع في العهد الأخير كتاب نجعة الرائد في اللغة ولم يوفق إلى طبع معجمه لأسباب أهمها قلة النصير والظهير.
كان الفقيد شديد الغيرة على لسان العرب بحيث لا يدانيه في ذلك غير خاصة الخاصة. مبالغاً في التدقيق والتمحيص حتى أنه كان يألم ممن يرتكب غلطاً لغوياً إنشائياً ألمه ممن يسيء مباشرة إليه أو يصادره في أعز الأشياء عليه ولذلك قلما كان يغفل كتاباً أو ديواناً من النقد اللغوي والأدبي وكثيراً ما تأخذه الحمية العربية فينحني على المنتقد عليه وربما وصلت المسألة من العموميات إلى الخصوصيات كما جرى في نقده معجم أقرب الموارد وكتاب الدرة اليتيمة وغيرهما. ولابد لمن يتمحض للانتقاد أن يلاقي ما لقي الشيخ اليازجي فيصاب ويصيب خصوصاً والناس في زماننا لم يألفوا الانتقاد وأكثر المنتقدين يعدونه ثلماً لشرفهم وحطة لأقدارهم والناقد كيفما كانت الحال لا تصفو له القلوب إلا علي الندرة ولاسيما إذا عامل منتقديه بأنه هو المسيطر على كل ما يبدر من خطاءٍ وخطل والكفيل بحل كل إشكال ومعضل فكان انصراف قلوب بعض العالمين والمتأدبين عنه لعدم اضطلاعه بسياسة التعليم وهو داء العلماء من القديم حتى عقد ابن خلدون فصلاً في أن العلماء أبعد الناس في السياسة.
وعلى الجملة فقد كان فقيد اللغة والأدب اليوم آية في سعة اطلاعه على شوارد اللغة واوابدها محيطاً بأقوال أئمة البيان العربي عارفاً بصحيح الكلام من فاسده بصيراً ببعض العلوم كالفلك والرياضيات وله إلمام تام بالفرنسية والإنكليزية (والعبرانية والسريانية) ويد طولى في الخط والرسم والنقش والحفر بحيث لو أتيح له أن يعمل بما يهوي وينصرف إلى ما يغلب على طبعه لاختار أن يكون رساماً من أهل الفنون الجميلة. ولولا أنه آثر خدمة العربية كما قال لي عن نفسه مخافة أن يغلق بيته على حين في وسعه فتحه ويتوانى عن خدمة لغة عرف أبوه وأخوته من قبله بالتوفر على خدمتها والغرام بآدابها لجاء منه(12/50)
مصور ماهر ربما خلف وراءه مالاً وكان أهنأ عيشاً وأهدأ بالاً.
خدم الشيخ إبراهيم لغتنا بوضع بعض ألفاظ لمسميات إفرنجية وعرب بعض المصطلحات وله شعر جيد وبعضه سائر على الألسن وإن لم ينسب إليه تقية مثل قصيدته المشهورة في القطرين التي يقول في مطلعها.
دع مجلس الغيد الأوانس ... وهوى لواحظها النواعس
إلى أن يقول سامحه الله:
فالشر كل الشر ما ... بين العمائم والقلانس
والخير كل الخير في ... هدم الجوامع والكنائس
وإن صحَّ ما قيل لي أمس من أن الشيخ اليازجي مات بسرطان في الكبد فيكون ما كان قاله هو في نعي فقيد الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قضى. . . بعلة السرطان وقد تشبث منه بين الفك والنحر ودب في مجرى الفصاحة منه ولا عجب أن يدب السرطان في البحر قد نعى به نفسه وهو جدير أن يطلق عليه فإنه بلا مراءٍ رافع لواء الأدب وشيخ العاملين على إحياء لغة العرب فلا عجب إذا اهتزَّ عالم الأدب اليوم أسفاً على فقده. عوضنا الله عنه خيراً وألهم المصابين بفقده جميل الصبر والسلوان.(12/51)
مطبوعات ومخطوطات
قانون الصين
ترجم الرحالة الفاضل الشيخ سعيد العسلي الطرابلسي هذا القانون عن اللغة الصينية وهو تأليف جلالة تونجي خانكدي إمبراطور الصين السابق. والمترجم ممن ساحوا الأقطار الشرقية ولاسيما فارس والهند وبعض الصين وتعلم بعض اللغات الآسيوية. وهو قانون مدني لا علامة على الانحطاط فيه وقد قال المترجم أنه أفرغ في قالب الحكمة والموعظة وجله موافق للشريعة المطهرة ومن مواده: الإنسان مضطر إن لم يأكل أنهكه الجوع وإن لم يلبس الثخين والصفيق بقي عرياناً وأهلكه القر فمن أراد أن لا يجوع فعليه بالحرث والغرس ومن أراد كعم كلب البرد فليرب (الفلة) أي دود القز وليتخذ الحرير والحراثة من أعمال الرجال وتربية الفلة وعمل الحرير من عمل النساء فاحرثوا يا معشر الرجال وازرعوا واجروا المياه واحفروا الآبار واكروا الأنهار واحيوا الموات واغرسوا أشجار الفواكه الطيبة اللذيذة واكثروا ما أمكنكم من غرس الفرصاد والتوت والحور والخلاف والصفصاف وغير ذلك للوقيد والاحتطاب والعمارة وكذلك اكثروا من زرع الخضر والبقول وعليكم بالقنب والكتان والقطن وقصب السكر والقنى ولا يغب عن أذهانكم نفع الشاي فإذا فعلتم ذلك أمرعتم وأخصب عيشكم واتسع لكم المأكل والمشرب (تعطف) من أراد إحياء موات أو زراعة أرضه وليس عنده بذر ولا أدوات الحرث فليطلب من أمير الأراضي في تلك الناحية ما يلزمه من الغلة والبقر والآلة وعلى ذلك المأمور أن يمهله ثلاث سنين لا يطلبه بالخراج ثم يسند منه ما أعطاه بلا زيادة وكذلك من عمد إلى قفر فأحياه وأجرى إليه الماء الكافي وجعله قابلاً للزراعة والغرس والسكن فإن جزاءه أن يمنح رتبة بك ويجعل أميراً على ناحية وإن كان معزولاً لذنب عفي عنه ورد إلى منصبه وإن كان من أرباب المذهب رقي أو زيد في مدته وإن لم يكن أهلاً لذلك أجزل له الخاقان الأنعام وخلد له ذكراً حسناً. وإذا لزم لك الحرير أيتها المرأة فخذي قدر ما يكفيك من البذر واحتاطي عليه بأن تجعليه في زجاجة وتحفظيه في خرق الحرير في الموضع الحار حتى إذا جاء فصل الربيع فابسطيه على الملاحف والأطباق وغذيه بأوراق التوت كما تعلمين حتى إذا استعد لعمل القز ضعي له ما ينسج عليه حتى إذا تم ذلك فخذيه وحليه واعملي(12/52)
الحرير وليكن حريرك رفيعاً نفيساً لتزداد الرغبة فيه وعليك بنسج أنواع الأقمشة الملونة الفاخرة المحتوية على كل شكل غريب ونقش بديع وليكن ذلك متفاوت الوزن والنسج والمقدار والثمن ليأخذ كل ما يليق به وليشترك في تربية الدود وعمل الحرير وفتله ونسجه الجم الغفير منكن ليتحصل لكن الكثير من ذلك فإن التعاون والاشتراك في الأعمال مما يجعل القليل كثيراً والنزر غزيراً وبهذا لكثر أنواع الملبوسات وبكثيرة المأكول والملبوس يطيب العيش وتصلح الأحوال وتكفى الحياة مؤونة الإفلاس والتكفف على أبواب الناس. أليس هذا بصدق. أليس هذا بأشرف من الكسل والغفلة والقعود تحت الجدران وملازمة البيوت كالعميان والنسوان وجزاء من تقاعد عن ذلك حتى جعل يشكو الجوع والعري وسلك طرق أهل الغي والفساد يذكر.
وفي آخر القانون أن من ارتكب جريمة من المسلمين أجري عليه الجزاء بما يقتضيه شرع مجين شنك رين (وهو اسم محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه الإنسان المقدس) أيها المسلمون احترموا دينكم واعتصموا بما جاء به نبيكم فمن أتى منكم منكراً فعلى القاضي أن ينفذ فيه حكم شريعته ومن أبى أجرينا عليه حكم (لي) من الضرب والهوان وإذا قضى القاضي أو أفتى المفتي بخلاف شرعه جرد وأجرى عليه حكم المفتري على الدين.
المسألة المصرية
ترجمت إدارة صحيفة المنبر الغراء رسالة للمستر جون روبرتسون أحد أعضاء دار الندوة الإنكليزية إلى العربية ذكر فيها المسألة المصرية ومما جاء فيها أن تاريخ العالم السياسي يثبت أنه من الاغترار أن يطلب من أمة أن تكون شكورة لأخرى أجنبية عنها تتولى السيادة عليها. ولطالما قيل في الأيام الماضية للإيطاليين قبل أن يحصلوا على استقلالهم أنه يجب عليهم أن يكونوا راضين عن النمسا لأنها ساعدت على ترقيتهم وأسعدتهم وحفظتهم من اعتداء بعضهم على بعض ووقتهم غارات الأمم الأخرى فلم تفلح هذه الأقوال مع الطليان ولم تحملهم على الرضى والقبول. ثم مثل بالبولونيين مع روسيا والأيرلنديين مع إنكلترا وقال أنه إذا كانت القرون الطويلة قد مرت ولم يسد الوفاق بين أمتين (الأيرلندية والإنكليزية) تتكلمان لغة واحدة وتصاهر إحداهما الأخرى وتتعلمان آداب لغة واحدة فهل يظن بدون الرجوع إلى مبادئ المودة والانعطاف والصفاء أن يسود الوفاق بيننا وبين أمم(12/53)
غريبة عنا في الدم والعنصر واللغة والتقاليد والعادات - ويعني بذلك مصر والهند.
ثم تكلم على التعليم في مصر ورد أقوال من يذهبون من ساسة الإنكليز الآن إلى أنه يجب أن لا تكون الغاية التي يرمى إليها تكثير عدد التلاميذ إلى حد فائق بل أن تكون بتعليم عدد محدود تعليماً تاماً فإن الحكومة لم تزل بعد بعيدة عن تلك الحالة التي يمكنها فيها تعليم أكثر الأهالي تعليماً موافقاً وأبطل مزاعمهم هذه بالبراهين محتجاً بأن الهبة التي تدفعها الإمبراطورية الإنكليزية للتعليم في اسكتلندا هي سبعمائة ألف جنيه وهو مبلغ يزيد عنه كثيراً المصروف فعلاً على التعليم في تلك البلاد مع أن عدد سكنها لا يزيد عن نصف عدد سكان القطر المصري وعلى ذلك يعبر هؤلاء الذين يظنون أنهم يحسنون صنعاً في مصر أن صرف 66. 888 جنيهاً كل سنة كاف للتعليم فيها.
وختم قوله بأن الإحصاء الرسمي يدل على أن عدد القارئين والكاتبين في مصر من الرجال هو 389. 407 بموجب إحصاء سنة 1897 ولم تترق المعارف بعد ذلك ترقياً يذكر وعدد القارئات والكاتبات 10. 269 أي من حيث المجموع 5 في المائة من أهالي القطر وقال في الاحتجاج للمصريين وهم يرون أن مبلغ ربع مليون من الجنيهات يصرف فقط على مدارسهم على حين تبذل الحكومة ثلاثة ملايين وثلاثة أرباع المليون إلى حملة القراطيس المالية من الأوربيين فائدة للذين لم يستلموا من أصله إلا القليل. ثم قال فإن شوهد بأن الجرائم تكثر في مصر فليس لها إلا أن تعمد إلى ما تقوم به البلاد المتمدنة فإن ترقية آداب مصر هي الدواء الناجع والحل الصحيح للمسألة المصرية.
معجم البلدان
ظهر الجزء الثامن من معجم البلدان لياقوت الحموي الذي طبعه في مصر الأديب محمد أمين أفندي الخانجي وشركاؤه فتم به الكتاب كله وهو الآن آخذ بطبع المستدرك عليه الذي سماه منجم العمران وقد عني بتصحيحه الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي فجاء سليماً من الغلط على الجملة ولاسيما في المحال التي عثر فيها على أصل صحيح يرجع إليه مثل نسخة وستنفيلد المطبوعة في ألمانيا وغيرها من المخطوطات وإنا لنثني أطيب الثناء على الطابع الأديب وهو يطلب من مكاتبه في مصر والأستانة وتونس وغيرها وثمنه ثمانون قرشاً وبعد إنجاز طبع الملحق مائة قرش وهو رخيص جداً إذا قيس(12/54)
بالطبعة الأوربية التي نفدت أو كادت أو إذا حسبت أكلافه ونفقاته.
تاريخ الأندلس
وهو المسمى بالمعجب في تلخيص أخبار المغرب للشيخ الحافظ الفقيه محيي الدين المراكشي وهو الكتاب الذي تكلمنا عنه مطولاً في الجزء التاسع من المقتبس وبينا فوائده وجودة تأليفه بتطويل طبعه في مصر هذه الآونة الأديب محمد أفندي هاشم الكتبي على النسخة المطبوعة في أوربا فجاء في 250 صفحة صغيرة جيدة الطبع حرية بأن يصحبها المرء معه في خلواته ويقرؤها في سمره ومتنزهاته وقد رخص ثمنها فجعله ثلاثة قروش صحيحة بعد أن بيعت الطبعة الأوربية بأربعين فنحت كل أديب على مقتناه ويطلب من طابعه في دمشق ومن أكثر مكاتب القاهرة.
مرآة علوم
هي مجلة علمية صناعية أدبية اجتماعية صدرت هذا الشهر في القاهرة باللغة التركية يحررها زمرة من رجال الأدب والفضل منهم رفيق بك العظم وحقي بك العظم والدكتور عبد الله بك جودت وعبد الحميد أفندي الزهراوي ويوسف سامح بك وكمال بك وغيرهم وقد أنشؤوها إجابة لطلب بعض عقلاء مسلمي قازان في روسيا ممن رأوا أن أحسن واسطة للتمدن أن يتعلموا اللغة التركية الحديثة ويتخلصوا من لغتهم الرديئة الجنتاي القديمة. وقد تلونا فيها أبحاثاً ممتعة منها بعد المقدمة اللطيفة مقالة في جزائر الكومور وسكانها المسلمين. وخلاصة تاريخية في الإسلام والمدنية ونبذة من كتاب روح الأمم معربة عن الفرنسية. ودليل مصر. ومقالة طبية ثم باب الاختراعات والأدبيات وقيمة الاشتراك بها 40 قرشاً أميرياً فعسى أن ينتفع بها من أنشئت لأجلهم وعساها تأخذ بأهداب الحزم والصبر وفق الله القائمين بها خدمة للعلم والحضارة.
روايات ورسائل جديدة
(بديعة وفؤاد) مؤلفة هذه الرواية الكاتبة الأديبة العقيلة عفيفة كرم من الأدبيات السوريات في الولايات المتحدة وقد نشرت من قلمها فصولاً كثيرة في التهذيب والانتقاد والإصلاح في جريدة الهدى اليومية الغراء في نيويورك وكتبت هذه الرواية اللطيفة وجعلت نصب عينها ما ترمي إليه في كتاباتها من إنهاض شأن المرأة وتهذيب الرجل وهي تقع في 368 صفحة(12/55)
متوسطة مطبوعة طبعاً جميلاً على ورق جيد في مطبعة الهدى وقد جعلتها هدية لكل سيدة مشتركة في الهدى وما يباع منها يصرف في سبيل الإحسان بعد توفية نفقات الطبع ولاشك أن إنشاء الكاتبة وفكرها يتحسنان بكثرة تمرينها على ما وقفت نفسها عليه أكثر الله من أمثالها في مجتمعنا العربي.
(رواية آخر الليل) عربها الأديب ركاردو حبيب صلبان وطبعت على نفقة إدارة الهلال وهي أدبية غرامية في زهاء ثمانين صفحة وتطلب من مكتبة الهلال.
(المنظمات الجميلية الشطية) هي كراسة من منظومات الأديب مكرمتلو محمد جميل أفندي الشطي وأهدانا الأديب الموما إليه جدولاً له في الفرائض فنثني على نشاطه.
(الطفل المفقود) أهدتنا مجلة مسامرات الشعب رواية الطفل المفقود لواضعها الكاتب الفرنسي مكسيم ويلمر ومعربها الكاتب الشاعر البليغ نقولا أفندي رزق الله وهي كسائر ما نقلته يراعة المعرب الفاضل من الروايات الحسنة الأدبية التي تجمع بين الفائدة والفكاهة وإنا لنثني على صاحب المسامرات الفاضل فإنه لا يألو جهداً في تحسين مشروعه الأدبي فلا غرو بعد هذا إذا لقي إقبال قراء العربية والبضاعة تباع مهما بلغ الكساد.(12/56)
سير العلم
تسميم المأكولات
نشرت المجلة الفرنسية بحثاً في كيفية تسميم المأكولات والمشروبات في فرنسا ودخول الغش على الحاجيات كاللبن ومزجه بالماء وتزبده (قشه) والخمر وشوبه والجعة واتخاذ المواد الرديئة في صنعها وخمر التفاح والشوكولا واللوز الهندي والقهوة والشاي والمياه المعدنية وهذه أقرب جميع المأكولات والمشروبات إلى الغش والتدليس وكذلك السمن والدقيق والخبز وشحم الخنزير وزيت الزيتون واللوبياء والفلفل وغيرها من الأدوية والعقاقير.
الجرائد في اليابان
في طوكيو عاصمة اليابان 16 جريدة يومية ومعدل ما يطبع من كل منها اليوم 35 ألف نسخة ومجموع ذلك 550 ألفاً وليست تأثيرات الجرائد في اليابان كتأثيراتها في أوربا والكتاب هناك لا يتوقعون مما يكتبون إلا إرضاء قرائهم.
مستقبل اليابان
روت بعض مجلاتهم أن مستقبل اليابانيين لا يتوقع من رجال حكومتها ولا من رجال الحرب فيها بل من رجال الأعمال فيها فإنهم أدوات الحضارة يمهدون لها السبل بالبحث عن الطرق التي تغني البلاد من الوجهة الاقتصادية ولذلك أسست منذ ثماني عشرة سنة مدرسة تجارية في كيوجيجوكو فتخرج فيها حتى الآن نحو ألف تلميذ انتشروا في أطراف البلاد اليابانية. وقد زعمت المجلة بأن اليابان لا تكون دولة عظمى إلا إذا تحولت بالتدريج إلى أن تكون المركز الصناعي والتجاري في الشرق الأقصى.
فلسفة سبينوزا
بحث عالم في إحدى المجلات العلمية في فلسفة سبينوزا القائل بأن الله واحد أحد يحل في كل الكائنات فقال إن فلسفته أثرت في ألمانيا فقال بقوله الفلاسفة لسينغ وهردير وشيلرماشير وهيكل وكيتي وهين وأن كولريج ووردسورت وهربرت سبنسر في إنكلترا اسحبوا على منواله وإن فيكتور كوزين من حكماء فرنسا أحيا فلسفته أيضاً في بلاده.
خطوط لندن تلفون(12/57)
بلغ طول أسلاك الندى في العالم المتمدن زهاء خمسة ملايين وربع من الكيلومترات منها 1. 534. 000 في ألمانيا و623. 487 في فرنسا و1. 313. 000 في إنكلترا و200. 000 في سويسرا و138. 000 في روسيا و92 ألفاً في نروج وما بقي موزع على سائر الأمصار والأقطار.
نهضة الطليان
كتبت في العهد الأخير رسائل وكتب كثيرة في نهضة الإيطاليين ونظر إليها المفكرون من الأمم نظر الإعجاب ونظر إليها بعضهم نظر الحسد ومما قيل فيها أن الشمال من شبه جزيرة إيطاليا هو موطن الحركة الاقتصادية كما كان في السالف منبعث القوة والوحدة الإيطالية وإن ليس كمثل حركة الاجتماع بإيطاليا في سائر أقطار المعمور.
قضبان الحديد
معروف أن الخطوط الحديدية قلبت نظام العالم بسرعة النقل وسهولته ولقد كان يستعمل منه لأول أمرها ما حسن وما لا يحسن من القضبان أما الآن فقد انصرفت العناية إلى استجادة أنواعها والاستعاضة عن القديم منها بأحسن منه جديداً. وقد كانت الولايات المتحدة من أكبر الدول المكثرة من استعمال القضبان الحديدية لأن خطوطها طويلة جداً وكانت معاملها تصنع بقدر ما يصنع في نعامل العالم كله على وجه التقريب فلم تكن زنة ما استعملته الولايات المتحدة سنة 1878 من القضبان سوى نصف مليون طن فأصبح اليوم ثلاثة ملايين ونصفاً وقد زاد في الخمس عشرة سنة الأخيرة ثلاثة أضعاف فكان مجموع ما صرفته من الحديد لقضبان السكك الحديدية من سنة 1870 إلى سنة 1895 58 مليون طن أما ألمانيا وإنكلترا وفرنسا فإنهما بعد الولايات المتحدة في ما تخرجه معاملهن من القضبان ولكن النسبة بعيدة بينهن وبين الولايات المتحدة وكذلك الحال في كندا وإيطاليا واليابان والصين.
العانسات العاملات
نشرت إحدى الكاتبات في مجلة علم الاجتماع الدولية مقالة ضافية في حال المرأة البرتغالية فقالت أنها تشبه القاصر الذي هو لا يزال تحت وصاية مووليه وإن المرأة المتزوجة التي(12/58)
ليس لها ثروة خاصة بها لا يصح لها أن تدعي أنها ربة البيت التي هي فيه. ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن في فرنسا 2. 622. 170 امرأة لم تتزوج بقين عانسات في بيوتهن على حين جاوزن الحادية والعشرين من العمر وإنه يمكن أن يكون في البرتغال نحو مليونين وقد شوهد أنه تكاثر في المدة الأخيرة عدد النساء اللاتي أخذن ينهلن على المدن البرتغالية يطلبن الاستخدام والامتهان بالحرف.
آلة الاقترع
هي آلة اخترعها أحد الطليان وعرها في ميلان أمام جمهور من الناس دعاهم ليبدوا آراءهم فيما إذا كان الأولى الإكثار من الجيوش والعدد أو الإقلال منها فيعرف بواسطتها عدد الموافقين وعدد المخالفين لهذا الرأي ولهذه الآلة مزية على الآلة المستعملة اليوم في الانتخابات لأنه لا يتيسر بها الغش ولا التدليس. فآلة البسوفوغراف تنفع كثيراً في دور الندوة ومجامع الأمة والمؤتمرات والمجتمعات على اختلاف أنواعها إذا قضت الحال أن يؤخذ قرار المجتمعين بعد المفاوضة بينهم. وربما استعملت في المخازن لتعداد الداخلين والخارجين منها كما تستعمل في الطرق العامة لإحصاء أبناء السبيل والعجلات الذاهبة الجائية وغير ذلك.
ارتقاء أمريكا
كتب أحد المفكرين في مجلة المجلات النيويوركية فصلاً عدد فيه ما تم في الولايات المتحدة من أسباب الحضارة والعمران. قال وعلى من أراد أن يدرك مقدار ما بلغته أمريكا من الارتقاء الاقتصادي الغريب أن لا يحسب بالملايين بل المليارات فإن الربع الأخير من القرن السالف كان أنجح دور في التاريخ الأمريكي ظهرت فيه غرائب وعجائب في كل فرع من فروع الأعمال. فبفضل توفر أسباب الري وإنشاء الخطوط الحديدية وكثرة استخراج الجديد من مناجمه الذي يبلغ نصف ما يستخرج في جميع العالم ارتقت الزراعة ارتقاءً لا مثيل له في أدوار الأمم. وكل هذا ليس بشيء إذا قيس لما تتوقعه البلاد في المستقبل الباهر ولا سيما بعد أربعين سنة أيام يكبر أبناء اليوم فيصير أهل الولايات المتحدة مائتي مليون نسمة وهم.
إنشاء الحياة(12/59)
رنت الأندية العلمية بما عرضه المسيو ستيفان لدوك على مجمع العلوم الباريسي من أنه يستطيع إنشاء أحياء حبة حقيقية من جواهر جامدة وخلق نباتات ذات سوق وأوراق بوضع قطعة من السكر وسولفات النحاس في محلول معدني فتكبر وتنمو وتصير نبتة تامة وقد ردت عليه الجرائد العلمية فقالت أنه أوهم الحضور بأنه استطاع تأييد مدعاه الذي قالوا أنه أصعب من الحصول على حجر الفلاسفة على حين انطلى على بعض البسطاء فتناقلوه وعدوه صحيحاً.
قال المجلة لقد أعجب الناس لما قرؤوا صورة مدعاه في أعمال المجتمع ولم يروه يشير إلى ما قام به المسيو تروب الألماني عام 1865 و1867 من التجارب التي أدت إلى إنشاء نباتات حقيقية. وقد عد ما ادعاه هذا الباحث مثل حية فرعون وهي اللعبة التي يلعب بها الأولاد مؤلفة من شيءٍ من الزئبق إذا أشعلت انتفخت كالحية بعد أن كانت صغيرة الحجم وقال أحد أعضاء ذاك المجتمع متى حل الإنسان هذه المسألة يكون أخلق من الخالق وأقوى من الطبيعة كلها وأقدر من العالم اللامتناهي.
الإنكليزي والمطالعة
نشر أحدهم مقالة في حرب الكتب في إنكلترا قال فيها أن القارئ الإنكليزي من أطمح القراء في المطالعة وأن ميله إلى الإكثار منها يكاد لا يصدق وإن الإنكليزي ليطالع جريدة التيمس وهي تصدر في عشر صفحات وأحياناً في ست عشرة ولا تراه راضياً عن نفسه قانعاً بما أحرزه من الفوائد بل أن القوم لا يقبلون على مطالعة الموجزين في عباراتهم من المؤلفين بقدر إقبالهم على المكثارين منهم. فوالتير كوت تقرأ كتبه أكثر من هال كين وماري كورللي وفي المكتبة السيارة في لندن سبعة ملايين مجلد.
الأطباء اليوم
بحث أحدهم في مجلة المجلات الفرنسية في حالة الأغنياء منذ سبعمائة سنة ولا سيما الأطباء والجراحون وقابلها مع أهل طبقتهم في هذا العصر من الفرنسيين فقال أن الأطباء الأمراء كانوا يأخذون رواتب سنوية تختلف بين 2250 فرنكاً وهو المبلغ الذي كان يتناوله طبيب الكونت دي سافوا (1401) و22000 فرنك كانت مخصصة لجراح شال العاقل أما اليوم فإن الطبيب الباريسي الذي يطب القوم يعود ثلاثين مريضاً في اليوم فيكسب ثلاثين(12/60)
ألف فرنك في السنة أما كبار الأطباء في باريس وهم نحو أربعين طبيباً فيربح كل منهم من مائة ألف إلى مائتي ألف فرنك.
الحيوان والإنسان
أنشأت إحدى كاتبات لندن مقالاً فيما أرتاه الإنسان في الحيوان في جميع أدوار التاريخ وكيف احترم الأول الثاني أو ظلمه فقالت أن أبولونيوس دي تيان أقام الحجة على تضحية الحيوانات التي كانت شائعة في كل مكان على عهد الرسل. أما آباء الكنيسة فلم يجسروا على إلغاء هذه العادة وأقدم الفلاسفة على القول بعدم أذية الإنسان للحيوان لأن الخالق تعالى أنشأ الخلق الناطق وغير الناطق على حد سواء في العالم فقام سلس من فلاسفة القرن الثاني للميلاد وبلوتين الإسكندري من فلاسفة القرن الثالث وبورفير الإسكندري من أهل القرن الثالث أيضاً ونادوا بالرفق بالحيوان. ثم إن الكنيسة تلونت في الحكم على الحيوان فحكم مجمع ورمس علناً بالموت على النحل ولكنه أجاز أكل عسلها. وفي سنة 1379 حكم دوك بورغونيا بالموت أيضاً على خنزيرتين وخنزير. وللفيلسوف ديكارت الفرنسي ف القرن السابع عشر رأي في أرواح الحيوانات يعرفه من عرف فلسفته. ودافع شوبنهاور الألماني الحكيم عن الحيوانات وفضلها على الإنسان. ومنذ جاء داروين الإنكليزي وأعلن رأيه في النشوء والارتقاء أخذ الناس يعتبرون الحيوانات بأنها أخوتنا المنحطة عنا مقاماً ليس إلا.
بيوت العلم الأمريكية
نشر أحد المطارنة العلماء رحلته إلى أمريكا في إحدى المجلات الألمانية فمما قاله فيها أنه دهش مما شاهد من الميل إلى الترقي الذي أصبح غريزياً في المجتمع الأمريكي كما أعجب بكثرة المدارس والكليات الجامعة المنتشرة في كل صقع وبلدة وقرية في الولايات المتحدة وكل ذلك مما يلفت الأنظار ويأخذ بمجامع القلوب والأبصار. فإن كليتي يال وهارفرد مثلاً هما في الحقيقة مدن حقيقية فيهما معامل كيماوية من أحسن ما يتصور العقل وأدوات وآلات في كل ضرب من ضروب العلم والصنائع وخزائن كتب لا نظير لها وقال أن أساتذة المدارس الابتدائية ليسوا قساة جفاة ذوي هيئات مرعبة يضعون على عيونهم المناظير ويخيفون الكبير والصغير بل هم نخبة من الفتيان امتلأت أجسامهم نشاطاً(12/61)
ووجوههم بشاشة. وإن صوت النساء اللاتي تعلمن على مثال تعليم الرجال أخذ يرن في جميع المناقشات العامة.
الأديان والآداب
كتب عالم في مجلة الإصلاح الاجتماعي بحثاً تساءل فيه عما إذا كان يتأتى لأمة أن تكون آدابها سالمة من الشوائب عندما تلغي حكومتها الأديان فأثبت بأنه كلما قل التدين واضمحل الاعتقاد بالأديان تضعف الآداب على نسبة تلك القلة وتنحط الأخلاق انحطاطاً محسوساً.
الرياضة البدنية
بحث أحدهم في تربية الأمة تربية طبيعية فقال أن اليابان قد قوي جنسها بتمريناتها العضلية المعروفة عندها باسم جيوجيتسو وإن السويد أدركت ما يتهددها من أخطار المشروبات الروحية فقاومتها وأخذت في الإكثار من الرياضات البدنية فعاد إلى الأجسام نشاطها بعد أن كادت تفقده وهكذا كل أمة تريد أن تتربى التربية الطبيعية ينبغي لها أن تكثر من أنواع الرياضيات وتمتنع عن الموبقات والمسكرات.(12/62)
خاتمة السنة الأولى
نحمده تعالى على أن هدانا للجري على الخطة التي وضعناها منذ البداية بهذا العمل العلمي وأن حقق آمالنا فيما قصدنا إليه من السعي في سبيل الإفادة والاستفادة فجاء ما كتبناه ونشرناه ما ترى لا ما يجب أن ترى. وإنما هي سنة الارتقاء تدرجنا فيها على ما اتضح ذلك للقارئ البصير ولا ملام على من بذل المجهود في درك المقصود.
ولقد لقي المقتبس من الإقبال عليه ما لا يستحقه وصادف من المنشطات ومؤازرة العلماء والأدباء الباحثين ما قوي به عضده وزنده ولكنه استفاد في الأغلب من نقد الناقدين والمستهجنين أكثر من تقريظ المقرظين واستحسان المستحسنين وصديقك من صدقك لا من صدَّقك.
وهنا نثني أعطر الثناء على تلك الفئة العاملة التي جادت على المقتبس بأفكارها وأبحاثها واتخذته مباءة لأنفاسها الطاهرة ومثابة آدابها الباهرة ونتقدم إلى رصفائنا حملة الأقلام وقادة الصحافة في مصر والشام والهند وأمريكا وبعض المجلات العلمية في أوروبا لنشكرهم على ما يتفضلون كل شهر بكتابته على هذه الصحيفة والتنويه بها والدعوة إلى تناولها والنقل عنها ترغيباً وتحبباً.
كما نرفع عبارات الشكر لعمدة جمعية الشرق السورية في أومهانبراسكا من أعمال الولايات المتحدة لإقامتهم حفلة تذكارية للمقتبس في متنزه ماناوا على سبعة أميال من أومها في السادس عشر من شر أغسطس الماضي فخطبوا بما أملاه الإخلاص وحب التناصر وفاه صديقنا الفاضل الغيور يوسف أفندي جرجس زخم بما كان من بعض الأدلة على فضله وأدبه وكذلك إخوانه الفضلاء الذين أحيوا بعد شهرين ليلة أنس في محفلهم ووقف 24 مدعواً من أعضاء المحفل وشربوا نخب صاحب المقتبس وألقوا أبياتاً أبانت عن كرم شرقي ونفوس سامية.
والله نسأل أن يجعل عامنا الثاني أفضل من الأول ويوفقنا إلى خير الأعمال ويهديا من العلم الصحيح إلى أقوم سبيل إنه أكرم مسؤول.(12/63)
العدد 13 - بتاريخ: 15 - 2 - 1907(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم على ما أقبستنا من قَبَس العلم بنور العقل السليم. فكان أفضل ما صدر عن كرمك الجزيل وفضلك العميم. ونستهديك لساناً لا يحلو له إلا النطق بما يعتقد صحته بعيداً عن التزلف والتقية. وبياناً مؤيداً بأيدك ليجد سبيل القبول من قلوب البرية. اللهم وقفنا إلى معالجة سم الجهل الناقع. بترياق التعليم النافع والأدب الرافع. وحبب إلينا التواصي بالحق والإنصاف. وجنبنا مضالَّ الاعتساف ومزالَّ الخلاف. وأشرب أفئدتنا حب الإقرار بحسنات العدو قبل الصديق. وأصرفنا عن مزالق التدليس ومغامز التلفيق. وافتح مغلق عقولنا برحمتك لنهتدي بما اهتدى به البشر الناهض بفضل البحث والتنقيب من نور علومه. واشدد عزائمنا لقرن العلم بالعمل فتمتزج روحه بأجزاء نفوسنا وننتفع بحديثه وقديمه. رب نسألك أن تطبع هذه الأمة بطابع التسامح المقبول. وتبغض إليها التعصب المنبوذ المرذول. لتقبل الحكمة من أي وعاءٍ خرجت. ومن أي جو تنفست. وعن أي لسان انبعثت. ولا تكلننا إلى أنفسنا لئلا نضل ونشقى.
وبعد فقد قضى المقتبس عامه الأول وهو اليوم في فاتحة عامة الثاني يدبّ ويدرج. حرص - ولا يزال يحرص - على الانتفاع بنصح العقلاء. ونقد الجهابذة الفضلاء. وإرشاد المنزهين عن الأهواء. بما يؤهله إلى السير على سنة النمو والارتقاء. ولكل عمل عمره الطبيعي لا مندوحة من قضائه. والنتائج أبداً بالمقدمات مقرونة. وإذا جاز الفخر فيحق لهذه الصحيفة أن تفاخر بأنها قامت بمؤازرة العالمين والمفكرين. لا بمعونة الكبراء والموسرين. ولذلك فُرض عليها أن تشكر أيادي المتوفرين على إمدادها من معين دروسهم وأبحاثهم أضعاف أضعاف ما تشكر لغيرهم.
وستظل أبحاثها على ما كانت عليه مع إشباع الكلام أكثر من ذي قبل في معظم ما تخوض عبابه من الموضوعات وتنشر في كل جزء رواية أو قصة أو أفكوهة تروّح عن النفس بعد تلاوة العلميات والأدبيات وذلك عملاً بما اقتضاه منا جمهور من القراء. فنلتزم كل مرة فتح باب نفاضة الجراب وكنا نود أن لا نعود إليه مؤتمرين بأمر بعض الأكابر لولا أن ثبت لنا بالاختبار أن الجدَّ البحث لا يروج بين أبناء الغرب وهم في تهذيبهم واستنارتهم ما هم فما بالك في هذا الشرق وهو ما هو.
ومما وضعته هذه المجلة موضع العمل بعد الآن أن لا تعطي من عندها ألقاباً علمية وأن(13/1)
تقتصر على الألقاب الرسمية فتورد اسم المعاصر كما تذكر العالم الغابر وتدعو الشرقيَّ باسمه كما تدعو الغربيّ وفي ذلك تخفيف على القراء واقتداء بالقدماء من أسلافنا الأقدمين وحملة لواء العلم والحضارة من الغربيين المحدثين والله ولي الهداية.(13/2)
صدور المشارقة والمغاربة
قطب الدين الشيرازي
هو القاضي قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي كان إماماً مبرزاً في عدة علوم مثل العلم الرياضي والمنطق وفنون الحكمة والطب والأصول وله عدة مصنفات وفضائله مشهورة. كان مولده بمدينة شيراز في صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة وتوفي بتبريز سنة عشر وسبعمائة فتكون مدة عمره ستاً وسبعين سنة وسبعة أشهر ملخصاً عن تاريخ أبي الفدا وقال ابن الوردي أنه توفي وهو في عشر الثمانين وكان غزير العلم واسع الصدر حسن الأخلاق وجيهاً عند التتر وغيرهم ثم قال في رثائه:
لقد عدم الإسلام حبراً مبرزاً ... كريم السجايا فيه مع بعده قرب
عجبت وقد دارت رحا العلم بعده ... وهل للرحا دور وقد عدم القطب
وقال الشيخ طاهر الجزائري في كُنَّاشه وقفت على كتاب من تراجم أناس من المشهورين جمع الإمام العلامة نجم الدين أبي الخير سعيد بن عبد الله الدهلي البغدادي وفيه ترجمة القطب الشيرازي وهي ناقصة في النسخة فأثبتها على ما وجدتها اعتناءً بهذا العلامة الأوحد: ومنها كتاب أقليدس وهو باللغة الفارسية أيضاً صنفه باسم البرواناه وزير الروم ومن جليل مصنفاته شرح كليات القانون في الطب لابن سينا وهذا الشرح لم تسمح قريحة بمثله لأنه يشتمل على خلاصة الشروح المصنفة لهذا الكتاب وهي عشرة شروح اجتمعت عنده مع تنقيحات لطيفة وزيادات غريبة من نتائج خاطره الغزيرة من كتب عزيزة الوجود قد لا يوجد مثلها إلا في خزائن الملوك وسماه التحفة السعدية يعني باسم الوزير سعد الدين محمد الساوجي وزير الملك غازان وبعده أخيه (كذا) خربنده واتفق أن هذا الكتاب تم شرحه وسيره إلى الوزير المذكور وفي أثناء هذه الحال توفي الشيخ قطب الدين ووقع الترسيم والتوكيل على الوزير المذكور وطولب بالأموال وذلك في أذربيجان سنة عشر وسبعمائة وقصد خربنده العراق والوزير صحبته لتحصيل المطلوب منه إلى أن قتله ليلة السبت حادي عشر شوال سنة إحدى عشرة بمحول قريب بغداد ومع ما كان فيه هذا الوزير من المضايقة رسم لقطب الدين جائزة هذا الشرح مبلغ ستة آلاف دينار رائج عنها من الدراهم ستة وثلاثون ألف درهم وراجعوا الوزير سعد الدين في ذلك وعرفوه بوفاة الشيخ قطب(13/3)
الدين فقال الوزير أنا لا أعود في هبتي وخصوصاً لمثله وفي مثل كتابه فأحضر جميع المال المذكور وجمع له أرباب الديون فقضى عنه ما كان عليه من الديون القديمة والحديثة التي كانت قد اجتمعت عليه مدة المرض وكان قد بقي مريضاً أحد وخمسين يوماً وكان معظم نفقته في هذه العلة الصدقة على الفقراء وعلى طلبة العلم وبقيت من المال بقية وزعت على أولاده وخاصته وكان هذا الوزير قد أنعم بهذه الجائزة وهو يومئذ تحت التوكيل وهو مطالب بألف كومار من المال منها عشرة آلاف دينار روائج فانظر إلى علو همة هذا الرجل وسعة نفسه وصدق اعتقاد. . .
وكان له مع المشايخ الصالحين والصوفية المحققين اتصال حقيقي ونفس روحاني يرتاح إليهم في أوقات خلواته وصفاء مشروباته قال: وقد لازمت ذراه المحروس ثماني عشرة سنة فشاهدت معظم سيرته تشتمل على الأخلاق الشريفة والفضائل الكاملة مع السخاء المفرط. كان لا يبقي على شيء مما يحصل بيده لا في سفر ولا في حضر وكان أكثر عطائه للفقراء وطلبة العلم وذوي البيوت القديمة وذوي الحاجات قال ولقد حضر عنده في بعض الأيام مائتا دينار فبلغه أن صفي الدين عبد المؤمن بن فاخر صاحب الموسيقا قد قدم من بغداد لضرورة ديون عليه قد غلبته فقال هذا من بيت له خدمة قديمة للخليفة العباسي فبعث إليه بالمبلغ المذكور واعتذر إليه أنه لم يكن عنده في هذا الوقت غير هذا المقدار. قال: وكان يقول في مرض موته ليست فائدة المهلة في حياتي إلا لأعطي الفقراء شيئاً فكان مصمماً على العطاء والإحسان وفعل الخير إل أن صار إلى أحسن مصير. قال وكان في أسفاره يصحبه من التلاميذ جماعات وخصوصاً في أيام توجهه إلى خراسان والروم فلقد اجتمع معه في سفره إلى الروم نحو الأربعين طالباً وغالبهم أرباب فضائل وعلوم راسخة وكان يخدمهم بالمال والنفس والعلم وكانوا مع هذا يتقصونه وما يفعله معهم من الخدمة والخير ويقولون هذا الرجل متطفل علينا لأن الناس إنما يخدمونه ويعطونه الأموال لأجلنا ونحن الذين نشيد كلمته ونظهر فضيلته ونجمله بين الناس. قال وكان يبلغه هذا وأمثاله عنهم فلا يغضب ولا يلتفت إلى قول القائل إليه ذلك ويقول: أنا أريض أخلاقي بالصفح عن زلات إخواني إلي.
وقال الأربلي: وأخبرني الشيخ ضياء الدين الطوسي قال: اجتمعت بقطب الدين الشيرازي(13/4)
بقزوين وهو يقرأ الفقه على الشيخ علاء الدين الطاووسي صاحب التعليقة قال فسألته عن بعض أحواله فحكة لي اشتغاله بالطلب وأنه ترك معالجة الناس وخرج من شيراز وقصد بلاد خراسان وأنه توفر مدة سنين على تحصيل علم المعقولات من علم الكلام قال وقال لي ما وجدت نفسي في عمري متوفراً على طلب العلم لم اشتغل بسوى (كذا) هاتين السنتين هما كانتا خير تحصيل حصل فيهما من العلوم النظرية ما أحياني لكني غير عالم بالفقه فقصدت الشيخ علاء الدين الطاووسي لأقرأ عليه الفقه فقرأت عليه الحاوي الصغير وكتاب الوجيز وكانت للشيخ علاء الدين نسخة من الوجيز محشاة بالفوائد اللطيفة من الفقه فسرقها وهرب من قزوين قال: وهكذا كانت عادته إذا أعجبه كتاب يتحيل حتى يسرقه وكان مشتهراً بين طلبة العلم في مبادئ أحواله بهذا الوصف قال وطلب علاء الدين نسخته فلم يجدها فقالوا لم يكن عندك غير محمود الشيرازي فقال ليس هو آخذها وقال لي مهذب الدين الشيرازي أحد تلاميذ قطب الدين إن قطب الدين كان يلقي الدروس من هذه النسخة بمدينة سيواس ويقول هذه النسخة سرقتها من شيخي علاء الدين الطاووسي بقزوين في مبدأ تحصيل العلم وكنت عاجزاً عن مشترى الكتب.
ولما عمر ملك خوارزم نلك مارستاناً أنفذ الشيخ قطب الدين إليه برسم هذا المارستان كتباً طبية قيمتها بالتقريب أربعة آلاف درهم فأجازه بجائزة تشتمل على رقيق قماش ونقد قيمة الجميع ستة وثلاثون ألف درهم. وصنف كتاباً باسم الملك عز الدين ملك شيراز في علم الأخلاق والحكمة فأجازه ببغلة سنية وآلاتها ومعها ثلثمائة مثقال ذهباً وتخت قماش ذكر هذا وما قبله الأربلي قال: وكنت بماردين فسير لصاحبها الملك المظفر هدية تشتمل على مملوك صغير تركي وآخر رومي وتخت قماش منوع من الحرير وسجادة وكتاب صغير من تصانيفه فرد الملك المظفر الجميع وقبل السجادة والكتاب وأجازه عليهما باثني عشر ألف درهم وقال: هذا القدر هو الذي ينبغي أن يقبل من العلماء إما كتاب من فوائدهم وإما خرقة من بركاتهم. ولم يحمل؟ إلا في دملة غازان فإنه كان بينه وبين رشيد الدولة كراهية في النفوس بين الشخصين لأن قطب الدين كان يتنقص كثيراً برشيد الدولة وبتصانيفه ويستجهله ويحط عليه.
وقد صنف تصانيف في تفسير الكتاب العزيز وفي غيره وكان قطب الدين يظهر نقصها(13/5)
ويكشف عن عورتها قلت ولقد حدثني بعض شيوخنا عن قطب الدين أنه لما بلغه أن الرشيد قد شرح القرآن العظيم قال لأصحابه ايه هاتوا التوراة حتى أشرحها قال الأربلي وتمكن رشيد الدولة من دولة غازان فأشاع أنه يريد أن يقتل قطب الدين ثم ظهر أنه قتله بقطع رزقه الذي كان مقرراً على الدولة ومبلغه ثلاثون ألف درهم فقلل لغازان هذا الرجل فقيه ايش يعمل بهذا المال كله هذا تضييع هذا يكفيه اثنا عشر ألف درهم وكان غازان بخيلاً فأصغى إلى قول رشيد الدولة وقطع سائر ما كان لقطب الدين من المبلغ المذكور وبعد مدة طويلة سعى فيه حتى أطلق له في كل سنة اثنا عشر ألف درهم قال: وكان قطب الدين قد بيت مع رشيد الدولة وعجز عن تلافي ما أفسد وعجز عن رضاه قال لكن كان قطب الدين سعيداً في عقله وعمره وتصانيفه وأصحابه فما أثر ذلك عنده شيئاً لكنه كان خائفاً لأن يسعى رشيد الدولة في قتله فآمنه الله تعالى منه قال الأربلي وأخبرني التاجر الشفار قال ولما تطاولت علة الشيخ قطب الدين الشيرازي وأحس بالموت طلب إليه الصدر زين الدين علي بن فخر الدين بن عبد السلام الطيبي وقال له يا خواجه زين الدين أريد من أنعامك أن تتولى أمر تجهيزي ودفني فإني ما رأيت أن أضع هذه المكرمة إلا عندك لأني شاهدت رغبتك في فعل الخيرات والمبرات فأجاب زين الدين بالسمع والطاعة قال ولما توفي قطب الدين أنفق زين الدين على جنازته وتجهيزه ودفنه وأيام العزاء سبعة آلاف درهم ومائتي درهم ومن ذلك أنه اشترى سبعة آلاف ذراع قماش قطن أبيض وفصلها قمصاناً وعمائم للأيتام والأرامل وألبسها سبعمائة إنسان من الفقراء والتلاميذ اللائذين بقطب وطائفة من الأيتام والأرامل فكانوا بين يدي الجنازة يبكون ويندبون وجلس مدة أيام العزاء للناس والتزم إطعامهم ومهامَّهم وما هو من كلف العزاء لمثل هذا الميت. قال الصدر شمس الدين: وما رأيت أحداً من الرؤساء أطول من نفس قطب الدين الشيرازي في الشفاعات لذوي الحاجات وذوي السلطان كان إذا جلس إلى أمير أو وزير أو قاض يخرج أوراقاً من جيبه نحو عشرين أو ثلاثين قطعة ويشفع في الجميع وكان غالبتها يقضى وما يرد إلا القليل وكان كثيراً ما يشاهد من الأمراء والأكابر مللاً من كثرة شفاعاته فلا يلتفت إلى ذلك الممل ولا يترك تردده إليهم ويقول ولأي شيء خُلقوا وخُلقنا وما نفعنا بالجاه إذا لم نقض حاجات الناس إذا تركنا هؤلاء وسجاياهم لا يقضون حاجة المسكين أو عاجز محروم فنحن(13/6)
نسوقهم إلى فعل الخير قهراً وتحيلاً عليهم حتى يؤجروا ونؤجر نحن معهم ونقضي حوائج الناس الملهوفين العاجزين كان هذا دأبه يفعل غالب أوقاته الخير بجاهه وماله وعلمه رحمه الله.(13/7)
تسامح العظماء
يظن من لا عهد له بدرس مشاهير رجال الإسلام أنهم كانوا جبابرة لا يحسنون غير البطش والكر والفر على أن الباحث في سيرهم يراهم من أشد الأمم حرصاً على ما فيه قوام عمرانهم ولم يكن في قلوبهم غالباً شيء مما يقال له تعصب أو تحزب بل ساسوا رعاياهم سياسة العدل لم يحابوا ولم يداجوا فقدروا الكفاءات قدرها ولم يعتبروا في مصالحهم إلا أهل الغناء والعلم. وربما لا يصدق إلا غمار في هذه الإعصار لو قلنا لهم إن معاوية بن أبي سفيان اصطفى لنفسه ابن أثال النصراني من أطباء دمشق وأحسن إليه وكان كثير الافتقاد له والاعتقاد فيه. وصحب تياذوق الطبيب الحجاج بن يوسف الثقفي المتولي من جهة عبد الملك بن مروان وخدمه بصناعة الطب وكان يعتمد عليه ويثق بمداواته وكان له منه الجامكية الوافرة والافتقاد الكثير.
وخدم جورجس بن جبرائيل الخليفة المنصور وكان عظيماً عنده رفيع المنزلة ونال من جهته أموالاً جزيلة والمنصور هو الذي يقال له الدوانيقي لبخله. وخدم بختيشوع بن جورجس هارون الرشيد وتميز في أيامه وكان رئيس الأطباء كلهم في بغداد. وكان جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس حظياً عند الخلفاء رفيع المنزلة عندهم كثيري الإحسان إليه وحصل من جهتهم من الأموال ما لم يحصله غيره من الأطباء وكان مكيناً عند جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أحبه مثل نفسه وكان لا يصبر عنه ساعة ومعه يأكل ويشرب أعطاه الرشيد مرة من أجل مداواة إحدى حظاياه خمسمائة ألف درهم وأحبه مثل نفسه وجعله رئيساً على جميع الأطباء. وأمر له المأمون مرةً بألف ألف درهم وبألف كر حنطة ورد عليه سائر ما كان قبض منه من الأملاك والضياع وصار إذا خاطبه كناه بأبي عيسى جبرائيل وأكرمه زيادة على ما كان أبوه يكرمه وانتهى به الأمر في الجلالة إلى أن كان كل من تقلد عملاً لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى جبرائيل ويكرمه وكان عند المأمون مثل أبيه.
ووجد في خزانة بختيشوع بن جبرائيل مدرج فيه عمل بخط كاتب جبرائيل بن بختيشوع الكبير واصطلاحات بخط جبرائيل لما صار إليه في أيام خدمته الرشيد وهي ثلاث وعشرون سنة يذكر أن رزقه كان من رسم العامة في كل شهر من الورق عشرة آلاف درهم يكون في السنة مائة وعشرون ألف درهم في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفاً ألف(13/8)
وستمائة وستون ألفاً ونزله في الشهر خمسة آلاف درهم يكون في السنة ستون ألف درهم في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف وثلثمائة وثمانون ألف درهم ومن رسم الخاصة في المحرم من كل سنة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم ومن الثياب خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم. تفصيل ذلك: القصب الخاص الطرازي عشرون شقة الملحم الطرازي عشرون شقة الخز الصوري عشر شقاق الخز المبسوط عشر شقاق الوشي اليماني ثلاثة أثواب الوشي النصيبي ثلاثة أثواب الطيالسة ثلاثة طيالس ومن المسور والفنك والقماقم والدلق والسنجاب للقبطين. وكان يدفع إليه في مدخل صوم النصارى في كل سمة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم وفي يوم الشعانين من كل سنة ثياب من وشي وقصب وملحم وغيرهم بقيمة عشرة آلاف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة مائتا ألف وثلاثون ألفاً وفي يوم الفطر في كل سنة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم وثياب قيمة عشرة آلاف درهم على الحكاية يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة مائتا ألف وثلاثون ألف درهم.
ولفصد الرشيد دفعتين في السنة كل دفعة خمسون ألف درهم من الورق مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلثمائة ألف درهم. ولشرب الدواء دفعتين في السنة كل دفعة خمسون ألف درهم مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلثمائة درهم. ومن أصحاب الرشيد على ما فصل منه مع ما فيه من قيمة الكسوة وثمن الطيب والدواب وهو مائة ألف درهم من الورق أربعمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة تسعة آلاف ألف ومائتا ألف درهم. تفصيل ذلك عيسى بن جعفر خمسون ألف درهم زبيدة أم جعفر خمسون ألف درهم العباسة خمسون ألف درهم إبراهيم بن عثمان ثلاثون ألف درهم الفضل بن الربيع خمسون ألف درهم فاطمة أم محمد سبعون ألف درهم. كسوة وطيب ودواب مائة ألف درهم ومن غلة ضياعه بجندي سابور والسوس والبصرة والسواد في كل سنة قيمته بعد المقاطعة ورقاً ثماني مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ثمانية عشر ألف ألف وأربعمائة ألف درهم ومن فضل مقاطعته في كل(13/9)
سنة من الورق سبعمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ستة عشر ألف ألف ومائة ألف درهم وكان يصير إليه من البرامكة في كل سنة من الورق ألفا ألف وأربعمائة ألف درهم. تفصيل ذلك: يحيى بن خالد ستمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث عشرة سنة أحد وثلاثين ألف ألف ومائتي ألف درهم يكون جميع ذلك مدة أيام خدمته للرشيد وهي ثلاث وعشرون سنة وخدمته للبرامكة وهي ثلاث عشرة سنة سوى الصلات الجسام فإنها لم تذكر في هذا المدرج من الورق ثمانية وثمانين ألف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم منها خمسة وثمانون ألف ألف درهم ثلاثة آلاف ألف وأربعمائة ألف درهم.
التذكرة: الخراج من ذلك ومن الصلات التي لم تذكر في النفقات وغيرها على ما تضمنه المدرج المعمول من العين تسعمائة ألف دينار ومن الورق تسعون ألف ألف وستمائة ألف درهم. تفصيل ذلك ما صرفه في نفقاته وكانت في السنة ألفي ألف ومائتي ألف درهم على التقريب وجملتها في السنين المذكورة سبعة وعشرون ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم ثمن دور وبساتين ومتنزهات ورقيق ودواب والجمازات سبعون ألف ألف درهم ثمن آلات وأجر وصناعات وما يجري هذا المجرى ثمانية آلاف ألف درهم. ما صار في ثمن ضياع ابتاعها لخاصته اثنا عشر ألف ألف درهم. ثمن جواهر وما أعده للذخائر عن قيمة خمسمائة ألف دينار خمسون ألف ألف درهم. ما صرفه في البر والصلات والمعروف والصدقات وما بذل به خطه في الكفالات لأصحاب المصادرات في هذه السنين المقدم ذكرها ثلاثة آلاف ألف درهم. وما كابره عليه أصحاب الودائع وجحدوه ثلاثة آلاف ألف درهم. ثم وصى بعد ذلك كله عند وفاته إلى المأمون لابنه بختيشوع وجعل المأمون الوصي فيها فلسلمها إليه ولم يعترض في شيء منها عليه بتسعمائة ألف دينار. ولا عجب فيما قاله فثيون الترجمان أن جنس جورجس وولده كانوا أجمل أهل زمانهم بما خصهم الله به من شرف النفوس ونبل الهمم ومن البر والمعروف والأفضال والصدقات وتفقد المرضى من الفقراء والمساكين والأخذ بأيدي المنكوبين والمرهوقين على ما يتجاوز الحد في الصفة والشرح.
وبلغ بختيشوع بن جبرائيل من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من سائر الأطباء الذين كانوا في عصره وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرس وبلغ من كمال(13/10)
المروءة ومباراة الخلافة في الزي واللباس والطيب والفرش والصناعات والتفسيح والبذخ في النفقات مبلغاً يفوق الوصف وكان أيضاً لطيف المحل من المهتدي بالله وشكا إليه ما أخذ منه في أيام المتوكل لنكبة وقعت عليه من هذا لفرط إدلاله عليه فأمر أن يدخل إلى سائر الخزائن فكل ما اعترف به فليرد إليه بغير استئمار ولا مراجعة فلم يبق له شيء إلا أخذه وأطلق له سائر ما فاته وحاطه كل الحياطة.
وكان عبيد الله بن بختيشوع متصرفاً ولما ولي المقتدر الخلافة استكتبه لحضرته وبقي معه مديدة وصار ابنه جبرائيل من خاصة عضد الدولة بن بويه وكان يكرمه كثيراً ويغدق عليه المشاهرات ووصله الصاحب بن عباد بما قيمته ألف دينار وكان دائماً يقول صنف مائتي ورقة أخذت عنها ألف دينار يعني بذلك الكناش الذي وضعه بأمر الصاحب في الأمراض التي تعرض من الرأس إلى القدم.
وكان عيسى المعروف بأبي قريش صيدلانياً أكرمه المهدي مرة ولم يزل يطرح عليه الخلع وبدر الدنانير والدراهم حتى علت رأسه وكناه أبا قريش أي أبا العرب. وخلف اثنين وعشرين ألف دينار مع نعمة سنية. وكان عبد الله الطيفوري من أحظى خلق الله عند الهادي وزكريا بن الطيفوري كان من جماعة القائد أفشين كان منه إن امتحن الصيادلة في معسكره كما امتحن يوسف لقوة الكيميائي زمن المأمون صيادلة بغداد. وكان إسرائيل بن زكريا الطيفوري جليل القدر عند الخلفاء والملوك كثيري الاحترام له وكان مختصاً بخدمة الفتح بن خاقان بصناعة الطب وله منه الجامكية الكثيرة والأنعام الوافر. وكان المتوكل بالله يرى له كثيراً ويعتمد عليه وله عند المتوكل المنزلة المكينة وجد مرة على المتوكل لما احتجم بغير إذنه فافتدى غضبه بثلاثة آلاف دينار وضيعة تغل له في السنة خمسين ألف درهم وكان متى ركب إلى دار المتوكل يكون موكبه مثل موكب الأمراء وأجلاء القواد. وكان يزيد بن زيد بن يوحنا متطبب المأمون وخدم إبراهيم بن المهدي وله من الإحسان الكثير والأنعام الغزير والعناية البالغة والجامكية الوافرة. وتقدم سابور بن سهل عند المتوكل وكان يرى له وكذلك عند من تولى بعده من الخلفاء وكان عالماً بقوى الأدوية المفردة وتركيبها وكان موسى بن إسرائيل الكوفي متطبب إبراهيم بن المهدي. وكان سلمويه بن بنان متطبب المعتصم اختاره لنفسه لما استخلف وأكرمه إكراماً كثيراً يوفق(13/11)
الوصف وكان يرد إلى الدواوين توقيعات المعتصم في السجلات وغيرها بخط سلمويه وكل ما كان يرد على الأمراء والقواد من خروج أمر وتوقيع من حضرة أمير المؤمنين فبخط سلمويه وولى أخا سلمويه إبراهيم بن بنان خزن بيوت الأموال في البلاد وخاتمه مع خاتم أمير المؤمنين ولم يكن أحد عنده مثل سلمويه وأخيه إبراهيم في المنزلة وكان المعتصم يسميه أبي فلما اعتل سلمويه عاده المعتصم وبكى عنده فلما مات امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته وأمر بان تحضر جنازته الدار ويصلى عليه بالشمع والبخور على زي النصارى الكامل ففعل وهو بحيث يبصرهم ويباهي في كرامته وحزن عليه حزناً شديداً. وعالج إبراهيم بن أيوب الأبرش إسماعيل أخا المعتز وبريء فأجازته أمه والمتوكل بست عشرة بدرة وكان أخص المتطببين عند المعتز لما أفضت الخلافة إليه. وكان جبرائيل كحال المأمون يدخل إليه في كل يوم عند تسليمه من صلاة الغداة فيغسل أجفانه ويكحل عينيه فإذا انتبه من قائلته فعل مثل ذلك وكان يجري عليه ألف درهم في كل شهر.
وأجرى الرشيد على ماسويه أبو يوحنا ألفي درهم في الشهر ومعونة في السنة عشرين ألف درهم وعلوفة ونزل وألزمه الخدمة مع جبرائيل وكان لهذا في الشهر عشرة آلاف درهم ومعونة في السنة مائة ألف درهم وصلات دائمة وإقطاعات.
وخدم يوحنا بن ماسويه بصناعة الطب المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل وكان له منهم الأنعام الكثير والمنزلة السامية وله عليهم دالة الأقران على أقرانهم لا الخدم على مخدوميهم. وكان ميخائيل بن ماسويه متطبب المأمون وكان به معجباً وله على جبرائيل بن بختيشوع مقدماً حتى كان يدعوه بالكنية أكثر مما يدعوه بالاسم وكان لا يشر الأدوية إلا مما تولى تركيبه وإصلاحه له. وبلغ حنين بن إسحاق عند المأمون منزلة عالية لأنه كان رئيس جماعة التراجمة لعهده وكانت له الإقطاعات الحسنة والجواري الجيد والإحسانات الفائضة وزادت مكانته كثيراً بعد خروجه من المحنة التي ألحقها به أعداؤه وأمر المتوكل الأطباء الذين طلبوا قتل حنين وسعوا فيه لديه أن يحمل إليه كل منهم عشرة آلف درهم. وأمر أن يضاف إليها مثلها من خزانته فكان زهاء مائتي ألف درهم. قال حنين في كلامه على ذلك ثم أن الخليفة أمر بإصلاح ثلاث دور من دوره التي لم أسكن قط منذ نشأت في مثلها ولا رأيت لأحد من أهل صناعتي مثلها وحمل إليها سائر ما كنت إليه محتاجاً من الأواني(13/12)
والفرش والآلة والكتب وما يشاكل ذلك بعد أن شهد لي بالدور وتوثق بشهادات العدول لأنها كانت خطيرة في قيمتها لأنها تقوّم بألوف دنانير فلمحبته لي وميله إلي أن تكون لي ولعقبي ولا تكون عليّ حجة لمعترض فلما فرغ مما أمر به من الحمل إلى الدور وجميع ما ذكر وتعليقها بأنواع الستور ولم يبق غير المضي إليها أمر بحمل المال الضعف الكثير بين يدي وحملني على خمسة أرؤس من خيار بغلاته الخاصة بمواكبها ووهب لي ثلاثة خدم روم وأمر لي كل شهر بخمسة عشر ألف درهم وأطلق لي الفائت من رزقي في وقت حبسي فكان شيئاً كثيراً وحمل من جهة الخدم والحرم وسائر الحاشية والأهل ما لا يمكن أن يحصى من الأموال والخلع والإقطاع وحصلت وظائفي التي كنت آخذها خارج الدار من سائر الناس آخذها من داخل الدار وصرت المقدم على سائر الأطباء.
وخدم يوحنا بن بختيشوع بصناعة الطب الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل وكان يعتمد عليه كثيراً ويسميه مفرج كربي. وحظي بختيشوع بن يوحنا من الخلفاء وغيرهم واختص بخدمة المقتدر بالله وكان له منه الأنعام الكثير والإقطاعات من الضياع وخدم بعد ذلك الراضي بالله فأكرمه وأجراه على ما كان باسمه في أيام أبيه المقتدر.
الباقي للآتي.(13/13)
النعام في الحضارة المصرية
عن مجلة الطبيعة الفرنسوية
النعامة أعظم الطيور وأضخمها يبلغ علوها نحو مترين ووزنها أربعين كيلوغراماً أحياناً. سمعها دقيق ونظرها حاد وحاسة الذوق والشم فيها غليظة بحيث لا تتخير غذاءها وقلما تميز بين جيده ورديئه. فهي وإن تكن من الحيوانات آكلة العشب تخضم أغذية نباتية وتحتك بكل ما يقع نظرها عليه من حديد وقرمد وخشب وتصدمه حتى يكاد يتناثر. ساقاها مستويتان مستطيلتان متينتان حتى أنها لتقطع نحو 280 كيلومتراً في أقل من عشر ساعات فتبذُّ بذلك الصافنات الجياد في حلبة الطراد. وريش جسم ذكر النعام أسود فاحم وريش الأجنحة والذنب أبيض وعنقها أجرد لا ريش له وهو أحمر كساقيها وعينها زرقاء ومنقارها أصفر ورجلاها سنجابيتان وهي كالجمل تنزل المناطق الحارة المنعزلة عن الناس.
عرف القدماء النعام وورد ذكرها في التوراة أكثر من مرة وسماها اليهود ابنة الصياح وكثيراً ما تزعق في المطارح النائية الواسعة في ظلمات الليل وتنخر نخيراً ممزوجاً بعويل محزن يرمض القلوب ويجلب الكروب. وهي من البلاهة بحيث لا يضاهيها حيوان حرمها الخالق تعالى من الحكمة ولم يجعل لها حظاً من الذكاء كما ورد في التوراة. ويذكر بلين أن الصيادين يضطرونها إلى أن تقبع رأسها وتخفيه ظناً منها بأن لا يراها أحد ومتى طاردها المطاردون تستخدم رجليها بمثابة مقلاع وترمي بهما أحجاراً بغلظ الكف.
هذا الطائر مشهور منذ القرون العريقة في القدم ويبيض في الرمل ولا تحضن أنثاه بيضها إلا من الليل لأن حر النهار ينقفها. وإنك لتراها إرسالاً وعصائب على مقربة من الواحات في رمال أفريقيا وبلاد العرب وتُرى في الصحراء من جبال الأطلس إلى ضفاف النيل وفي رمال صحراء ليبية ومصر الوسطى وفي القفر الواقع في الجنوب الغربي من الإسكندرية.
رأينا النعامة مرسومة في مصانع الفراعنة والحبشان آخذين بزمامها وقد لزَّت في قرن مع الأسود والفهود وغيرها من حيوانات تلك الأرجاء. ويروى عنها في أساطير الأولين روايات من مثل اختيارها دون سائرا لحيوانات لإنقاذ إله الخمر لما ذهب هذا إلى الهند(13/14)
على رأس جيشه الجرار مجتازاً صحاري ليبيا حتى إذا اشتد به الظمأ استغاث بالمشتري فدله على نعامة فتبعها حتى قادته إلى مكان حفرت فيه الأرض بمنقارها فنبضت منها عين.
ولما كان الصيادون يطاردون النعام مطاردة شديدة وكثيراً ما كانوا يلبسون جلودها ويقلدونها في حركاتها فيقتربون منها ويباغتونها. يستعملون لحمها غذاء لهم ويستخدمون جلدها تروساً أو ثياباً أو مضاجع وفرشاً. وإذا تمكنت النعامة من صيادها نفثت فيه سماً قتالاً وعضته عضة يقاسي منها أنواع الألم فلا تكون عاقبتها عليه سوى الموت. أما توم (بيض) النعامة فكان الصيادون يأكلون ما في داخلها فإذا أتوا عليه يستعملون القشرة أقداحاً وأكواباً وإذا رأوها ضخمة يقسمونها شطرين يكونان قبضتين لرجلين يستران بهما رأسيهما.
ومازال بعض السكان في أفريقيا إلى يومنا هذا يقتاتون من لحم النعامة وشحمها وتومها ويبيعون ريشها أو يستخدمونه زينة لرؤوسهم. ويستخدم النعام لحمل الأثقال. وشاعت عادة ركوب النعام في القديم كل الشيوع. ويؤخذ مما قاله بوزانياس القائد الإسبارطي المشهور (477 ق. م) أنه رئي على جبل هيليكون من بلاد اليونان تمثال لارسينوي الأميرة المصرية التي تزوجت بطليموس محمولاً على نعامة من النحاس. ويقول اتينيه الكاتب اليوناني الذي جاء في القرن الثالث للمسيح أنه كان في الاحتفال بظفر فيلادلف الذي قام في الإسكندرية ثمانية قطارات من النعام في كل قطار نعامتان وقد رُسمت صورة جماعة يتعاطون الشراب مرسومة على كوب وفيها ست نعامات يركب متونها فتيان ويسير أمامهم رجل مستور الوجه ووراء هم موسيقار يمشي الهوينا ضارباً بمزماره.
ومما يقصونه من الأخبار عن فيرموس ماركوس الجبار المصري أنه كان يركب نعاماً ضخمة ويستوي على ظهورها فتنساب به انسياباً سريعاً حتى كنت تخاله يطير وكان أكولاً يطعم كل يوم نعامة. وذكر أن هليوكابال الإمبراطور الروماني وضع مائدته ستمائة مخ نعامة. وكان موسى على العكس يكره لحم النعام وحظر على بني إسرائيل استعماله. واستعمل النعام في نينوى صوراً لطيفة في الثياب المطرزة والمشالح الآشورية. وفي بعض النقود الرومية صور مقلوبة تمثل نعامة تسير إلى الشمال والكلب يهم بها. وفي صور قدماء المصريين أشياء كثيرة تدل على استخدامهم النعام في كثير من المهام.(13/15)
ورد في كتب التاريخ أقاصيص عن حسن تخلص النعام في الحروب مما يرجع الفضل فيه لشكلها لأنها تشبه الطائر وتشبه ذوات الأربع ولها من كل فصيلة من هذه الفصائل أحسن ما فيها. وكان لريشها أثر وأي أثر في أساطير وادي النيل لم يصل إليه الجعلان ولذلك نرى من جملة الجُزى التي كان الفراعنة يضربونها على سكان الحبشة جزية وافرة من الريش وبيض النعام زيادة على ما كانوا يفرضونه عليهم من خرائط التبر.
يقول هورابولون إن المصريين كانوا يمثلون للرجل العادل بريش النعام بدعوى أن هذا الطائر هو الوحيد من بين الطيور في تساوي ريشه. ولذلك أمثلة كثيرة في تاريخهم القديم. وترى في الخط الهيروغليفي أن ريش النعام إشارة إلى صوتين مختلفين (ما وسو) فيستخدم الأول لكتابة الحقيقة. ويفهم من مغزى الفلسفة المصرية أن معنى (ما) العدل فمن ثم كانت ريشة النعامة رمزاً إلى ربة الحقيقة والعدل.
ترى هذه الريشة التي تمثل الحقيقة والعدل ماثلة أحياناً وقد جعلت رأساً لجسد امرأة وكثيراً ما تظهر في صورة رشيقة متجلببة برداء ضيق وقد جعلت في ذراعيها وكاحليها أساور وفي إحدى يديها إشارة الحياة وفي الثانية صولجاناً تريد بذلك الحقيقة والعدل. وكثيراً ما كنت ترى أمثال هذه الصور ماثلة بعضها أما بعض وقد. . . .(13/16)
الشعر العربي
ذكرت حديث الهوى برهة ... وأنسيت نفسي ذاك الحديثا
ومازلت فوق ظهور المطي ... طوراً سميناً وطوراً غثيثا
إلى أن بلغت قصارى المنى ... وعدت لكل علاء وريثا
ونلت الذي لم تصله الظنو ... ن مجداً أثيلا وعزاً أثيثا
وأدركت غاية ما يرتجى ... وحزت قديم العلى والحديثا
وأصبحت بين الملا مفرداً ... أجير طريد الليالي الكريثا
أفرج كربة كل امرئ ... أتى بي من دهره مستغيثا
أنا من تشير إليه البنا ... ن ظعيناً إذا ما يرى أو لبيثا
تحط بأثقالها المكرما ... ت حيث يحط الأمون الدلوثا
نجائب عزم إذا أرقلت ... تركن الحزون أباطح ميثا
متى تحتلبها تجد عندها ... لبون الخطوب شطوراً ثلوثا
من القوم عهدهم لم يزل ... وثيقاً وعهد سواهم نكيثا
إذا ما دعوا للندى والكفا ... ح هبوا أسوداً وسالوا غيوثا
ليوث وغىً أنجبوا للعلى ... ليوث وغى تسترق الليوثا
فكم أصلحوا للورى فاسداً ... وذادوا الليالي عن أن تعيثا
تمنى السماء وجوزاؤها ... ببوغاء أرضهم أن تلوثا
ترحل إلى العز يا ابنه ... وترض في دار هون مكوثا
وخذها معتقة من على ... تريك لدى المزج نوحاً وشيثا
ولا تخدعنك وجوه الورى ... وكن للسرائر منها نبيثا
لكم من فتى خلته طيباً ... فألفيته بعد ذاك خبيثا
القاهرة
عبد المحسن الكاظمي(13/17)
حكم وخواطر
كتبت منذ سنوات في المجلة المصرية بعض جمل وخواطر سنحت لي يومئذ منها ما تحديث به مناهج الحكماء ومنها ما ذهبت به مذاهب التعريض والإيماء إلى معانٍ عصرية ومقاصد سياسية فاستحسن بعضهم تلك الجمل واستشهدوا بها ووجد في بعضها قوم إغلاقاً ولم يدركوا جميع مراميها فقصدت أن أجرب هذا النمط مرة ثانية لا لأنني مخترع شيئاً بل لأني مجدد أسلوباً إذ أن المعاني وإن كان أكثرها قديماً فلابد لها في كل عصر من زي يلائمه ولكل زمن لغة ولكل عصر بلاغة.
قرائح الرجال كمعادن الجبال لا تظهر القرائح إلا بالاختيار كما لا تعرف المعادن إلا بالاحتقار
ما حث مطايا التقدم مثل مناخس الانتقاد
إذا تأخر بالإنسان مركب الحياة تمنى مهب الحوادث
حملة العاقل في رأسه وجملة الجاهل على ظهره
الفضل دنبٌ يذنبه الفاضل إلى أهل النقص فليكفّر عنه بالتواضع
ربَّ ملولٍ من العمل لو ارتاح ملَّ أكثر
قد يفيد السلب كما يفيد الإيجاب وأحياناً ينهض بالمرء النقص ما لا ينهض به الكمال
قد يكون ما يُجدي العدو بعداوته بوزن ما يفيد الصديق بصداقته وكم عداوة أكسبتك محابّ
المتكبر ممقوت ولو أخرج الحق من جنبه والمتواضع محبوب ولو لم يتب من ذنبه لأنه مهما يكن من فضيلة فإن الكبر ينسفها ومهما يكن من نقيصة فإن الإقرار يخففها
أحسن مركز للعدو العاقل العدل في غير لين والأدب في غير خضوع
بعض الناس يداوي العداوة بالظلم وبعضهم يعالجها بالذل وكلاهما يزيد الداء
قد تقع الندامة على العجلة بالخير كما تقع على العجلة بالشر وربما كان الندم على المعروف مع غير أهله أنكى من الندم على الجزاء في غير أهله.
الصادق أشد الناس دهاء لأنه يصل إلى جميع مقاصده من أخصر الطرق ويعبر إلى النجاة على جسر الاعتقاد
إذا كان العامل عالماً كان إذاً العالم عالماً (العامل الأول هو الوالي)
إذا كان الملك حكيماً فمملكته هي المدينة الفاضلة(13/18)
لا تظنن العالم الشرير عالماً لأن العلم الذي لا تطهر معه النفس هو كالماء الذي لا يطهر من النجس
جميع الخلائق مفترسة لكن بعضها يأكل بالأسنان وبعضها يأكل باللسان
ليس المهذب من لا تجد له عدواً بل المهذب من لا تجد عليه طاعناً بحق
أكثر ما يمتدح العدو عدوه في موطن الحملة عليه
إذا ضعف زرع القلب أنبت زوان الكذب على أسلة اللسان
إذا قدرت فاصفح لأن علو المقام كافٍ في الانتقام
ما أقبح الهجوم بالمُعوِر والسباق بالمقصّر وإثارة العداوات بمخروق الستر
الثناء نبتُ شائك لا يُجتنى إلا بإدماء الأصابع والراحة لصٌّ هارب لا يمسك إلا بهجر المضاجع
إذا أنعمت بنعمة وجحدها جاحد فلا تذكرها لأن سكوتك عن المنّ أكرم من كرمك بالمنة
اكبر الرجال في عيني من كان فعله أكثر من قوله وباطنه خيراً من ظاهره
ضدان لا أصعب من اجتماعهما لدى المرء ضيق الرزق وسعة العقل
لا تنتقم لنفسك مثلما ينتقم لك الدهر وقد يزيد على ما كنت تريد
ما عاض من المال مثل العقل ولا سدّ هوّة الفقر مثل الشرف ولا قصف غصن الفضيلة مثل ريح الدعوى ولا جدع أنف الأصالة مثل دنس العرض والأصيل الطاهر أولى بالعشق من الجميل الباهر.
مناط الحساب العقل وعلى قدر عقل الخصم يكون انفعال خصمه منه
لا يغلبك في خصام مثل المجنون لأنه محكوم له من الجميع من أول جلسة
الصداقة أمانةٌ وجدير بالأمانة التي أبت حملها الجبال أن لا تعرض إلا على أقوياء الرجال
أسعد حالات الصداقة أن يتوازن الحسن والحب وأن تتساوى درجات الاعتبار في العقل مع جرات الائتلاف بالقلب
يجب أن يصوَّب الصواب ولو خاب صاحبه وأن يخطّأ الخطأ ولو فاز راكبه لأن الصواب للنجاح أساس وما جاء خلاف ذلك فعلى خلاف القياس
كل عهدٍ لازمٌ ذمة صاحبه إلا في الشر فالنقض حلال(13/19)
ما أعجب إلا ممن يتعرض للنوافل وهو غير متمم للفروض وممن يتصدى للمكارم وهو غير مؤد للحقوق وممن يأخذ طريقة رفاعية أو قادرية وهو مقصر في نفس الإسلام
من أغرب ضروب الحسد أن العين تتجمد لجاهك ولو كنت محسناً وتسيل لبؤسك ولو كنت مسيئاً
ليس معنى التعنت في اختيار الصديق النفور من الناس أو التقطيب في وجوه الجلاس إذ بين الصداقة والمؤانسة درجات فمؤانسة الجميع لباقة وكياسة ومصادقة الجميع حماقة وخساسة
لا يمكن الإنسان أن يحب من لا يحترم ولكن ربما اتخذ من لا يحترم وسيلة لقضاء حاجته وشتان بين المحبة والمصانعة
لا يجب الاتكال على الكبار في تجويد الأعمال العامة بسبب علو مر بهم لأن غلط الكبير يكون كبيراً ولأن علو المركز يحول دون التدقيق
بقدر حظك من الدنيا تقسو عليك القلوب وعلى درجة علوك تنظر شزراً إليك العيون
لو كانت قيمة كل امرئ ما يحسنه حقاً لخسف المقام بكثير من كبار الأرض
الشهادة الحسنة بحق العدو أحبولة التصديق عند الذم
الجهل البسيط أول درجات العلم وخيرٌ للإنسان أن يقيم بالعراء من أن يقيم بالبناء الساقط
يستريح المرء من الصدوق لأنه يركن إلى كلامه كله ومع الكذوب لأنه لا يقبل شيئاً من جدّه ولا هزله وإنما كان التعب مع المتوسط هذا الذي لا يُدرى متى يصدق ومتى يكذب
ما من خير محض ولا من شر محض ولا من حال تضر من وجهين
قيمة الشيء الحاجة إليه فالثلج قيمته حمله والحجر ثمنه نقله وكم تراب هو ذهب وكم عودٍ يستطرف وهو في أرضه حطب.
إذا طال البؤس على امرئ تمنى التبديل لأن بالتقلب على الجنبين راحةً للعليل
التواضع ستّار كل العيوب والخضوع ملينُ لأقسى القلوب
لا تفرط في تشهي أمر فربما صار حلوه علقماً وآلت راحته ألماً وجنيت من كثرة التمني ندماً
كثرة التسهيل في الأول تورث كثرة التعقيد في الآخر.(13/20)
بيروت
شكيب أرسلان(13/21)
أمريكا وعلماء العرب
كانت أمريكا مجهولة عند أبناء القرن الخامس عشر بدليل أن المؤرخين في ذلك العهد لم يذكروا عنها سوى أخبار اكتشافها في أواخر ذلك القرن غير أن كلام ايراتوستينيس واسترابون اليونانيين اللذين عُنيا بفن الجغرافيا بنحو 200 سنة ق. م. يستدل منه على أن القدماء كانوا يتحدثون بوجود قارة مجهولة في أيامهم.
ولقد اهتم الخليفة المأمون بن هارون الرشيد السابع من خلفاء بني العباس عام 833 للميلاد بعلم الجغرافيا في جملة ما اهتم به من أصناف العلوم فكان من ذلك أنه اشتغل في هذا الفن عدد من علية علماء العرب في دار الخلافة وانتشرت معرفته من تلك المدينة إلى معظم البلدان بعد أن درست آثاره وطمست أخباره في القرون المتوسطة في أوروبا.
ولم يقتصر علماء العرب إذ ذاك على جمع ما بقي من أقوال علماء اليونان والرومان في هذا الفن بل جدوا في اكتشاف بلاد مجهولة في أيامهم وتخطيطها فذهب فريق منهم سنة 900 للمسيح إلى الشرق الأقصى من القارة الآسيوية ومضى فريق آخر إلى القارة الغربية. ولو لم يثبط عزائمهم أمير الجزيرة التي بلغوها بعد 24 يوماً من سفرهم من لشبونة من بلاد البرتغال إلى الغرب لكانوا أول من اكتشفوا أمريكا.
وبعد فقد ظل هذا الفن مجهولاً في أوروبا حتى أواخر القرن الرابع عشر للميلاد ولذا بقيت القارة الأمريكية وأستراليا والجهات الشمالية من أوروبا والجهات الشرقية من آسيا مجهولة في تلك البرهة الطويلة. ومن الحروب والفتوحات ما يبعث على يقظة العباد والبلاد وهبوبها من رقاد الانحطاط فقد حدث أن طرد السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 1187م الصليبيين من سورية فعاد هؤلاء إلى المغرب بعد سبع حملات حملوها على المشرق حاملين معهم ما اكتسبوه من علوم العرب وكتبهم وأخذوا؟؟ هناك. . . .(13/22)
الأرض
خبر في الأرض أوحتهُ السما ... لأولي العلم برسل الفكر
أنَّ هذي الأرض كانت أولا ... ما ترى بحراً بها أو جبلا
أو سهولاً أو ربىً أو سبلا ... أو رياضاً زهرها الغض نما
من سحاب جادها بالمطر
إنما كانت كتلك الأخوات ... من نجوم سائرات دائرات
حول شمس هي إحدى النيرات ... كنَّ من قبل عليها سُدُما
كتلةً واحدة في النظر
ثم بعد انفصلت من ذا السديم ... قطع منها صغير وجسيم
ضمن أفلاكٍ بها الدور تديم ... فاستقر الكل فيها أنجما
حول غير الشمس لم تستدر
أولاً نبتون منه انفصلا ... ثم أورانس يهدي زحلا
ثم للمشتري مريخ تلا ... ثم هذي الأرض فالزهرة ما
بعدها غير أخيها الأشهر
وأخو الزهرة بالشمس اقتدى ... ولها أقرب سيارٍ غدا
وهي سارات خلفه طول المدى ... فأمام الأرض ذات انتظما
خلفها المريخ ثم المشتري
أرضنا كانت لظىً مشتعله ... مذ من الشمس غدت منفصله
لم تزل في دورها منتقله ... كتلةً فيها اللهيب احتدما
وهي ترمي في الفضا بالشرر
كان فيح النار منها مصعدا ... وهجاً في الجو عنها مبعدا
حيث لا يمكن أن ينعقدا ... فوقها منه بخارٌ ديما
هاطلات بالحيا المنهمر
بقيت حيناً وهذا أمرها ... وهي بالإشعاع يخبو حرّها
وانثنى يبرد من ذا ظهرها ... فاكتست قشراً يحاكي الأدما
واستمرت بطنها في سعر(13/23)
ثم قد صار على مر الزمان ... قشره يغلظ آناً بعد آن
بيد أن النار عند الهيجان ... قد أعادت قشرها منخرما
بصدوع مدهشات البصر
شخصت أطراف هاتيك الصدوع ... بجبال شمخت منها الفروع
ولها في العين أشكال تروع ... تقذف الأفواه منها حُمما
صار منهن ركام الحجر
حصلت من قذف هاتيك المواد ... حيث يجمدن جبال ووهاد
وركاز وصخور وجماد ... بعضها دقّ وبعض عظما
وهو صلب الجسم صعب المكسر
وهناك انعقدت فيها الغيوم ... من بخارٍ كان في الجو يعوم
ردّه البرد مياهاً في التخوم ... فجرى السيل عليها مفعما
كل غور فوقها منحدر
عمها السيل فغطى حين سال ... سطحها مجترفاً منها الرمال
فطما الماء ولكن الجبال ... شخصت في الماء لما أن طما
وعلت كالسفن فوق الأبحر
غمر الماء به ما غمرا ... ثم خلّى بعضها منحسرا
محدثاً في السطح منها جُزُرا ... أنزل الماء بها ما حطما
من طفال وحتات المدر
بسيول الماء كم فيها أرتكم ... من رمال رسبت فيها أكم
ولكم خدَّت أخاديد وكم ... قد بنت من طبقات علما
نضدت فيه صفيح المرمر
ثم صارت وهي من قبل موات ... تصلح الأقطار منها للحياة
فانبرت تنبت في البدء النبات ... ثم أبدت من قواها النسما
وارتقت فيها لنوع البشر
فغدت إذ ذاك تزهو بالرياض ... وبها الأدواح تنمو في الغياض(13/24)
ثم ترميها أكف الانقراض ... بانحطام حيث تمسي فحما
حجرياً بمرور الأعصر
من حطام الخلق في الأرض هضاب ... كونتهن أكف الانقلاب
ما تراب الأرض والله تراب ... إنما ذاك حطامٌ قدما
من جسوم باليات الكسر
كم على الأرض رفات باليات ... من جسوم طحنتها الدائرات
فاحتفر في الأرض تلك الطبقات ... تجد الأنقاض فيها رمما
هي للأحياء أو للشجر
كل وجه الأرض للخلق قبور ... خفف الوطء على تلك الصدور
والعيون النجل منهم والثغور ... إنما أنت ستفنى مثلما
قد فنوا والموت دامي الظُّفُر
ظلت الأرض على كر الدهور ... تبحر الأجبُل فيها والبحور
فوقها تُجبل والماء يغور ... وعلى ذاك استدل الحكما
بجبال السمك المستحجر
علماء الأرض لم تبرح ترى ... حيوان البر لما دثرا
منه في الأبحر أبقى أثرا ... وكذا في البر ألفى العلما
أثراً من حيوان الأبحر
كل ما في الأرض من قفرٍ وبيد ... وجبال شهقت فوق الصعيد
عن زهاء الربع منها لا يريد ... وسوى ذلك منها انكتما
تحت ماء البحر لم ينحسر
في صعيد الأبحر المنغمس ... مثلُ ما يوجد فوق اليَبَس
من جبال ناتئات الأرؤس ... ووهاد تستزل القدما
ورُبىً مختلفات القَدَر
ما نرى اليوم من الماء الحميم ... والبراكين التي تحكي الجحيم
ومن الزلازل ذي الهول العظيم ... دل أن الأرض فيما قُدما(13/25)
ذات جرم ذائب مستعر
كل ما كان بحال السيلان ... فهو يغدو كرة بالدوران
وكذاك الأرض في ماضي الزمان ... كروياً قد غدا ملتئما
جرمها من سيلان العنصر
ثم أن الأرض من قبل الجمود ... ولدت منها وليست بالولود
قمراً دار عليها بسعود ... وجلا في الليل عنها الظلما
فهي بنت الشمس أم القمر
بغداد
معروف الرصافي(13/26)
نبأ من الصين
من مبحث لأحد علماء الفرنسيس في المجلة الباريسية
كان لانتصار اليابانيين على الروس رنة فرح في الصين والهند فاعتبرت الصين بهذه الحرب وتنبه في أبنائها شعور الوطنية وراحوا بعد أن كانوا يفزعون من العُدد الحربية التي هي أدوات التمدن الأوروبي ينزعون عنهم لباس الخوف وتأبى نفوسهم الاستسلام للبيض على نحو ما كانت حالهم منذ قرون وقلما أُثر في الماضي عن الصينيين انتقاض أو ثورة على الأجانب بل كانوا أبداُ يحتقرون برابرة الغرب في سرهم ويعتبرونهم دونهم من حيث الذكاء والمدنية. أما الآن وقد أثبتت الجيوش اليابانية لأهل الجنس الأصفر أن ما أقامه الأوروبيون من العقبات في سبيلهم يمكن تذليله فقد نفضت الصين عنها غبار الكسل وأطرحت الجبن جانباً وهبت من سباتها عازمةً أن تشترك في الجهاد الزمني الذي يتمخض به الجنسان الأبيض والأصفر ولم تكن الحرب اليابانية الروسية إلا إمارة من إماراته ومقدمة من مقدماته.
تألف في الصين حزب يطالب بالإصلاح فأرادت الحكومة بادئ بدء أن تحل عراه مخافة أن يكون مبتسراً فلا تجني البلاد منه غير توطئة السبل للأغيار من الأوروبيين ولكنها عادت فتركته وشانه فكثر أشياعه لكثرة انتشار الأفكار في مملكة ابن السماء بأنه لا أمان من تقسيم الأوروبيين أو الإذلال بيد اليابانيين إلا إذا صلحت حالها ولذلك انضم إلى حزب (كانغ يو واي) المصلح الشهير كثير من العمال الذين يخشون على بلادهم من التمزق. وما لبثت الأفكار الجديدة أن سرت إلى بلاط إمبراطورة الصين بفضل بنات سفير ابن السماء في باريز يوكانغ اللائي تهذبن أحسن تهذيب فاختارتهن الإمبراطورة نديمات لها فاغتنمن هذه الفرصة وأنشأن يؤثرن حتى في الإمبراطورة نفسها.
وإنك لترى اليوم الإمبراطورة - وهي صاحبة الصين من أقصاها إلى أقصاها - بعد أن كانت منذ خمس سنين بعيدة كل البعد عن الأفكار الحديثة وكانت عزلت ابن أختها عن الحكم لأنه ظهر أنه ممالئٌ لحزب الإصلاح قد أخذت اليوم تدخل بذاتها في طريق الإصلاح وعزمت كل العزم أن تنظم مملكتها وأنشأ مستشاراتها العارفات على ما فيهن من حذق ودربة يقنعنها بما تصير إليه المملكة من الدمار إذا تُركت وشأنها لأن المطامع محدقة بها. فأي مسؤولية تلحق الإمبراطورة وبأي وجه تقابل أجدادها بعد موتها إذا هي غادرت(13/27)
المملكة السماوية نهب أيدي الناهبين ممزقة كل ممزق.
وينسب وصول حزب الإصلاح إلى غاياته لأولئك التلاميذ الذين يتلقون العلم في المدارس خارج بلادهم وخصوصاً لمن يدرسون في كليات اليابان وكلهم يد واحدة في محاولة إصلاح بلادهم ذاك الإصلاح الذي به أصبحت اليابان مملكة مغبوطة مرهوبة الجانب والبأس وإن كثيرين من هؤلاء التلاميذ ينزعون إلى الثورة ويريدون أن يقطعوا كل صلة مع الماضي وأن يقيموا على أنقاضه أساس ملك جديد يتمكن من ضبط قياد الصفر عامة بيده. وكان من نتائج أعمالهم الشريفة أن انبث هذا الفكر على التدريج في عقول أربعمائة مليون نسمة من سكان الصين وأنشأوا صحفاً باللغة العامية أخذ منشئوها ينقدون أحوال المملكة السماوية ويطالبون بتغيير إدارتها ويحملون الحملات المنكرة على كل عامل يقف في طريق الإصلاح ويناوئ سياسته غير مبالين بما قد ينتج لهم ذلك من العذاب الشديد أحياناً.
ولم يتخلف النساء أيضاً عن الاشتراك في هذه الحركة إذ كان لهن من بنات الوزير نديمات الإمبراطورة المشار إليهن أعظم مثال ينشطهن ويحتذين مثاله فأسسن مدارس لبنات الحكام وأسست الإمبراطورة من مالها الخاص مدرسة خاصة لتهذيب بنات موظفي قصرها. وكانت المرأة الصينية إلى هذا العهد تعيش في جهالة جهلاء وحالها نسق واحد مزوجة كانت أم عازبة لا تتخلل حياتها سلوى أدبية. وإن كانت من الغنيات تمتاز بانقطاعها عن كل عمل عن نساء الشعب. أما اليوم فقد تغيرت حالها بالمرة فإن الفتيات الصينيات يذهبن إلى الكليات اليابانية ينجزن فيها دروسهن مع التلاميذ الصينيين. وأصبحت تطبع مجلات خاصة بالنساء وذلك في المدن الصينية الكبرى وتصدر كتب حديثة تبحث في شأت المرأة الصينية.
وكانت الإمبراطورة أصدرت أمراً سنة 1902 تنصح به لقومها أن يبطلوا عادة تعصيب الأرجل لتكون صغيرة في الكبر فعادت اليوم تلغي هذه العادة البربرية رأساً بسعي مرسلي البروتستانت فتألف جمعيات لهذا الغرض أخذ أعضاؤها على أنفسهم أن يتركوا أرجل بناتهم بدون تصغير ويمنعوا أولادهم من التزوج بزوجات ضُغطت أرجلهن في صباهن حتى صغرت. وهذه النهضة النسائية من الأدلة على انقلاب حالة الصين في الزمن الأخير إذ ما كان يظهر قبل عشر سنين أن تدخل أمثال هذه الإصلاحات ويطرأ مثل هذا التبديل(13/28)
في أخلاق سكان مملكة ابن السماء وعاداتهم.
وكانت الامتحانات المدرسة القديمة تجمع كل مرة من 250 ألفاً إلى 300 ألف مرشح بينهم بعض الشيوخ فمنذ سنتين انقلبت الحال وأبدلت تلك الدروس الخطابية على نصوص كونفوشيوس حكيم الصين والتمارين الصعبة في الإنشاء التي كان يكفي للمرء أن ينجح فيها حتى يعين عاملاً أو مهندساً أو قائداً أو طبيباً أو قاضياً أو أمير بحر إلى آخره.
وقد وضع الفاحصون في الامتحانات الأخيرة بأمر الإمبراطورة مسائل لم يعهد مثلها للمرشحين من التلاميذ ربما لا تجرؤ الكليات الفرنسية أن تضع مثلها وإليك سؤالين منها: هل يحسن التمدن الأوروبي أم لا يحسن بأمة لم تحصل عليه فقد أصبحت يابان دولة من الطراز الأول بقبولها له وعلى العكس في مصر فإنها سقطت تحت نير إنكلترا لما أدخلت إليها التمدن الغربي فماذا يستنتج الطالب من ذلك للصين. والسؤال الثاني: أي الطرق المشروعة تعمد إليها الصين لتكره الولايات المتحدة على إلغاء القوانين التي تقيد الصينيين عن الهجرة إلى أمريكا.
ولقد أوقع رخص أجور العملة الصينيين ومنازعتهم للعملة الأمريكيين بلاد الولايات المتحدة في حيص وبيص فأصبح العامل منهم لا يكسب قوته إلا بشق الأنفس ففقدت بذلك ملايين من الريالات ولم يكتفوا بذلك بل حالوا دون البضائع الأمريكية وتصريفها في مصارف الصين. وفي العام الماضي قضوا على التجارة الصينية في إقليم مغوليا وقد درست البعثة التي أنفذتها الصين إلى أوروبا ما ينبغي لأمة متحضرة من الأوضاع السياسية والمدنية لتكسر الصين قيود التقليد بعد أن كانت قروناً ترسف فيها وتصبح الصين ولها دار ندوة وابنها يعرف الانتخاب بعد أن ظلت عشرين قرناً في حروب وغارات متواصلة ومذابح لا نهاية لها كان الصينيون إذا لم يتحاربوا في خلالها بعضهم مع بعض يلتقون مع القبائل الرحَّل في الشمال والسيتين والهونسيين والأتراك والتتر وقد نسي الصينيون منذ مئتي سنة ما كانوا يمتازون به من الشجاعة وذلك على عهد أسرى مانشو الحاكمة الآن وما لقنتهم إياه من الاستكانة وحببته إلى قلوبهم من السلم واحتقار السلاح وحمله. بيد أن ظفر اليابان الأخير أضرم في قلوبهم حب الغارة وعادة إليهم شجاعتهم السالفة وأخذت الصين تعد لها جيشاً وطنياً تستعين به على دفع الطوارئ نظمته على(13/29)
النسق الأوروبي وهو يبلغ اليوم مئة ألف جندي متخرجين على يد ضباط ألمان ويابان. وسيصبح عدد جيشها بعد خمس سنين خمسمائة ألف جندي منظم. وقد سلب حكام الولايات امتيازاتهم الحربية ومن شكا منهم ذلك عُزّر وغُرّم غرامة تصرف في التجهيزات الحربية.(13/30)
مطبوعات ومخطوطات
عقلاء المجانين
مهما اختلفت التقلبات على العقل البشري لا تزال مادة خواطره واحدة على تباين الأعصار والأمصار. فما يجول في أفكار أبناء هذا العصر الجديد من الموضوعات قد جال في خيال أهل القرون الخالية. وما كل ما اخترع اليوم واستنبط كُشف سرّه في جيل أو قرن بل إن التصورات تكاد تكون واحدة وإن اختلفت ضعفاً وقوة وكل ما يبهرنا من أسباب الحضارة هو عمل قرون كثيرة.
من كان يظن أن بعض سلفنا خطر له أن يُطرف أبناء عصره بكتاب في نكات المجانين وحكم البله والمتبالهين. هذا المصنف هو للعلامة الثبت الناقد الحجة الرحلة أبي القاسم الحسن بن حبيب المفسر النيسابوري بدأه بمقدمة في الجنون وما ورد فيه في الكتاب العزيز وما احتالت به قريش على الرسول صلوات الله عليه من نسبته إلى الجنون لما دعاها إلى الحق شأن كل قبيل ينسب للجنون كل عاقل يخالف قوله وفعله ما هو فيه وتوارثه بالتقليد الأعمى.
قال المؤلف: لقد سألني بعض أصحابي عوداً على بدء أن أصنف كتاباً في عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم وكنت أتغامس عنه إلى أن تمادى به السؤال فلم أجد بداً من إسعافه بطلبته وإجابته إلى بغيته تحرياً لرضاه وتوخياً لهواه وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب مثل كتاب الحافظ وكتاب ابن أبي الدنيا وأحمد بن لقمان وأبي علي سهل بن علي البغدادي رحمهم الله فوقع كل كتاب منها في جزءٍ ما يقارب جزءاً تتبعتها وتيقنتها وضممت إليها قرائنها وعزوتها إلى أصحابها وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب وأرجو أني لم أسبق إلى مثله.
ثم ذكر المؤلف أصل الجنون وأسماء المجنون في اللغة أورد منها الأحمق واستشهد بقول الشاعر:
سبحان من نزَّل الأشياء منزلها ... وصير الناس مرفوضاً ومرموقا
فعاقل فطن أعيت مذاهبه ... وجاهل حمق تلقاه مرزوقا
ومنها المعتوه والأخرق والمائق والرقيع والمرقعان واستشهد بقول عبيد الله بن عبد الله:(13/31)
وما الناس إلا وعاة العلوم ... وسائرهم غنم في قطيع
وإنا بلينا ببله حمير ... ومحنة دهر رفيع رقيع
ومنها الموسوس والأنوك والبدهة والذولة والموتة والعرهاة والأولق والمهوس واللهلباجة واللكع والجذب والهجاجة والرشاع ثم ذكر الأمثال المضروبة في الحمق والحمقى فمنها قولهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي أنها مع حمقها تظلم غيرها. ومن أمثالهم أحمق بلغ أي أنه مع حمقه يبلغ حاجته ومن أمثالهم فيه خرقاء ذات نيقة أي أنها حمقاء وهي في ذلك تتأنق في الأمور. ومن أمثالهم أحمق من رجلة وهي البقلة الحمقاء وحمقها أنها تنبت في السروح ومسايل الأودية فيجيء السيل فيجرفها. ومن أمثالهم أنه لأحمق من ترب العقد والعقد عقد الرمل وحمقه أنه ينهار ولا يثبت فيه الترب يضرب للذي لا يثبت ولا يستقر على حال. ومن أمثالهم أنه لأحمق من دعة وهي امرأة عمرو بن جندب بن العنبر ومن أمثالهم أحمق من الممهورة إحدى حدمتيها (هما الخلخالان) وتقول العرب للمبالغ في الجنون مجنون ولبعض أصحاب الشافعي:
جنون مجنون ولست بواجد ... طبيباً يداوي من جنون جنون
ومنها خامري أم عامر (كنية الضبع) ومنها أنه لأحمق من العقعق قال ابن الكلبي تقول العرب أنه لأحمق من حماقة عقعق وذلك لأنها تبيض على الأعواد فربما وقع بيضها فأنكر. والمجانين على ضروب فمنهم المعتوه والممرور والممسوس والعاشق قال الإصمعي: لقد أكثر الناس في العشق فما سمعت بأوجز ولا أجمل من قول بعض نساء الأعراب وسئلت عن العشق فقالت داء وجنون. وكانت العرب تقول الشباب شعبة من الجنون.
وهنا تم القسم العلمي من الكتاب وبدأ المؤلف يورد القصص والحكايات الكثيرة على المجانين وأشعارهم وذكر أمثلة ممن اعتقد بدعة وارتكب كبيرة فأدركه شؤمها فجنّ ومن جُنّ من خوف الله ومن تجانّ وتحامق وهو صحيح العقل وهم ضروب فمنهم من تعاطى ذلك ليري شأنه ويستره على الناس ومنهم من تحامق لينال غناء ومن تحامق ليطيب عيشاً ومن تحامق لينجو من بلاء وآفة.
ولم تخل هذه الحكايات من حكم وأمثال لا يتأتى مثلها إلا لأرباب العقول وأشعار لطيفة قلما(13/32)
تجدها فيما بين أيدينا من الكتب كقول علي بن محمد بن قادم.
عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقولهم ألذُّ وأحلى
لو لقوا ما لقيت من حرفة العل ... م لساروا إلى الجهالة رسلا
ولقد قلت حين أغروا بلومي ... أيها اللائمون في الحمق مهلا
حمقي قائم بقوت عيالي ... ويموتون إن تعاقلت هز
وذكر كثيراً من أخبار أويس القرن أول من نسب إلى الجنون في الإسلام ومجنون ليلى وسعدون المجنون وبهلول وعليان وغيرهم.
ومن حكاياتهم أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد فخرج على أن يسأل أول من نظر إليه فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عظم وسوّد وجهه وركب قصبة فأخذ رمحه فسلم عليه وقال: مسألة. فقال: سل ما يعنيك وإياك وما لا يعنيك. فقلت: مجنون والله ثم قلت: أني أصبت من النساء بلاء وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس وأنت تمام المائة. فقال: أعلم أن النساء ثلاثة واحدة لك وواحدة عليك وواحدة لا لك ولا عليك فأما التي لك فشابة طرية لم تمس الرجال فهي لك لا عليك إن رأت خيراً حمدت وإن رأت شراٌ قالت كل الرجال على مثل هذا وأما التي عليك فامرأة ذات ولد من غيرك فهي تسلخ الزوج وتجمع لولدها وأما التي لا لك ولا عليك فامرأة قد تزوجت قبلك فإن رأت خيراً قالت هكذا تجب وإن رأت شراً حنت إلى زوجها الأول. فقلت: ناشدتك الله ما الذي غير من أمرك ما أرى قال ألم اشترط عليك أن لا تسأل عما لا يعنيك فأقسمت عليه فقال: إني رُشّحت للقضاء فاخترت ما ترى على القضاء. قلت: وقد فعل ابن الهيثم الرياضي الفيلسوف المشهور مثل هذا وترك الوزارة وتجانّ ليكون له حرية يتمتع بها في خدمة العلم.
وقال الإصمعي: قال عمي: دخلت بعض أحياء العرب فرأيت شيخاً موسوساً يهذي وقد اجتمع إليه الناس فقلت: من هذا؟ فقالوا: حساس الموسوس لا يزال ينام ليله ونهاره وربما ينتبه فزعاً مرعوباً فيجلس ساعة ثم يصيح ويهيم على وجهه ثم يعود إلى نومه فبت ليلة هناك وهو على الحال الذي وصفوه فلما أصبحنا أتيته فقلت: ما اسمك يا شيخ أنت أنوم من فهد مالك تنام دهرك فقال: النوم لا تبعة عليّ فيه وفي مجالستك ومجالسة أضرابك تبعات.(13/33)
قلت: وأي تبعة عليك في مجالستي؟ قال: اشتغل بك عمن أنشأني ثم أنشد يقول:
لقد أغنيت عن هذا السؤال ... وعما أنت فيه من المقال
فإن كنت الغداة تريد قولا ... فما فيه رضى مولى الموالي
ثم عدا هائماً على وجهه في تلك الرمال قائلاً: ما أكثر فضول أهل الحضر.
قال الإصمعي: بينا أنا ذات يوم عند والي الكوفة وهو يسألني عن أهل البصرة إذ أقبل مجنون بالباب يتكلم بالشعر فقال: أدخلوه فدخل فإذا هو رجل كأنه نخلة سحوق نتن الأطراف موسوس فسلم على الأمير فرد عليه السلام وقال: من أنت؟ فقال: إني أنا أبو الشريك الشاعر من يسأل عني فأنا ابن الفاغر فقال الوالي: ما أمدحك لنفسك!! فقال:
لأنني أرتجل ارتجالاً ... ما شئت يا من ألبس الجمالا
قال الإصمعي: فقال لي الأمير ما هذا مجنون فألق عليه ما عندك فقلت له ما الري؟ فقال: الريم فضل اللحم للجزار ينحره للفتية الأيسار فقلت ما الحلوان فقال:
أليس ما تعطي على الكهانة ... والحر لا يقنع بالمهانة
فقلت ما الدكاع فقال:
إن الدكاع هو سعال الماشية ... والله لا يخفى عليه خافية
قلت فما التوله فقال:
عوذة عنق الطفل عندي توله ... وقد تسمى العنكبوت توله
قلت فما الرفة فقال:
الرفة البيت فسل ماشيتا ... لقد وجدت عالماً خرّيتا
قال الإسمعي: فاستحييت من كثرة ما سألته فقال: قل ما الهلقس والسحساح والحل الرادح لا براح قلت: الهلقس الطمع الحريص والسحساح الذي لا يستقر في موضع والرادح المهزول فقال:
ما أنت إلا حافظ للعمل ... أحسنت ما قلت بغير فهم
فقال الوالي: فحبذا كل مجنون مثل هذا ثم أمر له بعشرة آلاف درهم فلما قُدم إليه المال قال:
أكل هذا هو لي بمرة ... تم سروري واعترتني شرة(13/34)
ثم أقبل على الأمير فقال:
رِشت جناحي يا أخا قريش ... أقررت عيني وأطبت عيشي
والكتاب معظمه من هذا النسق وهو يقع في نحو مئة صفحة منصفة القطع مكتوب بخط جميل تغلب عليه الصحة. والغالب أنه نقل عن نسخة صحيحة ووقع في أيدي جهابذة نقّاد فقوّموا منآده وأوده أما إنشاؤه المئة الثالثة والرابعة سلاسة بلا تكلف وطبع بلا تصنع.
طبقات الشافعية الكبرى - أهدانا مصطفى أفندي فهمي الكتبي نسخة من هذه الطبقات لمؤلفها شيخ الإسلام تاج الدين بن تقي الدين السبكي المطبوعة في مصر على نفقة مولاي أحمد بن عبد الكريم القادري الحسني الفاسي فجاءت في ستة مجلدات حوت من الفوائد التاريخية والاجتماعية والأدبية والمذهبية والخلافية والمناظرات والمطارحات والفكاهات والحكايات ما لا يسع المتعلم جهله فضلاً عن المشتغلين بفقه الشافعي لأن الوقوف على سير أرباب هذا المذهب مما لا غنية لطالب عنه.
ابتدأ المؤلف كتابه بمقدمة طويلة عريضة بلغت زهاء مئة وعشر صفحات من كتابه لا تخلو من مغامز وفوائد جاءت عرضاً. ولابد أن تقع فيما ينقله المكثار ويرويه على طرفة تستطرفها وفائدة تقتطفها. ولذلك قالوا المكثار كحاطب ليل ويجمع بين الجيد والرديء. ولا ذنب في ذلك على التاج السبكي بل الذنب في الأكثر على عصره فقد كان عصر المشاغبات والمماحكات وضعف ملكة التأليف.
قسم المؤلف كتابه إلى طبقات سبعٍ الأولى طبقة من جالسوا الإمام الشافعي وعددهم نحو أربعين فقيهاً والثانية وهي فيمن توفي بعد المائتين للهجرة ممن لم يصحب الشافعي وإنما اقتفى أثره، ويبلغ عددها نحو ثلاثين رجلاً. والطبقة الثالثة فيمن توفي بين الثلثمائة والأربعمائة وعددها نحو 170 مترجماً والطبقة الرابعة فيمن توفي بين الأربعمائة والخمسمائة وهي نحو 270 فقيهاً. والطبقة الخامسة من مات بعد الخمسمائة وعددها نحو 470 فقيهاً. والطبقة السادسة فيمن توفي بين الستمائة والسبعمائة وهي قرابة 250 فقيهاً. والطبقة السابعة فيمن توفي بعد السبعمائة وتبلغ نحو 135 فقيهاً. وقد ساق المؤلف أسماءهم كلها على حروف المعجم وأكثر من الكلام على من ارتضاهم وربما أدخل في غمار الفقهاء من ليس منهم كما يفعل بعض مؤلفي الطبقات في الغالب حباُ بتكثير سوادهم.(13/35)
وقد أورد التاج طرفاً كبيراً من الكوارث والفتن التي حدثت في بعض تلك الأدوار واستطرد إليها لأدنى مناسبة وأكثر ما شاء وشاءت قريحته فلم يكن منها غير تكبير حجم الكتاب على غير طائل. وطبقات الرجال لا دخل فيها لحوادث الأجيال وهذه من خصائص كتب التاريخ السياسي. ومن يقرأ المناظرات التي ذكرها المصنف وهي مما وقع بين بعض الفقهاء المترجمين وبين غيرهم ممن ليسوا على مذهبهم يتضح له ما كان ثمة من تعصب بين المتخالفين وكيف صرف أرباب المذاهب أوقاتهم في الجدال والقيل والقال.
وإنا لم نر عبارة لوصف هذه الطبقات أجمل من التي كتب بها إلينا أحد كبار شيوخ العلم في الشام عندما صدر الجزء الأول منها قال: قد سررت بطبع طبقات التاج السبكي لقلة ما طبع من كتب التاريخ في مصر وإن كان السبكي شديد التعصب كما يظهر من مقدمة الكتاب التي أفردها لذم التعصب، والمتعصبين وجعل من المفرطين فيه شيخه الحافظ الذهبي فزعم أنه أفرط على الأشاعرة ومدح فزاد في المجسمة يريد بالمجسمة الحنابلة وعلماء الحديث وهي عبارة تدل على فرط السخافة فإن كان الذهبي متعصباً فتعصبه نشأ عن خطاءٍ في الاجتهاد وتعصب التاج عن عناد ولجاج غير أن الزمان سيسقط كل مموه أياً كان فينتفع بكتابه بمثل ذكر ما للمؤلف من مؤلَّف ونحو ذلك.
والكتاب جيد الطبع على الجملة يطلب من مكتبة مصطفى أفندي فهمي بخمسين قرشاً مصرياً فنحث على اقتنائه فإن حسناته كثيرة ولا يجوز أن يزهد في عقد من اللؤلؤ إذا كان فيه بعض الخرز. والصيرفي الحاذق ينقد الدينار الخالص من الستوق الزائف. ونثني على طابعه أجمل ثناء.
سياحة في القطر المصري - هو كتاب في نحو 150 صفحة فيه مباحث اجتماعية وتاريخية عن البحيرة والشرقية والفيوم وأسيوط وغيرها ومباحث عمومية عن العربان والأمن العام وغير ذلك مما له علاقة بحياة هذه المديريات المهمة في القطر المصري ساح فيها عوض أفندي واصف صاحب مجلة المحيط ورئيس تحرير جريدة مصر وتكلم عن شؤونها بما دله عليه اختباره وفضله وقد نشرها أولاً في مصر ثم جعلها ملحقاً لمجلة المحيط وأرسلها لمشتركيه في العام الماضي وهي تطلب من مؤلفها وفيها من الفوائد ما يرغب فيه كل مصري أديب فنحث على اقتنائها ونشكر لرصيفنا عنايته وهديته.(13/36)
سير العلم
لغة الاسبرانتو
انتشرت هذه اللغة التي ألفها الدكتور زامنهوف الروسي انتشاراً عظيماً في العهد الأخير وأقبل الأوروبيون على تعلمها لسهولة مأخذها وسينعقد مؤتمرها هذه السنة في كامبردج فتقيم له كلية هذه المدينة احتفالاً بديعاً وقد أنشئت جمعية من علماء الحقوق ممن تعلموا اللغة الجديدة. وممن ينتصر لهذه اللغة وتلقنها ملكة إسبانيا وملكة نروج التي تعلم هذه اللغة للبرنس أولاف الصغير. والمظنون أن الدكتور زامنهوف سينال في العام المقبل جائزة نوبل جزاء خدمته الإنسانية بهذا الاختراع المفيد للأمم.
أكل الأثمار
ألف المسيو جبرائيل فيو الفرنسوي كتاباً دعاه لنغرس الأشجار ولنأكل الأثمار ومما جاء فيه أن مئتين أو ثلثمائة متر مربع تنبت البقول اللازمة لأسرة فيبلغ متوسط غلة الهكتار (عشرة آلاف متر مربع) من الهليون والخرشف (أرضي شوكي) 1200 فرنك ومن الملفوف 1000 فرنك ومن الجزر 700 فرنك ومن البطاطا 500 فرنك ومن السلجم (اللفت) 400 فرنك ومن الحنطة 380 فرنكاً. وإذا توفر العامل على زراعة حديقته خضراً وبقولاً تكون لأسرته مورد رفاهية ويسار وتنبه فيه الرغبة في الاقتصاد وتجود بذلك صحته. قال إذا غرست مئة شجرة مثمرة في هكتار من الأرض تغل أكثر من الحنطة والبطاطا والشمندر بمعنى أنه يأتي بمورد لا يقل معدله عن ألف فرنك. وأوصى بغرس الأشجار المثمرة وجعل عشرة أو خمسة عشرة متراً بين كل شجرة حتى لا يكون اشتباكها والتصاقها داعياً إلى عدم الانتفاع من غلة الأرض فتزرع أنواع المحاصيل والغلات. ثم استطرد المؤلف ونصح للناس أن يغتذوا بالأثمار خاصةً قائلاً إن الأمراض الشائعة في عصرنا هي مسببة من الإفراط في تناول اللحوم ومما في عضلاتها من الزلال على حين أن قضم الأثمار يفيد الصحة أكثر من ذلك. وقال إن ضعف المجموع العصبي (نوراستينيا) يشفى بتناول الأثمار وعدد أمراضاً ينتفع المصابون بها من تناول الفاكهة وأتى بأدلة مقنعة وبراهين علمية لتأييد مدعاه.
البنايات العائمة(13/38)
وفّق أحد مهندسي كاليفورنيا إلى اكتشاف طريقة لإقامة منائر في البحر وحصون وبنايات في مداخل المرافئ في عرض البحر تطفو على الماء وكل ما يبنى بحسب إشارته من هذه المباني يقاوم فعل جميع التقلبات التي تحدث على وجه الماء في البحر المحيط. والظاهر لأول نظر أن ما ادعاه المهندس المشار إليه يعد من المستحيل بلوغه ويناقض ما جرى عليه العمل في إقامة الأبراج والمنائر والبنية في وسط البحر حتى الآن. فإنه توصل إلى إقامة هذه الأبنية في عمق من المياه لا يتحرك باهتزاز سطح الماء والأساس إذا كان بعيداً عن الماء الذي يهتز بالأمواج دام أكثر وقاوم فعل المياه. وهذا الاختراع سيفيد التجارة البحرية والدفاع عن الموانئ والشواطئ فائدة كلية. فإن قليلاً من الموانئ يتمكن فيها البناؤون من وضع الأوتاد التي تغرز ليقام البناء عليها في الماء وبهذا الاختراع يمكن بناء أرصفة عائمة فتفرغ عليها السفن شحنها بدون عائق وهذه الأرصفة تعلو وتسفل بحسب حالة المد والجزر في البحر. وبهذا الاختراع يمكن تشييد منائر في الماء الكثير التلاطم الذي لم يكن يتيسر من قبل أن يبنى فيه كما تشيد أمكان بعيدة عن الساحل لتأمن السفن من أخطار الشواطئ.
الملبس المسموم
ثبت أن في بعض الحلويات سماً يضر بعض الضرر أحياناً ونسب ذلك بعض الباحثين إلى ما يحشى به من الزبدة والبيض ثم قرّ الرأي أن في البيض سماً زعافاً أحياناً لفساده وإن كان جديداً وأن أحسن واسطة في اتقاء خطر البيض أن ينظر الطاهي أو ربة البيت إليه عند وضعه في الحلويات وغيرها ليرى فيما إذا كان سليماً أو فاسداً.
تعقيم اللبن
بحث كثير من علماء الكيمياء والحياة بألمانيا في الأيام الأخيرة فيما إذا كان اللبن (الحليب) المغلي أنفع من غير المغلي وبعد المرادّات الطويلة تبين أن اللبن المغلي للأطفال أنفع ولكنه إذا أغلي كثيراً تفقد خاصية من خواصه الكيماوية والحيوية. وبحث علماء من الأمريكان في تعقيم اللبن بدون واسطة الحرارة فرأى أن يضاف إليه كمية قليلة من محلول ممزوج بأكبر مقدار من الأوكسجين ومادة أخرى لا تغير لونه ولا طعمه أصلها من مادة حيوانية. وبالجملة فإن المسألة ما برحت موضوعة على بساط البحث بين العلماء هذا يقول(13/39)
بغلي اللبن وذاك يرى تناوله بارداً وغيره يرى أن يعدل عن تعقيمه بمزجه ببعض المواد كما تقدم.
نبات ضار
إذا لم يكن في النباتات مادة سامة لا تضر في العادة إذا لم يكن فيها نفع. ولبعض النباتات خاصية الضرر كالنبات الذي يكثر في أمريكا الجنوبية فيأتي بأضرار بليغة للحيوان والإنسان وهو من جنس الستيبا فتجد في غلاف الزهرة الأسفل من مجموع ما تتألف منه سنابله زُغْبُراً فيه حرير يتلوى على نفسه فإذا ثارت الريح تحمل براعم هذا النبات فتعلق بشعر الإنسان ولحيته وتتلوى فتدخل الجلد فإذا حاول المرء قلها تنكسر وتزيد في الانغراز. ويمكن الإنسان أن يتخلص منها أما الحيوان فإنه إذا أصابت عينه تقلعها فتعميها فلا يتيسر له أن يتناول غذاءه فإذا كانت تلك الحيوانات وحدها مطلقة يكون قلع عينيها سبباً في هلاكها وعدم قدرتها على الاقتيات ثم أن براعم هذا النبات تلصق في جلد الخرفان فتحدث فيها تقرصاً مؤلماً كما تدخل في فم الحيوان آكلة النبات وتجعلها كمغرز الإبر. وقد حاول العلماء إيجاد واسطة لاتقاء هذه الآفة فلم يفلحوا والستيبا ما زال يكثر.
الفلسفة الحديثة
ألف أحد علماء الألمان كتاباً في تاريخ الفلسفة الحديثة وهو يترجم الآن إلى أكثر اللغات الأوروبية شأن كل كتاب نافع يصدر بإحدى لغاتها فلا يلبث أن يترجم في الشهر الذي يصدر فيه وربما صدرت الترجمة والأصل في ساعة واحدة من المطبقة. وقد أتى بالبراهين السديدة عند كلامه عن فلاسفة القرن التاسع عشر فانتقد كانت واضع الفلسفة الحديثة أحسن انتقاد ثم أنحى على الفيلسوفين فيختي وهيكل الألمانيين وسماهما بخارقي قوانين الفلسفة وأصولها وأضاف إليهما الفلاسفة شيلرماشير، وشوبنهارو، وهربارت، من الفلاسفة الألمان لأنه لا نظام في آرائهم وهم يتكلمون كلام المغتاظ الحانق وقال إن الفلسفة الحسية تبدأ من أغست كونت الفرنسوي كما تبدأ الفلسفة الإنكليزية من ستوارت ميل ودارومير وسبنسر فإن هؤلاء أتوا الغرب بأفكار وعواطف يسير عليها اليوم ويعيش في ظلها.
الحلقة المفقودة(13/40)
اكتشفت سنة 1891 في ترنييل من أعمال جاوة بعض عظام تحت التراب تشبه عظام القرد (جيبون) والإنسان واستبشر العلماء عندئذ بأنهم كادوا يظفرون بالحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد كما هو مذهب كبار علماء الطبيعة أمثال داروين ووالاس وهاكل وغيرهم ثم أجلى البحث عن لا شيء. وقد فرح العلماء الآن بما وفق إلى اكتشافه الأستاذ كلاتش أثناء بحثه في شمالي أستراليا من اكتشاف ينفع علم الإنسان (انتروبولوجيا). فقد أذاع أنه صادف في بور داروين على الشاطئ في بقة قلما ينزل إليها السائحون ولم يدخلها التمدن الحاضر - امرأة تعيش في البلاد على حالة التوحش من الفطرة الأصلية وتشبه بأوصافها القرود التي تشبه الإنسان (انتروبوييد) ورجلاها مثل أرجل الزنوج تتسلق بهما الأشجار بمثل السرعة التي تتسلق بها القرود. وهذه أول مرة شوهد فيها مخلوق بشري على هذه الصفة. ويزعم الأستاذ المشار إليه أن هذه المرأة مرتقية من القردة وإن أجدادها كانوا قروداً ولا شك. فإذا ثبت له ما زعم فيكون الدروينيون عثروا على الحلقة المفقودة التي ينشدونها منذ أزمان.
لتلفون في السكك الحديدية - أخذ في استعمال الأدوات التلفونية في قطارات الخطوط الحديدية الرئيسة في الولايات المتحدة فتتأتى المخابرة بعد الآن بين المركبات والقاطرة على اختلاف أنواعها كما تتيسر مخاطبة المحطات وتنفع هذه التلفونات في اتقاء الأخطار التي تعرض للقطاعات في طريقها. وتستعمل أسلاك هذه التلفونات في إرسال الرسائل البرقية ولا يحدث من ذلك التباس.
الالكحول من الشجر
اكتشف أستراليا الغربية ضرب جديد من الالكول يأتي من شجر غض كبير تحتوي أليافه على خمسة في العشرة من الالكحول وكان هذا الشجر معروفاً منذ القديم بين النازحين إلى تلك القارة والمبعدين إليها فقد كانوا يستخرجون منه سائلاً يقوم مقام الجعة (البيرة).
السكسكون واللاتين
ألف أحد علماء الاجتماع في إيطاليا كتاباً في العنصرين الإنكليزي السكسوني واللاتيني أبان فيه أهم أسباب ارتقاء الشعوب وبحث بحثاً مدققاً مؤيداً بالحجة في أسباب سر تقدم الأمم وانحطاطها وهو يرى أنه ليس هناك عناصر بل أمم يؤيد ذلك لا من طريق علم(13/41)
الاجتماع بل من طريق علم الإنسان وقال أنه ليس في العالم الآن أمم مكوّنة من جنس واحد بل هي نتيجة الامتزاج الحقيق وأخلاط من عناصر مختلفة. فما أن الجنس أو العنصر يشتهر وينتظم بما له من الصفات التشريحية المعروفة فيه فكذلك تعرف الأمة بجماع الأخلاق النفسية والمظاهر الاجتماعية. وما سر تقدم أمة إلا آتٍ من أحوال اقتصادية وغيرها تطرأ عليها فتنهضها إلى أعلى عليين أو تسقطها إلى أسفل سافلين. فلو حازت أمة تقدماً على غيرها كما يتوهمه بعض علماء الاجتماع لما رأيناها إلا باقية أبداً في أعلى قمم المجد. بيد أن التاريخ لم يذكر بأن أمة حالفها النصر والنجاح والتقدم في جميع أدوار حياتها السياسية والاقتصادية. وبينا كل ديمولين صاحب سر تقدم الإنكليز السكسونيين ينشر كتابه كان العاقل يلاحظ أن الأمة الإنكليزية التي تمجد بها وأذل أمته لرفعة شأنها قط ظهرت فيها بعض أغراض الضعف. وعلى هذا فإن من الأزمان ما يواتي أمة أن ترقى رقياً عاماً في مهد الحضارة إذ تكون فيها القوى التي تلائم ذلك الرقي. ولذا ترى في الأمم علواً وانخفاضاً وسقوطاً وارتفاعاً.
وأغرب ما في هذا الكتاب فصل قارن فيه المؤلف بين ارتقاء ألمانيا وارتقاء إيطاليا وهما الأمتان اللتان نالت كل منهما وحدتها في زمن متقارب فإنه رأى أن الناس يبالغون بما بلغته ألمانيا في سلم الارتقاء الاقتصادي وأنها تفوق إيطاليا بمراحل في هذا السبيل فقال إن في ألمانيا 57 مليون ساكن وثروتها نحو 150 ملياراً من الفرنكات أما إيطاليا فثروتها 65 ملياراً وسكانها 32 مليوناً فمعدل ثروة الفرد في ألمانيا 2622 فرنكاً وفي إيطاليا 2003 فرنكات أما من حيث عظمة إيطاليا في الأمور العلمية فإن كل من ينظر إليها نظر المجرد عن الغرض ير فيما يشاهده من أعمالها العلمية والأدبية بأنها آخذة في المسير نحو دور جديد من العظمة والمجد.(13/42)
نفاضة الجراب
فجائع البائسين
هذه روايةٌ وطنيةٌ أخلاقيةٌ واقعيةٌ تمثل للقارئ ما تئن منه هيئتنا الاجتماعية من البؤس وما يتخلل نظام بيوتنا من الخلل تشبه في بعض مضامينها رواية البؤساء لأستاذ الفصاحة والأدب حافظ أفندي إبراهيم وإن كان بين الروايتين فرق في الأسلوب وكيفية الأداء ولا عجب إذا تم للمتقدم ما لم يتم للمتأخر فإن حافظاً هو بلا مراء مالك زمام البيان والتبيان. ولعل المغرمين بالروايات والعالمين بنسج الأقاصيص والحكايات يؤاخذونني على الاقتضاب في الفصول الغرامية فيعدّونه نقصاً في الأسلوب فأنا أستميحهم عذراً على ذلك إذ قضى علي وضع الرواية وسلسلة حوادثها بأن أقتصر على ما اقتصرت والله المستعان.
دمشق
شكري العسلي
1
في ليل الأربعاء السابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) هطلت الأمطار وهبت العواصف واشتد البرد فاستحال المطر ثلجاً وابيضت الدنيا فصارت كالعهن المنفوش وأخذت خديجة تشعر بألم الوضع نحو الساعة الخامسة بعد الغروب فأيقظت زوجها أحمد وأخبرته بما ألمّ بها من ألم المخاض فهبّ من ساعته ليأتي بالداية وأحب أن يستصحب معه مصباحاً يستصبح به في ظلام الليل الدامس ولما كانت داره خالية من كل شيء راح يطلب إلى خادم جاره وكان هذا من الأغنياء أن يعيره فناراً أو مصباحاً فطرق الباب عليه وكان الخادم مهتماً بإحضار سفرة الحلويات والفاكهة ليتناول منها ضيوف سيده فخجل أحمد وخشي أن يظن القوم أنه أتى مدفوعاً بما نبعث من رائحة الطعام ولكن صاحب المنزل كان كريم الطبع محباً للضيوف فتبسم له ورحب به واستثقل بعض الحضور مجيئه في تلك الساعة فهمس أحمد في أذن صديقه الخادم قائلاً له: هل لك أن تعيرني مصباحاً أستنير به في طريقي لأني ذاهب لأحضر الداية لامرأتي فقد أخذها المخاض. فسأل صاحب الدار خادمه عن سر مجيء أحمد فأجابه الخادم أنه يريد أن يستعير منا مصباحاً وأعلمه بالسبب فأمره مولاه بأن يلبي طلبه فأخذ صاحبنا المصباح وذهب مهرولاً إلى الداية فلما قرع بابها(13/43)
سألته عن المُقْرب فأجابها بأنها امرأته وإذ أيقنت أنه لا ينالها إلا التعب والبرد ونسيت ما ستناله من الأجر والشكر وما يترتب على عملها من خدمة الإنسانية لم يسعها إلا أن تظهر أسفها واعتذرت بمرض اعتراها منذ أسبوع فدلت على أنها عارية من عواطف الرحمة مجردة عن الإنسانية التي كانت توجب عليها أن تسعى إلى تخليص تلك البائسة من خطر الموت ومن يدر كم من النساء اللواتي ذهبن لجهلها وعدم اعتنائها بقواعد الصحة. وكم سمعنا ورأينا من النساء اللواتي فارقن الدنيا بسبب الوضع لجهل القابلات وقلة عنايتهن.
انفصل صاحبنا عن باب الداية وعينه تقذف قطرات الحنو الزوجي ممزوجاً بحسرة البؤس البادي على صفحات خديه وذهب إلى قابلة أخرى فسألته عن الأجرة فأخبرها بما في مكنته أن ينقدها إياه من الدراهم فامتنعت واعتذرت ثم قالت إنها لا تخرج من منزلها العامر إلا بأجرة وافرة فأخذه البكاء وذهب إلى عجوزة عرفت بعمل الخير لها خبرة بالتوليد فاستنهض همتها وأخبرها بما جرى له مع تينك القابلتين فأسفت لحاله ولعنتهما ولعنت الزمان الذي قل عم الخير فيه وأخذتها الحمية والحماسة الشرقية فذهبت معه على الفور وأجلست خديجة على الكرسي وأخذت تعالجها وتحمسها وتقرأ لها ما تيسر من القرآن وتتوسل بالأدعية على عادة العجائز التقيات. فلما حانت الساعة السابعة بعد منتصف الليل وضعت خديجة غلاماً سُر به أبواه وسمياه سعيداً تفاؤلاً بأن ينالهما السعد بهذا وقرأا الفاتحة على هذه النية ومن العادات التي لا خلاص منها إكرام القابلة بضروب الحلواء والفاكهة ولم يكن عند صاحبنا درهم واحد ليقوم بهذه العادة فرهن قدراً له وأتى ببعض المآكل قدمها للقابلة وانصرفت واعدة إياه بالمجيء كل يوم لتتم إحسانها.
2
أخذ سعيد ينمو يوماً فيوماً وغدا سلوى أبويه في بؤسهما ومحط آمالهما وكانت مياومة أبيه لا تقوم بنفقة عياله فحسن لديه أن يُستخدم في كتائب الدرك لينال ثلثمائة قرش مشاهرةً فقدم طلبه والتمس تعيينه وساعده على ذلك بعض أهل الخير فعين نفراً وظن أن ما تم له من الخير ناله بيمن طالع سعيد ابنه فأمل فيه خيراً وزادت محبته له وكان أحمد حسن المنزع مهذب الأخلاق عُرف بالأمانة فاتخذه زعيم الدرك علي باشا وكيلاً على منزله وأحله منه محل الثقة وطفق يحسن إليه وإلى سعيد ابنه وكان قد بلغ ابنه السادسة من عمره فظهرت(13/44)
عليه أمارات النباهة وحدة الذهن. وكان للقائد المشار إليه ابنة وحيدة اسمها جميلة هي في السادسة من عمرها كسعيد وقد كان اجتماع سعيد بها في منزل واحد واشتراكهما في العمر سبباً في ارتباطهما برابطة الإخاء المتينة وألف كل منهما أخاه حتى صارا كأخ وأخته لا يطيقان افتراقاً.
وفي غضون ذلك أدخل الباشا سعيداً إلى المكتب الابتدائي فلما بلغ الثانية عشرة من عمره أتم الدراسة الابتدائية وثبتت لدى الباشا كفاءته فأدخله المكتب الإعدادي الملكي بدمشق داخلياً بلا أجرة فجدّ في دروسه حتى تقدم في صفه وأصبح الأول فيه وهو يختلف إلى منزل الباشا في اغلب الأحيان وكلما دخل المنزل يشعر بميل لرؤية جميلة ويشتاق إليها كلما غاب عنها فأدرك أن لها مكاناً من قلبه علياً وخُيل له أن يتزوج بها ولكن كان يمنعه عن هذا التصور ما بين أبيه وأبيها من تفاوت الطبقة عالماً أن الناس لا يزالون مغرمين بالظواهر وأن الصفة المطلوبة بل الضالة المنشودة في الزوجية هي المال والجاه وندر من اهتم بمكارم الأخلاق والتربية الصحيحة ولذلك أيقن أنه لا ينال ما تطمح إليه نفسه إلا إذا نال جاهاً ومقاماً عظيماً. وكان كلما اجتمع بها يرى منها أمارات الحب والميل إليه ولم يجسر أحدهما أن يبوح لصحابه بما تكنه الصدور.
3
ألا أن خير الودّ ودّ تطوعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب
حدث ذات يوم أن كانت دار الباشا خاليةً فعزم سعيد على إظهار ما في فؤاده من دواعي الهوى وراح يختلس الفرص ويحادث جميلة ويأخذ معها في أهداب الكلام حتى ساقهما ذلك إلى ذكر أيام صباهما ثم تحين المناسبة وقال لها: أيخطر على بالك يا تُرى ما كان بيننا مستحكماً من علائق الحب والوداد أيام كنا أحداثاً؟ ألا تذكرين ذلك العهد الذي كان بهجة الأيام والليالي ورياض الأزمنة فكأن الشاعر نظر إليه حين قال:
شهور قد قُضين وما علمنا ... بأنصافٍ لهن ولا سِرار
- ألستَ تحبني الآن؟
- كيف لا أحبكِ! ولكني لا أعلم إن كنت باقيةً على العهد في الحب أو زال أثره من نفسك ذهاب أمس الدابر فإن الأيام تقلب القلوب.(13/45)
- سلْ قلبك ينبئك عما في ضميري لك
- قلبي يحدثني بمحبتك ولكن لست أدري. . .
وعندها ساد السكوت وانقطعت سلسلة الحديث فلم يتجاسر أحدهما على الاعتراف بأكثر مما اعترف والموقف حرج. فغير سعيد الموضوع خوفاً من لومها وعتابها وأخذا يبحثان عن المكتب فصار يمدح مستقبله ويشرح آماله ويتعلل بأنه سيكون منه رجل عظيم يحرز الرتب العالية والرواتب الوافرة إذا ساعده القدر ولم يخنه الحظ.
وهنا تم الحديث وانقضت جلستهما التي يصح أن تسمى الأولى وهي الأولى في شرح الغرام فودع سعيد حبيبته وأليفة صباه وذهب إلى مدرسته وآماله تسبح به في سماء الخيال وقد أيقن أنها شريكته في الحب فارتسمت صورتها أمام عينيه في درسه وعندما يخلو بنفسه وكان يذهب في تأويل كلماتها مذاهب شأن من رأى بصيص نور السعادة وكان منها محروماً. أو تجلت له أمارات الغنى وكان من قبل معدماً.
سل قلبك ينبئك عما في ضميري لك جملة فاهت بها جميلة فأخذ أليف صباها يقيم العلالي والقصور من الأحلام ويتفنن في تفسير مضمونها على أوجه وبعد أن نثل ما في كنانة علمه من فهم المعاني الدقيقة قال يخاطب نفسه: أسألك يا قلب ألا ما أطلعتني على ما حوته ضلوعها؟ فإن كان وداً خالياً من الغرام فلست أرضاه إذ لا يجديني نفعاً. ثم راجع نفسه فقال إن قلبي يحدثني بأن عندها مني ما عندي منها وأن سكوتها يدل على ذلك والسكوت في معرض الحاجة إقرار.
ثم ما لبث أن سخر من نفسه وقال: وإذا لم تعترف لي بما في فؤادها كيف يسوغ لي أن أحكم بحبها لي على وجه الذي ترمي إليه آمالي؟ وأنشأ يفكر فيما يوصله إلى معرفة كنه أمرها من ناحيته فرأى أن يسطر لها كتاباً يستطلعها به طلع أفكارها فبعث إليها بالكتاب التالي:
سيدتي - ساقتني الجرأة أن أكتب إليك بهذا الكتاب وأنا أخشى أن لا ينال منك قبولاً ولا يكون سبيلاً إلى غضبك الذي أعدّه من قواصم الظهور. وإني لأود أن يقيم لي عذراً مقبولاً بما يمت به إليك من بيان ما تجنّه أضالعي لك من الحب الطاهر. فإن قولك يوم اجتمعنا إن ما في قلبي لك ينبئني بما في فؤادك. قولٌ خليق بالنظر فقد فتشت في سويدائه وحناياه فلم(13/46)
أجد فيه لك غير الحب الأكيد مما يدعوني إلى تعليق الآمال بما هو أقصى مناي من دنياي وأعني به أن تكوني شريكة حياتي تشاطرني فيها الأفراح والأتراح. وإن أتقدم إليك إذا رأيت في رسالتي هذه قحة وجرأة أن تطويها عاذرةً والكريم عاذر وإذا وقع كلامي منك موقعاً حسناً فلا تلومي مفاتحتي لك بما في قلبي واعف عني وقني سورة سخطك واكتمي الأمر عن الشمس والقمر والسلام عليك. . .
ثم طوى الكتاب ووضعه في غلاف وذهب إلى منزل الباشا وطلب أن يقابل الخانم الكبيرة ليقبل يديها ويقوم بما اعتاد من تقديم واجباته لها فدعته إليها وسلمت عليه ودعت له بالتوفيق. فاختلس فرصةً في تلك الساعة وألقى الكتاب بيد جميلة فتناولته مرتعشةً وقد احمرّ وجهها ثم أقام هناك هنيهةً وانصرف إلى مدرسته.
ذهب سعيد فدخلت جميلة غرفتها وأغلقت الباب وأرخت ستور النوافذ وسدت المنافذ والشقوق بحيث لا يراها أحد وجلست على كرسي ووجهت وجهها نحو الجدار وأخذت تقرأ الكتاب فاحمر وجهها خجلاً وعلمت أنه وقع في شراك هواها فأرادت أن تتماسك ولا تريه انحلالاً في الإخلاص لعلمها أن بعض الرجال يكرهون زواج من يبحن بسرائرهن في الهوى. فبعثت إليه كتاباً تعيبه به على جرأته وما وقع له من الإلماع إليه على أسلة لسانه وبنانه. ولما تلا كتابها أخذ اليأس والخجل يقيمه ويقعده فهجر منزل الباشا زمناً حتى صار أهل بيته يسألون عنه ووقعت جميلة في شر أعمالها وندمت على ما فرط منها من عتابه المرّ الجافي على جرأته الغريبة وأيقنت أن الخوف أقصاه عن غشيان منزل أبيها فكتبت إليه بما يأتي:
عزيزي: أراك هجرتنا هجراً طويلاً وما عودتنا من قبل ذلك فإن كان هذا تناسياً فهو ينافي أملنا فيك وإن كان خجلاً من عتابنا فعملك مردود عليك. فتعال إذاً يوم الثلثاء إذ يخلو لنا الدار بتغيب أمي وأبي لأبوح لك بذات نفسي ولك مني ألف سلام.
ثم طوت الكتاب وبعثت به مع خادمتها الأمينة إلى المكتب فلما تناوله سعيد كاد يطير فرحاً وأخذ يغوص في بحور الخيال ويسبح في فضاء الأماني إلى أن أقبل اليوم المضروب للاجتماع فاحتال على مدير المكتب ونال منه رخصة بالخروج ذلك اليوم فخرج مهرولاً نحو منزل حبيبته. فلما دخل عليها سلم سلام المتلعثم وهو لا يدري ما يقول فأحسنت(13/47)
استقباله بوجه يفتر سروراً ويطفح بشراً وأخذت تلاطفه بالكلام وتقول كيف يخطر لك أن أسطر في الورق ما يخالج قلبي لك من الحب وليت شعري ماذا يكون حالنا لو وقع الكتاب في يد من يأتي به أبي ومن يشفع فينا عندئذ؟ فسكن روع سعيد وما جاش به من الجأش وعلم علم اليقين أنها لم تجسر على مفاتحته فقال لها:
الآن حصحص الحق وعلمت مكانتي منك فهل تتنازلين لقبولي رفيقاً لك في حياتك غير ناظرة إلى فقري وقلة جاهي وتكتفين بمكارم أخلاقي وآدابي وتعتمدين صدقي وفرط ودي وتثقين بأن حياتي ستكون وقفاً على ما فيه رضاك.
فقالت أنت تعلم أن أمر زواجي ليس بيدي ولو خيرت لما اخترت سواك. على أني أستطيع رد كل من يطلبني غيرك وأنا عالمة بشدة بأس أبي فكن في أمان من أني سأبذل الوسع لأظل عانساً ريثما تنجز سني دراستك ولعلك تنال مقاماً يبلغك أمانيك فأعطيك هذا الوعد وسأثبت عليه مهما كلفني من العذاب والهوان.
- أنا أعلم منزلتي وأن لا سبيل إلى طلبك ولكن ما يخالج قلبي من الأماني يدفعني إلى القول باني بعد ما أتم دروسي التجهيزية سأذهب إلى الأستانة وأدخل في إحدى المدارس الكبرى فأنال عند خروجي منها بعد نيل الشهادة منصباً يهيئ لي مستقبلاً جميلاً أكون جديراً بك ويسوغ لي طلبك من أبيك.
- نعم ما قلت وفكرت فليس لك عندي سوى النصيحة أن لا تتأخر عن الجد في التعليم لئلا تقعد ملوماً محروماً واسع جهدك ولا ريب عندي أنك ستحرز مقاماً يليق بنفاذ بصرك وبصيرتك ومكارم أخلاقك وسمو آدابك وإياك أن تقلبك الأيام فتنسى ما قر عليه قرارنا الآن وأوصيك بالثبات على الوعد ولو بُليت بأنواع العذاب.
وهنا أقسم لها بكل محرجة من الإيمان وتحالفا على أن لا يخلا بالوعد وتفارقا على اللقاء ولو بعد حين.
البقية تأتي(13/48)
العدد 14 - بتاريخ: 15 - 3 - 1907(/)
صدور المشارقة والمغاربة
اميرسون
1803 - 1882
يظن بعضهم أن العالم إذا بث فضل علمه والأديب إذا نشر آثار أدبه والأخلاقي إذا علّم الحكمة لأهل جيله وقبيله وصاحب الدعوة أو النزعة إذا نفخ في الناس من روحه ولم يظهر للعيان في الحال أثر مما قصدوا له ووقفوا نفوسهم عليه وأنفقوا نقد أعمارهم على خدمته يعدون في الخائبين الخاسرين وأن العمل إذا لم يُنتج لأول الأمر لا يعد صاحبه رجلاً مذكوراً ولا عمله مبروراً مشكوراً كأن يطلبون من الغرس أن يثمر في يومه ومن الطفل أن يكبر بانفصاله عن أحشاء أمه وفاتهم أن لكل عمل عمره ولكل مؤثر أثره والله لا يضيع عمل عامل.
يكاد يوقن كل ناظر في الحضارة الغربية وباحث في تاريخها منذ مئتي سنة أنها ترمي بالتدريج إلى أن تكون حضارة مادية بحتة لا ينظر فيها لغير الأبيض والأصفر وأن أهل الغرب على اختلاف أصقاعهم وحكوماتهم لا يحيون ولا يريدون أن يحيوا إلا أن الحياة المادية ولا تراهم إلا زاهدين في الحياة الأدبية أو الروحية. فعلى نسبة غنى المرء عندهم وكثرة ذهبه تزداد حرمته والإعجاب به وكلما استحل أكل مال الضعيف وتفنن في هضم حق الفقير ولو تحت ستار الاحتكار أو الاستعمار أو الشركات والمضاربات عُدّ من أرباب العقول والمضاء وهذا من عيوب هذه المدينة الأوروبية وما نخال أن الحال كانت كذلك على عهد الحضارة الإسلامية.
الحياة المادية تكاد الآن تتغلب في كل بلد من المعمور على نسبة دخول نور العلوم وفضلات التمدن الحالي وتشهدها على أتمها في الولايات المتحدة الأمريكية لأن جميع أهلها من المهاجرين من أقطار العالم في طلب الرزق وقل فيهم مثل المهاجرة الأول الذين هاجروا إليها فراراً بنفوسهم من ظلم الحكومات الأوروبية فتكوّن منهم والله أعلم على ما طبيعة تلك المملكة الضخمة من الخصب وأسباب الثروة التي لم يجتمع مثلها لمملكة أقوام يحلمون بالدولار ويحيون به ويموتون في حبه ويفصلون كل شيء على مثاله ويسعون بكل ما يمكن إلى نيله ولا يفكرون في غيره من الحياة الأدبية التي لو نزعت من أمة لزالت(14/1)
عنها سعادتها وغبطتها ونعماؤها.
ولقد كان أول من دعا من حكماء تلك الديار إلى الإقلال من هذا التكالب الضار والجمع بين حب الذهب وحب الأدب صاحب هذه الترجمة اميرسون حكيمها وعالمها العامل. دعا إلى ذلك وأهل طبقته من المفكرين في أمته فأثر دعوته في بعض النفوس تأثيراً نظرياً ولكن لم تظهر آثارها العملية حتى الآن على أن كثيراً من زعماء الأفكار وحملة العلم فيهم يتوفرون اليوم على قتل تلك الروح المادية ومحاربتها للتخفيف من شرر شرورها وفي طليعتهم الرئيس روزفلت داهية الأرض وعالم القياصرة والإمبراطورة وأعقل المالكين من المطلقين والمقيدين.
نشأ اميرسون في حجر الدين وكان أبوه رئيساً دينياً من شيعة الموحدين فانصرف في أول أمره إلى احتذاء مثال والده في الوعظ والإرشاد ونال وظيفته في كلية هارفارد الجامعة فدرس فيها علم اللاهوت وغدا واعظاً موحداً في إحدى بيع بوستون إلا أنه لم يلبث أن تخلى عن هذه الصناعة وذهب إلى بلدة كونكورد سنة 1835 ينقطع للتعليم والإلقاء على سبيل المذاكرات العامة وإلى تأليف الكتب وإنشاء المقالات في المجلات وأسس لنفسه مجلة دينية فلسفية سماها الكمال وكانت تآليفه لأول عهده فلسفية محضة ولما زار إنكلترا سنة 1848 ورأى أهل العالم القديم وما عندهم من آثار وأمصار تنبهت فيه القوى النفسية فوضع تأليفاً كان سبباً لأن لقّب به كارلايل أمريكا تكلم فيه على كثير من كبار الرجال ممن بلغوا مراتب الكمال على نحو ما تكلم كارلايل الإنكليزي في كتابه الأبطال وعبادة الأبطال. ومن جملة كتب اميرسون التي تأفَّقت بها شهرته كتاب سماه الخُلُق الإنكليزي درس فيه أخلاق الأمة الإنكليزية من الوجه الاجتماع والأدبي شرح فيه على أحسن طراز وألطفه وأوضح أسلوب وأنفعه الأسباب التي نجم عنها مجموع النقائص والعيوب التي يتألف منها الخُلُق البريطاني.
كان اميرسون كاتباً وشاعراً وهو إلى الكتابة أميل وفيها أمتن وأرصن. منقطع القرين في سلاسة التعبير ولطف الأداء والتصوير مما كاد يبلغ به حد الإعجاز في لغته. وكان حكيماً مفكراً وأخلاقياً عظيماً. قيل إن الوحدة التي مال إليها اميرسون وسعة العيش التي أنقذته من الهموم الخارجية أتاحتا له أن يكون منه في القرن التاسع عشر رجل شبيه بمونتين في(14/2)
القرن السادس عشر هذا كاثوليكي وذاك بروتستانتي. فأميرسون حكيم كمونتين وشارون الحكيمين الفرنسويين وشكسبير الشاعر الحكيم الإنكليزي. ولقد أولع بدرس كتب مونتين ثم انتقل إلى الأخذ من كتب شكسبير فهو مثلها باحث من النظار وهو مثلهما في الإبداع والعمل بما في فطرته بعيد الغور حسن التعليل جيد النقد نافذ البصيرة خالص من شوائب التقليد.
قال مترجموه أنه جمع جميع الأدوات التي تطلب للفلسفة ولم يتيسر له أن يحيلها إلى طريقته. ومما امتاز به نقده أحوال عصره لأن طرق الحكومات الجمهورية تهلك الفرد في سبيل الجماعة فقام اميرسون وناهض في عصره هو وكبار أرباب العلم من أهل حلقته المتشعبين بأفكار أمثال وتوروالكوت وشاننغ وفرانك سانبون وغيرهم المتكالبين على الغنى المستحلين للمطامع. وقام يقول للفرد: اعتقد بما يوحيه إليك قلبك. ورأى أن الصناعات تقضي على عالم الكمال فأنشأ يقول إن العالم لا يحيا حياة طيبة رغيدة إلا إذا نبذ الأنانية وطهّر حياته من الشهوات البدنية ليبلغ الزلفى من رب العباد براً تقياً. فاميرسون هو صاحب الفلسفة المعنوية التي تدعو إلى المعارف والآداب وقد وصفته مجلة بلاكو ماكازين بقولها: كان اميرسون من أسجع الناس خُلقاً وأوسعهم علماً وأحسنهم رأياً وأسمحهم فكراً وآلفهم بالفطرة وأخلصهم من الأوهام المائجة المتغيرة ليس له نظرية يحيد عنها ولا طريقة يصعب الأخذ بها ولا أرب في القبض على قياد أحد. يطلب للمرء أن يكون لنفسه وأن لا يعتمد إلا عليها وأن يوقرها ويحترمها على مثال كبار الرجال ممن لهم ما له وعليهم ما عليه. فإن قام اميرسون بمبدأ عام استنتج من فلسفته أو تصور أنه أتى أمراً جديداً لم يسبق إليه سابق فهو أنه دعا إلى إعادة الإنسان إلى شرفه في نظر أخيه والإهابة بالناس إلى الغيرية وزحزحتهم عن الأنانية ليكون المرء كبيراً في نفسه معتمداً عليها مستقلاً كل الاستقلال في أفكاره وأفعاله وهذه هي الشروط الحقيقية في القوة الشخصية والخير الاجتماعي.
وما نرانا مخطئين لو عقلنا إن فلسفة اميرسون النظرية تتعاصى على التحليل فيقتضي حلها بحسب ما يوحي إليه وحي الوقت وأن يجع إلى حلها في مشالك المسائل المتعلقة بما وراء المادة وإذا تعاورتها بالحذف والتنقيص تُفقدها رواءها وتضيع سناها وسناءها فعليك(14/3)
يا هذا أن تقبلها على علاتها وتشربها على كدوراتها إذ أن حسنها إن تبقى على رسمها كما صدرت عن أبي عذرتها وهو يسير في الفلوات ويصعد الآكام والعقبات ويوغل في الحراج والغابات ويميلها بحسب ما تنزل عليه من السماء ويستنشقها من الهواء ويسمعها من حفيف الأوراق ويتناولها من أرج المروج الخضراء ويقرأوها في سطور المسايل والتيار. فإن أنت حذفت منها اضطرابها وارتخاءها وتلون صورها ولهجاتها وارتجالها ومواضع الوقف فيها تصاب بآفة وعاهة. ولذا كان علينا أن نقبل تعاليم اميرسون بالحرف بدون أن نغير منها شيئاً فهو ابن الوحدة والتأمل.(14/4)
شعراء النصرانية في الجاهلية
عُني حضرة الأب لويس شيخو اليسوعي منذ برهة بإظهار فضل شعراء النصرانية في عهد الجاهلية وهو نعم العمل لو توخى في ذلك صراح الحق واتبع سنن التاريخ المسنون نقلاً ورواية. إلا أنه حفظه الله قد أخذ على نفسه أمراً هو في غاية الصعوبة والعنت ألا وهو تنصير بعض شعراء الجاهلية ممن لم يكن لهم من النصرانية حظ. فلا غرو أنه يعد هذا العمل من قبيل تنصير من كان على الضلال مبتغياً بذلك القربى والزلفى من رب العباد واكتساب الأجر والثواب في الدنيا والمآب. غير أنك
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ويا ليته وقف عند هذا الحد وكأنه لم يجترئ بذلك فأخذ الآن بحل قيد من تقيد بدين وإجباره على النصرانية قبل أم أبى. كما فعل هذه السنة بالسموأل إذ أجبره وهو بين الأموات على إنكار دينه وانتحال النصرانية له. فلا جرم لو أمكن للموتى أن ينطقوا لكان أول نطق السموأل إنكار هذه الفعلة الشنعاء وهذا القهر المنكر: وإذا سألتني متى فعل حضرة الأب هذا الفعل؟ قلنا: فعل ذلك عند عثوره على قصيدة تُنسب إلى صاحب الأبلق الفرد (المشرق 9: 482 و674) وقد زاد عليها بعض النصارى بيتاً أو بعض أبيات لإيهام القارئ أنه كان على النصرانية. وهذا ما حدا الأب إلى أن يقول في (المشرق 9: 675).
نشكر حضرة مراسلنا الذي أطلعنا على روايات هذه القصيدة. وكنا وددنا لو زادنا علماً عن النسخة التي أخذ عنها لتعريف قدمها وخواصها. وإن كان البيت الأخير صحيحاً صدق ظننا السابق بأن السموأل نصراني لا يهودي لاسيما أن أصله من بني غسان وبنو غسان نصارى اه
قلنا: نقلنا كلام الأب برمته ليطع عليه القارئ الحكم العدل ويعرف قوة براهينه وحججه. أما قوله: إن كان البيت الأخير صحيحاً صدق ظننا السابق بأن السموأل نصراني. قلنا: ونحن نقول مثله غير أنه لسوء الحظ خطته يدٌ أثيمة فحطته هذا المحط ومن هذا يظهر أن الناظم النصراني الكاذب لم يراع انتقال الرموز شيئاً بعد شيء لتنتهي إلى ظهور المسيح بل هجم على الموضوع دفعةً هجوم الذئب الجائع فوقع على فريسته وفراها بأنيابه إلا أن الغير وقعوا عليهما أيضاً فأظهروا خيانته.
وأما قول الأب: ولاسيما أن أصله من بني غسان وبنو غسان نصارى فهو قول لا يسلم به(14/5)
المطلعون على أخبار العرب في عهد الجاهلية. لأن من غسان من كان على دين دهما العرب وهي الوثنية ومنهم من دان باليهودية وطائفة كانت على النصرانية فكيف يقول بعد ذلك: إن غسان كانت نصارى.
أما أن فريقاً منهم كان يدين بالوثنية فهو أشهر من أن يذكر فهذا الحارث الأكبر ابن أبي شمر الغساني الملقب بالأعرج وهو الذي اشتهر ملكه في أيام القياصرة فإنه كان وثنياً قحاً ويتضح ذلك منه أنه: أهدى سيفيه المعروف أحدهما باسم رسوب والآخر باسم مخذم لبيت الصنم (عن الطبري 1: 1706) وبيت الصنم المذكور هو بيت مناة لأن غسان كانت تعبد هذا الصنم (عن معجم ياقوت في مادة مناة).
وزد على ذلك أن تلبية غسان عند وقوفها عند صنمها كانت هذه: لبيك رب غسان. راجلها والفرسان (تعن تاريخ اليعقوبي 1: 297). وهذا سطيح الكاهن المشهور فإنه كان غسانياً إلا أنه لم يكن نصرانياً وإن كان خال نصراني من أهل الحيرة.
فهل بعد كلام هؤلاء الأئمة الأفاضل مندوحة للإيهام والإبهام؟ - نعم أن حضرته إذا أراد أن يزكي نصرانية شاعر برأ ساحته من كل ما يمكن أن يقع على ثياب دينه أدنى غبار إلا أن ذلك كله إذا فات على عقول بعض القراء فلا يفوت على عقول الأدباء لأنه لا يشفي فيهم علة كما لا يروي منهم غلة.
أما أن اليهودية كانت في غسان فهذا بين من دين السموأل فإنه ليس من كاتب أو أديب أو مؤرخ أو لغوي ذكر دين السموأل إلا وقال عنه أنه يهودي المذهب فهذا الطبري وابن الأثير وابن خلدون والمسعودي وأبو الفداء واليعقوبي وابن رسته ونحوهم هم لسان واحد لإثبات هذه الحقيقة الراهنة التي هي على زُبية من سيل الوهم والخطأ. لا بل أن حضرة الأب نفسه يقول بذلك في مجاني الأدب 3: 313 في الحاشية فكيف انثنى اليوم عن رأيه؟ - وهذا وأن اليعقوبي يقول بصريح العبارة 298 وتهود قوم من غسان وهو يقول أيضاً في ص 299 أن النصرانية كانت أيضاً في غسان. ومن ثم فقول من يقول إن اليهودية كانت في غسان كما أن النصرانية والوثنية كانتا فيها فهو بعيد عن سهام الملام.
هذا من جهة السموأل وإلا فإن حضرته قد نصر أيضاً غير هذا من الشعراء ما قد اذخر له أجراً مذكوراً لا يفنى ولا يزول إذ لا تمد اللصوص إليه يدها كما أن السوس لا يتعرض(14/6)
له. من ذل أنه نصر في الجزء الأول من كتابه شعراء النصرانية هؤلاء الواردة إليك أسماؤهم مرتبة على حروف المعجم:
الأخنس بن شهاب. الأعشى بن قيس. الأفوه الأودي. أفنون. امرؤ القيس وأعمامه. أمية بن أبي الصلت. بسطام بن قيس الشيباني. جساس بن مرة. جليلة. جحدر بن ضبيعة. الحارث بن حلزة. الحارث بن عباد. الخرنق أخت طرفة. سعد بن مالك البكري. السفاح التغلبي. سويد بن أبي كاهل اليشكري. طرفة. عبد يغوث. عمرو بن قميئة. عمرو بن كلثوم. عميرة بن جُعيل التغلبي. الفند الزماني كليب. وائل بن ربيعة. المتلمس. المثقب الفندي. المرقش الأصغر. المرقش الأكبر. المسيب بن علس. المنخل اليشكري. المهلهل أخو كليب.
ونصر في الجزء الثاني: الأسود بن يعفر. ذا الإصبع العدواني. أوس بن حجر. الحصين بن حمام. دريد بن الصمة. الذبياني. الربيع بن زياد. زهير بن أبي سلمى المزني. زيد بن عمرو بن نُفيل. سلامة بن جندل. عبيد بن الأبرص الأسدي. عروة بن الورد. علقمة الفحل. عنترة العبسي. كعب بن سعد الغنوي.
ولعلك تظن أن عمله المبرور يقف عند حد تنصير الأفراد فأربع على ظلعك فقد نصر أيضاً عدة قبائل وبطون مما يدل على غيرته. فعنده كندة ومذحج وطيء وتغلب وقضاعة وإيان وبكر وتميم ومزينة وأسد وكنانة وعدوان وذبيان وغني وهوزان وعبس كلهم نصارى لا غير ولا غرو أنهم تلقوا الإيمان القويم عنه عند قدومه إلى العالم وإسماعه إياهم صوته وهم في القبور.
على انك لو وقفت على سر دعائه هؤلاء الأقوام إلى دين عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لاستغرقت في النوم والأحلام إلا أني لا أريد أن أطلعك بنفسي على هذا السر الغريب بل أجتزئ بأن أورد لك بعض الشواهد لتقف أنت بنفسك عليه بدون أن أبوح لك به ليكون كل الفضل لك.
قال مثلاً في المشرق 7: 620 قال طخيم بن الطخماء يمدح بني تميم:
وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق اه
قلت: إن الكلمات التي قدمها على هذا البيت وصدّره بها يوهم أن تميماً كلها كانت نصارى. والحال أن الحق هو على غير هذا الوجه فإن الشاعر مدح بعضاً من تميم. قال في الكامل(14/7)
1: 26 (من الطبعة المصرية) ما هذا حرفه: قال أبو العباس: ومن سهل الشعر وحسنه قول طخيم بن أبي الطخماء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. ثم من رهط عدي بن زيد العبادي:
كأن لم يكن يومٌ بزورة صالحٌ ... وبالقصر ظلٌّ دائمٌ وصديقُ
بنو السمط والحدّاء كل سميدع ... له في العروق الصالحات عروقُ
وإني وأن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوقُ
اهـ المقصود من إيراده. وعلى هذا الوجه أيضاً جاء النظم المذكور في معجم ياقوت في مادة زورة 2: 957 فكيف صير إذاً جميع بني تميم نصارى وفيهم الوثنيون والمجوس واليهود والثنوية والنصارى إلى غير ذلك من الأديان؟ فلا جرم أن حضرة الأب واهمٌ في قوله هذا بل موهم!
ومن غريب أمره أنه من بعد أن نصَّر تميمياً قال بعد صفحات من قوله المذكور في بني تميم كلاماً هذا نصه بحرفه: وعلى ظننا أن الذين هجوا بني حنيفة لأكلهم ربهم وقت المجاعة إنما أرادوا القربان الأقدس. كان بنو حنيفة النصارى يتناولونه فظن الشاعر أن ذلك لجوعهم قال بعضهم:
أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحُّم والمجاعه
لم يحذروا من ربهم ... سوء العقوبة والتباعه
وقال آخر:
أكلت ربَّها حنيفةُ من جو ... عٍ قديمٍ بها ومن أعواز
(اه عن المشرق 7: 622)
قلنا: إن الذين هجوا بني حنيفة هذا الهجو كانوا من تميم (عن الآثار الباقية ص 210) فإذا كان الأب يزعم أن بني تميم كانوا نصارى وكان بنو حنيفة أيضاً نصارى فكيف يُعيّر الواحد الآخر بشيء هو فيه؟ أما تحرير الرواية فهو أن بعض بني حنيفة (لا كلهم) كانوا نصارى وهم الذين كانوا يكونون في رُصافة هشام المعروفة باسم الزوراء وإلا فإن سائر بني حنيفة كانوا على أديان مختلفة حسب البلاد التي كانوا يكونون فيها. والذين أشار إليهم الشاعر هم الذين كانوا قد اتخذوا صنماً من حَيْس (والحيس تمر يخلط بسمن وأقط فيُعجن(14/8)
ويُدلك شديداً حتى يمتزج ثم يُندر منه نواه وربما جُعل فيه سويق. ولم يكن من الخبز قط). قال في الآثار الباقية ص 210: كان بنو حنيفة قبل مُسيلمة اتخذوا في الجاهلة صنماً من حيس فعبدوه دهراً. ثم أصابتهم مجاعة فقال رجل من بني تميم: أكلت ربها. البيت. وقال آخر: أكلت حنيف. البيت. فأين هذا مما ذهب إليه حضرة الأب؟ فلا جرم أنه واهمٌ بل موهِم.
وقال حضرته في المشرق 7: 621 وكان المنتصرون من أهل الجاهلية يعبدون الصليب كما دل عليهم بعضهم في هجو بني عجل وكانوا نصارى:
تهدّدني عجلٌ وما خلت أنني ... خلاةٌ لعجل والصليب لها بعلُ اهـ
قلنا: ولم يكن بنو عجل كلهم نصارى بل بعض منهم. وإلا فإن أغلبهم كانوا على الوثنية دين دهما العرب لا النصرانية كما يريد الأب أن يوهمه. إذ بنو عجل كانوا من بكر بن وائل ووجود الوثنية في بطون بكر أمرٌ لا يحتاج إلى إيضاح.
وقال أيضاً في المشرق 7: 624 وقال الزبرقان بن بدر:
نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا ... منا القروم وفينا تنصب البِيَعُ اه
فأدخل وهمين في هذا الكلام. أولاً جعل الزبرقان من النصارى كما أوضح ذلك ببين العبارة في شرح المجاني ص 135 إذ قال: كان (الزبرقان) في الجاهلية سيداً يدين بالنصرانية وهو القائل:
نحن الملوك فلا حيّ يقاومنا ... فينا العلاء وفينا تنصب البيع
وفد مع بني تميم على نبي المسلمين سنة 9 هـ / 631 م بنو تميم وأجازهم محمد
اه المقصود من إيراده.
والحال أن الزبرقان لم يكن هنيهةً من الزمان نصرانياً فلو سلمنا له أن رواية البيت وفينا تنصب البيع صحيحة لكان لفظ البيع هنا جمع بيعة بكسر الأول مثل الحلبة والركبة للنوع والهيئة. والمراد مبايعة الملوك وطاعتهم والمعاقدة على ولائهم والمعاهدة عليه كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ومحصل معنى البيت على هذا هو: نحن الملوك والكرام أو القروم وفي شأننا تجري عقود البيعة لا مستحق لها غيرنا. وهذا معنى يلائم ما قبله وما بعده ويمتزج معهما امتزاج الماء بالراح لا(14/9)
أن البيع جمع بيعة وهي كنيسة اليهود أو النصارى على ما ذكره أهل اللغة فإنه مع عدم ملائمته للكلام منافٍ لما صرح به أهل المقالات ومن تكلم على أديان العرب. والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
على أن للبيت رواية ثانية ذكرها صاحب الأغاني 4: 8 وهي:
نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... من الملوك وفينا يؤخذ الربع
وفي زاد المعاد وقد ذكر القصة مفصلة في الصفحة 452 من الجزء الثاني رواية ثالثة وهي:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا يُنصب السبُعُ
وفسر السبع أنه يوم عيد من أعياد الجاهلية. فكيف يقول إن الزبرقان نصرانياً وأي كاتب من الكتبة الأقدمين أو المحدثين يقول بهذا القول الفج والبراهين متضافرة ومتكاتفة ومتساندة على كونه خالياً من دين عيسى بن مريم.
والوهم الثاني الذي حاول إدخاله في العقول هو تأييد بني تميم أنهم كانوا كلهم على النصرانية. وهو يزعم ذلك في جميع ما يكتبه فقد قال في المشرق 7: 618 اشتهرت (عدة قبائل) بالنصرانية قبل الهجرة كتغلب وتميم وكندة اه. فنحن نقول: إنه لم يوجد في عهد الجاهلية قبيلة واحدة كان يدين جميع أفرادها بالنصرانية لا كندة ولا تميم ولا بكر ولا تغلب لا بل ولا غسان فإن هذه القبائل كانت أحياء وبطوناً تعبد الأصنام أو كانت على غير النصرانية فقد بينا لك ما كانت عليه غسان من اختلاف الأديان. وهذه تغلب المشهورة بكونها نصرانية فإنها لم تكن كذلك في عهد الجاهلية.
أما كون بعضها كان يعبد الأصنام فهذا ما لا ريب فيه. قال ياقوت في معجمه في مادة أوال (1: 395) أوال اسم لصنم كان لبكر بن وائل وتغلب بن وائل اه. وكانت تغلب من ربيعة وكانت تلبية ربيعة عند وقوفها عند صنمها هذه: لبيك ربنا لبيك. لبيك إن قصدنا إليك. وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة. لربها مطيعة. اه عن تاريخ اليعقوبي 1: 296 ولم تكن التغالبة ممن كانوا يعبدون الأصنام عبادة بدون أن يعتقدوا بصحتها ولذا تراهم يحلفون بها. ومن ذلك كلام جساس حينما سأله أبوه مرة بعد قتله لكليب: ما وراءك يا بني؟ قال: طعنت طعنة لتشغلن شيوخ وائل رقصاً. قال: أقتلت كليباً؟ قال. إي وأنصاب وائل وأي قتل. (عن(14/10)
كتاب شعراء الجاهلية 1: 155) وبهذا المعنى حلف أيضاً المهلهل أخو كليب وكان وثنياً إذ قال:
كلا وأنصاب لنا عاديّة ... معبودةٍ قد قطعت تقطيعا
قال صاحب الضياء مفنداً حضرة الأب لويس شيخو وقد أجاد: الأنصاب: الأصنام أو كل ما عبد دون الله وفسرها جامع الكتاب بأنها كانت حجارة ينصبونها في الجاهلية ويهل عليها ويذبح لغير الله تعالى. قال: وبقي منها بعضها بعد تنصر ربيعة وكان الجهال من العرب يعبدونها. اه. وكأنه ظن أن هذا القول يثبت نصرانية المهلهل ويخرجه من الذين كانوا يعبدون هذه الأنصاب مع أن الرجل يحلف بها ويصرح بأنها معبودة ولا يعقل أن أحداً يحلف بمعبود غيره إذا كان يعتقده باطلاً. وزد على ذلك أنه يقول: وأنصاب لنا بضمير المتكلمين فجعل نفسه في جملة أصحاب تلك الأنصاب ووصفها بالعادية أي القديمة إثباتاً لرسوخ عبادتها في قومه وأن هذه العبادات انتهت إليه عن أسلافه الأولين. ولكن الظاهر أن حضرة الأب كلما عثر على من شك في دينه أو جهل أمره عده نصرانياً تكثراً بالباطل وتبجحاً بما ليس وراءه طائل اه (الضياء 5: 218)
ثم أيجهل حضرة الأب أن من التغالبة من اتبع سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان المتنبئة فليراجع الطبري 1: 1911 ير أنهم تركوا التنصر مع رئيسهم الهذيل بن عمران وانضووا إليها. وعليه فلك تكن كل تغلب نصارى.
الباقي للآتي
بغداد
أحد القراء(14/11)
تسامح العظماء
تابع ما قبله
اتصل ثابت بن قرة الحراني بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين وأقطعه ضياعاً جميلة وكان يجلسه بين يديه كثيراً بحضرة الخاص والعام ويكون بدر الأمير قائماً والوزير وهو جالس بين يدي الخليفة. قال أبو إسحاق الصابي وهو ممن حظي عند الأمراء أيضاً: إن ثابتاً كان يمشي مع المعتضد في الفردوس وهو بستان في دار الخليفة للرياضة وكان المعتضد قد اتكأ على يد ثابت وهما يتماشيان ثم نثر المعتضد يده من يد ثابت بشدة ففزع ثابت فإن المعتضد كان مهيباً جداً فلما نثر يده من يد ثابت قال له: يا أبا الحسن وكان في الخلوات يكنيه وفي الملأ يسميه سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها وليس هكذا يجب أن يكون فإن العلماء يعلون ولا يُعلون.
وكان سنان بن ثابت بن قرة في خدمة المقتدر بالله والقاهر وخدم أيضاً بصناعة الطب الراضي بالله. وكان ابنه ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة في خدمة الراضي بالله أيضاً وخدم بصناعة الطب المتقي بن المقتدر بالله والمستكفي بالله والمطيع لله. واتصل أبو الحسن الحراني ثابت بن إبراهيم بن زهرون بعضد الدولة وكان له منه الجاري السني. وكان غالب طبيب المعتضد بالله وكان أولاً عند الموفق طلحة بن المتوكل وارتضع سائر أولاد المتوكل من لبن أولاد غالب فكان يسر بهم فلما تمكن الموفق من الأمر أقطعه ونوله وأغناه وكان لم مثل الوالد وعالج الموفق من سهم كان أصابه في ثندوته وبرأ فأعطاه مالاً كثيراً وأقطعه وخلع عليه لغلمانه من أراد إكرامي فليكرمه وليصل غالباً فوجه إليه مسرور بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب ووجه إليه سائر الغلمان مثل ذلك وصار إليه مال عظيم ولما قبض على صاد وعبدون أخذ لعبدون عدة غلمان نصارى مماليك فمن أسلم منهم أجري له رزق وترك ومن لم يسلم منهم بعثه إلى غالب وكان عدد من أنفذ إليه سبعين غلاماً أزمة وغيرها فلما ورد عليهم معهم رسول من قبل الحاجب قال غالب: أي شيء أعمل بهؤلاء؟ وركب من وقته إلى الموفق فقال: هؤلاء يستغرقون مال ضيعتي مع رزقي. فضحك الموفق وتقدم إلى إسماعيل زيادة في إقطاعه الحرسيات وكانت ضياعاً جليلة تغل سبعة آلاف دينار وأوعدها له بخمسين ألف درهم في السنة وبعد الموفق طلحة خدم لولده(14/12)
المعتضد بالله أبي العباس أحمد وكان مكيناً عنده حظياً في أيامه وكان المعتضد يحسن الظن به ويعتمد على مداواته.
وخدم أبو عثمان سعيد بن غالب المعتضد بالله بصناعة الطب وحظي عنده وكان كثير الإحسان إليه والأنعام عليه. وعوّل الملوك على صاعد بن بشر في العلاج ولطالما حصل له مال عظيم وحشمه الخليفة ووزيره وزكاه وقدمه على جميع من كان في زمانه. وكذلك ديلم داود بن ديلم خدم هذا المعتضد بالله في الطب وخصّ به فكانت التوقيعات تخرج بخط ابن ديلم لمحله منه ومكانته وكان يتردد إلى دور المعتضد وله منه الإحسان الكثير والأنعام الوافر. ومنهم أبو عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي كان منقطعاً إلى الوزير علي بن عيسى. ومنهم عيسى طبيب القاهر كان عمدته ويركن إليه ويفضي إليه بأسراره. وكان إسحاق بن شليطا خادماً بالطب للمطيع لله. وفنون المتطبب كان يختص بخدمة بختيار ويكرمه ويعده أمراً عظيماً. ونظيف القس الرومي استخدمه عضد الدولة في البيمارستان الذي أنشأه ببغداد وخلع عليه خلعاً سنية. وكذلك أبو غالب بن صفية تقدم في زمن المستنجد بالله والمستضيء بأمر الله. وكذلك أمير الدولة ن التلميذ من رجال المستضيء بأمر الله وبلغت به الأنفة والغنى أنه كان لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، مدحه السيد النقيب الكامل بن الشريف الجليل والشريف أبو يعلى محمد بن الهبارية العباسي بقصيدتين غراوين وذكر أفضاله وكماله كما مدح الشريف الرضي أبا إسحاق الصابي كثيراً وكان بينهما مودة أكيدة. وكذلك مدحه الطغرائي وابن جكينا وغيرهما كما مدح الشريف ابن الهبارية أبا الفرج يحيى بن صاعد بن التلميذ من أسرة أمير الدولة وكان له جماعة من الأنساب كل منهم متعلق بالفضائل والآداب.
ومنهم أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي اليهودي كان في خدمة المستنجد بالله. ومنهم أبو الخير المسيحي طبيب الناصر لدين الله. وابن نصر بن المسيحي حظية أيضاً أمره هذا الخليفة عقيب برئه من مرض على يده أن يدخل دار الضرب ويحمل من الذهب مهما قدر أن يحمله ففعل به ذلك ثم أتته الخلع والدنانير من أم الخليفة ومن ولديه الأميرين محمد وعلي والوزير نصير الدين أبي الحسن بن مهدي العلوي الرازي ومن سائر كبار الأمراء بالدولة فحصل من العين الدنانير عشرين ألف دينار ومن(14/13)
الثياب والخلع جملة وافرة وألزم الخدمة وفرضت له الجامكية السنية والراتب والإقامة. وكان أبو الفرج صاعد بن هبة الله بن توما طبيب نجم الدولة أبي اليمن نجاح الشرابي وارتقت به الحال إلى أن صار وزيره وكاتبه ثم دخل إلى الناصر وكان يشارك من يحضر من أطبائه في أوقات أمراضه ثم حظي عنده الحظوة التامة وسلم إليه عدة جهات يخدم بها وكان بين يديه فيها عدة دواوين وكتّاب قال ابن القفطي: إنه كان بمنزلة الوزراء واستوثقه الناصر على حفظ أموال خواصه وكان يودعها عنده ويرسله في أمور خفية إلى وزرائه ويظهر له في كل وقت.
وخدم أبو الحسين صاعد بن هبة الله بن المؤمل المسيحي بالدار العزيزة الناصرية الإمامية وتقرب قرباً كثيراً. وكسب بخدمته وصحبته الأموال وكانت له الحرمة الوافرة والجاه العظيم. ووصل أبو الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار بالطب إلى أن أقبل له محمود الملك الأرض وكان الملك محمود عظيماً جداً. وتقدم أبو سهل المسيحي عند سلطان خراسان. وأجرى الرشيد على منكه الهندي رزقاً واسعاً وأموالاً كافية. وخدم إسحاق بن سليمان الإسرائيلي الإمام أبا محمد عبيد الله المهدي صاحب أفريقيا بصناعة الطب. وكان يحيى بن إسحاق الطبيب في صدر الدولة عبد الرحمن الناصر لدين الله الأندلسي واستوزره وولي الولايات والعمالات وكان قائد بطليموس زماناً وكان له من الناصر محل كبير كان ينزله منزلة الثقة ويتطلع على الكرائم والخدم. وهارون بن موسى الأشبوني خدم الناصر والمستنصر بصناعة الطب وإسحاق بن قسطار من أحبار اليهود خدم بالطب الموفق مجاهداً العامري وابنه إقبال الدولة علياً. وحسداي بن إسحاق من أحبار اليهود أيضاً خدم بالطب الحكم بن عبد الرحمن الناصر لدين الله. وكان ابن بكلارش يهودياً من أكابر علماء الأندلس في صناعة الطب وخدم بها بني هود.
وحظي بليطيان الطبيب بطريرك الإسكندرية على النصارى الملكية في أيام الرشيد ووهب له مالاً كثيراً وكتب له منشوراً في كل كنيسة في يد اليعقوبية مما أخذوها وتغلبوا عليها أن ترد إليه فرجع بليطيان إلى مصر واسترد من اليعقوبية كنائس كثيرة. وخدم إبراهيم بن عيسى بالطب الأمير احمد بن طولون وكذلك سعيد بن توفيل. وكان إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس في خدمة الحاكم بأمر الله ويعتمد عليه في الطب. وكان موسى بن العازار في(14/14)
خدمة المعز لدين الله العلوي وكان في خدمته أيضاً ابنه إسحاق بن موسى المتطبب وكان جليل القدر عند المعز ومتولياً أمره واغتم المعز لموت إسحاق لموضعه منه ولكفايته وجعل موضعه أخاه إسماعيل بن موسى وابنه يعقوب بن إسحاق. وكان أبو الفتح منصور بن سهلان بن مقشر طبيب الحاكم بأمر الله ومن الخواص عنده وكان العزيز أيضاً يستطبه ويرى له ويحترمه وكان متقدماً في الدولة الفاطمية. وكان الحقير النافع من أطباء الحاكم الخاص وكان ابن مقشر مكيناً في الدولة الفاطمية حظياً عند الحاكم بلغ منه أعلى المنازل وأسناها وكان له منه الصلات الكثيرة والعطايا العظيمة ولما مرض ابن المقشر عاده الحاكم بنفسه وأطلق لمخلفيه مالاً وافراً.
وخدم أفرائيم بن الزفان الخلفاء الذين كان في زمانهم بمصر وحصل من جهتهم من الأموال والنعم شيئاً كثيراً. وكان ابن جميع الإسرائيلي من أطباء الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عالي القدر نافذ الأمر يعتمد عليه في صناعة الطب. وخدم أبو البيان بن المدور الخلفاء المصريين في آخر دولتهم ثم خدمة صلاح الدين يوسف وكان يرى له ويعتمد على معالجته وله منه الجامكية الكثيرة والافتقاد المتوفر وتعطل في آخر عمره من الكبر والضعف فأطلق له الناصر في كل شهر أربعة وعشرين ديناراً مصرية تصل إليه ويكون ملازماً لبيته ولا يكلفه خدمة وبقي على تلك الحال وجامكيته تصل إليه نحو عشرين سنة. وكان الرئيس بن هبة الله الإسرائيلي من خدمة الخلفاء المصريين بالطب وكانت له منهم الجامكية الوافرة والصلات المتوالية. وخدم الموفق بن شوعة الإسرائيلي الملك الناصر بالطب لما كان بمصر وعلت منزلته عنده. وممن حظي في أيام هذا أيضاً وأيام أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب أبو المعالي بن تمام اليهودي. وكان السلطان صلاح الدين أيضاً يرى لأبي عمران الرئيس موسى الإسرائيلي ويستطبه وكذلك ولده الأفضل علي وهو الذي يمدحه القاضي السعيد بن سناء الملك بقوله:
أر طب جالينوس للجسم وحده ... وطب أبي عمران للعقل والجسم
فلو أنه طب الزمان بعلمه ... لأبراه من داء الجهالة بالعلم
ولو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم(14/15)
وداواه يوم التم من كلف به ... وأبرأه يوم السرار من السقم
وكان إبراهيم بن الرئيس موسى في خدمة الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب. وكان أبو سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فانة الطبيب حظياً عند خلفا مصر. وكذلك ابنه أبو سعيد بن أبي سليمان جعله الملك العادل في خدمة ولده الملك المعظم وأكرمه غاية الإكرام وأمر أن لا يدخل قلعة من قلاعه إلا راكباً مع صحة جسمه فكان يدخل في قلاعه الأربعة كذلك وهي قلعة الكرك وقلعة جعبر وقلعة الرها وقلعة دمشق. وخدم أبو سعيد بالطب أيضاً الملك الناصر والملك العادل. وكان أبو شاكر بن أبي سليمان مكيناً عند السلاطين جعله الملك العادل في خدمة ولده الملك الكامل فبقي في خدمته وحظي عنده الحظوة العظيمة وتمكن عنده التمكين الكثير ونال في دولته حظاً عظيماً وكان له من إقطاعات ضياع وغيرها ولم يزل يفتقده بالهبات الوافرة وكان الملك العادل يعتمد عليه وكان يدخل في دميع قلاعه وهو راكب. وكان أبو الفضل بن أبي سليمان طبيباً للملك المعظم في الكرك ثم خدم الملك الكامل. وكان عيسى الرقي المعروف بالتفليسي في خدمة سيف الدولة بن حمدان يأخذ أربعة أرزاق رزقاً بسبب الطب ورزقاً بسبب النقل ورزقين بسبب غلمين آخرين. وأنعم صلاح الدين على سكرة الحلبي المتطبب وخلع عليه وأقطعه أراضي مؤبدةً.
وخدم موفق الدين بن المطران بالطب الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عظيم الجاه. وكان يتحجب عنده ويقضي أشغال الناس ونال من جهته من المال مبلغاً كثيراً قال أبو الظاهر إسماعيل وكان يعرف ابن المطران ويأنس به: إن العجب والتكبر الذي كان يغلب على ابن المطران لم يكن على شيء منه في أوقات طلبه العلم وقال إنه كان يراه في الأوقات التي يشتغل فيها بالنحو في الجامع يأتي إذا تفرغ من دار السلطان وهو في ركبة حفلة وحواليه جماعة كثيرة من المماليك الترك وغيرهم فإذا قرب من الجامع ترجل وأخذ الكتاب الذي يشتغل فيه في يده أو تحت إبطه ولم يترك أحداً من العلماء يصحبه ولا يزال ماشياً والكتاب معه إلى حلقة الشيخ الذي يقرأ عليه فيسلم عليه ويقعد بين الجماعة وهو بكيس ولطف إلى أن يفرغ من القراءة ويعود إلى ما كان عليه ثم أنه أسلم فزوجه صلاح الدين إحدى حظايا داره وترقت حاله عند سلطانه إلى أن كاد يكون وزيراً وحصلت له أموال جمة من أمراء الدولة في حال مباشرته لهم في أمراضهم(14/16)
وتنافسوا في العطاء له.
وممن خدم صلاح الدين أيضاً بالطب أبو منصور النصراني وأبو النجم النصراني وأبو الفرج النصراني وخدم هذا الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين ثم صار أولاده خدمة أولاد الملك الأفضل. وخدم أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي بالطب الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين وكان يعتمد عليه وخدم أيضاً الأمير فارس الدين ميمون القصري. وكان عمران الإسرائيلي حظياً عند الملوك واعتمدوا عليه ونال من جهتهم الأموال الجسيمة والنعم التي تفوق الوصف ولم يخدم أحداً من الملوك في الصحبة ولا يقيد معهم في السفر وحرص به الملك العادل بأن يستخدمه في الصحبة فما فعل وكذلك غيره من الملوك.
وكان موفق الدين يعقوب المسيحي خدم الملك المعظم عيسى وصار معه في الصحبة وكان حسن الاعتقاد فيه حتى انه كان يعتمد عليه في كثير من الآراء الطبية وغيرها فينتفع بها ويحمد عواقبها وقصد الملك المعظم أن يوليه بعض تدبير دولته والنظر في ذلك فما فعل واقتصر على مداومة صناعة الطب فقط وكان قد عرض للحكيم يعقوب في رجليه نقرس وكان يثور به في أوقات يألم بسببه وتعسر عليه الحركة فكان الملك المعظم يستصحبه في أسفاره معه في محفة ويفتقده ويكرمه غاية الإكرام وله منه الجامكية السنية والإحسان الوافر.
وخدم صدقة السامري بالطب الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وبقي معه سنين كثيرة في الشرق وكان يحترمه غاية الاحترام ويكرمه كل الإكرام ويعتمد عليه وله منه الجامكية الوافرة والصلات المتواترة. وكان مهذب الدين يوسف بن أبي سعيد السامري شمس الحكماء في خدمة الملك الناصر صلاح الدين وخدم أيضاً لعز الدين فرخشاه بن شاهان شاه بن أيوب وخدم بعده لولده الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه وحظي في أيامه من جهته من الأموال والنعم شيئاً كثيراً وكان يستشيره في أموره ويعتمد عليه في أحواله.
هكذا كان عظماء الإسلام يعاملون أهل ذمتهم من نصراني ويهودي وسامري ومجوسي. يبوحون لهم بأسرارهم ويطلعونهم على خويصة أنفسهم ويوسدون إليهم مهمات أمورهم(14/17)
ويأمنونهم على حرمهم وأرواحهم ويغدقون عليهم هباتهم وإحساناتهم ويرفعون منزلتهم ومكانتهم لا ينظرون في ذلك إلى نحلة ولا مذهب ولا يعتدون بمخالف ولا بموافق بل يتبدرون الكفاءات ويختارون الأصلح والأنسب وقد قابل أولئك المقربون ساداتهم بصنوف الأمانة وخدموهم فأحسنوا خدمتهم وقلما خان منهم إلا بعض أفراد فسدت فطرهم واختلت عقولهم وأحلامهم وضلوا عن سواء السبيل.(14/18)
حكم وخواطر
من ترك شغله للوكلاء ضاع عليه النصف إذا ربح ودفع من ماله الضعف إذا خسر
ما احتاج إنسان مداجاة أعدائه إلا من فسولة أصدقائه.
كما لا ترجو صداقة الكذاب فلا ترج صداقة الجبان لأن الكذب والجبن أخوان أبوهما الضعف.
أدلُّ الدلائل على حماقة المرء جمع الضدين على بغضه والصادق الحكيم يجمع الأضداد على حبه.
أكثر ما تكون المواعظ كالخزف الصيني في البيوت تحفظ ولا تستعمل
خمود الهمم عند اشتعال اللمم
إنما آثر الناس العدو العاقل لا لأنه لا يضر بل لأنه أبلغ في الضرر
وأخف في الألم فهو كالسيف الماضي يقطع ولا يؤلم أما العدو الجاهل فهو سيف كليل لا يقط الرقاب ولا يريح من العذاب
لا يقد على احتمال رفعة الأدنياء إلا الفيلسوف الذي تساوت عنده الأشياء
يظن الكريم قليل الأنانية والحال انه أشد حباً لنفسه حيث آثرها على المال، ويظن اللئيم محباً لذاته والحال أنه عدوٌّ نفسه إذ أسقطها في مساوئ الأعمال، وأن سموأل الوفاء أشد إثرة من كل إنكليزي على وجه الأرض لأنه سمح بحياة ابنه لأجل حياة اسمه.
إذا حاف الإنسان غائلة عدو متكبر أنامه بمورفين التقريظ
لا تظنن محالاً عداوة محب مهما اشتد كلفه ولا محبة عدو مهما تناهى شنانه فإن الزوجين يكونان جسماً واحداً ويقع بينهما الطلاق وإن في مخازن الغيوب ما لا يخطر على القلوب
إن لم تلن دمامل الفت بمراهم المراحم لم ينجح فيها إلا المبضع الصارم لكن لا خير في عنف لم يتقدمه لطف
يتقى الخراب الكبير بالاضطراب الصغير وكلاهما من البلاء كما يتقى المرض الثقيل بالتقليح الخفيف وكلاهما من العياء
العقل بلا قلب نورٌ بلا حرارة
لذة الخيال أقوى من لذة الواقع لذلك المجاز أوقع من الحقيقة
القليل من الخبيث يفسد الكثير من الطيب كما أن المتر المكعب من الآجن يفسد ذوق مائة(14/19)
مثله من العذب الفرات.
قوة الإرادة من قوة الكهرباء لأنه متى امتلأت الإرادة جذبت المقاصد البعيدة بدون سلك ظاهر.
إذا تلبدت غيوم الغموم لم ينشرها مثل تموجات الهواء، بألحان الغناء
الطبيعة مثال، والشاعر مصور، وأحسن الشعراء توليداً، أجودهم للطبيعة تقليداً.
يكاد الشعراء يكونون صوفية لأن المعنى واحد والصور مختلفات كما أن الوجود واحد والتعدد للجهات
من دلائل أن الحياة خيال لذة الإنسان بالأماني وأن علمها كواذب، ولهوه بالتصورات ولو كانت محالات، وبكاؤه بالدموع في قراء قصصٍ موضوع
لا تخالن المستغرق في فن قاصر نظره عليه أبصر به من سواه ممن ينظر في متعدد الأمور لأن تنوع الموضوعات في ذهن الإنسان يوسع دائرة العقل ويسدد مرامي الحكم.
ينبغي أن تدقق في اختيار صديقك كما تدقق في اختيار امرأتك إذ كما يجب للناس أن يتخيروا لنطفهم كذلك يجب أن يتخيروا لمروءاتهم
خير للمرء أن يكون خصياً من أن يلد عاقاً عصياً
لا يبرد على الأكباد شيء كزكاء ثمراتها
التقبيل ضريبة الحسن، والمشورة ضريبة الذكاء، والجود ضريبة اليسار، والنجدة ضريبة البأس، ولا يمنع الضرائب إلا العاصي على الله والناس
إذا أوصيت بامرئ ولم يرجع إليك فاعلم أن حاجته قد انقضت لأن أكثر المراجعة يقع استنجازاً للحاجة ونادراً يقع شكراً على النعمة
كذب الكبير يسمى سياسة
يستدل بسيادة الغرباء في بلاد على انحلال العصبية أكثر مما يستدل بها على الأخلاق الرضية
المملكة جسم والأجنبي ميكروب ولا يرعى الميكروب من الجسم إلا مواطن الضعف.
قلوب العشاق أقدم من تلغراف ماركوني
العصر الجديد هو عصر الحديد والغناء الأقوى بالغثاء الأحوى (الفحم الحجري)(14/20)
لو ردّ الناس كلام الكذابين بحذافيره لالتزموا الصدق وإنما روّج بضاعة الإفك أنه مهما اشتهر به الإنسان فلا يزال يلصق منه بالأذهان.
خير لمن لم يصب طهور العلم أن يتيمم بالتقليد
ما أجد العائلة بنقطة
كم وجه أبيض منه بلا أزرق وفرع أسود منه موت أحمر
أكثر الناس استعداداً لعداوتك من قام من تحت سلطتك لأنه يريد أن يقوم بقدر ما نام ولأن سواد الليالي متعادل مع بياض الأيام.
قد لا يكون الإمام تقياً وتصح الصلاة إذا راعت الجماعة وشرها وقد لا يكون الوالي عادلاً وتمشي العدالة إذا عرفت الرعية قوانينها.
الحسد نار في الفؤاد يبردها بعضهم بالتنقص ويلقي عليه اسم الانتقاد
الوالي الظالم خائن للسلطان في أمانته فجزاؤه جزاء الخائنين
جهنم بالعز أطيب منزل أبلغ بيت إلا في مقام الهوى
قد تذهب الحقوق ضحية الخلابة وقد تأكل المتاع نار الذرابة وقد تختفي الحقائق بين هدرات الشقائق ولكن ذو البصر يميز بين الغث والسمين ودريفوس يتبرأ ولو بعد سنين.
من كان مرمى نقده الإصلاح العام لم يخف ذلك من أسلوبه والناس أكيس من أن لا يفرقوا بين الحاسد والناصح
احذر من هو دونك في العداوة أكثر من حذرك ممن هو كفؤك لأن الكفؤ يأنف أن يقاتلك إلا بسلاحك ولا يأخذك غيلة أما الدون فإنه يأخذك كيفما استطاع ولا يرى في ذلك غضاضة
كانت الفتوحات أولاً بالسيف فصارت اليوم بالدين فهي لا تزال بين الأحمرين
لا تجتاز عقبة بدون جهد سواء النازل فيها والطالع
متى ثارت القبائل وهاج هائج التعصب على الأجانب فاعلم أن في تلك الجهة معدناً أعجب المهندسين أو أن شركة تألف لاستثمار بعض الأرضين
أجدر المصابين بالشماتة قومٌ لم يزالوا يتحاملون على ولاتهم العقلاء حتى ابتلاهم الله بولاية المجانين
إذا اهتدى الغول إلى معارف الإفرنج فالصين قد صين(14/21)
لابد من يوم أسود بين الأصفر والأبيض
السياسة في أيامنا هي فوق الديانة لأنه إذا تعارض العقل والنقل أول النقل حتى يطابق العقل أما السياسة فلا تقبل التأويل أياً كان مصادمها
بيروت
شكيب أرسلان(14/22)
العالم شعر
قرأت وما غير الطبيعة من سفر ... صحائف تحوي كل فن من الشعر
أرى غرر الأشعار تبدو نضيدةً ... على صفحات الكون سطراً على سطر
وما حادثات الدهر إلا قصائد ... يفوه بها للسامعين فم الدهر
وما المرء إلا بيت شعر عروضه ... مصائب لكن ضربه حفرة القبر
تنظّمنا الأيام شعراً وإنما ... ترد المنايا ما نظمن إلى النثر
فمنّا طويل مسهب بحر عمره ... ومنّا قصير البحر مختصر العمر
وهذا مديح صيغ من أطيب الثنا ... وذاك هجاء صيغ من منطق هُجر
* * *
ورب نيام في المقابر زرتهم ... بمنهلّ دمع لا ينهنه بالزجر
وقفت على الأجداث وقفة عاشق ... بقفراء يدعو دراس الطلل القفر
فما سال فيض الدمع حتى قرنته ... إلى زفرات قد تصاعدن من صدري
أسكان بطن الأرض هلا ذكرتم ... عهوداً مضت منكم وأنتم على الظهر
رضيتم بأكفان البلى حللاً لكم ... وكنتم أولي الديباج والحلل الحمر
وقد كنتم تؤذي الحشايا جنوبكم ... فكيف رقدتم والجنوب على العفر
ألا يا قبوراً زرتها غير عارف ... بها ساكن الصحراء من ساكن القصر
لقد حار فكري في ذويك وأنه ... ليحتار في مثوى ذويك أولو الفكر
فقلت وللأجداث كفي مشيرة ... ألا إن هذا الشعر من أفجع الشعر
* * *
وليل غُدا في الجناحين بتّه ... أسامر في ظلمائه واقع النسر
وأقلع من سفن الخيال مراسياً ... فتجري من الظلماء في لجج خضر
أرى القبة الزرقاء فوقي كأنها ... رواق من الديباج رصّع بالدر
ولولا خروق في الدجى من نجومه ... قبضت على الظلماء بالأنمل العشر
خليلي ما أبهى وأبهج في الرؤى ... نجوماً بأجواز الدجى لم تزل تسري
إذا ما نجوم الغرب ليلاً تغورت ... بدت أنجم في الشرق أخرى على الإثر
تجولت من حسن الكواكب في الدجى ... وقبح ظلام الليل في العرف والنكر(14/23)
إلى أن رأيت الليل ولت جنوده ... على الدعم يقفو أثرها الصبح بالشقر
فيا لك من ليل قرأت بوجهه ... نظيم البها في نثر أنجمه الزُّهر
وقلت وطرفي شاخص لنجومه ... ألا إن هذا الشعر من أحسن الشعر
* * *
ويوم به استيقظت من هجعة الكرى ... وقد قدَّ درع الليل صمصامة الفجر
فأطربني والديك مشجٍ صياحه ... ترنم عصفور يزقزق في وكر
ومما ازدهى نفسي وزاد ارتياحها ... هبوب نسيم سَجْسَج طيّب النشر
فقمت وقام الناس كلٌّ لشأنه ... كأنّا حجيج البيت في ساعة النفر
وقد طلعت شمس النهار كأنها ... مليك من الأضواء في عسكر مجر
بدت من وراء الأفق ترفل للعلى ... رويداً رويداً في غلائلها الحمر
غدت ترسل الأنوار حتى كأنها ... تسيل على وجه الثرى ذائب التبر
إلى أن جلت في نورها رونق الضحى ... صقيلاً وفي بحر الفضاء غدت تجري
وأهدت حياة في الشعاع جديدة ... إلى حيوان الأرض والنبت والزهر
فقلت مشيراً نحوها بحفاوة ... ألا إن هذا الشعر من أبدع الشعر
* * *
وبيضة خدر أن دعت نازح الهوى ... أجاب ألا لبيكِ يا بيضة الخدر
من اللاء يملكن القلوب بكلمة ... ويحيين ميت الوجد بالنظر الشزر
تهادت تريني البدر محدقةً بها ... أوانس أحداق الكواكب بالبدر
قلله ما قد هجن لي من صبابة ... ألف بها طيّ الضلوع على الجمر
تصافح إحداهن في المشي ترابها ... فنحر إلى نحر وخصر إلى خصر
مررت وقد أقصرت خطوي تأدباً ... وأجمعت أمري في محافظة الصبر
فطأطأنَ للتسليم منهن أرؤسا ... عليها أكاليل ضفرن من الشعر
فألقيت كفي فوق صدري مسلّما ... وأطرقت نحو الأرض منحني الظهر
وأرسلت قلبي خلفهن مشيّعا ... فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري
وقلت وكفي نحوهن مشيرة ... ألا أن هذا الشعر من أجل الشعر(14/24)
* * *
ومائدة نسْجُ الدمقس غطاؤها ... بمجلس شبان هم أنجم العصر
رقى من أعاليها الفنغراف منبراً ... محاطاً بأصحاب غطارفة غُر
وفي وسط النادي سراج منور ... فتسحبه بدراً وهم هالة البدر
فراح بإذن العلم يُنطق مقولاً ... عرفنا به أن البيان من السحر
فطوراً خطيباً يحزن القلب وعظه ... وطوراً يسرّ السمع بالعزف والزمر
يفوه فصيحاً باللُّغا وهو أبكم ... ويسمع ألحان الغنا وهو ذو وقر
أمين أبى التدليس في القول حاكياً ... فتسمعه يروي الحديث كما يجري
تراه إذا لقنته القول حافظاً ... تمر الليالي وهو منه على ذُكر
فيا لك من صنع به كل عاقل ... أقر لآديسون بالفضل والفخر
فقلت وقد تمت شقائق هدره ... ألا إن هذا الشعر من أعجب الشعر
* * *
وأصيد مأثور المكارم في الورى ... يريك إذا يلقاك وجه فتى حر
يروح ويغدو في طيالسة الغنى ... ويقضي حقوق المجد من ماله الوفر
تخونه ريب الزمان فأولعت ... بأخلاقها ديباجتيه يد الفقر
فأصبح في طرق التصعلك حائراً ... يجول من الإملاق في سَمَلٍ طمر
كأن لم يرح في موكب العز راكباً ... عتاق المذاكي مالك النهى والأمر
ولم تزدحم صيد الرجال ببابه ... ولم يغمر العافين بالنائل الغمر
فظلَّ كئيب النفس ينظر للغنى ... بعين مقلّ كان في عيشة المثري
إلى أن قضى في علة العدم نحبه ... فجهزه من مالهم طالبو الأجر
فرحتُ ولم يحفل بتشييع نعشه ... أشيعه في حامليه إلى القبر
وقلت وأيدي الناس تحثو ترابه ... ألا أن هذا الشعر من أحزن الشعر
* * *
ونائحة تبكي الغداة وحيدها ... بشجو وقد نالته ظلماً يد القهر
عزاه إلى إحدى الجنايات حاكم ... عليه قضى بطلاً بها وهو لا يدري(14/25)
فويل له من حاكم صُبَّ قلبه ... من الجور مطبوعاً على قالب الغدر
من الروم أما وجهه فمشوّه ... وقاح وأما قلبه فمن الصخر
أضرَّ بعف الذيل حتى أمضَّه ... ولم يلتفت منه إلى واضح العذر
تخطفه في مخلب الجور غيلةً ... فزجًّ به من مظلم السجن في القعر
تنوء به الأقياد إن رام نهضة ... فيشكو الأذى والدمع من عينه يجري
تناديه والسجان يكثر زجرها ... عجوز له من خلف عالية الجُدْر
بُنيَّ أظن السجن مسَّك ضره ... بُنيَّ بنفسي حلَّ ما بك من ضر
بنيَّ استعن بالصبر ما أنت جانياً ... وهل يخذل الله البريء من الوزر
فجئت أعاطيها العزاء وادمعي ... كأدمعها تنهلّ مني على النحر
وقلت وقد جاشت غوارب عبرتي ... ألا إن هذا الشعر من أقتل الشعر
بغداد
معروف الرصافي(14/26)
الشرق في الغرب
من مقالة للمسيو لوسين بوفا في مجلة العالم الإسلامي
عني أهل المجر وهم من أصل آسياوي وبلادهم على أبواب الشرق بالمباحث الشرقية عناية كبرى على ما هو مأثور عنهم من التوفر على خدمة العلم. ومازالوا منذ قرون كثيرة جيران شعب مسلم يتحدون معه في الأصل وإن اختلفوا في الفروع ويتكلمون لغة تكاد تشبه لغته ولذلك رأوا من الواجب عليهم أن يتمحضوا لدراسة الموضوعات الإسلامية.
قام منذ سبعين سنة رجل عالم غيور منهم اسمه كوسما كوروس فزار آسيا ليبحث فيها عن أصل الأمة المجرية. وتاريخ حياة هذا الرجل يشبه تاريخ أرمنيوس فمبري في كثير من أدواره. لم ير كوروس حرجاً في دخول دير للبوذيين في بلاد التُّبَّت بضفة كاهن رجاء الوقوف على أحوال شعوب آسيا الوسطى ولم يتحرج من الأخذ عن علماء بوذيين.
ثم قام فمبري الذي طاف آسيا الوسطى لابساً ثياب درويش والأستاذ غولدسير الذي طلب العلم في الأزهر. وكان من أعمال هؤلاء الرجال أكبر مجد لأمتهم في خلال القرن التاسع عشر. وما برح علماء المجر يقصدون الهند الواحد تلو الآخر يبحثون في علومها وتاريخها وأديانها ومنهم اليوم أورل ستين نزيل آسيا الوسطى الذي عرفت الحكومة الإنكليزية أن تنتفع من مباحثه في شماليا لهند وبلوجستان وأتى بفوائد جمة.
ومما لا مشاحّة فيه أن رؤساء هذه المباحث اليوم في بلاد المجر هما الأستاذان فمبري وغولدسير من أساتذة كلية بودابست وقد اختص الأول بتعلم اللغة التركية حتى أتقنها إتقانه للغته وخدمها أجل خدمة وانصرف الثاني إلى دراسة العربية واللغات السامية.
ولد فمبري سنة 1831 أو 1832 من أسرة يهودية فقيرة في بلاد المجر في قرية سان جيورجين وبعد أن تلقن مبادئ التعليم في قريته أخذ في تعلم العبرية والدين ثم انتقل إلى مدرسة برتستانتية فتعلم فيها اللغة المجرية واللاتينية ومنها دخل مدرسة أخرى رومية ثم مدرسة كاثوليكية.
ولما أتم دروسه كان قد أتى على آخر ما يملك من الدراهم فاضطرته الحال إلى أن يعلم أطفالاً براتب 150 فلورينياً عند أسرة إسرائيلية في بلدة مارينتال وانتقل بعد إلى التدريس براتب أكثر في بيت أسرة في قرية كوتيفو من أعمال سلافونيا فترك مقامه في هذه القرية أجمل أثر في نفسه لأنه تجلى له فيها السبيل يتحتم عليه سلوكه في حياته العلمية. ففيها(14/27)
عقد العزم على أن يكون عالماً باللغات وفيها شرع لأول أمره بتعلم التركية وبالنظر في المباحث التي أطارت شهرته في العلم وفيها درس التركية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية والدانيمريكية والسويدية.
وإذ رأى أن ينصرف إلى البحث في أحوال الشرق نزل عاصمة فينا يستنصح العالم دي هامير الذي نشطه على ما هو آخذ نفسه في سبيله فذهب إلى بودابست يتعلم فيها العربية والفارسية. وقضت عليه الحاجة في هذه المدينة أيضاً أن يكون مؤَدِباً ليسد بما يناله من الجر بعض حاجته ولما كانت نفسه تنزع به إلى رؤية الشرق لم يعتم عندما اقتصد 120 فلوريناً أن سافر إلى الأستانة.
وصف فمبري هذه العاصمة عقيب حرب القريم سنة 1857 فقال إن شُذّاذ الآفاق كانوا ينهالون عليها من كل صوب وأوب والعثمانيون لا يكادون يعبئون بكل وارد عليهم بيد أنهم تلقوا المترجَم بالعطف وعاملوه بالإحسان فكان لما بلغ الأستانة لا يملك إلا دريهمات وصادف صعوبات جمة لأول أمره لكنه تمكن من التغلب عليها بمساعدة أحد مواطنيه ممن انخرطوا في خدمة الدولة العثمانية وأعني به القائد كمتي الذي دُعي بعد باسم إسماعيل باشا فسعى له هذا بوظيفة معلم عند أسرة في بك أوغلي ومن ذاك الحين دخل على ناظر الخارجي رفعت باشا بصفة أستاذ وأخذ فمبري يتشبه بالعثمانيين في أطواره ومناحيه عملاً بنصائح وطنيه إسماعيل باشا ومجاراةً له فدعا نفسه رشيد أفندي وأخذ يتعرف إلى أهل الطبقة العليا ي الأستانة على ذاك العهد ويختلط بهم ويعاشرهم. وفي خلال ذلك أيضاً بدأ يشتغل في الصحافة فعين مراسلاً لإحدى الجرائد الألمانية الكبرى.
أصبح فمبري أفندياً بحتاً لا ينقص عن أدباء الأستانة في معرفة اللغة التركية وآدابها. ولكنه لم يقنع بما حصل له من ذلك بل طمحت به نفسه إلى زيارة آسيا الوسطى وهي البلاد التي قام منها الأتراك وهاجموا أوروبا ليتيسر له أن يسمع اللغة التركية الأصلية في موطنها تلك اللغة التي لطُفَت فكانت منها اللغة العثمانية اليوم.
وكانت الصعوبات التي تحول دون هذه الأمنية كثيرة إلا أن الأستاذ فمبري لم يبال بالمصاعب. وغادر الأستانة بمساعدة المجمع العلمي الذي عينه عضواً مراسلاً ليرحل رحلة كانت فيها شهرته وبعد صيته. فاكتسى ثياب مسلم واجتاز آسيا الصغرى ودخل(14/28)
فارس فعره العامة من ثيابه بأنه سني وراحوا يطيلون إليه يد الأذى. وبعد شق النفس بلغ طهران ونال من ناظر خارجيتها إذ ذاك المرزا سيد خان جوازاً بمتابعة سيره.
ذكر المترجم به ما لقيه من رحلته هذه من المتاعب فإنه طاف بلاد فارس متنكراً في ثياب درويش وكاد يكشف أمره ويعرف أنه ليس من أهل الإسلام ولكنه نجا ولم تدرك حقيقته. ثم التحق بجماعة من الحجاج فرافقهم إلى خيوه وبخارى ولقي من سفره هذا نصباً لم يكن أقل مما لقيه في مبدأ رحلته وبعد سنة عاد إلى طهران فطلبته روسيا أن يكون موظفاً عندها فأبى وعاد إلى بودابست سنة 1864.
وبعد أن قضى فيها مدة طُلب إلى إنكلترا بإلحاح شديد فذهب إليها واستقبل فيها بالحفاوة. وقد نشر فيها رحلته هذه بالإنكليزية فلم تلبث أن ترجمت إلى لغات أوروبا واشتهر أمرها وكانت الحكومة الإنكليزية تود كثيراً أن تجعل في جملة رجالها رجلاً كالأستاذ فمبري يعرف الشرق معرفة حقيقية ليكون منه لها أحسن خدمة ولكن العالم المجري آثر أن يعود إلى وطنه على شدة حبه لإنكلترا. وعند عودته عين أستاذاً لكلية بودابست فكان فيها أول أستاذ غير كاثوليكي.
وهنا انتهى تاريخ جهاد هذا الرجل وقد دام ثلاثاً وثلاثين سنة من حياته. وذكر فمبري في الفصول الأخيرة من رحلته كيف زار إنكلترا وفرنسا ولقي فيهما الملوك والأمراء وأعاظم العلماء ورأى منهم الحفاوة وأورد في فلصين اجتماعه بالسلطان عبد الحميد خان صديقه القديم والتقاءه بشاهي الفرس الأخيرين. وما أحلى الصفحة التي ذكر فيها كيفية اجتماع ناصر الدين شاه به لما اجتاز هذا مدينة بودابست في رحلته إلى أوروبا ودهشته لما رأى في المجمع العلمي المجري ذاك الدرويش الذي كان لقيه في طهران منذ بضعة عقود من السنين.
كتب فمبري في العلم والسياسة وكل ما خطته يمينه نافع خطير. فقد ابتدأ يعمل في الصحافة بعد بلوغه الأستانة بقليل من الزمن ومن ذاك العهد لم يفتأ يؤازر في عدة مجلات إنكليزية وأمريكية وألمانية وفرنسية. والسنُّ لم توقفه عن نشاطه ولا عاقت حركته عن الانبعاث فإنا نراه إلى اليوم يتناول الموضوعات المختلفة بالهمة المعهودة فيه فبينا تراه يبحث في اللغات وعلمها إذا هو يبحث في الآداب فأصول الشعوب فالتاريخ فالسياسة(14/29)
فالأحوال الاجتماعية.
أما أغناس عولدسير المشار إليه فهو من أعاظم العلماء بالعربية في قارة أوروبا. ولد سنة 1850 فتخرج بأرمنيوس فمبري الموما إليه ثم قضى أربع سنين في كليات برلين ولبزيك وليد. وفي الثالثة والعشرين من عمره عهدت إليه حكومته بمهمة فسافر إلى سورية ومصر وقيد نفسه في طلبة الجماع الأزهر ولما عاد إلى بلاده عين أستاذاً في كلية بودابست وعضواً في المجمع العلمي المجري رصيفاً لأستاذه. ولغولدسير القدح المعلَّى في علم أصول اللغات السامية وأصل اللغة العربية خاصة وهو بحر طامٍ في تاريخ الإسلام.
وهنا عدد الكاتب بعض أعمال هذين الرجلين في العلم وذكر جانباً من مصنفاتهما وعقب عليهما بذكر بعض كبار علماء المشرقيات من المجر ومنهم من خص بتعلم التركية ومنهم الأخصائيون بالعربية وكلهم يخدمون الآداب الشرقية حق الخدمة. ففي قسم الفلسفة من كلية بودابست صفان للغة التركية وآدابها ولأصل اللغة الفارسية وفي القسم الديني منها صف للعربية والسريانية والكلدانية. وليس لتعليم اللغات الشرقية في بلاد النمسا والمجر غير كليتي بودابست وفيينا.
وللأبحاث العلمية في المجر موارد غنية تساعد القائمين بها على البحث والتنقيب. منها المجمع العلمي المجري الذي جعل في زمرة أعضائه أناساً من المستشرقين أمثال فمبري وغولدسير وزيشي. ومنها جمعية علم خصوصيات الشعوب المجرية التي أنشأت فرعاً شرقياً خدم الأبحاث الإسلامية أجلَّ خدمة سواءٌ كان بعلم أحوال الأمم وأصولهم وأخلاقهم وتفرقهم (ايتنولوجيا وايتنوغرافيا) أو بعلم اللغات والأدب والآثار والتاريخ والجغرافيا.
وفي سنة 1904 أنشأ المجمع الدولي الآسياوي جمعية مجرية للبحث التاريخ والأثري واللغوي وأصول الأمم في آسيا الوسطى والشرق الأقصى. وهذه الجمعية تبحث بحثاً علمياً في بلاد الأورال وتتفرغ ما عدا البحث في أخلاق الأمم وتفرقهم للأبحاث المتعلقة بأمم الأورال الالتاييكية كما تبحث في حالة البلاد التي ينزلها غير هؤلاء الشعوب وتعيين هذه الجمعية فئة من علماء المجر تكون لهم صلة مع سائر الجمعيات والعلماء من الأمم الغربية وتنفق على من يرحل الرحلات العلمية وتتفق مع سائرا لجمعيات العلمية في المجر ليكون العلم بينهن مشتركاً ولاسيما فيما يتعلق بالآثار والعاديات. وتوزع الإعانة السنوية التي(14/30)
تعطيها نظارة الأديان والمعارف في المجر ثلاثة أثلاث. ثلث على المجلة التي هي لسان حال الجمعية والتي تنشر أعمال الأعضاء ومباحثهم. والثلثان الآخران يوزعان بالسوية على الفروع التي تريد الجمعية مساعدتها ولاسيما فرع اللغة والبحث في أصول الشعوب والآثار والتاريخ. وتعين نظارة الأديان والمعارف هؤلاء الأعضاء إلى أربع سنين فإذا أتموا هذه المدة يقدمون لائحة بمن يرشحونهم بعدهم لتقر النظارة عليهم وقد انتخب للرئاسة هذه المرة الأستاذ فمبري.
وفي جانب هذه الجمعيات العلمية الصرفة جمعيات اقتصادية لا تقل عنها فائدة. فإن المتحف التجاري الإمبراطوري المجري في بودابست أسس سنة 1887 وهو من المباني الفخيمة ويعد رسمياً تجارياً ونصب له وكلاء في جميع أرجاء بلاد البلقان كما له وكلاء في الإسكندرية وتونس. وقد أسس هذا المتحف فأدرك لأول عهد تأسيسه ضرورة التعليم الابتدائي لإعداد بعض النشء للتجارة مع الشرق فأنشأ سنة 1891 صفاً للتجارة الشرقية وهو الذي أصبح اليوم مجمعاً علمياً للتجارة ثم أعيد تنظيمه سنة 1898 - 1899 فنتجت منه أحسن النتائج.
أما التعليم ال1ي شرعه هذا المجمع العلمي فيتناول عدة أبحاث ومعارف يدرسها المتعلم في سنتين وهي عملية حقيقية لا نظرية خيالية. وأهمها تعلم اللغات الشرقية ولغات بلاد البلقان خاصة والعلوم التجارية والقنصلية وعدة مواد أخرى. وعلى كل طالب أن يتعلم سنتين اللغات الشرقية وهي الرومانية والصربية والبلغارية والتركية والرومية الحديثة والعربية العامية والروسية. وأن يتعلم المراسلات التجارية والكلمات الاصطلاحية في التجارة والقضاء وأن يتعلم من اللغات الأوروبية الإيطالية والفرنسية ومن العلوم جغرافية الشرق ولاسيما بلاد البلقان وآسيا الصغرى وعلم أصول أممها وأخلاقهم وعلم التجارة والجمارك والحقوق العمومية والإدارية وقوانين التجارة وطريقة الاعتمادات.
وهناك صفوف لتعلمي اللغات الشرقية تقام في المساء. وقد خصص المجمع العلمي مبلغاً من المال ليستعين به بعضهم على التعلم وحذا حذوه في هذا السبيل بعض أرباب الخير وغيرهم. ثم رأت هذه الجمعيات العلمية أنه لا غنية لها عن صحيفة تكون لسان حالها وسجل أبحاثها وتحقيقاتها فأنشأت مجلة شرقية تكتب بجميع لغات أوروبا وتباع بثمن بخس(14/31)
تُعنى بالمباحث الأورالية الالتاييكية سمتها كليتي زميل وبعلم خصوصيات الشعوب وتنشر مقالات عن الأمم الشرقية النازلة بين نهري فولغا وأورال من الجنس الفينو المجري وأبحاث في العنصر التركي وتعنى عناية خاصة بنشر التقاليد القديمة أو العامية وتبحث في صلات الأمم الأورالية الالتاييكية بعضها مع بعض أو مع غيرها وتبحث في أحوال الشعوب الآسياوية ولاسيما في أصول التتار والأمم القفقاسية والإيرانية والصقلبية (السلافية) وغيرها.
وقد قال العالمان اللذان عُنيا بإدارة شؤون هذه المجلة أن المجر هم زعماء العناصر الأورالية والالتاييكية وممثلو تلك الحضارة نزولا بلادهم منذ ألف سنة وظلوا محتفظين بلغتهم وهي أشبه بجزيرة خضراء في الشرق وسط بحر محيط مؤلف من سيل الشعوب الجرمانية والصقلبية على حين أن أمماً كثيرة تماثلهم كالبلغار والبشناق والخزر والكومان لم يتركوا أثراً من تاريخهم يذكر وبادت مملكتا الهونس والأفار وذهبتا ذهاب أمس الدابر.
وختم الكاتب هذا الفصل بتعداد ما كتبه أولئك الأعلام من الأبحاث الممتعة وشاركهم في وضعه زمرة من علماء المشرقيات من الألمان والفرنسيس والإنكليز والروس والترك وكان للمباحث الإسلامية ولاسيما التركية منها شأن عظيم في سجل أعمالهم.
دمعة بعد جناية
آه حتى مَ يظل الحق غريباً فيم عاهدكِ أيتها الجمعية البشرية، إلى مَ تبقى التقية - كالجندي الجاهل العنيد - مسيطرة على الصلاح بين أفرادك، ولما يُخرج على الصدق أن يخرج بموكبه وتاجه في هذا العالم كما يحب جلاله؟
متى يا تُرى تنشط هذه الحقيقة من عقالها الأزلي وهل من أماني هذه الأرض أن ترى كهربائية الصلاح مضيئة في آفاقها قبل أن تسود الشمس؟
آه، ما أوحش الإنسان وما أقساه: يضم بين ضلوعه عواطف ملؤها الحنان والحب والحقيقة والفضيلة والعدل، وضميراً هو هو معيار الإنصاف في هذه الحياة، وشعوراً هو السيّال الأثيري الذي ملأ ذرات كل شيءٍ، نعم لقد ضمّ بين ضلوعه هذه المزايا الفاضلة وهو ربها وهو بها العالم الأصغر والنسخة الكبرى لهذه الكائنات، ولكن أين هذه القوى الملكية، أليست معه يوم يفعل فظائع الشيطان، أما هي بين ضلوعه عندما يقدم على الشر والباطل؟. . .(14/32)
أجل، هي لا تزال فيه، ولكنها يا للأسف والخسران قد صدأت وتولتها رطوبة البعد عن الحق وسطا عليها غُبار الرذيلة. . .
كم وكم أيهذا الصلاح يبسم في العالم الإنساني القاتم بريقٌ ضئيل من ذُبالتك المعرضة لجميع الأهواء، من كل الأنحاء، فأريد أن أتبعها، فلا أجدني إلا بين الأشواك، في جانب هوّة مدهشة، يظهر منها التنين وجهنم والغول وكل خيالات الوهم ومخوفات الباطل. . .
كم وكم أيهذي الحقيقة عاهدت عواطفي وضميري وكل شعوري على إخائك، على الصدق لك وعلى إهداء حياتي العزيزة علي إليك، نعم إليك فقط، إليك وحدكِ، فيضطرني هذا الوسط الأسود إلى جناية لا محيص عنها، فأفعلها وأنا شاعر باجتياح روحي إلى البكاء، فأرجع إلى نفسي، وأبكي، ثم أبكي، ثم أبكي، حتى أروي ظمئي من هذا الاختياج في حين أني عارف تمام المعرفة أن الجناية البشرية لا تبررها قطرات الدمع.
وكم وكم أيهذا العدل من دمعة قطرت بيني وبين نفسي من عينيّ بعد جناية، بعد حادثة مشؤومة، فذكرت عند ذلك أنني لا أزال إنساناً وحشياً قاسياً في هذه الحياة. . .
القسطنطينية
محب الدين الخطيب(14/33)
صحف منسية
قصيدة لأبي العلاء المعري
أستغفر الله في أمني وأوجالي ... من غفلتي وتوالي سوء أعمال
قالوا هرمت ولم تطرق تهامة في ... مشاة وفدٍ ولا ركبان أجمال
فقلت إني ضرير لم يحجَّ أبي ... ولا ابن عمي ولم يعرف منى خالي
وحجَّ عنهم قضاءً بعد ما ارتحلوا ... قومٌ سيقضون عني بعد ترجالي
فإن يفوزوا بغفران أفُز معهم ... أولا فإني بنار مثلهم صالي
ولا أروم نعيماً لا يكون لهم ... فيه نصيب وهم أهلي وأشكالي
فهل أسرُّ إذا حُمَّت محاسبتي ... أم يقتضي الحكم تغتابي وتسآلي
من لي برضوان أدعوه فيرحمني ... ولا أنادي مع الكفار أمثالي
باتوا وحتفي أمانيهم مصورةً ... وبتُّ لم يخطروا مني على بال
وفوّقوا لي سهاماً من سهامهم ... فأصبحت وُقّعاً عني بأميال
فما ظنوك إذ جندي ملائكة ... وجندهم بين طواف وبقال
لقيتهم بعصا موسى التي منعت ... فرعون ملكاً ونجت آل أسرال
أقيم صيتي وصوم الدهر آلفه ... وأدمن الذكر إبكاراً بآصال
عيدين أفطر في عامي إذا حضرا ... عيد الأضاحي يقفو عيد شوال
إذا تنافست الجهال في حال ... رأيتني في خسيس القطن سربالي
لا آكل الحيوان الدهر مأثرةً ... أخاف من سوء أعمالي وآمالي
وأعبد الله لا أرجو مثوبته ... لكن تعبد إكرام وإجلال
أصون ديني عن جُعل أؤمله ... إذا تعبد أقوام باجعال(14/34)
مطبوعات ومخطوطات
مفردات الراغب
قال الإمام الرازي إن الراغب الأصفهاني من أئمة السنة وقد قرنه بالغزالي وهو من أهل المئة الخامسة. ولم نعثر له على ترجمة حافلة على أن ما عرف من كتبه كافٍ في الدلالة على واسع علمه وكثرة تحقيقه فمن كتبه المطبوعة الذريعة إلى مكارم الشريعة وتفصيل النشأتين وهذا المفردات في غريب القرآن. طبع الكتاب الأخير وقد أعادت المطبعة الميمنية طبعه على نفقة أصحابها مصطفى أفندي الحلي وأخويه بكري أفندي وعيسى أفندي مصححاً بمعرفة الشيخ محمد الزهري الغمراوي على عدة نسخ بدار الكتب الخديوية وبعد أن تحرى أصوب الروايات في مظانها من الكتب اللغوية وضبط ألفاه بالشكل الكامل فجاء في 576 صفحة حرياً بطالب معاني الكتاب العزيز وألفاظه أن يقتنيه وألفاظ القرآن كما قال المؤلف: هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة وكالحثالة والتبين بالإضافة إلى لُبوب الحنطة.
والكتاب يباع في مكتبة طابعيه بشارع التبليطة بالغورية وهو في اعتقادنا يغني الطالب عن الرجوع إلى التفاسير إذا أراد كشف المعاني من الألفاظ اللغوية فنثني على طابعيه بما هم أهله فإنهم أحيوا بمطبعتهم كثيراً من كتب السلف التي كان يعز وجودها وحبذا يوم يعيدون طبع جميع ما طبعوه ولاسيما الأمهات بالحروف الجديدة اللطيفة ليكون أدعى للإقبال وأحسن للمطالعين على كل حال.
محاورات المصلح والمقلد
هي مقالات نشرت في المجلد الثالث والرابع من مجلة المنار الإسلامية الغراء ويليها فتاوي نشرت في المجلد السادس منه موضوعها الاجتهاد والتقليد وكليات الدين الإسلامي لمنشئها السيد محمد رشيد رضا المعروف بعلمه وعمله وقد شرح فيها بأسلوبه الرصين المحكم كثيراً من أدواء المسلمين ولاسيما المقلدين منهم والجامدين وزيف ترهات الممخرقين ومعتقدات الحشوية المبطلين فأفاد وأجاد أثابه الله وهي تقع في 140 صفحة مطبوعة طبعاً(14/35)
نظيفاً وتطلب من مكتبة المنار بخمسة قروش فنحث كل طالب ومتعلم على اقتنائها.
الهداية إلى فرائض القلوب
هو الباب الأول من كتاب التوحيد تأليف الرئيس بَحية بن يوسف اليهودي الأندلسي نشره الدكتور إبراهيم سالم المقدسي وقد أراد أن يجعله تمهيداً لتأليف تام من كتاب الهداية للدائن (أي قاضي اليهود) الأندلسي المشهور بابن بحية. ولقد كان لليهود شأن في الفلسفة العربية يعرفه حق معرفته كل من درس الحضارة الإسلامية. فللميموني كتاب دلالة الحائرين ولسعدية كتاب الإيمانات والاعتقادات ولسليمان بن جبيرول كتاب إصلاح الأخلاق وقد طبعت أكثر مصنفاتهم في أوروبا وترجم أكثرها إلى الفرنسية أو الألمانية أما ابن بحية مؤلف هذا الكتاب فلم يترجم حتى الآن إلى لغة من لغات الغرب ولذلك كان في عمل الدكتور المشار إليه أحسن مقدمة تدل على فضله. وإنا لنرجو أن يوفق إلى نشر ما ينوي تأليفه من مجاميع مسلسلة في فلاسفة اليهود الذين كتبوا بالعربية في القرون الوسطى على عهد ارتقاء الأندلس.
ي. د
فصول الحكماء
هي رسالة في مئة صفحة صغيرة تأليف سماحة محمد أبي الهدى أفندي الصيادي جمع فيها تراجم حكماء اليونان والإسلام وشيئاً من حكمهم وعقب عليها بتراجم بعض مشايخ الطريق والتصوف وأورد شيئاً من إشارتهم وعباراتهم وقابل بينها وبين كلام الحكماء.
مقامة الأمثال السائرة - طبع عبد القادر باشا الخضيري من بغداد هذه المقامات لمؤلفها الشيخ عبد الله السويدي البغدادي المتوفى سنة 1174 ضمنها الأمثال السائرة القديمة المولدة المعروفة على طريقة التسجيع والترصيع التي كانت مألوفة في عصره. وفي ذيلها مقامة للشيخ عبد الرحمن الأنصاري وهي مسجعة أيضاً.(14/36)
سير العلم
مضار الغبار
حدث في منجم فحم ببلاد الإنكليز سنة 1844 أن التهب التهاباً شديداً فقضى على كثيرين من المعدّنين. وقد دعي عالمان للبحث في سبب هذا الالتهاب فذهبا إلى أنه ناتج من الغاز المتجمع على سطح الغبار في المنجم ونصحا بالتوقي من هذا الغبار فثبت أن الغبار المتراكم كيف كان حاله يخشى من التهابه ولاسيما غبار الدقيق والسناج (الشحار) والسكر والقطن وغيره من المواد التي يضر مسها كما يضر مسّ الديناميت. وكل معامل القطن التي لا تعنى بإزالة هذا الغبار من حيطانها يحترق ويلتهب إذا أصابته حرارة وكذلك مطاحن الدقيق والأمثلة على ذلك كثيرة كما روت المجلة الباريزية. وكانت بعض المعامل تكتفي برفع هذا الغبار وتروّحه وقد اخترع أحدهم آلة تفصل الغبار المتجمع وتقذفه بقوة شديدة إلى مقر هذه الآلة فتتكون منه مادة تستعمل في تغذية الماشية وأدخلت تحسينات كثيرة على هذه الآلة وأخذوا في أمريكا يجعلون استعمالها ضربة لازب على كل محل يتصاعد الغابر منه مخافة أن يعلق بها شيء من اللهيب عن بعد فتلتهب وتضر بالمكان والمكين.
البناء في أمريكا
أخذ القوم في نيويورك يمتدون في الهواء بمبانيهم فإنهم أقاموا فيها 19 مسكناً يكون مجموع ما فيها من الطبقات نيفاً وأربعمائة طبقة ويكثر نوع هذه البنايات في الغالب في جزيرة مانهاتان والبنايات ذات الست والثلاثين طبقة كثيرة جداً وتستعمل الأدوات الرافعة بقوة الماء أو الكهرباء لطلوع السكان ونزولهم وإذا دامت الحال على هذا المنوال في سكنى العلالي بل الأعالي فسيكون للحياة في أمريكا بعد حين شأن غير شأنها الحاضر فيقضي الرجل في مسكنه معظم ساعات نهاره لا يكلم الناس إلا بالتلفون ولا ينزل إلا إذا رأى حاجة ماسة لنزوله وقد ظهر أن الأعمال لم تتعطل بذلك عن سيرها وأنها ما دامت تتزايد.
شقاء العلماء
هربرت سبنسر هو أكبر عالم إنكليزي قام في القرن التاسع عشر وقد نشرت مفكراته عن حياته فإذا بها يصف نفسه قبل أن يموت بأشهر صورة تحزن ولكنها تعلّم. قال: إنه أصيب(14/37)
في السنة الخامسة والثلاثين من عمره بضعف في قواه عقيب اشتغاله الأشغال العقلية الطويلة الصعبة ومذ ذاك أصيب بالأرق الدائم وفي السبعين من عمره لم يعد يستطيع أن يعمل سوى ساعة في النهار متقطعة يراوح بينها وبين أعمال أخرى فلا يعمل كل مرة أكثر من عشر دقائق. وقبل أن يموت بعشرين سنة عدل عن تناول طعامه في المدينة وأصبح إذا سمع الأنغام الموسيقية خمس دقائق وكانت من قبل تستهويه وتشوقه أو لعب بالنرد أو غيرها من الألعاب بضع دقائق يمرض أياماً وكاد لا يستطيع القراءة ولا يستطيع أن يمشي زيادة عن ثلثمائة متر ولا أن يتنزه أكثر من عشر دقائق في عربة ذات آلة مفرغة للهواء. ولما اهتدى إلى مذهب النشوء لم يكن يهنأ له بال إلا بوضعه وشرحه. وعاش وقلبه لا يعرف حباً غير حب الحقيقة. قال والعزوبة كانت بعد كل ذلك هي أليق بي بل هي أليق بالمرأة التي لا أعرفها والتي لم أتزوجها. قالت المجلة التي نروي عنها وهكذا حياة كبار الرجال وخصوصاً كبار العاملين المجاهدين منهم ما كانت قط عذبة المذاق. والمجد في الغالب لا ينال إلا إذا بذل فيه كل ما عزّ وهان.
اللغة الإنكليزية
اللغة الإنكليزية أكثر اللغات ألفاظاً فقد قدروا مؤخراً عدد ألفاظها بثلثمائة وخمسين ألف لفظة هذا وشكسبير الشاعر الإنكليزي لم يستعمل من هذه الألفاظ سوى ستة عشرة ألفاً وميلتون الشاعر المشهور أيضاً لم يؤثر عنه أنه استعمل أكثر من ثمانية آلاف لفظة. ويستخدم الإنكليزي المتوسط في تعليمه من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف كلمة ويتأتى لمن يعرف ألف لفظة أن يحسن التخلص باستعمالها في إنكلترا وهذا غريب.
فلسفة الشرق
كتب إنكليزي في إحدى المجلات الهندية الإنكليزية فصلاً في العلوم التي يتيسر للغرب أن يأخذها عن الشرق فقال إن العلوم الفلسفية ينبغي أن تؤخذ عن الشرق أولاً وفي الهند ميدان فسيح أكثر من كل بلاد شرقية سبقت لها حضارة قديمة لدرس أصول اللغات ومقارنتها والديانات ووضعها على محك التنظير وأن لها في الفلسفة القدح المعلى. فالمذاهب الهندية في الفلسفة لم تأخذ شيئاً عن أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس بولس بل إن حكماء الهند بحثوا منذ ألوف من السنين في المسائل الكبرى التي أزعجت الإنسانية كمسألة الوجود(14/38)
المطلق والآخرة والروح والربوبية. فعلى من يودون أن ينصرفوا إلى دراسة علم النفس وعلم ما وراء الطبيعة أن لا يباشروا هذين العلمين إلا بعد أن يتمكنوا من الوقوف على بعض ما ذهب إليه قدماء حكماء الهند في هذا الموضوع.
الطلاق في أمريكا
يكثر شيوع الطلاق في الولايات المتحدة سنة عن سنة وإن لم ينظر القانون في حال الأولاد الذين يولدون من المطلقات وقد غبطت إحدى المجلات الأوروبية بلاد الأمريكان على قلة الطلاق بينهم على كثر ما يقال عن شيوعه بينهم فقالت إن حدوث مئتي ألف طلاق في سنة 1900 بأمريكا لا يعد شيئاً مذكوراً إذا قيس بأمة يبلغ عدداً نحو ثمانين مليوناً.
مستقبل الاتوموبيل
نشرت مجلة المجلات النيويوركية فصلاً في الأتوموبيل استندت فيه إلى ما تم له من الانتشار منذ اثنتي عشرة سنة في أمريكا فقالت أنه لم يكن فيها على ذاك العهد سوى خمسة اتوموبيلات ومنذ خمس سنين لم يكن في أمريكا إلا قليل من عجلات الأتوموبيل يقتنيها كبار المثرين للتسلية والبذخ ويقدر اليوم عدد الأتوموبيلات في أمريكا بمئة ألف أتوموبيل وقد صنع منها في السنة الماضية وحدها خمسة وعشرون ألفاً وأوصي لهذه السنة على خمسين ألفاً أخرى وهذا مما يدل على أن عجلات الأتوموبيل ستقضي على عجلات الخيول وخصوصاً متى أدخل على الأتوموبيل بعض الإصلاح.
اكتشاف في سيلان - اكتشفت في جزيرة سيلان مصانع عظيمة فخيمة أقامها الملك العظيم بارا كراماباهو الذي شيد 1478 حوضاً لخزن مياه الأمطار ليستعملها الناس. وعثر في معبد كال فيهارا على ثلاثة تماثيل ضخمة للمعبود بوذا نُحتت في حجر الصوان على أجمل شكل واكتشفت كهوف حفظ فيها تاريخ سيلان قبل المسيح وعثر فيها على كتب بوذية كتبها الكهنة على أوراق النخيل ملتصقة بعضها إلى بعض وموضوعة في ظروف من حرير لتجمع في صناديق صغيرة من خشب جعلت في مقاصير.
الحياة المادية
كتب أحد رجال العلم والدين مذكرات عن الولايات المتحدة قال فيها أنها أصبحت جنة أرباب الصنائع والفنون وأهل العلم راجت فيها الآداب والفنون رواجاً لم يعهد له نظير(14/39)
حتى أن الممثل أو المغني إذا طاف أمريكا يعود منها بثروة. فالعمل في هذه البلاد هو الحياة حقيقة أي أن كل عامل ينال حظه من سعة الرزق بقدر جده في أعماله وقد أصبح الذهب فيها الغاية الوحيدة التي يسعى إليها الناس. وبحق ما قال أحد الأمريكان: إننا نحسن العمل ولكننا لا نحسن العيش فإنا نرى الانتحار شائعاً بين أهل الطبقات الغنية أكثر من شيوعه بين أهل الطبقة الفقيرة.
تلقيح الأرض
رأى بعضهم منذ مدة أن يستعمل النيتراجين لإخصاب التربة وأمراعها. ثم أن أحد علماء الزراعة من الإنكليز اخترع في هذه الأيام اختراعاً آخر لتلقيح الأرض المجدبة خصوصاً إذا كانت رملية فجربت هذه المادة في عدة أصقاع من بريطانيا فأتت البقول قبل ثلاثة أسابيع من ميعادها وزاد محصولها خمسين في المائة ويكلف كل آكر (هو 40 آراً ونصف والآر مئة متر مربع) شليناً وحاداً فيأخذ الفلاح ثلاث رزم يكون في الأولى كمية من الأملاح المعدنية وفي الثانية ذرور وفي الثالثة فوسفات النشادر ويجعلها في إناء كبير يملأه ماء ويجعل مسافة 24 ساعة بين وضع كل رزمة ثم يجعل هذا المحلول مع البذور فتبتل بها أو يمزجها بتراب ويذرها على الأرض أو يرش بهاذ المحلول أديم الأرض المزروعة.
النوام
هو مرض النوم الذي شاع كثيراً في أفريقية الشرقية وهلك به نحو مئة ألف نسمة في بضع سنين وقد انتدب للنظر فيه الدكتور كوخ الألماني ونش الآن تقريره عنه فقال إنه حقن المصابين به بمادة الأتوكسيل المؤلفة من النشادر فظهر أنه يخفف بعض آلام المريض ويرجى أن يشفى به فإذا وفق الدكتور الباحث إلى تحقيق الأمنية من دوائه فيخفف عن ابن أفريقية بدوائه الجديد ما خففه عن ابن الغرب بدوائه للسل الرئوي.
وقف على العلم
وقف أحمد بك الشريف من أعيان طنطا مئة فدان من أجود أطيانه على المدرسة الجامعة المنوي إنشاؤها في مصر ويقدرون ثمنها بثلاثين ألف جنيه بارك الله به وبماله.(14/40)
نفاضة الجراب
فجائع البائسين
4
مضت أيام وسعيد يجتهد فوق طاقته بحيث قدم فحصين عن دروس صفين في آن واحد حتى بلغ الصف المنتهي ليقرب وصوله إلى المدارس العالية وظل مثابراً على خطته حتى خرج الأول من المدرسة ولم يترك جائزة لأحد من رفقائه في الصف فأدهش المعلمين والتلاميذ وأمّل الجميع بنجاحه في المستقبل وبعد ما نال الشهادة عزم على السفر واطلع الباشا على قصده فساعده على ما يريد ولم يتيسر له أن يختلي بجميلة ولكنه ودعها قائلاً أؤمل أن أوفق إلى مطلوبي وذهب إلى الأستانة تحف به الآمال وتشيعه الأحلام.
حتى إذا بلغ دار السعادة أخذ يفكر في انتخاب مدرسة يتخرج فيها على النحو الذي يكون به في المستقبل جديراً بجميلة فلا تكبده ما لا يطيق من النفقات. فرأى أن دار المعلمين أحسن عائدة عليه لأن الأول في الصف فيها يقبض مشاهرةً ليرة عثمانية وكان يعتمد على نفسه بأنه سيحرز الأولية بيد أنه فكر بما سؤول إليه أمره في المستقبل وماذا سيكون من اشتغاله فلما أدرك أنه سيصير معلماً للنشء وقيماً على الأطفال امتنع عن الدخول إلى دار المعلمين ذلك لأن هذه الصناعة تعد قبيحة عند العامة وهو يود أن يصير في مقام يكسب به جاهاً يخوله الحق أن يخطب جميلة من أبيها ثم فكر في حقيقة تعليم النشء وتدريبهم فأدرك انه بعمله هذا يكون علمهم العلوم وأحسن تربيتهم وجعلهم رجالاً للأمة وقد يعلمهم المؤازرة والتضامن فيجعلهم جسماً واحداً وأمة واحدة كالبنيان المرصوص ويدربهم على الأعمال الشريفة التي تعود بالخير على وطنهم فيغنم بذلك أجراً جزيلاً وثناءً جميلاً. وربما أحرز منصباً في نظارة المعارف يجعله في أوج المعالي إذا ساعده الدهر وخدمه الحظ وكان مغروراً بحظه لما رأى من نفسه الغناء في الفوز بالأولية في الصف ومحبة الناس عامة. وبعد أن فكر ملياً في الأمر أزمع الدخول إلى هذه المدرسة فدخلها وأخذ يقضي أوقاته ويفني صحته في الدرس لينال ذلك الراتب. وفي غضون ذلك انتقل الباشا من دمشق برتبة أكبر إلى مكان بعيد فساقته الضرورة إلى الاكتفاء بهذا الراتب القليل.
وكان سعيد لما بلغ الأستانة نزل في خان من خانات شنبرلي طاش واستأجر أصغر حجرة(14/41)
فيه يدفع ثلاثين قرشاً في كل شهر وقد أتى معه بفراش ولحف واشترى قطعة بساط عتيق فمده وجعل يجلس على فراشه كل من يزوره من إخوانه وكان يشتري ما يلزمه من الأواني شيئاً فشيئاً ويعيش في غاية الاقتصاد. فكلما دخل حجرته أو أكل أو شرب أو نام يعتريه ضيق صدر فيشكو دهره ويقول إلى متى وأنا مقضيٌّ عليًّ بالتقتير والحرمان من كل لذة وقد ينتهي في الأحايين إلى درجة اليأس بحيث يكاد ينتحر ليخلص من هذه الحياة التعسة ثم يرجع إلى نفسه ويقول قتل الإنسان ما أكفره. لابد من تحمل المشاق حتى أنال السعادة ومهما عاكستي الدهر فإني قاهره بشدة صبري ثم يأخذ يفرك في مستقبله وماذا يفعله وربما تجسمت أمامه السعادة ورأى نفسه في أعلى المناصب وأنه نال حينئذ وصالاً من حبيبته جميلة وبينا هو يخوض بحار هذه الخيالات يرى ساعة الدرس أتت فيلعن الدرس والاجتهاد لأنه كان في حرب من الأفكار.
وكان يمتنع عن التنزه إلا إذا اكرهه إخوانه على رفقتهم فيذهب حياءً منهم فينغصون عيشه وهم بمالهم فرحون فكان إذا رأى منزلاً عالياً تذكر حجرته وإذا رأى عربة جميلة تذكر ذهابه وإيابه إلى المدرسة مشياً تحت المطر والثلج وإن رأى نُزلاً تذكر دكان الطاهي الذي يتعشى فيها وإذا استنشق هواءً نقياً تذكر هواء حجرته الفاسد وإذا رأى غادة تذكر حبيبته وإذا رأى عجوزة تخدمها السراري تذكر أمه وهي تعمل في المطبخ. وكلما شاهد ما يدل على السعادة كان يذكر ما يقابله من شقائه فيرجع من التنزه حزيناً كئيباً ويعود رفقاؤه مسرورين. ولذلك كان يعد أحسن أوقاته ساعة نومه الخالي من الأحلام إذ يستريح به من التفكر في الشقاء وكان كلما ذكر شقاءه يقطع أمله من جميلة ولكن الآمال كانت تبعث الاطمئنان إلى قلبه. وقضى ثلاث سنين على هذا المنوال وهو بعيد عن راحة الفكر وانشراح الصدر فأتم الدراسة وأخذ شهادة تامة تؤهله لكل خدمة ثم عين معلماً براتب ثمانمائة قرش في الشهر فساقته الآمال وأطمعته الرواتب وسعد به أبواه وأهله ولكن لم يمض زمن حتى مات أبوه وخلف له أسرة قضي عليه أن ينفق عليها فأصبح راتبه لا يكفيه وصار يلتمس ممن تعرف إليهم أن يعينوه معاوناً لمدير مكتب بيروت الإعدادي فبلغ راتبه ألفاً ومائة قرش على شرط أن لا يفارق المكتب إلا ليلتين من كل أسبوع ويدرس أربع ساعات كل نهار ويعلم الرياضيات والتاريخ والإنشاء فصار يتألم من تنوع الفنون(14/42)
التي يشتغل بها وكان يود أن يختص بفن واحد منها ولكن قلة الأجرة التي خًصت للدروس اضطرته إلى أن يتحمل هذا العذاب ويمنع نفسه من الإخصاء بفن واحد ومع كثرة اشتغاله وتألمه من كثرة عائلته ما نقطع لحظة عن التفكر بجميلة ولكن بعدها عنه وانقطاع أخباره جعلاه في يأس من الوصول إليها وكان في احتياج للزواج.
5
في يومٍ راقت سماؤه ورق هواؤه ذهب سعيد مع صديق له يسمى رفيقاً إلى متنزه ضبيا ليصرف وقتاً بدون فكر ويتخلى ساعة عن بؤسه وشقائه. فأخذا يتجاذبان أطراف الحديث في كل ما خطر ببالهما. فساقهم الكلام إلى البحث عن الزواج شأن من لم يتزوجوا من الشبان وكان لرفيق أخوات جميلات متعلمات يود الناس الزواج بهن ولكن كان له أم عرفت بمساوئ الخلاق واشتهرت بسوء الطوية فامتنع الناس عن التأهل بأخواته. وكان رفيق في كدر من كسادهن وهو على علم من مكانة سعيد في الحال والمآل فتصور سعادة لأخته في قرانها بسعيد فتجاسر وكلفه بأن يصير له صهراً ففكر سعيد هنيهة ووعده بالقبول فتعهد رفيق بإسكانه في منزله واعتباره واحداً من أهله وفرداً من أفراد عائلته وافترقا على أمل القران فذهب رفيق وأخبر أمه بما جرى بينه وبين سعيد ومدحه لها وأعلمها براتبه وأفهمها مستقبله فسرت به وأملت بسعادة ابنتها فرضيت وساقت ابنها إلى إتمام هذا الأمر فذهب إليه غير مرة وسأله عن عزمه فأجابه بالقبول وكان سعيد فكّر في جميلة وما بينهما من الوعد. ولكنه استبعد ثبات النساء على أقوالهن والوصول إليها لما بينه وبينها من الامتياز في الطبقة وعبثاً رأى نفسه معلقة بها فرضي بالزواج وتكلم مع رفيق على مقدار المهر فرضي هذا بخمسة آلاف بعد قبول أمه ولكنهما قرراً على أن يعقد النكاح على مهر مقداره 150 ليرة رئاءً أمام الناس وعينت ليلة العقد ودعي الأقارب والخلان وشربت المرطبات وتولى الشيخ صيغة العقد وذهب كل من حضر داعياً بلسانه وهم ما بين معترض ومنتقد وساب وشاتم وحامد.
وعينت ليلة العرس ودفع المهر سعيد فاستدان وباع راتبه بنقص ليقبضه قبل ميعاده حتى يقوم بما يلزم من نفقات العرس.
واجتمع بقرينته شهيرة فوجدها على ما يرغب وسرّ بها وظن أنه نال السعادة فصار معززاً(14/43)
مكرماً لدى أسرة رفيق بأسرها ولكنه وقع في قبضة الديون بعد أن كان يقتصد من راتبه ويجمع دراهم وصرت لا تراه إلا شاكياً باكياً من دهره يفكر ويقدر فيما يجعله غنياً وكانت عنده (تحويلات) البنك العقاري وتحويلات سكة حديد الروم ايلي فرهنها على مبلغ ليوفي ديونه فما خلص منها ولكن ذلة ليالي الوصال وأوقات الاجتماع كانت تنسيه همه وتسليه عن غمه. وظل نحو شهري بين مسرور بزوجته ومغموم بديونه وكان أخبر أمه التي تركها بدمشق بزواجه فأرسلت تطلب منه أن تحضر إليه لترى كنّتها وتلتقي بابنها فاستدان لها مبلغاً أرسله إليها فأتت ونزلت ضيفة في بيت رفيق ولم تلبث يوماً أو بعض يوم حتى أخذت أم رفيق تهينها هي وبناتها إلا شهيرة امرأة سعيد فإنها كانت تبجلها رعايةً لقرينها فتكدرت أم سعيد وأخبرت ابنها بما وقع لها فأسف لذلك واضطر إلى الرحيل فاتخذ له داراً سكنها هو وأمه وامرأته فزادت نفقته وازدادت ديونه فصعب انتقاله على أم رفيق لأنه كان يشترك معها في الإنفاق على البيت وكانت تقتصد بسببه وتخفف نفقات ابنها فسعت في إرجاع ابنتها بدعوى أنها لا تطيق السكنى مع أمه وكانت تعلّم ابنتها ما تقوله فصارت هذه تلح عليه باعتزال أمه وتبدي له الجفاء بعد أن كان لا يرى منها إلا المحبة والوفاء فصار يؤاخذها على أعمالها وينصح لها بأن لا تسمع كلام أمها فما سمعت له وتركته وحيداً من أجل أن تنال رضى أمها ورجعت إلى بيت أخيها. اغتنمت تغيب أهل الدار ذات يوم فأتت بحمالين ونقلت متاعها وتركت الدار بلا أثاث فرجع سعيد في المساء فلم يجد متاعاً وأخبره الجيران بما تم فعلن حماته والساعة التي عرف بها رفيقاً وكانت امرأته حاملاً قد أقربت وكان أخوها متغيباً عن بيروت عندما تمت هذه الأعمال القبيحة فلما رجع أخبرته أمه وعظمت المر في عينه حتى جعلت سعيداً فحمة سوداء أو حية رقطاء وصورته لابنها مثال الدناءة والرذيلة وجردته من كل شهامة وخلة كريمة ونسبت إليه من الأعمال ما لم يخطر له على بال حتى أشربته بغض صهره وساقه الحنو الأخوي للانتصار لأخته وأعماه كلام أمه عن رؤية الحق وراح يظن الباطل حقاً وأصبح لا يثق بكلام سعيد فبدلاً من أن ينصح لأخته وأمه أخذ يزيدهما عتواً وطغياناً. وكان سعيد يسعى ليصلح الخلل ونصح لرفيق ووعظه فما استفاد إلا هجراً وصداً فتركه وشأنه.
وضعت شهيرة فطلبوا منه نفقات الوضع فما تأخر عن طلبهم وأرسل إليهم جميع ما يلزمهم(14/44)
من دارهم وغير ذلك على أمل أن يرجعوا عن غيهم. فولدت الفتاة غلاماً فرح به أبوه ولكنه لم يتسر له أن يراه وصار يتوسط ليرى مهجة فؤاده فلم يحظ بطائل. وعندها رأى أن يهجر أهل زوجته هجراً جميلاً فاغتاظ رفيق لذلك وأقام الدعوى عليه في المحكمة الشعرية فأتى بشهود من أقاربه ليشهدوا أن سعيداً طلق شهيرة فشهدوا بالطلاق وأنه لم يدفع من مهرها المسجل شيئاً وقدره مائة وخمسون ليرة وهنا أدرك سعيد أنه وقع في شرك احتيال رفيق الذي اتفق معه على خمسة آلاف قرش وكتب العقد 150 ليرة ولكنه أقام البراهين والأدلة القاطعة على أنه دفع المهر وأنه لم يسبق منه طلاق وأن الفتاة زوجته في كل وقت وأنه يحبها وأن تعيين هذا القدر من المهر كان من قبيل التظاهر أمام الناس بالسعة ومفاخرة لا حقيقة.
فأدرك القاضي إخلاصه وأيقن بصحة دفع الخمسة آلاف من المهر المسجل وما استطاع إلا أن يحكم ببقية المائة والخمسين ليرة مهراً مؤجلاً لأنه مسجل بالقيود وشهادة الشهود على أنه موقن بعدم صحة هذا المهر المسجل ورتب على سعيد مائة وخمسين قرشاً في كل شهر أجرة الحضانة وتربية ابنه وحكم ببقاء الزوجية.
فعند ذلك يئس سعيد من إمكان الاجتماع بزوجته إلا إذا ماتت حماته ولم يجسر على الطلاق خوفاً من أن يحق عليه أداء بقية المهر لأنه لم يبرح رازحاً تحت أحمال الديون التي تذهب ببركة راتبه كل شهر وأخذ يشكو من آلام الوحدة بعد أن كان يعيش العيشة الزوجية فساقته الضرورة إلى الميل للزواج مرة ثانية فوسط امرأة من اللواتي يتوسطن للنساء سمسارات وأوصاها بأن تفتش له على زوجة غنية لا أم لها ولا أب ولا أخوات.
6
من عجائب الاتفاق أن علي باشا عاد إلى بيروت بمنصب أعلى من منصبه سابقاً فأنشأ سعيد يتردد عليه ويزوره في أغلب الأحايين.
علمت جميلة بما حل بسعيد فأسفت عليه وشمتت به لأنه خان عهدها على أنها لا تزال مقيمة على العهد ويئست من الزواج وعزفت نفسها عن الرجال وحكمت عليهم بأنهم أقل وفاءً من النساء ولكنها ودت الاجتماع به لتعاتبه وتشكو إليه وتشكو منه لأنها لم تطلع أحداً على سرها وأخذت تسعى وراء مقصدها حتى تيسر لها أن تخلو به في منزل أبيها فرحبت(14/45)
به وأخذت تعاتبه قائلة: لم يخطر ببالي أنك ستخون عهدي لأني لم أعهد فيك إلا الوفاء والثبات ومكارم الأخلاق فما الذي حملك مع على الخيانة؟
- نعم خنت عهدك على أن مكانك لا يزال محفوظاً في قلبي ولكن علمي بمنزلتي وعدم إمكاني القران بك واحتياجي إلى تدبير أمر معاشي وتنظيم حياتي ساقاني إلى ذلك الزواج المشؤوم لازداد شقاءً على شقاءٍ وأنال جزاء خيانتي لعهدك وكان ينبغي أن أبقى على الوفاء ولو عشت العمر كله في حرمان.
فضحكت جميلة ثم قالت: هب أني لم أشك بما أعهده فيك وأنك لا تزال على عهدك القديم فما الذي ساقك إلى الزواج مرةً أخرى وأنت على علم من حبي لك ووجودي في بيروت؟
- لم أقصد من ذلك إلا تعذيب زوجتي والانتقام منها لأني أعلم أن أعظم ما يجازى به النساء الزواج عليهن ولو كانت الواحدة منهن مطلقةً وعلى عصمة زوج آخر.
- وهذا هو العجب العجاب! فكيف يليق بمنوّر الفكر مثلك عرف بمكارم الأخلاق أن يتنازل للانتقام؟ أنسيت أن الرجال لا ينتقمون عند المقدرة؟
- لا أنكر أن الانتقام نقيصة في الرجال ولكن إذا كان الذي لا تنتقم منه يعد عدم انتقامك جبناً ويزيد في طغيانه فهل يعامل إلا بالانتقام؟ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ودفع الشر بالشر أحزم، واللئام لا يعاملون بغير الانتقام.
- هب إني سلمت لك بأن الانتقام من هؤلاء الأنذال واجب عليك وإذا لم تفعل تلام فقل لي بأبيك ألا تأمل إرجاع امرأتك؟
- لا أخفي عنك أنني ربما رضيت بها إذا رجعت عن غيها وعلمت أن لا خلاص لها مني وأصلحت نفسها وماتت أمها كل هذا إذا كنت في يأسٍ منك.
- فأنت إذاً عازم على الانتقام منها بزواج امرأة أخرى؟ ألا تصبح إذا رجعت إليك ذا الزوجتين؟ فكيف تتصور لك راحة أو هناء بين زوجتين وأنت على علم بأن من يتزوج امرأتين يشتري عذابه بيده فينغص تنغيصاً لا نهاية له ويلقي بنفسه في الغم والهم، وإذا طلقت الثانية لترجع إلى الأولى فيكون عملك مما يشين العقلاء لأن النساء لسن كما يقول بعض الجهلاء كالحذاء متى ما مللت منه تنزعه من رجلك!. وتذكر ما كتبته إحدى منذ حين من أن رجلاً رأى في منامه أن حذاءه سقط في النهر فراجع كتب تفسير الأحلام فلم(14/46)
يجد تعبيراً لرؤياه سوى مفارقة زوجته فطلق امرأته تفسيراً لمنامه وتصديقاً لكتب الحشو. على أن العاقل البصير يحترم النساء لأنهن جنس لطيف جدير بالتعظيم والمحبة. النساء أمهاتكم اللواتي يعانين أنواع العذاب في الوضع فمن لم تكن أمك فهي أم أخيك أو أبيك أو صديقك أو جارك أو ابنك. فكيف يليق بك أن تطلق زوجتك بعد ما تستوفي حظوظك منها وتذهب برأس مالها فتتركها محرومةً من الزواج؟ ولا يدورنَّ في خلدك أني لا أذكر أن الله تعالى أجازكم أن تأخذوا من النساء مثنى وثلاث ورباع ولنه جل شأنه شرط عليكم العدل ثم ذكركم بأنكم لا تستطيعون أن تعدلوا بين النساء. وكيف ترضى امرأة بشريكة لها في حياتها بأعمالها وأفراحها؟ ألا تضطر أن تحرمها منك لتعدل بين الاثنتين وتعاملها بالمساواة، أويخطر ببالك أن تلك التعسة تنام تلك الليلة وهي على علم من أنك عند أعدى عدوّاتها؟ ثم افرض أن الاثنتين اتفقتا - وهذا ضرب من المحال - أليس من الممكن أن يأتيك أولاد من الاثنتين؟ وبديهي أن يتنازع أولادك على أقل سبب فإذا انتصرت الواحد لابنها لا تسكت الأخرى فيقع النفور بينهما وبين الأخوة فتحرم بذلك راحتك وتفقد سعادة عائلتك فإذا كان الشقاق دأب بيتك ونشأ الأخ على بغض أخيه فكيف تؤمل منه خيراً للهيئة الاجتماعية؟ أوهل لك سبيل إلى الإقناع بأن تعدد الزوجات حسن ونتائجه حسنة؟
- لا يسعني الإنكار بمضرة تعدد الزوجات إلا إذا كان عن ضرورة وللضرورة أحكام، ولا أنكر أن الشرع الشريف لم يبحه إلا لهذا السبب وما فرضه علينا فرضاً فمن لم يكن في اضطرار إلى تعداد زوجاته فلا يليق به إلا الرضا بواحدة.
وإذا صفا لك من زمانك واحد ... نعم الصديق فعش بذاك الواحد
- فإذا وافقتك الجديدة وأعجبتك بخلُقها وخلْقها وطلقت شهيرة فماذا تكون حال ولدك منها؟ لو كان أجمل ولد في العالم وكنت أعقل رجل لابد من أن تسقطه من عينك وتجعله نقطة سوداء لأن المرأة عدوة طبيعية لابن زوجها فإذا نشأ ابنك في ظلم امرأتك واستبدادها ألا تكون حينئذ قد جنيت عليه. وأنت في عيني أعظم من أن ترتكب جناية مثل هذه وهب أنه سمحت لك كل هذه الأحوال أليس من العار أن تتزوج باسم الانتقام أو باسم الاحتياج وأنت تعلم أن القصد من التأهل اتخاذ قرينة تشارك الرجل في أفراحه وتشاطره أتراحه ويكمل بها ويعيش معها عيشة راضية فيقومان بما يجب عليهما للمجتمع الإنساني وهذا الأمر لا(14/47)
يتم إلا بقران الرجل بمن توافقه طبيعة ومزاجاً وأخلاقاً ولذلك أرى أن تسعى في استرضاء خاطر شهيرة إذا كانت فيها هذه الشروط وترضى بما قسم لك ربك وتربي ابنك كما تشاء لتجعله خير الخلف من بعدك عساه يكون لك ذخراً وسنداً.
- أنا وحقك معترف بما أتيت به من الحقائق ومن الأسف أنه لم يتيسر لي الاقتران بمن توافقني وتكون جامعة لشروطك ولو أسعفني الحظ وتزوجت منك لسعدت وما أتاحت لي الأيام أن أقع في المهالك والأخطار.
- قضي الأمر وكان بودي أن أكون قرينة لك ولكنك عجلت فأخطأت وحرمت نفسك مني وحرمتني بعملك من التأهل بغيرك لأني وعدتك بان لا أرضى بسواك ومن شيمي وطبعي الثبات على وعدي فلهذا لا أقرن بأحد وسأعيش عانساً متبتلة وبحكم القضاء راضية
فلما سمع سعيد هذه العبارة احمر وجهه وأطرق خجلاً وود الموت ليخلص مما عراه من الخجل أمام من فاقته بمكارم أخلاقها واستولى عليه السكوت وانقطع عن الحركة.
فلما أدركت خجله قالت لا تستحي فإنك لست أول رجل خان الجنس اللطيف بوعده فمهما كان الرجل عاقلاً رقيق الشعور كريم العواطف والأخلاق لا يزال في عتو بدعوى التفوق على النساء ولا يعد الخطأ أمامهن إلا من قبيل السهو والنسيان الملازمين للبشر ولكن كن على ثقة من أنه سيجيء يومٌ ترتقي فيه الهيئة البشرية وتعلم منزلة المرأة وواجبات الرجال نحوها فتحفظ حقوقها فتصبح معززةً مكرمةً ولا يجسر أحد حينئذ على خيانتها لأن عمله يعد سقوطاً في الأخلاق، وأرجو منك أيها الصديق أن لا يشق عليك كلامي وما لك إلا الإذعان والاعتراف بالذنب لأني صاحبة الحق. وأما أنا فإني أسلمت أمري لخالقي الذي جعلني بائسة محرومة من شرف السعادة الحقيقية.
فعند ذلك قام وعبرات الأسى تنهمل من عينيه على خديه وأخذ يقبل يديها ويقول: ها أنا ذا أكرر اعترافي بذنبي عني والعفو من شيمك ولا تزيديني هماً وخجلاً فوق كدري، وارحمي شبابي لئلا يسوقني هذا العذاب إلى الانتحار.
فضحكت وقالت: أرجو أن تجلس في مكانك. أتدري سبب ضحكي؟ قال: لا. فقالت لأني قرأت من الروايات وأخبار العشاق ما لم أتذكر عدده وقد ثبت لدي أن الرجال يستعطفون النساء ويستميلونهن بدعوى الانتحار فلا يصدق دعواهم إلا اللواتي حرمهن الخالق من(14/48)
العقل والعلم وكم قرأت وسمعت من أخبار الرجال الذين كانوا عزموا على الانتحار من أجل معشوقاتهم وبعد أن حظوا بقربهن تركوهن يعانين آلام العذاب وندر من انتحر والنادر لا حكم له. وإني لا أود أن أسمع من عاقل مثلك أن يقول هذا الكلام فلو كنت ممن يطيب لهم الانتحار لصبرت من أجلي وعملت مثلي. هذا والشائع على الألسن أن الرجال أقدر من النساء على ضبط أنفسهم ولكني رأيتك مع شدة عقلك ومتانة أخلاقك لم تمنع نفسك من خيانة العهد.
- كفى سيدتي أما قلت لك أني تزوجت اضطراراً علماً مني أنه من المحال أن أصل إليك لما بيننا من الدرجات والفروق.
- هل طلبتني ورجعت خائباً حتى تعتذر هذا الاعتذار الواهي؟
- لا أجرؤ على أن أخطبك لأني كنت على يقين من رجوعي خائباً وخفت أن تتحول عني أنظار الباشا وأن تنقلب محبته لي نفوراً مني فأكون حينئذ ضيعت آمالي على أني مازلت غريقاً في بحر الآمال.
- ماذا تقول؟ أجننت أم تهذر؟
- أعذريني على خطأي ولا تجرحي حواسي فإني مازلت أسعد بها.
- ماذا تقول؟ لقد صغرت في عيني بعدما كنت كبيراً!. أنسيت إننا كنا نتكلم عن تعدد الزوجات ووصف مضراته؟ وكيف يخيل إليك أن تجعلني شريكةً لمن خربت آمالي وجعلتني في حرمان من حبيبي الخائن؟
- آه سيدتي دعي عنك هذا الكلام فإني سأطلقها من أجلك وأرجع إليك إذا ساعدني الحظ.
- كيف تطلق زوجتك أم ولدك وأنت تعلم أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق وماذا تكون حالها بعد الطلاق وماذا يؤول إليه أمر ابنك التعيس الذي سيتربى على غير ما تريد؟
- أنسيت أن الله تعالى قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} على أني سعيت لأمسكها بمعروف فلم يتيسر لي لأنها شربت لبن اللؤم من أمها ولا أمل لي بإصلاح حالها وهي كلما تقدمت ودرست على أمها زادت لؤماً وخبثاً وبغضاً إلي فطبيعة الحال تسوقني إلى تسريحها وأما ابني فإنه أهمل وترك للطبيعة تتصرف به كما تشاء فخانته وسلطت عليه الأمراض وقد أخبرني الطبيب أن لا أمل في حياته وإذا مات أراحنا واستراح وبذلك(14/49)
تزول الموانع ويبقى مانع واحد وهو قبول الباشا الذي لا سبيل إليه فهل إليه من وسيلة؟
- أنا ثابتة على قولي وعهدي ولكن وجود زوجتك يمنعني عن قبول ذلك.
فأقسم لها بالله بأنه لو لم يخف من الحكم عليه بدفع بقية مهرها لطلقها ثم قال: لا يخفى عليك قلة ذات يدي وعدم اقتداري على دفع المبلغ ولعل الحظ يسعفني فيموت ابني على أني أعدك وعد حر أنه يستحيل اجتماعي بها بعد الآن.(14/50)
العدد 15 - بتاريخ: 15 - 4 - 1907(/)
التقية
الأمم في أول نشأتها تحتاج إلى كتم أمرها وضم أطرافها والتماسك في كل أحوالها خوف عدو قاهر ومليك مقتدر وعدة ضخمة وعدد؟؟ من مال ورجال حتى إذا استحكم أمرها وأصبحت كفؤا لمناوئها تظهر ما كانت تضمر وتقدم إقدام الاتيي على الوادي وتلوب على من تضمه إليها وتكثّر به سواد قومها. وهكذا حال الأفراد فإن العالم أو صاحب الدعوة إذا كان في مبدأ شأنه بين قوم يخاف بادرتهم إذا فاتحهم بأفكاره يخفي شيئاً مما يكنه ضميره حتى إذا اشتدت شكيمته واستحكمت مُنّتُه واستجاش له أنصاراً وخاصة يقبلون ولو جانباً من أفكاره وعلمه يتدرج في بث دعوته فيبدأ بالضعاف أو المستضعفين إلى أن يصل إلى الأقوياء والعظماء. وهذا الضرب من الكتمان يسمى التقية مشتقة من أتقاه أي خافه وهي ضد العلانية. عادة راجت ولا تزال رائجة في المشرق خصوصاً بين المغلوبين المخالفين أمام الغالبين الظالمين ولكم ذهب بها فيما غبر أرواح رجال لم يحسنوا استعمال التقية ونجا بها أناس جعلوها شعراً يلبسونه ومجناً يتقون به عادية من يخالفونهم أو يريدونهم على العلم بما لا يعتقدون به من علم ورأى ونحلة.
جاء الرسول العربي عليه الصلاة والسلام فقام يبث دعوته وتحمل فيها صنوف الأذى والإهانة ولما كثر أنصاره ومريدوه من المهتدين وخاف امتداد الأذى هاجر إلى المدينة وهناك أقام على تلقين اليقين علانية. ولذلك أجمع رأي الصحابة على عهد عمر بن الخطاب لما أرادوا التأريخ أن يبدأوا من سنة الهجرة لأنه الوقت الذي حكم فيه الرسول على غير تقية فأكن الدور الأول ما كان إلا لتأسيس ما بدأ ظهوره من الدعوة في المدينة فلم يحسبوه. وقد جاء في القرآن آيات تدل على الأخذ بالتقية وآيات على عكسها بحسب المناسبات.
قال الخازن في تفسير قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} أي ألا أن تخافوا منهم مخافة ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن مداراة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً أو غير ذلك من المحرمات أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا(15/1)
مع الخوف من القتل مع سلامة النية إلى الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}. ثم أن هذه التقية رخصة فلو صبر على إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم. وأنكر قوم التقية وقالوا إنما كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز أمة الإسلام والمسلمين فليس لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: ابن الحسن يقول التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان. فقال سعيد: ليس في الأمان تقية إنما التقية في الحرب. وقيل إنما تجوز التقية لصون النفس من الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. اهـ
واختلفت مذاهب المسلمين في التقية فروى المؤرخون أنه كان سبب اختلاف نافع بن الأزرق ونجدة بن عامر من زعماء الخوارج أن نافعاً قال التقية لا تحل والقعود عن القتال كفر واحتج بقوله تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}. وبقوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. وخالفه نجدة فقال: التقية جائزة واحتج بقوله عز وجل: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}. وبقوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فالأزارقة من الخوارج وهم أصحاب ابن الأزرق المشار إليه يقولون إن التقية غير جائزة في قول ولا عمل. وحكى الكعبي عن النجدات وهم أصحاب نجدة بن عمار أن التقية جائزة في القول والعلم كله. وقال الصُّفرية الزيادية وهم فرقة من الخوارج أيضاً: التقية جائزة في القول والعمل. والرِّدَيُّ عند الخوارج هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه.
أما الشيعة فلهم في التقية تجوّز لم تعرفه فرقة من المسلمين فيما أحسب فكل ما أرادوه تكلموا به فإذا قيل لهم ذلك ليس بحق وظهر لهم البطلان قالوا إنما قلناه تقية وفعلناه تقيةً. هذا ما نقله الشهرستاني في الملل والنحل وليس في الأيدي كتاب من كتبهم نرجع إليه فيما قالوه هم في حقها. ولقد رأيت بعضهم يستعملون التقية في خلواتهم وجلواتهم فلا تجديهم إلا صغر النفوس وضياع الشمم والشرف على حين لا يضطرهم إلى ذلك داعٍ ولا يريدهم عليه حاكم ولا محكوم عليه. ولكن هي العادات يرضعها الأبناء مع لبن الأمهات فيتعذر الإقلاع عنها إلا بعد الاستغراق في نور العلم النافع والتربية الصحيحة.
والعقل يقضي بأن يستعمل في دار التقية ما لا يستعمل في دار العلانية على حسب(15/2)
الأحوال. وقد تترتب مفاسد دينية ودنيوية على سوء استعمال التقية ولكن قل في العلماء وأرباب المقالات من أحسن استعمالها وساعده محيط بلاده على تحقيق أمانيه. والتوسط في كل شيء محمود المغبة فكيف بالتوسط مع الطواغيت والمرء لا ينجو معهم بدونه.
عهدنا الحجاج لما هزم عبد الرحمن بن الأشعث وقتل أصحابه وأسر بعضهم يتلقى كتاب عبد الملك بن مروان في عرض الأسرى على السيف فمن أقر منهم بالكفر خلّى سبيله ومن أبى قتله. فأتى منهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير. وكان الشعبي ومطرف تريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها فذهب عامر ومطرف إلى التعريض والكناية فعفا عنهما وأما سعيد بن جبير فأبى ذلك فقتل. وكان مما عرَّض به الشعبي: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وانخزل بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء. قال: صدق والله ما برّوا بخروجهم علينا ولا وقووا خلّيا عنه. ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله فقال هل الحجاج: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: إن من شق العصا، وسفك الدما، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر. قال خليا عنه. ثم قدم إليه سعيد بن جبير فقال له: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت بالله مذ آمنت به. قال اضربوا عنقه.
أرأيت رجلاً معروفاً بصلابة دينه ووفرة علمه وثبات جنانه وقوة برهانه فادى بروحه من أجل الحق وغلّب الموت على القول بما يخالف ما وقع في نفسه؟ أبى إباؤه وأنفت أنفته أن يلجأ إلى تقية لا يرضاها ذوو النفوس الكبيرة فذهب مثال الكمال وأنموذج الفضيلة والتقوى أبد الدهر. هذا هو سعيد بن جبير الذي لا تفتأ الألسن تذكره بالرحمة وتسخط على من قتله شر قتلة.
ومن التقية المحمودة إن صح أن يسمى التقية ما يأتيه بعض العلماء من الامتناع عن إفشاء بعض الأسرار في الدين للعامة وقد أرجع الغزالي هذه الأسرار التي يختص المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها إلى خمسة أقسام: الأول أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك وإخفاء سر الروح من هذا القسم. الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه(15/3)
لا يكل الفهم عنه ولكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الزرد بالجعل. الثالث أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب كما لو قال قائل رأيت فلاناً يقلد الدر في أعناق الخنازير فكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها. الرابع أن يدرك الإنسان الشيء جملةثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق. الخامس أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده حقاً والبصير بالحقائق يدرك السر فيه.
قال صاحب كتاب إيثار الحق على الخلق: كثرت البدع وكثرت الدعاة إليها والتعويل عليها وطالب الحق اليوم شبيهٌ بطلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمر بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى. وأن نشأة الإنسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة. قال ولا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين ولا المتقي من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثرة الغافلين بل ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه.
ونسب تنكب الناس عن طريقة الحق لعدم الحرص وقوة الداعي وللخوف من شر الأشرار مع الترخيص في التقية بإجماع الأمة فقد أثنى الله على مؤمن آل فرعون مع كتم إيمانه وسميت به سورة المؤمن وصح أمر عمار بن ياسر بذلك وتقريره عليه ونزلت فيه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. وقد قيل من عرف الخلق جدير أن يتحامى ولكن من عرف الحق فعسير أن يتعامى. والذين آمنوا أشد حباً لله. ونسبه أيضاً للخوف من الشذوذ من الجماهير والانفراد عن المشاهير.
وذكر أيضاً أنه زاد الحق غموضاً وخفاءً أمران أحدهما خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام قائلاً: ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ولا برح المحق عدواً لأكثر(15/4)
الخلق. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته في الناس وأما الآخر فلو أبثه لقطع هذا البلعوم.
ومازال الأمر في ذلك يتفاحش وقد صرح الغزالي بذلك في خطبة المقصد الأسنى ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح الرحمن الرحيم. وأشار إلى التقية الجويني في مقدمات البرهان في مسألة قدم القرآن، والرازي في كتابه المسمى بالأربعين في أصول الدين. قال: وثانيهما الاعتماد على الكتابة في حفظ العلم فإنه أدى إلى كتم أهل العلم لكثير من مصونه في أول الأمر ثم لمهمات الدين في آخره وكان العلم في أول الأمر يبذل من أهله لأهله مشافهةً ولو سراً وذلك أول النقص وهو محفوظ في الصدور غير مبذول لأهل الشرور في الشعور فلما قلّ الحفظ وطال الأمر وكتب ليحفظ وتعذرت الصيانة وخيف العدوان من أعداء أهل الإيمان كتم بعضهم فلم يظهر علمه فازداد النقص واتقى بعضهم فتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفاً على نفسه ورمز بعضهم فغلظ عليه فيما قصده في رمزه فتفاحش الجهل.
وأما الفرق بني ما يجوز من المصانعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز وهو المصانعة وربما عبر عنه بالمداهنة والمداراة والمخالفة وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام. ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في الرسالة المخرسة لأهل المدرسة: لا يجوز أن تكون المولاة هي المتابعة فيما يمكن التأول فيه لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق وصلى الحسن البسط على جنائزهم وأقام علي بن موسى الرضا مع المأمون وكثَّر جماعته وتزوج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك. والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له فتأويله ممكن. وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي مولاة الكافر لكفره والعاصر لمعصيته ونحو ذلك. وهو كلام صحيح والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} ومنها قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ(15/5)
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
تأمل هذا المنقول في التقية من كلام ذاك الإمام المجتهد وهو نموذج من تأليف من عمل بعلمه ولم يكتم حقيقةً إرضاء لخاطر ولم يتق رثاء وخوفاً وطمعاً. ذاك كلام أبي عبد الله محمد المرتضى من أكابر علماء القرن التاسع أنفت نفسه من التعصب لعادات الآباء والمشايخ فتجانف طرق أسلافه وحكّم الإنصاف في أقوال فرق الإسلام ولولا عراقته في الشرف وبُعد غوره في العلم وإخلاصه في أقواله وأعماله لاضطهد وأوذي ونال من صنوف العذاب ألواناً. أقدم هذا الإقدام مؤثراً أن ينصرف عنه جانب من حطام الدنيا مثل تولي الإمارة عند الزيدية وشرطها عندهم أن يتقلدها أعلم الناس وأشرفهم وكان هو جامعاً لهذين الشرطين وهو من أسرة تولت زعامة الناس فرأى الدعوة إلى الحق خيراً من الإمامة والإمارة فردّ على أبناء مذهبه الأصلي في كتاب ضخم يقع في زهاء ألف ورقة وسماه العواصم والقواصم وخلّف مصنفات غيرها دلت على سعة فضله وعقله وأنه ممن أحسنوا استعمال التقية ولم يتأذوا بالعلانية ورخصت أعمارهم في عيونهم فأفادوا واستفادوا. وكتابه إيثار الحق المنقول عنه آنفاً رأيه في التقية أكبر دليل على ما توصف به.
وإذا قابلنا بني كلام هذا الإمام وكلام من اشتهر أكثر من شهرته لا نعتم أن نشعر بفرق بين المشارب والعقول ولكلٍّ ذوقه وعقله. فمن مشاهير المؤلفين والفلاسفة الفخر الرازي وكل من قرأ مصنفاته ير فيها عقلاً كبيراً ومادة واسعة. ومع هذا وجد له أهل البصر ما ينتقد في حياته العلمية.
درّس الرازي والتفت حوله التلاميذ والأساتذة فكان إذا ركب يمشي معه ثلثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم ونال الحظوة من أمراء عصره والحظة عند شعوبه وتعاظم حتى على الملوك ومع هذا مال الرازي إلى مذهب الجبر القاضي بأن الإنسان كالريشة في الهواء لا عمل هل ولا تدبير ينفعه وأن القضاء والقدر يدوران به على مرادهما وهو المذهب الذي عشش اعتقاده في صدور معظم المسلمين فكان من دواعي انحطاطهم وإن لم يشعر ظاهر الشريعة ولا المأثور عن الأمناء عليها في الصدر الأول بشيء من هذا المعنى وإنما رأى الرازي الخير(15/6)
في نصرة هذا المذهب لأنه كان متسلطاً بكثرة على أهل بلاده فقرر كما قال عن نفسه ما أعتقده أنه هو الحق وتصور أنه الصدق. ولقد رد عليه بعض علماء المسلمين وسفهوا رأيه فيما ذهب إليه حتى أن كل محب لاحترام العلم وإكرام صنيع حملته ليرجو أن تكون بعض هذه الأفكار التي أخذها العلماء على الرازي هي التي سجل على نفسه في وصيته بأنه رجع عنها.
وأنت ترى أن اليماني والرازي المشار إليهما قضيا حياةً طيبةً ممتعين بثمار علقهما وغادرا هذه الدار بلا إهانة وفتنة واكتفى معاصروهما ومن بعدهما من العلماء بالرد عليهما في الورق فكانا مثالاً فيمن نفعته التقية وعرف استخدامها. وإذا جئنا نستشهد بمن جنى عليهم عدم استخدام التقية نخرج عن قصد الاختصار. قال الثوري: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلّط لأنه إن نطق بالحق أبغضوه.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية قد صرح بما اعتقد صحته والغناء فيه فعاداه أعداء التجديد والتحقيق وأشياع التخريف والتلفيق من علماء السوء الرسميين وآذاه من شأنهم مسايرة الحزب الغالب من الأمراء الذين لا مذهب لهم إلا المال ولا دين إلا بسطة الجاه ولا سياسة إلا حكم الناس بما يريدون ولا عقل إلا الاعتصام بالقوة والجبروت.
قضى فساد محيط ابن تيمية والجهل المركب الذي فُطر عليه من جُفّوا في التجني عليه بممالأة من لا رأي لهم أن قضى سجيناً سنين عديدة في جب يوسف بقلعة الجبل بالقاهرة وأعواماً في برج بالإسكندرية وأعواماً في قلعة دمشق إلى آخر ما عومل به من الحبس وكان القصد من هذا كله إيقاف قريحته عن الانبعاث تفادياً من أن يجرف سيلها العرم ما وهى من باطل الاعتقاد ووجد ضعاف العقول وأسرى التقليد آباءهم عليه من الأضاليل والخزعبلات. ولا أقول إن ما لقيه ابن تيمية من الألاقي حبس قلمه عن الكتابة وعلق تأثيره في نفوس مئات من القريبين للخير ولكن من لنا بعشرة عملوا عمله في تاريخ الإسلام رزقوا نفساً كنفسه وعزيمة كعزيمته يستهين بروحه وراحته ويستميت في نصرة الحق وإماتة الباطل من دون ما تقية؟
ولقد شهدنا رجلاً قام في القرن الثاني عشر في وسط جزيرة العرب دعا إلى مثل دعوة ابن تيمية واستنار بعلمه. واهتدى بهديه فعاش سعيداً والنفع به عميماً ألا وهو محمد بن عبد(15/7)
الوهاب. قام هذا بين قوم تغلب عليهم السذاجة البدوية والفطرة العربية فصاح فيهم صيحة أراد بها زحزحتهم عما كانوا فيه من العبادات والمعاملات لأنها من شأن أهل الجاهلية منافية للإسلام فأذعن أعلامه بين أناس ما عرفوا إلا الشرك والوثنية. وكان نصيب هذا الداعية من علماء عصره أن بدّعوه وفسقوه وكفروه ولو طالت إليه يد الأشرار لمزقوه كل ممزق وجعلوه سلفاً ومثلاً للآخرين.
نعم نفعت تلك البادية في بث الدعوة بلا تقية ولا مصانعة أكثر من الشام ومصر زمن ابن تيمية. والدعوات كلها سياسةً كانت أو علمية ما فتئت تبدأ في البوادي والأقاصي ثم تمتد امتداد شواظ من نار فتلتهم الأقرب فالأقرب. وأهل المدن يستغرقون في الترف على الأغلب ويتبنكون النعيم حتى تكاد تنزع منهم وجداناتهم إلا قليلاً فيلجأون إلى المشاغبة في كل ما لم يألفوه والتمويه في الحق والباطل. ولذلك ترى سكان الجبال والأرياف أنشط في كسب العلم وأرغب في التجديد ونزع التقليد لبعدهم عن نشأة السرف والترف.
ومعاذ الله أن يفهم من هذا القول أن ابن تيمية لم يحسن استخدام التقية وابن عبد الوهاب أحسنها ولكن الأول جمع الشروط كلها فخانته بيئته وأسلمه قومه لأهواء الحاسدين. وهذا هو السبب الذي من أجله اعتاد بعض أصحاب الأفكار والمجددين المصلحين منذ القديم أن يهجروا مساقط رؤوسهم لبث دعوتهم وترويج بضاعتهم كما ترحل التاجر بتجارته والصانع بنتائج صنعته. عهدنا معظم العلماء لما أن يشتد عليهم في وطنهم الضغط الناشئ من حسد حاسد وكيد كائد ينزلون صعقاً آخر ليقدروا بقيمهم الحقيقية ويثمنوا بما يساوون. كان هذا شائعاً في بلاد الإسلام أيام كان فيها بقايا من العلم ونسيس من الحياة الاجتماعية فكان العالم إذا كُرب أن تُكربه التقية في بغداد يهجرها إلى الشام وإذا اشتدت به الحال هنا يغادرها إلى مصر أو المغرب أو الأندلس وإذا وقع عليه ما لا ترضى به نفسه في الروم يرحل إلى فارس.
إليك حكم التقية في العلم والعلماء والدين والأمراء. ولم أفض فيما يستعمله أهل السياسة من التقية لأن ما هم بسبيله مبني في الغالب على الخديعة والحيل مدعوم بالرهبوت والجبروت مصبوغ كل يوم بصبغة تخالف صبغة أمس.
وأني لأرجو أن لا يكون جماع أهل العلم والسياسة داخلين في غمار من وصفه أحد(15/8)
الأعراب بضعف فقال: سيء الرؤية، قليل التقية، كثير السعاية، ضعيف النكاية ولا أن يكونوا مثل من قال المأمون فيهم لرجل وعظه فأصغى إليه منصتاً فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك فأسأل الله أن ينفعنا بها وربما علمنا غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال فقد كثر القائلون وقل الفاعلون.(15/9)
شعراء النصرانية في الجاهلية
تابع ما قبله
هذا وإن سألت حضرة الأب لويس شيخو كيف عرفت أن الشاعر الفلاني أو الفلاني كان نصرانياً على حين لم يصرح لك بذلك أحد الأئمة. فيجيبك من فوره وبدون تمهل أجوبة باردة يعيدها كل مرة على من يطالبه بإيراد الأدلة على نصرانية أحد شعراء الجاهلية ممن نصرهم على يديه. فاسمع ما يقول مثلاً عن نصرانية امرئ القيس (المشرق 8: 1003) فبأي دين كان إذن يدين امرؤ القيس أبدين الوثنيين؟ لا نظن وقد فند حضرة الأب أنستاس حجج القائلين بتعبده للأصنام. فيبقى أنه كان إما يهودياً أو نصرانياً. ولم يقل أحد بيهوديته فكان إذن نصرانياً ولا نريد بنصرانيته هذه كما مر أنه كان متمماً لفرائص الدين المسيحي أو أنه كان كاثوليكياً. كلا. وعلى رأينا أنه كان من ملة النسطورية التي أحل أصحابها أموراً لم يحلها غيرهم من النصارى.
أما أدلتنا على نصرانيته فهي الآتية:
أولاً: إبطال مزاعم القائلين بوثنيته ومزدكيته.
ثانياً: خلو شعره من آثار الشرك ففي كل ديوانه ليس من إشارة تدل على عبادة آلهة العرب في الجاهلية.
ثالثاً: بل تجد إقراره بوحدانية الخالق وبالبعث والنشور مع شواعر دينية ظاهرة. . . هذا فضلاً عما في قلبه من الرغبة في المجد والأمور الشريفة والعدول عن حطام الدنيا (كذا. وقد أورد هنا بيتين لا يدلان أبداً على عدوله عن حطام الدنيا بل على تعلقه بأهداب مجد العالم المؤثل).
رابعاً: وفي شعره من الإشارات النصرانية ما في غيره من الشعراء النصارى. . . (كذكره) مصابيح الرهبان والمقدس وهو الزائر لبيت المقدس والإران وهو تابوت النصارى. . .
خامساً: انتشار النصرانية في كندة قبيلة امرئ القيس لمح إلى ذلك حضرة الأب مناظرنا.
سادساً: خروج امرئ القيس إلى القيصر يستنجد به وهذا لم يكن ليخطر على بال أهل البادية وهو يعلم أن القياصرة نصارى متعمقون في الدين لو لم يتخذ وحدة الدين وصلة(15/10)
بينه وبين القيصر لاسيما أن القيصر كان يومئذ يستنيان من أشد الإمبراطورين تحمساً للدين وأنه (على ما روى العرب) أزوجه ابنته.
سابعاً: ومن الدلائل على نصرانية امرئ القيس نصرانية عمته هند بنت الحارث المعروفة بهند الكبرى. . . وقد ذكرنا في المشرق (5: 1060) الكتابة التي وضعتها في صدره وفيها تدل على نصرانيتها ونصرانية أبيها الحارث وابنها عمر بن هند. . .
ثامناً: وكذا قل عن نصرانية أم امرئ القيس التي تسمى فاطمة بنت ربيعة بن الحارث وكانت من تغلب وأخواها كليب والمهلهل التغلبيان ولا أحد يجهل أن تغلب كانت تدين كلها بالنصرانية.
تاسعاً: وأقوى من ذلك ما كتبه المؤرخ ننوز وهذا الرجل العظيم أرسله يستنيان إلى الحبشة وإلى امرئ القيس الكندي وهو يدعوه قيساً ليولي امرأ القيس فلسطين فلما عاد إلى القيصر وأتم ما عهد إليه كتب خبر رحلته في تأليف وقع في أيدي فوطيوس فاختصره في مكتبته الشهيرة. . .
عاشراً: ويؤيد قول ننوز المؤرخ الشهير بروكوب من الكتبة المعاصرين لامرئ القيس. . . انتهت الأدلة.
فنحن الآن نجيب على كل واحد منها مستهلين بالنتيجة التي استنتجها من بحثه هذا وقد صدّر بها حججه الدامغة فنقول:
لو فرضنا أن امرأ القيس لم يكن وثنياً فلا يستنتج من ذلك أنه كان إما يهودياً وإما نصرانياً لأن عدة أديان كانت في بلاد العرب وأصحابها من الموحدين وهم مع ذلك ليسوا من اليهود ولا من النصارى. فما على حضرة الأب إلا أن يفتح كتاب الشهرستاني فيرى ذكر فرق دينية جمة كلها في بلاد العرب وكان أصحابها موحدين. لكن لما كان ذكرها يطول هنا فنضرب عنها صفحاً ونحيل القراء الكرام على مطالعتها في مظنتها. على أنه لا يجوز لنا أن نسكت عن الحنيفية إذ كانت شائعة ذائعة في بلاد العرب كلها ولاسيما في بلدح ومكة والطائف ويثرب وغيرها. قال الشهرستاني: من العرب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر وينتظر النبوة وكانت لهم سنن وشرائع. . . فمن كان يعرف النور الظاهر والنسب الطاهر وينتظر المقدم النبوي: زيد بن عمرو بن نُفيل (وهو الذي نصّره حضرة الأب ودوّن اسمه(15/11)
في سجل عماد النصارى يعني في كتاب شعراء الجاهلية - 2: 619) كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: أيها الناس هلموا إلي فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري. اه
ولكي تتثبت وتتحقق أن الحنفاء لم يكوونوا يهوداً أو نصارى بل على ملة إبراهيم اسمع ما جاء في كتاب الأغاني (3: 16) ما هذا نصه بحرفه بخصوص دين زيد بن عمرو بن نفيل قال:
إن زيد بن عمرو خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: لعلي أدين بدينكم فأخبرني بدينكم. فقال اليهودي: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. فقال زيد بن عمرو: لا أفر إلا من غضب الله وما أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال ما اعلمه إلا أن تكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم. فخرج من عنده وتركه. فأتى عالماً من علماء النصارى فقال له نحواً مما قال اليهودي. فقال له النصراني: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. فقال: إني لا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحواً مما قال اليهودي: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفاً. فخرج من عندهما وقد رضي بما أخبراه واتفقا عليه من دين إبراهيم. فلما برز رفع يديه وقال: اللهم على دين إبراهيم.
فهل بعد هذا النص الجلي يماحكنا حضرة الأب ويقول: لا بل وكان زيد بن عمرو نصرانياً لأنه لم يكن يهودياً؟
قلنا: وكان أمية بن أبي الصلت من الحنفاء أيضاً لا من النصارى. قال في الأغاني (3: 187): كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقراها ولبس المسوح تعبداً وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنفية وحرم الخمر (والنصارى لا تحرمه) وشك في الأوثان وكان محققاً والتمس الدين (والنصارى لا تلتمس غير دينهم) وطمع في النبوة (والنصارى لا تطمع في النبوة) لأنه قرأ في الكتب (وليس ذلك في كتب النصارى) أن نبياً يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو. اهـ بحرفه.
فأين بقيت نصرانية أمية؟ اللهم إلا أن تكون بعد في عقل حضرة الأب حرسه الله. .
هذا من جهة كون الإنسان قد يكون موحداً ولا يكون مع ذلك لا يهودياً ولا نصرانياً. وهو(15/12)
جواب مقدمته والآن نجيب على جواب أدلته فنقول:
أولاً: إننا إن سلمنا أن امرأ القيس لم يكن وثنياً فلا نسلم أبداً أنه لم يكن مزدكياً لأن براهين الأب في نقض أدلة براهين خصمه في منتهى الضعف والوهن. كيف لم يكن مزدكياً وقد أثبت أغلب المؤرخين وأرسخهم قدماً في تحقيق الأخبار وتحريرها أن جده الحارث كان مزدكياً وكذا كان أبوه حُجْر. ومزدكية أو زندقة والده مما لا تحتمل الشك أو الريب إذ قد قال اليعقوبي وهو من أقدم مؤرخي العرب في كتابه (1: 299) وتزندق (أي تمزدك) حُجْر بن عمرو الكندي.
فإذا كان حضرة الأب يثبت دين رجل لكون أمه أو خالته أو عمته كانت على النصرانية فلماذا لا يريد أن يقبل حجة من يريد أن يثبت دين رجل لاتباعه دين أبيه أو جده؟ فقد أثبت الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي في رسالة ألفها فيما خالف الإسلام ما عليه عرب الجاهلية وورد الشرع بإبطاله وذكر نحو مائة مسألة. منها: تقليد الآباء والأسلاف والإعراض عن الاستدلال وإلى ذلك الإشارة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}. قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} إلى غير ذلك. اه. فامرؤ القيس على هذا هو على مذهب آبائه إن لم يقم دليل صريح على خلاف ذلك به يقال أنه خالف دين آبائه وانتحل الدين الفلاني مثلاً وهذا لم نعثر عليه في أحد الأسفار.
ثانياً: أما خلو أشعاره من آثار الشرك فيحتمل أنه لم يكن وثنياً لكن لايستنتج منه أنه كان نصرانياً إذ كان في بلاد العرب عدة أديان كلها قائلة بالتوحيد كما سبق القول ولم يكن أصحابها مع ذلك نصارى. قال الشهرستاني: كانت العرب إذا لبت وهللت قالت: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالكه. وقال قبل ذلك: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا وقربوا القرابين وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر وحللوا وحرّموا وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم اه. وقال أيضاً: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع وأنكروا البعث (بعث الأجساد) والإعادة. اهـ.(15/13)
فأنت ترى من هذا أنه لم يوجد نوع واحد من الموحدين بل أصناف مختلفة. ومثله يقول المسعودي في مروج الذهب فقد ذكر ثم ما هذا نصه: كانت العرب في جاهليتها فرقاً. منهم: الموحد المقر بخالقه المصدق بالبعث والنشور موقناً بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي. اهـ. وقال أيضاً: وكان من العرب من أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم بالبعث والإعادة وأنكر الرسل وعكف على عبادة الأصنام. اه. ومثل هذا الكلام كثير في كتب العرب الأقدمين والمحدثين.
ثالثاً: جوابنا على خلو شعر امرئ القيس من آثار الشرك محتوٍ على جوابينا السابقين فلا حاجة إلى الإعادة.
رابعاً: أما قوله إن الإشارات النصرانية الموجودة في شعره تنطق بلسان حالها عن علاقاته مع النصارى فهاذ لا ننكره لكن بين أن يكون له علاقات مع النصارى وبين أن يكون نصرانياً فرق ظاهر لا يخفى على عاقل أديب مثله. وكذلك القول في من استعمل الاصطلاحات النصرانية في شعره فهذا لا يدل على تنصره. وإلا لزم أن كل من ذكر مثل هذه الألفاظ والاصطلاحات واستعملها في ما كتب ونظم أنه نصراني مثل يزيد بن معاوية وابن المعتز ومدرك بن علي الشيباني وغيرهم من لغويين ومؤرخين وإخباريين وغيرهم وغيرهم. وهو قول فاسد لا يحتاج إلى إظهار ما فيه من الوهن.
خامساً: أما استدلاله بانتشار النصرانية في كندة قبيلة امرئ القيس فهو قول باطل لأن النصرانية كانت أقل انتشاراً في كندة من سائر الأديان فيها. ولو فرضنا أنها كانت منتشرةً فيها فلا ينتج من ذلك أن كل أفراد القبيلة كانت تدين بها. فهذا تميم مثلاً ففيها كان نصارى (الكامل 1: 26) وياقوت 1: 598 وكان فيهم المجوس ومنهم زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب والأقرع بن حابس وأبو الأسود جد وكيع بن حسان وكان فيهم صابئة عبدوا الدبران. ومنهم ثنوية. وآخرون عبدة أصنام وكانت تلبيتهم عند صنمهم: لبيك اللهم لبيك. لبيك لبيك عن تميم قد تراها، قد أخلقت أثوابها، وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها. (عن اليعقوبي 1: 296) ومنهم من اتبع سجاح المتنبئة. وفريق وافق مسيلمة الكذاب وهم بنو عطارد بن عوف بن كعب بطن من تميم. فهل يصح دائماً في الاستدلال والاستنتاج أن ننتقل من الجزئي إلى الكلي؟ هل يجوز لنا أن نقول إن بني تميم كانوا كلهم(15/14)
نصارى؟ أو كلهم عبدة أصنام، أو كلهم اتبعوا سجاح، أو كلهم وافقوا مسيلمة لأن بعضهم كان كذلك. فإذا كان لا يجوز دائماً: فلماذا يريد الأب أن يجوّز لنفسه ما لا يجيزه لغيره؟ ففي كندة كانت اليهودية (اطلب بلوغ الإرب 1: 379) والنصرانية (راجع كتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص 86) والوثنية وكانت تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، تملكه أو تهلكه، أن حكيم فاتركه (اليعقوبي 1: 297) إلى غير ذلك من الأديان. فلم يريد أن يخصها بالنصرانية؟ أليس لمجرد الإيهام؟
سادساً: من أوهن أدلته على نصرانية امرئ القيس استنجاد أمير الشعراء بالقيصر! فأي علاقة للدين هنا؟ فنحن لا نرى في ذلك سوى استنجاد الضعيف بالقوي أو التعاقد والتعاهد لمنفعة شخصية أو غاية دولية. وبخصوص ما يشبه استنصار الشاعر المذكور أو هو هذا الاستنصار بعينه كتب الأدبي دُشين في كتابه المرسوم بالكنائس المفترقة ص 329 ما هذا معناه فأرادت دولة الروم أن تنتفع من هذه الحالة (حالة اضطراب أمور الحميريين) فأرسل قيصر الروم إلى ملوك اكسوم وحمير عدة رسل كان أولهم يوليان ثم ننّوس. وكانت الغاية من ذلك تحويل تجارة الحيري من تلك الجهة لأنها كانت على ما يُظن تتبع طريق هرمز فتتخذ دائماً طريق فارس. وكان في الصدر غايات عسكرية أيضاً. فألقى يُستنيان نظره على رجل اسمه قيس كان قد نكث حبل الوصال مع اسيمفيوس (ملك الحميريين النصراني) ليقيمه رئيساً على قبائل عرب كندة ومعدّ. وكان الغرض من ذلك أن قيساً يتفق مع الحميريين ليحارب الفرس بعد أن يكون قد تمكن من رئاسته. فهنا نرى القوي يلتجئ إلى الضعيف وكل ذلك لغايات سياسية.
ولو كان لما يزعم حضرة الأب صحة أي استنصار الضعيف بالقوي من لوازم الديانة أو نتائجها أو روابطها لقلنا إن جميع الدول المتعاهدة هي على دين واعتقاد واحد. وإلا لما ارتبطت. والحال أن المسائل السياسية لا تعلق لها بالمسائل الدينية، وهذا ما يفقهه أصغر الولدان. وكما تشهد عليه الأحوال وأحداث الزمان. في الحال وسابق الأوان.
ومن غريب كلام حضرة الأب لويس المحترم أن امرأ القيس استنجد بالقيصر لوحدة الدين ولولا ذلك لما خطر على بال أحد أهل البادية خاطر الاستنجاد وهو مع ذلك يُظهر في دليله التاسع أن القيصر كان أول من فكر بهذا الأمر إذ كان قد جرت مذاكرات منذ عهد الحارث(15/15)
بهذا الخصوص فأتمها على يد حفيده امرئ القيس. وعليه فأي الروايتين أصح؟ وأيهما نصدق؟ لاشك أن التعصب يبين من أثناء السطور. واللسان شاهد على ما في الصدور.
وإليك الآن دليله السابع: من الدلائل على نصرانية امرئ القيس نصرانية عمته هند بنت الحارث المعروفة بهند الكبرى. . . ثم قال: وقد ذكرنا في المشرق (5: 106) الكتابة التي وضعتها في صدره وفيها تدل على نصرانيتها ونصرانية أبيها الحارث وابنها عمرو بن هند.
قلنا: أما نصرانية عمته وولدها عمرو فلا ننكرها. وأما نصرانية أبيها فمشكوك فيها. لأن قوله: ويكون الله معها ومع والدها كما رواه المشرق فغير صحيح. والذي أورده ياقوت مع ولدها أي ابنها. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى أن أباها لم يكن على دين النصرانية لتطلب الخير الأعظم لنفسه ولذا لم تقل: ويكون الله معها ومع ولدها ووالدها وكذلك قالت: ويغفر خطيئتها ويترحّم عليها وعلى ولدها ولم تذكر والدها لكونه لم يكن نصرانياً. وهذا يحملنا على القول بأن أباها بقي مزدكياً حتى أنها لم تطلب له ما طلبت لنفسها ولولدها من مغفرة الخطايا والرحمة والملك مع الله في مجد الآخرة. هذا ومن أعجب ما في هذه الحجة الاستدلال بمذهب عمة امرئ القيس على مذهبه مع أن حضرة الأب المستدل لم يرض باستدلال من استدل بالنصوص الواضحة الصريحة على أن أباه وجده كانا على دين المزدكية. ومن المعلوم أن الولد في الغالب المشهور يكون على دين آبائه لاسيما أهل الجاهلية. فلكم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} ولم نسمع أنهم قالوا: إن الولد على دين عمته أو خالته كما أسفلنا قبل هذا.
ودونك ما نقول عن الدليل الثامن: الاستدلال على نصرانية امرئ القيس بكون أمه كانت تغلبيةً ومن ثم أنها كانت نصرانيةً وعليه فامرؤ القيس نصراني هو في غاية الضعف والوهن. فقد مر بك أن تغلب لم تكن كلها نصرانية ولاسيما قد أبنّا لك أن أخوي فاطمة أم امرئ القيس وهما كليب والمهلهل كانا على الوثنية فيكف يُستنتج بعد ذلك أن أمير الشعراء كان نصرانياً؟ هذا وقد يكون في البيت الواحد عدة أشخاص ولهم أديان مختلفة وهو أمر مشهور في الجاهلية.
ثم أن الأب قد ذكر في دليله التاسع ما زين لنفسه أن يقول إنه أقوى الأدلة وهو إرسال(15/16)
الملك يستنيان ننوس سفيراً إلى الحبشة والحميريين وقبائل البادية لكي يولي امرأ القيس رئاسة فلسطين. لكن لا نرى كيف يستدل بذلك على نصرانية الشاعر والملك الضليل. ولقد أجنبا أن مثل هذا لا يستنتج منه وحدة الدين في المولّي والمولّى بل يتحصل منه حسن التواصل بين القيصر والشاعر لا غير. وقد فعل القياصرة مثل ذلك في غير النصارى كما يشهد بذلك التاريخ والأمثلة كثيرة فلتراجع في مظانها.
وأما دليله العاشر فلا يخرج عن دائرة المعنى المتقدم ذكره والجواب عليه واحد. فليعد إليه والعود أحمد.
فيتحصل مما تقدم شرحه الحقائق الآتية وهي:
1 - أن امرأ القيس كان مزدكياً ولا ريب في ذلك. والسبب هو لأن أباه وجده كانا على هذا الدين. ومن ثم فالأبناء يعتبرون على دين آبائهم إن لم يأت ذكر صريح بكونهم اتبعوا ديناً آخر. ولما لم نقف على أثر يؤيد أن امرأ القيس خالف دين آبائه فالنتيجة واضحة كون الابن اتبع الأب في مذهبه. على أننا لا نريد بقولنا أنه كان مزدكياً كان من المتحمسين في دينه؟ كلا، بل على حد ما كان الغير متبعين أديانهم. يعني أنهم كانوا ينتحلون من الدين ظواهره وقشوره لا غير.
2 - لا يجوز لنا أن نقول أن فلاناً من أهل الجاهلية كان على دين كذا ما لم يصرح بذلك أحد الأئمة. فإن حرمنا هذا السند فيجب حينئذ أن نتضافر عدة أدلة لامعة على سد مسد هذا السند وإلا فمن اللازم أن يعد ذلك الرحل بين جماعة المتدينين بدين دهماء العرب أي التوحيد مع عبادة الأوثان أو بدين طائفة عقلاء العرب وحكمائها يعني بالحنفية.
(حاشية: - إن الأئمة من المتكلمين في الأدب واللغة والتاريخ قد ذكروا كل من كان على دينٍ من أهل الجاهلية وصرحوا به تصريحاً بيناً. ولم نجد أحداً نسب النصرانية إلى امرئ القيس إلا أنهم نسبوا المزدكية إلى أبيه وجده ولهذا ورد فيه: إنه القائد لمن سلك مسلكه إلى النار مع أن كلام الأئمة في أهل الفترة يأبى كونه من أهل النار إذا كان على النصرانية أو اليهودية يعني إذا كان من أهل الكتاب).
3 - الاستدلال بأسماء العرب أو بدين قبائلها وعشائرها وأقوامها على حقيقة دين الواحد منها أو ببعض عوائده الملية أو ببعض مبهم إشاراته وتلميحاته وكلامه غير كافية لإقامة(15/17)
الدليل على جوهر دينه. اللهم إلا أن تجتمع هذه الحجج العامة مع حجج خاصة فحينئذ تحمل تلك محمل هذه فيتبين الحق ويتصرم الباطل. وهذان الدليلان يوضحان أن امرأ القيس على دين المزدكية ولم يكن أبداً على دين آخر ولاسيما النصرانية كما توهمه الأب لويس شيخو اليسوعي.
4 - إن ما يزيد إشكالاً مسألة دين عرب الجاهلية وجود عدة أديان وفرق كانت تقول كلها بالتوحيد. ولم يكن اليهود والنصارى وحدهم موحدين ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه الحقيقة. وكتبة العرب قد ذكروا معتقد تلك الفرق بحيث لا يبقى في الأمر شبهة البتة. وعليه فإننا إن عدلنا عن القول بمزدكية امرئ القيس (وهو أمر بعيد) فلا جرم أننا نميل إلى القول بأنه كان موحداً إلا أنه لم يكن نصرانياً مهما حاول الغير أن يثبتوه لضعف براهينهم في هذا الصدد. وفوق كل ذي علم عليم.
بغداد
أحد قراء المقتبس(15/18)
حكم إنكليزية
الحياة
الحياة أمر خطير ولكنه بهيج محفوف بالنعم والفرص الثمينة
الحياة لا تقدر بالسنين فقط لأن الحوادث أحياناً هي أفضل ما تحصى منها
الأمر الوحيد العظيم للمرء أن يكون له في الحياة مسلك خاص به
يكاد يؤسف لكل خطوة نسيرها في الحياة إذا تأملنا خطوات أخرى كثيرة كان يتيسر أن نخطوها
الحياة أمثولة في التراضي فإننا أبعد ما نكون عن الرضا متى نلنا كل ما نريد
جعلت الحياة للعمل لا للبطالة - للكد في الخطر والخوف ولعمل شيء من الخير قبل أن يأتي الليل الذي ينقطع المرء فيه عن العمل وما كانت الحياة ليحاول بها المرء الاستمتاع بجنة في الأرض
محن الحياة كثيرة تعرض على الدوام وكثيراً ما تغير في لمحة كل ما نفكر فيه ونشعر به
الطفولية والشباب
تنيخ حول الطفل جميع الفضائل الثلاث وهي الإيمان والرجاء والمحبة
ليس في الطفل ما ينذر بمخاوف المستقبل ولا تذكر أحزان مضت
خصال الرجل في أوائل عمره خصاله إذا بلغ أشده
كل أمر يبدأ في الدنيا صغيراً فيما يتناوله المرء من الأعمال كما أن كل بشر يبدأ الحياة من الطفولية
الشباب سعادة علية في نفسه لأن الممكنات منطوية تحته بأسرها وليس فيه ما لا يمكن رده
أكثر ما يعمله الإنسان في حياته هو ما يعمله في شبابه
للشباب الخطأ وللكهولة الكد وللشيخوخة الأسف
العمل الواجب
ثق بأن الحق عامل للقوة وعلى هذا الإيمان أجسر أبداً على عمل ما تراه من الواجب عليك
العمل الواجب لا يعبس وجهه إلا متى هربت منه وإذا تابعته تبتسم
إن من يعملون ما يجب عليهم في الأمور اليومية الحقيرة هم الأولى يقومون به في الشؤون(15/19)
العظيمة
ما عرفت أنه يجب عليك فاعمله في الحال
ما يجب دائماً على كل إنسان لرفقائه هو أن يعرف ما فيه من القوى والمواهب الخاصة ويؤيدها لنفعهم
يتكامل العقل لا بالعلم بل بالعمل
لا يهم كل إنسان خيبة سعيه أو نجاحه بل أن يعمل ما يجب عليه حتى الموت نحسب ما له من النور
العمل والهمة
لا خطر للمرء ولا كرامة له إلا بالعزم الفاضل
ما نفع العافية والحياة إذا لم نعمل بهما عملاً
من وجد عمله فقد وجد السعادة التي عليه أن لا يطلب غيرها
لا مبالغة بأن العمل الخالص يكاد لا يضيع بتة فإننا إذا لم نجد الكنز الوهمي في الحقل أخصبناه بالعمل على الأقل
ألا تعلم أنك كلما كنت أنشط على العلم كانت سعادتك أكثر
لا تعد مواهب المرء شيئاً إذا لم تكن مقرونةً بموهبة العمل
من العجب أن بعض الناس يحسبون لذة الحياة بلا عمل أمراً باهراً وهم يسوقون غيرهم إلى عمل بلا لذة.
النجاح
ليس للإنسان أن يقضي بالنجاح وله أن يفعل أكثر من ذلك وهوان يستحقه
سر النجاح حصر الفكر في الشيء المطلوب وهو ما يسبق كل عمل عظيم في الحياة
سبب نجاح من يهتمون بأمورهم أن منازعتهم كانت قليلة
تيق أن عطية النجاح ليست إلا إتقان العمل في كل ما تعمله بلا التفات إلى الشهرة التي إذا اتفق أبداً وقوعها كانت من باب الاستحقاق لا من باب غرض يسعى إليه.
كيف تستطيع إتيان عمل في الدنيا أو تنجح في شأن من شؤونها إذا لم تكن لك ثقة بنفسك.
إذا شئت النجاح في الحياة فاجعل المواظبة صاحبك العزيز والخبرة مشيرك الحكيم والحذر(15/20)
أخاك الأكبر والرجاء خُلقك الحارس
بيروت
يوحنا ورتبات(15/21)
التعليم بالعربية
تحيا لغة كل أمة بحياة سياستها فإذا انتعشت هذه خدمت تلك فانتشرت ونمت. ومتى ضعفت السياسة ضعفت اللغة بضعفها. فقد رأينا اللغة الإنكليزية تغلبت على الفرنسية أو كادت في معظم أقطار المعمور لأن سياسة إنكلترا وابنتها الولايات المتحدة نافذة في القارات الخمس ولأن الشعوب الإنكليزية السكسونية أرقى الأمم بعلومها وآدابها وأخلاقها وصناعاتها ومتاجرها واستعمارها. واللغة أيضاً كالتجارة تابعة لعَلم الدولة فحيثما خفق لواء أمة وانبسط ظل سلطانها تتغلب بالطبيعة لغة ذلك العَلم والسلطان. والناس مفطورون على تقليد حاكمهم في منازعِه ومناحيه تقليدهم له في شعاره. واللغة رأس كل تقليد وشبُّه. وعلى هذه السنة جرى المغلوبون على أمرهم من الروم والقبط والترك والفرس في الدولة الأموية والعباسية وأخذوا يتلقفون العربية خصوصاً بعد أن نُقلت لغة الدواوين في عهد عبد الملك بن مروان الأموي من الرومية والفارسية إلى العربية وقال سرحون كاتب عبد الملك لكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
وقد اهتم الإنكليز لما احتلوا هذا القطر بجعل التعليم بالإنكليزية في مدارسه لينشأ لهم على الزمن جيل جديد يفهم مغازيهم ومراميهم ويكون عونهم على تأليف القلوب وواسطة للتفاهم فلا يستثقل ظلهم ولا يتبرهم بدولتهم. ومن تعلم لغة قوم وثق بهم وعرف تاريخهم وشرائعهم وأشرب قلبه حبهم. ولطالما رأينا من تعلموا العربية من متعصبي الإفرنج هاموا بالعرب وتاريخها وشريعتها ولا هيام أهلها بها وغاروا عليها غيرة الكرام. وكذلك الحال بالإنكليزية مثلاً فإنا نرى متعلميها يتشيعون لأهل تلك اللغة. ومن علم شيئاً والاه ومن جهل شيئاً عاداه.
حمي وطيس الحوار في الشهر الماضي في بهو الجمعية العمومية في هذه العاصمة بشأن إعادة التعليم بالعربية في المدارس الأميرية المصرية إلى ما كانت قبل سنة 1889 فكانت حجة الحكومة أن العربية لا يتسع صدرها ولا ينطلق لسانها للعلوم العصرية وما تنتجه حضارة الغرب كل يوم من المسميات التي لا أسماء لها في هذه اللغة وأنها لو سمحت الآن بإعادة التعليم بالعربية في المدارس لأعوزها الأساتذة والكتب. وليس هنا محل تفنيد الآراء التي تمليها الأهواء السياسية في هذا الشأن، وإنما نلم بذكر رأينا العلمي في هذه اللغة التي يرميها المماحكون بأنه يتعذر عليها أن تكون بعد لسان العلم ومباءة الحكمة الغربية.(15/22)
إن كل منصف للعربية ليراها قد اتسعت لكل ما ألقي عليها من علوم الحضارة ومطالبها ولم تتخرج من إدخال الكلمات الدخيلة التي لا عهد لها بها فما وجد التراجمة والنقلة في العهد الأول مرادفاً له في أصل اللغة وضعوه وما لم يروا له لفظاً أو مادةً يشتقون منها نقلوه على أصله أو نحتوه بعض النحت بحيث لا يصعب على العربي أن ينطق به لمخالفته الصيغ المألوفة. هكذا جروا في معظم الألفاظ الفقهية والكلامية والفلسفية والنجومية والطبيعية والطبية والرياضية والزراعية والكيماوية. ولم يكن التراجمة كلهم من الماهرين بالعربية بل كان المترجمون كثيراً ما ينقلون المعاني وعلماء اللغة والمحيطون بشواردها وضوابطها يضعون الألفاظ والمصطلحات وكثيراً ما كانوا يترجمون اللفظة الواحدة إذا عجزوا بجملة تفسرها. وهذا مألوف في معظم اللغات وقلما يكون لكل لفظة في لغة مرادف لها في اللغة الثانية ولاسيما إذا كان النقل من لغة غربية إلى لغة شرقية كما كان صدر الدولة العباسية. والعلوم نقلت عن الرومية والنبطية والفارسية والنقل عن الرومية أكثر. والرومية غربية بعيدة عن العربية الشرقية في أسلوبها.
ألا وأن كتب الأسلاف لتشهد أبد الدهر بأن العربية تقل كل دخيل وعلم. وفي المؤلفات العلمية التي ظهرت في مصر على عهد محمد علي وسعيد أكبر دليل على ذلك.
فقد كان المترجمون ينقلون الكتب إلى العربية فيجيء المصححون في دار الترجمة يقوّمون العبارة وينظرون في بعض ما له مقابل من اللغة. كان ذلك قبل ثمانين سنة واللغة العربية منحطة لارتفاع سند العلوم الكونية من بين أهلها قروناً فما بالك اليوم وقد ارتقت لهجة اللغة واستحكمت ملكتها في القائمين على الكتابة والتدريس وصار كثير من العامة ممن شغفوا بالمطالعة يميزون بالفطرة بين صحيح الكلام وفاسده وأصبح أكثر تلك العلوم لأبنائنا مألوفاً بل غدا معظم المترجمين ينقلون في أصعب الموضوعات بأسلوب تكاد لا تقرأ فيه صورة الترجمة لسلاسته.
نعم إن الواحد منا قد يصعب عليه اليوم نقل علوم لا عهد لنا بها كعلم الحياة (بيولوجيا) مثلاُ فلا يكون ضعفه في ذلك دليلاً على ضعف اللغة التي لم تحشر إلى ذهنه ساعة الترجمة ألفاظها وتراكيبها بالسرعة التي يريدها بل الذنب كل الذنب على جهله العلم لأن فهمه يتوقف على الإحاطة بعلوم كثيرة ليست من المألوفات عنده. وأنى يتأتى لمن لا يفهم(15/23)
الأصل أن يحسن نقله بألفاظ وأسلوب يفهمه من لم يفهمه واللفظ والمعنى يخونانه؟ ولو درسنا هذا الفن على أهله لما صعب علينا نقله بأسره فنترجم الألفاظ التي لا مرادف لها عندنا بجملة ريثما يقوم من يضع لها مرادفاً في لغتناً أو نأخذها كما هي في اللغات الإفرنجية على نحو ما أخذنا كثيراً من الألفاظ في العهد الأخير وأدمجناها في مطاوي كلامنا.
والعربية ليست دون التركية في معنى النقل فإن الأتراك فتحوا باب النقل من اللغات الأوروبية فاغتنت لغتهم على قلة مادتها الأصلية بآداب الأمم الغربية وعلومها. ولو أتيح للعربية أن يعاد قلم الترجمة إلى القاهرة كما كان لا يصعب على المدارس الابتدائية والثانوية والعالية أن تسير مع العلم الغربي كتفاً إلى كتف. فلا يفوتنا هنا اليوم ما نُشر في الغرب أمس. وكيف يطلب من العربية الآن أن تحوي كتباً بأحدث ما تم من أبحاث العلم واكتشافاته بعد أن بطلت منها الترجمة في العلوم العصرية منذ أبطلت كلية بيروت الأمريكية تدريس العلوم بالعربية وجعلتها بالإنكليزية وقضت نظارة معارف مصر أن تكون الإنكليزية أيضاً لغة المدارس وضعف تعليم آداب اللغة في مدارس الأجانب في سورية وفي المدارس الأميرية بمصر.
وكان من هذا الضعف أن زهدت النفوس في تعلم لسان العرب وانتهى أمره إلى نفر من المولعين به وهم أفراد لا يبنى عليهم حكم في مصر والشام والعراق وتونس. بل وكلت خدمته لمرتزقة الكتّاب كأكثر محرري الجرائد وكتاب الروايات وبعض أساتذة المدارس ومعظمهم لا يهمهم من اللغة إلا أن يكتبوا ما يُطلب منهم أو يعملوا في الدائرة التي حددت لهم. وبديهي أن الناس لا ينبعثون إلى التأليف في لغة إلا إذا وجدوا المنشطات عليه والدواعي الحافزة إليه كأن تقبل الدولة ما يؤلفون وتنيلهم الجوائز عليه وتطبعه على نفقتها وتدرسه في مدارسها. وإنما يرغّب الناس في العلم وهو أشق الصناعات وأشرفها رواج سوقه بين الخاصة والعامة ولكن إذا رأى المؤلفون أن بضاعتهم مزجاة وأن أرقامهم كعباً لا يربح من قلمه ما يسد جوعته وأسعدهم من لم يُضطهد في سبيل نشر علمه فهيهات أن تنشط اللغة من عقالها. وإذا لم توفق مصر إلى جعل التعليم بالعربية يستحيل أن توجد كتب علمية أو ينشأ لها نشؤ يحسن الكتابة والخطابة على مناحي البلغاء. دع عنك الأفراد فإنهم(15/24)
لا يخلو منهم زمن مهما بلغ من انحطاطه العلمي والاجتماعي.(15/25)
يا عدل
متى تحضر نطب يا عدل بالا ... وأما أن تغب عنا فلا لا
وكم واعدتنا يا عدل وصلاً ... رجوناه فلم تُنِل الوصالا
وطالبناك بالإنجاز لما ... مطلت فلم تزد إلا مطالا
إلى الناس التفت يا عدل يوماً ... فإن عليك للناس اتكالا
زوالك لا تهنّأ مُحضِروه ... يكون لعز مملكة زوالا
وإن السعد حيث طلعت يبدو ... وإن الأمن حيث تميل مالا
وإنك كالصباح إذا تجلى ... وأسفر عن عمود قد تلالا
وإنك قد أضأت الناس قدماً ... وإنك كنت حينئذٍ هلالا
فكيف وأنت هذا العصر بدرٌ ... بلغت تمام ضوئك والكمالا
تواري نورك المحبوب عنا ... وتحجب عن محبيك الجمالا
أقم للحق ديواناً عظيماً ... ورخّص كي نلمّ به عجالى
فنقرأ في ظلامتنا كتاباً ... ونشكو في حضورٍ منك حالا
* * *
وقفت وأعيني مغرورقات ... على ربع لميَّة قد أحالا
على ربع لمية زايلته ... ولم يكُ عرف مية عنه زالا
أسائله فلم يُرجع جوابي ... كأن الربع ما فهم السؤالا
وقفت محاذياً طللاً حكاني ... به وحكيت دارسه هُزالا
كأني إذ أسائله خيالٌ ... يخاطب في معطّلة خيالا
ذكرت به زماناً فيه ميٌّ ... تلاعبني وتوليني الوصلا
وصالاً قد نعمتُ به كأني ... شربت به على ظمأ زلالا
* * *
ألا يا ميّ حبك في فؤادي ... كمثل النار يشتعل اشتعالا
أبيني كيف ليلك قد تقضى ... فبعدك ليلنا يا مي طالا
أمية نوّلينا منك قرباً ... أمية ثم لا تذري النوالا
ولم نك إذ منعت الوصل ندري ... أبخلاً كان ذلك أم دلالا(15/26)
أذنب يا رعاك الله أنا ... عشقنا منك يا مي الجمالا
* * *
أدر في الربع عيناً منك وانظر ... إلى حال إليها الربع حالا
تولّى فيه عنك العيش حلواً ... فخلّ العين تنهمل انهمالا
وما الربع الذي أخبرت عنه ... سوى الوطن الذي ركناه مالا
وليس سوى العدالة ما هوينا ... وميٌّ قد ذكرناها مثالا
إذا أمست حياة المرء عبئاً ... عليه لا يطيق لها احتمالا
ولازمه من الأحزان داء ... وأصبح داؤه داءً عضالا
وقد فرحت أعاديه شماتاً ... وفارقه أحبته ملالا
فليس سوى الحمام له طبيب ... يداوي منه آلاماً توالى
فإن الموت يرحمه وينفي ... خطوباً قد نزلن به ثقالاً
وإن الموت ملتجأٌ كريم ... لمن ألقى بساحته الرحالا
فزرنا عاجلاً يا موت زرنا ... فإن لنا بزورتك احتفالا
ويا نفس ارحلي عنا ففينا ... بقاؤك لم يكن إلا ضلالا
ودوسي في طريقك كل صعب ... بعزم تنطحنين به الجبالا
فإن إن برحت الحسم منا ... سموتِ إلى ذرى جو تعالى
* * *
نفرّ من الحياة إلى المنايا ... لأن حياتنا أمست وبالا
نريد من الكروب بها خلاصاً ... وعن دار الهوان بها ارتحالا
وإن لنا إذا متنا حياةً ... ننال إلى السماء بها انتقالا
ستخرج عن مضيق الجسم روحي ... وتُلْفي في الفضاء لها مجالاً
بقاء الروح بعد الجسم أمر ... به اختلفوا ومن يدري المآلا
فقال البعض أن الروح تبقى ... إذا انفصلت عن الجسم انفصالا
وقال البعض أن النفس تفنى ... إذا لاقت قوى الجسم انحلالا
فظن بقاءها حتماً أناس ... وعدّ بقاءها قومٌ محالا(15/27)
وقد قلنا به ونفاه بعض ... وأن لنا مع النافي جدالا
بغداد
ج. ص(15/28)
هنود أمريكا
لما وطئت أقدام البيض قارة أمريكا ألفوا أنحاء كثيرةً منها مأهولةً بالهنود فدهشوا لما رأوا، كما عجب الهنود من رؤية البيض وتوهموهم آلهةً بادئ الرأي. فأخذوا يسجدون لهم ويعبدونهم ويقدمون لهم الهدايا النفيسة كالقطع الذهبية الكبيرة التي لم يكن لها قيمة عند الهنود.
ولقد وهم المكتشفون الأوروبيون في ظنهم أن سكان أمريكا الأصليين على جانب من الحضارة والعمران، بيد أنهم لم يلبثوا في ذلك العالم الجديد طويلاً حتى تحققوا أن أولئك الهنود هم قوم جهلاء انقضت عليهم ألوف من السنين وظلوا على حالة واحدة من الخشونة والجهالة. فكانت الفلاحة عندهم في ذلك العهد غير معروفة. وكانوا يعيشون من الصيد وثمار الأرض الطبيعية. وكانت بنادقهم أقواس النشاب ورصاصهم الأحجار المحددة وسيوفهم العظم والصوّان.
وكانت مساكنهم من تراب الأرض وأعشابها، ولم تكن إلا أكواخاً حقيرة ملأى بالأقذار لا ترتيب فيها ولا نظام، وكان معظمهم بدون مساكن يعيشون كالحيوانات البرية، وإذ كانوا يطوفون البقاع والربوع للقنص والصيد اضطرتهم حالة الإقليم إلى عمل الخيام من جلود الحيوانات التي كانوا يصطادونها ويعيشون من لحومها وكثيرون منهم ما برحوا عائشين كسابق عهدهم.
اهتم علماء أوروبا بأمر أولئك الهنود فأخذوا يبحثون عن أصلهم وانقضت عشرات السنين على أبحاث كثيرين منهم وإلى اليوم لم يتوصلوا إلى معرفة ذلك. فذهب فريق من العلماء إلى أن أصل هنود أمريكا من أوروبا، وذهب فريق آخر إلى أن أصلهم من آسيا وهذا المذهب هو المعوّل عليه اليوم.
أما كيفية نزولهم أمريكا وعهد مجيئهم إليها فهما من المسائل الغامضة عند أهل البحث والعلم إذ ليس من تاريخ لذلك وليس ثمة آثار تفيد في هذا الباب على أن أصل الهنود واحد وهم عريقون جداً في القدم.
والدليل على أن الهنود من أصل واحد تشابه سحناتهم على تباين عشائرهم في جهات من مختلف الأقاليم في قارة أمريكا. والدليل على قدمهم تفرع لغتهم الأصلية التي تختلف من الخمسين إلى الستين فرعاً. وكل هذه الفروع منسوبة إلى أصل واحد هو الأصل السامي.(15/29)
ويستلزم تفرع هذه الفروع العديدة من لغة واحد دهراً طويلاً.
وبحث جمهور من علماء القرن المنقضي عما إذا كان هنود أمريكا من أصل قبل الطوفان أو بعده فكانت نتيجة أبحاثهم بأن أقرّ فريق منهم على أن الهنود من أصل قبل الطوفان. وذهب فريق آخر إلى أن أصلهم من بعد الطوفان. والحقيقة أنه ليس هناك أدلة تدل دلالة صريحة بحسب قوانين العلم الحديث على كون هنود أمريكا من خمسة آلاف سنة. ويقول علماء الدين إنه انقضى على الطوفان نحو أربعة آلاف سنة. فإذا صح هذا الزعم فيكون مذهب الذاهبين إلى أن الهنود من أصل بعد الطوفان فاسداً.
ورجع علماء أصول اللغات في هذا العصر أن أصل لغة الهنود ساميٌّ وإن هؤلاء الهنود من آسيا. ولقد تأملت ملياً في كثيرين منهم في أوقات مختلفة فوجدتهم يشبهون الكلدان وعرب البادية من وجوه كثيرة. وغنيّ عن البيان أن قارة آسيا أقرب القارات من قارة أمريكا الشمالية. فالحاجز بين القارتين خليج بيرين المعروف.
* * *
عرف عام 1891 أن لكل قبيلة من الهنود لغة مختصة بها وثبت أن للهنود 59 لغة. أما عدد عشائرهم فقد ناهز الثمانمائة عشيرة. وعدد الهنود في الولايات المتحدة الآن 267. 000 نفس 80 ألفاً منهم على جانب من التمدن و177. 000 لا يزالون على جانب عظيم من التوحش كما كانوا في القرون الغابرة و60 ألفاً يحسبون من جماعة المصوتين في انتخابات الرؤساء والحكام والولايات. ولم يبق من أملاك الهنود الخصيبة التي كانت على التحقيق 276 مليون آكر غير سبعة ملايين وأكثرها من الأراضي التي لا تصلح لغير رعي الماشية.
ويرد تاريخ مساعي حكومات الولايات لتهذيب الهنود إلى عام 1775 فإنها أخذت على ذاك العهد تنفق المبالغ الطائلة في تعلمهم فذهبت تلك الأموال ضياعاً لأن الهنود غلاظ الرقاب ميالون إلى اللهو وقضاء العمر في التنقل من بقعة إلى أخرى. ولئن ذهبت أتعاب الولايات المتحدة بدون جدوى في أول الأمر فإن هذه العقبات لم تقف في طريق الحكومة الغيورة على تهذيب شعوبها. فقد جدد مجلس الأمة الهمة عام 1877 وبدأ بافتتاح المدارس الخصوصية للهنود لتعليمهم أولاً القراءة والكتابة والحساب. ثم العلوم وواجباتهم نحو الدولة(15/30)
والأمة والوطن والدين والإنسانية.
ولم يأت ربع قرن على تأسيس تلك المدارس بين الهنود حتى استنار كثيرون منهم بقبس المعارف وأصبحوا يعدون من رجال الدولة والأمة فكان من حكومات الولايات أنها أبدت بما قامت مثالاً لكل دولة لا تحفل بتهذيب شعوبها وأن التهذيب هو مطلب هذا العصر وأن العزائم القوية تبدد غياهب الجهل وأن الهمم العلية تخترق جبال المصاعب.
وبعد فقد كان الهنود سابقاً يعدون بالملايين أما اليوم فقد انقرض معظمهم ولم يبق منهم أكثر من 400 ألف نفس ذلك لأن حكومات الولايات حصرتهم في بقاء خاصة في أمريكا الشمالية. فحرموا من المنافع الصحية التي كانوا يتمتعون بها أيام كانوا يمرحون ويسرحون في طول البلاد وعرضها أيام لا منازع ينازعهم ولا حاكم يقيد حديثهم أيام كانوا يعيشون من خيرات الأرض الطبيعة وصيد الحيوانات.
ومن أسباب انقراض نسل هذا الشعب المتوحش القديم حصرا لزواج في العيال والعشائر ولولا اختلاط زواج الهنود ببيض أوروبا وعبيد أفريقيا لكان عددهم اليوم قليلاً جداً. ولعل لبقاء إلا نسب فعلاً في الأمر والله أعلم.
الولايات المتحدة. أوماها نبراسكا
يوسف جرجس زخم(15/31)
مقاومة الالكحول
ثبت للباحثين في أدواء المجتمع الأوروبي منذ أوائل القرن التاسع عشر أن الالكحول على اختلاف أجناسها تحدث المضار الجسيمة فتهلك الأنفس وتبيد الأموال وتشوه الخلقة وتؤثر في النسل والعقل وأن أقل ما يصيب المدمن جنون مطبق وسبة يلحقه عارها أبد الدهر فقام الصالحون من أهل ذاك المجتمع يناهضون الالكحول دفاً لغوائلها ولاسيما ف البلاد التي يزعم بعضهم أنها وقاية لهم من برودة الجو كروسيا والسويد وشمالي فرنسا ونورمنديا وإيرلاندا.
توفر المقامون على مناهضة المسكرات فأثمرت أعمالهم على تواليا لأيام ثمرات غضة نافعة جناها أهل بلادهم فكان من السويد بفضل وعظ الواعظين أن أصبح يصيب الفرد من أهلها في السنة ستة لترات من المسكرات بعد أن كان يصيبه سنة 1830 أربعون لتراً وكان بدأ لإفراط في تعاطي المسكرات ببلاد السويد منذ أواخر القرن الثامن عشر. وقد جاهد بطرس ويزلكران عميد مدينة غوتمبورغ ثلاثين سنة جهداً حسناً فوفق عام 1855 إلى وضع حد للألكحول وكانت أفكاره في هذا المعنى أساساً للقوانين التي سنتها حكومة السويد وجرى العلم بها. وهذه الأعمال ترمي إلى شدة في معاملة بائعي المسكرات وصانعيها.
قالت الطان ضربت الحكومة السويدية على صانعي المسكرات ضرائب فاحشة وأخذت تزيدها الحين بعد الآخر بلغت سنة 1888 - 138 فرنكاً على كل هكتولتر (مئة لتر) فعجزت المعامل الصغيرة عن صنع المشروبات إذ قضي على كل معمل أن يخرج في اليوم أربعة هكتولترات من الالكحول الخالص أو يغلق أبوابه ولم تسمح الحكومة بتنزيل هذا المعدل إلى هتكولترين ونصف إلا سنة 1871 وحظرت عمل الالكحول إلا في شهرين من السنة ثم تسامحت ورخصت على توالي السنين بأن تصنع سبعة أشهر في السنة. فكان من ذلك أن قل في السويد عاصروا الخمر فبعد أن كان فيها سنة 1829 - 124، 172 معملاً نزل عددها سنة 1898 إلى 128 معملاً.
وجعلت السويد ببيع المسكرات حراً في الجملة إلا أنها جعلت معدل ما يباع منه بالجملة 250 لتراً وأن لا يباع بالمفرق أقل من لتر واحد ليأخذها المبتاع معه ولا يشربها في محل ابتياعه لها. وعاملت الحانات بأقصى الشدة فأمرت أهلها أن يغلقوا محالهم الساعة الثامنة(15/32)
مساء في القرى والساعة العاشرة في المدن ولم تسمح لبائع المسكر أن يتقاضى مالاً من غريم له باعه خمراً بالنسيئة. وضربت اثنين وأربعين فركناً ضريبة على كل هكتولتر من الالكحول الصافي فأصبحت تمر في أربع ولايات من تلك البلاد فلا ترى فيها محلاً واحداً لبيع المسكرات.
وقامت جمعيات تنشئ مطاعم لا يقدم فيها الشراب إلا بأثمان فاحشة وأنشئت في أنحاء كثيرة من البلاد غرف للمطالعة ليلهو فيها العامة عن الاختلاف إلى الحانات فنزل معدل تناول المشروبات الروحية في العشرين سنة الأخيرة إلى أربعين في المئة بمدينة استوكهولم وإلى خمسة وأربعين في مدينة غوتمتبورغ وسنت سنة 1892 قانوناً إجبارياً يقضي فيه على جميع المدارس أن تلقي دروساً في طبيعة الالكحول وتأثيراته المضرة.
وقد حذت سويسرا حذو السويد في مقاومة المسكرات فقامت في كل ناحية من أنحائها جمعيات تدعو إلى الإقلاع عن المسكرات وجمعيات لمقاومة الالكحول ومؤتمرات للدعوة إلى مقاومة لابسنت لأنه ثبت أنه من أضر المشروبات الروحية. ولما قتل أحد السكيرين في مقاطعة فود زوجته وابنتيه منذ سنتين هاج أهالي تلك المقاطعة وقدموا للحكومة محضراً فيه زهاء 75 ألف توقيع وهو ربع عدد السكان. فاضطر مجلس النظام هناك إلى إصدار قانون شديد في منع المسكرات وحصرها حتى كان ربح تلك المقاطعة وحدها من احتكار الابسنت نحو ستة ملايين فرنك هذه السنة وقد أضر هذا الاحتكار بكثير من أرباب معامل الابسنت وأقفلت بيوت كثيرة كان أهلها يرتزقون منه فآثرت الحكومة مصلحة البلاد على مصلحة الأفراد. وهكذا كل حين تنشأ المجامع وتعقد الجمعيات لمقاومة المسكرات في الجمهورية السويسرية.
وكذلك فعلت أيرلندا فنادى رجالها سنة 1838 بالإقلاع عن المسكرات وكان بلغ إذ ذاك عدد محال بيعها 21326 وما برحوا يكافحونها وأهلها حتى نزل عددها إلى نصف ذلك بعد عشر سنين وأغلقوا الباقي ويقل اليوم في أيرلندا عدد السكيرين واحداً في المئة كل سنة فقد كان يصيب الفرد من الأيرلنديين سنة 1903 سبعة وثمانون فركناً في السنة ثمن المشروبات فأصبح معدل ما يصيبه سنة 1905 خمسة وسبعين فرناً ولا يزالون يسعون إلى تقليل هذا المعدل. ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن في نيويورك وسكانها نحو ثلاثة(15/33)
ملايين ونصف 10820 محلاً لبيع المسكرات بالمفرق وفي باريس وسكانها مليونان ونصف 20. 000 وفي لندن وسكانها أربعة ملايين ونصف 5860 محلاً.
هذه خلاصة ما تلوناه بالإفرنجية في هذا الشهر وكنا كلما تلونا إحصاء أو فكراً نافعاً في هذا الباب نذكر ما قاله بنتام المشرع الإنكليزي (1748 - 1832) في كتابه أصول الشرائع من أن الخمر في الأقاليم الشمالية يجعل المرء كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يصبح به كالمجنون ففي الأولى يكتفى بالمعاقبة على السكر لأنه عمل فظيع وفي الثانية يجب منعه بطرق أشد لأنه أشبه بالتشرر ولقد حرمت ديانة محمد جميع المشروبات الروحية وهذا التحريم من محاسنها. فإذا رددناه ذكرنا أن هذا التحريم لم ينفذ بالفعل في الممالك الإسلامية إلا على عهد نور الدين محمد بن زنكي صاحب مصر والشام وديار الجزيرة فإنه أبطل صنع المسكرات في أيامه من البلاد وأقفل الحانات وعاقب الشريب الخمير بأقصى العقوبات فانتفعت البلاد من هذا المنع الشديد فوائد حسن أثرها على عهد خلفه صلاح الدين يوسف ومن بعده.(15/34)
نبأ من الصين
من مقالة في المجلة الباريسية
للصين اليوم عشرون فيلقاً في كل واحد منها فرقتان تحتوي على 12500 جندي وتؤلف كل فرقة من أربع كتائب من المشاة وكتيبة من الفرسان وثلاث بطاريات مدفعية وجماعة من المهندسين ويخدم الجندي في العسكرية تسع سنين ويخدم ثلاث سنين رديفاً يخدم فيها شهرين على رأس كل سنة بحيث يتأتى للصين أن يكون لها زمن الحرب مليون جندي منظم. وكان أبناء الأسرات الشريفة يستنكفون من خدمة الجندية أما اليوم فإن أشرافهم يخدمون ضباطاً عن رضى لما أشربته قلوبهم من حب بلادهم وكذل تجد بين الجنود شباناً جازوا الامتحانات الأدبية وآثروا خدمة أوطانهم على تقلد أعمال رابحة وليسوا في صبرهم على المكاره ورشاقة أبدانهم وخفة حركاتهم دون اليابانيين في شيء.
وقد كان في أواخر سنة 1904 في الصين اثنتان وعشرون مدرسة حربية فيها 3364 ضابطاً وأساتذتهم من الألمان واليابانيين وترسل الحكومة بأذكاهم عقولاً إلى اليابان يتممون فيها دروسهم في المدارس الحربية يدرسون مع شبان يابان ويمثلونهم في فحصوهم حتى إذا خرجوا من المدرسة يقضون في الجيش الياباني ثلاث سنين أو أربعاً يمرنون فيها على الأعمال الحربية.
يدخل الصين كل سنة نحو ثلثمائة ضابط وإذا أضيف إلى هذا العدد نحو ثمانمائة أو تسعمائة ضابط ممن يتخرجون في مدارس الصين نفسها كان للصين كل سنة 1200 ضابط جديد معلَّم وهناك ضباط من الدرجة الثانية يمكن استخدامهم عند نشوب الحرب كما فعلت اليابان في حربها الأخيرة مع الروس واستعملت من كان لديها على شاكلتهم، وقد قضت الإمبراطورة على كل حاكم كبير أن يبعث إلى يابان أو إلى مدرسة نانكين العسكرية بأحد بنيه يتعلم فيها الأعمال الحربية وأخذ ضباط الصينيين يحذون حذو ضباط اليابانيين في عنايتهم بالجند وتدريبه على الأعمال الحربية.
تعتني الحكومة الصينية بأسطولها الحربي فإنه بعد أن دُمر في الحرب اليابانية أخذت تعيد إنشاءه بواسطة رجال قدموا للصينيين (خصومهم سابقاً) عدة طرادات ومدفعيات وقد أنزلت بعض هذه السفن الحربية إلى البحر في خلال الحرب اليابانية الروسية وافتخر الأميرال(15/35)
الياباني الذي كان يرأس حفلة تسيير هذه السفن بأنه لم يعهد أن دولة أوروبية سلمت سفناً حربية وجعلتها تحت إمرة بلاد أخرى على حين هي مشتبكة في حرب أهوالها على ما ترون. هذا ما توصي عليه الآن الصين من السفن في المعامل الألمانية والإنكليزية.
كل هذا تقوم به حكومة ابن السماء لتحسين حال الميزانية فإنها بعد أن كانت 350 مليون فرنك أصبحت مليارين ونصفاً. ولقد كانت العادة أن يعهد إلى حكام الولايات بجباية الأموال من مقاطعاتهم فيقضي عليهم القيام بجميع نفقات حكومتهم وإرسال ما بقي من الجباية إلى بكين. وبديهي أنهم كانوا يخفضون النفقات ويقتصرون منها على ما لابد منه ويرسلون إلى خزينة العاصمة أقل من القليل. ولطالما كان الحاكم يتنحى عن عمله بعد أن يتولاه ثلاث سنين بعشرة ملايين فرنك ربحاً خالصاً له على حين لم يكن راتبه ليتجاوز مائتي ألف فرنك ويقضي عليه أن يوزع من ثمانمائة إلى تسعمائة ألف فرنك رشوة.
أما الآن فقد أخذت هذه العادات تتعدل بفضل حزب الإصلاح. نعم إن خونة الموظفين ما برحوا هم السواد الأعظم بين العمال على انه حدث منذ سنين أن حكاماً منهم خلعوا ربقة العادات القديمة وعفوا عن مال الأمة والتلاعب بها ليتغنوا من الرشوات. وأخذت الحكومة تجبي الجبايات على طريقة منظمة تتعلق بقصر بكين مباشرةً، وأصدرت الإمبراطورة بتحريض حزب الإصلاح أمراً تتهدد فيه الموظفين بأشد العقوبات والتعذيب إذا هم ارتكبوا وارتشوا، ووعدت أنها تزيد الرواتب إذا رأت أنها لا تقوم بنفقاتهم بحيث لا يبقى للحكام حجة يتوكأون عليها في تلاعبهم وقد كان ارتشاء حكام الصين أهم سبب لضعف مملكة ابن السماء.
ولابد من التنويه هنا بأن الصينيين ما برحوا يستحلون ميع الاختراعات الأوروبية ويقبلونها واحداً بعد واحد فقد اتصلت مدنهم الكبرى منذ بضع سنين بالأسلاك البرقية والتلفونية. ولكن الصينيين يستنكفون من مخاطبة البيض وبعبارة أخرى الأوروبيين بواسطة التلفون ويستعملونه فيما بينهم في التخاطب. وإن وزراء الصين يبدون ارتياحاً لإنشاء الخطوط الحديدية وقد ذهبت الأيام التي كانوا يزعمون فيها أن تنين الأرض يجرح إذا مدت الخطوط فيغضب وتكون الهزات الأرضية دليل غضبه. ففي الصين اليوم عشرة آلاف كيلومتر من السكك الحديدية أنشئ بعضها أو مُنح امتيازه ويعمل به. وتخلف بعض(15/36)
الشركات الأجنبية عن الإسراع في مد الخطوط الحديدية دعا حكومة الصين أن تعمد بعد الآن إلى مد السكك على نفقتها وتحرم البيض منها، وكل من يتسامح بعد الآن مع شركة أجنبية غير صينية من الحكام يعزل من وظيفته مؤبداً. لا جرم أن الصين أيضاً تحاول أن تنزع ربقتها من اليابان بعد أن تأخذ عنها ما تحتاجه الآن كما حاولت نزع يدها من يد الأوروبيين من البيض.
قال أحد رجال الإصلاح فيهم: إن بلاد يابان على ما دخلها من الإصلاح منذ سنة 1868 ما برحت بلاد مملكة إقطاعات وحكومة أشراف وراثية أما الصين فحكومتها في الحقيقة أميل إلى الجمهورية ولذلك تختلف مقاصد الحكومتين. ومن المعلوم في التاريخ أن الصين ويابان قلما اتحدتا والأوروبيين لا يستفيدون من الشرق الأقصى إلا بدوام المباراة بين مملكة الشمس المشرقة ومملكة ابن السماء والظاهر أنهم يحاولون تطبيق مذهب مونرو على بلاهم القائل أمريكا للأمريكيين فعساهم يقفون عند هذا الحد ولا يقولون أوروبا للآسيويين.(15/37)
كتاب من العالم الجديد
القانون الأساسي أعظم أسباب نجاح الولايات المتحدة وقد جاء فيه أن الولايات المتحدة ليس لها دين رسمي وأن الأديان كلها سواء في نظر الحكومة. ولهذا ترى الحكومة لا تنفق درهماً واحداً على معهد ديني وأهل كل دين يبنون معابدهم من مالهم لأنفسهم والمدارس خالية من التعاليم الدينية فيأتي المهاجرون إلى أمريكا بالألوف من جميع العناصر والنحل ولا يعدون أنفسهم غرباء بل يرسلون أولادهم إلى هذه المدارس يتخرجون فيها على النحو الذي ينشأ عليه أولاد الأمريكان الأصليين. وقد كتبت إليك سابقاً أن هذه المدارس حرة مجانية إجبارية للذكور والإناث.
هذه المدارس لا تعنى بالتعليم العقلي فقط بل تصرف وكدها إلى تعليم أمور تعود بالمنافع الجسمية. فتعلم التلاميذ أصول اللبس والمشي لئلا يعتادونهما على غير الصورة المناسبة كما تعلم الطبخ وتدبير المنزل. والمدنية بهذه المدارس منتشرة بين أهل الحواضر والقرى على نمط واحد. وأعظم فرق بين مدارس أوروبا والمدارس هنا أن أهل أوروبا يعلمون صبيانهم في مدارس على حدة وبناتهم في مدارس خاصة بهن. والبنات والصبيان هنا يدرسون في مدرسة واحدة في المدارس الابتدائية والعالية يتربون سوية من الخامسة إلى الثامنة، العاشرة أو العشرين من العمر. ويدعي الأمريكان أن لهذه التربية محسنات جسيمة لم تثبت لي صحتها. ولكن مما لا شبهة فيه أن البنات يترجلن فترى الابنة الأمريكانية متخلقة بأخلاق الصبيان ولها من الجرأة والاعتماد على النفس ما للصبي. وإن الرجال يحترمون النساء كثيراً بحيث يبلغون حد الإفراط في ذلك ويعدون من أعظم الجنايات التعدي على امرأة أو ابنة ولو كانت زنجية.
ترى الفتاة الجميلة ذاهبة وحدها في المحال البعيدة ولا يجسر امرؤ أن يقترب منها أو يسمعها كلاماً بذيئاً لئلا يجلب عليه عمله هذا ضروب البلاء. ذلك أن القوم إذا رأوه يكلم من لا تريد مخاطبته يتعذر عليه الخلاص منهم فيضربونه ويدمونه وربما ضُرب بحيث يوشك أن يهلك. وإذا قبضت الحكومة عليه تجازيه جزاءً شديداً. وإذا اعتدى معتد فاستباح العرض أو ما يشبهه فإعدامه أمر محقق على أي حال كان. وقد شهدت بعض حوادث من هذا القبيل وذلك أن عبداً صفع امرأة على خدها فأدى ذلك إلى سقوطها في الوحل فاجتمع الناس فبحثوا عنه فوجدوه وفي الحال تألف محكمة مؤقتة حكمت عليه بالإعدام فشنق(15/38)
لساعته. ورأيت رجلاً من البيض اعتدى على عرض ابنة مراهقة فحكمت المحكمة عليه بالسجن المؤبد. وشهدت عبداً آخر التقى بفتاتين وطلب إليهما أن يقبلهما ومع أنه لم يمسسهما بيديه حكمت المحكمة عليه بألف ريال جزاء نقدياً لكل منهما النصف. وبالجملة فإن الاعتداء على النساء مهما كان فضعيف ويعده القوم جناية لا عفو فيها. فأين هذه الأخلاق من أخلاق المصريين الذين يتفاخرون بالتعرض للنساء المسلمات بقحة وسلاطة.
وبعد فإن أمر التعليم في المدارس الأمريكية موكول إلى النساء فهن المعلمات وهن المديرات ولا تجد المعلمين من الرجال إلا في المدارس العالية. وقد كنت ذهبت إلى الجبال حيث المناجم والمعادن فشاهدت فيها مدارس تشبه مدارس أعظم الحواضر. رأيت أولاد عملة المناجم ممتعين بتربية وتعليم أحسن من أكثر أولاد الأكابر في بلادنا. وفي هذه المناجم ملايين من العملة وأقل أجرة للعامل ثلاث ريالات أمريكية في اليوم.
ودور الكتب العامة من أسباب ترقي الولايات المتحدة بعد المدارس فترى في كل بلدة أو قصبة مكتبة عامة يدخلها الناس مجاناً. وتقسم كل مكتبة إلى أقسام بحسب حجمها وحجمها يكون على مقدار اتساع المدينة. فترى فيها قسماً للمطالعة فيه الجرائد السياسية والمجلات العلمية والأدبية وغير ذلك من المطبوعات اليومية والأسبوعية والشهرية وأصغر مكتبة تحتوي على خمسين جريدة. وفي المكاتب الكبرى أكثر من ذلك. وقسماً فيه الكتب على اختلاف ضروبها من كل فن وعلم وباب. وقسماً من المكتبة خاصاً بالأولاد وفيه كتب وجرائد ورسوم مما ترغب فيه نفوسهم ويبعثهم على المطالعة والبحث وترى في بعض تلك المكاتب امرأة عُهد إليها النظر في دائرة الأطفال من المكتبة تستقبلهم وتتلطف معهم.
وأطفال هذه البلاد لا يشبهون أطفال بلادنا فلا ترى بينهم أحداً يلبس ثياباً رثةً أو حافي القدم أو قليل الهندام أو ما يماثل ذلك من قلة العناية خصوصاً البنات فإنهن بدون استثناء يلبسن الثياب النظيفة المكوية ويصففن شعورهن وينظفنها ويمشطنها وما السبب في ذلك إلا شيوع العلم والمدنية بين أفراد الأمة على اختلاف طبقاتها. وإلى الآن لم أشاهد ولداً أقرع أو أرمد لأن هذه الأمراض تنشأ من قلة النظافة. فما الحال في البنات. والنساء على ما رأيت هن في الولايات المتحدة أرقى الجنس الإنساني علماً وتهذيباً.
عود إلى حديث المكاتب. إن فيها دوائر أخرى منها واحدة للتحرير والتأليف والترجمة(15/39)
وفيها من الكتب ما يلزم المؤلف والمترجم. وللمطالع أن يقرأ الكتاب الذي يريده في المكتبة وله أن يستعيره فيطالعه في بيته. وفي هذه المكاتب ضروب من الكتب كانت في وضعها بعضها مع بعض أثراً من آثار التسامح، ترى فيها كتباً من نوع واحد في الأديان والمذاهب والسياسة وإلى جانبها كتباً تنقضها. كتب الفلسفة التي تحمل على الدين موضوعة بجانب الكتب التي تؤيده وتبجله. وكذلك الجرائد ترى الصحف الاشتراكية التي دأبها انتقاد أقوال الرؤساء وأفعالهم والحكومة ومجالسها موضوعة إلى جانب الصحف التي تسالم الحكومة وزعماء السياسة. ولكل واحد الخيار في مطالعة ما يشاء وتصديق ما يشاء أو تكذيبه. ويبلغ مديرات هذه المكتبات وموظفاتها من النساء ثمانين في المئة من بقية الموظفين ويختلف راتب المديرة من ألف ومائتي ريال في السنة وهو الحد الأدنى في الرواتب التي ينالها أمثالهن إلى ألفين وأربعمائة ريال وهو الحد الأعلى.
للمستر كارنيجي المثري المشهور فضل عظيم في إتمام هذه المكاتب فإنه أنشأ ألفاً ومائتي مكتبة في ألف ومائتي بلدة ولهذا الرجل خيرات جسيمة عدا هذه المكتبات. وقد منح هذا الشهر أحد أعاظم الأغنياء واسمه مستر جون روكفلر اثنين وثلاثين مليون ريال دفعة واحدة لإنشاء مدارس وكان أعطى من قبل أحد عشر مليوناً لتلك الولاية التي منحها هذه المنحة هذه المرة فتكون جملة إعاناته للمدارس ثلاثة وأربعين مليون ريال. وبهذا يمكنك أن تقيس درجة الغنى في الولايات المتحدة.
ومعلوم أن نفوس الولايات المتحدة كان زمن استقلالها أي قبل 130 سنة أقل من أربعة ملايين وكانوا أقل الأمم ثروة فبلغوا الآن 85 مليوناً ويقدرون نمو ثروة البلاد بعشرة ملايين ريال كل يوم. كل ذلك بفضل الحرية الدينية والمساواة الشخصية وانتشار العلم بين أفراد الأمة ولاسيما النساء. ففي الولايات المتحدة نحو ثمانية عشر مليون تلميذ منهم خمسمائة وخمسون ألف تلميذ في المدارس العالية منهم 330 ألف فتاة و220 ألف صبي. فإذا كان المتخرجون في المدارس العالية يصبحون بعد رؤساء الأمة ونخبتها فاستنتج من هذا الإحصاء أن البنات أرقى من الصبيان وتعال معي وأعجب ممن يدعي أن النساء ناقصات في عقلهن أليس هذا دليلاً حسياً لا يقبل الرد بأن البنات أرقى من الصبيان؟ اللهم لا إذا قلنا إن نساء بلادنا هن من جنس آخر أدنى ممن الجنس الأمريكي. وعليه فلا أدري(15/40)
كيف يدعي بعضهم النقص في عقل النساء وما النقص في الحقيقة إلا من تربيتهن لا فيهن. والنساء هنا يدخلن في كل عمل من الأعمال المعاشية ومعظم كتاب دواوين الحكومة من النساء.
هذا وليحط عملك أن طول السكك الحديدية في الولايات المتحدة هو نحو مائتين وعشرين ألف ميل (الميل نحو 1700 متر) ونحو ثمن هذه الخطوط لرجل اسمه هاريتمين يلقبونه ملك السكك الحديدية. والخدمة في الجندية البرية والبحرية اختيارية هنا ويقبل فيها الأجانب على شرط أن تكون صحتهم جيدة وأن يعرفوا الإنكليزية قراءة وكتابة ويقضي على كل متطوع أن يخدم ثلاث سنين وراتبه ثلاثة عشر ريالاً في الشهر يزداد فيه كل سنتين إذا بقي في الخدمة حتى يبلغ راتبه 25 ريالاً. ويلبس الجند ويأكلون أحسن الألبسة وأطيب الأطعمة وقد زرت ثكنة من ثكنتهم فصادفت الجند في الطعام فرأيتهم يأكلون على موائد مجللة بالقماش الأبيض ولكل واحد ملعقته وشكوته وسكينه وكأسه ولكل خوان خادم واقف في خدمة الجالسين إليه ويبلغ جيش هذه البلاد ثمانين ألف جندي. هذا ما خطر لي الآن أن أدونه لك والسلام عليك.(15/41)
رأي في الشعر
الشعر لغة الشعور وقد أخرج عن معناه الأصلي فأصبح يفهم منه الآن الكلام الموزون المقفى الذي يتوخى صاحبه إيداع خياله وشعوره فيه بصورة تستفز العواطف وتأخذ بمجامع القلوب وابتذله الأكثرون فأضحى حرفة يتغنى بها أحدهم ويعمد إلى اكتسابها على طريقة علمية كأن يقرأ العروض والقوافي ثم يقبض على اليراع ويحاول صف كلام ملفق ليس من الشهر في شيء طمعاً في أن يقال عنه إنه شاعر وما أحراه أن يدعى ضفافاً فهو أشبه بمنضد الحروف في المطابع إلا أن هذا يصف الحروف بقياس معلوم وطريقة مصطلح عليها وذلك يصف الكلمات حسب تفاعيل الخليل.
الشعر شعور لا كلام والشاعر صاحب هذا الشعور يشعر بما لا يشعر به غيره ويسمع ما لا يسمعه غيره فعينه تخترق السحب وتسرح في فضاء العوالم وتأتي إليه بما لم يخطر على بال، وخاطره يفترع أبكار المعاني التي لم يسبقه إليها أحد، ووجدانه يختلف عن وجدان سائر الناس، والنظرة التي ينظر بها إلى العمران ليست كنظرة الناس. فكل نظم خالٍ من الخيال ليس حقيقاً أن يدعى شعراً ولا يمكن أن يعيش بعد صاحبه وربما مات قبله. وكم من شعر نُظم وكم من شاعر نظم فوارتهما أيدي الزمان في مدافن النسيان.
فالشعر لا يعيش إلا إذا استوفى شرطين: أولهما أن يكون فيه شعور فائق وخيال بالغ، وثانيهما أن يكون مسبوكاً في قالب متين المبنى موضح المعنى فالشرط الأول لا يتنازع فيه أحد ضرورة أنه من مقتضيات الشعر وشرائطه الكبرى. نعم إن الشعر الذي لا شعور فيه ليس شعراً كما أن العلم الذي ليس فيه العلم الصحيح لا يعد علماً. وما أحسن لفظة شعر تفصح عن المراد من الشعر وهي لفظة حسن وضعها لما يقصد منها تفضل لفظة بوتري الأعجمية لأن هذه تعني الفعل وليس فيها ما يستشف منه المعنى المرغوب والشيء المقصود. أما الشرط الثاني فلأن اللغة واسطة لنقل خيال الشاعر إلى الناس. وأحرى بهذه الواسطة أن تكون ممحصة من شوائب التعقيد ومعائب الالتباس. وكلما كانت اللغة صحيحة كان فهم الشعر سهلاً. فهي كالوعاء تودع فيها سوامي الفكر وسوانح الفطن. وإذا كان الوعاء ناقصاً في شيء يوجب تمامه كان المودَع فيه خليقاً أن تذهب بحسنه عوامل الأيام. وكم من نظم طوته صحف الدهر لغير علة سوى أنه أنشئ بعبارة تافهة تخالف القياس المألوف.(15/42)
ومن الناس من لا يذعن لهذا الشرط فيحسبون أن مراعاة اللغة في الكتابة سواء كانت نظماً أو نثراً ليست ذات شان فيقولون أن الغرض من اللغة ليس إلا التفاهم فلا ينبغي أن يعنى بها كثيراً فيجوزون لأنفسهم ارتكاب أغلاط فادحة في النحو واللغة وسائر العلوم اللغوية ناسين أن التغاضي عن الاهتمام باللغة يؤدي بهم إلى فوضى لا يرأب صدعها ولاسيما أن اللغة العربية ضوابط تقيدها وقواعد تضبطها فإذا فسد التركيب فسد المعنى وبفساد التركيب تضيع اللغة وبفساد المعنى يغلط في فهم الأفكار التي يقصد الشاعر نقلها إلى قارئ شعره فينتج إذاً أنه كلما كانت لغة الشعر ركيكة كان فناء الشعر المودع فيها سريعاً.
يتضمن الخيال في الشعر وصف الانفعال الذي يطرأ على النفس إذا أدرك صاحبها في عالم الحس شيئاً يدعو إلى الانفعال وباعثاً ينزع به إلى التأثر بحيث لا يستطاع معه إلا الالتجاء إلى الشعر للإفصاح عما يكنه الفؤاد في صور كلامية يتجلى بها الخيال ويتجسم الشعور متنقلاً من عالم الخيال إلى عالم المنظور ولا يتوخى في هذا الانتقال إلا دفع ألم وسد مطلب من مطالب النفس تتقاضى صاحبها إتمامه كما قد تقتضيه تأديتها مطالب أخرى.
ليس الشعر عملاً من الأعمال العادية التي يتكلفها الإنسان ويضطره المعاش إليها فيسعى لنيلها. الشعر ينظم لنفسه لا لغاية أخرى ولا يكون شعراً إلا إذا نظم أثر انفعال من حادث أو شعور وأما إذا نظم على سبيل التفكهة وبدون داعٍ فيكون متكلفاً فيه والنفس مقسورة على إبرازه على حين يجب أن يكون منبعثاً من النفس باختيارها وقبولها فالشاعر الذي ينظم محمولاً على النظم بتيار الرغبة في الشهرة والنزوع إلى الصيت لا يكون شعره شعراً. الشاعر كما قال بعض الأعاجم مخلوق لا مصنوع وحسبك عليه من حجة دامغة أن الشاعر المطبوع ينظم الشعر وهو صبي لا لغرض وإنما يشعر بشيء فينطق بالشعر عفواً مستخدماً ألفاظ الصبيان للتعبير عن خياله ثم يرتقي فيصبح أقدر على إظهار شعوره وينمو شعوره بنمو مركزه في الدماغ كما تنمو سائر القوى العقلية كلما تقدم الإنسان في العمر وقد تبطئ سجية الشعر في ظهورها لعلة خارجية فتتأخر إلى سن العشرين أو بعدها كما جرى لملتون الشاعر الشهير ولكنها ظهرت في أغلب الشعراء في سن الصبا وأعلى درجات الشعر وصف الطبيعة ففيه تظهر قريحة الشاعر بأعظم مظاهرها. يرى الشاعر في الوجود(15/43)
أموراً يتعذر على غيره رؤيتها ينظر إلى سيار كأنه هبط عليه وحيٌّ من العلى فينظم فيه المعاني الحسان على حين لو سئل غيره أن يصف السيار لما قال غير نجم منير. وفي أساطير الأولين إن بعض الأمم اعتقدوا بوجود قوة غيبية تلهم الشعراء وتوحي إليه الشعر ولا توحيه لسائر الناس. وما يراه الشاعر في ظواهر الطبيعة يكون مخبوءاً تحت حجاب كثيف لا يرى الناس من ورائه شيئاً على أنه يصبح شفافاً إذا نظر إليه الشاعر فيرى وراءه كنوزاً وركازاً. وقد عني الإفرنج بالشعر الوصفي فأجادوه ويتلوه في الحسن الشعر الذي يمثل الطبع البشري وما في الإنسان من العواطف والأميال وما يتنازعه من الأشواق والشعور الذي يطرأ على الشاعر عند حدوث نكبة عامة وما شاكل ذلك وكل وصف بعث عليه انفعال عظيم.
أما الشعر الرثائي فأحسنه ما نظم عن انفعال شديد كما وقع لشاعر الانكتار العظيم تنيسون حين نكب بفقد صديقه الحميم حلام المؤرخ المشهور فرثاه بقصيدة طويلة رنانة وصف فيها العواطف البشرية وصفاً دقيقاً واستحوذ عليه من الغم في ذلك الخطب المؤلم. على أن الرثاء مبتذل الآن، وكم من شاعر يرثي ميتاً لا يعرف سوى اسمه فيأتي شعره وأمارات التكلف بادية عليه ليس فيه إلا معانٍ تافهة سيقت النفس إلى إبرازها سوقاً. والمدح أسقط الشعر لما فيه من الاختلاق ولاسيما إذا قصد منه جر مغنم أو دفع مغرم فيضطر الناظم أن يبتدع المعالي والمكارم وينسبها إلى ممدوحه.
ويبلغ الشعر المدحي أعلى درجة في عصر البداوة ويأفل نجمه في عصر الحضارة حتى يكاد يكون معدوماً. وكان الشعراء يتخذون هذا النوع من الشعر وسيلة للزلفى من الأمراء واستدرار العطايا من العظماء. والشعر الهجائي أرفع في نظري إن صح أن يكون لي نظر من الشعر المدحي وأقرب منه للغرض المبدئي من الشعر خصوصاً إذا نظم عقيب تهيج حاسة الاشمئزاز من إدراك شوائب ونقائص في الهجو تبعث الشاعر على الهجاء اضطراراً. وأما إذا تكلف له فيكون من أعمال العقل لا من أعمال الشعور والعواطف. وقد علمت مما مر بك أن الشعر من خصائص العواطف وليس للعقل علاقة به، ولذلك لا يعد من الشعر كل ما نظم من المعقولات والمنقولات، ويدخل تحت هذا الأراجيز على تفاوت أنواعها وآراء الفلاسفة التي أودعت في الشعر وآي الحكماء وعلماء الأخلاق. وبالجملة فإن(15/44)
كل ما ليس له اتصال بالعواطف ليس شعراً وإنما هو نظم ولا يتعذر على النبيه التمييز بين الشعر والنظم إن هو تذكر معنى كلمة شعر. والله أعلم.
يافا
خليل الخوري(15/45)
التربية والتعليم
تربية السكسونيين
قامت منذ بضع سنين حركة في الأفكار في معظم بلاد أوروبا للمفاضلة بين التربية التوتونية واللاتينية أي بين تربية الإنكليزي والألمان والأمريكان المعروفين بالإنكليز السكسونيين وبين تربية الفرنسيين والطليان والإسبان ولقد أطلعنا على مقالة في إحدى المجلات الكبرى الفرنسوية أفاض كاتبها في تأثير المسابقات بين طلبة الطب في الأخلاق. ومما جاء فيها أن هذه المباراة في الفحوص قد تؤدي إلى ضعف ملكة الذكاء وإن نفعت في تمرين الذاكرة بما يضطرون أن يودعوه ألواح محفوظهم من القوانين والصور وقد يستظهرونها استظهاراً نظرياً ولا تكون عندهم من العمليات في شيء بمعنى أنهم مهما جعلوا دراستها دينهم وديدنهم لا يخرجون من الامتحان إلا وقد غربت تلك المواد عن أذهانهم. سئل أحد التلاميذ يوماً عن حرب السبعين وكان قد درسها من قبل بالطبع فلم يحر فيها جواباً. وسئل عن التلفون فانقطع ولم ينبس ببنت شفة. مع أنه بعيد عن الظن أن يكون في الغرب اليوم ناهيك بفرنسا من لم يسمع بحرب السبعين وأخبارها والتلفون وآثاره.
وبعد هذا لا يسعنا إلا التصريح بان الطريقة العقيمة في التربية التي اتخذتها فرنسا من نحو مئة سنة ما زادتها إلا الرجوع القهقري وسبق الأمم السكسونية. تربية تسقم العقل وتضعف الجسم. تربية تحبب إلى المرء الراحة والسكينة والاقتصاد والترف والسرف.
تربية كأنها ملصقة بغراء لا تلبث أن تتزعزع إذا أمطرتها سماء الدنيا بوبلة فما بالك لو هبت عليها أعاصيرها وعواصفها وسحت فوقها وابلها ومدرارها.
قال بعض علمائنا إن فرنسا مستنبت الأوسمة والمراتب وميدان المسابقات والمناوشات وإذا أردنا على أن لا ننقد هذا الخُلُق نكتفي بأن نقول إنه دليل الأنانية والشعور بالحاجة إلى العدل ونحن لا نزال شعب تلاميذ أي إننا محتاجون في تربيتنا أن نربى تربية الصغار من مهدنا إلى لحدنا فنساق منذ نعومة أظفارنا في المدرسة والبيت بقوة الأيقونات والأنواط والعلامات والصفوف والقوانين ومن نشأ على هذه الطريقة في التربية يحتاج إذا بلغ مبلغ الرجال أن يظل متطلباً للأوسمة والجوائز وأن تنظم حاله بنظام الاستحقاق والأهلية.
وقال غستاف لبون مؤلف كتاب حضارة العرب وغيره من الكتب الممتعة: إن كليتنا معاشر(15/46)
الفرنسيس لا تنشئ إلا أهل أوهام وأرباب أكثار وثرثرة ممن بعدت نفوسهم عن الحقيقة بعدها عن معرفة العالم الذي يقضي عليهم أن يعيشوا فيه. من كل وُكَلة تكلة لا يعمل بدون يدٍ تدفعه وعون يقوده وعين تلاحظه. ففي بيته تقوده أمه ويأخذ بيده أبوه، وفي المدرسة يشتد ساعده بزند معلمه ومربيه حتى إذا دخل في غمرة الحياة يظل حائراً لا يعرف مصيره ما لم تأخذ الحكومة بيده وتصرفه فيما تشاء وتهوى.
وقال غيره: أين نجد في فرنسا مثل أولئك الأولاد الذين رأيتهم خارج هذه البلاد يسافر احدهم وحده وهو في سن العاشرة من لندن إلى بطرسبرج في فئة من أطفال الكتاتيب تختلف سنهم بين الثامنة والعاشرة فيقضون تحت الخيام نصف العطلة المدرسية في جزيرة من سان لوران يعيشون من صيدهم وقنصهم فيكف لا يتأتى لهؤلاء الأطفال من الإنكليزي أن يستعمروا حيث شاؤوا من الأرض ويكونوا من أنفع الطوارئ متى بلغوا الخامسة والعشرين. وقال احدهم: لا شيء أذل على النفس من رؤية الفرنسوي خارج بلاده فكأنه ميت انقطع عمله أو مدنف يتلجلج لسانه فلا يجيب عما يسأل.
وقال غيره: من الرعونة أن يعتقد الفرنسيس بعلو كعبهم في كل شيء ولو ذهب إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أمم لرأى شعباً كان يشكو مما نشكو منه. داء أصيب به زمناً فشفى نفسه منه. يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها فيقدس كارالايل ظهيرها ونصيرها ويقيس حاله بالإنكليز فيراهم سباق غايات. ثم إذا رأى في تينك المملكتين ما رأى وقاسه بحاله يركب بحر الظلمات ليتبصر فيما تورثه جدد الفضائل في هذا القرن الحديث وينجلي له الفرق بين رغائبه ورغائب الأمريكان.
لفرنسا نظارة للمعارف، ولأمريكا مدرسة للتربية. فالأولى تعلم والثانية تربي. الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها، والثانية تعلم مبادئ يسيرون عليها. تعد فرنسا أدمغة لحفظ قانون، وتهيئ أمريكا أذرهاً للعمل. يغرس الأمريكان في عقول ناشئتهم شهامة الإرادة التي لا تنفع بدونها المواهب وتضيع القوى بدداً وإذا فقدت يكون العلم نفسه قليل النفع. وهذا القانون الذي سنه لهم فيلسوفهم أميرسون تلميذ هيكل الألماني القائل في فلسفته: ليست الحياة شغلاً عقلياً ولا مناقشة ومهاوشة بل الحياة هي العمل. ولقد علق في أعلى باب كل مدرسة بأمريكا شعار معناه: إن تهذيب الخلق أسمى غاية للمدرسة وعلى الشبان أن يحسنوا معرفة(15/47)
الحياة بإرادة ثابتة.(15/48)
مطبوعات ومخطوطات
كنز العلوم واللغة
من المؤلفين المجتهدين في مصر محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة والمصنفات الكثيرة وقد أصدر هذا الشهر مجلداً ضخماً في زهاء 870 صفحة كبيرة ذات ثلاثة أعمدة من الحرف المتوسط سماه كنز العلوم واللغة وهو صورة دائرة معارف مصغرة فيها بعض الفصيح وخلاصات من العلوم النقلية والعقلية والطبيعية والطبية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية. وقد أخذنا عليه اقتضابه في بعض المواد المهمة وتطويله في غيرها مما هو دونها في الفائدة فرأيناه مثلاً قد أغفل في الأعلام ابن تيمية وابن القيم وابن الهيثم والذهبي والسيوطي والقلقشندي وابن فضل الله العمري وذكر عبد الرحمن العمري والقليوبي والشنواني والشبراوي والكفراوي. والمعاجم المختصرة في العادة تذكر الأهم فالأهم من السماء والأشخاص. ورأيناه تابع بعض المعاجم الإفرنجية في إيراد بعض الشؤون التاريخية الشرقية ونقلها على غلطها مثل قوله في محلين إن صلاح الدين يوسف هو ابن أخي نور الدين محمود بن زنكي مع أنه لا قرابة بينهما وصلاح الدين كردي ونورد الدين تركي ومثله قوله أن فاراب من بلاد الأناضول. وقد نقل بعض أعلام الأشخاص والأماكن بحسب الأصل الإفرنجي فقال مثلاً سالونيك كما يلفظها الإفرنج والصواب سلانيك. وجزيرة ساموس: سيسام. ونهر الدانوب: الطونة. والسلافيون وتسميهم العرب الصقالبة. وليسبون: والعرب تقول إشبونة، وجبال هيماليا: حملايا. والتيبت: والعرب تقول تُبت كسكر. وبخارست: بكرش. وقد أعجبنا منه أدبه في كلامه على المخالفين من فرق الإسلام وغيرهم وفي الكتاب فوائد نافعة لا يسع متعلماً جهلها وعسى أن ينتشر كتابه بين جميع الطبقات فإنه على إنجازه سلمٌ إلى تناول دوائر المعارف الإفرنجية الكبرى. وحبذا لو تدارك المؤلف ذكر من أهمل من الأعلام وما اغفل من أسماء البلدان ولو بملحق على حدة. وفقه الله وأكثر فينا أمثاله من أهل النشاط في خدمة العلم والتوفر على التصنيف والنشر.
فتح الرحمن لطالب آيات القرآن
هو مفتاح أو فهرس يعين على الاهتداء إلى مواقع الآيات الكريمة جمعه فيض الله أفندي العلمي الحسني المقدسي ووقف على طبعه الشيخ أحمد حسن طبارة محرر جريدة ثمرات(15/49)
الفنون الغراء. وقد عني الجامع بان استعان بكتاب ترتيب زيبا وكتاب نجوم الفرقان واقتصر من ألفاظ الكتاب العزيز على الكلمات الرئيسة التي يثر خطورها بالبال أي الأفعال المشتقة والأسماء المتمكنة. وبالجملة فهذا السفر البديع يسهل الوصول إلى الآيات الكريمة على من يريد الاستشهاد بها فيتناولها سالمةً من التحريف في أقل من لمح البصر وقد ألحق به فهرساً للأعلام فجاء من أنفس الذخائر التي لا يستغني عنها طالب. جزى الله جامعه ومصححه خيراً. والكتاب يباع بريال مجيدي في بلاد الشام ويطلب من المكاتب الشهيرة. وقد طبع في المطبعة الأهلية في بيروت طبعاً متقناً للغاية على ورق صقيل جيد.
تقويم المؤيد
صدر هذا التقويم البديع سنة 1325 هـ. فأتم بذلك سنته العاشرة وهو من وضع محمد أفندي مسعود صاحب جريدة المنبر الغراء. وقد قرأنا فيه نبذاً في التوقيعات وعلم الفلك والكيمياء وفصولاً علمية وأدبية وإحصائيات ونظام الحكومات والأخبار العمومية والتاريخ العام والتراجم والمسائل السياسية والمعاهدات وأحوال مصر سنة 1900 وتخطيط الوجه القبلي وشذرات نافعة في القضاء والإدارة والزراعة وتدبير المنزل والدليل المصري وغير ذلك من الفوائد التي تنفع أصحاب الأعمال والبيوت وإنا لا نزال نقول إن تقويم المؤيد من أحسن الكتب الدورية التي تصدر في هذه العاصمة وما برح التحسين فيه مستمراً سنة عن سنة فشكراً لفضل مؤلفه الذي ثبت على إصداره وتوفر على الاستزادة من فوائده الممتعة.
أبدع الأساليب في إنشاء الرسائل والمكاتيب
هو كتاب يقع في زهاء ستمائة صفحة يحتوي نموذجاً من العرائض والرسائل والمخاطبات التجارية والإخوانية والرسمية وفيه مختصر في أصول مسك الدفاتر لمؤلفه عبد الباسط أفندي الأنسي صاحب جريدة الإقبال الغراء في بيروت وقد طبعه الآن طبعة ثانية أجزل فيها فوائده وهو مطول من كتابه هداية السائل إلى إنشاء الرسائل وقد رتبه على خمسة أبواب أدخل فيها الأغراض التي تعرض للكاتب في مكاتباته وطبعه في مطبعته المعارف طبعاً لطيفاً وهو يباع في مكتبته الأنسية باثني عشر قرشاً فنحث الطلاب على اقتنائه ونشكر للمؤلف عنايته وهديته.
السجل المصري(15/50)
أصدر علي أفندي يوسف الكريدلي من المشتغلين بصناعة القلم في القاهرة كتاباً بهذا الاسم وأخذ على نفسه إصداره في منتصف كل شهر إفرنجي مشتملاً على كل ما حدث في الشهر السابق من الحوادث والوقائع وأعمال الحكومة المصرية كالأوامر العالية والمنشورات واللوائح والتنقلات والرتب والأوسمة والوفيات والمواليد فكان تاريخاً دورياً لمصر يصدر في أجزاء متفرقة مزيناً بصور بعض أمراء البلاد ووزرائها وكبرائها وعلمائها وأعيانها ومشاهيرها وفضلائها وأدبائها وشعرائها وكتابها وكل ذي مظهر ومقام وفي الجزء الذي صدر عن شهر يناير كثير من الفوائد التي ينبغي تخليد أكثرها في تاريخ البلاد وهو في زهاء 180 صفحة متوسطة الحجم وقيمة كل جزء خمسة قروش أميرية وهي قليلة لكثرة فوائده فعسى أن يلاقي مشروع هذا الأديب الإقبال اللائق به.
لباب الخيار في سيرة المختار
هي رسالة جميلة الطبع والوضع تدخل في 82 صفحة من ذوات النصف في السيرة النبوية لمؤلفها الشيخ مصطفى سليم الغلاييني من المشتغلين بالعلم في بيروت ذكر فيها شذرات مهمة من أحوال الرسول وأعماله وجميع غزواته ولم يذكر من سراياه إلا ما كان له علاقة ببعض الغزوات وقد علق شرحاً لغوياً موجزاً على الألفاظ اللغوية أو التي يخشى التباسها على المبتدئ فجاءت نافعة لجميع الطبقات فله الشكر على عنايته وفضله.
خارطة العالم
هو المصور الذي رسمه الاكسرخوس يوحنا الحداد نزيل شيكاغو ومن أهل الفضل وقد أهدينا نسخة منه فرأيناه من أجمل المصورات الجغرافية الإنكليزية وأنفعها وليته يتفضل بترجمته إلى العربية ليعم انتفاع الجالية السورية به في أمريكا كما يعم سائر البلاد العربية.
ديوان الشاب الظريف
طبعت المطبعة الأهلية في بيروت هذا الديوان المشهور لمؤلفه المتوفى سنة 688 هـ عن 27 عاماً وأضافت إليه ما عثرت عليه من نظمه المتفرق في دواوين الأدب وفسرت ألفاظه اللغوية وقد قالت إنها جعلته خدمة لطلبة المدارس مع أن أكثر الديوان من الغزل الذي لا يروق أن يطلع عليه الشيوخ دع عنك الأطفال وعلى كل فإنا نشكر لها هذه العناية بنشره(15/51)
ونرجو أن تنشر غيره من آثار السلف النافعة.
لطائف السمر
في سكان الزهرة والقمر أو الغاية في البداية والنهاية وهو كتاب في 280 صفحة لمؤلفه ميخائيل أفندي انطون الصقال الحلبي جعله على شكل رواية أخلاقية فتصور أنه رأى والده بعد وفاته في الرؤيا وقص عليه ما رآه في العالم الثاني أي في السماء والحقيقة أنه قص عليه حالة الأرض فتخلل ذلك كلام في المدينة الفاضلة والمدينة السافلة وأطور البشر وأخلاقهم ومنازعهم والديانات والنحل والمعتقدات كل ذلك في أبواب مخصصة وبعبارة سليمة فصيحة تخللها كثير من الشوارد اللغوية التي شرحها المؤلف في أسفل الصفحات فأجاد وأفاد في الاحتيال على بث الأفكار الصحيحة المعتدلة في ثوب عربي جميل. وهذا الكتاب يطلب من المكاتب الشهيرة في القاهرة بريال مصري.
الأخبار
أعاد هذا الشهر الشيخ يوسف الخازن إصدار جريدته الأخبار بعد أن حجبها مدة وأنشأ يصدرها في الصباح وهي الجريدة الصباحية الوحيدة باللغة العربية وصاحبها ممن تقلبوا في الصحافة كل مقلب وهو يحسن ما يقتضي لهذه الصناعة الشريفة من أدوات العلم العملي والنظري يضاف إلى ذلك حنكة وتجارب وبعد غور ونظر فلا عجب إذا رجونا أن يكون لصحيفته شان في الآداب عظيم وصوت في السياسة رخيم ولسان في صحة الأحكام قويم.
الجريدة
اسم لجريدة جديدة يومية أنشأتها شركة من أعيان القطر وأصدرتها هذا الشهر في بزة جديدة وطبع جميل وعهدت بإدارتها إلى أحمد بك لطفي السيد من رجال القضاء، وبإنشائها ومؤازرتها إلى جماعة من أهل الفضل والأدب كالسيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي وأحمد بك زكي ونجيب أفندي شاهين وعبد الحميد أفندي الزهراوي ويوسف أفندي البستاني وكامل أفندي دياب وغيرهم وهي تصدر كسائر جرائد العاصمة بعد الظهر. وقد تصفحنا الأعداد التي صدرت منها فرأيناها سليمة العبارة متينة التراكيب جيدة الموضوعات فرجونا لها أن تكون كجريدة الديبا الفرنسوية من حيث وفرة مادتها وصحة(15/52)
عبارتها فإن الديبا وهي لشركة أيضاً ترمي إلى خدمة الآداب. وسبيل الجريدة في سياستها مع الحكومة سبيل المحاسنة التي لا تجر إلى ترك حق أو تزيين باطل وهي أجلى مظاهر الاعتدال الذي يجب أن يكون دعامة العلاقات بين أمة وبين حكومة كلتاهما في طور التكون. فعسى أن يكون منها ما يؤهلها لبلوغ الغاية النافعة التي يتوقعها أنصارها ومساهموها. وقد بلغ بالجريدة عدد الجرائد العربية اليومية في القطر ثلاث عشرة جريدة. زاد الله النافع القويم منها فإن هذا العدد يوجد في مدينة صغرى من مدن الغرب وأصغر جريدة من جرائد الولايات هناك تطبع أكثر من أكبر جريدة في عواصمنا.
الاحياء
مجلة في ثماني صفحات تصدر مرتين في الشهر في مدينة الجزائر وهي إسلامية أدبية إخبارية وقيمة اشتراكها 4 فرنكات في الجزائر وتونس و5 في الخارج وهذه أول مجلة على ما نعلم صدرت بالعربية في ذلك القطر فعسى أن تكثر فيه بعد ذلك الصحف والمجلات ويحذو إخواننا الجزائريون حذو إخواننا التونسيين في نشر المطبوعات العربية النافعة وإذا كان نقص ما يكتبونه محسوساً بادئ بدء فإن كثرة المران تجبر كل نقص.
الريحانة
هي مجلة تاريخية أدبية قصصية تصدر في منتصف كل شهر عربي لصاحبتها ومررتها جميلة خانم حافظ وقد قدمت لها مقدمة لطيفة في السعادة وغرض المجلة وفيها مقالات في التربية والتاريخ وتعليم المرأة وهذا هو أهم أبحاث المجلة وإن كل من عانى البحث في الشؤون العامة ليوافق الفاضلة صاحبة الريحانة على أن الرجال هم سبب تقهقر النساء في الآداب والعلم وإنهن لو تعلمن كما يتعلم الرجال أو أقل لسعدت الأمة الإسلامية كما سعد غيرها من الأمم المعاصرة. وقيمة اشتراك الريحانة 30 قرشاً في مصر و10 فرنكان خارجها فنرجو لها التوفيق إلى ما تقصد إليه. أكثر الله من أمثالها العاملات.(15/53)
سير العلم
الحالة الاقتصادية في مصر
كتب الدكتور الفريد أفندي عيد المالي الشهير تقريراً في الديون المعقودة على رهن في القطر المصري فقال إن فيه الآن خمسة مصارف تسلف النقود على رهن عقاري وهي المصرف الزراعي والمصرف العقاري وشركة الأراضي والرهنيات المصرية وصندوق واللندبنك وقد بلغ رأس مال المصرف الزراعي 7. 715. 000 جنيه ورأس شركة الأراضي والرهنيات المصرية 877. 500 جنيه ورأس مال صندوق الرهنيات العقارية 10 ملايين فرنك ورأس مال اللندبنك 975 ألف جنيه هذا ما عدا قيمة السندات التي أصدرتها. وقال إن شركات التأمين الإنكليزية سلفت مليوناً وأربعمائة ألف جنيه وسلف جماعات أصحاب الأموال ثمانمائة ألف جنيه واستنتج أن سلف الأفراد بلغت 5 ملايين و445 ألف جنيه فيكون مجموع الديون المعقودة على رهن في المصارف وغيرها 28 مليون جنيه و145 ألف جنيه ومجموع الأموال المستحقة للشركات العقارية التي باعت أراضيها على أقساط زهاء مليوني جنيه ومجموع الديون المستحقة على رهن 38 مليون جنيه و997. 720 ج وقال إن تاريخ عقود الرهن في القطر يرد إلى سنة 1876 وإن الرهنيات زادت قيمة الأرض وقدر الأموال التي سلفت على أرض البناء بمئة وخمسين مليون جنيه أما الأموال الموظفة فلم يرد جميعها من الخارج بل إن قسماً منها من أموال البلاد.
المصارف الزراعية العثمانية
نشرت نظارة المصارف الزراعية في البلاد العثمانية إحصاء بأعمالها عن سنة 1319 على الحساب الشرقي فقالت إنه كان عدد شعب المصارف في مراكز الولايات والألوية 66 شعبة وعدد شعب الأقضية وبعض الألوية 314 شعبة وكان رأس مال هذه الشعب كلها 3. 777. 500. 841 قرشاً وأقرضت هذه المصارف للفلاح العثماني 306. 824. 322 قرشاً وبلغ عدد المقترضين 96. 074 مزارعاً وقد بيعت في مدة خمس عشرة سنة أراضي زهاء 8100 فلاح لم يوفوا ما عليهم من الديون لتلك المصارف وبلغ عدد المستدينين من الفلاحين في 15 سنة أيضاً 981. 349 شخصاً. وهذه المصارف الزراعية(15/54)
في البلاد سهلت على الفلاح العثماني اقتراض المال في حين حاجته بفائه ستة في المئة كما سهلت المصارف العقارية في القطر المصري سبل استلاف النقود برهن العقارات فكان منها أن اغتنى ألوف من الناس ما كانوا يملكون من قبل إلا ما لا يذكر. أما في البلاد العثمانية فإن المصارف الزراعية أنقذت الفلاح بعض الإنقاذ من شطط المرابين وإجحافهم.
إحصاء غريب
كان في الولايات المتحدة في العام الماضي 220030 ميلاً من الخطوط الحديدية وبعد أن كانت منذ سنين زائدة عن حاجة البلاد أصبحت الآن تلك البلاد في أشد الحاجة إلى الاستكثار من هذه الخطوط ويلزمها على أقل تعديل 75 ألف ميل أخرى ينفق عليها 1100 مليون ريال في السنة مدة خمس سنين وقد عجزت معامل أمريكا على كثرة استعدادها عن صنع ما يطلب منها من القاطرات والمركبات للخطوط الحديدية فإن أمريكا الشمالية يلزم لها من ذلك 250 ألف مركبة في السنة وكان في أمريكا سنة 1905 - 47. 350 قاطرة و40. 713 مركبة و1. 731. 409 مركبة لنقل البضائع وكان عدد من ركبوا القاطرات الحديدية إلى مسافة ميل فأكثر في تلك السنة 23. 700. 149. 46 راكباً وبلغ ما نقل إلى مسافة ميل من البضائع 186. 463. 190. 510 طنات.
المعلمات والمعلمون
تقول إحدى المجلات العلمية إن الحال إذا ظلت على هذا المنوال يُربّى أهل الجيل القادم في إنكلترا والولايات المتحدة على أيدي المعلمات بدل المعلمين فقد كان الرجال منذ خمسين سنة يديرون أربع مدارس ابتدائية في إنكلترا من كل خمس مدارس وفي سنة 1870 تساوى عدد المعلمين والمعلمات أما اليوم فإنك ترى من كل أربع مدارس ثلاثاً يديرها النساء ويقدر عدد المعلمات في الجزائر البريطانية بعشرين ألف معلمة وعدد المعلمين بأربعة آلاف معلم. أما في أمريكا فإن قلة المشاهرات التي تدفع للمعلمات تحول دون إقبال ربات الحجال على التعليم.
شقاء العمال
وضعت مجلة أمريكا الشمالية مقالاً ضافياً وصفت فيه حالة العملة وما يصيبهم من العاهات الطبيعية والعملة هم القسم الأعظم من أهل الولايات المتحدة فقال إن سبب ذلك زيادة عدد(15/55)
المحاويج وازدحام المدن بأقدام السكان وقلة الغذاء عند الفقراء والمساكين فلم يكن سكان المدن منذ مئة سنة في أمريكا أكثر من 3 في المئة وقد أصبح اليوم 40 في المئة وفي بعض الولايات أكثر من ذلك. وسبب هذا رغبة الناس عن سكنى القرى والمزارع وانهيالهم على المدن والعواصم لإدخال الأدوات في الأعمال الزراعية والاستغناء في أكثرها عن أيدي العاملين كما كان من قبل فاضطر أكثر الفلاحين أن يدخلوا المعامل في المدن وأن ينقطعوا عن الزراعة ولكن ما يقبضونه من المياومات لا يسد حاجاتهم الضرورية فيبيتون في أماكن رديئة الهواء تكثر فيها الأمراض والوفيات فإذا لم يهلكوا قبل سن الشيخوخة فإن معظمهم يصابون بأمراض بطيئة تزيد ضعفهم الطبيعي ضعفاً. وهذه الأسباب تنتج هذه النتائج في كل مكان ولاسيما في الولايات المتحدة فإن الحالة هناك أدهى وأمر. ولا سبيل إلى تلافي هذه الآفات إلا بان تجعل الرياضية الجسمية إجبارية في جميع المدارس وإن تضاعف أيام العطلة وأن يكره الأولاد على قضائها في الخلاء والبراري وأن تسير التربية الطبيعية هي التربية العقلية على نظام صحي وأن يحسن طعام الأولاد في المدارس.
لحم الخيول
نشرت أحد علماء الإسبان بحثاً في الدعوة إلى تناول لحم الخيول فقال إن من يدعي من الإسبانيين إنها قذرة رديئة لا توافق الصحة هو في ضلال مبين وإذا استعمل هذا الضرب من اللحم ولاسيما بين الطبقات النازلة يتبين لآكليه أنه من اللحوم اللذيذة الطعم كثير التغذية يقوي الجسم وقد استشهد على صحة رأيه بإحصاءات أكلة الخيول في الأمم ولاسيما في بروسيا التي ينمو فيها متناولوه وقال إن فرنسا لم تبدأ بتناول لحم الخيل إلا سنة 1866 وكان بعض الفرنسيس قبل ذلك يتناولونه سراً على أن الجندي الفرنسوي في حرب القريم كان يؤثر لحم الخيل على لحم البقر أما الجندي الإنكليزي فكان يتقزز من تناوله قال وكيفية تقديم لحم الخيل على الموائد هي التي تحببه إلى النفوس أو تكرهه إليها وإن بعض الشرهين ليزعمون إن لسان الحصان لذيذ الطعم.
المكاتب في نروج
بحثت إحدى المجلات العلمية الهولندية في تاريخ المكاتب العامة في بلاد النروج فقال إنها(15/56)
تُرَدُّ إلى أواخر القرن الثامن عشر وكان مبتدعها رجلاً اسمه سورت ارفلو خطر له أن يجعل كنبه القليلة في غرفة يطالع فيها الخاصة والعامة فمشى على أثره غيره من عشاق الكتب وشاركوه في هذا العمل النافع وأخذ الشاعر ورجلاند يبث هذه الفكرة في العقول بما وضعه من كراسة ذكر فيها ما ينال الشعب النروجي من النعم الجسام بتهيئة أسباب المطالعة له في الكتب العلمية الحقيقية فوضع بكتابته هذه أساس مكتبة عامة للشعب وأشار بالكتب النافعة التي ينبغي وضعها فوقع كلامه موقع القبول من القلوب فلم تمض سبع سنين على دعوته حتى صارت مكاتب الشعب هناك سنة 1837 - 185 مكتبة منتشرة في طول البلاد وعرضها ويبلغ اليوم عددها نحو ثلثمائة والحكومة تنفق عليها ما يلزمها من النفقات.
مدنية آسيا الوسطى
ذكرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية أن ضابطين إنكليزيين رحلا منذ مدة من بلاد الهند إلى بكين مارين ببلاد تُبت وتركستان الصينية فاكتشفا في طريقهما اكتشافات أثرية مهمة وكانت هذه الأصقاع وهي اليوم تكاد تكون غير مأهولة مهد مدنيات قديمة قويمة زال أثرها فكان بحث هذين الضابطين مذكراً بها. وساح عالم ألماني في الشمال الشرقي من تركستان فاكتشف بعد عناء ثلاثة أشهر نقوشاً على الحيطان ومخطوطات كتبت بالخط الناكاري والبرهمي وهي من خطوط آسيا الوسطى ومن هذه المخطوطات ما هو مكتوب بالخط الصيني والتبتي والتانغوتاني والسرياني والمانشوي والويكوري والتركي الأزرق ومنها ما كتب بلغة مجهولة غريبة ويطن أنها سريانية أو مشتقة منها. وأنت ترى في هذه الخطوط مجموعة من اللغات الآرية واللغات السامية يضاف إليها تلك اللغة التركية الزرقاء أقدم اللهجات التركية التي عرفت. والمخطوطات التانغوتانية من أنفس ما عثر عليه من هذه الآثار لأن هذه اللغة مشتقة من اللغة التبتية ومكتوبة بخط محرف من اللغة الصينية غريب في شكله ووضعه ولم تعرف هذه اللغة إلا برسوم كان عثر عليها منذ مدة. وقد كتبت بعض هذه الكتابات على ورق وبعضها على ورق البردي وبعضها على رق أبيض جميل وبعضها على خشب وفيها من الفوائد التاريخية واللغوية ما اغتبط به أهل البحث والعلم. ومما لفت الأنظار من هذه الآثار خصوصاً المخطوطات المانشوية المكتوبة باللغة الفارنسية الوسطى بحروف خاصة اخترعها في فارس ماني مؤسس المذهب المعروف به سنة 270(15/57)
ق. م وحلها موللر اللغوي في متحف خصوصيات الشعوب في برلين لأن هذه المخطوطات تؤكد ما كان لفارس من النفوذ العظيم في آسيا الوسطى ومما اكتشفه العالم الألماني عدد عظيم من الجثث لابسة ثياب كهنة بوذيين ماتوا صبراً في المعابد التي كانت لهم سجوناً وفي هذه الجثث إشارة إلى ما كان يجول في صدور الفاتحين الصينيين من الكراهة للديانة البوذية. والتماثيل المصنوعة من الجص هي تماثيل بوذا تدل على أنه كان للهند في تلك العصور نفوذ ممتد الرواق في الشرق الأقصى ويابان.
التنويم الكهربائي
جرب أحد أساتذة مدرسة نانت الطبية في فرنسا التنويم بالكهربائية بدلاً من التنويم بالكلورفورم فأسفرت تجربته عن نتائح حسنة فإن المنوم يبقى بدون حركة اختيارية ولا يحس بأي ألم يحدث له ويبقى في حال سبات مدة مرور المجرى الكهربائي عليه فإذا حُوّل عنه يقوم لساعته وجرب ذلك في الكلاب والأرانب.
حفظ الثمار
اخترعت وسائط لحفظ الثمار ومن أقربها تناولاً ما اخترعه أحد علماء الإنكليز وذلك بتغطيس الثمرة مدة عشر دقائق في محلول مؤلف من 3 في المئة من محلول حامض النمل الصناعي (فورمول) فالثمار اللطيفة القشرة كالعنب والتوت الإفرنجي والكرز ينبغي أن تغسل بالماء الصافي بعد أن تجعل في ذلك المحلول أما الثمار الأخرى التي تقشر كالتفاح والكمثرى والدراق فلا لزوم لغسلها وتحفظ الثمرة بهذه الواسطة من 10 إلى 15 يوماً فإذا قطفت قليلة النضج تسافر بهذه الطريقة إلى البلاد الشاسعة ولا تنبعث منها رائحة.
اللفافة الجديدة
إن اللفافة التي اخترعها أحد رجال الإنكليز في العالم الماضي قد عرضت الآن في لندن وكثير من أمهات مدن الولايات المتحدة وهذه اللفافة لا تطوي الجرائد فقط بل تلصق عليها الطوابع وتربطها وتعلق عليها العناوين وتجعلها رزماً وأضابير. ويقول بعضهم إن هذه الآلة معقدة بعض التعقيد ولكنها لا تشغل مكاناً كبيراً وتغني عن استعمال مئات من الأيدي فتطوي في أقل من ساعة ألوفاً من الجرائد المعدة للإرسال وتربطها وترزمها وتناط بها آلة أخرى تمنع من وقوع سهو في عدد الأعداد المرسلة.(15/58)
المعارف في مصر
ظهر منذ أيام تقرير اللورد كرومر السنوي عن مصر والسودان لسنة 1906 فمما قاله عن معارف مصر إن الاعتمادات المخصصة لها أصبحت الآن 374000 ج. م بعد أن كانت 197000 ج. م سنة 1903. وإن في القطر 32 مدرسة ابتدائية راقية تحت تفتيش نظارة المعارف وكان مجموع تلاميذها 7584 مقابل 6815 تلميذاً سنة 1905 و97 في المئة من التلاميذ المسلمون. وفي مصر 20 مدرسة أخرى من هذا القبيل أرادت أن تكون تحت مراقبة نظارة المعارف وفيها 4690 تلميذاً وتقدم للامتحان في الدروس الابتدائية الأخيرة 1634 طالباً تخرجوا من مدارسا لحكومة و1736 تعلموا في مدارس خاصة أو درسوا في بيوتهم فقبل منهم 904 تلاميذ فقط أو 27 من مجموعهم ومن الذين نالوا الشهادة الابتدائية 564 تلميذاً مازالوا يتممون دروسهم في مدارس الحكومة أو مدارس خاصة ومنهم 214 تلميذاً دخلوا في خدمة الحكومة و26 أخذوا يتعاطون أعمالاً حرة لأنفسهم ومنهم 100 بقوا بلا عمل.
وتقدم للشهادة الثانوية 740 طالباً يقابلهم 447 في سنة 1905 فقبل منهم 366 أو 49 في المئة من مجموعهم وكان منهم 256 أي 70 في المئة مسلمين ومنهم 277 مازالوا يدرسون في المدارس العالية و72 دخلوا في خدمة الحكومة و12 استخدموا في أعمال خاصة و5 ظلوا بلا عمل ونحو 41 في المئة من الطلاب المقبولين أخذوا أنفسهم بدراسة الحقوق و26 في المئة درسوا الطب و24 طالباً دخلوا دار المعلمين.
وقال في كلامه على الكتاتيب أنه أنشئ في مدرية الدقهلية منذ أقل من سنتين 228 كتّاباً من أموال الأغنياء ووقف عليها ما لا يقل عن 309 أفدنة ما عدا المباني ولم ينشأ في خلال السنة الماضية في القطر سوى 33 كتاباً جديداً وأصلح 90 وكان عدد الكتاتيب في القطر سنة 1898 - 301 كتاب فيها 6931 صبياً و898 بنتاً و490 معلماً و9 معلمات فأصبحت سنة 1906 - 4432 - فيها 145. 838 صبياً و10. 704 بنتاً و6551 معلماً و33 معلمة وشكا من قلة إقبال النساء على أن يكن معلمات كما شكا من جهل المعلمين الموجودين في المدارس الابتدائية ونسب إليهم إخفاق التلاميذ في التقدم لنيل الشهادة.
وقد بلغ عدد مدارس البنات 209 وعدد التلميذات 13705 وبلغ عدد البنات اللائي يذهبن(15/59)
إلى كتاتيب الحكومة 2135 وعدد اللائي يذهبن إلى الكتاتيب الأخرى 10704 تلميذات وقال إن الأهالي أقبلوا على تعليم بناتهم والتوسع في تلقينهن علوماً أكثر من الأول.
وتكلم على مدرسة الزراعة فقال إن فيها 65 طالباً منهم 38 مصريين و27 مختلفة أجناسهم ومن هؤلاء المصريين 29 من المسلمين. قال ولا يزال معدل المسلمين في هذه المدرسة قليلاً على زيادة فيه. وقال في كلامه على مدرسة الهندسة إن فيها الآن 89 طالباً منهم 58 مسلماً وقد دخل إليها 40 طالباً في شهر سبتمبر الماضي منهم 30 مسلماً فعدد الطالبين من المسلمين في هذه المدرسة يزداد سنة عن سنة. ولفت أنظار المصريين إلى تعليم أولادهم الهندسة وقال إن مصر محتاجة إلى مهندسين وطنيين وفيها أعمال كثيرة لهم.
وذكر مدرسة الحقوق فقال: إن طلبتها الآن 358 طالباً منهم 263 مسلماً وقال إن الإقبال على تعلم الحقوق زاد منذ ست سنين. وقد نال شهادة الطب من المدرسة الطبية في القصر العيني 20 طبيباً وتقدم للدخول فيها 97 فقبل مهم 53 طالباً، قال اللورد: إن عدد الأطباء قليل وإن الأمة بقدر ما تستنير تشتد حاجتها إلى الأطباء.
وأشار في كلامه على مدرسة البيطرة إلى أن فيها 30 طالباً وفي كلامه على مدرسة العميان أنها آخذة في التقدم والعطايا تنهال عليها وأن فيها 27 طالباً داخلياً وانه اختلف إليها في السنة الماضية نحو عشرة أولاد كل يوم بصفة خارجية. وقال إن في مدرسة فيكتوريا في الإسكندرية 215 صبياً منهم 79 إسرائيلياً و79 مسيحياً و57 مسلماً.
وقال في كلامه على المعارف في السودان: إن في مدارس حكومتها 430 تلميذاً منهم 311 مسلماً و25 قبطياً و4 إسرائيليين وذلك ما عدا صبيان الكتاتيب، وإن قد أخذت تنشأ النتائج الحسنة من التعليم في السودان بعد أن رأى السودانيون أن منهم 37 رجلاً تخرجوا في مدارس الحكومة فاستخدمتهم بعد في أعمالها. وأشار إلى كلية غوردون في الخرطوم فقال إن تلاميذها قلائل وإن خطتها تنشئة معاونين مهندسين ومساحين وأن تكون فيها مدرسة ثانوية ومدرسة ابتدائية. وأصبحت المدارس الابتدائي الراقية في السودان ست مدارس فيها 762 تلميذاً. وفي مدرسة الصنائع التي هي فرع من فروع كلية غوردون 25 خريجاً يتعلمون الصنائع المختلفة. ويؤخذ من كلام جناب اللورد أن الكتاتيب الخصوصية للذكور ضعيفة جداً في السودان على رغم تنشيط الحكومة لها وتكلم على مدارس المرسلين في(15/60)
السودان وقال إن الحكومة السودانية لم تأذن لهم بإنشاء مدارس في الأصقاع السودانية المختلفة لأن الأهلين كلهم من المسلمين وغاية الأمر أنها ترخص لهم بإنشاء مدارس في الخرطوم حاضرة السودان لتكون هذه المدارس تحت مراقبة الحكومة ولأن فيها أولاداً لغير الطائفة الإسلامية. وعلى الجملة فإن القارئ يلاحظ معنا بعد تلاوة ما تقدم أن مصر والسودان يستحيل عليهما أن يبلغا في معارفهما مبلغ الحكومات الراقية في كثرة المتعلمين والمتعلمات قبل أن تمضي قرون إذا ظل العمل جارياً على هذا النحو في البطء.
آثار الأفغان
ذكرت إحدى المجلات الإنكليزية في الهند بحثاً لأحد رجال التاريخ والأثر كشف فيه الغطاء عن بعض ما اشتملت عليه أفغانستان من الشؤون التاريخية فقال إن أفغانستان تهم كلاً من الهند وفارس وإن اسمها كان على عهد خلفاء الإسكندر آري كما أطلق عليها آراشوزي وباروباميز ودارنجيان وكانت لها مدنية راقية وبعد أن انتقل منها العنصر اليوناني إلى بلاد الهند كانت كرسي مملكة الهند السيتية (السيت قبائل رحالة متوحشة كانت في الشمال الشرقي من أوروبا وفي الشمال الغربي من آسيا). وهناك اجتمعت أديان ثلاثة وهي المزدكية والبرهمية واليونانية. وإنك لترى إلى اليوم فرعاً من لغة الزاند سارية في لغة أفغان ومعظم أسماء المدن الحديثة من أفغانستان ورد في كتاب ديانة الفرس الأقدمين. أما كون بارسيس من المتشيعين لزرادشت في الهند استولى في غابر الدهور على بلاد الأفغان فذلك ثابت بما شوهد من أنقاض المعابد والحصون.
النساء والاجتماع
تكلم أحد الباحثين من الفرنسيس في مجلة العالمين الباريزية عن الأعمال التي تقوم بها النساء في فرنسا لتحسين أحوال بنات جنسهن فذكر من الجمعيات المفيدة اتحاد البيوت لمؤسستها الآنسة كاهيري فقال إن غايتها أن تلقي في ذهن أعضائها منذ سن الطفولية حب الإقدام والتبصر والتكافل وإن هذه الجمعية أقامت بيتاً يأوي إليه الأطفال من السنة الثانية ونصف إلى السادسة فيعلمون ما يعدهم لتلقي الدروس الابتدائية بعد ذلك من أسهل الطرق. وقد جرى العمل في هذا المأوى بمذهب فيبرل في التربية ومذهبه مؤسس على مبدأين عظيمين وهما تعلم الولد القراءة قبل أن يتعلمها في الكتب وأن يتعلم الرسم قبل أن يؤخذ(15/61)
بتعلم الكتابة. والأسرة تدفع عن كل طفل من أولادها أو بناتها عشرة سانتيمات في اليوم وإذا أرادت تعليمه الرياضة البدنية فتدفع عنه أجرة ذلك 25 سانتيماً في الشهر وتدفع خمسين سانتيماً عن كتب تقدم له في الشهر ومتى أحبت أسرته تعلميه الموسيقى تدفع عنه فرنكين في الشهر. ويتعلم البنات في هذا المأوى علم تدبير المنزل ويتلقين دروساً في الطبخ بحيث إذا أتقنها لا ينفقن أكثر من فرنك في اليوم عن كل شخص يراد إطعامه وإعالته. وهذه الجمعية تعلم ثمانمائة طفل ويجتمع آباء الأولاد وأمهاتهم كل شهر مع المعلمات المربيات ليتفاوضوا معهم في تربية أطفالهم. وفي سنة 1901 أنشئت في فرنسا أول مدرسة لتعليم تدبير المنزل أنشأتها امرأة من فضليات النساء وفي فرنسا اليوم خمسون مدرسة من مثل هذه فيها 1200 تلميذ وتلميذة منها خمسة في باريز ويعلم في كل مدرسة ما يلزم للمختلفين إليها من الذكور والإناث وما يلائم حالهم وشأنهم.
الذهب
كان المستخرج من الذهب سنة 1796: 900 مليون فرنك فصار سنة 1906 ملياراً و800 مليون فرنك.
إحياء الموتى
اخترع أحمد علماء الأمريكان الأستاذ بو آلة كالمضخة الطلمبة التي تستخدم لإملاء إطار الدراجة بالهواء بعد تفريغه منه وقال إنه يحيي بها بعض الحيوانات كالأرانب والكلاب والجرذان وقد أجرى بالفعل تجارب من هذا القبيل فأفلح في تجرباته ويقول إنه يتمكن بآلته من إحياء من يموت من البشر مختنقاً أو مسموماً ويحيي من يموتون تحت البنج ويمنع موت الأطفال اختناقاً عند الولادة ويعيد السكارى إلى صحوهم بعد خمس دقائق ويحيي المصعوقين بالكهربائية إلى غير ذلك من الأعاجيب التي قام بها بعد اشتغال 31 سنة ودهش لها العلماء وصفقت لها مجامعهم وأنديتهم.
محسنة أمريكية
روت جريدة الهدي النيويوركية أن العقيلة رسل ساج أرملة أحد كبار أغنياء نيويورك (خلف لها زوجها ثمانين مليون ريال) قد منحت اليوم 10 ملايين ريال اختارت لتوزيعها نخبة من أفاضل جمهورية أمريكا وفاضلاتها وجعلت غايتها: - (1) تحسين حالة بيوت(15/62)
الفقراء صحياً. (2) مقاتلة السل في نيويورك وأمهات المدن بتعليم المسلولين كيف يشفون بالعمل في الخلاء وأكل بعض المغذيات والامتناع عن المسكرات والتدخين وتعليم أهلهم كيف يتقون الداء. (3) إرسال أولاد الفقراء إلى البرية عند اشتداد الحر. (4) جمع فضلات موائد الأغنياء لإطعام الجياع. (5) مقاومة تدخين القاصرين. وتنوي هذه المحسنة إنفاق ما خلفه لها زوجها في مثل هذه السبل من أعمال الخير ونفع البشر.
الأعمال العقلية - قال الدكتور فلوري في بحث له في المجلة الفرنسوية إن الإقلال من الطعام هو خير ما تداوى به مِعَد أرباب الأعمال العقلية الذين يقضون الساعات الطويلة محصورين في غرف ضيقة يعملون أعمالاً تهيج أعصابهم وتثير قواهم وأدمغتهم وأكثرهم معرضون لوجع المفاصل وضعف المجموع العصبي. وقد أحصى الطبيب المشار إليه 33 رجلاً من أرباب الأعمال والأموال و26 من المستخدمين في الإدارات و21 طبيباً فلم يظفر من بينهم بغير 4 محامين ونقاشين ووكيل دعاوٍ واحد سالمين من الضعف مثل تعب الذاكرة وتشوش الفكر وضياع الإرادة والسويداء وقلة الهمة للعمل وغير ذلك. قال: وكل ذلك ناشئ في الأكثر من الإفراط في تناول اللحوم والخمور والالكحول والشاي والقهوة والدخان. وهو يصف لأرباب الأشغال العقلية إذا كانوا لم يصابوا بأعراض هذه الأمراض أن يقتصروا في الصباح على مائتي غرام من القهوة باللبن وقرصين بالسمن وعند الظهر أن يتناولوا قرصين بالسمن على شكل خبز ومئة إلى مئة وخمسة وعشرين غراماً من اللحم المشوي بدون صلصة وعلى بقول خضراء أو سلاطة مطبوخة وطعام من اللبن وكعكتين وفي المساء أن يتناولوا حساءً وفطائر أو بقولاً ناشفةً أو خضراء وفواكه مطبوخة وكعكتين بالزبدة وان يمتنعوا كل الامتناع عن الخمر والمشروبات الروحية على اختلاف أنواعها ويقللوا من القهوة.
آلة للعمى
يقال إن عالماً نرويجياً اخترع آلة توضع في عيون العمي فيبصرون ولكن لا بعيونهم كالمبصرين بل بتنبيه حواسهم.
سحب الحمولات
كان يجري النقل في أوروبا قبل اختراع السكك الحديدية على السفن في البحار والأنهار(15/63)
والترع وكانت الأجور التي تؤخذ عن النقل قليلة بالنسبة وقد عادت ألمانيا اليوم إلى استعمال النقل في بعضه أنهارها الكبيرة على السفن التي تسير بالكهربائية وتقطر معها عشرات من السفن فثبت لها أن مليوني طن من الأثقال تكلف أجرة نقلها بالكهرباء مثل ما تكلف بالبخار وإذا تضاعف هذا العدد تقلل النفقة عشرين في المئة ولذلك ستحذو أكثر الحكومات حذو ألمانيا.
واقي الحبوب
اكتشف أحد علماء فرنسا اكتشافاً يقي الحبوب كالقرطمان والحنطة والشعير والذرة وغيرها من الآفات التي تطرأ عليها فتغيرها فخدم باكتشافه الزراعة خدمة لا تقدر بثمن.
البحث في الأعماق
لم يتمكن الباحثون في أعماق المحيط إلى بلوغ أكثر من ثلاثة عشر متراً فإذا جاوزوا هذا القدر واضطروا إلى النزول إلى عمق أكثر يستخدمون المسبار وقد اخترع أحد المهندسين آلة يستعملها الغطاس فتمكنه من الوصول إلى السفينة الغرقى في قعر البحر وبها ينزل إلى عمق مئة متر بسهولة وقد جرب هذا المهندس هذه الآلة المعدنية 115 مرة فوفت بالغرض وتوفر على تجربة اختراعه خمس سنين فتم كماله أخيراً على ما يرام. وهذه الآلة تجدد الهواء من تلقاء نفسها بواسطة محركات كهربائية معلقة بها وتنير للغطاس طريقه بالكهربائية أيضاً.
النزلة الصدرية
ثبت لدى كبار الأطباء أن النزلة الصدرية تعدي كالسل والجذام وغيرهما من الأمراض وقد رأى أحدهم في لندن أن تصدر الحكومة أمرها إلى شركات السكك الحديدية بتطهير المركبات ونفض المخدات والمتكآت والمقاعد في عجلات الخطوط الحديدية بعد أن تسير مدة لأن جراثيم النزلة تعلق فيها لا محالة وقال إن المفرط في تناول الالكحول هو معرض للوقوع في هذا المرض أكثر من غيره وقال غيره إن المصاب بالنزلة إذا أقام في منزله خمسة عشر يوماً لم يخرج للناس يقل جداً المصابون بالنزلات الصدرية بقلة اختلاط السقيم بالسليم.
جمعيات التعاون(15/64)
عمت هذه الجمعيات أوروبا بأسرها ففي ألمانيا نحو ألفي جمعية من هذا النوع ومثلها في إيطاليا وفي الدانمارك ألف جمعية وللبلجيك من هذه الجمعيات أنواع وضروب نافعة وفي إنكلترا من هذه الجمعيات ألوف وأهلها ينفقون على البائس والفقير بألوف الألوف فقد قدر أحد كبار رجال الإنكليز العارفين إن الإنكليز أنفقوا على هذه الجمعيات 756 مليون فرنك.
اللحوم في فرنسا
في إحصاء أخير أن فرنسا تكثر في هذه الأيام من تناول لحم الخيل ويقبل أهلها عليه أيما إقبال فإنك ترى في كل مدينة لها بعض الشأن من مدنها مسلخاً لذبح الخيول وقد أكلت مدينة باريس في السنة الماضية أربعين ألف حصان أي ثمانية أضعاف ما كانت تأكل منه سبع سنين. ولحم الخيل يساوي نصف لهم الضأن وإذا روقب أمر تقديمه لا يضر بالصحة أصلاً كما تقدم في غير هذا الموضع.
ثروة الولايات المتحدة
لو وزعت الثروة في الولايات المتحدة على الأفراد بالتساوي لأصاب كل أمريكي 1235 دولاراً و86 سنتاً وفي الولايات المتحدة 125 ألف رجل يبلغ مجموع ثروتهم 33 مليار دولار فلو قسمت عليهم بالتساوي لأصاب كل واحد منهم 264 ألف دولار وفيها 1 مليون و375 ألف رجل يبلغ ثروتهم 23 مليار دولار فلو وزعت عليهم بالتساوي لنال كل شخص منهم 16 ألف دولار وفيها 5 مليون و500 ألف شخص يبلغ مجموع ثروتهم 8 مليارات و200 مليون دولار فلو وزعت عليهم بالتساوي لنال كل فرد منهم 1. 500 دولار وفيها 5 ملايين و500 ألف شخص يبلغ مجموع ثروتهم 800 مليون دولار فلو وزعت عليهم بالتساوي لأصاب كل واحد منهم 150 دولاراً فهؤلاء 12 مليون و500 ألف شخص من سكان الولايات المتحدة يستحقون أن يذكروا في التقويمات المالية العامة ويبقى 71 مليوناً من سكانها غير موجودين مالياً.
أصدر المستر ركفلر المثري تقريراً مثبتاً بشرف كلامه أن ثروته لا تتجاوز 300 مليون دولار وأن دخله السنوي من 15 مليوناً إلى 20 مليون دولار.
ومن الأغنياء المستر كارنيجي الذي تقدر ثروته بمبلغ 166 مليون دولار ومسزانلر واكر التي تقدر ثورتها بمبلغ 130 مليوناً ويليهما عدد كبير ممن تقدر ثورة الواحد منهم بمئة(15/65)
مليون دولار كفندربلت وغيره وكل هؤلاء عاملون على زيادة ثروتهم لا على تفريقها فهم يملكون المناجم والسكك الحديدية وأكثر الشركات التجارية وتقدر ثرواتهم مجموعة بمبلغ 40 مليار دولار حال كون الأموال المبذولة في سبيل الخير في الولايات المتحدة كلها تقدر بأربعين إلى خمسين مليون دولار وليست إلا مبلغاً جزئياً بالنسبة إلى دخل الأغنياء وليست كلها مجموعة منهم.
عن الهدى بتصرف.(15/66)
العدد 16 - بتاريخ: 15 - 5 - 1907(/)
تبذير الكبراء
الإسراف الغالب آفة من آفات الحضارة ولا إسراف إذا لم توجد حضارة وعلى نسبة حضارة الأمة وغناها يكون في الأكثر بذخها وإسرافها وإن شئت فقل إسراف أهل البسطة والغنى. مثاله ما نسمعه لهذا العهد عن ديار الغرب وإيغال الموسرين من أهله في الإنفاق على كل ما طاب وحلا وبهرج وزخرف فينفق الفرد في الشهوات والتبرج ما يكف لإعالة عشرات الألوف أعواماً. وتأتينا عنهم أنباء لا تكاد تصدق لولا تناصرها واتفاق المشاهدين لها عياناً على إثبات ما يقال ويروى. ولو استقريت تاريخ الأمم لرأيت الشيء الكثير من ذلك قبل ألوف من السنين وآخر من انتهت إلينا أخبار ترفهم الرومان واليونان لما بلغت الحضارة بينهم حدها.
وهذا الشرق أيضاً ما خلا في كل دور من أدواره من مسرفين كانوا إخوان الشياطين وإسراف اليوم يختلف عن إسراف أمس فإنه كان في غابر الأحقاب مقصوراً على رجال الدول والكلمة النافذة عند الملوك والسلاطين أما اليوم فالإسراف يكون من الرعاة والرعاية معاً خصوصاً بعد أن انتقلت الثروة إلى الأفراد. وتاريخ العرب لم ينقل إلينا سوى أخبار الأمراء والملوك وما عني المؤرخون بنقل أخبار الأفراد من الأغنياء ولذلك كان علينا إذا رغبنا أن نستشهد تاريخنا ونبحث في حالتنا الاجتماعية في القرون العابرة أن نقتصر على إيراد ما انتهى إلينا علمه من أخبار أولئك العظماء وهي لا تخلو من عبرة وتسلية.
خذ لك أمثلة لا تستغرب بعدها زوال الممالك الشرقية وتقرأ فيها نموذجاً من تفننهم في دورهم وقصورهم وأفراحم ومجتمعاتهم. فقد رأت الرميكية زوج المعتمد بن عباد الأندلسي الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي فيه فأمر المعتمد فسحقت أشياء من الطيب وذرت في ساحة القصر حتى عمته ثم نصبت الغرابيل وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين وخاضتها مع جواريها وغاضبها في بعض الأيام فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط قال ولا يوم الطين فاستحت واعتذرت.
ولما اقتعد ابن أبي عامر الذروة في أيام الحكم الأندلسي صنع قصراً من فضة لصبح أم هشام وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك وقامت بأمره عند سيدها الحكم وحدث الحكم خواصه بذلك وقال إن هذا الفتى قد جلب عقول حرمنا بما يتحفهم به.
وكان في دار القاهر بالله عشرة آلاف خادم من الخصيان ويفرق الضحية من الإبل والبقر(16/1)
أربعين ألف رأس ومن الغنم خمسين ألف رأس. وكان عز الدولة بن بويه متوسعاً في الإخراجات والكلف وكان يتناول أحد الموظفين بإيقاد الشمع أمامه ألف من في كل شهر.
ولما بعث ملك الروم يتوعد المستكفي بالله بالقتال استعرض عسكره فكان جملة العسكرة المصفوفة مائة ألف وستين ألفاً ووقف الغلمان بالزينة والمناطق الذهبية وكذلك الخدم والخصيان ووقف الحجاب وكانوا سبعمائة وزينت دار الخليفة بالمستور والبسط فكانت جملة الستور المعلقة ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج المذهب وكانت جملة البسط اثنين وعشرين ألف بساط وكان في جملة الزينة شجرة من ذهب وفضة تشتمل على ثمانية عشرة غصناً وأوراقها من ذهب وفضة وأغصانها تتمايل بحركات موضوعة وعلى الأغصان طيور خضر من ذهب وفضة ينفخ الريح بها فيصفر كل طير بلغته.
وحكى الصابي عن بعض الرسل قال: دعينا إلى باب مسعود يعني ابن محمود بن سبكتكنين بغزنة فشاهدنا بالباب أصناف العساكر وملوك جرجان وطبرستان وخراسان والهند والسند والترك وقد أقيمت الفيلة عليها الأسرة والعماريات الملبسة بالذهب مرصعة بأنواع الجواهر وإذا بأربعة آلاف غلام مرد وقوف سماطين وفي أوساطم مناطق الذهب وبأيديهم أعمدة الذهب ومسعود جالس في سرير من الذهب لم يوضع على أرض مثله وعليه الفرش الفاخرة وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت وقد أحاط به الغلمان الخواص بأكمل زينة ثم قام مسعود إلى سماط من فضة عليه خمسون خواناً من الذهب على كل خوان خمسة أطباق من ذهب فيها أنواع من الأشربة فساقهم الغلمان ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار فيه ألف دست من الذهب وأطباق كبار خسروانية فيها الكيزان وعلى كل طبق زرافة ذهب وأطباق ذهب فيها المسك والعنبر والكافور وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر واليواقيت وشموع من ذهب في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر تلمع لمعان النار وأشجار العود قائمة بين ذلك وفي آخر المجلس رحى من ذهب تطحن المسك والكافور والعنبر وفي جوانب المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر والعنبر والفصوص شيء بقصر الوصف عنها وذكر أشياء أخر تحير الأسماء والأسماع - قاله ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار.
ومما يعد في باب ترف الكبراء وسرفهم ما رواة المقريزي من أعذار (طعام الختان) بني(16/2)
ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي في الأندلس وكانت لهم دولة كبيرة وبلغوا في البذخ والترف إلى الغاية ولهم الأعذار المشهور الذي يقال هل الأعذار الذنوبي وبه يضرب المثل عند أهل المغرب وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق. وبوران هي ابنة الحسن بن سهل امرأة المأمون قالوا لما دخل إليها نثرت عليه جدتها ألف لؤلؤة من أنف ما يكون فأمر المأمون بجمعه فأعطاه بوران ثم أوقد تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون مناً (رطلاً) وقالوا أن المأمون لم يرقه هذا الإسراف وقال فيه. وأقام المأمون في معسكر الحسن سبعة عشرة يوماً يعد له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه وخلع الحسن على القواد مراتبهم وحملهم ووصلهم وكان مبلغ ما لزمه خمسين ألف ألف درهم وكتب الحسن أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد فمن وقعت بيده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها وأوعز إلى النوتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس بها أخريات نهارهم.
والمتتبع لهذه الأخبار يعثر منها على الكثير ولاسيما في أيام مباهاتهم وولائمهم وأعراسهم فقد روى المؤرخون أن أبا الجيش خمارويه بن طولون صاحب مصر لما زوّج ابنته أسماء للمعتضد بالله العباسي على صداق قدره ألف ألف درهم جهزها أبوها بجهاز لم يمل مثله حتى قيل كان لها ألف هارون ذهب وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وطائف مصر وأرزاق جنودها مائتي ألف دينار ويقال إن المعتضد أراد بزواجها افتقار الطولونية وكذا كان. وذكر ابن الأثير في حوادث سنة ثمانين وأربعمائة كيف نقل جهاز ابنة السلطان ملهشاه السلجوقي إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائها من الذهب والفضة وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا بقدر ما فيها من الجواهر والحلي وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجواهر ومهد عظيم كثير الذهب وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين والأمير برسق وغيرهما ونثر أهل نهر مغلى عليهم الدنانير والثياب وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيداً ثم أرسل(16/3)
الخليفة - المقتدي بأمر الله - الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون زوجة السلطان وبين يديه نحو ثلثمائة موكبية ومثلها مشاعل ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً وقال الوزير لتركان خاتون سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره فأجابت بالسمع والطاعة وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان يعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخليفة وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حي أن فيه ألف منّ من السكر وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر وأرسل إلى الخاتون زوجة السلطان وإلى جميع الخواتين وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك.
وهكذا كانت أعمال أولئك الرجال تصدر عنهم بلا روية ولا حساب لأن الرعايا والبلاد والثروة كانت لهم يتصرفون فيها بما يشاؤون وأين هذا الترف من ذاك الاقتصاد الذي أثر عن عمر بن عبد العزيز وقد أمر جليسه رجاء بن حيوة أن يشتري له ثوباً بستة دراهم فأتاه به فجسه وقال هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً قال رجاء: فبكيت قال: فما يبكيك قال: أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته وقلت هو على ما أحب لولا أن فيه خشونة وأتيتك وأنت أمير المؤمنين بثوب بستة دراهم فجسسته وقلت هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً فقال: يا رجاء إن لي نفساً تواقة تاقت إلى فاطمة ابنة عبد الملك فتزوجها وتاقت إلى الإمارة فوليتها وتاقت إلى الخلافة فأدركتها وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها. وقال: قوّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباءً وعمامة وقميصاً وسراويل ورداءً وخفين وقلنسوة.
بل أين ذاك الإسراف من زهد نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد(16/4)
اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ولقد شكت إليه زوجته الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له يحصل لها منها في السنة نحو العشرين ديناراً فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكذلك كان خليفته صلاح الدين يوسف بن أيوب فإن كان على كثرة فتوحه وبسط يده على ذخائر وكنوز عظيمة لم يدخر منها شيئاً وفرقه في وجوه المبرات وإقامة المعالم الخيرية حتى إذا لحق بربه لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري وأربعين درهماً ناصرية ولما بنى له أحد رجاله في دمشق قصراً مشرفاً بهجاً وبخه على عمله ولم يرض أن يسكنه لما أنفق عليه من النفقات الفاحشة.
وبالجملة فتاريخ الأمة ينعي على المسرفين أعماله كما ينادي بالثناء على المقتصدين من رجالها فإن جاء مثل ابن عباد وابن أبي عامر والقاهر والمستكفي والحسن بن سهل فقد جاء أمثال عمر بن عبد العزيز ونور الدين وصلاح الدين وكل منهم ذكر بعمله ولقي جزاءه في قصده وإسرافه.
الانتحار
سلامٌ على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما(16/5)
الانتحار وأسبابه
الانتحار قل النفس. ولا يعمد المرء إليه حتى تضيق به الدنيا أو تضيق به نفسه. ولا يبعث الإنسان على الانتحار باعث أشد من ضياع أمل له كان يعلل به قلبه أو نعمة زالت كان يمرح في نعيمها أو مال فقده على غير رغبة منه أو أسر وقع فيه وهو لا يرجو منه فكاكاً أو ذنب جناه ولا يرى له من الجزاء عليه خلاصاً أو غرام كوى فؤاده وهو لا يرجو أن يطفئ ناره بماء الوصال.
وهناك باعث أشد من تلك البواعث وأعني به سوء التربية ونقص التهذيب. فإن النفس الساذجة كالسيف البتار الذي أغفلته الصياقل أو كالحجر الكريم ولا يبدو بهاؤها حتى يزيل صدأه العامل الحاذق فيبهر الأبصار بنوره. والتهذيب يصقل النفوس ويظهر الفضيلة الكامنة.
وإنك ترى أخا الجهل إذا ثارت برأسه سورة الغضب ولم يكن الانتقام طوع بنانه أو أحب حباً أخذ برشده وغشى على بصيرته ولم ينل إربه أو فقد مالاً قليلاً تعب في الحصول عله يضيق به عقله ويقتل نفسه بيده.
الحكماء والانتحار
وأبعد الناس عن قتل النفس أهل الحكمة والعلم فإنهم يرون الانتحار جبناً وضعفاً في العزيمة ووهناً في الهمة. وهم إذا لم يبلغوا مناهم عادوا فأملوا وإذا زالت نعمة كانوا يرفلون في حللها قنعوا بآثارها وأن فقدوا مالاً فالمال أدنى ما يتطلبون وإن نالهم أسر علموا بان
لكل شيءٍ مدة وتنقضي ... ما غلب الأيام إلا من رضي
وهم أشد الناس إحجاماً عن الذنوب فأنى لهم أن يجرموا فيحتويهم القنوط؟ أريد بأهل الحكمة أولئك الذين نالوا من العلم منالاً كبيراً فأسفرت لهم الحقيقة وعلموا بخلود النفس.
الفلاسفة الماديون والانتحار
ومن المفكرين فريق لا يقول بالنفس والخلود ويرون إن الموت نهاية كل حي. وهذا الفريق يؤثر الموت على الحياة والفناء على البقاء ويرى أن الحياة شر وتعذب وفي الموت كل الراحة والهناء. ومن أنصار هذا الفريق فريق الماديين وهم يقولون بأن النفس بدعة لا(16/6)
وجود لها وإن الكون خلق من المادة. إنما توجد في الخلق الحياة بالحركة وغيرها من القوى الكامنة في المادة. ومنهم الدهريون القائلون بأن العالم أرحام تدفع وأرض تبلع.
وإن المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وإن أمر الإنسان في حياته موقوف على صروف الزمان. هؤلاء بأسرهم يقولون بتفضيل الموت على الحياة ويرون أن الحياة ذنب جناه الناس على النسل. وقد نشأت هذه المبادئ عند الفرس واليونان وغيرهم من الأمم التي أتى عليها الزمان. فلما أشرقت شمس الحكمة في الغرب وأينعت أزهار المدنية الحديثة قام من الغرب أناس يدعون إلى تلك المذاهب وألبسوها لباس الغلو الشديد. حتى حدث الحال ببعضهم أن أسسوا جمعيات بعد أن ائتمروا بينهم على الانتحار بالتعاقب فينتظم الفرد في سلكها على أن يقتل نفسه إذا انتهى إليه الدور وأصابته النوبة.
الجهلاء والانتحار
وترى الجاهلين وهم لم يسمعوا بالخلود ولم يعوا بأن لم نفوساً زكية لها بالخالق اتصال ولم يعلموا بمبدأ الماديين ولم يبلغهم مذهب الدهريين إذا سئموا تكاليف الحياة (وأي الرجال لم يسأم؟) عمدوا إلى نفوسهم فاختطفوها من بين جنوبهم وهم على يقين من أنهم يلقون عذاباً أليماً قائلين ولعذاب الآخرة خير لنا من تكاليف الأولى.
كتاب القصص والانتحار
يلعب كتاب القصص بالنفوس لعباً. ويندر أن تقع لك لا تنتهي بقتل نفس ليأس استحوذ على رجل أو حب أحدث في قلبه جنوناً. ولقد تنال تلك الصغائر من صغار العقول منالاً كبيراً فتمهد لهم السبيل إلى ارتكاب ما يرتكبون.
على أنه ليس في كتاب (ألف ليلة وليلة) وهو أشهر القصص في لسان العرب قصة تنتهي بقتل النفس. وقد يقاسي أحد أبطال ذلك الكتاب أهوالاً تشيب لها الولدان ولا يخطر على قلبه قتل نفسه.
وأخبار العرب في كتب الأدب وهي كثيرة غزيرة فيها أخبار الحرب والغرام والثأر والانتقام لا تجد فيها خبراً ينتهي بقتل النفس. إنما تسرب إلينا الاقتداء بإبطال القصص في قتل النفس من تلك القصص الغربية التي يتحفنا بها المعربون.(16/7)
فن التمثيل والانتحار
وإنك لا تشاهد رواية مؤلمة حتى تجد لقتل النفس فيها أثراً كأنه هو ما يعمد إليه الناس وقت ضيقهم وهم لا يعمدون إلى خالقهم أو يثوبون إلى رشدهم.
وأشد تلك الروايات في النفس وقعاً رواية (شهداء الغرام) وخلاصتها أن فتى يعشق فتاة. ويقف العداء في سبيل قربهما. ثم يحدث أنه يقتل قريباً لها فينفيه الملك فتحزن عليه حبيبته وتجرع كأساً ينالها بعد سبات عميق فيدفنها أهلها. ويأتي حبيبها إلى قبرها زائراً على غير علم بأنها لا تزال حية ترزق. وإذا ما رأى قبر حبيبته ورأى جمالها الفتان قد ذبلت زهرته يجرع سماً زعاقاً فيخطف روحه الموت الزؤام وتفيق حبيبته من سباتها فيأخذ بصرها حبيبها فتراه جثة خامدة قد أطفأ الموت شعلتها فتقتل نفسها.
وغير هذه من روايات شكسبير رواية القائد المغربي. فإنه تلحقه غيرته على امرأته من رجل غريب ويوقع بينه وبينها رجل من أهل الشر والفساد فيخدم أنفاسها. ثم يحصحص الحق ويدري بأنها بريئة وأن شرفه سليم لم ينله أذى فيقتل نفسه غيظاً من نفسه.
ومن روايات فيكتور هوجو رواية طبق الخافقين ذكرها واشتهر أمرها بين أهل الفضل والأدب اسمها (رويبلاس) وخلاصتها أن أميراً من أمراء الإسبان رأى أن الملك صائر إلى الزوال لأن الملك كان كثير التنقل والارتحال والملكة من ربات الجمال فأتى في بعد الملك بغلام من السوقة بهي الطلعة وقال إنه أخوه فأحلته الملكة محل الإكرام والتبجيل.
وأحب الغلام الملكة حباً مبرحاً هذب نفسه ولطف من خلقه وسما به سمواً كبيراً. ورأى رويبلاس الوزراء يوماً يتفاوضون فيما بينهم على مال المملكة فعنفهم فسمعته الملكة فأحبته وقربته إليها. ولما علم الأمير المحتال بذلك جمع بينهما تحت مدارع الظلماء على غير علم منهما بقصده ثم فاجأهما ووصم الملكة بوصمة العار وذلك لتتخلى عن الملك ويتفرد به. فعز الأمر على رويبلاس وخلع لباس الأمراء وقال إنك لقيت الملكة مع غلام من بطانتها ولم تجدها مع أمير يظن به وبها السوء. فذعر الأمير الكبير لفعله فأخذ الغلام بسيفه وقتل به الأمير ثم جرع السم فارتاعت الملكة وصرخت بملء فيها (رويبلاس) فيقول وهو يتضاءل بين يدي الموت:
مولاتي الرحمة والرضوان(16/8)
ثم يغلبه الموت على أمره.
قصيدة من الشعر
وحرام على حافظ إبراهيم أن ينظم قصيدة تهيج النفوس الساكنة وتحرك الشر في القلوب وتحمل من نالت منه الخطوب على أن يقتل نفسه إذا قال حفظ الله نفسه:
سعيت إلى إن كدت أنتعل الدما ... وعدت وما أعقبت إلا التندما
سلامٌ على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما
أضرّت به الأولى فهام بأختها ... وإن ساءت الأخرى فويلاه منهما
فهبي رياح الموت نكبأ واطفئي ... سراح حياتي قبل أن يتحطما
فيا قلب لا تجزع إذا عضك الأسى ... فإنك بعد اليوم لن تتألما
ويا عين قد آن الجمود لمدمعي ... فلا سيل دمع تسكبين ولا دما
ويا صدر كم حلت بذاتك ضيقة ... وكم جال في أنحائك الهم وارتمى
فهلا ترى في ضيقة القبر فسحة ... تنفس عنك الكرب إن بت مبرما
أكابر الرجال والانتحار
ولقد قام فريق من أهل الطب وقالوا بان الجنون أقوى أسباب قتل النفس. وعارضهم في ذلك آخرون وقالوا بأن من يحفظ التاريخ ذكر انتحارهم كانوا من أعقل الناس وأكبرهم نفوساً.
ومن هؤلاء الرجال العظام الذين سعوا إلى حتوفهم بأظلافهم وخطفوا أرواحهم بأسيافهم القائد القرطجني الشهير هنيبال فإنه بعد أن هزم جنود الرومان شر هزيمة عاد فأفل نجم سعده ورافقته الخيبة ولازم جنده الفشل وانهزم. فأوي إلى ملك يحتمي به ثم لم تطق نفسه أن تبقى على الذل فانتحر.
ومنهم كاتو القائد الروماني الشهير. وكان ذلك القائد من أنصار بومبيوس الذين يمتون إليه بحبل الصداقة والإخلاص وكان من المتألبين على قيصر العاملين على انخذاله فلما أخلفت الأيام ظنه وبات قيصر والنصر حليفه واندحر بومبيوس وأنصاره شق الأمر على كاتو وأبت نفسه أن يبقى على الضيم فطعن نفسه بخنجره طعنة أودت بحياته.
ومنهم أوتو القيصر الروماني الكبير الذي تألبت عليه جنود الألمان وردوه مخذولاً محسوراً(16/9)
فأبت نفسه العار واختار الصارم البتار. ووجد عليه أهل مملكته فقتل كثير منه نفوسهم حزناً وأسى.
ومن له إلمام بالتاريخ الحديث يذكر أن فريدريك الكبير بعد أن ظهر على أعدائه ظهوراً كبيراً عاوده النحس ولزمه الفشل وتألبت عليه ثلاث دول كبرى وتخلى عنه محالفوه فاحتواه اليأس ونال منه القنوط وعمد إلى الانتحار. ولكنه عاد فغلبته على أمره بقية عزيمة فيه وتحول عن قتل نفسه بنفسه.
نابليون لم ينتحر
ولا يسعنا إلا أن نذكر نابليون ذلك الملك الكبير صاحب الحروب والغارات ورب القتال الذي نال من الأمم ما لم ينله الإسكندر أو هنيبال فإنه بعد أن كان من أمره ما كان وأسرته إنكلترا مالكة البحار وقذفت به إلى تلك الجزيرة القصية التي يحيط بها بحر الظلمات إحاطة المطبق بالأسير وبقي فيها في ذل وانكسار تحت حكم رجل جاف الطبع غليظ القلب لا يعبأ بأكاليل النصر ولا تهمه تيجان الفخار ست سنين طوال لم يدر في خلده أمر الانتحار. فما أكبر تلك النفس في النصر والأسر.
انتحار المرأة
والرجال الذين يقتلون نفوسهم أكثر من النسوة اللاتي يقترفن الانتحار لأن الرجل أقرب إلى متاعب الحياة وهمومها وهو الذي يلقى آلام العيش ويذوق أصناف العذاب فهو الهارب الطالب الراغب الراهب الهالك النادب. وهو الذي يخوض غمار معترك الحياة فإما فائزاً منصوراً أو مخذولاً محسوراً.
أما المرأة فهي سيدة الرجل ومليكة قلبه يسعى ليأتيها برزقها وينصب ليصونها من الشقاء فهي أبعد منه عن مصائب الدهر وطوارئ الحدثان.
وإنك لترى أن النساء لا يعمدن إلى الانتحار فراراً من فقر أو هرباً من عار أو حرصاً على شرف من أن تناله يد الأذى أو حزناً على مال مضيع أو أسفاً على نصر عقد للأعداء لواؤه ولكن لحب دب في النفي دبيب الجنون في العقل أو غيرة نالت من قلوبهن ما تناله النار من الحطب.
وكأن المرأة لا تزال تخشى على جمالها من أن تذبل زهرته حتى بعد الموت فهي تقتل(16/10)
نفسها بما لا يمس حسن وجهها فتعمد إلى السم أو الغرق. وأشهر من قتلن نفوسهن من النسوة الملكة كلوبطرة. فإنها بعد أن مات عشيقها (انطونيوس) وأمست الدنيا في عينيها أضيق من سم الخياط عمدت إلى قتل نفسها. فدعت إليها وصيفة لها وقالت ألبسيني حلة الملك وضعي فوق رأسي تاج السلطان فقد آن لي أن أموت وكنت أهوى أن كون من الخالدات أما الآن فما أسهل الموت وما أحلاه وما أمر العيش وما أقسى الحياة. آه. . . إني أكاد أسمع صوت حبيبي وهو يدعوني إليه. وأراه يهم بنفسه فإذا رآني أسعى نحوه تبرق أسرته. ثم أخذت بالحية وقالت إلي أيتها الحية الفانية حلي عقدة حياتي. ووضعت بها على صدرها وحنت عليها حنو أم مرضع ففغرت الأفعى فاها كأنها تبسم لها ورضعت من ثديها ماء الحياة. . .
ولما جنت أوفليا عشيقة همليت عمدت إلى قتل نفسها فأرخت غدائر فرعها ووضعت فوق رأسها إكليلاً من الزهور وسعت إلى غصن شجرة على شاطئ البحر وجلست عليه وأخذت تهز بنفسها طرباً ما تهتز الطيور على الأغصان وهي تشدو وتغرد فلم يقو الغصن على حمل قدها وهوى بها فعانقها الموت على صدر الماء.
على أن هناك سبيلاً إلى الموت أيسر من السم والغرق. روى رجل أن فتاة سلكت ذلك السبيل قال: ودفعنا بالباب فهبت علينا من الحجرة روائح الأزهار وعطر الرياحين ونظرنا إلى الفراش فإذا به مثقل بالفل والياسمين والورد والنسرين. وبصرنا بالفتاة وهي بني خمائل الزهور وقد نامت ملء جفونها ولكن ورد خدودها لم يذبل فخلناه بعض الزهور الزاهرة.
الانتحار داء من أدواء المدنية
قال ابن خلدون: إن البداوة أقرب إلى الخير من الحضارة وسبب ذلك أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على(16/11)
نسبتها وما يحصل منهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد مما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها.
ونزيد على قول ذلك العالم الجليل إن في جسم الحضارة شوائب وأدواء البداوة سليمة منها. فإن أهل الحضر يجمعون في طباعهم بين الأنانية والاستئثار بالنفع والكذب والنفاق والسرقة فتنزع نفوسهم إلى الشر والفساد وأما أهل البدو فهم أبعد عن تلك العيوب والمثالب لأن الخيرات عندهم وافرة فلا يتسرب الطمع إلى نفوسهم ولا يجد حب الذات من قلوبهم مكاناً رحيباً.
وليس الانتحار إلا داء من أدواء المدنية الحديثة يلجأ إليه كل بائس ظلمه ذلك المجتمع الإنساني وأهمل شأنه وهو في حاجة إليه.
ولذا ترى قتل النفس يزداد رويداً رويداً في كل البلدان التي انتشرت فيها المدنية وهو على الأكثر في المدن الكبرى حيث معترك الحياة أشد باساً ونار الجهاد في سبيل هذه الحياة الدنيا أحمى وطيساً وعلى أقله في القرى الصغيرة وبين الفلاحين وحيث يجد كل إنسان عملاً يعمله هو. وحيث لا ترى المرأة تتبرج وتتزين فتأخذ بعقل الرجل وحيث لا حانات يأوي إليها الفتيان فيزيدون جنونهم بما لديهم من المال القليل وحيث الطبيعة ساكنة هادئة تشهد بجمال الخالق وقدرته وكماله.
هل الانتحار عدل؟
لا يستطيع الكاتب أن يبوح برأيه في أمر قتل النفس بعد أن بينه هذا التبيين ويجدر بالقارئ أن يحكم على الأمر بنفسه. وغير نكير أن الحياة كلها شر وأن الخير فيها صائر إلى الزوال. . . وإن ذوي المفسدة ينالون ما لا يناله أهل الخير والفضل. ونعم إن حب الحياة فطرة في الإنسان فهو لا يعمد إلى قتل نفسه إلا إذا بلغت به الهموم والأحزان أو الفقر والفاقة مبلغاً شديداً أو نال منه داءُ لا يرجى شفاؤه أو غرام مبرح منالاً كبيراً أو أبت نفسه الذل بعد العز. وتلك أمر ولا يعرفها إلا من يذوق مرّها لأن الشوق لا يعرفه إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها. ونحن نعلم أن أحد هذه البواعث يحدث في العقل جنوناً فيقتل المجنون نفسه. فهلا التمسنا عذراً للمجانين؟(16/12)
القاهرة
محمد لطفي جمعة(16/13)
الجباية في الإسلام
لفن المالية منزلة عالية عند رجال الدول لأنهم في أشد الحاجة إلى معرفه ليعلموا كيف يفرضون الضرائب على الأمة ولهذا عني به الأوروبيون فجعلوه من أهم الفنون التي تقرأ في أرقى المدارس الجامعة فمن درس هذا الفن واطلع على كتاب الخراج لأبي يوسف رآه جامعاً للأبحاث المالية في صورة مجلة مندمجة القواعد تكون أساساً لروح أموال الدول وبياناً لذلك أشرع بتعريف فن المالية وأذكر موضوعه وغايته فأقول:
فن المالية (هو عليم يبحث عن أموال الدول) وضع لوصف تلك الأموال وبيان نوعها وتكييف إدارتها. وغايته تعليم القواعد المقررة المأخوذة عن تجارب جرت لأخذ الأموال بالعدل وصرفها بالعقل على شرط أن تحفظ مصالح الأمة والحكومة معاً فالدولة التي لا تراعي قواعد هذا الفن لا يتيسر لها أن تحصل على الأموال الطائلة التي تلزم لحفظ حياة بلادها والذود عن حياض أمتها.
منشأ أموال الدول
ثبت بالاستقراء أن كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر سنة الكون في جميع الأمور وناموس عام يشمل الأشياء كلها وهذا القول يصدق على البشر والدول. ولما اخذ الناس يتكاثرون وينمون في الأرض أنشأوا ينقسمون إلى قبائل وعشائر وأصبح قويهم يطمع في التغلب على ضعيفهم فطرة فيهم منذ خلقوه ودأبهم في كل جيل. وهذا ما دعا كل فريق إلى الحذر من جاره أو الانتقام منه أو التعدي عليه فيتحاربون ويتقاتلون وينهب بعضهم أموال بعض ويعبثون بالسكان ويسبون النساء ويستحيون الذراري فيجعلونهم أذلاء صاغرين. وكان الدولة في تلك الأدوار عبارة عن هيئة تحفظ نفسها من تعدي القبائل والعشائر وتسعى لتكون على وفاق مع غيرها وتنشر لواء العدل وتحكم بالعرف والعادة معتمدة على الوجدان على حين كان لا فرق بين الحكومة والدولة من ثم يتضح أن أساس وظائف الحكومة وأهمها منع اعتداء الأعداء ونشر لواء العدل بين أفراد الأمة وكانت العادة إذ ذاك أن يتجهز أفراد القبيلة للحرب بسلاحهم وأموالهم بيد أنهم كانوا يتركون ما يغنمونه من الأموال والأراضي لرئيسهم وأعوانه جزاء شجاعتهم في الحرب وقيامهم بسنة العدل في زمان السلم وما هذه الأموال والأراضي المسلوبة إلا أموال الدولة الابتدائية وعلى هذا النمط كانت(16/14)
الأمم الشرقية في العصور المتقدمة توزع الغنائم على الأمراء والشجعان والرهبان وتأسر السكان وتزرع أراضيهم على أكتافهم. ولما ارتقت حكومات اليونان القديمة والدول الشرقية أذهن يوسعن نطاق بلادهن ويقوين سطوتهن فبنين بتلك الأموال وأولئك الأسرى المباني العظيمة والآثار الفخيمة التي لا تزال تدهش المتأخرين وظل هذا الناموس معمولاً بع وقاعدة من قواعد حقوق الدول المعتبرة في ذلك الحين إلى أن بزغت شمس الإسلام فتبين بطلان هذا القانون الواهي وجعل القائمون بدعوة الدين يكتفون بفتح البلاد وضرب الخراج على الأراضي والجزية على الرقاب ويتركون السكان أحراراً يتصرفون في أملاكهم كما يشاؤون كتاب الخراج ص 14 و20 وجاء فيه بالحرف قال عمر رضي الله عنه فأقر ما أفاء الله عليك في أيدي أهله واجعل الجزية عليهم بقدر طاقتهم تقسمها بين المسلمين ويكونون عمار الأرض فهم أعمل بها وأقوى عليها ولا سبيل لك عليهم ولا للمسلمين معك (ص: 82)
وغدت الدول الإسلامية وحكومات الرومان على ذاك العهد تصرف الأموال في توطيد دعائم الأمن والعدل وتسهيل سبل النجاح على أن الملوك والأمراء في الأجيال المتوسطة أخذوا يحصرون الأموال والأراضي بأنفسهم فصاروا يديرون الممالك بذاتهم وكانت أموالهم يومئذ عبارة عن دخل الرهبان بعد موتهم ريثما يعين غيرهم يضاف إلى ذلك دفائن الذهب والفضة المكتشفة وأموال من لا وارث يرثهم أو من قتلوا جزاء أعمالهم القبيحة وما يحصل من الحراج والمعادن وضرائب المسكرات والصيد وانتقال الأراضي بين الوارثين وعشور البيع والشراء والجزاء النقدي وغير ذلك فيتضح من ذلك أن الأموال المذكورة هي أساس الضرائب الجارية في البلاد المتمدنة الآن.
ولما اخترع البارود واستبدلت المحرقات الفاتكات بالجارحات واتحدت الأمم والشعوب جعلت الدول تتيه عجباً بعظمتها فأخذت يثير بعضها على بعض ويشن الغارات أعواماً مديدة حتى صارت الحكومة تنوء بأعباء الديون واضطرت إلى تحصين القلاع وتقوية الحدود واستخدام الجيوش المنظمة في زمن السلم دون الحرب وأنشأت تسعى في تزييد أموال الملة ليزداد دخلها وتسعى في رفاهيتها وسعادتها وتحسي أخلاقا وتهيئ الأسباب الكافية لهذا الغرض فاقتضى لذلك مبالغ طائلة.(16/15)
فتبين مما تقدم أن أهم وظائف الحكومة نحو الأمة حفظ كيانها من تعدي الأعداء في الداخل والخارج وهذا لا يقوم إلا بأحكام أسس العدل والحرية وتعميم المعارف وتوفير أسباب الزراعة وتنظيم الصنائع وتسهيل طرق التجارة وكل ذلك يحتاج إلى دراهم ولذلك أحق للحكومة أن تأخذ من الأمة أجرة قيامها بنشر العدل والأمن داخلاً وخارجاً براً وبحراً وليست هذه الأجرة إلا أموال الحكومة التي يحق لها تقاضيها من أفراد الأمة.
قال أبو يوسف: كتب أمير الطائف إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أصحاب النحل لا يؤدون إلينا ما كانوا يؤدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون مع ذلك أن نحمي لهم أوديتهم فأكتب إلي بريك في ذلك فكتب إليه عمر أن أدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاحم لهم أوديتهم وإن لم يؤدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحم لهم قال وكانوا يؤدون إلى النبي عليه الصلاة والسلام من كل عشر قرب قربة اهـ ص 40 وقال: فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدوا المسلمين وعوناً للمسلمين على أعدائهم فبعث أهل كل مدينة ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجلاً من قبلهم يتجسسون الأخبار عن الروم وعن ملكهم وما يريدون أن يصنعوا فأتى أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعاً لم ير مثله فأتى رؤساء أهل كل مدينة رسلهم الأمير الذي خلفه أبي عبيدة عليهم فأخبروه بذلك فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبو عبيدة يخبره بذلك وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج وكتب إليهم أن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بينا وبينكم إن نصرنا الله عليم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئاً اهـ ص 81 فتأمل!
كيف تطرح الضرائب
تبين مما فصلناه أن طرح الضرائب العادلة التي تطبق الأمة حملها (لا يكلف الله نفساً إلا(16/16)
وسعها) حق صريح من أهم حقوق الحكم والاستقلال ولا يخفى على من قرأ التاريخ أن الحكومات وقعت في ديون جسيمة وتداعت تحت أثقالها بسبب الحروب العظيمة التي امتدت أعواماً وشهوراً لعلل معقولة أو غير معقولة حتى اضطرت إلى تحميل الأمة الأجرة التي تقدم ذكرها مع تسوية ديونها من أجل حفظ كيأن الدول ولذلك عرف علماء هذا الفن الضريبة بقولهم: الضريبة ما أصاب كل فرد من أفراد الأمة من نفقات الحكومة بالنسبة لريعه الحقيقي.
فالضرائب يجب أن تؤخذ من أفراد الأمة بالعدل والإنصاف وشرط في أخذها النسبة مع صافي إيراد كل شخص وقد بذل الأوروبيون جهدهم في البحث فلم يروا غير ثلاث طرق يؤملون بها أخذ الضرائب التي لا مناص منها على قاعدة العدل والإنصاف ولكنهم قلما نجحوا فيما قصدوا له وأما تلك الطرق الثلاث فهي:
1 - أن يتبين أفراد الأمة إيرادهم ويعترفوا للحكومة بمداخليهم
2 - التحقيقات الرسمية
3 - الإمارات الخارجية
فبيان أفراد الأمة واعترافهم هو إجبار كل فرد على بيان حقيقة ريعه لينال نصيبه من النفقات اللأزمة للحكومة. غير أن هذه الطريق لا تكون سالمة لأن الناس يكرهون بيان حقيقة أموالهم مع ريعهم ولا يستثنى من ذلك إلا الإنكليز الذين حرموا على أنفسهم الكذب أمام حكومتهم فيما يترتب عليهم أداؤه لأنهم على ثقة من عدلها فلا تكلفهم مالا يطيقون ومع أن هذه الطريق أقرب للعدل من سواها فهي لا تكون عادلة عند جميع الأمم ويستحيل اعتراف المرء بحقيقة دخله إذا كان مقدار الضرائب فوق الطاقة.
وأما التحقيقات الرسمية فهي أن يدقق عمال الحكومة ويحققوا دخل عمال أفراد الحكومة ويحققوا دخل أفراد الأمة ومهما كان أولئك الموظفون متصفين بالعدل معروفين بالإنصاف بريئين عن الغرض والغاية لا يصدقون في تقديراتهم ولا يصلون إلى حفظ النسبة بين المكلفين ولذلك يصعب تحقيق العدل في هذا الطريق.
وأما الإمارات الظاهرة فهي أقل عدلاً من غيرها لأن الظواهر لا تكون حقائق وذلك باعتبار المنازل الجسيمة غير سديدة لأن الناس اعتادوا أن يتظاهروا بالمال والغنى(16/17)
ويضعوا أنفسهم في مصاف من لهم من الإيراد ما يساوي ملكهم وكذلك البخلاء المقترون ممن إذا رأيتهم حسبتهم من الفقراء المدقعين مثلهم كمثل البغال والحمير يحملون الفضة والذهب ويأكلون التبن والشعير فلو نظر لظواهر هؤلاء وفرضت الضرائب على تلك النسبة ظلم الأولون وتضررت الحكومة بخسة الآخرين.
ومع شدة عناية الدول المتمدنة بإيجاد واسطة لوضع الضرائب بالعدل لتعم كل فرد وتؤخذ منهم على نسبة واحدة لكي لا يكلف الضعيف بالكثير ولا القوي بالقليل لم ينجحوا حتى الآن. بيد أن سعيهم هذا جعلهم يقربون من العدل وكذا المسلمون في صدر الإسلام بذلوا قصارى جهدهم من أجل أن يعدلوا بين الرعية في حفظ النسبة بين الإيراد والضرائب. جاء في كتاب الخراج ص 20 فمسح عثمأن الأرضيين وجعل على جريب العنب عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى الرأس اثني عشر درهماً وأربعة وعشرين درهماً وثمانية وأربعين درهماً وعطل من ذلك النساء والصبيان. أهم وقال: حدثني الحجاج بن ارطاة عن ابن عوف أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مسح السواد ما دون جبل حلوأن فوضع على كل جريب عأمر أو غأمر لينال الماء بدلو أو بغيره زرع أو عطل درهماً وقفيزاً وأحداً ومن كل رأس موسر ثمانية وأربعين درهماً ومن الوسط أربعة وعشرين درهماً ومن الفقير اثني عشر درهماً وختم على أعناقهم رصاصاً وألغى لهم النخل عوناً لهم وأخذ من كل جريب الكرم عشرة دراهم ومن كل جريب السمسم خمسة دراهم ومن الخضر من غلة الصيف من كل جريب ثلاثة دراهم ومن كل جريب القطن خمسة دراهم.
وقال: ثم حمل الأموال على قدر قربها وبعدها فجعل على كل مائة جريب زرع مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي جريب مما بعد ديناراً وعلى كل ألف أصل كرم مما قرب ديناراً وعلى كل ألفي أصل من بعد ديناراً وعلى الزيتون على كل مائة شجرة مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي شجرة مما بعد ديناراً وكان غاية البعد عند مسيرة اليوم أو اليومين وأكثر من ذلك فتبين من هذا أن مراعاة النسبة للإيراد الصافي من الأمور التي يجب أن يعنى بها في طرح الضرائب.(16/18)
جباية الأموال
وخلاصة الأمر أن رجال الإسلام سعوا لجعل التكاليف متناسبة مع إيراد الأشخاص كي لا يظلم زيد بعمرو. وأما جباية الأموال فشرط فيها علماء هذا الفن أن تكون في زمان سعة المكلف بها فيحصل من الفلاح ضريبته مثلاً بعد أن يذري غلاته ويأتي بها للبيع لئلا يضطر للاستدانة بالربا. فيكون مكلفاً بالمال ورباه. ويتقاضى من أرباب المواشي بعدما تنتج وتدرج ويتمكن من بيعها حتى لا يستدين أيضاً وتؤخذ عن العقارات عندما تؤجر وم الصادرات والواردات عند دخولها وخروجها وأوصوا أن لا تجبى تلك الأموال قبل أوأنها فقال أبو يوسفكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أحد عماله على العشور في العراق والشام من مر عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئاً إلى مثل ذلك اليوم من قابل إلا أن تجد فضلاً_إلى أن فل. حدثني يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان وكان على مكس مصر فذكر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إليه أن انظر من مر عليك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم ومما ظهر من التجارات من كل أربعين ديناراً وما نقص فيجاب ذلك يبلغ عشرين ديناراً فإن نقصت تلك الدنانير فدعها ولا تأخذ منها وإذا مر عليك أهل الذمة فخذ مما يديرون في تجاراتهم من كل عشرين ديناراً دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير ثم دعها فلا تأخذ منها شيئاً واكتب لهم كتاباً بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول.
وقد شرط على الجباة أن لا يضايقوا الرعية لئلا تنفر من الحكومة وحددوا لهم زمأن الجباية فمن تأخر عن الدفع أنذره الجأبي بلطف يخجله فإذا تأخر عن إيفاء ما عليه بعد أنذاره أنذره ثانية بشدة ممزوجة بلين وإذا تأخر بعد ذلك أقام عليه الدعوى بالمحكمة ثم يوضع الحكم في دائرة الإجراء فتحصله هذه كسائر الديون بحسب القانون على شرط أن لا تمس كرامة المكلف بدفعها. قال أبو يوسف حدثني إسماعيل بن إبرأهيمبن المهاجر البجلي عب الملك بن عمير قال حدثني رجل من ثقيف قال استعملني علي بن أبي طالب رضي الله عنه على عكبراء فقال لي وأهل الأرض معي يسمعون: انظر أن تستوفي ما عليهم من الخراج وإياك أن ترخص لهم في شيء وإياك أن يروا منك ضعفاً ثم قال رح إلي عند الظهر فرحت إليه عند الظهر فقال لي إنما أوصيك بالذي أوصيتك به قدام أهل عملك لأنهم(16/19)
قوم خدع انظر إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفاً ولا رزقاً يأكلونه ولا دابة يعملون عليها ولا تضربن أحد منهم سوطاً وأحداً في درهم ولا تقمه على رجله في طلب درهم ولا تبع لأحد منهم عرضاً في شيء من الخراج فإنا إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني وأن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك. قال: قلت أذن ارجع إليك كما خرجت من عندك قال: وإن رجعت كما خرجت قال: فإنطلقت فعملت بالذي أمرني فرجعت ولم انتقص من الخراج شيئاً.
وقد منع عمال الصدقة الجباة عن قبول الهدية والصدقة قال أبو يوسف استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقال له ابن اللتيبة على صدقات بني سليم فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي قال النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا قعد في بيت أبيه وبيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته أما بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤي بياض أبطيه فقال اللهم هل بلغت.
ولما كان أمر جباية الأموال من أهم الأمور التي يجب تجنب الظلم والاعتساف وحفظ راحة العامة والخاصة قال أبو يوسف أن تتخذ قوماً من أهل الصلاح والدين والأمانة فتوليهم الخراج ومن وليت منهم فليكن فقيهاً عالماً مشاوراً لأهل الرأي عفيفاً لا يطلع الناس منه على عورة ولا يخاف في لومة لائم ما حفظ من حق وأدي من أمانة احتسب به الجنة وما عمل به من غير ذلك خاف عقوبة الله فيما بعد الموت تجوز شهادته أن شهد ولا يخاف من جور في حكم أن حكم فإنك إنما توليه جباية الأموال وأخذها من حلها ونجنب ما حرم منها أن يرفع من ذلك ما شاء ويحتجن منه ما شاء فإذا لم يكن عدلا ثقة وأميناً فلا يؤتمن على الأموال إلى أن قال: وقد يجب الاحتياط فيمن يولى شيئاً من أمر الخراج والبحث على مذاهبهم والسؤال عن طرائقهم كما يجب ذلك فيمن أريد للحكم والقضاء وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفاً لأهل عمله ولا محتقراً لهم ولا مستخفاً بهم ولكن يلبس لهم جلباباً من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم ثم قال: ولتصير مع الوالي الذي وليته قوماً من الجند من أهل الديوان في أعناقهم(16/20)
بيعة على النصح لك فإن من نصحك أن تظلم رعيتك وتأمر بإجراء أرزاقهم عليهم من ديونهم شهراً بشهر ولا تجري عليهم من الخراج درهماً فيما سواه وقال: تقدم في اختيار هؤلاء الجند الذين تصيرهم مع الوالي وليكونوا من صالحي الجند ومن له الفهم واليسر والنعمة منهم إن شاء الله تعالى ويستنتج مما تقدم أن مراعاة النسبة بين الإيراد وبين الضرائب من أهم القواعد الأساسية في فن المالية ويظهر للقارئ مما ذكر أن المسلمين في صدر الإسلام بذلوا طاقتهم من أجل تخفيف أثقال الضرائب عن الأمة كما يفعل القائمون بوضع الضرائب من العمال العالمين بقواعد هذا الفن في البلاد الراقية اليوم وكذا أقر العلماء أن الدولة لا تكون غنية إلا بشعبها ولا يغنى الشعب إلا بقلة الضرائب فمنع أبو يوسف طلب الزيادة في الخراج من المكلفين بعبارة طويلة ثم ختم كلامه قائلا في الزيادة هذا ضرر على أهل الخراج ونقص للفئ مع ما فيه من الإثم(16/21)
من أين إلى أين
من أين من أين يا ابتدائي ... ثم إلى أين يا انتهائي
أمن فناء إلى وجود ... ومن وجود إلى فناء
أم من وجود له اختفاء ... إلى وجود بلا اختفاء
خرجت من ظلمة لأخرى ... فما أمامي وما ورائي
ما زلت من حيرة بأمري ... معانق الأس والرجاء
أن طريق النجاة وعر ... يكبو به الطرف ذو النجاء
يا قوم هل في الزمان نطس ... يهدي إلى ناجع الدواء
لأي أمر هذي الليالي ... تأتي وتمضي على الولاء
فتطلع الشمس في صباح ... وتغرب الشمس في مساء
أرى ضياء يروق عيني ... ولست أدري كنه الضياء
وما اهتزاز الأثير إلا ... علالة نزره الجلاء
نحن على رغم ما علمنا ... نعيش في غيهب العماء
نشرب ماء الظنون عبا ... فلم نعد منه بارتواء
تأتي علينا مشاهدات ... نروح منهن في مراء
وكم نرى فعل فاعلات ... من القوى وهي في الخفاء
ياويلة الحس أنه عن ... حقيقة الأمر في غطاء
فإن أجزاء كل جسم ... مبتعدات بلا التقاء
وفي دقاق الجماد عرك ... يتهم الحس بالخطاء
يا قوة الجذب أطلقيني ... من ثقله أوجبت عنائي
لولاك لولاك يا شكالي ... لطرت كالنور في الفضاء
أنت عماد السماء لكن ... خفيت عن عين كل راء
ربطت كل النجوم فيها ... بعضاً ببعض ربط اعتناء
فدرن في الجو جاريات ... كانها السفن فوق ماء
نحن بني الأرض قد علمنا ... بأننا من بني السماء
لو كنت في المشتري لبانت ... أراضي سماء بلا امتراء(16/22)
فليس فوق وليس تحت ... ولا اعتلاء لذي اعتلاء
وإنما نحن فوق نجم ... نحيا محاطين بالهواء
فليت شعري أي ارتقاء ... للروح يبقى أي ارتقاء
وأنت يا كهرباء سر ... يدا وما زال في غشاء
عجائب الكون وهي شتى ... فيك انطوت أيما أنطواء
أضأت إن شئت كل داج ... إن كأنت الروح للبقاء
وكم تقاضاك فيلسوف ... حقيقة صعبة الأداء
فقال والقول منه ظن ... ما الكون إلا بالكهرباء
وليلة بتها أنادي ... نجومها أبعد النداء
أأخذ منهن بالتداني ... فكراً ويأخذن بالتنائي
فإنثنى باكياً بشعري ... ويطرب الليل من بكائي
وربما كر بعد وهن ... فكري فألفى بعض الشفاء
فأرجع القهقرى أغني ... وما سوى الشعر من غناء
أقول والنسر فوق رأسي ... وطالع النجم في إزائي
يا أيها الأنجم الزواهي ... لله ما فيك من بهاء
أما كفاك السنى جمالا ... حتى تجللت بالسناء
يا أنجم النعش فاصدقيني ... أمات ذو النعش بانطفاء
أني إذا كنت في حداد ... إليك أهدي حسن العزاء
وأنت يا نسر من كلال ... وقعت أم طلبة الغذاء
أخوك هل طائر لوكر ... أم قاصد منتهى الفضاء
كان أم النجوم سيف ... سل على الليل ذو مضاء
رصع متناه بالداري ... فراق في الحسن والرواء
كان نجم السها أديب ... في أرض بغداد ذو ثواء
كان خط الشهاب مدل ... لأسفل البئر بالرشاء
كانما أنجم الثريا ... في شكلها الباهر الضياء(16/23)
قفاز كف به فصوص ... من حجر الماس ذي الصفاء
برئت للموت من حياة ... ما نكبت مهيع الشقاء
لم يكفها أنها اجتياح ... حتى غدت حومة البلاء
يا أيها المترف المهنى ... يمرح في ثوب كبرياء
مهلا أخا الكبر بعض كبر ... ألست تقنى بعض الحياء
أنت ابن فقر إلى أمور ... بهن تدعى يا ابن الثراء(16/24)
أمريكا الشمالية
موقعها الجغرافي_تشغل أمريكا الشمالية القسم الشمالي من القارة الغربية وتحتوي على نحو سدس اليابسة من الكرة الأرضية وهي تقريباً مثلثة الشكل وشواطئها البحرية مسننة لعمق خلجانها.
سطحها_أن القسم الغربي من سطحها مرتفعات واسعة تخترقها سلسلة جبال عالية وهي تمتد بلسان طويل من برزخ تانتيبك إلى آخر إلى آخر شمالي غربي القارة.
مساحتها_مساحتها 9، 349، 741ميلا مربعاً وهي أكثر بقليل عن نصف مساحة قارة_أكبر قارة في العالم_وتبلغ زهاء ثلثي قارة أفريقية مساحة وأكبر من قارة أوروبا مرتين. وطولها نحو 5500 ميل وعرضها نحو 4500 ميل وهي ثالثة القارات اتساعاً.
جبالها_أعلى جبالها سانت ايلياس. وعلوه 18، 010 أقدام. وجبل أوريزابا وعلوه 8314 قدماً. وهذان الجبلان من سلسلة جبال كورديلراس. وهما ثانياً جبال الدنيا يعلوهما. فجبل حملايا في قارة آسيا يعلو عن سطح البحر 27000 قدم وهو أعلى جبال الدنيا وجبال القوقاس في أوروبا تعلو عن سطح البحر 178000 قدم وهي خامس جبال الدنيا بالعلو. أما الجبال الصخرية في أمريكا الشمالية فتخترق البلاد من البحر الشمالي من جنوب تخوم الأسكا إلى الجهة الجنوبية من أمريكا الجنوبية.
أنهارها_أشهر أنهار أمريكا الشمالية مسيسبي. ولورانس. ومكنكني. وهي أهم سائر شرقي الجبال الصخرية ويوكون وكوليدو. وكولومبيا ثلاثة أنهر مصدرها تلك الجبال وهي تصب في الأوقيانس الباسيفيكي. ومسيسبي من الأنهر التي تسير فيها السفن ومصدره في شمالي البلاد ومصبه في بحر المكسيك وهو أسرع أنهار التي أمريكا ويصب فيه نهر أوهايو ونهر ميسوري ونهر أركانسس. ونسبة نهر مسيسبي في أمريكا الشمالية إلى سائر أنهرها كنسبة نهر أمازون إلى سائر أنهار الدنيا من حيث العظم والكبر والطول.
ونهر الأمازون أعظم أنهار الدنيا في برازيل في قارة أميركا الجنوبية ومساحته 268100 ميل وهو ثاني أنهار الدنيا طولاً. فنهر يانيسي في سيبيريا أطول أنهار الدنيا طوله 3688 ميلاً وطول أمازون 3596
بحيراتها_عدد بحيرات أمريكا الشمالية عشر أشهرها وأعظمها خمس بحيرات هي سوبيرير ومشيغن. وهورن. واري. وأونتاريو ومن هذه البحيرة يخرج نهر سانت لورانس(16/25)
السابق الذكر
هواؤها_أعظم قسم من أمريكا الشمالية هو في المنطقة المعتدلة. وفي هذا القسم صحاري وحراج واسعة وقسم صغير منها في المنطقة المتجمدة حيث لا تعيش النباتات والمغروسات أو حيث تكون الأنجم والطحلب هي النباتات الرئيسية. وعلى الجملة فإن شمالي أمريكا الشمالية باردة كثيراً وهواؤها بارد معتدل في أقاليمها المتوسطة وحار في جنوبها حيث تجود الأشجار وتكثر البقول.
أمطارها_تهطل الأمطار تهطالاً كثيراً على الأقاليم غربي شمالي كولومبيا وعلى الأراضي الواطئة المحيطة بخليج المكسيك وبحر كريب وقلما تمطر في سلسلة جبال كورديلراس وفي الأقاليم الواقعة غربي المكسيك. أما سائر أقاليم هذه القارة فمطرها معتدل وكثيراً ما تمطر في فصل الصيف كما تمطر في فصل الشتاء.
أراضيها_أراضي أمريكا الشمالية جيدة جداً وفيها سهول واسعة وهي مخصبة. وقد بقيت قروناً عديدة قبل اكتشافها فصارت اليوم بهمة الجالية الأوروبية تدر على البلاد أخلاف الثروة واليسار وهي التي يصح القول فيها أنها أرض الميعاد التي تفيض لبناً وعسلاً.
حأصلاتها_البر والشعير والذرة والأنس والبطاطا والعنب والمشمش والدراق والخوخ والتين والموز والسكر والتفاح الذي لا نظير له في الدنيا بحجمه وجودته. والأرز والقطن والشاي وأكثر أنواع البقول.
حيواناتها_أكبر حيواناتها المفترسة النمر المخطط والدب والأغبر والدب الأسود والجاموس البري والغزال ودب القطب الشمالي والخيل والبقر والخنزير والغنم والمأعز والكلب والهر وغيرها وتبلغ الحيوانات التي لا توجد في بلاد سواها نحو ثمانين نوعاً وعدد الطيور فيها 362 نوعاً.
أما الوحوش البرية التي كانت تأوي الغابات والحراج فقد أنقرض أكثرها. وأصدرت حكومات الولايات الأوامر بانقراضها وعمر الأوروبيون المهاجرون معظم تلك الأرجاء.
معادنها_الذهب والفضة والفحم والقصدير والرصاص والماس والزمرد واللؤلؤ والمغناطيس. وهذه المعادن توجد بكثرة فيها وأمريكا الشمالية أغنى قارة في العالم بالمعادن ومعادنها الذهبية توجد بكثرة في كليفرنيا وهو الأقليم الذي يشبه الأقليم السوري في القارة(16/26)
الآسيوية من وجوه.
أقسامها_تقسم أمريكا الشمالية إلى ثمانية أقسام هي الولايات المتحدة والمكسيك التي استقلت تحت الحكم الجمهوري سنة 1824 وأمريكا المتوسطة وجزائر الهند الغربية وكرنيلاند وألاسكا ونيوفوندلاند. وتحكم سبعة أقسام منها الولايات المتحدة. أما كندا فتحكمها الدولة الإنكليزية.
حدودها_يحدها شمالاً الأوقيانوس المتجمد الشمالي وشرقاً الأقيانوس الأتلانتكي وجنوباً بحر كريب وبرزخ درايان والأقيانوس الباسيفيكي وغرباً الأقيانوس الأتلانتكي وغرباً الأقيانوس الشمالي المتجمد والأقيانوس الأتلانتكي والأقيانوس الباسيفيكي.
أنواع البشر القاطنة في هذه القارة_يقطن هذه القارة خمسة أنواع من البشر هي النوع القوقاسي وأصله من إنكلترا وجرمانيا وفرنسا واسبانيا وفرنسا وسائر ممالك أوروبا. والنوع الحبشي وأصله من قارة أفريقيا الجنوبية وهو يكثر في جنوبي الولايات المتحدة. والنوع المغولي وأصله من الأسكيميين وهم جيل من الناس يقيمون في بعض جهات الشمال من القارة والصينيون أتوا من الشرق الأقصى في آسيا وهم مقيمون غالباً في غربي البلاد في ولاية كليفرنا. والنوع المعروف بهنود أمريكا_سكانها الأصليين الذين كتبنا عنهم نبذة تقدمت هذه
أديانها_نشأت أديان عديدة للإنسأن في كل جيل وبلاد قطنها الإنسان وعمرها فمن البشر من عبد الشمس والقمر والنجوم والسيارات والأصنام وبعض أنواع الحيوانات. ومنهم من عبد الله جل جلاله. ومنهم من جعلوا أفراداً ممتازين ببعض المواهب العقلية آلهة فسجدوا لهم وعبدوهم. وقد قام الملأحدة ويقومون في كل زمن وقطر ومصر.
وتاريخ أديأن الجنس البشري متفاوت فتاريخ دين اليهود يرجع إلى أربعة آلاف سنة في أيام إبرأهيمالخليل في غربي قارة آسيا وهم يؤمنون بالسيد عيسى وإنجيله. وتاريخ دين النصارى إلى نحو خمسة آلاف سنة. وكان هؤلاء يعبدون بعض الحيوانات والصور والنقوش التي توهموا أنها كانت مقدسة. وتاريخ أهل الهند يرد إلى أكثر من أربعة آلاف سنة وكان الهنود ولا يزال أكثرهم يعبدون بزهم وفريق منهم يعبدون بوذاً. وتاريخ بوذا يرجع إلى نحو 2500 سنة. ويرد تاريخ الإسلام إلى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة.(16/27)
وما يقال في أديان سكان البلاد والقارات التي أشرنا إليها يقال في أديان قارة أمريكا الشمالية. فإن عبده الأوثان وهم في وكرنيلاند في شمالي البلاد وكلهم من الأسكيميين وعبدة الشمس والقمر وبعض الحيوانات وهم معظم هنود أمريكا. وفي هذه القارة البوذي والبرهمي والكافر والمؤمن والمحمدي والدرزي واليهودي والنصراني. والديانة العامة في هذه القارة هي الديانة المسيحية.
أما أديان أمريكا الشمالية فترجع إلى تاريخ أمريكا المجهول وتاريخ أديان سائر القطان وإذا اعتبرنا تاريخ أديانها منذ اكتشافها فيكون أربعمائة وأربع عشرة سنة. تنوعت المذاهب وتعددت المشارب في هذه البلاد ومع ذلك فليس للتعصب أثر فيها. فالحرية مباحة لكل دين من الأديان وأن المهاجرين السوريين ليأتونها من بقعة عريقة في التعصب إلى بقعة حديثة بالتساهل وقد حمل فريق منهم التعصب معهم إلى هذه القارة وأخذ هذا الفريق يتاجر بالأديأن فكانت ثمرات التعصب وتلك التجارة إهراق الدماء وخسارة المال وإهانة الاسم والسمعة.
الولايات المتحدة - أوماها نبراسكا
يوسف جرجس زخم(16/28)
التجارة والشهرة
من مقالة في المجلة الباريزية
ظهر كتاب في نيويورك مؤخراً اسمه طريقة الإعلانات الجديدة قال فيه مؤلفه أنه انتشر الولع بالسياحة في المجتمع الحديث فلم تكتف كل أمة أن تنعزل وراء تخومها عزلة تامة بل راحت تختص بعمل لا يشاركها فيه سواها. فإذا كأنت المانيا تؤثر كبار رجالها المعروفين وتوسد إليهم الأعمال العلمية وفرنسا تعلم أبناءها الصنائع على اختلاف ضروبها فإن أمريكا تسوق إلى مضأمير الأعمال وهي على ما يظهر موطن المشاريع الصناعية العظمى. وإنا لنميل كل الميل أن نحكم على الأمم حكمنا على الأفراد. نحكم عليهم حكماً مسمطاً في شؤون ليست فيهم على حين كان الواجب علينا أن نقدرهم ونضعهم في المنزلة التي يستحقونها. وقد يذهب بنا الاستقراء الناقص إلى أن نستنبط أن جارنا محروم من الأمر الفلاني. وما على الغريب عن أمة يريد أن يصفها حق وصفها إلا أن يضيف ما رآه إلى ما لم يره. فإن في الأشياء أبداً ما يعجب به ويحب. ولا شك أن الحاجيات بأسرها والنزوع إلى العلى قد أخذت حظها عند كل أمة مثال ذلك أن تشهد التفنن بالصنائع في أمريكا إلا أنك تراه على أتمه في مملكة أخرى وعلى وجه يخالفه كل المخالفة. فمن يطلب المصنوعات الفرنسية في أمريكا يسخر منه كمن يطلب إلى اللابوني أن يلبس ثياب سكان المناطق الحارة أو للنازل على مقربة من خط الاستواء أن يعد الأدوات لصيد الدب الأبيض من جواره.
يعيب فلاسفة الألمان على الأمريكي عدم اشتغاله بعلوم ما وراء الطبيعة وعلى العكس يعيب علماء النفس الأمريكان على أساتذة الألمان اكتفاءهم من العلوم بالنظر فيها إلى دون العمل بها. ويعيب المتفنن من الفرنسيين على الأمريكي كونه نفعيا على حين ترى الأمريكي يهزأ إذا نظر إلى ما في بلاد الفرنسيين من أثار التفنن والصناعة. قال الفيلسوف هربرت سبنسر: إن صاحب الفلسفة هو الذي يعرف الصلات التي يهتدي إليها عامة الناس.
وبعد فإن أمريكا توصف بأنها مهد الأعمال المالية والحركة التجارية والصناعية والإعلانات هي دليل على ما هناك من نشاط في الاتجار والصنائع. ومتى أوردنا لك بعض الأرقام يتبين لك أن القوم غريبون في أعمالهم. قال موسيوديسي: تنفق الولايات(16/29)
المتحدة في السنة خمسمائة مليون ريال أجور إعلاناتها. أي أن ما تنفقه يقرب مما تنفقه الدول الأوروبية العظمى كروسيا وألمانيا وفرنسا واسبانيا على جيوشها. وكأنت الولايات المتحدة تنفق هذا المبلغ سنة 1905 وبحسب التقدير الذي قدره عألمان آخران ارتقت النفقات من ستمائة مليون ريال إلى مليون ريال للإعلان عن مصنوعاته وها هو اليوم يصرف ألف ريال في اليوم على هذا الغرض. وتخصص المعامل الكبرى التي لبيع بالمفرق في مدينة نيويورك وحدها البريد زهاء أربعة ملايين ريال في السنة لنشر إعلاناتها في الصحف. وفي مدينة شيكاغو يستخدمون البريد لنقل قوائم بإعلاناتهم وقد صرف أحد أصحاب المخازن الكبيرة لإرسال طبعة واحدة من الإعلانات بطريق البريد 64 ألف ريال ومعظم الأجور التي يدفعها أرباب المحال التجارية والصناعية يؤدونها لأرباب المجلات لأن المجلة تبقى على المنضدة معرضة للأنظار نصف شهر أو شهر ريثما يصدر العدد التالي أما الجرائد تغيب عن الأنظار بعد الأنظار بعد ساعات من صدورها. تتقاضى إحدى صحف فلادليفيا وهي تطبع مليون نسخة ستة ريالات عن كل سطر من الإعلانات فتكون أجرة الصفحة الواحدة في اليوم ستة آلاف ريال وإذا خصصت بمحل تجاري واحد تؤجر بأربعة آلاف ريال. وهكذا الحال في جريدة العملة التي تصدر في أوغستا فإن أجرة السطر فيها خمسة ريالات وهده الجريدة تطبع مليوناً وربع مليون نسخة والمجلات تتقاضى في أمريكا عن الإعلانات أجرة أرخص من أجرة الجرائد لأنها أقل انتشاراً وأعظم مجلة تطبع في العالم الجديد 60335 نسخة فتأخذ أجرة كل صفحة خمسمائة ريال وكثيراً ما تكون نصف صفحاتها مشحونة بالإعلانات فقط وقد قدر ما تتقاضاه عشر مجلات كبرى في الولايات المتحدة فبلغ معدله السنوي 4، 130، 353 ريالا. وهكذا قل عن النفقات الطائلة التي ينفقها أرباب التجارة استأجرت ثلاثين ألف مكان لتعليق الإعلانات عشرة ريالات في السنة عن كل قدم مربع في إحدى ساحات نيويورك العظمى.
ويكون للتاجر من الرجل الماهر في التفنن بالإعلانات ذخر وأنفع عامل فينقذه راتباً مهماً. لذلك تدفع المخازن الكبرى التي تبيع بالمفرق في أمهات مدن أمريكا مثل نيويورك وشيكاغو الذي يحس صف البضائع في الزجاج يتقاضى أجرة مثل هذه مسانهة.(16/30)
قدر المقدرون أن متوسط ما ينفقه التاجر الأمريكي على الإعلانات من أصل أرباحه خمسة في المائة ومنهم من ينفق أكثر ومنهم من ينفق أقل. ويقتضي ذلك من التفنن وحسن الذوق شيئاً كثيراً ولما كانت أمريكا المثل السائر بغناها ترى الدراهم فيها تغدو وتروح من جيب إلى جيب كانها بانطلاقها دراهم ذاك الكريم المفتخر بقوله
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق
فالمرء بادئ بدء لا يرى حاجة ماسة لابتياع المصنوعات وبيعها إلا طمعاً في الأرباح الكثيرة ومباهاة بما لديه من عروض ومتاع وثروة حقيقة أو غير حقيقية ثم تصبح هذه العادة بعد من ضروريات الحياة. قال باسكال في كتابة (الأفكار): أكثر من الصلاة تكن تقياً. ويقول لسان حال التجارة: اجعل الزخرف والزينة ديدنك تغدو بطبعك مفنناً والذوق يحصل لصاحبه بسرعة.
قالوا أن التاريخ يعيد نفسه وهو قول صحيح فقد رأينا طبقة الإشراف في الغرب وهي في الأصل من أبناء أولئك البرابرة القساة والأمراء الغلاظ الجفاة في أوائل القرون الوسطى قد رقت طباع أهلها بالتعليم والتربية فالمال هو الذي يولي الشرف ويحسن الأذواق في الحقيقة. وأمر بديهي لأن حواسنا تتأثر في الغالب والعجب يورث الرغبة في الجمال وامتلاك ناصية الجمال تكون مادة للعجب.
خذ مثالاً لذلك رغبة القوم في أمريكا بالملاحة والظرف وتأثيرهما في عقولهم. فإن المخازن العظيمة التي تبيع بالمفرق في المدن الكبرى كنيويورك مثلاً يكثر الطلب عليها أيام الاثنين أكثر من سائر أيام الأسبوع. ذلك لأن الجرائد تصدر يوم الأحد طبعات خاصة من صحفها وتملؤها بالإعلانات وعلى العكس في يوم الجمعة فإن الأشغال فيه تكون في فتور حتى يعده التجار من الأيام التي لا حياة فيها ولا رواج لسلعهم. بيد أنه لم يسعهم إلا أن يتداركوا أمره بإعلانات جلبت الزبائن على مخازنهم فعد ثاني الأيام في منافعه التجارية وأنك لترى كثيراًت من ربات يغسلن غسيلهن ويقضين شؤون بيوتهن يوم الثلاثاء ليتمكن يوم الاثنين من الاختلاف إلى المخازن والانتفاع بما جعلته للزبون في ذلك اليوم من الأمتيازات.
ولو شئنا تعداد ما يأتيه الأمريكان من ضروب الاحتيال في الإعلانات لضاق المجال فإن القوم يعتبرون الإعلانات من أدوات النجاح النافعة شهدت بذلك العادة والحس مثال ذلك أن(16/31)
القوم في الولايات المتحدة يصرفون كميات وافرة من الكعك بحيث يحشى أن ينسوا استعمال الخبز فيما بعد. فكان من رغبة الناس في الكعك يباع بالمفرق منذ بضع سنين بأن يوضع عند البدال في صناديق وبراميل مفتحة ويجعل الواحد تلو الآخر فيجئ الزبون يجس الكعك ويذوق قطعة منه ثم يشتري أو ينصرف. فإذا أراد أن يشتري يتناول البائع الكعك بأصابعه في العادة ليضعه في الميزان ويكون قد وزن فيه من قبل سكر أو بن أو ملبس ثم يأخذ فيضعه في كيس الورق. وأنت خبير بأن تنأول الكعك على هذه الصفة فيه ما فيه من الأضرار بالصحة والقذارة التي تؤدي إلى القرف وهي منافية للذوق قليلة السرعة والغناء. خل عنك بأن الكعك إذا ظل على الدوام معرضا للهواء يفقد طراوته وقضمه. على أن الناس لم يشتكوا من هذه الطريقة.
وكان من الإعلانات أنها هي التي سدت الخلل وأصلحت الحال. غدا التاجر الأمريكي لا يكتفي بأن تكون بضاعته أحسن بضاعة بل اقتضى عليه أن يؤثر في أذهأن العامة ويحملهم على ابتياع ما لديه والاعتماد في تنأول حاجتهم عليه. فمن ثم كان التاجر أن يشفع جودة بياعاته بفوائد لم يكن للمبتاع على بال اجتناؤها وأخذ الباعة يتفننون بكعكهم حتى أدت الحال إلى أن يباع الأن في رزمة وزنها محدد. فترزم أولا في ورقة غليظة صحية تنفذ إليها الرطوبة والهواء ثم يوضع هذا المغلف في علبة من المقوى على شكل لطيف وتلف تلك العلبة بورقة أيضاً وترسم عليها علامة المعمل واسمه. وبهذه الطريقة أصبح الكعك في أمريكا آمناً من الجراثيم الضارة والغبار الملوث يحفظ بحاله طويلاً ولا ترقد فيه القطط في الليل كما كان من قبل وأخذ الباعة يبيعون منه كميات أوفر. وتبأرى الباعة في هذا التفنن حتى لا يتخلف أحد عن صاحبه ولا يقطع البائع المتفنن على البائع الخامل رزقه وما الداعي إلى كل هذا إلا الرغبة في الإعلان.
ولم يقف الأمر في أمريكا عند حد بيع الكعك على هذه الصورة بل أنه تعداه إلى السكر والبن والملح والفلفل والأرز وغيره. وربما بيع الخبز بعد الأن في ورق خاص به لا تمسه يد ولا تراه عين ولا تؤثر فيه عوامل الحرارة والبرودة. وهكذا تدخل روح الترتيب والنظام والنظافة حتى إلى أفقر بيوت الأمريكيين مما يعد خطوة عظيمة في طريق الاتجاه صوب الولوع بالجمال واختيار الأحسن من كل شيء.(16/32)
ومن فوائد الإعلانات أنها نفعت في بيع الثياب الحاضرة الجاهزة فكان بعض الأمريكيين ومنهم الفقراء فقط يلبسون من قبل ألبسة حاضرة ويعمد بعضهم إلى الخياطين لأن مقادير أجسامهم تختلف بعضها عن بعض وقد لا يوأفق الاكتساء بالأقيسة المعتادة فقام أحدهم وأنشأ معملاً لصنع الثياب الحاضرة من جميع أنواع الطول والعرض والهندام وتوصل بواسطة الإعلان عن محله بالجرائد والمجلات أن أقبل الناس عليه لأن قيمة الثياب الحاضرة تفرق عن التفصيل نحو النصف فإذا وجد كل إنسأن القياس الذي يطلبه يفضل أخذ بدلةثم ما زال ما كان علق في الأذهأن القوم من أن الألبسة الجاهزة لا تلاءم كل جسم وغدا معظم أهل أمريكا يبتاعون الألبسة المهيأة على الأيام ذاك الوهم الذي غرسه الخياطون وغيرهم.
وكان من رخص الثياب في أمريكا أن غدا الأمريكيون غاية في نظافتهم ولبسهم الجديد من الثياب. وحدث أن أحد الأمريكان نزل إلى مدينة هامبورغ في ألمانيا فقال لأحد رفاقه عجبت من أهل المدينة كيف لا يوجد فيهم غني يلبس بزة جديدة. ذلك لأنه رأى القوم يلبسون ثياباً لا تماثل في نظافتها وحسن نظامها ما يلبسه سكان المدن الأمريكية وبهذا عرفت أن الأمريكيين فاقوا الأوربيين في ولعهم باتخاذ الجميل من كل شيء وإن كان هذا الخلق فيهم قديماً في الأوربيين. ومثل ذلك قل عن الأثاث والرياش في المساكن فإن الأمريكأن يستجدونها ويستجدونها. وارتأى كثيرون من مراقبي سير الإعلانات أن ما كان منها منظوماً يفضل على المنثور لأن العامة تطالعها برغبة وينظرون فيها إذا كانت شعراً ولو عامياً أكثر من نظرهم في غيرها. ومن الناس من يقول أن الإعلانات كثيراً ما جلبت ضرراً لأن القارئ بما فيها ويكون فيها مبالغة أو خديعة فيبتاع السلعة أو الشيء فيبخس أو يغبن وأنها كثيراً ما أتت بما لا تحمد مغبته.
ولكن القائلين بالاستكثار من الإعلانات يقولون أبداً: أن لكل سبب من أسباب العمل سلاحاً ذا حدين وذكاءنا أيضاً نصرفه في الشر كما في الخير. فلا داعي إذا لتعنيف المعلنين بحجة ما في إعلاناتهم من الخطاء. وليس من العقل أن ينبذ الدين والأدب بحجة أن هناك ناساً من المنأفقين المخادعين كما لا يجوز بحال أن يزهد في سهام المصارف (البنوك) لأن في بعضها تدليساً وغشاً.(16/33)
قيل لخياط في فيلادلفيا أنك تغش الناس بما تنشره من إعلاناتك التي تخالف أكثرها حقيقة الواقع فقال: أن في هذه المدينة مليون فلو خدع بما أعلنه عشرة في المائة منهم وأكثرهم بله مغفلون وتيسر لي أن القي في شرك احتيالي عشرة في المائة منهم أي عشرة آلاف نسمة فإنا في سعة من العيش وبسطة من الغنى. وفاته أن من خدع مرة لا يرجع ثانية في الغالب. وأحسن طريقة لدفع الغش عن القراء أن يجعل أرباب الصحف والمجلات أجوراً غالية على الإعلانات التي يلحق عليه إدارة الجريدة من مالها لأنها هي التي كأنت السبب في خديعته.
العامة وضعاف العقول يخدعون في العادة بكل ما حوت الإعلانات. والعامة أكثر الناس. ويليهم في الانخداع النساء ثم العملة. على أن العامة يقل عددهم في أمريكا لشيوع التعليم فيها فيقل لذلك المنخدعون بالإعلانات الساقطة يوماً بعد آخر. قال المسيو بوأنكره في كتابه (قيمة التعليم) وهو الكتاب الذي اشتهر بين الخاصة والعامة: لا يعرف كم نفع البشر الاعتقاد بعلم الفلك. فإن قدر الفلاح لكبار وتيخو براهي فذلك لإنهما كانا يروجان على السذج من الملوك أخباراً من المغيبات يبنيانها على قرانات الكواكب. فلو لم يكن أولئك الأمراء على جانب من التغفل يصدقون بما يلقى عليهم لكنا بقسنا إلى اليوم نعتقد أن الطبيعة تابعة لهوى النفوس وظللنا نتسكع في بيداء الجهالة. وهذا القول ينسج مثله على منواله فيقال: لو لم يكن للأمريكيين رغبة في اكتساب المال ولو لم يتنافسوا فيه ويتفاخروا في إحرازه ولو لم يكونوا متعجرفين ربما كنا رأينا القوى السامية في الإنسان تسقط في المزاحمة مع القوى العملية النافعة الصرفة في جنسنا الإنساني وكنا نسير الشؤون المادية على وجه سمج.
فالصنائع هي زخرف الحياة ولا يكون الزخرف إلا مع الغنى ولا يحصل الغنى في هذه العصور الديمقراطية البعيدة عن العبودية إلا بالتفإني في اصطياد الدرهم والدينار وقد ينتج من شر كبير خير كثير ومن الولوع بالمال في الاتجار بالأدب والفنون.(16/34)
نظام الأكل
معربة عن مبحث للدكتور فلوري في المجلة الفرنسوية
سوء الهضم أكثر الأمراض انتشارا ولاسيما في الطبقة المستنيرة من الناس ومسبباته كثيرة فليست أسبابه الأخلاقية هي الغمم والملل فقط بل الاهتمام بالأشغال والأعمال.
وإذا تيسر للمصاب به أن يسلي نفسه ويبدل محيطه الذي يعيش فيه وأن يستحم في حمامات البحر والنهر وأن يصرف زمناً في الخلاء يزول هذا المرض مؤقتاً ثم يعود إلى حالته عند عودة صاحبه إلى معاطاة أعماله.
ولطالما نصح الطبيب للمصاب بسوء الهضم أن يتخلى عن أفكاره ويتناسى ما يشغل ذهنه ولكن هذه النصيحة قلما عمل بها إلا إذا كان في خلال الطعام. ولقد أبان بافلوف الفسيولوجي الروسي المشهور أنه ينبغي تنأول الطعام بسرور ليجود الهضم. فإذا كان صاحب المرض مشتت البال وقضي عليه أن يتناول طعاماً لا طعم له ولا لذة فيه لا يسيل اللعاب وعصارة المعدة ولا يعمل الهضم عمله وعلى العكس إذا استحسن المصاب به صحفه من الطعام فإنه يسيل لعابه في فمه وتحسن عصارة المعدة ويتم الهضم بسهولة.
يقولون أن الطاهي إذا أجاد الطبخ يحمل الآكل على أن يتناول من الطعام فوق حد الكفاية وهذا غلط فإن الناس لا يفكرون بأن أمثال هذا الطاهي ينتفع بغفلة المصاب بسوء الهضم ويستدعي سيلأن اللعاب والعصارة. وينبغي أن يكون تام النضج على أن ذلك لا يكفي إذ الواجب على الآكل أن يتنأوله كما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. وإن معاشر الناس بأسرنا نأكل أكلاً رديئاً أي أن طريقتنا في تعاطي الطعام ليست صحية فلا نرى حرجاً في الإسراع بتنأول كمية من الطعام على المائدة.
وجوب التمهل في تنأول الطعام
من الآفات المنتشرة كثيراً تنأول الطعام بسرعة فإن الوقت يقضي على بعض الناس أن يسرعوا في خضمهم وقضمهم لأن دواعي أعمالهم تبعثهم على ذلك وبعضهم وهم أهل المزاج العصبي يعجلون في جميع الأعمال ويستحيل عليهم أن يقوموا بالتأني في معاطاة عمل لهم فترأهم يقضون أعمالهم كلها بسرعة ويصدم حركاتهم بعضها بعضاً وتأخذ أفكارهم بعضها برقاب بعض ترى كثيرين منهم من إذا حفزتهم الشهوة للطعام وجلسوا إلى الخوان(16/35)
يشعرون بحاجة شديدة لتنأول الأكل فيزدرونه ازدراداً دون أن يجعلوا في وقتهم متسعاً للمضغ وقصارا هم أن يخضموا طعامهم مسرعين. كانهم يرون الغذاء ضرباً من ضروب السخرة فيأبون التريث والتلكؤ فلا يكاد يفرغ ما بين أيديهم من الصحاف حتى يطلبوا غيرها بإلحاح وسرعة.
وقد أطلقت اللغة ألفاظاً منوعة على الأكولين من مثل الاشتراط والنهم والشره أما الطبيب فإن هذه الأسماء تتساوى في نظره ويراها كلها بنتائجها فإن النهم وسرعة تنأول الغذاء على اختلاف حالاتها تؤول إلى نتيجة واحدة من تشويش الصحة. ذلك أن العصارات الهاضمة لا تؤثر التأثير الحسن في الأطعمة التي لم يحسن مضغها فإن الغذاء يتخمر ويحدث اضطرابات وبروزاً فاسداً وهي من الأسباب الفعالة في حدوث داء المفأصل.
تزول هذه الاضطرابات بأسرها إذا عقد المرء العزم على أن يحسن المضغ بالتدريج وقد نصح الدكتور فلتشر الأمريكي بإجادة المضغ على مهل وبتقليب اللقمة بحيث تستحيل كالمرق وتنعم وتمتزج باللعاب أي امتزاج ومن رأيه أن يبقى اللبن والحساء والخمر وكل شراب مغذ مدة في الفم قبل البلع. واللقمة إذا جزئت وطحنت على هذا النحو تصبح كالمادة القلوية باللعاب السائل. وقد قال فلتشر أن هذه القلويات ضرورية لهضم الطعام ومما ينفع في هذا الاستعمال الفواكه الحامضة مثل التوت الإفرنجي (فريز) والريباس (عنب الثعلب). وقد تبين له أن الهضم سهل بهذه الطريقة فقلت جراثيم الأمعاء ولم يبق فيها غازات ولا فساد وقلت رائحة المواد البرازية وبقيت في الأمعاء مدة أطول وقل مقدارها وتقلصت الأمعاء. والمتمهل في طعامه يشعر بزيادة المسرة عند الغذاء وتطيب نفسه لتنأول طعام بسيط ويتبدل سير صحته فلا تعب في الجسم ولا في الفكر غب الطعام ولا وجع في ولا أوجاعا مجهولة وتقل أعراض الرثية والنقرس بل تزول وهكذا الحال في ضعف المجموع العصبي فإنه يتبدل ويبتهج صاحبه ويحسن نظره في المستقبل. لأن جميع هذه الأعراض السيئة وكثيراً غيرها هي ولا جرم ناشئة من تسمم الإنسان بيده من الطعام فوق طاقته على طريقة مختلة. وأن كثيراً من الأمراض المزعجة لتحدث من ذلك فإذا جاد المضغ وحسن تنأول الطعام لا يحدث من سواء أثرها ما يحدث. فليس من الضرورة لمن أراد الاحتفاظ بشبابه أن يملأ معدته كما قال الأستاذ متشنكوف باللبن الرائب أو بحسب رأي القائلين(16/36)
بالتغذية بالنباتات أنت يمتنع الإنسان عن أكل اللحم بل يكتفي المرء بأن يحتاط لنفسه احتياطاً وأحداً وذلك بأن يمضغ بتأن فإذا فعل ذلك يسعده الحظ فيعمر مئة سنة.
نعم أن تحمس أتباع فلتشر لا يخلو من غلو فقد أبان جأن فينوفي كتاب فلسفة طول الأعمار أن أحسن ما يداوي به المرء ليبلغ أقصى حدود الشيخوخة أن لا يكون فقط معتدلاً في كل شيء بل أن يكون من أسرة معمرة يبلغ أفرادها المئة سنة. وقد اعترف الأطباء في كل عصر بضرورة أطالة المضغ ليكون الهضم أصوله. وأنت ترى أن فلتشر لم يأت أمراً جديداً بل جعل من هذه الوصية الشائقة لجميع المصأبين بسوء الهضم قاعدة يسيرون علها وسنة يتبعونها.
وقد أثبت المستر ستيدان أستاذ الفسيولوجيا في كلية بال الأميركية قدر هذه الوصية فأخذ ينظر بالدقة في طعام الأساتذة والتلاميذ والجند وقسم جراية كل إلى نصفين وجرب ذلك بالدقة وأخذ يسجل على وجه الصحة ما يدخل الجوف وما يخرج منه. فتوصل أقوياء البنية بمجرد تنأولهم الطعام بتأن أن يهضموا هنيئاً مريئاً نصف الطعام وأحياناً ثلثيه وقللوا خصوصاً من معدل لأنه هو الغذاء الذي يهيج بالأكثر تركيب التو كسين فقويت أجسامهم ونشطت وحالفتها البهجة وأخذوا يتمتعون بصحة أجود من صحة أخوانهم الذين لم يسيروا على سيرتهم.
ينبغي تقليل كمية الغذاء
أن لا نسرع في تنأول الطعام بل نكثر أيضاً من تنأوله فإن هذين النقصين متلازمين بالضرورة. ولا بد لمن يسرع في تنأول أكله أن يتناول كمية كبيرة من الطعام لأن جزءاً من طعامه لا يهضم وكلما أكل زادت شهوته ونهمه ولا تنتهي به الحال إلى الشبع. ولقد عرف القدماء مضار الإكثار من الطعام فضربوا لذلك الأمثال فاشتهرت عنهم وكان أول مؤلف أشاع ذلك بين الملأ ودعا إلى عدم الإكثار من الطعام لويجي كورنا رو (1467_1566) فإن هذا الشريف البندقي (نسبة لمدينة البندقية) بعد أن قضى سبابه في الفسق طفق في الأربعين من عمره عقيب مرض شديد عراه يجري على ترتيب مدقق في معيشته على نحو ما يجري الرهبأن النساك فأخذ يقلل كل يوم كمية طعامه شيئاً فشيئاً بحيث أنزله إلى 340 غرأما من الطعام الجامد و400 غرام من الخمر ونصب له ميزاناً(16/37)
يتحقق به ما يدخل معدته وما يخرج منها. وهكذا تقدم هذا السري غيره يقرون في الأقلال من الطعام ولكنه لم يذكر الطريقة التي كان يمضغ بها فقويت بذلك صحته كثيراً وفي السبعين من سنة حدث له حادث مربع من عربة فقضقضت أعضاؤه وتهشمت جمجمته فحكم الأطباء بأنه هالك لا محالة ولكنه لم يلبث أن شفي. ولقد أراد أن يزيد طعامه بعض الشيء فمرض وعاد إلى التقشف في أكله ولم يعد يغضب ووجد راحة في فكره وأصبحت أخلاقه دمثة وحالته إلى النشاط والبهجة. وفي الثالثة والثمانين من عمره وضع كتاب ذكر فيه الطريقة التي ينبغي الجري عليها لتطول الحياة بلا أسقام ونشر أيضاً ثلاثة مصنفات في هذا الموضوع ومات في السابعة والتسعين وقال بعضهم في الثامنة بعد المئة.
ومن عهد هذا الرجل كثرت الأمثلة المشابهة لحاله وأنا اقتصر على إيراد حدثها فأقول أن الرحالة يوحنا شاركو الذي نزل من السفينة في رحلته الأخيرة إلى القطب الجنوبي في جماعة من رفاقه ليتوغل في الجنوب لما كان توزيع الطعام موكولاً إليه أخذ يعطي كل فرد من رفاقه نصف جرايته بدون أن يقول لهم أنه نقصهم من طعامهم فلم يشك أحدهم جوعاً وكانوا على ما ينالهم من التعب مسرورين ولم يمرضوا وبذلك تيسر له أن يطيل أمد هذه الرحلة حتى إذا كانوا في العودة وقد بقي معه قسم عظيم من المؤن أنشأ يعطيهم الجراية تامة أي الجراية المظنون أنها ضرورية للإنسأن فأصيبوا كلهم إذ ذاك بسوء الهضم.
وهنا سؤال وهو كم يقتضي للمرء من الجراية ليعيش على أقل تقدير. فأقول أن ذلك يرجع إلى أمور منها قامة الإنسان ووزنه ثم البلاد التي يعيش بها والجنس الذي ينسب إليه والعمل الذي يتعاطاه. وقد قام التواتر بتجارب مدققة للغاية في هذا الباب فأخذ رجلاً زنته 60 إلى 70 كيلو غراماً وكان يعيش في حرارة 17 درجة ويمتنع من كل عمل لا جدوى فيه وجعله في غرفة ووزن ما يدخل إليه وما يخرج منه بأدوات كثيرة منوعة كما وزن تنفسه وقدر جميع أعماله وأعطاه من الغذاء ما يولد فيه الحرارة اللأزمة إذا كان لا عمل له فرأى أنه في حاجة إلى 2250 من الكالوري في كل ساعة هذا إذا كان لا عمل له أي إلى 33 من الكالوري في الكيلو غرام فالشبان يحتملون الإفراط في التغذية فلا يحدث من ذلك فيهم سوى زيادة في حرارة الجسم وعرق غير اعتيادي وحاجة غير معتدل وليس كذلك في الشيخ والرجل الذي بلغ أشده وفي جميع من لم تكن بنيتهم على حالة حسنة فإن الإفراط في(16/38)
تنأول الأغذية يحمل المعدة فوق طاقتها فيشق عليها ويرهقها من أمرها عسراً. فإذا لم يتأت الهضم تخمر وتسمم ذاتي فتكثر الأملاح والحامض البولي الحامضة ويصاب المرء على الزمن باحتقأن الكبد وتغير الكلى والتحول إلى شحم فيكون بذلك مصاباً يوجع الأعصاب والمفأصل والسويداء وغيرها.
كيف يتمكن المرء من الأقلال من الطعام ومن تنأوله بتأن
تبين لك مما تقدم أن من مصلحة الإنسان أن يعدل عن طريقة عيشه ولا يقتضي ذلك كبير عناء ويكفي في هذا الباب إقناع المرء بذلك ليتحول إليه. على أنه من المحقق صعوبة التغلب على عادة سيئة حتى أن المصاب بسوء الهضم ليعترف بأنه يسرع في طعامه ويود إصلاح نفسه ولكن أرادته وحدها لا تكفي في مغالبة هواه فتراه يحتاط في أول جلوسه إلى المائدة ولكنه لا يلبث أن يعود إلى طبيعته فتتغلب عليه فيأخذ في القطع والبلع. ونظن أن مداواة هذا النقص تكون بإعطاء أطعمة منوعة كثيراً تتقدمها توابل مطبوخة كحساء الجلبان أو العدس والخذيعة (طعام من لحم أو سمك مخردل) وربما نصحوا باستعمال العلك فيهجم اللعاب والعصارة المعدية على الغذاء إلا أنه يلزم للعاب من الوقت ما يتمكن معه من البسيلان. ولذلك اقتضت الضرورة أن تكون البداءة بالأكل لقماً صغيرة وأن يمضغ بتأن حتى اللحم والحساء بل السوائل من اللبن والمرق والشراب.
ويرجو بعضهم أن يعالجوا قلة سيلأن اللعاب بأن يمضغ بعد الأكل قطعة من الصمغ مضغاً طويلاً. فقد اعتاد الأمريكيون هذه الطريقة وما هي إلا ملطفة وملينة مؤقتاً فإن اللعاب يسيل متأخراً كثيراً فإذا وصل إلى المعدة يمتزج مع السوائل وعصارة المعدة فيفقد جزءاً من قوته.
وهناك حيل يحتال بها لإصلاح حال الأكولين وزحزحتهم عن الشره فإذا كان الأكول يملأ معدته ليشبع فوق طاقته ونصح له أولا أن يقطع اللحم والخبز قطعاً صغيرة كما تقطع للأطفال وأن لا يتناول منها سوى لقمة دفعة واحدة وأن يتناول الحساء والبقول الناشفة بملعقة صغيرة وأن لا يأخذ إلى فمه شيئاً منها إلا إذا بلغ المعلقة الأولى برمتها. وتتيسر معالجة سوء الهضم بتحريض صاحبه على الأقلال من أنواع الأطعمة كثيراً كان يراد على أن يتناول فطيراً فيأكل منه على وتيرة واحدة وهو طعام قليل اللذة ولكنه من أكثر الأطعمة(16/39)
هضماً ولا نرى هنا تعداد الطرق المختلفة التي يعمد إليها بعض الأمريكان فإن بعضهم يتنأولون غذاء مقتصرين فيه على الحبوب وبعضهم على الثمار وبعضهم يأبون أن يتنأولوا طعاماً دخل النار.
ومما يرتاب فيه أن تكون أمثال هذه التدأبير في الأكل صالحة في ذاتها وعلى كل فهي تقلل من الشراهة. ولهذه التدأبير في نظر الفسيولوجيين عائق عظيم وهو أن المرء يتنأولها بدون لذة على حين قد قلنا آنفاً ينبغي لجودة الهضم أن يستحسن الإنسان ما يتنأوله من الطعام. يقتضي أن يكون طعام المصاب بسوء الهضم بسيطاً ولكن ينبغي أن يكون لذيذاً محضراً أحسن تحضير فإذا استحسنه المريض تنتهي به الحال أن يتلمظه ببطء وإذا رضي بأن يقدم له الطعام على مهل وأن يفصل بين كل صحفه بحديث مفرح فيكون ذلك من حسن طالع المصاب بسوء الهضم إذ يغدو معتدلاً في شرهه.
وإذا لم يصلح المعمود نفسه على الرغم مما تقدم فله طريقة أخرى ينصح بها فليتشر قال: إذا بلغ الإنسأن الطعام وفيه بضعة أجزاء لم تستحق كل السحق تقف بعد الحلق أما الجزء السائل من اللقمة فإنه ينزل إلى البلعوم وعندها يستدعي ذلك عملاً جديداً من البلع لتسييرها إلى مقرها. خذ مثالاً لذلك طلمة (قرصاً) من الفاكهة فامضغها وأبلعها فإن التفل يستحيل باللعاب إلى مواد نشائية (هيدرات الكربون) نصف سائلة فتمر بعد ذلك في البلعوم أما قشر الثمار وبزها فإنه يقف قليلاً في الحلقوم وليس أسهل عند ذلك من إبداء حركة يعاد بها الطعام إلى الفم بدون قيء وأن تتعاور وهذه الأجزاء التي لم يحسن المرء سحقها ويعاد مضغها حتى لا يعود يحس بطعمها أصلاً فإن هذه الطريقة التي ارتآها وتحققها بذاته هي أسهل على الأجزاء من إبقاء الطعام ريثما يمضغ بتمامه. وهكذا ينبغي استعمال الحيل على العادات القبيحة فإن الأرادة مهما بلغ من قوتها لا تكفي إذا لم يساعدها الذكاء.
الأطعمة السهلة الهضم
يقول فلتشر أن كل من بلغت به الحال أن يأكل قليلاً بتأن لا تأتي عليه بضعة أشهر حتى يتمكن من تنأول كل شيء ويستطيع أن يهضم فينبغي له ريثما يسعده الحظ بهذه النتيجة أن يعنى كل العناية باختيار الأطعمة السريعة الهضم. وقد اختلف المؤلفون في معنى سريع الهضم على طرق شتى فقالت فئة: هو كل طعام يجري بسرعة إلى الأحشاء وعلى هذا(16/40)
النظر قرروا لكل طعام الوقت الذي يصرفه في المعدة بيد أنه يمكن أن يمر في الأحشاء وهو غير مهضوم وغير قابل للتعديل. ويفضل أن ينظر كل طعام سريع على الهضم لأنه يستحيل في الحال إلى كيموس متشابه وأن من الصعب تحقيق أمر هذه الكيموسة. والأفضل أن يعمد في ذلك إلى أن يعمد في ذلك إلى التعريف العامي وهو أن كل طعام سريع الهضم إذا هضم بدون أن يدركه الإنسان وكل طعام لا يهضم هو الذي يحدث ثقلاً وانتفاخاً وتجشؤاً. وقد وضع الكيماويون والفسيولوجيين في كل زمان طبقات للطعام على قابليتها للهضم وعدمه فلم يكن بحثهم إلا تقرير الرأي الشائع. وإنا لا نذكر هنا ما وضعوه من القوائم والفهارس لأنك تجدها في جميع المعمودين بدون تمييز. بيد أن بعض الناس على لطافة معدهم يهضمون بعض الأطعمة الصعبة الهضم. دع عنك الاستعداد الشخصي الذي لا يحسن الأطباء تفسيره ويزخرفونه ستراً لجهلهم باسم مفخم فيدعونه (الأديوسأنكرازيا) وهو الميل أو الكراهة لبعض الأمور وينشأ من استعداد خاص بالمزاج. ثم أني أرى من الأشبه أن يقال أن هذه الأطعمة قابلة للهضم لأنه يلذ المرء تنأولها ولا ينبغي أن يستنتج من هذا أن كل طعام يروق في الذوق يكون سهلاً على الهضم فإن عكس ذلك هو المألوف وأحسن ما يجدر في هذا الباب تعاطيه أن يثق المرء باختباره الخاص. وعلى كل فإن بعض الأصناف من الغذاء سيئة الأثر في جميع المعمودين وهي الأطعمة المهيجة والأطعمة الدسمة. فإن الفلفل الأحمر والبهار والخردل والتوابل المصنوعة في الخل والطرطور الإنكليزي تهيج شهوة الطعام وليس سوى تهيج المخاطيات فينبغي الإمتاع عنها وكذلك الحال في الأدوية المفتحة (كالمياه المعدنية وغيرها) والإبسنت والخمر فإنها كلها تقاس على ما تقاس عليه تلك المشهيات أما الأطعمة الدسمة فإن فيها عائقاً أخر لأن الدهن يتحد مع مخاط المعدة فيمنع عنها البروز ويقاوم هجوم الأطعمة بالعصير المعدي.
ومن المبادئ المقررة التي ينبغي للمعمود الجري عليها أن يكون طعامه لا دسم فيه ولحمه لا دهن فيه وسمكه كذلك وأن تكون الثمار التي يتنأولها غير زيتية. وهنا اعتراض وهوانه كيف يتأتى تحضير الأطعمة إذا منع الطاهي من وضع شجم الخنزير والدهن و (السلسات) الدسمة فإن معنى ذلك على أيدي الطاهي بحيث يتعذر عليه أن يحسن طبخ الطعام فيكون من ذلك على المعمود أشق من مرضه على أنه يمكن استخدام مادتين دسمتين سهلتين على(16/41)
الهضم ألا وهما زيت الزيتون والسمن فإن زيت الزيتون الخالص يحسن أكله ولكن ينبغي ترغيب النفس في طعام الزيت. وسكان الجنوب من فرنسا عرفوا بهذه الميزة. وكذلك السمن فإنه الغذاء الدسم السريع الأنهضام على شرط أن لا يكون مطبوخاً فإذا كان السمن نيئاً يكون مستحلب وقطيرات دقيقة تعوق العصارات الهاضمة عن عملها كثيراً وإذا كان مطبوخاً يسوء هضمه كشحم الخنزير.
فلا يضاف السمن على الأطعمة المختلفة إلا إذا رفعت هذه عن النار وتم طبخها وهذه الطريقة التي اعتادها مهرة الطهاة لأن السمن إذا أذيت على الوجه يحفظ طعمه. أما السمن النباتي المستخرج من الجوز الهند الذي أخذ يدخل المطابخ تحت أسماء متنوعة فإنه يهضم كالسمن الحيواني.
وأراني في الختام قد مرنت على الكلام في فن الطبخ بكتابة هذه المقالة على أنها ليست فصلاً في الفسيولوجيا بل هي درس في الطبخ أردت أن أبن ببساطة أن لعناية المصأبين بسوء الهضم علاقة بهذا الفن ولو كنت أشكو من هذا المرض لعمدت إلى طبيب ممن عرف بشرهه وأخذت رأيه فيما يقتضي لي الجري عليه فإنه يكون ولا جرم ابن بجدة هذا المرض ولكن من الغلو أن يطلب مجموع هذه الصفات من رجل فرد.(16/42)
نبأ من الصين
لأحد علماء الفرنسيس
بعد أن ثارت ثورات البوكسر من دعاة الفتنة في الصين وصار سبيل للأوروبيين أن يتداخلوا في شؤونها عمدت أن تحذو حذو اليابأن في إبدال أوضاعها بأوضاع غريبة وتصبغ بلادها بصبغة الحضارة الأوروبية فكان منها أن صرفت وجهتها إلى التعليم. وبعد أربع سنين ألغت نظام التعليم القديم وطريقة الأمتحانات العقيمة فعد ذلك انقلاباً عظيماً لا في السياسية بل في عد ضربة قاضية على كونفوشيوس وما لقيه بين أبناء الصين منذ القرن التاسع من النفوذ والتأثير فأصبحت تعاليمه هي المعمول بها وأساس كل تعليم في البلاد الصينية فكان يتحكم في جزئيات الصينيين وكلياتهم ولم يعهد أن كان لبشر مثل هذه السلطة على مثل ذي القوم في عدده وإن دامت سيطرة إنسان قروناً لا يجرأ أحد على مقضها. فقد كان من قبل المسيح بستمائة سنة. ولد في إمارة لو التي هي اليوم ولايةشانغ تونوهي للألمان تعد جزءاً من كياوتشو. نعم لم يعهد في تاريخ البشر ما يشبه هذه العبادة وهي مدينة دينية يعبدها رجل بسيط ويعبده شعب لا يحصى مدة 24 قرناً في الشرق الأقصى. ولذلك لم يجسر أحد من أتباع هذا المذهب على إلغاء الطريقة القديمة في الفحوص وحذف اسم كونفوشيوس من المدارس سيما وصورته في كل صف يسجد لها التلميذ والأستاذ على حد سواء. فكان من هذا الانقلاب أن استعيض في المدارس عن تعليم جميع العلوم وجعلها فرعاً وأحداً يجعل كل فرع منها مختصاً بفئة من الناس كان تكون الأولى مدرسة للحقوق والأخرى للطب والثالثة للعلوم السياسية والرابعة للصنائع والفنون وغير ذلك وكأن يكفي في نيا الشهادة المدارس الكلية تأن ينشئ شيئاً في الأدب يأخذ موضوعه من كتب كونفوشيوس ويطلب إليه كتابه شيء في الشعر وكانت تفتح أبواب المناصب والمراتب أمام من يحسن ذلك من الطلاب. فعرفت الحكومة عقم هذه الطريقة في التعليم وأنشأت مدارس خاصة دعتها مدارس العلوم الحقيقية الثابتة وأنشأ الأمبراطور نظارة للمعارف العمومية ترقب أحوالها كما هو الحال في الغرب وستنقسم تلك المدارس على ثلاث طبقات ابتدائية ووسطى وعليا. وقد رخصت الحكومة لبعض الولاة أن ينشئوا في عمالاتهم مدارس مجانية يقرأ فيها التلاميذ نصف النهار ويتمكن الفقراء في خلال ذلك من الدراسة في الصباح والعمل لتحصيل قوتهم بعد الظهر وهذه المدارس أشبه بمدارس(16/43)
البالغين في فرنسا والفرق بين هذه وتلك أن هذه تفتح في المساء وتلك تفتح في الصباح ذلك لأن الصينيين لا يسهرون في الليل اللهم إلا من يتعاطى الأفيون منهم وما عدأهم فإنهم يباركون منامهم حفظا لصحتهم وحرصا على الأضواء وصرف شيء منها عبثاً.
ولقد كان إصلاح التعليم في الصين ونشر المعارف بين طبقات العملة أو الفقيرة من المستحيلات إلا بتسهيل طريقة الكتابة وكانت هذه من الإبهام والألتباس بحيث حالت دون العامة وتلقي المعارف الأدبية وغيرها. فرأى الأمبراطور من الحكمة أن يصدر أمره ليستعمل خط جديد صيني يتألف كله من خمسين حرفاً ويسهل إتقانه في شهرين. وبفضل أهل العلم جرائد تطبع بهذه الحروف الجديدة ليتمكن المتعلمون من استخدام هذه النغمة ولذا أصبحت نتائجها راهنة من الآن.
أدركت الصين بعقول رجالها الثاقبة كل الإدراك أن نشر التعاليم الديمقراطية بين الغوغاء من أهلها لا يكون إلا بواسطة الصحافة التي تتنأولها العقول كلفة وأن الطريقة لحقيقة في إزالة غشاوة الأوهام عن الأبصار العامة وإزالة ما علق في نفوسهم عن الأجانب أن يطلعوهم على أوضاع الغربيين وكانوا يرونهم من قبل أعداء لا يمليون إلا على السلب ولا يظمئون إلا السفك الدماء ويطلقون عليهم شياطين الغرب. وإذ أخذت الصحف تستخدم الخط الجديد فستحارب هذه الأوهام وتنتهي بالتغلب عليها وإزالتها من العقول وهذا الرأي الشائع عند من يرون اختطاط خطة النجاح.
يطمع الأمبراطور أن يبث العلم في عقول رعاياه وهذا الأمر موقوف على الإكثار من المدارس تحتاج إنفاق والصين يعوزها المال كما قد تمس الحاجة إليه في كل مملكة فلم ير ابن السماء بداً من استو كاف أكف الطبقات كلها وراح يفتتح الاكتتاب العامة وجعل لكل من يؤدي ألف فرنك لقب شرف أو وساماً ومن أدى من عشرة آلاف لإلى خمسين ألف فرنك يحق له أن ينشئ وسط الشوارع العامة قوس من نصر من الحجر يخلد به اسمه وعلى نسبة عظم المبلغ المعطى يكون البناء التذكاري جسيماً. وهذا من غرائب الحيل الباعثة على الطمع النافع. فالصبي يعجب بأجداده ولذلك تراه يتعاظم الآن إذا تخلد ذكره كما تخلدت أسماؤهم ويكون له بهذه الطريقة باب يثبت به إخلاصه لبلاده بل يؤيد به منحه وأعطياته وربما كان في الأوربيين من تطمح نفوسهم إلى هذا التمايز من أقامة أقواس(16/44)
نصر من هذا النوع بعد أن كان الملوك حتى اليوم مستأثرين بمجدها دون سائر الناس.
ومما أضافه ابن السماء على تلك الاكتتابات لإنشاء المدارس نزع ملكية الأراضي والعقارات لأجل المنافع العامة فصدر أمره إلى المعابد التي لم تقم على نفقة الحكومة ولا اعترفت هي بها أن تدفع مداخليها إلى خزانة الدولة لتخصص للمدارس. وعلى هذا الفكر أحالت الحكومة الصينية قصر أمير توأن السابق أثار ثورة البوكسر إلى مدرسة حربية خاصة بتعليم الأمراء والإشراف وأبناء الحكام من أهل الطبقة العالية وهذا القصر في بكين في المدينة التاتارية. ولا بد من الملاحظة هنا أن إنشاء المدرسة الحربية هي على طرفي نقيض مع تعاليم كونفوشيوس الذي ينفي الحرب ويحظره على الصينيين يعده أسوأ الجرائم. ولقد كان من كره هذا الفيلسوف ومقاومته للحروب أن أصبحت به المملكة السماوية بلا مدافع يدفع عنها عادية أعدائها فعرف الصينيون اليوم بما لقنتهم إياه يابان من دروسها الحاجة الماسة في الشرق الأقصى إلى تأليف الجيوش المنظمة القوية بمحض تجاربهم واستعدادهم ليقاوموا بها الدخيل الذي لا يرمي إلا إلى تجزئة بلادهم واكتساح أرضهم. وقد شعروا بأتن خضوعهم لتقاليدهم ولدينهم قد أضر بهم فقضى عليهم الحكيم كونفوشيوس. بيد أنهم لم يعصوا عليه ولم ينزعوا حبه من نفوسهم بل تركوه وشأنه وأخذوا ينظرون في أمرهم من طريق أخر. وأنشأت الحومة بجانب نظارة المعارف العمومية نظارة أخرى للمعارف مهمتها الأولى لأن تؤسس في المملكة كلها مدارس للتجارة والزراعة وتربية الدود والغابات وكان الصينيون على مثال قدماء الرومان يحتقرون التجارة ويعدون أهلها من الساقطين في الهيئة الاجتماعية ولا يرى الصينيون إلا الطاعة العمياء لما رسمته شريعة كونفوشيوس لأن هذا لا يحترم إلا الأدباء ورجال الدرس والبحث فأصبح ما كان دونهم ودون الترقي قروناً كثيرة جائز العمل مرخصاً.
وكأنت الصين من قبل محرومة من المكاتب العامة على مثال خزائن الكتب في أوروبا فلم يظهروا لأحدهم منذ عهد كونفوشيوس ما يتأتى من الفوائد للمدينة فأسسوا اليوم مكاتب جمعوا فيها جميع الكتب المنقولة إلى اللغة الصينية التي نشرت في ممالك كثيرة في العلوم العلمية والمعارف الشائعة التي من شأنها أن تساعد الصين على النهوض وأنشأت الحكومة مكاتب للترجمة رسمية في جميع المدن الصينية الكبرى. أما المجلات فليس غير المرسلين(16/45)
الكاثوليك والبروتستانت من يعنى بنشرها في الصين حتى الآن وهي تبحث في الموضوعات الدينية وتشغل قليلاً من صفحاتها بالأبحاث العلمية وقد ارتقت الصحافة كثيراً في الصين وفيها اليوم كثير من الجرائد اليومية والجرائد التي تصدر ثلاث مرات في الشهر وأدرك الصينيون منذ كارثة البوكسر أن الصحافة من المواد الجوهرية في الحياة العامة ولذلك ترى كل من تعلم القراءة منهم يقرأ الجرائد حتى الأمبراطور وجميع الجرائد الجديدة كلها تقريباً تكتب على مثال جريدةسهان باو التي تصدر في مدينة شنغاي وهي التي أسست سنة 1868 على يد شركة صينية وذرع هذه الصحيفة الكبيرة متر وثلاثون سنتيما ذات ثماني صفحات طولها 30 سنتيمتراً وعرضها 30 وتباع بعشر سبايك وهي تعادل خمسة سانتيمات. وترى المقالات في هذه الجريدة التي يكتبها الأدباء العارفون من أهل الكفاءة جيدة في موضوعاتها منوعة الأساليب وهي في العادة مفعمة بالإحساس الطاهر ويظهر استقلال هذه الصحيفة مما تنصح به للحكومة وبما تدل عليه من الفساد المستحوذ في الإدارة وبما تعلقه على السياسة الخارجية وقد تكون تعليقاتها سديدة. وفي هذه الجريدة مجال طويل للبحث في الشؤون المختلفة وترى رواد الأخبار في الصين على غاية من المهارة يدخلون في كل مكان ويعرفون كيف يحدثون غيرهم ويروون عنهم الأخبار وهي طريقة أخذوها عن اليابانيين. وأحسنوها وترى الصفحات الأربع الأخيرة غاصة بالإعلانات التجارية صينية أو أجنبية وفي إعلانات الأجانب حروف باللغات الإفرنجية لإلفات أنظار الصينيين وورق هذه الجرائد معمول من ورق الخيزرانالبامبو ولذلك تراه رقيقاً للغاية ويطبع من وجه واحد ويترك الوجه الآخر أبيض لأنه شفاف يرى ما وراء لأنه أميل إلى الصفرة على أن لون ورق الجرائد وطبعها يمكن تغييرها في بعض الأحوال على نحو ما يفعل أرباب الطباعة إذا مات أحد أفراد الأسرة المالكة فتطبع الورقة التي تذكر الأمر المعلن بالخبر على طبع أزرق وهو علامة الحداد عند إمبراطورتهم لأن البياض لا يتجلى على الورق الأصفر المستعمل في العادة وعند زواج الأمبراطور وعيد ولادته أو ولادة الأمبراطورة والدته تصدر الصحف على ورق أحمر وهو لون العيد والسعادة وتطبع بالسواد. ويستعمل اللون الأحمر أيضاً في اليوم الأول من السنة وهو يصادف بعد شهر من رأس السنة في أوروبا.(16/46)
والجرائد المصورة ناجحة في المدن العظمى وهذه الصحف مؤلفة من اثنتي عشرة ورقة مضاعفة ولها غلاف أحمر أو أخضر وثمن النسخة عشرون سنتيما أما الصور فتكون خطوطاً في موضوع جديد.
ليس في الصين قوانين مقيدة لحرية الكلام والكتابة كما أنه ليس فيها قوانين تتضمن لها حقوقها بحيث أن الصحافيين الصينيين هم تحت رحمة رجال الشرطة والحكام كل حين. ولما لم تكن الصحف الصينية لهذا العهد لسان حال حزب سياسي فليس لها قوة ولا خطر منها على الحكومة ولذلك يصح أن يقال أن ليس في الصين صحف غير ولا صحف معارضة وقد حاولت مؤخراً جريدة أنشئت في وسط بلاد الصين بشركة صينية يابانية أن تنزع عن تلك الطريقة وتخرج عن رقبتها فألغاها الوالي للحال.
ولا بأس أن نختم هذا الفصل بالكلام على الصين الحديثة بأن الحكومة الصينية أخذة بتنشيط تعليم النساء وكان حتى الآن مهملاً بالمرة إذ أن المرأة كانت أبداً في الشرق ولاسيما في الشرق الأقصى بعيدة عن الإتمام بشؤون بلادها أما الأن فقد أسست الأميرات المالكة المدارس وتطوعت العقائل اليابانيات للتدريس في كل مكان من بكين وسو تشو وهذه من بلاد الصين بمثابة باريس من فرنسا. وأنشئت عدة مدارس كثيرة لبنات الأسرات الكبيرة وقد حضر في العهد الأخير أربع عشرة أميرة مغولية إلى بكين ليلقين فيها التعليم الأوروبي. واللغو الإنكليزية تدرس في جميع هذه المدارس.
وأنت ترى أن للصين الجديدة مستقبلاً زاهراً يبعث الغرب على الطمأنينة الآن وهو خائف من الحظر الأصفر وأن الصين تسير إلى المستقبل في نفس الخطة التي اختطها الغربيون نعم أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن طويل قبل أن تأتى الشجرة المغروسة بأثمار يعتد بها حقيقة ولكن الصيني عرف بصبره لذلك تراه يؤمل نيل النتيجة في هذا القرن وهو الذي عرف أن ينتظر الغد ويرقبه رقبة الفلاسفة مدة طويلة لا تقل عن بضعة ألوف من السنين.(16/47)
صحف منسية
كتاب الاشربة
لابن قتيبة
استخرجه أحد علماء المشرقيات من الفرنسيس
توطئة
ابن قتيبة أشهر من أن يذكر هنا بكلمات قليلة تكون له وقائمة ولذلك لم أر حاجة إلى إعادة ما ترجم به في وفيات الأعيان كما مذهب كل من طبع له كتاباً في الشرق فاكتفي بما أتى ابن خلكان عن البحث اللائق بشأن عيون الأخبار وكتاب المعارف.
ثم أني أن صغر حجم كتاب الاشربة لا يقبل الإطاعة في الخطبة_وإن كأنت الأطالة في الخطب مما عوقب ابن قتيبة في الوفيات_فأرجأت إلى وقت آخر إنشاء مقالة تفي بحقوق هذا العلامة إن شاء الله فأحضر الكلام الأن في الكتاب الذي بدأت اليوم بنشره ووصف النسخة التي نقلته عنها وبالله التوفيق.
أما الكتاب فمعروف وقد ذكره صاحب كشف الظنون (تحت عدد 9846 الجزء 5 ص43) واستشهد ببعض فقراته غير واحد من الأدباء لاسيما ابن عبد ربة فإن هذا النهاب نقل إلى العقد الفريد معظم كتاب الاشربة بعد أن خلط بين أجزائه ولو كان طبع العقد بما يجب له من العناية والدقة لكنا ربما أمسكنا عن نشر كتاب الاشربة مع ما أسقطه ابن عبد ربه من الفوائد الجزيلة والمحاسن الجليلة التي جرت عادة ابن قتيبة أن يأتي بها على أسلة قلمه. وإذا قرأت ما كتبه صاحبنا في الخمر والنبيذ وغيرهما مما قد حرم أو أحل شربه فلا بأس بأن تقرأ ما جاء به ابن ربه في هذه المسألة لتصلح الأغلاط العديدة الواقعة في نسخ العقد المطبوعة وتطلع على ما عاتب به الأمام ابن قتيبة من أطالة الكلام وعلة النسيأن المؤدية إلى التناقض بين قوليه فنأسف لأن الله عز وجل لم يمن على ابن قتيبة بعمر طويل ليحيا إلى عصر ابن عبد ربه فيطلع على ما كتبه هذا ويهديه التوفيق لشرح الأحاديث التي أدعى الناس تناقضها في كتابه المؤلف في تأويل مختلف الحديث.
أما النسخة التي نقل عنها النص فعبارة عن أحد المؤلفات الموجودة في مجموع من مجاميع مصطفى باشا المحفوظة في دار الكتب الخديوية وقد نقلت من المجموع الذي عدده 166(16/48)
ثلاثة كتب للأصمعي وهي كتاب الشاء وكتاب الدارات وكتاب النبات والشجر نشرها كلها الدكتور أوغست هفنر وطبع منها الأدباء اليسوعيين ببيروت في سنة 1898 كتاب الدارات وكتاب النبات والشجر. وتصفحت فهارس للمخطوطات المحفوظة في دور الكتب في الشرق والغرب فلم أظفر بغير نسخة من كتاب الاشربة. فلله در هذا الناسخ الذي وقى من أيدي الضياع هذه الأثار الأصمعية والقتيبية وأن لم يكن علمه باللغة والمعاني يوازي مهاراته بفن الخط فإنه يحذف الكلمات والفقر ولا يشعر وهذا شأن متأخرين النساخ كلما رأى الرائي ما ينسخون يحكم عليهم بأنهم ينقلون الكلام بدون فهم ولا علم. واسم الناسخ عبد الحليم بن أحمد اللوجي نسخ مجموعة النفيس في جزئيين قدم الثاني وأخر الأول في التجليد فأوله قد انتهى من تحريره يوم الجمعة غزة محرم سنة 1105 وثانيه في أواخر ذلك الشهر وكتاب الاشربة موجود في الجزء الثاني المقدم من الصفحة 55 إلى الصفحة 80 وطول الصفحة 37 سنتيمتراً وعرضها 16 وعدد السطور في الصفحة 29 سطراً والخط دقيق واضح ولما لم أعثر على نسخة أخرى للكتاب عمدت إلى النص المنقول في العقد الفريد لضبط هذه الرسالة بعد المقابلة. وأما الرواية فإنها جاءت مرتين فأثبتنا التي بعد البسملة كما ترى وأزلنا التي بعد ترجمة الكتاب وهي رواية الحسين بن المظفر بن أحمد بن كنداج عن أبي محمد عبد الله بن جعفر ابن دستورية النحوي عن ابن طاهر محمد بن عبد الله البيع. إذ المشهور أن ابن دستورية كان من تلاميذ ابن قتيبة وروى عنه.
كتاب الاشربة
وذكر اختلاف الناس فيها
تأليف أبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة
بسم الله الرحمن الرحيم
اخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن علي بن عبد الله فيما أذن لنا أن نرويه عنه قال اخبرنا أبو عبد الله الحسين بن المظفر كنداج (وفي الأصل كداج) البزاز قراءة عليه قال اخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن دستورية النحوي قراءة عليه قال أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة:
الحمد لله الذي هدانا لدينه المرتضى. وأكرمنا بنبيه المصطفى. وجعلنا خير أمة أخرجت(16/49)
للناس إيمانا بالغيب وتصديقا بالوعد وشفقا من الوعيد وإخلاصا للتوحيد. وأعطانا بالصغير الكبير. وباليسير الكثير. وبالحقير الخطير. وبطاعته في الأيام المعدودة الخلود في النعيم المقيم ورضي منا بعفو الطاعة وفسح لنا في التوبة وجعل من وراء الصغير المغفرة ومن وراء الكبير الشفاعة فلم يهلك عليه إلا من نفر نفار الظليم وشرد شراد البعير وأوسع لنا من طيب الرزق وحرم علينا الخبائث ولم يجعل في الدين من حرج ولا حظر بالاستبعاد إلا ما جعل منه الخلف إلا طيب والبذل إلا ما وفر منه رحمة منه وبرا ولطفا وعطفا. فحرم علينا بالكتاب الميتة والدم ولحم الخنزير وبالسنة سباع الوحش والطير وعوضنا من ذلك بهيمة الأنعام الثمانية الأزواج وسائر الوحش وصنوف الطير وحرم علينا بالكتاب الميسر وبالسنة القمار وعوضنا من ذلك اللهو بالرهان والنضال وحرم علينا الربا واحل البيع وحرم السفاح واحل النكاح وحرم بالسنة الديباج والحرير وعوضنا الخز والوشي والعقم والرقم وحرم بالكتاب الخمر وبالسنة المسكر وعوضنا منهما صنوف الشراب من اللبن والعسل وحلائل النبيذ.
وليس فيما عازنا من وراء من هذه الأمور التي وقع الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الاشربة وكيفية ما يحل منها وما يحرم منها وما يحرم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوافر الصحافة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم حتى يحتاج ابن سيرين مع ثاقب علمه وبارع فهمه إلى أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ وحتى يقول له عبيدة وقد لحق خيار الصحابة وعلماؤهم منهم علي وابن مسعود اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية أخرى. أخذت الناس أشربة كثيرة فمالي شراب منذ عشرين سنة إلا اللبن أو ما العسل. وإن شيئا وقع فيه الاختلاف في ذلك العصر بين أولئك الأئمة لحري أن يشكل من بعدهم وتختلف فيه آراؤهم ويكثر فيه تنازعهم وقد بينت من مذاهب الناس فيه وحجة كل فريق منهم لمذهبه وموضع الاختيار من ذلك بالسبب الذي أوجبه والعلة التي دلت عليه ما حضرني من بالغ العلم ومقدار الطاقة لعل الله يهدي به مسترشدا ويكشف من غمة وينقذ من حيرة ويعصم شاربا ما على دخل الفاسد من التأويل والضعيف من الحجة ويردع طاعنا على خيار السلف بشرب الحرام وأؤمل بحسن النية في ذلك من الله حسن المعونة والتغمد للزلة ولا حول ولا قوة إلا بالله.(16/50)
قد اجمع الناس جميعا على تحريم الخمر بكتاب الله إلا قوما من مجان أصحاب الكلام وفساقهم لا يعبأ الله بهم فإنهم قالوا: ليست الخمر محرمة وإنما نهى الله عن شربها تأديبا كما أنه أمر في الكتاب بأشياء ونهى عن أشياء على جهة التأديب وليس منها فرض كقوله في العبيد والأماء: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا. وقوله في النساء فاهجروهن في المضاجع واضربوهن - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقالوا لو أراد تحريم الخمر لقال حرمت عليكم الخمر كما قال حرمت عليكم الميتة والدم. وليس للشغل بهؤلاء وجه ولا لتشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يختل على عأقل ولا على جأهل واجمع الناس على أن ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر وانه لا يزال خمرا حتى يصير خلا واختلفوا في الحال التي يخرج بها من منزلة الخمر إلى منزلة الخل فقال بعضهم: هو إن يتناهى في الحموضة حتى لا يبقى فيها مستزاد وقال آخرون: هو إن تغلب عليها الحموضة وتفارقها النشوة. وهذا هو القول لأن الخمر ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير وإنما حرمت بعرض دخلها فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالا كما كانت قبل الغليان حلالا وما أكثر من يذهب من أهل النظر إلى أن الخمر إذا انقلب عن عصير والخل إذا انقلب عن خمر أن عين كل واحد غير عين الآخر وهذا القول ما ليس به خفاء على من تدبره وأنصف من نفسه وكيف يكون هاهنا عينان والجسم واحد لم يخرج من الوعاء ولم يبدل وإنما أنتقلت أعراضه تارة من حلاوة إلى مرارة وتارة من مرارة إلى حموضة ولم يذهب العرض الأول جملة واحدة ولا أتى العرض الثاني جملة (واحدة) وإنما زال من كل واحد شيء بعد شيء كما ينتقل طعم الثمرة وهي غضة من الحموضة إلى الحلاوة وهي يانعة والعين قائمة وكما يأجن الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة وكما يروب اللبن بعد أن كان صريفا فيتغير طعمه والعين قائمة ومثل الخمر مما حل بعرض وحرم بعرض المسك كان دما عبيطا حراما ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبا حلالا. وأما النبيذ فاختلفوا في معناه فقال قوم: هو ماء الزبيب وماء التمر من قبل أن يغليا فإذا اشتد ذلك وصلب فهو خمر. وقالوا: إنما كان الأولون من الصحابة والتابعين يشربون ذلك يتخذونها في صدر نهارهم ويشربونه في آخره ويتخذونه من أول الليل ويشربونه على(16/51)
غدائهم وعشائهم. وقالوا: سمي نبيذا لأنهم كانوا يأخذون القبضة من التمر أو الزبيب فينبذونها في السقاء أي يلقونها فيه. وقال آخرون: النبيذ ما أتخذ من الزبيب والتمر وغيرها من المستخرج بالماء أو ترك حتى يغلي وحتى يسكن. ولا يسمى نبيذا حتى ينتقل عن حاله الأولى كما لا يسمى العصير خمرا حتى ينتقل عن حلاوته ولا يسمى الخمر خلا حتى تنتقل عن مرارتها ونشوتها وإنما سمي نبيذا لإنه كان يتخذ وينبذ أي يترك ويعرض عنه حتى يبلغ. وهذا هو القول لأن النبيذ لو كان ماء الزبيب لما وقع فيه الاختلاف ولأجمع الناس جميعا على أنه حلال من قبل أن يغلي ففيم اختلف المختلفون وعم سأل السائلون؟ قال الشاعر:
نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تعطر لو خر الذباب وقيذا
وقال ابن شبرمة:
ونبيذ زبيب ما اشتد منه ... فهو تخمر والطلاء نسيب
وقال آخر:
تركت النبيذ وشرابه ... وصرت حديثا لمن غاب
فسماء نبيذا وهو يفعل هذا الفعل ولا يجوز أن يكون أراد ماء الزبيب ولا ماء التمر قبل أن يغليا وروى الراقدي عن أخيه سملة بن عمر بن شيبة بن أبي كبير الاشمعي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يخدر الوجه من النبيذ ولتفاتر منه الحسنات وروى شريك عن أبي اسحق عن عمرو بن حريث قال: سقاني ابن مسعود نبيذا شديدا من جر اخضر وحدثني سبابة عن عمرو بن حميد عن بن سليم قال: حدثني أصحاب انس إنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي يكون في الخوأبي وما جاء في مثل هذا مما يدل على أن النبيذ ما غلي واسكر كثيره وفرق قوم بين نبيذ الزبيب ونبيذ التمر ولا اعلم بينهما فرقا فيكره واحد ويستحب وآخر لإنهما جميعا مسكران. أنشد ابن أعرأبي (هزج)
ألا أيها المهدي ... إلينا من شهر
دع الآس ولا تغفل ... إذا جئت عن التمر
فإن الآس لا يسك - ر واللذة في السكر
حجج المحرمين لجميع ما أسكر(16/52)
وأما المسكر فإن فريقا يذهبون إلى أن كل شيء أسكر كثيره كائنا ما كان ولو بلغ فرقا فقليله كائنا ما كان ولو كان مثقال حبة من خردل حرام. فلم يفرقوا بين ابن ثلاث ليال من نبيذ التمر إذا غلي وبين ابن ثلاث أحوال من عتيق السكر وعتيق الخمر ولا فرقوا في ذلك بين منفرد وخليطين ولا بين شديد وسهل ولا بين ما استخرج بالماء وما استخرج بالنار وقضوا عليه بأنه حرام وبأنه خمر وذهبوا من الأثر إلى حديث حدثنيه محمد بن خالد خداش عن أبيه عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ما مسكر خمر وكل مسكر حرام. وحديث حدثنيه اسحق بن راهويه عن المعتمر بن سليمان عن المهدي بن ميمون عن أبي عثمأن الأنصاري عن القاسم عن عائشة رحمة الله عليها أن النبي صلى الله وسلم قال: كل مسكر حرام وما أسكر الفرق فالحسوه منه حرام. وحديث حدثنيه محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل شراب أسكر فهو حرام. مع أشباه لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها وفي ما ذكرنا من هذه الأحاديث غنى عن ذكر جميعها لأنها أغلظها في التحريم وأشدها إفصاحا به ووإبعادا من حيلة المتأول.
وقالوا: والشاهد على ذلك من النظر أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجرائرها على شاربها لأنها رجس. قال الله تعالى وجل من قائل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطأن فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون}. وقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها. قالت عائشة رحمة الله عليها: ما شرب أبو بكر رحمة الله عليه خمرا في جاهلية أو إسلام. وقال عثمان رحمة الله عليه: ما تغنيت ولا تفتيت ولا شربت خمرا في جاهلية أو إسلام ولا مست فرجي بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم 1وكان عبد الرحمن بن عوف ترك شربها وقال فيها بيتا:
رأيت الخمر شاربها معنى ... برجع القول أو فصل الخطاب
حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعد قال قال عثمان: إياكم والخمر فإنها مفتاح كل شر. أتي برجل فقيل له: إما أن تخرق هذا(16/53)
الكتاب وإما أن تقتل هذا الصبي وإما أن تسجد لهذا الوثن وإما أن تشرب وإما أن تقع على هذه المرأة. فلم ير أهون عليه من شرب الكأس فشرب فوقع على المرأة وقتل الصبي وخرق الكتاب وسجد للصليب. وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته: لم لا تشرب الخمر فإنها في جرأتك. فقال: ما أنا بأخذ جهلي بيدي فادخله في جوفي وأصبح سيد قومي وسفهيهم. وقيل له بعد ما أسن واسلم: قد كبرت سنك ودق عظمك فلو أخذت من هذا النبيذ شيئا يقويك. فقال: أصبح سيد قومي وأمسي سفهيهم وآليت أن يدخل رأسي ما يحول بيني وبين عقلي. وكان قيس بن عاصم يأتيه في جاهليته تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ 2 ما عنده فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرا قبيحا فجذب ابنته وتنأول ثوبها ورأى القمر فتكلم بشيء ثم انهب ماله ومال الخمار وانشأ يقول وهو يضربه.
من تاجر فاجر جاء الإله به ... كان لحيته أذناب أحمال
جاء الخبيث بميسانية3تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال
فلما صحا خبرته ابنته بما صنع وما قال فإلى لايذوق الخمر أبدا وقال.
رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله اشربها صحيحا ... ولا اشقي بها أبدا سقيما
ولا أعطي بها ثمنا حياتي ... ولا أدعو لها أبدا نديما
وكان عثمان بن مظعون حرم الخمر في الجاهلية وقال: لا اشرب شرابا يذهب بعقلي ويضحك بي من هو أدنى مني وأزوج كريمتي من لا أريد. فبيتنا هو بالعالي إذ أتاه آت فقال: أشعرت أن الخمر حرمت؟ وتلا عليه الآية في المائدة فقال تبا لها لقد كان بصري فيها نافذا. قيل لأعرأبي أتشرب النبيذ؟ فقال: لا اشرب ما يذهب عقلي. ودعا يزيد بن عبد الملك نصيبا أو كثيراً إلى ندامته فقال: يا أمير المؤمنين اني لم أصر إلى هذه المنزلة بمال ولا دين وإنما وصلت إليها بلساني وعقلي فإن رأيت أن لا تحول بيني وبينهما فافعل وقال بعض الشعراء:
ومن تقرع الكأس الذميمة سنة ... فلا بد يوما أن يريب ويجهلا
فلم أر مشروبا أخس غنيمة ... وأوضع للإشراف منها واخملا
وأجدر إن تلقي حليما بغيها ... ويشربها حتى يخر مجدلا(16/54)
وقال آخر:
ولست بلاح لي نديما بزلة ... ولا هفوة كانت ونحن على الخمر
عزلت بجبني قول خدني وصاحبي ... ونحن على صهباء طيبة النشر
وأيقنت أن السكر طار بلبه ... فاغرق في شتمي وقال وما يدري
ودخل أمية بن خالد بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثار فقال: ما هذا؟ فقال: قمت الليل فأصاب الباب وجهي فقال عبد الملك:
رأتني صريع الخمر يوما فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقال أمية: لا أخذني الله بسوء ظنك يا أمير المؤمنين. فقال لا بل لا أخذني الله بسوء مصرعك. ودخل حارثة بن بدر العداني على زياد وكان حارثة صاحب شراب وبوجهه أثر. فقال له زياد: ما هذا الأثر في وجهك؟ فقال: ركبت فرسا لي أشقر فحملني حتى صدم بي الحائط. فقال له زياد: إما أنك لو ركبت الأشهب لم يصبك مكروه.
وقال ابن هرمة الشاعر في شرفه ونسبه وجودة شعره يشرب الخمر بالمدينة ويسكر فلا يزال الشرط وقد أخذوه ورفعوه إلى الوالي في المدينة فحده فوفد على أبي جعفر المنصور وقد قال فيه المدحة التي امتدحته بها وقافيتها لام فاستحسنها وقال له: سل حاجتك. قال يا أمير المؤمنين تكتب إلى عامل المدينة أن لا يحدني إن وجدني سكرانا. فقال أبو جعفر: هذا حد من حدود الله وما كنت لأعطله فهل من حاجة غيره؟ قال لا والله يا أمير المؤمنين فاحتل لي بحيلة فكتب المنصور إلى عامله. من أتاك بابن هرمة وهو سكرأن فاجلده مائة جلدة واجلد ابن هرمة ثمانين. فرضي ومضى بكتابه فكان العون إذا مر به صريعا قال: من يشتري ثمانين بمائة؟ ثم أعرض عنه. وكان مالك بن قيس من ثقيف يشرب مع ابن الكأهلية يوم عرفة وهم محرومون فغلبه السكر فنام حتى فات الحج وأدركه ابن الكأهلية فقال:
أليس الله يا مال ابن قيس ... وان غبنا عليك رقيب عين
أقم صدر المطيعة وانج اني ... أراني وابن نعجة هالكين
فأية جريرة أعظم من هذه وأية غبنة أشد من غبنتها وأية صفقة أخسر من صفقتها وماذا يلقى صاحبها فإذا عاودها هان عليه القبيح قال القطامي(16/55)
أفر إذا أصبحت من كل عاذل ... وأمسي وقد هانت علي العواذل
وقال ابن هانئ:
اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح
وسقى قوم إعرأبية مسكرا فلما أنكرت نفسها قالت لهم: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم قالت: لئن كنتم صدقتم لا أحدكم من أبوه. وكان العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام يشتدون على النساء في شربه حتى ما يحفظ أن امرأة شربت ولا أن امرأة سكرت. وحدثني الرياشي عن الأصمعي قال عقيل بن علقمة المري غيورا فكأن يسافر ببنت له الجرباء فسافر بها مرة فقال
قضت وطرا من دير سعد وربما ... على غرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابن له يقال له عملس: أجز فقال لا
فا صبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الادلاج ميل العمائم
ثم قال لابنته: أجيزي يا جرباء فقالت
كان الكرى سقأهم صرخدية ... عقارا تمشي في المطا والقوائم
فقال: والله ما وصفتها هذه الصفة إلا وقد شربتها ثم أحال عليها يضربها (بالسوط) فلما رأى ذلك بنوه وثبوا عليه فحلوا فخذه بسهم فقال
إن بني زملوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم
شنشنة أعرفها من اخزم
واخزم فحل والشنشنة الشبه وقد فضح الله بالشراب أقوأما من الإشراف فحدوا ودونت في الكتب أخبارهم ولحقت بتلك السبة أعقابهم. منهم الوليد بن عقبة (بن أبي معيط أخو عثمأن لأمه) شهد عليه أهل الكوفة بشرب الخمر وأنهم صلى بهم الغداة (ثلاث ركعات) وهو سكرأن فقال: (إن شئتم) زدتكم. شهره الله بذلك وبمنادمة أبي زبيد الشاعر وكان نصرانياً فحده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان وفيه يقول الحطيئة: كامل
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالغدر
نادى وقد تمت صلواتهم ... أأزيدكم ثملا وما يدري
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ... لجمعت بين الشفع والوتر(16/56)
كبحوعنانك إذ جربت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري.
ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر) فحده هناك عمرو بن العاص سرا فلما قدم على عمر رضي الله عنه حده حدا آخر (علانية). ومنهم العباس بن عبد الله بن العباس كان ممن شهر بالشرب وبمنادمة الأخطل الشاعر وكان نصرانيا وفيه يقول:
ولقد غدوت على التجار بمسح ... هرت عواذله هرير الاكلب
لذ تقبله النعيم كانما ... مسحت ترائبه بماء الذهب
لباس أردية الملوك يروقه ... من كل مرتقب عيون الربرب
ينظرون من خلل النور إذا بدا ... نظر الهجأن إلى الفنيق المصعب
فضل الكياس إذا تشتى لم يكن ... خلفا مواعده كبرق الخلب
وإذا تعورت الزجاجة لم يكن ... عند الشراب بفاحش منقطب
فأخبر أنه غدا على تجار الشراب به وأخبر أنه يروقه عيون النساء ويرقنه. وكان عبيد الله بن عبد الله بن عباس من أحمل الناس وكأن يقال له المذهب لجماله فمدحه كما كان يمدح بعض النصارى وكأنت الشهرة في الشعر على حسب حسنه ورغبة الناس في حفظه.
ومنهم قدامة بن مظعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حده عمر بشهادة علقمة الحصي عليه وغيره في الشراب. ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شجمة حده أبوه في الشراب وفي أمر آخر فمات. وعاصم بن عمر بن الخطاب حده بعض ولاة المدينة في الشراب. وعبد الله بن عروة بن الزبير حده هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب. وعبد العزيز (بن) مروان حده عمر بن الأشدق في الشراب. وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة (الأشعري) قال يحيى بن نوفل الحميري:
وأما بلال فذاك الذي ... تميل الشراب به حيث مالا
يبيت يمص عتيق الشراب ... كمص الوليد يخاف الفصالا
ويصبح مضطربا ناعسا ... تخال من السكر فيه أحولا لا
ويمشي ضعيفا كمشي النزيف ... تخال به يمشي شكالا
ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي بالكوفة فضح بمنادمة سعد بن هبار فقال(16/57)
حارثة بن بدر (4).
نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبار
ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت ... إلا دوياً دوي النحل في الغار
فأصبح القوم إطلاقا أضر بهم ... حث المطايا وما كانوا بسفار
يدين أصحابه فيما يدينهمو ... كأساً بكأس وتكراراً بتكرار
وهذا عبد الملك بن مروان بعد اجتهاده في العبادة فضحه الله تعالى في الشراب فكان يشرب المغذي وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك تشرب بعدي الطلا.
فقال أي والله والدماء. وهذا الوليد نقم عليه الناس شرب المسكر ونكاح أمهات أولاد أبيه فقتلوه. وهذا يزيد بن معاوية كأن يقال إذا ذكر الخمور والقرود فقال فيه.
ابني أمية أن آخر ملككم ... جسد بحوارين ثم مقيم
طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم
ومرنة تبكي على نشوانة ... بالصبح تقعد تارة وتقوم
ومنهم خالد بن عمرو بن الزبير وفيه يقول القائل
إذا أنت نادمت العتير وذا الندى ... جبيراً وعاطيت الزجاجة خالدا
أمنت بأذن الله أن تقرع العصا ... وأن يوقظوا من رقدة السكر راقدا
وصرت بحمد الله في خير فتية ... حسأن الوجوه لا تخاف العربدا
والعجب عندي قوله * وأن يوقظوا من السكر * وأكثر ما يوقظ السكرأن للصلوة افتراء حمدهم على تركهم إيقاظه للصلوة إذا سكر؟ وهذا أبو محجن الثقفي شهد يوم القادسية وأبلى بلاء حسناً شهر وكان فيمن شهد ذلك اليوم عمرو بن معد يكرب فقدم عليه وهو القائل.
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذقها
فحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب قال: أخبرني الأصمعي عن ابن الأصم عن عبد العزيز بن مسلم العفيلي قال رأيت قبر أبي محجن الثقفي بأرمينية الرابطة تحت شجرات من كرم. (الباقي يتبع)(16/58)
مطبوعات ومخطوطات
شرح ديوان المتنبي
ما رزق أحد من الشعراء حظوة كحظوة المتنبي في شعره وما خدم ديوانه. ولعل ذلك والله أعلم من أجل تلك الحكم الرائعة التي تخللت شعره. وما يخيل لي أن المتنبي بقي اسمه يردد على الأفواه كل يوم ألوفاً من المرات إلا بفضل حكمه وإلا فالمديح والنسيب الذي فيه يوجد مثله في دواوين غيره من الشعراء. اطلعت بالاتفاق على شرح لهذا الديوان لأبي الحسن علي بن أحمد الو احدي المتوفى سنة 468 قال صاحب كشف الظنون فيه وهو أجمل ما وجدنا عليه من الشروح وأكثرها فائدة ليس في شروحه مثله.
قال فيه الشارح بعد البسملة والحمدلة والصلاة: أما بعد فإن الشعر أنقى كلام. وأعلى نظام. وأبعد مرقى في درجة البلاغة. وأحسنه ذكراً عند الرواية والخطابة. وأعلقه بالحفظ مسموعاً. وأدله على الفضيلة الغريزية مصنوعاً. وحقاً لو كان الشعر جوهراً لكان عقياناً. أو من نبات لكان ريحاناً. ولو أمسى نجوماً لزاد ضياؤها. أو عيوناً لما غار ماؤها فهو ألطف من در الطل. في أعين الزهر إذا انفتحت الرياض غب المطر. وأرق من دمع المستهام. ومن رقرق بماء الغمام. وهذا وصف أشعار المحدثين الذين تأخروا عن الجاهلية. وعن نأنأة الإسلام إلى أيام ظهور الدولة العباسية. فإنهم الذين أصبح بهم الشعر عذباً فراتاً بعد ما كان ملحاً أجاجاً. وأبدعوا في المعاني غرائب أوضحوا بها لمن بعدهم طرقا فجاجاً. حتى أصبحت روضة الشعر. مفتحة الأنوار يانعة الثمار. مفتقة الأزهار. متسلسلة الأنهار. فثمرات العقول منها تجتبى. وذخائر الكتابة عن غرائبها تقتني. وكواكب الآداب منها تطلع. ومسلك العلم من جوانبها يسطع وإليها تميل الطباع. وعليها تقف الخواطر والأسماع. وإليها ينشط الكسلان وعند سماعها يطرب الثكلان. لما لها من المزاين والتدبيج. وسطوع روائح المسك الأريج.
وبعد أن أورد حديث أن من الشعر لحكمة وقول عائشة الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح قال: ولقد رويت أشعاراً منها القصيدة أربعون ودون ذلك وأن الناس منذ عصر قديم قد أولوا جميع الأشعار صفحة الأعراض مقتصرين منها على شعر أبي الطيب المتنبي نائين عما يروى لسواه. وأن فاته وجاوز في الإحسان مداه. وليس ذلك(16/59)
إلا البحث اتفق لها فعلاً وبلغ المدى وقد قال:
هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
وجاء في آخر الشرح. هذا آخر ما اشتمل عليه ديوانه الذي رتبه بنفسه وهو خمسة آلاف وأربعمائة وأربع وتسعون من الفراغ من نسخ هذا التفسير والشرح السادس عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وأربعمائة قال الشيخ الأمام رحمه الله: إنما دعاني إلى تصنيف هذا الكتاب مع خمول الأدب وانقراض زمانه اجتماع أهل الكتاب أهل العصر قاطبة على هذا الديوان وشغفهم بحفظه وروايته والوقوف على معانيه وانقطاعهم عن جميع أشعار العرب جأهليها وإسلاميها إلى هذا الشعر واقتصارهم عليه في تمثلهم ومحاضرتهم وخطبهم ومقاماتهم حتى كان الأشعار كلها فقدت وليس ذلك إلا لتراجع الهمم وخلو الزمان وتقاصر الرغبات وقلة العلم بجوهر الكلام ومعرفة جيده من رديه ومطبوعه من متكلفه ومع ولوع الناس بهذا الديوان لا ترى أحداً يرجع في معرفته إلى محصول أو يعي ببيان عن مودعاته وغوامض معانيه ومشكلاته. . . .
وهاك نموذجاً صغيراً من شرحه قال:
أبي خلق الدنيا تديمه ... فما طلبي منها حبيباً ترده
قوله تديمه من فعل الدنيا وكذلك ترده أي تدفعه ويجوز أن يريد ترده إلى الوصل يقول حبيب تديمه الدنيا قد أبت ذلك أي تأبى أن تديم حبيباً على الوصال فكيف أطلب منها حبيباً تمنعه عن وصالنا وكيف أطلب منها أن ترده إلى الوصال بعد أن أعرض وهجر.
وأسرع مفعول فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضده
يقول أن الدنيا لو ساعدتنا بقرب أحبتنا لما دام ذلك لأن الدنيا بنيت على التغير والتنقل فإذا فعلت غير ذلك كانت كمن تكلف شيئاً هو ضد طبعه كما قال حاتم
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه وترجعه إليه الرواجع
ومثله قول الأعشى السني
ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه ... يدعه وتغلبه عليه الطبائع
وأدوم أخلاق الفتى ما تشابه ... وأقصر أفعال الرجال البدائع
وقول إبرأهيمبن المهدي(16/60)
من تحلى شيمة ليست له ... فارقته وأقامت شيمه
وقال في شرح
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده
هو مثل ضربه لنفسه كان يقول أنا أتعب خلق الله لزيادة همتي وقصور طاقتي من الغنى عن مبلغ ما أهم به وهذا مأخوذ مما في الحديث أن بعض العقلاء سئل عن أسوء الناس حالاً فقال من قويت شهوته وبعدت همته واتسعت معرفته وضاقت مقدرته. وقال الخليل ابن أحمد
رزقت لباً ولم أرزق مروته ... وما المروءة إلا كثرة المال
إذا أردت مسامات تقاعدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال
فلا ينحل في المجد مالك كله ... فينحل مجد كان بالمال عقده
هذا نهي عن تبذير المال والإسراف في إنفاقه يقول لا تذهب مالك كله طلب المجد لأن المجد كله لا ينعقد إلا بالمال فإذا ذهب مالك كله انحل ذلك المجد الذي كان يعقد بالمال ألا ترى إلى قول عبد الله بن معاوية
أرى نفسي تتوق إلى أمور ... يقصر دون مبلغهن مالي
فلا نفسي تطاوعني ببخل ... ولا مالي يبلغني فعالي
وقد كتب الأصل بالحمرة والشرح بالحبر الأسود على عادة الكتب القديمة ولولا نقص كراس منه لكان جديراً بالطبع وقد روى بعضهم أن هذا الكتاب مطبوع في أوروبا والنسخة التي تكلمت عليها كتبت في شهر رمضأن سنة 1075 وعدد أوراقها 525 من الحجم الوسط
الإدراك للسأن الأتراك
نشر مسيو لوسين بوفا من مشاهير علماء المشرقيات عند الفرنسيس هذه الرسالة النافعة لمؤلفها أبي حيان الأندلسي المولود في غرناطة سنة 654 والمتوفى في مصر سنة 754 وكان أبو حيان كثير التصنيف ذكر له مترجموه زهاء سنين مصنفاً وهو العلم المفرد في النحو وله خمس رسائل في نحو اللغة التركية وصرفها وقد قال عن هذه الرسالة أنها لم ينسخ على منوالها كتبها عقيب مقامه في مصر واختلاطه بالترك الذين كانوا ملوك عصره(16/61)
وهذه الرسالة تنقسم كما قال ناشرها إلى كتاب مفردات اللغة التركية مترجمة إلى العربية وفيها نحو ألفين لفظة والقسم الثاني في التلفظ والتصريف والقسم الثالث في النحو فنشكر للناشر عنايته أكثر الله في خدمة العلم أمثاله
الفنون السبعة
أهدنا مسيو هرمان كيز من علماء المشرقيات من الألمان نسخة واحدة من هذه الرسالة وعني بالفنون السبعة الشعر القريض والموشح والزجل والمواليات والكان وكان والقوما وشرحها كلها بالألمانية مع إيراد بعض الفقرات باللغة العربية. والقوما والكان وكان لا يعرفها سوى أهل العراق. وحبذا لو عاد هذه الآونة إلى ما كان كتبه في هذا الموضوع وأشبعه مع ترجمة جميع ما يكتبه لتعم فائدته الجميع
مناقضاة العلماء
اطلعنا على رسالة للأمير شكيب أرسلأن في رثاء فقيد اللغة الشيخ إبرأهيماليازجي فما قاله فيها
لم يبرح الدهر فتاك المضارب عن ... أيامه البيض أو ليلاته السمر
إذا لها غافل عن رعي طارقه ... فللشدائد منه بالغ النذر
كفى برب المنايا واعظاً وجزاً ... رشداً لمن كان من دنيا على غرور
تخالف الناس في الأهواء حين حيوا ... وجمع الموت منهم كل منتثر
وقد يلج ببعض كيد شانئه ... ولو درى لصفا صفواً بلا كدر
وقد يحاول في أعدائه ظفراً ... وأنه بين ناب الموت والظفر
كم وترت قوس ضغن كف ذي ترة ... فأذهب الموت عزم الوتر والوتر
والدمع يغسل ما بالقلب من وضر ... كما يزول غبار الأرض بالمطر
إلى أن يقول بعد أن وفاه حقه من الرثاء
إليك حقك لا ظلم ولا سرف ... لاينكر الشمس إلا فاقد البصر
وأن يؤأخذك نقاد بباردة ... فليس يرجم إلا مثمر الشجر
وقد يعاب الذي في البدر من كلف ... وليس يسلب معنى الحسن في القمر
الإسلام في أفريقية الشرقية(16/62)
مسيو لشاتليه من كبار علماء المشرقيات المنصرفين في فرنسا إلى دراسة أحوال الشرق ولاسيما أهل الإسلام وبلادهم قضى في ذلك السنين الطويلة وهو اليوم رئيس مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية وله في الأبحاث المشار إليها عدة مصنفات ممتعة ومنها هذا الكتاب الذي أتحفنا بنسخة منه قرأنا فيها أدلة على فضله وتحقيقه فقد تكلم فيه على مسلمي غربي أفريقية كلام من رحل إليهم وخالطهم وعرف عجرهم ونجرهم وشفع كلامه بنصوص تاريخية ووصف أحوالهم الاجتماعية والدينية والمعاشية والسياسية في سفر ضخم وقع في زهاء 370 صفحة وشفعة بمصورات تفيد القارئ إذا أراد أن يتصور تلك البلاد. ومما استنتجته أن الإسلام عريق في تلك البلاد يرد عهده إلى زمن عمرو بن العاص لما فتح مصر وجاءه ستة من البربر ودانوا بالإسلام وراحوا ينشرونه بين أهلهم وعشيرتهم وأن الويز دي كاداموستو قال سنة 1455 أن الإسلام يزداد انتشاره بين قبائل الزنوج في أفريقية الغربية. ومن رأي المؤلف أن الدين المحمدي يعم الزنوج في أفريقية إذا لم يستخدم المرسلون الكاثوليك والبروتستانت لتنصير من بقي منهم من بلا دين. وعلى الجملة فقد وصف بلاد السودانيين والصحراء والبربر والعرب بما لم يبق بعده مجال لقائل شأن العارفين المحققين الذين يؤلفون ويحسنون فجاء هذا الكتاب مرجعاً يستفتيه كل من تهمة دراسة أحوال أولئك الزنوج.
منهل الوراد
قسطاكي بك من أعيان حلب مشهور بأدبه وفضله ألف بعد بحث ستة عشر عاماً كتاباً في علم الانتقاد أصدر الجزء الأول منه في نحو ثلاثمائة صفحة تكلم فيه على علم النقد عند العرب وقال أنه لم يكن معروفاً عندهم أيام استبحار العلم والحضارة في أقطارهم وأن ما عرف عنهم لا يصح في الأكثر أن يسمى نقداً وتكلم على تاريخ النقد عند سائر الأمم وفي القرون الوسطى والقرون الحديثة وعلى أساليب الإنشاء ورتب الشعر وطبقاته وأفاض في ذلك فهذا الجزء الأول هو في تاريخ النقد وموضوعه استوفى تاريخه عند الإفرنج أكثر مما استوفاه عند العرب والجزء الثاني وهو تحت الطبع في قواعد هذا الفن وفروعه. وقد أهدى المؤلف كتابه لطلاب العلم وتلاميذ المدارس عسأهم يقعون على فائدة في تضاعيف سطور صرف المصنف على تدوينها شطراً من العمر قائلا أنه خالف بذلك عادة متقدمي(16/63)
العلماء والكتاب في هذا اللسأن العربي المبين من إهداء تآليفهم لبعض أمراء عصرهم وحكام زمانهم كما فعل أبو منصور الثعالبي بإهداء كتابه نثر النظم وحل العقد إلى الملك المؤيد أبي العباس خوارزم شاه وكتأبيه المشهورين فقه اللغة ويتيمة الدهر إلى الأمير عبيد الله أبي الفضل الميكالي وحذا حذوه الفتح بن خاقان بإهداء كتاب قلائد العقيأن إلى أمير المؤمنين أبي اسحق بن يوسف ين تاشفين والفيروزابادي بإهداء القاموس لمجلس الملك الأشرف إسماعيل صاحب اليمن وأهدى الفيلسوف ابن خلدون تاريخه إلى أمير المؤمنين أبي عبد الله المريني.
بارك الله لقسطا كي بك بهمته التي ساقته إلى أفراد هذا الفن بالتأليف. والنقد كما هو معلوم يرتقي بارتقاء الأمة فعسى أن يكون من الكتب النافعة ما ينتج منه ارتقاؤه في هذا العصر بين الأمة العربية.
نجعة الرائد
أتحفنا الشيخ حبيب اليازجي بنسخة من هذا الكتاب النفيس في المترادف والمتوارد تأليف عمه فقيد اللغة الشيخ إبرأهيماليازجي وفي هذا الكتاب أبواب مهمة لا يستغني كاتب معرب عن ألفاظها وجملها التي اختارها الشيخ من أرق الألفاظ ومنسجم التراكيب للعرب وهذا الجزء في العلم والأدب وما إليهما وفي سياقه أحوال وأفعال شتى مما يعرض في الألفة والمجتمع والمعاش وفي معالجة الأمور وذكر أشياء من صفاتها وأحوالها وهو ما يقع في 225 صفحة جيدة الطبع تدل على غور كاتبها وتدقيقه فحبذا لو اعتمدت عليه المدارس المصرية في التدريس والمراجعة فإنه من خير ما ألف في موضوعه وهو يطلب من مطبعة المعارف بالفجالة بمصر.
كتاب الأخلاق
طبع محمد أفندي هاشم الكتبي هذه الرسالة المفيدة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي كتبها إلى بعض أخوانه سنة إحدى وتسعين وخمسمائة هجرية بقلم بليغ يذكرنا بنمط الأندلسيين في الإنشاء. وهذه الرسالة مما يعلي مقام الشيخ الأكبر في صدر المنكرين عليه دع عنك المعتقدين به لأنه لم يذكر فيها ما لا يقع تحت الحس بل ذكر فاضل الأخلاق وسفسافها ومما قاله فيها: وملاك الأمر في تهذيب الأخلاق وضبط النفس الشهوانية والنفس(16/64)
الغضبية هي تقوية النفس الناطقة فإن بهذه تكون جميع السياسات وهذه النفس إذا قويت (وأصبحت) متمكنة من صاحبها أمكنه أن يسوس بها قوتيه الباقيتين ويكف نفسه عن جميع القبائح ويتبع أبداً مكارم الأخلاق وإذا لم تكن هذه النفس قوية في صاحبها وكانت مقهورة خافتة فلول ما ينبغي أن يعتمده في سياسة أخلاقه أن يروض هذه النفس ويقويها وتقوية هذه النفس إنما يكون بالعلوم العقلية فإنه إذا نظر في العلوم العقلية ودقق النظر فيها ودرس كتب الأخلاق والسياسة وداوم عليها تيقظت نفسه وتنبهت وانتعشت من خمولها وأحست بفضائلها وأنفت من رذائلها وذلك أن هذه إنما تضعف وتخفت إذا عدمت الفضائل والمناقب واستولت عليها فإذا اقتبست الفضائل واكتسبت الآداب تيقظت وتنبهت من غشيتها وثارت من سكرتها وقويت بعد ضعفها وفضائل هذه النفس هي العلوم العقلية وخاصة ما دق منها والرسالة كلها من هذا النمط في الانسجام والمرامي السامية في تهذيب النفس واشرابها حب الفضيلة.
غريب القرآن
طبع محمد أمين أفندي الخانجي وشركاؤه هذا الكتاب المسمى بنزهة القلوب للأمام أبي بكر محمد عزيز السجستاني من أهل المئة الرابعة وهو على حروف المعجم مشروح ألطف شرح وأسهله متيسر معاني مفردات الكتاب العزيز أن يرجع إليها في أسرع ما يمكن من الحجم الصغير وبطلب من طابعه بثلاثة قروش.
أمالي السيد المرتضى
السيد المرتضى المتوفى في سنة 436 هو شقيق الشريف الرضي الأول عالم والثاني أديب وقد طبع هذه الآونة محمد أمين الخانجي وشركاؤه أماليهوهي أربعة أجزاء صدر الجزء الأول منها وقد جعل اشتراكه 15 قرشاً أميرياً بالاشتراك إذا اشترك المشترك قبل صدور الجزء الثاني وما بعد ذلك يباع بخمسة وعشرين قرشاً. وهذا الكتاب هو أحد مأخذ الإتقأن في علوم القرآن للسيوطي وفيه نبذ كثيرة في الأدب والتاريخ قد لا نجد أكثرها في الكتب المتدأولة وقد جعله المؤلف مجالس فكان هذا الجزء اثنين وعشرين مجلساً كل مجلس فيه ما رق وراق من الأخبار والأثار مثل تراجم بعض الدهرين والزنادقة والمعمرين وبعض رؤساء المعتزلة ومما رواه لابن المفقع من الحكم قوله: قيل أن يحيى بن زياد الحارثي(16/65)
كتب إليه يلتمس معاقدة الإخاء والاجتماع على المودة والصفاء فأخر جوابه فكتب إليه كتاباً آخر يسترثيه فكتب إليه عبد الله: أن الإخاء رق فكرهت أن أملكك رقي قبل أن أعرف كهنك. وكان يقول ذلل نفسك بالصبر على الجار السوء والعشير السوء والجليس السوء فأن ذلك من لا يكاد يخطئك. وكان يقول إذا نزل بك أمر مهم فإنظر فإن كان مما له حيلة فلا تعجز وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع وقال لبعض الكتاب: إياك والتبغ لوحشي الكلام طمعاً في نيل البلاغة فأن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة. وقيل له ما البلاغة فقال التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها. ومن كلام الجاحظ: ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي الكلام عذب ينأبيعه إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى. وقال لا تكلم العامة بكلام الخاصة ولا الخاصة بكلام العامة.
وروى من أخبار المعمرين أن عبد المسيح بن بقيلة الغساني ذكر الكلبي وأبو مخنف وغيرهما أنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة وأدرك الإسلام ولم يسلم وكان نصرانياً وروي أن خالد بن الوليد لما نزل على الحيرة وتحصن منه أهلها أرسل أبعثوا إلي رجلاً من عقلائكم وذوي أنسابكم فبعثوا إليه بعبد المسيح بن بقيلة فأقبل يمشي حتى دنا من خالد فقال: أنعم صباحاً أيها الملك قال: قد أغنانا الله عن تحيتك فمن أين أقصي أثرك أيها الشيخ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت قال: من بطن أمي. قال: فعلام أنت قال: على على الأرض قال: ففيم أنت قال: في ثيأبي. قال: أتعقل لا عقلت. قال: أي والله وأقيد. قال: ابن كم أنت. قال: ابن رجل واحد. قال خالد: مل رأيت كاليوم قط أني أسأله عن الشيء وينحو في غيره. قال: ما أجبتك إلا عما سألت فأسأل عما بذلك. قال: أعرب أنتم أم نبط قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا. قال: فحرب أنتم أم سلم. قال: بل سلم. قال: فما هذي الحصون. قال: بنيناها للسفينة نحذر منه حتى يجيء الحليم فينهاه. قال: كم آتي لك. قال: خمسون وثلاثمائة سنة. قال: فما أدركت سفن البحر في السماوة في هذا الجرف ورأيت المرأة تخرج من الحيرة وتضع مكتلها على رأسها لا تزود إلا رغيفاً حتى تأتي الشام ثم قد أصبحت خراباً يباباً وذلك دأب الله في العباد والبلاد قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه. فقال له خالد: ما هذا في كفك. قال: هذا السم. قال: ما تصنع به. قال أن كان عندك ما(16/66)
يوأفق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته وإن كأنت الأخرى لم أكن أول ساق إليهم ذلاً وبلاءً أشربه فأستريح من الدنيا فإنما بقي من عمري اليسير. قال خالد: هاته فأخذه ثم قال بسم الله وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء فشربه فتجللته غشية ثم ضرب بذقنه في صدره طويلاً ثم غرق فأفاق كانما نشط من عقال فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضربه صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم فإن هذا أنر مصنوع لهم على مائة ألف درهم يقول:
أبعد المنذرين أرى سواماً ... يروح بالخور نق والسد ير
أبعد فوارس النعمان أرعى ... مراعي نهر مرة فالحقير
تحاماه فوارس كل قوم ... مخافة ضيعم عالي الزئير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كمثل الشاء في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
نودي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج بني قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساة أو سرور
وبالجملة فالكتاب رخيص الثمن ثمين القيمة والنفع جداً وقد عني السيد محمد بدر النعساني
الحلبي بتصحيحه وضبط ألفاظه وتعليق بعض حواش هذا الجزء في 330 صفحة مطبوع الطبع المتوسط مشكول محل الأشكال من ألفاظه.(16/67)
العدد 17 - بتاريخ: 15 - 6 - 1907(/)
غلو الشرقيين
عرف العلماء البيأن المبالغة بأنها وصف شيء بما لا يزيد على الواقع واختلفوا في جوازها وأباحتها فجعلوا منها المقبول ومنها المردود وهو الرأي الراجح وقسموا المبالغة إلى أقسام ثلاثة الأول التبليغ وهو وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه في العادة والثاني الإغراق وهو وصف الشيء بالممكن في العقل دون العادة والثالث الغلو وهو الوصف الذي لا يمكن عقل ولا عادة.
ولقد درجت سوق الغلو ولا تزال رائجة في الشرق بما سرى إليه من ضعف العقول بضعف العلوم التي تنفع في التميز بين ما يقع وما يمتنع. والغلو موجود عند كل أمة ولكنك تراه على أشد عند المشارقة فإن المفهوم من تاريخ المغاربة وآدابهم بأنهم دوننا في المبالغات والسبب في ذلك والله أعلم أن فلسفة أبناء الغرب فلسفة حسية مبنية على الحس وفلسفتنا فلسفة خيالية.
الشرقي يبالغ ويفحش في الغلو بالدقيق والجليل من شؤونه الدنيوية والأخروية فقد بالغ في تصوير الأمور الروحية حتى صار كثير من أممه يؤلهون المخلوقات ويسجدون للجمادات والعجماوات أو يثبتون لما يحترمون من الآداميين من ضروب الصفات ما تضل في تكييفه العقول ويعتريها الذهول.
جاءت الأديأن السماوية لنزع هذا الغلو من العقول فسلمت بتعاليمها العقول في بعض أصقاع الشرق حيناً من الدهر حتى عادت بالتدريج إلى سابق أعراقها وإفراطها في وصف البشر وتاليههمإلى حد الهزل فدل ذلك على عموم الجهل وضعف العقل. الشرقي يبالغ في تصوير الصفات فإذا وصف أحد بالعفة اختلق له النعوت ما تمليه المخيلة وتساعد عليه محفوظاته من ألفاظ اللغة وأقل ما يصف به من يريد وصفه أن يثبت له من الصفات ما لا يليق بعضه إلا بأكبر دعاء من أفراد العالم.
الشرقي يبالغ إذا وصف أحداً بالسخاء والشجاعة والمروءة والشمم وكل ما يرفع النفوس إلى المقامات السامية. وفي دواوين الشعر وكتب المحاضرات أمثلة أكثر من أن تحصى أو يشهد بها فأقرأها يتجلى لك كيف تضيق الأحلام بالأوهام وأنى تسطو الخرافات على المخلوقات.
نعوذ بالله من شعرائنا الجاهلين والمخضرمين والمولدين إذا أنشأوا ينشئون القصائد(17/1)
ويشدون بالمناقب والمحامد. تأملها ملياً وضعها على محك النقد الصحيح وأنصف في تطبيق مفأصلها على وأنظر إذا كنت لا توجب عليهم الكفارات لفرط ما غلوا في المبالغات وإذا غاليت أيضاً فأحكم عليهم بالجلد مئين واسجنهم لئلا يعلموا الناس هذا الخلق المشين ويحملوا إليهم ذاك الرأي الدفين. وقل معي أن أمة تقول أعذب الشعر أكذبه وأشعر الناس من استجيد كذبه هي أمة المبالغة والغلو.
ومع أن الحساب من اخترع الشرقيين وكان له فيما مضى بين ظهرانيهم شأن عظيم ترى خاصتنا في القديم والحديث إذا عدوا وقاسوا نسوا الحساب والمساحة وإذا قدروا وغلوا في عالم الخيال عن طور الحس وتناسوا التدقيق فكالوك أو وزنوك بالألوف وربما كانت في العشرات.
ترى قومنا هدأهم الله إذا سألت أكثر الطبقة العالية منهم كم قوة الدولة الفلانية أجابوك لساعتهم كذا وكذا بتحديد الأرقام مع أنك لو سألت كبار رجال تلك الدولة لتمهلوا في الجواب واضطروا أن يرجعوا إلى حساب وربما في نفوسهم بعد ذلك من صحة ما قالوا أشياء كما مات الفراء وفي نفسه شيء من حتى.
ترى كثيرين من خاصتنا إذا سألتهم عن الثروة لا يسعك إلا أن تقف شاخصاً تستعيذ بالله من غلو المشارقة وتجويزهم الكذب وإيغالهم في الباطل وضعف استقرائهم واستنتاجهم وغفلتهم عن القياس. قف وأسأل الله السلامة وهم يصورن لك صاحب المئة من الألوف وصاحب مئات الألوف وهكذا إلى ما شاء الله وشاء اتساع عقولهم.
ولقد كان بعض الظرفاء يقول: إذا ذكرت أموال في صاحب الثروة في الشرق وقدر ما تملك يمينه فأحذف صفرين من اليمين الأرقام فإذا قالوا لك فلاناً يملك عشرة آلاف فأعرف أنه يملك مئة وإذا قيل لك مئة ألف فأعرف أنه يملك عشرة آلاف وهكذا افرض أقل تعديل لعلك تسقط على الحقيقة وكان يقول إذا لم تصدق فأسأل العابدين ممن يقدرون ثروات الأفراد إلى آخر درهم مما عندهم على حين أنك لو سألت أصحابها عما يملكون لما عرفوا أن يقدروا لك إلا بالتخمين والتقريب هذا إذا لم يكونوا من أهل الغلو والإغراق.
أجارك الله من شرقي يتشدق بذكر عالم عرفه أو سمع به أو جد نسب إليه ولاسيما إذا كان ذاك العالم في عالم الأموات والشرقي يرى المبالغات بالأموات من أقرب القربات ولعله(17/2)
يحيل على بعيد عن قصد لأن الحكم على الأحياء القريبة يستلزم منه أن يأخذ المتكلم من لسانه وبيانه.
ساعدت الجرائد والمطابع والمدارس على تخفيف الشرقيين من المبالغات ولكنها لم تتمكن إلى اليوم من نزع هذا الخلق المتأصل في السواد الأعظم وبعض الناس في الغالب مسوقون إلى المبالغة بحكم العادة والبيئة. ولقد وقعت من ذلك حادثتان كانتا من أكبر الأدلة على أن هذا الخلق فينا لا ينزع إلا إذا أكثر الكتاب من التنديد فيه وعملنا كلنا على قلب أوضاع مجتمعنا وعاداته.
فالحادثة الأولى جرت في مصر إبأن العقبة في السنة الماضية فقالت إحدى الجرائد المتحمسة أن الدولة حشدت في عريش مصر ثمانمائة ألف جمدي كتبت ذلك برقم غليظ ولما سئلت من الغد في معنى هذه المبالغة قالت أن المحشود من الجنود هو ثمانون ألفاً وأن الصفر زائد وبعد التحقيق تبين أن ما كان جمع هناك من الجند لم يتجاوز الألفين فتأمل مبالغة تقولها جريدة كبرى في مدينة كالقاهرة في مثل هذا العصر عصر الإحصاء والتقدير في قطر اتصل جنوبه بشماله وشرقه بغربه بالخطوط الحديدية والأسلاك البرقية والتلفونية بحيث لا يحتاج تحقيق هذا الغلو إلا لشيء من البحث.
والحادثة الثانية جرت لصاحب هذه المجلة أذكرها للقارئ على سبيل التمثيل والفكاهة فإني ما ذكرتها إلا وذكرت معها غلو الشرقي. ذلك أني كنت منذ تسع سنين أكتب جريدة الشام فنعى الناعي ذات يوم رجلاً من وجهاء إلا طراد في صالحية دمشق كان معروفاً بين أهل جيله وحيه بأنه من المعمرين المتمتعين فقال لي الناعي وكان من أكابر الفضلاء: أكتب أنه مات عن خمس وثلاثين سنة بعد المئة. فقلت له: أن العدد عظيم فهل لك أن تنزله فنهرني وقال: أكتب والحق أقول أن المرحوم كان أطول عمراً مما قلت لك يعرف الناس حتى أن فلاناً قال لي ذلك وأكده أفلا يسعك ما يسع العارفين به وعندها كتبت: ومات عن عمر جاوز الخامسة والثلاثين بعد المئة. ولم يكشف الناعي بذلك بل قال أن المتوفى خلف خمسمائة نفس ذكوراً وإناثاً فكتبت بعد تأبينه والغلو في ذكر عاداته وصحته طول حياته: ومما يجدر بالذكر أن له من الولد وولد ما ينوف عن خمسمائة نفس ذكوراً وإناثاً.
كتبت هذا وأنا بين الشك واليقين في صحته لكني كنت والحق يقال إلى اليقين أقرب لأن(17/3)
النأقل ممن اعتقد فيهم سعة العقل وصحة القياس. فأعجب الناس بما كتب وتحدثوا به وربما زاد بعضهم فقال: أن عمر المرحوم كان أكثر مما ذكر وأن الجريدة أخطأت في تقدير عمره ولعل سنه لا تقل عن مئة وخمسين وأولاده وأحفاده أكثر مما ذكر وأن الجريدة أخطأت في تقدير سنه لا تقل عن مئة وخمسين وأولاده وأحفاده أكثر من ذلك بمئين.
ولما انتشرت الصحيفة في البلاد تنأقلت الخبر عنها بعض المجلات العلمية وأكثر الجرائد السيارة في البلاد العثمانية وربما لم تغفل زميلاتها في مصر أيضاً عن نقل هذا النبأ الغريب فدهشت من هول ما رأيت ونبهني أحد العقلاء إلى هذا التسرع في الحكم على عمر الميت وأولاده فلم يستغني إلا أن أخذت في تحقيق فتبين أن الرجل لم يتجاوز المئة وأن أبناؤه وأبناء أبناؤه هم دون الخمسين بيقين. ون ظل بعض أحباب المبالغة يقولون أن الرجل مسن جداً وقد حارب في جيش إبرأهيمباشا المصري ولكن لم يسعهم أن يكثروا في عداد أولاده لأن الإغراق في عددهم يكذبه العيان وأما عمر والدهم فليس فيه مستند تاريخي صحيح يعول عليه ما دام الشرقي يأخذ تاريخ رجاله وأكثر ساسته في الأكثر من أفواه الشيوخ والعجائز. وبعد مدة ظهر لي أن المتوفى ومن صحته ونشاطه وقالت أن عمره مئة وخمس وعشرون سنة. فكان مل جرى من المبالغة في تقدير عمر الرجل وأولاده وأحفاده أشبه بما تأتيه الجرائد الصفراء في أميركا من الغلو في تجسيم الأخبار لإلفات الأنظار.
وأحسن تعليل للمبالغة ما ذكره ابن خلدون بقوله: وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه. وتفاوضوا في الأخبار عن الجيوش المسلمين والنصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء والموسرين توغلوا وطاعوا وساوس الأغراب فإذا استكشف أصحاب الدواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدونه وما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتخذ آيات الله هزواً ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة.(17/4)
المرأة في الإسلام
تعدد الزوجات حالة لأزمة لبعض درجات النشوء العمراني لا مناص منها فكثرة الحروب بين القبائل وما ينشأ عنها من نقص الرجال مع حفظ عدد النساء واستبداد الأمراء أمور توجب أمور كلها توجب هذه العادة التي نستقبحها في عصرنا هذا ونراها ضرراً عظيماً.
ولقد عرف تعدد الزوجات في القديم بين الأمم الشرقية كافة واستعمال الملوك لها وهم مظنة الاتصال بالله تعالى حللها للرعية وحببها إليهم وقد انتشرت في الهندوس وهم مجوس الهند منذ ابتداء أمرهم والظاهر أنهم كانوا كالماديين والآشوريين والبابليين والفرس لا حد لهم في التزوج من النساء وأن برأهمة الصف الأول إلى يومنا هذا يباح لهم من تعدد الزوجات ما تشتهي نفوسهم.
وانتشرت هذه العادة أيضاً في بني إسرائيل قبل ظهور موسى وهو رضي بها من غيره أن يضع حداً لها إلا أن التلمود في الأعصر المتأخرة علق العدد على كفاءة الرجل ومع أن الربانيين وهم أحبار اليهود نصحوا للناس بأن لا يتزوجوا بأكثر من أربع فقد خالفهم القراء ون في ذلك ولم يجوزوا وضع حد ما.
ودين الفرس الأقدمين يكافئ الرجل على تعدد زوجاته وقد انحطت هذه العادة عند الفينيقيين والسوريين الأقدمين إلى الخروج عن الأطوار البشرية وبلغت عند التراسيين والليديين والبلاسجيين الذين نزلوا القارة الأوروبية وغربي آسيا ما لم تبلغه ويوصي به بعد الموت. وأبيح لهم من التعدد ما شاؤوا.
أما رومية فإن الأحوال الخاصة التي بنيت عليها أدارتها منعت تعدد الزوجات غالباً.
ومهما يكن من صحة ما ورد من اغتصاب الصابنيات فإن وجود هذا في الأساطير الرومانية الخاصة بالزواج. أما في الأقطار المجاورة وخصوصاً عند الأترسكانيين فإن تعدد الزوجات من العادات الممتازة أصحابها. ومجاورة الرومانيين لغيرهم من الأمم سكان إيطاليا أحقاباً متوالية وحروبهم وانتصاراتهم قروناً عديدة مع ما ينشأ عن ذلك من عادات البذخ كل ذلك منه أخيراً أن الارتباط الأخلاقي في الزواج أصبح سبيهاً بالألفاظ المرددة ليس إلا.
وإذا كان تعدد الزوجات ممنوعاً في صريح القانون الروماني فإن السيدات الرومانيات بعد الغلبة على قرطا جنة تطالب نفوسهن للانتفاع من منافع جمهورية حرة ضخمة كالجمهورية(17/6)
الرومانية فلم يروهن غير العاشقين وأصبح الزواج حينئذ تسرباً مختلطاً. وتشير حرية النساء وضعف ارتباطهن بالرجال وكثرة تغيير الزوجات وإفراغهن على الغير - إلى أن انتشار تعدد الزوجات تحت اسم مستعار.
وفي غضون ذلك ابتدأت تعليم النصرانية الأولى تنتشر على شطوط الجليل وتنير العالم الروماني كله. وتأثير الاسينيين الظاهر في تعاليم المسيح وما يضاف إليه من الاعتقاد بقرب صراحة.
وهكذا بقي حال تعدد الزوجات حتى منعه يستيانس إلا أن هذا المنع القانوني لم يغير شيئاً في آداب الأمة وبقي حال تعدد الزوجات كما كان عليه حتى مجته أذواق أهل القرون المتأخرة وكأنت الزوجات ما عدا الزوجة الأولى تئن تحت أعباء ثقيلة لا حقوق لهن ولا ضامن بل كن عبيد أوهام أزواجهن وتصوراتهم وأولادهن لا يورثون بل كانوا يدعون نغولاً ويعاملون معاملة المتشردين ولم يكن هذا النوع من الزواج محصورا في الطبقة العالية فقط لأن خدمة الدين كثيراً ما نسوا عهد الرهبانية وارتبطوا بغير واحدة من النساء سواء كان ارتباطا مشروعا أو غير مشروع.
ومن المحققات التاريخية التي لا تقبل الشك أن تعدد الزوجات لم يستنكر إلا في الأعصر المتأخرة. والظاهر أن القديس اغسطينس نفسه لم ير فيه سقوطاً في الآداب أو إثماً وحرجاً بل صرح أن تعدد الزوجات لا يعد جريمة لأن قوانين البلاد تبيحه.
وأننا نرى المصلحين الجرمانيين وهم في عصر متأخر كالعصر السادس عشر أباحوا الزواج مثنى وثلاث لأسباب العقر أو ما أشبهه.
ويقول بعض الباحثين وهم لا يرون إثماً في تعدد الزوجات أن المسيح لم يصرح بمنع هذه العادة ويذهبون إلى أن الاقتصار على زوجة واحدة هو من العوائد الداخلة على النصرانية من الجرمانيين أو اليونانيين والرمانيين. أما الاحتمال الثاني فهو يخالف الحقائق التاريخية مخالفة ظاهرة ولا يجدر بالذكر.
وأما الاحتمال الأول وهو القول بالأصل الجرماني فإنه يتوقف على شهادة ضعيفة لواحد أو اثنين من الرومانيين الذين هم أكذب الناس في شهادات ينتفعون من التلاعب بها ولو فرضنا صحة شهادة تأستس فبماذا نعلل تعدد الزوجات بين سراة الجرمانيين حتى القرن(17/7)
التاسع عشر؟
ومهما يكن من عوائد الرومانيين في العصور الأولى فمن الواضح أن تعدد الزوجات في أواخر أيام الجمهورية وابتداء الأمبراطورية كأن سنة مقررة أو على الأقل لم يحسب مخألفاً للقانون. والأمر الصادر بمنع نشر تعدد الزوجات يشير إلى وجوده واستعماله ونجاح هذا الأمر البريتوري في إصلاح الخلل ودفع الضرر يظهر لمن طالع جواب الأمبراطور هونور يس والأمبراطور أركاديس في أواخر القرن الرابع وعرف سلوك قسطنطين وابنه اللذين كانت لهما زوجات متعددة. وأن الأمبراطور فالينتيأن الثاني أذن علناً لأفراد رعيته أن يتخذوا من الزوجات ما شاؤا. أما الكنيسة استاؤا أو أطهروا على الأقل اعتراض على القانون بل أننا نرى ملوك رومية كانوا على العكس وتزوجوا بعدة نساء وكذلك عامة الناس لم يقصروا عنهم فقلدوهم.
وهكذا بقي حال الشرائع الرومانية حتى أيام يستيانس حين تجمعت حكمة ثلاثة عشر قرناً من قرون النشوء في تدبير المعيشة فسنت تلك الشرائع الجديدة التي لم يكن للنصرانية فيها أثر يذكر وأعظم مشيري يستيانس كان ملحداً وثنياً. على أن منع تعدد الزوجات في قوانين يستيانس لم ينجح في أبطألها وإيقاف أميال العصر. وهذا القانون يدل على ترق في الفكر واختص تأثيره ببعض الأفراد أرباب العقل وأما العامة فكان عندهم حبراً على ورق.
أما في مقاطعة غربي أوروبا فاختلط البرابرة بالسكان الأصليين وامتزج آدابهم بآدابهم حط من علاقة الرجل بالمرأة. ولا ينكر أن بعض القوانين البربرية سعى في إصلاح تعدد الزوجات إلا أن المثال أقوى من الكلام فكان اعتياد الملوك هذه العادة قدوة للعامة لا يقوى عليها النظام حتى أن خدمة الدين والرهبانية الدائمة مما يستحب لهم حباً بطاعة الكنيسة قد رووا أنفسهم من عادة تعدد الزوجات بحصولهم على رخصة بسيطة من المطارنة أو غيرهم من رؤساء الدين.
وأعظم خطأ ارتكبه كتاب النصارى اعتقادهم أن النبي العربي تمتع بتعدد الزوجات أو شرعه وما كأن يقال قديماً من أنه هو الذي أحدث هذه العادة هو علامة على جهل القائلين به وقد ظهر فساده ورده الأعداء ولأصدقاء. وأما القول بأن النبي انتحل هذه العادة أو شرعها فلا يزال تقول به عامة النصرانية وكثير من خاصتها من أهل العام ولكن لا أرى(17/8)
أفسد من ذلك وأن النبي لم يجد عادة تعدد الزوجات في أمته فقط فقد وجدها شائعة عند جميع الأمم المجاورة حيث اتخذت بعض أقبح صورها. نعم أن المملكة النصرانية سعت في دفع هذا الضرر إلا أنها حاولت عبثاً فتعدد الزوجات بقي على ما كان عليه غير وازع المرأة البائسة ما عدا الزوجة الأولى بقيت تئن أنيناً.
وقد كانت بلاد فارس أيام منبعث الفساد ولم يكن لها قانون للزواج معترف به وإذا فرضنا وجوده فإنه كان مجهولاً منبوذاً ولم يحدد الزند فستا عدد الزوجات التي يمكن التزوج بها أرخى الفرس لأنفسهم عنأن التمتع بزوجات متعددة شرعيات وسراري.
وزواج المتعة كان مألوفاً عند الجاهلين واليهود مع عادة تعدد الزوجات فأثرت هذه النصورات الأخلاقية الدنيئة في الجزيرة العربية أسوأ تأثير.
حسنت الإصلاحات التي قام بها النبي العربي حال المرأة تحسيناً ظاهراً ورفعت مقامها لأن المرأة كانت في الجاهلية وعند اليهود من أهل الجزيرة العربية على أحط ما يكون فكأنت الفتاة اليهودية تعامل معاملة كالخادمة في بيت أبيها وكان له أن يبيعها إذا كان مقلاً من المال ولأولاده من بعده أن يتصرفوا بها كيفما شاؤا وهي وأبيها لا ترث شيئاً من مال أبيها أن لو يمت أبتر لا ذكور له وكأنت المرأة عند الحضر من العرب مالا وتحسب جزءاً صحيحاً من ثروة والدها أو زوجها والأرملة تصبح بعد وفاة زوجها مما يرثه الأولاد لذلك كثيراً ما تزوج الأبناء بزوجات أبائهم من بعدهم وهو زواج حرمه الإسلام وسماه المسلمون زواج المقت. ومما استعملها أهل اليمن.
وبلغ بغض الجاهليين للنساء أنهم يئدون بناتهم وهي عادة فظيعة كانت منتشرة بين قريش وكندة. وقد استقبحها النبي جداً وأنكرها بعبارات كالصواعق بل هي أشد وجعل لها ولعادة تقديم الأطفال للأرباب أشد العقاب.
أما المرأة في المملكتين الفارسية والبيزنطية فكانت منحطة وبعض أهل الطيش ممن دعأهم النصارى بعد زمن قديسين كان ديدنهم أن يحطوا من قدر المرأة ناسين أن الشر الذي رأوه فيها إنما هو صورتهم المعكوسة. وعلى هذا الحال من الانحطاط العمراني والانحلال الأدبي ونداء الناس أن الشرائع القديمة بعد وزنها بميزأن التجربة ناقصة أدخل النبي إصلاحاته فجعل احترام المرأة من أركان دينه ودعي أتباعه ابنته خاتون الجنة حباً بها(17/9)
واحتراماً لها وهي عندهم مثال لنوعهاوسيدتنا الزهراء تمثل الأخلاق الفاضلة وعفة الإزار في المرأة وهي أسرف كمال أدركه الإنسان وقد خلفتها سلسلة من النساء طويلة كرمت هذا الجنس بفضائلها حتى قل من لم يسمع بالسيدة رابعة وبألف من اضرابها. وقد منع النبي في شريعته عادة الزواج المشروط ومع أنه أباح المتعة في أول الأمر لكنه حرمها في السنة الثامنة من الهجرة. وأعطى المرأة من الحقوق ما لم يكن لها من فبل وخولها امتيازات سوف تقدر قدرها كلما تقدم الزمن فساواها بالرجل كل المساواة من حيث استعمال القوى الشرعية ووضع لتعدد الزوجات حداً أعلى وشرط العدل بينهن ومما هو حري بالنظر أن الآية القرآنية التي تبيح التزوج بأربع يتبعها ما يرجع العدد إلى الحد الطبيعي والآية هيوأن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فإنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة.
والتشديد في هذا الشرط مع النظر إلى معنى كلمة العدل في التعاليم القرآنية لم يخف على عقلاء الأمة الإسلامية وليس المقصود من العدل المساواة في المسن والملبس وغيرهما من الحاجات الأهلية بل المقصود منه أيضاً المساواة في المحبة والميل وهذا لم يخف على التزوج بواحدة فقط. ومع أن اضطهاد المتوكل الطائش منع مبادئهم فإن الاعتقاد يسري في أركان البلاد الإسلامية الراقية بأن تعدد الزوجات مخالف الشريعة الإسلامية الغراء كما ينافي تقدم العلم والتمدن.
ومما يجب النظر إليه أن تعدد الزوجات ينشأ عن أحوال خاصة ففي بعض الأزمنة وفي بعض انتقال الهيئة الاجتماعية من حال إلى حال يكون من الضروريات الأساسية لحفظ المرأة من الهلاك وإذا صحت الأخبار والإحصائيات فأكثر الفظائع المنتشرة في منبعث المدينة الغربية ناشئ عن الحاجة الشديدة وقد أشار أب هك والسيدة دف غوردن إلى أن تعدد الزوجات في الشرق هو في الغالب مما تؤدي إليه ضرورة الحال.
ولما تقدمت الأفكار وتحولت الأحوال ذهبت ضرورة تعدد الزوجات وأصبح استعمالها إما مهجوراً مسكوتاً عنه أو ممنوعاً صراحة. ولذلك أصبحت البلاد الإسلامية التي تغيرت فيها الأحوال الداعية إلى تعدد الزوجات تعد هذه العادة ضرراً عمرانياً ومبدأ يخالف روح الإسلام التي لم تتغير فيها هذه الأحوال حيث لا توجد الوسائط والمعاشية التي تعتمد عليها(17/10)
النساء في البلاد المتمدنة.
ولمعترض أن يقول أن الإباحة الكلامية تترك محلا للتمتع المشبوه والتلذذ المستكره لذلك يكون تعدد الزوجات من الأعمال الشاقة ونحن نسلم بقوة هذا الاعتراض وهو حري بألفات نظر من يريد تخليص التعاليم الإسلامية من المذمة الملتصقة بها ويريد التقدم مع الزمن. ومما يجب ذكره أن مرونة الشرائع هي أعظم محك نعرف به قيمة تلك الشرائع ومنافعها وهي سر القرآن لأنه تقبله أرقى الشعوب وهو يسد عوز أحطها ولا يتعامى عن الاقتصار على زوجة واحدة ضرراً شديداً. أما القيام بأبطال تعدد الزوجات فليس الصعوبة بالمكان الذي يتوهمه بعضهم. والمصيبة التي أصابت المسلمين وهي أصل ما هم عليه اليوم منعهم الاجتهاد وتمسكهم بالتقليد.
وليس بالبعيد يوم يرجع فيه الفقهاء إلى كلام النبي في حل مسألتهم وهي هل يقلدون النبي أم يقلدون الذين استعملوا اسمه الكريم في أغراضهم أو أغراض الأمراء الذين عاشوا في أكنافهم. وقد مرت أوروبا في مثل هذا الطريق وكلن الأولى بها أن تراقب نهضة الإسلام وإصلاحه بالصبر والحنو لا أن تسلقه بالسنة حداد. ومتى تم التخلص من شرك الأفكار القديمة يصير من السهل على مشتر عي البلاد الإسلامية نسخ تعدد الزوجات إلا أن سداداً كهذا لا يتأتى إلا بعد ترق عام في إدراك الحقائق وأحاطة بروح الإسلام.
وإن موافقة التعاليم الإسلامية لكل درجة من درجات الترقي تدل على حكمة المعلم. وليس تعدد الزوجات بين أقوام متدنية وله من الشروط ما وضعه النبي مما يؤسف له وهو على الأقل خير من عادة تعدد الأزواج وخير وازع أدبي. وكلما انتشر العلم وكثر التهذيب قدرت أضرار تعدد الزوجات قدرها وصار الناس أكثر علماً بوسائط منعها. ولا نقول الآن أن مسلمي الهند استفادوا كثيراً من اختلاطهم بالبرأهمة الذين يحل لهم في مذهبهم الفجور جهاراً بل نقول أن هؤلاء المسلمين فسدت أخلاقهم وانحطت تصوراتهم التي من شأنها رفعة الإنسان وتشريفه ونقاء قلبه وانتشرت طبقة الهتري بينهم كما هي بين جيرانهم الوثنيين ومع ذلك فثمة دلائل محسوسة يضيء قلوبهم ويخرجهم من ظلماتهم. وقد أدى المعتزلي اجتهاده إلى الاقتصار على زوجة واحدة لأن الشريعة تمنعه من ارتباط ثأن في خلال وجود ارتباط سابق. والخلاصة أن الزواج في عرف المعتزلة هوأن يكون ارتباطاً(17/11)
اختيارياً حتى آخر رمق بين رجل وامرأة واحدة وهو اليوم حد الاقتصار على زوجة واحدة.
وقد سرى كره تعدد الزوجات وصار من المسلمات العمرانية أن لم يكن من المسلمات الأخلاقية وهو مع كثير من العوامل الخارجية يقتلع هذه العادة من بين الهنود المسلمين حتى صار من المعتاد بينهم أن يضعوا في عقد الزواج جملة تمنع الزوج صراحة من حق التزوج بثانية ما دامت الأولى موجودة. وفي كل مئة منهم اليوم خمسة وتسعون مقتصرون على زوجة واحدة وهذا إما لاقتناعهم بفائدة ذلك أو لاضطرارهم إليه. وتستقبح عادة تعدد الزوجات بين الطبقات المهذبة العالمة بتاريخ أسلافها والقادرة على مقابلته بتاريخ بقية الأمم إما في بلاد فارس فقسم صغير من السكان يتمتع بهذه العادة المشكوك بلذتها والمأمول أن يقوم قريباً جماعة من حكماء المسلمين يفتون بأن تعدد الزوجات كالرق مكروه في شريعة الإسلام.
ولنرجع الأن إلى موضوع زواج النبي المتعدد وهو يظهر لكثيرين ممن يجهلون الحقيقة أو يتجأهلون موضع انتقاد ومحل لوم. ومنتقدوه من النصارى يذهبون إلى أنه باتخاذه زوجات متعددة ميز نفسه بما لم يجوزه الشرع فأظهر ضعفاً في الأخلاق يصعب اتفاقه مع النبوة. إلا أن التعمق في التاريخ وتقدير الحقائق بدلاً من أن يبرهن أن النبي كان مفرطاً في الشهوات يدل دلالة صريحة على إنه كان يفادي بالعزيز في سبيل الغير باتخاذه بحسب شرع أمته عدة زوجات فقيرات وسد حاجتهن وهو فقير لا مال له ولا عقار. وأننا إذا درسنا عواطفه درساً مدققاً ونظرنا إليها من الجهة الإنسانية يظهر لنا تخرص المعترضين عليه. ولما تزوج خديجة كان في الخامسة والعشرين من العمر وكانت هي أسن منه كثيراً وقد قضيا سوية نحو ربع قرن رافلين في أثواب السعادة والإخلاص وكانت كل هذه المدة رفيقه الوحيد ومساعده الأمين على تخفيف ما كان يصيبه من أذى قريش واضطهادهم وعند حلول أجلها كان في الحادية والخمسين ولا يمكن لأعدائه أن ينكروا أنهم لا يرون في حياته كل هذه المدة ثلمة في أخلاقه أو نقطة سوداء في صحيفته البيضاء. وهو لم يتزوج بغيرها في حياتها على أن الرأي العام في عشيرته يجّوز له ذلك لوشاء.
وعند رجوعه من الطائف بعد بضعة أشهر من وفاتها وهو ضعيف مضطهد تزوج بسودة(17/12)
أرملة السكران وهو ممن كان أسلم وهاجر إلى بلاد الحبشة فراراً بدينه وبنفسه من قريش وقد توفي في منفاه وأبقى من بعده أمرأته في أشد البؤس والشقاء. وعوائد البلاد لا تمكنه من مساعدة هذه المسكينة الفقيرة أن لم يتزوج بها لذلك نرى أن مبادئ الإنسانية والشفقة تحتم عليه اتخاذها زوجاً له على إنه كان حينئذ في أضيق الحالات.
وكان عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة المعروف بعد ذلك في التاريخ (بأبي بكر) من أتقى الأتباع وأشدهم تعلقاً بالنبي وأسبقهم للإسلام وهو أشبه بعلي بن أبي طالب من حيث حبه للنبي وكانت له ابنة صغيرة اسمها عائشة فكإن جل قصده أن يمكن علاقته بالنبي بتزويجه ابنته وكانت في السابعة من العمر إلا أن عوائد البلاد تسمح بذلك الزواج وبعد الإلحاح صارت تلك الآنسة الصغيرة في مصاف الزوجات الطاهرات.
وبعد مدة من وصول المهاجرين إلى المدينة حدثت مسألة تدل على حال المعيشة العربية في ذاك الزمن وكل من عرف العرب وعرف أنهم أهل أنفة وحرب وأثار يتيسر له أن يدرك سر هذه الحادثة وهي أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني كانت له ابنة اسمها حفصة فقدت زوجها في غزوة بدر وكانت صعبة المراس وصعبة المزاج كأبيها لذلك كان يتجنبها الصحابة ويكرهون التزوج بها فكان هذا كاللوم والتوبيخ عند أبيها وليدفع عن نفسه ذلك عرضها زوجة على أبي بكر فأبى ثم عرضها على عثمأن فأبى فذهب مغضباً إلى النبي ليشكو إليه ما لحقه من العار فكان لا بد من إرضائه وتستكين غضبه بحل هذا النزاع وأسبابه الواهية من المضحكات لكنه كان كافياً في ذلك الزمن لإشعال نار الفتنة بين المؤمنين وهم في أول أمرهم فتدارك النبي ذلك وسكن غضبة عمر بتزوجه ابنته وهكذا أرضى أصحابه وأصلح ذات البين.
ومن زوجاته هند أم سلمة وأم حبيبة وزينب أم المساكين وهن أيضاً كن أرامل ذهبت عداوة قريش بمن يعيلهن وامتنع قرابتهن عن مساعدتهن أو لم يكونوا أكفاء قادرين.
وكان النبي زوّج صديقه ومولاه زيداً سيدة اسمها زينب تنتسب لبيتين من أشرف بيوت العرب فلفخرها ونسبها وربما بجمالها أيضاً كانت تغتاظ من زواجها بمولى من الموالي وربما زاد الطين بلة تكرار زينب في حال مناسبة كليمات كان قالها النبي وقد زار زيداً ورآها مكشوفة الوجه وهي (سبحان الله العظيم سبحان الله مصرف القلوب) - جملة يقولها(17/13)
اليوم كل مسلم يرى صورة جميلة - وكانت زينب كثيراً ما تكرر أمام زوجها هذه الكلمات التي قيلت في الإعجاب الطبيعية لتريه أن جمالها أعجب الناس حتى النبي.
ولما عيل صبر زوجها زيد عزم أخيراً أن يطلقها فذهب إلى النبي ليظهر له فقال له النبي (مالك أرابك منها شيء؟) قال (لا والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ولا رأيت إلا خيراً) فقال له النبي (أمسك عليك زوجك واتق الله) إلا أن زيداً لم يطع الأمر الشريف فطلقها فأغتاظ النبي من عمله خصوصاً وهو الذي خطبه عليه وزجه بها وبعد نجاح زينب في الخلاص من عصمة زيد قامت تلح في التزوج بالنبي ولم ترجع حتى تشرفت بأن تكون في عداد زوجاته.
وللنبي امرأة أخرى تدعى جويرية ابنة الحارث سيد بني المصطلق كان في غزوة لإخماد ثورة قامت بها عشيرتها ورضي منها من أسرها أن تفتدي نفسها بفدية تقدمها له فسألت النبي هذا المال فأعطاها اياه حالاً فاعترافاً بفضله عليها وشكراً له عرضت نفسها عليه فرضيها زوجة وحالما عرف المسلمون هذا الارتباط الجديد قالوا فيما بينهم أن بني المصطفق صاروا من ذوي قرابة النبي فيجب علينا أن نكرمهم ونعاملهم بما هم أهله وهكذا عفوا عن الأسرى حتى بارك هذا الزواج السعيد مئة أسرة أطلقت من الوثاق. وكانت صفية اليهودية ممن أسره المسلمون في غزوة خيبر فأعتقها النبي وكرمها بالتزوج بها.
ومن زوجاته ميمونة وهي من ذوي قرابته تزوجها في مكة وكانت فوق الخمسين من العمر وهذا الزواج أكسب الإسلام رجلين مشهورين هما العباس وخالد بن الوليد قائد قريش في وقعة وقاهر الروم.
وهكذا كان حال زواج النبي ومن الممكن أنه تزوج بعض الأحيان ليرزق ولداً لأنه لم يكن من الآلهة وربما شعر بالميل الطبيعي إلى ترك وارث من بعده وقد يكون أحب التخلص من اللقب الذي لقبه به أعداؤه ولكن إذا نظرنا إلى الحقائق كما هي نرى أن الزواج المتعدد نشأ عنه من المنافع زيادة على ما ذكرنا ميل لائتلاف القبائل المتعادية واجتماع كلمتها. ومما يجب ذكره أن عادة الأخذ بالثأر كانت شائعة في الجاهلية وهي أضعف القبائل ولم يكن إذ ذاك بيت ليس له ثارات أو عليه ثارات تقتل فيها رجال وتستحي النساء. ولما قام موسى وجد هذه العادة شائعة في قومه أيضاً (كما تشيع في الأمم إذا كانت على درجة من(17/14)
العمران مخصوصة) ولما ينجح في أبطألها أباحها إلا أن النبي محمداً كان أشد إدراكا للدواء الذي يجب استعماله فربط القبائل المتنازعة بعضها ببعض كما ربطها برباط الزواج وعند حلول أجل البعثة وقف على عرفات وصرح بأبطال هذه العادة الجاهلية.
إلا أن خبث أعداء يجورون في أحكامهم ويتعصبون لأوهامهم شوه عواطف حملت محمداً على تعدد زوجات كن أرامل ومستضعفات لولاه لنبا بهن المربع ولجفت قلوبهن من حرارة الجوع على أن هذه العواطف أباحها الأنبياء السابقون. وربما عد الغربيون اليوم عادة تعدد الزوجات شراً محضاً وليست هي بالمحرمة فقط بل نتيجة شه وفساد وكاني بهم قد نسوا أن هذ1هـ العوائد كلها هي نتيجة المحيط وابنة الحاجة وإن كبار الأنبياء من اليهود وهم مثال الكمال في المذاهب السامية أجازوا تعدد الزوجات واستعملوه إلى حد يعد في نظر المعاصرين نهاية الفساد.
والغالب أن يقال أن الواجب على النبي لا يخضع لأي ضرورة تضطره إلى مدح عادة سيئة كهذه أو لأباحتها وأن الواجب عليه تحريمها بتاتاً فالمسيح غض الطرف عنها ولم يتعرض لها. لكن من أمعن النظر يرى أن هذه العادة مثل كثير غيرها من العوائد ليست شراً محضاً والشر كلمة نسبية لأنه قد تكون عادة من العادات مباحة في أول الأمر تقبلها مبادئ الأفراد والجماعات إلا تقدماً في أفكار الأمة تغيراً في أحوالها ربما يجعل هذه العادة مضرة حتى تمنعها الحكومة بعد حين. أما أن الأفكار تترقى فهو من المسلمات وإما أن العوائد والأعمال تتوقف على ترقي الأفكار وأنها إما أن تكون حسنة أو سيئة بحسب الأحوال و (روح العصر) فهي حقيقة يجهلها أهل الأفكار السطحية كثيراً. بيروت
عبد الرحمن شهبندر(17/15)
الكنى والألقاب
جرى الاصطلاح في الأسماء على تقسيمها إلى علم وهو ما علق على سيء بعينه غير متنأول ما أشبهه ولقب وهو ما أشعر بمدح أو ذم وكنية وهو ما صدر بأب أو أم.
وقد ولع العرب بالكنى والألقاب ولعاً غريباً حتى صاروا يكنون الطفل والعقيم بل الوحش والطير بل الجماد والمعاني كما ستراه.
من أعظم مقاصد الكنى في الأناسي خشية مبادرة اللقب السيئ على لسان عدو أو ماجن فيلصق بالمرء لصوق الجرثومة في المنيب الوبيء وفي أثر (بادروا أولادكم بالكنى أن تغلبهم الألقاب). ومن مقاصدها فيها تعظيم المكنى وتوقيره فقد فطرت الأنفس على كراهة خطابها باسمها ومشافهتها به. وأما في غير الأناسي فلقصد التوسع في باب الأعلام والتفنن في الأوضاع والازدياد من المعاني. ولم تك كنأهم تخلو عن نكتة وسر في وضعها أي ملاحظة معنى بإزائه يكون الوضع كما قالوا في أبي لهب كني به لجماله لأن اللهبة البياض الناصع وأوثر في التنزيل الكريم أما لشهرته أو للتعريض بكونه جهنمياً وكما قالوا للضبع أم لأنها ترسم الطريق لا تفارقه وأم المثوى لصاحبه المنزل والأمثلة يطول تعدادها ويسهل تعرف أسرارها من معاجم اللغة المطولة.
وما برحت الكنى والألقاب أخذة في الأعلام دوراً هاماً في الجاهلية والإسلام سيما في قرونه الوسطى فقد نسيت بسببها كثير من الأعلام لغلبتها عليها ولقد رأيت من يخفى عليه مثلاً اسم الأمام أبو يوسف أو القاضي أبي الطيب ونحوهما ممن اشتهر بكنيته فنسي اسمه لذا سنح لي أن أبين قاعدة للمتقدمين نوع الكنى والألقاب تنكشف بها معرفة الأعلام مما اصطلح عليه أولئك وجرى على المؤرخون.
فمن الكنى أبو اسحق كنية لمن اسمه إبرأهيمتأسياً باسمي الخليل وابنه عليهما السلام أبو إبرأهيملمن اسمه إسماعيل. أبو الحرث لليث وأرسلان. أبو الحسن لعلي. أبو داود لسليمان. أبو الدر لياقوت. أبو زكريا ليحيى. أبو سليمأن لداود. أبو الشكر لأيوب. أبو الصبر له أيضاً. أبو الطيب لطاهر. أبو العباس لأحمد وخضر. أبو علي للحسن والحسين. أبو عمرأن لموسى. أبو الفضل لجعفر وللربيع وليحيى. أبو الفتح لنصر. أبو القاسم لعلي ومحمود. أبو محمد لعبد الله. أبو محفوظ لمعرف. أبو المعالي لعبد الملك. أبو مروان له أيضاً. أبو المسك لكافور. أبو الميمون لمبارك. أبو المنصور لظافر. أبو الوقت لعبد الأول.(17/16)
أبو هريرة لعبد الرحمن. أبو يحيى لزكريا. أبو يوسف ليعقوب.
ومن الألقاب للمتأخرين. سيف الدين لغازي. شمس الدين لمحمد. شهاب الدين لأحمد. صلاح الدين ليوسف. عماد الدين لإسماعيل.
هذا ما غلب من الكنى والألقاب واشتهر في تلك الأسماء وقد يكون لها كنى وألقاب أخرى. وقد يكون للمرء عدة كنى كما تراه في قولهم ذو الكنى وقد يشتق للمرء من معنى اسمه له إشارته أو حاله (أبو الطيب) لمن اسمه طاهر لما بين الطيب والطهر من التناسب وكذا (أبو السرور) لمن اسمه عيد. وأبو الجود للسخي. وأبو مطاع للأمير. وأبو الغارات للمجاهد. وذو القرنين لعظيم الملك. وقد لا يكون لشيء من ذلك كما حدث في عهد منح الألقاب المضافة لذوي السيطرة من أجيال والمضافة للدين وقد أشار للثاني الأديب الخليع عبد الرحمن المسجف الملقب ببدر الدين من رجال فوات الوفيات (مدفون في بستانه بدمشق قرب المزة وأمام قبره المحجر قبة يجري عندها نهر تظن أهل القرى هناك أنه من الأولياء وليس تحت القبة مزار) في قوله:
قالوا تلقب بدر الدين مفتخراً ... نجل الجنوبي من قد زين الأمنا
فقلت لا تعجبوا منه فذا لقب ... وقف على كل نجس والدليل أنا
وقد يكنى الرجل بأكبر أولاده أو بأشهرهم أو بأحبهم إليه وقد يكنى بابن أخيه كما كنيت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بأم عبد الله وقد يكنى الرجل بما يقوم عليه ويعرف به كأبي الرجال لمن تربى عنده النجباء مجازاً ولمن له عدة أولاد حقيقة وبما ظهر فيه من اليمن والخير كأبي البركات وقد وضع كثير من الألقاب والكنى علماً برأسه في العصور الأخيرة كبهاء الدين وصلاح الدين وأبي الخير وأبي بكر ولا حجر في ذلك إلا أن القرون الأولى كان لأسمائها نوع نظام سهل به وضع نظام بإزائها لألقابها وكناها مع ما شف عن أدب مع الأئمة الأعلام فإن من رعاية الكبير وقدره قدره وضع لقب له يعرف به. نعم لكل عصر مظهر ولكل دور طور ولكن باب الأدب مع الأعلام لا يغلق على الدوام.
قلنا قد بلغ من شغف العرب بالكنى أن وضعتها للطير والوحش والجماد والمعاني لما ملئت به أسفار اللغة من ذلك فمن ذلك أبو الحباحب لدويبة تظهر ليلاً صغيرة يخيل أنها نار. وأبو الحصين للثعلب. وأبو جعده للذئب. وأبو براقش لطائر فيه ألوان. وأبو فراس للأسد.(17/17)
وأبو حفص له أيضاً. وأبو قبيس لجبل بمكة. وأبو الأبيض للبن. وأبو الأثقال (الحملات) للبغل. وأبو الأخضر للريحان. وأبو حيان للفهد. وأبو أيوب للجمل. وأبو بحير للتيس. وأبو حماد للديك. وأبو حميد للدب. وأبو حيان للفهد. وأبو خداش للنسور. وأبو صابر للحمار. وأبو شجاع للفرس. وأبو طالب له أيضاً. وأبو طأمر للبرغوث. وأبو عاصم للزنبور. وأبو العوام للسمك.
ومن المعاني أبو مالك للهرم. وأبو أسعد له أيضاً. أبو مرحب للظل. أبو زيد للكبر. أبو عمرة للفقر وسوء الحال والجوع. قيل لأعرأبي أتعرف أبا عمرة قال كيف لا وهو متربع في كبدي.
ومن الأمهات أم القرى لمكة المكرمة. أم قشعم للمنية. أم الرأس لأعلى الهامة. أم الدماغ لجلدة الرأس. أم جابر للخبز. أم سويد للأست. أم الهدير للشقشقة. أم الطعام للمعدة. أم النجوم للثريا. أم خداش للهرة. أم شبل للبوه.
وقد ألف في معرفة الكنى عدة مؤلفات منها كتاب أبي العباس الأحوال ولم يتقدمه أحد في هذا الفن وألف ابن السكيت كتاب المثنى والمكنى والمؤاخى ولابن الأثير كتاب سماه المرصع. وعني المحدثون بهذا الفن وصنفوا فيه أيضاً منهم الأمام ابن المديني ثم الأمام مسلم ثم النسائي ثم الحاكم أبو أحمد - غير صاحب المستدرك على الصحيحين - وأبي الفضل الفلكي وأبي الوليد الدباغ وأبي الفرج بن الجوزي وآخرهم الحافظ ابن حجر وليت وأحداً منهم مثل للطبع ويالله ما نسي من العلوم وأسفارها. وللمحدثين تقسيم غريب باب الكنى أوصلها بعضهم إلى تسعة
من سمي بالكنية ولا اسم له غيرها كأبي أبكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة بالمدينة
من عرف بكنيته ولم يعرف له اسم كأبي مويهبة مولى النبي صلوات الله عليه
من لقب بمنيته وله اسم وكنيته كأبي تراب علي رضي الله عنه اسما وأبي الحسن
من لقب كنيتان أو أكثر كمنصور الفراري أبي وأبي الفتح وأبي القاسم
من اختلف في كنيته كأسامة رضي الله عنه أبي زيد وقيل أبو محمد غيرهما
من عرفت منيته واختلف في اسمه كأبي بصرة هو حميل (بالحاء مصغراً) وقيل جميل (بالجيم مكبراً) وكأبي هريرة قال القطب الحلبي في اسمه واسم أبيه نحو أربعين وأصحها(17/18)
عبد الرحمن بن صخر
من اختلف فيهما كسفينة مولى النبي عليه حكي في اسمه وكنيته اثنان وعشرون قولاً
من عرف بالاثنين كأبي عبد الله سفيأن الثوري ونحوه مما لا يختلف فيهما
من اشتهر بها مع العلم باسمه كأبي إدريس الخولاني عائذ الله
دمشق
أحد قراء المقتبس(17/19)
تأثير العقائد والمقاصد في الأخلاق
أن العلماء الذين وضعوا المطولة والمختصرة في تهذيب الأخلاق لم ينظروا إلى هذا البحث إلا من عرض فلا يعثر لهم على كلام يكشف القناع عن حقيقته ويجمع أطرافه وإنما ذلك لأن الحوادث والأحوال لم تتجه بهم إلى الدخول من هذا الباب ولقد رأيت العصر يستصرخ الحراص على أنتظام الأحوال ويتقاضى الكتاب القائمين على هداية الناشئة إلى سبيل النهضة أن يقبلوا عليه إقبال المغرم بالدنيا على استخراج الكنوز المدفونة وأن يبذلوا الجهد في إظهار ما خفي من أسراره ويسنفذوا الوسع في ما حجب من ذخائره.
ولما رأيت أن الكلام فيه من جلائل الخدم التي يسع المنشئ أن يقوم بها لأهل العصر هزني الغرام بهذه المحمدية أن أتوفر ليلة على أنشاء مقالة أكلف المقتبس أن يحملها إلى قرائه المنبثين في الآفاق مع ما يحمل إليهم من أزاهره العاطرة وثماره الطبية الناضجة آملا أن تلاقي عند الشبأن الأدباء والناشئة النجباء ما يلاقي الزائر الكريم من الهشاشة وإكرام الوفادة في منازل الكرام وبيوت الكبراء وذلك بأن يكرموها بالمطالعة وتدقيق النظر فيما يترتب عليها من النتائج المفيدة بل من الأدوية الناجعة في شفاء أدواء الأخلاق إذا اندفعت النفوس لأتباعها وأحبت عليها.
تعريف الخلق
الخلق بضم فسكون والخليقة والفطرة والطبع والطبيعة والغريزة وما هو في معناها صفة باطنية تشبه الصورة الظاهرة فالكرم الذي طبعت عليه نفس زيد خلق يشبه ما ترى من الحمال في محياه والشجاعة التي فطرت عليها نفس عمرو بمنزلة ما ترى من طول قامته وامتلاء أعضائه. وقد اختلف أصحاب الحكمة الخلقية في قبول الأخلاق للتغير فمن قائل أن الأخلاق لا تقبل التغيير إلا متى صار الذئب حملاً والجمل برغوثاً ودليلهم أن الخلق الباطن مثل الصورة الظاهرة وهذه لا تقبل التغيير فهو كذلك لا يقبل التغيير ومن قائل أن الأخلاق تقبل التغيير فمن طبع على الشح تصيره بعض الأحوال أكرم من حاتم ومن فطر على الجبن فقد يقوم في خياله ما يحبب إليه الموت حتى أن الصورة الظاهرة في الإنسان تتغير تبعاً لحالة النفس كما يرى في وجه الغضوب والمنفعل والمسرور والكمد والخائف والمطمئن والخالي القلب والمهموم وإلا فأين هيئة من يتوقع العزل عن منصب عال من(17/20)
هيئة من يبشر بالارتقاء إليه وأين صورة من يرزأ ظهيره من صورة من يلقى نصيره وهل من فر من بيته وقد تداعت جدرانه كمن دخل صرحه وقد كمل وتزويقه فإذا علمت ذلك تبينت أن الرأي إنما هو رأي القائل بقبول الأخلاق للتغيير وإلا فمن أين تعلم الدب الرقص وأي الرأي أن لم تحدث تغييراً في الطبائع تبدلاً في الغرائز.
فإن كنت تريد أن تتعرف تصاريف الطبائع وأحوالها فلا بد من أمرين الأول أن تراقب ذلك في الناس وفي نفسك. والثاني أن تنظر إلى اختلاف العقائد وتبدل المقاصد في النفس البشرية حتى ينقلب الراغب زاهداً والزاهد راغباً والشجاع جباناً والجبان شجاعاً.
تأثير العقائد
العقائد مبادئ تقرر في ذهن صاحبها أنه يسعد بطاعتها ويشقى بعصيانها وأنه يهلك إذا خالقها وينجو أن أتبعها وترسم على لوح قلبه أن حفظها يكفل له خاتمة سعيدة وآخره حميدة وأن نبذها يدفعه إلى عاقبة شؤم ونهاية عذاب فهذه العقائد باطلها وحقها سواء من حيث التأثير في نفس المعتقد فمن استحكمت العقيدة في روحه هان عليه كل عزيز وغال في سبيلها فتحلو له نفس المرائر وتطيب له المكاره حتى إذا دعته إلى فراق الحياة لبى دعاءها فهذه أقاصيص الشهداء وأحاديث الأولياء تبسط أمامك من أثار العقائد الحية في الصدور ما تريك أفإنينه أن الأهواء البشرية أماء خواضع طوائع لملك الاعتقاد المتسلط على النفس وكم لك في سير الرسل الكرام من خطيب بأن لا سطوة في الكون على النفس إلا دون سطوة العقائد. وإذا ذكرت في النار كراماً لتمثال مولوك الذي أخذوه معبوداً يلجأون إليه. والهنود الأولى يرمون بأولادهم في النهر. أو أخطرت على بالك الشيوخ والعجائز الذين يأتون من أقاصي الأرض إلى أورشليم تبركاً بزيادة قبر المسيح غير مباليين بما يقامون من السفر ومكاره الغربة مع ما يستلزمه بعد الشقة من وفرة النفقة قطعت أن لا سيد للنفس البشرية إلا سيادة دون سيادة الاعتقاد.
تأثير المقاصد
وإذا راقبت الناس وعوامهم وخواصهم رأيتهم إلا قليلاً منهم يجورون على عقولهم ويغالطون حسهم ويكذبون عيونهم في سبيل مقاصد تحيك في نفوسهم فإذا كلفت أنفسهم بشيء أو مقتته يخال من يسمع كلامهم فيه أنهم قد فارقوا ألبابهم أو أن البابهم قد فارقتهم(17/21)
فإن أحب أحدهم بلدة جعل الحسن مقصوراً عليها وقال سعادة الحياة لا تعرف إلا تحت جوها والتنزه لا يطيب إلا في كرومها وبساتينها وأن الظماء لا يسقى إلا بورد مائها وأن كرم الخلال لا يتعدى سكانها والتبحر في العلم لم يعهد إلا لعلمائها وأن الفصاحة لم تظهر بدائعها ولم تبد روائعها إلا على السنة خطبائها وشعرائها وإن رئاسة الصنائع قد انتهت إليها وأن الجود لم يضرب خيامه إلا في أرضها وبالجملة فإنها المخصوصة من بين بلاد الله كلها بأنها مجتمع المحاسن الطبيعية والصناعية وأنها الحرية بأن تستبد بمجد التفوق على كل بلدة في الأرض وإذا كره بلدة قال نسيمها يحمل نسم الأمراض وثمارها تورث الأسقام وحرها يذيب الأجسام وأهلها خبثاء لئام وعلماؤها أقل من صغار الطلاب علماً وخطباؤها أقل الناس عقلاً وأضعفهم تصوراً ليس لهم من مقتضيات الخطابة إلا الجراءة يبيع الخرز بسعر الدرر وينادي على النحاس كما ينادي على الذهب بل استغرب أمر من يعرض القطن ويقول هذا حريراً ثم والنحاس ذهباً.
وأعلم أن تساوي البلدتين هواء وماء وأدباً وعلماً وتجارةً وزراعةً عند جميع الناس لا يرده عن قصر المحاسن عليها دون الأخرى إذا كان له من وراء مدحها غاية كما لا يردعه عن سلب كل حسن عن البلدة الأخرى وهكذا يفعل بهم الكلف والمقت في سائر الأشياء وأنل لترى أثر هذا الأمر في تلاميذ المدارس فقد يقوى قصد أحدهم تارة فتشد رغبته ويكثر تحصيله وقد يضعف تارة فتضعف رغبته في الطلب ويقل تحصيله وقد نرى في الطلبة من رسخ في نفسه فضل العلم فذلك لا يعتريه في طلبه ملل ولا يأخذه ضجر ولا يستطيل زمأن التحصيل وإن طال ويحسب الكتب مغاوض اللؤلؤ ومعادن الذهب.
الخلاصة
قصارى القول أن من أراد حمل الناس على محمدة فلا مندوحة له أن يزرع في نفوسهم يزور الانتفاع بها واكتساب الفائدة بتحصيلها حتى إذا تمكن تصور ذلك في أذهانهم أقبلوا عليها إقبال الناس لهذا العهد على ما يحب من الأزياء وعلي سبيل الاستطراد أقول أن من أراد الاقتدار على الترغيب وبلوغ الأرب فليقف أثار مخترعي الأزياء فهؤلاء هم أئمته العظام وشراحه الكرام وكل ما كتب الخطباء من التنبيهات لا يعدل بجزء مما يجري على ألسنتهم أو يصور في دفاتر أزيائهم فهؤلاء قد عرفوا الطباع البشرية وخبروا الأهواء(17/22)
الإنسانية وقبضوا على مفاتيح القلوب وعرفوا طرق الوصول إلى امتلاكها فمثلهم مثل واعظ كلف أن ينهى النساء عن إتيأن المعابد بالزينة والروائح الطيبة فقال لقد شكا إلي واعظ البلدة انكن تأتين المعبد متطيبات وعلى رؤوسكن أنواع الزينة وأنه طال ما نهى عن ذلك فزادكن النهي تمادياً في الأمر فاجنبه أن لاحق لك في ذلك. فتعجب واستغرب وقال ما السبب قلت إلا أن الأدب يقضي على كل من تعلم أن رائحة فمها خبيثة أن تتعطر وتتزين حتى لا تؤذي جاراتها فما سمعت النساء هذا الكلام حتى صفقت كل واحدة تنزل ما على رأسها من أنواع الزينة حذر أن يظن أن رائحة فمها خبيثة ومن هجرن التزين والتخلق والتعطر واقتصرن على الذهاب إلى المعبد بالأثواب النظيفة فقط.
فلو لم يكن هذا الواعظ فظنا ذا علم بما ركب في الطباع لذهب كلامه بلا فائدة كما ذهب كلام واعظ البلدة من قبل.
بيروت
سعيد الخوري الشرتوني(17/23)
الميكروب
الميكروب أصغر ما خلق عالم الأحياء جرماً وجسماً وأعظمها قوة وفعلاً. كان أولا يعيش ويتنفس على سطح المعمور منسابا بين المخلوقات دأبه دأب كل حي من إيجاد القوت والمكافحة للحياة والبقاء. ذلك أنه لا يترك جامداً يحتوي على بعض ما يصلح لغذائه إلا ويحلله مبدلاً حاله تبديلاً أو يمحوه فيجعله أثراً بعد عين وليس في الأرض حي من حيوان ونبات إلا وهو يتصدى له منازعاً إياه قوته وحياته. على أنه في ذلك يخدم بأنواع منه الحيوان ويقوم بوظيفية عظيمة الخطر كتحويل المواد الجامدة إلى غذاء يعيش به وكإصلاح أنفس المأكولات والمشروبات للإنسان بواسطة الاختمار وبأنواع أخرى منه يكون مفسداً ومخرباً. فإن أكثر آفات الزروع وضربات الأشجار وأمراض الحيوانات والبشر يكون الميكروب مسببها والفاعل الوحيد فيها. فهو لنا في الحياة رقيق غير مفارق ومجاور جابر أو جائر.
وعلى هذه السنة مرت السنون والأجيال والإنسان تناله من الميكروب الضربات والنكبات ويتجرع السموم بصبر جميل من دون أن تتجلى له يد الجائر بل لم يخطر له ببال أو خيال بأن هناك عدواً خفياً يحمل إلى داء دوياً.
وذلك بالنظر إلى الحيوان والإنسان خاصة. إما إذا أمعنا النظر وسما بنا الفكر ونظرنا في وظيفة الميكروب على وجه البسيطة نظراً عاماً بعد أن نكون قد اختبرنا وتوغلنا في الأحاطة بمنافع كل من أنواعه واحدة فواحدة تحار عقولنا لا محالة من حكمة مبدع الكون الذي جعل أصغر مخلوقاته وأنحفها يقوم بأعظم لتغذية وظيفة وخدمة في العالم. وناهيك بتحول جثث الموتى مثلاً إلى تراب وهذا إلى ما يصلح لتغذية النباتات وغيرها وكذلك إصلاح مياه البحور والأنهر من ازدياد الأملاح والأوساخ فيها التي تنافي حينئذ وجود الأسماك والحياة مطلقاً يتوقف كله على الميكروب. فلولاه لما حصل التعديل والموازنة بين الجامد والحي وتعطلت بينهما الدورة فتعذر خلود بل وجود بل وجود عالم الأحياء. والميكروب في فعله ذلك إنما يسعى لنفسه وبطلب الغذاء لحفظ حياته وخلود نسله.
آراء الأقدمين في تولد بعض الحيوانات من دون والد
لم يعرف الميكروب أناس قلائل من القدماء عرفوه بالظن والحدس فكان يخبطون خبط عشواء في أمر تولد الذباب والحشرات والدقيق من كل حيوان ونبات. وما كأن ذلك عن(17/24)
في إدراكهم بل لأنهم لم يدخلوا المسألة من بابها ولقلة إطلاعهم فيها وقلة ما لديهم من الآلات والوسائط التي ساعدت المتأخرين على حلها. فيجدر بنا قبل أن نبحث عن هذه أن نذكر بعض آراء الأقدمين في تولد بعض الحيوانات والنباتات من دون والد.
قيل أن أرسطو كتب في بعض ما دون كل جسم يابس ابتل وكل مبتل منه جف يولد الحيوانات الدقيقة. وينسبون إليه أيضاً الزعم بأن الديدان التي تظهر على بعض البقول في مزارعها لا تتكون إلا من تعفن الأقذار والأوساخ وتخمرها أعني السرجين الذي تصلح به الحقول والسماد الذي يخصب التربة. وكذلك تتكون البراغيث في التراب. وقرر الشاعر فرجيل بأنه قد يتولد النحل من أمعاء ثور جافة. وقال فلوطر خس بأن أرض مصر الكثيرة المستنقعات تتولد فيها الفيران والجرذان من دون والد.
وفي القرن السابع عشر فإن هلمونتسا بأن الروائح الكريهة التي تنبعث من قعر المستنقعات تتولد منها الضفادع والبزاق والعلق وبعض الحشائش إلى غير ذلك من الحشرات والذباب التي فيها وكان على يقين في قوله فيزعم أنه إذا أخذ جرة وملأها قمحاً وسد فمها بخلق وسخ لم يمر على ذلك القمح أكثر من واحد وعشرين يوماً حتى بتحول إلى فيران. وهذه يكون منها ذكور وإناث تتزاوج وتتكأثر. ومن هذا القبيل كيفية تولد العقارب من الحبق فإن العالم المذكور كان يشير على أن من أراد التجربة أن يأخذ أجرة ينقر على إحدى جوانبها حفرة يملأ وها بمسحوق نبات الحبق ثم يأخذ أخرى يضمها إلى الثانية مغطياً بها حفرة الحبق فلا يلبث هذا مدة حتى يتحول إلى عقارب حقيقية. وقيل أن برز السماق يتحول إلى قراد الكلاب ودودة القز بزرها نباتي إلى غير ذلك من الآراء الواهية التي لم تبن على ملاحظات حقيقية. وهو مما يستغرب حقيقة من رجال كانوا أفراد زمانهم على حين هم من السذاجة والجهل على جانب ويتعرضون لحل أعظم المسائل الطبيعية كالتولد والحياة بنوع من القول لا يقبله العقل السليم.
وكان ريدي الايطالي أول عالم فتح باب الملاحظة المدققة في مسألة تولد الديدان من والد وذلك سنة 1638 فإنه قال بأن الدود الذي يشاهد في اللحوم الفاسدة بنسج رقيق يمنع عنه الذباب فلا يعود يتولد فيه البتة. نعم إن هذا الرأي صحيح ولكن ريدي المشار إليه لم يتمكن من إقناع جمهور العلماء ولم يظفر بشرف الاكتشاف. لأن الفضل ليس لمن عرف الحقيقة(17/25)
بل لمن اكتشف أحسن أسلوب وأعظم واسطة لإثباتها وإقناع العموم بها منطقياً حسياً فلم ينتج أدنى منفعة للعلم من هذا الاكتشاف ولم يتصد أو يتحزب له أحد بل دامت المجالات في مسألة التولد نحو مائتي سنة وهي في طور الحدس ولم يتقدم أكثر مما فعل ريدي.
تغلب رأي التولد الطبيعي أو الحيوي
عندما اخترعت النظارة المعروفة بالميكروسكوب أي نظارة الإجرام الدقيقة وسميت عندنا بالمجهر فتحت طريقاً جديدة للبحث في مسألة التولد المذكور وللحكم فيها حاسياً من بعد التحقق بالنظر بالعيأن فجرى التخالف والجدال بين القائلين بتولد الدقيق من الحيوان من دون والد أو طرائياًَ والذين لا يقبلون إلا بالتولد الحيوي الطبيعي مطلقاً فادتهم خاتمة كل بيضة من بيضة. فمن بعد اختراع المجهر طرحت المسألة هكذا: هل التولد الذاتي ممكن ومن أين تتولد الديدان والذباب وبقية الحشرات من الدقيق من الحيوان.
فقال ندهام الإنكليزي: أن الرأي المشهور بأن الديدان حتى الفيران والعقارب وغيرها قابل للتولد من ذاتها طرائياً في المواد الآلية الخأمرة قد تبين غلطة واضمحل على أنه من انحلال تلك المواد وفسادها بتولد حقيقة ألوف من الحيوانات الدقيقة التي لا ترى إلا بالمجهر. فلا يقتضي أن ننكر أو نشك في هذه الحقيقة من أجل غلطنا وجهلنا في تلك.
ثم قام بفون الشهير وتحزب لندهام المذكور وحامى عن آرائه فتغلب وقتئذ على الحيويين لأنه لم يكن بينهم كفوء لمقاومته. وفي سنة 1828 اكتشف اهرنبرغ نوعاً من الحيوانات في الماء والتراب لا ترى إلا بالميكروسكوب ما سماه بالانفروار وهي خلايا متفردة ومنفردة عن بعضها كل منها قائم بذاته وله جميع الخواص الحيوية أعني الإغتذاء والنمو والتولد. ومن بعده بثمان سنوات سنة 1837 أظهر شوان الألماني وكانيارد لاتور الفرنسوي كل من قبله ومن تعاط بينهما ولكن الأول أسبق - بأن الاختمار الذي يصل حيث توجد المواد الآلية هو فعل حيوي مختص بالخلايا أو الحيوانات الدقيقة لا يصل إلا بها ملازم لها ومتوقف عليها البسيطة التي الأوكسجين الذي يكون بمنزلة الغذاء للخلايا. فداع هذا الاكتشاف وصار قاعدة عليها بني رأي الحيويين فعلاً وطرحت القضية هكذا. هل أن الاختمار والتعفن وبعض الأمراض تفعلها الخملايا فعلاً حيوياً ناتجاً عن اغتذائها بشيء مما تتركب منه المواد القابلة للاختمار.(17/26)
فأثبت شوان أحد المكتشفين المذكورين بأن جميع المواد المختمرة لا تخلو أبداً من الإجرام والخلايا الحية. ولدى الأمتحان صادق عليه أكثر العلماء. وأما المعارضون فإنهم لما يرون سبيلاً إلى انكسار الواقع سلموا بالقضية ولكنهم حأولوا وجود اختمار من دون الخلايا عندما زاحمتهم النتيجة كما سنبينه.
دمشق
سليمان غزالة(17/27)
علو الهمة
أبى الله أن يسوم إلى قنن المجد ... ويعطى زمام الفخر إلا فتى الجد
فتى لا يبالي بالنوائب والنوى ... ولو طوحته في حزون من الجهد
فتى أن يكن بالشرق أمسى مقامه ... وفي الغرب مقباس بغاه على البعد
وأطلق للشوق العنأن فأوجفت ... صوافنه في السهل والغور والنجد
تجوب الفيافي معنقات كانها ... قطار بخار هاج من سورة الحقد
فسار يباري الريح يبغي عدوه ... وفي قلبه نار الضغينة في وقد
فلما رأى عجز الجياد وهاجه ... لواعج في الأحشاء من قبس الوجد
دعا قائد الشمس اتئد وأروم زورقاً ... إلي فآتيها ورهطي أو وحدي
فهذى الجياد الصافنات أكلها ... سراها على الآكام والحزن والوهد
لعلي أقضي ما أورم من المني ... فارجع كالسيف الجزار إلى التغمد
كذا فليكن هم الرجال وحزمهم ... وإلا فموت أو رجوع إلى المهد
فليس ينال المجد إلا بهمة ... أشد مضاء من شبا الصارم الهندي
ومن لم يرو النفس من آجن المنى ... ويقذف بها في هوة الجهد والكد
فما هو يوماً للمعالي بصاحب ... ولا مالكاً ماما عاش ناصية المجد
ولا نائلاً من دهره ما يرومه ... ولا لحياض المكرمات بذي ورد
وما المجد إلا همة إن تمثلت ... تزلزلت الأفلاك منثوة العقد
فلا أن تبغ أن ترقى إلى ذروة العلى ... ولم تركب الأهوال نصاً على وخد
فترجع عنها كاسف البال مخفقاً ... تمر بك الأطيار تحسناً بلا سعد
وهل يخطب الحسناء من ليس قادراً ... على مهرها ما ذاك من عادة الجعد
فمن شاء أن يولى السعادة فلتكن ... له الهمة القعساء رائدة القصد
ويتخذ التقوى شعاراً ومذهباً ... إلى مورد الرضوان والمسرح الرعد
فمن يجعل التقوى صوى لفعاله ... فما يوماً بالمزيغ عن الرشد
ومن عدم التقوى أناحت بصدره ... كوارث أشجان من الصلد
وليس التقى ثوباً تقادم عهده ... وما لبسه زاهدا يعد من الزهد
ولا أن يرى بين المصلين ساجداً ... ومذهبه إلا ضرار دأب الفتى الوغد(17/28)
ولكنما التقوى فؤاد مطهر ... سليم من الآفات أشهى من الزند
به قد رعى سرح الوئام وبددت ... كتائبه سرح الشقاق هن الورد
فإن رمت أن تحيى برغد من المنى ... بدنياك والأخرى مطيراً من الرفد
فجد لخير وأجهد النفس حقبة ... من الدهر تبلغ منتهى شعف الحمد
بيروت
صطفى سليم الغلاني(17/29)
اليونان
معربة من كتاب تاريخ الحضارة
العناصر اليونانية
صورة هذه البلاد - أرض يونان من الأقاليم الضيقة (هي 57000 كيلو متر مربع) لا تكاد مساحتها تزيد عن مساحة سويسرا ولكنها بما فيها من اختلاف الأهوية وما يتخللها من الجبال ويتقسمها من الخلجان أقليم غريب في شكله خلق ليؤثر تأثيراً كبيراً في أخلاق ساكنيه. وتقطع أرض اليونان من وسطها سلسلة من الجبال (البند) فيناوح الجبل فيها جبلا مثله ويقوم الصخر إلى جانب الصخر حتى يعلو عن سطح البحر ستمائة متر كانه حصن أحاطت به سلاسل عالية وعرة مثلجة تنزل في البحر على خط قائم وتمتد الجزر على طول الشاطئ وما هي إلا جبال مغمورة يمر رأسها فوق الماء. وتقل في الأرض ذات الوهاد والنجاد التربة الزراعية وتكاد لا ترى حيثما ألقيت ناظرك غير صخور جرداء مرداء أما الأنهار فتشبه سيولاً ليس فيها غير طريدة ضيقة من التربة المنبتة بين مجراها ونصفه جاف وبين صخور الجبال الجرداء. وكان في هذه البلاد الجميلة بعض غابات وأشجار سرو وغار ونخيل وكروم غرست في مواضع من التلال ولكن قلما أتت بغلات جيدة أو بمراعي خصبة. فبلاد هذا شأن طبيعتها ينشأ أبناؤها ممشوقة قدودهم قوية أجسادهم قانعة نفوسهم.
البحر - تعد بلاد يونان من البلاد الساحلية وهي أصغر من إلبرتغال وشواطئها تكاد تقرب من شواطئ اسبانيا بكثرتها ينساب فيها البحر من عدة خلجان ووقائع وتخاريم.
ومن العادة أن يحيط باليم صخور تتقدم أو جزر تتقارب يتألف مرفأ طبيعي وهذا البحر أشبه ببحر لا مد فيها ولا جزر ولذلك سلمت شواطئه من الضرر وليس لونه كالبحر المحيط أبيض كامداً كثيباً وهو في العادة هادئ صاف ولونه كالبنفسج كما يقول هوميروس ولا أكثر استعداداً من البحر للسفر فيه سفراً قصيراً. ولقد نهب ريح الشمال صبيحة كل يوم فتسير بها قوارب مدينة أثينة نحو آسيا الصغرى قائمة مثل صخور الكمين وإذا صحت السماء تقطع السفينة المسافة وهي بقربة من اليابسة تراها كل حين. ولذلك كان لسكأن هذه البلاد من سكون بحرهم ومتشردين على نحو ما كان الفينيقيون فإنتشروا في العالم القديم(17/30)
أجمع وجلبوا إلى بلادهم سلع مصر وبلاد الكلدان وآسيا واختراعاتها.
هواؤها - لطف هواء بلاد اليونان حتى أن الجليد في أثينة لا يحدث إلا في كل عشرين سنة والحر معتدل في الصيف بما يهب عليها نسيم البحر وإلى اليوم لا يزال الشعب فيها ينام في الطرقات منذ شهر مايوأيارإلى أواخر سبتمبر أيلول والهواء فاتر جاف وكان يرى على بضعة فراسخ في القلعة المطلة على أثينة ريش تمثال بالاس وليست دوائر الجبال القاصية مستورة بالضباب كما هو الحال عندنا معاشر الفرنسيس بل أنها تنحل بأسرها في السماء الصافية. هذه البلاد بجمالها تدفع المرء أن يتخذ الحياة عيداً فيرى كل شيء يبسم حوإليه فمن نزهة في الحدائق بالليل واستماع أصوات الصراصير ومن الجلوس في ضوء القمر والضرب بالشباب وقصد الجبال للشرب من مائها واستصحاب أنراح وشربه على النغمات والأغاني وقضاء الأيام في الأيام في الرقص هذه هي ملاذ اليونان وما هي إلا ملاذ جيل من الناس فقير مقتصد فتي لا يعرف الهرم أبداً.
بساطة العيشة اليونانية - لا يتعب المرء من حرارة هذه البلاد ولا يشقى ببردها بل يعيش في الهواء الطلق مسروراً قليل النفقة ولا تقتضيه البلاد غذاء غريزاً ولا ثياباً ثقيلة ولا داراً مرفهة. فقد كان اليوناني بتبلغ بحفنة من الزيتون وسمك السردين ويلبس نعلاً وقميصاً ورداء كبيراً. وكثيراً ما يخرج حافياً مكشوف الرأس وداره بناية منيعة ليست من المتانة بحيث يدفع اللصوص عن دخولها بثقب حائطها ولا له الأثاث غير وبعض لحف وبضع أوان جميلة ومصباح وكأنت الجدران خالية من الزينة مبيضة بالجيرالكلس ولا يأوي إلى الدار إلا آونة النوم فقط.
بلاد اليونأن الأصلية
أصل اليونان - كان أصل الشعب الساكن في هذه البلاد الجميلة الضيقة النطاق من الجنس الآري أنسباء الهنود والفرس جاؤا مثلهم من أجيال آسيا. ولقد نسي اليونان تطواف أجدادهم الطويل فكانوا يقولون أنهم ولدوا من التراب كالصراصير. بيد أن لغتهم وأسماء أربابهم لم تترك مجالاً للشك في أصلهم. وكلن اليونأن الأول كسائر الآريين يقتاتون باللبن ولحوم القطعان ويسيرون مدججين بأسلحتهم وهم أبداً على قدم القتال ينضمون قبائل وفصائل تحت أمرة بطاركتهم.(17/31)
أساطير - جهل اليونان أصولهم كسائر الشعوب القديمة فلم يكن لهم علم بمنشأ أسلافهم ولا بالزمن الذي توطنوا فيه أرض يونان ولا بشيء من أخبارهم وأعمالهم فيها. وإن حفظ ذكر الحادثات الطارئة كما وقعت ليتوقف على أعداد الأسباب لها ومن أسبابها الكتابة. غير أن اليونأن لم يعرفوها إلا حوالي القرن الثامن (ق. م) ولم يكن لهم واسطة لحساب السنين ثم اتخذوا بعد طريقة حساب السنين اعتباراً من المهرجأن العظيم الذي كانوا يختلفون به في أولمبياد كل أربع سنين وتدعى هذه المدة الفترة الأولمبية وقد وضعت الأولمبية الأولى عام 776 فتسلسل تاريخ اليونان منذ ذاك الحين ولم يتصل بما وراء ذلك. ومع هذا فقد نقلت أساطير كثيرة عن هذه المدة الأولى في البلاد اليونانية وخصوصاً قصص قدماء الملوك والأبطال الذين كانوا يعبدونهم كانهم نصف أرباب وهذه الأقاصيص مشوبة بحكايات يتعذر الإلمام بما فيها من حق وصدق فقد ذكروا في أثينة أن الملك الأول المدعو سكر وبس كان نصفه ملكاً ونصفه حية وذكروا في ثيبة أن كاد موس مؤسس المدينة جاء من فينيقية للبحث عن أخت أوروبا التي خطفها ثور وكان قبل تنيناً وزرع أضراسه فنبت منها مقاتلة ومنهم تناسلت الأسرات الشريفة في ثيبة وزعموا في مدينة أرغوس أنه أصل الأسرة المالكة من بيلوبس وكان أعطاها المعبود زيوس كتفاً من العاج للاستعاضة عن كتفه التي أكلتها إحدى الأرباب. وهكذا كان لكل بلد أساطير يتلونها ويتنأقلونها وظل أبناء يونان يذكرونها إلى ما بعد ويثبتون لأبطألهم القدماء نصيباً من روح الربوبية مثل أبطألهم برسي وبيليروفون وهيراكليس وتيزي ومينوس وكاستورس وبول وكسي وميلميا كرس وأد نيس ومعظم اليونانيين بل أن الطبقة المنؤرة منهم اتخذوا هذه التقاليد حقائق لا نزاع فيها إلا قليلاً. تلقوها على نحو ما تؤخذ الحادثات التاريخية أخبار الحرب بين ابني أديبس ملك ثيبة وحملة الأرغون وت التي سافرت في طلب جزه الكبش التي قام بحراثتها ثورأن لهما أرجل من قلز تقذف النار من أفواهها.
حرب طروادة - أشهر هذه الأقاصيص كلها حروب طروادة وهي أوسعها بياناً وتفصيلا فيرون إنه كان نحو القرن الثاني عشر مدينة غنية ذات سطوة اسمها طروادة وكأنت الحاكمة المتحكمة على شاطئ القارة الآسيوية فجاء أحد أمراء هذه المدينة واسمه باريس إلى أرض يونان وسبى هيلانة حليلة منيلاس ملك إسبارطة فاتفق اغاممنون ملك أرغوس(17/32)
مع سائر ملوك وأنقذوا لحصار طروادة جيشاً يونانياً على أسطول مؤلف من ألف ومائتي سفينة فدام الحصار عشر سنين إذا كان الرب زيوس راضياً عن الطرواديين عاقداً النصر بألويتهم. ولقد اشترك مقاتلة اليونان كافة في هذا الحصار فقتل هكتور رئيس المدافعين عن حياض طروادة بيد أشيل وكان أجمل اليونانيين خلقة وأشجعهم نفساً وجر جثته حول المدينة. قاتل أشيل بسلاح ألهي وهبته إياه أمه ربة البحر ثم هلك بسهم أصابه في عقبه. حتى إذا يئس اليونان من الاستيلاء على المدينة بالقوة عمدوا إلى الحيلة فأهموا أنهم أزمعوا أنهم الرحيل وتركوا ورائهم حصاناً من خشب اختبأ فيه الجيش فأخذوا الطرواديون هذا الحصان وأدخلوه مدينتهم فلما جن الليل خرج القواد منه وفتحوا أبواب المدينة لليونأن فحرقت طروادة هذا الحصان وأدخلوه مدينتهم فلما جن الليل خرج القواد منه وفتحوا أبواب المدينة لليونأن فحرقت طروادة وذبح الرجال واستبعد النساء.
ولما قفل زعماء اليونان من غزاتهم هبت عليهم العاصفة فغرق بعضهم في البحر وقذفت الأنواء بفريق منهم إلى شواطئ بعيدة وكان من حظ عولس أكثر هؤلاء الزعماء جربزة ودهاء وأطولهم يداً في كيد المكايد أن قضى عشر سنين تتقاذف به البلاد حتى أدت به الحال أن فقد سفنه جمعاء ونجا من العراق برأسه.
وبعد فقد كان الاعتقاد بحرب طروادة شائعاً في القرون القديمة شيوع الأخبار الثابتة. فزعم القوم أن غاية الحصار كانت سنة 1184 وحددوا مركز المدينة. وقد خطر للمسيو شيلمان من علماء الأثار سنة 1874 أن يحفر محل هذه المدينة فاقتضى له أن يزيل أنقاض عدة مدائن منضدة بعضها فوق بعض فعثر على عمق خمسة عشر متراً في أعماق طبقة من تلك الأنقاض على أثار مدينة حصينة استحالت رماداً وظفر في خرائب أهم تلك من تلك البنية بصندوق ملئ بالحلي من ذهب سماه كنز بريام. وكان ثمة نقش وكانت تلك المدينة التي ظهر سورها كله صغيرة وحقيرة وعثروا فيها على كثير من الأصنام الصغيرة الرديئة الصنع والوضع وهي تمثل ربة لها رأس بومة (وعلى هذه الصورة كان اليونان يمثلون الربة بالأس) ومع كل هذا ثمة دليل يقوم على أن هذه المدينة الصغيرة دعيت باسم طروادة قديما.
ميسينيا - ورد في الأساطير اليونانية أن تملك اغاممنون الذي كان قائد الحملة اليونانية(17/33)
على مدينة طروادة كانت عاصمته مدينة طروادة وأن زوجته قتلته عند عودته من هذه الغزاة بالقرب من قصره. ولقد عرف اليونان مكان ميسينيا لأنها كانت مأهولة إلى القرن الخامس قبل المسيح ولا يزال إلى اليوم حول الجبل سور من الصخور الضخمة مصفوفة بعضها فوق بعض بدون ملاط يلحم بين أجزائها وتحتها خمسة أمتار وكان اليونان يدعون هذا السور الحيطأن السيكلونية اعتقاداً منهم بأن الجبابرة سيكلون قد أقاموا بنيانها ورفعوا قواعدها. ويدخل إلى هذا السور باب علوه زهاء ثلاثة أمتار مؤلف من ثلاثة صخور هائلة وفوقها عمود بين أسدين منقوشين وهذا هو باب الأسود.
ولما اكتشف شيلمأن سنة 1876 مدينة طروادة عزم أن يبحث عن قبر اغاممنون في ميسينيا وكان الحفر قد جرى فيها غير بعيد عن سطح الأرض فحفر شيلمأن في التراب حتى وصل إلى الصخر فلما كان على عشرة أمتار من العمق عثر على ستة قبور فيها سبع عشرة جثة مع كمية كبيرة من الحلي الذهبية وأساور وعقود ودبأبيس وتيجان وسبعمائة سفيقة ورقة ذهب وزهاء مائتي سيف وخنجر مع نضال مموهة بالذهب والفضة. وكان على وجوه بعض الجثث برقع من السفيقة وكانت هذه القبور على ما ظهر مدافن أمراء ميسينيا.
ومنذ ذاك العهد اكتشف الباحثون في كثير من أنحاء اليونان أشياء كثيرة ومنها أواني خزفية وحلي تشبه خزف ميسينيا وحليها وقد عثر في بعض الأحيان بين هذه الدفائن على حلي مصرية من عهد الدولة التاسعة عشر فاستنتجوا من ذلك بإنه كان في يونان منذ الزمن العريق في القدم (بين القرن الثامن عشر والخامس عشر ق. م) ملوك أصحاب شوكة ويستصنعوا الأثار النفيسة وهذا ما دعي بالتمدن الميسيني.
أشعار هوميروس - أن القصيدتين المنسوبتين للشاعر هوميروس وهما الإلياذة التي ذكرت فيها حروب اليونان ورجولية أشبيل أمام طروادة والأوذيسية التي جاءت فيها حوادث عولس بعد سقوط طروادة. هاتأن القصيدتان هما اللتان إذاعتا في أطراف العالم أجمع سقوط مدينة طروادة. وقد حفظتا قروناً دون أن يكتبا فكان المغنون الذين ألفوا الترحل يستظهرون أبياتاً طويلة منهما وينشدونها في الأعياد. وفي القرن السادس أمر أحد أمراء أثينة واسمه بيزيستران أن تجمع القصيدتان وتكتبا فأصبحتا بعد وما زالتا أبداً أجمل الآداب(17/34)
اليونانية المعجبة المطربة. يقول اليونان أن مؤلفهما هوميروس كان أحد أبناء يونان من مدينة أيونية وعاش نحو القرن التاسع أو العاشر ويمثلونه على صفة شيخ ضرير فقير يهبط أرضاً ويصعد أرضاً وتنازعت سبع مدن شرف نسبته إليها تدعى كل منها أنها مسقط رأسه وقد وقع التسليم بذلك تقليداً بدون مناقشة فيه. وفي أواخر القرن الثامن عشر قام أحد علماء الألمان واسمه فولف وأبان بعض تناقض في هاتين القصيدتين أداه أن يجزم بإنهما ليستا من نظم شاعر واحد ولكنهما كتاب مؤلف من مقاطيع لشعراء مختلفين وقد حمل أهل العلم على هذه القضية حملات وهم بين مثبت لها ومنكر لها تماماً وظلوا مدة نصف قرن يتنازعون في وجود هوميروس أو عدمه وما زال فريق أهل العلم إلى اليوم على أن المسألة متعذر حلها. ومن المؤكد أن هذه القصائد قديمة العهد جداً وربما كانت من القرن التاسع. ألفت الإلياذة في آسيا الصغرى وربما تألفت من مجموع قصيدتين خصت أحدهما بحروب الطروادة وثانيتهما بحوادث أشيل أما الإذويسية فإنها على مجموع الإلياذة بعينه.
اليونان على عهد هوميروس - يتعذر علينا أن نوغل في نوغل في تاريخ اليونأن إلى قرون بعيدة. وأشعار هوميروس أقدم مستند بشأنهم. ولما نظم الشاعر منظومته نحو القرن التاسع قبل المسيح لم يكن لبلاد اليونان إذ ذاك اسم يطلق على سكان اليونانية قاطبة فسمأهم هوميروس باسم قبائلهم الأصلية ويظهر أنهم كما وصفهم قد نجحوا منذ غادروا إلى آسيا فعرفوا حرث الأرض وبناء المدن الحصينة وتألفوا شعوباً صغيرة. وأطاعوا ملوكاً لهم وكان لهم مجلس شيوخ ودار ندوة وقد فاخر اليونان بحكومتهم واحتقروا الشعوب النازلة بقربهم لأنهم كانوا دونهم فدعوهم البرابرة. ولقد صرخ عولس بخشونة السيكوليس بقوله: (ليس لهم قواعد في العدل ولا أندية يتشاورون فيها وأفرادهم يحكمون نساءهم وأولادهم بالذات ولم يعرفوا الكتابة ولا النقود ولا تطريق الحديد وقلما كانوا يجرؤون على ركوب البحر وتجشم أخطاره ويزعمون أن الغول سكن جزيرة صقيلة.(17/35)
المترجمات وحكم المترجم فيها
يتوقف النقل من لغة عربية شرقية على أمور منها أحاطة المترجم بالموضوع أحاطة تامة ومنها تمكنه من اللغتين التي يترجم إليهما أكثر من اللغة التي ينقل عنها وقد جرت العادة النقلة والمترجمتين في هذا اللسان قديماً وحديثاً أن ينقلوا بالمعاني كما ينقلون بالألفاظ والنقل بالمعنى أعذب وأسلس لأن المترجم ينشئ جملة على مناحيه ويؤلف كلامه بحسب تسلسل أفكاره والترجمة باللفظ أي نقل كل كلمة بما يرادفها في اللغة المنقول إليها هي من أشق الأعمال وقلما يجيد فيها إلا أفراد. ولذلك رأينا أكثر النأقلين يختارون طريقة النقل بالمعنى ولكن المرء يضطر في بعض الموضوعات إلى النقل بالحرف الواحد خصوصاً إذا كان المنقول عنه عالما كبيراً أو صاحب رأي ونحلة يحب النأقل أن يطلع من ينقل إليهم على فكر المنقول عنه على علاته بدون زيادة أو نقصان منه مخافة أن يصدق عليه المثل الطلياني القائل (المترجم خائن) وأي خيانة أكبر من نقل أقوال صاحب نزعة أو مذهب محرفة مهزعة وأن ينسب إليه ما لم يقله أو ينقص من أقواله ما له بذكره مأرب وربما لا تتشدد مرامي كلامه إلا بتلك الجمل أو المعاني التي لا يحفل المترجم بنقلها ولا يتعنى تصويرها
من أجل هذا ترى أهل الأمانة من المعانين لصناعة القلم قد يحتفظون بما يكتب غيرهم وينقلونه لمجرد الإطلاع ولو أدى بهم إلى الخروج عن سنن البلاغة وخالف ما في اعتقادهم فكل ما يأتي به المترجم والحالة هذه لا يورده وهو مؤول عن مكانه من الصحة. ولو قصد النأقل ولاسيما في الصحف الدورية العلمية أو اليومية السياسية أن يعلق على كل فكر ينقله عن غيره أو يحذف كل جملة لا توأفق ما وقع في نفسه لضاع الغرض المقصود والوقت الثمين. وإذا فعل فيكون كمن حاول أن يحيل كل فكر إلى فكره وأن يبعث بأكثر المقاصد ينسخها على طريقته ويقضي على القارئ إذ ذاك أن يسمع نغمة واحدة تملها أذنه مهما كانت جيدة التوقع والتلحين ومن ثم ترجمت إلى العربية في زمن الخلفاء الذين كان لهم ولوع بالعلوم مؤلفات كثيرة كان الغرض من نقلها مجرد معرفة آراء أربابها ككتب النحل والملل والسحر والطلاسم فإن هذا مما لا يقول به أحد من أهل العلم. ولقد رأينا كثيراً من فحول العلماء ألفوا في الملل والنحل وذكروا رأي كل فريق مشفوعاً بأدلته ولم يتصدوا لنقد ذلك مع مباينتهم له اعتماداً على أن لرد تلك الشبه كتباً خاصة يرجع إليها من(17/36)
يعنى بذلك.(17/37)
سير العلم
تربية الازدهار
كان اختراع أحد الباحثين في كوبنهاغ طريقة لتربية الأزهار بواسطة المواد المخدرة فتنأول اختراعه هذا جماعة من أرباب الزراعة في فرنسا وأكملوه وطريقتهم أن توضع النباتات وهي جافة على طبقة من الرمل الناشف في صندوق يمكن إغلاقه إغلاقاً محكماً وعلق على غشاء الصندوق يلقي فيه الأثير من ثقب ليسد بسرعة وكلما تبخر الأثير ينزل إلى أسفل الصندوق ويغشي النباتات الموجودة فيه وبعد 48 ساعة ترفع النباتات وتجعل في بيت آخر في هواء بليل وتربى كالعادة فتزهر أكمامها وأزهارها بسرعة أكثر من سرعة النبات التي لا تربى على هذه الصفة يزهر ويورق في ثلاثة عشر يوماً على حين يقتضي لزرعه المعتاد سبعون يوماً ولا يأتي مثله وهكذا قل في سائر الأزهار.
إعارة الكتب
منذ سبع سنين أنشأ جماعة من الألمان في برلين خزانة كتب وغرفة للقراءة وهي تعير ليأخذوها إلى بيته ومحل عمله فكان مجموع ما أعارته في السنة الماضية ثمانين ألف مجلد استعاراً أكثرها الرجال وكان عدد القارئات واحدة في كل خمسة وعشرين مستعيراً ونصف أرباب الاستعارة عملة وربعهم من المستخدمين على اختلاف الطبقات وثلثا الكتب المعارة أدبية ونحو ربعها علمية ولم يفقد من هذه الكتب سوى تسعة. قالت المجلة الإفرنسية ومن الغريب أن هذه المكتبة تستجلب 529 جريدة ومجلة لفائدة قرائها على أنك لا نرى في مكتبة الأمة بباريز سوى خمسين من نوعها.
الطالبات في إنكلترا
أنشئت سنة 1868 في كلية كمبردج في إنكلترا مجالس يجتمع فيها النساء خاصة ليستمعن ما يلقي فيها من أصناف العلوم إذ تكأثر عدد المستمعات قضت الحال بأن ينشأ لهن بيوت يأوون إليها وكان حضورهن أولاً على سبل التسلية والشغف فأصبحن الآن كالرجال يتعلمن ويزاحمنهم في الحضور إلى تلك المدارس وصفوفها ويشتغلن في مكتبها التي فيها أربعمائة ألف مجلد وهي ثالث مكتبة في إنكلترا بضخامتها وأصبح القسم الخاص بهن من هذه الكلية الآن ينقسم إلى ثلاث جمعيات الأولى دينية والثانية أدبية والثالثة سياسية(17/38)
وأعضاؤها من البنات وقد وصفت إحدى المجلات صورة اجتماعهن ومناقشاتهن وما يصرفن فيه من مفيد الأعمال كالرقص والسباق والألعاب المحللة وتمرين بعضهن على استعمال مضخات الحريق الحين تلو الآخر حتى إذا كبرن وصرن ربات بيوت وحدث أن همت النار لهن يستطعن إطفاء الحريق من أيسر السبل.
الصحة في يابان
قال رئيس أطباء الجيش الياباني في تقرير له أن يابان بلغت أرقى درجات التقدم فإن ثمانمائة ألف جندي الذين عادوا مؤخراً إلى بلادهم من ديار الحرب قد جرى على تطهيرهم على الأصول الصحية فكان الجندي ينزع ثيابه كلها ويضعها في كيس ويستحم في خأبية مملوءة بالماء الحار ثم يلبس قميصاً ويمشي قليلا في الشمس ريثما تدخل ألبسته في المستحم الخاص بها وكذلك تطهر أسلحته بأمرار بخار فور مول عليها وقد طهرت حتى الخواتم التي يلبسها الجنود وأعطوا أوراقاً مالية جديدة بدل الأوراق التي كانوا يقبضونها زمن الحرب مشاهرات لهم. وقد دامت هذه العملية 75 دقيقة لكل جندي وبهذا لم يجلب الجيش الياباني معه إلى بلاده أمراضاً وبيلة وأوبئة قاشرة كان يأتي بها الجنود معهم من ديار الحرب أيام كأنت الأمم لا تعتقد بالجراثيم والنسم.
حياة العميأن الطبيعية
ألف أحد العلماء براغ كتابا درس فيه أحوال العميان وحواسهم فقال أن حاستي اللمس والسمع تفيدان العميأن فائدة كلية لا كما يظن على وجه عام وليس ذلك لأن هاتين الحاستين قويتأن فيهما بل لأنهم يحسنون استعمالها والانتفاع بهما وحاسة الشم تهديهم لأمور لايهتدون إليها باللمس أما حاسة الذوق فيهم فلا تختلف عما هي عليه عند المبصرين وللأعمى حاسة سادسة وهي شعوره بالمصاعب والحوائل وهي حاسة مؤلفة من السمع واللمس وهو ذو ذاكرة قوية لأنه يقضى عليه أن يمرن نفسه منذ صغره على حفظ ما ينقل إليه يستظهر ما يسمعه في ليله ونهاره وهذا التمرين الدائم لذاكرته يمكنه من إتقأن الموسيقى. وقد ترى ذاكرته في الغالب من أعجب الذاكرات في البشر.
الصدأ
تبين من الكشف الأخير أن الصدأ يفعل فعلاً شديداً لم يكن من قبل معهوداً ففي إنكلترا(17/39)
يخرب في اليوم ثمانية عشر طناً على طول خط حديدي واحد وفي أميركا يأتي بضرر أكثر من ذلك على السكك وقد كانوا يعالجون الصدأ بطلاء الحديد ولكن الباحثين الآن بحثوا في طريقة تقي الحديد من الصدأ فلا تفعل فيه المياه ولا غيرها من الرطوبات وقد وقفوا إلى إتقانها.
الصلع
اختلفت الآراء في الصلع فقال بعضهم بأنه حلمة طفيلية معدية وقال غيرهم أنه نتيجة بعض أمراض وأوجاع وارتأى آخرون بأنه نتيجة السهر في إجهاد العقل بأمور صعبة وعاقبة من عواقب الهموم والاضطرابات. وقد تبين لأحد أساتذة مدرسة الطب في دتروا من ولاية ميشيغأن الأميركية بأن الصلع يحدث من فساد استنشاق الهواء ولا يمكن التخلص منه إلا بإحسان استنشاق الهواء الجيد فإن الهواء الفاسد في الرئتين إذا لم يستنشق كما ينبغي يسري كما يسري السم في الدم ولا تكون تغذية بصلات الشعر إلا قليلة أو فاسدة. وقد جرب الدكتور المشار إليه هذه القضية في ألوف من الأشخاص فثبت له رأيه بالاختبار وقد جرب أن ينشق هواء نقياً لجماعة من الصلع أو المعترضين له فبعد أسبوع من استنشاقهم له من أعلى الصدر نشطت بصلات الشعر وأخذت في النمو ولم تأت على هذه العملية عشرة أسأبيع حتى صارت لهم شعور أثيثة. قالت المجلة التي نقلت هذا الخبر أنه انشق الكلاب والدجاج والحمام هواء فاسد ففقدت ريشها وشعرها.
أندية الإنكليز
زار أحد المفكرين أندية لندن فكتب عنها مقالة إضافية في إحدى مجلاتها كانت في الحقيقة وصف الحياة الإنكليزية واختلاف تغييراتها المتتابعة فمما قاله: الأندية مرآة صادقة تقرأ فيها عنوان القلب والإبدال الذي طرأ على الهيئة الاجتماعية والأخلاق على توالي القرون ولطالما مرت فيها أجيال من الناس ذكروها فذكرتهم وأقدم أندية لندرا النادي البحري الملوكي أسر سنة 1674 وأنشئ غيره في النصف الأول من القرن السادس عشر وأسس نادي طرف الغار سنة 1805 إلى غير ذلك من الأندية التي كان ولا يزال يختلف إلها العالم والمفكر والموظف والسياسي والبحري وأهل جميع الطبقات.
بلاد الزنج(17/40)
كتب المسيولوسين بوفا في مجلة العالم الإسلامي بحثاً وصف فيه سكان البلاد الساحلية من أفريقية ولغتهم وعاداتهم وذكر لمعة من تاريخهم وجغرافيتهم فمما قاله أن الشاطئ الشرقي من أفريقية كان معروفاً عند الملاحيين الفنييقين واليونانيين في البحر الأحمر وأن قد كانت له صلات تجارية مع الخليج الفارسي وعمان والشاطئ الغربي من الهند قبل الهجرة بزمان وقد ذكر بطليموس الجغرافي في القرن الثاني للميلاد جزءا من البلاد في جنوبي الحبشة سماه زانجير ثم دعي الزنوج النازحون منها بالزنج وهم يختلفون عن بقية الشعوب الأفريقية كالنوبيين والحبش بشفاههم المقلصة وأفواههم المفلطحة ثم كثر ذكرهم في تاريخ الإسلام في القرن الثاني بعد أن انتشر الإسلام بينهم ولم تكن العلائق بين بلاد الزنج والممالك الإسلامية مقصورة على جلب الرقيق منها بل إنه كان من تأثيرها دخول الإسلام إليهم ولم يكن انتحال العرب للإسلام ليغير شيئاً من نوع الصلات التجارية التي كانت بينهم وبين الزنج فبل البعثة المحمدية فدخل الإسلام إليهم على يد حمزة أخي الخليفة عبد الملك سنة 86 واستنتج الكاتب بأن عمان والخليج الفارسي كان لهما شأن عظيم في الاستعمار الإسلامي منذ القديم قال وقد تعاقبت الأسماء الكثيرة على هذه البلاد ومنذ عهد ابن بطوطة أخذ يزول عنها اسم بلاد الزنج ففي شمإليها شاطئ الصومال ثم السواحل وتعاقب الحكم عليها الترك فإلبرتغال فجماعة من أهلها مثل سلاطين مسقط وزنجبار وسنة 1890 تقاسمت كل من إنكلترا وألمانيا هذه البلاد فأخذت الأولى الساحل الشمالي والثانية الجنوبي فصارت زنجبار والجزائر الملاصقة لها في منطقة نفوذ إنكلترا. ويقدر نفوس هذه البلاد بزهاء مليون وخمسمائة ألف نسمة منهم مليون وأربعمائة ألف من الوثنيين والباقون عرب وإيرانيون وزنوج وأوربيون وقد أصبحت اللغة العربية والفارسية وبعض الألفاظ الإفرنجية وأصل لغتهم لغة البانتو وقد أرجعها الباحثون في اللغات إلى تقاسيم كثيرة فقالوا أنها 168 لغة و55 لهجة واللغة الساحلية مستعملة بين المسلمين خاصة بحيث أصبحت لغة التجارة في أفريقية الشرقية والوسطى. وختم هذا الفصل بقوله أن جوهانستون قال منذ عشر سنين أن اللغة العربية تضمحل في داخلية بلاد الزنج من زامبير إلى النيل الأبيض وأن اللغة الساحلية تقوم مقامها ولاسيما البادية منها.
مداواة المسلولين(17/41)
في إحدى مجلات كوبنهاغ بحث في معاملة ألمانيا والدينمارك للمسلولين قال كاتبه أن الألمان في مقدمة الأمم التي أشأت المستشفيات الكثيرة لمحاربة هذا الداء وتليها الدينمارك. ويقيم المسلولين في المصاح بالدينمارك. من عشر شهراً أما في ألمانيا فيقيمون ثلاثة أشهر ولكن المصأبين بهذا الداء في الدينمارك يشتغلون في المصاح أو المستشفيات أشغالا يستطيعونها وتدفع الحكومة تلك البلاد ثلاثة أرباع النفقات التي تنفقها هذه المستشفيات والربع الآخر تدفعه العمالات والولايات.
علم الجراثيم
كان من نتيجة البحث عن الجراثيم في الممالك الغربية أن أحدث فيها خوفاً من عاديتها على اختلاف أنواعها وسرى من ذلك إلى بلاد الشرق عدوى التخوف كما هو الأن في الغرب. وما يرح الأطباء يحذرون الناس من أخطار الميكروب على اختلاف أنواعه والحق معهم في ذلك فمن الضرورة تحذير الخلق من الأخطار التي تلحقهم من قلة العناية الصحية فإذا انتشر مرض الجدري لا بد للطبيب من أن ينصح بإعادة التلقيح ولكن ينبغي أن يلاحظ أن المسافة تختلف بين ما يقال له احتياط وبين ما يقال له خوف فالاعتدال مطلوب على كل حال وإنا لنرى أرباب المزاج العصبي يعيشون الأن في هلع دائم على حين كان الواجب عليهم أن يكتفوا بالحذر والاحتياط فبعضهم يقول ابتعدوا عن التقبيل وعقموا اللبن وغيره من المشروبات مخافة أن ينقل جراثيم السل إلى متنأولها وأن يبتعد المرء في مصافحة غيره لئلا يأخذ الجراثيم التي تكون نازلة على الجلد ويوصون أن لا ينزل المرء في سياحته في إحدى الفنادق لئلا يأخذ جراثيم مرض ينتقل إليه بواسطة الفراش واللحاف وعلى من اضطر أن يركب القطار أن لا يمس المخدات والمتكآت والستائر. وقد كثر التخوف من الميكروب حتى قام أحدهم في نيويورك واخترع آلة صغيرة وهي عبارة عن أنبوب صغير يحمله المرء تحت طرف ثيابه ويملأه بسائل مطهر فتمر بالعروة عقدة تناط بالأنبوب الصغير فتتألف منها آلة مبخرة فإذا تنهد قليلاً يبدأ التبخر فيستعمل المرء هذه الآلة على هذه الصورة كلما اجتمع في الشارع مع شخص كما يستعملها لتبخير كل ستار أو قطار أو دثار أو شعار أو جدار يشتبه في أمره. قالت الجلة الباريسية ولا يبعد أن يأتي يوم يبني فيه المهندسون بيوتاً ومساكن تكون بمأمن من الجراثيم الضارة(17/42)
وقد بدأ القوم في أميركا يجربون تجربات من هذا القبيل بإنشاء غرف كلها من الزجاج ولا ينبغي الاستهزاء بهذه الفكرة فإن الطلبات متوالية في ذلك.(17/43)
مطبوعات ومخطوطات
دائرة المعارف الإسلامية
ستصدر عما قريب دائرة المعارف الإسلامية التي ألفها هوت سما من أساتذة كلية ليدن بمعاونة جماعة من علماء المشرقيات مثل هوار وفو لرس وبرتولد وزترتستين وهور وفيس وبكير ومارسي وباسي وغيرهم من الهولنديين والفرنسيون والألمانيين والنمساويين والسويديين وقد ذيلت كل مقالة بتوقيع كاتبها على الأوروبيين في موسوعات العلوم عندهم وقرأنا في مجلات العلوم الشرقية ثناء كثيراً على هذا العمل النافع وتدقيق كتابها في المسائل التاريخية والاجتماعية والإسلامية. وإنا نعرف بعض من اشتركوا فب تأليف هذه الدائرة النافعة وهم متمكنون من آداب العرب وتاريخهم مطلعون على ماضي الإسلام وحاضره وما منهم إلا من طاف كثيراً من أقطار المسلمين وعاشر أهلها وأطلع على أحوالها. فلا جرم أن يجئ مما تخطه أناملهم مثال التحقيق وأنموذج الرواية والبعد عن الغرض.
عرب سورية فقبل الإسلام
المسيو دوسو عالم من أهل الإحصاء في سورية عرفناه منذ بضع سنين أيام رحلته الأخيرة إلى بلاد الصفا وهو يكاد اليوم يكون حجة بلغة الصفا وتاريخها. وكتابة الصفا لم تكن معروفة قبل خمسين سنة فحلها جماعة من علماء المشرقيات وانتهت الرياسة فيها لصديقنا دوسو واللغة الصفوية هي اللغة العربية وأهل الصفا هم أول النازحين إلى سورية وإن جاء بعدهم بعض القبائل إلا أن تاريخ أولئك قد عرف أكثر من غيرهم من أهل سورية الراحلين بما اكتشف من أثارهم ومصانعهم ونقوشهم المزبورة على الأحجار وقد كان عدد ما عثر عليه 1750 كتابة اكتشف نصفها المسيو دوسو والمسيو ماكر وهي مهمة من حيث الحياة الإسلامية ومما قاله فيه أنه ينبغي تصحيح الأفكار الشائعة والأغلاط التي يقع فيها بعضهم بشأن العرب فإن العرب ليست على إطلاقها من أهل الجزيرة العربية بل أن سكانها الرحالة في الجنوب من أصول أخرى وينبغي أن يطلق اسم العرب على سكان أواسط جزيرة العرب وشمإليها وعلى قبائل الرحالة التي تطوف في بادية الشام لأن هذه البلاد عربية صرفة وانتقل كل سنة يأتي هذه البلاد بقبائل من نجد وكل قبلة تعقد مع(17/44)
القبائل الرحالة الأخرى عهوداً يسمونها خوة وتقضي بينها الربيع. والتنقل قديم يرد عهده إلى أوائل التاريخ المسيحي. قال أن الصفا غير قابلة للسكنى لأنها ذات براكين ولكن في جوارها بلاداً تسكن خصيبة ذات مياه قال فيها ياقوت الحموي أنها أصل البلاد الصفوية. وقال أن اللغة الصفوية هي إحدى اللهجات العربية وليست فينيقية. وذكر أن الأثار التي عثر عليها ذات شأن حيث علاقتها بالدين لأن المسلمين عفواً أثار الجاهلية الأولى فلم يبقوا منها أثراً وقال أن الصوفيين كانوا يذكرون اسم الجلالة قبل الإسلام وقبل أن يختلطوا بالرومانيين وأن العرب لم تفتح تلك البلاد عفواً بل أن اختلاطهم بالأمم المجاورة قبل الإسلام هيأ لهم سبل الفتح وأن الرومانيين لم يحأولوا أن يصدوا عرب البادية عن التنقل بل كانوا يعاملونهم بسلام لئلا تكدر كأس الراحة.
ديوان الحافظ
محمد حافظ أفندي إبرأهيممن أعاظم شعرائنا الأفراد نبغ في البلاغة فاستولى على غاياتها وله نمط خاص به في الانسجام وجودة التصوير في الموضوعات التي ينظم فيها معظم قصائده على حين لا يقع منها لغيره إلا الأبيات الفذة النادرة فشعر حافظ هو الذي تقرأ فيه روح العصر. شعرٌ شعر شاعره بحركة العقول والاجتماع فنظم فيه وأبدع. ومن أعظم حسنات حافظ في شعره أنه ينقحه ويشذبه فلا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً. فإن نظم في شهر قصيدة ينظمها غيره في يوم ولكن قصيدة الشهر تبقى وتخلد وبتنأقلها الناس ويستظهرونها وقصيدة اليوم تذهب بذهابه. وقد نشر الأن الجزء الثاني من ديوانه في 136 صفحة صغيرة ولكنها كبيرة النفع ومعظم ما فيه من قصائد اجتماعية في شؤون الأمة قال على لسأن اللغة العربية:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني ... عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما أجد لعرائسي ... رجالاً وأكفاء وأذت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً ... وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي(17/45)
فيا ويحكم أبلي وتبلى محاسني ... ومنكم وأن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمأن فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعةً ... وكم عن أقوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً ... فباليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياتي
ولو تزجرون الطير يوماً علمتم ... بما تحته من عثرة وشتات
سقى الله في بحر الجزيرة أعظماً ... يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي في البلى وحفظته ... لهن بقلب دائم الحسرات
وفاخرات أهل الغرب والشرق مطرق ... حياءً بتلك الأعظم النخران
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً ... من القبر يدنيني بغير أناة
واسمع للكتاب في مصر ضجة ... فاعلم أن الصائحين نعاتي
أيهجرني قومي عفى الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسبل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت قي تلك الرؤوس رفاتي
وإما ممات لا قيامة بعده ... ممات لعمري لم يقس بممات
وقال في قصيدة عن غلاء الأسعار
أيها المصلحون أصلحتم الأر ... ض وبتم عن النفوس نياما
أصلحوا أنفساً أضر بها الفق ... ر وأحيى بموتها الآثاما
ليس في طوقها الرحيل ولا الج ... د ولا أن توأصل الأقدما
تؤثر الموت في ربى النيل جوعاَ ... وترى العاران تعاف المقاما
ورجال الشآم في كرة الأرض ... يبارون في المسير الغماما
ركبوا البحر جاوزوا القطب فاتوا ... موقع النيرين خاضوا الظلاما
يمتطون الخطوب في طلب العي ... ش ويبرون للنضال سهاما(17/46)
وبنو مصر في حمى النيل صرعى ... في بلاد رويت فيها الأناما
يرد الواغل الغريب فيروى ... وبنوك الكرام تشكو الأواما
أن لين الطباع أورثنا الذ ... ل وأغرى بنا الجناة الطغاما
إن طيب المناخ جر علينا ... في سبيل الحياة ذاك الزحاما
حياة الزوجين
هو كتاب أدبي اجتماعي يشتمل على آداب حياة الزوجين وما يجب على كل منهما نحو صاحبه وعلى ما تضمنته أسفار الحكماء وأحكام العلماء وقد بحث فيه مؤلفه عبد اللطيف أفندي مصطفى في حالة البيوت والزواج المشروع المعقول ووصف اختلال أحوال الخطبة والتربية والعادات السافلة بعبارات تشف عن أدب وقد درس الموضوع في مظان كثيرة فجاء فيها مفيداً يشهد بالفضل لمؤلفه ويرجى منه عموم النفع.
الدروس التهذيبية
عرب أحمد أفندي فوزي هذا الكتاب المفيد عن اللغة الإنكليزية وهو على أسلوب في التأليف لم يؤلف في العربية يأتي بتراجم العظماء والعلماء بأسلوب حكاية ويستطرد إلى ذكر أعمالهم واختراعاتهم بحيث يتطلع القارئ إلى ما تنطوي عليه القصة فيتعلم الأفكار الصحيحة والحوادث التاريخية ويلم بسير المشاهير وأحوال الاجتماع والآداب بدون أن يتعب أو يمل كما وقع له في فصول الكتاب الجليلة مثل ضبط النفس وحياة معتدلة والمثابرة والشجاعة والاعتماد على النفس والتبصر والنظام والتواضع والصدق في العمل والحرية والبحث عن الحق واختلاف الآراء وغيرها. الكتاب موضوع لأطفال تختلف سنهم بين العاشرة والرابعة عشرة ونرى أنه يفيد الكبار من الرجال والنساء وحبذا لو حذا حذو معربه كل من يعرف إحدى اللغات الأوروبية فينقل إلى العربية كتاباً أو كتأبين في حياته في ضروب العلم والأدب زكاة عن علمه وحباً بنفع لغته وأمته. والكتاب في 350 صفحة صغيرة مطبوع طبعاً جيداً وثمنه فرنك واحد ويطلب من المكاتب الشهيرة فحث على اقتنائه.
مجلة الأزهر
أصدر محمود بك زكي مجلة بهذا الاسم وهي علمية دينية أدبية تهذيبية تاريخية تبحث في(17/47)
المسائل وتدافع عن حق الأزهر وعلمائه وتصدر مرة كل اسب وعين وتحرر تحت ملاحظة بعض أكابر علماء الأزهر وقيمة اشتراكها ثمانون قرشاً وللأزهريين وطلبة العلم بأربعين وقد استبشرنا بهذه المجلة فلعل الأزهريين يتمرنون بعد الآن على الكتابة والتأليف فإن مدرسة فيها اثنا عشر ألف طالب حرية بأن تصدر باسمها مجلة تدون فيها أراء أهلها وأميالهم وزبده علومهم وإذا كان في هذه المجلة الآن بعض أمور تؤخذ عليها فإن كثرة المران على العمل تجود مع الزمن وما قط جاء عمل تأما من يوم البداءة به فنرحب بالرصيفة الجديدة ونرجو لها طول البقاء.(17/48)
فجائع البائسين
(تابع ما قبله)
- كنت وعدتني وأخلفت وعدك وهيهات أن تثبت عليه
- أما قنعت وعذرتني؟
وأخذت تفكر مترددة أن تكلفه بالطلاق المشئوم الذي لا نود أن تسمع ذكره وهي تخاف أن لا يقبل فتخجل أو يطلقها حباً بها وهو لا يريد ثم قالت يستحيل أن أكون زوجة ثانية وأجتمع بأعدى عدواتي أو أتصور أن لي عدوة في حياتي ولذلك أرجوك أن تعذرني إذا أبيت أن أجيبك على سؤالك.
- فإن كان ألمانع لقبولك وجود شهيرة فهي طالق ثلاثا فكوني على ثقة من أن اجتماعي بها مرة أخرى ضرب من المحال
ما كان بودي طلاقها ولكنه سبق منك فأعدك بالقبول وقد عفوت عنك وسامحتك بما بدر منك ونسيت كل خطيئاتك
- أشكر لطفك وإحسانك ولم يبق أمامنا من العقبات سوى فبول أبيك وإقناعه
سأجد إليه وسيلة تضطره إلى أجابة الطلب. وهنا تعانقا وتفارقا على أمل اللقاء وأخذ سعيد يفكر بالسعادة ويؤمل بقربها وهيهات! هيهات! لأن السعادة الحقيقية مفقودة وقد يظن المرء أنه سعيد بالنسبة للشقي أو يتظاهر بالسعادة:
(تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد) ولكن الأماني تجعل الإنسان يعيش في خيال السعادة فهذا سعيد ولد بالأمل وعاش بالأمل وسيعيش بالأمل وصار يسبح في بحور الخيال وأخذ يؤثر البقاء في فراشه على الذهاب إلى أحسن سمر ليفكر فيما ستصير إليه حاله. فبينما هو يفكر في خيالاته أتاه خبر وفاة ابنه مع أحد أقارب زوجته فطلب هذا منه أن يرسل يجهزه للدفن ولم يكن سعيد رأى ابنه فحدثته نفسه أن يرى صورته ولو كان ميتاً ليلتذ بالبكاء عليه ويقول إنه كان لي ابن فأرسل وطلب ذلك فوعده الرسول وذهب فأخبر شهيرة وأمها بما أراد فغضبا ونادتا بالويل والثبور قائلتين أن هذا لا سبيل إليه وأسرعتا بتجهيز الطفل وحمله إلى الجبانة فأتى سعيد فوقف قرب الباب المشئوم وأرسل خادمه ليطرق الباب فصاحت النساء وشتمته ولعنت الولد وأباه ودعتا الله أن يلحق الأب(17/49)
بالابن فأدرك من ذلك الصياح أن الميت أرسل إلى الجبانة وسأل الجيرأن فأخبروه أنه أخرج وصلي عليه ثم أخذوه ليواروه التراب فذهب إلى المدافن فلم يجد سوى حملة الميت راجعين فسألهم عنه فقالوا أنه دفن وأجره على الله فأخذه البكاء وأسف أسفاً عظيماً. وبينما هو يكفكف عبراته أتاه طغمة الشحاذين فأحاطوا به فمنهم من يقول اسمعونا الفاتحة إلى روح الميت ومنهم من تسرع في تلاوة حزب من القرآن ومنهم من يقول أعطنا من مال الله وتصدق عن روح ابنك فما وسعه إلا أن شتمهم وكدرهم وطردهم ولكنهم استعملوا سلاحهم إذ أبت نفوسهم السب والشتم فأعطى خادمه ريالا وأمره بأن يصرفه قطعاً صغيرة ويوزعه عليهم على السوية تخلصاً من سلاطتهم وإلحافهم فتركوه ولحقوا الخادم وكادوا يضربونه فرمى الريال وفر أمامهم يعدو مسرعاً فإنقضوا جميعاً على الريال وأنشئوا يترامون بعضهم فوق بعض فجرح أحدهم وراح ينتقم من رجل برئ فقابله وانتصر عليه فأتى الشرطي وأخذ يضربهم بسوطه ففر بعضهم وقبض على الآخر فساقهم إلى المخفر وأخذ الخادم فلم يتركهم حتى أخذ منهم ما يرضي خاطره.
طغمة الشحاذين في كل بلدة ضروب وأشكال وأكثرهم عدداً وأرقأهم في الشحاذة والتفنن في الإلحاح والإلحافكلاليب دمشق فلهم هناك رئيس يحكم على أعوأن له من كل حي من أحياء المدينة ومن وظيفة الأعوان أخبار الرئيس في أسرع وقت بموت ميت وتوزيع صدقة وهذا يعلم جميعهم فما هو إلا أن يصطفوا حول جدار الميت قبل المعزين ينتظرون خروج النعش ليمشوا حوله مهللين مكبرين بأنغام خاصة بهم فيمدون الكلام وينغمون بأشداقهم ويخرجون ألسنتهم. وللرئيس أجرة الأخبار يتقاضاها من كل فرد منهم حتى إذا دفن الميت يهجمون على أهله ويطلبون منهم أجرة التهليل والتكبير كانهم دعوهم وقالوا على أجرة معلومة وقد يسمعونهم ألفاظاً فظة ويحملونهم منة كان يقولون لا يليق بمن ورث مبالغ من المال أن لا يتصدق عن روح مورثه كانهم شركاء الوارث في ميراثه فيزيدونه غماً إلى غمه.
ولما رجع سعيد من الجبانة وفكر بأنه خلص من أجرة الحضانة وحيل بينه وبين زوجه قوي أمله وشكر ربه على ما زال عنه من الغمة وذهب إلى زيارة الباشا على حسب عادته وأخبره بما وقع له فأسف هذا له ورق لحاله وشعر بلزوم حمايته لأنه هو ولي نعمته ولامه(17/50)
على التأهل بهذه الزوجة ثم قال له: ينبغي لك أن تفتش على زوجة توأفقك
- لا يخفى على سعادة الباشا أن سعادة الباشا أن رفيقي أخو زوجته هو الذي غشني بأخته وكان الباشا حينئذ متغيباً عن بيروت فلو كان هنا ما تزوجت إلا بعد استشارته ولآن أسعى في سبيل الزواج ولكني عزمت على ترك هذه المسألة لرأي مولاي
- سأفكر لك بزوجة حسنة وأمر الخانم لتبحث لك عن امرأة تليق بك.
فشكر فضله وقبل يده وبعد أن مكث هنيهة في حضرته أستأذن بالانصراف إلى داره
ظلت جميلة وحيدة في المنزل وأخذت تفكر وتقول إلى متى وأنا في حرمان من الزواج؟ لست براهبة ولا يحظر علي التأهل وما يخيل لي أني أجد أحسن وأوفق من سعيد وحبي له شديد ولا أود أن أقترن بغيره فمن يطيق أن يمنعني من اتخاذه رفيقاً لي؟ إذا كان اعتقاد أبي بالمناصب والمواقع وهو لا يعلم أنه لا تمييز بين البشر بالفضائل ومكارم الأخلاق فأرادته لا تمنعني عن تذلك ولست لأمره طائعة على أن الشرع الشريف منحني حرية الزواج بعد البلوغ وها أنا ذا بلغت سن الرشد وطاعة أبي الذي ينكر الحقائق بضعف عقله وقلة علمه غير واجبة عندي إذا كان له أولد أعلم منه بمصالحهم وأعقل منه وأمثل في تدبير خصوصياتهم وأنا أعلم من أبي ولا شك بمن يصلح لي ولكن الأدب والكمال يضطرانه إلى أن يرضى عن زواجي ومن الحزم والعقل أن أسوقه إلى ما أتمناه ولكن كيف أصل إلى ذلك؟ وأخذت تفكر في وسيلة إلى تحمل أباها على أن يهم بزواجها من سعيد فجلست يوماً مع أمها وذكرت سعيداً وما قاساه من أمرأته وصارت إلى تمدح مكارم أخلاقه وتعظم مستقبله بعين أمها وتتمنى له زوجة ترتاح إليها نفسه وتطيب وكانت أمها تصدق ما تقوله حتى حمستها فقالت: إذا كان يريد الزواج فإنا سأسعى له.
فتجاسرت حينئذ جميلة وقالت لو كان لي فكر في الزواج لما تزوجت سواه. وقصدت بهذه العبارة استطلاع رأي أمها فقالت هذه نعم وأنا أوأفقك على أفكارك ولكني ما زلت استغرب امتناعك عن الزواج وقد فات أوانه وانقطعت الرغبات فيك وأنت على تصوراتك الغريبة؟
- أتدرين متى أرضى بالزواج؟ متى وفقت لكفؤ يقوم بضروراتي ويعرف قدري ولا يتزوجني إلا من أجل فضيلتي وأنت تعلمين أن الذين طلبوني حتى الأن لم يقصدوا مني إلا الانتساب لأبي ولا يخفى عليك أن الذي يطلبني من أجل أبي عندما يتوفى والدي(17/51)
يهملني ولعله يطلقني أو يتزوج مرة آخرا ويتركني حزينة أبداً.
ما زالت تلقين هذه المشكلات فمن أين لنا أن نأتيك بمن يوأفقك على ما تنزع إليه نفسك؟
قد يوجد ولكنه لا يجسر أحد على طلبي لعلمه أني أرد طلبه وهذا يصعب عليه أن يرد خائباً لعزة نفسه وشرف طبعه وكرم أخلاقه.
هل تعلمين فتى بهذه الأخلاق؟
- وأنت تعليمنه
من هو؟
سعيد
- لا أشك بمكارم أخلاقه وعزة نفسه ولكنه غير كفؤ لك من حيث الشرف لأن أباك باشا وأبوه جندياً وعائلته غير معروفة بين الناس والعجب العجاب رضاك به زوجاً
لا محل للعجب هنا لأن مكارم أخلاقه تقوم مقام شرف الفتى والشاعر يقول:
لا تقل أصلي وفصلي أبداً ... انما أصل الفتى ما قد حصل
وإذا كان فقر عائلته يمنعك عن القبول فليس الفقر عيباً للمرء ولا الغنى شرفا له وخلاصة القول كوني على يقين من أني إذا قصدت الزواج لا أتزوج غيره لأنه هو وفق مرغوبي
- فهمت الآن أن له في قلبك مكانا والحب أراك أيا موافقاً على أني لا أطيق أن أذمه لأني لا أجد فيه من العيوب سوى فقره وانحطاط منزلة أسرته.
- قلت لك أن الفقر ليس بعيب وأما انحطاط مكانته فمكارم أخلاقه تشفع بها ومع هذا كله فإنه سيتولى منصباً عالياً يبلغ به مبالغ الإشراف وينال راتباً عظيماً يصيره من زمرة المترفين.
فإن كنت ترغبين فيه زوجا لك فصرحي بكلامك ولا حاجة إلى براهينك.
. . . . سكوت وإطراق في الأرض
- فلو رضيت لك وشايعتك على فكرك فهل تتصورين أن الباشا يرضى بذلك وهو غرس نعمته وزيدي على ذلك أن له زوجة أخرى
- أنت قادرة على إقناع الباشا وإرضائه وأما زوجة سعيد فليس فيها كبير أمر لأني على ثقة من أنه يطلقها من أجل أبي(17/52)
- من أين لي أن أقنع الباشا ليرضى بذلك؟
- أنت تعلمين كيف تفعلين
- دعيني الآن ريثما أجد فرصة مناسبة أسترق فكر أبيك وأعلم إن كان يمكن ذلك أم لا.
وبعد ما خرج سعيد من منزل الباشا دخل هذا إلى دائرة الحريم وأخذ يظهر أسفه ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله. فسألته الخانم عن السبب فأخبرها بما جرى لسعيد وابنه فبكت لحاله وأسفت عليه ثم قال لها: أني تعهدت له بأن أزوجه وأن أرسلك لتفشي له على امرأة توأفقه. فتجاسرت الخانم عندئذ وقالت: إن كنت تود أن تحميه وتريحه زوجه بابنتك فهو غرس نعمتك وقد نشأ بفضلك وفي ظلك وما هو ظلك وما في الحقيقة إلا ابنك ولعلنا نتخذه ولداً فيكون لنا عوناً وسنداً
- لا أنكر مزاياه وأحبه كولدي ومنزلته عندي منزلة جميلة ولكن امتناع جميلة وكلام الناس يحولان دون ذلك على أني لست ممن يعدون الفقر انحطاطاً ومزرياً بالشرف ولا استنكف من مصاهرته لأن مكاني وشرفي يكفيانه
- كلام الناس ليس مما يحفل به العأقل في مثل هذا المقام لأن العأقل البصير من لا يبالي بكلام لا طائل تحته وقد يكفيه رضا الأخيار والأخيار لا يرون الفقر وجهل مكانة العائلة منافياً لمكارم الأخلاق وهم يرجحون الفضائل على كل مزية والمدح ما كان من الأخيار والذم ما كان منهم ولعل جميلة ترضى به لأن امتناعها ناشئ عن وجود قرين يوأفقها على أنها تمدح سعيداً في كل حين وتقر له بالفضل
- وأنا لا أبالي بكلام العامة ولا بكلام من انحطت أفكارهم ولكن إذا رضيت أنا بذلك فهل جميلة ترضى به
- فلنسألها - اذهبي واسإليها
دخلت على جميلة وأخبرتها بما جرى بينها وبين أبيها ففرحت وقالت لأمها يجب علينا أن نحتاط لئلا يفهم ويغضب وأنت تعلمين حاله إذا أخذه غضب
- أصبت بما فكرت. فماذا نفعل؟
- اذهبي وقولي له أن جميلة لا تخالف أمرك ولكنها تلتمس منك مهلة تفكر في هذه المسألة الحيوية التي تحتاج إلى إمعان وزيادة استبصار(17/53)
- هاأنا ذا ذاهبة وذهبت. فدخلت على الباشا وأخذت تمدح جميلة على ترويها وعقلها وكمالها ثم قالت: أنها لا تخالف أرادتك وهي طوع أمرك فيما تقضيه عليها ولكنها تلتمس مهلة يومين لتفكر في الأمر ثم تخبرنا سلباً أو إيجاباً
- أخاف أن تصر على عنادها وأنا أود أن أزوجها في حياتي لنفرح بها فقولي لها أني أمهلتها يومين فذهبت وخبرتها ففرحت بنيل المراد وبشرت سعيداً بواسطة خادمتها ففرح هذا وظن أن السعادة العظمى لاحظته عيونها وأخذ يفسرها ويقلبها على وجوه آملا أن تكون تلك السعادة مكافأة لما عاناه من قبل وصار يسبح في ظلمات الخيال وصرت لا تراه إلا ضاحكاً مسروراً يقول تارة سأرتاح من أجرة الدار وأسكن منزلاً عالياً وأركب عربة خاصة وأرتقي بمعونة الباشا وأخلص من هم صرف الراتب على تدبير المنزل واقتصد راتبي وأوفي راتبي فأكون حينئذ سعيداً ثم أخذ يفكر فيما بالذي سيتراكم من مشاهرته فقرر أن يشتري أوراق يانصيب المصرف العقاري وتحويلات سكة حديد الروملي وأصبح في أمان من كسب أعظم المبالغ ورأى أن يشتري خيلاً ليقيم على تربيتها فيبيعها بما تيسر من الليرات ويشتري دكاناً ثم مخزناً ثم ضيعة فيصير من الأغنياء ويستتغني عن الاستخدام وعن معاناة شرور العالم ويكتفي بأن يصير عضواً في أحد المجالس وطوراً يقول أن السعادة ليست شيئاً في الحقيقة بجانب اقتراني بجميلة لأن السعادة العظمى هي اقتران زوجة بزوج يوأفقها في الخلق ويقوم بما يفرض عليه لتقوم هي بما يفرض عليها من أعمال الحياة وبمثل هذه الخيالات كانت تمر أيامه وليإليه فصار لا يفكر إلا في السعادة ونسي كل ما عاناه من قبل بل وتناسى ما وقع له شأن الإنسان يتذكر السعادة في الشقاء وينسى الشقاء في الإقبال وكان وصول سيعقد به له على حبيبته جميلة.
ولما مضى اليومان أجابت بالقبول وفوضت الأمر لأبيها لا يباح ففرح هذا وأرسل سعيداً فأتى هذا مسرعاً لإنه كان عالماً بالأمر فقطع الطرق وما شعر إلا وهو أمام المنزل وكان من عادته أن يأتي ماشياً على رجليه فأتى هذه المرة في العربة وأستأذن عليه فدخل إلى ردهة الباشا فقبل يده وجلس أمامه فقال له الباشا يا بني أنت تعلم أني ربيتك كولدي وأحبك بمثابة ابنتي جميلة ولآن أريد أن أجعلك ابناً حقيقياً وأفرح بك فهلا تطيع أمري؟
- سيدي العبد غرس نعمائك وإن كنت عشت أو أصبح لي شأن فذلك بفضلك وإحسانك(17/54)
فمقامك أعظم من مقام أبي عندي أن كان أبي الذي توفي والدي بالجسم فإنت أبي بالفكر أبي بالعلم أبي بالأدب أبي بكل شيء قال اله تعالى (ولئن شكرتم لأزيدنكم) والعبد يقر ويعترف بأنه ليس في وسعه شكر النعم الجسام التي أولانيها مولاي فليس لي إلا أن أطيعه في كل ما يصدر من سعادة فمر بما تريد وأنا عبدك المطيع.
- بارك الله بكرم أخلاقك ووفقك وجعلك من أسعد الناس وأعلم يا بني أني على غاية من الأسف لما عانيته من العذاب في زواجك وأنا حتى بلغت مما أقر عيني به كلما نظرت إليك وسمعت عنك فأحب أن أصل ما بدأته معك لتترحم علي بعد موتي وتكون ولياً على عائلتي التي ستصبح بعدي بدون رجل يتولى شؤونها وهذا لا يتم إلا بزواجك من ابنتي جميلة فأعرضها عليك إذا لم يكن لك مانع
- لا مانع لي يمنعني عن نيل النعم فالعبد رهين الأمر في كل حين فمر بما فلا تجدني إلا عبداً مطيعاً
- حفظك الله وسنعقد لك عليها هذا الأسبوع إن شاء الله السميع العليم
- أطال الله عمر مولاي
ثم شكر فضله وقبل يده ودخل الباشا على ما دار بينه وبين سعيد وهذه أخبرت جميلة ففرحت وأيقنت بنيل المراد. وبعد أربعة أيام دعي عمال الولاية والأمراء والوجهاء والعلماء إلى دار الباشا المشار إليه ووكل سعيد أحد أحباب الباشا وعين بعد شهر من تاريخ العقد.
غدا سعيد يرقب يوم العرس بفروغ الصبر ولما أن الوقت استعد للسرور فدعا رفقاءه ليشاركوه بفرحه وحبوره وما علم بما أخفاه له الدهر الخؤون وقد نامت عينه عنه إلى حين فأدخله الباشا تلك الليلة على جميلة وأوصأهما بعضهما ببعض ودعا لهما بالتوفيق.
فلما دخل بها وخلت به أخذت تعاتبه قائلة: لو كنت خالياً من أوهامك الغريبة وحفظت العهد لنلت ما نلته الآن وما كنت وقعت ولكن خلق الإنسان عجولا على أني ما زلت أعجب منكم معشر الشرقيين فمهما كبر عقلكم وارتقى فكركم ودرستم العلوم والفنون لا تزالون مقيدين بالأوهام الباطلة ولقد ترى الواحد منكم ينتقد الخرافات ويعيب أوهام غيره ويرتكبها غير مختار وذلك بما تعلمه من أمه الجاهلة في طفولته يرضع لبأن الخرافات مع لبن أمه ولا(17/55)
يخطر ببالك أيها الحبيب أني أقصد بانتقادك هذا مدح الجنس اللطيف فإنا عالمة أن وجود فتاة مرتقية الفكر سليمة العقل خالصة من الأوهام والخرافات في بلادنا قد أصبح ضرباً من المحال وذلك أن المدارس التي أسست لتثقيف عقول البنات لا تعلمهن إلا مبادئ العلوم والفنون ضعيفة ضئيلة لا تكاد تسد الحاجة وقد لا توجد مهذبات مدربات في المدارس يهذبن الفتيات ويدربنهن على الفضائل وحب الكمال إلا ما ندر ومما يؤسفني أن أرى أن أهم درس يدرس في المدارس تعليم أمة اللغات لأننا لا نزال نعد التكلم أو العلم بإحدى اللغات دليلاً على الفضل والكمال وأغرب من هذا كله ما نراه من إنهماك المعلمات في تعليم البنات التفصيل على الزي المودة وزركشة الفساتين فالمعلمات يغرسن حب الأزياء في عقول النساء وهن غير مباليات بتثقيف عقول الفتيات ولذلك نرى الفتاة تخرج من المدرسة على آخر طرز وأحسن زي من الزينة والتبرج وقد تتكلم بلغة من اللغات فتكون حينئذ بلغت منتهى العلوم والآداب بزعمها وزعم أهلها. ولا يخفى عليك أن التي دأبها التزين واللباس وتجديد الأزياء لا تجد في وقتها متسعاً لتعليم ابنها وتهذيبه ولذلك أصبحت المرأة علتنا الاجتماعية ومقياسنا متى ارتقت ارتقينا وإذا هوت هوينا معها فلا تقوم لنا قائمة إلا بتهذيب المرأة التي إذا هزت بيدها اليمنى سرير ابنها هزت باليسرى الدنيا بأسرها والرجل العظيم لا يأتي إلا من عظيمة سبقته وهي أمه ولله در من قال (الطفل صفحة بيضاء وأمه تنقشه كما تشاء) ولعلنا نرى يوماً يكثر به نصراء المرأة الضعيفة فيعلمون حقائق الأمور ويعنون بتهذيب بناتهم ويخدمون بناتهم ويخدمون بذلك بني نوعهم. وإما نحن نربي أبنائنا كما نشاء ونجعلهم مثال الكمال ونثقف عقولهم ونعدهم للبيئة الاجتماعية خدمة يقومون بواجباتهم نحو بني الإنسان والحيوان.
= لقد أعجبني خطابك البديع الذي أعرب عما في ضميري ولكن ما لي أراك مرتدية على أخر زي؟ أما كان اللائق بك أن تبتدئي بنفسك وتهجري الأزياء وتنزعي عنك المجوهرات الثقيلة التي استغرب كيف تطيقين حملها على إنه كأن يكفيك رداء جميل الزركشة في شكل بسيط يقبله الذوق السليم.
= كان يجب علي ابتداء بنفسي ولكني خفت من أن توجه سهام اللوم وأصبر عرضة لأفواه الناس وربما جلب ذلك على والدي كلام المتكلمين فحطوا من قدره(17/56)
= أليس من العقل أن لا تبالي بكلام الجاهلات اللواتي لا يميزن بين الحسن والقبيح وأنت لست من اللواتي يتزين ليلة العرس ليغرن أزواجهن حتى يملكن قلبهم فإنت ملكت فؤادي منذ كنت طفلاً ومكانك لا يزيده لباسك وتبرجك شيئاً في عيني ولا تنقصه بساطة ردائك ويا ليتك كنت جعلت البساطة زياً بين الناس لأنه ينظر إليك والنساء يقلدونك ولكن كما قلت أن الإنسان مهما ارتقى لا يزال مقيداً بقيود الأوهام. وأما عدم تصبري وخيانتي لعهدك فهذا أمر مقدر المقدر محتوم والأشياء مرهونة بأوقاتها ولا يستطيع بشر أن يفر من القدر ولذلك لا أرى محلاً للوم
= أن هذه العبارات عبارات العجزة الذين إذا أخطئوا وأسأوا رجعوا بخطئهم على القدر وشكوا من الدهر وإذا أحسنوا منوا وافتخروا.
= دعينا من الفلسفة والكلام فلنطرب بألحان المغنيات ونترنم بآلات الطرب لأن هذه الساعة ساعة طرب وهي الليلة التي لا تتكرر في حياتنا والأيام بيننا سنتجاذب أطراف الحديث ونبيع بعضنا بعضاً من الحكم والحقائق ما تشاء
وثاني يوم العرس عهد الباشا إلى بأن يتصرف بمنزله كما يتصرف كما يشاء ووكل إليه أشغاله الخاصة وصار يتصرف بالصدق والاستقامة واقتصد كثيراً من النفقات وغدا هو المرجع ومن كان له حاجة عند الباشا كان يأتيه فيلتمسها منه وهو يحسن معاملة الناس حتى استجلب قلوبهم وكأن يساعد المغدور ويسعى في استحصال حق المظلوم من الظالم. وتكلم مع الباشا على أن يسعى في ترقية وظيفته فوعده بذلك ففرح وقوي أمله بالسعادة وصار يوفر رواتبه ويوفي ديونه حتى اشترى سندات البنك العقاري وتحويلات سكة حديد الروم ايلي واشترى حصانين ليربيهما وأخذ يتسع خياله يتسع وآماله تكبر شقاؤه فهو يأكل ويشرب وينام ولا يدفع بارة ويتنزه بعربة الباشا ولا يصرف إلا القليل فتخلص من الطلب والدين.(17/57)
العدد 18 - بتاريخ: 15 - 7 - 1907(/)
الهجرة إلى مصر
إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي
دحا الله الأرض ليعيش البشر عليها ويتناسلوا فيها فيعمروها ويحيوا مواتها ويسيطروا على المخلوقات كلها فالأرض هي المنزل العام يجلس أهله في أي ناحية منه أحبوها وراقتهم وينتقلون في بقاعها وأصقاعها ووهادها ونجادها وحزنها وبحرها وبرها على حسب ما تقضي أحوال الصحة وطبائع الأجسام وخواص النفوس.
فقد هاجر الفينيقيون قديماً وأقاموا قي قرطجنة وعمروها كغيرها من شواطئ البحر الرومي وهاجر الغوط من جرمانيا إلى جنوبي أوروبا ودأهموا المملكة الرومانية وهاجر الروم من بلادهم إلى شواطئ البحر المتوسط وجزره وشواطئ البحر الأسود وبلاده وعمروها. وكثير من الأمم أمثالهم غادروا مساقط رؤوسهم وأخذوا لهم بلاداً ثانية استعمروها.
وهاجرت في العهد الحديث أمم كثيرة وأمم وقعت هجرة الأوربيين إلى أمريكا عمروها بجنسهم الأبيض بعد أن كانت خربة بالجنس الأسود. وكذلك هجرة الهولنديين إلى جنوبي أفريقية وهجرة الروس إلى سيبيريا وهجرة القاتقاسيين والجراكسة إلى البلاد العثمانية وهجرة الإسرائيليين من بلاد روسيا وهجرة المسلمين الروسيين إلى أمريكا وغيرهم.
وللعرب حظ وافر من الهجرة والتنقل في الجاهلية والإسلام بل أن الهجرة من طبيعة جزيرتهم يغمدون إليها للكلأ والمراعي أو للاتجار بنتائج مواشيهم وحأصلاتها. وأول هجرة في الإسلام كانت هجرة عشرة من الصحابة وأربع نسوة وقيل أكثر أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة لما رأى ما يصيبهم من البلاء قائلاً لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه فخرجوا ثم عادوا بعد سنين. وهكذا هاجرت العرب إلى فارس ومصر والشام وأفريقية والأندلس والسند وكشغر لما فتحت. ولولا أقدامهم على الهجرة ما رأينا الإسلام منتشراً في قلب آسيا وأفريقية.
ولا نزال إلى اليوم نشهد أثراً من أثار حب العرب للهجرة وقد زادها اليوم قرب الموأصلات وسهولة السفر. نرى أهل حضرموت في جنوب الجزيرة يهاجرون إلى حيدر أباد الدكن الهندية فيكون معظم جيش البلاد منهم ونرأهم يهاجرون إلى جاوة فيكثر فيها سوادهم ويغتني بعض أفرادهم. ونرى النجديين يهاجرون إلى الهند في التجارة ثم يستوطنوها ويصبحون فيها أصحاب كلمة ونفوذ. ونشهد السوريين يهاجرون إلى أمريكا(18/1)
وأفريقية ونيرتاشون ويتأثلون.
وانهيال السوري على هذا القطر خاصة قديم جداً يصعب تعيين زمنه لاتصاله ببلاد الشام براً وبحراً ولم تكن القوافل في الإسلام تنقطع في البر كما أن المراكب لم تكن تنقطع عن السفر في البحر ولم تبرح بلاد الشام مصيف مصر وأحدهما مكملة لعمران جارتها. وقد وصف ابن فضل الله العمري في التعريف بالمصطلح الشريف طريق القوافل بين القطرين كما عقد القلقشندي في صبح الأعشى فضلاً في مراكب الثلج الوأصل من البلاد الشامية إلى الملوك بالديار المصرية. ومصر ما برحت كما وصفها ابن خلدون في القرن الثامن (بستأن العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر).
نعم هي محشر الأمم ولاسيما المجاورة من البر أو المناوحة لها من سيف البحر. وذلك لأن عمرانها طبيعي مستبحر في معظم أدوارها فلا عجب إذا كانت مهاجر الأمم من أن تكون نقطة الاتصال بين قارات أوروبا وأفريقية وآسيا بفتح ترعة السويس فما بالك بعد أن تم لها ذلك.
فمصر والحالة هذه مقصودة من أقطار الأرض أكثر مما يقصد أهلها سائر الأقطار والأمة التي تكثر في الغالب خيرات بلادها لا يهون عليها مغادرتها. وطلب الحاجيات هو الباعث الأقوى على المهاجرة فإذا كفيها المرء يصاب بالوناء وضعف العزائم.
وما فتئ السوريون والرم والترك والمغاربة مذ كانت حكوماتهم تتغلب على مصر ينزلون بلاد النيل. فالروم حكموها زمناً طويلاً وكذلك الترك والعرب والجراكسة فكان من العناصر إن نزلتها بكثرة وأصبح أكثرهم عمالاً وحكاما وقضاة ورؤساء وجند وعلماء وأرباب صنائع وتجارة ولم تكثر هجرة الأوربيين إليها إلا عقيب الاحتلال الفرنسي عند ما بدأ الفرنسيس والطليان والمجر وغيرهم من أمم الغرب يهبطون إليها وقد كثر سوادهم على عهد الخديوي إسماعيل لأنه فتح أمامهم طرق الهجرة وأحسن معاملتهم ووفر لهم المغانم وطرق الكسب.
ولما قبض رجال الاحتلال من الإنكليز على أزمة الأعمال أخذ الناس يفدون على مصر من كل فج عميق حتى أنك لتجد فيها الآن من جميع الشعوب واللغات أناساً أسسوا فيها الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية وكثير منهم اغتنوا من خيراتها بفضل كدهم. وقد(18/2)
قدرت ثروة السوريين فيها بخمسين مليون جنيه أي بعشر ثروة القطر وهكذا سائر الأمم ولاسيما الروم والطليان ولفرنسيس فإن فيها من هذه الأجناس ألوفاً اغتنموا من خيراتها واتخذوها دار هجرتهم وطناً ثانياً لهم. وحال مصر اليوم مع المهاجرين إليها يختلف عن حالها مع أمثالهم في القرن الماضي لأن ثقة الأمم تزداد بها الحين بعد الآخر ولأن الأساس الذي قامت عليه حضارتها اليوم أساس مالي زراعي. خصوصاً وقد ظهرت الآن نتائج ما تعب القابضون على أزمة سياستها سنين في تأسيسه واشتهر ذلك عند الخاص والعام في الأقطار النائية بما يتصل بهم من أخيارها وأخبار من يغتنمون من المهاجرين إليها ممن توفرت لديهم رؤوس أموال أو كانوا من أرباب العقل والعمل فكانت مصر ميداناً لظهور أثارها. وربما لا يذكر الناس إلا من نجحوا وقلما يذكرون من أخفقوا. عادة في البشر ولعلها من موجبات أقدامهم على الكسب والكدح في هذه الدار.
ولقد ساعد على كثرة الهجرة إليها حال بعض البلاد المجاورة لها من حيث اجتماعها ومادتها. فترى سكان جنوبي إيطاليا القاحلة يهاجرون إليها من القاطنين في الشمال منها لأن شمالي إيطاليا مخصب وأهلها مكتفون بما تجود به عليهم أرضهم وسماؤهم. وكذلك تكثر إليها هجرة سكان جزائر البحر الرومي ولاسيما بلاد اليونان وأهل سواحل الشام وجبالها.
هذه مصر من حيث هي مهاجر الأرض فهي دولية كما يقول الساسة أو مشتركة بين أجناس وأديان شتى. والتاريخ يشهد أنها كانت رحبة الصدر بالوافدين عليها في كل العصور للين عريكة أهلها ولم يحدث هذا التمييز بين سكانها إلا عندما أراد مهاجروا الإفرنجة أن يستطيلوا على أهلها فأحدثوا لهم ما يقال له الأمتيازات الأجنبية التي تخولهم من الحقوق ما ليس للوطني مثله ثم كثر توارد الأخلاط عليها ولم يكن الوافدون إليها على غرار واحد بل كان منهم المنورون العالمون وهم الأفراد. ومنهم المتعلمون المهذبون وهم أكثر. ومنهم العامة الأميون وهم السواد الأعظم. ومنهم طلاب رزق وسوقة نازعوا ابن البلاد وربما غلبوه لأن من جاء في طلب غرض يحتال للوصول إليه. والغريب في الغالب يكون أجرأ وأنشط من الأصيل لأن الغربة في ذاتها إمارة من إمارات النشاط.
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد(18/3)
والأمثلة على ذلك كثيرة في هذا الباب من القديم فليس للوافد ما للقاعد من الخمول والاتكال ويكفي أن في لندرا لهذا العهد وهي مهد الصناعات والارتقاء زهاء مائتي ألف رجل من رجال الألمان استولوا على أعمالهم المالية واستأثروا بها دون ابن البلاد المتعلم المنور الذي لا يقل عنه في مواهبه هذا في عاصمة إنكلترا فما الحال بمصر وأكثر الوافدين إليها من الشعوب القوية ومن أهل البلاد الباردة التي تبعث النشاط في قلوب أبنائها وأجسامهم وعقولهم فيتخذون عدتهم استعدادهم وكدهم رأس مالهم وعتادهم وذخرهم قصدهم واقتصادهم على حين قد أتت على الوطني أزمان من الفوضى ضعفت بها قواه فأصبح لا يقوى على العمل إلا عوده زمناً ولقنه بالتعليم والتربية وقد فاجأته الثروة والحرية مفاجأة بهرته وحيرته ثم أن ابن البلاد في الغالب لايسف إلى المكاسب التي يتنازل إليها للغريب فالأول يدل بأرومته ويعتز بأمته والثاني يذل في سد حاجته ونيل بغيته.
ولما رأت الحكومة المصرية على عهد الوزارة الرياضية أن الوطني يكاد يفنى في الدخيل سنت لائحة صعبت فيها على النازل في مصر أسباب الحصول على حقوق الوطني إلا بعد مقامه خمس عشر سنة على وأشعاره الحكومة بعزمه على تغيير جنسيته قبل حلول الوقت المعين بخمس سنين فكانت هذه اللائحة غريبة في بابها منعت بعض الطراء على القطر من ولوج باب الاستخدام في دواوين الحكومة وحظرت عليهم تعاطي الأعمال الإدارية والسياسية إلا أنها صرفت وجهتهم إلى اتخاذ الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية الحرة فافلحوا أكثر مما لو كانوا حصروا وكدهم في الوظائف الاتكالية ولم تحق عليهم كلمة مصر للمصريين. ومن هنا نشأ بغض النظر كثير من المصريين للغرباء. كان السبب في ذلك أول منافسة هؤلاء لأبناء البلاد في اجتياز الوظائف وهناك أسباب أخرى قواها أرباب الأهواء والغايات المسموعة فإنتقلت بالتقليد إلى العامة ومن نحا منحأهم من الخاصة.
وليست الشكوى التي يشكوها بعض الوطنيين من الوافدين في محلها كلها لأن من اغتنى بكده أو بطرق غير شريفة فإنما غنمه له وغرمه عليه. واو تسنى لابن البلاد أن يعمل عمله ما تأخر وياليت خاصة هذه البلاد يسعون إلى نزع هذه الأوهام من عقول العامة حتى لا يبغضوا غيرهم بسبب وبلا سبب ويمتزج بعضهم مع بعض لتحيل بودقة مصر ذاك الدخيل إلى المعدن الذي تريد أن يكونوا كلهم عليه. فقد ثبت أن ثبت أن هذه البودقة(18/4)
المصرية أحالت إليها فيما مضى التركي والجركسي والكردي واليماني والحجازي والعراقي والشامي والمغربي والفارسي فأتى منهم مقامهم قليلاً في هذا الوادي مصريون يغارون على مصلحة مصر وكثير منهم نفعوها وخدموها وأيديهم أكثر من ذلك خدمة أبنائها لها تحت اسم مصريين.
وما قط كانت لها بقعة من بقاع الأرض معلومة الحدود والمساحة وفقاً على جنس خاص من البشر لا ينازعها فيه منازع تسرح وتمرح فيها ما شاءت. فالأرض أرض الله والناس عباد الله وما أحلى بيت البحتري في هذا المعنى
ولا تقل أمم شتى ولا فرق ... فلأرض من ترابه والناس من رجل
وكل من نظر في نهوض الأمم لا يعتم أن يرى بأن كل أمة ربيت على كره غيرها وتجافت عن الاختلاط به وحسن الانتفاع منه وتجني من الخسارة أكثر من الربح. ولقد كانت بغداد من أكبر أمثلة التسامح في البلاد الإسلامية رفعت مقام الغريب وأحسنت الاستفادة منه فكان يعد بغدادياً كل من دخل بغداد. وتساوى في ذلك عجمها ودي لميها وعربيها وتركيها ونسطوريها وروميها ومجوسيها ومسلمها فجمع العدل من شملهم وآخت الراحة بينهم وعد سواء في النسبة إليها من نزلها اليوم منذ قرن وقد أعان على تكوين هذا المزج انتفاء الجنسية في الإسلام ورفق المسلمين بأهل ذمتهم ولولا ذلك ما قامت تلك الحضارة التي نسبت للمسلمين العرب مع أن أثرهم فيها أقل من أثر غيرهم من الأجناس والأديان. ولكن العمل مشترك وهو منسوب لقائدهم.
وأنا لا نزال نقول أن نقول أن من حظ مصر أن تكون البلاد المجاورة لها محتاجة حتى أشبهت فاس في القرون الوسطى لما تواتر عيث العرب على القيروان واضطربت قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت محمد بن أبي عأمر وابنه فرحل من قرطبة ومن القيروان من كان فيها من العلماء والفضلاء من كل طبقة فنزل أكثرهم مدينة فاس قال صاحب المعجب في الثلث الأول من المئة السابعة أن فاس اليوم على غاية الحضارة وأهلها في الكيس ونهاية الظرف ولغتهم أفصح اللغات في ذلك في ذلك الأقليم وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب إليها ينسب وبحق ما قالوا ذلك وقال أن القيروان كانت منذ الفتح إلى أن خرابها الأعراب دار الخراب تفرق أهلها في كل وجه فمنهم من قصد مصر ومنهم(18/5)
من قصد صقلية والأندلس وقصدت منهم طائفة عظيمة أقصى المغرب فنزلوا مدينة فاس.
قصدوا فاس كما قصد الأندلسيون بلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والشام لما تأذن الله بانقراض دولتهم فعدوا من أهلها بل أهلها بل كما رحل الإيطالي والألماني والإسباني والإنكليزي والفرنسي إلى أمريكا لما ضاقت سبل الرزق في وجوههم فعدوا أميركيين وانشأوا يخدمون أميركا أكثر من خدمتهم لبلادهم حتى إذا تناسلوا فيها جاء أولادهم أمريكيين صرفاً. وكلما ارتقت الأمم تطال إلى إدماج غيرها في مجموعها والأمم الإفرنجية اليوم أكثر تسامحا في هذا المعنى من الأمم الشرقية كما يظهر بالاستقراء.
قال ابن حزم الأندلسي: إن جميع المؤرخين من أمتنا السالفين والباقين دون محاشاة أحد بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرية التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكانها إلى أن مات فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً (قال ابن حجر صوابه أربعة أعوام) وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفها الله تعالى وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا وأن البصريين بدأ والعمران بن حصين وأنس ابن مالك وهشام بن عأمر وأبي بكرة وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف وجمهرة أعمارهم خلت هنالك وأن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدر داء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوى وفي المكيين عبد الله بن الزبير والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فيمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض أتباعه وخلافه محرم اقترافه ومن هاجر منا إلى غبرنا فلاحظ لنا فيه والمكان الذي اختاره أسعد به.(18/6)
فضل العربية
كتب مستشار معارف مصر فصلاً سلخ فيه اللغة العربية من مزاياها ونشر في أخر تقرير عميد الاحتلال عن السنة الماضية قال فيه: إن تعليم العلوم بالإنكليزية في المدارس الأميرية بمصر لا مناص منه الأن لعدم وجود الكتب اللأزمة والأساتذة الأكفاء ولأن اللغة العربية فقيرة قي تركيب الجمل العلمية وبالنظر لجمودها والتباس تراكيبها لا تستطيع أن تكون لسان حال العلم والتدريس وأنه ليس فيها سئ من روح الأديبات الحديثة وأن أحسن الترجمات لا تتوصل إلى نقل فكر المؤلف إلا مشوهاً إذا أرادت نظارة المعارف أن تعتمد على ما يترجم من أصناف العلوم إلى العربية وقد وقع كلامه موقعاً سيئاً في نفوس العارفين بخصائص العربية ولما كان أكثر ما كتبه مما دخل بسياسة هذا القطر رأينا أن ننقل للقراء زبدة ما ساجلناه به ثم نردف ذلك بفصل في اللغة لأحد علماء المئة الخامسة.
فقد قلنا في معاجمها المطبوعة ثمانون ألف مادة وكل مادة يشتق منها عشر ألفاظ هي بلا شك من اللغات الواسعة في العصر الذي لم تكن تعتبر فيه لغة علم أي في عهد المأمون العباسي وبعده فنقلت إليها علوم الفرس واليونان والرومان والهند في أي وقت كانت لغة بدوية فكيف لا يتسع صدرها لهذه العلوم الآن وهي لغة علم منذ ألف سنة هذا مع أن بعض العلوم من اختراع العرب كالجبر مثلاً فإنهم وضعوا قواعده ودونوا كتبه ونقله الأوروبيون عن العرب فاللغة التي اخترع بها ودون بها ودرس بها لا تضيق عنه اليوم وهي هي وهو هو. ولا تزال العلوم الرياضية هي إياها منذ أول نشأتها وأن زادت بعض نظريات أو تمرينات فالكتب المؤلفة كافلة لتدريسها أما العلوم الطبيعية فإن ما يرس في المدارس لا يتجاوز ما وضع له من الكتب بالعربية في القرن الماضي وتسهل زيادة ما زاد منها وتعريب ما يصدر منها الحين بعد الآخر في بلاد الغرب. واستشهدوا له بقول أحد رجال الفرنسيس الذي نصح للمصريين أن يحتفظوا بلغتهم ويتعلموا إحدى اللغات الأجنبية معها كما فعل المجر والتشيك والبولونيون ولا عينة للإنسأن الآن عم تعلم عدة لغات أجنبية هذا فضلاً عن لغة واحدة كالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية.
أما الفصل في فضل اللغة العربية فها هو بنصه: اللغة عبارة عما يتواضع القوم بينهم به من الكلام أو يكون توفيقاً يقال في لغة العرب أن السيف القاطع حسام أي تواضعوا على أن سموه هذا الاسم وتجمع لغة على لغات ولغين ولغون وقد قيل في اشتقاقها أنها مشتقة(18/7)
من قولهم سمعت لواغي إذا أولعت به وأغريت به وقيل بل هي مشتقة من اللغو وهو النطق ومنه فعله (إلى أن يقول في فضيلة اللغة العربية ومزتها): فأما ما نحن بصدده من ذكر اللغة العربية فلا خفاء بميزتها على جميع اللغات وفضلها أما السعة فالأمر فيها واضح. ومن تتبع جميع اللغات لم يجد فيها لغة تضاهي اللغة العربية في كثرة الأسماء المسمى الواحد على أن اللغة الرومية بالضد فإن الاسم الواحد وجد فيها للمسميات المختلفة كثيراً وقد كان بعض اللغو بين في إيصال المعاني في النقل إليها يبين ذلك أنه ليس كلام ينقل إلى اللغة العرب ألا ويجئ الثاني أخصر من الأول مع سلامة المعاني وبقائها على حالها وهذه بلا شك فضيلة مشهورة وميزة كبيرة لأن الغرض في الكلام ووضع اللغات بيأن المعاني وكشفها وإذا كانت لغة تفصح عن المقصود مع الاختصار والاقتصار فهي أولى بالاستعمال وأفضل مما يحتاج فيه إلى الإسهاب والأطالة. وقد خبرني أبو داود المطران وهو عارف باللغتين العربية والسريانية أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني فبحث وإذا نقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوة وحسناً وهذا الذي ذكره صحيح يخبر به أهل كل لغة عن لغتهم مع العربية. وقد حكي أن بعض ملوك الروم وأظنه تيفور سأل عن شعور المتنبي فأنشد له
كان العيش كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا
وفسر له بالرومية فلم يعجبه وقال كلاماً معناه ما أكذب هذا الرجل كيف يمكن أن يكون جمل على أعين إنسان. وما أحسب أن العلة فيما ذكرته غير النقل إلى اللغة العربية ومنها وتباين ذلك إلا أن لغتنا فيها من الاستعارات والألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات فإذا نقلت لم يجد النأقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها وهي على هيئتها لتعذر مثلها في اللغة العربية التي ينقل إليها والمعاني لا تتغير فنقلها ممكن من تبديل وما كان ما ينقل من العربية فتغير حسنه لهذه العلة وما ينقل إليها يمكن الزيادة على طلاوته لأن نأقله يجد ما يعبر به في اللغة العربية أفضل مما يريد وأبلغ مما يحاول وهذا وجه يمكن ذكر مثله ويجب أن يتأمل وينظر فيه لأني لا أعرف لغة سوى العربية إنما ذهبت إليه ظناً وحدساً. وقد تصرف في هذه اللغة ما لم تصرف في غيرها من اللغات فلم توجد إلا طيعة عذبة في كل ما استعملت فيه نظماً ونثراً وهي إلى الأن لا تقف(18/8)
على غاية في ذلك ولا تصل إلى نهاية كما قال أبو تمام في هذا المعنى * إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب * وقد بينت فضلها وما فيها من الاختصار في العبارة عن المعاني وذكرت وجه التفصيل عليه موضع الاختصار مما لا شبهة فيه. فأما السعة فالأمر فيها أيضاً واضح لأن الناظم والنأثر إذا حظر عليه موضع إيراد لفظة وكأنت اللغة التي ينسج منها ذات ألفاظ كثيرة تقع موقع تلك اللفظة في المعنى أخذ الأسماء للمسمى الواحد وتلك فائدة حأصلة بلا خاف على أنه ربما عرض في وضع الأسماء المشتركة فائدة في بعض المواضع فلم تجعل اللغة العربية خالية منه بل فيها أسماء مشتركة كقولهم عين وما أشبهها. وها هنا لها فضيلة أخرى وهي أن الواضع لها أن كانت مواضعه تجنب في الأكثر كل ما يثقل على الناطق تكلفة والتلفظ به كالجمع بين الحروف المتقاربة في المخارج وما أشبه ذلك واعتمد مثل هذا في الحركات أيضاً فلم يأت إلا بالسهل الممكن دون غيرها من اللغات من اللغات كذلك كلغة الأرمن الزنج وغيرهم.
ومما يدل على فضل اللغة العربية وتقدمها على جميع اللغات أن أربابها وأصحابها وهم العرب الذين لا أمة من الأمم تنازعهم فضائلهم ولا تباريهم في مناقبهم ومحاسنهم وأن كانوا تواضعوا على هذه اللغة فلم تكن تنتج أذهانهم الصقيلة وخواطرهم العجيبة إلا شيئاً خليقاً بالشرف وأمراً جديراً بالتقدم وإن كان توفيقاً من الله تعالى ومنة بها عليهم وقال ابن حزم: لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها بها علموا الأشياء وكيفيتها وحدودها ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها وأبينها عبارة وأقلها أشكالا وأشدها اختصاراً وأكثرها وقوع أسماء مختلفة المسميات كلها المختلفة من كل التأكيد يرفع الأشكال ويقطع السغب فيما قلناه وقد قلناه وقد قال قوم السريانية وقال قوم هي العبرانية وقال قوم هي العربية والله أعلم إلا أن الذي وفقنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة وليست لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتها ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول أنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة وهكذا في(18/9)
كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة لأخرى يتبدل لغتها لا يخفى على من تأمله ونحن نجد الكلمة كلغة أخرى ولا فرق فتجدهم يقولون في العنب الغنيب وفي السوط أسطوط وفي ثلاثة دنانير ثلثدا وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاءً فيقول مهمد إذا أراد أن يقول محمد ومثل هذا كثير فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلاف البلدان إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبدل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معاً والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده والعبرانية لغة اسحق ولغة ولده والسريانية بلا شك هي لغة إبرأهيمصلى الله عليه وسلم بنقل الاستفاضة الموجب نصحة العلم والسريانية أصل لهما وقد قال قوم أن اليونانية أبسط اللغات ولعل هذا أنما هو الأن فإن اللغة يسقط أكثرها وتبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واستغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان سبباً لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم ضرورة ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى فكيف تفلت أكثرها والله أعلم.(18/10)
أصل لفظ كعبة ومكة وكربلاء
نشر أحد المكاتبين في أحد المجلات العلمية ما صورته:
سألتكم عن أصل كعبة ومكة فأجبتم أن الاسم كعبة محرفة من الكلمة كابلا (كذا) التي معناها مسجد. فأرى أنكم مصيبون (كذا) لأن كلمة كابلا كانت تطلق على بعض المعابد المسيحية ككعبة نجران. وبعد البحث وجدت أن الكلمة كابلا مشتقة من كار بالا أي العمل الصلوي (كذا) وكاربلا كانت اسم كذا. يريد اسماً) لمعبد عظيم وهو مشهد النبي تموز المذكور في التوراة في سفر حزقيال ص 14: 8. والمذكور في تواريخ الشرق عن النبي تموز هو أنه ولد في مدينة الأهواز وهجر الأهواز إلى كربلاء وهناك قتل هو وبنوه وأنصاره وبعد قتله آمنت به قبائل تلك النواحي وبنت على قبره قبة عظيمة وكانوا يأتون من جميع النواحي لأجل زيارته. وكانوا في هذه الزيارات ينشدون المراثي ويلبسون الثياب السوداء ويبكون عليه. وغالباً لا تكون هذه الزيارات إلا في شهر تموز. أما أتباعه فقليلون الأن البعض منهم في سوك شيخ (؟) والآخر في البصرة. واسمهم الأن الصابئون وأكثر عملهم في الصياغة ولا يزالون للآن يجرون شعائرهم الدينية بالتطواف حول كربلاء وليس الثياب السوداء وإنشاد المراثي. ويظن بعض الشيعيين أنهم يبكون على الحسين رضي الله عنه. وذلك من الاتفاقيات الغربية. أي أن يكون مشهد الأمام الحسين هو ذات مشهد تموز وقد تبين لي أن الكاتب المذكور قد أخطأ المرمى فأقول:
1 - لا يمكن أن تكون لفظة كعبة مأخوذة من كابلاً لأن هذا الحرف بهذا المعنى حديث الوضع بالإفرنجية بالنسبة إلى مثله بالعربية.
2 - إن بين اللفظتين كعبة وكابلا بونا عظيماً
3 - إن كابلا فرنساوية الأصل لا لاتينية. ومن تلك اللغة نقلت إلى هذه. والحال لا يمكن أن يعقل أمر أخذ العرب لفظة عن محدثي الفرنسيس.
4 - ولو فرضنا أن اللاتينية سبقت الفرنساوية في هذا المعنى فالعرب لم يأخذوا عن اللاتين لفظة تتعلق بأمور الديانة. إلا ما حدث منها في العصور الأخيرة
5 - وأما أن كلمة كابلا أطلقت على بعض المعابد المسيحية ككعبة نجران. فالتاريخ يخالف هذا التأكيد الزائغ عن الغرض. وأما أن كابلا مشتقة من كار بالا فهذا أمر يخالف كل معقول ومنقول. لأن وكاربلا فارسية وكابلا فرنساوية أو لاتينية على رأي ضعيف(18/11)
ونصارى الفرس لم يعيروا الإفرنج لفظة واحدة دينية لتكون هذه اللفظة الثانية. أما كابلا فمشتقة من الحبرية أو الغفارة ويراد بها ثوب يشتمل به الكاهنة كالرداء عند القيام بشعائر الدين والظاهر أن اسم الكابلا وهي المصلى مأخوذ عند الإفرنج من غفارة أو حبرية وضعت في مصلى وتلك الحبرية كانت لأحد القديسين بمنزلة الذخيرة فسمي المصلى بها. هذا الذي ذهب إليه لتره وهو أرجح من كلام مكاتب تلك المجلة.
أما أن كابلا لا يراد به المسجد ولاسيما كعبة نجرأن فلأن المصلى أو الكابلا لا يكون فيه إلا مذبح واحد وأكثر ما يكون لأهل بيت أو قصر خاص. ولا يمكن أن يقال فيه القداس إلا بأذن أسقف الأبرشية والكعبة معبد عام. وتفسير كار بلا بالعمل الصلوي غريب فلفظة كار فارسية ومعناها العمل أو الشغل وبالا يعني لأعلى فيكون محصل المعنى: العمل الأعلىلا العمل الصلوي.
أما كون كار بلا مشهد النبي المذكور في التوراة في سفر ص14: 8 فالذكور في هذا الموطن أن هناك كانت نساء جالسات يبكين على تموز ولم يقل صاحب السفر الكريم أنه نبي. والمشهور عن تموز أنه من معبودات أفينيقية وكأن يسمى أيضاً أدو نيس ومن الأخبار الشائعة عنه أنه قتل وهو شاب في قرية غينية من الأصقاع المذكورة فناحت عليه أمه الزهرة أو عشتا روت. وهذه هي خرافة لا حقيقة لها وإنما كانوا يرمزون بها إلى الشمس وتقابلتها من حالة النور إلى الظلام في بعض فصول السنة. فكانوا إذا قدم الخريف يحتفلون بأعياد يدعونها جنازة تموز. فقول الكاتب أن تموز ولد في مدينة الأهواز فليس له من الحقيقة أدنى نصيب وأما أنه قتل هو وبنوه وأنصاره في كربلاء فحديث خرافة لا ذكر له في تواريخ الشرق. والمكاتب لم يذكر اسم هذه التواريخ ولا أصحابها الذين نطقوا بها.
وأما قوله: (وأتباعه قليلون اليوم. . . واسمهم اليوم الصابئون). فليس لهذا المعبود أتباع في بلاد العراق. والمتعبدون له كانوا في فينيقية لا غير. وحكاية قتلة موضوعه فكيف يقال بعد هذا أنه دفن هو وأتباعه في كربلاء. والصابئون لا يعبدون تموز قط. وهم لا يوجدون في سوق الشيوخ (لا سوك شيخ) ولا في البصرة بل كانوا هناك في سابق الزمان وهم الأن في الناصرية والعمارة وما جاورهما مكن القرى الصغيرة. والصابئون لا يترددون إلى كربلاء أبداً ولا يبكون أحداً في مواطنهم.(18/12)
وعندي أن كربلاء منحوتة من كلمتين آشوريتين وهما: (كرب) و (إيلا) ومعنى الكرب: الحرم وأيلا: الإله. فيكون محصل المعنى: حرم الله أو حرم الإله كان لهم هناك وهذا يدل على أن هذا الموضع كان في سابق الزمن حرماً لإله من آلهة الآشوريين أو الكلدانيين أو ما ضاهأهم من أمم تلك البلاد المنقرضة الممحوقة. ووجود الإحرام (جمع حرم) عند تلك القرون أمر مشهور لا يحتاج إلى تنبيه الأفكار إليه. وعليه فكانت كربلاء في سابق العهد إما بمنزلة الحرم لأحد الهتهم. وإما إنه كان فيه محراب أو هيكل يعبد فيه. لأن لفظة (حرم) عند الآشوريين (وكذا عند الوشيين والحبش) تعني كلا الأمرين يعني الحرم والمحراب.
والظاهر أن (الكرب) مبدلة من لفظة (الحرم) أو هذه من تلك. فقال بعضهم فيه (الحرب) على لغة مازن أي ممن يبدل الميم باءً كما قالوا: البوباء والموماة. والصرم والصرب ورجل بجباج ومجماع الخ. ومن بقايا الحرب بالعربية المحراب وهو بمعناه أو يكاد. ولا جرم أن (الكرب) بمعنى (الحرم) كان معروفاً عند بادية العرب ثم أميتت اللفظة بعد أن ولد من عقبها لفظ محراب فعاش إلى يومنا هذا بعد أن قتل ذاك ولما صارت الكلمة بلفظ الحرب تلقاها عرب آخرون من مجاوري الأشوريين أو تلقى الأشوريين اللفظة عن العرب أو لما اختلط الأشوريون بالعرب وكان يصعب على الأشوريين النطق بالحاء إذ هي غير موجودة في لسانهم أبدلوها بالكاف وفي بعض الأحيان بالخاء فإنتقلت اللفظة من صورة (حرب) إلى صورة (كرب). بل أن بعض العرب كانت تبدل أيضاً الحاء كافاً. فقد قالوا الحثحث والكثكث. وأكثر النخل وأحثر الكأبي والحأبي.
ووقوع حرفين مبدلين في الكلمة الواحدة غير منكر عند العرب فقد قالوا: السبت والشبت ولغنك ولعلك وفلان منسرح من الكرم ومنسلخ. إلى أخر ما هناك وعندنا غير هذ1هـ الأمثلة تربي على المئات.
وأما من ذهب إلى أن كربلاء منحوتة من (كرب) و (بلاء) فمن الأقوال السخيفة الواهنة التي لا تحتاج إلى إظهار ما فيها من بعد التأويل واسم الموضع معروف قبل وجود العرب فيه. فتأمل.
وأسخف من هذا كله قول أن كربلاء سميت بهذا الاسم أخذاً من الكربلة مصدر كربل. وكربل الشئ خلطه لأن ترابها مخلوط برمل. وقيل من كربل الحنطة غربلها لأن ثراها(18/13)
يشبه أن يكون مغربلاً وقيل من كربل الرجل: مشى في الطين وكربل فلان: ة خاض في الماء وذلك أن الأمطار إذا كثرت في كربلاء لا يوجد للرجل وسيلة سوى المشي في الطين أو الخوض في الماء. وفي كل ذلك من التعسف في التأويل ما يكفينا مئونة في الخوض في تفنيد هذه الأقاويل. فأحفظه
وأما أصل لفظة الكعبة فعندي أنه عربي محض لأن الكعبة عندهم الغرفة وكل بيت مربع وهذا يشير إلى أصل وضع الكعبة في سابق العهد. هذا فضلاً عن أن مادة (ك - ع - ب) تدل على التجمع والأمتلاء ومنه كعبت الجارية نهد ثديها. وكعب فلأن الإناء: ملأه وهذا يشير إلى أن هذا البيت كان يجتمع إليه الناس من كل حوب وصوب والظاهر أن هذا الأصل أن هذا الأصل الثلاثي من أرومة ثنائية الجرف يعين) ك - ب) ومنه كب الشئ: ثقل (وبثقل عند تجمع جواهره أو دقائقه) والغزل: جعله كبباً. والكباب: الكثير من الإبل والغنم والتراب والطين اللازب والثرى وما تجمد من الرمل. والكبة الجماعة من الخيل والجروهق من الغزل والإبل العظيمة والثقيل. . . إلى آخر المادة فإن معنى التجمع لا يزال معقوداً بناصيتها
وقل مثل هذا القول إذا بدلت الكاف حرفاً يقاربها ويكثر التبادل بينها. يعني (ق - ب) تقول قب النبات: يبس (اليبس لا يخلو من تجمع في أجزائه) والقب: الرئيس والملك والخليفة (أي الذي تجتمع عنده لغرض من الأغراض) إلى أخر ما هناك من مثل القبة. وهو بناء سقفه مستدير مقعر معقود الحجارة على هيئة الخيمة. . .
وكذلك إذا أقحمت العين بين القاف والباء فإنه ينهض ناهض بين يديك هو القعب والقعبة. فقعب الحافر كان مقبباً كالعقب. والقعب: القدح الضخم الجافي (الذي يجمع السوائل) والقعبة: شبه حقة للمرأة (تجمع فيها أدواتها) والقعبة: النقرة في الجبل (يجتمع فيها الماء) والقعيب: العدد الكثير (المجتمع بعضه إلى بعض). . . الخ
وإذا استقريت مبدلات الحرفين وما يقحم بينهما لا تقع إلا على مثل ما مر بك. وهذا كله يدل على أن الكعبة من أصل عربي قح معناه التجمع تتجمع الناس فيها كما تتجمع دقائق السوائل ونحوها في الإناء. ولقد اتخذ العرب والعجم في السابق وفي هذه الأزمان معنى لفظ الإناء وما جاء من هذا القبيل لمعنى محل التجمع فهكذا قالوا في معنى الكنيس(18/14)
والكنيسة وهكذا قالوا في بعض الألفاظ التي تدل على السفن.
ولا تظن أن مادة (ك - ب. أو ق - ب. أو - ك - ع - ب. أوق - ع - ب) خاصة بالعربية بل قد وردت أيضا بهذا المعنى في اليونانية. فإن اللغة العربية يقولون (قنبي) كما تقول العرب: قنب وذلك في بعض معانيها. وقالت اليونان (كوبي) كما قالت العرب (كوب) وقالت اليونان (قوبس) كما قالت العرب: كعب وكعبة ومكعب.
ومن ثم فإذا أراد بعضهم أن تكون الكعبة من أصل أعجمي فلا تكون إلا من أحد هذه الألفاظ اليونانية الثلاثة المذكورة إلا أننا نقول ونقول دائما أنها عربية العمومة والخونة أما لفظة (مكة) فالذي يظهر لنا في أصلها أنها آشورية من (مكا) ومعناه (البيت) من باب التغليب. كما أن الكعبة معناها: البيت المربع. ووجود الأشوريين في بلاد العرب أمر لا شبهة فيه. والدلائل كثيرة بهذا الخصوص نكتفي بإيراد واحد منها وهو قول علي حين سأله أعرأبي عن أصل قريش: (أننا نبط من كوثى) وقد اتفق أغلب المفسرين وأثبتهم قدماً في العلم أن المراد بكوثى العراق وسكانها كانوا أشوريين فإنتقال الأشوريين الكلدانيين إلى مكة في سابق أمر لا ينكر ولاسيما بعد الاكتشاف العادية التي حسرت اللثام عن أسرار جمة كانت خفية عن عيون الأنام وربك أعلم بحوادث الأيام والأقوام.
أحد قراء المقتبس(18/15)
بني الأرض
بني الأرض هل من سامع فابثه ... حديث بصير بالحقيقة
جبلنا على حب الحياة وأنها ... مخيفة أحلام أطافت بحالم
سعى الناس والأقدار مخبوءة لهم ... وناموا وما ليل الخطوب بنائم
جرت سفن الأيام مشحونة بنا ... على بحر عيش بالردى متلاطم
تأملت في الأحياء طراً فلم أجد ... بهم باسماً إلا على ألف واجم
ورب سعيد واحد تم سعده ... بألف شقي في المعيشة راغم
وما المرء إلا دوحة في تنوفة ... ملوحة أغصانها بالسمائم
لها ورق قد جف إلا أقله ... وعيدانها بين النيوب العواجم
ولا بد أن تجثث يوماً جذورها ... وتقلعها إحدى الرياح الهوا جم
أرى العمر مهما ازداد يزداد ينقصه ... إذا نحن في نقص من العمر دائم
ولولا أنهدام في بناء جسومنا ... لما احتيج في تعميرها للمطاعم
لحى الله بأساء الحياة كاننا ... نكيل من حاجاتها بالا دأهم
نروح كما نغدو نجاهد دونها ... أموراً دعتنا لارتكاب الجرائم
فلو كنت في هذا الوجود مخيراً ... وفي عدمي لاختراعه غير نادم
هل الموت إلا سالك وحياتنا ... إليه سبيل مسلبين المعالم
وما زال هذا الدهر غضبان أخذاً ... على الناس من سيف المنون بقائم
تبصر تجد هذى البسيطة منزلاً ... كثير اليتامى عأمراً بالمآثم
وليس الذي آسي له فقد هالك ... ولكن ضياع المفجعات الكرائم
أرامل تستذري الدموع وحولها ... يتامى كأفراخ القطا والحمائم
وكأين ترى مخدومة في جلالها ... سعت حيث أبكاها الردى سعى خادم
فليت المنايا حين قوضن بيتها ... بدان بها من قبل هدم الدعائم
أرى الخير في الأحياء ومض سحابة ... بدا خلبا والشر ضربة لازم
إذا ما رأينا واحدا قام بانيا ... هناك رأينا خلفه ألف هادم
وما جاء فيهم من عادل يستميلهم ... إلى الحق إلا صده ألف ظالم
جهات كجهل الناس حكمة خالق ... على الخلق طراً بالتعاسة حاكم(18/16)
وغاية جهدي أنني قد علمته ... حكيماً تعالى عن ركوب المظالم
دأبت لنفسي في الحياة كانني ... من العيش ملقى في شدوق الضراغم
يخاصمني منها على غير طائل ... أناس فابدي الصفح غير مخاصم
واقنع بالقوت الزهيد لطيبه ... حذار وقوعي في خبيث المطاعم
واترك ما قد تشتهي النفس نيله ... لما تشتهيه قلة دراهمي
وكم لي في بغداد من ذي عداوة ... وما أنا في شيء عليه بجارم
إذا جئت بالقلب السليم يجيبني ... بقلب له من كثرة الحقد وارم(18/17)
الأمم والأفراد
أن للسوريين عامة ولاسيما المتهذبين منهم أن يعلموا جميع الوسائل التي رقت بالأمم في الأدبيات والماديات ويعرفوا كيفية التذرع بها إلى مجاورة الغير في الرقي وأن ما بلغه الناس في هذا العصر من العلوم والمعارف وما أدركوه من الآداب والفضائل وما استنارت به أذهانهم وارتقت عقولهم واتسعت مداركهم وهذب أخلاقهم وما بلغوه من التفنن والمهارة والإتقأن في الزراعة والصناعة والتجارة وما اعتمدوا عليه من القوانين في السياسة والرئاسة والقضاء والإدارة وما أحرزوه من أسباب التمدن والعمران وما أتوه من جليل الأعمال وعظيم الحسنات ليس جميعه نتيجة الاتفاق وابن الرفاهية والكسل والاختبار ابن الأفراد والنابغين فما نراه اليوم من ترقي المعاصرين وتمتعهم بوسائل التقدم والنجاح إنما أتى على يد تلاميذ خمسة وسبعين قرناً حسب رواية التوراة وأكثر من ذلك على رأي العلماء الطبيعيين والمؤرخين وما مر بهم من الأدوار كاف لتعليمهم والأخذ بأيديهم إلى هذا المقام.
فقد توإلى على الجنس البشري أزمان بين الشدة والرخاء والبؤس والنعيم وأحاطت بأبنائه المضرات والمنافع أحاطة الهالة بالقمر واكتنفتهم العبر من جميع الجهات فكانوا تارة يعتبرون بها وينتفعون وتارة أخرى يتلاهون عنها فيفوتهم النفع ويتضررون. وعلى هذا المنوال كانوا يتراوحون في التقدم والازدهار والتقدم والتأخر والصعود والهبوط وكانت تتفاوت مراكز الأمم في مراتب العمران تفاوتاً عظيماً لم يزل بيناً صريحاً حتى الآن غنياً عن الدليل والبرهان. وذلك لعدم اعتدادها بالأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج بنسبة واحدة.
موضوع خطأبي - الأمم بأفرادها - وأريد بالأفراد ها النوابغ والشاذين الممتازين والمتفردين بأعمالهم ومآتيهم مجددين مخترعين مبتكرين وأعني المحررين من رق العادات المستقلين في الاعتقادات الذين لا يكتفون بتحصيل الرزق والاهتمام بالأكل والشرب واللباس وما أشبه من شؤونهم الخاصة فقط ولا يقلدون التافه المبتذل من الموضوعات والشؤون ولا تصدهم العقبات وتثنيهم المعاكسات الذين يخلدون ذكرهم بفعالهم ويعد الواحد منهم بمقام الألوف والملايين.
هؤلاء هم الأفراد الذين أعنيهم بكلامي الآن وهم الذين يجمعون شتات الأمم ويؤلفونها أو(18/18)
يقسمونها ويبعثرونها. يشيدون أركان مجدها ويرفعون أعلام عزها أو يزعزون دعائمها ويهدمون أسوارها. يقيمونها أو يقعدونها. يغنونها أو يذلونها. ينشطونها أو يخملونها. وبعبارة واحدة يؤثرون حسب أميالهم ومبادئهم وغاياتهم. وهم نافع قلما يضر أو ينفع ومتوسط بين النفع والضر أي مفيد ومؤذ معاً. فالأول من هبات الله للخلق والثاني من تلاميذ إبليس والثالث من الجبلتين بدليل ما نراه من التباين والتناقض والاختلاف في نتائج أعمالهم الخاصة والعامة مما يؤيد القول بأن الأمم بأفرادها وتوضح ما لهم فيها من المأثر والأعمال بنسبة استعدادهم وقوأهم وتقر بأنها شاكرة لهم ممتنة أو ناقمة منهم حاقدة عليهم ولا تنكر أنها تنادي على رؤوس الأشهاد أنها مدينة لهم بما تتمتع به من الحسنات أو تصيح أو تتأوه وتتنهد مما حملوها عليه ورغبوها فيه وعودوها إياه من السيئات. وقلما ذكر التاريخ غير الأفراد في كل جيل وأمة ودولة. وقلما عدد مناقبهم ونوه بغير فعالهم من التأثير في الأمم.
فمهما اشتغل العاديون أي العامة وكدوا واجتهدوا مهما قلدوا وتشبهوا ومهروا وأتقنوا مهما تعددوا وتكأثروا وتناطروا وتزاحموا فلا يؤثرون في ذويهم تأثير الأفراد في الخير أو في الشر ولا يرقون صنائعهم وفنونهم ترقية الأفراد لها ولو مر عليهم قرن من برمتها ومهما بلغ عديد الأمة في أي زمن كانت مهما ساعدتها طبيعة البلاد ودرت عليها أخلاف الرزق والثروة مهما سعت في سبل العمران ورغبت في نيل الأدبيات والماديات لا قيام لها إلا بأفراد يحثونها على النهوض في والثبات ويرشدونها إلى أقوام السبل ويتولون زعامتها لها ويقودونها في سبل الخير العام وبراعة وتفنن.
ويختلف تأثير الأفراد باختلاف مراكزهم في هيئة الاجتماع ويتباين بنيانها فكلما علا مركز الفرد ازدياد تأثيره واشتد نفعه أو ضره. والويل لأمة لا تعبأ بأفرادها ولا تعمل على تنشيط النافعين منهم ومعاونتهم وترقيتهم جهدهم فإنها لا محالة خاسرة لأن ترقي الفرد لا يتوقف على سعيه الشخصي واعتماده على نفسه فقط واقتحامه واجتيازه العقبات بل ارتقاءه مناط بالأحوال المحيطة به ولها تأثير فيه لا ينكره غير المكابر أن للأفراد يداً في إيجاد الأمم.
وحيثما عرفت قيم الأفراد وجلت أقدارهم فنشطوا وأخذ بأيديهم ووثق بهم وركن إليهم وتعددوا وأفادوا لأن الوسائل المعاونة لهم تسهل سبل نجاحهم فيبلغ معظمهم أو كلهم مبلغ(18/19)
النفع الحقيقي بدلاً من أن بلوغ الربع أو الثلث أو النصف فقط. أي فرد يستطيع اليوم أشغال العالم بما شغله به الأسكندر وتيمور لنك ونابليون وأمثالهم قديماً. في مكنة مستعد أن يصير أعظم من روسو وباستور وبرتلو ولكنه يندر جداً أو يستحيل أن يوجد نيرون ثان على الأرض اليوم أو فيما بعد وما ذلك إلا لأن الأمم أمست قادرة على تكييف أفرادها بما بثه فيها الأفراد من المبادئ والآراء وبإمكانها جعلهم فضلاء مجردين إلى النفع ولو بإكراه. والفرق عظيم بين الفرد المفيد المخلص الغيري وبين النصر المرائي الأناني. ذاك يسعد أمته وهذا يشقيها والأمم الحية تتطلب العادة من جميع أبوابها بكل ما فيها من القوى. سطوة الأفراد عظيمة على العقول وليس بمستغرب فإن من طبائع الناس تقليد كبارهم ونوابغهم كل بحسب مهنته وحرفته وميله فالغني يقتدي بالأغنى منه والعالم بالأكثر علماً والأديب بالأوفر أدباً والفاضل بالأفضل منه وهلم جرا. كل ما تتمتع الأمم من الحسنات قد جنته بواسطة الأفراد. العلم والأدب المعرفة والفضيلة الثروة والرفاهية المجد والشهرة جميع ذلك من نتائج أتعابهم وتفردهم. ارتقى الطب بأفراد لا يعدون جزءاً من مليون من الأطباء الذين نشأوا في الأرض محققين ودجالين والناهضون يعدون على الأصابع وهم أبيوقراط وهرفي وجنر وتروسو وبريتونو وباستور وباهرنغ ويزس وككوخ ورو والكيمياء قد تنكر نفسها فضل لافوا زيه وبرتلو. والزراعة لا يمكنها نسيأن النتائج الآتية من تجارب السر جون لوز ورفيقه الدكتور غلبرت. والفلسفة مقرة بخدم أرسطو وابن رشد وتوما وأغسطينوس وديكارت وباكون وكانت وسبنسر والاجتماعيات تردد بالشكر والأمتنان ذكر فولتير وروسو وسيمون وتولستوي. والشعر يترنم بأميروس ودانت والمتنبي وشكسبير وهو كو وكل فن مقر بأفضال أفراده عليه وتأثيرهم فيه. ولا عجب إذا غير الفرد من حالات أمته أو حرفته ما لا يغيره الألوف الملايين من العاديين.
هدم باكون وديكارت أسوار الفلسفة القديمة وأسسا الحديثة وأوضح دروين مذهب النشوء والارتقاء. وعم مكس ملر الأوروبيين والمشارقة كثيراً مما لم يكونوا يعلمونه من تاريخ لغاتهم ومعتقداتهم. وبطرس الأكبر الروسي وكرم ويل الإنكليزي وفرن كلين الأمريكي وبسمارك الألماني والميكادو الياباني الحالي وأمثالهم كثيرون ممن قد نهضوا ببلادهم بتفردهم دع عنك المصلحين والمشرعين كما أن كثيرين من الأفراد قد أساؤوا إلى أممهم(18/20)
إساءات قلما يغفرها لهم التاريخ ككارلوس الثاني عشر ملك الأسوجيين ونابليون الثالث إمبراطور الفرنسيس وأشباههما. كولمبوس ومجلان وفاسكودي غاما أغنوا العالم باكتشافاتهم أدباً ومادة. فكتور وهو كو وكمال بك غير طرائق الإنشاء في الفرنسية والتركية. بهرام ما لا باري وأحمد خان أفاد الهنود أكثر مما استفاد وه من أنفسهم وهم عشرات الملايين. بوكر واشنطون يعمل على ترقية السود أعمالا لم يأت بمثلها ملايين منهم. فإنديك وبلس والبستانيون واليازجيان أفادونا أكثر مما استفدنا من مجموعنا برمته.
عرف الغربيون أن الأمم بأفرادها نشطوا الأفراد وعزروهم ورفعوا أقدرهم ولم يضنوا بعزيز وغال في سبيل هذا السبيل. وأول ما وجهوا أنظارهم إليه تكثير الوسائل العامة التي يسهل وصول الأفراد إليها واستخدامها في ما يقدمهم ويرقيهم فأكثروا المدارس وجعلوا التعليم إلزامياً وأنشئوا المكاتب للمطالعة وأسسوا المنتديات للمباحثة غير جأهلين أن وجود الأفراد غير متوقف على هذه الأمور وإنا حجتهم تسهيل الوسائل لظهورهم ومعاونتهم على الاستفادة والإفادة إذ لا يعلم غير الله من أي فئة ينبغ الأفراد في حين كل من الفقراء أم من الأواسط أم من الأغنياء. ولكن الرأي المعول عليه أن الأفراد كثيراً ما يرون نور الوجود في الأكواخ والبيوت المتوسطة لا في القصور والمنازل الفخمة. وبهذا تتضح غاية إنشاء المدارس المجانية والمكاتب والمنتديات العمومية. ولم نعد نحن في بلادنا أفاضل منا ومن محبينا أدركوا هذا الأمر الجليل فعملوا على إيجاده وتعزيزه.
كثير من الناس لا يعبأون بغرف القراءة ولا يرون فيها غير غرف التسلية وصرف أوقات الفراغ لغرض أسمي وأعم ولا يقتصر نفعها على استمالة الشبان عن القهاوي والحانات وترقية عقولهم بالمطالعة وتهذيب نفوسهم بها بل هي مورد عذب للأفراد يستفيدون منها ما يضن به الدهر عليهم. وإذا لم يكن لها غير هذا النفع لكفاها فضلاً وفخراً.(18/21)
الميكروب
تولده وعلة الاختمار
انقسم العلماء نظرياً بناء على اكتشاف شوان السابق بيانها في علة الاختمار إلى ثلاثة أقسام. أولهم القائلون أن الاختمار عارض يطرأ على بعض الجوامد في أحوال مخصوصة لا ينتج ولا يتوقف حصوله على الخلايا أو الميكروب التي لا يكون لها فعل أو مدخل في الاختمار إذا وجدت في شيء من تلك المواد بل تصادف أحياناً فيها لأنها تتكون منها بنوع طارئ بلا علة أو والد. سمي أهل العلم (أصحاب التولد الذاتي أو الطر آني). والقسم الثاني هم القائلون أن الاختمار فعل حيوي قائم بالخلايا وملازم لحياتها وهي تنمو وتتكأثر وتتخلد طبيعياً بالتناسل وهؤلاء هم (الحيويين).
والقسم الثالث هم الذين ينسبون الاختمار إلى فعل كيماوي. وكان الرأي الأول مرجحاً ومقبولاً عند جميع الذين ينسبون لما لم يكن قائماً على أساس وقاعدة علمية وليس في تعليلاته النظرية ما يشفي غليل المنتقد المتوغل ويقنع النبيه المتبصر كان يقوم الحين بعد الآخر من يخطئ القائلين به ويحاول اكتشاف سبب حقيقي وتعليل تركن إليه العقول ويقبله الحدس السليم. وكان كثيرون قد وقعوا على الحدس وقرروا وجود سبب خفي عن الأبصار يكون علة الاختمار والأمراض ولكنهم كانوا قاصرين عن إثباته ببرهان تستند قضاياه على الإدراك حسياً ومنطقياً.
ففي سنة 1776 حاول (سيلنزاني) الإيطالي إثبات وجود الخلايا وبيان تولدها وفعلها في الاختمار مستنداً على التجارب فأخذ بعض السوائل الاختمارية ووضعها في أكواب من الزجاج أحكم سدها ثم غلاها في الماء قاصداً إتلاف ما فيها من الخلايا أو الميكروب ومنع دخول الهواء إليها بعد الغليأن فنجحت تلك. لأن بعض الأكواب دامت معقمة لم يفسد ما فيها ولم يتخمر. وذاع خبرها فبينت عليها كيفية حفظ بعض المأكولات من الفساد بوضعها في علب تغطى ويحكم سدها ليمتنع دخول الهواء إليها.
إن نجاح هذا المسعى وأن لم يكن غير كاف لإقناع الكافة فقد كفاه فضلاً إدخاله الشك على المذهب القديم وفتحه باباً للدخول علمياً وعملياً في الموضوع.
وبعد ذلك قام كثيرون وتفرعوا للبحث والتوغل في المسألة وخصوا أنفسهم لها ويذلوا(18/22)
النفس والنفيس في استقصاء الحقيقة فتركوا المناقشات النظرية والحدسية واقتصروا على التجربة والعمل وإذ كانت سوق العلوم وقتئذ رابحة ناجحة لم يتركوا واسطة أملوا منها بعض النجاح لأي علم أو فن نسبت ولم يستعينوا بها في البحث عن الحقيقة. وأفضل الوسائط والآلات لهم خدمة هو كما سبق القول المجهر الذي كان وقتئذ قد أيقنت صناعته واستكملت فتوصلوا به إلى رؤية أدق الميكروب عيناً وعياناً.
ولما كان مجرد وجود الأجرام الحية في مادة مختمرة أو متعفنة لا يكفي للتصديق بأنها المسبب الوحيد لذلك اقتضى أن يتبين أيضاً بالتجربة بأن ظواهر الاختمار لا يمكن حصولها في مادة ما جردت من تلك الإجرام وحجبت عنها. وعليه فإنهم كانوا يصنعون المواد التي يقصدون التجربة عليها في زجاجات فيغلونها في الماء لكي تموت بالحرارة الأجرام الحية من السائل والزجاجة وذلك إما بسد الزجاجات أثناء الغليان أو بتعرية الهواء الداخل إليها من الأجرام الحية.
قلت فيما سبق أن هذا الأمتحان كان سبق إليه وجرب منذ سنين عديدة. فكان العالم منثار قد اختبر بأنه يقي من الفساد جميع المواد التي يغليها ثم يغمرها في الزيت يحجرها عن الهواء أو إنه كان ينقي ويصفي الهواء من أجرامه بالحوامض قبل أن يمس تلك المواد المغلية.
وفي سنة 1837 أعاد شوأن الموما إليه تلك التجارب عينها وكان زيادة على ذلك إذا هلك الأجرام الموجودة في الهواء بأمراره في أنبوب حام قبل وصوله إلى المواد المعروفة للتجربة لم تفسد.
إن تنقية الهواء من الأجرام الحية سواء كانت بوسائط كيماوية أو بحرارة النار لم تغير تركيبه الطبيعي. على أن المخالفين للرأي الحيوي تشبثوا بها محتجين بأن الهواء بتلك الوسائط يطرأ عليه تبدلات جوهرية فلا يعود صالحا للحياة. فرداً لهذا الاعتراض عاود شريدر وفوندش سنة 1854 تلك التجارب ولكنهما جعلا ذلك في زجاجات ذوات عنق أو أنبوب طويل منحن على زاوية قائمة. والغرض من ذلك هو تسريح البخار والهواء الخارج من الزجاجة عند الغليان وبعد تصفية الداخل إليها بقطعة قطن مندوف نقي توضع في فوهة الأنبوب فصحت التجربة وأفحم المعترضون. ولكن حاول بوشه في سنة1858 أيضاً إثبات(18/23)
حدوث الاختمار من دون هواء ومن بعد تعقيم المواد المجرب عليها ثم أخذ الزجاجة وسد فمها سداً محكماً فكبه في إناء مملوء الزئبق. فبعد أن برد في الزجاجة أدخل إليها من تحت الزئبق كمية من الأوكسجين وبضعة غرامات من حشيش يابس معقم فما لبث الماء أن فسد والزجاجة في الزئبق لم يدخلها الهواء فاستنتج المعلم الموما إليه بأن هذه قد حصلت من ذاتها ولم تأت لا من المواد التي كانت قد عقمت ولا من الهواء الذي لم يدخل الزجاجة. فرد عليه وباستور بأن جراثيم التي ظهرت بماء الزجاجة إنما وصلت إليه بواسطة الزئبق الذي لم يعقم قبل التجربة وكان معرضاً للهواء تتساقط عليه الجراثيم المنثورة في الهباء ثم أخذ وباستور بالاتفاق مع شفر ويل في إعادته جميع التجارب التي تثبت رأي الحيويين وذلك بأسلوب جلي بسيط تراه العيون وتدركه العقول فصنعا زجاجة ذات عنق كالأنبوب طولها نحو متر أو أكثر منحنية على زاوية قائمة عند أصلها وذات تعرجات كثيرة أشبه بالحية الزاحفة تنتهي فوهتها منحنية نحو الأرض. والغرض من ذلك أن الهواء الداخل إلى الزجاجة بمروره في الأنبوب يترك في تعرجاته جميع ما يحمله من الهباء حتى ينتقي إذا وصل إلى داخل الزجاجة واختلط بالسائل. فيكون بهذه الواسطة غنياً عن جميع الوسائل التي اتخذها المجربون من قبل لتنقية الهواء فكانت هذه التجربة الأخيرة لأنها أكدت جميع ما قبلها وقطعت قول كل معترض. وناهيك بأن وباستور لم يكن يكتف بتجاربه العديدة على ملاحظة زجاجة واحدة لا اختلاف بينها البتة. فكان يعقم الزجاجات وما فيها ويتركها في مكان خاص تصلح درجة حرارته لحدوث الاختمار فلم يظهر ذلك في شيء منها. فكان السائل يختلط ببعض الجراثيم المتساقطة في الأنبوب فيختمر لا محالة. وقصارى القول فإن الزجاجات المعقمة كانت تبقى كذلك أبداً ما لم يدخل إليها عمداً للاختبار بعض جراثيم الاختمار. فاشتهرت تلك التجارب وعرفت قواعدها وشروطها في العالمين حتى صارت دستور العمل لحفظ المأكولات والمشروبات ووقايتها من الفساد وسميت باسم واضعها ومكتشفها وباستور. وعندما كثر المجربون واختلفت مآربهم ودرجة معلوماتهم في فن الميكروب تهاون بعضهم في الدقة واستكمال الشروط التي لا بد منها للنجاح حبطت بعض تجاربهم فاعتمدوا على القواعد الموضوعة وغالطوها وادعوا بأنهم اتخذوا جميع الوسائط المقررة فلم يتمكنوا من منع الفساد والاختمار ولما كأن ذلك نتيجة خطأهم وقلة دقتهم وقصر(18/24)
باعهم فاعتراضهم لم تزعزع القواعد التي تقرر حكمها أبداً.
جراثيم الميكروب وصئبانه
لم يفتر وباستور من تحصين اكتشافه واستكمال الفوائد والشروط للاحتراز فيها من الفشل. من ذلك أنه عندما أطلع بأن بعض الميكروب لم تهلكه حرارة الماء التي تغلي والقدر مكشوفة بل كان يبقى بعضه حياً من بعد الغليان أما على الزجاجات أو فيها فيفسده أخذ يسخنها والزجاجات إلى درجة 110=125 من الحرارة في القدر المعروفة باسم مخترعها بابن.
وعرف شريدر أيضاً ذلك فصار إما يسخن المواد الآلية بالقدر المذكور أو يتركها تغلي على العادة القديمة بضع ساعات. ولا يخفى أن من الميكروب الذي لم تممته حرارة الماء الغالي هي جراثيمه أو وصئبانه. واكتشف وباستور سنة 1865 جراثيم أو بيضات ونسجها صئباناً لكل من أنواع الميكروب تخلفها هي فيتكون منها النسل.
وأشهر من توغل في البحث عنها المعلم كوخ الألماني ونشر فيه كتاباً سنة 1876 وأظهر بأن جميع الميكروب وهو في إبان نشوئه ونموه يهلكه الماء المغلي بل أقل حرارة من درجتها إنما جراثيمها تحتمل بطراً شديد الأجاج وأظهر أيضاً بأن الحرارة الرطبة أنجع منها يابسة لأهلاك تلك الجراثيم فجعل بعض أنواعها في حمام جاف حرارته120 مدة أربع ساعات فلم تهلك ولكن تم ذلك بمدة ساعتين في حمام درجة حرارته 140 وأما الحرارة الرطبة أعني في حمام فيه بخار الماء فمائة درجة من الحرارة تكفي غالباً لأهلاكها تماماً بمدة قصيرة. ولأجل الحصول على الأمنية التامة في ذلك علمنا كوخ بان نكرر عملية التسخين في حمام البخار المذكورة بضع دفعات بين بعضها عدة ساعات ريثما يبرد السائل. فالجراثيم التي لم تهلكها الحرارة تنتعش وتنمو حينئذ فقبل أن يدرك وقت تخليفها وضع السائل من جديد في حمام البخار فيهلك الميكروب الناشئ فيه. فإذا أعيد ذلك مرة أخرى أو أكثر تتحول الصئبان كلها إلى خلايا ناضجة فتهلك ويحصل كذلك التعقيم التام.(18/25)
اليونان
غارات على أرضهم ورحلات إليها
تاريخ اليونان - لم يسكن جميع شعوب يونان منذ الزمن الأطول البلاد التي كانوا فيها في القرن السابع أي في العصر الذي أخذ أهل العلم يعرفون عنهم شيئاً يوثق به. وقد حفظ كثير من هذه الشعوب ذكرى نزولهم في تلك البلاد وامتازوا عن الشعوب العريقة في القدم النازلة في تلك البلاد. جاءت أمم كثيرة فاحتلت أرض يونان بقوائم سيوفها وتشتت شمل غيرهم أمام المغيرين عليهم. ويقول اليونان أن بدء هذه الغارات الشعواء والرحلات كانت من القدم بحيث لم تصلنا أخبارها مسطورة ونقلت وشاع ذكرها تقليداً ويقولون أنها كانت في القرن الثاني عشر (أي بعد أخذ طروادة بثمانين سنة) ولا عبرة على أن هذا التاريخ أخذ قضية مسلمة بدون جدال ولا نزاع فيه.
دعي أقدم سكان يونان بالبيلاسج (ولعل معناه القدماء) ولم يعرف عنهم شيء ولا فيما إذا كانوا من جنس يوناني أو من جنس آخر. ومن هؤلاء السكان غير اليونان ولا يعلم أيضاً كيف أبدل اسم بيلاسج بالهيلانين إذ لم يرد أشعار هوميروس أيضاً ذكر لهذا الاسم. ومن المقرر أن بضعة بلاد حفظت أثراً من أثار فاتحيها وغزاتها. فقد جاء قوم برابرة من البلاد المشهورة ببلاد المهاجمين عصابة من الفرسأن الإشراف وأمسى سكان البلاد الأصليون عملة يزرعون ويحرثون ليس إلا. وقد رحل وأمسى الذي سمي باسم (بيوسيا) كل من لم تخضع لهذا الحكم.
وبعد ردح من الدهر خرج الدور يون من جبال البند واجتازوا برزخ كورنت وأغاروا على بلاد المورة واستوطنوا من أقاليمها ما أمرعت تربته وغنيت رباعه وبقاعه مثل لا كونيا ومسينيا وارغوليديا وسيكيونيا وكورنت ومي كار. ويروى أن قدماء ملوكهم دعوهم الهيراكليديين (أي نسل المعبود وهيراكليس) ليغلبوا رعايأهم الثائرين ويعيدوهم إلى عروشهم وكان ملوك إسبارطة يرون أنهم من نسل قدماء السكان لا من الدور يين وقد استحال الشعب الذي احتل البلاد التي أغار عليها الدور يون إلى زراع وأهل فلاحة.
واستولت عصابة من الأيتوليين الذي صحبوا الدوريين في تلك الحملة على مقاطعة إيلديا في الغرب. وأنهال الأشياتيون ممن أبت نفوسهم الخضوع على شاطئ شبه جزيرة المورة.(18/26)
الشمالي وطردوا منها الأيونيين وأسسوا الأثنتي عشرة مدينة الآشيانية فلجأ الأيونيين المطرودون إلى مقاطعة اتيكيا وامتزجوا بسكانها الأقدمين ومن ذاك العهد عرف الأثينيون أي سكان اتيكيا شعباً أيونياً. ثم انفصلت عصابات من عدة شعوب وراحوا يؤسسون مستعمرات في السيف الآخر من البحر. والأيوليون أقدم هذه العصابات النازلة في آسيا ثم سكنوا بعد ذاك الشاطئ بعينه. واحتل الدور يون جزيرة أقر يطش (كريت) وبعد زمن استعمر اليونان صقلية وإيطاليا الجنوبية.
الدور يون - يراد بالدور يين نسل سكان الجبال النازلين من الشمال ممن طردوا أو أخضعوا سكان السهول شاطئ بلاد اليونأن الجنوبية المعروف ببلاد المورة ويذكر هؤلاء المغيرون أن ملوكاً من إسبارطة من نسل البطل هيرا كليس قد طردهم رعايأهم فجاءوا يبحثون عنهم في جبالهم فتبع الدور يون أخلاف هذا البطل حباً به ونصبوهم على عروشهم ثم أغاروا على السكان واستضعفوا أرضهم وديارهم. وكان هذا العنصر جيلاً من الناس اشتهر بجماله وقوته وصحة أجسامه وتعود البرد وشظف العيش وحياة الفقر والفاقة فترى رجالهم ونساؤهم يلبسون ثياباً قصيرة ى تصل إلى ركبهم. والدور يون أمة حربية دعاها الاضطرار إلى أن تكون أبداً على قدم الدفاع تحمل عدتها وعتادها وهم أقسى أهل يونأن لبعد أقليمهم عن سكان البحر ولذلك احتفظوا الأمصار لأنهم كانوا على وحدتهم لا يستطيعون الأمتزاج بالغرباء ولا تقليدهم في منازع أخلاقهم.
الأيونيون - يدعى شعوب اتيكيا والجزائر وشاطئ آسيا بالأمة الأيونية. ولا يعلم من أين جاءتهم هذه التسمية وهم على عكس الدور يين جنس من البحارة أو التجار. ومن أكثر شعوب اليونانية تهذيباً لأنهم استفادوا من الاحتكاك بأمم مشارقه أعرق منهم في الحضارة واقتبسوا من النظر إليهم وهم ضعاف في صبغتهم اليونانية لامتزاجهم بالآسيويين ولأنهم نحوا نحو هؤلاء في عاداتهم إلا قليلاً يميلون إلى السلم ويولعون بالصناعات ويعيشون عيش الترف يمضون الكلام ويرققونه ويلبسون ثياباًًً ضافية الأذيال على مثال المشارقة.
الهيلانيون - هذان العنصران أو الجنسأن المتباينأن المعروفإن بالدور يين والأيونيين هما عناصر اليونان وأقدرها. فأقليم إسبارطة للدور يين وأقليم أثينية للأيونيين وليس السواد الأعظم من اليونان والدور يين ولا أيونيين ويعرفون بالأيوليون وهو اسم مجهول يطلق(18/27)
على شعوب مختلفة في تلك الأصقاع من أيوليين واكرنا نيين وفوسيديين وبيوسيين من أهل البلاد اليونانية الوسطى والأشانيين من أهل المورة. وكل من تقدم ذكرهم يسمون باسم الهيلانيين الذين عرفوا به منذ ذاك العهد وهم لا يعرفون تسميتهم هذه كما نجهل نحن ذلك على أنهم يقولون أن دور وس وعولس كانا هيلانة وأيون حفيدهما.
مستعمرات اليونان
الاستعمار اليوناني - لم يقتصر الهيلانيون على سكنى بلاد اليونأن فقط بل قام منهم طوارئ من أهل المدن أنشؤا بلداناً في جميع الأنحاء المجاورة وكانت عدة من هذه الممالك الصغيرة اليونانية في جميع جزائر الأرخبيل وعلى شاطئ آسيا الصغرى وأقر يطش وقبرص وفي كل ما أحاط بالبحر الأسود إلى بلاد القاف قاس والقريم على طول البلاد العثمانية في أوروبا (المعروفة إذ ذاك بتراسيا) وعلى شاطئ أفريقية وفي صقلية وإيطاليا إلى شواطئ فرنسا وأسبانيا.
أخلاق هذه المستعمرات - يبدأ تاريخ المستعمرات اليونانية منقرون كثيرة أي من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس وهذه المستعمرات اشتقت من كل المدن ونتجت عن كل جنس دورياً كان أو أيونياً أو أبولياً. ولطالما قامت المستعمرات في أماكن قفرة تارة وفي بلاد مأهولة أخرى أسست حيناً بالفتح وآونة بالإتحاد مع السكان وأنشأها بحارة أو تجار أو منفيون أو متشردون. وتمتاز هذه المستعمرات على اختلاف زمانها ومكانها وجنسها وأصلها بخلق عام وأنها نشأت دفعة واحدة بمقتضى قواعد ثابتة. وما كان الطوارئ أو المستعمرون من اليونان يحلون في بلد واحد بعد واحد عصابات صغيرة ولم ينزلوا بقعة عرضاً فيقيمون لهم مساكن تصبح بالتدريج مدينة على نحو ما يفعل الطوارئ من الأوروبيين في أمريكا اليوم بل أن الطوارئ منهم يسافرون قضهم وقضيضهم دفعة واحدة ورئيسهم واحد فتؤسس المؤسس لها سواراً مقدساً ويجعل بيتاً مباركاً يوقد فيه ناراً مقدسة.
تقاليد المستعمرات - يتضح مما نقل من القصص القديمة في تأسيس بعض هذه المستعمرات وجه الاختلاف بينها وبين المستعمرات الحديثة. وإليك كيفية استعمار مرسيليا والبداءة به فقد جاء إلى بلاد الغال (فرنسا اليوم) أوكس نيس أحد أهالي مدينة فوسي في آسيا الصغرى على سفينة تجارية فدعاه أحد زعماء الغاليين إلى عرس ابنته ومن عادة هذا(18/28)
الشعب أن تدخل العروس بعد الطعام حاملة كأساً تقدمها لرجل تختاره من الجماعة فوقفت أمام اليوناني ومدت الكأس نحوه. فظهر للقوم أن هذا العمل كان بإلهام من السماء إذا لم يكن متوقعاً. فما كان من الزعيم الغالي إلا أن تزوج أوكسينس من ابنته وسمح له بأن يؤسس ورفاقه مدينة على خليج مرسيليا ثم رأى أهل فوسي أن الجيش الفارسي يحاصر مدينتهم فقاموا يعدون لهم سفناً تقل عيالهم وأثقالهم وأصنامهم وحلي معابدهم وغادروا بلدهم ماخرين في سفنهم وأقسموا عند منصرفهم أن لا يعودوا إليها إلا إذا عامت على وجه الماء الحديدة المحماة التي ألقوها في البحر. وقد نكث كثير منهم بالعهد وعادوا إلى مسقط رؤوسهم أما الباقون فظلوا يشقون العباب بعد العباب حتى وصلوا إلى مرسيليا بعد أن تجشموا أهولاً كثيرة. وأسس الأيونيون مدينة ميلت تاركين نساؤهم وراءهم واستولوا على بلد يقطنها ناس من آسيا فذبحوا الرجال وتزوجوا النساء وبناتهم قسراً. ويقال أن هؤلاء النساء أقسمن أن لا يتنأولن الطعام مع أزواجهن وأن لا ينادينهم بيا أزواجنا. عادة بقيت قروناً يعمل بها نساء ميلت. أما مستعمرة برقة في أفريقية فقد أسست بأمر صريح من المعبود أبولون ووحي منه. فلم يكن سكان مدينة تيرا الذين أمروا بذلك يحاذرون من نزول بلد مجهول ولم يعملوا بهذا الأمر إلا بعد سبع سنين وكانت جزيرتهم عرضة للجفاف فاعتقدوا أن أبولون ساقهم إلى تلك الجزيرة عقاباً منه لهم. وحاول الطوارئ الذين أنقذوهم أن يرجعوا فدأهمهم مواطنوهم وأكرهوهم على السفر. وبعد عامين في إحدى الجزر وقد خانتهم فيها أسباب النجاح انتهى بهم الحال أن يستوطنوا أبد الدهر مدينة برقة فكان منها مدينة عأمرة راقية.
خطورة المستعمرات - شأن هذه الطوارئ أن تؤسس حكومة جديدة في كل مكان تنزله ولا تخضع لأم القرى التي انفصلت عنها بتة. وهكذا بلغت الحال بأن كان البحر المتوسط محاطاً بمدن يونانية كل منها مستقلة تمام الاستقلال. فأصبح كثير من هذه المدن آية في غناه وقوته لم تضاهه بهما المدن التي خرجت منها وكان لها أصقاع أوسع وأخصب وسكان أوفر وأكثر. ويقال إنه كان في مدينة سيباريس في إيطاليا ثلاثمائة ألف رجل يحمل السلاح وأن كروتون جيشت جيشاً مؤلفا من مئة وعشرين ألف مقاتل وفاقت سيراكوزة في صقيلة وميلت في آسيا بقوتهما مملكتي إسبارطة وأثينية وكان يدعى جنوب إيطاليا يونأن(18/29)
الكبرى. وما كانت وما كأنت المملكة الأصلية غير بلاد صغرى بالنسبة لتلك المملكة المأهولة كلها بالطوارئ من اليونان. وحدث أن كان الهيلانيون أوفر عدداً في البلاد المجاورة منهم في بلاد اليونان نفسها. ونرى بين رجال تلك المستعمرات طائفة صالحة من المشاهير هوميروس والسيوس وساف وس وطال يس وفيثاغورس وهير أقليطس ودو موقر يطس وانفيد كلس وأرسطوطاليس وأرخميدس وتيو كرينس وغيرهم.
المدن - ظل اليونان منقسمين إلى طوائف صغيرة في كل البلاد التي نزلوها كما كانوا على عهد هوميروس. وغير خاف أن أرض اليونان وإيطاليا الجنوبية منقطعة بالبحر والجبال ولذلك انقسمت بالطبع إلى عدد كثير من المقاطعات الصغيرة كل منها منفردة عن جارتها برأس من البحر أو بجدار من الصخر بحيث يسهل الدفاع عنها وتصعب الموأصلات فكانت تتألف من كل مقاطعة حكومة على حدتها تدعى مدينة وقد بلغت أكثر من مئة مدينة وإذا أحصيت المستعمرات بلغت زهاء الألف وليست مملكة اليونانية إلا صورة مصغرة بالنسبة إلنا فإن ايتكيا كلها لا تساوي نصف أصغر مقاطعات فرنسا لهذا العهد أما أراضي كورنت أو ميكار فقد صارت ريفاً ومزارع. ومن العادة أن تكون ما يعبرون عنه بمملكة الواحدة قلعة المملكة الثانية وجبالها أو مرفأ المملكة المجاورة وكثير من هذه الممالك لا يسكنه أكثر من بضعة ألوف من الناس وأعظمها لا يكاد يكون فيه مائتان أو ثلاثمائة ألف نسمة. وبعد فلم يؤلف الهيلانيون أو اليونانيين أمة برأسها ولا أنفكوا من التقاتل والتقاطع على أنهم تكلموا لغة واحدة على حد سواء وعبدوا آلهة واحدة عاشوا عيشة واحدة منذ شطوط أسبانيا إلى طرف البحر الأسود. فكانوا بهذه العلامات يتعارفون كما تعارف أبناء نبعة واحدة ويمتازون عن سائر الأمم التي يدعونها البرابرة فينظرون إليها نظر الأستخاف والأمتهان.
الديانة اليونانية
تعدد الأرباب - اعتقد اليونان اعتقاد سائر قدماء الآريين بأرباب كثيرة ولم يكن لهم شعور باللأنهاية ولا بالأزلية ولم يؤمنوا برب واحد تكون السماء سرادقه والأرض سلمه ومرتقاه. واعتقد اليونان أن كل قوة في الطبيعة من هائها وشمسها وبحرها هي قوة إلهية ونسبوا كلا من هذه القوى إلى رب خاص إذ لم يدركوا أن علة واحدة تنتج كل هذه الأكوان ولذا عبدوا(18/30)
عدداً من هذه الآلهة فكانوا وثنيين على هذا النحو.
نسبة الشهوات البشرية ودعوى تجسد الرب - كل رب هو قوة من الطبيعة وله اسم خاص به ولشدة تصور اليونانيين وسعة خيالهم مثلت لهم أذهانهم تحت الاسم كائناً حياً في أبهى المظاهر من الصور البشرية وكانوا يتمثلون المعبود أو المعبودة على صورة رجلاً جميل الطلعة وامرأة وسيمة المحيى وعند ما كان عولس أو تيليماك يصادفإن رجلاً عظيماً وسيماً يبدان بسؤاله عما إذا كان رباً من الأرباب. وقد صور على ترس البطل أشيل صورة جيش. قال هوميرس في وصفه له: أن أريس واتنييه كانا يقودان الجيش وكلأهما متشح بالذهب وكانا من الجمال والاعتدال على صورة تليق بالأرباب إذ البشر أقزام فصار القامات وكان الأرباب اليونانيين بشراً يلبسون ثياباً ولهم قصور وأجساد كأجسادنا وهم أن لم يموتوا يجرحون. وذكر الشاعر هوميرس كيف أن أحد المحاربين جرح الرب أريس فراح يصرخ من الألم. وهذا الضرب من اختيار الأرباب على مثال البشر هو ما يدعى انترومورفيسم أي تجسيد الأرباب.
علم الميثولوجيا - للأرباب أقرباء وأولاد ورهط وأسرات لأنهم ناس كالآراميين فأمهم ربة وأخوتهم أرباب غيرهم أو ناس هم نصف أرباب. وتدعى أنساب هذه الأرباب تيوغونيا. وللأرباب تاريخ وحوادث ولهم قصص في مواليدهم وأخبار شبيبتهم وأعمالهم. فالرب أبولون مثلاً ولد في جزيرة ديلوس وكأنت اليها أمة لاتون وقتل غيلاناً كان قد خرب تلك البلاد في سفح جبل البار ناس. وهكذا كان لكل مقاطعة يونانية أخبار تعزوها لأربابها سموها الخرافات ومن تتألف الميثولوجيا أي تاريخ الأرباب.
الأرباب المحليون - بقي الأرباب وهم اليونانيون وهم على صفتهم البشرية على ما كانت عليه أولا كواثن طبيعية فكان القوم يتخيلونها كما يتخيلون البشر وقوى الطبيعة فقد كأنت الناياد فتاة جميلة ونبعاً في آن واحد. وتخيل هوميرس الشاعر أن نهر جزيرة الزانت هو رب وقال فيه (لقد تدفق نهر الزانت على البطل أشيل وهو يزيد غيظا ويرغي حنقاً ويخر طافحاً بالزبد والجثث) وظلت الأمة تقول أن الرب زيوس ينزل المطر ويرسل الرعد. وكان اليوناني يعتقد أن الرب عبارة عن مطر وسيل وسماء أو شمس لا السماء والشمس والأرض على الجملة. وكان ربه مسامتاً للسماء التي تظله والأرض التي تقله والنهر الذي(18/31)
يعله. فمن ثم كان لكل فمن ثم لكل مدينة أرباب ومعبودات كثيرة فمن رب الشمس إلى أباب الأرض إلى رب البحر وكانت تلك الأرباب منفصلة عن شمس البلد المجاورة وأرضها وبحرها بمعنى إنه كان لأهل كل مقاطعة ربها ومعبوداتها الخاصة بها. فليس لرب إسبارطة زيوس رباً لأثينة زيوس بعينه وربما كان يذكر في قسم واحد ربان تحت اسم أبولون. ذكر أحد من طاف بلاد اليونان من السياح أنه شاهد ألوفاً من الأرباب كانت تدعى أرباب المدينة ولم يكن هناك سيل ماء ولا غابة ولا أكمه شماء إلا وهي مؤلفة ولها صفة لا يشاركها فيها غيرها وربما كان هذا المعبود صغيراً لا يعبده إلا يعبده من أهل الجوار وما مزاره غير مغارة في الصخر.
الأرباب الكبيرة - وهم اليونان أن فوق الأرباب الصغيرة المنبثة في كل مقاطعة بضعة أرباب كبيرة كالشمس والسماء والأرض ولبحر المدعوة بهذا الاسم ولها في كل كان معبد خاص أو مزار يتقرب فيه إليها وكانت تمثل كل من هذه الأرباب أهم القوى الطبيعية وما أكثر عدد هذه الأرباب التي اشترك أهل يونان كافة في التقرب إليها فإنك لو أحصيتها لا تكاد تصل في عددها إلى العشرين. ومن سوء عادتنا معاشر الإفرنج أن ندعو هذه الأرباب بأسماء أرباب لاتينية وإليك حقيقة أسمائهم:
زيوس (المشتري=هيرا (جونون) =اتينيه (منرفا) =أبولون=رتيمس= (ديان) =هيفر توس (فولكين) =هرميس (عطارد) =هيستيا (فيسا) أريس= (المريخ) =افروديت (الزهرة)
بوزيدون (سيريس) =برسيفونه (بروزربين) هاديس (بلوتيون) =ديوينزوس (باخوس). وهذه الزمرة من الأرباب هي التي كانت تعبد في كل المعابد على الجملة ويتوسل إليها في الصلوات.
خصائص الأرباب - لكل من هذه الأرباب هيئته وهندامه وأدواته المدعوة خصائص هكذا تصورها المؤمنون من أبناء يونان وهكذا مثلها النقاشون منهم. ولكل خلقه المعروف به بين عابديه ولكل منها عمله الخاص به في العالم ويقوم بوظائف معينة وذلك بمعونة أرباب ثانوية تطيعه في العادة ويتصرف فيها بأمره. فالرب اتنيه مثلاً هو على صورة عذراء ذات عينين براقتين مثلت قائمة وهي تحمل رمحاً وعلى رأسها خوذة وعلى صدرها سلاح لامع وهي عندهم ربة الهواء النقي والحكمة والاختراع وعلى جانب من الهيبة والشراسة. ومثل(18/32)
هيفيزتوس رب النار حاملاً بيده مطرقة على صورة حداد أعرج قبيح الهيئة وزعموا أنه ينزل الصاعقة. وأن الربة أرت يمس كانت عذراء متوحشة تحمل قوساً وكنانة وهي تطوف الغابات تتصيد مع زمرة من الجنيات وهي ربة الغابات والصيد والموت. أما هرميس الذي قتلوه لابساً نعالاً مجنحة فهو رب المطر المخصبة وله أعمال أخرى وهو رب الأسواق والأماكن ورب التجارة ورب السرقة ورب الفصاحة يسري بأرواح الموتى ويمشي في السفارات بين الأرباب ويقوم على تربية الحيوانات. وللرب اليوناني أبداً عدة وظائف في الغالب عي في نظرنا متخالفة غير أن اليونان تخيلوا أن بيتاً تشابهاً ويرتئون لها صلة وعائداً. الأولمب وزيوس - كل من هذه الأرباب أشبه بملك في مقره ومع هذا فقد لاحظ اليونان أن جميع قوى الطبيعة لا تسير بالتصادف وأنها تعمل يداً واحدة فكانوا يطلقون اللفظ الواحد للتعبير عن النظام والعالم ففرضوا أن أرباب أتحدت على تسيير نظام العالم وأنه كلن لهم شرائع وحكومة كما للبشر. وكنت ترى في شمالي اليونان جبلاً ذا قمم مكسوة بالثلج لم يصعد إليه بشر واسمه الأولمب وعلى هذه القمة المستورة عن أعين الناس بما يتراكم عليها من الضباب توهم اليونان أن الأرباب يعقدون جلساتهم فيجتمعون مستنيرين بتنور سماوي يتقاضون في شؤون العالم وعظيمهم زيوس يرأس تلك الجلسات لأنه رب السماء والنور والرب الذي يؤلف فالسحاب ويرسل الصواعق وصوروه على مثال شيخ مهاب ذي لحية بيضاء جالس على عرش من ذهب وهو الذي خص بالزعامة دون سائر الأرباب ولذلك تراها تخضع له فإذا بدرت من أحدها بادرة المقاومة في أمر يتهددها زيوس وإليك ما ذكره هو ميرس على لسانه اعقدوا في السماء سلسلة من ذهب وتعلقوا بها أنتم معاشر الأرباب ذكوراً كنتم أو إناثاً ولو بذلتم الجهد كلكم لا تجرون زيوس إلى الأرض وهو الملك وعلى العكس إذا أردت أن أجذب السلسة إلي فإنا جاذب إلي الأرض والسماء والبحر ثم أعلقه بقمة الأولمب ويبقى العالم كله معلقا مصلوبا ما دمت أعلى منزلة من الأرباب والبشر.
آداب الميثولوجيا اليونانية - وهم اليونان أن معظم أربابهم من القسوة والسفك والخداع والسفاهة على جانب فاخترعوا لهم أخباراً سفيهة وأعمالاً نأبية عن طور اللياقة. فكان هرميس بزعمهم لصاً واشتهرت أفروديت بغنجها وخفرها واريس بقسوته وكانوا كلهم من(18/33)
العجب بحيث لا ينفكون عن اضطهاد من تسأهل في تقديم الضحايا لهم. ولما أعجبت نيوبي ملكة ثيبة بكثرة أسرتها لم يصعب عليها أن رأت الرب أبولون يصمي أولادها بالسهام ويمزقهم كل ممزق. وكان من حال تلك الأرباب في الحسد بحيث لا تتمالك من رؤية إنسان بلغ غايات السعادة. فاليونان رأوا السعادة من أعظم الأخطار لأنها تجلب غضب الأرباب حتماً ولذلك ابتدعوا ربة للغضب والانتقام سموها نيميزيس ويذكرون لها قصصاً كالآتية مثلاً: ذلك أن بوليكراتس الظالم من أهل الجزيرة سيسام خاف يوما أن حسد الأرباب إذ غدا ذا طول وحول وكان يملك خاتم ذهب له موقع كبير من نفسه فألقاه في اليم لئلا تكون سعادته مشوبة بالشقاء ثم أن صياداً أحضر لبولكراتس ذات يوم سمكة عظيمة وجد خاتمه في جوفها فكأن ذلك في نظره شؤماً دالاً على وقوع المصيبة الأكيدة، فحوصر بعد في مدينته وأخذ وصلب وعاقبه أرباب يونان على سعادته نالها وحظ من النعم أصابه.
عرف بهذا أن الميثولوجيا اليونانية كانت عارية عن الأخلاق إذ كان الأرباب قدوة سيئة للناس قال ذلك فلاسفة اليونان وضيقوا على الشعراء الذين نشروا هذه الحكايات وذكر أحد تلاميذ وفيثاغورس أن معلمه أطلع على الجحيم فرأى فيه روح هوميروس الشاعر مصلوبة في شجرة وروح أزيودس مدلاة في دعامة عقوبة لهما على أهانتهما الأرباب وقال كسينوفإن أن هوميروس وازيودس قد نسبا للأرباب أعمالاً من شأنها أن تكون عاراً بين البشر وشناراً عليهم وهناك إله واحد لا يشبه البشر ولا بعقولها وكان يزيد على ذلك قوله: لو كان للبقر والأسود أيد واستطاعت أن تصور كالناس لصنعوا للأرباب أجساداً تشبه أجسادهم ولجعلت أعين للأرباب أجساداً كالخيل والبقر. والناس يذهبون إلى أن للأرباب إحساساً وصوتاً وجسداً. هذا قول كسينوفإن وهو من الحق والعدل بمكان إذ جعل اليونأن الأول أربابهم على صورهم مثل ما كانوا عليه في ذاك العهد سفاكين غدارين حسودين معجبين وكذلك كان أربابهم. ثم صاروا على نية التحسين في أخلاقهم ينشأ أخلافهم متبرمين من هذه المبادئ كلها عازفين عنها ولكن تاريخ الأرباب وأخلاقهم كانت مقررة بحكايات قديمة أخذها أهل الأجيال الحديثة ولم يجرؤوا على تغيير أرباب أجدادهم الفظة السفيهة بغيرها.(18/34)
بعض تباريح
المعنى مأخوذ عن شاعر أمريكاني
حمامة هذا الفجر ويحك رفرفي ... لتلتقطي حب النجوم وطيري
لعل الصبا تندي على القلب ندوة ... تنفس وجدي أو تبل زفيري
فلي في الصبا شكوى ولي في الصبا هوى ... وبعض تباريح وبعض أمور
تحك نفسي كلما هفهفت وما ... تظن بأنفاس وشعلة نور
تلاقي إليها الحب من كل مذهب ... كما استهدفت فيه لكل مصير
فكيف انتثت تلق الهوى أو شعاعه ... لحاظاً وألفاظاً ونور ثغور
كثير على نفسي همومي وحسبها ... على عنت الأيام حمل ضميري
تخالجني بالرغم يأس مبرح ... سواء غيري بعده ويسيري
وما أنا مردود إلى الرأي بعد ما ... تحكم طبعي واستمر مريري
شجينا وباتوا قد خلت مهجاتهم ... على أفق بادي الصفاء منير
وما في اكتئاب العشق حزن وإنما ... لمعنى يرى في اللحظ بعض فتور(18/35)
سير العلم
أثار رومانية
كان أحد علماء الأثار من الطليان اكتشف منذ بضع سنين في فياسا كرا من جبال مدينة رومية مدافن قديمة جداً يرد عهدها إلى ما قبل تأسيس رومية بقرون فاهتز لذلك العلماء والمؤرخون إذ ثبت لهم إن ما يوجد في عظماء هو ما وجد تلك المدافن من الخزف والحلي والتعاويذ وضروب الزينة التي زينت بها العظام هو مما يدل على أن هناك عنصراً وتمدناً يخالف العنصر الروماني وتمدنه. وقد عثر الأن في جبال بلاتين أي في تلك البقعة عينها على مدافن على شكل آبار مثل قبور الفور وم وربما كان المدفون فيها أناس من سكان تلك البلاد الأصليين وما زال الحفر متتابعاً.
أميركا والفينيقيون
ما برح علماء الأثار يبحثون عمن سكن أمريكا قبل القرون الوسطى قائلين أنها عرفت قبل مكتشفها كريستوف كولومبس بنحو خمسة وعشرين قرناً لأن الأثار التي وجدت في كثير من أنحائها كالهياكل والأواني النحاسية والكتابات العبرانية تدل على أنه سكنها ناس من العبرانيين أو الفنييقين والأرجح أنهم فينيقيون لأن جميع الهياكل كانت أبوابها متجهة إلى الشرق خاصة بعبادة الشمس على نحو الهياكل الفينيقية ووجد فيها صور بعض الحيوانات الكاسرة والدا جنة منها ما عهد عند الفنييقين ومنها ما أثرت عبادته عن قدماء المصريين ومعظم تلك العاديات أشبه بهياكل سورية وجنوبي أوروبا وشمالي أفريقية وغيرها من البلاد التي نزلها الفنيفييون وأقاموا فيها متاجر فاستنتج من ذلك علماء الأثار ورجحوا أن الفينيقيين نزلوا أمريكا كما نزلوا أيرلندا في أقصى الشمال الغربي من أوروبا وأن أهل أمريكا قبل الاكتشاف كانوا يعرفون ما عند الفينيقيين من الصنائع والدين واللغة وكلما ظهرت عاديات جديدة تجلت حقائق كثيرة ويثبت ثبوتاً لا مجال للشك فيه.
المنازل المهلكة
وضعت المجلة مقالة وصفت فيها المنازل الفقيرة في باريس بدأت فيها بما جاء في المثل الفارسي القديم يدخل الطبيب أحياناً إلى الدار المحرومة من الهواء والشمس وقالت أن الأمراض المعدية ولاسيما السل لا تنتشر إلا في الأمكنة الندية التي لا تضربها أشعة(18/36)
الشمس وأن جراثيم هذا المرض تعيش أسأبيع بل أشهراً في الظلام فإذا أقام أمرؤ ضعيف الجسم مستعد لهذا المرض الخبيث في غرفة معرضة للشمس يسلم من هذا المرض وعلى العكس تسرع إليه جراثيمه إذا جلس في مكان رطب لا شمس فيه ولا هواء ينفذ إليه حتى قال بعضهم أن السل هو أحد أمراض الظلمة وقد أجمع أطباء الأمم الباحثين في هذا الداء العياء على أن السبب الرئيسي في انتشاره فقدان النور والشمس من أكواخ الفقراء التي يحشر إليها العيال والأطفال وقالوا لا يكفي أن تكون غرفة النوم وردهة الاستقبال وغرفة الطعام معرضة للشمس بل لا بد من أن يكون المطبخ وكل مكان في البيت معرضاً لها أيضاً ولأجل السكنى في بيت ذي ثلاث طبقات ينبغي أن يكون قائماً على شارع عرضه 15 إلى 30 متراً بحيث يغدو الهواء والشمس فيه وتروح. وقال كاتب المقالة أنه يؤخذ من الإحصاء الذي جرى مدة عشر سنين في مساكن باريس وهي 80 ألف مسكن أنه قضى بالسل 101496 شخصاً في 23124 مسكناً منها 5763 مسكنا وقع فيها 38 في المئة من مجموع من قضوا بالسل وثبت أن 358 مسكناً من هذه المساكن كان فيها 2628 غرفة مسكونة لا هواء فيها ولا نور بالمرة وإن 820 مسكناً يجب أن يهدم فوراً لأنها منبعث هذا العقام. وقد قامت عدة جمعيات في فرنسا تدعو إلى تطهير البيوت واختيار أماكن صحية للعمل والنوم والراحة في الليل والنهار. وفي ألمانيا مجالس بلدية تعطي التعليمات يختاره وسيئاته لئلا يصاب وأسرته بمرض عششت فيه جراثيمه وكذلك ترى في كثير من المدن مجالسها البلدية عارفة بالبيوت الملوثة والبيوت السليمة لتتوفر على محاربة جراثيم السل الرئوي. وفي مقالة ثانية أن السل يمكن شفاؤه إذا تدورك أمره وأنه ثبت أن الفقراء هم أكثر الناس عرضة له ففي ألمانيا يموت به 110 آلاف نسمة منهم 80 ألفاً من الطبقات العاملة التي يقل دخلها عن أفي مارك في السنة.
عادة الأفيون
تعاقب اليابان متعاطي الأفيون بالأشغال الشاقة وتختلف مدة ذلك باختلاف استهتاره واسترساله وقد أصدرت الصين في العهد الأخير أمراً تقضي فيه على جميع بيوت الأفيون العامة أن تصفي أشغالها وتقفل أبوابها وأعطتها أمراً لذلك عشر سنين ولكن عادة الأفيون التي يطاردها أهل الشرق الأقصى التي نشأت بينهم أصبح أهل أوروبا يتسأهلون معها(18/37)
بحيث يجري تنأول الأفيون جهاراً في العواصم والحكومات غافلة عن متعاطيها الذين اعتادوها في رحلته إلى الشرق مثل الإنكليز والفرنسيين وقد ارتأى أحد أطباء الفرنسيين إن خير علاج يعالج به متعاطي هذا المخدر أن يسجن في دار خاصة بأمثاله ويقطع عنه الأفيون دفعة واحدة ففي الأسبوع الأول يشكو كثيراً ثم يخف ألمه لفقد ما كان الفه وتسمم به دمه لا كما يعامل الذين يستخدمون المورفين إذا أريد منعهم من تعاطيه بالتدريج معهم في نزع عادته منهم وهو يرى أن الأفيون كالأوبئة ينبغي مكافحتها بشدة زائدة وأنه خطر اجتماعي لا يقل عن خطر المسكرات يعود بأعظم المضار على الجنس كما يعود على الشخص وعلى المجتمع كما على الأسرة.
الرعاد الجديد
اخترع أحد رجال الإنكليز رعاداً يقطع في الدقيقة 300 متر وهي أعظم سرعة بلغتها السفن البخارية حتى الآن وسيحدث عنه تبديل في الملاحة الحربية وتتضاعف به قوة الغواصات.
ذرور اللحى
اخترع أحد الإنكليز ذرورا للحى تستغني به بعد الآن عن استعمال المواسي في حلقها وهو ما يجعل معجوناً يمد على اللحية فتزول بالحال ولا يحتاج صاحبها إلا إلى غسلها بعد ذلك وقد جرب هذا الاختراع ونجح ويؤكدون أنه خير ما عرف من نوعه حتى الآن.
تأثير الشعراء
قالت بعض المجلات العلمية أن الشعراء في بعض أدوار الأمم هم الذين ينشئون لغة بلادهم وعنهم تنبعث وبهم تهتدي فاللغة الألمانية الأدبية الحقيقية نشأت من عهد كيتي وقد جعل دانتي الطلياني لهجة طوسكانيا لغة لإيطاليا عامة وقد تبين لأحد الباحثين أن أشعار هوميروس اليوناني هي التي أحكمت اللهجة الآسية في بلاد اليونان.
الطلبة في فرنسا
نشرت نظارة المعارف في فرنسا إحصاء بطلاب الكليات والمدارس والجامعة في هذه السنة فكانوا 58 ألفاً منهم 2300 أنثى ونحو 3500 غير وطني ونصف الطلبة يتعلمون(18/38)
الحقوق بينهم نحو مئة طالبة وطلاب الطب أقل من طلاب الحقوق فيهم نحو ألف طالبة وفي كلية باريس نصف طلاب فرنسا ثم تجيء كلية ليون وتولوز وبوردو.
موت الأطفال
ينقص معدل الوفيات من الأطفال في معظم البلاد المتمدنة ولاسيما في ألمانيا وإنكلترا ففي كل مئة طفل في ألمانيا يبلغ 75 منهم السنة الأولى من أعمارهم. أما فرنسا فإن 87 في المئة يبلغون هذه السن.
عقل الأمبراطورة
إمبراطورة اليابان من أعقل نساء الأرض وأكثر الملكات والأمبراطورية عناية بالمسائل النسائية فهي محسنة تصرف القسم الأعظم من وقتها في الاختلاف إلى المستشفيات والمدارس وقد أنشأت للبنات كثيراً من المستشفيات الخاصة بهن وهي التي أسست منذ سنة 1874 أول مدرسة لتخريج المعلمات في طوكيو إذ أنها علمت بأن المرأة اليابانية ينبغي لها أن تعضد زوجها في عمله لإصلاح حال اليابان.
سكر الفاكهة
يوصي علماء الصحة باستعمال السكر لمن يصرفون كثيراً من قوأهم العضلية ليعوضهم عما فقدوه وقد رأوا الآن أن استعمال سكر القصب يهيج الغشاء المخاطي المعدي كما ظهر تجارب كثيرة في الجند الألماني وأنه يفضل استعمال السكر المصنوع من الثمار.
التآليف في أوروبا
يؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أنه ظهر في ألمانيا في السنة الماضية ضعفاً ما ظهر في فرنسا من المصنفات الأدبية وأنه حظ إيطاليا من ذلك حظ فرنسا تقريباً أما إنكلترا فصدر قيها نصف ما صدر في فرنسا. وقد صدر في سنة 1901 نحو 35 ألف مصنف في ألمانيا و1000 في فرنسا ومثلها في إيطاليا و6000 في إنكلترا. فكم تأليف صدر باللغة العربية ياترى لغة نحو مائتي وخمسين مليوناً من المسلمين ولغة يقدر المتكلمون بها في أفريقية وغربي آسيا بنحو ستين مليونا.
الترجمة باليابانية(18/39)
أكد أحد علماء اليابان أن الترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة اليابانية صعبة جداً ويصعب نقل جميع صور الألفاظ والمعاني كما يسهل نقل العلوم من لغة أوروبية إلى لغة مثلها ولو لم يكن في اللغة المنقول إلها نفس المفردات والأوضاع الموجودة في اللغة المنقول عنها وقال أن اللغة اليابانية اليوم عائقة عن إدخال أساليب الارتقاء الأوروبي وأن لغة اليابان غنية وفيها من الألفاظ والأساليب في الشعر ما لا يوجد مثله في لغة سواها والصعوبة في ذلك أن لغة للكتابة ولغة للتكلم فهي من جهة ترسم التصورات ومن جهة تنطق بها فمن المتعذر والحالة هذه رسم التصورات في مفردات مفهومة فما دامت الألفاظ تحول دون الترجمة الصحيحة يصعب أن تكون يابأن في تمدنها كأهل أوروبا كما تحب وترضى.
صحة العيون
أثبت الدكتور كوليك مدير التربية الطبيعية في مدارس نيويورك بما قام به من التجارب العديدة أن لاضطراب النظر تأثيراً يلحق بالصحة واستنتج أن إجهاد العيون يضر بمجموع تركيب الإنسان وقال أن العلماء هاكسي وكارلايل وأنييركان سبب هلاكهم سوء حالة عيونهم. ولا يزال هذا المرض بتزايد الحالة الاجتماعية. ومعلوم أن عيون الحضري أعظم من عيون البدوي لما تتعرض له الأولى من القراءة والتحديق في الأمور الدقيقة أو الحروف السوداء على الورق على حين أن الثاني لا يقرأ ولا يكتب ولا يتعب نظره لأنه يسرح بصره في الأبعاد في هواء مطلق بدون أن يهيج أعصاب النظر وأثبت الدكتور المشار إليه أن كثيراً من الأمراض كالأوجاع الطبيعية والشقيقة والأم المعدة مسببة من القراءة فلا تداوى إلا بوضع المناظير على العيون. ومعظم الناس لا يحتاطون في قراءتهم ويجهلون بأنه ينبغي أبداً اجتناب القراءة أو العمل وهم على وضع يدخل النور إلى عيونهم مباشرة على حين أن بؤبؤ العين يتطلب نوراً معكوساً. ومن رأيه من يعنى بعينيه تجود صحته وغسلهما بالماء البارد حسن وأحسن منه عدم تعريضهما لما يضرهما.
اكتشاف القطب
ستسافر هذه السنة بعثتأن لاكتشاف القطب الشمالي علاوة على البعثتين اللتين سافرتا إليه فبالبعثة الأولى برئاسة رجل دنمركي تتولى البحث عما إذا لم يكن أرض غير معروفة في(18/40)
شمال الأسكا والثانية بزعامة أمير من أمراء وهي ستتم أبحاث القبطان أيرتشين في غروانلاند وترسم صورة جزء من الشاطئ الشمالي الشرقي من هذه الجزيرة. كما تسافر في هذا الصيف بعثة علمية إلى القطب الجنوبي من طريق المحيط الهندي حتى تصل إلى أرض فيكتوريا ومنها تنزل من السفن وتستعمل طريقة أخرى للنقل وربما استعمل الأتومويل في هذه الرحلة. وكان الرحالة روس وصل إلى عرض 78 في القرن الماضي وأعلن أنه يستحيل أن يتقدم المرء إلى الأمام ولكن الرحالة سكوت اكتشف سنة1902 و1903 بأن وراء سد الثلج الذي منع روس من التقدم بقعة يمكن الوصول إليها على مراكب بلا عجل فبلغ بذلك درجة 82 ودعا ذلك المكان باسم ادوارد السابع.
نور غير الشمس
الاسيتلين مادة من المواد التي تستعمل في إنارة المصأبيح. وقد ارتأى أحدهم في أمريكا بأنه يمكن الاستغناء بها عن نور الشمس في زراعة النباتات ويمكن بواسطة الحصول على توت إفرنجي جيد لطيف قبل موسمه بخمسة عشر يوماً.(18/41)
مطبوعات ومخطوطات
مجموع متون أصولية
لا يوجد فن من الفنون يتسع فيع مجال النظر مثل فن أصول الفقه ولذلك عني أهل العلم وألفيت فيه الكتب كثيرة ومن غرائب هذا الفن أنه يتيسر هذا الفن أنه يتيسر أن تجمع أهم مسائله في ورقة أو ورقات ويمكن التوسع فيه حتى يكتب فيه في عشرة آلاف ورقة وهو كغيره من الفنون قد وقعت فيه كتب في غاية الجودة وكتب دون ذلك إلا أن أكثر الكتب الجيدة كان يفقد أثرها ومنها رسالة الأمام الشافعي وهو أول من جمع مسائل هذا الفن. وأكثر ما عني به المتأخرون كتب في غاية الإيجاز تعد عبارتها من قبيل الألغاز فكان المبتدئ يبتدئ بها مع أنها لم توضع له البتة فحدث من ذلك أنه هجر هذا الفن حتى أن كثيراً من الحواضر لا يوجد بها من له إلمام به. ولقد حاول بعض أفاضل العلماء أن يبحثوا عن كب جعلت للمبتدئ حتى إذا قرأها أولاً هان عليه الأمر فيما بعد. ومن أعظم من قام بهذا الأمر الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء دمشق فقد انتخب أولاً أربع رسائل من أحسن رسائل هذا الفن وكتب عليها حواشي نافعة بحيث تكشف الغطاء في كثير من المواضع ولم يكفه ما فعل أولاً حتى اتبعها ثانيا برسائل أربع في مذاهب الأئمة الأربعة وحشاها كذلك. وقد وصلنا هذا المجموع وهو مشتمل على مختصر المنار لزيد الدين الحلبي الحنفي المتوفى سنة 808 والورقات لأمام الحرمين ضياء الدين الجوني المتوفى سنة 478 المتوفى سنة684 وقواعد الأصول لصفي الدين البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 739 طبعت هذه الرسائل على نفقة محمد أفندي هاشم الكتبي وتطلب من مكتبته في دمشق وهي في زهاء 150 صفحة منصفة القطع.
البريد المصري
أتانا تقرير مصلحة البريد المصري عن سنة1906 فاستفدنا منه أموراً كثيرة تدل على حياة القطر منها أنه بلغ عدد المراسلات التي أصدرتها إدارة البريد في السنة الماضية 58000000 رسالة وكانت في السنة التي قبلها 50770000 رسالة فتكون الزيادة 14 في المئة. وكأنت الزيادة عامة لجميع أنواع المراسلات المتبادلة في القطر مع البلدان الخارجية ولاسيما المراسلات المسجلة داخل القطر إذ زادت 70 في المئة والسبب الأكبر(18/42)
في ذلك تخفيض رسوم التسجيل داخل القطر من أول يناير سنة 1901 من 10 إلى 5 مليمات عن كل مرحلة. وبلغ ما صدر بواسطة البريد من حوالات وصرر نقود داخل القطر 23358000 ج. م مقابل 22880000 في سنة 1905 وبلغ عدد الحوالات التي تبودلت مع الجهات الخارجية 197500 حوالة بمبلغ 796900 ج. م وبلغ عدد الطرود المرسلة 759000 طرد مقابل 751 ألفاً في السنة التي قبلها وتقدم الطرود المحول عليها من 77 ألفاً سنة 1905 إلى 85800 سنة 1906 وأحدث في القطر 168 جهة للبريد فصارت إدارات البرد فيه 1249 أو زاد عدد مودعي النقود في صندوق التوفير فكان 5908 شخصاً منهم 43877 وطنيون و15207 أجانب وكان عددهم سنة 1905 (21411) من الوطنيين و (12013) من الأجانب فمعدل الزيادة 40 في المئة وأنشئت صناديق توفير للأحداث فبلغ عدد المفرين فيه منهم 4225 وبلغت إيرادات ديوان البريد 237097 ج. م وكانت في السنة التي قبلها 215917 وبلغت المصروفات 185176 ج. م وكانت 149656 في سنة 1905 فيكون مقدار زيادة الإيرادات على المصروفات 51921 ج. م فزادت بذلك واردتها أكثر من الضعف في مدة العشرين السنة الماضية على ما أدخل في خلال هذه المدة من تخفيض الرسوم على المراسلات بفضل انتباه مصلح هذه المصلحة يوسف سابا باشا.
الإنسانية
هي المجلة العلمية التهذيبية الفكاهية الدينية الأدبية التي تصدر في غرة كل شهر لصاحبها الشيخ إبرأهيمالدباغ كان أصدر منها خمسة أجزاء وتوقف مدة عن إصدارها وأمامنا الأن الجزء السادس من سنتها الأولى وفيه كلمة افتتاح لطيفة الأسلوب فيها تصريح محزن بكساد البضاعة الأقلام ومقالة اعتدال في الإنسانيةلعبد القادر أفندي المغربي ومقالة مناحي المنشئين للسيد حسين وصفي رضا وغير ذلك من المقالات والشذرات الفكاهية والأدبية التي تدل على سلامة ذوق كاتبها وأدبه وفضل مؤازريه وأنصاره فنرجو للإنسانية الانتشار في جميع الأقطار وقيمة اشتراكها 60 قرشاً في السنة و30 قرشاً لطلبة العلم وهو قدر إذا قيس بفوائدها.
السند(18/43)
هي رسالة لملحم بك إبرأهيماللبناني فيها أهم الملاحظات في أحكام السند والسفتجة والحوالة وصور كثيرة منها الصكوك والاستدعاآت ومعاملة دائرة الإجراء وتعليمات محرري المقأولات وقانون الإفلاس وغير ذلك من المسائل التي تهم من يحب الإطلاع على المسائل العدلية في البلاد العثمانية ولاسيما العربية منها وإن شئت فقل اللبنانية وقد ألقها بجدول بأسماء قرى لبنان مرتب على حروف المعجم مع الإشارة إلى القصبة والمديرية والقضاء التابعة لها كما ألحق بها متن الرحيبة في الفرائض لأبي عبد الله الرحبي المعروف بابن التقية.
المترجم
المترجم مجلة نصف شهرية لدرس اللغتين الألمانية والفرنسية في سويسرا وفيها كل جملة وترجمتها مقابلها عمود فرنسي وعمود ألماني وموادها عبارة عن قصص وحكم وأمثلة علمية وأدبية وفي كل جزء منها جانب عظيم من الكلمات التي يسهل استخدامها وقد وافتنا الأجزاء العشرة التي صدرت منها وتصفحتاها كلها. وهي 16 صفحة وقيمة اشتراكها أربعة فرنكات وخمسة سانتيمات فنحث عشاق اللغتين على اقتنائها ولاسيما الألمانية فإن العارفين بها بيننا قلائل جدا فلو تعلم أحدهم مبادئ قراءتها وكتابتها لسهل عليه أحكامها بواسطة هذه المجلة.
وصايا للطبيب
من كتاب الأصول لعلي بن رضوأن المتوفى سنة ثلث وخمسين وأربعمائة.
الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال (الأولى) أن يكون تام الخلق صحيح الأعضاء حسن الذكاء جيد الرؤية عأقلاً ذكوراً خير الطبع.
(الثانية) أن يكون حسن الملبس طيب الرائحة نظيف البدن والثوب.
(الثالثة) أن يكون كتوماً لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.
(الرابعة) أن تكون رغبته في إبراء المرض أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغيته في علاج الأغنياء.
(الخامسة) أن يكون حريصاً على التعليم والمبالغة في منافع الناس.
(السادسة) أن يكون سليم القلب عفيف النظر صادق اللهجة لا يخطر بباله شيء منت أمور(18/44)
النساء والأموال التي شاهدها في منازل الأغنياء فضلاً عن التعرض لشيء منها.
(السابعة) أن يكون مأموناً ثقة على الأرواح والأموال لا يصف دواء قتلاً ولا يعلمه ولا دواء يعالج الأجنة عدوة بنية صادقة كما يعالج حبيبه.(18/45)
فجائع البائسين
تابع ما قبله
بعد ما قبرت شهيرة ابنها أنشأت تفكر فيما يؤول إليه أمرها لأنها أدركت انقطاع أجرة الحضانة وزوال العلاقة التي كانت تربطها بسعيد ولم يبق بينهما غير عقد الزوجية فأدركت أيضاً استصدار الحكم عليه بمائة ليرة يمنعه من الطلاق إذا أرادت أن يطلقها فما وجدت انفع من الرجوع إليه والرضا به وكان بلغها أنه يسعى في زواج غيرها فأعربت لأمها عما يخالج ضميرها وقالت لها أنها تود الرجوع إلى زوجها قبل أن يقترن بغيرها فأخذتها على أنكارها وطمأنتها بقولها: أنه لا يقدر على الزواج لأن الناس علموا بما جرى بينكما فيخافون على بناتهم من أن يصرن إلى ما صار إليه أمرك. ثم قالت: وليس مثلنا قليلي العقل والبصيرة.
ماذا جرى لي حتى يمتنع الناس عن تزويجه بناتهم أما كنت أنت السبب في تنافرنا ونحن كنا راضين من بعضنا وكان الصفاء ملازمنا والهناء يرأفقنا فأنت التي كدرت صفاءنا بتصوراتك الدنيئة فلو كنت تركتينا وشأننا لما حدث بيننا شيء ولكن طمعك الذي أدى بنا إلى الفراق وبعث فينا روح الشقاق فأسألك بأبيك ماذا تبغين مني؟ ألست بالغة الرشد والكمال؟ فلماذا لا تتركيني حرة في أعمالي أتصرف بها كما أشاء؟ فإن كان قصدك قتلي وهلاكي فبئست الأمهات اللواتي تبدلن سعادة بناتهن بالشقاء وأني لا أدرك غرضك من افتراقنا مع أننا كنا على وئام وسلام يحسدنا من سمع بما قامت عليه قواعد ائتلافنا.
ما لي أراك اليوم تشتاقين إلي زوجك الذي هو مطية العار فلا عاش الرجال؟
لم أر سبة بانتسأبي إليه إما أنت التي سعيت في زواجي به؟ وهل كان مجهول الأحوال لديك ولدى أخي الذي رأفقه ثماني سنين وأنا على علم من أنه لا يزال كما كان عليه من قبل وما يخيل لي أن أجد مثله بين الناس فهل رأيت أم سمعت برجل يعامل أمرأته بالمساواة ويسعى فيما يرضيها بكل ما أمكنه في هذه البلاد؟ من لي برجل يعاملني هذه المعاملة الحسن؟ على أني أعجب من أعمالك مع أصهارك. ألست أنت التي كنت السبب في طلاق أختي حتى أصبحت محرومة من الزواج؟ وهي لا تزال في كدر وأسف على زوجها مع أني أعلم ويعلم كل إنسان أن الأمهات تحب أصهارها أكثر من أبنائهن وأنت(18/46)
على العكس تبغضينهم فتنفر ينهم من بناتك حتى تحرميهن منهم. أما سمعت قول بديعة التي طلبت أختي الصغيرة أنها أعجبتها وودت تزويجها بابنها ولكنها خافت على ابنها منك فها أنت قد اشتهرت بين الناس بسوء الخلق ورديء الطباع.
لقد تجاوزت حدك يا شهيرة فإنت لا تزالين في سن الطفولية لا تميزين الصالح من الطالح وأنا أخطأت بقبول سعيد زوجاً لك ولكني سأجتهد في التكفير عن خطأي وإصلاحه فلا تأسفين على هذا الرجل الدنيء الأصل الفقير الحال وأيقني بأنه عندما يثبت طلاقك أزوجك وتعيشين معه عيشة لا يشوبها كدر ولا يتخللها شقاء. أو تحسبين أننا في قحط من الرجال؟
أما تتقي الله في سعيك لإثبات طلاق لا أصل له وهب أنك وفقت إلى إثباته بشهادة شهود زور والبهتان وحكم القاضي بتفريقنا وأعطاني إعلاما شرعياً بأني مطلقة فهل يكون الطلاق موافقاً لحقيقة الشرع الشريف.
لا! ولكن أخذنا لك مائة ليرة
فإذا كنت لا أزال على عصمته كيف يتسنى لي أن أزوج بغيره
تتزوجين بإعلام الحاكم وحكم الحاكم أمر مقضي يعمل به ويقوم مقام الطلاق.
في أي ديانة وأي شريعة وجدت هذا الجواز وهذا الحكم المعقول أو تحسين أني لا أخاف الله بانتقالي إلى عصمة رجل آخر وأنا على عصمة غيره فإذا كان طمعك بالمائة ليرة التي تودين أخذها زوراً وبهتاناً فلا حاجة لي بها ولا أود أن أعصي أمر الخالق طمعاً في حطام الدنيا أو نسيت أن من يغنمون الدراهم بطرق غير مشروعة لا يصرفونها إلا على أمراضهم ويدفعونها ثمن أدوية وأجرة أطباء وهم يقضون آخر حياتهم في أتعس الأحوال وقد يتمنون الموت فلا يجدونه وإذا تزوج زوجي وهجرني هجراً طويلاً كيف تصير حالي فهل لي حينئذ سوى البكاء والنحيب حتى تستولي علي الأمراض وارزح في فراش الأسقام والعلل فأموت شهيدة سوء تصرفك.
أنت تظنين أنه يتزوج ويطيق هجرك. سترين أنه متى يئس من الزواج يتوسط من يرجعك إليه ويدخل تحت حكمنا فنتصرف به كما نشاء.
أنت تحسبين أنه لا يتمكن من الزواج وأنا شعرت بأنه سيوفق لأن كثرة البنات وبقاءهن من غير زواج وفساد هذا العصر يدعو العقلاء للتسأهل في زواج بناتهم وأنا على يقين من(18/47)
أنه سيهجرني فإما أن أموت وإما أن أرجع إليه من هذا النشوز فأكون تحت سيطرة امرأة جديدة فإن مت تكونين الجانية علي وإن رجعت إليه تكونين سبب بؤسي وشقائي بعد ما كنت سعيدة.
لقد فهمت أنك تودين الرجوع إليه قاتل الله بنات هذا العصر اللواتي لا يطقن الهجر ساعة.
فليخطر ببالك ما تشائين فإني أعزه وأحب الرجوع إليه فبل أن يتزوج.
ثم قامت وتركت أمها ودخلت حجرتها وأغلقت الباب عليها وأخذت تبكي وتندب حظها وتلوم نفسها على إطاعة أمها.
مضت على هذه المحاورة هنيهة وجيزة فدخلت على شهيرة إحدى صويحباتها التي كانت تتنسم الأخبار عن زوجها وتأتها بها فقالت لها أتدرين ماذا جرى؟ فقالت: لا
إن سعيد عقد على جميلة خانم ابنة علي باشا فصاحت قائلة: آه. وأغمي عليها. فندمت هذه على أخبارها ثم أتت بالماء والعطريات ورشت على وجهها وجعلت تفرك يديها وتدلكها حتى تنبهت فأخذت تبكي وتلعن أمها التي سببت لها هذه النقمة وتفكر فيما حل بها فأيقنت أنها ستفارقه أبد الدهر وأنه سيحتفظ بعد الآن بود جميلة خانم ولا يسأل عنها وقد دخلت أمها فأخبرتها بواقعة الحال وقالت لها: كنت تظنين أن لا يتزوج فها هو قد اقترن بأحسن ابنة في بلدنا فإنقطع أملي بلقائه وأظن بأنه لا يطلقني ولا يأخذني إليه إلا إذا رقت لحالي زوجته فأكون تحت أمرها وأرادتها فهذه نتيجة أعمالك القبيحة.
فأدركت أمها خطأها وأخذت تلطفها بالكلام وتعدها بالأمال ثم دعت ابنها رفيقاً وعزموا على أقامة دعوى الطلاق مرة ثانية وأتوا بشهود غير الأوليين وعينوا يوم الجلسة يوم عرسه لينغصوه وظنوا أنهم يوفقون إلى أخذ الحكم عليه فيكون يوم عرسه يوم نحسه ولم يدر في خلدهم أن يوم عرس المرء في غالب الأحوال يوماً مباركاً ولا يخطر ببال العروسين سوى السعادة ففرح بما أتوه ولم يتنغص وأيقن أنه سينتصر عليهم لأنهم حصروا الدعوى في يوم كان عنده أشرف الأيام وأحسن يوم وصاله ونيل آماله فذهب رحيب الصدر عالي الهمة ودخل المحكمة فأقيمت الدعوى وضبطت الإفادات فشهد الشهود بما تعلموا لا بما علموا فجرح شهادتهم وأقام البراهين فإنتصر عليهم وأخذ الحكم مرة ثانية بوجود الزواج وعاد رابحاً ورجعوا خائبين وكان ما كان. فاستولى الكدر على شهيرة(18/48)
واعتراها الأرق ولازمها الحزن والبكاء فنحل جسمها وتبدلت ألوانها وضعفت قواها فسطت جراثيم السل على كرياتها البيضاء فعطل جهاز التنفس وخرب الرئتين فمنع تطهير الدم من الحامض الكاربونيك فتبدلت حمرة خدها بالأصفرار وأخذت وطأة المرض تزداد عليها يوماً فيوم فماتت شهيدة ضعف الأرادة وسوء التصرف وعلم أخوها خطأه ولكنه حمل الذنب على سعيد وعزم على الانتقام منه بدلً من أمه الجانية. ولما بلغ سعيد موت شهيرة أسف عليها وحزن عليها وبكى بكاءً دعا إلى كدر جميلة ولكن اعتذر لها وأقسم الإيمان على أن بكاءه كان من قبيل الأسف على ما عانته من العذاب والشقاء.
ولما تخلص سعيد من كل منغص أيقن أنه لم يبق عنده شك ولا شبهة في السعادة التي كأن يسعى إليها فاتسعت آماله وصار لا يفكر إلا في السعادة وصار لا يرى إلا ضاحكاً مسروراً وقد نسي ما أتى عليه من قبل وظن أنه خلق سعيداً وعاش سعيداً وسيموت سعيدا ولكن فاته قول الشاعر:
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وذلك أن سعيداً بينما كان راكباً عربته يتجول بها على ساحل البحر في رأس بيروت ويتطلع إلى الأوانس اللواتي تتزين لتسحر الألباب وتطغي الشباب ممن يسابقونهن في الزينة والتبرج وسرعة الانتقال من زي إلى آخر وهما فريقان بين ساحر ومسحور وعاشق ومعشوق أو عاشق محروم وعجوز تفكر في أيام صباها يوم كان الشباب يلتفون من حولها متسابقين في استجلاب قلبها وكان صاحبنا يأسف لذلك العاشق المحروم ويضحك من تلك العجوز الشمطاء التي صبغت شعرها وبيضت وجهها بالذر ور ولونت خدودها بالصباغ الأحمر لترجع فتاة وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر ويلوم تلك الغادة الدعجاء التي زين الخالق جمالها بعيون نجل تكاد تفتت الأكباد على ما شوهت به نور وجهها من الذر ور لتجعله أبيض ولو تركته على طبيعته لكان أجمل وقد تؤثر فيها شدة حرارة بيروت فيكللها العرق ويرسم خطوطاً في غصون خدها المبيض بالبز موت فتشعر بذلك أو تنبهها رفيقتها فتخرج من جيبها منديلاً مليء بالذر ور فتمسح وجهها كانها تمسح العرق.
ويضحك من الشبأن الذين حرمهم الله من نعمة الجمال عندما يرأهم يرفعون سبلا تهم بشواربهم وينزلون طرأبيشهم ليستعطفوا قلوب الغادات وربما التفت إليهم واحدة من قبيل(18/49)
الصدقة والإحسأن فيظن ذلك أنه أعجبها بطوره وجماله.
ويزداد ضحكه عندما يرى ذلك الشاب الذي إذا رأى سيدة أحنت رأسها لحفرة في الأرض رفعت العربة فكان الانحناء اضطرارياً يظن أن ذلك كان للسلام عليه فيحني رأسه فتضحك من جهله ويحسب ذلك تبسماً والتفافاً ويذكر حينئذ قول شوقي
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
ويقول لرفيقه لم يبق بيني وبينها إلا الكلام والكلام يجر ما بعده. ويعجب لذلك الفتى الذي لو رأى الآنسة تصلح شعرها بيدها أو ترفع غرتها عن جبينها لظن ذلك سلاماً له ووضع على رأسه كانه يريد السلام بدون أن يشعر به أحد لحوقاً على مكانتها وهي لا تبالي به ولا تنظر إليه ويبكي أسفاً على المومسات اللواتي خرجن يقلدن كبيرات العقائل يلبسهن ليجلبن قلوب الشبان ويعشن بتمزيق ثوب عفتهن ونقدهن بدلها دراهم معدودة على أنهن يظهرن المحبة لمن لا يطقن أن يراه ولذلك لا يجدر بالعأقل أن ينظر إليهن بعين الكبر والغرور ويهينهن من أجل بيع شرفهن وعفتهن لمن يرنه أو لا يردنه فلو فحص عن الأسباب التي ساقتهن إلى أدنى المتاجر لما تأخر عن العذر ووجه سهام الملام نحو غيرهن.
ومما كان يأسف له سعيد ما يراه من الشبأن الذين لو رأيتهم ونظرت إلى لباسهم لحسبتهم من أبناء أغنى الأسر في بيروت على أنهم لا يملكون سوى راتبهم الذي لا يتجاوز ثلاث ليرات يأخذونها من الاستخدام في مخزن أو متجر ولا يجدون حرجاً في التشبه بالأغنياء وترأهم أبداً باكين من قلة الدراهم وقد يتخيلون وقد يتخيلون السعادة ولكنهم لا يجدون لها أثراً إلا في أمريكا فيهاجرون إليها وقد يموت الكثير منهم من الجوع أو يرجعون ملومين مدحورين.
بينما كان سعيد يفكر في الهيئة الاجتماعية ويتأمل هذا المعرض البديع أتاه الخادم مسرعاً فقال له أن الباشا أتى من سفره وهو مريض مرضاً شديداً فذعر لهذا الخبر ورجع إلى المنزل مسرعاً وكان الأطباء أتوا ومرضوه فلازم فراشه وأخذ سعيد يستقبل العواد ولكن المرض أخذ في ازدياد حتى قضى الباشا نحبه وانتقل إلى رحمة الله فجهزه وواره التراب واحتفل بمأتمه احتفال الابن البار بوالده الفقيد. وهنا انكشفت شمس آمال سعيد وخاف من رجوعه إلى البؤس والشقاء لأن الباشا كان مستقيم المبدأ فلم يترك لوارثيه سوى الدين(18/50)
وأثاث المنزل. وحسب صاحبنا الراتب الذي ستناله حماته زوجة الباشا فبلغ ألفي قرش فأطمأن بعض الاطمئنان وأدرك أنه لا يزال في عيشة راضية وكانت حملت منه جميلة فصار يفكر في ولده وصار البحث بينه وبينها على ابنهما الذي سيصرفإن في تربيته مزيد العناية ليأتي منه أنموذج الكمال ومثال الأدب ويعلمانه حقائق العلوم في طفولته ليشب على حب العلم ويتعرى من كل خرافة وقررا تلقينه تراجم أحوال أعاظم الرجال وأفعالهم وحقائق الكائنات وأنشآ يربآن به عن سماع القصص والحكايات المشوبة بالأكاذيب والعجائب ولما قرب وقت الوضع أخذ سعيد يستجلب الكتب المدونة في تربية الأطفال فيقرؤها هو وأمرأته ويعينأن الخطة التي يجريان عليها في تربية ثمرة غرامهما حتى وضعت له أنثى حسنة الخلق أشبه بأمها فسمياها (خبرية) لعلها تكون مبشرة بالخير وفرحا كثيراً ولكنه لم تمض هنيهة من الزمن حتى فاجأتهما وفاة الخانم الكبيرة وانقطع الراتب فأصبحت الأسرة حملاً على سعيد ولم يبق لها من إيراد سوى راتبه وهو ألف قرش فصرف ما جمعه واقتصده وباع الحصانين لعجزه عن القيام بنفقتهما ورجع إلى عالم الاقتصاد والإدارة ومع هذا كله كان يعلل نفسه بطهارة بيته من الأدناس ويرى نفسه في راحة من كل عناء.
في يوم سكنت نأمة القيظ وهب ريح الصبا اعترى صدر سعيد ضيق ساقه إلى التنزه فبحث عن صديق له ليذهب معه إلى قرية من القرى للنزهة وإذ لم يوفق إلى صاحب يرأفقه ذهب برأسه وأخبر جميلة بذهابه وكان خرج على حصان استأجره فبينما هو يجد في المسير فاجأه رجل كان يعرفه من أقارب رفيق فسلم عليه كانه أخ حميم ثم سأله عن سفره فأجابه بما قصد فطلب رفقته فقبله وشكر له فضله وقال إنه كان يود أن يجد له رفيقاً يتسلى معه فنعمت الصدفة ثم أخذا يقطعا الطريق رويداًَ رويداً وكان الحديث بينهما عن شهيرة فصار ذلك إلى الرفيق يؤأخذ سعيداً وينسب إليه القصور وهذا يعتذر ويرجع بالذنب إلى أمها وإلى رفيق فما كان من هذا الخبيث إلا أن أخرج غدارته وأطلق الرصاص عليه قائلاً خذها جزاء بعملتك بشهيرة فأصاب قلبه فوقع في الأرض يقول: آه قتلتني يا خائن. وكانت هذه العبارة آخر كلامه ثم ذهب ذلك اللعين إلى مدير الناحية وأخبره بأنه حدث قتل في هذا المحل الفلاني ففرح المدير لذلك بمجيء الرزق ولكنه لم يكن عنده من أنفار الدرك(18/51)
أحد لأنهم ذهبوا إلى القرى يستنشقون أخبار الوقوعات التي حدثت بين الأهالي لأنهم أصبحوا بفضل مديرهم يرضون بغدر يقع بينهم واعتداء بعضهم على الآخر لأنه لا يستنكف من أخذ الدراهم من الشاكي والمشتكى عليه وأصبح من أصابه حيف من جاره يغضي على القذى ويحتمل مصابه بالصبر فإنقطعت عنه الواردات فجعل يرسل الدرك والجواسيس ليستطلعوا طلع الوقائع ويأتي بأصحاب الحقوق ويدعوهم إلى أقامة القضايا فينكرون ذلك وهو بين مطمن لهم على حقوقهم ومهدد أن لم يقيموا الدعوى فأرسل يستدعي أنفار الدرك وأخذ يجمع من مر بالقتيل وتكلم معه أو رآه أو سمع به ويحبس من يشاء ويضرب من يشاء ويترك من يدفع له فدية النجاة وكان معظم مساعيه في جمع الدراهم لا في إثبات الجرم ولكن اعترف الجاني بإنه كان أخرج غدارته ليراها سعيد فخرجت خرطوشة من نفسها خطأ وكان سمع (لا علم كان أميالاً يقرأ ولا يكتب) أن المخطئ ينجو من العقاب فلم يسعه إلا إلقاء القبض عليه وإرساله إلى حاضرة الولاية مع محضر التحقيق. ونقل سعيد إلى داره مضرجاً بدمه فلما طرق الباب خرجت الخادمة وفتحت الباب فوجدت سيدها قتيلاً محمولاً في محفة فصاحت ووقعت على الأرض مغمى عليها فسمعت سيدتها صيحتها وشعرت باضطراب وارتعدت فرائضها فهمت لتذهب فما تمكنت لانحلال قواها ولكنها جسرت نفسها فسعت لترى ماذا جرى فوجدت رفيقها محمولاً على الأكتاف في لون أصفر والدم خضب وجهه وصبغ نباسه ولا حركة به فسقطت على الأرض لا حراك بها. وكان الجيران دخلوا البيت فأخذوا ينبهون جميلة من غشيتها وأدخلوا القتيل غرفته ووضعوه على فراشه وبدأ البكاء والنحيب وكان الناس هناك نساء ورجال يبكون دماً على هذا الفتى البائس الذي لم يسمع عنه إلا الفضائل وما عرف إلا بالكمال واللطف وحسن الخلق ولين العريكة وأتى طبيب البلدية والمستنطق ومعاون المدعي العمومي وعاينوه وأمروا بغسله ودفنه فغسلوه وكفنوه وحملوه على الأعناق ليواروه ترابه. لبؤسه حتى يوم مماته لم يكن في المدينة من أصدقائه أحد غير فتى قام بواجباته نحوه ومما ذكره ذلك الصديق أنه رأى وجه خيرية ابنة سعيد على يد الخادم تضحك وتقول (باء باء ئو ئو دح ئو ئو؟) كانها عرفت أن أباها نام نومه أبدية وعلمت أن الكفن لباساً جديداً وأنه دخل في حياة جديدة وانتقل من دار الفناء إلى دار البقاء فلسان حالها يهنئه على خلاصة من(18/52)
البؤس والشقاء وكانها تقول: أنت ذهبت وتركتني أنا وأمي وعمتي وجدتي في عذاب أليم فهنيئاً لك وبؤساً لنا وأسفاً علينا. قال الصديق لما تمثل لي ما حل بهذه الأسرة التعسة ورأيت ابتسامة تلك الفتاة زاد تأثيري وبكائي من مشاهدة هذه الفاجعة المدهشة. فهذا سعيد ولد شقياً فسعد بالخيال والأمال ومات تعساً فسعد بالخلاص من العناء والسقاء فرحمة الله على روحه الطاهرة.
أخذت العدلية تنظر في القضية فما وجدت بأوراق المدير ما يدل على ثبوت الجرم فشرعت بالتحقيقات وثبت لديها وجود عداوة وضغائن وعلمت بأن الفعل نتج عن قصد كما أدعت زوجة سعيد أن القاتل الحقيقي هو رفيق وذلك انتصاراًُ لأخته التي قتلها هو وأمه بسوء تصرفه ولكن نتيجة المحاكمة كان الحكم فيها بأكثرية الآراء على القاتل بالحبس ثلاث سنوات. والله يقتص من عباده بأعمالهم وهو العليم الحكيم.(18/53)
العدد 19 - بتاريخ: 15 - 8 - 1907(/)
صدور المشارقة والمغاربة
جبرائيل مونو
كان ثلاثة من الناس في السابع من تموزيوليوسنة 1807 مجتمعين حول منصة سترت بنسيج الدمقس الأخضر في مدينة تيليست من أعمال بروسيا وقد اتشحوا بأفخر ما تقتضيه الكبرياء والفخفخة من الألبسة المذهبة وتقلدوا الأوسمة البراقة.
هؤلاء الرجال هم المسيو شارل دوتا ليران وزير الخارجية نابليون الأول إمبراطور فرنسا والبرنس أسكندر كورا كين مستشار القيصر واحد أعضاء مجلس الشورى ومن إشراف الروس والبرنس لوبانوف الفريق في الجند الروسي.
دعي أولئك الثلاثة إلى قاعة المذاكرات بواسطة موظف خاص حسب ما تقتضيه قواعد التشريفات التي يظن أنها أبدية ليوقعوا على العهدة التي بدأت مادتها الأولى بهذه الجملة: سيدوم السلام والوئام بين نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا وملك إيطاليا وبين قيصر الروسيين أجمعين منذ أول يوم يتم فيه التصديق على هذه العهدة من الجانبين
فذهبت هذه المعاهدة ببروسيا والبروسيين إلى أقصى دركات اليأس حتى كانما كانت نذيره بانقراضهم وتأذن سلطانهم أو أن ذاك الوفاق الفرنسي الروسي بناء يقام على أنقاض حكومة هذه البلاد. . .
بينما كان منذوبو هاتين الدولتين المتخالفين يجوبون الأرض مسرعين ليبشروا الشعوب الأوروبية بإشراق أفق السياسية عن أزمنة جديدة إذا باستاد بروسي لا ينظر إليه أمراء السياسة والحرب إلا بعين الازدراء يفكر في أسباب فلسفية يسد بها ثلمات القنابل والمعاهدات التي خربت وطنه فأخذ يعقد المؤتمرات ويخطب أفراد قومه بأن يرجع كل إلى قوته ويعمد إلى أدراع بأسه ويسعى في إنهاض بلاده قدر طاقته.
هذا هو فيختي الذي أخذه البروسيون أستاذا في جامعة برلين لما رأوا من ذلاقة لسانه وصدق بيانه وسداد جنانه. وكان فيختي يرجو في خطبه أن يرى شعوب الجرمان وحكوماته متحدة ليكون لها من اتحادها قوة. تلك الأمة التي برهنت في حرب السبعين على أنها عملت بنصائح فيختي كما ينبغي للأمم المغلوبة أن تعمل بنصح رجالها إذا كأنت الدعوة إلى الإتحاد روح نصحهم.(19/1)
مضى على معاهدة تيليست أربعة وستون عاماً ثم عادت تلك المنصة الأخضر غطاؤها واجتمع حولها في عاشر مايو 1871 في مدينة فرانكفورت من أعمال ألمانيا أيضاً أربعة مندوبين كأنت المفاوضات بينهم ذات صخب وهياج تارة وممزوجة باستهزاء مشئوم طوراً.
من المندوبين رجل قوي الحجة شديد البأس يدعى بسمارك وهو الرجل الذي لم يكن يعبأ بمراسم التشريفات ولا يهتم بما اعتادت السياسة أن تكنه في مثل هذه المواقف وكان إذا بحث أمامه عن التقارير التي وضعتها الساسة في هذا الباب فك أزرار ملابسه وأنشأ يستغرب في الضحك كثيراً قائلاًأن هذه كلها بما ينشر في رفرف الصحف اليومية من الروايات فبينما يحسب الإنسان أن سيكون من وراء وقائعها حادث إذا به يسبح في خيال ثم أنه يمد رجليه بحذائهما العسكري ويطلب الجعة ليشرب في حضرة المسيو درا نيم الحرج الصدر من حرية بسمارك وأمام المسيو دجولار الذي خجل من هذه الأعمال والمسيو جول فارد الذأهل الحائر.
هذا هو بسمارك فلاح براند نبورج الذي انتهى إلى رئاسة الوزارة الألمانية قد اضطر المسيو جول فارد والمسيو جولار إلى أن وقعوا على عهدة تقضي بانفصال ولايتين من ولايات الفرنسيس وإدخالهما في سمظ البلاد الألمانية.
وهنا ذكر الفرنسيس - وقد أصبح كل شيء عندهم قرين الانحلال قريب الاضمحلال - ما كان من أمر الأستاذ فيختي وتأثير خطبه في الدعوة إلى الاتحاد ومواعظه الاجتماعية وراحوا يرون مداواة جرحى وطنهم بالأدوية الفكرية وترياق الأخلاق على ما شاهدوا من همز الساسة وغمزهم واستخفافهم. ذلك لأن رجال العلم كانوا على يقين من أن نصر الأمبراطور غليوم المؤزر لم يكن من رصاص البنادق بل أن تربية الألمان الفكرية عملت يومئذ ما لم تعلمه أفواه المدافع. من أجل ذلك أخذ الفرنسيس يبحثون عن مذهب نافع في التربية يذهبون إليه لينهضوا بأمتهم حتى تضارع بلاد جيرانهم.
وفي مقدمة من فادوا بأنفسهم في سبيل سعادة فرنسا وسلامتها المسيو جبرائيل مونو الذي رأى الناس من أعماله ما جعله أليق العلماء بهذه الوظيفة المقدسة.
تلقى جبرائيل العلم مع لافيس ورامبو ودوري وفيدال دولا بلانش أوجستن فيلا في صف(19/2)
واحد من مدرسة دار المعلمين وكان يطال ببصره إلى ما وراء الأفق باحثاً عن مكان يلجأ إليه للتحقيق والتتبع ثم انجذب دفعة واحدة بما فطر عليه من الاستعداد نحو ألمانيا تلك الأرض التي أجمع هو وأصدقائه وأساتذته على أنها الوطن الثاني للذين يحيون ليفكروا ويدأبوا فكانت حجرة عملة في زقاق (أولم) تردد أصداء نغمات وادي ألب ووادي أردر على جميع الشبأن العاملين الأذكياء الباحثين عن الحقيقة في تلك الديار وهي ملجأ المتخرجين في مدرسة دار المعلمين الفرنسية من أراء الفلسفة القديمة.
يسير علم اللغات نحو التكمل والنشوء في بافيرا وسكسونيا وبوم رانيا بجميع فروعه حتى أصبح أفاضل فرنسا مدينين لكليات ليسبيك وبون وهالة وغوتنغن. وأني لار نست رنان أن يضع كتابه حياة المسيح لولا أبحاث استر وس في أصول اللغات وهذا غاستون بوفاسيه أحد أعضاء المجمع العلمي الفرنسي يعترف بأنه تلميذ مومسن المؤرخ الألماني وهؤلاء فو كار وجورج برو وميكائيل بريال والبرد ومن قد بنوا مؤلفاتهم كلها على أفكار علماء ألمانيا شاكرين وكذلك القصصيون في فرنسا قد ساروا وفي مقدمتهم غاستون باري تحت لواء الأستاذ ديبز الشهير.
مرت على المسيو مونو في دار الأستاذ وايج أمام كلية غوتنغن ليال حفل وطابها بالفوائد الجمة وهنا يلقي الأستاذ على مونو وعشرة من رفاقه مباحث حافلة وخطابات ممتعة في فقد التاريخ وفلسفته حتى قال مونوكانت هذه الدروس تبث في أفكارنا انتظاماً ووضوحاً وكنا متلذذين بما نشعر به من حب العلم والحقيقة وإبداء صفحة الوجوه لهما. كان وايج ذا فطرة ملكية تلاءم علمه في تربية أفكارهم أكثر من اجتهادي في التأليف وأظنني نجحت. ذلك لأن كتبي ستذهب بها الأيام إلى زوايا النسيان ولكن اسمي ستتلقاه العصور بعضها عن بعض ما دامت أعمال تلاميذي ومباحثهم العلمية باقية
فمثل آراء هذا الأستاذ الفاضل تهذب الألمان وأحسوا بوجوب الانتقام من الفرنسيس وبمثل هذا التهذيب تمثلت كوائن بسمارك وحركته السياسية.
وبينا كان جبرائيل مونو متطوعاً في خدمة جرحى حرب السبعين تحت قيادة المارشال ما كما هون والجنرال أرول بالادي الفرنساويين حدث أن صادف أكابر لغويي الجرمأن في لباس أفراد الجند البروسي فدهش لذلك ووقف ذأهلاً معجباً.(19/3)
ما أمحت أماني الفرنسيين في البراز الأخير من هذه الشعوب من هذه الحرب الشؤمة حتى ذكر مونو الذي كأن يسعى بين جثث جرحى الحرب يائساً - أنه مؤرخاً وأخذ يؤلف كتابه (الألمان والفرنسيين) نأقلاً فيه مشاهداته منذ بلغ مدينة (راكور) من أعمال اللوريين إلى ذهاب نابليون الثالث وفي هذا الكتاب طبق مونو نظرياته الفلسفية التي كان يعملها تلاميذه. وأنك لتقرأ من خلال سطوره أسلوباً مشبعاً بالجد والتؤدة براء من كل طعن أو تعريض دالاً على أن مونو من المؤرخين الذين يرون أن التصريح بالحقيقة كيفما كانت أنفع الطرق وأسماها. من أجل ذلك كان الكتاب من أثمن ما كتبه المعاصرون عن هذه الحرب. وإن أسباب غلب الفرنسيس يتمثل أمام أنظار القارئ في كل صفحة من صفحاته حتى كانت حرية وجدان المؤلف وصدق لهجته المعزز بالآراء العلمية سبباً لنحت أسئلته على السن مدعي الوطنية الغارقين في لجج الخيال.
ومما فطر عليه المترجم به استيلاؤه على غايات التواضع فلا يريد أن يصفق له ولا أن يستحسن عمله مكتفياً بتسليم ما اهتم بجمعه من الخزائن إلى فريق خاص غير طالب لقاء ذلك شهرة أو سمعه وأن المصفي إلى مونو ليحار من أصوله وتبحره الواسع وتدريسه القويم مع قلة اهتمامه بالخطأبيات. وإذا وجد في المجالس التي ترجح التؤدة والكون أنصت حتى إذا سخت له - والقوم في أثناء المناقشة والحوار - سانحة تلألأت جبهته المفكرة وأبرقت عيناه من وراء نظارتيه الذهبيتين وترك قلمه ومذكرته وأخذ يلقي على السامعين ما يظهر له بعواطف شديدة ولسان مبين. وأنك لترى الجهل واللهو والعيون الساهية قد انتبهت كلها مغلوبة لما فتح أمامها من أعماق مناظر الماضي الفسيح.
وبعد فإن تأثيرات مؤرخنا الفاضل في التدريس لا تظهر من مؤلفاته لا من تعاليمه في دار المعلمين ولا من كتاباته في المجلة التاريخية التي تولي أدارتها أكثر أيام حياته بل من محاوراته الخاصة مع تلاميذه ورفاقه في التحرير ومع أصدقائه وقد خاطبه صديقه أرنست لافيس في خطبة ألقاها يوم احتفال إحدى الكليات قائلاً: (أنك لتلقي بنفسك إلى التهلكة لتخلص غيرك منها ولا تمنع نصائحك ومعونتك عن أحد وأنك لتسرع إلى مكاتبة المشتغلين بالبحث عن الحقيقة وسلامة البشر مهما كانت نحلتهم وقوميتهم).
ومن نتائج أبحاث مونو المثمرة في ألمانيا اجتهاده في تفهيم جميع تلاميذ المدارس معنى(19/4)
(التعاون والاتحاد) وخلاصة الفكر الأساسي الذي يذهب إليه هو وأصدقاؤه: (أن الفرنسيس مستحقون لما نزل بساحتهم من البلايا كما أن الألمان أهل لما نالوه من النصر وما علينا الأن الا أن نسعى إلى اقتطاف ثمرات هذا الدرس المفيد فإنها نافعة لنا ولا تكون الصدمات الاجتماعية وخيمة إلا على أصحاب الغفلة والخمول.
ولقد عرفنا منذ الآن ونحن مضطرون لدفع جميع ما يتهدد جامعتنا والسلم العام من الحوادث. وأن الغالبين قد أخذوا المقاطعتين من أرضنا والخمسة مليارات من أموالنا وما علينا إلا أن نقتبس من فضائلهم لقاء ذلك).
وبعد فإن من الأبطال الذين ألقوا بأنفسهم إلى ساحة البراز في مسألة در يفوس الاجتماعية من أجل الحقيقة والعدل هو المسيو مونو أيضاً فإنه اجتهد في هذا الدرس العام أن يعلم الإنسان أن من واجباته أن يفادي بنفسه في نصرة الحق ولكنه لم يسلم بدفاعه هذا من تعريض المعرضين وسهام أولئك الذين رأى أن ليس من إهانة لهم غير (السكوت).
القسطنطينية محب الدين الخطيب(19/5)
روزفلت وحرب أمريكا
الاجتماعية والاقتصادية
من راجع تاريخ الأمة الأميركية وراقب نشوءها ونموها وسيرها السريع في مضمار العمران والفلاح ووقف على خدمها للجنس البشري لا يستغرب إذا قلت أن هذه هي أرض الميعاد وأن شعبها هو شعب الله المختار - شعب الله المختار لا ليأكل العسل ويشرب اللبن ويتمتع بالطيبات ويتنعم بالخيرات فقط بل شعب الله الذي اختاره ليحمل للعالمين نبراس الحرية والإنصاف وليمد يد الإخاء للبائس في كل قطر ويغيث المحتاج في كل مصر ولتكون بلاده ملجأ للمظلوم والتعس ويجد فيها طالب الحرية والاستقلال الشخصي والتقدم والارتقاء ما يؤهله لنيل مبتغاه. وليس معنى ذلك أن البلاد بلغت حد الكمال أو إنها حلت جميع مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية أو إنها استراحت من الأتعاب فألقت رأسها على مسند الرغد والنعيم وانقطعت عن الجد والعمل والتلذذ بالخيرات لأن البلاد الحية كالفرد الحي لا تطلب الراحة ولا ترتاح إلى الهدوء والسكينة بل تقوى بركوب الأهوال ومصارعة الصعاب.
لأمريكا مشاكل عديدة تظهر عسرة الحل لمن لا يعرف نشاط هذا الشعب وإقدامه كان الله عز جلاله يبتغي بقاء هذا الشعب فيقيم له من أبنائه رجالاً يدفعون عنه الأخطار كلما تهددت البلاد المشاكل وسطت عليا الأزمات. أرسل واشنطن القائد الباسل فحل بيده رقبة الأجنبي ثم لما وشكت البلاد أن تنقسم على نفسها بعث لنكن فبدد عوامل الانقسام وربط أجزاء البلاد بعضها ببعض حتى صارت كما كانت قبل حربها الأهلية تحت علم واحد تسعى إلى غاية واحدة وتدفعها إلى السعي نفس القوى والأمال.
فاليوم إذ تفاقم شر حربها الاقتصادية وبلغ اعتساف ملوك المال الحد الذي لا يطاق أقام الله بطل الأمة (تيودور روزفلت) ليدافع عم حقوق الشعب ويؤيد سلطة القانون ويعاقب المجرمين سواء كانوا من أرباب الملايين أو من الذين دأبهم السعي لهدى أركان المجتمع الإنساني الحاملين الراية الحمراء لا يحترمون الشرائع ولا يعبئون بنظام الهيئة الاجتماعية.
إن سياسة هذا الباسل منذ ابتداء في معاركة المسائل الاجتماعية ومحاربة الاختلال والفساد في الأحكام يتضمنها قوله: (إن حريتي لا تعرف أخاً).(19/6)
فهذه الحرية التي لا تعرف الصديق إذا اعتدى على الحق هي التي جمعت حوإليه قلوب الأمة وألقت الرعب في قلوب أهل البشر والفساد. روزفلت رئيس البلاد اليوم وقائد الحزب الجمهوري كان من أتباع هذا الحزب منذ أنجز دروسه في كلية هارفارد ودخل ميدان الحياة غير أن هذا لا يمنعه من رؤية العيوب التي انتطخ بها رجال حزبه.
ما تعين رئيس شرطة مدينة نيويورك حتى شهر سيف الحرب على أعداء الفضيلة والأمن والآداب ولم تعرف حريته أخاً أو صديقاً فتضايق كثيرون من أتباعه وخاف الجمهوريون عاقبة هذه الصرامة فحسبوا أن هذه التدقيق يكثر أعداء حزبهم ويقوي جيوش أضدادهم فهرعوا إليه وقالوا لقد تجاوزت حد الاعتدال والحكمة في تنفيذك القانون فبعض هذه الشرائع مضر بالمدينة إذا صار تنفيذها حسب منطوقها الحرفي. فأجابهم أنني مسئول عن تنفيذ الشرائع كما أجدها فإن تكن غير موافقة فليبادر المشرعون إلى تغييرها.
ولما أنتخبته ولاية نيويورك حاكمها كانت أشد حملاته على الفاسدين من رجال حزبه فشعر يومئذ بنفوذ أهل المال وتأثيرهم في نواب الشعب واشترائهم الأمتيازات بالأموال وإدراك أن هذا هو الخطر الذي يسرع بالحكومات النيأبية الديمقراطية إلى الفساد والانحلال فتألمت نفسه الحرة لاسيما وأن أكثر أصحاب الأعمال والأموال هم من حزبه.
لما شبت الحرب الاسبانية استقال من منصبه وكان مستشار وزارة البحرية وتطوع لمقاتلة الأسبأن فقاد فرقة من الخيالة المتطوعين وقد سطر التاريخ له البسالة والشجاعة في موقعه (سان جوان) وملكته شجاعته قلوب مواطنيه.
فلما اجتمع زعماء الحزب الجمهوري في فيلادلفيا سنة 1900 م لترشيح رجلين للرئاسة ولنيابة الرئاسة كان روزفلت يومئذ (أسد الشعب) فظن كثير من الكتاب ورجال السياسة أن مجلس الأمة سيرشح روزفلت للرئاسة ولكن رؤساء الحزب وقد عرفوا استقلال وجدانه وقوة أرادته سعوا إلى إبعاده عن الرئاسة فأشار الداهية بلات مدير الحزب الجمهوري في نيويورك أن يرشحوا روزفلت لنيابة الرئاسة أملا أن يقلدوه ذلك المنصب القليل الخطر من حيث والنفوذ فيرضون بذلك الشعب الذي يحب روزفلت ثم يضعون في هذا منصب الرئاسة رجلاً يصغي إلى أقوالهم ولا يحارب مصالحهم وكان ما كان من ترشيح مكنلي للرئاسة وروزفلت لنيابة الرئاسة وفوز الإثنيين في ذلك المعترك على زعماء الحزب(19/7)
الديمقراطي إلا أن الله بعث لمقاصد سامية فوضوياً أثيماً ليطعن الطيب القلب وليم مكنلي تلك الطعنة التي أرسلت روحه إلى العالم الثاني فارتقى روزفلت إلى كرسي الرئاسة فهلعت قلوب ملوك المال وقالوا في سرهم خلا الجو لروزفلت فإنه سيقيم علينا الحرب التي كنا نتحاشاها وخاف الشعب أيضاً من تغيير السياسة فجأة يضر الأحوال فيوقف حركة الأعمال وتصاب الأشغال بكساد عظيم. غير أن روزفلت أبى أن يجلب الاضطراب إلى البلاد فتعهد للشعب أنه سيسير في سياسته على الخطة التي رسمها مكنلي فهدأ روع أرباب المصانع ورؤساء الشركات الكبيرة وأصحاب السكك الحديدية وبقيت البلاد تتمتع بالنجاح الفلاح. ولما أنتهت مدة رئاسته سنة1904 م رشحه الجمهوريون ثانية للرئاسة لأن صوت الشعب لم يقبل بشخص آخر. وما خمدت نيران تلك المعركة السياسية حتى انجلت عن فوز روزفلت على خصمه باركر فوزاً باهراً لم يسبق في تاريخ الأمة.
ما استلم روزفلت أزمة الرئاسة للمرة الثانية حتى جرد سيفه لمقاتلة كل من اعتدى على شرائع البلاد لا يرهب في حربه سطوة عدو ولا يراعي حرمة صديق. أو كما قال أن حريتي لا تعرف أخاً.
ارتقت البلاد وتقدمت وزادت ثروتها في السنين الأخيرة زيادة يصعب على العقل أن يدركها فليس من دولة بين دول المتقدمين أو المتأخرين أدركت ما أدركت أمريكا من التقدم. تجارتها سبقت كل تجارة ومصانعها ومعاملها لا مثيل لها في الأرض. زراعتها تدر الخير على البلاد كالسيل الجارف. خطوطها الحديدية لو مدت في خط واحد لبلغ طول ذلك الخط أكثر من المسافة بين الأرض والقمر. صادراتها ووارداتها السنوية تزيد على الثلاثة آلاف مليون ريال وهذه ليست إلا سبعة بالمائة من تجارتها الداخلية وفيها من أصحاب المال من يزيد إيراد الواحد منهم على إيراد بعض دول الأرض. تكأثر المال فيها فزادت قوة الماديات وأصبح تأثير الريال خطراً على المطامع والغايات في بلاد الحق والحرية والمساواة أخذ الممولون يؤلفون الشركات الكبرى ولا هم لهم إلا الكسب وإن تكن طرق تأسيسها مخالفة لشرائع البلاد ونظاماتها ومغايرة للصدق والشهامة والحق.
اختلت الآداب في الأشغال الكبيرة فصار من الهين على بعض ملوك المال أن يشتروا الأمتيازات من مجالس التشريع ومنتديات سلع تجارية تباع وتشرى بالمال. ثقلت وطأة(19/8)
هؤلاء الملوك الذين أخذوا يحتكرون الحاجيات والكماليات فصرخ الشعب صراخ المظلوم في أرض الحرية سمع صراخه الأسد الباسل تيودور روزفلت فحمل على العدو الحملة بعد الحملة وها هو الآن لا يزال في ساحة الوغى يرميه أعداؤه وهم أعداء الشعب بسهام العدوان والبغضاء فيبيدوها ترسة المتين متحطمة مكسرة لأنه يدافع عن الحق ولأن الشعب والله يشدان أزره في حربه الشريفة.
اتفق سراً ملوك السكك الحديدية (هريمن) و (هل) و (مورغن) وغيرهم على جعل شركات الخطوط الحديدية التي تربط شيكاغو ومدن الولايات المتوسطة بالشاطئ الباسيفيكي شركة واحدة.
قصدوا من ذلك الاتفاق قتل المناظرة ليتيسر لهم الاستبداد في أجور الشحن والسفر ضموا بذلك الاتفاق شركة (الباسيفيكي الشمالية) وشركة (الباسيفيكي المتحدة) وشركات أخرى صغيرة دعوها شركة التأمين الشمالية. وما انتشر أمر هذا الاتفاق حتى شكا أهل الغرب وتذمروا من استبداد ملوك الخطوط الحديدية. ورفعوا شكوأهم إلى ستة من حكام الولايات الغربية فلم يستطع هؤلاء أن يردوا المعتدين عن سيرهم السيئ وعيشهم بالقانون فعرضوا على الرئيس الحالة فأوعز روزفلت إلى المدعي العمومي أن يستقرئ أمر الشركة الجديدة فبحث المسيو نوكس سراً فوجد أن الشركة العظمى قد تعدت حدود القانون. فلم يتأخر روزفلت يوماً وأحداً عن أقامة الدعوى على هؤلاء الملوك الماليين فحاكمتهم الحكومة أمام مجلس القضاء فوجدتهم معتدين فأجبرتهم على فض الاتفاق ولم يكن بالحسبان أن الحكومة تقدم على مقاتلة شركة أموالها تعد بمئات الملايين ولكن حكومة رئيسها روزفلت لا ترهب (مورغن) ولا تخشى (روكفار) ولا (هيل).
لما طلب روزفلت رؤساء الشركة التي أشرت إليها للمحاكمة هرع (مورغن) العظيم إلى واشنطن فدخل القصر الأبيض وهو عالم أن لخصمه حرية لا تعرف أخاً. فقال مورغن: يلزم أيها الرئيس أن نجتمع معاً ونتفق على أمر. يجب أن نحل المسألة بالمسألة.
فأجابه الرئيس أخاف يا مستر مورغن أن لا تكون حتى الآن عارفاً منصبي. أنا هنا لأنفذ شرائع الولايات المتحدة.
ولكن نحن يا مستر روزفلت لم نخالف القانون إذا لم تخاف من الأذى؟(19/9)
نعم ولكن يجب أن تتسأهل أيها الرئيس.
لا تسأهل في تنفيذ القانون.
فآب مورغن ملك المال في أمريكا الذي يرعب (وال ستريت) - شارع الصيارفة في نيويورك - لأقل حركة أو لفظة منه تكسوه الخيبة ويرأفقه الفشل. وبعد أن عاد مرغن خائباً إلى نيويورك ذهب إلى واشنطن غيره من رؤساء السكك الحديدية ممن لهم علاقة بالشركة الكبرى قال أحدهم: كان من الضروري يا حضرة الرئيس قبل أن ترفع علينا الدعوى أمام المحاكم.
فأجابه روزفلت بقوله لماذا؟
- لأن أقامة الدعوى بغتة أسقطت أسهم السكك الحديدية فكان يجب أن تفيدنا عن عزمك رحمة بالأرامل والأيتام الذين يملكون أسهماً في هذه الشركات.
فأجابه المدعي العام هل أخبرتم الأرامل والأيتام لما احتكرتم أسهم الشركة الباسيفيكي الشمالية؟
وعندئذ تكلم الرئيس بلغة لم يسمعها قبلاً هؤلاء الأغنياء فقال: أن الحكومة لا تعلن عندما تعتقد أنه ارتكب جريمة بل توقفه ثم تخبره عن الجريمة التي ارتكبها. لماذا تطلبون من الحكومة أن تعلن المجرم إذا كان غنياً ولا تعلنه إذا كان فقيراً؟ وهكذا النصر لروزفلت خادم الشعب الأمريكي وخاب هريمن ملك السكك الحديدية الذي يستولي على خطوط تزيد قيمتها على ألف ومائتي مليون ريال.
والذي يسعى إليه روزفلت هو أن يضع كل شركات السكك الحديدية تحت مراقبة الحكومة في واشنطن المراقبة الرسمية ويعتقد أن هذه الشركات متى علمت أن عين الحكومة ترى كل مخبآها وتعلم بكل أفعالها فلا تجسر أحد على أحد الأعمال المخالفة للشرائع على أن بعض رجال السياسة يخشى من أن تزيد المراقبة في سلطة الحكومة الزيادة التي ربما تعود بالأخطار على المبادئ الديمقراطية وهؤلاء الساسة يطلبون هذا الحق - حق المراقبة الرسمية الفعالة على السكك الحديدية للولايات المختلفة. أما براين زعيم الحزب الديمقراطي فيرى أن اعتساف شركات الخطوط الحديدية لا تكون عاقبته السيطرة ومراقبة حكومة واشنطن على الخطوط الحديدية فقط بل الاستيلاء التام أيضاً على جميع سكك(19/10)
البارد. ولكن روزفلت لا يرى الآن دافعاً إلى هذا التطرف في محاربة هذه الشركات الهائلة. وآل ستريت يكره روزفلت الكره الشديد لأنه لا يستطيع أن يلين أرادته الحديدية.
اتفقت شركات اللحم تحت إدارة شركة واحدة فصارت تستري المواشي من الفلاحين بالأثمأن التي تعينها وتبيع اللحوم بالأسعار التي تلائمها وعدا ذلك فإنها تبيع اللحوم غير الصالحة للصحة فحاربها الرئيس فقهرها أمام المحاكم ثم حمل مجلسي الشيوخ والنواب على سن قانون يعين رقباء من قبل الحكومة يفحصون كل ما يذبح من المواشي وكل ما تقدده الشركات من اللحوم فمن يخالف القانون يعاقب حتى أن الحكومة صارت تجبر هذه الشركات على وضع ختم المراقبة على كل ما تبيعه.
اختلت نظامات السكك الحديدية وفسدت مديريها فصاروا يحابون بالأمتيازات التي يعطونها لأرباب المتاجر والمصانع يطلبون من زيد التاجر الغني رسوماً أقل من عمرو المتوسط الحال فإذا كان عمرو الفقير الحال أو المتوسط الحال مناظراً لزيد الغني في بلد واحد يعجز عن مناظرته لأنه يدفع رسوماً باهظة لاستجلاب بضائعه من مصادرها على حين يستجلبها زيد بأجور زهيدة فسنت الحكومة قانوناً يقتضي بموجبه أن تكون الأجور واحدة للغني الكبير والتاجر الفقير. ولكن التجار الكبار وأصحاب السكك الحديدية لجئوا إلى حيلة يدرسون بها القانون ولا يكونون بها تحت سلطته وبذلك أعني نظام الترجيع أي أن شركة الخط الحديدي تأخذ نفس الأجور من كل التجار الذين يشحنون بضائعهم على خطوطها ولكنها ترجع سراً إلى من تشاء مبالغ يتفقون عليها قبل الشحن. فالفقير والمتوسط الحال شكيا أمرهما إلى الحكومة فسنت النظام ضد الإرجاع ولكن الشركات الكبرى استمرت على مخالفة القانون فأقام عليها روزفلت حرباً عواناً. ومن هذه الشركات شركة الزيت العظيمة التي يرأسها كفار أغنى أغنياء العالم وشركة السكر وغيرها. والحرب اليوم قائمة في المحاكم بين الحكومة وبين شركة الزيت الشهيرة وقد أقامت الحكومة الأدلة الراسخة علة ذنوب هذه الشركة ولا شك أنها ستلقي جزاء آثامها العديدة ويقال أنها ستدفع من الغرامات لا أقل نمن ثلاثين مليون ريال فتأمل.
حمل الطمع بعض الشركات التي تجيز الأطعمة المقددة على الالتجاء إلى الغش والفساد فتكأثرت أضرار هذه الأطعمة حتى لم يعد يثق الإنسان بسلامة نوع الأنواع استخدموا(19/11)
الكيمياء فصاروا يخلطون المركبات الكيميائية بالأطعمة لكي يطول حفظها في علب الصفيح التنكأو الزجاج بل تعدوا هذا فصاروا يركبون المواد المختلفة ويقلدون الأطعمة الطبيعية كالعسل والدبس والقهوة وما شاكل ذلك حتى لم يعد يعرف الناس بعض الأحيان هل هم يأكلون أطعمة مركبة في معامل كيماوية أم مستخرجة من خيرات الأرض. عقد النية روزفلت أن يضع لهذا الغش والفساد فسعى بكل قواه حتى حمل مجلسي الشيوخ والنواب على سن قانون (الطعام التقي) وفاز بسعيه على الرغم مما أنفقته هذه الشركات من الأموال وما بذلته من المساعي. ومن يغش الطعام الآن يعاقب أشد المعاقبة.
ومما يزيد جهاد روزفلت شرفاً في محاربة ملوك المال المفسدين أن هذا المحارب ابن عائلة غنية وصاحب ثروة طائلة فحربه ليست حرب رجل اشتراكي المبادئ أو حرب رجل يروم نقض بنيأن الهيئة الاجتماعية إنما هي حرب رجل تتألم نفسه من الاعتساف والرشوة والفساد والاختلال سواء صدرت هذه المساوئ من هريمن ملك السكك الحديدية أو من أصغر عامل في أحقر معمل في البلاد.
فالكل في اعتقاده متساوون أمام القانون من يعصي الشريعة أو يدوس النظام يجب أن يلقى العقاب سواء كان من أصحاب المعامل أو من العمال. فرو كفار يعرف أنه يلقى روزفلت إذا زار القصر الأبيض الأكرام والرقة ولكنه يعرف أيضاً أن جون متشل رئيس جمعيات الفعلة في المناجم يلقي نفس المعاملة وقد سأله مرة أحد أصدقائه وهو على القطار في كاليفورنياأي رسالة تحب أن أحمل منك إلى جمعيات العمال المتحدين فأجابه روزفلت قل لهم أني سأعامل بالعدل والإنصاف الفعلة المتحدين في جمعيات منظمة وسأعامل بنفس العدل والإنصاف الفعلة الذين لا ينتسبون إلى جمعيات منظمة وسأعامل بنفس العدل والإنصاف أرباب المال والأملاك. الجميع سواء أمام الشريعة.
لما احتفل نادي كرد ايرن في واشنطن في العام العابر احتفاله السنوي وكان من المدعوين روزفلت وسفراء الدول وأكبر رجال الأعمال والأشغال في البلاد خطب روزفلت خطاباً صريحاً لا يزال صداه يرن في إذان من سمعه. ومن جملة ما قال وقد وجه مقاله وقتئذ إلى كبار الممولين الحاضرين ما معناه أ، الست عدو المال والممولين. أنا لست عدو الأرزاق. أنا أعظم صديق للمال المجموع طبقاً للشريعة والنظام. أنا أخلص صديق ومدافع(19/12)
عن الأملاك. إذا أردتم أن تحرس أملاككم من الرعاع الذين يعتدون على القانون فعلموهم أنتم كيف تكون المحافظة على القانون.
الغني المعتدي على القانون أكثر مسئولية من المعتدي الفقير. إذا رمتم سلامة الأملاك والأمان على الأرزاق فحافظوا أنتم على النظام واحترموا الشريعة وإلا فإني أحذركم من الرعاع. الرعاع. الرعاع.
صيارفة وال ستريت يسمونه (روزفلت الفضولي) ويوجين دس الفوضوي يدعوه (روزفلت المجرم) والدكتور داي رئيس كلية سيد كيوز الجامعة يسميه (الفوضوي) وبعض أعدائه يدعونه (المحارب). (المهيج). (الساعي إلى القلأقل الاقتصادية). (لذلك لا يجد لذة بغير الحرب والخصام) ولكن الشعب الذي يتكون منه الرأي العام - تلك القوة الفعالة في البلاد الديمقراطية يحبه ويبجله ويثق به. أعداؤه يرون في سياسته خطرا على البلاد أما الشغب فإنه يحثه على القبول أن يرضى بترشيحه للرئاسة سنة 1908 لكن روزفلت يرفض الرفض الصريح لأنه لا يحب أن يخالف النظام غير المكتوب الذي لا يستصوب انتخاب رجل لرئاسة البلاد للمرة ثلاث مرات. جورج واشنطن محرر أمريكا هو أول من رفض الانتخاب المرة الثالثة وقد مشى الرؤساء بعده على هذه الخطة الحميدة والمقصود منها أن تبقى القوة قي قبضة رجل واحد لئلا يميل إلى حب الاستبداد والاستئثار بالأحكام.
لم يقم رئيس واشنطن أحبه الشعب في حياته كما يحب تيودور روزفلت ففيه تتمثل أسمى آمال الشعب الأمريكي وأرقى عواطفه. فمن أخلاقه الشجاعة وحرية الوجدان ومحبة الإنصاف والعدل والميل إلى مساعدة المظلوم البائس وحب الجد والهمة والإقدام على عظائم الأمور بصبر وثبات فهو أشرف ممثل لصفات الأمة فلذلك هامت به القلوب وتعلقت به الأفئدة. يتهمه أعداؤه بمحبة الحرب والقتال والميل إلى سفك الدماء. ولكن الشعب يعلم أنه هو الوحيد بين عظماء الأرض وملوكها الذي أوقف أفظع حروب الأعصر الحديثة - الحرب الروسية اليابانية - وحقن دماء بني البشر التي كانت تجري كالأنهر في أودية مانش وريا ولذلك يدعونه واضع السلام ولا يستغربون أن وهبته دولة نروج مدالية نوبل التي لا تهبها إلا لمن يخدم السلام أكبر الخدم.
ينسب إليه أعداؤه الكبرياء وحب السلطة ولكن الشعب يعلم أنه يرى الفضيلة ويكرمها أينما(19/13)
وجدها فلذلك أضاف في القصر الأبيض الزنجي الأسود بوكر واشنطن لأنه يعلم أن بوكر واشنطن الزنجي رجل فاضل يخدم شعبه ويرقي حالتهم ويساعد بذلك أمريكا على حل أكبر مشاكلها الزنوج.
أعداء روزفلت يتهمونه بتحريك الاضطرابات الاقتصادية ولكن الشعب لا ينسى أن روزفلت هو الذي أطفأ نار تلك الحرب الاقتصادية التي قامت بين أصحاب مناجم الفحم والعمال المعتصمين وأنقذ البلاد من أخطار ثورة عظيمة عندما تعاظم الخلاف بين أرباب المال والعمال في المناجم وتوقف عن العمل لا أقل من نصف مليون عامل. ولقد ارتفعت أثمأن الفحم بأبهظ الأثمأن لعدم وجوده عندما دخل الشتاء ببرده وثلجه والخلاف لم يزل مستحكماً فضاقت النفوس وتهيجت الخواطر وخاف العقلاء من شر ما يحدث وسعى كثيرون أن يرجعوا الحالة إلى سابق عهدها ولكن أصحاب المناجم أبوا أن يسلموا بواحد من مطالب المعتصمين. عندئذ عزم روزفلت على حسم الخلاف فاستل سيف الغيرة متخذاً من قوة الرأي ترساً يرد به كيد أصحاب المناجم الذين جاهروا في أول الأمر ليس لروزفلت حق بالمداخلة. فتدخل روزفلت على الرغم من اعتراضاتهم وأجبرهم أن يعرضوا المشكل على مجلس تحكيم يتألف أعضاؤه من رجال اشتهروا بالنزاهة والعدالة والمعرفة.
تألف مجلس التحكيم ونظر في الخلاف فوجد أن الحق مع العمال فأبدى حكمه فخضع الفريقان وانتهى ذلك الخلاف العظيم ونجت من شرور ذلك الاغتصاب.
ولا يسمح المقام أن أذكر أكثر مما ذكرت من حسنات هذا الرجل العظيم وخدمه للشعب الأمريكي خصوصاً وللعالم عموماً. ولاسيما في هذه الحرب الاقتصادية التي يسعر نارها ويكفيه فخراً أنه بث في الناشئة الأمريكية روحاً ظهر تأثيرها في كل ولاية ومدينة في أمريكا - روح القانون وكره الاختلال والفساد فهو الذي في جهاده وحياته وأقواله وكتاباته يفسر لتبيان كلمة نجاح بمعنى جديد أو قديم ولكن كاد ينزع من الأذهأن فالنجاح الذي يبشر به روزفلت هو النجاح الحقيقي الذي لا يشتريه المرء بالمفاداة بمبادئه وفضائله بل الذي يقوي المبادئ السامية ويكثر الفضائل. المال خير إلا إذا كان الحصول عليه لا يتيسر بغير العبث بالشرائع وقتل الوجدان فإذا ذاك يصير شر ما يتهدد الفرد والأمة.(19/14)
وخلاصة القول أن الخوف على فناء البلدان والممالك واضمحلال الشعوب وتأخرها لا يجب أن يكون من حدوث الاختلال والشرور فهذه ملأزمة للعمران حتى يبلغ درجة الكمال إنما الخوف كل الخوف متى استحكم الفساد ولا من يستأصله متى ضرب الشر أطنابه وليس من يجرد عليه سلاح الحرب والمقاومة فكيف نخاف على حياة أمة لا يظهر فيها فساد حتى تجد من يقاتله بغيره وثبات كيف نخاف على مستقبل هذا الشعب الأمريكي وممثل أسمى صفاته هو تيودور روزفلت الذي إذا نادى ودعا الشعب الأمريكي لمساعدته في خدمة الحق ومحاربة الإثم. سمع الناس نداءه لأنهم أحياء فقاموا يعضدونه في جهاده. وعلى الجملة فإن الحرب قائمة بين الحق والباطل وأن الأمال عظيمة بفوز الحق والعدالة إذ لم ير إلى الآن أن قائد لحق روزفلت خاب في موقعه منذ بدأ في حربه الشريفة لتأييد النظام والعدل.
ولله در جون مورلي السياسي الأمريكي الشهير الذي قال بعد أن زالت الولايات المتحدة منذ عهد قريب رأيت في أمريكا مظهرين عظيمين للطبيعة شلالات نياغرا وتيودور وروزفلت برو فيدنس (الولايات المتحدة).
الولايلت المتحدة شحادة شحادة(19/15)
اليونان
أبطالهم
البطل - البطل في بلاد اليونان رجل معروف يغدو بعد موته روحاً ذات سلطان ولا تتم له الربوبية بل ينال منها نصفها فمن ثم لا يسكن الأبطال في الأولمب في سماء الأرباب ولا يدبرون شؤون العالم أجمع ولهم مع هذا أيضاً سلطة فوق كل سلطة بشرية يغيثون بها أحبابهم ويهلكون أعداءهم. ولذا عبدهم للأرباب عبادتهم للأرباب واستغاثوا بهم وتضرعوا إليهم. وما من مدينة أو قبيلة أو أسرة إلا ولها بطل خاص بها وهو عبارة عن أشباح متخيلة تحميها فتعبدها وتتقدم إليها بأنواع القربات.
ضروب الأبطأل - ومن هؤلاء الأبطال فئة اشتهرت في الأساطير وعدت من الأعيان مثل أشيل وأوليس أممنون ولا شك في أن بعضهم لا حقيقة لهم قط مثل وهيراكليس وأديب. وليس بعضهم إلا أسماء لا مسميات مثل هيلين ودور وس وعوس. غير أن عبدتهم ينظرون إليهم نظرهم إلى أشخاص قدماء وقد عاش معظم هذه الأرباب وبعضهم من الأعيان قد ذكرهم التاريخ وكانت لعم أعمالهم مثل لبون يداس وليزاندز وكانا من القواد وديمقراط وأرسطو وكانا فيلسوفين وليكورك وصولون زكانا مشرعين. وعبد أهل مدينة كروتون أحد مواطنيهم فليس لأنه أجمل أهل زمانه في بلاد اليونان. وكان الزعيم الذي يقود الطوارئ ويؤسس مدينة يعد بين السكان البطل المؤسس فيقيمون له معبداً ويتقربون إليه كل عام بأنواع النذور والقربان. وهكذا كان مليتاديس الأثيني يعبد في مدينة من أعمال تراسيا وباز يداس الإسبارطي الذي قتل في دفاعه عن امفيبوليس كما يعبد في هذه المدينة إذ اعتبره السكان مؤسساً لبلدهم.
حضور الأبطأل - يظل البطل ساكناً في البلد الذي دفن فيها جسده سواء كان في قبره أو في الجوار. وقد وصف هير ودنس هذا المعتقد فكانت مدينة سيسيون تعبد البطل ادراتس فأقامت في الساحة العامة مصلى إكراما له. ولقد ارتأى كليستين جبار سيسيون أن يتخلص من هذا البطل فراح يسأل هاتف دلفيس عما إذا كان يفلح في طرد ادراتس. فأجابه الهاتف بقوله: أن ادراتس كان ملك السيسونيين وأنه لص وقاطع طريق فلما لم يستطع كليستين أن يطرد ذاك البطل عمد إلى الحيلة فبعث إلى ثيبة يبحث عن عظام بطل آخر اسمه ميلا(19/16)
نيبس كان من ألد أعداء ادراتس قتل له صهره وأخاه. ثم جعل تلك الأعياد والنذور تقدم إلى ميلا نيبس بعد أن كانت تقدم إلى ادراتس زمناً وراح يقتنع وسائر اليونانيين أن البطل المغتاط يركن إلى الفرار.
مداخلة الأبطأل - للأبطال قوة إلهية ففي وسعهم كما في وسع أرباب أن يفعلوا الخير والشر كما يشاءون. ولقد أخطأ الشاعر ستيز يشور في كلامه على هيلانة المشهورة (تلك التي جيء بها إلى طروادة على نحو ما ورد في الأساطير) فكف بصره حتى إذا رجع عن كلامه عاد بصيراً. ويزعمون أن هيلانة صارت نصف ربة بعد موتها فأرسلت للشاعر بالداء بادئ بدء ثم اتبعه بالدواء. ويدعون أن الأبطال الحامية لبلد تدفع عنها الأدواء والمجاعة وتذب عن حياضها من غارة بالدواء. وقد زعم الجند الأثيني أنهم رأوا بين صفوفهم في حرب ماراتون تيزيه بطل أثينة ومؤسسها وقد تدجج بسلاح لامع في حرب سلامي نية وظهر البطلان أجاكس وتيلا مون اللذان كانا فيما مضى ملكي جزيرة سلامينة في أعلى ذروة منها باسطين ذراعيهما نحو الأسطول اليوناني. قال تيموكلس (وما قهرنا الفرس إذ قهرنأهم ولكن الأرباب والأبطال قهروهم) وفي إحدى روايات سوفقلس (أديب إلى تولون) بينا كان أديب مشرفاً على الموت ملك أثينة وملك ثيبة وأراده كلأهما على الأرض بترك جثته تدفن في أرضهما ليكون بطلاً حامياً لها فأجاب طلبهما في أن يدفع في بلاد الأثينيين وقال لملوكهم: أني لا أكون بعد موتي خالياً من النفع في هذا القطر بل أكون ركناً ركيناً لا تقاويه ألوف الألوف من المحاربين. وكان يرى أن بطلاً وأحداً يساوي جيشاً برمته ويرهب بأس هذا الشيخ ولا رهبة الأحياء أجمعين.
العبادة
بدء عبادة الأرباب - كان الأرباب والأبطال على ما لهما من الحول والطول ينشرون في الناس جماع الخيرات والسيئات كما يشاءون فكان من الخطر أن يكونوا على المرء ومن العقل أن يكونوا وإياه يداً واحدة. ولقد ذهب القوم إلى أنهم كانوا أشبه بالبشر يسخطون إذا تركوا وشأنهم ويرضون إذا عني بهم. وعلى هذا الفكر نشأت العبادة فكانت عبارة عن إتيان صالح الأعمال مع الأرباب لنيل رضأهم. وقد صرح أفلاطون بالرأي العام كما يلي قال (أن الاضطلاع بالقول والقيام بصالح الأعمال مع الأرباب سواء كان في الصلوات أو(19/17)
في النذور هو من التقوى التي بها نجاح الخاصة والبلاد وعكسها هو الشقاء الذي به تثل عروش الممالك وتندك معالم العمران) يقول كسينوفإن في آخر كتابة الفروسية في بحبوبه النجاح. فالديانة كانت بادئ بدء عهداً وميثاقاً فكان اليوناني يسعى في استرضاء الأرباب وينال من لدنهم مقابلة ذلك ومنافع ومغانم قال أحد الكهنة أبولون لمعبوده أني قد أحرقت ثيراناً سمينة منذ زمن طويل بسهام غضبك أعدائي
الأعياد العظيمة - زعم اليونان أن لأربابهم إحساسا وعواطف كعواطف البشر ولذلك عنوا بالقيام بكل ما يسترضى به الإنسأن فكانوا يقدمون لهم لبناً وخمراً وحلواً وفاكهة ولحماً وينشئون لهم قصوراً ويحتفلون إكراماً لهم بأعياد إذ كانت تلك المعبودات أرباباً سعيدة تحب الفرح والمناظر الجميلة. وما كان العيد كما هو الحال عندنا اليوم عبارة عن أفراح بل كان احتفالاً دينياً يضرب في خلاله عن الأعمال وتأخذ الأمة في إبداء مظاهر المسرة على رؤوس الأشهاد أمام المعبود. فمن ثم كان اليوناني يسر بهذه الأعياد ويحتفل بها إجلالاً لأربابه ومعبوداته لا قياماً بأهوائه الخاصة وشهواته. جاء في نشيد قديم إكراماً للمعبود أبولون أن الأيونيين يدخلون السرور عليك بما يقومون به من مطاعنتهم المعهودة وغنأهم ورقصهم.
الألعاب الاحتفالية - نشأت الألعاب الاحتفالية من هذه المسليات التي كانت تقام أعظاماً للأرباب فكان لكل مدينة ضرب من ضروبها تكرم بها ومعبوداتها وما كانت في العادة تقبل لمشاركتها بها غير أبناء وطنها ومع هذا فقد بألعاب يشترك بها جماع أبناء يونان ويحضرونها وذلك في أربعة أماكن من البلاد اليونانية. وتدعى الألعاب الأربعة العظيمة وأخص تلك الألعاب ألعاب أولمبيا. يحتفل بها كل أربع سنين إكراماً للمعبود زيوس وتدوم خمسة أيام أو ستة فيأتي دهماء اليونان من أطراف البلاد تغص بهم الملاعب والمشاهد ويأخذون في تقديم الضحايا والتقرير بالصلوات إلى المعبود زيوس (الشمس) وسائر الأرباب ثم يتبأرى القوم في الأعمال الآتية: عدو على الإقدام حول الملعب. قتال يعرف عندهم بالبانتاتل لإنه كان عبارة عن خمسة ألعاب فيقفز المتبارون ويركضون من طرف الملعب إلى طرفه الآخر ويقذفون إلى بعد بطارة من المعدن ويرمون الحراب ويتقاتلون بالأيدي والأبدان. ثم ملاكمة بجمع الأكف يتقاتلون فيها وأذرعهم مستورة بسيور من جلد.(19/18)
ومسابقة عجلات كانت تجري في الميدان والعجلات خفيفة يجرها أربعة جياد ويتصدر القضاة في الألعاب بألبستهم القرمزية وقد توجوا بأكاليل الغار فينادي المنادي بعد القتال باسم الظافر واسم بلده على رؤوس الأشهاد ويكافأ بتاج من الزيتون جزاء ما وفق له ويستقبله مواطنوه استقبال الظافر الفاتح وربما خرقوا خرقاً في الحائط ليمروا به منه فيقبل تقله مركبة تجرها أربعة من الجياد لابساً القرمزي والشعب كله يخفره. وكان يعد هذا النصر الذي نعده اليوم من أعمال المصارعين في المحال العامة من أحسن الأعمال وأولاها على ذاك العهد يحتفل بها أعظم الشعراء ولم يكن هم بيندار أشهر شعراء الأغاني القدماء غير نظم المقاطيع في سباق المركبات. ويروى أن أحدهم واسمه دياكوراس رأى في يوم واحد ولدين له وقد توجا فحملاه على أعين القوم حمل الظافرين فلما شاهد الشعب أن أمثال السعادة عظيمة جداً بالإضافة إلى الميت ناداه: مت بادياكوراس إذ ليس في وسعك أن تكون بعد معبوداً. فضاق ذرع دياكوراس من الاضطراب ومات بين أيدي ولديه وفي نظره ونظر أبناء يونان أن رؤية وأكفهما قوية شثنة وسوقهما سريعة كأن ذلك منتهى السعادة الأرضية. وعلى هذا يحق لليونان أن يعجبوا بالقوة الطبيعية فقد كان أقوى المصارعين من أحسن الجند في الحروب التي يتقاتلون فيها جسداً لجسد.
الفأل - كان اليونان يرجون من آلهتهم أعمالاً كبيرة تلك الواجبات والأعياد والاحتفالات فكأنت المعبودات تحمي عبدتها وتسبغ عليهم برود العافية والغنى والنصر وتقيهم المصائب والنوائب التي يتوقعون نزولها ترسل علامة من لدنها يفسرها الناس. وهذا ما كان يدعى بالفأل. قال هير ودنس كان إذا اقتضى لأحدى المدن أن تمتحن ببعض الخطوب يتقدم لها على ذلك علامة في العادة. ولقد تفاءل أهل شيو (صاقز) تفاؤلا دلهم على ما ينالهم من الهزيمة فلم يرجع من مئة فتى بعثوا بهم إلى دلفيس يترنمون وينشدون سوى فتيين وهلك سائرهم بالوباء. وعلى ذاك العهد أنفض سقف مدرسة المدينة على أطفال كانوا يتعلمون القراءة فلم ينج منهم سوى طفل واحد وكان عددهم مئة وعشرين. هذه هي الإمارات التي قدم الأرباب إرسالها على أبناء يونان تنذرهم وتبشرهم. ولقد كان اليونانيين يرون الأحلام والطيور التي ترفرف في السماء وأحشاء الحيوانات التي يتقربون بها لأربابهم بل وكل ما يقع نظرهم عليه من الزلزال والكسوف إلى عطسة يعطسها المرء - يرون كل هذه الأمور(19/19)
الطبيعية إمارات إلهية فيها سعادتهم وشقاؤهم ففي حملة صقلية بينما كان نيسياس القائد الأثيني يركب جيشه المنهزم في السفن أوقفه خسوف القمر فظن أن الأرباب بعثت بهذه العجيبة تنذر الأثينيين أن لا يتموا ما بدؤوا به من الأعمال الحربية فاضطر نيسياس إلى الانتظار سبعة وعشرين يوماً وهو يقدم القرأبين تسكيناً لغضب الأرباب. فسد الأعداء في هذه الفترة ميناء المدينة وحطموا أسطولها وبددوا شمل جيشها. ولم ير الأثينيون لما بلغهم النبأ سوى أمر واحد نجوا من أجله نيسياس وذلك إنه كان عليه أن يعرف أن اختفاء القمر بالنظر إلى جيش منهزم علامة حسنة. وفي غضون العودة المعروفة بعودة العشرة آلاف خطب القائد كسينوفون في جنده فلما أنتهى إلى هذه العبارة لنا الأمل الوطيد أن نرجع والمجد أليفنا بمعونة الأرباب عطس أحد الأجناد على الأثر فأخذ الجيش يهتف ويضرع إلى الرب على أن بعث لهم الفأل فهتف كسينوفون: إلا فلننذر بتقديم ضحايا لزيوس إذ بعث إلينا ما نتفاءل به بيننا نحن نتفاوض في سلامتنا.
هاتف الغيب - كان الرب في الأحايين يجيب سؤل من يدعوه ويستشيره من المؤمنين لا بإشارة صماء بل على لسان أحد الملهمين من علية الناس فيأتي القوم مزار رب ينشدون أجوبة يتلقونها ونصائح يستنصحون بها وهذا هو معنى الهاتف بالغيب. وأنك لترى في أماكن كثيرة من بلاد اليونان وآسيا جملة صالحة من الهاتفين بالغيب وأشهرهم في دودون من بلاد أبيروس ودلفيس في سفح جبل البار ناس فكان الرب زيوس في دودون يجيب دعوة المضطرين بدوي أشجار البلوط المقدسة والرب أبولون كلن المستنصح في دلفيس وكأن يسري في مغارة من معبده من شق التراب مجرى نسيم طن اليونان أن الرب بعث به لأنه ما استنشقه إنسأن الا وخرف وجن ولذا وضعوا أثفية على شق الأرض وهي عبارة امرأة فتجلس على تلك الأثفية بعد أن تستحم في حمام مقدس وتقبل الإلهام فما هو إلا أن يأخذها شيء من البحرأن العصبي حتى تبدأ تصرخ أصوات وتتفوه بكلمات متقطعة فيتلقاها منها كهنة حولها فينظمونها شعراً ويقصونها على من جاء يستنصح فكان هتاف الغيب من بيسيا هذه مشوشاً ملتبساً. ولما سألها كريز وس. ولما سألها كريز وس عما إذا كان يجب عليه أن يشهر على الفرس حرباً أجابته بقولها (إن كريز وس يدمر مملكة عظيمة) ثم أن مملكة عظيمة تقوضت أركانها ولكنها كانت مملكة كريز وس. وكان(19/20)
للإسبارطيين ثقة عظمى بالبيسيا ولم يكونوا يسيرون حملة لهم من دون استشارتها وقد اقتدي بهم سائر اليونانيين وهكذا أصبحت دلفيس مبعث الهاتف الوطني.
الأمفكتيونيا - ألف اثنا عشر رجلاً من أعيأن الشعوب اليونانية جمعية سموها الأمفكتيونيا حباً بحماية قبر دلفيس فكان يجتمع نواب هذه الشعوب كل سنة في دلفيس للاحتفال بعيد أبولون وللنظر فيما إذا كان المعبد يخشى عليه من مد يد الأذى لإنه كان ثروة عظيمة ربما تدعو اللصوص أن ينبهوه. وقد صادر أهل سيرا وهي المدينة القريبة من دلفيس هذه الكنوز الثمينة في القرن السادس فأعلن عليهم أولئك الأعيأن المشار إليهم حرب من استباح الأمور المحظورة وخرق سياج المقدسات فأخذت سيرا وهدمت من أساسها وبيع سكانها بيع الرقيق وأصبحت أرضها كان لم تغن بالأمس.
ومع هذا فلا ينبغي أن يذهب ذاهب إلى أن مجمع الأمفكتيون أشبه في وقت من الأوقات مجلساً يونانياً. بلى أنه لم يعن إلا بمعبد أبولون لا بالشؤون السياسية وما قط ضرب على أيدي شعوب الأمفكتيون حتى لا يثيروا بينهم دواعي الشقاق فالهاتف الغيبي الأمفكتيونيا في دلفيس كان لهما حظ أوفر من سطوة الهاتفين والأمفكتونيين ولكنه ما ضم قط أشتات اليونانيين وجعلهم أمة قائمة برأسها.
إسبارطة
شعبها
لاكونيا - لما هاجم أهل الجبال من الدوريين شبه الجزيرة المورة نزلت أعظم عصابة منهم في مقاطعة إسبارطة ولا كونيا واد ضيق يشقه نهر عظيم يعرف بالاوروتاس يحيط بهما جبلان عظيمان غطيت قممها بالثلوج وقد وصفهما أحد الشعراء بقوله أيتها الأرض الغنية التربة المخصبة الرباع المتعذر استنباتها واستثمارها أيتها البلدة الجوفاء المحصورة بين جبال قائمة الكثيبة في منظرها المنيعة على هجمات المهاجمين وقد عاش الدور يون من الإسبارطيين في هذه البلاد الحصينة بين ظهراني سكانها القدماء فأصبح بعضهم رعايا وفريق عبيدهم وموإليهم وبهذا أنقسم سكان لا كونيا إلى ثلاث طبقات وهم الهيلوتيون والبيريكيون والإسبارطيون.
الهيلوتيون - سكنت هذه الطبقة من السكان أكواخاً منتشرة في الفلاة وأقاموا على حرث(19/21)
الأرض وزراعتها وما ملكوا الأراضي التي يعملون فيها ولم يكونوا مطلقين في مغادرتها وما كان حالهم في ذلك إلا حال عبيد القرون الوسطى مستأجرين تابعين للأرض خلفاً عن سلف عاملين لمالكها الإسبارطي وكان يتناول منهم أفضل قسم من غلاتهم. ولطالما احتقرهم الإسبارطيون وحاذروا بأسهم وأسأوا معاملتهم واضطرارهم إلى لبس ثياب غليظة وضربوهم بلا داع ليذكروهم أتهم عبيد وأرقاء. وربما أسكروهم في الآحايين لينفروا أبنائهم من السكر. وقد شبه أحد شعراء إسبارطة الهيلويينبحمر موقورة تكبو وتنوء تحت أعباء الأحمال وإعياء الضرب
والبيريكيون - سكنت هذه الفئة مئات من القرى في الجبال أو على الساحل وألفوا الأسفار البحرية واتجروا وصنعوا المواد الضرورية للحياة فكانوا أحراراً يدبرون شؤون مزارعهم بيد أنهم كانوا يؤدون ضريبة لحكام إسبارطة ويخضعون لهم.
حالة الإسبارطيين - أبغض الهيلوتيون والبيريكيون سادتهم الإسبارطيين يقول كسينوفون لم يكن لأحدهم عند ما تكلمه في شأن الإسبارطيين أن يكتم مبلغ سروره لو تسنى له أن يأكل الإسبارطيين أحياء. زلزلت إسبارطة ذات يوم وكادت تتداعى أركانها فما كان بأسرع من البرق حتى انهال الهيلوتيون من أطراف الفلاة ليقتلوا الإسبارطيين الناجين من الهلاك. ثم انتقض والبيريكيون وأبوا الخضوع. على أن الإسبارطيين كانوا من سوء السلوك بحيث يستحقون سخطهم. ولقد أمر الإسبارطيون عقيب حرب اشترك فيها كثير من الهيلوتيين في معسكراتهم أن ينتقموا من اشتهر منهم بالشجاعة ووعدهم أن يعتقوهم وكان هذا الوعد منهم حيلة ليعرفوا بها أشجعهم نفوساً وأجرأهم على إبداء نواجذ الثورة فإنتخب ألفإن منهم طافوا بهم أرجاء المعبد متوجة رؤوسهم إشارة إلى الحرية ثم أدخلهم الإسبارطيون في خبر كان ولم يعرف أحد كيف هلكوا على حين كان المضطهدون عشرة أضعاف موإليهم وما قط ربا الإسبارطيون على تسعة آلاف رب أسرة يقابلهم مائتا ألف من الهيلوتيين ومائة وعشرون ألفاً من البيريكيين واقتضى أن يعادل واحد من الإسبارطيين عشرة من موإليهم في مسائل القتل وإذ اعتادوا المصارعة قضت الحال بأن يكون أفرادهم أقوياء أشداء فكانت إسبارطة معسكراً لا جدار له وكان شعبها جيشاً على قدم الدفاع أبداً.
التربية(19/22)
الأولاد - يؤخذ أطفال هذه الأمة منذ ولادتهم ليكون وأحداً منهم أجناد فكل مولود يؤتى به أمام المجلس فإذا وجد ضعيفاً أشوه يعرضونه على مجلس لأن أحوالهم أوجبت أن لا يكون جيشهم مؤلفاً إلا من أرباب القوة والجلادة فمن يستحيونهم يؤخذون من أهلهم في السابعة من عمرهم ويربون مع أقرانهم كانهم أولاد جماعة فيرحلون عارية أقدامهم وليس على أبدانهم غير رداء واحد هو وقايتهم صيفاً وشتاءً وينامون على كدس من القصب ويغتسلون في المياه الباردة من نهر الأوروتاس ويقللون من الطعام ويزدردون كثيراً وأطعمتهم غليظة ليعتادوا أن لا يملئوا معدهم. ويقسمون إلى سرايا كل سرية مئة رجل ولكل منها زعيم. وكثيراً ما يريدونهم على التطاعن بالأرجل والأكف. ويساطون في عيد أرتيمس حتى تسيل دماؤهم أمام هيكله وربما مات بعضهم متأثراً من الضرب على أنهم قلما يستغيثون فيرون الشرف أن لا يرفعوا أصواتهم يريدون بذلك تدريبهم على أن يقتتلوا ويحتملوا العذاب والألم. وكثيراً ما يمنعون عنهم الطعام بتاتاً فيسرقون ما يقتاتون به فإذا خدعوا يضربون بالسياط ضرباً مبرحاً. وكان من أحد أولاد الإسبارطيين كما قيل وقد سرق ثعلباً وخبأه تحت ثوبه أن أثر جعل بطنه فريسة للثعلب ينهشه على افتضاح أمره وإظهار فعلته. وكان يراد تدريب الأولاد على حسن التخلص في الحروب فيسيرون غاضين أبصارهم ساكتين وأيديهم تحت ثيابهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة كانما على رؤوسهم الطير أمام الهيكل وكان عليهم أن لا يتكلموا على الطعام ويطيعوا كل من يلقونهم وذلك لكي يخضعونهم للنظام.
البنات - أما سائر اليونانيين فيحجبن بناتهم في البيوت ويشغلنهم بحياكة الصوف. أراد الإسبارطيون أن يقووا أجسام نسائهم ويجعلنهم من المقدرة بحيث يلدن الأقوياء من الأولاد فمن ثم كانوا يربون البنيين على غرار البنات إلا قليلاً. ولقد كانوا يتمرنون في رياضتهم على الركض والقفز ورمي الأطر والطعن بالحراب وقد وصف الشاعر ألعاباً كانت فيها البنات كالمهارة مسترسلة شعورهن والغبار نأثر وراءهن وقد اشتهر من أمرهن أنهن كن أصح نساء اليونان وأشجعهن.
التهذيب - حياة الرجال منظمة أيضاً كحياة الجند إذ قضت الحال عزائمهم أمام جمهور الأعداء فيكون الإسبارطي في السابعة عشرة سنة جندياً ويظل كذلك إلى الستين. فكأنت الأزياء وساعة القيام والمقام والطعام والرياضيات محددة بنظامات كما هو الحال في ثكنة(19/23)
الجند اليوم. فإذا لم يحارب الإسبارطي يستعد للحرب فيمرن نفسه على العدو القفز وحمل السلاح ويروض على كل حين عامة أطراف جسمه من عنقه وذراعيه وكتفيه وساقيه. ولا يحق له أن يتجر ولا يحترف ولا أن يحرث أرضاً فهو جندي وليس عليه أن يحيد عن مهمته بمعطاة أي عمل كان. وليس له أن يعيش في أسرته على هواه فإن الإسبارطيين يتنأولون الطعام زمراً زمراً ولا يخرجون من بلادهم إلا بأذن وهذا يعد من تنظيم جيش في ديار العدو.
الإيجاز بالكلام - قاسى هؤلاء المحاربون شظف العيش فكانت سجناتهم صفيفة تقرأ فيها العجب والخيلاء وكانوا يختزلون الكلام اختزالاً. وهذا ما يسمى بالكلام الموجز وبالإفرنجية (لا كونيك نسبة لمقاطعة لا كونيا وقد بقي منها هذا التعبير). فكأنت الحكومة تبعث إلى حامية على خطر من مباغتة العدو لها برسالة لا تكتب فيها سوى كلمة (الحذر) ولقد أخطر ملك الفرس جيشاً إسبارطيا أن يطرح سلاحه فأجابه القائد تعال خذه ولما استولى لزاندار على أثينة لم يكتب سوى هذه الجملة سقطت أثينة
الموسيقى والرقص - كأنت الأشغال لإسبارطة صنائع حرية بجيش. حمل الإسبارطيون معهم ضرباً من الموسيقى خاصة بهم كانت على جانب عظيم من الوقار والحماسة والكراهة في الإسماع وهي من ضروب الموسيقى العسكرية. فيروح الإسبارطيون إلى ساحة الوغى على نغمات المزمار ويسيرون على الإيقاع. ورقصهم عبارة عن استعراض قائد لجند فيرقص الراقصون الرقص العسكري المألوف ببلاد يونأن المدعو بالبيريك مسلحين ويتابعون عامة حركات القتال ويشيرون بالضرب والكر والفر والطعن بالحراب. بأس النساء - عرف النساء بتحميس الرجال على القتال واشتهرت أثار شجاعتهن في يونأن فكتب فيها المصنفات. وقد قتلت امرأة إسبارطية ولدها لفراره من الزحف قائلة إن نهر الأوروتاس لا يجري ليشرب منه الوعول ولما علمت إحدى نساء تلك البلاد إن خمسة أولاد لها هلكوا قالت ليس هذا ما أسألكم عنه فهلا كتب النصر لإسبارطة فلما أجيب بالإيجاب قالت إذا فلنحمد الآلهة ولنشكر لهم.
التربيات
الملوك والمجلس=للإسبارطيين أولاً كما سائر أبناء يونان ملوك ومجلس شيوخ ودار ندوة(19/24)
حفظت كل هذه التربيات ولكن من حيث الصورة فقط. فالملوك وهم من نسل المعبود هيرا كليس يشرفون ويكرمون ولهم حق التصدر في المواضع الأولى في المأدب ويقدم لهم من الطعام ما يكفي اثنين وإذا مات أحدهم يلبس جميع الرعايا عليه الحداد. بيد أنهم لم يتركوا لهم أدنى حكم بل يراقبونهم كل المراقبة. وكان مجلس النواب مؤلفاً من ثمانية وعشرين شيخاً منتخبين من العيال الغنية القديمة يقومون بما ندبوا إليه مدى الحياة ولكنهم لا يحكمون.
المفتشون - أن المفتشين (ايفور) هم السادة الحقيقيون في إسبارطة وهم خمسة حكام يتجدد انتخابهم كل عام ويناط بهم تقرير السلم والحرب وفصل القضايا. وهم يرأفقون الملك في قيادة الجيش فيديرون حركة الأعمال الحربية وكثيراً ما يريدونه على الرجعة من الحرب وهم في العادة يستشيرون أعضاء مجلس الشيوخ ويقررون ما ينبغي باتفاق آرائهم ثم يجمعون الإسبارطيون في إحدى الساحات ويطلعونهم على ما تم من القرار ويطلبون إليهم أن يصدقوا عليه أما الأمة فإنها تستحسن ما تم بالهتاف دون أن تناقش في أقل مسألة. ولا نعلم فيما هذه الحكومة حكومة إشراف مؤلفة من عدة أسرات حاكمة. فمن ثم لم تكن إسبارطة بلاد مساواة وكان فيها أناس يدعون أهل المساواة وذلك لأنهم كانوا سواء فيما بينهم أما غيرهم فيدعون المرؤوسين ولم يكن لهم شيء من الحكم البتة.
الجيش - بفضل هذه الطريقة في الحكم احتفظ في الإسبارطيون بأخلاقهم الجبلية فلم يكن عندهم نقاشون ولا مهندسون ولا خطباء ولا فلاسفة بل أنهم انصرفوا كلهم إلى الحروب وحذقوا علم الكر الفر أيما حذق وغدوا من المقننين لغيرهم من اليونانيين وأتوا العلم بعملين عظيمين أحسن طريقة في القتال وأحسن طريقة في التدريب.
المسلحون - كان اليونان قبلهم يسيرون إلى القتال بغير أنتظام فيمتطي الزعماء صهوات الخيول أو عجلات خفيفة ويتقدمون صفوف الحملات والناس يتبعونهم مشاة وقد تسلح كل منهم كما أراد وقد تفرقوا طرائق قدداً وليس في وسعهم أن يكونوا يداً واحدة في العمل أو في المقاومة. وما هو إلا أن يستحيل القتال إلى مبارزات ثم إلى مذابح. أما في إسبارطة فللمقاتلة بأجمعهم سلاح واحد وكانت وسائل دفاعهم درعاً يغطي النصف الأعلى والخوذة تقي الرأس والمسامي (الطما قات) تقي الساق والتروس تجعل في مقدمة الجسد. أما وسائل(19/25)
هجومهم فسيف قصير ورمح طويل. ويسمى المسلح على هذه الطريقة باسم ايبولت. والمسلحون من الإسبارطيين مقسمون إلى كتائب وسرايا وفرق وشراذم على سبيل مثال ترتيب جيوشنا لهذا العهد إلا قليلا. فكان الضابط يقود إحدى هذه العصابات ويبلغ رجاله أوأمر الرئيس بحيث أنه يتأتى للقائد العام أن يوحد حركة الجيش كله. وهذه الطريقة التي نراها سهلة هي بالنسبة لليونان أبدع عجيب.
مصاف الجيش - متى بلغ الجند مقدمة الأعداء يأخذون مصافهم في العادة على ثمانية صفوف متقاربين بعضهم من بعض مؤلفين من جموع متكاثفة تدعى حجافل ومصافاًًً ويقدم الملك وهو قائد الجيش عنزة على سبيل النذر للأرباب وإذا تفاءلوا بأحشاء الذبيحة تفاءلاً حسناً يبدأ جماعة من الجند يرددون لحناً وعندئذ تهتز صفوفهم فيباغتون أعداءهم مسرعين على الإيقاع ونغمات المزمار والرمح يعلو والترس على الجسد فيحملون عليهم وصفوفهم متراصة فينكسون أعلامه بجموعهم ووثوبهم ويهز مونه ويقفون حالاً لئلا يقطع مصافهم وأنه ليتسنى لكل جندي أن يحمي أخاه ما دام سير الجيش كتفاً إلى كتف فيكون بذلك كالبنيأن المرصوص يتعذر على العدو أن يجد إلى حرفة خرقه سبيلا. نعم أن هذه التعبئة كثيفة في ذاتها ولكنها كانت تكفي لغلبة جيش مشوش وقلما يقاوم ناس منفردون مثل تلك الجموع ولقد فهم سائر اليونان هذا الأمر فاقتدوا جميعهم بالإسبارطيين ما ساعدتهم المكنة فكان جندهم حيثما حلوا مدججين بالسلاح وقاتلوا حجافل وكتائب متراصة.
الرياضة الجسمية=اقتضى تدريب رجال خفاف ليتسنى مهاجمة العدو مثل تلك الصفوف وتنكيس لأول وقعة فكان على جندي أن يحسن البراز والصراع فمن ثم الإسبارطيون الرياضات البدنية واقتدى بهم سائر اليونانيين فأصبحت الرياضة عملاً من أعمال الأمة كافة. وأكثر أعمالها اعتباراً ما يكلل صاحبه في الأعياد العظيمة. عرفت إحدى المدن في البلاد النائية بين بربراة الغول أو البحر الأسود وثبت أنها يونانية إذ كان لها ملعب للأعمال الرياضية. وكان هذا الملعب قطعة مربعة عظيمة تحيط بها أروقة أو دهاليز وهي على الأغلب على مقربة من نبع وله حمامات وقاعات للتمرين في هذا الملعب عامين على الأقل يختلفون إليه كل يوم يتعلمون القفز والركض ورمي الإطار وضرب الحراب ويتصارعون بوسط الجسد لتقوية العضلات والجلد وينغمسون في البارد ويطلون أبدانهم(19/26)
بالزيت ويتمسحون بمسحة.
المصارعون=معظم الإسبارطيين يقضون عامة حياتهم في ممارسة هذه التمرينات إباء ومروءة فلا يعتمون أن يصبحوا مصارعين وقد وفق بعضهم إلى بعضهم إلى أن تمت على أيديهم خوارق ويقال أن ميلون من مدينة كروتون في إيطاليا كان يحمل ثوراً على كتفه ويوقف عجلة وهي راكضة بأن يمسكها من خلفها. ولقد كان هؤلاء المصارعون يخدمون في الحروب خدمة الأجناد وكثيراً ما يقومون بقيادة الزحوف وبهذا صح قولنا أن الرياضات البدنية بمثابة تدريب على الحرب.
أعمال الإسبارطيين=تعلم الإسبارطيين من اليونانيين التروض والقتال وجاء منهم مصارعون أقوياء أشداء وجند منظم وعرفوا بهذه الميزة في بلاد اليونان وكانوا من أجل ذلك يحترمون في كل مكان. ولما قضي على سائر الشعوب اليونانية أن تقاتل الفرس مجتمعة تحت راية واحدة لم يستنكفوا من اتخاذ الإسبارطيين زعماءهم. قال خطيب أثيني وكان هذا الأمر بحجة صحيحة واستحقاق تام.(19/27)
ألكني يا ضياء
أجدك يا كواكب لا ترينا ... بياناً منك يخبرنا اليقينا
كان العالم العلوي سفر ... نطالعه ولسنا مفصحينا
نحاول منه إعراب المعاني ... بتأويل فنرجع معجيبنا
كواكب في المجرة غائمات ... حكت في البحر فسحتها السفينا
سرت زهر النجوم وما دارها ... فلاسفة مضت ومنجمونا
شموس في السماء علت وجلت ... فظنوا في حقيقتها الظنونا
سوابح في الفضاء لها شؤون ... ولما يعلموا تلك الشؤونا
وما ارتجفت بجنح الليل إلا ... لتضحك فيه مما يزعمونا
لعل لهنا بهذا الجو شأنا ... سوى ما نحن فيه مرجوما
تلوح على الدجى متلألئات ... فتبهج في تلألوها العيونا
وأني يدرك الرائي مداها ... وأن القي لها نظراً شفونا
تود الغانيات إذا رأتها ... لو انتظمت لها عقداً ثمينا
تقلده على اللبات منها ... وتطرح الدماج والبرينا
ألكني يا ضياء إلى الدراري ... رسالة مسهر فيها الجفونا
لعلك راجع منها جوابا ... يزيل عماية المتحيرينا
فقل أني تحير فيك فكري ... كذلك تحير المتفكرينا
فيا أم النجوم وأنت أم ... أيولد فيك كالأرض البنونا
وهل فيك الحياة لها وجود ... فيمكن للردى بك أن يكونا
وهل بك مثل هذه الأرض أرض ... وفيها مثلنا متخالفونا
وهل هم مثلنا خلقا وخلقا ... هناك فيأكلون ويشربونا
وهل هم في الديانة من خلاف ... نصارى أو يهود ومسلمونا
وهل حسبت بك الأيام حتى ... تألف من تعاقبها السنونا
وهل بالموت نحن إذا خرجنا ... عن الأجساد نحوك مرتقونا
فتبقى عندك الأرواح منا ... تصأن فلا ترى جفناً وهونا
فأجيب بالمنون إذا وأحبب ... بها إن كان علمك المنونا(19/28)
أبيني ما وراءك يا دراري ... فنحن نخالة بعداً شطونا
قد اتسع الفضاء لك اتساعا ... فهل أبعاده بك ينتهينا
وصغرك ابتعادك فيه حتى ... إليك استشرف المتسوفونا
فهل كان ابتعادك من دلال ... علينا أم بعدت لتخدعينا
خوالد في فضائك أنت أم قد ... يحل بك الفناء فتذهبينا
وقالوا ما لعدتك انتهاء ... فهل صدقوا أو ارتكبوا المجونا
وقالوا الأرض بنتك غير مين ... فهل أبناء بنتك يصدقونا
وقالوا أن والدك المفدى ... أثير في الفضاء أبى السكونا
ترصدك الأنام وما أتانا ... بعلم كيانك المتر صدونا
(فهرشل) ما شقى منا غليلا ... ولا (غاليل) أنبأنا اليقينا
و (كلبر) قد هدى أو كاد لما ... أبانك يا نجوم تجاذبينا
إلى كم نحن نلبس فيك لبسا ... ومن جرارك ندرع الظنونا
لعل النجم في إحدى الليالي ... سيبعث للورى نورا مبينا
تقوم له الهواتف قائلات ... خذوا عني النهي ودعوا الجنونا
بغداد
معروف الرصافي(19/29)
خرائب مدينة بمبي
كان اسم بمبي يطلق في القرون الخالية على مدينة أنشأها الرومأن في سفح جبل يزوف (في إيطاليا) مدينة توفرت فيها دواعي الهناء فأحبها عظماء البلاد وأصحاب الوظائف العليا فكانت مباءتهم في تلك الجنة. شادوا قصورا يختلفون إليها في الأحايين ليسروا عن أنفسهم الهموم ويجددوا ما فقدوا من قومهم في مشاغل السياسة.
ومما كان يزيد جمال تلك المدينة أنهم كانوا يزينون جدران بيوتها ومنازلها بأنواع النقوش الملونة بالأنواع السبعة المعروفة وفي آخر كل الشوارع كان نبع يجلس بجانبه المرء وأمامه الحدائق الغناء يشرف على بحر الروم وتتجلى له المناظر البديعة فيخال أنه في جنأن السماء ويتمنى لو يبقى هناك أبد الدهر. إلى هناك كان الناس يتقاطرون فرادى وأزواجا فيفرح المكروب كربته ويتناسى المنكوب نكبته ويزيد عدد المتنزهين يوم تروق السماء فيجتمعون على تباين المشرب وقد تحلى بعضهم بالملابس الأرجوانية وجلس الآخر على مقاعد الرخام يستظلون فكان البيت في تلك المدينة كقصر صغير لا يقل في فخامته عن القصور هذا الزمان أو هياكل أسلافنا الأولين.
كانت مساكن عظماء الرومأن في بمبي مثال الرونق والجمال ونموذج الأبهة والكمال على أحد تلك القصور زائر فيجتاز المدخل المزين بالعمد الكثيرة ثم يأتي الردهة العظمى التي كان صاحب المنزل يستقبل الضيوف فيها بالحفاوة والإكرام ويصغي إلى شكاوي المظلومين ويسمع مصانعات المنأفقين وفيها كان يودع ماله يضعه في صناديق الحديد ويكل أمره إلى رب المنزل. ثم يفضي المتفرج إلى غرفة أخرى قد دقت أرضها بالفسيفساء وزخرفت حيطانها بالنقوش وأنواع الصور ورصعت بالفصوص الذهبية والياقوت وسائر أنواع المعادن الثمينة وفيها يحفظون سجلات الأسر وأخبارها لأول أمرهم وكان في المنزل غرف متعددة مهيأة لتنأول الغذاء وحجر للنوم مزوقة مزخرفة وغرف أخرى تجعل فيها العاديات والأحجار الكريمة.
ثم ينتهي المتفرج إلى غرفة واسعة أعدت لمحاكمة المذنبين وهذه تفضل سائر الغرف لأنها كانت على حديقة وفيها جميع أنواع المبهجات فمن ثمر يفتن النواظر بألوانه المتفاوتة ومن ينأبيع تنبعث مياهها إلى كل صوب وتلطف الهواء ينشأ عنها أصوات تشنف الإذان ومن أوان خزفية زرعت فيها نادرة الوجود وإلى جانب هذه وضع بعض أنصاب الرجال(19/30)
العظماء وكأنت النقوش على حوائط القصر تمثل بعض المشاهد في أساطير اليونان كالاستيلاء على أوروبا ووقعة لامازون وكثير من هذه المناظر لا يزال محفوظاً في متحف نابولي المشهور. وصوروا على أرباب القصر صورة كلب وكتبوا في أسفلها احترز من الكلب إشارة إلى أسطورة من أساطيرهم. وكانت تلف عمد المحكمة بأكاليل صنعت من الزهور تبدل كل صباح. والموائد كان يعمل أكثرها من شجر الليمون الحامض وتزين بالنقوش العربية وكانوا يهتمون جداً بالأسرة فيصنعونها من النحاس والذهب والجواهر ويضعون فيها المساند الكثيفة ويزوقونها بشغل الإبرة الذي لم يفقهم فيه أحد.
وكان صاحب القصر إذا أدب مأدبة لأهل الوجاهة والمكانة لا يألوا جهده في تجهيز كل ما من شأنه إبهاج الزائر فيجلس الضيوف على مقاعد الردهة متكئين على المساند ثم يغسلون أيديهم في الأواني الفضية وينشفونها بالمناشف الملونة بصباغ الأرجوان ثم يتنأولون الأطعمة ويأكلون الفواكه الموضوعة في أوعية ذهبية. وكانوا يأتون في أشد أيام الحر بالثلج ويستعملونه على الأخونة لتبريد الماء وإنعاش الجسم.
وكان من يريدون كؤوس الخمر على الحضور في خلال المأدبة يقدمون لهم من أفخر خمور الدنيا وفريق آخر من الخدم يرقصون لأتراب الزائرين وأصحاب الغناء يوقعون الألحان ويغنون شيئا من أغاني هورس أو انقر يون وإذا انتهت الوليمة تنبعث المياه العطرة بغتة من قساطل لا ترى فتؤرخ كل ما تحويه الردهة وتنتعش نفوس الجماعة ثم تبرز موائد أخرى وقد فرشت عليها صنوف الطعام فتعيد قابلية الضيوف ويأكلون ما لذ لهم أكله ثم تختفي هذه الموائد وتبرز بدلا منها موائد أخرى يلعب عليها بعض أعضاء مجلس الأعيان والقنأصل والحكام بالنرد فيخسرون الممالك والمقاطعات بهذه اللعبة أو يربحون. هذا الفساد يقوم به زمرة طرأ على أمة الرومأن في ابتداء هبوطها. ويعقب هذه المشاهد مشهد الرقص يقوم به زمرة من الفتيات يدهشن الناظرين بما يأتينه من التفنن في ضروب الرقص الغريب ويغنين من الأغاني ما يسبي القلوب ويلعب بالعواطف والنفوس.
هكذا كانت أحوال بمبي في القرن الأول بعد الميلاد يؤمها المتنزهون من أطراف البلاد ويفضلونها على منازه الدنيا. طرأت عليها نازلة جائحة في الثالث والعشرين من شهر أغسطس عام تسعة وسبعين والناس فيها في الملاهي دهمتهم طوارق الحدثان وثار بركان(19/31)
في ظهيرة ذلك النهار وطفق يقذف الرماد والحمم من جوف الأرض ويدفعها إلى المدينة فطبق الدخان من كل ناحية. دخان كثيف أسود كالقار أحال صفاء المكان ظلمة مدلهمة فعقبه أنين وعويل وشتائم المنكوبين بعضهم بعضا في ساعة أضاع فيها الأخ أخته والعروس عروسه والزوج زوجته والأم ولدها في آن تعذر على الأنام أن ينظروا من الموجودات سوى لمعان كان يلمع من قمة البركان.
فمادت الأرض بسكانها من أركانها وبدأت المنازل تهدم وأصحابها يستجيرون ولا مجير فيرحم والبحر يتراجع عن اليابسة كانه ارتعد فرقاً من ثوران بركان يزوف وهيجانه وكشف الهواء بما أنقذف إليه من الغبار ثم تراكمت كل هذه المقذوفات وحملت إلى المدينة فطمرتها ومحتها من هذا الوجود.
أدرك أهلها الموت وهم منغمسون في لذائذ الحياة فهلك الضيوف في ردهات القصور وربات الحجال في الخدود والجند في ثكنتهم والسجناء في محابسهم ومطابقهم والأرقاء بقرب الينأبيع حيث كانوا يتنزهون وأصحاب التجارة وهم يبيعون السلع في مخازنهم وطلبة العلم وهم بين المحابر والدفاتر وحاول بعضهم الهرب فقادهم العميأن الذين تعودوا السير في حالك الظلمات فبغتهم البوار وانقلب الناس من المدن المجاورة إلى بمبي بعد تلك النازلة ببضعة أيام فلم يلفوا هنالك سوى بقعة مغطاة بالرماد وفي الأعماق طمر ألوف من البشر ورقدوا رقاداً لم يعقبه قيام. طمروا فطمرت معهم لذائذ هم وعفت من بعدهم الأثار مدينتهم وتقوضت معالمها. وقد تسنى لها في القرن الثامن عشر أشخاص تمحضوا لدراسة الأثار فطفقوا ينقبون في تلك البقعة وبعد أن تكبدوا المشاق وجدوا المدينة في الحالة التي طمرت بها فبعض المنازل لم يزل ثابتاً وبعض النقوش لا تزال ظاهرة وهياكل الموتى موجودة في الأماكن التي أدرك الموت أصحابها فيها منذ عهد سحيق فالسجين لم يزل مغلولاً بالأغلال والعروس لابسة سلاسل الذهب والأساور والشحيح قابضاً على درهمه والكهنة مختبئين في أجواف تماثيل أربابهم المجوفة ليخدعوا أتباعهم إلى ما آخر ما هنالك من المناظر المدهشة والمشاهد المذهلة. هذه أثار دولة الرومأن التي خفق نسرها في كل جو وعقدت رايتها في كل أرض فكانك في دراستك أثار بمبي تستطلع أخبار الرومان أيام كانوا في أعلى ذرى رقيهم وسيطرتهم وتتجلى لك مظاهر حضارتهم منذ ظهورهم مضافة(19/32)
إليها مظاهر التمدن اليوناني التي نقلها الرومان عن اليونان والمظاهر التي اقتبسها هؤلاء عن أمم المشرق التي كان في القدم الكعب الأعلى في العمران وقد انقرضت كانها لم تكن تلك سنة الكون تغير دائم تصدق على جميع العوالم ولا تزال تفعل في هذه الموجودات حتى ترجع بها إلى العدم كما كان عليه الحال في غابر الأزمان.
يافا
خليل الخوري(19/33)
قصيدة مجهولة للسموأل
نشرت بعض المجلات والجرائد العربية منذ بضعة أشهر قصيدة نسبها الناشر الأول وهو الأستاذ مر جليوث الإنكليزي إلى السمو أل الشهير ثم وجدت منها نسخة ثانية في الموصل أصح رواية من الأولى. ثم وجدت منها نسخة ثالثة أصح من السابقتين في بغداد. وذلك بينما أنا أبحث في كتبي على أحد شعراء بغداد في القرن المنصرم ورد ذكره في مخطوط نفيس عندي فعثرت على قصيدة السمو أل ولما أنعمت النظر فيها وجدتها قليلة الضرائر الشعرية والأغلاط النحوية وألفيتها تختلف الرواية عن النسختين المذكورتين فجئت أتحف بها قراء المقتبس واصفاً لهم المخطوط مع بعض الانتقاد لهذه المنظومة.
وردت القصيدة في الصفحة 174 من مخطوطنا وقد ترجمت بهذا العنوان. هذه القصيدة للسمو أل من بني قريظة لا للسمو أل من بني غسان وإليك الآن نصها:
ألا أيها الضيف الذي عاب سادتي ... ألا أسمع جوأبي لست عنك بغافل
ألا أسمع لفخر يترك القلب مولهاً ... وينشب ناراً في الضلوع الدواخل
فأحصي مزايا سادة بشواهد ... قد اختارهم رحمانهم للدلائل
قد اختارهم عقماً عواقر للورى ... ومن ثم ولأهم سنام القبائل
من النار والقربان والمحن التي ... لها استسلموا حب العلا المتكامل
فهذا خليل صير النار حوله ... رياحين جنات الغصون الذوابل
وهذا ذبيح قد فداه بكبشه ... يراه بديها لا نتاج الثياتل
وهذا رئيس مجتبى تم صفوه ... وسماه إسرائيل بكر الأوائل
ومن نسله السامي أبو الفضل يوسف ال ... ذي أشبع الأسباط قمح السنابل
وصار بمصر بعد فرعون أمره ... بتعبير أحلام لحل المشاكل
ومن بعد أحقاب نسوا ما أتي لهم ... من الخير والنصر العظيم الفوأصل
ألسنا بني مصر المنكة التي ... لنا ضربت مصر بعشر مناكل
ألسنا بني البحر المفرق والتي ... لنا غرق الفرعون يوم التحامل
وأخرجه المبدي إلى الشعب كي يرى ... أعاجيبه مع جودة المتوأصل
وكيما يفوزوا بالغنيمة أهلها ... من الذهب الإبريز فوق الحمائل
ألسنا بني القدس الذي نصبت لهم ... غمام تقيهم في جميع المراحل(19/34)
من الشمس والأمطار كانت صيانة ... تجير نواديهم نزول الغوائل
ألسنا بني السلوى مع المن والذي ... لهم فجر الصوان عذب المنأهل
على عدد الأسباط تجري عيونها ... فراتاً زلالا طعمه غير حائل
وقد مكثوا في البر عمراً مجدداً ... يغديهم العالي بخير المآكل
فلم يبل ثوب من لباس عليهم ... ولم يحوجوا للنعل كل المنازل
وأرسل نوراً كالعمود أمامهم ... ينير الدجى كالصبح غير مزايل
ألسنا بني الطور المقدس والذي ... تدخدخ للجبار يوم الزلازل
ومن هيبته الرحمان دك تذللاً ... فشرفه الباري على كل طائل
وناجي عليه عبده وكليمه ... فقد سنا للرب يوم التبأهل آه
فمن قابل بين هذه الراوية الروايتين الأوليين اللتين يحكم أن أصبح من تينك. وأن هذه نقلت عن أصل أصدق رواية من النسختين اللتين أخذت عنهما الروايتأن الإفرنجية والموصلية. يظهر ذلك من مقابلة بعض الألفاظ مثلاً قد ورد في القصيدتين الأوليين هذا البيت:
فهذا خليل صير الناس حوله ... رياحين جنات الغصون الذوابل
فهذا لا معنى له وهو محرف والأصح ما في نسختنا أيصير النار حوله وورد أيضاً في النسختين: بتعبير تدبير لحل المشاكل والتدبير لا يعبر وإنما تعبر الرؤى والأحلام ومنه ما أنشده المبرد في الكامل لبعض الأعراب:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
وعليه فإن روايتنا أصح أيضاً في هذا البيت وقول النسختين:
ومن الشمس والأمطار كانت صيانة ... تجيز عسا كرهم لهوف الغوائل
فهذا مكسور البيت فضلاً عن اضطراب معناه في قولهلهوف الغوائل والأصح ما جاء في روايتنا تجيز (بالراء المهملة) نواديهم نزول الغوائل لأن الغوائل تنزل بالمرء وبهذا المبنى والمعنى ورد أغلب كلام العرب كما هو مشهور وجاء في النسختين:
وأرسل نوراً كالعمود أمامهم ... ينير الرجا كالصبح لا غير مزائل
فهذا البيت لا يخلو من المعنى. لكن من لا يرى أن هذا البيت مصحف الرواية وأن(19/35)
الصحيح ينير الدجى بالدال المهملة لا بالراء كما يتضح لأدنى تأمل.
وأما البيت الأول على أن النسختين فلا يخلو من معنى بقوله: ألا أيها الصنف لكن نوع التصحيف فيه باد لكل ذي عينين والأصح ألا أيها الضيف أما ناظم هذه القصيدة قط أنها للسمو أل بن عاديا فأين هذا الشعر من قوله:
تغيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها أن الكرام قليل. . . الخ
ففي هذا النظم من محكم المبني ومتانة المعنى ما لا يرى أثر في القصيدة ولعل سبب وهم الناس في نسبتها إلى السمو أل بن عاديا. توأفق في اسم ناظم آخر عرف باسم السمو أل لأن هذا الاسم يوأفق شموئيل وشموئيل أو شيمل ورد لألوف من اليهود ففي نسبتها إلى واحد من بني قريظة أمكان لأن هؤلاء محقوا بعد الإسلام بقليل أما لأنهم دانوا بالإسلام أو لأنهم هجروا وطنهم ولحقوا بإخوانهم خارج بلاد العرب فلم يصل إلينا من شعرهم إلا النزر القليل وعلى كل فليس هذا من نظمهم أو نظم بعضهم لأن تعبير النصرانية الحديثظاهر من خلال النظم يشف عن حداثة وضعه لأن ورود كي وكيما في الشعر الجاهلي قليل نادر وهاتأن اللفظتان قد وردتا تباعاً في هذين البيتين:
وأخرجه المبدي إلى الشعب كي برى ... أعاجيبه مع جودة المتوأصل
وكيما يفوزوا بالغنيمة أهلها ... من الدهر الإبريز فوق الحمائل
ثم انظر ماذا قوله:
ألا اسمع لفخر يترك القلب مولهاً=وينشب ناراً في الضلوع الدواخل
فهل من ضلوع تكون خوارج حتى تنشب النار في الدواخل منها. فلا غرو أن في هذا التعبير لغواً وتكلفاً ولا تأتيهما واحد من أهل الجاهلية ولو أردنا أن نقبل الروايتين الأوليين فلا يمكننا إلا أن نضرب بهذا النظم عرض الحائط إذ فيهما من الأغلاط الفظيعة ما لا يرتكبه أضعف طلبة المدارس في يومنا هذا فكيف يعزى إلى ناظم بليغ كالسمو أل ابن عاديا الغساني.
ومما يشهد أن يداً غريبة تصرفت بهذه الأبيات البيت الأخير الذي ورد في القصيدة الموصلية ولم يرد في الرواية الإفرنجية ولا في الرواية البغدادية وهو هذا:
وفي آخر الأزمان جاء مسيحنا ... فأهدى بني الدنيا التكامل(19/36)
فما معنى سلام التكامل ثم أننا إذا قررنا بنسبة هذه الأبيات إلى السمو أل المشهور وهو يهودي فح كما تشهد عليه جميع كتب العرب فلا يمكن أن يقول مثل هذا الكلام وكذلك إذا نسبناه إلى يهودي أخر. فلا جرم أن ناظم هذا البيت الأخير مسيحي النحلة لإقراره بمجيء المسيح ولأنه زاد هذا البيت بدون أن ينظر إلى التسلسل التشأبيه والرموز فجاء به تهجماً بدون أدنى مراعاة لما ورد قبله ولو قيل لنا أن السمو أل بن عاديا كان من غسان وغسان كلها نصارى قلنا أن السمو أل كان مسيحياً فجميع مؤرخي العرب وكتبهم وأديارهم فضلاً عن أن غسأن لم تكن كلها على النصرانية مخالفون لها فقد كان فيهم من يعبد الأصنام ومن أوثانهم مناة. قال ياقوت في معجمه: هذا الاسم اسم صنم في جهة البحر مما يلي قديداً بالمشلل على سبعة أميال من المدينة. وكأنت الأزد وغسان يهللون له من جهة البحر ويحجون إليه وكان أول من نصبه عمرو بن لحي الخزاعي. . . ومنهم من كان على دين دهماء العرب كسطيح بن ذئب الكاهن فلم يكن نصرانياً البتة. وقد جاء في تاريخ اليعقوبي 1: 297 - (كانت تلبية غسان عند قومهم وقوفها أمام صنمها لبيك رب غسان راجلها والفرسان) وقال في ص298 (وتهود قوم غسان) وقال في ص299 (وتنصر. . . غسان وهذا كلام يدل على النصرانية واليهودية كانتا في غسأن لا النصرانية وحدها) وقال الطبري في تاريخه 1: 176 (وكان الحارث بن أبي شمر الغساني نذر سيفين وثنياً مشركاًُ وكل من وقف على النسختين السابقتين وعلى نسختنا يعرف بنفسه يعرف بنفسه ما في نسبة هذه القصيدة إلى السمو أل من الشطط. أما اسم مخطوطنا فهونيل السعود في ترجمة الوزير داود كتب في سنة 1232 وعدد صفحاته المكتوبة والبيضاء 314 وطول الصفحة 21 سنتيمتراً في عرض 13 وهو مصحف أحمر ومزين بخطين أحمرين مزدوجين وفي الوسط خطان متآزران على بعد سنتمتر والقرطاس المخطوط من النوع المسمى بالترمذي المشهور عند العامة بالترمة. وتبتدئ الصفحة الثالثة بقصيدة لناظمها في مديحه الملا جواد البصير يمدح بها والي بغداد والبصرة وشهر زور داود باشا ثم تليها عدة قصائد في مديحه أيضاً بخط حسن وهي لعدة شعراء عراقيين مجهولين اليوم لا نعرفهم إلا مما بقي مدوناً من قريضهم في هذه المجموعة وهذا وحده كاف لأن يعرفك منزلة هذا الديوان النفيس إذ بواسطته نعرف عدة شعراء عراقيين من بصريين وحلين وبغداديين وغيرهم.(19/37)
وقد بلغت عدة القصائد في مديح الوزير ستاً وسبعين ثم يتلوها قصائد أخرى مختارة من نظم الأقدمين والمولدين ومعاصري الكاتب ثم يتلو ذلك منتجات من كتب الحديث والأدب والأقوال المشهورة مختلفة الموضوعات والأغراض وكلها من أنيق النثر والنظم ومما يزري ضياء حسنة ببهاء النجم وأغلب ما جاء في هذا الديوان لم أعثر عليه في الكتب المطبوعة. جمعه مؤلفه من عدة كتب مخطوطة عزيزة المنال. ومما فيه أبواب الأحاديات والثنائيات والثلاثيات ثم ديوان مرتب القوافي على حروف المعجم لعدة شعراء وكلها قصائد غراء آخر قصيدة منها دالية لأبن حجة. ومن الغريب ما هذا الديوان بيت شعر لبديع الزمان وهو يقرأ من أحد عشر وجهاً وهو من أغرب ما جاء في هذا الصدد ونحن نورده هنا لما فيه من الغرابة. ودونك إياه بنصه ومواقع الحبر الأحمر منه.
(كفى) نا بأنا في زمان مذمم ... يذاد عن الحق المبين ويدفع
(حزناً) أنا نزور معاشراً ... فنهمل فيما بينهم ونضيع
(أني) أقول مقالة ... فيمنعني منها اللئيم ويقمع
(بدار) أرذال ... قلوبهم غيظاً علي تقطع
(مذلة) ... وليس بها حراً من الناس ينفع
(أرى) كل من فيها عن الحق يدفع
(الذل) فيها دائماً ليس يقطع
(من) إرجائها يتنوع
(أ) كنافها يتسرع
(ملاكها) يتفرع
(يتوقع)
وفي الوجه الثاني من هذا الديوان صور لبعض الرسائل التي دارت بين خأن الحويرة ورستم أغا بشأن معركة البصرة سنة 1156 وهي من الأثار التاريخية التي يحرص عليها الباحث كل الحرص لأنها لا توجد في غير هذا الكتاب النفيس وتقع في أربع قوائم ونيف مشتبكة السطور محبوكة الحروف وفي الصفحة 313 قصيدة للسيد عبد الغفار الموصلي مكتوبة بقلمه على ورقة طيارة فأخذها وهو من مشاهير شعراء القرن الماضي. وهذه(19/38)
القصيدة هي الدرة الثمينة لأنها هي وحدها محفوظة بخطه فلا يحفظ من خطه غيرها وبها يختم الكتاب الضخم وليس في صفحة من صفحاتها ذكر اسم جامعه.(19/39)
صحف منسية
كتاب الاشربة - لابن قتيبة
عني بنشره المسيو أرتوركي
أحد علماء المشرقيات
قال العتيبي شعراً ذكر فيه كثيراً من مقابح السكر: (بسيط)
دع النبيذ عدلاً وإن كثرت ... فيك العيوب وقل ما شئت
هو المشيد بأسرار الرجال فما ... يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا
كم زلة من كريم ظل يشهرها ... من دونها تستر الأبواب والكلل
أضحت كنار على علياء موقدة ... ما يستسر لها ولا جبل
والعقل علق مصون لو يباع لقد ... الفيت يباعه يعطون ما سألوا
فأعجب لقوم منأهم في عقولهم
و ... أن يذهبوها بعل بعده نهل
قد عقدت لخمار السكر ألسنهم ... عن الصواب ولم يصبح بها علل
وأزرت بستأن النوم أعينهم ... كان أحداقها حول وما حولوا
تخال رائحهم من بعد غدوته ... حبلى أضر بها في مشيها الحبل
فإن تكلم لم يقصد لحاجته ... وإن مشى قلت مجنون به خيل
قالوا وإنما قيل لمشارب الرجل نديمه من الندامة لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه وفعل فقيل لمن شاربه نادمه لأنه فعل مثل فعله والمفعلة تكون من اثنين كما تقول ضاربه وشاتمه ثم اشتق من ذلك نديم كما يقال جالسه وهو جليس وقاعده فهو قعيد ويدل على قول هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة: فيها أنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة. وحدثنا عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه أنه قرأ فيما قرأ من الكتب أن الله تعالى لما لعن إبليس وأخرجه من الجنة قال: يا رب لعنتني وجعلتني شيطاناً رجيماً وأنزلت الكتب وعثت الرسل فما رسلي؟ قال: رسلك الكهنة. قال: فما كتأبي؟ قال: الوشم. قال: فما حديثي؟ قال: حديثك الكذب. قال: فما قراءتي؟ قال: قراءتك الشعر. قال: فما مؤذني؟ قال: مؤذنك المزأمير. قال: فما مسجدي؟ قال: مسجدك السوق. قال: فما بيتي؟ قال: بيتك الحمام. قال: فما طعامي؟ قال: طعامك كل ما لم اسمي عليه. قال: فما شرأبي؟(19/40)
قال: شرابك كل مسكر. قال: فما مصائدي؟ قال مصائدي؟ قال: مصائدك النساء.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن ارطاة حين تتابعت الأخبار عليه تتابع الناس في الاشربة المسكرة على التأويل: أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الشراب أمر ساءت فيه رغبة الناس حتى بلغت بهم الدم الحرام والمال الحرام والفرج الحرام وهم يقولون شربنا شراباً لا بأس به وإن شارباً حمل الناس على هذا لبأس شديد وأثم عظيم وقد جعل الله عنه مندوحة وسعة من أشربة كثيرة ليس في الأنفس منها حاجة: الماء العذب واللبن والعسل والسويق وأشربه كثيرة من نبيذ التمر والزبيب في أسقيه الأدم التي لا زفت فيها فإنه بلغني عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النبيذ الظروف المز فتة وعن الدنان والجرار وكان يقول: كل مسكر حرام. فاستغنوا بما أحل الله عما حرم فإنه من شرب بعد من شرب بعد تقدمنا إليه أوجعناه عقوبة ومن استحق ومن استخفى فالله أشد بأساً وأشد تنكيلاً.
وحدثني القطعي عن الحجاج عن حماد بن سلمه عن حميد عن الحسن: قال إذا دخلت على أخيك فكل ما أطعمك وأشرب مما سقاك. قال: يا أبا سعيد أنهم ينتبذ ون في الجرم فقال: أو يفعلون؟ قال وقد شهر المتعاشرون على الشراب بسوء العهد وقلة الحفاظ وأنهم أصدقاؤك ما استغنيت حتى تفتقر وما عوفيت حتى تنكب وما غلت دنانك حتى تنزف وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك قال الشاعر
أرى كل قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم
إخاؤهمو ما دارت الكأس بينهم ... وكلهمو رث الوصال سؤوم
فهذا ثباتي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم
وقال آخر
بلوت النبيذ يين في كل بلدة ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظ
إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... وأن فقدوها فالوجوه غلاظ
مواعيدهم ريح لمن يعدونه ... بها قطعوا برد الشتاء وقاظوا
بطان إذا ما الليل ألقى رواقه ... وقد أخذوها فالبطون كظاظ(19/41)
يراع إذا ما كان يوم كريهة ... وأسد إذا أكل التريد فظاظ
وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله. وقال المأمون لقوم: يا نظف الخمار ومرابع الصؤور وأشباه الخول وقال مسلم بن قتيبة: أن ال فلان أعلاج أو باش لئام غدر شاربون بانقع ثم هذا يعد في نفسه نظفه خمار في رحم طاحد وربما بلغت جناية الكأس زوال النعمة وسقوط المرتبة وتلف النفس فإن الرجل ربما استخلصه السلطان لمنادمته وأدخله موضع آنسة فيزين له الكأس غمزة القينة والعبث بالخادم والتعرض للحرمة وقال المأمون: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء إفشاء السر والقدح في الملك والتعرض للحرم. وقد بلغك من ذلك ما لا أحتاج إلى ذكره وقديماً بلي المعاقرون بمثل هذا من جرائر الكأس. وقد كان عمرو بن هند طرفة الذي استخلص طرفة بن العبد لندامته فبينما هو يوماً يشرب أشرفت أخته عليهما فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده فقال (هزج)
ألا (يا) أيها الظبي ... الذي يرق شنفاه
ولولا الملك الق ... د قد ألثمني فاه
سمعه عمرو بن هند فكتب له كتأبا إلى عامله بالبحرين وأوهمه أنه أمر له فيه بجائزة وأمر العامل بقتله فلما ورد على العامل سقاه من الرياح حتى أمله ثم فصد أكحله حتى نزف فمات فقبره هناك مشهور يشرب عنده الأحداث ويصبون فضل كؤوسهم عليه.
وروي رجلاً من طي نزل من شيبأن يقال له المكاء فذبح له الطائي شاة وسقاه من الخمر فلما سكر الطائي قال للشيباني هلم أفاخرك أطيء أكرم أم شيبان؟ فقال له الشيباني: حديث حسن المدامة ومنادمة كريمة أحب إلينا من الفخار. فقال الطائي: لا والله ما مد رجل يداً أطول من يدي! ومد يده. فقال له الشيباني: أما والله لئن أعدتها لأخضبنها من كوعها! فأعاد فضربه الشيباني فقتله أبو زبيد في ذلك لبني شيبان (خفيف)
خبرتنا الركبان أن قد فخرتم ... أفرحتم بضربة المكاء
ولعمري لعارها كان أدنى ... لكم من تقى وحق وفاء
ظل ضيفاً أخوكم لأخينا ... في صبوح ونعمة وشواء
ثم لما رآه به الخم ... ر إلا تربية باتقاء
لم يهب حرمة النديم وحفت ... يا لقوم بالسوأة السواء(19/42)
قال: وربما طمس الخمار على العقل وربما بالبيان وغير الخلقة فعظم أنف الرجل وحمر وترهل. قال جرير في الأخطل
وشربت بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدنان كان أنفك دمل
شبهه بالدمل لحمرته وورمه. وقال أخر في حماد الرواية
نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلوته حماد
هدلت مشافره الدنان وجهه فبياضه يوم الحساب سواد
وأبيض من شرب المدامة وجهه=فبياضه يوم الحساب سواد
قالوا: ومن شربة نبيذ الشطار والخلعاء والمجأن فحملهم الكأس على المجون ويحملهم المجون على ركوب الكبائر معلنين وإتيأن الفواحش مجاهرين ويرون أتم ذلك لذة أظهره وأنقصه مسرة أستره فقال قائلهم
فيج باسم ما تأتي من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر
وربما كفروا بالله مجوناً وكذبوا الرسل وجحدوا بالنشور والبعث في حال شربهم. قال الوليد
قربا مني خليلي ... عبدلا دون الشعار
واسقياني وابن حرب ... واسترانا بالإزار
فلقد أيقنت أني ... غير مبعوث لنار
سأروض الناس حتى ... يركبوا دين الحمار
واتركا من طلب الج ... نة يسعى في خسار
وهذا الشعر مما استحل به دمه وقال روح المعروف بابن همام (خفيف)
اسقني يا أسامة ... من رحيق مدامة
اسقنيها فإني ... كافر بالقيامة
وهو القائل: وإنما الموت بيضة العقر
وقال أبو نواس
تعلل بالمنى إذ أنت حي ... وبعد الموت من لبن وخمر
حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو
وقال قائل أيضاً (خفيف)(19/43)
فدعاني وما ألذ وأهوى ... واقذفإني في بحر يوم الحساب
وهو القائل أيضاً يصف الخمر
عتقت في الدن حتى ... هي في رقة ديني
وحدثنا دعبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشيص وأبو نواس في مجلس لهم فقال لهم أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه ولهذا اليوم ما بعد فليأت كل أمرئ منكم بأحسن ما قال فأنشدناه فأنشد أبو الشيص
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي طائعاً ... يا من يهون عليك ممن يكرم
قال فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر حتى ما يكاد يقضي عجبه وأنشد مسلم أبياتاً من شعره الذي يقول فيه (بسيط)
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كانه أجل يسعى إلى أمل
قال: فقال لي أبو نواس هات يا أبا علي وكانني بك وقد جئتنا بأم القلادة
لا تعجني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
فقلت: كانك كنت في نفسي ثم سألوه أن ينشدهم فأنشدهم (بسيط)
لا تبك ليلى وتطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
فلما بلغ إلى قوله
تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فمالك من سكرين من بد
قاموا فسجدوا له فقال: افعملتوها أعجمية لا كلمتكم ثلاثاً ولا ثلاثاً ولا ثلاثاً. ثم قال: تسعة في هجرة الإخوان كثير وفي هجرة بعض يوم استصلاح للفاسد وعقوبة على الهفوة. ثم التفت إلينا فقال: علمتم أن رجلاً عتب على أخ له في بعض المودة فكتب إليه المعتوب عليه: أن أيام العمر أقل من أن تحتمل الهجر. فهذه جرائر السكر قد ذكرنا منها ما حضرنا وهي أكثر من أن نحيط بها. قالوا: وشاهدنا على أن اسكر والخمر شيء واحد من اللغة أن الخمر ما خمر والمسكر يخمر فاسم الخمر يلزمه ووجدنأهم يقولون لمن أعتقب الصداع(19/44)
وغلث النفس والإرعاش من شرب الخمر مخمور وبه خمار ويقولون لمن أصابه مثل ذلك من المسكر الذي يسمونه نبيذاً مخمور وبه الخمار مأخوذ من الخمر وهو اسم للداء الذي يصيب منها والأدواء كثير تأتي على فعال نحو كباد لوجع الكبد والقلاب لوجع القلب والصفار والصداع والبوال ولا عطاس ولم نسمعهم يقولون لمن أصابه ذلك منبوذ أو نباذ. فهذا ما للمغلظين فيه من القول والحجج. ونذكر ما للمطلقين له من الحجج والقول.
حجج المحلين لما دون السكر
قال المطلقون: إنما حرمت الخمر التي أجمع الناس على صفتها وكيفيتها بعينها وما سوى ذلك كائناً ما كان نبيذ ما دون المسكر منه حلال فسووا بين النقيع والطبيخ والحديث والعتيق والتمر والزبيب والمفرد والخليطين والسهل والشديد وما اتخذ من عصير العنب إذا ذهب بالثلثين - لأنه جاء في الحديث أن الثلثين حظ الشيطان - ورد عليه الماء واحتجوا بحديث ابن عباس: حدثنا زيد بن اخزم قال حدثنا أبو داود عن شعبة عن مسعر ابن كدام عن أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس أنه قال: حزمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب. وبحديث رواه يحيى بن اليماني عن الثوري عن المنصور عن خالد عن أبي مسعود الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش وهو يطوف في البيت فأتى نبيذ من السقاية فقطب فدعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه فشرب فقال له رجل أخر أمر هو يا رسول الله؟ قال: لا. وحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن أبي عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف وهو شاك وهو راكب معه محجن كلما مر بالحجر استلمه بالمحجن حتى إذا قضى طوافه نزل فصلى ركعتين ثم أتى السقاية فقال: اسقوني من هذا فقال له العباس: ألا نسقيك مما نصنع في البيوت؟ قال: لا ولكن أسقوني مما يشرب الناس. فأتى بقدح من نبيذ فذاقه فقطب فقال: هلموا فصبوا فيه ماء ثم قال: زد فيه! مرتين أو ثلاثاً ثم قال: إذا صنعأحد منكم هكذا فاصنعوا به هكذا. وبحديث يرويه وكيع عن ابن أبي خالد عن قرة العجلي عن عبد الملك بن أبي أخي القعقاع بن شوز عن ابن عمر أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بقدح فيه شراب فقربه إلى فيه ثم رده فقال بعض جلسائه أحرام هو يا رسول الله؟ فقال ردوه. فرده ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب وقال: انظروا هذه(19/45)
الاشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء. وبحديث رواه عبد الله ابن الفضل عن أبي غالب الضبيعي حابس بن محمد عن أبي جرير عن عطاء أن عمر وقف على السقاية فوضع يده على بطنه فقال: هل من شراب فإني أجد في بطني غمزا. فأتى بشربة من السقاية فسربها ثم قال: أخرى. فأتي بها ثم ثالثة فشرب منها ثم دعا بسجل - وربما قال: بذنوب - فشج الإناء بالماء حتى فاض نواحيه ثم قال: عباد الله كل شراب استخرج ماؤه بمائة فهو حرام لا تشربوه وكل شراب استخرج ماؤه بغير مائه فهو حل اشربوه. مع أحاديث كثيرة واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام. فإن هذا منسوخ نسخة شربة الصلب يوم حجة الوداع. قالوا: ومن الدليل على إنه كان نهى وفد عبد القيس عن شرب المسكر ثم وفدوا إليه بعد فرأهم مصفرة ألوانهم سيئة أحوالهم فسألهم عن قصتهم فأعلموه أن ذلك لائتمارهم بما أمرهم به من ترك شرابهم فأذن لهم في شربه. وبأن ابن مسعود قال: شهدت التحريم وشهدتم التحليل وغبتم بإنه كان يشرب الصلب من نبيذ الكوفيون وجعلوه أعظم حججهم. قال بعض الشعراء (بسيط)
من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في جوف خأبية ماء العناقيد
أني لإكراه تشديد الرواة لنا ... فيه ويعجبني قول ابن مسعود
وإنما عنى الطلا وهو ما طبخ من عصير العنب حتى يذهب ثلثاه ويرد عليه الماء وكان كثير من الكوفيين يشربونه. وحدثني محمد بن خالد بن خداش عن مسلم بن قتيبة. قال: حدثنا حمزة بن الزيات قال: رأيت الحكم بشرب الخمر طلا جعلت أعجب من رقته وكان يهدي لإبرأهيمبختج خأثر فكان نبيذه ويلقي فيه العطر وبأن عمر كان يشرب على طعامه الصلب ويقول هذا اللحم في بطوننا وشرب نبيذاً كاد يصير خلاً وماء التمر وماء الزبيب لا يكاد أن يكون خلاً حتى يكون خلاً حتى يكون نبيذاً ثم يدخلهما شيء من الفساد من غير أن يصير خلاً لأن كاد في كلام العرب هم أن يفعل ولم يفعل وقد قال قوم أنه شرب خلاً والخل لا يسمى نبيذاً ولا يسمى شراباً لأنه ليس مما يشرب ومن ذا شرب الخل من الناس للذة أو منفعة فيشربه عمر؟ وقال الشعبي شرب إعرأبي من أدواة عمر فإنتشى فحده عمر وإنما على السكر لا على الشرب ودخل على قوم يشربون ويوقدون في الاختصاص(19/46)
فأوقدتم. فقال لهم: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم ونهيتكم عن الإيقاد في الاختصاص فأوقدتم. وهم بتأديبهم فقالوا مهلاً: هاتان بهاتين. وانصرف عنهم. وإنما نهأهم عن المعاقرة وهي إدمأن الشرب. حتى يسكروا ولم ينههم عن الشرب. وأصل المعاقرة وهي إدمأن الشرب حتى الشرب. وأصل المعاقرة من عقر الحوض وهو الشاربة وكذلك قال الأشج لبنيه: لا تبسروا ولا تبخلوا ولا تعاقروا فتسكروا ولو كلن ما شربوا عنده خمراً لحدهم كما حد ابنه في الخمر. وبلغه عن عامله بد ستميسان أنه قال
الأهل أتى الحسناء أن خليلها ... بميسأن يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصناجة تحدو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتألم
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجو سق المتهدم
فقال أنه والله ليسوءني ذلك والله لا عملت لي عملا! وعزله. وقالوا: فإنما أنكر عليه الندامة وشربه بالكبير والصنج والرقص وشغله باللهو عما يشغله إليه ولو كان ما شرب عنده خمراً لحده.(19/47)
سير العلم
التغذية بالفاكهة
كاد أكلة الفاكهة ينازعون بمذهبهم في الغرب أكلة البقول فهم يعتمدون على الفواكه والثمار ويحرجون كل الحرج في استعمال غذاء غيرها وقد نشر المسيو كوليو بحثاً في هذا الشأن أثبت فيه أن الاكتفاء بالثمار يكفي البنية الإنسانية. قالت المجلة المنقول عنها ومعلوم أن الأمر في التغذية معلق على كمية الكالوري الموجودة في الطعام فإن المرء الذي يتغذى تغذية حسنة على أوسط تعديل 110 غرامات من الألبومين و60 غرأما من الدهن و422 غراماً من هيدروات الكربون وإلى 200 من الكالوري. ويرى الباحث المشار إليه أن الإغتذاء بالثمار يقوم مقام هذه المواد المغذية فالثمار ذات البزور والنوى والحب والثمار الناشفة والمائية والسكرية كلها نافعة واختلاف أنواعها يعوض عن اختلاف الأطعمة والثمار الحامضة تفتح القابلية وما في تلك الثمار من المائية يقوم مقام المياه المعدنية ولم تعلم إلى الآن تأثيرات الثمار في مداواة الأمراض اللهم إلا العنب فقد ثبت نفعه في كثير منها وكيف كأنت الحال فإن الاعتدال في تنأول الثمار نافع والمرء إذا اقتصر على الأجاص والتفاح يأمن الجراثيم والعدوى من كثير من الأمراض.
ورق جديد
لم يكن ينتفع بسوق جمع الساق القطن انتفاعاً يذكر من قبل وقد اكتشف الآن طريقة لتحليلها والانتفاع بها كالانتفاع بحملها فاستخرج ورق منها كالورق الذي يستخرج من القطن نفسه ومن لحاء الشجر. وقد فرح أهل العلم بهذا الاكتشاف لما أن ورق مهدد بارتفاع الأسعار لأن الولايات المتحدة وكندا أخذتا تشددان في منع قطع الغابات فلا يتيسر بعد مدة الانتفاع بلحائها الذي كأن يستخدم في صنع الورق ويقدرون أن سوق شجيرات القطن تبلغ من عشرة إلى أثني عشر مليون طن في العالم كل سنة ولعله يكون وراء ذلك رخص الورق الذي يكون أعون على نشر العلم كما كأنت الطباعة بعد النسخ.
السعال في المعابد
من دخل المعابد والمساجد في ساعات الوعظ والخطب وقد غصت بالمستمعين لا يلبث أن يسمع شخصاً يسعل حتى يتبعه غيره كانما عداء وكثيراً ما شوهد أن بعض الخطباء(19/48)
والوعاظ اضطروا إلى السكوت ريثما يفرغ الحضور من سعالهم وهذه العدوى التي تصيب المصلين والمستمعين كالتثاوب الذي يعزو ركاب الحوافل والسكك الحديدية. وقد بحث أحد علماء الأميركيأن في علة السعال فرأى أن الضغط إذا اشتد على الأذن من كثرة الكلام يؤثر في الحنجرة فيكون منه السعال إلا أن الباحثين لم يقنعهم هذا التعليل وظلوا ينكرونه ويتابعون النظر في علته.
مركبات كهربائية
ستنشأ قريباً كهربائية سنة1906 58975000طن منها 25500000 من الولايات المتحدة 12490000 من ألمانيا و10450000 من إنكلترا و32270000 من فرنسا و 2340000 من البلجيك و628000 من كندا و5340000 من الممالك الأخرى وقد كان ما استخرج في العالم سنة 1870 - 12 مليون وما استخرج سنة 1880 18 مليون طن وسنة 1890 - 27 مليون طن.
علائم السل
اختلفت الأفكار في معرفة هذا المرض المصاب بهذا الداء وذلك بشق الجلد شقاً سطحياً صغيراً وفركه بسدادة مغطسة ببضع نقاط من مصل كوخ المضاد للسل فإذا لم يكن المرء مصاباً بهذا المرض يلتحم الشق بدون أن يصاب بشيء وإذا كان به مرض تخرج على سطح الجلد دمله صغيرة تصير بعد بضعة أيام بثرة تشبه التطعيم. وقد جرب هذا الاكتشاف فظهرت صحته.
إدبار الكتاب
يشكو الكتاب الإنكليز منذ حين من عدم إقبال الناس على ما يكتبون إقبالهم عليه قديماً وقالوا أن تأثير المؤلفين أخذ في التناقض وقد نسبوا ذلك لانتشار الأدبيات العامية في الناس حيناً بعد آخر فأفسدوا الذوق العام ولكن النقاد يرون أن الذنب على الكتاب فإنهم إذا لم يجدوا من يستحسن مكتو بهم فذلك إما لأنهم تصقلوا في كتاباتهم أو لأنهم رفعوها بحيث علت عن مفهوم القراء ثم الشعراء والقصصيين أنشئوا يحيدون عن الحياة العادية الطبيعية وراحوا يتشبثون بأذيال الجمال في مسطورهم فخرجوا بذلك عن مطلق الأدب إلى مطلق التفنن وقد كان الإقبال يتم لكارلايل وأمير سون ورو سكين وجورج اليوت قديماً لأن من(19/49)
الناس من وأفقوهم ومنهم من خالفوهم أما المؤلفون المحدثون فلم يتبعوا تلك الطريقة ولذلك آن أن يتكلم العلماء لغة تدخل الإذان بلا استئذان وتفعل في القلوب الفعل المطلوب.
تبادل التعليم
نمت جمعية تبادل الأطفال والشبان من أمم مختلفة نمواً عدة علماء الاجتماع الخطوة الأولى نحو السلام العام. ويرجع الفضل في أصل تأسيس هذه الجمعية للأستاذ توني ماتيو من أهل باريس فأته رأى أن اختلاط أطفال أمة بأمة أخرى مما ينزع العداوات من الصدور ويقرب بين الأجناس المختلفة فقد أرسلت جمعية لأول عهد تأسيسها منذ أربع سنين 25 ولداً فرنسياً يتلقون العلم في البلدان الأجنبية وزاد عدد من أرسلتهم في السنة الماضية إلى 116 طفلاً وقد ذهب أربعة أخماسهم إلى ألمانيا ليعودوا منها وقد أشربت قلوبهم محبة أقرانهم الذين يدرسون وإيأهم في مدارسها حتى إذا شبوا وشابوا يعملون على ما فيه نفع الأمتين.
التعليم في الريف
ابتاعت مدينة أركاشون في فرنسا 34 فداناً في غابة على ضفة البحر تبني بها مدرسة تجهيزية يدخلها من يريدون من الأولاد أن يتعلموا في هواء نقي لا تشوبه شوائب المدن ومفاسدها. قالت المجلة التي عربنا عنها: وأنشأ هذه المدرسة هو في الحقيقة بدء عهد في تطبيق مبدأ في الفلاة التي يرجى أن يكثر عددها في أرجاء فرنسا الأربعة.
الهواء والعاملات
عرف أناس من أهل الإحسأن في مدينة كمبري الفرنسية بأن الهواء للأبدإن خير دواء فأسسوا جميعه لإرسال النساء والفتيات ممن يحتجن إلى الراحة والاستمتاع بالهواء الطلق إلى الخلايا وأخذوا يرسلون منهن إلى جبال سافوا ولا تدفع الواحدة ثمن طعامها وإيوائها في اليوم سوى قرشين وهو مما لا يصعب على النساء العاملات أن تدفعه.
الزمنى والشواذ
فتحت في إحدى مدارس باريس صفوف خاصة بالأولاد الزمنى وشواذ الخلق إذ تبين أن في فرنسا 120 ألف طفل وفتى كانوا يحرمون من التعليم لعاهات طرأت على أجسامهم(19/50)
فجعلتهم من شواذ الخلق وأنهم إذا لم يكن لهم صفوف خاصة بهم يحرمون من نعمة العلم.
الأسنان الصناعية
كان أطباء الأسنان قبلاً يتولون صنع الأسنأن الصناعية بأنفسهم لتجيء متناسبة مع الأسنأن الطبيعية الباقية محفوظة في شكلها وحجمها أما الأن فقد تولت المعامل ذلك فأخذت تصنع بمئات الألوف ما يلائم كل أضراس والثنايا والأنياب فخفت بذلك مئونة التعب على أطباء الأسنان وأعظم معمل للأسنأن الصناعية في العالم معمل فيلادلفيا فإنه يرسل في السنة إلى أقطار الولايات المتحدة وسائر أنحاء العالم من أسنانه بالملايين وقد عهد إلى النساء خاصة في صنع الأسنأن فيدرين على عملها منذ نعومة أظفارهن وأجورهن حسنة ولكن تعلم صناعتهن صعب ولاسيما فيما يتعلق بوضع الألوان.
نبات الأحجار الكريمة
ذكرت إحدى المجلات العلمية أن من خصائص نباتات جزائر الفيليبين أن يوجد فيها أحجار كريمة ومن جملة النباتات التي يستخرج منها نوع من الخيزران يعرف بالربا سهير ففيه ضرب من الأحجار الثمينة يشبه الأحجار المعروفة ولكنه أغلى منها قيمة لأنه أندر وليس في جميع جذوع هذا النبات أحجار بل أنك قد تبحث في ألوف منها حتى تظفر بذاك الحجر ولونه وردي يضرب إلى الخضرة ويوجد منه في بعض أنواع النارجيل في سيلان ولا يكون كبيراً في العادة بل هو صغير يختلف حجمه رأس دبوس إلى حجم الحمصة. وفي حكومة الفلبين وفي بعض المتاحف بأوروبا بضعة أحجار من هذا النوع وهي تفاخر وتحرص عليها كما تحرص حكومة الفلبين الآف على أمثالها من الخيزور.
واقية من البرد
معلوم أن بعضهم يعمد إلى إطلاق مدفع أو بندقية أو قذيفة لوقاية أشجاره ومزروعاته من البرد وقد أدعى أحدهم الآن أنه اخترع مناطيد صغيرة تشبه المناطيد المستعملة في رصد الأحداث الجوية للتحليق في الجو وإطلاق قذائف منها ذكر صورة لاستعمالها ولا يزال الأمل قوياً في نتيجة هذا الاختراع ولعله يكون منه ما ينفع كما ينفع الشاري قضيب الصاعقة في اتقاء الصواعق.
بريد كهربائي(19/51)
شرعوا في برلين ينشئون طريقاً كهربائياً تحت الأرض لتربط مكاتب البريد بمحطات السكك الحديد مباشرة فيمد بين المحطات والمكاتب مجاز ضيق عرضه 5 سنتيمتراً وعوه متر ونصف تسير فيه قاطرات كهربائية صغيرة لحمل البريد فيها من ست إلى سبع قطارات بحيث لا يتعذر عليها أن تجتاز الخطوط المستديرة. وستطلى جوانب هذا المجاز بالملاط منعاً للرطوبة. وبهذه الطريقة يرسل البريد بسرعة زائدة على وجه مضمون أكثر مما كان يرسل.
الأرمن في أميركا
كتبت مجلة المجلات الإنكليزية مقالة ذكرت قيها ما بلغه الأرمن من الارتقاء في الولايات المتحدة بفضل كدهم وإقدامهم فقالت أنهم اتخذوها ميداناً لبضائعهم وأعمالهم وقد أفلحوا بحيث أصبح في وسعهم أن يرسلوا إلى أخوانهم في البلاد العثمانية خمسمائة ألف فرنك اعانة لهم وفي الولايات المتحدة خمس جرائد أسبوعية تصدر بالأرمينية وخمسة وخمسون منهم يدعون إلى دينهم وفي كلية بال الجامعة خمسون تلميذاً منهم يتعلمون على اختلاف ضروبها وقد نزل الأرمن في معظم تلك البلاد فهم في كليفرنيا يعنون بزراعة الأشجار المثمرة وفي نيويورك يتعاطون أعمال اليد على اختلاف أنواعها.
نفقات التعليم
قدروا أنه بلغ مجموع النفقات على التعليم العام في ميزانية إنكلترا عشرة في المئة وستة في المئة في فرنسا وألمانيا اثنين بالمائة وفي روسيا قال أحد الروسيين وإذا أسقطنا من نفقات التعليم في روسيا ما يصرف منها على التعليم العالي والثانوي لا يبقى إلا ستة بالألف يصرف على التعليم الابتدائي وليس في روسيا سوى مائتي ألف مدرسة لتعليم الفلاحين وهي بإدارة الرهبان وذلك عدا المدارس الوزارية القليلة وهناك مدارس تابعة لنظارة الداخلية أو الحربية خاصة بأولاد الممتازين وكل هذه المدارس تكلف الأمة مائة ونصفاً في المئة من مجموع الميزانية وفي روسيا مئة مليون من الرجال والنساء لا يقرؤون ولا يكتبون وقد طلب إلى الندوة الروسية أن تزيد ميزانية المعارف سبعة ملايين روبل.
المجرمات(19/52)
ذكرت إحدى المجلات اللندية أن عدد المجرمين في فرنسا هو أربعة أضعاف عدد المجرمات. وإن نسبة المجرمين إلى المجرمات في الولايات المتحدة كنسبة 1 إلى 12. أما في إنكلترا فإن المجرمات كثيرات ولاسيما اللائي يرتكبن الجرائم الكبرى وسبب ذلك قلة الاعتدال وتعاطي المسكرات فقد بلغ عدد الأحكام الصادرة على النساء في إنكلترا سنة 1878 م 54347 حكما من أجل تعاطيهن المسكر فارتفع سنة 1904 م إلى 60211 حكماً وحكم على كثيراًت لأنهن ضربن سكة زائفة.
المطالبات بحق الانتخاب
قالت المجلة أن المطالبات بحقوقهن في الانتخاب من النساء - كما ينتخب الرجال - يعملن في ألمانيا والسويد ونروج والدينمارك وإيطاليا على نحو ما يعمل بنات جنسهن في بريطانيا وأن فرنسا متقهقرة في هذا المعنى وليس فيها منتخبات وقد ألفت الجمعيات النسائية الكثيرة تحألفاً عاماً يجمع بين المطالبات بهذا الحق على اختلاف الدول وذلك بزعامة عقيلة أميركية اسمها كات وللنساء الهولنديات المطالبات بهذا الحق مجلة شهرية لهذا الغرض.(19/53)
العدد 20 - بتاريخ: 15 - 9 - 1907(/)
صدور المشارقة والمغاربة
تولستوي
ما خلت كل أمة ولا كل عصر من وجود مصلح أو مجدد يقوم بين قومه بالوعظ والإرشاد ويأخذ بيدها في مهيع السداد. تساوت في ذلك الأمم المنحطة والناهضة قديمها وحديثها شرقيها وغربيها. وتولستوي هو رجل روسيا اليوم ومجدد حياتها الاجتماعية سعى إلى الإصلاح فأثرت حكمته في عقول مئات ممن استعدت نفوسهم لقبول الخير فما عتموا أن بثوا أفكاره في مئات وأشربت القلوب محبته وأكبرت الأمم دعوته. ولا يزال على ما أصاب بلاده من رفع وخفض يمتع النظر بما يجري في القرب والبعد فهو اليوم في التاسعة والسبعين من عمره قتل الدهر علماً ونحر الأيام فهما كانت جملة ما استفادة من تجارب وعلم وما ورثه من آبائه من مال وضياع وفقاً على أمته وما ينهضها من عثرتها.
من العادة أن يترجم كبار العلماء أنفسهم في كل أمة. وقد طلب من الحكيم الروسي أحد أصدقائه منذ مدة أن يوافيه بترجمة حياته أو يدله على طريقة يتسنى له بها أن يجمع موادها فكتب إليه شيئاً من أحواله صبياً ويافعاً وذكر له بيته ومنشأه وهما أساس في تربية ملكات الرجال. قال ما نعربه عن إحدى المجلات الإفرنجية: فكرت في أجابة طلبتك فرايتني في تيهاء من الحيرة يتنازعني عاملان عامل شر وعامل أشر منه. وأعني بالأول إعجاب المرء بنفسه والإغضاء عما أتاه من المفاسد في حياته وأريد بالثاني الانطلاق في الحرية المفرطة وإيراد مظالم بأسرها. إن خلصت في وصف نذالتي وغفلتي ومفاسدي وانطلقت وتجوزت في إبدائه على نحو ما أنطلق الفيلسوف روسو في هذا المعنى يأتي ذلك كتاب أو مقال يخلب الألباب. فهل نلام نحن ضعاف الفطرة من البشر إذا كنا أنذلاً مثله وأني لا أنكر عندما بدأت أذكر حياتي وقد تمثلت أمامي غفلتي ولؤمي وذهبت بي الهواجس كل مذهب ورحت أقول في نفسي أنا ذاك الرجل الذي يطريني كثيرون على ما بي من شقاء وبلاهة. ولك أن تفسر قولي هذا بأني أكثر احتيالا من غيري - أقول لك هذا القول بحرية ولا أقوله لأجمل به إنشائي. من أجل هذا إلى تسطير ترجمتي لأني رأيت من اللازم اللازب أن للملأ لؤم حياتي بأسره إلى أن تنبهت من غفلتي وأن أذكر محاسنها بعد أنتباهي.(20/1)
ذكرت بادئ بدء الحسنات في حياتي ولكني لما فكرت في الحوادث المكررة التي انتابتني في غضونها رأيت أن مثل هذا هذه الترجمة أن لم تكن كلها كذباً لم تكن كلها مكتوبة بإخلاص لأني مثلت فيها المناحي الحسنة وأسدلت حجاب السكوت على المناحي السيئة وعندما فكرت في كتابه الحقيقة على بابها دون أكتم منها شيئاً من السيئات التي تخللت حياتي ذعرت مما يكون لهذه الترجمة من التأثير في الأذهان وفي ذلك مرضت وعاودني الفكر خلال هذه العطلة التي ساقني إليها حكم الاضطرار وبقي يتردد في خاطري ذكرى ولكنها كانت مفزعة. وكنت أشعر لا توصف بما قاله بوشكين الشاعر في قصيدتهالذكرى
ذاقت نفسي عذاب الجحيم لما ذكرت لؤم حياتي الماضية ولم أعد أفارق تلك الذكرى بتة فإنها سمعت حياتي وكدرت سربي وشربي. جرت العادة أن يأسف الناس على نسيان ما جرى لهم بعد موتهم فيا ما أسعد ذلك من حال. ولبيت شعري أي أوصاب كانت تنالني في هذه الحياة لو ذكرت كل ما تعذب به وجداني وكل ما ارتكبه من أثم في حياتي السالفة ومن ذكر الخير كان عليه أن يذكر الشر. فيا سعدي أن نسيت ذكرى ما شقيت به بعد موتي من ذات نفسي غير الوجدان ذاك الوجدان الذي يمثل الخير والشر والصغير والكبير والسلبي والإيجأبي.
نعم إذا غربت الذكرى عن الذهن عد ذلك نعمة كبرى وما دمت تتردد في الخاطر لا يتأتي أن يعيش المرء مسروراً ولكن إذا غابت صورتها ندخل ميدان الحياة وصحيفتنا بيضاء نقية فيكتب عليها ما جد لنا من الخير والشر.
وبعد فلم تكن حياتي كلها منحطة المقام في خبثها بل كان منها عشرون سنة كذلك ومعلوم أيضاً أن حياتي في ذلك الدور لم تكن شراً دائما كما تمثلت في عيني في غضون مرضي إذ قد تنبهت في ذلك أميال نحو الخير لم تطل كثيراً بل أطفئت شعلتها للحال بما دهمني من الشهوات التي لم يضبطها عنان.
على أن اشتعال الفكر على هذا النحو في خلال مرضي دلني في دلالة صريحة على أن ترجمة الإنسان نفسه على ما تكتب في العادة التراجم إذا أغضيت فيها عن نذالتي وجريمتي في حياتي تكون ولا جرم كذباً وإن خير الأساليب التي يتوخاها الكاتب في ترجمته أن ينطق بالحقيقة على جليتها. وأمثال هذه التراجم هي التي تمثل الحقيقة على(20/2)
بابها للقارئ وإن أورثت كاتبها الخجل.
فلما ذكرت ماضي حياتي على النحو أي ذكرت ما أتيت من خير وما تم على يدي من شرر أيتني أقسم أدوار حياتي الطويلة إلى أربعة أدوار: أولها ذاك الدور العجيب وخصوصاً إذا قيس بالدور الذي يليه - البار البهيج الشعري وأعني به دور الطفولية. ثم الدور الثاني وهو العشرون سنة كان فيه من الفساد الغليظ والخدمة والطمع بالمعالي وخصوصاً في المكاسب ما كان. ثم جاء الدور الثالث وهو الثماني عشرة سنة أي منذ تزوجت إلى نشوري الروحي وهو الدور الذي يحق له أن يدعى في نظر العالم دور الأخلاق بمعنى أني عشت في هذه الثماني عشرة سنة كما تعيش الأسر بالحشمة والنظام غير مستسلم لمفسدة ينبذها الناس ولكن جميع مصالحي كانت مقصورة على عنايتي بأسرتي عناية مقرونة بحب الذات ممزوجة بالأنانية وعلى زيادة ثروتي وعلى نجاحي الأدبي وعلى مختلف حظوظ تنالها نفسي والدور الرابع يرد إلى العشرين سنة التي فيها أنا الآن وأود أن أموت عليها وبها يتمثل لي في الحياة الماضية من عظيم الخطر وهو الدور الذي لا أبغي سواه ما خلا اعتيادي الشر الذي اندمج في روحي في الأدوار الأخيرة.
وأرى كتابة حياتي على هذا النحو أنفع من هذر بدر من القلم في أثني عشر مجلداً من مصنفاتي وتنأولها الناس في عهدنا ونسبوا إليها من التأثير ما لا تستحقه.
كانت جدتي ابنة الأمير نقولا ايفإنوفيش غورتشاكوف الأعمى وكان غنياً تأثل وأرتاش وجمع حطام الدنيا شيئاً كثيراً. وكل ما أتصوره فيها أنها كانت قليلة التعلم كثيرة الذكاء وكانت مثل كثيراًت من أبناء وطنها على ذاك العهد تحسن الفرنسية أكثر من الروسية وكأن تعلمها عبارة عن معرفة هذه اللغة فقط فدللها والدها أولاً ثم زوجها وكانت عنواناً على الأسرة بأجمعها لأنها كانت بكرها وموضوع احترامهم أجمعين. وكان جدي على ما ظهر لي أيضاً على شاكلة جدتي محدود المعرفة ولكنه كان من اللطف والأنس على جانب وقد أدى به الكرم إلى الإسراف الذي بلغ حد الحمق. وكان بثقة يخلص وكانت في مقاطعة بيليف في بولياني ميدان الولائم وتمثيل الروايات والمراقص والمأدب ويضاف إلى ما يقتضي ذلك من النفقات ولوع جدي بالمقأمرة على ضعف معرفته فيها مع ما كان مني من إقراض كل من يقصده دراهم ما كان يرجعها إليه. هذا إلى الأعمال الكثيرة التي باشرها(20/3)
فإنتهت كلها بخراب بيته وإفلاسه حتى باع أملاك زوجه واضطر إلى التوظف فصار للحال والياً لقازان. ذكروا لي أن جدي لم يكن يقبل الرشى ما خلا رشوات من عملة الأكحول وهي الرشوة التي ما كانت تستنكر إذ ذاك في كل ناحية من أنحاء الأمبراطورية الروسية ولكن قيل لي أن جدتي كانت تقبل الرشوة بدون اطلاع جدي وهكذا دامت الحال حتى زوجت ابنتها الثانية في قازان والبكر في بطرسبرج من أحد الإشراف وبعد أن قضى زوجها نحبه سكنت جدتي لدى والدي في اياسنيا بوليانا وهناك أدركتها شيخه عجوزة وكانت تحب والدي وأولاده وتتلهى بنا كما تتلهى بخالاتي. وظهرانها لم تكن تحب والدتي لأنها كانت تحب جدتي دون قدر والدي وتحسدها على حب والدي لها. وأذكر أن جدتي ساحتنا معها إلى موسكو وأهم ما يخالج فكري من ذلك ثلاثة مشاهد. المشهد الأول عندما كانت جدتي تغسل يدها بالصابون فتخرج منها فقاقيع كنت أدهش وأسر بمرآها وأذكر يديها البيضاويين ووجها الناصع الباسم. والمشهد الثاني أيام كنا نذهب إلى غابة البندق ونجنيه في صحبة مؤدبنا وكانت جدتي تصطحبنا في عجلتها والخادم يجر إليها الأغصأن الميلاء لتقطف بندقها وتضعه في كيس أمامها وأذكر قوة معلمنا في جره الأغصأن الكبيرة من أدواح البندق وتلك الظلال الوارفة والحر الشديد وسط الغابة والهواء البليل في الظل وتناوح أشجار الغاب ورائحتها وكيف تأكل الفتيات اللاتي كن معنا البندق على طراوته فلا نبقي منه ولا نذر ونملأ به جيوبنا وأردن ثيابنا وعجلتنا. وكنت يخيل لي أن تلك الفقاقيع لا يتيسر إحداثها إلا على يد جدتي وذاك الريح البليل في غابة البندق لا يهب إلا إذا رأفقتنا إليها جدتي. والمنظر الثالث وهو أعظمها وأعني به (ليون ستبانيش) الأعمى القصاص الذي كان في بيتنا من بقايا مجد جدي الغابر يسكن دارنا ولا همل له إلا سرد الأقاصيص في الليل وذلك لأن عماه كأن يساعده على حفظ الحكايات بألفاظها بمجرد تلاوتها عليه مرتين وكان يتلو على مسامع الحضور حكاية قمر الزمان المعروفة في قصة ألف ليلة وليلة وكنت اقترب من القصاص استمع إليه ولكنني ما كنت أفهم شيئاً مما يقول ثم أنام ولا أعود أحس بما يجري في دارنا إلى الغد.
وما أعرفه عن جدي والد أمي أنه بعد أن صار قائداً على عهد الأمبراطورة كاترينا عزل دفعة واحدة عن منصبه لأنه لم يرض أن يتزوج ابنة أخت المشير يونمكين نديم كاترينا(20/4)
الثانية فنحاه عن منصبه لأنه رفض الزواج منها لأسباب لم عرفها فيها رداً غير جميل. ولما نحي عن منصبه تزوج بفتاة من أهل الصور رزق منها لبنة. وكان جدي هذا مشهوراً بجبروته وأنه من الرؤساء البغاة. بيد أني لم ينقل لي شيء عن قسوته ولا عن عقوباته المعتادة في عهده وأظن أن ذلك كان يقع منه على التحقيق لكنه لم يجسر أحد من حاشيته وفلاحيه أن يطلعني على ذلك مع إلحاحي في السؤال وذلك تشريفاً لقدره وإعظاماً لحكمته فلم أكن اسمع عنه غير عبارات الثناء على بعد غوره وسداد نظره واعتداده بفلاحيه وخدامه على كثرتهم. وقد أسس بناية عظيمة لخدمته وكان لا يقصر عنايته على إطعامهم فقط بل يعنى بكسوتهم أحسن كسوة وبإدخال السرور على قلوبهم وكان يقيم لهم الألعاب المختلفة في أيام الأعياد والمواسم. وكان من أتباعه وخاصته آمنين بما له من النفوذ من ظلم الظالمين من الحاكمين فمن ثم كان جدي في جميع أعماله يميل إلى المتانة والراحة والإحسان والظرف يعشق الطرب والموسيقى ويجلس إلى سماعها من والدتي في أماكن أعدها لذلك في حديقة الدار.
لا أتذكر والدتي قط فقد كنت ابن سنة ونصف لما قضت نحبها فإنا لا أتمثلها أصلاً ولا أعرف شيئاً يدلني على جسم إنسان بل أعرفها بالروح وكل ما بلغني من أمرها كان حسناً جميلا. سألت أهلي عنها فحدثوني بأطيب الحديث لا لكونها أمي بل لإنه كان فيها من صفات عالية من الخير والإحسان. وكنت أجدني في طفولتي بين ظهراني قوم حفهم الصلاح والفضل أرى ذلك خاصة فيهم من والدي إلى سائق العجلة كما يرى أصفياء القلوب غالياً كل حسن في الناس ولا تتمثل لهم إلا الصفات الطاهرة. وعندي أن ما تمثل لي فيمن نشأت بينهم من الصفات كان إلى الصحة أقرب. ولذلك أعجبت به في صغري.
لم تكن والدتي من الجمال بحيث تسبي الألباب بل على جانب من الذكاء بالنسبة لعصرها فكانت تحسن الروسية قراءة وكتابة خلافاً لمعاصراتها إذ ذاك وتعرف الفرنسية والألمانية والإنكليزية والإيطالية ولها ميل إلى الفنون وتجيد الضرب على البيانو. ولقد ذكر لي عشيرتها بأنها كانت تحسن إلقاء الحكايات فتستدعي إعجاب الحضور وترتجل الكلام ارتجالا وكانت تمتاز بكظم غيظها على ما روى لي الخدام. فإذا عرض لها ما يهيجها يحمر وجهها وربما بكت على ما نقلت لي وصيفتها ولكنها ما قط فاهت بكلمة قبيحة إذ أنها لم(20/5)
تكن تعرف من ألفاظ الهجر ولا كلمة.
لدي رسائل كتبتها والدتي وإلى خالاتي وجريدة تصف فيها سلوك أخي البكر (نيكلولانكا) الذي كلن عمره ست سنين عندما توفيت وكان أشبه منا كلنا بصورتها. وكانت ما استنتجت ذلك من كتاباتها ولحظت ذلك من أخي وعلمته علم اليقين عدم الاحتفال بآراء الغير والأتضاع بحيث كانا يحأولان أن يكتما فوائد التعليم والذكاء والفضيلة التي امتاز بها دون سائر من العيوب اللأزمة ليعد صاحبها من كبار الكتاب ولقد شاهدت ذات يوم أحد الأغنياء الساقطين وهو حارس والي وكان يصطاد معه أخذ يهز به أمامي واذكر كيف أن أخي لما حد جني ببصره مسروراً رأى في هذه الأهانة مسرة عظمى. ومثل هذا الخلق كان في والدتي في أخلاقها أرقى من والدي وأسرته اللهم إلا (تانيانا ألكسندر كولسكي) التي قضت معها نصف حياتها وكانت أمرأته مشهورة بأخلاقها المهذبة. ولم يكن أخي وأمي ممن يقولأن الا خيراً عن الناس وكنت أرى شقيقي إذا كان له ما يقال في سيرة أحد أن يبتسم ويبدي حسن الخلق وكذلك كانت أمي كما فهمت من رسائلها.
وكنت قرأت في حياة القديسين قطعة من كلامه تأثرت بها نفسي. ذلك راهباً كان معروفاً عند الناس بكثرة خطاياه فرآه ذات ليلة في عداد الأخيار يسرح ويمرح في أعلى عليين فسأله عن أمره فقيل له أنه لم يغتب أحداً في حياته. قلت فإن كان في عداد الآخرة يشبه هذا فوالدتي وأخي لاشك أحرز هذا الجزاء.
وامتازت والدتي عن محيطها بحرية وجدانها وسذاجة لهجتها في رسائلها فكان القوم إذ ذاك يغالون في إظهار حاساتهم. عادة لهم كانت مألوفة غير مستنكرة فيقول القريب لقريب يكتب إليه أنت منقطع القرين وأني عبدك وأنت بهجة حياتي وكلما كأنت التبجيلات في الاخوانيات قليلة دل ذلك على قلة إخلاص الكاتب للمكتوب إليه. وقد شهدت هذه العادة في رسائل ولكنها كانت معتدلة في إظهارها عباراتها تدل على الاعتدال والإخلاص. قيل لي أن والدتي كانت تحبني حباً جما وتدعونني بتيامني الصغير وقد كانت غنية وكان والدي نشيطاً بهجاً واسع الصيت والصلات وأظن أن والدتي كانت تحب والدي لأنه والد بنيها وزوجها ولم تكن تحبه حب العاشق المستهام وكان حبها لخطيبها الأول الذي اختطفته المنية حب الفتيات الذي لا يشعرن به إلا لمرة واحدة وإن ما أعلمه عم اليقين هو أن أمي كانت(20/6)
تحب ثلاثة حباً حقيقياً وهم خطيبها الأول والآنسة اينيس الفرنسية إحدى صويحباتها وابنها البكر وكانت تنشئ له جريدة ذكر لرغبتها الشديدة في تربيته ما أمكن وهناك دليل على أنها كانت ضعيفة في هذا المعنى لا تدري ما تعمله. مثال ذلك أنها كانت تؤنبه عندما يشتد فيه شعور الإحساس فيبكي مثلاً عندما يشاهد الحيوانات تتألم أمامه لأن على المرء برأيها أن يكون قاسي القلب وكانت تعاتبه على الصغائر كان يقول لجدته أشكرك عوضاً عن أن يقول لها أسعد الله صباحك ومساءك. وأكدت لي خالتي أن أمي كانت تحبني وأني كنت أحد من يحبه قلبها وخلفت والدتي خمسة أولاد كانت آخرهم ابنة ماتت في نفاسها. وظلت مع والدي تسع سنين كانت أيام سعد ورخاء فكانت على علو منزلتها ولطافة أخلاقها وآدابها تحب من حولها ويحبونها وكانت أميل إلى العزلة تصرف وقتها بأولادها ومطالعة الروايات أمام جدتي في الليل بصوت عال والاشتغال بمطالعات نافعة مثل كتاب أميل للفيلسوف روسو والمذاكرة فيما قرأته ويقضين شيئاً من الوقت في الضرب على آلة طرب ثم يتدارسن اللغة الإيطالية وتتنزه وترى أعمال المنزل.
لبعض الأسرات أوقات من الصفاء لا يزعجها موت أحدهم ولا مرض أفرادهم فيعيشون سعداء وهذا الدور صادفته والدتي إلى حين وفاتها فكان والدي يدخل البهجة على قلوب أهل البيت بما يوفره على ذكره من الأضاحيك الملهية والأحاديث المسلية.
هذا ما عرفته من مطالعة المفكرات والرسائل عن والدتي وحياتي في بيتنا على ذاك العهد في الطفولية وهاأنا ذا وصلت إلى وقت ألم فيه بما أذكره بنفسي فأرويه مقروناً بأشخاصه وأماكنه. أما والدي فقد كان عمره سنة 1812 سبع عشر سنة انخرط في سلك الجيش على كثرة توسل أهله به ليرجع عما قصده له خوفهم عليه وكان إذ ذاك أحد أنسائنا قائد الجيش العامل فعينه له حاجباً واشترك في حرب سنة1813 - 1814 وأسره الفرنسيين ولم يخلص من الأسر إلا سنة 1815 عندما دخل جيشنا باريس.
بلغ العشرين من عمره ولم يكن على شيء من العفاف حتى أن أهله زوجوه بخادمة وكان عمره ست عشر سنة تفادياً من أن تسوء صحته على نحو ما كان القوم يذهبون إليه إذ ذاك فولد له منها ابن دعوة ميشانكا عاش في حياة والدي عيشة حسنة ثم ساءت حاله فكأن كثيراً ما يلجأ إلينا لنعينه وأني لا أذكر شعور التعجب الغريب الذي شعرت به عندما أمسي أخي(20/7)
هذا شحإذا يستو كف الأكف وهو شبيه في خلقته بأبي بل أشدنا به شبهاً ثم يجيء ويطلب منا أن نحسن إليه بشيء من المال ويسر بما ندفعه إليه من عشرة روبلات أو خمسة عشر. ثم تنحى والدي عن الخدمة ونال راتب العزل ولحق بجدي في قازان وكان حاكمها وبعد قليل ذهب جدي إلى سبيله وأصبح والدي رب أسرته مع جدتي المعتادة على البذخ والديون مثقلة كأهل بيتنا وعندئذ تزوج والدي بوالدتي على نحو ما شرحته آنفا من أمرها.
كان والدي دموياً ربعة القوام مقبول الوجه كثيب النظر يعنى بأمور زراعته ولم يكن معروفاً بالقسوة بل كان إلى الضعف أقرب بحيث أني لم أسمع إنه كان يضرب فلاحيه على أجسادهم على نحو العادة المتبعة في هذه الديار على أنه لم يبلغني إنه كان في بيتنا أثر لهذه العقوبات إلا بعد موته. وحدث ما شئت أن تحدث عن مبلغ استغرأبي يوم كنت آتياً من نزهة لي مع مؤدبي وسأل أحدنا وكيلنا وكان مع سائس الخيل عن المكان الذي يقصده فقال له أنه ذاهب إلى الأنبار ليضرب السائس على بدنه ورحت من ساعتي أسأل خالتي عن سر ذلك وكانت هي تكرر العقوبة بالضرب فلامتني على أني لم أوقف ذاك الوكيل عن عمله ولكن بعد أن سبق السيف العذل.
كان أبي مصروفاً إلى الزراعة وفض القضايا التي خلفها له والده وكان يذهب إلى الصيد ويحب المطالعة كثيراً وقد اقتنى مكتبة فيها كتب آداب الفرنسيس وبعض كتب العلم وإلى على نفسه أن لا يبتاع كتاباً جديداً حتى يأتي على ما لديه من الأسفار ويطالعها برمتها ولم يكن به ميل إلى العلوم. بيد إنه كان في علمه يعادل المتعلمين من أهل عصره ولا يصح أن يسمى من الأحرار في دهره بل كأن يكره كل تغيير شيء من حاله فلا يخضع للكبراء ولا يزور الموظفين بل ولا يزورنا واحد منهم لما كان بينه وبين أهل الحكم في ذاك الوقت من التباين الضمني في المبادئ والغايات.
وأني لا أذكر والدي وهو جالس على ديوانه يدخن بغليونه وأذكر صيوده وأذكر أيامه واجتماعنا به وتحفيظي شيئاً من شعر بوشيكن وكيف أعجب بتلاوتي له. نعم أذكر رحلاته وغدواته ما كان يفيضه علي من حسناته وإحسانه وأذكر حبه وحبي ذلك الذي شعرت به بعد موته أكثر من شعوري به من قبل. وهنا استطرد إلى ذكر شيء مما علق بذهني من أمور طفولتي أذكرها وأنا لا أثتثبت بعضها حقيقة أم خيالية. ولقد كنت في القماط وأريد أن(20/8)
أفلت يدي ولا أستطيع ذلك وأصرخ وأبكي وصوتي كان منكراً حتى في عيني ولكن ما كنت أتمالك نفسي من البكاء وأرى أحدهم في قربي يحنو علي ولا أذكر شخصه وأرى ذلك كانه ظلم أو يكاد يكون ظلماً ولكني أذكر إنهما كانتا اثنتين وكان صوتي يؤثر فيهما فكانتا تسمعان صوتي ولكنهما لا تنقذاني مما أشكو منه ثم أصرخ بشدة أيضاً فيريان أنه من اللازم أن أكون مقيداً في قماطي وأنا أرى أنه ليس كذلك وأريد أن أثبت لهما ذلك وأصرخ صوتاً حاداً كانت نفسي تنكره ولكن لم أكن أتمالك منه وأشعر بالظلم والقسوة لا من الناس فقط بال من الأقدار إذ كنت أشهد الناس يرثون لحالي وكنت أشفق على نفسي ولا أعرف ذلك ما هو ولن أعرفه عندما كانت سني تزيد على السنة.
وعلى الجملة فقد كأن ذلك من المؤكد أول تأثر بل أشده شهدته في حياتي ولا أذكر صوتي والأمي فقط بل أذكر مزاجي واختلاف تأثراتي. أطلب الحرية وهي لا يتضرر بها إنسان وأنا على حاجتي إلى القوة ضعيف وهم الأقوياء وكذلك أذكر عندما كانوا يغطسونني في القادوس وقد جعلت فيه رائحة زكية جديدة يمسحون بها جسدي واستلذ جلوسي في القادوس وهو صقيل لطيف والماء فاتر خفيف ويد مربيتي تروح وتجيء تدلك بدني. وهاتأن الذكريتان هما اللتان أذكرهما منذ ولادت إلى الثالثة من عمري بل إلى الخامسة لا أكاد أذكر السماء ولا الشمس ولا الورق ولا العشب. بحيث ساغ لي أن أقول أني عشت عيش البهيم أيام كنت أتعلم وأنظر وأنصت وأحاول أن أتكلم وأنام وأرضع وأضحك وأسر والدتي في ذاك العهد حصلت ما أعيش به الآن حصلت به في مدة وجيزة بأقصى ما يمكن من الكثرة بحيث أني لم أستطع أن أزد وأحداً في المئة على هذه المعرفة. وليس بيني وبين ابن الخامسة سوى مسافة لا تصدق وليس بين الجنين والولادة سوى هوة وليس بين العدم والجنين سوى شيء صعب تعليله ومعرفته. وهنا يقال أن الوقت والسبب هما صور الفكر وأن الوقت والسبب هما من الفكر وأن معنى الحياة خارج عن تلك الصور بيد أن حياتنا كلها سوى الخضوع المتواتر لهذه الصور أو الخلاص.
أما تذكاراتي القصية فإنها ترجع إلى السنة الرابعة أو الخامسة من عمري وكلها قليلة لا تتعدى حد البيت والعيش المنزلي وما أنس لا أنس في طفولتي وأنا على سروري فرح مبتهج ووصيفتي أو اللائي عهد الهين تربيتي تقص علي قصة ايرميفتا (كما تخوف عامة(20/9)
النساء في الشرق الأدنى الأولاد بالعفريت والبع بع) فكانت تنقبض نفسي لسماعها وأتبدل البهجة بالفزع والفرح بالترح وأذكر شقيقتي بجانبي وأذكر مؤدبنا الألماني تيودور ايفا نو فبتش وأن لم أكن في تلك السن تحت وصايته وأذكر دارنا وأنها كانت شاهقة وأذكر ما ألقاه فيها من النساء وربما كن الغسالات وكيف كنت أقفز ويقفز معنا مؤدبنا ولكن قفزة خفيفة.
هذا ما يتردد في خاطري من ذكرى الحوادث التي طرأت علي قبل الخامسة أما بعدها فإن ما أذكره ولا أنساه هو أخذهم بيدي إلى المؤدب ايفإنوفيش واستعاضتي عن اللعب والقفز وغيرهما بالدراسة وتبديل ما كنت ألفته بعادات أخرى ومنازع جديدة. وهنا ذكر الحكيم خالته تاتيانا الكسندر وفنا وما أثرته بأعماله في حياته وكانت من النساء المتهذبات فعلمته الحب والميل إلى الوحدة والتأثر من المظالم.(20/10)
الولايات المتحدة
يقسم تاريخ الولايات المتحدة إلى خمسة أدوار: الأول دور السكان الأصليين وهم الهنود والثاني دور السفر والاكتشاف وهو من سنة 986 إلى سنة 1607 م والثالث دور الاستعمار وهو من سنة 1607إلى سنة 1775 م والرابع دور الثورة من أجل الاستقلال وهو من سنة 1775 إلى سنة 1789 والخامس دور الجمهورية وهو من سنة 1789 إلى 1907 م
اكتشف غريستفورس كولمبوس أمريكا سنة 1492 ب. م فأخذ بعض الأوروبيين بادئ بدء يهاجرون إليها بقصد امتلاك ديارها وجمع لجينها ونضارها. ولما ذاع صيت هذه الديار في أقطار أوروبا واشتهر أمر غناها واتساع بقاعها وخصب أراضيها وغباوة هنودها أخذ يتقاطر إليها الأوربيين زرافات وجماعات وذلك من سنة 1607 م فصاعداً. وكأنت الأمة الإنكليزية أكثر الأمم الأوروبية اهتماماً بالمهاجرة إلى أمريكا. ثم لما كثر عدد الأوربيين فيها اغتصبوا أملاكاً واسعة من الهنود واشتروا بعضها بأثمان بخسة واستوطنوا بعض مقاطعات الولايات المتحدة.
وفي 18 نيسأن سنة 1775 م أعلن الأمريكيون الحرب على بريطانيا العظمى. وفي 7 حزيرأن سنة 1776 م نهضوا لطلب الاستقلال من سلطة تلك الدولة لاستبدادها بهم وتضيقها على أملاكهم حينئذ فتابعوا الحرب. وبعد سبع سنين جرت فيها الدماء أنهاراً استقلوا في 4 تموز سنة 1783 م
ويرجع معظم الفضل لذلك إلى ديكا رد هنري لي وتامس جفرسن من فرجينيا ويوحنا أدامس من ماسثوست وبنيامين فرنكلن من بنسلفإنيا وروجر شيرمان من كنتكت وروبرت لنكستن من نيويورك فهم الستة المشهورون الذين اجتمعوا في 11 حزيرأن سنة 1776 م وقد قرروا أن ينزعوا رقبة الاستبداد عن رقاب الشعب.
وسنة 1789 جدد الأمريكيون المعاهدة بعضهم مع بعض ودونوا فيها نظامات وشرائع في مدينة فيلادلفيا. وكان عدد الولايات التي دخلت في المعاهدة إذ ذاك ثلاث عشرة ولاية وهي نيو همبشير وفر مونت ومسشوست ونيويورك وكنتكت ونيوجرسي وبنسلفإنيا ودالوار ورودايلندا ومريلا ند وفرجينيا وكرولينا الشمالية والجنوبية.
وفي 4 حزيرأن سنة 1789 م أعلنت الولايات المتحدة الحرب أيضاً على بريطانيا(20/11)
العظمى وكان في عهد مادسن الرئيس الرابع للولايات المتحدة وكانت نتيجة تلك الحرب ازدياد العمران وتعزيز قوة السكان.
وفي 26 نيسأن سنة1845 م أخذت الولايات المتحدة تحارب الأسبأن فأظهر الأمريكيون قوة الاتحاد والاستقلال ولم تزدهم تلك الحرب إلا مجداً وعزاً وعمراناً. ونشأت الحرب المذكورة في عهد بولك الرئيس الثاني عشر للبلاد.
وفي 12 نيسأن سنة 1861 م بدأ حرب تحرير العبيد بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة وانتهت في 9 نيسأن سنة 1865 وكان رئيس البلاد إذ ذاك إبرأهيملنكن الشهير. وسنة 1898 م حاربت الولايات المتحدة اسبانيا وفازت عليها ووسعت دائرة نفوذها واشتد ساعدها وذاعت سطوتها واتسع نطاق بقاعها وارتفع شأن تمدنها وعمرانها وكأن ذلك في عهد مكنلي الرئيس الخامس والعشرين للبلاد.
أول رجل عظيم رأس الولايات الأمريكية هو جورج واشنطن. ولد في 22 شباط سنة 1732 م في وست فرجينيا وشب على الآداب الرائعة والهمة الرافعة والمبادئ النافعة وفي نيسان عام 1789 م رأس الولايات المتحدة وظل في منصبه الخطير 8 سنوات وقضى نحبه في 12 كانون الأول سنة 1797 م. وأقل ما يقال عنه إنه كان رجلاً فاضلاً ورئيساً عاملاً غير مدافع رقى بلاده إلى درجة سامية تحسد عليها. والشعب الأمريكي يجله كثيراً ويعيد له كل سنة ويدعوه أب الأمة.
وتولى أريكة الرئاسة بعد واشنطن يوحنا أدامس. ولد في برينتري من أعمال ماسشوست في 19 تشرين الأول عام 1735 م وانتخب رئيساً للولايات المتحدة في 4 إذار سنة 1797 م وأتم مدة الرئاسة التي هي أربع سنوات. وقد نمت البلاد في أيامه وانتهت مدته بختام القرن الثامن عشر.
وخلف الرئيس أدامس تامس جفرسن أحد الستة الأشخاص المصلحين الذين مر ذكرهم وهو الرئيس الثالث. ولد في البيمارلي من أعمال فرجينيا في 2 نيسان عام 1743 م وانتخب رئيساً للبلاد في غرة القرن التاسع عشر سنة1801 م ورأسها دورين أي ثمان سنوات وكان غيوراً على الإصلاح ومصلحة الوطن والأمة كفؤاً للقيام بالعظائم والأمة الأمريكية تحسبه من أعظم المصلحين وأفضل رؤساء البلاد توفي في 4 تموز سنة 1846(20/12)
م.
وقام بعد جفرسن جيمس ماديسن وهو الرئيس الرابع على البلاد ولد في كن جورجيا من أعمال فرجينيا في 6 إذار عام 1751 م وتوفي في 28 كانون الثاني عام 1836 م في مونتيار من أعمال فرجينيا. كان ماديسن ناظر الداخلية في عهد الرئيس جفرسن وفي 4 إذار عام 1809 م انتخب رئيساً للولايات المتحدة ورأسها مرتين وللرئيس ماديسن أفضال على الجمهورية يذكروها الأمريكيون ويغالون بها وقام بعد جفرسن جيمس منرو وهو الرئيس الخامس ولد في 29 نيسأن سنة 1758 في ويستمورلاند من أعمال فرجينيا ومات في 4 تموز عام 1831 وانتخب رئيساً للبلاد في 4 إذار عام 1817 م ورأس البلاد مدتين أي 8 سنوات. ومونرو وهو الرئيس المشهور بشريعته التي سنها وهي أن أمريكا للأمريكيين وقد أفادت هذه الشريعة الجمهورية الأمريكية فوائد عظيمة. وكان منرو أحد المتصفين بالغيرة والمروءة والشهامة وخدمة الدولة والأمة خدمة صادقة.
وخلف مونرو يوحنا كونيكي أدامس وهو الرئيس السادس. ولد في شهر تموز عام 1767 وقضى نحبه في 23كانون الثاني عام 1848 وكان من أقدر رجال الجمهورية في السياسة الخارجية والداخلية. تولى نظارة الداخلية في عهد الرئيس مونرو وانتخب رئيساً للبلاد في 4 إذار عام 1825 م وبعد أن أكمل مدته عين نائباً لولاية ماسشوست في واشنطن العاصمة وقام بعد يوحنا أدامس أندرا وس جاكسن وهو الرئيس السابع. ولد في أكسم من أعمال ساتلمنت في 5 إذار عام 1767 م ورأس البلاد مرتين وكان ديمقراطياً
وخلف جكسن مارتن بيورن وهو الرئيس الثامن ولد في كندر هوك من أعمال نيويورك ونائباً للرئيس جكسن 4 سنوات وفي 4 إذار عام 1837 انتخبه الحزب الديمقراطي رئيساً للبلاد وكانت مدته أربعة أعوام.
وقام وليم هنري هرسن وهو الرئيس التاسع والبطل الشهير. ولد في بيركلي من أعمال فرجينيا سنة 1773 م وانتخب للرئاسة في 4 إذار عام 1841 م وكانت مدته شهراً وأحداً وذلك بسبب وفاته.
وأقيم بعده يوحنا تيلر وهو الرئيس العاشر. ولد في مدينة تشارلس من أعمال فرجينيا في 29 إذار عام 1790 وتوفي في 17 كانون الثاني عام 1862 م وانتخب للرئاسة في 4(20/13)
نيسان سنو1837 وكانت مدته أربع سنوات إلا ثلاثين يوماً.
وخلف الرئيس تيلر نوكس بولك. ولد في وكرولينا الشمالية عام 1795 م ومات في تانسي عام 1849 م. وتولى رئاسة البلاد في 4 إذار عام 1845 م وكانت مدته أربعة أعوام وهو الرئيس الحادي عشر للبلاد.
وقام بعد بولك زكريا تيلر. ولد في 24 تشرين الثاني عام 1784 م وقضى نحبه في 9 تموز وتولى كرسي الرئاسة في 4 إذار عام 1849 م وكانت مدته أربعة شهور وأربعة أيام. ومما يذكر عنه إنه كان محبباً إلى النفوس وذا شهرة عظيمة حازها بدربته وحنكته وبسالته التي أبداها أيام كان قائد العام في حزب الولايات المتحدة مع المكسيك وهو الرئيس الثاني عشر.
وظهر بعد تيلر ميلا رد فيليور وهو الرئيس الثالث عشر. ولد في كيفونيورك في 7 كانون الثاني عام 1800 م ومات في 8 إذار في بفلو نيورك. وانتخب للرئاسة في 8 أيار سنة 1804 م وكانت مدته ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر و37 يوماً
وخلف فيلمور فرنكلن بايري وهو الرئيس الرابع عشر. ولد في 23 تشرين الثاني عام 1804 وقضى نحبه في 8 تشرين الأول في نيوهمشير عام 1769 م وانتخب رئيساً للبلاد في إذار سنة 1853 م وكانت مدته أربع سنوات. وفي أثناء رئاسته فتحت أبواب التجارة للولايات المتحدة في مملكة اليابان وكان بايري ديمقراطياً.
وقام بعد الرئيس بايري جيمس بوتشانن رئيساً للولايات وهو الرئيس الخامس ولد في 12 نيسان عام 1791 م في بلدة الرئيس فرنكلن من أعمال بنسلفإنيا. وتوفي في أول حزيرأن سنة 1862 م كان الرئيس بوتشانن قبل أن يتولى رئاسة البلاد ناظر الداخلية في عهد الرئاسة بولك وانتخب رئيساً للبلاد في 4 إذار عام 1857م وكانت مدته أربع سنوات وكان ديمقراطياً
أما إبرأهيملنكن فقد ولد في 12 شباط سنة 1809 م في ولاية كنتكي وقتل في 15 نيسأن سنة1865 م وذلك في أول عهد رئاسته للمدة الثانية وانتخب رئيساً للولايات في 4 إذار عام 1861 م وكانت مدته أربع سنوات و42 يوماً وهو الرئيس السادس عشر المشهور بفضائله والمحبوب جداً من شعبه. وتحتفل الأمة الأميركية في مولده سنوياً اعتباراً لخدمه(20/14)
الجليلة في سبيل الإنسانية والوطنية وتقديراً لمقامه السامي في قلوب الأمريكيين خصوصاً وعالم الحضر عموماً.
والرئيس السابع عشر هو أنداوس جانسن. ولد في وكرولينا الشمالية عام 1808 م ومات في 31 تموز عام 1875 وتولى الرئاسة في 15 نيسأن سنة 1865 وكانت مدته ثلاثة أعوام وعشرة أشهر و15 يوماً.
والرئيس الثامن عشر يوليس غرانت. ولد في ولاية أهايو في 17 نيسان 1885 تولى الرئاسة في 4 إذار عام 1869 وكانت مدته ثماني سنوات.
والرئيس التاسع عشر هو أرتر فورد هايس. ولد في أهايو عام 1817 وكان من إشراف البلاد وأكابر أغنيائها. رأس البلاد في 5 إذار عام 1877 وذلك بعد أن تقلب في وظائف سامية كثيرة وكانت مدته 4 أعوام.
والرئيس العشرون هو جيمس غارفيلد. ولد في 19 تشرين الثاني عام 1831 في كويهفو أهايو وأطلق عليه الرصاص في 2 تموز عام 1881 ومات من جراء ذلك في 19 أيلول عام 1881 م وتولى الرئاسة في 4 إذار عام 1881 وكانت مدته خمسة أشهر.
والرئيس الحادي والعشرون هو تشتر أرثور. ولد في فرنكلين من أعمال فرمونت في 5 تشرين الأول سنة 1830 وحاز شهادة محام سنة 1850 ثم انتخب نائياً للرئاسة عام 1880 ثم تولاها في 1881 بداعي اغتيال الرئيس غارفيلد وكانت مدته ثلاثة أعوام و7 أشهر إلا يومين.
والرئيس الثاني والعشرون هو غرو فيلد كليفلنلد. ولد في كالداوي من أعمال نيوجرسي في إذار عام 1837 وبعد أنتعلم قبل في مجمع العلماء في نيويورك ثم درس الشريعة في بفلونيورد عام 1855 ونال الشهادة عام 1859 م ثم نصب مدعياً لبفلو عام 1863 م ثم مأموراً للأحكام عام 1869 نم ثم حاكماً على مدينة بفلو عام 1871 وسنة 1883 أقيم حاكماً على مدينة نيويورك وسنة 1884 م انتخب رئيساً للولايات وكانت مدته 4 أعوام وكان ديمقراطياً.
والرئيس الثالث والعشرون هو هاريسن وكانت مدته من سنة 1888 إلى سنة 1892 والرابع والعشرون هو كليفلند المتقدم الذكر وكانت مدته من سنة 1892 م إلى سنة 1896(20/15)
والخامس والعشرون هو مكنلي وكانت مدته من سنة 1806 إلى سنة 1901 م والسادس والعشرون هو تيودور روزفلت الرئيس الحالي.
ما برحت الولايات المتحدة بعد استقلالها في حاجة ماسة لإلى من يعمر ديارها ويحرث أرضيها ويستغل خيراتها ويستخرج معادنها ويساعدها على تنظيم مدينتها وتوسيع نطاق عمرانها وترقبها في مراقي الارتقاء ففتحت حكوماتها أبواب المهاجرة لجميع الأمم على اختلاف هيئاتها ولغاتها فوافاها الأوروبي من إنكلترا وجرمانيا والنمسا وإيطاليا وروسيا وأسوج ونروج واليونان وبرتغال وسويسرا وهولندا والبلجيك والآسيوي من الصين واليابان والهند والبلاد العثمانية وجاءها الأفريقي من ديار النيل ومراكش والسودان. ومما يلي يعلم القارئ نمو سكان الولايات المتحدة وعمرانها الغربيين.
عدد سكان الولايات المتحدة
عام 1790 3929214
1800 5308483
18107239881
1820 9638453
1830 12866020
1840 17069453
1850 23191876
1860 31443321
1870 38558371
1880 50155783
1890 52622250
1900 75994575
1907
أما عدد الولايات المتحدة فكأن سنة1789 م ثلاث عشرة ولاية واليوم صارت 48 ولاية. وتقع سبع عشرة ولاية في الجهة الشرقية على الأوقيانس الاتلانتيكي وهي نيويورك(20/16)
ونيوجرسي ونيو همشير ورود ايلندا وماين وبنسلفإنيا وكولومبيا وكنتكت ومر مونت ومسشوست ومريلا ند وفرجينيا وكرولينا الشمالية والجنوبية وجيورجيا ودولار.
وخمس ولايات تقع على بحر المكسيك وهي تكساس ولويزيانا ومسيسي والأباما وفلوريدا وسبع عشرة ولاية تقع في وسط البلاد وهي ايلنيين ومشغن وويسكنس وأهايو وأيوي ونبرا سكا وميسوري وأكوتا الشمالية والجنوبية وكنس وأركسنس وكنتكي وتنسي ومينسوتا وفرجينا الغربية.
وإحدى عشرة ولاية غربية تقع على الأوقيانس الباسيفيكي وهي كاليفورنيا وأور يكون ونيفادا زبوتاه ومونتانا وأيد هو وواشنطن وكولور يدو ونيو مكسيكو وارزونا وأويوما.
ولا يزال باب المهاجرة إلى الولايات المتحدة مفتوحاً لجميع الشعوب ما خلا الصينيين فإن حكومة الولايات سنت شريعة لمنع دخولهم إلى بلادهم سنة 1884 م. وفي 28 شباط سنة 1907 صادق المجلس التشريعي في ولاية كاليفورنيا على لائحة تمنع الأجنبي من التملك في تلك الولاية. هذا إذا لم يكن متجنساً بالجنسية الأمريكية. وغاية المجلس القصوى منع اليابانيين والصينيين من دخول كاليفورنيا والتملك فيها فهم لا يستطيعون التجنس بالجنسية الأمريكية. ويظهر من تشديد العم سام على المهاجرين في هذا العهد الأخير أنه لا بد من إيصاد باب المهاجرة في وجه الأسيويين أن لم يكن عاجلاً فآجلاً.
ودعوى حكومة العم سام أن الشعب الأسيويين سواء كان من الصين أم اليابان أم الدولة العلية فهو لا ينفع البلاد. فما يرمي إليه الأسيوي هو جمع المال وإنفاذه إلى وطنه خل عنك أنه ربما ضاقت الولايات على رحبها بأهإليها بعد مضي قرن. ومن جدول عدد سكان الولايات الآنف يتبين أن زيادة السكان بلغت في مدة 117 سنة نحو اثنين وثمانين مليوناً من النفوس فإذا استمرت الزيادة على هذا المعدل فلا شك أن حكومة واشنطن تضطر إلى إقفال باب الهجرة وربما قفلته فبل انقضاء تلك المدة.
مما تقدم يعلم المطالع أن النصر كان حليف الولايات المتحدة في الخمس حروب التي ذكرتها وأن نمو السكان والعمران كان اليفها وأنها أي الولايات صارت في مدة 32 سنة في طليعة الممالك المتمدنة بالقوة والسطوة والجاه والثروة بل أن المدينة والحضارة والعمران وهذا لعمري من بعض الأدلة على نشاط الشعب الأمريكي واتحاده وارتقاء شخصيات(20/17)
أفراده وعلى بذله ومروءته وشهامته وغيرته وصدق وطنيته وعلى سهر حكوماته على مصلحة البلاد والأنام وقيامها بواجباتها نحو أمتها ووطنها خير قيام.
فإنعم بكل أمة تحذو حذو الأمة الأمريكية وتقفو أثر مصلحيها العظام ورؤسائها الكرام وأنعم بكل دولة تسهر على مصلحة رعاياها وتبذل ما في وسعها لإسعادها وأنهاضها. وما أحرى الشعوب الأسيوية المنحطة أن تقتدي بنهضة الأمة الأميركية وتنهض بذلك الشرق الهازل النازل فتخلد لملوكها وحكايات طيب الذكر ولبلادها ولها الشكر والفخر.
أوماها نبرا سكاالولايات المتحدة
يوسف جرجس زخم(20/18)
الكنى والألقاب
رأيت بحثاً في الكنى والألقاب لأحد قراء المقتبس ذكر فيه القاعدة المصطلح عليها في الكنى كقولهم أبو اسحق لمن أسمه إبرأهيموأبو إبرأهيملمن اسمه إسماعيل وأبو داود لمن اسمه سليمان وأبو محمد لمن اسمه عبد الله وأبو العباس لمن اسمه أحمد وهلم جرا وذكر أيضاً شغف العرب بالكنى وضعها إياها للطير والوحش بل للجماد والمعاني مثل قولهم أبو الحصين للثعلب وأبو الطاهر للبرغوث وأبو صابر للحمار وقولهم من باب المعاني للهرم أبو مالك وللفقر أبو عمرة إلى ما أخر ما ورد في ذلك البحث.
ولما كان يحمل بالبحث الجميل أن يحيط بأطراف الموضوع بحيث لا يترك منه شاردة ولا تهمل فيه فائدة فقد قصدت أن أضم إليه اصطلاح أهالي جبل لبنان بل وأكثر البلاد التي تجاوره في أمر الكنى فإنه قد يختلف عن الاصطلاح الأول فإنهم يقولون هكذا: أبو ملحم لمن اسمه إبرأهيموقد يقولون له أبو خليل وأبو داود لمن اسمه ملحم وأبو سليمأن لمن اسمه داود وأبو علي لمن اسمه سليمان وقد يقال أبو محمد وأبو شاهين لمن اسمه محمد وقد يقال أبو سليمان ويقال أبو قاسم وأبو علم الدين لمن اسمه قاسم وأبو حسين لمن اسمه علي ويقال أيضاً أبو خطار وأبو نجم لمن اسمه خطار وأبو نجم لمن اسمه خطار وأبو أحمد لمن اسمه شاهين وأبو محمد لمن اسمه إسماعيل وأبو يوسف لمن اسمه أمين وأبو علي لمن اسمه أحمد وأبو عباس لمن اسمه حسين هذا أشهر كناة وقد يقال أبو قاسم لمن اسمه مصطفى وأبو مرعي لمن اسمه حسن وأبو حسن لمن اسمه عبد الله ويقال أيضاً أبو زين الدين وأبو حسين لمن اسمه يوسف ولمن اسمه محمود أيضاً وأما الأسماء المضافة إلى الدين مثل نصر الدين وزين الدين وبدر الدين فأكثرها أبو محمد ومنها يكنى بأبي يوسف مثل عز الدين وعلم الدين وبأبي داود مثل حسام الدين. ويقولون أيضاً أبو ناصيف الياس وأبو عساف جرجس وأبو شبل ناصيف وأبو قبلان أسعد وأبو منصور وغير ذلك.
ومن كنأهم للوحش أبو فارس للنمر. ومن الكنى الجمادية ما ينسب إلى قرية عين دارة وهو قولهم أبو حسن طقطق وللتين المطبوخ بالدبس وأبو نجم الدين محني ذقنه. وللإبريق أبو يوسف علم الدين ولذلك قالوا إذا حضر أبو نجم الدين محني ذقنه قام يرقص أبو يوسف علم الدين أي إذا حضر التين المطبوخ بالدبس فلا بد من دورأن الإبريق للشرب وهذا يحاكي اصطلاح القدماء الذي ذكره كاتب بحث الكنى والألقاب من جهة تكنية الجوامد.(20/19)
ومما أهمله مكاتبكم من الكنى الحيوانية أبو حجأدب للحرباء وأبو الحسل وأبو السيل للضب وأبو عسلة وأبو مذقة للذئب وأبو سليمأن لضرب من الجعلان وأبو الأبد للنسر وأبو روح للهدهد وأبو الأخذ للباشق وأبو الأخطل للبرذون وأبو الأشعب للبازي وأبو الأشيم وأبو حسأن للعقاب وأبو ثقل للضبع وأبو جاعرة للغداف من الغربان وأبو حكيم للذئاب ومثله أبو جعفر وأبو برائل للديك وأبو زيد للعقعق وأبو الجراح وأبو حذر للغراب ومثلهما أبو زاجر وأبو جهينة للدب وأبو الجيش للشاهين وأبو حاتم للكلب ومثله أبو خالد أبو دغفل للفيل وأبو الحسن للطاووس وأبو الحسين للغزال وأبو رأشد للقرد وأبو زرعه للخنزير وأبو العرمض للجاموس وأبو عكرمة للحمام وأبو النعيم للكركي وأبو يعقوب للعصفور وأبو زفير للإوز وأبو زياد للحمار مثل أبو صابر وأبو طالب الفرس مثل أبو شجاع وغير ذلك.
ومن المعاني أبو مالك للسغب وأبو دراس وأبو جابر للخبز ويقال له أيضاً تسمية بدون تكنية جابر بن حبة وأبو عاصم للسويق وأبو الأبيض للبن وكما كثرت أسماء الأسد فقد كثرت كناه فيقال له عدا أبا الحارث أبو الأبطال وأبو الأخياش وأبو شبل وأبو الوليد وأبو ليث وأبو العباس وأبو النحس وأبو رزاح وأبو حفص وأبو الوليد وأبو الهيصم وأبو محراب وأبو التأمور وأبو الحذر وأبو محطم وللنمر جملة كنى منها أبو خلعة وأبو الخطاب وأبو جهل وأبو رقاش وأبو الأسود وأبو الأبرد.
ولا ندخل الأن الأمهات والأبناء والبنات والأخوة والأخوات والأذواء والذوات فإنه يطول بذلك الشرح وإنما نقول على وجه الإجمال أن اتساع هذا الباب في اللغة العربية هو من جملة الدلائل على ثروة اللغة وفخامتها وبلاغة عباراتها وأن الكنى خصوصاً ما أطلق على الجمادات والمجردات مما يدل على شدة تخيل الناطقين بها وإنزالهم الصامت منزلة الناطق وتجسيمهم المجرد إلى حد أن يتمثل ولا يخفى أن أبلغ البلاغة هو ما قوى لك الخيال ومثل لك صورة المعنى حتى كانك تراها بالعين وتلمسها بالكف فالبليغ إذا أجزل خيل لك المعنى جسماً وإذا أراد الرقة هلهل لديك المادة حتى حسبتها هباء أو ظننتها وهماً وأن إطلاق الكنى في الجوامد والمعاني وإجراءها مجرى ما به الحياة لما يجسم المعاني ويحرك الجوامد عند من كان يشعر بالبلاغة.(20/20)
سوء المنقلب
بغداد حسبك رقدة وثبات ... أو ما تمضك هذه النكبات
ولعت بك الأحداث حتى أصبحت ... أدواء خطبك ما لهن أساة
قلب الزمان اليك ظهر مجنه ... أفكان عندك للزمان ترات
ومن العجائب أن يمسك ضره ... من حيث ينفع لو رعتك رعاة
إذ من ديالة والفرات ودجلة ... أمست تحل بأهلك الكربات
أن الحياة لفي ثلاثة أنهر ... تجري وأرضك حولهن موات
قد ضل أهلك رشدهم وهل اهتدى ... قوم أجأهلهم هم السر وات
قوم أضاعوا مجدهم وتفرقوا ... فترأهم جمعاً وهم أشتات
لقد استهانوا العيش حتى أهملوا ... سعياً مغبة تركة الأعنات
يا صابرين على الأمور تسومهم ... خسفاً على حين الرجال أباة
لا تهملوا الضرر اليسير فإنه ... أن دام ضاقت دونه الفلوات
فالنار تلهب من سقوط شرارة ... والماء تجمع سيله القطرات
لا تستنيموا للزمان توكلاً ... فالدهر نزاء له وثبات
فإلى متى تستهلكون حياتكم ... فوضى وفيكم غفلة وأناة
تالله أن أفعالكم بخلافه ... نزل الكتاب وجاءت الآيات
أفتزعمون بأن ترك السعي في ... هذي الحياة توكل وتقاة
إن صح نقلكم بذاك فبينوا ... أو قام عندكم الدليل فهاتوا
لم تلق عندكم الحياة كرامة ... في حالة فكانكم أموات
شقيت بكم لما شقيتم أرضكم ... فلها بكم ولكم بها غمرات
وجهلتم النهج السوي إلى العلى ... فترادفت منكم بها العثرات
بالعلم تنتظم البلاد فإنه ... لرقي كل مدينة مرقاة
أن البلاد إذا تخال أهلها ... كانت منافعها هي الآفات
تلك الرصافة والمياه تجفها ... والكرخ قد ماجت به الأزمات
سالت مياه الواديين جوارفاً ... فطفحن والأسداد مؤتكلات
فتهاجم الماآن من ضفتيهما ... فتناطحا وتوالت الهجمات(20/21)
حتى إذا اتصل الفرات بدجلة ... وتساوت الوهدات والربوات
زحفت جيوش السيل حتى أصبحت ... بالكرخ نازلة لها ضوضاء
فسقت بيوت الكرخ شر مقيئ ... منها فقاءت أهلها الأبيات
واستنفعت منها المياه فطحلبت ... بالمكث ترغو تحتها الحمآت
حتى استحال الكرخ مشهدا بؤس ... تبكي به الفتيان والفتيات
طرقاته مسدودة ودياره ... مهدودة وعرا صه قذرات
ياكرخ عز على المروءة أنه ... لجج المياه عليك مزحمات
فلئن أماتتك السيول فإنما ... أمواجهن عليك ملتطمات
من مبلغ المنصور عن بغداده ... خبراً تفيض لمثله العبرات
أمست تناديه وتندب أربعاً ... طمست رسوم جمالها الهبوات
وتقول يالأبي الخلائف لو ترى ... أركان مجدي وهي منهدمات
لغدوت تنكرني وتبرح قائلا ... بتعجب ما هذه الحربات
أين البروج بنيتهن مشيدةً ... أين القصور علت بها الشرفات
أين الجنان بحيث تجري تحته ... االأنهار يانعة بها الثمرات
أترى أبو الأمناء يعلم بعده ... بغداد كيف تروعها النكبات
يا دجلة يا للرزية دجلة ... بعد الرشيد ولا الفرات فرات
كان الفرات يمد دجلة ماؤه ... بجدأول تسقي بها الجنات
إذ بين دجلة والفرات مصانع ... تفتر عن شتب السنوات
يا نهر عيسى أين منك موارد ... عذبت وأين رياضك الخضلات
ماذا دهى نهر الرفيل من البل ... حيث المجاري منه مندرسات
إذا قصر عيسى كان عنده مصبه ... وعليه منه أطلت الغرفات
أم أين بركة زلزل وزلزاله ... االسلسال تسرح حوله الظبيات
يا نهر طابق لا عدمتك منهلاً ... أين الصراة تحفها الروضات
أم أين كرخايا تمد مياهه ... نهر الدجاج فتكثر الغلات
أم أين نهر الملك حيث تسلسلت ... فيه المياه وهن مطردات(20/22)
قد كان تزدرع الحبوب بأرضه ... فتسح فيه بفيضها البركات
أم أين بطا طيا تأتيه من ... نهر الدجيل مياهه المجراة
وله فروع أصلهن لشار ... ع الكبش المجاري منه منتهيات
تنمو الزروع بسقيه فغلاله ... كل العراق ببعضها يقتات
لهفي على نهر المعلى إذ غدت ... لا تستبين جنانه النضرات
نهر هو الفردوس تدخل منه في ... قصر الخلافة شعبة وقناة
كالسيف منصلتاً تضاحك وجه ... هـ الأنوار وهي عليه ملتمعات
إذ نهر بين عند كلواذى به ... ملد الغصون تهزها النسمات
وبقربه من نهر بوق دارة ... تنفي الهموم مروجها الخضرات
يا قصر باب التبر كنت مقرناً ... والنفي يصدر منك والإثبات
أيام تطلعك العدالة شمسها ... وترف فوقك للهدى رايات
أيام تنشدك العلوم نشيدها ... فتعود منك على العلوم صلات
أيام تقصدك الأفاضل بالرجا ... فتفيض منك لهم جداً وهبات
أيام يأتيك الشكي بأمره ... فيروح عنك وما لديه شكاة
تمضي الشهور عليك وهي أنيسة ... وتمر باسمة بك الساعات
ماذا دهاك من الهوأن فأصبحت ... أثار عزك وهي منطمسات
قد ضيعت بغداد سابق عزها ... وغدت تجيش بصدرها الحسرات
كم قد سقاها السيل من أنهارها ... ضراً وهن منافع وحياة
واليوم قلت بجانبيها أرخوا ... دفق السيول فماجت الأزمات
بغداد
معروف الرصافي(20/23)
اليونان
أثينة
الشعب الأثيني
اتيكيا - فاخر الأثينيون لسكنأهم أبداً بلاداً واحدة وأدعى أجدادهم أنهم ولدوا من الرمل كالزيزان. وقد اجتاز الفاتحون من سكان الجبال بالقرب من بلادهم ولم يهاجموها وقلما دعتهم اتيكيا إلى قتالها. هذه المقاطعة مؤلفة من جبال شاهقة صخرية ناتئة في البحر على شكل مثلث الأضلاع. وهذه الصخور المشهورة بقطع رخامها وبعسل نحلها جرداء مرداء بينها وبين البحر ثلاثة سهول صغيرة قاحلة لا تروى (الجفاف سواقيها في الصيف) ولا تقوم بتغذية أمة كبيرة.
أثينة - على فرسخ من البحر في أعظم تلك السهول قامت صخرة عظيمة وحيدة منتصبة وقد أنشئت أثينة في سفحها. أما المدينة القديمة التي كانت تدعى الأكروبول (المدينة الغالية) فإنها كانت في قمة الجبل. وقد أخذ سكان اتيكيا يتفرقون إلى ممالك عديدة فكانت كل قرية تحكم نفسها بنفسها ولها ملك فجمع جميعها تحت زعامته وهو ملك أثينة فيتألفون بذلك مدينة واحدة وليس معنى ذلك أنهم كلهم يحطون رحالهم في المدينة. بل يظل كل معبودة أثينة وخضعوا بأجمعهم لملك واحد.
ثورات أثينة - قد رجعت أثينة فنزعت السلطة الملكية واستعاضت عنها بتسعة زعماء (أركون) يتبدلون كل عام. وأنا لنجهل هذا التاريخ كل الجهل إذ لم يبلغنا عن ذاك الوقت أقل كتابة نستند إليها. ويروى أن الأثينيين عاشوا قروناً في شقاق يضطهد إشراف أصحاب الأملاك (أوبا تريد) العملة من أصحاب المياومات في أرضيهم وببيع الدائنون مدينيهم بيع الأرقاء. ولقد عهد الأثينيون حباً بتوطيد الراحة إلى صولون أحد حكمائهم أن يسن لهم قوانين يسيرون عليها فقام بثلاث إصلاحات: أولاً تقليل قيمة السكة وهو مما سهل على المدينون أن يوفوا ما عليهم من أهون سبب. ثانياً جعل الفلاحين ملاكاً للأراضي التي يزرعونها ومن ذاك الحين صار في اتيكيا كثير من صغار أصحاب الأملاك مما لم يعهد مثله في بلاد يونانية. ثالثاً قسم السكان العامة إلى أربع طبقات يحسب مداخليهم وقضى على كل منهم أن يؤدي الضرائب ويقوم بالخدمة العسكرية على نسبة ثروته. أما الفقراء(20/24)
فأعفأهم من الضرائب والخدمة. ولقد خضع الأثينيون بعد صولون إلى بيزيستراس أحد أبنائهم العالمين العارفين ثم بدأ الاضطراب سنة510
إصلاح كليستين - استفاد كليستين أحد زعماء الأحزاب من هذه الاضطرابات فقام بثورة عظيمة. ولقد سكن كثير من الغرباء في اتيكيا وكان معظمهم ملاحين وتجاراً يقطنون مدينة بيرا بالقرب من المرفأ. فأعطأهم كليستين حقوق الوطنيين وساوأهم بالسكان الأقدمين فصار من ثم في تلك المقاطعة شعبان مختلفإن سكان اتيكيا وسكان بيرا وكانا يتميزان إحداهما عن الآخر بعد ثلاثة قرون من هذا الاختلاط باختلاف سحناتهم فيشبه أهل اتيكيا سائر اليونانيين ويشبه أهل بيرا الأسيويين. وهكذا زاد الشعب الأثيني فأصبح أمة جديدة ومن أكثر سكان بلاد اليونان حركة ونشاطاً حتى إذا كان القرن الخامس تألفت الهيئة الاجتماعية في أثينة تأليفها الأخير فكان ثلاث طبقات يقطنون اتيكيا ألا وهم الموالي والأجانب والوطنيون.
الموالي - الموالي هم السواد الأعظم من أهل البلاد فلم يكن ثمة رجل مهما بلغ من الفقر المدقع إلا ويملك مولى أما الأغنياء فيملكون منهم كتيبة وملك بعضهم نحو خمسمائة مولى وكان من شأن هؤلاء الموالي أن يبقوا في الدور وشغلهم في الطحن والعجن وحياكة الثياب ونسجها وطبخ الطعام وخدمة سادتهم. ويعمل بعضهم في المعامل حدادين وصباغين أو يشتغلون في المقالع والمناجم الفضية. ويقوم سيدهم بأودهم ولكنه يبيع لنفسه كل ما تنتجه أيديهم ويأتي ثمرة أعمالهم ولا يعطيهم من جميع ذلك إلا الطعام. فكان عامة الخدمة والعاملين في المناجم ومعظم الصناع عبيداً وأرقاء. يعيشون في المجتمع دون أن يعدوا منه بل لا يتصرفون بأنفسهم وهم ملك موإليهم جسماً ومادةً. ولم يعتبروا إلا اعتبار عروض تملك وربما دعوهم أجساداً وليس لهم من شريعة غير أرادة سيدهم. ولسيدهم عليهم كل حق وسيطرة فإن شاء شغلهم وإن شاء حبسهم وإن شاء حرمهم من طعامهم وإن شاء ضربهم وإذا نشأت لأحد الوطنيين قضية يتأتى لخصمه أن يطلب تعذيب موإليه ليقروا بما يعملون. وقد امتدح عدة خطباء أثينيين هذه العادة وعدوها ضرباً من ضروب الحذق لأخذ شهادة صحيحة. قال الخطيب ايزيه أن التعذيب أحسن واسطة لنيل البراهين إلى كشف القناع عن محيا الحقيقة بجعل العبدان في العذاب الشديد.(20/25)
الأجانب - هم ناس من أصول مختلفة يقيمون في اتيكيا وهم الذين يدعون الميتيكيين (أي المتساكنين) ولم يكف الرجل كما هو الحال عندنا أن يولد في أرض أثينة ليعد وطنياً بل يجب أن يكون ابن وطني. وعبثاً استوطن الطراء في اتيكيا أجيالاً كثيرة وما عدت قط أسراتهم أثينية. فالميتيكيون والحالة هذه لم يكن لهم أن يشتركوا في الحكومة ولا أن يتزوجوا وطنية ولا أن يقتنوا ملكاً على حين كانوا أحراراً في أشخاصهم ولهم حق السفر في البحر وأن يكونوا صيارف وتجاراً على شرط أن يتخذوا لهم زعيماً ومولى يمثلهم أمام القضاء. وكان في أثينة زهاء عشرة آلاف أسرة من الميتيكيين ومعظمهم صيارف وتجار.
الوطنيون - اقتضت الحال أن يكون الإنسان ابن وطني أو وطنية ليكون وطنياً أثينياً ومتى بلغ الفتى الثامنة عشرة من عمره يعد عندهم رأشداً فيقف أمام جموع الشعب ويدفع إليه السلاح الذي يقضي عليه حمله ويقسم يميناً فيقول: أقسم أنني لا أهين هذا السلاح المقدس ولا أغادر موقفي في صفوف الأعداء وأن أخضع للحكام والقوانين وأشرف دين وطني. فيكون بهذا الحلف وطنياً وجندياً معاً ويقضي عليه بعد أن يخدم الجندية إلى سن الستين وله لقاء ذلك حق الجلوس في مجلس الأمة والقيام بوظائف الحكومة وربما رضي الشعب الأثيني بجعل رجل وطنياً على حين ليس هو ابن وطني ولكنه يرضى بذلك على صفة استثنائية وتوسعاً في المكرمة العظيمة. فيوأفق المجلس على قبول الغريب وينبغي أن ينتخبه على الأقل ستة آلاف وطني بعد تسعة أيام من هذا الاقتراع وفي جلسة ثانية وذلك في انتخاب سري. والشعب الأثيني هو كدائرة مطبقة لا يدخل فيه أعضاء جدد إلا إذا رضي الأعضاء القدماء على أنهم لا يقبلون غير أبنائهم.
المجلس - يلقب الأثينيون حكومتهم بالحكومة الديمقراطية (أي حكومة الشغب) وليس هذا الشعب ما نعني به عندنا من جمهور السكان بل هو جماعة الوطنيين وخلصاء الإشراف وعددهم بين خمسة آلاف إلى عشرون ألف رجل وهم زعماء الأمة بأسرها. ولهؤلاء الجماعة سلطة مطلقة وكلمة عليا وهم في التحقيق ملوك أثينة فإن مجلسهم يلتئم ثلاث مرات في الشهر للمفاوضة والاقتراع. يجتمعون في الهواء الطلق في ساحة البينكس فيجلس الوطنيون على مقاعد من حجر ذات درجات ويقعد الحكام بإزائهم على مصطبة ويفتحون الجلسة باحتفال ديني وصلاة يصلونها ثم يعلن المنادي بصوت جهوري بالمسألة(20/26)
التي يتناقش فيها المجلس قائلاً من منكم يشرع بالكلام أولاً. ولكل وطني الحق أن يطلب ذلك. وعندها يصعد الخطباء المنبر بحسب تفاوت أعمارهم ومتى تكلموا كافة يضع الرئيس المسألة المطلوبة على بساط البحث فيقترع المجلس بأن يرفع أعضاؤه أيديهم ثم ينصرفون.
المحاكم - لما كان الشعب حاكماً فهو يقضي في القضايا لذاته وبذاته ولكل وطني بلغ الثلاثين من عمره أن يكون من أعضاء مجلس فيجتمع الحكام في القاعات الكبرى فرقاً كل فرقة مؤلفة من خمسمائة نسوة. وفي كثير من القضايا يلتئم فرقتان أو ثلاث فرق من الحكام فتتألف المحكمة من جمهور يبلغون ألفاً أو الفاً وخمسمائة قاض ولم يكن للأثينيين حكام كما هو الحال عندنا لرفع القضايا بل كانت هذه المهمة من وظيفة الوطني الذي يعهد إليه تجريم المجرمين. فيمتثل المدعي والمدعى عليه أمام المحكمة ويخطب كل منهما خطبة تزيد على وقت حدد بساعة دقاقة مائية. ثم يبدأ القضاة بالموافقة على وضع حصاة بيضاء أو سوداء فإذا توفر للمدعي بضعة آراء (أصوات) زيادة على خصمه يحكم عليه ويجرم.
الحكام - كان الشعب الحاكم في حاجة إلى مجلس لوضع المسائل موضعها من البحث وإلى حكام ينفذون ما يقرره ويتألف المجلس من خمسمائة وطني تصيبهم القرعة حولاً كاملاً. وإذا كثر عدد الحكام خص عشرة منهم لتعبئة الجيش وقيادته وثلاثون لإدارة الشؤون المالية وستون منهم يعهد إليهم خطة الحسبة من النظر في الشوارع ونظافتها والأسواق وبياعاتها والأوزان والقياسات وما يتبعها.
متعة هذه الحكومة - لم تكن السلطة في أثينة في أيدي الأغنياء والشرفاء كما كانت في إسبارطة بل كانت تقرر كل مسألة بأكثرية الآراء وتتعادل الآراء فيجري انتخاب الحكام وأعضاء المجلس والعمال بالقرعة. إلا القواد فإنهم لا ينتخبون كذلك. والوطنيون يتساوون لا من حيث الأمور النظرية بل من حيث الأمور العملية. ولقد قال الحكيم سقراط لأحد أهالي أثينة المنورين وكان لا يجرأ على الكلام أمام الشعب يا هذا ممن تخاف؟ أمن القصارين أم من السكافين أو من المعمارين أو الحرأثين أم من السوقة والمرتزقين فمن هاته الطبقات يتألف المجلس وكثيرون من هؤلاء الحكام مضطرون إلى الاحتراف ليعيشوا ولم يكن في وسعهم أن يخدموا الحكومة بالمجان ولذلك عينت لهم مشاهرات وأجوراً(20/27)
سانتيماً من سكنتا وهو القدر الذي يتأتى لرجل أن يعيشوا به ذاك العصر. من أجل هذا العصر الأعضاء الفقراء في هذه المجالس وجلسوا على دكات المحاكم مع الأغنياء كتفاً إلى كتف ووجهاً إلى وجه.
الفوضويون من الشعب_لما كانت تفصل المسائل برمتها في المجلس أو المحاكم بالمناقشة فيها وإلقاء الخطب في مضامينها كان فصحاء القوم هم أرباب المكانة المكينة في الأمة. فاعتادت هذه أن تسمع لأصوات الخطباء وأن تعمل بنصائحهم وتعهد إليهم في السفارات وأن تعينهم قواداً وزعماء. ويدعى هؤلاء الرجال الفوضويينأو زعماء العصاة. أما حزب الأغنياء فيضحك منهم. وقد مثل أريستوفإن الشعب في إحدى الروايات الهزلية في صورة شيخ سخيف فقال: أنت غبي تصدق كل ما تسمع تستسلم لأهل النفاق والدسائس يتلاعبون بك على هوأهم وتغتبط بالسعادة متى خطبوا فيك. وقال أحدهم خطاباً لا حد نزاع الآفاق. أنت يا هذا شقي فظ غليظ وصوتك شديد وفي بلاغتك من القحة وفي حركاتك من السرعة ما يؤهلك على ما رأى إلى كل ما يلزمك لحكم أثينة.
الحياة المنزلية
اخترع الأثينيون وظائف كثيرة عهد القيام بها إلى فئتين من الوطنيين. فكان الوطني الأثيني كالموظف والجندي في أيامنا مهتماً بالانصراف إلى الأعمال العامة يصرف أيام حياته في إشهار الحرب والحكم على الشعب يقضي أيامه في المجلس أو في المحكمة أو في الجيش وفي محال الرياضة أو في السوق وكان له أبداً امرأة وأولاد لأن الدين يأمره بذلك ولكنه ما كان يعيش البيوت.
الأولاد_يحق للوالد عندما يولد له مولود أن يطرحه ويطرده خارج بيته فيموت طريحاً إذا لم يلتقطه أحد أبناء السبيل ويربيه ليجعله مولى له. وأنت ترى أن أثينة اتبعت في هذا خطة جماع الشعوب اليونانية. والبنات كن ينبذن في العراء ويطرحن خارج المنازل أكثر من البنين قال أحد الخطباء الهزليين أن الابن يربى في الغالب ولو كان ذووه في أقصى دركات الفاقة أما الابنة فتهمل ولو كان أهلها من الغنى على جانب. فإن قبل الوالد الولد يعد من الأسرة ويترك أولاً في مساكن النساء بالقرب من الأم حيث يظل البنات إلى أن يتزوجن أما البنين فينفصلون عن تلك البيوت في السابعة من عمرهم فيسلم الطفل الأثيني(20/28)
إلى المربي الذي يعهد إليه تعليمه وتحسين هيئته والخضوع والطاعة وكثيراً ما يكون المعلم من طبقة الموالي إلا أن والد الطفل جعله في حل من ضرب ابنه. وهذه كانت عادة عامة في القدم. ثم يذهب الولد إلى الكتاب يتعلم القراءة والكتابة والحساب وإنشاد الأشعار والتغني مع جماعة الموسيقيين على نغمات المزمار ثم يأخذ في سبيل تعلم الألعاب الرياضية وهذه غاية ما يتعلمه الولد فيجيء من هذا التعليم من أبناء الأثينيين رجال صحيحة أجسامهم هادئة أفكارهم يدعوهم اليونانيين أهل الصلاح والجمال. أما الفتاة فتظل بالقرب من أمها لا تتعلم شيئاً. ويذهبون إلى أنه يكفي الابنة الأثينية أن تحسن الخضوع وتتشبث بأهداب الطاعة. وقد مثل كسينوفإن أحد أغنياء الأثينيين المهذبين وهو يخاطب الحكيم سقراط في شأن زوجه قال: لم تكد تبلغ الخامسة عشرة حتى تزوجتها وقد كان ذووها جعلوها إلى ذاك العهد تحت المراقبة الشديدة وأرادوا أن لا تبقى وتعيش ولا تسمع شيئاً على التقريب مما أهلها لأن تكون امرأة تحسن نسيج الصوف وتصنع منها ثياباً ورأت بأي الطرق يستخدم الأماء والخادمات. ولما اقترح عليها زوجها أن تكون شريكة في حياته أجابته مدهوشة: على أي أمر أعينك وهل أنا قادرة على شيء؟ فلطالما قالت لي أمي إن شأني الخاص بي أن أكون عأقلة. فمعنى كون المرأة عأقلة أن تخضع وهذه هي الفضيلة التي تطلب إلى المرأة اليونانية.
الزواج - تتزوج الفتاة في الخامسة عشرة من سنها وأهلها يختارون لها زوجها فيكون تارة شاباً من أسرة قريبة أو رجلاً طاعنا في السن من أصدقاء والدها ولا يعدو أبداً أن يكون وطنياً أثينياً وقد تعرفه الفتاة من قبل في بعض الأحوال وما قط أخذ رأيها في معنى زواجها. ولما تكلم المؤرخ هيرودتس عن أحد أبناء يونان قال: إن كالياس هذا جدير بأن يتكلم المتكلمون في أمره للخطة التي يسلكها مع بناته فإنهن متى صلحن للزواج ينحلهن من المال شيئاً كثيراً ويسمح لهن باختيار أزواج لهن من أبناء الأمة ويزوجهن بمن ينتخبنهم.
النساء - كان في داخل كل بيت أثيني مسكن منعزل بالنساء يدعى الحرم ولا يختلف إلى هذا المسكن غير الزوج والأنسباء وتبقى فيه ربة البيت دائماً مع صويحباتها وإمائها تراقب أعمالهن وتلقنهن أصول تدبير المنازل وتوزع بينهن الصوف ليحكنه وهي تشغل نفسها بحياكة الثياب أيضاً. وقلما كانت تخرج من دارها إلا في الأعياد الدينية ولا تظهر في(20/29)
مجتمعات الرجال قط. قال الخطيب أزيس: حقاً أنه لم يكن لأحد أن يجرأ على الغداء عند امرأة مزوجة فإن النساء المزوجات لا يخرجن لتنأول الطعام مع الرجال ولا يسمحن لأنفسهن أن يأكلن مع الغرباء وغير المحارم. وما كنت لتنأول المرأة التي تخالط الرجال معدودة في جملة النساء المحتشمات المهذبات. وهكذا لم تكن المرأة وهي على حالها من الاعتزال والجهل ذات عشرة مقبولة فيتزوج بها الرجل لا لتكون شريكة حياته بل لتقوم بأمر بيته وتلد له أولاداً ولأن العادة والدين عند اليونانيين يقضيان بأن يكون للمرء حليلة. وقال أفلاطون إذا تزوج المتزوج فليس برضاه وذوقه السليم بل لأن شريعة تقضي عليه بذلك. وقال مياندر الشاعر الهزلي هذه العبارة: إذا شئت التحقيق فقل أن الزواج شر ولكنه شر لا مناص منه. ولذا كان أبداً للنساء في أثينة كما في معظم المدن اليونانية مقام وضيع في المجتمع.
الحروب المادية
بينما كان اليونان أخذين في تنظيم مدنهم كان الفرس يجمع شتات بلاد الشرق كافة تحت لواء واحد. ولقد تقابل اليونان والمشارقة وكان المصاف بينهم لأول الأمر في آسيا الصغرى. وكان على شاطئ آسيا مستعمرات يونانية غنية مأهولة فطمح قورش ملك فارس في ضمها إلى بلاده فبعثت تلك المستعمرات تستنجد بالإسبارطيين وقد اشتهروا بأنهم أجرأ أبناء اليونان وأنذروا بذلك قورش فأجابهم بقوله: أنني ما خشيت قط هذا الضرب من الناس الذين يجتمعون في ساحة وسط مدنهم ليخدع بعضهم بعضاً بالإيمان والعهود (كلامه على ساحة السوق) فغلب أبناء اليونأن في آسيا وأصبحوا رعايا ذاك الخاقان الأعظم. وبعد ثلاثين سنة تقابل الملك ادوارد مع يونان أوروبا ولكنهم ظهروا عليه هذه المرة فأرسل الأثينيون عشرين سفينة على الأيونيين العصاة فدخل جندهم في ليديا واستولوا عنوة على مدينة ساردس عاصمة ليديا وأحرقوها. فإنتقم دارا عن ذلك بأن خرب المدن اليونانية في آسيا ولم يبق على يونان أوروبا. وقيل أنه أمر أن يتمثل لديه ضابط في كل مأدبة على مسامعه قوله: مولاي تذكر الأثينيين. وقد بعث إلى المدن اليونانية يطلب تراباً وماءً. وهذه الإشارة الشائعة عند الفرس كانت دلالة على أن شعباً يخضع بلاده لسلطة الخاقان الأعظم فأوجس معظم اليونانيين خيفة واستسلموا خاضعين باخعين فطرح الإسبارطيون المندوبين(20/30)
من الفرس في بئر قائلين لهم أن يأخذوا منها ماءً وتراباً يحملونهم إلى ملكهم. وهذه كانت فاتحة الحروب المادية.
مبادلة الخصمين - أن التباين بين هذين العالمين المتحاربين قد أشار إليه هيرودتس أحسن إشارة في صورة محاورة بين كسيركيس ملك الملوك وديمارات أحد المنفيين من الإسبارطيين فقال هذا: أتجاسر أن أؤكد لك أن الإسبارطيين يعلنون عليك حرباً حتى ولو انحاز سائر أبناء اليونان كافة إلى حزبك ولو لم يبلغ جيشهم ألف رجل. فأجاب كسيركيس ضاحكاً وليت شعري هل في وسع ألف رجل أن يشهروا حرباً على هذا الجيش الكثير العدد والعدد وأني لا أخشى أن يكون في كلامك تحذلق كثير. وهب أن عددهم خمسة آلاف فنحن زهاء ألف لقاء واحد. فلو كان لهم زعيم مثلنا فإن الخوف يحمسهم ويزيد نفوسهم مضاء فيزحفون يضرب السياط على جيوش أكثر مما خصتهم به الفطرة. يقول ديمارات أن ليس الإسبارطيون دون غيرهم في حرب يتلاقى فيه المتحاربون جسداً لجسد حتى إذا انضموا بعضهم إلى بعض صاروا جيشاً برأسه ومن أشجع الناس وإمضأهم. وقصارى القول فإنهم وإن كانوا أحراراً في الظاهر ليسوا كذلك في سائر شؤونهم فلهم حاكم مطلق ألا وهو القانون فهم يخافونه كثيراً ويرهبون بأسه أكثر من رهبة رعايانا لك. يطيعونه والقانون يأمرهم أن يثبتوا في مصافهم أبداً إلى أن يغلبوا أو يموتوا - إليك حال هذين الحزبين أحدهما مع الآخر فترى من جهة عدداً عديداً من الرعايا تضمهم القوة بزعامة رئيس ذي هوى وشهوات. ومن جهة ثانية جمهوريات صغرى محاربة يحكم أبناؤها أنفسهم بأنفسهم بقوانين يحتفظون بها ويرعونها.
الحرب المادية الأولى - نشبت حربان ماديتان كأنت الأولى بمثابة حملة على أثينة فأرسل داراً ستمائة سفينة أنزلت جيشاً فارسياً في سهل ماراتون الصغير على سبع ساعات من أثينة. ولقد كان دين الإسبارطيين يحظر عليهم أن يسيروا قبل أن يكون الهلال بدراً وكان القمر إذ ذاك في الربع الأول فقضي على الأثينيين أن يحاربوا وحدهم فجاء عشرة آلاف من الوطنيين مسلحين سلاح الأبطال وأقاموا لهم معسكراً أمام صفوف الفرس بقيادة عشرة قواد يتناوبها كل منهم يوماً حتى إذا كانت نوبة القيادة لملتيادس عبى جيشه للحرب فهاجم الأثينيون صفوف الأعداء على صفوف مشتبكة فلما رأهم الفرس اقتربوا منهم ولم يجعلوا(20/31)
في مقدمتهم فرساناً ولا دارعين فظنوهم جنوا وأضاعوا رشدهم. وهذه هي المرة الأولى التي جسر فيها اليونان صفوف الفرس في حرب منظمة. فطفق الأثينيون يحملون على جناحي الجيش ويمزقونه كل ممزق ثم رجعوا إلى القلب وحملوا الفرس على الهزيمة نحو البحر واضطرابهم إلى معاودة ركوب البحر وكان من نصرة اليونأن في حرب الماراتون أن أنقذتهم وأطارت صيتهم في أرض يونان كلها.
حرب مادية ثانية - نشبت الحرب بعد عشر سنين بغارة فجمع كسيركيس بن دارا شعوب بلاده كلهم ويقال أن جيشه البري بلغ مليوناً وسبعمائة ألف مقاتل مؤلفاً من ماديين وفرس لابسين قمصاناً ذات أكمام مسلحين بدبأبيس محددة الرؤوس ومن هنود يلبسون ثياباً قطنية يحملون أقواساً ونبالاً من خيزران ومن زنوج يلبسون جلد النمور ومن قبائل رحالة ليس لهم سلاح إلا ما كان من حبل ذي أنشوطه ومن فرنجين مسلحين بحراب قصيرة وأتراس صغيرة ومن ليديين مجهزين على الطريقة اليونانية ومن تراكسيين يحملون حراباً ومدى وقد شغل تعداد صفات الجيش عشرين فصلاً في تاريخ هيرودتس. وكان هؤلاء المحاربون يجرون وراءهم جموعاً توازي الجموع المدربة على القتال من خدمة للجيش وموالي من النساء وكثير من البغال والخيل والجمال والعجلات المشحونة بالأثقال ولقد اجتاز هؤلاء الأخلاط هيلسبون على جسر قام من مراكب في ربيع سنة 481 وظلوا يتابعون سيرهم سبعة أيام بليإليها تحت ضرب السياط ثم اجتازوا تراكسيا وساروا على بلاد يونان يجرون بالقوة وراءهم من يصادفونه من الشعوب فكان الأسطول الفارسي وهو مؤلف من ألف ومائتي سفينة حربية يمشي على شواطئ تراكسيا مجتازاً ترعة جبل أتوس الذي خرقه كسيركيس عمداً. فدخل الرعب في قلوب اليونانيين وخضع معظمهم لخاقأن الفرس فضموا جندهم إلى الجيش الفارسي. وراح الأثينيون يستشيرون هاتف دلفيس فأجابهم أولا أن أثينة تخرب ويكون عإليها سافلها حتى إذا تضرعوا إليه أن يجيبهم بجواب يبعث على الطمأنينة رد عليهم بقوله: إن زيوس يمنح بالاس (حامية أثينة) جداراً من خشب لا يتأتى الاستيلاء عليه وحده وأنكم لتجدون فيه سلامتكم أنتم وبنوكم. ولقد حث العرافون الذين طلبوا إليهم أن يفسروا كلام هذا الهاتف جماعة الأثينيين على مغادرة اتيكيا وأن يذهبوا ليستوطنوا مكاناً آخر. وفسر تمستوكلس جدار الخشب بالمراكب. فقضت الحال إذا أن يرجعوا على(20/32)
الأسطول ويحاربوا الفرس في البحر.
وإذ قد عزم أهل أثينة وإسبارطة على المقاومة أخذوا يبحثون في تأليف عصابة اليونأن للحكم على الفرس فاجترأت بعض المدن على الدخول في هذه العصبة وانضموا تحت قيادة إسبارطة ولما نشبت أربع حروب في عام واحد قرروا القتال فسحق الفرس ليونيداس ملك إسبارطة في الترموبيل وكان معسكراً لسد فم أحد المضايق وضرب الأسطول اليوناني الأسطول الفارسي في سلامينة وكان مجتمعاً في خليج يزحم بعضه بعضاً وبدد أبطال اليونأن في بلاتيه الجيش الفارسي الذي بقي في بلاد اليونان ولم ينج من ثلاثمائة ألف رجل سوى أربعين ألفاً ونزل في ذاك اليوم جيش يوناني في ميكال على شاطئ آسيا وهزم الفرس وهكذا غلب اليونأن الخاقان الأعظم صاحب فارس.(20/33)
صحف منسية
كتاب الأشربة - لابن قتيبة
عني بنشره المسيو أرتوركي
أحد علماء المشرقيات
وحدثني محمد بن داود عن نضير عن سنان عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار وسئل عن النبيذ فقال: انظر ثمن التمر من أين هو. أراد مالك أنه يجب على المستفتي عن النبيذ حلال أم حرام أن يتنزه عما لا اختلاف فيه من اكتساب الحرام الذي هو ثمن التمر ثم يسأل بعد ذلك عن النبيذ المختلف فيه. قالوا: فلو كان عند خمر ما توقف هذا التوقف. وقد يحتمل أن يكون أراد: إن كان ثمن التمر حلالاً كان النبيذ الذي اتخذ منه حلالاً وإن كان ثمن التمر حراماً كان النبيذ الذي اتخذ منه حراماً. فإن كان ذهب هذا المذهب فالخبز واللباس والإدام على هذا السبيل عنده تحل إن طابت المكسبة وتحرم إن خبثت. وعوتب شعيب بن يزيد في النبيذ فقال: أما أنا فلا أدعه حتى يكون شر عملي. يريد أنه قد يأتي ما هو شربه وأن الواجب على من أراد إصلاح نفسه والانتقال إلى طهارة التوبة أن يبدأ بالأخبث فالأخبث من عمله والأعظم فالأعظم من ذنوبه فينزع عنه فإما أن يدع التزوج بالأماء لما كره منه وهو يزني أو يترك الشرب في آنية الذهب لما نهي عنه من ذلك وهو يشرب الخمر في العساس فهذا من السخف وإفراط الجهل وقال أبو الغالية الرياحي اشرب النبيذ ولا تمزز والتمزز أن يشرب قليلاً قليلاً وهو مثل التمزز.
وأراد أبو الغالية أن يشربه دفعة واحدة للري ولا ينأقل الأقداح ويتابعها ليسكر وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟ قال نعم. قيل: وكيف تشربه؟ قال على غداي وعشاي وعند ظمائي. قيل فما تركت منه؟ قال التكاءة ومحادثة الرجال. قال المأمون اشرب النبيذ ما استبشعته فإذا سهل فاتركه. فأراد أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الأسكار. وقيل لسعيد بن سالم: أتشرب النبيذ؟ قال لا. وقيل لم: قال تركت كثيره لله وقليله للناس. حدثني محمد بن عبيد عن إبرأهيمبن أبي بكر بن عياش قال: صام عمي الحسن بن عياش خمسين حولاً متتابعة فكان لا يفطر في السنة إلا خمسة أيام كان أبي يصنع أيام التشريق طعاماً بكثرة وتجودة ويدعو الفقهاء ومشائخنا فيتغذون مع أبي ويسقيهم أو قال من أراد منهم النبيذ(20/34)
الصلب؟ وكان سفيأن الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمر منه وجنتاه واحتجوا من جهة النظر بأن الأشياء كلها حلال إلا ما حرمه الله. قالوا فلا نزيل يقين الحلال بالاختلاف ولو كان المحللون فرقة من الناس فكيف وهم أكثر الفرق؟ وأهل الكوفة جميعاً على التخليل لايختلفون. حدثني اسحق بن راهويه قال سمعت وكيعاً يقول: النبيذ أحل من الماء ولم يكن أحد من الكوفيين يحرمه غير ابن ادريس وكان بذلك عندنا معيباً وقيل لابن ادريس: من خيار أهل الكوفة؟ فقال ذلك مبلغهم من العلم. وقال لنا اسحق: عيب وكيع بقوله: هو أحل من الماء لأنه إن كان حلالاً فهو بمنزلة الماء فكيف أحل منه عتب ونحن نقول إنهليس يلحق وكيعاً في هذا الموضوع عيب ولا يرجع عليه منه عتب لان كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم في الوصف واستقصائهم بالمدح والذم يقولون هو أشهر من الصبح واسرع من البرق وابعد من النجم. وليس ذلك بكذب لأن السامع له يعرف مذهب القائل فيه وكلهم متواطئون عليه كذلك قوله هو احل من الماء يريد المبالغة في وصفه بالتحليل. وإنما عاب أهل الكوفة ابن ادريس بمخالفته أهل بلده وتغليظه ما ترخصوا فيه. وحدثني محمد بن عبد الله عن إبرأهيمابن أبي بكر بن عياش قال: قلت لابن مبارك: من اين جئت بهذا القول في كراهتك النبيذ ومخالفتك المشائج وأهل المصر؟ فقال: هو شئ اخترته لنفسي. قلت: فتعيب من شربه؟ قال لا. قلت وما اخترت لنفسك وقال عاصم بن أبي النجو: لقد أدركت قوماً يجعلون هذا الليل جملاً يشربون النبيذ ويلبسون المعصفر فهؤلاء أهل الكوفة وأكثر أهل البصرة على مثل مذهبهم. وكان عبد الله بن داوود يقول: ماهو عندي وماء البركة الا سواء. وقال القطمي: قال لي عبد الله بن داوود: لا بأس أن يشربه الرجل على أثر الطعام كما يشرب الماء. وقال: اكره ادارة القدح واكره نقيع الزبيب واكره المعتق واكره نبيذ السقاية. وقال: من ادار القدح لم تجز شهادته. قالوا: وكأن كثيراً من الحجازين بين يترخص فيه حتى غلط فيه مالك وحد في الرائحة والرائحة قد تلتبس وتشتبه بغيرها وكيف يخرق ظهور المسلمين على الظهور وظهر المسلم حمى لا يباح الا بيقين وقد يأكل الرجل الكمثرى والتفاح والسفرجل ويشرب المشبه النبيذ فيوجد منه رائحة النبيذ وكان الا قيشر اخد وقد شرق وأستنكه فوجدوا منه رائحة النبيذ ظاهرة فقال
يقولون لي انكه قد شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت سفرجلا(20/35)
وقالوا: وجدنا الناس ثلاثة اصناف أصحاب الرأي وهم جميعاً مجمعون على تحليله أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وكل من سلك سبيلهم وأصحاب الحديث وأكثرهم على التحليل. وأصحاب الكلام هم أيضاً على ذلك وكيف نزيل يقين التحليل بطائفة من الناس؟ قالوا: ومثل النبيذ مثل نهر طالوت. حدثني شبابة قال: حدثنا غسان بن أبي الصلاح الكوفي عن أبي سلمة يحيى بن دينار عن أبي المطهر الوراق قال: بينما زيد بن علي على بغلة له بصر برجل من أصحابه محجل الأزار على قميصه ردع من زعفرأن فقال له مهيم فقال له يا ابن رسول الله إني اعرست وقد أحببت أن تكرمني بدخول منزلي. فثنى رجله ونزل فأخذ صاحب المنزل بيده واقعده على الحجلة فما استكبر ذلك واتي بطعام. وبلغ الشيعة مكانه فازدحموا على مائدته فطعم وطعم القوم ثم إنه عطش واستسقى فأتى بعس فيه نبيذ فكر فيه ثم قطب ثم دعا بماء فكسره ثم شرب ونأولني وكنت عن يمينه فشربت ونأولت الذي عن يميني ودار العس على القوم جميعاً فقلت له: يا ابن رسول الله حدثنا بحديث سمعته من آبائك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تنزل متى منازل بني إسرائيل حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو أن رجلاً من بني إسرائيل نكحت نساؤها في الأسواق لكان في أمتي من يفعل ذلك. إلا وأن الله ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت أحل منه الغرفة وحرم منه الري ألا وأن الله جعل فيكم النبيذ احل منه الري وحرم منه السكر. وقالوا: لم يحرم الله شيئاً إلا وقد جعل منه عوضاً في مثل معناه فلو كان النبيذ خمراً ما كان العوض من الخمر وإنما خلق الله الأقوات والثمرات قدراً لحاجة الناس إليها فلو كان النبيذ خمراً ما كان يصنع بالتمر والزبيب والدوشاب وأشباه ذلك مما لو ترك الناس اتخاذ الشراب منه لبار وفضل أكثره من مآكل الناس وحاجتهم وقالوا: والله لا يحرم شيئاً إلا لعلة الاستعباد ولو كان تحريم الخمر للسكر لم يطلقها الله تعالى للأنبياء والأمم فقد شربها نوح عليه السلام حين خرج من السفينة واغترس الحبلة حتى سكر منها وبدت فخده وشربها لوط عليه السلام ليلة رفع وشربها المسلمون في صدر الإسلام. وقالوا: اما قرلهم أن الخمر ما خمر والمسكر مخمر فهو خمر مثله فإن الأشياء قد نتشاكل في بعض المعاني فيسمى بعضها بعلة فيه وهي في آخر ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر الا ترى أن اللبن يخمر يروبة تلقى فيه ويترك حتى يروب ولا يسمى اللبن خمراً وإن خمير العجين يسمى خميراً(20/36)
ولا يسمى هو ولا ما خمر به من العجين خمراً وإن نقيع التمر يسمى سكراً لا سكاره ولا يسمى غيره سكراً وإن كأن يسكر وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحيط به.
وقالوا: واما قولهم للرجل مخمور وبه خمار إذا أصابه الصداع والارعاش عقب الشراب فأن ذلك قد يقال لمن أصابه مثله في النبيذ فيقال: به خمار ولا يقال: به نباذ فإن الخمر اسم قديم وكأنت الجاهلية تعرفه وتلفظ به من الخمر والنبيذ محدث إسلامي لم تكن العرب في الجاهلية تعرفه وكان شربة النبيذ من السلف لا يبلغون السكر ولا يقاربونه فيصيبهم عليه ما كان يصيب شرتة الخمر من الخمار وإنما كانوا ينالون منه اليسير على الغداء والعشاء ثم خلف من بعدهم خلف يشربون الخمر ولم يتهيبوا من المسكر فقيل: بهم خمار على ما سبق من الاسم المتقدم ولو كان الله حين احل النبيذ احل من السكر الذي يكون منه الخمار وكان شربة النبيذ من الصحابة والتابعين سكروا فأصابهم ذلك للزمنا أن يقال به نباذ او لا يقال فيجيب ما ذهبوا إليه. وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر. قال الاقيشر وكان مغرماً بالشراب:
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنع ربها ساعة قدر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد غادرت الشعرى وقد خفق النسر
فقلت اصطحبها او لغيري فاهدها ... فما أنا بعد الشيب ويلك والخمر
فاعلم كان الخمر هي التي لم تغل بها القدور. وقال ابو زيد في الوليد بن عقبة حين عزله عثمان عن الكوفة بشهادة أهلها عليه بشرب الخمر
قولهم شربك الحرام وقد كا ... ن شراب سوى الحرام حلال
يريد انهم زعموا انك تشرب الخمر وقد كان هناك شراب حلال من النبيذ ويروي (وقد كان حلالاً سوى الحرام فمالوا).
يريد كان شراب النبيذ حلال فمالوا عنه وقذفوك بشرب الخمر. ولم نحتج بأبي زبيد وهو نصراني رأيناه حجة في تحليل أو تحريم وإنما أردنا أنه اعتذر له إلى عثمان وإلى الناس بهذا القول ولم يكن ليعتذر إلا بما ينكر الناس. قال جميل بن معمر:
فظللنا بنعمة واتكانا ... وشربنا الحلال من قلله
اتكانا - طعمنا. ومنه قول الله تعالى: {واعتدنا لهن متكا} وشربنا الحلال يعني النبيذ والقلل(20/37)
جمع قلة وهي جرار يكون فيها النبيذ. قال الشاعر:
وقد كأن يسقى من قلال وحنتم
ولما دخل على الوليد ليقتل قال لهم: ما تنكرون مني؟ الم افعل؟ وجعل يعدد إحسانه إليهم. قالوا: ننكر منك شرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك. فقال: قد جعل الله فيما احل سعة عما تذكرون. وقال:
دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة ... وكأساً ألا حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
إذا ما صفا عيشي برملة عالج ... وعانقت سلمى لا اريد بدالا
فما تراه حين اعتذر فرق بين الخمر والنبيذ وقال: قد جعل الله لي فيما احل من النبيذ سعة عن شرب الخمر وفيما احل من النساء سعة عن نكاح الأمهات. وكان أبو الهندي الشاعر مغرماً بالخمر فعاتبته ابنته على ذلك ووعظته فاعلمها أنه غير صابر وأنه إن تركه اعتل فقالت له: اشرب نبيذ التمر فشربه ثم عاد إلى الخمر وقال:
أأشرب تمراً ينفخ البطن منتناً ... واتركها صهباء طيبة النشر
وقالٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ بعض الإشراف وكان ركبه الدين وخفت حاله
أن يك يا جناح علي دين ... فعمران بن موسى يستدين
تلم بنا الخصاصة ثم تعفي ... على اقتارنا حسب ودين
فما يعدمك لا يعدمك منا ... نبيذ التمر واللحم السمين
أما تراه وصف نفسه بالحسب والدين ثم قرن ذلك بشرب الخمر. وأراد عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وقال يحيى بن نوفل اليماني
ويغتبقأن الشراب الذي ... يحل به الخلد للجالد
شراب يوأفق فهر اليهود ... ويكره للمسلم العابد
يريد إنهما يغتبقأن الخمر الذي يوجب شربه الحد ثم تنبه فقال يوأفق فهر اليهود ويكره للمسلم العابد فهذا يدل على أن غيره لا يكره له ولا يوجب الحد. وفهر اليهود هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه ومنه حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه رأى قوماً يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كانهم اليهود خرجوا من فهرهم.(20/38)
وهذا أبو النواس شاهد الناس على شيء فقال:
يا ابنة القوم اصحبينا ... ما الذي تنتظرينا
قد جرى في عودة الما ... ء فأجري الخمر فينا
إنما نشرب منها ... فاعلمي ذاك يقينا
كل ما كان حلالا ... لشراب الصالحينا
قال: وأما قولهم الخمر رجس فقد صدقوا في اللفظ وغلطوا في المعنى أن كانوا أرادوا أنها نتن لأن الخمر ليست منتنة ولا قذرة إلا بالتحريم فإنه اوجب النفور منها. قال الأخطل وذكر الخمر
كانما المسك نهباً بين أرحلنا ... مما تضوع من ناجودها الجاري
وقال آخر:
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف.(20/39)
مطبوعات ومخطوطات
الدليل في موارد أعالي النيل
ألف هذا الكتاب السير وليم جارستن مستشار نظارة الأشغال العمومية في مصر وعربه إبرأهيممصور بك رئيس الترجمة في هذه النظارة. وقد جمع فأوعى في وصف كل ماله علاقة بالنيلين الأبيض والأزرق من منطقة البحيرات في أواسط القارة الأفريقية حتى بلاد السودان. صرف المؤلف سنين في الرحلة إلى تلك البلاد ووصف أحوالها الطبيعية والجيولوجية وأمدته الكومة بالنفقات الطائلة التي لا تقوى عليها إلا الدول العظمى وساعده في مهمته بعض رجال الري والعلماء المخصين في هذا الفن فجاء ما كتب دليلاً على جودة البحث والاستقراء. والكتاب في 636 صفحة كبيرة من أجود الطبع والورق وفيه ما عدا الملحقات وذكر ما يمكن القيام به في المستقبل من الأعمال في سبيل زيادة الانتفاع بمياه النيل رسوم شمسية في الأماكن والجبال والجدأول والأنهار التي يمر بها هذا النيل وهي 46 رسماً متقناً.
ومن تلاه بالأمعأن الذي يستحقه يدرك غاية الإفرنج في إشباع مصنفاتهم وصرف أقصى الهمة إلى تحسينها وإتقانها ويدرك مبلغ اهتمام المترجم بنقل هذا الكتاب الفني الذي يهم العربية نقل أمثاله من اللغات الإفرنجية.
هذا السفر المفيد شاهد عدل على اتساع صدر العربية لترجمة عامة العلوم والفنون بلغة بليغة لا تشوبها شائبة العجمة وتنطبق على الأصل المنقول عنه ولا نغالي إذا قلنا أن لغة الدليل هي من أصبح الإنشاء بلاغة وتحريراً فإن كان ابن النيل لا يجد مندوحة من تنأول هذا الكتاب ليعرف سر ماء يرويه فإن ابن غير هذا الوادي يجب عليه أن يتنأوله ليتخذه أنموذجاً في التعريب الصحيح كما يستفيد منه الفوائد العلمية والفنية التي تكثر في كل صفحة من صفحاته. ولو نقل كل شهر إلى هذا اللسان كتاب استوفى شروط التأليف على الصورة التي ذكرناها في فرع من فروع العلم التي لا عهد بها للعربية لما اتت عليها بضع سنين ألا وهي تحاكي أرقى اللغات العلمية الأوروبية.
ومن تصفح كتاب الدليل ممن عانى صناعة التعريب يتجلى له ما عاناه معربه في نقله وخصوصاً بعض المصطلحات التي عمد إلى بحر اللغة واغترف منه ألفاظاً عربية قابل(20/40)
بها المفردات الإفرنجي وهي تربو على مئة لفظة ومعظمها مما لم يدر على السن الكتاب والمعربين.
تاريخ الأستاذ الأمام
هو اسم تاريخ فقيد الشرق الشيخ محمد جمعه له مريده السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الاغر في ثلاث مجلدات كبيرة الأول في سيرته وهو لا يزال تحت الطبع والثاني في منشآته وهو يحتوي على بعض رسائله ومقالاته التي نشرت في الجرائد والمجلات ولوائحه في إصلاح التربية والتعليم الديني ورسائله إلى العلماء والأدباء وحكمه المنثورة وهو في 560 صفحة من قطع الثمن وقد قدم له مؤلفة مقدمة بين فيها منزلة المرحوم المفتي من العلم والعمل ثم أخذ في نقل بعض ما خطته يراعته في خلال حياته على اختلاف اطوارها ومن تلاه يدرك قدر الفقيد العزيز. والجزء الثالث وهو في 438 صفحة من قطع الثمن أيضاً يحتوي على تأبين الجرائد وبعض الكبراء والفضلاء ونموذج من التعازي ومراثي الشعراء وفيه شي كثير من ذكر العواطف يدل على مكانته من وضع التاريخ له في قلوب مريديه واحبابه على اختلاف الأمصار والأفكار وفي هذا الجزء مثال من شعر العصر ونثره في موضوع واحد وهو الرثاء وتقييد المناقب والأثار.
وثمن الجزء الثاني خمسة عشر قرشاً صحيحاً في مصر وأجرة البريد ثلاثة قروش وفي الخارج ستة فرنكات وثمن الجزء الثالث عشرة قروش صحيحة وثلاثة اجرة البريد وأربعة فرنكات في سائر الاقطار ويبأعان بمكتبة المنار في شارع درب الجماميز وهما من جيد الطبع والورق. فنثني الثناء الاطيب على حسن وفاء رصيفنا جامع هذا التاريخ وعلى ما بذله من الهمة العالية في وضعه وجودة تنسيقه حتى جاء كتاب أدب وحكمة وكنا نود الاقتباس منه لنفع القراء لولا معرفتنا بانه سينشر انتشاراً عظيماً في عامة الاقطار والأمصار.
لوائح الانوار البهية
كتاب للشيخ محمد بن احمد السفاريني الأثري الحنبلي من أهل القرن الثاني عشر يتضمن شرح منظومته التي ضمنها أمهات مسائل عقائد السلف وهو في مجلدين الأول في 388 صفحة والثاني في 488 صفحة طبعها على نفقته طبعاً متقناً بعض الراغبين باتحاف(20/41)
الخلف بأثار السلف وذلك في مطبعة المنار وبملاحظة صاحبها الفاضل وقد وشحه بفهرست مرتب على الحروف يتيسر به الوقوف على محتويات الكتاب فنحت الأثريين على اقتنائه ونشكر لطابعة ومصححة عنايتهما.
مؤلفات السيد البكري
سماحة السيد محمد توفيق البكري نقيب الإشراف هو من بيت مذكور بالشرف في مصر وهو معروف باشتغاله بالعلم والأدب وقد طبع في هذه الأيام خمسة كتب مهمة في بابها احدها سماه صهاريج اللؤلؤ وهو سفر وقع في 388 صفحة بقطع الثمن جيد الطبعة جمع فيه كثيراً من نثره ونظمه الرائق وسلك فيه مسلكاً جديداً في الوصف جمع إلى فخامة اللفظ براعة المعنى وشرحه الشيخ احمد الشنقيطي والشيخ محمد المصري شرحاً صافياً. الثاني كتاب التعليم والإرشاد جمعه بعض رجال الصوفية في عصرنا بأمره وهو في 677 صفحة وفيه ما لا يسع الصوفية جهله من المسائل. والثالث كتاب بيت السادة الوفائية تأليف سماحته واسمه يدل على مسماه ذكر فيه تراجم ما اشتهر من هذا البيت ومناقبهم. والرابع كتاب بيت الصديق تأليفه أيضاً يظم منثورة من أسفار عديدة استقصى فيه تاريخ هذا البيت الظاهر مكانه في الإسلام وهو في 411 صفحة من قطع الثمن. والخامس كتاب المستقبل للإسلام وهو من قلم المؤلف أيضاً ذكر فيه ما يتعلق بهذا الشأن فنثني على همة المؤلف ونرجو أن يوأصل اتحاف القراء بمثل ما اتحفهم به من هذه الأثار الرائعة.
مجموعة
هي مجموعة مشتملة على الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وعلى كتاب الحيدة للأمام عبد العزيز الكناني وعلى عقيدة السلف لابن سهيل الصابوني وهذه الرسائل الثلاث مهمة في بابها ولاسيما رسالة الحيدة فإنها صورة مناظرة جرت في حضرة أمير المؤمنين المأمون في مسألة خلق القرآن بين عبد العزيز الكناني وبشر المريسي وكان المأمون هو الحكم قابان عن فضل جم وإنه كان يقصد بمسألة خلق القرآن التي شغلت بعض العلماء في آخر عهده تحقيق حقيقة علمية لا الانتصار لنفسه او لما وقع في ذهنه وهذه الرسالة أعظم مثال في الحرية العربية. طبعها الحاج مقبل الذكير وجعلها وفقاً لا يباع ولا يشرى يمعرفة فرج الله أفندي زكي الكردي الكتبي المعروف في القاهرة فجاءت في 249 صفحة جيدة(20/42)
الشكل.
الجامعة الإسلامية وأوروبا
هي رسالة تأليف رفيق بك العظم صاحب كتاب أشهر مشاهير الإسلام وغيره من المصنفات الاجتماعية بحث فيها بحثاً تاريخياً في الجامعة الإسلامية وذكر فيها للمتعصبين من ساسة الاوربيين تحاملهم على بلاد الإسلام بالبراهين التاريخية الدامغة ونصح فيها للشرقيين والغربيين نصيحة من خبر الأمور الحاضرة وقاسها بالغابرة وهي 58 صفحة جيدة الطبع والوضع.
الإنسان ابن التربية
كتاب أدبي أخلاقي انتقادي لجرجي أفندي نقولا باز المعروف بمقالاته الاجتماعية والأخلاقية وفيه مباحث مفيدة مثل محاسن العصر ومساوئ الحضارة وسوء التربية والوالدين والتربية البيتية والاجتماعية وغير ذلك مما ينفع أرباب البيوت ويؤثر في عقول الناشئة وهو في مئة صفحة أهداه لرصيفنا صاحب الهلال جرجي أفندي زيدان وصدره يرسمه وطبعته جمعية شمس البر في بيروت وخصصت ريعه لأعمالها الأدبية.
عبد القادر الجيلاني
هي نبذة في تر جمة هذا العالم نشرها بالعربية والإنكليزية الأستاذ مرجليوث مدرس العربية في كلية اكسفورد جمعت فأوعت في هذا الباب وقد نشرت ملحقة في المجلة الآسياوية الإنكليزية.
التقيه في الإسلام
رسالة من قلم الأستاذ غولد سهير مدرس اللغة العربية في كلية بودابست كتبها بالألمانية ونشرب ملحقاًُ للمجلة الألمانية المشرقية أهدانا إياها مؤلفها عقيب أن طلع على مقالة التقيه في الجزء الثالث من هذه السنة وسنعود إلى الاقتباس منها ما لم نحصل عليه من النقول.
مقالات قصر الدوبارة
كتاب في 110 صفحات طبعه عبد الله أفندي حسين وصالح أفندي شكري حوى مقالات كتبتها جريدة المؤيد في اللورد كرومر وسياسته وخطابه الوداعي ورد المؤيد عليه وغير(20/43)
ذلك مما له صلة بهذا البحث وقد أحسن طابعاه في نشره على هذا الشكل الجميل فإن هذه المقالات من خير ما خطته يراعة كاتب سياسي في معنى الدفاع عن امته وبلاده وهو يطلب من طابعيه في دار المؤيد.
لبنان في خمس سنين
هو كتاب وقائع في 140 صفحة شرح فيه كاتبه ما حدث من الحوادث والأخبار في جبل لبنأن في عهده الأخير شرحاً ضافياً يستعان به في المستقبل على وضع تاريخ مفصل لهذا الجبل فجاء ما كتبه الكاتب أشبه بالأخبار اليومية لابن بدير في القرن الثاني عشر في دمشق والجبرتي في القرن الثالث عشر في مصر هذا مع سلاسة في التعبير وتلاعب بالألفاظ والمعاني يدل على بعد غور الكاتب وحسن بيانه.
أطباق الذهب
لشرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله المغربي الأصفهاني مائتا مقالة ومقالة في الحكم والمواعظ على طريقة السجع البديع شرحها الشيخ محمد منير المقدم في الأزهر وضبطها بالشكل الكامل وطبعها طبعاً جيداً فجاءت في زهاء 150 صفحة صغيرة.
رواية الخادعين
هي إحدى روايات احمد مدحت أفندي الكاتب التركي عربها حقي بك العظم صاحب كتابي دفاع بلفنا وحرب اليونان وهي تمثل صورة من المدنية الإسلامية في القرن الأول نشرت ملحقة لجريدة الكلمة الحرة وتباع بأربعة قروش في مكتبة القاهرة.
الدقائق في الحقائق
(أفكاري عن النفس والروح ثم القدرة الإلهية والأديان تأليف يعقوب أفندي جبرائيل مراد) وهو في 126 صفحة جيدة الورق.
نسمات الصباح
هذه نبذة من شعر حلمي أفندي مصري صدرها بنبذة بالشعر والعرب وضمنها مقاطيع وتخاميس وقصائد عرب بعضها عن الإفرنسية ونظم بعضها في أغراض عصرية لطيفة فجاءت في 64 صفحة صغيرة.(20/44)
اكاذيب السياسة
كراسة في الرد على خطبة اللورد كرومر التي القاها في حفلة وداعه التي اقيمت بأمره في دار التمثيل الكبرى بالقاهرة مساء 4 مايو سنة 1907 تأليف (ابنة النيل) وهي فتاة مصرية لم تصرح باسمها وعدد صفحاتها 78 صفحة صغيرة.(20/45)
سير العلم
سكة حديد جديدة
اخترع مهندس ايرلاندي اسمه لوي برنان بعد أن صرف سنين طويلة في النظر والبحث طريقة جديدة لتسيير مركبات السكك الحديدية إذا سلمت له من كل وجه فإنها تقلب أصول النقل المتبعة الأن في اقطار الأرض واختراعه عبارة عن تطبيق ناموس الجير وسكوب (وهي آلة اخترعها فوكول سنة 1852 ليستدل بها على دورأن الأرض) على مركبات السكك الحديد بل على جميع المركبات كمركبات الاتوموييل وغيرها. فالسكة الجديدة تسير إذا على خط واحد فتوفر نفقات كثيرة وليس فيها ادنى خطر وتسير بالكهربائية لا بالبخار.
التصوير بالألوان
منذ أربعين سنة اخترعت طريقة التصوير بالألوان وما برحت تتعاور بالعناية لتبلغ كمالها وقد وفق رجل فرنساوي هذه الأيام اسمه لوميير فاخترع طريقة جديدة اقتصادية لرسم الألوأن الطبيعية كلها على أجمل وجه يتصوره العقل.
الانتفاع بالفطر
الميكولوجيا هي فرع من فروع علم النبات خاص بمعرفة أنواع الفطر. وتقسم ضروب الفطر إلى نوعين وهما النوع المرئ الجيد والنوع السام الضار. ولما كان الفطر يكثر في تارار من أقليم الرون في فرنسا رأت جمعية تعليم العامة أن تنشئ لها في تارار مكتباً لمعرفة الجيد من هذا النبات من رديئه وكل من جنى فطراً وأتى به ذاك المكتب بفحصه له ويعطيه ورقة باسمه فكان الفطر بذلك لاهالي ذاك الأقليم الجبلي منذ ثلاث سنين أعظم مورد لهم يقتاتون منه ويبيعون لاما فضل منه وتساوت في معرفة جيده من رديئه الطفلة والشيخ الكبير ولم يعد احد يتسمم ببعض أنواعه.
سم الغضب
ثبت للأستاذ غاتس من واشنطن أن للغضب الذي يثور في رؤوس الناس سماً كما أن للحزن سماً خاصاً به وللخوف كذلك. ذلك لأن التغييرات الباطنية مهما كانت فجائية او زائلة يكون منها رد فعل على المجموع العصبي فنفس السخص الغضبان أو السوداوي يختلف بلونه عن نفس السوداوي الكئيب ولكي يثبت ذلك جعل بعضهم يتنفسون في أنبوب(20/46)
برد بالجليد لينحل النفس المستنشق فيه فجاء منه سائل لا لون عند ما كان المتنفس في الانبوب ساكناً غير مضطرب. وسائل اسفع إذا كان المستنشق غضوباً وسائل اسود إذا كان حزيناً وسائل وردي إذا كان وجدانه يتألم. وقال أن نفس الغضب إذا سال على الطريقة التي ابتدعها يكون فيه كمية من القوة الحيوية ومواد كيماوية إذا ابتلعها المرء تورده حتفه وإن هذا السم هو أشد سم عرفه العلم حتى الآن.
كتب الأرض
قدروا عدد المطبوعات الأدبية في العالم بخمسين مليون مجلد. ولم يكن حتى الأن لغير خزائن الكتب العظمى قوائم مطبوعة بالكتب التي لديها فكان مما يهم المشتغلين بالأمور العلمية وباعة الكتب أن ينظروا في المجلات التي تعنى بذكر الأسفار القديمة والحديثة.
وقد جرت العادة في ألمانيا أن يرسل كل طابع إلى مكتب العلوم الاجتماعية في برلين بنسخة مما يطبع وإن يرسل الطابعون مطبوعاتهم في إنكلترا إلى مكتب العلوم الطبيعية. وفي كلتا العاصمتين توضع فهارس كل سنة. وقد ارتأى احد علماء الأوطان أن تضاف فهارس مكتبة الأمة في باريز وهي ثالث مكتبة من مكاتب العالم بكثرة كتبها وتسقط منها المكررات وهكذا يعمل بالأحدى عشرة مكتبة من المكاتب الكبرى في العالم فيأتي من ذلك فهرس عام لجميع الأسفار في الأرض.
السيارات
صنعت الولايات المتحدة سنة 1906 - 58 ألف سيارة (اتوموبيل) وصنعت فرنسا 55 ألفاً وصنعت إنكلترا 27 ألفاً وصنعت ألمانيا وإيطاليا 20 ألفاً.
التوفير
كان فيما مضي يمدح أهل الطبقة الوسطى في فرنسا لاقتصادهم ولكن ثبت أن الألمانيين من أهل طبقتهم أكثر منهم اقتصاداً فإن ما وضع في صناديق التوفير في فرنسا في سنة 1904 قد بلغ أربعة ملايين ونصفاً من الفرنكات وسكان فرنسا 39 مليوناً على حين بلغ ما وضعه الألمانيون وعددهم 37 مليوناً تسعة ملايين ونصفاً وقد زاد المودع في صناديق التوفير في فرنسا من سنة 1900 إلى سنة 1904 مائتي مليون اما في بروسيا فقد بلغ مليارين من الفرنكات.(20/47)
غلاء الحاجيات
غلت أسعار الحاجيات في العالم المتمدن مع أن ما يستخرج سنوياً من الذهب قد بلغ ضعفي ما كان عليه منذ عشر سنين. ويؤخذ من إحصاء التجارة العام أن تجارة العالم ارتفعت من 54 مليار فرنك سنة 1867 إلى 136 ملياراً سنة 1901 أي أن مجموع النقود المتعامل بها قد بلغت ثلاثة أضعاف ما كانت في 34 سنة على أن محصولات العالم لم ترتق ثلاثة أضعاف ما كانت عليه ولا تنسب الزيادة لارتفاع أسعار البضائع بل لبخس أثمأن الذهب لكثرة المستخرج منه.
عمال المخازن
كتب احد كبار البيوت التجارية التي تبيع بالجملة في شيكاغو نصيحة لمستخدميه وهي: لا تحتقر أصلاً زبوناً ولو كان رث الثياب. ولا تقلم أظافرك على ملاء من الناس ولجعل في جيبك أبداً قلم رصاص ولا تعره لأحد ولا ترتكب غلطة واحدة سبق لك ارتكابها.
طواف العالم
آخر ما اهتدى إليه البشر من السرعة في الأسفار أن يقطع المرء الأرض في خمسين يوماً بإنفاق 146 جنيهاً فيسير السائح من باريز إلى موسكو ففلاديفوستك فكويه فيوكوهاما فسيتيل فنيويورك فشربورغ ففرنسا.
اتقاء الغش
من أحسن الطرق التي سارت عليها الولايات المتحدة في اتقاء الغش في الإعلانات أنه إذا نشرت جريدة إعلاناً ضاراً تنذرها دار البريد بأنها تحرمها من الأمتيازات التي خصتها بها إذا ظلت تنشر هذا الإعلان وترجع جميع الرسائل الواردة باسم المعلن إلى من صدرت عنهم وتكتب عليها (مزورة) وفي ألمانيا وروسيا يتداخل الأطباء في الأمور الضارة بالصحة التي تنشر الجرائد عنها الإعلانات.
التربية في يابان
كتب احد نبلاء يابان مقالة في إحدى المجلات الإنكليزية ذكر فيها ما توفر الميكادو عليه من العناية منذ خمس وعشرين سنة لإنهاض الآداب في بلاده. قال أنه شرع سنة 1880(20/48)
بمنع بعض الكتب المدرسية والدساتير وفي سنة 1890 جعل بناء التعليم على أسس جديدة وأمر الأمبراطور أن تكون مبادئ التربية مأخوذة عن تربية البيوت وعواطف المربين وعطفهم على من يربون وأن يسعى كل أمرئ إلى توسيع مداركه العقلية بان يتأهل للدفاع عن المصلحة العامة.
وصية عالم
ترك ادوارد دي هارتمأن الفيلسوف العظيم كتاباً عظيماً سينشر بعده في ثماني مجلدات وهو خلاصة الفلسفة كلها وشرح مبادئها وقد خص كل مجلد بفرع من فروعها كعلم النفس والعلوم الطبيعية والمادية والمبادئ الأولية والأخلاقية وهذه هي وصيته.
معونة على العلم
كان احد محسني الفرنسيس المسيو كاهن وقف على كلية فرنسا ألوفاً من الفرنكات لتصرفها كل سنة في إعانة أهل العلم والأدب يسيحون في الأرض ليزدادوا علماً ويؤبوا إلى بلادهم لينفعوها بفضل علمهم وقد وفق الآن خمسة عشر الف فرنك تصرف لأمرأتين او فتاتين كل سنة لتطوفا بها إلى أوروبا والولايات المتحدة واشترط أن تكونا معلمتين في المدارس الثانوية وأن تكونا عارفتين بلغة أجنبية.
عنصر الفقراء
كان الرأي الشائع أن أولاد الفقراء أصبح أجسأما من أولاد الأغنياء وإن هؤلاء دون أولئك بذكاء عقولهم وصحة أحلامهم ولكن العالم نيسفور احد أساتذة كلية لوزأن في سويسرا بما احدثه من الفن الجديد وهو علم تعريف طبقات الفقراء قد أثبت أن الأولاد الأغنياء أرقى فطرة وسحنة عقلاً مما كانوا يوصفون به ففتح بذلك سبيلاً نافعاً في مستقبل الإنسانية وكان بعلمه الجديد القائم على البحث في أحوال الفقراء لا البحث في الفقر أشبه بعلم البحث في الجانين لا البحث في الجنايات قال من بحث له في المجلة الإفرنسية: ويعرف الاختلاف الظاهر في أشكال طبقات أهل السعة وأهل الفاقة من الناس وما بينهما من الفروق التي تكاد تجعلهما المتين متباينتين مع إنهما يعيشأن في ارض واحدة ويتكلمان بلغة واحدة بالبحث في أشكال الطبقات النازلة وتأثيرهما الطبيعية والفسيولوجية. قال توكفيل الكاتب السياسي الفرنسوي (1805 - 1859) تتألف أمم مختلفة كثيرة من طبقات المجتمع الواحد(20/49)
وقالوا أن كل امة تنقسم إلى المتين وهو قول صحيح لأننا لو بحثنا في حياة الفقير وحياة الغني لرأينا أن مبدأ التناقض بينهما على اتمة بيد أن هذا الرأي يعد من غريب الآراء.
قامات الفقراء من أرباب الأعسار أصغر من قامات الموسع عليهم من أهل اليسار. فطول بن الفقير في الرابعة عشرة من عمره متر وستة وأربعون سنتيمراً وطول ابن الغني في مثل هذه السن متر ونصف وطول قامات الرجال الفقراء متر وأربعة وستون سنتيمتراً في الغالب وطول الأغنياء في سنهم متر وثمانية وستون سنتيمتراً ووزن جسم الموسرين من الأولاد وهم في الثالثة عشرة 35 كيلو وزنة جسم ابن الفقير في مثل تلك السن 33 كيلو. ومحيط رأس ابن الفقير في الحادية عشرة أصغر من محيط رأس ابن الغني فهو في الأول 524 في الثاني 533 وابن الغني وهو في سن العشرين 551. 9 وابن الفقير 547. 0 وهكذا ارتفاع الجبهة وقوة الجمجمة والدماغ والجمجمة الداخلية وزاوية الوجه كلها في قياسها في الفقراء أصغر مما هي في الأغنياء وسعة الحنك في الفقراء أكثر مماهي في الأغنياء.
وإذا قيست قوة أبناء الفقراء بقوة أبناء الأغنياء بمقياس القوة (ديناموتر) نجد أن الغني في السابعة يحمل عشرة كيلو على حين لايقدر ابن الفقير أن يحمل أكثر من ثمانية. والفتاة من بنات اليسار تحمل 12 كيلو وهي في الثانية عشرة ومثلها من الفقيرات لا تقوى على حمل أكثر من 7 كيلو. وأولاد الأغنياء أقل صبراً على التعب من أولاد الفقراء فقد دلت التجارب الكثيرة أن أبناء الأغنياء في الثانية عشرة من اعمارهم تنقص من 18 إلى 7 كيلو. وكذلك الصدر فإنه في أولاد الموسرين أكثر سعة من أبناء المعسرين اللهم إلا فيمن يعملون أعمالاً صناعية من أبناء الفقراء يكبر بها محيط صدورهم.
وحركة النمو في أولاد الفقراء أبطأ مما هي في أولاد الأغنياء. وبنات الفقراء لا يبلغن الا بعد سنة او سنتين من السن التي يبلغ فيها امثالهن من بنات الأغنياء. وأثبت كثير من الأطباء أن المولودين حديثاً من أولاد الفقراء أقل وزناً من امثالهم من أبناء الأغنياء والأم المستريحة تلد أولاداً أثقل وزناً من الأم المتعبة إلى آخر يوم من حملها وليس لها غذاء جيد. ومن المؤثرات في صحة المولود سن الأم وزمن بلوغها وتعاقب ولادتها وصحة حالتها وكل هذه الأمور تؤثر في طول الطفل ووزنه.(20/50)
ويخطئ من يقول أن الجمال وتناسب الأعضاء موجدان في أولاد الفقراء لأن الجمال والقوة والنشاط تابعة لسعة العيش أبداً ولاسيما لحالة الأم وإن وجد جمال في أبناء الفقيرات وبناتهن فإنه عرض زائل يذبل لأول نضارته وأقل تعب ينالهم. وتكثر الأسقام والموت في الفقراء أكثر من كثرتها بين الأغنياء وذلك لأن الفقير عرضة للأمراض أكثر بالنظر لتركيبه فلا يقوى على مقاومتها ولان معيشته شاقة. وخالف من يقول بان تشويه وجوه الفقراء وسحناتهم ناتج من تعاطيهم بعض الصنائع وأثبت بأن ذلك خلقي فيهم وأن للفقر والانحطاط الطبيعي وما يلحق بذلك من التبدلات والاضطرابات في التغذية يداً كبيرة في التأثير في الطفل قبل أن يحيا. وتكلم على الأخلاق النفسية من الإحساس على اختلاف أنواعه والعواطف الأدبية والتأثرات والذكاء فقال أنها في الفقراء أقل مما هي في الأغنياء واذ يتأخر ابن الفقير في نموه فهو لا يبلغ أشده بدون مساعدة شروط كثيرة من التعليم والمحيط المرتقي والرفاهية الطبيعية والاقتصادية وهو مما لا يحلم أن يراه من كانوا في أدنى سلم الاجتماع. ولئن نشأ من الطبقة النازلة أناس يكذبون هذه القضية كانوا من خيرة العقلاء والأذكياء ولكنهم قلائل جداً لأن الأسباب الصحية والاقتصادية تؤثر في بنية الإنسان وعواطفه وعقله ولاسيما في ذكائه ونبوغه وليس الذكاء والنبوغ مما يستفيد من المحيط بل هما خلقة في المرء. ومما لا ريب فيه أنه كلما كثر في عنصر الانحطاط العقلي والانحطاط المعاشي لا ينشأ وسطه إلا أناس ضعيفة عقولهم منحطون عن غيرهم من أهل السعة.
بحث الباحثون في خصائص الشعوب والأجناس والقبائل ولم يبحثوا كثيراً في خصائص الطبقات الاجتماعية في امة واحدة. وما الخصائص التي تميز طبقتين من طبقات شعب واحد غنية وفقير إلا بأكثر تبايناً حتى بين أهل البلد مما هي بين امة في القاصية وامة في الدانية وثبت للباحث بالبراهين المدققة أن الاختلاف في الولادة والموت وسن الزواج والأمراض وغيرها بين البارزين الفقراء وبين أهل طبقتهم من سكان فينا أقل مما هو بين سكان مملكتي إيطاليا ونروج مثلاً وأن الاختلاف يكثر بين طبقتي الفقراء والأغنياء من أهل البلد الواحد ولا يكثر على تلك النسبة بين شعبين متباينين بلغتيهما وأصلهما بعيدين أحدهما عن الآخر مئات من المراحل. والتمدن يبدو في الطبقات النازلة مهما ارتقت بلادهم(20/51)
كما يبدو عند الطبقات النازلة في البلاد المنحطة أي أن فقراء بلاد التمدن ينتشر فيهم الجهل ويقل النسل ويكثر الموت والجرائم كما هو الحال بين فقراء البلاد الساقطة. ولا يفوتنا النظر أن التمدن لا ينتشر في الآفاق المنوعة من ارض واحدة على معدل واحد بل أنه يستنير كل الإنارة في أفق ويظلم في آخر أو يكون ذا نور ضئيل ورسم محيل. وهم قوم أن الطوتمية وعبادة الظلام والحيوانات والأحجار والأشجار والمياه والنيران والظواهر الجوية والسحر وغيرها من أنواع التعبد هي من خصائص الأمم المتوحشة القديمة والحقيقة أن هذه العبادات لا تزال حية نامية بين الطبقات النازلة عند أكثر الأمم عراقة في الحضارة على أنك تجد مثل هذه العادات والاوهام والأخلاق شائعة أيضاً عند أرقى الطبقات المتحضرة لهذا العهد وذلك لأن للاموات تأثيراً شديداً في نفوسنا وهي الحاكمة المتحكمة فينا ولكم يحاول المتمدن منا أن ينزع عنه ما كان الفه اسلافه من العادات والعبادات وماهو يبالغ ما أراد لا تحكم ذلك منه وغلبة العادة ولكن ذلك يقل في الطبقات العالية ويكثر في الطبقات النازلة.(20/52)
نقد المقتبس
كان معظم النقد الذي ورد على هذه المجلة في عامها الأول مقصوراً على الألفاظ والوضع اما نقد هذه السنة فأكثره على المعاني والمقاصد. وقد كتب إلينا احد أهل العلم في القاهرة يقول (كنت آليت على نفسك أن لا تتعرض في المقتبس للمباحث المتعلقة بالدين أو السياسة لئلا يظهر منك ما يشتم منه رائحة التعصب للملة أو الدولة ثم رأيتك كانك نسيت عهدك حتى نبهك احد أدباء بغداد على ذلك. وقد رأيتك عدت إلى مثل ذلك فأكبرت الأمر في مثل مسألة بسيطة لا توجب شدة ولا حدة كمسألة التقية ورحت بنحي فيها على الشيعة وإن كان ما أوردته منقولاً عن غيرك حتى أحرجت بذلك صدورنا دع عنك صدورهم. وكذلك فعلت في مسألة السموأل فإنها مسألة طفيفة فما بالك أعظمت الأمر فيها ولعلك تقول أن المقصد بذلك تنقيح البحث في التاريخ وهو من مباحث العلم على أن الاعتراض جاء من غيري فنشرته. أقول نعم كان الخطب سهلاً لو لم يكن في المقالة شدة. وصاحب المجلة مسؤول عما يكتب في مجلته. والمأمول أن لا تعود إلى مثل ذلك او تبين عذرك المقبول في هذا الشأن والسلام عليك)
هذا ما تناولناه بيد المنة لكاتبه وكنا نود أن نكتفي بنشره ونترك الحكم فيه للقراء كما فعلنا حتى الآن في جميع ما جاءنا من هذا القبيل لولا أن كثر مثل هذا النقد علينا وجاءنا شيء من نوعه من مصر والشام والعراق فأصبح السكوت عن الأجابة ضرباً من ضروب الأهمال. وبعد فالمجلة لا تزال جارية على الخطة التي رسمتها في أول جزء صدر من التمحص للعلم المحض والانطلاق في الفكر والتجوز في الاقتباس والنشر. وما يبدر منافي بعض الموضوعات مما قد يحمله بعضهم على نزعة دينية أو سياسية فإنما يكون في الغالب من مؤزاري المجلة الكرام أو مما نقتبسه من غيرنا أو يقع لنا بالعرض لا بالقصد ولا نبرئ النفس من الذهول في بعض الأحيان فالإنسان محل النسيان.
ليس معنى نشرنا في السنة الماضية لمقالتين في حريق الأسكندرية أحدهما معربة عن التركية والأخرى عن الإنكليزية مما يستدل منه على أننا نريد الغض من الرفع لآخر فالمسألة تاريخية صرفة تعاورتها الأقلام ولا تزال تتعاورها من أهل كل نحلة وجنس. وكذلك درجنا بحث (شعراء النصرانية في الجاهلية) وهو من المباحث التي لامنا بعضهم على القبول بنشرها ولو علم اللائمون بأن الناقد والمنتقد عليه متحدان في النحلة والمشرب(20/53)
لخففوا من اللائمة. وهكذا قل في نشرنا مقالة التقية فإنا لم نقصد إلى الحط من فرقة معينة فيما كتبنا وعذرنا إلى من تألموا مما نقلناه في التقية عند الشيعة أن ليس لدينا كتاب من كتب محققيهم ننقل عنه ما يتم به البحث. ولو تفضل أولئك الناقدون فوافونا بما أثر عن أهل العلم من الشيعة لكانوا أحسنوا صنعاً. وقد كان وعدنا احد أفاضلهم أن يوافينا بما قاله علماؤهم ثم عاد فاعتذر بان شواغل شغلته عن ذلك أهم من هذه المسألة.
ولايفوتنا النظر بان تعلق العلوم بعضها ببعض يقضي علينا في الأحايين أن ندخل في مبحث اجتماعي أو علمي شيئاً من مسائل الدين تيمماً للبحث كما وقع لنا في بحث البقية وما كان في وسعنا أن نصور للقارئ هذا الموضوع لو لم نعتمد إلى كتب التفسير والكلام ونقتبس منها ماله اتصال بالبحث.
اما قول المنتقد المشار إليه بان صاحب المجلة مسؤول عما ينشر ولا يعذر فكلام لا يخلو على اطلاقه من نظر. ذلك لأنه لا يتيسر تقييد حرية المكاتبين إذا كانوا مخلصين فيما يكتبون ما لم يتجاوز قلمهم الحد في التنكيت والتبكيت فأن ذلك مما يلام فيه الكاتب والناشر على أننا كثيراً ما نعدل مثل هذه السقطات مالم نذهل او نجد الأمر فيه غير جلل على أنا قد اشرنا إلى العذر في مثل ذلك في نبذة نشرناها منذ شهرين تحت عنوان المترجمات وحكم المترجم فيها. فهل فيما أوردناه مقنع؟
اقترحنا منذ مدة على احد أصدقائنا أن يعرب لنا عن الإنكليزية شيئاً من مقالات القاضي أمير علي الهندي نظراً لشهرة المؤلف في بلاد الإنكليز فعرب لنا مقالة المرأة في الإسلام فنشرنا نصفها في الجزء الخامس من هذه السنة وقد وردت علينا من احد فضلاء سورية رسالة شديدة الوطأة ينقد فيها مقال القاضي الهندي وبنى نقده على أمرين أحدهما ضعف الأخبار التي نقلها وأنها لا تعرف في كتب الثقات من علماء الأثر والثاني تعليله بعلل لا تعقل فأن كثيراً من علماء الإسلام بل وغيرهم من المحامين عنه قد أوردوا في ذلك عللاً محكمة فيها مقنع للناظر. ولما كان نشرها برمتها يوجب الدخول في تفصيل قضايا يباين ما أنشئت له المجلة من الأبحاث رأينا أن نكتفي بالإشارة إلى تلك الرسالة شاكرين للمنتقد عنايته منبهين على أن المنتقد عليه حسن النية فيما كتب وكثيراً ما يكبو الجواد.(20/54)
العدد 21 - بتاريخ: 15 - 10 - 1907(/)
صدور المشارقة والمغاربة
ابن زيدون
إذا انتشرت الآداب والعلوم في أمة وكادت تعم أفرادها كافة يأتي من بين أولئك المتعلمين الكثار صفوة من الرجال منهم ينشأ النوابغ لان ارتقاء العلوم في الخصوص يكون على نسبة ارتقائها في العموم. وصاحب الترجمة هو احد أفراد الأندلس المعدودين زكا أصله وسما عقله ورجح بيانه وانفتق لسانه وبعد صيته بين حملة رايات القريض وصواغ عقود الإنشاء جمع إلى تليد مجده طريفاً وإلى آدابه الوهبية آداباً كسبية وقد عد في الطبقة العالية بين شعراء الأندلس ونال من المنثور حظاً كبيراً فهو على التحقيق كما وصفه احد الأدباء (بحتري المغرب) لحسن ديباجته وسهولة معانيه ومتانة تراكيبه تقرأ في منظومة العواطف في أبهى مظاهرها وتتجلى لك أغراضه في أسمى معانيها فشعره جعبة الأدب البارع ودرج الذهب الرائع ومثال الظرف والرقة وعنوان الانسجام والإجادة حتى قال أحدهم فيه: من لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف كله.
وصفه صاحب القلائد بقوله: زعيم الفئة القرطبية ونشأة الدولة الجهورية الذي بهر بنظامه وظهر كالبدر ليلة تمامه فجاء من القول بسحر وقلده أبهى نحر لم يصرفه إلا بين ريحان وراح ولم يطلعه إلا في سماء مؤانسات وأفراح ولا تعدى به الرؤساء والملوك ولا تروى منه إلا حظوة كالشمس عند الدلوك فشرف بضائعه وأرهف بدائعه وروائعه وكلفت به تلك الدولة حتى صار ملهج نسانيها وحل من عينها مكان إنسانها.
وفي بعض المجاميع أن الوزير آبا بكر بن عمار وأبا الوليد بن زيدون كانا في حسن الشعر فرسي رهان ورضيعي لبان وقد ذكرا أكثر الأدباء بالأندلس إنهما اشعر أهل عصرهما هذا ما ذكره العماد الكاتب وذكر له القصيدة التي أولها (أما في نسيم الريح عرف يعرف) والرسالة التي كتبها لأستاذه ابن جهور يستعطفه بها وقد اعتقله لما سمع أنه مال إلى المعتضد عباد وذكر لابن عمار الرائية التي استوزره لسببها ابن عباد وهي ادر الزجاجة الخ.
ولقد كان ابن زيدون آية في طلاقة لسانه كما كان غاية في حسن بيانه ويحكى أن ابنته(21/1)
توفيت وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم فقيل إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد الصفدي وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنين في أساليب الكلام وهو أمر صعب إلى الغاية وأرى أنه اشق مما يحكى عن علماء وأصل بن عطاءاته ما سمعت منه راء لإنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهوينه أن وأصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء وهذا كثير في كلام العرب فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساع أو صافن أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزنى أو غير ذلك أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهدم أو غير ذلك وأما ابن زيدون فأقول في حقه أقل ما كان في تلك الجنازة وهو وزير ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر وهذا كثير إلى الغاية لاسيما من محزون فقد قطعة من كبده
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحاب
وقال ابن بسام في الذخيرة في ترجمة ذي الوزارتين الكاتب أبي الوليد ابن زيدون وصاحب الذخيرة خير من يصور الرجال ومناشئهم وأحوالهم:
كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم. وخاتمة شعراء مخزوم. احد من جر الأيام جرا.
وفات الأنام طرا. وصرف السلطان نفعاً وضراً. ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى أدب ليس للجدول تدفقه. ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه. ولا النجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المباني. شعري الألفاظ والمعاني. اخبرني غير واحد من وزراء إشبيلية قال: لما خلص ابن عبد البر من يد عباد. خلوص الفرزدق من يد زياد. بقيت حضرته من أهل هذا الشان. أعرى من ظهر الأفعوان. وأخلى من صدر الجبان. فهم باستخلاف أبي محمد ابن الباجي المشهور أمره الآتي في القسم الثاني من هذا الديوان ذكره فكان أبا الوليد غص بذلك ووطأ أبا محمد بن الجد على الإشارة بالاستغناء عما هنالك فكأنت الكتب تنفذ من إنشاء أبي الوليد إلى شرق الأندلس فيقال: تأتي من إشبيلية كتب هي بالنظم أشبه منه بالنثر. وقد أجرى ذكره أبو مروان بن حيان في وصف من كان اصطنع ابن جهور من رجال دولته فقال: ونوه بفتى الأدب وعميد الظرف الشاعر البديع الوصف أبي الوليد احمد(21/2)
بن زيدون ذي الابوة النبيهة بقرطبة والوسامة والدراية وحلاوة المنظوم والسلاطة وقوة العارضة والافتنان في المعرفة وقدمه إلى النظر على أهل الذمة لبعض الأمور المعترضة وقصره بعد على مكانه من الخاصة والسفارة بينه وبين الرؤساء فأحسن التصرف في ذلك وغلب على قلوب الملوك. وقال ابو مروان وكان أبو الوليد من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة في أيام الجماعة والفتنة وبرع أدبه وجاد شعره وعلا شأنه وانطلق لسانه فذهب به العجب كل مذهب وهون عنده كل مطلب وكان علقه من عبد الله بن احمد احد حكام قرطبة ما اداه إلى السجن فالقى نفسه يومئذ على أبي الوليد بن جهور في حياة والده أبي الحزم فشفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به واسنى خطته وقدمه في الدين اصطنع لدولته واوسع رايته وجلله كرامته ولم يقنعه ذلك فيما زعموا فاتفق أن عن له مطلب بحضرة ادريس الحسني بمالقة فأطال الثواء هنالك واقترب من ادريس وخف على نفسه واحضره مجالس أنسه فعنف عليه ابن جهور وصرفه في السفارة بينه وبين أمراء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة فاستقل بذلك بفضل ما أوتيه من العارضة بالنسب والجاه والمنفعة ولم يغنه ذلك عن التهافت في الترقي لبعد الهمة فهوى عما قليل إلى عباد صاحب إشبيلية فهاجر عن وطنه إليه ونزل في كنفه وصار من خواصه وصحابته يجالسه في خلواته ويسفر له في مهم رسائله على حال من التوسعة وكان ذهابه لعباد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
قال أبو الحسن: فاما سعة ذرعه وتدفق طبعه وغزارة بيانه ورقة حاشية لسانه فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد والرمل الذي لا يحصر ولا يعد اخبرني من لا ادفع خبره من وزراء إشبيلية قال: لعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حرمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم فما سمع يجيب أحداً بمثل ما أجاب به غيره لسعة ميدانه وحضور جنانه. وقد اخرجت من أشعاره التي هي حجول وغزر ونوادر أخباره التي هي مأثر وأثر ورسائله التي اخرست السنة الحفل (ما ستتلوه) ثم ذكر له ما يتعلق بذكر وفاة ذي الوزارتين فصل من تاريخ الشيخ أبي مروان ابن حيان رأيت اثباته لنبل مساقه وحسن اتساقه يقول فيه: وفي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وأربعمائة سار الحاجب سراج الدولة عباد بن محمد إلى إشبيلية الحضرة الاثيرة لمطالعتها وتأنيس أهلها(21/3)
من وحشة خأمرت عامتهم من أجل عدوان رجل منهم على يهودي زعم أنه سب الشريعة فبطش به المسلم وسط السوق وجرحه وحرك عليه العامة فقبض عليه صاحب المدينة عبد الله بن سلام واعتقله فكان لعامة الناس في إنكار حبسه كلام وإكثار فخاطب السلطان بقرطبة بما كان منه ويستأمره في شأنه فعجل انفاذ ولده الحاجب سراج الدولة إلى إشبيلية في جيش كثيف من نخبة غلمانه ووجوه رجاله لمشارقة القصة والاحتياط على العامة وانفذ معه ذا الوزارتين أبا الوليد بن زيدون أحد الثلاثة كابري وزرائه المثناة وزارتهم مع الحاجب على بقية وعك كان متألماً منه ولم يعذره في التوقف من اجلها فمضى لطيته مسوقاً إلى منيته وخلف ولده ابا بكر الفذ الوزارة المرتسم بالكتابة وراء ساداً مكانه بالحضرة فأقر فيها أياماً ثم أمر بالمسير وراء والده لأمر كلفه فعجل بالانطلاق له فمضى غداة يوم السبت من ثمان خلون من المحرم سنة ثلاث وستين فخلت منهم منازلهم بقرطبة وصيرت على سواهم فتحدث الناس بيبو مكان الأديب ابن زيدون لدى السلطان وبما جرى من الحظيين لديه ابن مرتين وابن عمار في ابعاده وابعاد ابنه واحتوائهما على خاصة السلطان وتدبير دولته ولم يطل الأمد بابن زيدون بعد لحاق ابنه به ووجدانه إياه متزايداً في مرضه نازحاً عن ألافه على جهد في استدعائها على أنتهاء المدة وانتهاك القوة فاستقر به وجعه إلى أن قضى نحبه وهلك بدار هجرته إشبيلية صدر رجب سنة ثلاث وستين فدفن فيها مشهوداً مفتقداً واحتوى تربها عليه فيا بعد ما بين قبره وقبر ابنه لدينا رحمة الله عليهما.
ولقد اتصل خبر هلكه بعشيرته أهل قرطبة فتنازعوه وسيئوا لفقده وحزنوا عليه إذ كان منهم متعصباً لهم هاوياً إليهم حدباً عليهم والبقاء لمن تفرد به وحده. وقد عزى اخوانه عنه امتداد بقاء فتاه الندب أبي بكر ولده بعده ساداً ثلمه سامياً مسماه غائطاً عداه عاطياً منتهاه مع شماخة ودماثة وحصافة ونزاهة ومعرفة ووفور حظ من أدب بلاغة وكتابة وشركة في التعاليم المعلية واشتداد في رعاية متقادمي الذمة لم يفقد اخوان أبيه معها الا عينه هو.
اما شعره فمعروف سائر على الألسن. وقد افضنا في الكلام على ديوانه في غير هذا الموضع من هذا الجزء. واما نثره فقليل في الايدي لم يشتهر منه غير رسالتين مفردتين لم ينسج ناسج على منوالهما إحداهما رسالته في التنكيت على احد وزراء عصره وهي التي(21/4)
شرحها الأديب المشهور ابن نباته السعدي. والثانية رسالته التي كتبها وهو في الحبس يستعطف بها أمير مصره وقد شرحها صلاح الدين الصفدي (وطبع هذان الشرحان في الديار الأوروبية) ومتى ساعدنا الوقت نشرناهما لكثرة ما فيهما من التلميح للأمور التاريخية التي يجدر بكل أديب الوقوف عليها وقد أحببنا أن ننشر له بعض الرسائل التي ذكرها صاحب الذخيرة نقرأوها في باب الصحف المنسية.(21/5)
ثروة العرب
قد يظن من يطالع تاريخ الإسلام بدون أن يعمل نظره معمله أن مايراه في تضاعيف سطوره من أخبار الثروة وطول ارقامها وتفإني الباحثين عنها والمتفإنين في نيلها ضرباً من ضروب الغلو ساق إليه تسرع المؤلف او اختلاق منه ليجعل لمن يتكلم عنه وقعاً في النفوس ويحبب إليها مطالعة كتابه خصوصاً والبشر في كل دور من ادوارهم كادوا يجعلون الدينار معبودهم.
لو لم يرد إحصاء الثروة الإسلامية في كتب الثقات ما كان كلام بعضهم عنها بحيث يصبح نقله. فقد لقي الرسول عليه الصلاة والسلام ربه وحاله من الزهد في المال والرفاهية حاله واستن معظم أصحابه بسنته وكان من أمر أبي بكر وعمر وعلي من الزهد في المال ماشاع ذكره وظهر أثره وتحدث به السمار في الامصار. قال معاوية وقد ذكر المال (اما ابو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده واما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها واما عثمأن فأصاب منها واما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن)
على هذا النحو كان التأثل والارتياش راح الخليفة الأول وأسباب الفتوح معدودة ولم يصل قواده إلى أقصى جزيرة العرب ليفتحوا بلاداً عأمرة كفارس ومصر والشام كانت خزانة الثروة والأموال بما كان فيها من حضارة قديمة وإنما تهيأت الفتوحات وكثرت الغنائم أيام الخليفة الثاني ففتح الله للمسلمين تلك البلاد الغنية فعف عنها هو معظم أصحابه وكان يصادر من عماله من يجمع مالاًُ من غير حله. أما الخليفة الثالث فأخذ نصيباً من الدنيا هو وعماله وربما اغرق هؤلاء في نيلها بطرق لم تعهد زمن الخليفتين السالفين لان معظمهم من انسبائه وخاصته لا يحاسبون فيما هم فاعلون حتى إذا جاء الخليفة الرابع أراد إرجاع الخلافة إلى طورها اللائق وقتر على نفسه وعلى خاصته وذويه ولم يتسع له الوقت حتى تظهر فيها أخلاقه بالقول والفعل لاشتغاله بدفع غوائل الفتن.
جاء معاوية فإنقلبت الخلافة إلى ملك عضوض وبدأ يستكثر من المال فيعطيه الأديب والطبيب والخطيب والفقيه والكاتب والقائد والعامل ومن ماثلهم يجعلهم عدته في توطيد الملك له ولذريته فكثرت الأموال والناس على دين ملوكهم. ولم يكن الا قليل حتى ابدى عبدة الدرهم نواجذهم من غير نكير وكاد ينسى ما كان عليه أهل الصدر الأول الا قليلاً ففي حوادث سنة اثنتين وثلاثين (أن الدنيا اتسعت على الصحابة حتى كان الفرس يشترى(21/6)
بمائة الف وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة الف وكأنت المدينة عأمرة كثيرة الخيرات والأموال والناس يجبى إليها خراج الممالك وهي دار الأمارة وقبة الإسلام فبطر الناس بكثرة الأموال والخيل والنعم وفتحوا اقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا)
(وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الثمانية الذين سبقوا الخلق إلى الإسلام تاجراً كثير الأموال بعد أن كان فقيراً باع سرة أرضاً له بأربعين ألف دينار فتصدق بها كلها وتصدق مرة بسبعمائة جمل باحمالها قدمت من الشام وأعان في سبيل بخمسمائة فرس عربية)
(ومات أبو طلحة الانصاري احد من شهد بدراً في سنة أربع وثلاثين وكان أكثر الانصار مالاً)
(وكان الزبير بن العوام ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة كثير المتاجر والأموال قيل كان له الف مملوك يؤدون إليه الخراج فربما تصدق بذلك في مجلسه وقد خلف أملاكاً أبيعت بنحو أربعين ألف الف درهم وهذا لم يسمع بمثله قط)
(وكان طلحة بن عبيد التميمي أحد العشرة من الأجواد يقال له طلحة الفياض وطلحة الجود ويقال أنه فرق في يوم واحد سبعمائة الف ويروى أن إعرابياً من أقاربه قصده وتوسل إليه فوصله بثمانمائة الف درهم ويروى عن عمرو بن دينار عن مولى طلحة أن دخل طلحة كان كل يوم الف درهم ويقال أنه خلف من المال الفي الف درهم ومائتي ألف دينار وقال ابن الجوزي خلف طلحة ثلاثمائة حمل ذهباً وروى ابن سعد باسناد له قومت أصول طلحة وعقاره بثلاثين الف الف درهم)
وخلف عمرو بن العاص نائب معاوية على مصر (أموالا عظيمة من ذلك سبعون رقبة بعير مملوءة ذهباً وكان معاوية قد أطلق له خراج الديار المصرية ست سنين شارطه على ذلك لما أعانه على وقعة صفين). جمع ابن العاص ما جمع لا من الخراج الذي كأن يستأثر به وحده وإنما من تلونه في أساليب استخراج المال من أهل مصر ولذا صادره عمر بن الخطاب لما كان عاملاً له عليها. روى الديري في كتاب الحبس على التهمة عن أبي القاسم بن سلام في كتاب الأموال في اسناد له عن هشام بن أبي رقية وكان ممن افتح مصر قال افتتحها عمرو بن العاص فقال: من كان عنده مال فلينتابه قال: فأبي بمال كثير قال: وبعد(21/7)
ذلك بعث إلى عظيم أهل الصعيد فقال: المال فقال: ما عندي مال فسجنه قال: وكان عمرو يسأل من يدخل عليه هل تسمعونه بذكر أحداً قالوا: نعم يذكر راهباً بالطور فبعث به مع رسول من قبله إلى الراهب فأتي بقلة من نحاس مختومة برصاص فإذا فيها كتاب وإذا فيه يا بني إن ارتم مالكم فاحفروا تحت الفسقية فبعث عمرو الأمناء إلى الفسقية فحفروا فيها فاستخرجوا منها خمسين اردباً دنانير قال فضرب عنق القبطي وصلبه.
ومصر هي أم المدن الإسلامية بثروتها وتربتها ذهب كما وصفها احد حكامها ولم يزل أمراؤها يستنزفون أموالها ففي سنة خمس وثمانين (مات متولي مصر والمغرب عبد العزيز بن مروان الأموي اخو الخليفة وقد ولي الديار المصرية عشرين سنة وخلف أموالاً لا تحصى) وسنة 515 مات بمصر الأفضل أمير الجيوش شاه نشاه احمد بن أمير الجيوش بدر الأرمني وكانت ولايته ثمانياً وعشرين سنة على الديار المصرية (واستولى الأمر على حواصله كلها ولم يسمع في الدنيا بمثلها كثرة كانت دوابه باثني عشر ألف ألف دينار وكان لبن المواشي التي له يغل في العام ثلاثين ألف دينار وأما بن خلكان فنقل عن صاحب الدول المنقطعة قال: خلف الأفضل وزير الديار المصرية وأمير جيوشها ستمائة ألف ألف دينار ومائتين وخمسين إردب دراهم وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج)
وكانت أسباب الثروة في البلاد الشرقية كثيرة وخصوصاً لمن ولي شيئاً من أمر الأمة في دور الانحطاط وارتفاع المراقبة وفساد التربية فإن المصادرات والرشوات وأنواع الهدايا والقربات وقلة النفقات ورخص البياعات كانت كلها من الأسباب التي تهيء الأمير متى رفع خوف الله من قلبه أن يكون صاحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يسلبها ألوفاً من الضعفاء لينعم بها باله وبال عياله وأولاده من بعده. وإلا فكيف كان يتأتى للأمراء أن يخلفوا الأموال الطائلة في خزائنهم ويسرفوا إسرافاً لا يكاد يصدق لولا صحة ما رواه المحققون من أهل النظر.
قيل أن جملة ما أنفقه عبد الله محمد بن أبي يوسف احد ملوك الأندلس في سفرة له مائة وعشرون حملاً ذهباً فكم كان في خزائنه يا ترى؟ ولا يخفى على ذي بصر أن أحوال العرب الاجتماعية لم تكن في الدرجة التي نتصورها ولو حفظت لنا كتبهم وسجلاتهم من الضياع لكان حكمنا على مدنيتهم من هذا القبيل صحيحاً لا شوب فيه ولا تخليط ولاشك إن(21/8)
كان للقوم عناية بالمال وطرق استثماره وأخبار أصحابه عنايتهم بالشؤون التي قلما يخطر بالبال إن كتاب العرب دونوا فيها وصنفوا. وما تعب يعانيه من يود الخوض في ذكر أحوال العرب على جليتها إلا ناتج من قلة الظفر بكل ما كتبوه وقد صام القوم عن العلوم الاجتماعية قرابة خمسمائة سنة لم يكن لهم فيها بعد ابن خلدون فيما احسب كتابة ولا رسالة يصح الرجوع إليها في المعضلات.
رغب كثير من أهل الإسلام في الدنيا على أصولها ونشدوها من أبوابها وادخروا الأصفر والأبيض بعرق الجبين والكدح المشروع والطرق المعقولة والارتياض والاستنفاض والصناعات والتجارات والزراعات. وإن قل من جمعوا المال من حله وأنفقوه كذلك قلتهم في كل امة بحيث يتأتى للباحث في تراجم كبار الأغنياء في العالم أن يرجع طبقاتهم إلى ثلاث أما سارق بطرق تجارية أو صناعية كما في الغرب اليوم أو سارق برشوة ومظلمة كما في الشرق قديماً وحديثاً أو وارث ترك له أهله مالاً جنوه بتلك الأسباب وقليل منهم بالعمل واتخاذ أسباب الرزق. ولا يعقل أن يكسب المرء من حلال صرف ويسير على قانون مشروع أو معقول ويتسنى له أن يكون من رجال الخزائن والصناديق.
كان أمام أهل مصر الليث بن سعد الفهمي المتوفي سنة 175 (من بحور العلم له حشمة وافرة وكان نظير ملك قيل كان دخل الليث في السنة ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة مال قط وكان نواب مصر من تحت اوأمره) وسنة 302 صادر المقتدر بالله العباسي حسين ابن الجصاص الجوهري وسجنه قال ابن الجوزي: وأخذوا منه ما قيمته ستة عشر الف ألف دينار قال بعضهم: رأيت ابن الجصاص يقبن بين يديه بالقبان سبائك الذهب قال الكتبي في ذيل الوفيات: كان ابن الجصاص من اعيأن التجار ذوي الثروة الواسعة ولما بويع لعبد الله ابن المعتز وانحل أمره وتفرق جمعه وطلبه المقتدر اختفى عند ابن الجصاص هذا فوشى به خادم صغير لابن الجصاص فصادره المقتدر على ستة آلاف ألف دينار قال ابن الجوزي: أخذوا منه ما مقداره ستة عشر الف ألف دينار عيناً وورقاً وقماشاً وخيلاً وبقي له بعد المصادرة شيء كثير إلى الغاية من دور وقماش وأموال وبضائع وضياع.
قال ابن الجصاص في سبب ثروته: إنه كان في دهليز أبي الجيش خمارويه بن احمد ابن(21/9)
طولون وكان وكيله في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجون إليه وما كان يفارق الدهليز لاختصاصه به فخرجت إليه قهرمانة لهم في بعض الأيام ومعها عقد جوهر فيه مائة حبة لم ير قبله ولا بعده افخر ولا أحسن منه كل حبة منه تساوي مئة ألف دينار عنده وقالت: يحتاج أن يخرط حتى تصغر فتجعل في إذأن اللعب وفي قلائده قال: فكدت اطير وأخذتها وقد قلتٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ السمع والطاعة وخرجت في الحال مسروراً وجمعت مائة حبة أشكإلا في النوع الذي طلبته واردته وجئت عشياً وقلت إن خرط هذا يحتاج إلى انتظار زمان وقد خرطت اليوم ما قدرنا عليه وهو هذا ودفعت إليها المجتمع وقلت الباقي يخرط في أيام فقنعت بذلك واعجبيها الحب فخرجت وما زلت أياماً في طلب الباقي حتى اجتمع ف حملته إليها وقامت علي المائة حبة بدون المائة الف درهم وأخذت منهم جوهراً بمائتي الف الف دينار ثم لزمت دهليزهم وأخذت لي غرفة كانت فيه فجعلتها مسكني وكان يلحقني من هذا كثر مما يحصى حتى كثرت النعمة وانتهيت إلى ما استفاض خبره.
هكذا اغتنى ابن الجصاص المتوفي بعد العشرين والثلثمائة تقريباً وله أخبار ونوادر لا تصدر الا عن النوكي كان يتظاهر بها ليرى الوزراء منه هذا التغفل فيأمنوه على انفسهم إذا خلا بالخلفاء.
ومما يدل على مقدار الثروة الإسلامية النظر في مصادرات الملوك لأمرائهم وقوادهم فقد صادر المنصور سنة ثمان وخمسين ومائة خالد بن برمك (وأخذ منه ثلاثة آلاف الف ثم رضي عنه).
(وفي سنة 219 غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ بي أبي دؤاد القاضي وصادره وأخذ منه ستة عشر الف الف درهم) وفي سنة تسع عزل القاضي القضاة يحيى بن اكثم وأخذ منه مائة ألف دينار. وكان الوزير ابن الفرات ذا جبروت وفتك وزر مرات للعباسين ثم صودر وقتل قيل كان دخله من ملكه في السنة الفي ألف دينار وكان له من الخيل والمماليك والتجمل مالا يكون مثله لسلطان. ولما جرت المحنة على الوزير أبي علي بن مقلة صاحب الخط المشهور في زمن الراضي بالله في سنة 324 أخذ خطة بالف ألف دينار (ومات ايتاخ التركي الأمير مقدم جيوش الواثق سنة أربع وثلاثين ومائتين خافه المتوكل فقبض عليه وأميت عطشاً وأخذوا له الف ألف دينار.(21/10)
جاء في ذيل الدول وسنة 753 قبض السلطان على الوزير علم الدين بن زنبور وصودر بعد الضرب والعذاب فكان المأخوذ منه من النقد ما يزيد على الفي ألف دينار ومن أواني الذهب والفضة نحو ستين قنطاراً ومن اللؤلؤ نحو أربعين ومن الحياصات الذهب ستة آلاف ومن القماش المفصل نحو ألفين وستمائة قطعة وخمسة وعشرين معصرة سكر ومائتي بستان وألف وأربعمائة ساقية ومن الخيل والبغال ألف ومن الجواري سبعمائة ومن العبيد مائة ومن الطواشية سبعون إلى غير ذلك. وكان دخل القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد العباسي من املاكه في السنة سبعمائة ألف دينار (ومات سنة 301 أمير جند يسابور علي بن احمد الراسبي وخلف تركة عظيمة منها ألف ألف دينار وألف فرس). وخلف احمد ابن يونس الحراني من أطباء الأندلس ما قيمته أزيد من مائة ألف دينار نال أكثرها من الطب. وكان أبو عبد الله بن الكتاني من أطباء الأندلس وفلاسفتها ذا ثروة وغنى واسع وفي عيون التاريخ أن عبد الله بن محمد الأسدي المعروف بابن الاكفإني قاضي قضاة بغداد المتوفي سنة 405 أنفق على ماقيل مائة ألف دينار على طلب العلم. وخلف خاسر الشاعر أيام الرشيد ستة وثلاثين ألف دينار وليس هذا بعجيب على من نظم بيتين مدح محمد بن زبيدة لما بايعه الرشيد فخشت فاه دراً باعه بعشرين ألف دينار.
وذكر أن السلطان سنجر بن ملكشاه المتوفي سنة 552 صاحب خراسان وغزنة وما وراء النهر الذي خطب له بالعراقين واذربيجان واران وارمينية والشام والموصل وديار بكر وربيعة وضربت السكة باسمه في الخافقين - اصطبح خمسة أيام متوالية ذهب في الجود بها كل مذهب فبلغ ما وهبه من العين ستمائة ألف دينار غير ما أنعم به من الخيل والخلع والأثاث وغير ذلك وقال خازنه اجتمع في خزائنه من الأموال ما لم اسمع أنه اجتمع في خزائن احد من الملوك إلا كاسرة وقلت له يوماً حصل في خزائنك ألف ثوب ديباج أطلس وأحب انب يصرها فسكت وظننت أنه رضي بذلك فأبرزت جميعها وقلت أما تنظر إلى مالك أما تحمد الله تعالى على ما أعطاك وانعم عليك فحمد الله تعالى ثم قال يقبح بمثلي أن يقال ما ل إلى المال وأمر الأمراء بالأذن في الدخول عليه ففرق عليهم الثياب الأطلس وانصرفوا واجتمع عنده من الجوهر ألف وثلاثون رطلاً ولم يسمع عند احد من الملوك بمثل هذا ولا بما يقاربه قاله ابن خلكان.(21/11)
قال صاحب الدول: خلف الملك الأفضل ستمائة ألف ألف ديناراً عيناً ومائتين وخمسين اردباً دراهم نقد مصر وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس وثلاثين راحلة إحقاق ذهب عراقي ودواة ذهب فيها جوهر قيمته اثنا عشر ألف دينار ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال في عشرة مسامير على كل مسمار منديل مسرود مذهب بلون من الألوان ايما احب منهالبسه وخمسمائة صندوق كسوة لخاصته من دق تنيس ودمياط وخلف من الخيل والرقيق والبغال والمراكب والطيب والحلي والتجمل مالا يعلم قدرة إلا الله تعالى وخلف خارجاً عن ذلك من البقر والغنم والجواميس ما يستحي الإنسان من ذكر عدده وبلغ ضمان البانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار ووجد في تركته صندوقان كبيران فيهما ابر ذهب برسم الجواري والنساء.
ذكر الطبري في سنة ثلاث عشرة ومائتين أن المأمون ولي أخاه المعتصم الشام ومصر وابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم وأعطى كل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر الخمسمائة ألف دينار وقيل إنه لم يفرق في يوم واحد من المال مثل ذلك.
وكان أبو محمد عبد الله بن احمد الطالبي المصري صاحب رباع وضياع ويغم ظاهرة وعبيد وحاشية كثير التنعم كان بدهليزيه رجل يكسر اللوز كل يوم من أول النهار إلى أخره برسم الحلوى التي ينفذها لأهل مصر من الأستاذ كافور الاخشيدي إلى من دونه فمن المناس من كان يرسل له الحلوى كل يوم ومنهم لك جمعة ومنهما كل شهر وكان يرسل إلى كافور في كل يومين جامين حلوى ورغيفاً في منديل مختوم قال ابن خالكان: ودفع أبو محمد عبد الله ين عبد الحكم والد أبي عبد الله محمد صاحب الأمام الشافعي لهذا الإلمام عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله وأخذ له من ابن عسامة التاجر ألف دينار ومن رجلين آخرين ألف دينار وكان أبو محمد من ذوي الأموال والرباع وله جاه عظيم وقدر كبير.
هذه أمثلة مما عثرنا عليه تصور للقارئ حالة الثروة عند العرب بعد التثوير والله اعلم بالصواب.(21/12)
اليونان
سبب نصرة اليونان - لم تكن حرب مادي حرباً وطنية بين يونان وبرابرة بل كان يونان آسيا ونصف يونان أوروبا يقاتلون في الجيش الفارسي ولم يجسر كثيرون من أبناء جنسهم على ابداء أقل حركة. وكان الخاقان الأعظم ورعاياه هم الذين حاربوا اسبارطة وأثينة ومن حالفهما في الحقيقة. فكان من خوارق العادات أن يغلب هذان الشعبان الصغيران ذاك الخليط العظيم من الفرس. وزعم اليونانيون أن الآلهة قاتلوا عنهم ومتى درست أحوال الخصمين عن أمم بطل عجبك. فقد كان الجيش الفارسي جسيماً فظن كسيركس على سذاجة قلبه أن النصر معقد اللواء بكثرة العدد بيد أن هذه الجموع كانت مرتبكة من نفسها ولم تدر من أين تأخذ ذخيرتها وتتقدم تقدم بطيئاً ويضيق ذرعها من أول يوم الحرب حتى أن السفن المزدحمة كانت تغرز طرف مقدمها في السفن المحيطة بها وتحطم لها مجاذيفها ثم أن في ذلك الجماء الغفير كما يقول هيرودتس كثيراً من الناس وقليلاً من الجند. ولم يكن غير الفرس والماديين وهم خيرة الجيش يقاتلون بشدة أما غيرهم فلم يكونوا يزحفون إلى العدو إلا إذا انهالت السياط عليهم وقد جاؤوا بسيف القوة والقهر إلى حرب لا يهمهم أمرها ولا سلاح لديهم ولا نظام في مصافهم فهم لا يلبثون أن يركنوا إلى الفرار بمجرد أن تغيب أعين الحراس عنهم. وتقاتل الماديون والفرس وحدهم في بلاتيه وميكال ونجا الرعايا. وكان الجند الفارسي سيء النظام والعدة يلبس ثياباً طويلة وقد وقيت رؤوسهم بقلنسوة من لباد وحفظت أجسامهم أتراس من شجر الصفصاف والخلاف وسلاحهم قوس ومدية قصيرة جداً ولم يكونوا يستطيعون القتال إلا بعيدين ويقاتل الرجل رجلاً مثله. أما الاسبارطيون والمتحدون معهم بعقد المحالفة فكانوا على عكس ذلك تقيهم التروس العظيمة والخوذ ووقايات السوق ويسيرون جموعاً مشتبكة لا تقاوم يخرقون صفوف العدو بحرابهم الطويلة وما هو بأسرع من رد الطرف حتى تصير الحرب ملحمة كبرى ومذبحة تباع فيها الارواح بيع السماح.
نتائج الحروب المادية - فادت اسبارطة الجيوش ولكن كما قال هيرودتس كانت آثنية هي التي انقدت اليونانية بان كانت لها مثإلا في المقاومة. فالفت اسطول سلامينة وقد استفادت آثنية من هذه النصرة أما المدن الايونية من الجزر وشاطئ آسيا جملة واحدة فقد ثارت ومردت والفت عصابة تبايعت فيها على الموت في سبيل الذود عن اوطانها من مهاجمة(21/13)
الفرس. وأما الاسبارطيون وهم شعوب جبلية فلما لم يستطيعوا أن يدبروا حرباً انصرفوا راجعين ادراجهم فأصبح الأثينيون إذ ذاك زعماء العصابة. وفي عام 476 جمع اريستدس قائد اسطولهم نواب المدن المتحالفة فقر رأيهم على متابعة حرب الخاقان الأعظم وتأمروا بينهم على تقدم سفن ومحاربين وإن يؤيدوا كل سنة قطيعة من المال قدرها 460 تالاناً (أي مليوناً وسبعمائة الف فرنك) وجعلت الخزانة بمدينة ديلوس في معبد ابولون معبود الايونين وكان عهد إلى أثينة أن تقود الجيوش وتجبي القطائع. وقد القى اريستدس في البحر قطعة من الحديد والحصى واقسموا كلهم أن يحتفظوا جميعاً بالعهود إلى يوم تطفو هذه الحديدة على سطح الماء وذلك حباً بتأكيد العهد وتفادياً من نقض يمين الاخلاص.
وقد حدث مع هذا أن الحرب وقفت وعقد اليونان - وكان النصر اليف الويتهم أبداً - معاهدة سليمة او هدنة مع الخاقان الأعظم فأبى الملك أن يعد يونان آسيا من رعاياه (نحو سنة 449). وهنا سؤال يورد في هذا الباب وهو كيف انتهت معاهدة اريستدس وهل كان على المدن المتحدة أن تؤدي القطائع على حين ليس عليها أن تقاتل بعد فابى بعضها ذلك حتى قيل أن أطفئت نار الحرب. وزعمت آثنية أن المدن كانت أخذت على أنفسها العهد على الدهر فاضطرتها إلى أن تؤدي ما يطلب إليها. حتى إذا وضعت الحرب أوزارها لم يجد خزانة ديلوس فتيلاً ولذلك نقلها الأثينيون إلى مدينتهم واستخدمها في ابتناء المصانع والمعاهد. ولطالما كانوا يقولون أن المتحدين يؤيدون ما يتقاضونه من الضرائب للخلاص من ايدي الفرس فمن ثم لم يكن لهم ما يطالبون به بتة ما دامت أثينة تدفع عنهم عادية الخاقان الأعظم. وهذا مما غير حالة المتحالفين فصاروا ملزمين بدفع الضرائب لأثينة وما عتموا إن امسوا رعاياها فزادت أثينة في قطائعهم واكرهت مواطنيهم على المثول أمام المحاكم الأثينية بل قد انفذت بطواريء من قبلها ليستعمروا جانباًَ من ارضهم وبهذا النظر أصبحت أثينة ام القرى تحكم زهاء ثلثمائة مدينة متفرقة في الجزر وشواطئ الارخبيل وتجبي قطيعة قدرها ستمائة تالأن في كل سنة.
الصنائع في بلاد اليونان
أثينة على عهد الأمبراطور بيركليس
بيركليس - كانت أثينة في منتصف القرن الخامس من اقدر المدن اليونانية يدير أمرها(21/14)
بيركليس احد أبناء الاسرات العظيمة وكان مقلاً من الكلام غير مبتذل في شخصه ولم يكن يتوقع في أعماله رضي الأمة بل كان الأثينيون يحترمونه ولا يجرون الا على نصائحه وهو معروف بانه متمكن من شؤون الادارة ومعرفة البلاد ولذلك دخلوا تحت سيطرته وحكمه فأدار سياسة أثينة كلها أربعين سنة كما قال معاصره توسيديس المؤرخ: أن الحكومة الديمقراطية كانت موجودة بالاسم بل كانت تلك الحكومة حكومة الوطني الأولى على التحقيق أثينة ومصالحها - كانت منازل القوم الخاصة في أثينة كما معظم المدن اليونانية ضيقة واطئة متراكمة بعضها على بعض يكون منها ازقة ضيقة منعطفة سيئة التبليط. وقد جعل الأثينون عظمتهم في معالهم الهامة. فمنذ أخذوا يجبون من محالفيهم قطائع لتصرف في سبيل الحروب كانوا ينفقون النفقات الطائلة في أقامة أبينة جميلة فعمروا في ساحة أحد الشوارع رواقاً مزيناً بالصور (الفيسيل) وانشؤا في المدينة دار تمثيل ومعبداً اكراماً لبيزيس احد أبطألهم واوديون معهد الشعر والموسيقى وذلك للمسابقة في هذا العلم. ولكن قامت أجمل المباني على صخرة الاكروبول كانها على قاعدة هائلة وهما معبدان (أحدهما وهو البارتينون جعل قربى للمعبودة أثينة حامية مدينة أثينة) وهيكلاً ضخماً من القلز يمثل أثينة وسلماً من الأثار الجليلة يصل إلى البروبيلي ورواق الرخام في أثينة. ومن ذاك العهد كانت أثينة عظيمة أثينة - ومع ما خصت به أثينة من الصفات المشار إليها كانت أيضاً مدينة أهل الصنائع فقد حشر إليها الشعراء والخطباء والمهندسون والمصورون والنقاشون وكان بعضهم من أهل أثينة ووجهائها وجاءها البعض الاخر من أطراف ارض يونان يحملون إلى تلك المدينة العظيمة نتائج صناعاتهم وطرف طرائفهم. لا جرم أنه نبغ كثير من أرباب الصنائع اليونأن لم يكونوا من أهل المدينة أثينة وذلك قبل القرن الخامس وبعده بكثير من الزمن ولكن قل إن اجتمع هذا القدر العظيم من أرباب الصنائع في مدينة واحدة ولقد كان معظم اليونانيون من اكيس أرباب المعارف في الصناعات وموادها بيد أن الأثينيين فاقوا غيرهم بحسن ذوقهم وصنع ايديهم وامتازوا بعقول مثقفة ورغبة في الطرف وأثار الظرف واللطف. ولئن جاء من أبناء يونان امة رفيعة القدر عالية المكانة في تاريخ الحضارة فذلك لأنها امة تحسن ملكة الصناعات فلا جيوشهم القليلة ولا بلادهم الصغيرة الرقعة خدمت العالم والعمران خدمة أعظم من خدمة(21/15)
صناعهم لهما. فاليك السبب الذي من أجله كان القرن الخامس أجمل عهد في تاريخ يونان والداعي إلى أن جعل أثينة تستأثر بفضل الشهرة أكثر من غيرها من المدن اليونانية.
الآداب
الخطباء - امتازت أثينة أولاً ببلاغة خطبائها فكانت حقاً بلد الأدب وحسن الإلقاء فبالخطب
في مجلس الأمة يقرر إشهار الحروب وعقد السلم ووضع القطائع والضرائب وكل الشؤون العظيمة وبالخطب التي تلقى في المحاكم يحكم على الوطنين والرعايا أو يبرؤون فللخطباء السلطة وعلى الأمة أن تعمل بنصائحهم ومواعظهم وربما عهدت إليهم بإدارة شؤون المملكة فقد عين كليون قائداً ورأس ديموستين الخطيب حرب فليب. وللخطباء نفوذ وكثيراً ما يلجؤون إلى بلاغة القول للنيل من عداتهم في سياستهم وربما اغتنموا لأنهم ينالون من أرباب الغايات ما يرضيهم من المال ليعضدوا أحد الأحزاب. فقد أخذ اشيل مالاً من ملك مكدونيا وقبض ديموستين دراهم من ملك الفرس. ثم أن بعض الخطباء ينشؤون خطباً ليلقيها غيرهم. ولا يسوغ لمن كانت له قضية أن يرفعها بواسطة محام كما هو الحال عندنا بل تقضي شريعة البلاد أن يتكلم صاحب القضية في قضيته بالذات. فمن ثم كان عليه أن يروح إلى أحد الخطباء يلتمس منه تأليف خطاب له يستظهره ليتلوه أمام المحكمة. ولطالما جاب بعض الخطباء بلاد اليونان وتكلموا في موضوعات توحيها إليهم المخيلة فأقاموا لهم كما نقول مقامات وعقدوا اندية ومؤتمرات وكان قدماء الخطباء يتكلمون بدون مقتصرين على أن يقصوا على المنابر الكوائن بدون أن يعمدوا إلى أساليب خطأبيو فيقفون في المنبر لا حراك لهم دون أن يصرخوا او يتحركوا وكان الملك بيركليس يخطب خطبه على طريقة هادئة دون أن يحرك اهداب ردائه وعندما كان يقف في منبر الخطابة وقد تكلل رأسه حسب العادة باوراق الشجر يزعم الشعب أنه يتخذه رباً من أرباب الأولمبيا ولكن الخطباء الذين جاؤوا بعد ذلك طمعوا في أثارة الأمة وتحريك احساسها والنفوذ إلى شعورها واصطلحوا على الإنشاء المتين يروحون في المنبر ويغدون منشدين متحركين. وما عتمت الأمة أن اعتادت هذا الاسلوب في الفصاحة. ولما أخذ ديموستين يتكلم في منبر الخطابة للمرة الأولى طفق الحضور يقهقهون ويضحكون من اسلوبه اذ لم يكن يحسن التلفظ ولا الوقوف ثم ما لبث أن مرن على الالقاء وإحسأن الحركات المطلوبة حتى صار نديم الشعب(21/16)
وعزيزه. دبت الأيام ودرجت الليالي وديموستين خطيب في امته. وقد سئل ثالثة فقال العمل. ومعنى العمل طريقة الالقاء فإنها كانت تهم اليونان أكثر من الخطبة.
الحكماء - كان منذ قرون عند يونان آسيا خاصة أناس يراقبون المادة ويفكرون في أمرها لقبوا بالحكماء والعلماء في آن واحد وقد عنوا بالطبيعات والفلك والتاريخ الطبيعي اذ لم يكن العلم قد انفصل بعد عن الفلسفة وهكذا كان حال المشاهير الحكماء السبعة ببلاد يونأن في القرن السابع.
السفسطائيون - جاء ناس على قرب عصر بيركليس إلى أثينة فاتخذوا تعليم الحكمة صناعة واجتمع لهم كثير من التلاميذ انشؤا يتقاضونهم أجور الدروس التي يلقونها. وجعلوا ديدهم الإنكار على الدين والعادات وأصول ادارة المدن اليونانية يوهمون انها غير مبنية على العقل. ويأخذون من ذلك أن المرء لا يعرف شيئاً صحيحاً (مما كان قريباً من الصواب في عهدهم) وليس في طاقته أن يعرف أمراً صدقاً كان او زوراً قال أحدهم: لا وجود لا مر ومتى وجد صعبت معرفته. ويدعى هؤلاء العلماء المعلمون للتشكيك بالسفسطائيين. وقد خص بعضهم بملكة الخطابة.
سقراط والفلاسفة - حاول سقراط احد شيوخ أثينة أن ينكر على السفسطائين ويوقفهم عند حدهم على فقر حاله وبشاعة منظره ولكنه لسانه ولم تكن له دروس يلقيها كأولئك السفسطائين بل يكتفي بالرواح إلى المدينة يخاطب من يصادفهم من جماعتهم بكثرة ويحملهم بكثرة الأسئلة على أن يفكروا فيما ينكر فيه نفسه. وكان بحثه مع الفتيان خاصة يعلمهم وينصح لهم. ولم يكن يظهر سقراط أنه شدا سيئاً من العلم بل كان يقول إن غاية علمي أنني ادري بأنني لا ادري. وود لو دعي فيلسوفاً أي محباً للحكمة لا حكيماً كسائر بلك الزمر. ولم يتدبر شيئاً من طبيعة الكون أو مسألة من مسائل العالم بل كان همه دراسة أحوال الإنسان. وكانت حكمته في قوله: أعرف نفسك. فكان من ثم مبشراً بالفضيلة. وإذ أنه كثيراً ما كان يخوض في الموضوعات الأخلاقية والدينية عده الأثينيون سفسطائياً. في سنة 399 مثل أمام المحكمة متهماًً بأنه يتجافى عن عبادة أرباب المدينة وانه يحاول إدخال أرباب جديدة إليها ويفسد على الشبان عقائدهم فلم يحاول أن يدافع عن نفسه بل حكم عليه بالموت وكانت سنة إذ ذاك سبعين سنة فإنتصر له كسينوفون احد تلاميذه وألف أفلاطون(21/17)
من الفلاسفة محاورات أقام فيها سقراط زعيم المتحاورين فاعتبر من ذاك العهد أبا للفلسفة أما أفلاطون فقد كان صاحب مذهب معروف (429 - 348) ولخص أرسطو تلميذ أفلاطون (384 - 322) علوم عصره كافة في كتبه وقد انقسم الفلاسفة الذين أتوا بعد المعلمين أرسطو وأفلاطون قسمين دعيت شيعة أفلاطون بالرواقيين وشيعة أرسطو بالمشائين (لان أرسطو كان يعلم وهو يروح ويغدو).
الموسيقيون - كان من العادات القديمة أن يرقص القوم في الحفلات الدينية فيمن جمهور من الفتيان حول مذبح المعبود ثم يرجعون واقفين كالإشراف وقفة ذات معان وإشارات. إذ كان القدماء يرقصون بأجسادهم كلها ويختلف رقصهم كثيراً عن رقصنا وهو ضرب من التطواف الحماسي أو أشبه برواية ذات إيماء وكان هذا الرقص الديني أبداً مشفوعاً بأغان تعظيماً للأرباب ويسمى جمهور الراقصين والمغنين جماعة الموسيقيين. للمدن كلها جماعة من الموسيقيين ومنهم أبناء أشرف العيال يعدون كذلك بعد أن يستعدوا زمناً. ومن فرط العناية أن يكون خدمة الرب جديرين بخدمته.
الروايات الفاجعات والهزليات - كان يحتفل الفتيان في الأرياف المجاورة لأثينة كل عام بإقامة المراقص الدينية إكراماً للرب ديونيزوس اله الكرمة وكان بعض هذا الرقص متثأقلاً يمثل أعمال العبود فيضرب رئيس جماعة الموسيقيين على وتر أغنية ديونيزوس ويصور جوقة رفاقه وهم أناس لهم أرجل تيوس يسكنون الغابات ثم يأخذون في تمثيل عيش أرباب أخر وأبطال قدماء. ثم خطر لأحدهم أن ينصب مصطبة يجيء ممثل يلعب عليها عندما ينقطع جوق الموسيقى عن الضرب بأنغامه. وهكذا تم المشهد ونقل إلى المدينة بالقرب من شجر الحور الفارسي أو مجتمع السوقة فنشأت من ذلك الروايات الفاجعات.
أما الرقص الآخر فكان مضحكاً فينكر الراقصون وجوههم ويتغنون بمدائح الرب ديونيزوس وقد شابوها باضاحيك يسلون بها الحضور أو بتصورات هزلية في حوادث حدثت ذاك اليوم. وقد صنع في الجوق الهزلي ما صنع في الجوق المفجع من إدخال ممثلين ومحاورات ونقل المشهد إلى أثينة وهكذا نشأت الروايات الهزلية من اجل هذا واحتفظت الفاجعات والهزليات ببعض أصلها وظلت تمثل أمام هيكل الرب وإن تكن فاجعة ولئن غدا الممثلون وهم جلوس على المصطبة أصحاب موقع في المشهد فقد ظل جوق(21/18)
التمثيل يرقص ويتغنى وهو يطوف حول المذبح وكان جماعة الموسيقيين في الروايات الهزلية كما كان يجيء المتنكرون يبدون ملاحظاتهم على السياسة بغلظة.
الملاهي - جعل في منحدر قلعة الاكروبول ملعب للرب ديونيزوس اله الكرمة يسع ثلاثين ألف متفرج وذلك ليحضر اللأثينيون كافة هذه المشاهد. وكان هذا الملعب كسائر الملاعب اليونانية مكشوفاً تحت السماء ومؤلفاً من دريجات من الحجر مصفوفة على شكل نصف دائرة بإزاء جماعة الموسيقى حيث كان يطوف المنشدون وأمام المشهد الذي تمثل فيه الرواية. ولا تقام المشاهد فيه إلا في أوقات أعياد الأرباب بيد أن المشاهد كانت تدوم إذ ذاك عدة أيام متوالية يبدأون في الصباح عند بزوغ الغزالة ويمثلون للحال ثلاث فاجعات وقصة هجوية تنتهي على ضوء المشاعل من الليل والفاجعات الثلاث يؤلفها واحد وتمثل فاجعات أخرى في الأيام التالية وهكذا كان المشهد ميدان مسابقة بين الشعراء والأمة تعطيهم جوائز الاستحسان وأشهر هؤلاء المتبارين اشيل وسوفقلس واربيدس. وقد عهدت المسابقة أيضاً بين مؤلفي الروايات الهزلية ولم يؤثر من كل ما الفوه من الروايات غير قطعة واحدة الفها أريستوفإن الشاعر الهزلي.(21/19)
المقامات اللزومية
مازال الزمان يرينا من أثار الأندلسيين كل سفر جليل ويكشف لنا عن عنايتهم بجميع العلوم مايدل على عظيم اقتدارهم وسموا أفكارهم لاسيما في العلوم الأدبية التي هي عنوان رقة الشعور وصفاء الذوق فقد تفننوا في طرق الإنشاء وأساليب البلاغة بما لا يدخل تحت الحصر.
اسعدني الحظ في الاستانة بالوقوف على المقامات اللزومية وهي عبارة عن خمسين مقامة في مكتبة (جامع لاله لي) للوزير الكاتب الأمام أبي الطاهر محمد بن يوسف التميمي السر قسطي الأندلسي انشأها عند ما وقف على ما أنشأه الرئيس أبو محمد الحريري بالبصرة وبناها على أحسن اسلوب والتزم في نثرها ونظمها مالا يلزم وقد وجدت على ظهر الكتاب ما نصه (المقامات الخمسون) المحتوية على معاني الأدب للوزير الكاتب الأمام أبي الطاهر محمد يوسف بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن إبرأهيمالتميمي المازني السرقسطي ويعرف بابن الاشتركوني أبو الطاهر. قال ابن الزبير: كان أديباً لغوياً شاعراً كاتباً معتمداً في الأدب فرداً متقدماً في ذلك في وقته روى عن أبي علي الصفدي وأبي محمد بن السيد وابن البادش وابن الاخضر وأخذ عنه أبو العباس بن ضا قال: وعليه اعتمدت في تفسير كامل المبرد لرسوخه في اللغة العربية وله المقامات اللزومية الشهيرة وشعره كثير مات بقرطبة يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادي الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ومن شعره
ومنعم الاعطاف معسول اللمى ... ما شئت من بدع المحاسن فيه
لما ظفرت بليلة من وصله ... والصب غير الوصل لا يشفيه
انصجت وردة خده بتنفسي ... وظللت اشرب ماءها من فيه
وهاءنذا اذكر المقامة الأولى تفكهة للقراء ورجاء أن يطلع عليها من لهم عناية بنشر أثار السلف فيمثلها للطبعة فيفيد ويستفيد وهي هذه:
المقامة الأولى القفرية
قال: حدثنا المنذر بن حمام قال: حدث السائب بن تمام قال: اني لفي بعض البلادوقد اقبلت من الطريف والتلاد استاف الأرض واذرع الطول والعرض افتل الدهر في الذروة(21/20)
والغارب وارقب منه كل شارق وغارب قد أفردني حتى الأمل ونابذني حتى السعي والعمل عبر سفار ونضو مهامه وفقار ولا صاحب على طول الاغتراب الا رقراق آل وسراب اذ دفعت إلى اباطح واجارع ومسارح ومشارع فاجلت الطرف في نور وزهر واحلت العيش على جدول او نهر وإذا بلمة كالنجوم يترامون من الكؤس بالرجوم يتهللون طلاقة ويتبذلون خلافة قد نبذوا الوقار واستحلوا العقار واستنفذوا العين والعقار وعوضوا من المسك الدن والقار تنم عن شمائلهم الرياض وتخجل من إيمانهم الحياض قد غفلوا عن العواقب ولم يشعروا بالزمان المراقب (يحيون بالريحان يوم السباسب) وينتمون إلى اكرم المناصب والمناسب قد لفهم الشباب في برودة وروأهم من سلسله وبروده يتنقلون جنيات اللحم ويجرون فضول الريط واللحم والكاس قد تمشت في المفأصل فما ترى غير مساعد اوموأصل قد نزلوا من الأرض وهادا وافترشوا الروض مهادا وإذا أمامهم شيخ رائع السبلات ضخم العضلات يصغون إلى حديثه ويفتنون بقديمه وحديثه فهو يعللهم من خبره بطرف ويهدي اليهم منه اندي تحف وطرف يحبب إليهم البطالة فما يملون منه اسهاباً ولا أطالة فملت إلى منتدأهم وكنت الذي حيأهم وفدأهم فقالوا: كرم رائع ومجد ضائع ونضو هازل وضيف نازل وابتدر الشيخ فقال: خبر ذائع وحديث شائع وخب هازل وعود نازل من اين بالشعث ويا استعب كلا أمريك أشد واصعب لقد اجترأت على الملوك وتخللت نظم السلوك وركبت المهالك وتوغلت المسالك هل عندك من معزية ياهذيل فإنك ما شئت من عذيق او حذيل أنى وانت اخو الصعاليك سموت إلى ذوي الرتب والمماليك فقلت: مهلاً ايها الشيخ مهلاً وهلا مرحباً بك وأهلا أن ترني وقد نفذ زادي وصفر مزادي وطفيء شهأبي واخلق اهأبي وخشن اديمي ونفر عني صاحبي ونديمي فلقد فتنت الكواعب وذللت المصاعب وارضيت الأمال وتسوغت الأمال وبذلت الخطير ووصلت الشطير واكرمت النزيل ووهبت الجزيل وسحبت فضل الذيل وارسلت طرفي بين الخول والخيل وقدت الجياد ومتعت القياد ثم لم يكن إلا أن تقلبت أحوال وتعاقبت سنون وأحوال ذهبت بالحديث والقديم وأثرت في الصميم والاديم فبدلت من النعيم البوس ومن البشر القطوب والعبوس وعوضت من العذب المجاج بالملح الاجاج ومن الأعزاز بالاذلال ومن الإكثار بالأقلال فابتدر الشيخ يفديني بأبنائه ويهديني بهنائه ويقول: إنه لكما قال ومن اين لعاثر أن يقال أنا(21/21)
أعرف آباءه وأجداده وشهدت جموعه وأعداده طالما ركب السرير ولبس الحرير وصبت إليه الكعاب وانقضت دونه الكعاب وخضعت لجده الأملاك وكان به القوام والملاك لقد أطاعت الانداد وأجابته الأعداد ودوخ البلدان فذل كل له ودان فيالك من دهر لايبقى على احد ولا ينقى على مستأنس وخد يعنى بالقريب والبعيد ويولع بالشقي والسعيد ومن حق ذلك الفضل أن توصل أسبابه وترفع قبابه ويصان مذاله ويحلى جيده وقذاله وانتم يابني الا كارم وذوي الهمم والمكارم رفوا للافاضل واعطفوا بالفواضل وارحموا عزيزاً ذل وكثيراً قل ومترياً ادقع وحائماً على موردكم وقع فكل خلع ما عليه والقى بما عنده إليه وخلع عني تلك الاسمال وجاء بما شاء وشئت من كسوة ومال فملأ اليمين والشمال واستقبل الجنوب والشمال ثم قال اللهم يارافع الإعدام وجامع الندام وعالم الخفيات وميسر الحقيات وملطف الأسباب ومؤلف الاحباب متعهم بالمسرات والحبرات والحفهم بالمروط والحبرات وافض عليهم جدواك وزحزح عنهم بلواك واحرسهم عن الغير ولا تجعلهم عظة الأمثال والسير وارسل عليهم من سترك مديدا وخذ بهم من أمرك شديدا وقال لي: خذها اليك. وإذا كنت معك فلا عليك. فسرنا وقد ظل العشا وسقط عليه العشا يقودني زعم إلى اسرته ويحادثني عن يسره وعسرته وجعل يومي ويشير ويقول هناك العدد والعشير كل له خول طاعته ولك علي أمرة مطاعة فسرت حتى دنا بي إلى خيام ومعشر نيام فقال: امكث هاهنا قليلاً حتى اريك جليلاً واكشف لك من أمري عجيباً واقو دلك سابحاً او نجيباً تحل من متن هذا في انيق وتسمو من ذروة ذاك على نيق تم تتبوأ القصر المشيد وتخلف المأمون والرشيد فتخلل تلك الخيام وايقظ النيام فما شعرت الا بالقوم وقد أخذوني باللوم من المنتاب والطارق ولعله الخائن البارحة والسارق والا كف ولا تكف واليمين تصفع والشمال لا ترفع ولا قول لي يسمع ولا أنا في الحياة أطمع حتى طردوني عن حمأهم ورموا بي إلى مرمأهم لا أقلب طرفاً ولا أقرر خوفاً والشيخ مع ذلك يرميني بسهامي ويعجب من صبيه وجهامي ويذكرني بالعهد ويقول ما احوجك إلى المهد ثم انصلت عني انصلاتا وولى انسراباً وانفلاتا وهو ينشد:
دعا بي الدهر لو تجيب ... ياحبذا السامع المجيب
كم تصحب الدهر بالأماني ... يغرك الطرف والنجيب(21/22)
من خادع الدهر والبرايا ... فذلك السيد النجيب
المجد فوز الفتى بحظ ... فما تميم وما تجيب
يارب خدن تركت يوماً ... وحظه الوجد والوجيب
مجدلاً في التراب يدعى ... منه سميع فلا يجيب
فعلمت أنه الشيخ ابو حبيب فقلت مالداء كيده من طبيب
دمشق
محمد علي(21/23)
المرأة في الإسلام
ومن اوضح أوصاف النصرانية في عصورها الأولى حطها من قدر الزواج فكانت تعد هذا الارتباط من الأحوال المنحطة وتحسب البنين جناية وشراً وكأنت الأديار والصوامع حجبت عن العالم اصح العقول فكان خدمة الدين اما أن يمنعوا من الزواج بتاتاً او لم يؤذن لهم أن يتزوجوا غير مرة واحدة.
وقد نشأ بعض هذا الانحراف عن التشبه بالمعلم نفسه وبعضه عن أحوال متنوعة حملت النصارى الأول على تنظيم سلكهم.
وشدة تعلق نبي الناصرة بأهل المذهب الاسنى وانتظاره حلول الساعة في العاجل حين تنتهي جميع الارتباطات المدنية وانقضاء بعثته وهو في مقتبل العمر كلها أمور تجلو لنا أسباب حطة من قدر الزواج وكيف أنه (لم يجن على احد) واجتماعه بالتعمديين وهو اسني يرشدنا إلى طرف من حياته القصيرة التي تثير العواطف وشدة بغض بولس للنساء مع ما يعضده من كلام المعلم قوى في الكنيسة الاعتقاد الاسني بأن الارتباط الزوجي وهو اقدس العقود انما هو إثم يحب تجنبه ما امكن وكان يحسب المقصود من الزواج ايلاد الأولاد وقضاء الشهوة البهيمية ليس إلا. ولا تزالعقود الزواج في أكثر الكنائس مصبوغة بهذه الصبغةالخالية إلى يومنا هذا ولا يزال هذا التصور الدخيل على النصرانية يذهب بالناس حيث لا توجد العلوم الكونية إلى أن الرجل الذي لم يدخل دنيا قط هوأفضل كثيراً ممن تدنس بالزواج.
ويوجيس الهند المعفر بالرماد ونساك الشرق مسبلو الشعور واحبار بوذا هم من اهل التبتل وعندهم أن إدراك العلم لا يتم الا بحل الروابط الأهلية وأن الوصول إلى الازل لا يمكن الا بعيش التوحد وقد أخذت النصرانية الاعتقاد بالتبتل عن مشككي المشرق وزهاده.
ومن الناس من اتخذ عصمة المسيح من الاثم برهاناً على الوهيته ومنهم من اتخذها حجة على شدة فضله على غيره من المتشرعين وعندنا أن مقابلة فاسدة الأساس كهذه بين المسيح والنبي هي من الموهومات بتاتاً وأساسها خطاء في تقدير المقاييس الأخلاقية. وإن صح أن التبتل مما يجعل صاحبه كاملا فالمتصوفون والنساك والدراويش هم إذا الكاملون والحياة الكاملة تكون حينئذ بترك الروابط الأهلية وإن من المحقق أن نظرية مثل هذه لا تعد إلا أنحرافاً عن الفطرة وما نتيجتها الا الدمار.(21/24)
إذا لم ياترى هذا الحظ من قدر النبي وهو الذي اكمل بعثه المسيح الأنه تزوج بغير واحدة وقد بينا الحكمة في زواجه المتعدد وسعينا على الأقل في بيان أن هذه الأعمال التي اتخذت للحط من قدره انما هي من باب ايثار الغير.
ولننظر الأن في أمر زواجه بالنظر المطلق ولنسأل انفسنا لم تزوج موسى بغير واحدة أكان في عمله هذا من أهل الفضيلة ام من أهل الرذيلة؟ ولم تمتع داوود بزواج لا حد له ومكانته عند الله معلومة؟ والجواب بسيط وهو أن لكل زمان مقياساً خاصاً ومعياراً مقدراً وما يوأفق زمناً وأحداً لا يوأفق غيره.
ومن الواجب أن لا يقيس الماضي بالحاضر. وإن امثلة الفضيلة من أهل الكمال لا يخسرون شيئاً من عظمتهم إذا عملوا بمقتضى زمنهم وكانوا في عملهم امناء شرفاء. أيجوز أن ندعو المسيح طامعاً خيالياً يحاول العبث اوإن ندعو موسى وداوود شهوانين يسفكان الدماء لأن عقل الأول كان مفعماً بتخيلات ملك منتظر وسلوك الاثنين الأخيرين هو مما ينتقد في القرن التاسع عشر. إننا لو فعلنا ذلك لاخطأنا في كلا الحالين لأن اماني المسيح وأعمال موسى وداوود هي من الحقائق التاريخية التي مشت على مقتضى الزمن.
ومن اوضح ميزات النبي أنه وهو في أسمى حالاته لم يتعدم عن الاحياء منتظراً جيلاً لم يولد بعد وهو يمثل في نموه نمو البشر. وأن المسيح ومحمداً لم يقدرا على تغيير الجمعية البشرية دفعة او محو كل ترتيباتها السياسةالملية. وهو كالمسيح اكتفى أن يغير المقتضات الحالية بزرع مبادئ تلاشي هذه المقتضيات متى حان الوقت المناسب ولصحت في قلوب أتباعه.
أما القول بأن النبي ميز نفسه بمنافع حرمها على أتباعه فهو من الوهم الناشئ عن الجهل لان حد تعدد الزوجات لم يوضع إلا في المدينة بعد الهجرة بسنين وما أبيح له كان عبئاً وضع قصداً على ذي وجدان يحاسب نفسه في أعمالها بدلاً من أن يكون لذة لكل متهتك.
وحدث كل زواجه قبل نزول الحد ومما نزل مع هذا الوحي التحديدي وحي آخر نزع من النبي كل امتياز فأصحابه أبيح لهم إذا راعوا حدود الشرع زواج مثنى وثلاث ورباع وكان لهم أن يكرروا زواجهم بقوة الطلاق الذي كأن يكرهه اما هو فقد حرم عليه طلاق اية من زوجاته وأن يضيف إليهن زوجة أخرى، أيعد هذا امتيازاً انتفاعياً ام عملا أنسانياً يراد به(21/25)
القيام باود من احتمى به وايثاره.
وسبب موضوع الطلاق في الإسلام اغاليط وجدلاً إلا أنه مما لا شك فيه أن أحكام الطلاق القرآنية هي أعدل من أحكام الطلاق في سائر الكتب. وقد حسب حق الطلاق في الأمم الخالية كافة نتيجة لأزمة لسنة الزواج إلا أن هذا الحق كان محصوراً في يد الجنس الأقوى إلا في النادر ولم تخوله الزوجة في حال من الأحوال. وأن تقدم المدينة وترقي الأفكار حسنا من حال المرأة بعض التحسين فالنسالة ايضا حصلن على نوع من هذا الحق الذي لم يقصرن في استعماله حتى صارت سهولة عقد الزواج وحله في الأمبراطورية الرومانية من باب الاكتفاء باللفظ.
وللزوج في شريعة العبرانين أن يطلق زوجته لاي سبب بقبحها في عينه. وكاد لا يوجد عندهم مايحدد سلطته هذه وهواه ولم يجوزوا للزوجة المطالبة بالطلاق بحال من الأحوال.
وعدل الشمعيون عادة الطلاق بعد ذلك نوعاً من التعديل بوضع بعض الشروط إلا أن الهلاليين حافظوا على الناموس وأبقوه على صورته الأصلية. وعند ظهور النبي كانت سنة الهلاليين هذه هي الجارية بين يهود جزيرة العرب وكان الطلاق منتشراً عندهم كما كان منتشراً عند جيرانهم الوثنين.
أما الطلاق عند الاثنيين فكان بيد الرجل كما كان عندالاسرائليين. وقد أباحت الأحكام الرومانية الطلاق منض ابتدائها وكذلك الالواح الاثنا عشر.
وإذا صح مايثقول المعجبون بالرومانين من انهم لن يتمتعوابهذه العادة الا بعد الن مضى على تأسيس رومية خمسمائة سنة فليس ذلك من دواعي فضلهم على غيرهم لأنه أبيح للزوج عنده أن يقتل زوجته لأسباب معينة كالسم والخمر الخ ولم يجز للمرأة أن تطالب بالطلاق وإذا التمست مفارقته فإن تهورها يجعلها أهلاً للقصاص.
إلا أن كثرة الطلاق في الجمهورية اللاحقة كانت علامة ظاهرة على أنحطاط الآداب وسبباً وتنجيه له في آن واحد.
ذكرنا هاتين الأمتين لإنهما أشهر الأمم الخالية ولان أفكارهما أثرت في الأفكار المعاصرة أشد التأثير.
ولا ينكر أن صيغة أحكام الطلاق عند الرومانين صبغة ارتقائية ونتيجتها رفعة المرأة(21/26)
ومساومتها بالرجل وهذا ناشئ عن تقدم الأفكار كما هو ناشئ عن غيره من الأسباب الخارجية.
(وكلمة المسيح التي تتضمن أمره في الطلاق مرنه تقبل أي تفسير تتطلبه حكمة المقنن)
ولنا أن نقول أن المسيح لما قال: (فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان) لم يكن في تصوره الا اقتلاع حطة الأخلاق وانه لم يفكر في نتائج كلامه ويدل الحكم الملحق القاضي يجعل الزنا السبب الوحيد لجواز الطلاق على تنبيه المسيح لمقتضى الحال إلا أن حكمة المقننين التالين لم تقف عند التمسك الأعمى بحكم وضع في الغالب بجمعية في طفولتها. ويمكن أن تحسب قاعدة المسيح مبدأ يدل على شعور سامي لا أن تحسب نموذجاً ففي حكم الطلاق هو مماترده الإصلاحات التي اضيفت إلى هذه القاعدة في الاعصر التالية في البلاد النصرانية ولم يقيد حق الطلاق في الجاهلية والجاهليون لم يراعوا في نسائهم عدل وشفقة إلا أن النبي انظر إلى هذه العادة بعين السوء وعلى استعمالها مما يهز اركان الاجتماع وكثيراً ماصرح بأن لا شيئاً يرضي الله أكثر من عتق الرقاب ولا شي يغضبه أكثر من الطلاق ولكن كان أمن المستحيل عليه اقتلاع هذه العادة بتاتاُ من بين الاعراب وهم على ما كانوا عليه. فمن ثم تحتم عليه أن يهذب جمعية ساذجة على جانب عظيم من التوحش ويعدها لحالة أسمى حتى إذا حان الوقت ونضجت الأفكار تنمو مبادئه وتزهر أخلاقه في قلوت البشر ولم تكن تلك العادة شراً محضاً لدلك أباحها للرجل على شروط معلومة فأجاز للزوجين مدداً ثلاثاً يمكن لهما في غضونها إصلاح ذاب البين فإذا لم يتم ذلك جرى الطلاق.
ووضع قاعدة التوسط فيما إذاحدث نزاع بينهما. قال المسيوسيرو وهوممن لم يفضله احد في تحليل الأحكام الإسلامية: (اجيز الطلاق ولكن وضعت له رسوم تفضل إلغاء طلاق مستعجل لم يترو فيه. ولكي يكون الطلاق مما لايقبل الرجعة تلزم ثلاث طلقات متعاقبة يفصل مأبينها شهر واحد)
ولقد احدثت إصلاحات النبي تغيراً جديداً في الشرائع المشرقية فهو وضع حداً للطلاق ومنح النساء حق الفارقة لأسباب معقولة وفي أواخر أيامه بلغ به الحال أنه حرم الطلاق إذا لم يوجد حكم (أن ابغض الحلال إلى الله الطلاق) لأنه يمنع السعادة ويضر في تربية(21/27)
البنين.
لذلك نرى من اللازم أن لا تفسر إباحة الطلاق في القرآن التي لهاصورت العادات الخالية الا بعبارات الشارع نفسه ومتى عرفنا امتزاج القانون والدين في الإسلام يسهل علينا فهم مقاصد الشارع في حكم الطلاق. ومن المنتظر اختلاف المذاهب في إباحة الطلاق للزوج من غير مداخلة القاضي وقسم مهم من الفقهاء عد الطلاق الصادرعن الزوج محرما الا لضرورة كالزنا وجماعة اخر وأكثرهم من المعتزلة لا يبحيون الطلاق مالم يجيزه حاكم الشرع وهم يذهبون إلى أن إباحة الطلاق تتوقف على حكم قاضي عدل لا يميل مع أحد الخصمين ويستندون في ذلك على كلام الشارع الذي ذكرناه وعلى قاعدته وفي وجوب انتخابات حكم فصل الخلاف بين الزوجين ويذهب الاحناف والشافعيون والمالكيون وأكثر الشيعة الا إباحة الطلاق لا لغير سبب وبعد أن اعترض صاحب (رد المحتار) على القائلين بتحريم الطلاق قال (وأما الطلاق فإن الأصل فيه الحظر بمعنى أنه محظور الا لعارض يبيحه وهو معنى قوله الأصل فيه الحظر ومع أن الفقهاء اتخذوا الإباحة المؤقتة قاعدة دائمة وجهلوا كثيراً من قواعد العدل الذي وضعها الشارع فإن الأحكام التي سنوها أعدل كثيراً وارحم بالنساء من اكمل الشرائع اليونانية التي نمت في حجر الكنيسة. وجوز الفقهاء للمرأة طلب الفراق لسوء الاستعمال وسوء المعيشة وغيرها من الأسباب لكنها إذا لم تأت بحجة مقبولة في طلبها هذا تخسر صداقها وعلى كل فمتى صدر الطلاق عن الزوج وجب عليه أن يعطيها صداقها الذي كانا عيناه وقت الزواج. وتكرار نصح القرآن للزوجين أن لا يفترقا وتتحريضه على حسم المنازعات بالتسوية المناسبة يدلان على احترام الشارع لعقد الزواج وفي سورة النساء (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو أعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحظرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا. ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيماً) وجاء فيها أيضاً (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها أن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما أن الله كان عليماً خبيرا) والأجانب أما أنهم لم يدركوا احترام الزواج في الفقه الإسلامي أو لم يقدروه قدره. جاء في الأشباه والنظائر وهو كتاب إسلامي مشهور ما(21/28)
خلاصته: أن الزواج سنة وضعت لحفظ الهيئة الاجتماعية ولكي يحفظوا الناس أنفسهم من الفحش ويخلصوا أعراضهم من الدنس وهو مقدس وضعه الله بأمره لأنه عبادة تحفظ البشر من اختلاط النسل ومتى عومل معاملة الشركات والاتفاقات يكون ارتباطاً دائماً بني على اتفاق اثنين رجل وامرأة لم يكن بينهما ما يمنعهما من اتفاق مشروع وكثيراً ما قيل أن النبي أباح لأتباعه التسري فضلاً عما أباحه لهم من الزوجات الأربع الشرعيات إلا أن ذكر الحكم المختص لهذه المسألة يكفي لبيان بعد ذلك عن روح الإسلام. جاء في سورة النساء (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت إيمانكم من فتياتكم المؤمنات. . . . ذلك لمن خشي العنت منكم وإن تصبروا خيراً لكم والله غفور رحيم)
وقد بنى الفقهاء إباحة التسري بالجواري على هذا الأساس الضعيف وعلى أحوال خاصة حدثت في ابتداء ظهور الإسلام. وهذه المسألة مع مناقضتها لروح الشريعة سببت بعض الحملات الشديدة على الدين الإسلامي. والتسري هو ارتباط السيد بالأمة من غير جواز زواجي كان معروفاً عند العرب والنصارى وجميع الأمم المجاورة ولم يحرمه النبي في أول الأمر إلا أنه في أواخر أيامه منعه صراحة جاء في سورة المائدة (اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا أتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي اخدان)
قابل القسم الأول من هذا الأمر بتعصب الكنيسة التي منعت زواج النصراني بغير النصرانية وكثيراً ما كان الحرق نصيب الكافر الذي يتزوج النصرانية ومن هنا يظهر الفرق بين هذه القاعدة والقاعدة الإسلامية التي هي ترق ظاهر في المعيشة والمدنية
أما تحريم زواج المسلمات بغير المسلمين فأسبابه مقتضيات سياسية حدثت في أول تأسيس الجمعية الإسلامية. وغير نكير أن كثيراً من العادات التي أخذها المسلمون عن الجاهليين والتي بقيت ككثير من بقايا نشوء سالف مالت الأمم الإسلامية نحو الانحطاط ومن هذه العادات عادة الحجاب فقد كانت منتشرة بين الأمم الخالية منذ أقدم العصور والجينكونيتس كانت من السنن المعروفة عند الأثينيين ونساؤهم كن محجوبات عن الأنظار العامة كالفارسيات والهنديات اليوم والجينكونو في هم مثل زملائهم من المشارقة حرس البيت(21/29)
يراقبون النساء بدقة شديدة. ونشأت من احتجاب المرأة بالطبع طبقة الهتري التي كان لبعض أعضائها أثر مهم في التاريخ الأثيني. لولا المظهر الخارق للعادة التي ظهرت به الدولة البيزنبية والدول الأوروبية والأمريكية لقلنا أن منشأ الطبقة البائسة التي تظهر في كل هيئة اجتماعية تقدمت ولو قليلاً في الصناعات المدنية والتي هي خطر على البشر وعار على المدينة هو انسحاب المرأة وحرمانها من حقها المشروع في تهذيب العقول وتمحيصها وترقية عواطفها. ومن خواص العقل البشري أنه متى لم يدرك النقي يسعى في إدراك المشوب. وخير مثال لقولنا هذا في الأزمنة الخالية البابليون والاترسكانيون والأثينيون والجاهليون من أهل مكة.
ومنشأ الفساد العمراني الذي ينسل إلى كل قلب ويسمم دماء الأمم المعاصرة هو انتشار عبادة المادة ومغطاة بغشاء من ن الدين سواء كان نصرانياً وإسلامياً أو غير ذلك. وقد تألم النبي منذ صباه من انتشار فساد الآداب المخيف بين أهل مكة واتخذ أقوى وسيلة موافقة لاقتلاع جرثومته قال بسورت سميث (ولقوانين النبي الشديدة في أول الأمر ثم بالتنبه الأدبي الذي حدث من هذه القوانين بعد ذلك نجح حتى يومنا هذا وكان نجاحه أشد من عيره في تخليص البلاد الإسلامية) حيث لم تطفح بالأجانب (من هؤلاء المتشردين الذين يعيشون بشقائهم وهم بجودهم طبقة معروفة يخجلون كل فردمن الهيئة التي ينتمون إليها)
ومن المحقق أن سنة الحجاب لها منافع كثيرة في الهيئات الساذجة التي لم يستتب عمرانها بل أن الحجاب لا يستقبح بتاتاً في بلاد تختلف فيها طرق التهذيب وتتباين الأخلاق تبايناً كلياً. وهي منتشرة اليوم بين اقوام يبعدون كثيراً عن التأثير الإسلامي الذي يظنه بعضهم السبب في حجاب المرأة في بلاد الهند وغيرها من البلاد الشرقية ففي بلاد كوريا بلغ حجاب المرأة درجة الهزء والسخرية وفي الصين وفي المستعمرات الاسبانية في جنوبي القارة الأفريقية لا تزال عادة الستر محافظاً عليها. ولما قام النبي كانت منتشرة بين الفرس وغيرهم من الأمم الشرقية فأدرك منافعها وربما استحب للنساء العزلة والتفرد لانتشار فساد الأخلاق بين جميع الطبقات ولكن لا يقال أنه أراد أن يكون انفرادها على هذه الصورة الجامدة المعروفة اليوم او أنه أذن بالحجاب هو جزء من هذا الدين. جاء في سورة الأحزاب (يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن(21/30)
ذلك ادنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً). وفي سورة النور (وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهم الا ما ظهر منها وليضربن بخمورهن على جيوبهن الآية).
إرشادات سهلة الفهم في وسط ذاك الاضطراب الذي كان النبي يسعى في اخراج الترتيب منه بهداية الله - إرشادات حكيمة يقصد منها نشر الحشمة والأدب بين النساء وتحسين لباسهن وسلوكهن ووفايتهن من الاهانة. فمن الخطأ إذا أن نعتقدن في الدين ما يثبت هذه العادة ومما يفسر استحسان النبي العزلة للنساء تفسيراً ظاهراً تمتع أفراد بيته تمتعاً لا مانع فيه ولا حجاب. وهذه عائشة أم المؤمنين وزوج النبي بعد وفاة خديجة دبرت الحملة على علي وهي قادت عساكرها في وقعة الجمل وكثيراً ما دخلت فاطمة ابنة النبي في مبحث الخلافة وإن زينب سبط النبي وأخت الحسين حمت ابن أخيها من الأمويين بعد كربلاء وصلابة أخلاقها هالت عبيد الله بن زياد القاسي ويزيد القليل الرحمة.
وكان انحطاط الأخلاق الذي اجتث أصول العمران في الجاهلية وعند الإسرائيليين والمسيحيين في أشد الحاجة للإصلاح. ومما لاشك فيه أن استحسان النبي العزلة للنساء قصد به استئصال جذور الفساد ومنع عادة تعدد الأزواج المخيفة التي كانت شائعة في الجاهلية إلى زمن البعثة.
قال فن همر (أن الحريم بيت مقدس يمنع منه الأجانب لا لأن النساء ليست حرية بالثقة بل لما ألبستهن العادات من ثياب التقديس وشدة احترام النساء في أعالي القارة الآسياوية والأوروبية (في البلاد الإسلامية مما يظهر للعيان)
واتخاذ النساء مثالاً كمالياً ميزة طبيعة تمتاز بها ارق الشعوب إلا أن العجب القومي والتعصب الديني احدثا نظريتين لرفعة المرأة بين الطبقات المهذبة في البلاد النصرانية اليوم. إحداهما ترجع هذه الرفعة لما يسمى عند النصارى بالماريولترى أو تألية العذراء وعبادتها والثانية للفروسية في القرون الوسطى المزعوم أنها من نتائج المبادئ التيوتونية أما من حيث النصرانية وعلاقتها بالنساء فكلما عضضنا الطرف وأوجزنا في المقال نحسن لها لأننا نرى الكنيسة في العصور الأولى حينما كان دين القوم من جميع الطبقات عبادة أم المسيح جردت المرأة من أوصاف الفضيلة وألبستها رداء من شتم وحرمان وكتب آباء(21/31)
الكنيسة الواحد تلو الآخر فصولاً طوالاً في قبح النساء وميلهن للشر وتأصلهن في الخبث. وقد مثل ترتليان أفكار معاصريه في المرأة في كتاب يقول فيه (أنها باب الشيطان وفاتحة الشجرة المعلقة تاركة الأوامر الإلهية مهلكة الصورة الرحمانية وهي الإنسان). وذكر كاتب آخر باستخفاف أنه فتش عن العفة في النساء فلم يجد لها أثراً. ومثل كريزستوم وهو من كبار القديسين رأي الكنيسة في المرأة بقوله أنها شر ضروري ومحنة طبيعية ومصيبة ملأزمة وخطر مبين وسحر مميت وضرر مزين وقد حرمت الكنيسة على النساء القيام بالوظائف الدينية كلها إلا ما كان منها وضيعاً ومنعتهن من حضور الجمعيات الخاصة والعامة ومن الذهاب إلى الحفلات والأعياد وأمرتهن أن يعتزلن الناس أن يصمتن ويطعن رجالهن وينصرفن إلى النسيج والغزل والطبخ وأن يحتجبن من فروقهن إلى أقدامهن إن خرجن من بيوتهن - هكذا كان حال المرأة أيام كأنت الماريولتري سائدة بين الناس. وفي الأيام التالية وفي المدة التي انقضت بين انقراض الدولة الغربية واستتباب العمران الأوربي الحاضر وهي مدة وصفت بأنها (زمن الاغتصاب والمداهنة والاستبداد والشهوة والعنف) حسنت النصرانية من حال المرأة بعض التحسين بإدخال مسألة الأديار للرهبان والراهبات وهذا التحسين المشكوك فيه لا يصلح إلا لعصر كان اختطاف المرأة فيه من الأمور المعتادة وبلغ فساد الأخلاق فيه درجة لا توصف. ولم تكن الأديار معاهد الفضيلة أبداً وكذلك لم تكن الرهبانية أشد حفاظ لطهارة الذيل والعفاف. وفي يومية ريكو المذكور فيها زياراته الدينية ما يوضح خاصة حال الأخلاق ومقام المرأة في أبهى دور (من عصر الإيمان) ولم يؤثر قيام الإنجيليين شيئاً في أحوال المرأة أو في أفكار المشرعين المختصة بها. والخلاصة أن المسيح اكرم المرأة أما أتباعه فحرموها من العدل والإنسانية.
والنظرية الثانية التي اشرنا إليها وهي الشائعة بين طبقة كتاب الروايات في أوروبا فهم يحسبون أن كل من قام في الأعصر المتوسطة هو بيرد او كريشتن. والمظنون أن عصر الفروسية يمتد من ابتداء القرن الثامن إلى انتهاء القرن الرابع عشر (وهي المدة المعاصرة لحكم الأمويين في الأندلس). إلا أن المرأة في هذه المدة وإن أحاطت بها هالة من الشعر والروايات فكثيراً ما كانت موضع الشر والأذى وكأنت القوة والخداع أوصافاً مميزة للعصر الذهبي عصر الفروسية النصرانية. وكان أولند وآرثر حديث خرافة حتى التقى الغرب(21/32)
بمدينة الشرق. ولم تكن الفروسية ابنة المجاهل الأسكندناوية والحراج الجرمانية لان النبوة والفروسية كلتاهما من نتاج الصحراء.
فمن الصحراء قام موسى وعيسى ومحمد ومن الصحراء أتى عنترة وحمزة وعلي.
وكأنت المرأة عند الحضر من العرب وهم ممن انتحلوا المبادئ الشائعة بين السوريين والفرس والرومانيين على غاية من الانحطاط كما ذكرنا لكنها كان لها عند بعض الرحل حرية حسنة وتأثير قوي في أحوال القبيلة قال برون (ولم تكن كاليونانية موضع البؤس والشقاء) فكانت ترافق الرجال إلى الحرب وتبث فيهم روح الحماسة والنخوة وكان الكماة يخوضون عباب الحرب متغنين بمديح الأخت أو الزوجة أو المحبوبة وعندهم أن ما يكافئ به الحبيب هو خير مكافأة لهم عن صولتهم وبطشهم. وكأنت الشجاعة والكرم خير خصال الرجال والعفة خير خصال النساء. وربما لو أصابت امرأة في القبيلة سبة أو لحقها عار استعرت لها لظى الحرب بين قبائل الجزيرة كلها. وما أسباب حروب الفجار التي استعرت نارها أربعين سنة حتى أطفأ النبي ثائرتها إلا سبة لحقت ابنة فتية في سوق عكاظ.
وقد حول النبي عادة حسنة إلى اعتقاد ثابت فأصبح احترام المرأة باباً من أبواب الإسلام ونرى في كثير من الأحوال التي تعكس لنا صورة عصره الساذج أن سننه تبعث على الشهامة والمروءة في معاملة المرأة أكثر من سنن سائر المعلمين السابقين ويختلف الإسلام كالنصرانية باختلاف الأفراد والعصور لكن المروءة الخالصة كانت في الإجمال أكثر مصاحبة للإسلام منها لغيره.
وكما كان بطل الإسلام وابن مؤسس حلف الفضول على أهبة لمحاربة أعداء الله بسيفه ورمحه كذلك كان على أهبة للأخذ بناصر الضعيف والمظلوم ولم يعدم الداعي الملوح المستجير سواء كان في سهول العراق أو ما هو اقرب للجزيرة فارساً يأتي للأخذ بناصره وجبر كسره.
وكانت أعمال هؤلاء الفرسان تدون في الأخبار وتنتقل من الخيمة إلى القصور فتؤثر في صولة الأجيال التالية وأن الخليفة ألقى من يده يوماً قدح الشراب في دار ضيافته لما بلغه أن فتاة عربية قالت في اسر الرومانيين لم لا يأتي عبد الملك لتخليصي وعاهد نفسه على أن لا يذوق شراباً أو ماء حتى يخلص الفتاة من الأسر فسار من وقته بجيش عرم على(21/33)
الرومانيين الأنذال وما بر بيمنه حتى ملكت تلك الفتاة أمرها. وإن أحد الملوك المغوليين وهو الملك همايون بينا كأن يسير إلى كابل والأفغانيون يطاردونه وصله سوار ملكة مؤاخية وهو علامة على الصداقة وطلب المساعدة فترك شؤونه الخاصة وأعاد كرته وكسر أعداءها ثم عاد إلى سيره السابق.
وسمى عنترة أبا الفروسية وكان علي مثالها الكمالي جمع الشهامة والشجاعة والكرم وكان نقي القلب رقيق الخصال عالماً لا يخاف ولا يوبخ فوضع أمام الناس أشرف مثال لمتانة الأخلاق والشجاعة والمروءة وقد ظللت مبادئه - وهي صورة مبادئ معلمه - البلاد الإسلامية وكأنت الروح المحرك المحيي لكثير من الأجيال التالية. وكان من أمر الحروب الصليبية أنها جمعت الغرب البربري بمدينة الشرق الإسلامي فنبهته إلى عظمة المسلمين وترفهم. وكان تأثير مسلمي الأندلس خاصة في جيرانهم النصارى هو الباعث على إدخال الفروسية في الغرب ولم يكن التروبادور والتروفور الذين قاموا في جنوب فرنسا والمنسنجر الذين قاموا في البلاد الجزمانية والذين تغنوا في الحرب بأناشيد العشق والشهامة إلا تلاميذ رومنسور قرطبة وغرناطة ومالقة وقد استمد بتررك وبكاشيو بل تايو وتسوشر من الينبوع الإسلامي إلا أن خشونة البرابرة الغربيين في عاداتهم وتصوراتهم كست الفروسية ثوبا حشنا.
وبقيت المرأة في الأعصر الإسلامية الأولى حتى سقوط الدولة العربية في المشرق تشغل مكاناً علياً كمكان المرأة المعاصرة فزبيدة امرأة الرشيد قامت بعمل عظيم في عصرها وتركت بحكمها وأدبها اسماً يفتخر به المتأخرون. وإن حميدة امرأة الفاروق أدبت ابنها في غياب زوجها حتى صار من أشهر علماء عصره وكان اسمه ربيعة الرأي. وكانت سكينة ابنة الحسين وسبط علي أذكى أهل زمانها وأكثرهم فضيلة وتهذيباً وقد سماها برون (سيدة سيدات زمانها) ووصفها بأنها (أجملهن وارقهن وأوضحهن أخلاقاً) وجمعت إلى علمها حسن استماعها لحديث العلماء والصالحين. ولقد عرف نساء بيت النبوة بعلمهن وفضيلتهن وتصلب أخلاقهن. وكانت بوران امرأة المأمون وأخته أم الفضل امرأة الأمام الثامن العلوي وابنته ام الحبيب كلهن مشهورات بالعلم. وقامت في القرن الخامس من الهجرة السيدة سكينة الملقبة بفخر النساء وألقت دروساً عامة في مسجد بغداد الجامع موضوعها الأدب(21/34)
والبيان والشعر ولما في تاريخ الإسلام شأن يساوي شأن أشهر العلماء. وماذا كان يصيبها يا ترى لو انها نشأت بين اخوأن القديس سرل والجواب يظهر مما أصاب هيباتيا وكان من الممكن أن لا يمزقها أولئك المتحمسون ولكن من المحقق انها كانت تحرق كالساحرات وكانت ذات الهمة (المحرقة في اللغات الأوروبية الحأزمة) قلب الأسد وصاحبة كثير من الوقائع تحارب مع أشهر الفرسان جنباً لجنب.
وقد اعترف كل من لم يتعصب من الكتاب بإصلاح المرأة الذي أتى به النبي. على أن المتعصبين لا يزال ديدنهم القول بأن الإسلام حط من مقام المرأة - تهمة إلا اكذب منها - وان تسعة عشر قرناً من قرون النشوء والترقي عملت مع ما أورثته مدنية سابقة وأحوال مناسبة على جعل المرأة في أكثر البلاد النصرانية أعلى درجة من الرجل بالنظر الاجتماعي أي ولدت آداباً تعترف على الأقل بحق المرأة بالأفضلية الاجتماعية. ولكن ماهو حقها الشرعي ياترى حتى في أعظم البلاد النصرانية. وإن المرأة المتزوجة كانت في البلاد الإنكليزية حتى في عصر متأخر جداً لا يعترف لها وحدها بحق من الحقوق دون زوجها. والآن إذا لم تبلغ المرأة المسلمة في مئة سنة آتية مقام أتى في عصر لم تعترف فيه امة من الأمم اودين منالأديان او جمعية من الجمعيات بحق المرأة سواء كانت بكراً او متزوجة وعاش في بلاد تعد ولادة الابنة مصيبة ومع ذلك خول النساء حقوقاً لا تخولهن اياها الحكومات المتمدنة اليوم إلا كرهاً - أن معلماً كبيراً مثل هذا حري بثناء الخلق واعترافهم له بالجميل ولو لم يفعل غير هذا لصدق في دعواه أنه ارسل رحمة للعالمين. وإن حقوق المرأة المسلمة كما هي مدونة في كتب الفقهاء لا تقل عن حقوق المرأة الأوروبية اليوم واننا لا نتعرض هنا لغير الضمانات التي تضمن حقوقها في الشريعة الإسلامية وهي أن المرأة مادامت غير متزوجة تبقى في بيت أبيها ومادامت دون سن البلوغ فابوها يسوسها ومتى بلغت أشدها فإن الشريعة تمنحها بيدها ما يخصها من الحقوق من غير أن يشركها شريك في ذلك. ولها حصة معلومة في ميراث ابويها كاخواتها وإذا اختلفت النسبة فذلك لاختلاف المقام. ولا يمكن إجبار البالغة على زواج واحد حتى السلطان في حال من الأحوال ولا تخسر المتزوجة حقوقها الخاصة وللزوجة على الزوج صداق مقدم فإذا لم يدفعه تحكم الشريعه لها بصداق يناسب درجتها. والزواج الإسلامي عمل مدني لا يحتاج(21/35)
إلى قسيس أو رسوم معلومة وأن عقود الزواج الإسلامية لا تخول الرجل سلطة على الزوجة وراء ما عينته الشريعة له عليها ولا تعطيه حقاً من الحقوق بالتسلط على امتعتها أو ثروتها. فحقوقها من حيث انها ام لايتوقف الاعتراف بها على وساوس القضاة المختلفي المشرب والتربية. وما كسبته بيدها لا يتمكن من إتلافه زوج مبذر وإن زوجاً شرساً لا يقدر على الإساءة إلى زوجته من غير عقاب وهي تدير أمرها بيدها متى كانت بالغة من غير مداخلة زوجها او أبيها. وتداعي غرماءها في المجالس العلنية من غير أن تضطر إلى الانضمام إلى رفيق ثان أو تحت اسم زوجها وبعد ما تترك بيت أبيها بتقى لها الحقوق التي يخولها الرجل. وإن امتازاتها من حيث أنها ام وزوجة لا تضمنها المجاملات المتقلبة ولكن تضمنها الأحكام المسطرة في كتاب الشرع. ونقول إجمالاً أن حالتها لاتقل عن حالة كثير من نساء الغرب ومن المحقق أنها في كثير من الشؤون أرفع منهن مقاماً وتأخرها بالنسبة إلى الغربيات ناتج عن قلة التهذيب بين الطبقات عامة لا عن شيء خاص في أحكام الفقهاء.
بيروت
عبد الرحمن شهبندر
يوجد نقص من فقرة الأزمة المصرية صفحة 480 إلى فقرة صحف منسية صفحة 484 (مقتبس2)(21/36)
صحف منسية
نثر ابن زيدون
كتب ابن زيدون من قرطبة إلى ابن مسلمة بإشبيلية قبل تحوله إليها
ياسيدي وأرفع عددي. وأول الذخائر في عددي. واخطر علق ملأت من اقتنائه يدي. ومن ابقاه الله في عيشة باردة الظلال. ونعمة سابغة الاذيال. قد تناصر الثناء عليك. وتوالي الحديث الحسن عنك. حتى حللت محل الأمانة. وكنت موضع تقليد الوطر واثبات الطوية. والله يمتعك بما حازه لك من الخير. ووفره عليك من طيب الذكر. في علمك أعزك الله ما تقتضيه العطلة من اظلام الخاطر وصداء النفس ويجنبه طول المقام من أخلاق الديباجة وارخاص القدر وقد رأيت أن اجتني ثمرة من الآداب أطلت الاعتناء بها. وأخلاق ادمت رياضة الأنفس عليها. ولما فحصت الملوك وجدت عميدهم الذي انسى السالف قبله. وتقدم الراهق معه. وأتعب العابر بعده. الحاجب فخر الدولة مولاي. ومن أطال الله بقاءه. وكبت أعداءه. بما خصه الله به من سناء الهمم. وشماخة الشيم، وانتظام أسباب الرياسة. وكمال آلات السياسة. واجتماع المناقب التي أفردته من النظراء. وأعلته عن مراتب الاكفاء. فرأيت قبل أن أحمل لغيره نعمة. واوسم ممن سواه بصنعة. أن أعرض نفسي مملوكته عليه عرض من لا يؤهلها لاجازته لا بالاستخارة ولا يطمع لها في قبوله الا مع المسامحة فو كنت الوليد بن عبيد براعة نظم وجعفر بن يحيى بلاغة نثر وإبراهيم بن المهدي طيب مجالسة وإمتاع مشاهدة ثم حضرت بساطة العالي لما كنت مع سعة أحاطته إلا في جانب التقصير وتحت عهدة النقصان غير أنه الا يعدم مني لنجابة غرس اليد وأصابة طريق المصنع من ولاية أخلصها ونصيحة أمحضها وشكر اجنيه الغض من زهراته وثناء اهدي إليه العطر من نفحاته ففوضت اليك هذه السفارة واعتمدتك بتكليف النيابة لوجوه منها حظوتك لديه ومكانتك منه سوغك الله الموهبة في ذلك وانهضك باعباء الشكر لها ومنها سرو مذهبك وكرم سجيتك وصحة مشاركتك لمن لم يستوجبها استيجابي ولا استدعاها بمثل أسبابي من تداني الجوار وتصافي السلف والانتماء إلى آسرة الأدب. فإن وأفقت السانحة الاراة فحظ أقبل. وعبد بلغ من سيده ما امل. ولم أقل عمرك الله كما قيل في النجمين. بل قلت وقد يجمع الله الشتيتين. وإن عاق حرمان عادته أن يعوق عن الظفر ويعترض دون(21/37)
الأمل فأعلمه أيده الله اني في حال العطلة مع غيره والتصرف. ويومي الايطان والتطوف. كالمهتدي بالنجم حين عدم ذكاء ومتيم الصعيد إذا لم يجد الماء
فإن اغش قوماً غيره او ازرهم ... فكالوحش يدنيه من الأنس المحل
والله يتولاه بالفسحة في عمره. والإعلاء لأمره. ويصرف الاقدار مع ايثاره. ويصرف وجوه التوفيق إلى اختياره. ولك سيدي في انتدابك كما ندبتك له ما للساعي المنجح من الشكر. أوللمجتهد البالغ من العذر. وملاك الأمر تقديم المراجعة للايجاب فأسكن إليه. والجواب فاعتمد عليه. وأهدي اليك ندى الغض الناضر من سلامي والارج العطر من تحفتي.
وله رسالة خاطب بها ابا مروان بن حيان المؤرخ المشهور قال في فصل منها وقد أهداه احمالاً من الزيت والبر في سنة ممحلة:
وللذي أسكن إليه من حسن قبولك. وجميل تأويلك. اقابل بالحقير. واواجه بالتافه اليسير. ويعلم الله تعالى إني لو تاحفتك عمري ما رأيت أن ذلك كفوء لقدرك. ولا وفاء ببرك. فكيف ما دونه فلك المنزلة التي لا تسامى. والجلالة التي لا توازي. وما شيء وإن جل الا محتقر لك مستصغر عند محلك. ويصل مع موصل كتابي هذا ما ثبت ذكره في المدرجة طيه وانت بمعاليك تتفضل بقبوله وتصل أجمل صلة بالتغاضي عن رتاحته. والاستجازة لنزارته. مقتضياً بذلك شكري وحمدي ومستبداً منهما بجميع ما عندي.
وقد راجعه ابن حيان برقعة يقول فيها: أن لفجأة المسرات الباعثة لآمال النفوس الحائمة صدمات تذهل الجنان وتعقل اللسأن فمن فرح النفس ما يقتل ومن باهر الصنع ما يذهل. ولا كمثل ما فاجأتني به من فضلك المبتدر ميقانه على وفاض من الازودة وخمود من المصأبيح وضغطة من الظنون المخوفة لنكد السنا لم يشغلك عن وجودك شاغل حتى قضيت يذرك في لأول وقته ولم ترض بعادتك المتكلفة لي بشأن الدين حتى تحملت عن ثقل القوت فطرقني قطار هديتك الفاجئة غداة أصبحت فيها منصفاً من الزاد مستوفزاً للارتياد فسكنت دهشاً فرحاً واستحال بياني بلها حتى نولت كتابك الكريم. نظرت في لإليه فنالني به اهتزاز لذكرك وارتياح لقولك فجوزيت جزاء المحسنين بما لرحت من فكري لكشفك في اديم يوم هم عام مع انك قبلت شكري فلا فضل فيه لمقابلة معروفك الا بامحاض(21/38)
الدعاء لك في حراسة مهجتك ودوام نعمتك واستبصار الملك الأعلى عميد الورى مستكفيك في حسن رأيه فيك اعاذك من عين الكمال ووقاك طوارق الأيام والليال وحفظ على زماننا مافيك من كرم الخلال وانهضك بما التزمته من احناث من اقسم في عصرنا أن الجود عدم لا ينال بمنة. وقد طوينا في هذه الرسالة بعض ألفاظ لسقم النسخة المنقول عنها.
شعر ابن زيدون
في دار الكتب الخديوية بالقاهرة نسخة خطية من ديوان بحتري المغرب ابن زيدون وقع في 107 ورقات صغيرة تغلب عليه الصحة في الغالب ولم يذكر فيه تايخ ليعرف به الزمن الذي كتبت فيه وقد كتب في آخره مانصه: تم شعر ذي الوزارتين أبي الوليد احمد ابن زيدون وشعر الملكين والحمد لله وحده.
وإن خير ما يقرظ به ديوان صاحب قصيدة (أضحى التناحي بديلاً من تجافينا) التي بعث بها إلى ولادة بنت المستكفي بالله أن يكتفي بنقل شذرات منه تدل على مبلغ ذاك الشعر من العراقة في الحضارة والرقة.
وقد اتصل بنا أن أديباً من دمشق قد مثل هذا الديوان البديع للطبع او كاد ولا شك أن أصحاب القريض سيسرون بنشره بينهم.
قال ابن زيدون يمدح أبا الوليد بن جهور احد ملوك الطوائف وهي أول ديوانه
هذا الصباح على سراك رقيبا ... فصلي بفرعك ليلك الغربيبا
ولديك امثال النجوم قلائد ... الفت سماءك لبة وتريبا
لينب عن الجوزاء قرطك كلما ... جنحت تحت جناحها تغريبا
وإذا الوشاح تعرضت اثناؤه ... طلعت ثريا لم تكن ليغيبا
ولطالما ايديت اذ حييتنا ... كفاً هي الكف الخضيب خضيباً
اطنينة دعوى البراءة شأنها ... أنت العدو فلم دعيت حبيبا
ما بال خدك لا يزال مضرجاً ... بدم ولحظك لا يزال مريبا
لو شئت ما عذبت مهجةعاشق ... مستعذب في حبك التعذيبا
ولزرته بل عدته أن الهوى ... مرض يكون له الوصال طبيبا
ما الهجر الا البين لولا أنه ... لم يشح فاه به الغراب نعيبا(21/39)
ولقد قضى فيك التجلد نحبه ... فثوى وأعقب زفرة ونحيبا
وأرى دموع العين ليس لفيضها ... غيض إذا ما القلب كان قليبا
مالي وللأيام لجّ مع الصبي ... عدوانها فكسى العذار مشيبا
وقال مع تفاح أهداه إلى الوزير الأجل محمد بن جهور
اتتك بلون الحبيب الخجل ... مخالط لون المحب الوجل
ثمار يضمن إدراكها ... هواء أحاط بها معتدل
تأتي لا لطاف تدريجها ... فمن حر شمس إلى برد ظل
إلى أن تناهت شفاء العليل ... وانس المشوق ولهوالغزل
فلو تجمد الراح لم تعدها ... وان هي ذابت فخمر تحل
لها منظر حسن في العيون ... لدنياك لكنه منتقل
وطعم يلذ لمن ذاقه ... كلذة ذكراك لو لم يمل
يمثل ملمسها للاكف ... لين زمانك او يمتثل
صفوت فادللت في عرضها ... ومن يصف منه الهوى فليدل
قبولكها نعمة غضة ... وفضل بما قبله متصل
ولو كنت اهديت نفسي اخ ... تصرت على أنها غاية المحتفل
وكتب إلى الأديب أبي بكر مسلم بن احمد رسالة يتنصل بها
شحطنا وماللدار نأي ولا شحط ... وشط بمن نهوى المزار وماشطوا
اءاحبابنا الون بحادث عهدنا ... حوادث لاعقد عليها ولا شرط
لعمركم أن الزمان الذي قضى ... يشت جميع الشمل منا لمشتط
وأما الكرى مذ لم ازركم فهاجر ... زيارته غب والمامة فرط
إلى أن يقول وهو مما ذكر له القلائد
عدا سمعه عني واصغى إلى عدي ... لهم في اديمي كلما استمكنوا عط
بلغت المدى اذ قصروا فقلوبهم ... مكامن اضغان اساودها رقط
يولونني عرض الكراهة والقلى ... ومادهرهم الا النفاسة والغبط
وقد وسموني بالتي لست أهلها ... ولم يمن امثالي بامثالها قط(21/40)
فررت فإن قالوا الفرار ارابه ... فقد فرّ موسى حين همّ به القبط
وقال وهو السحر الحلال
ساحب اعدائي لانك منهم ... يامن يصح بمقلتيه ويسقم
أصبحت تسخطني وأمنحك الرضى ... محضاً ونظلمني فلا اتظلم
يامن تألف ليله ونهاره ... فالحسن بينهما مضيء مظلم
قد كان في شكوى الصبابة راحة ... لو انني اشك وإلى من يرحم
سقى الغيث اطلال الاحبة بالحمى ... وحاك عليها ثوب وشي منمنا
واطلع فيها للازاهير انجما ... فكم رفلت فيها الخرائد كالدما
اذ العيش غض والزمان غلام
أهيم بجبار يعز وأخضع ... إذا المسك من اردانه يتضوع
إذا جئت أشكوه الهوى ليس يسمع ... فما أنا في شيء من الوصل أطمع
ولا أن يزور المقلتين منام
قضيب من الريحان أثمر بالبدر ... لواحظ عينيه ملين من السحر
وديباج خديه حكى رونق الخمر ... وألفاظه في النطق كاللؤلؤ النثر
وريقته في الارتشاف مدام
سقى جنبات القصر صوب الغمائم ... وغنى على الاغصان ورق الحمائم
بقرطبة الغراء دار الأكارم ... بلاد بها عق الشباب تمائمي
وانجبني قوم هناك كرام
فكم لي فيها من مساء واصباح ... بكل غزال مشرف الوجه وضاح
يقدم أفواه الكؤوس بتفاح ... إذا طلعت في راحة انجم الراح
فإنا لإعظام المدام قيام
ويوم لدى النبي في شاطئ النهر ... تدار علينا الراح في فتية زهر
وليس لنا فرش سوى يانع الزهر ... يدور بها عذب اللما اهيف الخصر
بفيه من الثغر الشيب نظام
ويوم بحوحي الرصافة مبهج ... مررنا بروض الاقحوأن المديح(21/41)
وقابلنا فيه نسيم البنفسج ... ولاح لنا ورد يخد مضرج
تراه أمام النور وهو أمام
واكرم بأيام العفاف السوالف ... ولهو أثرناه بتلك المعاطف
بسود اثيث الشعر بيض السواف ... إذا رفلوا في وشي تلك المطارف
فليس على خلع العذار ملام
وكم مشهد عند العقيق وجره ... قعدنا على حمر النبات وصفره
وظبي يساقينا سلافة خمره=حكى جسدي في السقم رقة خصره
لواحظه عند الدنو سهام
فقل لزمان قد تولى نعيمه ... ورثت على مر الليالي رسومه
وكم رق فيه بالعشي نسيمه ... ولاحت لساري الليل فيه نجومه
عليك من الصب المشوق سلام
وله وقد قال فيها صاحب الذخيرة أنه كتب بها من بطليوس أيام تكدره عليها وهي من غرر نظامة ودرر كلامه
يادمع صب ماشئت أن تصوبا ... ويافؤادي إن ان تذوبا
أن الرزايا أصبحت ضروبا ... لم ار لي في أهلها ضريبا
قد ملأ الشوق الحشا ندوبا ... في الغرب اذ رحت به غريبا
عليل دهر سامني تعذيبا ... ادنى الضنا اذ ابعد الطبيبا
ليت القبول احدثت هبوبا ... ريح يروح عهدها قريبا
بالأفق المهدي الينا طيبا ... تعطرت منه الصبا جنونا
يبرد حر الكبد المشبوبا ... يامتبعاً إساءة التأويبا
مشرقاً قد سئم التغريبا ... اما سمعت المثل المضروبا
ارسل حكيماً واستشر لبيبا
إذا اتيت الوطن الحبيبا ... والجانب المستوضح العجيبا
والحاضر المنفشج الرحيبا ... فحي منه ما رأى الجنوبا
مصانع بجاذب القلوبا ... حيث الفت الرشأ الربيبا(21/42)
مخالساً في وصله الرقيبا ... كم تات ليلي بدره الغريبا
لما أنثنى في سكره قضيبا ... تشدو حمام حليه تطريبا
هصرته حلو الجنى رطيبا ... ارشف منه المبسم الشنيبا
حتى إذا ما اعتن لي مريبا ... شباب أفق هم أن يشيبا
بادرت سعياً هل رأيت الذيبا ... اهاجري ام موسعي تأنيبا
من لم أسع من بعده مشروباً ... ما ضره لو قال لا تتريبا
ولا ملام يلحق القلوبا ... فلا ملام لحق المغلوبا
قد طال ما تجرم الذنوبا ... ولم يدع في العذر لي نصيبا
ان قرت العين بان اؤبا ... لم آل أن استرضى الغضوبا
حسبي أن احرم المغيبا ... قد ينفع المذنب أن يتوبا
وقال:
ولما التقينا للوداع غدية ... وقد خفقت في ساحة القصر رايات
وقربت الجرد العتاق وصفقت ... طبول ولاحت للفراق علامات
بكينا دماً حتى كان عيوننا ... بجري الدموع الحمر منها جراحات
وكنا نرجي الأوب بعد ثلاثة ... فكيف وقد كانت عليها زيادات
مطبوعات ومخطوطات
صدر هذا الكتاب النفيس في الشهور الأخيرة باللغة الإفرنسية من قلم المسيو هنري ليشتنبرجي من أساتذة كلية السوربون في باريز وهو في نحو أربعمائة صفحة تلونا في مسطورة أثار عظمة الأمة الجرمانية وارتقائها في أدابها وعلومها وصنائعها وأخلاقها واوضاعها السياسية والاجتماعية ولاقتصادية والدينية في خلال القرن التاسع عشر كل ذلك مكتوب بلسان الانصاف البحت اوحاه العلم الذي لا ينطبق صاحبه من جانب القلب بعامل هوى النفس واملاه التمحيص الذي يتوفر عليه علماء الغرب إذا اخصوا في فن من الفنون وأرادوا أن يضعوا فيه المصنفات الممتعة النافعة. وقد عددنا الطفر بهذا الكتاب نعمة لانا كنا نعرف درجة ارتقاء الألمان معرفة سطحية وذلك لان من أخلاق هذه الأمة بل من أخلاق الأمم السكسونية كالإنكليز والأميركان أن لا يهمها التظاهر بعظمتها الحقيقية الا بعد(21/43)
إيراد الدلائل الحسية على ذلك وظهور نتائج الأعمال بالطبع.
ومما استفدناه منه أن الألمان لم يكتفوا بنزول بلادهم بل هم منتشرون في جميع بلاد أوروبا ولاسيما فيما وراء تخومها من الجهات الأربع فقد كأن سنة 1900 في بلاد النمسا 9171000 ألماني أي 36 بالمائة من مجموع السكان يحيون فيها لغتهم وحضارتهم ونفوذهم وفي الأكثر في بوهيميا على كثرة مناضلة عنصر الصقالبة لهم. وعلى الرغم من معاكسة العنصر المجري للعنصر الجرماني لايزال في بلاد المجر 2135000 ألماني أي نحو 33 في المئة من عامة السكان يحافظون على حالتهم وإن شئت فقل يفلحون في الأعمال وينتشرون كما هم في أقليم كرواسياسلافونيا من ديار المجر فإنهم زادوا فيها أربعة أضعاف ما كانوا في النصف الثاني من القرن الأخير. وعدد الألمان في شرق ألمانيا من ولايات البلطيق من أعمال روسيا نحو ربع مليون وهم العنصر المتمدن المتعلم الفني. وفي جنوبي ألمانيا أي في بلاد سويسرا الألمانية يتراجع عنصرهم قليلاً بالنسبة لعنصر الولش وفي غربي ألمانيا 32 الفا أي في هولاندا والبلجيك الفلامندية و68 ألفاً في البلجيك ولوكسمبرغ.
وماعدا هؤلاء فإن هناك ملايين من الألمانيين غادروا ألمانيا على أن يعودوا إليها او هاجروا منها هجرة قطعية فمنهم جنود يخدمون الأجانب ودعاة دين للكثلكة أو إلبرتستانتية ورواد في آسيا وأفريقيا يكتشفون المجاهل والمعالم ومهاجرون مدفوعون بعامل الفقر نزلوا وراء البحر المحيط أي في أمريكيا يبحثون عن الثروة وكل هؤلاء الألمان الذين طرحتهم النوى مطارحاً والقتهم الاقدار في اطراق المعمور كله هم عنصر قوي في جسم القوة الجرمانية ذو شأن عظيم
قال المؤلف ومعلوم أن هجرة الألمان كانت متصلة بعد سنة 1830 حتى أنه يقدر عدد الألمانيين الذين غادروا ألمانيا في خلال القرن التاسع عشر بخمسة ملايين ومعظمهم بين سنة 1881و1890 هكذا أسست منذ ذاك العهد مستعمرات ألمانية كثيرة وأهمها مستعمرة الألمان في الولايات المحدة ويقدر عدد الأميركيين الذين هم من أصل الماني بخمسة وعشرين مليوناً وتعشرة إلى اثني عشر مليوناً تقرأ في جبهتهم ألمانيتهم وهم اما أنهم يتكلون بالألمانية او هم مولدون من آباء ألمان او انهم احتفظوا بعاداتهم وتهذيبهم بما قوى(21/44)
الرابطة بينهم وبين بلادهم الأصلية وكان هذا العدد الدثر من أعظم القوى الألمانية اذ لم يتشبه على ايسر وجه بمن نزل بين ظهرهم من الأميركان وينزع عنه أخلاقه وأداب جنسه في الجيل الثاني أو الثالث واحياناً في الجيل الأول.
ويبلغ الألمان في أميركيا الجنوبية نصف مليون نسمة وهم فيها أكثر احتفاظاً بلغتهم وآدابهم وأغنياء من الطراز الأول وفي استراليا نتشبهون بالعنصر الإنكليزي السنكسوني لأول أمرهم وعلى العكس في النازحين منهم إلى الشرق من جهات الأملاك العثمانية والروسية كقافقاسيا وتركستان وسبيريا من جهة وفلسطين من جهة أخرى فمنهم احتفظوا بأصولهم ولغاتهم وهم على قاب قوسين من النجاح والتقدم وهكذا الحال في سائر البلاد التي نزلوها في آسيا ولاسيما في المستعمرات الهولاندية وكذلك في أفريقية ولاسيما في مستعمرة الرأس ويقدرون عدد الألمان في أوروبا بستة وسبعين مليوناً ونصف يضاف إليهم نحو اثني عشر مليوناً منتشرين في أطراف القارات الأربع الأخرى منهم عشرة ملايين في الولايات المتحدة وأربعمائة الف في أمريكيا الشمالية وخمسمائة الف في أمريكيا الجنوبية وثمانية عشر ألفاً في أمريكيا الوسطى و623 الفا في أفريقيا و110 ألاف في جزائر المحيط و88 ألفاً في آسيا وسنعرب من هذا الكتاب بعض فصوله لفائدة القراء
محمد علي
هي قصة تاريخية غرامية تشتمل على سيرة محمد علي باشا مؤسس العائلة الخديوية من أول نشأته حتة قبض على أزمة الحكومة المصرية عربها عن الإنكليزية نسيب أفندي المشعلاني المشهور في تعريب القصص والفكاهات ونشرتها مجلة الهلال الغراء ملحقاً لها تعويضاً لقرائها عن شهري الصيف وهما اللذان تحتجب فيهما هذه المجلة النافعة وقد جعلتها هدية يدفعون في الاغلب إلا إذا حفزهم حافز ورغبهم كان ما يتنأولونه كل يوم او كل أسبوع او كل شهر من الأفكار والأبحاث لا يساوي وحده في نظرهم أن يقابل بثمن طفيف.
وقد أحسن رصيفنا صاحب الهلال بهذه القاعدة الملذة وهي في زهاء ثلاثمائة صفحة من قطع الثمن فنحت عشاق الفكاهات على مطالعتها ونثني على نأقلها وناشرها بما يستحق فضلها.(21/45)
ديوان صريع الغواني
صريع الغواني او مسلم بن الوليد شاعر متقدم من شعراء الدولة العباسية وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع وهو الذي لقب هذا الجنس البديع واللطيف وتبعه فيه جماعة وأشهرهم ابو تمام الطائي وكان حسن النمط جيد القول في الشراب وكثير من الرواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى توفي سنة 208 وقد كان طبع ديوانه في أوروبا والهند واعاد طبعه الأن فئة من انصار الأدب ببور سعيد فأحسنت ونعما فعلت وحبذا لو تتبعه بغيره من الكتب المطبوعة في أوروبا وهي تعد كالمخطوطة في ديارنا لندرتها. قال مسلم في الحكم:
شكا الزمان بما امضى به قدرا ... أن الزمان لمحمود على الابد
لن يبطئ الأمر ما املت اوبته ... وان اعانك فيه رفق متئد
والدهر أخذ ما اعطى مكدر ما ... اصفى ومفسد ما اهوى له بيد
فلا يغرنك من دهر عطيته ... فليس يترك ما اعطى على احد
وقال من هذا النوع
كم رأينا من أناس هلكوا ... فبكى احبابهم ثم بكوا
تركوا الدنيا لمن بعدهم ... وردهم لو قدموا ما تركوا
كم رأينا من ملوك سوقة ... ورأينا سوقة قد ملكوا
قلب الله عليهم وركا ... فاستداروا حيث دار الفلك
مرآة الزمان
جرت عادة كثير من طباع الغربيين أن يطبعوا بالزنكو غراف كثيراً من الكتب القديمة الخطية لاسيما إذا كان خطها بديعاً يغلب عليه الضبط والصحة وفي ذلك فوائد لا تحصى لأن الممالك نسخة من كتاب او رسالة طبع على هذه الصورة كانه ملك النسخة الأصلية الفريدة في بابها وربما طبع الكتاب بهذه الطريقة لا لما ذكر بل لصعوبة النسخ أو الطبع على الطريقة المألوفة ومن ذلك ما فعله الدكتور ريكارد جوت أستاذ العربية في جامعة شيكاغو فإنه طبع في الأيام الأخيرة الجزء الثامن من مرآة الزمان للعلامة يوسف سبط ابن الجوزي وهذا الجزء يحتوي على نهم الأحداث من سنة 495إلى سنة 654 ولعل بعض(21/46)
الطابعين في المشرق يقتنعون هذا الأثر وإن كان يحتاج إلى عناء وكلفة فإن في دور الكتب هنا وعند كثير من المولعين بها كثيراً من الكتب التي يجد ران تطبع على هذه الطريقة لا على الطريقة الأخرى.
الفضيلة والرذيلة
جورج اونه من مشاهير كتاب فرنسا المعاصرين له عشرات من المؤلفات في التمثيل والقصص وكلها منتشرة بين الفرنسين وهو من الناقمين على أرباب المجد والمال ولذلك ترى معظم كتاباته تدور على هذا المحور. وقد عرب منشيء هذه المجلة في هذه الآونة رواية من سلسة روايات له كثيرة سماها جهاد الحياة نشرتها مجلة مسأمرات الشعب في267 صفحة منصفة القطع وسميت (الفضيلة والرذيلة) وهي تمثل رجلاً من أهل الأدب والقريض اتصل بقتاة أدبية وامرأة متأدبة فحاول أن يحل من الأولى محلاً دفعته عنه بفضل أدبها وتربيثها مع أن امها كانت معروفة بالخلاعة والتبذل وحل من الثانية وهي غنية من ربات القصور محلاً لا يليق بمن كتب وصفت أن يحله فأخذت ترفع مقامه بين خاصتها وتبره ليصلح لها كتاباتها المنثورة والمنظومة لأنها كانت مولعة بالشهرة أدبية ولما تستعد لها على أصولها وقد تخلل ذلك كلام في النقد على أرباب الرفاهية والمجد وطلاب الشهرة الباطلة مثال من تغفل بعض أرباب المطابع والجرائد والمجلات والمجامع العلمية في فرنسا مما تحتاج كل صفحة من صفحاته إلى شرح طويل. وهذه الرواية تلذ مطالعتها الخاصة أكثر من العامة وهي تطلب من مجلة مسأمرات الشعب وثمنها خمسة عشر قرشاً وتهدى لمن يشترك بالمجلة المذكورة.
المجرم البريء
نشرت مجلة مسأمرات الشعب القصصية هذه الرواية معربة بقلم كاتب هذه السطور أيضاً وهي رواية بلذ مطالعتها جمهور الناس تمثل صورة من صور التهور في الغرام الحرام وعواقبه المدمرة وذلك أن صاحب معمل في باريز كان في حالة حسنة من دنياه يعيش في غبطة مع زوجته وفتاته فساقة الغرور إلى الاتصال بامرأة احد كبار المحامين استلت منه آدابه وماله ثم جمعته الاقدار في حرب السبعين مع زوجها وكان يعرفه من قبل معرفة بسيطة فتصادقا على الرغم منه وانقذ كل منهما حياة صاحبه في بعض المواقع فعاد صاحبه(21/47)
وقد قطعت ساقاه فلم ير صاحب المعمل أن يعود إلى سالف عهده مع زوجة صاحبه بعد تلك الحقوق التي بينهما وراح يوبخ نفسه على ما قدمت يداه اما هي فكتمت الأمر وأخذت تدبر له مكيدة للانتقام منه بواسطة رجل كان قبض عليه صاحب المعمل في دار الحرب وهو يتجسس للعدو وسجنه ريثما ينفذ عليه حكم الإعدام ففر في الليل وعادإلى باريز وتعرف إلى تلك المرأة وكان مطلعاً من قبل على شيء مما يدور بينها وبينه قبل الحرب. وصادف أن وقع صاحب المعمل في ضائقة عقيب وقوف الحركة المالية في فرنسا وكان مديناً لرجل عجوز بمبلغ من المال فأراده أن ينظر إلى ميسرة فالح هذا في تقاضي دينه فلم يسعه إلا أن يدفع إليه ما أراد وعندها دمر ذاك الجاسوس إلى دار الشيخ وذبحه وأخذ اوراقه المالية التي كانت فيها إشارة إلى انها صادرة عن صاحب المعمل ودفع القسم الأعظم منها إلى عشيقة صاحب المعمل القديمة لتؤديها إليه وفاء عن مبلغ كانت اقترضته منه أيام اتصالها به فأخذها هذا فرحاً وصادف أن كانت دار صاحب المعمل في ضاحية باريز مناوحة لدار الشيخ القتيل الذي كان دائن الأول مديناً له وإن صاحب المعمل تأخر ليلة القتل مضظرباً من الأزمةا لمالية التي تهدده بالخراب وإن زوجته وابنته رأتا شخصاً شبه لهما به فظنتا انه هو الذي دخل دار ذاك الجار العجوز قبيل منتصف الليل واتفق وجود شبه في الصورة بين صاحب المعمل وبين الجاسوس القاتل ووقعت للابنة وامها امارات قوية تدل على أن صاحب المعمل هو القاتل لا محالة ولما استنطقتهما النيابة من الغد ظهر عليهما تردد لم يشك القضاة معه بأن القاتل هو صاحب المعمل قتل غريمه بعد أن دفع إليه المبلغ كما علم من كتأبين كان بعث بهما إليه قبل يومين من مقتله يهدده فيهما ضمنا أن لم يمهله في الدفع ولما سجن صاحب المعمل بما قامت عليه من الإمارات وهو ينادي بانه بريء تقدم صديقة في دار الحرب ذاك المحامي على عجزه ليتولى الدفاع عنه وفاء بحقوق الصداقة فابى أن يطلعه على سر قضيته ليحسن انقاذه من ايدي القضاة لكن صديقة المحامي عرف بأن في المسألة سراً له اتصال بأمور نسائية ابت مروءة صاحبه أن يبوح به إليه لأنه ربما ادى إلى خراب بيت وتشتيت شمل أسرة عظيمة وبينا هو في المحكمة يدافع عنه يوم صدور الحكم عليه وقد ايقن الناس بانه كاد يؤثر بطلاقة لسانه في عقول القضاة فيبرؤن صاحبه او يحكمون عليه بعقوبة خفيفة جداً ألقيت إليه بطاقة فلما(21/48)
قرأها دهش وتلعثم ثم نقلوه إلى غرفة وجاء الطبيب وقد فارق المحامي الحياة وعندها حكمت المحكمة على الذي تبين لها أنه القاتل بالاشغال الشاقة مؤبداً. وفي خلال ذلك هلكت امرأة صاحب المعمل حزناً وخلفت ابنتها وهي في السابعة يتيمة عجية فكفلها خال أبيها وباع المعمل والمصيف وجميع ما يملكه ابن اخته ووفى ما كان عليه من الديون. اما صاحب المعمل فتمكن بعد سنة من الفرار ومن محبسه في خمسة من المجرمين السياسيين وانقلب إلى نيويورك فقيراً وقيراً فدخل في أحد المعامل وكان يحسن صناعة الحديد قوي العضل عارفاً بالميكانيكيات فظهرت كفاءته ووفق إلى أن جمع مبلغاً من المال عاد به بعد سنتين إلى فرنسا متخفياً وأخذ ابنته من خاله ورجع إلى أمريكيا فزوده بمبلغ منالمال يستعين به على تربية ابنته وكان خاله عقيماًُ فإنشأ ذاك المحكوم عليه بتوسع عمله وذهب إلى كندا فاغتنى كثيراً بفضل كده وعمله وسعة معارفه في الميكانيكيات والطبيعيات وعلم ابنته التعليم العالي وبدل اسمه واسم اسرته وبعد أن قضى هناك نحو عشر سنين حدثته نفسه بالرجوع إلى وطنه ليكشف سر قضيته ويعاد النظر فيها ليعرف من اين أبى فرجع واتخذ له داراً في ظاهر باريز. ومن غريب المصادفات أن القصر الذي اكتراه كان بالقرب من مزرعة انتقلت بالارث الشرعي لزوجة صديقه الذي هلك في خلال الدفاع عنها وعشيقته القديمة وكانت اوت إليها بعد وفاة زوجها مع ولديها فاتصل أهل البيتين بواسطة ابنة صاحب المعمل وعقدت بينهما صلات التعارف ومازال الغني المحكوم عليه يبحث حتى توصل إلى معرفة القاتل الحقيقي ودخل معه في شركة ثم بعث إلى البورصة من قبله بمن سعى إلى اسقاط اسهمها فافلس شريكه او كاد ولم يجد ملجأ الا شريكه صاحب المعمل فوعده باعطائه شيئاً من المال إلا أن القاتل القديم اضمر أن يقتله وراح من الليل إلى داره وكان نصب له تمثالاً من الخشب وضعه على المنضدة فشبه له وظنه هو فإنشأ يضربه بخنجره وكان صاحبنا كامناً له مع اثنين من رجال الشرطة وقاضين كان لهم يد في الحكم عليه سابقاً فأمسكوه واعترف بفعلته وهو متلبس بالجريمة إلا أنه طعن نفسه في الحال بخنجره وسألوه أسئلة فاعترف بانه هو قاتل ذاك الشيخ العجوز الذي كان صاحب المعمل مديناً له وأن له شريكاً في قتله وحشرجت روحه فلم يسم ذاك الشريك وعندها صدر عفو الحكومة عن صاحب المعمل وعقد لابنته على احد ولدي صديقة المحامي وكان محامياً(21/49)
أيضاً وماتت في خلال ذلك أمهما أي عشيقة صاحب المعمل وقد اقرت بما جنته وسقطت من عيني ابنيها وراح الزوجان الجديدان تحالفهما السعادة بعد أن شقي أبواهما وأماهما هذا الشقاء الذي قاد ليه الغرور وطيش الصبا والصبوة. وقد وقعت القصة في ثمانمائة صفحة صغيرة صدرت في أربعة أجزاء وهي تطلب من مكتبة المسامرات وثمنها ثمانية قروش وفيها كثير من الحوادث التي بلذ العامة وبعض الخاصة.(21/50)
سير العلم
حروب العالم
ألف أحد علماء الفرنسيس كتاباً جليلاً سماه ماضي الحرب ومستقبل السلم ذكر فيه ما احدثته الحروب من الويلات قي القرن التاسع عشر قرن العلم والنور فقال أن القوانين حكمت في خلاله على عشرة آلاف مجرم بالإعدام في العالم على حين أن الحروب ازهقت ارواح خمسة عشر مليون شاب شجاع وعلى هذا فقد كفر مجرم واحد عن فعلته بالموت وفضى الفإن من الابرياء في ميادين الوغى فكان الماضي حقاًُ مجزرة عقيمة وإذا ظلت هذه المجازر تجري على مرأى ومسمع من العالم فإن عارها تحمر منه الخدود وذكراها تقشعر منه الجلود. قال ومن ادعى بأن فرنسا إذا سعت إلى أبطال الحرب ولم تعد إلى مااتته من حوادث الجنون في إهراق الدماء على عهد فرنسيس الأول ولويس الرابع عشر ونابليون الأول تسعى إلى حتفها بظلفها فهو في غرور وإذا فعلت فرنسا فإنها بذلك تعمل على ما فيه مجدها وإعلاء شأنها. قال واما أولئك الألوف من الضباط ومئات الألوف من العملة في دور الصناعات الذين يعملون الآن فإنهم ينصرفون إلى أعمال غير أعمالهم الأن فبدلاً من إنشاء الدوارع الحربية ينشئون البواخر التجارية وبدلاً من صنع الخرطوش يعملون على استنبات الحنطة وقال ينبغي أن تكون معاهدات التحكيم إجبارية بين الأمم وبذلك تمتنع الحروب من العالم.
الدخان الضار
يحدث من دخان المعامل في المدن الصناعية الكبرى كلندن وباريز ما يضر بالسكان والمكان فقد قدر الحامض الكبريتي الذي يتكون منها كل سنة في لندن وحدها بنصف مليون طن تدخل في رئة الناس فتقرضها كما تفرض الحجر الجيري والرضم والقرميد وتحيل هذه المواد إلى سلفات الجير وتتفتت ويخشى منها على المصانع الكبيرة والمعاهد والمعابد.
وقد جربوا عدة مواد لملافاة ضرر هذا الدخان ورأوا أن أحسن واسطة طلي البنايات بمحلول الباريت لأنه كلاملاط يحكم الربط بين أجزاء الحجارة فاسفرت تجربته عن تقوية الحجارة كانها الآن خارجة من المقلع وكانت من قبل تتفتت باليد. ولكن إذا اغتبطت الجمادات بانها لا تتضرر بعد الآن بهذا الدخان فإن الإنسان والنبات مازالا يتضرران منها(21/51)
والعلماء يبحثون عن طريق تقي منها البشر.
أقزام جدد
صادف أحد رجال البعثة الإنكليزية التي عهد إليها صعود جبال القمر في خلال سياحتها في أفريقيا جيلاً من الأفريقيين الأقزام لم يكن معروفاً من قبل في بقعة كاد يظن أنها أمنع من جبهة الأسد تمتد من جنوبي بحيرة إلبرت ادوارد وهي جبلية ذات وهاد ونجاد وعقاب وشعاب وفيها فوهات بركانية خامدة وهذه الجبال مغطاة بأشجار الخيزران الجيد وقد نزل أولئك الأقزام في ادغال هناك وهم يعيشون بشن الغارات على من في جوارهم ونهب السكان المنتشرين في الجبال. وهم اقصر قامات من أقزام الكونغو ولم يعرف العلماء الباحثون في أصول الأمم عنهم شيئاً. فهم لا يعرفون الصنائع ولا الصيد ولا يحسنون غير السلب والنهب وعندهم خلايا يقتاتون بعسلها مع اللبن وقد أتى المكتشف معه إلى أوروبا باقزمين مثالاً من أولئك القزم المجهولين.
اللغة العربية
قال الدكتور براون احد أساتذة جامعة كامبردج في مأدبة أقامتها اللجنة المصرية في دار الندور الإنكليزية لجماعة المصريين: أن لغة مصر الآن تهبط وهي اللغة العربية الفصحى لأن الازهر قد بقى في خلال هاتيك القرون المظلمة حصناً منيعاً للغة العربية والآداب الإسلامية. وقال: يقولون أن اللغة العربية غير صالحة للعلوم العصرية. يقولون هذا وهم من الضياع. اللغة التي نقلت لنا آداب الفرس والهنود القرون البائدة. اللغة التي كتبت بها جميع المؤلفات العلمية الثمنية كيف يمكن أن يقال أنها لا توسع صدرها لتلقين مبادئ علوم عصرية؟
ألفت الكتب في علم الجغرافيا وتخطيط البلدان على طريقة لم يؤلف مثلها وكتبهم العربية في التاريخ اوسع الكتب وادقها بل في نظري أن التاريخ في بعض المؤلفات العربية لم يكتب على نسقة في أوروبا وذكر ابن خلدون وابن الاثير والطبري والفخري وغيرهم ثم قال: وفي باب العلم والفلسفة والأخلاق نجد من المؤلفات ما لا يوجد له مثيل. ما ظنكم بجماعة من كبار أهل العلم يجتمعون في القرون التي كنا فيها في دور الهمجية والوحشية يؤلفون دائرة علوم اسمها (اخوأن الصفاء) ونحن من الآن نفتخر بكتاب دائرة العلوم(21/52)
الإنكليزية في القرن العشرين ونقول أن اللغة العربية لا تصلح لتلقين العلوم. هذا الشهر ستاني في كتابة (الملل والنحل) قد جمع في مؤلف صغير خلاصة الآراء الدينية والفلسفية التي كانت تعتقد فيها الأمم الغابرة والحاضرة وهذه دوائر العلوم العربية في مكاتب اسبانيا وفي مكاتب أوروبا وكيفما كأنت الحجة في عدم تعليم العلوم باللغة العربية في مصر فلا مراء مطلقاً في أن تعليم امة بغير لغتها صد لها عن التقدم وعقبة كبرى في سبيل نهضتها بل أقول أنه لا تعليم البته لامة بغير لغتها.
ورق الخيزور
ذكرنا ما كان من اتخاذ بعضهم الورق من شجيرات الاريقي وما كان من اتخاذه من سوق القطن وعيدانه. وقد قرأنا في الأخبار العلمية الآن انهم أخذوا يصنعون الورق من الخيزور في برمانيا من أعمال الهند الصينية فمنحت حكومتها عدة امتيازات للانتفاع بالخيزران وقد كان الصينيون منذ الزمن الأطول يعرفون ألياف الخيزور وانه يصنع به الورق وأن لم يستعمل في الصناعة بالفعل ولكن أحد الإنكليز المقيمين في جزائر الجاماييك عن له هذا الخاطر فأخذ منذ عام 1900 يضاعف الهمة في زرع الخيزران في ذاك الارخبيل ولكن أعماله لم تأت بفائدة لنزع أليافه من الصمغ الذي يلصقها بالجذوع وقد توصلوا الأن إلى صنع ورق جميل جداً من ألياف الخيزور وهو من الطراز الأول في الجودة والمتانة وأخذت الحكومة الإنكليزية في ذاك الصقع تنشيط زراعة الخيزران لرخص أسعاره وجودة ورقه وسيعمل من أليافه بعد سبع سنين كل سنة عشرة آلاف طن وبعد خمس عشرة سنة عشرون ألف طن فيأتي بأرباح عظيمة.
البيض
قدم أحد العارفين إلى كلية باريز بحثاً في منافع بيض الدجاج وبيض الفسيخ (البطارخ) قابل فيه بين تغذية هذا البيض وتغذية اللحوم فقال أن البيض ولاسيما بيض الفسيخ تكثر فيه مادة الألبومين أكثر من اللحم وانه حسن الرأي الاعتماد على هذا البيض في التغذية على شرط أن لا يتعدى معدله من الجنسين من خمسين إلى مائة غرام في اليوم وقال أنه من حيث الثمن ارخص من اللحم وسالم من العيوب وفيه غذاء نافع فوسفوري.
المطاط(21/53)
كتب أحدهم في مجلة المجلات الأمريكية مقالاً تكلم فيه عن المطاط وذكلا شيئاً من تاريخ معرفة الناس فوائده واكتشافهم الجهات التي تنمو فيها أشجاره واستخراجهم له قال: في المنطقة الحارة التي هي المنبت الحقيقي لأشجار المطاط نحو الثلاثمائة أو الأربعمائة شجيرة وغرسة يخرج منها سائل يضرب لونه إلى البياض فيه خواص المطاط وأهم مورد له الآن وادي الأمازون والكونغو ومن المحتمل الحصول عليه أيضاً في المستقبل من جزيرة سيلان ومستعمرة سنغافورة بكميات وافرة. وفي هذا الوقت تزرع ملايين من أشجار بالهند مع أنواع منها جديدة يرجى أن يكون مطاطها رائجاً جداًُ في جميع الأنحاء.
المطاط مادة يستخرج من لحاء الأشجار ولتلك المادة لون يشبه لون اللبن وهي في عرف علماء الكيمياء من قسم الجوامد التي تعرف بالمواد الغروية غير أنهم يجهلون كل الجهل المنشأ الحقيقي لخاصتها الغروية. وقد وفق شارلش ماكنتوش عام 1833 إلى تذويب المطاط في البينزين وفي سنة 1839 اكتشف شارلس جدبير من نيويورك أنه إذا مزجت كمية من المطاط مع أخرى تعادلها من الكبريت لم يكن الناتج لينحل إذا استلطت عليه حرارة خفيفة او لنزلج إذا كانت درجة الحرارة عالية. لم يكن المطاط في ذاك الوقت مستعملاً بكثرة في الولايات المتحدة أما اليوم فإنها تستعمل زهاء نصف ما يستخرج من المطاط في الكرة الأرضية ويصح أن نقول أن المطاط يكون غداً من الزم ضروريات الحياة وأصبح عظيم الخطر والقدر وقد جاء وافياً بما كنا ننشده من متمات معينات التنقل. فلولاه لكان من المستحيل عمل مركبات السكك الحديدية الهوائية (مركبات تسير على قضبان من حديد بواسطة الهواء المضغوط) ولولاه لماتمكنا من نقل الكهرباء وتسييرها في الاسلاك.
من الممكن للناس أن يستغنوا عن المطاط في صنع الاحذية والجوارب مثلاً ولكنهم لا يمكنهم أن يتخلوا عن استعماله - اذ لايوجد ما يغني عنه - في عمل وسائل التنقل الجديدة كعربات السكك الحديدية والسيارات وفي المفاوضات بالكهرباء والإنارة بها وكذلك يحتاج إليه في عمل الجراحات وفي الادوية ويبلغ مجموع ثمن ما يباع منه في أنحاء العالم 16 مليون درهم إنكليزي وزنه هذا المحصول 125 مليون رطل إنكليزي والمدن التي فيها أكبر سواقي المطاط والتي يصدر منها إلى سائر الأمم وهي: نيويورك وليفربول ولندرة(21/54)
ولشبونة والهافر ولا يزيد ما يؤخذ سنوياً من المطاط من الأشجار التي زرعت حديثاً عن مائة طن. والاشتغال بجمع المطاط في جهات الأمازون والكونغو صعب جداً ولا يقدر على المعيشة والعمل هناك غير الوطنين. وجميع الاحذية والنعال والملابس المصنوعة منه بالولايات المتحدة - ما عدا مدينة بوسطن - تحتكرها شركة واحدة تدعى (شركة مطاط الولايات المتحدة) ويفيدك أن تعلم أنه يمكن إصلاح ما يخرب مما يصنع من المطاط إذا تقادم عليه العهد وإرجاعه إلى سابق حاله.
السكك الحديدية
تكثر الاعشاب والجميم في ممر الخطوط الحديدية حتى تكاد تكون احياناً من عوائق القطارات وقد استعملت عدة ذرائع لأهلاكها فلم تأت بنتيجة وقد اخترعت الآن شركة سكك حديد المحيط الهادي في أمريكيا مركبة كهربائية ذات دواليب تحرق الاعشاب على طول الخط الحديدي فتزيل في النهار الواحد الحشيش والعشب من ثلاثين إلى أربعين كيلو متراًُ وهذه المركبة تسير كما يسير القطار العادي وإذا اجتازت مرتين ثلاثاً في مكان فبشره بعدها بانه لا ينبت فيه عرق أخضر.
اللبن النباتي
يستعمل هذا اللبن في الصين ويستعاض به في أحوال عن لبن البقر وهو يصنع من بزور الفأصوليا الزيتية فتطبخ وتعصر جيداً بحيث يأتي منها نوع من العصيدة إذا حلت في الماء يكون منها مشروب يسمى اللبن النباتي ويصنع من جبن طري ويمكن جفظه بوضعه في الملح فيشبه جبن (الروكفور) وجبي العنز المعروف بالشيبيشو وجبن (الجرافيرا)
اللغات الأوروبية
يقول احد علماء السكسونيين أنه سيكون عدد المتكلمين باللغة الإنكليزية في أواخر القرن العشرين 650مليوناً من البشر وعدد المتكلمين بالروسية 235 مليوناً وعدد المتكلمين بالألمانية 215 وعدد المتكلمين بالإفرنسية 90 مليوناً وعدد المتكلمين بالايطالية 79 مليوناً وبالاسبانية 75 وقد اوقع بعض الفرنسيس الشك في هذا التخمين.
قاموس المجمع العلمي(21/55)
ذكروا أن عدد المفردات التي شرحها قاموس المجمع العلمي الفرنسوي اثنان وثلاثون ألفاً فيها عشرون ألفاً من أصل علمي او غريب. وقد قدروا عدد المفردات البسيطة المستعملة بالإفرنسية في الحاجيات اليومية بأربعة آلاف كلمة. ويقول اللغوي ماكس موللر في كتابة علم اللغات أن غاية ما يستعمله المتعلم من الإنكليز في شؤونه هو أربعة آلاف كلمة أيضا. ونحن لا نظن أن المألوف من الألفاظ في معظم اللغات يتجاوز هذا القدر او أكثر منه بقليل مهما كأنت اللغة متسعة.
أثر لأرخميدس
عثر المؤرخ هبرج الدانيمركي مؤخراً على نسخة خطية كتبت على ورق صادرمن مدينة القدس وهي عبارة عن رسالة في الحساب غير معروفة من أرخميدس أعظم مهندس يوناني وهذه الرسالة تكاد تصور حساب التكامل الذي عرف في العصور المتأخرة وبهذا الا كتشاف يكون أرخميدس أعظم رياضي قام في العالم.
التربية المتحدة
انشأ أحدهم مجلة بالإنكليزية في إنكلترا سماها مجلة (كليتي اكسفورد وكمبردج) وهما أشهر مدارس إنكلترا يتوخى فيها الجمع بين المدرستين ليتحدا في التعليم وقد كتب أحدهم فيها مقالة بين طريقة الولايات المتحدة في توحيد التربية فقال أنه لم يكن في أميركا سنة 1870 - في المئة من المدارس المختلطة من الصبيان والبنات وما بقي منها كان يختلف إليه الصبيان فقط. وفي سنة 1898 أصبحت المدارس المشترك 70 في المائة من مجموع مدارسها وربما أنشئت هناك كلية عظمى خاصة بالبنات فقط.
تنزيه المستخدمين
يتنافس كثير من المحال التجارية الكبرى في فرنسا في إرسال مستخدميهم لاسيما مستخدمانهم إلى الضواحي والجبال خلال الشهر الصيف ليروحن نفوسهن بأجور طفيفة جداً وقد أنشئت في باريز جمعيات لإرسال الأولاد إلى الجبال مدة القيظ وبمثل هذه الأعمال الأفرادية تنحل المشاكل الاجتماعية أحسن حل.
مدارس النساء(21/56)
قالت المجلة يجدر بنا بمناسبة مرور السنة الخامسة والعشرين على تأسيس مدارس البنات العالية أن نقول أن فرنسا 56 مدرسة وسطى و47 مدرسة عالية للبنات.
العاملات في فرنسا
في فرنسا ستة ملايين امرأة مستخدمة في الصناعة ومليون امرأة تخدم في البيوت والحوانيت ومائة وخمسون ألفاً انصرفن إلى الأعمال الحرة ومئة ألف في خدمة الحكومة في العاصمة والولايات
المهاجرون إلى أمريكيا
يؤخذ من التقرير السنوي الذي نشره مكتب المهاجرين إلى أميركا إنه كان عدد المهاجرين إلى الولايات المتحدة سنة 1906 زهاء مليون نسمة ولم يهاجر إليها في سنة واحدة أكثر من هذا العدد حتى الآن ومعظم المهاجرين هم الطليان فقد بلغوا 287 ألفاً ويليهم البولونيون والألمان واليابانيون والفرنسيس.
المتعلمون في العالم
احصى احد أساتذة كلية كولومبيا الجامعة عدد الأولاد الذين يتعلمون في المدارس فكان عددهم 23 في المئة من مجموع الأمة في الولايات المتحدة و19 في المئة في ألمانيا و15 في إنكلترا وفرنسا وثلاثة ونصفاً في المئة في روسيا سبعة ملايين ولد ليس لهم مدرسة يتعلمون فيها.
سياح الأميركان
تشاءمت صحف أميركا من كثرة إقبال الأميركان على السياحة في أوروبا فقد زاد عددهم في هذه السنة زيادة عظيمة فقدر الراحلون منهم بمئة ألف سائح فإذا كان معدل ما ينفقه الواحد منهم خمسة آلاف فرنك فيكون ما تخسره أميركا من ذلك خمسمائة مليون فرنك.
الاحتكار في أمريكا
بدأت الولايات المتحدة تدرك مضار الاحتكار فقد قدر بأن معامل السكر التي أغلقت بمنافسة كبار المحتكرين لها سنة 1905 في تلك البلاد بلغت ثلثمائة معمل ومثل هذا العدد من المدابغ ومعامل الاحذية كما أغلق مائتا معمل للقطن وقد زادت أثمأن هذه المصنوعات(21/57)
ثلث ما كانت عليه كما زاد المصنوع منها ثلاثين في المئة.
ثروة أميركيا
كتب أحدهم في مجلة العالمين الباريزية فصلاً في ثروة الولايات المتحدة قال فيه أن نجاحها في زراعتها هو بيت قصيد فلاحها فإن صادراتها الزراعية بلغت أربعة مليارات فرنك وهي تزيد عن وارداتها الزراعية ملياراً او خمسمائة مليون. فالثروة الزراعية تساوي نصف ثروة الأمة باسرها والزراع الأميركي يمثل 35 في المئة من مجموع الشعب العامل وأكثر رؤوس تصرف في الزراعة وما ينهضها وتصريف المياه والتنقل والمهاجرة وتسهيل الموأصلات وأسباب النقل. وما نظارة الزراعة في تلك البلاد العظيمة الا مستودع عظيم للبذور (التقاوي) على اختلاف أنواعها توزعها على المدارس العامة او يوزعها نواب البلاد بايديهم على الفلاحين يناولونهم اياها باليمين كما يناولونهم بالشمال كراسة تطبع منها تلك النظارة ملايين من النسخ فيها كل ما ينفع الزراع في زراعته.
طعام الفرد
قالت مجلة العلم في القرن العشرين أن الاعتماد على البقول في الغذاء نافع على شرط أن يطبق على حاجة كل فرد ولا يكفي أن يحرم المرء نفسه من اللحم ويجشو معدته بالبقول الخضراء والمواد النشوية ولا أن يمتنع من تنأولها بل ينبغي أن ينظر في ذلك إلى القوى الهاضمة التي تختلف في كل إنسان بحسب الشهوة والجنس والسن وثقل الجسم وغير ذلك فالفرد الذي يبلغ وزنه من 65 إلى 70 كيلو غراماً مثلاً يكتفي بالفين او بالفين وخمسمائة جزء من الكالوري إذا اجاد مضغ الأطمعة تماماً.
قانون الأمية
اقترح على الولايات المتحدة وضع قانون من شأنه أن لا يرخص بالدخول للعامي الأمي من المهاجرين إليها فلا يدخل الولايات المتحدة الا من تعلم التعليم الابتدائي وإذ كان أهل إيطاليا أكثر الأمم هجرة إلى أمريكا فسيقضى عليهم أن يتعلموا كلهم ما يخرجهم عن الأمية لان قانون التعليم الإجباري لم يسر في إيطاليا إلا في سنة 1882 ومع هذا فقد دل الإحصاء الأخير أن على 60 في المئة من اهالي أقليم كالابر وهي واقعة إلى الجنوب الغربي من شبه الجزيرة إيطاليا لا يعرفون أن يوقعوا على صك زواجهم وفي مقاطعة(21/58)
نابولي 30 في المائة من المتزوجين ما برحوا أميين اما في رومية فإن عدد الأميين 12 في المئة ونصف من هاجروا في السنة الماضية من إيطاليا إلى أميركيا أمييون.
دائرة المعارف الألمانية
صدر الجزء الثامن من هذه الموسوعات التي دعوها (العلوم العصرية وانتشارها وغاياتها) التي ينشرها الأستاذ بولس هيتبرغ تحت حماية امبراطور الألمان ويساعده في وضعها مئات من أهل الاخصاء في العلوم والفنون المنوعة ومن المقالات التي فيها ما يعد بين كبار أهل العلم من الأثار النادرة والكتابات الباهرة وهي كسائر دوائر المعارف على حروف المعجم ولكنها تقسم إلى أربعة اقسام فالقسمين الأوليين يتناولان البحث في العلوم العقلية كالدين والفلسفة والأدب والفنون الجميلة والحكومة والمجتمع والحقوق والاقتصاد السياسي والقسم الثالث مخصص للعلوم الطبيعية والقسم الرابع يبحث في العلوم الاصطلاحية وهو من أهم الأسفار التي الفت في هذا القرن لأنه خلاصة علوم البشر وزبدة ابحاث الألمان المعروفين بصبرهم وانكماشهم.
الجرذان
الجرذان من أشد المصائب على العالم ولم تعرف إلى الان واسطة لابادتها. نادت بذلك نظارة الزراعة في الولايات المتحدة وحق لها أن تنادي لأن الجرذان قد قامت منذ قرون باضرار لا تحصى في أميركيا وهي آمنة مطمئنة وراحت تنتقل إلى العالم الجديد من العالم القديم وتنتاسل وتتكأثر وكأنت الأسباب المتخذة لابادتها عقيمة بلا جدوى. والجرذان ثلاثة أنواع الاسود وهو المنتشر في أمريكيا منذ ثلاثة قرون والاسمر وأصله من نروج وصل إلى هناك منذ سنة 1775 وأثار حرباً عواناً على الاسود والنوعة الثالث جرذ انتقل إلى أميريكا من مصر على البواخر التجارية وانتشر على الشواطئ ولاسيم في الجنوب وباض فيها وفرخ الجرذ الاسمر أشد هذه الأنواع فتكاً وأكثرها تخريباً ويقدرون ما تقضمه الجرذأن في الولايات المتحدة كل سنة من الحبوب بما لا يقل عن نصف مليار فرنك وهو لايكتفي بتنأول الحبوب فقط بل يقرض الاقمشة والحرائر والأمتعة ولا يتحامى قضم الاسلاك الكهربائية وكثيراً ما كان يحدث عن فعله حرائق. وقد قدرت الخسائر التي تنجم عن الحريق في السنة بخمسة وسبعين مليوناً من الفرنكات بأميركيا الجرذان هو السبب الأعظم(21/59)
في أكثرها. خل عنك سطو الجرذانعلى غيره من الحيوأن الذاجن والحمام والاطفال في سررهم. هذا وهو واسطة لنقل الجراثيم المعدية من بيت إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى. والسبب في كثرته أنه تناسل تناسلاً غربياً فتلد الفأرة في كل شهرين او ثلاثة من عشر إلى أربع عشرة فأرة ثلاث سنين يلد منه ويولد له زهاء عشرين مليون جرذ يموت أكثرها ولكن مايبقى منها كاف لان يقرض الطري واليابس. والحكومة الأميركية ساعية لابادة الجرذان ووضع نشره بمضاره وخبث أثاره وستشاركها الدول كلها في إعلأن الحرب على تلك القراصنة.(21/60)
العدد 22 - بتاريخ: 15 - 11 - 1907(/)
صدور المشارقة والمغاربة
لسان الدين ابن الخطيب
713 - 677
قلما يتأتى لعالم ولي المناصب الرفيعة في الدول أن يبارك به في وقته فيجتمع على أحسن وجه القيام باعبائها إلى الأعمال العلمية. والأمارة والعلم قلما يجتمعان وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. من اجل هذا رأينا مثل ابن حزم وابن الهيثم يزهدان في الوزارة بل يحتالأن إلى الخلاص من توليها علماً منهما بانها صارفة لهما عن التمجض لخدمة العلم والتوفر على التصنيف.
وقل في رجال هذه الأمة من جمعوا بين المزيتين ولاية الأعمال وصرف أوقات الفراغ في التصنيف وتنمية ملكة العلم على ما كان شأن القاضي الفاضل ولسأن الدين ابن الخطيب فمترجمنا هذا هو احد مفاخر الأندلس ونوابغها علماً وعملاً لم تلهه أعمال الوزارة عن النظر في علوم كانت هي السبيل في وصوله إليها وساعده زيادة على ما كان يحافظ عليه من اوقاته إنه كان مبتلى بالارق يسهر الليل الا أقله ولذل قيل له ذو العمرين لإنه كان يعمل في ليلة كما يعمل في نهاره. فلا عجب بعد هذا أن عدت مصنفاته بستين مصنفاً لو خلف بعضها عالم انقطع للعلم جملة لعدت غربية في تابها فما بالك بابن الخطيب يتولى أمور الناس والأندلس قد أشرفت على السقوط والفتن بين الأمراء على ساق وقدم والدسائس عليه من كل جهة يكتب ويفكر وقد ترجمه ابن خلدون فقال: أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة كان له بها سلف معروفون في وزارتها وانتقل ابو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه وبلغ في الشعر والترسيل حيث لا يجاري فيها.
وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماه فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوساً بأبي الحسن ابن(22/1)
الحباب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية ولما هلك ابن حباب سنة تسع وأربعين وسبعمائة ولى السلطان أبو الحجاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه وثناه بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم داخله السلطان في توليه العمال على يديه بالمشاركات فجمع له بها أموالاً وبلغ به المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد من قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مروان بالعدوة معزياً بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته. ثم هلك السلطان أبو الحجاج وبويع ابنه نحمد بالأمر لوقته فأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه واتخذ لكتابته غيره وجعل ابن الخطيب رديفاً له في أمره وتشاركا في الاستبداد معاً.
ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيراً إلى السلطان أبي عنان مستمدين له على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها استأنه في إنشاد شي من الشعر يقدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم أبياتاً اهتز السلطان لها فأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم الا يجميع عطائهم. ثم أثقل كأهلهم بالإحسان وردهم بجميع مطالبهم. قال القاضي أبو القاسم الشريف: لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان الا هذا. وبعد ذلك اعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه إلى أن شفع فيه ثم سار في ركاب السلطان إلى وادي آش قادمين على السلطان أبي سالم فارغد هذا عيش ابن الخطيب في الجراية والاقطاع ثم أستأذنه السلطان في التحول إلى جهات مراكش والوفود على أثار الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال باتحافه فبادروا في ذلك وحصل منه على حظ وعند ما مر بسلا في قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على روية الراء الموصولة يرثية ويستثير به استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها
ان بان منزله وشطت داره ... قامت مقام عيانه أخباره
قسم زمانك عبرة أو غبرة ... هذا تراه وهذه أثاره
فكتب السلطان ابو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا(22/2)
عن سلطانه طول مقامة بالعدوة ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس فاستقدم ابن الخطيب من سلا ورده إلى منزلته كما كان.
وبعد ذلك فصل عن الوزارة ثم أعيد إلى مكانة من الدولة من علو بده وقبول اشارته وأدركته الغيرة من عثمان بن يحيى مقدم القوم في الدولة ونكر على السلطان الاستكفاء به والتخوف من هؤلاء الاعياص على ملكه فخدره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبة واباه واخوته واودعهم المطبق ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان وأخذ ودفع الية تدبير المملكة وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت عليه الأمال وغشي بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتوأفقوا على السعاية فيه وقد صم السلطان عن قبولها ونما الخبر بذلك إلى اين الخطيب فشمر عن ساعده في التفويض عنهم.
وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية وربما خيل أن السلطان مال إلى قبولها وانهم قد احفظوه عليه فاجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب وأستأذن السلطان في تفقد الثغور الغربية وسار إليها في لمة من فرسانه ومعه ابنة علي الذي كان خالصة السلطان وذهب لطيته فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه اذ ند بين يديه فخرج قائد الخيل لتلقيه وقد كان السلطان عبد العزيز لملك العدوة قد اوعز إليه بذلك وجهز إليه الاسطول من حينه فاجاز إلى سبته وتلقاه بها بأنواع التكرمة وامتثال الأوامر ثم سار بقصد السلطان فاهتزت له الدولة واركب السلطان خاصته لتلقيه واحله بمجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان الشرف والغزة واخرج لوقته كاتبه ابا يحيى بن أبي مدين سفيراً إلى الأندلس في طلب أهله وولده فجاء بهم على اكمل الحالات من الأمن والتكرمة
ثم لغط المنافسون له في شأنه واغروا سلطانه بتتبع عثراته وابدوا ما كان كامناً في نفسه من سقطات دابته وإحصاء عصابته وشاع على السنة اعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة احصوها عليه ونسبوها إليه ورفعت إلى قاضي الحضرة الحسن بن الحسن فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي أبو الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات وامضاء حكم الله فيه فصم لذلك وانف(22/3)
لذمته أن تحفز ولجواره أن يردى وقال لهم: هلا أنتقم وهو عندكم وانتم عالمون بما كان عليه واما أنا فلا يخلص إليه بذلك احد ما كان في جواري ثم وفر الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسأن الأندلس في جملته فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن عازي القائم بالدولة فنزل فاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات وحفظ له القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفي. ولما استوفى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه قبض على ابن الخطيب واودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان أبي العباس واحضر ابن الخطيب بالمشورة في مجلس الخاصة وأهل الشورى وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه فعظم عليه النكير فيها فونح ونك ل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ ثم تل إلى محبسه واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه وافتى بعض الفقهاء فيه ودس سليمان بن داوود رديف وزير السلطان لبعض الاوغاد من حاشيته بقتله فطرقوا السجن ليلاً ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقاً في محبسه واخرجوا شلوه من الغد فدفن ثم أصبح من الغد على شأفة قبره طريحاً وقد جمعت له اعواد واضرمت عليه ناراً فاحترق شعره واسود بشره واعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته.
قال ابن خلدون: وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاءت بهاسليمان واعتدوها من هناته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته ولله الفعال لمايريد. وكان عفا الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتيجيش هواتفه بالشعر يبكي نفسه ومما قال في ذلك
بعدناوان جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت
وانفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت
وكنا عظاماً فصرنا عظاماً ... كنا نقت فها نحن قوت
وكنا شموس سماء العلا ... غر بن فناحت عليها البيوت
فكم جدلت ذا الجسام الظبا ... وذو البخت كم جدلته النجوت
وكم سيق للقبر في خرقه ... فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدا ذهب ابن الخطي ... ب وفات ملئت من كساه التخوت(22/4)
فمن كان يفرح منكم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت
قلت هي اهواء السياسة صيرت لسأن الدين إلى ما صيرته إليه وماعدوه عليه مما خالف به الشرع وجرى مع الفلسفة فإنما هي حجة طالما كثر التوكؤ عليها منذ ضعف العلم في هذه الأمة ولوصح مازعموا اما كان الاجدر بالأمناء على الدين وهو في عهد عزة أن يغيروا عليه وينبذوه عن حمى سلطانهم لئلا يستشري افساده للعقائد بما نشره من المصنفات والقليل الذي انتهى الينا مما خطه يمين لسأن الدين يدل ولا جرم على حرية في الفكر لم يجاب معها ولم يداج ولعلها هي التي عدها اعداؤه له من الهنات قال في ترجمة الحاكم باديس بالأندلس في كتابة الأحاطة بعد أن وفاه حقه من الوصف موانه من الملوك الجبابرة فائل الرأي خليع الرسن: وقد ادال اعبقاد الخليفة في باديس بعد وفاته وقدم العهد بيعرف أخبار جبروته وعتوه على الله سبحانه لما جبلهم عليه من الانقياد للاوهام والانصياع للاضاليل فعلى حفرته اليوم من الازدحام بطلاب الحوائج والشفاء من الأسقام حتى أولو الدواب الوجيعية ما ليس على قبر معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي.
واليك كيف وصف في مكان آخر جعفر بن احمد الخزاعي الغرناطي من مشايخ الطريق قال: إن قومه خرجوا من وطنهم عند تغلب العدو على شرق الأندلس فنزلوا في ربض البيازين جوفي المدينة وارتاشوا وتأثلوا وبنوا المسجد العتيق وأقاموا رسم الأرادة يرون انهم تمسكوا من طريق الشيخ أبي احمد بأثره فلا يغبون بيته ولا يقطعون اجتماعاً على حالهم المعروفة من تلاوة حسنة وايثار ركعات ثم ذكر ثم ترجيع أبيات في طريق التصوف مما ينسب للحسين بن الحلاج وامثاله يعرفونها منهم مشيخة قوالون هم فحول الاجمة وصواديك تلك القطيعة يهيجون بلابلهم فلا ينشبون أن يحمي وطيسهم ويخلط مرعيهم بالهمل فيرقصون رقصاً غير مساوق للايقاع الموزون دون العجال الغإليه منهم بأفراد كلمات من بعض المعقول ويكر بعضهم على بعض وقد خلعوا خشن ثيابهم ومرقعات قباطيهم ودرانيكهم فيدوم حالهم حتى يتصببوا عرقا وقوالهم يحركون فتورهم ويذمرون روحهم يخرجون بهم من قول إلى آخر ويصلون الشيء بمثله فربما أخذت نوبة رقصهم بطرفي ليل التمام ولا تزال المشيعة لهم باخشيشانهم مبدياً التبرك بهم.
إلى أن يقول فتسقط فيما بينهم بفلتة سماعة أي المزمار اخوة الطريق وهم أهل سذاجة(22/5)
وسلامة أولو اقتصاد في ملبس واقتيات بادنى بلغة ولهم في التعصب نزعة خارجية وأعظمهم ما بين مكتسب متسبب وبين معالج مدره ومريع حياكه وبين اظهرهم من الذعرة والصعاليك كثير. والطرق إلى الله تعالى على عدد انفاس الخلائق جعلنا الله مما قبل سعيه وارتضى ماعنده ويسره لليسرى.
وقد ترجم لسأن الدين نفسه في آخر كتاب الأحاطة ونقل عنه المقري في سبب نكبته ما يأتي متخصاً: وخلفني يعنى اباه عبد الله عالي الدرجة شهير الخطة مشمولاً بالقبول مكنوفاً بالعناية فقلدني السلطان سره ولما يستكمل الشباب ويجتمع السن معززة بالقيادة وسوم الوزارة واستعملني في السفارة إلى الملوك واستنابني بدار ملكه ورمى إلى يدي بخاتمه وسيفه وائتمنني على صوان حضرته وبيت ماله وسجوف حرمه ومعقل امتناعة. ولما هلك السلطان ضاعف ولده حظوتي وأعلى مجلسي وقصر المشورة على نصحي إلى أن كانت عليه الكائنة فاقتدى في اخوه المتغلب على الأمر فسجل الاختصاص وعقد القلادة ثم حمله أهل الشحناء من اعوان ثورته على القبض علي فكأن ذلك وتقبض علي ونكث ما ابرم من اماني واعتقلت بحال ترفيه وبعد أن كبست المنازل والدور واستكثر من الحرس وختم على الاعلاق وابرد إلى ما ناء واستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات الأمثال في تبحر الغلة وفراهة الحيوان وغبطة العقار ونظافة الالات ورفعة الثياب واستجادة العدة ووفور الكتب إلى الآنية والفرش والماعون والزجاج والطيب والذخيرة والمضارب والابنية واكتسحت السائمة وثيرأن الحرث وظهر الحمولة وقوام الفلاحة والخيل فأخذ ذلك البيع وتناهبتها الأسواق وصاحبها البخس ورزأتها الخونة وشمل الخاصة والأقارب الطلب واستخلصت القرى واعملت الحيل وطوقت الذنوب امد الله تعالى بالعون وانزل السكينة وانصرف اللسأن إلى ذكر الله تعالى وتعلقت الأمال به وطبقت نكبة مصحفية مطلوبها الذات وسببها الحال حسبما قلت عند اقالة العثرة والخلاص من الهفوة
تخلصت منها نكبة مصحفية ... لفقداني المنصور من آل عأمر
ووصلت الشفاعة في مكتبة بخظ ملك المغرب وجعل خلاصي شرطاً في العقدة ومسالمة الدولة فإنتقلت صحبة سلطاني المكفور الحق إلى المغرب وبالغ ملكي في بري: منزلاً رحباً وعيشاً خفضاً واقطاعاً جماً وجراية ما وراءها مرمى وجعلني بمجلسه صدراً ثم اسعف(22/6)
قصدي في تهيوء الخلوة بمدينة سلا منوه الصكوك مهنأ القرار متفقداًُ باللها والخلع مخول العقار موفور الحاشية مخلى بينه وبين إصلاح معادي إلى أن رد الله تعالى على السلطان أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه وصير إليه حقه فطالبني بوعد ضربته وعمل في القدوم عليه بولده أحكمته ولم يوسعني عذراً ولا فسيح في الترك مجالاً فقدمت عليه بولده وقد ساء بامساكه رهينة ضده ونغص رهينة الفتح بعده على حال من التقشف والزهد فيما بيده وعزف عن الطمع في ملكه وزهد في رفده حسبما قلت من بعض المقطوعات:
قالوا لخدمته دعاك محمد ... فإنفتها وزهدت في التنويه
فاجبتهم انا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محب فيه
لما عاهدت الله على ذلك وشرحت صدري للوفاء به وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيده املي ومرمى نيتي وعملي فعلق بي وخرج لي عن الضرورة واراني أن مؤازرته ابر القرب وراكنني إلى عهد بخطه فسح لعامين امد الثواء واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة واشهد من حضر من العلية ثم رمى إلى بعد ذلك بمقاليد رأيه وحكم عقلي في اختيارات عقله وغطى وصرف هواي في التحول ثانياً قصدي واعترف بقبول نصحي.
إلى أن قال ومع ذلك فلم اعدم الاستهداف للشرور والاستعراض للمحذور والنظر الشزر المنبعث من خزر العيون شمة من ابتلاه الله بسياسة الدهماء ورعاية سخطة ارزاق السماء وقتلة الأنبياء وعبده الاهواء ممن لا يجعل الله تعالى أرادة نافذة ولا مشيئة سابقة ولا يقبل معذرة ولا يحمل في الطلب ولا يبلبس مع الله بأدب.
هذا ما قاساه لسأن الدين من ضروب النعم والنقم فعد فرداً في التقلب في نعمائه وغريباً في بلواه وقد اكتفينا آنفاً بنقل ما قاله فيه ابن خلدون صديقه وماقاله هو في شرح نكبته أوردناه بعبارتهما الا قليلاً وإن اورث هذه الترجمة تطويلاً وذلك لعلمنا بان إنشاءهما مما ينبغي احتذاء مثاله وجزالة ألفاظهما وجودة معانيهما مما يعز نظيره.(22/7)
الميكروب
اعتراض أهل المذهبين الكيماوي الطرآني على الحيويين
لم تزد الأيام والتجارب نذهب الحيويين الا تحقيقاً وثبوتاً. فبعد أن تقرر بانه إذا منع اختلاط الميكروب بالمواد الآلية المفعمة لن تحصل فيها ظواهر الحياة والاختمار حتى يرتفع الحجر عنها فيحدث الاختلاط عمداً كان ام سهواً كان الأولى والاجدر أن تتقرر هذه النتيجة بأن الميكروب لا يمكن تكونه من ذاته طرآيياً بل تتولد من آخر مشابه له جنسياً ولكن أهل الرأي الكيماوي اعترضوا بقولهم: إن جميع المواد القابلة للاختمار التي يعرضها المجربون للحرارة تتغير جوهرياً وتفقد الخميرة الكيماوية طبيعياً فيها فلم تعد تختمر. لأنهم يزعمون بأن الاختمار يحصل بواسطة خميرة كيماوية والحرارة تتلفها فيتعذر الاختمار. ومن ثم كانت تلك المواد عينها التي لم تعرض للحرارة تختمر لا محالة من دون الميكروب. وكذلك كان أصحاب أعراض التوليد الذاتي القائلون بأن الحرارة تغير المواد جوهرياً فيمتنع حصول الاختمار فيها وتولد الميكروب. هذا كان اصعب الاعتراضات حلاً لا جوهرياً لأنه دعا إلى ايجاد وسائط ومواد غير التي دارت عليها التجارب والأمتحانات ومن دون تعقيم بالحرارة.
ففتقت الحاجة للحيويين بان يعيدوا جميع التجارب ولكن على مواد عقيمة طبيعياً وذلك كالدم والحلييب والبول وعصير العنب الخ فإن هذه المواد السائلة إذا أخذت باحتراز ووضعت في الزجاجات ذوات الأنبوب المذكورة في الفصل السابق من دون أن يختلط بها او يلامسها الهواء الخارجي كانت تفي بالمقصود حق الايفاء. لان تلك المواد عرضت للتجربة ودامت في الزجاجات عقيمة لم يمسها الفساد. وبعضها لم يزل ولن يزال باقياً إلى ما شاء الله ذكراً انفيساً وشاهداً لتلك التجارب التي قطعت قول كل معترض معاند.
وجود الميكروب في الماء والهواء والتراب
أثبت الحيويون بان أنواع الميكروب موجودة ومنتشرة في المسكونة لأن المواد الصالحة للاختمار كلها تختمر لا محالة حيث وجدت إذا استوفت الشروط الملأزمة للحياة ولم تحجر عن الميكروب.
هذا دليل كاف وواضح على وجود الميكروب في كل مكان على سطح الأرض ومع ذلك(22/8)
فإن العلماء اجهدوا قرائحهم لاثبات وجوده عيناً وفعلاً فيما يحيط بنا ويجاونا.
ففي سنة 1828 ابتدأ اهرنبرغ بفحص الماء والغبار فوجد فيها من الخلايا ما سماه بالانفزوار ومعناه خلايا مائية وسمأهم بعضهم بالنقاعيات. واظهر من بعده بوسنه وتندال وباستور بأن الهواء والماء والتراب وجميع ما يحيط بنا لا يخلو أبداً من الميكروب الذي يكون هباءً في الريح وسابحاً في الماء وملتصقاً بالأواني وجميع ما يستعمل فينتشر بواسطتها ويتساقط حيث اتفق له.
فالواقع منها على مايليق به ويصلح لمعاشه وساعدته الأحوال والشروط التي لا بد منها للحياة لم يلب أن تنتعش فيه الحياة فينمو ويتكأثر محولاً تلك المواد إلى حال أخرى يقال لنوع منها اختمار وللآخر ختر فتعفن. . . . فالحوأصل الآلية تكون أصلياً لا ميكروب فيها وهذا أنما ينتقل إليها بواسطة خارجية.
في أن الميكروب هو سبب الاختمار
لم يترك خصوم الحيويين وسيلة املوا منها بعض الصواب في آرائهم ولم يتشبثوا بها. فمن بعد أن افحمهم برهان وجود الخلايا وتكونها بالتناسل الطبيعي ووجوب وجودها الحصول الاختمار في أي مادة كانت على الاطلاق وكذلك وجودها وانتشارها على وجه البسيطة قام من ادعى بان من ذلك كله لا ينتج بأن الميكروب هو بنفسه السبب الوحيد الملازم للاختمار لأنه لم يتبين باي نوع وكيف وما هي القوة الكامنة فيه تؤثر بالمواد الجامدة فتبدلها من حال إلى أخرى.
صرح (شوان) باديء بدء بان زيادة ظواهر الاختمار وقلتها تلازم نمو الخميرة وازديادها وقلتها وذلك لأن الخلايا تأخذ من المواد الصالحة لها ما ينفعها في غذائها ونموها وما لم تنتفع به يتكون منه الاكحول.
وقال كثيرون بعد شوان بذلك المبدأ ودافعوا عنه جهدهم ولكنه لما لم يسند إلى تجارب وبينات تدركها الحواس لم يكن كافياً للاقناع وعندها قام ابن بجدتها بل عذيقها المرّجب وجذيلها المحكك واعني به باستور وأثبت سنة 1857 أولا أن الاختمار يلازم جوهرياً حياة الخميرة ونموها وإن ظواهره كلها تتوقف على فعل الخلايا التي تنمو وتنشأ باتخاذها غذاء الأجزاء التي تتركب منها المواد الصالحة للاختمار. ومن اجل ذلك فباقتياتها بالمادة(22/9)
السكرية مثلاً لا تتحول هذه جميعها إلى الالكحول وحامض الكربونيك بل بجزء منها نحو خمس في المائة تتكون الخلايا نفسها. فكانت من ثم أجزاء المواد الاختمارية هي غذاء الخميرة وهذه تصرف الجزء الأصغر من ذلك لنموها وتكأثرها والأكبر يتحول بالاغتذاء إلى الالكحول وحامض الكربونيك.
ولما كان في تركيب الخلايا يدخل أيضاً جزء من الازوت والأملاح المعدنية ظن باستور في أول الأمر بانه لا بد من وجودها في المحلول المعدّ للاختمار لكي تنمو الخلايا وتحلل المادة السكرية.
واطلع بعد ذلك على أنه لا حاجة لذلك فإن الخلايا إن تنمو في المحلول السكري المحض بدون ازوت واملاح. على أن النموّ في هذه الحال يحصل أما من مادة ازوتية مذخورة في الخلايا نفسها او أن الخلايا الفتية تستفيد فيه من بقايا اسلافها. واطلع أيضاً بانه إذا جعل الخميرة وحدها في الماء الخالي عن السكر تصلح تلك البقايا موقتاً لان تكون غذاء تاماً تعيش عليه هذه الخلايا الفتية وتحولها إلى الالكحول وحامض الكربونيك: بمعنى أنه يحصل هنالك الاختمار من دون سكر وفي سنة 1870 اظهر باستور بأن الأجزاء الآزوتية الداخلة في غذاء الخلايا ليس من الواجب أن تكون من المواد الزلالية فإن الأملاح النشادرية تقوم مقامها في التغذية. والحأصل فإن المحلول المركب من جزء من الأملاح المذكورة والمعدنية ومن السكر يكون أصلح غذاء (مادة) للاختمار الالكحولي. تحقق كثيرون بعد باستور ذلك عملياً وأثبتوا بأن لي دخل للمواد الزلالية لحصول الاختمارونشوء الخلايا بخلاف ما ادعاه وفتئذ الكيماوي الشهير لببتيج.
واما غاز الاكسجين الذي يحتوي عليه الهواء وكان يظنه الأولون السبب الوحيد للاختمار فقد اظهر باستور أن الخلايا تجتذبه من الهواء بكثرة وتقذف حامض الكربونيك كما تفعل بقية الحيوانات وجاء بعده شتزمبرغ فابأن ذلك وأثبته أيضاً بأن الاختمار انما يتوقف على اغتذاء الخلايا وتنفسها الهواء لا على الاكسجين. ولما كان باستور قد اظهر من بعد ذلك بان بعض الميكروب لا يحب الاكسيجين ويعيش بدونه وبدون الماء سمى ذلك بالهوائي وهذا بغير الهوائي. وفي ذلك بحث طويل لا يساعدنا المجال على تفصيله. أن الاختمار هو فعل حيوي (فسيولوجي) وما عدا الادلة التي سبق بيانها الناتجة عن التجارب المختلفة(22/10)
واخصها تجارب شوان وباستور التي تثبت بأن الاختمار فعل حيوي نذكر أيضاً شواهد تؤيد بان جميع الظواهر التي تشاهد في الاختماروالتعفن وغيرها لا يمكن أن تكون الا فسيولوجية اعني افعالاً حيوية.
ومن ذلك أن زيادة الاختمار وقلته تكون في نسبة نمو الخلايا وتكأثرها في المحلول الاختماري وأن ذلك يتوقف أيضاً على حصول الحرارة المعتدلة في المكان والمحلول وأن المواد السامة التي توقف الافعال الحيوية في الحيوان والنبات او تخدرها كالكلورفوم والاثير وغيرها ولو جزءاً زهيداً منها توقف أيضاً فعل الخلايا وتعطل الاختمار.
وزد على ذلك مأعرف بالتحليل الكيماوي من أن الاختمار يبدل تبديلاً جوهرياً جميع المواد بنوع وكيفية لا يمكن حصولها الا بفاعل كيماوي له أعظم قوّة وتأثير. ولما كان في المحلول الاختماري لا يدخل شيء من ذلك فالتبدل فيه لا يمكن أن يسند الا إلى فعل حيوي.
أنواع الميكروب وتفصيلها
عرف من الميكروب أنواع كثيره مختلفة لكل منها شكل وخواص وطبائع وافعال تميزه عن غيره لا تقوم الا به. فإن ميكروب الاختمار الالكحولي مثلاً يختلف شكلاً وفعلاً وطبيعة عن الخلي واللبني وغيرها وميكروب الكوليرا ليس ميكروب الطاعون. وكذلك بقية الأمراض الميكروبية فإن لكل منها نوعاً خاصاً يمتاز ويختلف بعضه عن بعض اختلاف الأمراض. وقد عرض الأستاذ سديو في 11 إذار سنة 1878 على الجمعية العلمية الباريسية بان تسمى جميع دقائق الحيوان والنبات المحكي عنها بالميكروب ليكون لها اسم شامل لأنواعها. لأن الاسماء كانت قد كثرت وقتئذ لاكتشاف أجناس وأنواع مختلفة. لهذا صفات نباتية ولذاك حيوانية ولآخر بين بين حتى أن بعضهم اشار بأن يسمى بعالم الدقائق الحية ليمتاز عن عالمي الحيوان والنبات توفيراً لعناء التفصيل والتفريق ودفعاً للشذوذ عن القواعد المصطلح عليها لذلك العهد.
وفي بحثنا الآن عنها لا يفيدنا جدول أسمائها لأنه يبعدنا عن الموضوع ويشغلنا عن حكاية اكتشافها. ولما لم يكن من أنواع الميكروب ما يوجد طبيعياً وحده محضاً إلا في النادر من دون أن يكون مختلطاًمعه من نوع او أنواع أخرى اقتضى أن يوصل العلماء إلى تفصيله(22/11)
وتفريقه عن بعضه. فباستور هو أول من بين وجوب ذلك وإليه يعود الفضل في اكتشاف الواسطة وحل المشكلة.
فإنه أخذ من تلك الزجاجة نقطة خلطها في زجاجة ثانيةفمن هذه نقطة في ثالثة وهلم جراً إلى العاشرة بل أكثر. وجعل الزجاجات كلها في محل واحد فصار من بعد ذلك اعني لدى ظهور الاختمار في واحدة منها يفحصها ليرى نوع الميكروب الذي فيها. ففي اغلب الاحيان كان ميكروب الزجاجات الأخيرة من جنس واحد محض إذا أخذ منه وزرع في زجاجات معقمة لا يجني الا من ذلك الميكروب جنساً ونوعاً.
هذه الواسطة اعني تمييز الميكروب بعضه عن بعض واجتناء نوع محض منه صار عليها مدار علم الميكروب فتقدم ونجح واي نجاح.
ولا يخفى ما هنالك من الصعوبات وطول لانتظار وصرف الأموال الجزيلة مع طول الأناة والصبر فاخترع الأستاذ كوخ واسطة عوضاً عن السابق بيانها صار عليها التعويل عند جمهور العلماء لأنها قريبة المأخذ عاجلة النتيجة كفيلة بنجاحها وهي لا تكلف الا شيئاً قليلاًمن المصاريف ولولاها لما توصل لاقتباس علم الميكروب الا الخاصة من المعلمين واغنيائهم.
الاعتراضات
كان أصحاب مذهب التولد الذاتي في بادئ الأمر هم الا كثيرون ولهم الصوت الأعلى واليد الطولي والتصدر في المحافل العلمية فكانوا يعدون من خالفهم مبتدعاً ودخيلاً فيخذلونه بل يحرمون عليه حرية القول والعمل لا يضاح أفكاره والدفاع عن آرائه وعند ما كثر الحيويون واشتهرت آراؤهم المبينة على نتائج التجارب التي يراها ويقبلها كل ذي عقل سليم ولاسيما عند ما ظهر باستور وانتشرت أعماله وانتصر له كثيرون من العلماء اضطر أولئك إلى البروز إلى ميدان الجدال واذ لم تسعهم المكابرة واسكات الخصم ببينات دامغة املوا الانتصار عليه بمقاومته بسلاحه نفسه اعني بالتجربة والأمتحان فأصابتهم سهامهم وسلموا للحق واذعنوا له. لان اعتراضاتهم كانت اوهى من بيت العنكبوت: فمنهم من كان ادّعى أنه وجد بالتجربة بعض الاختمار من دون ميكروب وآخرون استشهدوا لاثبات زعمهم بحدوث التعفن في جوف جثث الموتى وفساد بيض الدجاج مع بقاء قشرها سالماً.(22/12)
وكذلك حدوث الاختمار اللبني والخلي على الرغم من منع اختلاط الميكروب بسائلها العقيم. وادعى بعضهم بانهم حافظوا على الحبول بدقة وانتن مع ذلك. وكذلك انهم نقوا مواد الاختمار بالترشيح والتصفية ولم تبق كلها سالمة. وفي تلك الأحوال كلها كانوا اما يزعمون بانهم لم يجدوا أثراً للميكروب في جميع المواد التي أعدت للتجربة فينسون الاختمار والتعفن إلى فعل كيماوي واما يقولون بأن الميكروب وجد في جميعها على كثرة احترازهم منه فيستنتج الطرآئيون حجة صريحة على صحة التولد الذاتي. وقال بيشام أن التدرنات التي تشاهد في الحياة في بروتو بلاسم الخلايا التي يتركب منها جسم كل حي من نبات وحيوان تتجول إلى ميكروب بعد الممات.
ان سخافة تلك الاعتراضات كلها بينة فلم تزعزع رأي الحيويين بل زادته متانه ورسوخاً وسبب ضلالهم وخبطهم هو عدم تصديقهم بوجود الميكروب فلم يعبؤوا به ولم يتخذوا بحق وسائط التحرز من انسيابه فيما يجربونه سيما وانهم لم يردوا التوغل في علم الميكروب الذي كان يومئذ صعب المنال وهم يستهينون به.
الاختمار الكيماوي
ذكرنا فيما سبق بان بعض العلماء كانوا يعتبرون الاختمار فعلاً كيماوياً فكان ليبيح وحزبه منذ سنة 1829 يدعي بأن الخميرة هي مادة كيماوية بتحللها يحصل تحول السكر إلى الالكحول والحامض الكربونيك وحأولوا اثبات زعمهم ببينات مسندة كلها على مشابهة الاختمار بفعل بعض الأجسام وعناصرها كيماوياً. فعجزوا وبدل لييبيح سنة 1870 مدعاة وزعم بان وجود الخلايا في الاختمارانما يكون ثانوياً فهي تحدث مادة خاصة تسبب الاختمار كيماوياً وهذا لا يتوقف على الخلايا بل على المادة التي تفرزها فلو امكنا إذا بإحدى الوسائط افراز تلك المادة لتوصلنا إلى حصول الاختمار بها وحدها من دون الخلايا.
واستشهد بظواهر حيوية تضاهيها تشاهد في النبات والحيوان من الطبقة العليا وكذلك عند الإنسان وهي حصول التيسين والتربسين والميوزين والدياستاز وغيرها ومنفعتها لا تختلف عن الاختمار قطعياً فهي إذا خميرة كيماوية.
أن الحيويين لم ينكروا وجود الخميرة الكيماوية ولكنهم لم يسلموا بأن للنوعين فعلاً وتأثيراً متشابهين حقيقة. لأن الخمير الكيماوي يؤثر ويفعل بمجرد الاختلاط والملامسة وفعله(22/13)
تحليلي اعني أنه يفرق الأجزاء والعناصر بعضها عن بعض كفعل الحامض الكبريتي وغيره بالأجسام وكميته لا تزيد بل تنقض في الاختمار ويقتضي له أكثر من ستين درجة ليؤثروا الأثر الذي لا تعطله السموم الفسيولوجية. وأما الخميرة الميكروبية فتحول وتبدل ماهية المواد تحويلاً جوهرياً وكميتها ليست بمحدودة فإنها تجري حكمها مهما زادت اوقلت وهي تزيد او تنقص على نسبة كثرة الاختمار او قلته.
وفعلها يحصل بين (25 - 40) من درجة الحرارة ويتعطل تماماً إذا أضيفت إليه شيئ من السموم الفسيولوجية. فلا ملابسة إذا بين الاثنين واما في بعض المواقع التي يحدث فيها اختمار مختلط كيماوي وحيوي كما في التعفن فيجري الخميران حكمهما معاً فالكيماوي الناتج بعضه عن الميكروب يحلل بوجوده المواد فيتنأولها الحيوي ويغتذي بها فيحولها ويبدل ماهيتها تبديلاً جوهرياً فإذا أردنا من ثم أن نوأفق ليبيح وتقبل بأن التحلل الطارئ على العناصر في الاختمار يحصل عن اختلاط او معمعة عنصرية أشبه شيء بالخميرة وأن هذه لا يمكن حصولها الا بوجود الخلايا وحياتها واقتياتها فلا يعتبر حينئذ ليبيح معترضاً بل مؤيداً الرأي الحيويين.
وقصاري القول أن الحيويين بعد أن استمروا نحو خمسين سنة بين دفاع وهجوم ظفروا بجميع من عادأهم وعاندهم. وسلم بصحة آرائهم قابضر زمام العلم من جميع الأمم والملل. فتوطدت بينهم دعائم السلام وعلائق الاتفاق ونشرت راية الاتحاد والتعاضد لمحاربة العدو المضر من أنواع الميكروب بالاكتشاف على مكانته وحركاته وختلاته وخزانة فيمزقون حبائله ويخلصون الجنس البشري بل عالم الاحياء اجمع من حملاته وصولاته ويكسرون حدته وشوكته أبداً.(22/14)
اليونان
الصنائع اليونانية
المعابد اليونانية - قامت أجمل المباني في اليونان تعظيماً للأرباب فمتى ذكرت هندسة اليونأن فلا يذهب الفكر الا معابدهم. وليس المعبد اليوناني كالبيعة النصرانية خاصاً بقبول المؤمنين الذين يهرعون إلى الصلاة فيها بل هو قصر ينزله الرب وتمثالاً يمثله قصر تحفة الابهة والجلالة ولا يلجه جمهور المؤمنين بل يظلون خارجه حوالي مذبح تحت السماء وقد قامت مقصورة الرب في وسط المعبد وهو مزار سري لا نافذه له ولا ضوء ينفذ إليه الأماكن من كوى في الاعالي. وقام الصنم في داخله معمولا من خشب او رخام او عاج لابساً ذهباً محلى بالثياب والحلي وكثيراً ما يكون هيكلاً عظيماً.
وقد مثل زيوس في معبد الأولمبيا قاعداً ويكاد يصل رأسه إلى القمة ولذا قيل أن الرب لو تمثل قائماً لخرق السقف وقد حجب هذا المزار عن الانظار من كل ناحية وهو عبارة عن مستودع ذخائر الصنم ويجتاز من يروم دخله ضرباً من الرواق مؤلفاً من صفوف من السواري. ووراء الغرفة غرفة ثانية معلقة فيها الاعلاق الثمنية الخاصة بالرب وجميع قنياته وربما جعل فيها ذهب المدينه وفضتها.
وهكذا كان المعبد صواناً وكنزاً ومتحفاً وتحيط بالمعبد صفوف من السواري من أطرافه الأربعة مؤلفة حوالي جدار المزار عشاء ثانياً للرب وكنوزه والسواري على ثلاثة أنواع تختلف باختلاف أساسها ورأسها او تاجها وعلى كل منها اسم الأمة التي اخترعها او اكترث من استعمالها وهي بحسب اختلافها في القدم السواري الدورية والسواري الايونية والسواري الكورنتية.
ويدعى المعبد باسم السواري التي بنى عليها. وفوق الاعمدة حوالي البناء صفائح من رخام منقوشة على شكل اللوحة تتناوب على قطع من رخام منظمة ومنها يتألف الافريز. ويعلو المعبد بنية مثلثة في أعلى مقدم البناء مزدانة بتماثيل وقد صورت المعابد اليونانية بألوان عديدة من أصفر وازرق وأحمر وبقي أهل التمدن الحديث زمناً وهم يأتون تصديق ذلك. وكان من الوأهم العام أن لأبناء اليونان ذوقاً معتدلاً جداً في نقش البناء. بيد أنه اكتشف في كثير من المعابد أثار نقوش لا تبقى مجالاً للشك حتى ادت الحال أن علموا بالتأمل فيها أن(22/15)
تلك الألوأن اللامعة لم تحسن اخراج الخطوط وكان عليها أن تحسنه أكثر من ذلك.
صنعة النقش اليوناني - يتراءى المعبد اليوناني بادئ بدء أنه ساذج لا زينة فيه وما هو الا علبة مستطيلة من حجر موضوع على صخر أما الواجهى فتحوي على شكل مربع تعلوه زاوية. فلا ترى لأول نظرة غير خطوط مستقيمة وأسطوانات حتى إذا نظرت فيها عن أمم تنكشف لك أنه ليس من هذه الخطوط المستقيمة العديدة الا خط واحد مستقيم في الحقيقة. فالسواري منتفخة نحو الوسط والخطوط القائمة منحنية قليلاً نحو المركز والخطوط الأفقية محدبة في الوسط.
وكان هذا من الدقة بحيث اقتضى قياسه بالتدقيق لاكتشاف الصنعة فيه. وقد لحظ النقاشون اليونان أن اخراج مثل هذا المجموع المتطابق من البناء يقتضى تجنب الخطوط الهندسية التي تظهر منحدرة وتوفير العناية بظواهر المناظر البعيدة. قال كاتب يوناني إن غاية النقاش أن يخترع طرقاً يسحر بها اعين ناس. ولقد كان أهل الصنائع في يونان يعملون باخلاص لأنهم يعتقدون عملهم قربى من أحد الأرباب لذلك كانت صنائعهم معتنى بها في كل أطرافها حتى فيما لا يرى منها وهي من المتانة بحيث بطول امد بقائها بعد لولم يعاجلها التخريب بشدة. ودام البارتينون إلى القرن السابع عشر سليماً وانشق شطرين بانفجار مخزن من البارود كان بقربه وقد جمعت النقش اليوناني إلى المتانة حسن ذوق وإلى السذاجة علماً ومهارة.
زالت معابد اليونان كلها تقريباً ويكاد يبقى بعضها مبعثراً مخدوشاً مهدماً متداعي الاركان وربما كانت طبقات من سوار على أنها تكفي على علاتها أن تفلت نظر من يراها.
النقش - لم يكن النقش عند المصريين والاشوريين الا زينة من توابع الابنية أما اليونأن فقد احلوه محل صناعة رئيسية. وأشهر أرباب الصنائع عندهم النقاشون فيدياس وبرا كسيتيل وليزيب. فينقشون التارز دون النصف من البناء ليزينوا جدران معبد وواجهته والبنية المثلثة في أعلى البناء. ومن هذا النوع الافريز الشهير في الباناتينيه المحيط بالبارتينون وهو يمثل تطواف شابات أثينة يوم الاحتفال بعيد الربة الكبيرة. وكان هؤلاء النقاشون ينقشون هياكل وتماثيل خاصة بعضها يمثل رباً ويستخدم صنماً وبعضها يمثل مصارعاً ظافراً في الالعاب الاحتفالية أقيمت له هذه التماثيل جزاء نصرته.(22/16)
واقدم التماثيل اليونانية منحدرة عوجاء تشبه النقوش الاشورية ثم غدت لدنة ظريفة وكانت أعظم الأعمال من صنع فيدياس في القرن الخامس وبراكسيتيل في القرن الرابع اما تماثيل القرون التالية فإنها على التأنق فيها أقل شرفاً وعظمة. وكان في نونأن الوف من التماثيل اذ أن لكل مدينة تماثيلها وقد تابع النقاشون عمل التماثيل بلا أنقطاع مدة خمسة قرون ولم يبق منها على كثرتها غير خمسة عشر تمثالاً لم تعبث به الايدي. ولم تنقل الينا طرفة من الطرق الشهيرة بين اليونان وأشهر تماثيلنا اليونانية اما أن تكون نسخة من الأصل مثل تمثال الزهرة في ميلوا او أعمالا أثرت عن عصر الانحطاط مثل تمثال ابولون في البلفيدير.
ومع هذا فقد بقي منها ما يكفي إذا أضيفت إليها قطع التماثيل والصور البارزة التي ما زالت تستخرج بالحفر لان يتصور المرء حالة النقش اليوناني ويكون له فكر اجمالي عنها المهندسون اليونأن فكروا أولاً في تمثيل أجمل الأجسام في مظهر وقور شريف. وما اضاعوا الفرص كلما سنحت ليشهدوا أجمل الرجال في أجمل الهيآت من محل الرياضة والجيش والمراقص والاجواق المقدسة فيدرسونها ويحسنون نقلها. وما ضاهأهم احد في محاكاة الجسم البشري ومن العادة أن يكون الرأس صغيراً في تمثال يوناني والوجه ساكناً كامداً ولم يعن اليونان مثلنا بمعاني الوجه بل يعتنون بجمال التخاطيط ولم يراعوا التناسب بين الأعضاء والرأس والجسم برمته مثال الجمال في التماثيل اليونانية.
صناعة الخزف - عرف اليونان أن يتخذوا من الفخار صناعة حقيقة دعوها سيراميك بقي منها اسمها فقط فالخزف أو الفخار لم يعتبر في يونان مساوياً لسائر الصناعات ولكن له منفعة عظيمة لنا وذلك اننا نعرفه أحسن من معرفتنا غيره فقد تداعت المعابد والتماثيل اما أعمال الخزافين اليونأن فقد حفظت بحالها في المدافن التي يعثر فيها عليها اليوم.
وقد جمع منها إلى الآن زهاء عشرين الف خزفة في متاحف أوروبا وهي نوعان: الأواني المنقوشة بنقوش سوداء او حمراء على اختلاف الحجم والشكل. والتماثيل الصغيرة المعمولة من التراب المطبوخ التي عرفت منذ خمس عشرة سنة وقد اشتهرت الآن او كادت منذ اكتشف الدمى البديعة في تاناكار من يبوسيا ومعظمها انصاب صغيرة وبعضها يمثل أولاداً او نساء.(22/17)
التصوير - اشتهرت في يونان عصابة من المصورين مثل زوكسيس وفارانيوس وايبل وكل ما اتصل بنا عنهم يرجع إلى بضع اقاصيص وربما كانت مبهمة في الاحايين أو إلى بعض أوصاف ذات صور. وانا للوقوف على حالة التصوير اليوناني قد اقتصرنا على ماعثر عليه من تصاوير الحوائط في بيوت إحدى المدن الايطالية وهي من القرن الأول للميلاد وكانها تقول بلسان الحال اننا لم نعرف عنها شيئا.
التجارة الأثينية - أصبحت أثينة في القرن الخامس مدينة كبرى على حين كانت اتيكيا أقليما مجدبا لا تغل ما يكفي لاعالة سكانها فتضطر إلى حلب الحنطة والخمر والسمن والسمك من الخارج. وقد كان عبيد أثينة على العكس يعملون الثياب والخزف والسلاح والأثاث مما يباع خارج بلادهم. فمن ثم كثرت أساليب التجارة. فكأنت البضائع ترد إلى مرفأ بيرا او تصدر منها وكانت أنشئت فيها ارصفة ومخازن وقد سماها احد الخطباء في القرن السادس بانها سوق بلاد اليونان بأسرها. وكانت تأتيها حأصلات بلاد الشمال خاصة ويحمل إليها من الداخلية في مواني البحر الاسود وتراسيا الحنطة والخشب والجلود والعبيد وكانت أثينة تتجر مع اليونأن النازلين في جنوبي إيطاليا إلى نابولي. وإذ كان لكل مدينة يونانية نقودها الخاصة بها فقد كان يأتي أثينة دراهم من ضروب مختلفة فاقتضى لذلك صيارفة يبدلونها وكانوا يدعونهم (ترأبيزيت) لأنهم كانوا يجلسون في الساحة وراء منضدة وكانوا كلهم تقريباً من الغرباء الذين أصبحوا ميتيكيين ثم انهم كانوا اتخذا مهنة اضافوها إلى مهنتهم تلك وهي اقراض النقود فيخزنون الدراهم ويقرضونها بفائدة فاحشة بنحو (20 في المئة).(22/18)
حرب المورة
خصائص عامة - انقسم اليونأن إلى قسمين بعد تأسيس مملكة أثينة في الجزائر اليونانية فكانت المدن الساحلية خاضعة إلى أثينة والمدن الداخلية باقية بحت أمرة اسبارطة. وبعد خلاف طال أمره نشبت حرب بين اسبارطة وحليفاتها في ذاك الصقع من جهة وأثينة ورعاياها الساحلييين من الجهة الأخرى وكانت هذه الحرب هي المعروفة بحرب المورة. دامت سبعاً وعشرين سنة (404 - 431) ولما القت اوزارها عادت فنشبت باسم آخر إلى سنة360.
كانت تلك الحروب مشوشة بقتتل المحاربون فيها براً وبحراً يقتتلون في ارض اليونان وفي آسيا وتراسيا وصقلية أي في اصقاع مختلفة وكان جيش الاسبارطيون أحسن انتظاماً فجعل مقاطعة اتيكيا قاعاً صفصفاً وكان اسطول الأثينيين أكثر استعداداً فخرب الشواطئ ولم يؤثر عن تلك الحروب الناشبة بين المدن اليونانية الا الشدة ويكفي في وصفها الإشارة إلى بعضها. فقد كان احلاف الاسبارطيين في بدء الحرب يلقون في البحر جميع سلع المدن المعادية لهم فقابلهم الأثينيون بقتل سفراء اسبارطة بدون أن يستمعوا لاقوالهم.
خضعت مدينة بلاتيه صلحاً وكان وعد الاسبارطيون جماعة المحاصرين بانهم لا يعاقبون أحداً بدون محاكمة واليك مع هذا كيف كان قضاة الاسبارطيين يعاملون الاسرى: يسألون كل واحد منهم عما إذا قام في خلال الحرب بخدمة للاسبارطيون فكان نالاسير يجيب سلباً فيحكمون عليه بالإعدام.
وقد بيع النساء كالأماء. عصت مدينة مدللي على الأثينيين فاعادوها إلى طاعتهم ثم اجتمع الشعب الأثيني وبعد المشورة بينه قضى بإعدام سكان مدللي نعم إنه رجع من الغد عن رأيه وارسب باخرة ثانية تحمل العفو عن أولئك المنتقضين. بيد إنه كان نفذ حكم الإعدام على زهاء الف من سكان مدللي. وكان من العادة إذا دأهم جيش بلاد العدو أن يخرب البيوت ويقطع الأشجار ويحرق الغلات ويقتل الحرأثين. وبعد أنتهاء الحرب يجهز على الجرحى ويعمد إلى قتل الاسرى صبراً. وإذا جرى الاستيلاء على مدينة يؤول كل مافيها ملكاً للغالب فيباع رجالها ونساؤها وأولادها كما يباع العبيد. هكذا كانت إذا حقوق الحرب. وقد أوجزها توسيد في خطاب له في الجملة الآتية: قال تنقض المسائل بين الناس بواسطة قوانين العدل متى اضطروا إليها من الطرفين ولكن القوي يأتي ما في طاقته والضعيف(22/19)
يذعن له. فالأرباب يتسلطون بضرورة الفطرة لأنهم الاقوياء والناس يجرون على مثالهم.
الاستيلاء على أثينة - ولما تعب الشعبان من هذه الحرب الباطلة عقدا السلم بينهما ولكن امده لم يطل. وذلك أن أثينة بعثت بجيشها إلى صقلية لتفتح سيراكوس المحالفة لاسبارطة وهناك أحيط به وبعد النكبة سيراكوس أسر الجيش الأثيني برمته وطفق الغالبون يخنقون عامة القواد وجماعة الجند ومن ابقوا عليه انزلوهم إلى لاتومي وهي مقالع قديمة كانت تتخذ حبوساً القوهم فيها سبعين يوماً ومتزاحمين متراصين لا وقاية تقيهم حرارة الشمس في الصيف او رطوبة ليالي الخريف. فمات كثير منهم مرضاً وجوعاً وعطشاً لأنهم لم يكادوا يطعمونهم الا ما يسد رمقهم بعض الشيء وبقيت اشلاؤهم ملقاة على الأرض تفسد الهواء ثم اخرج أهل سيراكوس من بقي حياً من الأثينيين وباعوهم كما يباع الرقيق. وأقاموا الاسبارطيون حامية في جبال اتيكيا بحيث تمكنوا من توقيف تجارة أثينة مع بلاد الشام ومنها كانوا يأتون بالحنطة. وذهب ليزاندر القائد الاسبارطي إلى آسيا وأخذ مالاً من الفرس جهزيه اسطولاً وطاف شواطئ آسيا وإذ كان احلاف أثينة لا يقاتلون الا بالقوة تركوه وشأنه ثم أن ليزاندر حطم الاسطول الأثيني في آسيا (405) وحاصر أثينة وأخذها جوعاً واضطرها إلى تخريب اسوارها وحرق سفنها الحربية.(22/20)
أين منى ما أريد
اريد لو استتب لي الخلود ... ولكن اين مني ما أريد
على أن البقاء يطيل همي ... وما في ريثه ما استفيد
وليس بنافعي شيئاً بقائي ... وقد غصت باحبأبي اللحود
ولكن كيف اقناعي لنفس ... تعلقها بدنياها شديد
أأصبر عن احبائي الأولي قد ... ثووا اني إذا رجل جليد
مشوا للموت من دار أقاموا ... معي فيها فاقفرت العهود
تثير ديارهم حزناً بقلبي ... وتوحشني التهائم والنجود
فإن بك في الاسى رجل وحيد ... فإني ذلك الرجل الوحيد
يسير إلى المقابر كل يوم ... اخ منها التراب به يزيد
ولو عاد الذي يمضي سلونا ... ولكن من يرحل لا يعود
وماهي حالة الشهداء فيها ... أايقاظ هنالك ام رقود
لعمرك لا يرد الموب حصن ... ولا هذي العساكر والجنود
يبيد نعم يبيد المرء لكن ... عناصره تدوم ولا تبيد
يدور الشيء من صفة لأخرى ... ولكن منه لا يفنى الوجود
وجسم المرء تبنيه خلايا ... زمان حياتها فيه زهيد
إذا مات منها فيه قسم ... يجيء مكانه قسم جديد
وينقطع التجدد حين يؤدي ... فلا يخضر بعد اليبس عود
إلا أن الحياة أعز شيء ... يحب وأنها الخصم اللدود
شقاء عم هذا الناس حتى ... تشتكي الشيخ منه والوليد
وقالوا تعض من يحيا سعيد ... فمن هو ذلك الحي السعيد
اتعكس حالة الشرق الليالي ... فتجتمع المعارف والجدود
لعمرك لا ينيل المجد مال ... ولا خيل ولا ابل ترود
ولا ثوب على طرفيه وشي ... ولا قصر على تل مشيد
قأن المجد ذب عن ضعيف ... تهضمه اخو الظلم العنيد
اداري الحاسدين رجاء أن الا ... يبالغ في مساءتي الحسود(22/21)
يضر النفس منه او يقيها ... فتى يلج الحوادث او يحيد
وأوقات الفتى اما نحوس ... تدور على المصائب او سعود
ليال هن بالافراح بيض ... وأيام من الاحزن تسود
كذاك الشعر فهو يكون اما ... رديئاً لايطيب به النشيد
واما رائق الألفاظ يزهو ... فتحسب أنه العقد الفريد
وذاك هو الذي إن أنشدوه ... تتزين منه للآداب حيد
أقول الشعر منقاداً إليه ... بطبعي وهو أكثره قصيد
فإنظمه ولا ادري أأني ... مسيء حين أنظم ام مجيد
اليك عن المجرة لا تسلني ... وعن عدد العوالم كم يزيد
ولا عما وراء السحب فيها ... فذلك أمر مطلبه بعبد
حدود تنتهي الأفكار منا ... وما أن تنتهي تلك الحدود
وبين الفرقدين على اتصال ... تراه عيوننا بعد مديد
ألكني يا ضياء إلى نجوم ... منورة لها منها وقود
يراها من له لب شموساً ... ويعمه عن حقائقها البليد
وجيء منها بأخبار الينا ... فإنك يبننا نعم البريد
سترقى النفس طائرة إليها ... إذا انفكت عن النفس القيود
لقد تعست هنا فإذا تعالت ... يكون نصيبها عيش رغيد
لعمرك قد تشابهت الليالي ... فما في عودها شيء جديد
نهار خلفه يأتي نهار ... وليل كلما ولى يعود
ترى عيني بكف الموت قوساً ... بها سهم إلى جهتي سديد
فياموت ارمني إن كنت ترمي ... فإني بالردى صب عميد
ولم ار منهلاً كالموت عذباً ... على طرفيه تزدحم الورود
أقول لم يهاب الموت جبناً ... برغمك كائن ما لا تريد
ولكني اخلف عند موتي ... نساء حزنها بعدي شديد
فتلد ام للجوى منها صدور ... وتخمش في الاسى منها خدود(22/22)
مرزأة وأخرى ذات نوح ... وأخرى ما لا عينها جممود(22/23)
حكم مقتبسة عن الإنكليز
الكمال
البساطة هي غاية الكمال في صفات المرء وأخلاقه وعبارته
اقصد الكمال في كل شيء
الكمال لا ينال الا مهلا مع مرور الزمان
لا ينال الرجل كمالاً إلا إذا كان له أصدقاء صادقون او أعداء الداء
إذا اقتلعنا من انفسنا رذيلةً واحدة في كل سنة شرعنا في سبيل الكمال
قياس الإنسأن القياس الأعلى
الكمال مكوّن من صغار الأمور وما الكمال بالأمر الصغير
الرجاء
آمالنا تقصد كالبزاة الشامخة أغراضاً في مرتفعات الهواء
لا شيء يؤيد النفس بالاقدام والمخاطرة في كل ما تطلبه كالأمل الوطيد
متى انحدرت غيوم العواصف كان المستقبل شديد الدجى لولاشروق الرجاء باشعته المبهجة في هذا العالم المظلم
إذا كان طبعك طبع الرجاء المتسع فذلك هو حصنك الوحيد المنيع الذي تحتمي به في هذا الوادي وادي الدموع
يستقيظ باكراً من يوقظه الرجاءُ وإذا رأفقه في الطريق كان سيره حثيثاً
الطاعة
الطاعة واجبة على الذين لا يعملون كيف يحكمون
الطاعة جيدة لا غنى عنها
ولدنا خاضعين لأحكام الله ومن اطاع الله كان حراً آمناً مرتاحاً (سنكا الفيلسوف الروماني)
الاشرار يطيعون خيفةٌ والصالحون على حب (أرسطو)
من لا يقدر على الطاعة لا يقدر على الحرية او على السلطة ومن لا يكون ادنى في شيء لا يكون أرفع في شيء
انني اتعلم كل ساعة تعليماً من تعاليم الطاعة(22/24)
السرور
من اسر غيره كأن ذلك سروراً لنفسه
كن بهجياً ما امكن لأن السرور لنفسه لاينحصر فينا بل هو كامل عظيم في سرور غيرنا
الصديق البهيج كنهار منير يضيء كل ما حوله
لا سعادة ثابته في الحياة الا لمن ينسى نفسه من اجل غيره
إذا كان الزحف نصيبي فازحف راضياً وإن كان الطيران نصيبي فاطير نشيطاً ولكنن سأجهد كل الجهد أن لا اكون مغموماً
الرفيق البهيج كمركبة لمن قد تعب في الطريق
آمال الدنيا التي قد يشغل الناس قلوبهم بها تخيب اوقد تصح ولكنها كالثلج الذي يغطي وجه الأرض ساعة او ساعتين ثم يزول (عمر المختار)
الشوق النفس إلى الكمال
الشوق إلى الكمال خفير قوي إلى الفضيلة
كل إنسان يتوق احياناً إلى مايجب عليه من معالي النفس
جزاء المرء الذي يشتاق إلى أعلى ما تتصوره النفس هوانه لا ريب له فيها
كل ما على الأرض اظلال لأشياء في السماء هي وحدها الباقية
لاريب في أن التصورات العالية ثابته الوجود
الكمال الذي يتخيله الإنسان آفة لما عنده من نقص الكمال
التشوقات الخيالية بعيدة جداً عنا فلنرض بالسعي وبما يمكن من الدنو إليها.
التأمل والتذكير
تذكر مراحم الله السابقة علاج دافع للقنوط في يوم الشدة
ما مضى فقد إلى الابد وهو مجموع مذخور ولكنه لم يبق لنا فكل كلمة نطقنا بها وكل خطوى نخطوها لايمكن استراجعها
إذا نظرنا إلى ما مضى من الشدائد رأينا أن بعضها كإن خيراً عظيماً يفوق ما تحملناه من مشقتها
إذا تردد فيك العقل وارتاب فاذكر ما مضى واهتد به واذهب إلى البيت الذي ولدت فيه وإن(22/25)
كان قد ولد الإيمان هناك فردد ما كان يعتقد ابوك والصلاة التي كانت تصليها امك
التذكر مهما كان محزناً فهو أفضل العلائق التي تصل حياة الدنيا بحياة الآخرة.
العادة
العادة حبل ننسج منه خيطاً كل يوم إلى أن نبلغ حجماًُ لا يمكن قطعه
رب في نفسك عادة الانتباه الشديد إلى كل أمر يعرض لك سواء كان في القراءة أو المراقبة أو الاصغاء إلى التعليم
العادة افعل النواميس التي تعمل في الفطرة البشرية
تتكون فينا العادات كما يتراكم الثلج بعضه فوق البعض
عادة النظر إلى الأشياء بالسرور وتأمل الحياة بالأمل تتربى فينا كغيرها من العادات
تتكون العادات الحسنة بأعمال العقل والمجاهدة الدائمة للتغلب على المحن
النصيب
كل أمريء عامل على نصيب نفسه
إذا قرع النصيب بابنا فمن الخطأ أن لا نفتح له ونرحب به
دولاب النصيب يدور أبداً ومن يستطيع أن يقول انني سأكون اليوم إلى الأعلى؟(22/26)
السجن
سكنا ولم يسكن حراك التبدد ... مواطن فيها اليوم ايمن من غد
عفا رسم مغنى العز منها كما عفت ... (لخولة اطلال ببرقة ثهمد)
بلاد اناخ الذل فيها بكلكل ... على كل مفتول السبالين اصيد
معاهد عنها ضل سابق عزها ... فهل هو من بعد الضلالة مهتد
أحاطت بها الارزاء من كل جانب ... إلى أن محتها معهداً بعد معهد
وحلق في آفاقها الجور بازياً ... مطلاً عليها صائتاً بالتهدد
وينقض احياناً عليهافتارة ... يروح وفي بعض الاحايين يغتدي
فيخطف اشلاء من القوم حية ... ولم يقد المقتول منها ولم يد
ويرمي بها في قعر اظلم موحش ... به اين تسقط جذوة الروح تخمد
هو السجن ما إدراك ما السجن انه ... جلاد البلايا في مضيق التجلد
بناء محيط بالتعاسة والشقا ... لظلم بريء او عقوبة معتدي
زر السجن في بغداد زورة راحم ... لتشهد للانكاد افجع مشهد
محل به تهفو القلوب من الاسى ... فإن زرته فاربط على القلب باليد
مرّبع سور قد أحاط بمثله ... محيط بأعلى منه شيد بقرمد
وقد وصلوا ما بين ثان وثالث ... بمعقود سقف بالصخور مشيد
وفي ثالث الاسوار تشجيك ساحة ... تمور بتيار من الخسف مزبد
ومن وسط السور الشمالي تنتهي ... إليها بمسدود الرتاجين موصد
هي الساحة النكراء فيها تلاعبت ... مخازيق ضيم تخلط الجد بالدد
ثلاثون متراً في جدار يحيطها ... بسمك زهاء العشر في الجو مصعد
توأصلت الاحزأن في جنباتها ... بحيث متى يبل الاسى يتجدد
تصعد من جوف المراحيض فوقها ... بخار إذا تمرر به الريح تفسد
هناك يود المرء لو قاء نفسه ... وأطلقها من اسر عيش منكد
فقف وسطها وانظرحواليك دائراً ... إلى حجر قامت على كل مقعد
مقابر بالاحياء غصت لحودها ... بخمس مئتين انف ساو بازيد
وقد عميت منها النوافذ والكوى ... فلم تكتحل من ضوء شمس بمرود(22/27)
تظن إذا صدر النهار دخلتها ... كانك في قطع من الليل اسود
فلو كان للعباد فيها أقامة ... لصلوا بها ظهراً صلاة التهجد
يزور هبوب الريح الا فناءها ... فلم تحظ من وصل النسيم بموعد
تضيق بها الانفاس حتى كانما ... على كل حيزوم صفائح جلمد
وحتى كان القوم شدت رقابهم ... بحبل اختناق محكم القتل محصد
بها كل مخطوط الخشام مذلل ... متى قيد مجروراً إلى الضيم ينقد
يبيت بها والهم ملءاهابه ... بليلة متبول الحشا غير مقصد
يمييت بمكذوب العزاء نهاره ... ويحيى الليالي غير نوم مشرد
ينوء باعباء الهوان مقيداً ... ويكفيه أن لو كان غير مقيد
وتقذفهم تلك القبور بضغطها ... عليهم لحر الساحة المتوقد
فيرفع بعض من حصير ظلالة ... ويجلس فيها جلسة المتعبد
وليست تقيه الحر الا تعلة ... لنفس خلت من صبرها المتبدد
وبالثوب بعض يستظل وبعضهم ... بنسج لعاب الشمس في القيظ يرتدي
فمن كان منهم بالحصير مظللا ... يعدونه رب الطراف الممدد
ترأهم نهار الصيف سفعا كانهم ... اثافي أصلاها الطهاة بموقد
وجوه عليها للشحوب ملامح ... (تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد)
وقد عمهم قيد التعاسة موثقاً ... فلم يتميز مطلق عن مقيد
فسيدهم في عيشه مثل خادم ... وخادمهم في ذلة مثل سيد
يخوضون في مستنقع من روائج ... خبائث مهما يزدد الحر تزدد
تدور رؤوس القوم من شم نتنها ... فمن يك منهم عادم الشم يحسد
ترأهم سكأرى في العذاب ومأهم ... سكأرى ولكن من عذاب مشدد
وتحسبهم دوداً يعيش بحمأة ... وما هو من دود بها متولد
الا رب حر شاهد الحكم جائزاً ... يقود بنا قود الذلول المعبد
فقال ولم يجهز ونحن بمنتدى ... به غير مأمون الوشابة ينتدي
على أي حكم املاية حكمة ... ببغداد ضاع الحق من غير منشد(22/28)
فادنيت للنجوى فمي نحو سمعه ... وقلت لأن العدل لم يتبغدد
رعى الله حياً مستباحاً كانه ... من الذعر اسراب النعام المطرد
وما صاحب البيت الحقير بناؤه ... بافزع من رب البلاط الممرد
وماذا ك إلا أنهم قد تخاذلوا ... ولم ينهضوا للخصم نهضة ملبد
فناموا عن الجلى ونمت كنومهم ... سوى نوحة مني بشعر مغرد
وهل انا الا من أولئك إن مشوا ... مشيت وإن يقعد أولئك اقعد
وكم رمت ايقاظاً فاعيا هبوبهم ... وكيف وعزم القوم شارد مرقد
نهوضاً نهوضاً ايها القوم للعلى ... لتبنوا لكم بنيان مجد موطد
تقدمنا قوم فابعد شوطهم ... وقد كان عنا شوطهم غير مبغد
وسد علينا الاعتساف طريقنا ... فاحجف بالغوري والمتنجد
افي كل يوم يزحف الدهر نحونا ... بجند من الخطب الجليل مجند
فيارب نفس من كروب عظيمة ... ويارب خفف من عذاب مشدد
بغداد
معروف الرصافي(22/29)
كتاب الاشربة
لابن قتيبة
وإنما معنى قوله (انما الخمر والميسر والانصاب والازلام وجس) أي معصية والكفر والنفاق والمعاصي رجس يدلك على ذلك أن الازلام هي القداح فاي نتن لها؟ وهذا مثل قوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} أي نفاقاً إلى نفاقهم ومثله {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} وكيف يكون رجساً أي نتناً وهي في الجنة؟ وقال الله تعالى: {وأنهار من خمر لذة للشاربين} فوصفها باللذاذة ولم يصف بذلك عيرهما مما ذكر معها. وقال: {يسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً} ولم يرد فيما يرى أهل النظرأن الزنجبيل يلقى فيها وإنما أرادوا إنها تلذع اللسان كانها مزجت بزنجبيل. والشعراء تصف أفواه النساء براح مزجت بالزنجبيل. قال المسيب ابن علس
وكان طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
وقال الأعشى بمشبهه بالزنجبيل والعسل:
كان جنياً من الزنجبي ... ل بات بفيها وأريا مثورا
وقال الجعدي
وبات فريق منهم وكانما ... سقونا طفا من اذرعات مفلفلا
ولهذا يقول الشعراء للخمر مزة للذعها اللسان ولا يريدون الحموضة وقال بعض أصحاب اللغة: إنما مزّة بفتح الميم أي فاضلة من قولك: هذا أمز من هذا أي أفضل وأرفع. وقال: (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون) فنفى عن خمر الجنة عيوب الخمر الدنيا وهو الصداع ونفاذ الشراب وذهاب العقل والمال ونحو هذا قوله في فاكهة أهل الجنة (لا مقطوعة ولا ممنوعة) فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا لأن فواكه الدنيا تأتي في وقت وتنقطع في وقت ولأنها ممنوعة الا بالثمن والعرب تسمي الخمر درياقة يريد انها شفاء كالدرياق. قال ابن مقبل
سقتني بصهباء درياقة ... متى ما تلين عظامي تلن
وقال الله تعالى {ويسئلونك عن الخمر والميسر قل فيها اثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما} فالإثم العذاب وكذلك الآثام قال: {ومن يفعل ذلك يلق إثاما} أي عقاباً وأما(22/30)
منافعهما فكثيرة لا تحصى. وإنما تقع مضارها مع إكثار وتجاوز المقدار فأما الاقتصار فلم يكن لشاربيها قبل التحريم فيها مضار. فمن منافعها ما يصيبه للناس من أثمانها ولو لم تعتصر الأعناب لبارت على أهلها. ومن ذلك منفعتها الجسم لأنها تدر الدم وتقوي المنة وتصفي اللون وتبعث النشاط وتفتق اللسان ما أخذ منها بقدر الحاجة فإذا أخذ الإفراط فكل شيء مع الإفراط يضر.
وكأنت الأوائل تقول: الخمر حبيبة الروح وكان رجل من قدماء الأطباء إذا دخل على عليل لم ير فيه موضعاً لسقي الدواء سقاه الخمر الريحانية الممزوجة بالماء ليلقي الروح بحبيبه ويبعث من النفس بالمسرة ما قد أسقطه الداء فإن رأى العليل قد قوي قليلاً واحتمل بعض الدواء عالجه. قالوا: ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً وأصل الراح والروح والرَّوح من موضع وأحد الا أنهم خالفوا بينها في البناء ليدل كل واحد منها على معناه ويقارب معانيها كتقارب أسمائها فالروح روح الأجسام والروح النفخ لأنه ريح يخرج عن الروح والروح طيب النسيم والروح هي الريح الهابة.
والراح على فعل وأصله روح فقلبت واوه ألفاً لما أنفتحت ما قبلها ثم اشتقوا الريحان من ذلك لرائحته وربما سموا الخمر روحاً قال النظام:
مازلت أخذ روح الزق في لطف ... وأستبيح دما من غير مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح
وربما سموا الخمر دماً لأنها تزيد في الدم والنفس تتصل بالدم. وكذلك قالوا: نفست المرأة إذا حاضت. وقالوا نفساه لسيلأن الدم. قال المسلم:
خلطنا دماً من كرمة بدمائنا ... فاظهر في الألوان من الدم الدم
وحدثني الرياشي عن مورج عن سعد بن سماك عن أبيه عن عبيد راوية الاعشي قالت: قلت للأعشى: اخبرني عن قولك
ومدامة مما تعيق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
فقال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء يريدان حمرتها صارت دماً. وقال الطثرية
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وفي الخمر انها تسخي البخيل وتستخرج من اللئيم. قال عمرو بن كلثوم:(22/31)
مشعشة كان الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
ترى اللخر الشحيح إذا مرت ... عليه لماله فيها مهيبا
قوله: سخينا من السخاء وأراد بقوله إذا ما الماء خالطها لأنها لا تمزج الا عند الشرب قال طرفة:
وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل جواد وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحقون الأرض هداب الأزر
وقد عيب بهذا طرفة لأنه مدحهم بالعطاء وهم نشاوي ولم يشترط لهم ذلك في صحواتهم كما قال عنترة
وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما اقتصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
والجيد في هذا المعنى قول زهير
اخو ثقة لا يذهب الخمر ماله ... ولكنه قد يذهب المال نائله
يريد أنه يعطى إذا بخلت النفوس. وقال ابن ميادة
ما أن الح على الإخوان اسألهم ... كما يلح بعظم الغارب القتب
وما أخادع ندماني لأخدعه ... عن ماله حين يسترخي به اللبب
وقال بعض المحدثين
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحة في مسكرة وانتشائه ... وفي الصحو ترحات تشيب النواصيا
فياليت حظي من سروري وتر حتي ... ومن جوده أن لا علي ولا وليا
وفي الخمر أنها تشجع الجبان وتبعث الحصر العي وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد من جرأتك؟ الترك وكثير من العجم يشربونها في الحرب وكانوا في الجاهلية ينالون منها يوم اللقاء وكذلك اصطحبها قوم من المسلمين يوم بدر قبل أن ينزل تحريمها وفي الخمر أن كل شارب يمل شرابه غير شرابها وإن أحداً لا يقدر يشرب منها فوق الري إلا بالكره للنفس على القليل غير شارب الخمر وما أشبهها من المسكر. حدثني القطعي عن أبي داوود قال حدثنا أبو بجرة عن الحسن قال: لو كان في شرابهم هذا(22/32)
خير لرووا منه وفي الخمر أنها تزيد في الهمة والكبر وتهيج الأنفة والأشر وسقى قوم إعرابياًكؤوساً ثم قالوا له: كيف تجدك؟ قال أجدني اسر واجدكم تحسنون إلي وقال الأخطل
إذا ما زياد علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت اجر الذيل من كانني ... عليك أمير المؤمنين أمير
العلل بين النهل فلذلك قال ثلاث زجاجات لأنها نهل وعللان قال المنخل
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير
فإذاسكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وقال الأعشى:
ولقد شربت ثمانياً وثمانياً ... وثمان عشر واثنتين وأربعا
من قهوة باتت ببابل صفوة ... تدع الفتى ملكاً يميل مصرعاً
وقال الخمر انها تمد في الأمنية قال الأعشى
لعمرك أن الراح إن كنت شاربا ... لمختلف آصالها وغدائها
لنا من ضحاها خبث نفس وكابة ... وذكرى هموم ما تغيب اداتها
وعند العشي طيب نفس ولذة ... ومال كثير عده نشواتها
وفي الخمر انها تطيب النفس وتذهب الهم وكانت ملوك العجم تجعلها مجمة للقلوب ومستراحاً من الشغل. قال اعرأبي كان يشرب النبيذ ثم تركه وشرب اللبن
قد تركت النبيذ مذ كن عندي ... وتحسيت رسلهن مذيقا
فوجدت المذيق يوجع بطني ... ووجدت النبيذ كان صديقا
تعد النفس بالعشي مناها ... وتسل الهموم سلاً رقيقاً
وذكر الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمي ران جبلة بن الايهم
قال لحسان: يا ابا الوليد اني مشغوف بالخمر فذمها لي فقال:
لولا ثلاث هن في الكأس لم يكن ... لها ثمن من شارب حين يشرب
لها نزف مثل الجنون ومصرع ... دني وأن العقل ينأى فذهب
فقال: أفسدتها فامدحها فقال:(22/33)
لولا ثلاث هن في الكأس أصبحت ... كأفضل مال يستفاد ويطلب
أمانيها والنفس يظهر طيبها ... على همها والحزن يسلى فيذهب
وفي الخمر إن كل شارب على شرابه يصبر عنه غير الخمر فإن لها ضراوة لا يشبهها الا ضراوة اللحم. وكان عمر رضي الله عنه يقول: اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقالوا: أهلك الرجال إلا حمرأن اللحم والخمر. وأهلك النساء إلا صفرأن الذهب والزعفران. وقال الشاعر حين منع أهل الشام من شرب الخمر:
الم تر أن الدهر يعبر بالفتى ... ولا يملك الإنسان صرف المقادير
صبرت ولم اجزع وقد مات إخوتي ... وما أنا عن شرب الطلاء يصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر
فهذه وما أشبهها منافعها في الجاهلية وأما منافع الميسر فإن أهل الثروة والأجواد من العرب كانوا في شدة البرد وجدب البلاد وكلب الزمان ييسرون أي يتقأمرون بالقداح وهي عشرة اقداح على جزور يحزئونها على ثمانية وعشرين جزءا وقد ذكرت هذا في كتاب الميسر وبينت كيف كانوا يفعلون فإذا قمر أحدهم جعل أجزاء الجزور لذوي الحاجة وأهل المسكنة واستراش الناس وعاشوا وكأنت العرب تمدح بأخذ القداح ويعيب من لا ييسر وتسميه البرم قال متمم يرثى أخاه مالكاً
ولا برما تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
ولم اسمع أحداً من الإسلاميين ذكر أنه قأمر بالقداح فافحش افحاش القائل وهو الأخطل:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست باكل لحم الاضاحي
ولست بقائم كالعير ادعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وآكل ما تفوز به قداحي
قال: واما ذمهم شربه المسكر بقلة الوفاء وسوء العهد فاسوأ من ذلك اقدامهم على السكر وترك الصلاة وركوب الفواحش واعجب منه عقدهم على أن كل مسكر خمر محض لعلة الاسكار وهم يشربونه وعلمهم بأن الله حرم المسكر وهم لا يبيتون الا عليه فإذا عوتبوا على شربه مع الاعتماد أنه خمر قالوا: لان نشربه ونحن نعلم أنه ذنب نستغفر الله منه احب الينا من أن نشربه مستحلين له غير مستغفرين منه. وما ادري أمن الجرأة على الله(22/34)
اعجب ام من العلة.
أما الجرأة على الله والاقدام على ماحرم في كتابه عندهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم وأما العلة فالطمع في المغفرة وهم مصرون لا ينصرم عنهم يوم جمعتهم الا عقدوا النية على الاجتماع في غده او بعد غده وإنما يغفر الله بالاستغفار للمقلعين ويتقبل من المتقين وكيف ما جاهروا الله بالعصيأن فيه وهم مستيقنون اسلم مما ركبوه وهم غارون وماذا يقولون في رجل زنى وهو لا يعلم أن الله حرم الزنا وآخر زنى وهو يعلم أن الزنا من الكبائر التي تسخط الرب وتوجب النار ايهم اقرب إلى السلامة وأولى من الله بالعفو او ليس أهل العلم على أن الذي لا يعلم لا حد عليه من جلد وتعزير ولا رجم وإن على الآخر حد البكر إن كان بكراً وحد المحصن إن كان محصناً فهذه أحكام الدنيا واما أحكام الآخرة فلولا كراهة التألي على الله لقلنا في الذي ركب الفاحشة وهو لا يعلم أن الله حرمها معفو عنه.
وقد روي أن رجلاً اقرّ بالزنا بأم مثواه فلما أمر بأقامة الحد عليه قال: ما علمت أن الله حرم ذلك فاستحلف ثم دريء عنه الحد. وكأنت العلماء تنهى العوام عن كثرة السؤال وقالوا لان يؤتى السيء على جهل به اسلم من أن يؤتى على علم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر ما سكنت إليه القلوب واطمأنت اليه النفوس والاثم ما حاك في صدرك فكرهت أن تطلع عليه الناس.(22/35)
التقية
لما قرأ احد كبار علماء دمشق ما كتبناه في التقية في الجزء الثالث من مجلد هذه السنة كتب الينا يقول: (ان مسألة جواز التقية قولاً وعملاً عند الصفرية الزيادة فيه نظر اذ المعلوم انها جائزة عندهم قولاً لا عملاً لأن المذاهب فيها عند الخوارج ثلاثة عدم جوازها أصلاً عند الازارقة وجوازها قولاً وعملاً عند النجدات وجوازها قولاً لا عملاً عند الصفرية الزيادية)
وقد عقد في كتاب مشارق العقول لعبد الله بن حميد السالمي العماني الاباضي فصل في التقية فقال:
اجز تقية بقول أن خلص ... من نيل ضر من به القول يخص
وأمنعها في إتلاف نفس انجنى ... والخلف في إتلاف مال ضمنا
ولم تجز تقية بالفعل ... كالحرق والغرق ومثل القتل
لكن جواز ما أبيح في الضرر ... كالأكل للميتة والدم اشتهر
ومكره جاء بما الحد يجب ... عليه في أن لا يحد نستحب
وقال ابن حزم في الملل والنحل: وقد اجمع أهل الإسلام على أن إنساناً لو سمع مظلوماً قد ظلمه سلطان وطلبه ليقتله بغير حق ويأخذ ماله عصباً فاستدر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصداً بذلك السلطان فسأل السلطأن ذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر أن يكون سمعه او أنه يعرف موضعه او ماله فإنه محسن مأجور مطيع لله عز وجل وإن صدقه فاخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله كان فاسقا عاصياً لله عز وجل فاعل كبيرة مذموماً نماماً وقد أبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية.
ونقل الأستاذ غولد سير في رسالته التقية في الإسلام عن بعض علماء الشيعة: أن الله جعل هذه التوريه مما حفظ به شيعتنا ومحببنا. ونقل: مؤمن لاتقية له كمثل جسد لا رأس له.
ونقل من كتاب كشف القناع عن وجوه حجة الإجماع أن أمير المؤمنين كان منذ قبض الله نبيه في حال التقية ومداراة ومدافعة لاستيلاء من استبد بالأمر الخ. . . أن التقية لم تفارقه ولم يجد منها بداً في حال من الأحوال ولم يتمكن من تتبع أحوال القوم وكان يقول لقضاته وقد سألوه بماذا نحكم فقال: أحكموا بما كنتم تحكمون حتى يكون الناس على جماعة أو أموت كما مات أصحأبي.(22/36)
هذا ما أتانا من القول بعد طبع ذاك المبحث فألحقناه به تتمة له والغاية منه كما علمت تاريخيه اجتماعية صرفة وذلك لأن للتقية علاقة كبرى بمجتمعنا ونهضتنا.(22/37)
التعليم في ألمانيا
أعظم حسنة تسجل لألمانيا فصلها التعليم الديني عن التعليم الذنيوي بدون أن تمس أحدهما بسوء وتعطي لأحدهما ما سلبته من الثاني ولذلك استقام أمرها وأصبحت مدرسة العالم فلم تغل في محاربة الدين كفرنسا ولم تبالغ في التعصب له كاسبانيا بل كانت بين بين واليك ما قاله صاحب كتاب ألمانيا الحديثة ونشوئها في كيفية فصلها للتعليمين على اسلوب حكيم قال ماترجمته:
جاهدت ألمانيا في سبيل نشؤها المادي ولم تترك الجهاد في طريق ارتقائها العلمي وإحداث تعليم وطني لبلادها تتعاوره الايدي بالإصلاح كل حين.
ومن المحقق أن الحكومة الألمانية أخذت على نفسها أن تنظم قواها الدفاعية والهجومية وإن تنمي شعبها وثروتها وتسهر على امن رعاياها ورفاهيتهم المادية ولكنها لم تقف عند هذا الحد في القرن التاسع عشر بل ما كاد يطلع فجره حتى قام الفيلسوفإن فيختي وهيجل يحققأن الأماني بما أنشآه من الاوضاع العلمية ويدلأن الألمان على الطرق التي تبلغ بهم أقصى درجات الارتقاء.
ومابرح هذا الاعتقاد منذ نهض هذان العظيمان ينتشر ويقوى حتى ادى إلى نتيجتين عظيمتين إحداهما تولي الحكومة لادارة التعليم بدل الكنيسة وأخذها على عاتقيه تنسقه ومراقبته وتوفرها على نشره على اختلاف درجاته توفراً لم يسبق له نظير وثانيتهما أن الأمة انتظمت حالها على التدريج فايقنت بما تسأل عنه مع جميع أفرادها ورأت أن من واجبها أن تحتفظ برأس مالها الإنساني فتحمي المساكين والضعفاء خاصة وتدفع عنهم عوادي الهلاك واسواء الفساد الأدبي وتمد إليهم يد المعونة في الازمات وتقيهم عوارض العجز والزمانة.
وهكذا كان نجاح التعليم العام وتنظيم التضامن الاجتماعي أول مابذلت الحكومة الألمانية عنايتها به.
أخذت الحكومة أولا بالتتابع تصبغ التعليم بصبغة عامية وتسلب من الكنيسة هذا الحق بعد أن كان في القرون الوسطى لها وحدها القول الفصل في شؤون التعليم. ففي أواخر القرون الوسطى سقطت الكليات تحت مراقبة الحكومة وبعد دخول عهد الإصلاح (قيام لوثيروس المصلح في النصرا نية) سقطت في يدها المدارس الثانوية أيضاً. وفي القرن الثامن عشر(22/38)
والتاسع عشر جاء دور المدارس الابتدائية فآل أمرها إلى الحكومة تصرفها كما تشاء وتهوى.
قبضت بيدها على أزمة التعليم وأخذت في إدخال التغيير عليه. فقد كأنت الكليات والمدارس اللاتينية فيما سبق ترى من أهم واجباتها أن تخرج رهباناً ولاهوتيين فتعنى المدارس الابتدائية بنشر مبادئ الاعتقاد الديني بين الأمة لم تلبث أن نزعت عنها الصفة الدينية فأصبحت مجامع علمية لا يتصدر فيها اللاهوتيون اليوم كما كانوا امس ولا يتصدر فيها الفلاسفة واللغويون كما كانوا في أوائل القرن التاسع عشر بل الصدارة فيها كل الصدارة لرجال العلم والأطباء.
انتظمت المدرسة الألمانية على صورتها الحاضرة في أوائل القرن التاسع عشر وخلعت عنها اللباس الديني بل صبغة الفكر الأدبي المولد من الحضارة اليونانية التي ازدهرت دراستها على ذاك العهد في ألمانيا وانشأت تعلم تعليماً من مجملات العلوم كعلم اللغات والتاريخ والرياضيات والعلوم الطبيعية. ثم نزعت يدها من يد الكنيسة بتحريص بستالوزي وأخذت تلقي في نفوس التلاميذ الاعتماد على النفس وحب العمل وتبث فيهم بحسب مطالب اللاهوت الأدبي الذي قال به (كانت) الفيلسوف القول بحب الذات او بالشخصية الحرة المستقلة.
ولئن كان التعليم العام نحو منتصف القرن الثامن عشر قد بقي على صبغته الدينية ولاسيما في البلاد التي تنتشر فيها الكثلكة فإن المدرسة الابتدائية في القرن التاسع عشر أصبحت على التدريج مدرسة وطنية تشرب فيها قلوب الشبأن محبة للوطن كانها دين ثان. كل ذلك بفضل العناية التي صرفت لتعليم اللغة الألمانية وتاريخ ألمانيا.
ولا يزال الكنيسة إلى اليوم تأثير مهم في ألمانيا ولاسيما في دائرة التعليم الابتدائي.
وقد ظلت المدرسة على الجملة تقر بالإيمان وتعترف به ومازالت تعلم تعليماً دينياً اعتقادياً.
ومن العجب أن ترى ثمت مدارس كاثوليكية اوبرتستانتية او إصلاحية تعلم تحت حماية الحكومة حقائق دينية بادية التناقض وهي خاضعة في كثير من الأحوال للتفتيش الكنائسي. وقد ثبت أن الاصوات ما برحت تعلو بالشكوى من هذه الحالة فيشتكي المخالفون من الزام أولادهم بتعليم مناف لإيمانهم او لمعتقدهم العلمي.(22/39)
حتى انك لترى في المعلمين كثير يقيمون الحجة على الاكراه في تعليم الدين بحسب قانون لا ينطبق على معتقداتهم الدينية الخاصة. وهناك حزب عظيم من القوم يطالب على الدوام بالاستكثار من المعاهد التي تقبل التلاميذ من كل المذاهب.
والظاهر أن ألمانيا لاتنوي الان نزع النصرانية من المدرسة حتى أن أرباب الأفكار الحرة وهم بعيدون عن كل معتقد لا يرون بان نزع الصبغة الدينية من التعليم في ألمانيا هو من الممكن او مما يرغب فيه وهم معتقدون بانه متى أصبحت المدرسة (كافرة) لا دين لها يحول قسم وافر من سكان البلاد ولاسيما من الكاثوليك وجوههم عن المدارس العامة وينظمون لأبنائهم مدارس خاصة يتلقى فيها الأبطال التعليم الديني الذي يراه ذووهم ضرورياً لهم. على أن جمهور كبير من الألمان لا يرون (المدرسة الحرة) على الطريقة الفرنسوية من الانموذجات التي تحتذي والأمثلة التي ينسج عنها.
يرى المسيو بولسان وهو من مشاهير المؤرخين في علم التربية ومن أرباب التأثير أن فرنسا الكاثوليكية إن رأت اضطرارها إلى تأسيس مدرسة عامية حرة لتكون متشبعة بالروح الوطنية فإن هذه الضرورة لم توجد لحسن الطالع عند الألمان لأنهم اعتادوا مجاراة للنشوء الديني أن يوفقوا بين العلم والدين والمعرفة والإيمان ولهم من التوراة اداة لا مثيل لها من التربية الأدبية لا تغني عنها أجمل الشذرات المنتخبة من كتب الآداب العامة. إذا فلا مانع الأساتذة من احتفاظهم بالتعليم الديني والتوارة وإن يعدوا عقول النابتة الألمانية لتعليمها مبادئ النصرانية التاريخية مشذبة من صبغتها الدينية مقتصراً على مافيها من لباب الآداب. اما أنا فلا اعجب مما يذهب إليه العالم المشار إليه من هذا التوفيق إذا كان هوالمقبول بين أهل الطبقة الوسطى في البلاد أكثر من المذهب المتطرف الذي ينبذ من المدرسة كل تعليم ديني.
فالتعليم العام على هذا الوجه بتحرر من قيوده كما أنه يكون أكثر انصباغاً بالصبغة الديمقراطية.
ولقد كان التعليم في ألمانيا بادئ بدء مقصوراً على طائفة خاصة من الناس ثم صار تعليماً اكليريكياً في القرون الوسطى ثم عالياً وارستقراطياً على عهد النهضة (سنة 1453) إلى القرن الثامن عشر ثم أصبح مدنياً بامتتزاجه بفلفسة إنكار الوحي والانصياع بصبغة(22/40)
الحضارة اليونانية فساغ بذلك لأهل الطبقة المتحضرة. ومن الألمان أن يرأسوا الحركة العقلية. وفي القرن التاسع عشر اقتربت ألمانيا شيئاً مما كانت ترمي إليه من التهذيب الوطني الذي نادى به فيختي فيخطبه للامة الألمانية.
زالت الحواجز التي كانت تحول دون اصناف التعليم ولم تبق اللغة اللاتينة لغة إجبارية لكل من أراد التهذيب العالي. وانتزع من المدرسة المدنية على التدريج ما كان لها سابقاً من صبغة مدرسة لاتينية وكان من النجاح الذي تم للمدارس الابتدائية او قرب بينها وبين المدارس الثانوية وإن قلت على التوالي مسافة الخلاف بين الأساتذة الذين تخرجوا في المدارس الدينية وبين الأساتذة الذين تلقوا التعليم العلمي لاسيما وأن التعليم على اختلاف درجاته أصبح يلبس ثوب العمل والحقائق. وكان تعليم الطبقات العالية في المجتمع الألماني في أواخر القرن الثامن عشر عبارة عن تحسين الذوق والأدب فخلف هذا التعليم في أوائل القرن التاسع عشر التعليم الأدبي. وقد رأينا النشوء نحو الفلسفة الحسية الذي تم بين الطبقات المستنيرة وكان من أمر هذا النشوء بالطبع رد فعل في معاهد التعليم فغدا التعليم على اختلاف درجاته أكثر تشبعاً بالروح الأدبية أو الفلسفية وأقل تمسكاً بالنظريات. وقامت بجانب المدرسة الأدبية مدارس احدث من مدارس الفلسفة الحقيقية والحسية وزادت العناية بتعليم العلوم واللغات الحية فكانت وافية بحاجات أهل المدن الصناعية أو التجارية ونشأت بالقرب من الكليات في كل مكان مجامع علمية ما زالت على ارتقاء ونماء. وهكذا أخذ يتداعى الحاجزالقديم الذي كان قائماً بين المتعلم في القديم العلوم الأدبية واللغوية والأمي الذي لم يكن وأحداً للكل بل يحق لكل فرد أن يأخذ منه بقدر ما تسمح له قواه الطبيعية والعقلية محل التهذيب الأدبي واللغوي الخاص بعلية القوم وأهل الطبقة المستنيرة منهم.
وعلى الجملة فقد عملت ألمانيا في خلال القرن الماضي بهمة لم تعرف الوناء في سبيل نشر العلم بين جميع أبنائها والاشك أن حماستها في ميدان المدارس اختلفت صعوداً وهبوطاً في تلك الحقبة من الزمن. فكانت شديدة للغاية في خلال الثلث الأول من القرن الذي وضعت فيه أسس تنظيم التعليم العام من المدرسة الابتدائية إلى الكليات ثم بردت في خلال الثلث الثاني من نالقرن خاصة فكانت حكومات ألمانيا على عهد الثورة بين سنتي 1830و 1870 يحذرون بل يعادين التعليم العام ولكنه عادت إليه حياته غداة الغلبة التي(22/41)
كتبت لبريوسيا وتوطيد كلمة الأمبراطورية.
وقد جرى بين الناس جرى المثل بأن المعلم الألماني كان هو الظافر الحقيقي في معركتي سادوفا وسيدان وأن الغلبة ألمانيا اتتها في الحقيقة من سر تقدمها في مضمار العلم والتهذيب. لا جرم أنه بدرت اليوم بوادر الشك في فضيلة تأثير حالة تشبه الحالة التي دفعت أرباب الأفكار عندنا (الفرنسيون) ان يطالبوا باسقاط العلم وتفليسه فأثبتوا والسويداء متغلبة على عقولهم بأن العلم الذي يرجى أن يكون منه كشف اسرار ما في الكون وأن يأخذ بايدي الأخذين من معينة فيقودهم إلى وجهة عامة ويسوق أرادتهم سوقاً لم يؤد قط إلى حقائق قطعية مطلقة. بلى كان من منافعه أن حل بعض المعضلات حلاً قليلاً موقتاً لا يزال على الدهر موضع النظر والتنقيح. وكثير في الناس من شعروا دفعة واحدة بان قد انتهكت قوأهم بما يقضى عليهم تعلمه من المعارف الكثيرة التي تؤهلهم إلى الأحاطة بعض الشيء في دائرة من دوائر العلم ولذلك يئسوا او كادوا من هذه الحالة التي توشك أن تكون مستديمة لهذا النشوء الذي لا حد له وتستلزمه دواعي العلم. وربما ظهر اليوم ما كان يخالج افئدة الطبقة الخاصة وبعض أهل الطبقة الوسطى من سوء الظن لتستقبل الذي استحكم منها حوالي منتصف القرن. وتتساءل الحكومة فيما إذا كانت لم تسرف في بث التعليم بين طبقات الأمة وفيما إذا لم يكن التعليم نقمة لا نعمة على قسم عظيم من الأمة وفيما إذا كان لا تتعذر أرادة شؤون امة نالت من التعليم شطره او نصفه. وقد ساعد القلق الذي سببه النجاح الاشتراكية على نشر هذه الشكوك بين أناس كانوا منذ عهد غير بعيد مقاومين كل المقاومة بل مقتنعين كل الاقتناع بانه من الفروض العينية على الحكومة أن تبذل العلم وتنشره بين جميع رعاياها.
وقد ظل الرأي المعتدل موقناً على الجملة كما قال المسيو بولسان بانه لا تحرز المكانة العليا في الجهاد العام نحو التفوق والسلطة الا الأمم التي تحسن أن تضمن لفتيانها تعليماً متيناً وتهذيباًَ راسخاً بما تنظمه من المدارس المتقنة وما تكونه من البيوت الناحجة من حيث شؤونها الاقتصادية والسالمة من شوائب المفاسد الأخلاقية.
ويرى العارفون أن تأويل الارتقاء الذي قامت به ألمانيا أتى من اسرع الألمان قبل جميع الأمم في وضع التعليم الإجباري قبل غيرهم ومن عنايتها بتخريج أساتذة عارفين ما امكن(22/42)
في جميع فروع التعليم.
ويستنتجون من ذلك بان جهل السواد الأعظم من الأمة لا يتأتى أن يكون البتة ضماناً لراحة مملكة وبقائها وأن الطاهر من مصلحة الحكومة الملوكية انها تطلب تفإني الحكومة في نشر التعليم وأن المستقبل مضمون للأمم التي تحسن أكثر من غيرها حل مشكلة التعليم الوطني.(22/43)
صحف منسية
وصف عاصمة الأندلس
قال لسأن الدين بن الخطيب في (كتاب الأحاطة في أخبار غرناطة) عند ما ألم باسم هذه المدينة ووضعها ووصفها الجغرافي ما نصه: وبردها لذلك من المنقب الشتوي شديد وتجمد بسببه الادهان والمائعات ويتراكم بساحاتها الثلج في بعض السنين فجسوم أهلها بصحة الهواء صلبة وسحناتهم خشنهة وهضومهم قوية ونفوسهم لمكان الحر الغريزي جريئة وهي دار منعة وكرسي ملك ومقام حصانة. وكان ابن غانية يقول للمرابطين في مرموته وقد عول عليها للامتساك بدعوتهم (الأندلس درقة وغرناطة قبضتها فإذا تجشمتم يا معشر المرابطين القبضة لم تخرج الدرقة من ايديكم)
ومن ابدع ما قيل في الاعتذار عن شدة بردها مما هو غريب في معناه قول القاضي أبي بكر بن شبرين
رعى الله من غرناطة متبوا ... يسر كئيباً او يجير طريدا
تبرم منها صاحبي عند ما رأى ... مسارحها بالبرد عدن جليدا
هي الثغر صأن الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون برودا
وقال الرازي عند ذكر كورة البيرة: أن ارضها سقي غزيرة الأنهار كثيرة الثمار ملتفة الأشجار وأكثرها ادواح الجوز ويحسن فيها قصب السكر ولها معادن جوهرية من ذهب وفضة ورصاص وحديد وكورة البيرة أشرف الكور نزلها جند دمشق. . . وفحصها لا يشبه بشيء من بقاع الأرض طيباً ولا شرفاً الا بالغوطة غوطة دمشقز وقال بعض المؤرخين بعد أن عدد نباتاتها ومعادنها: وكفى بالحرير الذي فضلت به فجراً وقنية وغلة شريفة وفائدة عظيمة تمتاز منها البلاد وتجلبة الرفاق فضيلة لا يشاركه فيها الا بالبلاد العراقية وفحصها الافيح المشبه بالغوطة الدمشقية حديث الركاب وسمر الليالي قد دحاه الله في بسيط سهل تخترقه المذانب (مسيل الماء إلى الأرض) وتتخلله الأنهار والجدأول وتتزاحم فيه الغرف والجناحات في ذرع أربعين تنبو العين فيها عن وجهه. . .
وبعد أن فصل المؤلف كتابه إلى فصول كثيرة وأتى على ذكر ما آل إليه حال من ساكن المسلمين بغرناطة من النصاري وما ينسب لهذه الكورة من الاقاليم التي نزلها العرب وما(22/44)
اشتمل عليه خارج المدينة من القرى والجنات والجهات قال في احضاء بيوتها: وتذهب هذه الغروس المغروسة قبلة ثم يفيض تيارها إلى غرب المدينة وقد كثرت بها الجبال الشاهقة والسفوح العريضة والبطون الممتدة والاغوار الخائفة مكللة بالأعناب غاصة بالادواح متزاحمة بالبيوت والابراج بلغ إلى هذا العهد عدها في ديوان الحرص إلى ما يناهز أربعة عشر الفا نقلت ذلك من خط من يشار إليه في هذه الوضيعة. وقال في فصل آخر: ويحيط بما خلف السور من المباني والجنات في سهل المدينة العقار الثمن العظيم الفائدة المتعاقب الغلة الذي لا يعزفه الحمام ولا يفارق الزرع من الأرض البيضاء ينتهي ثمن المرجع منها إلى خمسة وعشرين ديناراً من الذهب العين لهذا العهد فيه مستخلص السلطان مايضيق عنه نطاق القيمة ذرعاً وغبطة وانتطاماً يرجع إلى دور ناجمة وبروج سامية وبيادر فسيحة ومصاب للحمائم والدواجن ماثلة منها في طوق البلد وحمى سورها جملة. . . إلى أن يقول بعد ذكر القرى والدساكر: أن أكثر هذه القرى امصار فيها ما يناهز خمسين خطبة تنصب فيها لله المنابر وترفع الايدي وتتوجه الوجوه. وجملة المراجع العلية المرتفعة فيها في الأزمنة في العام بتقريب ومعظمها السقيا الغبيط (اغبط النبات غطى الأرض وكثف وتدانى كانه من حبة واحدة) السمين الغالي ما ينيف على اثنين وستين الفا وينضاف إلى ذلك مراجع الأملاك السلطانية ومواضع احباس المساجد وسبل الخير ما ينيف على ما ذكر فيكون المجموع باحتياط خمسمائة الف وستين الفا والمستفاد فيها من الطعام المختلف المجلوب للجانب السلطاني ثلاثمائة الف قدح ويزيد ويشتمل سوادها وما وراءه من الارحاء الطاحنة بالماء ما ينيف على مائة وثلاثين رحى الحقها جناح الأمنة ولا قطع عنها مادة الرحمة بفضله وكرمه.
وقال في وصف أخلاق أهل ذاك القطر وعاداتهم وملابسهم: فتبصرهم في المساجد أيام الجمع كانهم الازهار المفتتحة في البطاح الكريمة تحت الاهوية المعتدلة. وذكر أصولهم وانسابهم وجندهم واسلحتهم ثم قال: وأعيادهم حسنة مائلة إلى الاقتصاد والغنى بمدينتهم فاش حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيراً من الأحداث كالخفافين ومثلهم واشار إلى طعامهم وفواكههم وصرفهم (سكتهم) فقال ما نصه: وعادة أهل هذه المدينة الانتقال إلى حلل العصير اوإن إدراكه بما تشتمل عليه دورهم والبروز إلى الفحوص بأولادهم وعيالهم(22/45)
معولين في ذلك على شهامتهم واسلحتهم على اكتاد دوابهم واتصال امصارهم بحدود ارضه. وحليهم في القلائد والدمالج والشنوف والخلاخل الذهب الخالص إلى هذا العهد في اوالي الجدة واللجين في كثير من آلة الرجلين فيمن عدأهم والأحجار النفسية من الياقوت والزبرجد والزمرد ونفيس جوهر كثير ممن ترتفع طبقاتهم المستندة إلى ظل دولة او اصالة معروفة موقرة.
وحريمهم حريم جميل موصوف بالحسن وتنعم الجسوم واسترسال الشعور ونقاء الثغور وطيب النشر وخفة الحركات ونبل الكلام وحسن المجاورة إلا أن الطول يندر فيهن وقد يبلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد والمظاهرة بين المصبغات والتنافس بالذهبيات والذيباجيات والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر ويكف كف الغدر ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة وأن يعامل جميع من بها بستره ولا يسلبهم خفي لطفه بعزته وقدرته.
وصف لسأن الدين امة ملك قشتالة فقال: وحال هذه الأمة غريبة في الحماية الممزوجة بالوفاء والرقة والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمية عادة العرب الأول وأخبارهم في القتال غريبة من الاسترجال والزحف على الاقدام أميرهم ومأمورهم والجثو في الأرض أو الدفن في التراب والاستظهار في حال المحاربة بعض الالحان المهيجة ورماتهم قسيهم عربية جافية وكلهم في دروع ولا لجام عندهم والتقهقر مقدار الشبر ذنب عظيم وعار شنيع ورماتهم يسبقون الخيل في الطراد وحالهم في باب التحلي بالجواهر وكثرة آلات الفضة غريب.(22/46)
مطبوعات ومخطوطات
الأحاطة في أخبار غرناطة
قل في كتب الأدب والتاريخ ما ينتفع به مطالعه في أمور كثيرة بقلة الجيد منها وذلك لأن المصنفات كالبضائع فيها الجيد وفيها الرديء والمصنفين اصناف فقسم يؤلف وقد تمت ادواته وتشبع بما يود الحوض فيه فلا يكتب الا الثمين النافع وقسم بين ذلك وقسم يخلط ويخبط لاهوى له إلا في ذكر اسمه وحشر نفسه في عداد المصنفين. وصاحب كتاب الأحاطة في أخبار غرناطة هو من أهل الصنف الأول ما كتب كتأبا الا عن فكر وروية وناهيك بما يصدر من نفثات ابن الخطيب حسنة الأندلس ونابغة عصره بل كثير من العصور قبله وبعده. وفقت شركة طبع الكتب العربية بمصر إلى نشر الجزئين الأولين من هذا الكتاب واوفقت طبع الثالث لكثرة التجريف الذي وجدته فيه بحيث يتعذر على القارئ كشف وجه الحقيقةمنه.
ولئن وقع في هذين الجزئين اغلاط وتحريفات التبس بها الحق بالباطل وكأنت العناية تقضي استثبات صحتها وإرجاعها إلى نصابها لو امكن فإن هذا التهاون يغتفر في جانب تلك الذخيرة التي نبشوها ونشروها وهي ولا جرم من بعض ما يعمر به بناء الشعر والنثر ولسأن الدين حجة فيهما قاطعة.
وأن لنا ريبة في كون هاته المجلدات الثلاث هي كل ماكتبه المؤلف في رجال عاصمته وعبارة صاحب نفح الطيب تساعد على هذا الشك. قال: ان كتاب الأحاطة هن الطائر الصيت بالمشرق والمغرب والمشارقة أشد إعجاباً به من المغاربة او أكثر بهجاً بذكره مع قلته في هذه البلاد المشرقية وقد اعتنى باختصاره الأديب الشهير البدر البشتكي وسماه مركز الأحاطة في أدباء غرناطة وهو في مجلدين سنة 793 وقد جعل كل أربعة أجزاء من الأصل في مجلد اذ هو في مجلدين ونسخة الأصل في ثمان مجلدات. وقف سلطأن الأندلس نسخة منه على بعض مدارس غرناطة وكانت في اثني عشر سفراً متقنة الخط والعمل وكان لسأن الدين ارسل في حياته نسخة من الأحاطة إلى مصر وقفها على أهل العلم وجعل مقرها بخانقاه سعيد السعداء قال المقري وقد رأيت المجلد الرابع منها وكان في ثمانية أجزاء ورأيت بظهر أول ورقة من هذه النسخة خطوط جماعة من العلماء وعلمت أن(22/47)
المكتوب في الوقفية ثمان مجلدات لا اثني عشر فلعل ذلك الاختلاف بسبب الكبر والصغر.
قلت وهذه العبارة كتبت بعد الالف. وكيفما كانت حال الكتاب كبراً وصغراً فقد اخرج إلى عالم المطبوعات نموذجات من نثر لسان الدين وشعره ونثر جماعة من أصحابه وشعرهم. ابتدأ الجزء الأول بوصف جغرافية الأندلس الطبيعية والسياسية والاسيما عاصمتها بحيث يتراءى لك متى قرأته أن الكابت عصري نشأ في حجر حضارة هذا القرن.
للسأن الدين نمط خاص به في الإنشاء وتعبيرات لا تجدها لغيره من كتاب المغرب المشرق تتمثل في كلامه روحاً عالية ولفظاً شفافاً ومعنى جزلاً.
وما كان نسقه ليرضى كل الرضى لو لم يكن يغوص على بدائع المعاني التي يميلها عليه اشمئزازه من محيطه وتقززه من خدمة دولته حتى كان يدعو أن يلطف الله بمن اتبلى بذلك وأن يخلصه خلاصاً جميلاً. وكيف لا تدفعه حميته إلى القول وقد استولى العدو في أيامه على معظم قواعد الأندلس مثل إشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان والمرية ولسأن الدين يستصرخ وزعماء السلطة في لهوهم وغرورهم مسترسلون. ولئن خاطبهم (دون الجهر من القول لمكان التقية) فما تجار ممن يرميه بالزندقة ايضا في كتابه هذا لأن لسأن الدين املاه بلسان الانصاف والانطلاق فعز على نظرائه خروجه عن مألوف العادة في ذكر تراجم الناس حتى يخيل اليك انهم كلهم كأسنأن المشط في الاستواء.
تقرأ الترجمة في الأحاطة وهو في تراجم الرجال الذين نشأوا فيها او مروا بها وبعبارة أخرى هو تاريخ الأندلس ورجالها فيتجلى لك المترجم به كانك تراه وما اظن أن كتاب التراجم من الإفرنج اليوم باقدر على وصف رجالهم من صاحبنا لسأن الدين ولا عجب فهو اوروبي ايضا غدي تلك التربة المسكية والهواء الصافي والماء العذب وللبقاع تأثير في الطباع وما المرء الا نسخة ثانية من محيطه وبيته.
ولم يقتصر المؤلف كتابه على ذكر الملوك والرؤساء والفقهاء وأهل الطرق كما هي عادة معظم المؤرخين بل ذكر كثيراً ممن غلبت عليهم المعارف الدنيوية مثل أبي القاسم اصبغ بن محمد (426) احد مفاخر الأندلس قال وكان محققاً لعلم العدد والهندسة مقدماً في علم الهيئة والفلك والنجوم وكانت له مع ذلك عناية بالطب وذكر تآليفه على عادته في اثبات حسنات المترجمين وسيئاتهم. ومثل أبي على الصعلعل حسن بن محمد رئيس الموقتين(22/48)
بالمسجد الأعظم من غرناطة (716) وكان فقيهاً أماماً في علم الحساب الهيئة أخذ عنه الجلة والنبهاء قائماً على الاطلال والرخائم والالات الشعاعية ماهراً في التعديل مع التزام السنة والوقوف عند حد العلماء في ذلك مداوم النظر ذا استنباطات ومستدراكات وتواليف نسيج وحده ورجعه وقته. ومثل أبي جعفر احمد بن الحسن بن باضة السلمي الموقت بالمسجد الأعظم بغرناطة قال وكان نسيج وحده وقريع دهره معرفة بالهيئة وأحكاماً للآلة الفلكية ينحت منها بيده ذخائر يقف عندها النظير والحبرة جمال خط واستواء صنعة وصحة وضع بلغ في ذلك درجة عالية ونال غاية بعيدة حتى فضل بما ينسب إليه من ذلك كثيراً من الاعلام المتقدمين وازرت آلة بالحمائريات والصفاريات وغيرها من آلات المحكمين وتغإلى الناس في يأثمانها أخذ ذلك عن والده الشيخ المتفنن شيخ الجماعة في هذا الفن. ومثل أبي العباس احمد ابن مفرج الأموي النباتي المشهور ومن ضارعهم في علمهم من الأطباء والفلاسفة والحكماء والكيماويين ممن لا يعدهم أكثر المؤرخين في صنف العلماء.
وذكر شهيرات النساء في عصره مثل نزهون بنت القلاعي وام الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطبحالي وحمدة بنت زياد المكتبي وحفصة بنت الركوني وغيرهن من نالأديبات وتجوز في إيراد بعض مجالسهن مع أدباء الأندلس وما كان في ذلك بأس في عصره. والكلام على الجزء الثاني لا يخرج عن حد الكلام على الجزء الأول وإن كان في الثاني يطول في بعض التراجم كأطالته في ترجمة أبي عبيد الله محمد القرشي التلمساني فإنه كتب تسعاً وعشرين صفحة بين شيوخه ونثره ونظمه ونكته مما اخرجه عن الصدد وكذلك ترجمة ابن زمرك احد اعيان أدباء الأندلس كتب فيه عشرين صفحة وقيل أن ابن زمرك كان يعد من جملة الساعين بنكبة ابن الخطيب. وقد يحمل المؤلف الحنق فيطلق عنان القلم في ترجمة الكبراء أيضاً كنا وصف اسماعيل بن يوسف بن اسماعيل بن فرج بن نصر السلطان الذي احتال على اخيه المتوثب على ملكه ومثل ما ترجم به محمد بن اسماعيل بن محمد بن فرج بن اسماعيل بن نصر الرئيس المتوثب على الملك على كرسيه الأمارة ووزراء دولته وكاتب سره وشيخ الغزاة على عهده. وقد عثرت فيه على ألفاظ ما كان يخيل لي أن الأندلسيين سبقونا إلى استعماله مثل طومارة للبطاقة وفي القاموس الطأمور(22/49)
والطوأما الصحيفة ج طوأمير. ولفظه الممطر لما يعرفه الفرنسيس بالباردسو ذاك الرداء الطويل. واستعمل لفظة عائلة التي أنكرها احد علماء اللغة المعاصرين فقال في ترجمة احدهم: عظيم الهشة مبذول البشر عظيم المشاركة قديم العائلة. ووردت لفظة يخت في الشعر الأندلس وكنا نظنها من قبل إنكليزية ففي قصيدة لمحمد بن جزي الكلبي:
نعم لست ارضى عن زماني اوأرى ... مكاناً به السفن المواخر واليخت
الزجل وتاريخ الدول
للسأن الدين الخطيب كتاب سماه رقم الحلل في نظم الدول طبع في تونس نظم فيه ملوك المسلمين من لدن صاحب الرسالة (ص) إلى القرن الثامن كل دولة على حدتها نظماً رائعاًٍ ليس فيه للتكليف شائبة وعلق على كل دولة شرحاً لطيفاً ضمنه ما ساعد عليه الاختصار من أخبار الملوك وأحوال اممهم ووزارائهم. وفي هذا المختصر من الحقائق مالا يكاد يوجد إلا في المطولات وخصوصاً في أخبار دول المغرب كبين الاغلب وملوك الشيعة من العبيد بين بأفريقية ومصر وبني امية بالأندلس وملوك الطائف فيها ودولة المرابطين من لمتونه أهل اللثام والموحدين ودولة بني أبي حفص بأفريقية وبني زيان بتلمسان وبني مرين وبني نصر وهاك نموذجاً منه في وصف ملك المأمون
وهو المليك العالم الحليم ... ساعده السعد بما يروم
من بعد ما كابد أمر عمه ... وفرج الله من غمه
فقر المأمون ملك الأمة ... بعد اضطراب دائم وغمه
واشرق السعد على الخلافة ... وانسدل الا من بلا مخافة
وكان حبراً عالماً حكيماً ... عدلاً تقياً حازماً حليماً
وثار إبرأهيمنجل المهدي ... وناله قسراً بغير عهد
فأثر العفو واغضى عن دمه ... منقبة شاهدة بكرمه
ومات في غزواته المعلومة ... كانت بها أعماله مختومة
معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار
هي رسالة طبعت حديثاً في فاس بمطبعة الدكتور احمد يمني أفندي لسانها لمؤلفها لسان الدين بن الخطيب جاءت في 54 صفحة في أحمل حرف واجود ورق ولم تنقصها الا(22/50)
العناية بالتصحيح. وصف فيها المؤلف على طريقة السجع المنمق معظم بلاد المغرب والأندلس وصف متقيد بالسجع على طريقة السؤال والجواب فذكر جبل الفتح واسطبونه ومربلة وسهيل ومالقة وبلش وغمارش والمنقب وشلوبانة وبرجة ودلاية والمرية وبطرنش وبيرة ومحاقر وقتورية وبرشانة واوربة وبلش وبسطة واشكر واندرش وشبالش ومدينة وادي آش وفتيانة والحمة وصالحة وانيرة ومنتفريد ولوشة وارجلانة والنتقيرة ودكوان وقرطمة ورندة وسبتة وطنجة وقصر كتامة واصيلا وسلا وآنفا وآزمور وتيط ورباط اسفي مراكش واغماه ومكناسة وفاساً ومدينة الملك وأمر سلوين وتازا وغساسة
فما قاله في وصف فاس: هي الحشر الأول والقطب الذي عليه المعول والكتاب الذي لا يتأول بل المدارك والمدارس والمشايخ والفهارس وديوان الراجل والفارس والباب الجامع من موطأ المرأفق ولواء الملك الخأفق وتنور الماء الدأفق ومحشر المؤمن والمنأفق وسوق الكاسد والنأفق حيث البنى التي نظر إليها عطارد فاستجفاها وخاف عليها الوجود أن يصيبها بعينه الحسود فسترها بالغور واخفاها والأسواق التي ثمرات كل شيء إليها قد جبيت والموارد التي اختصت وحببت المنارة المخطوبة وصفاح الخلج المشطوبة والغدر التي منها ابو طوبة
بلد اعارته الحمامة طوقها ... وكساها ريش جناحها الطاوس
فكانما الأنهار فيه مدامة ... وكان ساحات الديار كؤوس
اجتمع بها ما أولده سام وحام. وعظم الالتئام والالتحام. فلا يعدم في مساكنها زحام فأحجارها طاحنة. ومخابزها شاحنة. والسنتها باللغات المختلفة لاحنة. ومكاتبها هائجة ورحابها متهائجة واوقافها جارية والهمم فيها إلى الحسنات واضدادها متبارية.
وقال في آنفا وهي التي سماها إلبرتغاليون في القرن السادس عشر الدار البيضاء: جون الحط والأقلاع ومجلب السلاع تهوي إليها السفن شارغة وتبتدرها مسارعة تصارف برها الذهب بالذهب الابريز وتراوح برها وتغاديه بالتبريز.
تسقط الطير حيث يلتقط الح ... ب وتغشى منازل الكرماء
وخارجها يفضل كل خارجة. وقانصها يجمع بين طائر ودارج. وفواكها طيبة. وامطارها عصيرها صيبة. وكيلها وافر. وسعرها عن وجه الرخاء سافر. وحبرتها لا تنقطع لها خف(22/51)
ولا حافر. ولكن هواؤها وماؤها عديما الصحة. والعرب عليها في الفتن ملحة. والأمراض بها تعبث وتعبث. والخزي بها لايلبث.
صفوة العرفإن في تفسير القرآن
اهدانا محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة نسخة من مقدمة تفسيره هذا أتى فيها على موجز من فلسفة الأديان وادوار الإنسأن في الاستسلام للعقيدة أو التردد فيها وعلاقة ذلك بالجهل والعلم ولحضارة والبداوة وذكر فصولاً في الوحي والنبوات وخوارق العادات والشؤون الروحية وتاريخ القرآن من حيث وحيه وجمعه وترتيبه وناسخة ومنسوخة وتعدد قراآنة كل ذلك بعبارة سهلة تدل على فضل المؤلف وقد استشهد بآراء علماء المشرقيات في الكتاب العزيز وأهل الإسلام فزادت بذلك فائدة هذه المقدمة التي وقعت في 181 صفحة كبيرة فنهنئة على نشاطه الذي يرينا كل حين أثرا من أثاره. ومما عربه عن المسيو جول لابوم في مقدمته فهرسته الذي جمع فيه الآيات المتشابهات قوله في حالة العالم قبل البعثة النبوية (كان جو العالم في حوالي ميلاد محمد (ص) في القرن السادس الميلادي متلبداً بغيوم الاضطربات والفتن فكان شعب الوزير يغو آلاريون في اسبانيا وفرنسا الجنوبية يصادقون الملك كلوفيس وأولاده الكاثوليكيين فكانوا من أجل ذلك يطلبون مساعدة امبرطور مملكة الرومأن الشرقية المدعو جوتسنيانس ثم اضطروا إلى الدخول معه في حروب جديدة تخلصاًمن سلطة القواد الذين جاؤوهم تلك المساعة فقد كانوا يزعمون أن لهم حق الفاتحين لا ولاء المحامين
اما في فرنسا نفسها فكان أولاد كلوفيس هذا متغادرين متقاتلين وكأنت الحروب التي شبت نيرانها بين الملكة الوزيغوتية برونهو والملكة الفرنكية فيريد يجوند تهيء للتاريخ أشد الصحائف أثارة للاسى والكمد. وكان الانجلو في إنكلترا ينازعون السكسونين الأرض التي احتلوها واستعبدوا فيها ذرية كيمريس وهم اقدم المغيرين على تلك الجزيرة التي تتطلع اليوم للوقوف في مقدمة الأمم علماً وصناعة وقوة وهي التي كانت في ذلك الوقت مجالاً للقوة الوحشية السائدة في تلك الغياهب الحالكة.
(اما في إيطاليا فكان اسم الرومان وهو ذلك الاسم الشامخ قد فقد موقعه القديم وكانت رومية وهي الشظية الأخيرة او رأس ذلك التمثال الكبير المتهشم (يعني مملكة الرومان) في حالة(22/52)
تمللها من استحالة أمرها إلى مركز ديني بسيط ترتج وتضطرب كلما الم بها طائف من ذكرى عظمتها القديمة أيام كانت مركزأً دينياً أصلياً فكانت تهيء نفسها لان تكون مركز البابوية وهي تلك السلطة الزمنية كما اقتضت سياسة شارلمان أن يجعلها كذلك بعد قرنين من الزمان ولكنها مع ذلك لم يسعها حمل نير الهيروليين والاستروغوتيين وامبراطورية المملكة الرومانية واللومبارديين الذين تدأولوا السلطة عليها تدأولاً.
(اما مملكة اليونأن التي كانت قد نسيت مجدها القديم فكانت تابعة لمملكة الرومأن الشرقية مثلها منها كمثل الزينة ذات الضوضاء. وكان شرق أوروبا مقلقاً جنوبها من أول مصب نهر الرون من جهة الغرب إلى مصب نهر الطونة (الدانوب) من جهة الشرق فكان الأسكندينافيون والنروجيون والدانيماركيون يتزاحمون في الطريق الذي كان سلكه الغوط والهونيون الذين احتلوا تراسيا ومكدونية ولمبارديا وإيطاليا بالقوة او بالخديعة. في ذلك الوقت بدأ ظهور الاتراك من اعماق آسيا الصغرى وهي تلك الأمة التي قصرت فيما بعد مملكة اليونان على اسوار القسطنطينية.
(التصوير البديع الذي جادت به قريحة المسيورينأن لبيان مركز الأمبراطورية الرومانية في القرن الأول من التاريخ المسيحي لا علاقة له البته بالتصوير الممكن عمله لتجلية حال أوروبا في القرن السادس: تلك كانت مفاسد قيصيرية مختمرة اما هذه الوحشية حربية تلعب بالارواح وتتمرغ في الاوحال.
(اما آسيا فلم تكن اهدأ بالاًً من أوروبا في شيء: فمملكة التبت والهند التي اقتبست منها الأمم السائدة في أوروبا الآن قرائحها وأفكارها العامة ولغاتها. والصين التي بعد مسألتها اغرب المسائل السياسة والفلسفية وبالجملة اغرب المسائل الاجتماعية كانت كلها ممزقة الاحشاء بالحروب الداخلية والخارجية المتضاعفة بالمنازعات الدينية.
(أما السفح الشمالي من الهضبة الآسياوية العالية التي هي في حوزة روسيا الأن فكانت غير معروفة على الاطلاق واما مملكة الفرس التي كانت أحوالها مرتبطة بأحوال الغرب خصوصاً من لدن حملة الأسكندر المقدوني فكانت مشتبكة في حرب مع اليونأن الرومانيون في القسطنطينية الذين كانوا أصحاب السلطة على آسيا الغربية. واما في أفريقيا فكان هؤلاء اليونأن الرومانيون انفسهم وهم اخلاط من عساكر وتجار وحكام(22/53)
مجموعين من آفاق مختلفة - دائبين امتصاص دم القطر المصري وعاملين على جعل مصر العلمية ذات المجد القديم كالجثة المصبرة لا حركة فيها ولا حس وكان هذا شأنهم في الاقاليم الخصبة يومئذ في الجهات الشمالية من أفريقيا التي انتزعوها من ايدي الفنداليين.
كتاب الحيوان
لا مجال هنا للكلام على هذا الكتاب الجليل الذي احياه بالطبع محمد أفندي الساسي المغربي كما احيا كثيراً من كتب مؤلفه الجاحظ والمدونة للأمام مالك وغير ذلك بعد أن تكلمنا في المجد الأول في فضل الجاحظ ومزية كتبه بما لا نرى الأن في اعادته كبير أمر أما الأن فنزف البشري إلى عشاق العلم والأدب أن قد تم الجزء الخامس والسادس والسابع من كتاب الحيوان وبه تم هذا السفر البديع الذي لم ينسج كاتب على منواله ولا سمحت قريحة بمثاله فتمت بذلك فائدة جعبة علم وأدب بل خزانة كلها منافع حيثما قلبت طرفك منها تسقط على ما تقر به عينك وتشرح به صدرك وتحلي به عقلك وها نحن أولاء ننقل هنا للتسلية فائدة تأخذها بالعرض من ألوف الفوائد في اسماء لعب الاعراب قال الجاحظ: النقيرا وعظيم وضاح والخطوة والدارة والشحمة ولعبة الضب فالنقيرا أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى اسفله ثم يقول لصاحبه اشته في نفسك فيصيب ويخطئ. وعظيم وضاح أن تأخذ بالليل عظماً أبيض ثم يرمي به واحد من الفريقين فإن وجده واحد من الفريقين ركب أصحابه الفريق الآخر من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به. والخطوة أن يعلموا مخراقاَ ثم يرمي واحد منهم من خلفه إلى الفريق الآخر فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم فإن أخذوه ركبوهم.
والدارة هي التي يقال لها الخراج. والشحمة أن يمضي واحد من أحد الفريقين بغلام فيتنحون ناحية ثم يقلبون ويستقبلهم الآخرون فإن منعوا الغلام حتى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه ويدفع الغلام إليهم وإن هم لم يمنعوه ركبوهم وهذا يكون كله في الليالي الصيف عن غب ربيع مخصب. ولعبة الضب أن يصوروا الضب في الأرض ثم يحول واحد من الفريقين وجهه ثم يضع بعضهم يده على شيئ من الضب فيقول الذي يحول وجهه انف الضب او عين الضب او ذيب الضب او كذا وكذا من الض على الولاء فإن أخطأ ما وضع عليه يده ركب وركب أصحابه وإن أصاب حول وجهه الذي كان وضع(22/54)
يده على الضب ثم يصير هوالسائل.
تقرير اللورد كرومر
صدرت الترجمة العربية من تقرير معتمد إنكلترا في هذا القطر سابقاً عن الحالة المالية والادارة والحالة العامة في مصر وفي السودأن سنة 1906 مترجماً في ادارة المقطم ومطبوعاً في مطبعته وهذا آخر تقرير اللورد كرومر ضمنه حقائق كثيرة عن مصر والسودان وتكلم فيه كلام السياسي والاجتماعي الذي يخدم امته باللذات وغيرها بالعرض وجاء في 248 من قطع الثمن وبحرف كهذا الحرف. وقد سبق لنا نشر شيء منه عن حالة المعارف عند صدور النسخة الإفرنسية منذ بضعة أشهر وتقارير العميد السالف من خير الكتب الاجتماعيةى والاقتصادية في حياة مصر فهي حرية بأن لا تخلو منها مكتبة.
نخب لغوركي
سليم أفندي قبعين ممن اتقنوا اللغة الروسية وترجم بعض كتب لمشاهير كتابها منها كتاب حقوق المرأة في الإسلام وانجيل تولستوي ومذهب تولستوي وقد ترجم مقالات لمكسيم غوركي الكاتب الشاعر الاشتراكي الذي كان له أثر مهم في نهضة روسيا الأخيرة فاستفدنا منه الوقوف على اسلوب هذا الكاتب الذي رفعت امته قدره ورفع هو قدرها ومن لنا بعشرة ينقلون للعربية من الروسية والألمانية والايطالية ما يغنيها فإن من أعظم النقض في النهضة العلمية المصرية الحديثة أن لا يكون فيها تراجمه ينقلون الينا ما تمس إليه الحاجة من آداب تلك الأمم وأخلاقها وأثار عملهم لان ما يترامى الينا عن طريق الفرنسيس والإنكليز لا يساوي ما نأخذه عن تلك الأمم نفسها
تهذيب الشبيبة السورية
أخذنا التقرير السنوي الرابع لهذه الجمعية النبيلة المقصد وفيه خلاصة أعمالها من أول تموز سنة 1906 إلى مثله سنة 1907 فكان مجموع دخلها 19753 قرشاً ومجموع ما أنفقته 8035 قرشاً أنفقته على شبأن لا يستطيعون أن يتعملوا لضيق ذات يدهم وما زالت تنفق على بعض نابغة الذكاء. والقائمون بهذا العمل فئة من افاضل المتخرجين من المدرسة الكلية الأميركية جزأهم الله خيراً.
حديث البلبل(22/55)
هي محاورة أدبية خيالية وكلمات وعظية لمحمود أفندي رمزي وقعت في 48 صفحة صغيرة.
الأبيض والاسود
هي إحدى روايات فيكتور هوغو عربها لمسأمرات الشعب نقولا أفندي رزق الله بسلاسة تعريبة ونقله فنشرتها تتمة لسنتها الثالثة وقد اعلنت ادارة هذه المجلة القصصية الفريدة في بابها بانها ستصدر في سنتها الرابعة في 244 صفحة صغيرة مرتين في الشهر أي في 2880 صفحة في السنة وقد حسنت ورقها وطبعها وزادت قيمة اشتراكها إلى خمسين قرشا وهي همة تذكر لصاحبها خليل بك صادق الذي عرف ذوق الجمهور وخدمة بهذه الروايات الأدبية وقد صدر المعرب روايته بثلاث قصائد في وصف هوغو الأولى لاحمد بك شوقي والثانية لحافظ إبرأهيموالثالثة من نظمه وقد جاء في الأولى
ثأر الملوك وظل عند ابائه ... يرجو ويؤمل عفوه المئثور
واعار (وترلو) جلال يراعه ... فجلال ذاك السيف عنه قصير
يا ايها البحر الذي غمر الثرى ... ومن الثرى حفر له وقبور
أنت الحقيقة إن تحجب شخصها ... فلها على مرالزمان ظهور
أرفع حداد العالمين وعد لهم ... كيما يعيد بائس وفقير
وانظر إلى البؤساء نظرة راحم ... قد كأن يسعد جمعهم ويجير
الحال باقية كما صورتها ... من عهد آدم ما بها تغيير
البؤس والنعمى على حإليهما ... والحظ يعدل تارة ويجور
ومن القوي على الضعيف سيطر ... ومن الغني على الفقير أمير
والنفس عاكفة على شهواتها ... تأوي إلى احقادها وتثور
والعيش آمال تجد ونتقضي ... والموت اصدق والحياة غرور
ومما جاء في الثانية
عاف في منفاه أن يدنوبه ... عفو ذاك العأهل المغتصب
بشروه بالتداني ونسوا ... انه ذاك العصامي الأبي
كتب المنفي سطراًً للذي ... جاءه بالعفو فاقرأ واعجب(22/56)
ابريء عنه يعفو مذنب ... كيف تسدي العفو كف المذنب
جاء والأحلام في اصفادها ... مالها في سجنها من مذهب
طبع الظلم على اقفالها ... بلظاه خاتماً من ذهب
وانبرى يصدع من اغلالها ... باليراع الحر لا بالقضب
هاله أن لايراها مرة ... تمتطي في البحث متن الكوكب
ساءه أن لا يرى في قومه ... سيرة الإسلام في عهد النبي
قلت عن نفسك قولاً حكيماً ... لم تشبه شائبات الكذب
انا كالنجم تبر وثرى ... فاطرحوا تبري وصونوا ذهبي
وجاء في الثالثة
الا هل أتى اقوامنا أن دولة ... تدول إذا ما شاعر قام منشدا
اغار على رب السرير بشعره ... وضعضع ملكاً ظنه الناس سرمدا
وكانت قوافيه جيوشاً تزودت ... حياة وموتاً للاحبة والعدى
تولى بريد الدهرللناس نقلها ... وأنشدها في الخافقين مرددا
ولم يبق في ارض الفرنسيس غير من ... يقر له بالفضل او يحفظ اليدا
فعاد إلى اوطانه غير ناقم ... على غربة أولته ذكراً مؤبدا
وإعلاء اقدار الرجال وخفضها ... اضل واشقى الشرق والغرب اسعدا
الانتقام
قصة بقلم ناصيف أفندي نقولاوس والغالب انها مترجمة وأن لم يذكر صاحبها ذلك وهي في 192 صفحة متوسطة وتطلب من مكتبة الهلال ومكتبة الشعب.(22/57)
سير العلم
حقيقةالسجن
كتب السيد هاملتون من رجال ادارة سجن مقاطعة مشيغأن في الولايات المتحدة فصلا في (مجلة العالم الكبيرة) وصف فيه هذا السجن الذي هو مثال السجون الحقيقية التي يراد منها أن يجد الناس فيها ما يسيرون معه بعد مغادرتهم اياها على محور الاستقامة ويتركون ما الفوه مما يخالف ارتكابه القانون ويهدد اركان النظام والسلام ويجعلهم أعضاء اشلاء في جسيم الأمة قال: يقيم بين جدران هذا السجن سبعمائة نفس من اسواء سكان المقاطعة خلالاً وهم مع هذا يعاملون على الجملة بشفقة ولهم في سجنهم الحرية التامة. وبما أنهم يعودون الأخلاق الكريمة فمن الممكن أن يبلغوا ويسمموا بنفوسهم إلى مراتب الأمانة والاستقامة. ولا يسمح بجلد المذنبين في هذا السجن ويؤذن لهم بعد ظهر كل سبت بالتنزه احراراً مدة ساعة في ارض خضراء كثيرة الكلاء وإذ كان هذا الأمتياز الذي يناله المجرمون عرضة للالغاء إن نشأ عنه سواء فالمسجونون انفسهم يبالغون في الاحتراس من وقوع ما يؤخذ عليهم وعلى هذا فليس في السجن أكثر من ثلاثين حارساً وجميعهم لا يحملون بايديهم غير العصي فقط.
ولا يسمح لهم بحمل اسلحة نارية داخل السجن وتعرف المسجونين بسيمأهم والبستهم فمن كان حسن الخلال يلبس رداء ازرق ومن لم يزل تحت التدريب على ذلك يلبس كسوة رمادية غير أن أولئك المذنبين الذين لم يصلحوا لقبول ذلك وقد جردوا من جميع الأمتيازات التي ينالها الآخرون فهم يلبسون اردية خاصة بهم مخططة. ويبقى السجين محبوساً ولا يطلق من سجنه حتى تصبح أخلاقه شفيعة بنيله ذلك. ويشترط قبل مبارحته السجن أن يتعرف إلى احد يتكفل بان يبحث له عن عمل يحترف به ويراقبه ويسوغ للسجناء أن يتكلموا في السجن في خلال عملهم ولايجوز لهم أن يضعوا في غرفهم آلات الطرب وتأتي في الغالب جمعيات التمثيل التي تزور المدينة إلى السجن فتمثل القصص على المسرح اللطيف الصغير الذي بناه المجرمون فيه. وهذه المعاملة بالشفقة والرحمة هي الوسيلة الوحيدة التي تتبع في هذا السجن من زمن قديم. ولقد شوهد أن التهذيب بالعنف والرهبة مهما سهل أمره فهو مضر للغاية ومميت لشعور من يعنى بتأديبه وتهذيبه.(22/58)
انقراض الطيور
ينقرض في الغالب كل سنة نوع او عدة أنواع من الحيوانات والطيور وهذا الانقراض أخذ في الزيادة والاسراع. وقد قال السيد ادورد فيفإن من مقال نشر في (جريدة شامبر) الإنكليزية إنه كان في جزيرة سانت توماس من جزر الهند الغربية أربعة عشر نوعاً من أنواع الطيور منذ قرن فإنقرض إلى الآن منها ثمانية أنواع ومكث في أفريقيا الغاغة حتى سنة 1875 ثم انقرض وانقرضت معه عدة أنواع من طيور أخرى. وبادت من جزائر المحيط الهندي عدة أنواع من طيور ثمينة القدر وقد انقرض الدود في القرن السابع عشر وغاب عن الانظار الجاموس الأميركاني تقريباً من أمريكيا الشمالية.
فظائع الحرب
انشأ السيد كارل شوروز مقالاً بليغاً في إحدى المجلات الإنكليزية تكلم فيه عن وقعة جتسبرج وقد رأينا أن ننشر شيئاً مما كتبه في وصف ما يراه الناظر يميدان أن القتال في اليوم الثاني لحدوث إحدى الوقائع قال: لا اقبح ولا ابشع من النظر إلى جثث القتلى في ساحة الحرب وقد لبثوا يوماً او أكثر قبل أن يذوقوا حتفهم عرضة لا شعة الشمس الحرقة والهواء الحار. وقد تنكرت سحنتهم فإنتفخت وجوههم وانصبغت بالسواد وبرزت اعينهم وصارت ثابتة في مكانها لا تتحرك وتبدلت هيئتهم حتى بعدوا عن أن يميزوا يعرفوا وقد انفرد بعضهم وبقي غيرهم مرتبين صفوفاً ووقع آخرون بعضهم على بعض فكانوا اكواماً. بدت على آخرين هيئة من يريد الراحة بالصلح وقد رفعت ايدي فريق منهم. وظهر آخرون في صورة الجلوس. وأخذ نفير يركعون. وبقي بعضهم ينبش الأرض باظفاره. وقد تشوه كثيرون تشوهاً منكراً بينا كأنت الحروب شديدة الوطيس وملك المنون يرفرف فوق الرؤوس.
امتلأت الديار ومجالس الحيوانات والمزارع بالانين ووضعت النضائد في فضاء الأرض ومكث الجراحون واكمامهم مرفوعة إلى مرأفقهم. وسواعدهم المكشوفة وكذلك وزراتهم الكتانية مخضبة بالدماء وهم - الا قليلا - قابضون على اسلحتهم باسنانهم يبنا يكونون مهتمين بمداواة جريح راقد فوق المنضدة او على مكان آخر او تكون ايديهم مشتغلة بعمل وهناك من خلفهم برك الدماء وبجانبها اكوام من السواعد والارجل المقطوعة مما يزيد(22/59)
ارتفاعه في بعض الاحيان عن قامة الإنسان!
الجريح راقد على المنضدة وهو غالباً يصيح مما يقاسيه من الالم فيخفف إليه الجراح ويفحص بسرعة جرحه ثم يشرع في بتر العضو الذي يؤذيه ويشير إلى الخدم بالاستعداد لاحضار آخر. فيخرج سلاحه من (بين اسنانه) التي كان قابضا عليه بها حين كانت يداه مشغولة ويمسحه يخفة مرة او مرتين في (وزرته) الملطخة بالدم ثم يبدأ بالبتر. فإذا انتهى من عمله نظر إلى خلفه وتنهد كثيراً صادراً من اعماق فؤاده ثم نادى (غيره). . . . .
ويلفت نظرك أن ترى الجراح - وقد مضى عليه زمن طويل وهو يشتغل - نازعاً سلاحه من يده قائلاً والدموع الغزيرة تنهمل من عينيه أنه لم يعمل عمله بثبات فإن يشاهده تعجز عن رؤيته طاقة البشر. وترى كثيرين ممن جرحوا من المجاهدين يتحملون الأمهم وهم سكوت بجلد وسكون وجبنهم متجعدة واعينهم دامية. ثم يصل إلى أذنيك صدى انين من فؤاد كليم واصوات من الالم منكرة تشق الفضاء وصريخ يائس قانط يقول (ايها اللورد. . . ايها اللورد) او (دعني اموت) ثم تسمع اصواتا ضئيلة تردد وتقول: (امي. . .!) او (أبي. . . .!) او (وطني. . .!)
رعاية الاطفال
اسس السيد جرانشرعام 1903 بباريز جمعية دعاها (جمعية وقاية الاطفال من داء السل) والعمل الذي تقوم به هذه الجمعية هوأنها تبحث عن الاطفال المصأبين بهذا الداء ثم تأخذهم وترسل بهم إلى المزارع وهناك يعيشون في الهواء الطلق مع اسرات الفلاحين يعودهم جماعة من الأطباء تنتخبهم الجمعية. وقد أنشئت مدرستان بفرنسا خارج المدن حيث يكون الهواء خالصاً نقياً فيدرس فيها التلاميذ المرضى ممن لا يوأفقهم هواء المدن وهناك يعالجهم الأطباء. والآن يعملون في إنشاء مثل هذه المدارس في ألمانيا حيث رأى الدكتور بندكس إنشاء مدارس الغابات وأول مدرسة منها فتحت أبوابها سنة 1904 وكانت نتيجتها مرضية. ويتعلم في هذه المدرسة التلاميذ الرقيق والمزاج المصابون بالسل. ونظامها أن يذهب إليها التلاميذ كل يوم صباحاً في الساعة السابعة ونصف تقريباً مشاة على اقدامهم أو في المركبات الكهربائية فإذا بلغوها تنأولوا في الحال حساء سخيناً وقطعة من الخبز. وبعد أن يدرسوا الدرس الأول يتنأولون قدحاً من اللبن وشيئاً من الخبز أيضاً. اما طعام الغذاء(22/60)
فيتألف من اللحم والبقول والبطاطا. وهم كذلك يتنأولون عند الساعة الرابعة بعد الظهيرة لبناً وخبزاً. اما اجرة التعليم فالأغنياء ملزمون بدفعها عن أولادهم. وأبناء الفقراء تدفع (البلدية) نفقاتهم. هذا وقد شيدت ملاجئ صحية كثيرة لاغلب البلاد الألمانية في الغابات يقضي فيها نهارهم من تمكنت منهم العلل والأمراض.
الطعام الصحي
كتبت السيدةك. ايرل في العدد الأخير من مجلة (الشرق والغرب) الإنكليزية مقالة صحية موضوعها (الطعام الصحي) صرحت بانها تذكر فيها ما يحصل به الإنسان على القوة والصحةقالت:
احدث اكتشاف هارفي لدورة الدم انقلاباً عظيما في العلوم الطبية واني اعتقد أنه سيأتي يوم لا ينكير احد فيه النظرية الطبية الجديدة وهي أن كثرة وجود الحامض البولي في الجسد يسبب الضعف وهذه الحال سواء في كل مناخ وهواء. وأرى أن الطعام الذي يخرج الحوامض البولية من الانسجة والعضلات والمفأصل يسهل شفاء المصأبين بداء النقرس أو المفأصل أو المصأبين بالأم عصبية.
ويكفي أن يتناول الإنسأن الطعام في اليوم ثلاث مرات. وخير لمن يجب أن يغير دائماً الاطعمة التي يتنأولها ساعات الاكل أن يسير على النظام الآتي: -
أولا: الشاي والقهوة وحساء اللحم - تبدل بأنواع للبن والحليب والماء وحساء مع اللبن -
ثانياً: طعام الصباح - تبدل بالثريد والخبز المحمص والبقسماط وحبوب الدقيق ونحو 100\ 133 درهم لبن وشيء من البندق
ثالثاً: ما يتناول بين طعام الصباح يبدلأن الخبز المحمص والبقسماط وحبوب الدقيق والطعام
وطعام الظهيرة: - المركب (طعام يتكون من البيض والدقيق واللبن وغيرها) ومائة درهم من اللبن واوقية انجليزية من الجبن
رابعاً: طعام الظهيرة: - يبدلان بالخبز المقدد والبقسماط وحبوب الدقيق والطعام المركب وصفحة من الجبن ومائة درهم من اللبن
قالت الكاتبة: ومن أهم البواعث التي تسبب القابلية للاكل أن يكون الإنسان تعباناً اويكون(22/61)
قد عمل شيئاً نشط به جسمه.
الهجرة الطليانية
كتب أحدهم في مجلة المسائل الدولية الاستعمارية الفرنسوية مقإلا في هجرة الطليان جاء فيه انها تزيد سنة عن سنة ويؤخذ من الاحصاآت الرسمية أن عدد المهاجرين سنوياً بين سنة1895 - 1900 كان حوالي ثلثمائة الف فأصبح من سنة 1901 - إلى 1904 نصف مليون كل سنة وارتقى سنة 1906 إلى 787977 مهاجراً ومعظمهم من الفلاحين والمهاجرون من الذكور على نسبة 81 في المئة و19 من الاناث والمهاجرون في الأكثر هم سكان الجنوب وينزلون أميركيا كما يهاجر سكان شمالي إيطاليا إلى اقطار أوروبا فقط ليغتنوا فيها. وقد بحث علماء الاجتماع من الطليان في نفع الهجرة لبلادهم او عدمها ولم يبنوا لهم رأياً بعد.
وشوهد ناس من أهل الطبقة الوسطى اباعوا اراضيهم وانقلبوا إلى بلاد أخرى يرتاشون فيها ويتأثلون وهذا ما ينسب إلى قلة التناسب المتزايد بين وسائط الحياة التي تقل وحاجيتها المتكأثرة. ومن الأسباب التي ذكروها في مضمار الهجرة أن عدد العجزة في إيطاليا خف عن ذي قبل ولكن لم تعد تنمو سكان البلاد في العشر سنين الأخيرة على نسبة نموها من قبل وذكروا من حسناتهم أنه قل عدد البطالين وارتفعت أسعار ايجار الاراضي وترقت أثمانها بما جاء به بعض المهاجرين لدن عودتهم إلى بلادهم من الأموال كما زادت ثروة إيطاليا بما يغدق عليها ابناؤها المهاجرون من مهاجرهم. قد جاء في ذاك التقرير أن للهجرة يداً في إيطاليا منذ ثلاثين سنة في ارتقاء إيطاليا الاقتصادي وهو مادة ارتقائها التجاري
اجتياز البحار
يتحدثون الأن في الاندية الصناعية والعلمية في اجتياز المسافة بين أوروبا والولايات المتحدة في اربعة أيام. وقد ادعى مهندس أميركي أنه يقطع في باخرة جديدة انشأها حديثاً ثلاثين عقدة في الساعة وكانت باخرتأن ألمانيتان وهما من آخر طراز يقطعان 23 عقدة.
ولم تكن البواخر تقطع لأول اختراعها سوى 9 عقدة في الساعة ثم تدرجت حتى وصلت إلى 23 عقدة وهاهي اليوم قد بلغت او كادت الثلاثين على أن المسافة تجتاز بين أمريكيا وأوروبا في خمسة أيام وبضع ساعات. أما الباخرة الجديدة فتحمل من عشرين إلى ثلاثين(22/62)
ألف طن وآلتها بقوة ثلاثين الف حصان ووزن الآلة المحركة يبلغ مائتي طن وإذا أضيف إليه عداد الغاز فيكون خمسمائة طن ويقتضي 850طناً من زيت البترول الخام لاجتياز مسافة مائتي ميل ما عدا الوقود ولا يخرج منه دخان.
اوراق السفر
رأى بعض الباحثين أن عمال السكك الحديدية يأخذون الاوراق من المسافرين ليقطعوها ويعيدوها إليهم وربما احبوا العجلة فقطعوها بريقهم مما لا يخلو من نقل الأمراض ورأوا أن أحسن طريقة في هذا الباب هي التي سارت عليها بعض شركات السكك الحديد في سويسرا فإنها تجعل الاوراق اضبارة واحدة وتقطعها كما تقطع الطوابع بادنى مس اليد.
المدارس في مصر
احصى مدير الاحصائيات في مصر عدد المدارس الوطنية والأجنبية في هذا القطر فكانت 200مدرسة مصرية فيها 47534 من البنين و3897 من البنات و 20 إنكليزية فيها 1415 تلميذاً و 120 أميركية فيها 7044 تلميذا و2053 تلميذة و 9 نمساوية فيها 881 تلميذا و550 تلميذة ومدرستان هولانديتأن فيها 142 تلميذا و36 تلميذة و 85 مدرسة فرنسوية فيها 8645 تلميذا و 7140 تلميذة وأربع مدارس ألمانية فيها 233 تلميذا و446 تلميذة و29 يونانية فيها 3108 تلاميذ و1363 تلميذة و 35 ايطالية وفيها 2314 تلميذا و 2338 تلميذة ومدرسة روسية واحدة فيها 475 تلميذاً.
وصية للعلم
اوصى ألماني بمئة ألف مارك لينفق ريعها على تلميذ ذكي من المدارس العثمانية العالية ينجز دروسه في ألمانيا.
جماجم المصريين
ظهر الأستاذ اليوت سميث معلم التشريح في مدرسة الطب بالقاهرة من البحث في المومياء المصرية أن جماجم قدماء المصريين كانت رقيقة وأن القسم الخارجي منها هو على الجملة من النحافة على مايعجب منه الناظر على أن تجويف الجمجمة لم يصب بمرض ولا تظهر فيه نحافة حيث كأنت العضلات. وقد شاهد ذلك في أهل السلالة الرابعة إلى أهل السلالة(22/63)
الرابعة عشر خاصة ولم يجدها فيمن كان قبلهم او بعدهم وقد تبين ممأقام به الأستاذ ماسبروغيره من علماء الأثار المصرية من الحفريات انأهل الطبقات العالية في الأمة المصرية كانوا يضعون على رؤوسهم شعوراً مستعارة فنسب العلماء نحافة رؤوسهم لثقل تلك الشعور وذلك لأن الأستاذ اليوت سميث لم يشاهد هذا الضعف إلا في جماجم أهل الغنى والثرى. من تلك السلائل ولا يقدح في ذلك ماألفه الفلاحات من حمل أشياء ثقيلة على رؤوسهن على أن جماجمهن سالمة من العيوب فإن الضعط الموقت لايؤثر في الجماجم كما يؤثر الضغط الدائم من مثل الشعور وغيرها. والمسألة ما برحت موضع النطر.
خارطة الولايات المتحدة
شرعت حكومة الولايات المتحدة في رسم مصور لتلك البلاد لم يعيد مثله حتى الآن في رسم الأرض فأخذت كل ولاية تقيس وتمسح وتذكر ما جد من القرى والدساكر والمدن ويقولون أن حكومة الاسكا تجتهد من وراء الغاية في رسم بلادها لتضمها إلى خارطة تلك البلاد مع أن القسم الأعظم منها لم يكشف بعد. وناهيك بما يقضي ذلك من النفقات في بلاد هي مساحتها كأوروبا أو أكثرويقال أن هذا العمل يكلف أمريكا مليوني فرنك أي من 75 إلى 100 فرنك في كل كيلو متر مربع ولا ينجز قبل سنة 1909
التعليم في فرنسا
تنفق فرنسا على التعليم العالي في ست عشرة كلية ثلاثة عشر مليونا وثمانمائة الف فرنك وقد كان مجموع الطلبة في هذه المدارس الجامعة سنة 1906 - 35670 تلميذاً وزاد منذ عشر سنين نحو عشرة آلاف طالب وكان الأساتذة إذ ذاك 591 فصاروا الان 800
الرخص والعلم
لئن ارتفعت أثمأن الحاجيات منذ خمسين سنة لكثرة النقود فقد كان من تأثير العلم أن ارخص كثيراً من المواد الصناعية بفضل إدخال التحسين على ادواتها فنزل سعر المتر الواحد من المرايا نحو الثلثين ونزل سعر الحامض الكبرتي إلى النصف والصودا إلى ثلاثة ارباع وقد استفادت الزراعة والصناعة من هذا الرخص فائدة كبرى.
نساء اليابان والألمان(22/64)
منذ عهد غير بعيد تضاعف عدد مدارس الاناث في اليابأن فأصبح المتخرجات منها يتعاطين التدريس أو المحاماة أو الكتابة. وانك لتجد في جميع أمهات المدن اليابانية اندية للنساء وقد أخذ بعضهن ينشرن في طوكيو الآن جريدة سمينها (المرأة في القرن العشرين) تتولى ادارتها (اوتا ايمي) الكاتبة الاشتراكية المشهورة التي أحكمت الإنكليزية كما أحكمت لغتها فصارت الصحف الأميركية تتلقى مقالاتها بالقبول كما تتلقى مقالات كبار الكتاب من الإنكليز. وما برح النساء في ألمانيا يطالبن بقبول البنات المتعلمات في العشر كليات الألمانية التي سدلت حتى الآن أبوابها في وجوه البنات وقصرت تعليمها على البنين والغالب انهن ينلن بغينهن كمانلتها في كليات بافاريا مثل كلية مونيخ وارلانجن وفي دوقية باد ككلية فريبورغ وهايدلبرغ وتوبيغ وفي امارة تورنغ ككلية اينا وفي امارة ساكس ككلية ليبسيك. وقد طلب 160أستاذا من أساتذة الكليات الألمانية إلى الحكومة أن تسمح بحرية الدخول للبنات في مدارس الصبيان. وينقسم الطالبات في ألمانيا إلى طالبات طب وطالبات فلفسة وطالبات علم اصول اللغات وطالبات تاريخ. فمتى يطلب نساؤنا يا ترى حقوقهن من التعليم الابتدائي المنظم فقط.
الشعب النظيف
يرى الدكتور ماتينيون وهو ممن أقام مدة في الشرق الأقصى أن النظافة عندأبناء يابان كادت أن تكون من الإيمان فيرى الياباني أن الاستحمالم كل يوم من الضروريات كتناوله قدح الأرز. وقد أثبتت الحرب الروسية اليابانية الأخيرة شدة تعلق هذه الأمة بالنظافة فكان الجند في معسكراتهم يستعملون جراراً صينية كبرى من افخار المطلي يجعلونها تحت الأرض ويتخذونها مستحماً لهم. ولكل جندي في جعبته فرشة لتنظيف أسنانه وذرور لها لأن الياباني يعنى بأسنانه كل العناية ويتمضمض مرات عديدة في اليوم. وقد عجب الأطباء الأوربيون من تنطيع اليابانون في النظافة إلى هذا الحد كما ثبت لهم أن من كل خمسة جنود من الوربيين يموت أبعة من الأمراض وواحد قتلاً أما من أبناء يابان فإن في خمسة قتلى موت واحدمنهم من الأمراض.(22/65)
العدد 23 - بتاريخ: 15 - 12 - 1907(/)
محاسن الكتب
للجاحظ
كأنت العجم تقيد مأثرها بالبنيان والمدن والحصون مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر وبناء المدائن والسدير والمدن والحصون. ثم أن العرب شاركت العجم في البنيان وتفردت بالكتب والأخبار والأشعار والأثار فلها من البنيان غمدان وكعبه نجران وقصر مأرب وقصر مارد وقصر شعوب والابلق الفرد وغير ذلك من البنيان. وتصنيف الكتب اشد تقييداً للمأثر على ممر الأيام والدهور من البنيأن لأن البناء لا محالة يدرس وتعفى رسومه والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن ومن امة إلى امة فهو ابدا جديد والناظر فيه مستفيد وهو ابلغ في تحصيل المأثر من البننيان والتصاوير. وكأنت العجم تجعل الكتاب في الصخور ونقشاً في الحجارة وخلقه مركبة في البنيأن فربما كان الكتاب هو الناتئ وربما كان هو المحفور إذا كأن ذلك تاريخياً لأمر جسيم او عهداً لأمر عظيم او موعظة يرتجى نفعها او احياء شرف يريدون تخليد ذكره كماكتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقر وعلى الاطق الفرد وعلى باب الرها يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة فيضعون الخط في ابعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس واجد ران يراه من مر به ولا ينسى على وجه الدهور.
ولولا الجكم المحفوظة والكتب المدونة لبطل أكثر العلم ولغلب سلطأن النسيان سلطأن الذكر ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لقد بخس حظنا منه. وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل وورثة الأنبياء واعوأن الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء وكتب الملاهي وكتب اعوأن الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب السخفاء وحمية الجاهلية. ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه. ولولا جياد الكتب اوحسانها لما تتحركت ههمم هؤلاء الطلب العلم ونازعت إلى حب الكتب وانفت من حال الجهل وأن يكونوا في غمار الوحش ولدخل عليهم من الضرر(23/1)
والمشقة وسوء الحال ماعسى أن يكون لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير.
وسمعت محمد بن الجهم يقول: إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تنأولت كتاباً فاجد اهتزازي للفوائدوالاريحية التي تعتريني من سرور الاستنباه وعز التبينت أشد ايقاظا من نهيق الحمار وهدة الهدم فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته لم أوثر عليه عوضاً ولم ابغ به بدلاً فلا ازال انظر فيه ساعة كم بقي من ورقه مخافة استنفاذه وانقطاع المادة من قبله. وقال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه فسئل عن ذلك فقال لم ار قط اوعظ من قبر ولا أنس من كتاب ولا اسلم من الوحدة.
واهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب معه: هديتي أعزك الله تزكو على الانفاق وتربو على الكد لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب وهي انس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والاخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة مسأمر مساعد ومحدث مطاوع ونديم صدق. وقال بعض الحكماء: الكتب بساتين العلماء. وقال آخر: الكتاب جليس لا مؤونه له. وقال آخر: ذهبت المكارم الأمن الكتب.
قال الجاحظ وانا احفظ وأقول: الكتاب نعم الذخر والعقدة والجليس والعمدة ونعم النشرة ونعم النزهة ونعم المشتغل والحرفة ونعم الانيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل والزميل ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علماً وظرف حشي طرفا واناء شحن مزاجاً إن شئت كان أين ماقال وإن شئت كان ابلغ من سجبان وائل وإن شئت سرتك نوادره وشحك مواعظه ومن لك بواعظ مثله ويناسك فاتك وناطق اخرس ومن لك بطبيب اعرأبي ورومي هندي وفارسي يوناني ونديم مولد ونجيب ممتع ومن الك بشي يجمع لك الأول والاخر والناقص والوافر والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين والشكل وخلافة والجنس وضده.
وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الاحياء ومن لك بمؤنس لا ينام الا بنومك ولا ينطبق إلا بما تهوى آمن من الأرض واكتم السر من صاحب السر واحفظ للوديعة من أرباب الوديعة ولا اعلم جاراً آمن ولا خليطاً وانصف ولا رفيقا اطوع ولا معلماً أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية وعناية ولا أقل(23/2)
املالا ولا ابراما ولا ابعد عن مراء ولا اترك لشغب ولا ازهد في مجال ولا اكف عن قتال من كتاب. ولا اعم بيانا والا أحسن مواتاة ولا اعجل مكافأة ولا شجر اطيب عمرا ولا اطيب ثمرا ولا اقرب مجتنى ولا اسرع إدراكا ولا اوجد في كل ابان من كتاب ولا اعلم انتاجاً في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع من السير العجيبة والعلوم الغريبة وأثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية والبلاد النازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب.
ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غباً وورده خمساً وإن شئت لزمك لزوم ظلك وكان منك كبعضك. والكتاب هوالجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يقليك والرفيق الذي لا يملك والمستمع الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لايريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال اممتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك وبخخ نفسك وعمر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك يطيعك بالليل طاعته بالنهار وفي السفر طاعته في الحضر وهوالمعلم إن افتقرت إليه لم يحقرك وإن قطعت عنه بالمادة لم يقطع عنك الفائدة وإن عزلت لم يدع طاعتك وإن هبت ريح اعدائك لم ينقلب عليك ومتى كنت متعلقاً منه بادنى حبل لم تضطرب معه وحشية الوحدة إلى جليس السوء.
قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري فالكتاب احب الي من الحفظ لأن الاعرأبي ينسى الكلمة قد سهر في طلبتها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام ولا اعلم جارا برا ولا خليطا انصف ولا رفيقا اطوع ولا معلما أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية ولا أقل جناية ولا أقل ملالا وابراما ولا احفل أخلاقا ولا أقل خلافا واجراما ولا أقل غيبة ولا ابعد من عضيهة ولا أكثر اعجوبة وتصرفا ولا أقل تصلفا وتكلفا ولا ابعد من مراء ولااترك لشغب ولاازهد في جدال ولااكف عن قتال من كتاب.
ولا اعلم قرينا أحسن موافاة ولا اعجل مكافاة ولااحضر معونة ولااخف مؤونة ولاشجرة أطول عمرا ولا اجمع أمرا ولا اطيب ثمرة ولا اقرب مجتنى ولااسرع إدراكا ولا اوجد في(23/3)
كل ابان من كتاب ولااعلم نتاجا في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع بين التدأبير العجيبة والعلوم الغريبة ومن أثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتنازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمع لك الكتاب.
والكتاب هو الذي يؤدي إلى الناس كتب الدين وحساب الدواوين مع خفة نقله وصغر حجمه صامت ما اسكته وبليغ ما استنطقته ومن لك بمسأمر لا يبتديك في حال شغلك ويدعوك في أوقات نشاطك ولايحوجك إلى التجمل له والتذمم منه. قال ابو عبيدة: يابني لا تقوموا في الأسواق الا على زراد او وراق. وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتابا فيه من مأثر غطفإن فقال: ذهبت المكارم الا من الكتب. وسمعت أبا الحسن اللؤلولي يقول: غبرت أربعون يوماً ما قلت ولا بت الا والكتاب موضوع على صدري. وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال: لولا طوله وكثرة ورقه لنسخه فقال ابن الجهم: لكني ما رغبني فيه الا الذي زهدك فيه وما قرأت قط كتابا كبيرا فاخلاني من فائدة وما احصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منهاكما دخلت.
وقال العتبي ذات يوم لابن الجهم الا تتعجب من فلان نظر في كتاب أقليدس مع جارية سلموية في يوم واحد وساعة واحدة فقد فرغت الجارية من الكتاب وهو يعد لم يحكم مقالة واحدة على أنه حر مخير وتلك امة مقصورة وهو احرص على قراءة الكتاب من سلمويه على تعليم جارية قال ابن الجهم: قد كنت اظن أنه لم يفهم منه شكلا واحدا واراك تزعم أنه قد فرع من مقالة. قال العتبي: وكيف ظننت به هذا الظن وهو رجل ذو لسان وأدب قال: لاني سمعته يقول لابنه: كم انفقت على كتاب كذا قال: أنفقت عليه كذا انما رغبني في العلم اني ظننت اني أنفق عليه قليلا واكتسب كثيراً فاما إذا صرت أنفق الكثير وليس في يدي الا المواعيد فإني لا اريد العلم بشيء فالإنسأن لا يعلم حتى يكثر سماعه ولا بد أن تكون كتبه أكثر من سماعه ولا يعلم ولا يجمع العلم ولا يختلف حتى يكون الانفاق عليه من ماله الذ من الانفاق من مال عدوه ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب الذ عنده من عشق القيان وانفاق المستهزئين بالبيأن لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا وليس ينتفع بانفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب ايثار الاعرأبي فرسه باللبن على عياله وحتى يؤمل في العلم ما(23/4)
يؤهل الاعرأبي في فرسه.
وقال إبرأهيمبن السندي مرة: وددت أن الزنادقة لم يكونوا حرصى على المقالات بالورق النقي الأبيض وعلى تحلل الحبر الاسود المشرق البراق وعلى استجادة الخط والارغاب لمن يخط فإني لم ار كورق كتبهم ورقا ولا كالخطوط التي فيها خطا وإذا غرمت مالا عظيما مع حبي للمال وبغض الغرم كان سخاء النفس بالانفاق على الكتب دليلا على تعظيم العلم وتعظيم العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامة ومن سكر الافات.
وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء فكنت اكتب عنه بعضا وادع بعضأفقال لي: اكتب كل ما تسمع فإن مكان ما تسمع اسود خير من مكان أبيض. وقال الخليل بن احمد: تكثر من العلم لتعرف وتقلل منه لتحفظ. وقال ابواسحق القليل والكثير للكتب والقليل وحده للصدر وأنشد قول ابن بشير
اما لو اعي كل ما اسمع ... واحفظ من ذاك ما اجمع
ولم استفد خبر ما قد جمع ... ت لقيل هو العالم المصقع
ولكن نفسي إلى كل نو ... ع من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا احفظ ما قد جمع ... ت ولا أنا من جمعه اشبع
واحصر بالغي في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع
فمن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقري يرجع
إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لاينفع
وقال ابن اسحق: كلف ابن بشير الكتب ما ليس عليها أن الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الاحمق عأقلا ولا البليد ذكيا ولكن الطبيعة إذا كان فيها ادنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي ومن أراد أن يعلم كل شي ينبغي لأهله أن يداووه فأن ذلك انما تصور له بشي اعتراه فمن كان ذكيا حافظا فليقصد إلى شيئين وإلى ثلاثة أشياء ولا ينزع الدرس والمطارحة ولا يدع أن يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه سائر الاصناف فيكون عالما بالخواص ويكون غير غفل عن سائر ما يجري فيه الناس ويخوضون فيه ومن كان الأوله ثلاث نسخ. وقال ابو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قط ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ اليد الا اعتقدت أنه أفضل(23/5)
من واعقل. وقال ابو عمرو بن العلاء: قيل لنا يوما أن في دار فلان ناسا قد اجتمعوا على سوءة وهم جلوس على خيرة لهم وعندهم طنبور فتسورنا عليهم في جماعة من رجال الحي فإذا فتى جالس في وسط الدار أصحابه حوله وإذا هم بيض اللحى وإذا هو يقرأ عليهم دفترا فيه شعر فقال الذي سعى بهم: السوءة في ذلك البيت واندخلتموه عثرتم عليها فقلت: والله لا اكشف فتى أصحابه شيوخ وفي يده دفتر علم ولو كان في ثوبه دم يحيى بن زكريا وأنشد رجل يونس النحوي
استودع العلم قرطاساً فضيعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس
قال فقال يونس: قاتله الله ما أشد ضنانته بالعلم وأحسن صيانته له أن علمك من روحك ومالك من بدنك فضعه منك بمكان الروح وضع مالك بمكان البدن. وقيل لابن داحة واخرج كتاب أبي الشمقمق وإذا هو في جلود كوفية دفتين طائفتين بخط عجيب فقيل له: لقد اضيع من تجود بشعر أبي الشمقمق فقال: لاجرم والله أن العلم ليعطيكم على حساب ما تعطونه ولو استطعت أن اودعه سويداء قلبي او اجعله محفوظا على ناظري لفعلت ولقد دخلت على اسحاق بن سليمأن في أمرته فرأيت السماطين والرجال مثولا كان على رؤوسهم الطير ورأيت فرشته وبزته ثم دخلت عليه وهو معزول وإذا هو في بيت كتبه وحوإليه الاسقاط والرقوق والقماطر والدفاتر والمساطر والمحابر فما رأيته قط افخم ولاانبل ولا اهيب ولا اجزل منه في ذلك اليوم لأنهجمع مع المهابة المحبة ومع الفخامة الحلاوة ومع السؤدد الحكمة. وقال بعضهم: كتب الحكماء وما دونت العلماء من صنوف البلاغات والصناعات والاداب والارفاق من القرون الوسطى والأمم الخالية ومن له بقية ابقى ذكرا وأرفع قدرا وأكثر ردءا لأن الحكمة انفع لمن ورثها من جهة الانتفاع بها وأحسن في الأحدوثة لمن احب الذكر الجميل والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على أثار من قبلهم وأن يميتوا ذكر أعدائهم فقد هدموا بذلك السبب المدن وأكثر الحصون كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية وعلى ذلك في أيام الإسلام كما هدم عثمان صومعة غمدان وكما هدم الآطام التي كانت بالمدينة وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عأمر وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان.
إن من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومراشدهم ومضارهم ومنافعهم أن تحتمل ثقل(23/6)
مؤونتهم في تقويمهم وأن تتوخى إرشادهم وإن جهلوا فضل ما يسدى إليهم فلن يصأن العلم بمثل بذله ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره على أن قراءة الكتب ابلغ في إرشادهم من تلاقيهم اذكان مع التلاقي يشتد التصنع ويكثر التظالم وتفرط العصبية وتقوى الحمية والأنفة من الخضوع وعن جميع ذلك تحدث الضغائن ويظهر التباين وإذا كأنت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة امتنعت من التعرف وعميت عن مواضع الدلالة وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية وأصابة الحجة لأن المتوحد يدرسها والمتفرد يفهم معانيها لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله وقد عدم من له يباهي ومن اجله يغالب.
والكتاب قد يفضل صاحبه ويتقدم مؤلفه ويرجح قلمه على لسانه بأمورمنها أن الكتاب يقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الاعصار وتباعد ما بين الأمصار وذلك أمر مستحيل في واضع الكتاب والمتنازع في المسألة والجواب. ومنأقلة اللسان وهدايته لا تجوز أن مجلس صاحبه ومبلغ صوته وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره ولولا ما اودعت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لما حسن حظنا من الحكمة ولضعف سببنا إلى معرفة ولو لجأنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا وتشاهده نفوسنا لقلت المعرفة وسقطت الهمة وارتفعت العزيمة وعاد الرأي عقيما والخاطر فاسدا ولكل الحد وتبلد. وأكثر من كتبهم نفعا وأشرف منها خطرا وأحسن موقعا كتب الله تعالى التي فيها الهدى والرحمة والأخبار عن كل حكمة وتعريف كل سيئة وحسنة ومازالت كتب الله تعالى في الالواح والصحف والمحار والمصاحف وقال الله عز وجل: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) وقال: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ويقال لأهل التوارة والانجيل أهل الكتاب. وينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا على أنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه وقد امكن القول وصلح الدهر وخوى نجم التقليد وهبت ريح العلماء وكسد العي والجهل وقامت سوق البيان والعلم وليس يجد الإنسأن في كل حين إنسانا ومقوما يثقفه(23/7)
والصبر على افهام الريض شديد وصرف النفس عن مغالبة العالم أشد منه. والمتعلم يجد في كل مكان الكتاب عتيدا وبما يحتاج إليه قائما وما أكثر من فرط في التعليم أيام خمول ذكره وأيام حداثة سنه.
ولولا جياد الكتب وحسنها ومبينها ومختصرها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونزعت إلى حب الأدب وانفت من حال الجهل وإن تكون في غمار الحشو ولدخل على هؤلاء من الخلل والمضرة من الجهل وسوء الحال ما عسى أن لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا. وقد نجد الرجل بطلب الأثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاماً وهو لا يعد فقيها ولا يجعل قاضيا فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حينفة وأشباه أبي حنيفة ويجفظ كتب الشروط في مقدار سنة او سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحري أن لا يمر عليه من الأيام الا اليسير حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار او بلد من البلدان. قال ابن بشير في صفة الكتب في كلمة له.
اقبلت اهرب لا آلو مباعدة ... في الأرض منهم فلم يحصني الهرب
فقصروا اوس فما والت خنادقه ... ولا النواويس فالماخور فالحرب
فايما موئل منها اعتصمت به ... فمن ورائي حثيثاً منهم الطلب
لما رأيت باني لست معجزهم ... فوتا ولا هربا قربت احتجب
فسرت في البيت مسروراً به جذلا ... جاراً لبوأة لا شكوى ولا شغب
فرداً يحدثني الموتى وتنطق لي ... عن علم ما غاب عني منهم الكتب
هم مؤنسون وألاف غنيت بهم ... فليس لي في انيس غيرهم ارب
لله من جلساء لا جليسهمو ... ولا عشيرهمو للسوء مرتقب
لا بادرات الاذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطق ذرب
ابقوا لنا حكماً تبقى منافعها ... أخرى الليالي على الأيام والشعب
فايما آداب منهم مددت يدي ... إليه فهو قريب من يدي كثيب
ان شئت من محكم الأثار يرفعها ... إلى النبي ثقات خيرة نجب
او شئت من عرب علما بأولهم ... في الجاهلية انبتني بها العرب(23/8)
او شئت من سبر الأملاك من عجم ... تنبي وتخبر كيف الرآي والأدب
حتى كاني قد شاهدت عصرهمو ... وقد مضت دونهم من عمرهم حقب
يا قائلا قصرت في العلم نهيته ... امسى إلى الجهل فيما قال ينسب
أن الأوائل فد بانوا بمعليهم ... خلاف قولك ما بانوا ولا ذهبوا
ما مات مثل أمري ابقى لنا أدبا ... نكون منه إذا ما مات نكتسب
قال الجاحظ: ومما يدل على نفع الكتاب أنه لولا الكتاب لم يجز أن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وما يحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فتعلم بها أهل البصرة قبل المساء،(23/9)
غلاة الكتب
لله اخوان افادوا مفخراً ... فبوصلهم ووفائهم اتكثر
هم ناطقون بغير السنة ترى ... هم فاحصون عن السرائر تضمر
ان ابغ من عرب ومن عجم معاً ... علماً مضى فبه الدفاتر تخبر
حتى كاني شاهد لزمانها ... ولقد مضت من دون ذلك اعصر
خطباء أن ابغ الخطابة يرتقوا ... كفي ركفي للدفاتر منبر
كم قد بلوت بها الرجال وإنما ... عقل الفتى بكتاب علم يسير
كم قد هزمت به جليساً مبرماً ... لا يستطيع له الهزيمة عسكر
ليس في الدنيا منظر تنصرف إليه الوجوه ولا صورة تحدق فيها العيون ولا نفحة ترتاح إليها الارواح وتخاطبها القلوب ولا صديق اخلص من ذاك الكتاب تودعه سرك فلا يخونك وتبوح إليه بذات نفسك فيحفظ غيبتك ويطرب حضرتك. ليس في صنائع البشر مثل هذه الاوراق الثمينة التي قد يجهد كاتبها في تسويدها نفسه ويصرف عليها أيامه واعوامه رجاء نفع يرتجى وعقل يرتقي وجهالة تضمحل وذكر يخلد ومحمدة تردد. نعم ليس افعل في القلوب من الكتاب يعيد مظلمها مستنيرا وميتها حياً ويجعل بعد عسر يسرا. فبالكتب تحيا الأمم وترتفع إلى ذرى المجد والسؤدد بالصحف تأنس النفوس المستوحشة وتنبسط الصدور المنقبضة.
وماذا عسانا نقول في وصف الكتاب بعد أن قرأ القارئ ما قرأ في صدر هذا الجزء من قول الجاحظ سيد العلماء ورأس الحكماء وإنما نقول هنا على الجملة إن قد كثر المولعون في جميع الكتب قديما بكثرة أسباب الحضارة بحيث لو أراد المرء إحصاء من ولعوا بذلك من العرب ووصف شيء من حالتهم لا قتضى ذلك كتاباً برأسه. فبلغ من عناية الملوك بالكتب وجمعها أن حمل المأمون إلى بغداد من الكتب المخطوطة ما يثقل مائة بعير وكان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الاستانة. قيل إن عدد مجلدات خزانة المأمون كان ستمائة الف وأن فهرستها دخلت في أربعة وأربعين مجلداً وقيل ذلك في مكتبة الخلفاءبالأندلس. وانشي بيت الحكمة في بغداد على عهد الرشيد في غالب الاقوال وكان يجتمع فيه النساخ والمؤلفون والمترجمون والمطالعون. اما دار الحكمة او دار العلم في القاهرة فكانت فيها خزانة انشأها الحاكم بأمر الله وحمل إليها الكتب من(23/10)
خزائن القصور. وكان في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة الف مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غيره وكان من نظامها أن تعار بعض الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة. وقد تكأثرت خزائن الكتب في المدرس الكبرى والصغرى فقومت كتب المدرسةالنظامية ببغداد بالوف وكذلك كان شأن مدارس الشام ومصر.
قال القلقشندي في خزائن الكتب المشهورة: ويقال أن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن احداها خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد فكان فيها من الكتب مالا يحصى كثرة ولا يقوم عليه نفاسة ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد فذهبت خزائن الكتب فيما ذهب. الثانية خزانة الخلفاء الفاطميين بمصر وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعاً للكت النفيسة من جميع العلوم ولم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولتهم فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة ووقفها بمدرسته الفاضلية بدرب ملوخيا بالقاهرة فبقيت فيها إلى أن استولت عليها الايدي فلم يبق منها الا القليل. الثالثة خزانة خلفاء بني امية بالأندلس وكانت من اجل خزائن الكتب أيضاً ولم تزل إلى انقراض دولتهم باستيلاء ملوك الطوائف عليها. قال وأما الآن (أي في القرن الثامن) فقد قلت عناية الملوك بخزائن الكتب الكتف اكتفاء بخزائن كتب المدارس.
ولم تكن الحكومات ورؤسائها مولعة بجمع الكتب وجعلها وقفاً على المطالعة والمراجعة في قصورهم او مكاتب ينشئونها لهذا الغرض اوفي مدارسهم بل كان العلماء الوزراء وكثير من أهل الثراء مولعين باقتناء الكتب على تعذر الحصول عليها فقد كان نور الدين الشهيد مولعاً بالكتب جمع منها الأمهات وقف كثيراً منها على الاستفادة. وكذلك كان صلاح الدين فإنه نقل بعض الكتب المهمة من مصر إلى الشام لما صار عليهما سلطاناً.
وانشأ يعقوب بن كلس وزير العزيز بالله ثاني الخلفاء الفاطميين خزانة كتب الواحد عشرات من النسخ ولقد غإلى من كتب عنها ومنهم المقريزي وقالوا كان العزيز يتعهدها بنفسه حيناً بعد آخر. وانشأ نوح بن منصور صاحب بخأرى من ملوك بني سامان مكتبة منقطعة القرين فيها الكتب على اختلاف ضروب العلم. وقد وصفها ابن سينا وكان أذن له بدخولها وقراءة ما فيها من كتب الطب فقال: دخلت داراً ذات بيوت كثيرة في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض في بيت كتب العربية والشعر وفي آخر الفقه(23/11)